You are on page 1of 83

‫‪aljadeedmagazine.

com‬‬ ‫فــكر حـــر وإبداع جـــديد‬

‫سالفوي جيجك‬
‫أممية جديدة‬
‫‪AL JADEED‬‬
‫يناير‪ /‬كانون الثاين ‪ ،2017‬العدد ‪24‬‬ ‫ثقافية عربية جامعة تصدر من لندن‬

‫ذكورة وأنوثة‬
‫جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير‬
‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬
‫‪aljadeedmagazine.com‬‬

‫رند‬
‫ج‬‫ةح‬
‫ازي‬

‫مـؤسسها ونارشها‬
‫الزبيدي‪2014‬‬ ‫هيثم‬
‫نوفمبر‪/‬تشرين الثاني‬
‫رئيس التحرير‬
‫نوري الجراح‬ ‫هذا العدد‬
‫العدد نفتتح سنة ثالثة من عمر “الجديد” سنة نتطلع إلى أن تكون حافلة بالجديد‬
‫مستشارو التحرير‬
‫كما كان الحال في السنتين الماضيتين من حياة المجلة‪.‬‬
‫بهذا‬
‫أزراج عمر‪ ،‬أحمد برقاوي‬
‫عبد الرحمن بسيسو‪ ،‬خلدون الشمعة‪،‬‬ ‫مع هذا العدد نؤكد على الخطة التي انتهجناها في أعدادنا السابقة‪ ،‬ونواصل ترجمة البيان‬
‫خطار أبو دياب‪ ،‬أبو بكر العيادي‬
‫التأسيسي للمجلة والذي رسمنا فيه خارطة للطريق وخطة للعمل تحيط بالثقافة العربية في‬
‫ابراهيم الجبين‪ ،‬رشيد الخيون‬
‫تحسين الخطيب‪ ،‬مفيد نجم‬ ‫وشرقا‪ ،‬وتستكشف جديدها‬‫ً‬ ‫ً‬
‫غربا‬ ‫كل جغرافياتها‪ ،‬إن في األوطان‪ ،‬أو في المهاجر والمنافي‬
‫ً‬
‫ثقافيا‪ ،‬وتستقطب األقالم التي تعبر عن اللحظة‬ ‫ً‬
‫وفكرا وسؤاال‬ ‫ً‬
‫إبداعا‬ ‫المبتكر والشجاع‬
‫التصميم واإلخراج والتنفيذ‬
‫ناصر بخيت‬ ‫العربية في تحولها وتوق األجيال الجديدة إلى مستقبل عربي مختلف‪ ،‬وسعيها الجاد إلى‬
‫تفكير حر وإبداع مبتكر‪.‬‬
‫رسامو العدد‪:‬‬ ‫في هذا العدد مقاالت ودراسات وأفكار ونصوص أدبية وشعرية وعروض كتب‪ .‬وفيه ملفان‬
‫ن‪‭‬جمعان‬
‫ة‪‭‬محمد‪ ،‬حسي ‬‬
‫ة‪‭‬حجازي‪ ،‬مايس ‬‬
‫رند ‬‬
‫م‪‭‬حاجو‬
‫د‪‭‬الوهيبي‪ ،‬بهرا ‬‬
‫د‪‭‬ظاظا‪ ،‬محم ‬‬
‫محم ‬‬ ‫رئيسيان وحواران عربي وأجنبي‪ .‬الملف األول “ذكورة وأنوثة” وتركّز حول جدل الكتابة‬
‫ن‪‭‬هداية‬
‫ن‪‭‬أحمد‪ ،‬جبرا ‬‬
‫داري ‬‬
‫م‪‭‬يسوف‬
‫ل‪‭‬بشير‪ ،‬ري ‬‬
‫تاني ‬ا‪‭‬الكيالي‪ ،‬أم ‬‬ ‫والمرأة والمجتمع والتغيير‪ ،‬وشارك فيه عدد من الكاتبات والكتاب العرب من سوريا‪ ،‬تونس‪،‬‬
‫ل‪‭‬الرفاعي‬
‫عم ‬ر‪‭‬إبراهيم‪ ،‬إسماعي ‬‬
‫مصر‪ ،‬العراق‪ ،‬السودان‪ ،‬الجزائر‪ .‬وتواصل الجديد في هذا الملف ما بدأته في أعدادها‬
‫السابقة من ملفات تتعلق بكتابة المرأة وباألنوثة بوصفها حيزا مجتمعيا وفكريا مهمشا في‬
‫التدقيق اللغوي‪:‬‬ ‫مجتمع بطرياركي عربي‪.‬‬
‫عمارة محمد الرحيلي‬
‫الملف الثاني حمل عنوان “مرايا نقدية” ويضم خمس مقاالت سجالية تحاور المفكر سيد‬
‫القمني انطالقا من األفكار واآلراء التي أطلقها في حوار أجرته معه “الجديد” في عددها‬
‫املوقع عىل اإلنرتنت‪:‬‬
‫‪www.aljadeedmagazine.com‬‬ ‫األخير لسنة ‪ ،2016‬ورقمه ‪ .23‬القمني الذي عرف عنه تحريك الجمر تحت الرماد‪ ،‬أقدم‬
‫بشجاعة على إثارة القضية األكثر تداوال اليوم في جل األوساط االجتماعية العربية‪ ،‬ونعني‬
‫الكتابات التي ترسل إىل «الجديد» تكتب خصيصاً لها‬
‫ال تدخل املجلة يف مراسالت حول ما تعتذر عن نرشه‪.‬‬ ‫بها المكانة المجتمعية للدين‪ ،‬قيمه وأدواره وتجلياته في مجتمع عربي يعاني من الطغيان‬
‫والثورات والتطرف‪.‬‬
‫تصدر عن‬
‫‪Al Arab Publishing Centre‬‬ ‫الحوار العربي في العدد مع الكاتب العراقي جمعة الالمي‪ ،‬ويقدمه الحوار بوصفه أحد‬
‫المكتب الرئيسي (لندن)‬
‫رواد الكتابة السردية العربية الجديدة‪ .‬أما الحوار األجنبي فقد أجرته “الجديد” مع المفكر‬
‫‪Kensington Centre‬‬
‫‪Hammersmith Road 66‬‬ ‫السلوفيني سالفوي جيجك‪ ،‬وهو األول له مع مطبوعة عربية وحمل عنوان “أممية جديدة”‬
‫‪London W14 8UD, UK‬‬
‫‪Tel: (+44) 20 7602 3999‬‬ ‫والحوار يتناول طيفا واسعا من القضايا التي يشهدها العالم ولكنه يركز خصوصا على‬
‫‪Fax: (+44) 20 7602 8778‬‬

‫لالعالن‬
‫التحوالت العاصفة الجارية في العالم العربي‪.‬‬
‫‪Advertising Department‬‬
‫مع مفتتح سنتها الثالثة تدعو “الجديد” األقالم العربية الجادة والجريئة للمساهمة أكثر فأكثر‬
‫‪Tel: +44 20 8742 9262‬‬
‫بهرام حاجو‬

‫‪ads@alarab.co.uk‬‬ ‫في مشروعها التنويري المفتوح على كل الجغرافيات العربية‪ ،‬إيمانا م ّنا بأن الثقافة العربية‬
‫لمراسلة التحرير‬ ‫هي القلعة األخيرة الباقية لنا نحن العرب نعتصم بها في هذا الدجى الذي لم تعد تضيئه سوى‬
‫‪editor@aljadeedmagazine.com‬‬
‫االشتراك السنوي‬ ‫الحرائق‪ ،‬وال يرى فيه سوى الخراب والموت‪ .‬الثقافة هي البيت الرمزي الذي يسع كل العرب‪،‬‬
‫لالفراد‪ 60 :‬دوالرا‪ .‬للمؤسسات‪ 120 :‬أو ما يعادلها‬ ‫والقلعة الحصينة التي ستنقذهم من الزوال‬
‫تضاف إليها أجور البريد‪.‬‬

‫‪ISSN 2057- 6005‬‬


‫المحرر‬
‫‪3‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪2‬‬
‫ملف‪ /‬ذكورة وأنوثة‬ ‫كلمة‬
‫جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير‬
‫‪42‬‬
‫الحر واإلبداع المبتكر‬
‫ّ‬ ‫“الجديد” تدخل سنتها الثالثة منبرا للفكر‬
‫ذكورة وأنوثة‬ ‫كبوة اآلباء ونهوض األبناء‬ ‫‪4‬‬
‫أصوليتين‬
‫ّ‬ ‫مفهوم التحرر النسوي على محك‬ ‫‪44‬‬ ‫نوري الجراح‬
‫خلدون الشمعة‬

‫األنثوية وسلطة الكتابة‬


‫علي حسن الفواز‬
‫‪50‬‬ ‫مقاالت‬
‫ما العقل؟‬
‫تأنيث الكتابة‬ ‫‪6‬‬
‫سعيدة تاقي‬ ‫‪54‬‬ ‫أحمد برقاوي‬

‫إصالح الدين أم اإلصالح الديني‬

‫ما‬
‫يسة‬
‫ما بعد األمازونية‬
‫‪10‬‬

‫م‬
‫أيهما يحتاجه العالم العربي؟‬

‫حمد‬
‫أصوات‬ ‫إبداع المرأة بين المواجهة واالستالب‬
‫كاميليا عبدالفتاح‬
‫‪58‬‬ ‫نجيب جورج عوض‬

‫الثقافي يتحدد بعالمته النقدية‬


‫محمود السرساوي‬ ‫‪40‬‬ ‫جدل الفلسفة النسوية والدراسات الثقافية‬ ‫الهيبي والعقيد‬
‫بين الوردي والغذامي‬ ‫‪66‬‬ ‫صادق النيهوم ومعمر القذافي‬
‫أحمد الفيتوري‬
‫‪14‬‬
‫الميديا والعنف‬ ‫حيدر علي سالمة‬
‫أحمد ضياء‬ ‫‪98‬‬ ‫صورة المرأة العربية‬ ‫كسوف األفكار أم كسوف الواقع‬
‫‪134‬‬
‫سوسيولوجيا قاسم أمين وإبستمولوجيا إمام عبدالفتاح‬
‫ماهر عبدالمحسن‬
‫‪72‬‬ ‫سعد القصاب‬

‫ثقافة فهم النص األدبي‬


‫كتب‬ ‫ً‬
‫موضوعا للكتابة‬ ‫الذات المؤنثة‬
‫تجارب روائيات مغربيات‬ ‫‪80‬‬ ‫بين مقوالت الفراغ والتحول إلى خطاب‬
‫علي لفته سعيد‬
‫‪136‬‬
‫تنويعات روائية لعبقرية النذالة‬ ‫أحمد ضحية‬
‫بصدد رواية‪« :‬هوت ماروك » لياسين عدنان‬
‫‪140‬‬
‫‪88‬‬
‫ع‬ ‫ر حــر وإبدا‬
‫يد‬
‫جد‬ ‫كـ‬
‫ف‬ ‫شرف الدين ماجدولين‬ ‫االختالف ال يعني االستنقاص‬
‫حياة الرايس‬
‫حوار‬
‫فك األلغاز‬
‫لعبة ِ‬
‫سالفوي جيجك‬
‫«إيزابيل » أنطونيكى تابوكي‬
‫‪144‬‬ ‫نازك المالئكة والشعر األنثوي‬
‫‪30‬‬
‫عة‬
‫جام‬ ‫ثقا‬
‫كه يالن محمد‬ ‫رمضان نايلي‬ ‫‪92‬‬ ‫أممية جديدة‬
‫فية عربية‬
‫النص والصورة‬ ‫جمعة الالمي‬
‫المحتويات‬ ‫لسلمى مبارك‬
‫‪146‬‬ ‫شعر‬ ‫شاعر السرد‬ ‫‪116‬‬
‫ممدوح فراج النابي‬
‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاني ‪2017‬‬
‫المختصر‬ ‫حديقة الحيوانات‬
‫سفيان رجب‬ ‫‪22‬‬ ‫سجال‪ /‬سيد القمني ‪ /‬مرايا نقدية‬ ‫‪100‬‬
‫دنيا الزبيدي‬
‫‪150‬‬
‫قصيدة تونس‬ ‫سيد القمني غاضبا‬
‫رسالة باريس‬ ‫مريم حيدري‬ ‫‪38‬‬ ‫جاد الكريم الجباعي‬ ‫‪102‬‬
‫بوب ديالن الكذبة الكبرى‬
‫أبو بكر العيادي‬
‫‪153‬‬ ‫يأس المفكر‬
‫قص‬ ‫‪108‬‬
‫عواد علي‬
‫رسالة إيطاليا‬
‫نهاية مطبخ‬
‫العرب وثقافتهم في مرايا إيطالية‬
‫‪156‬‬ ‫مصطفى تاج الدين الموسى‬
‫‪26‬‬ ‫العقل وحقوق البشر‬
‫‪112‬‬
‫كاصد محمد‬ ‫إبراهيم سعدي‬

‫اللوح ّ‬
‫اللتيني‬ ‫أحجية ّ‬
‫األخيرة‬ ‫‪96‬‬ ‫المثقف العربي وقلق السؤال‬
‫غالف العدد الماضي ديسمبر‪ /‬كانون األول ‪2016‬‬
‫السالمي‬
‫جابر ّ‬
‫ربوح بشير‬ ‫‪113‬‬
‫ً‬
‫وداعا لبراءة الطفل‬
‫‪160‬‬ ‫حانة عقد التوراة‬ ‫ً‬
‫وشجاعا‬ ‫ً‬
‫صريحا‬ ‫سيد القمني‬
‫لوحة الغالف للفنان بهرام حاجو‬
‫هيثم الزبيدي‬
‫جمعة الالمي‬ ‫‪126‬‬ ‫أزراج عمر‬ ‫‪114‬‬

‫‪5‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪4‬‬


‫“الجديد” تدخل سنتها الثالثة‬
‫منبرا للفكر الحرّ واإلبداع المبتكر‬

‫حسني جمعان‬
‫كبوة اآلباء ونهوض األبناء‬

‫جديد يستقبله العرب بمدن تحترق وأخرى تدفع عن نفسها شر الحريق‪ .‬عام عربي يغص بصور الخروج الكبير من‬
‫عام‬
‫أي مصائر ستسلمهم الطريق‪.‬‬
‫األوطان وتوديع مالعب الطفولة في طوابير ال يعرف أصحابها إلى أين يمضون وال إلى ّ‬

‫عام عالمي جديد تسوده فوضى التوقعات والتمزق والوقوف على المنعطفات بال أمل في غد يهدأ فيه جنون العواصف وتسكن‬
‫والشر المستطير‪.‬‬
‫ّ‬ ‫معه رياح السموم‬

‫والناجمة عنها‪ .‬في هذا السياق ال بدّ أن أشير هنا إلى المقالة المركّزة للناقد خلدون الشمعة‪ ،‬والتي افتتحنا بها الملف‪ ،‬وقد تناولت‪،‬‬ ‫ً‬
‫وخوفا من المستقبل وتوجسا مما يضمره الغد لهم وألجيالهم الجديدة‪ ،‬شعوبا‬ ‫ً‬
‫اضطرابا‬ ‫العالم كله في اضطراب‪ ،‬والعرب هم األكثر‬
‫تحرر المرأة من تحوّ الت في ظل تنامي نزعات مخالفة لتوقها في التحرر‪ ،‬أدّ ت إلى وقوع‬ ‫بصورة رئيسية‪ ،‬ما تعرض له مفهوم ّ‬ ‫ً‬
‫وأفرادا‪.‬‬
‫ضحية أصوليات متعددة‪ ،‬دينية وقومية‪ ،‬وأيديولوجية‪ .‬وإلى هيمنة مرجع أعلى نصي‪ ،‬الهوتي ويقيني‪ ،‬على الخطاب‬ ‫ّ‬ ‫المفهوم‬
‫المتعلق بالمرأة‪ ،‬مهما تنوعت أزياء هذا الخطاب‪ ،‬ومهما أظهرت المرجعيات الراعية له من المرونة أو التشدد نحو حرية المرأة‬ ‫أيضا عتبة سنة ثالثة‪ ،‬من حياة “الجديد” توسع معه من أفق حضورها‪ ،‬وتشعل به شعلة جديدة في الزمن‬ ‫ً‬ ‫لكن هذا العام هو‬
‫ومفهوم هذه الحرية‪.‬‬ ‫نكرس غالف هذا العدد وملفه‬
‫الثقافي العربي‪ ،‬عازمة على مواصلة مشروعها التنويري في لحظة ظالمية بامتياز‪ .‬لذلك اخترنا أن ّ‬
‫الرئيسي لواحدة من أعقد القضايا التي شغلت الفكر العربي على مدار أكثر من قرن وأكثرها ارتباطا بإشكاليات ثقافية ومجتمعية‬
‫ً‬
‫شارحة وناقد َة‪ ،‬وكذلك في مواجهة النصوص الثقافية المضادة له‪ ،‬ال بدّ من اإلشارة‬ ‫وبإزاء نص المرأة والنصوص المعلقة عليه‪،‬‬ ‫معقدة وغير قابلة للتبسيط‪ ،‬ونعني بها مكانة المرأة في الثقافة واالجتماع وصوت المرأة في األدب والمجتمع‪ ،‬وتجليات فكرة‬
‫والسجال في هذه المسألة وغيرها من المسائل اإلشكالية‪ ،‬إن في ملفات‬
‫مفتوحا في كل وقت للحوار ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫منبرا‬ ‫إلى أن “الجديد” تعتبر‬ ‫ً‬
‫وأخيرا‪ ،‬موقع المرأة في القوى الفاعلة والمنفعلة في مجتمع‬ ‫األنوثة والمؤنث في الوعي المجتمعي‪ ،‬وفي الفكر العربي الحديث‪،‬‬
‫شر القتال‪ .‬وإنما‬
‫أو في مقاالت مفردة‪ ،‬وبالتالي لسنا مع هذا الملف بإزاء مجرد مناسبة تحتفي بموضوع لمرة وتكتفي بها من ّ‬ ‫ً‬
‫مرارا لمعطيات ثقافية واقتصادية وعسكرية عالمية قاهرة‪.‬‬ ‫شرقي جرى إخضاعه‬
‫هي حلقة ليس إال من جملة حلقات تشكل سلسلة مترابطة تسمح بتعدّ د وجهات النظر وزواياه وموضوعاته ومستوياته‪ ،‬ودائما‬
‫ً‬
‫وثقافيا جزءا ال يتجزأ من مستويات تمكّنها األخرى اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا‪.‬‬ ‫ً‬
‫فكريا‬ ‫انطالقا من توجه يرى في تمكن المرأة‬ ‫ولئن كنا أفردنا في أعداد سابقة ملفات تناولت عنوان المرأة واألفكار المحيطة به والناجمة عنه في األدب والفكر عموما‪ ،‬وأدب‬
‫وما تعبيرها عن ذاتها في الكتابة إال ترجمة لهذا التطلع وخطوة على الطريق الطويلة التي تجتازها المرأة في سعيها الشاق‬ ‫المرأة خصوصا‪ ،‬فإن نظرتنا إلى هذه القضية بوصفها قضية القضايا‪ ،‬ظلت تشغل حيزا أساسيا من تفكيرنا خالل عملنا على‬
‫لتحقيق كينونتها الكاملة في المجتمع والتاريخ‪.‬‬ ‫ً‬
‫حرا‪،‬‬ ‫ً‬
‫نقديا‬ ‫الملفات الفكرية التي تصدت لها “الجديد” في أعدادها المتعاقبة‪ ،‬والتي أردنا لها أن تشكل فضاء حواريا وهامشا‬
‫ومساحة للسؤال‪ ،‬تشتغل على حلقات من األفكار والموضوعات األساسية في الثقافة العربية‪ ،‬ال سيما تلك التي طالما وصفت‬
‫ومنصة متقدمة للكتابات العربية المبتكرة والجريئة‪ ،‬ال سيما‬
‫ّ‬ ‫منبرا ً‬
‫حرا للسؤال األدبي والفكري‪،‬‬ ‫ً‬ ‫“الجديد” قبل هذا وبعده ستبقى‬ ‫بأنها شائكة ومسكوت عنها‪.‬‬
‫بحس نقدي وتنطلق من بحث فكري موضوعي يتعارض ويتواجه مع قوى النكوص والرجعة وممثليها من طغاة‬ ‫ّ‬ ‫تلك التي تتمتع‬
‫وظالميين لم يتوقفوا عن تمجيد الظالم بينما هم يعادون الكلمة الحرة‪ ،‬وإطفاء نور الفكر ومشاعله بينما هم يطفئون في األجيال‬ ‫ً‬
‫انطالقا من هذا االهتمام‪ ،‬اعتبرنا أن من واجبات “الجديد” إتاحة الفرصة تلو األخرى للسؤال المتصل بصورة المرأة في األدب‪،‬‬
‫عقول أسئلة العقل‪.‬‬ ‫وموقع الفكر من قضاياها المختلفة‪.‬‬

‫لكن هيهات ألشباح الماضي‪ ،‬أيّ ا تكن أسلحته فتاكة وجنوده أقوياء أن تنتصر على أشعة النور المرسلة من المستقبل‪ .‬إنها إشارة‬ ‫المقاالت المنشورة في هذا العدد تحت عنوان “ذكورة وأنوثة” تتناول جملة من الموضوعات واألفكار والصور والحاالت التي تظهر‬
‫لم تعد مبكرة إلى األجيال الجديدة‪ ،‬الشباب العربي الناهض من جرح الضرورة وكبوة اآلباء وقد اختبرته التجارب المؤلمة‬ ‫في األدب الذي كتبته المرأة خالل نصف قرن مضى‪ ،‬وهي تستجلي أيضا المصطلحات والمفاهيم والتصوّ رات المتصلة باألدب‬
‫وامتحنته الوقائع الدامية‪ ،‬وفي عينيه توق ال شفاء منه إلى أنوار المستقبل‬ ‫“تحرر المرأة” و”تحرير‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫كثيرا عنوان‬ ‫الذي تنتجه المرأة‪ ،‬وتلك المحيطة باألفكار التي عصفت بتفكيرها خالل قرن عربي تردّ د فيها‬
‫المرأة” وتشاكلت نخبه المثقفة مع ما هو نسائي ونسوي في األدب والفكر‪ ،‬وكان لزاما عليه التعامل مع اإلشكاليات المحيطة‬
‫نوري الجراح‬ ‫قصرت عن تقديم قراءة‬ ‫والناجمة عن االضطراب الذي صاحب حركة التحرر النسوية العربية‪ .‬على أن حركة الفكر العربي الجديد ّ‬
‫لندن يناير ‪2017‬‬ ‫عميقة لطبيعة استجابة وعي النخب العربية لقضايا المرأة‪ ،‬وطبيعة تفاعل الفكر الثقافي الرائج مع العناوين المتعددة المتصلة بها‬

‫‪7‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪6‬‬


‫مقال‬

‫ما العقل؟‬

‫محمد ظاظا‬
‫أحمد برقاوي‬

‫دائما المتحان أسئلتها وامتحان أجوبتها‪ .‬وآية ذلك ألن سيرورة المعرفة والقطائع المعرفية‬ ‫ً‬ ‫من شيمة الفلسفة أن تعود‬
‫تطرح على الفيلسوف مسألة الحقيقة ولهذا نعود لنسأل ما العقل؟ سؤال قديم سؤال جديد! سؤال ال يلغي اللبس في‬
‫الجواب‪ ،‬ألن الجواب‪ ،‬أجوبة على سؤال واحد‪.‬‬
‫بل إن العودة إلى سؤال ما العقل اآلن في ظل التحوالت الكبرى التي نعيشها وطغيان ما نسميه الالمعقول والعودة إلى ما‬
‫ً‬
‫قادرا على المشاركة في‬ ‫قبل ثورة العقل الحديث وتكوينه لهو جزء من التفكير الثوري وبالثورة هذا إذا أردنا أن نمتلك عقالً‬
‫صناعة العالم‪.‬‬

‫ألجاب‪ :‬يمرض اإلنسان لسبب عوامل‬ ‫ال جواب على هذا السؤال ألنه سؤال زائف‬ ‫أجاب أرسطو عنه‬
‫ما العقل‪:‬‬
‫كثيرة‪ ،‬منها الفيروسات ومنها البكتيريات‬ ‫ناتج عن حكم زائف‪.‬‬ ‫بكل بساطة‪ :‬اإلنسان‬
‫ومنها أسباب نجهلها لكننا قد نعرفها‪ ،‬إنه رد‬ ‫العقل يشير إلى الكائن الذي يفكر فقط‪،‬‬ ‫حيوان عاقل‪ ،‬لم يكن الجواب حول سؤال‬
‫المرض إلى أسباب واقعية‪ ،‬إنه من وجهة‬ ‫وال يشير إلى كيف يفكر‪ ،‬وما هي حصيلة‬ ‫ما العقل بل ما اإلنسان‪ ،‬لكن الجواب عن ما‬
‫نظر العلم فكّر على نحو صحيح‪ ،‬لماذا فكّر‬ ‫المعرفة التي تصدر عنه‪ ،‬إال إذا وحدنا بين‬ ‫ً‬
‫جوابا عن ما العقل‪.‬‬ ‫اإلنسان كان‬
‫ً‬
‫حكما على‬ ‫على نحو صحيح وأصدرت‬ ‫العقل والمنطق‪ ،‬وصار يحق لنا أن نقول إن‬ ‫العقل‪ :‬هو اإلنسان الناطق هو صاحب‬
‫إجابته بأنها عقلية؟‬ ‫التفكير العقلي هو التفكير المنطقي بالمعنى‬ ‫الكالم‪ ،‬التفكير العقل‪.‬‬
‫ً‬
‫بدءا من أكثرها‬ ‫شيء مفرد‪ .‬فالمفاهيم‬ ‫والواقع وقد صار أسماء ومفاهيم وأحكاما‬ ‫الصرامة‪ ،‬أهم ما فيه أن التفكير الذي هو‬ ‫لنؤجل اإلجابة على السؤالين بعد أن نعود‬ ‫الشامل للكلمة‪ ،‬وعندي أن األمر ليس على‬ ‫العقل= التفكير‪ ،‬التفكير= النطق‪ ،‬النطق =‬
‫ً‬
‫حسية إلى أعالها نظريا هي صفة ماهوية‬ ‫حتى األبكم يستخدم لغة إشارية‪ .‬اللغة‬ ‫وحدة الدماغ والتجربة‪ ،‬الذي هو العقل‬ ‫إلى السؤال األصل ما العقل؟‬ ‫هذا النحو‪ ،‬إنما األمر هو تواضع ليس إال‪،‬‬ ‫اللغة‪.‬‬
‫أساسية مشتركة بين شيئين أو أكثر‪،‬‬ ‫هي الخبرة وقد أخذت شكل القول‪ ،‬اللغة‬ ‫فباستطاعته إصدار األحكام وقبلها صياغة‬ ‫لنقل إن العقل وحدة الدماغ والخبرة‪ .‬ولقد‬ ‫لكنّه تواضع علينا أن نمتحنه‪.‬‬ ‫ما معنى أن أفكر؟ يعني أن أعقل العالم‪،‬‬
‫الكأس‪ ،‬الترابط‪ ،‬الحرية هي هكذا‪ ،‬جميع‬ ‫هي على هذا النحو وسيلة تفاهم بين بشر‬ ‫المفاهيم‪.‬‬ ‫أثبت العلم أن أي تخريب في الدماغ‪ ،‬وهو‬ ‫ً‬
‫أحدا ما السؤال التالي‪ :‬لماذا‬ ‫هب أني سألت‬ ‫عندما يميز البعض بين تفكير عقلي وتفكير‬
‫المفاهيم ضرورية للتفكير‪ ،‬والمفهوم‪ :‬هو‬ ‫تواضعوا على داللة الكلمات‪.‬‬ ‫ً‬
‫فالعقل الذي ال وجود ماديا له‪ ،‬هو مفهوم‬ ‫جهاز بيولوجي معقد‪ ،‬يمنع اإلنسان من‬ ‫يمرض اإلنسان؟ فأجاب إن المرض روح‬ ‫ال عقلي يمنحون العقلي صفة الحقيقة‬
‫باألساس حكم في اسم‪ ،‬حكم عام‪ .‬االسم‬ ‫هنا تبدو فاعلية العقل‪ ،‬فاعلية التفكير‪:‬‬ ‫يشير إلى واقع عبر وحدة الدماغ والتجربة‪،‬‬ ‫التفكير أص ً‬
‫ال وإن فكّر فقد يفكّر على نحو‬ ‫خبيث يدخل الجسد من قوة غامضة‪ ،‬وال‬ ‫والصواب‪ ،‬ولكن من ذا الذي يعرف مصدر‬
‫حكم فردي‪ ،‬زيادة في اإليضاح جبل مفهوم‪،‬‬ ‫ً‬
‫عالما وكل‬ ‫العالم صار ً‬
‫لغة‪ ،‬واللغة صارت‬ ‫وعبر حضوره في العالم تعينه في السلوك‪،‬‬ ‫غير واقعي‪ .‬فإذا خربت خاليا النظر فقد‬ ‫يُ خرج هذا الروح إال شخص متخصص‬ ‫التفكير الالعقلي وأساسه‪.‬‬
‫الحكم المضمر مكان مرتفع عن األرض‪،‬‬ ‫فاعلية للعقل في العالم يغني العالم لغة‪،‬‬ ‫وفي القول في الخطاب‪ ،‬في المعرفة‪.‬‬ ‫اإلنسان النظر‪ ،‬وإذا خربت خاليا اللغة فقد‬ ‫بطرد األرواح الخبيثة؟‬ ‫لو سأل عددٌ من األفراد السؤال التالي‪ :‬لماذا‬
‫يتكون من قمة وواد مث ً‬
‫ال كل مكان مرتفع‬ ‫وكل انغماس في اللغة‪ ،‬في فاعلية‪ ،‬يغني‬ ‫ً‬
‫كائنا يفكّر بال‬ ‫ال يستطيع إنسان أن يتخيل‬ ‫اإلنسان القدرة على الكالم وهكذا‪ .‬الدماغ‬ ‫ما هو مصدر إجابة كهذه؟ إنه يفكر على‬ ‫يحل الظالم ألجابوا أجوبة متعددة‪ :‬األول‬
‫عن األرض إلى حد متفق عليه متكون من‬ ‫اإلنسان المعرفة واللغة والواقع‪.‬‬ ‫ذاكرة‪ ،‬ال عقل بال ذاكرة‪ ،‬فاختزان الدماغ‬ ‫هو جهاز متفق على أنه جهاز التفكير‪ ،‬إنه‬ ‫هذا النحو‪ ،‬إن عقله هو الذي قدم له اإلجابة‪،‬‬ ‫يقول‪ :‬ألن الشمس تغرب‪ ،‬وهي التي تضيء‬
‫قمة وواد هو جبل‪ .‬أحمد برقاوي اسم‪،‬‬ ‫كل ثراء في امتالك اللغة أسماء ومفاهيم‬ ‫أولي للتفكير‪ ،‬شرط لوجود‬
‫للمعلومة شرط ّ‬ ‫ً‬
‫بيولوجيا ‪-‬لدى اإلنسان‪ -‬ليكون‬ ‫مكون‬ ‫إذن هي إجابة عقلية‪ ،‬لكنها إجابة خاطئة‪،‬‬ ‫األرض‪ ،‬والثاني يجيب هي إرادة إلهية جعل‬
‫يعرف عبر المفاهيم‪ ،‬ألنه فرد‪.‬‬ ‫وأحكاما ثراء في امتالك العالم‪ ،‬الواقع‪،‬‬ ‫العقل لكن العقل هذا المفهوم المجرد يعني‬ ‫ً‬
‫وأساسا‬ ‫ً‬
‫ومكانا للذاكرة‬ ‫ً‬
‫مخزنا للمعلومات‬ ‫من وجهة نظر العلم وصحيحة من وجهة‬ ‫الليل يعقب النهار‪ ،‬الثالث يشرح إن األرض‬
‫األبرز أسماء التصورات‪ ،‬اهلل ليس مفهوما‪ً،‬‬ ‫الوجود‪ ..‬كل ثراء في امتالك اللغة‪ ،‬وكل‬ ‫أن له فاعلية االحتفاظ بالخبرة والتفكير‬ ‫ً‬
‫ودكتاتوريا في إصدار األوامر‬ ‫للحواس‪،‬‬ ‫نظر صاحبها‪.‬‬ ‫تدور حول الشمس كل أربع وعشرين ساعة‪،‬‬
‫اهلل تصور فكرة‪ ،‬أل ّني لم أجرد مفهوم اهلل‬ ‫نشاط في إبداع اللغة‪ ،‬قدرة جديدة على‬ ‫دون حضورها المباشر‪.‬‬ ‫للجسد كله وهو جسد‪.‬‬ ‫إن صاحبها ال يقول لك أن تفكيره العقلي‪،‬‬ ‫وفي عملية الدوران يتعرض نصفها إلى نور‬
‫من عدد من اآللهة‪ ،‬وأثبت صفة ماهوية‬ ‫التفكير‪ ،‬زيادة في القدرة على التفكير‪.‬‬ ‫أهم حضور للعقل هو الكشف عن الترابط‬ ‫والخبرة هي كل ممارسة عملية لإلنسان‬ ‫ً‬
‫حكما بأن تفكيره‬ ‫بل أنت الذي أصدرت‬ ‫الشمس واآلخر ال‪ ،‬فيكون نهار‪ ،‬هنا وليل‬
‫ً‬
‫مفهوما لما عاد إله‬ ‫مشتركة‪ .‬فلو كان اإلله‬ ‫وقد يسألني سائل‪ :‬لماذا ميزت بين األسماء‬ ‫وإقامة الترابط‪ ،‬واالحتفاظ بالترابط‬ ‫احتفظ بها الدماغ في الذاكرة‪ ،‬من الصور‬ ‫ً‬
‫انطالقا من اعتقادك أن العقلي‬ ‫ال عقلي‬ ‫هناك‪ ،‬وليل هنا ونهار هناك في اليوم نفسه‪.‬‬
‫كما يتصوره المؤمنون به‪ ،‬ألن اإلله من‬ ‫والمفاهيم؟ بسبب بسيط‪ :‬كل مفهوم هو‬ ‫والتفكير على أساس مبدأ الترابط‪،‬‬ ‫ً‬
‫مرورا باللغة وانتهاء بالمعارف‬ ‫واألماكن‬ ‫هو الصحيح والالعقلي هو الخاطئ‪ .‬مرة‬ ‫ً‬
‫عقليا‪ ،‬جميعهم‬ ‫ً‬
‫جوابا‬ ‫من هو الذي أجاب‬
‫وجهة نظر المؤمنين به ليس كمثله شيء‪،‬‬ ‫اسم ولكن ليس كل اسم هو مفهوم‪.‬‬ ‫وسأكشف لماذا في معرض حديثي الالحق‪.‬‬ ‫المتنوعة‪.‬‬ ‫أخرى لنسأل لماذا فكر المرء على هذا النحو‬ ‫ً‬
‫صادرا عن عقلهم‪ .‬ولهذا إذا‬ ‫ً‬
‫جوابا‬ ‫أجابوا‬
‫وبالتالي لم يجرد ولم يعمم‪.‬‬ ‫المفهوم اسم دال على صفة مشتركة بين‬ ‫وسأتوقف عند عالقة العقل باللغة قبل‬ ‫إن وحدة الدماغ والخبرة تشكل قدرة‬ ‫بالمرض؟‬ ‫سألك أحدهم لطالما كان اإلنسان عاق ً‬
‫ال فما‬
‫لنقل إن العقل بما هو تفكير هو القدرة على‬ ‫أشياء كثيرة فيما قد يكون االسم داال على‬ ‫ً‬
‫كالما‪،‬‬ ‫كل شيء‪ ،‬اللغة هي العقل وقد صار‬ ‫اإلنسان على التفكير عبر جهاز لغوي شديد‬ ‫ولو سألت السؤال نفسه لشخص آخر‬ ‫مصدر تفكيره الالعقلي‪.‬‬

‫‪9‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪8‬‬


‫مقال‬

‫فاختالف العقول بين البشر اختالف في‬ ‫جزء من جهاز معرفتي بالعالم‪ .‬وهناك عقل‬ ‫التعبير‪ ،‬والتعبير إنتاج عبارة‪ ،‬وقل العبارة‬
‫الخبرة التي هي الحدّ المختلف الذي يكون‬ ‫مشترك بين الناس من حيث اتفاقهم بصحة‬ ‫حكم‪ ،‬كل اللغة المعبرة مجموعة أحكام بما‬
‫العقل‪ .‬فض ً‬
‫ال عن أن الخبرة الفردية نفسها‬ ‫بعض الوقائع واألحكام‪ ،‬فما من أحد ينكر‬ ‫في ذلك الجملة الفعلية‪ .‬ولما كان العالم صار‬
‫في حقل ثقافي واحد تختلف باختالف‬ ‫أن هناك جباال وأنهارا وترابا‪ ..‬الخ‪.‬‬ ‫لغة في امتالكي له‪ ،‬فالعالم في امتالكي له‬
‫األفراد‪ .‬وبالتالي فاألفراد الذين ينتمون‬ ‫نفس ذائقة‬
‫ٍ‬ ‫وما من أحد ينكر أن «كل‬ ‫أحكام‪ ،‬أحكام وجود‪ ،‬أحكام قيم‪ ،‬أحكام‬
‫إلى عالم واحد من الثقافة والتربية والعقائد‬ ‫الموت»‪ ،‬وما من أحد ال يقر أن النار تحرق‬ ‫نظرية‪ ،‬تجريبية‪ ،‬جمالية‪ ،‬أخالقية‪ ،‬عادية‪،‬‬
‫ً‬
‫انطالقا من خبرتهم‬ ‫يختلفون في عقل العالم‬ ‫الجسد إذا ما ألقي الجسد فيها‪ ،‬وهكذا…‬ ‫جزئية‪ ،‬عامة‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫الفردية التي تكوّ نت في وسط محدد‪ ،‬قرية‪،‬‬ ‫نفس‬
‫لكن العقول المتفقة على أن «كل ٍ‬ ‫في اعتبار العقل لغة‪ ،‬في وحدة الدماغ‬
‫مدينة‪ ،‬بداوة‪ ،‬ثراء‪ ،‬فقر‪ ..‬الخ‪.‬‬ ‫ذائقة الموت» تختلف في مصير اإلنسان‬ ‫والتجربة‪ ،‬فنحن ال نتحدث عن انفصال‪ ،‬بل‬
‫إنني ال أدري على وجه الدقة ما إذا كانت‬ ‫بعد الموت‪ ،‬فهناك عقائد وأديان وتصورات‬ ‫عن كيف جديد لفاعلية الجسد‪-‬الكائن‪.‬‬
‫أدمغة البشر مختلفة في جبلتها‪ ،‬وال أدري‬ ‫متعددة حول مصير اإلنسان بعد الموت‪.‬‬ ‫كل ما أفكر فيه‪ ،‬كل مشاعري وأحاسيسي‪،‬‬
‫ما إذا كانت البيولوجيا مسؤولة مسؤولية‬ ‫ً‬
‫ملحدا ال يرى في‬ ‫ً‬
‫ماديا‬ ‫فإذا كان اإلنسان‬ ‫كل عواطفي وحكمتي‪ ،‬كل ما يطلق عليه‬
‫مباشرة عن التمايز بين األذكياء واألغبياء‪.‬‬ ‫أي قيمة‪ :‬ما مصير اإلنسان‬
‫طرح السؤال ّ‬ ‫جانبي الروحي‪ ،‬هو التعبير عن هذا الكيف‬
‫أمرا متأكد من وجوده أال وهو‬ ‫ً‬ ‫لكني أدرك‬ ‫بعد الموت‪ ،‬وهناك من يرى أن الروح تنفصل‬ ‫الجديد الناتج عن وحدة الدماغ والخبرة‪.‬‬
‫ً‬
‫تفاوتا بين البشر في درجة الذكاء‪،‬‬ ‫أن هناك‬ ‫عن الجسد لتعود إلى خالقها‪ ،‬والبعض يؤمن‬ ‫ها أنا قد حررت مفهوم العقل من حكم‬
‫قد يكون مرده إلى البيولوجيا أو إلى الخبرة‬ ‫بالتناسخ والتقمص‪..‬‬ ‫القيمة الذي الزمه طوال عمره‪ ،‬فالعقل هو‬
‫أو إلى االثنين ً‬
‫معا‪.‬‬ ‫أمور وأشياء‬ ‫وقس على ذلك االختالف في‬ ‫مصدر كل تعيناتي البشرية‪ :‬العلم والجهل‪،‬‬
‫ٍ‬
‫يعتقد بعض البشر عاديين كانوا أو فالسفة‬ ‫كثيرة‪ ،‬لماذا تختلف العقول؟ ببساطة ألني‬ ‫الخطأ والصواب‪ ،‬الخير والشر‪ ،‬كل التغيرات‬
‫أو علماء لغة‪ ،‬أن اإلنسان ينطوي على مبادئ‬ ‫لست أمام شيء موجود أعطي لكل الناس‬ ‫المتنوعة عن وجودي‪ ،‬عن مواقفي‪.‬‬
‫عقلية مسبقة‪ .‬كمبدأ عدم التناقض‪ ،‬ومبدأ‬ ‫اسمه العقل‪ .‬بل أمام هذا المتكون التاريخي‬ ‫أنا عقل‪ :‬إذن أنا اإلنسان ّ‬
‫الكلي الذي يع ّبر عن‬
‫الهوية‪ ،‬ومبدأ السببية ومبدأ الغائية ومبدأ‬ ‫الناتج عن وحدة الدماغ والخبرة‪ .‬فالخبرة‬ ‫وحدة الجسد والعالم‪-‬الخبرة‪.‬‬
‫الثالث المرفوع‪ ،‬بل وصارت مبادئ المنطق‬ ‫هنا ليست مجرد خبرة فردية فقط‪ ،‬بل‬ ‫بمستقل إال‬
‫ٍ‬ ‫ال‪ ،‬وما هو‬‫ويبدو العقل مستق ً‬
‫هي مبادئ العقل‪ .‬ولست في معرض العودة‬ ‫وخبرة جماعية طويلة تتوارثها األجيال‪.‬‬ ‫مفكرا‪ ،‬رساما‪ً،‬‬
‫ً‬ ‫من حيث هو ظهور اإلنسان‬
‫إلى النقاش العقيم الذي دار بين ما يسمى‬ ‫وبالتالي فالعقل بوصفه وحدة الدماغ‬ ‫ال‪ ،‬وما يدرون‬ ‫ً‬
‫عاشقا عاق ً‬ ‫ً‬
‫روحيا‪،‬‬ ‫ً‬
‫شاعرا‪،‬‬
‫بالعقليين وما يسمى باالختباريين‪ ،‬كل ما‬ ‫والخبرة يتعين بأشكال متعددة وتحدد‬ ‫أن هذا الظهور ليس انفصاالً عن مفهومي‬
‫أريد أن أطرحه على بساط البحث الفرضية‬ ‫طريقة العقل في امتالك العالم والتجوال‬ ‫الجسد‪-‬الدماغ والخبرة‪ ،‬بل هو وحدة‬
‫التالية‪ :‬كل ما ُظن أنه مبادئ عقلية ليس إال‬ ‫فيه‪.‬‬ ‫ً‬
‫مختلفا عن‬ ‫الجسد والخبرة التي جعلتني‬
‫ثمرة فاعلية اإلنسان بوصفه دماغا وتجربة‬ ‫فالطفل يكتسب ‪-‬ودون أن يعي ذلك‪ -‬عالماً‬ ‫كل أنماط الحيوانات التي دوني‪ ،‬وعن‬
‫لمعرفة الواقع‪ ،‬إن ما ظن بأنه مبادئ عقلية‬ ‫ً‬
‫وغنيا‪ ،‬ويظل اإلنسان يكتسب حتى‬ ‫ً‬
‫واسعا‬ ‫الحياة األولى للنبات‪.‬‬
‫ً‬
‫حدا من‬ ‫ليس إال معرفة إنسانية وصلت‬ ‫رحيله‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن دوره في اإلنتاج المعرفي‬ ‫وزيادة في اإليضاح‪ ،‬أعلم أن كل فعل عملي‬
‫اليقين صارت معها قادرة على أن تكون‬ ‫والعملي‪ .‬فالغالب عند الناس أنهم يتمثلون‬ ‫أو نظري في الوقت الذي ليس هناك عمل بال‬
‫أساس تفكيرنا الالحق بالعالم‪ ،‬إنها معرفة‬ ‫ثقافة وسطهم االجتماعي الذي عاشوا‬ ‫بدءا من‬
‫نظر ونظر بال عمل‪ ،‬هو فعل عقلي‪ً ،‬‬
‫صارت مبادئ‪-‬وسيلة للمعرفة‪.‬‬ ‫فيه‪ّ ،‬‬
‫وتلقوا التربية من محيطهم األسروي‪،‬‬ ‫وانتهاء بفعل الفيلسوف‪.‬‬
‫ً‬ ‫فعل الحمال‬
‫وكما قلنا إن فاعلية الدماغ هي التي‬ ‫والعلم من مدارسهم الوطنية وهكذا‪.‬‬ ‫إذا كان العقل أفكارا‪ ،‬تصورات‪ ،‬خياالت‪،‬‬
‫تسمح له عبر ديالكتيك الدماغ والتجربة‬ ‫واختالف العقول راجع إلى اختالف‬ ‫أشكال فهم‪ ،‬معارف مسبقة‪ ،‬نظريات علمية‪،‬‬
‫ً‬
‫وتعميما‬ ‫ً‬
‫وتجريدا‬ ‫استقراء‬
‫ً‬ ‫أن يستخلص‬ ‫العوالم‪ ،‬وبالتالي تختلف العقول بامتالكها‬ ‫أساطير‪ ،‬أوهام‪ ،‬أحكام‪ ،‬قيم‪ ،‬معتقدات‪،‬‬
‫واستدالالً مبادئ يرفعها إلى مستوى‬ ‫للعالم والنظرة إليه وبالسلوك‪.‬‬ ‫سلوك‪ ،‬أحاسيس‪ ،‬مشاعر‪ ،‬لغة إشارية لغة‬
‫محمد ظاظا‬

‫األساس للتفكير‪ ،‬وهذا ما أكده «هيوم» في‬ ‫فالبوذي ال يستطيع أن يفكّر أو يسلك إال‬ ‫كالمية… الخ‪ ،‬فالوجود اإلنساني إذن هو‬
‫نظرته إلى مبدأ السببية على أنه عادة تفكير‪.‬‬ ‫ً‬
‫وثنيا‬ ‫ً‬
‫إسالميا‪ ،‬والوثني‬ ‫ً‬
‫بوذيا‪ ،‬واإلسالمي‬ ‫عقل بالمعنى الذي حددته للعقل‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬والثقافة هذه الخبرة األعظم تصبح‬ ‫إذن كل ثمرة من ثمار امتالكي للعالم عقل‬
‫مفكر من فلسطين مقيم في اإلمارات‬ ‫ً‬
‫جزءا ال يتجزأ من العقل الفاعل‪.‬‬ ‫ً‬
‫تاريخيا‬ ‫متعين‪ ،‬وكل عقل متعين ومتكون‬
‫ّ‬

‫‪11‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪10‬‬


‫مقال‬

‫إصالح الدين أم اإلصالح الديني‬

‫محمد الوهيبي‬
‫أيهما يحتاجه العالم العربي؟‪ ‬‬
‫نجيب جورج عوض‬

‫تبين لنا تداعيات المشهد العربي منذ ست سنوات ماضية أن انهزام وانكسار اإلسالموية السياسية (السنية والشيعية على‬
‫وتواز) هو السبيل الوحيد النتصار ثورات الربيع العربي على أنظمة القمع واالستبداد والفساد واإلجرام في بلداننا‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫حد سواء‬
‫ً‬
‫أحيانا المتطاء ثورات الربيع‬ ‫لقد كشف أداء اإلسالموية السياسية في السنوات األخيرة ومحاوالتها المحمومة والمسعورة‬
‫ً‬
‫سعيا‬ ‫العربي‪ ،‬وتسلقها على أكتاف صانعيها وخزانها األساس من الشبان والشابات‪ ،‬أبناء وبنات الجيل العربي المعاصر‪،‬‬
‫للوصول للسلطة‪ ،‬بأن اإلسالموية السياسية تحولت إلى المبرر والضامن األول لبقاء أنظمة القمع واالستبداد وأنها بأدائها‬
‫تماهت مع أداء تلك األنظمة المذكورة حتى كادت تصبح المعادل الموضوعي لها في تدمير ربيع الشعوب العربية وأحالمها‪.‬‬
‫ولنا في سوريا نموذج حَ ٌّي عن تلك العداوة وذاك التكافل‪.‬‬

‫إذن‪ ،‬الدعوة إلنقاذ العالم العربي من‬ ‫األوروبي في القرن التاسع عشر من خالل‬ ‫هذا الواقع وإدراكه العميق‬
‫يدفع‬
‫انحطاطه وإحياء روح الثورة واالنتفاض‬ ‫اإلصالح البروتستانتي ومارسته أميركا‬ ‫اليوم بعض األصوات الثقافية‬
‫على االنحطاط فيه من خالل “إصالح‬ ‫في القرن التاسع عشر من خالل الثورة‬ ‫والفكرية العربية على امتداد الساحات‬
‫ديني” ليست بالفكرة الجديدة على‬ ‫الروحانية المتمثلة بحركتي “الصحوة‬ ‫العامة للدعوة إلى إعادة قراءة المشهد‬
‫الساحة العربية المعاصرة‪ .‬إال أن ما يجب‬ ‫العظيمة” اللتين قام بهما إنجيليون‬ ‫ً‬
‫أحيانا‪،‬‬ ‫العربي في عالقته الجدلية‪،‬‬
‫بتأن قبل أن نتبنى‬ ‫أن نلتفت إليه ونفككه‬ ‫ومتدينون تقويون‪.‬‬ ‫ً‬
‫أحيانا أخرى‪ ،‬باالنتماء الديني‬ ‫والتكافلية‪،‬‬
‫ٍ‬
‫تلك الدعوة أو نرفضها هو ما يلي‪ :‬ما هو‬ ‫مما ال شك فيه بأن الدعوة إلطالق حملة‬ ‫ودور الديني في الدنيوي وعالقة الفكر‬
‫المقصود بـ”اإلصالح الديني” في خطاب‬ ‫ً‬
‫جدا وبناءة‬ ‫“إصالح ديني” دعوة مهمة‬ ‫اإليماني بالفكر العالمي والعلمي‪.‬‬
‫على بدء األول إلصالحه الدّ يني‪ ،‬القانوني‬ ‫انطلق من قلب مدرسة الالهوت وصفوف‬ ‫الدين والمخيال الديني بحد ذاته‪ ،‬أو ربما‬ ‫من يدعو إليه؛ وهل ما يحتاجه العالم‬ ‫ً‬
‫ومثمرة‪ ،‬ومطلوبة‪ .‬ولكن ال شك أيضا بأنها‬ ‫تقصي مالمح مثل هكذا‬
‫ويمكن للمراقب ّ‬
‫الهوتي الفرنسي جون كالفن‪ .‬فكالفن‬ ‫وال ّ‬ ‫التعليم الالهوتي المعرفي والكهنوتي‬ ‫من داخل دائرة اإلرث الديني نفسه‪ ،‬ولكن‬ ‫العربي هو “إصالح بداللة وواسطة الدين”‬ ‫ليست بالدعوة الجديدة أو غير المسبوقة‬ ‫إدراك ال في أوساط الشرائح العلمانية‬
‫أيضا تبنّى وبقوة مشروع إصالح الدين‬ ‫ً‬ ‫الصرف‪ .‬اكتشف مارتن لوثر أن هناك سوء‬ ‫من خالل مقارنة ومواجهة مدارس دينية‬ ‫أم أنه يحتاج في الواقع “إصالحا للدين‬ ‫في تاريخ العالم العربي المعاصر‪ .‬فكلنا‬ ‫والالدينية واليسارية العربية‪ ،‬بل يمكن له‬
‫عينه من داخله ومن خالل تفكيكه خطابه‬ ‫فهم وتفسير وتوظيف للتعليم الالهوتي‬ ‫مختلفة ببعضها البعض وجعلها تتحدى‬ ‫بحد ذاته”؟ هناك في الحقيقة فرق بنيوي‬ ‫ً‬
‫طبعا دعوة “اإلصالح الديني” الشهيرة‬ ‫يذكر‬ ‫أن يجد بضعة مالمح جدية لها في ظهرانين‬
‫الالهوتي واإليماني وإعادة تشكيله بشكل‬ ‫المسيحي الكتابي واآلبائي العقائدي في‬ ‫بعضها البعض وتفككك ذاتها بذاتها وتعيد‬ ‫مفاهيمي ومنهجي ال مفر من لحظه بين‬ ‫والمؤثرة التي دعا إليها سيد قطب ومن‬ ‫الشرائح المتدينة واإلسالموية واليمينية‬
‫يصلح المؤسسة اإلكليريكية والكنسية من‬ ‫أوساط الكنيسة وفي ظهرانين الهوتييها‬ ‫بناء ذاتها بذاتها‪ ،‬من جهة أخرى‪.‬‬ ‫الحديث عن إصالح ديني بمعنى إجراء‬ ‫بعده حسن البنا والتي أدت إلى خلق تيار‬ ‫ً‬
‫أيضا‪ .‬ال بل ويمكن لهذا المراقب أن‬ ‫العربية‬
‫داخلها كي تخدم اإلنسان في التاريخ وال‬ ‫ومعلميها تقصى لوثر معالمه والبرهان‬ ‫هناك فرق إذن بين “إصالح ديني”‪ ،‬من‬ ‫إصالح ما بداللة الفكر الديني وباالعتماد‬ ‫اإلخوان المسلمين في مصر أوالً ومن بعده‬ ‫ً‬
‫أصواتا من بين تلك الشرائح األخيرة‬ ‫يسمع‬
‫تستعبده باسم الدين‪ .‬بدأ كالفن بإصالح‬ ‫على وجوده من خالل مراقبته النقدية‬ ‫جهة‪ ،‬وبين “إصالح الدين”‪ ،‬من جهة أخرى‪.‬‬ ‫عليه ومن خالل جعله المرجع والمقياس‬ ‫ً‬
‫تقريبا على‬ ‫على امتداد بلدان العالم العربي‬ ‫تطالب بإعادة إحياء الربيع العربي وتقويم‬
‫ً‬
‫الحقا في‬ ‫للدين في ذاته‪ ،‬إال أنه انجرف‬ ‫لممارسات اإلكليروس في قلب الكنيسة‪.‬‬ ‫وهذا الفرق نلحظه في الحقيقة حين نقرأ‬ ‫والتوجه الفكري واالستراتيجي المسيطر‬ ‫قاعدة أنَّ جماعة اإلخوان ستكون هي‬ ‫وبث الديمومة في عروقه ال من‬ ‫ّ‬ ‫مساراته‬
‫مشروع آخر جعله يستخدم الدين بحد ذاته‬ ‫ً‬
‫فكريا‬ ‫لهذا تمرد مارتن لوثر على الكنيسة‬ ‫وندرس تاريخ اإلصالح البروتستانتي في‬ ‫على عملية اإلصالح وآلياته ومنطلقاته‬ ‫الطليعة األولى في تحرير الشعوب المسلمة‬ ‫خالل ثورة على الدين وتمرد على تعاليمه‬
‫ً‬ ‫كلي لدوره في المجتمع‪ ،‬بل من‬
‫كأداة لإلصالح في المجتمع‪ .‬قام كالفن بهذه‬ ‫والهوتيا وعلق اعتراضاته الخمسة‬ ‫القرن السادس عشر في أوروبا‪ .‬فاإلصالح‬ ‫وأهدافه ونفاذاته العملياتية‪ ،‬من جهة‪ ،‬وما‬ ‫العربية وتقويم إعوجاجات المجتمعات‬ ‫وتهميش ّ‬
‫التجربة وهذا التحوّ ل في مدينة جنيف في‬ ‫والتسعين على بوابة كنيسة كلية الالهوت‬ ‫البروتستانتي بدأ كإصالح للدين في‬ ‫بين إجراء إصالح ديني بمعنى القيام بعملية‬ ‫التي يعيشون فيها وإنقاذها من غياهب‬ ‫خالل الشروع بإصالح ديني جاد وشامل‬
‫سويسرا‪ ،‬حين وصل إليها كمعلم الهوتي‬ ‫كي يطرحها للنقاش العام ويطلق بواسطتها‬ ‫بداياته‪ ،‬إال أنه وقع في بعض مراحل تطوره‬ ‫تعريض الفكر والخطاب الدينيين بحد‬ ‫الفقر والجهل والفساد والهزيمة والوهن‬ ‫وتحويل مثل هكذا إصالح ديني إلى حامل‬
‫ومشرِّ ع كنسي‪ .‬وبدل أن يدعو كالفن إلى‬ ‫شرارة إلصالح الفكر اإليماني المسيحي‬ ‫التاريخي في فخ محاولة إصالح المجتمع‬ ‫ذاتهما إلى عملية تفكيك وتمحيص وتقييم‬ ‫من خالل “إصالح ديني” يقدم اإلسالم‬ ‫أساسي لعملية اإلحياء المذكورة ورافعة‬
‫إصالح للفهم اإليماني والتعليم الديني فقط‬ ‫الكنسي والديني بحدّ ذاته‪ .‬أي أنه بدأ بحملة‬ ‫بواسطة الدين وبداللة التديُّ ن‪.‬‬ ‫وتصحيح وتقويم وتجديد وربما نقض وفق‬ ‫بحدّ ذاته على أنه الحل ومصدر الخالص‬ ‫قاعدية في عملية التقويم والديمومة‬
‫في الكنيسة في جنيف‪ ،‬عمل على استخدام‬ ‫إلصالح الدين بحدّ ذاته من داخله‪ .‬سار‬ ‫بدأ اإلصالح البروتستانتي مع خطاب‬ ‫آليات ومنطلقات ومنهجيات تفكير وتحليل‬ ‫والحرية والتفوق واالنتفاض والنصر على‬ ‫المرجوّ تين‪ .‬ويحاجج بعض هؤالء بأن مثل‬
‫رسالة اإلصالح الديني في تطبيق “إصالح‬ ‫في ركب مارتن لوثر‪ ،‬وبعد حوالي العقد‬ ‫مارتن لوثر اإلصالحي في ألمانيا‪ ،‬والذي‬ ‫وتقييم وتفعيل وعمل من خارج دائرة‬ ‫واقع الوهن والهوان والهزيمة‪.‬‬ ‫هكذا إصالح ديني مارسته دول الغرب‬

‫‪13‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪12‬‬


‫مقال‬

‫عن أن يكون “الشاهد عن حقيقة ما”‪،‬‬ ‫لماذا اإلصرار على قرن مسألة “الدور”‬ ‫إال سوء فهم لماهية ظاهرة “الدين“‪ .‬الدين‬ ‫التعليم الالهوتي ودور العبادة والمؤسسات‬ ‫الخلط بينهما ً‬
‫أبدا وال التعامل معهما على‬ ‫باسم الدين وبواسطته” للحياة المدنية‬
‫وحيث الدين “طوق نجاة” وليس “مساحة‬ ‫ً‬
‫عاجزا‬ ‫بشرط “السلطة”؟ هل ألن الدين يقف‬ ‫أي شيء؛ الدين يعكس حاجة شيء‬ ‫ال ّ‬
‫يحل ّ‬ ‫الكنسية والمجمعية الصرفة‪ .‬ولكن هذا‬ ‫َ‬
‫خلق إصالح الدين‬ ‫أنهما ظاهرة واحدة‪.‬‬ ‫والعامة في المدينة‪ .‬تحول الفكر الالهوتي‬
‫حرية”‪ ،‬وحيث التديُّ ن مقياسه الخضوع‬ ‫ً‬
‫تماما أمام العالم حين ال يتمتع‬ ‫ً‬
‫ومتعريا‬ ‫معين لحل ما‪ .‬الدين ال يعطي حلوال مطلقة‬ ‫بأي مظهر من مظاهر‬ ‫اإلصالح ال عالقة له ّ‬ ‫في أوروبا حالة عميقة وفاعلة وعظيمة‬ ‫من فكر هدفه إصالح اإليمان الديني إلى فكر‬
‫وليس العالقة‪ ،‬آخر ما نحتاجه هو “إصالح‬ ‫بسلطة‪ ،‬وهل هذا الخوف من فقدان الدور‬ ‫أو ناجزة لمصير اإلنسان ومآالته في الحياة‪.‬‬ ‫اإلصالح باسم الدين‪ .‬تعلم الغرب أن يفرِّ ق‬ ‫من التطور والتقدم والتحرر مهدت السبيل‬ ‫مرجعي أبوي تقريري هدفه استخدام الدين‬
‫باسم الدين وبداللته”‪ ،‬فالدين بحد ذاته هو‬ ‫بسبب عدم امتالك سلطة داللة غير مباشرة‬ ‫الدين يعمل كالعدسة التي تدعو اإلنسان‬ ‫واع‬
‫بين االثنين وأن يفصل بينهما بشكل ٍ‬ ‫وفتحته كام ً‬
‫ال لمرحلة عصر األنوار والحداثة‬ ‫في “إصالح” المجتمع وفق مفاهيم وقيم‬
‫أحد العوامل المهددة لحياة المؤمنين باهلل‬ ‫على محدودية الدين وبعده عن المطلقية‬ ‫لتأمل مصيره وفهم مآالت حياته في‬ ‫وعميق وبنَّاء‪.‬‬ ‫في القرنين الالحقين وأوصلت المجتمعات‬ ‫وافتراضات ولغايات تقررها الدوغما الدينية‬
‫يخيرهم‬
‫ّ‬ ‫والمتمسكين بالتديـُّن‪ ،‬إذ تراه‬ ‫والعصمة في طبيعته وعدم قدرته على ترك‬ ‫ضوء عالقة البشري بالمقدس اإللهي‪ .‬من‬ ‫في العالم العربي‪ ،‬وصلت فكرة اإلصالح‬ ‫ً‬
‫عموما إلى ما وصلت إليه اليوم‪ .‬في‬ ‫الغربية‬ ‫والتشريع الروحي (فقهية مسيحية؟)‪ .‬أدّ ى‬
‫ما بين التحول ألتباع يتم تعريفهم بداللة‬ ‫تأثير في حياة الناس إال حين يتم فرضه‬ ‫هنا يمكن القول إن مفهوم “إصالح ديني”‬ ‫الديني‪ ،‬كما ذكرت في األعلى‪ ،‬إلى شواطئنا‪،‬‬ ‫سبب اإلصالح باسم الدين وبفرضه‬
‫َّ‬ ‫المقابل‪،‬‬ ‫هذا التحول من “إصالح للدين” إلى “إصالح‬
‫مسيس‬
‫َّ‬ ‫طاعتهم العمياء لخطاب ديني‬ ‫عليهم بداللة مرجعية وسلطة؟ باعتقادي‬ ‫مفهوم متناقض‪ ،‬فالدين نفسه هو أحد‬ ‫فدعا كثير من اإلسالمويين مطلع القرن‬ ‫كمرجع تقريري في حياة الناس مشاكل‬ ‫باسم الدين” إلى تحقيق أمور جيدة ومفيدة‬
‫وما بين العيش كأفراد يتم تعريفهم بداللة‬ ‫أن إصرار اإلسالموية السياسية على‬ ‫الخبرات البشرية التي تحتاج هي نفسها‬ ‫العشرين من أمثال سيد قطب وحسن البنا‬ ‫وعثرات وتحديات سلبية في المجتمع‬ ‫لمدينة جنيف في البداية‪ ،‬إال أنه‪ ،‬وحين تم‬
‫أخالقهم وإنسانيتهم الملتصقة بعالقة مع‬ ‫مسخ “اإلصالح الديني” إلى مجرد مشروع‬ ‫ً‬
‫إصالحيا‪ .‬ولهذا يمكن‬ ‫للنظر فيها وتمحيصها‬ ‫وسواهما إلى إصالح ديني في العالم العربي‪.‬‬ ‫األوروبي في القرن السادس عشر (قاد‬ ‫استغالله واإلسراف فيه في عملية الوصاية‬
‫المقدس‪.‬‬ ‫إصالح باسم الدين وبداللة سلطته‪ ،‬وخوف‬ ‫ً‬
‫منطقيا عن “إصالح للدين” ولكن‬ ‫الحديث‬ ‫الدارس المتمعن في فكر أولئك المفكرين‬ ‫في النهاية‪ ،‬ومع خلق الكنيسة الكاثوليكية‬ ‫على الحياة العامة ورقابتها واألبوية على‬
‫يخير اإلنسان ما بين “اهلل”‬
‫ّ‬ ‫في عالم‬ ‫المؤسسات الدينية المتمسكة بهذا التوجه‬ ‫ً‬
‫ال يوجد شيء فعلي ومقبول منطقيا اسمه‬ ‫من أمثال سيد قطب وحسن البنا وآخرين‬ ‫مضادا باسم الدين وبواسطة‬‫ً‬ ‫ً‬
‫إصالحا‬ ‫أخالقيات وسلوكيات وممارسات الناس في‬
‫ألي ربيع عربي أن‬
‫و”التديـُّن”‪ ،‬ال يمكن ّ‬ ‫“إصالح باسم الدين”‪.‬‬ ‫من خطهم الفكري يشعر أن ما دعوا إليه‬ ‫حياتهم اليومية‪ ،‬تحول الدين إلى وسيلة‬
‫ينمو ويزدهر ألن ما يدعو إليه لن يهدد‬ ‫في سياق التاريخ العربي المعاصر‪ ،‬استمرت‬ ‫(ومازال يتم تبنيه وتسويقه اليوم من قبل‬ ‫وصاية وقمع وأدلجة وتدجين‪ .‬وقد انتهت‬
‫فقط المؤسسة الدكتاتورية والفاسدة‪،‬‬ ‫فكرة “اإلسالم هو الحل” هي الفكرة‬ ‫اإلخوان المسلمين والسلفيين في المشرق‬ ‫قصة كالفن مع مدينة جنيف بالفشل الذريع‬
‫ً‬
‫أيضا المؤسسة الدينية التي‬ ‫بل وسيهدد‬ ‫يخير اإلنسان‬
‫في عالم ّ‬ ‫الناظمة لمفهوم “اإلصالح الديني” في‬ ‫العربي ومصر على األقل) هو إصالح باسم‬ ‫تبين لنا تداعيات المشهد‬ ‫لفكرة اإلصالح الديني‪ ،‬فالنظام الديمقراطي‬
‫ترهن وجودها برمته بمرجعية خطابها‬ ‫أوساط اإلسالموية السياسية في العالم‬ ‫الدين وبداللة مرجعيته‪ ،‬وليس في الواقع‬ ‫(القائم على قرار الجماعة بالتصويت على‬
‫و”التديـن”‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫ما بين “اهلل”‬ ‫العربي منذ ست سنوات‬
‫الديني وليس بخدمتها لإلنسان في ساحات‬ ‫العربي‪ .‬وقد تمت محاوالت لتطبيقها في‬ ‫إصالح للدين بحد ذاته‪ .‬شعار “اإلسالم هو‬ ‫كافة شؤون المدينة وحياة الناس) الذي‬
‫العالم العربي العامة‪ .‬نحتاج بشكل ملموس‬ ‫ألي ربيع عربي‬‫ّ‬ ‫ال يمكن‬ ‫بلدان ما بعد الربيع العربي كمصر وتونس‬ ‫الحل” يع ِّبر بشكل بليغ عن هذا الميل وهذا‬ ‫ماضية أن انهزام وانكسار‬ ‫أسسه كالفن كأول نظام ديمقراطي في‬
‫إلى إصالح للدين‪ ،‬إلى إصالح ديني يبدأ‬ ‫أن ينمو ويزدهر ألن ما‬ ‫وليبيا وهناك محاوالت لفرضها في المغرب‬ ‫الخلط لإلصالح باسم الدين بمسألة إصالح‬ ‫اإلسالموية السياسية‬ ‫أوروبا عصر النهضة كان بعينه النظام‬
‫بتصحيح الدين نفسه وبتعريض الدين بحد‬ ‫يدعو إليه لن يهدد فقط‬ ‫واليمن وسوريا واألردن‪ ،‬ولكن هناك تطبيق‬ ‫الدين‪ .‬يصعب على اإلسالموي السياسي‬ ‫(السنية والشيعية على حد‬ ‫الذي صوّ ت على طرد كالفن خارج المدينة‬
‫ذاته للتقييم والدراسة والنقد والتفكيك من‬ ‫فعلي لها في دول الخليج وإيران وتركيا‪.‬‬ ‫الذي يحمل هذا الشعار أن يدرك بسهولة‬ ‫وتجريده من موقعه فيها ونفيه منها‪.‬‬
‫المؤسسة الدكتاتورية‬ ‫ً‬
‫وتواز) هو السبيل‬
‫ٍ‬ ‫سواء‬
‫داخله‪ .‬طالما نقول إن “الدين هو الحل” لن‬ ‫من يراقب تلك النماذج يلحظ برأيي أن‬ ‫دينا بعينه‬ ‫هذا التفريق‪ ،‬فمن يفترض أن‬ ‫ال مكان هنا لالستطراد أو اإلسهاب أكثر في‬
‫ينجح اإلسالم السياسي في العالم العربي‬ ‫والفاسدة‪ ،‬بل وسيهدد‬ ‫ال‬ ‫ً‬
‫ناجحا فع ً‬ ‫ً‬
‫نموذجا‬ ‫ال أحد منها يمثل‬ ‫ً‬
‫بديهيا أن يقبل أن ذاك‬ ‫هو ّ‬
‫“حل” ال يمكن له‬ ‫الوحيد النتصار ثورات‬ ‫تاريخ تجربة اإلصالح الديني في أوروبا‬
‫ألنه يمسخ الدين إلى ما ليس هو وما ليس‬ ‫ً‬
‫أيضا المؤسسة الدينية‬ ‫في تمثيل األحالم والطموحات والمبادئ‬ ‫ال” إلصالح خلل ما هو نفسه‬‫الذي يعتبره “ح ً‬ ‫الربيع العربي على أنظمة‬ ‫عصر النهضة البروتستانتية‪ ،‬وأنا لست ً‬
‫أبدا‬
‫نصر على أالّ نصلح الدين بل‬
‫ُّ‬ ‫بدوره‪ .‬وطالما‬ ‫التي ترهن وجودها برمته‬ ‫والدعوات التي قامت ثورات الربيع العربي‬ ‫بحاجة إلى “إصالح” وكأن به خلال‪ .‬ولكن‪،‬‬ ‫القمع واالستبداد والفساد‬ ‫بمعرض إطالق حكم قيمة سلبي أو إيجابي‬
‫أن نفرض الدين كحل إصالحي‪ ،‬لن ينجو‬ ‫على أساسها والتي نادى بها وحلم بتحقيقها‬ ‫في هذا المنطق المغلق للفكر اإلسالموي‬ ‫على تجربة اإلصالح الكالفيني في مدينة‬
‫بمرجعية خطابها الديني‬ ‫واإلجرام في بلداننا‬
‫الربيع العربي من المستنقع الذي غرق فيه‬ ‫جيل الشباب والشابات العرب الذين قاموا‬ ‫السياسي فهم إشكالي لماهية الدين بحد‬ ‫جنيف‪ .‬هي تجربة تعلم منها البروتستانت‬
‫حين ركب عليه اإلسالمويون وقدموه لقمة‬ ‫وليس بخدمتها لإلنسان‬ ‫بتلك الثورات‪.‬‬ ‫ذاته‪ .‬فالدين ليس موضوع العبادة في‬ ‫المُ صـلَح ومازال الكثير الكثير من الدروس‬
‫سائغة ألنظمة القمع والطغيان والفساد‬ ‫أحد األسباب لهذا الفشل في النمذجة‬ ‫اإليمان‪ .‬موضوع العبادة في اإليمان هو‬ ‫والعِ َبر الالهوتية والمجتمعية والتاريخية‪.‬‬
‫واألبويات العربية وجعلوه حجة لعودتها‬ ‫برأيي يكمن في أن تلك السياقات العربية‬ ‫اهلل‪ ،‬وما الدين سوى خطاب يشهد عن‬ ‫المهم هنا أنني ألفت انتباه من يقولون بأنَّ‬
‫إلى الساحة في المشهد العربي (ما حصل‬ ‫تخلط بشكل مدمر ويحمل عناصر تفككه‬ ‫اهلل (موضوع العبادة) ويحاول تفسيره‬ ‫سلطته إلى حرب الثالثين عاما وإلى‬ ‫ً‬
‫دينيا في تاريخها‬ ‫ً‬
‫إصالحا‬ ‫أوروبا اختبرت‬
‫في مصر وما يحصل في سوريا نماذج‬ ‫من إصالح الدين من داخله‪ ،‬ما هو إال دعوة‬ ‫وفشله الذاتي في داخله ما بين “إصالح‬ ‫لإلنسان‪ .‬أي أن الدين وسيلة للتعبير عن‬ ‫مذابح دينية بشعة) واجهها الشارع العام‬ ‫في القرن السادس عشر وأن ما اختبرته‬
‫ساطعة عن هذا)‪ .‬فلنصلح الدين من داخله‬ ‫ألي مراقب‪ ،‬بل وتشجيع له أو لها‪،‬‬
‫حتمية ّ‬ ‫الدين” و”اإلصالح باسم الدين”‪ .‬ينطلق من‬ ‫والشهادة على حقيقة أعمق وأسمى وأكثر‬ ‫الغربي بثورات وانتفاضات شعبية وعلمية‬ ‫ً‬
‫أيضا في العالم‬ ‫أوروبا يصلح لنختبره نحن‬
‫ً‬
‫إصالحا‬ ‫وعندها فلنأمل بأن ينعكس هذا‬ ‫لطرح تلك التساؤالت ووضعها على طاولة‬ ‫يدفعون باتجاه الخيار الثاني من فرضية‬ ‫قاعدية منه‪ .‬وكل وسيلة ما هي إال شيء‬ ‫وسياسية ومعرفية وتعلم منها الكثير‪ .‬وأهم‬ ‫العربي‪ ،‬ألفت انتباههم إلى حقيقة أن ما‬
‫على الحياة والتاريخ وسيرورة اإلنسان في‬ ‫البحث‪.‬‬ ‫تقول إن على الدين أن يكون ذا سلطة كي‬ ‫محدود بطبيعته ونسبي بماهيته وخاضع‬ ‫ما تعلمه هو عدم الخلط بين “إصالح الدين”‬ ‫اختبرته أوروبا متمث ً‬
‫ال بالفكر المذكور في‬
‫العالم العربي‪.‬‬ ‫في عالمنا العربي حيث يعبد الناس أديانهم‬ ‫ً‬
‫دورا في حياة‬ ‫يتواجد في المجتمع ويلعب‬ ‫لمشروطات ومحدودية وظرفية التاريخ‬ ‫وبين “اإلصالح باسم الدين”‪ .‬يوجد اليوم‬ ‫األعلى كان أمرين “إصالح للدين المسيحي‬
‫أكثر بكثير مما يعبدون اهلل ويتعبدون‬ ‫الناس‪ .‬ولكن هل يحتاج الدين ً‬
‫حقا لسلطة‪،‬‬ ‫والسياق والتحدي الوجودي والعقل البشري‬ ‫إصالح ديني مستمر وحي وديناميكي‬ ‫بحد ذاته” و”إصالح باسم الدين المسيحي‬
‫باحث وأكاديمي متخصص في الالهوت من سوريا‬ ‫لتديُّ نهم أكثر من تع ّبدهم للرحمن الرحيم‪،‬‬ ‫وهل عليه الدخول في لعبة السلطة‪ ،‬كي‬ ‫التي أنتجته‪ .‬من هنا فإن التعامل مع الدين‪،‬‬ ‫ومتعدد األوجه في قلب الوجود الديني‬ ‫وبداللته”‪ .‬هاتان التجربتان متمايزتان‬
‫مقيم في أميركا‬ ‫ً‬
‫عوضا‬ ‫وحيث الدين يمثل “مالك الحقيقة”‬ ‫يكون له دور في حياة الناس في المجتمع؟‬ ‫أي دين كان‪ ،‬على أنه “حل” ألي شيء ما هو‬
‫ّ‬ ‫الغربي المسيحي واليهودي وضمن معاهد‬ ‫بالطبيعة والتوجهات والمفهوم وال يجب‬

‫‪15‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪14‬‬


‫مقال‬

‫الهيبي والعقيد‬
‫صادق النيهوم ومعمر القذافي‪ ‬‬
‫أحمد الفيتوري‬

‫في بالد البغتة والعجائب ُتمطر السماء بالمصائب و»العصبان» أو تسحبك من أنفك إلى خيمة القائد سيان‪ ،‬ما لم يكن من‬
‫المُ مكنات يحدث ألن إرادة «القائد» فوق كل حساب وال تقبل الطرح وتقبل الزيادة والضرب وال تقبل القسمة‪ ،‬جاءني‬
‫«الشاعر إدريس الطيب» رفقة الكاتب سعد نافو إلى بيتي في بنغازي ليبلغني أن القذافي استدعانا إلى خيمته بطرابلس‪،‬‬
‫وأن علينا السفر في ّ‬
‫التو‪ .‬أخذنا من قبل الكاتبة فوزية شالبي في اليوم التالي إلى القذافي في خيمة بمزرعة بطريق المطار‪،‬‬
‫فوجئنا في الخيمة بالكاتب الصادق النيهوم رفقة الدكتور رجب بودبوس‪.‬‬

‫الصادق النيهوم‪ :‬املثقف الذي توسط املسافة بني السلطة والناس‬


‫لل ُبعد القومي عند الكاتب المصري عصمت‬ ‫بعالقة‬
‫ٍ‬ ‫وعلى الخصوص الصادق النيهوم‬ ‫مساء اليوم التالي أيضا قابلنا‬
‫في‬
‫سيف الدولة‪ ،‬وإضافات لل ُبعد اإلسالمي من‬ ‫ب‬ ‫مميزة مع العقيد معمر القذافي‪ ،‬الذي عَ قِ َ‬
‫ٍ‬ ‫القذافي في بيت عبدالسالم‬
‫الصحيفة األول والمبرز؛ علي يد صحفي‬ ‫مشروعيتها من ذاتها ألن اإلنسان كائن مفكر‬ ‫أدهشني‪ ،‬ربما بسبب فكرتي الرومانسية‬ ‫الكاتب السوداني بابكر كرار‪ ،‬وكل منهما‬ ‫السلطة بانقالبه العسكري في‬ ‫استيالئه على ُ‬ ‫الزادمة»وهو من أعد العشاء‪ ،‬وكان الصادق‬
‫قدير هو رشاد الهوني رئيس تحرير صحيفة‬ ‫وأن الفكر ما يسوس البشر وبذلك فالمفكر‬ ‫كقدس أقداس‪ .‬قال‬ ‫القديمة عن اإلبداع ُ‬ ‫كان على عالقة مميزة ومعروفة بالقذافي‬ ‫ً‬
‫لقاء مُ وسعا بالمُ ثقفين‬
‫ً‬ ‫سبتمبر ‪ 1969‬عَ قدَ‬ ‫النيهوم في صدارة الجلسة التي كانت‬
‫الحقيقة التي تنشر هذه المقاالت مسلطة‬ ‫هو القائد‪ ،‬ولقد تم توكيد ذلك في األنظمة‬ ‫ً‬
‫دوما السلطة‪ ،‬كل‬ ‫لي يومها إن غايته كانت‬ ‫والدولة الليبية‪.‬‬ ‫الليبيين ُن َ‬
‫قل مُ باشر ًة عبر التلفزيون لعدةِ‬ ‫أريحية ووضحت العالقة الخاصة بين‬
‫الضوء على كاتبها في شكل صحفي جديد‬ ‫الشمولية والطغاة فرادة منذ نيرون إلى‬ ‫ما هنالك أن العسكر ذهبوا إليها من أقصر‬ ‫في لقائي مع القذافي بمعية الصادق النيهوم‬ ‫ساعات وأليام وعُ رف ب ِـ»ندوةِ الفكر‬ ‫النيهوم والقذافي‪ ،‬حيث الصادق النيهوم‬
‫وجذاب‪.‬‬ ‫لينين وماو‪ .‬وفي التاريخ اإلسالمي أخذ‬ ‫طريق‪ ،‬وخسرها هو ألنه سعى إليها من أبعد‬ ‫الحظت أن األول يُ نصت للثاني‪ ،‬وأن ثمة‬ ‫الثوري»‪ ،‬في ذاك اللقاء تحدث الصادق‬ ‫دخل في محادثة مع القذافي فيها التبسط‬
‫وحين حققت الجريدة ذلك كان النيهوم‬ ‫هذا عند الشيعة مسوغه في مفهوم «والية‬ ‫ُ‬
‫استنكرت أن يسعى مبدع في‬ ‫طريق! لقد‬ ‫إعجابا يُ ضمر ُه القذافي للنيهوم وعالقة‬ ‫النيهوم الكاتب النجم عن عالقة القطيع‬ ‫والمزاح واأللفة‪ :‬تعرف يا خيي معمر أنهم‬
‫قد أمدها بروح جديدة‪ ،‬بأسلوبه المميز‬ ‫الفقيه» إذا كان الملك هو ظل اهلل على‬ ‫حجم صادق يومها إلى ما اعتبرته عم ً‬
‫ال ال‬ ‫فيها حميمية بينة‪ ،‬وكأنما القذافي يعتبر‬ ‫بالملك‪ ،‬واصطدم بالرائد عمر المحيشي‬ ‫يتهمونني بتأليف كتابك األخضر‪ ،‬هذا‬
‫من حيث تركيب الجملة التي تغترف من‬ ‫األرض فالفقيه أولى أن يكون الملك‪.‬‬ ‫ً‬
‫أخالقيا»‪.‬‬ ‫النيهوم من أنار ُه ونور ُه وأن هذا جعل في‬ ‫عضو مجلس قيادة الثورة المُ شارك في‬ ‫الكتاب مش ممكن نكتبه وإال ال؟ وأخذ‬
‫األساليب الصحفية العربية «البيروتية»‬ ‫لكن في حال الصادق النيهوم المفكر‬ ‫إن هذه العالقة المُ بكرة بين السلطة والكاتب‬ ‫نفس الدكتاتور تضادا‪ ،‬فكأنما‪ ،‬وهو السلطة‬ ‫َ‬
‫تدخل القذافي وانحا َز‬ ‫إدارة الندوة‪ ،‬وقد‬ ‫القذافي يضحك دون أن يعلق على حديث‬
‫ومن األساليب الكتابية في الصحف‬ ‫استحوذ العسكري الطاغية على الفكر‪،‬‬ ‫النجم تضرب في التاريخ منذ أفالطون‬ ‫المطلقة‪ ،‬صنيعة هذا «الهيبي»‪ ،‬وهذه‬ ‫إلى جانب «الكاتب النجم»‪ ،‬وعلى إثر ذلك‬ ‫النيهوم التهكمي‪ ،‬وحينها بدا لي كما لو أن‬
‫إنكليزية اللغة‪ ،‬ومن األدب األميركي في‬ ‫وجعل معمر القذافي من نفسه القائد‬ ‫وعالقته بحاكم صقلية من قدم له تقارير‬ ‫الحقيقة جعلت من عالقتهما كما عالقة‬ ‫قصيرة‬
‫ٍ‬ ‫بمدة‬
‫ٍ‬ ‫توطدت العالقة بينهما‪ ،‬بعدها‬ ‫«الكتاب األخضر» ليس في المستوى الذي‬
‫مرحلة ما بعد الحرب كما تمثل في كتابة‬ ‫المفكر والمعلم الثائر والشعار ما ردده أتباعه‬ ‫ضد فالسفة كان على خالف شديد معهم‪،‬‬ ‫المثقف بالسلطة فيها الفكر «رأس المال‬ ‫أمين‬
‫َ‬ ‫الكاتب المُ تمرد الصادق النيهوم‬
‫ُ‬ ‫أمسى‬ ‫يستحق أن يُ تهم النيهوم بكتابته‪ ،‬وأن‬
‫أرنست هيمنجواي وترجماته العربية على‬ ‫وحشود الجماهير التي تحشد لتوكيد ذلك‪.‬‬ ‫ولعل عالقة المتنبي بالسلطة أوضح مثال‬ ‫الرمزي» الذي يُ شكل سلطة ُتقارع سلطة‪،‬‬ ‫لجنة الدعوةِ والفكر في االتحاد االشتراكي‪،‬‬
‫ِ‬ ‫النيهوم يتبرأ في حضورنا من هذه التهمة‪،‬‬
‫يد منير البعلبكي وهو من ترجم رواية‬ ‫في الثقافة العربية‪ ،‬خاصة مع سيف الدولة‬ ‫وبمعية هذه العالقة المُ شكل وقع النيهوم‬ ‫التنظيم السياسي للعقيد القذافي لقيادة‬ ‫وأن القذافي يمنح النيهوم هذا الحق كما‬
‫هيمنجواي «الشيخ والبحر» التي كانت‬ ‫نجم النجوم‬ ‫وكافور اإلخشيدي‪ ،‬لقد كان المتنبي ال يرى‬ ‫في األسر‪.‬‬ ‫البالد‪ ،‬لم يُ رض ذلك الكاتب والفنان إال‬ ‫يمنح السلطان نديمه‪ .‬لحظتها والساعة‬
‫إنجيل جيل النيهوم‪ ،‬لقد عجن هذا الكاتب‬ ‫الصادق النيهوم النجم ظهر على صفحات‬ ‫وال يكتفي بأنه سلطان الشعر‪ ،‬المتنبي يريد‬ ‫لمدة قصيرة‪ ،‬ليخرُ ج من البالد قاصدا قبلة‬
‫ٍ‬ ‫ومما طالعته وسمعته تبين لي أن الصادق‬
‫ذلك في تحوالت جعلت أسلوبه متميزا‬ ‫جريدة الحقيقة‪ ،‬ليكتب من هلسنكي‬ ‫أن يكون السلطان حيث أنه السلطان الحق‬ ‫الهيبي والكولونيل‬ ‫المُ ثقفين والمُ بدعين العرب بيروت دون أن‬ ‫النيهوم صاحب الكتابة واألفكار في مسودة‬
‫وجملته مسبوكة مصبوغة بروحه التهكمية‬ ‫عاصمة فنلندا عن الليبيين مقاالت ساخرة‬ ‫وسلطان الحق‪ ،‬سلطان المدينة األفالطونية‬ ‫كتب الكوني عن ذكرياته مع النيهوم‬ ‫ً‬
‫طاطة‬ ‫يتركَ منصبه‪ ،‬في الفترة تلك كتب ُخ‬ ‫أ�عيدت صياغتها دون رضى النيهوم‪ ،‬ولعل‬
‫كابن لمدينة متوسطية صغيرة‪ ،‬تبدو كما لو‬ ‫ومثيرة‪ ،‬ولينشر مقاالت صحفية مترجمة‬ ‫التي كان أحد منادمي سيف الدولة قد كتب‬ ‫«في بداية التسعينات‪ ،‬عندما جاورته في‬ ‫ً‬
‫فكرية نظرية كحل للمشكل السياسي‬ ‫لهذا منح القذافي الصادق النيهوم تلك‬
‫كانت ميناء لقراصنة غدوا أشباحا‪.‬‬ ‫أعاد صياغتها‪ ،‬هذه المقاالت التي تتناول‬ ‫فيها كتابا‪ :‬المدينة الفاضلة للفارابي‪.‬‬ ‫رحاب األلب‪ ،‬كنا نتسكع في األمسيات‪،‬‬ ‫االجتماعي ُقدمت في كُتيب تحت عنوان‬ ‫اللحظة االستثنائية‪.‬‬
‫كان النيهوم يرسم شخصية كتاباته السردية‬ ‫مواضيع الساعة في تلك المرحلة وتمس‬ ‫هكذا منذ البدء يتضح أن موقف المثقف‬ ‫في حديقة الزهور في جنيف‪ ،‬ليروي لي‬ ‫يتم تداولها‬
‫«نقاش» لالتحاد االشتراكي‪ ،‬ولم ّ‬
‫في شكل رجل عاطل‪ ،‬ليس لديه ما يفعل‬ ‫القضايا الساخنة من العالم‪ ،‬وفي أسلوب‬ ‫المعارض للسلطة عند أمثال المتنبي من أجل‬ ‫الطرائف بأسلوبه الممتع‪ ،‬المستعار من‬ ‫الخطاطة‬‫بشكل عام في حينها‪ ،‬تقريبا هذه ُ‬
‫ٍ‬ ‫الصادق النيهوم في أسر القذافي‬
‫سوى أن يتكئ في ركينة شارع ليرمي‬ ‫ساخر وتهكّمي وطازج ومثير جذب القراء‪،‬‬ ‫االستحواذ على السلطة باعتبار أنها مشروع‬ ‫روحه النقية‪ ،‬إلى أن جاء اليوم الذي أدلى‬ ‫المرجعية التي اعتمدها القذافي لما أسماه‬ ‫َحظي أشهرُ الكتاب الليبيين‪ ،‬خليفة التليسي‬
‫المارة بنظرة ساخطة ولسان الذع‪ ،‬وفي‬ ‫وتحوّ ل صاحب هذا األسلوب إلى كاتب‬ ‫المثقف المشروع‪ ،‬وهذه المشروعية تستمد‬ ‫ً‬
‫حسابا‪ ،‬اعتراف‬ ‫لي فيه باعتراف لم أقرأ له‬ ‫بـ»النظرية العالمية الثالثة» مع إضافات‬ ‫وأحمد إبراهيم الفقيه وإبراهيم الكوني‬

‫‪17‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪16‬‬


‫مقال‬

‫سلطته خاصة متى تحول إلى نجم غاية‬ ‫الجافل عن القطيع‪ ،‬القطيع هذه المفردة‬ ‫مقتضبة لموضوع الدراسة‪ ،‬لكن المهم كان‬ ‫واجتماعية تبدو كما لو كانت قضايا ميتة‬ ‫التكثيف المبسط االختزالي ما يتخذ من‬ ‫كمتفرج استعار باروكة‬
‫ّ‬ ‫مقاالته الفكرية يبدو‬
‫غايات أغلب الكتاب لكن النيهوم على‬ ‫التي سيرددها النيهوم في مداخالته كثيرا‪،‬‬ ‫آنذاك ما أثارته من ردود أفعال وسيجنح‬ ‫مثل قضية المرأة‪ ،‬ولعل أهمها محاولته ‪-‬في‬ ‫الجملة كحامل للفكرة‪ ،‬فيبدو كما لو كان‬ ‫فلسفة العبث السائدة آنذاك التي تكرس‬
‫الخصوص منهم كان النجم‪ .‬وكان الكاتب‬ ‫وسيظهر نفسه كمتمرد يلبس (الجينز والتّ ي‬ ‫الكاتب منذ أن بدأ بردود األفعال هذه إلى‬ ‫سبق صحفي ومثال قبل أن يفطن مصطفى‬ ‫يكتب حكمة في ثوب «مانشيت» صحفي‬ ‫مفاهيم الالمنتمي الحصيف‪.‬‬
‫البارع والمبدع المميز‪.‬‬ ‫شرت)‪ ،‬وينظر بغضب لقطيع السلطان‬ ‫االنشغال بها في الكثير من المواضيع التي‬ ‫محمود لذلك‪ -‬تفسير القرآن تفسيرا عصريا‬ ‫يدير الرؤوس ويبث التأويل ونقيضه في‬
‫وسيضع في نفس السلة كل النخبة الليبية‬ ‫نشرها‪.‬‬ ‫في دراسته المطولة «الرمز في القرآن»‪.‬‬ ‫ذات الجملة‪ ،‬ويزيغ النظر بتحريكه لسطح‬ ‫فيلسوف هيبي‬
‫ظاهرة النيهوم‬ ‫‪-‬وحتى العربية‪ -‬دون تمييز مستثنيا بطبيعة‬ ‫ّ‬
‫وألن عامة الناس يغذون التناقض ويعشقون‬ ‫قبل أن نشير إلى ما أثارته هذه الدراسة من‬ ‫الظاهرة التي يتناولها‪ ،‬كمن يرمي حجارة‬ ‫لقد أشارت ‪-‬حينها‪ -‬صحيفة الصن‬
‫لم يكُن النيهوم ظاهرة وحدها حين خرج‬ ‫الحال مريديه من الشباب وعامة الناس‪.‬‬ ‫التضاد فقد ظهر النيهوم باعتباره الغامض‬ ‫ردود أفعال ال يفوتني أن أنوه بأن النيهوم‬ ‫في بركة راكدة‪ ،‬التي هي في الحقيقة‬ ‫البريطانية إلى الصادق النيهوم ‪-‬في مقالة‬
‫ُ‬
‫فجيل‬ ‫على الناس بتمرده وأفكاره الجريئة‪،‬‬ ‫لقد تبوأ مبكرا مركزا مميزا في السلطة‬ ‫السهل‪ ،‬وفي هذه الدراسة بدا وكأنه ال يعني‬ ‫القابع على بعد أالف األميال عمن يكتب‬ ‫سبخة ماؤها تبخر ولكن سطحها الالمع‬ ‫صحفية عن ليبيا‪ -‬بأنه يبدو كما فيلسوف‬
‫ُ‬
‫جيل التمرد والعبث‬ ‫الستينات ‪-‬جيله‪-‬‬ ‫حين نالته الشهرة فغدا بسلطة الفكر رأسا‬ ‫ما يقول‪ ،‬ويقول ما ال يعني لهذا جنح قراؤه‬ ‫عنهم ولهم وعن الصحيفة التي يكتب فيها‪،‬‬ ‫يوهم بوجود الماء‪.‬‬ ‫هيبي‪ :‬الفيلسوف الهيبي الذي وراء كولونيل‬
‫والالمعقول والثورات والهيبز والبتلز‪ ،‬والذي‬ ‫حاسرا ينال مراده بجمهوره الكثير‪ ،‬ولهذا‬ ‫إلى تزكية آرائه في مواجهة خصومه‪.‬‬ ‫قد كرس نفسه لشكل من أشكال الغموض‬ ‫إن النيهوم العب في بركة الوحل التي‬ ‫ليبيا‪ ،‬وكان الكاتب علي فهمي خشيم قد‬
‫يأتي وال يأتي والهزيمة العربية في حرب ‪5‬‬ ‫أفصح عن عداء ألعداء افترضهم ومنحهم‬ ‫ومن هذه اللحظة المفارقة سيضع النيهوم‬ ‫حول شخصه وسيرته‪ ،‬وأن الصحيفة التي‬ ‫أراد أن يرسم على سطحها عالمته المميزة‬ ‫كتب مقالة بعنوان «الظاهرة النيهومية»‪.‬‬
‫تسيدا‬
‫يونيو‪ ،‬وكان آنذاك اليسار الفرويدي مُ ّ‬ ‫هذا الدور؛ هم النخبة خاصة السياسية منها‬ ‫رجله علي عتبة الباب الذي يحب‪ ،‬فقد كان‬ ‫كرسته ككاتب أول لها‪ ،‬كرست هذا الغموض‬ ‫كنجم يعطي بظهره للكرة ويعطي وجهه‬ ‫النيهوم في سيرته غير الموثقة وغير‬
‫جبهة الفكر اإلعالمية‪ :‬هربرت ماركوز‬ ‫وكان رأس شيطانها اليسار بالمعني العام‬ ‫خصومه هم رجال الدين المحافظون ومن‬ ‫الذي نبعه ليس القضايا التي يتماس معها‪،‬‬ ‫وعينيه للجمهور‪ .‬لكن ما يميز هذا النجم أنه‬ ‫الموثوق فيها ‪-‬ألنها مليئة بالثغرات وألن‬
‫وإريك فروم… الخ‪ ،‬وكان الالمنتمي صرعة‬ ‫في حكمهم‪ ،‬والنظام الملكي الليبي آنذاك‬ ‫أو المفاهيم التي يتخذها طريقة ألطروحاته‬ ‫صاحبها نجم تحول إلى رمز لهذا حشاها‬
‫اللحظة على يد صحفي نابه تحول إلى‬ ‫أسسه هؤالء أو أنهم على األقل أهله بحكم‬ ‫اإلشكالية فحسب‪ ،‬ولكن قبل ذلك األسلوب‬ ‫محبوه بما يحبون أن يكون عليه نجمهم‬
‫أيقونة للشباب الناقم يدعى كولن ولسون‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أن للدولة الليبية عالقة بالحركة السنوسية‬ ‫الذي اتخذه‪ ،‬هذا األسلوب المازج بين‬ ‫تخرج في الجامعة‬
‫ّ‬ ‫الساطع‪ -‬أنه حين‬
‫في هذه اللحظة بدا وكأن العالم قد سلم‬ ‫لقد أشارت ‪-‬حينها‪ -‬صحيفة‬ ‫الدينية اإلصالحية بالتبعية وأن ملك البالد‬ ‫الكتابة األدبية والكتابة الصحفية المطعمة‬ ‫في لقائي مع القذافي‬ ‫الليبية قد ذهب إلى القاهرة كي يعد رسالة‬
‫زمامهُ لألفكار وحاملها األيديولوجيات‬ ‫مؤسس الدولة هو وريث لزعامة هذه‬ ‫بأساليب الترجمة في حينها‪ ،‬مع مزيج من‬ ‫الماجستير ومن ثم الدكتوراه في مقارنة‬
‫الصن البريطانية إلى‬ ‫بمعية الصادق النيهوم‬
‫الصحف إلى أسفار أنبياء العصر‪:‬‬
‫وتحولت ُ‬ ‫الحركة‪ ،‬لكن الملك إدريس السنوسي كما‬ ‫الرمزية والسريالية والفنتازيا أحيانا‪ ،‬في‬ ‫األديان وأنه اصطدم هناك بالدكتورة عائشة‬
‫ماركس وفرويد ودارون… لقد قفز إنسانُ‬ ‫الصادق النيهوم ‪-‬في‬ ‫تشير شخصيته يميل إلى جناح التحديث‬ ‫دأب وجهد إلدهاش القارئ في الجملة‬ ‫الحظت أن ثمة إعجابا‬ ‫بنت الشاطئ‪ ،‬الشخصية المعروفة حينها‬
‫تلك اللحظة ما بعد الحرب العالمية الثانية‬ ‫مقالة صحفية عن ليبيا‪-‬‬ ‫خفي؛ فتكوينه في‬
‫ّ‬ ‫في نظامه وإن بشكل‬ ‫قبل الفقرة وفي التراكيب المتجددة دائما‪،‬‬ ‫ضمره القذافي للنيهوم‬
‫ُ‬ ‫ُي‬ ‫بكتاباتها في الفكر اإلسالمي وأستاذة‬
‫من قرد إلى سيدِ الكون‪ ،‬بعد أن طال‬ ‫بأنه يبدو كما فيلسوف‬ ‫قصره في مصر فترة شبابه وتواجده وسط‬ ‫وعالقة فيها حميمية بينة‪ ،‬وفي هذا المضمار بذل النيهوم جهدا خارقا‬ ‫الجامعة المبرزة‪ ،‬التي كما يشيعون كانت‬
‫غاغارين الفضاء‪.‬‬ ‫النخبة المصرية المستنيرة وعالقته المبكرة‬ ‫استنزف طاقته الفكرية واإلبداعية األهم‪.‬‬ ‫أقل مقدرة من أن تستوعب األفكار الطازجة‬
‫هيبي‪ :‬الفيلسوف الهيبي‬ ‫وكأنما القذافي يعتبر‬
‫لكن في اإلقليم العربي من األرض بدأ ما‬ ‫باإلنكليز ساهم في هذا التكوين‪.‬‬ ‫والمميزة للصادق النيهوم الذي قفل راجعا‪،‬‬
‫سمي «بنكسة حزيران» يقظة الهزيمة لهذا‬
‫ّ‬ ‫الذي وراء كولونيل‬ ‫لهذا يذكر البعض أنه حين طالب علماء‬ ‫الرمز في القرآن‬ ‫ونوره‬
‫ُ‬ ‫أناره‬
‫ُ‬ ‫النيهوم من‬ ‫متخطيا البحر المتوسط إلى أصقاع أوروبا‬
‫ْ‬
‫تزامنت وتراصت الشيوعية والوجودية‬ ‫ليبيا‪ ،‬وكان الكاتب علي‬ ‫الجامعة اإلسالمية بمحاكمة ‪-‬أو ما يشبه‬ ‫الدراسة البوتقة التي دخل منها النيهوم‬ ‫وأن هذا جعل في نفس‬ ‫متوجها إلى فنلندا حيث أعد رسالته‬
‫سلة اليوم الصحفية‪،‬‬
‫واألفكار الدينية في ِ‬ ‫فهمي خشيم قد كتب‬ ‫ذلك‪ -‬الصادق النيهوم‪ ،‬كان حينها الشاب‬ ‫الفكر والفكر الديني على الخصوص‪ ،‬كانت‬ ‫الدكتاتور تضادا‪ ،‬فكأنما‪،‬‬ ‫المفترضة في مقارنة األديان‪ ،‬التي ال توجد‬
‫لعلنا نذكر ما أثاره كتاب جالل العظم عن‬ ‫عبدالحميد البكوش من عمره (‪ 32‬سنة)‬ ‫بمثابة مرحلة ثانية في كتاباته ونقلة نوعية‬ ‫أي معلومات عنها حتى معلومات صحفية‬
‫مقالة بعنوان «الظاهرة‬ ‫وهو السلطة المطلقة‪،‬‬
‫الفكر الديني من ضجة‪ ،‬وكذلك الكتابة‬ ‫وزير العدل ثم رئيس الوزارة فيما بعد‬ ‫حيث سيظهر أن النيهوم يعتمد على نقالت‬ ‫وال أي إشارة من الكاتب إلى حصوله على‬
‫الصحفية في جريدة «صباح الخير» التي‬ ‫النيهومية»‬ ‫يُ طالب أساتذة الجامعة والطلبة والنخبة‬ ‫مفارقة في سلم إيقاعه إثارة القارئ الذي‬ ‫صنيعة هذا «الهيبي»‬ ‫هذه الشهادة العلمية‪.‬‬
‫ً‬
‫علميا علي يد كاتب‬ ‫ً‬
‫تفسيرا‬ ‫ُتفسر القرآن‬ ‫المتنورة أن تعاضد النيهوم في كتاباته هذه؛‬ ‫هو الشغل الشاغل المشروع عند هكذا‬ ‫هذه الشخصية ستترادف مع الكاتب‬
‫طبيب عُ رف بكتابته القصة حتى ظهوره‬ ‫حيث أن الدولة ال تستطيع ذلك ألسباب‬ ‫كتّ اب‪ ،‬ولهذا المرسل إليه هو محمول‬ ‫وتمتزج عند المتلقي مع كتاباته التي‬
‫مُ فسرا قرآنيا فجاء ًة وهو الدكتور مصطفي‬ ‫معروفة‪ ،‬ولهذا أوقف نشر هذه الدراسة‬ ‫المرسلة وأسلوبها‪.‬‬ ‫ستصير أكثر إثارة‪ ،‬والتي جعلت من النيهوم‬
‫محمود‪ .‬لقد تأبط النيهوم كتابه بقوة‬ ‫فقط وأعاد النيهوم نشرها تحت اسم آخر‬ ‫توخى بهذه الدراسة إثارة قضايا دينية‬ ‫ظاهرة يتزاحم الناس للحصول على عدد‬
‫المرقون بروح العصر‪ ،‬وبدأ من هناك ينظر‬ ‫من قوميين ناصريين وبعثيين ووطنيين‬ ‫وفي صياغة مموهة وتحت عنوان «العودة‬ ‫شائكة؛ اعتبر القرآن نصا رمزيا تؤول رموزه‬ ‫ال يستهين بجمهوره وال بوسائل جذب هذا‬ ‫الصحيفة األسبوعي الذي ينشر مقالته‪،‬‬
‫بسخط وبسخرية‪ ،‬وبحكم تواجده‬
‫ٍ‬ ‫إلى هنا‬ ‫وشباب يشده األدب العالمي الذي كان‬ ‫المحزنة للبحر»‪.‬‬ ‫بمعطيات لغوية سيمائية‪ ،‬فالنص القرآني‬ ‫الجمهور التي هي القضايا المثيرة التي في‬ ‫األمي سيتأبط نسخة من هذا العدد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وحتى‬
‫في هلسنكي اتخذ من هنا هدفا لنقمته‬ ‫بحكم المرحلة يساري الطابع‪.‬‬ ‫نص لغوي واللغة تجريد لصورة واقعية لذا‬ ‫الظل وما يسلطه عليها من ضوئه الخاص‬ ‫عند هذا الحد سيقفز الصادق النيهوم قفزة‬
‫التي بدورها شتت ذهنه وفاعليته‪ ،‬لقد صار‬ ‫كما لو كان مخلصا للعالقة التاريخية بين‬ ‫الكاتب والسلطة‬ ‫فإن مريم –مثال‪ -‬حملت طفلها من خطيبها‬ ‫الجذاب بتعدد ألوانه‪.‬‬ ‫مميزة في كتاباته؛ حيث سينحو للكتابة‬
‫بكتابة‬
‫ِ‬ ‫ً‬
‫كاتبا صحفيا لجريدة محلية مُ لزما‬ ‫المثقف والسلطة كان فعل النيهوم ككاتب‬ ‫النيهوم الذي يظهر أنه كاتب غير سياسي‬ ‫يوسف النجار… الخ‪ ،‬وكونها حبلت كما هو‬ ‫في الفكر الديني‪ ،‬وقدم أطروحات صادمة‬
‫مقالة أسبوعية‪ ،‬هكذا وقع النيهوم في أسر‬
‫ٍ‬ ‫منذ ظهور هذه الدراسة‪ ،‬كذلك العالقة بين‬ ‫ستكون عالقته بالسلطة السياسية مشتبكة‬ ‫شائع دون اتصال جنسي فهذا ترميز على‬ ‫طريقة في الكتابة‬ ‫في حينها بأسلوبه ككاتب صحفي من طراز‬
‫الطريقة الناجحة والمجربة إلى الجمهور؛‬ ‫الكتابة والقارئ الذي يستمد منه الكاتب‬ ‫وشائكة‪ ،‬سيكون هذا الكاتب كما لو كان‬ ‫طهارة العالقة المقدسة‪ .‬هذه مجرد إشارة‬ ‫النيهوم من القلة الذين أثاروا قضايا دينية‬ ‫رفيع يعرف أصول كتابة كهذه‪ ،‬من سماتها‬

‫‪19‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪18‬‬


‫مقال‬

‫يزودها الطبال بهذه السالحف كي تقدمها‬ ‫العنصرية‪ ،‬كما لو كان نبيا جديدا يبشر برؤيا‬ ‫و ُتمارس الشخصية الصيد البحري‪ ،‬لقد‬ ‫للغة‬
‫طراز خاص فلقد تنبه ِ‬
‫ٍ‬ ‫هكذا هو من‬ ‫يحوكُها‬ ‫ً‬
‫صيغة ُ‬ ‫َ‬
‫السردية‬ ‫َ‬
‫المقالة‬ ‫وقبل اتخاذ‬ ‫بهذا صار « النيهوم في األسر»‪.‬‬
‫لزبائنها اإليطاليين‪.‬‬ ‫وليس برؤية في هاتين المسألتين‪.‬‬ ‫ومتصدع‪،‬‬ ‫شائك‬
‫ٍ‬ ‫نسيج‬ ‫دخلت الرواية في‬ ‫المحكية كلهجة عامية‪ ،‬وكمُ صطلحات‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫لمُ قتضى الحال‪ ،‬أحيانا لم تكن المقالة ذات‬ ‫ويرسم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫يكتب ويُ ترجم ‪-‬دون ذكر مصادره‪-‬‬
‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫«من مكة إلى هنا» رواية الشخصية‬ ‫وينسج النيهوم شخصيته بتؤدة في مكان‬ ‫شبكة من القضايا التي لم يتخللها‬
‫ٍ‬ ‫وفي‬ ‫ثقافية وفنية‪ ،‬وكما أشرت أنه استخلص‬ ‫داللة لكن صيغة السرد والسريالية تجعل‬ ‫يكتب التقارير الصحفية والمقالة النثرية‬
‫ُ‬
‫المتفردة؛ نجد مسعود الطبال كما بطل‬ ‫يبدو كمسرح أو صالة عرض؛ حيث الكرة‬ ‫السردُ بعد‪.‬‬ ‫َ‬
‫اللغة‬ ‫أسلوبهُ من عدةِ أساليب فإنه أولى‬ ‫من المقالة عند المتلقي كما لو كانت أحاجي‬ ‫الساخرة المُ طعمة باللهجة المحلية التي‬
‫تراجيدي يقع تحت براثن قدر محبوك؛‬ ‫األرضية هي اإلنسان‪ ،‬فإن الطبيعة المنتقاة‬ ‫منزلة المنازل في ُش ِ‬
‫غله وفكرهِ معا‪.‬‬ ‫ورموزا حتى أن بعض هذه المقاالت أثارت‬ ‫تحكي عن الحاجة أمدهلل التي تتعاطى‬
‫المقدس فيه مرجعيته الدينية أو تفسيره‬ ‫في هذه الرواية األرض؛ إن قرية سوسة‬ ‫أيقونة النيهوم مَ ُّس ما لم ُي ّ‬
‫مس بعد‬ ‫لقد عاش في فنلندا فترة شبابه العشرينية‪،‬‬ ‫ً‬
‫لغطا عند تأويلها بأنها تمس هذه الشخصية‬ ‫الشعوذة‪ ،‬ونتاشا التي تتعاطى الفودكا‪ ،‬فيما‬
‫التقليدي للدين وكذا مجموعة من األساطير‬ ‫البحرية تجمع اليابسة والبحر والجبل‬ ‫من مكة إلى هنا‬ ‫ويكتب بالعربية‬
‫ُ‬ ‫وكان يُ طالع باإلنكليزية‪،‬‬ ‫أو تلك السلطة أو حتى تمس الذات اإللهية‬ ‫الحاج الزروق المُ تكئ على التكية يغمزها‪.‬‬
‫الشعبية التي مرجعيتها هذا التفسير‬ ‫والمعاش فيها يكون على ما ينتج البحر‪،‬‬ ‫الروائي الصادق النيهوم‬ ‫بعامية مدينته بنغازي الستينية‬
‫ِ‬ ‫ويتحدث‬ ‫أو مُ سلمات ما‪.‬‬ ‫ككاتب صحفي‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫هكذا سوّ َق النيهوم نفسهُ‬
‫للمقدس‪ .‬في صيد السالحف يجد الطبال‬ ‫لذا سوسة رحم هذا الوجود عند مسعود‬ ‫والمسألة الدينية‬ ‫حتى وفاته‪.‬‬ ‫طراز خاص لعلهُ‬ ‫ً‬
‫هكذا كان النيهوم فنانا من‬ ‫المحلية البسيطة‬
‫ِ‬ ‫بالشخصيات‬
‫ِ‬ ‫مشغول‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫قوته الثمين حيث يتمكن من هكذا صيد‬ ‫الطبال الصياد أما صيد السالحف ( الفكارين‬ ‫اتخذ النيهوم منذ رواية «من مكة إلى هنا»‬ ‫لم يكن بمُ كنة شخص آخر غير هذا الفنان‬ ‫الصوفي المحلي‬
‫استفاد من فن الشطح ُ‬ ‫ُ‬
‫يهتم بقضايا تشكل ذهنية هذه‬
‫ُ‬ ‫فكر‬
‫ٍ‬ ‫وكرجل‬
‫ِ‬
‫الحصول على ما يمكنه من التوفير لشراء‬ ‫باللهجة المحلية لسكان الرواية ‪-‬سوسة)‬ ‫مسارا نوعيا آخر في تجربته اإلبداعية‪،‬‬ ‫ً‬
‫مصبوغة‬ ‫ً‬
‫عجينة واحد ًة‬ ‫جعل هذه الخالئط‬ ‫البسيط في رفع اللغة إلى درجة اإليهام؛‬ ‫الدين أبرز المحطات‬
‫ُ‬ ‫الشخصية‪ ،‬لقد كان‬
‫ماكينة لقاربه‪ ،‬وبهذا يقدر على الدخول في‬ ‫فهو المسألة الميتافيزيقية التي تنسج‬ ‫حيث اتجه إلى الكتابة السردية التي كان‬ ‫بروح الفن التي توحي قبل أن تومئ‪ ،‬و‬ ‫ّ‬
‫وجل ما اطلعنا عليه مما كتب‬ ‫ألن مقاالته‬ ‫التي أثارتها فترة الستينيات خاصة عقب‬
‫ِ‬
‫غور البحر ومصارعة جنونه والتمكن من‬ ‫العالقة بين الصياد الطبال وشخصية فقيه‬ ‫فيما قبل يستخدمها ضمن سياق كتاباته‬ ‫تومئ قبل أن ُتشير وتصمت كي تتكلم‪.‬‬ ‫وثيقة بالنتاج الصوفي‬
‫ٍ‬ ‫صلة‬
‫ٍ‬ ‫ال يُ دلل على‬ ‫الهزيمة العربية أمام دولة اليهود! كتب‬
‫صيد سالحف وفير‪ ،‬هذه الماكينة يملكها‬ ‫المتنوعة‪ ،‬بهذه الرواية سيبدأ مسارا كان‬ ‫ومن هذا الفنان وضع تضاريسه الخاصة‬ ‫النيهوم في القضايا الدينية الشائكة‪،‬‬
‫إيطالي يعرضها للبيع‪.‬‬ ‫قد وكده في قصص لألطفال‪ ،‬وكما يبدو‬ ‫ذات الطبع المُ ستقل عن محيطها‪ ،‬وإن كانت‬ ‫وقليل من التمحيص‬
‫ٍ‬ ‫بجرأة‬
‫ٍ‬ ‫وقضايا المرأة‬
‫تجد الشخصية التراجيدية أنها محكومة‬ ‫لي أن الكتابين يمثالن مرحلة جديدة في‬ ‫ً‬
‫مربوطة به بالعُ روة الوثقى‪ ،‬تجانب هو‬ ‫والدقة ودون مرجعية ما أو منهج‪ ،‬ولهذه‬
‫بالمطرقة والسندان‪ :‬البحر الذي يلتهم‬ ‫يكن النيهوم ظاهرة‬ ‫لم ُ‬ ‫مساره اإلبداعي‪ ،‬خاصة في «الحيوانات»‬ ‫وقراؤه والصحيفة التي يكتب لها ما تريد‬ ‫النيهوم الذي يظهر أنه‬ ‫االعتبارات المُ ثيرة التي جعلت منه الكاتب‬
‫الصبي‪ ،‬في الوقت نفسه الذي يرجع فيه‬ ‫فالرواية تستمد روحها من رواية «‪»1984‬‬ ‫وما يرغب والدولة‪ ،‬لكن ككاتب محلي كانت‬ ‫وسلطة‬
‫والصحفي النجم تساوق النيهوم ُ‬
‫وحدها حين خرج على‬ ‫كاتب غير سياسي ستكون‬
‫الفقيه ذلك إلى غضب اهلل الختراق سننه‬ ‫و»القرود» التي يمكن اعتبارها الجزء الثاني‬ ‫احتياجات‬
‫ٍ‬ ‫تعوزه ُسلطة الذات المنفقة من‬ ‫الدولة‪ ،‬لقد حوّ ل المُ شكل إلى قضايا ثقافية‬
‫وصيد السالحف المباركة‪ ،‬والزوجة زوجة‬ ‫الناس بتمرده وأفكاره‬ ‫للحيوانات‪ ،‬وسردية النيهوم تحتاج مبحثا‬ ‫ً‬
‫مأسورا لهذه الحاجات؛ من‬ ‫أولية‪ ،‬لهذا كان‬ ‫عالقته بالسلطة السياسية‬ ‫اجتماعية فيما كانت النخبة جملة بعقائدها‬
‫الطبال التي تحلم ليل نهار بأداء فريضة‬ ‫ُ‬
‫فجيل الستينات‬ ‫الجريئة‪،‬‬ ‫خاصا لكننا هنا نتناولها في إطار مبحثنا في‬ ‫هذا العوز تحاذى والسلطة السياسية دوم‬ ‫مشتبكة وشائكة‪ ،‬سيكون‬ ‫ُ‬
‫تركز المُ شكل في الدولة التي‬ ‫المختلفة‬
‫الحج‪.‬‬ ‫ُ‬
‫جيل التمرد والعبث‬ ‫‪-‬جيله‪-‬‬ ‫جانبه الفكري المحض‪.‬‬ ‫حياته لكن بشروط روح الفنان التي كانت‬ ‫هذا الكاتب كما لو كان‬ ‫وُ صمت بالرجعية من جهة ومن جهة أخري‬
‫لقد أعد النيهوم شخصيته بقوة بُنية وعناد‬ ‫وفي الرواية سيتخذ من السرد طريقة‬ ‫ديدن الروح‪.‬‬ ‫للدوائر‬
‫ِ‬ ‫بالالإسالمية‪ ،‬ومن ثالثة بالمُ رتهنة‬
‫والالمعقول والثورات‬ ‫الجافل عن القطيع‪،‬‬
‫وأفكار محمومة‪ ،‬كي تطفئ ُح ّمى‬
‫ٍ‬ ‫رأس‬ ‫لطرح أفكاره األساسية في المسألة الدينية‪،‬‬ ‫بعد بحثه األولي في تفسير القرآن تيمم‬ ‫األضواء على‬
‫ِ‬ ‫االمبريالية‪ .‬لقد تسلطت كُل‬
‫الطبيعة والبشر الذين هم آل الطبال أو‬ ‫والهيبز والبتلز والهزيمة‬ ‫كمنظر متخذ المنهج التأويلي في النظر لهذه‬ ‫بالفن‪ ،‬واتخذ من مكة محرابه فكانت‬ ‫القطيع هذه المفردة التي‬ ‫هذا المُ ختلف الذي عُ د كظاهرة‪.‬‬
‫على األقل من يحمل لغتهم ودينهم ومن‬ ‫العربية في حرب ‪5‬‬ ‫المسألة‪ ،‬وسيكون السرد استعادة لألساليب‬ ‫روايته غير المكتملة «من مكة إلى هنا»‪،‬‬ ‫سيرددها النيهوم في‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫النيهوم الفنان‬
‫زنجيته التي تجعله على‬
‫ّ‬ ‫عليه اتباعهم‪ ،‬رغم‬ ‫يونيو‪ ،‬وكان آنذاك اليسار‬ ‫القديمة للحكي ولكن بروح جديدة تجعل‬ ‫محليا؛ منهُ‬ ‫لغطا‬ ‫هذه الرواية أثارت ‪-‬أيضا‪-‬‬ ‫مداخالته كثيرا‪ ،‬وسيظهر‬
‫خطوة من طرفي القرية‪ :‬السكان المحليون‬ ‫البين ضمن المسار الدرامي لهذا‬
‫الغرض ّ‬ ‫حوار معهُ‬
‫ٍ‬ ‫صرح في‬
‫َ‬ ‫الشاعر علي الفزاني‬
‫َ‬ ‫أن‬ ‫برجل اللحظة الراهنة‬ ‫لكن النيهوم لم يكن‬
‫تسيدا جبهة‬
‫الفرويدي ُم ّ‬ ‫ُ‬
‫نفسه كمتمرد يلبس‬ ‫ِ‬
‫من جهة واإليطاليون من جهة أخرى‪.‬‬ ‫الحكي‪ .‬وبهذا فإن النيهوم سارد من طراز‬ ‫بحاجة إلى ثالثين عاما كي تفهم‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫أن الرواية‬ ‫تلك فحسب بل ألن النيهوم كان قبل هذا‬
‫بهذا تظهر شخصية مسعود الطبال مفارقة‪:‬‬ ‫الفكر اإلعالمية‪ :‬هربرت‬ ‫المتنبهين للفن وأساليبه؛ بحيث أن السردية‬ ‫ومنه أن بطل الرواية مسعود الطبال قد‬ ‫(الجينز والتّ ي شرت)‪،‬‬ ‫وحتى بعده الفنان‪ .‬لم تكن موهبة الفنان‬
‫القوت يضعه في حاجة لإليطاليين‪ ،‬والحياة‬ ‫ماركوز وإريك فروم‬ ‫في عمله ستكون المستهدف األساس وأنها‬ ‫رسم شخصية والد أسرة من مدينة بنغازي‬ ‫وينظر بغضب‬ ‫أهم ما في رصيده‪ ،‬ولكن شكل وأسلوب‬
‫االجتماعية تجعل منه محليا متمردا‪ ،‬كذا‬ ‫بنية العمل فيما موضوعه نسيج في هذه‬ ‫حيث تقع بعض أحداث الرواية‪ .‬وقد كان‬ ‫كفرد صبغ‬
‫ٍ‬ ‫الفنان كان ضمن هذا الرصيد‪،‬‬
‫فهو بهذا التمرد يواجه المقدس كما هو‬ ‫البنية‪.‬‬ ‫الصحفي رشاد الهوني يعمل بجهده المتميز‬ ‫نمى‬
‫وكمبدع ّ‬
‫ٍ‬ ‫بروح الفنان‪،‬‬
‫ِ‬ ‫جسد ُه وسلوكهُ‬
‫مؤول محليا‪.‬‬ ‫لكن التيمة الرئيسة عند هذا الكاتب تظل‬ ‫نجم «الحقيقة» ‪-‬صحفيته ‪:-‬‬
‫كتابات ِ‬
‫ِ‬ ‫لترويج‬ ‫بدأب ودون كلل‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫موهبتهُ‬
‫النيهوم أراد أن يجعل الطبال شخصية‬ ‫مركزية؛ إن الشخوص الروائية تلبس لبوس‬ ‫الصادق النيهوم‪.‬‬ ‫لجملة النيهوم في كتاباتِه سيجدها‬
‫ِ‬ ‫المُ تأمل‬
‫الرواية أو يجعله الرواية بالمرة؛ فبقية‬ ‫الفكرة المراد صياغتها ضمن البنية السردية‪،‬‬ ‫«من مكة إلى ُهنا» الشخصية الرئيسة فيها‬ ‫ُ‬
‫تصدع بروح الفنان‪ ،‬فهي جملة كافية‬ ‫ً‬
‫جملة‬
‫الشخصيات تثير مسائل في ّ‬
‫حل منها‬ ‫القرية الناطق بسم المقدس‪ ،‬الفقيه من‬ ‫إن مسعود الطبال في رواية «من مكة‬ ‫قد تكون الشخصية األولى في رواية عربية‬ ‫الكالسيكي المعروف لكن هذا النتاج كان‬ ‫ومُ كتفية‪ ،‬نابضة وحيوية‪ ،‬وماكرة لدرجة‬
‫شخصية الطبال الذي وجوده كما الحياة‬ ‫يجر خلفه سكان القرية المحليين (القرية‬
‫ّ‬ ‫إلى هنا» زنجي محنك يتخذ من زنوجته‬ ‫ُ‬
‫أحداثها في إقليم العرب التي بطلها‬ ‫تقع‬ ‫قد تحوّ ل على يدي مريديه إلى فنون في‬ ‫ً‬
‫رموزا ‪-‬عند عامة ُقرائه‬ ‫يكتب‬
‫ُ‬ ‫بدا أن الكاتب‬
‫ال تحتاج لتأويل‪ ،‬ولعله لهذا جعل عالقة‬ ‫تقع على الشواطئ الليبية في تضاريس‬ ‫أيقونة للوجود؛ وجوده ومعنى هذا الوجود‪،‬‬ ‫زنجي‪ ،‬وقد تكون الرواية األولى التي تثيرُ‬ ‫الزوايا والتكايا‪ ،‬واللغة في هذا النتاج تبدو‬ ‫وتفسير مُ ّطردين هذا‬
‫ٍ‬ ‫لتأويل‬
‫ٍ‬ ‫بحاجة‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬وأنه‬
‫الشخصية بالطبيعة أوتد‪ ،‬من البحر بل من‬ ‫الجغرافيا لكن الرواية غير معنية بذلك)‪،‬‬ ‫وإن الراوي يجعل من هذا الزنجي معاركا‬ ‫مسألة الدين‪،‬‬
‫ِ‬ ‫اشتباك مع‬
‫ٍ‬ ‫مسألة اللون في‬ ‫بمستويات عدة‬
‫ٍ‬ ‫حملة‬
‫في الظاهر مُ موّ هة ومُ ّ‬ ‫من جهة‪ ،‬ومن األخرى ردد قراؤ ُه أولئك‬
‫الماء كل شيء؛ مسعود نفسه شخصية‬ ‫والعالقة مع صاحبة المطعم اإليطالية من‬ ‫شرسا في مواجهة الفكرة الدينية والمسألة‬ ‫قرية ساحلية فترة االحتالل اإليطالي‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وفي‬ ‫من الترميز والداللة‪.‬‬ ‫ُجملهُ كما حكم ومحفوظات‪.‬‬

‫‪21‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪20‬‬


‫مقال‬

‫عدو هلل عدوهم‪ ،‬وكزنجي كان وجوده‬ ‫ّ‬ ‫هذا اإلنسان هو مركز هذا الكون وأفكاره وما‬ ‫مائية وطيد المعرفة والوجدان بالبحر‪.‬‬
‫مفردا ومن هذا استمدت الشخصية الروائية‬ ‫يجيش بنفسه هو وجوده‪ ،‬من هذا يستمد‬ ‫وإذا أردنا فإن مسعود الطبال كأول زنجي‬
‫مركزها كشخصية الرواية‪.‬‬ ‫تمرده وتستمد الرواية من هذا التمرد‬
‫الطبال ّ‬ ‫بطل لرواية عربية في حدّ علمنا‪ ،‬قد جعل‬
‫البين الفاعل األساس في‬
‫وهذا الصراع ّ‬ ‫نسجها‪ ،‬بالتالي تبدو أفكار النيهوم حول‬ ‫ذلك من الرواية تنسج في منطقة غير‬
‫الرواية‪ ،‬جعل من الشخصيات األخرى وهي‬ ‫المسألة الدينية ومنهجها التأويلي كما لم‬ ‫مسبوقة‪ ،‬لهذا تحررت هذه الشخصية من‬
‫هنا اإليطالية كخلفية لهذا الصراع المحموم‬ ‫تكن فهي هنا من نسج الرواية‪ ،‬من جهة‬ ‫تراث سردي ال مثيل له في التراث السردي‬
‫بين طموح الطبال وحمى المقدس عند آل‬ ‫أخرى بدأت الرواية رواية أفكار لكن خباء‬ ‫باستثناء معروف هو الملحمة األسطورية‪:‬‬
‫القرية المحليين‪ ،‬فيما الماكينة‪-‬موتور القارب‬ ‫السرد المحكم جعل ذلك من نسج السرد‬ ‫عنترة بن شداد‪ .‬لعل الروائي عند الصادق‬
‫المحرك للصراع كامن في الرواية كطرف‬ ‫وليس من مرجعية الراوي المتفكّر في‬ ‫النيهوم قد طال الوعيه الروائي هذه‬
‫غائب‪ ،‬والحديث حوله عابر في نسيج‬ ‫المسألة الدينية‪.‬‬ ‫األسطورة فتماس معها دون أن يستعيدها‪،‬‬
‫أحداث الرواية‪.‬‬ ‫رغم ذلك تثقل الرواية ‪-‬كعادة النيهوم‪-‬‬ ‫ألننا نجد هذا الزنجي كما في منسوج‬
‫وكما تنقسم سوسة بين شخصية الطبال‬ ‫بذهنية المتفكر؛ مما جعل شخصية مسعود‬ ‫الحكي التراثي قوي البنية جسورا ويغرد مع‬
‫المركزية وشخصية الفقيه تحوك الرواية‬ ‫الطبال متمردا وجوديا يصوغ نفسه‬ ‫البحر خارج السرب‪.‬‬
‫نسيجها السردي‪ ،‬ويوضح النيهوم تراجيديا‬ ‫كمنولوج في نسيج الرواية‪ ،‬وهو قلب‬
‫شخصيته من خالل هذا االنقسام الذي‬ ‫الرواية لكنه في نسيج مكان الرواية‪/‬قرية‬ ‫الزنجي البطل الالمنتمي‬
‫يعانيه مسعود الطبال في منولوجه وأحالمه‬ ‫سوسة هو هامشي‪.‬‬ ‫النيهوم معروف في نتاجه الفكري اهتمامه‬
‫وأحالم زوجه‪.‬‬ ‫لقد جعلت الرواية من شخصيتها مثل‬ ‫المركز بالمسألة الدينية؛ لعل هذا يوضح‬
‫تندس في نسيج‬
‫ّ‬ ‫إذن المسألة الدينية هنا‬ ‫نخبوي يعيش مع أفكاره أكثر منه صيادا‬ ‫كيف أن التيمة الرئيسة في رواية «من‬
‫ّ‬
‫الشخصية الداخلي وتفجر وجدانه وتشظي‬ ‫يعيش مع ما صيده‪ ،‬ومسكوت الرواية‬ ‫مكة إلى هنا» هي هذه المسألة‪ :‬ثمة قيم‬
‫نفسه‪.‬‬ ‫هذا منطوقها من حيث المرجعية الفكرية‬ ‫تقليدية راسخة تتمظهر في شكل أساطير‬
‫هل الطبال عبد مارق كما يقول الفقيه‪:‬‬ ‫‪-‬‬ ‫للروائي التي تتخفى بالضرورة بالسردية؛‬ ‫وخراريف تراثية شعبية‪ ،‬الناطق الرسمي‬
‫يقول الطبال لنفسه؟‬ ‫فنحن نتلقى نتاجا روائيا مسرودا بحكمة‬ ‫بها فقيه القرية‪ ،‬الذي يواجه بتطرف يصل‬
‫أي مسائل‬
‫جرد أحداث روايته من ّ‬
‫الروائي ّ‬ ‫الفنان ال بفن الحكيم‪ ،‬وتتجلى في استنطاق‬ ‫إلى العراك الجسدي مسعود الطبال‪ ،‬مسعود‬
‫أخرى‪ ،‬وجعل طرف الميكنة كما طرف أجنبي‬ ‫مجمل الرواية «من مكة إلى هنا»‪.‬‬ ‫الطبال المتحقق أن اآللة (الماكينة) التي‬
‫جزءا داخليا منها‪ ،‬ولعل‬
‫يثير المسألة لكنه ليس ً‬ ‫وكما أشرنا إلى أن الرواية ليست رواية‬ ‫يملكها اإليطالي هي الحل لمسألة المعاش‪،‬‬
‫هذا ما جعل اإليطاليين في الرواية شخصيات‬ ‫أحداث‪ ،‬نؤكد أن اختزال الحدث قد مركز‬ ‫وبالتالي فإن السالحف ليست مباركة وإن‬
‫ثانوية رغم مركزيتها‪.‬‬ ‫الشخصية وجعل المنولوج مركز البنية‬ ‫كانت كذلك فهي جديرة بتوفير الحياة لبني‬
‫‪M‬الرواية تنتهي وقد فشل مسعود الطبال‬ ‫السردية‪ ،‬هذا أعطى السرد مكنة طرح األفكار‬ ‫آدم‪ ،‬أما حج زوجة الطبال فقد مثل مسألة‬
‫في تحقيق مشروعه‪ ،‬لكن يبقي في مسرود‬ ‫الروائية‪/‬مسعود‬ ‫فالشخصية‬ ‫وتداعيها‪،‬‬ ‫إثقال كفة الميزان في غير صالح الطبال‪.‬‬
‫الرواية ‪-‬عند القارئ الحصيف‪ -‬كمشروع‪ ،‬وفي‬ ‫الطبال كان على عرض وطول الرواية‬ ‫ليست الرواية رواية أحداث قدر ّما‪ ،‬هي‬
‫رواية «من مكة إلى هنا» يكشف النيهوم عن‬ ‫يعيش وحيدا حتى في سرير الزوجية ثمة‬ ‫رواية الشخصية فالمنولوج ُلحمة الرواية‪،‬‬
‫جدارته بإثارة مسألة كالمسألة الدينية كسارد‬ ‫جدار بينه وزوجه الحالمة بالحج‪ .‬والوقائع‬ ‫مسعود الطبال هو الرواية هو المفرد المتفرد‬
‫دون أن يقع تحت ثقل مسألة كهذه‪.‬‬ ‫المسرودة تجعل من مسألة المقدس مسألة‬ ‫الذي كصياد كثيرا ما يكون في المكان‬
‫إن المسائل التي تناولناها في هذا البحث‬ ‫تحكم العالئق في الفعل الروائي كما في‬ ‫وحيدا‪ ،‬وال زمان له غير الزمن الذاتي‪،‬‬
‫كل منها بحاجة إلى مبحث خاص‪ ،‬لكن‬ ‫حياة شخصيات الرواية‪ ،‬أما الرتابة روح‬ ‫وزمن الطبيعة البحرية ما تعني الشمس‬
‫في سياقها وفي سياق البحث قد وضحت‬ ‫القرية البحرية فهي ما تركز مسألة المقدس‬ ‫في شروقها وغروبها‪ ،‬وكأنما الطبال يعطي‬
‫أن المفكرين مثل النيهوم كما الشخصيات‬ ‫وتجعل من تصيد الطبال للسالحف المباركة‬ ‫بظهره لزمن الناس بانشغاله بالبحر وعراكه‬
‫ومناجاته‪.‬‬
‫بهرام حاجو‬

‫المتمردة والثائرة التباسية من جهة ومن‬ ‫تهديدا لقرية تعيش دون خوف أو جوع‪،‬‬
‫أخرى هي مثيرة عواصف ذهنية وقد تكون‬ ‫البحر جواد فالسمك يسدّ الرمق‪ .‬ومسألة‬ ‫لذا سوسة قرية كونية دائرتها المكان‪/‬‬
‫واقعية‪.‬‬ ‫الماكينة والخروج من الكفاف يهدد هكذا‬ ‫الطبيعة ومركزها الزمن‪ :‬ما يحدث ويضطرم‬
‫كاتب من ليبيا‬ ‫حياة‪ ،‬لقد صار الطبال خارجا عن الناموس‬ ‫في نفس مسعود الطبال‪.‬‬

‫‪23‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪22‬‬


‫شعر‬

‫حديقة الحيوانات‬
‫‪‎‬سفيان رجب‬

‫حسني جمعان‬
‫‪‎‬أرض الكتب‬ ‫شجرة في الريح‬
‫‪  ‬‬ ‫هام‬
‫صيد من األ ْو ِ‬ ‫‪‎‬بكل هذا ال ّر ِ‬ ‫ِّ‬
‫‪‎‬في طريق سفري إلى الله‬ ‫‪‎‬بنيت حديقتي األرض ّي َة‬
‫‪‎‬سقطت م ّني توبتي‪ ،‬واختفت‬ ‫بجيش من معماريّين فرس‪،‬‬ ‫‪‎‬مستعينا ٍ‬
‫األعشاب والجنايات اليابسة‬‫ِ‬ ‫‪‎‬بين‬ ‫‪‎‬ورسامين من النهضة اإليطالية‬ ‫ّ‬
‫‪‎‬ول ّما رأى شيخي حيرتي‬ ‫الصين والعرب‬
‫‪‎‬وعبيد فراعنة‪ ،‬وخطّاطين من ّ‬
‫‪‎‬دلّني على األرض التي أبدأ منها‬ ‫‪‎‬وبستان ّيين من بابل…‬
‫‪‎‬حيث أبني كوخي‪،‬‬ ‫‪‎‬جمعتهم من الكتب والل ِ‬
‫ّوحات‬
‫‪‎‬وأغرس شجرتي‬ ‫‪‎‬وأ ّجرتهم مقابل تحريرهم‬
‫‪‎‬ث ّم أجلس منتظرا أ ّو َل عابر سبيلٍ‬ ‫‪‎‬من قيود مخ ّيلتي‪.‬‬
‫علي المتاه ُة‬
‫‪‎‬تدلّه ّ‬ ‫‪‎‬جلبت لحديقتي نمورا ناعسة من غابات إفريقيا‬
‫‪‎‬ليقاسمني في َء الشّ جرة‬ ‫‪‎‬ثعابين مرحة من سهول أستراليا‪،‬‬
‫‪‎‬ودفء الكوخ‪.‬‬ ‫‪‎‬قافلة جمال من بادية اليمن‬
‫‪ ‬‬ ‫‪‎‬نسورا تغذّت على ضحايا الحروب والمجاعات‪.‬‬
‫‪‎‬وانتظرت هناك‪ ،‬عمرا كامال‬ ‫‪‎‬واقترحت نفسي أسدا‬
‫‪‎‬العمر‬ ‫السبيل الذي انتظرته عمرا كامال‪.‬‬
‫‪‎‬ولم يأت عابر ّ‬ ‫كل قم ٍر يأفل‬ ‫‪‎‬وكان ّ‬ ‫بدائي‬
‫‪‎‬أنام في مغارة حفرها إنسان ّ‬
‫‪ ‬‬ ‫‪‎‬والحقيقة‪ ،‬أنّني كنت أجتهد‬
‫ّائب من البحير ِة‪،‬‬ ‫‪‎‬أجمع شعاعه الذ َ‬ ‫‪‎‬كنت قد صرعته في ليلة شتاء‪،‬‬
‫‪‎‬ينزل ال ّربي ُع من شجرة العمر‬ ‫‪‎‬في إخصاب مخ ّيلتي بال ّزيف والكذب‬
‫‪‎‬ألحاجج به ال ّنائمين‪.‬‬
‫َ‬ ‫‪‎‬وأفيق ألجد غزال ًة مق ّيدة إلى شجرة هرم ٍة‬
‫‪‎‬وفي يده تفّاحة‬ ‫‪‎‬حتّى ال يأتي!‬
‫‪‎‬وكل شجرة تموت‬ ‫ّ‬ ‫‪‎‬أكتب على جذعها بمخالبي‬
‫‪‎‬نصفها أخضر‪ ،‬ونصفها اآلخر أحمر‬ ‫‪‎‬ث ّم إنّني نسيت كالم شيخي‬
‫‪‎‬أخ ّبئ أوراقها الذّابل َة بين ثيابي المتّسخة‪،‬‬ ‫‪‎‬وص ّيتي لل ّريح التي ستحطّم الشّ جرة‬
‫‪‎‬يمنحها أل ّول امرأة تأتي حافي ًة من ّ‬
‫الصحراء‬ ‫‪‎‬وض ّيعت عالماتِه بين أقمار تأفل‪،‬‬
‫‪‎‬ألتأكّد أكثر من عافية ال ّربيع‪.‬‬ ‫‪‎‬وللمطر التي ستغسل دماء والئمي‬
‫‪‎‬تظل تتخاصم مع رغباتها‪ :‬من أين تقضم التفّاحةَ!؟‬ ‫ّ‬ ‫وكتب تُغلق وتُفتح‬
‫‪‎‬وأوراق تذبل‪ٍ ،‬‬
‫‪‎‬وفي حياتي‪،‬‬ ‫في داخل قفص‬ ‫‪‎‬وللسائح الذي سيتف ّرج ّ‬ ‫ّ‬
‫‪‎‬وال تنتبه‪ ،‬إالّ وقد أتلفتها ال ّديدا ُن ونقرتها الغ ْربا ُن‬ ‫‪  ‬‬
‫‪‎‬فتحت كتبا صفرا َء تبلّلها حيرتي‬ ‫‪‎‬ويدفع أمواله‬
‫‪‎‬تنادي ال ّربيع لك ّنه يكون بعيدا‬ ‫‪ ‬‬
‫‪‎‬وأغلقت كتبا صفرا َء تحرقها معرفتي‬ ‫‪‎‬مقابل خوف مصطنع بائ ٍخ‪ ‬‬

‫‪25‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪24‬‬


‫شعر‬

‫‪ ‬‬ ‫الصبر‬
‫‪‎‬من مخالة ّ‬ ‫ات حتّى تتأكّد‬ ‫‪‎‬تضع نظّار ٍ‬
‫‪‎‬باب ّ‬
‫التعيس‬

‫حسني جمعان‬
‫علي حنيني‬ ‫‪‎‬هجم ّ‬ ‫‪‎‬فال ترى غير ظلّه ال ّنحيف تأكله‬
‫‪ ‬‬ ‫‪‎‬وداستني شعوب مثخنة‬ ‫المسارب‬
‫ُ‬
‫أي لحظة‬ ‫‪‎ ‬أعرف أنّها ستأتي في ّ‬ ‫‪‎‬بالحروب واألم ّية‪.‬‬
‫ِ‬ ‫اعات حتّى تتأكّد أكثر‬ ‫‪‎‬تضع س ّم ٍ‬
‫‪‎‬وأنّها لن تجدني بالبيت‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪‎‬فال تسمع غير حفيف نعليه ممزوجا‬
‫‪‎‬سوف تضع عالم ًة على بابي‬ ‫‪‎‬جاءت امرأ ٌة متأ ّخرة‬ ‫والسفر‬
‫برائحة األعشاب ّ‬
‫قصة علي بابا‬ ‫‪‎‬مثلما حدث في ّ‬ ‫كالسعادة‬ ‫‪‎‬يق ّد لها جارها ال ّن ّجار عكّازا من خشب ‪‎‬متأ ّخرة ج ّدا ّ‬
‫واللّصوص‬ ‫كف التّراب‬ ‫‪‎‬انتزعتني من ّ‬ ‫شجرتها الهرمة‬
‫‪‎‬وسوف تنتبه حبيبتي‬ ‫‪‎‬وقالت‪ :‬هذا لي‪.‬‬ ‫‪‎‬وفي حين تحاول جاهدة اللّحاق‬
‫عالمات مشابهة‬ ‫ٍ‬ ‫‪‎‬فتضع‬ ‫‪ ‬‬ ‫بال ّربيع‬
‫‪‎‬على أبواب الع ّزاب!‬ ‫‪‎‬المسكينة‪ ،‬كانت تظ ّن‬ ‫‪‎‬تغطّي العاصف ُة روحها المتعب َة بما‬
‫‪ ‬‬ ‫‪‎‬أ ّن حضنها أكثر دفئا من الضّ ياع!‬ ‫تناثر من أوراقها الذا ّبلة‪.‬‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪‎‬أعرف أنّها ستحاول ثانية‬ ‫علي‬
‫‪‎‬نازعتها ّ‬ ‫‪ ‬‬
‫إلي حمام ًة زاجل ًة‬ ‫‪‎‬وترسل ّ‬ ‫‪‎‬مآس نحيف ٌة‬ ‫‪‎‬الشوكة المسمومة‬ ‫ّ‬
‫‪‎‬وسوف تنتبه تلك المرأة القلقة‬ ‫‪‎‬مثل ماشية القرن اإلفريقي‬ ‫‪  ‬‬
‫‪‎‬التي تراجعت من وظيفة الحبيبة‬ ‫‪‎‬قالت‪ :‬اتركي لي قلبه يا أرملة العدم!‬ ‫األرض التي‬
‫‪‎‬وصف لي العما ُء َ‬
‫‪‎‬إلى وظيفة ال ّزوجة‪.‬‬ ‫‪‎‬وخذي أصابعه ومزماره وكنزه…‬ ‫‪‎‬سوف أبلغها‪ :‬حقول من ال ّنرجس‬
‫‪‎‬فتذبح الحمام َة‬ ‫‪‎‬ودارت حولي حروب ضارية‬ ‫‪‎‬تحرسها مصابيح ضاحكة!‬
‫‪‎‬وتق ّدمها لي في طبق العشاء‬ ‫الحب‬
‫‪‎‬انتهت بخسارة ّ‬ ‫‪‎‬ووعدتني الفاق ُة بالكنز‬
‫كل ال ّرجال‬‫‪‎‬سأكون ساعتها مثل ّ‬ ‫‪‎‬وبسيطرة اللّغة البذيئة‬ ‫‪‎‬والغريب أنّني ص ّدقت‪ ،‬وسعيت‬
‫‪‎‬أنت لم تشتك من إهمال أ ّمك‬ ‫‪‎‬وتنام تحت كرمة‬ ‫‪‎‬المصير‬ ‫‪‎‬أفكّر بمعدتي‬ ‫‪‎‬وكلّما بلغت سرابا‬
‫‪‎‬على جسدي المرهق‪.‬‬
‫‪‎‬أو من غزو الشياطين لعينيك‬ ‫ِ‬
‫المخلوقات‪.‬‬ ‫‪‎‬تُعلّق عليها أحال ُم‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪‎‬وأنظر إلى زنْدي زوجتي‬ ‫‪‎‬نحت من عطشي مزمارا‬
‫‪ ‬‬ ‫ُّ‬
‫‪‎‬أو من غبار األيّام الحزينة‬ ‫يح إلى جزيرة نائي ٍة‬ ‫‪‎‬دفعتك ال ّر ُ‬ ‫‪‎‬ولدْتَ ‪ ،‬وفي عينيك‬ ‫‪‎‬من خلف البخار‪.‬‬ ‫‪‎‬وكلّما بلغت نهرا‬
‫‪‎‬وقبل أن يكتب المصير‬
‫‪‎‬فقط‪ ،‬دخلت الجحيم صاغرا‬ ‫‪‎‬حيث أرضعتك غزال ٌة‬ ‫‪‎‬عائلة من شياطين تتعانق‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪‎‬ألقيت مزما َر العطش للمقتفين‪،‬‬
‫القدري‬
‫ّ‬ ‫من‪ ‬نصه‬
‫ّ‬ ‫‪‎‬آخر ٍ‬
‫حرف‬
‫‪‎‬وتبعك إخوانك الذين رمتهم أ ّمهاتهم‬ ‫‪‎‬اصطدت َها حين اشت َّد عو ُدك‬ ‫ْ‬ ‫‪‎‬وفي صدرك موسيقى وحشية‬ ‫‪ ‬‬ ‫وعبرت…‬
‫‪‎‬أسفل جبيني‬
‫أيضا‬ ‫‪‎‬رميتَها على كتفك الهزيل‬ ‫‪‎‬هي مزيج من آالم البؤساء‬ ‫كل ليلة‬ ‫‪‎‬أعرف أنّها ستأتي ّ‬ ‫‪  ‬‬
‫عيني مشنوقتين‬ ‫‪‎‬تاركا ّ‬
‫‪‎‬في ال ّنهر نفسه‪،‬‬ ‫‪‎‬ومضيت إلى كوخك المعزول‬ ‫‪‎‬وعذاب القبر‬ ‫‪‎‬وأنّها لن تجدني بالبيت‬ ‫‪‎‬على بعد متر من خ ّط الوصول‬
‫‪‎‬سقطت من يديه ال ّدواة‬
‫‪‎‬حاملين على أكتافهم غزاالتهم‪.‬‬ ‫دم‬
‫‪‎‬تاركا خلفك مسربا من ٍ‬ ‫‪‎‬لذلك تب ّرأت منك أ ّمك الشّ اب ُة‬ ‫‪‎‬وسوف يتع ّجب الجيران خلف ال ّنوافذ‪:‬‬ ‫‪‎‬الوصول إلى أرض العماء‬
‫‪‎‬حين رفعتها إليه‬
‫‪‎‬اقتفاه ضميرك ال َق ِل ُق‬ ‫‪‎‬وألقت بك في نهر كسو ٍل‬ ‫كل ليلة‬‫السعادة ّ‬ ‫‪‎‬حيث تدفن الفاق ُة كن َزها‪.‬‬
‫‪‎‬ترى ماذا تفعل ّ‬ ‫‪‎‬كانت شوك ًة مسمومةً!▲‬
‫‪‎‬وشهد ض ّدك أمام الله‪.‬‬ ‫‪‎‬تصله الشّ مس مرهق ًة‬ ‫‪‎‬ق ّدام باب التّعيس!؟‬ ‫‪‎‬نفضْ ُت ‪ ‬آخ َر قشّ ٍة‬
‫شاعر من تونس‬ ‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬ ‫‪‎‬فتغسل فيه أطرافها من غبار ال ّنهار‬

‫‪27‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪26‬‬


‫قص‬

‫نهاية مطبخ‬

‫حسني جمعان‬
‫مصطفى تاج الدين الموسى‬

‫ـ‪3‬ـ‬ ‫ـ‬
‫ماء شرع بالهطول‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫ثم هبطت قطرة سابعة‪ ،‬على إثرها حبل ٍ‬
‫لك‪ ..‬أنت اآلن خارج حدود المطبخ!‬
‫ـ أبارك ِ‬ ‫قالت الحفرة‪ :‬أنت خلقتني‪.‬‬
‫بفرح ينظر‬ ‫بفرح تنظر كأس الشاي الصغيرة لصحن السجائر‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫أجاب صنبور الماء‪ :‬لم أخلق شيئا‪ ..‬المرض‪ ،‬ذلك الكائن اللعين‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫إليها‪..‬‬ ‫هو الذي خلقك‪.‬‬

‫ـ‪4‬ـ‬ ‫ـ‪2‬ـ‬

‫الزوج لم ينتبه لها‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫سيجار ٌة تطل برأسها من علبة التبغ‪،‬‬ ‫شبه متهرئ‪.‬‬‫بلحاف ِ‬‫ٍ‬ ‫مستطيل من اإلسفنج‪ ،‬ليتد َّثر‬ ‫داخل ذاكرته صو ٌر من احتفاالت األسبوع الماضي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫نهضت‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫وفراغات بين أسنانه‪ ،‬أرهق االنتظارُ‬ ‫سلبي‪،‬‬ ‫مزاج‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫طفل له‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫بغيرة هذه السيجارة‪ ..‬السيجارة تضحك‪ ،‬الزوج‬ ‫ٍ‬ ‫الزوجة تراقب‬ ‫ً‬
‫ثانية عددَ‬ ‫الزوج ليحصي‬‫ُ‬ ‫البرودة ترجع إلى مالمحه فيرجع‬ ‫ولبقية التالميذ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫أسبوع كان ممتعا له‬ ‫ٌ‬ ‫روحه‪.‬‬
‫ً‬ ‫تلتقط عن األرض مؤخر َة‬ ‫ُ‬ ‫يمتعض‪ ..‬أصابعه‬ ‫ُ‬ ‫سجائر علبته‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ذقن ونصف سيجارة‪.‬‬
‫الضحكات التي أغاظتها‬ ‫ِ‬ ‫لم يسمع شيئا‪ ،‬الزوجة سمعت تلك‬ ‫صباحا مدرسة دون دروس‪ ،‬فقط اللهوُ في باحة المدرسة على‬ ‫زوج بعينين جاحظتين وبنصف ٍ‬ ‫ٌ‬
‫وتحركه أمام الزوجة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كثيرا‪ .‬السيجارة ُتخرج لسانها من فمها‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫اعتذار يشعلها ثانية‪ ،‬وهو يصغي‬ ‫السيجارة المقذوفة‪ ،‬وبال‬
‫ِ‬ ‫بصخب بين الحشود‬ ‫ٍ‬ ‫ومساء الركض‬ ‫ً‬ ‫الوطنية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫صدى األغنيات‬ ‫يؤرقها نهدها شبه‬ ‫بوجه شاحب‪ّ ،‬‬‫ٍ‬ ‫زوجة كوردة أصابها الذبول‬ ‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫تهمس لها بثقة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ثم‬ ‫الصامتة في نشرة األخبار‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫بعمق لتلك الصور‬ ‫في ساحة المدينة‪.‬‬ ‫بصمت في‬ ‫ٍ‬ ‫مرئي يجلس‬ ‫شبح ال‬
‫ٌ‬ ‫الطازج َّ‬
‫لقل ِة استخدامه‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫ـ إنه مغرمٌ بي‪ ..‬أنت ال يح ُّبك‪ ،‬سيتركك قريبا‪ ..‬لقد تزوجني‬ ‫ّ‬ ‫أيضا يصغي منتظراً‬‫ً‬ ‫شبح الزاوية الالمرئي ‪-‬يكادُ يبكي‪ -‬هو‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫الالفتات ‪-‬كما ظنّه‪ -‬أعطاه واحدة ولم يسأله ثمنها‪ ،‬رفعها‬ ‫ِ‬ ‫بائع‬ ‫تلك الزاوية‪ ،‬وهو يصغي بكل خالياه‪ ،‬وال شيء يجيده سوى‬
‫وسنعيش مع بعضنا إلى األبد‪.‬‬ ‫ً‬
‫شيئا لم يحدث بعد ليكتبه‪.‬‬ ‫سعيدا بعد أن فشل بإدراك معناها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫اإلصغاء‪.‬‬
‫كالم‬
‫َ‬ ‫صدق‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫كلمة (األبد) ّأرقت روحها‪ ،‬الزوجة تحاول أال ت ِّ‬ ‫رئيس‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫نظر إلى الشاشة مجددا‪ ،‬داخلها ال يزال‬ ‫كان يتذكر عندما َ‬ ‫تجمدت أجسادهم مقابل شاشة التلفاز‪ ،‬يترقبون بشوق‬ ‫الثالثة ّ‬
‫الشك يركلها بين جهاتها‪ ،‬وهو يلهو بتقطيع‬ ‫ُّ‬ ‫السيجارة‪ ،‬صار‬ ‫ـ‪5‬ـ‬ ‫يشرح لصديقه‪ ،‬صورة بال صوت‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫البالد‬ ‫أخبار‬
‫ِ‬ ‫اليومي‪ ..‬نشرة‬
‫ّ‬ ‫الدرامي‬
‫ّ‬ ‫حلقة جديدة من المسلسل‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫بث‬
‫أعصابها‪.‬‬ ‫الطفل يتمنّى من الصديق أن يفهم بسرعة‪ ،‬من أجل المسلسل‬ ‫ُ‬ ‫وقت بثِّ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫هذا المساء كانت طويلة للغاية‪ ،‬فمساحتها قد التهمت‬
‫الزوج عيناه الباردتان مصلوبتان على الشاشة‪ ،‬الزوجة تنهض‬ ‫اسما‪ ،‬ذات يوم انتصب على مستطيل المجلى‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مرض ال يملك‬ ‫ٌ‬ ‫ساعة‬
‫ٍ‬ ‫مستمر منذ‬
‫ٌ‬ ‫الدرامي‪ .‬لكنّه سرعان ما يئس‪ ،‬فالشرح‬ ‫اليومي‪ ..‬نشرة هذا المساء‪ ،‬تغطي زيارة رئيس البالد‬ ‫المسلسل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫دفتر‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫الرف‬ ‫بحثا عن يقين‪ ،‬تأخذ عن‬ ‫ً‬ ‫لتمشي حتى الخزانة‬ ‫حية ترزق‪،‬‬‫تخيلها بهدوء ثم همس «كوني»‪ .‬ف ُبعثت الحفرة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫تماما مثلَ‬ ‫الصديق ال يستوعب بسرعة‪..‬‬ ‫َ‬ ‫ونصف‪ ،‬ويبدو أنّ هذا‬ ‫بالد بعيدة‪.‬‬ ‫لرئيس في ٍ‬ ‫ٍ‬
‫تقلب صفحاته القديمة‪ .‬على الصفحة األولى تقرأ اسم‬ ‫العائلة‪ّ ..‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫عندئذ ق ّبلها المرض قبلة مقدّ سة‪ ،‬مباركا بها والدتها على يديه!‬ ‫ٍ‬ ‫والده وسأله بغيظ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫عندئذ استدا َر إلى‬ ‫ٍ‬ ‫صفه‪.‬‬ ‫خالدَ في ّ‬ ‫بعلبة التبغ‪ ،‬يحصي سجائره‪ ..‬يطمئن‪ ،‬فيشعل‬ ‫ِ‬ ‫الزوج يعبث‬
‫حروف‬ ‫ِ‬ ‫زوجها‪ ،‬على الثانية تقرأ اسمها‪ .‬فتعجبها موسيقى‬ ‫المرض يتجوّ ل في أرجاء المطبخ‪ ،‬مانحاً‬‫ُ‬ ‫وبثياب عسكريّ ة صار‬ ‫ٍ‬ ‫وضعت اسم الرئيس داخل الصندوق؟‬ ‫َ‬ ‫ـ األسبوع الماضي‪ ..‬هل‬ ‫أخرى‪.‬‬
‫اسمها‪ ،‬اسمُ ها الذي لم تسمعه في هذه الغرفة منذ زمن طويل‪.‬‬ ‫ً‬
‫الموجودة فيه وعدا بالغرق‪.‬‬
‫ِ‬ ‫كل األشياء‬ ‫َّ‬ ‫تساءل بحنق‪.‬‬ ‫صحن‬ ‫ً‬
‫الزوجة تصنع كأسا من شاي ثقيل‪ ،‬تضعه لزوجها جانب‬
‫ِ‬
‫في الصفحة الثالثة تشاهد اسم السيجارة‪ ،‬ترجع منكسرة‪ً،‬‬ ‫كل األشياء كانت إذا سمعت وعودَ المرض بالغرق‪ ،‬تمنحه‬ ‫كانت هذه السيجارة األولى في حياته‪ ،‬يقذفها وربعها األخير‬ ‫َ‬ ‫تتأمل في فراغ‬‫السجائر‪ ..‬ترجع حيث تجلس مكانها كما كانت‪ّ ..‬‬
‫تعلق عينيها‬ ‫ثم ّ‬‫يفوح من روحها المهجورة‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫وثم َة حزنٌ‬
‫لتجلس ّ‬ ‫حار ًا‪.‬‬ ‫ً‬
‫تصفيقا َّ‬ ‫لم يحترق بعد‪.‬‬ ‫كأس الشاي الثقيل‪َ ،‬‬
‫مثل كل محاوالتها السابقة‪،‬‬ ‫الجدار‪ .‬فشلَت ُ‬
‫ضحكات‬‫ِ‬ ‫ً‬
‫الممتد على الجدار‪ ،‬محاولة تجاهل صدى‬ ‫ِّ‬ ‫فوق الفراغ‬ ‫بقبضة مشدودة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ساعدُ األب ترتفع‬ ‫بأن ُتذكِّر زوجها بوجود شيء ‪-‬في هذه الغرفة‪ -‬اسمه زوجة!‬
‫السجائر‪.‬‬ ‫ـ‪6‬ـ‬ ‫ـ نعم‪ ..‬نعم‪ ..‬نعم…‬ ‫بحنق‬ ‫لينظر‬
‫َ‬ ‫الطفل يصل دمه حتى رأس أنفه‪ ،‬يستدير رأسه‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫المرئي في تلك الزاوية من‬ ‫ٍّ‬ ‫شبح‬
‫ٍ‬ ‫بكاء خافت‪ ،‬يصدر عن‬ ‫صوت ٍ‬‫ُ‬ ‫آلة‪ ،‬تعلو القبضة‪ ،‬تنخفض‪ ..‬تعلو‪ ،‬تنخفض‪ ..‬الزوجة تراقب‬ ‫مثل ٍ‬ ‫إلى ساعة الجدار‪.‬‬
‫الغرفة‪.‬‬ ‫الرئيس لم يُ شعل حتى اآلن‬
‫ُ‬ ‫ـ مضت ساعتان من الشرح‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫يجلس قربها‪ ،‬بزاوية عينها‪ ..‬سؤال من حيرة نبت‬ ‫ُ‬ ‫بريبة طف ً‬
‫ال‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫مرئي يلوكه الملل وكأنه قطعة اللبان‬ ‫شبح ال‬ ‫ٌ‬ ‫عند الزاوية‬
‫ّ‬
‫سيجارة!‬ ‫داخل رأسها‪:‬‬ ‫كمتسول‪ ،‬أن يحدث شيئا‬
‫ٍ‬ ‫المفضلة عنده‪ ،‬يناجي اللهَ في سرِّ ه‬
‫ـ‪7‬ـ‬ ‫عبر سحائب‬
‫عشق َ‬ ‫ثم أرسلت نظرة‬ ‫ُ‬
‫الزوجة هكذا باحت لقلبها‪ّ ،‬‬ ‫َ‬
‫شاهدت هذا الطفل قبل اآلن؟‬ ‫ُ‬ ‫ـ أين‬ ‫ُّ‬
‫يستحق الكتابة‪.‬‬ ‫ما في هذه الغرفة‬
‫ٍ‬
‫الرئيس‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حيث‬ ‫الدخان من عينيها إلى شاشة التلفاز‪ .‬هناك‬ ‫ـ أريد أن أنام‪.‬‬
‫لبعض األشياء صفة األبديّ ة‪:‬‬ ‫منهمك بال سجائر في الشرح لصديقه ذلك‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫بغضب ثم استلقى هذا الطفل جانب الجدار‪ ،‬على‬ ‫تمتم‬
‫َ‬
‫ٍ‬

‫‪29‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪28‬‬


‫قص‬

‫زمن طويل‪..‬‬ ‫منذ ٍ‬ ‫الله‪ ،‬الشيطان‪ ،‬المرض‪ ،‬وهذا التصفيق‪.‬‬


‫«قطرة خامسة»‪.‬‬ ‫وألشياء أخرى صفة الموت‪:‬‬
‫لهذا تكوّ نت أسفله‪..‬‬ ‫القصة وصاحبها‪.‬‬
‫حاسة البصر‪ ،‬المطبخ‪ ،‬هذه ّ‬
‫«سادسة»‪.‬‬
‫حفرة عميقة‪..‬‬ ‫ـ‪8‬ـ‬
‫«سابعة»‪.‬‬
‫إ ّنه يحتاج لـ…‬ ‫الكمين المحكم‪،‬‬
‫َ‬ ‫مرة في حياته‪ ،‬يخلق له قدره هذا‬ ‫ألول ّ‬‫ّ‬
‫ُ‬
‫تدخل في الغرق‪،‬‬ ‫صنبور الماء ينفجر بالبكاء‪ ،‬أشياء المطبخ ّ‬
‫كلها‬ ‫لسنوات‪ ،‬ومثلَ‬
‫ٍ‬ ‫سيسقط خالل الصورتين‪ ،‬خطأ لم يقترب منه‬
‫حة بالتصفيق‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫متسل ً‬ ‫تمر على خير‪ ..‬هذا الخطأ‬ ‫يحذرُ من هكذا أخطاء قد ال ُّ‬ ‫ّ‬ ‫الكثيرين‬
‫غير قصد‪.‬‬ ‫ُ‬
‫‪-‬وبين صورتين‪ -‬سيقترفه اآلن عن ِ‬
‫ـ ‪ 11‬ـ‬ ‫كتف رئيس البالد من الخلف‬ ‫داخل شاشة التلفاز‪ ،‬يظهر ُ‬ ‫َ‬ ‫هناك‪..‬‬
‫رئيس البالد األخرى‪.‬‬ ‫َ‬ ‫بحرارة صديقه‬ ‫ٍ‬ ‫وهو يصافح‬
‫َ‬
‫حاسة البصر‪.‬‬ ‫العقلية والجسديّ ة‪ ،‬فقط أستثني‬
‫ّ‬ ‫بمجمل طاقاتي‬ ‫بفم فتحه على آخره‬ ‫فتثاءب ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ظن أنّ الفرصة مناسبة‪،‬‬ ‫الزوج ّ‬
‫زمن ‪-‬أوسعَ من حياتي‪-‬‬ ‫إثر انقضاء‬
‫أخطها‪َ ،‬‬
‫القصة ُّ‬
‫ّ‬ ‫اآلن‪ ..‬هذه‬ ‫إثر تحوّ ل الصورة‬ ‫ً‬
‫وكان النعاس قد أرهق عينيه‪ ،‬فجأة يغلقه َ‬
‫ٍ‬
‫مناخ المطبخ‪.‬‬ ‫منذ أن ظهر المرض داخل‬ ‫ً‬
‫فزعا‪:‬‬ ‫عن الكتف إلى وجه الرئيس‪ ..‬يصرخ قلبه‬
‫ِ‬
‫أبدي‬
‫ّ‬ ‫ال تسألني كيف سينتهي هذا المرض‪ ،‬ال أعرف‪ ..‬لن أكون‬ ‫ـ أنا آسف‪.‬‬
‫الوجود‪.‬‬ ‫ينتحر منذ ثوان‪ -‬سمعَ وشاهد‬ ‫َ‬ ‫شبح المرئي عند الزاوية ‪-‬كاد‬
‫ٌ‬
‫للقصص‬
‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫حديث‬ ‫كاتب‬
‫ٌ‬ ‫ال تسألني كيف بدأ هذا المرض‪ ،‬ال أعرف‪..‬‬ ‫عالمات الترقيم‪ ،‬بدأ يكتب بفرح‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫التثاؤب فقط‪ ..‬ناسيا كل‬
‫أنا‪.‬‬
‫ً‬
‫قديم للقصص أن يعرف‪ ،‬وأيضا‪ ..‬قد ال يعرف‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫كاتب‬
‫ٌ‬ ‫يمكن‪،‬‬ ‫ـ‪9‬ـ‬

‫ـ ‪ 12‬ـ‬ ‫ذات وجه الطفل‬ ‫ثيابا زاهية‪ ،‬له ُ‬ ‫ً‬ ‫رشيقا يرتدي‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫جسدا‬ ‫شاب يملك‬
‫ٌّ‬
‫مصنوع من‬
‫ٍ‬ ‫رغيف‬
‫ٍ‬ ‫ذي الفراغات بين أسنانه‪ .‬يتسلى بالتهام‬
‫ً‬
‫نائما فوق‬ ‫ٌ‬
‫فراغات بين أسنانه‪،‬‬ ‫شيء ما‪ ..‬يشبه طف ً‬
‫ال‪ ،‬لديه‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫العبث بمكابحها‬ ‫لسيارة فارهة‪ .‬يحلو له‬ ‫ٍ‬ ‫الشكوالتة خالل قيادته‬
‫ٌ‬
‫اإلسفنج‪ .‬على فمه ترفرف ابتسامة هادئة‪.‬‬ ‫مركز لالقتراع‪،‬‬ ‫ً‬
‫ثم تتوقف السيارة أخيرا أمام‬ ‫ُ‬ ‫عند كل منعطف‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫ذقن‪ ،‬يشعل سيجارة ال يعرف‬ ‫بنصف‬‫ِ‬ ‫ً‬
‫زوجا‬ ‫شيء ما‪ ..‬يشبه‬ ‫ٌ‬ ‫بكثير من الهيبة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أحدهم يفتح له الباب‪ ،‬فيترجل‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫رقمها سوى الله‪.‬‬ ‫وبطرف قميصه يمسح آثار‬ ‫ِ‬ ‫انتخاب‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫داخل المركز يأخذ ورقة‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫شيء ما‪ ..‬يشبه زوجة‪ ،‬تتوغل عيناها الصامتتان في فراغ‬ ‫ٌ‬ ‫الشكوالتة عن فمه‪ .‬يتريّ ث فال يضع الورقة داخل ثقب صندوق‬
‫ّ‬
‫تتخيل نهدَ ها يمارس حقه في الحياة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الجدار‪،‬‬ ‫قانون تجديد البيعة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫مخالفا بهذا‬ ‫األوراق‪ ،‬يفتحها‬
‫ً‬
‫شبح ال مرئي واقف عند الزاوية‪ ،‬ينوي الرحيل متأبّطا أوراقه‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ضرب على اسم رئيس البالد‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بهدوء إشارة‬‫ٍ‬ ‫ً‬
‫قلما ليرسم‬ ‫يمسك‬
‫الثالث‪.‬‬ ‫اليومي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الدرامي‬
‫ِّ‬ ‫ثم يكتب عليها اسم المسلسل‬
‫حضرة الصورة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫على األولى‪ :‬شرح أسباب التثاؤب في‬
‫الحلم الملوّ ث بالشكوالتة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫كتب ذلك‬‫على الثانية‪َ :‬‬ ‫ـ ‪ 10‬ـ‬
‫الطفل المشاغب‪.‬‬
‫ِ‬ ‫رسم حجم ابتسامة هذا‬ ‫ُ‬ ‫على الثالثة‪:‬‬
‫دارين أحمد‬

‫خطوات‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫ثم مشى سعيدا بضع‬ ‫ّ‬ ‫دت الجدران صدى ارتطام قطرة ماء‪ ،‬هطلت‬ ‫داخل المطبخ ردّ ِ‬
‫عندئذ ‪-‬وصدفة‪ -‬تعرقل بصحن السجائر‪ ،‬فسقط‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫عن الصنبور إلى أرض المجلى‪ ..‬صنبور الماء‪.‬‬
‫لينكسر الشبح الالمرئي إلى جزأين‪:‬‬ ‫«تهطل قطرة ثانية»‪.‬‬
‫األول تدحرج حتى دخل في رأس الزوجة‪.‬‬ ‫الجزء ّ‬ ‫يعاني من‪..‬‬
‫الجزء الثاني تدحرج حتى دخل في رأس الزوج‪.‬‬ ‫«تهطل قطرة ثالثة»‪.‬‬
‫ُّ‬
‫مرض كثير البشاعة‪..‬‬ ‫ٍ‬
‫كاتب من سوريا مقيم في تركيا‬ ‫«قطرة رابعة»‪.‬‬

‫‪31‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪30‬‬


‫حوار‬

‫سالفوي جيجك‬
‫أممية جديدة‬
‫سالفوي جيجك‪ ،‬وُ لد وكبر ودرس في العاصمة ليوبليانا‪ .‬هذه المدينة المعروفة بصخبها الهادئ‪ ،‬المُ حاطة بأنهار وبحيرات وبتاريخ‬
‫يحب هذه المدينة‪ ،‬بل يمقتها!‪« ..‬أنا شخص غير اجتماعي‪ .‬انطوائي‪ .‬مثالً‪ ،‬لم‬
‫ّ‬ ‫السلم‪ ،‬قضى فيها حياته‪ .‬مع ذلك‪ ،‬هو ال‬
‫طويل من ّ‬
‫أحب هذه المدينة‪ .‬أحمل أغوروفوبيا‬
‫ّ‬ ‫التاريخية في وسط ليوبليانا‪ .‬ال أعرف أحياءها كما يجب‪ .‬ببساطة‪ ،‬ال‬‫يسبق لي أن زرت القلعة ّ‬
‫ّ‬
‫تصفح اإلنترنت‪ ،‬ومطالعة‬ ‫ً‬
‫نادرا‪ .‬أقضي وقتي في البيت‪ ،‬في القراءة أو في مشاهدة األخبار أو في‬ ‫الشارع إالّ‬
‫مزمنة‪ .‬ال أخرج إلى ّ‬
‫موظف في قسم الفلسفة‪ ،‬في الجامعة؟»‪.‬‬ ‫أيضا يُ ضايقني‪ .‬ال أستخدمه سوى في الضرورة»‪ .‬أسأله «لكنك ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫الجوال‬ ‫ّ‬
‫الصحف‪ .‬الهاتف‬
‫ست سنوات!»‪.‬‬‫تخيل أني لم أضع قدمي في جامعة ليوبليانا منذ ّ‬ ‫يجيبني «صحيح‪ ،‬ولك ّني أعمل بصفة باحث ولست مُ درّ ً‬
‫سا‪ّ .‬‬
‫ً‬
‫جدارا بينه وبين األوساط‬ ‫ً‬
‫ناصبا‬ ‫هكذا إذن‪ ،‬يعيش جيجك‪ ،‬ملهم كثير من الحركات االحتجاجية في العالم‪ ،‬في عزلة اختيارية‪،‬‬
‫الصغيرة وبعض الرّ فاق اليساريين القدامى‪ .‬ويُ ضيف‬ ‫ً‬
‫أحدا في بيته سوى عائلته ّ‬ ‫الفكرية في بلده‪ ،‬وفي أوربا إجماال‪ ،‬ال يستقبل‬
‫ً‬
‫ساخرا «دانتي لم يكتب عن الجحيم سوى لمّ ا زار مغارات بوستونيا في سلوفينيا!»‪ .‬هذه العزلة ال تقطعها سوى سفرياته العلمية‬
‫السياحية‪ ،‬إلى دبي أو سنغافورا أو كوبا‪ .‬لكن‪ ،‬في الوقت الحالي‪ ،‬هذه‬
‫السفريات ّ‬
‫إلى الواليات المتحدة األميركية عادة‪ ،‬وبعض ّ‬
‫جيد لجاك الكان مثلي‬ ‫ً‬
‫أيضا دارس ّ‬ ‫السفر مع ابني ‪-‬هو‬
‫أحب ّ‬
‫ّ‬ ‫السابق‪ ،‬كنت‬ ‫ً‬
‫كثيرا‪ ،‬يقول عن ذلك «في ّ‬ ‫السفريات صارت ال تغريه‬
‫ّ‬
‫وأهم ما أقوم به هو أن أشتري قرصا مضغوطا لموسيقى البلد الذي أزوره‪ ،‬أو أدخل قاعة سينما لمشاهدة فيلم‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫مدنا‪،‬‬ ‫أنا‪ -‬ألكتشف‬
‫محلي‪ .‬اآلن الموسيقى واألفالم صارت متوافرة على اإلنترنت‪ ،‬نيويورك نفسها صارت ال تغريني‪ ،‬العالم بات متشابها وممالً»‪.‬‬
‫السابعة عشرة‪ ،‬ثم تجربته الفاشلة في‬‫لحظتان حاسمتان صنعتا حياة سالفوي جيجك‪ :‬اختياره دراسة الفلسفة‪ ،‬وهو مُ راهق في ّ‬
‫التقليدي‪ .‬بدأ من ّ‬
‫تأثره بالفلسفة الفرنسية‪ ،‬ومن قراءاته‬ ‫السياسة‪ ،‬التي جعلته يُ راجع مسلمات قديمة‪ ،‬ويُ فكّر في نقد جديد لليسار ّ‬
‫ّ‬
‫السلوفيني‪ ،‬ثم يتعرّ ف‪،‬‬
‫الشيوعي ّ‬‫للمحلل النفساني جاك الكان(‪ .)1981-1901‬لينضم في أواسط العشرينات من عمره إلى الحزب ّ‬ ‫ّ‬
‫ويتم دكتوراه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والمختص في فرويد)‪،‬‬ ‫في أوائل الثمانينات من القرن العشرين‪ ،‬في باريس على جان آالن مييار (صهر جان الكان‪،‬‬
‫تحوالً‬
‫ّ‬ ‫السوربون (‪ ،)1986‬ويعود إلى سلوفينيا‪ ،‬برغبة في بعث نقاشات فلسفية جديدة‪ ،‬لكن البلد كان يعيش وقتها‬ ‫ثانية في ّ‬
‫ترشح لها سالفوي جيجك‪ ،‬وهو في ّ‬
‫الثانية واألربعين من‬ ‫ً‬
‫جذريا‪ ،‬فقد استقل عن يوغسالفيا (‪ ،)1991‬وعرف أول انتخابات رئاسية‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫مجددا‪ ،‬ومقاطعة‬ ‫ً‬
‫–طبعا‪ -‬وقراره الرّ اديكالي بعدم ممارسة ّ‬
‫السياسة‬ ‫السياسي‪ ،‬انتهت بفشله‬ ‫ً‬
‫متحمسا وغير مكتمل ال ّنضج ّ‬ ‫العمر‪،‬‬
‫األول «العنصر األسمى‬ ‫والسياسيين في بلد األمّ ‪ .‬العزاء الوحيد له‪ ،‬في تلك الفترة‪ ،‬كان صدور ّ‬
‫الترجمة اإلنكليزية لكتابه ّ‬ ‫ّ‬ ‫السياسة‬
‫ّ‬
‫ً‬
‫ومرادفا للجدل‪« .‬الجدل» و«إثارة‬ ‫الدوائر الفلسفية األوروبية‪ ،‬واألميركية‪،‬‬ ‫ً‬
‫محترما في ّ‬ ‫في األيديولوجيا»‪ ،‬الذي جعل منه اسما‬
‫ً‬
‫مجنونا‪ .‬ربما أنا كذلك‪ .‬لكني أعتقد أنني شخص‬ ‫اإلشكاليات» هما خاصيتان في سيرة جيجك الفلسفية‪ .‬يقول لنا «البعض يعتبرني‬
‫ً‬
‫خصوصا من اليسار‪ّ ،‬‬
‫يتفقون معي في آرائي‬ ‫ً‬
‫أحيانا أ�صادف زمالء لي‪ ،‬من مفكّرين أوروبيين‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وأتكلم مثلما أفكّر‪.‬‬ ‫ساذج‪ .‬أنا أكتب‬
‫في الخفاء‪ ،‬لكنهم يحاولون تحذيري من الحديث عنها في العلن!»‪.‬‬
‫والتسامح‪ ،‬عن نقد الماركسية ومواجهة‬‫ّ‬ ‫معني بالخوض فيها‪ :‬عن العنف‬ ‫ّ‬ ‫يكتب جيجك في موضوعات راهنة كثيرة‪ ،‬يشعر بأنه‬
‫التطرف واألديان‪ ،‬عن ال ّنساء والحركات ال ّنسوية‪ .‬كان صديقه المقرب الفيلسوف‬ ‫الرّ أسمالية‪ ،‬عن الهويات وما بعد الحداثة‪ّ ،‬‬
‫يفضل مصاحبة آالن باديو (‪.)1937-‬‬ ‫ّ‬ ‫الفرنسي جيل دولوز «‪ ،»1995-1925‬واآلن‬
‫ً‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫والسينما العربية‬
‫ّ‬ ‫سالفوي جيجك الفيلسوف والمحلل ال ّنفساني‪ ،‬هو «سينيفيل» بامتياز‪ .‬يُ تابع ما يصدر في دور ّ‬
‫السينما‪،‬‬
‫ّ‬
‫الحظ توجد أم كلثوم التي‬ ‫ً‬
‫مبتسما «لحسن‬ ‫السينما المصرية من أفالم تجارية بال معنى‪ ،‬ثم ّ‬
‫علق‬ ‫أخبرني عن خيبته مما وصلت إليه ّ‬
‫شغل أغنية «األطالل»‪ ،‬على الكومبيوتر‪ ،‬من قرص مضغوط اشتراه من رام اهلل‪ ،‬استمعنا ‪-‬فقط‪ -‬إلى مقطع من‬ ‫ُتعيدنا إلى مصر»‪ّ ..‬‬
‫ثم شرعنا في هذا الحوار‪..‬‬
‫بدايتها‪ّ ،‬‬
‫س‪.‬خ‬

‫‪33‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪32‬‬


‫حوار‬

‫ً‬
‫وجها لوجه أمام الحداثة‬ ‫اإلسالم‬ ‫لألجانب‪ ،‬الذي استفاد العام الماضي من سوء تسيير ملف‬ ‫فوز ترامب ليس سوى كشف لألعراض المرضية ولضعف‬ ‫الرئيس األميركي‬
‫الجديد‪ :‬قدت في األشهر الماضية حملة ضد ّ‬
‫الصادر العام الماضي‪ ،‬عقب‬ ‫ّ‬ ‫الجديد‪ :‬في كتابك‪،‬‬ ‫ً‬
‫جديدا؟‬ ‫الالجئين في أوروبا‪ ،‬لن يقدّ م‬ ‫ً‬
‫‪-‬دائما‪ -‬أن‬ ‫الرسمي الوسطي‪ .‬أحبذ‬‫ومحدودية اليسار الليبرالي ّ‬ ‫ً‬
‫–حديثا‪ -‬دونالد ترامب! وصفته ﺒ«االنتهازي البذيء»‬ ‫المُ نتخب‬
‫االعتداء اإلرهابي على صحيفة «شارلي إيبدو»‪ ،‬الذي حمل‬ ‫أستعيد مقولة الفيلسوف األلماني والتر بنيامين «خلف كلّ‬ ‫وتأسفت‪ ،‬في الوقت نفسه‪ ،‬من خيار‬ ‫ّ‬ ‫وﺒ«الرجل الببغاء»‪،‬‬
‫ّ‬
‫موسع‬
‫ّ‬ ‫مرة‪ ،‬بشكل‬‫ألول ّ‬
‫عنوان‪« :‬اإلسالم والحداثة»‪ ،‬كتبت‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫ملموسا‪ .‬ما حصل أن اليمين لم‬ ‫ً‬
‫شيئا‬ ‫ً‬
‫قطعا‪ .‬لن يقدّ م‬ ‫جيجك‪:‬‬ ‫فاشية‪ ،‬هناك ثورة أجهضت»‪ .‬هذا هو التّ ناقض الكبير الحاصل‬ ‫ً‬
‫الشعبية‪ ،‬التي وجدت في ترامب ناطقا باسمها‪ .‬في‬ ‫الطبقات ّ‬ ‫ّ‬
‫عن اإلسالم‪ .‬على ماذا تبني قراءاتك لإلسالم؟ من مجرد متابعة‬ ‫يطوّ ر أدواته وال خططه في العقود الماضية‪ .‬بل اعتمد طوال‬ ‫اليوم في الغرب بأجمعه‪ .‬في أميركا‪ ،‬النّاس ال يؤمنون بتغيير‬ ‫األخير‪ ،‬دونالد ترامب صار رئيسا ألميركا‪ ،‬وتحذيراتك لم تجد‬
‫الراهن أم من قراءات للنّصوص األساسية في اإلسالم؟‬‫ّ‬ ‫المتطرف يُ حاولون‬
‫ّ‬ ‫الوقت على استفزاز اليسار‪ .‬زعماء اليمين‬ ‫يفضلون االستقرار مهما كان‪ ،‬ويفكّرون بأن ترامب ّ‬
‫يمثل‬ ‫قريب‪ّ ،‬‬ ‫صدى لها‪..‬‬
‫كسب أصوات انتخابية بإخافة النّاس من موضوعات كالفاشية‬ ‫حالة التّ وافق المطلوبة‪.‬‬
‫ً‬
‫والعنصرية‪ ..‬إلخ‪ .‬ما يُ مكن أن أؤكّد عليه فقط أن هذه الوضعية جيجك‪ :‬بطبيعة الحال‪ ،‬أنا أتابع جيدا ما يحدث في العالم‬ ‫مفزوعا من فكرة أن يصير دونالد‬ ‫ً‬ ‫جيجك‪ :‬في البداية‪ ،‬كنت‬
‫اإلسالمي‪ .‬لي أصدقاء في دولة مسلمة‪ ،‬أتناقش معهم‪ ،‬من حين‬ ‫ال للحزن‪ ،‬ومخيفة في آن‪.‬‬ ‫مثيرة فع ً‬ ‫الجديد‪ :‬صحوة اليمين في أميركا‪ ،‬وتراجع اليسار‪ ،‬قد يكون لهما‬ ‫ترامب رئيسا للواليات المتحدة األميركية‪ ،‬واليوم يزداد فزعي‬
‫يتعلق باإلسالم وبراهن الدّ ول‬ ‫ّ‬ ‫كل ما إلى آخر‪ ،‬وأستمع آلرائهم فيما‬ ‫الشمولية‪ ،‬التي تلتهم ّ‬ ‫الرأسمالية ّ‬ ‫توسع نفوذ ّ‬ ‫ظل ّ‬ ‫في ّ‬ ‫انعكاس على أوروبا‪ ،‬بالدّ رجة األولى‪ .‬في الوقت الحالي‪ ،‬تبدو‬ ‫من هذا األمر‪ ،‬أكثر فأكثر‪ .‬لكن بالمقابل‪ ،‬أنا متفائل من أشياء‬
‫يتعلق باإلسالم‪ ،‬مما كتبه مسلمون‬ ‫ّ‬ ‫كل ما‬‫وأيضا‪ ،‬أقرأ ّ‬
‫ً‬ ‫توجب أوالً حماية الدّ ولة‪ ،‬وتوفير استقاللية وسلطة اإلسالمية‪.‬‬ ‫تمر عليه‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الربيع القادم!‬
‫مهيأة لتصير برئيس يميني‪ّ ،‬‬
‫فرنسا ّ‬ ‫مهمة‪ .‬لقد فكّرت بيني وبين نفسي‪ ،‬وآمنت‬ ‫ثانوية أخرى‪ ،‬لكنها ّ‬
‫ً‬
‫كاملتين لها‪ ،‬لتستطيع االلتزام بدورها وتقديم الخدمات أو غير مسلمين‪ .‬ربما ستتفاجأ لو قلت لك إنّ واحدا من الكتب‬ ‫ً‬
‫المهم أن يفوز ترامب ويصير رئيسا‪ ،‬ألن هذا األمر من‬ ‫ّ‬ ‫بأنه من‬
‫الصحة والتّ عليم‪ ..‬إلخ‪ .‬هذا األمر الذي التي قرأتها باهتمام ‪-‬في الفترة األخيرة‪ -‬هو كتاب لسيد قطب‪.‬‬ ‫األساسية للمواطن‪ ،‬مثل ّ‬ ‫جيجك‪ :‬بالتّ أكيد‪ .‬اآلن‪ ،‬المشهد واضح في فرنسا‪ .‬من المنطقي‬ ‫ً‬
‫شأنه أن يشكّل سببا إلعادة التّ فكير في اليسار الليبرالي‪ .‬رأيي‬
‫بالطبع‪.‬‬ ‫الطريق»‪ .‬كما قرأت القرآن ّ‬ ‫ً‬
‫السابق‪ ،‬بات غير ممكن تماما‪ ،‬ألن الرأسمالية قرأت له كتاب «معالم في ّ‬ ‫كان متّ فقا عليه في ّ‬ ‫أن يدور الدّ ور الثاني من انتخابات الرئاسيات القادمة ‪-‬ربيع‬ ‫يتغير‪ ،‬لم يكن رأيي وحدي‪ ،‬بل كثيرون‬ ‫ّ‬ ‫حول ترامب‪ ،‬والذي لم‬
‫ً‬
‫ومهتم بقراءة نصوص تحليلية عن اإلسالم‪ ،‬مثال ما يكتب‬ ‫ّ‬ ‫صارت «عالمية»‪ ،‬وكل بلد يفكّر في عزل نفسه عنها سيسبب‬ ‫المتطرف وفرنسوا‬
‫ّ‬ ‫العام ‪ 2017-‬بين مارين لوبان‪ ،‬زعيمة اليمين‬ ‫يُ قاسمونني وجهة النّظر ذاتها‪ .‬ال أريد أن أذكر أسماءهم ‪-‬اآلن‪-‬‬
‫الفيلسوف التّ ونسي فتحي بن سالمة‪.‬‬ ‫لنفسه مشاكل وأزمات‪.‬‬ ‫ً‬
‫‪-‬ظاهريا‪ -‬وسط اليمين‪ .‬برأيي أن فرنسوا‬ ‫فيون‪ ،‬الذي ّ‬
‫يمثل‬ ‫المهمة من اليسار‪ ،‬قالوا‬
‫ّ‬ ‫على التّ حديد‪ ،‬ولكن العشرات من األسماء‬
‫ّ‬
‫يهمني أن أوضح بعض‬ ‫المعقد‪ ،‬أنا لست أدعو إلى أن ننطوي على أنفسنا‪ ،‬بالعودة إلى كتابي «اإلسالم والحداثة»‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫أمام هذا الوضع‬ ‫فيون أسوأ من مارين لوبان بكثير‪ .‬هو كاثوليكي مُ حافظ‪،‬‬ ‫لي في الخفاء «سالفوي‪ ،‬نحن متّ فقون معك‪ ،‬ولكن ال يجب أن‬
‫الشرق‬ ‫الرأسمالية‪ ،‬األشياء‪ .‬أنا ال أستسيغ هذه المواجهة المفتوحة بين ّ‬ ‫بل يجب أن نفكّر في خلق نسخ مُ قابلة للقوانين ّ‬ ‫الصعيد االقتصادي‪ .‬هذه‬
‫يُ دافع عن قناعات نيوليبرالية على ّ‬ ‫نقول هذا الكالم في العلن»‪ .‬هذا أمر غريب‪ ،‬لكنه حدث فع ً‬
‫ال‪.‬‬
‫الشرق والغرب‪ .‬وما هو واجب‬ ‫بالشيء ذاته‪ ،‬قاومت والغرب‪ .‬هناك تعارض رهيب بين ّ‬ ‫ال من سطوتها‪ .‬هناك دول قامت ّ‬ ‫للحدّ قلي ً‬ ‫الحالة‪ ،‬تذكرني برواية خوسيه ساراموغو «بصيرة»‪ :‬حيث‬ ‫يمثل سوى «أعراض مرض»‬ ‫من وجهة نظري‪ ،‬دونالد ترامب ال ّ‬
‫أكرر الكالم الذي يقوله‬ ‫الصين‪ .‬لكن هذا علينا هو ابتكار تواصل بينهما‪ .‬ال أريد أن ّ‬ ‫‪-‬إلى حدّ ما‪ -‬تغوّ ل الرأسمالية‪ ،‬مثل ماليزيا أو ّ‬ ‫يصوّ ت النّاس في مدينة بال اسم بورقة بيضاء في انتخابات‪،‬‬ ‫هيالري كلينتون‪ .‬ترامب هو صورة عن األعراض المرضية‬
‫الثامن عشر‬ ‫أ‬
‫ظرفيا‪ ،‬والواجب هو التفكير بجدية في «�ممية الجميع بأن اإلسالم كان جدّ متسامح!‪ ..‬في القرن ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫سيظل‬ ‫ّ‬
‫الحل‬ ‫بسبب عدم رضاهم عن البدائل‪.‬‬ ‫يتمسك بها اليسار الليبرالي‪ .‬عادة‪ ،‬أنا‬
‫ّ‬ ‫والقناعات الخاطئة التي‬
‫ال‪ ،‬كان األوروبيون مندهشين من التّ سامح الذي وجدوه عند‬ ‫جديدة»‪ .‬أممية جديدة من شأنها أن تنقذنا‪ .‬أممية من يسار مث ً‬ ‫أسمي األشياء بمسمياتها‪ ،‬مهما كان رأي مخالفاً‬ ‫لست رجال ً‬
‫لبقا‪ّ ،‬‬
‫وسطي‪ .‬وال يجب أن تتبنّى الموضوع دولة واحدة لوحدها‪ .‬المسلمين في تركيا وفي المنطقة العربية‪ .‬كان الجميع هناك‬ ‫الجديد‪ :‬برأيك أن هذا اليمين التّ قليدي‪ ،‬المُ حافظ والمعادي‬ ‫الرافضة لترامب‪.‬‬ ‫ً‬
‫صريحا في آرائي ّ‬ ‫للغالبية‪ ،‬لهذا كنت‬
‫كما كان سيحصل ربما في اليونان‪ ،‬وهو خيار كان سيقودها يعيش في سلم‪ :‬يهود ومسيحيون ومسلمون وغيرهم‪ .‬هل‬
‫تعلم أن دوتي بوكمان‪ ،‬الذي قاد ثورة‬ ‫للخروج من اال ّتحاد األوروبي‪ ،‬وبالتالي‬
‫وقف سالفوي جيجك (‪ ،)1949-‬أمام‬
‫الزنوج في هايتي عام ‪ ،1791‬لتأسيس‬ ‫إلى مزيد من الخسارات الدّ اخلية‬ ‫ّ‬
‫يتصفح‬ ‫مكتبته في صالون البيت‪ ،‬وهو‬
‫حرة في العالم‪ ،‬كان يقرأ‬ ‫أول دولة زنوج ّ‬ ‫والخارجية‪ .‬كانت ستدخل اليونان‬ ‫الثالثة» ّ‬
‫للصيني‬ ‫رواية «معضلة األجسام ّ‬
‫ّ‬
‫كارثة إنسانية‪ ،‬فهي بلد فقير‪ ،‬يستورد الرأسمالية صارت «عالمية»‪ ،‬القرآن؟! كان القرآن كتابه المفضل‪.‬‬ ‫ليو سينجين‪ .‬وخاطبني «أجدني أميل أكثر‬
‫ّ‬
‫وأقر به‪ :‬هو أنه‬ ‫ّ‬ ‫ما يُ عجبني في اإلسالم‪،‬‬ ‫‪ 70‬بالمئة من غذائه من الخارج‪.‬‬ ‫لمطالعة الرّ وايات البوليسية‪ .‬هذا كاتب‬
‫وكل بلد يفكر في عزل‬ ‫صيني‪ ،‬اكتشفته‪ ،‬منذ أشهر قليلة فقط‪،‬‬
‫ليس دينا عائليا‪ ،‬ليس دينا تراتبيا‪ ،‬بل‬
‫هو دين للمحرومين‪ .‬محمد نفسه عاش‬ ‫تصحح نفسه عنها سيسبب لنفسه‬ ‫ّ‬ ‫«أممية»‬
‫ّ‬ ‫الجديد‪ :‬أنت تقترح‬
‫رغم أن الرّ واية صدرت منذ أكثر من سبع‬
‫كل أعمال‬ ‫سنوات»‪ .‬ويُ ضيف «مثالً‪ ،‬قرأت ّ‬
‫«األمة»‬
‫ّ‬ ‫يتيما‪ .‬هناك من يعتقد أن مفهوم‬ ‫ً‬ ‫مشاكل وأزمات‬ ‫أخطاء األممية العمالية اليسارية‪ ،‬أم‬
‫آغاثا كريستي!»‪ .‬أ�حاول أن أجذبه نحو‬
‫في اإلسالم يطرح فكرة شمولية‪ .‬كال‪،‬‬ ‫ال آخر‬ ‫في قطيعة معها‪ ،‬أم تقترح بدي ً‬ ‫ّ‬
‫وأعلق «أنت تعلم أن آغاثا‬ ‫فضاءات عربية‪،‬‬
‫مهمة‪ ،‬تعني‬ ‫ّ‬ ‫فكرة «األمة» هي فكرة جدّ‬ ‫«األممية»؟‬
‫ّ‬ ‫مسمى‬‫ّ‬ ‫للعولمة‪ ،‬تحت‬ ‫بعضا من أعمالها بين حلب‬ ‫ً‬ ‫كريسيتي كتبت‬
‫ً‬ ‫بجدية‬ ‫التفكير‬ ‫هو‬ ‫الواجب‬
‫فضاء اجتماعيا‪ ،‬دون مرجعية‬ ‫ً‬ ‫أن نشكّل‬ ‫والموصل‪ ،‬مطلع الخسمينات من القرن‬
‫«أممية جديدة» عائلية واحدة‪ ،‬بعيدا عن التّ قاليد الملكية‬
‫ً‬ ‫جيجك‪ :‬ما أقصده من كالمي هو في تأسيس ُ‬ ‫الماضي!»‪ .‬يقول «نعم‪ ،‬أعرف‪ .‬لكنها كتبت‬
‫أيضا فصوال من رواياتها في سلوفينيا‪.‬‬‫ً‬
‫القديمة التراتبية‪.‬‬ ‫للرأسمالية‬ ‫«أممية» مضادّ ة ّ‬ ‫ّ‬ ‫تأسيس‬
‫كل عام‬ ‫وهو أمر ال يعرفه الكثيرون‪ .‬كانت ّ‬
‫شخصيا‪ ،‬واحد من مرجعياتي النظرية‬ ‫ً‬ ‫الشمولية‪ .‬أن نتّ فق حول قانون‬ ‫ً‬
‫شهرا كامالً‪ ،‬بالقرب من بحيرة بوهين‬ ‫تقضي‬
‫المهمة هو مالكوم إكس‪ ،‬الذي اعتنق‬ ‫ّ‬ ‫اقتصادي دولي جديد‪ ،‬يضع في‬ ‫ّ‬
‫الشهيرة»‪.‬‬
‫األمة‪.‬‬
‫اإلسالم‪ ،‬بعدما أعاد اكتشاف فكرة ّ‬ ‫أهدافه الحدّ من قوانين الرأسمالية‪.‬‬
‫يضيع وقتا في البحث في تاريخ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫هو لم‬

‫‪35‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪34‬‬


‫حوار‬

‫ظاهريا‪ ،‬لكن في‬ ‫ً‬ ‫الكونغو الديمقراطية‪ .‬هي دولة‬ ‫أصوله وأصول أقرانه األفريقية‪ ،‬فهم أن البيض قد قطعوهم عن‬
‫الدّ اخل ال توجد دولة بمعنى الكلمة‪ .‬بلد يعيش في‬ ‫ً‬
‫مفهوما‬ ‫عزاء له في فكرة األمة‪ ،‬باعتبارها‬
‫ً‬ ‫ماضيهم‪ ،‬لذلك‪ ،‬وجد‬
‫المسلحة‪ .‬ذلك‪ ،‬ألن الكونغو‬ ‫ّ‬ ‫ظل فقر وحكم الجماعات‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫جامعا‪.‬‬
‫السوق االقتصادية العالمية‪:‬‬ ‫كلية في ّ‬ ‫مورطة ّ‬
‫ّ‬ ‫الديمقراطية‬ ‫أحيانا مع جان كلود ميلنار ‪-‬الذي له قناعات مُ عادية‬ ‫ً‬ ‫أ ّتفق‬
‫مهمة‪،‬‬
‫فهي تتوافر على إمكانات زراعية‪ ،‬وعلى مواد باطنية ّ‬ ‫لإلسالم‪ -‬حين يقول إنه يجب على الليبراليين أالّ يُ عاملوا العرب‬
‫مثل األلماس‪ ،‬الذهب والنّحاس والبترول‪ .‬وهذا الوضع قد نجد‬ ‫خصوصا كضحايا سلبيين! حتى داعش‪،‬‬ ‫ً‬ ‫والمسلمين والالجئين‬
‫شبها له في أمكنة كثيرة أخرى‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وما تقوم به‪ ،‬هي ليست سوى ردّ ة فعل‪ .‬ال بدّ أال ننسى أنه إلى‬
‫تتحرر قط‪ .‬خصوصاً‬ ‫ّ‬ ‫المستعمرات القديمة لم‬
‫ّ‬ ‫يبدو أن بعض‬ ‫السبعينات من القرن الماضي‪ ،‬كان يوجد يسار عربي جدّ‬ ‫غاية ّ‬
‫أراض زراعية‬ ‫ٍ‬ ‫حين نعرف أن دوال عربية أو آسيوية تشتري‬ ‫الشيء المحزن اليوم في البلدين اللذين‬ ‫قوي‪ ،‬الئكي ومسلم‪ّ .‬‬
‫ّ‬
‫ال‪ ،‬لتوفر زراعة‬ ‫خصوصا في أفريقيا‪ ،‬في الصومال مث ً‬ ‫ً‬ ‫فيها‪،‬‬ ‫هما بصدد التغيير أو االختفاء‪ :‬العراق وسوريا‪ ،‬أنهما كانتا من‬
‫غذائية لها‪ ،‬وتبقى تلك الدّ ول ‪-‬بالتالي‪ -‬تحت سيادة أجنبية‪.‬‬ ‫أهم الدّ ول الالئكية‪ .‬طارق عزيز وزير خارجية صدام حسين‬ ‫ّ‬
‫نحن نعلم أن المستعمر القديم ارتكب فظاعات‪ .‬في الهند‪ ،‬على‬ ‫كان مسيحيا‪ ،‬وكان يوجد تسامح مع االختالف‪ .‬هذه هي‬ ‫ً‬
‫خفيا على أحد المجاعات التي حصلت‬ ‫ً‬ ‫سبيل المثال‪ ،‬لم يعد‬ ‫السياسية التراجيدية‪ ،‬التّ دخل األميركي في العراق‬ ‫المفارقة ّ‬
‫يكرس الفوضى التي‬ ‫في الماضي‪ .‬اليوم االستعمار االقتصادي ّ‬ ‫مهمة‪.‬‬
‫حطم أشياء كثيرة ّ‬ ‫ّ‬
‫الصراع الجيوسياسي الحاصل‪ .‬لو عُ دنا إلى التّ دخل‬ ‫ُتضاف إلى ّ‬
‫ً‬
‫محقا في‬ ‫العسكري في ليبيا‪ ،‬سندرك أن العقيد معمر القذافي كان‬ ‫تبرئ التّ اريخ اإلسالمي‪ ،‬وما حصل فيه من‬
‫الجديد‪ :‬أنت ّ‬
‫حذر أوروبا من النّتائج المحتملة‬ ‫كالمه‪ .‬في أيامه األخيرة‪ ،‬كان يُ ّ‬ ‫فظاعات في الماضي‪ ،‬مما يحدث من عنف باسم اإلسالم اليوم؟‬
‫واقعا‪ .‬ويحصل األمر‬ ‫ً‬ ‫من الحرب على ليبيا‪ ،‬وتحذيراته صارت‬
‫نفسه في سوريا والعراق‪ .‬إنها جريمة قام بها الغرب‪.‬‬ ‫جيجك‪ :‬برأيي‪ ،‬لن ينفعنا البحث عن أسباب األصولية‪ ،‬في‬
‫برأيي‪ ،‬من الخطأ أن نحصر ما يحصل في فظاعات في مسألة‬ ‫الدّ ول العربية‪ ،‬في القرآن‪ ،‬وال في النّصوص التي تلته‪ .‬سنجد‬
‫الحل الوحيد للخروج من األزمات التي نحن فيها هو‬ ‫ّ‬ ‫إنسانية‪.‬‬ ‫ً‬
‫عنفا مماثال‪ .‬األزمة‬ ‫السماوية‬
‫كل الكتب ّ‬ ‫كل األديان وفي ّ‬
‫في ّ‬
‫العامة‪ .‬الغرب‬‫ّ‬ ‫إعادة التّ فكير في اإلحداثيات الجيوسياسية‬ ‫الشمولية‪ ،‬هذا هو حقل البحث‬ ‫الرأسمالية ّ‬
‫الحقيقة هي في ّ‬
‫كثيرا‪ ،‬بشكل مبالغ فيه‪ ،‬في دول عربية‪ ،‬وعالمثالثية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫يتدخل‬ ‫األساسي للتحليل النفسي‪.‬‬
‫ً‬
‫الحظ ما يحصل في حلب‪ .‬في سوريا عموما‪ ،‬هي حرب‬
‫مفتوحة على ّ‬
‫كل القوى‪.‬‬ ‫غزو الالجئين للدول االستعمارية‬
‫الجديد‪ :‬أثرت جدالً‪ ،‬هذا العام‪،‬‬
‫ً‬
‫خصوما جددا لك‪ ،‬حين‬ ‫الجديد‪ :‬كسبت‬ ‫بأحاديثك في موضوع الالجئين في‬
‫طرحت مفهوم «عسكرة الالجئين»‪،‬‬ ‫الرأسمالية توزع‬
‫السلطة ّ‬
‫ّ‬ ‫أوروبا‪ ..‬أال تعتبر أن هذا اللجوء ليس‬
‫وهو مصطلح أثار جدال وما يزال‪ ،‬تحوّ ل‬ ‫ّ‬
‫«متأخرة» من نتائج‬ ‫سوى نتيجة‬
‫الخدمات واألدوار على‬
‫إلى سوء فهم‪ .‬ماذا كنت تقصد من هذا‬ ‫االستعمار األوروبي‪ ،‬في العالم الثالث‬
‫المفهوم تحديدا؟‬ ‫النساء لتحقق مكاسب لها‬ ‫ً‬
‫تحديدا؟ يبدو‬ ‫ً‬
‫عموما‪ ،‬والدّ ول العربية‬
‫من ورائهن‬ ‫أن المستعمرين القدامى تبرؤوا من‬
‫جيجك‪ :‬لم أقصد من مفهوم «عسكرة‬ ‫واجبهم أمام الوافدين من المستعمرات‬
‫الالجئين» أن نستخدم العسكر لحماية‬ ‫القديمة‪..‬‬
‫أدعو إلى تدخل العسكر‬
‫حدود أوروبا‪ ،‬كما فهم البعض‪ .‬طريقة‬
‫التّ عامل مع ملف الالجئين كانت كارثة‪.‬‬ ‫لتنظيم حركة الالجئين‬ ‫جيجك‪ :‬صحيح‪ .‬أ ّتفق مع قولك‪.‬‬
‫الشاشات تتناقل صورا ولقطات‬ ‫كانت ّ‬ ‫هي أيضا ظاهرة ناتجة عن تحوّ ل ما‬
‫لمئات اآلالف من األشخاص وهم‬ ‫ً‬
‫طبعا‪ ،‬ال يوجد اآلن استعمار‬ ‫حصل‪.‬‬
‫يعبرون حدود دول أوروبية‪ ،‬بطريقة‬ ‫مباشر‪ ،‬بل هناك استعمار اقتصادي‬
‫فوضوية‪ .‬وهو ما استغله اليمين لكسب‬ ‫أرعن وطائش‪ ،‬في العالم ّ‬
‫الثالث‪.‬‬
‫نقاط إضافية له في العمليات االنتخابية‪.‬‬ ‫النّموذج األمثل عن كالمي هو دولة‬

‫‪37‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪36‬‬


‫حوار‬

‫أغلفة كتب للفيلسوف سالفوي جيجك‬

‫الجديد‪ :‬الالجئ المُ سلم حين يصل إلى أوروبا‪ ،‬بعد رحلة ّ‬
‫شاقة‪،‬‬ ‫تدخل العسكر لتنظيم حركة الالجئين‪،‬‬ ‫من جهتي‪ ،‬كنت أدعو إلى ّ‬
‫أحيانا‪ ،‬سيجد نفسه عرضة للكليشيهات‪ ،‬والقوالب‬ ‫ً‬ ‫ومميتة‬ ‫ووضع سبل من شأنها أن تسهّ ل عملية تنقلهم‪.‬‬
‫للسخرية وللنّكت‪ ،‬كما لو أنه نسخة مُ طابقة للمهاجر‬
‫الجاهزة‪ّ ،‬‬ ‫أنا أرفض الممارسات التي ُتفرض على الالجئين‪ ،‬المحاورات‬
‫اليهودي في أوروبا بداية القرن العشرين‪.‬‬ ‫حجة مُ حاولة فهم مدى‬ ‫التي يخضعون لها ‪-‬باستمرار‪ -‬تحت ّ‬
‫للثقافة األوروبية وللدّ ين المسيحي‪ ..‬إلخ‪ .‬هذه‬ ‫مالءمتهم ّ‬
‫جيجك‪ :‬هذا صحيح إلى حدّ بعيد‪ .‬مع أن اليهودي كان ينظر‬ ‫الطريقة الكارثية التي تعاملوا فيها مع‬ ‫ممارسات ال تعجبني‪ّ .‬‬
‫ً‬
‫شخصيا‪ ،‬ال أحبذ هذا المنطق التّ عاطفي‬ ‫كعدو داخلي‪.‬‬‫ّ‬ ‫إليه‬ ‫الالجئين ساهمت في إنعاش العنصرية المضادّ ة لالجئين وكره‬
‫ّ‬
‫السلبي مع الالجئين‪ ،‬وال أتفق مع من يُ نادون لضرورة فهمهم‬ ‫ّ‬ ‫األجانب‪ .‬كان يمكن تجنّب األمر بتنظيم العملية‪ ،‬بشكل أكثر‬
‫السلبية‪ .‬هذا استفزاز ليبرالي ال‬
‫ودمجهم‪ ،‬وغيرها من المرادفات ّ‬ ‫المرات التّ قسيمات التي ُفرضت‬‫عقالنية‪ .‬الحظت في كثير من ّ‬
‫إلي‪ ،‬التّ سامح األصلي بين ّ‬
‫الثقافات هو أن نتق ّبل‬ ‫أكثر‪ .‬بالنّسبة ّ‬ ‫على الالجئين أمام إدارات أوروبية‪ :‬هذا سوري يحمل شهادة‬
‫ّ‬
‫اآلخر دون أن نح ّبه بالضرورة‪ .‬أن نتق ّبل العيش معه‪ .‬إذا وافقنا‬ ‫جامعية‪ ،‬إذن له قابلية لالندماج‪ ،‬هذا من أفغانستان إذن يجب‬
‫منطقهم هذا يعني أننا إذا لم نفهم الالجئين يعني سنطردهم!‬ ‫السنة الماضية في كولونيا‬ ‫عزله عن البقية‪ ..‬مع ما حصل‪ ،‬مطلع ّ‬
‫مهما أن نفهمهم‪ ،‬بل يهمنا أن نتعايش معهم وفقط‪.‬‬ ‫ً‬ ‫كال‪ .‬ليس‬ ‫بألمانيا‪ ،‬كان من األفضل دعوة البعض من الالجئين للتّ لفزيون‬
‫فضاء مشتركا‪ ،‬يمكن أن نضع‬ ‫ً‬ ‫التّ عدّ د الثقافي يعني أن نفرض‬ ‫مثال للحديث إليهم ومنحهم فرصة لعرض وجهات نظرهم‪.‬‬
‫الشروط ال أكثر‪ ،‬ال يجب أن ننسى أن في‬ ‫فيها الحدّ األدنى من ّ‬ ‫المشاكل الحقيقية يجب مواجهتها‪ ،‬بشجاعة وواقعية‪.‬‬
‫أوروبا نفسها هنالك أوساط تتعامل بأصولية أكثر مع حرية‬ ‫ّ‬
‫هناك من يعتقد أن الالجئين في أوربا أناس غير متحضرين‪.‬‬
‫ال‪ .‬ما أالحظه أن هناك معاملة مُ هينة لالجئين تفتح‬ ‫المرأة مث ً‬ ‫يخص الالجئين العرب وحدهم‪ ،‬لقد شاهدت‬ ‫ّ‬ ‫هذا األمر ليس‬
‫المجال للعنصريين وللمعارضين لالجئين‪.‬‬ ‫ّ‬
‫بنفسي حاالت شاذة من مهاجرين مكسيكيين في كندا‪ ،‬شاهدت‬
‫عنفهم الذي ال يتصوّ ره عقل ضد النّساء‪ .‬برأيي‪ ،‬أوروبا بإمكانها‬
‫أجرى الحوار في سلوفينيا‪ :‬سعيد خطيبي‬ ‫استقبال عدد أكبر من الالجئين العرب‪ ،‬دون مشاكل‪ ،‬لو فكرت‬
‫فقط في تنظيم العملية‪ ،‬بشكل مختلف‪.‬‬

‫‪39‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪38‬‬


‫شعر‬

‫قصيدة تونس‬
‫مريم حيدري‬

‫كائنات بيتك ناقصة‬ ‫ِ‬ ‫تترك‬ ‫‏‪I‬‬


‫نصوص أزق ٍة باردة‪ ،‬دون صوت‬
‫ِ‬ ‫وتسقط بين‬ ‫كنت ورا َء َ‬
‫بابك‬ ‫ُ‬
‫جسدك الكلم ُة السمراء‪ ،‬يتألم‬ ‫َ‬ ‫ال أطرق‬
‫ألمس ُه‬ ‫وال أترك‪..‬‬
‫أضعه فوق سري ٍر صغير‬ ‫أدخل صمتك‪،‬‬
‫ِ‬
‫أرض ُعه سفرا ً آخ َر‬ ‫نقصان ََك وقتا ّ‬
‫للحب وللحزن‬
‫وأعود‪.‬‬ ‫ِ‬
‫أصوات ش ّباك أزرق‪،‬‬ ‫الهارب إلى‬
‫َ‬ ‫شرو َدك‬
‫حديدي في المقهى‬
‫ّ‬ ‫الهاب َط على ٍّ‬
‫كرسي‬
‫‏‪III‬‬ ‫ِ‬
‫السبت‬ ‫ِ‬
‫ساعات‬ ‫في‬
‫في ِ‬
‫تونس األربعاء‬ ‫ألتقط شظايا المعة من هذا‬
‫في ساع ِة الظهيرة الدافئة‬ ‫أنثرها نحو حياتي الذاهب ِة في سيار ٍة سودا َء على ُس ِ‬
‫كك‬
‫ٍ‬
‫رصيف في شارع‬ ‫كنت حيا َة شاش ٍة صغير ٍة فوق طاول ٍة على‬ ‫َ‬ ‫الوهم والزيتون‪.‬‬
‫ِ‬
‫“الحرية”‬ ‫أي وقت‬‫وكنت أكث َر من ّ‬ ‫كنت هناك ُ‬ ‫َ‬
‫شمسها وغيابي هناك‬ ‫كنت َ‬ ‫َ‬ ‫تونس النها ِر المشمس‬ ‫في ِ‬
‫ريح الطريقِ‬
‫وكنت أرتقي َ‬ ‫ُ‬
‫أحال َم األرض‬ ‫‏‪II‬‬
‫الروائح‬
‫َ‬ ‫أي وقت‬ ‫كنت وراء َ‬
‫بابك أكثر من ّ‬ ‫ُ‬
‫واأللوان‬ ‫كنا في تونس‬
‫وأبلغ َُك أكثر‪.‬‬ ‫تونس دوننا‬
‫وكانت ُ‬
‫محمد الوهيبي‬

‫نهايات أبريل ‪ 2016‬تونس‬ ‫تص ُّف الكلمات‬


‫كنت ُ‬‫خلف البحرِ‪َ ،‬‬
‫‪ ‬‬ ‫كي تكون حيا ًة أخرى‬
‫شاعرة ومترجمة من إيران‬
‫وموتاً آخر‬
‫ثم تنهض إلهاً متعبا محتاجا إلى القهو ِة والنبيذ‬

‫‪41‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪40‬‬


‫د‬
‫عوة‬

‫الذاتية‪ ،‬ويتحدد بموجبها المثقف ككاتب أو شاعر أو‪ ..‬إلخ‪،‬‬


‫ما يعني خروج الثقافة من منظورها االجتماعي وتخليها عن‬
‫الثقافي يتحدد بعالمته النقدية‬

‫أصوات‬
‫تدعو الكتاب والمفكرين العرب‬ ‫دورها المفترض في النسيج المجتمعي‪ ،‬وقد تم التوليف على‬
‫إلى المشاركة في محاورها وملفاتها القادمة‬ ‫عجل في بدايات الثورة الفلسطينية بين السياسة والثقافة‬ ‫محمود السرساوي‬
‫التي تحيل إلى رؤية حضور الثقافة في حضور مرآة القيادة‬
‫السياسية التي ترعاها أو تنبذها حسب القدرة على استمالتها‬
‫أو مقاومتها لالحتواء لكنها عموما نجحت في تدجين أغلب‬
‫كيف نكتب لألطفال؟‬ ‫المثقفين الذين أمسوا مجرد موظفين إعالميين لدى هذا‬
‫ملف حول الكتابة العربية للطفل‬ ‫الطرف أو ذاك فوزعت األلقاب على المبدعين وأمست الكثير‬
‫تفصل نفسها على مقاس الخطاب السياسي وغدا‬ ‫من النصوص ّ‬
‫المثقف التنظيمي ماركة مسجلة‪ ،‬واختلط الحابل بالنابل في‬
‫العربي‬
‫ً‬ ‫تيارات التفكير‬ ‫تقييم وتقويم اإلبداع‪ ،‬فحمل اإلعالم بعض األسماء وغيب‬
‫ظهورا ومدا وجزرا‬ ‫بعضها اآلخر‪ ،‬ولم تستطع النوايا الحسنة هنا وهناك لدى هذا‬
‫الفصيل أو ذاك من انتشال الحالة والمساهمة في إنجاز مشروع‬
‫حال الكتاب العربي‬ ‫ثقافي فلسطيني‪.‬‬
‫وقد أعيتنا كثرة الخطابات الفاقعة عن الجبهة الثقافية والقلعة‬
‫كيف تنشر الكتب‬
‫األخيرة وسدنة المبادئ دون أن تتحول هذه اإلنشائيات إلى‬
‫في العالقة بين الكاتب والناشر والقارئ‬ ‫برامج عمل أو تأخذ على األقل بيد المبدعين وتحفظ لهم‬ ‫افتقادها يفتقد مبرر وجوده‪ .‬وهذه العالمة تقودنا إلى أهمية‬ ‫أضحت مقولة المثقف شلوا من زمن مضى بعد أن‬
‫ربما‬
‫الحد األدنى من العيش الكريم‪ .‬وبالعموم اتحاد كتاب الداخل‬ ‫وجود الحامل المؤسساتي المستقل مدعوما بالمشروع‬ ‫بددت معالمها المتغيرات التي عصفت بالمنطقة‪،‬‬
‫االستبداد الشرقي‬ ‫الفلسطيني مثال للداخل وحفالت التكريم لمثقفين من خارج‬ ‫التنويري وكالهما مرتبط باألفق الوطني وانفتاحه على تالوين‬ ‫وأطاحت بفعاليتها حالة التراجع واالنكفاء لألحزاب والتيارات‬
‫دور الحاكم المستبد‬ ‫األرض المحتلة على سبيل المثال وليس الحصر هي مبادرات‬ ‫النسيج االجتماعي وأطره الفاعلة داخل فلسطين وخارجها في‬ ‫التقدمية عموما واليسارية منها على وجه الخصوص‪ ،‬لكن ذلك‬
‫في صناعة االستبداد الديني‬ ‫فردية من شعراء أو كتاب باألصل وليست نهجا جماعيا‪،‬‬ ‫منظور سياسة ثقافية تحدد األولويات وتضع البرامج والخطط‬ ‫ال يعني طمس الداللة والبحث المستمر في الدفاع عن المعنى‬
‫وتقتصر عادة على شخصيات تخطت الستين من العمر وبعضها‬ ‫واالستراتيجيات‪.‬‬ ‫وأسبقية المقولة على سواها من توصيفات تقنية الطابع‬
‫لم يحالفه الحظ إال وهو على فراش الموت‪ ،‬أما اتحاد الخارج‬ ‫صحيح أن الواقع الفلسطيني كان وال زال ال يشير في أغلبه‬ ‫وشكالنية الدور وذاتية االستهداف كاستبدالها بالمفكر مثال‪.‬‬
‫الشعر والتجريب‬ ‫فيعتاش على فتات من يناصره في ظل بنى تدعو لألسى‬ ‫على هذه العالمة وال يدعمها لكن ذلك ال يعني استسالم المثقف‬ ‫وهي دعوة خادعة وتنطوي على انتهازية فاضحة في سلخ‬
‫هل وصل التجريب الشعري العربي‬ ‫واألسف معا‪.‬‬ ‫‪-‬مجازا‪ -‬للسائد وتعزيز اطمئنانه المزور ووعيه المستتب‪ ،‬لقد‬ ‫الثقافة عن نسيجها االجتماعي والسياسي و اقتصار عمل‬
‫إلى حائط مسدود‬ ‫يأتي األسى من افتقادنا للمؤسسات الثقافية الحقيقية الجامعة‬ ‫أوجد الخطاب األحادي شمولي الدعاوي نوعا من المثقفين‬ ‫الوعي المفارق مجازا على اإلنتاج المعرفي الخاص بمالكه دون‬
‫واعتبارها حلقة مركزية متالزمة مع المشروع الوطني‪ ،‬ويجيء‬ ‫الكسبة ‪-‬ضمن منظور التابع والمتبوع إذ األحادية أنتجت‬ ‫التالزم العضوي بين النظر والعمل وسياقات األهداف المراد‬
‫األسف من تكرار واستنساخ األخطاء الكبرى في حقل السياسة‬ ‫أشكاال من «الحول الفكري» إذا صح التعبير‪ -‬تلغي من تشاء‬ ‫تحقيقها‪ .‬وتأخذ القضية أبعادا جديدة في صورتها الفلسطينية‬
‫الكتابة واألنوثة‬
‫قبل الثقافة أيضا‪.‬‬ ‫وتحضر من تشاء أيضا‪ ،‬وهذه اإلقصائية وليدة تربية طويلة‬ ‫في ظل حالة التشرذم واالنقسام واالقتسام التنظيمي التي‬
‫هل تكتب النساء العربيات بلغة الرجل‬
‫صحيح أننا نعتز بأسماء بارزة في حقل إبداعنا الفلسطيني‪ ،‬لكن‬ ‫من الخندقة السياسية واالحتراب التنظيمي ال تسمح بتعددية‬ ‫تسم المشهد الراهن ‪ ،‬ويغدو الحديث عن الثقافي أكثر صعوبة‬
‫أم أن اللغة بال جنس‬
‫ذلك ال يعني وجود مشروع ثقافي ناظم في الحالة الفلسطينية‬ ‫في الثقافة تقارب التعددية في الحقل السياسي ‪-‬إن وجدت‪-‬‬ ‫من ذي قبل أمام محاوالت إعادة النقاش عموما إلى عتبة‬
‫التي ال تنفصل بالتأكيد عن الحالة العربية‪ ،‬وإذا كنا نتحدث عن‬ ‫ما يمكننا هنا من الحديث عن بنية ال تختزل بقصرها الحقيقة‬ ‫الطائفة والعشيرة واألهل‪ ،‬فكيف ونحن ال زلنا في مرحلة‬
‫توصيفات عامة فذلك ال يعني عدم تسمية األشياء بمسمياتها‬ ‫على مالكها األمير أو األمين أو الزعيم أو السيد الذي يختصر‬ ‫المشروع الوطني التحرري ونتحرك في حقول مابعد مفاعيل‬
‫الصحافة الثقافية العربية‬ ‫الحقيقية إنما االختزال والتكثيف للتوصيف هنا مقصده إفساح‬ ‫الوطن والشعب في وجوده‪ ،‬بل بتبديد إنجازاتها أيضا في‬ ‫أوسلو ونتائجه‪ ..‬إنما في الحاالت جميعا ال يلغي ذلك أن السياق‬
‫أحوالها‪ ،‬توجهاتها‪ ،‬عالقتها بالكتاب والقراء‬ ‫المجال أمام حوار ال يتغنى بالثقافة كخندق أخير بعد أن يخسر‬ ‫حقل السياسة قبل الثقافة‪ ،‬التي تبدو تحصيل حاصل أو مجرد‬ ‫النظري للثقافي في عالقته مع السياسي تفترض تكامال في‬
‫كل حلقاته األخرى‪ ،‬كما فعلنا ونفعل عادة‪ ،‬ولكن حوار حقيقي‬ ‫هوامش على دفتر اليومي السياسي‪.‬‬ ‫الدور والقيمة والمعنى‪ ،‬يأخذ فيه المثقف مكان المرشد‬
‫خالق يعيد قراءة التحديدات من جديد في ظل حالة خاصة‬ ‫لقد تمت عملية إفساد طويلة للحالة الثقافية بدءا من ربطها‬ ‫للخطاب السياسي وليس تابعا أو هامشا من هوامشه‪ ،‬يقتصر‬
‫وشديدة الحساسية تعيشها المنطقة العربية عموما وقضيتنا‬ ‫بمشاحنات وتفاصيل اليومي السياسي ومغانمه وامتيازاته‬ ‫عمله على تسويق الخطاب السياسي وإيجاد المسوغات‬
‫الوطنية منها خصوصا‪.‬‬ ‫وليس انتهاء باختزالها ضمن المقروء والمكتوب وتحويلها‬ ‫لممارسته العملية وتجميل قباحة أخطائها ‪-‬إن وجدت‪ ،-‬ويعني‬
‫كاتب من فلسطين مقيم في بيروت‬ ‫إلى مجرد حالة شكالنية لمجموعة تتبادل فيما بينها نتاجاتها‬ ‫ذلك أن تحديد حضور الثقافي يتم بعالمته النقدية التي في‬

‫فكر حر وإبداع جديد‬


‫‪43‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪42‬‬
‫ملف‬

‫ذكورة وأنوثة‬
‫جدل الكتابة والمرأة‬
‫والمجتمع والتغيير‬
‫تسلط مقاالت هذا الملف الضوء على جملة من القضايا المتصلة بالمرأة والكتابة واألنوثة‬
‫والمجتمع‪ .‬وبالتجليات األبرز التي ع ّبرت من خالل األدب الذي كتبته نساء من العالم العربي‪،‬‬
‫عن حلم المرأة في التحرر من قيود المجتمع‪ ،‬واالنفكاك من األسر الطويل لألنوثة في صيغ‬
‫المجتمع‪ ،‬ومغادرة الهامش الذي أسر صورتها وحدد إطار حركتها‪ ،‬ورسم لها األدوار‪ ،‬وأنتج‬
‫ً‬
‫وسياسيا (من البنى‬ ‫القيم المتصلة بها في مجتمع شرقي مضطهد جغرافيا (من الغرب)‬
‫الحاكمة)‪ ،‬ويتميز أفرادا وجماعات بذكورية مفرطة ويدين لقيمها بصورة شبه مطلقة‪.‬‬

‫ً‬
‫فكريا‪ ،‬وتصلح‪ ،‬على اختالف‬ ‫تنطلق مقاالت هذا الملف من موضوعات تشكل مجتمعة نسيجا‬
‫مستويات التناول وزوايا النظر‪ ،‬مادة للنقاش حول تجليات األنوثة وقضاياها وصورها في‬
‫األدب الذي تكتبه المرأة اليوم‪ ،‬وكذلك في النصوص الفكرية التي أنتجتها المرأة في إطار‬
‫معركتها التحررية‪ ،‬ال سيما منذ النصف الثاني من القرن العشرين وإلى اليوم‪ .‬وتذهب بعض‬
‫الموضوعات إلى المقارنة بين النصوص الفكرية التي أنتجها مفكرون ناصروا النساء في‬
‫معاركهن التحررية في النصف األول من القرن العشرين كقاسم أمين وذلك في سياق ما عرف‬
‫بحركة اإلصالح والتنوير‪ ،‬وبين نصوص فكرية أنتجها مفكرون تقدميون معاصرون لنا اليوم‪.‬‬

‫“الجديد” تعتبر هذا الملف مناسبة مفتوحة‪ ،‬ودعوة موجهة لألقالم العربية نساء ورجاال‬
‫الستئناف النقاش في صلب القضايا التي تشغل الفكر العربي وتتصل بواقع المرأة العربية‬
‫وبمكانة األنثى واألنوثة في الثقافة واالجتماع على حد سواء‪ ،‬في زمن عربي عاصف‬
‫تتضاعف فيه الحاجة إلى جدل متعمق من حول القضايا الكبرى وفي المقدم منها قضايا‬
‫المرأة في الثقافة واالجتماع‬

‫قلم التحرير‬

‫محمد الوهيبي‬

‫‪45‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪44‬‬


‫ذكورة وأنوثة جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير‬
‫ملف‬

‫ذكورة وأنوثة‬

‫محمد الوهيبي‬
‫أصوليتين‬
‫ّ‬ ‫مفهوم التحرر النسوي على محك‬

‫خلدون الشمعة‬

‫في الكالم السائد على مفهوم التحرر النسوي في المجتمع العربي التباسات‬

‫جربان هداية‬
‫أود بادئ ذي بدء أن أوجزها في أربعة‪:‬‬
‫األول‪ ،‬هو أن مفهوم التحرر النسوي بعد مرور أكثر من قرن على دعوة قاسم‬
‫أمين‪ ،‬مازال معياريا وليس وصفيا‪ .‬والمفهوم المعياري كما نعلم يتصل بالقيم‬
‫التي يع ّبر عنها بأفعال يجب وينبغي ويتعين‪ .‬فهي ال تبحث بوصفها مسألة‬
‫اجتماعية بحتة‪ ،‬وإنما هي قيم ذات محمول ديني وعاطفي‪ .‬وبعبارة أخرى‬
‫فإنها سرعان ما تحيلنا‪ ،‬شئنا أم أبينا‪ ،‬إلى أصوليات مرجعية نصية الهوتية‬
‫ويقينية‪.‬‬
‫وبهذا المعنى فإنها تتسم بقداسة وممانعة‪ ،‬وتشير إلى حقائق ناجزة ومقطوع‬
‫بصحتها‪.‬‬

‫هل يمكن التحديث دون تغريب؟‬ ‫الثالث‪ ،‬هو أن تكوين مفهوم عقالني‬ ‫مشروع التحرر النسوي السائد‪،‬‬
‫إن‬
‫هذا السؤال ظل مطروحا في جوهره منذ‬ ‫للتحرر النسوي‪ ،‬مازال على الرغم من‬ ‫بسبب من محموله القداسي في‬
‫األفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين حتى‬ ‫مرور عقود على تجربة قاسم أمين‪ ،‬غائبا‬ ‫األصولية الدينية‪ ،‬والعاطفي في األصولية‬
‫اآلن‪.‬‬ ‫أو شبه غائب عن ميدان العلوم اإلنسانية‬ ‫األيديولوجية‪ ،‬غالبا ما ينظر إليه بعيدا عن‬
‫ثم ما طبيعة المرحلة التي وصل إليها‬ ‫العربية‪ .‬بل إن ربع القرن األخير شهد بروز‬ ‫المفاهيم الوصفية التي تحسن التمييز بين‬
‫مشروع التحرر النسوي؟ لعل من أبرز‬ ‫المرجعية النصية الدينية‪ ،‬بحدودها المرنة‬ ‫«الحقائق» و»القيم»‪ .‬بل إن الخطاب‬
‫مالمح هذه المرحلة‪ ،‬انحسار الدور الذي‬ ‫والمتشددة‪ ،‬باعتبارها مرجعية مشتركة في‬ ‫األصولي بشقيه الديني والقومي أو‬
‫سبق أن لعبته العلمانية بصيغها القصوى‪ .‬بل‬ ‫الخطاب األصولي السائد حول المرأة‪ ،‬دينيا‬ ‫الماركسي‪ ،‬يخلق بذلك حالة من التماهي‬
‫إن مصطلح «المجتمع المدني» الذي تمليه‬ ‫كان أم قوميا أم ماركسيا‪.‬‬ ‫بين الحقائق التي يفترض أنها قابلة للنقض‬
‫الواحدية النصية‪.‬‬ ‫من جميع أشكال السيطرة التي تمارسها‬ ‫«من الضروري أن نفهم أن أهم نضال‬ ‫ّ‬
‫محل‬ ‫ضرورات العولمة هو الذي ّ‬
‫حل اآلن‬ ‫‪-2-‬‬ ‫أو التفكيك أو البرهان وبين القيم العاطفية‬
‫وعلى الرغم من أن نوال السعداوي تصف‬ ‫المصالح الرأسمالية»‪.)2( ‬‬ ‫تواجهه النساء في البلدان العربية‬ ‫العلمانية على إيقاع ارتفاع وتيرة الخطاب‬ ‫في هذه االلتباسات الثالثة يكمن التحول‬ ‫النصية‬
‫ّ‬ ‫التي ال تحيل إال إلى مرجعيتها‬
‫في الفصل األول من الكتاب نفسه التعذيب‬ ‫داللة هذا الكالم هي تأجيل القيام بمشروع‬ ‫اإلسالمية ال يتعلق بالفكر الحر الذي يقف‬ ‫األصولي‪ .‬وخير ما يعبر عن هذا التحول‬ ‫الخطير الذي طرأ على مفهوم التحرر النسوي‬ ‫أي جدل أو‬
‫وبالتالي فإنها تظل ممتنعة على ّ‬
‫الجسدي والنفسي الذي عانت منه عندما‬ ‫التحرر النسوي حتى إشعار آخر‪ ..‬وربطه‬ ‫في مواجهة اإليمان الديني‪ ،‬أو بالحقوق‬ ‫الذي أصبح فيه الخطاب النسوي يستمد‬ ‫في المجتمع العربي‪ ،‬وهو تحول اعتُ بر ضربا‬ ‫جدال‪.‬‬
‫أجريت لها عملية ختان وهي في سن‬ ‫تحديدا بإنجاز مشروع كبير غير قابل‬ ‫النسوية كما تفهم في الغرب أحيانا في‬ ‫النصية‬
‫ّ‬ ‫مرجعيته من نصية قد ال ّ‬
‫تمت إلى‬ ‫ّ‬ ‫من «النوستالجيا الجماعية»‪ )1( ‬نحو إعادة‬ ‫وتكمن خطورة هذا الخطاب في كونه‬
‫السادسة‪ ،‬وما تبع ذلك من عواقب الزمتها‬ ‫لإلنجاز إال بعد مرور عقود وعقود‪ ،‬وتعني‬ ‫مواجهة الشوفينية الذكورية‪ .‬بل إن هذا‬ ‫الدينية بصلة مباشرة إال أنها تحاول إيجاد‬
‫ّ‬ ‫صياغة العالم وفق وحدات أبسط وأقل‬ ‫أحاديا ينكر التعددية‪ .‬فهو خطاب تحريك‬
‫طيلة حياتها الجنسية فإنها تعلن في مقدمة‬ ‫الكتابة عنه حلم التخلص من سيطرة‬ ‫النضال ال يستهدف التصدّ ي لبعض المظاهر‬ ‫المبررات لهيمنة الخطاب األصولي الديني‪،‬‬ ‫تعقيدا‪.‬‬ ‫وتبشير بقدر ما هو خطاب سلطة الهوتية‬
‫الطبعة اإلنكليزية أن النساء في أميركا‬ ‫الرأسمالية‪.‬‬ ‫السطحية لخصائص التحديث في العالم‬ ‫المقدمة التي كتبتها باحثة جادة هي‬ ‫ما أسباب هذا التحول؟ وهل يمكن إنجاز‬ ‫مسبق الصنع‪ .‬بل إنه سرعان ما يتحول إلى‬
‫وأوروبا يسارعن إلى إثارة الضجيج دفاعا‬ ‫ولهذا السبب بالذات فإنها تتجنب االعتراف‬ ‫والغني‪ ..‬إن النضال الذي يُ خاض هو‬
‫ّ‬ ‫النامي‬ ‫الدكتورة نوال السعداوي للطبعة اإلنكليزية‬ ‫مشروع التحديث بدون البضاعة الفكرية‬ ‫سالح سياسي يستخدم لفرض أخطر أنواع‬
‫عن ضحية الختان‪ ،‬وأنهن يكتبن المقاالت‬ ‫بوجود مجابهة بين الدين الذي يرفض مبدأ‬ ‫في جوهره‪ ،‬محاولة لضمان قيام الشعب‬ ‫من كتابها‪ »The Hidden Face of Eve« :‬فهي‬ ‫الغربية التي الزمته والتي تنتمي إلى ما بعد‬ ‫الرقابة وأشدها توقا إلى ممارسة قمع الرأي‬
‫الطوال ويلقين الخطب في المؤتمرات‪.‬‬ ‫التعددية وبين الفكر المتحرر من قيود‬ ‫العربي بالتخلص مرة واحدة وإلى األبد‬ ‫تقول فيها بالحرف‪:‬‬ ‫عصر األنوار؟‬ ‫اآلخر‪.‬‬

‫‪47‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪46‬‬


‫ذكورة وأنوثة جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير‬
‫ملف‬

‫عليه الخطاب األصولي والمرجعية النصية‬ ‫ومتبوع‪.‬‬ ‫االختالف بين الذكورة واألنوثة يسير‬ ‫تعتبر من قبل شعوب الهامش بمثابة آلية‬ ‫البلدان المستعمرة على أساس نظرية‬ ‫تقول «من الطبيعي إدانة ختان البنات‪ ..‬أنا‬
‫تجاه المرأة‪ ،‬مازال يصر على الفصل بين‬ ‫في ضوء ما تقدّ م يمكن أن نطرح السؤال‬ ‫إلى وجود جوهر بيولوجي وسيكولوجي‬ ‫«ميكانيزم» عالمية تكفل تحقق التطور‬ ‫المثاقفة‪.)5( ‬‬ ‫ضد الختان والممارسات الرجعية القاسية‬
‫المبادئ العقلية وبين الحداثة‪ .‬فهو ينظر‬ ‫التالي‪ :‬ما خصائص الخطاب األصولي تجاه‬ ‫مختلف للمرأة وبالتالي فإن ذاتيتها تقف‬ ‫االجتماعي واالقتصادي‪ ،‬غير أن القومية‬ ‫يرى بهرنت أن البلدان النامية تمر بفترة‬ ‫األخرى‪ ،‬ولكنني أختلف مع النساء في‬
‫إلى هذه الحداثة المؤسسة على العقالنية‬ ‫المرأة العربية اآلن؟‬ ‫التغير التاريخي أو‬
‫ّ‬ ‫خارج احتماالت‬ ‫التي يفرزها هذا الضرب من الدولة ال تنفع‬ ‫تحول ديناميكي ثقافي تتسم بعدم‬ ‫أميركا وأوروبا اللواتي يركزن على قضايا‬
‫بوصفها سلعة ناجزة‪ ،‬يكتفي باستهالكها‪.‬‬ ‫من المعروف أن النص‪ ،‬والحدث التاريخي‪،‬‬ ‫االجتماعي‪ ،‬أو تصبح بعبارة أخرى مسألة‬ ‫إال باعتبارها «وسيلة جاهزة دائما لصرف‬ ‫االستمرار‪ ،‬وتعتمد على عمليات مثاقفة‬ ‫كختان الفتيات ويعتبرنها دليال على القمع‬
‫فحداثته إذن حداثة سلعة مبتورة عن‬ ‫والمؤسسة‪ ،‬كل ذلك يعتبر ضربا من ضروب‬ ‫غير قابلة للحل‪.‬‬ ‫انتباه الجماهير عن مشكالت حكوماتها غير‬ ‫يمكن التمييز فيها بين نموذجين‪:‬‬ ‫الهمجي الذي تتعرض له المرأة في البالد‬
‫مرجعيتها العقالنية‪ ،‬حداثة النتيجة وحدها‬
‫ّ‬ ‫الخطاب‪ .‬وبعبارة أخرى فإن المرجعية‬ ‫وفضال عن ذلك فإن هذه «الجوهرانية»‬ ‫المحلولة وإخفاقاتها ونكساتها»‪.‬‬ ‫األول يدعوه بـ»مثاقفة المحاكاة السلبية»‪،‬‬ ‫األفريقية والعربية فقط»‪.)3( ‬‬
‫وليس السبب والنتيجة معا‪ ،‬فكأنها معجزة‬ ‫النصية التي صاغت الخطاب األصولي‬
‫ّ‬ ‫تمضي في حاالتها القصوى إلى أبعد من‬ ‫وأخيرا فإن هذه القومية «كثيرا ما تميل إلى‬ ‫والثاني يدعوه بـ»المثاقفة التوفيقية‬ ‫هذا الخطاب االعتذاري الذي يبرر تجاهل‬
‫ليس غير‪.‬‬ ‫صارت في هذا الطور النكوصي من تجربة‬ ‫مفهوم االختالف بين المرأة والرجل‬ ‫تمجيد العادات والتقاليد المحلية بطريقة‬ ‫اإليجابية»‪.‬‬ ‫ظاهرة ختان المرأة واعتبار حلها جزءا‬
‫يحسن هنا أن نستعرض بعض المحدّ دات‬ ‫التحرر النسوي العربي تؤكد على عالقة‬ ‫وتعتبره ضربا من المغايرة (‪)Otherness‬‬ ‫شوفينية»‪.‬‬ ‫وهو يرى أن القومية في العالم الثالث هي‬ ‫من عملية التحرر النسوي ينطوي على‬
‫التي تتعلق بمفهوم التحرر النسوي في‬ ‫التزامن بين التمثيل وبين الواقع‪ ،‬بين النص‬ ‫الكامنة في طبيعتهما الجوهرية التي تجعل‬ ‫هذا التمجيد األعمى للعادات والتقاليد‬ ‫تكيف قائمة على المحاكاة‬
‫حصيلة عملية ّ‬ ‫تفسير واحد مفاده أن تجنب نشر الغسيل‬
‫ضوء عالقته بالخطاب األصولي السائد‪،‬‬ ‫وبين آثاره المتمثلة في السلطة والتبعية‬ ‫المرأة هي اآلخر أو الغير بالنسبة إلى الرجل‪،‬‬ ‫المحلية بال تمييز هو بمثابة رد فعل يسعى‬ ‫يقوم بها من يدعوهم بـ»شعوب الهامش»‬ ‫الوسخ أمام أعين األجانب يبرر الدفاع عن‬
‫والتي أوجزها فيما يلي‪:‬‬ ‫والجنوسة‪.‬‬ ‫والرجل هو اآلخر أو الغير بالنسبة إلى‬ ‫إلى إيجاد عالقة تواصلية مع األمر الواقع‬ ‫مقابل «شعوب المركز» األوروبية‪.‬‬ ‫ممارسات قبيحة فضال عن االعتراض على‬
‫أوال‪ :‬بدأ التحرر النسوي مع عصر النهضة‬ ‫المرأة‪ ،‬ولهذا فعدم المساواة بين الجنسين ال‬ ‫بمساوئه وحسناته‪ ،‬والمحافظة عليه بدال‬ ‫استخدام وصف المجتمع الهمجي‪.‬‬
‫بداية مطلبية ذات مضمون اجتماعي‪،‬‬ ‫يكون حصيلة لعملية تكييف اجتماعي فقط‬ ‫من تغييره‪ .‬كما أن هذا اإلفراط في التمجيد‬ ‫وفي مكان آخر من مقدمة الكتاب تقول‬
‫واعتبر أن االختالف الجنسي البيولوجي هو‬ ‫يتأسس كذلك على مفهوم «القوامة»‬
‫ّ‬ ‫بل‬ ‫يقترن عادة بمحاولة استعادة الماضي‬ ‫«الثورة في إيران هي في جوهرها سياسية‬
‫الذي يحدد التمايز االجتماعي الجنوسي‪.‬‬ ‫المغايرة التي يمارسها‬ ‫البيولوجية أو ميل الذكر الطبيعي إلى‬ ‫أو إعادة عقارب الساعة إلى الوراء باسم‬ ‫من أبرز مالمح هذه‬ ‫واقتصادية‪ .‬إنها انفجار شعبي يسعى‬
‫ثانيا‪ :‬تطور مفهوم التحرر النسوي في‬ ‫السيطرة على األنثى واستغاللها واعتبار‬ ‫استرداد العصر الذهبي‪ .‬ويقابل ذلك في‬ ‫لتحرير شعب إيران رجاال ونساء‪ ،‬وعدم‬
‫األب أو األم أو‬ ‫المرحلة‪ ،‬انحسار الدور‬
‫خطاب أيديولوجي متزامن مع العلمنة‬ ‫اختالفها مغايرة ثابتة ال زمن لها وال تاريخ‪.‬‬ ‫الخطاب األصولي الديني طرح مسألة‬ ‫إرسال النساء إلى سجن الحجاب والمطبخ‬
‫التي شهدتها الدولة العربية الحديثة بعد‬ ‫اإلمبراطورية هي جزء من‬ ‫ومن جهة أخرى فإن المغايرة بمعنى اختراع‬ ‫استعادة عصر السلف‪.‬‬ ‫الذي سبق أن لعبته‬ ‫وغرفة النوم»‪.‬‬
‫االستقالل‪.‬‬ ‫خطاب السلطة والهيمنة‪.‬‬ ‫الغير (‪ Othering‬حسب مصطلح غياتري‬ ‫لنلق اآلن نظره على هذا التماهي بين‬ ‫العلمانية بصيغها‬ ‫تعلق مراجعة الكتاب على هذا الرأي بقولها‬
‫ثالثا‪ :‬شهد الخطاب األصولي صعودا‬ ‫كما تعتبرها عملية إقصاء‬ ‫سبيفاك) هي بمثابة عملية خلق اآلخر في‬ ‫األصوليتين الدينية والقومية أو الماركسية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫القصوى‪ .‬بل إن مصطلح‬ ‫«إن بوسع المرء على أقل تقدير أن يالحظ‬
‫استثنائيا مع نجاح الثورة اإليرانية‪ .‬وأعقب‬ ‫الخطاب اإلمبريالي‪.‬‬ ‫ونحاول وضع مفهوم التحرر النسوي على‬ ‫أن الحقائق لسوء الحظ تناقض تأويل‬
‫لآلخر تقوم بإنتاج اآلخر‬ ‫«المجتمع المدني» الذي‬
‫هذا الصعود تراجع مستمر في إنجازات‬ ‫ترى سبيفاك أن المغايرة التي يمارسها األب‬ ‫محك خطابهما المشترك وما ينطوي عليه‬
‫ّ‬ ‫سعداوي لإلسالم»‪.)4( ‬‬
‫التحرر النسوي التي أصبحت ترتبط ارتباطا‬ ‫المستعمر على أساس‬ ‫أو األم أو اإلمبراطورية هي جزء من خطاب‬ ‫من إشارات‪.‬‬ ‫تمليه ضرورات العولمة‪،‬‬ ‫ال يعنينا في أمر هذه الطروحات أنها تكشف‬
‫وثيقا بفكرة التحرر السياسي الشامل‪.‬‬ ‫أنه يمثل في الخطاب‬ ‫السلطة والهيمنة‪ .‬كما تعتبرها عملية إقصاء‬ ‫هناك حسب الدراسات النسوية نوعان من‬ ‫ّ‬
‫محل العلمانية على‬ ‫ّ‬
‫حل‬ ‫عن وجهات نظر مختلفة إزاء الثورة في‬
‫النصية الدينية وبروز‬
‫ّ‬ ‫رابعا‪ :‬كان لعودة‬ ‫الكولونيالي رعية خاضعة‬ ‫لآلخر تقوم بإنتاج اآلخر المستعمر على‬ ‫االختالف بين الذكورة واألنوثة‪ :‬االختالف‬ ‫إيقاع ارتفاع وتيرة الخطاب‬ ‫إيران أو إزاء الدين عموما أو جواز أو‬
‫الخطاب األصولي تجاه المرأة أثرهما‬ ‫أساس أنه يمثل في الخطاب الكولونيالي‬ ‫البيولوجي والنفسي يقوم على التمايز بين‬ ‫عدم جواز نشر بضاعتنا التي تكشف عن‬
‫على هيمنة النص على الخطاب األصولي‪:‬‬
‫لصانعها‬ ‫رعية خاضعة لصانعها‪.‬‬ ‫الجنسين (‪ )Sexes‬ويعتبر الجسد فيه أساسا‬
‫األصولي‬ ‫قصور فيما حققته حركة التحرر النسوي‪،‬‬
‫الرسالي األيديولوجي‪ ،‬القومي واالشتراكي‪.‬‬ ‫وهذا النمط من خطاب التبعية الذي يقوم‬ ‫للمفاضلة بين الرجل والمرأة‪.‬‬ ‫وإنما يعنينا داللتها على وجود تحول‬
‫وقد تجلى هذا التأثير على القوى غير‬ ‫على خلق اآلخر وإقصائه يمكن أن نشبهه‬ ‫وأما التمايز الذي تحدده المحددات الثقافية‬
‫ّ‬ ‫خطير يتجلى في ارتفاع عقيرة الخطاب‬
‫الدينية في اتجاهين‪:‬‬ ‫بالخطاب األصولي الديني القائم على فكرة‬ ‫واالجتماعية والسياسية فيقوم على اعتبار‬ ‫االعتذاري الذي لم يعد همه تأجيل الدفع‬
‫أ‪ -‬اتجاه آثر تأجيل طرح مفهوم التحرر‬ ‫وإذا أدركنا أن السمة األساسية للتحرر‬ ‫النص الثابت القومي‪ ،‬أو الماركسي القائم‬ ‫الجنوسة (‪ )Gender) (6‬أساسا‪  ‬لالختالف‬ ‫يسارع مثقفو الهامش إلى امتصاص فكرة‬ ‫بحركة تحرر المرأة فحسب‪ ،‬وإنما تبرير‬
‫النسوي خارج النص الديني‪.‬‬ ‫النسوي في الغرب تكمن في النظام المعرفي‬ ‫على فكرة الرسالة األيديولوجية التي تمثل‬ ‫بين الجنسين‪.‬‬ ‫القومية بما هي غربية المنشأ باعتبار أنهم‬ ‫ربطها بمشاريع التحرر الكبرى التي ال تجد‬
‫ب‪ -‬اتجاه آخر استبدل مرجعيته النصية‬ ‫السائد‪ ،‬وفي درجة تطوره االجتماعي‪ ،‬أي‬ ‫بدورها نصا ثابتا أو شبه ثابت‪ .‬إنه في‬ ‫ويمكن القول إنه بموجب هذا الضرب‬ ‫يعاملونها على أساس أنها وسيلة للتغلب‬ ‫سبيلها إلى التحقيق‪.‬‬
‫القومية واالشتراكية‪ ،‬وأحل محلها مرجعية‬ ‫في شعاره القائل «إن المرأة ال تولد امرأة بل‬ ‫الحالتين خطاب مغايرة مستمرة تسلب‬ ‫من التصنيف أو ذاك‪ ،‬هناك نصية دينية‬ ‫على مركبات النقص التي تسبب بها الحكم‬ ‫والحال أن هذا الخطاب االعتذاري الذي‬
‫النص الديني محاوال التغيير بالتأويل حينا‬ ‫تصبح امرأة»‪( ،‬سيمون دو بوفوار)‪ ،‬وأدركنا‬ ‫المرأة الحق في أن تجعل الحيلولة دون‬ ‫أو عقائدية كمرجعية ثابتة تكمن وراء‬ ‫االستعماري‪ ،‬والتعويض عنها‪ .‬كما أن فقدان‬ ‫يدشن ظهور أصولية قومية أو ماركسية‬
‫وبالتقويل حينا آخر‪.‬‬ ‫أن المجتمع العربي لم ينجح في تغيير‬ ‫اعتبار االختالف االجتماعي والبيولوجي‬ ‫الخطاب األصولي بفرعيه الديني والقومي‬ ‫الهوية نتيجة الهتزاز البنى االجتماعية‬ ‫تتقاطع مع األصولية الدينية حينا لتتماهى‬
‫خامسا‪ :‬لم يعد مفهوم التحرر النسوي‬ ‫بنيته المعرفية التقليدية أو البطريركية‬ ‫بينها وبين الرجل مسألة اختالف وظيفي‬ ‫أو الماركسي‪.‬‬ ‫التقليدية يمكن أن يؤدي أيضا إلى إبراز‬ ‫معها في أحيان أخرى يمكن رصده وتفسيره‬
‫تعدديا بل أصبح شموليا ال يتحرك بنصه‬ ‫(بلغة هشام شرابي)‪ ،‬فإن من البداهة‬ ‫ال تترتب عليه مفاضلة في القيم تستحيل‬ ‫كما أن هذه النصية الثابتة تحيل الباحث‬ ‫القومية باعتبارها قومية بديلة‪ .‬وأما الدولة‬ ‫من خالل مالحظات ريتشارد بهرنت التي‬
‫األيديولوجي إال في داخل النص الديني‬ ‫االستنتاج أن هذا المجتمع الذي يسيطر‬ ‫إلى فعل مغايرة يشير إلى عالقة بين تابع‬ ‫عادة إلى «جوهرانية» تؤكد على أن‬ ‫القومية التي يتوقون إلى تحقيقها فإنها‬ ‫حاول فيها تحليل النزعة القومية في‬

‫‪49‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪48‬‬


‫ملف‬

‫تحت الفتة إثنية أو ثقافية أو تاريخية‪.‬‬ ‫نفسه‪.‬‬


‫ثامنا‪ :‬انضواء الخطاب األصولي الرسالي‪،‬‬ ‫سادسا‪ :‬طرح الخطاب األصولي السائد تجاه‬
‫القومي والماركسي‪ ،‬تحت راية تستمد‬ ‫المرأة رد فعله على الحداثة الغربية‪ ،‬ففصل‬
‫مرجعيتها من نصية دينية ثابتة يُ دخل‬ ‫الحداثة عن المبادئ العقلية التي أسستها‬
‫مفهوم التحرر النسوي في مرحلة يتعذر‬ ‫في الغرب‪ ،‬وقام بتسليعها‪ ،‬أي االكتفاء‬
‫معها تحرير العقل من النص‪ .‬وأنا ال أعمم هذا‬ ‫بالنظر إليها كسلعة أو بضاعة لالستهالك‪.‬‬
‫الحكم القيمي هنا وإنما أرى أن االستثناء لم‬ ‫وهكذا فإن اإلنجازات اإلصالحية لألفغاني‬
‫يعد قادرا على نفي ما أصبح أشبه بالقاعدة‪.‬‬ ‫ومحمد عبده ومحمد إقبال التي حاولت‬
‫ومن هذه االستثناءات شديدة األهمية‬ ‫جاهدة إيجاد طباق بين الفكرين اإلسالمي‬
‫طروحات نوال السعداوي وهي طروحات‬ ‫والغربي‪ ،‬لم تلبث أن تسلمت األصولية‬
‫تختلف اختالفا ّبينا عن المثال الذي سبق أن‬ ‫اإلسالمية الصاعدة مفاتيحها‪ ،‬فاستعادت‬
‫سقته قبل قليل‪ ،‬في كتابها المرأة والجنس‬ ‫بذلك المرحلة النصية التي ال تقبل بهذا‬
‫مثال‪.‬‬ ‫الطباق‪ .‬وأحد األمثلة البارزة على هذه‬
‫وكذلك تندرج في هذا التصنيف طروحات‬ ‫المرحلة تصريح اإلمام الخميني في إحدى‬
‫فاطمة المرنيسي الجريئة والصادرة من‬ ‫مقابالته التي أشار فيها إلى أن اإلسالم‬
‫خارج النظام المعرفي النصي وبخاصة تلك‬ ‫ال يحتاج إلى صفة أو تعريف كعبارة‬
‫التي ظهرت في كتابها «‪.»Beyond the veil‬‬ ‫ديمقراطية مثال‪.‬‬
‫وأخيرا فإنّ أخشى ما أخشاه هو أن تكون‬ ‫ومغزى هذه اإلشارة هو الترويج لمرحلة‬
‫المرحلة التي بلغها مفهوم التحرر النسوي‬ ‫من النقائية (‪ )Purism‬التي تحيل إلى نص‬
‫قد وصلت إلى ما يدعوه مؤرخو الفلسفة‬ ‫ولحظة تاريخية ينظر إليها باعتبارها ساكنة‬
‫بمرحلة «الغلق» ‪ Closure‬أي مرحلة سيطرة‬ ‫ثابتة غير قابلة للحركة وتمحو من ثم ما‬
‫نظرية أو مذهب لديه القدرة على تفسير‬ ‫أعقبها من إنجازات مادية حققها اإلسالم‬
‫الظواهر كلها دون أن يترك زيادة لمستزيد‪.‬‬ ‫الحضاري‪.‬‬
‫النصية‬
‫ّ‬ ‫غير أن هذا «الغلق» يبدو في هذه‬ ‫سابعا‪ :‬المرحلة النقائية في الخطاب‬
‫الدينية وااليديولوجية صادرا عن هيمنة‬ ‫األصولي أسفرت عن جملة من المشاريع‬
‫فكرة الثبات وبالتالي فهو ربما كان يعادل‬ ‫التي وجدت أن اعتبار اإلسالم نظاما‬
‫إلغاء العقالنية نفسها‪.‬‬ ‫شموليا يفتح الطريق أمام «أسلمة المعرفة»‪.‬‬
‫كاتب من سوريا مقيم في لندن‬ ‫فهناك تبعا لذلك أدب إسالمي وعلم اجتماع‬
‫وسياسة‬ ‫إسالمي‬ ‫واقتصاد‬ ‫إسالمي‬
‫الهوامش‪:‬‬ ‫إسالمية‪ .‬وهكذا فالنتيجة الالفتة التي‬
‫‏‪ Collective Nostalgia 1-‬المصطلح لبريان تيرنر‪:‬‬ ‫ُتسفر عنها أسلمة المعرفة هذه هي أسلمة‬
‫‪Orientalism، Postmodernism & Globalism،‬‬ ‫فكرة التحرر النسوي نفسها‪.‬‬
‫‪.Routledge، London 1994. P 84‬‬
‫غير أنه ال يمكن على الصعيد اإلجرائي‪،‬‬
‫‏‪Khamasin، Ithaca، London، May 4- 3- 2-‬‬
‫وأنا أتفق في ذلك مع طروحات برايان‬
‫‪.1980 p. 121‬‬
‫‏‪B. Tibi، Arab Nationalism: A critcal Enquiry، 5-‬‬ ‫تيرنر‪ )7( ‬تطوير شيء اسمه علم اجتماع‪ ‬‬
‫‪.St. Martin’s Press‬‬ ‫إسالمي للسبب نفسه الذي يحول دون‬
‫‪ 6-‬ترجمة المصطلح لكمال أبو ديب‪ :‬الثقافة‬ ‫وجود علم اجتماع مسيحي أو علم اجتماع‬
‫واإلمبريالية تأليف إدوارد سعيد‪ ،‬دار اآلداب‪،‬‬ ‫أي نوع آخر من العلم االجتماعي‬
‫يهودي أو ّ‬
‫بيروت‪ ،‬ص ‪.4 – 2‬‬ ‫المرتبط بفئة عرقية إثنية معينة‪ .‬فهناك‬
‫‏‪Orientalism، Postmodernism & Globalism، 7-‬‬
‫منطق أساسي ونظرية في العلوم‬
‫‪.Routledge، London 1994. P 8‬‬

‫محمد الوهيبي‬
‫االجتماعية يجعلها غير قابلة لالنضواء‬

‫‪51‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪50‬‬


‫ذكورة وأنوثة جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير‬
‫ملف‬

‫رندة حجازي‬
‫‪ ‬األنثوية وسلطة الكتابة‬
‫علي حسن الفواز‬

‫حين تم اكتشاف الكتابة‪ ،‬كانت السلطة قد احتازت أدواتها ووسائطها بيد‬

‫جربان هداية‬
‫دون والمؤرخ والعرّ اف والملك ونصف اإلله‪ ،‬واكتفت‬ ‫الرجل‪ ،‬فكان هو المُ ّ‬
‫المرأة منذ المرحلة الزراعية‪/‬مرحلة التوطين بنوع من خصخصة الوظائف‬
‫الجنسوية‪ ،‬وصار الرجل ‪-‬تبعا للسلطة‪ -‬محفوفا باألساطير واألسفار‬
‫والبطوالت‪ ،‬وظلت المرأة هي كائن االنتظار والقربان‪ /‬بينلوب مثال‪.‬‬

‫(األنثوية) خارج الجسد‪ ،‬وضمن مفهوم‬ ‫التعويض الرمزي والتعبيري‪ ،‬وبما يجعل‬ ‫الكتابة األدبية ظلت أكثر إرهاصا بفكرة‬ ‫وحقوقية مدنية ونقابات وأحزاب في‬ ‫اإليروس‪ ،‬وللحضور على حساب الغياب‪،‬‬ ‫المراحل التي مارست فيها‬
‫حتى‬
‫الذات اإلنساني والرغبوي‪/‬التواصلي‬ ‫الصوت الفحولي في النص وفي الالوعي‬ ‫(النص المضطهد) النص المسكون باإلثم‬ ‫أوروبا‪ ،‬ال سيما على مستوى قوانين‬ ‫والحياة على حساب الموت‪ ،‬وتلك معادلة‬ ‫المرأة السلطة‪/‬الحاكمية لم‬
‫واإليمائي؟‬ ‫نوعا من االستمناء اإليهامي‪ ،‬والشفرة‬ ‫والخيانة ‪-‬أنا كارنينا‪ ،‬مدام بوفاري‪ -‬أو‬ ‫العمل واألحوال المدنية‪ ،‬وليست األحوال‬ ‫كان يفرض وجودها العقل المهيمن‪ ،‬عقل‬ ‫تخرج من مهيمنة النسق المضمر‪ ،‬نسق‬
‫هذه الحرية‪ ،‬وفي سياق هذه األسئلة‬ ‫التي تدفع لتحليل العالقة ما بين الذات‬ ‫المسكون بالقوة األخالقية ‪-‬األم لمكسيم‬ ‫السياسية‪.‬‬ ‫السلطة والذكورة الذي يعيش ثأرية عقدة‬ ‫الجماعة العسكرية‪ ،‬أو الجماعة الدينية‪،‬‬
‫ستكون تعبيرا عن أيديولوجيا‪ ،‬وعن‬ ‫والجنسي والمقدس‪ ،‬وللقبول بها داخل‬ ‫غوركي‪ -‬أو بالرغبة المتعالية كما في‬ ‫ولعل صدور كتاب قاسم أمين عن تحرير‬ ‫الخيانة والرغبة‪ ،‬والتي تقود بالمقابل إلى‬ ‫ونسق المؤسسة الزوجية‪ ،‬وحتى‪  ‬النسق‬
‫تمثالت تمنح الجسد قوته‪ ،‬وعن موضوع‪،‬‬ ‫كتابة النص‪ ،‬إذ تكون الكتابة تعبيرا عن‬ ‫رواية «المثقفون» لسيمون دي بوفوار‪.‬‬ ‫المرأة يُ عدّ استشرافا شجاعا ألفق هذه‬ ‫تحفيز القراءة الثقافية للكشف عن أن‬ ‫العُ صابي للقرابة والمقدس على طريقة‬
‫و ُتسكنه في اللغة بوصفه نصا أو جوهرا‬ ‫الذات‪ ،‬ولالعتراف بمتعتها‪ ،‬وبتكيفها مع‬ ‫مفهوم االختالف في الكتابة ال يعني‬ ‫التحوالت‪ ،‬ولما حملته من مضامين‬ ‫العطب الجنسي للملك شهريار‪ ،‬هو مقابل‬ ‫الملكة زنوبيا والملكة المصرية كليوباترا‪،‬‬
‫أو دافعا يُ غني اللذة والتواصل والحرية‬ ‫االجتماعي‪ ،‬فضال عن وظيفتها الثقافية‬ ‫جنس كتابي محدد‪ ،‬وال عن‬ ‫ٍ‬ ‫البحث عن‬ ‫إنسانية حول حرية المرأة لمواجهة قوى‬ ‫رمزي وتعبيري للعطب السياسي‪.‬‬ ‫أو شجرة الدر والملكة بلقيس في‬
‫بشحنات تجعله وجودا أو موضوعا‪.‬‬ ‫في استكناه الحموالت السيميولوجية‬ ‫توصيف يسبغ على الكتابة األنثوية‬ ‫تقليدية لها سطوة رمزية لسلطة التابو‬ ‫حركات التجديد والتنوير واإلصالح‬ ‫الموروث الشرقي ظل استثنائيا‪ ،‬وفيه من‬
‫الثورة الرقمية وصناعة المُ ختلف‬ ‫والسيسيولوجية‪ ،‬وفي خرق الواقع‪،‬‬ ‫سمات‪ ،‬ويُ عطي لها مالمح‪ ،‬بقدر ما أن‬ ‫واألب‪ ،‬ولها أيضا مرجعياتها النصوصية‬ ‫لم تخرج تماما‪ ‬من نسق تاريخ تلك‬ ‫المثيولوجيا أكثر مما فيه من الواقع‪،‬‬
‫سماه د محسن‬ ‫الثورة الرقمية كرست ما ّ‬ ‫وإعطاء جرعات تعبيرية لخطاب الرغبة‬ ‫األمر ينحصر بالقدرة على النفور من‬ ‫التي زخرت كثيرا باألحكام والتآويل‬ ‫السلطة‪ ،‬بما فيها سلطة المجال‪/‬القصر‪/‬‬ ‫والالئي وقعن في النهاية تحت غزو أو‬
‫بوعزيزي بمعالجات «السيميولوجيا‬ ‫من خالل الصورة واإلعالن والمشاركة‬ ‫التاريخ‪ ،‬التاريخ هنا بوصفه سلطة‪،‬‬ ‫وحر‬
‫ألي شكل حقيقي ّ‬ ‫والفرضيات القامعة ّ‬ ‫القلعة‪/‬الحريم‪ /‬التعليم والحاكمية‪ ،‬فكان‬ ‫قتل أو مهيمنة الرجل‪/‬الذكر‪/‬السلطة‪ .‬ربما‬
‫االجتماعية» إذ أسهمت في كسر‬ ‫والعمل وغيرها‪.‬‬ ‫أو عادات أو طقوس أو مركزيات أو‬ ‫للمرأة على مستوى التنظيم واالستقاللية‪،‬‬ ‫اإلصالح يتموضع داخل المنظومة الدينية‬ ‫كانت كانت (طفرة شهرزاد) هي الشفرة‬
‫النمط‪ ،‬وفي تغيير أطروحات التواصل‬ ‫‪ ‬بعد مئة عام أو أكثر من صدور كتاب‬ ‫عالقات‪ ،‬والذي اقترح لألدب النسوي‬ ‫وكذلك على مستوى الحصول على‬ ‫أكثر منه داخل المنظومة الحقوقية‪،‬‬ ‫األكثر تمثال لقوة األنوثة المُ فكرة‪/‬‬
‫والسيطرة والمراقبة‪ ،‬وصنعت للكتابة‬ ‫قاسم أمين عن خطاب تحرير المرأة يثار‬ ‫بوصفه الجندري تموضعا داخل فضاء‬ ‫الحقوق المتساوية في العمل واألجور‬ ‫وصوال إلى بداية القرن العشرين الذي يُ عدّ‬ ‫الحكواتية مقابل هشاشة النسق المهيمن‬
‫أنظمة سيميولوجية مغايرة‪ ،‬عبر العالقات‬ ‫أكثر من سؤال حول هذا التحرر بوصفه‬ ‫األنوثة بوصفها الجنسوي المكتسب‬ ‫والضمان االجتماعي والصحي والجنسي‪.‬‬ ‫العتبة النشوئية لموضوعات تحرير المرأة‪،‬‬ ‫للذكورة التي تمثلها السلطة العنفية‬
‫والروابط‪ ،‬وعبر استهداف النسق المهين‬ ‫وعيا بالحرية وبشروطها االجتماعية‬ ‫من السياق االجتماعي‪ ،‬وربما هو هذا‬ ‫لقد ظلت ثنائيات العقل والحرية‪ ،‬والعقل‬ ‫والذي كان جزءا من تحوالت اجتماعية‬ ‫لشهريار‪.‬‬
‫الحاكم للعالقة الواقعية والمفاهيمية‪ ،‬تلك‬ ‫واالقتصادية والنفسية‪ ،‬فما هي طبيعة‬ ‫ما دفع البعض من كاتباتنا إلى استعارة‬ ‫والجسد‪ ،‬والعقل واأليديولوجيا‪ ،‬والعقل‬ ‫وسياسية ونهضوية مهمة‪ ،‬حيث بدت‬ ‫العالقة ما بين سلطة الحكي وسلطة‬
‫التي أعطت مجاال للتسمية‪ ،‬ولالعتراف‪،‬‬ ‫العالقة ما بين الحرية والجسد؟ وهل‬ ‫صوت الرجل وسلطته وقناعه الفحولي‬ ‫والنقل مجاالت إشكالية‪ ،‬لم تتقعّ د‬ ‫تمثالتها عبر حراك ثقافي وسياسي‬ ‫الجسد ومؤسسة الحاكمية أعطت لفاعلية‬
‫والقتفاء أثر العالمة داخل االجتماعي‬ ‫يمكن ممارسة اإلفصاح عن‪  ‬الهوية‬ ‫‪-‬المُ كتسب اجتماعيا أيضا‪ -‬لممارسة‬ ‫مفاهيمها وال أطروحاتها‪ ،‬وأن تمثالتها في‬ ‫وحقوقي انخرطت فيها جماعات ثقافية‬ ‫الخطاب حضورا للكالم على حساب‬

‫‪53‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪52‬‬


‫ملف‬

‫سلطة؟ أم هل تحول هذا النظام إلى مجال‬ ‫والرمزي‪ ،‬وصوال إلى فرضها في النظام‬
‫تعبيري مقطوع عن النسق االجتماعي‬ ‫التعليمي عند عدد من الجماعات التنويرية‪،‬‬
‫والحقوقي؟ مقابل ما ظل الجنسي مكتفيا‬ ‫ورغم أن‪  ‬الجماعات األصولية‪ ،‬ال سيما‬
‫بطاقته البايولوجية التوليدية لتكريس‬ ‫بعد أحداث «الربيع العربي» حاولت إعادة‬
‫الصورة المثالية لحواء األسطورية وليست‬ ‫فرض خطاب السلطة والمجال والحكم‪ّ ،‬إل‬
‫حواء األرضية‪.‬‬ ‫نتهك من أنظمة تعبيرية ظل يحمل‬ ‫أن ما أ� ِ‬
‫مثل هكذا‪  ‬أسئلة يمكن أن تكونّ عتبة‬ ‫ضمرا‪ّ ،‬إل أنه‬
‫معه‪  ‬حافزا‪ ،‬حتى وإن كان مُ َ‬
‫نظرية وإجرائية لمقاربات معرفية حول‬ ‫سيظل‪ ‬باعثا على كتابة نص اجتماعي‬
‫مفهوم أنسوية األنوثة‪ ،‬وحول طبيعة‬ ‫وحقوقي مغاير‪ ،‬يمكن أن تكون له سطوته‬
‫السلطة التي تظل رهانا معقدا على أدلجة‬ ‫في الشارع والتظاهر واالحتجاج في‬
‫أي معالجة إشكالية‬ ‫هذه األنسوي‪ ،‬وعلى ّ‬ ‫القانون وفي النضال المدني‪ ،‬وفي الكتابة‬
‫التملك والحرية‪ ،‬وعلى‬ ‫ّ‬ ‫الستيهامات‬ ‫المفتوحة أيضا عبر وسائل التواصل‬
‫صياغة عقد اجتماعي آخر للعالقة بين‬ ‫االجتماعي بوصفها جزءا من معطيات‬
‫«األنوثة والذكورة» وبعيدا عن رهابات‬ ‫الثورة الرقمية‪.‬‬
‫الهجر‪.‬‬ ‫لقد أسهمت هذه الثورة‪  ‬في توسيع مديات‬
‫من الصعب جدا وضع معيار لفحص‬ ‫الحديث عن تحرير المرأة‪ ،‬من خالل‬
‫هذه المعطيات‪ ،‬ومفارقاتها‪ ،‬فالكثير من‬ ‫تحرير المجال والمحبس والقلعة عبر‬
‫الكتب تحدثت عن الخلط المفاهيمي‬ ‫المكان االفتراضي والرجل االفتراضي‪،‬‬
‫للذكورة والرجولة والفحولة واألنوثة‬ ‫وعبر اصطناع المجال المضاد لالعتراف‬
‫والنسوية‪ ،‬حدّ أن أطروحات ما بعد‬ ‫واإلنتاج والتسويق واالستهالك‪ ،‬لكنها‬
‫الحداثة واشتغاالت النقد الثقافي وضعت‬ ‫أثارت بالمقابل جدالً أعادنا إلى ثنائية‬
‫مجاال نظريا لما يسمى بـ»النقد النسوي»‬ ‫الجندري والجنسي‪ ،‬إذ كرس النظام‬
‫والذي يرهن قراءاته للخطاب بجملة‬ ‫الرقمي خصوصيات غير نمطية‪ ،‬يتمثلها‬
‫من العالمات والمؤشرات التي ينخرط‬ ‫التخارج عن النظام االجتماعي‪ ،‬وتساكنها‬
‫فيها النص وسردياته وشعرياته وصوال‬ ‫التفجر‪ ،‬تلك التي‬
‫ّ‬ ‫رغبات مشحونة بطاقة‬
‫إلى شرعنة وجود قاموس نقدي لهذا‬ ‫قال عنها روجي دادون «بالرغبة يتملص‬
‫المعطى‪ ،‬لكن الطبيعة اإلجرائية لذلك‬ ‫الجسد من تصرفاته اآللية ويجعلنا نتذكر‬
‫تظل محصورة في عالقة السياق الثقافي‬ ‫بقوة‪ ،‬بالرغبة يتحين الجسد‪ ،‬يهتز‪ ،‬ويدرك‬
‫بالسلطة وبنظام عالماتها‪ ،‬وفي مجال‬ ‫نفسه باعتباره نبضا حيا‪ ،‬بها يجعل نفسه‬
‫عالقة التحليل النقدي بمرجعيات تكشف‬ ‫حاضرا ثقيال رشيقا متوسال أو آمرا»‪.‬‬
‫عن المقموع والمسكوت عنه في أنساقنا‬ ‫(روجيه دادون ‪ :‬الرغبة والجسد‪ ،‬ترجمة‬
‫المضمرة‪ ،‬فضال عن‪  ‬إبراز عالقة هذا النقد‬ ‫محمد أسليم مجلة «عالمات» العدد الرابع‬
‫باألدب والجسد بشكل خاص‪ ،‬ال سيما على‬ ‫‪.)1995‬‬
‫مستوى السرديات‪ ،‬تلك التي اشتغلت عليها‬ ‫فعل الرغبة يقود أيضا الصطناع مملكة‬
‫معالجات نقدية وثقافية كثيرة‪ ،‬لكن أبرزها‬ ‫غير منضبطة للعالمات‪ ،‬تلك التي تستعير‬
‫ما يتعالق باألطروحات المعاصرة لجوليا‬ ‫كثيرا من قاموس فرويد في الالوعي‬
‫كرستيفا ولوس إيريغاري‪ ،‬وضمن مجال‬ ‫ومن روالن بارت في السيميولوجيا لتكون‬
‫ضطهَ د» النص الذي‬
‫التعبير عن «النص المُ ْ‬ ‫ضد «الدوغما» و»المقدس» رغم أن الكثير‬
‫ظل متذبذبا بين ثنائيتي الجسد والوعي‪.‬‬ ‫من هذه االشتغاالت تظل متل ّبسة به‪،‬‬

‫تانيا الكيايل‬
‫وبعالماته القامعة‪ ..‬فهل استطاع الجندري‬
‫كاتب من العراق‬ ‫األنثوي في النظام الرقمي أن يتحول إلى‬

‫‪55‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪54‬‬


‫ذكورة وأنوثة جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير‬
‫ملف‬

‫تـأنـيـث‪ ‬الكـتـابـة‬

‫مايسة محمد‬
‫سعيدة‪ ‬تاقي‬

‫ِّ‬
‫‪ ‬متجدد لكنه‪ ‬ليس‪ ‬بالجديد‪ ،‬فالعالم منذ‬ ‫لب‬ ‫ْ‬
‫ث‪ ‬مط ٌ‬ ‫َّ‬
‫بالمؤن‬ ‫وَ ْسم العالَم‬

‫جربان هداية‬
‫بدء‪ ‬الخليقة فضاء مشترَ ك بين الجنسين‪ .‬لكن‪ ‬قـضت السلطة االجـتم‬
‫اعية‪ ‬والفكرية‪ ‬والديـنية‪ ‬والسـياسية‪ ‬بـروافدها الـمادية والرمزية‪ ‬أن‬
‫تحاصر‪« ‬األنثى»‪ ‬وأن تكيل لها على يد شريكها في الحياة‪ ‬والفعل‪ ‬والوجود‬ ‫ِ‬
‫«الذكر»‪  ‬كل مواثيق‪ ‬التقييد واالستبداد واالستغالل‪ .‬لقد‪ ‬رصفت‬ ‫َّ‬ ‫والخلود َّ‬
‫شهرزاد‪( ‬التي ص َنعها المجتمع‪ ‬الذكوري)‪ ‬من قبل‪ ‬لياليها‪ ‬بوهم سطوة التأنيث‬
‫‪ ‬ممتد ًة على‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫حكاية‬ ‫لكنها‪ ‬ظلت رهينة الليل والغبش‪ ‬والعتمة تقتات الحياة‬ ‫َّ‬
‫نــتجه من‬ ‫حكم عليه سطوة‪ ‬الحكي‪ ‬بما تعــلَمُ ه ُ‬
‫وت ِ‬ ‫حواشي سرير شهريار‪ُ ،‬ت ِ‬
‫حك ُم عليها سطوة الذكورة والفحولة‪ ‬والقوة بما يعلَمُ ه‬ ‫‪ ‬وي ِ‬ ‫سحر السرد ليالً ُ‬
‫َّ‬
‫من المجتمع وبما تعلمَ ه منه وبما يشارك في إنتـاجه وإعـادة إنـتاجه من قـيم‬
‫وأعـراف لـبـاقي اليوم‬

‫من‪ ‬مرُ َؤ‬
‫َ‬ ‫مرأ‪ : ‬فاعل‬
‫أ‬
‫َ‬ ‫وبعث‬ ‫تجدُّ د‬ ‫في‪ ‬الخوابي‪ ‬شعلة‬ ‫حكايات‬ ‫«تودُّ د»‪( ‬سليـلة‬
‫شهـرزاد) ّ‬
‫‪ ‬الجارية‬
‫مر�‪( :‬فعل)‬
‫َ‬ ‫وإحياء‪ .‬وسعت إلى أن يغدو فعل الكتابة‪/‬‬ ‫بزت ‪ ‬الفـقـهاء‬
‫أ‪ ، ‬مراء ًة‪ ، ‬فهو َم ِريء‬
‫‪ ‬يمر َ‬‫مر أ� َ‬‫َ‬ ‫التفكير مخلِصا للذات الكاتبة التي أنتجته‬ ‫وجردتهم‬
‫َّ‬ ‫والعلماء وأهل النظر‪ ‬والحكمة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أ‪ ‬الطعامُ ‪ :‬كان سائغا مقبوال‪ ،‬سهُ ل في‬ ‫مر ّ‬ ‫َ‬ ‫دون اتكال على استبداد مطلق‪ ،‬أو اختفاء‬ ‫أمام الخليفة هارون الرشيد من ثيابهم‬
‫وح ِمدت عاقبتُ ه‬
‫الحلق‪ُ ،‬‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫خلف‪ ‬ظل ذلك اآلخر‪ .‬لكن اللغة‪ ‬وهي‬ ‫نكاية بفضلهم وعلمهم‪ ،‬لكنها ظلت‬
‫ّ‬
‫هنأني‪ ‬ومرأني‪ ‬الطعامُ‬ ‫«م ْسكَـن اإلنسان»‪ ،‬وفق‪ ‬هايدغر‪ ،‬سابقة‬
‫َ‬ ‫«الجارية» في ُحكْم التاريخ والرواية‬
‫َم َر أ�‪ ‬فالنٌ ‪َ :‬طعِ َم‬ ‫في الوجود والحدود والتسميات على‬ ‫ً‬
‫شخصية تخرج من‪ ‬المخدع لتعود‬ ‫والسرد‬
‫ولنعتد بأنّ «امرأة»‪ ‬وهي الصيغة الوحيدة‬ ‫وجود الكائن اإلنساني‪ ،‬ومن ثم فإن اللغة‬ ‫إليه‪ .‬ولم تكن الـكـتـابة أو اللغة أو الفـعــل‬
‫أو كتابي أو سردي أو‪ ‬تخييلي‪ ‬أو‪ ‬أدبي‬ ‫لكنه قد صاغـها منذ قـرون بأثر رجعي‪،‬‬ ‫بــريـئــة مـنـذ زمـن الـوضـع واالصـطـالح‬ ‫في اللغة للجنس المؤنث‪ ‬هي‪ ‬في مداخل‬ ‫َّ‬
‫تتكلمه‪ ‬إذ ِّ‬
‫تحددُ ه‬ ‫َّ‬
‫ال‪ ‬يتكلمُ ها‪ ‬اإلنسان بل إنها‬ ‫في كل ذلك إبـداعا يُ ـسل ُِم مـقـاليدَ ه لألنـوثة‬
‫أو‪ ‬ثــقافي أو اجـتماعي أو ديـني أو‬ ‫ِّ‬
‫يخـلد لحـظة سـابقة في الـزمـن اسـتـبد‬ ‫والمواضعة‪ ‬واالتـفـاق‪ ‬أوالتوفيق‪ ،‬ومـازالت‬ ‫معجم اللغة‪:‬‬ ‫وتسمُ ه وتسمِّ يه‪ .‬ألجل ذلك ال يمكن النظر‬
‫ِ‬ ‫بصدق ونزاهة‪ ،‬بل كانت الفحولة تلوِّ ن َّ‬
‫كل‬
‫سـياسي أو فكري أو وجودي‪ .‬إن‪ ‬األثر‬ ‫فيـها بالـتـاريـخ واللغة والفكر والمجتمع‬ ‫كذلك‪ ،‬تحمل بين ثـنـايـاها فوق المعـنى‬ ‫امرأة‬ ‫المرأة‪ ‬المميز‪ ‬مثال في‪ ‬الكتابة‬
‫َّ‬ ‫إلى صوت‬ ‫اللوحات‪ ،‬وكانت اللغة في كل ذلك‪ ،‬ومازالت‪،‬‬
‫استبد حتى بامتالك الجسد فالمجتمع َّ‬
‫ملك‬ ‫َّ‬
‫وتملك بسطوة‬ ‫والدين والسياسة والفن‪،‬‬ ‫ومـبان وكـيـانات‪ ‬وفلسفات‪ ‬وتواريخ‬ ‫معـان‬ ‫أنثى المرء‪ ،‬جمع‪ :‬نساء ونسوة (من غير‬ ‫وننسى أن اللغة تضع مدخل صيغة‬ ‫تجأر بذكورة المجتمع وباستبداد الفحولة‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬
‫الـرجل جـسده الخاص وجسد المرأة كذلك‪،‬‬ ‫َّ‬
‫تاريخيا‪ ‬كل االمتيازات التي‬ ‫ذلك االمتالك‬ ‫أن‬ ‫باللغة‬ ‫وأيديولوجيات‪ .‬فكيف‬ ‫لفظها)‬ ‫أ‬
‫«�مرأ»‪ ‬في معجم «المعاني»‪ ‬كاآلتي‪:‬‬ ‫بكل موازين التساوي أو العدالة أو‪ ‬األنسنة‪.‬‬
‫ووضعه رقيبا على وجودها المادي في هذا‬ ‫ْ‬
‫جعلت‪ ‬مفهوم «القِ وامة» الفقهي يمتد خارج‬ ‫كتبتها‬ ‫من‬ ‫ترتدي‪ ‬زي‪« ‬المؤ َّنث»‪ ‬ألن‬
‫ّ‬ ‫في حين أن «امرؤ»‬ ‫َم َرأ‪( :‬اسم)‬ ‫ولقد اسـتـوت بـين أرفـف‪ ‬الـتـاريـخ‪ ،‬قـبـل‬
‫تسلطه على جسدها وحضوره‬ ‫الكون عبر ُّ‬ ‫أصول الفقه لكي ينسحب على كل المجاالت‬ ‫اللغة‬ ‫ذات مؤنثة؟ وهل تستطيع‬ ‫أمرؤ‪ -‬و‪ ‬إمرؤ‬ ‫مصدر‪ ‬م ِر َ‬
‫ئ‬ ‫َ‬ ‫َم َرأ‪: ‬‬ ‫ذلـك وبعـده‪ ،‬وبين‪ ‬أرفـف‪ ‬الـفـن والـعـلـم‬
‫وغيابه وخواصه وأزيائه و حركاته…‬ ‫والمتون والهوامش‪ .‬فغدا الفضاء العام‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬
‫المؤنث للعالم ألن‬ ‫أن‪ ‬يطالها‪« ‬التمكين»‬ ‫‪ -‬رجل ‪ ،‬مؤنث‪ ‬امرأة‪ . ‬وتحرك «الراء»‬ ‫َم َّرأ‪( :‬فعل)‬ ‫والشـعـر والـقـصة والـرواية‬ ‫واألدب‬
‫والتبس زمن‪ ‬الليل برداء الفحولة‪ ،‬وما‬ ‫فضاء للرجل‪ ‬بمفرده‪ ‬يخضع‪ ‬لمزاجيته‪ ‬وأهو‬ ‫َّ‬
‫الذات التي صاغتها ذات كاتبة مؤنثة؟‬ ‫بحركة آخره‪ ،‬فيقال‪« :‬امرؤ ‪ ،‬امرأ ‪ ،‬امرئ»‪.‬‬ ‫‪ ، ‬مرِّ ئْ ‪ ، ‬مصدر‪َ  ‬ت ْم ِر َئةٌ‬ ‫َم َّر أ� ُت أ‬
‫‪َ � ، ‬مرِّ ئُ َ‬ ‫والفكر‪ ‬والفلسـفة‪ ‬والنـقـد‬ ‫والمـسرح‬
‫أمكَـنَه أن ينعطف ولو قليال بعيدا عن‬ ‫ائه واكتساحاته‪ ‬أو‪ ‬انسحاباته‪ .‬وامتد األمر‬ ‫إن‪ ‬اللغة ليست لغة الرجل‪ .‬هو لم يمتلِكها‬ ‫وال تدخل عليها «أل» التعريف‪.‬‬ ‫ِيئا َمر ً‬
‫يئا‬ ‫ال لَهُ ‪َ :‬هن ً‬
‫‪ ‬الض ْي َف ‪َ :‬ق َ‬
‫َم َّر أ� َّ‬ ‫واإلعالم والسياسة‪ ‬أفعال مقاومة‪ ‬عديدة‬
‫ِ‬
‫تالبيب‪ ‬ما يقتضيه ذلك الرداء من خياالت‬ ‫ليلحق كل الفضاءات من فضاء حقيقي‬ ‫لكي تكون له وحده دون أن تكون للمرأة‪،‬‬ ‫وفي ضـوء ذلك نـرى أن اللـغـة لـيـسـت‬ ‫مرأ‪( :‬اسم)‬ ‫َ‬ ‫أعادت تنضيد الرؤى الجامدة وبثَّ ت‬

‫‪57‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪56‬‬


‫ملف‬

‫يوسم بصوت المرأة ولغتها‬ ‫صوت المرأة أن َ‬ ‫وأوهام وأطياف‪.‬‬


‫ً‬
‫موقفا وقضيةً‬ ‫وكتابتها ألن المرأة تبني‬ ‫ُّ‬
‫تملك‬ ‫من‬ ‫الكاتبة‬ ‫وحين‪ ‬تمكّنت‬
‫ً‬
‫تلونُ صوتها وتجعله مختَ لِفا عن كل سائد أو‬ ‫أدوات‪ ‬المقاومة‪ ‬والرفض والفعل المضاد‬
‫غالب‪ ‬أو مستبد؟‬ ‫ضد كل صيغ التقــييد واالستــبداد‬
‫أم ألن صوت الرجل صوت ذكوري يعـ ِّبـر‬ ‫واالحــتكار واالستــغالل‪ ‬عبر التعبير بصوتها‬
‫عن الـذكر وعن اســتبداده بكل االمتيازات‬ ‫الخاص عن رؤيتها للعالَم وللحياة وللوجود‬
‫والحقوق من منطلقات االحتكار والسيادة‬ ‫ولآلخر‪/‬الرجل‪،‬‬ ‫وللموجودات‬ ‫ولإلنسان‬
‫التاريخيين وعلى صوت المرأة أن يكون‬ ‫فإن الكــتابة منذ المنطلق األول في الخلق‬
‫كفؤا في المقاومة والدفاع والنضال لصالح‬ ‫والصياغة والتشكيل والتوليف ُ‬
‫فعل وجود‬
‫العدالة االجتماعية والتمكين النسائي؟‬ ‫‪ ‬قالب «المفعول‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫بداية‬ ‫ِّ‬
‫ث‪ ‬ومؤنــث يُ نفي‬‫مؤ َّن‬
‫قد‪ ‬تكــون اإلجــابات مترددة أو غير‬ ‫به» أو «المفعول فيه»‪ ‬أو «الموضوع»‪ ،‬ذلك‬
‫بصرة‪ ‬واألســئلة بمفــردها قادرة على‬
‫مُ ِ‬ ‫القالب الذي ظل لقرون طويلة لصيقا بالفنون‬
‫النظر بعمق وبعـد بصيرة وتأمل‪ .‬لكن يمكن‬ ‫واآلداب منذ الشعر الغنائي وأغراض الغزل‬
‫القـول بإيـجاز‪ ‬إن‪ ‬تـأنيث‪ ‬الكـتابة والفـكر‬ ‫والنســيب والتشــبيب إلى العــذريات‬
‫واإلبـداع والتـشكيل‪ ‬والعـلم‪ ‬والدين والفـقه‬ ‫والتجسيم‬ ‫ــجـونيات‪ ‬والنحت‬
‫أو‪ ‬المُ ُ‬
‫الخطابات‬ ‫والتفسير‪ ‬وكذلك‬ ‫والشريعة‬ ‫والتشكيل والرسم‪.‬‬
‫التي ُتنتَ ج‪ ‬بالموازاة من خطابات‪ ‬اجتماعية‬ ‫والمؤنثة‪ ‬ثانياً‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫ويلغي‪ ‬فعل الكتابة‪ ‬المؤنثة‬
‫وسياسية‪ ‬يمضي‬ ‫وحضارية‬ ‫وثقافية‬ ‫منطق الغلبة لألقوى أو للذي يملك «القِ ـوامة»‬
‫في اتجاه تمكين الصوت الذي ُسلبت كل‬ ‫أو االمـتـياز الـتاريخي بوضع‪ ‬يده (الرجل‪/‬‬
‫كل‪ ‬السـلط لقرون عديدة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫امتيازاته باسم‬ ‫والتفكير‬ ‫والكتابة‬ ‫اللغة‬ ‫الذكر)‪ ‬على‬
‫يسع‬ ‫َ‬
‫لكنه‪ ‬يعني كذلك أن العالم‪ ‬يستطيع أن َ‬ ‫الكتابة‬ ‫تأنيث‬ ‫فعل‬ ‫واإلبـداع‪ .‬ويروم‬
‫ِّ‬
‫منهما‪ ‬بحقه‬ ‫بتـميـز كل‬
‫ُّ‬ ‫بعـدالة الصوتـين ً‬
‫معا‬ ‫يشيد من منظور‪« ‬الذات الكاتبة»‬
‫ِّ‬ ‫ثالثا أن‬
‫في‪ ‬إعــمال النـظـر والـقـول والخطاب‬ ‫كل «الموضوعات»‪ ‬التي تراها أو تتحدَّ د‬
‫واإلبداع والكتابة‪ ،‬وبحق الكاتبة األنثى كذلك‬ ‫خارج وعيها بذاتها تلك الذات الوجودية‬
‫في الكتابة المضادة المُ قاومة لكل تحجـيم أو‬ ‫ِّ‬
‫المؤنثة‬ ‫المؤ َّنثة‪( ‬بفتح النون)‪ ‬والذات الكاتبة‬
‫استـبداد واحـتكـار َح َصرها لزمن طويل في‬ ‫(بكسر النون)‪ ‬في العالم وفق منظورها‬
‫مساحة «الموضوع المتحدَّ ث عنه‪/‬المفعول‬ ‫ورؤيتها وإدراكها‪ .‬ولنتأمل‪ ‬في هذا المنعـطف‬
‫به» وألغى إمكاناتها بوصـفها «ذاتــا‪ ‬فاعــلـة»‬ ‫الـثـالث‪ ‬بقـليل من الـسذاجة وكثير من‬
‫قـادرة على‪ ‬المبادرة واإلنـجاز واإلنـتاج‬ ‫الحيطة السؤال المطروح‪ ‬مقاميا‪ ‬للنقاش‬
‫والفعل‪.‬‬ ‫في معرض هذا المقال وغيره من مقاالت‬
‫إنتأنيثالصوت‪ ‬وتأنيث‪ ‬الكتابة‪ ‬سيفضيان‪ ‬ب‬ ‫الملف‪ ،‬لماذا نتساءل‪ :‬هل َّ‬
‫تحقق صوت المرأة‬
‫الضرورة‪ ‬إلىتأنيثاللغةرغم‪ ‬إكراهات‪ ‬األبنية‬ ‫المختلف في كتاباتها أم إنها تكتب بصوت‬
‫والصيغ واالشتقاقات‪ ،‬ألن الحفر العميق‬ ‫المرأة ولغة‪ ‬الرجل؟‬
‫ِّ‬
‫سيولد من‬ ‫في متون اللغة‪ ‬بمنظور األنثى‬ ‫هل‪ ‬ألن صوت الرجل هو األصل بالفطرة‬
‫ً‬
‫ث‪ ‬حيزا أرحب يسع الكائن‬‫رحم اللغة‪ ‬المؤ َّن‬ ‫والتاريخ والطبيعة ومادام صوت المرأة‬
‫البشري‪ ‬بكل إمكاناته واحتماالته وافتراضاته‬ ‫يلــوح في األفــق فعليه أن ينــافس صوت‬
‫تسميتَ ه‪.‬‬
‫َ‬ ‫وس َمه أو‬
‫جنسه أو ْ‬
‫مثلما‪ ‬يسع َ‬
‫َ‬ ‫الــرجل ويــواجهه ويقاومه من منطلقات‬
‫الندية والمبارزة‪ ‬والتفوق والفوز؟‬
‫كاتبة من تونس‬ ‫الرجل‪ ‬مجردٌ ‪ ‬ومحايد‪ ‬وأبيض‬
‫َّ‬ ‫أم ألن صوت‬
‫تميز له‪ ،‬بـريء من كل انـتماء‬
‫ال لون له وال ُّ‬

‫تانيا الكيايل‬
‫إلى أحد الجنـسـيـن (الرجل ـ المرأة)‪ ،‬وعلى‬

‫‪59‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪58‬‬


‫ذكورة وأنوثة جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير‬
‫ملف‬

‫ما بعد األمازونية‬

‫تانيا الكيايل‬
‫إبداع المرأة بين المواجهة واالستالب‬

‫كاميليا عبدالفتاح‬

‫مقاتالت ذكرهن «هيرودوت» في تاريخه‪ ،‬وأشار إلى ّ‬


‫أنهن‬ ‫ٌ‬ ‫نساء‬
‫ٌ‬ ‫األمازونيات‬

‫جربان هداية‬
‫ّ‬
‫أنهن عشنَ في أفريقيا‪.‬‬ ‫األسود‪ ،‬ورأى بعض المؤرخين‬
‫ِ‬ ‫عشن في شمال البحر‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يصطرع فيها الميل الفطري األنثوي للرجل‪ ‬مع‬ ‫ٌ‬
‫امرأة قوية‬ ‫ُ‬
‫والمرأة األمازونية‬
‫وتنجب منه‪ ،‬لكنها تؤثرُ‬
‫ُ‬ ‫الميول القتالية االستقاللية ؛ فهي تتزوج الرجل‪،‬‬
‫ُ‬
‫تعيش على‬ ‫كثير من األقوال‪ -‬وهي‬
‫ٍ‬ ‫العيش مستقلة عنه‪ ،‬بل وتهيمنُ عليه ‪-‬في‬
‫ُ‬
‫تعمد إلى‪ ‬بتر أحد ثدييها حتى تتمكن‬ ‫القتال؛ ولذلك كانت المرأة األمازونية‬
‫ُ‬
‫تحتفظ بالثدي اآلخر‪ .‬من هنا‬ ‫الرمح والقوس أو السيف ‪-‬عليه‪ -‬بينما‬ ‫من وضع‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫عنوانا‪  ‬لهذه القراءة النقدية؛ فهي وضعية‬ ‫ُ‬
‫اتخذت هذه الوضعية األمازونية‬
‫ُ‬
‫يصطرع فيها التكوين األنثوي مع نقيضه‪ ،‬وتعاني فيها األنثى من‬ ‫تراجيدية‬
‫ميلها إلى الرجل‪ ،‬واضطرارها إلى محاربته واالستقالل عنه‪ ،‬في الوقت ذاته‬
‫ّ‬
‫التأزم النفسي واإلنساني التي تعاني منها‬ ‫‪-‬بما ُيشبه في افتراضي‪ -‬وضعية‬
‫ُ‬
‫حيث تكابد هذا الصراع وهذه‬ ‫ُ‬
‫المرأة العربية عامة والمبدعة‪ ‬العربية خاصة‪،‬‬
‫ً‬
‫صديقا ‪-‬إلى آخر ذلك‪ -‬وتضطر‬ ‫زوجا‪،‬‬
‫ً‬ ‫المفارقات بين ميلها إلى الرجل حبي ًبا‪،‬‬
‫إلى مواجهة القهر واالستبداد الذكوري المُ ِّ‬
‫هدد لكينونتها وتفرّ دها‪.‬‬

‫ودليال على‪ ‬تأخره‪ ‬في ّ‬
‫سلم اإلنسانية‪ ،‬وتعمدُ‬ ‫تتصدى السيرة الذاتية‪ ‬للخوف التاريخي‬ ‫ُ‬
‫يشغل الهامش»‪[ .‬د‪ .‬شيرين‪ :‬كتاب نسائي‬ ‫مناطق غير تلك التابعة للهيمنة في النظرية‬ ‫وتأز ًما؛ فهي ‪-‬فض ً‬
‫ال عن طبيعتها األنثوية‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫المرأة‪ ،‬في افتراضي‪ ،‬تعاني‬ ‫ال ُ‬
‫تزال‬
‫بعض األديبات إلى إرجاع قهر المرأة إلى‬ ‫المسكون في ذاكرة المرأة من التعبير عن‬ ‫أم نسوي] ‪.‬‬ ‫الفلسفية‪ .‬فهي ال تريدُ أن تدخل…‪ ،‬خارج‬ ‫ُ‬
‫تمتاز‬ ‫بالعاطفة والنشاط النفسي‪-‬‬
‫ِ‬ ‫الفياضة‬‫ّ‬ ‫واالضطراب‬ ‫التناقض‬ ‫من‬
‫سحيق من عمر الزمان ؛ فتاريخ المرأة‬ ‫عهد‬ ‫الذات‪ ،‬تتصدى لذلك الركام من االختباء‬ ‫أن أطرح‬ ‫ارتضيت في هذه الدراسة ْ‬‫ُ‬ ‫وقد‬ ‫ُ‬
‫النسوية‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الكتابة‬ ‫ُ‬
‫تتشكل‬ ‫المطلق النظري‬ ‫بسمات الشخصية المبدعة‪ ،‬وما تقتضيه‬
‫ِ‬ ‫ِالعربي على صعيدِ‬ ‫ِّ‬ ‫خاصة في ‪ ‬المجتمع‬
‫ٍ‬
‫استشهاد طويل؛‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫«تاريخ‬ ‫في رأي مي زيادة‬ ‫والتَّ برؤ‬
‫والمواربة والتورية‪ ،‬والتقنّع‬ ‫بعض نماذج من السيرةِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫مقاربة نقدية حول ِ‬ ‫ُ‬
‫وبالتحديد تتشكل في الثغرات التي ال‬ ‫روح؛ فهي‬ ‫ورهافة‪ ،‬ونفاذِ‬
‫ٍ‬ ‫من حساسية‬ ‫وضعيتِ ها االجتماعية‪ ‬واإلنسانية والفكرية‪،‬‬
‫ٍ‬
‫َّ‬
‫فهي عبر العصور المختلفة ليست إل حيوانُ‬ ‫ُ‬
‫نسبة كتابتها إليها كما تقول ‪ ‬جين‬
‫ِ‬ ‫من‬ ‫نص‬ ‫َ‬
‫َّسوية؛ ألنَّ السيرة الذاتية ُّ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫الذاتية الن‬ ‫األضواء من قِ بل البنية الفكرية‬
‫ُ‬ ‫ُتسلط عليها‬ ‫كيانٌ ‪ ‬ثائرُ الفكر والشعور؛ ومن هنا تكابدُ‬ ‫المجتمع‬ ‫كبير في‬ ‫قطاع‬ ‫ال تزال ُتواجهُ من‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫السيد‪ ،‬وطفلة الهية للعبث»‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫لذة ومتاع‬ ‫أتوميكينس‪.‬‬ ‫مرئي؛ فالمُ علن هو‬
‫ٍّ‬ ‫غير‬
‫َ‬ ‫مُ علن يضمرُ آخر‬ ‫األبوية‪ .‬بمعنى آخر هذه الثغرات موجود ٌة‬ ‫َّاتج‬ ‫َ‬
‫أعمق مذاقات االغتراب والتّ صدع؛ الن ِ‬ ‫ناقصا ال‬
‫ً‬ ‫إنسانيا‬
‫ًّ‬ ‫باعتبارها كيا ًنا‬
‫ِ‬ ‫العربي‬
‫ِّ‬
‫خطاب مي زيادة في سياق‬‫َ‬ ‫ورغم هذا فإنَّ‬ ‫تخي ُ‬
‫رت في هذه المقاربة النقدية نماذج من‬ ‫َّ‬ ‫أما‬ ‫ُ‬
‫الذات الساردة‪َّ ،‬‬ ‫الوقائع التي عاشتها‬ ‫معترف بها» ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ٌ‬
‫وكائنة ‪ ،‬لكنه غيرُ‬ ‫بالفعل‬ ‫من التناقض الصارخ بين ما تفرضهُ‬ ‫ُ‬
‫للرجل‪ ،‬و التزال‪ ،‬في‬ ‫بالتبعي ِة‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫يكتمل إل‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫خطاب‬
‫ٌ‬ ‫طالبة بالتحرر والكينونة النّسوية‬
‫ِ‬ ‫المُ‬ ‫ٍّ‬
‫السيرة الذاتية النَّسوية لكل من الشاعرة‬ ‫الحلمية أو الواقعُ‬‫المُ ضمرُ فهو الوقائع ُ‬ ‫نذهب إلى أنَّ مصطلح‬ ‫بهذا المفهوم‬ ‫وإكبار‪،‬‬ ‫وتقدير‬ ‫قيمة‬
‫ٍ‬ ‫وضعيتُ ها اإلبداعية من‬ ‫افتراضي‪ ،‬في صراع من أجل الدفاع‪ ‬عن‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫نصف‬
‫نعم والمُ ِ‬
‫نثوي ناعمٌ يصف الرجل بالمُ ِ‬
‫ٌ‬ ‫أ�‬ ‫الفلسطينية فدوى ُطوقان‪ ،‬الكاتبة والمُ فكّرة‬ ‫ّ‬
‫غير مُ تحق ٍق لهذه‬
‫حلما َ‬
‫ظل ً‬‫المُ رتجى الذي َّ‬ ‫أدق في التعبير من‬ ‫ُّ‬ ‫وي»‬
‫«اإلبداع الن َّْس ّ‬ ‫إهمال‪ ،‬أو‬ ‫الواقع من‬ ‫وما تلقاه على صعيد‬ ‫والمعنية‬
‫َّ‬ ‫ولعل‪ ‬الناقدة األدبية‬ ‫ّ‬ ‫هويّ تها‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫مما‬
‫الحرية والتحرر؛ َّ‬
‫ِ‬ ‫الكريم واهب‬
‫ِ‬ ‫والسيدِ‬
‫ّ‬ ‫نوال السعداوي‪ ،‬األديبة ‪ ‬والمفكرة عائشة‬ ‫نص‬ ‫نحن في السيرة الذاتية بين ٍ‬
‫ُ‬ ‫الذات‪.‬‬ ‫النص‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫فاألول‪« ‬هو‬
‫َّ‬ ‫سائي»؛‬ ‫«اإلبداع ال ِّن‬ ‫الشأن‪.‬إنَّ هذه‬ ‫‪ ،‬وإقالل من‬ ‫أو‪ ‬قهر‬ ‫إنكار‪،‬‬ ‫بالنسوية جوليا كريستيفا قد ّ‬
‫لخصت هذا‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وجبات‪ ‬المرحلة التاريخية‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫نعتقدُ أنهُ من مُ‬ ‫وقفة قصيرة مع‬
‫ٍ‬ ‫فضل عن‬‫ً‬ ‫عبدالرحمن‪،‬‬ ‫وأمام محاولةٌ‬
‫َ‬ ‫ظاهر‪ ،‬وآخر مراوغ إشاري‪،‬‬ ‫كفاعل في اعتباره‪ ،‬وهو‬ ‫المرأة‬ ‫الذي‪ ‬يأخذ‬ ‫ً‬
‫الكاتبة ‪-‬فضل عن‬
‫ِ‬ ‫ِّ‬
‫الوضعية المتأزمة للمرأةِ‬ ‫األمر في‪ ‬إشارتها إلى أنّ «المسألة النسوية‬
‫ٍ‬
‫مما‬
‫َّقيض َّ‬
‫التي عاشتها مي زيادة‪ ،‬على الن ِ‬ ‫األديبة اللبنانية مي زيادة‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫إبداعية إلعادة بناء الذات‪  ‬كما ذهب شاري‬ ‫النص القادرُ على تحويل الرؤية المعرفية‬ ‫ُّ‬ ‫المتأزمة للمرأة عامة‪ -‬اقتضت‬‫ِّ‬ ‫الوضعية‬ ‫قد شهدت تطورا في القرن العشرين عبر‬
‫نجد ُه في خطاب ٍّ‬
‫كل من‪  :‬نوال السعداوي‬ ‫ُّ‬
‫«تأزم وضعية الذات‬ ‫ُ‬
‫إشكالية‬ ‫وشك‬
‫ُ‬ ‫ُت‬ ‫بنستوك في تعريف هذا النمط اإلبداعي؛‬ ‫نصية‪،‬‬ ‫عالقات‬
‫ٍ‬ ‫واألنطولوجية للمرأة إلى‬ ‫السمات الشخصانية في الكتابة‬
‫ِ‬ ‫كثيرا من‬
‫ً‬ ‫مراحل عدة‪ ،‬أولها‪ :‬حول هوية النساء مع‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫وفدوى طوقان وعائشة عبدالرحمن‪ ،‬مع‬ ‫تتسيدُ‬
‫ّ‬ ‫تكون اإلشكالية التي‬
‫َ‬ ‫األنثوية» أن‬ ‫ُ‬
‫ترتكز على بروز الذاتية؛ بما يجعلها‬ ‫فهي‬ ‫المسكوت عنهُ ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫باألنثوي‬
‫ّ‬ ‫النص المهمومُ‬
‫وهو ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ال ِّنسائية‪ ،‬وهي شخصانية حتمية‪ ،‬على‬ ‫الرجال‪ ،‬والمرحلة الثانية كانت حول هوية‬
‫فوارق الختالف السمات الشخصية‬ ‫وجودِ‬ ‫موضوعات هذه النماذج من السيرة الذاتية‪،‬‬ ‫ً‬
‫النمط اإلبداعي األكثر قدرة في إبراز‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫األنثوي الذي يُ شكّل وجودُ ه خلخلة للثقافة‬ ‫صعيد المضمون والرؤى‪ ،‬وبعض سمات‬ ‫النساء ضد الرجال‪ ،‬بينما شهدت المرحلة‬
‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسانية‪ ‬حيث يوصف‬ ‫جربة‬
‫ِ‬ ‫واختالف التّ‬
‫ِ‬ ‫مؤشرا على تخلف‬ ‫ً‬ ‫و ُت ُ‬
‫طرح باعتبارها‬ ‫مواجهة الذات األنثوية المبدعة لآلخر‪،‬‬
‫ِ‬ ‫الكامن في فجوات‬
‫ُ‬ ‫المهيمنة‪ ،‬وهو األنثوي‬ ‫ثم ُ‬
‫أتفق مع‪ ‬هيلين‬ ‫التشكيل الجمالي؛ ومن َّ‬ ‫الثالثة شكّا حول مسألة الهوية ّ‬
‫برمتها» ‪.‬‬
‫‪ ‬للسلطة‪ ‬القاهرة‬
‫ُّ‬ ‫نموذج‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫الرجل بأنهُ‬ ‫ُ‬ ‫المجتمع العربي وتأزمه الفكري واإلنساني‪،‬‬ ‫وإدانة الوقائع واألغيار المُ ستلِبة؛ وبذلك‬ ‫هذه الثقافة ‪ ،‬وأخيرا هو األنثوي الذي‬ ‫ُ‬
‫النسوي «يحدث في‬
‫ّ‬ ‫سيكسو‪ ‬في أنَّ ‪ ‬اإلبداع‬ ‫ُ‬
‫بدعة أكثرُ تعقيدً ا‬ ‫وإنَّ وضعية‪ ‬المرأة المُ‬

‫‪61‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪60‬‬


‫ذكورة وأنوثة جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير‬
‫ملف‬

‫ماثل في بعض‬ ‫ً‬ ‫القهر والحكم الدكتاتوري‬ ‫ال يحمل لي سوى شعور الالاكتراث‪ ،‬كأنني‬ ‫الثنائيات الضدية المأساوية الكامنة‬ ‫َ‬
‫لحق‬ ‫تفاصيل االستبداد الذكوري الذي‬ ‫خاص ًة في‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫عامة والمرأة المُ بدعة‬ ‫المرأة‬ ‫المُ ستلِبة‪.‬‬
‫الفلسطينية تكابدُ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫واألرض‬ ‫السلطة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫رموز‬ ‫ال شيء‪ ،‬كأنني عدمٌ وفراغ‪ ،‬كأنني ال لزوم‬ ‫بين وضعية الرجل‪/‬الذكر ووضعية‬ ‫الحقوق اإلنسانية لألنثى‪ .‬تقول‬
‫ِ‬ ‫بأبسط‬ ‫الذاتية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫جنس السيرةِ‬ ‫ِ‬ ‫يمزج بين‬
‫ُ‬ ‫قالب‬
‫ٍ‬ ‫الذكوري المُ ستلِب في حياة‬
‫ّ‬ ‫تمثَّ ل النموذج‬
‫اليهودي واغتصابه خيراتِها‬ ‫ِّ‬
‫قهر المُ حتل‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫إطالقا»‪. ‬‬ ‫لوجودي‬ ‫فاألو ُل يبدو سيدً ا‪ ،‬بل مُ ً‬
‫طلقا من‬ ‫ّ‬ ‫األنثى؛‬ ‫«لم يكن بمستطاع أرباب العائلة‪ ‬تحمل تلك‬ ‫يتضح‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫والسرد القصصي واللغة الشاعرية‪،‬‬ ‫شخص «أبيها «‪ ،‬وأخيها‬
‫ِ‬ ‫فدوى طوقان في‬
‫ّ‬
‫االستالب‬
‫ُ‬ ‫وأمنها وحقوقها…‪ ،‬وهكذا يبدو‬ ‫ومثلما ُحرمت األنثى من عوالم الغناء‬ ‫ً‬
‫طلقات يعمدُ إلى قهر األنثى خوفا من‬ ‫ِ‬ ‫المُ‬ ‫الحقيقة البديهية‪ ،‬حقيقة أن المرأة‪ ‬إنسانُ‬ ‫العنوان‬ ‫بدءا من‬
‫األجناس ً‬‫ِ‬ ‫ُ‬
‫التعالق بين‬ ‫هذا‬ ‫«يوسف»‪ ،‬وتمثَّ ل في السيرة الذاتية لبنت‬
‫ِ‬
‫وبطل هذه السيرة الدرامية‬ ‫َ‬ ‫سيدَ المشهدِ ‪،‬‬‫ِّ‬ ‫ّ‬
‫بتسلط الهيمنة الذكورية‬ ‫والموسيقى‬ ‫اإلنساني مُ طال ًبا‬ ‫ِّ‬
‫تفجرها وانتصاب كيانها‬ ‫يشعر ويتوق إلى الحياة والفرح مثلما يتوق‬ ‫ُ‬
‫يبرز؛‬ ‫مما‬
‫أكثر َّ‬
‫َ‬ ‫الدالالت‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫يكتنز من‬ ‫الذي‬ ‫الشاطئ في أبيها ومحاوالته المتواصلة‬
‫ّ‬
‫الشخوص اإلنسانية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫التي تتضافرُ فيها‬ ‫واستبدادِ ها ُحرمت كذلك من أفراح‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بحقوقه؛ ولذلك يعجل الرجل في هذا‬ ‫أي‪ ‬كائن بشري آخر» ‪.‬‬ ‫ويتطلع‪ ‬‬ ‫خاتل يحتملُ‬
‫ٌ‬ ‫رمزي مُ‬
‫ٌّ‬ ‫الجبلية تعبيرٌ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫فالرحلة‬ ‫لحرمانها من حق التعليم والحب والزواج‬
‫ٍ‬
‫حياة هي‬
‫ٍ‬ ‫وتتماس في بوتقة المعاناة من‬
‫ّ‬ ‫الحب وبهجته وعوالمه الساحرة بل كان‬‫ِّ‬ ‫بشيخوخة إناثه‪  .‬بينما تبدو األنثى‬
‫ِ‬ ‫الطرح‬ ‫وتقول «في هذا البيت وبين جدرانه العالية‬ ‫ُ‬
‫ا‪ ‬لرحلة كتابة السيرة وفتح‬ ‫ً‬
‫وصف‬ ‫يكون‬
‫َ‬ ‫أن‬ ‫أما نوال السعداوي فقد تمثَّ َل ‪ ‬لها‬
‫والعمل‪َّ ،‬‬
‫ُ‬
‫ثم فإننا‪ ‬نالحظ‪ ‬نوعً ا من‬‫بالموت‪ .‬ومن ّ‬
‫ِ‬ ‫أشبهُ‬ ‫بالحب في طرح فدوى طوقان‬
‫ُّ‬ ‫اإلحساس‬
‫ُ‬ ‫والرأي‬ ‫َ‬
‫تشيئة‪ ‬مُ ستلبة الروح والقدرةِ‬‫ً‬ ‫مُ ِّ‬ ‫تحجب كل العالم الخارجي عن جماعة‬
‫ُ‬ ‫التي‬ ‫يكون داللةً‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫مغاليق الذات‪ ،‬ويحتمل أن‬ ‫الرجل المُ ستلِب في صورة الحبيب‪ ،‬والزوج‬
‫ِ‬
‫التماس النوعي بين حركتي المدّ والجزر‬
‫ّ‬ ‫واالستالب‪ .‬فقد‬
‫ِ‬ ‫ً‬
‫منبثقا للمزيد من األلم‬ ‫والمصير‪ .‬تقول فدوى «كان الواقعُ المعيش‬ ‫ِ‬ ‫الحريم الموؤودة فيه انسحقت طفولتي‬ ‫الساردة أو الذات‬ ‫ً‬
‫إشارية لرحلة الذات َّ‬ ‫‪-‬عبر تجارب شخصية فاشلة‪ -‬لكنها لم تقف‬
‫في‪ ‬مقاومة األنثى لقهر الرجل‪ ،‬ومقاومة‬ ‫الحب‬
‫ّ‬ ‫عُ وقبت على وقوعها في تجربة‬ ‫ًّ‬
‫الحريمي‪ ‬مذل مهينًا؛‬ ‫في ذلك القمقم‬ ‫قليل‪  ‬من شبابي»‬ ‫وصباي وشيء غير‬ ‫الجمعية ومكابداتها‪ ،‬في محاولتها التخلص‬ ‫عند هذه الحدودِ ‪ ،‬بل أضافت إلى‪ ‬مخزونِها‬
‫ٍ‬
‫األرض المحتلة لقهر العدو الغاشم‪ ،‬وكأن‬ ‫األول في سنِّ المراهقة من أخيها يوسف‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫وجودها‪ ‬الهزيل القاتم‪.‬‬ ‫ُ‬
‫اإلناث‬ ‫تعيش‬‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حيث‬ ‫داللة مُ ستحدثةً‬
‫ً‬ ‫تطرح فدوى طوقان‬
‫ُ‬ ‫وبذلك‬ ‫ُ‬
‫ويحتمل أن‬ ‫من القهر‪ ‬والجمود الفكري‪،‬‬ ‫النفسي َ‬
‫إرث التجارب المريرة المُ ختزن في‬ ‫ّ‬
‫ذات‬
‫ٍ‬ ‫السيرة الذاتية هنا أصبحت سير َة‬ ‫والحرمان من‬ ‫بالضرب والسب واإلهانة؛‬ ‫َّ‬
‫ألتفت فال أرى حولي إل ضحايا بال‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كنت‬ ‫يصبح الوأدُ هو قهرُ الفكر‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حيث‬ ‫لوأدِ األنثى‪،‬‬ ‫عام ًة ‪ ‬في‬ ‫ً‬
‫وصفا لرحلة الذات األنثوية َّ‬ ‫يكون‬
‫َ‬ ‫ذاكرة‪  ‬جدَّ تها ألمِّ ها‪ ،‬التي قالت لها «جوازتي‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫أنثوية‪ ،‬وذات إنسانية‪ ،‬وذات قومية «فقد‬ ‫التفكير في‬ ‫مما دفعها إلى‬
‫إتمام التعليم؛ َّ‬
‫ِ‬ ‫بيت‬
‫مستقل‪ .‬يقبعن في ٍ‬ ‫شخصية‪ ،‬بال كيان‬ ‫والعاطفة والرؤى والشخصانية؛ لتظلّ‬ ‫مسار اإلبداع‪.‬‬ ‫ُ‬
‫تقول‪« ‬منذ‬ ‫كانت جنازتي يا بنت ابني» ‪ .‬كما‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫أرض محتلة وتحولت‬ ‫الوطن إلى ٍ‬
‫ُ‬ ‫تحول‬ ‫وبنات‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الرجل شيخوخة إخوته‬ ‫يتعجل فيه‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫طوق النجاةِ التي‬ ‫بعية واالنسحاق‬‫َ‬ ‫التَّ‬ ‫السادسة وأنا أحفظ هذه الكلمات الثالث‪:‬‬
‫الشاعرة ‪-‬أو باألحرى‪ ‬أصبحت‪ -‬ذاتا منقسمةً‬
‫ُ‬ ‫عمه‪ ،‬متخذا من القهر وسيلة لذلك التعجيل‪،‬‬ ‫حياة أشبه ما‬
‫ٍ‬ ‫لإلبقاء على‬
‫ِ‬ ‫تلوذ به األنثى‬‫ُ‬ ‫ربنا‪ ..‬المصائب‪ ..‬الجواز» ‪.‬‬
‫تكون عليه‪ ،‬وما هو‬
‫َ‬ ‫بين ما تصبو إلى أن‬ ‫ُ‬
‫الواحدة‬ ‫ضحايا لم أعرفهن إال عجائز‪ ،‬عجزت‬ ‫«أما الجو‬
‫بهيمة األنعام‪ .‬تقول َّ‬
‫ِ‬ ‫تكونُ بحياةِ‬ ‫وقد تعدَّ ت ذلك إلى استحضار إرثَ‬
‫الرجل كما في كلِّ‬
‫ُ‬
‫واقعٌ » ‪.‬‬ ‫قديمة من‬ ‫ٍ‬ ‫منذ مرحلة‬ ‫ُ‬ ‫منهن منذ الخامسة والعشرين من عمرها‪.‬‬ ‫العائلي فيسيطرُ عليه‬
‫ُّ‬ ‫الذكوري‬
‫ّ‬ ‫تمثل النموذج‬ ‫َّ‬ ‫المرارات‪ ‬النَّسوية المُ ختزنة في ذاكرة‬
‫ِ‬
‫تفردت فدوى طوقانُ في سيرتها‬
‫وبذلك َّ‬ ‫ّ‬
‫ل‪ ‬والتقشف‪،‬‬ ‫لم أعرفهن إال في ثياب التبتّ‬ ‫لفظة ال‬
‫ِ‬ ‫بيت‪ ،‬وعلى المرأة أن تنسى وجودَ‬
‫ٍ‬ ‫األرض‪ ،‬والتي‬
‫ِ‬ ‫التاريخ منذ والدة الحياةِ على‬
‫ِ‬
‫ترصد‬
‫ُ‬ ‫سوية‪،‬‬
‫ِ‬ ‫الكتابة النَّ‬
‫ِ‬ ‫ستلب في حياة فدوى‬ ‫الم ِ‬ ‫ُ‬
‫يمتزج فيه ّ‬
‫تأزمُ‬ ‫ُ‬ ‫درامي‬
‫ِّ‬ ‫ببوح‬
‫ٍ‬ ‫الـ»جبلية»‬ ‫هن‬ ‫ُ‬
‫المنديل األبيض‪ ‬فيما ّ‬ ‫شعرهن‬
‫ّ‬ ‫يغطي‬ ‫في اللغة إال عند شهادة (ال إله إال اهلل) في‬ ‫تسج ُل مواقف قهر الرجل للمرأةِ وعصفه‬ ‫ِّ‬
‫برز وعي‬‫مما يُ ُ‬
‫الذات األنثوية بتأزم اآلخر؛ َّ‬ ‫بقلق‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫األنثوية‬ ‫الذات‬
‫ُ‬ ‫لهن‬ ‫ليس‬ ‫قعيدات‪ ‬الجدران‪ ‬المحيطة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫اللفظة‬ ‫وضوئها وصالتها‪ ،‬أما (نعم)‪ ،‬فهي‬ ‫شخص «أبيها‬‫ِ‬ ‫طوقان في‬ ‫بكيانِها الروحي والعاطفي‪ ،‬وهيمنتِ ه عليها‬
‫الكتابة النسوية‪ ،‬وا ّتصافها باألعماق الداللية‪.‬‬ ‫تلقي‬ ‫طبيعة ِّ‬ ‫َ‬ ‫وتوج ٍس‬ ‫ّ‬ ‫لهن حياة خاصة‪ ،‬صبايا‬
‫صديقات‪ ،‬ليس ّ‬ ‫الببغاويّ ة التي ُت َّ‬
‫لقنُها منذ الرضاع ؛ لتصبح‬ ‫«‪ ،‬وأخيها «يوسف»‪،‬‬ ‫وإنسانيا؛ وهكذا أخضعت‬
‫ًّ‬ ‫واجتماعيا‬
‫ًّ‬ ‫فكريًّ ا‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫‪ ‬تأزم الذات األنثوية المبدعة في ظل‬ ‫المجتمع إلبداعها‪،‬‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫الكبت قبل‬ ‫بشعر شائب‪ ،‬ووجوه جعّ دها‬
‫ٍ‬ ‫ملتصقة على شفتيها‬ ‫فيما بعد كلمة صمغية‬ ‫وتمثل في السيرة الذاتية‬ ‫نوال السعداوي التاريخ اإلنساني للمساءلة‬
‫االستالب االجتماعي‬ ‫غريب‬
‫ٍ‬ ‫األوان‪ .‬كان تزويج البنت من رجل‬ ‫مدى حياتها كله» ‪.‬‬ ‫ْ‬
‫وأخضعت‬ ‫اإلشكالية النَّسوية‪،‬‬
‫ِ‬ ‫من منظور‬
‫ُ‬
‫اإلبداع؛‬
‫ِ‬ ‫وموقفه من هذا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫لبنت الشاطئ في أبيها‬
‫َّسوية‪،‬‬
‫ِ‬ ‫الكتابة الن‬
‫ِ‬ ‫قديمة من‬
‫ٍ‬ ‫منذ مرحلة‬ ‫ابن العم‬
‫ُ‬ ‫فإما‬
‫َّ‬ ‫يتعارض‪ ‬وتقاليد العائلة‪،‬‬ ‫وتقول «كانت الدار أشبه بحظيرة كبيرة‬ ‫للمساءلة‬
‫ِ‬ ‫العربي بصفة خاصة‬ ‫َّ‬ ‫المجتمعَ‬
‫َ‬
‫طبيعة‬ ‫وتوج ٍس‬
‫ّ‬ ‫بقلق‬ ‫ُ‬
‫األنثوية‬ ‫ُ‬
‫الذات‬ ‫ترصدُ‬ ‫تصف‬ ‫ُ‬ ‫فاألديبة مي زيادة‬ ‫ُ‬ ‫البقاء على العُ ذرة حتى‬
‫ُ‬ ‫شقيق األب‪ ،‬أو‬ ‫بالعلف‬
‫ِ‬ ‫تملؤها الطيورُ الداجنة‪ ،‬يُ لقى إليها‬ ‫ومحاوالته المتواصلة‬ ‫الالإنسانية‬
‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫حيث تظل الوضعية‬ ‫ُ‬ ‫واإلدانة؛‬
‫ِ‬
‫ٍ‬
‫المجتمع إلبداعها‪ ،‬وموقفه من هذا‬ ‫ِ‬
‫ِّ‬
‫تلقي‬ ‫التلقي بأنّ ُه فضول‬ ‫ِّ‬ ‫هذا‬ ‫القبر» ‪.‬‬ ‫ً‬
‫قانعة به‪ ،‬وكان‬ ‫نقاش‪ ،‬راضية‬
‫فتزدردهُ‪  ‬دون ٍ‬ ‫لحرمانها من حق التعليم‬ ‫ُّ‬
‫رأس مظاهر التخلف والرجعية‬ ‫للمرأةِ على ِ‬
‫التلقي‬ ‫تصف هذا ِّ‬ ‫ُ‬
‫فاألديبة مي زيادة ُ‬ ‫اإلبداع؛‬ ‫َ‬
‫إنَّ الرجل في طرح فدوى طوقان يستأثر‬ ‫ذلك غاية الغايات‪ ،‬ونهاية النهايات‪ .‬كانت‬ ‫المجتمع في رؤيتِ ها‪.‬‬ ‫واالستبدادِ في هذا‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫وترقب‪ ،‬ال تقديرا أو إكبارا‬ ‫والحب والزواج والعمل‬ ‫ِ‬
‫ّ‬
‫بأ ّنهُ فضول وترقب‪ ،‬ال تقديرا أو إكبارا‪.‬‬ ‫بالعوالم الروحية والجمالية‪ ،‬ويحرمُ األنثى‬ ‫رسالة تلك الطيور‪ ‬الداجنة تقتصر على‬ ‫َ‬
‫تخلق‬ ‫ْ‬
‫استطاعت نوال السعداوي أن‬ ‫وهكذا‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫رح جديدة على صعيدِ إبداعها‬ ‫َ‬
‫عالية‬ ‫تصف درجة‬ ‫أما فدوى طوقان فهي‬ ‫َّ‬ ‫نقص من حدودِ‬ ‫مما يُ ُ‬
‫العوالم َّ‬
‫ِ‬ ‫من هذه‬ ‫تفقيس الفراخ الصغيرة واستنفاد أيام العمر‬ ‫لها لغة َط ٍ‬
‫من التأزم بين ذاتها األنثوية المُ بدعة‪،‬‬ ‫‪ ‬حرم على‬
‫تدين أباها الذي َّ‬
‫ُ‬ ‫اتساعها؛ فهي‬ ‫بين‪  ‬حلل الطبخ النحاسية الكبرى‪ ‬وبين‬ ‫البحث في‬‫ُ‬ ‫واألدبي فقد أوصلها‬
‫ّ‬ ‫الفكري‬
‫ّ‬
‫حيط بها‪ ،‬و ُت ِّ‬
‫فسرُ‬ ‫ِ‬ ‫التقليدي المُ‬
‫ّ‬ ‫والمجتمع‬ ‫نساء المنزل الغناء والعزف بينما أباحهما‬ ‫ً‬
‫صيفا‬ ‫حطب‪ ‬المواقد‪ ‬الدائمة‪ ‬االشتعال‬ ‫اللغوي‬
‫ّ‬ ‫مساءلة‬
‫ِ‬ ‫َّسوية إلى‬
‫ِ‬ ‫جذور اإلشكالية الن‬
‫بخوف مجتمعاتنا التقليدية‬‫ِ‬ ‫ّ‬
‫التأزم‬ ‫هذا‬ ‫لنفسه «مادام يحب الطرب فلماذا يحرمنا‬ ‫وشتاء» ‪.‬‬
‫ً‬ ‫سميح‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يقول‪ ‬الشاعرُ‬ ‫إنَّ فدوى طوقان كما‬ ‫للغة‬
‫هت ِ‬ ‫فوج ْ‬
‫والميثولوجي واألنثربولوجي؛ َّ‬
‫من وعي ‪ ‬المرأة القارئة الكاتبة المبدعة‪،‬‬ ‫ثم ترك فيها ُن ً‬
‫دبة‬ ‫العزلة‪ّ ،‬‬
‫ِ‬ ‫االنتحار‪ ،‬ثم إلى‬ ‫من العزف والغناء» ‪.‬‬ ‫وتقول «حق التعبير عن النفس محظو ٌر‬ ‫القاسم «قدَّ مت في هذه المذكرات شيئًا‬ ‫إدانتها النحيازها للذكورة؛ وألنها «تخاطب‬
‫و ُترجعُ هذا التأزم إلى‬ ‫ً‬
‫عميقة تمثَّ ْ‬ ‫نفسي ًة‬ ‫ُ‬
‫عال تصف فدوى تجاهل‬ ‫عليها‪ ،‬الضحك والغناء من المحرمات‪،‬‬ ‫وصراحة عن‬ ‫بصدق‬ ‫جديدً ا هو التعبيرُ‬ ‫المرأة بصيغة المذكر؛ كل شيء مذكّر في‬
‫المجتمع‬
‫ِ‬ ‫اتصاف هذا‬
‫ِ‬ ‫ثرية‬
‫لت في صورة رمزية ٍ‬ ‫َّ‬ ‫رمزي ٍ‬
‫ٍ‬ ‫طرح‬
‫ٍ‬ ‫وفي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬
‫باالزدواجية والفصام‪ .‬تقول‪« ‬لقد كانوا‬ ‫هي انحناءة الظهر التي الزمت فدوى‪.‬‬ ‫ُ‬
‫فترمز‬ ‫هذا األب لذاتها اإلنسانية واألنثوية‬ ‫ُ‬
‫الرجال‬ ‫اختالسها بعد أن يغادر‬
‫ُ‬ ‫ويمكن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫هموم المرأة العربية؛ فالمرأة العربية لم‬ ‫اللغة؛ حتى اإلله والشيطان والموت‪ ..‬كلمة‬
‫الزي األوروبي ويتكلمون الفرنسية‬
‫ّ‬ ‫يرتدون‬ ‫الجبلي َة يالحظ أ َّنه‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫إنَّ قارئ هذه السيرة‬ ‫لتغييبه هذه الذات بإشارته‪ ‬لها بضمير‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫االستقالل الشخصي‬ ‫(األرباب) إلى أعمالهم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تكتب عن هذه الهموم َّإل بالرمز والتلميح‬ ‫الضمير‪ ‬في اللغة مذكرة مثل كلمة إنسان‪ .‬ال‬
‫واإلنكليزية والتركية‪ ،‬ويأكلون بالشوكة‬ ‫أمام مسيرة الذات اإلنسانية‪ ،‬ال األنثوية‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الغائب‪ .‬تقول «كان أحيانا إذا أراد أن يُ بلغني‬
‫ِ‬ ‫ً‬
‫غائب؛ ال حضور له إطالقا في‬‫ٌ‬ ‫مفهوم‬ ‫تبوح بكل شيء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫واإلشارة‪ ،‬وجاءت فدوى‬ ‫يوجد في اللغة مؤنث كلمة ضمير» ‪.‬‬
‫الحب‪ ،‬ثم يقفون‬
‫ّ‬ ‫والسكين‪ ،‬ويقعون في‬ ‫مناخ‬ ‫َ‬
‫بوضوح هيمنة‬ ‫يلمس‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حيث‬ ‫فقط‪،‬‬ ‫ُ‬
‫كنت‬ ‫ُ‬
‫يستعمل صيغة الغائب‪ ،‬ولو‬ ‫أمرا‬
‫ً‬ ‫حياتها»‪. .‬‬ ‫الجمال والعذوبة‪ ،‬وفي‬ ‫أسلوب بالغ‬
‫ٍ‬ ‫في‬ ‫جبلية‬
‫َّ‬ ‫في السيرة الذاتية المتميزةِ «رحلة‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫بالمرصاد كلما حاولت إحدانا تحقيق‬ ‫الشخصيات‬
‫ِ‬ ‫واالستالب على‬
‫ِ‬ ‫القهر‬ ‫ألمي‪ :‬قولي‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫حاضرة بين عينيه؛‪ ‬كان يقول ّ‬ ‫وحين تصف فدوى تفاصيل اغتيال‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫تبرز‪ ‬فدوى طوقان القهر‬ ‫وشجاعة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫صدق‬ ‫الشاعرة واألديبةُ‬
‫ُ‬ ‫رحلة صعبة» تنفردُ‬
‫ٍ‬
‫إنسانيتها عن طريق التطور الطبيعي‪ ،‬أو‬ ‫اإلنسانية في هذه السيرةِ فاألنثى تكابدُ‬ ‫للبنت تفعل كذا‪ ..‬وكذا» ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫جسدُ هذه الوقائعَ ‪ ‬في‬ ‫ُ‬
‫واستالبها‪ ‬ت ِّ‬
‫ِ‬ ‫األنثى‬ ‫ً‬
‫الذكوري ماثل في والدِ ها وأخيها يوسف‬
‫ّ‬ ‫خاص‬
‫ٍ‬ ‫بطرح‬ ‫الفلسطيني ُة فدوى طوقان‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫التطلع إلى األفضل واألحسن‪ .‬كانوا يمثلون‬ ‫والرجل يكابدُ‬
‫َّ‬ ‫قهر الرجل واستبداده بها‪،‬‬ ‫أصلح لشيء‪ ،‬إنه‬
‫ُ‬ ‫يؤمن أنني‬
‫ُ‬ ‫وتقول «إنه ال‬ ‫التشخيص‪ ‬وإبراز‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ترتكز على‬ ‫لغة إبداعية‬
‫ٍ‬ ‫في‪ ‬الكشف‪ ‬عن‬
‫ِ‬ ‫ورجال العائلة‪ ،‬و ُت ُ‬
‫وغل‪ ‬‬ ‫تأز َم وضعية‬ ‫ُ‬
‫لهذه اإلشكالية ؛ فهي ت ُ‬
‫برز ُّ‬
‫ِ‬

‫‪63‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪62‬‬


‫ذكورة وأنوثة جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير‬
‫ملف‬

‫رندة حجازي‬
‫قد عانوا عيشة الحيوانات‪ ‬وراء قضبان‬ ‫الواقع غيابًا‬
‫ِ‬ ‫ولكن حضوري كان في‬ ‫جمود اإلنسان العربي‪ ،‬وعجزه الكلي عن‬
‫ُ‬
‫أعيش تلك‬ ‫األقفاص الحديدية‪ ،‬ولقد ُ‬
‫كنت‬ ‫إلى‪ ‬أبعدِ حدود الغياب…!» كما تصف‬ ‫مشطورة» ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫االحتفاظ بشخصية واحدة غير‬
‫وتطرح هذا الحلم في‪ ‬صورة‬
‫ُ‬ ‫العيشة فعال» ‪.‬‬ ‫معاناتها من التّ شظي‪ ،‬والصراع الداخلي‬ ‫َّ‬
‫تدين هذا المجتمعَ ؛ ألنه منعَ‬
‫ُ‬ ‫ولذلك‬
‫السياجات‪/‬‬
‫ِ‬ ‫هدم كل‬
‫َ‬ ‫أخرى تتمنى فيها‬ ‫الناجم من االضطرار للخضوع من جهة‪،‬‬ ‫الذات‬ ‫بازدواجيته وسطحيته تدفق‬
‫القيودِ فتقول‪« ‬كم ُ‬
‫كنت أشتهي النوم تحت‬ ‫جهة‬
‫والرغبة القوية العارمة في الثورة من ٍ‬ ‫مما قولَبها في أسر‬
‫فكرا وإبداعً ا ؛ َّ‬
‫األنثوية ً‬
‫السماء‪ ،‬ال سقف من فوقي‪ ،‬وال جدران‬ ‫أخرى‪ .‬تقول‪« ‬هذا العالم ظل شديد الوطأة‬ ‫«القالب الفوالذي‬
‫ُ‬ ‫والتبعية‪ .‬تقول‬
‫ّ‬ ‫التفاهة‬
‫‪ .‬وتطرح‬
‫ُ‬ ‫من حولي‪ ،‬وال أقارب بجانبي…»‬ ‫علي الشعور‬ ‫على نفسي حتى لقد سيطر‬ ‫يسمحون لنا‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الذي يضعُ نا فيه األهل‪ ،‬وال‬
‫ّ‬
‫ً‬
‫أليمة‪  ‬هي ظفرُ المرأة‬ ‫ً‬
‫«مفارقة‬ ‫فدوى‬ ‫ُ‬
‫كنت على وعي بمهانة‬ ‫بالعبودية والقسر‪،‬‬ ‫ُ‬
‫بالخروج عليه‪ ،‬القواعدُ المألوفة التي‬ ‫ِ‬
‫القروية البسيطة بهذا المعنى السامي من‬ ‫هذا الوضع‪ ،‬وبعجزي عن تحطيمه والخروج‬ ‫ُ‬
‫الخالية من العقل‪،‬‬ ‫يصعب كسرها‪ ،‬التقاليدُ‬‫ُ‬
‫الحرية‪ ،‬والذي يعني القدرة على التوحد‬ ‫من إطاره؛… هكذا قام خصامٌ ال هدنة فيه‬ ‫البنت في قمقم التفاهة‪ُ ،‬‬
‫كنت‬ ‫َ‬ ‫والتي تضعُ‬
‫االحتفاظ بجوهر‬
‫ِ‬ ‫مع الوجود‪ ،‬والقدرة على‬ ‫بين نفسي المقهورة بالكبت‪ ،‬وبين الواقع‬ ‫مستمرا إلى االنطالق خارج مناخ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫توقا‬
‫الوقت‬
‫ِ‬ ‫قهر‪ ،‬في‬
‫دون مداهمة أو ٍ‬ ‫َ‬ ‫نقيا‬
‫الذات ًّ‬
‫ِ‬ ‫المتجهم الذي أحياهُ‪ ،‬مما أوجد في نفسي‬ ‫الزمان والمكان‪ ،‬والزمان هو زمان القهر‬
‫الذي عجزت فيه ‪ ‬المرأة المدنية عن الفوز‬ ‫شقها إلى نصفين»‪.‬‬‫انفصاما ّ‬
‫ً‬ ‫والكبت والذوبان في َّ‬
‫اللشيئية‪ ،‬والمكانُ‬
‫بهذه الحرية رغم‪  ‬مطالبات‪ ‬الجمعيات‬ ‫سجن الدار» ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫هو‬
‫ُ‬
‫اإلبداع على‬ ‫ُ‬
‫يبرز‬ ‫والمؤسسات الحقوقية‪.‬‬ ‫ً‬
‫و ترصدُ من الذاكرة مشهدً ا رمزيًّ ا عميقا في‬
‫رأس مسارات الخالص والدروب الموصلة‬ ‫داللته على قهر إبداعها‪ ،‬وهو مشهدُ سرقة‬
‫ّ‬
‫للحرية في هذه النماذج من السيرة الذاتية‪.‬‬ ‫قراءة السيرة‬
‫ِ‬ ‫عند‬ ‫حملة التفتيش التي‬
‫ِ‬ ‫المفضل على يد‬ ‫قلمها‬
‫اإلبداع إمدادَ األنثى‬ ‫تنسب مي زيادة إلى‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫العائلة؛‪ ‬مما يُ ذكرُ بالسيرة‬
‫َّ‬ ‫داهمت منزل‬
‫ِ‬ ‫الذاتية لنوال سعداوي‬
‫الكون‪،‬‬
‫ِ‬ ‫الذات‪ ،‬ومعرفة‬
‫ِ‬ ‫معرفة‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫بالقدرة على‬ ‫الذاتية للكاتبة لطيفة الزيات «حملة تفتيش‪-‬‬
‫التمسك بالحرية في كل‬ ‫ّ‬ ‫والقدرة على‬ ‫وكذلك أعمالها الروائية‬ ‫أوراق شخصية» والتي جعلت فيها السلطة‬
‫صرنا‬ ‫ومستوياتها‪ .‬تقول‪« ‬نعم‬ ‫معانيها‬ ‫ُ‬
‫سنالحظ أنّ ها‬ ‫والقصصية‪،‬‬ ‫التنفيذية ً‬
‫رمزا للقهر الذكوري والمجتمعي‬
‫تُ‬ ‫ِّ‬
‫نكتب‪ ،‬ليس بمعنى تسويدِ الصحائف‬ ‫ُ‬ ‫وسع من الدائرة الداللية‬
‫ُ‬ ‫المتصدي لحرية الفكر السياسي واإلبداعي‬
‫فحسب‪ ،‬بل بمعنى االنتباه للشعور قبل‬ ‫عامة‪.‬‬
‫لقضية قهر األنثى في‬
‫االختالء بذواتنا؛‬
‫ِ‬ ‫التحبير‪ .‬لقد خبرنا‬ ‫استالب الذات في السيرة الذاتية‬
‫ِ‬ ‫مالمح‬
‫نتفر ُس‬
‫َّ‬ ‫فأقبلنا على تفهُّ م معاني الحياة؛‬ ‫المجتمعات العربية‪ ،‬وترى‬ ‫النسوية‬
‫بأبصار جديدة‪ ،‬و ُنصغي إلى‬
‫ٍ‬ ‫في المشاهد‬ ‫حلقة في‬‫ً‬ ‫هذا القهر‬ ‫االغتراب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫من أبرز هذه المالمح التَّ شظي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ونشوق إلى‬ ‫منتبهة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫األصوات بمسامع‬ ‫سلسلة القهر العام الذي‬ ‫والعجز‬ ‫أو انعدامُ الشعور باالنتماء‪،‬‬
‫ُ‬
‫طروبة‪ ،‬ونعبِّرُ‬
‫ٍ‬ ‫بقلوب‬
‫ٍ‬ ‫واالستقالل‬
‫ِ‬ ‫الحرية‬ ‫عن ‪ ‬االندماج باآلخر‪ .‬تصف نوال السعداوي‬
‫اإلخالص في‬
‫ُ‬ ‫بأقالم يشفعُ‬
‫ٍ‬ ‫النزعات‬
‫ِ‬ ‫عن‬
‫يتعرض له المجتمع العربي‬ ‫خطر االغتراب‪ ‬الذي هدّ د‪  ‬ذاتها األنثوية‬
‫وصاحت‬ ‫العمدة‪،‬‬ ‫وجه‬ ‫ّ‬
‫المشققة‪ ‬في‬ ‫نموذجا‬
‫ً‬ ‫تمث ُل‪ ‬‬
‫أما نوال السعداوي والتي ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫تحث‬ ‫نفوس‬
‫ٍ‬ ‫الهتافات َّإل أصوات‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫أصوات‬ ‫ُ‬
‫األمر لكذلك‪ ،‬وجرأتنا هذه لم تبدُ‬‫َ‬ ‫تردّ دها‪ .‬إنَّ‬ ‫ُ‬
‫«كنت أعي ذاتي‪،‬‬ ‫المُ حاصرة بالقهر‪ ،‬تقول‬
‫بأعلى صوتها أمام أهل قريتِ ها‪ ‬منذ نصف‬ ‫مغايرا لمي زيادة على الصعيد األيديولوجي‬
‫ً‬ ‫السير إلى‬ ‫المرأ َة والفتاة العصرية على‬ ‫اللئي َسبقنَنا‪ ،‬وإقدامُ نا لم يألفهُ الرجلُ‬ ‫من َّ‬ ‫وكنت‪ ‬على وعي بأن الذات ال تتكاملُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫قرن ‪« ‬إحنا مش عبيد»‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ْ‬
‫اعتبرت‬ ‫ّفسي فقد‬‫‪ ‬والتكوين الن ّ‬
‫ِ‬ ‫واإلبداعي‬
‫ّ‬ ‫األمام» ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫خاص ٍة‬
‫َّ‬ ‫بنظرة‬
‫ٍ‬ ‫من سوانا‪ ،‬والجمهورُ يرق ُبنا‬ ‫ّإل‪ ‬في الجماعة‪ ‬وكانت الجماعة هناك‪، ‬‬
‫ُ‬
‫عند قراءةِ السيرة الذاتية لنوال سعداوي‬ ‫ً‬
‫خالصا وكينونة صدامية تواجهُ‬‫ً‬ ‫اإلبداع‬ ‫تحررها‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫لألنثى‪ ‬الكاتبة سبيل‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫واإلبداع‬ ‫ُ‬
‫تصف ِح نفس المرأةِ في ما تصف‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬
‫تائقا إلى‬ ‫مسارات الخالص‬ ‫وراء الجدران التي ُتحاصرُ ني‪ ،‬وبينها وبيني‬
‫وكذلك أعمالها الروائية والقصصية‪،‬‬ ‫الممارسات القمعية التي يعمدُ المجتمع من‬ ‫والروحي ‪-‬في رأيها‪-‬‬
‫ّ‬ ‫االجتماعي والفكري‬
‫ِّ‬ ‫وليس في ما يرويه عنها الكاتبون»‬ ‫َ‬ ‫به ذاتها‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أفترض أنَّ نماذج السيرة الذاتية‪ ‬التي بين‬ ‫مسافة قرون‪ ‬طويلة من عالم الحريم» ‪.‬‬
‫ُ‬
‫سنالحظ أ ّنها ُتوسعُ من الدائرة الداللية‬ ‫تطرح نوال‬
‫ُ‬ ‫قهر الذات األنثوية‪.‬‬
‫خاللِها إلى ِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫أشادت بكتابات باحثة البادية؛‬ ‫ومن هنا‬ ‫َ‬
‫‪ .‬وتصف الكتابة ‪-‬في حفل تكريمها‪ -‬بأنها‬ ‫ُ‬ ‫جس ْ‬
‫دت كل هذه األحالم واختزلتها‬ ‫أيدينا قد َّ‬ ‫وتصف مذاقات الشعور باالغتراب‬ ‫ُ‬
‫لقضية قهر األنثى في المجتمعات العربية‪،‬‬ ‫لإلبداع‬ ‫السعداوي هذه الرؤية االعتباريّ ة‬ ‫ُ‬
‫حيث «لم يكن قلمُ ها إال شرار وميض قلبها‪،‬‬ ‫«كوخ» صغيرٌ ّ‬
‫يمثل لها الخصوصية‪ ،‬والعزلة‪،‬‬ ‫في حلم «الحرية» الذي يتردد على لسان كلِّ‬ ‫واستالب الكيان بقولها «كان شعوري‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫حلقة في سلسلة القهر العام‬ ‫وترى هذا القهر‬ ‫في اإلهداء الذي كتبته لجدّ تها في صدر‬ ‫كثير من‬
‫ٍ‬ ‫به اختبرت البيئة المصرية في‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫والدفء والمأوى‪ ،‬وبأنه ‪ ‬لبنة في صرح‬ ‫كاتبة‪ ‬بصورة ما‪ ‬من الصور المباشرة‬
‫ٍ‬ ‫أنثى‬ ‫ّ‬
‫باالغتراب‪ ‬يتكثف‪ ،‬وبدأ إحساسي باستالب‬
‫الذي يتعرض له المجتمع العربي من أنظمة‬ ‫كتابها ‪« ‬معركة جديدة‪ ‬في قضية المرأة»‬ ‫مظاهرها‪ ،‬ودرست المرأة المصرية في‬ ‫يكون‬
‫َ‬ ‫النهضة النسائية‪ .‬تقول «أردتم أن‬ ‫الحرية لفدوى‬
‫ِ‬ ‫حلم‬ ‫ُ‬
‫أو اإلشارية‪ .‬فلقد تمثَّ ل ُ‬ ‫أحالمي‪ ‬وأماني وتطلعاتي‪ ‬الطموحة يتخذُ‬
‫ّ‬
‫الحكم‪ ،‬واستعالء القوى األجنبية‪ ،‬بل تزيدُ‬ ‫ُ‬
‫تقول «إلى جدتي مبروكة ‘أم أبي’‪ ،‬المرأة‬ ‫ولما أن هالها ما شهدت به‬
‫جميع أطوارها؛ َّ‬ ‫الكوخ‪ ‬حجرا‪ ‬معنويًّ ا في صرح النهضة‬
‫ً‬ ‫هذا‬ ‫طوقان التوق في السفر والتحليق بعيدً ا‬ ‫رضيا»‪. .‬‬
‫شكال َم ًّ‬
‫َ‬
‫إشكالية قهر المرأة‬ ‫ّ‬
‫التأزم؛ فترى‬ ‫من رقعة‬ ‫الريفية الفقيرة‪ ‬التي لم تعرف القراءة‪،‬‬ ‫مداد هو‬
‫ٍ‬ ‫ْ‬
‫غمست قلمها في‬ ‫وتعاسة‬
‫ٍ‬ ‫من ٍّ‬
‫ذل‬ ‫َ‬
‫النسائية‪ ،‬ورمزتم بهذا العَ لم إلى راية تحرير‬ ‫عن أجواء القهر والتّ سلط والمراقبة‪ .‬تقول‬ ‫االغتراب‬ ‫تعبِّرُ فدوى طوقان عن هذا‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫ينقسم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حيث‬ ‫سلسلة القهر العالمي‬
‫ِ‬ ‫ً‬
‫حلقة من‬ ‫وعاشت وماتت‪ ،‬وشوَّ ْ‬
‫حت بيدها السمراء‬ ‫الناري‪ ،‬وكتبت فصوال خالدات»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫سي ُ‬
‫ال قلبها‬ ‫َّ‬ ‫العقول من الخرافات واألوهام‪ ،‬وما كانت‬ ‫«يقولون إن الذين عشقوا األسفار كانوا‪ ‬‬ ‫ُ‬
‫«كنت مع العائلة‪،‬‬ ‫بمفردةِ «الغياب» فتقول‬

‫‪65‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪64‬‬


‫ذكورة وأنوثة جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير‬
‫ملف‬

‫يراني ويُ حس بكينونتي ووجودي» ‪.‬‬ ‫غير تقليدية عبر عالقتها بأخيها إبراهيم‬ ‫ْ‬
‫تحررت بالطالق» ‪.‬‬ ‫تحولت إلى أم عذراء‪ ‬ثم‬ ‫ُ‬
‫الصوت اإلنساني الذي‬ ‫الشعر بأنه‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫وتصف‬ ‫وبجواري ٌ‬
‫رجل نائم» ‪.‬‬ ‫العالم إلى أسياد وعبيد‪ ،‬أو قوى كبرى‪،‬‬
‫ُ‬
‫عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ)‪ ،‬فقد‬ ‫أما‬
‫َّ‬ ‫الذي مثَّ ل لها األب واألخ الكبير‪ ،‬والصديق‬ ‫وتقول‪« ‬في العشرين من عمري خفق قلبي‬ ‫عزلة‬
‫ٍ‬ ‫أعاد عالقتها باآلخرين بعد طول‬ ‫َ‬
‫الكتابة ‪ ‬باعتبارها‬ ‫تطرح فدوى طوقان‬
‫ُ‬ ‫زوجها شريف‬
‫ُ‬ ‫ودول صغرى‪ .‬وقد‪  ‬طرح‬
‫ٍ‬
‫ُ‬
‫أرجأت طرح رؤيتي النقدية حول طبيعة‬ ‫واألستاذ الذي ّ‬
‫علمها الشعر؛ فأغدقت عليه‬ ‫بالحب الثاني‪ .‬عيناه كالحب األول كانت هي‬ ‫واغتراب فتقول «ولقد كان الشعرُ الذي‬ ‫الحبيب الصادق‪ ،‬وعالم الوجد الصوفي‬ ‫حتاتة‪ ‬طبيعة فكرها وتوجهها هذا في‬
‫مغايرا‬
‫ً‬ ‫كتابتِ ها النَّسوية؛ ألنها تبدو نموذجا‬ ‫بسخاء‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫من مشاعرها األنثوية المحرومة‬ ‫ُ‬
‫تركت‬ ‫الشمس‪ .‬هربت من بيت أبي وأمي‪.‬‬ ‫ُ‬
‫العمل االجتماعي‬ ‫نشر ُته في الصحف‪ ‬هو‬ ‫ُ‬
‫تقول‬ ‫واالنعتاق الروحي من عذابات الحياة‪.‬‬ ‫مقدمة كتابها «معركة جديدة في قضية‬
‫ُ‬
‫ترتكز‬ ‫في مجال الكتابة النَّسوية؛ فهي ال‬ ‫خالصا من‬
‫ً‬ ‫ومثلت لها عاطفتها تجاهه‬ ‫ّ‬ ‫كتبي وأوراقي وأقالمي‪ ‬ومالبسي وصور‬ ‫ُ‬
‫استطعت أن أجعل منه‬ ‫الوحيد‪ ‬الذي‬ ‫«أصبح الشعرُ شغلي الشاغل في يقظتي‬ ‫المرأة»‪ ،‬فربط بين رؤى نوال السعداوي‬
‫في صوتها اإلبداعي على األيديولوجي‬ ‫ّ‬
‫التأزم والوحشة‪ ،‬واالغتراب والخوف‪ .‬تقول‬ ‫ُ‬
‫ألتفت‬ ‫ُ‬
‫سرت في الطريق إليه ال‬ ‫طفولتي‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ا‪ ‬يصلني باآلخرين وأنا قابعة‪ ‬بين‬ ‫جسر‬
‫ً‬ ‫ونومي‪ ،‬في وجداني وضميري‪ ،‬أصبح ح ِّبي‬ ‫الفكرية‪ ،‬وبين عموم النظام العالمي‪ ،‬وتأزم‬
‫الصادم مثل نوال السعداوي‪ ،‬كما أنَّ‬ ‫فدوى «ومع وجه إبراهيم أشرق وجه اهلل‬ ‫الحب لسوء الحظ إلى زواج‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ورائي‪ .‬تحول‬ ‫جدران األتربة»‪.‬‬ ‫الذي ظل طول حياتي حبا صوفيا‪ ،‬ليس‬ ‫عالقة‬
‫ٍ‬ ‫الوضعية العربية‪ ،‬بل أشار إلى وجود‬
‫صوت مي‬‫ِ‬ ‫ُ‬
‫يختلف عن‬ ‫صوتها اإلبداعي‬ ‫في حياتي» ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫فتحت عيني على الجدران األربعة السوداء‪،‬‬ ‫الحب من عوالم الخالص في هذا الطرح‬ ‫الحب من‬
‫ّ‬ ‫بالمعنى الديني‪ ،‬بل بما في هذا‪ ‬‬ ‫بين ما تواجهه نوال السعداوي في حركتها‬
‫زيادة المُ تسم بالمواجهة الناعمة للقهر‬ ‫الحر والحرية‬
‫الفرح ُ‬
‫َ‬ ‫مثل لها إبراهيم‬‫لقد ّ‬ ‫داخل مطبخ في بيت قديم آيل للسقوط‬ ‫اإلبداعي‬ ‫يبعثه في أعماقي من نشوة‬‫ُ‬ ‫شدة‪ ،‬وبما‬ ‫وبين ازدواجية المعايير في الوضعية‬
‫الذكوري‪ ،‬واالستالب االجتماعي‪ .‬إنَّ عائشة‬ ‫علي‬ ‫فتقول‪« ‬لقد كان الخوف يُ نغص‬ ‫ُ‬ ‫في‪ ‬حي بمدينة القاهرة اسمه المنيل»‪.‬‬ ‫الحب في هذه الرؤية اإلبداعية بصفته‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫يبرز‬ ‫باهرة»‪.‬‬ ‫العراق تحت‬ ‫العربية التي تسمح باستباحة‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫عبدالرحمن‪ ،‬رغم معاناتها من تسلط األب‬ ‫كنت‬‫أفراحي الصغيرة‪ ،‬أما مع إبراهيم فقد ُ‬ ‫أما فدوى طوقان فقد كانت تجربتُ ها‪ ،‬في‬
‫َّ‬ ‫جردة‪ ،‬ال بصفته الواقعية المترجمة‬
‫المُ ّ‬ ‫ُ‬
‫اإلبداع في رؤيتها سبيال الستعادة‬ ‫ُ‬
‫يبرز‬ ‫مظلة النظام العالمي األميركي الجديد‪،‬‬
‫وممانعته في تعليمها‪ ‬وإعاقته‪ ‬رحلتها في‬ ‫ُ‬
‫‪ .‬وتقول‬ ‫نغصات…»‬ ‫أشعر بالتحرر من كل المُ ّ‬ ‫المراهقة‪ ،‬مع الحب األول سببا في‬
‫ِ‬ ‫سنِّ‬ ‫خالصا للذات‬
‫ً‬ ‫مادية ملموسة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫إلى عالقة‬ ‫الذات الضائعة التي استلبها األغيارُ تقول‬ ‫ومزاعم الديمقراطية الجديدة‪ ،‬وثقافة‬
‫التعليم‪ ،‬لم تفقد إيمانها بقيمة الرجل‪ ،‬ولم‬ ‫ّ‬
‫تتنفسه‬ ‫الهواء الذي‬
‫ُ‬ ‫«أصبح هو وحده‪ ‬‬ ‫حرمانها من التعليم‪ ،‬وإهانة إنسانيتها‬ ‫‪ ‬أقرب إلى‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫نقيا مكتمل‬
‫عالما ًّ‬ ‫المُ ستل َبة‪ُ ،‬‬
‫يبرز ً‬ ‫«في استغراقي في عالمي الجديد عرفت‬ ‫‪ ‬والتعصب‬
‫ّ‬ ‫الخرافات والسحر والنفاق‬
‫تفقد تقديرها لشخصيته ودوره في الحياة؛‬ ‫على يد أخيها يوسف‪ .‬وقد تسببت‪ ‬هذه‬ ‫إبداع‬
‫ٍ‬ ‫يكون عملية‬
‫َ‬ ‫وأقرب إلى أن‬
‫ُ‬ ‫الحلم‪،‬‬ ‫الديني‪.‬‬
‫فقد وجدت من نماذج الرجال من ساندها‪،‬‬ ‫كثير‪ ‬من التداعيات النفسية‬ ‫الحادثة في‬ ‫ُ‬
‫الذات‬ ‫تتناغم فيه‬
‫ُ‬ ‫أرضيا‬
‫ًّ‬ ‫وفردوسا‬
‫ً‬ ‫مثالية‪،‬‬ ‫ً‬
‫اإلبداع آفاقا قصوى‬ ‫ُ‬
‫غايات‬ ‫ْ‬
‫بلغت‬ ‫ومن هنا‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫وكان سببا في دعم حياتها؛ فكان جدّ ها‬ ‫والروحية‪ ‬المؤلمة‪ ‬في تكوين فدوى‬ ‫ُ‬
‫مع اآلخر‪ ،‬وتكتمل وتتماهى‪ ،‬وتتحقق‪ .‬وقد‬ ‫في رؤية نوال السعداوي وهي‪ ‬الحريةُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الرجل األول في هذا العطاء‪ .‬كذلك‬ ‫ألبيها‬ ‫مرت فدوى طوقان بتجربة‬ ‫َّ‬ ‫ترسخ داخلها‬
‫طوقان‪ .‬من بين هذه اآلثار‪ ‬ما ّ‬ ‫يمثل هذا ا الحلم وهذه الرؤى‬ ‫الحب‬
‫ّ‬ ‫ظل‬ ‫نموذج‬
‫ٌ‬ ‫عائشة عبد الرحمن‬ ‫بمعناها المطلق‪ ،‬واالنسجام مع الكون‪،‬‬
‫زوجها‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بعض ‪ ‬أقاربها عونا لها‪ ،‬أما‬ ‫كان‬ ‫من‪ ‬ارتباط الحب بالعار والعيب والفضيحة‬ ‫المجرد ألولئك المبدعات‪ ‬رغم‬
‫ّ‬ ‫في التصور‬ ‫الفلسفي الذي‬
‫ّ‬ ‫وتحقق الجمال بالمعنى‬
‫حب فريدة غير تقليدية عبر‬
‫ٍّ‬ ‫للمرأة المصرية‪ ‬الوسطية‬
‫وأستاذها الشيخ‪ ‬أمين الخولي فكان على‬ ‫إلى حدّ توقيعها على القصائد الغزلية بلقب‬ ‫منهن لتجربة واقعية‬
‫ّ‬ ‫تعرض كل مبدعة‬
‫ِ‬ ‫مزيج من العدل والنظام والمساواة‬
‫ٌ‬ ‫هو‬
‫رأس هؤالء جميعً ا‪ ،‬حيث مثَّ ل لها‪ ‬األب‬ ‫عالقتها بأخيها إبراهيم‬ ‫مُ ستعار‪ ،‬هو اسم الشاعرة العباسية «دنانير»‪،‬‬ ‫كفيلة بتنفيرها من الحب‪ ،‬وجحودها‬ ‫مزاجا وروحا وفكرا؛ ألنّ ها‬ ‫ُ‬
‫والحرية‪ .‬تقول «ربما هو حلمٌ من أحالم‬
‫والزوج واألستاذ الجامعي والصديق‬ ‫الذي َّ‬
‫مثل لها األب‬ ‫ولم تكتف بهذا بل حرصت على تصدير‬ ‫بعوالمه وغواياته ووعوده‪.‬‬ ‫لم تخرج من تجربة معاناتها‬ ‫الطفولة أن يصبح العالم‪ ‬من حولي أكثر‬
‫ُ‬ ‫عدالة‪ ،‬إ َّنه‬
‫والحبيب؛ ومن هنا كانت سير ُتها الذاتية‬ ‫واألخ الكبير‪ ،‬والصديق‬ ‫قصائدها‪ ‬الغزلية بجملة األصفهاني في‬ ‫أليمة بين‪ ‬‬
‫ٍ‬ ‫تفرقة‬
‫ٍ‬ ‫السعداوي في‬
‫ّ‬ ‫تقول نوال‬ ‫تسلط األب وممانعته‬ ‫ّ‬ ‫من‬ ‫أجمل األحالم‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫جماال وأكثر‬
‫طرحا فكريًّ ا وعاطفيا يُ جسد‬
‫ً‬ ‫«على الجسر»‬ ‫وصف «دنانير» وهي قوله «وكانت دنانير‬ ‫عالم الحب وعالم الزواج «كلمة الحب لم‬ ‫ولست مستعدة لكي‬ ‫ُ‬ ‫وأعزها على نفسي‪،‬‬
‫واألستاذ الذي ّ‬
‫علمها‬ ‫ً‬
‫في تعليمها وتثقيفها‬ ‫ُ‬
‫األنثوي مع الرجل‪ ،‬ويُ بر َز الوفاء‬
‫َّ‬ ‫التَّ صالح‬ ‫عفيفة»‪ ،‬تقول فدوى «وجعلت‬ ‫شريفة‬ ‫تكن هي كلمة الجواز ُ‬
‫كنت أغني‪ ‬مع الراديو‬ ‫أستبدل بهذا الحلم مال الدنيا أو زينتها أو‬
‫لرحلة العمر التي‪ ‬قطعتها مع هذا الرجل‪،‬‬ ‫الشعر؛ فأغدقت عليه‬ ‫ً‬
‫من هذه العبارة مدخل أحتمي به من عار‬ ‫للحب‪ .‬لم نكف نحن البنات عن الغناء‬ ‫بفكر صدامي مع عموم‬ ‫ٍ‬ ‫ُّ‬
‫تظل‪ ‬القيمة اإلنسانية‬ ‫ثم‬
‫عروشها» ‪ .‬ومن ّ‬
‫وارتقابها فوق الجسر العالق بين الحياة‬ ‫من مشاعرها األنثوية‬ ‫الحب» ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫للحب‪ .‬لم أسمع في حياتي أغنية واحدة‬ ‫الرجل‪ ،‬ولم تتحول إلى‬ ‫‪-‬في رأيها‪ -‬هي معيار الحكم على اإلبداع‪.‬‬
‫والموت لحظة اللحاق به في العالم اآلخر‪.‬‬ ‫في مقابل هذا الجانب المعتم من وقائع‬ ‫ُ‬
‫وتقول «الحب مصيدة الفئران‬ ‫عن‪  ‬الزواج»‪.‬‬ ‫جسدُ نوال السعداوي‬ ‫إبداعي ُت ِّ‬ ‫طرح‬ ‫وفي‬
‫بسخاء‬
‫ٍ‬ ‫المحرومة‬ ‫ضارية‬
‫ٍ‬ ‫ذات‬
‫ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫نموذج في رأيي‬
‫ٌ‬ ‫عائشة عبد الرحمن‬ ‫الذات الساردة‪ ،‬وفي مقابل هذا النموذج‬ ‫تدخلها البنات آمنات مغمضات العيون مثل‬ ‫ولحظات‬ ‫توحدها بالكتابة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لحظات‬
‫ِ‬
‫المصرية‬ ‫والمبدعة‬ ‫المصرية‬ ‫للمرأة‬ ‫السيرة الذاتية ِّ‬
‫لكل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِب‪ ‬للرجل‪ ‬تشتمل‬
‫المُ ستل‬ ‫المغمضة‪ .‬يفتحن عيونهن مفزوعات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫القطط‬ ‫خالصا‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫طقوسها وتجليها التي تبرزها‬
‫المعتدلة‪ ،‬الوسطية مزاجا وروحا وفكرا؛‬ ‫وممن لم يتسع‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫أشرت إليهن‬ ‫ممن‬
‫مبدعة‪ّ ،‬‬ ‫الحب إلى جدران سوداء أربعة‪  ‬في‬
‫ّ‬ ‫تحول‬ ‫ُ‬
‫‪« ‬كنت أحمل قلمي وأوراقي‬ ‫رتجى‬
‫ً‬ ‫وعالما مُ‬
‫ً‬
‫أل ّنها لم تخرج من تجربة معاناتها من ّ‬
‫تسلط‬ ‫ذكوري‬ ‫نموذج‬ ‫إليهن‪ ،‬على‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫المجال‪ ‬لإلشارة‬ ‫بناء آيل للسقوط‪ ‬هو بيت الزوجية» ‪.‬‬ ‫وأغادر البيت‪ .‬أمشي وأمشي دون‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بفكر‬
‫ٍ‬ ‫األب وممانعته في تعليمها وتثقيفها‬ ‫الخالص من النموذج الذكوري‬
‫َ‬ ‫مُ شرق مثَّ ل‬ ‫الحب تجربة قاسية في حياة نوال‬ ‫ُ‬
‫أبحث‪ .‬أتطلع‬ ‫توقف‪ .‬أتلفت حولي كأنما‬
‫صدامي مع عموم الرجل‪ ،‬ولم تتحول‬ ‫المُ ستَ لِب…‪ ،‬مثَّ ل الخالص من خالل منح‬ ‫السعداوي؛ ففي العاشرة من عمرها أ�عجبت‬ ‫إلى األرض والسماء والبيوت والعمارات‬
‫مريرة في عالقتها باآلخر‬
‫ٍ‬ ‫ضارية‬
‫ٍ‬ ‫ذات‬
‫إلى ٍ‬ ‫رئتاي‪ ،‬هواء الصحة والعافية النفسية»‪ .‬‬ ‫العاطفة المُ شبعة والمساندة الداعمة فكريا‬ ‫برجل وكادت تهرب ألجله حبا في عينيه‪،‬‬ ‫ً‬
‫مستغرقة في عملية‬ ‫ُ‬
‫كنت‬ ‫مذاق السعادة‪،‬‬ ‫أهرب‬
‫ُ‬ ‫والشوارع‪ ‬واألزقة‪ .‬أبحث عن ٍّ‬
‫شق‬
‫ِ‬
‫ذات أنثويةٌ‬
‫الرجل والمجتمع‪ ،‬وهي مع ذلك ٌ‬ ‫المصح النفسي‬
‫ّ‬ ‫وتضيف «لقد كان إبراهيم‬ ‫الزوج شريف‬
‫ُ‬ ‫أو إبداعيا أو نفسيا‪ .‬هكذا كان‬ ‫واتضحت لها قسوة الوهم بعد ثالثين‬ ‫خلق نفسي‪ ،‬وبنائها من جديد‪ ،‬والبحث‬ ‫َ‬
‫سبعة‬ ‫فيه‪ .‬أختفي داخله وأغلق ورائي‬
‫قوية شديد الضراوة في الدفاع عن حقها‬ ‫الذي أنقذني من االنهيارات الداخلية»‪ .‬لقد‬ ‫حتاتة في‪ ‬حياة‪  ‬نوال السعداوي‪ ،‬وكان‬ ‫عاما‪ .‬وأحبت في سن العشرين‪ ،‬وهربت‬ ‫مما شكَّل‬
‫الطموح‪ ‬عن إمكانياتي وقدراتي ّ‬
‫ِ‬ ‫باب واحدٌ لطرد األصوات‪.‬‬
‫أبواب؛ ال يكفي ٌ‬
‫ٍ‬
‫في التعليم‪ ،‬ثم العمل والتثقيف والحب‬ ‫كان إبراهيم الصورة المغايرة ألبيها «أما‬ ‫األستاذ الدكتور أمين الخولي في حياة‬ ‫بالفعل معه وتزوجت وأخفقت تجربة‬ ‫ُ‬
‫وتقول «لم يكن أمامي إال‬ ‫ثرو َة وجودي»‪،‬‬ ‫أبحث عن الصمت داخل الصمت… أتلفت‬ ‫ُ‬
‫والزواج كما تشهدُ بذلك سير ُتها الذاتية‪.‬‬ ‫يطرب لغنائي وعزفي‪ ،‬وكان‬
‫ُ‬ ‫إبراهيم فكان‬ ‫عائشة عبدالرحمن‪ ،‬وكان جبران في حياة‬ ‫الزواج‪ ،‬تقول «تزوجت للمرة األولى تحت‬ ‫االنعزال الكامل في قلب العالقات البشرية‬ ‫أذهب‪ .‬أسيرُ بحذاء نهر‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫حولي ألعرف أين‬
‫يكافئني‪ ‬أحيا ًنا ببعض النقود أو بهدية‬ ‫مي زيادة ‪ ،‬وكان إبراهيم طوقان في حياة‬ ‫اسم‪ ‬الحب الكبير‪ .‬قصة طويلة بدأت وأنا‬ ‫المتشابكة من حولي‪ ،‬والهروب من زمني‬ ‫ُ‬
‫أحملق في المياه أمد‬ ‫ُ‬
‫أتوقف لحظة‪ ‬‬ ‫النيل‪.‬‬
‫‪ ‬ناقدة من مصر‬ ‫‪ ‬معنيا‬
‫ًّ‬ ‫إبراهيم‬
‫ُ‬ ‫كثيرا‪ .»..‬لقد ّ‬
‫ظل‬ ‫ً‬ ‫تسعدني‬ ‫فدوى طوقان‪.‬‬ ‫في‪ ‬العشرين من العمر فتاة عذراء‪ ،‬وانتهت‬ ‫البائس إلى الزمن الروائي حينًا‪ ،‬وأحالم‬ ‫ُ‬
‫وأقفز‪ .‬أصحو من النوم‬ ‫قدمي فوق السور‬
‫بإعادة بناء نفسي‪ ..‬كان هو وحده الذي‬ ‫حب فريدة‬
‫ٍّ‬ ‫مرت فدوى طوقان بتجربة‬
‫َّ‬ ‫وأنا في السادسة والعشرين زوجة عذراء‬ ‫اليقظة والشعر أحيا ًنا أخرى» ‪.‬‬ ‫مبللة بالعرق‪ .‬األوراق مبعثرة فوق السرير‪،‬‬

‫‪67‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪66‬‬


‫ذكورة وأنوثة جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير‬
‫ملف‬

‫جدل الفلسفة النسوية والدراسات الثقافية‬

‫رندة حجازي‬
‫بين الوردي والغذامي‬
‫حيدر علي سالمة‬

‫جربان هداية‬
‫يالحظ المتأمل في أدبيات عالم االجتماع العراقي الراحل علي الوردي‪ ،‬كيف‬
‫استأثرت عليها إشكالية نقد البنية الذكورية‪/‬والهيراركية المسيطرة والمشكلة‬
‫لهوية وجسد المرأة في تاريخ الثقافة العراقية**‪ ،‬تلك الهوية التي لم تتعرض‬
‫بعد إلى عملية قراءة ونقد وتفكيك وتأويل منذ الخمسينات حتى اليوم‪.‬‬
‫السبب في ذلك إلى سيادة «النزعة الحرفية واألرثوذكسية» في تحديد‬ ‫ويعود ّ‬
‫قضايا المرأة التي طرحها الوردي وحصرها ضمن أيديولوجيا التحرر المطلق‬
‫والدعوة إلى التمدن الشكالني للمرأة من خالل االقتصار على أحداث ّ‬
‫تحوالت‬
‫على مستوى المظهر الخارجي للمرأة‬

‫القراءات التي ُقدمت وال‬


‫بين التناول األكاديمي الوضعي‪/‬الرسمي‬ ‫تخطى الوردي المفاهيم األفالطونية في‬ ‫العالمة الوردي االجتماعية والثقافية‪ ،‬كانت‬ ‫والعالمات التي تتحكم في إنتاج‪/‬وإعادة‬ ‫وعليه ال يمكننا الفصل بين موقف الوردي‬
‫أغلب‬
‫الالتاريخي عند الغذامي؛ والتحليل الثقافي‬ ‫الحقيقة الواحدة والكلية ذات الصالحية‬ ‫تمثل في واقع األمر مواجهة عنيفة ضد‬ ‫إنتاج الوجود اإليتيقي‪/‬القيمي للمرأة‪ ،‬حتى‬ ‫من نقد النزعة البطريركية في جينالوجيا‪/‬‬ ‫زالت ُتقدم من قبل علماء‬
‫التاريخي عند الوردي‪ .‬فعلى الرغم من‬ ‫والمعيارية‪ )Validity( ‬األبدية‪ .‬وقد انعكس‬ ‫ما يعرف بـسيطرة برادايم إبيستمولوجيا‬ ‫أصبح يمثل نظام األنظمة القبلي الذي يكون‬ ‫وأنتيكا الثقافة العراقية؛ وبين نقد‬ ‫االجتماع خاصة والمثقفين عامة‪ ،‬لم تتحرر‬
‫اهتمام الغذامي بنقد وتحليل إشكالية‬ ‫ذلك على رؤيته للفلسفة النسوية عامة‬ ‫المتحكمة‬ ‫النخبوية‪/‬والطبقية‬ ‫الفحولة‬ ‫شرط شروط الحياة اإليتيقية للمرأة‪.‬‬ ‫(‪anti-‬‬ ‫االستبدادية‪/‬والسلطوية‬ ‫وتتحوّ ل من دائرة سلطة األفكار الحرفية‬
‫العالقة بين المرأة واللغة‪ ،‬إال أن ما يؤخذ‬ ‫وخطاب األنوثة خاصة‪ ،‬فلم يعتمد الوردي‬ ‫بإنتاج سياسات اللغة‪/‬وهندسة نظام‬ ‫فهل الوجود األنتيكي الرمزي‪/‬اللغوي سابق‬ ‫‪ )authoritarianism‬في مناهج ونظريات العلوم‬ ‫إلى دائرة التأويل الفلسفية‪ .‬ربما يعود ذلك‬
‫على هذا النقد أنه لم يتعرض إلى تفكيك‬ ‫على نظريات ومبادئ وضعية وصفية في‬ ‫العالمات وتشكيلها في سياقات المجتمع‬ ‫على الوجود اإليتيقي القيمي واألخالقي‬ ‫االجتماعية‪ ،‬خاصة المناهج اإلمبريقية‪/‬‬ ‫إلى أن علوم القراءة والتأويل للغة‬
‫الخفي المتحكّم في‬
‫ّ‬ ‫أيديولوجيا المنطق‬ ‫تحليل واقع المرأة اليومي‪ ،‬بل على العكس‬ ‫التراتبية‪ .‬وبهذا يكون الوردي قد عمل على‬ ‫في حياة المرأة خاصة واإلنسان عامة عند‬ ‫التجريدية والوضعية التي طالما عملت‬ ‫السوسيولوجيا‪/‬وسوسيولوجيا اللغة لم يتم‬
‫استمرار إبيستمولوجيا الفحولة المسيطرة‬ ‫من ذلك سعى الوردي إلى ربط الخطاب‬ ‫تأسيس ممارسة فلسفية تتثمل في تدشينه‬ ‫الوردي؟ وهل كانت دعوة الوردي تشير‬ ‫على إنتاج‪/‬وإعادة إنتاج أجيال ثقافية‬ ‫استحداثهما بعد في خطابنا االجتماعي‬
‫على خطاب األنوثة سواء في الجزء األول‬ ‫النسوي بتاريخ األفكار السياسي‪/‬والثقافي‪/‬‬ ‫األيديولوجيا‪/‬وأيديولوجيا‬ ‫نقد‬ ‫لحقل‬ ‫إلى أسبقية الوجود اإليتيقي السيمانتيكي‬ ‫توتولوجية بالضرورة‪.‬‬ ‫والثقافي‪ ،‬األمر الذي أدّ ى إلى استمرار‬
‫من كتابه (المرأة واللغة) الذي اشتغل‬ ‫والطبقي الذي يشكل هوية وكينونة‬ ‫النقد‪ )Criticism of ideology( ‬الذي يعمل على‬ ‫الذي يشكّل المعنى والفعل اإلنساني؛ على‬ ‫من هنا يمكننا أن نعتبر قضية المرأة واحدة‬ ‫منطق االجترار والتكرار لطروحات الوردي‬
‫على المرأة بوصفها منتجة وكاتبة للنص‬ ‫جسد المرأة ويعمل على إعادة انتاجها‬ ‫تقويض منطق وسلطة إبيستمولوجيا‬ ‫الوجود اإليتيقي التداولي والتواصلي‬ ‫من أهم اإلشكاالت السوسيو‪-‬نسوية‬ ‫ومجردة من أبعادها‬
‫ّ‬ ‫مبسطة‬
‫بطرق إنشائية ّ‬
‫اإلبداعي‪/‬واألدبي؛ أو في الجزء الثاني من‬ ‫أيديولوجيا وسياسيا بطريقة مستمرة‬ ‫الفحولة الطبقية الكلية‪/‬والمطلقة المسيطرة‬ ‫القيمي في بنية القيم التقليدية النسوية؟‬ ‫في أدبيات الوردي االجتماعية‪ ،‬فدعوة‬ ‫الثقافية واللسانية‪ ،‬وهذا ما جعل من‬
‫كتابه (ثقافة الوهم مقاربات حول المرأة‬ ‫وثابتة بثبات المنطق األكاديمي الوضعي‬ ‫والمهيمنة على صيرورة وحركة األفكار في‬ ‫مثل الوجود األنتيكي عند الوردي‬ ‫وهل ّ‬ ‫الوردي لم تختصر على تحرير المرأة من‬ ‫طروحات الوردي حول المرأة والفلسفة‬
‫والجسد واللغة) الذي تناول فيه ثيمة المرأة‬ ‫الذي يمثل اإلطار الرسمي الستمرار صناعة‬ ‫البنية االجتماعية السائدة‪ .‬إذ كان مفهوم‬ ‫نظاما من الشيفرات األخالقية‪ ،‬يُ ستبطن‬ ‫سيطرة القيم البالية فحسب‪ ،‬بل إنه في‬ ‫النسوية تبدو تقليدية جدا‪ ،‬في حين أنها‬
‫بوصفها موضوعا للنص التراثي‪/‬اللغوي‪/‬‬ ‫وهم األنوثة في الثقافة العربية‪.‬‬ ‫نقد األيديولوجيا مفهوما مزدوجا‪ ،‬فهو‬ ‫في بنية لغة الحياة النسوية الميتافورية؟‬ ‫الواقع كان يدعو إلى «تفكيك جينالوجيا‬ ‫تقع على العكس من ذلك‪ ،‬حيث كانت ّ‬
‫تمثل‬
‫الصوفي‪ .‬بل إن في هذين النصين يتضح‬ ‫وعندما نحاول عقد مقاربة بين طريقة‬ ‫من ناحية يمثل نقدا لمناهج ونظريات‬ ‫المتخيل األنتيكي العثماني القديم»؛ قبل‬ ‫في بنيتها حركة راديكالية ونقدية ضد‬
‫ترتق إلى‬
‫ِ‬ ‫كيف أن معالجة الغذامي لم‬ ‫التعاطي مع إشكالية المرأة لكل من‪:‬‬ ‫العلوم االجتماعية واألكاديمية الوضعية‬ ‫‪  ‬الوردي‪/‬الغذامي‪ :‬جدل إبيستمولوجيا‬ ‫تفكيك الوجود اإليتيقي والتواصلي القيمي‬ ‫الموقف والسلوك البطريركي‪anti-patriarchal( ‬‬
‫مستوى التحليل المنهجي وإعادة صياغة‪/‬‬ ‫ّ‬
‫العلمة الراحل علي الوردي والمفكر‬ ‫ّ‬
‫ويبشر بوالدة ما يعرف بتاريخ‬ ‫من جهة؛‬ ‫الفحولة وتاريخ األفكار النسوي‬ ‫التقليدي المسيطر على ذهنية ولغة حياة‬ ‫‪ )attitude‬الذي تحول إلى سوسيولوجيا‬
‫وتأويل النظرية النسوية وبما ينسجم‬ ‫الدكتور عبداهلل الغذامي‪ .‬سنالحظ كيف‬ ‫األفكار‪ )history of ideas( ‬في المنطق والفلسفة‬ ‫قد ال نبالغ في القول إن جينالوجيا فلسفة‬ ‫المرأة‪ ،‬فالمتخيل السردي األنتيكي القديم‬ ‫معتادة ومسيطرة وسائدة في كافة‬
‫وتحوالت النظرية األدبية والدراسات‬ ‫أنها ستعكس لنا طبيعة الصراع الدائر‬ ‫والعلوم االجتماعية‪ ،‬فمن خالل هذا التاريخ‬ ‫العلوم االجتماعية واإلنسانية في أدبيات‬ ‫عمل على مأسسة معظم أنظمة اللغة‬ ‫المؤسسات االجتماعية والعلمية آنذاك‪.‬‬

‫‪69‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪68‬‬


‫ذكورة وأنوثة جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير‬
‫ملف‬

‫بأدنى اهتمام باألطر الذهنية والمفاهيمية‬ ‫جهة أخرى‪ ،‬والذي طالما عكس «هيمنة‬ ‫‪.-)Europe،pp.3o-31‬‬ ‫ً‬
‫محددا ضمن فضاء النص‬ ‫ً‬
‫لغويا‬ ‫ً‬
‫موضوعا‬ ‫المؤنث فضاء للتحرك والتساوق مع التعبير‬ ‫الثقافية واللسانية المتخصص فيها‪ .‬بل‬
‫التي يشكّلها الوجود األنتيكي‪/‬األثري‬ ‫أيديولوجيا دولة البرهان والعقلنة المطلقة»‬ ‫وكما يبدو واضحا‪ ،‬أن قضية تحوّ ل المرأة‬ ‫تصيرها إلى ذات‬
‫ّ‬ ‫المكتوب؛ إلى مرحلة‬ ‫ووجوه اإلفصاح» (د‪ .‬عبداهلل الغذامي‪،‬‬ ‫على العكس من ذلك سنرى بوضوح كيف‬
‫القديم‪ )antiquarian( ‬المتحول إلى أشكال‬ ‫التي تصادر كل لغة ال تجيد التكلم بلغة‬ ‫من موضوع لغوي إلى ذات فاعلة‪ ،‬هي‬ ‫فاعلة ضمن الفضاء التاريخي‪ .‬فلماذا لم‬ ‫المرأة واللغة‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬ط ‪،3‬‬ ‫سيطرت «إبيستمولوجيا الفحولة الوضعية»‬
‫سردية وشفاهية تشكل صيرورة الخطاب‬ ‫البرهنة والسستمة المنطقية الدقيقة‪.‬‬ ‫قضية إشكالية قبل كل شيء‪ ،‬وال يمكن‬ ‫يعمد الغذامي إذن‪ ،‬إلى تحليل ونقد «فلسفة‬ ‫‪ ،2006‬ص ‪.)11‬‬ ‫التي طالما حاول الغذامي نقدها وتفكيكها‬
‫في التاريخ‪.‬‬ ‫فليس من الغريب إذن أن يتم تغييب‬ ‫لنا التعامل معها بواسطة أسلوبيات الـ»كن‬ ‫ثمة‬
‫اللسانيات الشكالنية‪/‬الوضعية» ومن ّ‬ ‫يتضح من النص أعاله كيف أن اللغة‬ ‫في مؤلفاته سابقة الذكر‪ ،‬ذلك ألنه لم يعمل‬
‫وهذا ما أدى إلى سيطرة النزعة اإلمبريقية‬ ‫لغة األديان الفولكلورية‪/‬الشفاهية‪oral( ‬‬ ‫فيكون» حيث يحصل هذا التحول بمعزل‬ ‫االنتقال إلى تأويل مفهوم الذات النسوية‬ ‫الوصفية قد أحكمت بقبضتها على ناصية‬ ‫على تشكيل مقاربات نقدية مبتكرة بين كل‬
‫والوضعية في معالجة قضايا المرأة‬ ‫‪ )folkloric religions‬التي تخترق لغة أديان‬ ‫عن السياقات األيديولوجية والرمزية‬ ‫الفاعلة من خالل مفاهيم الشعرية ومناهجها‬ ‫مجمل مفاهيمه‪ ،‬فلم يخبرنا الغذامي عن‬ ‫من‪ :‬النقد النسوي؛ والنقد األكاديمي؛ ونقد‬
‫والتراث‪ ،‬في منهجية الغذامي خاصة‬ ‫الفحولة الطبقية المسيطرة في كل عصر‪.‬‬ ‫القارة والثابتة والمؤكدة والمكررة على‬ ‫الثقافية واألسلوبية والبالغية والسردية‪،‬‬ ‫كيفية تحول المرأة من «موضوع لغوي»‬ ‫منطق المناهج والنظريات األصولية السائدة‬
‫وبعض المفكرين العرب عامة‪ ،‬حيث‬ ‫إذن كيف يمكن للمرأة أن تقهر أيديولوجيا‬ ‫مدار التاريخ‪ .‬ربما كان من باب أولى أن‬ ‫التحرر من النزعة الحتمية المسيطرة‬
‫ّ‬ ‫بهدف‬ ‫إلى «ذات فاعلة»؟ ولم يفكك الحلقة‬ ‫والمعتمدة في قراءة وتحليل بنية الوجود‬
‫يتم فصل النص‪ text ‬عن مجمل أبعاده‬ ‫الفحولة وهي ال زالت خاضعة تحت‬ ‫يتم حصر‪ ‬هذه اإلشكالية ضمن فضاء‬ ‫ّ‬ ‫على لسانيات الفعل أحادية التوجه؟‬ ‫المنطقية المفقودة بين جدل الموضوع‪/‬‬ ‫النسوي في الواقع الثقافي السائد‪ .‬وهذا ما‬
‫الثقافية واالجتماعية والسوسيو‪ -‬ثقافية‬ ‫سلطة فحولة الالهوت المثالي‪/‬الرسمي‪،‬‬ ‫أسلوبياتها الثقافية‪ )cultural styles( ‬بهدف‬ ‫بعبارة أخرى‪ ،‬إن تعاطي الغذامي مع مفهوم‬ ‫الذات‪/‬الفعل؟ وكيف يمكن أن تتحوّ ل المرأة‬ ‫جعل من مفهوم «نقد األيديولوجيا» غائبا‬
‫واللسانية والتي تؤثر جميعها على عملية‬ ‫بمعنى آخر‪ ،‬إن مفهوم التحول الذي طرحه‬ ‫رصد وتشخيص مجمل األشكال الهرمية‬ ‫المرأة كـ»موضوع لغوي» أدى إلى تثبيت‬ ‫من موضوع لغوي إلى ذات فاعلة دون‬ ‫ومغيبا في مؤلفاته سابقة الذكر العتماده‬
‫تكوين وتشكيل النص‪ ،‬وإلى أن يكون‬ ‫أي قطيعة لالنتقال‬
‫الغذامي لم يشكل ّ‬ ‫والتراتبية التي تمثل في مجملها عمل‬ ‫متعال للمرأة وتحديدها ضمن‬
‫ٍ‬ ‫أنموذج‬ ‫البحث في جينالوجيا الذاكرة االجتماعية‬ ‫على منطق الوصف والتوصيف وليس‬
‫السبب كما رأينا سابقا في عدم توجيه‬ ‫التاريخ الشكالني‪ ‬الذي يعكس نماذج‬ ‫فلسفة لغة وضعية‪/‬ولسانيات شكالنية؛‬ ‫النقد والتفكيك‪ ،‬في حين أن هذا يمثل روح‬
‫أي اهتمام نحو إعادة النظر‬ ‫الغذامي ّ‬ ‫ّ‬
‫ومطلقة‪ ‬تتمثلها المرأة قبل أن‬ ‫مثالية‬ ‫وإلى تجريد مفهوم‪ act ‬من وظيفته في‬ ‫وجوهر مشروعه في النقد الثقافي‪.‬‬
‫بعالقة اللغة والكالم النسوي‪ ‬بسلطة الطراز‬ ‫تتحول إلى ذات فاعلة‪ .‬لهذا ال يكفي ربط‬ ‫اإلنجاز‪/‬والفعل ليغدو مجرد قانون‪/‬ومعيار‬ ‫لهذا‪َ ،‬غ ُلبت اللغة الوصفية‪/‬الوضعية على‬
‫باألشكال‬ ‫البدائي‪ )archetypes( ‬المتمثل‬ ‫كما يبدو واضحا‪ ،‬أن قضية‬ ‫حركة تحول المرأة وانتقالها من «موضوع‬ ‫(‪ )normative‬قار وثابت ومحصور ضمن‬
‫ّ‬ ‫مشروع الغذامي يهدف‬ ‫معظم مؤلفات الغذامي‪ ،‬ال سيما فيما‬
‫الشعائرية والميثية واالعتقادية الراسخة‬ ‫ّ‬
‫متكلمة»‬ ‫لغوي مكتوب» إلى «ذات فاعلة‬ ‫حدود عمل اللغة وتمفصلها مع الجانب‬ ‫يتعلق بعالقة المرأة بكل من‪ :‬اللغة والوجود‬
‫تحول المرأة من موضوع‬
‫ّ‬ ‫إلى إعادة اكتشاف‬
‫في لغة وبالغة الوجود اليومي للمرأة‪.‬‬ ‫بسلطة النص الرسمي المكتوب‪ ،‬وتجاوز‬ ‫المعجمي أو القاموسي‪ )lexical( ‬والنحوي‪ ‬‬ ‫والتاريخ‪ .‬هذه العالقة التي سيطرت عليها‬
‫فكيف أمكن لمختص في فلسفة النقد‬ ‫لغوي إلى ذات فاعلة‪،‬‬ ‫بالغتها الفولكلورية ومنظومة اآلراء‬ ‫(‪ )grammatical‬والسنتاكسي‪.)syntactical( ‬‬ ‫تاريخية الوجود النسوي‬ ‫«إبيستمولوجيا الكتابة الفحولية الوضعية»‪،‬‬
‫ّ‬
‫يتخطى‬ ‫الثقافي والدراسات الثقافية أن‬ ‫هي قضية إشكالية قبل‬ ‫القيمية واألخالقية التي ُتهيكل ذهنية‬ ‫وهذا ما سيجعل بطبيعة الحال‪ ،‬من شكل‬ ‫في أدبيات الثقافة‬ ‫بمعنى آخر‪ ،‬إن الغذامي اعتمد على سياسة‬
‫مجمل تلك األشكال السردية والشعرية التي‬ ‫كل شيء‪ ،‬وال يمكن لنا‬ ‫وكيان المرأة وتشكل أحكامها عن طبيعة‬ ‫اللسانيات المسيطر والسائد‪ ‬على طروحات‬ ‫العربية من خالل رصد‬ ‫هذه الكتابة في نقده وتفكيكه لواقع المرأة‪،‬‬
‫تأسست عليها مناهج الدراسات الثقافية‬
‫ّ‬ ‫وجودها في العالم‪ .‬وهنا يتوجب علينا‬ ‫الغذامي هو (‪ ،)linguistic act‬أي اللسانيات التي‬ ‫ولم يعمد إلى نقد سلطة المنطق المسؤولة‬
‫التعامل معها بواسطة‬ ‫تحوالت المرأة من مرحلة‬
‫في الفلسفة الغربية والدراسات األدبية‬ ‫تفعيل منطق البحث والتحري‪ )inquiry( ‬في‬ ‫تتمركز حول التحليل الشكالني والنظري‬ ‫عن تغييب األنوثة في التاريخ‪ .‬وذلك ألنه‬
‫والنصية واألسلوبية وما شابه؟‬
‫ّ‬ ‫والنقدية‬ ‫أسلوبيات الـ «كن‬ ‫األسلوبية‬ ‫الطوبولوجيا‬ ‫بنية‪ ‬ونظام‬ ‫للتاريخ والثقافة‪ .‬لهذا فإن قضية االنتقال‬ ‫ً‬
‫موضوعا‬ ‫تمثلها بوصفها‬ ‫وكما يرى أن «كل الذي حدث هو غياب‬
‫وكيف أمكن تجريد هذه الدراسات من‬ ‫فيكون»‬ ‫(‪ )stylistic topology‬ليتسنّى لنا إعادة فهم‬ ‫مجرد كونها «موضوع لغوي‬
‫ّ‬ ‫بالمرأة من‬ ‫ً‬
‫محددا ضمن فضاء‬ ‫ً‬
‫لغويا‬ ‫األنوثة التام عن التاريخ ألنها غابت عن اللغة‬
‫وظيفتها في اإلنجاز‪/‬والفعل‪ act ‬وتحديد‬ ‫وتأويل إشكالية تحول المرأة من موضوع‬ ‫وضعي» إلى كونها «ذات فاعلة متكلمة»‬ ‫وتفردت الفحولة باللغة‬
‫ّ‬ ‫وعن كتابة الثقافة‪،‬‬
‫النص المكتوب‬
‫مواقع اشتغالها ضمن أيديولوجيا النظرية‪/‬‬ ‫لغوي إلى ذات فاعلة ذلك ألن هذه الذات‬ ‫ال يمكن له أن يتحقق دون تفكيك بنية‬ ‫ومسجال بالقلم المذكر‬
‫ّ‬ ‫فجاء الزمن مكتوبا‬
‫واأليديولوجيا‪ ،‬لتتحول في خطابنا الثقافي‬ ‫ال يمكن لها أن تكتشف وجودها في فضاء‬ ‫تاريخ المنطق التي سيطرت على فلسفة‬ ‫واللفظ الفحل‪ .‬وظلت الحال على هذا‬
‫العربي إلى مجموعة من األسس والمبادئ‬ ‫بالمرأة من سيطرة الجماعات الرسمية‬ ‫النص الرسمي‪/‬العقالني المكتوب فقط‪ ،‬بل‬ ‫لت‪/‬ووجهت‬
‫ّ‬ ‫اللغة واللسانيات‪ .‬وبالتالي شكّ‬ ‫المنوال حتى جاء زمن امتلكت فيه المرأة‬
‫المنطقية الوضعية واإلمبريقية الشكالنية‬ ‫‪-‬الفحولة التي تتعامل مع المرأة بوصفها‬ ‫ّ‬
‫المتكلمة‬ ‫ال بد أيضا من التركيز على المرأة‬ ‫مسار فلسفة التاريخ المحدد بأطر وغايات‬ ‫يد الكتابة‪ ،‬وكتبت‪ ..‬فهل تراها تملك القدرة‬
‫والمنغلقة على مجموعة من الحقائق‬ ‫موضوعا لغويا‪ -‬إلى جماعات الفضائل‬ ‫المتجسدة في التاريخ والوجود الواقعي‬
‫ّ‬ ‫وضعية وقطعية تتجاوز المتخيل البالغي‬ ‫والمؤسساتية المتحكّمة في صيرورة إنتاج‬ ‫على تأنيث اللغة أو أنسنتها لتكون للجنسين‬
‫والمعايير المطلقة ذات الصالحية األبدية‪،‬‬ ‫والشعائر (‪- )ritual groups‬حيث تتحول المرأة‬ ‫في العالم‪ .‬فهي هنا تنتج نصوصا اجتماعية‬ ‫والثقافي ألنطولوجيا الوجود اإلنساني‬ ‫كتل نسوية التاريخية؟ وكيف أمكن للغذامي‬ ‫معا‪ ،‬أم أن اللغة قد بلغت منها الفحولة مبلغا‬
‫في حين أنها تأسست في الفكر الغربي‬ ‫إلى ذات فاعلة ومنفعلة باللغة الرمزية‬ ‫وثقافية المتناهية في مملكة فضاء الرأي‬ ‫في التاريخ‪ .‬والستعادة هذا المتخيل كان‬ ‫الفصل بين األبعاد اإلستيطيقية واللغوية‬ ‫ال سبيل إلى مدافعته؟ وهذا العمل ليس‬
‫على فكرة تقويض ميتافيزيقا المنطق في‬ ‫الميتافورية ليست البرهانية والعقالنية‪.-‬‬ ‫الثقافي العام (‪  )public opinion‬بمعزل عن‬ ‫ينبغي على الغذامي أن يحقق قطيعة‬ ‫والثقافية الضرورية إلعادة اكتشاف بالغة‬ ‫بحثا في أدب المرأة وليس دراسة فنية‬
‫تاريخ الفلسفة والثقافة الغربية؟ ولماذا نجد‬ ‫ربما ألن الغذامي لم يكن معنيا بتفكيك‬ ‫شروط النص اإلبداعي الشكالنية‪ .‬والالفت‬ ‫إبيستمولوجية ومنهجية ونظرية الكتشاف‬ ‫القول النسوي المكبوت والمسكوت عنه في‬ ‫جمالية‪ ،‬ولكنه بحث وسؤال عن المنعطفات‬
‫ثمة تعددا في استعمال مناهج‬
‫أن هناك ّ‬ ‫بنية الوجود النسوي بقدر اهتمامه باستمرار‬ ‫أن الغذامي عندما حاول إعادة قراءة خرائط‬ ‫المرأة الفاعلة‪ ،‬وهذه القطيعة تتمثل في‬ ‫متخيل الثقافة العربية؟‬ ‫والتمفصالت الجوهرية في عالقة المرأة‬
‫أي ظاهرة‬‫العلوم اإلنسانية عند دراسة ّ‬ ‫استقرار‪ ‬البنية‪ stable structure ‬خاصة البنية‬ ‫الجسد النسوي المتمفصلة بين ثنايا الخطاب‬ ‫شعرية الفعل التاريخي المتخيل‪)poetic act( ‬‬ ‫وإذا كان مشروع الغذامي يهدف إلى‬ ‫مع اللغة وتحوّ لها من (موضوع) لغوي‬
‫ثقافية عامة في الفكر الغربي‪ ،‬في حين أننا‬ ‫التقليدية الشكلية (‪ .)formal structures‬ولهذا‬ ‫الديني‪ ،‬لم يتجاوز تمركزه المنهجي حول‬ ‫‪-‬للتوسع حول مجمل المفاهيم المذكورة‬ ‫إعادة اكتشاف تاريخية الوجود النسوي‬ ‫إلى (ذات) فاعلة‪ ،‬تعرف كيف تفصح عن‬
‫نجد حالة من الضيق واالنحسار في التعدد‬ ‫السبب لم تحفل حفرياته عن جينالوجيا‬ ‫سلطة التراث من جهة؛ وسلطة الالهوت‬ ‫أعاله (ينظر‪Hayden White،Metahistory،The:‬‬ ‫في أدبيات الثقافة العربية من خالل رصد‬ ‫نفسها‪ ،‬وكيف تدير سياق اللغة من (فحولة)‬
‫المنهجي وفي نقد النظرية المتعالية والفقر‬ ‫المرأة في تاريخ الثقافة العربية اإلسالمية‬ ‫المثالي‪ )theological idealism( ‬الرسمي من‬ ‫‪historical imagination in nineteenth century‬‬ ‫تحوالت المرأة من مرحلة تمثلها بوصفها‬ ‫متحكّمة إلى خطاب بياني يجد فيه الضمير‬

‫‪71‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪70‬‬


‫ملف‬

‫تقويض النزعات الحرفية واألرثوذكسية‬ ‫‪ )disciplinary‬والتفاعلية الرمزية والثقافية‪،‬‬ ‫في إنتاج المفاهيم والعوز األبدي في إبداع‬
‫التي تحوّ لت إلى «معايير ثابتة ومطلقة‬ ‫ألنه كان يرى أن ذلك سيساهم في تحوّ ل‬ ‫القراءة والتأويل؟‬
‫الصالحية» لدى أساتذة وعلماء االجتماع‬ ‫مناهج العلوم االجتماعية والفلسفية إلى‬ ‫ّ‬
‫في مقابل ذلك‪ ،‬سعى العلمة الوردي ومن‬
‫في العراق‪ .‬وهذا أمر طبيعي في ظل غياب‬ ‫علوم لتأويل التاريخ الثقافي واالجتماعي‬ ‫خالل تفكيك سلطة المنطق األفالطو‪-‬‬
‫ثقافة تأويل المناهج والتفاعل مع حقول‬ ‫للوجود اإلنساني‪.‬‬ ‫أرسطي في تاريخ العلوم االجتماعية‬
‫العلوم اإلنسانية األخرى المسيطرة‪ .‬ويمكننا‬ ‫‪ ‬ولهذا السبب الرئيس جرى إقصاؤه‬ ‫والثقافية التي تحوّ لت بفضل هذا المنطق‬
‫أن نعتبر موقف الوردي من واقع تحديث‬ ‫واستبعاده‪ ،‬ألن مثل هذه الطروحات ال تخدم‬ ‫إلى علوم وضعية إستاتيكية راكدة وقارة‬
‫وتحويل المرأة في العراق المثال األقرب‬ ‫فحول األكاديمية وتوجهاتها الهيراركية من‬ ‫في أيديولوجيا القوانين الكلية واإلمبريقية‬
‫إلى مصداقية ما طرحناه أعاله‪.‬‬ ‫جهة‪ ،‬وفحول السلطة السياسية من جهة‬ ‫العامة‪ ،‬إلى إعادة نقد اللغة وتقويض المنطق‬
‫ختاما ألم يُ فعّ ل الوردي منطق الدراسات‬ ‫تمت المحاربة من الجانبين‪،‬‬
‫أخرى‪ .‬وبالفعل ّ‬ ‫في سبيل تجاوز تاريخ الحتمية اللسانية‬
‫الثقافية والنقد الثقافي من خالل تقويضه‬ ‫وتم توجيه «ضربة فحولية واحدة» إليه‪.‬‬ ‫والسوسيولوجية المسؤولة عن استمرار‬
‫لسلطة المنطق القديم وتأويله لمفاهيم‬ ‫فعلى المستوى األكاديمي والثقافي شهدت‬ ‫سياسة لسانية وأسلوبية واحدية في تاريخ‬
‫الثقافة والمجتمع والوجود والتاريخ؟ ألم‬ ‫أغلب الكتابات والمؤلفات التي كتبت‬ ‫الثقافة عامة وتاريخ المرأة خاصة‪ ،‬والتي‬
‫يكن أكثر راديكالية من الغذامي في نقده‬ ‫لطالما عملت على تهميش ومصادرة الكالم‬
‫وتفكيكه «أليديولوجيا المثالية الدينية‬ ‫الرمزي‪ )figures of speech( ‬للكائن النسوي‪.‬‬
‫األفالطونية» التي شكّلت شخصيات‬ ‫وهذا ما يجعلنا نعود بصورة مستمرة‬
‫ّ‬
‫مزدوجة ومنشطرة على نفسها بين عالمين‪:‬‬ ‫فعل الوردي منطق‬ ‫ألم ُي ّ‬ ‫العلمة‬ ‫وضرورية للغاية إلى طروحات‬
‫عالم يفترض وجود فضائل منطقية مفارقة‬ ‫الوردي‪ .‬لكن‪ ،‬على الرغم من أهمية هذه‬
‫الدراسات الثقافية والنقد‬
‫ومحايثة في آن؛ وعالم «الوجود األنتيكي»‬ ‫الطروحات ومعاصرتها المستمرة لمسلسل‬
‫القديم المتحوّ ل إلى بنية وأنظمة وشيفرات‬ ‫الثقافي من خالل تقويضه‬ ‫االنقالبات الثقافية والتحوّ الت السياسية‬
‫أخالقية مستبطنة في شخصيتنا والشعورنا‬ ‫لسلطة المنطق القديم‬ ‫في واقعنا اليوم‪ ،‬إال أننا نالحظ حالة من‬
‫وتوجه مجمل ممارساتنا وسلوكنا؟ ألم يكن‬
‫ّ‬ ‫وتأويله لمفاهيم الثقافة‬ ‫عدم االهتمام الجدي بأدبيات الوردي‬
‫الوردي ومن قبله المفكر السعودي عبداهلل‬ ‫االجتماعية ونظرياته في المنطق والفلسفة‬
‫والمجتمع والوجود‬
‫القصيمي هما األكثر راديكالية من الغذامي‬ ‫والكتابة التاريخية واالجتماعية‪ ،‬وهذا‬
‫وهشام شرابي الذين مأسسوا قضايا‬ ‫والتاريخ‬ ‫يعود إلى سيطرة إبيستمولوجيا مشاريع‬
‫وإشكاالت النقد النسوي من خالل لغتهم‬ ‫الفحولة الوضعية العربية‪/‬اإلمبريقية ذات‬
‫الفوقية‪/‬الوضعية التي تصف وتفترض أكثر‬ ‫األبعاد الواحدية والتوجهات األيديولوجية‬
‫حري بنا أن نعدّ‬
‫ّ‬ ‫مما ُتفكّك و ُتقوّ ض؟ أليس‬
‫ّ‬ ‫التي لم يندرج ضمن فهرستها الفحولية‬
‫الوردي والقصيمي من المؤسسين األوائل‬ ‫الميتافيزيقية لتتوجه إليه أنظار المختصين‬
‫لفلسفة الدراسات الثقافية؟‬ ‫ويجري التعامل معه بوصفه صاحب‬
‫مشروع ثقافي حاله في ذلك حال المفكرين‬
‫باحث من العراق ‪ ‬‬ ‫عن طروحات ّ‬
‫العلمة حالة من «الجفاف‬ ‫العرب اآلخرين وإن لم يكتب بلغتم ويفكّر‬
‫الوضعي» و»التمركز التوتولوجي» على‬ ‫بمنطقهم‪ .‬فلم يتصف الوردي بخاصية‬
‫** لالطالع حول تطور واقع وحياة المرأة العراقية‪،‬‬ ‫طروحات الوردي االجتماعية والتعامل معها‬ ‫معيارية منغلقة سواء في المنهج أو النقد‬
‫ضمن جغرافية وثقافة محيطها وتاريخها االجتماعي‬ ‫أي‬ ‫أو التفكير أو التنظير‪ ،‬بل على العكس من‬
‫المنعزلة عن ّ‬
‫ِ‬ ‫من داخل العلوم االجتماعية‬
‫والثقافي ينظر كتاب علي الوردي «شخصية الفرد‬
‫تفاعل بين منهجي‪/‬وأسلوبي‪ ،‬وهذا أدّ ى‬ ‫ذلك‪ ،‬كان اول من قوّ ض سلطة النزعات‬
‫العراقي‪ :‬بحث في نفسية الشعب العراقي على‬
‫بالضرورة إلى تكريس «أسلوبيات فحولية»‬ ‫الدراسات‬ ‫في‬ ‫واإلمبريقية‬ ‫الوضعية‬
‫ضوء علم االجتماع الحديث»‪ ،‬ويمكن القول إن‬
‫الوردي حاول البحث والتحري في هذا الكتاب على‬ ‫وضعية لم تنجح حتى هذه اللحظة في‬ ‫االجتماعية والدراسات التاريخية والتراثية‬
‫ما اصطلحنا عليه بـ»االقتصاد الشعبي لبنية الحياة‬ ‫تشكيل ما اصطلحنا عليه بـ»األسلوبيات‬ ‫في آن واحد‪ ،‬ال سيما في مؤسسات‬
‫البطريركية للمرأة المتمفصلة مع بنية الحياة الدينية‬ ‫األيكولوجية» التي تعيد تنقية وتأويل‬ ‫العراق األكاديمية‪ .‬ولم يعمد إلى الفصل‬
‫والوعظية‪/‬المثالية‪/‬االزدواجية‪ .‬نظرية‬ ‫مفاهيم ونظريات الوردي من جهة؛ وإلى‬ ‫بين التفاعلية المنهجية‪/‬التخصصية(‪inter‬‬

‫‪73‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪72‬‬


‫ذكورة وأنوثة جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير‬
‫ملف‬

‫صورة المرأة العربية‬

‫مايسة محمد‬
‫سوسيولوجيا قاسم أمين وإبستمولوجيا إمام عبدالفتاح‬

‫ماهر عبدالمحسن‬

‫يشهد التاريخ اإلنساني ّ‬


‫بأن المرأة‪ ،‬في الكثير من مراحل هذا التاريخ‪ ،‬قد‬

‫جربان هداية‬
‫بين من قبل الرجل الذي دأب على حصرها في دائرة ضيقة ال‬ ‫تعرّ ضت لظلم ّ‬
‫تتجاوز تبعيتها ومن ثم خدمتها له‪.‬‬
‫ً‬
‫أيضا هذا التاريخ قيام بعض الرجال بالسباحة ضد هذا التيار‬ ‫كما يشهد‬
‫الجارف‪ ،‬ومحاولتهم الدفاع عن المرأة ّ‬
‫ورد‪ ،‬ولو جزء يسير من حقوقها‬
‫المهدرة كي تتمكن من مواصلة دورها الحضاري الذي تم طمسه بفعل فاعل ال‬
‫قلب له وال رحمة‪.‬‬

‫ً‬
‫النخراطه في الحياة اليومية واالجتماعية‬ ‫المرأة» بأنه هدف إصالح اجتماعي‪ ،‬فيقول‬ ‫عصر قاسم أمين‪.‬‬ ‫و»نساء فالسفة»‪( .‬وقد وعد في نهاية كتابه‬ ‫قدم دراسة تنتصر لحرية المرأة وتتجاوز‬ ‫عددا من آراء‬ ‫قاسم أمين‬
‫يورد‬
‫لهذه األمة‪ .‬فقاسم أمين‪ -‬بهذه المثابة‪-‬‬ ‫«إني أدعو كل محب للحقيقة أن يبحث‬ ‫أي األحوال ال يحاول هذا البحث‬‫وعلى ّ‬ ‫«نساء فالسفة» بتقديم كتاب يتضمن نساء‬ ‫مجرد اآلراء المتشذرة التي يوردها‬ ‫المفكرين الغربيين الذين انتصروا‬
‫يبدو كمصلح اجتماعي‪ .‬يفكر من داخل‬ ‫معي في حالة النساء المصريات‪ ،‬وأنا على‬ ‫القصير أن يجيب على هذا التساؤل‪ ،‬وإنما‬ ‫فالسفة من العصر الحديث)‪ .‬هذا باإلضافة‬ ‫الفالسفة هنا أو هناك‪ ،‬ربما لحفظ ماء‬ ‫للمرأة في كتابه «المرأة الجديدة» على‬
‫المشكلة االجتماعية وبوحي من أزماتها‪،‬‬ ‫يقين من أن يصل وحدة إلي النتيجة‬ ‫يحاول أن يبرز الكيفية التي عالج بها كل‬ ‫إلى آرائه حول المرأة التي أوردها في عدد‬ ‫الفكر في زمن لم يعد من الالئق به التفكير‬ ‫النحو التالي‪ :‬قال سيملس «للمرأة في‬
‫ال كمجرد ّ‬
‫منظر يتأمل الظاهرة ويعالجها‬ ‫التي وصلت إليها‪ ،‬وهي ضرورة اإلصالح‬ ‫من قاسم أمين وإمام عبدالفتاح إشكاليات‬ ‫من المقاالت ضمن مقاالت أخرى تم جمعها‬ ‫ً‬
‫عموما وحرية المرأة بنحو‬ ‫ضد الحريات‬ ‫ألي أستاذ‬
‫مما ّ‬
‫تهذيب النوع اإلنساني أكثر ّ‬
‫من الخارج على نحو ما سنرى في مقاربة‬ ‫فيها»‪( ‬قاسم أمين‪ ،‬تحرير المرأة‪ ،‬القاهرة‪:‬‬ ‫المرأة في المجتمع‪ ،‬فهو بحث فلسفي في‬ ‫في كتاب «أفكار ومواقف»‪.‬‬ ‫خاص‪ ،‬فإن أبرز المحاوالت العربية في‬ ‫فيه‪ ،‬وعندي منزلة الرجل في النوع منزلة‬
‫إمام عبدالفتاح‪ .‬وليس أدل على ذلك من‬ ‫كلمات عربية للترجمة والنشر‪ ،2012 ،‬ص‪.)9‬‬ ‫المقام األول يعنى بالمناهج والنظريات‬ ‫والسؤال الذي يفرض نفسه‪ ،‬لماذا أقدم‬ ‫هذا السياق إنما قد جاءت على يدي المفكر‬ ‫المخ من البدن ومنزلة المرأة منه منزلة‬
‫قول قاسم أمين نفسه «إني أكتب هذه‬ ‫ويأتي هذا اإلصالح ضمن حاجة إلي إصالح‬ ‫أكثر مما يعنى بالمضامين التي تحملها هذه‬ ‫إمام عبدالفتاح على تقديم هذا المشروع‬ ‫ورجل القانون قاسم أمين في بداية القرن‬ ‫القلب»‪ ،‬وقال شيلر «كلما وجد رجل وصل‬
‫السطور وذهني مفعم بالحوادث التي‬ ‫أشمل ينال األمة بأسرها «ال أظن أنه يوجد‬ ‫المناهج وتلك النظريات‪ .‬كما أنه يترك للقارئ‬ ‫بعد مرور قرن من الزمان على كتابي قاسم‬ ‫الماضي من خالل كتابيه الشهيرين «تحرير‬ ‫بعمله إلى غايات المجد وجدت بجانبه امرأة‬
‫وردت على بالتجربة‪ ،‬وأخذت بمجامع‬ ‫واحد من المصريين المتعلمين يشك في‬ ‫مساحة للتفسير والتأويل‪ ،‬ومن ثم صياغة‬ ‫أمين؟‬ ‫المرأة» و»المرأة الجديدة»‪ ،‬واللذين يؤرخ‬ ‫محبوبة»‪ ،‬وقال روسو «يكون الرجال كما‬
‫خواطري»‪( ‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.)22‬‬ ‫أن أمته في احتياج شديد إلى إصالح‬ ‫اإلجابة التي يراها‪.‬‬ ‫اإلجابة ال تخرج عن أحد احتمالين‪ :‬إما أن‬ ‫بهما لبداية عصر جديد للمرأة يفصلها عن‬ ‫تريد النساء‪ ،‬فإذا أرادت أن تجعل الرجل من‬
‫ولعل السبب في ذلك يرجع إلى الخلفية‬ ‫شأنها»‪( ‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.)8‬‬ ‫‪ 1-‬الخلفيات الفكرية‬ ‫إمام عبدالفتاح قد رأى أن المرأة العربية‬ ‫تاريخ طويل من العبودية سادت فيه النزعة‬ ‫ّ‬
‫فعلم النساء الهمة‬ ‫ذوي الهمة والفضيلة‬
‫الفكرية لقاسم أمين‪ ،‬والتي أسهم في‬ ‫ويحدثنا قاسم أمين في أكثر من موضع‬ ‫قد تتقارب الغايات وتتشابه الوسائل‪ ،‬لكن‬ ‫لم تزل تعاني من إهدار لحقوقها وكبت‬ ‫الذكورية في كل مناحي الحياة االجتماعية‬ ‫والفضيلة»‪ ،‬وقال فنلون «إن الواجبات التي‬
‫تشكيلها عمله بالقضاء وبالقانون‪ ،‬األمر‬ ‫عن حاجة األمة لإلصالح والوسائل المؤدية‬ ‫النظرة المدققة تكشف لنا عن اختالفات‬ ‫لحرياتها رغم مرور هذه السنين الطويلة‪.‬‬ ‫والسياسية واالقتصادية والفكرية‪ .‬كما‬ ‫تطالب بها النساء هي أساس الحياة‬
‫ً‬
‫قريبا من المشكالت االجتماعية‬ ‫الذي جعله‬ ‫إليه‪ ،‬وكيف أنها شعور داخلي يدفع اإلنسان‬ ‫جذرية بين ما قدمه قاسم أمين وإمام‬ ‫وإما أنه وجد في محاولة قاسم أمين‬ ‫جاءت المحاولة األكثر معاصرة في بداية‬ ‫اإلنسانية…»‪ ،‬وقال المارتين «إذا قرأت‬
‫التي كانت تعاني منها األمة المصرية في‬ ‫إلى التعبير عن كل فكرة تطرأ على ذهنه‬ ‫عبدالفتاح في مقاربتهما لموضوع المرأة‪.‬‬ ‫ً‬
‫قصورا ما‪ ،‬فعمل على استكمال هذا القصور‬ ‫األلفية الثانية على يدي المفكر العربي‬ ‫كتابا فكأنما قرأ زوجها‬ ‫ً‬ ‫المرأة‬
‫ذلك الوقت‪ ،‬وهي نفس العوامل التي‬ ‫لتخرج إلى النور وتسهم في تقدم األمة‪.‬‬ ‫وإذا عدنا إلى المقدمات التي وضعها‬ ‫حتى يكتمل بذلك المشروع الفكري العربي‪،‬‬ ‫إمام عبدالفتاح إمام من خالل مشروع‬ ‫وأوالدها؟»‪( .‬قاسم أمين‪ ،‬المرأة الجديدة‪،‬‬
‫سوف تمكّنه من إيجاد الحلول القانونية‬ ‫والحقيقة أن شعور قاسم أمين بحاجة‬ ‫المفكران لمؤلفاتهما ألمكننا أن نضع أيدينا‬ ‫الملقى على عاتقه مهمة تحرير المرأة‬ ‫فلسفي يضم أربعة كتب حتى اآلن‪ ‬هي‬ ‫القاهرة‪ :‬مطبعة الشعب‪ ،1911 ،‬ص ص‪123‬‬
‫لهذه المشاكل‪ .‬وعلى ذلك فال يستغرب أن‬ ‫األمة عامة لإلصالح وحاجة المرأة بنحو‬ ‫على قدر معقول من هذه االختالفات‪.‬‬ ‫العربية‪ ،‬خاصة في ظل المستجدات التي‬ ‫علي الترتيب‪« :‬أفالطون والمرأة» و»أرسطو‬ ‫‪.)-124‬‬
‫نعثر لديه على مباحث من قبيل «الزواج»‬ ‫خاص لإلصالح‪ ،‬إنما يأتي كنتيجة طبيعية‬ ‫فقاسم أمين يحدد هدفه من كتابه «تحرير‬ ‫طرأت على الساحة ولم تكن موجودة في‬ ‫والمرأة» و»الفيلسوف المسيحي والمرأة»‬ ‫وإذا كان جون ستيوارت ميل هو أول من‬

‫‪75‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪74‬‬


‫ذكورة وأنوثة جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير‬
‫ملف‬

‫نهاية التحليل ينبغي أن يصل بنا إلى مثل‬ ‫ً‬


‫وجريا‬ ‫ً‬
‫طوعا لمقتضيات االجتماع‪،‬‬ ‫تالشت‬ ‫هذا من ناحية‪ ،‬ومن ناحية أخرى يمكننا‬ ‫ً‬
‫شيئا من الضوء الكاشف على أوضاع‬ ‫يلقي‬ ‫ظاهرة محلية‪.‬‬ ‫و»الطالق» و»تعدد الزوجات» و»الحجاب»‪.‬‬
‫ً‬
‫فعذرا إن بدت صادمة‪.‬‬ ‫هذه النتائج‪،‬‬ ‫على سنة التقدم والترقي»‪( ‬قاسم أمين‪،‬‬ ‫أن نعثر في تحليالت إمام عبدالفتاح‬ ‫المرأة الحالية‪.‬‬ ‫هذا باإلضافة إلى تصريحه المباشر في‬ ‫وإذا انتقلنا إلى مقاربة إمام عبدالفتاح في‬
‫‪ ‬قبل أن نختم هذه الجزئية من البحث‬ ‫تحرير المرأة‪ ،‬ص‪.)38‬‬ ‫على مالمح فوكوية أركيولوجية تتبدى‬ ‫الصدد يقول قاسم أمين «ال يمكن‬
‫وفي هذا ّ‬ ‫مقدمة الكتاب األخير من السلسلة قائ ً‬
‫ال‬ ‫موضوع المرأة‪ ،‬فيمكننا أن نفهم الغاية‬
‫ينبغي أن نشير إلى أن البعد المعرفي ال‬ ‫ويفسر قاسم أمين مغاالة المسلمين في‬ ‫في محاوالته الدؤوبة للحفر في الجذور‪،‬‬ ‫معرفة حال المرأة اليوم إال بعد معرفة‬ ‫«هذا الكتاب‪ ..‬دعوة إلى المرأة العربية‬ ‫من المشروع بأكمله من خالل السطور‬
‫يغيب عن تحليالت قاسم أمين‪ ،‬كما أن‬ ‫ً‬
‫وليدا للمغاالة‬ ‫التمسك بالحجاب بأنه كان‬ ‫فرجوعه إلى أفالطون وأرسطو والفلسفة‬ ‫حالها في الماضي‪ .‬تلك هي قاعدة البحث‬ ‫لتستعيد الثقة بنفسها‪ ،‬وتنفض عنها غبار‬ ‫األولى التي وضعها في المدخل العام‬
‫البعد االجتماعي ال يغيب عن تحليالت إمام‬ ‫في االحتشام في مقابل مغاالة المجتمعات‬ ‫المسيحية ليس إال بهدف العثور على‬ ‫في المسائل االجتماعية‪ ،‬فإ ّننا ال يمكننا أن‬ ‫السنين الطويلة من الجهل والتخلف» (قاسم‬ ‫لكتابه األول في هذا المشروع «أفالطون‬
‫عبدالفتاح إال أننا نتحدث عن التوجه العام‬ ‫الغربية في التكشف‪ .‬وهنا يلتقي قاسم أمين‬ ‫أساس لما يتم الترويج له في الثقافة‬ ‫نقف على حقيقة حالنا في شأن من شؤوننا‬ ‫أمين‪ ،‬المرأة الجديدة‪ ،‬ص‪.)1‬‬ ‫والمرأة» فيقول «تسعى هذه السلسلة إلي‬
‫والطابع المميز لفكر ّ‬
‫كل من المفكّريْ ن‪.‬‬ ‫بإمام عبدالفتاح في أنهما يردّ ان صورة المرأة‬ ‫ً‬
‫عموما‪ ،‬والثقافة العربية بنحو‬ ‫الحديثة‬ ‫إال بعد استقراء الحوادث الماضية واإللمام‬ ‫وكما أشرنا إلى دور الخلفية الفكرية لقاسم‬ ‫دراسة العالقة بين الفيلسوف والمرأة»‪ ،‬في‬
‫ففي كتاب «الفيلسوف المسيحي والمرأة»‬ ‫السيئة ووضعيتها المتدنية في المجتمع إلى‬ ‫خاص‪ ،‬حول الصورة التي عليها المرأة اآلن‪.‬‬ ‫باألدوار التي تقلبت فيها وبعبارة أخرى يلزم‬ ‫أمين في توجيهه إلى الطريقة التي تناول‬ ‫محاولة لتأكيد الفكرة التي تقول إن الصورة‬
‫يستهل إمام عبدالفتاح الكتاب بمقدمة‬ ‫الغرب‪ .‬ودون محاولة التعرض بالنقد لهذه‬ ‫وأخطر ما توصل إليه إمام عبدالفتاح في‬ ‫أن نعرف من أي نقطة ابتدأنا حتى نعلم‬ ‫ً‬
‫أيضا أن نشير‬ ‫بها قضايا المرأة‪ ،‬يمكننا‬ ‫السيئة عن المرأة الشائعة بيننا هي التي‬
‫يوضح فيها كيف أنه يختلف عن الكتابين‬ ‫الفكرة أو حتى محاولة تجاوزها‪ ،‬يمكننا‬ ‫هذا األمر ‪-‬من وجهة نظرنا‪ -‬هو نجاحه في‬ ‫إلى أي نقطة نصل»‪( ‬د‪ .‬إمام عبدالفتاح‪،‬‬ ‫هنا إلى نفس هذا الدور الذي لعبته خلفية‬ ‫رسمها الفيلسوف منذ بداية الفلسفة في‬
‫السابقين «أفالطون والمرأة» و»أرسطو‬ ‫ً‬
‫هاجسا متغلغ ً‬
‫ال في الالوعي‬ ‫القول إن ثمة‬ ‫إثبات أن الصورة السلبية عن المرأة التي‬ ‫نساء فالسفة القاهرة‪ :‬مكتبة مدبولي‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫إمام عبدالفتاح الفكرية‪ ،‬كأستاذ للفلسفة‪،‬‬ ‫ً‬
‫أرضا خصيبة‪،‬‬ ‫بالد اليونان‪ ،‬ثم وجدت عندنا‬
‫والمرأة» في سلسلة «الفيلسوف‪ ..‬المرأة»‬ ‫ً‬
‫العربي يجعلنا دائما نشعر بأن الخطر يأتي‬ ‫ً‬
‫تدعيما من الدين هي ليست من‬ ‫نجد لها‬ ‫‪ ،1996‬ص‪.)13‬‬ ‫في توجيه مشروعه النظري حول عالقة‬ ‫ً‬
‫دينيا‪ ،‬وأصبحت فكرة‬ ‫حتى أنها ارتدت ً‬
‫ثوبا‬
‫في أنه يطرح مسائل عملية تختلف عن‬ ‫من الخارج ال من الداخل‪ .‬وخطورة هذا‬ ‫الدين في شيء‪ .‬ومن ذلك ما أورده عن‬ ‫ويع ّبر إمام عبدالفتاح عن نفس المعنى قائ ً‬
‫ال‬ ‫الفالسفة بالمرأة‪.‬‬ ‫مقدسة‪ ،‬ال يأتيها الباطل»‪( ‬د‪ .‬إمام عبدالفتاح‪،‬‬
‫اآلراء النظرية التي قدمها فالسفة اليونان‪،‬‬ ‫فلسفة أرسطو حول المرأة التي حاولت أن‬ ‫«إننا إذا أثبتنا عن طريق شواهد التاريخ‬ ‫أفالطون والمرأة‪ ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة مدبولي‪،‬‬
‫فيقول «في كتابنا الحالي نعرض للعالقة‬ ‫ً‬
‫نظريا للصورة الشائهة التي كان‬ ‫ً‬
‫أساسا‬ ‫تقدم‬ ‫أن هناك امرأة واحدة تفلسفت‪ ،‬أو برهنت‬ ‫ط‪ ،1996 ،2‬ص‪.)5‬‬
‫بين الفيلسوف المسيحي والمرأة‪ ..‬وإذا‬ ‫يراها عليها من تدنّ في الذكاء ونقص في‬ ‫على رجاحة العقل وصواب الفكر عندها‪،‬‬ ‫ويالحظ هنا أن اإلشكالية التي دفعت إمام‬
‫ً‬
‫نظريا‪ ،‬عن‬ ‫كان فالسفة اليونان قد ع ّبروا‪،‬‬ ‫كل من قاسم‬‫يلجأ ّ‬ ‫العقل وعدم اتزان في الحكم على األشياء‬ ‫فإننا نهدم بذلك آالف األمثلة اإليجابية‬ ‫شعور قاسم أمين بحاجة‬ ‫عبدالفتاح إلنجاز مشروعه الكبير حول‬
‫التراث السائد في مجتمعهم… فسوف نجد‬ ‫وعدم صالحية للسياسة أو القيادة أو‬ ‫التي يقول بها أصحاب الفكرة األورسطية‬ ‫المرأة إنما كانت إشكالية نظرية باألساس‪،‬‬
‫ً‬
‫أمين وإمام عبدالفتاح‬ ‫األمة عامة لإلصالح‬
‫جيدا لسيطرة العادات‬ ‫في كتابنا هذا مثاالً‬ ‫إدارة لشؤون البالد‪ ،‬وكيف أن هذه الصورة‬ ‫المتخلفة التي تغمض العين حتى ال ترى‬ ‫تنحصر في التأكيد على دور الفالسفة‬
‫والتقاليد وطغيانها علي الفكر الديني»‪( ‬د‪.‬‬
‫إلى التاريخ من أجل‬ ‫المسيئة للمرأة قد تسربت للثقافة العربية‬ ‫نماذج مضيئة لنساء راجحات العقل‪:‬‬
‫وحاجة المرأة بنحو خاص‬ ‫في شيوع الصورة السيئة عن المرأة‬
‫إمام عبدالفتاح‪ ،‬الفيلسوف المسيحي‬ ‫إبراز وجهتي نظرهما‬ ‫ً‬
‫دينيا‪،‬‬ ‫(الرفيعة منها والشعبية) وارتدت ً‬
‫ثوبا‬ ‫صائبات التفكير‪ ،‬سديدات الرأي»‪( ‬المرجع‬ ‫لإلصالح‪ ،‬إنما يأتي كنتيجة‬ ‫في مجتمعاتنا‪ .‬وألن اإلشكالية نظرية‪،‬‬
‫ً‬
‫والمرأة‪ ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة مدبولي‪ ،‬الطبعة‬ ‫في المسائل المتعلقة‬ ‫والدين منها براء‪ .‬فنجده يقول عن أفكار‬ ‫السابق‪ ،‬ص‪.)14‬‬ ‫طبيعية النخراطه في‬ ‫أيضا أن عبدالفتاح يتحدث عن‬ ‫فيالحظ‬
‫األولى‪ ،‬سنة ‪ ،1996‬ص ‪.)7‬‬ ‫أرسطو «تجدها متناثرة هنا وهناك‪ ،‬يرتدى‬ ‫ويالحظ أنه بالرغم من غلبة المنهج‬ ‫المرأة بإطالق‪ ،‬أي بصفة عامة‪ ،‬ودون أن‬
‫بالمرأة‪ ،‬وعلى رأسها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بعضها ‪-‬لألسف‪ً -‬‬
‫الحياة اليومية واالجتماعية‬
‫ويشرع في استعراض وتحليل آراء علماء‬ ‫عمقا‬ ‫دينيا ليكون أكثر‬ ‫زيا‬ ‫التاريخي على كل من المفكّريْ ن‪ ،‬إال أنه كان‬ ‫يقصد جنسا معينا من النساء‪ ،‬هذا على‬
‫واالجتماع‬ ‫والجغرافيا‬ ‫األنثربولوجيا‬ ‫وضعية المرأة نفسها في‬ ‫ً‬
‫ونفاذا‪ ،‬أقحموه على اإلسالم الذي رفع‬ ‫حاضرا في شكله التقليدي‪.‬‬‫ً‬ ‫عند قاسم أمين‬ ‫لهذه األمة‪ .‬فقاسم أمين‪-‬‬ ‫خالف قاسم أمين الذي كان يتحدث عن‬
‫ليكشف عن مالمح المجتمع الذكوري‬ ‫المجتمع وفي التاريخ‪.‬‬ ‫المرأة العربية من حضيض الجهل والتخلف‪،‬‬ ‫فالتاريخ عنده سلسلة من الوقائع المتصلة‬ ‫بهذه المثابة‪ -‬يبدو كمصلح‬ ‫ً‬
‫تحديدا‪ ،‬حتى وإن استعان‬ ‫المرأة المصرية‬
‫الذي كان يعمد إلى السيطرة على المرأة‬ ‫فيستدعى كل منهما من‬ ‫بعد أن كانت تورث مع ممتلكات الرجل إلي‬ ‫خطي له بداية ونهاية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التي ترتبط بزمن‬ ‫اجتماعي‪ .‬يفكر من داخل‬ ‫بالتاريخ ورجع بالبحث إلى الماضي أو‬
‫واعتبارها في مرتبة أدنى‪ .‬وفي هذا الصدد‬ ‫أعلى المراتب االجتماعية عندما جعلها‬ ‫بحيث تؤدي معرفة البدايات إلى وعي‬ ‫استعان بالجغرافيا وانتقل إلى بلدان‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أحداث الماضي‬ ‫المشكلة‬
‫متأسسا‬ ‫اجتماعيا للحجاب‬ ‫تفسيرا‬ ‫يقدم‬ ‫قيمة على نفسها ومالها وزوجها‪ ..‬ألخ»‪( ‬د‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أكثر بالنهايات‪ .‬أو بعبارة أخرى تؤدي معرفة‬ ‫أوروبية أخرى‪.‬‬
‫على بعض اآلراء األنثربولوجية التي تربط‬ ‫إمام عبدالفتاح‪ ،‬أرسطو والمرأة‪ ،‬القاهرة‪:‬‬ ‫الماضي إلى فهم أعمق للحاضر‪.‬‬ ‫وال ينفي ذلك كون المرأة المصرية والعربية‬
‫بين الملكية الخاصة ووضع المرأة‪ .‬فالمرأة‬ ‫مكتبة مدبولي‪ ،‬ط‪ ،1995 ،1‬ص‪.)9‬‬ ‫وبالرغم من أن إمام عبدالفتاح يمضي في‬ ‫هي التي كانت في ذهنه أثناء طرحه‬
‫ً‬
‫‪-‬وفقا لهذا التفسير‪ -‬وباعتبارها ملكية‬ ‫ويمكن أن نعثر على نفس النتيجة لدى‬ ‫ً‬
‫تقريبا إال أن خلفيته‬ ‫بحثه على نفس النهج‬ ‫إلشكاليات مشروعه النظري‪ .‬ويؤكد هذا‬
‫خاصة كان ال بد من حجبها عن األنظار‬ ‫الهاجس تكمن في أنه ال يتوقف عند مسألة‬ ‫قاسم أمين الذي تناول قضية الحجاب‬ ‫الفلسفية الهيجلية تجعله يعنى باألفكار‬ ‫االستنتاج عبارته التي وردت في الفقرة‬
‫حتى تضمن ساللة من صلب الزوج صاحب‬ ‫من مسائلنا أو قضية من قضايانا قد ترد‬ ‫‪-‬ضمن مسائل أخرى‪ -‬باستفاضة ليثبت أنه‬ ‫أكثر مما يعنى بالحوادث‪ .‬فالتاريخ عنده‬ ‫‪ 2-‬المنهج‬ ‫ً‬
‫أرضا خصيبة»‪،‬‬ ‫السابقة «ثم وجدت عندنا‬
‫ً‬
‫أيضا ما يفسر عدم أهمية‬ ‫هذه الملكية‪ .‬وهو‬ ‫هنا أو تعرض هناك‪ ،‬وإنما يمتد إلى الهوية‬ ‫في صورته العملية ال يعدو أن يكون عادة‬ ‫ً‬
‫تاريخا للوقائع بقدر ما هو تاريخ‬ ‫ليس‬ ‫‪ ‬يلجأ ّ‬
‫كل من قاسم أمين وإمام عبدالفتاح‬ ‫فالصورة السيئة للمرأة نشأت لدى فالسفة‬
‫الحجاب بالنسبة إلى المجتمعات التي تسود‬ ‫والمصير ليجعل منهما كيانات مائعة تنتظر‬ ‫تمت المغاالة فيها حتى جاوزت‬
‫اجتماعية ّ‬ ‫للوعي‪ ،‬وبهذا االعتبار فإن دراسته للمرأة‬ ‫إلى التاريخ من أجل إبراز وجهتي نظرهما‬ ‫اليونان ثم انتقلت إلى البيئة العربية‬
‫فيها الشيوعية الجنسية‪.‬‬ ‫اآلخر ليضع لها الحدود ويرسم لها األشكال‪.‬‬ ‫ما أمر به اإلسالم‪ ،‬فيقول في هذا المعنى‬ ‫هي باألحرى دراسة عن تطور فكرة المرأة‬ ‫في المسائل المتعلقة بالمرأة‪ ،‬وعلى رأسها‬ ‫واكتسبت مسحة مقدسة بفعل الدين‪ ،‬وهذا‬
‫‪ ‬وفي المقابل نلمح لدى قاسم أمين بعداً‬ ‫ال نقول بخطأ هذه التفسيرات التي يقدّ مها‬ ‫ً‬
‫خاصا بنا‪،‬‬ ‫«إن الحجاب الموجود عندنا ليس‬ ‫عبر التاريخ‪ .‬ولعل هذا هو السبب في أنه‬ ‫وضعية المرأة نفسها في المجتمع وفي‬ ‫يعني‪ -‬ضمن ما يعني‪ -‬أن إمام عبدالفتاح‬
‫ً‬
‫ومعرفيا في كتاباته حول المرأة‪،‬‬ ‫ً‬
‫علميا‬ ‫مفكرانا الكبيران‪ ،‬فنحن نؤمن بتعددية الفكر‬ ‫وال أن المسلمين هم الذين استحدثوه‪ ،‬ولكنه‬ ‫يميل للحديث عن المرأة بإطالق ودون‬ ‫التاريخ‪ .‬فيستدعى كل منهما من أحداث‬ ‫شرع في تناول الظاهرة بعد أن انفصلت عن‬
‫ويتبدى ذلك بوضوح في معالجته لمسألة‬ ‫وبانفتاح التأويل‪ ،‬لكننا نقول بأن المضي إلى‬ ‫ً‬
‫تقريبا ثم‬ ‫كان عادة معروفة عند كل األمم‬ ‫حرص على تحديد جنسيتها‪.‬‬ ‫الماضي (العربي أو الغربي) ما من شأنه أن‬ ‫بيئتها األصلية وصارت – بدعم من الدين‪-‬‬

‫‪77‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪76‬‬


‫ذكورة وأنوثة جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير‬
‫ملف‬

‫التي جعلته ال يحاول أن يعلي من سقف‬ ‫ومسرته إذا أوى‬


‫ّ‬ ‫زوجها‪ ،‬فيجد فيه راحته‬ ‫القراءة والكتابة‪« ،‬فإذا تعلمت المرأة القراءة‬ ‫فإمام عبدالفتاح ‪-‬خاصة في كتابه «نساء‬ ‫يحاول من خالله أن يعيد بناء الشخصية‬ ‫«نقصان عقل المرأة»‪ ،‬حيث يقوم باستعراض‬
‫األولي‬
‫دعوته اإلصالحية أكثر من التعليم ّ‬ ‫إليه‪ ..‬وعليها‪ ..‬وهو أول الواجبات وأهمها‬ ‫والكتابة‪ ،‬واطلعت على أصول الحقائق‬ ‫فالسفة»‪ -‬يحاول تأكيد وضع قائم بالفعل‪،‬‬ ‫النسائية بأن يمنحها فرصة مماثلة لما‬ ‫وتحليل العديد من اآلراء العلمية التي قال‬
‫واإلعداد للمهارات االجتماعية والعائلية‬ ‫ً‬
‫وأدبا»‪( ‬نفسه‪،‬‬ ‫ال‬ ‫ً‬
‫جسما وعق ً‬ ‫تربية األوالد‬ ‫العلمية‪ ،‬وعرفت مواقع البالد‪ ،‬وأجالت‬ ‫وهو وجود نساء مارسن التفكير الفلسفي‬ ‫أتيح للرجل حتى تستكمل جميع مؤهالتها‬ ‫بها علماء الطبيعة والفسيولوجيا والتشريح‬
‫كمرحلة أولى في التربية واإلصالح‪ .‬ولعل‬ ‫ص‪.)27‬‬ ‫النظر في تاريخ األمم‪ ،‬ووقفت على شيء‬ ‫ً‬
‫آثارا فلسفية جديرة بالتقدير‪ ،‬لكن‬ ‫وتركن‬ ‫وترقى بملكاتها النفسية والعقلية والروحية‪،‬‬ ‫بعد أن يستبعد رأي العامة الذي تأسست‬
‫هذا ما يبرر لنا ذلك الشعور الذي قد ينتابنا‬ ‫ويالحظ هنا أن قاسم أمين برغم دعوته‬ ‫من علم الهيئة والعلوم الطبيعية‪ ،‬وكانت‬ ‫دون أن يقدم لنا اآللية المنهجية العملية‬ ‫األمر الذي من شأنه أن يفتح لها الباب‬ ‫عليه هذه المقولة المجافية للصواب‪،‬‬
‫بأن المرأة في فكر قاسم أمين لم تتخل‬ ‫اإلصالحية الثورية في تحرير المرأة‬ ‫حياة ذلك كله في نفسها عرفانها العقائد‬ ‫التي تجعل المرأة ‪-‬خاصة العربية‪ -‬تعبر‬ ‫على مصراعيه للمشاركة في نهضة األمة‬ ‫فيقول «إذا سألنا الرأي العام فالجواب سهل‬
‫ً‬
‫تماما عن تبعيتها للرجل وأن حريتها ‪-‬في‬ ‫ومطالبته بمساواتها بالرجل إال أنه يقصر‬ ‫واآلداب الدينية استعد عقلها لقبول اآلراء‬ ‫الفجوة الكبيرة التي بين وضعها الحالي‬ ‫وصالحها‪ .‬أي يمكننا القول إن قاسم أمين‬ ‫معلوم‪ .‬ولكن الرأي العام ال يصح أن يكون‬
‫هذا الفكر‪ -‬مازالت منقوصة‪.‬‬ ‫دورها على األعمال المنزلية وتربية األوالد‪.‬‬ ‫السليمة وطرح الخرافات واألباطيل التي‬ ‫المتخلف (وحيث ازدياد نسبة األمية بين‬ ‫يشخص العلة ويحدد أسباب‬ ‫ّ‬ ‫عندما كان‬ ‫له صوت في مسألة علمية كهذه‪ .‬ألن مبنى‬
‫إال أن ذلك ال يمنعنا ‪-‬في المقابل‪ -‬من اتخاذ‬ ‫حتى عندما يدعوها للخروج للعمل فإنما‬ ‫تفتك بعقول النساء»‪( ‬قاسم أمين‪ ،‬تحرير‬ ‫النساء)‪ ،‬وبين الصورة التي يرمي إليها‪،‬‬ ‫المشكلة من خالل الرجوع إلى الماضي‪،‬‬ ‫الرأي العام القضايا المشهورة التي صاغتها‬
‫هذا الطرح المبكر لقضية المرأة ‪-‬في العصر‬ ‫يكون ذلك بمثابة العون لها في مهمتها‬ ‫المرأة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.)18‬‬ ‫والتي تجعل من هذه المتخلفة فيلسوفة‬ ‫إنما كان يفعل ذلك وعيناه على المستقبل‪،‬‬ ‫العادة وقررتها األلفة بدون بحث وال‬
‫ً‬
‫مبررا‬ ‫ً‬
‫أساسا أو‬ ‫الحديث‪ -‬في الثقافة العربية‬ ‫األولى التي خلقت من أجلها‪ .‬وليس أدل‬ ‫وبعد هذا العرض المجمل لرؤية قاسم أمين‬ ‫تنافس الفالسفة الرجال‪.‬‬ ‫وبالتالي أتت معالجته في شكل أفكار‬ ‫تنقيب‪ ..‬والرأي العام يعتبر تغيير كل عادة‬
‫لمحاولة إمام عبدالفتاح الفلسفية‪ .‬فقاسم‬ ‫على ذلك من عبارته «ولست ممن يطلب‬ ‫مفصل لهذه العناصر‬
‫ّ‬ ‫التربوية يقوم بطرح‬ ‫فهل يمكن القول إن قاسم أمين قد حقق‬ ‫عملية صالحة للتطبيق‪.‬‬ ‫يفرق بين العادة‬
‫ألفها مخالفة للطبيعة ألنه ال ّ‬
‫أمين لم يحدثنا عن دور إبداعي‪ ،‬فض ً‬
‫ال‬ ‫المساواة بين المرأة والرجل في التعليم‪،‬‬ ‫التربوية بالنسبة إلى الوظيفة االجتماعية‬ ‫هذه الخطوة منذ قرن من الزمان‪ ،‬ومن‬ ‫وفي المقابل نجد أن الخلفية الفكرية إلمام‬ ‫والطبيعة حيث يظن أن ما هو حاصل اآلن‬
‫ً‬
‫فلسفيا للمرأة‪ .‬فلم ينشغل‬ ‫عن أن يكون‬ ‫والعائلية‪ .‬ففي األولى يرى أن المرأة‬ ‫ً‬
‫مبررا إلعادة‬ ‫ثم لم يجد إمام عبدالفتاح‬ ‫كان كذلك وسيبقي إلى األبد»‪( ‬قاسم أمين‪،‬‬
‫بالبحث في وجود امرأة أديبة أو عالمة‬ ‫المصرية يمكن أن تشتغل مثل الغربية‬ ‫المحاولة مرة أخرى؟ أم أن األمة اآلن ال‬ ‫المرأة الجديدة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.)42‬‬
‫أو فيلسوفة قدر اهتمامه في البحث عن‬ ‫بالعلوم والفنون واآلداب والتجارة والصناعة‬ ‫تحتاج إلى فكر قاسم أمين اإلصالحي‬ ‫‪ ‬وينطلق قاسم أمين بعد هذا التحديد‬
‫امرأة تجيد إدارة البيت وتربية األوالد بنحو‬ ‫قاسم أمين لم يحدثنا عن‬ ‫إذا أ� ْح ِسنت تربيتها‪ ،‬فإنه «لو أخذ بيدها‬ ‫التربوي قدر حاجتها إلى مستوى معرفي‬ ‫يفسر قاسم أمين مغاالة‬ ‫الدقيق للمصطلحات الذي يفصل بين ما‬
‫عصري مستنير‪ .‬والحقيقة أننا ال نستطيع‬ ‫ووجهت عزيمتها إلى‬
‫ّ‬ ‫إلى مجتمع األحياء‪،‬‬ ‫أعلى يناسب تعقيدات هذا العصر بثوراته‬ ‫هو عادة وبين ما هو طبيعة‪ ،‬ليقوم ببحث‬
‫ً‬
‫فضال عن أن‬ ‫دور إبداعي‪،‬‬ ‫المسلمين في التمسك‬
‫إنكار أن المرأة المبدعة ال يمكن أن تأتي إال‬ ‫مجاراتهم في األعمال الحيوية واستعملت‬ ‫االتصالية والمعلوماتية؟‬ ‫طبيعة عقل المرأة‪ ،‬وهل هو أقل من عقل‬
‫من رحم المرأة التي تجيد فن إدارة البيت‬ ‫ً‬
‫فلسفيا للمرأة‪ .‬فلم‬ ‫يكون‬ ‫مداركها وقواها العقلية والجسمية لصارت‬ ‫لن تتضح اإلجابة إال إذا اطلعنا على شيء‬ ‫ً‬
‫وليدا‬ ‫بالحجاب بأنه كان‬ ‫مساو له أم متفوق عليه؟ وذلك‬ ‫الرجل أم‬
‫ٍ‬
‫وتربية األوالد‪ .‬فإذا عدنا إلى فيلسوفات‬ ‫ينشغل بالبحث في وجود‬ ‫نفسها حية تنتج بقدر ما تستهلك‪ ،‬ال كما‬ ‫من فكر قاسم أمين اإلصالحي‪ ،‬وفكر إمام‬ ‫للمغاالة في االحتشام في‬ ‫كله من خالل طرح علمي يتناول المسألة‬
‫إمام عبدالفتاح فال أعتقد أننا سنعثر على‬ ‫امرأة أديبة أو عالمة أو‬ ‫هي اليوم عالة ال تعيش إال بعمل غيرها‪.‬‬ ‫عبدالفتاح التأملي‪ ،‬فما هي مالمح النظرية‬ ‫مقابل مغاالة المجتمعات‬ ‫من جوانبها المختلفة‪ ،‬ليصل إلى نتيجة‬
‫فاشالت في الحياة الزوجية واالجتماعية‪.‬‬ ‫ً‬
‫خيرا لوطنها لما ينتج عنه من‬ ‫ولكان ذلك‬ ‫التربوية عند قاسم أمين؟ وما هي الفلسفة‬ ‫نهائية مؤداها أن المرأة تساوي الرجل رغم‬
‫فيلسوفة قدر اهتمامه‬ ‫الغربية في التكشف‪ .‬وهنا‬
‫ولكن ما هي مالمح الفلسفة النسوية‬ ‫ازدياد الثروة العامة والثمرات العقلية‬ ‫النسوية التي يمكن أن تشارك بها المرأة في‬ ‫االختالفات الطبيعية الكثيرة التي بينهما‪،‬‬
‫في العصور القديمة‪ .‬أي البدايات األولى‬ ‫في البحث عن امرأة تجيد‬ ‫فيه»‪( .‬المرجع السابق‪ ،‬نفس الصفحة)‪.‬‬ ‫نهضتنا المعاصرة؟‬ ‫يلتقي أمين بعبدالفتاح في‬ ‫ذلك ألن المساواة هنا من نوع خاص‪.‬‬
‫للتفلسف التي يقدمها إمام عبدالفتاح‬ ‫إدارة البيت وتربية األوالد‬ ‫وإذا كان قاسم أمين يركز على الجانب‬ ‫يفرد قاسم أمين لمبحث التربية فص ً‬
‫ال‬ ‫يردان صورة المرأة‬
‫أنهما ّ‬ ‫فهي ليست مساواة في األجزاء وإنما في‬
‫ً‬ ‫مستق ً‬
‫للتأكيد على قدرة المرأة على التفلسف مثلها‬
‫بنحو عصري مستنير‬ ‫مؤكدا‬ ‫العملي في حالة الوظيفة االجتماعية‬ ‫ال بعنوان «تربية المرأة» في كتابه‬ ‫السيئة ووضعيتها المتدنية‬ ‫مجموع القوى والملكات‪ .‬وفي هذا المعنى‬
‫ً‬
‫تماما؟‬ ‫مثل الرجل‬ ‫على أهمية أن تخرج المرأة للعمل وتكون‬ ‫«تحرير المرأة»‪ .‬ويستهل هذا الفصل‬ ‫يقول «إن مجموع قواها وملكاتها تكافئ‬
‫يستعرض إمام عبدالفتاح في كتابه الرابع‬ ‫ً‬
‫ومنتجا في المجتمع‪ ،‬فإنه‬ ‫ال‬ ‫ً‬
‫عضوا فاع ً‬ ‫بالتأكيد على المساواة بين الرجل والمرأة‬
‫إلى الغرب‬ ‫مجموع قواه وملكاته وإن كان يوجد‬
‫واألخير من مشروعه الكبير حول الفلسفة‬ ‫يركز في حالة الوظيفة العائلية على أهمية‬ ‫في األعضاء واإلحساس والفكر من حيث‬ ‫خالف كبير بينهما‪ ،‬ألن مجرد الخالف‬
‫ً‬
‫عددا‬ ‫والمرأة‪ ،‬والمعنون بــ»نساء فالسفة»‪،‬‬ ‫إعداد المرأة على النحو الذي يجعلها قادرة‬ ‫كون كل منهما «إنسان» وال يختلفان إال‬ ‫ال يوجب نقص أحد المتخالفين على‬
‫من النساء الفالسفة اليونانيات‪ .‬ويبدأ‬ ‫علي إدارة شؤون البيت وتربية األطفال‬ ‫بقدر ما يستدعيه اختالفهما في الصنف‪،‬‬ ‫اآلخر»‪( ‬المرجع السابق ص ‪.)47‬‬
‫تاريخهن ‪-‬كما هو حال الفلسفة الغربية‬ ‫فذلك غير ضروري‪ ،‬وإنما أطلب اآلن ‪-‬وال‬ ‫وتهيئة الجوّ المناسب لزوجها‪ ،‬خاصة إذا‬ ‫وأن تفوّ ق الرجل إنما جاء نتيجة الشتغاله‬ ‫‪ 3-‬اإلشكالية والحل‬
‫ً‬
‫عموما‪ -‬في القرن السادس قبل الميالد‬ ‫أتردد في الطلب‪ -‬أن توجد هذه المساواة‬ ‫كان من هؤالء الرجال الذين يتخذون‬ ‫بالعمل والفكر أجياالً طويلة كانت المرأة‬ ‫عبدالفتاح وميله للبحث والتنظير جعل‬ ‫ً‬
‫اإلشكالية واحدة ‪-‬تقريبا‪ -‬عند المفكرين‪،‬‬
‫بالمدرسة الفيثاغورية وفي هذا الصدد‬ ‫في التعليم االبتدائي على األقل‪ ،‬وأن يعتنى‬ ‫من العلم والفكر مهنة ووظيفة‪ ،‬وفي هذا‬ ‫فيها محرومة من استعمال القوتين‪ .‬وعلى‬ ‫الحل لديه ال يتجاوز إيجاده المبرر لنهضة‬ ‫وهي الوضع المتردي للمرأة العربية‪ .‬وإذا‬
‫يقول «حظيت المرأة الفيثاغورية بفرص‬ ‫بتعليمهن إلى هذا الحد مثل ما يعتنى‬ ‫الصدد يقول «والحقيقة أن إدارة المنزل‬ ‫ذلك ال تحتاج المرأة إلى ملكات وقدرات‬ ‫المرأة ومشاركة الرجل في العمل والتفكير‬ ‫كانت اإلشكالية واحدة‪ ،‬فإن الحلول أو‬
‫هامة مكنتها من القراءة والكتابة‪ ،‬وقبل كل‬ ‫بتعليم البنين» ‪( ‬نفسه‪ ،‬ص ‪.)32‬‬ ‫ً‬
‫واسعا يحتاج إلى معارف كثيرة‬ ‫صارت ً‬
‫فنا‬ ‫جديدة‪ ،‬بل فقط إلى التربية التي تبرز‬ ‫والبناء‪ ،‬وذلك من خالل مقاربات نظرية‬ ‫المعالجة مختلفة‪ .‬ذلك أن الدور اإلصالحي‬
‫شيء من التفكير والمناقشة وإعمال العقل‪،‬‬ ‫والحقيقة ال ينبغي لنا أن نندهش من‬ ‫مختلفة‪ ،‬فعلى الزوجة وضع ميزانية اإليراد‬ ‫هذه الملكات وتعوض هذا الفارق الذي جاء‬ ‫عديدة ومتنوعة ترمى كلها ‪-‬في النهاية‪-‬‬ ‫الذي يلعبه قاسم أمين من ناحية‪ ،‬وخلفيته‬
‫ووقفت على قدم المساواة مع الرجل‪ .‬وكان‬ ‫هذا الموقف وال أن نتهمه بالتناقض‪ ،‬ألن‬ ‫والمصرف بقدر ما يمكن من التدبير‪ ،‬حتى ال‬ ‫نتيجة لتعطلها عن العمل‪.‬‬ ‫إلى إثبات وتأكيد قدرة المرأة على اإلسهام‬ ‫ً‬
‫حريصا‬ ‫القانونية من ناحية أخرى يجعالنه‬
‫االعتقاد السائد عند الجماعة الفيثاغورية‬ ‫الظروف التاريخية واالجتماعية التي كتب‬ ‫يوجد خلل في مالية العائلة‪ ،‬وعليها مراقبة‬ ‫ويبدأ قاسم أمين من الصفر في نظريته‬ ‫الحضاري واإلنساني‪ ،‬خاصة في مجال‬ ‫ً‬
‫محددا‬ ‫ً‬
‫برنامجا‬ ‫علي أن يضع خطة أو‬
‫أنه علي الرغم من أن طبيعة المرأة تختلف‬ ‫فيها قاسم أمين كتابيه حول المرأة‪ ،‬هي‬ ‫ً‬
‫محبوبا إلى‬ ‫الخدم‪ ..‬وعليها أن تجعل بيتها‬ ‫ابتداء أن تتعلم‬
‫ً‬ ‫التربوية حيث ينبغي للمرأة‬ ‫اإلبداع والتفكير (التفلسف)‪.‬‬ ‫للعالج‪ .‬وهو برنامج تربوي باألساس‪،‬‬

‫‪79‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪78‬‬


‫ملف‬

‫ً‬
‫ثانيا‪ :‬إن ما قامت به النساء الفيثاغوريات‬ ‫عن طبيعة الرجل‪ ،‬فإنها ال تقل عنه ً‬
‫أبدا‪ ،‬ال‬
‫ليس فقط مجرد اقتحام لمجال الفلسفة‬ ‫من حيث القدرة‪ ،‬وال من حيث القيمة»‪( ‬د‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬أيا كان موضوعها‪ -‬وإنما تلك الروح‬ ‫إمام عبدالفتاح‪ ،‬نساء فالسفة‪ ،‬مرجع سابق‪،‬‬
‫والعقلية النسائية عندما تنشط وتعمل في‬ ‫ص ‪.)25‬‬
‫اتجاه التأمل والتنظير‪ .‬وهو ما نراه اآلن‬ ‫ويحذر إمام عبدالفتاح من االعتقاد بأن‬
‫في الفلسفة النسوية المعاصرة ‪-‬األكثر‬ ‫النساء الفيثاغوريات كتبن فقط في‬
‫ً‬
‫نضجا‪ -‬والتي تجاوزت فكرة مجرد محاكاة‬ ‫االقتصاد المنزلي‪ ،‬أو أن الموضوعات‬
‫الرجل وإثبات الذات والوجود في مواجهته‬ ‫التي كتبن فيها تدور حول رعاية الطفل‬
‫بالقيام بذات األعمال واإلبداعات التي يقوم‬ ‫وتربيته‪ ،‬ودور المرأة في المنزل والمجتمع‪.‬‬
‫بها‪ .‬وإنما على العكس من ذلك تقديم إبداع‬ ‫وفي المقابل يدعو إلى قراءة نقدية‬
‫مواز يصطبغ بالصبغة النسوية التي ال يمكن‬ ‫فاحصة ومدققة للشذرات التي تركنها‬
‫أن يصل الرجل إليها مهما بلغ من قدره ومن‬ ‫هؤالء الفيلسوفات حتى نخرج بنتيجة‬
‫عبقرية‪ .‬وليس أدل على ذلك من مجال‬ ‫هامة مؤداها قدرة هؤالء الفيلسوفات‬
‫العلم الذي ظل لسنوات طويلة يقدم على‬ ‫على توظيف مفاهيم مثل «الهارمونيا»‬
‫أنه محايد ال دين وال جنس له‪ ،‬حتى ظهر‬ ‫و»التناغم» و»االنسجام» لتطبيقها على‬
‫ً‬
‫مؤخرا ما يعرف بأنثوية العلم‪ .‬وهو اتجاه‬ ‫بنية الدولة وإدارتها وعلى بنية األسرة‬
‫ً‬
‫موازيا التجاه العلم الذكوري‬ ‫جديد يأتي‬ ‫وإدارتها‪« .‬فإذا كان فالسفة الفيثاغورية من‬
‫الذي أسسه الرجل على مدار التاريخ‪.‬‬ ‫الرجال قد اتجهوا بجهودهم نحو تفسير‬
‫ونحن في هذا الصدد ضد المحاوالت‬ ‫ً‬
‫رياضيا يجعل نسيجه‬ ‫ً‬
‫تفسيرا‬ ‫العالم الكبير‪،‬‬
‫النسائية التي تريد التشبه بالرجال لمجرد‬ ‫العدد والنعم‪ ،‬فإن فالسفة الفيثاغورية‬
‫إثبات مساواة سطحية وساذجة كأن تقوم‬ ‫من النساء اقتصرت جهودهن على العالم‬
‫المرأة بالدخول في حلبات المصارعة أو‬ ‫الصغير‪ ،‬أعني‪ :‬علي الفلسفة بالمعنى الواسع‬
‫حمل األثقال أو كمال األجسام‪ ،‬أو محاولتها‬ ‫للفظ الذي يشمل األسرة والدولة في آن‬
‫خوض مجال االستشارات الزوجية لتقديم‬ ‫ً‬
‫معا»‪( ‬نفسه‪ ،‬ص ‪.)26‬‬
‫الدروس في العديد من القضايا لزبائنها من‬ ‫‪          ‬وبالرغم من أن إمام عبدالفتاح يستمر‬
‫الرجال‪.‬‬ ‫ً‬
‫مبرزا‬ ‫في استعراض النساء الفيلسوفات‬
‫أي األحوال‪ ،‬إذا كان لنا من كلمة نقولها‬
‫وعلي ّ‬ ‫تنوع موضوعاتهن التي امتدت إلى نظريات‬
‫في نهاية هذا البحث القصير‪ ،‬فهي أن أفكار‬ ‫الحب وخلود النفس‪ ،‬ووصلت في العصر‬
‫قاسم أمين كانت ثورية في زمانها وقد أدت‬ ‫الحديث إلى الكتابة عن «الثورة» وعن‬
‫دورها‪ ،‬وأن أفكار إمام عبدالفتاح ثورية في‬ ‫«العنف» وعن «الحرية»‪ ،‬وعن «حياة العقل»‬
‫هذا الزمن وسوف تؤدي دورها‪ .‬وستحتفظ‬ ‫إال أن ما يستوقفنا هنا هو تراث الفيلسوفة‬
‫هذه األفكار جميعها ‪-‬كتراث فكري عربي‬ ‫الفيثاغورية التي نجحت في فلسفة حياتها‬
‫أصيل‪ -‬بثرائها وخصوصيتها على الدوام‪،‬‬ ‫اليومية‪:‬‬
‫بحيث تمثل لنا الزاد الذي سيعيننا على‬ ‫أوالً‪ :‬إن هذه المنطقة هي التي تشترك فيها‬
‫الطريق نحو النهضة ونحو الحرية ونحو‬ ‫امرأة إمام عبدالفتاح مع امرأة قاسم أمين‪،‬‬
‫الكرامة‪.‬‬ ‫ً‬
‫أيضا‬ ‫والفرق بينهما هو فارق تاريخي وهو‬
‫باحث من مصر‬ ‫فارق في الوعي‪ .‬فإذا كان قاسم أمين قد‬
‫اهتم بتقديم نظرية تربوية تؤهل المرأة‬
‫للقيام بواجباتها المنزلية والعائلية‪ ،‬فإنه‬
‫لم يعمل على إعداد امرأة تقدم هي نفسها‬

‫مايسة محمد‬
‫نظرية في التربية‪.‬‬

‫‪81‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪80‬‬


‫ذكورة وأنوثة جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير‬
‫ملف‬

‫ً‬
‫موضوعا للكتابة‬ ‫الذات المؤنثة‬

‫أمل بشري‬
‫تجارب روائيات مغربيات‬

‫أحمد ضحية‬

‫اطالعنا على ما توفر لدينا من نصوص قصصية ومجموعات نسوية‬ ‫من خالل ّ‬

‫جربان هداية‬
‫مغربية تنتمي ألجيال مختلفة (الستينات مرورا بالثمانينات من القرن الماضي‬
‫وصوال للراهن) نالحظ عدم وجود فوارق قطعية بين هذه المراحل فالقصة‬
‫عند مليكة مستظرف‪ ،‬نجاة السرار‪ ،‬عائشة بورجيلة أو فاطمة بوزيان تنطوي‬
‫على بعض ما انطوت عليه القصة عند خناثة بنونة بشكل من األشكال‪ ..‬ربما‬
‫ثمة ُبعد عن التقريرية والمباشرة كما عند مستظرف بورجيلة وبوزيان‪ ..‬ربما‬
‫ثمة تطور في أسئلة الكتابة‪ ،‬لكن هذا التطور ال ينفي أنه متصل بما سبق ال‬
‫منفصل عنه‪ ،‬مع التأكيد على أن القاصة المغربية استطاعت في كل مراحل‬
‫تطور سردها (شكال ومضمونا) طرح أسئلة جريئة تتعلق بالخلل البنيوي الذي‬
‫يعتري البنى االجتماعية كما عند‪ :‬خناثة والسرار‪ ،‬وتمكنت من اقتفاء أثر‬
‫هذا الخلل كما عند مليكة والسرار وبورجيلة وتتبع تجلياته على الشخوص‬
‫المهمشين غالبا وانعكاساته على الذات اإلنسانية بعامة‪ ،‬في هذا العالم‬
‫المضطرب سريع التحوالت كما عند بوزيان‪.‬‬

‫النص القصصي النسوي المغربي القصير‪،‬‬ ‫ال كإنكار يهوذا ولكن كإنكار التجاوز‬ ‫عديدة تتعلق بالمنسي والمهمل ‪ ..‬تتعلق‬ ‫زمن التحوالت المتسارعة التي شملت كل‬ ‫لخلل جوهري في البناء االجتماعي‪ ،‬فهم‬ ‫هذا الجزء من بحثنا عن القصة‬
‫في‬
‫رحلة شبيهة برحلة جلجامش في الالنهاية‬ ‫والتخطي‪ ،‬في عصر السقوط المدوي‬ ‫بالغاضب والساخط على كل شيء‪ ،‬ونجد‬ ‫العالم دون استثناء‪ ،‬وكانت إفرازاتها السالبة‬ ‫كشخوص ليس لديهم تصور مضاد أو غير‬ ‫النسائية المغربية اخترنا نماذج‬
‫بحثا عن الحقيقة والحب والجمال بحثا عن‬ ‫لألفكار الكبرى‪ ..‬وبعد هذه نصوص ال تريد‬ ‫لغة الشعر المبثوثة هنا وهناك بكل ما لها‬ ‫تحديدا أشد قسوة‬‫ً‬ ‫على عالمنا النامي‬ ‫مضاد للمجتمع‪ ،‬وما يصدر عنهم ما هو إال‬ ‫محددة لنشتغل عليها تتمثل في «العزلة‬
‫اإلنسان بما هو إنسان‪..‬‬ ‫أن تبشر بسوى اإلنسان المتطلع لتحقيق‬ ‫من عذوبة‪ ،‬كما نجد النثر الجميل يتشذر‬ ‫وتمزيقا للذات اإلنسانية منها على العوالم‬ ‫انعكاس لتعاطيهم مع األبنية المختلة نفسها‪،‬‬ ‫الموقوتة» لخناثة بنونة و»ذبابة» لمليكة‬
‫ذاته المحاصرة‪ ،‬بأسئلة السلطة المربكة في‬ ‫في السردي المتواصل‪ ..‬األيديولوجيا أيضا‬ ‫التي اكتمل نموها أو في طريقها لالكتمال‪.‬‬ ‫بقوانينها الضاغطة وما ينتج عن اشتغال‬ ‫مستظرف و»الزغاريد المؤجلة» لنجاة‬
‫يوم استثنائي لفاطمة بوزيان‬ ‫عالم يتداعى على رومانسيتنا‪ ..‬وشاعريتنا‬ ‫كان لها نصيب فيما هيمنت به على جيل‬ ‫القصة القصيرة المغربية المكتوبة بأقالم‬ ‫هذه القوانين من تمزقات تعتري وتشمل كل‬ ‫السرار و»لنرسو على شاطئ الحلم» لعائشة‬
‫النقد الجذري لواقع االنهيار والهزيمة‬ ‫وبراءتنا التي نفتقدها اآلن في تداعيه على‬ ‫خناثة بنونة فهتافاتها هنا منذ غروب شمس‬ ‫نسائية تتبدى ال كنصوص غارقة في‬ ‫جوانب الحياة‪ ،‬بحيث تبدو الذات اإلنسانية‬ ‫بورجيلة و»يوم استثنائي» لفاطمة بوزيان‪.‬‬
‫واألحالم باستخدام ضمير المتكلم بما‬ ‫هذه اإلحساسات والقيم الجمالية النبيلة‬ ‫الثمانينات من القرن الماضي في النماذج‬ ‫همومها المحلية رهينة االجتماعي والثقافي‬ ‫في هذا التمزق‪ :‬مختطفة‪ ..‬مهضومة‪،‬‬ ‫القصة النسائية المغربية في جانب منها‬
‫له من سلطة أغرمت بها بوزيان‪ ،‬تستهل‬ ‫تداعي األكلة إلى القصعة فما الذي حصلنا‬ ‫التسعينية ونماذج األلفية الجديدة‪ ،‬كرجع‬ ‫والسياسي‪ ،‬فهي أكثر من ذلك حالة تسام‬ ‫تحاول اإلفالت من قبضة اليومي‪ .‬في هذا‬ ‫كما ذكرنا سابقا تنهض في الخلل البنيوي‪..‬‬
‫راوية يوم استثنائي حكايتها معه «أنظر‬ ‫عليه سوى أشياء نبيلة شكال لكنها أفرغت‬ ‫لصدى بعيد متالش في الالنهاية السردية‪،‬‬ ‫إنساني كوني يعكس كل ما يموج به حاضرنا‬ ‫الفضاء اإلنساني المتمزق والممزق للفرد‬ ‫في تحليل الواقع االجتماعي‪ ،‬خالل رصدها‬
‫إلي أني أسمع بعيني ‪ ..‬أال‬ ‫ّ‬
‫إليه يتكلم يخيل ّ‬ ‫من محتويات عزيزة علينا‪ ،‬محتويات‬ ‫يخلفها حجر يلقى‬ ‫أشبه بالتموجات التي‬ ‫المضطرب الموبوء بأمراض عصرنا بوتائر‬ ‫كمجمع كبير للقمامة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تبدو المدينة المغربية‬ ‫لتفاصيل الحياة اليومية عبر شخصيات قد‬
‫تتكلم… العيون‪http://www.syrianstory.( .»..‬‬ ‫تبعثرت في الفضاء الواسع والمتعدد تعدد‬ ‫على بركة ساكنة‪ ،‬حيث تتبدى التموّ جات‬ ‫إيقاعه المتسارع الموتور الذي يتشيأ فيه‬ ‫يحتوي كل ما يصعب تصوره من سقط‬ ‫تبدو للوهلة األولى كشخصيات سايكوباتية‪،‬‬
‫‪ )com/f-bozayanne.htm‬فهذه الراوية الجالسة‬ ‫وسائط التكنولوجيا‪ ..‬فالتكنولوجيا احتلت‬ ‫الدائرية‪ ،‬كتلويحة غريق في ظلمة ماض‬ ‫َّ‬
‫ويتعلب عبر اإلسفير‬ ‫َّ‬
‫ويتسلع بل‬ ‫اإلنسان‬ ‫السلوك البشري‪ ،‬واألفكار المريضة (انظر‪:‬‬ ‫كما في شخوص مجموعة مليكة مستظرف‬
‫إلى خطيبها الذي لطالما اعتقدت أنه‬ ‫عالمنا الشاعري الجميل لنصبح مجرد ملفات‬ ‫أشد عتمة من غبرة األفق في روايات‬ ‫الماسنجر‪ ،‬وهي إشارة مزعجة كسؤال عن‬ ‫مليكة مستظرف‪-‬ترانت سيس) ال تعبر هنا‬ ‫(‪http://www.doroob.‬‬ ‫سيس»‬ ‫«ترانت‬
‫استثنائي‪ ،‬بحكم أن حياته في أوروبا تركت‬ ‫مرفقة تفتح وفقا لبرامج الوندوز أو الفيستا‬ ‫ماركيز‪ ..‬إنها نصوص الجيل التسعيني‬ ‫دفء المشاعر والعواطف اإلنسانية‪.‬‬ ‫عن المدينة المغربية الكبيرة فحسب‪ ،‬بقدر‬ ‫‪ )com/?p=1746‬لكنها في الواقع شخصيات‬
‫طابعها على مظهره وسلوكه تبدأ في مراقبة‬ ‫الكومبيوترية‪ ..‬وبعد هذا جزء من رحلة‬ ‫واأللفي الجديد التي تنكر األيديولوجيا‪،‬‬ ‫إلى جانب هذا السؤال الكبير نجد أسئلة‬ ‫ما تعبر بها وفيها كرمز للمدينة عموما‪ ،‬في‬ ‫مهمشة ومسحوقة سلوكها رد فعل‬

‫‪83‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪82‬‬


‫ذكورة وأنوثة جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير‬
‫ملف‬

‫األيديولوجيا الرهيبة تنهار‪ ..‬فيفقدان معنى‬ ‫نص خناثة بنونة «العزلة الموقوتة» فبطلة‬ ‫«بينما بدأ الغرب يتحدث منذ أكثر من‬ ‫الكبير في الوعي اإلنساني بالمرأة في‬ ‫مراحل حياتها‪ ..‬مع أنه كان يحكي لها عن‬ ‫كل شيء فيه «بمحبة وإعجاب‪ ..‬وودّ ‪..‬‬
‫وجودهما الذي ال يمكنهما تصوره بمعزل عن‬ ‫هذا النص مناضلة تسهم مع الرجل في‬ ‫قرن ونصف عن الكتابة النسوية‪ ،‬وعن‬ ‫الشرق لن يزيله تبني الشرق لنمط الحياة‬ ‫مغامراته‪ ،‬ما يعني تعزيز قدرته الجنسية‬ ‫بدأت أشيده بداخلي قطعة قطعة‪ ،‬من‬
‫التصور الذي تمنحهما له األيديولوجيا‪ ،‬فهذه‬ ‫لملمة أطراف الهزيمة إزاء العدوان األجنبي‬ ‫بناء الخصوصيات الجمالية في هذا‬ ‫الغربي أو االندراج في فضاء العولمة شكليا‬ ‫في نظرها‪ ..‬فالمجتمع يغض الطرف عن‬ ‫كل ما أعجبني‪ ،‬رأيت وتخيلت رجاال‪ ،‬منذ‬
‫األيديولوجيا ككل األيديولوجيات بالنسبة‬ ‫على األمة‪.‬‬ ‫الجانب منذ عام ‪ 1840‬نجد أن الثقافة‬ ‫أي مضامين إنسانية تتجذر في وعينا‬
‫دون ّ‬ ‫ممارسات الرجل لكنه يقف للمرأة بالمرصاد‪،‬‬ ‫خالط ذلك السيل الهرموني الحارق دمي»‪،‬‬
‫إليهما هي الوطن قبل أن تكون كمشروع‬ ‫العربية بدأت تتحدث عن الكتابة نفسها‬ ‫اإلنساني والكوني‪ ،‬فعال‪ ..‬فالتحديث ومن‬ ‫رغم أن التطورات على مستوى التصورات‬ ‫فهي تظن أنه «عصري في كل شيء‪ ،‬ال في‬
‫نهضوي يخلص هذا الوطن‪.‬‬ ‫العزلة الموقوتة‪ ..‬خناثة بنونة‪:‬‬ ‫منذ أواخر القرن التاسع عشر‪ ،‬تحديدا مع‬ ‫ثم الحداثة مضمونان عزيزان ونبيالن‬ ‫األيديولوجية ال يمكن أن تسبق التطورات‬ ‫مظهره فقط‪ ..‬كان يتحدث عن مغامرات‬
‫«العزلة الموقوتة» لخناثة بنونة هي قصة‬ ‫انهيار األيديولوجيا والتبشير باإلرهاب‬ ‫بدايات ظهور الصحافة النسوية عام ‪،1892‬‬ ‫على الروح العالمثالثية المنهكة الباحثة عن‬ ‫على مستوى سلوك الناس الواقعي اليومي‪،‬‬ ‫تفوق خيال تلك القنوات التي… واألفالم‬
‫الهزيمة والخسارة الفادحة للشعارات‬ ‫العنوان الذي انتقته خناثة بنونة بدقة‬ ‫بظهور صحيفة «الفتاة» لمنشئتها هند‬ ‫قيمة العدل والتحرر من موابق الماضي‬ ‫المرتبط بأبنيتهم الثقافية واالجتماعية‪..‬‬ ‫التي… للتو كان حديثه يفيض بغزوات نهود‬
‫النبيلة التي لطالما تغنيا بها ويشاهدانها اآلن‬ ‫ثورية «العزلة الموقوتة» (‪http://www.‬‬ ‫نوفل بالقاهرة» (‪http://www.arab-ewriters.‬‬ ‫بأخطائه الفادحة‪ ،‬فالتحديث والحداثة‬ ‫إذن تركها ومضى بسبب قصة الحب‬ ‫وظمأ وارتواء‪ .»..‬كانت مقهورة بتصورها‬
‫تغيب خلف أفق غامض تملؤه الهواجس‬ ‫‪ )syrianstory.com/banota.htm‬دال على ما‬ ‫‪.)com/?action=ShowItem&&id=5330‬‬ ‫والعولمة كمفاهيم متحولة تتعدى الشكل‬ ‫العذري اليتيمة التي عبرت حياتها أيام‬ ‫له فهذا التصور‪ ،‬يستحوذ عليها فتتفهم أو‬
‫والمخاوف والظنون‪ ..‬أفق أغبر ال تفصح‬ ‫خلفه انهيار األيديولوجيا التي تعتنقها‬ ‫وحول النسائية والنسوية في الكتابة يجدر‬ ‫إلى الجوهر‪ ،‬فهي ليست مجرد استهالك‬ ‫الجامعة «أجبت‪ :‬مرة واحدة أيام الجامعة‬ ‫تدعي تفهم فوضاه الجنسية‪ ،‬فهي مشوشة‬
‫فيه المالمح عن نفسها‪ ،‬فكالهما لم يعد‬ ‫بطلة القصة غير المسماة‪ ،‬ورفيق دربها‬ ‫بنا هنا اإلشارة إلى ما أوردته دكتورة رشيدة‬ ‫لكل جديد في التكنولوجيا والتقنية‪ ،‬سواء‬ ‫زميلي… كنا نتبادل البوح وأشعار نزار‬ ‫تظن أنه آخر‪ ..‬كمنتج غربي يتم تسويقه‬
‫يملك إجابة بعد انهيار نظام تفكيريهما‪ ،‬بل‬ ‫وحزبها المناضل سعد‪ ،‬فمن ركام األسى‬ ‫بنمسعود في «كتابها المرأة والكتابة ‪ :‬سؤال‬ ‫كانت ارتياد كافتيريات كمفهوم للفضاء‬ ‫واألحالم… أخرج الخاتم من إصبعه‪ .‬وضعه‬ ‫لدى المغيبين العالمثالثيين‪ ،‬لذا تتصور أن‬
‫لم يعودا قادرين حتى على طرح األسئلة‬ ‫الخصوصية بالغة االختالف» والذي اتخذ‬ ‫العام في الغرب لعدم وجود فضاء خاص‪،‬‬ ‫ما بينهما حوار حضارات أو ثقافات‪ ..‬إلخ‬
‫الصحيحة التي تجنبهما مزالق الغياب أو‬ ‫من خناثة بنونة نموذجا تطبيقيا «عن‬ ‫بمعنى ليس تحضريا استقبال أحدهم‬ ‫من إكليشيهات ال تسمي األشياء بأسمائها‬
‫اإلرهاب «لم يكن ليفصحا فلقد استهلكا‬ ‫خصوصية هذه الكتابة انطالقا مما تكتبه‬ ‫في بيتك فهذا فضاءك الخاص‪ ..‬أو اقتناء‬ ‫الحقيقية‪ ،‬رغم أن كل ما بينهما هو تأكيد أو‬
‫معا ما بنياه‪ ،‬وهما‪ ..‬أو واقعا‪ :‬التغيير‪ ..‬البناء‬ ‫التخلف الكبير في الوعي‬ ‫المرأة‪ ،‬وبذلك تشكل الخنساء المنطلق‬ ‫موبايل من ماركة البالك بيري‪ ،‬أو حاسوب‬ ‫القاصة المغربية استطاعت‬ ‫موافقة على «أسروداته» البائسة التي تخلو‬
‫الجديد‪ ..‬واالنتماء للزمن المتحرك‪ ..‬كان قد‬ ‫لتلمس البداية األولى (‪ )..‬وجود خصوصية‬ ‫الب توب من ماركة دل أو سيارة همر‪ ..‬ومن‬ ‫أي فلسفة عميقة للحياة كما يدعي‬ ‫من ّ‬
‫اإلنساني بالمرأة في‬ ‫طرح أسئلة تتعلق بالخلل‬
‫سألها‪ :‬وما العمل»‪ ،‬فبطلة القصة المنشغلة‬ ‫جنينية تلقائية فيما تكتبه المرأة‪ ،‬وهي‬ ‫ثم إذا كانت «قرونا من المواعظ اإللهية‪،‬‬ ‫كخبير غربة واغتراب وتغرب‪ ..‬كانت تسمع‬
‫بالقضية والمتفاعلة مع هموم شعبها وأمتها‪،‬‬ ‫الشرق لن يزيله تبني‬ ‫حساسية ناشئة عن عاملين األول‪ :‬ما دام‬ ‫والكثير من أساليب حيوات القديسين‬ ‫البنيوي الذي يعتري‬ ‫فقط وتكرر «عادي‪ ،‬عادي جدا ‪ ،»..‬بوزيان‬
‫وقبل كل ذلك حزبها‪ ،‬تع ّبئها األحداث التي‬ ‫الشرق لنمط الحياة الغربي‬ ‫هناك إقرار بوجود اختالفات بين الجنسين‬ ‫فشلت أن تجعل من اإلنسان مالكا‪ ..‬وإذا‬ ‫البنى االجتماعية كما عند‪:‬‬ ‫تورط القارئ في النص‪ ،‬إذ تحاول ربطه‬
‫تجري بالغبن‪ ،‬فتستجيب لما تبقى من نظام‬ ‫أو االندراج في فضاء‬ ‫في استعمالهما للغة فإنه ال يمكن فصل‬ ‫كان المثال السلبي يتم تقليده حاال‪ ،‬فهذا‬ ‫خناثة والسرار‪ ،‬وتمكنت‬ ‫بحوارات سحقها تعاقب الزمن‪ ،‬لكن ظل‬
‫تفكير متداع داخلها‪ ،‬وتقرر تكوين خلية‬ ‫عما هو لغوي‪ ،‬ألن األدب لعبة‬
‫ما هو أدبي ّ‬ ‫يعني أن الفسق طبيعي‪ ،‬وأن الخطيئة‬ ‫تاريخنا المعاصر ينطوي عليها‪ ،‬فاإلعجاب‬
‫أي‬
‫العولمة شكليا دون ّ‬ ‫من اقتفاء أثر هذا الخلل‬
‫إرهابية «قالت‪ :‬إن العالم يلغينا فيجب‬ ‫لغوية‪ ،‬والثاني‪ :‬حضور الثقل التاريخي الذي‬ ‫أي‬
‫أولية وأصلية وال يمكن أن نفعل تجاهها ّ‬ ‫منذ لحظة تمرحله إلى مودة وارتباط هذه‬
‫أن نحاربه بنفس لغته‪ :‬الدمار‪ ،‬ثم حاولت‬ ‫مضامين إنسانية تتجذر في‬ ‫يمايز بين الجنسين‪ ،‬باعتباره مكونا فاعال‬ ‫شيء»( إ‪ .‬س‪ .‬كون‪ .‬الجنس والثقافة‪ .‬ترجمة‬ ‫كما عند مليكة والسرار‬ ‫المودة بالحسي فيما بعد‪ ،‬بمعنى الحنان‪..‬‬
‫تكوين خلية لإلرهاب األسود‪ ،‬فالموت ال‬ ‫وعينا اإلنساني والكوني‬ ‫فيما تكتبه المرأة القاصة (‪ )..‬الحضور المطرد‬ ‫منير شحود‪ .‬دار الحوار‪ .‬الالذقية‪ .‬ط ثانية‪.‬‬ ‫وبورجيلة وتتبع تجلياته على‬ ‫والحب ببعده الجنسي‪ ..‬هذه المفاهيم‬
‫يلغيه غير الموت»‪ ،‬ليمثل اإلرهاب هكذا‬ ‫للبطل األنثوي القلق العاجز عن تحقيق‬ ‫‪2001‬ص‪ .)84 :‬واإلنسان بطبعه يستوعب‬ ‫المختلفة تصطرع في دخيلة حبيب‬
‫الشخوص‬
‫خيارها ومشروعها البديل وإجابتها على‬ ‫التجاوز نظرا الفتقاده لعنصر أساسي من‬ ‫من وسائط االتصال ما يروقه فقط ‪،‬ألن‬ ‫الراوية‪ ،‬فهو كما تصفه كالسيكيات علم‬
‫األسئلة التي عجز الواقع عن تفسيرها‪..‬‬ ‫عناصر القدرة‪/‬الفعل» (‪http://www.doroob.‬‬ ‫ذلك يجيب على حاجاته الداخلية ونظرته‬ ‫النفس األيديولوجي‪ ..‬هذا الشخص جزء‬
‫فقد تداعى كل ما كانت تؤمن به من‬ ‫‪.)com/?p=16223‬‬ ‫للقيم وتجربته المسبقة‪.‬‬ ‫من العائلة البطريركية النموذجية‪ ،‬وبما أنه‬
‫مشروع نهضة خالل أيديولوجيا الحزب‬ ‫لكن هذا االستنتاج يصعب تعميميه‪،‬‬ ‫خناثة بنونة من مواليد فاس في أربعينات‬ ‫سيؤدي واجبه الزوجي ‪-‬إذا تزوجها‪ -‬عليه‬
‫الذي تفرق أعضاؤه أيدي سبا‪ ،‬تتنازعهم‬ ‫وأغبرة المرارة يحاول بطال القصة أن يط ّ‬
‫ال‬ ‫إذ بقدر ما ينطبق على نصوص مليكة‬ ‫القرن الماضي‪ ،‬أبرز أعمالها «يسقط الصمت»‬ ‫جنب الفنجان‪ .‬أعطى النادل حسابه‪ .‬حمل‬ ‫أن يطمئن منذ اآلن بالتأكد من ماضيها‬
‫خيارات التمزق والتيه‪ ،‬فسعيد اختار أن‬ ‫برأسيهما ليتلمسا حدود هذا االنهيار المدوي‬ ‫مستظرف‪ ،‬التي ناقشناها في الجزء األول‬ ‫التي صدرت في منتصف سبعينات القرن‬ ‫هاتفه اللوزي الصغير‪ .‬حاسوبه الشخصي‬ ‫الغابر‪ ،‬والواجب هنا ليس مفردة بل هو قيمة‬
‫يغيب نفسه عن الوعي بما حوله بالتدخين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الذي ضعضع نظام تفكيرهما الذي لطالما‬ ‫من هذه الورقة ‪،‬أعني نص «البريوات»‬ ‫الماضي‪ ،‬إلى جانب مجموعتها األخرى‬ ‫الذي في حجم حقيبة يدي‪ ..‬تزوجي زميلك‬ ‫عميقة الجذور قبل أن يكون مفهوما مرتبطا‬
‫وعبدالكريم اتخذ موقفا حادا من الحياة‬ ‫ظال يريان من خالله العالم والحياة والناس‪،‬‬ ‫ونص «هذيان» كذلك نص «امرأة عاشقة‪..‬‬ ‫«النار و االختيار» ومجموعتها الموسومة‬ ‫إذن‪ ..‬قالها وانصرف»‪ .‬ليس مستغربا حرصه‬ ‫باألديان السماوية المألوفة والمعروفة‪ ،‬مثل‬
‫برمتها فانتحر‪ ،‬ونجيب عاد إلى حظيرة‬ ‫مثلت األيديولوجيا كنظام تفكير‬ ‫بل ّ‬ ‫امرأة مهزومة» الذي سنشتغل عليه هنا في‬ ‫«بالصوت والصورة» تجدر اإلشارة إلى أن‬ ‫على دفع الحساب للنادل‪ ..‬تحاول الراوية‬ ‫هذا الرجل مفردات مثل «عادي ‪،‬عادي جدا»‬
‫الحزب المهشم يحاول ترميم ما انهار داخله‬ ‫بالنسبة إليهما أكثر من ذلك‪ ،‬فهي‪ :‬الهواء‬ ‫هذا الجزء من ورقتنا‪ ،‬إال أنه ال ينطبق على‬ ‫وزارة الثقافة المغربية مؤخرا أصدرت‬ ‫أن تقول إن الرجل هو الرجل‪ ،‬سواء عاش‬ ‫تخلخل كيانه‪ ..‬لذلك عندما حكت له الراوية‬
‫من رؤية ورؤى‪ ،‬وعلي يترك المطلق الذي‬ ‫الذي يتنفسانه‪ ،‬والطريقة التي يحلمان‬ ‫نص زهور كرام الموسوم «ومضة» والذي‬ ‫أعمالها الكاملة‪ ،‬كما صدرت لها مؤخرا أيضا‬ ‫تغرب في الغرب‪،‬‬
‫في مجتمعه المحلي أو ّ‬ ‫عن حب عذري عبر حياتها وهي طالبة‪،‬‬
‫يتجسد أمامه في كل شيء حوله‪ ،‬ويمضي‬ ‫ويأكالن ويشربان ويمشيان بها‪ ،‬وعندما‬ ‫عالجناه سابقا‪ ،‬ففيه تنقلب األدوار‪ ،‬وال تبدو‬ ‫مجموعة «الحب الرسمي»‪ ..‬تعتبر خناثة‬ ‫تظل بنية وعيه الذكوري والتناسلي هي‬ ‫أصيب بما يشبه الصدمة‪ ،‬فالمرأة التي من‬
‫ليبحث عنه حيث لن يجده قطعا في الطرق‬ ‫ينامان ويتوسدان أفكارهما تكون هي‬ ‫المرأة كفاقدة للقدرة‪/‬الفعل‪ ..‬بل تبدو كذات‬ ‫بنونة من الجيل الرائد‪ ،‬في كتابة القصة‬ ‫خالصة محرك وعيه بذاته‪ ،‬كأسالفه يبيح‬ ‫واجبه أن يتزوجها هي تلك الشريفة الخالية‬
‫التي تفضي لإلرهاب األسود‪ ،‬أو االنكفاء‬ ‫«المخدة» التي ينتظم تنفسهما فوقها ‪ ..‬هذه‬ ‫تتخذ القرارات‪ ،‬وهو ذات ما نالحظه على‬ ‫النسائية القصيرة بالمغرب‪ ،‬ويالحظ أنه‬ ‫لنفسه ما يحرمه على المرأة‪ ،‬كما أن التخلف‬ ‫أي مر حلة من‬
‫أي رغبات جنسية‪ ،‬في ّ‬
‫من ّ‬

‫‪85‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪84‬‬


‫جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير‬
‫ذكورة وأنوثة‬
‫ملف‬

‫أمل بشري‬
‫إزاء أسئلة معقدة‪ .‬كما أن «المكان» دال على‬ ‫قصير «البرهة» تمر حياة بكاملها بأساها‬ ‫الصوفي‪ ..‬وسعد رفيق حزبها وحياتها‬
‫العزلة أو الرغبة في االنفصال عن التمزق‬ ‫وأحزانها وتشتتها في مخيلتيهما‪ ،‬لتكشف‬ ‫تتآكله الحيرة‪ ،‬وال يعرف ماذا يفعل فقد‬
‫الخارجي‪ ..‬إنه الشرنقة‪/‬الوطن البديل‪،‬‬ ‫هذه اللحظة السريعة عن مدى التمزق‬ ‫فقد إيمانه بكل شيء وأصبح يشك فيها‬
‫والمالذ اآلمن بما ينطوي عليه من ذكريات‬ ‫الكبير الذي يعيشه العقل األيديولوجي‬ ‫حتى هي نفسها‪ .‬من قبل جهرا معا بالحنين‬
‫مشتركة لها خصوصيتها المعزولة عن العام‪..‬‬ ‫من جهة‪ ،‬ويعيشه اإلنسان والواقع العربي‬ ‫والجوى والعذابات الكبرى‪ ،‬وحين أحبا‬
‫هذا العام الذي يمثل فضاء مسكونا بالهزيمة‬ ‫المتمركز حول أزمته من جهة أخرى‪ ،‬ما‬ ‫بعضهما فألجل أن يحبا العالم‪ ..‬أن يبنياه‬
‫التي داخلهما قبل أن تكون في هذا العام‬ ‫يعيد السؤال الجديد القديم للطرح مرة‬ ‫مع اآلخرين بهندسة مغايرة‪ ،‬تعيد توزيع‬
‫«كان مسؤوال أمامها األنثى والوطن‪ ،‬فعليه‬ ‫أخرى‪ :‬هل ثمة أزمة واقع أم واقع أزمة‪..‬‬ ‫اللقم واالبتسام فيه بالتساوي‪ ،‬ولذلك عرفا‬
‫أن يفعل شيئا‪ ،‬أن ينقذ ما تبقى‪ ،‬وأن يطرق‬ ‫إنه سؤال سجالي مواز ومتقاطع في اآلن‬ ‫السجون بعد األعمال السرية التي تقوض‬
‫أبوابا ويكسر صمتا‪ ،‬ويحرر حركة ويسمع‬ ‫نفسه مع األسئلة التي انطوى عليها نص‬ ‫لتبني‪.»..‬‬
‫أصواتا (‪ )..‬فأحس بأنه يخونها لو توقف‪،‬‬ ‫خناثة بنونة حول اإلرهاب األسود واآلخر‬ ‫من خالل لغة تقريرية مباشرة يتبدى الزمن‬
‫لذلك وضع يده على سترته المعلقة وخرج»‪.‬‬ ‫والصراع الثقافي إلخ ‪ ..‬تمكنت بنونة في‬ ‫في «العزلة الموقوتة» قصيرا جدا فهو لحظة‬
‫خرج عن مالذه اآلمن ليواجه تمزقه‬ ‫هذا النص من توظيف الحوار كأداة تعبير‬ ‫واحدة‪ ..‬هي اللحظة نفسها في االستهالل‬
‫الداخلي… ينضاف إلى ما سبق أن العزلة‬ ‫والخاتمة‪ ،‬ففي االستهالل تهمس بطلة‬
‫الموقوتة كنص قصصي قصير يكشف عن‬ ‫القصة‪ ،‬باسم رفيقها سعد «ألم تسافر‪ .‬أم‬
‫الدور اإليجابي للمرأة في مشاريع التغيير‬ ‫ترى أن الجو منعك» وبدء من هذه اللحظة‬
‫السياسية‪ ،‬فالمرأة هنا ليست موضوعا أو‬ ‫يتكشف المجتمع بأكمله‬ ‫في االستهالل تستخدم خناثة بنونة تقنية‬
‫حريما سياسيا أو ربة خدر‪ ،‬فهي مناضلة‬ ‫االسترجاع والحوار الداخلي‪ ،‬فتتداعى‬
‫كتعبير فادح عن أزمة‬
‫جسورة لديها القدرة على الفعل وتحاول‬ ‫بطلة القصة غير المسماة كما يتداعى رفيها‬
‫اإلسهام مع الرجل في صياغة المعنى‬ ‫الضمير اإلنساني خالل‬ ‫سعد في مستوى سردي مختلف‪ ..‬ليشكل‬
‫االجتماعي العام لشعبها وأمتها‪ ،‬كما يالحظ‬ ‫هذه المنطقة المعتمة‬ ‫تداعيهما المتصل معا مستوى سرديا ثالثا‬
‫على النص أنه لم يخل من مفردات الهتاف‬ ‫التي تراكمت عليها أغبرة‬ ‫حيث تمر في المستوى السردي األول‬
‫في سطوة اإلرث الذكوري‪ ،‬كسلطة أنانية‬ ‫وجنها األسود ميمون من جهة أخرى‪..‬‬ ‫كازا‪ ،‬ذبيحة كبيرة‪ ،‬ليلة كناوية وزيارة الولي‬ ‫التعبوي التي ربما أملتها طبيعته كنص‬ ‫الذي تمثله (البطلة غير المسماة) والمستوى‬
‫الثقافة التقليدية في‬
‫مستبدة عتيقة‪ ،‬فحتى الدين كممارسة‬ ‫وللقط رمزية أسطورية فهو حارس عالم أو‬ ‫بويا بوعمر لطرد ميمون األسود»‪ ،‬ونالحظ‬ ‫ملتزم‪.‬‬ ‫السردي الثاني الذي يمثله (رفيقها سعد)‬
‫يتبدى في مثل هذه البنى المتفسخة مجرد‬ ‫مملكة الموتى في الديانات النوبية القديمة‪،‬‬ ‫هنا لما لالسم (ميمون ) وللون (األسود) من‬ ‫نظرتها للمرأة‪ .‬فالزواج هنا‬ ‫أخيلتهما كشريط سينمائي في لمحة عابرة‪،‬‬
‫ممارسة شكلية وزائفة تفتقر لجوهر الدين‬ ‫وفي الواقع حياة بطلة القصة تنتمي لعالم‬ ‫داللة مركزية ‪ ‬في النظام الداللي العربي‪،‬‬ ‫المرأة‪ :‬كذات مقهورة في «امرأة‬ ‫ال يمثل مملكة دافئة أو‬ ‫هي لحظة االستهالل التي تستمر حتى‬
‫األصيل‪ ..‬ففي مثل هذه األبنية تبدو المرأة‬ ‫الموتى أكثر مما تنتمي لعالم األحياء «هو‬ ‫فاسم «ميمون» غالبا ما يطلق على الجن‬ ‫عاشقة امرأة مهزومة» لمليكة‬ ‫الخاتمة كمديات متنامية لهذا االستهالل‪،‬‬
‫مالذا آمنا وحميما للمرأة‬
‫مقهورة ومنتهكة إلى أقصى حد‪ ،‬عاجزة‬ ‫ال يحب نعيمة سميح وأم كلثوم‪ ،‬يقول إن‬ ‫والعبيد‪ ،‬كما أن اللون «األسود» رمز للشر‪،‬‬ ‫مستظرف‬ ‫حيث تتنامى كل الصور واألخيلة وأفكارهما‬
‫قلقة مترددة مهزومة‪ ،‬كما أشارت بنمسعود‬ ‫هذه النوعية من األغاني تجعله يتثاءب‪..‬‬ ‫ّ‬
‫ولكل ما هو بغيض‪ ..‬نالحظ أيضا أن الليلة‬ ‫من خالل توظيفها لضمير المتكلم «أنا»‬ ‫وتصوراتهما‪ ،‬في الذكريات كدينامية‬
‫في سياق مختلف «زوجي األول هرب تاركا‬ ‫ال نخرج إال حين يريد هو‪ ..‬ال نرتاد سوى‬ ‫الكناوية تقابل في السودان «الزار» كمالذ‬ ‫وتوظيف لغة الحوار‪ ،‬تمضي مليكة‬ ‫مغلقة على مرارة الهزيمة‪ ،‬تمور دواخلها‬
‫لي خازوقا‪ ،‬وهذا الذي أحببته هرب وترك‬ ‫كيف حياتي‬
‫األماكن التي يرتاح لها هو‪َّ ..‬‬ ‫للتفريغ النفسي بموافقة المجتمع‪ ،‬إذ يباح‬ ‫مستظرف لتستعرض إحدى بنى المجتمع‬ ‫باعتالجات وأشجان ومواجد وحنين إليمان‬
‫لي خازوقا آخر»‪ ،‬فهل تتمكن بطلة هذه‬ ‫حسب رغباته وأهوائه ومزاجه‪ ..‬رغباتي أنا‪..‬‬ ‫فيه ما ال تتقبله الثقافة الشعبية السائدة‪:‬‬ ‫المنغلقة على ذاتها بالتقاطها من قلب‬ ‫في صميم األسئلة القصيرة المتقطعة‬ ‫متناء‪ ..‬لعنفوان قضايا المصير العربي‪..‬‬
‫القصة من االنتصار لذاتها والتحرر من هذا‬ ‫أهوائي أنا ال يهم»‪ .‬هذه البطلة ذات الوجود‬ ‫كتدخين النساء وما إلى ذلك من عوامل‬ ‫هذه البنية عنصر «العرافة « فالشخصية‬ ‫الدالة على المناخ النفسي المتوتر الذي‬ ‫فاألزمة التي خلفها انهيار األيديولوجيا‬
‫المأزق الوجودي الكبير‪ ..‬تطرح مليكة من‬ ‫الملغى في الواقع هي تعبير عن صورة‬ ‫تسهم في طرد الجن‪ ،‬بخلق المناخ المناسب‬ ‫المحورية في «امرأة عاشقة‪ ..‬امرأة مهزومة»‬ ‫تشيعه القصة من جهة‪ ،‬والدالة على المكان‬ ‫والحرب األطلسية برعبها النفسي واسع‬
‫خالل بطلتها المهمشة أسئلة اجتماعية‬ ‫المرأة المقهورة بما صاغته عليها األبنية‬ ‫لعملية الطرد كما يعتقد‪ ..‬وفي الواقع مثل‬ ‫(‪ ،)http://www.doroob.com/?p=1746‬ال تكفيها‬ ‫المحدود والمحدد كذاكرة مشتركة بينها‬ ‫النطاق‪ ،‬الذي لم يشهد له التاريخ مثيال‬
‫جريئة تؤشر على خصوصية الذات األنثوية‬ ‫االجتماعية المتخلفة‪ ،‬فهي امرأة حبيسة‬ ‫هذه الليالي ليست سوى مالذ مشروع صكته‬ ‫معاركها مع اإلنس‪ ،‬فالعرافة تزعم أن الجن‬ ‫وبين رفيقها سعد ‪-‬أعني سكنهما‪/‬شقتهما‪-‬‬ ‫ينتهي بشخوص القصة إلى حيرة مدمرة‪،‬‬
‫وتعسف‬
‫ّ‬ ‫إزاء كل ما يحاصرها من ضغوطات‬ ‫أنساق مغلقة على قيم ومعتقدات بالية‪،‬‬ ‫الثقافة الشعبية المتخلفة وأعطته فرمانات‬ ‫هو ما يسكن جسدها‪ ،‬وأن الجن هو الذي‬ ‫من جهة أخرى كمكان يناسب بمحدوديته‬ ‫ففي داخلهما ال يصدقان بعد ما آلت إليه‬
‫يشتغل في اليومي والحميمي والهاجسي‬ ‫تشدّ ها إلى الخلف وتضعها دوما في موقع‬ ‫المشروعية إلفراغ الحبيس والمكبوت‪..‬‬ ‫جعل حبيبها يهرب منها «بيني وبينه سحر‬ ‫هذه اللحظة الهاربة من عمرهما النضالي‬ ‫األمور‪ ..‬لتنتهي القصة بذات الهمس الذي‬
‫االجتماعي‪.‬‬ ‫المستجدي‪ ،‬حتى عندما تحب‪ .‬فقيم الحب‬ ‫توظف مليكة أيضا رمزية «القطة» والقط‬ ‫يجعله يهرب مني‪ ،‬أخبرتني أن جنيا ‘أسود’‬ ‫وتجاربهما الكفاحية التي قادتهما مرارا إلى‬ ‫حمله استهاللها «وفاجأه صوتها وهي تنادي‬
‫القهر والمقاومة في الراتب لنجاة السرار‬ ‫كمشاركة وتفهّ م ومسؤولية تتحطم أمام‬ ‫كإشارة لعالم الجن‪ ،‬كعالم مواز للعالقة بين‬ ‫يدعى ميمون يسكن في جسدي»‪ ،‬وهكذا‬ ‫المعتقالت‪ ..‬هذه اللحظة المشحونة بالقلق‬ ‫أيضا سعد‪ ،‬فانبغت وتوجه نحوها فوجدها‬
‫يمثل اختيار «الراتب» (‪http://najat60.jeeran.‬‬ ‫حواجز الثقافة السائدة التي تشتغل بناها‬ ‫بطل القصة وبطلتها من جهة‪ ،‬وبطلة القصة‬ ‫تمضي لتقيم الطقوس المطلوبة «سيجارة‬ ‫والتحفز والتوتر الفكري والتيه اإلنساني‬ ‫تطل من باب المطبخ»‪ ،‬ففي هذا الزمن‬

‫‪87‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪86‬‬


‫ملف‬

‫نصوصه الكبرى‪ ..‬عندما تجد هذا الحبيب‬ ‫ال يطاق‪ ،‬ال تتحرر منه هذه الزوجة سوى‬ ‫‪ )/com‬كعنوان دال على مصدر الدخل‪ ،‬بما‬
‫يحاصر العوازل حبهما‪ ،‬ويتواطأ الواقع‬ ‫بالطالق «أنت طالق طالق طالق‪ ..‬أحسست‬ ‫يمنحه من استقاللية للمرأة في هذا النص‬
‫االقتصادي الضاغط عليهما «وألن الغيورين‬ ‫حين أطلق سراح الحروف واستقرت في‬ ‫الذي يتحول فيه الراتب إلى أداة قهر‬
‫في كل مكان وزمان… فسرعان ما تسرب‬ ‫مسامعي‪ ..‬الكلمة قد أصبحت خبرا قوض‬ ‫إضافية‪ ،‬فالزوج المستبد يخير الزوجة‬
‫الخبر‪ ..‬تأججت المشاعر فانسابت كلمات‬ ‫عالما وأذن بتأسيس عالم آخر»… من خالل‬ ‫المقهورة بين راتبها والطالق‪ ،‬أو البقاء‬
‫من قبيل‪ :‬دين سلف زمن صعب‪ ..‬تفهمت‬ ‫ضمير المتكلم أنا في سرد متواصل ومتصل‬ ‫في البيت تحت رحمته‪ ،‬أو االستمرار في‬
‫أن كاهله مثقل جدا»‪ .‬في هذا النص تتداعى‬ ‫يقطعه الحوار الداخلي‪ ،‬في تساؤالت‬ ‫العمل لكن بشرط إعطائه كل راتبها‪ ،‬بمعنى‬
‫صورة المرأة كشخصية مستسلمة لقدر‬ ‫قصيرة متوترة يتبدى المكان‪ّ :‬‬
‫عش الزوجية‬ ‫تجريدها من هامش االستقاللية التي‬
‫رهيب ال طاقة لها على مجابهته‪.‬‬ ‫كفضاء جحيمي‪ ،‬يتخلله زمن نفسي ممتد‬ ‫يمثلها الراتب بالنسبة إليها‪ ،‬فتصبح كامرأة‬
‫وفي نصها «وجهان» تغرق الراوية «ناظريها‬ ‫يؤرخ للقهر ومحاوالت اإلفالت من هذا‬ ‫عاملة مفرغة من مضمون ما يمنحه العمل‬
‫هناك في الغابة الممتدة حد النظر شرقا‬ ‫القهر‪.‬‬ ‫من إحساس باالستقاللية والتحرر… تعالج‬
‫وغربا وشماال وجنوبا‪ ..‬واحة طروب‪ ..‬بساط‬ ‫نجاة السرار هنا إذن من خالل قصتها‬
‫رائع‪ ..‬فوقه صفت أزهار حمراء‪ ،‬وردية‪،‬‬ ‫عائشة بورجيلة‬ ‫«الراتب» محاوالت الزوج المستبد في‬
‫صفراء‪ ،‬بيضاء‪ ،‬بنفسجية في نظام بديع‪،‬‬ ‫الحلم كبديل للمجابهة‬ ‫النيل من مكتسبات المرأة بأساليب مختلفة‬
‫تستمتع بأحلى نغم وتروي أجمل قصيد‪..‬‬ ‫‪ ‬في قصتها «لنرسو على شاطئ الحلم»‬ ‫كحرمانها من هذه المكتسبات‪ ،‬أو إفراغ‬
‫تحاور األطيار والفراشات وتتلذذ بالرحيق‬ ‫(‪)http://www.syrianstory.com/a.porgela.htm‬‬ ‫هذه المكتسبات من مضمونها بتجريد‬
‫الذي يمتصه النحل هنا وهناك‪ ،‬ويسيل‬ ‫وبتوظيفها لضمير المخاطب «أنت» تعلن‬ ‫المرأة من مردود العمل‪ ،‬بحيث يصبح عملها‬
‫لعابها عندما يقع على ثمار أشجار األركان‬ ‫عائشة تهربها من سؤل خصوصية السرد‬ ‫أشبه بحالة عبودية مقننة‪ ،‬هذه الزوجة‬
‫المنتصبة بشموخ»‪ ،‬عند عائشة السرد ليس‬ ‫األنثوي كتعبير عن ذاتية الذات األنثوية‪،‬‬ ‫التعسة التي تعاني سوء المعاملة‪ ،‬يفيض‬
‫مجرد حكاية تكتنفها عقدتها وتنطوي على‬ ‫في إحالة أساسية منا للمفهوم البوزياني‬ ‫بها الكيل فتقرر الحفاظ على مكتسباتها‪،‬‬
‫حلها‪ ،‬أو بنى حكائية صغيرة ترتص إلى‬ ‫لعمق وتجذر ضمير األنا في الكتابة‬ ‫والتمرد على الوضع المأساوي الذي فرضه‬
‫جانب البنية الكبيرة كما في الروايات‪،‬‬ ‫النسائية‪ .‬في نص «لنرسو على شاطئ‬ ‫عليها زوجها «يجذب شعري يصفعني‪..‬‬
‫فهو مزيح ينهض في اإلشباع بالوصف‬ ‫الحلم « تحكي الراوية عن حلم أديبة ناشئة‬ ‫يعيد الصفعة على الخد األيسر‪ ..‬أقاوم‬
‫لما حولنا من جمال‪ ،‬غالبا ال تلحظه عيوننا‬ ‫غارقة في تخيالتها ككاتبة «مسابقة أدبية‬ ‫األلم‪ ،‬الصفعة الثانية كانت أقسى‪ ..‬كنت ال‬
‫العابرة المرهقة المالحقة والمختطفة من‬ ‫تلفت انتباهك‪ ..‬الجائزة آالف الدوالرات…‬ ‫أزال نفساء وقد انصرمت عطلة أمومتي‬
‫قبل إيقاع الحياة المعاصرة السريع التي‬ ‫تجيبينهم بسخرية مرة بأنك ستفوزين‬ ‫سريعا»‪ .‬تحاول هذه المرأة المقهورة برغبة‬
‫اعتادت الزحام والقبح المديني المعنوي‬ ‫وتلتقين عمالقة األدب»‪ .‬فهذه القصة‬ ‫مديرها فيها‪ ،‬والمحاصرة بالعنف الزوجي‬
‫والمادي‪ ،‬فاستحالت الطبيعة إلى ما هو‬ ‫المكتوبة بلغة الخواطر العذبة‪ ،‬ترحل بنا‬ ‫والطلبات األسرية ومطالب األهل اإلفالت‬
‫أشبه بالحلم لهذه العين التي أضناها الحنين‬ ‫على أجنحة الحلم‪ ،‬فهي تحلم بكل كيانها‪..‬‬ ‫من كل هذه اإلكراهات البغيضة‪ ،‬وكعادة‬
‫إلى بيئات الشعر الغامضة التي اندثرت‬ ‫حتى قلبها ذاته يحلم بمن ينفض الغبار عن‬ ‫السرار في قصصها تهتم بإبراز المشكل‬
‫تحت وطء الرقميات وأرماث اإللكترونيات‪.‬‬ ‫غرفاته وشرفاته‪.‬‬ ‫االجتماعي‪ ،‬إذ تكشف في هذه القصة عن‬
‫فالراوية في هذا النص تنتمي للطبيعة‬ ‫وفي نصها «ألوان» تنتقل بنا إلعادة طرح‬ ‫صورة مشوهة للرجل‪ ،‬إذ يتبدى خاللها هذا‬
‫وتتفاعل معها فال حقيقة للذات اإلنسانية‬ ‫موضوع قديم متجدد أال وهو المرأة‬ ‫الزوج أشبه بالحيوان الهائج‪ ،‬فهي قصة‬
‫إال في الطبيعة التي تكسر قناع هذا النص‬ ‫كموضوع ألذى الرجل‪ ..‬فالراوية تتداعى‬ ‫لغتها مشحونة بالعنف الذكوري المستمد من‬
‫أمل بشري‬

‫لتسترد في عصرنا الراهن براءته المفقودة «‬ ‫«تجعلني أتصدى لكل الغاضبين‪ ،‬وغيرهم‬ ‫مفاهيم خاطئة «للقوامة» التي ال تحدها هنا‬
‫كسرت المرآة التي أتعبها السؤال‪ ..‬أين تكمن‬ ‫ممن قدر لي أن أكون ضحيتهم» فهذه العبارة‬ ‫أي شروط‪ ،‬هكذا يتكشف المجتمع بأكمله‬
‫ّ‬
‫الحقيقة»‪.‬‬ ‫مفتاحية بالنسبة إلى نص «ألوان» فالراوي‪/‬‬ ‫كتعبير فادح عن أزمة الضمير اإلنساني‬
‫األنثى التي أدمنت مناجاة حبيبها الكامن‬ ‫خالل هذه المنطقة المعتمة التي تراكمت‬
‫كاتب من السودان مقيم بالواليات المتحدة األميركية‬ ‫في القلب‪ ،‬أو في الواقع‪ ..‬حيث أن شخصية‬ ‫عليها أغبرة الثقافة التقليدية في نظرتها‬
‫هذا الحبيب وموقفه غير محددين‪ ،‬وهو‬ ‫للمرأة‪ .‬فالزواج هنا ال يمثل مملكة دافئة أو‬
‫أشبه باستيهامي عابر كضيوف ماركيز في‬ ‫مالذا آمنا وحميما للمرأة‪ ،‬إذ يتبدى كجحيم‬

‫‪89‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪88‬‬


‫ذكورة وأنوثة جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير‬
‫ملف‬

‫االختالف ال يعني االستنقاص‬

‫مايسة محمد‬
‫حياة الرايس‬

‫أوال ال بد أن نفرق بين األدب النسائي واألدب النسوي‪ .‬فـ»األدب ال ّنسوي»‬

‫جربان هداية‬
‫هو األدب المرتبط بطرح ومعالجة قضية المرأة وبحركات التحرير النسوية‪،‬‬
‫وهو نوع من النضال في سبيل حرية المرأة ونصرتها والدفاع عن حقوقها‪،‬‬
‫ومساندتها في صراعها الطويل والتاريخي ضد الالمساواة مع الرجل‪ .‬وهذا‬
‫األدب يمكن أن يشترك في كتابته المرأة كما الرجل‪ :‬بمعنى كل من يتب ّنى‬
‫سخر قلمه وإبداعه للدفاع عنها‪ ،‬مثلما يدافع عن قضية‬ ‫وي ّ‬
‫قضية تحرير المرأة ُ‬
‫العمال أو الالجئين أو أي قضية من قضايا المستضعفين في األرض‪ .‬بمعنى‬
‫هو مرتبط بقضية وليس بجنس معين‪ .‬كما أن هناك كتابات نسائية ال عالقة‬
‫لها بقضية المرأة وال تحمل بالضرورة همّ ا نسويا خاصا‪ .‬ربما تكتب عن قضايا‬
‫أخرى أو تكتب أدبا يعكس تطلعاتها ورؤيتها للحياة كإنسان متأثر بالمجتمع‬
‫ومؤثر فيه فقط‪.‬‬

‫تبقى مدونة ذكوريّ ة‪ .‬إذ برأيهم أن األدب‬ ‫طاقاتها الرهيبة التي طمسها مجتمع الذكور‪،‬‬ ‫كانت عشتار ربّة الخصب والحب واألرض‬ ‫علمية سيكولوجية وفلسفية أنتروبولوجية‪.‬‬ ‫فاطمه»‪ ..‬إضافة إلى عملي كمديرة مركز‬ ‫يحرجني وصف النقاد لكتاباتي‬
‫ال‬
‫الذي يكتبه الرجل هو األدب األصل‪ .‬هو‬ ‫على مدى القرون وهي اآلن تندفع بكل‬ ‫والزرع‪.‬‬ ‫باعتبارها حاالت باتولوجية تستدعي‬ ‫ثقافي تابع لالتحاد الوطني للمرأة التونسية‬ ‫«باألدب النسوي» وأن أكون من‬
‫الجوهر وهو األدب اإلنساني األساسي وما‬ ‫قوة الحرمان والتحدي تبدع وتفتح عوالم‬ ‫‪ ‬وهي ملحمة شعرية في مديح األنوثة‬ ‫التحليل النفسي‪.‬‬ ‫يحمل اسم «فضاء ‪ 13‬أوت الثقافي» (و‪13‬‬ ‫المدافعات عن قضية المرأة ومن أشرس‬
‫تكتبه المرأة مجرد ملحق لما يكتبه الرجل‬ ‫جديدة كانت مغلقة دونها‪.‬‬ ‫كما وصفها النقاد الذين احتفوا بها كثيرا‬ ‫«سيدة األسرار‪ :‬عشتار» وهي‬
‫ّ‬ ‫ثم تأتي‬ ‫أغسطس هو تاريخ إصدار مجلة االحوال‬ ‫المدافعات أيضا‪ .‬كما دافعت عن عدة قضايا‬
‫وتابع لهذا األدب األصلي الكبير عندهم‪.‬‬ ‫أما «األدب النسائي» فمصطلح مغرض‬ ‫واعتبروها نوعا من الكتابة اإليروسية‬ ‫رواية‪/‬مسرحية مستمدة من ميثولوجيا‬ ‫الشخصية التونسية وهو العيد الرسمي‬ ‫أخرى في كتاباتي‪ ،‬ألن الكاتب الذي ليس له‬
‫‪ ‬وما التركيز على انتشار هذا المصطلح إال‬ ‫اخترعه النقاد الذكور للفصل بين أدب وأدب‬ ‫المتحررة وقد وصفها الناقد كمال الرياحي‬ ‫حضارات الشرق القديم وبالذات من‬ ‫للمرأة التونسية) لعل كل ذلك يجعل النقاد‬ ‫قضية‪ ،‬ليس بكاتب وإنما هو يلعب لعبة‬
‫تكريس لعقلية الوصاية في المجتمعات‬ ‫بين ما يكتبه الرجل وما تكتبه المرأة على‬ ‫أجمل وصف حين قال «نص في مديح‬ ‫حضارتي سومر وآشور حينما كانت األنثى‬ ‫يصنفون كتاباتي في خانة األدب النضالي‪.‬‬ ‫ترصيف الكلمات‪.‬‬
‫البطريركية والنظرة الدونية للمرأة على‬ ‫أساس جنسي بحت وهذا نوع من الحيف‬ ‫الحر‪ ،‬الجسد العاشق والجسد المنفلت‬
‫الجسد ّ‬ ‫‪-‬آلهة‪ -‬وقد قصدتها فعال ألعيد االعتبار‬ ‫‪ ‬وبالدخول إلى تفاصيل محتوى كتبي نجد‬ ‫ألح على أن قضية المرأة عندي‬
‫ولكني ُّ‬
‫أساس كونها كائنا من درجه ثانيه‪ .‬وهذا‬ ‫والتمييز البغيض‪ .‬ألن التمييز يجب أن‬ ‫من القيود واألسيجة‪ .‬نص طليق في مديح‬ ‫إلى المرأة المهانة في ذاتها وفي جسدها‬ ‫أنها في «ليت هندا‪ »..‬تتناول قضايا المجتمع‬ ‫تتنزل في صلب المجتمع‪ .‬وهي قضية‬
‫من رواسب عقلية مجتمع الذكور والثقافة‬ ‫يقوم على شروط إبداعية جمالية بحت‪ ،‬في‬ ‫الشبق المطلق يكتب أولى بنود دستور دولة‬ ‫في عصرنا الحاضر‪ .‬وهي تروي قصة حب‬ ‫ككل‪ ..‬فأغلب أبطال قصص المجموعة‬ ‫مجتمع باألساس وقضية سياسية أيضا‬
‫العربية المعادية للمرأة التي ّ‬
‫تؤله الرجل‬ ‫التمكن من األدوات التقنية وامتالك اللغة‬ ‫الشهوة العظمى»‪ .‬وأضيف نص في أنسنة‬ ‫عظيم عاشته ربة الحب والخصب عشتار‬ ‫وشخصياتها من الرجال وهي تعالج قضايا‬ ‫باعتبارها تمس الحريات وحقوق اإلنسان‬
‫وتحط من قيمة المرأة‪ .‬فال نستغرب أن‬
‫ّ‬ ‫وتطويعها وتخصيبها‪ ،‬وال عالقة له بجنس‬ ‫الجنس والجسد أيضا‪( .‬وقد طبعت ‪10‬‬ ‫مع تموز‪ ،‬ولكنه في النهاية الحب العظيم‬ ‫اجتماعية ومسائل فلسفية وتطرح أسئلة‬ ‫والديمقراطية والمساواة بين البشر‪..‬‬
‫يطلع علينا بعض ذكورها من الكتاب بهذا‬ ‫بأي حال‬
‫الكاتب‪ .‬وال يجوز تجزئة األدب ّ‬ ‫طبعات ما بين تونس واإلسكندرية والقاهرة‬ ‫الذي تحلم به كل امرأة وكل أنثى‪.‬‬ ‫وجودية مثل قصة «عزرائيل والكاتب»‬ ‫وليست قضية فرد صادف أن كان امرأة‪.‬‬
‫المصطلح‪ ،‬ليجعلوا من أدبها ملحقا من درجة‬ ‫من األحوال‪ .‬وحيث أنه ال يوجد مصطلح‬ ‫وترجمت إلى اإلنجليزية والفرنسية)‪.‬‬ ‫‪ ‬نص كتب بحب في مديح الحب واألنوثة‬ ‫االجتماعية‬ ‫الطبقات‬ ‫مشكل‬ ‫وتعالج‬ ‫‪ ‬وأنا أصنّف « ككاتبه نسويّ ة «‪ .‬ربما ألن أغلب‬
‫ثانية‪ .‬وبذلك ال تعدو المؤسسة الثقافية‬ ‫يقابل ما يكتبه الرجل ولم نعرف تسمية‬ ‫أما ديوان «أنثى الريح» الشعري فهو دعوة‬
‫ّ‬ ‫كما جاءت في ألواح ومالحم العصر القديم‬ ‫والتمييز العنصري ومشاكل العمال وسوء‬ ‫عناويني تحيل على المرأة مثل مجموعتي‬
‫األدبية أن تكون سوى نسخة مصغرة من‬ ‫تقول بأدب الرجل أو أدب الذكور فإنّ هذا‬ ‫المرأة للتحرر مرة أخرى من كل ما يعرقلها‬ ‫مع فطرة البدايات‪ ،‬قبل أن يدخل الجسد‬ ‫توزيع الثروات إلى غير ذلك‪.‬‬ ‫القصصية األولى «ليت هندا…‪ ».‬وكتابي‬
‫عقلية القبيلة وترسيخ واستمرار لها‪.‬‬ ‫المبيتة المتضمنة‬
‫ّ‬ ‫المصطلح يفضح النوايا‬ ‫من قيود المجتمعات البطريركية التي تشدها‬ ‫والجنس بوتقة المدنس والمقدس والحالل‬ ‫أما كتابي الثاني «جسد المرأة من سلطة‬ ‫الثاني «جسد المرأة من سلطة االنس إلى‬
‫ومن هنا أنا أرفض التسمية والمصطلح رفضا‬ ‫لتصغير وربما لتحقير ما تكتبه المرأة ونعته‬ ‫إلى الوراء في حركة ردة تعاكس كل تطور‬ ‫والحرام والطمس والممنوعات التي حطت‬ ‫اإلنس إلى سلطة الجن» فهو يعالج بامتياز‬ ‫«سيدة األسرار‪:‬‬
‫ّ‬ ‫سلطة الجن» والثالث‬
‫باتا احتراما لقلمي ولنصي الذي ال أقبل له أن‬ ‫بمصطلح األدب النسائي وربما أزاحته من‬ ‫طبيعي وتعاكس اتجاه الطبيعة والريح الذي‬ ‫من شأنه وشوّ هته‪ .‬حين كان الجنس رمز‬ ‫قضية المرأة وعلى وجه التحديد حالة‬ ‫عشتار» ثم المجموعة الشعرية «أنثى‬
‫يكون ملحقا أبدا‪ .‬ما دمت أقدم مثلما يقدم‬ ‫المدونة اإلبداعية أيضا والتي يريدونها أن‬ ‫يدفع باتجاه العواصف والزوابع‪ ..‬لتفجر‬ ‫الخصوبة والتكاثر وتعمير الكون‪ .‬وحين‬ ‫النساء المسكونات بالجان‪ ،‬في مقاربة‬ ‫الريح» وسلسلة قصص األطفال «حكايات‬

‫‪91‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪90‬‬


‫ملف‬

‫الرجل مواضيع تمس قلب المجتمع والعمق‬


‫اإلنساني وهذا الشرط األساسي لألدب‪،‬‬
‫إضافة إلى الشرط اإلبداعي الجمالي طبعا‬
‫وربما أغوص في مواضيع ال يعرفها الرجل‬
‫باعتباري أتميز عنه بتجربة الخلق والوالدة‪.‬‬
‫لكنني أومن بمبدأ االختالف كامتداد‬
‫طبيعي لثنائية الكون القديمة التي تضمن‬
‫االستمرار والتنوع‪ :‬مؤنث‪/‬مذكر وأؤمن‬
‫بالخصوصيات لكل من الرجل والمرأة دون‬
‫أن يعني ذلك االستصغار واالستنقاص أبدا‬
‫وإنما التنوع واإلثراء والتالقح واإلخصاب‪.‬‬
‫فمن حق القارئ أن يرى العالم من وجهتي‬
‫نظر مختلفتين ال من وجهة نظر أحادية‪.‬‬
‫إذ ال فائدة أن نكون نسخ كربون من بعضنا‬
‫البعض نساء ورجاال‪.‬‬
‫‪ ‬الطبيعة حبتنا باالختالف والتنوع فيجب‬
‫أن نبرز هذا التنوع وأن نظهره في كتاباتنا‬
‫دون خجل من ذواتنا‪ .‬وإن ُخلقت امرأة‬
‫فتلك مصادفة طبيعية جميلة ال يجب أن‬
‫أطمسها‪ .‬فأنا أكره التشبه بالرجال أو أن‬
‫أكتب مثل الرجل‪ .‬وهو ليس دائما المثل‬
‫إلي ال في الحياة وال في الكتابة‪.‬‬
‫بالنسبة ّ‬
‫أحب أن أالمس العمق‬ ‫ّ‬ ‫عندما أكتب‬
‫اإلنساني بأناقة أناملي كأنثى‪ .‬والنص عندي‬
‫هو امتداد لجسدي فأنا أكتب بوهج أنفاسي‬
‫المتصاعدة من مسام جلدي وأكتب بكل‬
‫حواسي وعقلي وشراييني وقلبي وتالفيف‬
‫الفكر ومنعطفات الذاكرة وعمق الوجدان‪،‬‬
‫بكل تفاصيل تلك الذات التي ال يمكن أن‬
‫تشبه ذاتا أخرى أبدا‪ ،‬ككل الكائنات في‬
‫الطبيعة تماما‪ .‬وكذلك الشأن بالنسبة إلى‬
‫الرجل أيضا‪ .‬على كل كاتب أن يحافظ على‬
‫خصوصيته باإلضافة إلى مواقفه ورؤيته‬
‫للحياة بطبيعة الحال‪ ،‬والنص هو ترجمان‬
‫كل ذلك‪ .‬والكتابة هي امتداد للفعل الطبيعي‬
‫األصيل أو هي صقل الفعل الطبيعي الخام‪.‬‬
‫وأنا أحب أن يجد القارئ تلك اللمسة‬

‫مايسة محمد‬
‫ويشم رائحة األنثى‬
‫ّ‬ ‫األنثوية في كتاباتي‬
‫في ثنايا سطوري فالكتابة هي عطرنا‬
‫الداخلي في النهاية‪.‬‬
‫كاتبة من تونس‬

‫‪93‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪92‬‬


‫ذكورة وأنوثة جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير‬
‫ملف‬

‫جربان هداية‬
‫نازك المالئكة والشعر األنثوي‬
‫رمضان نايلي‬

‫ً‬

‫جربان هداية‬
‫كثيرا لتشق طريقها ّ‬
‫الطويل في دنيا‬ ‫ال شك َّ‬
‫أن المرأة‪ ،‬الكاتبة‪ ،‬قد عانت‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫الكتابة‪ ،‬وتكرّ س ‪-‬ولو أحرفا من اسمها‪ -‬إلى جانب الرّ جل؛ الذي ظل سيدا على‬
‫ومتفردا بصولجان الكتابة على مدى قرون طويلة من الزمن‪ ،‬فحركة‬ ‫ً‬ ‫العرش‪،‬‬
‫وأدت دوراً‬ ‫ً‬
‫التاريخ كانت دائما إلى جانب الرّ جل الفحل في تقسيم األدوار‪َّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫كبيرا في ّ‬
‫تأخر المرأة‪ ،‬التي لم يكن مسموحا لها أن تع ّبر عن ذاتها في مجتمعنا‬
‫وسمح إلحداهن بالتعبير فال‬‫أبوته‪ ،‬وإذا حدث ُ‬ ‫األبوي خشية أن يفقد الذكر‪ّ  ‬‬
‫ُيمكن لتعبيرها أن يخرج عن المعايير أو األنساق الذكورية التي تتحكم في‬
‫ً‬
‫واضحا على ُحرمة األب‪،‬‬ ‫تعد ً‬
‫يا‬ ‫عد ّ‬‫البطريركية‪،‬ألن ذلك ُي ّ‬
‫ّ‬ ‫المجتمعات األبوية‬
‫والتقاليد وخطوطها الحمراء‪.‬‬ ‫ً‬
‫وتجاوزا‪ ‬لقدسية األعراف ّ‬

‫ً‬ ‫على نظام ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬


‫وطبعا فكلنا‬ ‫السائد‪.‬‬ ‫اللغة ّ‬
‫الشعريّ ة ّ‬ ‫من الشعر الحر نشرت في مجلة «العروبة»‬ ‫رغم هذا فإن المرأة العربية المبدعة قد‬ ‫الشاعرات ‪ ‬المبدعات في المشهد الشعري‬ ‫أن تصف نفسها من حيث هي امرأة»‪ .‬وفي‬ ‫الذكوريّ ة هي‬ ‫ّ‬
‫الثقافة‬ ‫ظلت‬
‫لقد‬
‫لفية‪ ،‬فهو يرى‬
‫الس ّ‬
‫يعرف قراءات الغذامي ّ‬ ‫اللبنانية عام ‪ .1947‬عن هذه القصيدة‬ ‫اقتحمت‪ ‬هذه القلعة الحصينة الخاصة‬ ‫بينهن الشاعرة نازك المالئكة‪،‬‬
‫َ‬ ‫العربي‪ ،‬ومن‬ ‫هذا السياق‪  ‬نتساءل‪ :‬هل‪ ‬نجحت الشاعرة‬ ‫كل‬ ‫في‬ ‫السائد‬
‫ّ‬ ‫المقدّ س‬
‫أنّ شعر أدونيس فحولي‪ ،‬ورجعي وتقليدي‪،‬‬ ‫تقول نازك المالئكة نفسها في كتابها (قضايا‬ ‫ّ‬
‫ولعل‬ ‫بالفحول وتمكنت من قرض الشعر‪،‬‬ ‫أن ينسلخن عن مضامين‪ ،‬وأشكال التراث‬ ‫العراقية المعروفة نازك المالئكة‪ ‬في تأنيث‬ ‫المجتمعات دون تحديد‪ ،‬ولم تحصل المرأة‬
‫ويعلل هذا بأن اسم أدونيس وثني أل ّنه اسم‬ ‫الشعر المعاصر‪ ،‬ص‪« )23:‬كانت أول قصيدة‬ ‫ً‬
‫تاريخيا هو الخنساء التي لم‬ ‫االسم البارز‬ ‫الشعري الذكوري؟‪ ‬أم أن ّ‬
‫الشعر «شيطانه‬ ‫القصيدة وتجاوز‪ ‬عقبة الفحولة الذكورية‬ ‫ّإل على الهامش ّ‬
‫الض ّيق‪ ،‬الذي جعلها تحت‬
‫اإلغريقية‪ ،‬بينما نسي أنّ اسم نازك –‬
‫ّ‬ ‫اإللهة‬ ‫حرة الوزن تنشر هي قصيدتي المعنونة‬ ‫تكتب ّإل شعرا عن الذكور‪ ،‬الفحول حيث‬
‫ً‬ ‫ذكر» كما يتغنى بذلك الشاعر الفرزدق‪ .‬كما‬ ‫كمضمون وكقالب موسيقي بوعي أو دون‬ ‫وصاية ّ‬
‫الذكر وداخل شرنقته‪ ،‬ولم يمنحها‬
‫ً‬
‫إن كان عربيا‪« -‬يُ حيل إلى دالالت ذكورية‬ ‫السياق مبرزة‬
‫(الكوليرا)» وتضيف في نفس ّ‬ ‫أمضت عمرها كله في رثاء رجلين مما جعل‬ ‫ذكر كل من الدارسين‪ ‬أبو نجم العجلي‪،‬‬ ‫وعي‪..‬؟ وماذا يقول بعض الشعراء والنقاد‬ ‫نفسا لتع ّبر عن ذاتها‪ ،‬وال أن تقول ما تريد أن‬
‫بارزة‪ .‬إن (النّزك)‪ ،‬كما يذكر ابن منظور‪،‬‬ ‫الثاني من ّ‬
‫الشهر نفسه صدر‬ ‫«وفي النصف ّ‬ ‫ً‬
‫تابعا للرجل‪ ،‬وبهذا الخصوص يقول‬ ‫شعرها‬ ‫وجمل بازل‪ .‬من المعروف في التقاليد‬ ‫الذين عاصروها عن تجربتها هذه؟‬ ‫ال انعكس سلبا على‬‫تقوله‪ ،‬فعاشت كبتا طوي ً‬
‫هو ذكر الورل والضب» (عبداهلل الغذامي‬ ‫في بغداد ديوان بدر شاكر السياب أزهار‬ ‫عبداهلل الغذامي في كتابه (تأنيث القصيدة‬ ‫الشعرية العربية أنه ينظر إلى الشعر على أنه‬ ‫الراحل‬ ‫ّ‬
‫والشاعر ّ‬ ‫بادئ ذي بدء نجد النّاقد‬ ‫ّ‬
‫ولعل هذا ما ع ّبرت عنه الناقدة ألين‬ ‫ذاتها‪،‬‬
‫قافية‪ ،‬مجموعة من‬ ‫والممارسة النّقديّ ة ّ‬
‫والث ّ‬ ‫ذابلة وفيه قصيدة حرة الوزن له من بحر‬ ‫والقارئ المختلف‪ ،‬ص‪« )32 :‬فالخنساء‬ ‫ً‬
‫دائما‪ ،‬وأنه‬ ‫بالرجال‬
‫ال‪ ،‬وأنه ارتبط ّ‬ ‫كان فح ً‬ ‫توفيق صايغ ينتقد البعد الذكوري في‬ ‫شوالتر‪ ‬بقولها‪« ‬المرأة قد دربت طوي ً‬
‫ال على‬
‫المؤلفين‪ ،‬ص‪ .)119 :‬وهنا نتساءل‪ :‬كيف‬ ‫الرمل عنوانها (هل كان حبا)» (نفسه‪ ،‬ص‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫تعزيزا للمعنى الفحولي‬ ‫وصويحباتها لسن ّإل‬ ‫الصعب على المرأة الدخول إلى‬
‫كان من ّ‬ ‫شعر نازك المالئكة وذلك في كتابه «نازك‬ ‫كراهية ذاتها وإعالء قيمة ّ‬
‫الذكور»‪.‬‬
‫تجرأت نازك على هتك نظام لغة الفحول‪-‬‬ ‫‪.)24‬‬ ‫للشعر»‪ ،‬وهذا يعني أن الخنساء اسم أنثوي‬ ‫مؤسسة الفحول‪ .‬فالشاعر الفرزدق قد قال‬
‫ّ‬ ‫المالئكة‪ /‬طريدة المتاهة والصوت المزدوج»‬ ‫ولما دخلت عالم المرأة الكتابة‪ ،‬وأدلت بدلوها‬
‫كما يرى الغذامي‪ -‬دون أن تتفطن إلى اسمها‬ ‫‪ ‬السؤال الذي ينبغي طرحه اآلن هو‪ :‬ما‬
‫إن ّ‬ ‫ً‬
‫فحوليا‪ ،‬بمعنى أ ّنها‪ ‬لم تحدث‬ ‫ً‬
‫شعرا‬ ‫يكتب‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مرة ساخرا في امرأة قالت شعرا «إذا‬
‫ذات ّ‬ ‫الصادر‪ ‬عن دار الجمل‪« ،‬لماذا الرقيق‪ ،‬وأبولو‬
‫َّ‬ ‫فيه‪ ،‬فقد وجدت نفسها أمام حائط ّلغة‪ .‬بما‬
‫الذي يحمل دالالت ذكورية‪ ‬كما أشرنا سابقا؟‬ ‫هو الجديد الذي جاءت به نازك المالئكة‬ ‫اختراقا نوعيا جديدا للثقافة الذكورية‪،‬‬ ‫صاحت الدّ جاجة صياح الدّ يك فاذبحوها»‪.‬‬ ‫رمز الجمال الرجولي؟»‪ .‬لقد ورد هذا النقد‬ ‫السائد‬ ‫أنّ ّ‬
‫اللغة هي وسيلة المبدعة‪  ‬لتخطي ّ‬
‫الشك أن‪ ‬نازك المالئكة قد قدمت الكثير‬ ‫السعودي المعروف‬
‫حتى جعلت من النّاقد ّ‬ ‫وهكذا استمر ّشعر المرأة العربية مطعّ ً‬
‫ما‬ ‫إن مثل هذا الرأي الصادر من هذا الشاعر قد‬ ‫الذي صاغه في شكل سؤال في تعليق له‬ ‫الذكوري‪-‬الفحل‪ ،‬فكيف يمكن أن يحدث‬ ‫ّ‬
‫للشعر الحر‪ ،‬كشاعرة‪ ،‬ومنظرة‪ ،‬وكصاحبة‬ ‫خصص لها كتابا كامال‬
‫عبداهلل الغذامي يُ ّ‬ ‫ً‬
‫قرنا منذ‬ ‫بالفحولة على مدى خمسة عشر‬ ‫ساهم‪ ‬في جعل كل من يُ خالف هذا النسق‬ ‫على ‪ ‬قصيدتها «يوتوبيا الضائعة» التي تقول‬ ‫ذلك إذا كانت هذه ّ‬
‫اللغة التي ستكتب بها‬
‫فكر ناضج‪ّ ،‬إل أنّ ما ذهب إليه الغذامي‬ ‫وهو «تأنيث القصيدة والقارئ المختلف»‪..‬‬ ‫الخنساء‪ ،‬إلى أن جاء صوت الشاعرة نازك‬ ‫الطاغي يجد نفسه في حرب ضروس‪،‬‬ ‫فيها‪:‬‬ ‫الرجل‪..‬؟‪ ،‬فالمعجم‬
‫في حد ذاتها من ُصنع ّ‬
‫في كتابه المذكور واعتبار نازك ‪ ‬صاحبة‬ ‫المالئكة‪ ‬سباقة في التّ جديد‬
‫ّ‬ ‫وهل كانت نازك‬ ‫المالئكة العراقية في سنة ‪ 1947‬بتفعيل‬ ‫وتنبغي اإلشارة هنا إلى أن الشاعر‪ ‬أبي تمام‬ ‫األزلي‬
‫ّ‬ ‫‪ ‬إلى ذلك األفق‬ ‫ً‬
‫غوي يضع المرأة دائما في الصف‬ ‫ّ‬
‫الل ّ‬
‫الريادة في ّ‬
‫«الشعر الحر»‪ ،‬هو‪  ‬في حدَ ذاته‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فعال‪..‬؟ فالغذامي يقول بأنها «فتاة يافعة‬ ‫نموذج الشعر الحر‪ .‬في هذا الشأن يرى‬ ‫مثل «النسق المفتوح» ويرى أنّ‬‫الذي كان يُ ّ‬ ‫وحيث يعيش أبولو الرّ قيق‪.‬‬ ‫الثاني‪ ‬ويلخص هذا بيير داكو في كتابه‬
‫قضية كانت وال تزال محل جدل واختالف‬ ‫‪-‬يقصد نازك المالئكة‪ -‬تجرأت على عمود‬ ‫عبداهلل الغذامي أنّ نازك المالئكة قد قامت‬ ‫الشعر «ناقة ولود ومعطاء» قد عانى من هذا‬‫ّ‬ ‫(ديوان نازك المالئكة‪ ،‬المجلد ‪ ،2‬ص‪.)42 :‬‬ ‫«المرأة‪ :‬بحث في سيكولوجية األعماق‪ ،‬ص‪.‬‬
‫حيث‪ ‬هناك من يرى أنّ نازك المالئكة لم تكن‬ ‫الفحول وعلى نظام لغتهم» (ص‪ .)4 .‬من‬ ‫بقلب موازين الخليل وكسر عمود ّ‬
‫الشعر‪،‬‬ ‫النوع من الحرب إذ قالوا عن شعره «إن كان‬ ‫وفي الحقيقة فإن السؤال الذي ينبغي‬ ‫الراهنة ذات األساس‬ ‫ّ‬
‫إن‪« ‬اللغة ّ‬ ‫‪ »79‬قائال‬
‫السباقة إلى ذلك‪ .‬لقد كانت نازك المالئكة‬
‫ّ‬ ‫الواضح هنا أن الغذامي يقصد هنا ثورتها‬ ‫حيث كانت قصيدتها «الكوليرا» أول قصيدة‬ ‫ً‬
‫شعرا فما قالته العرب باطل»‪.‬‬ ‫هذا‬ ‫طرحه في هذا السياق هو‪ :‬هل استطاعت‬ ‫المذكر‪ ،‬ال تتيح للمرأة أن تحدّ د موقعها‪ ،‬وال‬

‫‪95‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪94‬‬


‫تانيا الكيايل‬
‫ملف‬

‫«من أوائل من ردَ على دعاة ‘قصيدة النّثر’ التي‬


‫تبنتها مجلة ‘شعر’ واعتبرتها بدعة غريبة»‪،‬‬
‫ومن جهته فقد شكَك أدونيس في حداثتها‬
‫حين كتب «بيان الحداثة» حيث يرى فيه ‪ ‬أنّ‬
‫«في شعر أبي تمام حساسية حديثة ورؤية‬
‫فنية حديثة ال تتوفران عند نازك المالئكة»‪.‬‬
‫وفي‪ ‬كتابه «ها أنت أيّ ها الوقت‪ ،‬ص‪»45 :‬‬
‫ً‬
‫ساخرا من ادّ عائها أنها‬ ‫يتحدّ ث عنها أدونيس‬
‫الرائدة األولى التي كتبت الشعر الحر‪ ،‬وأنها أول‬
‫السياب‬
‫من أطلق حركة التجديد‪ .‬أما بدر شاكر ّ‬
‫فيعترف بدور نازك المالئكة‪ ،‬وأن ما قاموا به‬
‫قد مهد له الشعراء األندلسيون الذين ثاروا على‬
‫القوافي واألوزان‪ ،‬وثم شعراء المهجر الذين‬
‫مهدوا ّ‬
‫الطريق له ولنازك المالئكة ومن معهما‪.‬‬
‫وبهذا الخصوص يقول السياب‪ ،‬الذي اقتبسه‬
‫الدارس حسن الغرفي في‪  ‬كتابه (السياب‬
‫ً‬
‫شيئا شبيها‬ ‫النثري‪ ،‬ص‪ )105 :‬ما يلي «إ ّننا فعلنا‬
‫إلى حد ما بما فعله ّ‬
‫الشعراء األندلسيون حين‬
‫كتبوا الموشحات‪ ،‬كانت الموشحات الخطوة‬
‫األولى إلى األمام‪ ،‬وقمنا نحن بالخطوة الثانية‪،‬‬
‫بعد أن مهد الطريق لنا شعراء المهجر»‪ .‬على‬
‫ضوء شهادة الشاعر السياب نفهم أن ما قامت‬
‫به نازك‪ ،‬ليس سوى خطوة ثانية مكملة لألولى‬
‫التي قام ‪ ‬بها األندلسيون وشعراء المهجر ومن‬
‫سبقهم‪ ،‬أي أ ّنها قامت بتغيير تسريحة شعر‬
‫قلعا‪ ،‬و ُت ّ‬
‫حل‬ ‫ً‬ ‫الرأس الذكوري‪ ،‬دون أن ُتقلعه‬
‫ّ‬
‫مكانه بدائل تتناسب معها كأنثى ثائرة على‬
‫النّسق ّ‬
‫الذكوري كما يدّ عي الغذامي‪ .‬وبعبارة‬
‫أخرى فإن نازك المالئكة‪ ‬لم تقم بإحداث رجة‬
‫عنيفة لزلزلة‪  ‬المضمون الذكوري للقصيدة‬
‫العربية التقليدية‪.‬‬
‫‪ ‬إ ّننا هنا ال ُننكر أنّ نازك قد قدّ مت اإلضافة‪ ،‬وهذا‬
‫ال مناص منه‪ ،‬ولكن ال يُ مكننا أن نربط حركة‬
‫التّ جديد بها وحدها ألن بدايات نهضة الشعر‬
‫الحر تعود تاريخيا إلى ما قبل نازك المالئكة‬
‫البياتي ومن‬
‫وبدر شاكر السياب وعبدالوهاب َ‬
‫عاصرهم أو تالهم‪ .‬إن ربط الشعر الحر بهؤالء‬
‫إنكارا لفضل من سبقهم مثل‬‫ً‬ ‫وحدهم يُ عدّ‬
‫أبي تمام‪ ،‬واألندلسيين‪ ،‬وشعراء المهجر الذين‬
‫مهدوا لهم ّ‬
‫الطريق‪.‬‬
‫كاتب من الجزائر‬

‫‪97‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪96‬‬


‫قص‬

‫اللوح ّ‬
‫اللتيني‬ ‫أحجية ّ‬

‫بهرام حاجو‬
‫السالمي‬
‫جابر ّ‬

‫كل شيء أشبه‬ ‫وجماعات‪ .‬عويل وزعيق لم أفقه ماهيته‪ .‬كان ّ‬ ‫قصي على سطح البسيطة‪ .‬بعيدا عن منطق البشر‬ ‫في مكان‬
‫ّ‬
‫بكابوس‪ .‬الواقع أ ّنني هممت بسؤال فتاة تمأل قربة ماء من‬ ‫واستقرت بين براثن أجمة مستترة‬ ‫ّ‬ ‫وفلسفتهم‪ ،‬تكوّ نت فكرة‬
‫ولما كان ما كان من‬ ‫النّهر حول أقرب طريق للخروج من الدّ غل‪ّ .‬‬ ‫من النّباتات االستوائية المثيرة لهوس التّ أمل والتّ معّ ن‪ .‬كتابة‬
‫وولت هاربة‪.‬‬‫سؤال‪ .‬تمتمت بكلمات غير مفهومة ّ‬ ‫التينية محفورة في لوح كساه النّدى والفصول بغطاء لزج من‬ ‫ّ‬
‫كل ما‬ ‫ال أهتدي إلى طريق الخروج من هذا الدّ غل الكثيف‪ .‬هذا ّ‬ ‫الرائي‬
‫يخيل إلى ّ‬ ‫خضرة داكنة‪ .‬مكان ال تطاله يد البشر أو هكذا ّ‬
‫في األمر‪ .‬وغرابة هذه الجزيرة تكمن في مفاجآتها بمعنى أ ّنها‬ ‫ّلما تطأ قدماه الجزيرة النّائية الوحيدة كجسم غريب انبثق من‬
‫جزيرة مشوّ قة على نحو ما‪ .‬وقفت ال أبدي حراكا بين هؤالء‬ ‫سراب‪.‬‬
‫بالرماح‪ .‬كنت كمن أصيب بصدمة‪ .‬أردّ د‬ ‫المتأهّ بين لطمري ّ‬ ‫خرجت من ذلك المكان‪ .‬تجاوزت صخورا محدّ بة وقواقع‬
‫صلواتي بلسان متلعثم ثقيل وأنا أحاول استحضار ما درسته‬ ‫أهم بزرعها الواحدة تلو األخرى‪ .‬آثار الحذاء‬ ‫فوسفوريّ ة‪ .‬ها أنا ّ‬
‫وحب الحياة‪ .‬وما لبثوا أن انسحبوا الواحد‬ ‫ّ‬ ‫عن حقيقة الموت‬ ‫الجلدي العتيد في ذلك المسلك الوعر تختفي أمامي بال سبب‪.‬‬ ‫ّ‬
‫تلو اآلخر وعادت تلك الفتاة لملء قربة الماء‪ .‬مدهوشا بنجاتي‪..‬‬ ‫وأقرر المضي قدما‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أنظر إلى الخلف‬
‫التفت ورائي ومضيت قدما‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫متوحشون لكنّهم لطفاء‪ .‬في لطفهم خشونة‬ ‫ّ‬ ‫قبيلة أفرادها‬
‫يتوجب الهرب حتما‪ .‬المشكلة أ ّنني ال أفقه دروب المكان وأربعة‬ ‫ّ‬ ‫الرؤية‬‫السماء لتتّ ضح ّ‬ ‫وصادف أن تتّ خذ الشمس مكانها وسط ّ‬ ‫ّ‬
‫كنت موقنا بأنّ نهاية ما تحاصرني كسياج شائك‪ .‬تلتف حولي‬ ‫وبدائية مفرطة‪ .‬طاب لي المقام بينهم أيّ اما‪ .‬أقتات من أسماك‬ ‫ّ‬
‫إنسيا اقتحم مجالهم فجأة‪ .‬ومهما يكن‬ ‫ّ‬ ‫تترصد بال هوادة‬ ‫ّ‬ ‫قردة‬ ‫تنفك تحرق أنفي‪ .‬وقفت‬ ‫ّ‬ ‫والرطوبة ما‬
‫وأتسلق غصنا منسدال ّ‬ ‫ّ‬ ‫الأدريّ ة‪.‬‬‫ظلمة فاترة فال أرى شيئا مثل تائه أعمى في سهول ال ّ‬ ‫متعمدا بضوء‬‫ّ‬ ‫الصباح‪ .‬أحتفل معهم وأرقص‬ ‫النّهر عند انبالج ّ‬
‫من أمر فقد ركضت باتجاه الدّ غل وتهت في الغابة‪.‬‬ ‫الهثا من التّ عب أمام حفرة دائريّ ة غائرة في األرض‪ .‬شيء ما‬ ‫استحضرت فكرة من هول المأزق وهي أنّ النّهايات التي انتهت‬ ‫جلي وطفقت أساير هذه الحياة الغريبة بشغف يشي‬ ‫ّ‬ ‫قمري‬
‫ّ‬
‫الربان رغم‬
‫تسللي من الباخرة دون إذن من ّ‬ ‫ّ‬ ‫لم أستشنع أمر‬ ‫كساها بأغصان وأعواد مختلفة حتى اختفت تماما‪ .‬ومثل من‬ ‫جل قصص وحكايات العالم ال تشبه النّهاية المحيطة بي‪.‬‬ ‫بها ّ‬ ‫الشباب‪.‬‬ ‫ّ‬
‫بالحذر‪ .‬كنت أروم المغامرة النّبيلة‪ ،‬تلك المعفرة بروح ّ‬
‫الرحالت‬‫الشروط المعمول بها في ّ‬ ‫أنّ القانون يقضي باحترام ّ‬ ‫التفت خلفي ومضيت قدما‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫صدم إثر فرح‪.‬‬ ‫أتحرك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وهذه الفكرة قد جعلت ما أنا فيه لعنة على المقاس‪ .‬ال‬ ‫ضالتي هنا‪ .‬أشوي‬ ‫مقزز‪ .‬والحال أ ّنني قد وجدت ّ‬ ‫بعيدا عن نمط ّ‬
‫ثم إلى الباخرة‪ .‬حملت‬ ‫قمة الجزيرة ّ‬ ‫راسية‪ .‬نظرت إلى ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدّ‬ ‫ّ‬
‫الساعة اآلن‪ ..‬ال أدري تماما‪ .‬أذكر أنني جدّ فت بالقارب أواخر‬ ‫ّ‬ ‫ال أرى‪ .‬بيد أنّ سمعي بخير‪ .‬صوت أنفاسي المختنقة يتردّ د‬ ‫ح ّبات الكستناء ورأسي يتمايل ولعا بأسرار الجزيرة التي‬
‫ّ‬
‫حقيبتي وعدت إلى القارب‪ .‬جدّ فت حتى كلت يداي ووصلت‬ ‫الصباح‬ ‫صخري مع انبالج خيوط ّ‬ ‫ّ‬ ‫الليل حتى وصلت إلى ساحل‬ ‫ّ‬ ‫في أرجاء الهوّ ة العميقة‪ .‬أمر رائع أن نكتشف حقيقة جديدة‬ ‫أتسلق أشجار الباوباب‬ ‫ّ‬ ‫منحتني وقارا استوائيا وعنفوانا بهيجا‪.‬‬
‫إلى الباخرة‪ .‬الغريب أنّ الجميع لم يخلدوا إلى النّوم‪ .‬ألفيتهم‬ ‫األولى‪ .‬لم أعر الوقت أدنى اهتمام عدا إحساسي بالجوع‪ .‬ومردّ‬ ‫تحل بنا‪ .‬لقد اكتشفت للتوّ أ ّني عالق داخل هوّ ة‬ ‫خالل مصيبة ّ‬ ‫ألخط‬
‫ّ‬ ‫وأو ّثق صيد األفاعي برسومات مستعمال دماء طريدة ما‬
‫مثلما تركتهم‪ .‬صاخبين متنعّ مين بجوّ استوائي دافئ‪ .‬هتفت‬ ‫الليلة الفارطة‪ .‬كنت أنظر إلى‬ ‫ذلك أ ّنني لم أتناول العشاء في ّ‬ ‫أتحسس‬ ‫ّ‬ ‫الرطوبة العطنة‪ .‬ولبثت‬ ‫ترابية باردة تفوح منها رائحة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ما يحلو لي من مشاهد‪.‬‬
‫لي زميلتي… «أين كنت ؟ لقد غبت عن ناظري للتوّ ‪ .‬في الواقع‬ ‫ّ‬
‫للتسلل إلى الجزيرة‬ ‫المياه المتالطمة من الباخرة وأنا أستعدّ‬ ‫إلي أنها نتوءات أو‬‫ّ‬ ‫ّ‬
‫علمت سكّان القبيلة لعب كرة القدم‪ .‬بدا لي أنّ بعض أفرادها‬ ‫ّ‬
‫يخيل ّ‬
‫ّ‬ ‫جدرانها الملساء نابشا بأصابعي ما‬
‫كنت أدعوك لنلتقط صورة جماعية مع األستاذة»‪ .‬غمغمت قائال‬ ‫اتخذت لي مكانا مكشوفا وافترشت رماال‬ ‫في غفلة من الجميع‪ّ .‬‬ ‫تشققات بغية التّ ش ّبث بها‪.‬‬‫ّ‬ ‫توفر المكان المناسب‬ ‫تعلم سريعة ناهيك عن ّ‬ ‫قد أظهروا ملكة ّ‬
‫تحسست حقيبتي‬ ‫ّ‬ ‫«أجل أجل‪ ..‬أعلم‪ .‬ال تشغلي بالك‪ ..‬أنا قادم»‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الخشبي الالمع آكل وجبة الفطور‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫خشنة جالسا قبالة القارب‬ ‫السقوط المفاجئ‪.‬‬ ‫قدمي بعد ّ‬‫ّ‬ ‫وجدت صعوبة في الوقوف على‬ ‫لممارسة نشاطهم‪ .‬كانت الكرة جلد ظبي ملفوف بشكل دائري‪.‬‬
‫ثم فتحتها وأخرجت لوحا قديما نقشت فيه كتابة التينية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫هجمت على المكان قردة خارجة من الدّ غل‪ .‬هربت‪ .‬ليس خوفا‬ ‫وكف يدي اليمنى مجبول بخدوش دامية‪ .‬لم‬ ‫كتفاي يؤلمانني ّ‬ ‫يشجعنهم على جانبي‬ ‫ّ‬ ‫اللعبون حفاة ونصف عراة‪ .‬نسوتهم‬ ‫ّ‬
‫إلي‬ ‫ّ‬ ‫من الموت غريبا في جزيرة مهجورة‪ .‬بل استمرارا في سرد‬ ‫ورقابهن المحسورة بلولب‬ ‫اللمعة‬‫برؤوسهن الحليقة ّ‬ ‫الملعب‬
‫إلي عبر الضباب أنّ قردا يلوّ ح ّ‬ ‫وخيل ّ‬‫ّ‬ ‫نظرت إلى الجزيرة‬ ‫تعوزني اإلصابة من البحث عن خروج آمن‪ .‬دخل خيط رفيع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إلي لوحي وخذ سجائرك» وتذكّرت‬ ‫الشاطئ‪.‬‬ ‫مرمي على ّ‬ ‫الحكاية‪ .‬كنت مختبئا خلف جذع نخلة‬ ‫من النّور عبر أوراق تأكّدت بعدها أ ّنها لشجرة قيقب‪ .‬المربك هنا‬ ‫يضج المكان‬ ‫الصياح‬ ‫ّ‬
‫من أغصان طريّ ة‪ .‬ومع كل هدف‪ ..‬كان ّ‬
‫اآلدمي أعد ّ‬
‫ّ‬ ‫مخمنا‪« .‬أيّ ها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫السجائر ففتّ شت عنها و لم أجدها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫رأيت قردا ينبش في حقيبتي ويأكل ما تركته من فطوري‪.‬‬ ‫مالئكيا كأن نحتمي بظاللها‬ ‫ّ‬ ‫أنّ األشجار عادة ما تبدي لنا حنانا‬ ‫ضجا وفرحة عارمة ّ‬
‫تهز الجميع‪.‬‬ ‫ّ‬
‫قردان آخران ذهبا إلى القارب‪ .‬ورابع يصيح ويقفز وكأ ّنه‬ ‫من قيظ شديد أو أن نختبئ تحتها من مطر منهمر‪ .‬لكنّها اآلن‬ ‫إلي أفراد القبيلة شزرا ذات صباح‪.‬‬ ‫لم يخطر لي أبدا أن ينظر ّ‬
‫كاتب من تونس‬ ‫ين ّبههم إلى ذلك اآلدمي الذي ال يزال قريبا ولم يبتعد‪ .‬فكّرت‬ ‫الضوء ودون تردّ د‬ ‫تعقد مسألة خروجي من الهوّ ة وتحجب عنّي ّ‬ ‫ّ‬ ‫شرا أو أناصب عداء لفتاة ملكهم‪ .‬بل لم أكن أدري‬ ‫لم أكن أضمر ّ‬
‫متوحشة‪ .‬األمر‬
‫ّ‬ ‫هنيهة‪ .‬كم فظيع أن ينتهي إنسان وجبة لقردة‬ ‫اعتبرتها لعنة رائعة من ضمن أخريات‪.‬‬ ‫الرماح والنّبال‪ .‬قدموا فرادى‬ ‫أ ّنها ابنة الملك‪ .‬صوّ بوا نحوي ّ‬

‫‪99‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪98‬‬


‫د‬
‫عوة‬

‫المدشن الحقيقي أو باألحرى‬


‫طابعا جدلياً‬
‫ً‬
‫ّ‬ ‫خطاب معين‪ ،‬كما أن الماكياج هو‬ ‫الميديا والعنف‬
‫المتمم للزي حيث من خالله ينمو التعنيف ويأخذ‬

‫أصوات‬
‫تدعو الكتاب والمفكرين العرب‬ ‫ولكل شخيصة قالبها االنتقائي‪ ،‬فشخصية الساحرة في زيها‬
‫إلى المشاركة في محاورها وملفاتها القادمة‬ ‫ومكيجتها تكون على الضد أو الخالف من شخصية الراهب‬ ‫أحمد ضياء‬
‫فلكل من هذه‬ ‫ّ‬ ‫وشخصية الفقير تتمايز عن شخصية الملك‪،‬‬
‫الشخصيات مالمح ودالالت تأويلية وخاصيات تنفرد عن‬
‫بحل الطابع التعيني وانعكاساته‬ ‫ّ‬ ‫مجاوراتها وهو األمر الكفيل‬

‫محمد ظاظا‬
‫كيف نكتب لألطفال؟‬ ‫على الفضاء الجمعي الذي يكون من باب الميديالوجيا‪.‬‬
‫ملف حول الكتابة العربية للطفل‬ ‫العنف الرمزي‪/‬الصوري الذي نتلقاه كل يوم عبر الشاشة الزرقاء‬
‫(فيسبوك) بات قرينا روحيا لمعاناتنا إذ أننا لم نعد نأبه لمسألة‬
‫وبصريا مع ذائقتنا‪ .‬وعبر هذه‬‫ً‬ ‫ً‬
‫ذهنيا‬ ‫الموت ألنه بات متالحما‬
‫العربي‬
‫ً‬ ‫تيارات التفكير‬ ‫أما‬
‫الممارسات األولى كان هذا المكان يتسم بالمعرفة الكبيرة ّ‬
‫ظهورا ومدا وجزرا‬ ‫اليوم نرى التشاحنات الطائفية المؤججة للفعل االنتقامي مالذاً‬
‫رئيسا في سبك مفهومها التواصلي‪ .‬فتداولية الفعل الصوري‬ ‫ً‬

‫حال الكتاب العربي‬ ‫(التشويفي) بينت حالة الرعب والقسوة التي تستخدم ضد‬
‫اإلنسانية‪ ،‬فلو أخذنا مسألة االنفجارات وكيفية عرضها على‬
‫كيف تنشر الكتب‬
‫هذه الشاشة أليقنا أن الخوف لم يعد متولدا فينا الن هذه‬
‫في العالقة بين الكاتب والناشر والقارئ‬ ‫المشاهد اعتدناها وعلى مر التحوالت البيوغرافية التي طرأت‬
‫ً‬
‫خصيصا‪.‬‬ ‫على المنطقة العربية والعراق وسوريا‬
‫االستبداد الشرقي‬ ‫ويأتي أيضا العنف البصري المتعلق بالفيديو وهذا الشيء يرسم‬
‫دور الحاكم المستبد‬ ‫تباشيره العامة وفق نظام معين يتأتي بين طرفي الصراع‬
‫في صناعة االستبداد الديني‬ ‫ولكي يستخدم في ترهيب اآلخر وعرض كافة السلبيات التي‬ ‫الواقع المعيش وأخذ كل فرد يتحاشى مسألة شراء هذه‬ ‫الموقف اإلنساني عبر البيئة التي ولد فيها وعاشها‬
‫ينبني‬
‫يتمتع بها‪ ،‬فما يتم عرضه عبر اللوحة اإلشهارية بالفيديو بنت‬ ‫األسلحة ألطفاله من خالل ما جرى للعديد من األطفال‪ .‬وعبر‬ ‫الفرد وإلى لحظات الطفولة ذات األثر األهم في‬
‫له مجاالً مكّن اآلخر من تذويب الخطاب العنفي وجعله ذي‬ ‫هذه األيقونات اإلشهارية التي يوظفها الخطاب اإلشهاري‬ ‫نشأته غير أن المشاهدات التي تواترت اآلن عبر العديد من‬
‫الشعر والتجريب‬ ‫مشاهدات يومية ولم يعد الخوف هو المسيطر على اإلنسان‬ ‫(للكارتون) برزت السلعة متماثلة لهذه المديات‪ ،‬ولربما ألن‬ ‫أجهزة الميديا أخذت تفرض هيمنتها العنفية في الكثير من‬
‫هل وصل التجريب الشعري العربي‬ ‫ألن مثل هذه المشاهد تكررت مشاهدتها وبات من الطبيعي أن‬ ‫اآلخر بدأ التفكير البراغماتي الذي يهدف إلى إنتاج فعل مؤثر‬ ‫المواضع‪ ،‬فعلى سبيل المثال يمثل التلفاز العنصر األهم لألطفال‬
‫إلى حائط مسدود‬ ‫نشاهد هذه الفيديوهات بال أي مراوغة أو تكتيك مسبق ويثير‬ ‫قبل بث السلعة وهي لحظة رئيسة في مديات ما بعد الحداثة‬ ‫حيث أن مسألة وجود أفالم «كارتون» لشخصيات تثير الرعب‬
‫مبطنا بتعاويذ الموت ومراحله القائمة‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫فكرا‬ ‫الطابع االنصهاري‬ ‫ً‬
‫مبشرا لظهور الموديل‬ ‫ً‬
‫واقعا‬ ‫التي تتخذ من خطاب التلفاز‬ ‫أو العنف في نفوس األطفال باتت اآلن أكثر جدية إذ بدأ هؤالء‬
‫على تمازجات أخالقية‪.‬‬ ‫ً‬
‫الجديد بالملبس‪/‬المأكل‪/‬المشرب‪ .‬وبرزت أيضا عبر هذه الالئحة‬ ‫تمثل هذه المشاهدات ومحاكاتها ضمن حزمة من الحركات‬ ‫ّ‬
‫الكتابة واألنوثة‬
‫ما يحصل اليوم في ساحات القتال هو الدليل الناجع على هذا‬ ‫اإلشهارية ظاهرة االستالب الفكري أو المفاهيمي وهي أشبه‬ ‫المؤذية حيث أخذت تطفح على األسطح وتأخذ لها مديات‬
‫هل تكتب النساء العربيات بلغة الرجل‬
‫الكالم ألن اآلخر القاتل المتمثل بداعش يرغب من خالل بثه‬ ‫بظاهرة التوحد التي من خاللها ينطوي الطفل على ذاته وحيث‬ ‫أخرى‪.‬‬
‫أم أن اللغة بال جنس‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مقاطع الفيديو في جعل اآلخر يخشى الوصول إليه والطرف‬ ‫تصبح األشياء مسطحة أو هامشية باستثناء الفعل اآلني الذي‬ ‫ّ‬
‫تمثل اللغة الصورية عالما رئيسا في فضاء التباري السلعي وكما‬
‫اآلخر يعمل نفس األمر حتى يقول له إن نهايتك محتمة‪ .‬وفي‬ ‫يقوم به‪.‬‬ ‫يصفها دريدا «إن مجيء اللغة‪ ،‬هو مجيء اللعبة» بمعنى أن‬
‫حقيقية الفعل نوعية اإلرهاب تمارس على اإلنسان الذي لم‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫يشكل العنف مضمارا مغايرا في الزي أو اللون حيث يشكل له‬ ‫اللغة الصورية التي تبث لنا عبر شاشة الميديا يجب أن يتبعها‬
‫الصحافة الثقافية العربية‬ ‫يدخر الحرب وعلى األطفال الذين التقطوا هذه المبثوثات‬ ‫ال منذ القدم‪ ،‬ففي األساطير يأخذ اللون األحمر ذو‬ ‫ً‬
‫باعا طوي ً‬ ‫جانب سلعي تطبيقي‪ ،‬فبعد أن فضح لنا الفضاء الميديوي‬
‫أحوالها‪ ،‬توجهاتها‪ ،‬عالقتها بالكتاب والقراء‬ ‫العامة كما أن الفعل القائم والمنعكس على شخصيات األطفال‬ ‫جانبا من جوانب الشر وهو المسؤول‬‫ً‬ ‫الداللة المعرفة للجميع‬ ‫هذا األمر يأتي الدور على المستهلك كي ينصاع لهذه المادة‬
‫والكبار هو الراشح من هذا التعنيف الميديوي القائم‪.‬‬ ‫عن كافة الطروحات التي تنتج من حكايات وأساطير شيطانية‬ ‫ً‬
‫رهينا بكافة‬ ‫عبر التباري بين األطفال غير أن هذا األمر بات‬
‫كما أنه لدى اإلغريق يستخدم لطرد األرواح الشريرة المهيمنة‬ ‫المعروضات على الميديا وال يقتصر هذا الفعل على الجانب‬
‫شاعر من العراق‬ ‫فالزي هو المثار الحقيقي لبيان طابع الشخصية‬
‫ّ‬ ‫على الحدث‪،‬‬ ‫ً‬
‫أيضا علينا عبر معطيات متغيرة‬ ‫الطفولي فقط بل إنه ينعكس‬
‫ومكوّ ناتها ومن خالله يمكننا الكشف عن بواطن هذا األداء‬ ‫لكنها في المحصلة لها نفس الوظائف التي تحدث لألطفال‪.‬‬
‫وما يجول في خاطره من تداعيات مختلفة تسهم في إنتاج‬ ‫فمشاهد «المسدسات» في الحراك اللعبي تم تدشينها في‬

‫فكر حر وإبداع جديد‬


‫‪101‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪100‬‬
‫سجال‬

‫سيد القمني‬
‫مرايا نقدية‬
‫يضم هذا الملف خمس مقاالت سجالية تحاور المفكر سيد القمني انطالقا من األفكار واآلراء‬
‫التي أطلقها في حوار أجرته معه “الجديد” في عددها األخير لسنة ‪ ،2016‬ورقمه ‪ .23‬القمني‬
‫الذي عرف عنه تحريك الجمر تحت الرماد‪ ،‬أقدم بشجاعة على إثارة القضية األكثر تداوال‬
‫اليوم في جل األوساط االجتماعية العربية‪ ،‬ونعني بها المكانة المجتمعية للدين‪ ،‬قيمه وأدواره‬
‫وتجلياته في مجتمع عربي يعاني من الطغيان والثورات والتطرف‪.‬‬

‫ً‬
‫غالبا‪ ،‬من وعي يرى ضرورة نقد التدين ونقد الفكرة الدينية‬ ‫المشاركون في الملف انطلقوا‪،‬‬
‫في تسلطها على العقل‪ ،‬وكذلك في التفاعل العنفي معها‪ ،‬واستخدامها من قبل فئات سياسية‬
‫بحتة تهدف من استعمال الدين للهيمنة على عقول الناشئة واستعمالهم في معركة الهيمنة‬
‫على المجتمع‪.‬‬

‫ما تثيره مقاالت هذا الملف إنما يوسع من حالة النقاش الحر حول جملة من القضايا التي‬
‫فرضتها األحوال العربية العاصفة على إثر االنتكاسات التي مني بها “الربيع العربي” والثورات‬
‫الشبابية التي طمحت إلى تغيير نظم الحكم الشمولي التي سلطت العسكر على المجتمعات‪،‬‬
‫وصادرت الحياة المدنية ومعها الحلم بالمستقبل ألكثر من نصف قرن‪ .‬لكن الشباب الذي نزل‬
‫إلى الشوارع العربية سرعان ما أغرقت حركاته بالدم‪ ،‬أو هي سرقت بدم بارد‪ ،‬وساهم في‬
‫ذلك في كلتا الحالتين بروز حركات اإلسالمي السياسي العنيفة وركوبها مركب الثورات وهو‬
‫ما أعطى المبررات الكاملة لقوى الحكم الشمولي في العالم العربي للقضاء على تلك الصورة‬
‫الوردية المبكرة للربيع العربي المتأخر‬

‫قلم التحرير‬

‫‪103‬‬ ‫‪102‬‬
‫محمد الوهيبي‬
‫سيد القمني مرايا نقدية‬

‫سجال‬

‫سيد القمني غاضبا‬

‫دارين أحمد‬
‫جاد الكريم الجباعي‬

‫«من يناقشني ال بد أن يكون على قدري‪ ،‬أنا المعلم األكبر وال أقبل مثل تلك المناقشات»‪.‬‬
‫(سيد محمود القمني)‬

‫ال أدّ عي أنني على‬


‫محاورته‬ ‫ً‬
‫محقا في العزوف عن النقاش‪ ،‬كما اشترط على‬ ‫قد يكون المفكر والباحث الشهير سيد محمود القمني‬
‫ِ‬ ‫قدر سيد محمود‬
‫من مجلة الجديد‪ ،‬ألن كثيرين يمكن أن يناقشوه من باب اإليمان واإللحاد‪ ،‬فيصبون زيتهم على نار الحرب‬ ‫القمني‪ ،‬أو في منزلته‬
‫ومقامه‪ ،‬بمن هو‬
‫المعلنة عليه‪ ،‬والدائرة‪ ،‬منذ زمن‪ ،‬بين اإلسالميين والعلمانيين‪ ،‬على افتراض أن العلمانيين ملة واحدة‪ ،‬ملحدة‬ ‫«المعلم األكبر»‪ ،‬كما‬
‫ً‬
‫تيمنا‬ ‫يصف نفسه‪،‬‬
‫ومناهضة لإلسالم‪ ،‬كما يعتقد اإلسالميون‪ ،‬وبعض ديمقراطيي صندوق االقتراع‪ ،‬من السوريين خاصة‪.‬‬
‫بالمعلم األول‪ .‬ولكن‪،‬‬
‫حقي أن أناقش‬ ‫من ّ‬
‫ينفي وجود اليهودية والمسيحية واإلسالم فيه‪ .‬ربما ظن‬ ‫اكتوى القمني بهذه النار حتى باتت حياته على‬
‫وقد‬ ‫أفكاره ومواقفه‪ ،‬وال‬
‫فصل بين هذه وتلك‪،‬‬
‫القمني أن البرهنة على عدم وجود النبي إبراهيم تنسف‬ ‫المحك‪ .‬ولعل بعض من يناقشونه من مواقع‬ ‫ً‬
‫واحدا من‬ ‫بصفتي‬
‫ً‬
‫جميعا‪ ،‬كأن وجود النبي‬ ‫تاريخية الديانات اإلبراهيمية‬ ‫علمانية يحمِّ لونه وزر اختزال العلمانية في مناهضة‬ ‫قرائه والمتضامنين‬
‫معه في محنته‪ ،‬بغض‬
‫إبراهيم هو علة وجودها‪ ،‬وكأن البرهنة على أسطورية‬ ‫الدين بوجه عام ومناهضة اإلسالم بوجه خاص‪ ،‬من دون‬ ‫النظر عن مدى اتفاقي‬
‫الديانات اإلبراهيمة ونفي تاريخيتها تكفيان لتفنيد‬ ‫أي تقدير لقيمة النقد وحرية التفكير‪ ،‬وحرية الرأي‬ ‫ّ‬ ‫أو عدم اتفاقي مع‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫بعض أفكاره‪ ،‬ألنني‬
‫الظاهرة الدينية‪ ،‬أو إلخراج الديانات اإلبراهيمية من‬ ‫والضمير‪ ،‬فيمنحون اإلسالميين مسوّ غا إضافيا لالفتراء‬ ‫أعتقد أن منع النقاش‬
‫سياقها التاريخي‪ ،‬نعني سياق الظاهرة الدينية‪ ،‬فيغدو‬ ‫عليه وتكفيره وهدر دمه‪.‬‬ ‫و»انقطاع التنافس‬
‫بين األفكار كارثة‬
‫إيجابية مطلقة‪ ،‬ولكنه يؤكد أثر الدين في حياة البشر‬ ‫ماركس وغيره‪ ،‬وهذا ما يفترض أن يكون لب الحديث‪.‬‬ ‫التاريخ في الحالين تاريخ األشياء‪ ،‬ال تاريخ البشر‪ ،‬الذين‬ ‫ولكن الحوار والنقاش «فسحة أخالقية» للتواصل‬ ‫عقلية»‬
‫ً‬
‫سلبيا‪.‬‬ ‫ً‬
‫إيجابيا كان هذا األثر أم‬ ‫وفي تاريخهم‪،‬‬ ‫و»الروح الذي يسري في الدين هو الروح اإلنساني»‪ ،‬القابل‬ ‫«يصنعون تاريخهم بأنفسهم‪ ،‬ولكنهم ال يصنعونه على‬ ‫والتذاوت‪ ،‬وعصف الذهن‪ ،‬وتجديد الفكر والثقافة‪،‬‬
‫إذا عطفنا كتاب النبي إبراهيم على كتاب «الحزب‬ ‫ً‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫للتحقق في العالم وفي التاريخ‪ ،‬حسب ماركس‬ ‫هواهم» بتعبير كارل ماركس‪.‬‬ ‫ومعرفة الذات‪ ،‬والتشارك في إنتاج الحقيقة‪ ،‬ال لإلقناع‬
‫الهاشمي»‪ ،‬وأطروحته المركزية تقول إن النبي محمد‬ ‫نحن نتبنّى هذه األطروحة الماركسية بقوة‪ ،‬ألنها تؤسس‬ ‫يقول القمني «فإننا نجد األديان الثالثة (اليهودية‬ ‫أو إفحام الخصم‪ .‬وال شرط على من يناقش أو يحاور‬
‫ترجم حلم جده عبدالمطلب في توحيد القبائل العربية أو‬ ‫مشروع نقد الدين‪ ،‬الذي لم يبدأ عندنا بعد‪ ،‬لالنتقال‬ ‫والمسيحية واإلسالم) في جانب وعلم التاريخ في‬ ‫سوى التزام مبادئ الحوار وأخالقياته‪ ،‬أو إيتيقا النقاش‪.‬‬
‫تقريشها وإقامة الدولة العربية التي ستغدو إمبراطورية‬ ‫إلى نقد السياسة‪ .‬نقد الدين شرط ضروري ومقدمة‬ ‫جانب آخر؛ حيث نجد أن هذا العلم ال يعلم من وثائقه‬ ‫ال أدّ عي أنني على قدر سيد محمود القمني‪ ،‬أو في‬
‫مترامية األطراف ال أثر لإلسالم في قيامها‪ ،‬ألن اإلسالم‬ ‫الزمة لنقد السياسة في بالدنا‪ ،‬لتعرية جذور االستبداد‬ ‫ً‬
‫شيئا البتة عن النبي إبراهيم‪.‬‬ ‫األركيولوجية واآلثارية‬ ‫منزلته ومقامه‪ ،‬بمن هو «المعلم األكبر»‪ ،‬كما يصف نفسه‪،‬‬
‫في جانب وعلم التاريخ في جانب آخر‪ .‬وإذ ال يمكن‬ ‫والفساد والعنف في العالقات والبنى البطريركية والعقائد‬ ‫ورغم اتفاق القصة التوراتية مع قصص اإلخباريين‬ ‫حقي أن أناقش أفكاره‬ ‫ً‬
‫تيمنا بالمعلم األول‪ .‬ولكن‪ ،‬من ّ‬
‫نفي أثر اإلسالم ودوره التسويغي في ذلك فإن أطروحة‬ ‫تبطنها والسلطات الشخصية التي تنتج منها‪،‬‬ ‫التي ّ‬ ‫المسلمين حول موطن النبي إبراهيم األصلي‪ ،‬والتي‬ ‫ً‬
‫واحدا من‬ ‫ومواقفه‪ ،‬وال فصل بين هذه وتلك‪ ،‬بصفتي‬
‫ً‬
‫«تاريخيا» للشطر الثاني من أطروحة‬ ‫ً‬
‫سندا‬ ‫القمني‪ ،‬تقدم‬ ‫ونقد األيديولوجيات التفاضلية واإلقصائية التي حلت‬ ‫تقول إنه هاجر من موطنه األصلي في بالد الرافدين‬ ‫قرائه والمتضامنين معه في محنته‪ ،‬بغض النظر عن مدى‬
‫حسن البنا القائلة إن «اإلسالم دين ودنيا ودولة‪ ..‬مصحف‬ ‫محل الدين‪ ،‬وتقوم بأسوأ أدواره‪ ،‬نعني نشر التعصب‬ ‫إلى فلسطين‪ ،‬وأنه زار مصر زيارة مهمة وخطيرة‪ ،‬وكانت‬ ‫اتفاقي أو عدم اتفاقي مع بعض أفكاره‪ ،‬ألنني أعتقد أن‬
‫وسيف»‪ .‬وفي «حروب دولة الرسول» ال نقع إال على أفعال‬ ‫والتطرف والتمييز وقطع الروابط اإلنسانية واالجتماعية‬ ‫ً‬
‫أساسا للثروة الطائلة التي تمتعت بها‬ ‫هذه الزيارة لمصر‬ ‫منع النقاش و»انقطاع التنافس بين األفكار كارثة عقلية»‪.‬‬
‫السيف‪ ،‬التي ترفع الحجاب عن حقيقة الحزب الهاشمي‬ ‫واألخالقية‪ ،‬التي تشد الناس بعضهم إلى بعض‪ .‬هذا‬ ‫ذريته فيما بعد» (ص ‪.)16‬‬ ‫في كتابه «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول» يذهب‬
‫السياسية‪.‬‬ ‫ال ينفي البعد الميثي (األسطوري) للدين‪ ،‬بتعبير محمد‬ ‫جاء هذا الكالم تحت عنوان «التأسيس»‪ .‬فأطروحة‬ ‫ً‬
‫غريبا‪،‬‬ ‫ً‬
‫مذهبا‬ ‫القمني في ما يسميه «البحث العلمي»‬
‫لعل عزل اإلسالم والتراث اإلسالمي عن الظاهرة الدينية‬ ‫ّ‬ ‫أركون‪ ،‬واألساطير من أجمل نتاجات العقل البشري‪ ،‬الذي‬ ‫التأسيس المركزية تقول «األديان الثالثة في جانب‬ ‫ً‬
‫هو البرهنة على عدم وجود من ليس موجودا‪ ،‬في‬
‫الكونية وتاريخها‪ ،‬وعدم التفريق بين الدين‪ ،‬بصفته مي ً‬
‫ال‬ ‫ً‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫ال يزال ينتج األساطير‪ ،‬واألوهام‬ ‫وعلم التاريخ في جانب آخر»‪ ،‬وهي أطروحة ال تختزل‬ ‫التاريخ‪ ،‬النبي إبراهيم‪ ،‬لكي يضعه في سلة «أساطير‬
‫عاما إلى التقديس والتأليه‪ ،‬وبين المذاهب الدينية‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بشريا‬ ‫القول بأن الروح اإلنساني هو الذي يسري في الدين‪،‬‬ ‫وتخفضه إلى أركيولوجيا فقط‪ ،‬بل تحذف‬ ‫ِّ‬ ‫علم التاريخ‬ ‫األولين» القرآنية‪ .‬إذ ال طائل تحت نفي وجود إبراهيم‬ ‫ّ‬
‫المختلفة والمتخالفة‪ ،‬التي يدعي كل منها بأنه الــ»دين»‪،‬‬ ‫ال يضفي على الروح اإلنساني قيمة إيجابية مطلقة؛‬ ‫األديان الثالثة من علم التاريخ‪ ،‬وتضعها في جانب آخر‬ ‫الخليل ونفي نبوته‪ ،‬فاألسطورة موجودة في التاريخ‪،‬‬
‫بأل التعريف الجنسية‪ ،‬هو أساس البلبلة في الدراسات‬ ‫فاإلنسانية والالإنسانية حقيقتان بشريتان‪ ،‬والنكوص‬ ‫(؟)‪ ،‬في حين ال شيء يفلت من التاريخ‪ ،‬وال شيء من‬ ‫بصفتها هذه‪ ،‬ومؤثرة فيه‪ ،‬وراسخة في وعي مليارات‬
‫اإلسالمية وغيرها‪ ،‬حتى ليبدو كل مذهب من المذاهب‬ ‫إلى الهمجية‪ ،‬كما هي الحال عندنا‪ ،‬في سوريا وغيرها‪،‬‬ ‫إنتاج التاريخ يبقى على حاله‪ .‬الدين ظاهرة تاريخية ال‬ ‫اليهود والمسيحيين والمسلمين‪ ،‬وفي الوعيهم‪ .‬واألهم‬
‫ً‬
‫قائما بذاته‪.‬‬ ‫ً‬
‫ماهويا‬ ‫ً‬
‫عالما‬ ‫الدينية‬ ‫حقيقة تاريخية‪ .‬وال يضفي‪ ،‬من ثم‪ ،‬على الدين قيمة‬ ‫تزول إال بزوال األسباب التي أدت إلى نشوئها‪ ،‬حسب‬ ‫من ذلك أن نفي وجود إبراهيم الخليل في التاريخ‪ ،‬ال‬

‫‪105‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪104‬‬


‫سيد القمني مرايا نقدية‬

‫سجال‬

‫وأن «قيم الوطن غابت عند المواطنين وعند الحكام‪ ،‬قعيدً ا»‪.‬‬ ‫من حروب فاتكة‪ ،‬وما دامت هذه مرجعيته ال يجب أن‬ ‫ثمة صلة بين أوهام المركزية اإلثنية وبين ادّ عاء كل‬
‫(ويخص) بالذكر‪ ،‬الحكام الحاليين‪ ،‬ومن ثم غابت قيمة سأغامر بالقول‪ ،‬إن هذا ليس كالم مؤرخ أو مفكر‪ ،‬بل كالم‬ ‫يغضب حين يتم إخضاعه لحكم إسالمي يفرض عليه‬ ‫جماعة بأن دينها هو الدين الحق‪ ،‬وغيره كفر وشرك‪.‬‬
‫محل‬‫ّ‬ ‫تحل األيديولوجيا في ذهنه‬ ‫ّ‬ ‫أيضا‪ ،‬مناضل أيديولوجي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫العلم»‪ .‬وكان ينبغي أن يقول وضاعت قيمة الدين‬ ‫الجزية»‪ .‬نعتقد أن هذا سجال غاضب‪ .‬وقد أشرنا غير‬ ‫فالبشر هم الذين أنتجوا الدين‪ ،‬وليس الدين هو ما‬
‫ألن الدين هو أحد المعايير الثالثة التي يقترحها القمني الدين‪ .‬فال أحد يعرف ما الذي كان سيحدث لو أن عمرو‬ ‫مرة إلى اقتران األيديولوجيا بالسجال العقيم وازدراء‬ ‫أنتج البشر‪ .‬هنا تلزم العودة إلى االغتراب‪ ،‬بوصفه َّ‬
‫علة‬
‫سلم القيم‪ ،‬الذي يمكن أن يصعد المجتمع من خالله‪ ،‬بن العاص لم يدخل مصر‪ ،‬أي لو أن اإلسالم لم يدخل‬ ‫على ّ‬ ‫الخصم وإهانته‪ ،‬واقتران الفكر بالنقاش والحوار‪.‬‬ ‫علة التدين‪ ،‬عند لودفيغ فيورباخ‪،‬‬ ‫التقديس والتأليه‪ ،‬أو َّ‬
‫وإن كان الدين في المرتبة األخيرة‪« ،‬لتعدد مذاهبه مصر من طريق «االحتالل»‪ .‬والقمني يعلم أكثر من غيره‬ ‫ّ‬
‫ويضيف «عندما كنت أنقد التراث اإلسالمي كان يصفق‬ ‫علة ظهور‬ ‫التي ال تزال ماثلة في معلولها‪ ،‬وبوصفه َّ‬
‫وطوائفه»‪ .‬الدين‪ ،‬إذن‪ ،‬أحد معايير صعود المجتمع‪ ،‬وإن أن (لو أن‪ )..‬ال تعمل في التاريخ‪ .‬التاريخ توقيع ممكنات‬ ‫لي المسيحيون‪ ،‬ولكن عندما اقتربت من تراثهم المسيحي‬ ‫الملكية الخاصة‪ ،‬عند كارل ماركس‪ ،‬التي ال تزال ماثلة‬
‫لم يكن المعيار األساسي المحجوز للوطن‪ ،‬ويليه العلم‪ ،‬على حساب ممكنات أخرى‪ .‬وال سبيل إلى رد التاريخ على‬ ‫شنّوا هجماتهم الضارية ضدي‪ ،‬مع هذا‪ ،‬أنا لم أقترب بعد‬ ‫ً‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫في معلولها‬
‫سلم القيم‪ ،‬فال ندري كيف يمكن أعقابه بسحر «لو أن‪ .»..‬أجل هذا موقف أيديولوجي ال‬ ‫ولكنّه أحد المعايير على ّ‬ ‫من نقد األناجيل‪ ،‬وقد حذرهم تالميذي من أن أقترب من‬ ‫المطرد بين الدين‬‫َّ‬ ‫ويؤكد ذلك التضامن التاريخي‬
‫نسل الدين من التراث اإلسالمي‪ ،‬الذي يفككه القمني عالقة له بعلم التاريخ‪ ،‬ولعله نوع من رد الفعل الشعوري‬ ‫ذمي وليس‬ ‫تلك المنطقة‪ .‬من يضع الدين قبل الوطن هو ّ‬ ‫والملكية الخاصة‪ ،‬وهو أساس التضامن التاريخي‬
‫على سياسات اإلخوان المسلمين‬ ‫وصوالً إلى نواته األسطورية‪،‬‬ ‫أكثر من ذلك‪ ،‬ويحتاج لمن يتكلم معه اللغة اإلسالمية؛‬ ‫المطرد بين الدين والسلطة‪ .‬إذ الدين سلطة معنوية‬ ‫َّ‬
‫ومواقفهم‪.‬‬ ‫ويريد أن ينفيه من علم‬ ‫اركع يا ذليل لسيدك المسلم وسأطبق عليك الشريعة ما‬ ‫ناعمة‪ ،‬تحظى بمقبولية طوعية‪ ،‬مع عدم استبعاد أشكال‬
‫يقول القمني «اإلسالم المعمول‬ ‫التاريخ‪ ،‬بالبرهنة على عدم‬ ‫دمت طال ًبا لمصر خراب إشعياء»‪ .‬قد يبدو من قبيل اللؤم‬ ‫القسر السياسي المعروفة في التاريخ‪ ،‬لفرض عقيدة‬
‫حاليا والمتداول بين‬ ‫ً‬ ‫به‬ ‫وجود إبراهيم الخليل فيه‪.‬‬ ‫أن نتساءل‪ :‬من الذي أو ما الذي حرض القمني على «نقد‬ ‫أليس فرض الشريعة الغالب بقوة السيف‪ ،‬على نحو ما عُ رف عن‬
‫سأغامر بالقول‪ ،‬إن هذا ليس كالم‬
‫الناس في العالم اإلسالمي‬ ‫ّ‬
‫وال ندري كيف يتّ سق سلم‬ ‫التراث اإلسالمي»؟ من المؤكد أنها أحوال المسلمين‪،‬‬ ‫الفتوحات اإلسالمية والحروب الدينية‪ .‬لذلك‬ ‫اإلسالمية على غير‬
‫خطرا على العالم ويجب‬ ‫ً‬ ‫أشدّ‬ ‫مناضل‬ ‫كالم‬ ‫بل‬ ‫مفكر‪،‬‬ ‫أو‬ ‫مؤرخ‬ ‫القيم‪ ،‬الذي يأتي الدين في‬ ‫وظهور الجماعات السلفية واألصولية والجهادية‪ ،‬التي‬ ‫يعدّ نقد الدين مقدمة الزمة لنقد السياسة‪.‬‬
‫المسلمين أو التهديد بذلك‬
‫تحل األيديولوجيا في التخلص منه»‪ ،‬هكذا صحح‬ ‫أدنى درجاته‪ ،‬مع قول القمني أيديولوجي‪ّ ،‬‬ ‫عملت على هدر الوطن المصري والمواطنة المصرية‪،‬‬ ‫ولذلك كانت السلطات الشخصية والنظم‬
‫القول المنسوب إليه بأن الخطر‬ ‫«تمنيت لو أن عمرو بن العاص‬ ‫وأساءت إلى اإلسالم والمسلمين‪ .‬فال يخالجنا شك في‬ ‫المستبدة في حاجة إلى الدين‪ ،‬لفرض‬ ‫ً‬
‫متطرفا‪،‬‬ ‫ً‬
‫إسالمويا‬ ‫ً‬
‫موقفا‬
‫محل الدين‪ .‬فال أحد يعرف‬ ‫ّ‬ ‫ذهنه‬
‫الحقيقي على العالم هو اإلسالم‬ ‫لم يدخل إلى مصر؛ أعتقد‬ ‫غيرة القمني على مصر والمصريين كافة‪ ،‬وعلى العرب‬ ‫سيطرتها‪ ،‬على مر التاريخ‪( .‬راجعوا‬ ‫حاوله اإلخوان المسلمون‬
‫ويجب التحرك للتخلص منه‪،‬‬ ‫عمرو‬ ‫أن‬ ‫لو‬ ‫سيحدث‬ ‫كان‬ ‫الذي‬ ‫ما‬ ‫أن تاريخ المنطقة كلها كان‬ ‫والمسلمين كافة‪ .‬ولكن قوله «اركع يا ذليل لسيدك‬ ‫وصايا الملوك)‪.‬‬
‫في مصر وكانت عواقبه‬
‫تماما آنذاك‪ ،‬فمصر بن العاص لم يدخل مصر‪ ،‬أي لو أن وأن األديان كلها حلت مشكلتها‬ ‫ً‬ ‫سيتغير‬ ‫المسلم» يتناقض مع تمنّيه لو أن عمرو بن العاص لم يفتح‬ ‫أردنا مما تقدم أن نشير إلى الطابع‬
‫مع الحداثة عدا اإلسالم‪ ..‬أي‬ ‫ُ‬
‫عندما كانت تحتل كان ذلك‬ ‫مصر‪ ،‬ولو أن اإلسالم لم يدخل إليها‪.‬‬ ‫السجالي والبعد األيديولوجي (العلماني‪،‬‬ ‫وخيمة على اإلخوان‬
‫إنه قال «اإلسالم المعمول به‬
‫طريق‬ ‫من‬ ‫مصر‬ ‫يدخل‬ ‫لم‬ ‫اإلسالم‬ ‫يتم على أيدي متحضرين‪،‬‬ ‫لكننا نربأ بالقمني أن يتبنى «اللغة اإلسالمية» وأن‬ ‫القومي‪ ،‬اليساري‪ )..‬ألعمال سيد القمني‪،‬‬
‫المسلمين أنفسهم وعلى‬
‫فالمتحضر األقوى يُ قدّ ر «االحتالل»‪ .‬والقمني يعلم أكثر حاليا والمتداول بين الناس‪..‬‬
‫ً‬ ‫عصبية إسالمية‪ ،‬بل‬‫ّ‬ ‫«حمية إسالمية»‪ ،‬أو‬‫ّ‬ ‫يصدر عن‬ ‫وموقفه من األديان الثالثة‪ ،‬ال من الظاهرة‬
‫مصر والمصريين؟ الغضب الدينية‪ .‬فنحن ال نستطيع أن ندرج أعماله‬
‫هو الخطر‪ ،‬ال اإلسالم بال تحديد‬
‫حضارة المتحضر األضعف من غيره أن (لو أن‪ )..‬ال تعمل في‬ ‫جاهلية إسالمية‪ ،‬إذا جاز القول‪ ،‬ال تختلف عن جاهلية‬ ‫ّ‬
‫أو تعيين»‪ ،‬وهذا جيد‪ .‬ولكنه‪،‬‬ ‫أمامه فيضيف له وال يمحو‬ ‫اإلسالمويين المتطرفين وجهلهم «اركع يا ذليل لسيدك‬ ‫ال يشفع لمفكر مثل في مدرج نقد الظاهرة الدينية أو نقد الدين‪،‬‬
‫لألسف لم يصف لمستمعيه ولنا‬ ‫التاريخ‬ ‫حضارته‪ .‬عندما دخل االسكندر‬ ‫ً‬
‫طالبا لمصر‬ ‫المسلم‪ ،‬وسأطبق عليك الشريعة‪ ،‬ما دمت‬ ‫على نحو ما رأينا ذلك عند فيورباخ وماركس‪،‬‬
‫اإلسالم غير المعمول به حاليا‪ً،‬‬
‫القمني‬
‫مصر أبقى على جيشه خارجها‬ ‫خراب إشعياء»‪.‬‬ ‫على وجه التحديد‪.‬‬
‫وغير المتداول بين الناس في‬ ‫وكانت مصر في حالة انهيار‬ ‫أليس فرض الشريعة اإلسالمية على غير المسلمين أو‬ ‫يؤيدنا القمني نفسه في هذا إذ يقول «في الفترة‬
‫العالم اإلسالمي‪ .‬ولنا أن نفترض‬ ‫تامة لكنها كانت بلد الحضارة‪،‬‬ ‫ً‬
‫متطرفا‪ ،‬حاوله اإلخوان‬ ‫ً‬
‫إسالمويا‬ ‫ً‬
‫موقفا‬ ‫التهديد بذلك‬ ‫كبيرا من المسيحيين في مصر‬ ‫ً‬ ‫األخيرة‪ ،‬وجدت عددً ا‬
‫ّ‬
‫تعصب أو عنف أو إرهاب‪،‬‬ ‫نقي ال تشوبه شائبة ّ‬‫فنزل بقارب وطلب أن يحج آلمون‪ ،‬هذا المثقف الذي علمه أنه إسالم ّ‬ ‫المسلمون في مصر وكانت عواقبه وخيمة على اإلخوان‬ ‫ينشرون على صفحاتهم في مواقع التواصل االجتماعي‬
‫ً‬
‫أيضا ولعله غير أسطوري أيضا‪ .‬يكون الدين كما يكون أهله‪ ،‬وال‬ ‫أرسطو لم يقل إما زيوس أو الجزية أو القتل‪ .‬الروم ً‬ ‫المسلمين أنفسهم وعلى مصر والمصريين؟ الغضب ال‬ ‫نبوءات للمدعو زو ًرا وبهتا ًنا بالنبي إشعياء‪ ،‬ليقولوا إن‬
‫ً‬
‫أضافوا لمصر وأكملوا المكتبة بعدما تم حرقها‪( ،‬ماذا عن يكون الناس كما يكون الدين‪ .‬اإلسالمويون أيضا ينتقدون‬ ‫يشفع لمفكر مثل القمني‪.‬‬ ‫نبوءاته تتحقق اآلن‪ .‬عندما أجد في الظروف الصعبة‬
‫حاليا والمتداول بين الناس‪ ،‬ولذلك‬‫ً‬ ‫نابليون؟) أما عمرو بن العاص وقف على الحدود وطلب اإلسالم المعمول به‬ ‫ثم كيف لمواطن مصري‪ ،‬يدرك مبادئ المواطنة وقيمها‪،‬‬ ‫أناسا شامتين ينشرون هذا السفر الذي‬ ‫التي تمر بها بلدي ً‬
‫يتنطعون لهداية المسلمين‪ ،‬قبل غيرهم‪ ،‬إلى «اإلسالم‬ ‫ّ‬ ‫ثالثة أشياء إما اإلسالم أو الجزية أو القتل‪ ،‬وقتها لم يكن‬ ‫يمن على المصريين المسيحيين بالدفاع عن حقوقهم‪،‬‬ ‫أن ّ‬ ‫يتنبأ بخراب مصر من جميع الجوانب وجفاف النيل‬
‫القرآن قد ُج ِمع بعد‪ ،‬كما أن حفظة القرآن منعهم عمر بن الصحيح»‪ ،‬غير المعمول به وغير المتداول بين الناس‪،‬‬ ‫«حين كانت الكنيسة مصابة بخرس لساني وشلل‬ ‫وقتل المصريين بعضهم البعض‪ ،‬والقول إن مصر إلى‬
‫الخطاب من الخروج للغزو‪ ،‬والنصائح الجميلة للقوات ويجاهدون في سبيل ذلك‪ ،‬ويجيزون ألنفسهم تكفير سائر‬ ‫سيئ ومرشد أعمى في الحياة‬ ‫رباعي»!؟ الغضب دليل ّ‬ ‫دمار حتى ال يعود لها رئيس‪ ،‬وفي ذلك الوقت ستعود‬
‫الغازية بأال تقتل قعيدً ا أو كبير السن أو عجو ًزا قتلتها المسلمين‪ ،‬عالوة على غير المسلمين‪.‬‬ ‫اليومية‪ ،‬فما بالك في الفكر والسياسة! ثم لماذا يلوم‬ ‫للرب الحقيقي يهوه‪ .‬من ينشر هذا الكالم ال يجب‬ ‫ّ‬ ‫مصر‬
‫االستثناءات «إال من شارك ولو بالمال أو األدوات أو سنخالف سيد القمني وكثيرين غيره بالقول إن اإلسالم‬ ‫القمني المسيحيين ما دام هو نفسه يشعر أن «الشارع‬ ‫أن يقول إن اإلسالم فقط فيه إرهاب وهو متمسك‬
‫الطعام أو التحريض ضد الغزاة العرب»‪ ،‬ومن ثم «كان يتم المعمول به اليوم والمتداول بين الناس متصالح مع‬ ‫اآلن (إسالمي ومسيحي) وصل إلى أقصى درجة من‬ ‫بسفر إشعياء والتوراة وهما أصل اإلرهاب‪ .‬من يعتمد‬
‫قتل كل من يحاول الدفاع عن أهله أو بيته حتى لو كان الحداثة ومنجزها التاريخي‪ ،‬وال سيما الدولة الحديثة‪،‬‬ ‫االنهيار األخالقي»‪ ،‬بسبب هدر المواطنة وهدر الوطن‪.‬‬ ‫إشعياء والتوراة يكون أسوأ مما جاء في تاريخ اإلسالم‬

‫‪107‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪106‬‬


‫سيد القمني مرايا نقدية‬

‫سجال‬

‫دارين أحمد‬
‫باستثناء اإلسالم السياسي‪ ،‬منذ ظهور جماعة اإلخوان‬
‫ألي زمان ومكان فهو‬ ‫‪« 3-‬أي مسلم يعتقد أن دينه صالح ّ‬ ‫المسلمين على يد حسن البنا‪ .‬يمكن القول إن المسلمين‬
‫إرهابي بالضرورة»‪ .‬ماذا عن المسيحي أو اليهودي أو‬ ‫الذين يمارسون عباداتهم وشعائرهم‪ ،‬كسائر البشر‪،‬‬
‫الطاوي الذي يعتقد أن دينه صالح لكل زمان ومكان‪ .‬ما‬ ‫باستثناء المتطرفين منهم والجهاديين‪ ،‬متصالحون‬
‫من مؤمن ال يعتقد مثل هذا االعتقاد؛ إذن جميع المؤمنين‬ ‫مع الحداثة ومنجزها التاريخي‪ .‬فالمشكلة ليست في‬
‫إرهابيون‪ .‬ال يمكن فصل تديّ ن المؤمن عن تصوره عن‬ ‫اإلسالم‪ ،‬وليست في المسلمين‪ ،‬بل في جماعات اإلسالم‬
‫النقي من كل شائبة‪ ،‬وإال لهجره واسبتدل‬ ‫ّ‬ ‫الدين‪ ،‬دينه‬ ‫السياسي الدعوية والجهادية‪ ،‬التي ال تستنفد اإلسالم‪،‬‬
‫ً‬
‫به غيره‪ ،‬أو لشلك في األديان جميعا‪ .‬ثمة مسافة شاسعة‬ ‫وال تستنفد المسلمين‪ .‬أي إن المشكلة‪ ،‬من هذا الجانب‪،‬‬
‫بين من يعتقد أن دينه صالح لكل زمان ومكان‪ ،‬وبين من‬ ‫أيديولوجية‪-‬سياسية بالتحديد‪ ،‬ال تختلف‪ ،‬في الجانب‬
‫يعتقد أو يدّ عي أن «اإلسالم هو الحل»‪ ،‬أو المسيحية هي‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬عن الخوف من اإلسالم (اإلسالموفوبيا)‬
‫الحل‪.‬‬ ‫والتخويف به والتخويف منه‪ ،‬في الجانب المقابل‪.‬‬
‫ً‬
‫نسأل سيد القمني‪ :‬هل تمكّن العلم حقا من إيقاف‬ ‫ولكنها‪ ،‬من جوانبها األخرى‪ ،‬مشكلة مجتمعات بطريركية‬
‫الكوارث‪ ،‬التي كانت تصيب البشرية رغم وجود األرباب؟‬ ‫وسلطات مستبدة وأنظمة تعليم ملتبسة ومؤسسات‬
‫هل حال العلم دون نشوب حربين عالميتين وحروب‬ ‫فاسدة‪ ،‬ال تزال كلها دون الحالة المدنية‪ ،‬التي‬
‫بينية وسلسلة طويلة من النزاعات المحلية هنا وهناك‪،‬‬ ‫بسطها فالسفة العقد االجتماعي‪ ،‬وتحققت‬
‫ً‬
‫قلة من المفكرين‬
‫علوما مدت الحروب والنزاعات بما يزيد من ويالتها‬ ‫أم إن‬ ‫في البلدان المتقدمة‪ ،‬إلى هذا الحد أو ذاك‪.‬‬
‫وكوارثها؟‬ ‫يطالعنا القمني بسلسلة من األحكام العامة‬ ‫والباحثين يتوفرون على‬
‫لكي ال يظن أحد أننا ننتزع كالم القمني من سياقه‪ ،‬هذا‬ ‫القطعية من نوع‪:‬‬ ‫مثل هذه الشجاعة‪ .‬ثمة‬
‫حرفيا «الغرب لديه مشكلة في التعاطي مع‬ ‫ً‬ ‫هو قوله‬
‫كثيرون يعيدون طباعة‬
‫اإلسالم‪ ،‬أقول لكم زيدوا حقن اإلسالموفوبيا في العالم‬ ‫‪« 1-‬الغرب لديه مشكلة مع اإلسالم»‪،‬‬
‫أي مسلم يعتقد أن‬ ‫وعرفوا العالم أنه في خطر ساحق‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ومن البدهي أن يُ قابَل هذا الحكم بحكم‬ ‫كتبهم القديمة‪ ،‬من دون‬
‫ألي زمان ومكان فهو إرهابي بالضرورة‪،‬‬ ‫دينه صالح ّ‬ ‫آخر‪ :‬اإلسالم لديه مشكلة مع الغرب‪.‬‬ ‫غيروا‬
‫أي تعديل‪ ،‬مع أنهم ّ‬
‫ّ‬
‫كالزي واللحية‪ ،‬هذا رجل‬ ‫ّ‬ ‫عندما يتبع أدنى ما فيه ينفذه‬ ‫يعينان‬
‫الغرب واإلسالم في الحكمين ال ِّ‬
‫إرهابي‪ .‬كل األديان ّ‬ ‫ً‬ ‫آراءهم ومواقفهم‪ ،‬فال‬
‫حلت مشكلتها مع الحداثة إال اإلسالم‬ ‫شيئا‪ ،‬لشدة عموميتهما وغموضهما‪ ،‬حتى‬
‫ألنه يرفض التخلي عن فكرة الصالحية لكل زمان‬ ‫تعرف من هم على وجه كأن الغرب واإلسالم جوهران أو ماهيتان‬
‫ومكان‪ ،‬المشكلة أنك تواجه مجتمعً ا بكامله‪ ،‬حكومات‬ ‫ثابتتان‪ ،‬معلقتان فوق التاريخ‪ .‬ثمة قوى‬ ‫التحديد‬
‫أحد إليها‪ ،‬لكن ما أسمعه من ردود أفعال ليس سوى هراء‬ ‫هذه الهجرة والحضور‪ ،‬كان هذا نوعً ا من الفانتازيا‪ .‬هذا‬ ‫تريد المجتمع هكذا وتريد أن تقتلك أو تحبسك‪ ،‬عندما‬ ‫محافظة وعنصرية في الواليات المتحدة‬
‫ال قيمة له»‪.‬‬ ‫الكتاب الذي أبهر الكثيرين أعتبره كتابًا شديد التواضع‪،‬‬ ‫عجزت األديان عن حماية البشرية وظهر منهج التفكير‬ ‫ً‬
‫أيضا تتغذى على‬ ‫والدول األوروبية وغير األوروبية‬
‫قلة من المفكرين والباحثين يتوفرون على مثل هذه‬ ‫ولم أعد طباعته لهذا الخطأ الذي اكتشفته أثناء عملي في‬ ‫العلمي تمكن العلم من إيقاف الكوارث التي كانت تصيب‬ ‫الكراهية‪ ،‬تقابلها في العالمين العربي واإلسالمي قوى‬
‫الشجاعة‪ .‬ثمة كثيرون يعيدون طباعة كتبهم القديمة‪،‬‬ ‫كتاب «النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة»‪( .‬لقد تناولنا‬ ‫البشرية رغم وجود األرباب‪ ،‬ووجد أن المشاكل لن تحل‬ ‫محافظة وعنصرية‪ ،‬تتغذى مثلها على الكراهية‪ ،‬ال هذه‬
‫غيروا آراءهم ومواقفهم‪ ،‬فال‬
‫أي تعديل‪ ،‬مع أنهم ّ‬
‫من دون ّ‬ ‫هذا الكتاب من زاوية أخرى‪ ،‬لعلها الزاوية اإلبستيمولوجية‬ ‫سوى بالعلم»‪.‬‬ ‫تمثل «اإلسالم» وال تلك تمثل «الغرب»‪ ،‬بل تمثل مصالح‬
‫تعرف من هم على وجه التحديد‪ ،‬أو يعدّ لون خلسة من‬ ‫تتهير عمارة‬
‫َّ‬ ‫أو السببية الشكلية‪ :‬احذف إبراهيم الخليل‬ ‫أخيرا نكبر في القمني مقدرته على نقد ذاته‪ ،‬كما في قوله‬ ‫ً‬ ‫ال تحتاج إلى كد الذهن لمعرفتها‪.‬‬
‫أي إشارة إلى دواعي التعديل‪.‬‬ ‫دون ّ‬ ‫األديان اإلبراهيمية)‪.‬‬ ‫ألي باحث حقيقي‪،‬‬ ‫«المراجعات الفكرية سمة رئيسية ّ‬
‫النير‪ ،‬على نحو ما وصف ياسين‬ ‫نشاطر القمني غضبه ِّ‬ ‫«أيضا‪ ،‬هناك فصل في كتاب ‘األسطورة‬ ‫ً‬ ‫يضيف القمني‬ ‫فكرا ما‬
‫فالثبات على المبدأ ضد مفهوم البحث‪ .‬قد أتبنى ً‬ ‫‪« 2-‬زيدوا حقن اإلسالموفوبيا في العالم وعرِّ فوا العالم‬
‫الحافظ بعض الغضب‪ ،‬ولكننا ال نشاطره طريقة التعبير‬ ‫والتراث’ أخطأت فيه؛ ففي باب ‘األساطير التوراتية’ قلت‬ ‫وأجد براهين أخرى فيما بعد فأنتقل إلى فكر آخر أكثر‬ ‫أنه في خطر ساحق»‪ .‬القوى المحافظة‪ ،‬التي أشرت إليها‪،‬‬
‫عن هذا الغضب‪ .‬ونعتقد أن من يملك شجاعة نقد الذات‬ ‫إنهم سرقوا من التراث البابلي والفرعوني‪ ،‬األدلة التي‬ ‫مثل‪ ..‬كتاب «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول»‬ ‫صحة‪ً .‬‬ ‫تعمل على ذلك بمثابرة واجتهاد‪ ،‬وليست في حاجة إلى‬
‫بهذه الثقة والوضوح ال يعني قوله «من يناقشني ال بد‬ ‫عروبيا ناصريً ا‬
‫ً‬ ‫قدمتها سليمة‪ ،‬لكنني في ذلك الوقت كنت‬ ‫واحد من عثراتي الكبرى‪ ،‬كنت آنذاك باحثً ا مبتد ًئا يملؤني‬ ‫نصيحة القمني‪ ،‬التي ال يمكن أن يؤدي األخذ بها إال إلى‬
‫أن يكون على قدري‪ ،‬أنا المعلم األكبر وال أقبل مثل تلك‬ ‫متزمت فكنت أكره اليهود باعتبارهم خونة التاريخ‬ ‫ّ‬ ‫بشكل‬ ‫الغرور‪ ،‬تحدثت فيه عن هجرة مصرية في نهاية الدولة‬ ‫زيادة اإلرهاب في العالم‪ ،‬وتوسيع رقعته‪ .‬من أعجب‬
‫المناقشات»‪.‬‬ ‫وغيره‪ ،‬وكتبت بهذه العقلية أنهم سرقوا لكن الحقيقة أنها‬ ‫القديمة وسقوطها وتفتت مصر وانتشار االستقالالت‬ ‫ً‬
‫مسلما‬ ‫العجب أن يدعو مفكر عربيا كان أم غير عربي‪،‬‬
‫لم تكن سرقة‪ ،‬كان من الطبيعي في ذلك الوقت أن تتالقح‬ ‫المحلية‪ ،‬وعثرت في البحرين على (أبو هول مصري‬ ‫كان أم غير مسلم‪ ،‬إلى زيادة حقن العالم باإلسالموفوبيا‪،‬‬
‫مفكر من سوريا‬ ‫األفكار‪ .‬مثل هذه األخطاء اكتشفتها بنفسي ولم ين ّبهني‬ ‫وحية مصرية من الذهب)‪ ،‬واعتبرتهما من الدالئل على‬ ‫ّ‬ ‫بأي قباحة من هذا النوع‪.‬‬
‫أو بالعنصرية أو ّ‬

‫‪109‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪108‬‬


‫سيد القمني مرايا نقدية‬

‫سجال‬

‫ريم يسوف‬
‫يأس المفكر‬
‫سيد القمني في حواره المنشور في العدد الـ‪ 23‬من مجلة «الجديد»‬

‫عواد علي‬

‫على الرغم من اشتراط سيد القمني‪ ،‬في حواره‪ ،‬أن من يناقشه ال ّ‬


‫بد أن يكون على قدره‪ ،‬كونه «المعلم األكبر»‬
‫الحقيقة أن القمني‬
‫كما نقلت عن لسانه محاورته‪ ،‬فإنني أسمح لنفسي أن أتخطى شرطه‪ ،‬أو ال أحمله محمل الجد‪ ،‬وأحاول مناقشته‬ ‫كان إلى وقت‬
‫من مبدأ أن األفكار حينما ُتنشر ليقرأها الناس يصبح من حق ّ‬
‫أي قارئ مهتم إبداء رأيه فيها‪ ،‬سواء اتفق معها‬ ‫قريب يدافع عن‬
‫مواطنيه المسيحيين‪،‬‬
‫أو عارضها‪.‬‬ ‫ويحضرني هنا مقاله‬
‫الجريء المعنون‬
‫بـ»العار» الذي‬
‫نشره عام ‪2011‬‬
‫ً‬ ‫لكن قيامها كان يشترط أوالً‬
‫وأخيرا خرابا تاما لمصر‪،‬‬ ‫أعلن تضامني مع القمني‪ ،‬في يأسه من‬
‫بداية‬ ‫إثر تفجير انتحاري‬
‫استهدف «كنيسة‬
‫وإذالالً لها‪ ،‬وهو ما يفصح عن التكوين النفسي والعقلي‬ ‫إمكانية تغيير واقعنا ‪-‬نحن العرب‪ -‬نحو‬ ‫يسين» في‬ ‫القدّ َ‬
‫ومدى التشوه الذي لقح بنفوس القوم تجاه مصر»‬ ‫األفضل‪ ،‬وحزنه على الحال التي وصلنا إليها‪ ،‬وأتفق معه‬ ‫اإلسكندرية‪ ،‬أدان فيه‬
‫المقررات الدراسية‬
‫(ط‪ ،2‬ص ‪ .)35‬ومن الواضح إن إعادة نشر القمني لهذا‬ ‫في أن جميع األديان حلت مشكلتها مع الحداثة عدا‬ ‫التي تتفنّن في زرع‬
‫الموضوع‪ ،‬كما نفهم من إجابته‪ ،‬يع ّبر عن ردة فعله إزاء‬ ‫التخلي عن فكرة الصالحية لكل‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالم ألنه يرفض‬ ‫الكراهية للمسيحيين‬
‫مع وجوب إذاللهم‬
‫ما صار ينشره عدد من اإلخوة المسيحيين في مصر على‬ ‫زمان ومكان‪ ،‬وأدين بشدة كل محاوالت تكفيره ومقاضاته‬ ‫وعدم مواالتهم‪،‬‬
‫صفحاتهم في مواقع التواصل االجتماعي من نبوءات‬ ‫ً‬
‫دفاعا عن حرية الرأي والتعبير‪ ،‬وأشير إلى‬ ‫على أفكاره‪،‬‬ ‫وفضح المجزرة‬
‫ً‬ ‫الحقوقية للمسيحيين‬
‫وفقا لتفسير القمني‪« ،‬إن نبوءاته‬ ‫للنبي إشعياء‪ ،‬ليقولوا‪،‬‬ ‫أنني سبق أن قرأت بعض كتبه ومقاالته‪ ،‬فأعجبت بجرأته‬ ‫أي‬
‫المحرومين من ّ‬
‫تتحقق اآلن»‪ .‬ويرى القمني أن نشر هذا السفر‪« ،‬الذي‬ ‫في تجديد قراءة التراث‪ ،‬قراء ًة وضعته في سياقه أو‬ ‫مناصب في بلدهم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫مصر‪ ،‬وما يالقونه‬
‫قاطعا مطالبته‬ ‫رفضا‬ ‫لكني في الوقت ذاته أرفض‬ ‫اإلرهاب‪ .‬من يعتمد إشعياء والتوراة يكون أسوأ مما جاء‬ ‫يتنبأ بخراب مصر من جميع الجوانب وجفاف النيل‬ ‫ظرفه الموضوعي‪ ،‬ونزعه من مفارقته وفضائيته لتربطه‬ ‫في محاكم األحوال‬
‫ّ‬
‫المسيحي‪ ،‬الذي ينشر نبوءات أشعياء‪ ،‬بـ»أال يغضب حين‬ ‫في تاريخ اإلسالم من حروب فاتكة»‪.‬‬ ‫وقتل المصريين بعضهم البعض»‪ ،‬في الظروف الصعبة‬ ‫بواقعه وزمنه‪ .‬وك ّبرت فيه نزوعه العقالني في كشوفه‬ ‫الشخصية‪ ،‬وما‬
‫يتم إخضاعه لحكم إسالمي يفرض عليه الجزية»‪ ،‬أو بأنه‬ ‫والغريب أن سيد القمني وُ وجه في اآلونة األخيرة بهجوم‬ ‫التي يمر بها بلده‪ ،‬إنما يكشف عن وجود أناس شامتين‬ ‫ً‬
‫نوعا من‬ ‫ومقارباته الرائدة لموضوعات شائكة‪ ،‬أو بوصفها‬ ‫يفرضه الشارع‬
‫الملتاث من مذلة‬
‫«ذمي وليس أكثر من ذلك‪ ،‬ويحتاج لمن يتكلم معه اللغة‬ ‫ضار‪ ،‬من طرف بعض المسيحيين‪ ،‬على نشره المقال في‬ ‫يبغون القول «إن مصر إلى دمار حتى ال يعود رئيس لها‪،‬‬ ‫المسلمات‪ ،‬في المعتقدات اإلسالمية واليهودية‪ ،‬التي‬ ‫َّ‬ ‫أي‬
‫وهوان على ّ‬
‫ٍ‬
‫مسيحي‬
‫اإلسالمية؛ اركع يا ذليل لسيدك المسلم وسأطبق عليك‬ ‫صفحته على موقع التواصل االجتماعي‪ ،‬بينما لم يهاجموه‬ ‫وفي ذلك الوقت ستعود مصر للرب الحقيقي يهوه»‪.‬‬ ‫تغلفها األساطير والخرافات‪ ،‬وجدلية الديني والسياسي‬
‫ً‬
‫طالبا لمصر خراب إشعياء»! إنها ردة فعل‬ ‫الشريعة ما دمت‬ ‫عندما صدر كتابه «رب الزمان»‪ .‬ويعزو ذلك إلى سببين‪:‬‬ ‫يستنتج القمنى من ذلك أن هؤالء‪ ،‬الذين ينشرون هذه‬ ‫واالجتماعي في الدولة اإلسالمية إبان دورها التأسيسي‪،‬‬
‫صادمة‪ ،‬ومنزلق يفتقر إلى الحكمة‪ ،‬وال يليق بمفكر علماني‬ ‫أولهما أنه كان يدافع عنهم آنذاك‪ ،‬ويطالب بحقوقهم‬ ‫النبوءات‪« ،‬يُ قدّ مون الدين على الوطن‪ ،‬وهذا ال يختلف‬ ‫وغير ذلك من القضايا المعرفية والتاريخية والمعاصرة‬
‫وداعية إلى العقالنية‪ ،‬ولعل ّ‬
‫أقل ما يقال عنها إنها تضعه‬ ‫ألنهم مواطنون مصريون في المقام األول‪ ،‬عندما‬ ‫عما فعله جماعة اإلخوان والسلفية الجهادية الذين لم‬ ‫المتشابكة‪ ،‬التي تضمنتها كتبه‪.‬‬
‫في سلة واحدة مع اإلسالمويين المتشددين‪ .‬كان عليه‬ ‫ً‬
‫صامتة‪ ،‬وثانيهما ألنه كان ينتقد التراث‬ ‫كانت كنيستهم‬ ‫يرتقوا من مرتبة اإلنسان السائر على قدمين الذي ال‬ ‫ما كتبه القمني في مقاله «األزمنة األخيرة إلسرائيل»‪،‬‬
‫أن يردّ عليهم بمنطق يعالج الالمعقول بالمعقول وليس‬ ‫اإلسالمي‪ .‬والحقيقة أن القمني كان إلى وقت قريب‬ ‫يستخدم عقله سوى في الشؤون اليومية» وهو استنتاج‬ ‫المنشور على صفحته الشخصية في موقع التواصل‬
‫بمنطق انفعالي متهور‪ .‬وأجيز لنفسي أن أستعير العبارة‬ ‫يدافع عن مواطنيه المسيحيين‪ ،‬ويحضرني هنا مقاله‬ ‫ً‬
‫أيضا‬ ‫صحيح من دون شك‪ ،‬وثمة ما يماثل هذه النزعة‬ ‫االجتماعي «فيسبوك»‪ ،‬حول تمنّي أنبياء بني إسرائيل‬
‫التي وردت في مقاله «العار» آنف الذكر‪ ،‬في سياق استنكار‬ ‫الجريء المعنون بـ»العار» الذي نشره عام ‪ 2011‬إثر تفجير‬ ‫لدى غير جماعة اإلخوان والسلفية الجهادية‪ ،‬أعني‬ ‫خراب مصر وإذاللها‪ ،‬بحسب اإلصحاح التاسع عشر من‬
‫موقف المتنفذين والسياسيين في مصر من جريمة تفجير‬ ‫يسين» في اإلسكندرية‪،‬‬ ‫انتحاري استهدف «كنيسة القدّ َ‬ ‫المسلمين المتطرفين في ميولهم المذهبية‪ ،‬الذين‬ ‫سفر إشعياء في العهد القديم‪ ،‬سبق أن قرأته في كتابه‬
‫ً‬
‫مجسدا بكل صنوفه ومفرداته ومعانيه‬ ‫الكنيسة‪« ،‬إنه العار‬ ‫أدان فيه المقررات الدراسية التي تتفنّن في زرع الكراهية‬ ‫ّ‬
‫ويغلبونها على‬ ‫يتعصبون لهويتهم الطائفية الضيقة‬ ‫ّ‬ ‫عاما‪ ،‬حيث قال فيه «في‬ ‫ً‬ ‫«رب الزمان» قبل عشرين‬
‫ومترادفاته»‪.‬‬ ‫للمسيحيين مع وجوب إذاللهم وعدم مواالتهم‪ ،‬وفضح‬ ‫الهوية الوطنية الجامعة‪ ،‬كما في العراق وسوريا ولبنان‬ ‫األزمنة األخيرة إلسرائيل‪ ،‬زمن أنبياء إرميا وإشعيا‪،‬‬
‫أي‬
‫المجزرة الحقوقية للمسيحيين المحرومين من ّ‬ ‫واليمن‪ ،‬غير آبهين لما ينشأ عن ذلك من تبعية وخراب‬ ‫وقبل زمن من تدمير الهيكل على يد طيطس الروماني‬
‫االحتاللالمتحضر‬ ‫مناصب في بلدهم مصر‪ ،‬وما يالقونه في محاكم األحوال‬ ‫ً‬
‫تماما في قوله‬ ‫وضياع ألوطانهم‪ .‬وأرى أن القمني محق‬ ‫وتشتيتهم في بقاع العالم‪ ،‬وقف أنبياء إسرائيل على‬
‫يستوقفني‪ ،‬في السياق ذاته‪ ،‬موقف سيد القمني من‬ ‫الشخصية‪ ،‬وما يفرضه الشارع الملتاث من مذلة وهوان‬ ‫إن «من ينشر هذا الكالم يجب أال يقول إن اإلسالم فقط‬ ‫عتبات النهاية‪ ،‬يتنبأون بعودة المجد السليماني وقيام‬
‫الفتح اإلسالمي لمصر واالحتالل الخارجي لها‪ ،‬فهو‬ ‫أي مسيحي‪..‬‬‫على ّ‬ ‫به إرهاب وهو متمسك بسفر إشعياء والتوراة وهما أصل‬ ‫دولة إسرائيل مرة أخرى‪ ،‬وأنها حينذاك ستسود العالم‪،‬‬

‫‪111‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪110‬‬


‫سجال‬

‫تضمن لهم ُحرية المعتقد‪.‬‬ ‫ً‬


‫اعتقادا منه‬ ‫يتمنّى لو أن عمرو بن العاص لم يدخلها؛‬
‫ويستدعي موقف القمني هذا تذكيره بمسألتين في غاية‬ ‫تماما آنذاك‪ .‬وحجته‬‫ً‬ ‫بأن تاريخ المنطقة كلها كان سيتغير‬
‫األهمية هما‪:‬‬ ‫في ذلك أن مصر كانت ُتحتل قبل اإلسالم على أيدي‬
‫‪ 1-‬ليس كل محتل متحضر وقوي يُ قدّ ر حضارة المتحضر‬ ‫مؤكدا أن «المتحضر األقوى يُ قدّ ر حضارة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫متحضرين‪،‬‬
‫األضعف أمامه ويضيف لها‪ ،‬وثمة أمثلة كثيرة‪ ،‬في‬ ‫المتحضر األضعف أمامه فيضيف له وال يمحو حضارته»‪.‬‬
‫التاريخ المعاصر على األقل‪ ،‬تمكن اإلشارة إليها‪ ،‬لكني‬ ‫المتحضر» باحتالل اإلسكندر‬ ‫ّ‬ ‫ال على «المحتل‬ ‫ويضرب مث ً‬
‫سأكتفي بأنموذج واحد فقط هو المحتل األميركي‬ ‫المقدوني لمصر‪ ،‬الذي أبقى على جيشه خارجها‪ ،‬وكانت‬
‫ً‬
‫محلية وأخرى‬ ‫حثت القوات األميركية عناصر‬ ‫للعراق‪ .‬لقد ّ‬ ‫في حالة انهيار تامة (ال يذكر لماذا)‪ .‬ويقارن بينه وبين‬
‫قادمة من بلدان الجوار على نهب كنوز المتحف العراقي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫علمه أرسطو‪،‬‬ ‫مشيرا إلى أن األول‪ ،‬الذي ّ‬
‫ً‬ ‫عمرو بن العاص‪،‬‬
‫وهي من أثمن كنوز الدنيا األثرية وإرث لجميع البشر‪،‬‬ ‫يحج إلى معبد اإلله «آمون»‪ ،‬ولم يقل إما كبير‬ ‫ّ‬ ‫طلب أن‬
‫وتحطيم أجزاء منه‪ .‬وال يزال العديد من البغداديين‬ ‫آلهة اإلغريق «زيوس» أو الجزية أو القتل‪ ،‬في حين أن‬
‫يتذكرون نداءات المارينز لهؤالء المجرمين «تعال يا علي‬ ‫الثاني وقف على الحدود وطلب ثالثة أشياء إما اإلسالم‬
‫عما سرقوه هم أنفسهم من‬ ‫ال ّ‬‫بابا واسرق ما تشاء»‪ ،‬فض ً‬ ‫أو الجزية أو القتل‪ .‬وهي مقارنة‪ ،‬وإن صحت في‬
‫آثار ليبيعوها في األسواق السوداء العالمية الشهيرة مثل‬ ‫بعض الجوانب‪ ،‬تغفل جوانب أخرى تحتاج إلى‬
‫أسواق نيويورك وروما وبوينس آيرس‪ .‬هل يستطيع سيد‬ ‫ليس كل محتل متحضر نقاش مستفيض أتركه للمؤرخين‪ ،‬وتلتقي مع‬
‫القمني أن يذكر لي ما هي إضافات االحتالل األميركي‬ ‫قدر حضارة المتحضر اتجاه يتبناه بعض المصريين يرى أن مصر‬ ‫وقوي ُي ّ‬
‫لحضارة العراق؟‬ ‫كانت والية رومانية إلى أن اجتاحها الغزاة‬
‫‪ 2-‬إغفاله االحتاللين الهكسوسي واألخميني لمصر‪،‬‬ ‫العرب‪ ،‬وعملوا على إلباسها ثوب العروبة‬
‫األضعف أمامه ويضيف‬
‫اللذين ارتكبا المجازر المهولة بحق أبناء مصر القدماء‪،‬‬ ‫واإلسالم‪ ،‬وإذابة الشخصية المصرية‬ ‫لها‪ ،‬وثمة أمثلة كثيرة‪ ،‬في‬
‫وهو أمر يؤكد انتقائيته وعدم موضوعيته في تناوله‬ ‫في مكوّ ناتهم الثقافية وجعلها شخصيةً‬
‫التاريخ المعاصر على األقل‪،‬‬
‫لموضوعة االحتالل الخارجي لبلده‪ .‬وال أعتقد بأن هذين‬ ‫عربية‪ ،‬والقضاء على المنظومة القبطية‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫تحضرا من الفاتحين‪ ،‬أو المحتلين‪،‬‬ ‫االحتاللين كانا أكثر‬ ‫والثقافة القبطية وثقافة أرض النيل‪.‬‬
‫تمكن اإلشارة إليها‪ ،‬لكني‬
‫العرب المسلمين الذين بنوا «الفسطاط» والقاهرة ومدناً‬ ‫مدانا فإنه ينطبق‬‫ً‬ ‫ً‬
‫أمرا‬ ‫وإذا كان ذلك‬ ‫سأكتفي بأنموذج واحد‬
‫أخرى في مصر‪.‬‬ ‫على ما فعله العرب المسلمون في العراق‬
‫فقط هو المحتل األميركي‬
‫ً‬
‫من باب الموضوعية أيضا‪ ،‬ال بد من أن أشيد بمراجعة‬ ‫وبالد الشام وبالد فارس واألناضول وبعض‬
‫سيد القمني لبعض أبحاثه السابقة‪ ،‬انطالقا من أن‬ ‫البلدان اآلسيوية وأجزاء من أوروبا‪ ،‬كما‬ ‫للعراق‬
‫ألي‬
‫المراجعات الفكرية وتصحيح العثرات سمة رئيسية ّ‬ ‫ينطبق على كل حمالت التنصير‪ ،‬وفرض أنماط‬
‫باحث حقيقي حينما يجد براهين أخرى‪ ،‬وأن الثبات على‬ ‫معينة من األديان والمذاهب على مر التاريخ‪ ،‬سواء‬
‫المبدأ ضد مفهوم البحث‪ .‬وكذلك بمالحظاته النقدية تجاه‬ ‫باإلكراه أو بأساليب أخرى‪.‬‬
‫بعض المعتقدات التي تتنافى مع العلم التي ال تزال تؤمن‬ ‫يعرف سيد القمني أكثر مني‪ ،‬بالتأكيد‪ ،‬أن الروم استعبدوا‬
‫بها مؤسسة األزهر‪ ،‬ورفضه الطلب من المثقفين تجنّب‬ ‫ً‬
‫ضيعة‬ ‫المصريين في أثناء حكمهم‪ ،‬وجعلوا مصر‬
‫العامة في مناقشة الجدليات الفكرية المتعلقة باألديان‬ ‫لإلمبراطور البيزنطي ومن قبله الروماني‪ ،‬وعُ رفت بمخزن‬
‫بهدف إثارة لغطهم وتشويشهم‪ ،‬ورؤيته ضرورة التعامل‬ ‫غالل روما‪ .‬وكان اختالف عقيدة المصريين المسيحية‬
‫تاريخيا في بعض أجزائه‪،‬‬‫ً‬ ‫مع القرآن الكريم بوصفه‬ ‫سببا في اضطهاد اإلمبراطورية لهم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عن عقيدة الروم‬
‫وفكرة التوفيق بين الواقع العلمي والمعتقد الديني‪ .‬لكني‬ ‫فقد اتخذ البيزنطيون «المذهب الخلقدوني»‪ ،‬الذي ينص‬
‫في الوقت نفسه ألومه على تراجعه عن بعض أفكاره‬ ‫على اتحاد الطبيعتين‪ ،‬اإللهية والبشرية‪ ،‬في شخص‬
‫ريم يسوف‬

‫خشية من «بورصة التكفير» التي تعيدنا إلى محاكمات‬ ‫ً‬ ‫ً‬


‫رسميا‬ ‫ً‬
‫مذهبا‬ ‫ً‬
‫اتحادا غير قابل لالنفصام‪،‬‬ ‫المسيح‪،‬‬
‫القرون الوسطى‪ ،‬فليس في عصرنا العربي البائس‪ ،‬وهو‬ ‫إلمبراطوريتهم دون غيره‪ ،‬بينما كان المصريون يأخذون‬
‫التحسر‬
‫ّ‬ ‫أسوأ عصور القهر والعسف والطغيان‪ ،‬ما يستحق‬ ‫بـ»المذهب الالخلقدوني» المونوفيزيتي (اليعقوبي)‪ ،‬وقد‬
‫على مغادرته‪.‬‬ ‫حاول الروم فرض مذهبهم على جميع الرعايا‪ ،‬فنفر منهم‬
‫كاتب من العراق مقيم في عمان‬ ‫المسيحيون اليعاقبة‪ ،‬وفضلوا الهيمنة اإلسالمية كونها‬

‫‪113‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪112‬‬


‫سجال‬ ‫سجال‬

‫المثقف العربي وقلق السؤال‬ ‫العقل وحقوق البشر‬


‫ربوح بشير‬ ‫إبراهيم سعدي‬

‫أن الحوار مع أهل الحدث وفق التوصيف الطريف لبول ريكور‪ ،‬هو مجازفة فكرية‪ ،‬ومخاطرة على درجة‬ ‫بما ّ‬ ‫ترددت بعض الوقت في الكتابة عن هذا الحوار الذي أجرته مجلة «الجديد» مع المفكر المصري سيد القمني‪ ،‬بعدما‬
‫فإن االلتقاء بهم ومحاورتهم ونشر أفكارهم أعسر وأخطر؛ فالحدث العظيم الذي يسأل عنه‬ ‫عالية من العسر‪ّ ،‬‬ ‫قرأت بأنه يشترط أال يحدث سجال حول حديثه‪ ،‬إذ أنه قال «من يناقشني ال بد أن يكون على قدري‪ ،‬أنا المعلم‬
‫الجميع‪ ،‬أو ما يسمى بالخطب العظيم‪ ،‬يفعل فعله في الذهنيات التي انخرطت فيه‪ ،‬وتورطت في متابعته‪ّ ،‬‬
‫ألن‬ ‫األكبر وال أقبل مثل تلك المناقشات»‪ ،‬على الرغم من أنه‪ ،‬في مكان آخر من النص‪ ،‬يدعو إلى شيء آخر يبدو متناقضا‬
‫يبدو لي بأن انتظار‬
‫كل األفكار والمعتقدات واألحكام السابقة والرؤى التي سكنت في المناطق‬ ‫الحدث هو سيل يجرف في طريقه ّ‬ ‫مع هذا الموقف‪ .‬ذلك أنه‪ ،‬عندما سئل عن رأيه بشأن دعوة «المثقفين أن يجنبوا العامة مناقشة الجدليات الفكرية‬ ‫«دكتاتور» من نمط‬
‫السفلى من ثقافتنا‪ ،‬التي رشح فيها ما تبقى منها في دركها األسفل‪ ،‬باعتباره العلبة السوداء لتاريخنا‪.‬‬ ‫المتعلقة باألديان تجن ًبا إلثارة اللغط وتشويشهم‪ ،‬أجاب سيد القمني «أرفض ذلك االتجاه وأعتبره احتكارً ا للعلم؛‬ ‫مصطفى كمال‬
‫أتاتورك أو بورقيبة‬
‫فالعامة إن استخدموا عقولهم سيكونون من البارزين في عملهم»‪.‬‬ ‫لتكريس العقل في‬
‫عالمنا العربي ليس‬
‫غير نوع من إعادة‬
‫تأهيل ثقافة المهدي‬
‫المنتظر‪ ،‬أعني بذلك‬

‫حسني جمعان‬
‫شكال آخر من الفكر‬
‫غياب مثل هذا الربط هو الذي جعل‪ ،‬على ما يبدو‪ ،‬سيد‬ ‫في األخير ارتأيت إبداء الرأي حول بعض ما ورد‬
‫بداية‬ ‫التقليدي وتأثيراته‬
‫القمني ال يأبه باالنتهاكات الخطيرة لحقوق اإلنسان التي‬ ‫في هذا الحوار أوال تنفيذا اللتزام أعطيته لمجلة‬ ‫الالشعورية في‬
‫عقليتنا‪ .‬ال يمكن فصل‬
‫ارتكبها الجنرال السيسي طالما أن ضحاياها هم «أعداء‬ ‫«الجديد»‪ ،‬وثانيا ألنني فكرت بأنه من حق القارئ إبداء رأيه‬ ‫الملكة النقدية عن‬
‫العقل»‪ ،‬أعني اإلخوان المسلمين‪ .‬سيد القمني انقلب على‬ ‫ّ‬
‫المسلم به‬ ‫فيما قرأه‪ ،‬خصوصا ونحن نعيش في زمن صار من‬ ‫العقل‪ ،‬لكن أي دكتاتور‬
‫ال يكون دكتاتورا‬
‫واليا على والية‬
‫عين نفسه ً‬ ‫السيسي فقط ألنه فوجئ به «قد ّ‬ ‫أن النص عندما يصبح منشورا يخرج عن سلطة مؤلفه‬ ‫إذا لم يقم بقمع‬
‫إسالمية»‪ .‬مثل هذا العقل الخالي من اإلنسانية يخيفني‬ ‫ويحتك بسلطة القارئ الذي يمثل إبداء الرأي حقا من حقوقه‪.‬‬ ‫النزعة النقدية لدى‬
‫المواطن‪ .‬لهذا يبدو‬
‫أي وجدان‬ ‫شخصيا‪ ،‬ألنه يتحول إلى آلة باردة خالية من ّ‬ ‫والواقع أنني ال أختلف كثيرا مع سيد القمني فيما يخص‬ ‫لي أن انتظار مثل هذا‬
‫أي فصل بين العقل والوجدان يؤدي‬ ‫األهمية الجوهرية للعقل‪ ،‬عدا أنني أتحفظ في عدم الربط‬ ‫ّ‬
‫إنساني‪ .‬والحقيقة أن ّ‬ ‫«المخلص» من العقل‬
‫الخرافي الذي يدعو‬
‫إلى تعطيل الوظيفة اإليجابية والخالقة للعقل‪ ،‬لهذا كانت‬ ‫بينه وبين مبدأ الحرية‪ ،‬األمر الذي جعل سيد القمني ال يقبل‬ ‫إليه سيد القمني‪،‬‬
‫الفلسفة تعني عند اليونان‪ ،‬ليس الحكمة‪ ،‬وإنما محبة الحكمة‪،‬‬ ‫بالرأي اآلخر‪ ،‬وجعل العقل لديه يتحول‪ ،‬على ما بدا لي‪ ،‬إلى‬ ‫هو بمثابة انتظار‬
‫غودو في مسرحية‬
‫فالعقل هنا يتناغم مع الوجدان‪ ،‬ألن المحبة تنتمي إلى ملكة‬ ‫أداة قمع وعنف وحرمان اآلخر‪ ،‬المخالف له في الرأي‪ ،‬من‬
‫بيكيت‪ .‬ومن قرأ هذه‬
‫من بين محاسن الحوار مع «سيد القمني»‪ ،‬أ ّنه انشغل‬ ‫يكن الحوار مع المفكر «المصري» سيد القمني‪،‬‬
‫لم‬ ‫الوجدان‪ .‬والواقع أن العالم العربي ال يشكو فقط من غياب‬ ‫حريته‪ .‬وهكذا يرى المفكر المصري بأن «أي مسلم يعتقد أن‬ ‫المسرحية يعرف بأن‬
‫غودو لم يأت أبدا‪.‬‬
‫بممارسة النقد على مستوياته المتعدّ دة‪ ،‬فهو لم يستثن‬ ‫وأريد هنا‪ ،‬أن أشدّ د على وصفه بالمصري وليس‬ ‫في العقل‪ ،‬بل أيضا من قصور كبير في الوجدان الحضاري‪،‬‬ ‫ألي زمان ومكان فهو إرهابي بالضرورة‪ ،‬عندما‬ ‫دينه صالح ّ‬
‫األحداث التاريخية‪ ،‬خاصة ما تعلق بالفضاء المصري‪،‬‬ ‫بالعربي‪ ،‬حوارا متعدّ دا ال ينشغل بالقضايا الفكرية في‬ ‫من قبيل حب الوطن‪ ،‬حب العدل‪ ،‬حب الحقيقة‪ ،‬حب‬ ‫يتبع أدنى ما فيه وينفذه‪ ،‬كالزي واللحية‪ ،‬هذا رجل إرهابي»‪.‬‬
‫فوضع على طاولة النقد‪ ،‬الفتح اإلسالمي لمصر‪ ،‬معتبرا‬ ‫صورتها األكاديمية الصارمة فقط‪ ،‬بل ينهمم ّ‬
‫بكل األسئلة‬ ‫الحرية… إلخ‪ .‬وهذه العواطف الخالقة ال يمكن غرسها‬ ‫واإلرهابي‪ ،‬كما نعرف يجب سجنه وحتى قتله‪ .‬في اعتقادي‬
‫وتم وفق منطق‬ ‫إياه حركة مناقضة للرؤية اإلسالمية‪ّ ،‬‬ ‫في ضروبها الحياتية اليومية التي تشغل ذهن اإلنسان‬ ‫بوسائل قائمة على وسائل اإلكراه والقمع‪ ،‬ولكن من خالل‬ ‫أن مثل هذا المسلم ليس إرهابيا من الواجب محاربته‪ ،‬طالما‬
‫مؤسسة األزهر التي هي‬ ‫ّ‬ ‫وتوجه صوب‬
‫ّ‬ ‫الغلبة لألقوى‪،‬‬ ‫اليومي‪ ،‬الذي يعاني هو وبمفرده‪ ،‬دون سند من أحد‪ ،‬من‬ ‫الحوار والنقاش والقبول بوجود الرأي اآلخر‪ .‬ولذلك يبدو لي‬ ‫أنه ال يحاول فرض رأيه بالقوة على غيره وال يمارس العنف‬
‫متورطة في تكريس رؤية خرافية‪ ،‬وفي ذات الوقت‬ ‫العنف واالستبداد واإلكراه واالبتزاز القاتل‪ ،‬وكأنّ زمن‬ ‫بأن انتظار «دكتاتور» من نمط مصطفى كمال أتاتورك أو‬ ‫انطالقا من معتقده‪ .‬مثل هذا الموقف الذي اتخذه سيد‬
‫تحظى بتموين مالي كبير‪ ،‬كان من المفروض أن يوضع‬ ‫ولى‪ ،‬وبقي هذا اإلنسان األخير‪ ،‬عاريا‬‫الرعاية اإللهية قد ّ‬ ‫بورقيبة لتكريس العقل في عالمنا العربي ليس غير نوع من‬ ‫القمني يقع فيه المرء عندما يتحول العقل لديه إلى مطلق‪،‬‬
‫في مكانه السليم والمثمر‪ ،‬وهنا نلحظ حضور الرؤية‬ ‫لوحده وسط العواصف والزالزل الفوقية‪ ،‬ففي الحوار‬ ‫إعادة تأهيل ثقافة المهدي المنتظر‪ ،‬أعني بذلك شكال آخر من‬ ‫أي سلطة أخرى‪.‬‬ ‫إلى ما يشبه اإلله الجديد الذي ال تعلو عليه ّ‬
‫اإلصالحية التي تبنّاها المصلح األلماني «مارتن لوثر»‪،‬‬ ‫تعفن الوضع المصري‪ ،‬حيث‬ ‫إشارات واضحة الداللة على ّ‬ ‫الفكر التقليدي وتأثيراته الالشعورية في عقليتنا‪ .‬ال يمكن‬ ‫وقد وقع المعتزلة في مثل هذا الخطأ عندما قاموا بسجن‬
‫فهو بالتالي‪ ،‬انتقاد ديني بصبغة مسيحية مُ بطنة‪ ،‬ولم‬ ‫االنتشار الرهيب للذهنية الخرافية‪ ،‬سواء عند‬ ‫فصل الملكة النقدية عن العقل‪ ،‬لكن أي دكتاتور ال يكون‬ ‫اإلمام أحمد بن حنبل ومارسوا عليه التعذيب‪ ،‬ال لشيء سوى‬
‫ً‬
‫إطالقا عن نزعة النقد الذي امتشقه من أجل زعزعة‬ ‫يحد‬ ‫المسيحيين‪ ،‬وحديثهم عن النبي إشعياء‪ ،‬الذي يُ قرأ فيه‬ ‫دكتاتورا إذا لم يقم بقمع النزعة النقدية لدى المواطن‪ .‬لهذا‬ ‫ألنه خالفهم في الرأي بشأن مسألة خلق القرآن‪ .‬ال يمكن‬
‫الوعي الكسول المستمرئ لمقوالته المترهلة‪ ،‬وهي فضيلة‬ ‫مصير مصر التراجيدي‪ ،‬وعن التوافق المتوقع بين هذه‬ ‫«المخلص» من العقل الخرافي‬‫ّ‬ ‫يبدو لي أن انتظار مثل هذا‬ ‫تأسيس العقالنية على السيف والعنف‪ ،‬يعني على نفس‬
‫تستقر في ربوعنا الثقافية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ثورية نود أن‬ ‫الذهنية المتورطة في الخرافة‪ ،‬وما يوجد في الرؤية‬ ‫الذي يدعو إليه سيد القمني‪ ،‬هو بمثابة انتظار غودو في‬ ‫الوسائل التي يستخدمها خصوم العقل‪ .‬مثل هذه االنحرافات‬
‫اإلسالمية‪ ،‬من رؤى مستوحاة من األسطورة‪ ،‬التي ال‬ ‫مسرحية بيكيت‪ .‬ومن قرأ هذه المسرحية يعرف بأن غودو‬ ‫مكملة له‪ ،‬ونجعله‬
‫أي سلطة أخرى ّ‬ ‫تقع عندما نفصل العقل عن ّ‬
‫باحث وأكاديمي من الجزائر‬ ‫تكترث بالمنطق التاريخي الذي يعشق العلم ومنجزاته‪.‬‬ ‫لم يأت أبدا‪.‬‬ ‫مكتفيا بذاته‪ ،‬ال تحكمه ال األخالق وال ما يقوم مقام ذلك‪ .‬من‬
‫باحث وأكاديمي من الجزائر‬ ‫وجهة نظري‪ ،‬ينبغي الربط بين العقل وحقوق اإلنسان‪ .‬إن‬

‫‪115‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪114‬‬


‫سيد القمني مرايا نقدية‬

‫سجال‬

‫ً‬
‫وشجاعا‬ ‫ً‬
‫صريحا‬ ‫سيد القمني‬

‫حسني جمعان‬
‫بل هم جزء عضوي من تخلفنا العضوي العام وفي صدارة‬
‫ذلك التخلف الديني أو لنقل تخلفنا النابع من تحويل‬ ‫أزراج عمر‬
‫الدين إلى طقوس خرافية واالنغالق داخل شرنقتها‪ .‬ال‬
‫شك أن هناك محاوالت لتحليل ونقد الجوانب الدينية‬
‫المظلمة سواء كما هي جزء من تراثنا أو في السلوك الذي‬ ‫يثير الحوار الذي أجرته مجلة الجديد‪ ،‬في عددها الصادر في ديسمبر ‪/‬كانون األول ‪ 2016‬مع المفكر المصري‬
‫ينعكس فيه ذلك التراث دون وعي بذلك في الغالب‪ ،‬ولكن‬ ‫الدكتور سيد القمني‪ ،‬العديد من القضايا الساخنة والمركزية وفي صدارتها خطر األصوليات الدينية المتطرفة‬
‫هذه الدراسات لم تستطع أن تحدث تغييرا ملموسا في‬ ‫‪a‬غيرنا في عالمنا المعاصر‪ .‬إلى جانب قضية األصوليات األرثوذكسية يطرح حوار الدكتور القمني مشكلة‬
‫التعاطي مع الدين أو تخترق الطبقات الالواعية لمواطنينا‬ ‫البداوة التي تغرق فيها مجتمعاتنا من المحيط إلى الخليج والسدود التي تقيمها وتحول دوننا ودون الدخول‬
‫المشكلة التي لم يشر‬
‫ومواطناتنا ولهذا أسباب كثيرة من بينها أن النسبة الكبيرة‬ ‫في فلك الحضارة والحداثة‪.‬‬ ‫إليها الدكتور القمني‬
‫من الدراسات التي تعتصم بالغموض األكاديمي وتستخدم‬ ‫في حواره هي فشل‬
‫مؤسسات النظام‬
‫المفاهيم والمصطلحات المبهمة والصعبة تقيم جدارا‬ ‫للدين بدال من تأويله ثم استخدامه من أجل تحقيق‬ ‫بل هو ذو تاريخ قديم وال يزال هذا اإلرث مهيمنا إلى‬ ‫أن ثمة قضايا أخرى يعج بها هذا الحوار‬
‫ال شك‬ ‫الثقافي العربي في‬
‫تحديث مناهجها‬
‫سميكا بينها وبين الشعب البسيط الذي ال يقرأ وال يكتب‬ ‫التقدم والديمقراطية واإلنسان الحداثي‪.‬‬ ‫يومنا‪ .‬فالعربي المعاصر يعيش الحاضر بقيم الماضي‬ ‫مثل حكم العسكر بالقوة وبشكل أشبه ما‬
‫ورؤاها ونظرياتها‬
‫ويفتقد إلى التكوين الثقافي والفكري‪ .‬على مدى سنوات‬ ‫أالحظ أن المشكلة التي لم يشر إليها الدكتور القمني في‬ ‫المثبت والالغي للتطور والتحديث والعصرنة باستمرار‪.‬‬ ‫يكون بالوراثة المزمنة‪ ،‬كما يطرح أيضا أزمة الفكر‬ ‫لجعلها مؤسسة‬
‫طويلة ودور النشر ببلداننا تنشر كتبا تنتقد أسطرة الدين‬ ‫حواره هي فشل مؤسسات النظام الثقافي العربي في‬ ‫فابن رشد نفسه قد أوصى بعدم السماح للعامة أن تؤول‬ ‫التوفيقي وربما التلفيقي‪ ،‬والفهم األسطوري والخرافي‬ ‫على الوازع العقلي‬
‫والعلمي‪ .‬على مدى‬
‫وكذا “تخريفه” غير أن هذه المؤلفات الموجهة للنخبة‬ ‫تحديث مناهجها ورؤاها ونظرياتها لجعلها مؤسسة على‬ ‫القرآن حيث رأى أن مهمة تأويله يجب أن تكون منوطة‬ ‫للدين األمر الذي يضع العقل في زنزانة مغلقة‪ .‬إنه من‬ ‫أكثر من قرن من‬
‫القليلة ال تنفذ إلى وجدان وعقول الناس الذين يشكلون‬ ‫الوازع العقلي والعلمي‪ .‬على مدى أكثر من قرن من الزمان‬ ‫بخاصة الخاصة وال غير ذلك‪ .‬إذن هناك انقطاع مستمر‬ ‫الصعب جدا في هذه المساحة الضيقة مناقشة كل هذه‬ ‫الزمان ومنظومتنا‬
‫التعليمية مغلق عليها‬
‫أغلبية السكان في األرياف وفي المدن‪ .‬إنه لحد اآلن يجهل‬ ‫ومنظومتنا التعليمية مغلق عليها في قفص ما يسمى‬ ‫بين المفكرين (النخبة) وبين العامة‪ ،‬ولقد رسمت هذه‬ ‫القضايا الكبرى والحساسة رغم أن ذلك مطلوب فعال وقد‬ ‫في قفص ما يسمى‬
‫المواطنون الفرق بين فصل الدين عن السلطة السياسية‬ ‫بالمرجعيات التراثية والكتب الصفراء على نحو يغلب‬ ‫الظاهرة وأصبحت تنتج بدورها التراتبية بين العامة‬ ‫تسعف الظروف التي تسمح بالقيام بذلك‪ .‬سأكتفي هنا‬ ‫بالمرجعيات التراثية‬
‫والكتب الصفراء‬
‫الدنيوية وبين إلغاء الدين كبعد روحي في مجتمعاتنا‪.‬‬ ‫عليها التقديس األعمى‪ .‬وهكذا فإن منظومتنا التعليمة‬ ‫وبين أهل الحكم في مجتمعاتنا‪.‬‬ ‫بوقفة قصيرة مع أفكار الدكتور القمني الذي يعتبر أحد‬ ‫على نحو يغلب عليها‬
‫وبهذا الصدد فإن مثقفينا لم يلعبوا أي دور جاد في شرح‬ ‫هي المسؤولة أساسا على تدريس الدين تدريسا متخلفا‬ ‫تلك هي أهم المحاور التي ركز عليها حوار الدكتور‬ ‫منارات النقد الفكري العربي المعاصر‪.‬‬ ‫التقديس األعمى‪.‬‬
‫وهكذا فإن منظومتنا‬
‫هذا الفرق وإقناع الناس به‪ .‬وهنا نتساءل‪ :‬هل تصل كتب‬ ‫ورجعيا حيث أن األجيال التي تخرجت من المدارس‬ ‫القمني الشجاع والصريح‪ .‬في هذا السياق سأبدي‬ ‫إن األمر الذي استوقفني في هذا الحوار أيضا هو موقف‬ ‫التعليمة هي‬
‫الدكاترة سيد القمني ومحمد أركون وعبد الله العروي‬ ‫والثانويات والمعاهد والجامعات صارت مصفحة تصفيحا‬ ‫بعض المالحظات التالية وأبدأ أوال من النظر في قضية‬ ‫الدكتور القمني من المثقفين العرب بالجملة تقريبا الذين‬ ‫المسؤولة أساسا على‬
‫تدريس الدين تدريسا‬
‫وصادق جالل العظم وحسن مروة ونصر حامد أبوزيد‬ ‫دينيا رجعيا ومتخلفا حقا‪ .‬وفضال عن ذلك فإن تقسيم‬ ‫طغيان الفهم الخرافي واألسطوري للدين وتحويل هذا‬ ‫ال يشكلون طليعة التغيير في عمق المجتمع ما عدا القلة‬ ‫متخلفا ورجعيا حيث‬
‫ومحمود أمين العالم وجورج طرابيشي مثال‪ ،‬إلى نفوس‬ ‫التعليم ببلداننا إلى تعليم ديني له مؤسساته الكهنوتية‬ ‫األخير إلى أداة قمع وتصفيح للذهنيات‪ .‬ففي الحقيقة‬ ‫التي تهمش أو تعزل أو تطرد أو تنفى أو تصفى جسديا‪.‬‬ ‫أن األجيال التي‬
‫تخرجت من المدارس‬
‫مواطنينا ومواطناتنا في األرياف وفي المدن الصغيرة‬ ‫والمغرقة في النسخ األعمى وترديد ما يحفظ من دون‬ ‫فإن الدكتور القمني يطرح مشكلة كبيرة وتتمثل في‬ ‫يرى الدكتور القمني أيضا أن بلداننا بعيدة عن العلم سواء‬
‫والثانويات والمعاهد‬
‫والكبيرة؟ وما هي هذه العالقة التي تمكنت من صنعها‬ ‫تحليل ونقد‪ ،‬وتعليم شبه دنيوي‪ ،‬بل متخلف عن العصر‬ ‫السؤال التالي‪ :‬لماذا لم تقدر بلداننا على بناء اإلنسان‬ ‫في دراسة مثقفيها للدين ولمختلف الظواهر االجتماعية‬ ‫والجامعات صارت‬
‫مصفحة تصفيحا‬
‫مؤلفات هؤالء مع طالبنا وطالباتنا في مختلف مستويات‬ ‫وقضاياه‪ ،‬وعن المناهج والنظريات العلمية الحديثة قد‬ ‫العلمي الذي يتعامل مع الكون والعالقات االجتماعية‬ ‫والسياسية والثقافية‪ ،‬وأكثر من ذلك فهو يحاجج أن‬
‫دينيا رجعيا ومتخلفا‬
‫وأنماط منظومة التعليم عندنا‪ .‬أجزم بالقول بأن ‪ 90‬بالمئة‬ ‫ساهم جذريا في تفريخ نشء انفعالي وعاطفي يفسر‬ ‫وفق رؤية عقالنية نقدية رغم مرور أكثر من ‪ 70‬سنة‬ ‫الحكومات العربية الحالية ” تثبت كل يوم أنها ال تعرف‬ ‫حقا‪.‬‬
‫من سكان بلداننا ال يفقهون شيئا عن كتابي العهد القديم‬ ‫وجوده وعالقاته على أساس رجعي تماما‪ .‬وأكثر من ذلك‬ ‫على استقالل بلداننا ولو شكليا؟ عمليا فإن الثقافة‬ ‫شيئا عن العلم وال عالقة لها به”‪ .‬وزيادة على كل ما تقدم‬
‫واإلنجيل ومتن القرآن والسنة النبوية واإلنتاج الفكري‬ ‫فإن المحيط االجتماعي العام في بلداننا ليس محيطا‬ ‫العربية ال تزال برمتها محكومة بالخرافة وتستند إلى‬ ‫فإن الدكتور القمني يرفض رفضا قاطعا تثبيت التراتبية‬
‫الذي أنتجته في الماضي الشخصيات اإلسالمية بكل‬ ‫علميا أو حضاريا بل فهو محيط موبوء فعال‪ ،‬وغارق‬ ‫الفهم األسطوري لكل شيء األمر الذي سوّ غ لبعض النقاد‬ ‫المطلقة بين المفكرين والمثقفين من جهة وبين العامة‬
‫فرقها ومللها ونحلها وينتجه اآلن كثير من دارسينا ونقادنا‬ ‫في الجهل واألمية المهنية والفكرية والعلمية والفنية‬ ‫القول بانعدام الذاتية المستقلة في مجتمعاتنا حيث نجد‬ ‫من جهة أخرى‪ ،‬حيث نجده يدعو بوضوح إلى إشراك‬
‫ومفكرينا‪ .‬هناك دائما جدار األمية بالمرصاد‪ ،‬كما هناك‬ ‫والسياسية‪ ،‬كما أن الدين فيه ينحصر في الطقوس‬ ‫داخل كل شخص عندنا تراكما من القيم التي لم يصنها‬ ‫العامة في النقاش الخاص حول أمهات القضايا الملحة‬
‫دائما الشخصية القاعدية لمواطنينا التي لم تنشأ على‬ ‫والعبادات الشكلية وهو أبعد ما يكون فضاء تنمو وتزدهر‬ ‫هو وربما يمكن القول إن الذي يتحدث من داخلنا اإلنسان‬ ‫والمطروحة على مجتمعاتنا “فالعامة إن استخدموا‬
‫الفكر النقدي وطرح األسئلة‪ ،‬وتوظيف المنهج العلمي في‬ ‫فيه األخالقيات والسلوك المنتج والمؤسس للعالقات‬ ‫العربي هو الطائفة أو القبيلة أو العشيرة علما أن هذا‬ ‫عقولهم سيكونون من البارزين في عملهم‪ .‬عندما‬
‫مقاربة النصوص الدينية المختلفة وغيرها من النصوص‪.‬‬ ‫اإلنسانية التي تحترم فيها الخصوصيات والفرادات‪.‬‬ ‫الثالوث مصفح بتراكم من الثقافية الشعبية المتخلفة ‪،‬‬ ‫يخاطب المفكر أو المثقف رجل الشارع فإنه يخاطب‬
‫على أساس ما تقدم فإن انعدام المثقفين المنخرطين في‬ ‫إن هذه العوامل مجتمعة قد أدت وال تزال تؤدي إلى تفريخ‬ ‫والفلكلوريات التي أسست وال تزال تؤسس للشخصية‬ ‫عقله على عكس غيره من رجال الدين الذين ال يخاطبون‬
‫صفوف المواطنين والحاملين لقضية تغيير الذهنيات‬ ‫سلطات سياسية متماهية مع القيم المتخلفة تعيد إنتاج‬ ‫القاعدية االنفعالية والعاطفية‪.‬‬ ‫تم إلغاء عقولها وال يجب‬
‫سوى مشاعره وعواطفه‪ .‬الناس َ‬
‫وتربية الفكر النقدي العلمي لدى هؤالء يطرح مشكلة‬ ‫الطقوس والقيم الدينية المحافظة حينا والمنغلقة أحيانا‬ ‫أعتقد أنه ال يكفي أن نبقى أسرى الدوران حول أعراض‬ ‫أن نستسلم ونقضي عليهم”‪ .‬يبدو واضحا أن تاريخ إلغاء‬
‫كبيرة أمامنا‪ ،‬وهي تعوق االنتقال إلى أفق العصر الحديث‪.‬‬ ‫أخرى‪ .‬إنه ينبغي القول هنا بأن رجال ونساء السياسية‬ ‫العلل بل فإنه ينبغي علينا أن نحفر عميقا في األسباب‬ ‫عقول رجال ونساء الشارع الذي يتحدث عنهم الدكتور‬
‫شاعر وباحث من الجزائر‬ ‫الذين يحكموننا لم يأتوا إلينا من أستراليا أو من شيكاغو‬ ‫الحقيقية التي فرضت التأويل الخرافي واألسطوري‬ ‫القمني ليس جديدا في مسار الفكر العربي اإلسالمي‬

‫‪117‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪116‬‬


‫حوار‬

‫جمعة الالمي‬
‫شاعر السرد‬
‫ً‬
‫وتصريحا‪ ،‬في فترات متفاوتة‪ ،‬بين سقم مرير‪ ،‬وحاالت نفسية رائقة‪ ،‬مع‬ ‫ً‬
‫تلميحا‬ ‫اهنا تسجيل وتوثيق لما عرفته عن جمعة الالمي‪،‬‬
‫هدوء وثبات وسكينة‪ ،‬وأشواق عرفانية وأخالقية‪ ،‬بين غربة الجسد عن وطنه‪ ،‬وعزلة المعتكف في المكان الجديد‪ ،‬وبالتحديد في‬
‫ً‬
‫كثيرا من وقته واهتماماته‪ ،‬منذ أن استقر بدولة اإلمارات العربية المتحدة في سنة ‪.1980‬‬ ‫منطقة الخليج العربي‪ ،‬التي أخذت‬
‫ً‬
‫أحيانا أخرى بمنزله أو في منتدى ثقافي أو منتجع صحراوي‪،‬‬ ‫ً‬
‫أحيانا‪ ،‬أو التي كانت بين فترتين قصيرتين‬ ‫في حواراتنا الممتدة‬
‫كانت أحاديثنا تدور‪ ،‬وتستدير‪ ،‬ثم تعود إلى نقطة البدء‪ ،‬إلى مجموعته القصصية األولى «من قتل حكمة الشامي؟»‪ ،‬فأسأله في‬
‫فيرد قائالً «ستجد الجواب في الطبعة الجديدة من هذا الكتاب‪ ،‬التي صدرت العام ‪،2016‬‬ ‫ّ‬ ‫مُ نادمة ودراية‪ ،‬عن القاتل وهويّ ته‪،‬‬
‫حي ًا’‪( ،‬كتابه البكر الذي‬ ‫ً‬
‫قصصا من كتابي المفقود ‘المسيح والجراد ـ صور أدبية للمنشق السومري الذي دفن ّ‬ ‫بعد أن أضفت إليه‪،‬‬
‫بقي رهين الرقابة الحكومية‪ ،‬مدة جاوزت الخمس سنوات)»‪.‬‬
‫ومن حسن الطالع‪ ،‬أن هذا الكتاب‪ ،‬سبقه إصدار مجلد سردي في العام ‪ ،2015‬بعنوان «اليشنيون‪-‬حكايات فليفلة والسروط» حيث‬
‫فوسع في فضائها الجغرافي‪ ،‬وانتقل‬
‫َّ‬ ‫عاد الالمي إلى‪ ،‬بيئته األولى‪ ،‬ومجموعاته البشرية المهمشة‪ ،‬أو الهامشية‪ :‬اليشن السومرية‪،‬‬
‫بها ومعها‪ ،‬من أهوار ميسان‪ ،‬إلى شرقي ميسان‪ ،‬ثم إلى الخليج العربي‪ ،‬حيث تتالقى الجغرافيا‪ ،‬وتلتقي الحضارات والثقافات‪ ،‬ال‬
‫سيما في سوق العمل‪ ،‬حيث يجري تحويل اإلنسان إلى سلعة‪ ،‬تحكمها متطلبات العرض والطلب‪.‬‬
‫كرسيه وهو في السجن السياسي‪ ،‬بعد أن أمضى نحو ست سنوات متصلة في‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫وكاتبا‪ ،‬جلس على‬ ‫ً‬
‫إنسانا‬ ‫وكان جمعة الالمي‪،‬‬
‫اعتبارا من سنة ‪ ،1963‬على خلفية أشواقه األخالقية‪ ،‬وآماله االجتماعية‪ ،‬التي تعثرت ً‬
‫آنا‪ ،‬وسقطت‬ ‫ً‬ ‫سجون العراق ومعتقالته‪،‬‬
‫ً‬
‫غالبا ما أخبرني‪ ،‬أنها صولجانه لترميم نفسه‪ ،‬من حاالت الخراب التي واجهته في‬ ‫لهم الكتابة‪ ،‬التي‬ ‫ً‬
‫مخلصا‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫آنا آخر‪ ،‬لكنه استمر‪،‬‬
‫السجن‪ ،‬واستمرت تالحقه وهو في فضاء الحرية المزعومة‪ ،‬فهي كانت ّ‬
‫عدته في وجه قوى الظلم والظالم االجتماعية‪ ،‬ووقفته‬
‫أمام تحديات القوى الغيبية الرهيبة وفي مقدمتها‪ :‬الموت‪.‬‬
‫ً‬
‫مربوطا إلى ماكينة‬ ‫دم» استمرت نحو أربع ساعات‪،‬‬‫‪ ‬جمعة الالمي قال لي‪ ،‬ذات يوم‪ ،‬بعد أن عاد إلى منزله عقب جلسة « تنقية ٍ‬
‫ً‬
‫سجينا في سجن «نقرة السلمان» الصحراوي‪ ،‬ثم في الحياة اليومية والعملية‪،‬‬ ‫حديدية صماء‪ ،‬أن فكرة الموت‪ ،‬هي شغله الشاغل‪،‬‬
‫جواالً في بيئات جديدة‪ ،‬بين بلدان البحر األبيض المتوسط‪ ،‬وشمال أفريقيا‪ ،‬والخليج العربي‪ .‬وفي‬ ‫ً‬
‫ومهاجرا ّ‬ ‫ً‬
‫وصحافيا‪،‬‬ ‫ً‬
‫كاتبا‪،‬‬
‫منحنيات هذا السفر‪ ،‬ومنافي هذا الترحال‪ ،‬بقيت األسئلة أكثر من األجوبة‪ ،‬ال سيما منها تلك التي تتعلق باإلنسان والوجود‬
‫والمصائر الكبرى‪.‬‬
‫الجن أو الرجال الصالحون‪ ،‬هي المَ ْخ َبر المفضل لديه في‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ولعل صورة «اليشن» ومضمونها‪ ،‬أي هذه المدينة الميتة‪ ،‬أو التي يحكمها‬
‫كشوفاته األدبية‪ ،‬ال سيما بعد أن صعد بها‪ ،‬من الواقع العادي‪ ،‬إلى مستوى الرمز والمثال‪ .‬وبعبارة أدق فإن الالمي‪ ،‬لكي يقدم أجوبة‬
‫حتى ولو كانت غير نهائية‪ ،‬وهي كذلك فعالً‪ ،‬على األقل لنفسه‪ ،‬حيال تلك األسئلة الوجودية الضخمة‪ ،‬جعل من هذه «اليشن»‬
‫مدنا جديدة عرجت به‪ ،‬وسرى هو معها‪،‬‬‫ً‬ ‫ربان األهوار والبوادي الشرقية العراقية‪،‬‬
‫السومرية‪ ،‬وهي قرْ يات مندرسة‪ ،‬تحت تالل و ِت ِ‬
‫ً‬
‫رموزا‪ .‬قال لي مرة «عملي هو صناعة مدن حرّ ة‪ ،‬يبنيها مواطنون أحرار»‪.‬‬ ‫لتكون‬
‫المنسية)‪ ،‬ثم‬
‫ّ‬ ‫هذه المدن الحرّ ة‪ ،‬وجدناها في نهاية مجموعة «من قتل حكمة الشامي» في قصة (اليشن ـ يوم في تاريخ مدينتنا‬
‫ع ّبرت عن نفسها بوضوح في مجموعته القصصية الثانية «اليشن»‪ ،‬ثم كانت في مجموعته الثالثة «الثالثيات» دوالً ذات بنى‬
‫سياسية وتشريعية وقضائية وأمنية‪ ،‬يتسلط عليها مجموعة من أبنائها‪ ،‬أو تقع تحت هيمنة قوة خارجية‪.‬‬
‫أما في روايتيه المتتاليتين «مجنون زينب» و»عيون زينب» فأخذت حاالت «اليشن» صورة أخرى‪ :‬إنها تنتظر يوم الخالص الموعود‪.‬‬
‫يوم الحرية والكرامة الوطنية‪ ،‬يوم يتحقق لإلنسان‪ ،‬للمواطن اليشيني‪ ،‬حقه في اختيار نمط حياته كما يشاء‪ .‬وهكذا عادت هذه‬

‫‪119‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪118‬‬


‫حوار‬

‫ً‬
‫اعتبارا من النصف الثاني من القرن العشرين‪.‬‬ ‫القريات لتكون «أسطورة» جمعة الالمي‬
‫زينب» و»عيون زينب»‪ .‬هنا تريد نصوصي أن تقول‬ ‫نظري أيضا‪ .‬إنني أدعو إلى عودة إلى تواريخ نصوصي المنشورة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫من هنا كانت بداية حوارنا الذي امتد أشهرا‪ ،‬فصار هذا الذي بين أيديكم‪ ،‬اآلن‪ ،‬بأبوابه ونوافذه الواسعة‪ ،‬بعضا منه‪.‬‬
‫إن مدننا يجب أن تكون مثامات لمواطنيها األحرار‪،‬‬ ‫في العراق كما في خارجه‪ ،‬وإلى تواريخ تلك النّصوص العراقية‬
‫ً‬
‫سجونا وتكايا لرعايا تحت هيمنة حماة أجانب‪،‬‬ ‫وليس‬ ‫والعربية‪ ،‬التي استخدم أصحابها تلك التقنية‪ ،‬أو الذين كتبوا‬
‫أو يسيطر عليهم وكالء «أهليون» ألجانب‪ .‬المدن التي في‬ ‫«بيانات ريادة» بصددها‪.‬‬ ‫قلم التحرير‬
‫كتبي‪ ،‬هي مثابات الحلم البشري‪ ،‬حيث الحرية والجمال‪.‬‬
‫‪ ‬مدن جديدة‬ ‫كاتبا إذا ما استطعنا إحصاءها‪ .‬وأرغب –هنا‪-‬في ذكر هذه الحكاية‬ ‫ً‬ ‫ساردا‪ ،‬أ�عني متى اكتشفت نفسك‬ ‫ً‬ ‫الجديد‪ :‬متى بدأت‬
‫المبدع طفل‬ ‫الجديد‪ :‬تتذكر ميسان دائما منذ كتاباتك األولى‪ ،‬وتذهب‬ ‫عماتي‬‫بين يديك‪ :‬كان والدي يُ لزمني بالكتابة إلى أحد أبناء ّ‬ ‫قصصيا‪ ،‬على وفق ما سجلته في كتبك؟‬ ‫ً‬
‫الجديد‪ :‬لكن أال تعتقد أن التقاطع مع الطفولة قد يجلب وضعا‬ ‫إلى طفولة عالم (ميسون‪ ،‬ميشون‪ ،‬الكرخة) المليء باألسرار‬ ‫الذي كان يشتغل بمدينة الكويت قبل نهاية العقد الخامس‬
‫مقلقا‪ .‬وهذا القلق هو محرك لتنشيط الذهن اإلبداعي‪ ،‬القلق‬ ‫واألساطير وثقافات الحضارات األولى للبشرية؟‬ ‫محترفا‪ .‬وقبل السجن‪ ،‬من القرن العشرين‪ .‬وكان الوالد يقول لي «أكتب إليه إن قلبي‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫كاتبا‬ ‫ُ‬
‫صرت‬ ‫الالمي‪ :‬في السجن‬
‫اإليجابي على التعبير مثال؟‬ ‫دون قليال‪ .‬في البدء‪ ،‬مثقوب لشدة شوقي إليه»‪ .‬ولم أجد وسيلة لترجمة عواطف‬ ‫ً‬ ‫أ‬ ‫ً‬
‫في صباي وفتوّ تي‪ ،‬كنت أقرأ كثيرا‪ ،‬و� ّ‬
‫أ‬
‫و�خرى إلى أقربائنا البعيدين والدي و�شواقه حيال ابن أخته‪ ،‬سوى أنني قمت بإشعال عود‬ ‫كنت أكتب رسائل إلى نفسي‪ ،‬أ‬
‫الالمي‪ :‬يقال‪،‬أحيانا‪ ،‬إن الفنان المبدع طفل كبير‪ .‬وإذا كان‬ ‫الالمي‪ :‬أريد أن أعود إلى مقدمة كتابي «اليشن» التي تحدثت‬ ‫والمهاجرين‪ ،‬وثالثة أ�سجل األحالف بين العشائر‪ ،‬ورابعة حطب من موقد النار في موقد منزلنا‪ ،‬وأحرقت الرسالة من‬
‫ثمة أطفال يعانون قلقا ضمن منحنيات طفولتهم‪ ،‬فإن قلق‬ ‫باقتضاب عن «المدن الجديدة» التي أحلم بها‪ ،‬وليس إلى مدننا‬ ‫خطوطا في درس «التربية الفنية»‪ .‬أ�ما في السجن زواياها األربع‪ ،‬ومررت بالنار على أديم صفحة الرسالة بين‬ ‫ً‬ ‫كنت أرسم‬
‫ً‬
‫مضافا‪ ،‬هنا‬ ‫ً‬
‫بعدا وجوديا‬ ‫الفنان المبدع يعطي إلى قلق الطفولة‬ ‫لدي أنها مقابر ومخافر للشرطة و»رجال‬ ‫«القديمة» التي تعني ّ‬ ‫ً‬
‫فقد كنت‪ ‬ساردا‪ :‬استمرت قراءاتي الكثيرة في األدب العالمي السطور أحيانا‪ ،‬فظهرت أمامي صفحة جديدة تماما‪ ،‬ورسالة‬ ‫ً‬
‫يتحول الفنان ليس إلى جراب مليء بالذكريات‪ ،‬وإنما إلى حالة‬ ‫البريد «‪ .‬ولعل نموذج مدينة بغداد أو «دار السالم» هو األفضل‬ ‫والثقافات اإلنسانية‪ ،‬واستمرت أيضا كتاباتي «النادرة»‪ ،‬إن شخصية لم ّ‬
‫يجرب كتابتها غيري‪.‬‬
‫متقدمة من الوعي الوجودي‪.‬‬ ‫عندي‪ ،‬فهذه المدينة قامت على مقبرة‪ ،‬ال تزال شاخصة إلى‬ ‫صح التعبير‪ ،‬و»النادر» هذا في أغلبه‪ ،‬كان رسائل إلى والدي من هنا‪ ،‬كان عثوري على هذا الشكل «الصوري» للكتابة السردية‬ ‫َّ‬
‫يومنا هذا‪ ،‬فهناك يوجد قبر «الخيزران بنت عطاء» الذي تحول‬ ‫ووالدتي‪ ،‬وقصصا قليلة تضمنها كتابي المفقود «المسيح في أعمالي األولى‪ .‬وعندما نشرت «لوحات» من هذه النصوص‬
‫إلى «مدينة‪-‬مقبرة»‪ ،‬ضمت بعد ذلك قبر اإلمام أبي حنيفة ‪ ‬المسكونون بالتاريخ‬ ‫بجريدة «النهار» اللبنانية سنة ‪ ،1970‬اعتبرها الشاعر والكاتب‬ ‫والجراد»‪.‬‬
‫وعددا من فقهاء العراق وأعالمه‪ .‬و»الخيزران هي زوج الجديد‪ :‬هنا منعطفات‪ ،‬منعطفات في الفن والموضوع‪ ..‬على‬ ‫ً‬ ‫النعمان‬ ‫ً‬
‫عصام محفوظ‪ ،‬الكتابة «الصورية األولى عالميا» في ميدان‬
‫الخليفة‪ ‬المهدي ووالدة الخليفة‪ ‬الهاديوالخليفة‪ ‬هارون الرشيد الرغم من االمتداد التراجيدي النشط لشخصيات نصوصك‬ ‫القصة البصرية‪ ،‬وال يناظرها إال كتابة غيوم أبولينير في فرنسا‪،‬‬ ‫األجناس والحدود‬
‫القصصية والروائية‪ ،‬المتداخلين والمتشابكين بأحداث‬ ‫والتي توفيت ودفنت فيها عام‪ 173 ‬هجرية‪.‬‬ ‫الجديد‪ :‬تتجاوز كتابتك حدود التصنيف بين األنواع األدبية‪ ،‬على صعيد الكتابة الشعرية‪ .‬كما أن الناقد محمد دكروب‪،‬‬
‫وبعد هذا الكيان الجغرافي‪-‬الديموغرافي‪-‬المعماري‪ ،‬حوّ ل ومقوالت‪ ،‬كثير منها تاريخي‪ .‬فهل جمعة الالمي مسروق إلى‬ ‫حيث يختلط السرد بالشعر بالتقرير الصحافي‪ ،‬حتى أن اعتبرها أحد « أشكال جمعة الالمي المدهشة» في مقال له‬
‫العثمانيون على امتداد خمسة قرون‪ ،‬مدينة بغداد‪ ،‬وما عُ رف ذلك بفعل سحر ما‪ ،‬أم أن شيئا آخر وراء ذلك؟‬ ‫الموسوي‪،‬سماك «هادم الحدود بين األجناس»‪ ،‬بمجلة اآلداب اللبنانية في تلك السنة أيضا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الدكتور محسن‬
‫بالعراق بعد ذلك‪ ،‬إلى مخفر واسع‪ ،‬يقوم على النهب والسلب‬ ‫ً‬
‫‪ ‬وبعد أكثر من أربعة عقود تقريبا على تشخيص عصام محفوظ‬ ‫كيف توصلت إلى هذه الصيغة؟‬
‫والعنصرية والتخلف والطائفية‪ .‬وعندما أعادت الكولونيالية الالمي‪ :‬أبطال قصصي يسكنهم التاريخ‪ ،‬أو إنهم مقذوفون‬ ‫ومحمد دكروب‪ ،‬نشر الناقد العراقي فاضل تامر‪ ،‬مقاالً رصيناً‬
‫في أحداث تاريخية في الماضي‬ ‫البريطانية‪ ،‬صياغة هذه المدينة عند‬ ‫في مجلة «نزوى» العمانية‪ ،‬قال فيه ما‬ ‫اطلعوا‬ ‫الالمي‪ :‬أعتقد أن كثيرين ّ‬
‫البعيد وفي الماضي القريب أيضا‪ ،‬إذا‬ ‫احتاللها العراق في سنة ‪ ،1914‬كان‬ ‫مضمونه «إن جمعة الالمي‪ ،‬سبقنا إلى‬ ‫على مسودات الكتب التراثية العربية‬
‫جاز لي مثل هذا القول‪ .‬وكما تعرف‪،‬‬ ‫ثمة المدينة التي تلبي االحتياجات‬ ‫كتابة نصوص ما بعد الحداثة»‪ ،‬وهذا‬ ‫أشك في أن كثيرين‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫المحققة‪ ،‬ولكنني‬
‫فإن اهتمامي بالتاريخ والتراث في‬ ‫االستراتيجية لإلمبراطورية البريطانية‪،‬‬ ‫ً‬
‫متأخرا‪ ،‬ألنه‬ ‫رأي يُ عتدُّ به‪ ،‬حتى لو جاء‬ ‫رأوا «التعويذات» التي كانت تكتبها‬
‫أعمالي القصصية‪ ،‬مرده إلى أنني‬ ‫أو‬ ‫بغداد‬ ‫مدينة‬ ‫نموذج‬ ‫لعل‬ ‫مع ترك هامش معلوم تتحرك بين جنباته‬ ‫كان ردا على ادعاءات عديدة‪ ،‬عراقية‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫كاتبا‬ ‫صرت‬
‫ُ‬ ‫السجن‬ ‫في‬ ‫ساحرات عراقيات على «أختام‬
‫أجد خصوصية العراقي في تاريخه‬ ‫«فئة» أهلية جديدة ارتبطت مصالحها «دار السالم» هو األفضل‬ ‫ً‬
‫روادا في‬ ‫وعربية‪ ،‬بأن أصحابها كانوا ّ‬ ‫محترفا‪ .‬وقبل السجن‪،‬‬ ‫ً‬ ‫«ي ِشن» دولة ميسان‬ ‫أسطوانية» في ِ‬
‫المتنوع‪ .‬حدث‪ ،‬مر ًة‪ ،‬أنني كنت مشاركاً‬ ‫بمصالح بريطانيا العظمى‪.‬‬ ‫الكتابة البصرية»‪.‬‬ ‫التاريخية‪ ،‬بل إنني أجزم أن كثرة‬
‫عندي‪ ،‬فهذه المدينة قامت‬ ‫وفتوتي‪ ،‬كنت‬ ‫ّ‬ ‫في صباي‬
‫في ندوة حوار ثقافي‪ ،‬نظمه صديقنا‬ ‫أما المدن التي تطرحها كتبي‪ ،‬كنقيض‬ ‫كثيرا‪ُ ،‬‬ ‫غالبة‪ ،‬حتى من بين الكُتاب واألدباء‬
‫على مقبرة‪ ،‬ال تزال شاخصة‬ ‫ً‬
‫قليال‪.‬‬ ‫دون‬ ‫ّ‬ ‫وأ‬ ‫ً‬ ‫أقرأ‬
‫الراحل محمد الجزائري‪ ،‬لصالح ملحق‬ ‫للتصور والبناء العسكري والفاسد‬ ‫أسبقيتي األدبية‬ ‫والرسامين‪  ‬العراقيين‪ ،‬وليس العرب‬
‫جريدة «الجمهورية» البغدادية‪ ،‬في‬ ‫يوجد‬ ‫فهناك‬ ‫هذا‪،‬‬ ‫يومنا‬ ‫إلى‬ ‫والمتخلف للمدن‪ ،‬فهو إعادة إنهاض‬‫ّ‬ ‫الجديد‪ :‬هذا يدعوني إلى القول إنك‬ ‫أكتب‬ ‫كنت‬ ‫البدء‪،‬‬ ‫في‬ ‫ال وبصريّ اـ عند‬ ‫فقط‪ ،‬توقفوا ـ تأم ً‬
‫سنة ‪ ،1977‬حول مكونات ما يسمى‬ ‫قبر «الخيزران بنت عطاء»‬ ‫«يشن» بالد الرافدين‪ ،‬من خالل‬ ‫كنت السابق والس ّباق إلى استخدام «‬ ‫وأخرى‬ ‫«الُأخذة « السومرية األولى في تاريخ رسائل إلى نفسي‪ُ ،‬‬
‫بـ»الثقافة الوطنية العراقية» أشرت‬ ‫الذي تحول إلى «مدينة‪-‬‬ ‫شخصياتها التاريخية والعرفانية التي‬ ‫تقنية الهامش» في نصوصك السردية‪،‬‬ ‫إلى أقربائنا البعيدين‬ ‫البشرية‪ ،‬وهي «تعويذة» عراقية‪ ،‬على‬
‫فيه إلى «التنوع العراقي» في المشهد‬ ‫يكون مصيرها االستشهاد أو التواري‬ ‫التي ابتدأت في مجموعة « من قتل‬ ‫هيئة «صحيفة سحر» رافدينية‪ ،‬كتبها‬
‫مقبرة»‪ ،‬ضمت بعد ذلك قبر‬ ‫ً‬ ‫والمهاجرين‪ ،‬وثالثة ُأسجل‬
‫الديموغرافي و»الحقيقة العراقية «‬ ‫ارتباطا بفكرة «المخلص‬ ‫عن األنظار‪،‬‬ ‫حكمة الشامي»‪.‬‬ ‫رسما «ساحر» بحق امرأة عراقية‪.‬‬
‫على الصعيد الحضاري‪ ..‬كان طرحي‬ ‫الموعود» كما تجلى ذلك في كتابي اإلمام أبي حنيفة النعمان‬ ‫األحالف بين العشائر‬ ‫في هذه النصوص‪ ،‬التي أسميها أنا‪:‬‬
‫ً‬
‫صادما حتى للراحل غالب هلسا‪ ،‬الذي‬ ‫«اليشن» و»الثالثيات» ثم في «مجنون‬ ‫ً‬
‫الالمي‪ :‬هذا صحيح تماما‪ ،‬من وجهة‬ ‫َصريّ ًا‪ ،‬تتداخل أنواع الكتابة كلها‪،‬‬ ‫ً‬
‫سردا ب َ‬

‫‪121‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪120‬‬


‫حوار‬

‫العراقية‪ .‬أ�عتبر نفسي وريث الجاحظ‪ ،‬وحفيد بلزاك‪.‬‬ ‫حط كثيرون‬‫األبجدية والتدوين‪ .‬والى هذه المثابة العراقية‪َّ ،‬‬ ‫المضمون‪.‬‬ ‫ً‬
‫مؤيدا‪ ،‬في حينه للثقافة األيديولوجية‪ ،‬ورديفها القومي‬ ‫كان‬
‫رحالهم‪ ،‬أمامنا المالحم األولى‪ ،‬التي كانت تتجه إلى البحث عن‬ ‫أما من حيث الشكل‪ ،‬فقد لجأت إلى تقنية «تيار الوعي»‪،‬‬ ‫ياسر»‪.‬‬
‫«المُ تَ ِ‬
‫أدب ما بعد الحداثة‬ ‫سر الخلود‪ ،‬وتمجد الصداقة والعمل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ال‪ ،‬بين واقعة ّ‬
‫صفين‪،‬‬ ‫ً‬
‫سرديا متص ً‬ ‫ً‬
‫زمنا‬ ‫حيث حاولت أن أ�قيم‬ ‫إن شخصية «ميثم الثمار» التي كانت أولى اكتشافاتي‬
‫الجديد‪ :‬لقد اعتمدت في «الثالثيات» على هذا المنهج الذي‬ ‫ً‬
‫دليت بدلوي في هذا المضمار‪ ،‬وكنت أعي مسبقا‪ ،‬أن‬ ‫أ‬
‫لقد � ُ‬ ‫والواقع العراقي في النصف الثاني من القرن العشرين‪ ،‬بظهور‬ ‫للشخصيات العرفانية القلقة في التاريخ اإلسالمي‪ ،‬بعد أبي‬
‫صنعته في حياتك األدبية‪ ،‬ولكنك كنت تجريبيا بامتياز؟‬ ‫األبطال يخلدون بالمالحم الشعرية‪ ،‬أو «يخترعهم» كتاب‬ ‫االنقالبات العسكرية‪ ،‬وبروز شخصية «الفرد» القروي‪ ،‬الذي‬ ‫ذر والمقداد وعلي ومحمد‪ ،‬فارسية تعربت بالكوفة‪ ،‬ومثلها‬
‫المالحم والسير‪ .‬وهكذا كتبت قصصي األولى على وفق هذا‬ ‫يحوّ ل الدولة إلى إرث عائلي‪ ،‬ويتصرف بمقدرات الشعب‪ ،‬كما‬ ‫شخصية الحالج الحسين بن منصور‪ ،‬وآحاد أخرى‪ ،‬عراقية في‬
‫تضج بأسماء أ�ولئك األبطال‬
‫ّ‬ ‫الهم واالهتمام‪ ،‬فكان قصصي‬ ‫ّ‬ ‫كان يلهو الحكام العباسيون بمقدّ رات العراقيين‪ ،‬في ساعات‬ ‫السكنى‪ ،‬ستجد مثيالت لها في أعمالي القصصية والروائية‪.‬‬
‫الالمي‪ :‬هذه المسألة لم يتم االنتباه إليها في نقدنا العراقي‬ ‫أ‬
‫المقاتلين‪ ،‬المنتصرين‪� ،‬و القتلى بتلك الطرق البشعة‪ ،‬كما في‬ ‫سكرهم‪.‬‬ ‫ولقد أدى هذا إلى نوع من العداء والحنق من الموظفين‬
‫في تلك السنوات الستينية والسبعينية وحتى الثمانينية من‬ ‫مقتل الحالج والحسين وعلي وعمر وميثم التمار‪ ،‬مقرونة‬ ‫إن «ا ل م» هي الرديف «الالمي» لتقنية «الحروف المقطعة»‬ ‫الرسميين للثقافة الشمولية‪ ،‬بل قل إن هذا دفع بي لَأقترب‬
‫القرن الماضي‪ .‬اطلعت قبل نحو سنتين على مقال لفاضل‬ ‫بالشعر الشعبي‪ ،‬واألغاني الشعبية‪ ،‬في اآلداب العربية‬ ‫في المصحف اإلسالمي‪ .‬ويبدو لي أن تجربتي هذه‪ ،‬هي األولى‬ ‫من «القتل» على أيدي «المنظمة اإلرهابية»‪ ،‬وكذلك «الموت‬
‫تامر نشره في مجلة «نزوى» يقول فيه إن جمعة الالمي كان‬ ‫واإلسالمية والعالمية‪.‬‬ ‫ستكرر نفسها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫على هذا المنوال‪ ،‬في تاريخ السرد العربي‪ ،‬التي‬ ‫المعنوي» على أيدي دهاقنة «الثقافة الشمولية»‪ .‬ولكن‪ ،‬أنظر‬
‫يكتب بمفهوم ما بعد الحداثة ولم نكن منتبهين لذلك‪ .‬ويقول‬ ‫وجلي‪ ،‬في روايتي «عيون زينب»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بوضوح تام‬ ‫ماذا جرى بعد ذلك؟ في العراق‪ ،‬اآلن‪ ،‬كما في بلدان عربية‬
‫فيها إن جمعة الالمي نفسه كان منبهً ا إلى ذلك‪ .‬وكان فاضل‬ ‫شعر وسرد‬ ‫ً‬
‫أشواطا‬ ‫أخرى‪ ،‬أصوات تنادي بالتنوع الثقافي‪ ،‬بل وتسير‬
‫ّ‬
‫والحلة‪ ،‬وكنا قريبين من‬ ‫ثامر سجينًا معنا في نقرة السلمان‬ ‫الجديد‪ :‬انطلقت بالقصة القصيرة ولم تنطلق بالرواية‪ ،‬حتى‬ ‫أسطورة الكاتب‬ ‫بعيدة إلى درجة «التماهي» مع دعوات وبرامج ثقافية إلغائية‪،‬‬
‫بعضنا‪ .‬ذكّرته بأطروحاتي آنذاك عن تلك الفترة‪ .‬قلت له‪ :‬إنني‬ ‫قبل أن يعترف مشهدنا الثقافي على بورخيس‪ .‬ما هو السبب‪،‬‬ ‫الجديد‪ :‬كأنك أعدت كتابة «حكاية ما» جديدة على ما تبقى‬ ‫بزي التنوع والغفران وعدم محو ثقافة «اآلخر»‬ ‫ّ‬ ‫وإن تزيَّ ت‬
‫لست ابن الثقافة العراقية بل ابن الثقافة األوروبية‪ .‬ولذلك كان‬ ‫هل هو الخوف من خوض غمار الرواية؟‬ ‫من حكاية أ�و حكايات قديمة‪ ،‬أو أنك قدمت أ�سطورة قديمة‬ ‫وشخصيته الوطنية‪.‬‬
‫نتاجي منذ البدء هو صعود على هذا السلم الذي ال أعرف أين‬ ‫برؤية جديدة؟‬
‫ينتهي‪ .‬كنت أتوجه نحو السماء واألخالق‪ ،‬وقدماي راسختان‬ ‫الالمي‪ :‬بدأت بكتابة الشعر‪ .‬وأول عمل قرأته كان قصيدة شعر‬ ‫المقامة الالمية‬
‫على األرض‪ .‬ولهذا تراني أتجه إلى الفن والجمال من دون أن‬ ‫نثر في عام ‪ 1964‬في سجن نقرة السلمان‪ ،‬تتحدث عن محنة‬ ‫الالمي‪ :‬أنا كتبت أ�سطورتي الخاصة‪ ،‬صديقي العزيز شاكر‪.‬‬ ‫أسست مدنا‪ ،‬ورسمت شخصيات عربية وإسالمية‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الجديد‪ :‬لقد‬
‫أنسى مسؤوليتي األخالقية واالجتماعية على أرض الواقع‪.‬‬ ‫اإلنسان‪ .‬وكانت تلك مغامرة غير مرغوب فيها في السجن الذي‬ ‫امتدت في «من قتل حكمة الشامي؟» و»اليشن» و»الثالثيات»‪،‬‬
‫النبي‬
‫ّ‬ ‫هذه هي أخالق الشاعر الرائي أو السارد الرائي الذي أزاح‬ ‫علي بضغوطاته‪ ،‬لكنني عبرتها واستجبت لتحدياتها ما‬ ‫ّ‬ ‫أثقل‬ ‫الجديد‪ :‬أ�سطورتك الخاصة؟‬ ‫وكذلك في رواية»المقامة الالمية» في جزئها األول «أحمد‬
‫عن مكانه‪ .‬لهذا ال يوجد في القرن العشرين أنبياء بل يوجد‬ ‫بين الشعر والسرد‪ .‬ولم تكن إال القصة القصيرة الفنية إجابة‬ ‫العبدالله»‪ ،‬حيث قمت بإعادة تشكيل الحياة االجتماعية بعد‬
‫شعراء وروائيون وسرديون وملحميون‪.‬‬ ‫على هذا التحدي‪ ،‬فكانت قصصي األولى التي وجدت لها هوى‬ ‫الالمي‪ :‬نعم‪َ ،‬‬
‫ولم ال؟‬ ‫موت «أحمد العبدالله» وانشقاق مدينة «ا ل م» على نفسها‪.‬‬
‫ومترجما في أكثر‬
‫ً‬ ‫ثقافيا‬
‫ً‬ ‫عند فاضل العزاوي الذي عمل محر ًرا‬ ‫نسميه‬
‫ّ‬ ‫سأتحدث عن عالقتي وتجربتي بهذا المسالة‪ ،‬أي ما‬
‫من صحيفة عراقية‪ ،‬فتلقف تجاربي وأشاعها بين القراء آنذاك‪  .‬انتماء فكري‬ ‫الالمي‪  :‬بدأت أكتب «المقامة الالمية»‪ ،‬في نسختها األولى األساطير العراقية‪ ،‬ألنها فضاء واسع ً‬
‫جدا‪ .‬لنقل هنا إن الُأسطورة‬
‫ً‬
‫غالبا‪ ،‬في العراق وخارج العراق‪ ،‬يتم النظر‪ ،‬بل الفرز‪،‬‬ ‫في تلك الفترة لم أجد أمامي سوى القصة القصيرة‪ .‬كنت الجديد‪:‬‬ ‫ً‬
‫أطوارا‪ ،‬من‬ ‫ً‬
‫طورا‪ ،‬أو‬ ‫في صيف سنة ‪ ،1977‬حيث رفعت الدكتاتورية رقبتها مثل كانت‪ ،‬ربما‪ ،‬الحالة الطاهرة التي مثلت‬
‫ً‬
‫بكونك شيوعيا‪ .‬هل هذا األمر‬ ‫أدافع عن نفسي بوجه «الخط‬ ‫أحالم البشرية‪ ،‬نحو الكمال والعدالة‬ ‫ً‬
‫قدما في‬ ‫وحش كاسر‪ ،‬بعد المضي‬
‫صحيح؟‬ ‫الواحد» في الثقافة والحياة كما‬ ‫والكرامة‪ ،‬ولذلك كان لها أبطالها‪ ،‬في‬ ‫االعتداء على التاريخ العراقي‪،‬‬
‫يع ّبر عنها النهج الشمولي السائد‬ ‫مواجهة قوى الشر والعبودية‪ .‬ومن‬ ‫والقيام بعدد من االختبارات في‬
‫الالمي‪ :‬سأخبرك بموقفي‪ ،‬حسب‬ ‫آنذاك في الثقافة العراقية‪ .‬ولذلك‬ ‫تم بينما‬
‫الواضح أن هذا الوضع قد َّ‬ ‫«تأميم» الثقافة العراقية على وفق‬
‫لجأت إلى تقنية «تيار الوعي»‪،‬‬ ‫المدن التي تطرحها كتبي‪،‬‬
‫ما فهمته من سؤالك‪ ،‬انتميت إلى‬ ‫كانت مجموعة «من قتل حكمة‬ ‫كانت المجتمعات اإلنسانية‪ ،‬تنقسم‬ ‫نظرة فريق سياسي واحد‪ .‬كان هذا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫سرديا‬ ‫ً‬
‫زمنا‬ ‫قيم‬ ‫أ‬‫حيث حاولت أن ُ‬ ‫ً‬ ‫أ‬ ‫والبناء‬ ‫للتصور‬ ‫كنقيض‬
‫الحزب الشيوعي‪ ،‬فكريا‪ ،‬قبل‬ ‫مزيجا من الشعر والنثر‪.‬‬ ‫الشامي»‬ ‫إلى سادة وعبيد‪� ،‬خيار وشريرين‪،‬‬ ‫يعني العودة إلى االحتراب الداخلي‬
‫أن أبلغ سن الرشد‪ .‬كنت معجباً‬ ‫ّ‬
‫متصال‪ ،‬بين واقعة صفين‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وكذلك «الليل في غرفة اآلنسة‬ ‫ّ‬
‫وتصفية اآلخر المعارض‪ ،‬أو حتى العسكري والفاسد والمتخلف بيض وسود‪،‬عرب وأعاجم‪ ..،‬وهكذا‪.‬‬
‫بالماركسية حين كنت في مرحلة‬ ‫والواقع العراقي في النصف‬ ‫ميم» و»اليشن»‪ .‬وكانت هناك‬ ‫وكان هذا يقتضي «اختراع» أبطال‬ ‫للمدن‪ ،‬فهو إعادة إنهاض‬ ‫الرديف الحليف‪ .‬لذلك عدت إلى‬
‫الدراسة االبتدائية‪ .‬وفي مرحلة‬ ‫بدايات السرد الملحمي أي الشعر‬ ‫منتصرين دائما‪ ،‬أو يقدمون حياتهم‬ ‫«معركة صفين» التاريخية واالنشقاق‬
‫الثاني من القرن العشرين‪،‬‬ ‫«يشن» بالد الرافدين‪ ،‬من‬
‫الدراسة المتوسطة تقدمت بطلب‬ ‫والنثر‪ ،‬ثم تطورت بعد ذلك‪.‬‬ ‫فداء للحلم البشري‪ .‬التاريخ العراقي‪،‬‬
‫ً‬ ‫اإلسالمي في حينه‪ ،‬من خالل‬
‫وتم قبولي بقرار‬ ‫َّ‬ ‫انتماء للحزب‪،‬‬ ‫العسكرية‪،‬‬ ‫االنقالبات‬ ‫بظهور‬ ‫‪ ‬‬ ‫زاخر بمثل هذه الشخصيات التي‬ ‫التاريخية‬ ‫شخصياتها‬ ‫خالل‬ ‫شخصية «أحمد العبدالله» وأوالده‪،‬‬
‫ّ‬
‫استثنائي‪ ،‬ألنني لم أكن بلغت سن‬ ‫شاعرا وبروز شخصية «الفرد» القروي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الجديد‪ :‬ماذا تعتبر نفسك‬ ‫في مقابل شخصية «الجنرال» والعرفانية التي يكون مصيرها � ّطرها شعراء المالحم‪ ،‬ألنه الجغرافيا‬
‫أ‬
‫الرشد في حينه‪ .‬كان ذلك في نهاية‬ ‫يحول الدولة إلى إرث‬ ‫الذي ّ‬ ‫روائيا؟‬
‫ً‬ ‫قاصا أم‬
‫أم ً‬ ‫التي شهدت خمس حضارات كبرى‪،‬‬ ‫االستشهاد أو التواري عن‬ ‫وعائلته‪ ،‬التي سيطرت على مدينة‬
‫سنة ‪ .1959‬وبعد سنتين على هذا‬ ‫في واحدة منها‪ ،‬ربما هي األولى في‬ ‫«ا ل م»‪ ،‬التي استوحيتها من النص‬
‫التاريخ انتقلت إلى العمل في «الخط‬
‫عائلي‬ ‫الالمي‪ :‬أنا شاعر السردية‬ ‫التاريخ البشري‪،‬التي شهدت ميالد‬
‫األنظار‬ ‫القرآني الشريف‪ .‬هذا من ناحية‬

‫‪123‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪122‬‬


‫حوار‬

‫برمته من زاوية ثقافتي الخاصة‪،‬‬


‫كنت أنظر إلى األمر ّ‬
‫ثقافة الحوار واإلختالف الحر‪ ،‬وهو ما كنت أمارسه‬
‫على األرض بعد مغادرتي العراق إلى الخليج العربي منذ‬
‫سنتي ‪ ،1980-1979‬حيث كان هذا الموقف قد أثار لدى عدد‬
‫من الرموز الشيوعية التقليدية (التي كانت توصف بـ»اليمينية‬
‫والذيلية « للنهج السوفييتي) عالمات استغراب‪.‬‬

‫‪ ‬باقة ورد حمراء‬


‫تم تصحيح ذلك الموقف‪.‬‬
‫الجديد‪ :‬علمت أنه َّ‬

‫الالمي‪ :‬نعم‪ ،‬كان ذلك في صيف سنة ‪ 2011‬ببغداد‪ ،‬بعد‬


‫زيارتي لبغداد‪ ،‬وفي حفل خاص أقامه لي االتحاد العام لألدباء‬
‫والكتاب في العراق‪ ،‬حيث تلقيت رسالة خطية من اللجنة‬
‫ً‬
‫ثالثا وثالثين‬ ‫المركزية للحزب‪ ،‬بعد غيبة عن العراق استمرت‬
‫سنة متواصلة‪ ،‬مرفقة بباقة ورود حمراء‪.‬‬

‫الجديد‪ :‬أنت سعيد لهذه النتيجة؟‬

‫الالمي‪ :‬نعم‪ ،‬يمكن القول بذلك‪ .‬لكنني أدعو إلى ما هو أوسع‬


‫من ذلك‪ .‬أتمنّى أن أرى وثيقة فكرية‪-‬أخالقية صادرة من قيادة‬
‫الحزب الشيوعي العراقي‪ ،‬تدين جميع انتهاكات حقوق اإلنسان‪،‬‬
‫التي تمت بحق شعراء وكتاب ومناضلين شيوعيين‪ ،‬على‬
‫خلفية مواقفهم المناهضة للسياسات‬
‫الحزبية في تلك‪  ‬العقود‪ .‬فهذا من حق‬ ‫والصديقة‪ ،‬بعد خروجي من السجن‪.‬‬ ‫من حيث وجهة نظري حيال «مسألة الحرية» والنظرة إلى‬ ‫العسكري» بمعسكر الحبانية‪ ،‬بالتزامن مع سعة إطالعي على‬
‫الموتى على األحياء‪.‬‬ ‫«الدين» والموقف من «الهوية القومية»‪.‬‬ ‫هيأ لي زوايا متعددة‬
‫االتجاهات الثقافية‪ ،‬والمدارس األدبية‪ ،‬ما ّ‬
‫الجديد‪ :‬وماذا كان ردَّ فعلك؟‬ ‫‪ ‬‬ ‫لمراقبة وتمحيص ودراسة ومعاينة «الثقافة الرسمية» السائدة‬
‫‪ ‬دم الكاتب‬ ‫الجديد‪ :‬تركت الحزب‪ ،‬العمل الحزبي‪ ،‬وأنت سجين إذن؟‬ ‫ً‬
‫عالميا في حينه‪ ،‬أعني «الثقافة السوفييتية» الرسمية‪ ،‬وهو ما‬
‫الجديد‪ :‬هل تكتب برؤية الشاعر الرائي‬ ‫أتمنّ ى أن أرى وثيقة فكرية‪-‬‬ ‫أتصرف على أالّ‬ ‫ّ‬ ‫الالمي‪ :‬كنت‬ ‫اصطلح على اإلشارة إليه بعنوان «الثقافة الستالينية‪ .‬هنا أقول‬
‫والسارد الرائي تحت تأثيرات المرض‬ ‫يكون موقفي «ردَّ فعل انفعاليا»ً‬ ‫الالمي‪ :‬نعم‪ .‬وكان ذلك على خلفية ما كنت ّ‬
‫أطلع عليه‬ ‫إنني كنت على غير وفاق مع «الثقافة الرسمية»‪.‬‬
‫أخالقية صادرة من قيادة‬
‫الذي تعاني منه‪ ،‬أردت أن أسأل عن‬ ‫أي موقف‪،‬‬ ‫على هذا الموقف‪ ،‬أ�و ّ‬ ‫من مواقف عنف واستئصال‪ ،‬بل حتى محاوالت قتل بطرق‬
‫عالقة المرض باإلبداع؟‬
‫الحزب الشيوعي العراقي‪،‬‬ ‫أي جهة ضدي‪ .‬كنت أنا المبادر‬ ‫تم بحق تروتسكي مث ً‬ ‫وداع مشرف‬
‫من ّ‬ ‫ال‪ ،‬أو بطرق التشويه‬ ‫وحشية وغادرة‪ ،‬كما َّ‬
‫تدين جميع انتهاكات‬ ‫في اتخاذ مواقفي بحرية وقناعة‬ ‫السياسي والثقافي كما جرى مع بول نيزان وناظم حكمت‬ ‫الجديد‪ :‬الثقافة الستالينية التي طالما ترددت في قصصك‬
‫الالمي‪ :‬عندما ترتفع نسبة اليوريا‬ ‫حقوق اإلنسان‪ ،‬التي‬ ‫ودراية‪ ،‬فأنا أحترم ماركس‪ ،‬وال‬ ‫وعدد من الشعراء في «البلدان االشتراكية»‪ ،‬وال سيما في ما‬ ‫وكتاباتك األدبية والثقافية والفكرية‪.‬‬
‫في دم اإلنسان‪ ،‬يحدث هناك انقطاع‬ ‫تمت بحق شعراء وكتاب‬ ‫أقبل بدكتاتورية ستالين‪ ،‬وهو‬ ‫كان يعرف في حينه بـ»االتحاد السوفييتي»‪.‬‬
‫وصول الدم إلى المخ‪ ،‬ما يترتب عليه‬ ‫الموقف الذي تطور إلى رفضي لَأ ّي‬ ‫‪ ‬‬ ‫تماما‪ ،‬ما أدّ ى إلى حدوث قطيعة‬ ‫ً‬ ‫الالمي‪ :‬نعم‪ ،‬هذا صحيح‬
‫أن الجملة العصبية ومجموعة األوعية‬
‫ومناضلين شيوعيين‪ ،‬على‬ ‫شكل من أشكال الهيمنة الفكرية‪ ‬‬ ‫جراء موقفك هذا‪.‬‬ ‫نهائية بين مفهومي للعدالة‪ ،‬ونظرتي إلى العالقة بين الثقافات‬
‫الجديد‪ :‬ألم يلحق بك أذى‪ّ ،‬‬
‫الشعرية التي تستقبل الدم هنا سيكون‬ ‫خلفية مواقفهم المناهضة‬ ‫ً‬
‫الحقا‪.‬‬ ‫والثقافية والسياسية‪،‬‬ ‫والحضارات المتعددة‪ ،‬وبين ذلك المناخ الثقافي‪-‬السياسي‬
‫ً‬
‫فيها انفصال‪ ،‬مثل تشابك كفك اليمنى‬ ‫للسياسات الحزبية‬ ‫لقد أكملت مدة سجني القانونية‪،‬‬ ‫الالمي‪ :‬ونعم‪ ،‬كان ثمة ألم ضخم‪ ،‬وتعذيب نفسي مبالغ‬ ‫أيضا‪ ،‬تعرضت إلى االعتقال‪،‬‬ ‫السائد‪ ،‬رغم أنني في تلك الفترة‬
‫بكفك اليسرى‪ ،‬آنذاك تكون كأنك في‬ ‫من دون أن أسيء إلى ضميري‪ ،‬أي‬ ‫فيه‪ ،‬ال سيما في السجون‪ ،‬حيث عوملت بمنطق «المعزول»‬ ‫علي بالسجن لمدة اثنتي عشرة سنة‪ ،‬أمضيت‬ ‫ثم الحكم ّ‬ ‫ومن َّ‬
‫وضع الموت اإلكلنيكي‪ .‬لست ميتً ا‪ ‬‬ ‫لم أتقدم بـ»براءة» من الحزب ومن‬ ‫ً‬
‫سياسيا‪ ،‬بما فيه الحرمان من العالقات اإلنسانية‪ ،‬الذي تطور‬ ‫ست سنوات في السجن الفعلي‪ ،‬وفي السجن‪ ،‬تقدمت‬ ‫منها نحو ّ‬
‫حيا‪ ..‬بين بين‪ ،‬بين برزخين‪ ،‬بين‬
‫ولست ًّ‬ ‫ً‬
‫شائعا في حينه‪،‬‬ ‫الماركسية‪ ،‬كما كان‬ ‫إلى «الصمت الثقافي» عن كتبي في صحافة الحزب الرسمية‬ ‫باستقالة رسمية إلى قيادة الحزب آنئذ‪ .‬استقالة مُ َسببة ومُ عّ للة‪،‬‬

‫‪125‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪124‬‬


‫حوار‬

‫‪ ‬الغرق في دجلة‬ ‫الجحيم والفردوس‪ ،‬لكنك في طريقك إلى الفردوس‪ ،‬أنت في‬
‫ً‬
‫الجديد‪ :‬هل تعرضت إلى حالة موت‪ ،‬اعتبرها « موتا؟»‪.‬‬ ‫التنور العظيم‪ .‬إذ ذاك سترى كل شيء من لحظات تواجدك في‬
‫رحم أمك إلى آفاق المستقبل أي تجد نفسك وحيدً ا‪ .‬كل شيء‬
‫الالمي‪ :‬في طفولتي طلبني الموت أكثر من مرة‪ ،‬كان أخطرها‬ ‫رأيته‪ ..‬أريد التحدث عنه بشكل وثائقي تفصيلي‪.‬‬
‫الغرق في نهر دجلة‪ .‬لقد تمسك بي «عبدالشط» مرة أو اثنتين‪،‬‬ ‫‪ ‬‬
‫لكن ثمة من دفع بي إلى سطح النهر‪.‬‬ ‫الجديد‪ :‬هل تجد نفسك في هذه الحالة المبدع المطلق أو‬
‫وفي شبابي‪ ،‬تعرضت إلى إطالق رصاص‪ ،‬من مجموعة من‬ ‫المتأمل الرؤيوي؟‬
‫المحققين السكارى في «وكر الطائرات « بمعسكر الحبانية‪ ،‬كان‬
‫قيدوني إلى عمود رخامي‬ ‫ثالثة من المحققين العسكريين قد ّ‬ ‫‪ ‬الالمي‪ :‬المنشد‪ .‬أنا المنشد‪ ،‬صديقي العزيز‪..‬‬
‫علي الرصاص‪ ،‬وعندها‬ ‫في وكر المقاتالت الروسية‪ ،‬ثم أطلقوا َّ‬
‫لم أكن أعرف أين كنت‪ .‬ولكن بعد برهة قصيرة انتبهت على‬ ‫‪ ‬الموت صديقي‬
‫الجديد‪« :‬ثمة فرق بيني وبين مالك الموت‪ .‬إنني أخلق ضحكهم‪ ،‬قالوا «كنا نتشاقى معك»‪ ،‬وهذه الجملة التي قيلت‬
‫صحفي‪ ،‬وهو ال يمتلك إال دوره»‪ .‬هكذا يقول «إبراهيم األحمد» باللهجة العراقية‪ ،‬تعني «كنا نمزح معك»‪ .‬وبعد ذلك كانت لي‬
‫محاولة انتحار في سجن نقرة سلمان سنة ‪.1964‬‬ ‫في»المقامة الالمية»‪.‬‬
‫ومنذ سنة ‪ 2005‬تعرضت إلى تجربة «الموت» أكثر من مرة‪ ،‬كنت‬
‫الالمي‪ :‬نعم‪ ،‬هذه التقاطة حصيفة منك‪ ،‬عشت مع الموت أتداوى بعشب وصفه طبيب عربي‪-‬أميركي‪ ،‬أدى إلى دخولي‬
‫علميا «الموت الطبي» وبعد‬ ‫ً‬ ‫رديفين‪ ،‬وخصمين‪ ،‬ثم صديقين‪ .‬في طفولتي‪ ،‬كما في شبابي في حالة «الوعي»‪ ،‬وهو ما يسمى‬
‫وكهولتي‪ ،‬وها هو معي اآلن في شيخوختي حيث سقمي‪ ،‬الذي عملية إنعاش بوسائل طبية‪ ،‬عدت إلى «الحياة» من جديد‪.‬‬
‫«كلي البياض»‪ .‬كانت والدتي تقول‬ ‫ّ‬ ‫نهاية حياتي‪ ،‬كما قال لي الطبيب الذي يعالجني من مرض في طفولتي‪ ،‬كان لنا جار‬
‫ً‬
‫تم دفنه باعتباره ميتا‪ ،‬كان‬ ‫السكري الوبيل وتجلياته المدمرة التي ليس آخرها مرض‪  ‬لي «هذا خرج من قبره» بعد أن ّ‬
‫أي أحد‪ ،‬إن أمي قالت لي «إنه يصرخ‬ ‫الرجل ال يتحدث إلى ّ‬ ‫الفشل الكلوي‪.‬‬
‫«منكرا ونكيرا»ً‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫في طفولتي كانت «األمراض المستوطنة» ومنها مرض في الليل فقط مثل جمل نحر للتوّ » ألنه يرى‬
‫ويتذكر عذاب القبر‪.‬‬ ‫ً‬
‫مرافقا لي‪ ،‬ولم‬ ‫الديزانتري ُّ‬
‫(الزحار)‬
‫في تجاربي مع «الموت» ال أتذكر شيئاً‬ ‫أتخلص منهُ إال بعملية «وشم» ال تزال‬
‫ً‬
‫محددا ألنني لم أ َر شيئا ما‪ .‬فقط‪،‬‬ ‫ً‬ ‫آثارها على أجزاء من جسمي‪ .‬وفي‬
‫استيقظت من «نوم عميق» على‬ ‫شبابي رافقني مرض «إدمان الكحول‬
‫أصوات موسيقية رائقة‪ .‬وال أدري هل‬ ‫والتدخين» الذي برئت منه بقرار‬
‫كان هذا االستيقاظ هو عودتي إلى‬
‫دافعي‬ ‫الموت‪،‬‬ ‫مشكلة‬ ‫شخصي‪ .‬واآلن فإن «الصديق القاتل»‬
‫حياتي‪،‬أو دخولي في حياة جديدة‪.‬‬ ‫ولخلق‬ ‫للكتابة‪،‬‬ ‫األقوى‬ ‫أي مرض السكري‪ ،‬الذي تعاملت معه‬
‫ال أدري‪ .‬صدقني‪ ،‬ال أدري‪.‬‬ ‫نمطي في الحياة‪ .‬في‬ ‫على أن»ال بدّ من صداقته»‪.‬‬
‫ومع هذه األدواء‪ ،‬كانت مشكلة الموت‪،‬‬
‫الكتابة كنت أحاول اإلجابة‬
‫الجديد‪ :‬ولكنك مؤمن بالله؟»‪.‬‬ ‫دافعي األقوى للكتابة‪ ،‬ولخلق نمطي‬
‫على مسائل الحياة‪ ،‬وفي‬ ‫في الحياة‪ .‬في الكتابة كنت أحاول‬
‫الالمي‪ :‬نعم‪ ،‬أنا مؤمن بالله‪.‬‬ ‫من‬ ‫المزيد‬ ‫أطلق‬ ‫كنت‬ ‫الحياة‬ ‫اإلجابة على مسائل الحياة‪ ،‬وفي‬
‫الحياة كنت أطلق المزيد من األسئلة األسئلة على «ما بعد الحياة»‬
‫الجديد‪ :‬ماذا تريد من الله؟‬ ‫على «ما بعد الحياة» أي على الموت‪.‬‬
‫أي على الموت‬
‫عمر إبراهيم‬

‫وبين هذه وذاك كنت أخلق صحفي‪،‬‬


‫أ‬
‫الالمي‪� :‬ريد أن أراه‪.‬‬ ‫وكان الموت يجيد دوره‪ ،‬فيقترب‬
‫ً‬
‫خاصا بي‪،‬‬ ‫ً‬
‫وضعا‬ ‫ولكن‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫كثيرا‪،‬‬ ‫منّي‬
‫أجرى الحوار في الشارقة‪-‬اإلمارات‪:‬‬ ‫كان يتوقف عند مفترق حاسم‪.‬‬
‫شاكر نوري‬

‫‪127‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪126‬‬


‫قص‬

‫حانة عقد التوراة‬

‫حسني جمعان‬
‫جمعة الالمي‬

‫ذروات النخيل ذات الجذوع السود‪ ،‬ولم تعد ذكور الضفادع‬ ‫سديم‬
‫ٍ‬ ‫لثيري‪ ،‬بين‬‫فاردا أجنحتي األربعة البيض‪ ،‬فوق جسدي ا ًأ‬ ‫ً‬
‫تي‬ ‫تنق فوق سطح المياه الخضر في البرك البعيدة على ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫هابطا‬ ‫كرسي القدرة‪،‬‬ ‫ً‬
‫صاعدا إلى حيث‬ ‫وعماء‪ ،‬فوق سماء وماء‪،‬‬
‫ضف ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫السكرى‪ ،‬إذ لم‬ ‫أي تغريد للعنادل ّ‬ ‫َ‬
‫النهر الكبير‪ ،‬ولم نعُ دْ نسمع ّ‬ ‫على خشبتي ومعي ياقوتة العرش‪ ،‬إلى ياقوتتي الحمراء‪،‬‬
‫بقية من شجرة تين‬ ‫يَ ْب َق في قريتنا المظلومة والظالم أهلها‪ّ ،‬‬ ‫تنانين السموات‬
‫ُ‬ ‫تطاردني مسوخ الكائنات الُأولى‪ ،‬وتحاصرني‬
‫أو غصن من كرمة‪ .‬إنها القارعة‪ :‬أهكذا أكلت المدينة نفسها‬ ‫قاصدا مبتغاي األخير‪ ،‬حيث زهرة عمري في‬ ‫ً‬ ‫السبع الطباق‪،‬‬
‫وأبناءها وتاريخها وفنونها وآدابها‪ ،‬بعد أن صارت أبراج مكاتب‬ ‫حانة عقد التوراة‪ ،‬في مدينة المالئكة والشياطين والمردة‬
‫الد أو‬ ‫غاز أو ج ّ‬ ‫ً‬ ‫منطويا على قلب من ياقوت أحمر‪ ،‬وروح مخلوقة‬ ‫ً‬ ‫والبشر‪،‬‬
‫وزرائب مطايا وسباعا مستأنسة لدكتاتور أو ٍ‬
‫مقامر أو محدث نعمة أو تاجر حرب؟! الكرخاء مستوطنة‬ ‫على عين صاحبها‪.‬‬
‫الكرخاء رمل وأشالء أشباح‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫جدد‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫جديدة لمستوطنين‬ ‫‪ ‬‬
‫‪ ‬الرمل في فراغ‪ .‬الفراغ في كأس‪ .‬الكأس في قارورة‪ .‬القارورة‬ ‫هنا‪ ،‬أيتها الكرخاء‪ ،‬منال عمري‪.‬‬
‫عَ ماء تصطخب بين جنباته كائنات ال ُترى بالعين المجردة‬ ‫خربها أهلها‪ ،‬حلمي غير محدود النهايات‪.‬‬‫هنا‪ ،‬أيتها المدينة التي ّ‬
‫وحيتان عمالقة وزواحف بأجنحة من حديد ورؤوس بشرية‪،‬‬ ‫هنا‪ ،‬يا واحة األشواق‪،‬‬
‫وثالثة من سالالت القوى الكونية العمياء‪ ،‬تتعارك بسيوف‬ ‫الله واإلنسان‪ ،‬وصورتهما‪:‬‬
‫و�نوفها‬ ‫وبلطات ورماح ومُ دى ونيران تنطلق من أفواهها أ‬ ‫البريئة والمُ دانة‪،‬‬
‫و�دبارها‪ ،‬وتتكلم بلغات ال ِقبل لبني قومنا بها‪ ،‬وال يشبهها سوى‬ ‫أ‬ ‫العاشقة والناسكة‪،‬‬
‫هذا الغبار الكرخائي األصفرالثقيل الذي يخترق كل َمسامة في‬ ‫الميتة والخالدة‪،‬‬
‫أي يوم من أيام تاريخها السحيق‪،‬‬ ‫ْجل عنها في ّ‬ ‫ّ‬
‫المتولي‪.‬‬ ‫سالمة‬
‫جسدها‪ ،‬ولم ين ِ‬
‫قلت لمنعم‪.‬‬‫فالنا مبدع»‪ُ .‬‬‫ً‬ ‫إن‬ ‫ً‬
‫عميقا من سيكارته‬ ‫ً‬
‫نفسا‬ ‫نادر من منعم الخسران‪ ،‬بعد أن سحب‬ ‫حتى صار أهلها وسكانها أشالء من غبار‪ ،‬رأيتهم في كابوس من‬ ‫‪ ‬‬
‫رأيت رامبو يتفكّر في حديثي مع الخسران فقلت «عزيزي‬ ‫كفيه حين كنّا في حانة عقد‬ ‫التي يبرم ورقتها‪ ،‬عادة‪ ،‬بأصابع ّ‬ ‫كوابيسي التي ما انفكّت تحاصرني آناء الليل وأطراف النهار‬ ‫***‬
‫ألي نشاط إنساني‪ ،‬يتضمن ما كنت‬ ‫أي تعريف مسبق ّ‬ ‫رامبو‪ّ ،‬‬ ‫التوراة‪.‬‬ ‫ً‬
‫وركبانا نحو‬ ‫فج عميق‪ ،‬بقايا أشباح راجلين‬ ‫ينسلون من كل ٍّ‬ ‫الكرخاء رمل‪.‬‬
‫أ�سميه‪ :‬نهج دكتاتورية الخط الواحد في الحياة والفن‪ ،‬هو‬ ‫‪« ‬أنت تجيب على سؤال مهم في نصوصك يا رامبو»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بيوتنا الغبراء بعد أن صارت غبارا خالصا‪ ،‬بيوت ال تصاوير فيها‬ ‫… وال تزال القرية تستدير على نفسها منذ الحقب التي تلت‬
‫ً‬
‫تماما»‪.‬‬ ‫العفن‬ ‫«ما هو؟»‪.‬‬ ‫سوى الصورة الوحيدة المنسوخة للرجل الغامض الذي يسكن‬ ‫تكوّ ن العَ ماء‪ ،‬عندما أ�فاضت الياقوتة الحمراء على نفسها‪،‬‬
‫«هذا صحيح‪ .‬أنا أدعو‪  ‬إلى تحطيم األوثان في الشعر واألدب‬ ‫«ما هو الشعر؟‪ .‬بل قل‪ :‬ما هو الفن؟»‪ .‬قال منعم الخسران‪،‬‬ ‫مكان ما في البرج ذي الطوابق المئة خلف السور الصلد‬ ‫ٍ‬ ‫في‬ ‫أصلة جنة‬ ‫فخلقت العقل‪ ،‬وهي اآلن تلتوي على نفسها مثل َ‬
‫والحياة»‪.‬‬ ‫مبلورا بقية سؤاله «هل كنت على ّبينة من هذا من‬‫ً‬ ‫ومضى‬ ‫الترابي‬ ‫والمرتفع مثل سيف بثالثة أشداق‪ ،‬مع جنده بزيّ هم‬ ‫آدم‪ ،‬حتى يوم الناس هذا‪ .‬ومع هذا الدوران السادر في عطن‬
‫ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فضيا صغيرا من عُ ّبه‪ ،‬والتقط من‬‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫أخرج منعم الخسران‪ُ ،‬حقا‬ ‫قبل؟»‪.‬‬ ‫الواحد‪ ،‬وحرسه الخاص من أولئك األغراب بسحناتهم الغريبة‬ ‫الصالل وقراءة المراثي المستعادة من جوف‬ ‫اإلبل وعراك ِّ‬
‫ّ‬
‫داخله شعيرات دقيقة بإبهام كفه اليمنى وس ّبابتها‪ ،‬شعيرات‬ ‫‪« ‬ال أتذكر أنني فكرت على هذا المنوال»‪.‬‬ ‫تماما عن أهل الكرخاء األصليين‪ ،‬وأرديتهم الخضر المُ موّ هة‬ ‫ً‬ ‫أ‬ ‫ُ‬
‫بكائيات الدهور الخالدة‪ ،‬نشرت الجثامين من �رماسها‪ ،‬وانتشر‬
‫الفن‬
‫شقراء دقيقة وضعها في كأسه وقال «اسمع عزيزي رامبو‪ّ ،‬‬ ‫ألي‬
‫«الفن هو الحياة والطبيعة‪ .‬والحياة والطبيعة ال تخضعان ّ‬ ‫التي ال يشبهها سوى ذروق الطيور المنتشر على أفاريز حيطان‬ ‫النمل األحمر على جدرانها وفوق تاللها وبين فجوات صخورها‪،‬‬
‫يسمى فن ًّا إالّ إذا كان مفعوله في روح اإلنسان مثل مفعول‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫تعريف مسبق»‪.‬‬ ‫المساجد وذروات المعابد‪ .‬والكرخاء مساجد وصوامع ال يذكر‬ ‫وظهرت خيولها وحميرها وبغالها تتبوّ ل على أفخاذها الهزيلة‬
‫ّ‬
‫الحق‪.‬‬ ‫هذا»‪ ،‬وأشار إلى باطن‬ ‫الفن مثل الطبيعة‪ ،‬يرفض النظريات»‪.‬‬
‫«نعم‪ّ .‬‬ ‫اسم الله بين جنباتها‪ ،‬وسجون وثكنات ومكتبات وشوارع‬ ‫فتبين للعابرين أنهارها والمختفين في جحور‬ ‫ّ‬ ‫الكسيحة‪،‬‬
‫«األفيون» قال رامبو‪.‬‬ ‫«الفن هو الطبيعة»‪.‬‬ ‫وخمارات ونواد ونقابات وأحزاب كلها من غبار‪ ،‬أنهار‬ ‫ّ‬ ‫ومتاحف‬ ‫أي وبال َح ّط على أسطح البيوت وشواهد‬ ‫وديانها وجبالها‪َّ ،‬‬
‫«الدخول في مناطق غير مكتشفة في روح اإلنسان وجسده»‪.‬‬ ‫ّ‬
‫«وكذلك الشعراء والكتّ اب والرسامون والنحاتون والنفاجون‬ ‫وسواق وبطائح ومستنقعات‪ ،‬هي رمل في غبار‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وجداول‬ ‫غطى الجدب منابت النخيل‪ ،‬وساح‬ ‫القبور وعيون اآلبار‪ ،‬حتى ّ‬
‫«الفن غايتي»‪.‬‬ ‫وبقية طوائف الفنانين‪ .‬إذا كنت تريد قتل الفنان فافرض عليه‬ ‫‪ ‬هذه هي الكرخاء كما وصفها رامبو في كتابه الشعري األول‬ ‫ّ‬
‫بخة على ما تبقى من القيعان‬ ‫الس َ‬
‫الحصراء َ‬ ‫نزيف األرض َ‬ ‫ُ‬
‫« قل ما تشاء‪ .‬اغتمار المجهول هو الطريق إلى الفردوس»‪.‬‬ ‫أي نظرية‪ .‬الفنان صانع قدير‪ .‬وهذا وحده يكفي للقول‬ ‫نظرية‪ّ .‬‬ ‫تقريض‬‫ٍ‬ ‫ب أن حاز على‬ ‫الذي حمل عنوان «قرية من رمل»‪ ،‬عَ ِق َ‬ ‫وفرت طيور الفاخت من‬ ‫ّ‬ ‫المكشوفة لتلك األنهار المندرسة‪،‬‬

‫‪129‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪128‬‬


‫قص‬

‫تنّورتها القصيرة إلى دائرة زرقاء‪ ،‬يظهر منها فخذان ص ّبا كأنهما‬ ‫سنة بعد أن نجونا من القتل في جبال مدينة «إربد» الُأردنية‪:‬‬ ‫وأدبها الرفيع والمتعالي‪ ،‬في كل حركة من جسدها أو في‬ ‫كان كنعان الشاطري ينشر مقاالت أدبية قصيرة في جرائد‬
‫بشري‪ ،‬بين مساقط أضواء‬ ‫ِّ‬ ‫عمودا رخام صاف لم َتدُ ْسه قدم‬ ‫تعبا‪.‬تعال نرجع إلى فراغنا المثير‪.‬تعال معي إلى الكرخاء‪.‬‬ ‫كفانا ً‬ ‫نظراتها‪ ،‬في صخبها الصموت وصمتها الصاخب‪.‬‬ ‫الحكومة‪ ،‬ذات مضامين مبهمة بأسلوب غامض‪ .‬وقد وصفه‬
‫ّ‬
‫قوس قزح‪ ،‬في فضاء يتنفس عطر جسدها الذي بلله نثار‬ ‫«الكرخاء هي الشذوذ بعينين ورأس ونفس وقلب»‪.‬‬ ‫تضج بصمتها»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫«أنت موسيقى‬ ‫ِ‬ ‫إبراهيم الملحد عندما غادرنا معتقل «القصر الملكي» بأنه‬
‫تغطي جسدينا‬ ‫من العرق الفرات‪ .‬ثم انغمرنا في ُقبلة طويلة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫سر هذا العدد الكبير من الشاذين‬ ‫«كما تقول‪ ،‬منيف‪ .‬وهذا هو ّ‬ ‫«أنت تتكلم عن بيتهوفن‪ .‬أليس كذلك؟»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫غباء‪ .‬لم أتعاطف مع رأي الملحد‪،‬‬
‫ً‬ ‫«مترجم فاشل لنصوص أكثر‬
‫األوراق األولى لشجرة الحياة‪ ،‬ونغرق في رحيق عشب‬ ‫ُ‬ ‫فيها على امتداد تاريخها»‪.‬‬ ‫«أنت التي أعنيها اآلن»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وال مع تعليق نادر أطلقه موفق الساحر‪ ،‬إن فكر رامبو الشاطري‬
‫مهروس‪ ،‬ورائحة طين أسود يلتصق بجسدينا العاريين‪.‬‬ ‫كان جسدها يضحك كله في تلك اللحظات‪ ،‬حتى كادت تقع‬ ‫هيأت نفسي ألكون جديرة بحياتي»‪.‬‬ ‫أ‬
‫«أنا �نثى ّ‬ ‫أحد أسباب هزائمنا في حروب الكرخاء»‪ .‬كان هذا التعليق‬
‫تدوخني»‪.‬‬
‫«رائحة العشب المهروس‪ .‬آآآه‪ .‬إنها ّ‬ ‫على ظهرها لوال جدار الحانة الذي أنس إلى حرارة جسدها‪،‬‬ ‫أشرقت ضحكتها الساحرة في الفضاء األزرق الشفيف‪ ،‬وختمت‬ ‫كثيرا بعد أن عاشرت الساحر بما يكفي ألنه كان‬ ‫ً‬ ‫يعني لي‬
‫متأوهة «عندما تضع كفيك‬ ‫ّ‬ ‫تنفست سارة بعمق‪ ،‬ثم همست‬ ‫«الشذوذ الفلسفي»‪.‬‬ ‫ً‬
‫ايضا»‪.‬‬ ‫غامزة‪« :‬وجديرة باالستعمال‬ ‫يربط رأيه بهذا أو ذاك بقدر ميله الجنسي إليه من عدمه‪ .‬ولكنه‬
‫خاصرتي أشعر أنني أحترق»‪ .‬والتصق جسدانا ونحن ننزل‬ ‫على‬ ‫«أي عبث فلسفي هذا الضجر‬ ‫‪ ‬وقالت بعد برهة من الصمت ّ‬ ‫أنت الجنة»‪.‬‬ ‫ً‬
‫بعيدا عن أ� ّي جنة‪ِ .‬‬ ‫أنت حواء‬ ‫« ِ‬ ‫َ‬
‫محضا في أحكامه‪ ،‬وربما هذا هو الذي جعله‬ ‫ً‬
‫ذاتيا‬ ‫ً‬
‫‪-‬غالبا‪-‬‬ ‫يكون‬
‫َّ‬
‫ً‬
‫من شرفات األرض سراعا نحو الغياب الفردوسي الكامل‪ .‬وكان‬ ‫اإللهي يا منيف؟»‪.‬‬ ‫أبعد الخسران نظارته الطبية عن عينيه‪ ،‬فظهر عَ َمصهُ التام‪،‬‬ ‫ساحرا في أناشيده‪.‬‬ ‫ً‬
‫رخ حمام خرج للتوّ من بركة ماء‬ ‫َ‬ ‫«ربما هو أساس الخلق‪ .‬نعم إنني أعني ما أقول»‪.‬‬ ‫مجة رابعة من‬ ‫ومج ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ثانيا من سيكارته‪،‬‬ ‫ً‬
‫عميقا‬ ‫ً‬
‫نفسا‬ ‫ثم سحب‬ ‫أنق ُط َمح ًبة»‪.‬‬ ‫« أنا ُ‬
‫جسدي ال يزال يرتجف مثل َف ِ‬
‫دافئة وصغيرة بعد ظهيرة شتوية ماطرة في كرخائنا العزيزة‪.‬‬ ‫كثيرا‪ ،‬وفي كل شيء»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫«منيف‪ ،‬أنت مُ ترف‬ ‫كأسه‪ ،‬واستمر يتأمل في سارة‪ ،‬كما يتأمل صابئي ماهر في‬ ‫« محبة أم جنس؟»‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬لماذا يحدث هذا لي مع سارة فقط؟‬ ‫أي شيء سوى أسئلتي»‪.‬‬ ‫«ال يشغلني هذا قط‪ .‬ال يشغلني ّ‬ ‫ً‬
‫معبودا‬ ‫كله‪ ،‬وخاطب‬ ‫َخ ْشل يعود لسيدة سومرية هي التاريخ ّ‬ ‫«ماذا تقول أنت؟»‪.‬‬
‫ٍ‬
‫‪ ‬‬ ‫«ستاليني يسأل؟ هذا عجيب!»‪.‬‬ ‫ال يراه أ�حد سواه‪:‬‬ ‫جنسي صارخ»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫«أنت نشيد‬
‫***‬ ‫«أنا أحترم ماركس‪.‬أنا أبحث في شأن مسألة الوعي والمصير‬ ‫أحسنت َخلقا أيها الفنّان المبدع»‪.‬‬
‫َ‬ ‫«أحسنت‪.‬‬ ‫حب خارج الجنس؟»‪.‬‬ ‫«وهل يوجد ٌّ‬
‫ً‬
‫وشابا كان ينادي عليه‬ ‫التقيت موفق الساحر‬ ‫ُ‬ ‫في مقهى غيفارا‬ ‫اإلنسانيين‪ .‬المسيح وقيصر‪ .‬محمد وماركس»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ ‬وسارة المتولي امرأة ال تشبه سوى سارة المتولي ذاتها (كتبت‬ ‫‪ ‬‬
‫الساحر باسم رامبو‪،‬ألنه كان كثير الشبه بالشاعر الفرنسي‬ ‫ً‬
‫«ماركس لم يكن حتى ماركسيا؟»‪ .‬وطوّ حت بشالها األبيض‬ ‫في مذكراتي ذات لحظة)‪ ،‬إنها تريد أن تصنع قدرها بنفسها‬ ‫ً‬
‫وعندما استقر المقام بكنعان الشاطري أخيرا في «عرصة‬
‫األشهر‪ ،‬حتى نسي كثيرون بعد ذلك اسمه األول وكنيته‬ ‫تشق غمار ديجور كحلي هائج‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فبدت كأنها سفينة‬ ‫أي عالقة‬‫تصر على أن تنفي ّ‬ ‫ُّ‬ ‫وتقوده إلى نهاياته‪ ،‬كما لو أنها‬ ‫السوامرة» بالمدينة‪ ،‬اعتكف في سكيك المكتبات حتى ّلقبناه‬
‫سعيدا باسمه الجديد إلى درجة‬ ‫ً‬ ‫العائلية‪ .‬وكان كنعان الشاطري‬ ‫«ومحمد؟»‪.‬‬ ‫لها بما هو خارج روحها وجسدها‪ .‬كانت تبدو لي كأنها تحوّ ل‬ ‫بـ»دودة كتب»‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫االفتخار‪ ،‬حتى أنه لم‪  ‬يعد يعير بال لمن ينادي عليه باسمه‬ ‫«أفضل من أعاد تنظم السلوك الجنسي في المجتمع المكّي كما‬ ‫ّ‬ ‫ثم تتع ّبده‪ ،‬وهي في جدل ال ينتهي مع نفسها‪،‬‬ ‫اإلنسان إلى إله‪ّ ،‬‬ ‫« أنا مسرور لهذا الوصف»‪.‬‬
‫القانوني‪ .‬أشار إليه الساحر‪:‬‬ ‫قال تروتسكي»‪.‬‬ ‫قصية وبعيدة المنال‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أو في حلم عميق‪ ،‬أو مسافرة في عوالم‬ ‫حقا؟‪ .‬لماذا؟»‪ .‬سأله الساحر‪.‬‬ ‫« ً‬
‫‪« ‬هذا هو رامبو الكرخاء»‪.‬‬ ‫ّ‬
‫كنا نمشي خفيفين على درب ازدحم باألوراق الصفر بين صفين‬ ‫وفي تلك األثناء كانت تعيد طرح سؤالها األثير «منيف‪ ،‬ما‬ ‫«ألنه يعفيني من الجواب على كثير من تعليقاتكم»‪.‬‬
‫‪ ‬ولم أسال الساحر عن الرديف الكرخائي لرامبو الكرخائي‪.‬‬ ‫والرمان في طريقنا إلى «حانة‬ ‫ّ‬ ‫من أشجار البرتقال والنارنج‬ ‫معنى هذا كله؟»‪.‬‬ ‫سببا يقنعه بهزيمة الكرخاء أمام الغزاة الخارجيين‬ ‫ً‬ ‫ولما لم يجد‬‫ّ‬
‫ً‬
‫وحشا على‬ ‫وحين قلت له إنني ال أشك في أن «فيرلين» كان‬ ‫غيفارا»‪  ‬فوق رابية تكاد تسقط على المحيط األخضر الفسيح‪.‬‬ ‫«يبدو لي أنَّ معناه‪ ،‬في هذا السؤال ذاته»‪.‬‬ ‫واالنقالبيين الداخليين على سؤاله القصير (لماذا خسرنا‬
‫ً‬
‫إلي الساحر معاتبا وقال‬‫غرار «دياكلييف» مع «نجنسكي»‪ ،‬نظر ّ‬ ‫وكان ذلك األصيل أحد منحنيات شعوري بأن سارة تكون امرأة‬ ‫وقربت شفتيها الفاتنتين إلى كأسها فكشف ضوء الحانة القسم‬ ‫ّ‬ ‫الحرب؟)‪ ،‬أخذ ينشر تلك المقاالت القصيرة في تلك الصحف‬
‫ً‬
‫وحشا مفترسا‪ ،‬والوحش عنده‬ ‫ً‬ ‫إن ذلك الثري الروسي كان‬ ‫مكتفية بذاتها في تلك اللحظة التي تشتعل رغباتها في أن‬ ‫النافر من ثدييها الناضجتين‪ ،‬وانتثرت خصلة من شعرها‬ ‫محرروها فقط) على وفق رأي الساحر‪ .‬لكنه خرج‬ ‫ّ‬ ‫(التي يقرؤها‬
‫غريزة االمتالك والقتل فقط‪ .‬الوحش ال يعرف الحب‪.‬‬ ‫جزءا من حركة الطبيعة‪ ،‬سواء كانت منفردة مع نفسها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تكون‬ ‫األسود على جبينها الذي أشرق وسط العتمة الزرقاء بخيوط‬ ‫بنص قصير نشره في صحيفة «الوحدة» عنوانه‬ ‫علينا ذات يوم ّ‬
‫«احتالل جسد إنسان آخر ليس ً‬
‫حبا»‪.‬‬ ‫ال تح ّبه كرما غير ذي حدود من روحها وجسدها‬ ‫ً‬ ‫أو تمنح رج ً‬ ‫قصية مفتوحة الضلفتين في مركز‬ ‫ّ‬ ‫بيض فبانت مثل نافذة‬ ‫(وحدتي تحاور رامبو)‪ ،‬ما دعا موفق الساحر إلى أن يدعوه‬
‫الحب‪ ،‬منيف»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫«أنا أتكلم في‬ ‫بجوار نخلة مذبوحة في بستان مهجور‪ ،‬أو في حوار فكري‬ ‫غالالت من ثلج وغبار وبساتين بعيدة‪ ،‬عندما ينفرز الخيط‬ ‫ً‬
‫مغرما بسلوك «رامبو» وحياته الخاصة‪،‬‬ ‫بـ(رامبو)‪ .‬كان الساحر‬
‫«ربما أنت تتحدث عن الحب األبيض؟»‪.‬‬ ‫عميق مع صديق‪ ،‬أو حتى في خلوة مع جلعوط البغدادي‪.‬‬ ‫األبيض عن الخيط األسود‪.‬‬ ‫كثيرا في أنه اختار سلوك «فيرلين» وحياته مع‬ ‫ً‬ ‫أشك‬
‫ّ‬ ‫لكنني‬
‫محق ًا»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫«أتمنى أن تكون‬ ‫«كل حركة من جسدي جزء من حركة الطبيعة»‪.‬‬ ‫«كلما قلت إنني أعرف‪ ،‬أكتشف أنني ال أعرف‪ .‬يا لخساراتك يا‬ ‫كنعان الشاطري‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫«أتؤمن بالحب األبيض حقا؟»‪.‬‬ ‫«هكذا؟ هذه هي الموسيقى»‪.‬‬ ‫سارة»‪.‬‬ ‫‪  ‬‬
‫«بل أتبنّاه»‪.‬‬ ‫«ال حركة نشاز عندي‪ .‬إنني أخشى على الوجود من االنفجار‪،‬‬ ‫« يا لك من سعيدة‪ .‬هذه هي المعرفة»‪.‬‬ ‫***‬
‫«هذا ما رايتك عليه في السجن»‪.‬‬ ‫إذا ما صدرت منّي حركة معاكسة لقوانين الطبيعة الَأزلية»‪.‬‬ ‫ال مع روحي حول مفهومي‬ ‫ً‬
‫حديثا طوي ً‬ ‫علي سارة‬ ‫أعادت‬ ‫…‪ .‬وعندما كان رامبو يقرأ علينا‪ ‬في حانة عقد التوراة قصيدته‬
‫ّ‬
‫«الحب في السجن معادل للحرية»‪.‬‬ ‫تحدثت مع البغدادي بمثل هذه األفكار؟»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫«هل‬ ‫أ‬
‫للخسارة حين قلت لها «خسارة الروح هي �مّ الخسارات»‪ .‬ثم‬ ‫ّ‬
‫المتولي واقفة وهتفت‬ ‫الطويلة «امرأة الرمل»‪ ،‬ه ّبت سارة‬
‫«الحب أ�م االشتهاء؟»‪.‬‬ ‫«جلعوط غريزة فقط»‪.‬‬ ‫ال وقلت‪:‬‬ ‫ثت قلي ً‬ ‫تريّ ُ‬ ‫«نخب الفن والشعر والجمال والحرية‪ .‬نخب الفوضى»‪ .‬وعند‬
‫«االثنان»‪.‬‬ ‫«هكذا يعتقد الساحر أيضا»‪.‬‬ ‫‪« ‬سارة‪ ،‬ربما تكون خسارة الناس نعمة ضخمة»‪.‬‬ ‫الرواد وقد‬
‫ذلك ساد الصمت في قلب الحانة‪ ،‬وشاهدت دهشة ّ‬
‫خطط له ولم أسعَ إليه‪.‬‬ ‫أ‬ ‫ً‬
‫وكانت تلك اللحظة الفريدة موعدا لم � ّ‬ ‫«أووه‪ ،‬إنهما صنوان في أمور أخرى»‪.‬‬ ‫«أنت مسيحي؟»‪.‬‬ ‫أخذتهم كلماتها‪ .‬كانوا صامتين كأنهم في مقبرة «وادي السالم»‬
‫المطل على الساحل األخضر‬ ‫ّ‬ ‫لكنه واجهني في بطن المقهى‬ ‫«الغالمة»‪.‬‬‫‪ ‬وأكملت غامزة ُ‬ ‫«جدي األول مسيحي»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫دائما‪ :‬امرأة‬ ‫في ظهيرة يوم في شهر تموز‪ ،‬وهكذا هي سارة‬
‫بمدينة الجزائر‪.‬‬ ‫كنّا نسير كأ ّننا نطير فوق بساط األوراق الصفر‪ ،‬وكانت سارة‬ ‫«وجدتي لُأ ّمي يهوديّ ة»‪.‬‬ ‫التصرفات الالمتوقعة والمفاجآت والشذوذ‪ ،‬إنها الكرخاء التي‬
‫جدا في هذا اليوم»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫«أنا سعيد‬ ‫ودقة مذهلتين‪ ،‬فتتحول حافة‬ ‫ّ‬ ‫تؤدي حركات راقصة بسرعة‬ ‫وكانت قالت لي حين كنّا عائدين إلى الكرخاء من بيروت ذات‬ ‫ّ‬
‫المتولي وروحها‪ ،‬في ّ‬
‫تبذلها المستهتر‬ ‫رأيتها في جسد سارة‬

‫‪131‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪130‬‬


‫قص‬

‫حسني جمعان‬
‫وكان صدره يختفي عن العالم وراء قميص أ�صفر بلون الرز‬ ‫ً‬
‫متجها‬ ‫الحديدي في «قطار الموت» (الذي كان ينطلق من بغداد‬ ‫ال»‪.‬‬‫«وأنا محظوظ فع ً‬
‫العنبر قبيل حصاده‪ ،‬فوقه دشداشة بلون أ�سود‪ ،‬ال تشبه إالّ لون‬ ‫مارا ببابل والسماوة‪ ،‬حيث كنّا نغني أو‬ ‫ً‬ ‫نحو «نقرة السلمان»‬ ‫كانت المقهى التي يشبه بطنها جوف طائرة نقل بريد متقاعدة‬
‫دشاديش النساء الكرخائيات في الَأشهر الحرم‪ ،‬بعدها صايته‬ ‫نردد أناشيدنا‪ :‬كانت تلك الوسيلة المتاحة للمقاومة والتمسك‬ ‫تبدو صامتة تماما‪ ،‬بينما بقيت سارة المتولي صامتة كذلك‪،‬‬
‫الوبرية الصفراء‪ ،‬ثم عباءته الع ّباسية‪.‬‬ ‫بالحياة‪ ،‬بينما كان الُأوكسجين ينفذ تدريجيا في تلك العربات‬ ‫ترسل بصرها نحو أرضية المقهى المدهونة بزيت تنظيف‬
‫«مسعود‪ ،‬أ�رجوك»‪.‬‬ ‫تجرها عربة بخارية غاضبة‪ .‬في البدء دخلت‬ ‫ّ‬ ‫الحديدية التي‬ ‫يتحراها بعينيه‬
‫ّ‬ ‫تنبعث منه رائحة كحولية حادة‪ .‬وكان الساحر‬
‫شقت قميصها‬ ‫«لماذا؟ أ�نا امرأة معك‪ ،‬ورجل أ�مام اآلخرين»‪ .‬ثم َّ‬ ‫إلى زنازيننا‪ ،‬الفردية والمشتركة‪ ،‬مجموعات الحرس القومي‪،‬‬ ‫اللتين تشبهان عيني أ�نثى فهد تتابع فريستها ليال‪ً.‬‬
‫العنبري‪ ،‬ليبرز ثدياها العامران‪.‬‬ ‫و�مرونا بالتخلص من مالبسنا‪ ،‬سوى قطع مالبسنا الداخلية‪،‬‬ ‫أ‬ ‫‪« ‬أنا مسرور بكما يا منيف»‪.‬‬
‫ال غيرك»‪.‬‬ ‫«لم أ�عاشر رج ً‬ ‫و�يدينا مرفوعة نحو األعلى‪ .‬استمرت هذه‬ ‫والبقاء واقفين أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬
‫«هذه سارة‪ .‬سارة المتولي»‪� ،‬ومأت بكفي اليمنى نحو سارة‪.‬‬
‫واآلن‪ ،‬ونحن نعود إلى الكرخاء‪ ،‬أو نجلس في مقهى غير بعيد‬ ‫تماما منذ ما بعد منتصف الليل‬ ‫ً‬ ‫الحال نحو اثنتي عشرة ساعة‪،‬‬ ‫«أنا وسارة نعرف بعضنا»‪ ،‬قال الساحر‪« ،‬منذ زمن بعيد»‪،‬‬
‫تفردت عن غيرها في‬ ‫إلي صور حياتنا التي ّ‬ ‫أ‬ ‫مستمرا في مالحقتها بعينيه اللتين تشبهان بيضتي دجاجة‬ ‫ً‬
‫عن البحر‪ ،‬تعود ّ‬ ‫حتى الصباح التالي في ذلك النهار الحار والرطب‪ .‬شعرنا �ن‬
‫أوضاع ملتبسة ماضية‪ ،‬حيث اختلط هوى الشباب بالرأي‬ ‫جلودنا تقشرت عن لحم أ�جسامنا‪ ،‬ثم حشرونا في سيارات‬ ‫مسلوقتين لم يتم تقشيرهما بعناية‪.‬‬
‫الناضج‪ ،‬وتتداخل فيها اآلراء الجامحة بحكمة عمر النبوّ ة‪،‬‬ ‫أ�حمال كبيرة سارت بنا نحو محطة القطار‪ ،‬في كرخ الكرخاء‪،‬‬ ‫استمرت سارة في صمتها‪ ،‬تنظر إلى أرضية المقهى‪ ،‬بعد ذلك‬
‫فقالت سارة المتولي لو أن الملحد يحضر اآلن الكتملت فصوص‬ ‫حيث أ�دخلونا جميعا في تلك العربات الحديدية التي بال نوافذ‪،‬‬ ‫كرسي مقابل للساحر‪ ،‬وإلى يسارها جلس رامبو‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫جلست على‬
‫ً‬
‫الفتا النتباه مسعود ورامبو‪.‬‬ ‫المسبحة‪ .‬وكان ذلك‬ ‫تم إ�حكام إ�غالقها علينا‪،‬‬ ‫ً‬
‫جدا‪َّ ،‬‬ ‫اللهم إ�ال من أبواب حديدية صلبة‬ ‫«نعم‪ .‬نحن نعرف بعضنا»‪.‬‬
‫«أتعرفين إبراهيم يا سارة؟» سألها مسعود‪.‬‬ ‫فشعر كل واحد منا نحن الجنود الذين بلغ عددنا نحو مئتي‬ ‫«منذ زمن بعيد؟»‪.‬‬
‫«وغيره كذلك»‪ .‬ردَّ موفق كأنه يدلي بشهادة مؤكدة ونهائية‬ ‫ضابط وجندي‪ ،‬وقالوا لنا‪ :‬ال نريد أن نسمع من أ� ّي واحد منكم‪،‬‬ ‫«منذ زمن بعيد»‪ .‬ردت مبتسمة‪.‬‬
‫أمام هيئة محكمة غير منظورة‪.‬‬ ‫نحوه‪ ،‬بينما السجناء تحوّ لوا اآلن إلى كومة عواطف مركزة‪،‬‬ ‫أ� ّي كلمة احتجاج) لكننا لم نكن نملك سوى الَأناشيد وأغاني‬ ‫أفردت سارة سيكارة من علبتها بين أصابع كفها اليسرى‪.‬‬
‫لم أستغرب مالحظة الساحر‪ .‬كنا نحن الثالثة‪ :‬أنا وهو وسارة‬ ‫وأدع جسدي طوع صوت طبل سومري يأتي من أعماق معبد‬ ‫العشاق المفارقين‪ .‬لم يكن معنا سوى الفن‪.‬‬ ‫واستمر الساحر يالحقها بتلك النظرة التي ال تصدر سوى عن‬
‫ً‬
‫إماما‬ ‫نعرف إبراهيم الملحد‪ ،‬ذلك الروزخون عندما كان‬ ‫بعثت به الكرخاء إلى عاشق لم يبرأ من الحب ً‬
‫أبدا‪ ،‬ثم أسقط‬ ‫«بالفن نالعب الزمن»‪.‬‬ ‫ال‪.‬‬‫فهْ دَ ٍة تتربّص بطريدتها لي ً‬
‫للجماعة في مسجد بليدة «الميمونة»‪ ،‬بعد أن حاز على درجة‬ ‫علي‪.‬‬ ‫ًّ‬ ‫وبحركة رشيقة من يدها اليمنى‪ ،‬ع ّبرت سارة المتولي عن‬ ‫«ماذا تشربون ؟»‪ ،‬سأل الساحر هادئا‪ً.‬‬
‫مغشيا ّ‬
‫كله بفكرة‬ ‫«األستاذية» من حوزة كوفان‪ ،‬وقد امتأل كيانه ّ‬ ‫تلك كانت أجمل رسائل أبعث بها من السجن إلى روحي‪ ،‬حين‬ ‫تأييدها لفكرتي وقالت‪:‬‬ ‫وأكدت «عن نفسي فقط»‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫«عَ َرق» أجابت سارة‪،‬‬
‫تخليص العالم من البؤس والشقاء وصراع الطبقات‪ .‬بل إنه‬ ‫يتوجب أن أ�قاوم الجنون والخوف بالفن والشعر والصمت‬ ‫ّ‬ ‫كان‬ ‫‪« ‬الفن‪ .‬الخالص في الفن كما قال العجوز الروسي النبيل»‪.‬‬ ‫رفعت عينيها السوداوين الفاتنتين نحو موفق‪ ،‬وث ّبتت شعر‬
‫ً‬
‫واجبا‬ ‫تعم َم صار يشعر بثقل هذه الُأمنيات حتى صارت‬ ‫بعدما َّ‬ ‫والهذيان‪ .‬وكان موفق يعرف تمام المعرفة أنني نقيضه في‬ ‫«الرحمة لروح تولستوي العظيم»‪.‬‬ ‫سحرا جعله يرخي جسده‬ ‫ً‬ ‫رأسها خلف أ�ذنيها‪ ،‬وأرسلت إليه‬
‫ضميريّ ا ال يقدر على تبليغه إال من وهب روحه لله فقط‪.‬‬ ‫الحب والفن والبراءة‪ ،‬كان هو يمتهن جسده في حاالت من‬ ‫وتلك كانت ليلة من ليالي عمري التي ال يمكن وصفها بتفصيالتها‬ ‫ال‪ ،‬ثم كسرت سيكارتها من منتصفها وقدمت له نصفها‬ ‫ال قلي ً‬ ‫قلي ً‬
‫مت نفسي بنفسي»‪.‬‬ ‫أم ُ‬ ‫«أنا ّ‬ ‫الشبق الجسدي‪ ،‬بينما كنت أحافظ على جسدي بطهرانية‬ ‫أيضا مع موفق الساحر في‬ ‫ً‬ ‫الدقيقة أبدا‪ .‬وهكذا هي حياتي‬ ‫الثاني‪:‬‬
‫«له؟»‪.‬‬ ‫الكتابة والتمسك بحريتي الفردية‪ :‬هذا هو السجن‪ ،‬الحرية في‬ ‫السجن الصحراوي البعيد‪ :‬أغنية متصلة وساحرة‪ .‬أما بعد أن‬ ‫«موفق‪ ،‬يبدو أنك قد شخت؟»‪.‬‬
‫«له هو؟»‪.‬‬ ‫مفهومها األصيل‪،‬أن تتشوّ ه‪ ،‬أو ال تتشوّ ه‪ .‬تلك هي المسالة‪.‬‬ ‫فلزمت نهاية مفازة ال تبعدني عن منزله‬ ‫ُ‬ ‫تقاربت بنا الديار‪،‬‬ ‫إلي بابتسامة مصنوعة بعناية من دون أن يطلب من سارة‬ ‫نظر َّ‬
‫«نعم‪ ،‬له هو‪ ،‬ال لغيره»‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫سوى فراسخ معدودة‪ ،‬بعد أن شاخ جسده‪ ،‬وخمدت قواه‪ ،‬ولم‬ ‫ً‬
‫نارا لنصف السيكارة‪ ،‬وسألني‪:‬‬ ‫ً‬
‫كان شغله الشاغل اكتشاف وسيلته الخاصة لتغيير العالم في‬ ‫***‬ ‫تقشرا‬‫يبق منه غير عينين مثل بيضتي دجاجة مسلوقتين لم ّ‬ ‫«وأنت‪ ،‬ماذا تقول؟»‪.‬‬
‫الكرخاء‪ ،‬فقال لي بثقة ذات يوم إن الهور الجنوبي‪ ،‬وليس‬ ‫‪ ‬‬ ‫ً‬
‫وعنفا‪.‬‬ ‫بعناية‪ ،‬تتّ قدان شهوة‬ ‫«إنه الزمن يا موفق»‪.‬‬
‫أي فكرة ثورية جديدة بالكرخاء»‪.‬‬ ‫البلدة‪ ،‬أفضل بيئة الختبار ّ‬ ‫‪ … ‬وكان ذلك المساء مفعما بالفرح والسعادة‪ ،‬والدموع أيضا‪ً.‬‬ ‫كان موفق الساحر يمنح نفسه امتيازات متواضعة‪ ،‬لكنه‬ ‫ً‬
‫« نعم‪ .‬هذا الجبار العنيد الذي ال يعرف صديقا»‪ .‬قالت سارة‬
‫«لماذا؟»‪.‬‬ ‫تذكّر كل واحد منّا تاريخه الشخصي والرفقة التي ربطت فيما‬ ‫يحسبها مستويات خاصة به في نظرته إلى نفسه‪ ،‬ال سيما في‬ ‫المتولي‪.‬‬
‫«ليس عندنا قرى مثل المدن البريطانية‪ ،‬أو حتى المصرية»‪ .‬ثم‬ ‫بيننا وكأنها العملية األولى في التاريخ التي شهدت هذه التوأمة‬ ‫تلك األمسيات الصائفة أو الباردة في باحة سجن نقرة السلمان‬ ‫«ولكنني ال أزال �غني‪ .‬أال يكفي الغناء للوقوف بوجه هذا‬ ‫أ‬
‫ال‪:‬‬‫تراجع إلى الخلف قلي ً‬ ‫أيضا‪ .‬ولم تكن جرائري‪،‬‬ ‫ً‬ ‫في األفكار واآلمال والمصائر‪ ،‬والجرائر‬ ‫الصحراوي‪ :‬يتناول كسرات من رغيف بارد من شعير كرخائي‬ ‫الجبار؟»‪ .‬ثم قال بعد برهة قصيرة‪ ‬كأنه يتحدث إلى كائن آخر‪:‬‬
‫«ليس عندنا طبقة بورجوازية‪ .‬البورجوازية صانعة المدن‬ ‫�أ‬
‫سوى شجرة حياتي التي دعوها‬ ‫ً‬ ‫على وفق تعبير رامبو‪� ،‬أ حيانا‪،‬‬ ‫مدهون بزيت سمسم ذي لون أخضر داكن‪.‬‬ ‫«لم يهزمني الزمن بعد»‪.‬‬
‫الكبرى ومؤسساتها‪ .‬أما الريف فهو الفالحون‪ .‬نحن فالحون‬ ‫جدا‪ ،‬عندما كنت‬ ‫ً‬ ‫غابتي‪،‬عندما أ�نفرد بنفسي‪ ،‬وفي حدث خاص‬ ‫«هذا لتزييت إطار الحنجرة «‪.‬‬ ‫وبعد أن دارت الكؤوس بيننا‪ ،‬وغادر آخر الرواد بطن المقهى‪،‬‬
‫حتى وإن انتقلنا إلى المدن التي صنعتها الكولونيالية‬ ‫ّ‬
‫المتولي عندما‬ ‫ر�يته في صدر سارة‬ ‫مع مسعود المولى‪ ،‬وهو ما أ‬ ‫‪ ‬ويطلق ضحكة غامزة نتجاوزها إلى األغنية المرتقبة‪ ،‬ثم‬ ‫قالت سارة تقطع صمتنا وتأمالتنا‪:‬‬
‫البريطانية»‪.‬‬ ‫ً‬
‫وضوحا‬ ‫كنا في المقهى الجزائري‪ .‬قال مسعود‪ ،‬أب�سلوب أ�كثر‬ ‫نتكوّ ر على أنفسنا ويبدأ كل واحد منا في النظر إليه كما لو‬ ‫‪« ‬سنغنّي»‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫وحين بدأ حياته معلما في المدرسة الوحيدة بالميمونة‪ ،‬كان‬ ‫و�شار إلى‬ ‫نت ابن أ�ختك»‪ .‬أ‬ ‫«� َ‬ ‫ال أ� ً‬
‫يضا أ‬ ‫ً‬
‫وطالقة ومروء ًة‪ ،‬وخج ً‬ ‫أنه يغنّي له وحده‪ .‬وعندما ينبعث صوته الخشن عبر شفتيه‬ ‫أومأ موفق برأسه‪ ،‬ثم جاء صاحب المقهى فقال له الساحر‪:‬‬
‫تماما‪ ،‬وما زاد في‬‫ً‬ ‫يط ّبق فرضيته تلك على واقع موصوف‬ ‫صدره‪.‬‬ ‫مصحوبا بتلك األ ّنة التي تشبه تنفس أسد عجوز‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الشهوانيتين‪،‬‬ ‫‪« ‬أغلق الحانة يا سي بلحاج»‪.‬‬
‫قناعته تلك المناظرات التي جرت مع أول داعية شيوعي زار‬ ‫«مسعود‪ ،‬هذا يرعبني»‪.‬‬ ‫أترك مجلسي المنفرد على ذروة برميل بترول فارغ‪ ،‬وأتقدم‬ ‫كنّا في صندوق حجري‪ ،‬ال يشبهه سوى ذلك الصندوق‬

‫‪133‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪132‬‬


‫قص‬

‫***‬ ‫القرية‪ .‬قال األستاذ سعد النمر «إنّ الطبقة العاملة العراقية هي‬
‫‪ ‬‬ ‫التي ستحطم الدولة البورجوازية الحاكمة في العراق‪ ،‬لتقيم‬
‫ومنذ تلك التجارب القاسية والمريرة‪ ،‬كفر إبراهيم بن علي‬ ‫بدالً عنها دولة البروليتاريا العراقية»‪.‬‬
‫الحربي بكل شيء ولم يعد يؤمن إالّ بنقد أ� ّي شيء في الحياة‪.‬‬ ‫« ولكن‪ ،!..‬ال توجد طبقة عاملة صناعية في العراق»‪.‬‬
‫«الزبدة عندي أن النقد‪ ،‬نقد كل رأي ومعتقد‪ ،‬هو دين اإلنسان»‪.‬‬ ‫«يوجد من ينوب عنها»‪.‬‬
‫«هكذا ترى اإللحاد؟»‪.‬‬ ‫«من هم؟»‪.‬‬
‫«نعم»‪.‬‬ ‫«نحن‪ ،‬المثقفون»‪.‬‬
‫‪ ‬وكانت خطوته األولى أنه قام برمي عمامته البيضاء في برميل‬ ‫مثارا لسخرية إبراهيم بن علي الحربي‪ ،‬حين يلتقي‬ ‫ً‬ ‫وكان ذلك‬
‫عَ َرق مصنوع ببلدة دَ ياال القريبة من الزوراء‪ :‬دخل إلى حانة‬ ‫نفرا من الدعاة السريين للحركات االشتراكية األولى في بالدنا‬ ‫ً‬
‫عقد التوراة بزيّ ه الع ّباسي التقليدي في ظهيرة‪ ‬يوم جمعة‪،‬‬ ‫التي دأب الرحالة األجانب على وصفها ببالد النهرين الكبيرين‬
‫حيث كان جمهور من أبناء المدينة يؤدون الصلوات التقليدية‪،‬‬ ‫منذ النصف األول من القرن السابع عشر‪.‬‬
‫ً‬
‫سكرانا‬ ‫واضعا المسجد الكبير خلف ظهره‪ ،‬وخرج من الحانة‬ ‫ً‬ ‫«إذا كان هذا خياركم األخير‪ ،‬فعلى الكرخاء السالم»‪.‬‬
‫كافرا بالعقائد الدينية جميعها‪ ،‬وهو‬ ‫ً‬ ‫يلعن الشرق والغرب‪،‬‬ ‫كانت توقعات الملحد صحيحة‪ .‬فمع أول هجوم من العسكر‬
‫يردّ د «خالصنا في اإللحاد»‪ ،‬وكان ذلك مدعاة أخرى ألساطير‬ ‫المتحالفين مع المثقفين والدعاة القوميين المتعصبين سنة‬
‫جديدة تناولها عجائز الكرخاء عن قرب حلول الساعة وظهور‬ ‫‪ ،1963‬تر ّنحت المنظومة العمالية المفترضة التي يمثلها‬
‫ينية‬ ‫آخر الهداة الكُماة‪ ،‬حتى أن السيد القزويني‪ ،‬خطيب ُ‬
‫الح َس ّ‬ ‫منظم استغرق تشيده‬ ‫ّ‬ ‫المثقفون االشتراكيون‪ ،‬وانهار بناء‬
‫المسماة باسمه صرخ ذات ليلة بعد أن ألقى عمامته السوداء‬ ‫ّ‬ ‫باآلالم والحرمانات والسجون والتشويه والمنافي على امتداد‬
‫على الفالحين الذين كانوا يستمعون إلى خطبته المعادة‬ ‫عقود زمنية متواصلة‪ ،‬في غرف معتقل القصر الملكي الذي‬
‫«اقتربت الساعة وانشق ّ القمر‪ ،‬وسيظهر موالنا المهدي حفيد‬ ‫حوّ له أولئك القوميون إلى أحواض لماء النار واالغتصاب‬
‫سيد البشر»‪.‬‬ ‫الجنسي وانتزاع االعترافات‪.‬‬
‫وران صمت مهيب على جمهرة الفالحين والكسبة والشحاذين‬ ‫‪ ‬‬
‫وصغار الموظفين الذين كانوا يستمعون إليه فاغرين أفواههم‬ ‫ً‬ ‫أ‬
‫«لم يُ صبنا االنهيار �بدا»‪.‬‬
‫تحت منبر الحسين وحوله‪ .‬‬ ‫«لقد مسخوكم من القمة إلى القاعدة»‪.‬‬
‫وكانت حانة عقد التوراة‪ ،‬تشبه هذا المشهد العاشورائي‪ ،‬عندما‬ ‫«القمة‪ ،‬المثقفون‪ ،‬هم الذين مسخوا أ�نفسهم في القصر الملكي»‪ .‬‬
‫يمضى الهزيع الَأخير من الليل‪ ،‬ويخلو ُّ‬
‫كل خليل إلى خليله‪.‬‬ ‫كنت هناك في سنة تالية‪ ،‬في تجربة أخرى مع هؤالء القوميين‪،‬‬
‫وكان الساحر يتذكر اآلن‪ ،‬ليلة‪ ،‬ليلة أ�شدّ من أن تكون ليالء‪ ،‬في‬ ‫يضا‪ ،‬بعد ضربة واحدة‬ ‫وشاهدت كيف انهار المثقفون األصنام أ� ً‬
‫السجن الصحراوي البعيد عن الكرخاء‪.‬‬ ‫كف شاب لم يتعلم بعد بما فيه الكفاية فنون التعذيب‬ ‫من ّ‬
‫‪  ‬‬ ‫العربية التقليدية‪.‬وهناك التقى رامبو بإبراهيم الملحد أيضا‪،‬‬
‫الشارقة‬ ‫كما التقى للمرة األولى في حياته بالذي صار صديقه فيما بعد‪،‬‬
‫جلعوط البغدادي‪ .‬جلعوط الذي احتاز على وظيفته الرسمية‬
‫بعنوانها الجديد على ثقافة الكرخاء وتقاليدها‪« :‬مُ غتَ ِصب»‪.‬‬
‫إشارات‪:‬‬ ‫وفد جلعوط البغدادي على الكرخاء‪ ،‬وكأنه يهرب من حياة‬
‫‪ ‬ـ من استهالالت للنص الروائي‪ ،‬بالعنوان ذاته‪..‬‬ ‫تماما‪ ،‬اللهم سوى لقائه الُأسبوعي في يوم‬ ‫ً‬ ‫سابقة‪ .‬اعتزل الناس‬
‫ـ الكرخاء‪ :‬هي بلدة «الكرخة» في بالد األحواز العربية‪،‬‬ ‫ُقجة بستان بيت جاني‬ ‫الجمعة من كل أسبوع‪ ،‬قبل الصالة‪ ،‬في ب َ‬
‫تقع على نهر باالسم ذاته‪ ،‬بـ»هور الحويزة» بين العراق وإيران‪.‬‬
‫مع مجموعة المصارعين ورياضيي الجمال الجسماني والشعراء‬
‫وهي»اإلسكندرية» التي مرّ بها اإلسكندر العظيم في طريقه إلى الشرق‪.‬‬
‫الشعبيين والعبي القمار‪ ،‬حيث كانوا يمارسون هواياتهم قرب‬
‫وهي واحدة من بليدات صغيرة تدعى‪ :‬اليشن‪ ،‬اشتغل عليها الكاتب منذ‬
‫فر ٍة بجوار نهر الكحالء‪ ،‬تتصل بالشريعة التي كانت تزدحم‬ ‫ُج َ‬
‫البواكير الُأولى لمشروعه السردي في سنة ‪1963‬ـ ‪.1964‬‬
‫بالفتيان والفتيات في الظهيرات التموزية والشباطية‪ .‬لكنه‬
‫إسامعيل الرفاعي‬

‫حائرا على ألسنة أهالي عرصة الماجدية‪« :‬من هو‬ ‫ً‬ ‫بقي سؤاالً‬
‫هذا البغدادي؟»‬
‫‪ ‬‬

‫‪135‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪134‬‬


‫مقال‬

‫كسوف األفكار أم كسوف الواقع‬


‫الثقافة العربية تودع عاما‬

‫حسني جمعان‬
‫سعد القصاب‬

‫يحتاج التفكير في حال الثقافة العربية إلى كتابات أكثر اجتهادا‪ ،‬وشهادات أكثر صدقا‪ ،‬وتصورات أكثر جدال‪ .‬الثقافة‬
‫العربية هي عينها في منجزها التخيلي والتعبيري والفكري في بعديها الذهني والحسي‪.‬‬
‫ثمة شكوى تالزمها بكون الرهان عليها مازال مرجأ‪ ،‬ويذهب البعض إلى أنها تعطلت بما يكفي‪ ،‬بل لم تعد مؤهلة كي تفترض‬
‫لوجودها أهدافا معرفية وتخيلية جديدة‪ ،‬كما ليس بمقدورها أن تعيد إنتاج نفسها على نحو متميز وخالق وحيوي‪ ،‬في‬
‫مواجهة صراعات يشهدها العالم العربي‪ ،‬وانتقاالت شديدة التعقيد يشهدها العالم المعاصر‪.‬‬
‫تطلبات أخرى‪ ،‬من البعض اآلخر‪ ،‬تدعوها إلى أن تكون فاعلة وحرة ومتدخلة في تصحيح الشأن العربي‪ ،‬الذي‬ ‫ّ‬ ‫وثمة‪،‬‬
‫يستدعي النظر إلى واقعه ومآله حزمة من مشاعر المرارة واإلحباط والغضب‪.‬‬

‫االنغالق والتعلق بالبحث عن إجابات حاشدة بالجاهزية‪.‬‬ ‫حال هذه الثقافة في غياب النموذج الفكري‬
‫ما هو‬
‫رهانات الثقافة العربية تعيش حدها األدنى في واقع عربي‬ ‫المهيمن‪ ،‬وتراجعها أمام مسارات معولمة‬
‫يعيش بدوره ما يقابل هذا الوصف‪ .‬يحاصره الخوف والعنف‬ ‫بتو ّتراتها الثقافية‪ ،‬والتي أصبحت لها السلطة في التأثير‬
‫والحرب‪ ،‬ومالحقا بانكفائه السياسي‪ ،‬وفي بعده النظري‪ ،‬لم‬ ‫وإنتاج واقع افتراضي يحتمل دوافع اجتماعية وذهنية مغايرة‬
‫يتعدّ اختزاالت من االهتمام الفكري بجدلية اإلسالم والحداثة‪.‬‬ ‫خاصة به‪ ،‬ميزته تكريس ظاهرة المقبولية الجانحة نحو‬
‫المجتمع الذي بات يعايش نوعا مختلفا من التسلطية متمثلة‬ ‫المهادنة‪.‬‬
‫بتغول خطاب اإلسالم السياسي وهيمنته على المقولة‬ ‫ّ‬ ‫ينبئ رحيل المفكر السوري صادق جالل العظم عن رحيل‬
‫االجتماعية والثقافية‪ ،‬يشهد عليه صدام الحريات الفردية‬ ‫مختلف‪ ،‬ليس لجهة غياب ناقد مؤثر في الثقافة العربية وعبر‬
‫بالمنزع الطائفي‪ ،‬كما في بغداد ودمشق وبيروت‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫العديد من مؤلفاته ومواقفه وحضوره الفكري‪ ،‬ولكن لجهة‬
‫الحروب والتهجير والتغير الديموغرافي والخراب الذي طال‬ ‫رحيل تلك األسئلة التأسيسية التي كان يثيرها العديد من‬
‫أكثر من مكان ومدينة عربية‪ ،‬ومدينة حلب المثال األخير‪،‬‬ ‫المفكرين العرب‪ ،‬وهو أحدهم‪ ،‬في مواجهة الواقع محاولة‬
‫وربما ليس آخرا‪.‬‬ ‫منهم في اختزال تلك المسافة المقترحة بين تحوالته والقدرة‬
‫ويتجلى‪ ،‬كذلك‪ ،‬بتحوله إلى صورة مربكة ومشوهة ال تخلو من‬ ‫حس نقدي يعتمد مبادئ للتفكير من‬ ‫على قراءته وتحليله‪ ،‬وفق ّ‬
‫الماضي‪ ،‬وكأنهما في لحظتنا الراهنة باتا يعمالن ضد نفسيهما‪.‬‬ ‫يعني التداخل والتسلسل والتماسك وتتبع المسار‪ ،‬وبكونه‬ ‫اإلحباط‪ ،‬والتي توثق لها العديد من اإلجابات من قبل مثقفين‬ ‫داخله‪ ،‬لرسم أفق تجتمع األفكار فيه‪.‬‬
‫الثقافة التي صارت تتأرجح‪ ،‬غالبا‪ ،‬بين التيه الذي يفصح عن‬ ‫شرطا لخلق التقليد الذي يعد ضرورة إلحداث منعطف جديد‬ ‫عرب اختصروا األمر بعبارات مستفزة‪ .‬يذكر الشاعر أدونيس‬ ‫بعد عام على هزيمة الخامس من حزيران‪ ،‬يصدر العظم كتابه‬
‫شح األفكار والممارسات الجادة المنتجة‪ ،‬واالقتباس عن اآلخر‬‫ّ‬ ‫الملحة وتطوير االتجاهات‬
‫ّ‬ ‫في المعرفة عبر استئنافه لألسئلة‬ ‫في إحدى لقاءاته أن «الوسط الثقافي العربي بائس وال يعنيني‬ ‫«النقد الذاتي بعد الهزيمة»‪ .‬وعلى الرغم من أنه أحد الكتب‬
‫الغربي الذي لم يزل يتبوأ المركز‪.‬‬ ‫التأسيسية والبناء عليها وتعزيز التماسك الفكري واإلبداعي‬ ‫بشيء على اإلطالق»‪.‬‬ ‫التي عززت لعالمات نقدية فارقة في الثقافة العربية‪ ،‬ولكنه في‬
‫تحرض‪ ،‬كما تدعو‬
‫الثقافة العربية في حاجة ماسة إلى خطابات ّ‬ ‫المنتج للمعنى ولنبضه الخفي‪.‬‬ ‫ّ‬
‫تشخص في تراجع تق ّبل األثر الثقافي‬ ‫أحد مشاهد هذا الواقع‬ ‫صورته األخرى نتاج لثقافة السؤال في بنية تلك الثقافة وقتئذ‪،‬‬
‫فيه إنسانها للتفكير إلبداع وجوده وإعادة إنتاج واقعه على‬ ‫تداعيات مثل هذا الغياب نجدها حاضرة في االنقطاعات‬ ‫ومنجزه المعرفي والتخيلي‪ ،‬في ظل تردي فعل القراءة‬ ‫والتي شهدت أسئلة وانشغاالت فكرية أخرى مغايرة ونقاشات‬
‫نحو يتجاوز حالة الكسوف التي يحياها ّ‬
‫كل منهما‪ ،‬واللحاق‬ ‫وتداخل األزمان الثقافية وانفصالها‪ ،‬وإغفال اهتمام للبدء‬ ‫واالهتمام بالكتاب والنشاطات التعبيرية والجمالية‪ ،‬فيما يتصدر‬ ‫مختلفة‪ ،‬حاشدة بانحيازات مجتمعية ونزعات منفتحة على‬
‫كذلك بتلك التحوالت واإلنجازات المتعددة التي يختبرها‬ ‫باهتمام آخر قد ال يدوم بدوره‪ ،‬بأثر سيادة التلقين الناتج عن‬ ‫الولع بالعالم االفتراضي بكونه مصدرا مؤثرا للمعلومة وللمعرفة‪.‬‬ ‫الحداثة والمدينية‪ ،‬والداعية لالنخراط والتدخل في الشأن‬
‫عالمنا المعاصر‪.‬‬ ‫رواسب عقدية ومجتمعية وثقافية تقليدية‪.‬‬ ‫عديدة هي تلك المآخذ على الثقافة العربية في صورتها‬ ‫العام‪ ،‬ومن قبل مفكرين ومبدعين آخرين حتى لعقود قليلة‪.‬‬
‫تستدعي بعض هذه التساؤالت عن مصير تلك الحداثة والتفاؤل‬ ‫مدونة الخطاب النقدي‪،‬‬ ‫الحاضرة‪ ،‬لكن يبقى األكثر تداوال في ّ‬ ‫لقد كانت ثقافة واثقة وقادرة على طرح األسئلة وإثارة قضايا‬
‫كاتب من العراق مقيم في تونس‬ ‫الذي واكب الثقافة العربية مع بدايات النصف الثاني من القرن‬ ‫يعين غياب أثر التراكم في ممارساتها‪ .‬التراكم الذي‬
‫ذلك الذي ّ‬ ‫إشكالية‪ ،‬والتوقف مليا في عالقتها مع واقع يمضي اآلن نحو‬

‫‪137‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪136‬‬


‫مقال‬

‫ثقافة فهم النص األدبي‬

‫محمد ظاظا‬
‫بين مقوالت الفراغ والتحول إلى خطاب‪ ‬‬
‫علي لفته سعيد‬

‫ّ‬
‫النص وأهميته وكيفية انبثاقه‪ ..‬حتى بات السؤال المهم‪ :‬هل هناك‬ ‫كثر الحديث والتعريف والمناقشة والجدال حول مفهوم‬
‫أي‬
‫كداللة أو ّ‬
‫ٍ‬ ‫كمفهوم أو‬
‫ٍ‬ ‫النص األدبي؟ وكيف يمكن أن تكون عالقة النص بالمنتج والمتلقي‬‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫ومعينة لفهم‬ ‫محد ٌ‬
‫دة‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫ثقافة‬
‫ّ‬
‫النص األدبي؟‬ ‫ّ‬
‫نستدل على طريق اإلجابة لفهم‬ ‫مصطلح آخر؟ وهل بطرح األسئلة يمكن أن‬
‫ٍ‬

‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫قرائية يبحث من خاللها‬
‫ٌ‬
‫مهمة‬ ‫النص هو‬
‫معنى له ٌ‬
‫إن ّ‬ ‫من ٍّ‬
‫نص ألنه يريد إزاحة تراكم الغبار عن‬ ‫منتج على المستوى‬
‫ٌ‬
‫ال شيء‬
‫ذات محدّ دة وتفكيرٌ له اتجاه‬ ‫ً‬ ‫عن‬ ‫منظومة المعرفة التي يريد إيصالها إلى‬ ‫ٍّ‬
‫كنص مكتوب‬ ‫األدبي‬
‫وتقص له حفريات موثقة ووالدةٌ‬ ‫ّ‬ ‫مرسومٌ‬ ‫المتلقي ألنه‪ ،‬أي المنتج‪ ،‬يحتاج إلى المتلقي‬ ‫قادرة على فهمه‬
‫ٍ‬ ‫مقدرة‬
‫ٍ‬ ‫مث ً‬
‫ال ال يحتاج إلى‬
‫جذب‬ ‫ٌ‬
‫لها تنمية مستدامة واكتمال له عناصر‬ ‫ً‬
‫متماهيا معه‪ ،‬ورغم أن‬ ‫لكي يشده ويجعله‬ ‫وهذه المقدرة هي المنظومة الكتابية التي‬
‫ٍ‬
‫موازية لمعنى‬
‫ٍ‬ ‫أسئلة‬
‫ٍ‬ ‫أخرى مهمتها طرح‬ ‫النص‬
‫الفلسفة المعاصرة كما يقال قد حولت ّ‬ ‫يتمتّ ع بها هذا ّ‬
‫النص عن سواه من النصوص‬
‫النص‪ ..‬وإذا ما أخذنا قول بارت باعتبار‬
‫ّ‬ ‫عبور‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫محطة‬ ‫من مكان انطالقه الكتابي إلى‬ ‫النص المكتوب‬
‫األدبية‪ ،‬وإذا ما اعتبرنا إن ّ‬
‫النص يشبه الجسد فإننا نذهب أبعد من ذلك‬
‫ّ‬ ‫إلى ال شيء على اعتبار أن المعنى لم يعد‬ ‫تتم قراءته يشبه أسئلة االمتحان التي‬
‫الذي ُّ‬
‫حياتي يبحث‬
‫ٍّ‬ ‫مكنون‬ ‫جزء من‬
‫ٌ‬ ‫النص‬
‫إلى أن ّ‬ ‫له وجود وصار مكانه الالمعنى‪ ..‬لكنها‪ ،‬أي‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تتطلب فهما مسبقا لقصدية السؤال‪ ،‬حتى‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫عن شهيته في تفاصيل الجمال ويريد‬ ‫تقر من جهتها بأن «وجودَ المعنى‬
‫الفلسفة‪ّ ،‬‬ ‫قيل إن معرفة السؤال نصف اإلجابة‪ ..‬فإن‬
‫النص‬
‫العداوات وغيرها من مثالب مواجهة ّ‬ ‫جديد‬
‫ٍ‬ ‫واقع ورسمه من‬ ‫تخيل‬
‫النص ّ‬
‫مهمة ّ‬ ‫بالحقل االجتماعي الذي يترك قدرته‬ ‫بفهمه إزالة القبح فيما يواجهه في هذا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫البحث والمغايرة واالختالف‬ ‫أصبح يعني‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫موجهة‬ ‫ً‬
‫رسالة‬ ‫النص في هذه الحالة ال يعدّ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫مع النسق االجتماعي‪ ..‬وما ذهب إليه النقاد‬ ‫وتقديمه إلى القارئ بهدف إعادة رسم‬ ‫ومجساته وقابلياته التفكيكية وبالتالي‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫جمالية‬ ‫ً‬
‫منظومة‬ ‫النص كذلك‬
‫الكون‪ ،‬باعتبار ّ‬ ‫نسيج من‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫كانت‪-‬‬ ‫ّصوص ً‬
‫‪-‬أيا‬ ‫ُ‬ ‫المستمر‪ ،‬فالن‬
‫َّ‬ ‫معرفية بل‬
‫ٍ‬ ‫منظومات‬
‫ٍ‬ ‫فقط الحتوائها على‬
‫األوربيون جاء ألن هذا النسق االجتماعي لم‬ ‫جديد على وفق‬
‫ٍ‬ ‫المقاصد والتأويالت من‬ ‫النص‬
‫النص‪ ،‬ألنه يدرك أن هذا ّ‬
‫بصمته على ّ‬ ‫ً‬
‫ثقافية‪ ..‬ولهذا نرى أن قول بارت‬ ‫ً‬
‫معرفية‬ ‫ُ‬
‫شفرات‬ ‫والتشبيهات‪ ،‬فهي‬
‫ِ‬ ‫االستعارات‬
‫ِ‬ ‫إنه أصبح مركّ ً‬
‫با من الفهم والرسالة وطرح‬
‫يعد له وجودٌ في الكينونة الثقافية‪ ،‬ولهذا‬ ‫ٌ‬
‫ثقافة ووعي المتلقي‪ ،‬وهو أمرٌ مختلف‬ ‫ٌ‬
‫متخيل يريد إعادة تشكيل‬
‫ّ‬ ‫نص‬
‫األدبي هو ٌّ‬ ‫ً‬
‫وتحديدا الجسد‬ ‫النص يشبه الجسد‬ ‫ّ‬ ‫إن‬ ‫وتراكمات مجازيةٌ‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫وليست بمفاهيم‪،‬‬ ‫مفاهيم‬
‫ٍ‬ ‫جديدة تتطابق مع حالة القارئ من‬
‫ٍ‬ ‫أسئلة‬
‫ٍ‬
‫ثقافي‬ ‫ٌ‬
‫نسق‬ ‫النص على أنه‬‫ّ‬ ‫يمكن تطبيق‬ ‫قارئ وآخر‪ ..‬ولهذا‬ ‫ونسبي بين‬ ‫ومتناوب‬
‫ٌ‬ ‫بعد‬
‫األشياء من أجل صنع الجمال‪ ،‬إلعطاء ٍ‬ ‫األنثوي على أساس وجود ّ‬
‫الل ّذة فيه فإنه‬ ‫وليست بحقائق» وهي بذلك تستشهد برأي‬ ‫جهة وثقافته ومعرفته بالمستويات الكتابية‬
‫ٍ‬
‫ٌّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٌّ‬
‫له قابلية على التحكّم بطرائق العبور إلى‬ ‫النص ال تعني وجوباً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فإن ثقافة تلقي‬ ‫جديد يتأ ّثر بالبنية الثقافية التي‬
‫ٍ‬ ‫اجتماعي‬
‫ٍّ‬ ‫مشبعة بالغرائز في‬
‫ٍ‬ ‫مخي ٍلة‬
‫ّ‬ ‫بهذا يخلص إلى‬ ‫نيتشه‪.‬‬ ‫جهة أخرى‪..‬‬
‫أو خالصة التجربة الكتابية من ٍ‬
‫المتخيل في‬
‫ّ‬ ‫المعنى من أجل إيصال نقطة‬ ‫فراغ أو إنه‬
‫ٍ‬ ‫االعتراف بأنه صار يؤدّ ي إلى‬ ‫جديدة وبالتالي‬
‫ٍ‬ ‫بنية‬
‫ٍ‬ ‫النص إلنتاج‬
‫ّ‬ ‫حملها‬ ‫نص مش ّبعُ بالدالالت الجمالية حتى‬
‫حين أنه ٌّ‬ ‫ّ‬
‫النص األدبي أصبح متداخال حتى‬ ‫ّ‬ ‫إن‬ ‫النص من أنه «ذو‬
‫ّ‬ ‫وكما قيل في تعريف‬
‫خط الشروع في ّ‬
‫التلقي الستلهام‬ ‫النص إلى ّ‬
‫ّ‬ ‫عبور إلى «الشيء» باعتبار أن‬ ‫ّ‬
‫محطة‬ ‫صار‬ ‫ً‬
‫تأييدا لقول إن «البنية العقلية والثقافية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫لو ناقش موضوعة دينية أو فهما قبيحا أو‬ ‫معرفي ذائقي الهدف‪،‬‬ ‫نص‬
‫في الشعر ألنه ٌّ‬ ‫تتأسس على المعرفة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫معرفية‬
‫ّ‬ ‫منظومة‬
‫ٍ‬ ‫ٌّ‬
‫ً‬
‫النص داخليا من خالل المعطيات التي‬
‫مادة ّ‬ ‫ّ‬
‫المحطة‬ ‫المفهوم اآلخر المستخلص من هذه‬ ‫ٌ‬
‫منفصلة‬ ‫للنص األدبي‬‫ّ‬ ‫واالجتماعية‬ ‫ً‬
‫مظلما‪.‬‬ ‫ً‬
‫واقعا‬ ‫ّ‬
‫التلقي ودهشة المعنى وإصرار‬ ‫يتمتّ ع ّ‬
‫بلذة‬ ‫النص‬
‫والعاطفي‪ ،‬ويعرف ّ‬ ‫النفسي‬ ‫والجانب‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫جديد والتي مهّ د‬
‫ٍ‬ ‫يراد إعادة تركيبها من‬ ‫هو أنه «لم يَ عُ د للمعنى وجودٌ أص ً‬
‫ال» وهنا‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫ومختلفة تماما عن المحيط االجتماعي»‪.‬‬ ‫أسئلة أخرى‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫سؤال أو‬ ‫وهنا يتم طرح‬ ‫المتخيلة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫المنظومة على رسم مالمحها‬ ‫األدبي بأنه متن الكالم الذي يعبر األديب عن‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫النص لتكون قصدياته‬ ‫لها الكاتب أو منتج ّ‬ ‫النص تم تفريغه من المعنى‬ ‫ّ‬ ‫يعني أن‬ ‫النص األدبي بطبيعته يريد التأثير بعد‬
‫إن ّ‬ ‫واحد‬
‫ٍ‬ ‫قارئ‬
‫ٍ‬ ‫إنّ مثل هذا القول يعني وجود‬ ‫النص السردي‬
‫وهو ال يفرق وال يفترق عن ّ‬ ‫مشاعره‪ ،‬وما يجول بخاطره‪ ،‬ويكون ذلك‬
‫المتعدّ دة وواحته الفلسفية المراد أن‬ ‫وحصره وتضييق الخناق عليه‪ ،‬وأما أنه غير‬ ‫التأ ّثر للوصول إلى مرحلة المغايرة وبالتالي‬ ‫كل هذه المصطلحات وبالتالي‬ ‫قابل لتدارك ّ‬ ‫الذي يحتوي على ّ‬
‫كل مالذات الهيمنة‬ ‫ً‬
‫واضحا في النصوص األدبية المتنوعة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫النص‬
‫النص‪ ..‬وإذا ما أخذنا ّ‬
‫يضخها في روح ّ‬ ‫ّ‬ ‫جي ٍد أو إعطاء هذا المعنى للقارئ كي ينفرد‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫«فراغا» ألن الفراغ ال ينتج‬ ‫ال يمكن عدّ ه‬ ‫القراء‪،‬‬
‫ّ‬ ‫موضوعي ًا ّ‬
‫لكل‬ ‫ّ‬ ‫يكون هو معادالً‬ ‫جهة‪ ،‬وما يلي األسلوب‬
‫ٍ‬ ‫على األسلوب من‬ ‫وهي‪ :‬القصة‪ ،‬والرواية‪ ،‬والشعر بجميع‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نصا سماويا‪ ،‬فإنه بالتأكيد ال‬‫المقدّ س كونه ّ‬ ‫معنى آخر له‪.‬‬
‫ً‬ ‫بإمالء الفراغ أو إيجاد‬ ‫ما يمكن تسميته بإعادة تشكيل األشياء‬ ‫النص ّإل‬
‫وإنه‪ ،‬أي القارئ‪ ،‬ال يستقيم معه ّ‬ ‫من معرفة الجانب التأويلي والتحليلي‬ ‫أشكاله‪ ،‬والخاطرة‪ ،‬والمقال‪ ،‬والمسرحية‪،‬‬
‫يمكن األخذ بمقولة إنه يؤدي الى فراغ أو‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫إن هذا الرأي كما نرى قد يكون متأثرا بالنسق‬ ‫جديدة حتى لو كانت‬
‫ٍ‬ ‫بجمالية‬
‫ٍ‬ ‫التي يبغيها‬ ‫بحضوره‪ ،‬وإنه قار ٌ‬
‫ئ غير متعدّ د وإنّ الجميع‬ ‫النصمن جهة‬
‫ّ‬ ‫والفلسفي الذي يتمتّ ع به‬ ‫والخطب بجميع أنواعها» فهنا ندرك أن‬
‫ّ‬
‫المنزل كالقرآن‬ ‫النص السماوي‬
‫«الشيء» ألن ّ‬ ‫نسق قد يكون متأ ّث ً‬
‫را‬ ‫ٌ‬ ‫االجتماعي وهو‬ ‫مستوحا ًة من الحزن أو الحرب أو الكآبة أو‬ ‫المنصات التي‬
‫ّ‬ ‫لهم ذات القدرة على تفكيك‬ ‫الجيد‪ ،‬قاد ٌر على‬
‫النص ّ‬
‫أخرى‪ ..‬وهو أيضا‪ ،‬أي ّ‬ ‫قادرة على‬
‫ٍ‬ ‫ثقافة‬
‫ٍ‬ ‫النص يحتاج إلى‬ ‫ّ‬
‫متلقي ّ‬
‫ٌ‬
‫مثال هو ذاته قابل للتأويل وتعدّ د مصادر‬ ‫بالمجمل بالعواطف والدالالت االجتماعية‬ ‫التعاسة أو حتى االشمئزاز‪ ،‬وحتى لو كان‬ ‫النص األدبي دون النظر إلى‬ ‫ّ‬ ‫ينطلق منها‬ ‫ّ‬
‫إمالء فراغات ثقافة المتلقي الباحث عن‬ ‫النص إذا ما اعتبرها بديهية‪.‬‬
‫سبر أغوار ّ‬
‫التفسير والفقه رغم أن الدراسات اإلسالمية‬ ‫واألعراف والمُ ثل العليا والسفلى وحتى‬ ‫ً‬
‫منتقصا‪ ،‬ألن‬ ‫ً‬
‫منتقدا أو‬ ‫ً‬
‫ساخرا أو‬ ‫النص‬
‫ّ‬ ‫مقولة أن النص األدبي باإلمكان أن يتأثرّ‬ ‫جديد في عالقات مع القراءة باعتبار‬
‫ٍ‬ ‫شيء‬
‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫إن المنتج له ثقافة واعية بأهمية ما أنتجه‬

‫‪139‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪138‬‬


‫د‬
‫عوة‬

‫الوعي وجمع المعنى ولكنهما أيضا ال‬ ‫لحظة إنتاجها‪ ،‬وال تتجاوز سامعها إلى‬ ‫النص هو تلك العالمات‬
‫ّ‬ ‫في حين نرى أن‬ ‫بالنص‬
‫ّ‬ ‫اهتمت بالعلوم الدينية ولم تهتم‬
‫ّ‬
‫المتلقي‬ ‫يخرجان من عدم البراءة وخاصة‬ ‫غيره»‪ ،‬وهنا تكمن لحظة التنوير األولى‬ ‫تلخيص‬
‫ٍ‬ ‫فكرة ما أو‬
‫ٍ‬ ‫التي يراد لنا إرسالها عبر‬ ‫وثقافة‪ ،‬وهو األمر الذي أدى إلى‬
‫ٍ‬ ‫كوعي‬
‫ٍ‬
‫النص التي‬
‫ّ‬ ‫الذي قد يبتعد عن قصديات‬ ‫ّ‬
‫والتلقي‬ ‫التي تتوافر في عملية االستالم‬ ‫معينة أو إنه‬
‫لموضوعة ّ‬
‫ٍ‬ ‫استجواب‬
‫ٍ‬ ‫لحالة‬ ‫النص‬
‫خاصية ّ‬
‫ّ‬ ‫تغيير المنطق دون النفاذ إلى‬
‫تدعو الكتاب والمفكرين العرب‬
‫ابتدعها المنتج ليزيّ ن بها مفعول التأويل‬ ‫أي عملية إزاحة‬
‫وثقافة الفهم‪ ،‬وبالتالي فإن ّ‬ ‫والنص عبر عدم براءته‬
‫ّ‬ ‫جديدة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫أسئلة‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫بث‬ ‫وثقافة تلقيه‪.‬‬
‫إلى المشاركة في محاورها وملفاتها القادمة‬
‫ً‬ ‫نوع‬
‫النص ألن منتجه‬
‫وفلسفته وال حتى براءة ّ‬ ‫تضر ليس‬
‫ّ‬ ‫قد تبدو وفق المعادلة اآلنفة‬ ‫نصا كما هو عليه‬‫هو الذي يمكن أن يكون ّ‬ ‫أسئلة أخرى من ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وهذا يقودنا أيضا إلى‬
‫ربما أراد فيها مخاتلة الذائقة‪.‬‬ ‫النص بل بثقافة ّ‬
‫التلقي التي ال يمكن‬ ‫بمفهوم ّ‬ ‫ٌ‬
‫رسالة وال‬ ‫ً‬
‫خطابا أيضا ألن الخطاب‬ ‫ويكون‬ ‫النص وإنتاجه؟‬
‫ّ‬ ‫آخر‪ :‬هل هناك براء ٌة في‬
‫وإن ما يمكن الوصول إليه في مفهوم‬ ‫أي النص‪ ،‬قابلة على‬
‫الروح‪ّ ،‬‬
‫بدونها أن تكون ّ‬ ‫ٍّ‬
‫يمكن للخطاب أن يكون بدون متلق وال‬ ‫النص‬ ‫ّ‬
‫التلقي؟ أم إن ّ‬ ‫وهل هناك براء ٌة في‬
‫كيف نكتب لألطفال؟‬ ‫جسد كي يكتمل‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫روح تحتاج إلى‬
‫النص أنه ٌ‬
‫ّ‬ ‫الديمومة والبقاء والتحليق وإن اختلفت‬ ‫ٍّ‬
‫متلق أيضا‪.‬‬ ‫النص له فائدة دون‬
‫ّ‬ ‫يحمل أدوات اكتماله مثلما تتوافر هذه‬
‫ملف حول الكتابة العربية للطفل‬ ‫والجسد هنا متعدّ د العقول مثلما هو ّ‬
‫النص‬ ‫ّ‬
‫التلقي في تعدّ د قراءتها واستالمها‬ ‫حاالت‬ ‫إن هذه المعادلة قد ال تكون هي األخرى‬ ‫النص يخرج‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التلقي؟ وهل‬ ‫االكتمالية في‬
‫متعدّ د مفاتيح التأويل‪ ،‬ألننا ال يمكن أن‬ ‫النص‬
‫للشفرات وهو ما يعني أن ما قيل عن ّ‬ ‫منطقة دون أخرى‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫بريئة ألنها ربما تنحاز إلى‬ ‫توصيف آخر هو‬
‫ٍ‬ ‫من توصيفه التعريفي إلى‬
‫النص كونه الوسيلة األكثر‬
‫بمعزل عن ّ‬ ‫نعيش‬ ‫يمكن أن يقال عن الخطاب‪ ،‬مع االحتفاظ‬ ‫ً‬
‫واضحا لمفهوم‬ ‫ً‬
‫معيارا‬ ‫وبالتالي ال تشكّل‬ ‫ّ‬
‫متلق يتلقف دالالته‬ ‫الخطاب إذا ما صار له‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫العربي‬
‫ً‬ ‫تيارات التفكير‬ ‫ً‬
‫انفتاحا على مفاهيمنا سواء منها الثقافية‬ ‫كتوأم إنتاجي أو توأم‬
‫ٍ‬ ‫بعدم تشابه الوالدة‬ ‫ّ‬
‫والتلقي في منهجها الثقافي ألن‬ ‫الوعي‬ ‫وعناصر تكوينه؟‬
‫ظهورا ومدا وجزرا‬ ‫أو االجتماعية أو الدينية أو السياسية أو‬ ‫ٍّ‬
‫تلق ألنهما وإن اختالفا في اتجاه البذرة‬ ‫االنحياز يعني القفز على معيارية الثقافة‬ ‫بريء‬ ‫نص‬
‫ال بد لنا أوال من القول إنه ال ّ‬
‫ٌ‬
‫نص له‬ ‫االقتصادية‪ّ .‬‬
‫فكل ما حولنا عبارة عن ٍّ‬ ‫األولى وحرثها لكنهما يلتقيان في لحظة‬ ‫بريء أيضا وال تكمن البراءة‬
‫ٌ‬ ‫مثلما ال ٍّ‬
‫تلق‬
‫ّ‬ ‫في عناصر المواجهة بل في اختالف ّ‬
‫حال الكتاب العربي‬ ‫روح وما العقل المقابل الذي يقوم بتأويل أو‬
‫ّ‬
‫ٌ‬ ‫التحلي بوعي اللحظة المنتجة للمفهوم‪.‬‬ ‫التلقي‬
‫تفكيك أو رسم مالمح القصدية إل باعتباره‬ ‫إن النص إذا ما أخذناه من جانب أنه «تلك‬ ‫النص‬
‫ّ‬ ‫والوعي والثقافة سواء من منتج‬
‫كيف تنشر الكتب‬
‫الجسد الذي يحوّ ل ما يقال عنه بالفراغ إلى‬ ‫الرسالة أو التتابع الجملي الذي يهدف‬ ‫ّ‬
‫متداخال‬ ‫النص األدبي أصبح‬ ‫ّ‬ ‫أو متلقيه‪ ..‬البراءة هنا ليست لها عالقة‬
‫في العالقة بين الكاتب والناشر والقارئ‬ ‫حي تمكن اإلشارة إليه من قبل القارئ‬
‫كائن ٍّ‬ ‫إلى عرض تواصلي‪ ،‬ولكنه يوجه إلى‬ ‫بالجانب األخالقي وإن كانت العوامل‬
‫ٍ‬ ‫نص‬
‫حتى في الشعر ألنه ٌّ‬
‫ذاته واالحتفاظ بأسئلته التي قلنا عنها إنها‬ ‫متلق غائب‪ ،‬ويثبت بالكتابة‪ ،‬كما يتميز‬ ‫االجتماعية متداخلة مع الوعي والثقافة‬
‫االستبداد الشرقي‬ ‫ً‬
‫موجهة‬ ‫ً‬
‫رسالة‬ ‫النص الذي لم يعد‬
‫تولد من ّ‬ ‫بالديمومة‪،‬ولهذا تتعدد قراءات النص‪،‬‬ ‫معرفي ذائقي الهدف‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫منتج إلى آخر ألن‬ ‫متلق إلى آخر ومن‬ ‫من‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫دور الحاكم المستبد‬ ‫جديدة يمكن أن تولد‬
‫ٍ‬ ‫ألسئلة‬
‫ٍ‬ ‫بل هو ٌّ‬
‫باث‬ ‫وتتجدد بتعدد قرائه‪ ،‬ووجهات النظر فيه‪،‬‬ ‫التلقي ودهشة‬ ‫ّ‬ ‫بلذة‬‫يتمتّ ع ّ‬ ‫مختلفة ال تتساوى‬
‫ٍ‬ ‫بيئات‬
‫ٍ‬ ‫كليهما خرجا من‬
‫ً‬
‫في صناعة االستبداد الديني‬ ‫معرفية أخرى‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫حقول‬
‫ٍ‬ ‫نصوصا أخرى في‬ ‫ووفق المناهج النقدية التي يقرأ بها‪ ،‬ويعنى‬ ‫المعنى وإصرار المنظومة‬ ‫النص روح يبحث عن‬
‫مع البيئات األخرى‪ّ ..‬‬
‫ً‬
‫متشابكة أو منفصلة ألن المعرفة‬ ‫ً‬
‫موازية أو‬ ‫بوصف العالقات الداخلية والخارجية‬ ‫جسد كما قلنا ولكن المشكلة تمكن في‬
‫ٍ‬
‫أثرٌ يتبع ً‬
‫على رسم مالمحها‬ ‫ً‬
‫أثرا‪.‬‬ ‫ألبنية النص بكل مستوياتها علم النص»‪،‬‬ ‫نصا قابال‬
‫النص بمعنى متى يكون ّ‬
‫آليات هذا ّ‬
‫الشعر والتجريب‬ ‫وهو ما يقودنا أيضا إلى القول إن ما يمكن‬ ‫ً‬
‫تحديدا‬ ‫النص‬
‫ّ‬ ‫وهنا يكون االرتباط بعلم‬ ‫المتخيلة‪ ،‬وهو ال يفرق وال‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التلقي؟‬ ‫ً‬
‫خطابا قبل‬ ‫ّ‬
‫للتلقي وكيف يكون‬
‫هل وصل التجريب الشعري العربي‬ ‫النص‪ ،‬أنه ال‬
‫ّ‬ ‫أن نقوم به في طرح ثقافة‬ ‫تتفرع منه األلسنية واألسلوبية‬
‫ّ‬ ‫والذي‬ ‫النص السردي‬ ‫ّ‬ ‫يفترق عن‬ ‫ّ‬
‫المتلقي‬ ‫وهل إذا تحوّ ل من اإلنتاج إلى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إلى حائط مسدود‬ ‫يتأسس على الالمعنى بل على المعنى المراد‬
‫ّ‬ ‫والسيميائية لكنه أيضا يمكن له الخروج‬ ‫كل‬‫الذي يحتوي على ّ‬ ‫نصا حتى لو‬ ‫النص يبقى ّ‬
‫خطابا أم إن ّ‬ ‫صار‬
‫متاح ألن ال‬ ‫الوصول إليه وإن كان ذلك غير‬ ‫ّ‬
‫المتلقي هو‬ ‫ّ‬
‫الصف إذا ما عرفنا أن‬ ‫عن وحدة‬ ‫استلمه المتلقي؟‬
‫ٍ‬
‫ثبات في المعنى‪ ،‬ولكن وجود‬
‫ٍ‬ ‫حقيقة وال‬ ‫النص في جسد التأويل وليس‬
‫الذي يودع ّ‬
‫مالذات الهيمنة‬ ‫األسئلة العديدة التي أرسلها النقاد عبر‬
‫الكتابة واألنوثة‬ ‫محملٌ‬ ‫ً‬
‫ّ‬ ‫النص ال يعني أنه‬
‫ّ‬ ‫التضادات في‬ ‫شخصا آخر حتى المنتج للنص نفسه‪ ،‬ألن‬ ‫تعاريفهم ال يمكن الركون إليها وحدها‬
‫هل تكتب النساء العربيات بلغة الرجل‬
‫فكرية‪ ،‬ولهذا أعتقد أن‬
‫ٍ‬ ‫منظومة‬
‫ٍ‬ ‫بأكثر من‬ ‫النص ونفخ روحه وتركه في‬
‫المنتج صنع ّ‬ ‫ألنها بحسب المفهوم اللغوي لكلمة «نص»‬
‫أم أن اللغة بال جنس‬ ‫ّ‬ ‫َّص‪ْ :‬‬
‫مثل هذا القول أخذ على كل النصوص‬ ‫الفضاء الداللي له ويأتي القارئ هنا ليضع‬ ‫رفعُ ك الشيء‪.‬‬ ‫في لسان العرب «الن ُّ‬
‫ً‬
‫دفعة واحد ًة ونحن نتحدّ ث عن‬ ‫وجمعها‬ ‫خطاب‬
‫ٍ‬ ‫الروح في جسد ّ‬
‫تلقيه ويحوّ له إلى‬ ‫وربما تصل إلى محو نقطة االلتقاء بين‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫نصا‪َ :‬رفعَ ه‪ .‬وكل ما‬
‫ُصه ّ‬ ‫َن َّص الـحديث يَ ن ُّ‬
‫تتم قراءته‪ ..‬وهنا ال‬
‫النص الواحد الذي ّ‬
‫ّ‬ ‫قادر على االستمرارية أو قتله ووأده‪ ،‬ألنه‬ ‫كمفهوم منتج وبينه كمفهوم ٍّ‬
‫تلق‬ ‫ٍ‬ ‫النص‬
‫ّ‬ ‫النص اصطالحا‬‫أ� ْظ ِه َر‪ ،‬فقد ُن َّص» أما مفهوم ّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫الصحافة الثقافية العربية‬ ‫النص ومنظومته‬ ‫ّ‬ ‫يغيب تحصيل معنى‬ ‫المتحكّم في صناعة الجسد والروح معا‬ ‫جسد‬
‫ٍ‬ ‫النص الباحث عن‬‫ّ‬ ‫مثلما قتل روح‬ ‫«الكلمات المطبوعة أو المخطوطة التي‬
‫أحوالها‪ ،‬توجهاتها‪ ،‬عالقتها بالكتاب والقراء‬ ‫الثقافية عن الفهم‪ ،‬وإذا ما أساء المنتج‬ ‫ّ‬
‫المتلقي البسيط بل هو القادر‬ ‫وهنا ال نعني‬ ‫الكتمال بلوغه في وعي المتلقي‪.‬‬ ‫جهة‬
‫يتألف منها األثر األدبي» ولكنه أيضا من ٍ‬
‫سلبيا ومشوّ ً‬
‫ها‬ ‫ً‬ ‫النص كان الحاصد‬
‫لمفهوم ّ‬ ‫أي‬
‫النص ودالالته ووفق ّ‬
‫على فهم عالمات ّ‬ ‫عرفه الكثيرون‬
‫النص هو الخطاب وقد ّ‬
‫إن ّ‬ ‫أخرى يقال إنه «عينة من السلوك األلسني‬
‫ومؤ ّث ً‬
‫را على الثقافة وثقافة االستالم لهذا‬ ‫اتجاهات كان ينتهج طرق صنعته‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫من أنه «رسالة تواصلية إبالغية متعددة‬ ‫وإن هذه العينة يمكن أن تكون مكتوبة أو‬
‫النص أو ذاك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫النص والخطاب يحمالن‬
‫ولهذا نرى أيضا أن ّ‬ ‫المعاني تصدر عن باث (المخاطب) موجهة‬ ‫منطوقة»‪ .‬وهنا يكون رأي من يتحدّ ث عن‬
‫القدرة على التأويل وإنتاج القصد وبث‬ ‫إلى متلق معين عبر سياق محدد‪ ،‬وهي‬ ‫ٍّ‬
‫متلق فهو‬ ‫النص إذا كان بين ّ‬
‫دفتين دون‬ ‫أن ّ‬
‫كاتب من العراق‬ ‫الروح في المعنى ونقطة التقاء بين تفكيك‬ ‫تفترض من متلقيها أن يكون سامعا لها‬ ‫خطاب‬
‫ٍ‬ ‫ٍّ‬
‫متلق تحوّ ل إلى‬ ‫نص وإذا استمله‬
‫ٌّ‬

‫فكر حر وإبداع جديد‬


‫‪141‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪140‬‬
‫كتب‬

‫تنويعات روائية‬

‫حسني جمعان‬
‫هذا المنوال بنيت محكية «هوت ماروك» لياسين‬
‫على‬
‫عدنان (منشورات الفنك‪ ،‬الدار البيضاء‪)2016 ،‬‬
‫مستلة استعارة «القرين» من معتقد قديم‪ ،‬لتطريز مفارقات‬
‫مجتمع ومدينة وحداثة معطوبة‪ ،‬حشد فيها الكاتب كل‬
‫ّ‬
‫لعبقريةالنذالة‬
‫براعاته الشعرية والقصصية‪ ،‬ورصيده من منبت مسكون‬
‫بالدعابة إلنجاز نص مرح عن النذالة البشرية‪.‬‬ ‫بصدد رواية‪« :‬هوت ماروك»‬
‫تحكي الرواية مسار «رحال لعوينة» الشخص‪/‬السنجاب‪ ،‬فرد‬
‫لياسين عدنان‬
‫ملتبس وغير نمطي‪ ،‬وقلق ومثير للخيال‪ ،‬تصب في صورته‬
‫روافد مزرية شتى‪ ،‬تفقده الكنه اإليجابي‪ ،‬لكن دون أن‬ ‫‪ ‬‬
‫تحوله لشرير بسيط‪ ،‬يتمثل باألحرى كمركّب عاطفي وظيفي‬ ‫شرف الدين ماجدولين‬
‫يشخص في الرواية صورة‬ ‫ّ‬ ‫لتناقض الشر وعبثيته‪ ،‬لهذا فهو‬
‫جميلة للنذل‪ ،‬أيمكن أن يكون النذل جميال؟ ربما‪ ،‬فهي‬
‫المعادلة ذاتها التي تجعل ّ‬
‫للشر أزهارا (عند بودلير)‪ ،‬لنقل إنه‬
‫«نذل خاص» ال يحقد على اآلخرين‪ ،‬ويتأمل وجودهم دون‬
‫ضغينة‪ ،‬ويأسف أحيانا لنزوعات النهش والقطم والجندلة‪،‬‬
‫التي تنتابه بالرغم عنه‪ ،‬بيد أن الشيء المؤكد أن ما يركبه‬
‫إحساس غير نزيه يتجسد في الرواية عبر صور «المغص»‬
‫الذي يطحن األحشاء بإزاء كل النجاحات العابرة لألهل‬
‫والخالن والبشرية جمعاء؛ النذل في النهاية نتاج محيط‬
‫ومسار حياتي وقيم اجتماعية ترخي بظاللها على الطبائع‬
‫واألهواء‪ ،‬وجغرافيا معقدة من الخصاصة والصراع البدائي‬
‫للبقاء بين الناس‪ ،‬هل يمكن أن نتحدث عن عبقرية للنذالة‪،‬‬
‫يبدو االستعمال مرتبكا ومازحا إلى حدّ ما‪ ،‬لكنه يضمر بعض‬
‫ما يسعى إليه الروائي‪ ،‬فنحن أمام عجن لشظايا الهشاشة‬
‫أي التزام أخالفي‬‫الطبعية والجبن المتأصل‪ ،‬والتملص من ّ‬
‫لربح موطئ قدم على هذه الحياة‪ ،‬هذا المسار الذي حولته‬
‫ّ‬
‫واللغزية والتمدد األفقي‬ ‫الرواية المستندة إلى االلتباس‬
‫المتو ّتر‪ ،‬إلى قيمة روائية ذات عمق شيطاني محبب‪.‬‬
‫كيف تتنقل بنفاذ ما بين مالمح البشر‬ ‫والمفارقات السلوكية‪ .‬ولكن بوصفها‬ ‫هذه هي الحكاية اإلطار التي خططها‬ ‫يضعنا الكاتب‪ ،‬منذ الوهلة األولى أمام لعبة مماثلة تستهوي‬
‫ونظيراتها عند الحيوانات‪ ..‬الفرق األكبر‬ ‫مرجعا لبناء صور الذوات الداخلية في‬ ‫الروائي لتحقيق مآربه الروائية‪ ،‬تتصل فيما‬ ‫القارئ‪ ،‬وتجعله يتمادى في تصديق األحداث المتداعية‬ ‫تبنى الروايات عادة باستعارات مضيئة‪ ،‬ال تلبث‪ ،‬أن ترتوي‬
‫يكمن في األخالق والسلوك وفن العيش‪،‬‬ ‫انفعالها الغريزي وتصرفها المكتسب‪.‬‬ ‫بينها في االرتكاز على استعارة «القرين»‬ ‫بنفس مشوّ ق‪ ،‬لحياة صغيرة للبطل صاحب العين الحسية‬ ‫وتنمو وتكتسب أجسادا‪ ،‬وتتنقل بين فضاءات وأوقات‬
‫وكذا في التطلعات العميقة للحيوان‪ ،‬مما‬ ‫وتدريجيا يضعنا السارد أمام تفاصيل‬ ‫وتخييلها لعبقرية النذالة‪ ،‬تبدأ بالمماثلة‬ ‫المضاعفة والمتشعبة‪ ،‬القادم من وسط هامشي ألب عاطل‬ ‫منسية‪ ،‬تونع كنيازك لتضيء العابر والساكن في تالفيف‬
‫يؤثر بشكل ال شعوري في سلوك اإلنسان‬ ‫والصور‬
‫ّ‬ ‫مدونة معقدة من القرائن والنظائر‬ ‫الرمزية وتنتهي بالتجاور الفضائي مرورا‬ ‫يعيش على تالوة القرآن في المقابر‪ ،‬وأمّ تنتظر ما يدخله‬ ‫الروح‪ ،‬وتتكثف عبر نثر بصير قادر على القبض والبسط‪،‬‬
‫المرادف له‪ ،‬وأدائه في العمل والحياة» (ص‬ ‫البالغية المتقابلة‪ ،‬تؤصل ألخالقيات‬ ‫بالتحاكي االسمي والكالمي بين الواقع‬ ‫عليها من كفاف يومي‪ ،‬استطاع أن يرتقي في مراتب الفاقة‬ ‫وترك التفاصيل تتداعى دون حد‪ ،‬ثم لملمتها كحبات ضوء‬
‫‪.)19‬‬ ‫االحتيال والحسد والضغينة والوصولية‬ ‫واالفتراض‪.‬‬ ‫والحرمان بعد انتقال األسرة للسكن مع العم األعزب‪ ،‬في‬ ‫في شريط حي‪.‬‬
‫حين يفكر التخييل الروائي بشخصياته‬ ‫والكذب والغباء والتوحش‪ ..‬أي لمنظومة‬ ‫ويتصل أول هذه المآرب بآلية التخييل‪،‬‬ ‫حي بالمدينة القديمة‪ ،‬وهناك ناضل الولد الستكمال دراساته‬ ‫ّ‬
‫حيوانيا‪ ،‬فإنه يحول المنبى السردي‬ ‫النذالة العبقرية‪ ،‬في أبهى تجلياتها‪ .‬يقول‬ ‫وبالغة النوع الروائي‪ ،‬حيث يلتجئ‬ ‫الجامعية‪ ،‬حيث يتعرف على النضال الطالبي بفصائله‬
‫إلى حقل لتبيين المشابهات التي تصوغ‬ ‫السارد في مقطع تمهيدي «رحال يجد‬ ‫الكاتب إلى توظيف «األمثولة الحيوانية»؛‬ ‫اليسارية واإلسالمية‪ ،‬الثورية واإلصالحية‪ ،‬الشرعية‬
‫الظاهر والوجدان والذهنية‪ ،‬فينساق‬ ‫أي‬
‫نفسه أقرب إلى السنجاب منه إلى ّ‬ ‫ليس بوصفها نسقا رمزيا‪ ،‬تنوب فيه‬ ‫والمحظورة‪ ،‬قبل أن يستقر به الحال متزوجا من زميلته‬
‫قائد المماثلة مع اللعبة إلى مداها المعري‬ ‫حيوان آخر وكل حديث عن القرد والفأر‬ ‫أصناف الحيوانات عن البشر‪ ،‬وال بما هي‬ ‫حي مراكشي‬ ‫«حسنية»‪ ،‬ومشرفا على محل لإلنترنت في ّ‬
‫لمحيط القاع‪ ،‬ويتحول «رحال» إلى عين‬ ‫والجرذ‪ ..‬يفتقد للعين الالقطة التي تعرف‬ ‫الحكم‪،‬‬
‫بنية حكائية مغلقة‪ ،‬قصاراها إجزاء ِ‬ ‫شعبي‪.‬‬

‫‪143‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪142‬‬


‫كتب‬

‫بتجليات التعالي االسمي‪ ،‬فالجدار لن‬ ‫والنقاش وصياغة فرقعات إعالمية تشغل‬ ‫ليس فقط على الخارج والسطحي‪ ،‬وإنما‬
‫يكون‪ ،‬في يوم ما‪ ،‬ملكا لذات فردية‪ ،‬بقدر‬ ‫الرأي العام‪ .‬مع ما تستتبعه من الجدل‬ ‫باألحرى على الداخل المستكين في زوايا‬
‫ما يمثل كقناع المتدادها الرمزي المتحايل‪،‬‬ ‫الضروري للتخييل الروائي‪ ،‬وللرومانيسك‬ ‫معتمة من وعي الشخصيات؛ من وفيق‬
‫ومرتعا لتعرية النوازع الفطرية‪ ،‬تلك التي‬ ‫المرح والهزلي‪ ،‬وما تنهي إليه من محو‬ ‫الدرعي (الشاعر)‪ ،‬إلى المخلوفي (األستاذ‬
‫يطل منها التوحش الشرير ظهير البداوة‬ ‫لألسماء وإعدام للمسارات‪ ،‬السلوك الذي‬ ‫التقليدي)‪ ،‬إلى مراد والمختار وغيرهما من‬
‫المتأصلة في األنفس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الغريزية‬ ‫تتقنه عبقريات النذالة البشرية في الفضاء‬ ‫رفاق النضال الطالبي‪ ،‬إلى التجار وضباط‬
‫ومن ثم فلن تشكل الرواية في تخييلها‬ ‫األزرق‪.‬‬ ‫األمن والفتوّ ات‪ ،‬ومرتادي محل اإلنترنت‬
‫لعبقريات النذالة البشرية إال مرثية لفضاء‬ ‫تتكثف تجليات النزوع‬‫ّ‬ ‫هنا مرة أخرى‬ ‫من العاطلين والعابرين ومسلوبي اإلرادة‪.‬‬
‫المدينة المزيفة (مراكش)‪ ،‬اآليلة بعد‬ ‫الفطري للقرين الالإنساني إلى افتراس‬ ‫وسرعان ما يضحى «القرين» هو عنوان‬
‫رحالت طويلة بين حنايا المدنية الوهمية‪،‬‬ ‫اآلخرين‪ ،‬وقضمهم والتنكيل بهم‪ ،‬على‬ ‫جدل اإلعالن واإلضمار في فصول الرواية‬
‫إلى استنبات الريف المقفر بين جنباتها‪،‬‬ ‫نحو يجاوز ارتجاالت الفضاء الجامعي‬ ‫وفقراتها‪ ،‬وال تدرك التصرفات والسلوكات‬
‫فتتخايل بما هي أسطورة ملفقة تداري‬ ‫األحمر واألسود‪ ،‬المقيد باشتراطات الواقع‬ ‫الفردية‪ ،‬وال المقاصد والمطامح الجماعية‪،‬‬
‫تشوهات الهشاشة المتأصلة في تكوين‬ ‫االجتماعي ومحاذيره‪ ،‬يقول السارد في‬ ‫بدون إدراك جوهرها الحيواني المقابل‬
‫النضارة الطافية على السطح‪ ،‬بينما يكمن‬ ‫مقطع دال «حائط على الفيسبوك يمتد إلى‬ ‫والمتعالي‪ ،‬وهو المبدأ ذاته الذي استبطن‬
‫القرين الحيواني البدائي في العمق وبين‬ ‫ما ال نهاية‪ .‬ال حدود له‪ ،‬ليس مثل جدار‬ ‫أغلبية نهج التمثيل السردي عبر عالم‬
‫الثنايا‪ .‬وسرعان ما يزدحم السطح المبهر‬ ‫الحيوان؛ من الخرافة («كليلة ودمنة» مثال)‬
‫ذاته‪ ،‬بفائض البشاعة الممتد في النسوغ‪.‬‬ ‫إلى الرسالة («الصاهل والشاحج» للمعري)‬
‫من هنا تتجاوز استعارة «القرين» لحظتيها‬ ‫إلى الرواية المرتكزة على مجتمع الحيوان‬
‫السابقتين‪ ،‬تتجاوز «الحيوان» و»الصفحة‬ ‫(«حديقة الحيوان» لجورج أورويل)‪ ،‬إلى‬
‫الزرقاء» لتستوطن الفضاء البدوي الموازي‬ ‫الشيء األكيد أن رواية‬ ‫القصة القصيرة الناهضة على مبدأ القرين‬
‫الساكن في العمق‪ ،‬مكثفة عبقرية النذالة‬ ‫«هوت ماروك» تنطوي‬ ‫(«القرين» لمجيد طوبيا مثال)‪.‬‬
‫البشرية ومشرعة حناياها على أوسع‬ ‫على مهارة تخييلية‬ ‫وتنفتح مرجعية القرين على مدار أوسع‬
‫الحدود‪.‬‬ ‫حين ننظر إلى الرواية بما هي تأويل‬
‫ظاهرة‪ ،‬وحبك أسلوبي‬
‫والشيء األكيد أن رواية «هوت ماروك»‬ ‫نسميه‬
‫ّ‬ ‫للوجود المتشظي للفرد الذي قد‬
‫تنطوي على مهارة تخييلية ظاهرة‪ ،‬وحبك‬ ‫أخاذ‪ ،‬وبراعة في تبطين‬ ‫«افتراضيا» أو «اسميا» أو «صوريا»‪ ،‬أو‬
‫أسلوبي أخاذ‪ ،‬وبراعة في تبطين السخرية‪،‬‬ ‫السخرية‪ ،‬كما تستند على‬ ‫أي توصيف آخر دال على مفارقة الوقائع‬ ‫ّ‬
‫كما تستند على معرفة جمالية بالعربية‬ ‫معرفة جمالية بالعربية‬ ‫الموضوعية وااللتباس بالصفحة الضوئية‪،‬‬
‫الفتة‪ ،‬واستثمار متوازن لطاقتها النثرية‪،‬‬ ‫وابتداع واقع وهمي يتصل باألسماء‬
‫الفتة‪ ،‬واستثمار متوازن‬
‫وإمكانياتها التعبيرية عن النوازع واألهواء‬ ‫والصور والكالم فقط‪ ،‬وكأن اقتران الفرد‬
‫كل مهاراته‬‫اإلنسانية‪ ،‬أودع فيها الكاتب ّ‬ ‫لطاقتها النثرية‬ ‫بالقرين الحيواني ال يكفي لتمثيل الكلبية‬
‫الذهنية والحسية المغتنية بسنوات‬ ‫البشرية‪ ،‬وسرعان ما يضحى الوجود‬
‫طويلة من الممارسة الشعرية والقصصية‬ ‫االسمي‪/‬الصوري أكثر براعة في تمثيل‬
‫والصحفية‪ ،‬وانخراطه المهووس في‬ ‫الخروج من جبلة البشر‪ ،‬إلى قدر الفأرة‬
‫الشأن المجتمعي‪ ،‬ليفلح في المحصلة‬ ‫المدرسة أو حائط التواليت‪ .‬اكتب يا رحال‬ ‫المجازية للحاسوب‪ ،‬وهو المأرب الثاني‬
‫في التقاط راهن بلد تتقاذفه اإلخفاقات‬ ‫اكتب‪ .‬دبج ما شئت من رؤى وخواطر‪..‬‬ ‫الذي تحققه الرواية‪.‬‬
‫السياسية والثقافية وتكلس القيم‬ ‫هذا فضاء آخر أكثر اصطخابا‪ .‬بحر متالطم‬ ‫هكذا يمكن إدراك «هوت ماروك» ضمن‬
‫حسني جمعان‬

‫االجتماعية المتحكمة فيها‪ ،‬كما تطحنه‬ ‫األمواج يصيب راكبه بالدوار» (ص ‪.)215‬‬ ‫ضفاف الرواية التفاعلية‪ ،‬بالنظر إلى‬
‫النوازع البدائية المتأصلة التي لم تفلح‬ ‫وألنه جدار مفتوح على أوهام العبقريات‬ ‫موضوعها‪ ،‬وبإدراك قدرتها على االستناد‬
‫يوما أنوار السطح الملفقة في تبديد أثرها‬ ‫يمثل في محطات‬ ‫البشرية المتفاقمة فلن ّ‬ ‫إلى قاعدة التناظر الشبكي‪ ،‬المتفرع نصيا‬
‫من العمق الراسخ‪.‬‬ ‫التصوير الروائي إال كتنويع على مرجعية‬ ‫إلى برامج التواصل االجتماعي والمواقع‬
‫ناقد واكاديمي من المغرب‬ ‫«القرين» حيث تتماهى األمثولة الحيوانية‬ ‫الصحفية التي تتيح إمكانية التعقيب‬

‫‪145‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪144‬‬


‫كتب‬

‫الكاتب اإليطالي أنطونيكى تابوكي في‬


‫ُ‬
‫يسلك‬
‫األسطوريوالبوليسي‬
‫روايته “إزابيل” (الصادرة من دار الساقي‬
‫ُ‬
‫تتداخل الثميات البوليسية‬ ‫ً‬
‫مميزا إذ‬ ‫ً‬
‫مسارا‬ ‫‪)2016‬‬ ‫«إيزابيل» أنطونيكى تابوكي‬
‫واألسطورية ناهيك عن تمرير النتف التأريخية عن حقبة‬ ‫‪ ‬‬
‫حكم الدكتاتور ساالزار في تضاعيف عمله‪ ،‬يتلقى القارئ من‬
‫كه يالن محمد‬
‫العنوان إشارات تعينهُ على ما تتمركز حوله الرواية‪ ،‬إذ‬
‫تتلخص الموضوعة الرئيسية في البحث عن مصير شخصية‬
‫ُ‬
‫حملت الرواية اسمها “إزابيل” التي يُ عد اختفاؤها في‬
‫ً‬
‫محركا أساسيا في تعاقب األحداث‪ ،‬ويستمرُ‬ ‫ظروف مُ لتبسة‬
‫غيابها فعليا حتى الفصل األخير قبل الوصول إلى النهاية‬
‫كل ما تقرأ ُه عبار ًة عن روايات اآلخرين حول شخصية‬ ‫ُ‬
‫أنطوزنيو تابويك ميزج بني العنرصين األسطوري والبولييس يف روايته الجديدة‬
‫إزابيل المعروفة في المنظمة السرية بماغدا‪ ،‬وهي نشأت من‬
‫ال‪ ،‬فهي ُت ْقنعك بحديثها حول المجرات‬
‫فع ً‬ ‫يتذكرُ المتلقي حضور مونيكا في قداس‬ ‫عن إزابيل هنا ما يجدر بالذكر أن المروي‬ ‫أسرة إقطاعية ذات تقاليد أ�رستقراطية غير أنَّ ذلك ال‬
‫والكوسمولوجيا عن إلمامها بالشؤون‬ ‫لموت صديقتها إزابيل‪ .‬وما يُ ضفي مزيدا‬ ‫له في كل فصول الرواية له موقع داخل‬ ‫يمنعها من االنتماء إلى مجموعة ثورية‪ ،‬ونشر مقاالت في‬
‫العلمية‪ ،‬كما لديها معرفة بالثقافة الهندية‬ ‫من التشويق على السرد هو رواية حارس‬ ‫المنظومة السردية ماعدا الفصل األول‪،‬‬ ‫الصحف ضد النظام الدكتاتوري كما نظمت لقاءات شعرية‪،‬‬
‫وطقوساتها العجائبية‪ ،‬وما ورد في نصوصها‬ ‫سجن كاشييس آلميدا‪ ،‬فاألخير يعتبرُ نفسه‬ ‫تنقل بعض الشخصيات‬ ‫ُ‬ ‫فض ً‬
‫ال عن ذلك‬ ‫وتلك الفعاليات أ‬
‫تبد� عقب موت والديها بحادثة السير‪ .‬من‬
‫الموروثة عن ضرورة اهتداء اإلنسان بلغة‬ ‫ً‬
‫مساهما في النضال ضد الدكتاتورية كونه‬ ‫شهادة غيرها عن إزابيل وازدياد نشاطاتها‬ ‫تنفح حياة البطلة على مرحلة مختلفة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫هنا‬
‫الترميز للخروج من حالة الضياع‪ ،‬زيادة‬ ‫ُ‬
‫يعترف بما‬ ‫مُ ساعدا للثوار المُ عتقلين كما‬ ‫في صفوف التنظيم السري ناهيك عن‬
‫على ذلك تؤكد إليزالوفاكي عن أهمية عملية‬ ‫كان يجنيه من مردود مادي عن مُ ساعدته‬ ‫إيراد أخبار صحافية في سياق الحديث‬ ‫سر االختفاء‬
‫البحث بحد ذاتها دون انتظار النتيجة‪ ،‬وما‬ ‫السجانُ عن تحايله‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ويكشف‬ ‫للمسجونين‪،‬‬ ‫عن موت البطلة منتحرة داخل السجن‪ ،‬ال‬ ‫ً‬
‫محوريا‬ ‫ً‬
‫موقعا‬ ‫ُ‬
‫عامل الشخصية في هذا العمل‬ ‫يكتسب‬
‫ُ‬
‫تتوصل إليه من هذه المحادثة هو أن العلم‬ ‫على السلطات إلخراج إيزابيل من السجن‬ ‫تنتهي القصة عند الجدة كما تترك مونيكا‬ ‫بل هو قوام أساسي في ترتيب مكونات السرد الُأخرى‪ ،‬إذ‬
‫عوض عن الميثولوجيا الشعبية ً‬
‫أيا كانت‬ ‫ال يُ ُ‬ ‫وذلك عندما تنتحر إحدى سجينات ترافق‬ ‫مكانها لراو آخر وتتبدل البيئة وتستمرُ رحلة‬ ‫ُ‬
‫تتمثل مهمتها‬ ‫أوكل المؤلف بدور إسنادي للشخصيات التي‬
‫ُ‬
‫يعيش‬ ‫درجة مصداقيتها‪ ،‬ألن اإلنسان ال‬ ‫إيزابيل المُ نتحرة مدعية أنها أ�ختها وهذا‬ ‫التقصي وراء أثر إزابيل‪.‬‬ ‫في تحديد صورة إزابيل وإبانة مصيرها‪ ،‬وفي ذلك يتبنى‬
‫بالحقيقة على حد تعبير نيتشة‪.‬‬ ‫ينسحب‬ ‫يكون بالتنسيق مع آلميدا‪ ،‬وبذلك‬ ‫راو واحد بسرد‬ ‫ً‬
‫ُ‬ ‫الكاتب تقنية تعدد الرواة‪ ،‬عوضا من انفراد ِ‬
‫ُ‬
‫في نهاية الرواية تختفي الحدود بين عالم‬ ‫ُ‬
‫السجان من متن الحكاية ويتسلسل السردُ‬ ‫الثورة بالموسيقى‬ ‫حكاية إزابيل تتشارك مجموعة من الشخصيات ذات‬
‫األموات وعالم األحياء‪ ،‬وذلك يتمثل في‬ ‫ُ‬
‫فينزل إيزلوفاكي‬ ‫يظهر تياغو المُ صور‬
‫َ‬ ‫إلى أن‬ ‫تتعاقب حلقات الرواية وتتعقدُ الحبكة‬
‫ُ‬ ‫خلفيات واهتمامات مُ ختلفة في اإلدالء برأيها عن هذه‬
‫لقاء إيزلوفاكي بالقديس شافييز الذي شاع‬ ‫إلى معتكفه ليحصل على صورة إليزابيل‪،‬‬ ‫الدرامية عندما يلتقي إيزلوفاكي بالمغنية‬ ‫الشخصية مُ تعددة األبعاد فهي تقامُ حفالت موسيقية‬ ‫ُ‬
‫يستمد منها فن الرواية تفرده في‬ ‫تتنوع الوسائل التي‬
‫الخبر بأنه ضاع في الهند‪ ،‬كما تستحضر‬ ‫كما يخبره تياغو عن سفر مجهولة المصير‬ ‫والعازفة تيكس فاألخيرة أميركية شجعتها‬ ‫مُ نكهة بطعم ال ُبورجوازية من جهة و َت ُّ‬
‫نضم إلى الحزب‬ ‫تحويل األفكار والمُ عتقدات السائدة إلى ثيمات أساسية‬
‫إيزابيل وتعودُ من العدم وذلك بعدما يضع‬ ‫إلى ماكاو دون أن يتلقى أي تأكيد عن بقاء‬ ‫إيزايبل على االهتمام بموهبتها الموسيقية‬ ‫الشيوعي من جهة أخرى‪ ،‬مونيكا هي صديقة إزابيل تروي‬ ‫في بنيته‪ ،‬كما ساهم النص الروائي في إعادة طرح المواد‬
‫صاحب الكمان صورة األخيرة في مركز‬ ‫ُ‬
‫العمل‬ ‫ثم ينحو‬
‫إزابيل على قيد الحياة ومن َّ‬ ‫وعزف موسيقى الجاز في زمن كان النظام‬ ‫ً‬
‫جانبا من شخصيتها منذ أن كانت األخيرة طالبة في معهد‬ ‫الُأسطورية في قوالب جديدة‪ ،‬وغالبا ما يكون الطابع‬
‫الدائرة ويعزف سوناتا الوادع لبيتهوفن‪،‬‬ ‫ً‬
‫فنتازيا بدخول إيزلوفاكي إلى مغارة‬ ‫منحى‬ ‫في البرتغال يروج لموسيقى الفادو الحزينة‪،‬‬ ‫ثم ُتشير إلى مكانة إزابيل‬
‫إسكرافاز دوأمور ديفينو ومن َّ‬ ‫البوليسي هو السمة الغالبة في الروايات التي تتكئ على‬
‫إذ تخبر إيزابيل الراوي عن رقود جثتها‬ ‫وتحاوره مع الحشرات‪ .‬ومرة أخرى يؤكد‬ ‫وفي ذلك إشارة إلى أن األنظمة الفاشية‬ ‫بين أقرانها فهي درست في الثانوية الفرنسية مأوى األفكار‬ ‫الرموز األسطورية لشد القارئ إلى مُ تابعة تلك الحلقات‬
‫في إحدى المقابر بينما روحها مُ نطلقة‪،‬‬ ‫له صوت مجهول عن انتحار إيزابيل وهي‬ ‫تدج ُن مشاعر اإلنسان وتستغل الموسيقى‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫طبعا هذا الملمح من حياة إيزابيل له‬ ‫المعارضة للفاشية‪،‬‬ ‫التي تتوالد بامتداد مساحة العمل الروائي‪ ،‬إذ ما إن تنحل‬
‫وفي ذلك تلميح إلى ثنائية الروح والجسد‪.‬‬ ‫شربت قارورتين من الحبوب‪ ،‬بعد المرور‬ ‫لتكريس حالة من الكآبة لدى مواطنيها‪ ،‬تقتنع‬ ‫ُ‬
‫يعلل رغبة الشخصية‬ ‫دور في تماسك وحدة الرواية كما‬ ‫ُ‬
‫تسترسل‬ ‫عقدة حتى تأتي مكانها عقدة أخرى‪ ،‬وبذلك‬
‫ُ‬
‫وتتناسل الحكايات‬ ‫وبذلك ُتقفل الحلقة‬ ‫ُ‬
‫يصل الراوي المتبني لضمير‬ ‫بحلقة الشاعر‬ ‫تيكس بما نشرت على صفحات الجرائد‬ ‫األساسية في االنضمام إلى التيار اليساري المُ عادي‬ ‫ُ‬
‫ويندمج المُ تلقي في تضاريس الرواية ال‬ ‫ُ‬
‫الوحدات مُ تتالية‬
‫الشيقة ضمن هذا العمل‪ ،‬غير أن ما يظل‬ ‫المُ تكلم إلى جبال األلب هنا يتعرف على‬ ‫عن انتحار إزابيل فيما يُ باغتها إيزلوفاكي‬ ‫ينتقل خيط السرد إلى شخصية‬‫ُ‬ ‫ثم‬
‫لدكتاتورية ساالزار‪،‬ومن َّ‬ ‫ً‬
‫تفاديا الوقوع‬ ‫سيما إذا كان عُ نصر اللغة امتاز بالشفافية مُ‬
‫في المركز هو قصة إيزابيل التي من خاللها‬ ‫ليز فاألخيرة من جانبها تشرع بسرد قصتها‬ ‫بعدم عثوره على شهادة الوفاة إليزابيل‬ ‫ً‬
‫أيضا تقدم صورة عن‬ ‫الجدة بريجيدا تيسيرا فهي بدورها‬ ‫في شرك التعقر والغموض الفارغ‬
‫يتعرف المتلقي على جزء من تاريخ البرتغال‬ ‫وألمها المبرح حين أخذت منها الحياة ابنها‬ ‫بعدما نبش سجل الوفيات في البلدية‪،‬‬ ‫طفولة إزابيل ومعاناتها مع مرض الربو وغياب والديها‬
‫في عهد ساالزار‪.‬‬ ‫ومحاوالتها في حقل الفيزياء إلدراك سبب‬ ‫وبذلك نكون أمام مفصل جديد للرواية‪ ،‬إذ‬ ‫فالبتالي هي من تكفلت بها الشتغال الوالد بالتجارة كما األمُ‬
‫كاتب من العراق‬ ‫وجود حياة مُ نتظمة على كوكب األرض‬ ‫ال يخلو األمر من الغموض خصوصا عندما‬ ‫ً‬
‫منكبة في مهمات دينية في األبرشية‪ ،‬هكذا تتالت الروايات‬

‫‪147‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪146‬‬


‫كتب‬

‫النص والصورة‬

‫بهرام حاجو‬
‫هذه اإلشكالية التي تعيها جيدً ا المؤلفة‬
‫ومع‬
‫تطمح في هذا الكتاب إلى إعادة رسم‬
‫الفنين وخلق أرضية جديدة مشتركة مفتوحة‬
‫ّ‬ ‫الحدود بين‬ ‫لسلمى مبارك‬
‫على الجانبين تسمح بتداخل المفاهيم واألدوات‪ ،‬وقبلها‬ ‫‪ ‬‬
‫َتسمح بالنظر إلى‬
‫الفنين باعتبارهما شريكين في تاريخ‬
‫ّ‬
‫ممدوح فراج النابي‬
‫تفاعلي يجمعهما ويربط بينهما العديد من العالقات غير‬
‫ّ‬
‫النوعية‪.‬‬
‫تتطرق الكاتبة في مقدمتها المقتضبة إلى الموضوع الذي‬
‫تطرحه مظهرة أهميته‪ ،‬وأهمية االحتياج إلى المنهج المقارن‬
‫لما يتيحه هذا المجال من حرية ال ُتتاح لغيره من المجاالت‪،‬‬
‫وهو ما يُ ساهم في خلق مساحة رحبة للتقارب بين المجالين‪.‬‬
‫كما تتطرّ ق لتاريخية العالقة بين األدب والفنون بصفة عامة‬
‫وترجعها إلى نهاية ستينات القرن العشرين‪ .‬والجدير بالذكر‬
‫أن العالقة بين األدب والفن التشكيلي كانت تستحوذ على‬
‫جل اهتمام الباحثين مقارنة بعالقة األدب والسينما التي‬
‫كانت تدخل على استحياء‪.‬‬

‫محطات مشتركة‬
‫ينقسم الكتاب الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب‬
‫كل باب منها بشكل من‬‫‪ ،2016‬إلى ثالثة أبواب يختص ّ‬
‫األول من‬
‫أشكال العالقة بين األدب والسينما‪ ،‬ارتكز الجزء ّ‬
‫الكتاب على استعراض بعض المحطات في التاريخ المشترك‬
‫الفنين منذ ظهور فن السينما في مصر‪ ،‬وقد اكتفت‬
‫ّ‬ ‫بين‬
‫بثالثة نماذج إلظهار التقاطع التاريخي بين الفنين‪ ،‬وفي‬
‫اتجاهاتها لالستقالل عن األدب‪ ،‬على نحو ما‬ ‫تميزت هذه المرحلة بتحرّ ر الكاميرا‬
‫وقد ّ‬ ‫ّ‬
‫علمه كتابه السيناريو‪.‬‬ ‫المحطة األولى أوقفتها على تأثير اختراع جهاز السينما‬
‫ظهرت في كتابات فايز غالي وبشير الديك‪.‬‬ ‫من األستوديوهات وخرجت لشارع المدينة‬ ‫أما المحطة الثالثة فترصد لحالة الصحوة‬ ‫على األدباء في العالم‪ ،‬كما تعرض للردود المتباينة من قبل‬
‫والمالحظة المهمة التي تسجلها المؤلفة‬ ‫تتحسس المكان بعين تسعى الكتشافه في‬
‫ّ‬ ‫التي أطلقت عليها سينما جديدة رواية‬ ‫الكتاب‪ ،‬فجورجي زيدان يقف عند الدور التعليمي‪/‬التربوي‬
‫أن األدب على الرغم من كونه مصد ًرا من‬ ‫ظاهريته وبديهيته وحميميته‪ ،‬كما استخدم‬ ‫جديدة‪ ،‬وقد بدأت من جيل ستينات القرن‬ ‫لهذا االختراع الجديد‪ ،‬أما عباس محمود العقاد فذهب إلى‬
‫مصادر األدب إال أنه بدا كمعوِّ ق الستقاللية‬ ‫ً‬
‫تخففا‬ ‫هؤالء لغة سينمائية أكثر رهافة وأكثر‬ ‫الماضي حتى بداية تسعيناته‪ ،‬حيث شهدت‬ ‫الصامتة في إخصاب الخيال وتنميته‪ .‬أما طه‬
‫أهمية السينما ّ‬
‫الفن السينمائي ولبحثه عن أدواته الخاصة‪.‬‬ ‫من قيود الحدوتة والتقاليد الحكائية‪ ،‬وعلى‬ ‫هذه الفترة تحوالت على الصعديْ ن األدبي‬ ‫حسين فله موقفان متنقاضان األول ع ّبر عنه في حديث‬
‫الخط ذاته يتقاطع كتاب جيل الستينات من‬ ‫والفني‪.‬‬ ‫إذاعي مع المذيعة ليلى رستم‪ ،‬اتهم فيه السينما بإلهاء‬ ‫يتأسس كتاب النص والصورة‪ ،‬للدكتورة سلمى مبارك منذ‬ ‫ّ‬
‫السير أزمة وجودية‬ ‫القرن العشرين الذين ولدوا قبيل الحرب‬ ‫السينما الجديدة التي تقصدها هي سينما‬ ‫الجمهور وإفساد األدب عندما ينتقل إليها عبر االقتباس‪.‬‬ ‫عنوانه الفرعي «السينما واألدب في ملتقى الطرق» عند‬
‫في الباب الثاني تتبع مفهوم الموازاة الذي‬ ‫العالمية الثانية أو في أعقابها وتميزت‬ ‫نتاج من المخرجين ظهرت باكورة أعمالهم‬ ‫وفي المحطة الثانية تتوقف المؤلفة بالكامل عند تجربة‬ ‫خلق مساحات للقاء بين السينما واألدب‪ ،‬وإن كانت تعترف‬
‫يُ عنى بتتبع عالقة التشابه بين عناصر‬ ‫كتاباتهم بأنها مغايرة للكتابة الواقعية‪.‬‬ ‫في ثمانينات القرن العشرين إال أنهم كانوا‬ ‫نجيب محفوظ وكتابته التي تعد فص ً‬
‫ال مشتركًا بين األدب‬ ‫منذ البداية بغياب أرضية نظرية تجمع بين الفنين‪ ،‬وهذا‬
‫ِّ‬
‫يؤدي تجاورها‬ ‫بعيدة عن بعضها البعض‬ ‫ومع هذا التقارب البادي بين جيل‬ ‫تحت تأثير اإلطار التاريخي لمصر ستينات‬ ‫والسينما‪ ،‬حيث تعدُّ د األدوار التي لعبها محفوظ في هذا‬ ‫راجع إلى طبيعة حداثة فن السينما في مقابل عَ راقة فن‬
‫إلى اكتشاف مساحات مشتركة‪ ،‬وتتناول‬ ‫السينمائيين والروائيين ورؤيتهم للفن‬ ‫القرن الماضي والظروف االقتصادية لفترة‬ ‫تمثله السينما من تاريخ شخصي لنجيب محفوظ‬ ‫الشأن بما ِّ‬ ‫القول‪ ،‬عالوة على وجود ميراث فكري طويل رأى في الفن‬
‫األول عن المدينة‬
‫مبحثين ّ‬
‫ْ‬ ‫في هذا الباب‬ ‫بصفة عامة إال أن هذا التقارب لم يثمر عن‬ ‫تميزت هذه التجربة بأن‬
‫سبعيناته‪ ،‬كما ّ‬ ‫بدأت عالقته المبكرة في طفولته‪ ،‬ثم عالقته الوثيقة عبر‬ ‫السابع حقالً غير أهل لوضعه على قدم المساواة مع األدب‪.‬‬
‫يومي في األدب والسينما‪ ،‬تنحو‬
‫ّ‬ ‫كمكان‬ ‫زيادة في األعمال المقتبسة من األعمال‬ ‫َّ‬
‫مبدعيها من المخرجين تأثروا بالسينما‬ ‫الكتابة السينمائية فوجد فيها نوعً ا من الكتابة البديلة‪ ،‬لكن‬
‫تاريخيا حيث‬
‫ًّ‬ ‫منحى‬
‫المؤلفة في جزء كبير ً‬ ‫ً‬
‫وأيضا غياب تجارب المشاركة‬ ‫الروائية‬ ‫ً‬
‫وفقا لدراستهم في الخارج أو‬ ‫الغربية‬ ‫يميز تجربة محفوظ أنها تجمع بين الشقين اإلبداعي‬
‫أهم ما ِّ‬
‫تبرز عالقة المدينة باألدب والسينما وقبلهما‬ ‫في الكتابة‪ ،‬بل سعت السينما في أحد‬ ‫اتصالهم بهذه النتاجات‪.‬‬ ‫والتقني‪ ،‬ويرجع الفضل إلى المخرج صالح أبوسيف الذي‬

‫‪149‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪148‬‬


‫كتب‬

‫وفي الفصل الثاني تتخذ من «البوسطجي»‬ ‫أهم االتجاهات النقدية‬


‫في تمهيد مستقل ّ‬ ‫بالحداثة‪ ،‬كما تورد مشاهد ومقتطفات تبرز‬
‫نموذجا آلليات القراءة في‬
‫ً‬ ‫ليحيى حقي‬ ‫في تناول االقتباس السينمائي عن األدب‪،‬‬ ‫فيها الوعي المديني كما ّ‬
‫تجلى في روايات‬
‫الفيلم والقصة‪ ،‬من خالل التركيز على عنصر‬ ‫وتقصر دراستها التطبيقية على ثالثة‬ ‫الواقعية وجمال الغيطاني‬
‫ّ‬ ‫نجيب محفوظ‬
‫الرسالة ووظيفتها السردية والتعبير الفني‬ ‫األول تعقد فيه مقارنة بين رواية‬
‫نماذج‪ّ ،‬‬ ‫ومحمود الورداني وإبراهيم أصالن‪ ،‬مقارنة‬
‫عنها في كل من العملين‪ ،‬فالرسالة تتحول‬ ‫«الحرام» ليوسف إدريس وفيلم «بركات»‬ ‫المديني في رواية‬
‫ّ‬ ‫بغياب هذا الوعى‬
‫إلى طبيعة مختلفة تصبح لدى قارئها الجديد‬ ‫المأخوذ عنها من خالل تتبع عنصري الصوت‬ ‫«زينب» لمحمد حسين هيكل‪.‬‬
‫قصة مسلسلة لها موقعها الجديد في شكل‬ ‫والصمت وتعبير اللغة األدبية والسينمائية‬ ‫ومن هذا المهاد التاريخي تنطلق في الفصل‬
‫اتصالي مغاير ثالثي األبعاد يتكون من؛‬ ‫عنهما‪ ،‬وكذلك الوظيفة السردية في دراما‬ ‫الثاني‪ ،‬لتبرز عالقة الموازاة متخذة من‬
‫الراوي‪/‬القارئ‪/‬النص حيث تتحوّ ل الرِّ سالة‬ ‫الفيلم والرواية‪ .‬فتقابل بين األصوات من‬ ‫نموذجي إبراهيم أصالن «مالك الحزين»‬
‫روائي بالنسبة إلى البوسطجي‪،‬‬‫ٍّ‬ ‫إلى ِّ‬
‫نص‬ ‫حيث ثنائية الحركة والسكون حيث أصوات‬ ‫و»الحرّ يف» لمحمد خان‪ ،‬فتتخذ من موتيف‬
‫مع اإلشارة إلى أن التصوّ ر الذهني تنتج عنه‬ ‫الطبيعة تجمع بين الصوتين‪ ،‬كما الحظت‬ ‫والسائر‪ ،‬ليس بوصفه موضوعً ا‬
‫ّ‬ ‫السير‬
‫ّ‬
‫قطيعة بين العالمين عالم المتخيل وعالم‬ ‫أن لحظات الوصف عند يوسف إدريس‬ ‫بقدر ما يشير إلى المعنى التشكيلي‬
‫الواقع حيث يفشل عباس في كسر حدود‬ ‫يُ صاحبها سكون تتخلله أصوات الطبيعة‪.‬‬ ‫للكلمة حيث تشير إلى الوحدة البصرية‬
‫المتخيل للبحث عن جميلة‪ ،‬يظهر التحول‬ ‫المالحظ أن ظاهرة الصوت والصمت في‬ ‫المتكرِّ رة‪ .‬وهي التيمة المهيمنة على العملين‬
‫أيضا في تعامل «عباس» يحيي حقي مع‬‫ً‬ ‫الرواية ترتبط بثنائية القاهر والمقهور‪ ،‬وهذه‬ ‫يتم‬
‫ّ‬ ‫والسينمائي بكثافة‪ ،‬حيث‬
‫ّ‬ ‫الروائي‬
‫ّ‬
‫الرسالة بمنطق التحليل النقدي فعباس‬ ‫توظيفه للتعبير عن أزمة وجودية تعيشها‬
‫ينظر للخطابات ال على أنها حودايت‪ ،‬وإنما‬ ‫الشخصيات‪ ،‬ما يجمع بين العملين أن‬
‫يتمعن في جميع التفاصيل الكتابية وأنواع‬ ‫دائما تظهر الشخصية في عُ زلة دائمة‬
‫السير ً‬
‫الخطوط ونوعية الورق والحبر المستخدم‪،‬‬ ‫كما في شخصية فارس في «الحريف»‪،‬‬
‫والفراغات وكيفية استخدامها‪ ،‬فقراته‬ ‫السينما الجديدة التي‬ ‫ويوسف النجار في «مالك الحزين» الذي‬
‫للخطابات تتوازى مع قراءة الناقد األدبي‬ ‫تقصدها هي سينما نتاج‬ ‫ً‬
‫مستغرقا في أفكاره أثناء السير‪ ،‬كما‬ ‫يبدو‬
‫لبحث فهم الشخصيات‪ ،‬كما تنحرف قراءة‬ ‫من المخرجين ظهرت‬ ‫أن الشيء اآلخر الجامع بين العملين هو‬
‫الخطابات إلى زاوية أخرى تتصل بمتعة‬ ‫حالة التسليع حيث في «مالك الحزين»‬
‫باكورة أعمالهم في‬
‫النص حيث يتحايل عباس بقراءة هذه‬ ‫يصير الوطن والمقهى سلعة‪ ،‬وبالمثل‬
‫الخطابات على الواقع الذي يعيشه‪.‬‬ ‫ثمانينات القرن العشرين‬ ‫في «الحريف» يصير اإلنسان سلعة يباع‬
‫يتحول‬ ‫أن‬ ‫في‬ ‫الحقيقية‬ ‫المفاجأة‬ ‫إال أنهم كانوا تحت تأثير‬ ‫ويشترى‪ ،‬وفي العملين يقف األبطال‬
‫البوسطجي من قارئ أو شاهد إلى دور‬ ‫اإلطار التاريخي لمصر‬ ‫ً‬
‫وأيضا تتجاوز‬ ‫عاجزين تتجاوزهم األحداث‬
‫ّ‬
‫تتوقف المؤلفة‬ ‫فاعل‪ .‬في الجزء األخير‬ ‫المدينة بحركتها وتدفقها والمباالتها‪ .‬كما‬
‫عند شكاوي الفصيح‪ ،‬حيث تتحول بردية‬
‫ستينات القرن الماضي‬ ‫تحل الوحدات السردية الصغرى محل‬
‫في األدب القديم إلى فيلم سينمائي كما‬ ‫السرديات الكبرى‪ ،‬وينتقل مركز الثقل من‬
‫فعل شادي عبدالسالم‪ ،‬هنا االقتباس يتأتي‬ ‫تصوير الوقائع اليومية العادية إلى التعبير‬
‫بوصف عملية تشتبك فيها عناصر النص‬ ‫عن العادي والبديهي مع تحميل التفاصيل‬
‫والسياق وبوصفه قراءة سينمائية حديثة‬ ‫الصغيرة األزمات الوجودية‪.‬‬
‫لهذه القطعة األدبية حوّ لتها من حالة الثبات‬ ‫الثنائية تتوه في الفيلم‪ .‬وتخرج المؤلفة‬ ‫أما الباب الثالث‪ ،‬فتقصره على لون شائع‬
‫بهرام حاجو‬

‫بث النص‬ ‫إلى حالة من الدينامية ُتعيد َّ‬ ‫بمالحظة أن درجة تعامل الفيلم والرواية‬ ‫من العالقة بين األدب والسينما‪ ،‬أال وهي‬
‫مفتوحا على الزمن‪.‬‬
‫ً‬ ‫القديم وتجعل منه متنًا‬ ‫مع هذه الظاهرة مرتبط بالتعامل مع المادة‬ ‫عالقة االقتباس‪ ،‬وهي العالقة التي تشكل‬
‫القصصية والعناصر المكوّ نة لها‪ ،‬فالصوت‬ ‫وفضاء للتبادل والجدل بين‬
‫ً‬ ‫ملتقى طرق‪،‬‬
‫كاتب من مصر‬ ‫المنفرد في الرواية يعبر عن السلطة‬ ‫نصين يرتبط كل منهما بشبكة من العالقات‬
‫(سياسية أو أبوية) أما الصوت المنفرد في‬ ‫مع أعمال سابقة عليه ومعاصرة له تشكّل‬
‫الفيلم هو صوت عزيزة وهو يُ ع ِّبر عن ذات‬ ‫النوع الذي ينتمي إليه وتحدّ د موقعه على‬
‫الشخصية في تذكرها لحياتها السابقة‪.‬‬ ‫المتخيل المرتبطة بالنوع‪ .‬وتناقش‬
‫ّ‬ ‫خريطة‬

‫‪151‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪150‬‬


‫كتب‬
‫المختصر‬
‫دنيا الزبيدي‬

‫لويستن‪ ،‬والية ماين األميركية برحلة عبر‬ ‫بمثابة وسيط بين الجنرال الفرنسي هوبرت‬ ‫ومسار دراسات المناطق في الواليات المتحدة‪،‬‬ ‫التقاليد اإلسالمية في اللجوء‬
‫المملكة رأى عالما أكثر تفاصيال وأكثر إثارة‬ ‫أيوتي والقبائل األصلية‪ .‬يشكك هذا الكتاب‬ ‫مع التركيز على دراسات الشرق األوسط من‬ ‫“التقاليد اإلسالمية في اللجوء‪ -‬في أزمتي العراق وسوريا”‬
‫للتفكير مما كان يتخيل‪ .‬يصف بالتفصيل ما‬ ‫في صورة المتمرد التي أعطاها الناس لها‬ ‫عشرينات الى ثمانينات القرن العشرين‪ .‬فقد‬ ‫هو الكتاب الصادر باإلنكليزية في سلسلة “الدين والهجرات‬
‫يراه من زاوية نظر شخصية انطالقا من المقر‬ ‫وسعيها لتمكين الناس في الشرق‪.‬‬ ‫شرعت الميادين األكاديمية في التركيز على‬ ‫العالمية”‪ ،‬من تأليف طاهر زمان ويناقش العالقة بين الدين‬
‫الرئيس لشركة أرامكو السعودية‪ ،‬الشركة‬ ‫أجزاء محددة من العالم أل ّنه حدث تغيير في‬ ‫والهجرة من زوايا نظر مختلفة وأطراف مختلفة من العالم‪.‬‬
‫الوطنية للنفط على ضفة الخليج العربي‪،‬‬ ‫تحديات الصحافة االستقصائية‬ ‫العلوم اإلنسانية واالجتماعية في سنوات ما‬ ‫يبحث الكتاب في كيفية تغير الممارسات الدينية وكيف أن‬
‫وصوال إلى مدينة جدة على ساحل البحر‬ ‫“الصحافة االستقصائية في العالم العربي‪:‬‬ ‫بين الحربين وخالل الحرب العالمية الثانية‬ ‫الناس يقبلون المهاجرين ومجتمعاتهم‪ .‬كما يبحث في الردود‬
‫األحمر حيث يتضمن جزء كبير من سكانها‬ ‫القضايا والتحديات” من تأليف صبا بباوي‪.‬‬ ‫من حيث األماكن والممارسات‪ .‬لم تكن مجرّ د‬ ‫العلنية عبر نقاشات حساسة دينيا بين المهاجرين وغير‬
‫مهاجرين من العالم اإلسالمي‪ .‬يعرض صورا‬ ‫وهذا الكتاب هو جزء من سلسلة “التواصل من‬ ‫نتيجة للحرب الباردة أو استخداما لحالة‬ ‫المهاجرين‪ .‬أدوار النوع االجتماعي هي األخرى تتغير إضافة‬
‫حية المرأة شابة سجنت من أجل االحتجاج‬ ‫أجل التغيير االجتماعي” وهو عبارة عن بحث‬ ‫األمن القومي األميركي‪ .‬لوكمان‪ ،‬أستاذ التاريخ‬ ‫الى دراسة العالقة بين الشرق والغرب‪ .‬كما يوجه الكتاب‬
‫على منع النساء من سياقة السيارات‪،‬‬ ‫أكاديمي متعدد االختصاصات يعتمد على‬ ‫والدراسات الشرق أوسطية واإلسالمية في‬ ‫االهتمام الى تاريخ الهجرة وكيف أنها أثرت على تطور األديان‪.‬‬
‫وشيخ صوفي يقيم الوصل بين المسلمين‬ ‫عدة نظريات متنوعة آتية من تقاليد متنوعة‪.‬‬ ‫جامعة نيويورك‪ ،‬يستخدم بحثا أرشيفيا ممتدا‬ ‫حيث لم تدرس العالقة بين الهجرة والدين بشكل كاف عبر‬
‫والمسيحيين لمساعدة بعضهم البعض لمعرفة‬ ‫التواصل والمعلومات واإلعالم في التغيير‬ ‫ليفسر مدى أهمية مؤسسات كارنجي وروكفلر‬ ‫عيون المهاجرين أنفسهم‪ ،‬لذا فإن هذا الكتاب سيساعد على‬
‫الله‪ ،‬وفنان يتلو القرآن يستعمل معدات‬ ‫االجتماعي هي جذور لصناعة عالمية تدعمها‬ ‫وفورد في تمويل دراسات المناطق في فترة ما‬ ‫فهم عالقات السلطة من منظور إنساني‪ .‬طاهر زمان‪ ،‬أستاذ‬
‫وسالسل حديدية لالحتفال بتنوع الحجيج‬ ‫الحكومات ووكاالت المساعدة على التطوير‬ ‫بعد الحرب على أمل تطوير العلوم االجتماعية‬ ‫ومدرس في معهد الدراسات الشرقية واألفريقية في جامعة‬
‫إلى مكة‪.‬‬ ‫والمؤسسات والجمعيات الخيرية‪ .‬هذا هو أول‬ ‫وإفادة الوكاالت الحكومية والشعب األميركي‪.‬‬ ‫لندن‪ ،‬يبين نقاط التشابه بين األزمتين في العراق وسوريا‬
‫كتاب ينظر إلى حالة الصحافة االستقصائية‬ ‫لقد قام مجلس البحوث في العلوم االجتماعية‬ ‫ليظهر دور الفاعلين المرتكزين على الدين خالل فترات النزوح‪.‬‬
‫بيروت ما بين الحرب والسلم‬ ‫ودورها في العالم العربي أثناء وبعد “الربيع‬ ‫وغيره بتوجيه التطور الفكري والمؤسساتي‬
‫رواية “‪ ”32‬للبنانية سحر مندور تأتي بعد‬ ‫العربي”‪ .‬ويبين هذا الكتاب الدور المحتمل الذي‬ ‫لدراسات الشرق األوسط‪ .‬يبين هذا الكتاب‬ ‫“ليمبو بيروت” والعنف الطائفي‬
‫“سأرسم نجمة على جبين فيينا” و”حب‬ ‫يؤديه اإلعالم في تزويد المجتمع بالمعلومة‬ ‫كيف أن دراسة المناطق بنيت من خالل‬ ‫يستهل شومان روايته “ليمبو بيروت”‪ ،‬التي ترجمتها أ ّنا زياكا‬
‫بيروتي”‪ .‬والرواية تتحدث عن حياة خمس‬ ‫وتمكينه وتحطيم الممنوعات‪ .‬كما يبين الكتاب‬ ‫االختالف في الرأي والقلق والمآزق والنتائج‬ ‫ستانتون‪ ،‬بالقول “إلى كل أوالئك الذين التقت ابتساماتهم‬
‫شابات لبنانيات تقاطعهن القنابل باستمرار‪.‬‬ ‫كيف يمكن للصحافة االستقصائية أن تطور‬ ‫غير المقصودة وغير المنتظرة‪.‬‬ ‫ابتساماتي في الصداقة‪ ،‬ومع ذلك بقوا غرباء عني فيما عدا‬
‫يشعرن بأن بيروت في مكان وسط حيث‬ ‫وتحسن األنظمة السياسية واالجتماعية في‬ ‫ذلك‪ .‬إلى الوجوه التي مررت بها صدفة أكثر من مرة في‬
‫ال يشعرن بأنهن في حرب لكنهن ال يشعرن‬ ‫البلدان العربية‪ .‬عملت بابوي في إذاعة األردن‬ ‫شمال أفريقيا والسراب الكرنفالي‬ ‫شوارع بيروت وبقيت معي بالرغم من أني في الحقيقة لم‬
‫بوجود السلم كذلك‪ .‬إنها قصة عن كيفية تأثير‬ ‫الناطقة باإلنكليزية وقناة “سي إن إن” و”ورلد‬ ‫“إيزابيل أبرهردت وشمال أفريقيا‪ :‬سراب‬ ‫أعرف أصحابها‪ .‬إلى أولئك الذين يحملون قصصا معهم وال‬
‫الحرب األهلية في حياتهن وفي بلدهن‪ .‬هن‬ ‫نيوز إفانتس» (الواليات المتحدة) وتلفزيون‬ ‫كرنفالي” هو كتاب من تأليف ليندة شويتن‬ ‫يخبرون بها أحدا”‪.‬‬
‫دائما يصارعن من أجل الحفاظ على أصواتهن‬ ‫دبي‪ .‬لديها مناصب أكاديمية في جامعة‬ ‫مدرسة األدب في جامعة بومرداس في‬ ‫مثلي‪ ،‬وروائي مناضل‪ ،‬وامرأة‬
‫ّ‬ ‫هذه الرواية تحكي عن فنان‬
‫وعالقاتهن في مجتمع هش‪ .‬تعرض سحر‬ ‫سوينبورن في أستراليا‪ ،‬وجامعة زايد في‬ ‫الجزائر تقول عن التوجه الكرنفالي هو “الدافع‬ ‫حامل‪ ،‬وطالب هندسة معوق‪ ،‬وعضو سابق في ميليشيا‪،‬‬
‫مندور الحياة اليومية في بيروت عبر الحديث‬ ‫اإلمارات العربية المتحدة‪ .‬هي اآلن محاضرة‬ ‫إلى المزج بين ما يترك عادة منفصال عن طريق‬ ‫وطالب طب داخلي‪ .‬يتناوبون في سرد المواجهات العنيفة في‬ ‫‪LIMBO‬‬
‫في السياسة والدردشة في المقاهي والحانات‬ ‫في الصحافة في جامعة التكنولوجيا في‬ ‫الحدود والتراتبيات المصطنعة”‪ .‬فأبرهردت‬ ‫الشوارع بين مقاتلي حزب الله ومقاتلي حركة المستقبل في‬ ‫‪BEIRUT‬‬
‫‪by‬‬ ‫‪HILAL CHOUMAN‬‬
‫‪TRANSLATED BY ANNA ZIAJKA STANTON‬‬

‫والشوارع‪ .‬نشاهد عبثية المدينة وظلمها‬ ‫سيدني‪ ،‬بأستراليا‪.‬‬ ‫هي امرأة جابت الشرق في شمال أفريقيا في‬ ‫مايو ‪ .2008‬الحرب األهلية اللبنانية (‪ )1990 1975-‬بالنسبة‬
‫ونحن نتتبع صراع الشابات من أجل الحفاظ‬ ‫زي رجالي وتكلمت العربية والفرنسية وادعت‬
‫ّ‬ ‫الى أغلب الشباب هي ذكرى بعيدة‪ ،‬لكن مايو ‪ 2008‬يظهر‬
‫على هويتهن‪ .‬سحر مندور هي مؤلفة لبنانية‬ ‫عبور المملكة وحقائق الرحلة‬ ‫أنها تؤمن باإلسالم بينما تحاول جاهدة معرفة‬ ‫العنف الطائفي‪ .‬بيد أن المواجهات تندلع من الحياة الرتيبة‬
‫مصرية وهي كاتبة عمود ثقافي ورئيسة‬ ‫كتاب “عبور المملكة‪ :‬صور من المملكة العربية‬ ‫تعاليمه‪ .‬لكن هذا الكتاب يظهر بأن تحولها‬ ‫المتكررة للشخصيات التي تنظر الى العالم بطريقة جديدة‪.‬‬
‫تحرير “فلسطين”‪ ،‬الملحق الشهري الذي ينشر‬ ‫السعودية” هو من تأليف لورينغ م‪ .‬دانفورث‪.‬‬ ‫في المغرب العربي هو تحول شكلي فقط‬ ‫الرواية مصحوبة برسومات تبين آثار العنف على الذهن‪.‬‬
‫مع جريدة السفير اليسارية اللبنانية‪.‬‬ ‫فعندما يفكر الكثير من الناس في المملكة‬ ‫فهي تعيد إنتاج الصور النمطية االستشراقية‬ ‫الشخصيات غريبة عن بعضها البعض لكن حياتها تتصل بطرق‬
‫العربية السعودية يرون الصحارى واإلبل‬ ‫نصها السكان األصليين على‬
‫القديمة‪ .‬يصور ّ‬ ‫غريبة‪.‬‬
‫رواية عن مصير األجيال‬ ‫والنفط والشيوخ األثرياء في جالبيب بيضاء‪،‬‬ ‫أنهم أناس جاؤوا من جيل قديم أو مخلوقات‬
‫يبدأ الفلسطيني إبراهيم نصرالله روايته‬ ‫ونساء مقموعات يرتدين أحجبة سوداء‬ ‫بأذهان مظلمة وغير متحضرين‪ .‬ومثلما قال‬ ‫الشرق األوسط تحت المجهر‬
‫“زمن الخيول البيضاء” بقول مأثور “خلق الله‬ ‫وإرهابيين‪ .‬لكن في سنة ‪ 2012‬عندما قام‬ ‫إدوارد سعيد‪ ،‬االستشراق هو تمظهر نصي‬ ‫“مالحظات ميدانية‪ :‬إجراء دراسات الشرق األوسط في‬
‫األحصنة من الريح‪ ،‬والناس من تراب”‪ .‬هذه‬ ‫األستاذ في األنثروبولوجيا بكلية بيتس في‬ ‫لالستعمارية‪ ،‬لقد كان استشراق أبرهردت‬ ‫الواليات المتحدة” لزكاري لوكمان كتاب يعيد صنع أصول‬

‫‪153‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪152‬‬


‫كتب‬
‫‪‎‬رسالة باريس‬ ‫المختصر‬

‫بوب ديالن الكذبة الكبرى‬ ‫مجلة نيوزويك‪ ،‬وتساهم بمقاالت دورية في‬
‫صحيفة نيويورك تايمز‪ .‬وهي أيضا محللة‬
‫تكتشف التأثيرات العابرة للحدود‪ ،‬وذلك‬
‫بعد تحليل فترات مهمة في تاريخ اللقاءات‬
‫الرواية التي تأهلت للجائزة العالمية للرواية‬
‫العربية هي قصة ثالثة أجيال لعائلة مناضلة‬
‫سياسات خارجية منتظمة في قنوات‬ ‫المتعددة الثقافات بين الشرق األوسط‬ ‫من قرية الهادية الفلسطينية قبل سنة ‪.1948‬‬
‫أبو بكر العيادي‬
‫تلفزيونية بريطانية وأميركية وفرنسية‪،‬‬ ‫والغرب األميركي‪ .‬تبين كولين كيف أن‬ ‫تمتد الرواية على من فترة انهيار الحكم‬
‫وحازت على العديد من الجوائز بما في‬ ‫الوستيرن تظهر راعي البقر على أنه بطل آسر‬ ‫العثماني والوصاية البريطانية في فلسطين‪.‬‬
‫ذلك جائزة مراسل خارجي السنة لتلفزيون‬ ‫يتشبث بالتقاليد األميركية المرتبطة بالحرية‬ ‫نتتبع محمود‪ ،‬الزعيم األول لقرية هادية‪،‬‬
‫قد يستغرب القارئ الكريم تخصيص هذه الورقة للحديث عن مغنّي روك‪ ،‬بدل تغطية‬ ‫غرنادا‪ .‬وهي عضو في مجلس العالقات‬ ‫والوعد وليس فقط ألميركا بل للعالم أيضا‪.‬‬ ‫وابنه خالد‪ ،‬وناجي حفيد خالد‪ .‬مصير كل‬
‫المواضيع الفكرية التي تثار في الساحة الفرنسية‪ ،‬ولكن عذرنا في ذلك أوال أن لجنة‬ ‫الخارجية ومحللة السياسات الخارجية في‬ ‫يستعمل هذا الكتاب أمثلة لروايات ويسيرن‬ ‫شخصية يقرره مستعمر بعد اآلخر‪ .‬تتقاسم‬
‫فذ يفوق فحول الشعر واألدب في‬ ‫نوبل فرضته على الساحة األدبية العالمية كشاعر ّ‬ ‫مركز جينيف للدراسات األمنية‪.‬‬ ‫لتحليل القوة العالمية األميركية بعد الحادي‬ ‫فرس خالد البيضاء‪ ،‬واسمها حمامة‪ ،‬ونسلها‬
‫العالم‪ ،‬بدءا بشعراء بالده الحقيقيين‪ ،‬واستفزت بذلك خلقا غير قليل‪ ،‬آخرهم ماريو‬ ‫عشر من سبتمبر‪ .‬الويسترن ليس أميركيا‬ ‫نضاالت العائلة‪ ،‬و يبقى على عاتق خالد إنقاذ‬
‫برغاس يوسا الذي صرح في سخرية “ال نستغرب في العام المقبل أن يفوز بنوبل العب‬ ‫فلسطين الذاكرة وحلم العودة‬ ‫فحسب‪ ،‬بل هو نتيجة للقاءات مع الشرق‬ ‫قريته من انتشار الرعب‪ .‬يقول طام حسين‬
‫كرة قدم”‪ .‬وعذرنا ثانيا أن مغالطات كثيرة رافقت تتويجه بتلك الجائزة‪ ،‬فوُ صف الرجل‬ ‫“وضع خارطة لعودتي‪ :‬مذكرة فلسطينية”‬ ‫األوسط وتأثيرات منه‪ .‬كولين أستاذة‬ ‫عن صحيفة نيو ستايتسمان “صوت نصرالله‬
‫بما ليس فيه‪ ،‬وحتى بما لم يدّ ِعه هو نفسه أصال‪ ،‬كوصفه بالفنان المقاوم‪ ،‬الملتزم‬ ‫من تأليف سلمان أبو ستة يعرض قيه‬ ‫اللغة األنكليزية في جامعة والية مونتانا‪.‬‬ ‫الفصيح بشكل مكثف يمنح الجمهور الغربي‬
‫السلم‬
‫بالنضال ضد الحروب‪ ،‬والداعي إلى المساواة بين البيض والسود في أميركا‪ ،‬وإلى ّ‬ ‫صاحبه للحياة والحلم بالعودة إلى الوطن‪.‬‬ ‫وهي رئيسة تحرير مجلة “الثقافات ما بعد‬ ‫نظرة إلى حياة المهمشين بدون جلجلة‬
‫واإلخاء بين البشر‪.‬‬ ‫كان أبو ستة في العاشرة من عمره عندما‬ ‫الويسترن‪ :‬األدب والنظرية والفضاء”‪ ،‬وهي‬ ‫األرقام”‪.‬‬
‫حصلت النكبة‪ .‬أجبر على مغادرة بيته‬ ‫أيضا مؤلفة كتاب “والية الطبيعة‪ :‬تصور‬
‫بالقرب من بير شبعة‪ ،‬وكانت الصدمة جراء‬ ‫ألسكا على أنها الحد األخير”‪.‬‬ ‫التعليم في المغرب‬
‫فقدان موطنه والرغبة الملحة في العودة‬ ‫ما بين الحلم والسياسة‬
‫هو ما يتقاسمه مع الكثير من الفلسطينيين‬ ‫الصراع السوري وانتقال الخبر‬ ‫يعطي كتاب كاريس بوطياري‪ ،‬المحاضر في‬
‫من جيله‪ .‬لقد حددت النكبة حياته من تلك‬ ‫“إرساليات من سوريا‪ :‬الصباح عندما أتوا‬ ‫األنثروبولوجيا االجتماعية للشرق األوسط‬
‫اللحظة فصاعدا‪ .‬عشية النكبة يعرض عائلته‬ ‫إلينا” كتاب من تأليف جنين دي جوفاني التي‬ ‫في كلية كينغ في لندن‪“ ،‬التعليم في‬
‫وبيته المختفيين‪ .‬يصور حياته في المنفى‬ ‫سافرت إلى سوريا في مايو ‪ 2012‬ونسجت‬ ‫المغرب‪ :‬السياسة اللغوية والحلم التعليمي‬
‫في أميركا‪ ،‬فهو كالم درج هواة أغانيه‬ ‫ملحمية‪ .‬وهو ما جعل بيير أسولين عضو‬ ‫عن شعره‪ ،‬فحسبنا أن نقرأ‬
‫على ترديده دون تمحيص‪ .‬وحسبنا أن‬ ‫أكاديمية غونكور ورئيس تحرير‬ ‫“وقائع» الصادر عن غاليمار عام‬
‫تلك‬ ‫من هروب عائلته إلى غزة‪ ،‬وحياة المراهقة‬
‫وهو طالب في مصر تحت حكم عبدالناصر‪،‬‬
‫عالقة طويلة مع البالد وهي تنقل أخبار أحد‬
‫أفظع الصراعات في التاريخ الحديث‪ .‬وهي‬
‫المتخلى عنه” نظرة فريدة للتعليم في‬
‫العالم العربي‪ .‬فصانعو السياسات يعتقدون‬
‫نقف عند المرحلة التي صنعت أسطورته‬ ‫الـ”مغازين ليترير” يصرح ساخرا “إذا كان‬ ‫‪ 2005‬في ترجمته الفرنسية‪ ،‬وهو الكتاب‬ ‫وسنوات تطوره في لندن ستينات القرن‬ ‫تنقل قصصا متنوعة عن أطفال وعائالت‬ ‫أن سبب األزمة في التعليم المغربي يعود‬
‫كفنان ملتزم ممانع‪ ،‬أي ما بين ‪ 1961‬سنة‬ ‫بوب ديالن شاعرا‪ ،‬فإن بودلير كرونر‬ ‫ضم مذكراته‪ ،‬وأعيد نشره‬ ‫ّ‬ ‫األول الذي‬ ‫العشرين‪ ،‬وحياته بمثابة رب عائلة وأكاديمي‬ ‫عادية‪ ،‬ومتمردين ألقي بهم في السجن‪،‬‬ ‫إلى الخصائص الديموغرافية والتمويل‪ .‬في‬
‫وصوله إلى نيويورك و‪ 1966‬سنة صدور‬ ‫‪ .Crooner‬ولكم‪ ،‬قراءنا الكرام‪ ،‬أن تقرؤوا‬ ‫منذ شهر عن فايار‪ ،‬وفيه ال حديث عن‬ ‫في كندا‪ ،‬وصوال إلى عدة توقفات في‬ ‫إلى قصص عن أثرياء يقيمون حفالت قرب‬ ‫حين أن تالميذ المدارس الثانوية يعتقدون‬
‫ألبومه المزدوج “شقراء في شقراء”‬ ‫كلمات أغانيه‪ ،‬في لغتها‪ ،‬أو مترجمة‪ ،‬كي‬ ‫الشعر إال عرضا‪ ،‬حيث ذكر أنه قرأ الشعر‬ ‫الكويت‪ .‬وباالنتقال من عهد حرب السويس‬ ‫المسابح متجاهلين الصراع‪ .‬أصبحت الكاتبة‬ ‫بأن السبب يعود إلى سياسة تعريب مسيسة‬
‫(‪ ،)Blonde on Blonde‬وهي الفترة التي‬ ‫تقفوا بأنفسكم على شعرية هذا الذي‬ ‫صغيرا‪ ،‬وأعجب بسونيتة لميلتون تشبه‬ ‫لسنة ‪ 1956‬إلى حرب الخليج سنة ‪،1991‬‬ ‫منغمسة عاطفيا في كل لحظة من رحلتها‪.‬‬ ‫بشكل كبير لم تطبق بالطريقة المناسبة‪ .‬لقد‬
‫عبرت فيها شهرته اآلفاق‪ ،‬وحاز صفة‬ ‫تحرر كلماته العقل”‪ ،‬تلك “الكلمات التي‬ ‫أغنية فولك حسب قوله‪ ،‬مثلما أعجب‬ ‫يروي أبو ستة قصته وقصة فلسطين‬ ‫هذا الكتاب يعرض صمود اإلنسان أمام‬ ‫حصل تعارض بين التشجيع على استعمال‬
‫الفنان الملتزم‪ ،‬والمغني المحتج (‪protest-‬‬ ‫ارتبطت بالشعور اإلنساني العميق” على‬ ‫بمقولة رامبو “أنا هو شخص آخر”‪ ،‬وما‬ ‫بأسلوب فكاهي ودافئ‪ .‬لكونه مهندسا بحكم‬ ‫أصعب األوقات‪ .‬تعلق صحيفة ديلي تلغراف‬ ‫اللغة العربية وطلبات سوق العمل الليبرالي‬
‫‪ ،)singer‬والتي فرضت عليه فرضا رغم‬ ‫رأي أحدهم‪.‬‬ ‫عدا ذلك ال شيء تقريبا‪ ،‬فهو ال يعتبر‬ ‫مهنته‪ ،‬أكثر ما يعرف به أبو ستة هو عمله‬ ‫قائلة “هي إحدى أرقى مراسلينا في الخارج‬ ‫الجديد بما أن الفرنسية مازالت لغة التقدم‪.‬‬
‫محاوالته اليائسة للتنصل منها‪.‬‬ ‫نفسه شاعرا إطالقا‪ ،‬بل إنه يكره لفظة‬ ‫في رسم خريطة فلسطين وعمله على حق‬ ‫في جيلنا”‪ ،‬وتقول نيوزويك “القليل جدا من‬ ‫يبين بوطياري كيف أن المدرسين والطلبة‬
‫وأما عن نضاله الذي ألصق به قسرا‪ ،‬حتى‬ ‫“شاعر”‪ .‬فمن أقواله مثال “ليس من‬ ‫العودة للفلسطينيين‪ .‬كتب أبو ستة كتبا ستة‬ ‫الكتّ اب باستطاعتهم مجاراتها في استحضار‬ ‫يحاولون التحايل على النظام الذي تؤدي‬
‫أسطورة الفنان الملتزم‬ ‫أن بعضهم كتب يقول إنه “كان جزءا من‬ ‫الضروري أن تكتب كي تكون شاعرا‪.‬‬ ‫وأكثر من ‪ 300‬مقال ودراسة عن فلسطين‬ ‫المعاناة الفردية في زمن الحرب”‪ ،‬وتقول‬ ‫طلباته إلى فك االرتباط وفي بعض األحيان‬
‫قد تنطبق كل الصفات على روبرت ألن‬ ‫تيار عريض ساهم في إنهاء حرب فيتنام‬ ‫يمكن أن تعمل في محطة بنزين وتكون‬ ‫بما في ذلك أطلس فلسطين بين ‪1917‬‬ ‫صحيفة إيفنينغ ستاندرد “دي جوفاني‬ ‫إلى االحتجاجات في الشارع‪.‬‬
‫زيمرمان (االسم الحقيقي لديالن) إال‬ ‫وإخراج أميركا من هذا المستنقع»‪ ،‬وإنه‬ ‫شاعرا”‪ .‬وفي رأيه أن “األغنية” تظل‬ ‫و‪ .1966‬هو مؤسس جمعية أرض فلسطين‬ ‫صحفية حروب لها شجاعة ال يضاهيها‬
‫صفات المناضل والمقاوم والمحتج‪،‬‬ ‫“قاوم بكلمات أغانيه التي ال تزال ترمز‬ ‫“أغنية”‪ ،‬ولكن عباقرة لجنة نوبل يعتبرون‬ ‫ورئيسها‪ .‬قال عنه إدوارد سعيد هو “مهندس‬ ‫غير تعاطفها تجاه األشخاص الذين تحكي‬ ‫ثقافات الشرق األوسط‬
‫رغم أن كثيرين ال يزالون يعدّ ونه أحد‬ ‫إلى رفض الظلم وتدعو إلى المساواة‬ ‫أغانيه كـ”جوي” (‪ ،)Joey‬و”المطر المدرار”‬ ‫وعالم مذهل”‪.‬‬ ‫عنهم”‪ .‬لقد نقلت جوفاني أخبار الحروب‬ ‫والغرب األميركي‬
‫بناة التيار المناهض لحرب فيتنام‪،‬‬ ‫وإلى ممارسة ثقافة الحياة”‪ ،‬بل ّ‬
‫بشر‬ ‫(‪ ،)A hard rain‬و”أغنية هوليس براون”‬ ‫على مدى أكثر من عقدين‪ّ .‬ألفت سبعة‬ ‫“الغربيات اآلسرة‪ :‬الشرق األوسط في الغرب‬
‫ووريث وودي غيثري‪ ،‬مستشهدين‬ ‫بوصول رجل أسود إلى سدة الحكم‬ ‫(‪ )The ballad of Hallis Brown‬قصائد‬ ‫كاتبة من العراق مقيمة في لندن‬ ‫كتب وهي محررة قسم الشرق األوسط في‬ ‫األميركي” من تأليف سوزان كولين‪ ،‬التي‬

‫‪155‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪154‬‬


‫كتب‬

‫صحبة زوجته وأبنائه األربعة‪ ،‬بعيدا‬ ‫ال تتعدى الثالث أغنيات‪ :‬أوالها “جورج‬ ‫بأغنيتين من ألبومه الثاني “بوب ديالن‬
‫عن صخب نيويورك وهوس المعجبين‬ ‫جاكسون” (‪ )1971‬تكريما لروح أحد‬ ‫العجلة الطليقة” (‪The Freewhellin Bob‬‬
‫ومالحقة وسائل اإلعالم‪ .‬هناك سجل‬ ‫أعضاء النمور السود الذي اغتاله الحراس‬ ‫‪ )Dylan – 1963‬وهما “أسياد الحرب”‬
‫مع بعض أصدقائه ألبومه الثامن “جون‬ ‫في السجن‪ .‬والثانية هي “هاريكان”‬ ‫و”مطر مدرار سوف يهطل”‪ .‬ففي رأي‬
‫ويسلي هاردينغ” من نوع الفولك والروك‪،‬‬ ‫(‪ )1976‬الذي طالب فيها بتحرير المالكم‬ ‫بعض المتخصصين‪ ،‬مثل الفرنسي‬
‫وهو أبعد ما يكون عن “قوة الزهور” شعار‬ ‫روبين كارتر المحكوم عليه عن ثالث‬ ‫بريس تيات‪ ،‬أن األغنية األولى كتبت‬
‫الهيبيز في ستينات القرن العشرين‪.‬‬ ‫الحي”‬
‫ّ‬ ‫جرائم قتل‪ .‬والثالثة “مرهب‬ ‫قبل الحرب األميركية على فيتنام‪،‬‬
‫(‪ )1983‬وهي إعالن انتماء إلى الحركة‬ ‫وكانت تدين المركب العسكري الصناعي‬
‫فأين الفنان المتمرد؟ والجواب أنه لم‬ ‫الصهيونية وتأييد واضح إلسرائيل‪،‬‬ ‫األميركي‪ ،‬أما الثانية فكانت تتحدث عن‬
‫يوجد قط‪ .‬والدليل ما رواه هو نفسه‬ ‫بعد سنتين من ضرب المفاعل النووي‬ ‫الرعب النووي بعد هيروشيما وليس عن‬
‫في كتابه المذكور أعاله حينما اكتشف‬ ‫العراقي أوزيراك وسنة من اجتياح لبنان‪.‬‬ ‫األسلحة الفتاكة التي استعملها األميركان‬
‫المعجبون مالذه بوودستوك وجاؤوه من‬ ‫(انظر مقالتنا بجريدة العرب “بوب ديالن‬ ‫في فيتنام كالنبالم والعامل البرتقالي‬
‫كل حدب وصوب‪ ،‬حيث قال “أعطاني‬ ‫المتصهين”‪ ،‬في ‪ 8‬ديسمبر ‪ .)2016‬أي أنها‬ ‫أو عَ امل أورانج ‪-‬االسم الحركي لمبيد‬
‫بيتر الفارج‪ ،‬أحد مغني الفولك من‬ ‫كلها كتبت ونشرت بعد الفترة ‪-1961‬‬ ‫أعشاب ونازع ورق الشجر كان استخدمه‬
‫أصحابي مسدسين‪ ،‬وكانت لي بندقية‬ ‫‪ ،1966‬التي شهدت مولد أسطورته كفنان‬ ‫الجيش األميركي في تلك الحرب كجزء‬
‫ونشستر أوتوماتيكية‪ .‬فظيع أن نفكر فيما‬ ‫ملتزم معارض يشيد به الصحافيون‪،‬‬ ‫من برنامج الحرب السامة ما بين عام‬
‫يمكن أن نفعل بها‪ .‬كانت السلطات‪ ،‬أي‬ ‫حتى العرب منهم‪.‬‬ ‫‪ 1961‬و ‪ .1971-‬دليلهم على ذلك أن‬
‫رئيس الشرطة في وودستوك وشرطيان‬ ‫النزاع األميركي الفيتنامي لم يكن يرد‬
‫أو ثالثة‪ ،‬قد حذرتني بأني سأقاد إلى‬ ‫أسطورة المغني المتمرد‬ ‫على لسان ديالن في أحاديثه الصحافية‬
‫المخفر لو جرح أحد أو أصيب‪ .‬تصور‪:‬‬ ‫وإذا كان بعضهم يرى أن ديالن‪ ،‬وإن‬ ‫ولو مرة واحدة‪ .‬كما أن هذا الفتى (لم‬
‫يجرون‬ ‫ّ‬ ‫لو يسقط أحد المجانين الذين‬ ‫لم يكن فنانا ملتزما بالمعنى السياسي‬ ‫يكن قد جاوز وقتئذ الثانية والعشرين من‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫أحذيتهم فوق سقف بيتي‪ ،‬فسوف �تهَ م‬ ‫المتداول اليوم‪ ،‬فإنه كان متمردا على‬ ‫عمره) القادم من مينيسوتاه األصلية‪ ،‬لم‬
‫وأمثل أمام المحكمة‪ .‬شيء مربك حقا‪.‬‬ ‫السائد بفكره وسلوكه‪ .‬وهذا أيضا مردود‬ ‫يكن يملك روح الفنان المتمرد‪ ،‬فهو وإن‬
‫كنت أرغب في حرق أولئك الناس‪.‬‬ ‫عليه‪ .‬ذلك أنه منذ ألبومه األول الصادر‬ ‫شارك في العام نفسه‪ ،‬أي سنة ‪ ،1963‬في‬
‫أولئك الفضوليون‪ ،‬المرضى‪ ،‬الطامعون‬ ‫عام ‪ ،1962‬سار على خطى مشاهير‬ ‫حركة المطالبة بالحقوق المدنية‪ ،‬وغنّى‬
‫في طعامي‪ ،‬تلك الغوغاء‪ ،‬كانوا يدخلون‬ ‫مغنّي الفولك األميركان الذين كانوا‬ ‫بالمناسبة في مسيرة واشنطن‪ ،‬فلم يكن‬
‫االضطراب على حياتنا‪ ،‬ولو طردتهم‪،‬‬ ‫يتغنون بملحمة “تكوين” بالدهم‪ ،‬ببناتها‬ ‫زعيمها وقائدها‪ ،‬بل كان ذلك بتأثير من‬
‫فسوف أكون أنا المتهَ م”‪.‬‬ ‫المجهولين وقطاع طرقها المشهورين‪،‬‬ ‫صديقته الفنانة المناضلة جون بايز‪ ،‬لم‬
‫على طريقة التروبادور الذين كانوا‬ ‫يلبث أن غادر تلك الحركة‪ ،‬كما هو ثابت‬
‫الجدير ذكره أيضا أنه رفض المساهمة‬ ‫يشدون مالحم األبطال في القرون‬ ‫في مسيرته‪ .‬ذلك أن بوب ديالن ليس من‬
‫الحقا في مهرجان أقيم عام ‪ 1969‬على‬ ‫الوسطى‪ .‬وفي العام ‪ ،1966‬في أوج‬ ‫نوع الفنانين الذين يجندون الجماهير‬
‫أرضه‪ ،‬وفضل أن يهجر المنطقة مؤقتا‪.‬‬ ‫حركات االحتجاج الطالبية بخاصة‪،‬‬ ‫لخدمة قضية‪ ،‬بل كان يوثر العمل وحيدا‪،‬‬
‫كان يقول صراحة “لم أكن ناطقا باسم‬ ‫اختار ديالن أن يهجر الفولك وينحو‬ ‫فهو أقرب إلى صورة راعي البقر السائر‬
‫شيء أو أحد‪ ..‬كنت فقط فنانا”‪.‬‬ ‫إلى الروك والبوب‪ ،‬فكان أن اعتنقت فنَّه‬ ‫في البراري بمفرده‪ .‬وقد حاول التخلص‬
‫بوب ديالن املختلف عليه شاعرا ً‪.‬‬

‫ُ‬
‫الشبيبة األوروبية واعتبرته نبيا لها‪ .‬وفي‬ ‫من تلك الصورة التي ألصقت به‪ ،‬بداية من‬
‫كاتب من تونس مقيم في باريس‬ ‫صيف العام نفسه‪ ،‬اضطر إلى االنسحاب‬ ‫العام ‪ ،1964‬فقطع مع تقاليد الفولك‪ ،‬ونحا‬
‫بعد حادث دراجة نارية يشك المتابعون‬ ‫إلى أغان تمتح من السريالية‪ ،‬وتميل إلى‬
‫في صحته‪ .‬ويعتبرون أنه إنما ادعى ذلك‬ ‫هلوسة األعماق (وهي حالة من الهذيان‬
‫لينسحب من الحياة العامة‪ ،‬ومن تلك‬ ‫الناجم عن تعاطي المخدرات وحبوب‬
‫الصورة التي يرفض التماهي معها‪ .‬واختار‬ ‫الهلوسة)‪ .‬ولم يقدم على نشر أغان‬
‫أن يعيش في بيته الريفي بوودستوك‬ ‫محتجة وملتزمة بحق إال الحقا‪ ،‬ولكنها‬

‫‪157‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪156‬‬


‫كتب‬
‫رسالة إيطاليا‬

‫العرب وثقافتهم في مرايا إيطالية‬


‫ترجمات شعرية وروايات وكتب عن الثورات والعنف‬
‫كاصد محمد‬

‫تعود الروابط الثقافية بين العالم العربي وإيطاليا إلى عصور قديمة‪ ،‬عالقة عميقة ومتشعبة على مستويات مختلفة‪ .‬للثقافة العربية حضور‬
‫وحي في الثقافة اإليطالية‪ ،‬انطالقا من اللغة واألدب‪ ،‬وصوال إلى البناء المعماري‪ ،‬الذي ال يزال قائما حتى اليوم في مدن الجنوب‬
‫ّ‬ ‫دائم‬
‫اإليطالي‪ .‬أما اليوم‪ ،‬وبغض النظر عن العالقات الدولية‪ ،‬فإن الحضور العربي في إيطاليا غزير جدا‪ ،‬ويتمثل بالجالية العربية التي تزداد يوما‬
‫بعد آخر مع موجات المهاجرين الذين يحطون الركاب في شبه الجزيرة‪ .‬ال تدخل إلى مؤسسة حكومية في إيطاليا إال ووجدت الئحة بعد‬
‫قليل من اللغات‪ ،‬موجهة للمهاجرين‪ ،‬ومن بينها تبرز حروف لغة الضاد‪ ،‬لكثرة الجالية العربية‪ .‬وفي المدينة التي أعيش فيها هناك مكتبة‬
‫شك أنها تفاجئ القارئ العربي‪.‬‬
‫وطنية كبيرة جدا‪ ،‬تتوفر على رفوف للقراء باللغات األخرى‪ ،‬ومنها العربية‪ ،‬ويمكن العثور فيها على كتب ال ّ‬

‫وقد شاركت معظم الكتب التي صدرت‬ ‫“فرانكشتاين في بغداد” للكاتب العراقي‬ ‫ذلك فإن ما ينقل من النتاج‬
‫هذا العام في معرض كتاب تورينو‪،‬‬ ‫أحمد السعداوي‪ ،‬رواية “ذات” للكاتب‬ ‫الثقافي العربي اليوم ال يتناسب‬
‫مع‬
‫وهو معرض الكتاب األشهر في إيطاليا‪.‬‬ ‫المصري إبراهيم صنع الله‪ ،‬كتاب أدونيس‬ ‫مطلقا مع كمية ما ينتج أدبيا‪ ،‬فكريا‪،‬‬
‫وخصصت خالل المعرض قراءات شعرية‬ ‫“العنف واإلسالم“‪ ،‬و”مدينة اللذة” للكاتب‬ ‫ثقافيا واجتماعيا في العالم العربي‬
‫لكل من الراحل محمود درويش والراحل‬ ‫المصري عزت القمحاوي‪ .‬هذا فضال عن‬ ‫الشاسع‪ .‬هناك اشتغال شخصي ومحدود‬
‫نزار قباني‪ ،‬فضال عن قراءات كل من‬ ‫كتب أخرى ُترجمت عن لغات أخرى‪،‬‬ ‫جدا من قبل عدد قليل من المترجمين‬
‫الكاتبين أحمد ناجي وأشرف فياض‪،‬‬ ‫كاإلنكليزية والفرنسية‪.‬‬ ‫اإليطاليين عن العربية‪ ،‬أو المترجمين‬
‫تضامنا مع قضيتيهما‪ .‬ولم تغب أيضا‬ ‫في حين صدرت في العام ‪ 2016‬الكتب‬ ‫العرب األقل عددا من زمالئهم اإليطاليين‪،‬‬
‫عما‬
‫سوريا عن المشهد‪ ،‬فقد دار الحديث ّ‬ ‫التالية‪ :‬نزار قباني “قصائدي األجمل“‪،‬‬ ‫يعملون على نقل ما استطاعوا من النتاج‬
‫يجري هناك مع الكاتب شادي حمادي‪،‬‬ ‫مجموعة مختارات من قصائد قباني‪،‬‬ ‫الثقافي العربي‪ .‬ويقتصر معظم ذلك على‬
‫صاحب كتاب “المنفى السوري‪”-2016‬‬ ‫“خاتم ” رواية الكاتبة السعودية رجاء‬ ‫الرواية‪ ،‬القصة والشعر‪ ،‬والقليل القليل‬
‫أحد الكتب التي صدرت هذا العام‪.‬‬ ‫عالم‪“ ،‬استخدام الحياة” رواية الكاتب‬ ‫من النتاج الفكري‪ ،‬الفلسفي أو االجتماعي‪،‬‬
‫بعض الكتب التي صدرت هذا العام يف إيطاليا وقد غلب عليها االهتامم بقضايا اإلسالم السيايس والعنف‬ ‫المصري أحمد ناجي‪ ،‬التي أثارت جدال‬ ‫ربما ألن الغرب ال حاجة له بذلك‪ .‬في حين‬
‫صورة سوريا‬ ‫واسعا وبسببها أودع السجن‪“ ،‬التعليمات‬ ‫تفتقد عملية نشر الثقافة العربية للدعم‬
‫األزمة اإلنسانية لالجئين السوريين في‬ ‫وبيير دا براتا‪ ،‬تحت عنوان “بلد الشر‪152 ،‬‬ ‫فيه بدايات الثورة السورية في حمص‬ ‫احتلت سوريا ما بعد الثورة موقعا بارزا‬ ‫بالداخل” مجموعة أشرف فياض التي‬ ‫المؤسساتي بشكل تام‪.‬‬
‫لبنان واألردن‪ .“-2013‬وكانت تانغرليني‬ ‫يوما من األسر في سوريا‪ .“-2015‬يتناول‬ ‫مطلع العام ‪ .2012‬وصدر أيضا “سوريا‪:‬‬ ‫بعدد الكتب التي صدرت حولها في‬ ‫تسببت له بالسجن أيضا‪“ ،‬ترمي بشرر”‬ ‫وحاولنا في هذه المقالة أن نشير إلى‬
‫قد التقت بالسوريين الالجئين‪ ،‬ووثقت‬ ‫فيه الكاتبان قصتهما‪ ،‬وقد دخال عن‬ ‫من العهد العثماني حتى حكم األسد‪،‬‬ ‫األعوام األخيرة في إيطاليا‪ ،‬ونذكر منها‪،‬‬ ‫رواية الكاتب السعودي عبده خال‪“ ،‬نجوم‬ ‫ما ُترجم بين العامين ‪ 2015‬و‪ 2016‬إلى‬
‫عما يجري في‬ ‫شهاداتهم وقصصهم ّ‬ ‫طريق لبنان إلى سوريا‪ ،‬برفقة عناصر من‬ ‫وما بعد ذلك‪ ”.-2013‬للباحث اإليطالي‬ ‫على سبيل الذكر ال الحصر‪ ،‬كتاب الناشط‬ ‫سيدي مومن” رواية للكاتب المغربي‬ ‫اللغة اإليطالية من النتاج العربي‪ ،‬سواء‬
‫وعما يواجهون من حاالت‬ ‫ّ‬ ‫سوريا‪،‬‬ ‫الجيش الحر‪ ،‬لتوثيق ما يجري في سوريا‪.‬‬ ‫لورينزو ترومبيتا‪ ،‬الذي أقام لفترة في‬ ‫السوري شادي حمادي سابق الذكر‪ ،‬فضال‬ ‫ماحي بينبين‪ ،‬رواية الكاتبة المغربية‬ ‫ترجم عن العربية‪ ،‬وهو أغلب ما أشرنا‬
‫مأساوية في بلدان المنفى‪ .‬وصدر أيضا‬ ‫وما لم يكن في حسبانهما هو أن من كانوا‬ ‫سوريا للدراسة‪ .‬ويتناول الكتاب التاريخ‬ ‫عن كتاب كان قد صدر له مسبقا‪ ،‬تحت‬ ‫ليلى سليماني “في حديقة الغول” التي‬ ‫إليه‪ ،‬أو عن لغات أخرى اتخذها الكتّ اب‬
‫“تاريخ سوريا المعاصر‪ ”-2013‬للكاتبة‬ ‫يظنونهم أصدقاء كانوا سيسلمونهما إلى‬ ‫السوري في القرن الماضي حتى حكم‬ ‫عنوان “السعادة العربية‪ ”-2013‬الذي‬ ‫حازت على جائزة غونكور‪ ،‬رواية “جوابا”‬ ‫العرب أداة لنتاجهم الثقافي‪ .‬ومن الكتب‬
‫اإليطالية ميريال غاليتي‪ ،‬باحثة وأستاذة‬ ‫عناصر جهادية‪ ،‬تحتجزهم في أسوأ‬ ‫عائلة األسد‪ ،‬ثم يعمد إلى تحليل الثورة‬ ‫قال عنه الراحل داريو فو إنه “فرصة‬ ‫للكاتب العراقي سليم حداد‪ ،‬رواية “كلب‬ ‫التي صدرت في العام ‪ 2015‬نجد‪:‬‬
‫جامعية في تاريخ البلدان اإلسالمية‬ ‫األماكن وتذيقهم العذاب واألهوال‪ ،‬لمدة‬ ‫السورية‪ ،‬أسبابها ودوافعها‪ .‬كل هذا‪ ،‬برأي‬ ‫نادرة لتُ طلعنا على ما يدور في هذا‬ ‫بلدي مدرب” للكاتب المصري محمد عالء‬ ‫رواية “تمر األصابع” للكاتب العراقي‬
‫في كلية العلوم السياسية‪ ،‬جامعة‬ ‫ً‬
‫أيضا كتاب لمراسلة‬ ‫‪ 152‬يوما‪ .‬ثم صدر‬ ‫الباحث‪ ،‬يساعد على فهم ما ستكون‬ ‫العالم الصغير”‪ .‬وصدر أيضا في إيطاليا‬ ‫الدين‪ ،‬والمجموعة الشعرية “حمامة‬ ‫محسن الرملي‪“ ،‬هند والعسكر” للكاتبة‬
‫نابولي‪ .‬ويبحث الكتاب في تاريخ سوريا‬ ‫الشبكة التلفزيونية اإليطالية “راي ‪»24‬‬ ‫عليه سوريا المستقبل‪ .‬بينما صدر كتاب‬ ‫كتاب “يوميات سورية‪ ”-2012‬للكاتب‬ ‫مطلقة الجناحين” للكاتب السوري فرج‬ ‫السعودية بدرية البشر‪“ ،‬كمن يشهد‬
‫وصراعاتها الطويلة مع البلدان المحيطة‬ ‫الورا تانغرليني بعنوان “سوريا المنفية‪،‬‬ ‫للكاتبين اإليطاليين دومينيكو كويريكو‬ ‫األميركي جوناثان ليتل‪ ،‬الذي يتناول‬ ‫بيرقدار‪.‬‬ ‫موته” للكاتب السوري محمد ديبو‪ ،‬رواية‬

‫‪159‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪158‬‬


‫كتب‬
‫رسالة إيطاليا‬

‫منهكة تماما‪ ،‬وأن األوروبيين بشكل عام‬ ‫عن طريق أقالمه‪.‬‬ ‫حتى االستقالل‪ ،‬متناوال في الوقت ذاته‬
‫فقدوا إيمانهم بحضارتهم‪ .‬بينما ال زالت‬ ‫ونذكر من بين هذه الكتب “داعش‪،‬‬ ‫القضايا الكردية‪ ،‬اللبنانية والفلسطينية‪،‬‬
‫الحضارة اإلسالمية‪ ،‬حسب رأيه‪ ،‬في‬ ‫اإلرهابيون األوفر حظا في العالم” للكاتب‬ ‫لفهم دور سوريا المركزي في الشرق‬
‫أوجها وشبابها‪ ،‬لديها رجاالت يدافعون‬ ‫اإليطالي أليساندرو أورسيني‪ .‬ويقوم‬ ‫األوسط‪ .‬ويلقي الكتاب الضوء أيضا على‬
‫عنها ويفدونها بأرواحهم‪ .‬ثم ينتقد أيضا‬ ‫الكاتب بدراسة األوضاع السياسية‬ ‫الثورة السورية وإشكاالتها‪ ،‬نظام األسد‬
‫السياسات األوروبية‪ ،‬يمينية كانت أو‬ ‫والجغرافية التي ساعدت على نشأة‬ ‫وعالقاته السياسية‪ ،‬المشكلة مع تركيا‬
‫يسارية‪ ،‬تجاه البلدان العربية واإلسالمية‪.‬‬ ‫داعش‪ ،‬لهذا السبب تماما يعتبرهم‬ ‫مما يحدث في سوريا‪.‬‬ ‫ومواقف الغرب ّ‬
‫بل ويشير الفيلسوف بإصبع االتهام إلى‬ ‫الكاتب األوفر حظا‪ .‬ثم يتناول دراسة‬ ‫وحضر بعض الكتاب في معرض الكتاب‬
‫تلك السياسات‪ ،‬كونها العامل األساسي‬ ‫األسباب التي أدت إلى انتشار ظاهرة‬ ‫في تورينو لتوقيع كتبهم التي صدرت‬
‫لخلق “داعش” وتغذيته‪ ،‬ذلك بعد أن‬ ‫داعش‪ ،‬واعتناقها من قبل مجموعات‬ ‫هذا العام‪ ،‬بينهم ليلى سليماني‪ ،‬أدونيس‪،‬‬
‫قامت الدول الغربية بتدمير بلدان‬ ‫كبيرة من الشباب‪ ،‬في الشرق وفي الغرب‬ ‫طاهر بن جلون وياسمينة خضراء‪ .‬وحين‬
‫عربية مسلمة بحجة الدفاع عن حقوق‬ ‫أيضا‪ .‬ويقوم كذلك بتحليل ودراسة‬ ‫سألوا ياسمينة خضراء (محمد مولسهول)‬
‫اإلنسان أو بحجة حماية أمنها الداخلي‪،‬‬ ‫نفذت هجمات‬ ‫لكل الشخصيات التي ّ‬ ‫عن أعماله التي تناول بها اإلرهاب‪ ،‬أجاب‬
‫وقد أدى ذلك إلى نشوء هذه النزعة‬ ‫إرهابية في الغرب‪ ،‬سواء في أميركا‬ ‫الكاتب “كفى أسئلة عن اإلرهاب‪ ،‬نعم لقد‬
‫عناوين مؤلفات غلب عليها االهتامم بأيقونة العنف‪ :‬داعش‬
‫القتالية لدى المسلم‪ .‬ويقول الفيلسوف‬ ‫أم في أوروبا‪ ،‬حتى اعتداءات باريس‪.‬‬ ‫تكلمت عن اإلرهاب‪ ،‬ولكني لست مهووسا‬ ‫ّ‬
‫بعد أن هددوها بفصلها عن ابنها‪ ،‬وبعد‬ ‫في الغرب‪ .‬وال يفوتنا أن نذكر صوفي‬ ‫أيضا عن الطرق التي استخدمها تنظيم‬ ‫إن الدول األوروبية تحافظ على عالقاتها‬ ‫به‪ .‬قمت بذلك بدافع الواجب المدني‬
‫مغامرات وأهوال‪ ،‬تتمكن الشابة من‬ ‫ٌ‬
‫“هاربة من داعش‪-‬‬ ‫كاسيكي وكتابها‬ ‫داعش عن طريق اإلنترنت ووسائل‬ ‫السياسية والتجارية مع دول يعتبرها‬ ‫ألنني عسكري قارع اإلرهابيين طويال‪،‬‬
‫الرجوع إلى فرنسا لتروي حكايتها‪.‬‬ ‫‪ .“2016‬وال يروي هذا الكتاب رواية من‬ ‫االتصال الحديثة لكسب مشجعيه‬ ‫ممولة لإلرهاب‪ ،‬في حين تقوم بقصف‬ ‫ولكنني تحدثت في كتبي أيضا عن‬
‫طبعا لقد سبقت هذه الكتب كتب أخرى‬ ‫نسج الخيال‪ ،‬بل هي قصة حقيقية لفتاة‬ ‫وتجنيد الشباب‪ ،‬وأيضا إلثبات وجوده‬ ‫مدن وقرى بسيطة في أفغانستان‪ .‬ويعلل‬ ‫الرحالت‪ ،‬عن العواطف وعن المشردين”‪.‬‬
‫تتناول ذات الموضوع‪ ،‬صدرت بين‬ ‫فرنسية عاشت جحيم داعش في مدينة‬ ‫وانتشاره وفرض سطوته في كل مكان‪.‬‬ ‫أونفري ذلك قائال بأن الصراع الحقيقي‬ ‫شاركت معظم الكتب‬
‫العامين ‪ 2014‬و‪ ،2915‬منها “ما يدور في‬ ‫الرقة السورية‪ .‬كاسيكي شابة فرنسية‬ ‫وصدر أيضا كتاب آلدو جا ّنولي “الحرب‬ ‫والحروب التي تشنها الدول الغربية إنما‬ ‫التي صدرت هذا العام‬ ‫تسويق اإلرهاب‬
‫رأس جهادية” للكاتبة اإليطالية أ ّنا ّ‬
‫إرله‪،‬‬ ‫متزوجة ولديها طفل عمره أربع سنوات‪،‬‬ ‫ضد داعش‪ ،‬األخطاء التي اقترفناها‪،‬‬ ‫هو من أجل مصالحها االقتصادية‪ ،‬وال‬ ‫في معرض كتاب تورينو‪،‬‬ ‫كم هائل من‬ ‫والحقيقة فقد صدر ّ‬
‫و”داعش‪ ،‬دولة الرعب” للكاتبة اإليطالية‬ ‫تعمل في مركز استقبال المهاجرين‬ ‫لماذا نكاد نخسر الحرب‪ ،‬ماذا علينا أن‬ ‫شأن له بحقوق اإلنسان أو باألمن الداخلي‬ ‫الكتب التي تتناول في ثناياها الحديث‬
‫وهو معرض الكتاب‬
‫لوريتا نابوليوني‪ ،‬و”داعش خلف مشهد‬ ‫في باريس‪ .‬يقرر ثالثة شباب مسلمين‬ ‫نفعل لنربحها‪ ،»-2016‬وجا ّنولي هو‬ ‫وما إلى ذلك‪ .‬وقد أثار هذا الكتاب ضجة‬ ‫عن التطرف اإلسالمي‪ ،‬بالذات بعد‬
‫الرعب‪ ”-2015‬للكاتبة المغربية سعاد‬ ‫مهاجرين فجأة أن يلتحقوا بتنظيم‬ ‫أحد كبار الخبراء اإليطاليين بالشؤون‬ ‫كبيرة في الشارع األوروبي‪ .‬ونذكر‬ ‫األشهر في إيطاليا‪.‬‬ ‫االعتداءات التي تعرضت لها بعض الدول‬
‫السباعي‪ ،‬و”جندية الخالفة” للكاتبين‬ ‫الدولة في سوريا‪ .‬تتصل بهم صوفيا‬ ‫االستخباراتية والجيوستراتيجية‪ .‬قام‬ ‫أيضا كتاب “تسويق اإلرهاب‪،“-2016‬‬ ‫وخصصت خالل المعرض‬ ‫الغربية‪ .‬لذلك أخذ الحديث عن الوجه‬
‫اإليطاليين سيمونه دي ميو وجوسيبه‬ ‫وتحاول إقناعهم بالرجوع‪ ،‬ولكن يحصل‬ ‫ببحثه هذا حول داعش‪ ،‬وهو برأيه‬ ‫لمجموعة من الدارسين‪ .‬ويتناول‬ ‫قراءات شعرية لكل من‬ ‫السيء للحضارة والثقافة العربية حيزا‬
‫يانيني‪ .‬ويروي األخير قصة الفتاة‬ ‫ما ال يتوقعه أحد‪ :‬يقنع الشباب صوفيا‬ ‫“الوحش” الذي يحاول الجميع قتاله‪،‬‬ ‫الكتاب عملية تسويق اإلرهاب‪ .‬ويثبت‬ ‫كبيرا‪ ،‬مقابل الفراغ والفقر الذي يعاني‬
‫الراحل محمود درويش‬
‫التونسية التي كانت تدير شبكات‬ ‫على اللحاق بهم‪ .‬صوفيا التي تعاني من‬ ‫في حين يحاول بعضهم أن يستخدمه‬ ‫الدارسون في هذا الكتاب أن اإلرهاب‬ ‫منه انتشار الثقافة العربية في إيطاليا‪.‬‬
‫اإلنترنت الخاصة بالتنظيم‪ ،‬فعرفت عن‬ ‫مشاكل عائلية مع زوجها ومشاكل جانبية‬ ‫لمصالحه الخاصة‪ ،‬فيقوم بتمويله‪.‬‬ ‫كان قد مورس في الظل ولسنين طويلة‪.‬‬ ‫والراحل نزار قباني‬ ‫وتصب معظم األبحاث على تنظيم‬
‫كثب التنظيم الداخلي لداعش‪ ،‬وتفاصيل‬ ‫ّ‬
‫ضالتها في الوعود والحياة‬ ‫أخرى‪ ،‬تجد‬ ‫ويقدم جا ّنولي وجهة نظر مشابهة لتلك‬ ‫أما اآلن فكل شيء يمارس علنا‪ ،‬وينشر‬ ‫داعش‪ ،‬نشأته وعناصره وسياساته‪.‬‬
‫دقيقة عن سياساته وكيفية تعامله مع‬ ‫التي يزيّ نها لها الشباب‪ .‬فجأة ترحل‬ ‫التي قدمها الفيلسوف الفرنسي ميشال‬ ‫حول العالم عن طريق اإلنترنت ووسائل‬ ‫ومعظم هذه الكتب هي لكتّ اب غربيين‪،‬‬
‫اآلخرين‪.‬‬ ‫صوفيا إلى سوريا لاللتحاق بالتنظيم‪،‬‬ ‫أونفري‪ ،‬إذ يعتقد أن قوات التحالف‪،‬‬ ‫التواصل االجتماعي‪ .‬وقد ساعدت‬ ‫ونحن هنا نتطرق في الغالب للباحثين‬
‫ال شك أن هناك محاور أخرى يمكن‬ ‫حاملة معها طفلها الصغير‪ .‬تكتشف‬ ‫بقيادة الواليات المتحدة‪ ،‬تحارب اإلرهاب‬ ‫وسائل التواصل والتكنولوجيا الحديثة‬ ‫ويساعد ذلك على فهم الشخصية‬ ‫اإليطاليين‪ ،‬وتوازي هذه الكتب عدد‬
‫التطرق لها والحديث عنها‪ ،‬فهناك كتب‬ ‫الشابة في سوريا الجحيم الذي يعيشه‬ ‫منذ أكثر من خمسة عشر عاما‪ ،‬ولكنها لم‬ ‫ّ‬
‫وتفشي الرعب‬ ‫على نشر رسالة اإلرهاب‪،‬‬ ‫المتطرفة واإلرهابية‪ .‬وصدر أيضا كتاب‬ ‫الكتب الثقافية والفكرية التي ترجمت‬
‫تصدر عن مختلف القضايا العربية‪،‬‬ ‫السوريون جراء تصرفات قوات داعش‬ ‫تعمل سوى على تقويته‪ ،‬بل وخلفت في‬ ‫والخوف بالفيديوهات والصور التي‬ ‫الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري‬ ‫عن اللغة العربية‪ ،‬من العالم العربي‪ ،‬إلى‬
‫السياسية بشكل خاص‪ ،‬ولكن نحتاج إلى‬ ‫الوحشية‪ ،‬وقسوتهم بالذات مع النساء‪.‬‬ ‫كل مكان حاربت فيه مسرحا يجول به‬ ‫يقومون بنشرها‪ .‬وتعمل وسائل التواصل‬ ‫“أفكار حول اإلسالم‪ .“-2016‬أصدر‬ ‫اللغة اإليطالية‪ .‬وهذا برأيي يشكل أزمة‬
‫مجال أوسع إلجراء البحث‪ ،‬لذلك نضطر‬ ‫ُتصدم صوفيا بالحقيقة المرة التي ال ّ‬
‫تمت‬ ‫اإلرهابيون‪ .‬فجاءت النتيجة أن ُخلق‬ ‫االجتماعي على تحويل العالم بأسره إلى‬ ‫أونفري هذا المقال‪ ،‬و ُترجم مباشرة‬ ‫ثقافية حقيقة استمرت طويال وال زالت‬
‫إلى إرجائه إلى مناسبة أخرى‪ ،‬علها تكون‬ ‫بصلة لما وصفه لها الشباب‪ ،‬فتتجلى لها‬ ‫هذا الوحش اليوم‪ ،‬والذي أزاح الحدود‬ ‫مسرح يعرض عليه اإلرهابي ممارساته‬ ‫إلى اإليطالية‪ ،‬بعد اعتداءات شارلي‬ ‫قائمة‪ ،‬بغض النظر عن أهمية تلك الكتب‪،‬‬
‫سببا ودافعا لمقالة أخرى‪.‬‬ ‫الجنة الموعودة جحيما حارقا‪ .‬فتحاول‬ ‫بين بعض الدول‪ ،‬وتمكن من نشر خالياه‬ ‫اليومية وبطوالته‪ ،‬فيشعر بنفسه بطل‬ ‫إيبدو‪ ،‬وينتقد فيه الثقافة األوروبية‪،‬‬ ‫ذلك أن الغرب ال زال ينظر إلى الشرق من‬
‫كاتب ومترجم من العراق مقيم في بولونيا‪-‬إيطاليا‬ ‫الفتاة جهدها للهرب من الجحيم‪ ،‬بالذات‬ ‫وتنفيذ هجماته في كل مكان‪ ،‬حتى‬ ‫اللحظة في هذا العرض‪ .‬ويبحث الكتاب‬ ‫معتبرا أن الحضارة المسيحية حضارة‬ ‫زاويته الخاصة تماما‪ ،‬وال يتعرف عليه‬

‫‪161‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪160‬‬


‫وداع ًا لبراءة الطفل‬

‫‪160‬‬
‫هيثم الزبيدي‬

‫ينأون بأبنائهم بعيدا عن التهلكة‪ .‬هنا يأتي دور اإلعالم‪ .‬فالطفل يفتح‬ ‫تنتهي الطفولة البريئة‪ .‬مشاهد القسوة التي تحيط‬
‫قريبا‬
‫عينه على بيت مشحون‪ .‬غاب الترفيه عن شاشة التلفزيون واستبدل‬ ‫بأطفال اليوم ستسرق براءتهم مبكرا جدا‪ .‬القسوة التي‬
‫بقنوات الوعظ الديني أو الوعظ اإلعالمي‪ .‬إما شيخ يردّ د دعواته‬ ‫يشاهدونها ال عالقة لها بتلك التي عانى منها األجداد عندما كانوا‬
‫العنيفة‪ ،‬أو مذيع ينقل أخبار المآسي والمذابح‪ .‬صور الموت على‬ ‫صغارا والمرتبطة بضيق ذات اليد والفقر وانعدام التعليم وشظف‬
‫شاشاتنا أكثر من صور الحياة‪ .‬تكرار المشاهد مرة بعد أخرى وفي كل‬ ‫العيش‪.‬‬
‫ساعة‪ ،‬يخلق هذا الجو الغاضب الذي يلتقطه الطفل انتقائيا بحكم‬ ‫أطفال هذا الزمان ضحايا قسوة فكرية وإعالمية‪.‬‬
‫براءته‪ .‬سينتبه سريعا إلى ميول األب واألم‪ ،‬وستراه جزءا من تلك‬ ‫الكبار يريدون أن يؤدلجوا حياة الطفل وأن يضعوه على طريقهم‪،‬‬
‫الميول بعد فترة بحكم التط ّبع والتقليد‪ .‬ال حاجة إلعداده بشكل‬ ‫بدال من تركه لخياراته المستقبلية‪ .‬نظريا‪ ،‬ينبغي أن يذهب الطفل‬
‫مباشر‪ ،‬بل تترك المهمة للفضائيات‪.‬‬ ‫إلى فصل دراسي محايد ّ‬
‫يعلمه األساسيات من دون تحيز أو تمييز‬
‫لماذا علينا أن نتخيل عكس هذا؟ لماذا نخاف أن يتأثر الطفل بألعاب‬ ‫ويتدرج به في حقول المعارف ليصل به إلى مرحلة االختيارات‪.‬‬
‫الفيديو القتالية التي تجعل العنف مقبوال بالنسبة إليه‪ ،‬وال نخاف‬ ‫األحقاد واألفكار المسبقة والتوجيه المعنوي يجب أن تكون آخر ما‬
‫على أطفالنا من مشاهد الدم والدمار والجثث؟ القسوة عبر المشهد‬ ‫يفكر به المربون‪ ،‬اآلباء منهم أو المدرسون‪ ،‬عندما يتعاملون مع الطفل‪.‬‬
‫التلفزيوني واحدة بالنسبة إلى عقل غض‪ .‬النتيجة يمكن أن تكون‬ ‫عقله الغض يحتاج إلى المعرفة والعلوم‪ ،‬ال إلى األيديولوجيا واألفكار‪،‬‬
‫واحدة‪ .‬وهذه النتيجة واحدة أيضا سواء لطفل عربي في بلد عربي‬ ‫مهما كانت عظيمة في أعين المربين‪.‬‬
‫أو طفل عربي مسلم في بلد المهجر‪ .‬مهاجرونا ال يفارقون شاشات‬ ‫باسم الدين وباسم القبيلة ضاعت براءة الطفولة‪ .‬خذ مثال تلك األفواج‬
‫القنوات اإلخبارية أو الوعظية وال يتوقفون عن الحديث عن عالمهم‬ ‫من األطفال التي أرسلت إلى حقول األلغام خالل الحرب العراقية‬
‫السابق طالما يعجزون عن االندماج في العالم الجديد‪.‬‬ ‫اإليرانية باسم الدفاع عن المذهب والثورة‪ .‬أو ما نشاهده من عمليات‬
‫تجنيد لألطفال في أفريقيا باسم القبيلة أو العرق تنتهي بهم إلى أن‬
‫اإلعالم بعشوائيته وتحريضه وتمتعه باإلثارة المصاحبة لألزمات‪ ،‬إنما‬ ‫يصبحوا جزءا من ماكنة قتل هم ضحاياها األوائل‪ .‬هذه قسوة ما‬
‫يشكل عقول األطفال بشكل غير مباشر‪ ،‬على هامش إدمان اآلباء لتلك‬ ‫بعدها قسوة وال تقارن بمعاناة الطفل العامل في بلد فقير‪ .‬الفقر أعمى‪،‬‬
‫المشاهد‪ .‬وبالنسبة إلى الطفل‪ ،‬يبدو األمر سواء‪ ،‬سواء تأثر بأدلجة‬ ‫ولكن من يحوّ ل األطفال إلى قتلة بصير ويدرك تماما ما يفعله‪.‬‬
‫فكرية من اآلباء‪ ،‬أو ألنه كان يجلس بجانبهم وهم يستمعون إلى‬ ‫الصراع السياسي‪-‬الطائفي الذي يجري في منطقتنا اليوم لم يكتف‬
‫الوعظ أو يشاهدون األخبار‪ .‬تنمية الغضب واألحقاد تمر على براءته‬ ‫بالبالغين‪ .‬ثمة حروب كبيرة وكثيرة قادمة صار من الضروري‬
‫بنفس الطريقة‪.‬‬ ‫االستعداد لها مبكّرا بتشكيل وعي الطفل بعيدا عن المستقبل وأبعد‬
‫ثمة أبعاد كثيرة في تنشئة األجيال‪ .‬ما تم التركيز عليه كثيرا هو‬ ‫بكثير عن البراءة‪ .‬أنت بحاجة إلى زرع األحقاد مبكّرا لكي تتمكن من‬
‫التعليم ودوره الخطير في التربية والتوجيه‪ ،‬وهذا شيء مهم ولكنه ال‬ ‫أن تحصدها في الوقت الذي تحتاجها فيه‪ .‬زراعة األفكار في الصغر‬
‫‪aljadeedmagazine.com‬‬
‫يقدم الصورة الكاملة‪ .‬هناك أبعاد أسرية واجتماعية وإعالمية كثيرة‬ ‫أفضل من غسيل العقول في الكبر‪.‬‬
‫فكر حر وإبداع جديد‬ ‫تبدو مغفلة‪ ،‬لكنها ال تقل أهمية عن التعليم‪ .‬األطفال العرب في الغرب‬ ‫ّ‬
‫المشاهد التي رأيناها مؤخرا مرعبة‪ .‬أطفال يعذبون ويقتلون أعداء‬
‫ال يذهبون إلى مدارس ّ‬
‫تعلمهم التشدد‪ ،‬ولكن المئات منهم يذهبون‬ ‫الكبار‪ .‬وإذا كان الطفل الجندي في أفريقيا‪ ،‬المخطوف من أهله غالبا‪،‬‬
‫ثقافية عربية جامعة تصدر شهري ًا من لندن‬ ‫سنويا إلى حروب تأثروا بما سمعوه عنها ورأوه بعيدا عن مقاعد‬ ‫يدرب على القتل أوال بتعصيب عينيه ثم إزالة العصابة بعد إطالق‬ ‫ّ‬
‫وتوزع في العالم العربي واوروبا واألميركيتين‬ ‫الدراسة‪.‬‬ ‫النار ومشاهدة الضحية‪ ،‬فإن الطفل في الشرق يعدّ مبكّرا من قبل أبيه‬
‫‪WWW.aljadeedmagazine.com‬‬ ‫ثمة مسؤولية كبرى أمام المثقفين في أال ينسوا هذه الجوانب من‬ ‫وأمه‪“ .‬الجهاد” يبدأ بعمر الحضانة‪ .‬الحقد قبل الحب في عالمنا‪ .‬حقد‬
‫‪editor@aljadeedmagazine.com‬‬ ‫القضية‪ .‬ال تستطيع أن تسعى إلصالح الكبار وتترك األطفال نهبا‬ ‫عمره قرون‪.‬‬
‫للخراب‬ ‫ال شك أن ليس كل ما يحدث يأتي بتحريض من األهل‪ .‬األب واألم‪ ،‬في‬
‫كاتب من العراق مقيم في لندن‬ ‫العموم‪ ،‬قد يقبالن على نفسيهما ما ال يقبالنه على االبن‪ .‬اآلباء العاقلون‬

‫‪163‬‬ ‫‪2017‬‬ ‫العدد ‪ - 24‬يناير‪ /‬كانون الثاين‬ ‫‪162‬‬


‫إبراهيم سعدي‬
‫أبو بكر العيادي‬
‫أحمد الفيتوري‬
‫أحمد برقاوي‬
‫أحمد ضحية‬
‫أحمد ضياء‬
‫أزراج عمر‬
‫جابر السّالمي‬
‫جاد الكريم الجباعي‬
‫جمعة الالمي‬
‫حياة الرايس‬
‫حيدر علي سالمة‬
‫خلدون الشمعة‬
‫دنيا الزبيدي‬
‫ربوح بشير‬
‫رمضان نايلي‬
‫سعيد خطيبي‬
‫سعيدة تاقي‬
‫سفيان رجب‬
‫سالفوي جيجك‬
‫شاكر نوري‬
‫شرف الدين ماجدولين‬
‫علي حسن الفواز‬
‫علي لفته سعيد‬
‫عواد علي‬
‫كاصد محمد‬
‫كاميليا عبدالفتاح‬
‫كه يالن محمد‬
‫ماهر عبدالمحسن‬
‫محمود السرساوي‬
‫مريم حيدري‬
‫مصطفى تاج الدين الموسى‬
‫نجيب جورج عوض‬
‫فكر حر وإبداع جديد‬
‫نوري الجراح‬ ‫‪www.aljadeedmagazine.com‬‬
‫هيثم الزبيدي‬

‫‪164‬‬

You might also like