You are on page 1of 6

‫أسباب الفالح كما بَيَّنَ ْتهَا ال ُّسنَّةُ النَّبَ ِويَّة‬

‫دكتور ‪ :‬أحمد عبد المجيد مكي‬

‫َّحمن الرَّحيم‬
‫بسم هللاِ الر ِ‬
‫ِ‬

‫‪     ‬من األمور المشتركة بين بني اإلنسان أن كل واحد منهم يبحث عن السعادة‪ ،‬وال ُمصيب منهم حقا ً‬
‫َم ْن التمسها في نصوص الوحي واستوحاها منه‪ ،‬فهو منبع الخير و َمطل ُع الهداية‪ ،‬وألن هللا عز وجل‬
‫ق الخ َْلق وأتقنه وأحسنه ال بد أن يعلم ما يُصْ لِحه ويُسْعده {أَال يَ ْعلَ ُم َم ْن‬
‫هو خالق الناس جميعا ً فَ َمن خَ لَ َ‬
‫َخلَقَ}‪ ،‬وألن اهتمام الوحي باألساس ُم ْن َ‬
‫صبٌّ على تهذيب اإلنسان والرقي بالنفس البشرية إلى مدارج‬
‫الكمال‪ ،‬ومن هداية الوحي حديثه عن المفلحين وبيان أهم صفاتهم التي تؤهلهم للفوز والفالح‬
‫والطمأنينة والراحة النفسية‪.‬‬

‫معنى الفَالَح ‪:‬‬


‫فلَح ال َّشخصُ ‪ ،‬يَفلَح‪ ،‬فَالحًا‪ ،‬فهو فالِح‪ :‬فاز‪ ،‬ظفِر بما يريد‪.‬‬
‫و َع َّرفَه اإلمام المناوي بأنه‪ :‬الفوز بالبُ ْغية في الدارين‪ .‬كما َع َّرفَه الشيخ السعدي بأنه ‪ :‬اسم جامع‬
‫لحصول كل مطلوب محبوب‪ ،‬والسالمة من كل مخوف مرهوب‪.‬‬
‫وقسّمه العلماء الى نوعين‪ :‬دنيوىّ‪ ،‬وأُخروىّ‪.‬‬
‫فال ّدنيوى‪ :‬نيل األَسباب الَّتى بها ِ‬
‫تطيب الحياة‪ .‬وهى البقا ُء (الصحة والعافية)‪ ،‬وال ِغنى‪ ،‬وال ِع َّز‪.‬‬
‫فقر‪ ،‬وع ّز بال ُذلٍّ وعلم بال جهل‪ .‬لذلك قال صلَّى‬ ‫واألُخرو ّ‬
‫ى‪ :‬أَربعة أَشيا َء‪ :‬بقا ٌء بال فنا ٍء‪ ،‬وغنى بى ٍ‬
‫هللا عليه وسلَّم‪" :‬الله ّم ال عيش إِال عيش اآلخرة" ([‪.)]1‬‬

‫أسُسُ الفالح كما بَيَّنَهَا النبي الكريم‪:‬‬


‫‪     ‬أوصاف المفلحين مبثوثة في سور القرآن وآياته‪ ،‬كما اهتمت السنة النبوية ببيان طرف من دعائم‬
‫الفالح‪ ،‬من ذلك ما رواه عبد هللا بن عمرو بن العاص ‪ -‬رضي هللا عنهما ‪ -‬أن رسول هللا ‪ -‬صلى هللا‬
‫ق كفافاً‪ ،‬وقَنَّعه هللا بما آتاه»‪.‬‬ ‫عليه وسلم‪ -‬قال‪« :‬قد أ ْفلَ َح َم ْن أسلم‪ ،‬ور ِ‬
‫ُز َ‬
‫‪   ‬هذا الحديث رواه اإلمام مسلم في صحيحه‪ ،‬كتاب الزكاة‪ ،‬باب في الكفاف والقناعة‪ ،‬وقد أورده‬
‫اإلمام النووي في كتابه النافع رياض الصالحين‪ ،‬في بابين متتابعين‪ ،‬األول ‪ :‬باب فضل الجوع‬
‫وخشونة العيش واالقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس‬
‫وترك الشهوات‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬باب القناعة وال َعفاف واالقتصاد في المعيشة واإلنفاق وذم السؤال من غير ضرورة‪.‬‬
‫ورواه أيضا اإلمام الترمذي في كتاب الزهد من سننه‪ ،‬باب ما جاء في الكفاف‪ †،‬بلفظ‪« :‬طُوبى لِ ْ‬
‫من‬
‫ي لإلسالم‪ ،‬وكان َع ْي ُشه َكفَافا ً َوقنِ َع» ‪.‬‬
‫ه ِد َ‬
‫‪  ‬ولفظ‪  ‬طُوبَى (مفرد)‪ :‬مؤنَّث أطيبُ ‪ .‬ومعناها غبطة وسعادة‪ ،‬وخي ٌر دائم وهي من الطِّيب‪ ،‬وفي‬
‫القرآن الكريم‪{ :‬الَّ ِذينَ َءا َمنُوا َو َع ِملُوا الصَّالِ َحا ِ‬
‫ت طُوبَى لَهُ ْم َو ُحسْنُ َمآ ٍ‬
‫ب}‪ :‬والمعنى ‪ :‬لهم كل‬
‫مستطاب في الجنة من بقاء و ِع ّز وغنى‪ ،‬ويقال‪ :‬طُوبَى لك و طوباك‪ :‬لك الحظّ وال َعيْش الطَّيِّب‪،‬‬
‫وطُوبَى لكم‪ :‬كونوا سُعدا َء ج ًّدا‪.‬‬
‫‪ ‬وطُوبَى أيضا اسم َعلَم للجنّة أو لشجرة فيها‪.‬‬
‫‪     ‬وفيما يلي محاولة متواضعة لتوضيح معالم ودعائم طريق السعادة والفالح كما بينها هذا الحديث‬
‫النبوي الشريف‪.‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬األساس األول ‪ :‬الهداية لإلسالم‪.‬‬
‫ال شك أن اإلسالم تحصل به السعادة في الدنيا واآلخرة‪ ،‬فعلى قدر إسالم الوجه والقلب والجوارح‬
‫واللسان هلل ‪-‬تبارك وتعالى‪ -‬على قدر ما يحصل للعبد من الفالح؛ ألن النبي علقه بذلك في قوله‪( ‬قد‬
‫أفلح من أسلم)‪ ،‬وال ُح ْكم ال ُم َعلَّق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه‪.‬‬

‫ووجه كون اإلسالم سببا ً في الفالح‪:‬‬


‫‪ -‬أنه سبب لنجاة العبد من النار ودخوله الجنة‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد‬
‫فاز} (آل عمران‪ ، )185 :‬ولن يقبل هللا من أح ٍد دينا ً غير اإلسالم‪.‬‬
‫‪ - ‬أن‪ ‬اإلسالم‪  ‬أكمل الشرائع وأفضلها‪ ،‬وأعالها وأجلها‪ ،‬فهو الدين الذي ارتضاه هللا عز وجل لجميع‬
‫البشر منذ أن خلق آدم إلى أن تقوم الساعة‪ ،‬وهو دين األنبياء والمرسلين جميعًا‪.‬‬
‫‪ -‬أنه دين الفطرة ‪ ،‬كما أنه حرر اإلنسان من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد‪.‬‬
‫‪ -‬أن من مقاصده األساسية حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال‪ ،‬وال يمكن إلنسان أن يهنأ بعيش‬
‫أو راحة في ظل انتقاص أو غياب واحد من هذه المقاصد‪ .‬فماذا سيكون حال االنسان لو غاب او‬
‫انتقص جُلُّ هذه المقاصد‪.‬‬
‫‪ -‬أن ما شرعه من أحكام وعبادات وأخالق هدفها تنظيم حياة اإلنسان‪ ،‬وبث الراحة والطمأنينة‬
‫والسعادة في نفسه‪ ،‬ولتجعل منه مخلوقا ً مكرما ً يعيش لهدف‪ ،‬ليس كل هَ َّمه أن يأكل ويشرب ويتمتع‬
‫كما تفعل األنعام‪.‬‬
‫وبشكل عام يمكن القول َّ‬
‫أن الحياة النافعة إنما تحصل باالستجابة هلل ورسوله‪ ،‬وقد استفاض اإلمام‬ ‫ٍ‬ ‫‪ ‬‬
‫ابن قيم الجوزية (المتوفى‪751 :‬هـ) في بيان ذلك عند تفسيره لقول هللا تعالى‪{ :‬يَاأَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا‬
‫ا ْست َِجيبُوا هَّلِل ِ َولِل َّرس ِ‬
‫ُول إِ َذا َدعَا ُك ْم لِ َما يُحْ يِي ُك ْم ‪[ }...‬األنفال‪ ،]24 :‬فقال ما ملخصه ‪:‬‬
‫‪   ‬فتضمنت هذه اآلية أمورا أحدها‪:‬‬
‫‪  ‬أن الحياة النافعة إنما تحصل باالستجابة هلل ورسوله‪ ،‬فمن لم تحصل له هذه االستجابة فال حياة له‪،‬‬
‫وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات‪ ،‬فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من‬
‫استجاب هلل والرسول ظاه ًرا وباطنا‪ ،‬فهؤالء هم األحياء وإن ماتوا‪ ،‬وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء‬
‫األبدان‪ ،‬ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول‪َّ ،‬‬
‫فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة‪،‬‬
‫فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة‪ ،‬وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول‪.‬‬

‫‪ ‬واإلنسان مضطر إلى نوعين من الحياة‪:‬‬


‫‪  ‬النوع األول‪ :‬حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضره‪.‬‬
‫‪  ‬النوع الثاني‪ :‬حياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل‪ ،‬وال َغ ّي والرشاد‪ ،‬والهوى والضالل‪.‬‬
‫‪  ‬فكما أن اإلنسان ال حياة له حتى ينفخ فيه الملك الذي هو رسول هللا من روحه‪ ،‬فيصير حيًا بذلك‬
‫النفخ‪ ،‬وإن كان قبل ذلك من جملة األموات‪ ،‬فكذلك ال حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول‬
‫وح ِم ْن أَ ْم ِر ِه َعلَى َم ْن يَ َشا ُء ِم ْن‬ ‫ُ‬
‫البشري من الروح الذي أ ْلقى إليه‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬يُن َِّز ُل ْال َماَل ئِ َكةَ بِالرُّ ِ‬
‫ِعبَا ِد ِه} [النحل‪ ]2 :‬وقال‪{ :‬ي ُْلقِي الرُّ و َح ِم ْن أَ ْم ِر ِه َعلَى َم ْن يَ َشا ُء ِم ْن ِعبَا ِد ِه} [غافر‪ ]15 :‬؛ فجعل‬
‫وحيه روحًا ونو ًرا‪ ،‬فمن لم يُحيه بهذا الروح فهو ميت‪ .)]2[(...‬‬

‫األساس الثاني ‪ :‬الكفاية من الرزق‬


‫ُنسي‪ ،‬أو ِغنَ ًى يطغي‪ ،‬وكل ِمنهُ َما ملهاة تُورث اله ّم‬ ‫قد يهدي هللا العبد لإلسالم‪ ،‬ولكنّه يُ ْبتَلى‪ :‬إ ّما ٍ‬
‫بفقر ي ِ‬
‫والغ ّم َو ْالقَ ْس َوة أو المذلة‪ ،‬فمن أراد به هللا الخير والفالح كان رزقه كفافاً‪ ،‬ألنه سلم من تَبِ َع ِة الغنى و ُذ ّل‬
‫سؤال الخلق‪.‬‬
‫‪ ‬و َح ُّد الكفاف ‪ :‬أن يجد اإلنسان ما يدفع ضروراته وحاجاته ويَ ُك َّ‬
‫ف قلبه ولسانه عن سؤال الناس‬
‫والتطلع إلى ما في أيديهم‪.‬‬
‫وغني عن التنبيه أن المراد بالرزق الحالل؛ ألنه ال فالح مع رزق حرام ‪.‬‬
‫وفي فضل الكفاية يروي لنا أبو ال ّدرداء‪ -‬رضي هللا عنه‪ -‬عن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم أنه قال‪:‬‬
‫ض إِاَّل الثَّقَلَي ِْن‪ :‬يَا أَيُّهَا النَّاسُ‬
‫ان أَ ْه َل اأْل َرْ ِ‬
‫ان‪ ،‬يُ ْس ِم َع ِ‬ ‫ث بِ َج ْنبَتَ ْيهَا َملَ َك ِ‬
‫ان يُنَا ِديَ ِ‬ ‫ت َش ْمسٌ قَ ُّ‬
‫ط إِاَّل بُ ِع َ‬ ‫« َما طَلَ َع ْ‬
‫هَلُ ُّموا إِلَى َربِّ ُك ْم فَإِ َّن َما قَ َّل َو َكفَى خَ ْي ٌر ِم َّما َكثُ َر َوأَ ْلهَى ‪.)]3[(...،‬‬
‫وقد سأل النبي صلى هللا عليه وسلم ربه أن يكون رزق آل محمد ما يقوتهم ويكفيهم فعن أبي هريرة‪-‬‬
‫رضي هللا عنه‪ -‬قال‪ :‬قال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪« :‬الله ّم ارزق آل مح ّمد قوتا»([‪ .)]4‬وفي‬
‫رواية عند مسلم‪" :‬كفافاً"‬
‫‪ ‬والقوت† ‪ :‬هو ما يقوت† ويكفي† من العيش ويَ ُك ُّ‬
‫ف عن الحاجة‪ُ ،‬س ِّم َي قوتا لحصول القوة منه‪ ،‬وهو‬
‫بمعنى الكفاف‪ .‬والمعنى‪ :‬اكفهم من القوت ما ال يرهقهم إلى ُذلِّ المسألة‪ ،‬وال يكون فيه فضول يبعث‬
‫على الترف والتبسط في الدنيا‪.‬‬
‫قال العالمة المناوي (المتوفى‪1031 :‬هـ)‪:‬‬
‫وقد احتج بهذا َم ْن فَ َّ‬
‫ضل الفقر على الغنى‪ ،‬وقد اتفق الجميع على أن ما أحوج من الفقر مكروه‪ ،‬وما‬
‫أبطر من الغنى مذموم‪ ،‬والكفاف حالة متوسطة بين الفقر والغنى‪ ،‬وخير األمور أواسطها‪ ،‬ولذلك‬
‫سأله المصطفى صلى هللا عليه وسلم بقوله‪ (:‬اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا)‪ ،‬ومعلوم أنه ال يسأل إال‬
‫أفضل األحوال‪ ،‬والكفاف حالة سليمة من آفات الغنى المطغي‪ ،‬وآفات الفقر المدقع الذي كان يتعوذ‬
‫منهما‪ ،‬فهي أفضل منهما([‪.)]5‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪ ‬األساس الثالث ‪ :‬القناعة التامة بما قسم هللا له‪.‬‬
‫‪   ‬قد يهدي هللا اإلنسان إلى اإلسالم ويكون عيشه كفافاً‪ ،‬ولكنه ال يقنع بما آتاه هللا‪ ،‬بل يكون في قلق‬
‫دائم وتسخط‪ ،‬فال يزال يشكو ربه ليل نهار‪ ،‬وقلبه مشغول وجوارحه مشغولة في طلب الزيادة‪ ،‬فمثل‬
‫هذا فقير القلب والنفس‪ ،‬من هنا جاء األساس الثالث ليكتمل بذلك مثلث الفالح ( َوقَنَّ َعهُ هَّللا ُ بِ َما آتَاهُ)‪.‬‬
‫تعريف القناعة ‪:‬‬
‫ض َي بما أُ ْع ِطي وقَبِلَه‪َ ،‬ع ْكس‬
‫قنَ َع‪ ،‬يَ ْقنَع‪ ،‬قَناعةً‪ ،‬فهو قانِع وقَنوع وقَنِع‪ ،‬وقنِع ال َّش ْخصُ بال َّشيء‪َ :‬ر ِ‬
‫( َح َرص)‪ ،‬والقانع‪ :‬ال ّراضي بما قسم هللا‪.‬‬
‫قال ابن َعاَّل ن الشافعي (المتوفى‪1057 :‬هـ)‪:‬‬
‫صيّره قانعاً‪ ،‬ولعل التضعيف (أي‪ :‬تشديد النون في قوله‪َ :‬وقَنَّ َعهُ) إيماء إلى بُعْد هذا‬
‫‪َ ( ‬وقَنَّ َعهُ) أي َ‬
‫الوصف عن طبع اإلنسان‪ ،‬فمن حاول إزالتها يحتاج إلى مبالغة في ذلك‪ ،‬ألن الطبع البشري مائل إلى‬
‫االستكثار من الدنيا والحرص عليها إاَّل َم ْن َع َ‬
‫صم هللا‪ ،‬وقليل ما هُم‪ ،‬وكأن المعنى‪ :‬وجعله هللا بِ َخفِ ِّي‬
‫ألطافه قانعا ً بما أعطاه من الكفاف‪ .‬قال القرطبي‪ :‬معنى الحديث‪ :‬أن من حصل له ذلك فقد حصل على‬
‫مطلوبه وظفر بمرغوبه في الدارين([‪.)]6‬‬
‫ووجه كون القناعة سببًا للفالح؛ أنها تمنع صاحبها من الوقوع† في الظلم‪ ،‬والتطاول على األموال†‬
‫ك َكثِي ٌر ِمنَ النَّ ِ‬
‫اس كما مشاهد في الواقع ال ُم َعاش‪.‬‬ ‫المحرمة‪ ،‬وبسبب ذلك يَ ْهلَ ُ‬
‫أن الطامع – وهو عكس القانع‪ -‬كلما حصل على شيء من أمور الدنيا طلب غيره‪ ،‬وهَلُ َّم‬
‫‪   ‬وجه ثان‪َّ :‬‬
‫َجرَّا‪ ،‬فنَ ْف َسهُ فقيرة أبدا حتى يقبض ملك الموت روحه وهو على تلك الحالة الخبيثة‪ِ ،‬م ْن غير استعداد‬
‫للموت وال تأهب له‪ ،‬وفي ذلك خسران مبين‪.‬‬
‫وهناك وجه آخر ‪ :‬وهو أن الحازم إذا ضاقت عليه الدنيا لم يجمع على نفسه بين ضيقها وفقرها‪ ،‬وبين‬
‫فقر القلب وحسرته وحزنه‪ ،‬بل كما يسعى لتحصيل الرزق فليسع لراحة القلب‪ ،‬وسكونه وطمأنينته‪.‬‬
‫والقناعة أحد األسباب لتحقيق ذلك‪ ،‬فبسببها يكون المسلم راضيا ً برزقه‪ ،‬منشرح الصدر والبال‪ ،‬لذلك‬
‫اخلُ ْ‬
‫ف َعلَ َّي ُك َّل‬ ‫كان من دعاء النبي صلّى هللا عليه وسلّم‪ « :‬اللَّهُ َم قَنِّ ْعنِي بِ َما َر َز ْقتَنِي‪َ ،‬وبَ ِ‬
‫ار ْك لي فِي ِه‪َ ،‬و ْ‬
‫غَائِبَ ٍة لِي بِ َخي ٍْر»([‪.)]7‬‬
‫ومن أقوال الحكماء‪ :‬أطول النّاس غ ّما الحسود‪ ،‬وأهنأهم عيشا القنوع‪ ،‬القناعة كن ٌز ال يَ ْفنَى‪ ،‬العب ُد حُرٌّ‬
‫إذا قنَع‪ ،‬والحرُّ عب ٌد إذا ط ِمع‪ ،‬خير الغنى القنوع وشرُّ الفقر الخضوع‪ ،‬من لزم القناعةَ نال ِع ًّزا‪ ،‬من لم‬
‫يكتف بالكثير‪.‬‬
‫ِ‬ ‫يقنع باليسير لم‬
‫ومن عيون الشعر العربي‪:‬‬
‫والنّفس راغبة إذا ر ّغبتها ‪ ...‬وإذا تر ّد إلى قليل تقنع‬
‫وفي الختام أود االشارة الى أمرين هامين‪:‬‬
‫األمر االول‪  :‬ليس معنى القناعة والكفاف أن يالزم اإلنسان بيته ويقعد عن طلب الرزق‪ ،‬ويقول‪ :‬إنني‬
‫ت‬ ‫راض بحالي‪ ،‬بل عليه أن يسعى بِ ِج ٍّد واجتهاد في طلب الرزق‪ ،‬استجابة لقوله تعالى‪( :‬فَإِ َذا قُ ِ‬
‫ضي َ ِ‬ ‫ٍ‬
‫ص َرفَ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫ة‬ ‫ع‬‫م‬
‫َُ‬ ‫ج‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ال‬ ‫ى‬‫َّ‬ ‫ل‬ ‫ص‬
‫َ‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫ذ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫السلف‬ ‫أحد‬ ‫وكان‬ ‫)‪،‬‬ ‫هَّللا‬
‫ِ ِ‬ ‫ل‬ ‫ضْ‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫ْ‬
‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫وا‬‫غ‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬
‫ب‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ض‬
‫ِ َ‬ ‫رْ‬‫َ‬ ‫أْل‬‫ا‬ ‫ي‬‫ِ‬ ‫ف‬ ‫ُوا‬
‫ر‬ ‫َش‬
‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬
‫ن‬ ‫ا‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫ُ‬ ‫ة‬ ‫صاَل‬
‫ال َّ‬
‫وصليت فريضتك‪ ،‬وانتشرت كما أمرتني‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أجبت دعوتَك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ب ْال َمس ِْج ِد‪ ،‬فقال‪ :‬اللَّهُ َّم إِنِّي‬
‫فَ َوقَفَ على بَا ِ‬
‫َّازقِينَ ([‪.)]8‬‬ ‫فَارْ ُز ْقنِي ِم ْن فَضْ لِكَ‪َ ،‬وأَ ْنتَ َخ ْي ُر الر ِ‬
‫وكذلك استجابة لقوله تعالى‪{ :‬فَا ْم ُشوا فِي َمنَا ِكبِهَا َو ُكلُوا ِم ْن ِر ْزقِ ِه} [الملك‪ ،]15:‬وخوفا ً من اإلثم‬
‫المشار إليه في قول النبي صلى هللا عليه وسلم‪( :‬كفى بالمرء إثما ً أن يضيع من يقوت)([‪.)]9‬‬
‫األمر الثاني‪ :‬ال يُفهَم من الحديث ذم الغنى أو مدح الفقر ‪ ،‬وقد أشار اإلمام المناوي (المتوفى‪:‬‬
‫‪1031‬هـ) إلى أن صاحب الحالة‪ -‬التي أشار اليها الحديث الشريف‪ -‬معدود من الفقراء ألنه ال يترفه‬
‫في طيبات الدنيا بل يجاهد نفسه في الصبر على القدر الزائد على الكفاف‪ †،‬فلم يفته من حال الفقراء‬
‫إاَّل السالمة من قهر الرجال و ُذلِّ المسألة([‪.)]10‬‬
‫نسأل هللا أن ييسر لنا طريق الفالح‪ ،‬وأن يجعلنا من الفالحين المفلحين‪ ،‬اللهم آمين‪ ،‬وصلى اللهم على‬
‫النبي األمي وعلى آله وصحبه اجمعين‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------‬‬
‫([‪ )]1‬بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (‪.)180 /2‬‬
‫([‪ )]2‬الفوائد البن القيم (ص‪.)88 :‬‬
‫([‪ )]3‬أخرجه احمد في المسند (‪ )21721‬وقال المحقق‪ :‬إسناده حسن‪.‬‬
‫([‪ )]4‬البخاري (‪ )6460‬ومسلم (‪. )1055‬‬
‫([‪ )]5‬فيض القدير (‪.)479 /5‬‬
‫([‪ )]6‬دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (‪.)468 /4‬‬
‫([‪ )]7‬أخرجه الحاكم في المستدرك (‪ ، )356 /2‬وابن خزيمة (‪ ،)218 /4‬وابن أبي شيبة(‪،)109 /4‬‬
‫والبيهقي† في شعب اإليمان‪.)454 /4(،‬‬
‫([‪ )]8‬تفسير ابن كثير (‪.)122 /8‬‬
‫([‪ )]9‬أخرجه أحمد (‪ ،)6495‬وأبو داود (‪ ،)1692‬وابن حبان (‪.)4240‬‬
‫([‪ )]10‬فيض القدير (‪.)508 /4‬‬

You might also like