.1ترجمة الخطيب البغدادي .2رحالت الخطيب البغدادي في جمع الحديث .3الخطيب ..ومرحلة التصنيف والكتابة واإلسماع واإلمالء .4فتنة البساسير وخروج الخطيب إلى دمشق .5مرض الخطيب البغدادي ووفاته .6بيان عفة الخطيب البغدادي وبعض سجاياه .7مصنفات الخطيب البغدادي رحمه اهلل .8سبب تأليف رسالة اقتضاء العلم العمل .9أهمية التوازن بين العلم والعمل .10الغاية من طلب العلم .11األحاديث واآلثار في بيان أهمية العمل بالعلم .12كيفية المحافظة على العلم وتثبيته .13خوف العلماء من عاقبة عدم العمل بالعلم .14انتزاع العلم ورفعه .15ذم طلب العلم للمباهاة والمراءاة .16الوعيد الشديد لمن قرأ القرآن للصيت ولم يقرأه للعمل .17ذم السلف لظاهرة الجدل .18ذم االستكثار من الطلب وترك العمل .19نعمة الصحة والفراغ
اقتضاء العلم العمل:
أخي :البد من التعرف على رسائل العلماء وعلى ما احتوته تلك الرسائل من الكنوز والمواعظ واآلداب ،وهذه رسالة تبين أهمية العمل بالعلم ،وقد ترجم الشيخ لمؤلفها ،وذكر نشأته ورحالته في طلب الحديث وتأليفه وإ مالئه ،ثم ذكر سبب تأليف هذه الرسالة ،ثم شرع يبين مفاهيمها ومعانيها التي تتحدث عن العلم والغاية من طلبه. ترجمة الخطيب البغدادي: الحمد هلل رب العالمين ،وصلى اهلل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد :فهذه الرسالة الثانية من سلسلة رسائل أهل العلم التي نتعرف فيها على بعض ما احتوته تلك الرسائل من الكنوز والعلوم والمواعظ واآلداب ،والرسالة بعنوان اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي رحمه اهلل تعالى .واقتضاء العلم للعمل أي :أن العلم يقتضي العمل به ،ومؤلفها هو أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي يكنى بـأبي بكر وقد اشتهر بـالخطيب البغدادي ،وقد ذكر الخطيب رحمه اهلل تعالى في تاريخ بغداد في ترجمة والده أن أصله من العرب ،وأن له عشيرة ـالحصاصة من نواحي الفرات من بالد العراق ،ولم يكن ّ كانوا يركبون الخيول ،وأن مسكنهم ب والده من العلماء المشهورين في ٍ فن من الفنون ،وإ نما كان له إلمام بسيط بالعلم ،وقد كان يخطب الجمعة والعيدين بقرية قريبة من بغداد اسمها درزيجان .ولذلك لم يصف الخطيب والده بأنه من العلماء ،وإ نما وصفه بأنه أحد حفاظ القرآن ،فقال في ترجمة والده في تاريخ بغداد :كان أحد حفاظ القرآن ،ويبدو أن لقب الخطيب قد استمر من األب إلى ابنه؛ ألن الخطيب نفسه قد تولى الخطابة، كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه اهلل في البداية والنهاية أنه تولى الخطابة وكان خطيباً للجمعة والعيدين في بغداد ،ولم ينفرد الخطيب البغدادي بهذا اللفظ (الخطيب) أو بهذا اللقب ،وقد لقب به عدد من العلماء ،منهم :تلميذ الخطيب البغدادي وهو الخطيب التبريزي رحمه اهلل وآخرون .ولد ٌ أبو بكر الحافظ أحمد بن علي بن ثابت يوم الخميس لستة من جمادي اآلخر سنة (392هـ) ونشأ في كنف أبيه ،وكان في نشأته قد وكل به أحد القراء ليعلمه القرآن ،فتعلم القرآن وحفظه منه ،ولما بلغ الحادي عشر من عمره بدأ بسماع الحديث ،ثم درس الفقه ،ولما بلغ العشرين من عمره عزم على الرحلة في طلب العلم والحديث .وكان الذي قد حفظّه القرآن وعلمه الكتابة هو هالل بن عبد اهلل رحمه اهلل ،وتأدب منه ،وهذا ما يفيد أهمية تأديب األوالد في المرحلة المبكرة.
رحالت الخطيب البغدادي في جمع الحديث:
في سنة (412هـ) بدأت المرحلة الثانية من حياة الخطيب وهي إنشاء رحالت لجمع الحديث ،وقد قام بثالث رحالت ،زار فيها ثالث عشرة ناحية ومدينة من أشهر بالد المسلمين.
رحلته إلى البصرة:
كانت رحلته األولى إلى البصرة في (412هـ) والتقى بكبار محدثيها ،ومنهم :أبو عمر القاسم ، وأبو جعفر بن عبد اهلل الهاشمي ،وسمع منه سنن أبي داود وغيرها ،وعاد إلى بغداد في السنة نفسها ،وفي الطريق مر بـالكوفة والتقى بمحدثيها واستفاد فوائد ،وقد ذكر ذلك في كتابه :تاريخ بغداد ،ولما رجع من هذه الرحلة لم تطل فرحة أبيه به؛ ألن أباه توفي في هذه السنة ،وعاجلته المنية يوم األحد من نصف شوال في السنة ذاتها التي رجع فيها الولد من رحلته .فتولى ابنه دفنه بنفسه ولم يؤثر ذلك في نيته في الطلب وعزمه عليه ،واقتضب الخطيب رحمه اهلل هذه الحادثة في ترجمة والده ،فقال :توفي يوم األحد النصف من شوال سنة (412هـ) ودفنته من يومه في مقبرة باب حرب ،ولم يزد على هذا كلمةً واحدة.
رحلة الخطيب إلى نيسابور:%
بعد وفاة والده تابع جمعه للحديث من أفواه المحدثين ،وطاف على محدثي بغداد يأخذ عنهم الحديث ،وبعد أن رأى بأنه قد أكمل األخذ عنهم عزم على الرحلة مرة ثانية ،وكان عنده اختياران: إما أن يذهب إلى مصر ،وإ ما أن يذهب إلى نيسابور ،فتردد فاستشار شيخه البرقاني رحمه اهلل وهو من كبار الحفاظ ،وقال له :هل أرحل إلى ابن النحاس في مصر أو أخرج إلى نيسابور إلى أصحاب األصم؟ فأشار عليه شيخه إلى نيسابور ،وعلل ذلك قائالً :إنك إن خرجت إلى مصر إنما رجل واحد ،إن فاتك ضاعت رحلتك ،وإ ن خرجت إلى نيسابور ففيها جماعة ،إن فاتكتخرج إلى ٍ واحد أدركت من بقي ،فخرج إلى نيسابور وزوده شيخه البرقاني رحمه اهلل برسالة لطيفه إلى ٌ محدثي أصبهان ،وكتب إلى أبي نعيم ،رحمه اهلل الحافظ الكبير يوصيه بتلميذه الخطيب البغدادي ، ويقول له فيها :قد نفذ إلى ما عندك عمداً متعمداً أخونا أبو ٍ بكر أحمد بن علي بن ثابت أيده اهلل وسلَّمه ،ليقتبس من علومك ،ويستفيد من حديثك ،وهو بحمد اهلل من له في هذا الشأن سابقةً حسنة، وقدم ثابت ،وفهم حسن ،وقد رحل فيه وفي طلبه ،وقد حصل له منه ما لم يحصل ٍ لكثير من أمثاله الطالبين له ،وسيظهر لك منه عند االجتماع به ،مع التورع -هذه المسألة ليست مسألة فقط حفظ يحسن لديك موقعه ،ويجبل عندك روايات -مع التورع والتحفظ وصحة التحصيل -أي :الدقة -ما ّ منزلته ،وأنا أرجو إن صحت منه لديك هذه الصفة أن تبين له جانباً ،وأن توفر له وتحتمل منه ما ٍ زيادة في االصطبار ،فقديماً حمل السلف عن الخلف ما عساه يورده من تثقيل في االستكثار ،أو ربما ثقل .خرج الخطيب البغدادي رحمه اهلل مع رفي ٍ ق له اسمه أبو الحسن علي بن عبد الغالب متوجهاً إلى نيسابور ،وفي رحلته كان يحصل له من العبادة الشيء الكثير ،وقد رآه رفقاؤه الذين معه ،وحصلت له في الرحلة من الروايات واألحاديث ما ألهاه عن النساء والطعام والشراب ،بل ربما أنساه حاجته للنوم! فمن العجائب التي حصلت له ،ويضرب له المثل في سرعة القراءة، وشهد له الحافظ ابن حجر رحمه اهلل بذلك ،أنه قرأ صحيح البخاري كامالً على إسماعيل بن أحمد الضرير في ثالثة أيام قراءة ضبط على شيخ ،وال يعرف أنه حصل لغيره مثل هذا .ورجع بعد ذلك إلى بغداد وسمع وقرأ فيها ذلك ،ولما استقر بها عكف على كتابه المشهور تاريخ بغداد ،ولما اكتملت فصول الكتاب ،واجتمعت مادته ،عزم على أداء فريضة الحج شكراً هلل عز وجل ،ولتتم النعمة ،ولتتم رحالته في أقطار العالم اإلسالمي في ذلك الوقت.
رحلة الخطيب إلى دمشق وتوجهه إلى بلد اهلل الحرام:
بدأت الرحلة الثالثة في سنة (444هـ) فتوجه من بغداد إلى دمشق وسمع من ٍ كثير من محدثيها ،ثم توجه إلى مكة ولم يكن يترك طريقه بدون فائدة ،بل كان يشغله بتالوة القرآن الكريم ،فيقول أحد مرافقيه وهو أبو الفرج األسفرائيني :كان الخطيب معنا في طريق الحج يختم كل ٍ يوم ختمة ،قراءة ترتيل ،ثم يجتمع عليه الناس وهو راكب يقولون :حدثنا فيحدثهم ،وهكذا قضى الطريق متقرباً إلى اهلل تعالى بتالوة القرآن ،وإ سماع الناس الحديث عن النبي صلى اهلل عليه وسلم ،ولما وصل مكة وطاف ببيت اهلل الحرام ،وصلى ركعتين خلف المقام توجه إلى ماء زمزم وشرب منه ثالث شربات ،وسأل اهلل ثالث حاجات ،آخذاً بقول النبي صلى اهلل عليه وسلم( :ماء زمزم لما شرب له) وهذه الثالث هي :األولى :أن يحدث بـتاريخ بغداد في بغداد .الثانية :أن يملي الحديث بجامع المنصور ،وكان جامعاً مشهوراً ال يحدث به إال النوادر ممن يؤذن له من الخليفة .الثالثة :أن يدفن بجانب بشر الحافي ،وهو أحد الورعين الزهاد العباد ،فتمنى أن يدفن بجانبه ،وبلغه أن كريمة المروزية مجاورة بـمكة المكرمة ،وعندها سماعٌ ٍ عال لـصحيح البخاري ؛ ألن كريمة ُع ِّمرت إلى سن المائة رحمها اهلل تعالى ،فذهب إليها وقرأ عليها صحيح البخاري في خمسة أيام .وبعد االنتهاء من فريضة الحج واالجتماع بمحدثي مكة ،والمشاهدات النافعة التي حصلت له ،كما قال اهلل عز وجلِ :لَي ْشهَ ُدوا َمَن ِاف َع لَهُ ْم [الحج ]28:قفل راجعاً إلى الشام من الحجاز ،فمر بـالـبيت المقدس أولى القبلتين ومسرى النبي صلى اهلل عليه وسلم ،واجتمع بعلمائها ،مثل :أبي محمد عبد العزيز بن أحمد بن عمر المقدسي وسمع منه الحديث ،ولعل هذا الدخول لـبيت المقدس كان في سنة (446هـ) .ثم ص ْو ٍر وسمع فيها من بعض مشايخها ،مثل :عبد الوهاب بن حسين العمر الغزال ، انتقل بعدها إلى ُ ص ْور فتوجه راجعاً إلى وطنه بغداد حامالً معه رواياته الجديدة ،ومسموعاته وانتهى مكثه بمدينة ُ التي تزود بها ،وبدخوله بغداد ،انتهت المرحلة الثانية من حياته.
بدأت المرحلة الثالثة :وهي مرحلة التصنيف والكتابة واإلسماع واإلمالء ،فجعل يجمع المتفرق، ويرتب المتناثر من الفوائد والمسموعات التي حصلها ،ويجعل منها مادة دسمة وغنية بتصانيفه التي كانت بح ٍ ق من أجود التصانيف خصوصاً في علوم الحديث ،ويعتبر الخطيب البغدادي رحمه اهلل مجدداً في علوم الحديث ،ويعتبر النقلة التي نقل بها علم الحديث من ناحية التأليف نقلة كبيرة، فكان العلماء في الحديث من بعده كلهم عالة عليه ،وكل من أراد أن يؤلف في الحديث البد أن عدد بعض أهل العلم كتبه بأربع وخمسين مصنفاً يرجع إلى كتب الخطيب رحمه اهلل تعالى .حتى ّ إلى عام (453هـ) غير ما صنف بعدها .وأما الحاجة األولى التي كان سأل اهلل إياها :وهي التحديث بـتاريخ بغداد بـبغداد ،فقد حدثت في هذا االستقرار ،فإنه حدث بـبغداد بكتاب تاريخ بغداد وأماله على بعض تالميذه في حجر ٍة كانت له قرب المدرسة النظّامية.
الخطيب ..والتحديث بجامع المنصور:
وأما الحاجة الثانية :وهي إمالء الحديث بجامع المنصور،ـ فلم يكن ذلك أمراً سهالً ويصعب على الخطيب أن يقدم التماسات للسلطان لكي يسمح له بذلك ،ولعل قدر اهلل يجري ،وكان يتمنى أن ٍ بشيء يجعل السلطان من نفسه يأذن له بالتحديث أو يعرف رغبته فيأذن له يجري قدر اهلل بالتحديث ،فجرت حادثة سنة (447هـ) وكان لها األثر الكبير في رفعة مقام الخطيب البغدادي عند السلطان ،ومن كان في ذلك الوقت آخذاً بزمام األمور ،وهذا الحادث هو أن بعض اليهود قد أظهر وادعى أنه من النبي صلى اهلل عليه وسلم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر ،وأن فيه كتاباً بخط اليدّ ، شهادات الصحابة وخط علي بن أبي طالب رضي اهلل عنه ،فرئيس الرؤساء في ذلك الوقت أبو مسلم عرضه على الخطيب ،وسمع أن الخطيب محقق من المحققين ،ومؤرخ ومحدث؛ فعرض مزور ،فقال من أين لك هذا؟ وما هو عليه الرسالة ،فقال الخطيب لما اطلع على الرسالة فوراً :هذا ّ الدليل؟ قال :في الكتاب شهادة معاوية بن أبي سفيان و معاوية أسلم يوم الفتح ،وخيبر كانت في سنة (7هـ) وفي هذه الرسالة أيضاً شهادة سعد بن معاذ رضي اهلل عنه ،وسعد بن معاذ مات يوم الخندق قبل معركة خيبر ،فكيف يشهد سعد بن معاذ الذي مات قبل خيبر على قضية حصلت بـخيبر ، وكيف يوقع معاوية بن أبي سفيان الذي أسلم بعد خيبر على قضية حدثت بـخيبر! هذه فائدة معرفة التواريخ ،وكان ذلك من فطنته وعلمه رحمه اهلل ،فاستحسن السلطان ذلك جداً ،واعتمده وأمضاه، ولم ُيجز اليهود على ما في الكتاب؛ لظهور التزوير ،ولعله عاقبهم .وارتفعت منزلته بهذه القصة عند أبي مسلم وكبر في عينه كثيراً ،ووثق به وبدقة علمه؛ فقدمه وصار يذكره ،وشاع ذكر جزء من سماع الخليفة اآلخر وحمل إلى الخليفة ومعه ٌ الخطيب رحمه اهلل بعد تلك القصة جداًُ ، كبير في القائم بأمر اهلل ،وأراد أن يحدث الخليفة بجزء الخليفة اآلخر ،فقال الخليفة :هذا رج ٌل ٌ الحديث ليس له إلى السماع مني حاجة -ذهب إليه ليستمع حديثه منه ،وكان الخليفة قد سمعه هو نفسه ،فكان الخطيب قد كتبها عنده لما أدخل على الخليفة ومعه جزء الخليفة ،وطلب منه أن يسرد عليه األحاديث التي سمعها ،قال الخليفة متعجباً :هذا رج ٌل كبير القدر في الحديث ،فليس له إلى السماع مني حاجة ،وعنده من الطرق األخرى ما يستغني عني وعن سماعي -فما حاجته اسألوه؟ قال :حاجتي أن يأذن لي باإلمالء في جامع المنصور.ـ فأذن للخطيب باإلمالء ،واجتمع الناس في جامع المنصور،ـ وأملى الحديث وتمت له اثنتين مما دعا اهلل بها عند زمزم ،وهذا المسجد الكبير الذي يؤمه الطالب ال شك أنه كان نافذة كبيرة للخطيب رحمه اهلل؛ لكي يملي أحاديثه وينشر علمه من خالل ذلك المنبر.
فتنة البساسير وخروج الخطيب إلى دمشق:
بقي الخطيب طيب النفس قرير العين بما بلغت أمانيه التي استجابها اهلل له يملي بجامع المنصور، ويصنف ويهذب ،إلى أن حدثت فتنة البساسير ،وهذا انقالب خطير جداً صارع الخالفة العباسية عدد آخر من الباطنية ،ومعهم من الرعاع السنية من قبل هذا البساسير الرافضي الباطني ومعه ٌ واألشرار وقطاع الطرق والمجرمين ،بحيث أنهم سيطروا على مدينة بغداد فعالً ،واستطار شر هذه الفتنة وكاد الخطيب رحمه اهلل أن ُيقتل فيها ،لكنه سارع بالخروج من بغداد متخفياً إلى دمشق وهاجر منها وقد صارت موطن ٍ كفر بما حكم به ذلك الرافضي الباطني الخبيث ،وخلع خليفة ٍ بأمور خلق كثير في تلك الفتنة المسلمين ،وتُتبع أهل العلم والفضل ،وقُتل من أهل السنة وعلمائهم ٌ شنيعة ،وكيفيات بشعة في القتل جداً ،وقد أشار ابن كثير رحمه اهلل إلى هذه الفتنة في كتاب البداية والنهاية ،ووصف البساسير بالخبيث .لقد استتر الخطيب رحمه اهلل وخرج من بغداد في شهر صفر سنة (451هـ) مصطحباً كتبه وتصانيفه قاصداً دمشق فوصلها سالماً ،واتخذ المئذنة الشرقية من الجامع األموي مسكناً له ،وبدأ التدريس في المسجد ،وصار له حلقة كبيرة يجتمع الناس فيها ويحدثهم ،وكان يخرج أيضاً إلى بساتين ويقرأ كتب األدب هناك ،ولعل كتاب التطفيل وحكاية الطفيليين قد حدث في ذلك الجو والظل الوارف ،وبينما كان يقرأ من الكتب في دمشق كتاب فضائل الصحابة األربعة لإلمام أحمد بن حنبل رحمه اهلل سمع بذلك بعض الروافض ،وكان لهم شوكةٌ؛ حصلت لهم بسبب حكم الفاطميين في مصر ،فثاروا على الخطيب وأرادوا قتله ،فأجاره أحد األشراف في ذلك المكان ،وكان مسكنه قريباً من الجامع ،فأجاره على أن يخرج من دمشق ،فخرج إلى صور ،ونفعته الرحلة األولى التي دخل فيها صور وأقام فيها عالقات مع بعض أهلها ،فكان المكان المناسب أن يخرج إلى تلك البلدة ،ومن األسباب التي جعلت هؤالء يقومون عليه هو صوته -رحمه اهلل -فقد قال ابن كثير في البداية ،عن الخطيب البغدادي :أنه كان جهوري الصوت، ُيسمع صوته من أرجاء الجامع كله ،فاتفق أن قرأ على الناس في ٍ يوم من األيام فضائل العباس فثار عليه الروافض من أتباع الفاطميين وأرادوا قتله ،فحصل ما حصل من خروجه إلى صور ،وقد خرج في سنة (459هـ) وكان فيها بعض أهل العلم وهاجر إليها ال ليسمع كما كان من قبل وإ نما ويعطيه ماالً ِ ُليسمع هو ويملي ويحدث في تلك البلدة ،وقد قيض اهلل له من ُينفق عليه في تلك البلدة ُ كثيراً ،فحصل له به اكتفاء.
رجوع الخطيب إلى بغداد بعد الفتنة:
حن إلى بغداد ،وكانت فتنة البساسير قد لما بلغ الخطيب سبعين سنة وشاخ وشعر بقرب أجله ّ ب الخليفة منهم مرةً أخرى ،فرجع الخطيب رحمه اهلل في زالت ،وعاد األمر إلى أهل السنةِ ُ ، ونص َ سنة (462هـ) سالكاً طريق الساحل ماراً بـطرابلسـ ودخل فيها وجلس فيها فترةً يسيرة ناظر في ضمن من ناظره بعض أهل التشيع هناك ،وكانت طرابلس تحت حكمهم ،وتفوق عليهم ،ثم خرج ِّ ويحدث ،وسمع من بعض الشيوخ بـحلب ،ومنهم :أبو منها قاصداً حلب ،وأقام بها أياماً يسيرة ُيعلِّم الفتح أحمد بن النحاس رحمه اهلل ،ثم توجه إلى بغداد فوصلها في سنة (462هـ) في تلك السنة ص ْور إلى بغداد أربعة أشهر لم يكن يترك في طريقه الفائدة والعبادة أيضاً ،فاستغرقت الرحلة من ُ ختم للقرآن كل ٍ يوم والتقرب إلى اهلل ،فال زال على طريقته التي عهدوه عليها في رحلة الحج من ٍ وسر بالوصول إليها بعد فراق دام إحدى عشرة سنة ،أراد أن ختمةً كاملةً .ولما وصل إلى بغداد ُ يكافئ أحد من صنع إليه معروفاً في بغداد ،فلم يجد ما يكافئه به أعظم من كتابه تاريخ بغداد ،وقال: لو كان عندي أعز منه ألهديته له .وكانت هذه النسخة من تاريخ بغداد بخط الخطيب نفسه، واستأنف الخطيب رحمه اهلل دروسه في بغداد في جامع المنصورـ بعد أن آل األمر فيها لـأهل السنة ،والخليفة العباسي القائم بأمر اهلل ،واجتمع إليه الناس ،ورجع إليه طالب الحديث بشو ٍ ق ولهفة وحنينَّ ، فحدث بـسنن أبي داود من روايته وبكتبه وتواريخه.
مرض الخطيب البغدادي ووفاته:
لقد مرض الخطيب رحمه اهلل في نصف رمضان من سنة (463هـ) في حجرته ،ولما أحس بدنو شيء من المال والثياب أراد أن يوزع ذلك قبل أن يموت ،ولم يكن له زوجة وال ٌ أجله وكان عنده أوالد ،وال عقب وال وارث؛ فلعله أراد أن يختم حياته بالتصدق بما عنده من أموال ،ففرقها على أصحاب الحديث ،وكانت كل ممتلكاته مائتي دينار ،و ّكل في توزيعها أبا الفضل بن خيرون، فوزعها في حياة الخطيب ،وأوصى بأن يتصدق بجميع ثيابه وما يملكه من أشياء بعد وفاته ،وجعل جميع كتبه ومصنفاته وقفاً على المسلمين ،واشتد المرض به في أوائل ذي الحجة سنة (463هـ) حتى توفي في ضحى يوم االثنين السابع من ذي الحجة في تلك السنة ،رحمه اهلل تعالى ورضي عنه وأرضاه ،وامتدت فترة مرضه من رمضان إلى سبع ذي الحجة ،وكان اشتداد المرض في أوائل ذي الحجة ،والوفاة في السابع من هذا الشهر .بوفاته رحمه اهلل تعالى طويت صفحة عظيمة من صفحات علم الحديث التي ذهب فيها هذا العالم الكبير إلى ربه سبحانه وتعالى ،وكان على سلطان ،ولم يتولَّى منصباً قط ،ال ٍ ٍ وعفة متناهية ،فإنه لم يتزلف إلى ٍ وعبادة كبيرة، أخال ٍ ق عظيمة قاضياً وال مفتياً ،مع أنه كان أهالً لذلك ،ولم تكن المناصب لتمتنع عليه ،لو أنه سعى إليها وأرادها، خدم وال لكنه اختار أن يبقى بعيداً عن فتنة الوجاهة ،ورضي بالكفاف من العيش ،ولم يكن له ٌ ٍ جوار ،ولع ّل الرحلة في طلب العلم لم تسعفه في الزواج ،فتوفي رحمه اهلل وخلف أوالداً مخلدين من المصنفات التي ألفها.
بيان عفة الخطيب البغدادي وبعض سجاياه:
لقد ذكر المؤرخون من قصص الخطيب العظيمة في عفته ،أنه كان مرةً بـمرو فحدثت له القصة ٍ شخص اسمه عمر النسوي من نسى التالية :أحد أهل مرو َّ حدث بالقصة التالية عن الخطيب :عن كنت في جامع صور عند الخطيب ،فدخل عليه بعض العلوية ،وفي كمه وهي بلدة معروفة ،قالُ : فالن -من بعض األغنياء -يسلم عليك ويقول :هذا تصرفه في بعض دنانير ،وقال للخطيب ٌ طب وجهه ،فقال العلوي :فتصرفه إلى بعض مهماتك ،فقال الخطيب :ال حاجة لي فيه ،وق ّ أصحابك؟ قال :قل له يصرفه هو إلى من يريد .قال العلوي :كأنك تستقله ،ونفض كمه على سجادة الخطيب وطرح الدنانير عليها ،وقال هذه ثالثمائة دينار -والدينار أربعة غرامات وربع من الذهب -ووضعها على السجادة ،فقام الخطيب محمر الوجه ،وأخذ السجادة ونفض الدنانير على األرض وخرج من المسجد .قال :الفضل بن أبي ليلى الذي حضر القصة :ال أنسى عز خروج قاعد على األرض يلتقط الدنانير من شقق الحصر ويجمعها ،قام الخطيب وذل ذلك العلوي وهو ٌ وترك له هذه الدنيا ،وقام ذلك يجمع الدنانير.
تواضع الخطيب رحمه اهلل:
ومن تواضعه رحمه اهلل أن أحد المحدثين لقيه ،فقال له :أنت الحافظ أبو بكر ،قال :انتهى الحفظ إلى الدارقطني ،أنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب.
كرم الخطيب البغدادي:
فكنت أقرأ على ُ دخلت دمشق ُ حدث به تلميذه الخطيب التبريزي قال: ومن كرمه رحمه اهلل ما ّ إلي وقال: الخطيب بحلقته بالجامع كتب األدب المسموعة له ،وكنت أسكن منارة الجامع ،فصعد ّ أحببت -الشيخ يقول للتلميذ -أن أزورك في بيتك ،فتحدثنا ساعةً ،ثم أخرج ورقةً ،وقال :الهدية مستحبة ،اشتر بهذه أقالماً ،ثم نهض فإذا خمسة دنانير مصرية ،ثم إنه صعد مرةً أخرى ،ووضع نحواً من ذلك ،فهذا من إكرامه لتالميذه رحمهم اهلل تعالى .وكان من مميزات الخطيب أنه كان جيد الخط ،وتجد أن بعض المخطوطات التي كتبها بعض العلماء قد أتعبت من بعدهم في فك رموزها من سوء خطهم ،ولعل بعضهم لم يكن عنده وقت للتدرب على تحسين الخط من ولعهم بالعلم والرحالت ،لكن الخطيب رحمه اهلل من ميزاته أنه كان حسن الخط ،كثير الضبط ،كثير الشكل، وهو الذي عنون عنواناً في كتابه الجامع ألخالق الراوي وآداب السامع ،باب تحسين الخط وتجويده ،نصح فيه طلبة العلم بتحسين الخط .ومن ضمن تلك النصائح :أن الواحد ال يقرنط فيتعب ويتعب من بعده ،يقرنط :أي يصغر الخط؛ ألنه إذا كبر وصار بصره ضعيفاً لم يعد يقرأ ما كتب كتب فسيتعب جداً في فك هذه الرموز ،وكذلك في أيام الشباب ،ولو مات وأراد واحد أن ينتفع بما َ فإنه كان فصيحاً للغاية ،كان يقرأ قراءةً معربةً صحيحةً .قال ابن الجوزي :كان حسن القراءة، فصيح اللهجة ،وكان جهوري الصوت ،وكان عجيباً في سرعة القراءة ،ضرب به المثل في ذلك، جزء يطالعه ،يضرب به وكان حريصاً على االستفادة من وقته ،كان يمشي في الطريق وفي يده ٌ ووقار من عمله بالعلم الذي اكتسبه رحمه اهلل تعالى ،وقد ٌ المثل في سرعة القراءة ،وكان عليه هيبة أثنى عليه العلماء ومدحوه للغاية ،مثل تلميذه الحافظ ابن ماكوال ،والحافظ أبو بكر ابن نقطة والسلَِفي وأبو إسحاق الحنبلي وأبو سعد السمعاني وابن عساكر وابن خلكان وابن النجار والسبكي ِ الشيرازي ،والتاجي ،وابن األثير ،والذهبي وغيرهم .يقول الذهبي رحمه اهلل" :ختم به إتقان هذا الشأن" .وقال صاحب وفيات األعيان" :سنة كذا ..مات حافظ الدنيا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب صاحب التصانيف".
مصنفات الخطيب البغدادي رحمه اهلل:
لقد ترك تصانيفاً كثيرةً جداً قريباً من مائة مصنف صارت عمدةً ألهل الحديث ،ومن هذه المصنفات: -1تاريخ بغداد وهو أشهرها. -2الكفاية في علم الرواية ،وهو موضح أوهام الجمع والتفريق في باب مصطلح الحديث. -3شرف أصحاب الحديث. -4الفقيه والمتفقه. -5التطفيل . -6اقتضاء العلم العمل . -7تقييد العلم . -8نصيحة أهل الحديث . -9الرحلة في طلب الحديث . -10الجامع ألخالق الراوي وآداب السامع. -11المتفق والمفترق. -12السابق والالحق. -13المزيد في متصل األسانيد .ال يكاد يوجد باب من أبواب المصطلح إال وتجد فيه للخطيب تأليفاً وتصنيفاً. -14التفصيل لمبهم األسانيد . -15األسماء المبهمة . -16روايات اآلباء عن األبناء . -17من حدث ونسي . -18غنيمة الملتمس في إيضاح الملتبس . -19األسماء المتواطئة . -20المؤتلف والمختلف . هذه كلها أبواب في مصطلح الحديث قد غطاها الخطيب رحمه اهلل تأليفاً وتصنيفاً ،وكل من َّ صنف في علم الحديث بعد الخطيب عيا ٌل على كتبه ،وكتبه ليست في الحديث فقط وإ نما يوجد منها أشياء ٍ أبواب من العلم ،ومن هذه المنصفات :رسالة لطيفة للخطيب البغدادي رحمه اهلل، أخرى في بعنوان :اقتضاء العلم العمل ،وهي التي سنتعرض لها في هذا المقام بمشيئة اهلل عز وجل.
سبب تأليف رسالة اقتضاء العلم العمل:
لقد جمع الخطيب البغدادي رحمه اهلل هذه الرسالة ليبين أهمية العلم بالعمل ،وقد جمع علماً كثيراً ومرويات متعددة وفيرة ،لكنه علم رحمه اهلل أن الغاية من طلب العلم هو العمل به ،ولعله الحظ أن هناك تقصيراً في العلم ،وأن بعض الناس في عهده من طالب الحديث قد رحلوا في طلب الحديث، ٍ لحديث واحد، وجمعوا الروايات والطرق واألسانيد وربما اجتمع عند الواحد منهم أسانيد كثيرة فالحظ أن هناك انشغاالً كبيراً بالجمع وتقصيراً في العمل .والعصر الذي عاش فيه الخطيب رحمه اهلل ،كان عصر جمع األحاديث ،وكان انكباب الطالب على الجمع ،واالنشغال عن العمل ،مما يبين أن هناك سبب وراء تأليف الرسالة يتعلق بالعصر الذي عاش فيه ،وهناك السبب العام وهو نصيحة لكل المسلمين بأهمية العمل بالعلم ،ألن هذا باب يحتاجه كل مسلم ،وهو التركيز على قضية العمل بالعلم.
أهمية %التوازن بين العلم والعمل:
صدر رسالته هذه بقوله( :نشكر اهلل سبحانه على ما ألهمنا ،ونسأله التوفيق للعمل بما علّمنا، لقد ّ فإن الخير ال يدرك إال بتوفيقه ومعونته ،ومن يضلل اهلل فال هادي له من خليقته ،وصلى اهلل على ّ سيدنا محمد سيد األولين واآلخرين ،وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين ،وعلى من اتبع النور الذي أنزل معه إلى يوم الدين .ثم إني موصيك يا طالب العلم بإخالص النية في طلبك ،وإ جهاد النفس على العمل بموجبه ،فإن العلم شجرة والعمل ثمرة ،وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عامالً، وقيل :العلم والد والعمل مولود ،والعلم مع العمل ،والرواية مع الدراية) الرواية هي :األسانيد والمتون ،والدراية هي :أن يدري بما يعلم ويفقهه( .ورأس الفقه العمل بالعلم ،فال تأنس بالعمل ما دمت مستوحشاً من العلم ،وال تأنس بالعلم ما كنت مقصراً في العمل) .هذه نظرية مهمة جداً ،وهي َ قضية التوازن بين العلم والعمل ،وتجد بعض الناس عندهم طاقة في العمل لكنه سيقع في البدعة والخطأ ،وبعض الناس عنده طاقة في جمع العلم ،وليس عنده طاقة في العمل ،فيكون علماً نظرياً ال ينفع صاحبه ،فال تأنس بالعمل ما دمت مستوحشاً من العلم ،وال تأنس بالعلم ما دمت مقصراً في العمل (ولكن اجمع بينهما وإ ن قل نصيبك منهما ،وما شيء أضعف من ٍ عالم ترك الناس علمه ٌ ٍ وجاهل أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته) وهذا فعالً من األخطاء التي يقع فيها لفساد طريقته، العامة .ينظرون إلى واحد يجدون عنده اجتهاد وعبادة كبيرة فيستفتونه ويسألونه وينصبونه عالماً، وهو ليس بعالم إنما هو عابد ،وربما يوجد عالم عنده علم لكن ليس عنده عبادة وال زكاة للعلم، فالناس سيتركونه؛ ألن أخالقه ليست أخالق العلماء ،وعبادته ليست عبادة العلماء ،وعمله ليس عمل العلماء؛ فيتركونه ،فتكون النتيجة ضالل الخلق .والناس يريدون واقعاً عملياً يقتنعون به، فالسيرة والتصرفات ،هي التي تقنع الناس .قال( :والقليل مع هذا) أي :من العلم (مع القليل من هذا) من العمل (أنجى في العاقبة إذا تفضل اهلل بالرحمة ،وتمم على عبده النعمة ،فأما المدافعة واإلهمال) ال علم وال عمل (وحب الهوينة واالسترسال ،وإ يثار الخفض والدعة ،والميل إلى الراحة وعقباها كريهةٌ وخيمة) .وكثير من شباب الصحوة ابتلوا والسعة ،فإن خواتم هذه الخصال ذميمةُ ، نصيب ٌ في هذه األيام بقضية الميل إلى الدعة والراحة ،والكسل واللهو واللعب ،فلم يعد في حياتهم وتقصير ٍ ثوب ،ولكن ٍ إلى الجد في طلب العلم ،وليس عليهم إال سيما االلتزام في الظاهر ،من ٍ لحية، في باطن األمر ال تجد علماً جيداً ،وال عمالً مجتهداً فيه.
الغاية من طلب العلم:
قال( :والعلم يراد للعمل كما العمل يراد للنجاة! فإذا كان العمل قاصراً عن العلم ،كان العلم كالً علم عاد كالً ،وأورث ذالً ،وصار في رقبة صاحبه غالً ،قال بعض على العالم ،ونعوذ باهلل من ٍ العلماء :العلم خادم العمل ،والعمل غاية العلم) أي :أنت لماذا تتعلم ما هو السر؟ ما هي الغاية من وراء التعلم؟ إنك تتعلم لتعمل .وتجد بعض الناس عندهم إنخداع وانجذاب لمنهج الغربيين الضالل الكفرة ،الذين يقولون :العلم للعلم ،والقراءة للقراءة ،والثقافة للثقافة ،أي :أن العلم لذاته يقصد لذاته، ولذلك تراهم يسلكون سبالً ليست نافعة في العلم إطالقاً ،ترى الواحد منهم يتخصص وربما يأخذ شيء تافه سخيف جداً ،يفني عمره فيه ،مثالً :بعضهم يتخصص في اآلثارشهادة الدكتوراه في ٍ والتحف الموجودة من الحضارات القديمة ،دكتوراه في التحف واآلثار ،ما هي الفائدة؟ وربما واحد تخصص في اللغة الهيروغلوفيةـ ومعه دكتوراه في اللغة الهيروغلوفية ،ما هي الفائدة في لغة انقرضت؟ ويفني عمره فيها ،لماذا؟ ألن عند الغربيين مبدأ العلم للعلم .أما المسلمون فعندهم مبدأ العلم للعمل ،وهذا الفرق بيننا وبينهم ،فرق كبير ،ولذلك تجد كثيراً منهم تضيع أعمارهم في أشياء تافهة ،وبعض أبناء المسلمين قلدهم ،ذهب إلى بلدانهم وتعلم مثلهم وعلى طريقتهم ،ورجعوا ٍ سنوات طويلة وأبحاث ،في ماذا؟ يقول :علم هذا ألجل العلم، بتخصصات تافهة سخيفة ،أمضى فليس عند المسلمين شيء اسمه العلم للعلم ،وإ نما العلم وسيلة ٍ لغاية وهي العمل .قال الشيخ( :وهل أدرك من السلف الماضيين الدرجات العلى إال بإخالص المعتقد والعمل الصالح ،والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا؟! وهل وصل الحكماء إلى السعادة العظمى إال التشييد بالسعي ،والرضا بالميسور ،وبذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم؟! وهل جامع كتب العلم إال كجامع الفضة والذهب؟! وهل المنهوم بها إال كالحريص الجشع عليها؟ وكما ال تنفع األموال إال بإنفاقها! كذلك ال تنفع العلوم إال لمن عمل بها وقام بواجباتها!!) افترض لو أن واحداً يجهد عمره في جمع المال وكسبه وال يستفيد منه وال ينفق ،وال يستمتع به شيئاً فهل هذا عاقل؟ وهل استفاد شيئاً مما جمع؟ ال. فكذلك الذي يحرص على جمع العلم دون عمل( ،فلينظر المرء لنفسه ،وليغتنم وقته ،فإن الثوى قليل -أي :البقاء في الدنيا قليل -والرحيل قريب ،والطريق مخوف ،واالغترار غالب ،والخطر عظيم ،والناقد بصير ،واهلل تعالى بالمرصاد ،وإ ليه المرجع والمعاد :فَ َم ْن َي ْع َم ْل ِمثْقَا َل َذ َّر ٍة َخ ْيراً َي َرهُ * َو َم ْن َي ْع َم ْل ِمثْقَ َ ال َذ َّر ٍة َش ّراً َي َرهُ [الزلزلة.)]8-7:
األحاديث واآلثار في بيان أهمية العمل بالعلم:
بعد هذا شرع الخطيب رحمه اهلل في إيراد األحاديث واآلثار التي جمعها عن النبي صلى اهلل عليه وسلم ،والصحابة والتابعين والسلف في هذه المسألة ،وهي قضية العمل بالعلمَّ ، فصدره بحديث النبي صلى اهلل عليه وسلم( :ال تزوال قدما ٍ عبد يوم القيامة حتى ُيسأل عن أربع :عن عمره فيم أفناه ،وعن علمه ماذا عمل به ،وعن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه ،وعن جسمه فيم أباله) وهذا حديث صحيح أخرجه المصنفونـ من أهل العلم في كتبهم ،وبعض األحاديث التي ساقها الخطيب ٌ رحمه اهلل في هذا الكتاب ضعيفة ،وبعضها أكثر من ضعيفة ،ولكن كما ذكر العالمة األلباني رحمه اهلل ،في تعليقه على هذه الرسالة :لعل ُعذر الخطيب رحمه اهلل في ذلك أن العالم يسوق اإلسناد، حملك أنت أيها القارئ المسئولية ،قال لك :هذا إسنادي والم ِّ حدث إذا ساق باإلسناد فإنه يكون قد ّ ُ فالن عن فالن عن فالن ،وأنت تتحمل مسئولية البحث في صحة هذا الحديث .وكذلك فإن بعض الطرق التي ساقها الخطيب ضعيفة ،لكن الحديث له طرق أخرى صحيحة أو يتحسن بها الحديث بمجموع طرقه ،ولعل الخطيب رحمه اهلل اشتغل بالجمع فترةً طويلة من عمره ،ولم يكن عنده جماعاً فقط ٌ ٍ نصيب كاف من الوقت لتحقيق ما جمع ونخله والتعليق عليه ،والخطيب رحمه اهلل ليس ّ جماع ناقد ،وأصول النقد عنده واضحة ،وتآليفه في المصطلح واضحة ،وهي تدل على علو بل ّ كعبه في علم الحديث ،فال تخفى عليه العلل ،لكنه ربما لم يكن عنده الوقت لكي ينخل كل ما جمع ويكتب بجانب كل حديث صحته ،أو أن طريقة العلماء أنهم كان يكتبون وطلبة العلم بقراءة األسانيد يعرفون مدى صحة الحديث ال يحتاج إلى أن يقال له :هذا حسن وهذا ضعيف ،أو هذا ضعيف وهذا صحيح ،بينما نحن اآلن بسبب جهلنا بعلم الحديث ليس عندنا قدرة على التمييز بين األسانيد إال من ندر .ولذلك نحتاج بجانب كل حديث أن يعلق لنا عليه صحيح أو ضعيف ،ألن هذا أوان كثير منه ،وتجد أكثر الناس ليس عندهم قدرة على التمييز بين وزمان قد اضمحل فيه العلم ،وذهب ٌ ٌ الصحيح والضعيف .ولذلك فإن عدداً من العلماء في الفترات المتأخرة بعد أن انتهت فترة جمع الحديث كانت هناك فترة التحقيق والتمحيص ،والتصحيح والتضعيف،ـ والتعليق على األحاديث، قوم وقد ورد عن علي رضي اهلل عنه[ :يا حملة العلم! اعملوا به ،فإنما العالم من عمل ،وسيكون ٌ يحملون العلم يباهي بعضهم بعضاً ،حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره، أولئك ال تصعد أعمالهم إلى السماء] وهذا يتضح كثيراً في مشايخ الصوفية ،فالشيخ يريد أن يكون شيخ آخر، كل الطالب مريدين عنده ،ومنتسبين إليه ،وال يرضى أبداً أن يذهب أحد تالميذه إلى ٍ واضح جداً فيهم، ٌ ويجلس عند الشيخ اآلخر ،والحسد والتقاتل على الدنيا ،وتكثير االتباع والطالب وتجد بين طالبهم أحقاد ومنافسات ،وبعض المصابين باألمراض النفسية ،حتى من المنتسبين إلى السنة تجد فيهم هذا الداء ،فال ُيعصم منه إال من عصم اهلل ،وينبغي على اإلنسان أن يدل الطالب على الفائدة والخير ،وينصحهم بالذهاب إلى المشايخ والعلماء أينما كانت مجالسهم ،عنده أو عند غيره؛ ألن المهم هو فائدة الطالب ،وليس المهم أن يستفيد منك أو من غيرك ،ثم إن من طبيعة العلم ٍ شخص واحد ،فالشخص الواحد يخطئ والطالب قد ال يعرف خطأ الشيخ إال إذا أنه ال ُيتلقى عن جلس إلى غيره ،وإ لى هذا وهذا وهذا ،ولذلك كان من وسائل السالمة في طلب العلم :األخذ عن شيخ واحد؛ خصوصاً في هذا الزمان الذي َّ قل فيه فقه العلم الموسوعي، عدد من األشياخ وليس عن ٍ ٍ أي :من ُذ زمن كان العالم يعرف الفقه والحديث ،والتفسير واللغة ،وأصول الفقه والمصطلح وسائر العلوم ،أما اآلن مع وجود الجامعات والكليات بدأ التخصص ،فصار عندنا طالب يفهم في األصول فقط ،وال يفهم في الحديث ،واآلخر يفهم في الحديث وال يفهم في الفقه ،وهذا يفهم في الفقه وال يفهم في اللغة ..وهكذا ،وذلك بسبب انحصار منهج التعليم الموسوعي والدخول في عالم التخصصات، بل إن البعض أحياناً يأخذ مسألة واحدة يبذل فيها جهده وعمره في رسالة ماجستير أو دكتوراه، وبقية مسائل العلم نفسه التي تحمله كليته باالسم ال يفقهها كثيراً ،ثم يتخرج ويتوظف وينتهي علمه ٍ شهادة علمية .قال ابن مسعود عند هذه المسألة التي بحثها في رسالته ،أو في بحثه الذي َّ قدمه لنيل علم فليعمل] .وجاء رضي اهلل عنه[ :تعلموا فإذا علمتم فاعملوا] ،وقال[ :أيها الناس! تعلموا فمن َ عن أبي هريرة رضي اهلل عنه أنه قال[ :مثل ٍ علم ال يعمل به ،كمثل ٍ كنز ال ينفق منه في سبيل اهلل ٍ عامل ال يعلم، يرضين الناس قول ٍ عالم ال يعمل ،وال ّ عز وجل] .وقال الزهري رحمه اهلل[ :ال فالذي يرضيهم العلم والعمل] .فالعمل واإليمان قرينان ،وال يصلح كل ٍ واحد منهما إال مع صاحبه. وعن أبي الدرداء رضي اهلل عنه قال[ :إنك لن تكون عالماً حتى تكون متعلماً ،ولن تكون متعلماً حتى تكون بما علمت عامالً] .وقال بعضهم" :الناس كلهم هلكى إال العالمون ،والعالمون كلهم هلكى إال العاملون ،والعاملون كلهم هلكى إال المخلصون ،والمخلصونـ على خطر عظيم" ،لماذا؟ وموات إال العلم ،والعلم كله ٌ ألنه قد ال يختم له باإلخالص ،فقد ينحرف في آخر عمره ،فالدنيا جه ٌل هباء إال اإلخالص ،واإلخالص على ٍ خطر عظيم حتى حجة على اإلنسان إال العمل به ،والعمل كله ً ُيختم به .وقال الخواص :ليس العلم بكثرة الرواية ،وإ نما العالم من اتبع العلم واستعمله ،واقتدى اه ُدوا ِف َينا لََن ْه ِدَيَّنهُ ْم َِّ ين َج َ بالسنن وإ ن كان قليل العلم" .وقال عباس بن أحمد في قوله تعالىَ :والذ َ اه ُدوا ِف َينا لََن ْه ِدَيَّنهُ ْم ُسُبلََنا َِّ ين َج َ ُسُبلََنا [العنكبوت .]69:قال :من هم هؤالء الذين قال اهلل فيهمَ :والذ َ [العنكبوت]69:؟ قال" :الذين يعملون بما يعلمون نهديهم إلى ما ال يعلمون ،فيعلمونه" .وقال يوسف بن حسين [ :في الدنيا طغيانان :طغيان العلم وطغيان المال ،والذي ينجيك من طغيان العلم العبادة، والذي ينجيك من طغيان المال -ما هو؟ -الزهد فيه] .وقال يوسف [ :باألدب تفهم العلم ،وبالعلم يصح لك العمل ،وبالعمل تنال الحكمة ،وبالحكمة تفهم الزهد وتوفق له ،وبالزهد تترك الدنيا - الترك الشرعي -وبترك الدنيا ترغب في اآلخرة ،وبالرغبة في اآلخرة تنال رضا اهلل عز وجل]. تشرف بالعلم وتنسب إليه وتكون من العلم والعمل سلسلة تنتهي برضى اهلل عز وجل متى أردت أن ُ أهله ،قبل أن تُعطي العلم ماله عليك ،احتجب عنك نوره وبقي عليك رسمه وظُهوره ،مجرد عنوان ،ذلك العلم عليك ال لك ،وذلك أن العلم يشير إلى استعماله ،فإذا لم تستعمل العلم في مراتبه، العلم لم ينفعه العلم ،ومن خرج إلى العلم رحلت بركاته .قال عوذبادي :من خرج إلى العلم يريد َ موقوف على ٌ موقوف على العمل ،والعمل ٌ يريد العمل بالعلم نفعه قليل العلم .وقال" :العلم اإلخالص ،واإلخالص هلل ُيورث الفهم عن اهلل عز وجل" .وقال مالك بن دينار" :إن العبد إذا طلب العلم للعمل كسره علمه -أي :عرف قيمة نفسه وعرف حقيقة أمره وتواضع هلل -وإ ذا طلبه لغير ذلك ،ازداد به فجوراً وفخراً" ازداد بالعلم فجوراً وفخراً وطغياناً على عباد اهلل وتكبراً .اآلن بعض الناس من المشايخ الذين أخذوا علمهم في بعض الجامعات وأخذوا الدكتوارة ،يغضب إذا لم ُيقال يصدر بلقب ،وهذا يدل على ٍ عيب فيه ،وأن علمه لم له :الدكتور فالن أو الشيخ فالن! فالبد أن ّ ِ يزك نفسه فيكون متواضعاً .وورد" :خير العلم ما نفع ،وإ نما ينفع اهلل بالعلم من علمه ثم عمل به، وال ينفع به من علمه ثم تركه" واآلن عدد من الشباب الذين انتكسوا وانحرفوا باعوا كتبهم وقد كانوا في أول األمر مقبلين على العلم والتعلم ،والقراءة والبحث ،وحضور الدروس ،ثم انشغلوا بالدنيا والفتن واألشياء من الشبهات والشهوات ومغريات الدنيا ،وفي النهاية باعوا كتبهم؛ للتخلص منها .ولذلك قيل" :تعلموا العلم واعقلوه وانتفعوا به ،وال تعلموه لتجبلوا به ،فإنه يوشك إن طال بكم العمر أن يتجمل بالعلم ،كما يتجمل الرجل بثوبه" أي :تصبح القضية مجرد حلية وزينه فقط، وليست حقيقة وال باطن .قال أبو سعيد الخراز" :العلم ما استعملك واليقين ما حملك" .وقال أبو عبادة ،وال يكن همك أن تحدث به الناس] .ولذلك قال لك علماً ،فأحدث له ً قالبة [ :إذا أحدث اهلل َ الحسن البصري رحمه اهلل[ :همة العلماء الرعاية -رعاية حدود اهلل ،رعاية حق اهلل ،رعاية العلم ٍ بإسناد الذي يحملونه وإ عطاء العلم حقه بالعمل -وهمة السفهاء الرواية] .وقال علي بن أبي طالب ٍ عجيب ذكره الخطيب رحمه اهلل قال :أخبرنا أبو الفرج عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن األسود بن سفيان بن يزيد بن وكينة بن عبد اهلل التميمي من حفظه قال: سمعت أبي يقول: ُ سمعت أبي يقول: ُ سمعت أبي يقول: ُ سمعت أبي يقول: ُ سمعت أبي يقول: ُ سمعت علي بن أبي طالب يقول [ :هتف ُ سمعت أبي يقول: ُ سمعت أبي يقول: ُ سمعت أبي يقول؛ ُ العلم بالعمل فإن أجابه وإ ال ارتحل ] قال الخطيب :عدد اآلباء تسعة ،أي :هذا إسناد من النوادر، وكل واحد من أصحاب هذا السند أخذه عن أبيه عن أبيه ،وكان أبوهم الكبير قد سمعه من علي بن أبي طالب رضي اهلل عنه .قال[ :هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإ ال ارتحل] فعلم بدون عمل ُيذهب العلم.
كيفية المحافظة على العلم وتثبيته:%
كيف يثبت العلم؟ تجد بعض الطالب يقولون :نحن نقرأ ونقرأ ولكننا ننسى ،كيف نحافظ على العلم؟ وكيف يستمر معنا في صدورنا؟ أهم وسيلة للحفاظ عليه هو العمل به ،ألنك إذا عملت به حديث في أي ٍ ذكر من األذكار ،أو أي ٍ ترسخ في نفسك ،وإ ذا صار سجيةً عندك كيف تنساه؟ خذ أي صالة من الصلوات النافلة ،أو أي مسألة من المسائل ،فعندما تعمل بها وتصبح مقررة عندك في نفسك وسجية لك في طبعك ،وعادة من عاداتك ال تنساه ،لكن إذا كان مجرد علم نظري ال تعمل به ،فنسيانه سهل .قال الفضيل رحمه اهلل" :ال يزال العالم جاهالً بما علم حتى يعمل به ،فإذا عمل "علم بال عمل ،كشجر ٍة بال ثمرة!" وقال أيضاً" :علم به كان عالماً" .وقال عبد اهلل بن المعتزٌ : المنافق في قوله ،وعلم المؤمن في عمله" .وأنشد محمد بن أبي علي األصبهاني لبعضهم أبياتاً لطيفة يقول فيها: سن العم ُل اعمل بعلمك تغنم أيها الرجل ال ينفع العلم إن لـم يح ـ ُ زين وتقوى اهلل زينته والمتقون لهم ف ـي عل ـمهم شغ ُل والعلم ٌ وحجة اهلل يا ذا العلم بالغة ال المكر ينف ـع فيه ـا ال وال الحي ُل به ال يلهينك عـنه الل ـهو والجد ُل تعلم العلم واعمل ما استطعت ادك المل ُل إي ـاك إيـاك أن يعت ـ َ وعلِّم الناس واقصد نفعهم أبداً ق عند زلتـه فالعلم يعطـف من يع ـتاده الزل ُلوعظ أخاك برف ٍ فأمر عليهم بمعـ ٍ روف إذا ج ـهلوا وإ ن تكن بين ٍ قوم ال خالق لهم واصبر وصابر وال يحزنك ما فعلوا ٍ ضجر فإن عصوك فراجعهم بال نفس ـك إن ج ـاروا وإ ن عـدلوا فكل ٍ شاة برجليها معلقة عليـك وقال يونس بن ميسرة" :تقول الحكمة :تبتغيني يا بن آدم؟ وأنت واجدني في حرفين :تعمل بخير ما شر ما تعلم". تعلم ،وتذر ُ
خوف العلماء من عاقبة عدم العمل بالعلم:
وعن أبي الدرداء قال[ :إنما أخاف أن يكون أول ما يسألني عنه ربي أن يقول :قد علمته ،فما عملت فيما علمته] .وقال[ :إن أخوف ما أخاف على نفسي يا عويمر -هذا اسم أبي الدرداء ،هل علمت؟] .وقال الحسن البصري رحمه اهلل [ :ليس َ عملت فيما َ علمت؟ فأقول :نعم ،فيقال لي :فماذا َ اإليمان بالتحلي وال بالتمني ،ولكن اإليمان ما وقر في القلب ،وصدقته األعمال] وبعض الناس يروي هذا األثر حديثاً مرفوعاً ،لكنه ال يصح عن النبي صلى اهلل عليه وسلم ،وإ نما هو من كالم صالح؛ رده اهلل على قوله ،ومن قال حسناً ٍ الحسن البصري رحمه اهلل .من قال حسناً وعمل غير ِ ِ َّ ِ ِّب َواْل َع َم ُل الصَّال ُح َي ْرفَ ُعهُ وعمل صالحاً رفعه العمل ،وذلك ألن اهلل يقولِ :إلَْيه َي ْ ص َع ُد اْل َكل ُم الطي ُ [فاطر ]10:فالعلم الصالح يرفع صاحبه ،والعمل الصالح ُيرفع إلى اهلل عز وجل .وقالوا في قوله طاِئ َرهُ ِفي ُعُن ِق ِه [اإلسراء ]13:ما هو طائره؟ عمله .وقال حفص بن تعالىَ :و ُك َّل ِإ ْن َس ٍ ان َأْل َز ْمَناهُ َ [دخلت على داود الطائي أسأله عن مسألة وكان كريماً؟ فقال :أرأيت المحارب إذا أراد أن ُ حميد: يجمع آلته ،فإذا أفنى ويجمع السالح -أليس ّ ّ يجمع آلته؟ -يستعد للمعركة والقتال يلقى الحرب أليس ّ عمره في جمع اآللة فمتى يحارب؟ إن العلم آلة العمل ،فإذا أفنى عمره في جمعه فمتى يعمل؟!] هكذا يكون حال الذي يجمع وال يعمل .وقال أبو عبيد القاسم بن سالم[ :سمعني عبد اهلل بن إدريس أتلهف على بعض الشيوخ -أي :الذين فاتوني ،مات الشيخ فلم يلحق به -فقال :يا أبا عبيد ! مهما يفوتك من العلماء فال يفوتنك العمل] إذا مات الشيخ فنقول :رحمه اهلل ،لكن علمه با ٍ ق فال تتحسر على فواته ،واعمل بما تركه من علم تفلح ،وهذا هو الخير العظيم والتعويض الكبير .وقال أبو الدرداء رحمه اهلل ورضي عنه وأرضاه[ :وي ٌل للذي ال يعلم ،ووي ٌل للذي يعلم وال يعمل سبع مرات] لماذا هذا الكالم؟ ألن بعض الناس يقول :إذا كان العلم حجة فلماذا نتعلم؟ نبقى في جهلنا أحسن! فنقول :وهل إذا بقيت في جهلك ستكون معذوراً عند اهلل؟ ألن بعضهم سمع عن مسئولية العلم، وماذا على المتعلم من الوزر إذا لم يعمل ،قال :أمكث بال تعليم أحسن ،فنقول له :وماذا ستكون في معذور به ،تؤاخذ عند اهلل ،وتقع في الحرام ،وتقع في البدع ،فأي ٍ شيء هذا؟ وقد قال ٍ جهلك؟ غير النبي صلى اهلل عليه وسلم( :مثل العالم الذي ُيعلِّم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه) ،وفي رواية( :مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها) فالذي يعلم الناس خير إضاءة ،لكن إذا كان ال يعمل فسيكون محرقاً لنفسه، أما الذي هو منطفٌئ خامد ال يضيء لآلخرين وال يضيء لنفسه ،فهذا من أشر الناس .وقال عليه الصالة والسالم( :يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ،فتندلق أقتابه ،فيقال :أليست كنت تأمر كنت آمركم بالمعروف وال آتيه ،وأنهاكم عن المنكر وآتيه) وهذا بالمعروف وتنهى المنكر ،قالُ : حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم و أحمد .قال منصور بن زاذان" :نبأت أن بعض من ُيلقى ٌ كنت تعمل؟ ال يكفينا ما نحن فيه من الشر في النار ليتأذى أهل النار بريحه ،فيقال له :ويلك! ما َ كنت عالماً فلم أنتفع بعلمي" .وقال يحيى بن معاذ الرازي: حتى ابتلينا بك ونتن ريحك؟ فيقول :إني ُ "مسكين من كان علمه حجيجه ،ولسانه خصيمه" .وقيل" :كل من لم ينظر بالعلم فيما هلل عليه ،فالعلم ٌ حجةٌ عليه ووبال" .العلم يستفاد منه أن تعلم حق اهلل عليك فتقوم به: عليك ولم تُعذر بما أنت حامله. إذا العلم لم تعمل به كان حجة ُيصدق قول المرء ما هو فاعله فإن كنت قد أبصرت هذا فإنما وبعض السلف َّ تمنى أنه لم يحمل من العلم شيئاً؛ وذلك لعظم مسئولية العلم ،وما هو مطالب به من العمل ،لكنه ال يمكن أن يكون متمنياً للجهل ،وأن يبقى جاهالً ،فينبغي التوازن في معاني عبارات تعلمت من هذا العلم شيئاً] قال الكالم معاتبة ُ بعض العلماء .كقول الشعبي رحمه اهلل[ :ليتني لم أكن لنفسه ،وشعوره بالذنب والتقصير ،وهذا من تواضعه رحمه اهلل .قال سفيان الثوري وهو من كبار العلماء[ :ليتني لم أكتب العلم ،وليتني أنجو من علمي كفافاً ال علي وال لي] .وقال ابن عيينة" :العلم إن لم ينفعك ضرك" ليس في علم ما ال ينفع وال يضر؛ ألن العلم حجة لك أو عليك ،فإما أن تنتفع به وجدت في بعض الحكمة :ال خير لك أن تعلم ما ُ وإ ما أن تتضرر به .وعن مالك بن دينار قال :إني لم تعلم ولم تعمل بما قد علمت ،فإن مثل ذلك مثل ٍ رجل احتطب حطباً -اآلن يريد أن يضرب مثالً لمن عنده علم فلم يعمل به ويريد أن يتعلم زيادة ،فقال :ال خير لك أن تعلم ما لم تعلم ،ولم تعمل بما احتطب حطباً َ قد علمت فتضيف علوماً إضافية ،ولم تعمل بعد بالعلم األول ،فإن مثل ذلك مثل رجل فضم إليها أخرى" .وقال محمد بن علي الصوري -نسبة -فحزم حزمةً وذهب يحملها فعجز عنهاّ ، إلى صور وهي إحدى البلدان التي دخلها الخطيب رحمه اهلل:- العلم مجداً في جمع ذاك حفياً كم إلى كم أغدو إلى طلب ٍ وغريب ولست أع ـمل شيئاً وع وفـ ٍن طالباً منه كل نـ ٍ يع ـمل بالعلم كان عبداً شقياً وإ ذا كان طالـب العـلم ال به ـا عام ـالً وكـان تقياً إنما تنفع العلوم لمـن كان
انتزاع العلم ورفعه:
جاء في حديث عوف بن مالك األشجعي رضي اهلل عنه( :أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم نظر إلى السماء يوماً فقال :هذا أوان رفع العلم ،فقال له رج ٌل من االنصار يقال له زياد بن لبيد :يا كنت رسول اهلل! يرفع العلم وقد أثبت ووعته القلوب؟ فقال له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :إني ُ ألحسبك من أفقه أهل المدينة ،ثم ذكر ضاللة اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب اهلل، فلقيت شداد بن أوس فحدثته بحديث عوف بن مالك ،فقال :صدق عوف ،أال أخبرك بأول ذلك قلت :بلى ،قال :الخشوع ،فال ترى خاشعاً) وواضح أن الكالم على العمل بالعلم ،أن أول ما يرفع؟ ُ يرفع هو بركة العلم ،تزول بقلة العمل ،ومن ذلك زوال الخشوع ،حتى يؤدي ذلك في النهاية إلى أن ويسأل الرجل عن معناها فيقول :سمعتها من جدي وأبي يكون الناس فيهم من يقول :ال إله إال اهللُ ، وال يعرف معناها ،وفي آخر الزمن تنتهي المسألة إلى أن تصبح كلمة التوحيد طلسم من الطالسم، حجر في الطريق ،فإذا فيه خط ال ُيعرف معناه .وقال بعضهم :خرج رج ٌل يطلب العلم ،فاستقبله ٌ تعلم ال تعمل، أنت بما ُ منقوش "إقلبني ترى العجب وتعتذر" قال :فأقلب الحجر ،فإذا فيه مكتوبَ : مر عليها كيف تطلب ما ال تعلم؟ فرجع الرجل ،لعل رجالً كتبه في طريق طالب الحديث ،وكلما َّ فتى يختلف إلى أم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها فيسألها واحد قرأها وردها .وقال عطاء [ :كان ً سمعت مني؟ قال :ال واهلل يا َ بعد بما عملت ُ َ وتحدثه ،فجاءها ذات ٍ يوم يسألها ،فقالت :يا بني! هل أماه ،فقالت :يا بني! فبم تستكثر من حجج اهلل علينا وعليك؟] إذا أخذت نصيباً وعملت به ،فتعال مقيم أخاف أن يدخلني النار غيره" غير هذا العلم الذي ٍ خذ غيره .وقال شعبة" :ما أنا على شيء ٌ تعلمته ،أخشى أن يدخلني النار بعدم عملي به .وقال ابن مسعود [ :إني ألحسب العبد ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها .فالخطايا تنسي العلوم ،وإ ن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب ،كما يزل القطر عن الصفا ،أي :إن عدم العمل بالعلم يسبب نفور الناس من العالم ،وزوال هيبته من القلوب وبعدهم عنه.
ذم طلب العلم للمباهاة والمراءاة:
عقد الخطيب رحمه اهلل باباً مهماً بعنوان :باب (ذم طلب العلم للمباهاة به والمراءاةـ فيه ونيل األغراض وأخذ األعواض عليه) .مثل الذين يطلبون العلم للشهادات ،يريد وظيفة ،يقول :لم نقبل في القسم العلمي وال الجامعة ،لم نقبل في الطب والهندسة ،ندخل شريعة لنأخذ شهادة ،أكون قاضياً أو مدرساً وهكذا ..يريد شهادة فقط!! وأصبحت عملية الدراسة كلها من أولها إلى آخرها في كلية الشريعة ألجل الشهادة .قال النبي صلى اهلل عليه وسلم( :من طلب العلم ليباهي به العلماء ،أو يماري بها السفهاء ،أو يصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار) هذا الحديث أخرجه الخطيب ٍ ضعيف جداً في هذا الكتاب ،لكن الحديث رواه ابن ماجة وله طرق البغدادي رحمه اهلل بإسناد أخرى ،والحديث حسَّنه األلباني في صحيح الجامع .وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم( :من تعلم علماً ُيبتغى به وجه اهلل ال يتعلمه إال ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) حديث صحيح ،أخرجه أحمد وغيره ،ومعناه :لو أن واحداً جاء إلى العلم الشرعي الذي يبتغى به وجه اهلل -علم الشريعة -وتعلمه ألجل أن يصيب به عرضاً من الدنيا فقط ،فال يجد عرف الجنة يوم القيامة ،وعرفها هو ريحها .وقال الحسن [ :من طلب العلم ابتغاء اآلخرة أدركها، ومن طلب العلم ابتغاء الدنيا ،فهو حظه منها] .وضرب مثل العالم السوء ،فقيل :مثل عالم السوء كمثل ٍ حجر وقع في ساقية ،فال هو يشرب من الماء وال هو يخلي عن الماء فيحيا به الشجر .ولو أن علماء السوء نصحوا هلل في عباده ،فقالوا :يا عباد اهلل! اسمعوا ما نخبركم به عن نبيكم ،وصالح قوم مفتونون ،كانوا قد نصحوا هلل في عباده، سلفكم فاعملوا به ،وال تنظروا إلى أعمالنا هذه َّ فإنا ٌ ولكنهم يريدون أن يدعوا عباد اهلل إلى أعمالهم القبيحة فيدخلوا معهم فيها .وجاء في بعض المواعظ القديمة" :يا علماء السوء! جعلتم الدنيا على رءوسكم ،واآلخرة تحت أقدامكم ،قولكم شفاء ،وعلمكم داء ،مثلكم مثل شجرة الدفل ،تعجب من رأها ،وتقتل من آكلها" ،شجرة الدفل هذه شجر مر أخضر، حسن المنظر( ،من الخارج خالخل والبالء من الداخل) فهذا مثل الذي عنده كالم وعلم لكنه ال يعمل .ويلكم يا عبيد الدنيا ،ماذا يغني عن األعمى سعة نور الشمس وهو ال يبصرها؟ كذلك ال يغني عن العالم كثرة علمه إذا لم يعمل به ،ما أكثر أثمار الشجر ،وليس كلها ينفع وال يؤكل ،وما أكثر العلماء وليس كلهم ينتفع بما علم ،فاحتفظوا -هذه نصيحة للناس أن يحتفظوا وينتبهوا ويحذروا من العلماء الكذبة الذين عليهم لباس الصوف ،منكسين رءوسهم إلى األرض ،قولهم مخالف فعلهم ،يشتري من الشوك العنب ،ومن الحنظل التين ،كذلك ال يثمر قول العالم الكذاب إال زوراً ،وإ ن البعير إذا لم يوثقه صاحبه في البرية ،نزع إلى وطنه وأصله ،وإ ن العلم إذا لم يعمل به صاحبه خرج من صدره وتخلَّى عنه وعطّله ،وإ ن الزرع ال يصلح إال بالماء والتراب ،كذلك ال يصلح اإليمان إال بالعلم والعمل.
الوعيد الشديد لمن قرأ القرآن للصيت ولم يقرأه للعمل:
عقد الخطيب رحمه اهلل تعالى باباً في هذا الكتاب بعنوان :باب ما جاء من الوعيد والتهديد والتشديد لمن قرأ القرآن للصيت والذكر ولم يقرأه للعمل به واكتساب األجر ،وساق حديث النبي صلى اهلل عليه وسلم ،عن أبي هريرة ( :أول الناس ُيقضى فيه يوم القيامة رج ٌل أوتي به فعرفه عملت فيها؟) قال :في الحديث( :ورج ٌل تعلم العلم والقرآن فأتى به اهلل َ نعمه فعرفها ،فقال :ما عملت فيها؟ قال :تعلمت العلم ،وقرأت القرآن وعلمته ،فقال :كذبت!َ فعرفه نعمه فعرفها ،فقال :ما وفالن قارئ ،فأمر به فسحب على وجه حتى ألقي في النار) .وقال ٌ فالن عالم، إنما أردت أن يقالٌ : عبيد وصبيان لم يأتوه من قبل وجه ،وال يدرون ما تأويله، الحسن رحمه اهلل[ :إنه تعلم هذا القرآن ٌ اب [ص- ]29:ما تدبر ك ِلَي َّدَّبروا َآياتِ ِه وِلَيتَ َذ َّكر ُأولُو اَأْلْلَب ِ قال اهلل تعالىِ :كتَ ٌ اب َْأن َزْلَناهُ ِإلَْي َ َ َ ك ُمَب َار ٌ ُ آياته؟ اتباعه بالعمل -وإ ن أولى الناس بهذا القرآن من اتبعه ،وإ ن لم يكن يقرأه] .يقول بعض القراء والحفظة :تعال نتنافس أنا وإ ياك في القراءة ومن أحفظ ومن أجود ومن أتقن ،وال ينظرون كالم يتكلم به، إلى مسألة العمل ..قال عمر رضي اهلل عنه[ :ال يغرنكم من قرأ القرآن إنما هو ٌ ولكن انظروا من يعمل بالقرآن] .ولذلك فإن هناك أناساً قد أقاموا حروف القرآن وعطلوا معانيه حدث النبي صلى اهلل عليه وسلم ليلة أسري به على ٍ قوم تقرض شفاههم بمقارض وحدوده( :وقد َّ فقلت :يا جبريل! من هؤالء؟ قال :خطباء من أمتك يقولون من نار ،كلما قرضت وفت ورجعتُ ، وال يفعلون ،ويقرءون كتاب اهلل وال يعملون) .ولذلك كانوا يحذرون من القراء الذين ال يعملون بالقرآن ،فقال أيوب السختياني[ :ال خبيث أخبث من قارٍئ فاجر] .وقال مالك بن دينار" :ألنا للقارئ الفاجر أخوف مني من الفاجر المبرز أو المبرز بفجوره" لماذا؟ ألنه الفاجر المبرز بفجوره تعلم أنه فاجر فتحذر منه ،لكن الذي يلبس عليك ،يظهر بشكل قارئ وصاحب دين ،ولباس أهل العلم ،وهو في الحقيقة بخالف ذلك ،فهذا يغتر وينخدع الناس به ،فيضلهم.
ذم السلف لظاهرة الجدل:
قال في باب ذم التفقه لغير العبادة :قال الشعبي" :إنا لسنا بالفقهاء ،ولكن سمعنا الحديث فرويناه، ولكن الفقهاء من إذا علم عمل" .وقال األوزاعي" :إذا أراد اهلل ٍ بقوم شراً فتح عليهم الجدل ،ومنعهم العمل" .فترى اآلن بعض المناظرات في مسائل بسيطة ،هذا يتكلم وهذا يرد ،وهذا يرد على الرد، وهذا ينتصر لرد فالن ،وهذا ينتصر لرد فالن ،وترى المجادالت في الجرائد والكتيبات والكتب، كل واحد يرد ،ويرد على الرد ،وينسون قضية العلم ،ويتمارون ويتجادلون في أشياء الحق فيها واضح ،لكن الرد على أهل البدع والضالل البد منه ،وكذا المنافحة عن الدين ،لكن الكالم في قضية تحويل مسائل العلم إلى مجادالت ،فإذا أراد اهلل ٍ بعبد خيراً فتح له باب العمل ،وأغلق عنه باب الجدل ،وإ ذا أراد اهلل ٍِ بعبد شراً فتح له باب الجدل ،وأغلق عنه باب العمل.
ذم االستكثار من الطلب وترك العمل:
دخلت على زفر وقد غرغرت نفسه في صدره -أي :عند الموت -فرفع رأسه ُ قال أبو نعيم : إلي ،فقال :يا أبا نعيم" :وددت أن الذي كنا فيه كان تسبيحاً" زفر من الفقهاء ومن تالميذ أبي حنيفة ّ رحمه اهلل ،يقول :وددنا أن المسائل التي تكلمنا فيها كانت تسبيحاً .وقال عائض اهلل :الذي يتبع بكر أصحاب الحديث مرةً ليحدث بها -أي :دون أن يعمل -ال يجد ريح الجنة .ولما ََّ األحاديث نافع" .وقال بمنتفع وال ٍ ٍ جاشع ليس ٍ جامع ٍ ٍ حريص على األوزاعي التفت إليهم ،فقال" :كم من إلي من أن تطلب مني األحاديث ،فقلت له: الفضيل لشخص جاءه :لو طلبت مني الدنانير كان أيسر ّ إلي من عددها من الدنانير .قال :إنك مفتون، لو حدثتني بأحاديث -فوائد -ليست عندي كان أحب َّ سمعت سليمان بن ُ سمعت لكان لك في ذلك شغالً عما لم تسمع ،ثم قال: َ أما واهلل لو عملت بما قد طعام تأكله ،فتأخذ اللقمة وترمي بها خلف ظهرك - ٌ مهران -األعمش -قال :إذا كان بين يديك شخص أمامه طعام يأخذ لقمة ويرمي بها خلف ظهره ..وهكذا -فمتى يشبع؟!! وهكذا الذي يجمع العلم دون أن يعمل ،ويجمع ويجمع ويجمع وال ينتفع بشيء؟ وقال سفيان بن عيينة من ورعه رحمه اهلل" :لو قيل لي يوم القيامة :لم طلبت الحديث؟ ما دريت ما أقول" .ولذلك كانوا إذا جاءهم الشخص العامي ،أو الشخص الذي ال عالقة له بعلم األسانيد يسأل عن ٍ شيء في دقائق األمور ليست من شأنه ردوه ،وقد سأل رج ٌل ابن عيينة عن إسناد حديث ،فقال له ابن عيينة :ما تصنع بإسناده؟ أما أنت فقد بلغتك حكمته ،ولزمتك موعظته ،اعمل به اآلن ،جئت تسألني عن األسانيد والعلة ،اعمل به أوالً .وقال خالد بن يزيد ،وكان من أجل الناس وأعبدهم :أتيت سفيان بن عيينة ،جاء يطلب أحاديث ،فقال له سفيان :إنما يأتي بك الجهل ال ابتغاء العلم ،لو اقتصر جيرانك على علمك كفاهم، كوم كومةً من حصى ،ثم شقها بأصبعية ،ثم قال :هذا العلم أخذت نصفه ،ثم جئت تبتغي النصف ثم ّ الباقي ،فلو قيل :أرأيت ما أخذته هل استعملته؟ فإذا صدقت قلت :ال ،فيقال لك :ما حاجاتك إلى ما
تزيد به نفسك ِو ْقراً على وقر ،استعمل ما أخذت أوالًُ .
وسئل سفيان بن عيينة من العالم؟ قال" :الذي حديث حقه" .وما حق الحديث؟ العمل به ،ولذلك كانوا يربون طالبهم على العمل بالعلم،ٍ يعطي كل ٍ حديث قال :حتى تعملوا بما تعلمون تأتوني ولذلك قال بعضهم لطالبه لما جاءوا يطلب منه سماع فأحدثكم .وقال شبابة :دخلت على شعبة في يومه الذي مات فيه وهو يبكي ،فقلت له :ما هذا وقاد حمام ،وأني الجزع يا أبا بسطام ؟ أبشر فإن لك في اإلسالم موضعاً ،فقال دعني ،فلوددت أني ُ لم أعرف الحديث ،أي :من ثقل مسئولية العلم عليه ،يقول :أنا ال أدري أن العلم الذي أخذته وعلي حجة هذا العلم الذي تعلمته، ّ علي ،قد ال أكون عملت به ،فألقى اهلل وجمعته قد يكون حجة ّ ولذلك كانوا يحاربون تكثير األسانيد ،وطلب التكثيف ،وعدم العمل بالنافع ،وتعلم الشيء الجديد الذي ينفع ،ولذلك وأي رجل في المنام علي بن المديني فقال له :جمعت حديثاً من مائة طريق، فانتظر قليالً :أخشى أن يكون هذا داخل تحت قوله تعالىَ :أْلهَا ُك ُم التَّ َكاثُُر [التكاثر .]1:فأما الذي يعمل بالحديث فاالستكثار منه جيد ،ولذلك وضع اإلمام أحمد رحمه اهلل في كتابه المسند فوق أربعين ألف حديث ،لكنه عمل بها كلها ،قال :ما تركت حديثاً إال عملت به ،ولما قرأ (أن النبي صلى اهلل عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة الحجام ديناراً) قال :احتجمت وأعطيت الحجام ديناراً ،والدينار أربعة غرامات وربع من الذهب ،لكن ألجل تطبيق الحديث بذلها اإلمام أحمد رحمه اهلل تعالى .ولذلك قال العلماء :كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به ،وكانوا يحاربون فيما يحاربون مسألة التوغل في بعض العلوم التي تشغل عن علم الكتاب والسنة ،مثل :االستكثار لحن كله .وقال بعضهم: من النحو ،حتى قال بعضهم :تلقى الرجل وهؤالء يلحن حرفاً وعمله ٌ رأيت الخليل بن أحمد في النوم ،فقلت في منامي :ال ُيرى أحد أعقل من الخليل ،فقلت :ما صنع شيء أفضل من سبحان اهلل ،والحمد هلل ،وال إله إال اهلل، ٌ اهلل بك؟ قال :أرأيت ما كنا فيه ،فإنه لم يكن واهلل أكبر .وقال بعضهم :رأيت الخليل في المنام فقلت له :نجوت؟ قال :بال حول وال قوة إال باهلل هباء العلي العظيم ،قلت :كيف وجدت علمك؟ -علم العروض واألدب والشعر؟ -قال :وجدته ً منثوراً: فيا ليته في وقفـة العرض يسـلم لسان كان يعرب لفظة سيبلى ٌ لسان معجم تقى وما ضر ذا تقوى ٌ وما ينفع اإلعراب إن لم يكن ً على أن هذا الكالم ال يهون من أهمية تعلم اللغة العربية ،ألن اإلنسان البد أن يتعلم اللغة العربية؛ ليصحح قراءة القرآن والحديث ،لكن التوغل في دقائقها وفروعها التي تجعل اإلنسان يتباهى بما عنده من النحو ،ويؤدي به األمر إلى التقعر والتكلف ،واالختيال على اآلخرين وانتقادهم ،هذا هو فلم ال تتعلم العربية حتى المذموم .ولذلك لما قيل لبعضهم :يا أبا نصر! أنت رجل قرأت كذا وكذا َ تصحح لسانك؟ قال :ومن يعلمني يا أبا الفضل ؟ قال :أنا يا أبا نصر ،قال :فافعل ،قال :قل: ولم ضربه؟ قال يا أبا نصر :ما ضربه ،إنما هذا أص ٌل زيد عمراً ،فقال له :يا أخي! َ ضرب ٌ ووضع للتمثيل فقط ،قال :هذا أوله كذب ال حاجة لي فيه .فهذا الكالم ينبغي أن يفهم الفهم عم فيه الجهل باللغة الصحيح ،وهو :أن تعلم اللغة العربية البد منه ،خصوصاً في هذا الزمان الذي َّ العربية حتى صار الواحد يفتح القرآن وال يعرف معناه من ضعف اللغة العربية ،فالبد من تعلم اللغة العربية بقدر ما نفهم به القرآن والسنة ،لكن الخوض في دقائقها وتفاصيلها الذي يصرف عن علم القرآن والسنة وعن الفقه وعن العمل هذا هو المذموم ،والبد أن يكون اإلنسان عامالً يتخذ من علمه زاداً لمعاده ينفعه يوم القيامة .قال الحسن رحمه اهلل[ :يتوسد المؤمن ما قدم من عمله في قبره -أي :رأسك في قبرك موضوع على وسادة؟ ما هي الوسادة؟ العلم -إن خيراً فخيراً ،وإ ن شراً فشراً ،فاغتنموا المبادرة رحمكم اهلل في المهلة] هذه المهلة الدنيا .وقال بعضهم: الذي تزودته قبل الممات إلى الحشر يء س ـوى فما لك يوم الحشر شـ ٌ ندمت على التفريط في زمـ ِن ِ البذر إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً والقيت بعد الموت من ق ـد تزودا إذا أنت لم ترحل ٍ بزاد من التق ـى ندمت علـى أال تك ـون كم ـثله وأنك لم ترصـد بما ك ـان أرصدا
نعمة الصحة والفراغ:
قد يفتن الناس بنعمة الصحة والفراغ ،والنبي صلى اهلل عليه وسلم لما قال( :نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس :الصحية والفراغ) عنده مال؛ بعض الناس ورث عن أبيه عقارات ،يأتيه رزقه بكرةً وعشياً ،ال ينقصه شيء ،تراه في الصباح في نوم ،وفي الليل يلعب البلوت إلى الفجر ،وعنده عقارات تدر عليه( :اغتنم خمساً قبل خمس :شبابك قبل هرمك ،وصحتك قبل سقمك ،وغناك قبل فقرك ،وفراغك قبل شغلك ،وحياتك قبل موتك) كما قال النبي صلى اهلل عليه وسلم في الحديث الصحيح .ونظم الشاعر المعنى فقال: وصحة جسمـك أن يسقـما هرم بادر شبابك أن ي ـ َ فما دهر من عاش أن يسلما وأيام عيشك قبل الممات ليالي شغلك في بعـض مـا ووقت فراغك بادر بـه على بعض ما كان قد قـدما ادم وقدم فكل امرئ ق ـ ٌ وقال معاوية بن قرة :أكثر الناس حساباً يوم القيامة الصحيح الفارغ ،ورأى شريح جيراناً له يجولون مثلما تجد اآلن الشباب في الشوارع يتسكعون ،فقال :ما لكم؟ قالوا :فرغنا اليوم -أكملنا أشغالنا ،والذي عنده حلقة علم أكملها -قال :وبهذا أمر الفارغ؟! أي :هل أمر بأن يتسكع .ولذلك لما قال البخاري رحمه اهلل: ّ فعسى أن يكون مـوتك بغـتة ركوع ٍ اغتنم في الفراغ فضل ٍ سقم ذهبت نفسه الصحيحة فلتة صحيح رأيت مـن غـير ٍ كم وفعالً مات البخاري رحمه اهلل فجأةً .ولما دخلوا على أبي بكر النهشلي وهو في الموت يومئ برأسه يصلي ،ألنه ال يستطيع أن يقوم ،فقالوا له :سبحان اهلل! على هذه الحال ،فقال :أبادر طي الصحيفة ،اآلن صحيفتي ستطوى ،فأنا أنتهز آخر لحظة من عمري في هذه العبادة: اهلل إذا كنت ريحاً مستريحاً اغتنم ركعتين زلفى إلـى ِ الباطل فاجعل مكانه تسبيحاً. وإ ذا ما هممت بالنطق في ولذلك أهل العلم إذا جاء إليه من يجادل بين يديه ،قال :سبح سبح ،إذا هممت بالنطق بالباطل فاجعل مكانه تسبيحاً ،فينبغي اغتنام الصحة والفراغ والحذر من التأجيل .وصلى اهلل وسلم على نبينا محمد.