You are on page 1of 25

‫( اقتضاء العلم العمل )‬

‫عناصر الموضوع ‪:‬‬


‫‪ .1‬ترجمة الخطيب البغدادي‬
‫‪ .2‬رحالت الخطيب البغدادي في جمع الحديث‬
‫‪ .3‬الخطيب‪ ..‬ومرحلة التصنيف والكتابة واإلسماع واإلمالء‬
‫‪ .4‬فتنة البساسير وخروج الخطيب إلى دمشق‬
‫‪ .5‬مرض الخطيب البغدادي ووفاته‬
‫‪ .6‬بيان عفة الخطيب البغدادي وبعض سجاياه‬
‫‪ .7‬مصنفات الخطيب البغدادي رحمه اهلل‬
‫‪ .8‬سبب تأليف رسالة اقتضاء العلم العمل‬
‫‪ .9‬أهمية التوازن بين العلم والعمل‬
‫‪ .10‬الغاية من طلب العلم‬
‫‪ .11‬األحاديث واآلثار في بيان أهمية العمل بالعلم‬
‫‪ .12‬كيفية المحافظة على العلم وتثبيته‬
‫‪ .13‬خوف العلماء من عاقبة عدم العمل بالعلم‬
‫‪ .14‬انتزاع العلم ورفعه‬
‫‪ .15‬ذم طلب العلم للمباهاة والمراءاة‬
‫‪ .16‬الوعيد الشديد لمن قرأ القرآن للصيت ولم يقرأه للعمل‬
‫‪ .17‬ذم السلف لظاهرة الجدل‬
‫‪ .18‬ذم االستكثار من الطلب وترك العمل‬
‫‪ .19‬نعمة الصحة والفراغ‬

‫اقتضاء العلم العمل‪:‬‬


‫أخي‪ :‬البد من التعرف على رسائل العلماء وعلى ما احتوته تلك الرسائل من الكنوز والمواعظ‬
‫واآلداب‪ ،‬وهذه رسالة تبين أهمية العمل بالعلم‪ ،‬وقد ترجم الشيخ لمؤلفها‪ ،‬وذكر نشأته ورحالته في‬
‫طلب الحديث وتأليفه وإ مالئه‪ ،‬ثم ذكر سبب تأليف هذه الرسالة‪ ،‬ثم شرع يبين مفاهيمها ومعانيها‬
‫التي تتحدث عن العلم والغاية من طلبه‪.‬‬
‫ترجمة الخطيب البغدادي‪:‬‬
‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وصلى اهلل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‪،‬‬
‫وبعد‪ :‬فهذه الرسالة الثانية من سلسلة رسائل أهل العلم التي نتعرف فيها على بعض ما احتوته تلك‬
‫الرسائل من الكنوز والعلوم والمواعظ واآلداب‪ ،‬والرسالة بعنوان اقتضاء العلم العمل للخطيب‬
‫البغدادي رحمه اهلل تعالى‪ .‬واقتضاء العلم للعمل أي‪ :‬أن العلم يقتضي العمل به‪ ،‬ومؤلفها هو أحمد‬
‫بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي يكنى بـأبي بكر وقد اشتهر بـالخطيب البغدادي ‪ ،‬وقد ذكر‬
‫الخطيب رحمه اهلل تعالى في تاريخ بغداد في ترجمة والده أن أصله من العرب‪ ،‬وأن له عشيرة‬
‫ـالحصاصة من نواحي الفرات من بالد العراق ‪ ،‬ولم يكن‬
‫ّ‬ ‫كانوا يركبون الخيول‪ ،‬وأن مسكنهم ب‬
‫والده من العلماء المشهورين في ٍ‬
‫فن من الفنون‪ ،‬وإ نما كان له إلمام بسيط بالعلم‪ ،‬وقد كان يخطب‬
‫الجمعة والعيدين بقرية قريبة من بغداد اسمها درزيجان ‪ .‬ولذلك لم يصف الخطيب والده بأنه من‬
‫العلماء‪ ،‬وإ نما وصفه بأنه أحد حفاظ القرآن‪ ،‬فقال في ترجمة والده في تاريخ بغداد‪ :‬كان أحد حفاظ‬
‫القرآن‪ ،‬ويبدو أن لقب الخطيب قد استمر من األب إلى ابنه؛ ألن الخطيب نفسه قد تولى الخطابة‪،‬‬
‫كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه اهلل في البداية والنهاية أنه تولى الخطابة وكان خطيباً للجمعة‬
‫والعيدين في بغداد‪ ،‬ولم ينفرد الخطيب البغدادي بهذا اللفظ (الخطيب) أو بهذا اللقب‪ ،‬وقد لقب به‬
‫عدد من العلماء‪ ،‬منهم‪ :‬تلميذ الخطيب البغدادي وهو الخطيب التبريزي رحمه اهلل وآخرون‪ .‬ولد‬
‫ٌ‬
‫أبو بكر الحافظ أحمد بن علي بن ثابت يوم الخميس لستة من جمادي اآلخر سنة (‪392‬هـ) ونشأ في‬
‫كنف أبيه‪ ،‬وكان في نشأته قد وكل به أحد القراء ليعلمه القرآن‪ ،‬فتعلم القرآن وحفظه منه‪ ،‬ولما بلغ‬
‫الحادي عشر من عمره بدأ بسماع الحديث‪ ،‬ثم درس الفقه‪ ،‬ولما بلغ العشرين من عمره عزم على‬
‫الرحلة في طلب العلم والحديث‪ .‬وكان الذي قد حفظّه القرآن وعلمه الكتابة هو هالل بن عبد اهلل‬
‫رحمه اهلل‪ ،‬وتأدب منه‪ ،‬وهذا ما يفيد أهمية تأديب األوالد في المرحلة المبكرة‪.‬‬

‫رحالت الخطيب البغدادي في جمع الحديث‪:‬‬


‫في سنة (‪412‬هـ) بدأت المرحلة الثانية من حياة الخطيب وهي إنشاء رحالت لجمع الحديث‪ ،‬وقد‬
‫قام بثالث رحالت‪ ،‬زار فيها ثالث عشرة ناحية ومدينة من أشهر بالد المسلمين‪.‬‬

‫رحلته إلى البصرة‪:‬‬


‫كانت رحلته األولى إلى البصرة في (‪412‬هـ) والتقى بكبار محدثيها‪ ،‬ومنهم‪ :‬أبو عمر القاسم ‪،‬‬
‫وأبو جعفر بن عبد اهلل الهاشمي ‪ ،‬وسمع منه سنن أبي داود وغيرها‪ ،‬وعاد إلى بغداد في السنة‬
‫نفسها‪ ،‬وفي الطريق مر بـالكوفة والتقى بمحدثيها واستفاد فوائد‪ ،‬وقد ذكر ذلك في كتابه‪ :‬تاريخ‬
‫بغداد ‪ ،‬ولما رجع من هذه الرحلة لم تطل فرحة أبيه به؛ ألن أباه توفي في هذه السنة‪ ،‬وعاجلته‬
‫المنية يوم األحد من نصف شوال في السنة ذاتها التي رجع فيها الولد من رحلته‪ .‬فتولى ابنه دفنه‬
‫بنفسه ولم يؤثر ذلك في نيته في الطلب وعزمه عليه‪ ،‬واقتضب الخطيب رحمه اهلل هذه الحادثة في‬
‫ترجمة والده‪ ،‬فقال‪ :‬توفي يوم األحد النصف من شوال سنة (‪412‬هـ) ودفنته من يومه في مقبرة‬
‫باب حرب‪ ،‬ولم يزد على هذا كلمةً واحدة‪.‬‬

‫رحلة الخطيب إلى نيسابور‪:%‬‬


‫بعد وفاة والده تابع جمعه للحديث من أفواه المحدثين‪ ،‬وطاف على محدثي بغداد يأخذ عنهم‬
‫الحديث‪ ،‬وبعد أن رأى بأنه قد أكمل األخذ عنهم عزم على الرحلة مرة ثانية‪ ،‬وكان عنده اختياران‪:‬‬
‫إما أن يذهب إلى مصر ‪ ،‬وإ ما أن يذهب إلى نيسابور ‪ ،‬فتردد فاستشار شيخه البرقاني رحمه اهلل‬
‫وهو من كبار الحفاظ‪ ،‬وقال له‪ :‬هل أرحل إلى ابن النحاس في مصر أو أخرج إلى نيسابور إلى‬
‫أصحاب األصم؟ فأشار عليه شيخه إلى نيسابور‪ ،‬وعلل ذلك قائالً‪ :‬إنك إن خرجت إلى مصر إنما‬
‫رجل واحد‪ ،‬إن فاتك ضاعت رحلتك‪ ،‬وإ ن خرجت إلى نيسابور ففيها جماعة‪ ،‬إن فاتك‬‫تخرج إلى ٍ‬
‫واحد أدركت من بقي‪ ،‬فخرج إلى نيسابور وزوده شيخه البرقاني رحمه اهلل برسالة لطيفه إلى‬
‫ٌ‬
‫محدثي أصبهان‪ ،‬وكتب إلى أبي نعيم ‪ ،‬رحمه اهلل الحافظ الكبير يوصيه بتلميذه الخطيب البغدادي ‪،‬‬
‫ويقول له فيها‪ :‬قد نفذ إلى ما عندك عمداً متعمداً أخونا أبو ٍ‬
‫بكر أحمد بن علي بن ثابت أيده اهلل‬
‫وسلَّمه‪ ،‬ليقتبس من علومك‪ ،‬ويستفيد من حديثك‪ ،‬وهو بحمد اهلل من له في هذا الشأن سابقةً حسنة‪،‬‬
‫وقدم ثابت‪ ،‬وفهم حسن‪ ،‬وقد رحل فيه وفي طلبه‪ ،‬وقد حصل له منه ما لم يحصل ٍ‬
‫لكثير من أمثاله‬
‫الطالبين له‪ ،‬وسيظهر لك منه عند االجتماع به‪ ،‬مع التورع ‪-‬هذه المسألة ليست مسألة فقط حفظ‬
‫يحسن لديك موقعه‪ ،‬ويجبل عندك‬
‫روايات‪ -‬مع التورع والتحفظ وصحة التحصيل ‪-‬أي‪ :‬الدقة‪ -‬ما ّ‬
‫منزلته‪ ،‬وأنا أرجو إن صحت منه لديك هذه الصفة أن تبين له جانباً‪ ،‬وأن توفر له وتحتمل منه ما‬
‫ٍ‬
‫زيادة في االصطبار‪ ،‬فقديماً حمل السلف عن الخلف ما‬ ‫عساه يورده من تثقيل في االستكثار‪ ،‬أو‬
‫ربما ثقل‪ .‬خرج الخطيب البغدادي رحمه اهلل مع رفي ٍ‬
‫ق له اسمه أبو الحسن علي بن عبد الغالب‬
‫متوجهاً إلى نيسابور‪ ،‬وفي رحلته كان يحصل له من العبادة الشيء الكثير‪ ،‬وقد رآه رفقاؤه الذين‬
‫معه‪ ،‬وحصلت له في الرحلة من الروايات واألحاديث ما ألهاه عن النساء والطعام والشراب‪ ،‬بل‬
‫ربما أنساه حاجته للنوم! فمن العجائب التي حصلت له‪ ،‬ويضرب له المثل في سرعة القراءة‪،‬‬
‫وشهد له الحافظ ابن حجر رحمه اهلل بذلك‪ ،‬أنه قرأ صحيح البخاري كامالً على إسماعيل بن أحمد‬
‫الضرير في ثالثة أيام قراءة ضبط على شيخ‪ ،‬وال يعرف أنه حصل لغيره مثل هذا‪ .‬ورجع بعد ذلك‬
‫إلى بغداد وسمع وقرأ فيها ذلك‪ ،‬ولما استقر بها عكف على كتابه المشهور تاريخ بغداد ‪ ،‬ولما‬
‫اكتملت فصول الكتاب‪ ،‬واجتمعت مادته‪ ،‬عزم على أداء فريضة الحج شكراً هلل عز وجل‪ ،‬ولتتم‬
‫النعمة‪ ،‬ولتتم رحالته في أقطار العالم اإلسالمي في ذلك الوقت‪.‬‬

‫رحلة الخطيب إلى دمشق وتوجهه إلى بلد اهلل الحرام‪:‬‬


‫بدأت الرحلة الثالثة في سنة (‪444‬هـ) فتوجه من بغداد إلى دمشق وسمع من ٍ‬
‫كثير من محدثيها‪ ،‬ثم‬
‫توجه إلى مكة ولم يكن يترك طريقه بدون فائدة‪ ،‬بل كان يشغله بتالوة القرآن الكريم‪ ،‬فيقول أحد‬
‫مرافقيه وهو أبو الفرج األسفرائيني ‪ :‬كان الخطيب معنا في طريق الحج يختم كل ٍ‬
‫يوم ختمة‪ ،‬قراءة‬
‫ترتيل‪ ،‬ثم يجتمع عليه الناس وهو راكب يقولون‪ :‬حدثنا فيحدثهم‪ ،‬وهكذا قضى الطريق متقرباً إلى‬
‫اهلل تعالى بتالوة القرآن‪ ،‬وإ سماع الناس الحديث عن النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ولما وصل مكة‬
‫وطاف ببيت اهلل الحرام‪ ،‬وصلى ركعتين خلف المقام توجه إلى ماء زمزم وشرب منه ثالث‬
‫شربات‪ ،‬وسأل اهلل ثالث حاجات‪ ،‬آخذاً بقول النبي صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬ماء زمزم لما شرب له)‬
‫وهذه الثالث هي‪ :‬األولى‪ :‬أن يحدث بـتاريخ بغداد في بغداد‪ .‬الثانية‪ :‬أن يملي الحديث بجامع‬
‫المنصور‪ ،‬وكان جامعاً مشهوراً ال يحدث به إال النوادر ممن يؤذن له من الخليفة‪ .‬الثالثة‪ :‬أن يدفن‬
‫بجانب بشر الحافي ‪ ،‬وهو أحد الورعين الزهاد العباد‪ ،‬فتمنى أن يدفن بجانبه‪ ،‬وبلغه أن كريمة‬
‫المروزية مجاورة بـمكة المكرمة‪ ،‬وعندها سماعٌ ٍ‬
‫عال لـصحيح البخاري ؛ ألن كريمة ُع ِّمرت إلى‬
‫سن المائة رحمها اهلل تعالى‪ ،‬فذهب إليها وقرأ عليها صحيح البخاري في خمسة أيام‪ .‬وبعد االنتهاء‬
‫من فريضة الحج واالجتماع بمحدثي مكة ‪ ،‬والمشاهدات النافعة التي حصلت له‪ ،‬كما قال اهلل عز‬
‫وجل‪ِ :‬لَي ْشهَ ُدوا َمَن ِاف َع لَهُ ْم [الحج‪ ]28:‬قفل راجعاً إلى الشام من الحجاز‪ ،‬فمر بـالـبيت المقدس أولى‬
‫القبلتين ومسرى النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬واجتمع بعلمائها‪ ،‬مثل‪ :‬أبي محمد عبد العزيز بن أحمد‬
‫بن عمر المقدسي وسمع منه الحديث‪ ،‬ولعل هذا الدخول لـبيت المقدس كان في سنة (‪446‬هـ)‪ .‬ثم‬
‫ص ْو ٍر وسمع فيها من بعض مشايخها‪ ،‬مثل‪ :‬عبد الوهاب بن حسين العمر الغزال ‪،‬‬
‫انتقل بعدها إلى ُ‬
‫ص ْور فتوجه راجعاً إلى وطنه بغداد حامالً معه رواياته الجديدة‪ ،‬ومسموعاته‬
‫وانتهى مكثه بمدينة ُ‬
‫التي تزود بها‪ ،‬وبدخوله بغداد ‪ ،‬انتهت المرحلة الثانية من حياته‪.‬‬

‫الخطيب‪ ..‬ومرحلة التصنيف والكتابة واإلسماع واإلمالء‪:‬‬


‫بدأت المرحلة الثالثة‪ :‬وهي مرحلة التصنيف والكتابة واإلسماع واإلمالء‪ ،‬فجعل يجمع المتفرق‪،‬‬
‫ويرتب المتناثر من الفوائد والمسموعات التي حصلها‪ ،‬ويجعل منها مادة دسمة وغنية بتصانيفه‬
‫التي كانت بح ٍ‬
‫ق من أجود التصانيف خصوصاً في علوم الحديث‪ ،‬ويعتبر الخطيب البغدادي رحمه‬
‫اهلل مجدداً في علوم الحديث‪ ،‬ويعتبر النقلة التي نقل بها علم الحديث من ناحية التأليف نقلة كبيرة‪،‬‬
‫فكان العلماء في الحديث من بعده كلهم عالة عليه‪ ،‬وكل من أراد أن يؤلف في الحديث البد أن‬
‫عدد بعض أهل العلم كتبه بأربع وخمسين مصنفاً‬
‫يرجع إلى كتب الخطيب رحمه اهلل تعالى‪ .‬حتى ّ‬
‫إلى عام (‪453‬هـ) غير ما صنف بعدها‪ .‬وأما الحاجة األولى التي كان سأل اهلل إياها‪ :‬وهي‬
‫التحديث بـتاريخ بغداد بـبغداد‪ ،‬فقد حدثت في هذا االستقرار‪ ،‬فإنه حدث بـبغداد بكتاب تاريخ بغداد‬
‫وأماله على بعض تالميذه في حجر ٍة كانت له قرب المدرسة النظّامية‪.‬‬

‫الخطيب‪ ..‬والتحديث بجامع المنصور‪:‬‬


‫وأما الحاجة الثانية‪ :‬وهي إمالء الحديث بجامع المنصور‪،‬ـ فلم يكن ذلك أمراً سهالً ويصعب على‬
‫الخطيب أن يقدم التماسات للسلطان لكي يسمح له بذلك‪ ،‬ولعل قدر اهلل يجري‪ ،‬وكان يتمنى أن‬
‫ٍ‬
‫بشيء يجعل السلطان من نفسه يأذن له بالتحديث أو يعرف رغبته فيأذن له‬ ‫يجري قدر اهلل‬
‫بالتحديث‪ ،‬فجرت حادثة سنة (‪447‬هـ) وكان لها األثر الكبير في رفعة مقام الخطيب البغدادي عند‬
‫السلطان‪ ،‬ومن كان في ذلك الوقت آخذاً بزمام األمور‪ ،‬وهذا الحادث هو أن بعض اليهود قد أظهر‬
‫وادعى أنه من النبي صلى اهلل عليه وسلم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر ‪ ،‬وأن فيه‬
‫كتاباً بخط اليد‪ّ ،‬‬
‫شهادات الصحابة وخط علي بن أبي طالب رضي اهلل عنه‪ ،‬فرئيس الرؤساء في ذلك الوقت أبو‬
‫مسلم عرضه على الخطيب‪ ،‬وسمع أن الخطيب محقق من المحققين‪ ،‬ومؤرخ ومحدث؛ فعرض‬
‫مزور‪ ،‬فقال من أين لك هذا؟ وما هو‬
‫عليه الرسالة‪ ،‬فقال الخطيب لما اطلع على الرسالة فوراً‪ :‬هذا ّ‬
‫الدليل؟ قال‪ :‬في الكتاب شهادة معاوية بن أبي سفيان و معاوية أسلم يوم الفتح‪ ،‬وخيبر كانت في سنة‬
‫(‪7‬هـ) وفي هذه الرسالة أيضاً شهادة سعد بن معاذ رضي اهلل عنه‪ ،‬وسعد بن معاذ مات يوم الخندق‬
‫قبل معركة خيبر‪ ،‬فكيف يشهد سعد بن معاذ الذي مات قبل خيبر على قضية حصلت بـخيبر ‪،‬‬
‫وكيف يوقع معاوية بن أبي سفيان الذي أسلم بعد خيبر على قضية حدثت بـخيبر! هذه فائدة معرفة‬
‫التواريخ‪ ،‬وكان ذلك من فطنته وعلمه رحمه اهلل‪ ،‬فاستحسن السلطان ذلك جداً‪ ،‬واعتمده وأمضاه‪،‬‬
‫ولم ُيجز اليهود على ما في الكتاب؛ لظهور التزوير‪ ،‬ولعله عاقبهم‪ .‬وارتفعت منزلته بهذه القصة‬
‫عند أبي مسلم وكبر في عينه كثيراً‪ ،‬ووثق به وبدقة علمه؛ فقدمه وصار يذكره‪ ،‬وشاع ذكر‬
‫جزء من سماع الخليفة اآلخر‬
‫وحمل إلى الخليفة ومعه ٌ‬
‫الخطيب رحمه اهلل بعد تلك القصة جداً‪ُ ،‬‬
‫كبير في‬
‫القائم بأمر اهلل‪ ،‬وأراد أن يحدث الخليفة بجزء الخليفة اآلخر‪ ،‬فقال الخليفة‪ :‬هذا رج ٌل ٌ‬
‫الحديث ليس له إلى السماع مني حاجة ‪-‬ذهب إليه ليستمع حديثه منه‪ ،‬وكان الخليفة قد سمعه هو‬
‫نفسه‪ ،‬فكان الخطيب قد كتبها عنده لما أدخل على الخليفة ومعه جزء الخليفة‪ ،‬وطلب منه أن يسرد‬
‫عليه األحاديث التي سمعها‪ ،‬قال الخليفة متعجباً‪ :‬هذا رج ٌل كبير القدر في الحديث‪ ،‬فليس له إلى‬
‫السماع مني حاجة‪ ،‬وعنده من الطرق األخرى ما يستغني عني وعن سماعي‪ -‬فما حاجته اسألوه؟‬
‫قال‪ :‬حاجتي أن يأذن لي باإلمالء في جامع المنصور‪.‬ـ فأذن للخطيب باإلمالء‪ ،‬واجتمع الناس في‬
‫جامع المنصور‪،‬ـ وأملى الحديث وتمت له اثنتين مما دعا اهلل بها عند زمزم‪ ،‬وهذا المسجد الكبير‬
‫الذي يؤمه الطالب ال شك أنه كان نافذة كبيرة للخطيب رحمه اهلل؛ لكي يملي أحاديثه وينشر علمه‬
‫من خالل ذلك المنبر‪.‬‬

‫فتنة البساسير وخروج الخطيب إلى دمشق‪:‬‬


‫بقي الخطيب طيب النفس قرير العين بما بلغت أمانيه التي استجابها اهلل له يملي بجامع المنصور‪،‬‬
‫ويصنف ويهذب‪ ،‬إلى أن حدثت فتنة البساسير‪ ،‬وهذا انقالب خطير جداً صارع الخالفة العباسية‬
‫عدد آخر من الباطنية‪ ،‬ومعهم من الرعاع‬
‫السنية من قبل هذا البساسير الرافضي الباطني ومعه ٌ‬
‫واألشرار وقطاع الطرق والمجرمين‪ ،‬بحيث أنهم سيطروا على مدينة بغداد فعالً‪ ،‬واستطار شر‬
‫هذه الفتنة وكاد الخطيب رحمه اهلل أن ُيقتل فيها‪ ،‬لكنه سارع بالخروج من بغداد متخفياً إلى دمشق‬
‫وهاجر منها وقد صارت موطن ٍ‬
‫كفر بما حكم به ذلك الرافضي الباطني الخبيث‪ ،‬وخلع خليفة‬
‫ٍ‬
‫بأمور‬ ‫خلق كثير في تلك الفتنة‬
‫المسلمين‪ ،‬وتُتبع أهل العلم والفضل‪ ،‬وقُتل من أهل السنة وعلمائهم ٌ‬
‫شنيعة‪ ،‬وكيفيات بشعة في القتل جداً‪ ،‬وقد أشار ابن كثير رحمه اهلل إلى هذه الفتنة في كتاب البداية‬
‫والنهاية ‪ ،‬ووصف البساسير بالخبيث‪ .‬لقد استتر الخطيب رحمه اهلل وخرج من بغداد في شهر‬
‫صفر سنة (‪451‬هـ) مصطحباً كتبه وتصانيفه قاصداً دمشق فوصلها سالماً‪ ،‬واتخذ المئذنة الشرقية‬
‫من الجامع األموي مسكناً له‪ ،‬وبدأ التدريس في المسجد‪ ،‬وصار له حلقة كبيرة يجتمع الناس فيها‬
‫ويحدثهم‪ ،‬وكان يخرج أيضاً إلى بساتين ويقرأ كتب األدب هناك‪ ،‬ولعل كتاب التطفيل وحكاية‬
‫الطفيليين قد حدث في ذلك الجو والظل الوارف‪ ،‬وبينما كان يقرأ من الكتب في دمشق كتاب فضائل‬
‫الصحابة األربعة لإلمام أحمد بن حنبل رحمه اهلل سمع بذلك بعض الروافض‪ ،‬وكان لهم شوكةٌ؛‬
‫حصلت لهم بسبب حكم الفاطميين في مصر ‪ ،‬فثاروا على الخطيب وأرادوا قتله‪ ،‬فأجاره أحد‬
‫األشراف في ذلك المكان‪ ،‬وكان مسكنه قريباً من الجامع‪ ،‬فأجاره على أن يخرج من دمشق‪ ،‬فخرج‬
‫إلى صور‪ ،‬ونفعته الرحلة األولى التي دخل فيها صور وأقام فيها عالقات مع بعض أهلها‪ ،‬فكان‬
‫المكان المناسب أن يخرج إلى تلك البلدة‪ ،‬ومن األسباب التي جعلت هؤالء يقومون عليه هو صوته‬
‫‪-‬رحمه اهلل‪ -‬فقد قال ابن كثير في البداية ‪ ،‬عن الخطيب البغدادي ‪ :‬أنه كان جهوري الصوت‪،‬‬
‫ُيسمع صوته من أرجاء الجامع كله‪ ،‬فاتفق أن قرأ على الناس في ٍ‬
‫يوم من األيام فضائل العباس فثار‬
‫عليه الروافض من أتباع الفاطميين وأرادوا قتله‪ ،‬فحصل ما حصل من خروجه إلى صور‪ ،‬وقد‬
‫خرج في سنة (‪459‬هـ) وكان فيها بعض أهل العلم وهاجر إليها ال ليسمع كما كان من قبل وإ نما‬
‫ويعطيه ماالً‬ ‫ِ‬
‫ُليسمع هو ويملي ويحدث في تلك البلدة‪ ،‬وقد قيض اهلل له من ُينفق عليه في تلك البلدة ُ‬
‫كثيراً‪ ،‬فحصل له به اكتفاء‪.‬‬

‫رجوع الخطيب إلى بغداد بعد الفتنة‪:‬‬


‫حن إلى بغداد ‪ ،‬وكانت فتنة البساسير قد‬
‫لما بلغ الخطيب سبعين سنة وشاخ وشعر بقرب أجله ّ‬
‫ب الخليفة منهم مرةً أخرى‪ ،‬فرجع الخطيب رحمه اهلل في‬ ‫زالت‪ ،‬وعاد األمر إلى أهل السنة‪ِ ُ ،‬‬
‫ونص َ‬
‫سنة (‪462‬هـ) سالكاً طريق الساحل ماراً بـطرابلسـ ودخل فيها وجلس فيها فترةً يسيرة ناظر في‬
‫ضمن من ناظره بعض أهل التشيع هناك‪ ،‬وكانت طرابلس تحت حكمهم‪ ،‬وتفوق عليهم‪ ،‬ثم خرج‬
‫ِّ‬
‫ويحدث‪ ،‬وسمع من بعض الشيوخ بـحلب‪ ،‬ومنهم‪ :‬أبو‬ ‫منها قاصداً حلب ‪ ،‬وأقام بها أياماً يسيرة ُيعلِّم‬
‫الفتح أحمد بن النحاس رحمه اهلل‪ ،‬ثم توجه إلى بغداد فوصلها في سنة (‪462‬هـ) في تلك السنة‬
‫ص ْور إلى بغداد أربعة أشهر لم يكن يترك في طريقه الفائدة والعبادة‬
‫أيضاً‪ ،‬فاستغرقت الرحلة من ُ‬
‫ختم للقرآن كل ٍ‬
‫يوم‬ ‫والتقرب إلى اهلل‪ ،‬فال زال على طريقته التي عهدوه عليها في رحلة الحج من ٍ‬
‫وسر بالوصول إليها بعد فراق دام إحدى عشرة سنة‪ ،‬أراد أن‬
‫ختمةً كاملةً‪ .‬ولما وصل إلى بغداد ُ‬
‫يكافئ أحد من صنع إليه معروفاً في بغداد‪ ،‬فلم يجد ما يكافئه به أعظم من كتابه تاريخ بغداد‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫لو كان عندي أعز منه ألهديته له‪ .‬وكانت هذه النسخة من تاريخ بغداد بخط الخطيب نفسه‪،‬‬
‫واستأنف الخطيب رحمه اهلل دروسه في بغداد في جامع المنصورـ بعد أن آل األمر فيها لـأهل‬
‫السنة‪ ،‬والخليفة العباسي القائم بأمر اهلل‪ ،‬واجتمع إليه الناس‪ ،‬ورجع إليه طالب الحديث بشو ٍ‬
‫ق ولهفة‬
‫وحنين‪َّ ،‬‬
‫فحدث بـسنن أبي داود من روايته وبكتبه وتواريخه‪.‬‬

‫مرض الخطيب البغدادي ووفاته‪:‬‬


‫لقد مرض الخطيب رحمه اهلل في نصف رمضان من سنة (‪463‬هـ) في حجرته‪ ،‬ولما أحس بدنو‬
‫شيء من المال والثياب أراد أن يوزع ذلك قبل أن يموت‪ ،‬ولم يكن له زوجة وال‬
‫ٌ‬ ‫أجله وكان عنده‬
‫أوالد‪ ،‬وال عقب وال وارث؛ فلعله أراد أن يختم حياته بالتصدق بما عنده من أموال‪ ،‬ففرقها على‬
‫أصحاب الحديث‪ ،‬وكانت كل ممتلكاته مائتي دينار‪ ،‬و ّكل في توزيعها أبا الفضل بن خيرون‪،‬‬
‫فوزعها في حياة الخطيب‪ ،‬وأوصى بأن يتصدق بجميع ثيابه وما يملكه من أشياء بعد وفاته‪ ،‬وجعل‬
‫جميع كتبه ومصنفاته وقفاً على المسلمين‪ ،‬واشتد المرض به في أوائل ذي الحجة سنة (‪463‬هـ)‬
‫حتى توفي في ضحى يوم االثنين السابع من ذي الحجة في تلك السنة‪ ،‬رحمه اهلل تعالى ورضي‬
‫عنه وأرضاه‪ ،‬وامتدت فترة مرضه من رمضان إلى سبع ذي الحجة‪ ،‬وكان اشتداد المرض في‬
‫أوائل ذي الحجة‪ ،‬والوفاة في السابع من هذا الشهر‪ .‬بوفاته رحمه اهلل تعالى طويت صفحة عظيمة‬
‫من صفحات علم الحديث التي ذهب فيها هذا العالم الكبير إلى ربه سبحانه وتعالى‪ ،‬وكان على‬
‫سلطان‪ ،‬ولم يتولَّى منصباً قط‪ ،‬ال‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وعفة متناهية‪ ،‬فإنه لم يتزلف إلى‬ ‫ٍ‬
‫وعبادة كبيرة‪،‬‬ ‫أخال ٍ‬
‫ق عظيمة‬
‫قاضياً وال مفتياً‪ ،‬مع أنه كان أهالً لذلك‪ ،‬ولم تكن المناصب لتمتنع عليه‪ ،‬لو أنه سعى إليها وأرادها‪،‬‬
‫خدم وال‬
‫لكنه اختار أن يبقى بعيداً عن فتنة الوجاهة‪ ،‬ورضي بالكفاف من العيش‪ ،‬ولم يكن له ٌ‬
‫ٍ‬
‫جوار‪ ،‬ولع ّل الرحلة في طلب العلم لم تسعفه في الزواج‪ ،‬فتوفي رحمه اهلل وخلف أوالداً مخلدين‬
‫من المصنفات التي ألفها‪.‬‬

‫بيان عفة الخطيب البغدادي وبعض سجاياه‪:‬‬


‫لقد ذكر المؤرخون من قصص الخطيب العظيمة في عفته‪ ،‬أنه كان مرةً بـمرو فحدثت له القصة‬
‫ٍ‬
‫شخص اسمه عمر النسوي من نسى‬ ‫التالية‪ :‬أحد أهل مرو َّ‬
‫حدث بالقصة التالية عن الخطيب ‪ :‬عن‬
‫كنت في جامع صور عند الخطيب‪ ،‬فدخل عليه بعض العلوية‪ ،‬وفي كمه‬
‫وهي بلدة معروفة‪ ،‬قال‪ُ :‬‬
‫فالن ‪-‬من بعض األغنياء‪ -‬يسلم عليك ويقول‪ :‬هذا تصرفه في بعض‬
‫دنانير‪ ،‬وقال للخطيب ٌ‬
‫طب وجهه‪ ،‬فقال العلوي‪ :‬فتصرفه إلى بعض‬
‫مهماتك‪ ،‬فقال الخطيب‪ :‬ال حاجة لي فيه‪ ،‬وق ّ‬
‫أصحابك؟ قال‪ :‬قل له يصرفه هو إلى من يريد‪ .‬قال العلوي‪ :‬كأنك تستقله‪ ،‬ونفض كمه على سجادة‬
‫الخطيب وطرح الدنانير عليها‪ ،‬وقال هذه ثالثمائة دينار ‪-‬والدينار أربعة غرامات وربع من‬
‫الذهب‪ -‬ووضعها على السجادة‪ ،‬فقام الخطيب محمر الوجه‪ ،‬وأخذ السجادة ونفض الدنانير على‬
‫األرض وخرج من المسجد‪ .‬قال‪ :‬الفضل بن أبي ليلى الذي حضر القصة‪ :‬ال أنسى عز خروج‬
‫قاعد على األرض يلتقط الدنانير من شقق الحصر ويجمعها‪ ،‬قام‬
‫الخطيب وذل ذلك العلوي وهو ٌ‬
‫وترك له هذه الدنيا‪ ،‬وقام ذلك يجمع الدنانير‪.‬‬

‫تواضع الخطيب رحمه اهلل‪:‬‬


‫ومن تواضعه رحمه اهلل أن أحد المحدثين لقيه‪ ،‬فقال له‪ :‬أنت الحافظ أبو بكر ‪ ،‬قال‪ :‬انتهى الحفظ‬
‫إلى الدارقطني ‪ ،‬أنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب‪.‬‬

‫كرم الخطيب البغدادي‪:‬‬


‫فكنت أقرأ على‬
‫ُ‬ ‫دخلت دمشق‬
‫ُ‬ ‫حدث به تلميذه الخطيب التبريزي قال‪:‬‬
‫ومن كرمه رحمه اهلل ما ّ‬
‫إلي وقال‪:‬‬
‫الخطيب بحلقته بالجامع كتب األدب المسموعة له‪ ،‬وكنت أسكن منارة الجامع‪ ،‬فصعد ّ‬
‫أحببت ‪-‬الشيخ يقول للتلميذ‪ -‬أن أزورك في بيتك‪ ،‬فتحدثنا ساعةً‪ ،‬ثم أخرج ورقةً‪ ،‬وقال‪ :‬الهدية‬
‫مستحبة‪ ،‬اشتر بهذه أقالماً‪ ،‬ثم نهض فإذا خمسة دنانير مصرية‪ ،‬ثم إنه صعد مرةً أخرى‪ ،‬ووضع‬
‫نحواً من ذلك‪ ،‬فهذا من إكرامه لتالميذه رحمهم اهلل تعالى‪ .‬وكان من مميزات الخطيب أنه كان جيد‬
‫الخط‪ ،‬وتجد أن بعض المخطوطات التي كتبها بعض العلماء قد أتعبت من بعدهم في فك رموزها‬
‫من سوء خطهم‪ ،‬ولعل بعضهم لم يكن عنده وقت للتدرب على تحسين الخط من ولعهم بالعلم‬
‫والرحالت‪ ،‬لكن الخطيب رحمه اهلل من ميزاته أنه كان حسن الخط‪ ،‬كثير الضبط‪ ،‬كثير الشكل‪،‬‬
‫وهو الذي عنون عنواناً في كتابه الجامع ألخالق الراوي وآداب السامع ‪ ،‬باب تحسين الخط‬
‫وتجويده‪ ،‬نصح فيه طلبة العلم بتحسين الخط‪ .‬ومن ضمن تلك النصائح‪ :‬أن الواحد ال يقرنط فيتعب‬
‫ويتعب من بعده‪ ،‬يقرنط‪ :‬أي يصغر الخط؛ ألنه إذا كبر وصار بصره ضعيفاً لم يعد يقرأ ما كتب‬
‫كتب فسيتعب جداً في فك هذه الرموز‪ ،‬وكذلك‬
‫في أيام الشباب‪ ،‬ولو مات وأراد واحد أن ينتفع بما َ‬
‫فإنه كان فصيحاً للغاية‪ ،‬كان يقرأ قراءةً معربةً صحيحةً‪ .‬قال ابن الجوزي ‪ :‬كان حسن القراءة‪،‬‬
‫فصيح اللهجة‪ ،‬وكان جهوري الصوت‪ ،‬وكان عجيباً في سرعة القراءة‪ ،‬ضرب به المثل في ذلك‪،‬‬
‫جزء يطالعه‪ ،‬يضرب به‬
‫وكان حريصاً على االستفادة من وقته‪ ،‬كان يمشي في الطريق وفي يده ٌ‬
‫ووقار من عمله بالعلم الذي اكتسبه رحمه اهلل تعالى‪ ،‬وقد‬
‫ٌ‬ ‫المثل في سرعة القراءة‪ ،‬وكان عليه هيبة‬
‫أثنى عليه العلماء ومدحوه للغاية‪ ،‬مثل تلميذه الحافظ ابن ماكوال ‪ ،‬والحافظ أبو بكر ابن نقطة‬
‫والسلَِفي وأبو إسحاق‬
‫الحنبلي وأبو سعد السمعاني وابن عساكر وابن خلكان وابن النجار والسبكي ِ‬
‫الشيرازي ‪ ،‬والتاجي ‪ ،‬وابن األثير ‪ ،‬والذهبي وغيرهم‪ .‬يقول الذهبي رحمه اهلل‪" :‬ختم به إتقان هذا‬
‫الشأن"‪ .‬وقال صاحب وفيات األعيان‪" :‬سنة كذا‪ ..‬مات حافظ الدنيا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت‬
‫الخطيب صاحب التصانيف"‪.‬‬

‫مصنفات الخطيب البغدادي رحمه اهلل‪:‬‬


‫لقد ترك تصانيفاً كثيرةً جداً قريباً من مائة مصنف صارت عمدةً ألهل الحديث‪ ،‬ومن هذه‬
‫المصنفات‪:‬‬
‫‪ -1‬تاريخ بغداد وهو أشهرها‪.‬‬
‫‪ -2‬الكفاية في علم الرواية‪ ،‬وهو موضح أوهام الجمع والتفريق في باب مصطلح الحديث‪.‬‬
‫‪ -3‬شرف أصحاب الحديث‪.‬‬
‫‪ -4‬الفقيه والمتفقه‪.‬‬
‫‪ -5‬التطفيل ‪.‬‬
‫‪ -6‬اقتضاء العلم العمل ‪.‬‬
‫‪ -7‬تقييد العلم ‪.‬‬
‫‪ -8‬نصيحة أهل الحديث ‪.‬‬
‫‪ -9‬الرحلة في طلب الحديث ‪.‬‬
‫‪ -10‬الجامع ألخالق الراوي وآداب السامع‪.‬‬
‫‪ -11‬المتفق والمفترق‪.‬‬
‫‪ -12‬السابق والالحق‪.‬‬
‫‪ -13‬المزيد في متصل األسانيد ‪ .‬ال يكاد يوجد باب من أبواب المصطلح إال وتجد فيه للخطيب‬
‫تأليفاً وتصنيفاً‪.‬‬
‫‪ -14‬التفصيل لمبهم األسانيد ‪.‬‬
‫‪ -15‬األسماء المبهمة ‪.‬‬
‫‪ -16‬روايات اآلباء عن األبناء ‪.‬‬
‫‪ -17‬من حدث ونسي ‪.‬‬
‫‪ -18‬غنيمة الملتمس في إيضاح الملتبس ‪.‬‬
‫‪ -19‬األسماء المتواطئة ‪.‬‬
‫‪ -20‬المؤتلف والمختلف ‪.‬‬
‫هذه كلها أبواب في مصطلح الحديث قد غطاها الخطيب رحمه اهلل تأليفاً وتصنيفاً‪ ،‬وكل من َّ‬
‫صنف‬
‫في علم الحديث بعد الخطيب عيا ٌل على كتبه‪ ،‬وكتبه ليست في الحديث فقط وإ نما يوجد منها أشياء‬
‫ٍ‬
‫أبواب من العلم‪ ،‬ومن هذه المنصفات‪ :‬رسالة لطيفة للخطيب البغدادي رحمه اهلل‪،‬‬ ‫أخرى في‬
‫بعنوان‪ :‬اقتضاء العلم العمل ‪ ،‬وهي التي سنتعرض لها في هذا المقام بمشيئة اهلل عز وجل‪.‬‬

‫سبب تأليف رسالة اقتضاء العلم العمل‪:‬‬


‫لقد جمع الخطيب البغدادي رحمه اهلل هذه الرسالة ليبين أهمية العلم بالعمل‪ ،‬وقد جمع علماً كثيراً‬
‫ومرويات متعددة وفيرة‪ ،‬لكنه علم رحمه اهلل أن الغاية من طلب العلم هو العمل به‪ ،‬ولعله الحظ أن‬
‫هناك تقصيراً في العلم‪ ،‬وأن بعض الناس في عهده من طالب الحديث قد رحلوا في طلب الحديث‪،‬‬
‫ٍ‬
‫لحديث واحد‪،‬‬ ‫وجمعوا الروايات والطرق واألسانيد وربما اجتمع عند الواحد منهم أسانيد كثيرة‬
‫فالحظ أن هناك انشغاالً كبيراً بالجمع وتقصيراً في العمل‪ .‬والعصر الذي عاش فيه الخطيب رحمه‬
‫اهلل‪ ،‬كان عصر جمع األحاديث‪ ،‬وكان انكباب الطالب على الجمع‪ ،‬واالنشغال عن العمل‪ ،‬مما يبين‬
‫أن هناك سبب وراء تأليف الرسالة يتعلق بالعصر الذي عاش فيه‪ ،‬وهناك السبب العام وهو نصيحة‬
‫لكل المسلمين بأهمية العمل بالعلم‪ ،‬ألن هذا باب يحتاجه كل مسلم‪ ،‬وهو التركيز على قضية العمل‬
‫بالعلم‪.‬‬

‫أهمية‪ %‬التوازن بين العلم والعمل‪:‬‬


‫صدر رسالته هذه بقوله‪( :‬نشكر اهلل سبحانه على ما ألهمنا‪ ،‬ونسأله التوفيق للعمل بما علّمنا‪،‬‬
‫لقد ّ‬
‫فإن الخير ال يدرك إال بتوفيقه ومعونته‪ ،‬ومن يضلل اهلل فال هادي له من خليقته‪ ،‬وصلى اهلل على‬
‫ّ‬
‫سيدنا محمد سيد األولين واآلخرين‪ ،‬وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين‪ ،‬وعلى من اتبع النور‬
‫الذي أنزل معه إلى يوم الدين‪ .‬ثم إني موصيك يا طالب العلم بإخالص النية في طلبك‪ ،‬وإ جهاد‬
‫النفس على العمل بموجبه‪ ،‬فإن العلم شجرة والعمل ثمرة‪ ،‬وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عامالً‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬العلم والد والعمل مولود‪ ،‬والعلم مع العمل‪ ،‬والرواية مع الدراية) الرواية هي‪ :‬األسانيد‬
‫والمتون‪ ،‬والدراية هي‪ :‬أن يدري بما يعلم ويفقهه‪( .‬ورأس الفقه العمل بالعلم‪ ،‬فال تأنس بالعمل ما‬
‫دمت مستوحشاً من العلم‪ ،‬وال تأنس بالعلم ما كنت مقصراً في العمل)‪ .‬هذه نظرية مهمة جداً‪ ،‬وهي‬
‫َ‬
‫قضية التوازن بين العلم والعمل‪ ،‬وتجد بعض الناس عندهم طاقة في العمل لكنه سيقع في البدعة‬
‫والخطأ‪ ،‬وبعض الناس عنده طاقة في جمع العلم‪ ،‬وليس عنده طاقة في العمل‪ ،‬فيكون علماً نظرياً‬
‫ال ينفع صاحبه‪ ،‬فال تأنس بالعمل ما دمت مستوحشاً من العلم‪ ،‬وال تأنس بالعلم ما دمت مقصراً في‬
‫العمل (ولكن اجمع بينهما وإ ن قل نصيبك منهما‪ ،‬وما شيء أضعف من ٍ‬
‫عالم ترك الناس علمه‬ ‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫وجاهل أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته) وهذا فعالً من األخطاء التي يقع فيها‬ ‫لفساد طريقته‪،‬‬
‫العامة‪ .‬ينظرون إلى واحد يجدون عنده اجتهاد وعبادة كبيرة فيستفتونه ويسألونه وينصبونه عالماً‪،‬‬
‫وهو ليس بعالم إنما هو عابد‪ ،‬وربما يوجد عالم عنده علم لكن ليس عنده عبادة وال زكاة للعلم‪،‬‬
‫فالناس سيتركونه؛ ألن أخالقه ليست أخالق العلماء‪ ،‬وعبادته ليست عبادة العلماء‪ ،‬وعمله ليس‬
‫عمل العلماء؛ فيتركونه‪ ،‬فتكون النتيجة ضالل الخلق‪ .‬والناس يريدون واقعاً عملياً يقتنعون به‪،‬‬
‫فالسيرة والتصرفات‪ ،‬هي التي تقنع الناس‪ .‬قال‪( :‬والقليل مع هذا) أي‪ :‬من العلم (مع القليل من‬
‫هذا) من العمل (أنجى في العاقبة إذا تفضل اهلل بالرحمة‪ ،‬وتمم على عبده النعمة‪ ،‬فأما المدافعة‬
‫واإلهمال) ال علم وال عمل (وحب الهوينة واالسترسال‪ ،‬وإ يثار الخفض والدعة‪ ،‬والميل إلى الراحة‬
‫وعقباها كريهةٌ وخيمة)‪ .‬وكثير من شباب الصحوة ابتلوا‬
‫والسعة‪ ،‬فإن خواتم هذه الخصال ذميمة‪ُ ،‬‬
‫نصيب‬
‫ٌ‬ ‫في هذه األيام بقضية الميل إلى الدعة والراحة‪ ،‬والكسل واللهو واللعب‪ ،‬فلم يعد في حياتهم‬
‫وتقصير ٍ‬
‫ثوب‪ ،‬ولكن‬ ‫ٍ‬ ‫إلى الجد في طلب العلم‪ ،‬وليس عليهم إال سيما االلتزام في الظاهر‪ ،‬من ٍ‬
‫لحية‪،‬‬
‫في باطن األمر ال تجد علماً جيداً‪ ،‬وال عمالً مجتهداً فيه‪.‬‬

‫الغاية من طلب العلم‪:‬‬


‫قال‪( :‬والعلم يراد للعمل كما العمل يراد للنجاة! فإذا كان العمل قاصراً عن العلم‪ ،‬كان العلم كالً‬
‫علم عاد كالً‪ ،‬وأورث ذالً‪ ،‬وصار في رقبة صاحبه غالً‪ ،‬قال بعض‬ ‫على العالم‪ ،‬ونعوذ باهلل من ٍ‬
‫العلماء‪ :‬العلم خادم العمل‪ ،‬والعمل غاية العلم) أي‪ :‬أنت لماذا تتعلم ما هو السر؟ ما هي الغاية من‬
‫وراء التعلم؟ إنك تتعلم لتعمل‪ .‬وتجد بعض الناس عندهم إنخداع وانجذاب لمنهج الغربيين الضالل‬
‫الكفرة‪ ،‬الذين يقولون‪ :‬العلم للعلم‪ ،‬والقراءة للقراءة‪ ،‬والثقافة للثقافة‪ ،‬أي‪ :‬أن العلم لذاته يقصد لذاته‪،‬‬
‫ولذلك تراهم يسلكون سبالً ليست نافعة في العلم إطالقاً‪ ،‬ترى الواحد منهم يتخصص وربما يأخذ‬
‫شيء تافه سخيف جداً‪ ،‬يفني عمره فيه‪ ،‬مثالً‪ :‬بعضهم يتخصص في اآلثار‬‫شهادة الدكتوراه في ٍ‬
‫والتحف الموجودة من الحضارات القديمة‪ ،‬دكتوراه في التحف واآلثار‪ ،‬ما هي الفائدة؟ وربما واحد‬
‫تخصص في اللغة الهيروغلوفيةـ ومعه دكتوراه في اللغة الهيروغلوفية‪ ،‬ما هي الفائدة في لغة‬
‫انقرضت؟ ويفني عمره فيها‪ ،‬لماذا؟ ألن عند الغربيين مبدأ العلم للعلم‪ .‬أما المسلمون فعندهم مبدأ‬
‫العلم للعمل‪ ،‬وهذا الفرق بيننا وبينهم‪ ،‬فرق كبير‪ ،‬ولذلك تجد كثيراً منهم تضيع أعمارهم في أشياء‬
‫تافهة‪ ،‬وبعض أبناء المسلمين قلدهم‪ ،‬ذهب إلى بلدانهم وتعلم مثلهم وعلى طريقتهم‪ ،‬ورجعوا‬
‫ٍ‬
‫سنوات طويلة وأبحاث‪ ،‬في ماذا؟ يقول‪ :‬علم هذا ألجل العلم‪،‬‬ ‫بتخصصات تافهة سخيفة‪ ،‬أمضى‬
‫فليس عند المسلمين شيء اسمه العلم للعلم‪ ،‬وإ نما العلم وسيلة ٍ‬
‫لغاية وهي العمل‪ .‬قال الشيخ‪( :‬وهل‬
‫أدرك من السلف الماضيين الدرجات العلى إال بإخالص المعتقد والعمل الصالح‪ ،‬والزهد الغالب في‬
‫كل ما راق من الدنيا؟! وهل وصل الحكماء إلى السعادة العظمى إال التشييد بالسعي‪ ،‬والرضا‬
‫بالميسور‪ ،‬وبذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم؟! وهل جامع كتب العلم إال كجامع الفضة‬
‫والذهب؟! وهل المنهوم بها إال كالحريص الجشع عليها؟ وكما ال تنفع األموال إال بإنفاقها! كذلك ال‬
‫تنفع العلوم إال لمن عمل بها وقام بواجباتها!!) افترض لو أن واحداً يجهد عمره في جمع المال‬
‫وكسبه وال يستفيد منه وال ينفق‪ ،‬وال يستمتع به شيئاً فهل هذا عاقل؟ وهل استفاد شيئاً مما جمع؟ ال‪.‬‬
‫فكذلك الذي يحرص على جمع العلم دون عمل‪( ،‬فلينظر المرء لنفسه‪ ،‬وليغتنم وقته‪ ،‬فإن الثوى‬
‫قليل ‪-‬أي‪ :‬البقاء في الدنيا قليل‪ -‬والرحيل قريب‪ ،‬والطريق مخوف‪ ،‬واالغترار غالب‪ ،‬والخطر‬
‫عظيم‪ ،‬والناقد بصير‪ ،‬واهلل تعالى بالمرصاد‪ ،‬وإ ليه المرجع والمعاد‪ :‬فَ َم ْن َي ْع َم ْل ِمثْقَا َل َذ َّر ٍة َخ ْيراً‬
‫َي َرهُ * َو َم ْن َي ْع َم ْل ِمثْقَ َ‬
‫ال َذ َّر ٍة َش ّراً َي َرهُ [الزلزلة‪.)]8-7:‬‬

‫األحاديث واآلثار في بيان أهمية العمل بالعلم‪:‬‬


‫بعد هذا شرع الخطيب رحمه اهلل في إيراد األحاديث واآلثار التي جمعها عن النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬والصحابة والتابعين والسلف في هذه المسألة‪ ،‬وهي قضية العمل بالعلم‪َّ ،‬‬
‫فصدره بحديث‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬ال تزوال قدما ٍ‬
‫عبد يوم القيامة حتى ُيسأل عن أربع‪ :‬عن عمره فيم‬
‫أفناه‪ ،‬وعن علمه ماذا عمل به‪ ،‬وعن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه‪ ،‬وعن جسمه فيم أباله) وهذا‬
‫حديث صحيح أخرجه المصنفونـ من أهل العلم في كتبهم‪ ،‬وبعض األحاديث التي ساقها الخطيب‬
‫ٌ‬
‫رحمه اهلل في هذا الكتاب ضعيفة‪ ،‬وبعضها أكثر من ضعيفة‪ ،‬ولكن كما ذكر العالمة األلباني رحمه‬
‫اهلل‪ ،‬في تعليقه على هذه الرسالة‪ :‬لعل ُعذر الخطيب رحمه اهلل في ذلك أن العالم يسوق اإلسناد‪،‬‬
‫حملك أنت أيها القارئ المسئولية‪ ،‬قال لك‪ :‬هذا إسنادي‬ ‫والم ِّ‬
‫حدث إذا ساق باإلسناد فإنه يكون قد ّ‬ ‫ُ‬
‫فالن عن فالن عن فالن‪ ،‬وأنت تتحمل مسئولية البحث في صحة هذا الحديث‪ .‬وكذلك فإن بعض‬
‫الطرق التي ساقها الخطيب ضعيفة‪ ،‬لكن الحديث له طرق أخرى صحيحة أو يتحسن بها الحديث‬
‫بمجموع طرقه‪ ،‬ولعل الخطيب رحمه اهلل اشتغل بالجمع فترةً طويلة من عمره‪ ،‬ولم يكن عنده‬
‫جماعاً فقط‬ ‫ٌ ٍ‬
‫نصيب كاف من الوقت لتحقيق ما جمع ونخله والتعليق عليه‪ ،‬والخطيب رحمه اهلل ليس ّ‬
‫جماع ناقد‪ ،‬وأصول النقد عنده واضحة‪ ،‬وتآليفه في المصطلح واضحة‪ ،‬وهي تدل على علو‬
‫بل ّ‬
‫كعبه في علم الحديث‪ ،‬فال تخفى عليه العلل‪ ،‬لكنه ربما لم يكن عنده الوقت لكي ينخل كل ما جمع‬
‫ويكتب بجانب كل حديث صحته‪ ،‬أو أن طريقة العلماء أنهم كان يكتبون وطلبة العلم بقراءة األسانيد‬
‫يعرفون مدى صحة الحديث ال يحتاج إلى أن يقال له‪ :‬هذا حسن وهذا ضعيف‪ ،‬أو هذا ضعيف‬
‫وهذا صحيح‪ ،‬بينما نحن اآلن بسبب جهلنا بعلم الحديث ليس عندنا قدرة على التمييز بين األسانيد‬
‫إال من ندر‪ .‬ولذلك نحتاج بجانب كل حديث أن يعلق لنا عليه صحيح أو ضعيف‪ ،‬ألن هذا أوان‬
‫كثير منه‪ ،‬وتجد أكثر الناس ليس عندهم قدرة على التمييز بين‬
‫وزمان قد اضمحل فيه العلم‪ ،‬وذهب ٌ‬
‫ٌ‬
‫الصحيح والضعيف‪ .‬ولذلك فإن عدداً من العلماء في الفترات المتأخرة بعد أن انتهت فترة جمع‬
‫الحديث كانت هناك فترة التحقيق والتمحيص‪ ،‬والتصحيح والتضعيف‪،‬ـ والتعليق على األحاديث‪،‬‬
‫قوم‬
‫وقد ورد عن علي رضي اهلل عنه‪[ :‬يا حملة العلم! اعملوا به‪ ،‬فإنما العالم من عمل‪ ،‬وسيكون ٌ‬
‫يحملون العلم يباهي بعضهم بعضاً‪ ،‬حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره‪،‬‬
‫أولئك ال تصعد أعمالهم إلى السماء] وهذا يتضح كثيراً في مشايخ الصوفية ‪ ،‬فالشيخ يريد أن يكون‬
‫شيخ آخر‪،‬‬
‫كل الطالب مريدين عنده‪ ،‬ومنتسبين إليه‪ ،‬وال يرضى أبداً أن يذهب أحد تالميذه إلى ٍ‬
‫واضح جداً فيهم‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ويجلس عند الشيخ اآلخر‪ ،‬والحسد والتقاتل على الدنيا‪ ،‬وتكثير االتباع والطالب‬
‫وتجد بين طالبهم أحقاد ومنافسات‪ ،‬وبعض المصابين باألمراض النفسية‪ ،‬حتى من المنتسبين إلى‬
‫السنة تجد فيهم هذا الداء‪ ،‬فال ُيعصم منه إال من عصم اهلل‪ ،‬وينبغي على اإلنسان أن يدل الطالب‬
‫على الفائدة والخير‪ ،‬وينصحهم بالذهاب إلى المشايخ والعلماء أينما كانت مجالسهم‪ ،‬عنده أو عند‬
‫غيره؛ ألن المهم هو فائدة الطالب‪ ،‬وليس المهم أن يستفيد منك أو من غيرك‪ ،‬ثم إن من طبيعة العلم‬
‫ٍ‬
‫شخص واحد‪ ،‬فالشخص الواحد يخطئ والطالب قد ال يعرف خطأ الشيخ إال إذا‬ ‫أنه ال ُيتلقى عن‬
‫جلس إلى غيره‪ ،‬وإ لى هذا وهذا وهذا‪ ،‬ولذلك كان من وسائل السالمة في طلب العلم‪ :‬األخذ عن‬
‫شيخ واحد؛ خصوصاً في هذا الزمان الذي َّ‬
‫قل فيه فقه العلم الموسوعي‪،‬‬ ‫عدد من األشياخ وليس عن ٍ‬ ‫ٍ‬
‫أي‪ :‬من ُذ زمن كان العالم يعرف الفقه والحديث‪ ،‬والتفسير واللغة‪ ،‬وأصول الفقه والمصطلح وسائر‬
‫العلوم‪ ،‬أما اآلن مع وجود الجامعات والكليات بدأ التخصص‪ ،‬فصار عندنا طالب يفهم في األصول‬
‫فقط‪ ،‬وال يفهم في الحديث‪ ،‬واآلخر يفهم في الحديث وال يفهم في الفقه‪ ،‬وهذا يفهم في الفقه وال يفهم‬
‫في اللغة‪ ..‬وهكذا‪ ،‬وذلك بسبب انحصار منهج التعليم الموسوعي والدخول في عالم التخصصات‪،‬‬
‫بل إن البعض أحياناً يأخذ مسألة واحدة يبذل فيها جهده وعمره في رسالة ماجستير أو دكتوراه‪،‬‬
‫وبقية مسائل العلم نفسه التي تحمله كليته باالسم ال يفقهها كثيراً‪ ،‬ثم يتخرج ويتوظف وينتهي علمه‬
‫ٍ‬
‫شهادة علمية‪ .‬قال ابن مسعود‬ ‫عند هذه المسألة التي بحثها في رسالته‪ ،‬أو في بحثه الذي َّ‬
‫قدمه لنيل‬
‫علم فليعمل]‪ .‬وجاء‬
‫رضي اهلل عنه‪[ :‬تعلموا فإذا علمتم فاعملوا]‪ ،‬وقال‪[ :‬أيها الناس! تعلموا فمن َ‬
‫عن أبي هريرة رضي اهلل عنه أنه قال‪[ :‬مثل ٍ‬
‫علم ال يعمل به‪ ،‬كمثل ٍ‬
‫كنز ال ينفق منه في سبيل اهلل‬
‫ٍ‬
‫عامل ال يعلم‪،‬‬ ‫يرضين الناس قول ٍ‬
‫عالم ال يعمل‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬ ‫عز وجل]‪ .‬وقال الزهري رحمه اهلل‪[ :‬ال‬
‫فالذي يرضيهم العلم والعمل]‪ .‬فالعمل واإليمان قرينان‪ ،‬وال يصلح كل ٍ‬
‫واحد منهما إال مع صاحبه‪.‬‬
‫وعن أبي الدرداء رضي اهلل عنه قال‪[ :‬إنك لن تكون عالماً حتى تكون متعلماً‪ ،‬ولن تكون متعلماً‬
‫حتى تكون بما علمت عامالً]‪ .‬وقال بعضهم‪" :‬الناس كلهم هلكى إال العالمون‪ ،‬والعالمون كلهم‬
‫هلكى إال العاملون‪ ،‬والعاملون كلهم هلكى إال المخلصون‪ ،‬والمخلصونـ على خطر عظيم"‪ ،‬لماذا؟‬
‫وموات إال العلم‪ ،‬والعلم كله‬
‫ٌ‬ ‫ألنه قد ال يختم له باإلخالص‪ ،‬فقد ينحرف في آخر عمره‪ ،‬فالدنيا جه ٌل‬
‫هباء إال اإلخالص‪ ،‬واإلخالص على ٍ‬
‫خطر عظيم حتى‬ ‫حجة على اإلنسان إال العمل به‪ ،‬والعمل كله ً‬
‫ُيختم به‪ .‬وقال الخواص‪ :‬ليس العلم بكثرة الرواية‪ ،‬وإ نما العالم من اتبع العلم واستعمله‪ ،‬واقتدى‬
‫اه ُدوا ِف َينا لََن ْه ِدَيَّنهُ ْم‬ ‫َِّ‬
‫ين َج َ‬
‫بالسنن وإ ن كان قليل العلم"‪ .‬وقال عباس بن أحمد في قوله تعالى‪َ :‬والذ َ‬
‫اه ُدوا ِف َينا لََن ْه ِدَيَّنهُ ْم ُسُبلََنا‬ ‫َِّ‬
‫ين َج َ‬
‫ُسُبلََنا [العنكبوت‪ .]69:‬قال‪ :‬من هم هؤالء الذين قال اهلل فيهم‪َ :‬والذ َ‬
‫[العنكبوت‪]69:‬؟ قال‪" :‬الذين يعملون بما يعلمون نهديهم إلى ما ال يعلمون‪ ،‬فيعلمونه"‪ .‬وقال يوسف‬
‫بن حسين ‪[ :‬في الدنيا طغيانان‪ :‬طغيان العلم وطغيان المال‪ ،‬والذي ينجيك من طغيان العلم العبادة‪،‬‬
‫والذي ينجيك من طغيان المال ‪-‬ما هو؟‪ -‬الزهد فيه]‪ .‬وقال يوسف ‪[ :‬باألدب تفهم العلم‪ ،‬وبالعلم‬
‫يصح لك العمل‪ ،‬وبالعمل تنال الحكمة‪ ،‬وبالحكمة تفهم الزهد وتوفق له‪ ،‬وبالزهد تترك الدنيا ‪-‬‬
‫الترك الشرعي‪ -‬وبترك الدنيا ترغب في اآلخرة‪ ،‬وبالرغبة في اآلخرة تنال رضا اهلل عز وجل]‪.‬‬
‫تشرف بالعلم وتنسب إليه وتكون من‬
‫العلم والعمل سلسلة تنتهي برضى اهلل عز وجل متى أردت أن ُ‬
‫أهله‪ ،‬قبل أن تُعطي العلم ماله عليك‪ ،‬احتجب عنك نوره وبقي عليك رسمه وظُهوره‪ ،‬مجرد‬
‫عنوان‪ ،‬ذلك العلم عليك ال لك‪ ،‬وذلك أن العلم يشير إلى استعماله‪ ،‬فإذا لم تستعمل العلم في مراتبه‪،‬‬
‫العلم لم ينفعه العلم‪ ،‬ومن خرج إلى العلم‬
‫رحلت بركاته‪ .‬قال عوذبادي‪ :‬من خرج إلى العلم يريد َ‬
‫موقوف على‬
‫ٌ‬ ‫موقوف على العمل‪ ،‬والعمل‬
‫ٌ‬ ‫يريد العمل بالعلم نفعه قليل العلم‪ .‬وقال‪" :‬العلم‬
‫اإلخالص‪ ،‬واإلخالص هلل ُيورث الفهم عن اهلل عز وجل"‪ .‬وقال مالك بن دينار‪" :‬إن العبد إذا طلب‬
‫العلم للعمل كسره علمه ‪-‬أي‪ :‬عرف قيمة نفسه وعرف حقيقة أمره وتواضع هلل‪ -‬وإ ذا طلبه لغير‬
‫ذلك‪ ،‬ازداد به فجوراً وفخراً" ازداد بالعلم فجوراً وفخراً وطغياناً على عباد اهلل وتكبراً‪ .‬اآلن بعض‬
‫الناس من المشايخ الذين أخذوا علمهم في بعض الجامعات وأخذوا الدكتوارة‪ ،‬يغضب إذا لم ُيقال‬
‫يصدر بلقب‪ ،‬وهذا يدل على ٍ‬
‫عيب فيه‪ ،‬وأن علمه لم‬ ‫له‪ :‬الدكتور فالن أو الشيخ فالن! فالبد أن ّ‬
‫ِ‬
‫يزك نفسه فيكون متواضعاً‪ .‬وورد‪" :‬خير العلم ما نفع‪ ،‬وإ نما ينفع اهلل بالعلم من علمه ثم عمل به‪،‬‬
‫وال ينفع به من علمه ثم تركه" واآلن عدد من الشباب الذين انتكسوا وانحرفوا باعوا كتبهم وقد‬
‫كانوا في أول األمر مقبلين على العلم والتعلم‪ ،‬والقراءة والبحث‪ ،‬وحضور الدروس‪ ،‬ثم انشغلوا‬
‫بالدنيا والفتن واألشياء من الشبهات والشهوات ومغريات الدنيا‪ ،‬وفي النهاية باعوا كتبهم؛ للتخلص‬
‫منها‪ .‬ولذلك قيل‪" :‬تعلموا العلم واعقلوه وانتفعوا به‪ ،‬وال تعلموه لتجبلوا به‪ ،‬فإنه يوشك إن طال بكم‬
‫العمر أن يتجمل بالعلم‪ ،‬كما يتجمل الرجل بثوبه" أي‪ :‬تصبح القضية مجرد حلية وزينه فقط‪،‬‬
‫وليست حقيقة وال باطن‪ .‬قال أبو سعيد الخراز‪" :‬العلم ما استعملك واليقين ما حملك"‪ .‬وقال أبو‬
‫عبادة‪ ،‬وال يكن همك أن تحدث به الناس]‪ .‬ولذلك قال‬
‫لك علماً‪ ،‬فأحدث له ً‬
‫قالبة ‪[ :‬إذا أحدث اهلل َ‬
‫الحسن البصري رحمه اهلل‪[ :‬همة العلماء الرعاية ‪-‬رعاية حدود اهلل‪ ،‬رعاية حق اهلل‪ ،‬رعاية العلم‬
‫ٍ‬
‫بإسناد‬ ‫الذي يحملونه وإ عطاء العلم حقه بالعمل‪ -‬وهمة السفهاء الرواية]‪ .‬وقال علي بن أبي طالب‬
‫ٍ‬
‫عجيب ذكره الخطيب رحمه اهلل قال‪ :‬أخبرنا أبو الفرج عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن‬
‫أسد بن الليث بن سليمان بن األسود بن سفيان بن يزيد بن وكينة بن عبد اهلل التميمي من حفظه قال‪:‬‬
‫سمعت أبي يقول‪:‬‬
‫ُ‬ ‫سمعت أبي يقول‪:‬‬
‫ُ‬ ‫سمعت أبي يقول‪:‬‬
‫ُ‬ ‫سمعت أبي يقول‪:‬‬
‫ُ‬ ‫سمعت أبي يقول‪:‬‬
‫ُ‬
‫سمعت علي بن أبي طالب يقول‪ [ :‬هتف‬
‫ُ‬ ‫سمعت أبي يقول‪:‬‬
‫ُ‬ ‫سمعت أبي يقول‪:‬‬
‫ُ‬ ‫سمعت أبي يقول؛‬
‫ُ‬
‫العلم بالعمل فإن أجابه وإ ال ارتحل ] قال الخطيب‪ :‬عدد اآلباء تسعة‪ ،‬أي‪ :‬هذا إسناد من النوادر‪،‬‬
‫وكل واحد من أصحاب هذا السند أخذه عن أبيه عن أبيه‪ ،‬وكان أبوهم الكبير قد سمعه من علي بن‬
‫أبي طالب رضي اهلل عنه‪ .‬قال‪[ :‬هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإ ال ارتحل] فعلم بدون عمل ُيذهب‬
‫العلم‪.‬‬

‫كيفية المحافظة على العلم وتثبيته‪:%‬‬


‫كيف يثبت العلم؟ تجد بعض الطالب يقولون‪ :‬نحن نقرأ ونقرأ ولكننا ننسى‪ ،‬كيف نحافظ على‬
‫العلم؟ وكيف يستمر معنا في صدورنا؟ أهم وسيلة للحفاظ عليه هو العمل به‪ ،‬ألنك إذا عملت به‬
‫حديث في أي ٍ‬
‫ذكر من األذكار‪ ،‬أو أي‬ ‫ٍ‬ ‫ترسخ في نفسك‪ ،‬وإ ذا صار سجيةً عندك كيف تنساه؟ خذ أي‬
‫صالة من الصلوات النافلة‪ ،‬أو أي مسألة من المسائل‪ ،‬فعندما تعمل بها وتصبح مقررة عندك في‬
‫نفسك وسجية لك في طبعك‪ ،‬وعادة من عاداتك ال تنساه‪ ،‬لكن إذا كان مجرد علم نظري ال تعمل‬
‫به‪ ،‬فنسيانه سهل‪ .‬قال الفضيل رحمه اهلل‪" :‬ال يزال العالم جاهالً بما علم حتى يعمل به‪ ،‬فإذا عمل‬
‫"علم بال عمل‪ ،‬كشجر ٍة بال ثمرة!" وقال أيضاً‪" :‬علم‬
‫به كان عالماً"‪ .‬وقال عبد اهلل بن المعتز‪ٌ :‬‬
‫المنافق في قوله‪ ،‬وعلم المؤمن في عمله"‪ .‬وأنشد محمد بن أبي علي األصبهاني لبعضهم أبياتاً‬
‫لطيفة يقول فيها‪:‬‬
‫سن العم ُل‬
‫اعمل بعلمك تغنم أيها الرجل ال ينفع العلم إن لـم يح ـ ُ‬
‫زين وتقوى اهلل زينته والمتقون لهم ف ـي عل ـمهم شغ ُل‬
‫والعلم ٌ‬
‫وحجة اهلل يا ذا العلم بالغة ال المكر ينف ـع فيه ـا ال وال الحي ُل‬
‫به ال يلهينك عـنه الل ـهو والجد ُل‬ ‫تعلم العلم واعمل ما استطعت‬
‫ادك المل ُل‬
‫إي ـاك إيـاك أن يعت ـ َ‬ ‫وعلِّم الناس واقصد نفعهم أبداً‬
‫ق عند زلتـه فالعلم يعطـف من يع ـتاده الزل ُل‬‫وعظ أخاك برف ٍ‬
‫فأمر عليهم بمعـ ٍ‬
‫روف إذا ج ـهلوا‬ ‫وإ ن تكن بين ٍ‬
‫قوم ال خالق لهم‬
‫واصبر وصابر وال يحزنك ما فعلوا‬ ‫ٍ‬
‫ضجر‬ ‫فإن عصوك فراجعهم بال‬
‫نفس ـك إن ج ـاروا وإ ن عـدلوا‬ ‫فكل ٍ‬
‫شاة برجليها معلقة عليـك‬
‫وقال يونس بن ميسرة‪" :‬تقول الحكمة‪ :‬تبتغيني يا بن آدم؟ وأنت واجدني في حرفين‪ :‬تعمل بخير ما‬
‫شر ما تعلم"‪.‬‬
‫تعلم‪ ،‬وتذر ُ‬

‫خوف العلماء من عاقبة عدم العمل بالعلم‪:‬‬


‫وعن أبي الدرداء قال‪[ :‬إنما أخاف أن يكون أول ما يسألني عنه ربي أن يقول‪ :‬قد علمته‪ ،‬فما‬
‫عملت فيما علمته]‪ .‬وقال‪[ :‬إن أخوف ما أخاف على نفسي يا عويمر ‪-‬هذا اسم أبي الدرداء‪ ،‬هل‬
‫علمت؟]‪ .‬وقال الحسن البصري رحمه اهلل ‪[ :‬ليس‬
‫َ‬ ‫عملت فيما‬
‫َ‬ ‫علمت؟ فأقول‪ :‬نعم‪ ،‬فيقال لي‪ :‬فماذا‬
‫َ‬
‫اإليمان بالتحلي وال بالتمني‪ ،‬ولكن اإليمان ما وقر في القلب‪ ،‬وصدقته األعمال] وبعض الناس‬
‫يروي هذا األثر حديثاً مرفوعاً‪ ،‬لكنه ال يصح عن النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وإ نما هو من كالم‬
‫صالح؛ رده اهلل على قوله‪ ،‬ومن قال حسناً‬ ‫ٍ‬ ‫الحسن البصري رحمه اهلل‪ .‬من قال حسناً وعمل غير‬
‫ِ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِ‬
‫ِّب َواْل َع َم ُل الصَّال ُح َي ْرفَ ُعهُ‬ ‫وعمل صالحاً رفعه العمل‪ ،‬وذلك ألن اهلل يقول‪ِ :‬إلَْيه َي ْ‬
‫ص َع ُد اْل َكل ُم الطي ُ‬
‫[فاطر‪ ]10:‬فالعلم الصالح يرفع صاحبه‪ ،‬والعمل الصالح ُيرفع إلى اهلل عز وجل‪ .‬وقالوا في قوله‬
‫طاِئ َرهُ ِفي ُعُن ِق ِه [اإلسراء‪ ]13:‬ما هو طائره؟ عمله‪ .‬وقال حفص بن‬ ‫تعالى‪َ :‬و ُك َّل ِإ ْن َس ٍ‬
‫ان َأْل َز ْمَناهُ َ‬
‫[دخلت على داود الطائي أسأله عن مسألة وكان كريماً؟ فقال‪ :‬أرأيت المحارب إذا أراد أن‬ ‫ُ‬ ‫حميد‪:‬‬
‫يجمع آلته‪ ،‬فإذا أفنى‬
‫ويجمع السالح‪ -‬أليس ّ‬
‫ّ‬ ‫يجمع آلته؟ ‪-‬يستعد للمعركة والقتال‬
‫يلقى الحرب أليس ّ‬
‫عمره في جمع اآللة فمتى يحارب؟ إن العلم آلة العمل‪ ،‬فإذا أفنى عمره في جمعه فمتى يعمل؟!]‬
‫هكذا يكون حال الذي يجمع وال يعمل‪ .‬وقال أبو عبيد القاسم بن سالم‪[ :‬سمعني عبد اهلل بن إدريس‬
‫أتلهف على بعض الشيوخ ‪-‬أي‪ :‬الذين فاتوني‪ ،‬مات الشيخ فلم يلحق به‪ -‬فقال‪ :‬يا أبا عبيد ! مهما‬
‫يفوتك من العلماء فال يفوتنك العمل] إذا مات الشيخ فنقول‪ :‬رحمه اهلل‪ ،‬لكن علمه با ٍ‬
‫ق فال تتحسر‬
‫على فواته‪ ،‬واعمل بما تركه من علم تفلح‪ ،‬وهذا هو الخير العظيم والتعويض الكبير‪ .‬وقال أبو‬
‫الدرداء رحمه اهلل ورضي عنه وأرضاه‪[ :‬وي ٌل للذي ال يعلم‪ ،‬ووي ٌل للذي يعلم وال يعمل سبع مرات]‬
‫لماذا هذا الكالم؟ ألن بعض الناس يقول‪ :‬إذا كان العلم حجة فلماذا نتعلم؟ نبقى في جهلنا أحسن!‬
‫فنقول‪ :‬وهل إذا بقيت في جهلك ستكون معذوراً عند اهلل؟ ألن بعضهم سمع عن مسئولية العلم‪،‬‬
‫وماذا على المتعلم من الوزر إذا لم يعمل‪ ،‬قال‪ :‬أمكث بال تعليم أحسن‪ ،‬فنقول له‪ :‬وماذا ستكون في‬
‫معذور به‪ ،‬تؤاخذ عند اهلل‪ ،‬وتقع في الحرام‪ ،‬وتقع في البدع‪ ،‬فأي ٍ‬
‫شيء هذا؟ وقد قال‬ ‫ٍ‬ ‫جهلك؟ غير‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬مثل العالم الذي ُيعلِّم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء‬
‫للناس ويحرق نفسه)‪ ،‬وفي رواية‪( :‬مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء‬
‫للناس وتحرق نفسها) فالذي يعلم الناس خير إضاءة‪ ،‬لكن إذا كان ال يعمل فسيكون محرقاً لنفسه‪،‬‬
‫أما الذي هو منطفٌئ خامد ال يضيء لآلخرين وال يضيء لنفسه‪ ،‬فهذا من أشر الناس‪ .‬وقال عليه‬
‫الصالة والسالم‪( :‬يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار‪ ،‬فتندلق أقتابه‪ ،‬فيقال‪ :‬أليست كنت تأمر‬
‫كنت آمركم بالمعروف وال آتيه‪ ،‬وأنهاكم عن المنكر وآتيه) وهذا‬
‫بالمعروف وتنهى المنكر‪ ،‬قال‪ُ :‬‬
‫حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم و أحمد‪ .‬قال منصور بن زاذان‪" :‬نبأت أن بعض من ُيلقى‬
‫ٌ‬
‫كنت تعمل؟ ال يكفينا ما نحن فيه من الشر‬
‫في النار ليتأذى أهل النار بريحه‪ ،‬فيقال له‪ :‬ويلك! ما َ‬
‫كنت عالماً فلم أنتفع بعلمي"‪ .‬وقال يحيى بن معاذ الرازي‪:‬‬
‫حتى ابتلينا بك ونتن ريحك؟ فيقول‪ :‬إني ُ‬
‫"مسكين من كان علمه حجيجه‪ ،‬ولسانه خصيمه"‪ .‬وقيل‪" :‬كل من لم ينظر بالعلم فيما هلل عليه‪ ،‬فالعلم‬
‫ٌ‬
‫حجةٌ عليه ووبال"‪ .‬العلم يستفاد منه أن تعلم حق اهلل عليك فتقوم به‪:‬‬
‫عليك ولم تُعذر بما أنت حامله‪.‬‬ ‫إذا العلم لم تعمل به كان حجة‬
‫ُيصدق قول المرء ما هو فاعله‬ ‫فإن كنت قد أبصرت هذا فإنما‬
‫وبعض السلف َّ‬
‫تمنى أنه لم يحمل من العلم شيئاً؛ وذلك لعظم مسئولية العلم‪ ،‬وما هو مطالب به من‬
‫العمل‪ ،‬لكنه ال يمكن أن يكون متمنياً للجهل‪ ،‬وأن يبقى جاهالً‪ ،‬فينبغي التوازن في معاني عبارات‬
‫تعلمت من هذا العلم شيئاً] قال الكالم معاتبة‬
‫ُ‬ ‫بعض العلماء‪ .‬كقول الشعبي رحمه اهلل‪[ :‬ليتني لم أكن‬
‫لنفسه‪ ،‬وشعوره بالذنب والتقصير‪ ،‬وهذا من تواضعه رحمه اهلل‪ .‬قال سفيان الثوري وهو من كبار‬
‫العلماء‪[ :‬ليتني لم أكتب العلم‪ ،‬وليتني أنجو من علمي كفافاً ال علي وال لي]‪ .‬وقال ابن عيينة‪" :‬العلم‬
‫إن لم ينفعك ضرك" ليس في علم ما ال ينفع وال يضر؛ ألن العلم حجة لك أو عليك‪ ،‬فإما أن تنتفع به‬
‫وجدت في بعض الحكمة‪ :‬ال خير لك أن تعلم ما‬
‫ُ‬ ‫وإ ما أن تتضرر به‪ .‬وعن مالك بن دينار قال‪ :‬إني‬
‫لم تعلم ولم تعمل بما قد علمت‪ ،‬فإن مثل ذلك مثل ٍ‬
‫رجل احتطب حطباً ‪-‬اآلن يريد أن يضرب مثالً‬
‫لمن عنده علم فلم يعمل به ويريد أن يتعلم زيادة‪ ،‬فقال‪ :‬ال خير لك أن تعلم ما لم تعلم‪ ،‬ولم تعمل بما‬
‫احتطب حطباً‬
‫َ‬ ‫قد علمت فتضيف علوماً إضافية‪ ،‬ولم تعمل بعد بالعلم األول‪ ،‬فإن مثل ذلك مثل رجل‬
‫فضم إليها أخرى"‪ .‬وقال محمد بن علي الصوري ‪-‬نسبة‬
‫‪-‬فحزم حزمةً وذهب يحملها فعجز عنها‪ّ ،‬‬
‫إلى صور وهي إحدى البلدان التي دخلها الخطيب رحمه اهلل‪:-‬‬
‫العلم مجداً في جمع ذاك حفياً‬ ‫كم إلى كم أغدو إلى طلب‬
‫ٍ‬
‫وغريب ولست أع ـمل شيئاً‬ ‫وع وفـ ٍن‬
‫طالباً منه كل نـ ٍ‬
‫يع ـمل بالعلم كان عبداً شقياً‬ ‫وإ ذا كان طالـب العـلم ال‬
‫به ـا عام ـالً وكـان تقياً‬ ‫إنما تنفع العلوم لمـن كان‬

‫انتزاع العلم ورفعه‪:‬‬


‫جاء في حديث عوف بن مالك األشجعي رضي اهلل عنه‪( :‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم نظر‬
‫إلى السماء يوماً فقال‪ :‬هذا أوان رفع العلم‪ ،‬فقال له رج ٌل من االنصار يقال له زياد بن لبيد ‪ :‬يا‬
‫كنت‬
‫رسول اهلل! يرفع العلم وقد أثبت ووعته القلوب؟ فقال له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إني ُ‬
‫ألحسبك من أفقه أهل المدينة ‪ ،‬ثم ذكر ضاللة اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب اهلل‪،‬‬
‫فلقيت شداد بن أوس فحدثته بحديث عوف بن مالك‪ ،‬فقال‪ :‬صدق عوف ‪ ،‬أال أخبرك بأول ذلك‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪ :‬الخشوع‪ ،‬فال ترى خاشعاً) وواضح أن الكالم على العمل بالعلم‪ ،‬أن أول ما‬
‫يرفع؟ ُ‬
‫يرفع هو بركة العلم‪ ،‬تزول بقلة العمل‪ ،‬ومن ذلك زوال الخشوع‪ ،‬حتى يؤدي ذلك في النهاية إلى أن‬
‫ويسأل الرجل عن معناها فيقول‪ :‬سمعتها من جدي وأبي‬
‫يكون الناس فيهم من يقول‪ :‬ال إله إال اهلل‪ُ ،‬‬
‫وال يعرف معناها‪ ،‬وفي آخر الزمن تنتهي المسألة إلى أن تصبح كلمة التوحيد طلسم من الطالسم‪،‬‬
‫حجر في الطريق‪ ،‬فإذا فيه خط‬
‫ال ُيعرف معناه‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬خرج رج ٌل يطلب العلم‪ ،‬فاستقبله ٌ‬
‫تعلم ال تعمل‪،‬‬
‫أنت بما ُ‬
‫منقوش "إقلبني ترى العجب وتعتذر" قال‪ :‬فأقلب الحجر‪ ،‬فإذا فيه مكتوب‪َ :‬‬
‫مر عليها‬
‫كيف تطلب ما ال تعلم؟ فرجع الرجل‪ ،‬لعل رجالً كتبه في طريق طالب الحديث‪ ،‬وكلما َّ‬
‫فتى يختلف إلى أم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها فيسألها‬
‫واحد قرأها وردها‪ .‬وقال عطاء ‪[ :‬كان ً‬
‫سمعت مني؟ قال‪ :‬ال واهلل يا‬
‫َ‬ ‫بعد بما‬
‫عملت ُ‬
‫َ‬ ‫وتحدثه‪ ،‬فجاءها ذات ٍ‬
‫يوم يسألها‪ ،‬فقالت‪ :‬يا بني! هل‬
‫أماه‪ ،‬فقالت‪ :‬يا بني! فبم تستكثر من حجج اهلل علينا وعليك؟] إذا أخذت نصيباً وعملت به‪ ،‬فتعال‬
‫مقيم أخاف أن يدخلني النار غيره" غير هذا العلم الذي‬ ‫ٍ‬
‫خذ غيره‪ .‬وقال شعبة‪" :‬ما أنا على شيء ٌ‬
‫تعلمته‪ ،‬أخشى أن يدخلني النار بعدم عملي به‪ .‬وقال ابن مسعود ‪[ :‬إني ألحسب العبد ينسى العلم‬
‫كان يعلمه بالخطيئة يعملها‪ .‬فالخطايا تنسي العلوم‪ ،‬وإ ن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن‬
‫القلوب‪ ،‬كما يزل القطر عن الصفا‪ ،‬أي‪ :‬إن عدم العمل بالعلم يسبب نفور الناس من العالم‪ ،‬وزوال‬
‫هيبته من القلوب وبعدهم عنه‪.‬‬

‫ذم طلب العلم للمباهاة والمراءاة‪:‬‬


‫عقد الخطيب رحمه اهلل باباً مهماً بعنوان‪ :‬باب (ذم طلب العلم للمباهاة به والمراءاةـ فيه ونيل‬
‫األغراض وأخذ األعواض عليه)‪ .‬مثل الذين يطلبون العلم للشهادات‪ ،‬يريد وظيفة‪ ،‬يقول‪ :‬لم نقبل‬
‫في القسم العلمي وال الجامعة‪ ،‬لم نقبل في الطب والهندسة‪ ،‬ندخل شريعة لنأخذ شهادة‪ ،‬أكون قاضياً‬
‫أو مدرساً وهكذا‪ ..‬يريد شهادة فقط!! وأصبحت عملية الدراسة كلها من أولها إلى آخرها في كلية‬
‫الشريعة ألجل الشهادة‪ .‬قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬من طلب العلم ليباهي به العلماء‪ ،‬أو‬
‫يماري بها السفهاء‪ ،‬أو يصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار) هذا الحديث أخرجه الخطيب‬
‫ٍ‬
‫ضعيف جداً في هذا الكتاب‪ ،‬لكن الحديث رواه ابن ماجة وله طرق‬ ‫البغدادي رحمه اهلل بإسناد‬
‫أخرى‪ ،‬والحديث حسَّنه األلباني في صحيح الجامع‪ .‬وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬من‬
‫تعلم علماً ُيبتغى به وجه اهلل ال يتعلمه إال ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم‬
‫القيامة) حديث صحيح‪ ،‬أخرجه أحمد وغيره‪ ،‬ومعناه‪ :‬لو أن واحداً جاء إلى العلم الشرعي الذي‬
‫يبتغى به وجه اهلل ‪-‬علم الشريعة‪ -‬وتعلمه ألجل أن يصيب به عرضاً من الدنيا فقط‪ ،‬فال يجد‬
‫عرف الجنة يوم القيامة‪ ،‬وعرفها هو ريحها‪ .‬وقال الحسن ‪[ :‬من طلب العلم ابتغاء اآلخرة أدركها‪،‬‬
‫ومن طلب العلم ابتغاء الدنيا‪ ،‬فهو حظه منها]‪ .‬وضرب مثل العالم السوء‪ ،‬فقيل‪ :‬مثل عالم السوء‬
‫كمثل ٍ‬
‫حجر وقع في ساقية‪ ،‬فال هو يشرب من الماء وال هو يخلي عن الماء فيحيا به الشجر‪ .‬ولو‬
‫أن علماء السوء نصحوا هلل في عباده‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا عباد اهلل! اسمعوا ما نخبركم به عن نبيكم‪ ،‬وصالح‬
‫قوم مفتونون‪ ،‬كانوا قد نصحوا هلل في عباده‪،‬‬ ‫سلفكم فاعملوا به‪ ،‬وال تنظروا إلى أعمالنا هذه َّ‬
‫فإنا ٌ‬
‫ولكنهم يريدون أن يدعوا عباد اهلل إلى أعمالهم القبيحة فيدخلوا معهم فيها‪ .‬وجاء في بعض المواعظ‬
‫القديمة‪" :‬يا علماء السوء! جعلتم الدنيا على رءوسكم‪ ،‬واآلخرة تحت أقدامكم‪ ،‬قولكم شفاء‪ ،‬وعلمكم‬
‫داء‪ ،‬مثلكم مثل شجرة الدفل‪ ،‬تعجب من رأها‪ ،‬وتقتل من آكلها"‪ ،‬شجرة الدفل هذه شجر مر أخضر‪،‬‬
‫حسن المنظر‪( ،‬من الخارج خالخل والبالء من الداخل) فهذا مثل الذي عنده كالم وعلم لكنه ال‬
‫يعمل‪ .‬ويلكم يا عبيد الدنيا‪ ،‬ماذا يغني عن األعمى سعة نور الشمس وهو ال يبصرها؟ كذلك ال‬
‫يغني عن العالم كثرة علمه إذا لم يعمل به‪ ،‬ما أكثر أثمار الشجر‪ ،‬وليس كلها ينفع وال يؤكل‪ ،‬وما‬
‫أكثر العلماء وليس كلهم ينتفع بما علم‪ ،‬فاحتفظوا ‪-‬هذه نصيحة للناس أن يحتفظوا وينتبهوا‬
‫ويحذروا من العلماء الكذبة الذين عليهم لباس الصوف‪ ،‬منكسين رءوسهم إلى األرض‪ ،‬قولهم‬
‫مخالف فعلهم‪ ،‬يشتري من الشوك العنب‪ ،‬ومن الحنظل التين‪ ،‬كذلك ال يثمر قول العالم الكذاب إال‬
‫زوراً‪ ،‬وإ ن البعير إذا لم يوثقه صاحبه في البرية‪ ،‬نزع إلى وطنه وأصله‪ ،‬وإ ن العلم إذا لم يعمل به‬
‫صاحبه خرج من صدره وتخلَّى عنه وعطّله‪ ،‬وإ ن الزرع ال يصلح إال بالماء والتراب‪ ،‬كذلك ال‬
‫يصلح اإليمان إال بالعلم والعمل‪.‬‬

‫الوعيد الشديد لمن قرأ القرآن للصيت ولم يقرأه للعمل‪:‬‬


‫عقد الخطيب رحمه اهلل تعالى باباً في هذا الكتاب بعنوان‪ :‬باب ما جاء من الوعيد والتهديد‬
‫والتشديد لمن قرأ القرآن للصيت والذكر ولم يقرأه للعمل به واكتساب األجر‪ ،‬وساق حديث النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬عن أبي هريرة ‪( :‬أول الناس ُيقضى فيه يوم القيامة رج ٌل أوتي به فعرفه‬
‫عملت فيها؟) قال‪ :‬في الحديث‪( :‬ورج ٌل تعلم العلم والقرآن فأتى به اهلل‬
‫َ‬ ‫نعمه فعرفها‪ ،‬فقال‪ :‬ما‬
‫عملت فيها؟ قال‪ :‬تعلمت العلم‪ ،‬وقرأت القرآن وعلمته‪ ،‬فقال‪ :‬كذبت!‬‫َ‬ ‫فعرفه نعمه فعرفها‪ ،‬فقال‪ :‬ما‬
‫وفالن قارئ‪ ،‬فأمر به فسحب على وجه حتى ألقي في النار)‪ .‬وقال‬
‫ٌ‬ ‫فالن عالم‪،‬‬
‫إنما أردت أن يقال‪ٌ :‬‬
‫عبيد وصبيان لم يأتوه من قبل وجه‪ ،‬وال يدرون ما تأويله‪،‬‬ ‫الحسن رحمه اهلل‪[ :‬إنه تعلم هذا القرآن ٌ‬
‫اب [ص‪- ]29:‬ما تدبر‬ ‫ك ِلَي َّدَّبروا َآياتِ ِه وِلَيتَ َذ َّكر ُأولُو اَأْلْلَب ِ‬ ‫قال اهلل تعالى‪ِ :‬كتَ ٌ‬
‫اب َْأن َزْلَناهُ ِإلَْي َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك ُمَب َار ٌ ُ‬
‫آياته؟ اتباعه بالعمل‪ -‬وإ ن أولى الناس بهذا القرآن من اتبعه‪ ،‬وإ ن لم يكن يقرأه]‪ .‬يقول بعض‬
‫القراء والحفظة‪ :‬تعال نتنافس أنا وإ ياك في القراءة ومن أحفظ ومن أجود ومن أتقن‪ ،‬وال ينظرون‬
‫كالم يتكلم به‪،‬‬
‫إلى مسألة العمل‪ ..‬قال عمر رضي اهلل عنه‪[ :‬ال يغرنكم من قرأ القرآن إنما هو ٌ‬
‫ولكن انظروا من يعمل بالقرآن]‪ .‬ولذلك فإن هناك أناساً قد أقاموا حروف القرآن وعطلوا معانيه‬
‫حدث النبي صلى اهلل عليه وسلم ليلة أسري به على ٍ‬
‫قوم تقرض شفاههم بمقارض‬ ‫وحدوده‪( :‬وقد َّ‬
‫فقلت‪ :‬يا جبريل! من هؤالء؟ قال‪ :‬خطباء من أمتك يقولون‬
‫من نار‪ ،‬كلما قرضت وفت ورجعت‪ُ ،‬‬
‫وال يفعلون‪ ،‬ويقرءون كتاب اهلل وال يعملون)‪ .‬ولذلك كانوا يحذرون من القراء الذين ال يعملون‬
‫بالقرآن‪ ،‬فقال أيوب السختياني‪[ :‬ال خبيث أخبث من قارٍئ فاجر]‪ .‬وقال مالك بن دينار‪" :‬ألنا‬
‫للقارئ الفاجر أخوف مني من الفاجر المبرز أو المبرز بفجوره" لماذا؟ ألنه الفاجر المبرز بفجوره‬
‫تعلم أنه فاجر فتحذر منه‪ ،‬لكن الذي يلبس عليك‪ ،‬يظهر بشكل قارئ وصاحب دين‪ ،‬ولباس أهل‬
‫العلم‪ ،‬وهو في الحقيقة بخالف ذلك‪ ،‬فهذا يغتر وينخدع الناس به‪ ،‬فيضلهم‪.‬‬

‫ذم السلف لظاهرة الجدل‪:‬‬


‫قال في باب ذم التفقه لغير العبادة‪ :‬قال الشعبي‪" :‬إنا لسنا بالفقهاء‪ ،‬ولكن سمعنا الحديث فرويناه‪،‬‬
‫ولكن الفقهاء من إذا علم عمل"‪ .‬وقال األوزاعي‪" :‬إذا أراد اهلل ٍ‬
‫بقوم شراً فتح عليهم الجدل‪ ،‬ومنعهم‬
‫العمل"‪ .‬فترى اآلن بعض المناظرات في مسائل بسيطة‪ ،‬هذا يتكلم وهذا يرد‪ ،‬وهذا يرد على الرد‪،‬‬
‫وهذا ينتصر لرد فالن‪ ،‬وهذا ينتصر لرد فالن‪ ،‬وترى المجادالت في الجرائد والكتيبات والكتب‪،‬‬
‫كل واحد يرد‪ ،‬ويرد على الرد‪ ،‬وينسون قضية العلم‪ ،‬ويتمارون ويتجادلون في أشياء الحق فيها‬
‫واضح‪ ،‬لكن الرد على أهل البدع والضالل البد منه‪ ،‬وكذا المنافحة عن الدين‪ ،‬لكن الكالم في‬
‫قضية تحويل مسائل العلم إلى مجادالت‪ ،‬فإذا أراد اهلل ٍ‬
‫بعبد خيراً فتح له باب العمل‪ ،‬وأغلق عنه‬
‫باب الجدل‪ ،‬وإ ذا أراد اهلل ٍِ‬
‫بعبد شراً فتح له باب الجدل‪ ،‬وأغلق عنه باب العمل‪.‬‬

‫ذم االستكثار من الطلب وترك العمل‪:‬‬


‫دخلت على زفر وقد غرغرت نفسه في صدره ‪-‬أي‪ :‬عند الموت‪ -‬فرفع رأسه‬
‫ُ‬ ‫قال أبو نعيم ‪:‬‬
‫إلي‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا نعيم‪" :‬وددت أن الذي كنا فيه كان تسبيحاً" زفر من الفقهاء ومن تالميذ أبي حنيفة‬
‫ّ‬
‫رحمه اهلل‪ ،‬يقول‪ :‬وددنا أن المسائل التي تكلمنا فيها كانت تسبيحاً‪ .‬وقال عائض اهلل ‪ :‬الذي يتبع‬
‫بكر أصحاب الحديث مرةً‬ ‫ليحدث بها ‪-‬أي‪ :‬دون أن يعمل‪ -‬ال يجد ريح الجنة‪ .‬ولما َّ‬‫َ‬ ‫األحاديث‬
‫نافع"‪ .‬وقال‬
‫بمنتفع وال ٍ‬
‫ٍ‬ ‫جاشع ليس‬
‫ٍ‬ ‫جامع‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حريص‬ ‫على األوزاعي التفت إليهم‪ ،‬فقال‪" :‬كم من‬
‫إلي من أن تطلب مني األحاديث‪ ،‬فقلت له‪:‬‬
‫الفضيل لشخص جاءه‪ :‬لو طلبت مني الدنانير كان أيسر ّ‬
‫إلي من عددها من الدنانير‪ .‬قال‪ :‬إنك مفتون‪،‬‬
‫لو حدثتني بأحاديث ‪-‬فوائد‪ -‬ليست عندي كان أحب َّ‬
‫سمعت سليمان بن‬
‫ُ‬ ‫سمعت لكان لك في ذلك شغالً عما لم تسمع‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫َ‬ ‫أما واهلل لو عملت بما قد‬
‫طعام تأكله‪ ،‬فتأخذ اللقمة وترمي بها خلف ظهرك ‪-‬‬
‫ٌ‬ ‫مهران ‪-‬األعمش‪ -‬قال‪ :‬إذا كان بين يديك‬
‫شخص أمامه طعام يأخذ لقمة ويرمي بها خلف ظهره‪ ..‬وهكذا‪ -‬فمتى يشبع؟!! وهكذا الذي يجمع‬
‫العلم دون أن يعمل‪ ،‬ويجمع ويجمع ويجمع وال ينتفع بشيء؟ وقال سفيان بن عيينة من ورعه رحمه‬
‫اهلل‪" :‬لو قيل لي يوم القيامة‪ :‬لم طلبت الحديث؟ ما دريت ما أقول"‪ .‬ولذلك كانوا إذا جاءهم الشخص‬
‫العامي‪ ،‬أو الشخص الذي ال عالقة له بعلم األسانيد يسأل عن ٍ‬
‫شيء في دقائق األمور ليست من‬
‫شأنه ردوه‪ ،‬وقد سأل رج ٌل ابن عيينة عن إسناد حديث‪ ،‬فقال له ابن عيينة‪ :‬ما تصنع بإسناده؟ أما‬
‫أنت فقد بلغتك حكمته‪ ،‬ولزمتك موعظته‪ ،‬اعمل به اآلن‪ ،‬جئت تسألني عن األسانيد والعلة‪ ،‬اعمل‬
‫به أوالً‪ .‬وقال خالد بن يزيد ‪ ،‬وكان من أجل الناس وأعبدهم‪ :‬أتيت سفيان بن عيينة‪ ،‬جاء يطلب‬
‫أحاديث‪ ،‬فقال له سفيان‪ :‬إنما يأتي بك الجهل ال ابتغاء العلم‪ ،‬لو اقتصر جيرانك على علمك كفاهم‪،‬‬
‫كوم كومةً من حصى‪ ،‬ثم شقها بأصبعية‪ ،‬ثم قال‪ :‬هذا العلم أخذت نصفه‪ ،‬ثم جئت تبتغي النصف‬
‫ثم ّ‬
‫الباقي‪ ،‬فلو قيل‪ :‬أرأيت ما أخذته هل استعملته؟ فإذا صدقت قلت ‪ :‬ال‪ ،‬فيقال لك‪ :‬ما حاجاتك إلى ما‬

‫تزيد به نفسك ِو ْقراً على وقر‪ ،‬استعمل ما أخذت أوالً‪ُ .‬‬


‫وسئل سفيان بن عيينة من العالم؟ قال‪" :‬الذي‬
‫حديث حقه"‪ .‬وما حق الحديث؟ العمل به‪ ،‬ولذلك كانوا يربون طالبهم على العمل بالعلم‪،‬‬‫ٍ‬ ‫يعطي كل‬
‫ٍ‬
‫حديث قال‪ :‬حتى تعملوا بما تعلمون تأتوني‬ ‫ولذلك قال بعضهم لطالبه لما جاءوا يطلب منه سماع‬
‫فأحدثكم‪ .‬وقال شبابة ‪ :‬دخلت على شعبة في يومه الذي مات فيه وهو يبكي‪ ،‬فقلت له‪ :‬ما هذا‬
‫وقاد حمام‪ ،‬وأني‬
‫الجزع يا أبا بسطام ؟ أبشر فإن لك في اإلسالم موضعاً‪ ،‬فقال دعني‪ ،‬فلوددت أني ُ‬
‫لم أعرف الحديث‪ ،‬أي‪ :‬من ثقل مسئولية العلم عليه‪ ،‬يقول‪ :‬أنا ال أدري أن العلم الذي أخذته‬
‫وعلي حجة هذا العلم الذي تعلمته‪،‬‬
‫ّ‬ ‫علي‪ ،‬قد ال أكون عملت به‪ ،‬فألقى اهلل‬
‫وجمعته قد يكون حجة ّ‬
‫ولذلك كانوا يحاربون تكثير األسانيد‪ ،‬وطلب التكثيف‪ ،‬وعدم العمل بالنافع‪ ،‬وتعلم الشيء الجديد‬
‫الذي ينفع‪ ،‬ولذلك وأي رجل في المنام علي بن المديني فقال له‪ :‬جمعت حديثاً من مائة طريق‪،‬‬
‫فانتظر قليالً‪ :‬أخشى أن يكون هذا داخل تحت قوله تعالى‪َ :‬أْلهَا ُك ُم التَّ َكاثُُر [التكاثر‪ .]1:‬فأما الذي‬
‫يعمل بالحديث فاالستكثار منه جيد‪ ،‬ولذلك وضع اإلمام أحمد رحمه اهلل في كتابه المسند فوق‬
‫أربعين ألف حديث‪ ،‬لكنه عمل بها كلها‪ ،‬قال‪ :‬ما تركت حديثاً إال عملت به‪ ،‬ولما قرأ (أن النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة الحجام ديناراً) قال‪ :‬احتجمت وأعطيت الحجام‬
‫ديناراً‪ ،‬والدينار أربعة غرامات وربع من الذهب‪ ،‬لكن ألجل تطبيق الحديث بذلها اإلمام أحمد‬
‫رحمه اهلل تعالى‪ .‬ولذلك قال العلماء‪ :‬كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به‪ ،‬وكانوا يحاربون‬
‫فيما يحاربون مسألة التوغل في بعض العلوم التي تشغل عن علم الكتاب والسنة‪ ،‬مثل‪ :‬االستكثار‬
‫لحن كله‪ .‬وقال بعضهم‪:‬‬
‫من النحو‪ ،‬حتى قال بعضهم‪ :‬تلقى الرجل وهؤالء يلحن حرفاً وعمله ٌ‬
‫رأيت الخليل بن أحمد في النوم‪ ،‬فقلت في منامي‪ :‬ال ُيرى أحد أعقل من الخليل ‪ ،‬فقلت‪ :‬ما صنع‬
‫شيء أفضل من سبحان اهلل‪ ،‬والحمد هلل‪ ،‬وال إله إال اهلل‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫اهلل بك؟ قال‪ :‬أرأيت ما كنا فيه‪ ،‬فإنه لم يكن‬
‫واهلل أكبر‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬رأيت الخليل في المنام فقلت له‪ :‬نجوت؟ قال‪ :‬بال حول وال قوة إال باهلل‬
‫هباء‬
‫العلي العظيم‪ ،‬قلت‪ :‬كيف وجدت علمك؟ ‪-‬علم العروض واألدب والشعر؟‪ -‬قال‪ :‬وجدته ً‬
‫منثوراً‪:‬‬
‫فيا ليته في وقفـة العرض يسـلم‬ ‫لسان كان يعرب لفظة‬
‫سيبلى ٌ‬
‫لسان معجم‬
‫تقى وما ضر ذا تقوى ٌ‬ ‫وما ينفع اإلعراب إن لم يكن‬
‫ً‬
‫على أن هذا الكالم ال يهون من أهمية تعلم اللغة العربية‪ ،‬ألن اإلنسان البد أن يتعلم اللغة العربية؛‬
‫ليصحح قراءة القرآن والحديث‪ ،‬لكن التوغل في دقائقها وفروعها التي تجعل اإلنسان يتباهى بما‬
‫عنده من النحو‪ ،‬ويؤدي به األمر إلى التقعر والتكلف‪ ،‬واالختيال على اآلخرين وانتقادهم‪ ،‬هذا هو‬
‫فلم ال تتعلم العربية حتى‬
‫المذموم‪ .‬ولذلك لما قيل لبعضهم‪ :‬يا أبا نصر! أنت رجل قرأت كذا وكذا َ‬
‫تصحح لسانك؟ قال‪ :‬ومن يعلمني يا أبا الفضل ؟ قال‪ :‬أنا يا أبا نصر ‪ ،‬قال‪ :‬فافعل‪ ،‬قال‪ :‬قل‪:‬‬
‫ولم ضربه؟ قال يا أبا نصر ‪ :‬ما ضربه‪ ،‬إنما هذا أص ٌل‬
‫زيد عمراً‪ ،‬فقال له‪ :‬يا أخي! َ‬
‫ضرب ٌ‬
‫ووضع للتمثيل فقط‪ ،‬قال‪ :‬هذا أوله كذب ال حاجة لي فيه‪ .‬فهذا الكالم ينبغي أن يفهم الفهم‬
‫عم فيه الجهل باللغة‬
‫الصحيح‪ ،‬وهو‪ :‬أن تعلم اللغة العربية البد منه‪ ،‬خصوصاً في هذا الزمان الذي َّ‬
‫العربية حتى صار الواحد يفتح القرآن وال يعرف معناه من ضعف اللغة العربية‪ ،‬فالبد من تعلم‬
‫اللغة العربية بقدر ما نفهم به القرآن والسنة‪ ،‬لكن الخوض في دقائقها وتفاصيلها الذي يصرف عن‬
‫علم القرآن والسنة وعن الفقه وعن العمل هذا هو المذموم‪ ،‬والبد أن يكون اإلنسان عامالً يتخذ من‬
‫علمه زاداً لمعاده ينفعه يوم القيامة‪ .‬قال الحسن رحمه اهلل‪[ :‬يتوسد المؤمن ما قدم من عمله في قبره‬
‫‪-‬أي‪ :‬رأسك في قبرك موضوع على وسادة؟ ما هي الوسادة؟ العلم‪ -‬إن خيراً فخيراً‪ ،‬وإ ن شراً‬
‫فشراً‪ ،‬فاغتنموا المبادرة رحمكم اهلل في المهلة] هذه المهلة الدنيا‪ .‬وقال بعضهم‪:‬‬
‫الذي تزودته قبل الممات إلى الحشر‬ ‫يء س ـوى‬
‫فما لك يوم الحشر شـ ٌ‬
‫ندمت على التفريط في زمـ ِن ِ‬
‫البذر‬ ‫إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً‬
‫والقيت بعد الموت من ق ـد تزودا‬ ‫إذا أنت لم ترحل ٍ‬
‫بزاد من التق ـى‬
‫ندمت علـى أال تك ـون كم ـثله وأنك لم ترصـد بما ك ـان أرصدا‬

‫نعمة الصحة والفراغ‪:‬‬


‫قد يفتن الناس بنعمة الصحة والفراغ‪ ،‬والنبي صلى اهلل عليه وسلم لما قال‪( :‬نعمتان مغبون فيهما‬
‫كثير من الناس‪ :‬الصحية والفراغ) عنده مال؛ بعض الناس ورث عن أبيه عقارات‪ ،‬يأتيه رزقه‬
‫بكرةً وعشياً‪ ،‬ال ينقصه شيء‪ ،‬تراه في الصباح في نوم‪ ،‬وفي الليل يلعب البلوت إلى الفجر‪ ،‬وعنده‬
‫عقارات تدر عليه‪( :‬اغتنم خمساً قبل خمس‪ :‬شبابك قبل هرمك‪ ،‬وصحتك قبل سقمك‪ ،‬وغناك قبل‬
‫فقرك‪ ،‬وفراغك قبل شغلك‪ ،‬وحياتك قبل موتك) كما قال النبي صلى اهلل عليه وسلم في الحديث‬
‫الصحيح‪ .‬ونظم الشاعر المعنى فقال‪:‬‬
‫وصحة جسمـك أن يسقـما‬ ‫هرم‬
‫بادر شبابك أن ي ـ َ‬
‫فما دهر من عاش أن يسلما‬ ‫وأيام عيشك قبل الممات‬
‫ليالي شغلك في بعـض مـا‬ ‫ووقت فراغك بادر بـه‬
‫على بعض ما كان قد قـدما‬ ‫ادم‬
‫وقدم فكل امرئ ق ـ ٌ‬
‫وقال معاوية بن قرة ‪ :‬أكثر الناس حساباً يوم القيامة الصحيح الفارغ‪ ،‬ورأى شريح جيراناً له‬
‫يجولون مثلما تجد اآلن الشباب في الشوارع يتسكعون‪ ،‬فقال‪ :‬ما لكم؟ قالوا‪ :‬فرغنا اليوم ‪-‬أكملنا‬
‫أشغالنا‪ ،‬والذي عنده حلقة علم أكملها‪ -‬قال‪ :‬وبهذا أمر الفارغ؟! أي‪ :‬هل أمر بأن يتسكع‪ .‬ولذلك‬
‫لما قال البخاري رحمه اهلل‪:‬‬
‫ّ‬
‫فعسى أن يكون مـوتك بغـتة‬ ‫ركوع‬
‫ٍ‬ ‫اغتنم في الفراغ فضل‬
‫ٍ‬
‫سقم ذهبت نفسه الصحيحة فلتة‬ ‫صحيح رأيت مـن غـير‬
‫ٍ‬ ‫كم‬
‫وفعالً مات البخاري رحمه اهلل فجأةً‪ .‬ولما دخلوا على أبي بكر النهشلي وهو في الموت يومئ‬
‫برأسه يصلي‪ ،‬ألنه ال يستطيع أن يقوم‪ ،‬فقالوا له‪ :‬سبحان اهلل! على هذه الحال‪ ،‬فقال‪ :‬أبادر طي‬
‫الصحيفة‪ ،‬اآلن صحيفتي ستطوى‪ ،‬فأنا أنتهز آخر لحظة من عمري في هذه العبادة‪:‬‬
‫اهلل إذا كنت ريحاً مستريحاً‬ ‫اغتنم ركعتين زلفى إلـى‬
‫ِ‬
‫الباطل فاجعل مكانه تسبيحاً‪.‬‬ ‫وإ ذا ما هممت بالنطق في‬
‫ولذلك أهل العلم إذا جاء إليه من يجادل بين يديه‪ ،‬قال‪ :‬سبح سبح‪ ،‬إذا هممت بالنطق بالباطل فاجعل‬
‫مكانه تسبيحاً‪ ،‬فينبغي اغتنام الصحة والفراغ والحذر من التأجيل‪ .‬وصلى اهلل وسلم على نبينا‬
‫محمد‪.‬‬

You might also like