You are on page 1of 31

‫( االستشارة في حياة المسلم )‬

‫عناصر الموضوع ‪:‬‬


‫‪ .1‬أهمية االستشارة في حياة المسلم‬
‫‪ .2‬تعريف االستشارة‬
‫‪ .3‬أهمية االستشارة وفوائدها‬
‫‪ .4‬مجاالت االستشارة‬
‫‪ .5‬صفات المستشار‬
‫‪ .6‬من الذي يستشير؟‬
‫‪ .7‬كيف تستشير؟‬
‫‪ .8‬متى نستشير؟‬
‫‪ .9‬موانع االستشارة‬
‫‪ .10‬األسئلة‬

‫االستشارة في حياة المسلم ‪:‬‬


‫الحياة مليئة بالمشكالت التي قد تجبر اإلنسان على االستعانة بغيره‪ ،‬ومن هذه االستعانة المشورة‪،‬‬
‫ومن جرب المشورة عرف أهميتها وقدرها‪ ،‬وقد تحدث الشيخ عن كثير مما يتعلق باالستشارة من‬
‫حيث السبب واألهمية‪ ،‬والكيفية والنتائج‪ ،‬وصفات المستشار والمستشير‪ ،‬والموانع التي تمنع من‬
‫المشورة‪ ،‬وكيف تعالج هذه الموانع‪.‬‬

‫أهمية االستشارة في حياة المسلم‪:‬‬


‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وصلى اهلل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‪ .‬أيها‬
‫اإلخوة! أحييكم في هذه الليلة وفي هذا المجتمع الطيب‪ ،‬وأقول لكم‪ :‬السالم عليكم ورحمة اهلل‬
‫وبركاته‪ ،‬وأحمد اهلل عز وجل أن جمعني وإ ياكم في هذا المكان‪ ،‬وأحمده على هذه النعمة‪ ،‬وهي‬
‫نعمة التقاء األخ بإخوانه في اهلل للتذاكر والتناصح‪ ،‬ونسأل اهلل عز وجل أن يجعل مجلسنا هذا‬
‫مجلس خير‪ ،‬وأن يجعلنا من المقبولين عنده إنه سميعٌ مجيب‪ .‬حديثي إليكم في هذه الليلة عن‬
‫موضوع بعنوان‪( :‬االستشارة في حياة المسلم) وأهمية هذا الموضوع في عدة نقاط‪ ،‬منها‪ :‬أن هذا‬
‫إسالمي عظيم حصل فيه نوع من التفريط بين المسلمين‪ ،‬وهذا األدب يعكس جوانب من‬
‫ٌ‬ ‫أدب‬
‫ٌ‬
‫مهم في ضبط األمور ومنع‬
‫عظمة هذا الدين في ترابط أفراد المجتمع اإلسالمي الواحد‪ ،‬وهو كذلك ٌ‬
‫الفوضى التي قد تحصل نتيجةً لبعض اآلراء التي ال تكون ضمن الطريق الصحيح‪ ،‬وكذلك تمنع‬
‫حدوث ٍ‬
‫كثير من الكوارث الفكرية وغيرها؛ نتيجة بعض اآلراء الشاذة التي ال يخلو منها بعض‬
‫أذهان الناس‪ ،‬وسيكون حديثي مركزاً حول نقاط‪ ،‬وهي‪ :‬ما هي االستشارة؟ أي‪ :‬تعريف‬
‫االستشارة‪ .‬لماذا نستشير؟ أي‪ :‬أهمية االستشارة‪ .‬أين نستشير؟ أي‪ :‬ما هي مجاالت االستشارة؟‬
‫من نستشير؟ أي‪ :‬ما هي صفات المستشار؟ من الذي يستشير؟ كيف نستشير؟ متى نستشير؟ ما هي‬
‫موانع االستشارة؟‬

‫تعريف االستشارة‪:‬‬
‫بجري أو غيره‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫االستشارة مأخوذةٌ من قول العرب‪ :‬شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها‬
‫وشرت الدابة إذا امتحنتها فعرفت هيئتها في سيرها‪ ،‬وشرت العسل إذا أخذته من مواضع النحل‪.‬‬
‫وهذا يبين لك االرتباط بين المعنى اللغوي والمعنى الذي نقصده نحن اليوم‪ ،‬فكونك تشور الدابة‪،‬‬
‫أي‪ :‬تختبرها‪ ،‬وكونك تشور العسل‪ ،‬أي‪ :‬تبتغي الصفاء والنقاء في العسل بأخذه من مواطنه‬
‫األصلية‪ ،‬ومعنى قولهم‪ :‬شاورت فالناً‪ ،‬أي‪ :‬أظهرت ما عندي وما عنده‪ .‬وزيادة األلف والسين‬
‫والتاء في بداية الكلمة‪( :‬االستشارة) هي للطلب‪ ،‬أي‪ :‬طلب المشورة من اآلخرين‪ ،‬وأما األدلة على‬
‫ضوا ِم ْن‬ ‫ظ اْل َقْل ِب اَل ْنفَ ُّ‬ ‫ت فَظّاً َغِلي َ‬ ‫هذا‪ ،‬فمنها قول اهلل عز وجل‪ :‬فَبِ َما َر ْح َم ٍة ِم َن اللَّ ِه ِل ْن َ‬
‫ت لَهُ ْم َولَ ْو ُك ْن َ‬
‫ب‬‫ت فَتََو َّك ْل َعلَى اللَّ ِه ِإ َّن اللَّهَ ُي ِح ُّ‬‫اَأْلم ِر فَِإ َذا َع َز ْم َ‬ ‫ِ‬ ‫ف ع ْنهم و ِ‬
‫استَ ْغف ْر لَهُ ْم َو َش ِاو ْر ُه ْم في ْ‬
‫اع ُ َ ُ ْ َ ْ‬
‫ك فَ ْ‬‫َح ْوِل َ‬
‫ِ‬
‫ين [آل عمران‪ .]159:‬قال شيخ اإلسالم رحمه اهلل‪" :‬ال غنى لولي األمر عن المشاورة‪،‬‬ ‫اْل ُمتََو ِّكل َ‬
‫ِ‬
‫اَأْلم ِر [آل عمران‪]159:‬‬ ‫فإن اهلل تعالى أمر بها نبيه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال‪َ :‬و َش ِاو ْر ُه ْم في ْ‬
‫وقد قيل‪ :‬إن اهلل أمر بها نبيه لتأليف قلوب أصحابه‪ ،‬وليقتدي به من بعده‪ ،‬وليستخرج بها منهم‬
‫وحي من أمر الحروف واألمور الجزئية"‪ .‬وقال النووي رحمه اهلل‪" :‬إذا أمر‬
‫الرأي فيما لم ينزل فيه ٌ‬
‫اهلل بها النبي صلى اهلل عليه وسلم مع أنه أكمل الخلق‪ ،‬فما الظن بغيره؟"‪ .‬وقد مدح اهلل سبحانه‬
‫ورى َب ْيَنهُ ْم [الشورى‪ ]38:‬وهذا من‬
‫َأم ُر ُه ْم ُش َ‬
‫وتعالى من عمل بها في جميع أموره‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬و ْ‬
‫الثناء على المؤمنين‪ ،‬وكانت سادات العرب قديماً إذا لم يشاوروا في األمر شق عليهم‪ ،‬فأمر اهلل‬
‫تعالى نبيه صلى اهلل عليه وسلم أن يشاورهم في األمر؛ فإن ذلك أعطف لهم عليه‪ ،‬وأذهب‬
‫ألضغانهم‪ ،‬وأطيب لنفوسهم‪ ،‬فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم‪ .‬وأما اآليات التي أثنى اهلل فيها على‬
‫ين‬ ‫َِِّ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫صفات المؤمنين ومن ضمنها صفة المشورة‪ ،‬قال اهلل عز وجل‪َ :‬و َما ع ْن َد الله َخ ْيٌر َو َْأبقَى للذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِئ ِأْل ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِّ‬
‫ون *‬
‫ون َكَبا َر ا ثْم َواْلفَ َواح َش َوِإ َذا َما َغضُبوا ُه ْم َي ْغف ُر َ‬
‫ين َي ْجتَنُب َ‬ ‫آمُنوا َو َعلَى َرِّب ِه ْم َيتََو َّكلُ َ‬
‫ون * َوالذ َ‬ ‫َ‬
‫ون [الشورى‪-36:‬‬ ‫والَِّذين استَجابوا ِلرِّب ِهم وَأقَاموا الصَّالةَ وَأمر ُهم ُشورى ب ْيَنهم و ِم َّما ر َز ْقَن ُ ِ‬
‫اه ْم ُي ْنفقُ َ‬ ‫َ ْ ُ ْ َ َ ُْ َ َ‬ ‫َ َ ْ َُ َ ْ َ ُ‬
‫‪ .]38‬وقال ابن القيم رحمه اهلل في الزاد مبيناً هديه صلى اهلل عليه وسلم في هذا الجانب‪" :‬واستشار‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في أحد أصحابه أيخرج إليهم ‪-‬أي‪ :‬إلى الكفار‪ -‬أم يمكث في‬
‫المدينة"‪ .‬وفي معرض سياقه لغزوة الخندق قال‪" :‬فلما سمع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بمسيرهم إليه استشار الصحابة‪ ،‬فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو والمدينة‬
‫‪ ،‬فأمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم به؛ فبادر إليه المسلمون وعمل بنفسه فيه"‪ .‬وكذلك في غزوة‬
‫الحديبية كان من ضمن الدروس التي استنبطها ابن القيم رحمه اهلل في هذه الغزوة" استشارة اإلمام‬
‫ألصحابه"‪ .‬وأصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عمدوا إلى تطبيق هذه السنة‪ ،‬وااللتزام بهذا‬
‫األدب اإلسالمي العظيم‪ ،‬فتجد أن أبا بكر الصديق رضي اهلل عنه قد شاور الصحابة في أمور‬
‫المرتدين‪ ،‬وتسيير البعوث والجيوش وغيرها‪ ،‬وكذا عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه كان له مجلس‬
‫مشورة خاص‪ ،‬وكان في هذا المجلس الشباب والشيوخ كما سنبين ذلك‪ .‬ومن األمثلة على استشارة‬
‫عمر رضي اهلل عنه‪ :‬ما ورد في صحيح مسلم لما خرج رضي اهلل عنه إلى الشام ‪ ،‬ثم لقيه أهل‬
‫األجناد ‪-‬أبو عبيدة وأصحابه‪ -‬فأخبروه أن الطاعون قد وقع في الشام ‪ ،‬قال ابن عباس‪[ :‬فقال عمر‬
‫‪ :‬ادع لي المهاجرين األولين‪ ،‬فدعوتهم‪ ،‬فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بـالشام‪ ]...‬إلى آخر‬
‫الحديث الذي فيه قصة عبد الرحمن بن عوف المعروفة‪ .‬رواه اإلمام مسلم في صحيحه‪ .‬وإ ذا‬
‫أردت أن تستدل أو تعرف مدى أهمية ٍ‬
‫أمر من األمور عند السلف أو عند علماء المسلمين؛ فإنك‬
‫تستدل على هذا بـ(هل عقد المصنفون كأهل الحديث في كتبهم أبواباً خاصة لهذا األمر أم ال؟)‪ .‬فإذا‬
‫كانوا قد أفردوا هذا األمر‪ ،‬فهذا دا ٌل على أهميته؛ ألنه لو لم يكن مهماً جداً لما أفردوه‪ ،‬ولما جعلوه‬
‫ضمن شيء من األبواب‪ ،‬أو يجعلوه شيئاً جزئياً في داخل المصنف‪ ،‬ولكن عندما ترى أن اإلمام‬
‫البخاري خصص أبواباً في كتابه للمشورة‪ ،‬ويقول في أحدها‪( :‬وكان األئمة يستشيرون األمناء)‬
‫وترى أبا داود رحمه اهلل يقول في سننه‪( :‬باب في المشورة) وترى الترمذي رحمه اهلل يقول أيضاً‬
‫في سننه‪( :‬باب ما جاء في المشورة) وغير هؤالء تراهم قد عقدوا أبواباً خاصة‪ ،‬فإنك البد أن‬
‫تستدل بذلك على أن لهذا األمر أهميته؛ ولذلك أفردوا له هذه األبواب والكتب في مصنفاتهم‪.‬‬

‫أهمية االستشارة وفوائدها‪:‬‬


‫السؤال اآلن‪ :‬لماذا نستشير؟ وما هي أهمية وفوائد االستشارة؟ الفائدة األولى‪ :‬اتباع األثر‪ :‬فنحن‬
‫المسلمين نتبع ونقتفي آثار من مضى‪( ،‬عليكم باألمر العتيق)‪ .‬ونحن أيضاً ننفذ ما أمرنا اهلل به‬
‫ِ‬
‫اَأْلم ِر [آل عمران‪،]159:‬‬‫ورسوله صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فإذا قال اهلل لرسوله‪َ :‬و َش ِاو ْر ُه ْم في ْ‬
‫وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قدوة لنا‪ ،‬فيعني ذلك‪ :‬أن نقتدي به صلى اهلل عليه وسلم في‬
‫ورى َب ْيَنهُ ْم [الشورى‪ ]38:‬ونحن من‬
‫َأم ُر ُه ْم ُش َ‬
‫المشورة‪ .‬وإ ذا كان اهلل أثنى على المؤمنين بقوله‪َ :‬و ْ‬
‫ضمن المؤمنين‪ ،‬فإذاً البد أن نطبق هذه المسألة‪ ،‬أضف إلى ذلك أن هذا التطبيق فيه أجر التنفيذ‬
‫لهذا األمر الوارد‪ ،‬وإ ذا تشبهنا بالمؤمنين وبخصالهم فسنكون منهم إن شاء اهلل‪ .‬الفائدة الثانية‪:‬‬
‫باإلضافة إلى التطبيق واألجر الحاصل‪ :‬استنباط الصواب‪ ،‬فإن من أعز األشياء أن تهتدي إلى‬
‫األمر الصحيح والحق والصواب‪ .‬فأنت ماذا تريد وعم تبحث؟ ألست تبحث عن الصواب في األمر‬
‫الذي تحتار فيه‪ ،‬وتريد أن تقدم عليه؟ عن الحسن قال‪[ :‬واهلل ما استشار قوم قط إال هدوا ألفضل ما‬
‫ورى َب ْيَنهُ ْم )) [الشورى‪ .]]38:‬وينبغي أن تكثر أيها األخ المسلم‬
‫َأم ُر ُه ْم ُش َ‬
‫بحضرتهم‪ ،‬ثم تال‪َ (( :‬و ْ‬
‫من استشارة ذوي األلباب‪ ،‬السيما في األمر الجليل‪ ،‬فقلما يضل عن الجماعة رأي أو يذهب عنهم‬
‫صواب‪ ،‬ألن إرسال الخواطر الثاقبة‪ ،‬وإ جالة األفكار الصادقة هذا هو الذي يجعلك تصل إلى‬
‫الصواب‪ ،‬ومن أكثر المشورة لم يعدم الصواب‪،‬ـ والخطأ إلى الجماعة أبعد من الخطأ إلى الفرد‪،‬‬
‫ألن احتمال أن يخطئ الفرد أكثر من أن تخطئ جماعة من الناس‪ .‬الفائدة الثالثة‪ :‬اكتساب الرأي‪:‬‬
‫إن اإلنسان إذا شاور وحاور وتناقش وطلب األمر وقلَّبه على وجوهه‪ ،‬فإن هذه المناقشة مع‬
‫اآلخرين تكسبه رأياً وتُوسع مداركه‪ ،‬وتجعله يعرف من أين تؤتى األمور‪ ،‬وما هي طريقة تفكير‬
‫فالن وفالن‪ ،‬ويعرف أن فكره قد انصرف إلى جانب معين‪ ،‬وأن هناك جوانباً أخرى؛ فتتوسع‬
‫مداركه‪ ،‬ويكتسب طرق في التفكير لم يكن ليهتدي إليها لوال االستشارة‪ .‬وقال بعض الحكماء‪:‬‬
‫"نصف رأيك مع أخيك‪ ،‬فشاوره يكمل لك الرأي"‪.‬‬
‫علي بالذي تريان‬ ‫ٍ‬
‫واحد أشيرا ّ‬ ‫خليلي ليس الرأي في صدر‬
‫ومن حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العقالء‪ ،‬ويجمع إلى عقله عقول الحكماء‪ ،‬فرأي الفرد‬
‫الواحد ربما ز ّل‪ ،‬والعقل الفرد ربما ض ّل‪ ،‬ولكن عندما تجتمع العقول تصل إلى المأمول‪ ،‬وروي‬
‫عن بعض السلف ‪" :‬الرأي الفرد كالخيط السحيب ‪-‬الخيط الرقيق الذي سرعان ما ينقطع‪-‬‬
‫والرأيان كالخيطين المبرمين ‪-‬أقوى قليالً‪ -‬والثالثة مرار ‪-‬وهو الحبل المفتول ال يكاد ينتقض‪-‬‬
‫والمستشير الحازم يزداد برأي الوزراء الحزمة كما يزداد البحر بمواده من األنهار"‪ .‬الفائدة‬
‫الرابعة‪ :‬أنك تتحصن من الوقوع في الخطأ والزلل باستشارتك‪ ،‬قال حكيم البنه‪" :‬شاور من جرب‬
‫األمور‪ ،‬فإنه يعطيك من أمره ما قام عليه بالغالء وأنت تأخذه مجاناً"‪ .‬اهلل أكبر! هذه هي الحكمة‪،‬‬
‫اآلن الشاب في مقتبل عمره تجاربه محدودة وقليلة‪ ،‬وحتى يكتسب تجارب فإنه يحتاج إلى وقت‬
‫وجهد‪ ،‬وربما يقع في أخطاء كثيرة حتى يصل في النهاية إلى الرأي الحكيم وإ لى الصوابـ في ٍ‬
‫أمر‬
‫من األمور‪ ،‬فعندما يذهب إلى شيخ مجرب وإ نسان قد عركته الحياة‪ ،‬فإنه يأخذ منه الخالصة التي‬
‫توصل إليها هذا الشيخ؛ فهذا الشيخ يكون قد توصل إلى الحكمة والتجربة والخالصة والصواب‪،‬ـ‬
‫ودفع كثيراً من الجهد والوقت حتى وصل إليه بالغالء‪ ،‬وأنت تأتي وتأخذه بالمجان‪ ،‬فانظر إلى‬
‫حرز من المالمة‪ ،‬فلو أن شخصاً فعل‬
‫عظم هذه االستشارة وعلو موقعها‪ .‬الفائدة الخامسة‪ :‬أنها ٌ‬
‫أمراً من األمور‪ ،‬ثم تبين له أن هذا األمر خطأ‪ ،‬وظهرت النتائج عكسية وسيئة ِ‬
‫وفشل‪ ،‬ماذا سيقول‬
‫له الناس؟ لماذا لم تشاور؟ أنت مخطئ‪ ،‬أنت وأنت‪ ...‬وتوجه إليه سهام االنتقاد من كل جانب‬
‫ويالم‪ ،‬لكن عندما يكون هذا الشخص قد استشار مجموعة من الناس الحكماء والخبراء‪ ،‬ثم يخطئ‬
‫وتكون النتيجة عكسية‪ ،‬هل سيلومه الناس؟ لن يلوموه ألنه استشار‪ ،‬ولو الموه لقال لهم‪ :‬أنا سألت‬
‫علي بهذا األمر؛ حينها كلهم يسكتون‪ ،‬لكن لو لم يشاور لظل عرضه‬
‫فالناً وفالناً وهم الذين أشاروا ّ‬
‫للنقد من كل جانب‪ .‬الفائدة السادسة‪ :‬أنها نجاة من الندامة‪ ،‬أن الشخص اآلن فعل أمراً دون أن‬
‫يستشير ثم فشل في هذا األمر‪ ،‬فسيشعر بالندم ولو من توبيخ نفسه له وهي تقول له‪ :‬لو أنك سألت‬
‫ما حصل هذا! ولو أنك استشرت ما وصلت إلى هذه النتيجة المخيبة لألمل‪ ،‬فيشعر بالندم‪ .‬لكن‬
‫عندما يستشير حتى لو أخطأ‪ ،‬فيقول لنفسه‪ :‬هذا أمر خارج عن إرادتي‪ ،‬أنا استشرت وأخذت‬
‫باألسباب ثم أخطأت‪ ،‬والحمد هلل هذا ليس رأيي فقط‪ ،‬فهو ينجو حتى من لوم نفسه‪ ،‬وعندما يستشير‬
‫اإلنسان ويخطئ؛ فإنه يعلم أن هذا األمر قضاء وقدر‪ ،‬لكن لم يخطئ في الخطوات التي وصلت إلى‬
‫هذه النتيجة‪ ،‬فيعلم أنه لم يكن بوسعه أن يفعل شيئاً‪ ،‬استشار فحصل خطأ‪ ،‬فال يلوم نفسه‪ .‬الفائدة‬
‫السابعة‪ :‬ألفة القلوب‪ :‬فأنت اآلن عندما تستشير اثنين وثالثة‪ ،‬وعندما تذهب إليهم‪ ،‬وتقول‪ :‬يا أخي!‬
‫علي‪ ،‬يا‬
‫علي في هذه القضية‪ ،‬يا أيها األستاذ! أشر ّ‬
‫أشر علي في هذه القضية‪ ،‬يا أيها الوالد! أشر ّ‬
‫أيها الصديق‪ ،...‬فكيف تكون نظرة الناس إليك؟ وما هو االنطباع الذي يكون في نفوسهم تجاهك‬
‫وأنت تستشيرهم؟ وبماذا سيشعرون؟ سيشرعون لك بتقدير ومحبة‪ ،‬ويقولون‪ :‬فالن ما استشارنا إال‬
‫ألنه يعتقد أننا أصحاب رأي‪ ،‬وأننا أمناء‪ ..‬فالن ليس بمنعزل عنا‪ ..‬فالن متداخل معنا‪ ..‬فالن يثق‬
‫فينا وإ ال لما استشارنا‪ ،‬فهذه تقرب ما بين القلوب‪ ،‬وتربط ما بين الناس‪ ،‬وفيها تقدير لألطراف‬
‫المستشارة‪ ،‬وأنك تقدره وتضعه في موضع أنك تستشيره‪ ،‬ولذلك يقول عبد الملك بن مروان ‪ :‬ألن‬
‫أخطئ وقد استشرت‪ ،‬أحب إلي أن أصيب وقد استبددت برأيي‪ .‬الفائدة الثامنة‪ :‬أن القائد والمربي‬
‫والداعية إلى اهلل والذي يقود الناس يكون تواقاً لمعرفة الحق وما فيه من المصلحة‪ ،‬ويلح بنفسه‬
‫على جنوده إلظهار ما عندهم من الحجج واألدلة واآلراء‪ ،‬ويسمعها ويقلِّب وجهات نظرهم طمعاً‬
‫إلى الوصول لما فيه الصالح العام‪ ،‬وعندما يحدث الفشل فإنه يكون موزعاً على جميع الجند‬
‫والناس الذين استشيروا‪ ،‬فال يشعر اإلنسان أنه يتحمل الخطأ لوحده‪ .‬وكذلك فإنه يصل إلى مدى‬
‫نضجهم‪ ،‬ويعرف مستوى تفكيرهم وعمق آرائهم‪ ،‬ويميز باالستشارة كيف يشير فالن‪ ،‬وكيف يفكر‬
‫فالن‪ ،‬فيعرف النوابغ من الناس الذين يعيش بينهم‪ ،‬ويكتشف الطاقات والمواهب التي فيهم‪ .‬وهذا‬
‫األمر من األمور المهمة لمن كان يريد أن يسوس الناس بالهدي الصحيح‪ ،‬ألن هناك أناساً يسوسون‬
‫الناس ‪-‬بغض النظر عما يكون في أفكارهم من اآلراء‪ -‬وال يعرفون من هو الناضج من غيره‪،‬‬
‫ومن هو الذكي ممن هو واسع األفق‪ ،‬ومن هو الشخص صاحب الرأي الصحيح والمشورة الطيبة‬
‫ممن هو ليس كذلك‪ ،‬فهو بسبب أنه ال يعرف من يستشير‪ ،‬أو قلما يستشير يقع في الخطأ‪ ،‬وأنت ال‬
‫تكتشف أن فالناً هذا إنسان يؤخذ برأيه إال عندما تستشير فيشير عليك برأي‪ ،‬فتعرف رجاحة عقله‬
‫من خالل رأيه‪.‬‬

‫مجاالت االستشارة‪:‬‬
‫قد يقول إنسان‪ :‬االستشارة في كل أمر‪ ،‬وهذا صحيح‪ ،‬والرسول صلى اهلل عليه وسلم لما صعد إلى‬
‫السماء ‪-‬كما في حديث المعراج في صحيح البخاري ‪ -‬وفرض اهلل على رسوله صلى اهلل عليه‬
‫وسلم خمسون صالة في كل يوم وليلة‪ ،‬قال له موسى‪( :‬إن أمتك ال تستطيع ذلك‪ ،‬ارجع فليخفف‬
‫ربك عنهم‪ ،‬فالتفت النبي صلى اهلل عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره ‪-‬هذه رواية البخاري ‪-‬‬
‫فأشار إليه جبريل‪ :‬أن نعم إن شئت‪ ،‬فعال به إلى الجبار‪ ،‬فقال وهو مكانه‪ :‬يا رب خفف عنا‪)...‬‬
‫إلى آخر الحديث‪ .‬فأنت ترى هنا أن محمداً صلى اهلل عليه وسلم قد استشار جبريل في ٍ‬
‫أمر عظيم‪،‬‬
‫وهو قضية الصلوات التي تفرض على األمة إلى آخر الزمان‪.‬‬

‫االستشارة في أمور يعود تأثيرها على المجتمع كله‪:‬‬


‫كذلك ترى استشارته في مجال المعارك‪ ،‬وهي من المجاالت الهامة جداً‪ ،‬والتي يترتب عليها‬
‫مصائر ومنعطفات تغييريه أحياناً في حياة المجتمع كله‪ .‬فمثالً‪ :‬في مسند أحمد و صحيح مسلم عن‬
‫أنس بن مالك‪" :‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان في معركة بدر‬
‫‪ ،‬قال‪ :‬فتكلم أبو بكر فأعرض عنه‪ ،‬ثم تكلم عمر فأعرض عنه‪ ،‬فقال سعد بن عبادة ‪ :‬إيانا يريد‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فما رد أبو بكر وعمر وهما بهذه المنزلة إال أنه يعنينا نحن‬
‫األنصار‪ ،‬فقام وقال‪ :‬والذي نفسي بيده‪ ،‬لو أمرتنا أن نخوض هذه البحار لخضناها معك"‪ ،‬هذا لفظ‬
‫مسلم ‪ .‬فالرسول صلى اهلل عليه وسلم كان يريد أن يستوثق أن األنصار سوف يحاربون معه خارج‬
‫المدينة ‪ ،‬وأنهم على استعداد للخروج‪ ،‬وأن وعيهم قد بلغ بهم أن يخرجوا ويقاتلوا الكفار خارج‬
‫المدينة ‪ .‬وكلما عظُم األمر وكان أهم كلما كانت االستشارة فيه أبلغ وأعظم وأهم‪ ،‬ومثال ذلك‪ :‬ما‬
‫وقع في حادثة مقتل عمر رضي اهلل عنه وتولية عثمان بن عفان الخالفة‪ ،‬فعهد عمر إلى سته من‬
‫الصحابة‪ ،‬ثم عهد ثالثة من الستة إلى الثالثة اآلخرين وتنازلوا لهم عن األمر‪ ،‬فصار األمر في‬
‫النهاية إلى عبد الرحمن بن عوف و علي بن أبي طالب و عثمان بن عفان رضي اهلل عنهم‬
‫ٍ‬
‫لواحد منكما‪ ،‬فقالوا‪:‬‬ ‫أجمعين‪ .‬فقال عبد الرحمن بن عوف‪ :‬إذا رضيتما بمن أختاره فأنا أتنازل‬
‫رضينا‪ .‬فاآلن عبد الرحمن بن عوف صار في موقف عظيم وجليل جداً‪ ،‬والقضية من أهم القضايا‪،‬‬
‫وفيها اختيار خليفة للمسلمين‪ .‬وعبد الرحمن بن عوف لن يتخذ قراراً فردياً‪ ،‬ويقول‪ :‬فالن أفضل‪،‬‬
‫ال‪ .‬بل ذهب يشاور المهاجرين واألنصار‪ ،‬ويدخلون عليه ويطلبهم ويستشيرهم في المسجد‪ ،‬وكلما‬
‫لقي أحداً من أهل الرأي استشاره‪ ،‬حتى يقول عبد الرحمن بن عوف‪[ :‬مرت علي ثالث ليال ما‬
‫اكتحلت فيها بنوم إال شيئاً يسيراً جداً]‪ .‬ولذلك قال المسور ‪[ :‬فما رأيت مثل عبد الرحمن ‪ ،‬واهلل ما‬
‫ترك أحداً من المهاجرين واألنصار وال غيرهم من ذوي الرأي إال استشارهم تلك الليلة]‪.‬‬

‫االستشارة في القضايا العلمية وقضايا األحكام‪:‬‬


‫قد تمر باإلنسان أشياء ال يدري ما الحكم فيها والبد أن يستشير‪ ،‬فعن المغيرة بن شعبة ‪ :‬أن عمر‬
‫رضي اهلل عنهما استشاره في إمالص المرأة‪ ،‬فقال المغيرة‪( :‬قضى النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بالغرة) أي‪ :‬عبد أو أمة‪ ،‬وهذا في صحيح البخاري‪ ،‬فـعمر استشار الصحابة في المرأة إذا ضربت‬
‫على بطنها فسقط الجنين ومات‪ ،‬فما هي الدية؟ فجاء له المغيرة بالحكم الذي سمعه من رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقال عمر ‪ :‬أيكم سمع من النبي صلى اهلل عليه وسلم فيه شيئاً‪ ،‬فانظر إلى‬
‫الراوي وهو يقول‪ :‬إن عمر استشارهم في إمالص المرأة‪ .‬الناس يحتاجون إلى استشارة أهل‬
‫العلم‪ ،‬ويحتاجون إلى معرفة األحكام في األمور والمسائل‪ ،‬والرسول صلى اهلل عليه وسلم لما ُأمر‬
‫بتخيير نسائه بين أن يبقين معه على ما عنده‪ ،‬أو يمتعهن ويسرحهن سراحاً جميالً‪ ،‬عن عائشة‬
‫قالت‪( :‬أتاني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬إني سأعرض عليك أمراً فال عليك أال تعجلي‬
‫ك ِإ ْن‬ ‫َأِلزو ِ‬
‫اج َ‬ ‫فيه حتى تشاوري أبويك‪ ،‬فقلت‪ :‬وما هذا األمر؟ قالت‪ :‬فتال علي‪َ :‬يا َُّأيها َّ ِ‬
‫النب ُّي ُق ْل ْ َ‬ ‫َ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ُأمتِّ ْع ُك َّن َو َ‬
‫ُأس ِّر ْح ُك َّن َس َراحاً َجميالً * َوِإ ْن ُك ْنتُ َّن تُِر ْد َن اللهَ‬ ‫ُك ْنتُ َّن تُِر ْد َن اْل َحَياةَ ُّ‬
‫الد ْنَيا َو ِز َينتَهَا فَتَ َعالَْي َن َ‬
‫َأجراً َع ِظيماً [األحزاب‪ ،]29-28:‬فقالت‬ ‫الدار اآْل ِخرةَ فَِإ َّن اللَّه َأع َّد ِلْلم ْح ِسَن ِ‬
‫ات ِم ْن ُك َّن ْ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َو َر ُسولَهُ َو َّ َ‬
‫عائشة‪ :‬وفي أي شيء تأمرني أن أشاور أبواي؟! بل أريد اهلل ورسوله والدار اآلخرة) هذه رواية‬
‫البخاري‪.‬‬

‫االستشارة في قضايا الزواج‪:‬‬


‫ومن الشواهد على هذه المسألة ما رواه اإلمام أحمد رحمه اهلل في مسنده ‪-‬وهو حديث صحيح‪-‬‬
‫عن أبي برزة األسلمي ‪ :‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال لرجل من األنصار‪( :‬زوجني‬
‫ابنتك‪ ،‬فقال‪ :‬وكرامة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ونعم عيني‪ ،‬فقال‪ :‬إني لست أريدها لنفسي‪،‬‬
‫قال‪ :‬فلمن يا رسول اهلل؟ قال‪ :‬لـجليبيب ‪ ،‬قال‪ :‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬أشاور أمها‪ ،‬فأتى أمها‪ )....‬إلى‬
‫علي رسول‬
‫آخر الحديث وكانت البنت عاقلة‪ ،‬قالت‪ :‬هل تظنون أنكم ستأتونني بأفضل مما عرض َّ‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم؛ فأقنعتهم أن يزوجوها لـجليبيب رضي اهلل عنه الذي قتل في معركة أحد‬
‫شهيداً‪ ،‬فأنت ترى أن األب لم يستبد برأيه‪ ،‬وأنه شاور أم البنت‪ ،‬فهي لها دور في الموضوع والبد‬
‫أن تشاور‪ .‬ومن األمثلة على االستشارة في مجال الجهاد الحديث الحسن عن معاوية بن جاهمة ‪:‬‬
‫أنه جاء إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال‪( :‬يا رسول اهلل! أردت الغزو وجئت أستشيرك ‪-‬‬
‫هذا مسألة مهمة نحتاج إليها اآلن جداً‪ ،‬وهذا حديث فيه فقه مهم‪ -‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ :‬هل لك من أم؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬فقال‪ :‬الزمها‪ ،‬فإن الجنة عند رجليها) ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد‬
‫شتى كمثل هذا القول‪ ،‬والرسول صلى اهلل عليه وسلم يشير عليه بنفس الرأي‪ ،‬وقد أخرج طرق هذا‬
‫الحديث الشيخ ناصر في إرواء الغليل ‪ .‬ومن األمور المكملة في موضوع استشارة النساء للزواج‬
‫استشارة نفس البنت التي تريد أن تتزوج‪ ،‬فمعرفة رأي البنت أمر مهم جداً‪ ،‬وبعض أولياء األمور‬
‫في هذه األيام ال يضربون لها أي حساب‪ ،‬قال ابن عمر لـعمر بن الخطاب رضي اهلل عنه‪ :‬يا أبت‪،‬‬
‫اخطب لي ابنة صالح ‪ ،‬فقال عمر ‪ :‬إن له يتامى ولم يكن ليؤثرنا عليهم‪ ،‬فانطلق عبد اهلل إلى عمه‬
‫زيد بن الخطاب ليخطب له‪ ،‬فانطلق زيد إلى صالح ‪ ،‬فقال‪ :‬إن عبد اهلل بن عمر أرسلني إليك‬
‫يخطب ابنتك‪ ،‬فقال صالح ‪ :‬لي يتامى‪ ،‬ولم أكن ألترب لحمي وأرفع لحمكم‪ ،‬أشهدكم أني قد‬
‫أنكحتها فالناً‪ ،‬اتخذ القرار فجأة في نفس المجلس‪ ،‬وكان هذا رأي أبيها‪ .‬فأتت أمها رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقالت‪ :‬يا نبي اهلل! خطب عبد اهلل بن عمر ابنتي‪ ،‬فأنكحها أبوها يتيماً في حجره‪،‬‬
‫ولم يؤامرها‪ ،‬ما استشارها وال استأذنها‪ ،‬فأرسل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إلى صالح ‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫(أنكحت ابنتك ولم تؤامرها‪ ،‬ثم قال عليه الصالة والسالم‪ :‬أشيروا على النساء في أنفسهم‪ -‬الشاهد‬
‫أشيروا‪ -‬فقال‪ :‬إن البكر تستحي يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪ :‬الثيب تعرب عن نفسها بلسانها‪ ،‬والبكر‬
‫رضاها صماتها)‪ ،‬حديث صحيح في السلسلة الصحيحة ‪ .‬وقد وقعت لـابن عمر قصة مشابهة ولكن‬
‫بنتيجة مختلفة‪ ،‬وهي أيضاً قصة حسنة‪ ،‬قال ابن عمر ‪ :‬توفي عثمان بن مظعون وترك ابنة له من‬
‫خولة بنت حكيم بن أمية ‪ ،‬وأوصى إلى أخيه قدامة بن مظعون‪ .‬قال عبد اهلل ‪ :‬وهما خااليا‪ ،‬أي‪:‬‬
‫عثمان بن مظعون و قدامة بن مظعون خاال ابن عمر‪ ،‬فخطبت إلى قدامة بن مظعون ابنة عثمان‬
‫بن مظعون فزوجنيها‪ .‬ودخل المغيرة بن شعبة الصحابي اآلخر إلى أم البنت‪ ،‬ولعله لم يكن يعلم‬
‫بموضوع خطبة عبد اهلل بن عمر واهلل أعلم‪ ،‬فأرغبها في المال‪ ،‬فحطت إليه األم ورغبت في‬
‫المغيرة ‪ ،‬وولي البنت زوجها لـعبد اهلل بن عمر ‪ ،‬وحطت الجارية إلى هوى أمها‪ ،‬والبنت غالباً ال‬
‫تخالف األم‪ ،‬فصار خالف‪ ،‬فارتفع أمرهما إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال قدامة بن‬
‫مظعون‪( :‬يا رسول اهلل! ابنة أخي أوصى بها إلي‪ ،‬فزوجتها ابن عمتها عبد اهلل بن عمر ‪ ،‬فلم‬
‫أقصر بها في الصالح وال في الكفاءة‪ ،‬ولكنها امرأة وإ نما حطت إلى هوى أمها‪ ،‬فقال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬هي يتيمة وال تنكح إال بإذنها قال عبد اهلل بن عمر ‪ :‬فانتزعت واهلل مني بعد‬
‫أن ملكتها‪ ،‬فزوجوها المغيرة بن شعبة)‪ .‬أخرجه اإلمام أحمد والدارقطني ‪ ،‬وهو حديث صحيح‪.‬‬
‫هذه نماذج من السيرة وحياة الصحابة رضي اهلل عنهم تبين بعض مجاالت االستشارة‪ ،‬ونحن هنا‬
‫ٍ‬
‫بشكل عام‪.‬‬ ‫نبين ونضيف أيضاً قضايا أخرى نذكرها‬

‫االستشارة في طلب العلم والدعوة إلى اهلل‪:‬‬


‫االستشارة في طلب العلم أمر مهم جداً‪ ،‬والبد أن يستشير اإلنسان ماذا يقرأ؟ وماذا يسمع؟ وكيف‬
‫يطلب العلم؟ وكيف يبتدئ؟ ومن هم الثقات من العلماء ليجلس إليهم؟ ويستشير هؤالء العلماء في‬
‫بداية الطلب‪ ،‬وبعد كل كتاب مثالً ماذا يقرأ؟ وفي أي فن يبدأ؟ وما هي الفنون المهمة؟ وهكذا‪ ،‬وهذه‬
‫أشياء أهل العلم يشيرون بها لما عندهم من الخبرة في هذا المجال‪ ،‬بعض الشباب يضع لنفسه‬
‫برنامجاً في طلب العلم‪ ،‬يقول‪ :‬أنا أريد أن أقرأ هذا الكتاب‪ ،‬ثم هذا الكتاب‪ ،‬وأريد أن أنهي هذا‬
‫الكتاب في أسبوع‪ ،‬فيبدأ متحمساً في هذا البرنامج الذي وضع لنفسه‪ ،‬وقد ال يعرف هو طاقات‬
‫نفسه‪ ،‬وال الفنون التي يبدأ بها‪ ،‬وقد يبدأ في حفظ متون وغيرها أهم منها ليبدأ بها‪ .‬وإ نني أعتب‬
‫عتباً خاصاً على بعض الشباب الذين يبدءون بحفظ المتون وهم ال يحفظون إال نزراً يسيراً من‬
‫كتاب اهلل‪ ،‬والواجب أن تسير األمور مع بعضها البعض‪ ،‬أأحفظ المتون وأترك أهم متن وهو كتاب‬
‫اهلل عز وجل ال أحفظ منه شيئاً؟ أحاديث الرسول صلى اهلل عليه وسلم كـاألربعين النووية ال أحفظ‬
‫منها شيئاً‪ ،‬هذه مصيبة‪ ،‬فال بد أن نحفظ باستشارة أهل العلم بشكل متوازن لنحقق األهداف التي‬
‫نحتاج إليها في طلبنا للعلم‪ .‬أحياناً يخطر لشخص خاطرة في آية أو حديث‪ ،‬فيستنبط بعقله حكماً‬
‫إجراء آخر وهو‬
‫ً‬ ‫منها‪ ،‬يقول‪ :‬سبحان اهلل! هذه اآلية كأنها تومئ إلى الحكم الفالني‪ ،‬ولكن ال يفعل‬
‫أن يتأكد من صحة استنباطه‪ ،‬ثم بعد فترة ربما سنوات يسأله شخص عن هذه المسألة‪ -‬هذا يحدث‬
‫أحياناً‪ -‬فبماذا سيجيبه في الغالب وهو ليس عنده أقوال العلماء مطلقاً فيها؟ سيجيبه بنفس االستنباط‬
‫الذي استنبطه هو شخصياً وعلق بذهنه منذ ذلك الزمن ولم يعرضه على أهل العلم‪ ،‬ولو أنه استشار‬
‫أهل العلم‪ ،‬وقال‪ :‬يا أيها العالم! خطر في ذهني أن هذه اآلية يؤخذ منها كذا‪ ،‬فهل هذا االستنباط‬
‫صحيح؟ وهل له وجه؟ وهل قال به أحد من العلماء؟ السفر في طلب العلم‪ - :‬يستشير اإلنسان في‬
‫السفر في طلب العلم إلى من يسافر مثالً؟ ومن المشايخ الذين يحرص على لقياهم؟ وغالباً تجد أن‬
‫الشيخ أو العالم سيقول لك‪ :‬إذا ذهبت إلى بلدة كذا وكذا فإن فيها الشيخ فالن‪ ،‬فاذهب إليه زره‬
‫واستفد منه في الجانب الفالني فهو ضليع في هذا الجانب‪ ...‬وهكذا‪ .‬وهذه عادة علمائنا منذ زمن‬
‫بعيد‪ ،‬يشيرون على طلبتهم بالمشايخ إذا أرادوا أن يسافروا في طلب العلم في البلدان المختلفة لما‬
‫تجمع عندهم من األخبار‪ ،‬ويقول‪ :‬اسأل فالناً‪ ،‬اذهب إلى فالن‪ ،‬فالن من أهل السنة احرص على‬
‫لقياه‪ ..‬وهكذا‪ - .‬تقديم األولويات في طلب العلم‪ :‬نبدأ بأي شيء‪ ،‬ثم بعده بماذا؟ أحياناً تتزاحم‬
‫األشياء عند الشخص‪ ،‬وال يعرف هل يبدأ بالتفسير‪ ،‬أو بالحديث‪ ،‬أو بالفقه‪ ،‬ومن الذي يقرر لك‬
‫بماذا تبدأ؟ ‪ -‬االستشارة في تغيير المنكر‪ :‬كيف نغير المنكر الفالني؟ ما هي الطريقة السليمة‬
‫لتغيير هذا المنكر والتي ال تؤدي إلى مضاعفات أو حصول منكر أكبر من هذا المنكر الذي نريد‬
‫أن نغيره‪ ،‬أو تؤدي إلى فوات معروف أكبر من هذا المنكر الذي نريد أن نغيره؟ االستشارة في‬
‫طرائق الدعوة إلى اهلل‪ :‬بمن نبدأ من الناس؟ وكيف نبدأ معهم؟ وكيف ندعوهم؟ وكيف نفتح معهم‬
‫المواضيع المختلفة؟ وما هي المواضيع المناسبة للعامة والشباب والكبار والجيران وأهل الحي‬
‫وطلبة المدارس والعمال والموظفين وغيرهم؟ وما التوقيت المناسب لطرح المفهوم الفالني؟ هل‬
‫يصلح أن نطرحه اآلن؟ هل هؤالء يفهمون ما سنقوله لهم؟ حدث الناس على قدر عقولهم وبما‬
‫يفهمون‪ ..‬هل سيفهمون أم أن هذا المفهوم من السابق ألوانه أن يطرح مثالً؟ ‪ -‬كيفية االستفادة من‬
‫الوقت‪ :‬أحياناً بعض الناس يقول‪ :‬يا أخي كيف أستفيد من الوقت الذي من بعد الدراسة إلى الساعة‬
‫علي بشيء أفعله لتغطية هذا الوقت؟ ‪ -‬مصادقة‬
‫الفالنية ال أدري ماذا أعمل به‪ ،‬هال تشير ّ‬
‫علي من هم الناس الذين أمشي‬
‫علي أصاحب؟ أصادق من؟ أشر ّ‬
‫األصحاب واإلخوان‪ :‬بمن تشير ّ‬
‫معهم وأصادقهم وأتعاون معهم على الخير والبر والتقوى؟‪ ...‬وهكذا‪ - .‬تجريح وتعديل‬
‫األشخاص‪ :‬من القضايا المهمة التي ينبغي أن يستشار فيها‪ :‬ماذا أقول عن فالن؟ ماذا تعرف عن‬
‫فالن؟ ما مدى ثقة فالن؟ ما مدى ضعف فالن؟‪ ...‬وهكذا‪ .‬ولذلك‪ -‬كما سنذكر فيما بعد‪ -‬يجب أن‬
‫يكون المستشار ليس بصاحب هوى‪ ،‬ألن بعض الناس قد يستشير صاحباً له أو عظيماً عنده في‬
‫نفسه‪ ،‬ثم يقبل التجريح الذي يأتي منه أو التعديل الذي يكون نابعاً من هوى في نفس المشير‪- .‬‬
‫قضايا الزواج‪ :‬البد أن يستشير اإلنسان في قضايا الزواج‪ ،‬مثالً‪ :‬أريد أن أتزوج من بنت فالن‪ ،‬ما‬
‫رأيك يا فالن أنت تعرف هذا البيت؟ اسأل أهل البيت عندكم هل يعرفونها؟ حتى قضايا الفسخ‬
‫والطالق أيضاً اإلنسان يحتاج أن يسأل فيها ألنها مسألة صعبة‪ ،‬ليس من السهل أن تطلق امرأة‪،‬‬
‫البد أن تستشير خاصة الناس الذين يعرفون أمورك وعندهم خلفية عن أحوال هذه المرأة أو هذا‬
‫البيت الذي نشأت فيه‪ .‬مثالً‪ :‬هل هذه المرأة يحصل منها كذا وكذا‪ ،‬وأنا تضايقت جداً‪ ،‬وبلغ األمر‬
‫عندي أوجه‪ ،‬هل أطلقها؟ هل أصبر عليها؟ هل أعطيها فرصة؟ إذا طلقتها هل يا ترى سأجد أحسن‬
‫منها أم أنني لن أجد؟ وبعض الناس يستخدمون الطالق في لحظة غضب‪ ،‬ويتسرع فيه‪ ،‬كأن‬
‫يحصل تصرف من المرأة أو أكثر‪ ،‬فتزداد المسألة عنده ثم يقوم بالطالق مباشرة‪ ،‬وهذا من‬
‫األخطاء‪.‬‬

‫االستشارة في مشاكل األسرة‪:‬‬


‫أحياناً تحدث في البيت خالفات وانشقاقات في األسرة‪ ..‬مشاكل بين األب واألم‪ ،‬واألب واألوالد‪،‬‬
‫واألم واألوالد‪ ...‬وهكذا‪ ،‬فيحتار اإلنسان ماذا يفعل؟ أين يكون موقفه؟ أحياناً يقول‪ :‬لو وقفت مع‬
‫أبي ستغضب أمي‪ ،‬ولو وقفت مع أمي سيغضب عمي‪ ...‬وهكذا‪ ،‬فيحتار ماذا يفعل‪ ،‬فالبد أن يلجأ‬
‫إلى أهل الخبرة في الجوانب االجتماعية‪ ،‬ويسألهم عن األسلوب الصحيح في التعامل مع هذه‬
‫المشاكل‪ - .‬بعض األوضاع في البيت‪ ..‬تغيير منكرات البيوت‪ :‬ما هي وسائل اإلصالح في‬
‫البيت؟ كيف نغير وضع البيت‪ ،‬حتى األشياء الدنيوية منها‪ .‬كذلك المركب‪ :‬اإلنسان يريد أن‬
‫يشتري سيارة‪ ،‬قد ال يكون في بداية األمر عنده خبرة بأنواع السيارات‪ ،‬وما هو النوع المناسب‬
‫الذي يفي بحاجياته‪ - .‬التخصص الدراسي‪ :‬كثير من الطلبة الذين يتخرجون من المرحلة الثانوية‬
‫قد ال يدركون ما هو التخصص المناسب بالنسبة لهم‪ ،‬وما هو التخصص الذي يمكن أن يبدعوا فيه‪،‬‬
‫وما هو التخصص الذي للمسلمين فيه حاجة‪ ،‬فقد يدخل تخصصاً ويفشل فيه‪ ،‬ثم ينتقل إلى تخصص‬
‫آخر ويفشل فيه‪ ،‬ويضيع جزءاً طويالً من عمره هكذا‪ ،‬ولو أنه استشار أهل الخبرة من البداية لما‬
‫حصل له هذا التشتت‪ - .‬الوظيفة‪ :‬إذا وجد عنده أكثر من مجال للعمل‪ ،‬ففي أي مكان يتوظف‪ ،‬هذا‬
‫أيضاً من األمور المهمة أن يستشير فيها‪ .‬حتى في هيئة اإلنسان ومنظره أحياناً‪ ،‬إذا كان يخرج إلى‬
‫العامة ويظهر أمامهم‪ ،‬ويستشير تفادياً للشذوذ الذي قد يحصل في بعض اآلراء‪.‬‬

‫صفات المستشار‪:‬‬
‫من نستشير؟ وما هي صفات المستشار؟ هذه نقطة حساسة‪ ،‬ألننا قد نتفق على أهمية االستشارة‪،‬‬
‫وأننا البد أن نستشير‪ ،‬ولكن عندما نأتي إلى التطبيق هنا تبرز مشكلة‪ :‬من هم أهل االستشارة؟ هل‬
‫أنتقي شخصاً من الشارع أو المسجد أسأله‪ ..‬إلى من أتجه؟ هذا سؤال مهم جداً‪ ،‬وتترتب عليه نتيجة‬
‫مهمة‪ ،‬بعض الناس يسأل بطانته والمقربين إليه ولو كانوا أجهل وأسوأ منه حاالً‪ ،‬ولذلك نقول‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬البد أن تصلح بطانتك حتى إذا استشرتهم أشاروا عليك بالرأي السديد الذي يرضي اهلل عز‬
‫وجل‪ .‬وثانياً‪ :‬ما الفائدة من جاهل يستشير جاهالً آخر؟ فالبد من إحسان االستشارة‪ .‬كان رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم له أناساً من أصحابه لهم مميزات معينة؛ لذا كان يستشيرهم ويأخذ‬
‫بمشورتهم‪ ،‬مثال‪ :‬حديث عبد الرحمن بن غنم األشعري رضي اهلل عنه‪ :‬أن النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم قال لـأبي بكر وعمر رضي اهلل عنهما‪( :‬لو اجتمعتما في مشور ٍة ما خالفتكما) رواه اإلمام‬
‫أحمد‪ .‬وسألت الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذا الحديث؟ فقال‪ :‬إسناده حسن‪ .‬فالرسول صلى اهلل‬
‫عليه وسلم لو اجتمعت عنده مشورة أبي بكر و عمر على شيء واحد لم يخالفهما فيه‪ .‬وعمر‬
‫رضي اهلل عنه كان لديه مجموعة من المستشارين‪ ،‬وكان فيهم الشباب والشيوخ‪ ،‬ولذلك كان بعض‬
‫السلف يقول‪ :‬يا معشر الشباب! ال تحتقروا أنفسكم‪ ،‬فإن مشورة عمر رضي اهلل عنه كان فيهم‬
‫شباب حدثاء السن‪ .‬وهؤالء أهل المشورة عند عمر رضي اهلل عنه كانت لهم مواقف جميلة‪ ،‬فمنها‬
‫مثالً‪ :‬أن عم الحر بن قيس ويدعى عيينة بن حصن ‪ ،‬قال البن أخيه‪ :‬يا بن أخي‪ ،‬هل لك وجه عند‬
‫هذا األمير فتستأذن لي عليه؟ قال‪ :‬سأستأذن لك عليه‪ .‬قال ابن عباس ‪ :‬فاستأذن لـعيينة فلما دخل‪،‬‬
‫قال عيينة ‪-‬وكان فيه شيء من البداوة‪ -‬يا بن الخطاب ! واهلل ما تعطينا الجزل‪ ،‬وما تحكم بيننا‬
‫هم أن يقع به‪ ،‬فقال الحر ‪ :‬يا أمير المؤمنين! ‪-‬الحر هذا من مستشاري‬ ‫بالعدل‪ .‬فغضب عمر حتى َّ‬
‫ض َع ِن‬
‫َأع ِر ْ‬ ‫عمر ‪ -‬إن اهلل تعالى قال لنبيه صلى اهلل عليه وسلم‪ُ :‬خ ِذ اْلع ْفو وْأمر بِاْلعر ِ‬
‫ف َو ْ‬ ‫َ َ َ ُ ْ ُْ‬
‫ين)[األعراف‪ ،]199:‬وإ ن هذا من الجاهلين‪ ،‬فواهلل ما جاوزها عمر حين تالها عليه‪ ،‬وكان‬ ‫ِِ‬
‫اْل َجاهل َ‬
‫وقافاً عند كتاب اهلل‪ .‬فانظر كيف تنفع االستشارة‪.‬‬

‫من صفات المستشار‪ :‬أن يكون صاحب دين وتقى‪.‬‬


‫والمشير دائماً يأمر بالخير والرأي السديد‪ ،‬وينصح بالشيء الصحيح‪ ،‬فمن خصال المشير مثالً‪ :‬أن‬
‫يكون صاحب دين وتقى‪ :‬فإن صاحب الدين يكون أميناً في إعطاء الرأي‪ ..‬مأمون السريرة‪..‬‬
‫موفق العزيمة‪ .‬واستشارة الناس الذين ال خير وال دين فيهم كثيراً ما تكون آرائهم وباالً على‬
‫المستشير‪ .‬انظر على سبيل المثال النكبات التي أصيبت بها جيوش المسلمين في العصر الحاضر‪،‬‬
‫كل الهزائم التي مني بها المسلمون في هذا الزمان كانت بسبب استشارة الكفرة والمنافقين والناس‬
‫الذين ال يوثق بهم أبداً من أعداء اهلل‪ ،‬ألن المنافق عدو اهلل ما هو الخير من وراء استشارته‪ ،‬وإ ذا‬
‫ٍ‬
‫يومئذ هو‬ ‫أردت مثالً من القديم‪ :‬فما هو السبب في تخريب بغداد ودخولها إال أن مستشار الخليفة‬
‫ابن العلقمي الخائن الرافضي؟ ولما كان مثل ابن العلقمي الخائن هو المستشار حل الخراب في بالد‬
‫المسلمين‪ ،‬وهكذا في يومنا هذا تحصل النكبات والنكسات بسبب وجود أولئك الخبثاء الذين يشيرون‬
‫بالخطأ عمداً ونكاية‪ ،‬وتقع النكبات نتيجة أخذ آرائهم‪ .‬وورد في حديث ضعيف‪( :‬ال تستضيئوا بنار‬
‫المشركين) استنبط منه الحسن البصري استنباطاً يقول فيه‪ :‬أي‪ :‬ال تأخذوا بآراء المشركين‪ ،‬وال‬
‫تستشيروهم في أموركم‪ ،‬وال تأخذوا بآرائهم‪ ،‬ألن آراءهم مثل النار‪ ،‬وإ ن كان المعنى األقرب‬
‫للحديث‪ :‬ابتعدوا عن المشركين وال تساكنوهم وال تخالطوهم‪ ،‬والحديث فيه ضعف‪ .‬ولكن ال مانع‬
‫أن يستشار الكافر أحياناً إذا كان موثوقاً به‪ ،‬مثالً‪ :‬مقاول رأى مهندساً كافراً‪ ،‬لكن تبين له من أمر‬
‫هذا المهندس أنه ثقة في الرأي ال يخون‪ ،‬وينبغي أن ينتبه؛ ألن هؤالء الكفرة ال خير فيهم‪ ،‬قد يكون‬
‫فيهم خبث‪ ،‬وقد يكون في استشارتهم دمار عليه‪ ،‬وعلى العمل الذي يريد إنشاءه‪ ،‬لكن لو وثق به‬
‫مثل ما وثق الرسول صلى اهلل عليه وسلم بـعبد اهلل بن أريقط المشرك فقد استئجره في الطريق‪،‬‬
‫وكان إنساناً مأموناً‪ ،‬قد يكون كافراً لكن فيه أمانة‪ .‬لكن ما هو الغالب على الكفار؟ الغالب عليهم‬
‫أنهم أعداء للدين‪ ،‬وأنهم يريدون الشر بالمسلمين‪ ،‬وأن آراءهم وبال على المسلمين وليست لصالح‬
‫المسلمين‪.‬‬

‫من صفات المستشار‪ :‬أن يكون عاقالً مجرباً‪.‬‬


‫فيكون معروفاً بكثرة التجارب‪" ،‬استرشدوا العاقل ترشدوا‪ ،‬وال تعصوه فتندموا"‪ ،‬وقال عبد اهلل بن‬
‫الحسن البنه محمد ‪ :‬احذر مشاورة الجاهل وإ ن كان ناصحاً‪ ،‬كما تحذر عداوة العاقل إذا كان‬
‫عدواً‪ ،‬فإنه يوشك أن يورطك بمشاورته‪ .‬وقبيلة عبس كانوا معروفين بكثرة الصواب‪ ،‬حتى إن‬
‫رجالً سأل آخر من قبيلة عبس قال‪ :‬ما أكثر صوابكم؟ قال‪ :‬نحن ألف رجل وفينا رجل حازم‪،‬‬
‫ونحن نطيعه فكأننا ألف حازم‪ .‬وقال بعض الحكماء‪ :‬التجارب ليس لها غاية‪ ،‬والعاقل منها في‬
‫زيادة‪ .‬وقال بعض الحكماء‪ :‬من استعان بذوي العقول فاز بدرك المأمول‪ .‬وقال أبو األسود الدؤلي‬
‫رحمه اهلل‪:‬‬
‫حه ال كل ٍ‬
‫مؤت نصحه بلبيـب‬ ‫وما كل ذي لـب بمؤتـيك نصـ‬
‫ـب فحق له من طاعة بنصيب‬ ‫ولكن إذا ما استجمعا عند صاحـ‬

‫من صفات المستشار‪ :‬أن يكون عالماً بما يستشار فيه‪.‬‬


‫هنا تبرز قضية وهي‪ :‬هل يوجد إنسان معين يصلح أن نستشيره في جميع األشياء‪ ،‬أم أن هناك‬
‫أناساً نستشيرهم في أشياء وال نستشيرهم في أشياء أخرى؟ الحقيقة أن هذا األخير هو أقرب إلى‬
‫الصواب‪ ،‬فإنه ينبغي أن يستشار كل إنسان في مجال تخصصه‪ ،‬فإذا كانت قضية شرعية ال تعرف‬
‫حكمها؛ فإنك تستشير العلماء‪ ..‬إذا كان عندك مشكلة في تخصص دراسي تستشير أهل الخبرة‬
‫بالتخصصات‪ ..‬إذا كان عندك مشكلة وظيفية في الوظائف ال تدري إلى أي وظيفة تذهب‪ ،‬تستشير‬
‫الخبراء بهذا‪ .‬إذاً‪ :‬ليس بالضرورة أن يوجد شخص يفهم في كل األمور‪ ،‬بعض الناس يظن أنه إذا‬
‫استشار فالناً في شيء‪ ،‬ولم يستشره في شيء آخر فإن هذا إزراء عليه‪ ،‬يقول‪ :‬هذا رجل موثوق‪،‬‬
‫إذا لم أستشره في كل القضايا فكأني أزري به‪ ،‬ولكن ليس األمر كذلك‪ ،‬فبعض الناس يفهمون في‬
‫األدوات الكهربائية‪ ،‬وبعض الناس ال يفهمون في األدوات الكهربائية‪ ،‬وإ ن كان هؤالء الذين ال‬
‫يفهمون في األدوات الكهربائية قد يكونون أعلم بعلوم الشريعة من غيرهم‪ ،‬فإذاً نستشير كالً في‬
‫مجال تخصصه‪.‬‬

‫من صفات المستشار‪ :‬أن يكون عنده علم بالشريعة‪.‬‬


‫يتضمن العلم بأحوال الناس‪ ،‬وعلم الزمان والمكان والترجيح‪ ،‬كما ذكر المناوي رحمه اهلل في شرح‬
‫حديث‪ ( :‬المستشار مؤتمن )‪ .‬فما يصلح لمكان قد ال يصلح لمكان آخر‪ ،‬وما يصلح لزمان قد ال‬
‫يصلح لزمان آخر‪ ،‬وأحياناً تتزاحم األمور‪ ،‬فالبد أن يكون المستشار عنده عقل راجح يرجح لك به‬
‫أي األمور تقدمها اآلن عندما تتزاحم األشياء‪ .‬وأن يكون ناصحاً ودوداً‪ ،‬فإن النصح والمودة‬
‫يصدقان الفكرة ويمحصان الرأي‪.‬‬

‫من صفات المستشار‪ :‬أن يكون سليم الفكر من الهموم والغموم‪.‬‬


‫فلو استشرت إنساناً مغموماً وفكره مشغول بأشياء‪ ،‬فهل تتوقع أن يعطيك إشارة واستشارة‬
‫أمر بعث إلى مرازبته ‪-‬‬
‫صحيحة؟ كان كسرى ‪-‬هذه من الحكم تؤخذ حتى من الكفار‪ -‬إذا دهمه ٌ‬
‫وهم األمراء الكبار وأهل الرأي‪ -‬فاستشارهم‪ ،‬فإن قصروا في الرأي‪ ،‬أي‪ :‬لم يعطوه الرأي‬
‫الصحيح‪ ،‬ضرب قهارمته ‪-‬وهم القائمون على األموال‪ -‬لماذا؟ ألنهم لم يعطوهم أرزاقهم‪ ،‬وكان‬
‫يقول لهم‪ :‬أبطأتم بأرزاقهم فأخطئوا في آرائهم‪ ،‬ولو أعطيتموهم األموال التي يحتاجوها لما جلس‬
‫واحدهم مهموم يفكر من أين يسترزق‪ ،‬فانشغل همه بتحصيل المال والرزق‪ ،‬فصارت آراؤه ليست‬
‫مر بـاألحنف بن قيس‪ ،‬فقال‪ :‬لوال أنك عجالن لشاورتك في‬
‫سديدة‪ .‬ولذلك يقال‪ :‬إن حارثة بن زيد َّ‬
‫بعض األمر‪ ،‬فقال‪ :‬يا حارثة أج ّل‪ .‬وكانوا ال يشاورون الجائع حتى يشبع‪ ،‬والعطشان حتى ينقع‪،‬‬
‫واألسير حتى يطلق‪ ،‬والمضل حتى يجد‪ ،‬والراغب حتى يمنح‪ .‬وقيل‪ :‬ال تشاور صاحب حاجة‬
‫يريد قضاءها‪ ،‬وال جائعاً‪ .‬وقالوا‪ :‬ال رأي لحاقن وال لحازق‪ ،‬ومن هو الحازق؟ هو الذي ضغطه‬
‫حذاؤه فهو يؤلمه‪ ،‬فطالما وهو يمشي ذهنه مشغول بضيق الحذاء‪ ،‬ولذلك هذا ال يصلح ألن‬
‫يستشار‪ ،‬ألن ذهنه مشغول بالحذاء‪ ،‬والحاقن هو‪ :‬الذي يجد شيئاً في بطنه‪ ،‬مثل الغازات أو األلم أو‬
‫شيء من هذا القبيل‪ ،‬فهذا الذي في بطنه هذا الشيء ال يعطيك الرأي الصواب؛ ألن ذهنه مشغول‬
‫بشيء آخر‪.‬‬

‫من صفات المستشار‪ :‬أاَّل يكون صاحب هوى‪.‬‬


‫البد أن يكون المستشار ليس بصاحب هوى أو غرض شخصي يتابعه‪ ،‬فإن هذا الشخص لو كان‬
‫ذكي وخبير لكنه صاحب هوى فإنه سيشير عليك بالرأي الذي يهواه هو‪ ،‬وهذا شيء خطير جداً‪.‬‬
‫فلو أن شخصاً يميل إلى شيء‪ ،‬وجئت واستشرته؛ فإنه سوف يشير عليك بما يهواه ال ألنه صواب‬
‫ولكن ألنه يهواه‪ .‬مثالً‪ :‬رجل عنده أخت فيها عيوب‪ ،‬لكن همه أن تتزوج بأي وسيلة‪ ،‬وجئت‬
‫تستشيره‪ ،‬وقلت له‪ :‬أريدك أن تبحث لي عن فتاة‪ ،‬فماذا سيقول لك؟ سيقول‪ :‬طلبك عندي‪ ،‬أشيرك‬
‫على فالنة مع أن فيها عيوباً‪ .‬لكنه اآلن عنده هوى وغرض شخصي‪ ،‬مثل‪ :‬صاحب الدكان يكون‬
‫عنده بعض السلع‪ ،‬وعند جاره سلع أفضل منها‪ ،‬وتستشيره تقول‪ :‬ما رأيك آخذ هذا‪ ،‬أو أبحث عن‬
‫نوع آخر‪ ،‬هو صاحب غرض اآلن‪ ،‬سيقول‪ :‬ال‪ .‬هذه نوعية ممتازة خذ منها‪ ،‬فاآلن يجب أن يكون‬
‫المستشار ليس صاحب هوى‪ ،‬وال صاحب غرض شخصي‪ .‬وبعض الناس يذهب يستشير صاحب‬
‫هوى فيشير عليه بما يهواه‪ ،‬ثم يقول‪ :‬الحمد هلل استشرت‪ ،‬نقول‪ :‬ال‪ .‬أين استشرت؟! أنت اآلن‬
‫استشرت من لديه ميول معينة‪ ،‬فأشار عليك بما يهواه وبما يميل إليه‪ ،‬فاستشارتك ناقصة في‬
‫الحقيقة‪ .‬وبعض األحيان يكون معرفة حال المستشير مهم للمستشار‪ :‬فالبد أن تسأل الشخص الذي‬
‫يعرف حالتك أكثر من غيرك‪ ،‬فبعض الناس أحياناً يتخطون أناساً قريبين منهم‪ ،‬مع أن عندهم عقل‬
‫راجح‪ ،‬وعندهم بصيرة‪ ،‬وهم أهل لالستشارة‪ ،‬فيتخطون القريب إلى آخر بعيد ال يعرف حال‬
‫علي‪ ،‬وماذا تنصحني في حالتي هذه؟ ويعرض له مشكلة خاصة تتعلق‬
‫المستشير‪ ،‬ويقول له‪ :‬أشر ّ‬
‫بواقعه الشخصي‪ ،‬وقد يخفي شيئاً من خلفيتها‪ ،‬والمستشار ال يدري عن الخلفية‪ ،‬ألنه ليس محتكاً‬
‫وال قريباً من المستشير‪ ،‬فيشير عليه برأيه‪ ،‬فيقول هذا‪ :‬الحمد هلل أنا استشرت‪ .‬فنقول‪ :‬ال‪ .‬أنت‬
‫استشرت َم ْن ليس لديه خبره بحالك‪ ،‬وتخطيت أناساً آخرين لهم معرفة بحالك من الممكن أن‬
‫تستشيرهم‪ ،‬لكنك تخاف أن يقولوا لك‪ :‬ال تفعل‪ ،‬أو افعل‪ ،‬وأنت ال تهوى هذا الشيء‪ ،‬وبنفس الوقت‬
‫تريد أن تستشير‪ ،‬لكن تريد الجواب الذي تهواه؛ لذا ذهبت إلى البعيد‪ ،‬ولو كان شيخاً كبيراً‬
‫وعظيماً‪ ،‬وتقول له‪ :‬ما رأيك في المشكلة الفالنية؟ وتخفي عنه أشياء‪ ،‬وال تعرض له خلفية‬
‫علي‪ ،‬فلما يشير عليك بالذي تهواه‪ .‬وقد يستشير الشخص َم ْن يرتاح إليهم‬
‫القضية‪ ،‬وتقول‪ :‬أشر ّ‬
‫عاطفياً‪ ،‬ال ألنهم أهل بصيرة‪ ،‬وال ألنهم أهل تجربة‪ ،‬وال ألنهم أهل دين‪ ،‬ولكن ألنه يستريح لهم‬
‫ويتقارب معهم نفسياً‪ ،‬فتجد أنه يستشيره في أموره الخاصة والخطيرة‪ ،‬مع أن هذا المستشار أدنى‬
‫منه منزلة‪ ،‬لكن ألنه يرتاح إليه عاطفياً ونفسياً‪ ،‬فتجده يستشيره في أشياء كثيرة من أموره التي من‬
‫األولى أن يستشير فيها أناساً آخرين‪ .‬وما هي المنفعة من استشارة شخص تميل إليه عاطفياً وليس‬
‫عنده خبرة في المشورة؟‬

‫من صفات المستشار‪ :‬أن يشعر بعظم أمانة مشورته‪.‬‬


‫المستشار يجب أن يشعر بالمسئولية‪ ،‬بأنه اآلن استؤمن على شيء‪ ،‬ولذلك قيل‪ :‬المشاورة راحة لك‬
‫وتعب على غيرك؛ ألن المستشير اآلن تحمل مسئولية عظيمة‪ ،‬ولذلك ليتق اهلل كل مستشار فيما‬
‫يستشار فيه‪ ،‬ويعلم أنها أمانة‪ ،‬ويعلم أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد قال‪ ( :‬المستشار مؤتمن‬
‫َأن َي ْح ِمْلَنهَا َوَأ ْشفَ ْق َن‬ ‫ض واْل ِجَب ِ‬
‫ال فَ ََأب ْي َن ْ‬ ‫ات و ْ ِ‬
‫اَأْلر َ‬
‫ِ‬
‫َّم َاو َ‬ ‫اَأْلم َانةَ َعلَى الس َ‬
‫ضَنا َ‬ ‫) والقضية أمانة‪ِ :‬إَّنا َع َر ْ‬
‫َأهِلهَا [النساء‪.]58:‬‬ ‫ات ِإلَى ْ‬ ‫َأن تُ ُّدوا اَأْلم َان ِ‬ ‫ِإ َّ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫م ْنهَا َو َح َملَهَا اإلنسان [األحزاب‪َّ ،]72:‬ن اللهَ َي ُ‬
‫ْأم ُر ُك ْم ْ َؤ‬
‫فمن جعل أخاه مستشاراً واستشاره فقد جعله بمنزلة المؤتمن‪ ،‬فيجب عليه أن يكون أميناً وهو يشير‬
‫عليه‪ ،‬وأال يفشي بالسر‪ .‬فإذا كانت لديك قضية خاصة ال تريد خبرها أن يتسرب إلى أحد فتستشير‬
‫فيها‪ ،‬فمن أمانة المستشار أال يسرب هذه القضية إلى أناس آخرين‪ ،‬إال إذا كان هناك مفسدة عظيمة‬
‫تنشأ‪ ،‬أو مصلحة كبيرة تفوت أكبر من مفسدة هذا‪ ،‬ألنك اآلن تستودع عنده سرك‪ ،‬وأحياناً تكون‬
‫قضية خاصة جداً تستودعها عند هذا المستشار‪ .‬ومما ورد في هذا‪ :‬قال البخاري رحمه اهلل في‬
‫األدب المفرد‪( :‬باب المستشار مؤتمن) عن أبي هريرة قال‪( :‬قال النبي صلى اهلل عليه وسلم لـأبي‬
‫الهيثم ‪ :‬هل لك من خادم؟ قال‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬فإذا أتانا سبي فأتنا‪ ،‬فأتي النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫برأسين ليس معهما ثالث‪ ،‬فأتاه أبو الهيثم ‪-‬حسب االتفاق‪ -‬فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬اختر‬
‫واحداً من هذين الرجلين‪ ،‬فقال الصحابي وكان فطناً‪ :‬بل أنت اختر لي يا رسول اهلل! فقال النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬المستشار مؤتمن‪ ،‬خذ هذا فإني رأيته يصلي واستوصي به خيراً)‪ .‬حديث‬
‫صحيح رواه البخاري في األدب المفرد و الترمذي وغيرهما‪ .‬انظر من قبل قال‪ :‬اختار لك فلما‬
‫ُحمل الرسول صلى اهلل عليه وسلم أمانة االستشارة صار عنده موقف آخر‪ ،‬قال (المستشار مؤتمن‪،‬‬
‫خذ هذا فإني رأيته يصلي) انظر كيف تغير موقف الرسول صلى اهلل عليه وسلم؛ ألن المسألة‬
‫أصبحت أمانة‪ .‬ومن أشار على أخيه المسلم برأي ليس صواباً وهو يعلم أنه ليس بصواب‪ ،‬ورد فيه‬
‫وعيد في حديث صحيح‪ ،‬قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬من تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من‬
‫النار‪ ،‬ومن استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد‪ ،‬فقد خانه)‪ ،‬وفي رواية‪( :‬وأشار عليه بأمر‬
‫يعلم أن الرشد في غيره‪ ،‬فقد خانه‪ ،‬ومن أفتى بفتيا غير ثبت فإثمه على من أفتاه)‪ .‬إذاً‪ :‬الذي يشير‬
‫على أخيه بشيء وهو يعلم أن الصواب غير هذا فهذه خيانة‪ ،‬وفيها أثم عظيم‪( :‬ومن غشنا فليس‬
‫منا) كما قال عليه الصالة والسالم‪ .‬ومن النوادر العجيبة في هذا‪ :‬أن أحد الحكام استشار شخصاً‪،‬‬
‫قال له‪ :‬ما رأيك في تولية فالن القضاء؟ قال‪ :‬فالن هذا شخص موثوق‪ ،‬ورأيي أنك توليه القضاء‪.‬‬
‫ثم جاء هذا الشخص الذي يراد أن يتولى القضاء إلى المستشار الذي استشاره الحاكم‪ ،‬فقال له‪ :‬يا‬
‫علي الحاكم أن أتولى القضاء‪ ،‬فما رأيك؟ قال‪ :‬اللهم ال‪ .‬ال أشير عليك أن تتولى‬
‫فالن‪ ،‬عرض ّ‬
‫القضاء‪ ،‬القضاء فيه فتنة‪ ،‬وفيه مسئولية‪ .‬فالحاكم لما سمع استعجب‪ ،‬قال‪ :‬أنا عندما أستشيرك‪،‬‬
‫تقول‪:‬نعم‪ ،‬وعندما يستشيرك فالن‪ ،‬تقول‪ :‬ال‪ .‬ما هذا؟! فقال‪ :‬أيها األمير! استشرتني فاجتهدت لك‬
‫رأيي ونصحتك‪ ،‬واستشارني فاجتهدت له رأيي ونصحته‪ ،‬المسألة باألمانة‪ ،‬فأنا ال أقول له عندما‬
‫يستشيرني‪ :‬نعم؛ ألنك أنت تريده‪.‬‬

‫من أخطاء المستشار‪:‬‬


‫بعض الناس يشيرون قبل أن يطلب منهم الرأي‪ ،‬وهذا يعتبر نوع من التدخل‪ ،‬إال إذا كانت المسألة‬
‫تتطلب أن يبدي رأيه اآلن لتوقعات ستحدث‪ ،‬لكن هناك بعض الناس يدسون أنوفهم في كل شيء‪،‬‬
‫دائماً يبدي رأيه‪ ،‬مع أن التدخل قد ال يكون مناسباً‪ ،‬أو يشير وهو ليس بأهل‪ .‬إذا جاءك من‬
‫يستشيرك وأنت ليس عندك خبرة في هذا الشيء‪ ،‬فماذا تفعل؟ تقول له‪ :‬أرجو المعذرة‪ ،‬أنا ليس‬
‫عندي خبرة‪ ،‬وال أستطيع أن أشير عليك‪ ،‬اذهب إلى غيري‪ ،‬وهذا إذا أردت أن تكون أميناً‪ .‬لكن‬
‫بعض الناس ما إن يأتيه َمن يستشيره حتى يخرج له الرأي‪ ،‬حتى ولو كان رأياً فاشالً‪ ،‬أو غير مبني‬
‫على أي شيء من العلم أو الخبرة‪ ،‬وفي كثير من األحيان إذا كان المستشار غير أهل للمشورة‬
‫وجاءه إنسان واستشاره‪ ،‬فإن رأيه يزيد األمور تعقيداً‪ .‬في بعض الحاالت يأتي من يقول‪ :‬أنا عندي‬
‫مشكلة مع أهلي كذا وكذا‪ ،‬فيأتي من يقول‪ :‬أنا أشير عليك أن تتركهم لمدة أسبوع وتنام خارج البيت‬
‫حتى تأدبهم‪ .‬أو يقول‪ :‬زوجتي كذا وكذا‪ ،‬فيقول‪ :‬أنا رأيي أنك تطلقها‪ .‬وفي بعض الحاالت عندما‬
‫تكون االستشارة خاطئة تؤدي إلى نتائج عكسية‪ ،‬ولذلك البد من انتقاء المستشار‪ ،‬وال ينبغي‬
‫لإلنسان أن يتبرع برأييه كما قال الشاعر‪:‬‬
‫فال أنت محمود وال الرأي نافع‬ ‫فال تمنحن الرأي من ليس أهله‬
‫أحياناً بعض الناس يتدخل ويعطي رأيه‪ ،‬فإذا كان الذين أعطاهم الرأي ليسوا بأهل‪ ،‬فقد يقولون له‪:‬‬
‫لماذا تتدخل في الموضوع؟ فيكون رأيه وباالً عليه‪ ،‬فلذلك ال يعطي الرأي المناسب إال في الوقت‬
‫ابتداء دون طلب‬
‫ً‬ ‫المناسب‪ ،‬وعندما يسأل الشخص ويعطي الرأي‪ ،‬يكون الرأي أثقل مما إذا أعطاه‬
‫استشارة‪ .‬بعض الناس يعتقدون أن استشارة النساء من النكبات والمصائب‪ ،‬ويستدلون على ذلك‬
‫بأحاديث‪( :‬شاوروهن وخالفوهن) هذا حديث مشهور عند بعض العوام‪ ،‬مع أن هذا الحديث ال‬
‫أصل له مرفوعاً‪ ،‬ومعناه خطأ‪ ،‬وكذلك ما يروى عن عمر‪[ :‬خالفوا النساء فإن في خالفهن البركة]‬
‫وهذا أيضاً إسناده ضعيف وال يثبت‪ ،‬والحديث الموضوع اآلخر‪" :‬طاعة المرأة ندامة"‪ ،‬ألن النساء‬
‫صحيح أنهن أقل عقالً‪ ،‬لكن بعض النساء قد تأتي برأي ال يأتي به أكابر الرجال‪ .‬مثال ذلك‪ :‬في‬
‫حادثة الحديبية أمر الرسول صلى اهلل عليه وسلم الناس أن يحلقوا وينحروا بعد أن عقد االتفاقية مع‬
‫قريش‪ ،‬ومن الغم ماذا فعل الصحابة؟ لم ينفذوا األمر‪ ،‬فمن الذي حل المشكلة؟ أم سلمة رضي اهلل‬
‫عنها‪ ،‬دخل الرسول صلى اهلل عليه وسلم عليها مكروباً‪ ،‬كيف يأمر الصحابة وال ينفذوا؟!‪ .‬شيء‬
‫عظيم‪ ،‬فقالت أم سلمة‪[ :‬يا رسول اهلل! احلق رأسك أمامهم وانحر هديك وسوف سيتابعوك]‪ .‬وفعالً‬
‫خرج الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأخذ برأي أم سلمة فحلق الصحابة رءوسهم ونحروا هديهم‪،‬‬
‫وكان الذي أتى بالرأي الذي حل هذا اإلشكال العظيم أم سلمة ‪ ،‬امرأة لكن ليست كأي امرأة‪ ،‬وهذا‬
‫يبين لنا أن النساء لسن محتقرات الرأي في اإلسالم‪ ،‬ولكن ال يعني األمر هذا أن الرجل يفلت‬
‫الزمام للمرأة فتكون هي التي تشير وهو الذي ينفذ‪ ،‬فال إفراط وال تفريط‪ ،‬ال احتقار وال إهانة‪.‬‬
‫ويروى أن رجالً كان دائماً يشاور زوجته ويخالفها‪ ،‬فتضايقت منه جداً‪ ،‬وفي يوم من األيام‬
‫شاورها في شيء ثم خالفها؛ فثارت في وجهه‪ ،‬فقال‪ :‬إنما أفعل هذا ديانة‪ ،‬لحديث‪( :‬شاوروهن‬
‫وخالفوهن) لماذا تلوميني؟ فعندما ذهب وسأل تبين له أن الحديث ليس بثابت‪ ،‬وأنه ال يثبت‬
‫مرفوعاً‪ ،‬فهذه قضية اجتماعية ‪-‬شرخ في البيت‪ -‬بسبب هذا الحديث الضعيف أو الموضوع‪.‬‬

‫من الذي يستشير؟‬


‫العادة أن الصغير هو الذي يستشير من هو أكبر منه‪ ،‬أو األقل علماً يستشير من هو أعلم منه‪...‬‬
‫وهكذا‪ ،‬لكن ال يمنع أحياناً أن الكبير يستشير من هو أصغر منه‪ ،‬عمر رضي اهلل عنه وهو خليفة‬
‫يستشير أناساً فيهم ابن عباس وهو صغير السن‪ ،‬وهذا من ذكاء عمر رضي اهلل عنه وحسن إدارته‬
‫لألمور‪ ،‬أنه كان يجمع في مجلس مشورته بين شباب في مقتبل العمر‪ ،‬وبين شيوخ كبار في مجلس‬
‫واحد‪ ،‬فيجمع بين شدة تفكير الشباب‪ ،‬وخبرة وحكمة الشيوخ‪ .‬أحياناً ذهن الشباب ينقدح فيه ما ال‬
‫ينقدح في ذهن الكبير‪ ،‬ألن الشاب حاد الذهن متوقد وفيه حيوية ونشاط‪ ،‬ممكن أن يأتي برأي ال‬
‫يستطيع بعض الشيوخ أن يأتي به‪ ،‬وبنفس الوقت بعض الشباب قد يطرحوا آراء متهورة اندفاعية‬
‫بسبب االندفاعية التي توجد في طبيعتهم‪ ،‬فالبد أن يوجد هناك شيوخ يقيدون هذه االندفاعية‪،‬‬
‫ويوجهون هذا اإلقدام الشديد بخبرتهم وحكمتهم‪ ،‬وكذلك إذا كانت هناك مجموعة تريد رأياً معيناً‬
‫فيكفي أن يأتي اثنين بالخبر اليقين‪ ،‬وليس هناك ضرورة في أن تذهب المجموعة كلها وتستشير‪.‬‬
‫استشارة الوالدين مهمة‪ ،‬لماذا؟ ألن االستشارة فيها تقدير‪ ،‬فاإلنسان دائماً يحرص على استشارة‬
‫والديه‪ ،‬حتى لو أنه تبين له األمر وعرف أن مصلحته كذا‪ ،‬لكن من باب تأليف القلوب‪ ،‬إال إذا علم‬
‫أن الوالدين قد يأمرانه بأمر ليس مخالف للحق‪ ،‬فقد يكون عدم أخذ رأيهم أحسن‪ ،‬حتى ال تظهر‬
‫مخالفته بشكل واضح‪ ،‬لكن إذا علم أن والديه لن يشيرا عليه بأمر باطل‪ ،‬فشيء طيب على أن‬
‫يحرص على أخذ آرائهم دائماً‪ .‬وكذلك النساء عليهن استشارة الرجال؛ ألن الرجال أكمل عقالً‬
‫وأقوم في األمور‪ ،‬فالنساء أحياناً قد يحتجن إلى أشياء في طلب العلم أو في الدعوة إلى اهلل‪ ،‬وقد‬
‫تأتي أحياناً بين النساء أفكار فيها نوع من الخروج عن المألوف‪ ،‬أو الخروج عما يمكن أن يقبله‬
‫الناس‪ ،‬أحياناً قد يأتي عند النساء أشياء تطرح بقوة في مجاالت معينة ال يمكن أن يتقبلها الناس‬
‫وليست من المألوف‪ ،‬بل قد تسبب مشاكل في المجتمع‪ ،‬فلذلك البد أن يكون هناك نوع من الرجوع‬
‫من قبل النساء إلى الرجال‪.‬‬

‫كيف تستشير؟‬
‫هل أستشير فرداً‪ ،‬أم جماعة‪ ،‬أم أستشير الجماعة كل شخص بمفرده؟ نحن نثق ونعلم ونوقن أن‬
‫اإلسالم سبق الغرب في القيادة االستشارية‪ ،‬وأن خلفاءنا وعلماءنا من القديم كانوا يطبقون هذا‬
‫المفهوم‪ ،‬وليس الغرب اآلن هو الذي اكتشف هذا ودونت في كتب اإلدارة الحديثة‪ ،‬بل هي قضية‬
‫قديمة‪ .‬االستشارة لها منازل‪ ،‬منها‪ :‬ما يدخل فيه الرهط‪ ،‬ومنها‪ :‬ما يستعان فيه بقوم‪ ،‬ومنها‪ :‬ما‬
‫يستغنى فيه برأي واحد‪ ،‬ليس هناك قاعدة معينة أنك تسأل جمع كثرة أو قلة أو واحد حسب الحالة‪.‬‬
‫بعض علمائنا ناقشوا قضية استشارة الجماعة أم استشارة الفرد؟ فبعضهم قال‪ :‬األولى أنك تجمع‬
‫الناس المستشارين وتستشيرهم؛ ألن هذا فيه إجالة فكر‪ ،‬ومناقشة األشياء وتنقيحها‪ ،‬وإ ذا طرح رأي‬
‫يعارض من قبل الذين عندهم آراء أخرى‪ ،‬ويرى الجميع سلبيات وإ يجابيات الرأي‪ ،‬وتقع مناظرة‬
‫تنتهي بتنقيح المشورة‪ ،‬أي‪ :‬سيتناقشون ويتناقشون حتى يظهر الرأي الصحيح‪ .‬وبعضهم قال‪:‬‬
‫األولى أنك تستشير كل واحد بمفرده‪ ،‬لماذا؟ قال‪ :‬ألنك لو طرحت على الجماعة‪ ،‬قلت‪ :‬أستشيركم‬
‫في كذا‪ ،‬كل شخص سوف يلقي المسئولية على اآلخر ويسكت‪ ،‬ويقول‪ :‬اآلن فالن سيأتي بالرأي‪،‬‬
‫فال يحدث إنقداح قوي لألذهان‪ ،‬لكن لو استشرت كل واحد لوحده‪ ،‬فعندما تسأله يحس بالمسئولية‪،‬‬
‫فيعطيك الرأي بعد تفكير وتمحيص‪ ،‬لكن لو جمعتهم يمكن أن يكون هناك تواكل‪ .‬والحقيقة أن‬
‫المسألة ليس لها جواب معين‪ ،‬أي‪ :‬ليس دائماً استشارة كل واحد لوحده صحيحة‪ ،‬وليس دائماً‬
‫استشارة المجموعة هو الصواب‪،‬ـ بعض األحيان يكون االجتماع أبلغ وأحسن‪ ،‬وبعض األحيان‬
‫تكون استشارة كل واحد على حدة أفضل‪.‬‬

‫كيفية استشارة الرسول‪:‬‬


‫نأخذ مثاالً من السيرة‪ :‬حادثة واحدة وقع فيها نوعين من االستشارة‪ :‬استشارة فردية واستشارة‬
‫جماعية‪ ،‬حادثة اإلفك‪ ،‬الرسول صلى اهلل عليه وسلم عندما تكلم في أهله المنافقون ونشروا الفتنة‬
‫والبلبلة‪ ،‬ماذا فعل الرسول صلى اهلل عليه وسلم؟ صعد على المنبر‪ ،‬وخطب الناس‪ ،‬وحمد اهلل وأثنى‬
‫علي في قوم يسبون أهلي‪ ،‬واهلل ما علمت عليهم من سوء قط) استشارة‬
‫عليه‪ ،‬وقال‪( :‬أشيروا ّ‬
‫جماعية؛ ألن الرسول صلى اهلل عليه وسلم يريد أن يتخذ موقفاً جماعياً من المنافقين المندسين بين‬
‫األنصار‪ ،‬فإذاً البد من أن يجتمع الناس على رأي؛ ألن المسألة تعم الجميع‪ .‬لكن لما جاء عليه‬
‫الصالة والسالم ليستشير في أمر عائشة ‪ ،‬ماذا فعل؟ استشارة شخصين هما‪ :‬أسامة بن زيد حب‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وابن حبه‪ ،‬واستشار علي بن أبي طالب الصهر‪ ،‬وهل من المصلحة‬
‫أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم يقف على المنبر يقول‪ :‬يا أيها الناس‪ ،‬أشيروا علي في براءة‬
‫زوجتي؟ هذا ليس بمناسب‪ ،‬ولذلك أخذ علياً وسأله‪ ،‬وأخذ أسامة وسأله‪ ،‬لكن عندما صارت المسألة‬
‫موقف من المنافقين‪ ،‬وشيء يعم الجميع صعد على المنبر واستشار‪ .‬فإذاً‪ :‬عندما يكون األمر متعلقاً‬
‫بالجميع‪ ،‬فتكون االستشارة جماعية‪ ،‬وعندما يتعلق األمر بشيء خاص‪ ،‬أو تكون هناك حساسية‬
‫معينة‪ ،‬وليس من المعقول أن يجمع الناس ويؤخذ رأيهم في شيء من هذا فتكون فردية‪ ،‬فمن‬
‫سيتزوج هل يجمع كل أصحابه ويقول‪ :‬ما رأيكم في زواجي من فالنة؟ ال‪ .‬وإ نما سيذهب إلى واحد‬
‫بالسر بينه وبينه فيشير عليه‪ ،‬اإلنسان إذا عرف الصوابـ وتوصل إلى نتيجة هل يستشير ويستشير‬
‫ت فَتََو َّك ْل َعلَى اللَّ ِه [آل عمران‪:‬‬
‫موجود في قوله عز وجل‪ :‬فَِإ َذا َع َز ْم َ‬
‫ٌ‬ ‫أم ينفذ االستشارة؟ الجواب‬
‫‪ ]159‬وفي البخاري ‪ :‬عندما شاور الرسول صلى اهلل عليه وسلم الناس في أحد ‪ ،‬أشار عليه‬
‫المتحمسون بالخروج من المدينة ‪ ،‬فلبس عليه الصالة والسالم ألمته‪ ،‬فلما أشار عليه اآلخرون‬
‫بالبقاء‪ ،‬ماذا قال عليه الصالة والسالم؟ (ال ينبغي لنبي إذا لبس ألمته أن ينزعها) لماذا؟ ألننا‬
‫استشرنا وأخذنا الرأي هذا إذاً ننفذ‪ .‬ولم يكن هناك وضوح تام أن البقاء في المدينة (‪ )%100‬هو‬
‫األصلح؛ بدليل أن المسلمين انتصروا في البداية‪ ،‬فلو نفذت األوامر كما ينبغي لكمل االنتصار‪.‬‬

‫ال استشارة مع وجود النص‪:‬‬


‫كذلك إذا تبين لإلنسان وجه الحق في شيء فال يسمع كالم أي شخص بعد ذلك‪ .‬مثال‪ :‬أبو بكر‬
‫الصديق رضي اهلل عنه لما عزم على قتال المرتدين‪ ،‬قال عمر‪( :‬كيف تقاتل قوماً قالوا‪ :‬ال إله إال‬
‫اهلل‪ ،‬وقد قال الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‪ :‬ال إله إال اهلل‪ ،‬فإذا‬
‫قالوا‪ :‬ال إله إال اهلل‪ ،‬عصموا مني دماءهم وأموالهم إال بحقها وحسابهم على اهلل تعالى‪ ،‬فقال أبو‬
‫بكر‪ :‬واهلل ألقاتلن من فرق بين ما جمع اهلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم)‪ .‬ثم تابعه بعد ذلك عمر‬
‫على رأيه ‪-‬هذه رواية البخاري ‪ -‬فلم يلتفت أبو بكر رضي اهلل عنه إلى مشورة عمر‪ ،‬إذ كان عنده‬
‫حكم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في الذين فرقوا بين الصالة والزكاة‪ .‬فإذاً أبو بكر لما عرف‬
‫الحق لم يقبل مشورة أحد‪ .‬ونحن اآلن يقع بعضنا في إشكال وهو‪ :‬قد يستشير في أمر‪ ،‬لكن حتى‬
‫مع االستشارة ال يتبين له وجه الصواب‪،‬ـ وال يدري ما هو الحق‪ ،‬تضاربت عنده اآلراء وكل واحد‬
‫يشير عليه برأي معين‪ ،‬فماذا يفعل؟ قال شيخ اإلسالم رحمه اهلل في الفتاوي ‪ :‬وإ ذا استشارهم‪ ،‬فإن‬
‫بين له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب اهلل أو سنة رسوله صلى اهلل عليه وسلم أو إجماع‬
‫المسلمين‪ ،‬فعليه اتباع ذلك وال طاعة ألحد في خالف ذلك‪ ،‬وإ ن كان عظيماً في الدين والدنيا‪ ،‬وإ ن‬
‫كان أمراً تنازع فيه المسلمون‪ ،‬فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه ووجه‪ -‬أي‪ :‬الرأي وعلى‬
‫ماذا اعتمد هذا الرأي؟‪ -‬فأي اآلراء كان أشبه بكتاب اهلل وسنة رسوله صلى اهلل عليه وسلم عمل‬
‫بها‪ .‬يقول‪ :‬أنت يا فالن ما رأيك؟ ما دليلك؟‪ ...‬ثم ينظر هذا الرجل أيها أقرب إلى الكتاب والسنة‪،‬‬
‫وأشبه بنصوص الكتاب والسنة فيعمل به‪ .‬لو أن إنساناً ليس عنده خبرة أو علم‪ ،‬وال يستطيع أن‬
‫يعرف ما هو األشبه بالكتاب والسنة‪ ،‬فماذا يفعل؟ يقول شيخ اإلسالم رحمه اهلل‪ :‬ومتى أمكن في‬
‫الحوادث المشكلة معرفة ما د ّل عليه الكتاب والسنة كان هو الواجب‪ ،‬وإ ن لم يكن ذلك‪ -‬هذه مسألتنا‬
‫اآلن‪ -‬لضيق الوقت‪ .‬أي‪ :‬الواحد ليس عنده وقت اآلن ينقح اآلراء ويقضي وقتاً طويالً‪ ،‬أو عجز‬
‫الطالب‪ ،‬عرف أقوال ثالثة من العلماء متضاربة‪ ،‬وليس عنده قدرة على الترجيح‪ ،‬أو تكافأت األدلة‬
‫فال يستطيع أن يرجحها أو غير ذلك‪ ،‬فماذا يفعل؟ يقلد األعلم‪ ،‬شخص قرأ ثالث فتاوى لثالثة‬
‫مشايخ فيها آراء مختلفة‪ ،‬وحاول أن يبحث في األدلة فما استطاع‪ ،‬ماذا يفعل؟ يقلد األعلم‪ .‬نرجع‬
‫فنقول‪ :‬إذا كانت القضية شرعية فاألعلم فيها هو األعلم بالشريعة‪ ،‬وإ ذا كانت قضية تخصص‬
‫دراسي‪ ،‬فاألعلم بالتخصصات وبواقعك وبشخصيتك تأخذ برأيه‪ ،‬فتقلده إذا تضاربت عندك اآلراء‪.‬‬
‫ولذلك نقول‪ :‬العالم يأخذ باألعلم‪ ،‬وإ ذا كانت القضية تتعلق بالواقع يأخذ برأي األقرب وأوعاهم‬
‫وأكثرهم وعياً بالواقع‪ ،‬والذي يعرف أصول اإلسالم ويثق فيه أكثر‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ :‬يأخذ من‬
‫تجتمع فيه شروط المستشار أكثر من غيره‪ .‬أحياناً إذا شعر الواحد أنه إذا استشار عدة أشخاص‪،‬‬
‫فإن هذا يكون سبباً لضياعه وتشتت ذهنه‪ ،‬فإنه ال داعي ألن يفعل هذا‪ ،‬وإ نما يستشير من يعتقد أنه‬
‫األقرب إلى الصواب‪ .‬طالب العلم مثالً لو استعصت عليه مسألة وسأل فيها أكثر من عالم‪ ،‬وشعر‬
‫أن أخذ آراء خمسة من العلماء سيجعل فيه نوعاً من التشتت‪ ،‬وسيجعله يرجح‪ ،‬إما بالهوى‪ ،‬أو‬
‫باألكثرية‪ ،‬وهذا ليس دائماً صحيحاً‪ ،‬أو ألن أحد األقوال يوافق تفكيراً سابقاً عنده‪ ،‬كمن فكر في‬
‫مسألة ثم سأل ثالثة علماء اختلفوا‪ ،‬ومنهم من يوافق الذي في ذهنه‪ ،‬هل يتبع هذا؟ ال‪ .‬ليس‬
‫بالضرورة أن الذي يوافق الذي في ذهنك يكون هو الصحيح‪ ،‬ولذلك إذا لم يكن عندك قدرة على‬
‫الترجيح اسأل األعلم واتبعه‪ .‬بعض الناس أحياناً يقعون في مشكلة في االستشارة‪ ،‬وهي‪ :‬أخذ‬
‫اآلراء الكثيرة جداً‪ ،‬لماذا؟ ال ألنه يحتاج‪ ،‬لكن بعض الناس يريد أن يضفي أهمية على نفسه‪،‬‬
‫وأهمية على المشكلة‪ ،‬ويكبر المشكلة‪ ،‬فيستشير عشرين شخصاً‪ ،‬ال ألنه يحتاج رأي العشرين‪ ،‬لكن‬
‫لكي يقول‪ :‬أنا استشرت فالناً وفالناً و‪ ...‬ويكبر المشكلة‪ ،‬ويبين نفسه أنه مهم‪ ،‬وأن المشكلة هذه‬
‫خطيرة‪ ،‬وأنها تحتاج إلى عشرين شخصاً‪ ،‬فتكون أحياناً من باب التباهي أمام الناس وأمام نفسه‪،‬‬
‫وهذا النوع من الناس غالباً ما يكون ضعيف الشخصية‪ ،‬ليس عنده قدرة على حبس فكرة في ذهنه‪،‬‬
‫فهو كلما رأى شخصاً طرح القضية عليه‪ .‬فال يستطيع أن يسيطر على ما بداخل نفسه‪ ،‬فيشعر أنه‬
‫البد أن يحدث جميع الناس‪ ،‬فال هو الرجل الحازم الذي عنده الرأي وأخذ به‪ ،‬وال هو أخذ برأي‬
‫الناس وال يأتمر‪ ،‬كما يقول أحدهم‪" :‬رج ٌل حائر بائر‪ ،‬ال يأتمر رشداً وال يطيع مرشداً"‪ ،‬وإ ذا عرف‬
‫ت فَتََو َّك ْل َعلَى اللَّ ِه [آل عمران‪.]159:‬‬
‫اإلنسان الحق‪ ،‬فإن الجواب في اآلية فَِإ َذا َع َز ْم َ‬
‫وال تك بترداد الرأي مفسدا‬ ‫إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة‬
‫ويقال‪ :‬فإن فساد الرأي أن تترددا‪.‬‬

‫متى نستشير؟‬
‫الحقيقة أن االستشارة قد تكون واجبة‪ ،‬وقد تكون مكروهة‪ ،‬وقد تكون محرمة‪ ،‬وقد تكون جائزة‪.‬‬
‫مثال على االستشارة الواجبة‪ :‬استشارة األب ابنته في الزواج قبل أن يزوجها لفالن على قول‬
‫طائفة من أهل العلم‪ ،‬أو استشارة الفرد في الجيش قبل أن يعمل عمالً‪ ،‬واألمير إذا قال‪ :‬ائتمروا‬
‫بأمري فال يجوز له أن يفعلها‪ ،‬والبد أن يستشير‪ .‬أحياناً تكون االستشارة مستحبة‪ ،‬مثل‪ :‬مشاورة‬
‫أهل العلم والخبرة في طرائق الدعوة إلى اهلل‪ .‬وأحياناً تكون االستشارة مباحة‪ ،‬مثل‪ :‬االستشارة في‬
‫شراء السيارة‪ ،‬أو البيت‪ ،‬أو التخصص الدراسي مثالً‪ .‬وأحياناً تكون االستشارة مكروهة‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫االستشارة الزائدة في أمور تافهة من المطعم والمشرب والملبسـ مما يضيع وقت المستشير‬
‫والمستشار‪ .‬وأحياناً تكون االستشارة محرمة‪ ،‬مثل‪ :‬االستشارة في أن يصلي الظهر أم ال؟ هذه‬
‫االستشارة ال تجوز‪ ،‬وبالطبع تصلي الظهر سواء أشار عليك أو لم يشر عليك لن يقدم ولن يؤخر‪.‬‬

‫خطأ التقرير ثم االستشارة‪:‬‬


‫هناك خطأ في االستشارة يقع وهو خطأ حساس ودقيق‪ ،‬وهو‪ :‬أن بعض الناس يقرر ثم يستشير‪،‬‬
‫أي‪ :‬يفكر في المسألة ويبدو له شيء معين ويهواه في نفسه ويقرر هذا الشيء‪ ،‬وبعد ذلك يستشير‬
‫من باب أن يقول‪ :‬إني استشرت‪ ،‬لكنه في الحقيقة هو عازم على تنفيذ ما خطر في باله سواء‬
‫أشاروا عليه بخالفه أو به هو‪ ،‬فهو عازم على أن ينفذ ما في ذهنه‪ ،‬ولذلك استشارة هذا الشخص‬
‫ليس لها معنى‪ ،‬وما هي الفائدة منها؟ وهذا يفعله بعض الناس ليبرر لنفسه إقدامه على العمل الذي‬
‫في رأسه‪ ،‬أو ليخدع نفسه‪ .‬وأحياناً يذهب إلى المستشار وال يعطيه الصورةـ الحقيقة عن القضية‪ ،‬أو‬
‫يجعل له مالبسات بحيث يقول المستشار الرأي الذي يريده المستشير‪ ،‬مثالً‪ :‬شخص قرر أن يخرج‬
‫من البيت‪ ،‬فذهب إلى شخص يستشيره‪ ،‬قال‪ :‬عندي مشكلة كذا وكذا‪ ،‬وربما إذا دخلت البيت‬
‫يطردني أبي ويغلق الباب‪ ...‬ويسهب له في هذه النقطة‪ ،‬مع أن المسألة ليست كذلك‪ ،‬لكن هذا‬
‫المستشير أوحى للمستشار بأشياء خطأ حتى يأتي له المستشار بالرأي الذي يوافق هواه والذي‬
‫يريده هو‪ .‬وأحياناً يكون هناك تشاور أشبه بالتناجي من تشاور أناس أو مجموعات ليس لها خبرة‬
‫وال رأي‪ ،‬فيقررون بين أنفسهم أمراً يخرجون به على الناس فجأة‪ ،‬فيكون وباالً عليهم وعلى‬
‫آخرين‪ ،‬ولذلك نقول‪ :‬يا أيها الناس! ال تتسرعوا في األمور‪ ،‬وإ ذا أردت أن تقدم على أمر وهذا‬
‫األمر فيه خطورة عليك أن تستشير الثقات األمناء‪ ،‬وليس مجموعة من الشباب االندفاعيين الذين‬
‫يستشيرون أنفسهم‪ ،‬ثم يقدمون على عمل يكون فيه وبال عليهم‪ ،‬وقد يكون على غيرهم أيضاً‬
‫ويكون الشر متعدياً‪.‬‬

‫خطأ استشارة الخوارج ألنفسهم‪:‬‬


‫هناك خطأ في استشارة األنفس دون غيرهم مثل الخوارج ‪ :‬اجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم ماذا‬
‫نفعل؟ اجتمع عبد الرحمن بن ملجم وثالثة أشخاص في الحج‪ ،‬قالوا‪ :‬ما هي مشكلة المسلمين؟‬
‫تداولوا فيما بينهم‪ ،‬قالوا‪ :‬مشكلة المسلمين تكمن في ثالثة أشخاص‪ :‬علي بن أبي طالب‪ ،‬ومعاوية‪،‬‬
‫و عمرو بن العاص‪ ،‬ما هو الحل؟ ‪-‬اآلن هذه مشاورة‪ -‬قالوا‪ :‬نقتلهم ونريح المسلمين منهم‪ ،‬فنحن‬
‫إذا قتلناهم انتهت المشكلة‪ .‬فقالوا‪ :‬عبد الرحمن بن ملجم يذهب إلى الكوفة ويقتل علياً ‪ ،‬وفالن‬
‫يذهب إلى مصر ويقتل عمرو بن العاص‪ ،‬وفالن يذهب إلى الشام ويقتل معاوية بن أبي سفيان ‪،‬‬
‫تشاوروا وتعاقدوا وعملوا هذا العمل‪ ،‬وأنتم تعرفون القصة‪ ،‬وعبد الرحمن بن ملجم له سيف مكث‬
‫يسقيه السم شهراً‪ ،‬ثم خرج به على علي بن أبي طالب وهو خارج لصالة الفجر فضربه على‬
‫جبهته‪ ،‬فتحقق حديث الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬أشقى الناس عاقر الناقة والذي يضربك على‬
‫هذه حتى يبل منها هذه) وفعالً تصبب الدم حتى نزل من لحية علي بن أبي طالب رضي اهلل عنه‬
‫فمات‪ .‬هذا الخارجي عندما علق وصلب ليقتل‪ ،‬وبدءوا ليقطعوا أطرافه لم يصرخ وال صرخة‪،‬‬
‫فلما جاءوا يقطعون لسانه صرخ‪ ،‬قالوا‪ :‬ويحك! قطعنا أطرافك وما صرخت‪ ،‬فلما أردنا قطع‬
‫لسانك صرخت‪ ،‬قال‪ :‬لساني أذكر به اهلل! فاآلن يا أيها الشباب! بعض الناس أحياناً يستشيرون‬
‫دمار عليهم‪ ،‬ألنهم لم يعرفوا أنهم ليسوا هم الذين من المفترض أن‬ ‫بعضهم ويتعاقدون على ٍ‬
‫أمر فيه ٌ‬
‫يستشيروا أنفسهم‪ ،‬وإ نما هناك أناس من أهل الخبرة هم َمن يستشارون‪.‬‬

‫خطأ االعتماد على المشورة دون اهلل‪:‬‬


‫من األخطاء في االستشارة أيضاً‪ :‬أن بعض الناس يعتمد اعتماداً كلياً على المشورة دون اهلل عز‬
‫وجل‪ ،‬فيظن أنه إذا أخذ المشورة معناها سيكون التوفيق حليفه والصواب معه‪ ،‬وهذا فيه ركون إلى‬
‫األسباب الدنيوية‪ ،‬وإ ال فمن المفروض أن اإلنسان باإلضافة إلى االستشارة أن يفعل االستخارة‬
‫والتوكل على اهلل عز وجل‪ .‬أول شيء‪ :‬اإلنسان يستشير حتى يعرف وجه الصواب‪ ،‬فإذا جاء ليقدم‬
‫وهم باألمر عليه أن يستخير‪ ،‬حتى يبرأ من حوله وقوته كما في دعاء االستخارة‪ ..( :‬فإنك‬
‫عليه َّ‬
‫تقدر وال أقدر‪ ،‬وتعلم وال أعلم‪ ،‬وأنت عالم الغيوب‪ )...‬هذا فيه براءة من الحول والقوة‪ ،‬واعتماد‬
‫على اهلل عز وجل‪ ،‬وهذا أمر مهم جداً‪ ،‬هناك حديث‪( :‬ما خاب من استخار‪ ،‬وال ندم من استشار)‬
‫ولكن هذا الحديث ضعيف أو موضوع كما ذكر بعض ذلك أهل العلم‪ ،‬وتجدونه في السلسلة‬
‫الضعيفة برقم [‪. ]611‬‬

‫موانع االستشارة‪:‬‬
‫بعض الناس مع علمهم بأهمية االستشارة لكنهم ال يستشيرون لماذا؟‬

‫االستهانة باألشخاص المستشارين‪:‬‬


‫عندما تقول له‪ :‬يا أخي! استشر في المشكلة‪ ،‬يقول‪ :‬من أستشير؟ تقول له‪ :‬استشر فالناً‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫وهل فالن أعلم بمشكلتي مني؟! أي‪ :‬فالن يفهم أكثر مني في المشكلة‪ ،‬وبماذا سيشير علي؟! أنا‬
‫أعرف المشكلة أساساً وخلفياتها‪ ..‬أعرف تاريخ المشكلة‪ ،‬وفالن إذا أخبرته لن يأتي لي برأي لم‬
‫يخطر في بالي‪ ،‬فهذا استهانة باألشخاص‪ .‬وأحياناً باإلضافة إلى هذا يصل به غرور الذات إلى‬
‫اإلحساس بالكمال‪ ،‬يقول‪ :‬أنا رأيي أحسن رأي‪ ..‬أنا لست بحاجة إلى االستشارة‪ ..‬أنا عقلي كامل‪،‬‬
‫لماذا أذهب وأستشير الناس؟ أنا لست بحاجة‪ ،‬أنا إنسان عاقل وفاهم ومجرب وخبير‪ ،‬لماذا أسأل‬
‫وأستشير؟ ولذلك يقول أحدهم‪ :‬من أعجب برأيه لم يشاور‪ ،‬ومن استبد برأيه كان من الصواب‬
‫بعيداً‪ .‬ويدخل في هذا مسألة نفسية وهي‪ :‬أن بعض الناس يظن أنه لو استشار كأنه يقول آلخر‪ :‬أنا‬
‫لم أستطع أن أحلها بمفردي‪ ،‬وأنا اآلن لجأت إليك ألني ضعيف‪ ،‬بعض الناس يأخذ االستشارة من‬
‫هذا المنطلق‪ .‬يقول‪ :‬ال أريد أن أظهر أمام الناس أني ضعيف‪ ،‬وأني ما استطعت أن أحل المشكلة‬
‫بمفردي‪ ،‬وأني بحاجة إليهم وإ لى آرائهم‪ ،‬ال‪ ،‬أنا أقرر من نفسي وانتهينا‪ ،‬ولذلك يقول الشاعر‪:‬‬
‫أي نصيح أو نصيحة حازم‬ ‫إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن‬
‫ضةً فإن الخوافي قوة للقوادم‬ ‫وال تجعل الشورى عليك غضا‬
‫الخوافي‪ :‬هو الريش الذي يختفي إذا ضم الطائر جناحيه‪ ،‬وهو قوة للقوادم‪ ،‬فإذاً أنت عندما تستشير‬
‫فأنت في الحقيقة تقوي نفسك ألنك ستستعين وتتقوى بآراء اآلخرين‪.‬‬

‫فارق السن والمنزلة‪:‬‬


‫فمثالً‪ :‬شخص يرى شيخاً كبيراً وعظيماً‪ ،‬فيستحي أن يأتي إليه ويستشيره لفارق السن‪ ،‬أو بعض‬
‫الطالب يستحي أن يسأل أستاذه لفارق السن‪ ،‬أو باألحرى يخجل‪ ،‬وهذه عبارة أدق‪ .‬أو العكس‪:‬‬
‫أحياناً بعض اآلباء يكون عنده ولد متعلم وفاهم‪ ،‬والحقيقة أن األب يحتاج إلى رأي الولد في ٍ‬
‫أمر من‬
‫األمور‪ ،‬لكن يقول‪ :‬أنا أستشير ولدي وأنا أكبر منه؟! ونحن قد بينا أنه ال عيب وال غضاضة أبداً‬
‫أن اإلنسان كبير السن يستشير من هو أصغر منه‪ ،‬أو مثالً شخص يستشير من هو أدنى منه منزلة‬
‫اجتماعية‪ ،‬أي‪ :‬مدير يستشير موظفاً‪ ،‬أو شخص غني يستشير شخصاً فقيراً‪ ،‬يقول‪ :‬ال‪ ،‬هذا أدنى‬
‫مني في المنزلة‪.‬‬

‫الخجل وعدم القدرة على التعبير‪:‬‬


‫أحياناً يكون الخجل أو عدم القدرة على التعبير هو المانع‪ ،‬فمثالً‪ :‬شخص يريد أن يستشير لكن ال‬
‫يستطيع أن يعبر عن المشكلة‪ ،‬فيكون هذا مانعاً له‪ ،‬أو تكون القضية حساسة‪ .‬مثالً‪ :‬شخص واقع‬
‫في مشكلة ومخطئ فيها‪ ،‬وال يدري كيف يخرج من هذه المشكلة‪ ،‬فلو ذهب إلى شخص وقال‪ :‬أنا‬
‫حدث لي كذا وكذا‪ ،‬فيستحي‪ ،‬يقول‪ :‬هذا المستشار سوف يأخذ فكرة سيئة عني‪ ،‬أنا كنت في نظره‬
‫كبير‪ ،‬اآلن لو قلت له‪ :‬أنا وقعت في المطب الفالني‪ ،‬وال أعرف كيف أتصرف‪ ،‬أريد منك الحل‪،‬‬
‫سوف يغير رأيه عني‪ .‬وأحياناً تكون المشكلة حساسة إلى درجة أنه ال يجرؤ أن يصارح بها‪،‬‬
‫فلنفترض إنساناً واقع في هوى فتاة والعياذ باهلل‪ ،‬فاآلن هو واقع في مشكلة عظيمة جداً‪ ،‬فقلبه متعلق‬
‫بها‪ ،‬وصالته ليس فيها خشوع‪ ،‬وإ يمانه ضعيف جداً‪ ،‬ال طلب علم‪ ،‬وال دعوة إلى اهلل‪ ،‬وصار عنده‬
‫انحالل في القوى والتفكير والرأي والذهن‪ ،‬اآلن كيف يأتي إلى شخص يقول له‪ :‬أنا واقع في كذا‬
‫وكذا‪ ،‬وتعرفت على فالنة أو فالن‪ ،‬وصار لي كذا وكذا من المشاكل‪ ،‬وأنا أريد رأيك في‬
‫الموضوع‪ ،‬هذه مسألة محرجة‪ ،‬أليس كذلك؟ من العالجات لهذه المشكلة‪ :‬طريقة الكتابة‪ ،‬وقد‬
‫جربت هذه الطريقة‪ ،‬فكانت نافعة‪ ،‬فالشخص مثالً محرج لكن البد أن يستشر‪ ..‬اكتب المشكلة في‬
‫ورقة‪ ،‬ثم اكتب أرجو اإلجابة على ظهر الورقة‪ ،‬أو في ورقة أخرى‪ ،‬وسوف أمر بك ألخذ الجواب‬
‫أو أرسل إليك‪ ،‬وليس من الضروري أن تذكر اسمك‪ .‬مثالً‪ :‬نستقبل رسائل من أناس في المسجد أو‬
‫يحضر شخص رسالة‪ ،‬ويقول‪ :‬هذه رسالة من امرأة أو رجل‪ ،‬وأحياناً تكون منه هو‪ ،‬لكن ال يقول‪:‬‬
‫هذه مني‪ ،‬يقول‪ :‬هذه من شخص ‪-‬وهو لم يكذب‪ -‬ويريدك أن تجيب عليها‪ ،‬نفتح الرسالة وإ ذا بها‪:‬‬
‫أنا واقع في مشكلة كذا وكذا وكذا‪ ،‬أريد الحل؟ ليس من الضروريـ أنك تأتي تعبر عن نفسك‪،‬‬
‫وتقول‪ :‬أنا فالن الفالني‪ ،‬وقعت في مشكلة مع فالن الفالني أو مع فالنة‪ ،‬أعطني الحل‪ ،‬ال‪ .‬ممكن‬
‫أن تستشير بدون أن تكشف هويتك الشخصية‪ ،‬ولذلك ال ينبغي أن يمنع اإلنسان أي مانع من‬
‫خير إن شاء اهلل‪ .‬وأسأل اهلل عز وجل أن نكون قد أجبنا على بعض التساؤالت‪،‬‬
‫االستشارة‪ ،‬وهي ٌ‬
‫أو كشفنا بعض النقاط التي قد يكون في البعض غفلة عنها أو عدم إحساس بأهميتها‪ ،‬وأسأل اهلل أن‬
‫ينفعنا وإ ياكم بهذه الكلمات‪ ،‬وصلى اهلل وسلم على نبينا محمد‪ ،‬والحمد هلل أوالً وآخراً‪.‬‬

‫األسئلة‪:‬‬
‫كيفية إعداد محاضرة‪:‬‬
‫السؤال‪ :‬فضيلة الشيخ‪ :‬السالم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪ ،‬جزاكم اهلل خير الجزاء على نوعية‬
‫المحاضرات التي تلقونها‪ ،‬ولتطبيق عملي لمحاضرة هذه الليلة‪ ،‬فإني أستشيرك في كيفية إعداد‬
‫موضوع متكامل لجلسة معينة أو محاضرة‪ ،‬وجزاكم اهلل خير الجزاء‪ ،‬وما هي نوعية الكتب التي‬
‫رجعت إليها في هذه المحاضرة إن أمكن ذلك؟ الجواب‪ :‬الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬أما بالنسبة إلعداد‬
‫الموضوع فهي مسألة مهمة‪ ،‬ألنه يحدث أحياناً أال يكون اإلعداد جيداً‪ ،‬فيكون الكالم ليس له فائدة‪،‬‬
‫نأخذ مثالً‪ :‬موضوع االستشارة‪ ،‬وكيف نعد مثل هذا الموضوع‪ ،‬أحياناً يكون هناك كتاب مؤلف في‬
‫الموضوع‪ ،‬فيغنيك عن أشياء كثيرة‪ ،‬لكن أحياناً ال يكون هناك كتاب مؤلف في الموضوع‪ ،‬مثالً‬
‫هناك كتب عن الشورى وليست عن االستشارة‪ ،‬لكن تكلم عن الشورى في اختيار الخليفة‪ ،‬وأهل‬
‫الشورى وأهل الحل والعقد‪ ،‬وصفات أهل الحل والعقد‪ ..‬وهكذا‪ .‬فهي ليست في الموضوع الذي‬
‫نحن نطرقه اآلن من الناحية التربوية‪ ،‬وال يتكلم عن الناحية التربوية وإ نما يتكلم عن أحكام اإلمامة‬
‫واالستشارة فيها‪ ..‬وهكذا‪ ،‬فلو لم يوجد كتاب‪ ،‬ماذا تفعل؟ أول خطوة‪ :‬ما هي اآليات واألحاديث‬
‫الواردة في الموضوع؟ ما هي القصص الواردة في الموضوع‪ ،‬ثم ما هي أبيات الشعر والحكم‬
‫الواردة في الموضوع؟ ولكل من هذه األشياء مراجع‪ ،‬فمثالً‪ :‬المعجم المفهرس أللفاظ القرآن قد‬
‫يعطيك اآليات الواردة في الموضوع‪ ،‬المعجم المفهرس أللفاظ الحديث يعطيك األحاديث الواردة‬
‫في الموضوع‪ ،‬ثم تنتقل في مجاالت األحاديث إلى خطوة أخرى وهي تحقيق األحاديث؛ ألنه ال‬
‫يصح أن تأتي للناس بأحاديث ضعيفة‪ ،‬فالبد أن تلجأ إلى كتب التصحيح والتضعيف لتعرف أقوال‬
‫العلماء‪ ،‬وإ ذا لم تعرف تسأل‪ .‬مثالً‪ :‬ورد هنا حديث ال أعرف درجته‪ ،‬فاتصلت بالشيخ ابن باز‬
‫وقرأت عليه السند‪ ،‬قلت له‪ :‬هذا الحديث في مسند أحمد ‪ ،‬فقال الشيخ قال‪ :‬هذا إسناده حسن‪.‬‬
‫وكذلك من أهم األشياء بعد ذلك كيف يربط الموضوع في الواقع‪ ،‬ال يكفي أن نتكلم عن الموضوع‬
‫من وجهة النظر العلمية البحتة النظرية‪ ،‬البد أن نربطه بالواقع‪ .‬مثالً‪ :‬فقرة ما هي مجاالت‬
‫االستشارة؟ هذه فقرة عملية‪ ،‬كيف نستشير؟ هذه فقرة عملية‪ ،‬ما هي موانع االستشارة؟ هذه أشياء‬
‫مأخوذة من الواقع‪ ،‬قد ال تكون موجودة وال في الكتاب‪ ،‬إما أن تكون نتيجة تفكير ذهني‪ .‬وال يكون‬
‫التفكير سليماً في هذه األشياء إال إذا أخذ من واقع الناس‪ ،‬فالشخص إذا احتك بالناس يعرف ماذا‬
‫لديهم من إشكاالت في هذه القضية‪ ،‬فمثالً عندما يأتي من يستشير في موضوع‪ ،‬فأقول له‪ :‬كذا‪،‬‬
‫ومن ثم يأتي شخص يستشير في نفس الموضوع‪ ،‬فأالحظ أن طريقة عرض األول تختلف عن‬
‫طريقة عرض الثاني‪ ،‬وأن الثاني أتاني بمعلومات لم يأتني بها األول‪ ،‬فأعرف أن المسألة فيها لعبة‬
‫وإ خفاء معلومات‪ ،‬فتكتشف أن الشخص األول يريد جواباً معيناً‪ ،‬فلذلك أتى لك بمعلومات معينة‬
‫وأخفى الباقي‪ ،‬الشخص الثاني أتى لك بطرف الموضوع اآلخر‪ ،‬وهذه كثيراً ما تحدث‪ ،‬يأتي‬
‫شخص يقول‪ :‬واهلل أنا أريد أن أستشيرك في موضوع‪ ،‬يا أخي! أنا عالقتي بفالن سيئة‪ ،‬هذا فالن‬
‫يفعل كذا وكذا وكذا‪ ،‬فأنت من واقع األشياء المعروضة تكاد أن تقول له‪ :‬يا أخي! اجتنبه وابتعد‬
‫داع للمشاكل‪ .‬لكن عندما تسمع من الطرف اآلخر‪ ،‬ويأتي يستشيرك الطرف‬
‫عنه‪ ،‬ليس هناك ٍ‬
‫اآلخر‪ ،‬تكتشف كما قال أحدهم‪ :‬إذا جاءك أحد الخصوم مقلوعة عينه‪ ،‬فال تحكم له على خصمه‪،‬‬
‫فربما قد قلع عينا ذلك الشخص‪ .‬فإذاً هناك مواضيع البد من ربطها بالواقع والتفكير من خالل‬
‫األحداث الجارية‪ ،‬وهناك أشياء فيها مراجع‪ ،‬مثالً هذا الموضوع ارجع فيه إلى شروح األحاديث‬
‫من مثل‪ :‬تحفة األحوذي ‪ ،‬وعون المعبود ‪ ،‬وفضل اهلل الصمد شرح األدب المفرد ‪ ،‬وفتح الباري‬
‫وكتب األدب‪ ،‬وأنس المجالس فيه كالم أيضاً عن المشورة‪ ،‬وكتاب ابن قتيبة عيون األخبار مثالً فيه‬
‫فصل عن المشورة‪ ،‬وإ ذا أردت أن تخرج مثالً معنى كلمة المشورة البد أن ترجع مثالً إلى لسان‬
‫العرب حتى تعرف مادة شور‪ ،‬وماذا قال أهل العلم فيها؟ وهكذا‪ ،‬فتتكامل الخيوط‪ .‬هناك طريقة‬
‫أحياناً تصلح في بعض المواضيعـ وهي‪ :‬إذا لم تستطع أن تعنصر موضوعاً‪ ،‬هناك أسئلة مهمة لو‬
‫أدخلتها على أي قضية يمكن أن يصبح عندك عناصر لهذا الموضوع‪ ،‬وهذه الطريقة قد اتبعتها في‬
‫هذه المحاضرة‪ ،‬وهذه األسئلة مثالً‪( :‬ما هو‪ ،‬كيف‪ ،‬متى‪ ،‬أين‪ ،‬لماذا‪ ،‬من) هذه األسئلة أدخلها على‬
‫أي قضية‪ ،‬مثالً الحسد‪ ،‬ما هو الحسد؟ لماذا الحسد؟ ما دوافع الحسد؟ أين الحسد؟ في أي مجاالت‬
‫يحدث الحسد؟ وكيف العالج؟ مثالً الصدق‪ ،‬ما هو تعريف الصدق؟ من هم الصادقون؟ ما هي‬
‫المواطن التي يظهر فيها الصدق بجالء؟ مثالً أخطأت على شخص أنت المذنب فينبغي أن تعتذر‪..‬‬
‫وهكذا‪ ،‬وهناك بعض العناصر ال تقبل بعض هذه األسئلة‪ ،‬فمثالً‪ :‬ليس هناك شيء اسمه متى‬
‫الصدق؟ لكن أحياناً يمكن أن يكون هناك متى الصدق؟ إذا جاء ظالم يأخذ مال مظلوم عندك في‬
‫هذه الحالة ما حكم الصدق؟ وقال‪ :‬أين أموال فالن؟ فيمكن أن تستنبط لك أشياء عن طريق إدخال‬
‫هذه األسئلة إلى الموضوع‪.‬‬

‫االستشارة من أجل تأليف القلوب‪:‬‬


‫السؤال‪ :‬قد يستشير إنسان إنساناً آخر ليس بأهالً للمشورة‪ ،‬وقد ال يعلم بالمشورة‪ ،‬ولكن ليؤلف قلبه‬
‫ويكسر الحاجز الذي بينهما‪ ،‬فهل هذا صحيح؟ الجواب‪ :‬هذه طريقة جيدة‪ ،‬شخص أحياناً انتهى‬
‫أمره في مسألة من المسائل‪ ،‬لكن هناك بينه وبين فالن حساسيات أو مشاكل‪ ،‬فهو يريد تأليف قلب‬
‫صاحبه بأي طريقة من الطرق‪ ،‬فمن الطرق أن يأتي ويستشيره في شيء من خصوصياته‪،‬‬
‫فالشخص اآلخر عندما يشعر أنك تستشيره في قضية من خصوصياته‪ ،‬فربما يتغير موقفه منك‬
‫بالكلية‪ ،‬ويقول‪ :‬فالن ال يعاديني‪ ،‬ولو كان يعاديني لما استشارني‪ ،‬ولوال أنه يقدرني لما استشارني‪،‬‬
‫فمادام أنه استشارني فهو يقدرني‪ ،‬فقد يذهب كثير مما في نفسه عليك ألنك استشرته‪.‬‬

‫الفرق بين النصيحة والغيبة‪:‬‬


‫السؤال‪ :‬هل قضية الكالم والتجريح على بعض الشباب جائزة؟ ومتى تكون؟ وهل هي دائماً أم في‬
‫بعض األحيان المهمة؟ وهل هذا يعتبر من الغيبة والنميمة؟ الجواب‪ :‬هذه من المشاكل التي بلي بها‬
‫العمل اإلسالمي في هذا الزمان‪ ،‬وهي قضية كالم بعض الدعاة في بعضهم البعض‪ ،‬وهي راجعة‬
‫إلى قلة تقوى اهلل‪ ،‬وعدم الخوف من اهلل عز وجل‪ ،‬وعدم احترام حدود اهلل‪ ،‬وعبادة أوثان وهمية‬
‫مثل وثن مصلحة الدعوة‪ ،‬فباسم مصلحة الدعوة ترتكب جميع أنواع المنكرات من الغيبة والنميمة‬
‫والكذب والخيانة وإ خالف الوعد وغير ذلك باسم هذا الوثن الذي هو مصلحة الدعوة‪ .‬نحن ال ننكر‬
‫أن هناك مصالح مرسلة‪ ،‬وأن الشريعة مبنية على المصالح‪ ،‬وهذا باب‪ ،‬لكن أن نأتي وندخله في‬
‫هذه األشياء بين إخواننا المسلمين وأغشه وأكذب عليه وأغتابه باسم المصلحة‪ ،‬أين المصلحة في‬
‫هذا األمر؟! قضية التجريح مثالً‪ :‬عندما يسألك شخص عن رجل مبتدع‪ ،‬وإ نسان ضال ومشرك‬
‫وكافر ومنافق من المنافقين‪ ،‬وقد ثبت لديك نفاقه في ذلك الوقت فهذا يمكن من باب النصيحة تقول‪:‬‬
‫احذر من فالن‪ .‬لكن تأتي إلى إنسان ظاهره الخير وتُسأل عنه‪ ،‬تقول‪ :‬ال‪ .‬هذا إنسان مشكوك في‬
‫أمره‪ ،‬وتبدأ تجرحه‪ ،‬وتلقي ظالل التهمة والريبة على هذا الشخص في نفس سائلك‪ ،‬هذه من‬
‫الجرائم التي ترتكب من بعض الناس ‪-‬لألسف‪ -‬بكل سهولة‪ ،‬ربما ال يتحرج أصالً وال يسأل نفسه‬
‫ما حكم هذه الكلمة التي أقولها اآلن في فالن وفالن‪ ،‬وخصوصاً التجريح في بعض أهل العلم‪،‬‬
‫والذي يجرح في العلماء هو إنسان في الغالب صاحب هوى وجهل‪ ،‬وإ ال لما جرح في أهل العلم‪.‬‬
‫كونك تذكر مالحظة في منهج عالم فالني أو شيء عندما تتعرض له ويصبح فيه حاجة للتبيين‪،‬‬
‫وهذا يقول لك‪ :‬يا أخي! بعض العلماء يقولون بجواز سفر المرأة بغير محرم‪ ،‬فتقول‪ :‬يا أخي!‬
‫مستندهم ضعيف وليس لهم دليل‪ ،‬والحديث واضح وصريح‪ ،‬وأهل العلم قالوا بالحكم الفالني‪ ،‬هذا‬
‫ممكن‪ ،‬لكن بعض الناس بدون مناسبة وبدون سؤال وهو في مجلس يقول‪ :‬العالم الفالني جزاه اهلل‬
‫خيراً ‪-‬بعض األشياء تأتي من هذا الباب وهو باب عجيب شيطاني‪ -‬له جهود كبيرة في خدمة‬
‫اإلسالم‪ ،‬وهو إنسان عنده علم غزير ومؤلفات نافعة‪ ،‬ولكنه‪ ،...‬ويأتي بعد ولكنه من المثالب‬
‫والمعايب ما ينسي السامع كل المدح‪ ،‬فقرات المدح جاءت مقدمة فقط القتحام قلب الشخص‪،‬‬
‫وإ فراغ هذه الشتائم أو المعايب في ذلك السائل‪ .‬ولذلك بعض الناس يحتجون‪ ،‬يقول‪ :‬العلماء‬
‫يتكلمون في الجرح والتعديل‪ ،‬لكن في أي شيء؟ في قضية أخذ رواية الحديث عن الرسول صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬في تمحيص األخبار‪ ،‬هذه أحاديث يبنى عليها أحكام‪ ،‬وتبنى عليها عقائد‪ ،‬وأشياء‬
‫يجب أن نؤمن بها‪ ،‬فاضطروا اضطراراًـ لذلك‪ ،‬أما أن تكون المسألة ليس فيها حديث ينبني عليه‬
‫كالم رجال في السند‪ ،‬وال فيها شيء من هذه األقاويل‪ ،‬فيقول‪ :‬علماء الجرح والتعديل تكلموا في‬
‫فالن‪ .‬هل الحاجة التي كانت عند علماء الجرح والتعديل فتكلموا في فالن وفالن موجودة اآلن في‬
‫الشخص الذي أنت تتكلم عليه؟ قد يكون هناك حاجة كشخص يريد أن يتزوج أختك‪ ،‬فذهبت وسألت‬
‫عنه‪ ،‬هناك يكون الكالم واجباً من باب النصيحة في هذا الشخص‪ ،‬فقط في األشياء المهمة المتعلقة‬
‫بالزواج‪ ،‬كما فعل الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬أما معاوية فصعلوك وأما أبو جهم فإنه ال يضع‬
‫العصا عن عاتقه)‪ .‬لكن لو قال لك شخص‪ :‬ما رأيك يا أخي‪ ،‬فالن تقدم ألختي؟ فتقول‪ :‬ال‪ .‬هذا‬
‫فالن خطه سيئ‪ ،‬وهو إنسان تالوته للقرآن غير جيدة وصوته ممل‪ ،‬ثم إنه يلبس ثياباً تفصيلها‬
‫كذا‪ ...‬أي‪ :‬تأتي له بأشياء أو عيوب ال عالقة لها أبداً بالزواج‪ .‬أو مثالً جاء شخص قال‪ :‬ما رأيك‬
‫في فالن أريد أن أشاركه في مشروع تجاري؟ فتقول له‪ :‬واهلل فالن يا أخي يضرب زوجته كثيراً‪،‬‬
‫وال يسمح لزوجته أن تذهب إلى أهلها‪ ،‬ما عالقة هذا بهذا؟! فهنا يتبين لك بالكالم هذا الفرق بين‬
‫الشيء الضروريـ الذي ينبغي أن يذكر‪ ،‬وبين الشيء الذي هو غيبة حقيقة وال يجوز أن يقال‪.‬‬

‫االقتصار على االستشارة في األمور الدنيوية‪:‬‬


‫السؤال‪ :‬ما حكم من كانت استشارته جميعها في أمور الدنيا‪ ،‬فمنها ما هو نافع ومنها ما هو ضار‪،‬‬
‫وهل جائز للمستشير والمستشار؟ الجواب‪ :‬السؤال عندي غير واضح تماماً‪ ،‬لكن أقول‪ :‬الذي‬
‫يجعل استشارته فقط في األمور الدنيوية‪ ،‬فأين يذهب باألمور الدينية؟ وأين يذهب بقضايا الخير‬
‫مثل الدعوة إلى اهلل‪ ،‬وطلب العلم‪ ،‬وتغيير المنكر؟من العجب أن تقتصر استشارة إنسان على‬
‫استشارة دنيوية‪ ،‬وال يستشير فيما هو أهم وهو األمور الدينية والشرعية‪ ،‬ولذلك ينبغي أن تعظم‬
‫فيها االستشارة أكثر‪ ،‬ال أظن أن موقف هذا الشخص صحيح عندما يقصر استشارته على األمور‬
‫الدنيوية‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

You might also like