Professional Documents
Culture Documents
ال شك في أن تسيير حركة المرور و التحكم بها بات علما قائما بذاته كون ه يش كل أح د أك بر التح ديات المعاص رة ال تي تواج ه
المدن فمهما اختلفت الوسائل و المناهج التي اعتمدها مختلف الدول في معالجتها لهذه المعضلة تبقى جميعها تش ترك من حيث
و القائم على " ضرورة الموازن ة بين تحقي ق االس تغالل العقالني للمس احة ح تى تك ون الطري ق المبدأ الذي تنطلق منه
و البض ائع داخ ل الم دن كعام ل البشاغل األكبر للمدينة فتبتلعها و تهدد كيانها و بين الحفاظ على حرية تنقل األشخاص
أساس لتبقى المدينة تنبض بالحياة بصفة مستدامة في كل أبعادها اقتصاديا كانت أم اجتماعية أم ثقافية...
و من أهم ما يطبع يوميات المدن السيما الكبيرة منها هو ظاهرة االختناق المروري التي تزداد كلم ا ازداد حجم المدين ة و تع داد
ساكنتها.
و للتمكن من معالجة الظاهرة أو على األقل التحكم بها و حسن توجيهها على سبيل الترشيد و التخفيف ليس هنالك مج ال إلع ادة
اختراع العجل ة حيث لج أت ك ل ال دول المتقدم ة إلى مخطط ات النق ل و الم رور ك أداة رئيس ة ت دخلتن ح تى في هندس ة الم دن
و تهيئتها العمرانية و هي قائمة على قاعدة تشجيع استعمال وسائط النقل الجماعي بمختلف أنماطه على حساب استعمال الس يارة
الفردية لما في ذلك من فعالية في تحقيق االستغالل العقالني للمساحة داخل المدن كما سلف ذكره.
و لقد كشفت عديد الدراسات االستراتيجية و االسترافية أنه مهما بذلت السلطات من انفاق في سبيل تشجيع شبكات مندمجة و متعددة ألنماط للنق ل الجم اعي ف إن ذل ك
االنفاق سيعود عليها بالفائدة من منظور االقتصاد الشامل إذ سيجنبها ذلك كل التكاليف المرتبطة بالتكفل بضحايا حوادث المرور التي تسببها السيارة الفردي ة بالدرج ة
األولى و تكاليف التكفل بانعكاسات التلوث و القلق الناجم عن زحمة المرور إلى جانب ترشيد النفقات في بناء الهياكل القاعدي ة المتص لة ب الطرق و الجس ور إلش باع
رغبات السيارة الفردية.
من هذا المنطلق وفرت الدول المتقدمة كل المتطلبات ابتداء من اإلطار التشريعي و التنظيمي إلى اإلطار التقني و البشري و كل ما يتبع من رصد لبرامج مالية لتنفي ذ
هذه المخططات ضمن أبعادها االستراتيجية متعددة األهداف.
بهذه الطريقة الراشدة تمكننا مخططالت النقل و المرور من القراءة الصحيحة للمدينة و من ثمة تحديد المواقع األكثر تالئما لتشييد المحطات البرية للنقل بك ل أنماط ه
(ميترو ،ترامواي ،حافالت )...ثم ربطها ببعضها البعض في شبكات مندمجة تحدد بدقة كل اإلمدادات الواجب توفيرها ال سيما من حيث ع دد المركب ات و العرب ات
المطلوب الحجم الساعي اليومي للنشاط و الوتيرة الفاصلة بين مرور المكبات أو عربات الترامواي على الخط الواحد.
و مما ال شك فيه أن توفير كل هذا الكم و الحفاظ على الكيف ألجل إقناع مستعملي الطريق بالتخلي عن مركباتهم و استعمال النقل الجماعي الذي يكفل تنقالتهم بصفة
تجعلهم يدركون تمام اإلدراك بأنه أنجع إن على مستوى توفير الوقت أو على مستوى توفير المال هو بحد ذاته تحد ال يمكن أن نعت بر مع ه ان خدم ة النق ل الجم اعي
تجارة حرة بل ينبغي أن يكون المتعاملون البمجندون بوسائلهم لخدمة هذه السياسة ضمن عقود نجاعة تكفل لهم مردودية اس تثمارهم بقط ع النظ ر عن س عر الت ذكرة
الذي يتطلب التدعيم لتحقيق األهداف االستراتيجية سالفة الذكر من دون أن تكون على حساب المتعامل (الناقل) ألن ذلك سيؤدي ال مح ال إلى ت دهور نوعي ة الخدم ة
و السقوط في هوى الحلول الفردية و من ثم رهن إفراز نتائج عكسية تفضي في النهاي ة إلى تزاي د اللج وء الس تخدام الس يارة الفردي ة و مواص لة تولي د ك ل عواقبه ا
السلبية و ذلكم حال النقل في بلدنا.
أما الدول المتقدمة كفرنسا و ألمانيا و إسبانيا و اليابان فقد عكفت على إحداث نظام ضريبي خاص تجند إيراداته في تدعيم تذكرة النقل الجماعي داخل الم دن بمختل ف
أنماطه لجعله أكثر استقطابا لمستعملي الطريق و بالتبعية أكثر إقناعا من الناحية االقتصادية لكل من يفض ل اس تعمال س يارته الفردي ة و على ال رغم من تع دد نم اذج
هذه النظم الضريبية من دولة إلى أخرى إال أنه يخدم نفس الهدف فتحقق المدينة بذلك هدفها من منظور االقتصاد الش امل و لع ل أفض ل مث ال على ذل ك ه و النم وذج
الفرنسي إذا علمنا بأن فرنسا تعد أك ثر من 40ملي ون س يارة فردي ة لح والي 80ملي ون نس مة و لكم أن تتخيل وا الس يناريو ل و أن مس تعملي الطري ق اس تخدموا ك ل
سياراتهم الفردية بهذا البلد.
و بالرجوع إلى تدعيم النقل في الجزائر فهو مثير للغرابة و االستهجان على حد سواء ذلك ألن النصوص التشريعية و حتى التنظيمية في هذا المجال متقدمة و تن افس
الدول األوربية بشهادة رسمية من خبراء االتحاد األوروبي لكن التطبيق على أرض الواقع يبقى جد محتشم إن لم شبه منعدم مقارنة باإلمكاني ات الجب ارة و البحبوح ة
المالية التي حظي بها البلد إذ ال يخفى على أحد أن وتيرة التنمية سبقت المخططات فشيدت الكثير من المنشآت القاعدية و مختلف شبكات النقل قبل االنتهاء من إع داد
المخططات فأنى لهذه الشبكات أن تكون فعالة في خدمة األهداف االستراجية المتوخاة منها.
أما المفارقة العجيبة فتكمن في تبني مبدأ تدعيم النقل الجماعي عن طريق ض ريبة الرس م على الس يارات الجدي دة و ذل ك بم وجب الم ادة 51من ق انون المالي ة لس نة
2008المتبوع بالقرار الوزاري المشترك المؤرخ في 31أكت وبر 2011ال ذي أس س للن دوق المخص ص لتعيم النق ل الجم اعي تحت رقم ،302-125غ ير أن ه ذا
التدعيم الموجه باألساس إلى مستعملي النقل ال يستفيد منه سوى أولئك الذين يستقلون قطار الض واحي و المي ترو و ال ترامواي و ح افالت الش ركات العمومي ة للنق ل
الحضري و جميهم يمثلون أقل من %10من كتلة مستعملي النقل الجماعي الحضري و شبه الحض ري أغلبهم ب الجزائر العاص مة في حين يبقى أك ثر من %90من
الذين يستعملون حافالت الخواص المرخصين من طرف الدولة من دون تدعيم.
ما يعني أن أقلية من مستعملي الطريق محفزين بهذا الدعم دون س واهم ف أنى له ذه السياس ة أن تنجح بهك ذا ممارس ات تخ الف المنتط ق و ح تى الدس تور ال ذي نص
في مضامين مادته 41على عدم المفاضلة بين المتعاملين االقتصاديين و على ضرورة استفادتهم من نفس المزايا خواصا كانوا أم عموميين.
و خالصة القول هي أنه ال يمكن كسب رهان التحكم في االختناق المروري بقوانين الواجهة و التصنع و ممارسات التمي يز و ذر الرم اد على العي ون ألن المتض رر
هو المجموعة الوطنية بكاملها السيما الفئات الهشة التي ال بديل لها في تلبي ة حاجته ا في النق ل س وى الحافل ة و ال يس وغ ال أخالقي ا و ال قانوني ا أن تتكف ل الدول ة
المواطن المستعمل (المسافر) على حساب المواطن المتعامل (الناتقل).
مع العلم أن الناقلين الخواص بالجزائر العميقة الذين يقلون أكثر من 8ماليين مستعمل يومي داخل المدن من دون أدنى تدعيم و ال دراس ة أي دون احتس اب التنقالت
الريفية و ما بين المدن في حين يدعيم سعر التذكرة الذي بلغ لدى المؤسسات العمومية ما يربو عن 300مليون سنتيم لكل سنة عن كل حافلة و ذلكم مبلغ كفيل بتوفير
خدمة نقل حضري عالية بالمجان لو أسندت للخواص بنفس الكيفية.
إن استمرار الوضع على هذه الحال في النقل الحضري داخل المدن سيزيد من التردي و من النزاعات المجانية بين المتع املين الخ واص المقه ورين اقتص اديا و بين
المستعملين الذين يتطلعون لخدمات بحد أدنى من النوعية و كلما ضحية سياسات أقل ما يقال عنها أنه ا فاش لة و متمحورت ا ح ول نم وذج العاص مة و ك أن الجزائ ر
اختزلت في عاصمتها بل سيزداد الوضع ترديا مع مواصلة سياسة الرفع التدريجي من التدعيم لسعر البنزين التي أوصى االتحاد األوروبي للتقلي ل من االنعكاس ات
السلبية للسيارة الفردية ذلك البديل المتمثل في ترقية النقل الجماعي لم يسجل تقدما مستداما جديرا بالذكر.