You are on page 1of 14

‫‪175‬‬

‫الفكر اإلسالمي بني احلرية واالستبداد‬


‫عادل بدر‬
‫تبلورت يف اتساق معها مفاهيم االستئثار ابلسلطة‪،‬‬ ‫ﺍﻟﺤﺮﻳﺔبعةﻭ واليت‬
‫ﺍﻹﺳﺘﺒﺪﺍﺩ‬ ‫اخللفاء األر‬ ‫توطدت الدولة االستبدادية اليتﺍﻟﻔﻜﺮ‬
‫أتسست بعد‬
‫ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ ﺑﻴﻦ‬ ‫ﺍﻟﻌﻨﻮﺍﻥ‪:‬‬
‫االجتماعي املطلق‪ ،‬وأتسيس مفهوم اجلربية الدينية بوصفه أيديولوجيا مسيطرة ومرسخة‬ ‫ﻓﺼﻮﻝ‬ ‫ﺍﻟﻤﺼﺪﺭ‪ :‬احلكم وتكريس التفاوت‬
‫وتوريث‬
‫ﺍﻟﻬﻴﺌﺔاإلهلي هلا‪.‬‬
‫ﺍﻟﻤﺼﺮﻳﺔ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻠﻜﺘﺎﺏ‬ ‫السلطة الرمسية‪ ،‬ابعتباره املصدر‬ ‫من‬
‫ﺍﻟﻨﺎﺷﺮ‪:‬‬

‫ﺣﻠﻤﻲجهم بن صفوان‪ ،‬حيث رأى أن اإلنسان جمبور يف أفعاله وأنه ال اختيار‬‫ﻋﺎﺩﻝربية مع‬
‫ذهب اجل‬‫ﺑﺪﺭ‪،‬‬
‫ﺍﻟﺮﺋﻴﺴﻲ‪:‬ذلك ظهور م‬
‫ﺍﻟﻤؤﻟﻒمتخض عن‬
‫ولقد‬
‫ﻉ ‪81,82‬‬ ‫ﺍﻟﻤﺠﻠﺪ‪/‬ﺍﻟﻌﺪﺩ‪:‬‬
‫له و ال قدرة‪ ،‬وأنه كالريشة املعلقة يف اهلواء إذا حترك حتركت‪ ،‬وإذا سكن سكنت‪ ،‬وأن هللا تعاىل قدر عليه أعماال البد أن‬
‫ﻧﻌﻢ‬ ‫ﻣﺤﻜﻤﺔ‪:‬‬
‫‪2012‬مى بذلك إىل التخلص من التكاليف وإسقاط املسئولية عن اإلنسان‪ ،‬وإمنا كان يرمى‬
‫ﺍﻟﻤﻴﻼﺩﻱ‪ :‬أن جهم مل يكن ير‬
‫تصدر منه‪ .‬ورغم‬
‫ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ‬
‫وجل‪ ،‬وأنه ال يشرتك معه أحد من خلقه يف فعل من األفعال‪ ،‬فإن مبالغته أدت إىل‬ ‫ﺻﻴﻒ‬‫إثبات التوحيد املطلق هلل عز‬ ‫إىل‬
‫ﺍﻟﺸﻬﺮ‪:‬‬

‫‪ 175‬الفعل جمااا‪ .‬أما اجلعد بن درهم فقد أكد املذهب اجلربي قائال إن هللا اخلالق‬
‫سند إليه‬ ‫اإلنسان منزوع اإلرادة‪ ،‬إذ ي‬
‫‪- 186‬‬ ‫جعل‬
‫ﺍﻟﺼﻔﺤﺎﺕ‪:‬‬
‫‪473899‬‬
‫نسبة فعل من األفعال ألحد من خملوقاته وإال شاركه يف وصفه‪ ،‬وال يصح أن يشرتك‬ ‫‪:MD‬فاعل على احلقيقة وال يصح‬ ‫سبحانه‬‫ﺭﻗﻢ‬
‫ﺑﺤﻮﺙ ﻭﻣﻘﺎﻻﺕ‬ ‫ﻧﻮﻉ ﺍﻟﻤﺤﺘﻮﻯ‪:‬‬
‫أحد من خملوقات هللا يف وصف من أوصافه فتكون نتيجة هذا أن البشر جمبورون على أفعاهلم‪ ،‬وأن نسبتها إليهم على‬
‫‪AraBase‬‬ ‫ﻗﻮﺍﻋﺪ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺎﺕ‪:‬‬
‫القاضي عبد‬ ‫لنا‬ ‫يقدمه‬ ‫قاطعة‬ ‫داللة‬ ‫يدل‬ ‫نص‬ ‫لدينا‬‫و‬ ‫اقع‬
‫و‬ ‫ال‬ ‫صلب‬ ‫يف‬ ‫ية‬‫رب‬‫اجل‬
‫ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ‪ ،‬ﺍﻹﺳﺘﺒﺪﺍﺩ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ‪ ،‬ﺍﻟﻤﺬﺍﻫﺐ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ‪ ،‬ﺍﻟﻄﺮﻕ ﺍﻟﺼﻮﻓﻴﺔ‬
‫ابحلتمية‬ ‫القول‬ ‫أتسس‬ ‫كذا‬ ‫ﻣﻮﺍﺿﻴﻊ‪:‬اجملاا‪ .‬وه‬
‫سبيل‬
‫‪http://search.mandumah.com/Record/473899‬فيه‪" :‬أول من قال ابجلرب وأظهره‪:‬‬
‫اجلبار حول اإلرهاص اجلربي يف العصر األموي يف داللتيه السياسية واملعرفية‪ ،‬يقول‬
‫ﺭﺍﺑﻂ‪:‬‬
‫معاوية ( فهذا)‪ ...‬أظهر أن ما أيتيه بقضاء هللا ومن خلقه‪ ،‬ليجعله عذرا يف ما أيتيه‪ ،‬ويوهم أنه مصيب فيه‪ ،‬وأن هللا‬
‫جعله إماما وواله األمر وفشا ذلك يف ملوك بين أمية (‪ .)1‬وىف رد فعل لتكريس اجلربية األموية ظهر دعاة القول حبرية‬
‫اإلرادة يثبتون قدرة اإلنسان على أعماله‪ ،‬وكان على رأسهم معبد اجلهىن وغيالن الدمشقي اللذان كان هلما من الشجاعة‬
‫واجلرأة ما أهلهما النتقاد أمراء بين أمية‪ ،‬وجاهدا يف سبيل أرائهما حىت دفعا حياهتما فصارا شهداء احلق واملبدأ‪ ،‬لقد دافع‬
‫كل منهما عن مبدأ حرية اإلرادة‪ ،‬وأن هللا ال يعمل إال األصلح‪ ،‬فال يقضى ابملعاصي‪ ،‬بل يرتكبها اإلنسان مبحض‬
‫إرادته‪ .‬وكيف يعذب هللا على فعله هو‪ ،‬وهو عادل ال يظلم‪ ،‬ورحيم ال يكلف مبا ال يطاق‪ ،‬وحكيم ال يفعل ما هو‬
‫مذموم(‪ .)2‬وميكننا إمجال القول يف هذه املسألة انتقاال من االجتاهات الكالمية إىل الفلسفة على النحو اآليت‪:‬‬
‫أوال‪ :‬ابلنظر إىل املذاهب املختلفة يف موقفها من اجلربية والقدرية (احلرية) جند أمامنا‪:‬‬
‫أ) املعتزلة اليت رأت أن اإلنسان هو خالق أفعاله واملسئول عنها‪ ،‬ولكن فعله يتم ابآلليات اليت خلقها هللا لفعل‬
‫اإلنسان ذاته‪.‬‬
‫ب) املاتريدية فرتى أن هللا مل يقتصر على إجياد آليات الفعل‪ ،‬وإمنا أوجد أيضا هذا الفعل‪ ،‬اتركا اإلنسان ليوجد‬
‫أسباب الفعل القريب‪ ،‬الذي يسمونه العزم‪ ،‬أي عزم اإلنسان على أن يفعل‪.‬‬
‫© ‪ 2023‬ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ‪ .‬ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺤﻘﻮﻕ ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‪.‬‬
‫ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻣﺘﺎﺣﺔ ﺑﻨﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﺗﻔﺎﻕ ﺍﻟﻤﻮﻗﻊ ﻣﻊ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ‪ ،‬ﻋﻠﻤﺎ ﺃﻥ ﺟﻤﻴﻊ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‪ .‬ﻳﻤﻜﻨﻚ ﺗﺤﻤﻴﻞ ﺃﻭ ﻃﺒﺎﻋﺔ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻟﻼﺳﺘﺨﺪﺍﻡ‬
‫ﺍﻟﺸﺨﺼﻲ ﻓﻘﻂ‪ ،‬ﻭﻳﻤﻨﻊ ﺍﻟﻨﺴﺦ ﺃﻭ ﺍﻟﺘﺤﻮﻳﻞ ﺃﻭ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﻋﺒﺮ ﺃﻱ ﻭﺳﻴﻠﺔ )ﻣﺜﻞ ﻣﻮﺍﻗﻊ ﺍﻻﻧﺘﺮﻧﺖ ﺃﻭ ﺍﻟﺒﺮﻳﺪ ﺍﻻﻟﻜﺘﺮﻭﻧﻲ( ﺩﻭﻥ ﺗﺼﺮﻳﺢ ﺧﻄﻲ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﺃﻭ‬
‫ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ‪.‬‬
‫‪175‬‬

‫الفكر اإلسالمي بني احلرية واالستبداد‬


‫عادل بدر‬
‫االستئثار ابلسلطة‪،‬‬
‫ﺍﻟﻤﻄﻠﻮﺏ‪:‬‬ ‫مفاهيم‬ ‫ﺇﺳﻠﻮﺏاتساق معها‬
‫ﺍﻹﺳﺘﺸﻬﺎﺩ‬ ‫ﺣﺴﺐتبلورت يف‬
‫ﺍﻟﺘﺎﻟﻴﺔبعة واليت‬
‫اخللفاء األر‬ ‫أتسست بعد‬
‫ﺍﻟﺒﻴﺎﻧﺎﺕ‬ ‫ﺍﻟﺒﺤﺚ اليت‬
‫ﻗﻢ ﺑﻨﺴﺦ‬ ‫االستبدادية‬ ‫توطدت الد‬
‫ﻟﻺﺳﺘﺸﻬﺎﺩولةﺑﻬﺬﺍ‬
‫احلكم وتكريس التفاوت االجتماعي املطلق‪ ،‬وأتسيس مفهوم اجلربية الدينية بوصفه أيديولوجيا مسيطرة ومرسخة‬ ‫‪APA‬‬‫ﺇﺳﻠﻮﺏيث‬
‫وتور‬
‫ﺑﺪﺭ‪ ،‬ﻋﺎﺩﻝ ﺣﻠﻤﻲ‪ .(2012) .‬ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﻭ ﺍﻹﺳﺘﺒﺪﺍﺩ‪.‬ﻓﺼﻮﻝ‪ ،‬ﻉ ‪ .186 - 175 ،81,82‬ﻣﺴﺘﺮﺟﻊ‬
‫من السلطة الرمسية‪ ،‬ابعتباره املصدر اإلهلي هلا‪.‬‬
‫ﻣﻦ ‪473899/Record/com.mandumah.search//:http‬‬
‫متخض عن ذلك ظهور مذهب اجلربية مع جهم بن صفوان‪ ،‬حيث رأى أن اإلنسان جمبور يف أفعاله وأنه ال اختيار‬ ‫ولقد‬
‫ﺇﺳﻠﻮﺏ ‪MLA‬‬
‫ﺑﺪﺭ‪ ،‬ﻋﺎﺩﻝ ﺣﻠﻤﻲ‪" .‬ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﻭ ﺍﻹﺳﺘﺒﺪﺍﺩ‪".‬ﻓﺼﻮﻝﻉ ‪ .186 - 175 :(2012) 81,82‬ﻣﺴﺘﺮﺟﻊ‬
‫‪473899/Record/com.mandumah.search//:http‬سكن سكنت‪ ،‬وأن هللا تعاىل قدر عليه أعماال البد أن‬
‫ﻣﻦرة‪ ،‬وأنه كالريشة املعلقة يف اهلواء إذا حترك حتركت‪ ،‬وإذا‬
‫ال قد‬
‫له و‬
‫تصدر منه‪ .‬ورغم أن جهم مل يكن يرمى بذلك إىل التخلص من التكاليف وإسقاط املسئولية عن اإلنسان‪ ،‬وإمنا كان يرمى‬
‫إىل إثبات التوحيد املطلق هلل عز وجل‪ ،‬وأنه ال يشرتك معه أحد من خلقه يف فعل من األفعال‪ ،‬فإن مبالغته أدت إىل‬
‫جعل اإلنسان منزوع اإلرادة‪ ،‬إذ يسند إليه الفعل جمااا‪ .‬أما اجلعد بن درهم فقد أكد املذهب اجلربي قائال إن هللا اخلالق‬
‫سبحانه فاعل على احلقيقة وال يصح نسبة فعل من األفعال ألحد من خملوقاته وإال شاركه يف وصفه‪ ،‬وال يصح أن يشرتك‬
‫أحد من خملوقات هللا يف وصف من أوصافه فتكون نتيجة هذا أن البشر جمبورون على أفعاهلم‪ ،‬وأن نسبتها إليهم على‬
‫سبيل اجملاا‪ .‬وهكذا أتسس القول ابحلتمية اجلربية يف صلب الواقع ولدينا نص يدل داللة قاطعة يقدمه لنا القاضي عبد‬
‫اجلبار حول اإلرهاص اجلربي يف العصر األموي يف داللتيه السياسية واملعرفية‪ ،‬يقول فيه‪" :‬أول من قال ابجلرب وأظهره‪:‬‬
‫معاوية ( فهذا)‪ ...‬أظهر أن ما أيتيه بقضاء هللا ومن خلقه‪ ،‬ليجعله عذرا يف ما أيتيه‪ ،‬ويوهم أنه مصيب فيه‪ ،‬وأن هللا‬
‫جعله إماما وواله األمر وفشا ذلك يف ملوك بين أمية (‪ .)1‬وىف رد فعل لتكريس اجلربية األموية ظهر دعاة القول حبرية‬
‫اإلرادة يثبتون قدرة اإلنسان على أعماله‪ ،‬وكان على رأسهم معبد اجلهىن وغيالن الدمشقي اللذان كان هلما من الشجاعة‬
‫واجلرأة ما أهلهما النتقاد أمراء بين أمية‪ ،‬وجاهدا يف سبيل أرائهما حىت دفعا حياهتما فصارا شهداء احلق واملبدأ‪ ،‬لقد دافع‬
‫كل منهما عن مبدأ حرية اإلرادة‪ ،‬وأن هللا ال يعمل إال األصلح‪ ،‬فال يقضى ابملعاصي‪ ،‬بل يرتكبها اإلنسان مبحض‬
‫إرادته‪ .‬وكيف يعذب هللا على فعله هو‪ ،‬وهو عادل ال يظلم‪ ،‬ورحيم ال يكلف مبا ال يطاق‪ ،‬وحكيم ال يفعل ما هو‬
‫مذموم(‪ .)2‬وميكننا إمجال القول يف هذه املسألة انتقاال من االجتاهات الكالمية إىل الفلسفة على النحو اآليت‪:‬‬
‫أوال‪ :‬ابلنظر إىل املذاهب املختلفة يف موقفها من اجلربية والقدرية (احلرية) جند أمامنا‪:‬‬
‫أ) املعتزلة اليت رأت أن اإلنسان هو خالق أفعاله واملسئول عنها‪ ،‬ولكن فعله يتم ابآلليات اليت خلقها هللا لفعل‬
‫اإلنسان ذاته‪.‬‬
‫ب) املاتريدية فرتى أن هللا مل يقتصر على إجياد آليات الفعل‪ ،‬وإمنا أوجد أيضا هذا الفعل‪ ،‬اتركا اإلنسان ليوجد‬
‫أسباب الفعل القريب‪ ،‬الذي يسمونه العزم‪ ،‬أي عزم اإلنسان على أن يفعل‪.‬‬
‫© ‪ 2023‬ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ‪ .‬ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺤﻘﻮﻕ ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‪.‬‬
‫ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻣﺘﺎﺣﺔ ﺑﻨﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﺗﻔﺎﻕ ﺍﻟﻤﻮﻗﻊ ﻣﻊ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ‪ ،‬ﻋﻠﻤﺎ ﺃﻥ ﺟﻤﻴﻊ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‪ .‬ﻳﻤﻜﻨﻚ ﺗﺤﻤﻴﻞ ﺃﻭ ﻃﺒﺎﻋﺔ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻟﻼﺳﺘﺨﺪﺍﻡ‬
‫ﺍﻟﺸﺨﺼﻲ ﻓﻘﻂ‪ ،‬ﻭﻳﻤﻨﻊ ﺍﻟﻨﺴﺦ ﺃﻭ ﺍﻟﺘﺤﻮﻳﻞ ﺃﻭ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﻋﺒﺮ ﺃﻱ ﻭﺳﻴﻠﺔ )ﻣﺜﻞ ﻣﻮﺍﻗﻊ ﺍﻻﻧﺘﺮﻧﺖ ﺃﻭ ﺍﻟﺒﺮﻳﺪ ﺍﻻﻟﻜﺘﺮﻭﻧﻲ( ﺩﻭﻥ ﺗﺼﺮﻳﺢ ﺧﻄﻲ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﺃﻭ‬
‫ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ‪.‬‬
‫‪175‬‬

‫الفكر اإلسالمي بني احلرية واالستبداد‬


‫عادل بدر‬
‫توطدت الدولة االستبدادية اليت أتسست بعد اخللفاء األربعة واليت تبلورت يف اتساق معها مفاهيم االستئثار ابلسلطة‪،‬‬
‫وتوريث احلكم وتكريس التفاوت االجتماعي املطلق‪ ،‬وأتسيس مفهوم اجلربية الدينية بوصفه أيديولوجيا مسيطرة ومرسخة‬
‫من السلطة الرمسية‪ ،‬ابعتباره املصدر اإلهلي هلا‪.‬‬
‫ولقد متخض عن ذلك ظهور مذهب اجلربية مع جهم بن صفوان‪ ،‬حيث رأى أن اإلنسان جمبور يف أفعاله وأنه ال اختيار‬
‫له و ال قدرة‪ ،‬وأنه كالريشة املعلقة يف اهلواء إذا حترك حتركت‪ ،‬وإذا سكن سكنت‪ ،‬وأن هللا تعاىل قدر عليه أعماال البد أن‬
‫تصدر منه‪ .‬ورغم أن جهم مل يكن يرمى بذلك إىل التخلص من التكاليف وإسقاط املسئولية عن اإلنسان‪ ،‬وإمنا كان يرمى‬
‫إىل إثبات التوحيد املطلق هلل عز وجل‪ ،‬وأنه ال يشرتك معه أحد من خلقه يف فعل من األفعال‪ ،‬فإن مبالغته أدت إىل‬
‫جعل اإلنسان منزوع اإلرادة‪ ،‬إذ يسند إليه الفعل جمااا‪ .‬أما اجلعد بن درهم فقد أكد املذهب اجلربي قائال إن هللا اخلالق‬
‫سبحانه فاعل على احلقيقة وال يصح نسبة فعل من األفعال ألحد من خملوقاته وإال شاركه يف وصفه‪ ،‬وال يصح أن يشرتك‬
‫أحد من خملوقات هللا يف وصف من أوصافه فتكون نتيجة هذا أن البشر جمبورون على أفعاهلم‪ ،‬وأن نسبتها إليهم على‬
‫سبيل اجملاا‪ .‬وهكذا أتسس القول ابحلتمية اجلربية يف صلب الواقع ولدينا نص يدل داللة قاطعة يقدمه لنا القاضي عبد‬
‫اجلبار حول اإلرهاص اجلربي يف العصر األموي يف داللتيه السياسية واملعرفية‪ ،‬يقول فيه‪" :‬أول من قال ابجلرب وأظهره‪:‬‬
‫معاوية ( فهذا)‪ ...‬أظهر أن ما أيتيه بقضاء هللا ومن خلقه‪ ،‬ليجعله عذرا يف ما أيتيه‪ ،‬ويوهم أنه مصيب فيه‪ ،‬وأن هللا‬
‫جعله إماما وواله األمر وفشا ذلك يف ملوك بين أمية (‪ .)1‬وىف رد فعل لتكريس اجلربية األموية ظهر دعاة القول حبرية‬
‫اإلرادة يثبتون قدرة اإلنسان على أعماله‪ ،‬وكان على رأسهم معبد اجلهىن وغيالن الدمشقي اللذان كان هلما من الشجاعة‬
‫واجلرأة ما أهلهما النتقاد أمراء بين أمية‪ ،‬وجاهدا يف سبيل أرائهما حىت دفعا حياهتما فصارا شهداء احلق واملبدأ‪ ،‬لقد دافع‬
‫كل منهما عن مبدأ حرية اإلرادة‪ ،‬وأن هللا ال يعمل إال األصلح‪ ،‬فال يقضى ابملعاصي‪ ،‬بل يرتكبها اإلنسان مبحض‬
‫إرادته‪ .‬وكيف يعذب هللا على فعله هو‪ ،‬وهو عادل ال يظلم‪ ،‬ورحيم ال يكلف مبا ال يطاق‪ ،‬وحكيم ال يفعل ما هو‬
‫مذموم(‪ .)2‬وميكننا إمجال القول يف هذه املسألة انتقاال من االجتاهات الكالمية إىل الفلسفة على النحو اآليت‪:‬‬
‫أوال‪ :‬ابلنظر إىل املذاهب املختلفة يف موقفها من اجلربية والقدرية (احلرية) جند أمامنا‪:‬‬
‫أ) املعتزلة اليت رأت أن اإلنسان هو خالق أفعاله واملسئول عنها‪ ،‬ولكن فعله يتم ابآلليات اليت خلقها هللا لفعل‬
‫اإلنسان ذاته‪.‬‬
‫ب) املاتريدية فرتى أن هللا مل يقتصر على إجياد آليات الفعل‪ ،‬وإمنا أوجد أيضا هذا الفعل‪ ،‬اتركا اإلنسان ليوجد‬
‫أسباب الفعل القريب‪ ،‬الذي يسمونه العزم‪ ،‬أي عزم اإلنسان على أن يفعل‪.‬‬
‫فصول‪ ...‬العددان ‪ ...22 -20‬ربيع‪ -‬صيف ‪2102‬‬
‫‪176‬‬
‫ت) هنا أتتى األشاعرة لتقول بنظرية الكسب حيث خيلق هللا الفعل‪ ،‬وما على اإلنسان إال اختيار ما خلقه هللا له‪،‬‬
‫وهذا يعىن أن الفعل وآلياته وسببه القريب هي مجيعا‪ ،‬إىل جانب العزم‪ ،‬خملوقة هلل تعاىل ذاته‪ ،‬فهو سبحانه الذي‬
‫أوجدها‪.‬‬
‫أما اجلربية فتؤكد أن ما تنفيه األشاعرة جيب أن ينسحب‪ ،‬كذلك على صورة العزم‪ ،‬حبيث ميتد كل شيء إىل فعل‬ ‫ث)‬

‫هللا تعاىل وحده‪.‬‬


‫وها هنا ميكن القول أبن كال من املذهبني األشعري واجلربي معا خيلعان املشروعية اإلهلية على ما هو بشرى‪ ،‬ويقيدان ما‬
‫هو بشرى مبا هو إهلي‪ ،‬مبعىن أهنما خيلعان املشروعية اإلهلية على أعمال البشر وقوانينهم‪ ،‬وعندما يرى األشعري أن هللا‬
‫خلق كل شيء ‪ ،‬العدل والظلم واخلري والشر‪ ،‬مستدركا أبن الظلم أو الشر قد فعال عرب شخص آخر غريه‪ ،‬فإن ذلك يعىن‬
‫تقييدا للفعل اإلنساين ‪ ،‬ويعىن أن اإلنسان غري مسئول حىت عن أعماله‪ .‬ولذلك كله فإن املذهبني األشعري واجلربي‬
‫يؤداين معا إىل هزمية اإلنسان‪ ،‬ومن مث هزمية العقل اإلنساين أو ارتداده وتراجعه عن حقه يف التوصل إىل حرية االختيار‬
‫واإلرادة‪ ،‬مبعىن أن هللا تعاىل هو الذي يفعل واإلنسان ليس إال منفذا على غري إرادته‪ ،‬وهنا يصري اإلنسان وعقله‬
‫مسجونني داخل دائرة نظرية اجلرب واحلتمية‪.‬‬
‫وإذا نظران أنطولوجيا إىل مسألة احلرية واالختيار اإلنساين يف الفكر اإلسالمي لوجدان أن املبدأ احلق ‪-‬فلسفيا ‪ -‬هو عبارة‬
‫عن علة كافية حمضة واجبة من مجيع اجلهات‪ ،‬وأن إرادته مل تكن اائدة على علمه وكذلك قدرته تعاىل‪ ،‬مما جيعل اإلرادة‬
‫والقدرة معا مها حمض جماا‪ .‬وهنا‪ ،‬فإن حال العلم اإلهلي ينعكس على العامل السفلى‪ ،‬وابلتايل ينعكس على اإلنسان‪ ،‬فما‬
‫يصدق على العلل املفارقة يصدق أيضا على اإلنسان‪ ،‬وهو ما جيعل اإلنسان – أنطولوجيا‪ -‬اتبعا للعلة األوىل متاما يف‬
‫حياته ومصريه فال ميلك لنفسه جلب النفع أو دفع الضرر‪ ،‬ألن قدرته وإرادته مها كذلك جماا حمض‪ ،‬وان مساره حمكوم مبا‬
‫ينشأ حتما من احلقائق العلوية للمفارقات‪ ،‬وهنا فإذا كان العامل السفلى خاضعا حلكم العامل األعلى خضوع املعلول لعلته‬
‫وضرورية هذا اخلضوع‪ ،‬أو كان كل شيء يف العامل السفلى اتبعا لألعيان الثابتة واألمساء اإلهلية تبعا للتصور الصويف‪ ،‬فإن‬
‫األمر من الناحية الوجودية األنطولوجية ينفى وجود اإلرادة والقدرة احلقيقية لإلنسان‪ ،‬وابلتايل يعارض حريته‪ .‬ومع وجود‬
‫حماوالت فلسفية ايئسة إلجياد ما يربر حفظ القول حبرية اإلنسان استنادا إىل أمور دينية‪ ،‬ففي املقابل توجد رؤى فلسفية‬
‫واضحة تنفى حرية اإلنسان وتؤكد القول ابجلربية استنادا إىل أنه ال يوجد فاعل على وجه احلقيقة يف هذا العامل إال هللا‬
‫تعاىل‪ ،‬فكان ابن سينا مثال منكرا حلرية اإلنسان فهو يقول يف كتابه النجاة وىف فصل "املبدأ واملعاد" ما يشري إىل أن‬
‫" اإلرادات كلها كانت كائنة بعد ما مل تكن فلها أن تتواىف فتوجبها ( حيث إن) اإلرادات حتدث حبدوث علل هي‬
‫املوجبات‪ ،‬والدواعي تستند إىل أرضيات ومساوايت‪ ،‬وتكون موجبة ضرورة لتلك اإلرادة"‪ .‬وكان الكندي يف حديثه عن‬
‫حرية اإلرادة مضطراب فهو يرى مرة أن الفعل احلقيقي ما كان وليد القصد واإلرادة‪ ،‬وأن إرادة اإلنسان جمرد قوة نفسية‬
‫حتركها اخلواطر والسوائح‪ ،‬إال أن رسائله ال توضح بشكل قاطع كيفية التوفيق بني حرية اإلنسان واإلرادة اإلهلية ونظام‬
‫الكون(‪ ،)3‬أما الفارايب فرغم أنه توسع يف األمر واعترب أن االختيار يتولد عن التدبر والتفكري وأنه مقصور على اإلنسان يف‬
‫كتابه آراء أهل املدينة الفاضلة(‪ )4‬مع ربط ذلك ابلقصد والنية ربطا حمكما مع تقدمها على الفعل (العزم)‪ ،‬وبعد أن أكد‬
‫امللف (‪ ...)0‬الفكر اإلسالمي بني احلرية واالستبداد‬
‫‪177‬‬
‫حرية اإلنسان يف فعل ما يريد‪ ،‬إال أن هذه احلرية ختضع ابلضرورة لسنة الكون وقوانينه‪ ،‬ألن كل شيء ميسر ملا خلق له‪،‬‬
‫وأن عناية هللا تعاىل حتيط مجيع األشياء متصلة بكل أحد‪ ،‬وكل كائن بقضائه وقدره(‪ ،)5‬فحرية العبد ال تنفك عن عناية‬
‫هللا تعاىل‪ ،‬وفق التناسق واالنسجام األايل‪ ،‬وهو ما ال يسمح حلرية اإلنسان أن تكون كاملة‪ ،‬ابلضبط كما كان األمر‬
‫ابلنسبة إىل الكسب األشعري‪ ،‬ونفس هذا االضطراب جنده واضحا عند ابن رشد فهو يرى أن هللا تعاىل منح العبد إرادة‬
‫يصرف هبا أموره‪ ،‬حبيث يقدر على فعل الشيء ونقيضه‪ ،‬ألن أفعاله متولدة عن إرادته وقدرته‪ ،‬وهو ما يربر مسئوليته عما‬
‫يفعل‪ ،‬إال أن هذه اإلرادة مقيدة‪ ،‬وتلك القدرة ال إطالقيه هلا‪ ،‬ألهنما معا ختضعان حلتمية األسباب اخلارجية والداخلية‪،‬‬
‫وابلتايل فإهنما مقيداتن بنظام الكون وسننه مما يقطع أبن هذه األسباب تعرتض ما يريد اإلنسان‪ ،‬إذ إن نظام الكون‬
‫حيول دون تنفيذ ما نقدر عليه(‪ .)6‬ورغم اعرتاف ابن رشد يف تفسريه للقضاء والقدر بقدر من القدرة واإلرادة‪ ،‬لكنه مل‬
‫يفعل ذلك انطالقا من اعتبارات وجودية‪ ،‬بل تعداها انظرا إىل الواقع املوضوعي‪ ،‬األمر الذي أدى إىل خرق املنظومة‬
‫الفلسفية اليت تؤكد ضرورة حاكمية العامل العلوي للعامل السفلى املادي‪ .‬فقد حاول ابن رشد التوفيق بني القول إبرادة‬
‫اإلنسان والتأكيد عليها‪ ،‬وبني أتثري العوامل اجلربية اخلارجية والداخلية للواقع املوضوعي من انحية أخرى‪ ،‬إذ فيها ما حيفز‬
‫على الفعل اإلنساين‪ ،‬ومنها ما يثبط هذا الفعل‪ ،‬وعليه فإن األفعال اإلنسانية تصري مقيدة لكل من اإلرادة وتلك العوامل‬
‫(‪)8‬‬
‫أو األسباب(‪ .)7‬وهذا االضطراب الذي يدور يف جماله مفكرو اإلسالم وفالسفته عرب عنه احملقق نصري الدين الطوسى‬
‫أبنه قد عجز على سبيل املثال عن تفسري قول اإلمام الصادق أبنه‪" :‬ال جرب وال تفويض‪ ،‬بل أمر بني أمرين"‪ ،‬وأنه جلأ‬
‫إىل القرآن الكرمي ابحثا عن حل هلذه املسالة‪ ،‬فرأى يف آايته ظواهر متعارضة؛ األمر الذي دعاه إىل ترجيح مبدأ الوقف‬
‫تبعا لقوله تعاىل‪(:‬وما يعلم أتويله إال هللا) (سورة آل عمران‪ ،‬أية ‪ .)7‬ومع هذا فإنه يف رسالة أفعال العباد بني اجلرب‬
‫والتفويض عاد ليفسر املسألة مبا ال خيرج عن املفاهيم الفلسفية وال يبتعد عن املظهر األشعري‪ ،‬وذلك جبعله القدرة واإلرادة‬
‫غري حقيقيتني‪ ،‬إذ رأى أنه إذا نظران إىل أسباب القدرة واإلرادة فإن أصلها يرتد إىل هللا تعاىل‪ ،‬وبتحققهما يصري الفعل‬
‫اإلنساين واجبا‪ ،‬وبعدمها يصري الفعل ممتنعا‪ ،‬أما لو نظران للفعل اإلنساين فإنه يكون من العبد حبسب قدرته وإرادته‪،‬‬
‫وهلذا قيل‪" :‬ال جرب وال تفويض بل أمر بني أمرين"‪ ،‬وابلتايل فإن االختيار حق‪ ،‬واإلسناد إىل هللا حق‪ ،‬وال يتم الفعل‬
‫أبحدمها دون اآلخر(‪ .)9‬ونفس اإلشكال جنده لدى صدر الدين الشريااي الذي رأى أن حركات اإلنسان وسكناته هي‬
‫وإن كانت مبشيئته أو اختياره‪ ،‬فهذه املشيئة تكون بقضاء هللا وقدره‪ ،‬أي أبسباب خارجية جتعل املشيئة واالختيار على ما‬
‫مها عليه من الفعل الوجودي دون خمالفة‪ ،‬واإلنسان على هذا مضطر يف مجيع األحوال‪ ،‬وعندئذ تكون أمامه معضلة كون‬
‫العبد مضطرا وخمتارا يف الوقت نفسه‪ .‬والشريااي هنا يرى أن العبد جمبور يف عني اختياره وخمتار يف عني اضطراره‪ ،‬وأقرب‬
‫األمثلة على ذلك عالقة النفس ابحلواس‪ ،‬حيث إن فعل كل حاسة هو يف الوقت ذاته فعل للنفس ذاهتا‪ ،‬وكذا األمر مع‬
‫عالقة الفعل اإلهلي بفعل العبد‪ ،‬فال يكون من اجلارحة فعل إال إبرادة النفس‪ ،‬وهذه اإلرادة ال تنشأ من ذاهتا بل من إرادة‬
‫هللا تعاىل‪ ،‬حيث إنه خيلق يف النفس إرادة ومشيئة‪ ،‬فاهلل تعاىل هو الذي خيلق يف النفس إرادة وعلما تدرك األمور‬
‫وتتصرف فيها وهو املفهوم من قوله تعاىل‪" :‬وما رميت إذ رميت ولكن هللا رمى" (سورة األنفال‪ ،‬آية‪ ) 17 :‬حيث سلب‬
‫فصول‪ ...‬العددان ‪ ...22 -20‬ربيع‪ -‬صيف ‪2102‬‬
‫‪178‬‬
‫الرمي عن الرامي حني أثبته هلل تعاىل وحده‪ .‬وهذا ينطلق من رؤية الشريااي أبن كل فعل يف الوجود إمنا هو فعل الواجب‬
‫احلق(‪.)11‬‬
‫والشريااي يعرتف ابجلرب يف قوله‪ ...." :‬قد قام الدليل العقلي على أن الباري سبحانه ال ينفعه الطاعات وال يضره‬
‫املخالفات‪ ،‬وأن كل شيء جار بقضائه وقدرته‪ ،‬وأن اخللق جمبورون يف اختيارهم فكيف يسرمد العذاب عليهم"(‪ .)11‬وهذا‬
‫يتسق مع الرؤية العرفانية العامة عند الشريااي من أن املوجودات ملا كانت جمرد تعلقات وروابط ابملبدأ احلق فإن صفاهتا‬
‫وآاثرها هي أيضا كذلك‪ ،‬وابلتايل فمع أن العبد راجع إىل ذاته لكنه ميثل فعل املبدأ احلق‪ ،‬إذ إن العامل عبارة عن ربط‬
‫وتعلق حمض ظهور قدرة احلق وإرادته وعلمه وفعله‪ ،‬وميكن أن يعد هذا الفهم هو املقصود من مقولة املنزلة بني اجلرب‬
‫والتفويض واألمر بني األمرين‪ .‬ومن املمكن انتزاع آلية اجلرب واحلتمية عن الفهم األنطولوجى والوجودي للعلم اإلهلي‪ ،‬وهو‬
‫أن نظام الكون اتبع إلرادة احلق وعلمه‪ ،‬حيث إن تعلق علم احلق مبدأ ملعلوماته‪ ،‬فهي اتبعة لعلمه خبالف العلوم‬
‫االنفعالية‪ ،‬ألن العلم واإلرادة والقدرة كلها متثل شيئا واحدا بسيط احلقيقة هو الوجود الصرف وحمض الفعل والكمال‪ ،‬مما‬
‫يعىن أن األمور تتنزل على صورة ما هو معلوم ومراد يف ذلك العامل العلوي‪ ،‬وابلتايل كيف جيوا التحدث عن حرية اإلرادة‬
‫اإلنسانية واختيارها الذايت واإلنسان حمكوم أبصول علوية تبعا ملا عليه العلم اإلهلي الذي صفته املطلق وليس فقط التصور‬
‫أو الشهود‪.‬‬
‫وابلتايل‪ ،‬فرغم نطق رؤية الشريااي ابألسس اليت قامت عليها الوجودية املعاصرة وأعالها أسبقية الوجود على املاهية‪ ،‬فهذه‬
‫الرؤية ظلت ضمن النطاق األنطولوجى العام‪ ،‬ومل يستخرج الشريااي منها املضامني احلقيقية للوجود الفردي أو الذايت‬
‫لإلنسان‪ ،‬فظل اإلنسان شرحية ضمن شرائح الوجود ككل ضمن مذهبه القائل أبن الوجود وحدة يف عني الكثرة وكثرة يف‬
‫عني الوحدة‪ ،‬مبا يعىن أن حقيقة الوجود واحدة‪ ،‬وأن كل ما هو موجود ليس إال عني حقيقة الوجود أو ظهوراته وجتلياته‪،‬‬
‫مبا يعىن أن كثرة الوجودات على اختالفها ترتد إىل الوحدة‪ ،‬ألهنا ليست إال جتليات وظهورات الوحدة اليت هي املبدأ‬
‫احلق(‪ .)12‬وخالصة القول هنا أن املنظومة األنطولوجية أو الوجودية عندما رأت أن إرادة احلق عني العلم فإهنا عندئذ تقول‬
‫احلتمية اليت هي نقيض ما عليه اإلرادة مبعناها احلقيقي‪ ،‬أي املعىن الذي يتضمن حرية االختيار‪.‬‬
‫اثنيا‪ :‬ومن انحية أخرى‪ ،‬تقوم الرؤية الصوفية يف أصلها على مبدأ احلرية‪ ،‬ولكنهم ال يريدون هبا االنطالق يف غري ضابط‬
‫أو غري وعى‪ ،‬بل ينشدون التحرر من رق الشهوات واملخلوقات بوجه خاص وتطهري النفس من األهواء والنزعات‪ ،‬فاحلرية‬
‫هي اإلعراض عن الكل‪ ،‬واإلقبال على من له الكل‪ ،‬وذلك ألن من "دخل الدنيا وهو حر‪ ،‬خرج عنها إىل اآلخرة وهو‬
‫حر‪ ،‬والصوفية أحرار فعال‪ ،‬وال أدل على هذا مما يفرضونه على أنفسهم من جماهدات وجمالدات‪ ،‬بيد أن مقام احلرية عزيز‬
‫ال يرقى إليه إال القليل"(‪ ،)13‬وإذا كانت اإلرادة اإلنسانية هي األساس الديناميكي الذي تقوم عليه حركية الطريق‪ ،‬بل‬
‫وجوهر الوجود واملعرفة‪ ،‬ألهنا هي اليت تثبت وجود اإلنسان‪ ،‬وتنقله من حالة الثبات الالواعي يف دائرة احلاجات الدنيوية‬
‫إىل حالة الصريورة اليت تدفعه إىل الصعود حنو االتصال احلقيقي بربه‪ ،‬فاملريد يف الطريق الصويف يبدأ ابإلرادة وال يعرب‬
‫الطريق إال من خالهلا‪ ،‬وهذه اإلرادة ليست تلك اإلرادة العقلية النظرية‪ ،‬بل هي انبعة من الوجدان احلي‪ ،‬والذوق الصويف‬
‫يف النهاية مظهر من مظاهر الوجدان واإلرادة‪ ،‬وما التجربة الصوفية كلها إال سلسلة من احلركات الوجدانية واإلرادية‪.‬‬
‫امللف (‪ ...)0‬الفكر اإلسالمي بني احلرية واالستبداد‬
‫‪179‬‬
‫فالصويف أوال وأخريا مريد‪ ،‬إال أن اإلرادة اإلنسانية خاضعة خضوعا اتما لإلرادة اإلهلية‪ ،‬وىف النهاية يصل الصويف يف توقه‬
‫حنو هللا إىل الفناء‪ ،‬وهنا فالصوفية معرفتهم فناء‪ ،‬ألهنم ال يعرفون إال ابلفناء عن أنفسهم‪ ،‬ألهنم رغم كوهنم أحرارا يف‬
‫مواجهة الدنيا وتعيناهتا وأدراهنا وأرجاسها‪ ،‬فال قوام هلم بذواهتم‪ ،‬فهم يتحركون حبركة هللا وينطقون عن هللا مبا جيرى على‬
‫ألسنتهم‪ ،‬وينظرون بنور هللا يف أبصارهم‪ ،‬فاهلل هو املريد يف احلقيقة لكل شيء‪ ،‬وال بد للعبد أن يتخلى عن إرادته لكي‬
‫يرتك كل شيء هلل وحده(‪ .)14‬وحقيقة األمر أنه إذا كانت حياة الكثري من الصوفية تنطق ابإلميان احلقيقي ابحلرية‪ ،‬بل‬
‫والتمرد النتزاع هذه احلرية‪ ،‬والدعوة إيل الثورة ألجلها‪ ،‬مثلما نرى يف حياة صويف كاحلالج أو السهروردى شهيد اإلشراق‬
‫أو الغزايل وغريهم‪ ،‬إال أن رؤاهم تنتهي يف النهاية إىل الذوابن يف الشخصية األعمق واألبقى‪ ،‬وأعىن هبا شخصية احلق‬
‫سبحانه وتعاىل‪ .‬وهذا املنحى املعرب عن الفناء‪ ،‬إمنا حيقق للصويف العارف أمسى آايت احلرية بقاء يف الشخصية األبقى‬
‫واألعمق كما أشران‪ ،‬حىت يصبح لساان للحق‪ ،‬وهو ما عرب عنه احلالج يف قولته اخلالدة "أان احلق" والسهرودى يف تعبريه‬
‫عن التوحيد احلقيقي يف قوله‪ :‬ال أان إال أان"(‪ ،)15‬إال أن الرؤى العرفانية الصوفية يف جلها تنتهي إىل عدم االعرتاف إبرادة‬
‫اإلنسان وحرية اختياره وفق اعرتاضات متداخلة‪ .‬وسوف أركز هنا على اعتبارين؟ األول خاص مبفهوم العلم اإلهلي‬
‫وعالقته ابملشيئة واإلرادة‪ ،‬والثاين خاص بوحدة الوجود الشخصية‪ ،‬واالعتبار املرتبط بدور األمساء اإلهلية‪ ،‬فاألول ينصرف‬
‫إىل نفى الع رفاء من الصوفية أن يكون للحق تعاىل املشيئة املمكنة‪ ،‬حبيث إنه تعاىل إن شاء فعل وإن شاء ترك‪ ،‬وذلك‬
‫ابعتبار أن مشيئته أحدية التعلق‪ .‬وهى نسبة اتبعة للعلم‪ ،‬والعلم عبارة عن نسبة اتبعة للمعلوم‪ ،‬واملعلوم هو أان وأنت‬
‫واألحوال اليت حنن فيها‪ .‬فاالختيار يف حق احلق يعارض وحدانية املشيئة‪ ،‬إذ ليس للحق يف نفس األمر إال أمر واحد‬
‫حبسب ما عليه القابل والذي به تتحدد اهلداية والضالل(‪ .)16‬وكما يرى ابن عريب فإن وصف احلق ابالختيار يعارضه‬
‫كونه أحداي‪ ،‬إذ نسبته إىل احلق إذا وصف ابالختيار هي من حيث ما هو املمكن عليه ال من حيث ما هو احلق‬
‫عليه(‪.)17‬‬
‫وهذا هو ما يؤكده الفالسفة من أن مفهوم املشيئة لدى املبدأ احلق ليس اائدا على مفهوم العلم واإلجياد‪ ،‬مثلما أن قدرته‬
‫هي عني علمه‪ ،‬متاما كما رأى املعتزلة أن صفات احلق عني ذاته وليست اائدة عليه كما رأت األشعرية‪ .‬وحبسب اعتبار‬
‫مفهوم وحدة الوجود الشخصية‪ ،‬ميكننا القول إن املخلوقات مجيعا على تباين ذواهتا إمنا ترتد إىل حقيقة واحدة هي الذات‬
‫اإلهلية العلية ابلوجود اجلمعي‪ ،‬وكما يرى صدر الدين الشريااي فإن هذه الذات العلية انبسطت (ابلوجود املنبسط) على‬
‫هياكل هذه املوجودات اليت هي عني الذات‪ ،‬ولذا فإن األفعال الصادرة عن الكل إمنا تكون صادرة عنها من هذا الوجه‬
‫املنسوب إىل احلق‪ ،‬فكل ما هو موجود إمنا هو شأن من شئون احلق‪ ،‬فكذا فعله هو فعل من أفعاله‪ ،‬وكذا صفة من‬
‫صفاته‪ ،‬مما يصدق عليه النص القرآين الكرمي‪" :‬وما تشاءون إال" أن يشاء هللا"؛ حيث أثبت املشيئة لإلنسان مث نفاها‬
‫عنه‪ ،‬فالفعل ليس للعبد بل هلل تعاىل‪ .‬ومن الواضح أن هذه املطابقة ال تعطي حلرية اإلنسان دورا من االستقالل النسيب‬
‫واالنفصال‪ ،‬وذلك معوق أساسي لعملية التكليف وما يرتبط هبا‪ .‬وحبسب دور األمساء اإلهلية‪ ،‬فإن األشياء حمكومة‬
‫ومقهورة حتت سلطة األمساء اإلهلية اليت حتركها على ما تشاءا(‪.)18‬‬
‫فصول‪ ...‬العددان ‪ ...22 -20‬ربيع‪ -‬صيف ‪2102‬‬
‫‪180‬‬
‫والعالقة بني األشياء واألمساء اإلهلية هي نفس العالقة بني املاهية والوجود‪ ،‬فاألشياء حمكومة بسلطة األمساء كموجودات‬
‫وأرابب‪ ،‬وبسلطة األعيان كحقائق وماهيات‪ ،‬فلكل أسم من األمساء اإلهلية صورة يف العلم هي العني الثابتة‪ ،‬وكذا له‬
‫صورة خارجية هي مظهر تلك العني‪ ،‬واالسم هو رب هلذا املظهر وعلة ثبوت تلك العني‪ .‬مما يعىن أن األشياء تظل اتبعة‬
‫ألرابهبا اخلاصة مبا تستلزمه من أعياهنا الثابتة ال تزيد على ذلك وال تنقص أاالا وال أبدا‪ .‬ونفس األمر مع األعيان الثابتة‪،‬‬
‫فإهنا ال تدع جماال لالعرتاف حبرية االختيار والقدرة على الفعل‪ ،‬ذلك أن مفهوم األعيان الثابتة عند ابن عريب والشريااي‬
‫ينتهي إىل أن كل ما يقع من اختالف بني الناس‪ ،‬تكوينا وسلوكا‪ ،‬يرجع يف حقيقته إىل اختالف سابق يف عامل القضاء‬
‫العلوي املتمثل يف األعيان الثابتة‪ ،‬وهى املوصوفة أبهنا ليست جمهولة ومل تشم رائحة الوجود‪ ،‬فاختالفها إمنا حبسب حاهلا‬
‫وقضائها األايل‪ ،‬وهى متثل من حيث ذاهتا حمض القابلية للفعل دون أن يكون هلا وجود يف اخلارج‪ ،‬لكنها تتقبل سراين‬
‫الفيض فينعكس على ذلك وجود األشياء اليت متثلها مبا هي عليه من تضاد واختالف(‪ .)19‬وابلتايل‪ ،‬فإن احلاكم علينا هو‬
‫أعياننا‪ ،‬وليس للحق إال إفاضة الوجود على مقتضى األعيان‪ ،‬فال يوجد يف الوجود إال ما أعطته األعيان الثابتة حبسب‬
‫مقتضى ذاهتا من االستعداد والقابلية ال أكثر وال أقل‪.‬‬
‫وما تقدم كله ينتهي إىل نتيجة واحدة‪ ،‬وهى أن الرؤية األنطولوجية الوجودية تنفى حرية االختيار لإلنسان اليت تقضى نفى‬
‫التكليف‪ ،‬حيث يصري ما نعده حنن تكليفا فعال ضروراي حتميا ال يستحق ثوااب أو عقااب‪ .‬وهذا يعىن أن الرتاث العريب‬
‫اإلسالمي يف جله ال يعرتف حبرية اإلنسان‪ ،‬وهو ما يؤدى ابلتايل إىل الوقوع يف حبائل الضرورة احلتمية الطبيعية‬
‫واألنطولوجية والالهوتية‪ ،‬وضياع قيمة اإلنسان اجتماعيا وأخالقيا‪ ،‬والنتيجة هي الوصول احلتمي إىل االحنطاط والنكوص‪،‬‬
‫وذلك واضح جلى فيما تعانيه جمتمعاتنا العربية واإلسالمية من ضياع حضاري على وجه احلقيقة‪ .‬هذا رغم ما دب يف‬
‫أوصال هذه األمة من دعوة صارخة إىل اخلروج من كهوف الظلمانية اليت عاشت فيها نتيجة تلك األفكار اليت أشاعت‬
‫اخلور والدعة واخلواء والسلبية‪ ،‬الدعوة إىل حياة اإلبداع اخلالقة الكامنة يف الرؤية احلقيقية آلايت القرآن الكرمي متمثلة يف‬
‫فلسفة حممد إقبال الذي حض على التصوف اإلجيايب انطالقا من القرآن الذي يعلمنا مبدأ احلرية اخلالقة لألان اإلنسانية‪،‬‬
‫ويشرح ما ورد عن أدم يف القرآن الكرمي ابلنسبة إىل هبوطه‪ ،‬وكأنه خط متسام "الرتقاء اإلنسان انطالقا من فطرية شهواته‬
‫الغرائزية إىل امتالك واع ألانه القادرة على الشك والعصيان‪ ،‬وظهور األان احملدودة اليت ميكنها االختيار" (‪ .)21‬فإقبال يؤكد‬
‫حرية األان البشرية وفرديتها‪ ،‬فالشخصية احلقيقية لألان ليست شيئا إمنا فعل‪ ،‬وحقيقتها تكمن يف موقفها املوجه‪ ،‬ولذا كان‬
‫اجلسم‪ .‬فعال مرتاكما أو عادة من عادات الروح‪ ،‬واملادة مستعمرة لألان السفلى اليت تنبعث منها األان العليا حيث تصل‬
‫مشاركتها إىل درجة معينة من التناسق (‪ .)21‬وإقبال ينتصر حلرية اإلنسان اخلالقة يف مواجهة كل األفكار اليت تؤدى إىل‬
‫اجلربية وشيوعها يف حياة الناس‪ ،‬فاملذهب اجلربي عنده "هابط خلقيا"قد مت ابتكاره بفضل فلسفة غري مالئمة‪ ،‬بغية‬
‫(‪.)22‬‬
‫الدفاع عن انتهااية احلكام الزمنيني ودعم مصاحلهم املكتسبة‬
‫وإقبال حريص على التأكيد أبن من اليسري على اإلنسان أن يسهم يف صريورة الكون فيصبح خالدا‪ ،‬وهنا جنده وقد‬
‫جسد لنا نزعته اإلنسانية‪ ،‬ومن منظورها يرى أن كل جتربة وتفكري صويف يف اإلسالم يؤداين إىل مذهب التطور املنبثق عنه‬
‫ليجدا فيه تفسريا هلما‪ ،‬ذلك أن اإلنسان يف جوهره كما يراه القرآن الكرمي هو نشاط خالق وعقل متصاعد يرتقى من‬
‫امللف (‪ ...)0‬الفكر اإلسالمي بني احلرية واالستبداد‬
‫‪181‬‬
‫حال إىل حال‪" :‬لرتكنب طبقا عن طبق" (سورة االنشقاق‪ ،‬أية ‪ )21‬إن مصري اإلنسان يدعوه إىل االشرتاك يف صنع ما‬
‫يطمح إليه الكون احمليط به‪ ،‬وأن يشرتك يف صنع مصريه ومصري العامل أيضا‪ ،‬وذلك إما ابنطباقه على قوى هذا العامل‪ ،‬وإما‬
‫ابستعمال طاقته الستخدام هذه القوى من أجل غاايته ومقاصده‪ ،‬وىف هذه السلسلة من التغريات املتتالية يصبح هللا معينا‬
‫له شريطة أن يتخذ اإلنسان املبادرة "إن هللا ال يغري ما بقوم حىت يغريوا ما أبنفسهم" (سورة الرعد‪ ،‬آية ‪ ،) 11‬فدينامية‬
‫الشعور اخلالق يف جتربة إقبال الروحية النابعة من أعماق القرآن الكرمي تنادى‪" :‬على املسلم اليوم أن يقدر موقفه وأن يعيد‬
‫بناء حياته االجتماعية على ضوء مبادئه السامية‪ ،‬وأن يعمل على بلوغ تلك الدميوقراطية الروحية اليت هي غاية اإلسالم‬
‫القصوى متجاواا ما مل يظهر حىت اآلن يف أهداف اإلسالم إال جزئيا"‪ ،‬لقد عربت فلسفة إقبال عما يسميه التصوف احلر‬
‫الذي يكون على وفاق مع احلركة العقلية‪ ،‬ذلك أنه قد عرب يف كتاابته وأشعاره عن أن حمور التجربة الدينية هو العالقة مع‬
‫هللا سبحانه يف أمسي جتلياهتا‪ ،‬وحمور التجربة الشعرية هو العالقة مع الروح يف أمسى جتلياهتا وحمور التجربة الفلسفية هو‬
‫العالقة مع العقل يف أمسى جتلياته كذلك‪ .‬وهذه العالقات اخلالقة هي اليت تصنع حرية اإلنسان بوصفه ذاات مبدعة صلبة‬
‫يف مقاومة قوى االحنالل والتفكك‪ ،‬حيث حتمل هذه الذات‪ -‬يف إبداعها‪ -‬حقني رئيسني‪ ،‬أال ومها احلق يف احلياة‬
‫واحلرية‪ ،‬كما حتددها الشريعة اإلهلية(‪.)23‬‬
‫العلو واحلرية‬
‫إن العلو هو اخلروج من حال اإلمكان إىل حال التحقق‪ ،‬وبذلك يتحقق معىن احلرية‪ ،‬ألن العلو ارتفاع من حال إىل‬
‫أخرى‪ ،‬مبا يقدر عليه املرء وما يريد فعله‪ ،‬وهو الرغبة والسعي يف جتاوا نطاق الواقع الراهن(‪ .)24‬وارتباط العلو ابحلرية يلقى‬
‫بنا من جديد يف أحضان التجربة الصوفية‪ ،‬وذلك ألن جتاوا ما هو ممكن ال ميكن أن ينتقل بنا إىل حالة التحقق إال إذا‬
‫كنا أحرارا ابلفعل‪ ،‬والتفكري يف معىن احلرية اخلالصة يؤدى بنا إىل التصوف الذي يعرب عن االنعتاق من أسر كل شيء أو‬
‫قيده‪ ،‬إنه عملية فك االرتباط ابلغري ابملعىن األصيل هلذه الكلمة‪ ،‬فالعلو هو علو يتجاوا كل شيء‪ ،‬واحلرية هي حترر من‬
‫كل شيء على وجه اإلطالق‪ ،‬أي كل ما هو موجود أو كما يقول الفيلسوف األملاين شرتوفه‪" :‬احلرية مبعناها املتعايل هي‬
‫احلرية من املوجود‪ .‬وملا كان املوجود دائما شيئا ما كانت احلرية هي احلرية من ما‪ ...‬فاحلرية هي بوصفها عالمة على العلو‬
‫هي احلرية من "ما" (وهى) إلغاء االرتباط بكل شيء يدخل يف نطاق العامل"(‪ .)25‬واحلقيقة عندي أنه ال يعلو إال من‬
‫هجر‪ ،‬وال يهجر إال من اغرتب‪ ،‬وال يغرتب إال من توحد‪ ،‬وال يتوحد إال الذات اليت أبصرت حقيقتها يف االقتالع عن‬
‫سطحية هذا العامل (احلرية)‪ ،‬ومتوضع احلشد الذي ميثله الناس عندما يتحولون إىل كتلة جحيمية املالمح والرؤى‪ .‬وعندئذ‪،‬‬
‫فليذهب العامل كما يبدو إىل املنفى‪ ،‬عندما تنتزع الذات نفسها منه‪ ،‬لتظل وحدها مع احلق وحده‪ ،‬وهذه هي نقطة‬
‫االنطالق حنو العلو إىل مركز الوجود(‪ .)26‬وهذه التجربة‪ ،‬جتربة العلو وارتباطها ابحلرية ‪ -‬شخصية وجودية شعورية ‪-‬‬
‫تتغذى من العواطف وحتيا يف كنف املعاانة‪ ،‬وهلذا كانت املشاركة الوجدانية هي الطريق الوحيد الصاحل لفهم هذه التجربة‪،‬‬
‫وليس معىن ذلك أن الفكر ال دخل له يف هذه التجربة‪ ،‬فالواقع أن ما يدركه اإلنسان يف وعيه العقلي بصورة جمزأة‬
‫ومقسمة‪ ،‬فإنه يف هذه التجربة يدركه كال واحدا‪ .‬فاحلقيقة أمام العقل ختضع للتحليل الذي مييز فيها بني قبل وبعد‪ ،‬وبني‬
‫ذات وموضوع‪ ،‬أما احلقيقة أمام الشعور والذوق الصويف فغري قابلة للتحليل‪ ،‬وال مكان فيها للتمييز بني ذات وموضوع‪.‬‬
‫فصول‪ ...‬العددان ‪ ...22 -20‬ربيع‪ -‬صيف ‪2102‬‬
‫‪182‬‬
‫ألهنا تصري وحدة واحدة‪ .‬ومن هنا‪ ،‬تدرك احلقيقة الواحدة بصورتني خمتلفتني أمام العقل والشعور‪ ،‬وهلذا ميكننا القول إن‬
‫يف الفكر شيئا من الشعور‪ ،‬وىف الشعور شيء من الفكر أمام نفس احلقيقة‪ .‬فتجربة العلو واحلرية ترتبط ابملعرفة‪ ،‬واملعرفة‬
‫هنا ال تقتصر على جمال اكتساب املعرفة الدينية الشكلية أو املوضوعية املرتبطة ابلتعاليم التقليدية يف دائرة األوامر والنواهي‬
‫الدينية يف معانيها احلرفية الظاهرية‪ ،‬وإمنا املعرفة يف جتربة العلو احلرية ‪ -‬وهى جتربة وجودية أبلف والم التعريف‪ -‬فتعترب‬
‫املظهر احلريف غري معرب عن العملية اإلميانية يف عمقها الداخلي الباطن‪ ،‬بل أصبح املظهر احلريف جمرد قشرة سطحية للب‬
‫أعمق غورا‪ ،‬ومن مث صار االقتصار على حد الشعائر الظاهرية‪ ،‬إهدارا لإلميان احلقيقي الذي يقوم على طهارة الباطن‬
‫وأتمل القلب‪ ،‬قبل قيامه على طهارة الظاهر‪ ،‬فليس هناك معىن لطهارة املظهر والباطن خرب‪ .‬فاملعرفة يف هذه التجربة‪،‬‬
‫تنطلق من نزعة التطهري واالنضباط الذايت الوجداين قبل أتكيد الشعائر الربانية احلرفية‪ ،‬ذلك أن الشكل الظاهري اتبع‬
‫للجوهر الباطين فليس لبناء أن يقوم وأساسه هار‪ .‬فاملعرفة إذن تبدأ بقلب النظر من اخلارج إىل الداخل وابلتحول من‬
‫املوضوعي إىل الذايت ‪ ،‬وابلثورة على احلرف الظاهر‪ ،‬ومن أجل بناء املعىن الباطن‪ ،‬بل هي تبدأ ابألحرى ابلثورة على‬
‫تصلب الظاهر‪ ،‬وعصيانه على االندماج يف الباطن‪ ،‬فاملعرفة هنا تدمج الظاهر يف الباطن‪ ،‬حبيث يدخل األول كبعد أو‬
‫خيط يف النسيج الكلى لإلميان الباطن‪ .‬والزهد الذي يرتبط هبذه التجربة املعرفية هو جمرد وظيفة لتطهري الباطن‪ ،‬حىت‬
‫يتسىن له احتواء الظاهر الذي ميثل قاعدة االنطالق حنو العلو‪ ،‬والزهد املعىن هنا ليس الزهد السليب العاجز‪ ،‬الذي يعىن‬
‫االنقطاع املطلق عن الدنيا‪ ،‬ولكنه يعىن يف جوهره خلع سلطان الدنيا من السيطرة على إرادة اإلنسان وقلبه أو إرادته‬
‫الوجدانية‪ ،‬ويعىن أيضا فك قيد الدنيا من السيطرة على اإلرادة الوجدانية لإلنسان‪ .‬فالزهد يتحقق لإلنسان يف حركة‬
‫حياته‪ ،‬وهو يف غمار جهاده لبنياهنا‪ ،‬وهو معىن ظاهر يف حياة املسلمني األوائل الذين شيدوا جمتمعاهتم‪ ،‬ومل ينفصلوا قط‬
‫عن حركتها بل اودهم الزهد اإلجيايب بطاقة روحية أعانتهم على بناء هذه اجملتمعات‪ ،‬فلم يكونوا عبادا للحاجات الدنيوية‬
‫السطحية‪ ،‬بل كانوا دعاة للعدالة االجتماعية يف أعلى صورة هلا‪.‬‬
‫ومن هنا كان الزهد منهجا للحياة والسلوك‪ ،‬يرتفع فيه اإلنسان فوق قيود احلياة السطحية‪ ،‬فيملك أمسى صور احلرية‬
‫الذاتية‪ ،‬اليت ترتفع فوق الدنيا مع القدرة على األخذ أبسباهبا‪ ،‬واليت تبتعد عن األهواء الفانية ليتجه اإلنسان حبريته حنو‬
‫العلو‪ ،‬فارغا من القيود املوضوعية‪ ،‬مع وجوده يف قلب حركة احلياة‪.‬‬
‫واملعرفة اليت ترتبط ابلعلو تقوم على النور واإلشراق الذي أييت من احلق للذات اإلنسانية اليت تطهرت وانتبهت إىل‬
‫مستودع السر يف داخلها‪ ،‬وإذا كانت الذات هي مستودع األسرار‪ ،‬فإن هذه الذات غطاها ركام املادة‪ ،‬وحجبتها عن‬
‫سرها أغطية الغرور‪ ،‬فنسيت ذاهتا وسقطت يف الوجود ‪ -‬يف‪ -‬العامل‪ ،‬فلم تعد الذات قادرة على اخلروج من قوقعة احلجب‬
‫إال ابالستجابة للنور الذي يناديها من الداخل‪ .‬فكل إنسان له يف ذاته نور داخلي‪ ،‬ومهمته الكربى يف احلياة هي‬
‫اكتشاف هذا النور‪ ،‬واالحتاد به احتادا جيعله نورا كله‪ ،‬وهلذا السبب عينه ترتبط معرفة النفس مبراقبتها‪ ،‬ألن هذه املعرفة‬
‫تعرب عن القدرة على مراقبة اإلنسان لذاته األصلية أو طبيعته اجلوهرية حبيث يظل أمينا هلا‪ .‬وهذه املراقبة تعىن أن دليل‬
‫اإلنسان يف داخله‪ ،‬وما عليه إال االستجابة أو اليقظة أو االنتباهة‪ ،‬وهى يقظة ترتبط ابلتحرر‪ ،‬أعىن حترر الذات من‬
‫السقوط يف الوجود ‪ -‬يف ‪ -‬العامل‪ ،‬أو هي إضعاف األان من حيث ارتباطها ابلعامل اخلارجي وحاجاته‪ ،‬وهبذا اإلضعاف‬
‫امللف (‪ ...)0‬الفكر اإلسالمي بني احلرية واالستبداد‬
‫‪183‬‬
‫تتطهر الذات من عالئقها‪ ،‬فيخرج اإلنسان من ظلمة نفسه وسجنها ابحثا عن حقيقة ذاته‪ ،‬مبعرفتها‪ ،‬وتبدأ هذه الرحلة‬
‫حنو املتعايل‪ ،‬ابلعزلة عن العام‪ ،‬ليشبع يف داخله جوعه الالهنائي إىل املطلق‪.‬‬
‫وهنا يعيد اإلنسان خلق ذاته‪ ،‬اليت ترتبط ابالنتقال عرب معرفة الذات إىل معرفة احلق من خالل احلق‪ .‬فاإلنسان يعيد‬
‫اكتشاف ذاته‪ ،‬وهذا االكتشاف جيعله خالقا لذاته‪ ،‬وهو خلق ال يعرب عنه اللهم إال ابلرمز واإلمياءة أو اإلشارة‪ ،‬وعندئذ‬
‫يرتفع املوجود كله رفعا حنو احلياة اخلاصة ابملوجود اجلديد‪ ،‬أعىن الذات اجلديدة اليت أعيد خلقها ابكتشافها‪ ،‬وهكذا‬
‫"فمعرفة الذات ال حتتمل أي نوع من التفكري يف عجز اإلنسان عن الكمال‪ ،‬وىف بؤسه‪ ،‬بل ختترب عمق احلقيقة اإلنسانية‪،‬‬
‫عاملة أهنا غري قادرة على الوصول إىل ذلك العمق إال ابلتغيري‪ ،‬ومعرفة تنتهي إىل اكتشاف معرفة النفس (‪)27‬؛ فمعرفة‬
‫اإلنسان تقوم على التغري‪ ،‬وذلك ألن هللا تعاىل"ال يغري ما بقوم حىت يغريوا ما أبنفسهم"‪ ،‬والقدرة على التغيري هي القدرة‬
‫على التحول من عامل الظاهر إيل عامل الباطن‪ ،‬ومن قشرة الذات اخلارجية إىل عمقها الداخلي حبثا عن مستودع النور‪.‬‬
‫والواضح أن التغيري يرتبط ابلعلو التقدمي‪ ،‬أعىن العلو إىل الذات اجلديدة‪ ،‬بعون هللا ورعايته‪ ،‬وإذا كان العامل اخلارجي‬
‫يفرض حدودا على الذات‪ ،‬لوقوعه يف حكم الضرورة‪ ،‬فاهلدف هو اخرتاق هذا العامل بكل حرية ألن اإلنسان وهو حيقق‬
‫ذاته‪ ،‬يعيد خلق العامل من حوله‪ ،‬إذ يعلن ارتياده أفاقا جديدة‪ ،‬يصنعها بذاته‪ ،‬وهو ينطلق حنو املطلق‪ .‬إن رحلة اإلنسان‬
‫حنو داخله هي رحلة من العبودية إىل احلرية واالنعتاق‪ ،‬ومن العامل إىل احلق‪ ،‬واملوت يف هذه الرحلة ليس إال جسرا للعبور‬
‫حنو االندماج يف احلقيقة‪ ،‬وهى ترتبط بقدرة اإلنسان وإرادته احلرة يف وضع نفسه خارج حاجاته وحواسه ومفاهيمه اليت‬
‫توثق عالئقه ابخلارج‪ ،‬وجتعله عميا عن رؤية دقائق ذاته الالمرئية اليت ال ينتبه إليها يف أحواله العادية اليت يرتبط فيها‬
‫ابلوجود‪ -‬يف ‪ -‬العامل‪ .‬ومن مث‪ ،‬فإن بريدايئييف على حق يف رؤيته عن أن أشكال الوجود املرئي والالمرئي هي أشكال‬
‫للطاقة املتكاملة‪ ،‬وهى تعرب يف جوهرها عما هو خارج وما هو داخل‪ ،‬أعىن أهنا تعرب عن عاملني خمتلفني يعرب عن األول‬
‫بشكل طبيعي‪ ،‬أما الثاين اجلواين الداخلي فريتبط ابكتشاف أعماق الهنائية‪ ،‬ال ميكن التعبري عنها إال من خالل الرمز‬
‫كما أشرت آنف ا‪ ،‬أو كما قال النفرى أنه كلما اتسع أفق التجربة ضاقت العبارة‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن معرفة اإلنسان بذاته جتعله‬
‫ذلك املوجود الفريد احلر‪ ،‬حيث يصري سيدا يف مملكته اليت أعاد بناءها‪ ،‬بعون املطلق‪ ،‬فمعرفة النفس هي اكتشاف بعدها‬
‫اإلهلي األخروي‪ ،‬وبعث احلياة يف هذا البعد‪ ،‬ابلتالحم مع الداخل‪ ،‬والتحول عن اخلارج‪ ،‬إهنا جتربة املعاانة الشخصية اليت‬
‫يدفعها الوجدان إىل التقدم يف جهاد ال ينفك‪ ،‬وهى دعوة إهلية سطرها القرآن الكرمي حبروف من نور يف قوله تعاىل‪" :‬وىف‬
‫األرض آايت للموقنني وىف أنفسكم أفال تبصرون (سورة الذارايت‪ ،‬اآليتان ‪ ،)21 -21‬وهى دعوة الستكناه اإلنسان‬
‫لذاته‪ ،‬أو استبطانه لذاته (االستبطان الذايت ‪ )Introspection‬الذي ميثل يف احلقيقة نقطة االنطالق حنو العلو إىل سرب‬
‫أغوار احلقيقة ومعرفة احلق األعلى‪ ،‬وهذه النباهة اليت تتبع االستبطان الذايت تشري إىل حوار دائم بني ما أكون وما ميكن‬
‫أن أصري إليه‪ ،‬وهذا احلوار يعرب عن الصراع واملعاانة واألمل بيين وبني ما هو فريسة للظل داخل الذات‪ ،‬وهلذا كانت‬
‫الشجاعة ضرورية لتحمل األمل الناتج عن صراع اإلنسان مع ذاته‪.‬‬
‫وهلذا قيل إن الذي خيشى اجلروح عليه أن حيب ما هو غري هللا‪ ،‬والذي خياف اجلروح حيذف ذاته من حمبة النور والوطن‪،‬‬
‫إهنا جتربة املعاانة اليت عرب عنها كريكجورد بقوله "إن الظفر ابلالمتناهى يف العامل املتناهي معناه األمل "(‪.)28‬‬
‫فصول‪ ...‬العددان ‪ ...22 -20‬ربيع‪ -‬صيف ‪2102‬‬
‫‪184‬‬
‫ومن هنا كانت معرفة الذات هي املعراج اإلنساين حنو االندماج مع احلق‪ ،‬يف رحلة العلو‪ ،‬حيث تسقط عن اإلنسان‬
‫صفاته املتناهية ليتحلى بصفات الكمال الالمتناهية‪ ،‬وهنا يصري لساان للحق‪ ،‬ومرآة تتجلى عليها صفات احلق‪ ،‬فيصري‬
‫ساميا خارجا عن أحكام الصريورة والزمان املتناهي‪ ،‬مبا يؤكد عظمته الذاتية‪ ،‬ويستدعى طاقاته اخلالقة لريتفع إيل مستوى‬
‫الكمال‪ ،‬حيث يكون وحده مع هللا وحده بعد علوه على ذاته‪ ،‬وقهره حلتمية العامل املادي‪ ،‬وذلك نراه واضحا عند موالان‬
‫جالل الدين الرومي يف قوله‪:‬‬
‫فمن ذلك الذي تصغى أذين ألصواته وأية كلمات وضعها على لساين‬
‫أان مل آت هنا اختيارا‪ ،‬فألعد إىل هناك عن اختيار وليحملين إىل موطين من قدم ىب إىل هنا‪ .‬لقد حترر من عامل الشعور‬
‫وانقطع عنه‪ ،‬حىت نطق احلق على لسانه أو نطق هو بلسان احلق‪ ،‬إهنا نزعة العلو واالرتقاء لدي اإلنسان وتفويضه لكي‬
‫يكون مبدأ ألفعاله حمققا للكمال من خالل احلرية‪ .‬ومن هنا فتجربة العلو والتجاوا وإن كانت تتجه حنو مركزية ما هو‬
‫اهلي فال تلبث أن ترتفع مبا هو إنساين إىل املركز اإلهلي املطلق حيث يتحقق حبالة االكتمال‪ ،‬فليس يف جتربة العلو إفقار‬
‫لإلنسان لصاحل ما هو إهلي‪ ،‬بل يتم السمو مبا هو إنساين‪ ،‬من خالل ارتقاء املتوحد الصويف إىل اجلوهر األعلى واندماجه‬
‫به‪ ،‬ومن مث فإن الثراء الذي جنده يف جتربة العلو واحلرية للمركز اإلهلي ليس إال إثراء ملا هو إنساين وإعالء لذاتية اإلنسان‬
‫ووجوده ودعما حلريته‪.‬‬
‫اهلوامش‬
‫(‪ )1‬القاضي عبد اجلبار (األسدآابدى)‪ :‬املغين يف أبواب التوحيد والعدل‪ ،‬ج ‪" ، ٦١‬إعجاا القرآن"‪ ،‬إبشراف‬
‫طه حسني (القاهرة‪ ،‬الشركة العربية للطباعة والنشر‪ ،)1961 ،‬ص ‪ . ٤‬قارن للشهرستاىن‪ ،‬امللل والنحل‬
‫(بريوت‪ ،‬بدون اتريخ)‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ص‪ ،111 -111 .‬حيث عرب عن مذهب اجلهم بن صفوان بقوله‪:‬‬
‫"إن اإلنسان ال يقدر على شيء‪ ،‬وال يوصف ابالستطاعة‪ ،‬وإمنا هو جمبور يف أفعاله‪ ،‬ال قدرة له وال إرادة‬
‫وال اختيار"‪" ،‬والثواب والعقاب والتكليف جرب كاألفعال"‪ ،‬قارن األشعري‪ :‬مقاالت اإلسالميني‪ ،‬ج ‪ ،٦‬ص‬
‫‪ ، ٩٧٢‬حيث صور األشعري مذهب اجلهم اجلربي بصورة أخرى مالحظا أنه تفرد ابلقول التايل‪" :‬ال فعل‬
‫ألحد يف احلقيقة إال هللا وحده‪ ،‬وأنه هو الفاعل‪ ،‬وأن الناس إمنا تنسب إليهم أفعاهلم على اجملاا"‪.‬‬
‫ابن املرتضى‪ :‬طبقات املعتزلة (بريوت‪ ،) ٦٢١٦ ،‬ص ‪.26‬‬ ‫( ‪)2‬‬
‫الكندي‪ :‬الرسائل الفسلفية‪ ،‬حتقيق د‪ .‬حممد عبد اهلادي أبو ريدة‪ ،‬جزءان (القاهرة‪ ،‬دار الفكر العريب‪،‬‬ ‫( ‪)3‬‬
‫‪ )٦٢٧١‬ج ‪ ، 1‬ص ‪ 172‬وما بعدها‪ ،‬قارن د‪ .‬إبراهيم بيومي مدكور يف الفلسفة اإلسالمية منهج وتطبيقه‬
‫(القاهرة‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬بدون اتريخ)‪ ،‬ج ‪ ، ٩‬ص ‪.٦٤‬‬
‫الفارايب‪ :‬آراء أهل املدينة الفاضلة‪ ،‬تقدمي وحتقيق ألبري نصري اندر (بريوت‪ ،‬املطبعة الكاثوليكية‪،) ٦٢٩٢ ،‬‬ ‫( ‪)4‬‬
‫ص ‪ ٧١‬وما بعدها‪.‬‬
‫إبراهيم بيومي مدكور‪ :‬الفلسفة اإلسالمية منهج وتطبيقه‪ ،‬ص ‪. ٦٤٩‬‬ ‫( ‪)5‬‬
‫املرجع السابق‪ :‬ص ‪. ٦٤٧‬‬ ‫( ‪)6‬‬
‫امللف (‪ ...)0‬الفكر اإلسالمي بني احلرية واالستبداد‬
‫‪185‬‬
‫ابن رشد‪ :‬الكشف عن مناهج األدلة يف عقائد امللة‪ ،‬حتقيق وتقدمي حممود قاسم ( القاهرة‪ ،‬مكتبة األجنلو‬ ‫( ‪)7‬‬
‫املصرية‪ ،‬بدون اتريخ)‪ ،‬ص ص ‪. ٩٩٧ -٩٩١‬‬
‫نصري الدين الطوسى‪ :‬تلخيص حمصل أفكار املتقدمني واملتأخرين للفخر الرااي (طهران‪ ،‬نشر مؤسسة‬ ‫( ‪)8‬‬
‫املطالعات اإلسالمية‪ ،)1981 ،‬ص ‪. ٣٣٣‬‬
‫نصري الدين الطوسي‪ :‬رسالة أفعال العباد بني اجلرب التفويض على هامش تلخيص احملصل (طهران ‪1981،‬‬ ‫( ‪)9‬‬
‫)‪ ،‬ص ‪. ٤٧٧‬‬
‫(‪ )11‬صدر الدين الشريااي‪":‬رسالة اجلرب والتفويض"‪ ،‬يف جمموعة رسائل فلسفي صدر املتأهلني‪ ،‬حتقيق وتصحيح‪،‬‬
‫حامد انجى أصفهاين ( طهران‪ ،‬انتشارات حكمت‪1375 ،‬هـ ـ)‪ ،‬ص ص ‪.13 – ٢‬‬
‫(‪ )11‬صدر الدين الشريااي‪ :‬األسفار األربعة يف احلكمة املتعالية تسع جملدات (بريوت‪ ،‬إحياء الرتاث العريب)‪،‬‬
‫ط‪ ،3‬ط‪ 4‬من‪ ،1991 -1981‬ط‪ ،9‬ص‪.353‬‬
‫(‪ )12‬عادل حممود بدر‪ :‬برهان اإلمكان والوجوب بني ابن سيناء وصدر الدين الشريااي‪ ،‬دراسة نقدية مقارنة‬
‫(سوراي‪ ،‬دار احلوار للنشر والتوايع ‪ ،‬ط‪ ،)2116 ،1‬ص‪ 96‬وما بعدها‪،‬‬
‫(‪ )13‬القشريى عبد الكرمي هواان)‪ :‬الرسالة القشريية‪ ،‬حتقيق معروف اريق وعلى عبد احلميد (بريوت‪ ،‬دار اخلري‪،‬‬
‫ط ‪ ،) 1988 ، ٦‬ص ‪ ٦٦١‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )14‬راجع‪ :‬إبراهيم بيومي مدكور‪ :‬الفلسفة اإلسالمية منهج وتطبيقه‪ ،‬ص ‪. ٦٤٩‬‬
‫(‪ )15‬راجع‪ :‬عادل حممود بدر‪ :‬دراسات يف الفلسفة الصوفية عند اإلسالميني مبنظور جديد (القاهرة‪ ،‬دار‬
‫املصطفى للطباعة والنشر بطنطا‪ ،‬ط ‪" ،)2112 ، ٣‬احلقيقة بني حياة احلالج وفكره الصويف "‪ .‬وأيضا‬
‫عادل حممود بدر (ترمجة وتعليق)‪ :‬الرسائل الصوفية لشهاب الدين السهرورى (القاهرة‪ ،‬اهليئة املصرية العامة‬
‫للكتاب‪"،) 2117 ،‬رسالة صفري سيمرغ" ص ص ‪ ، 118 - ٧٧‬والشرح والتعليق ص ص ‪- ٦٧٧‬‬
‫‪. 219‬‬
‫(‪ )16‬مؤيد الدين اجلندي‪ :‬شرح فصوص احلكم‪ ،‬تعليق وتصحيح جالل الدين االشتياىن (إيران‪ ،‬انتشارات‬
‫وانشكاه مشهر)‪ ،‬ص ‪. ٤٦٩‬‬
‫(‪ )17‬ابن عريب‪ :‬الفتوحات املكية (بريوت‪ ،‬دار إحياء للرتاث العريب‪ ،‬ط ‪ ،)1998 ، 11‬ص ‪ ٩٦٧‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )18‬ابن عريب‪ :‬لطائف األسرار‪ ،‬وقفه وقدم له أمحد اكى عطية وطه عبد الباقي سرور (دار الفكر‪ ،‬ط ‪، ٦‬‬
‫‪ ،) ٦٢١٦‬ص ‪ 91‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )19‬راجع‪ :‬حممد داوود القيصري الرومي‪ :‬شرح فصوص احلكم‪ ،‬حتقيق جالل الدين االشتياقنة (طهران‪ ،‬شركة‬
‫انتشارات علمي‪ ٦٣٧٩ ،‬هـ ـ)‪ ،‬ص ‪ ١٩‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )21‬حممد إقبال‪ :‬جتديد التفكري الديين يف اإلسالم‪ ،‬ترمجة عباس حممود (القاهرة‪ ،‬مطبعة جلنة التأليف والرتمجة‬
‫والنشر‪ ،) ٦٢6٩ ،‬ص ‪ 81‬وما بعدها‪.‬‬
‫فصول‪ ...‬العددان ‪ ...22 -20‬ربيع‪ -‬صيف ‪2102‬‬
‫‪186‬‬
‫(‪ )21‬املرجع السابق‪ :‬ص ص ‪.111 – ٢١‬‬
‫(‪ )22‬املرجع السابق‪ :‬ص ‪.115‬‬
‫(‪ )23‬راجع‪ :‬أمحد معوض‪ :‬العالمة حممد إقبال حياته وآاثره (القاهرة‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪،)1981 ،‬‬
‫ص‪.332‬‬
‫(‪ )24‬عبد املنعم احلفين‪ :‬املعجم الشامل ملصطلحات الفلسفة (القاهرة‪ ،‬مكتبة مدبوىل‪ ،‬ط ‪،) 2111 ، ٣‬‬
‫ص‪.654‬‬
‫(‪ )25‬شرتوفه‪ :‬فلسفة العلو‪ ،‬نقله إىل العربية د‪ .‬عبد الغفار مكاوي (القاهرة‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪،‬‬
‫‪ ،)2112‬ص ‪. ٩١٦‬‬
‫(‪ )26‬عادل حممود بدر‪ :‬نداء املتوحد (صرخة الوجود املنسي يف امان االحنطاط) خمطوط غري منشور‪ -‬أشري هنا‬
‫إىل أن أحد خترجيات هذا املعىن يشري صوفيا إىل حالة الزهد اليت هي مقدرة للتجربة الصوفية‪ ،‬وهى تشري‬
‫اترخييا أيضا إىل أن الزهد كان تعبريا‪ ،‬يف القرن األول اهلجري عما نزل ابجملتمع اإلسالمي تعبريا سياسيا ختفي‬
‫يف ثوب ديين‪ ،‬إذ إن مواجهة هذا الواقع‪ ،‬الذي مااال موجودا بكل جوره وعسفه واستبداده‪ ،‬وبشكل سليب‬
‫عن طريقه‪ -‬لقد انعكست الرغبة يف قهر الواقع على الذات فكانت حركة الزهد‪ ،‬مبعناه السليب الذي يبدو‬
‫حىت اآلن يف صور السلبية واخلور ما هو إنساين وما هو اهلي إىل إذعان وخضوع دون الفعل واملشاركة اليت‬
‫ترتبط خبالفة اإلنسان‪ ،‬ورغم دخول بعد احملبة يف التوجه إىل هللا‪ ،‬فلم يقرب ذلك املسافة منه تعاىل‪ ،‬بل ااد‬
‫الفجوة البعد بني اإلنسان وهللا حىت تعمقت صور االنفصال والتعارض األايل بني ما هو إنساين وما هو‬
‫اهلي يف صورة ال تقبل أي نوع من االئتالف‪ ،‬بل ااد األمر يف بعض الدواثر الصوفية النقطاع إحساس‬
‫الصويف ابلذات والعامل مستعيضا عنه ابحللم الذي يتبدد بصحوته وعودته إىل اإلحساس ابلعامل‪ ،‬وهى عودة‬
‫حتمل يف داخلها بذرة فنائها ونفيها‪ ،‬هذه البذرة اليت يعلق عليها أمر التمرد‪ ،‬فهنا يتجذر االنفصال بني‬
‫اإلهلي واإلنساين فنكون أمام دعوى فناء إرادة اإلنسان وغياب حريته وانعدامها أمام اإلرادة اإلهلية املطلقة‪،‬‬
‫ولألسف فإن هذه املقابلة بني اإلنساين واإلهلي على املستوى امليتافيزيقي‪ ،‬انعكس على حياة اإلنسان‬
‫االجتماعية والسياسية‪ ،‬فاستبدل اإلهلي ابلفئة االجتماعية املسيطرة واملستبدة والدولة االستبدادية الفاشية‪،‬‬
‫ودعمها ابسم القوة ابعتبارها متثيال لإلرادة اإلهلية وقائما هبا‪ ،‬وترسخ هذا األمر حىت يومنا هذا يف وعى‬
‫احلشد األبله‪ ،‬وخباصة يف الدوائر الصوفية أو الطرق الصوفية)‪ .‬قارن يف ذلك حسني مروة‪ ،‬النزعات املادية‬
‫يف الفلسفة العربية اإلسالمية‪ ،‬دار الفاراىب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،)1979 ،2‬ط‪ ،2‬ص ص ‪.192 -151‬‬
‫‪(27) Berdyaev, N.;the Meaning of the Creative Act, translated by D. LOWRIE‬‬
‫‪N.Y. 1955, p. 80.‬‬
‫(‪ )28‬عبد الرمحن بدوى‪ :‬دراسات يف الفلسفة الوجودية (الكويت‪ ،‬وكالة املطبوعات‪ ،)1987 ،‬فصل عن‬
‫كريكجورد‪.‬‬

‫)‪Powered by TCPDF (www.tcpdf.org‬‬

You might also like