You are on page 1of 57

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫مقدمة‬
‫إن الحمد هلل ‪ ،‬نحمده ونستعينه ‪ ،‬ونستغفره ‪ ،‬ونتوب إليه ‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن‬
‫س يئات أعمالنا ‪ .‬من يه ده اهلل فال مضل له ‪ ،‬ومن يض لل فال ه ادي له ‪ ،‬وأش هد أال إله إال اهلل‬
‫وحد ه الشريك له ‪ ،‬وأشهد أن محمداً عبده ورسوله‪ ،‬صلى اهلل – تعالى – وسلم عليه‪ ،‬صالةً‬
‫وسالماً دائمين إلى يوم الدين ‪.‬‬
‫أما بعد ‪:‬‬
‫ف إن األمر ب المعروف والنهي عن المنكر ش عيرة عظيمة من ش عائر اإلس الم ‪ ،‬ودعامة‬
‫راس خة من دع ائم المجتمع الرب اني ‪ ،‬دلت على ذلك النص وص ‪ ،‬وش هد به الت اريخ ‪ ،‬ونطق به‬
‫الواقع ‪.‬‬
‫واألمة اليوم تحتاج إلى إحياء تلك الشعيرة ‪ ،‬وتقوية تلك الدعامة ‪ ،‬لتنفض عنها بذلك‬
‫ما علق بها من الغب ار ال ذي أث اره عليها الكيد الخ ارجي وال داخلي ‪ ،‬ال ذي لم يكن ليفعل فعله‬
‫لوال انحسار المفهومات اإلسالمية لدى األمة ‪ ،‬وبعدها عن دينها ‪.‬‬
‫والمتصدي لبعث ما اندثر من تلك الشعيرة ‪ ،‬ولتقوية مابقي منها يحتاج – بال ريب –‬
‫إلى فقه فيها ليسير على هدى ونور‪ ،‬يجنبه الزلل والشطط ‪ ،‬ويبصره بالسبل المثلى ألداء تلك‬
‫الرسالة الجليلة والمهمة الشريفة ‪.‬‬
‫من هنا كانت كتابة تلك السطور ‪ ،‬إسهاماً في تجلية ذلك الفقه ‪ ،‬وإضاءةً للطريق ‪ ،‬وتنبيه اً إلى‬
‫المحذورات ‪ ،‬وإزالة للمعوقات ‪.‬‬
‫وذلك من خالل الوقفات التالية ‪:‬‬
‫المقياس الذي يعلم به المعروف والمنكر ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ضرورة األمر والنهي ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫أهمية األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫عقوبات تركه ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫حكمه ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مراتب االنكار ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫قضية االنكار باليد ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫وسائل األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫من يقوم به ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫آدابه ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫قضية المصلحة والمفسدة ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مهمة الشباب في ذلك المجال ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫المرأة ومقاومة المنكر ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫معوقات لألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫نماذج لألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫المقياس الذي يعلم به المعروف والمنكر‬

‫المع روف م أخوذ من ( المعرفة ) وهي في أصل اللغة العربية ‪ :‬اسم لما يعرفه القلب ويطمئن‬
‫إليه وتسكن إليه النفس ‪ .‬ولذلك سمي المعروف معروفاً ‪.‬‬
‫رعاً ‪ :‬اسم ج امع لكل ما يحبه اهلل – تع الى – من طاعته ‪ ،‬واإلحس ان إلى‬ ‫والمع روف ش‬
‫عباده ‪.‬‬
‫) في اللغة ‪ :‬اسم لما تنك ره النف وس ‪ ،‬وتنبو عنه ‪ ،‬وتش مئز منه ‪ ،‬وال تعرفه ‪ .‬فهو‬ ‫( والمنكر‬
‫ضد المعروف ‪.‬‬
‫الشرع ‪ :‬اسم جامع لكل ما عرف بالشرع والعقل قبحه ؛ من معصية اهلل – تعالى‬ ‫وهو في‬
‫– وظلم عباده ‪.‬‬
‫وبناء على هذه التعريفات يتبين لنا األمران التاليان‪:‬‬
‫ً‬

‫األول‪ :‬أن المقياس في معرفة المعروف والمنكر ليس هو عرف الناس ‪ ،‬وتقاليدهم وما‬ ‫األمر‬
‫شاع بينهم ‪ ،‬فإن عرف الناس متقلب ‪ ،‬إذ قد يعروفون اليوم شيئاً ويألفونه ويعتادونه ‪ ،‬ثم غ داً‬
‫ينكرونه ويض ادونه ‪ .‬كما أنهم قد يفعل ون نقيض ذلك ‪ ،‬فينك رون الي وم ش يئاً ‪ ،‬ثم غ داً يألفونه‬
‫ويعملون به ‪ .‬وكم من معروف جرى في أعرف الناس إنكاره !!‬
‫أرأيت – مثالً – إعف اء اللحى ال ذي أمر به الن بي ص لى اهلل عليه وس لم ‪ ،‬كما في ح ديث أبي‬
‫هري رة وابن عمر وغيرهما في الص حيح (‪ )1‬؟! أرأيت كيف يص بح ذلك المع روف في بعض‬
‫المجتمعات أمراً منكراً ‪ ،‬يشيع ضده ‪ ،‬ويغدو اإلعفاء مستغرباً ‪ ،‬لم يعتده الناس ‪ ،‬ولم يألفوه‬
‫؟!!‬
‫أرأيت تقص ير الثي اب ورفعها إلى ما ف وق الكع بين ‪ ،‬أو إلى منتصف الس اق‪ ،‬أو إلى ما دون‬
‫الركبة في حق الرج ال ‪ ،‬ذلك األمر ال ذي ثبت في الش رع ‪ ،‬بداللة ع دة نص وص ‪ ،‬منها قوله‬
‫عليه الصالة والسالم ‪ (( ،‬ماأسفل من الكعبين من اإلزار ففي النار )) (‪ )2‬؟!!‬
‫أرأيت كيف يح دث ه ذا في تلك المجتمع ات ؟! وكيف إذا رأوا رجالً قد رفع ثوبه إلى نصف‬
‫الساق أوحوله ‪ ،‬طفقوا ينظرون مليا باستغراب إلى ذلك الرجل ويتغامزون ‪ ،‬وقد يتضاحكون ؟!‬
‫أرأيت كيف صار هذا المعروف في الشرع منكراً في بعض الفئات ؟!‬
‫أرأيت احتج اب الم رأة ‪ ،‬ال ذي ع رف بالش رع قرآن اً وس نةً ؟! أرأيت كيف أن بعض المس لمين‬
‫في بعض المجتمعات قد يجهلون ذلك المعروف ‪ ،‬فإذا رأوا امراة متحجبة متسترة ‪ ،‬ضحكوا‬
‫منها ؟! وكيف أن بعض هم ربما ق ال ما ش أن ه ذه الم رأة كانها خيمة تمشي !! وكيف ق ال‬
‫آخرون ‪ :‬إنها إنما تسترت ألنها دميمة فتريد أن تخفي قبحها !!‪.‬‬
‫وكم رأينا في بالد تنتمي إلى اإلس الم أن اللب اس الرس مي في الم دارس وغيرها لل ذكور هو‬
‫(البنطل ون ) ال ذي ينـزل تحت الكع بين في حين أن لب اس البن ات الرس مي هو ث وب ش حيح إلى‬
‫الركبة أو فوقها بقليل ! فيا للعار !‪.‬‬
‫وعلى الضد من ذلك ‪ ،‬كم من منكر أصبح معروفاً مألوفاً في بعض المجتمعات ‪:‬‬
‫فالغن اء – مثالً ‪ -‬منكر واضح ‪ ،‬ولكن حين يق وم امرؤ ببي ان تحريمه ‪ ،‬وي ذكر األح اديث‬
‫الصريحة في ذلك ‪ ،‬تجد كثيراً من الناس يفغرون أفواهم ‪ ،‬ويشخصون أبصارهم ‪ ،‬ويأخذ منهم‬
‫االستغراب مأخذاً عظيماً ولسان حالهم يقول ‪ :‬كيف يكون حرام اً هذا الغناء الـذي نسمـعه في‬
‫اإلذاعات والتلفاز وأشرطة التسجيل ؟! وربما يسمعون من بعض المنتسبين إلى العلم من يبيحه‬
‫‪ ,‬فكيف يكون حراماً ؟!‪.‬‬
‫هك ذا يتعجب ون ‪ ،‬وال يقع في أذه انهم أنه منك ر‪ ،‬ألنهم ألف وه وس كنت إليه نفوس هم ‪ ،‬فص ار‬
‫عندهم معروفاً ‪ ،‬وهو في الشرع منكر‪.‬‬

‫_______________________________________________‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري ( ‪) 5450‬‬ ‫(‪ )1‬البخاري (‪ ) 5553‬ومسلم ( ‪) 259‬‬

‫والربا الذي شاع بين المسلمين ‪ ،‬في البنوك والمصارف والمؤسسات ‪ ،‬حتى ال يكاد يخلو منه‬
‫إال القليل ‪ ،‬وأص بح األمر كما أخ بر الن بي عليه الص الة والس الم ‪ ،‬في الح ديث ال ذي رواه‬
‫(( لي أتين على الناس زمان ال يبالي المرء بما أخذ المال ‪ ،‬أمن حالل أم من حرام‬ ‫البخاري‬
‫)) (‪)1‬‬
‫أرأيت حين يتحدث ناصح عن تحريم ذلك المنكر العظيم ‪ ،‬أو عن تحريم بعض صوره الشائعة‬
‫عند الن اس ؛ كيف تجد كث يراً منهم يفاجـأ ويس تغرب ؟! بل ربما رمى بعض هم ذلك الناصح‬
‫بالعظ ائم ألنه يس تنكر أم راً عرف وه وألف وه واطم أنت إليه قل وبهم ؛ فص اروا يرونه معروف اً ‪.‬‬
‫وشرع اهلل منكر قبيح !!‬
‫ومثل ذلك الصور – وخاصة الخليعة ‪ -‬من صور النساء الفاتنات التي انتشرت بين المسلمين‬
‫اليوم عبر الشريط والكتاب والمجلة والجريدة وغيرها ‪ ،‬تلك الصور التي أصبحت تقابل الناس‬
‫في ال بيت والس وق والط ائرة والمكتبة ‪ ،‬وفي كل مك ان ‪ ..‬حين ي ألف الم رء رؤيتها ويعتادها ‪،‬‬
‫تصبح في نظره عادية مستساغةً ‪ ،‬فإذا سمع من يقول ‪ :‬إن النظر إلى صور النس اء في المجالت‬
‫والكتب واألفالم وغيرها ح رام ومنكر ؛ فإنه يس تغرب ‪ ،‬ويق ول ‪ :‬ه ذا مس كين ‪ ,‬الن اس الي وم‬
‫يع انون من النظر الى الف واحش من المش اهد الجنس ية الهابطة ال تي تقضي على الحي اء ‪ ،‬وه ذا‬
‫المسكين مازال يتحدث عن تحريم النظر إلى الصور !!‬
‫هكذا تصبح بعض المنكرات معروف اً ؛ بسبب الذيوع واالنتشار واإللف واالعتياد ‪ ،‬عند كثير‬
‫من الناس ‪.‬‬
‫لكن ع رف الن اس ال يغ ير الش رع ‪ ،‬وإنما الع برة في التحس ين والتق بيح بالش رع ‪ ،‬وبالعقل‬
‫الصحيح والفطرة السليمة ‪ ،‬وهما ال يمكن أن يعارضا الشرع في ذلك ‪.‬‬
‫األمر الثاني ‪ :‬أن األصل في المجتمع المسلم أنه يعرف المعروف ويقره ويرضاه ويأمربه ‪ .‬وأنه‬
‫ينكر المنكر ويأباه وينهى عنه ‪.‬‬
‫ف إذا أردت أن تقف على م دى س المة مجتمع ما ‪ ،‬أوفس اده ‪ ،‬فطبق عليه ه ذه القاع دة ‪ ،‬ف إن‬
‫جدته ينفر من المنكرات ويحاربها فهذا دليل على سالمته في الجملة ‪.‬‬
‫وإن وجدته يتقبل المنكرات ويتشرب بها فاعلم أنه مجتمع منحل ‪.‬‬

‫_________________________________________________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري ( ‪) 1977‬‬

‫ولذلك كان أسلم المجتمعات وأحسنها وأنقاها هو مجتمع الصحابة رضي اهلل عنهم ‪ ،‬إذ كانوا‬
‫يعرفون المعروف وينكرون المنكر ‪ ،‬ولهذا قال عبداهلل بن مسعود في األثر الصحيح الذي رواه‬
‫الحاكم وغيره ‪ (( :‬مارآه المسلمون حسناً فهو عند اهلل حسن ‪ ،‬ومارآه المسلمون قبيح اً فهو‬
‫عند اهلل قبيح )) ‪.‬‬
‫ثم ضرب لذلك مثالً ؛ وهو أن الصحابة اتفقوا على اختي ار أبي بكر – رضي اهلل عنه – للخالفة‬
‫‪ ,‬فهذا االتفاق على ذلك االختيار يدل على أنه أمر يحبه اهلل ويرضاه ‪ ،‬ولذلك أصبح من جملة‬
‫عقائد أهل الس نة والجماعة تفض يل أبي بكر على من ع داه من الص حابة ‪ ،‬واإلق رار بأنه أول‬
‫الخلفاء الراشدين ‪ ،‬ومن بعده عمر‪ ،‬ثم عثمان ثم علي رضي اهلل عنهم أجمعين ‪.‬‬
‫وله ذا أجمع المس لمون على قب ول إجم اع الص حابة ‪ ،‬وعلى أنه حجة ف إذا اتفق الص حابة –‬
‫رضي اهلل عنهم – على أم ٍر ؛ أصبح المسلمون من بعدهم متعبدين بذلك األمر ‪.‬‬
‫وإجم اع الص حابة – م تى ثبت وصح وتحقق – من األدلة الش رعية ‪ ،‬لم يخ الف في ذلك أحـد‬
‫من المسلمين ‪ ،‬ولذلك كان اإلمام مالك – رحمه اهلل – يأخذ بعمل أهل المدينة فما وجد عليه‬
‫عملهم في القرن األول عده من ضمن األدلة الش رعية ‪ ،‬وهذا أصل خاص باإلمام مالك وك ان‬
‫رحمه اهلل يفسر ذلك ب أن عمل أهل المدينة إنما هو على النب وة أما عمل األمص ار األخ رى فإنه‬
‫على أوامر الملوك ‪ ،‬كما ذكر ابن عبد البر وغيره ‪.‬‬
‫وإذا أردت أن تطبق القاعدة المذكورة آنفاً على المجتمعات اإلسالمية اليوم ؛ وج دتها بال شك‬
‫تتف اوت تفاوت اً كب يراً ولكن يغلب على ه ذه المجتمع ات هنا في الجملة أنها تتقبل المنك رات‬
‫وتألفها وتنتشر بينها بسرعة ‪.‬‬
‫فما أس رع ما تنتشر األزي اء األجنبية في أوس اط نس اء المس لمين ‪ ،‬إذ بمج رد ما تظهر مغنية أو‬
‫ممثلة أو عارضة أزيا بزي من األزياء فسرعان ما تجدهن يتبارين ويتنافسن على تقليده ‪.‬‬
‫وماأسرع ما تفشو تسريحه معينة للشعر بين المسلمات بمجرد ما يرين مغنية أوممثلة أو فاجرة‬
‫تتزين بها ‪.‬‬
‫وماأس رع ما يش يع بين ش باب المس لمين كث ير من الظ واهر المنحرفة ؛ تقلي داً لش باب الغ رب‬
‫سواء في الملبس أو في الشعر أو في مظهر السيارة أوفي غير ذلك ‪.‬‬
‫إن تلك الظ واهر الغربية ال تي تش يع بين ش باب المس لمين إنما رأوها عند غ ير المس لمين ‪،‬‬
‫فأخ ذوها عنهم ‪ ،‬س واء حين يس افرون إلى تلك المجتمع ات ‪ ،‬ويش اهدون تلك الظ واهر عيان اً‬
‫أوحين يشاهدون األفالم والمسلسالت التي تعرض األوبئة الموجودة في بالد غير المسلمين ‪.‬‬

‫وإن في تلك القابلية والطواعية لتقليد الكافرين في منكراتهم لدليالً واقعي اً واضحاً على الفراغ‬
‫الكبير في عقول وأرواح كثير من المسلمين ‪.‬‬
‫ومع ذلك فإن ه ذه المجتمعات ال يمكن أن يق ال ‪ :‬إنها مجتمعات جاهلية مطلق اً – كما يق ول‬
‫بعض العلم اء والمفك رين من المس لمين – ألن الرس ول ص لى اهلل عليه وس لم أخ بر أنه ال ي زال‬
‫في المس لمين من ي أمر ب المعروف وينهى عن المنكر ‪ ،‬ومع ذلك بيانه ‪ ،‬ص لى اهلل عليه وس لم‬
‫لمع نى ق ول اهلل تع الى ‪ [:‬وممن خلقنا أمة يه دون ب الحق وبه يع دلون ](س ورة الأع راف ‪)181‬‬
‫فقد بين عليه الص الة والس الم تلك اآلية في أح اديث كث يرة منها الح ديث المت واتر ال ذي أخ بر‬
‫فيه أنه (( ال ت زال في ه ذه األمة طائفة منص ورة ال يض رهم من خ ذلهم وال من خ الفهم ))(‪)1‬‬
‫وإنما سماها منصورة ؛ ألنها مجاهدة ‪ ،‬تجاهد على أمر اهلل ؛ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر‬
‫‪ ,‬والنصر من ثمرات الجهاد ‪.‬‬
‫إذن ال يمكن الق ول بوج ود جاهلية مطلقة في األمة اإلس المية من اقص اها إلى أقص اها‪ ،‬في أي‬
‫زمان إال قبيل قيام الساعة ؛ حين يبعث اهلل تعالى الريح الطيبة فال تدع أحداً في قلبه مثقال حبة‬
‫من خ ردل من إيم ان إال قبض ته ‪ ،‬وحينئ ٍذ ال يبقى إال ش رار الن اس يته ارجون ته ارج الحم ر(‪)2‬‬
‫وأفضل إنسان حينذاك من إذا رآهم يفعلون الفاحشة على قارعة الطريق قال‪ :‬لو اعتزلتم الطريق‬
‫(‪ !! )3‬وهؤالء تقوم عليهم الساعة ‪.‬‬
‫وهنا سر عظيم ‪ ،‬وهو أن اهلل – تعالى – أنزل الق رآن وبعث الرسل وأوجد الكعبة وأبقى الطائفة‬
‫المنص ورة لتحقيق الحجة على الن اس وإقامة ال دين والش عائر ‪ ،‬ف إذا تعطلت من افع ه ذه األش ياء‬
‫أذن اهلل بزوالها ‪.‬‬
‫وحين ٍذ يبعث اهلل ذا الس ويقتين من الحبشة ‪ ،‬فيه دم الكعبة ويقلعها حج راً حج راً ويس تخرج‬
‫كنـزها (‪ )4‬وال يع ود هن اك من يحج أو يعتمر أو يص لي إلى الكعبة ويرفع اهلل الق رآن من‬
‫المص احف وص دور الرج ال ح تى ال يبقى في األرض منه آية (‪ )5‬ويبعث اهلل – عز وجل –‬
‫ريح اً طيبة فتقبض أرواح المؤم نين اآلم رين ب المعروف والن اهين عن المنكر ؛ ألنه لم يعد هن اك‬
‫من يستجيب لهم ‪ ,‬وبعد ذلك تقوم الساعة ‪.‬‬

‫__________________________________________________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري (‪ ) 3442 ( ) 3441‬ومسلم ( ‪) 1921‬‬
‫(‪ )3‬مستدرك الحاكم ‪.3/473‬‬ ‫(‪ )2‬رواه مسلم ( ‪) 1937‬‬
‫(‪ )4‬البخاري ( ‪ ) 1514‬ومسلم ( ‪ ) 2909‬ومسند أحمد ‪2/291‬‬
‫(‪ )5‬ابن ماجه ( ‪ ) 4049‬والحاكم ‪4/473‬‬

‫أما قبل ذلك الحين فال ي زال في األمة من يص يخ لص وت الن ذير ‪ ،‬وي رق لداعية الحق ويس لس‬
‫قي اده للخ ير ‪َ ،‬ق َّل ه ؤالء أو ك ثروا‪ ،‬ول ذا ذكر الن بي ص لى اهلل عليه وس لم " الغري اء " في‬
‫الحديث الصحيح المعروف وذكر من صفتهم أنهم ‪ (( :‬أناس صالحون قليل في أهل ٍ‬
‫سوء كث ير‬
‫‪ ،‬ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ))(‪)1‬‬
‫إذن ما دام هن اك دع اة إلى الح ق‪ ،‬آم رون ب المعروف ‪ ،‬ن اهون عن المنكر فهن اك من ي ذعن لهم‬
‫ويطيعهم ويستجيب لداعيهم ‪ ،‬فما أعظم عدل اهلل‪ ،‬وما أوسع رحمته !‬

‫األمر والنهي ضرورة بشرية‬


‫األمر والنهي فط رة في نفس كل إنس ٍ‬
‫ان ح تى لو ك ان يعيش منف رداً مع تزالً الن اس ‪ ,‬فال بد أن‬
‫ت أمره نفسه وتنه اه ‪ ،‬فإما أن ت أمره بالمعروف وتنه اه عن المنكر ‪ ،‬أو على الضد من ذلك ت أمره‬
‫بالمنكر وتنهاه عن المعروف ‪ ،‬أوت أمره بخليط من هذا وذاك ‪ ،‬وتنهاه عن مثله ‪ .‬ولذلك قيل ‪:‬‬
‫نفسك إن لم تشغلها بالخير؛ شغلتك بالشر ‪.‬‬
‫وما دام اإلنس ان الواحد المنف رد يتع رض لألمر والنهي ‪ ،‬ف أولى ب المجتمعين أن يك ون بينهم أمر‬
‫ونهي س واء كانوا اثنين ‪ ،‬أو أكثر من ذلك بقليل ‪ ،‬أو مجتمع اً كامالً ‪ ،‬أو أمة ‪ .‬بيد أن هن اك‬
‫ٍ‬
‫حاالت للمجتمعات في مجال األمر والنهي ‪:‬‬ ‫ثالث‬
‫‪ :‬أن يتآمروا بالمعروف ‪ ،‬ويتناهوا عن المنكر ‪ ،‬وهذه هي الحالة التي وصف‬ ‫الحالة األولى‬
‫‪,‬‬ ‫( س ورة آل عم ران ‪)110‬‬ ‫اهلل تع الى بها المؤم نين فق ال (( ت أمرون ب المعروف وتنه ون عن المنكر ))‬
‫وق ال س بحانه (( والمؤمن ون والمؤمن ات بعض هم أولي اء بعض ي أمرون ب المعروف وينه ون عن‬
‫(سورة التوبة ‪. ) 71‬‬ ‫المنكر ))‬
‫الثانية ‪ :‬أن يت آمروا ب المنكر ‪ ،‬ويتن اهوا عن المع روف ‪ ،‬وه ذه ح ال المن افقين‬ ‫الحالة‬
‫( س ورة التوبة‬ ‫(( والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ))‬
‫‪. ) 67‬‬

‫وهنا وقفة مع سر بالغي في اآليتين السابقتين ؛ حيث قال اهلل تعالى ‪ (( :‬المؤمنون والمؤمنات‬
‫بعض هم أولي اء بعض )) وق ال س بحانه ‪ (( :‬والمن افقون والمنافق ات بعض هم من بعض )) وقد‬
‫يتبادر إلى الذهن أن يكون التعبير (( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم من بعض )) (( والمنافقون‬
‫والمنافقات بعضهم أولياء بعض )) ألن عالقة المؤمنين بعضهم ببعض أمتن وأقوى ‪ ،‬فيعبر معها‬
‫بـ (( بعضهم من بعض )) ويعبر مع عالقة المنافقين بعضهم ببعض بـ (( بعضهم أولياء بعض )) ‪.‬‬

‫___________________________________________________‬
‫(‪ )1‬أنظر في تخريج الحديث ورواياته وشرحه كتاب (( الغرباء األولون )) للمؤلف ص ‪. 37‬‬
‫والسر في ه ذا التعب ير الق رآني واهلل أعلم ‪ :‬أن عالقة المؤم نين بعض هم ببعض عالقة اتف اق على‬
‫الدين الذي يدينون به ‪ ،‬ولذلك يتوالون فيه ‪ ،‬وليست عالقة تناصر على الباطل ‪.‬‬
‫أما المن افقون فهم ال يتوال ون من أجل دين أو عقي دة ‪ ،‬وإنما يتوال ون ويتناص رون على الباطل‬
‫فكلما ذهب بعضهم إلى شيء وافقهم اآلخرون وناصروهم ‪ ،‬مهما كان ذلك الشيء ‪.‬‬
‫‪ :‬أن يت آمروا ببعض المع روف وببعض المنكر ‪ ،‬ويتن اهوا عن بعض المع روف‬ ‫الحالة الثالثة‬
‫وعن بعض المنكر ‪ ،‬فيقع منهم حق وباطل ويلتبس ه ذا ب ذاك ‪ .‬وه ذا هو ح ال المقص رين‬
‫والعصاة والمسرفين على أنفسهم ‪.‬‬
‫اء على ما س بق نعلم أن المجتمع إما أن ينتشر فيه األمر ب المعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬أو‬
‫وبن ً‬
‫ينتشر فيه األمر بالمنكر والنهي عن المعروف أو يكون خليطاً من ذلك ‪.‬‬
‫وانحس ار األمر ب المعروف والنهي عن المنكر في مجتمع من الجتمع ات ذو خط ورة مض اعفة ‪،‬‬
‫على خالف ما قد يتب ادر إلى بعض األذه ان ف إن بعض الن اس إذا رأوا غي اب األمر ب المعروف‬
‫والنهي عن المنكر أو ضعفه في مجتمعات المسلمين اليوم ظنوا أن المشكلة هي فقط أن األمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر قد زال أو ضعف ‪.‬‬
‫والواقع أن المش كلة أبعد من ذلك وأك بر ‪ ،‬فإنه إذا ض عف األمر ب المعروف والنهي عن المنكر‬
‫قوي األمر بالمنكر والنهي عن المعروف ‪ ،‬فالمصيبة مضاعفة ‪.‬‬
‫وه ذا أمر يش هد له الواقع ‪ .‬وإذا أردنا أن نمثل ل ذلك فلنأخذ مثالً وضع الفت اة المتحجبة‬
‫المتسترة في بعض مجتمعات المسلمين التي يشيع فيها التبرج والسفور ؛ إننا نجد الفتاة تعاني‬
‫معان اة ش ديدة من الكالم والنظ رات ‪ ،‬س واء من األب وين أو من ال زميالت ‪ ،‬أو من القريب ات ‪،‬‬
‫أومن غ يرهن وذلك ألنها تس بح ضد التي ار ‪ ,‬إذ المنكر له ق وة في تلك المجتمع ات ألن‬
‫المعروف فيه ضعف فصار اتجاه المجتمع يضغط بشدة على كل من يخالف مألوفاته وعوائده‬
‫رعية ‪ ،‬ومن العجيب أن ذلك المجتمع يتفهم ويتقبل من يخالفه إلى تقاليد األمم‬ ‫مخالفة ش‬
‫الك افرة وعوائ دها ويعد ه ذا ض رباً من " التق دم " و " والتحضر " و " والمعاص رة " ! وهك ذا‬
‫يصبح المعروف منكراً ويصبح المنكر معروف اً ! إذن فوضع المجتمعات ال يقف عند حد ‪ ،‬فإما‬
‫أن يهيمن الخ ير والمع روف فيستخذي المنكر ‪ ،‬ويستسر ويس تخفي ألن الق وة االجتماعية‬
‫والسلطة السياسية تقاومه وتحاربه‪ ,‬وإما أن يسيطر وينتفش ويستعلي المنكر فينحسر المعروف‬
‫‪ ,‬ولذلك شرع في اإلسالم األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪.‬‬
‫ال يخلو مجتمع من منكر‬
‫وها هنا أمر ال بد من مالحظته وهو أن وج ود بعض المنكر في المجتمع اإلس المي على وجه‬
‫الخف اء والقلة أمر ط بيعي البد من حدوثه ‪ ،‬ولم يس لم من ذلك ح تى مجتمع الجيل الفريد ؛‬
‫صحابة الرسول عليه الصالة والسالم فقد كان في ذلك المجتمع منافقون والمسلمون أنفسهم‬
‫وقع من بعض هم ش يء من المعاصي ‪ ،‬وفي الص حيحين ع دة قصص من ذلك مثل قصة م اعز بن‬
‫مالك األسلمي – رضي اهلل عنه – الذي وقع في الزنا‪ ،‬فجاء النبي عليه الصالة والسالم نادم اً‬
‫تائباً إلى اهلل فقال له ‪ :‬يارسول اهلل زنيت ‪ ،‬فطهرني ‪ ،‬فيعرض عنه الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫مرات ‪ ،‬حتى أقام عليه المصطفى‬‫وما يزال يردد النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬اعترافه بالزنا عدة ٍ‬
‫‪ ،‬عليه الصالة والسالم ‪ ،‬حد الزنا(‪.)1‬‬
‫ومثل تلك القصة قصة الغامدية التي جاءت إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬تشهد على نفسها‬
‫بالزنا ‪ ،‬وتطلب أن يقيم عليها الحد ‪ ،‬ولما رأت أنه يريد أن يردها ق الت ‪ :‬لعلك تريد أن ت ردني‬
‫كما رددت ماعزاً ‪ ،‬واهلل إني لحبلى من الزنا ‪ ،‬فيأمرها الرسول صلى اهلل عليه وسلم أن تذهب‬
‫حتى تلد ‪ .‬وتذهب وتقضي مدة الحمل كلها وحرارة الندم تأكل قلبها ‪ ،‬وتأتي بعد الوضع إلى‬
‫النبي عليه الصالة والسالم ‪ ،‬ليقيم عليها الحد ‪ ،‬فيأمرها أن تذهب حتى تفطم ولدها ‪ .‬وتمضي‬
‫مدة الرضاع كلها وقلبها ال يزال يقظاً حيا يتفطر حسر ًة ‪ .‬ثم تأتي بعد فطام الص بي إلى الرس ول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ومـعها الصبي وفي يده كسرة خبز ‪ ،‬لتؤكد للنبي عليه الصالة والسالم‬
‫أن ولدها أصبح غنيا عن رضاعها ‪ ،‬فيأمر النبي – عليه الصالة والسالم – برجمها (‪.)2‬‬
‫هك ذا وقع في مجتمع الص حابة األطه ار ش يء من المنك رات ‪ ،‬لكنها ح االت فردية مس تترة‬
‫مس تخفية وك انت ض مائر ال ذين يبتل ون بش يء من ه ذه المنك رات حية يقظة ‪ ،‬فما أس رع ما‬
‫يق ودهم خ وفهم من اهلل إلى التوبة النص وح الص ادقة ‪ ،‬ب دون أن يحت اجوا إلى رقابة أومتابعة‬
‫خارجية ‪ ،‬ولذلك ذكر صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬أن ماعزاً مثالً تاب توبة لو قسمت بين سبعين من‬
‫أهل المدينة لوسعتهم ‪.‬‬
‫إذن فمج رد وج ود مع اص قليل ٍة مس تحقة في المجتمع اإلس المي أمر ال من اص منه ‪ ،‬وال يق دح‬
‫في سالمة المجتمع ‪.‬‬

‫_________________________________________________‬
‫(‪ )1‬البخاري ( ‪ ) 5271‬ومسلم ( ‪ ) 1691‬و ( ‪ ) 1695‬ورواه أيضاً أحمد في المسند ‪.2/453‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم (‪ ) 1695‬و ( ‪. )1696‬‬
‫وهذا شبيه – إن أردنا أن نشبه – بما يطلقه األطباء والمراقبون الصحيون على مجتمع ما‪ ،‬حين‬
‫يص فون مجتمع اً من المجتمع ات بأنه س ليم ص حياً فهل يقص دون أن جميع أف راد ه ذا المجتمع‬
‫أص حاء تمام اً ؟! كال ‪ ..‬إنما يقص دون أن األم راض العامة ‪ ،‬واألوبئة الفتاكة والمعدية ال توجد‬
‫في ذلك المجتمع ‪ ،‬أما وجود حاالت مرضية فردية فأمر طبعي ‪.‬‬

‫لكن األمر الخط ير الق ادح في س المة المجتمع هو أن يعلن أص حاب المنكر منك رهم ‪ ،‬وال‬
‫يستحيوا من إظهاره ‪ ،‬إذ إن هذا يدل على هيمنة المنكر وأهله ‪ ،‬وضعف المعروف وأصحابه ‪.‬‬
‫إن ه ذا يش به ذلك المجتمع ال ذي تفشت فيه جرثومة الوب اء فأص بح الن اس يستنش قونها مع‬
‫الهواء ويشربونها مع الماء ‪ ،‬ويتعاطونها مع الغذاء فال يكاد يسلم منها إال أقل القليل ‪.‬‬
‫وهذا هو الشأن في المجتمعات التي تمكن للفساد ‪ ،‬وتحمي الرذيلة ‪ ،‬وتضع إمكانياتها المادية‬
‫غطاء قويا للمنكر ‪ ،‬تعاقب من ينكره – ولو بلسانه – بقوة وحزم ‪ ،‬وتحاصر الناس‬
‫ً‬ ‫والمعنوية‬
‫ب المنكر في أم اكن تجمعهم ‪ ،‬وأس واقهم ‪ ،‬ومنت دياتهم ‪ ،‬بل وفي عقر بي وتهم ‪ ،‬ح تى يتس لل‬
‫ٍ‬
‫حينئذ ‪ ..‬إنه‬ ‫المنكر إلى (( غرفة النوم)) أو إلى (( مهاجع األطفال )) وما أخلق المؤمن بالصبر‬
‫لصبر الجبال !‪.‬‬

‫أهمية األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬

‫واح ‪ ،‬وبم وجب‬


‫ت برز أهمية األمر ب المعروف والنهي عن المنكر في األمة المحمدية من ع دة ن ٍ‬
‫أسباب مختلفة ‪ ،‬لعل أهمها ‪:‬‬
‫أن األمر ب المعروف والنهي عن المنكر هو س بب خيرية ه ذه األمة ‪ ،‬وهـو من‬ ‫‪.1‬‬
‫خصائص ها وميزاتها ال تي َمَّن اهلل تع الى عليها بها من بين س ائر األمم ؛ ق ال عز وجل ‪:‬‬
‫أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باهلل ))(س ورة‬ ‫(( كنتم خير ٍ‬
‫) وق ال جال وعال ‪ (( :‬والمؤمن ون والمؤمن ات بعض هم أولي اء ٍ‬
‫بعض ي أمرون‬ ‫آل عم ران ‪110‬‬

‫(سورة التوبة ‪)71‬‬ ‫بالمعروف وينهون عن المنكر ))‬


‫هذه هي صفة المجتمع المسلم وميزته التي جعلت هذه األمة غرة في جبين الدهر ‪ ،‬وتاجاً يت ألق‬
‫على مفرق التاريخ ‪.‬‬
‫أما المجتمعات الجاهلية الكافرة فديدنها األمر بالمنكر والنهي عن المعروف عبر تاريخ البشرية‬
‫الطويل ‪ ،‬وأبرز شاهد على ذلك المجتمعات المعاصرة التي ارتضت الكفر والضالل ‪ ،‬فإن تلك‬
‫المجتمعات اليوم تحارب الفضيلة ‪ ،‬وتدعم الرذيلة‪ ،‬متذرعة بالحرية الفردية المزعومة ‪.‬‬
‫إنك تجد في بالد الغ رب – مثالً – إتاحة الحرية ألهل الع ري والعهر والفس اد والرذيلة ‪ ،‬بل‬
‫تجد ذلك االنحط اط مفروض اً على الف رد وض من من اهجهم الدراس ية ‪ ،‬تجد الس باحة العارية‬
‫والثقافة الجنسية ‪ ,‬وفي المجتمعات الشرقية يدرس اإللحاد للصبيان الصغار ‪ ..‬فما أحلم اهلل !!‬
‫أما حين ي رون ب ادرة للفض يلة والمع روف ف إنهم يقف ون في طريقها ‪ ،‬ويئ دونها في مه دها ‪،‬‬
‫ويحاربونها بض راوة ‪ .‬ومن أق رب األمثلة ل ذلك ما حصل قبل ف ترة ليست بالبعي دة في فرنسا ؛‬
‫حين ذهبت ثالث فتيات مسلمات إلى مدرستهن ‪ ،‬وقد لبسن الحجاب على رؤوسهن فمنـعهن‬
‫م دير المدرسة من ال دخول ح تى يخلعن الحج اب وتط ورت القض ية ح تى درست على أعلى‬
‫المس تويات الرس مية وت دخلت فيها دول خارجية للوس اطة عند والد ه ؤالء الفتيات لتغي ير‬
‫قن اعتهن بالحج اب ‪ .‬وطفقت الص حف الفرنس ية تكتب عن ه ذه القض ية ‪ ،‬وتح ذر من ه ذه‬
‫الظاهرة ‪ ،‬وتذكر خطورة اإلسالم على فرنسا ‪ ،‬وتتبع تاريخ الحجاب ‪ ،‬وكيفية نزعه في مصر‪،‬‬
‫وأقحموا في تلك القضية ثورة الخميني اإليرانية ‪ ،‬وهولوا ا ألمر تهويالً عظيماً !!‬
‫س بحان اهلل !! أين الحرية الفردية ال تي يتغن ون بها ؟! ما ه ذا الهلع وال رعب من ه ذا التص رف‬
‫اليسير الذي ال يعد شيئاً في خضم ذلك المجتمع المنحل ؟!‬
‫إن ه ذه الحملة الش عواء لت دل على زيف دع اوى العلمانية البراقة ‪ ،‬ال تي تتغ نى بالحرية ‪ ،‬ف إذا‬
‫كان اإلسالم هو الخصم صودرت الحريات وظهرت العداوة والشراسة جلية ال مواربة فيها وال‬
‫هدوء‪.‬‬
‫إذن فهذا المجتمع باختصار يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف ‪.‬‬
‫ولقد رأيت في بعض البالد التي هاجر إليها كثير من المسلمين وأقاموا فيها وتزوجوا من نسائها‬
‫النص رانيات ؛ رأيت أن بنت الواحد من ه ؤال تم ارس حريتها الكاملة ‪ ،‬فتخ رج م تى ش اءت‬
‫وت دخل م تى ش اءت وت أتي بعش يقها إلى ال بيت ليجلس معها في غرفتها الخاصة ‪ ،‬والويل ألبيها‬
‫إن ت دخل في ش أنها ‪ ،‬إذ ما عليها حينئذ إال أن ت دير ق رص اله اتف لتتصل بالش رطة ؛ فت أتي‬
‫الشرطة وتقبض على األب ‪ ،‬وتأخده إلى المخفر ‪ ،‬وتجري معه تحقيق اً طويالً ؛ ألنه تدخل في‬
‫حرية البنت !!‪.‬‬
‫هكذا يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف والعياذ باهلل ‪.‬‬
‫أما المس لمون ال ذين اختص هم اهلل بالخيرية فهم يت آمرون ب المعروف ويتن اهون عن المنكر ‪،‬‬
‫ويتعاونون على البر والتقوى ‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن األمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من التكافل الذي جعله اهلل تع الى قائم اً‬
‫بين المؤمنين ‪ ،‬إذ المؤمنون متكافلون متكاملون فيما بينهم ‪ ،‬فمثالً ال يجوز أن يكون‬
‫هناك مسـلم جائع والمسلمون حوله يأكلون ملء بطونهم ‪ ،‬ولو حدث ذلك لكان لذلك‬
‫المس لم أن يأخذ ممن حوله من المس لمين ب القوة ما يسد رمقه ‪ ،‬ويقضي به حاجته ‪،‬‬
‫ويك ون المس لمون آثمين في تخليهم عن مس اعدته وسد حاجته ‪ .‬وك ذلك الح ال في‬
‫سائر الحاجات الضرورية ‪.‬‬
‫ولو وجدت رجالً يغرق لوجب عليك أن تنقده بقدر استطاعتك ‪ ،‬حتى لو ترتب على ذلك‬
‫مفروضة قد شرعت فيها ‪ ،‬من صيام أو ٍ‬
‫صالة أو غيرها ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫أن تنشغل عن عبادة‬
‫ولو رأيت شخصاً يريد شراء بضاعة فاسدة لكان واجب اً عليك أن تبين له أنها فاسدة ‪ ،‬من باب‬
‫التناصح وإرادة الخ ير للمس لمين ‪ ،‬ومن هنا ك انت مراقبة الس لع واألس واق وحماية المس تهلك‬
‫جزءاً من نظام الحسبة الشرعية ‪.‬‬
‫ه ذا كله ألن المحافظة على ( اإلنس ان ) في اإلس الم قض ية مهمة ج داً لكن ( اإلنس ان ) في‬
‫اإلس الم ليس جس داً فقط ‪ ،‬وإنما هو جسد وروح فكما أننا مط البون بالمحافظة على عقي دتهم‬
‫وأخالقهم وتمسكهم بدينهم ‪ ،‬وذلك عن طريق األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬الذي يتم‬
‫به تكميل ما يطرأ على دين بعض المسلمين من النقص والتقصير ‪ ،‬ويحصل به التكافل الواجب‬
‫في هذا الجانب ‪.‬‬
‫أتعبت نفسك فيما فيه خسران‬ ‫ياخـادم الجسم كـم تشقى لخدمته‬
‫فأنت بالروح ال بالجسم إنسان‬ ‫أقبل على النفس فاستكمل فضـائلها‬

‫‪ - 3‬أن األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمانة للبيئة من التلوث الفكري واألخالقي‬
‫‪ ،‬وهذا النوع من التلوث ال يقل خطورة وفتكا عن التلوث الحسي الذي ينجم – مثالً‬
‫– عن الح رب الجرثومية ال تي تف زع الن اس ‪ ،‬وتقض مض اجعهم ‪ .‬أو غيرها من وس ائل‬
‫التلويث ‪.‬‬
‫فإتاحة الفرصة – مثالً – ألهل الرذيلة ليمارس وا اإلفس اد من خالل األغنية ‪ ،‬والمجلة والكت اب‬
‫‪ ،‬واألجه زة المرئية ‪ ،‬وبي وت ال دعارة ‪ ،‬وغيرها ؛ ه ذا يل وث البيئة العامة ‪ ،‬وينشر الوب اء‬
‫األخالقي الفت اك في المجتمع ‪ ،‬مما يعسر مهمة المص لحين ‪ ،‬ويجعلهم يقف ون أحيان اً ع اجزين‬
‫عن مقاومة تيار االنحالل ‪.‬‬
‫وقل مثل ذلك في نشر الش بهات الفكرية ال تي تش كك الن اس في دينهم ؛ من خالل الكت اب‬
‫والمجلة والجري دة والش ريط والقص يدة ونحوها ف إن في ذلك أيض اً تلويث اً للبيئة من الناحية‬
‫الفكرية مما يجعل كثيراً من الناس يتخبط في بح ٍر من الشبهات التي تتجاذبه من هنا ومن هناك‬
‫‪.‬‬
‫إنه ال يجوز أن يق ذف بالمجتمع في أحضان الشبهات والشهوات اعتماداً على ما يزعم له من‬
‫حصانة ؛ فإن اإلنسان ليس معصوماً ‪ ،‬وليس لديه حصانة من الضالل أو االنحالل حين يتعرض‬
‫لس يول الفتنة ‪ ،‬ق ال اهلل تع الى ‪ (( :‬وخلق اإلنس ان ض عيفاً )) ( س ورة النس اء ‪ ) 28‬وإنك لتجد الرجل‬
‫لشبهة أو شهوة ؛ فيظل يعالج قلبه أيام اً من جراء ذلك فالنفس أمارة‬ ‫ٍ‬ ‫التقي الطاهر قد يتعرض‬
‫بالسوء والشيطان مسلط على ابن آدم واإلنسان مجبول على حب الشهوات ‪.‬‬
‫والمجتمع ال ذي تظهر فيه المنك رات – فكري ةً أو أخالقي ةً – يتع رض له زات عظيمة ‪ ،‬ال يعلم‬
‫م داها إال اهلل وله ذا قيل ‪ :‬إن المنكر إذا خفي لم يضر إال ص احبه ‪ ،‬وأما إذا أعلن ؛ فإنه يضر‬
‫الخاصة والعامة ‪.‬‬
‫ولذلك فإن صاحب المنكر إذا كان في بيئة غ ير ملوثة فإنه يخفي منك ره ‪ ،‬ويبالغ في الت واري‬
‫واالس تتار به ألنه يعلم أنه يعيش في بيئ ٍة ص ٍ‬
‫الحة وأنه يق وم بعمل ضد المجتم ع‪ ،‬فش أنه تمام اً‬
‫كش أن ال ذي يريد أن يق وم بعمل تخري بي يخل ب أمن المجتم ع‪ ،‬فيخطط وينفذ في الظالم بعي داً‬
‫عن األنظار ‪.‬‬
‫مرأى‬
‫لكن صاحب المنكر إذا كان يعيش في بيئة ملوثة موبوءة فإنه يمارس منكره جهاراً على ً‬
‫ومس مع من الن اس ‪ ،‬ألنه يحس أنه يق وم بعمل طبعي ‪ ،‬ال يخالفه المجتمع عليه ‪ ،‬وقد ي ؤول‬
‫األمر إلى استتار صاحب المعروف واستخفائه خشية العقوبة‪ ،‬أو خوفاً من أعين الناس وألس نتهم‬
‫الحداد !‪.‬‬
‫وكم هو مخ زن أن ينشأ بعض أطف ال المس لمين في بيئ ات ملوثة بالس موم الفكرية أو األخالقية‬
‫أو غيرها من س موم الفس اد ‪ ،‬فيرض عون الرذيلة مع حليب األم ‪ ،‬ويستنش قون اله واء المل وث‬
‫ب الجراثيم المعنوية الفتاكة فينشأ أح دهم ض حل الثقافة ‪ ،‬بعي داً عن ال دين ‪ ،‬منح رف الفكر‬
‫والسلوك ‪.‬‬
‫غاية عمله خليط من قمامات األغاني ‪ ،‬والتصورات التائهة ‪ ،‬واالهتمامات التافهة ‪ .‬ال يكاد‬
‫يقيم آي ةً من الق رآن الك ريم ‪ .‬يس تنكر المظ اهر اإلس المية إذا رآها ؛ ألنه لم يعت دها ولم‬
‫يألفها فيس توحش مثالً من منظر الم رأة المحجبة العفيفة ‪ ،‬ويس تغرب ص نيعها ؛ ألنه ترع رع‬
‫في بيئة ملوثة بضروب الجراثيم السلوكية والفكرية ‪.‬‬
‫‪ 4‬أن األمر ب المعروف والنهي عن المنكر ض مانة من العقوب ات اإللهية ال تي تحل‬
‫بالمجتمعات إذا فشا فيها الفساد ‪ .‬وسيأتي تفصيل تلك العقوبات في المبحث التالي ‪.‬‬

‫العقوبات واالثار المترتبة على ترك األمر بالمعروف والنهي عن‬


‫المنكر‬

‫سنن اهلل – تعالى – في خلقه ثابتة ال تتغير وال تحابي أحداً ‪ ،‬وال تتخلف عند وجود أسبابها‬
‫‪.‬‬
‫وإن من س نن اهلل الماض ية أن يس لط عقوباته على المجتمع ات ال تي تف رط في ش عيرة األمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر (( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى‬
‫ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ‪ .‬كانوا ال يتناهون عن منك ٍر فعلوه لبئس ما كانوا‬
‫يفعلون )) ( سورة المائدة ‪. ) 79 78‬‬
‫ولقد غطى الجهل وقلة ال دين على قل وب بعض الس طحيين ‪ ،‬ف اغتروا بإمه ال اهلل عز وجل‬
‫فظن وا أن تحذير الغي ورين من مغبة التم ادي في المنكر ‪ ،‬ومن عق بى الس كوت عن إنك اره ‪،‬‬
‫ظنوا ذلك ضرباً من ضروب اإلرهاب الفكري والتخويف المبالغ فيه ‪ ،‬وليس له حقيقة ‪.‬‬
‫لكن ال ذين يس تنيرون بن ور ال وحي ‪ ،‬ويت أملون نص وص الكت اب والس نة ‪ ،‬ي دركون تم ام‬
‫اإلدراك العقوب ات العظيمة ال تي س نها اهلل في حق كل أمة تخلت عن الت آمر ب المعروف‬
‫والتناهي عن المنكر سواء كانت تلك النصوص حكاي ةً لمصائر األمم التي فرطت في تلك‬
‫الشعيرة ‪ ،‬أو وعيدا لمن سلك سبيلها وليس من الضروري أن تظهر هذه العقوبات بين ٍ‬
‫يوم‬ ‫ً‬
‫وليل ٍة ‪ ،‬ف إن ال ذي يح دد زمانها ومكانها وص فتها هو اهلل – عز وجل – وليس اس تعجال‬
‫البشر أو استبطاءهم ‪.‬‬
‫وتلك العقوبات واآلثار السيئة كثيرة ومتنوعة ‪ ،‬لكن من أظهرها ‪:‬‬
‫كثرة الخبث‪:‬‬ ‫‪.1‬‬
‫روى البخ اري ومس لم عن زينب بنت جحش رضي اهلل عنها (( أن الن بي ص لى اهلل عليه‬
‫وس لم اس تيقظ من نومه فزع اً وهو يق ول ‪ " :‬ال إله إال اهلل ‪ .‬ويل للع رب من شر قد اق ترب‬
‫فتح الي وم من ردم ي أجوج وم أجوج مثل ه ذا – وحلق بين إص بعيه الس بابة واإلبه ام – " ‪.‬‬
‫فقالت له زينب رضي اهلل عنها ‪ :‬يارسول اهلل ‪ ،‬أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال ‪ :‬نعم إذا كثر‬
‫الخبث ‪)1( ".‬‬
‫إن المنكر إذا أعلن في مجتمع ولم يجد من يقف في وجهه ؛ فإن س وقه تق وم وع وده يش تد‬
‫وس لطته تظهر ورواقه يمتد ويص بح دليالً على تمكن أهل المنكر وق وتهم ‪ ,‬وذريع ةً القت داء‬
‫الن اس بهم وتقلي دهم إي اهم وما أح رص أهل المنكر على ذلك وله ذا توع دهم اهلل جل وعال‬
‫فق ال (( إن ال ذين يحب ون أن تش يع الفاحشة في ال ذين آمن وا لهم ع ذاب أليم في ال دنيا‬
‫واآلخرة ))‬
‫(سورة النور ‪)19‬‬

‫فإذا قلد بعض الناس أهل المنكر والزيغ في منكرهم ؛ أخذ الباطل في الظهور ‪ ،‬وهان خطبه‬
‫شيئاً فشيئاً في النفوس ‪ ،‬وسكت الناس عنه وشغلوا بما هو أعظم منه ‪ ،‬وما تزال المنكرات‬
‫تفشو‪ ،‬حتى يكثر الخبث ‪ ،‬ويصير أمراً عادياً مستساغاً ‪ ،‬تألفه النفوس ‪ ،‬وتتربى عليه ‪.‬‬
‫وينحسر – بالمقابل – المع روف والخ ير ويص بح هو المس تغرب ‪ ,‬ول ذلك ق ال الخليفة‬
‫الملهم عمر بن عبدالعزيز – رحمه اهلل – في كتاب إلى أمير المدينة الذي يأمره فيه بأن ي أمر‬
‫العلم اء ب الجلوس إلفش اء العلم في المس اجد‪ (( :‬وليفش وا العلم ‪ ،‬ف إن العلم ال يهلك ح تى‬
‫يكون سراً ))‪.‬‬
‫إنها لعقوبة كب يرة أن يهيمن المنكر ‪ ،‬ويص بح المع روف غريب اً لكن ‪ ..‬هل يقف األمر عند‬
‫هذا الحد ؟ إليك اإلجابة ‪:‬‬
‫إن كثرة الخبث تؤذن بالعذاب اإللهي العام والهالك الشامل كما دل‬ ‫‪.2‬‬
‫ٍ‬
‫جماعة من الصحابة ‪ ،‬مما يدل‬ ‫على ذلك حديث زينب المذكور آنف اً ‪ ،‬الذي نقل عن‬
‫على اهتمام النبي صلى اهلل عليه وسلم بهذا األمر ‪.‬‬
‫ولقد بوب اإلمام مالك في الموطأ على هذا الحديث باب اً سماه ‪ ( :‬باب ما جاء في عذاب‬
‫العامة بعمل الخاصة ) وساق تحت هذا الباب أثراً عن عمر بن عبدالعزيز ‪ ،‬وهو قوله رحمه‬
‫اهلل ‪ :‬ك ان يق ال إن اهلل – تب ارك وتع الى – ال يع ذب العامة ب ذنب الخاصة ‪ ،‬ولكن إذا عمل‬
‫المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم (‪. )1‬‬
‫وه ذا األثر ي دعم ما س بق ذك ره من خط ورة اإلعالن بالمعص ية ومن وج وب التفريق بين‬
‫المنكر المختفي والمنكر الظاهر ‪.‬‬
‫وقد قص اهلل – عز وجل – علينا خبر بني إسرائيل حين نهاهم أن يعدوا في السبت ولنا في‬
‫تلك القصة عبرة (( وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً اهلل مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً‬
‫قالوا معذرةً إلى ربكم ولعلهم يتقون ‪ .‬فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء‬
‫وأخ ذنا ال ذين ظلم وا بع ذاب ب ٍ‬
‫ئيس بما ك انوا يفس قون ‪ .‬فلما عت وا عما نه وا عنه قلنا لهم‬
‫كونوا قرد ًة خاسئين )) ( سورة األعراف ‪. ) 166-164‬‬
‫إذن فقد أنجى اهلل تعالى الذين ينهون عن السوء فقط ‪ ،‬وأما البقية فقد عذبهم كلهم ‪ .‬هذه‬
‫سنته – سبحانه – في كل أمة يحق عليها العذاب ‪.‬‬

‫______________________________________________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري (‪ )3168‬و مسلم (‪. )2880‬‬

‫ف إن لم يكن في األمة من ينهى عن الس وء والفس اد فال نج اة ألحد منها (( فل وال ك ان من‬
‫الق رون من قبلكم أولو بقية ينه ون عن الفس اد في األرض إال قليالً ممن أنجينا منهم واتبع‬
‫الذين ظلموا ما أترفو فيه )) ( سورة هود ‪. )116‬‬
‫وفي ح ديث جرير ال ذي رواه أبو داود ‪ (( :‬ما من رجل يك ون في ق ٍ‬
‫وم يعمل فيهم المعاصي‬
‫يقدرون على أن يغيروا عليه ‪ ،‬فال يغيروا إال أصابهم اهلل بعذاب من قبل أن يموتوا )) (‪)2‬‬
‫إن وجود المصلحين في األمة هو صمام األمان لها ‪ ،‬وسبب نجاتها من اإلهالك العام ‪ ،‬فإن‬
‫فقد هذا الص نف من الناس ؛ ف إن األمة – وإن كان فيها ص الحون – يحل عليها عذاب اهلل‬
‫كلها ص الحها وفاس دها ؛ ألن الفئة الص الحة س كتت عن إنك ار الخبث ‪ ،‬وعطلت ش عيرة‬
‫األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬فاستحقت أن تشملها العقوبة ‪.‬‬
‫وروى أبو داود والترم ذي عن أبي بكر – رضي اهلل عنه – أنه ق ال ‪ (( :‬أيها الن اس إنكم‬
‫تق رءون ه ذه اآلية )) ‪ (( :‬ياأيها ال ذين آمن وا عليكم أنفس كم اليض ركم من ضل إذا اهت ديتم‬
‫)) (سورة المائدة ‪ ) 105‬وإنـي سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول ‪ (( :‬إن الناس‬
‫إذا رأو الظ الم فلم يأخ ذوا على يديه ؛ أوشك أن يعمهم بعق اب منه )) (‪ )3‬وقد روي ه ذا‬
‫الحديث‬
‫مرفوع اً كما روي موقوف اً ‪ ،‬وال راجح أنه موق وف على أبي بكر ‪ ،‬لكن له حكم المرف وع ‪،‬‬
‫ألنه مما ال يق ال ب الرأي ‪ .‬والظ الم هنا هو الم رتكب ألي ن وع من أون واع الظلم الكث يرة ‪،‬‬
‫فالمشرك ظالم (( إن الشرك لظلم عظيم )) ( س ورة لقم ان ‪ ) 13‬والعاصي أي اً كانت معصيته ظالم‬
‫لنفسه ولغيره ‪ ،‬سواء كان سارقاً أو غاشا أو منتهكاً عرضاً أو غير ذلك ‪.‬‬
‫وروى حذيفة – رضي اهلل عنه – أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ (( :‬والذي نفسي بيده‬
‫لت أمرن ب المعروف ‪ ،‬ولتنه ون عن المنكر ‪ ،‬أو ليوش كن اهلل أن يبعث عليكم عقاب اً منه ‪ ،‬ثم‬
‫تدعونه فال يس تجاب لكم )) (‪ . )4‬يهز القل وب الحية وي دفع أص حابها إلى أن يكون وا من‬
‫أولي البقية ال ذين ينه ون عن الفس اد في األرض لتك ون س فينة المجتمع محمية من الغ رق‬
‫الذي يهددها عندما يترك السفهاء يخرقون فيها ‪،‬‬

‫_________________________________________________‬
‫(‪ )3‬رواه الترمذي ( ‪ ) 2168‬وأبو داود ( ‪) 4338‬‬ ‫(‪ )2‬ابو داود ( ‪)4339‬‬ ‫(‪ )1‬الموطأ ‪991 /1‬‬
‫(‪ )4‬رواو الترمذي ( ‪ ) 2169‬وأحمد في المسند ‪.388 /5‬‬

‫كما روى النعم ان بن بش ير عن الن بي ص لى اهلل عليه وس لم أنه ق ال ‪ (( :‬مثل الق ائم على‬
‫وم اس تهموا على س فينة فأص اب بعض هم أعالها وبعض هم‬ ‫ح دود اهلل والواقع فيها ‪ ،‬كمثل ق ٍ‬
‫أس فلها فك ان ال ذين في أس فلها إذا اس تقوا من الم اء م روا على من ف وقهم ‪ ،‬فق الوا ‪ :‬لو أنا‬
‫خرقنا في نص يبنا خرق اً ولم ن ؤذ من فوقنا ‪ ,‬ف إن ي تركوهم وما أرادوا هلك وا جميع اً وإن‬
‫أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً )) (‪.)1‬‬

‫فالمجتمع تمام اً كأصحاب السفينة هؤالء‪ ،‬فإن الذين في أعلى السفينة إن تركوا الذين في‬
‫أسفلها ليخرقوا في نصيبهم خرق اً وقالوا ‪ :‬هذه حرية شخصية لهم ‪ ،‬فليفـعلوا ما شاءوا فإن‬
‫النتيجة غ رق الس فينة وهالك الجميع ‪ ,‬وإن أخذ ال ذين في األعلى على أي دي ال ذين في‬
‫األسفل وقالوا لهم ‪ :‬ليس اإلضرار بالملك العام من الحرية الشخصية فالنتيجة نجاة الجميع‬
‫المجتمع ف إن أهل الفس اد ال واقعين في ح دود اهلل يخرق ون بمع اول‬ ‫‪ ,‬وهك ذا ح ال‬
‫انحرافهم في سفينة المجتـمع‪ ,‬فإن‬
‫أخذ المصلحون على أيديهم ومنعوهم من اإلضرار بالمجتمع ‪ ،‬نجا الجميع وإن ترك وهم في‬
‫غيهم وتخاذلوا عن األنكار عليهم ؛ هلكوا قاطبةً ‪.‬‬
‫وقبل أن أت رك الح ديث عن ه ذه العقوبة أود أن أنبه إلى أمر ال يك اد ينقضي العجب منه ‪،‬‬
‫وهو أن بعض الن اس يس تغربون مثل ه ذا الكالم يس تغربون من ق ول الناص حين ‪ :‬إن‬
‫المص لحين حم اة س فينة المجتمع من الغ رق بل قد يس تغربون من ق ول الناص حين ‪ :‬إن ما‬
‫أصابنا وأصاب غيرنا من األحداث األخيرة المؤلمة إنما بسبب الذنوب والمعاصي يستغربون‬
‫ذل ك‪ ،‬ويع زو بعض هم ما ح دث إلى األس باب المادية ويقول ون ‪ :‬كيف تك ون المعاصي هي‬
‫س بب ماح دث ؟ ‪ ،‬والكف ار – مع كف رهم – يعيش ون في نعيم وس عة عيش ‪ ،‬وتمكين في‬
‫األرض ؟‍!‬
‫هكذا يقولون ويظنون متناسين أو جاهلين سنن اهلل الثابتة ‪ ،‬والنصوص الصريحة الواضحة ‪،‬‬
‫والوقائع التاريخية السالفة والخالفة ‪.‬‬

‫_______________________________________________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري ( ‪.) 2361‬‬

‫وهذا منطق الذين ال تتعدى نظرتهم الحياة الدنيا ‪ ،‬ومنطق السطحيين الذين ينظرون إلى ٍ‬
‫رقعة‬
‫محدودة من المكان‪ ،‬في حيز محدود من الزمان‪ ،‬ومنطق الماديين الذين يتنكرون لوحي اهلل‬
‫عز وجل (( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء واألرض ولكن‬
‫كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ‪ .‬أف أمن أهل القرى أن ي أتيهم بأسنا بيات اً وهم نائمون ‪.‬‬
‫أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ‪ .‬أفأمنوا مكر اهلل فال يأمن مكر اهلل إال‬
‫الق وم الخاس رون ‪ .‬أو لم يهد لل ذين يرث ون األرض من بعد أهلها أن لو نش اء أص بناهم‬
‫( سورة األعراف ‪) 100-96‬‬ ‫بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم ال يسمعون ))‬

‫اء غ دقاً لنفتنهم فيه ومن يع رض عن ذكر ربه‬


‫(( وأن لو اس تقاموا على الطريقة ألس قيناهم م ً‬
‫( سورة الجن ‪) 17-16‬‬ ‫يسلكه عذاباً صعداً ))‬
‫(( ول وال أن يك ون الن اس أمة واح دةً لجعلنا لمن يكفر ب الرحمن ل بيوتهم س قفاً من فض ٍة‬
‫ومعارج عليها يظهرون ‪ .‬ولبيوتهم أبواب اً وسرراً عليها يتكئون ‪ .‬وزخرف اً وإن كل ذلك لما‬
‫متاع الحياة الدنيا واآلخرة عند ربك للمتقين )) ( سورة الزخرف ‪. ) 35-33‬‬
‫االختالف والتناحر ‪:‬‬ ‫‪.3‬‬
‫إن من أنكى العقوب ات ال تي تنـزل ب المجتمع المهمل لألمر ب المعروف والنهي عن المنكر أن‬
‫يتح ول ذلك المجتمع إلى ف ٍ‬
‫رق وش يع تتنازعها األه واء‪ ،‬فيقع االختالف والتن احر (( قل هو‬
‫القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق‬
‫بعضكم بأس بعض )) (س ورة االنع ام ‪ ) 65‬وذلك التناحر يجعل المجتمع عرضة لالنهيار واالنهزام‬
‫أمام العدو الخارجي المتربص ‪.‬‬
‫وال يحمي المجتمع من التف رق واالختالف إال ش ريعة اهلل ‪ ،‬ألنها تجمع الن اس ‪ ،‬وتحكم‬
‫األه واء‪ ،‬أما إذا ابتعد الناس عن شريعة اهلل – تعالى – أصبح كل امرئ يتبع ه واه ‪ ,‬وأه واء‬
‫الناس ال يضبطها ضابط ‪.‬‬
‫وإن ما يدل على ارتباط التفرق والتناحر بترك األمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن اهلل عز‬
‫وجل ق ال ‪ (( :‬ولتكن منكم أمة ي دعون إلى الخ ير وي أمرون ي المعروف وينه ون عن المنكر‬
‫وأولئك هم المفلح ون )) ( س ورة آل عم ران ‪ )104‬ثم ق ال بعد ذلك مباش ر ًة (( وال تكون وا كال ذين‬
‫تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات )) ( س ورة آل عم ران ‪ ) 105‬والمتأمل في حال ٍ‬
‫عدد من‬
‫البالد اإلس المية يجد أن من أهم أس باب تف رق المجتمع فيها أنهم أهمل وا األمر ب المعروف‬
‫والنهي عن المنكر ؛ ف ترتب على ذلك ش يوع الفس اد وظه وره وس يطرته ‪ ،‬بش تى ص وره‬
‫وأنواعه ما بين ع ري ‪ ،‬وس كر ‪ ،‬وحفل غن ائي ‪ ،‬وس هرة راقص ٍة ‪ ،‬وع رض مس رحي ‪ ،‬وغ ير‬
‫ذلك ‪.‬‬
‫وه ذا الفس اد يغيظ الص الحين ‪ ،‬فيغ ارون على حرم ات اهلل فيح اولون تغي ير المنكر ‪ ،‬فال‬
‫يج دون قن اة ش رعية تمكنهم من تغي ير المنكر ‪ ،‬فيض طرون إلى أس اليبت مندفع ٍة تجعل‬
‫المجتمع أطرافـاً متصارعةً متناحر ًة ‪.‬‬
‫ونم اذج ذلك في المجتمع ات اإلس المية غ ير قليل ٍة فمن ذلك ما نش رته بعض الص حف من‬
‫أخبار منذ عدة سنوات عن إندونيسيا التي يشيع فيها كثير من المنكرات – شأن كثير من‬
‫البالد اإلس المية – تق ول ه ذه األخب ار أن هن اك مجموعة من الن اس غ ير معروفة تتص يد‬
‫المج رمين خفي ةً وتقضي عليهم ‪ ،‬أي إذا وج دوا إنس اناً يق وم – مثالً – على بيت دع ارة أو‬
‫بالد يس كنها نحو مائ ٍة‬
‫على أي منكر عل ني ف إنهم يقتلونه وال تعجب من مثل ه ذا في ٍ‬
‫وخمسين مليوناً من المسلمين وتكون عطلتهم الرسمية يوم األحد ‪.‬‬
‫ومن ذلك ما يجري من بعض الغيورين في مصر – مثالً – من إنكار بعض المنكرات بصورة‬
‫ٍ‬
‫مختلط ‪ ،‬فقام عدد من الطالب‬ ‫حماسية ‪ ،‬فقد أعلن مثالً في جامعة أسيوط عن ٍ‬
‫حفل غنائي‬
‫ضد هذا المنكر ‪ ،‬ودخلوا مكان الحفل بالقوة ‪ ،‬وحطموا اآلت الفسق ‪ ،‬ومنعوا إقامة الحفل‬
‫في تلك الليلة ‪.‬‬
‫وغير أولئك المتحمسين المندفعين ينظر إلى ذلك التصرف على أنه شغب وإخالل باألمن ‪.‬‬
‫ولو وجد أولئك الغي ورون س بيالً ش رعياً لإلنك ار لم يلجا أحد منهم إلى مثل ه ذه الط رق ‪،‬‬
‫ولكن س دت أم امهم المنافذ الص حيحة وأوص دت دونهم األب واب ‪ ،‬فركب وا تلك الم راكب‬
‫الصعبة وهم يقولون ‪:‬‬
‫فما حيلة المضطر إال ركوبها‬ ‫إذا لم يكن إال األسنة مركباً‬
‫وقد ك انوا – ال شك – عن ذلك في س ٍ‬
‫عة ولهم عنه مندوحة ‪ .‬ومن ص ور التف رق والتم زق‬
‫التي تحدث في المجتمع بسبب ترك هذه الشريعة أن تتفشى بين الناس منكرات القلوب من‬
‫الغل والحقد والحسد والبغض اء والتن احر وما ي ترتب على اختالف القل وب من اختالف‬
‫التوجيه ات واآلراء واألعم ال واألق وال بحيث إن المجتمع يه دم بعضه بعض اً وي دمر نفسه‬
‫بيديه ‪.‬‬
‫فهذه من أعظم المنكرات التي يجب إنكارها والتحذير منها ‪ ،‬وسكوت العالمين والمعلمين‬
‫عنها سبب في انتشارها ورسوخها وصعوبة الخالص منها ‪.‬‬
‫ثم إن المنكر إنما صار منكراً ‪ ،‬ونهى اهلل – تعالى – عنه لما فيه من الخبث والضرر العاجل‬
‫واآلجل ‪ ،‬فالمعاصي وبال على األفراد والمجتمعات وسبب لتمزقها وتشتتها ‪ ..‬ثم انهيارها‬
‫وزوالها ‪ ،‬ف النهي عنها س ياج حماية األمة من آف ات الض عف والتخلخل والض ياع ‪,‬‬
‫والسكوت عليها دليل أكيد على غياب معايير النقد الصحيح والتوجيه البناء وهو تواطؤ آثم‬
‫سوء ا ‪ ،‬وتسعى لهدم قالع الخير والفضيلة والصالح ‪.‬‬
‫مع القوى الشريرة التي تريد باألمة ً‬
‫فمعاصي ال بيع والش راء من النجش والغش وبيع المع دوم والمجه ول وس ائر أن واع ال بيوع‬
‫المحرمة ‪ ،‬والمعامالت المنكرة لها من األثر الكبير في تشتيت القلوب وتدابرها وتباغضها‬
‫ما ال ينكره ذو عقل ‪.‬‬
‫وما يقال فيها يقال في سائر أنواع المعاصي ‪.‬‬
‫والسكوت على هذه المنكرات هو نوع من الرضا بها وإقرارها ‪.‬‬
‫تسليط األعداء ‪:‬‬ ‫‪.4‬‬
‫ف إن اهلل – جل وعال – قد يبتلي المجتمع الت ارك لألمر ب المعروف والنهي عن المنكر ب أن‬
‫يس لط عليهم ع دوا خارجي اً ‪ ،‬في وذيهم ‪ ،‬ويس تبيح بيض تهم ‪ ،‬وقد يأخذ بعض ما في أي ديهم‬
‫وقد يتحكم في رقابهم وأموالهم ‪.‬‬
‫وقد مني المسلمون في تاريخهم بنماذج من ذلك ‪ ،‬لعل منها ما وقع للمسلمين في األندلس‬
‫‪ ،‬حيث تحولت عزتهم وقوتهم ومنعتهم – لما شاعت بينهم المنكرات بال نك ير – إلى ذل‬
‫وه ٍ‬
‫وان س امهم إي اه النص ارى ح تى ص ار مل وكهم وس ادتهم ين ادى عليهم في أس واق الرقيق‬
‫وهم يبكون وينوحون ‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬
‫لهالك الوجد واستهوتك أحزان‬ ‫فلو رأيت بكاهم عند بيعهم‬
‫تقول أم أحدهم – هو أبو عبداهلل آخر ملوك الطوائف – تخاطب صاحب الملك المضاع ‪:‬‬
‫لم تحافظ عليه مثل الرجال‬ ‫ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً‬
‫وش بيه ب ذلك ما ح دث في فلس طين من تس لط اليه ود على المس لمين ‪ ،‬وتنكيلهم بهم ‪،‬‬
‫وطردهم لهم حتى صارت فلسطين أخت األندلس ‪ ،‬وحتى ذهبت كما قال الشاعر ‪:‬‬
‫وطول صبر على األرزاء والنوب‬ ‫ٍ‬
‫أندلس صبراً وتضحيةً‬ ‫ياأخت‬
‫ضياع أندلس من قبل في الحقب‬ ‫ذهبت في لجة األيام ضائعة‬
‫بمثلها أمة اإلسالم لم تصب‬ ‫وطوحت ببنيك الصيد نازلة‬

‫‪ .5‬عدم إجابة الدعاء ‪:‬‬


‫اإلنس ان يلج أ إلى اهلل وح ده عن دما يمسه الضر ‪ ،‬وي دعوه س بحانه أن يكشف عنه الس وء‬
‫( سورة النحل ‪) 53‬‬ ‫حتى المشرك يفعل ذلك ‪ (( :‬ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ))‬
‫( سورة اإلسراء ‪) 67‬‬ ‫(( وإذا مسكم الضر في البر والبحر ضل من تدعون إال إياه ))‬
‫[[ والمس لمون الت اركون لش عيرة األمر ب المعروف والنهي عن المنكر عن دما ينـزل بهم‬
‫العق اب يتجه ون إلى اهلل – عز وجل – يدعونه ولكنه ال يس تجيب لهم كما ج اء في ح ديث‬
‫حذيفة ال ذي ذك ره أن الن بي ص لى اهلل عليه وس لم ق ال (( وال ذي نفسي بي ده‪ ،‬لت أمرون‬
‫بالمعروف ولتنهون عن المنكر ‪ ،‬أو ليبعثن اهلل عليكم عقاب اً منه ‪ ،‬ثم تدعونه ‪ ،‬فال يستجاب‬
‫لكم )) (‪. )1‬‬
‫يا اهلل ‪ ..‬أو حقاً يدعو الناس فال يستجيب اهلل لهم ؟! اهلل الذي يقول (( وسعت رحمتي كل‬
‫شيء )) (س ورة األع راف ‪ )156‬اهلل الذي يقول (( وإذا س ألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة‬
‫الداع إذا دعان )) ؟! ( سورة البقرة ‪ ) 186‬هل يمكن أن يحدث ذلك ؟!‬
‫ص دق اهلل وص دق رس وله ‪ ،‬وما يمكن أن يك ون ذلك إال حق اً وإنه لحق ترتجف له النفس‬
‫فرقـاً ويقش عر الوجدان رعب اً وماذا يبقى للناس إذن ؟ ماذا يبقى لهم إذا أوصدت من دونهم‬
‫رحمة اهلل ؟ولمن يلجأون في هذا الكون العريض كله وقد أوصد الباب األكبر الذي توصد‬
‫بعده جميع األبواب ‪ ..‬ويبقى اإلنسان في العراء ‪ ،‬العراء الكامل الذي ال يستره شيء ‪ ،‬وال‬
‫يحميه شيء من لفحة الهاجرة وقسوة الزمهرير ‪.‬‬
‫أال إنه للهول البشع الذي يتحامى الخيال ذاته أن يتخيله ‪..‬‬
‫ألنه أفظع من أن يطيقه الخيال ‪.‬‬
‫فهل كتب اهلل ذلك اله ول البشع على عب اده – المس لمين – ال ذين يدعونه ويس ألونه‬
‫ويستنصرونه ؟‪.‬‬
‫نعم حين يكفون عن األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬ولو بأضعف اإليمان (‪. ]] )2‬‬
‫‪ .6‬األزمات االقتصادية ‪:‬‬
‫قد تحل األزم ات االقتص ادية ب المجتمع المف رط في األمر ب المعروف والنهي عن المنكر‬
‫فتتالطم به أمواج الفقر والضوائق ‪ ،‬ويذوق الويالت من الحرمان ‪.‬‬
‫ولقد وصلت األزمات ببعض المجتمعات اإلسالمية إلى ٍ‬
‫حال من الفقر يرثى لها حتى أصبح‬
‫الفرد يكدح في سبيل الحصول على لقمة العيش فال يجدها مما قد يحوجه إلى ما في أيدي‬
‫النصارى‬

‫_________________________________________________‬
‫(‪ )1‬رواه الترمذي ( ‪ ) 2169‬وأحمد في المسند ‪.5/388‬‬
‫(‪ )2‬قبسات من الرسول ‪ ،‬محمد قطب ‪ ،‬ص ‪ ، 54 – 53‬ط الثانية ‪ 1962‬م ‪.‬‬

‫المتربصين الذين يسخرون طاقاتهم لتنصير المسلمين ؛ فيؤدي ذلك إلى وقوع المسلم في‬
‫التنصير والعياذ باهلل خاصة أن انشغاله بلقمة العيش قد ينسيه كثيراً من أمور دينه ‪ ،‬مما يبعده‬
‫عنه ويهونه عليه ‪.‬‬
‫وهكذا المنكرات ‪ ،‬سلسلة يجر بعضها بعضاً إلى أن تهوي بصاحبها ‪.‬‬
‫وكما أن هناك من يفسر ما يحل بالمجتمعات من الحروب واألحداث المؤلمة تفسيراً مادي اً‬
‫بحت اً ك ذلك هن اك من يفسر األزم ات االقتص ادية تفس يراً مادي اً بحت اً ‪ ،‬والم ؤمن ال ذي يعي‬
‫سنن اهلل يدرك أن وراء السبب المادي سبباً شرعياً حدث في المجتمع ‪ ،‬فاستحق ما جرت‬
‫به سنة اهلل من معاقبة المجتمع الذي يظهر فيه الخبث بال نكير ‪.‬‬
‫كما أن هن اك من تس فك أعراض هم على م ذبح الرذيلة وت داس ك رامتهم جري اً وراء ال درهم‬
‫والدينار ‪ ..‬إن كثيراً من الجرائم وأماكن البغاء تتفشى في تلك األحياء الشعبية التي يشيع‬
‫فيها الفقر وينتشر فيها العوز والفاقة ‪.‬‬
‫ولعل من أجلى الص ور وأوض حها في ال دمار االقتص ادي ال ذي يلحق المجتمع ات بس بب‬
‫إهم ال النهي عن المنكر ‪ :‬الس كوت عن الربا وما يج ره من تف اقم في المس تويات المعيش ية‬
‫واالقتصادية فيزيد الفقير فقراً إلى فقره ‪ ،‬ويزيد الغني ثراًء فيصبح المال دول ةً بين األغنياء ‪،‬‬
‫وتسير األمة إلى هاوية الدمار البعيد ‪.‬‬
‫وها هي ذي مراكز الدراس ات الغربية تتح دث عن مص ير أس ود ينتظر الرأس مالية خالل عق ٍد‬
‫أو عقدين من الزمان ‪ ،‬كذلك المصير الذي آلت إليه الشيوعية !‬
‫(‬ ‫(( فهل ينتظرون إال مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ))‬
‫سورة يونس ‪) 102‬‬

‫‪ .7‬ترك األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪:‬‬


‫يوجب الوقوع في الشهوات واإلغراق فيها وهذا من شأنه أن يجعل الناس مرتبطين بالدنيا ‪,‬‬
‫أصحاب نفوس ضعيفة غير جادين ‪.‬‬
‫فالش باب ال ذي ليس له هم إال أغنية ماجنة ‪ ،‬أومجلة خليعة ‪ ،‬أو ش ريط م رئي هاب ط‪،‬‬
‫أومكالمة هاتفية ش هوانية ‪ ،‬أو س فر إلى بالد اإلباحية والتحلل ‪ ،‬ه ذا الش اب ال ذي أص بحت‬
‫حياته كلها شهوة هل يستطيع أن ينعتق من إسار الدنيا ‪ ،‬ويجد في تحصيل العلم النافع ؟!‬
‫هل يستطيع أن يحمل السالح ليدافع عن نفسه وعن أمته ؟!‬
‫ال ريب أنه ال يطيق ذلك ‪ ،‬ألنه تعود على االرتباط بالدنيا ‪ ،‬والركون إلى الشهوة ‪،‬ولم يألف‬
‫الجدية والحزم ‪.‬‬
‫وإنك لتجد مصداق ذلك عندما تتأمل في واقع كثير من الشباب المبتعثين إلى البالد الغربية‬
‫مثالً حيث ترى الشاب المتدين المستقيم منهم جادا في تحصيله العلمي ألنه يحمل هم أمته‬
‫‪ ,‬لأنه لم يبعد الشهوة ‪ ،‬ولم يرسف في أغالل الدنيا الدنية ‪.‬‬
‫أما الش اب الش هواني المنح رف فإنك ت راه منغمس اً في ش هواته ورغباته ‪ ،‬غ ير ج اد في‬
‫تحص يله العلمي تافه االهتمام ات ؛ النه ال يحمل إال هم ه واه فتخس ره األمة ويك ون وب االً‬
‫عليها ‪.‬‬
‫وه ذه الحقيقة أدركها كل البشر ح تى الوث نيون منهم ف إن الياب ان – مثالً – لما بعثت أول‬
‫بعث ةً من أبنائها للتعليم في بالد الغ رب ورجع أولئك المبتعث ون متحللين من مب ادئهم ذائ بين‬
‫في الشخص ية الغربية منغمس ين في الش هوات الفردية لم يكن من الياب انيين إال أن أحرق وهم‬
‫جميع اً على م رأى من الن اس ليكون وا ع برةً لغ يرهم ثم ابتعث وا بعثة أخ رى ‪ ،‬وأرس لوا معهم‬
‫مراقب اً ك ان يق دم عنهم تق ارير متواص لة ت بين ج ديتهم ومح افظتهم على تقالي دهم الوثنية‬
‫وغيرها ‪ .‬هكذا أدركوا أن صرعى الشهوات ال يمكن أن يكونوا جادين في يوم من األيام ‪.‬‬
‫وفي مجتمع ات المس لمين ال شك أن ت رك األمر ب المعروف والنهي عن المنكر هو س بب‬
‫غرق أبناء المجتمع في الملذات واألهواء التي تقعد بهم عن معالي األمور ‪.‬‬
‫‪ .8‬الإهمال في أخذ العدة ‪:‬‬
‫س واء ك انت ع دة معنوية بق وة القل وب وش جاعتها‪ ،‬أو ع دة مادية محسوسة تجهز لمقاومة‬
‫األع داء ف إن االس تعداد ال يتقنه وال يلتفت إليه إال أص حاب الهمم ‪ ،‬المعرض ون عن‬
‫السفاسف ‪ .‬أما ص رعى الش هوات فليس وا أهالً ل ذلك ‪ ،‬بل إن مج رد الكالم عن الح رب‬
‫يرعبهم ‪ ،‬فضالً عن خوض المعارك وركوب األهوال ‪.‬‬
‫‪ .9‬هناك عقوبة جداً خطيرة وهي أن األمة بدأ مسارها في عدد من البالد‬
‫‪ .‬ذلك أن المن افقين المفس دين لم يكتف وا بإش اعة المنك رات بل مض وا‬ ‫الإس المية يتغ ير‬
‫يخطط ون لس لخ األمة عن دينها جمل ةً ح تى تتح ول إلى أمة علمانية ال دين لها وتقبل أن‬
‫تحكم بأي شريعة وأن يشيع فيها أي انحراف فكري أو خلقي ‪.‬‬
‫وهذا التح ول أخطر من س يطرة الك افرين والمن افقين عس كرياً على البالد الإس المية والواقع‬
‫يش هد ل ذلك ‪ ،‬فإنك لو ت أملت لوج دت البالد اإلس المية ال تي أخ ذت من المس لمين ب القوة‬
‫العس كرية مح دودة كاألن دلس ال تي أخ ذها النص ارى ق ديماً ‪ ،‬وفلس طين ال تي س يطر عليها‬
‫اليه ود قه راً ‪ .‬هك ذا تبقى قليلة مح دودة ثم إن تأثيرها على مس ار األمة إيج ابي ؛ ألن فيها‬
‫إيقاظاً لها وتحريكاً لغيرتها وبعثاً لحميتها الدينية ‪.‬‬
‫لكن لوتأملت في واقع كثير من البالد اإلسالمية التي كان يحكمها اإلسالم ويشيع في أهلها‬
‫المع روف ؛ لوج دتها الي وم بالداً علمانية تحكمها نظم غ ير ش ريعة اهلل ‪ ،‬نظم تحمي الرذيلة‬
‫وتح ارب الفض يلة ‪ ،‬فتجد مثالً في جامعاتها االختالط نظام اً محتم اً وتجد محاربة الحج اب‬
‫ووصف أهله بالرجعية والتخلف إلى غير ذلك من فنون اإلغواء ‪.‬‬
‫هك ذا وقعت األمة في براثن المن افقين ‪ ،‬فس عوا جاه دين لس لخها عن دينها بس بب غي اب‬
‫المص لحين اآلم رين ب المعروف والن اهين عن المنكر عن الس احة ‪ ،‬أو ض عفهم في أداء‬
‫رسالتهم ‪.‬‬
‫والمجتمع مي دان لص راع الفئ تين (( والمؤمن ون والمؤمنات بعض هم أولي اء بعض ي أمرون‬
‫بالمعروف وينهون عن المنكر )) ( س ورة التوبة ‪ (( ) 71‬والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض‬
‫يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف))( سورة التوبة ‪ ) 67‬فأي الفئتين غلبت‪ ،‬استطاعت أن تصبغ‬
‫المجتمع بصبغتها ‪.‬‬
‫ولذلك كانت قضية األمر بالمعروف والنهي عن المنكر قضية مصيرية يترتب عليها احتفاظ‬
‫الأمة بمس ارها اإلس المي‪ ،‬وله ذا الس بب ك ان األمر ب المعروف النهي عن المنكر في العه ود‬
‫المتقدمة يحظى بأشد العناية من المس لمين أجمعين فقد ك ان كل مس لم يش عر أنه مط الب‬
‫ب ذلك في كل مج ال وعلى س ائر المس تويات في أمر ب المعروف وينهى عن المنكر في بيته ‪،‬‬
‫وفي س وقه ‪ ،‬وفي مس جده ‪ ،‬وفي كل مك ان ‪ ،‬ال يف رق في ذلك بين ص غير وكب ير ‪ ،‬وال‬
‫قريب أو بعيد ‪ ،‬وال معروف أو مجهول ‪ ،‬وال ذكر أو أنثى ‪.‬‬
‫هك ذا ك انوا يش عرون أن ذلك األمر دين ي دينون اهلل به ‪ ،‬فلم يكل وه بأكمله إلى جهة معينة‬
‫ويلقوا بالالئمة عليها إذا رأو منكراً ‪.‬‬
‫ومع ذلك كله ع ني المس لمون بنظ ام الحس بة ال ذي ك ان رجاله يقوم ون بمراقبة المجتمع‬
‫عموم اً في كل ش يء ويس عون إلص الح ومنع جميع أس باب أذاه ‪ ,‬فيمنع ون الباعة من الغش‬
‫وينص فون ال دائن من الم دين وإذا رأوا مثالً بيت اً آيالً للس قوط ع الجوا أم ره بما يناسب وإذا‬
‫وجدوا شارعاً ضيقاً قاموا على توسيعه وإذا رأوا نزاعاً فضوه إلى غير ذلك من المهمات ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫جهات من‬ ‫إذن كانت مهمة رج ال الحسبة مهمة شمولية ‪ ,‬أصبحت اليوم موزعة على عدة‬
‫أنظمة مرورية وبلدية وتجارية وغيرها إلى جانب مهمة السلوك واألخالق وإيقاف الناس عند‬
‫حدود اهلل ‪.‬‬
‫وما كان هذا االهتمام البالغ بنظام الحسبة الذي ظهر بوضوح في عهد عمر بن الخطاب إال‬
‫إلدراك األمة تلك الشعيرة في مسارها ‪.‬‬

‫حكم األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬

‫أجمع أهل العلم على فرضية األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ,‬فرض عي ٍن أو ٍ‬
‫كفاية ‪.‬‬
‫ف ذهب ابن ح زم رحمه اهلل إلى إنه فرض عين ‪ ،‬لح ديث أبي س عيد مرفوع اً ‪ (( :‬من رأى‬
‫منكم منك راً فليغ يره بي ده ف إن لم يس تطع فبلس انه ف إن لم يس تطع فبقلبه ‪ ،‬وذلك أض عف‬
‫اإليمان )) (‪.)1‬‬
‫وعند جم اهير أهل العلم أنه ف رض كفاية ‪ ،‬وه ذا هو الص حيح ؛ لقوله تع الى ‪ (( :‬ولتكن‬
‫منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر )) ( سورة آل عمران ‪ ) 104‬فإذا‬
‫قامت األمة المذكورة في اآلية – وهي الطائفة – بالمهمة سقطت عن الباقين ولكن يشترط‬
‫أن تكون هذه الطائفة ممن تحقق بهم الكفاية في إقامة هذه الشعيرة ‪.‬‬
‫على أن األمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون فرض عي ٍن في بعض الحاالت ‪.‬‬
‫إض ٍ‬
‫افة إلى أن اإلنك ار القل بي وكراهية المنكر والق ائمين به ‪ ،‬هو ف رض عين على الجميع‬
‫باتفاق العلماء وال يعذر أحد بتركه ألنه ممكن لكل ٍ‬
‫أحد ‪.‬‬
‫وهذه الحاالت هي‪:‬‬
‫معين ‪ ،‬فهو ٍ‬
‫حينئذ مطالب باإلنكار وجوب اً ‪،‬‬ ‫‪ – 1‬إذا لم يعلم بالمنكر غير شخص‬
‫ألن الكفاية التقوم إال به ‪.‬‬
‫‪ – 2‬إذا لم يس تطع تغي ير المنكر إال ش خص بعينه ‪ ،‬فمثالً قد تش يع بعض‬
‫المنك رات في وجه اء المجتمع وأعيانه وكبرائه ‪ ،‬فال يس تطيع كل أح ٍد من المس لمين أن‬
‫ينكر عليهم ‪ ،‬فيتعين ٍ‬
‫حينذ على من يستطيع اإلنك ار من ذوي المكانة العلمية واالجتماعية أن‬
‫ينكر عليهم ‪.‬‬
‫‪ – 3‬يجب األمر ب المعروف والنهي عن المنكر على من واله اهلل أم را من‬
‫المس لمين ‪ ،‬ب ً‬
‫دء ا بالس الطين ال ذين ائتمنهم اهلل تع الى على األمة ‪ ,‬فإنما ش رع‬ ‫أم ور‬
‫اإلسالم الوالية العظمى لتحقيق األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬وكل مصلحة تحتاجها‬
‫األمة فهي من المع روف وكل مفس دة لألمة فهي من المنكر ‪ ،‬س واء ك ان ذلك في األم ور‬
‫الدينية أو الدنيوية ‪.‬‬

‫______________________________________________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم ( ‪. ) 49‬‬

‫ثم كل مسلم حسب واليته ومسؤوليته ‪ ،‬فالوزير مسؤول عن رعيته ومدير الدائرة الحكومية‬
‫مس ؤول عن رعيته وم دير المؤسسة مس ؤول عن رعيته والم درس مس ؤول عن رعيته واألب‬
‫مس ؤول عن أس رته ورجل الحس بة المكلف من قبل والة األم ور مس ؤول عن القي ام بمهمته‬
‫بقدر المستطاع ‪.‬‬
‫وهك ذا نجد أن كل ف ٍ‬
‫رد في األمة مط الب ب أن يك ون قيم اً على من واله أم رهم ؛ من أدنى‬
‫ٍ‬
‫مسؤولية إلى أعلى مسؤولية ‪.‬‬

‫وها هنا قض ية خط يرة ال بد من إثارتها وهي أن كث يراً من الن اس اعت ادوا أن يلق وا بمس ؤولية‬
‫إنك ار المنكر على غ يرهم ‪ ،‬فيلومون – مثالً – العلم اء واألم راء ألنهم يس تطيعون تغي ير‬
‫المنكر ‪ ،‬ويتنص لون هم من المس ؤولية تمام اً ولو اطلعت على بيت أح دهم فقد تجد فيه‬
‫عش رات المنك رات لم يغيرها وكأنه ينتظر أن ي أتي العلم اء إلى بيته ليغيروها ‪ ,‬وه ذه الع ادة‬
‫فرد في المجتمع مسؤول عن إصالح ما يستطيع إصالحه ألنه جزء‬ ‫خطيرة وسيئة فإن كل ٍ‬
‫من المجتمع يجب عليه القيام بمهمته ‪ ،‬كما يجب على العلماء وغيرهم أداء مهمتهم ولو أن‬
‫كل مس لم ق ام بما عليه من األمر ب المعروف النهي عن المنكر لص لحت األمة وأفلحت ‪،‬‬
‫وظهر المعروف واختفى المنكر ‪.‬‬
‫أما إذا ظلت تتدافع القيام بهذا الواجب ‪ ،‬فالعامة تلوم العلماء وتطالبهم باإلصالح ‪ ،‬والعلماء‬
‫فئة في المجتمع تلقي بالمسؤولية على غيرها فيظل‬ ‫يلومون العامة على خذالنهم لهم ‪ ،‬وكل ٍ‬
‫المنكر قائماً ممكناً إلى يوم يبعثون ‪.‬‬

‫مراتب االنكار‬
‫بين الرسول صلى اهلل عليه وسلم مراتب االنكار بقوله (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده‬
‫فإذا لم يستطع فبلسانه فإذا لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف اإليمان )) (‪. )1‬‬
‫إذن ف المطلوب من المس لم حين ي رى المنكر أن يغ يره بحسب المس تطاع مت درجاً في ذلك‬
‫من أقوى صور اإلنكار إلى ما هو دونها ‪.‬‬
‫أما من حيث الواقع العملي فالذي يحدث أوالً هو تأثر القلب ونفوره وإنكاره للمنكر عندما‬
‫يراه ثم يرسل القلب األوامر إلى اللسان لينطق بإنكار ذلك المنكر على من واقعه واقترافه ‪.‬‬
‫فإن امتثل وأقلع عن منكره فهذا هو المراد وإال كان االنتقال إلى التغيير باليد ‪.‬‬

‫________________________________________________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم (‪ )49‬وأبو داود ( ‪ )1140‬والترمذي (‪ )2173‬والنسائي ‪ 8/111‬وابن ماجه ( ‪. ) 4013‬‬
‫إذن فأول ما يحدث هو التغيير بالقلب ثم التغيير باللسان ثم التغيير باليد من حيث الواقع ‪.‬‬
‫لكن الم راد من المس لم هو أن يغ ير بي ده إن اس تطاع ‪ ,‬ف إن عجز لجأ إلى التغي ير باللس ان ‪،‬‬
‫فإن عجز كفاه أن يغير بقلبه ‪ ،‬وذلك بأن يكره ذلك المنكر ويبغضه ‪.‬‬
‫واإلنك ار ب القلب ف رض عين على جميع المس لمين ‪ ،‬وفي جميع األح وال ألن القلب ال‬
‫سلطان ٍ‬
‫ألحد من الناس عليه حتى يستطيع منع صاحبه من مقت المنكر وكرهه ‪.‬‬
‫وله ذا ق ال الن بي ص لى اهلل عليه وس لم (( ‪ ..‬ف إن لم يس تطيع فبقلبه وذلك } أي التغي ير‬
‫بالقلب{ أضعف اإليمان )) وفي حديث ابن مسعود ‪ (( :‬وليس وراء ذلك من اإليمان حبة‬
‫خرذل )) (‪)1‬‬
‫أي أن ال ذي ي رى المنكر فال يتح رك قلبه ببغض ذلك المنكر واالمتع اض له ‪ ،‬ليس في قلبه‬
‫إيمان البتة ‪ ،‬فضالً عمن يرى المنكر فيسر به ويفرح له عياذاً باهلل تعالى ‪.‬‬
‫وها هنا أمر جدير بالوقوف عنده ‪ ،‬وهو ( التلميح والتصريح في اإلنكار ) فإن االسالم دعا إلى‬
‫التدرج في هذا األمر ‪ ،‬بحيث يكتفي المنكر بالتلميح إن كان التلميح مجدياً ‪ ،‬فإن لم يغن شيئاً‬
‫انتقل المنكر إلى التصريح ‪.‬‬
‫فقد كان الرسول عليه الصالة والسالم ‪ ،‬يقول عندما يرى منكراً (( ما بال أقوام يفعلون كذا‬
‫وك ذا؟ )) (‪ )2‬ألن هذا التلميح العام كان يكفي في كث ير من األحيان لرد ص احب المنكر عن‬
‫منكره لكنه صلى اهلل عليه وسلم كان إذا وجد أن الموقف يحتاج إلى التصريح فإنه يصرح ففي‬
‫الص حيحين عن أبي هري رة رضي اهلل عنه ق ال‪ :‬أمر رس ول اهلل ص لى اهلل عليه وس لم بالص دقة ‪,‬‬
‫فقيل ‪ :‬منع ابن جميل‪ ,‬فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم (( ما ينقم ابن جميل إال أنه كان فقيراً‬
‫فأغناه اهلل ورسوله ))(‪ )3‬هكذا صرح النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬بابن جميل ‪ ،‬ألنه أصر على‬
‫منع الزكاة ‪ .‬وكان الرسول عليه الصالة والسالم يصلي مرة بأصحابه ‪ ،‬فلما انصرف من صالته‬
‫ق ال (( ي افالن أال تحسن ص التك ! أال ينظر أح دكم كيف يص لي ! إني أراكم من وراء ظه ري‬
‫كما أراكم من أمامي ))(‪. )4‬‬
‫والشواهد على سلوكه صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬مسلك التلميح إذا أغنى والتصريح إذا دعت إليه‬
‫الحاجة ؛ كثيرة ومشهورة ‪.‬‬

‫________________________________________________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم (‪ )2( )50‬البخاري ( ‪ ) 5750‬و ( ‪ )3( ) 717‬البخاري( ‪ ) 1399‬ومسلم (‪ )4( )983‬مسلم (‪)423‬‬

‫وعلى ذلك ف إن ال واجب على المس لم إذا وجد إنس اناً مج اهراً بالفس اد مثل ال ذي يكتب‬
‫المق االت المض للة والمؤلف ات الهدامة ال تي تح ارب اإلس الم وتطعن في أهل االس تقامة وتش وه‬
‫ت اريخ األمة المجيد ‪ ,‬أق ول إن ال واجب على المس لم أن يعلن اإلنك ار عليه وأن يفض حه بين‬
‫الناس ‪.‬‬
‫على أن ه ذا ال ترتيب في م راتب الإنك ار ليس مط رداً دائم اً ‪ ،‬فثمة ح االت يتطلب األمر فيها‬
‫المب ادرة باإلنك ار باليد ف وراً دون انتظ ار وليس من المعق ول أن يقف المس لم على رجلين‬
‫مش تبكين في قت ال ومض ٍ‬
‫اربة ‪ ،‬ثم يقف ليلقى عليهما محاض رةً في حق وق المس لم على أخيه ‪،‬‬
‫وحرمة دم المس لم وماله وعرضه ! بل بجب أن يت دخل ف وراً لفك الخص ومة بينهما م تى ك ان‬
‫ذلك ممكناً له ‪.‬‬
‫فاحشة أو منك ٍر يتطلب القيام بتغييره ٍ‬
‫بصفة عملية مع القول أو بدونه ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وهكذا لو وقف على‬
‫قضية االنكار باليد‬

‫اإلنك ار باليد هو المرتبة األولى من م راتب اإلنك ار ‪ ،‬كما ق ال الن بي ص لى اهلل عليه وس لم‬
‫(( من‬
‫رأى منكم منك راً فليغ يره بي ده …)) ‪ .‬ويك ون التغي ير باليد ب إتالف المنكر إما بإحراقه أو‬
‫هدمه أوغ ير ذلك‪ ,‬واألصل أن االنك ار باليد مهمة الجهة ال تي ف وض إليها ذلك ‪ ,‬لكن ه ذه‬
‫الجهة ال توجد أص الً في كث ير من البالد وقد توجد ولكنها ال تق وم بعملها ومس ؤليتها‬
‫وحينئ ٍذ يج وز اإلنك ار باليد لألف راد المص لحين في المجتمع كما ص رح ب ذلك أهل العلم ‪,‬‬
‫ولكن بأربعة شروط ‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬ما سبق ذكره ‪ :‬فقدان السلطة والجهة المسؤولة التي يفوض إليها القيام باإلنكار‬
‫باليد‪.‬‬
‫ثانيها‪ :‬ظه ور المص لحة الراجحة على المفس دة ‪ ،‬أما إذا ظهر للمنكر أن اإلنك ار باليد قد‬
‫ي ؤدي إلى مفس دة أك بر ‪ ،‬مثل التض ييق على المص لحين الغي ورين أو انتش ار المنكر واتس اع‬
‫دائرته ففي هذه الحال يمنع اإلنكار باليد ‪.‬‬
‫ثالثها‪ :‬أن يتعذر ذلك المنكر بغير اليد أي أن المن ِك رَ حاول التغيير بلسانه فلم يستطع فله‬
‫حينذاك أن يغير بيده ‪.‬‬
‫رابعها‪ :‬وهو شرط مهم مراجعة العلماء في ذلك ‪ ،‬فإن بعض الشباب – بما أعطاهم اهلل من‬
‫الحيوية والغيرة والتوقد والقوة ‪ -‬إذا رأى منكراً فار الدم في عروقه ولجأ إلى التغيير بيده‬
‫ب دون أن يراجع أهل العلم الع املين ال ذين يع رف عنهم أنهم بال ريب مع األمر ب المعروف‬
‫والنهي عن المنكر والدعوة والصالح ‪.‬‬
‫ومراجعة أولئك العلماء تنطوي على مصالح عديدة ‪.‬‬
‫‪ :‬التيقن من أن نفع هذا الإنكار أكبر من ضرره ‪ .‬ذلك أن نظر الغيور‬ ‫المصلحة األولى‬
‫المنفعل قد يكون قاصراً ‪ ،‬لكن العالم قد يكون أبعد نظراً ‪.‬‬
‫المصلحة الثانية ‪ :‬أن الذي ينكر باليد قد يتع رض ألذى في نفسه أو أهله أو وظيفته ‪ ،‬أو‬
‫حينئذ إلى وقوف أهل العلم معه ‪ ،‬فإذا كان يصدر عنهم فهذا يضمن له‬‫ٍ‬ ‫نحو ذلك فيحتاج‬
‫مساندتهم له ‪.‬‬
‫‪ :‬أن هذا يدعم أهل العلم ويقوي مكانتهم ويضاعف تأثيرهم في تغيير‬ ‫المصلحة الثالثة‬
‫المنكرات فإن من أهم دعائم إنكار المنكرات وجود العالم الذي يلتف الناس حوله فيكسب‬
‫بذلك منـعة وقوة تمكنه من اإلنكار وتجعل كلمته مسموعة وصوته موثراً ‪.‬‬
‫فإذا توافرت هذه الشروط وحرص األفراد على مراعاة هذا الفقه آتى اإلنكار باليد ثماره ‪،‬‬
‫مع السالمة من المحاذير والسلبيات ‪.‬‬
‫أما التعجل واالس تجابة النفع االت النفس غ ير المنض بطة واالن دفاع وراء العواطف المج ردة‬
‫ال يثمر إال الفشل للمهمة العامة ال تي ن ذر المص لح نفسه لها إض افةً إلى الفشل الف ردي‬
‫للش خص ذاته ب أن ي ؤول أم ره غالب اً إلى ن وع من القن وط أو اإلحب اط أو االس تيئاس وت رك‬
‫العمل واهلل المستعان ‪.‬‬

‫وسائل األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬

‫الوسائل كثيرة ال تنحصر في مجال أو نمط معين ومتى ما كان في قلب المرء اهتمام بأمر‬
‫الدين وحرقة لإلسالم وحرص على مستوى األمة فإن هذا الشعور يدفعه إلى ابتكار وسائل‬
‫مختلفة يستعين بها على إقامة هذه الشعيرة وقد قيل ( الحاجة أم االختراع )‪.‬‬
‫لكن هذه الوسائل يجب أن يتحقق فيها شرطان ‪:‬‬
‫المنك رُ وسيلة محرمة ليزيل بها المنكر ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫مباحة ‪ ،‬فال يجوز أن يستخدم‬ ‫‪ – 1‬أن تكون‬
‫فإن النجاسة ال تغسل بالنجاسة ‪.‬‬
‫المقصود ‪ ،‬بحيث يتم بها إزالة المنكر ‪ ،‬وتحقيق المع روف وعلى ذلك‬ ‫‪ – 2‬أن تؤدي‬
‫فإذا كانت الوسيلة غير مجدية فال داعي الستخدامها فإذا جزم بأنها تؤدي الغرض أو غلب‬
‫على ظنه ذلك كان عليه أن يتوسل بها إلى تحقيق المقصود ‪.‬‬
‫* ومن أبرز أمثلة الوسائل التي ينبغي استعمالها في مجال األمر والنهي ‪:‬‬
‫الكلمة الهادفة ‪:‬‬ ‫‪.1‬‬
‫سواء كانت تلك الكلمة محاضرة أو درس اً أو خطب ةً أو موعظ ةً بعد الصالة أو ما شابه ذلك‬
‫فمجاالت الكلمة واسعة جدا ‪ .‬وها هنا أمر جدير وهو أسلوب الكلمة ‪ ,‬إذ ال بد أن يكون‬
‫مناسباً فيراعي مثالً أال تكون الكلمة ضربةً في وجه صاحب المنكر تصفعه بها دون مقدمات‬
‫وال تمهيدات ‪.‬‬
‫خذ على س بيل المث ال ‪ :‬المنك رات الظ اهرة المنتش رة بين الن اس كالت دخين وإس بال الثي اب‬
‫وحلق اللحى … الخ ‪.‬‬
‫إن هجوم اإلنسان على مراده مباشرة قد يؤدي إلى نتيجة عكسية وقد يخرج الناس من جراء‬
‫ذلك بانطباع ال يخدم قضية األمر بالمعروف النهي عن المنكر ‪.‬‬
‫لكن لو أنك بدأت حديثك بقضية أكبر من هذه ؛ بقضية التشبه بالمشركين ونهي اإلسالم‬
‫عن ذلك وعظم خطورته على دين الم رء وذك رت األدلة الش رعية واألمثلة الواقعية ل ذلك‬
‫وس قت طرف اً من كالم الم ؤرخين ‪ ،‬ومن كالم الب احثين المعاص رين وت درجت في ع رض‬
‫القض ية ح تى تصل إلى ضرب بعض األمثلة للتش به بالمش ركين من الواقع وت أتي بقض ية حلق‬
‫اللحية مث االً ل ذلك وت دعم كالمك عنها بما ورد من نص وص في األمر بإعف اء اللحى كقوله‬
‫صلى اهلل عليه وسلم (( وفروا اللحى )) (‪ )1‬ومضيت في بسط القضية وعرضها على هذه‬
‫الش اكلة فإنك إن وفقت في ذلك الع رض اللبق ف إن الحاض رين المس تمعين إليك وإن ك انوا‬
‫حليقي اللحى فسوف يتقبلون النصيحة وتدخل قوبهم ‪.‬‬

‫________________________________________________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري ( ‪ ) 5553‬ومسلم ( ‪. )259‬‬

‫وقد وقع لي م رة أن زرت مدرسة في إح دى من اطق ه ذه المملكة ‪ ،‬ف رأيت في المدرسة‬


‫كث يراً من المنك رات ‪ ،‬ف آليت على نفسي أن أق ول ش يئاً عن ذلك ‪ ،‬وفعالً تح دثت إليهم‬
‫بكالم عام عن الشباب ومشكالتهم ‪ ،‬وخطط األعداء الغربين للقضاء على الشباب‬‫فبدأت ٍ‬
‫ح تى ارت اح الحاض رون إلى ه ذا الكالم ‪ ،‬وأحس وا أنه كالم يحت اجون إلى مثله وربما لم‬
‫يسمعوه قبالً ألن المنطقة نائية ‪.‬‬
‫بعد هذا تكلمت عن االعتزاز باإلسالم وأن المسلم هو األعلى في عقيدته وسلوكه ومنهجه‬
‫وتاريخه ‪ ،‬وذك رت أن المس لم العزيز الع الي ال يقلد الك افر الن ازل كما أن الكب ير ال يقلد‬
‫الصغير والمدرس ال يقلد الطالب وإنما الذي يحدث هو عكس ذلك ‪ ،‬فالصغير يقلد الكبير‬
‫والطالب يقلد أستاذه والمغلوب يقلد المنتصر ‪.‬‬
‫ثم انتقلت إلى الح ديث عن التش به بالمش ركين ‪ ،‬وما ورد فيه من نص وص ‪ ،‬ثم أدخلت كل‬
‫المنكرات التي رأيتها في المدرسة في باب التشبه وتحدثت عنها ‪.‬‬
‫فلما انتهيت خرج معي أحد المدرسين ‪ ،‬وحدثني قائالً ‪ :‬جزاك اهلل خيراً‪ ,‬إنك أنكرت علينا‬
‫ولم نجد في نفوس نا من ه ذا اإلنك ار ش يئاً ‪ ،‬لكن فالن اً من الن اس – ذكر شخص اً – على‬
‫ال رغم من ص غر س نه وقلة خبرته يص عد المن بر ويتكلم بكلم ات مبتذل ٍة عن بعض ه ذه‬
‫المنك رات ‪ ،‬تك ون س بباً في نف ور الن اس وع زوفهم عن المتح دث وخطبته ‪ ،‬وربما أدى إلى‬
‫إصرارهم على ما هم عليه واستمرائهم لما يفعلون ‪.‬‬
‫وقد يس تفتح المتح دث كلمته بمقدم ٍة عن المقاصد العامة للش ريعة وحفظها لل دين وللنفس‬
‫والع رض والم ال والنسب والعقل ليسترسل بعد ذلك في أمثل ٍة معني ٍة مقص ٍ‬
‫ودة مما حرمه‬
‫اإلسالم ‪ ،‬رعاية لهذه الضرورات المحفوظة المصونة ليكون الكالم أجزل وأمتن وأوقع في‬
‫النفس ‪ ،‬وأدعى للقبول ‪.‬‬
‫ه ذا إلى أن ال داعي ليس يس وغ له أن يجعل كل حديثه نق داً وتخطئ ةً ال ي رى فيهم حس نةً‬
‫تستحق اإلشادة ‪ ،‬وقد قال الرسول صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬لألشج ‪ ،‬أشج عب دالقيس ‪ (( :‬إن‬
‫فيك خصلتين يحبهما اهلل ‪ :‬الحلم واألناة )) (‪. )1‬‬

‫________________________________________________‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم (‪)18‬‬

‫وأث نى عليه الص الة والس الم على جماع ات من أص حابه كخالد بن الوليد ‪ ،‬عب دالرحمن بن‬
‫ٍ‬
‫عوف ‪ ،‬وطلحة وسواهم كثير فالثناء على اإلنسان – فرداً أو جماع ةً – بما هو فيه لغرض‬
‫شرعي صحيح أمر ال غبار عليه ‪.‬‬
‫صد على حس ٍ‬
‫نات ل دى المنص وح – ف رداً‬ ‫فال ب أس أن ي زين الداعية نص حه بثن ٍاء جمي ٍل مقتـ ٍ‬
‫أوجماعة ‪ -‬يكون في ضمنها دعوة له إلى نشدان الكمال البشري الممكن له ‪.‬‬
‫وال بأس أن يتعاهدهم بالنصح بين حين وآخر ‪ ،‬لئال يملوا ويسأموا ‪ ،‬وال يحشد لهم كل ما‬
‫ٍ‬
‫واحدة !‪.‬‬ ‫ينتقده عليهم في ٍ‬
‫قعدة‬
‫الكتاب والكتيب ‪:‬‬ ‫‪.2‬‬
‫وذلك بالكتابة والت أليف في إنك ار ش ٍ‬
‫يء من المنك رات ‪ ،‬أو باإلس هام في توزيع ما كتب في‬
‫ذلك فكل بحسب طاقته ‪ :‬ف إن كنت ط الب علم تس تطيع الكتابة في موض وع ما ‪ ،‬ف اكتب‬
‫وأنكر المنكر وبين للن اس الخ ير من الش ر‪ ،‬واسع في طباعة ما كتبت ونش ره ‪ .‬وإن لم‬
‫تس تطع ذلك فأس هم في توزيع الكت اب عن طريق ب ذل الم ال ‪ .‬ف إن لم يكن عن دك م ال ‪،‬‬
‫فش ارك في عملية الكت اب بجه دك الب دني في المؤسس ات والم دارس والمس اجد وال دوائر‬
‫وغيرها ‪.‬‬
‫وهك ذا يق وم كل ش خص بمس ئوليته في ه ذا المج ال بحسب قدراته وإمكاناته ‪ ،‬ولو كل‬
‫مسلم غيور قام بواجبه – أو بعضه ‪ -‬لكان معنى ذلك أن الدعاة يملكون أعظم مؤسسات‬
‫التوزيع في العالم ‪ ,‬ولكانت الدعوة اإلسالمية تملك من المراسلين جموع اً غفير ًة ال تملكها‬
‫دعوة أخرى في الدنيا كلها ‪.‬‬
‫النشرة الصغيرة ‪:‬‬ ‫‪.3‬‬
‫وهي تس مى المطوية ‪ ،‬وتتك ون من بضع ص فحات تع الج موض وعاً معين اً ومن ميزاتها أن من‬
‫الس هل أن يقرأها الم رء على عجال ٍة فحسن أن يس تفيد ال ذي ي أمر ب المعروف وينهى عن‬
‫المنكر من هذه الوسيلة ‪ ،‬ويشارك في توزيعها ونشرها لتوعية الناس ‪.‬‬
‫الشريط ‪:‬‬ ‫‪.4‬‬
‫س واء بإع داد ش ٍ‬
‫ريط يحت وي على معالج ٍة لبعض المنك رات أو باإلس هام في نشر ه ذا الن وع‬
‫من األشرطة بقدر اإلمكان ‪ ،‬خاصة أن أكثر البيوت اليوم – بل كلها – ال تخلو من أجهزة‬
‫تس جيل كما أن بإمك ان المص لح أن ينسخ من الش ريط نس خاً عدي دة ‪ ،‬ويوزعها ليس تفيد‬
‫الن اس مما فيها من الخ ير ‪ ،‬وأقل ذلك أن ي دفع الش ريط بعد اس تماعه إلى آخر يس معه‬
‫ويس تفيد منه ‪ ،‬إن ط الب المدرسة االبتدائية يس تطيع أن ي وفر من قيمة الش اي يش تريه من‬
‫المقصف المدرسي ما يشتري به كتيباً أو شريط في الشهر أو في األسبوع ‪.‬‬
‫الجريدة ‪:‬‬ ‫‪.5‬‬
‫الجري دة واس عة االنتش ار ‪ ،‬فقد يطبع من بعض ها مائة ألف نس خة ‪ ،‬أو مائتا أل ٍ‬
‫ف ‪ ،‬في الي وم‬
‫الواحد فينبغي الكتابة فيها إلنك ار بعض المنك رات خاصة إذا ك ان المنكر قد انتشر في‬
‫الجري دة نفس ها ‪ ،‬فال يكفي أن ت ذكر أن ه ذا منكر في مجلس يحت وي على فئ ٍة قليل ٍة من‬
‫الناس ‪ ،‬والجريدة قد قرأها مائة ألف أو يزيدون ‪ ،‬وإنما عليك أن تكتب مقال ةً وتراعي فيها‬
‫عدد من الناس ‪.‬‬‫قواعد النشر ‪ ،‬وتبعث بها إلى الجريدة لكي تنشر ويستفيد منها أكبر ٍ‬

‫الهاتف ‪:‬‬ ‫‪.6‬‬


‫فباإلمك ان أن تتصل بص احب المنكر وت أمره ب المعروف وتنه اه عن المنكر ‪ ،‬أو تتصل بمن‬
‫يستطيع تغيير المنكر ؛ من علماء ومسؤولين ‪ ،‬ووجهاء ‪.‬‬
‫أرأيت حين تعلن جهة عن عمل ال يرضي اهلل ‪ ،‬فتنه ال عليها االتص االت الهاتفية من أط راف‬
‫شتى أال يكون ذلك موثراً في دفع المنكر !‬
‫أذكر أن ني اتص لت بمؤسسة أعلنت عن حفل مختلط في إح دى ال دول المج اورة ‪ ،‬فع رفت‬
‫المسؤول بنفسي ‪ ،‬ومكان اتصالي ‪ ،‬وكلمته عن اإلعالن المذكور ‪ ،‬فاعتذر ‪ ،‬وقال إن هذا‬
‫اإلعالن ن زل بطريق الخطأ ‪ ،‬وقد أعلنا في الجري دة في الي وم الت الي نق داً له ذا اإلعالن ربما‬
‫لم يتسن لك االطالع عليه ‪ ،‬وإن الن اس قد اتص لوا بنا من كل مك ان ‪ ،‬ح تى كب ار العلم اء‬
‫والمشايخ اتصلوا واستنكروا األمر‪ ،‬وقد بلغناهم بحقيقة األمر ‪ ،‬ونحن نشكركم … ألخ‬
‫والش اهد من ذلك أننا حين نتصل على ص احب منك ٍر ‪ ،‬فإننا ب ذلك نفهم الن اس م اذا يريد‬
‫المجتمع ‪.‬‬
‫واله اتف – من خالل التجربة – وس يلة فعالة ج داً ‪ ،‬وم وثرة في ه ذا المج ال على أنها ال‬
‫اء فكل ما في األمر مبلغ من الم ال مقابل ه ذه المكالمة يك ون في س بيل‬
‫تكلف جه داً أوعن ً‬
‫اهلل وال يضيع ‪ ،‬وبمجرد رفع السماعة وإدارة قرص الهاتف تجد أنك إنسان إيجابي ومؤثر ‪.‬‬
‫‪ .7‬الرسالة الشخصية ‪:‬‬
‫وما أبلغ أثر الرس الة الشخص ية على قارئها م تى كتبت بأس ٍ‬
‫لوب لب ٍق مه ذب يخاطب مكامن‬
‫العاطفة في النفس البشرية ‪.‬‬
‫إنها ح ديث مباشر ه ادىء ‪ ،‬يعطي اآلخر فرصة التفك ير والمراجعة والتص حيح ‪ ،‬وهو بعيد‬
‫عن الكلم ات ال تي قد ي زل بها اللس ان من دون قص ٍد ‪ ،‬إذا إن الكتابة تمنح ال داعي فرصة‬
‫التفكير فيما يكتب ويسطر ‪.‬‬
‫وح تى لو خ اطبت قطاع اً عريض اً من الن اس ‪ ،‬طباعة األغ اني ‪ ،‬أو متع اطي الربا ‪ ،‬أو م روجي‬
‫األفالم الهابطة ‪ ،‬أو أصحاب المحالت التجارية ‪ ،‬أو أي طبقة من طبقات المجتمع ‪.‬‬
‫ولو خاطبتهم برسالة مطبوعة على جهاز (( الكمبيوتر )) تسجل على كل نسخة اسم المحل‬
‫الدي توجه إليه لكان لها وقع خاص موثر‪ ،‬أعظم من وقع الكتاب والشريط الذي ال يخاطب‬
‫المعني مباشرة ‪.‬‬
‫‪ - 8‬مقاطعة صاحب المنكر ‪:‬‬
‫بحيث يتم االمتناع عن معاملة المكان أو المؤسسة التي يوجد فيها المنكر ‪.‬‬
‫ف بيوت الربا ال تي تج اهر بح رب اهلل تع الى وح رب رس وله ص لى اهلل عليه وس لم (( يا أيها ال ذين‬
‫آمنو اتقو اهلل وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤم نين ف إن لم تفعل وا ف أذنوا بح ٍ‬
‫رب من اهلل‬
‫ورسوله )) ( سورة البقرة ‪ ) 279 – 278‬هذه البيوت من أين شبت وترعرعت وقويت ؟! اليس من أموال‬
‫المسلمين !!‬
‫والمجلة الماجنة ‪ ،‬ما ال ذي ض من لها االس تمرار وال رواج وال ثراء ‪ ،‬ح تى أص بحت ال تخ رج إال‬
‫في ورق صقيل وطباعة فاخرة ؟! أليس أموال المسلمين !!‬
‫وكل مؤسس ات الفس اد واالنح راف والرذيلة إنما كفل لها ال ذيوع والبق اء إقب ال الن اس عليها‬
‫وعلى ما تبثه من سموم ودعمهم لها بأموالهم ‪ ،‬من حيث يشعرون أو ال يشعرون ‪.‬‬
‫ولو أن المس لمين قاطعوها ‪ ,‬النتهت تلقائي اً ولوئ دت في مه دها ‪ .‬لكن الواقع المر أن أحد‬
‫المس لمين أجََّرها مق را ‪ ،‬واآلخر توظف فيها ‪ ،‬والث الث تعامل معها والرابع دعا إليها ‪ ..‬وهك ذا‬
‫ح تى ص ار المجتمع – من حيث يش عر أو ال يش عر – ينفخ روح الحيوية والق وة في مثل ه ذه‬
‫المؤسس ات‪ ،‬ثم يع ود الن اس يمتعض ون منها ويس تاؤون ‪ ،‬وال نق ول لهم إال ( ي داك أوكتا وف وك‬
‫نفخ ) ‪.‬‬
‫على س بيل المث ال لو أن أح دنا دخل على ص احب تموين ات ي بيع ال دخان والمجالت الفاس دة‬
‫فقال له ‪ :‬يا أخي لماذا تبيع هذه المحرمات ؟ فسيقول لو لم أبعها لما عاملني الزبائن ‪ .‬فليرد‬
‫عليه قائالً ‪ :‬وهل أنا إال من الزبائن ‪ ،‬إني سأقاطع تمويناتكم إال أن تطهروها من هذه المحرمات‬
‫ان وث الث ورابع ‪ ..‬ويك ون لهم الموقف نفسه ‪ ،‬وبعد ذلك س تجد أن الرجل أخلى‬ ‫‪ .‬ثم ي أتي ث ٍ‬
‫محله من تلك المنكرات ‪ ،‬فإذا جاءه شخص يبحث عن ٍ‬
‫شيء منها ‪ ،‬قال له ‪ :‬إن الزبائن رفضوا‬
‫أن يشتروا مني وعندي هذه األشياء ‪.‬‬
‫وهكذا تؤدي هذه الوسيلة مفعولها إذا تعاون أهل الخير ‪ ،‬وأثبتوا وجودهم خاصة أن الناس ال‬
‫يزال فيهم خير كثير ؛ مما يجعل إمكان استجابتهم كبيراً بإذن اهلل تعالى ‪.‬‬
‫‪ .9‬التشهير ‪:‬‬
‫إذا ل زم األمر ودعا الموقف إلى اللج وء إلى التش هير ب المنكر وص احبه فال ب أس ‪ ،‬كما تق دم‬
‫معنا ذكر تصريح الرسول صلى اهلل عليه وسلم باسم ابن جميل وما فعل من منكر ‪.‬‬
‫والتش هير يأخذ ص وراً ش تى ‪ ،‬فليس بالض رورة أن يك ون التش هير إعالن اً على المن بر ‪ ،‬بل له‬
‫أساليب مختلفة ‪ ،‬ولنضرب لذلك مثلين ‪ ،‬أحدهما من القديم واآلخر من الحديث ‪.‬‬
‫المثال األول ‪:‬‬
‫ك ان ألحد الم ترفين في بغ داد بيت تعلو منه أص وات الغن اء والط رب والمزام ير واللهو ‪،‬‬
‫فطرق عليه بعض الصالحين الباب ‪ ،‬فلم يستجب ‪ ،‬وح اولوا ثانية وثالثة ‪ ،‬فلم يس تجيب لهم‬
‫‪ .‬وك ان في بغ داد ق اريء بك اء م ؤثر حسن الص وت ‪ ،‬فج اء في أحد األي ام – وك ان الن اس‬
‫مزدحمين في الشوارع ‪ -‬فجلس على عتبة هذا البيت الذي تعلو منه أصوات المنكرات ‪،‬‬
‫وأخذ بص وته الع ذب الجه وري يرتل الق رآن ‪ ،‬ف اجتمع الن اس إليه ‪ ،‬وامتأل الش ارع بهم ‪،‬‬
‫وعلت أصواتهم بالبكاء والنشيج ‪،‬حتى سمعهم الذين بداخل الدار ‪ ،‬فخرج صاحبها وأخرج‬
‫معه الطبول وسائر آالت اللهو ‪ ،‬وسلمها للشيخ ليكسرها بيديه ‪.‬‬
‫وعلى ه ذه الش اكلة اس تطاع ه ذا الق ارىء أن يغ ير المنكر عن طريق التش هير ‪ ،‬ب دون أن‬
‫يتكلف وبدون أن يجافي الحكمة ‪.‬‬
‫المثال الثاني ‪:‬‬
‫ما فعله بعض الدعاة المعاصرين ‪ ،‬حين علم عن إقـامة حفل غنائي فيه لهو وطرب ومنكرات‪،‬‬
‫وعجز عن إيق اف ذلك المنكر ‪ ،‬فما ك ان منه إال أن أخ بر الص الحين ‪ ،‬بأنه س وف يقيم‬
‫محاض ر ًة في مك ان مج اور لمك ان المنكر ‪ ،‬وفعالً أق ام المحاض رة وأخذ يتكلم بكالم م ؤثر‬
‫جيد ‪ ،‬فانسحب الناس من مكان الحفل إلى المحاضرة ‪ ،‬وأوقف الحفل الغنائي ‪.‬‬
‫بطريقة ٍ‬
‫هادئة ال مأخذ فيها على المصلح ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وهكذا أوصد الباب في وجه المنكر وأهله‬
‫إن ه ذه الوس ائل ليست س وى أمثلة أو نم اذج لوس ائل أخ رى كث يرة يمكن أن يبتكرها‬
‫الغي ورون إلزالة المنك رات وتغييرها وحماية المجتمع منها ‪ ،‬وس يجد المص لح أمامه مج االً‬
‫رحب اً للتفك ير في تجديد الوس ائل وتنويعها م تى ك ان ج اداً منفعالً لقض ية اإلس الم ‪ ،‬متحلي اً‬
‫بالعلم الصحيح الذي يفتح أمامه آفاق المجهول ‪.‬‬

‫من الذي يقوم باألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟‬


‫ال شك أن جمه ور األمة إذا رأوا المنك رات غض بوا وغ اروا وف ار ال دم في ع روقهم ‪ ،‬ف إن‬
‫وجدوا المجال الطبيعي لإلنكار ؛ اكتفوا به ولم يزيدوا عليه ‪ .‬والمجال الطبيعي في نظري‬
‫أحد قناتين ‪.‬‬
‫‪ :‬الجهات الرسمية المسئولة عن األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪.‬‬ ‫القناة األولى‬
‫‪ :‬أن يس ير الن اس – إذا لم يج دوا القن اة األولى – خلف العلم اء ال ذين‬ ‫القن اة الثانية‬
‫يتحملون مهمة األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حينئد يعتمدون على اجتهادهم ‪ ،‬واالجتهاد‬ ‫فإذا لم يجد الناس إحدى هاتين القناتين فإنهم‬
‫قد يص يب وقد يخطىء ‪ ،‬وهم مع ذورون في ذلك ‪ ،‬ألن كف اليد والس كوت عن المنكر‬
‫بالكلية أمر ينافي طبيعة هذه األمة المجاهدة ‪ ،‬ويصادم المبادىء التي تنطلق منها في حياتها‬
‫‪ ،‬وضرره قد يكون أحياناً أعظم من الضرر الناجم عن اإلنكار غير المتأني الذي يحدث من‬
‫عامة الناس حين ال يجدون القناة السليمة المالئمة لإلنكار والتغيير ‪.‬‬
‫وأك ثر الن اس يش عرون بمفس دة اإلنك ار المتعجل وض رره ‪ ،‬ولكنهم ال يش عرون بمفس دة‬
‫السكوت على المنكرات ‪.‬‬
‫وكم رأينا من راف ٍع عقيرته بثلب إنكار يرى فيه نوع اً من التسرع وعدم االنضباط ‪ ،‬لكنه ال‬
‫يتح دث بالحم اس نفسه ‪ ،‬بل ربما ال يتح دث مطلق اً عن أولئك القاع دين ال ذين اس تمرؤوا‬
‫المنكر ورض وا به ‪ ،‬وس كتوا عليه ‪ ،‬مع أن خط أهم أعظم وأطم ‪ ،‬بل ربما يك ون تس رع‬
‫اآلخرين ناتجاً أصالً عن خطإ السكوت واإلغماض ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وصدق‪ ,‬قََّلت احتماالت حدوث إنكا ٍر متسرع غير متزن‬ ‫ٍ‬
‫وحكمة‬ ‫ومتى ُوِجَد المنكرون ٍ‬
‫بعلم‬
‫‪.‬‬
‫وم تى فقد اإلنك ار الش رعي الص حيح فعلى المجتمع – بعامته وعلمائه ودعاته – أن يك ون‬
‫مستعداً الحتماالت حدوث إنكا ٍر غير شرعي ‪ ،‬والسنة جارية ال تحابي أح ًدا وال تجامله ‪.‬‬
‫آداب األمر بالمعروف النهي عن المنكر‬

‫إن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يتعامل مع نفوس بشرية ‪ ،‬فل ذلك ال بد أن يتحلى‬
‫بصفات معينة ‪ ،‬تيسر له المضي في الطريق وتحميه من الشطط بإذن اهلل ‪.‬‬
‫وأهم تلك الصفات ‪:‬‬
‫– العلم ‪ :‬إذ ال بد أن يعلم أن هذا منكر ؛ لينكره ‪ ،‬وأن ذاك معروف ؛ لي أمر به ‪ ،‬وأن‬ ‫‪1‬‬
‫يعرف وجه كون هذا منكراً وهذا معروفاً ‪ ،‬وأن يعلم الطريقة المثلى لألمر والنهي ‪.‬‬
‫وأما الذي ينكر عن جهل فقد يفسد أكثر مما يصلح وإنك لترى كثيراً من الجهال ينكرون‬
‫م الم ي ألفوه ‪ ،‬وإن ك ان معروف اً في الحقيقة ‪ ،‬ومن أمثلة ذلك أني ص ليت الفجر يوم اً من‬
‫األي ام إلى ج وار أحد الع وام ‪ ،‬فبعد أن تنفلت راتبة الفجر ‪ ،‬وتن اولت المص حف ألق رأ ش يئاً‬
‫من الق رآن ؛ ق ال لي ‪ :‬ال ما يص لح ه ذا ‪ ،‬ال بد إذا انتهيت من النافلة أن تس لم على من هو‬
‫على يمينك ‪ ،‬ثم تسلم على الذي يسارك ثم ترفع يديك وتدعو بما تريد ‪ ،‬ثم تقرأ القرآن ‪.‬‬
‫فقلت له ‪ :‬س بحان اهلل هل تعلم دليالً على مش روعية س الم اإلنس ان بعد النافلة على من هو‬
‫على يمينه وعلى شماله ؟ فقال ‪ :‬ال واهلل ‪ .‬قلت ‪ :‬هل تعلم دليالً على مشروعية واستحباب‬
‫رفع اليدين بعد النافلة ؟ قال ‪ :‬ال ما أعلم ‪ ,‬فقلت ‪ :‬لماذا تنكر إذن ؟ فقال ‪ :‬علمني جزاك‬
‫اهلل خ يراً فأخبرته أن ه ذه األم ور ليست س نة ينكر على تاركها ‪ ،‬بل هي في ه ذا الموضع‬
‫بال ذات – بعد الص الة فريضة أو نافل ةً – غ ير مش روعة ومن أهل العلم من حكم بب دعيتها ‪،‬‬
‫وأما أصل السالم فمشروع ‪ ،‬وأصل رفع اليدين بالدعاء مشروع ولكن التزامه بعد الصلوات‬
‫النوافل هو محل النظر ‪.‬‬
‫إذن فال بد أن يكون ِ‬
‫المنكر عالماً على األقل بما ينكر وبما يأمر به ‪.‬‬
‫والحلم ‪ :‬ال بد لآلمر الن اهي أن ي روض نفسه على الرفق والحلم ‪ ،‬ف إن‬ ‫‪ – 2‬الرفق‬
‫التش نج واالنفع ال قد يس بب إخفاق اً في إنك ار المنكر بل قد ي ؤدي إلى مض اعفته واتس اع‬
‫دائرته ‪ .‬وال ريب أن كث يراً من المنك رات إذا رآها الغي ور فإن ه يغضب ويش تد ‪ ،‬مهما ك ان‬
‫فيه من االنضباط فليحرص على إلجام نفسه بلجام الرفق والحلم ‪ ،‬ومراعاة المصالح ‪.‬‬
‫كما أن ِ‬
‫المنكر قد يجد من المن َكر عليه فظاظة أو ردا جارح اً فال بد أن يقابلها بص د ٍر رحب‬
‫انفعال ‪ ،‬وأن يرد عليه بابتسامة لطيفة ‪ ،‬أو بطرفـ ٍة تمتص الغضب ‪ ،‬وتفوت الفرصة‬
‫ٍ‬ ‫‪ ،‬وبدون‬
‫على صاحب المن َكر أن يستفز ِ‬
‫المنكر ‪.‬‬
‫‪ :‬أي أن يك ون ِ‬
‫المنك ُر ع ادالً ‪ ،‬فال يجور على ص احب المن َكر ؛ فينسى‬ ‫‪ – 3‬الع دل‬
‫فضائلـه ويضخم سيئاته وإنما يشهد له بحسناته وفضائله ويذكرها له فيأتي مثالً إليه ويقول‬
‫له ‪ :‬يا أخي أنت رجل فيك خيركث ير ‪ ،‬أش هد أنك تحافظ على ص الة الجماعة ‪ ،‬ول ديك من‬
‫الفضائل كيت وكيت ‪،‬ولكن‪:‬‬
‫ولم َأر في عيـوب الـناس عيبـاً‬
‫كنـقص القـادرين على التـمام‬

‫فليتك يا أخي تترك المنكر الفالني ؛ حتى تزداد خيراً وفضالً ‪ ،‬وبعداً عن السيئات ‪.‬‬
‫وبه ذا األس لوب الع ادل تك ون فرصة القب ول واالس تجابة أعظم ‪ ،‬أما إذا تجاهل ِ‬
‫المنكر‬
‫حسنات المن َكر عليه ‪ ،‬وأهدرها ‪ ،‬فإن هذا يكون مدعاة للنفور وعدم القبول ‪.‬‬
‫والع دل ك ذلك مطل وب في ق ول الحق ولو على ِ‬
‫المنكر نفسه فيما لو ط الت القض ية ‪،‬‬
‫ووصلت إلى المحكمة ‪ ،‬ورفعت إلى القضاء ‪ ،‬فلينتبه لذلك ‪.‬‬
‫‪ :‬وقض ية الحكمة في ب اب األمر ب المعروف النهي عن المنكر تش كل على‬ ‫‪ – 4‬الحكمة‬
‫كث ي ٍر من الن اس س واء من المنك رين أو المن َكر عليهم ‪ .‬فبعض الن اس يظن أن الحكمة تع ني‬
‫ت رك األمر ب المعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬فلو قلت له ‪ :‬ي اأخي ب ارك اهلل فيك قم صل ؛‬
‫لق ال لك ‪ :‬س أقوم ‪ ،‬ولكن تكلم معي بحكمة ‪ .‬هك ذا يق ول ‪ ،‬مع أنك لم ت زد على أن‬
‫اء أخوي اً ‪ ،‬وحثثته على أداء فريضة ‪ .‬وفي مقابل ذلك قد ال يتح رى بعض‬ ‫وجهت إليه ن د ً‬
‫المسلمين الحكمة تحرياً كافياً ؛ فيكون موقفهم من المن َكر غير سليم ‪ ،‬إن سلباً وإن إيجاب اً‬
‫‪.‬‬
‫والحق أن الحكمة في كل شيء بحسبه ‪ ،‬كما قال الشاعر ‪:‬‬
‫ووضع الندى في موضع السيف بالعال‬
‫مضر كوضع السيف في موضع الندى‬

‫فمن الحكمة أن تس تخذم اللين في موض عه ‪ ،‬كما أن من الحكمة أن تس تخدم الش دة في‬
‫موضعها‪.‬‬
‫وللتمثيل لهذه القضية أذكر القصة التي في الص حيح ‪ ،‬قصة الغالم الذي من بني إسرائيل ‪،‬‬
‫وهي طويلة لكن الش اهد منها ما ج اء في آخرها من أن الغالم ق ال للملك بعد أن عجز‬
‫الملك عن قتله ‪ :‬هل تريد أن تع رف كيف تقتل ني ؟ ق ال ‪ :‬نعم ‪ .‬ق ال‪ :‬اص لبني إلى ج ذع‬
‫جرة ‪ ،‬ثم اجمع الن اس كلهم ثم خذ س هماً وقل ‪ :‬بسم اهلل رب الغالم وأرسل الس هم‬‫ش ٍ‬
‫فس يقتلني ‪ .‬ففعل الملك ذلك ‪ ،‬فق ال الن اس كلهم بص وت واحد ‪ :‬آمنا ب رب الغالم ‪ .‬آمنا‬
‫برب الغالم (‪. )1‬‬
‫هكذا ضحى الغالم بحياته ؛ ألن الحكمة – بال ريب ‪ -‬تكمن في هذا التصرف ‪ ،‬فإن موت‬
‫ذلك الف رد ت رتب عليه حي اة أل ٍ‬
‫وف مؤلفة من الن اس ‪ ،‬فبعد أن ك انوا أموات اً ص رعى للكفر‬
‫أصبحوا أحياء باإليمان باهلل تعالى ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حينئذ أن‬ ‫وقد اليستطيع المرء أن يقدر موطن الحكمة في معالجة بعض القضايا ‪ ،‬فينبغي له‬
‫يستش ير غ يره وأن يس تنير برأيه ليكمل النقص ال ذي قصر به عن إدراك موضع الحكمة‬
‫والموقف السليم ‪ ,‬وقد قيل‪ :‬الناس ثالثة ‪ :‬رجل كامل – أي الكمال النسبي – وهو الذي‬
‫له عقل ويستش ير ‪ ,‬ونصف رجل وهو ال ذي له عقل لكنه ال يستش ير ‪ ,‬والث الث ال ش يء ال‬
‫عقل له ‪ ،‬وال يستشير ‪.‬‬
‫فاعمل على أن تكون األول‪ ،‬فإن لم تبلغ ذلك فكن الثاني على األقل وإياك أن تكون الثالث‬
‫‪.‬‬
‫بر ‪ :‬ف إن اآلمر ب المعروف والن اهي عن المنكر مع رض لألذى ‪ ،‬فال يليق أن‬ ‫‪ – 5‬الص‬
‫ينـزعج ويجزع وي ترك مهمته أو يت برم بها ‪ ,‬ولذلك ق ال لقمان البنه وهو يعظه (( ي ابني أقم‬
‫الص الة وأمر ب المعروف وانه عن المنكر واص بر على ما أص ابك إن ذلك من ع ِ‬
‫زم األم ور ))‬
‫( سورة لقمان ‪.) 17‬‬

‫ذلك أن طريق األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مفروش اً بالورود والرياحين ‪ ،‬بل هو‬
‫ملي باألش واك والص خور والمص اعب الجمة فمن لم يت ذرع بالص بر خليق به أن يس تطيل‬
‫الطريق ويستثقل العمل فيتخلى عن المهمة الربانية الكريمة التي انتدب نفسه لها ‪.‬‬
‫عجيب أمر بعضنا ! يقول ‪ :‬عندي أخ أو زميل أو قريب ال يصلي أو يشرب الخمر أو …‪.‬‬
‫ف إذا قيل له ‪ :‬انص حه واجتهد في نص حه ‪ ،‬ق ال ‪ :‬عج زت عنه ‪ ،‬أو ق ال ‪ :‬ما فيه فائ دة !‬
‫) عن‬ ‫( س ورة العنكب وت ‪14‬‬ ‫س بحان اهلل !! أين ذهبت (( فلبث فيهم ألف س ٍنة إالخمس ين عام اً ))‬
‫عقلك ؟ أين الصبر الجميل ؟ أين طول النفس ؟ أين دأب الدعاة وإصرارهم ؟‬
‫ِأمن ٍ‬
‫مرة أو مرتين أو عشر مرات ‪ ..‬تقول عجزت ‪ ..‬أو ال فائدة ؟‬
‫________________________________________________‬
‫( ‪ )1‬رواه مسلم ‪3005‬‬
‫ربما أن الكلمة ال تي جعل اهلل نج اة ه ذا العاصي بس ببها لم تصل إلى أذنه بعد ‪ ..‬وربما تب ذر‬
‫أنت البذرة ويأتي غيرك فيسقيها فتنبت وتثمر ‪ ،‬لكن إياك أن تكون كالكسعى الذي يضرب‬
‫به المثل في الندامة ‪ ،‬حين رمى بس هامه ليالً فظن أنها لم تصب فكسر الق وس ‪ ،‬فلما أص بح‬
‫وجدها كلها قد أصابت الغرض فاغتم لكسر القوس غماً ال يوصف ‪ ..‬فاحذر أن تكونه ! إن‬
‫للقل وب إقب االً وإدب اراً ‪ ،‬وللنف وس قتام ةً وإش راقاً ومن المص لحة أن تتعاهد الم دعو وقت‬
‫إقباله وارتياحه بالكلمات الطيبات ‪ ،‬وتهاديه وتالطفه ‪ ،‬وتحتال للوصول إلى قلبه بكل حيلة‬
‫ال تذم (( وألن يهدي اهلل بك رجالً واحداً خير لك من حمر النعم )) (‪.)1‬‬

‫قضية المصلحة والمفسدة‬

‫المقص ود ب األمر ب المعروف النهي عن المنكر إنما هو تحص يل المص الح ودرء المفاسد بل‬
‫إنما بعث الرسل الك رام – عليهم الص الة والس الم – من أجل المص الح وتكليمها ‪ ،‬وتقليل‬
‫المفاسد وتعطيلها ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫موقف‬ ‫ولهذا إذا علم المسلم أن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر سيترتب عليه مفسدة في‬
‫من المواقف فإنه يمنع من األمر والنهي في ذلك الموضع ‪.‬‬
‫ومما ي روى في ه ذا الب اب أن ش يخ اإلس الم ابن تيمية رحمه اهلل خ رج مع بعض تالمي ذه من‬
‫دمشق وفي ط ريقهم م روا ببعض الت تر وهم يش ربون الخمر ‪ ،‬فهم بعض التالميذ باإلنك ار‬
‫عليهم ‪ ،‬فق ال ش يخ اإلس الم ‪ :‬دع وهم وما هم فيه ‪ .‬فق الوا ‪ :‬ن تركهم – رحمك اهلل – على‬
‫ه ذا المنكر ؟! ق ال‪ :‬نعم إن ه ؤالء الق وم لو أف اقوا من س كرهم ل دخلوا دمشق ‪ ،‬فهتك وا‬
‫األعراض ‪ ،‬ونهبوا‬
‫األم وال وقتل وا الرج ال ‪ .‬وال يك اد يوجد في ال دنيا مص الح محضة ‪ ،‬وال مفاسد محضة ‪،‬‬
‫فالقض ية قض ية موازنة ‪ ،‬ف إن ك انت المص لحة أرجح ُحصَِّلت ‪ ،‬وإذا ك انت المفس دة أك بر‬
‫دفعت ‪.‬‬
‫وابدا بالمنكر الكبير قبل الصغير ودع اإلنكار إذا ترتب على إنكارك منكر أعظم منه ‪ .‬وهذا‬
‫هو ما يوافق مقتضى الش رع والعقل ‪ ،‬ف إن مقتض اهما هو تحص يل خ ير الخ يرين ‪ ،‬ودفع شر‬
‫الشرين ‪.‬‬

‫_________________________________________________‬
‫رواه البخاري ( ‪) 3973‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫االسرار واالعالن باالنكار ‪:‬‬

‫ومما يتعلق بالمص لحة والمفس دة مس ألة اإلس رار واإلعالن باإلنك ار ‪ ،‬ف إن س لوك أحد‬
‫الس بيلين مرتبط بقض ية المص لحة والمفس دة فقد تك ون المص لحة في إعالن اإلنك ار ‪ ،‬وقد‬
‫تكون في اإلسرار به ‪ ،‬فإذا كان صاحب المن َكر معلناً مجاهراً فالمصلحة في الجهر باإلنكار‬
‫عليه ‪ ،‬وإذا ك ان المن َكر شخص ياً أو خشي أن تأخذ ص احب المنكر الع زة ب اإلثم ‪ ،‬أو خيف‬
‫أن يترتب على اإلعالن باإلنكار منكر أشد فالمصلحة في اإلسرار باإلنكار ‪.‬‬
‫وقد ورد عن الس لف – رض وان اهلل عنهم – قصص عدي دة أنك روا فيها عالنية ؛ ألنهم رأوا‬
‫المصلحة في اإلعالن ‪:‬‬
‫فمن ذلك ما ج اء في الص حيحين من أن أبا س عيد الخ دري خ رج مع م روان بن الحكم إلى‬
‫المصلى في يوم العيد ‪ ،‬قال أبو سعيد ‪ :‬فلما أتينا المصلى ‪ ،‬إذا منبر بناه كثير بن الصلت ‪،‬‬
‫ف إذا م روان يريد أن يرتقيه قبل أن يص لي ‪ ،‬فجب ذت بثوبه ‪ ،‬فجب ذني ‪ ،‬ف ارتفع فخطب قبل‬
‫الص الة ‪ ،‬فقلت له غ يرتم واهلل ‪ .‬فق ال أبا س ٍ‬
‫عيد ‪ ،‬قد ذهب ما تعلم ‪ ،‬فقلت ‪ :‬ما أعلم واهلل‬
‫خير مما ال أعلم (‪. )1‬‬
‫وم ر ًة أخ رى خ رج م روان إلى المص لى ‪ ،‬وق ام ليخطب قبل الص الة فق ام إليه رجل وق ال ‪:‬‬
‫الص الة قبل الخطبة ‪ .‬فق ال ‪ :‬ت رك ما هنالك (‪ . )2‬وهك ذا أنكر عليه عالني ةً ؛ ألنه معلن‬
‫بالمنكر ‪ ،‬وألن الرجل كما ذكر النووي (‪ )3‬كان معتزا بظهر قبيلته ‪ ،‬وألن مروان سبق أن‬
‫أنكر عليه أبو سعيد قبل ذلك – واهلل أعلم – فأصر ‪.‬‬
‫وكم أنكر على أم ير المؤم نين عمر بن الخط اب ‪ ،‬ولعل من أصح القصص في ذلك ما رواه‬
‫الشيخان أنه لما حدثت خصومة بين عمر بن الخطاب وأحد الصحابة مرةً من المرات ؛ قال‬
‫أبي بن كعب لعمر ‪ :‬ي ابن الخط اب ‪ ،‬ال تك ونن ع ذاباً على أص حاب محمد ص لى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪.‬‬

‫_______________________________________________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري ( ‪ ) 913‬ومسلم ( ‪) 889‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم (‪)49‬‬ ‫(‪ )2‬رواه البخاري ( ‪ )913‬ومسلم ( ‪) 889‬‬

‫ولما نهى عثمان بن عفان رضي اهلل عنه عن المتعة في الحج ( أي جمع العمرة والحج ) قال‬
‫علي بن أبي ط الب رضي اهلل عن ه‪ :‬لبيك اللهم لبيك عم رةً متمتع اً بها إلى الحج‪ ,‬فلما قيل له‬
‫في ذل ك؛ ق ال أردت أن أبين للن اس أن ما يأمرنا به عثم ان مخ الف لس نة الن بي ص لىاهلل عليه‬
‫وسلم (‪)1‬‬
‫وكان معاوية رضي اهلل عنه يستلم األركان كلها في البيت وال يكتفي باستالم الركن اليماني‬
‫أو الحجر األسود ‪ ،‬فأنكر عليه ابن عباس – مع أن معاوية كان أميراً – فقال معاوية ‪ :‬ليس‬
‫( س ورة‬ ‫شيء من البيت مهجوراً‪ ,‬فقال ابن عباس (( لقد كان لكم في رسول اهلل أسوة حسنة ))‬
‫األح زاب ‪ ) 21‬وك ان الرس ول عليه الص الة والس الم ال يس تلم إال الرك نين ‪ :‬اليم اني ‪ ،‬والحجر‬
‫الأسود (‪. )2‬‬
‫ودخل عائد بن عمرو يوم اً على عبيداهلل بن زياد – وكان أميراً في العراق – فقال له ‪ :‬أي‬
‫ب ني ‪ ،‬إني س معت رس ول اهلل ص لى اهلل عليه وس لم يق ول‪ (( :‬إن شر الرع اء الحطمة )) (‪)3‬‬
‫فإياك تكون منهم فقال له ‪ :‬اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى اهلل عليه وس لم‬
‫‪ ،‬فق ال ‪ :‬وهل ك ان لهم نخالة ؟ إنما ك انت النخالة بع دهم ‪ ،‬وفي غ يرهم (‪ ( . )4‬يع ني في‬
‫أمثالك ! )‪.‬‬
‫هك ذا ك ان األس الف يجه رون باإلنك ار وال يس رون ‪ ،‬عن دما ي رون أن المق ام مق ام إعالن ‪،‬‬
‫وأن المصلحة في ذلك ‪.‬‬
‫_________________________________________________‬
‫(‪ )1‬انظر شرح مسلم ‪2/22‬‬
‫(‪ )2‬البخاري ( ‪ )3( )1563‬رواه البخاري (‪ )1608‬ومسلم (‪ )1269‬والترمذي (‪ )858‬وأحمد ‪. 1/332،372‬‬
‫(‪ )4‬الحطمة ‪ :‬العنيف في رعيته ‪.‬‬

‫من أخطاء الناس في قضية المصلحة والمفسدة‬

‫إن جهل كث ير من الن اس بقاع دة الموازنة ‪ :‬ال ترجيح بين المص لحة والمفس دة أوقعهم في‬
‫يرة وربما الم وا غ يرهم على فعل األحسن واألكمل على فعل األقل ‪ ,‬لض عف‬ ‫أخط اء كب ٍ‬
‫نظ رهم أو إليث ارهم ما يظنونه الس المة وال ورع لض عف فقههم ‪ ،‬وإال ف الورع ليس في ت رك‬
‫المش تبه ب المحرم أو المك روه فحسب بل من ال ورع فعل المش تبه بالمس تحب أو ب الواجب‬
‫أيضاً ‪.‬‬
‫ومن األخطاء التي يقع فيها بعض المتدينة والمتفقهة في زماننا ما يلي ‪:‬‬
‫الس المة – في أنفس هم – والخ وف من الفتنة إلى اع تزال‬ ‫‪ – 1‬أن ي دعوهم إيث ار‬
‫م واطن المنك ِ‬
‫رات والبعد عنها ‪ ،‬مع ق درتهم على غش يانها واإلنك ار على أص حابها ؛ وذلك‬
‫خوف اً على أنفس هم من ه ذه المنك ِ‬
‫رات أن يصل إليهم ش يء من رذاذها وغبارها ‪ ،‬أو يصل‬
‫إلى قلوبهم شيء من ظلمتها وسوادها ‪.‬‬

‫حقا إن أص لح الن ِ‬
‫اس إذا اشتـغل بال دعوة إلى اهلل في أوس اط المش ركين أو المبتدعة أو‬
‫الفساق ال يشعر بالسعادة القلبية ولذاذة اإليمان التي يشعر بها غ يره من المقيمين بين أهل‬
‫الخير والفقه والعبادة ومع ذلك فقد يكون ما يقوم به من العمل والدعوة أفضل بمراحل مما‬
‫يقومون به ‪ ،‬وقد يكون له من الفضل والخير ما ليس لهؤالء ‪.‬‬
‫حُّمَل الض رر اليس ير من أجل تحص يل مص لحة أعظم أمر مطل وب ش رعاً وعقالً‪ ،‬وما‬
‫وإن َت َ‬
‫يفق ده المش تغل ب النهي عن المنكر من راحة القلب لك ثرة رؤيته للمنك رات ثم ت أثر القلب‬
‫ب ذلك وض عف إش راقه يعد أم راً يس يراً بالقي اس إلى ما يقابله من المص لحة العظيمة ال تي هي‬
‫هداية الن اس وإقامة الحجة عليهم وأم رهم ب المعروف ونهيهم ِ‬
‫المنكر وتحمل ف روض الكفاية‬
‫عن اآلخرين ‪ ,‬بل قد تكون هذه األمور من فروض األعيان عليه على حسب التفضيل السابق‬
‫في حكم األمر بالمعروف النهي عن المنكر ‪.‬‬
‫وك ذلك ما يخافه على نفسه من منازعتها له إلى المنك رات ‪ ،‬ودعوته إليها ‪ ،‬مع ما يقابل‬
‫ذلك من اإليم ان والخ وف من اهلل أما من ي رى في نفسه ميالً ص ريحاً إلى ه ذه المنك رات ‪،‬‬
‫ويجد من نفسه الهم بذلك ؛ فهذا حري به البعد عنها ؛ طلباً لنجاة نفسه منها ‪.‬‬
‫وه ذا الب اب يتف اوت فيه الن اس تفاوت اً كب يراً ‪ ،‬وكث ير ممن يغلب عليهم الص الح وال ورع‬
‫ي ؤثرون س المة أنفس هم ‪ ،‬وينس ون أن الس المة تك ون أيض اً بالقي ام على أهل المنك رات‬
‫ومضايقتهم وردعهم ‪.‬‬
‫‪ - 2‬ومن األخط اء أيض اً ما يوجد في جم اهير طالب العلم وال دعاة في‬
‫عامة ‪،‬‬ ‫ه ذا العصر من الع زوف عن ت ولي األعم ال ال تي فيها مص لحة‬
‫واإلع راض عن التص در للت دريس أو التوجيه أو القي ادة زه ًدا في الس معة والج اه ‪ ،‬وكراهية‬
‫للشهرة ‪.‬‬
‫فيق ول بعض هم ‪ :‬لست أهالً له ذا ‪ .‬ه ذا يق وم به غ يري ممن آت اهم اهلل الق درة ‪ .‬ومن الظلم‬
‫للناس أن أق وم بهذا األمر ‪ ..‬إلى غ ير ذلك من التعليالت العليلة ‪ ،‬واألعذار التي لو حاسب‬
‫المت ذرع بها نفسه حس اباً حقيق اً ألدرك أنها ال تس تقيم وال تصح ‪ ،‬ولك ان هو أول الناق دين‬
‫لها ‪.‬‬
‫والواقع أن أك ثر الن اس زه ًدا في ه ذه األم ور هم أك ثر الن اس كفاءة وص الحية لها – في‬
‫نقص وقصو ٍر ‪.‬‬
‫الجملة ‪ -‬على ما فيهم من ٍ‬
‫وإن تخلي المخلصين الزاهدين في الشهرة والجاه عن هذه الميادين جعلها مرتعاً خصباً لكل‬
‫من ال يصلح لها ‪ :‬من حملة المذاهب األرضية ‪ ،‬ومن المتظاهرين بالخير ‪ ،‬وهم على نقيضه‬
‫‪ ،‬ومن طالب الشهرة الحريصين على كسب احترام الناس ومديحهم وثنائهم ‪.‬‬
‫وكث يراً ما تلتبس المثبط ات الش يطانية المغرية بالراحة والقع ود بالرغبة في معالجة األعم ال‬
‫المريحة الهادئة ك القراءة والبحث والعب ادة ونحوه ا‪ ،‬وتلتبس ه ذه وتلك باحتق ار النفس‬
‫وازدرائها ‪ ،‬ح تى لتب دو ه ذه األم ور جميعها لص احبها نوع اً من الزهد الس لفي الص حيح وما‬
‫هي منه في شيء ‪.‬‬
‫بل المتبع الحريص على خير نفسه وخير المسلمين ‪ ،‬هو من يبذل ما عنده من العلم والفهم‬
‫والفقه ولو قل ‪ ,‬دون أن ي دعي ما ليس له ‪ ،‬وهو من ي زاحم أهل الض اللة والبدعة في قي ادة‬
‫المجتمع ات اإلس المية وتوجيهها ‪ ،‬ويس تفيد من الف رص المواتية في ذلك ‪ ،‬مع حرصه‬
‫الش ديد على س المة نفسه من التعلق بال دنيا والج اه والمكانة عند الناس ‪ ،‬وجهادها في ذلك‬
‫‪.‬‬

‫مهمة الشباب في ذلك المجال‬

‫يتس اءل كث ير من الش باب عن مهمتهم المطلوبة منهم في مج ال األمر ب المعروف النهي عن‬
‫المنكر ‪ .‬وه ذا التس اؤل ي دل على بداية حس نة ‪ ،‬وي وحي ب أن الش باب وض عوا أرجلهم في‬
‫الطريق بعزم ويحتاجون فقط إلى من يبصرهم بواجبهم ‪.‬‬
‫والحق أن الكالم عن هذه القضية يطول ‪ ،‬ولكن سأجعل الحديث عن أهم الواجبات الملقاة‬
‫على عواتق الشباب في اآلتي ‪:‬‬
‫‪ – 1‬أن يض طلع الش اب بمهمة األمر ب المعروف والنهي عن المنكر من‬
‫شمولي ‪ ،‬فيقوم بما قد يقوم به غيره ويزيد عليه ‪ ,‬بحيث يؤدي مهمته في المنـزل‬ ‫منطق‬
‫وفي المدرسة وفي العمل وفي الحي وفي الس وق وفي غ يره ‪ ،‬مس تخدماً مختلف الوس ائل ؛‬
‫من ٍ‬
‫كلمة وكتاب وشريط ومقاطعة لألماكن التي فيها فساد وغير ذلك ‪.‬‬
‫أي أن يجعل الش اب األمر ب المعروف النهي عن المنكر همه ووظيفته في كل أحيانه ‪ ،‬كلما‬
‫أمكنه ذلك ‪ .‬ولئن اس تطاع الش باب أن ي ؤدوا ذلك على الوجه المطل وب ‪ ،‬لتختفين – بال‬
‫ريب ‪ -‬وال ت ردد كث ير من المنك رات ولتظه رن كث ير من الس نن المهج ورات ‪ ،‬بع ون اهلل‬
‫تعالى ‪.‬‬
‫العلم اء ‪ :‬ف إن للع الم ت أثيراً كب يراً في إزالة المنك رات ‪،‬‬ ‫‪ – 2‬أن يواصل الش باب‬
‫وبخاصة المنكرات الراسخة المتأصلة الضاربة بجذورها في المجتمع ‪ ،‬التي يصعب اقتالعها‬
‫على غير العلماء ‪ ،‬الذين لهم مكانتهم ‪ ،‬وكلمتهم المسموعة وركنهم الشديد ‪.‬‬
‫فعلى الش باب أن يلتف وا ح ول العلم اء الع املين ‪ ،‬المتبعين للس نة وأن يبلغ وهم بما يقع من‬
‫منكرات فالعالم قد يكون مشغوالً بدروسه وارتباطاته الكثيرة ‪ ،‬عن الوقوف على تفاصيل ما‬
‫يقع في المجتمع من المنك رات ‪ .‬ف إذا جعل الش باب من نفسه واس طةً إليص ال تلك‬
‫المعلوم ات إلى الع الم – ه ذا على األقل – ف إن الع الم يك ون ب ذلك مطلع على ما يج ري ‪،‬‬
‫ويستطيع بالتالي أن يتخذ الموقف المناسب ‪.‬‬
‫ولكن على الشباب حين يبلغ العالم عن منك ٍر أن يقدم له اإلثباتات والوثائق ‪ ،‬حتى كأنه ي راه‬
‫بعينه أو يسمعه بأذنه وأال يقتصر على مجرد الظن ألن األمر قد يك ون على خالف ما ظهر له‬
‫‪.‬‬
‫ووس ائل تزويد العلم اء وال دعاة وطلبة العلم بمعلوم ٍ‬
‫ات عن المن َكر وس ائل عدي دة ‪ ،‬منها ‪-‬‬
‫على س بيل المث ال ال الحصر – أن يق دم الش اب لهم ما ينشر من مق االت ‪ ،‬أو قص ائد أو‬
‫كتب تخالف اإلسالم أو تطعن فيه ‪ ،‬أو تدعو إلى الرذيلة ‪ ,‬إلى غير ذلك ‪ .‬ومتى وجد لدى‬
‫الش اب االهتم ام واإلحس اس بالمس ئولية واالح تراق له ذا ال دين ‪ ،‬فس تأتي الوس ائل تباع اً ‪،‬‬
‫اد ‪ ،‬وأقل ما يجب في ه ذا أن يك ون ثمة ش هود ع دول على ح دوث المنكر‬ ‫بطواعي ٍة وانقي ٍ‬
‫وأنهم رأوه أو سمعوه بأنفسهم لقطع دابر األقاويل واإلشاعات والظنون ‪.‬‬
‫‪ – 3‬المش اركة في المج االت الرس مية لألمر ب المعروف والنهي عن‬
‫مهمة ‪ ،‬ف إن كث يراً من الن اس يلق ون بالمس ئولية على غ يرهم ‪،‬‬ ‫المنكر وه ذه قض ية‬
‫ويتنص لون منها ‪ ،‬فيتكلم ون مثالً عن جه از األمر ب المعروف النهي عن المنكر ‪ ،‬فيقول ون ‪:‬‬
‫إنه لم يقم بواجبه ‪ ،‬وقد يقول بتعضهم ‪ ،‬إن كثيراً من الموظفين فيه كبار السن ‪ ..‬إلخ ‪.‬‬
‫ولكن السؤال الذي يجب طرحه هو ‪ :‬لماذا أخي الشاب لم تقم بهذه المهمة ‪ ,‬بدالً من أن‬
‫ننحي بالمالئمة على غيرنا ؟! إن ه ذا الجه از لو ك ان م دعوماً بع دد من الش باب المل تزمين‬
‫ال واعين الم دركين لك ان أق وى من أن يقف في وجهه أح د‪ ،‬مهما ح ورب أو وض عت في‬
‫طريقه العقبات ‪.‬‬
‫لكن لما تخلى أبناء األمة عن مسئوليتهم ‪ ،‬وعزف كثير من الشباب الصالحين الجامعيين عن‬
‫التوظيف في هذا الجهاز ؛ حصلت بعض السلبيات ‪ ،‬فعلينا أن ندرك أننا مسئولون عن هذا‬
‫التقصير وأن نتداركه بقد المستطاع ‪.‬‬
‫تحقيق اً لقوله‬ ‫‪ – 4‬أن نك ون عون اً لآلم رين ب المعروف الن اهين عن المنكر‬
‫تعالى (( وتعاونوا على البر والتقوى )) ( سورة المائدة ‪ ) 2‬وصور التعاون ها هنا متعددة ‪.‬‬
‫فقد يعمل الفرد مع اآلمرين بالمعروف بصفته متعاوناً معهم في هذا السبيل ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وقد يق وم ب التبليغ عن أي منكر تقع عليه عينه ‪ ،‬أو تس معه أذنه ‪ ،‬أو يعلم بوج وده ب أي‬ ‫‪‬‬

‫وسيلة ‪.‬‬
‫وقد ي دعو للق ائمين به ذا العمل حيث إنهم يتول ون القي ام به ذه المهمة المقدسة بالنيابة‬ ‫‪‬‬

‫عنا جميعاً ‪.‬‬


‫وقد يذب عن أعراضهم من ألسنة الطاعنين الذين يتناولونهم بغير حق – في الغالب –‬ ‫‪‬‬

‫وبحق في القليل الن ادر ‪ ،‬مع أنهم يتج اهلون أخط اء اآلخ رين من الفئ ات األخ رى كافة ‪..‬‬
‫وكأن من شروط رجل الحسبة أن يكون معصوماً !‬
‫وقد يواصلهم بالزيارة في مواقع عملهم فيحدثهم ويس تمع إليهم ويبثهم ما في نفسه من‬ ‫‪‬‬
‫ٍ‬
‫آراء أو ملحوظات ‪ ،‬ويقيم روابط الود والمحبة معهم ‪ ،‬ليشعر هؤالء الجنود المجهولين أن‬
‫المجتمع يثمن جهدهم ويقدر سهرهم وعناءهم !‬
‫ف إن تع ذر عليك ه ذا كله أخي ‪ ,‬فال أقل من االل تزام بوص ية رس ول اهلل ص لى اهلل عليه‬ ‫‪‬‬

‫وسلم لأبي ذر كما في البخاري ((تكف شرك عن الناس‪ ،‬فإنها صدقة منك على نفسك)) (‬
‫‪ )1‬والنرضى لك بح ٍ‬
‫ال أن تنح از إلى فئة المس تهزئين الس اخرين ال ذين توع دهم اهلل‬
‫تعالى فقال (( إنا كفيناك المستهزئين )) ( سورة الحجر ‪. ) 95‬‬
‫وق ال (( ولئن س ألتهم ليق ولن إنما كنا نخ وض ونلعب ‪ ،‬قل أباهلل وآيات ِه ورس ِ‬
‫وله كنتم‬
‫تستهزئون ‪ .‬ال تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )) ‪ ( .‬سورة التوبة ‪. ) 66 – 65‬‬

‫المرأة ومقاومة المنكر‬


‫كما أن المسلم مطالب باألمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكذلك المرأة المسلمة مطالبة‬
‫بالقيام بمهمتها في ذلك الباب ‪.‬‬
‫ومن هنا ف إن على األخت المس لمة الملتزمة بال دين الداعية الواعية أن ت دخل في المج االت‬
‫المباحة وأن تؤدي مهمتها وتقوم بمسئوليتها في هذه المجاالت ‪.‬‬
‫فينبغي أن ت دخل في مج ال التعليم ‪ ،‬عن طريق الدراسة والتعلم ‪ ،‬والتعليم والتوجيه واإلدارة‬
‫وتحضير الدراسات العليا وغير ذلك ‪.‬‬
‫ومجال الجمعيات الخيرية ‪ :‬مشاركة وقيادة وتوجيهاً ومحاضر ًة وغير ذلك ‪.‬‬
‫وفي مج ال المناس بات العامة ‪ :‬نص حاً وإرش اداً ‪ ،‬وتوعي ةً ودع وة إلى اهلل بمختلف الط رق‬
‫الشرعية ‪.‬‬
‫وفي مج ال المب اح لها من اإلعالم ‪ :‬بالكتابة في الص حف ‪ ،‬والمجالت ‪ ،‬س واء ك انت تلك‬
‫الكتابة دعوة إلى اهلل ‪ ،‬أو احتساباً على الكتابات المضللة ورداً عليها ‪ ،‬أو نحو ذلك ‪.‬‬
‫وفي مجال التأليف ‪ :‬بإصدار ٍ‬
‫كتب موجهة إلى المرأة المسلمة ‪ ،‬تعالج قضايا المرأة وتزي دها‬
‫وعياً بدينها وتنبهها إلى ما يحاك ضدها من المؤامرات ‪.‬‬
‫كل هذه المج االت ال تي أص بح األع داء يح اربون من خاللها اإلس الم ‪ ،‬ينبغي للمس تقيمات‬
‫الغي ورات أن ي دخلن فيها ويح اولن التغي ير في المجتمع من خاللها ‪ ،‬ألن ه ذه المج االت‬
‫حيادية ‪ ،‬ف إذا توالها أهل الفس اد ك ان دورها تخريبي اً وإذا توالها أهل الص الح ك ان دورها‬
‫إصالحياً ‪.‬‬
‫________________________________________________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري ( ‪) 2382‬‬

‫إن اكتف اء الغي ورات المؤمن ات بالش كوى والتوجع من المنك رات ال تي تح دث ليس حالً‬
‫لمش كالت األمة وإنما الحل أن يك ون هن اك خط وات عملية ج ادة للت أثير في الواقع ‪ ،‬وأن‬
‫يك ون بين الص الحات شخص يات معروفة لها نش اط إس المي ق وي مجاه دة داعية آم رة‬
‫ب المعروف ناهية عن المنكر ‪ ،‬تكتب وتحاضر وت درس وتوجه وتق وم بواجبها في مجالها‬
‫المناسب ‪.‬‬
‫والتفريط كل التفريط والرزية كل الرزية أن ينط وي الص الحات على أنفس هن ويخ رجن من‬
‫الساحة ويدعن الضاالت المنحرفات يدرن الدفة ويسرن بالمجتمع إلى الهاوية ‪.‬‬
‫إن ثمة نس اء موت ورات منهزم ات يحملن فك راً تغريبي اً تخريبي اً ونس اء بلي دات مقص رات ال‬
‫يع نيهن أمر األمة ونس اء ي وجههن أزواجهن المن افقون إلى ت رويج الفس اد الفك ري والخلقي‬
‫بين الفتيات ‪.‬‬
‫فأح ذر األخ وات ال داعيات إلى اهلل من أن ي تركن المي دان له ؤالء فتتل وث البيئة بج راثيم‬
‫االنح راف والض الل ؛ فيعضضن بن ان الن دم إذ الت حين من دم ‪ ،‬ف إن أخشى ما يخش اه‬
‫المصلحون اليوم هو أن يأتينا الشر من قبل المرأة ألن أعداء اإلسالم يركزون على محاولة‬
‫إفس اد الم رأة ؛ إذ بفس ادها يك ون فس اد المجتمع قاطب ةً كما هو مش اهد عيان اً في كث ير من‬
‫المجتمعات ‪.‬‬
‫فهل تعي المؤمنة حجم المسئولية الملق اة على عاتقها وتنفر لمقاومة المنكر ونشر المعروف‬
‫؟!‬

‫معوقات األمر بالمعروف النهي عن المنكر‬


‫كث ير من الن اس – وال س يما الش باب – يحجم ون عن األمر ب المعروف النهي عن المنكر‬
‫ألسباب ما كان ينبغي أن تقف عائقاً في طريقهم وال أن تصدهم عن غايتهم أو تقعد بهم عن‬
‫أداء واجبهم فهي أس باب وهمية أو ض عيفة أو ناتج ٍة عن جه ٍل ‪ .‬فلنس تعرض أبرزها‬
‫مع بيان شيء من عالجها ‪:‬‬
‫– الخجل ‪ :‬ف إن كث يرين – لع دم تع ودهم – يع انون من الخ وف والخجل والهيبة من‬ ‫‪1‬‬
‫الناس وهذا الشعور ال يزول إال بالممارسة العملية ‪ ،‬فعلى المسلم أن يكسر هذا الحاجز ‪،‬‬
‫وأن يبدأ الطريق وسوف يزول الخجل تدريجياً بصورة تلقائية ‪.‬‬
‫‪ – 2‬يقول بعض الشباب ‪ :‬أنا عاص فكيف أغير المنكر وأنا كذلك ؟!‬
‫فنق ول له ‪ :‬غ ير المنكر وإن كنت عاص ياً فقد ق ال اهلل تع الى عن ب ني إس رائيل (( ك انوا ال‬
‫يتن اهون عن منك ٍر فعل وه )) ( س ورة المائ دة ‪ ) 79‬مما ي دل على أن فاعل المنكر مط الب باإلنك ار‬
‫وهذا مذهب عامة العلماء ‪ ،‬بل حكى بعضهم اإلجماع عليه ولكن أكثر الناس ال يعلمون ‪:‬‬
‫ولـو لم يعظ في النـاس من هو مذنـب‬
‫فـمن يعـظ العـاصـين بـعد محـمـد‬
‫ٍ‬
‫معصية ال يسوغ لك الوقوع في معصية أخرى ‪ ,‬أعني معصية السكوت عليها‬ ‫ووقوعك في‬
‫وعدم إنكارها ‪.‬‬
‫‪ – 3‬وقد يق ول قائل ‪ :‬أنا لست عاص ياً ‪ ،‬ولكن لي أخ اً عاص ياً فكيف‬
‫أنكر على الناس وهم يرون أخي واقعاً فيما يقترفون من الذنوب ؟!‬
‫ويقال له ‪ :‬هذا ليس بعذر ؛ لأنك لست س لطاناً على قلب أخيك فقد أمرته ونهيته فلم يمتثل‬
‫ومض يت ت أمر غ يره وتنه اه ف امض في ذلك وال تك ترث لل ذين يعيرونك بأخيك ف إنهم إنما‬
‫يري دون أن يؤذوك ويثن وك عن واجبك ؛ لت تركهم في عص يانهم ‪ ،‬مع علمهم بأنك ح اولت‬
‫‪ .‬فال ت ثريب عليك‬ ‫( س ورة القصص ‪) 56‬‬ ‫في هداية أخيك ولكن (( إنك ال ته دي من أحببت ))‬
‫وإن كان أخاك (( وال تزر وازرة وزر أخرى )) ( سورة األنعام ‪ ، 164‬اإلسراء ‪ ، 15‬فاطر ‪ ، 18‬الزمر ‪. ) 7‬‬
‫‪ – 4‬وربما قال آخر ‪ :‬كيف آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ولن يسمع‬
‫م ني ‪ ،‬ولن ي زول المنكر بمح اولتي التغي ير فما ال داعي أن أكلف نفسي‬
‫بدون نتيجة ؟!‬
‫وكأن هذا األخ يريد أن تزول المنكرات بمجرد كلمة يقولها وهذا – بدون شك – تصور‬
‫غير سليم ونظرة غير سديدة ‪ ،‬فإن هذا التغيير الكامل التلقائي بمجرد كلمة أو جرة قلم ال‬
‫يملكه ح تى الح اكم وإنما ال ذي تقتض يه طبيعة األم ور أن كل ش يء ال بد فيه من مراع اة‬
‫الت درج ‪ ،‬ح تى يتم الوص ول إلى النتيجة ‪ .‬والمهم هو أن يك ون ل دينا النية الص ادقة والع زم‬
‫األكيد إلزالة المنكرات والبداية الصحيحة في هذا السبيل ‪.‬‬
‫أما أن نطمع في أن تطهر الس احة من المنك رات في لحظة فه ذا غ ير ممكن !! ف إن للمنكر‬
‫مؤيدين من المنافقين والفاسقين ‪ ،‬وانتشاراً واسعاً في األمة ‪ ،‬وتـأصالً في نفوسهم ‪.‬‬
‫وأنت أيها األخ المص لح حين تنكر المنكر فال تظن – مهما ك انت النتيجة ض عيفة – أنك‬
‫تؤثر ‪ ,‬بل قد حققت عدة مكاسب ‪:‬‬ ‫لم‬
‫‪ :‬أنك ق اومت المنكر في نفسك ؛ ألنك مه دد ب أن يصل المنكر إليك ‪ -‬أي أن تقع‬ ‫أولها‬
‫فيه ‪ -‬فإذا أنكرته سلمت من مقارفته بإذن اهلل تعالى ‪.‬‬
‫‪ :‬نوال األجر من اهلل – تعالى – على القيام بهذه الفريضة ‪ ،‬وإحياء تلك الشعيرة ‪.‬‬ ‫ثانيها‬
‫‪ :‬أنك قد تقلل من المنكر ‪.‬‬ ‫ثالثها‬
‫‪ :‬أنك قد تزيله ‪.‬‬ ‫رابعها‬
‫‪ :‬أنك – على أقل تق دير – قد تمنع ح دوث غ يره من المنك رات ؛ ألن ال ذي‬ ‫خامس ها‬
‫يراك أنكرت منكراً واقعاً ؛ ال يستطيع أن يفرض عليك منكراً جديداً ‪.‬‬
‫كما أن اإلنك ار يك ون س بباً في ع دم اس تقرار المنك رات في المجتمع ‪ ،‬ح تى تص بح‬
‫ك المعروف ‪ ،‬ذلك أن المنكر إذا نشأ عليه الص غير ‪ ،‬وه رم عليه الكب ير ‪ ،‬ولم يوجد من‬
‫ينك ره فإنه يص بح حق اً ومعروف اً عند الن اس يس تغربون تركه ويتحاض ون على فعله ‪ .‬أما إذا‬
‫اد ويهتف ون في الن اس ب أن ذلك منكر وشر ‪،‬‬‫وجد في المجتمع أولوا بقي ٍة ينه ون عن الفس ِ‬
‫فهذا يكفي لحماية الم وازين – وإن لم يستطع أولئك المص لحون تغيير المنكر – وقد يأتي‬
‫من يغيره ويزيله بعدهم ‪.‬‬
‫‪ ،‬واألذى ال بد منه في ه ذا الطريق (( لتبل ون‬ ‫‪ – 5‬وبعض الناس يخافون من األذى‬
‫في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى‬
‫كثيراً )) ( سورة آل عمران ‪ ) 186‬ولهذا أمر لقمان ابنه بالصبر في ذلك فقال ‪ (( :‬يا بني أقم الصالة‬
‫وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك )) ( سورة لقمان ‪. ) 17‬‬
‫والرسول صلى اهلل عليه وسلم يقول (( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير‬
‫من الذي ال يخالطهم وال يصبر على أذاهم )) (‪ )1‬فاألذى دليل على أن المرء – إن شاء اهلل‬
‫– مؤمن وأنه يتحلى بصفات المؤمنين ؛ ألن المؤمن يبتلى على قدر إيمانه ‪.‬‬
‫‪ – 6‬وهن اك من يحجم عن األمر ب المعروف والنهي عن المنكر بحجة أنه‬
‫فتنة ونق ول له ذا ‪ :‬إن الفتنة هي ت رك األمر ب المعروف والنهي عن‬ ‫يخشى أن تح دث‬
‫المنكر ‪ ،‬ولقد ع اب اهلل – تع الى – على المن افقين أنهم ترك وا الخ روج مع الن بي ص لى اهلل‬
‫عليه وس لم للغ زو بحجة خ وف الفتنة (( ومنهم من يق ول ائ ذن لي وال تفت ني أال في الفتنة‬
‫‪. ) 49‬‬ ‫( سورة التوبة‬ ‫سقطوا ))‬
‫فيا من ت رك اإلنك ار خوف اً من الفتنة – بزعمه – إن أمامك فتنة قائمة واقعة ‪ ،‬وهي المنكر ‪،‬‬
‫فكيف ت ترك إزالتها خش يةً من فتن ٍة متوقعة محتملة قد تقع وقد التقع ؟! وقد يك ون خ وف‬
‫الفتنة من س وء التق دير أو الجبن ف إن الجب ان يخ اف من كل ش يء ‪ ،‬ح تى من ظله ول ذلك‬
‫الينكر شيئاً ‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬
‫يرى الجبناء أن العجز عقل‬
‫وتلك سجية الطبع اللئيم‬

‫_________________________________________________‬
‫رواه أحمد ‪ 2/43‬والترمذي ( ‪ )2507‬وابن ماجة ( ‪. )4032‬‬

‫نماذج لألمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬


‫تض من ما س بق من الح ديث ع دة نم اذج حية لألمر ب المعروف والنهي عن المنكر وه ذه‬
‫نماذج أخرى لعلنا نعي موطن القدوة والعبرة منها ‪:‬‬

‫‪ :‬ش يخ اإلس الم ابن تيمية ال ذي اس تطاع أن يكسب قل وب الن اس بص دقه ونص حه‬ ‫األول‬
‫وبذله الجهد ح تى في مص الح الن اس الدنيوية ‪ .‬فقد ك ان ‪ -‬كما ذكر ال ذهبي – يتعب في‬
‫مصالح الناس ليالً ونهاراً ‪ ،‬سراً وجهراً ‪ ،‬بلسانه وقلمه ‪ ،‬وذلك ببذل جاهه في دفع الظلم‬
‫ونفع الن اس وتحص يل مص الحهم ‪ ،‬وما ش ابه ذلك من وج وه الخدمة والنصح للمس لمين ‪،‬‬
‫بقدر ما يستطيع ‪.‬‬
‫ومكانته الكب يرة في نف وس الن اس جعلت له كلمة مس موعة ول ذلك ك ان ي أمر ب المعروف‬
‫وينهى عن المنكر على المس توى الرفيع ‪ .‬ومما ي ذكر في ذلك أنه ذهب إلى الس لطان‬
‫الممل وكي في مصر لما ج اء الت تر إلى بالد المس لمين ‪ ،‬وقد رأى أن س لطان مصر أبطأ في‬
‫المجيء إلى الش ام ‪ ،‬فق ال له ‪ :‬إن كنتم أعرض تم عن الش ام وتركتم وه ‪ ،‬فإننا نجعل له من‬
‫يحوطه ويحميه في زمن الخ وف ‪ ،‬ويس تغله في زمن األمن ‪ ،‬ثم تال ق ول اهلل تع الى (( وإن‬
‫تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم ال يكونوا أمثالكم )) ( س ورة محمد ‪ ) 38‬وكان مما قاله له أيض اً ‪:‬‬
‫إنه لو قدر أنكم لستم حكام الشام وال ملوكه ‪ ،‬واستنصركم أهله ‪ ،‬لوجب عليكم النصر ‪،‬‬
‫فكيف وأنتم حكامه وملوكه ‪ ،‬ال يسعكم إال الخروج !! فخرج السلطان إلى الشام ‪ ،‬وخرج‬
‫معه الناس ‪.‬‬
‫وكان شيخ اإلسالم يخرج مع الناس في المعارك يثبت قل وبهم بالوعظ والتذكير ‪ ،‬حتى إنه‬
‫ك ان يق ول لهم ‪ :‬إنكم منص ورون ‪ .‬فيقول ون له قل ‪ :‬إن ش اء اهلل ‪ ,‬فيق ول ‪ :‬إن ش اء اهلل‬
‫تحقيقاً ‪ ،‬ال تعليقاً ‪ .‬وهكذا كان ‪ ،‬فقد انتصر المسلمون بعون اهلل على التتر ‪.‬‬
‫وعلى ه ذا النحو ك ان – رحمه اهلل – يعيش هم وم األمة على مس توى األف راد وعلى‬
‫المستوى الجماعي ؛ فيؤثر في مسيرة األمة ويشاركها في جهادها وأفراحها وأتراحها ‪.‬‬

‫‪ :‬العز بن عبدالسالم ‪ ،‬المعروف بسلطان العلماء ‪ ،‬وله عدة مواقف جليلة في األمر‬ ‫الثاني‬
‫ب المعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬ومن ذلك موقفه مع س لطان ال ديار المص رية ‪ ،‬فقد خ رج‬
‫ذلك الس لطان في ي وم العيد في م وكب عظيم ‪ ،‬والش رطة مص طفون على ج وانب الطريق ‪،‬‬
‫وحاشيته يحيطون به ‪ ،‬واألمراء بين يديه ‪ ،‬والعز – رحمه اهلل – يرى ذلك فنادى السلطان‬
‫ق ائالً ‪ :‬ي اأيوب ! ما حجتك عند اهلل إذا ق ال لك ‪ :‬ألم أب وىء لك ملك مصر ت بيح الخم ور؟‬
‫فقال ‪ :‬أو يحدث هذا ؟ فقال ‪ :‬نعم في مكان كذا وكذا ‪ -‬حانه يباع فيها الخمر ‪ , -‬فقال‬
‫السلطان ‪ :‬يا سيدي هذا أنا ما عملته هذا من عهد أبي ‪ .‬فهز العز بن عبدالسالم رأسه وق ال‬
‫‪ :‬أنت من ال ذين يقول ون ‪ (( :‬إنا وج دنا آباءنا على أمة )) ؟! فأص در الس لطان أم راً بإبط ال‬
‫الحانة ‪ ،‬ومنع بيع الخم ور ‪ .‬وانتشر الخ بر بين الن اس ورجع العز إلى مجلس درسه ‪ ،‬فج اءه‬
‫أحد تالمي ذه ‪ -‬يق ال له ( الب اجي ) ‪ -‬فس أله ق ائالً ‪ :‬ياس يدي كيف الح ال ؟ فق ال ‪ :‬يا ب ني‬
‫رأيته في تلك العظمة ‪ ،‬فأردت أن أهينه لئال تكبر نفسه فتؤذيه ‪ .‬فقال ‪ :‬ياسيدي ! أماخفته ؟‬
‫فقال ‪ :‬واهلل يا بني لقد استحضرت عظمة اهلل – تعالى ‪ -‬فصار السلطان أمامي كالقط ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬المنذر بن سعيد البوطي (سلطان األندلس) وله مواقف عجيبة ‪ ،‬منها الموقف الت الي‬
‫‪:‬‬
‫كان الخليفة عبدالرحمن الناصر كلف اً بالعمارة ‪ ،‬وإقامة المعالم ‪ ،‬وتشيد الدور ‪ ،‬ومن ذلك‬
‫أنه ب نى مدينة الزه راء ‪ ،‬واس تفرغ جه ده في تنميقها وإتق ان قص ورها ‪ ،‬وزخرفة مص انعها ‪،‬‬
‫ح تى لقد ت رتب على اهتمامه ب ذلك األمر وإش رافه عليه بنفسه أن ت أخر عن ص الة الجمعة‬
‫ٍ‬
‫ثالثة اسابيع متوالية فلم يصلها مع المنذر بن سعيد – وكان يتولى الخطابة والقضاء – فأراد‬
‫المنذر أن يعظ الخليفة ويكسر من غروره ‪ ،‬ويحاسبه على إنفاقه األموال الطائلة في التشييد‬
‫والعمارة ‪ ،‬وعلى انشغاله بذلك عن اإلقبال على اهلل ‪.‬‬
‫فلما كان يوم الجمعة ‪ ،‬وحضر الخليفة ‪ ،‬صعد المنذر المنبر ‪ ،‬فب دأ الخطبة بقول اهلل تعالى‬
‫(( أتبن ون بكل ري ٍع آية تعبث ون ‪ .‬وتتخ ذون مص انع لعلكم تخل دون ‪ .‬وإذا بطش تم بطش تم‬
‫جب ارين ‪ .‬ف اتقوا اهلل وأطيع ون ‪ .‬واتق وا ال ذي أم دكم بما تعلم ون ‪ .‬أم دكم بأنع ٍام وب نين ‪.‬‬
‫يوم ٍ‬
‫عظيم )) ( س ورة الش عراء ‪ . ) 135 – 128‬واسترسل يقول ‪:‬‬ ‫وجنات وعيون ‪ .‬إني أخاف عليكم ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وال تقول وا (( س واء علينا أوعظت أم لم تكن من ال واعظين ‪ .‬إن ه ذا إال خلق األولين ‪ .‬وما‬
‫(( قل مت اع ال دنيا قليل واآلخ رة خ ير لمن اتقى وال‬ ‫(س ورة الش عراء ‪) 138 – 136‬‬ ‫نحن بمع ذبين ]‬
‫تظلمون فتيالً )) ( س ورة النس اء ‪ ) 77‬ومضى يذم اإلسراف في تشييد البناء ‪ ،‬والعناية بالزخرف ‪،‬‬
‫بلهجة ش ديدة ثم تال ق ول اهلل عز وجل ‪ (( :‬أفمن أسس بنيانه على تق وى من اهلل ورض ٍ‬
‫وان‬
‫خ ير أم من أسس بنيانه على ش فا ج ٍ‬
‫رف ه ا ٍر فانه ار به في ن ار جهنم واهلل ال يه دي الق وم‬
‫( س ورة التوبة ‪– 109‬‬ ‫الظالمين ‪ .‬ال يزال بنيانهم الذي بنوا ريب ةً في قلوبهم إال أن تقطع قلوبهم ))‬
‫‪. ) 110‬‬
‫وأتى بما يش اكل ه ذا المع نى ؛ من التخويف ب الموت وفجاءته ‪ ،‬والتزهيد في ال دنيا ‪،‬‬
‫وال ترغيب في اآلخ رة ‪ ،‬وأس هب في ذلك وأض اف إليه ما حض ره من اآلي ات القرآنية ‪،‬‬
‫واألحاديث ‪ ،‬وآثار السلف ‪ ،‬وأقول الحكماء والشعراء وغير ذلك ‪ ،‬حتى بلغ التأثر بالناس‬
‫مبلغه ‪ ،‬وض جوا بالبك اء وك ان للخليفة من ذلك نص يب كب ير ‪ .‬إال أنه وجد في نفسه على‬
‫المنذر ‪ ،‬وشكا إلى ولده " الحكم " ما لقيه من الشيخ ‪ ،‬وقال ‪ :‬واهلل لقد تعمدني بالكالم ‪،‬‬
‫وقد أسرف علي وبالغ في تقريعي ‪ .‬وأقسم أال يصلي وراءه مرة أخرى ‪ ،‬وصار يصلي وراء‬
‫أحمد بن مطرف خطيب جامع قرطبة ‪.‬‬
‫هذه هي أقصى عقوبة كان بإمكانه أن ينـزلها بالمنذر بن سعيد‪ ،‬ألنه يعرف له مكانته وقدره ‪.‬‬

‫فرحم اهلل أولئك العلماء العاملين ‪ ،‬اآلمرين بالمعروف والناهين عن المنكر غير خائفين في‬
‫الئم ‪ ،‬أو جبروت حاكم ‪.‬‬‫اهلل لومة ٍ‬
‫إنهم ق وم ش عروا بثقل األمانة الملق اة على ع واتقهم ؛ فش مروا لحملها ‪ .‬وأيقن وا بحفظ اهلل‬
‫لهم وتأييده إياهم ‪ ،‬فبذلوا في سبيل إظهار دينه كل ما يملكون ‪ ،‬ونصحوا لألمة حق النصح‬
‫‪ ،‬فال عدمت أمثالهم األمة ‪ ،‬إلى أن يرث اهلل األرض ومن عليها ‪.‬‬

‫***********‬

You might also like