Professional Documents
Culture Documents
حتى لا تغرق السفينة
حتى لا تغرق السفينة
مقدمة
إن الحمد هلل ،نحمده ونستعينه ،ونستغفره ،ونتوب إليه ،ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن
س يئات أعمالنا .من يه ده اهلل فال مضل له ،ومن يض لل فال ه ادي له ،وأش هد أال إله إال اهلل
وحد ه الشريك له ،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ،صلى اهلل – تعالى – وسلم عليه ،صالةً
وسالماً دائمين إلى يوم الدين .
أما بعد :
ف إن األمر ب المعروف والنهي عن المنكر ش عيرة عظيمة من ش عائر اإلس الم ،ودعامة
راس خة من دع ائم المجتمع الرب اني ،دلت على ذلك النص وص ،وش هد به الت اريخ ،ونطق به
الواقع .
واألمة اليوم تحتاج إلى إحياء تلك الشعيرة ،وتقوية تلك الدعامة ،لتنفض عنها بذلك
ما علق بها من الغب ار ال ذي أث اره عليها الكيد الخ ارجي وال داخلي ،ال ذي لم يكن ليفعل فعله
لوال انحسار المفهومات اإلسالمية لدى األمة ،وبعدها عن دينها .
والمتصدي لبعث ما اندثر من تلك الشعيرة ،ولتقوية مابقي منها يحتاج – بال ريب –
إلى فقه فيها ليسير على هدى ونور ،يجنبه الزلل والشطط ،ويبصره بالسبل المثلى ألداء تلك
الرسالة الجليلة والمهمة الشريفة .
من هنا كانت كتابة تلك السطور ،إسهاماً في تجلية ذلك الفقه ،وإضاءةً للطريق ،وتنبيه اً إلى
المحذورات ،وإزالة للمعوقات .
وذلك من خالل الوقفات التالية :
المقياس الذي يعلم به المعروف والمنكر . -
ضرورة األمر والنهي . -
أهمية األمر بالمعروف والنهي عن المنكر . -
عقوبات تركه . -
حكمه . -
مراتب االنكار . -
قضية االنكار باليد . -
وسائل األمر بالمعروف والنهي عن المنكر . -
من يقوم به . -
آدابه . -
قضية المصلحة والمفسدة . -
مهمة الشباب في ذلك المجال . -
المرأة ومقاومة المنكر . -
معوقات لألمر بالمعروف والنهي عن المنكر . -
نماذج لألمر بالمعروف والنهي عن المنكر . -
المع روف م أخوذ من ( المعرفة ) وهي في أصل اللغة العربية :اسم لما يعرفه القلب ويطمئن
إليه وتسكن إليه النفس .ولذلك سمي المعروف معروفاً .
رعاً :اسم ج امع لكل ما يحبه اهلل – تع الى – من طاعته ،واإلحس ان إلى والمع روف ش
عباده .
) في اللغة :اسم لما تنك ره النف وس ،وتنبو عنه ،وتش مئز منه ،وال تعرفه .فهو ( والمنكر
ضد المعروف .
الشرع :اسم جامع لكل ما عرف بالشرع والعقل قبحه ؛ من معصية اهلل – تعالى وهو في
– وظلم عباده .
وبناء على هذه التعريفات يتبين لنا األمران التاليان:
ً
األول :أن المقياس في معرفة المعروف والمنكر ليس هو عرف الناس ،وتقاليدهم وما األمر
شاع بينهم ،فإن عرف الناس متقلب ،إذ قد يعروفون اليوم شيئاً ويألفونه ويعتادونه ،ثم غ داً
ينكرونه ويض ادونه .كما أنهم قد يفعل ون نقيض ذلك ،فينك رون الي وم ش يئاً ،ثم غ داً يألفونه
ويعملون به .وكم من معروف جرى في أعرف الناس إنكاره !!
أرأيت – مثالً – إعف اء اللحى ال ذي أمر به الن بي ص لى اهلل عليه وس لم ،كما في ح ديث أبي
هري رة وابن عمر وغيرهما في الص حيح ( )1؟! أرأيت كيف يص بح ذلك المع روف في بعض
المجتمعات أمراً منكراً ،يشيع ضده ،ويغدو اإلعفاء مستغرباً ،لم يعتده الناس ،ولم يألفوه
؟!!
أرأيت تقص ير الثي اب ورفعها إلى ما ف وق الكع بين ،أو إلى منتصف الس اق ،أو إلى ما دون
الركبة في حق الرج ال ،ذلك األمر ال ذي ثبت في الش رع ،بداللة ع دة نص وص ،منها قوله
عليه الصالة والسالم (( ،ماأسفل من الكعبين من اإلزار ففي النار )) ( )2؟!!
أرأيت كيف يح دث ه ذا في تلك المجتمع ات ؟! وكيف إذا رأوا رجالً قد رفع ثوبه إلى نصف
الساق أوحوله ،طفقوا ينظرون مليا باستغراب إلى ذلك الرجل ويتغامزون ،وقد يتضاحكون ؟!
أرأيت كيف صار هذا المعروف في الشرع منكراً في بعض الفئات ؟!
أرأيت احتج اب الم رأة ،ال ذي ع رف بالش رع قرآن اً وس نةً ؟! أرأيت كيف أن بعض المس لمين
في بعض المجتمعات قد يجهلون ذلك المعروف ،فإذا رأوا امراة متحجبة متسترة ،ضحكوا
منها ؟! وكيف أن بعض هم ربما ق ال ما ش أن ه ذه الم رأة كانها خيمة تمشي !! وكيف ق ال
آخرون :إنها إنما تسترت ألنها دميمة فتريد أن تخفي قبحها !!.
وكم رأينا في بالد تنتمي إلى اإلس الم أن اللب اس الرس مي في الم دارس وغيرها لل ذكور هو
(البنطل ون ) ال ذي ينـزل تحت الكع بين في حين أن لب اس البن ات الرس مي هو ث وب ش حيح إلى
الركبة أو فوقها بقليل ! فيا للعار !.
وعلى الضد من ذلك ،كم من منكر أصبح معروفاً مألوفاً في بعض المجتمعات :
فالغن اء – مثالً -منكر واضح ،ولكن حين يق وم امرؤ ببي ان تحريمه ،وي ذكر األح اديث
الصريحة في ذلك ،تجد كثيراً من الناس يفغرون أفواهم ،ويشخصون أبصارهم ،ويأخذ منهم
االستغراب مأخذاً عظيماً ولسان حالهم يقول :كيف يكون حرام اً هذا الغناء الـذي نسمـعه في
اإلذاعات والتلفاز وأشرطة التسجيل ؟! وربما يسمعون من بعض المنتسبين إلى العلم من يبيحه
,فكيف يكون حراماً ؟!.
هك ذا يتعجب ون ،وال يقع في أذه انهم أنه منك ر ،ألنهم ألف وه وس كنت إليه نفوس هم ،فص ار
عندهم معروفاً ،وهو في الشرع منكر.
_______________________________________________
( )2رواه البخاري ( ) 5450 ( )1البخاري ( ) 5553ومسلم ( ) 259
والربا الذي شاع بين المسلمين ،في البنوك والمصارف والمؤسسات ،حتى ال يكاد يخلو منه
إال القليل ،وأص بح األمر كما أخ بر الن بي عليه الص الة والس الم ،في الح ديث ال ذي رواه
(( لي أتين على الناس زمان ال يبالي المرء بما أخذ المال ،أمن حالل أم من حرام البخاري
)) ()1
أرأيت حين يتحدث ناصح عن تحريم ذلك المنكر العظيم ،أو عن تحريم بعض صوره الشائعة
عند الن اس ؛ كيف تجد كث يراً منهم يفاجـأ ويس تغرب ؟! بل ربما رمى بعض هم ذلك الناصح
بالعظ ائم ألنه يس تنكر أم راً عرف وه وألف وه واطم أنت إليه قل وبهم ؛ فص اروا يرونه معروف اً .
وشرع اهلل منكر قبيح !!
ومثل ذلك الصور – وخاصة الخليعة -من صور النساء الفاتنات التي انتشرت بين المسلمين
اليوم عبر الشريط والكتاب والمجلة والجريدة وغيرها ،تلك الصور التي أصبحت تقابل الناس
في ال بيت والس وق والط ائرة والمكتبة ،وفي كل مك ان ..حين ي ألف الم رء رؤيتها ويعتادها ،
تصبح في نظره عادية مستساغةً ،فإذا سمع من يقول :إن النظر إلى صور النس اء في المجالت
والكتب واألفالم وغيرها ح رام ومنكر ؛ فإنه يس تغرب ،ويق ول :ه ذا مس كين ,الن اس الي وم
يع انون من النظر الى الف واحش من المش اهد الجنس ية الهابطة ال تي تقضي على الحي اء ،وه ذا
المسكين مازال يتحدث عن تحريم النظر إلى الصور !!
هكذا تصبح بعض المنكرات معروف اً ؛ بسبب الذيوع واالنتشار واإللف واالعتياد ،عند كثير
من الناس .
لكن ع رف الن اس ال يغ ير الش رع ،وإنما الع برة في التحس ين والتق بيح بالش رع ،وبالعقل
الصحيح والفطرة السليمة ،وهما ال يمكن أن يعارضا الشرع في ذلك .
األمر الثاني :أن األصل في المجتمع المسلم أنه يعرف المعروف ويقره ويرضاه ويأمربه .وأنه
ينكر المنكر ويأباه وينهى عنه .
ف إذا أردت أن تقف على م دى س المة مجتمع ما ،أوفس اده ،فطبق عليه ه ذه القاع دة ،ف إن
جدته ينفر من المنكرات ويحاربها فهذا دليل على سالمته في الجملة .
وإن وجدته يتقبل المنكرات ويتشرب بها فاعلم أنه مجتمع منحل .
_________________________________________________
( )1رواه البخاري ( ) 1977
ولذلك كان أسلم المجتمعات وأحسنها وأنقاها هو مجتمع الصحابة رضي اهلل عنهم ،إذ كانوا
يعرفون المعروف وينكرون المنكر ،ولهذا قال عبداهلل بن مسعود في األثر الصحيح الذي رواه
الحاكم وغيره (( :مارآه المسلمون حسناً فهو عند اهلل حسن ،ومارآه المسلمون قبيح اً فهو
عند اهلل قبيح )) .
ثم ضرب لذلك مثالً ؛ وهو أن الصحابة اتفقوا على اختي ار أبي بكر – رضي اهلل عنه – للخالفة
,فهذا االتفاق على ذلك االختيار يدل على أنه أمر يحبه اهلل ويرضاه ،ولذلك أصبح من جملة
عقائد أهل الس نة والجماعة تفض يل أبي بكر على من ع داه من الص حابة ،واإلق رار بأنه أول
الخلفاء الراشدين ،ومن بعده عمر ،ثم عثمان ثم علي رضي اهلل عنهم أجمعين .
وله ذا أجمع المس لمون على قب ول إجم اع الص حابة ،وعلى أنه حجة ف إذا اتفق الص حابة –
رضي اهلل عنهم – على أم ٍر ؛ أصبح المسلمون من بعدهم متعبدين بذلك األمر .
وإجم اع الص حابة – م تى ثبت وصح وتحقق – من األدلة الش رعية ،لم يخ الف في ذلك أحـد
من المسلمين ،ولذلك كان اإلمام مالك – رحمه اهلل – يأخذ بعمل أهل المدينة فما وجد عليه
عملهم في القرن األول عده من ضمن األدلة الش رعية ،وهذا أصل خاص باإلمام مالك وك ان
رحمه اهلل يفسر ذلك ب أن عمل أهل المدينة إنما هو على النب وة أما عمل األمص ار األخ رى فإنه
على أوامر الملوك ،كما ذكر ابن عبد البر وغيره .
وإذا أردت أن تطبق القاعدة المذكورة آنفاً على المجتمعات اإلسالمية اليوم ؛ وج دتها بال شك
تتف اوت تفاوت اً كب يراً ولكن يغلب على ه ذه المجتمع ات هنا في الجملة أنها تتقبل المنك رات
وتألفها وتنتشر بينها بسرعة .
فما أس رع ما تنتشر األزي اء األجنبية في أوس اط نس اء المس لمين ،إذ بمج رد ما تظهر مغنية أو
ممثلة أو عارضة أزيا بزي من األزياء فسرعان ما تجدهن يتبارين ويتنافسن على تقليده .
وماأسرع ما تفشو تسريحه معينة للشعر بين المسلمات بمجرد ما يرين مغنية أوممثلة أو فاجرة
تتزين بها .
وماأس رع ما يش يع بين ش باب المس لمين كث ير من الظ واهر المنحرفة ؛ تقلي داً لش باب الغ رب
سواء في الملبس أو في الشعر أو في مظهر السيارة أوفي غير ذلك .
إن تلك الظ واهر الغربية ال تي تش يع بين ش باب المس لمين إنما رأوها عند غ ير المس لمين ،
فأخ ذوها عنهم ،س واء حين يس افرون إلى تلك المجتمع ات ،ويش اهدون تلك الظ واهر عيان اً
أوحين يشاهدون األفالم والمسلسالت التي تعرض األوبئة الموجودة في بالد غير المسلمين .
وإن في تلك القابلية والطواعية لتقليد الكافرين في منكراتهم لدليالً واقعي اً واضحاً على الفراغ
الكبير في عقول وأرواح كثير من المسلمين .
ومع ذلك فإن ه ذه المجتمعات ال يمكن أن يق ال :إنها مجتمعات جاهلية مطلق اً – كما يق ول
بعض العلم اء والمفك رين من المس لمين – ألن الرس ول ص لى اهلل عليه وس لم أخ بر أنه ال ي زال
في المس لمين من ي أمر ب المعروف وينهى عن المنكر ،ومع ذلك بيانه ،ص لى اهلل عليه وس لم
لمع نى ق ول اهلل تع الى [:وممن خلقنا أمة يه دون ب الحق وبه يع دلون ](س ورة الأع راف )181
فقد بين عليه الص الة والس الم تلك اآلية في أح اديث كث يرة منها الح ديث المت واتر ال ذي أخ بر
فيه أنه (( ال ت زال في ه ذه األمة طائفة منص ورة ال يض رهم من خ ذلهم وال من خ الفهم ))()1
وإنما سماها منصورة ؛ ألنها مجاهدة ،تجاهد على أمر اهلل ؛ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر
,والنصر من ثمرات الجهاد .
إذن ال يمكن الق ول بوج ود جاهلية مطلقة في األمة اإلس المية من اقص اها إلى أقص اها ،في أي
زمان إال قبيل قيام الساعة ؛ حين يبعث اهلل تعالى الريح الطيبة فال تدع أحداً في قلبه مثقال حبة
من خ ردل من إيم ان إال قبض ته ،وحينئ ٍذ ال يبقى إال ش رار الن اس يته ارجون ته ارج الحم ر()2
وأفضل إنسان حينذاك من إذا رآهم يفعلون الفاحشة على قارعة الطريق قال :لو اعتزلتم الطريق
( !! )3وهؤالء تقوم عليهم الساعة .
وهنا سر عظيم ،وهو أن اهلل – تعالى – أنزل الق رآن وبعث الرسل وأوجد الكعبة وأبقى الطائفة
المنص ورة لتحقيق الحجة على الن اس وإقامة ال دين والش عائر ،ف إذا تعطلت من افع ه ذه األش ياء
أذن اهلل بزوالها .
وحين ٍذ يبعث اهلل ذا الس ويقتين من الحبشة ،فيه دم الكعبة ويقلعها حج راً حج راً ويس تخرج
كنـزها ( )4وال يع ود هن اك من يحج أو يعتمر أو يص لي إلى الكعبة ويرفع اهلل الق رآن من
المص احف وص دور الرج ال ح تى ال يبقى في األرض منه آية ( )5ويبعث اهلل – عز وجل –
ريح اً طيبة فتقبض أرواح المؤم نين اآلم رين ب المعروف والن اهين عن المنكر ؛ ألنه لم يعد هن اك
من يستجيب لهم ,وبعد ذلك تقوم الساعة .
__________________________________________________
( )1رواه البخاري ( ) 3442 ( ) 3441ومسلم ( ) 1921
( )3مستدرك الحاكم .3/473 ( )2رواه مسلم ( ) 1937
( )4البخاري ( ) 1514ومسلم ( ) 2909ومسند أحمد 2/291
( )5ابن ماجه ( ) 4049والحاكم 4/473
أما قبل ذلك الحين فال ي زال في األمة من يص يخ لص وت الن ذير ،وي رق لداعية الحق ويس لس
قي اده للخ ير َ ،ق َّل ه ؤالء أو ك ثروا ،ول ذا ذكر الن بي ص لى اهلل عليه وس لم " الغري اء " في
الحديث الصحيح المعروف وذكر من صفتهم أنهم (( :أناس صالحون قليل في أهل ٍ
سوء كث ير
،ومن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ))()1
إذن ما دام هن اك دع اة إلى الح ق ،آم رون ب المعروف ،ن اهون عن المنكر فهن اك من ي ذعن لهم
ويطيعهم ويستجيب لداعيهم ،فما أعظم عدل اهلل ،وما أوسع رحمته !
وهنا وقفة مع سر بالغي في اآليتين السابقتين ؛ حيث قال اهلل تعالى (( :المؤمنون والمؤمنات
بعض هم أولي اء بعض )) وق ال س بحانه (( :والمن افقون والمنافق ات بعض هم من بعض )) وقد
يتبادر إلى الذهن أن يكون التعبير (( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم من بعض )) (( والمنافقون
والمنافقات بعضهم أولياء بعض )) ألن عالقة المؤمنين بعضهم ببعض أمتن وأقوى ،فيعبر معها
بـ (( بعضهم من بعض )) ويعبر مع عالقة المنافقين بعضهم ببعض بـ (( بعضهم أولياء بعض )) .
___________________________________________________
( )1أنظر في تخريج الحديث ورواياته وشرحه كتاب (( الغرباء األولون )) للمؤلف ص . 37
والسر في ه ذا التعب ير الق رآني واهلل أعلم :أن عالقة المؤم نين بعض هم ببعض عالقة اتف اق على
الدين الذي يدينون به ،ولذلك يتوالون فيه ،وليست عالقة تناصر على الباطل .
أما المن افقون فهم ال يتوال ون من أجل دين أو عقي دة ،وإنما يتوال ون ويتناص رون على الباطل
فكلما ذهب بعضهم إلى شيء وافقهم اآلخرون وناصروهم ،مهما كان ذلك الشيء .
:أن يت آمروا ببعض المع روف وببعض المنكر ،ويتن اهوا عن بعض المع روف الحالة الثالثة
وعن بعض المنكر ،فيقع منهم حق وباطل ويلتبس ه ذا ب ذاك .وه ذا هو ح ال المقص رين
والعصاة والمسرفين على أنفسهم .
اء على ما س بق نعلم أن المجتمع إما أن ينتشر فيه األمر ب المعروف والنهي عن المنكر ،أو
وبن ً
ينتشر فيه األمر بالمنكر والنهي عن المعروف أو يكون خليطاً من ذلك .
وانحس ار األمر ب المعروف والنهي عن المنكر في مجتمع من الجتمع ات ذو خط ورة مض اعفة ،
على خالف ما قد يتب ادر إلى بعض األذه ان ف إن بعض الن اس إذا رأوا غي اب األمر ب المعروف
والنهي عن المنكر أو ضعفه في مجتمعات المسلمين اليوم ظنوا أن المشكلة هي فقط أن األمر
بالمعروف والنهي عن المنكر قد زال أو ضعف .
والواقع أن المش كلة أبعد من ذلك وأك بر ،فإنه إذا ض عف األمر ب المعروف والنهي عن المنكر
قوي األمر بالمنكر والنهي عن المعروف ،فالمصيبة مضاعفة .
وه ذا أمر يش هد له الواقع .وإذا أردنا أن نمثل ل ذلك فلنأخذ مثالً وضع الفت اة المتحجبة
المتسترة في بعض مجتمعات المسلمين التي يشيع فيها التبرج والسفور ؛ إننا نجد الفتاة تعاني
معان اة ش ديدة من الكالم والنظ رات ،س واء من األب وين أو من ال زميالت ،أو من القريب ات ،
أومن غ يرهن وذلك ألنها تس بح ضد التي ار ,إذ المنكر له ق وة في تلك المجتمع ات ألن
المعروف فيه ضعف فصار اتجاه المجتمع يضغط بشدة على كل من يخالف مألوفاته وعوائده
رعية ،ومن العجيب أن ذلك المجتمع يتفهم ويتقبل من يخالفه إلى تقاليد األمم مخالفة ش
الك افرة وعوائ دها ويعد ه ذا ض رباً من " التق دم " و " والتحضر " و " والمعاص رة " ! وهك ذا
يصبح المعروف منكراً ويصبح المنكر معروف اً ! إذن فوضع المجتمعات ال يقف عند حد ،فإما
أن يهيمن الخ ير والمع روف فيستخذي المنكر ،ويستسر ويس تخفي ألن الق وة االجتماعية
والسلطة السياسية تقاومه وتحاربه ,وإما أن يسيطر وينتفش ويستعلي المنكر فينحسر المعروف
,ولذلك شرع في اإلسالم األمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ال يخلو مجتمع من منكر
وها هنا أمر ال بد من مالحظته وهو أن وج ود بعض المنكر في المجتمع اإلس المي على وجه
الخف اء والقلة أمر ط بيعي البد من حدوثه ،ولم يس لم من ذلك ح تى مجتمع الجيل الفريد ؛
صحابة الرسول عليه الصالة والسالم فقد كان في ذلك المجتمع منافقون والمسلمون أنفسهم
وقع من بعض هم ش يء من المعاصي ،وفي الص حيحين ع دة قصص من ذلك مثل قصة م اعز بن
مالك األسلمي – رضي اهلل عنه – الذي وقع في الزنا ،فجاء النبي عليه الصالة والسالم نادم اً
تائباً إلى اهلل فقال له :يارسول اهلل زنيت ،فطهرني ،فيعرض عنه الرسول صلى اهلل عليه وسلم
مرات ،حتى أقام عليه المصطفىوما يزال يردد النبي صلى اهلل عليه وسلم ،اعترافه بالزنا عدة ٍ
،عليه الصالة والسالم ،حد الزنا(.)1
ومثل تلك القصة قصة الغامدية التي جاءت إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم ،تشهد على نفسها
بالزنا ،وتطلب أن يقيم عليها الحد ،ولما رأت أنه يريد أن يردها ق الت :لعلك تريد أن ت ردني
كما رددت ماعزاً ،واهلل إني لحبلى من الزنا ،فيأمرها الرسول صلى اهلل عليه وسلم أن تذهب
حتى تلد .وتذهب وتقضي مدة الحمل كلها وحرارة الندم تأكل قلبها ،وتأتي بعد الوضع إلى
النبي عليه الصالة والسالم ،ليقيم عليها الحد ،فيأمرها أن تذهب حتى تفطم ولدها .وتمضي
مدة الرضاع كلها وقلبها ال يزال يقظاً حيا يتفطر حسر ًة .ثم تأتي بعد فطام الص بي إلى الرس ول
صلى اهلل عليه وسلم ،ومـعها الصبي وفي يده كسرة خبز ،لتؤكد للنبي عليه الصالة والسالم
أن ولدها أصبح غنيا عن رضاعها ،فيأمر النبي – عليه الصالة والسالم – برجمها (.)2
هك ذا وقع في مجتمع الص حابة األطه ار ش يء من المنك رات ،لكنها ح االت فردية مس تترة
مس تخفية وك انت ض مائر ال ذين يبتل ون بش يء من ه ذه المنك رات حية يقظة ،فما أس رع ما
يق ودهم خ وفهم من اهلل إلى التوبة النص وح الص ادقة ،ب دون أن يحت اجوا إلى رقابة أومتابعة
خارجية ،ولذلك ذكر صلى اهلل عليه وسلم ،أن ماعزاً مثالً تاب توبة لو قسمت بين سبعين من
أهل المدينة لوسعتهم .
إذن فمج رد وج ود مع اص قليل ٍة مس تحقة في المجتمع اإلس المي أمر ال من اص منه ،وال يق دح
في سالمة المجتمع .
_________________________________________________
( )1البخاري ( ) 5271ومسلم ( ) 1691و ( ) 1695ورواه أيضاً أحمد في المسند .2/453
( )2رواه مسلم ( ) 1695و ( . )1696
وهذا شبيه – إن أردنا أن نشبه – بما يطلقه األطباء والمراقبون الصحيون على مجتمع ما ،حين
يص فون مجتمع اً من المجتمع ات بأنه س ليم ص حياً فهل يقص دون أن جميع أف راد ه ذا المجتمع
أص حاء تمام اً ؟! كال ..إنما يقص دون أن األم راض العامة ،واألوبئة الفتاكة والمعدية ال توجد
في ذلك المجتمع ،أما وجود حاالت مرضية فردية فأمر طبعي .
لكن األمر الخط ير الق ادح في س المة المجتمع هو أن يعلن أص حاب المنكر منك رهم ،وال
يستحيوا من إظهاره ،إذ إن هذا يدل على هيمنة المنكر وأهله ،وضعف المعروف وأصحابه .
إن ه ذا يش به ذلك المجتمع ال ذي تفشت فيه جرثومة الوب اء فأص بح الن اس يستنش قونها مع
الهواء ويشربونها مع الماء ،ويتعاطونها مع الغذاء فال يكاد يسلم منها إال أقل القليل .
وهذا هو الشأن في المجتمعات التي تمكن للفساد ،وتحمي الرذيلة ،وتضع إمكانياتها المادية
غطاء قويا للمنكر ،تعاقب من ينكره – ولو بلسانه – بقوة وحزم ،وتحاصر الناس
ً والمعنوية
ب المنكر في أم اكن تجمعهم ،وأس واقهم ،ومنت دياتهم ،بل وفي عقر بي وتهم ،ح تى يتس لل
ٍ
حينئذ ..إنه المنكر إلى (( غرفة النوم)) أو إلى (( مهاجع األطفال )) وما أخلق المؤمن بالصبر
لصبر الجبال !.
- 3أن األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمانة للبيئة من التلوث الفكري واألخالقي
،وهذا النوع من التلوث ال يقل خطورة وفتكا عن التلوث الحسي الذي ينجم – مثالً
– عن الح رب الجرثومية ال تي تف زع الن اس ،وتقض مض اجعهم .أو غيرها من وس ائل
التلويث .
فإتاحة الفرصة – مثالً – ألهل الرذيلة ليمارس وا اإلفس اد من خالل األغنية ،والمجلة والكت اب
،واألجه زة المرئية ،وبي وت ال دعارة ،وغيرها ؛ ه ذا يل وث البيئة العامة ،وينشر الوب اء
األخالقي الفت اك في المجتمع ،مما يعسر مهمة المص لحين ،ويجعلهم يقف ون أحيان اً ع اجزين
عن مقاومة تيار االنحالل .
وقل مثل ذلك في نشر الش بهات الفكرية ال تي تش كك الن اس في دينهم ؛ من خالل الكت اب
والمجلة والجري دة والش ريط والقص يدة ونحوها ف إن في ذلك أيض اً تلويث اً للبيئة من الناحية
الفكرية مما يجعل كثيراً من الناس يتخبط في بح ٍر من الشبهات التي تتجاذبه من هنا ومن هناك
.
إنه ال يجوز أن يق ذف بالمجتمع في أحضان الشبهات والشهوات اعتماداً على ما يزعم له من
حصانة ؛ فإن اإلنسان ليس معصوماً ،وليس لديه حصانة من الضالل أو االنحالل حين يتعرض
لس يول الفتنة ،ق ال اهلل تع الى (( :وخلق اإلنس ان ض عيفاً )) ( س ورة النس اء ) 28وإنك لتجد الرجل
لشبهة أو شهوة ؛ فيظل يعالج قلبه أيام اً من جراء ذلك فالنفس أمارة ٍ التقي الطاهر قد يتعرض
بالسوء والشيطان مسلط على ابن آدم واإلنسان مجبول على حب الشهوات .
والمجتمع ال ذي تظهر فيه المنك رات – فكري ةً أو أخالقي ةً – يتع رض له زات عظيمة ،ال يعلم
م داها إال اهلل وله ذا قيل :إن المنكر إذا خفي لم يضر إال ص احبه ،وأما إذا أعلن ؛ فإنه يضر
الخاصة والعامة .
ولذلك فإن صاحب المنكر إذا كان في بيئة غ ير ملوثة فإنه يخفي منك ره ،ويبالغ في الت واري
واالس تتار به ألنه يعلم أنه يعيش في بيئ ٍة ص ٍ
الحة وأنه يق وم بعمل ضد المجتم ع ،فش أنه تمام اً
كش أن ال ذي يريد أن يق وم بعمل تخري بي يخل ب أمن المجتم ع ،فيخطط وينفذ في الظالم بعي داً
عن األنظار .
مرأى
لكن صاحب المنكر إذا كان يعيش في بيئة ملوثة موبوءة فإنه يمارس منكره جهاراً على ً
ومس مع من الن اس ،ألنه يحس أنه يق وم بعمل طبعي ،ال يخالفه المجتمع عليه ،وقد ي ؤول
األمر إلى استتار صاحب المعروف واستخفائه خشية العقوبة ،أو خوفاً من أعين الناس وألس نتهم
الحداد !.
وكم هو مخ زن أن ينشأ بعض أطف ال المس لمين في بيئ ات ملوثة بالس موم الفكرية أو األخالقية
أو غيرها من س موم الفس اد ،فيرض عون الرذيلة مع حليب األم ،ويستنش قون اله واء المل وث
ب الجراثيم المعنوية الفتاكة فينشأ أح دهم ض حل الثقافة ،بعي داً عن ال دين ،منح رف الفكر
والسلوك .
غاية عمله خليط من قمامات األغاني ،والتصورات التائهة ،واالهتمامات التافهة .ال يكاد
يقيم آي ةً من الق رآن الك ريم .يس تنكر المظ اهر اإلس المية إذا رآها ؛ ألنه لم يعت دها ولم
يألفها فيس توحش مثالً من منظر الم رأة المحجبة العفيفة ،ويس تغرب ص نيعها ؛ ألنه ترع رع
في بيئة ملوثة بضروب الجراثيم السلوكية والفكرية .
4أن األمر ب المعروف والنهي عن المنكر ض مانة من العقوب ات اإللهية ال تي تحل
بالمجتمعات إذا فشا فيها الفساد .وسيأتي تفصيل تلك العقوبات في المبحث التالي .
سنن اهلل – تعالى – في خلقه ثابتة ال تتغير وال تحابي أحداً ،وال تتخلف عند وجود أسبابها
.
وإن من س نن اهلل الماض ية أن يس لط عقوباته على المجتمع ات ال تي تف رط في ش عيرة األمر
بالمعروف والنهي عن المنكر (( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى
ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون .كانوا ال يتناهون عن منك ٍر فعلوه لبئس ما كانوا
يفعلون )) ( سورة المائدة . ) 79 78
ولقد غطى الجهل وقلة ال دين على قل وب بعض الس طحيين ،ف اغتروا بإمه ال اهلل عز وجل
فظن وا أن تحذير الغي ورين من مغبة التم ادي في المنكر ،ومن عق بى الس كوت عن إنك اره ،
ظنوا ذلك ضرباً من ضروب اإلرهاب الفكري والتخويف المبالغ فيه ،وليس له حقيقة .
لكن ال ذين يس تنيرون بن ور ال وحي ،ويت أملون نص وص الكت اب والس نة ،ي دركون تم ام
اإلدراك العقوب ات العظيمة ال تي س نها اهلل في حق كل أمة تخلت عن الت آمر ب المعروف
والتناهي عن المنكر سواء كانت تلك النصوص حكاي ةً لمصائر األمم التي فرطت في تلك
الشعيرة ،أو وعيدا لمن سلك سبيلها وليس من الضروري أن تظهر هذه العقوبات بين ٍ
يوم ً
وليل ٍة ،ف إن ال ذي يح دد زمانها ومكانها وص فتها هو اهلل – عز وجل – وليس اس تعجال
البشر أو استبطاءهم .
وتلك العقوبات واآلثار السيئة كثيرة ومتنوعة ،لكن من أظهرها :
كثرة الخبث: .1
روى البخ اري ومس لم عن زينب بنت جحش رضي اهلل عنها (( أن الن بي ص لى اهلل عليه
وس لم اس تيقظ من نومه فزع اً وهو يق ول " :ال إله إال اهلل .ويل للع رب من شر قد اق ترب
فتح الي وم من ردم ي أجوج وم أجوج مثل ه ذا – وحلق بين إص بعيه الس بابة واإلبه ام – " .
فقالت له زينب رضي اهلل عنها :يارسول اهلل ،أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال :نعم إذا كثر
الخبث )1( ".
إن المنكر إذا أعلن في مجتمع ولم يجد من يقف في وجهه ؛ فإن س وقه تق وم وع وده يش تد
وس لطته تظهر ورواقه يمتد ويص بح دليالً على تمكن أهل المنكر وق وتهم ,وذريع ةً القت داء
الن اس بهم وتقلي دهم إي اهم وما أح رص أهل المنكر على ذلك وله ذا توع دهم اهلل جل وعال
فق ال (( إن ال ذين يحب ون أن تش يع الفاحشة في ال ذين آمن وا لهم ع ذاب أليم في ال دنيا
واآلخرة ))
(سورة النور )19
فإذا قلد بعض الناس أهل المنكر والزيغ في منكرهم ؛ أخذ الباطل في الظهور ،وهان خطبه
شيئاً فشيئاً في النفوس ،وسكت الناس عنه وشغلوا بما هو أعظم منه ،وما تزال المنكرات
تفشو ،حتى يكثر الخبث ،ويصير أمراً عادياً مستساغاً ،تألفه النفوس ،وتتربى عليه .
وينحسر – بالمقابل – المع روف والخ ير ويص بح هو المس تغرب ,ول ذلك ق ال الخليفة
الملهم عمر بن عبدالعزيز – رحمه اهلل – في كتاب إلى أمير المدينة الذي يأمره فيه بأن ي أمر
العلم اء ب الجلوس إلفش اء العلم في المس اجد (( :وليفش وا العلم ،ف إن العلم ال يهلك ح تى
يكون سراً )).
إنها لعقوبة كب يرة أن يهيمن المنكر ،ويص بح المع روف غريب اً لكن ..هل يقف األمر عند
هذا الحد ؟ إليك اإلجابة :
إن كثرة الخبث تؤذن بالعذاب اإللهي العام والهالك الشامل كما دل .2
ٍ
جماعة من الصحابة ،مما يدل على ذلك حديث زينب المذكور آنف اً ،الذي نقل عن
على اهتمام النبي صلى اهلل عليه وسلم بهذا األمر .
ولقد بوب اإلمام مالك في الموطأ على هذا الحديث باب اً سماه ( :باب ما جاء في عذاب
العامة بعمل الخاصة ) وساق تحت هذا الباب أثراً عن عمر بن عبدالعزيز ،وهو قوله رحمه
اهلل :ك ان يق ال إن اهلل – تب ارك وتع الى – ال يع ذب العامة ب ذنب الخاصة ،ولكن إذا عمل
المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم (. )1
وه ذا األثر ي دعم ما س بق ذك ره من خط ورة اإلعالن بالمعص ية ومن وج وب التفريق بين
المنكر المختفي والمنكر الظاهر .
وقد قص اهلل – عز وجل – علينا خبر بني إسرائيل حين نهاهم أن يعدوا في السبت ولنا في
تلك القصة عبرة (( وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً اهلل مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً
قالوا معذرةً إلى ربكم ولعلهم يتقون .فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء
وأخ ذنا ال ذين ظلم وا بع ذاب ب ٍ
ئيس بما ك انوا يفس قون .فلما عت وا عما نه وا عنه قلنا لهم
كونوا قرد ًة خاسئين )) ( سورة األعراف . ) 166-164
إذن فقد أنجى اهلل تعالى الذين ينهون عن السوء فقط ،وأما البقية فقد عذبهم كلهم .هذه
سنته – سبحانه – في كل أمة يحق عليها العذاب .
______________________________________________
( )1رواه البخاري ( )3168و مسلم (. )2880
ف إن لم يكن في األمة من ينهى عن الس وء والفس اد فال نج اة ألحد منها (( فل وال ك ان من
الق رون من قبلكم أولو بقية ينه ون عن الفس اد في األرض إال قليالً ممن أنجينا منهم واتبع
الذين ظلموا ما أترفو فيه )) ( سورة هود . )116
وفي ح ديث جرير ال ذي رواه أبو داود (( :ما من رجل يك ون في ق ٍ
وم يعمل فيهم المعاصي
يقدرون على أن يغيروا عليه ،فال يغيروا إال أصابهم اهلل بعذاب من قبل أن يموتوا )) ()2
إن وجود المصلحين في األمة هو صمام األمان لها ،وسبب نجاتها من اإلهالك العام ،فإن
فقد هذا الص نف من الناس ؛ ف إن األمة – وإن كان فيها ص الحون – يحل عليها عذاب اهلل
كلها ص الحها وفاس دها ؛ ألن الفئة الص الحة س كتت عن إنك ار الخبث ،وعطلت ش عيرة
األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،فاستحقت أن تشملها العقوبة .
وروى أبو داود والترم ذي عن أبي بكر – رضي اهلل عنه – أنه ق ال (( :أيها الن اس إنكم
تق رءون ه ذه اآلية )) (( :ياأيها ال ذين آمن وا عليكم أنفس كم اليض ركم من ضل إذا اهت ديتم
)) (سورة المائدة ) 105وإنـي سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول (( :إن الناس
إذا رأو الظ الم فلم يأخ ذوا على يديه ؛ أوشك أن يعمهم بعق اب منه )) ( )3وقد روي ه ذا
الحديث
مرفوع اً كما روي موقوف اً ،وال راجح أنه موق وف على أبي بكر ،لكن له حكم المرف وع ،
ألنه مما ال يق ال ب الرأي .والظ الم هنا هو الم رتكب ألي ن وع من أون واع الظلم الكث يرة ،
فالمشرك ظالم (( إن الشرك لظلم عظيم )) ( س ورة لقم ان ) 13والعاصي أي اً كانت معصيته ظالم
لنفسه ولغيره ،سواء كان سارقاً أو غاشا أو منتهكاً عرضاً أو غير ذلك .
وروى حذيفة – رضي اهلل عنه – أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال (( :والذي نفسي بيده
لت أمرن ب المعروف ،ولتنه ون عن المنكر ،أو ليوش كن اهلل أن يبعث عليكم عقاب اً منه ،ثم
تدعونه فال يس تجاب لكم )) ( . )4يهز القل وب الحية وي دفع أص حابها إلى أن يكون وا من
أولي البقية ال ذين ينه ون عن الفس اد في األرض لتك ون س فينة المجتمع محمية من الغ رق
الذي يهددها عندما يترك السفهاء يخرقون فيها ،
_________________________________________________
( )3رواه الترمذي ( ) 2168وأبو داود ( ) 4338 ( )2ابو داود ( )4339 ( )1الموطأ 991 /1
( )4رواو الترمذي ( ) 2169وأحمد في المسند .388 /5
كما روى النعم ان بن بش ير عن الن بي ص لى اهلل عليه وس لم أنه ق ال (( :مثل الق ائم على
وم اس تهموا على س فينة فأص اب بعض هم أعالها وبعض هم ح دود اهلل والواقع فيها ،كمثل ق ٍ
أس فلها فك ان ال ذين في أس فلها إذا اس تقوا من الم اء م روا على من ف وقهم ،فق الوا :لو أنا
خرقنا في نص يبنا خرق اً ولم ن ؤذ من فوقنا ,ف إن ي تركوهم وما أرادوا هلك وا جميع اً وإن
أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً )) (.)1
فالمجتمع تمام اً كأصحاب السفينة هؤالء ،فإن الذين في أعلى السفينة إن تركوا الذين في
أسفلها ليخرقوا في نصيبهم خرق اً وقالوا :هذه حرية شخصية لهم ،فليفـعلوا ما شاءوا فإن
النتيجة غ رق الس فينة وهالك الجميع ,وإن أخذ ال ذين في األعلى على أي دي ال ذين في
األسفل وقالوا لهم :ليس اإلضرار بالملك العام من الحرية الشخصية فالنتيجة نجاة الجميع
المجتمع ف إن أهل الفس اد ال واقعين في ح دود اهلل يخرق ون بمع اول ,وهك ذا ح ال
انحرافهم في سفينة المجتـمع ,فإن
أخذ المصلحون على أيديهم ومنعوهم من اإلضرار بالمجتمع ،نجا الجميع وإن ترك وهم في
غيهم وتخاذلوا عن األنكار عليهم ؛ هلكوا قاطبةً .
وقبل أن أت رك الح ديث عن ه ذه العقوبة أود أن أنبه إلى أمر ال يك اد ينقضي العجب منه ،
وهو أن بعض الن اس يس تغربون مثل ه ذا الكالم يس تغربون من ق ول الناص حين :إن
المص لحين حم اة س فينة المجتمع من الغ رق بل قد يس تغربون من ق ول الناص حين :إن ما
أصابنا وأصاب غيرنا من األحداث األخيرة المؤلمة إنما بسبب الذنوب والمعاصي يستغربون
ذل ك ،ويع زو بعض هم ما ح دث إلى األس باب المادية ويقول ون :كيف تك ون المعاصي هي
س بب ماح دث ؟ ،والكف ار – مع كف رهم – يعيش ون في نعيم وس عة عيش ،وتمكين في
األرض ؟!
هكذا يقولون ويظنون متناسين أو جاهلين سنن اهلل الثابتة ،والنصوص الصريحة الواضحة ،
والوقائع التاريخية السالفة والخالفة .
_______________________________________________
( )1رواه البخاري ( .) 2361
وهذا منطق الذين ال تتعدى نظرتهم الحياة الدنيا ،ومنطق السطحيين الذين ينظرون إلى ٍ
رقعة
محدودة من المكان ،في حيز محدود من الزمان ،ومنطق الماديين الذين يتنكرون لوحي اهلل
عز وجل (( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء واألرض ولكن
كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون .أف أمن أهل القرى أن ي أتيهم بأسنا بيات اً وهم نائمون .
أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون .أفأمنوا مكر اهلل فال يأمن مكر اهلل إال
الق وم الخاس رون .أو لم يهد لل ذين يرث ون األرض من بعد أهلها أن لو نش اء أص بناهم
( سورة األعراف ) 100-96 بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم ال يسمعون ))
_________________________________________________
( )1رواه الترمذي ( ) 2169وأحمد في المسند .5/388
( )2قبسات من الرسول ،محمد قطب ،ص ، 54 – 53ط الثانية 1962م .
المتربصين الذين يسخرون طاقاتهم لتنصير المسلمين ؛ فيؤدي ذلك إلى وقوع المسلم في
التنصير والعياذ باهلل خاصة أن انشغاله بلقمة العيش قد ينسيه كثيراً من أمور دينه ،مما يبعده
عنه ويهونه عليه .
وهكذا المنكرات ،سلسلة يجر بعضها بعضاً إلى أن تهوي بصاحبها .
وكما أن هناك من يفسر ما يحل بالمجتمعات من الحروب واألحداث المؤلمة تفسيراً مادي اً
بحت اً ك ذلك هن اك من يفسر األزم ات االقتص ادية تفس يراً مادي اً بحت اً ،والم ؤمن ال ذي يعي
سنن اهلل يدرك أن وراء السبب المادي سبباً شرعياً حدث في المجتمع ،فاستحق ما جرت
به سنة اهلل من معاقبة المجتمع الذي يظهر فيه الخبث بال نكير .
كما أن هن اك من تس فك أعراض هم على م ذبح الرذيلة وت داس ك رامتهم جري اً وراء ال درهم
والدينار ..إن كثيراً من الجرائم وأماكن البغاء تتفشى في تلك األحياء الشعبية التي يشيع
فيها الفقر وينتشر فيها العوز والفاقة .
ولعل من أجلى الص ور وأوض حها في ال دمار االقتص ادي ال ذي يلحق المجتمع ات بس بب
إهم ال النهي عن المنكر :الس كوت عن الربا وما يج ره من تف اقم في المس تويات المعيش ية
واالقتصادية فيزيد الفقير فقراً إلى فقره ،ويزيد الغني ثراًء فيصبح المال دول ةً بين األغنياء ،
وتسير األمة إلى هاوية الدمار البعيد .
وها هي ذي مراكز الدراس ات الغربية تتح دث عن مص ير أس ود ينتظر الرأس مالية خالل عق ٍد
أو عقدين من الزمان ،كذلك المصير الذي آلت إليه الشيوعية !
( (( فهل ينتظرون إال مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ))
سورة يونس ) 102
أجمع أهل العلم على فرضية األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ,فرض عي ٍن أو ٍ
كفاية .
ف ذهب ابن ح زم رحمه اهلل إلى إنه فرض عين ،لح ديث أبي س عيد مرفوع اً (( :من رأى
منكم منك راً فليغ يره بي ده ف إن لم يس تطع فبلس انه ف إن لم يس تطع فبقلبه ،وذلك أض عف
اإليمان )) (.)1
وعند جم اهير أهل العلم أنه ف رض كفاية ،وه ذا هو الص حيح ؛ لقوله تع الى (( :ولتكن
منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر )) ( سورة آل عمران ) 104فإذا
قامت األمة المذكورة في اآلية – وهي الطائفة – بالمهمة سقطت عن الباقين ولكن يشترط
أن تكون هذه الطائفة ممن تحقق بهم الكفاية في إقامة هذه الشعيرة .
على أن األمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون فرض عي ٍن في بعض الحاالت .
إض ٍ
افة إلى أن اإلنك ار القل بي وكراهية المنكر والق ائمين به ،هو ف رض عين على الجميع
باتفاق العلماء وال يعذر أحد بتركه ألنه ممكن لكل ٍ
أحد .
وهذه الحاالت هي:
معين ،فهو ٍ
حينئذ مطالب باإلنكار وجوب اً ، – 1إذا لم يعلم بالمنكر غير شخص
ألن الكفاية التقوم إال به .
– 2إذا لم يس تطع تغي ير المنكر إال ش خص بعينه ،فمثالً قد تش يع بعض
المنك رات في وجه اء المجتمع وأعيانه وكبرائه ،فال يس تطيع كل أح ٍد من المس لمين أن
ينكر عليهم ،فيتعين ٍ
حينذ على من يستطيع اإلنك ار من ذوي المكانة العلمية واالجتماعية أن
ينكر عليهم .
– 3يجب األمر ب المعروف والنهي عن المنكر على من واله اهلل أم را من
المس لمين ،ب ً
دء ا بالس الطين ال ذين ائتمنهم اهلل تع الى على األمة ,فإنما ش رع أم ور
اإلسالم الوالية العظمى لتحقيق األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وكل مصلحة تحتاجها
األمة فهي من المع روف وكل مفس دة لألمة فهي من المنكر ،س واء ك ان ذلك في األم ور
الدينية أو الدنيوية .
______________________________________________
( )1رواه مسلم ( . ) 49
ثم كل مسلم حسب واليته ومسؤوليته ،فالوزير مسؤول عن رعيته ومدير الدائرة الحكومية
مس ؤول عن رعيته وم دير المؤسسة مس ؤول عن رعيته والم درس مس ؤول عن رعيته واألب
مس ؤول عن أس رته ورجل الحس بة المكلف من قبل والة األم ور مس ؤول عن القي ام بمهمته
بقدر المستطاع .
وهك ذا نجد أن كل ف ٍ
رد في األمة مط الب ب أن يك ون قيم اً على من واله أم رهم ؛ من أدنى
ٍ
مسؤولية إلى أعلى مسؤولية .
وها هنا قض ية خط يرة ال بد من إثارتها وهي أن كث يراً من الن اس اعت ادوا أن يلق وا بمس ؤولية
إنك ار المنكر على غ يرهم ،فيلومون – مثالً – العلم اء واألم راء ألنهم يس تطيعون تغي ير
المنكر ،ويتنص لون هم من المس ؤولية تمام اً ولو اطلعت على بيت أح دهم فقد تجد فيه
عش رات المنك رات لم يغيرها وكأنه ينتظر أن ي أتي العلم اء إلى بيته ليغيروها ,وه ذه الع ادة
فرد في المجتمع مسؤول عن إصالح ما يستطيع إصالحه ألنه جزء خطيرة وسيئة فإن كل ٍ
من المجتمع يجب عليه القيام بمهمته ،كما يجب على العلماء وغيرهم أداء مهمتهم ولو أن
كل مس لم ق ام بما عليه من األمر ب المعروف النهي عن المنكر لص لحت األمة وأفلحت ،
وظهر المعروف واختفى المنكر .
أما إذا ظلت تتدافع القيام بهذا الواجب ،فالعامة تلوم العلماء وتطالبهم باإلصالح ،والعلماء
فئة في المجتمع تلقي بالمسؤولية على غيرها فيظل يلومون العامة على خذالنهم لهم ،وكل ٍ
المنكر قائماً ممكناً إلى يوم يبعثون .
مراتب االنكار
بين الرسول صلى اهلل عليه وسلم مراتب االنكار بقوله (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده
فإذا لم يستطع فبلسانه فإذا لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف اإليمان )) (. )1
إذن ف المطلوب من المس لم حين ي رى المنكر أن يغ يره بحسب المس تطاع مت درجاً في ذلك
من أقوى صور اإلنكار إلى ما هو دونها .
أما من حيث الواقع العملي فالذي يحدث أوالً هو تأثر القلب ونفوره وإنكاره للمنكر عندما
يراه ثم يرسل القلب األوامر إلى اللسان لينطق بإنكار ذلك المنكر على من واقعه واقترافه .
فإن امتثل وأقلع عن منكره فهذا هو المراد وإال كان االنتقال إلى التغيير باليد .
________________________________________________
( )1رواه مسلم ( )49وأبو داود ( )1140والترمذي ( )2173والنسائي 8/111وابن ماجه ( . ) 4013
إذن فأول ما يحدث هو التغيير بالقلب ثم التغيير باللسان ثم التغيير باليد من حيث الواقع .
لكن الم راد من المس لم هو أن يغ ير بي ده إن اس تطاع ,ف إن عجز لجأ إلى التغي ير باللس ان ،
فإن عجز كفاه أن يغير بقلبه ،وذلك بأن يكره ذلك المنكر ويبغضه .
واإلنك ار ب القلب ف رض عين على جميع المس لمين ،وفي جميع األح وال ألن القلب ال
سلطان ٍ
ألحد من الناس عليه حتى يستطيع منع صاحبه من مقت المنكر وكرهه .
وله ذا ق ال الن بي ص لى اهلل عليه وس لم (( ..ف إن لم يس تطيع فبقلبه وذلك } أي التغي ير
بالقلب{ أضعف اإليمان )) وفي حديث ابن مسعود (( :وليس وراء ذلك من اإليمان حبة
خرذل )) ()1
أي أن ال ذي ي رى المنكر فال يتح رك قلبه ببغض ذلك المنكر واالمتع اض له ،ليس في قلبه
إيمان البتة ،فضالً عمن يرى المنكر فيسر به ويفرح له عياذاً باهلل تعالى .
وها هنا أمر جدير بالوقوف عنده ،وهو ( التلميح والتصريح في اإلنكار ) فإن االسالم دعا إلى
التدرج في هذا األمر ،بحيث يكتفي المنكر بالتلميح إن كان التلميح مجدياً ،فإن لم يغن شيئاً
انتقل المنكر إلى التصريح .
فقد كان الرسول عليه الصالة والسالم ،يقول عندما يرى منكراً (( ما بال أقوام يفعلون كذا
وك ذا؟ )) ( )2ألن هذا التلميح العام كان يكفي في كث ير من األحيان لرد ص احب المنكر عن
منكره لكنه صلى اهلل عليه وسلم كان إذا وجد أن الموقف يحتاج إلى التصريح فإنه يصرح ففي
الص حيحين عن أبي هري رة رضي اهلل عنه ق ال :أمر رس ول اهلل ص لى اهلل عليه وس لم بالص دقة ,
فقيل :منع ابن جميل ,فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم (( ما ينقم ابن جميل إال أنه كان فقيراً
فأغناه اهلل ورسوله ))( )3هكذا صرح النبي صلى اهلل عليه وسلم ،بابن جميل ،ألنه أصر على
منع الزكاة .وكان الرسول عليه الصالة والسالم يصلي مرة بأصحابه ،فلما انصرف من صالته
ق ال (( ي افالن أال تحسن ص التك ! أال ينظر أح دكم كيف يص لي ! إني أراكم من وراء ظه ري
كما أراكم من أمامي ))(. )4
والشواهد على سلوكه صلى اهلل عليه وسلم ،مسلك التلميح إذا أغنى والتصريح إذا دعت إليه
الحاجة ؛ كثيرة ومشهورة .
________________________________________________
( )1رواه مسلم ( )2( )50البخاري ( ) 5750و ( )3( ) 717البخاري( ) 1399ومسلم ( )4( )983مسلم ()423
وعلى ذلك ف إن ال واجب على المس لم إذا وجد إنس اناً مج اهراً بالفس اد مثل ال ذي يكتب
المق االت المض للة والمؤلف ات الهدامة ال تي تح ارب اإلس الم وتطعن في أهل االس تقامة وتش وه
ت اريخ األمة المجيد ,أق ول إن ال واجب على المس لم أن يعلن اإلنك ار عليه وأن يفض حه بين
الناس .
على أن ه ذا ال ترتيب في م راتب الإنك ار ليس مط رداً دائم اً ،فثمة ح االت يتطلب األمر فيها
المب ادرة باإلنك ار باليد ف وراً دون انتظ ار وليس من المعق ول أن يقف المس لم على رجلين
مش تبكين في قت ال ومض ٍ
اربة ،ثم يقف ليلقى عليهما محاض رةً في حق وق المس لم على أخيه ،
وحرمة دم المس لم وماله وعرضه ! بل بجب أن يت دخل ف وراً لفك الخص ومة بينهما م تى ك ان
ذلك ممكناً له .
فاحشة أو منك ٍر يتطلب القيام بتغييره ٍ
بصفة عملية مع القول أو بدونه . ٍ وهكذا لو وقف على
قضية االنكار باليد
اإلنك ار باليد هو المرتبة األولى من م راتب اإلنك ار ،كما ق ال الن بي ص لى اهلل عليه وس لم
(( من
رأى منكم منك راً فليغ يره بي ده …)) .ويك ون التغي ير باليد ب إتالف المنكر إما بإحراقه أو
هدمه أوغ ير ذلك ,واألصل أن االنك ار باليد مهمة الجهة ال تي ف وض إليها ذلك ,لكن ه ذه
الجهة ال توجد أص الً في كث ير من البالد وقد توجد ولكنها ال تق وم بعملها ومس ؤليتها
وحينئ ٍذ يج وز اإلنك ار باليد لألف راد المص لحين في المجتمع كما ص رح ب ذلك أهل العلم ,
ولكن بأربعة شروط :
أحدها :ما سبق ذكره :فقدان السلطة والجهة المسؤولة التي يفوض إليها القيام باإلنكار
باليد.
ثانيها :ظه ور المص لحة الراجحة على المفس دة ،أما إذا ظهر للمنكر أن اإلنك ار باليد قد
ي ؤدي إلى مفس دة أك بر ،مثل التض ييق على المص لحين الغي ورين أو انتش ار المنكر واتس اع
دائرته ففي هذه الحال يمنع اإلنكار باليد .
ثالثها :أن يتعذر ذلك المنكر بغير اليد أي أن المن ِك رَ حاول التغيير بلسانه فلم يستطع فله
حينذاك أن يغير بيده .
رابعها :وهو شرط مهم مراجعة العلماء في ذلك ،فإن بعض الشباب – بما أعطاهم اهلل من
الحيوية والغيرة والتوقد والقوة -إذا رأى منكراً فار الدم في عروقه ولجأ إلى التغيير بيده
ب دون أن يراجع أهل العلم الع املين ال ذين يع رف عنهم أنهم بال ريب مع األمر ب المعروف
والنهي عن المنكر والدعوة والصالح .
ومراجعة أولئك العلماء تنطوي على مصالح عديدة .
:التيقن من أن نفع هذا الإنكار أكبر من ضرره .ذلك أن نظر الغيور المصلحة األولى
المنفعل قد يكون قاصراً ،لكن العالم قد يكون أبعد نظراً .
المصلحة الثانية :أن الذي ينكر باليد قد يتع رض ألذى في نفسه أو أهله أو وظيفته ،أو
حينئذ إلى وقوف أهل العلم معه ،فإذا كان يصدر عنهم فهذا يضمن لهٍ نحو ذلك فيحتاج
مساندتهم له .
:أن هذا يدعم أهل العلم ويقوي مكانتهم ويضاعف تأثيرهم في تغيير المصلحة الثالثة
المنكرات فإن من أهم دعائم إنكار المنكرات وجود العالم الذي يلتف الناس حوله فيكسب
بذلك منـعة وقوة تمكنه من اإلنكار وتجعل كلمته مسموعة وصوته موثراً .
فإذا توافرت هذه الشروط وحرص األفراد على مراعاة هذا الفقه آتى اإلنكار باليد ثماره ،
مع السالمة من المحاذير والسلبيات .
أما التعجل واالس تجابة النفع االت النفس غ ير المنض بطة واالن دفاع وراء العواطف المج ردة
ال يثمر إال الفشل للمهمة العامة ال تي ن ذر المص لح نفسه لها إض افةً إلى الفشل الف ردي
للش خص ذاته ب أن ي ؤول أم ره غالب اً إلى ن وع من القن وط أو اإلحب اط أو االس تيئاس وت رك
العمل واهلل المستعان .
الوسائل كثيرة ال تنحصر في مجال أو نمط معين ومتى ما كان في قلب المرء اهتمام بأمر
الدين وحرقة لإلسالم وحرص على مستوى األمة فإن هذا الشعور يدفعه إلى ابتكار وسائل
مختلفة يستعين بها على إقامة هذه الشعيرة وقد قيل ( الحاجة أم االختراع ).
لكن هذه الوسائل يجب أن يتحقق فيها شرطان :
المنك رُ وسيلة محرمة ليزيل بها المنكر ،
ِ مباحة ،فال يجوز أن يستخدم – 1أن تكون
فإن النجاسة ال تغسل بالنجاسة .
المقصود ،بحيث يتم بها إزالة المنكر ،وتحقيق المع روف وعلى ذلك – 2أن تؤدي
فإذا كانت الوسيلة غير مجدية فال داعي الستخدامها فإذا جزم بأنها تؤدي الغرض أو غلب
على ظنه ذلك كان عليه أن يتوسل بها إلى تحقيق المقصود .
* ومن أبرز أمثلة الوسائل التي ينبغي استعمالها في مجال األمر والنهي :
الكلمة الهادفة : .1
سواء كانت تلك الكلمة محاضرة أو درس اً أو خطب ةً أو موعظ ةً بعد الصالة أو ما شابه ذلك
فمجاالت الكلمة واسعة جدا .وها هنا أمر جدير وهو أسلوب الكلمة ,إذ ال بد أن يكون
مناسباً فيراعي مثالً أال تكون الكلمة ضربةً في وجه صاحب المنكر تصفعه بها دون مقدمات
وال تمهيدات .
خذ على س بيل المث ال :المنك رات الظ اهرة المنتش رة بين الن اس كالت دخين وإس بال الثي اب
وحلق اللحى … الخ .
إن هجوم اإلنسان على مراده مباشرة قد يؤدي إلى نتيجة عكسية وقد يخرج الناس من جراء
ذلك بانطباع ال يخدم قضية األمر بالمعروف النهي عن المنكر .
لكن لو أنك بدأت حديثك بقضية أكبر من هذه ؛ بقضية التشبه بالمشركين ونهي اإلسالم
عن ذلك وعظم خطورته على دين الم رء وذك رت األدلة الش رعية واألمثلة الواقعية ل ذلك
وس قت طرف اً من كالم الم ؤرخين ،ومن كالم الب احثين المعاص رين وت درجت في ع رض
القض ية ح تى تصل إلى ضرب بعض األمثلة للتش به بالمش ركين من الواقع وت أتي بقض ية حلق
اللحية مث االً ل ذلك وت دعم كالمك عنها بما ورد من نص وص في األمر بإعف اء اللحى كقوله
صلى اهلل عليه وسلم (( وفروا اللحى )) ( )1ومضيت في بسط القضية وعرضها على هذه
الش اكلة فإنك إن وفقت في ذلك الع رض اللبق ف إن الحاض رين المس تمعين إليك وإن ك انوا
حليقي اللحى فسوف يتقبلون النصيحة وتدخل قوبهم .
________________________________________________
( )1رواه البخاري ( ) 5553ومسلم ( . )259
________________________________________________
( )1رواه مسلم ()18
وأث نى عليه الص الة والس الم على جماع ات من أص حابه كخالد بن الوليد ،عب دالرحمن بن
ٍ
عوف ،وطلحة وسواهم كثير فالثناء على اإلنسان – فرداً أو جماع ةً – بما هو فيه لغرض
شرعي صحيح أمر ال غبار عليه .
صد على حس ٍ
نات ل دى المنص وح – ف رداً فال ب أس أن ي زين الداعية نص حه بثن ٍاء جمي ٍل مقتـ ٍ
أوجماعة -يكون في ضمنها دعوة له إلى نشدان الكمال البشري الممكن له .
وال بأس أن يتعاهدهم بالنصح بين حين وآخر ،لئال يملوا ويسأموا ،وال يحشد لهم كل ما
ٍ
واحدة !. ينتقده عليهم في ٍ
قعدة
الكتاب والكتيب : .2
وذلك بالكتابة والت أليف في إنك ار ش ٍ
يء من المنك رات ،أو باإلس هام في توزيع ما كتب في
ذلك فكل بحسب طاقته :ف إن كنت ط الب علم تس تطيع الكتابة في موض وع ما ،ف اكتب
وأنكر المنكر وبين للن اس الخ ير من الش ر ،واسع في طباعة ما كتبت ونش ره .وإن لم
تس تطع ذلك فأس هم في توزيع الكت اب عن طريق ب ذل الم ال .ف إن لم يكن عن دك م ال ،
فش ارك في عملية الكت اب بجه دك الب دني في المؤسس ات والم دارس والمس اجد وال دوائر
وغيرها .
وهك ذا يق وم كل ش خص بمس ئوليته في ه ذا المج ال بحسب قدراته وإمكاناته ،ولو كل
مسلم غيور قام بواجبه – أو بعضه -لكان معنى ذلك أن الدعاة يملكون أعظم مؤسسات
التوزيع في العالم ,ولكانت الدعوة اإلسالمية تملك من المراسلين جموع اً غفير ًة ال تملكها
دعوة أخرى في الدنيا كلها .
النشرة الصغيرة : .3
وهي تس مى المطوية ،وتتك ون من بضع ص فحات تع الج موض وعاً معين اً ومن ميزاتها أن من
الس هل أن يقرأها الم رء على عجال ٍة فحسن أن يس تفيد ال ذي ي أمر ب المعروف وينهى عن
المنكر من هذه الوسيلة ،ويشارك في توزيعها ونشرها لتوعية الناس .
الشريط : .4
س واء بإع داد ش ٍ
ريط يحت وي على معالج ٍة لبعض المنك رات أو باإلس هام في نشر ه ذا الن وع
من األشرطة بقدر اإلمكان ،خاصة أن أكثر البيوت اليوم – بل كلها – ال تخلو من أجهزة
تس جيل كما أن بإمك ان المص لح أن ينسخ من الش ريط نس خاً عدي دة ،ويوزعها ليس تفيد
الن اس مما فيها من الخ ير ،وأقل ذلك أن ي دفع الش ريط بعد اس تماعه إلى آخر يس معه
ويس تفيد منه ،إن ط الب المدرسة االبتدائية يس تطيع أن ي وفر من قيمة الش اي يش تريه من
المقصف المدرسي ما يشتري به كتيباً أو شريط في الشهر أو في األسبوع .
الجريدة : .5
الجري دة واس عة االنتش ار ،فقد يطبع من بعض ها مائة ألف نس خة ،أو مائتا أل ٍ
ف ،في الي وم
الواحد فينبغي الكتابة فيها إلنك ار بعض المنك رات خاصة إذا ك ان المنكر قد انتشر في
الجري دة نفس ها ،فال يكفي أن ت ذكر أن ه ذا منكر في مجلس يحت وي على فئ ٍة قليل ٍة من
الناس ،والجريدة قد قرأها مائة ألف أو يزيدون ،وإنما عليك أن تكتب مقال ةً وتراعي فيها
عدد من الناس .قواعد النشر ،وتبعث بها إلى الجريدة لكي تنشر ويستفيد منها أكبر ٍ
إن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يتعامل مع نفوس بشرية ،فل ذلك ال بد أن يتحلى
بصفات معينة ،تيسر له المضي في الطريق وتحميه من الشطط بإذن اهلل .
وأهم تلك الصفات :
– العلم :إذ ال بد أن يعلم أن هذا منكر ؛ لينكره ،وأن ذاك معروف ؛ لي أمر به ،وأن 1
يعرف وجه كون هذا منكراً وهذا معروفاً ،وأن يعلم الطريقة المثلى لألمر والنهي .
وأما الذي ينكر عن جهل فقد يفسد أكثر مما يصلح وإنك لترى كثيراً من الجهال ينكرون
م الم ي ألفوه ،وإن ك ان معروف اً في الحقيقة ،ومن أمثلة ذلك أني ص ليت الفجر يوم اً من
األي ام إلى ج وار أحد الع وام ،فبعد أن تنفلت راتبة الفجر ،وتن اولت المص حف ألق رأ ش يئاً
من الق رآن ؛ ق ال لي :ال ما يص لح ه ذا ،ال بد إذا انتهيت من النافلة أن تس لم على من هو
على يمينك ،ثم تسلم على الذي يسارك ثم ترفع يديك وتدعو بما تريد ،ثم تقرأ القرآن .
فقلت له :س بحان اهلل هل تعلم دليالً على مش روعية س الم اإلنس ان بعد النافلة على من هو
على يمينه وعلى شماله ؟ فقال :ال واهلل .قلت :هل تعلم دليالً على مشروعية واستحباب
رفع اليدين بعد النافلة ؟ قال :ال ما أعلم ,فقلت :لماذا تنكر إذن ؟ فقال :علمني جزاك
اهلل خ يراً فأخبرته أن ه ذه األم ور ليست س نة ينكر على تاركها ،بل هي في ه ذا الموضع
بال ذات – بعد الص الة فريضة أو نافل ةً – غ ير مش روعة ومن أهل العلم من حكم بب دعيتها ،
وأما أصل السالم فمشروع ،وأصل رفع اليدين بالدعاء مشروع ولكن التزامه بعد الصلوات
النوافل هو محل النظر .
إذن فال بد أن يكون ِ
المنكر عالماً على األقل بما ينكر وبما يأمر به .
والحلم :ال بد لآلمر الن اهي أن ي روض نفسه على الرفق والحلم ،ف إن – 2الرفق
التش نج واالنفع ال قد يس بب إخفاق اً في إنك ار المنكر بل قد ي ؤدي إلى مض اعفته واتس اع
دائرته .وال ريب أن كث يراً من المنك رات إذا رآها الغي ور فإن ه يغضب ويش تد ،مهما ك ان
فيه من االنضباط فليحرص على إلجام نفسه بلجام الرفق والحلم ،ومراعاة المصالح .
كما أن ِ
المنكر قد يجد من المن َكر عليه فظاظة أو ردا جارح اً فال بد أن يقابلها بص د ٍر رحب
انفعال ،وأن يرد عليه بابتسامة لطيفة ،أو بطرفـ ٍة تمتص الغضب ،وتفوت الفرصة
ٍ ،وبدون
على صاحب المن َكر أن يستفز ِ
المنكر .
:أي أن يك ون ِ
المنك ُر ع ادالً ،فال يجور على ص احب المن َكر ؛ فينسى – 3الع دل
فضائلـه ويضخم سيئاته وإنما يشهد له بحسناته وفضائله ويذكرها له فيأتي مثالً إليه ويقول
له :يا أخي أنت رجل فيك خيركث ير ،أش هد أنك تحافظ على ص الة الجماعة ،ول ديك من
الفضائل كيت وكيت ،ولكن:
ولم َأر في عيـوب الـناس عيبـاً
كنـقص القـادرين على التـمام
فليتك يا أخي تترك المنكر الفالني ؛ حتى تزداد خيراً وفضالً ،وبعداً عن السيئات .
وبه ذا األس لوب الع ادل تك ون فرصة القب ول واالس تجابة أعظم ،أما إذا تجاهل ِ
المنكر
حسنات المن َكر عليه ،وأهدرها ،فإن هذا يكون مدعاة للنفور وعدم القبول .
والع دل ك ذلك مطل وب في ق ول الحق ولو على ِ
المنكر نفسه فيما لو ط الت القض ية ،
ووصلت إلى المحكمة ،ورفعت إلى القضاء ،فلينتبه لذلك .
:وقض ية الحكمة في ب اب األمر ب المعروف النهي عن المنكر تش كل على – 4الحكمة
كث ي ٍر من الن اس س واء من المنك رين أو المن َكر عليهم .فبعض الن اس يظن أن الحكمة تع ني
ت رك األمر ب المعروف والنهي عن المنكر ،فلو قلت له :ي اأخي ب ارك اهلل فيك قم صل ؛
لق ال لك :س أقوم ،ولكن تكلم معي بحكمة .هك ذا يق ول ،مع أنك لم ت زد على أن
اء أخوي اً ،وحثثته على أداء فريضة .وفي مقابل ذلك قد ال يتح رى بعض وجهت إليه ن د ً
المسلمين الحكمة تحرياً كافياً ؛ فيكون موقفهم من المن َكر غير سليم ،إن سلباً وإن إيجاب اً
.
والحق أن الحكمة في كل شيء بحسبه ،كما قال الشاعر :
ووضع الندى في موضع السيف بالعال
مضر كوضع السيف في موضع الندى
فمن الحكمة أن تس تخذم اللين في موض عه ،كما أن من الحكمة أن تس تخدم الش دة في
موضعها.
وللتمثيل لهذه القضية أذكر القصة التي في الص حيح ،قصة الغالم الذي من بني إسرائيل ،
وهي طويلة لكن الش اهد منها ما ج اء في آخرها من أن الغالم ق ال للملك بعد أن عجز
الملك عن قتله :هل تريد أن تع رف كيف تقتل ني ؟ ق ال :نعم .ق ال :اص لبني إلى ج ذع
جرة ،ثم اجمع الن اس كلهم ثم خذ س هماً وقل :بسم اهلل رب الغالم وأرسل الس همش ٍ
فس يقتلني .ففعل الملك ذلك ،فق ال الن اس كلهم بص وت واحد :آمنا ب رب الغالم .آمنا
برب الغالم (. )1
هكذا ضحى الغالم بحياته ؛ ألن الحكمة – بال ريب -تكمن في هذا التصرف ،فإن موت
ذلك الف رد ت رتب عليه حي اة أل ٍ
وف مؤلفة من الن اس ،فبعد أن ك انوا أموات اً ص رعى للكفر
أصبحوا أحياء باإليمان باهلل تعالى .
ٍ
حينئذ أن وقد اليستطيع المرء أن يقدر موطن الحكمة في معالجة بعض القضايا ،فينبغي له
يستش ير غ يره وأن يس تنير برأيه ليكمل النقص ال ذي قصر به عن إدراك موضع الحكمة
والموقف السليم ,وقد قيل :الناس ثالثة :رجل كامل – أي الكمال النسبي – وهو الذي
له عقل ويستش ير ,ونصف رجل وهو ال ذي له عقل لكنه ال يستش ير ,والث الث ال ش يء ال
عقل له ،وال يستشير .
فاعمل على أن تكون األول ،فإن لم تبلغ ذلك فكن الثاني على األقل وإياك أن تكون الثالث
.
بر :ف إن اآلمر ب المعروف والن اهي عن المنكر مع رض لألذى ،فال يليق أن – 5الص
ينـزعج ويجزع وي ترك مهمته أو يت برم بها ,ولذلك ق ال لقمان البنه وهو يعظه (( ي ابني أقم
الص الة وأمر ب المعروف وانه عن المنكر واص بر على ما أص ابك إن ذلك من ع ِ
زم األم ور ))
( سورة لقمان .) 17
ذلك أن طريق األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مفروش اً بالورود والرياحين ،بل هو
ملي باألش واك والص خور والمص اعب الجمة فمن لم يت ذرع بالص بر خليق به أن يس تطيل
الطريق ويستثقل العمل فيتخلى عن المهمة الربانية الكريمة التي انتدب نفسه لها .
عجيب أمر بعضنا ! يقول :عندي أخ أو زميل أو قريب ال يصلي أو يشرب الخمر أو ….
ف إذا قيل له :انص حه واجتهد في نص حه ،ق ال :عج زت عنه ،أو ق ال :ما فيه فائ دة !
) عن ( س ورة العنكب وت 14 س بحان اهلل !! أين ذهبت (( فلبث فيهم ألف س ٍنة إالخمس ين عام اً ))
عقلك ؟ أين الصبر الجميل ؟ أين طول النفس ؟ أين دأب الدعاة وإصرارهم ؟
ِأمن ٍ
مرة أو مرتين أو عشر مرات ..تقول عجزت ..أو ال فائدة ؟
________________________________________________
( )1رواه مسلم 3005
ربما أن الكلمة ال تي جعل اهلل نج اة ه ذا العاصي بس ببها لم تصل إلى أذنه بعد ..وربما تب ذر
أنت البذرة ويأتي غيرك فيسقيها فتنبت وتثمر ،لكن إياك أن تكون كالكسعى الذي يضرب
به المثل في الندامة ،حين رمى بس هامه ليالً فظن أنها لم تصب فكسر الق وس ،فلما أص بح
وجدها كلها قد أصابت الغرض فاغتم لكسر القوس غماً ال يوصف ..فاحذر أن تكونه ! إن
للقل وب إقب االً وإدب اراً ،وللنف وس قتام ةً وإش راقاً ومن المص لحة أن تتعاهد الم دعو وقت
إقباله وارتياحه بالكلمات الطيبات ،وتهاديه وتالطفه ،وتحتال للوصول إلى قلبه بكل حيلة
ال تذم (( وألن يهدي اهلل بك رجالً واحداً خير لك من حمر النعم )) (.)1
المقص ود ب األمر ب المعروف النهي عن المنكر إنما هو تحص يل المص الح ودرء المفاسد بل
إنما بعث الرسل الك رام – عليهم الص الة والس الم – من أجل المص الح وتكليمها ،وتقليل
المفاسد وتعطيلها .
ٍ
موقف ولهذا إذا علم المسلم أن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر سيترتب عليه مفسدة في
من المواقف فإنه يمنع من األمر والنهي في ذلك الموضع .
ومما ي روى في ه ذا الب اب أن ش يخ اإلس الم ابن تيمية رحمه اهلل خ رج مع بعض تالمي ذه من
دمشق وفي ط ريقهم م روا ببعض الت تر وهم يش ربون الخمر ،فهم بعض التالميذ باإلنك ار
عليهم ،فق ال ش يخ اإلس الم :دع وهم وما هم فيه .فق الوا :ن تركهم – رحمك اهلل – على
ه ذا المنكر ؟! ق ال :نعم إن ه ؤالء الق وم لو أف اقوا من س كرهم ل دخلوا دمشق ،فهتك وا
األعراض ،ونهبوا
األم وال وقتل وا الرج ال .وال يك اد يوجد في ال دنيا مص الح محضة ،وال مفاسد محضة ،
فالقض ية قض ية موازنة ،ف إن ك انت المص لحة أرجح ُحصَِّلت ،وإذا ك انت المفس دة أك بر
دفعت .
وابدا بالمنكر الكبير قبل الصغير ودع اإلنكار إذا ترتب على إنكارك منكر أعظم منه .وهذا
هو ما يوافق مقتضى الش رع والعقل ،ف إن مقتض اهما هو تحص يل خ ير الخ يرين ،ودفع شر
الشرين .
_________________________________________________
رواه البخاري ( ) 3973 ()1
ومما يتعلق بالمص لحة والمفس دة مس ألة اإلس رار واإلعالن باإلنك ار ،ف إن س لوك أحد
الس بيلين مرتبط بقض ية المص لحة والمفس دة فقد تك ون المص لحة في إعالن اإلنك ار ،وقد
تكون في اإلسرار به ،فإذا كان صاحب المن َكر معلناً مجاهراً فالمصلحة في الجهر باإلنكار
عليه ،وإذا ك ان المن َكر شخص ياً أو خشي أن تأخذ ص احب المنكر الع زة ب اإلثم ،أو خيف
أن يترتب على اإلعالن باإلنكار منكر أشد فالمصلحة في اإلسرار باإلنكار .
وقد ورد عن الس لف – رض وان اهلل عنهم – قصص عدي دة أنك روا فيها عالنية ؛ ألنهم رأوا
المصلحة في اإلعالن :
فمن ذلك ما ج اء في الص حيحين من أن أبا س عيد الخ دري خ رج مع م روان بن الحكم إلى
المصلى في يوم العيد ،قال أبو سعيد :فلما أتينا المصلى ،إذا منبر بناه كثير بن الصلت ،
ف إذا م روان يريد أن يرتقيه قبل أن يص لي ،فجب ذت بثوبه ،فجب ذني ،ف ارتفع فخطب قبل
الص الة ،فقلت له غ يرتم واهلل .فق ال أبا س ٍ
عيد ،قد ذهب ما تعلم ،فقلت :ما أعلم واهلل
خير مما ال أعلم (. )1
وم ر ًة أخ رى خ رج م روان إلى المص لى ،وق ام ليخطب قبل الص الة فق ام إليه رجل وق ال :
الص الة قبل الخطبة .فق ال :ت رك ما هنالك ( . )2وهك ذا أنكر عليه عالني ةً ؛ ألنه معلن
بالمنكر ،وألن الرجل كما ذكر النووي ( )3كان معتزا بظهر قبيلته ،وألن مروان سبق أن
أنكر عليه أبو سعيد قبل ذلك – واهلل أعلم – فأصر .
وكم أنكر على أم ير المؤم نين عمر بن الخط اب ،ولعل من أصح القصص في ذلك ما رواه
الشيخان أنه لما حدثت خصومة بين عمر بن الخطاب وأحد الصحابة مرةً من المرات ؛ قال
أبي بن كعب لعمر :ي ابن الخط اب ،ال تك ونن ع ذاباً على أص حاب محمد ص لى اهلل عليه
وسلم .
_______________________________________________
( )1رواه البخاري ( ) 913ومسلم ( ) 889
( )3رواه مسلم ()49 ( )2رواه البخاري ( )913ومسلم ( ) 889
ولما نهى عثمان بن عفان رضي اهلل عنه عن المتعة في الحج ( أي جمع العمرة والحج ) قال
علي بن أبي ط الب رضي اهلل عن ه :لبيك اللهم لبيك عم رةً متمتع اً بها إلى الحج ,فلما قيل له
في ذل ك؛ ق ال أردت أن أبين للن اس أن ما يأمرنا به عثم ان مخ الف لس نة الن بي ص لىاهلل عليه
وسلم ()1
وكان معاوية رضي اهلل عنه يستلم األركان كلها في البيت وال يكتفي باستالم الركن اليماني
أو الحجر األسود ،فأنكر عليه ابن عباس – مع أن معاوية كان أميراً – فقال معاوية :ليس
( س ورة شيء من البيت مهجوراً ,فقال ابن عباس (( لقد كان لكم في رسول اهلل أسوة حسنة ))
األح زاب ) 21وك ان الرس ول عليه الص الة والس الم ال يس تلم إال الرك نين :اليم اني ،والحجر
الأسود (. )2
ودخل عائد بن عمرو يوم اً على عبيداهلل بن زياد – وكان أميراً في العراق – فقال له :أي
ب ني ،إني س معت رس ول اهلل ص لى اهلل عليه وس لم يق ول (( :إن شر الرع اء الحطمة )) ()3
فإياك تكون منهم فقال له :اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى اهلل عليه وس لم
،فق ال :وهل ك ان لهم نخالة ؟ إنما ك انت النخالة بع دهم ،وفي غ يرهم ( ( . )4يع ني في
أمثالك ! ).
هك ذا ك ان األس الف يجه رون باإلنك ار وال يس رون ،عن دما ي رون أن المق ام مق ام إعالن ،
وأن المصلحة في ذلك .
_________________________________________________
( )1انظر شرح مسلم 2/22
( )2البخاري ( )3( )1563رواه البخاري ( )1608ومسلم ( )1269والترمذي ( )858وأحمد . 1/332،372
( )4الحطمة :العنيف في رعيته .
إن جهل كث ير من الن اس بقاع دة الموازنة :ال ترجيح بين المص لحة والمفس دة أوقعهم في
يرة وربما الم وا غ يرهم على فعل األحسن واألكمل على فعل األقل ,لض عف أخط اء كب ٍ
نظ رهم أو إليث ارهم ما يظنونه الس المة وال ورع لض عف فقههم ،وإال ف الورع ليس في ت رك
المش تبه ب المحرم أو المك روه فحسب بل من ال ورع فعل المش تبه بالمس تحب أو ب الواجب
أيضاً .
ومن األخطاء التي يقع فيها بعض المتدينة والمتفقهة في زماننا ما يلي :
الس المة – في أنفس هم – والخ وف من الفتنة إلى اع تزال – 1أن ي دعوهم إيث ار
م واطن المنك ِ
رات والبعد عنها ،مع ق درتهم على غش يانها واإلنك ار على أص حابها ؛ وذلك
خوف اً على أنفس هم من ه ذه المنك ِ
رات أن يصل إليهم ش يء من رذاذها وغبارها ،أو يصل
إلى قلوبهم شيء من ظلمتها وسوادها .
حقا إن أص لح الن ِ
اس إذا اشتـغل بال دعوة إلى اهلل في أوس اط المش ركين أو المبتدعة أو
الفساق ال يشعر بالسعادة القلبية ولذاذة اإليمان التي يشعر بها غ يره من المقيمين بين أهل
الخير والفقه والعبادة ومع ذلك فقد يكون ما يقوم به من العمل والدعوة أفضل بمراحل مما
يقومون به ،وقد يكون له من الفضل والخير ما ليس لهؤالء .
حُّمَل الض رر اليس ير من أجل تحص يل مص لحة أعظم أمر مطل وب ش رعاً وعقالً ،وما
وإن َت َ
يفق ده المش تغل ب النهي عن المنكر من راحة القلب لك ثرة رؤيته للمنك رات ثم ت أثر القلب
ب ذلك وض عف إش راقه يعد أم راً يس يراً بالقي اس إلى ما يقابله من المص لحة العظيمة ال تي هي
هداية الن اس وإقامة الحجة عليهم وأم رهم ب المعروف ونهيهم ِ
المنكر وتحمل ف روض الكفاية
عن اآلخرين ,بل قد تكون هذه األمور من فروض األعيان عليه على حسب التفضيل السابق
في حكم األمر بالمعروف النهي عن المنكر .
وك ذلك ما يخافه على نفسه من منازعتها له إلى المنك رات ،ودعوته إليها ،مع ما يقابل
ذلك من اإليم ان والخ وف من اهلل أما من ي رى في نفسه ميالً ص ريحاً إلى ه ذه المنك رات ،
ويجد من نفسه الهم بذلك ؛ فهذا حري به البعد عنها ؛ طلباً لنجاة نفسه منها .
وه ذا الب اب يتف اوت فيه الن اس تفاوت اً كب يراً ،وكث ير ممن يغلب عليهم الص الح وال ورع
ي ؤثرون س المة أنفس هم ،وينس ون أن الس المة تك ون أيض اً بالقي ام على أهل المنك رات
ومضايقتهم وردعهم .
- 2ومن األخط اء أيض اً ما يوجد في جم اهير طالب العلم وال دعاة في
عامة ، ه ذا العصر من الع زوف عن ت ولي األعم ال ال تي فيها مص لحة
واإلع راض عن التص در للت دريس أو التوجيه أو القي ادة زه ًدا في الس معة والج اه ،وكراهية
للشهرة .
فيق ول بعض هم :لست أهالً له ذا .ه ذا يق وم به غ يري ممن آت اهم اهلل الق درة .ومن الظلم
للناس أن أق وم بهذا األمر ..إلى غ ير ذلك من التعليالت العليلة ،واألعذار التي لو حاسب
المت ذرع بها نفسه حس اباً حقيق اً ألدرك أنها ال تس تقيم وال تصح ،ولك ان هو أول الناق دين
لها .
والواقع أن أك ثر الن اس زه ًدا في ه ذه األم ور هم أك ثر الن اس كفاءة وص الحية لها – في
نقص وقصو ٍر .
الجملة -على ما فيهم من ٍ
وإن تخلي المخلصين الزاهدين في الشهرة والجاه عن هذه الميادين جعلها مرتعاً خصباً لكل
من ال يصلح لها :من حملة المذاهب األرضية ،ومن المتظاهرين بالخير ،وهم على نقيضه
،ومن طالب الشهرة الحريصين على كسب احترام الناس ومديحهم وثنائهم .
وكث يراً ما تلتبس المثبط ات الش يطانية المغرية بالراحة والقع ود بالرغبة في معالجة األعم ال
المريحة الهادئة ك القراءة والبحث والعب ادة ونحوه ا ،وتلتبس ه ذه وتلك باحتق ار النفس
وازدرائها ،ح تى لتب دو ه ذه األم ور جميعها لص احبها نوع اً من الزهد الس لفي الص حيح وما
هي منه في شيء .
بل المتبع الحريص على خير نفسه وخير المسلمين ،هو من يبذل ما عنده من العلم والفهم
والفقه ولو قل ,دون أن ي دعي ما ليس له ،وهو من ي زاحم أهل الض اللة والبدعة في قي ادة
المجتمع ات اإلس المية وتوجيهها ،ويس تفيد من الف رص المواتية في ذلك ،مع حرصه
الش ديد على س المة نفسه من التعلق بال دنيا والج اه والمكانة عند الناس ،وجهادها في ذلك
.
يتس اءل كث ير من الش باب عن مهمتهم المطلوبة منهم في مج ال األمر ب المعروف النهي عن
المنكر .وه ذا التس اؤل ي دل على بداية حس نة ،وي وحي ب أن الش باب وض عوا أرجلهم في
الطريق بعزم ويحتاجون فقط إلى من يبصرهم بواجبهم .
والحق أن الكالم عن هذه القضية يطول ،ولكن سأجعل الحديث عن أهم الواجبات الملقاة
على عواتق الشباب في اآلتي :
– 1أن يض طلع الش اب بمهمة األمر ب المعروف والنهي عن المنكر من
شمولي ،فيقوم بما قد يقوم به غيره ويزيد عليه ,بحيث يؤدي مهمته في المنـزل منطق
وفي المدرسة وفي العمل وفي الحي وفي الس وق وفي غ يره ،مس تخدماً مختلف الوس ائل ؛
من ٍ
كلمة وكتاب وشريط ومقاطعة لألماكن التي فيها فساد وغير ذلك .
أي أن يجعل الش اب األمر ب المعروف النهي عن المنكر همه ووظيفته في كل أحيانه ،كلما
أمكنه ذلك .ولئن اس تطاع الش باب أن ي ؤدوا ذلك على الوجه المطل وب ،لتختفين – بال
ريب -وال ت ردد كث ير من المنك رات ولتظه رن كث ير من الس نن المهج ورات ،بع ون اهلل
تعالى .
العلم اء :ف إن للع الم ت أثيراً كب يراً في إزالة المنك رات ، – 2أن يواصل الش باب
وبخاصة المنكرات الراسخة المتأصلة الضاربة بجذورها في المجتمع ،التي يصعب اقتالعها
على غير العلماء ،الذين لهم مكانتهم ،وكلمتهم المسموعة وركنهم الشديد .
فعلى الش باب أن يلتف وا ح ول العلم اء الع املين ،المتبعين للس نة وأن يبلغ وهم بما يقع من
منكرات فالعالم قد يكون مشغوالً بدروسه وارتباطاته الكثيرة ،عن الوقوف على تفاصيل ما
يقع في المجتمع من المنك رات .ف إذا جعل الش باب من نفسه واس طةً إليص ال تلك
المعلوم ات إلى الع الم – ه ذا على األقل – ف إن الع الم يك ون ب ذلك مطلع على ما يج ري ،
ويستطيع بالتالي أن يتخذ الموقف المناسب .
ولكن على الشباب حين يبلغ العالم عن منك ٍر أن يقدم له اإلثباتات والوثائق ،حتى كأنه ي راه
بعينه أو يسمعه بأذنه وأال يقتصر على مجرد الظن ألن األمر قد يك ون على خالف ما ظهر له
.
ووس ائل تزويد العلم اء وال دعاة وطلبة العلم بمعلوم ٍ
ات عن المن َكر وس ائل عدي دة ،منها -
على س بيل المث ال ال الحصر – أن يق دم الش اب لهم ما ينشر من مق االت ،أو قص ائد أو
كتب تخالف اإلسالم أو تطعن فيه ،أو تدعو إلى الرذيلة ,إلى غير ذلك .ومتى وجد لدى
الش اب االهتم ام واإلحس اس بالمس ئولية واالح تراق له ذا ال دين ،فس تأتي الوس ائل تباع اً ،
اد ،وأقل ما يجب في ه ذا أن يك ون ثمة ش هود ع دول على ح دوث المنكر بطواعي ٍة وانقي ٍ
وأنهم رأوه أو سمعوه بأنفسهم لقطع دابر األقاويل واإلشاعات والظنون .
– 3المش اركة في المج االت الرس مية لألمر ب المعروف والنهي عن
مهمة ،ف إن كث يراً من الن اس يلق ون بالمس ئولية على غ يرهم ، المنكر وه ذه قض ية
ويتنص لون منها ،فيتكلم ون مثالً عن جه از األمر ب المعروف النهي عن المنكر ،فيقول ون :
إنه لم يقم بواجبه ،وقد يقول بتعضهم ،إن كثيراً من الموظفين فيه كبار السن ..إلخ .
ولكن السؤال الذي يجب طرحه هو :لماذا أخي الشاب لم تقم بهذه المهمة ,بدالً من أن
ننحي بالمالئمة على غيرنا ؟! إن ه ذا الجه از لو ك ان م دعوماً بع دد من الش باب المل تزمين
ال واعين الم دركين لك ان أق وى من أن يقف في وجهه أح د ،مهما ح ورب أو وض عت في
طريقه العقبات .
لكن لما تخلى أبناء األمة عن مسئوليتهم ،وعزف كثير من الشباب الصالحين الجامعيين عن
التوظيف في هذا الجهاز ؛ حصلت بعض السلبيات ،فعلينا أن ندرك أننا مسئولون عن هذا
التقصير وأن نتداركه بقد المستطاع .
تحقيق اً لقوله – 4أن نك ون عون اً لآلم رين ب المعروف الن اهين عن المنكر
تعالى (( وتعاونوا على البر والتقوى )) ( سورة المائدة ) 2وصور التعاون ها هنا متعددة .
فقد يعمل الفرد مع اآلمرين بالمعروف بصفته متعاوناً معهم في هذا السبيل .
وقد يق وم ب التبليغ عن أي منكر تقع عليه عينه ،أو تس معه أذنه ،أو يعلم بوج وده ب أي
وسيلة .
وقد ي دعو للق ائمين به ذا العمل حيث إنهم يتول ون القي ام به ذه المهمة المقدسة بالنيابة
وبحق في القليل الن ادر ،مع أنهم يتج اهلون أخط اء اآلخ رين من الفئ ات األخ رى كافة ..
وكأن من شروط رجل الحسبة أن يكون معصوماً !
وقد يواصلهم بالزيارة في مواقع عملهم فيحدثهم ويس تمع إليهم ويبثهم ما في نفسه من
ٍ
آراء أو ملحوظات ،ويقيم روابط الود والمحبة معهم ،ليشعر هؤالء الجنود المجهولين أن
المجتمع يثمن جهدهم ويقدر سهرهم وعناءهم !
ف إن تع ذر عليك ه ذا كله أخي ,فال أقل من االل تزام بوص ية رس ول اهلل ص لى اهلل عليه
وسلم لأبي ذر كما في البخاري ((تكف شرك عن الناس ،فإنها صدقة منك على نفسك)) (
)1والنرضى لك بح ٍ
ال أن تنح از إلى فئة المس تهزئين الس اخرين ال ذين توع دهم اهلل
تعالى فقال (( إنا كفيناك المستهزئين )) ( سورة الحجر . ) 95
وق ال (( ولئن س ألتهم ليق ولن إنما كنا نخ وض ونلعب ،قل أباهلل وآيات ِه ورس ِ
وله كنتم
تستهزئون .ال تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )) ( .سورة التوبة . ) 66 – 65
إن اكتف اء الغي ورات المؤمن ات بالش كوى والتوجع من المنك رات ال تي تح دث ليس حالً
لمش كالت األمة وإنما الحل أن يك ون هن اك خط وات عملية ج ادة للت أثير في الواقع ،وأن
يك ون بين الص الحات شخص يات معروفة لها نش اط إس المي ق وي مجاه دة داعية آم رة
ب المعروف ناهية عن المنكر ،تكتب وتحاضر وت درس وتوجه وتق وم بواجبها في مجالها
المناسب .
والتفريط كل التفريط والرزية كل الرزية أن ينط وي الص الحات على أنفس هن ويخ رجن من
الساحة ويدعن الضاالت المنحرفات يدرن الدفة ويسرن بالمجتمع إلى الهاوية .
إن ثمة نس اء موت ورات منهزم ات يحملن فك راً تغريبي اً تخريبي اً ونس اء بلي دات مقص رات ال
يع نيهن أمر األمة ونس اء ي وجههن أزواجهن المن افقون إلى ت رويج الفس اد الفك ري والخلقي
بين الفتيات .
فأح ذر األخ وات ال داعيات إلى اهلل من أن ي تركن المي دان له ؤالء فتتل وث البيئة بج راثيم
االنح راف والض الل ؛ فيعضضن بن ان الن دم إذ الت حين من دم ،ف إن أخشى ما يخش اه
المصلحون اليوم هو أن يأتينا الشر من قبل المرأة ألن أعداء اإلسالم يركزون على محاولة
إفس اد الم رأة ؛ إذ بفس ادها يك ون فس اد المجتمع قاطب ةً كما هو مش اهد عيان اً في كث ير من
المجتمعات .
فهل تعي المؤمنة حجم المسئولية الملق اة على عاتقها وتنفر لمقاومة المنكر ونشر المعروف
؟!
_________________________________________________
رواه أحمد 2/43والترمذي ( )2507وابن ماجة ( . )4032
:ش يخ اإلس الم ابن تيمية ال ذي اس تطاع أن يكسب قل وب الن اس بص دقه ونص حه األول
وبذله الجهد ح تى في مص الح الن اس الدنيوية .فقد ك ان -كما ذكر ال ذهبي – يتعب في
مصالح الناس ليالً ونهاراً ،سراً وجهراً ،بلسانه وقلمه ،وذلك ببذل جاهه في دفع الظلم
ونفع الن اس وتحص يل مص الحهم ،وما ش ابه ذلك من وج وه الخدمة والنصح للمس لمين ،
بقدر ما يستطيع .
ومكانته الكب يرة في نف وس الن اس جعلت له كلمة مس موعة ول ذلك ك ان ي أمر ب المعروف
وينهى عن المنكر على المس توى الرفيع .ومما ي ذكر في ذلك أنه ذهب إلى الس لطان
الممل وكي في مصر لما ج اء الت تر إلى بالد المس لمين ،وقد رأى أن س لطان مصر أبطأ في
المجيء إلى الش ام ،فق ال له :إن كنتم أعرض تم عن الش ام وتركتم وه ،فإننا نجعل له من
يحوطه ويحميه في زمن الخ وف ،ويس تغله في زمن األمن ،ثم تال ق ول اهلل تع الى (( وإن
تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم ال يكونوا أمثالكم )) ( س ورة محمد ) 38وكان مما قاله له أيض اً :
إنه لو قدر أنكم لستم حكام الشام وال ملوكه ،واستنصركم أهله ،لوجب عليكم النصر ،
فكيف وأنتم حكامه وملوكه ،ال يسعكم إال الخروج !! فخرج السلطان إلى الشام ،وخرج
معه الناس .
وكان شيخ اإلسالم يخرج مع الناس في المعارك يثبت قل وبهم بالوعظ والتذكير ،حتى إنه
ك ان يق ول لهم :إنكم منص ورون .فيقول ون له قل :إن ش اء اهلل ,فيق ول :إن ش اء اهلل
تحقيقاً ،ال تعليقاً .وهكذا كان ،فقد انتصر المسلمون بعون اهلل على التتر .
وعلى ه ذا النحو ك ان – رحمه اهلل – يعيش هم وم األمة على مس توى األف راد وعلى
المستوى الجماعي ؛ فيؤثر في مسيرة األمة ويشاركها في جهادها وأفراحها وأتراحها .
:العز بن عبدالسالم ،المعروف بسلطان العلماء ،وله عدة مواقف جليلة في األمر الثاني
ب المعروف والنهي عن المنكر ،ومن ذلك موقفه مع س لطان ال ديار المص رية ،فقد خ رج
ذلك الس لطان في ي وم العيد في م وكب عظيم ،والش رطة مص طفون على ج وانب الطريق ،
وحاشيته يحيطون به ،واألمراء بين يديه ،والعز – رحمه اهلل – يرى ذلك فنادى السلطان
ق ائالً :ي اأيوب ! ما حجتك عند اهلل إذا ق ال لك :ألم أب وىء لك ملك مصر ت بيح الخم ور؟
فقال :أو يحدث هذا ؟ فقال :نعم في مكان كذا وكذا -حانه يباع فيها الخمر , -فقال
السلطان :يا سيدي هذا أنا ما عملته هذا من عهد أبي .فهز العز بن عبدالسالم رأسه وق ال
:أنت من ال ذين يقول ون (( :إنا وج دنا آباءنا على أمة )) ؟! فأص در الس لطان أم راً بإبط ال
الحانة ،ومنع بيع الخم ور .وانتشر الخ بر بين الن اس ورجع العز إلى مجلس درسه ،فج اءه
أحد تالمي ذه -يق ال له ( الب اجي ) -فس أله ق ائالً :ياس يدي كيف الح ال ؟ فق ال :يا ب ني
رأيته في تلك العظمة ،فأردت أن أهينه لئال تكبر نفسه فتؤذيه .فقال :ياسيدي ! أماخفته ؟
فقال :واهلل يا بني لقد استحضرت عظمة اهلل – تعالى -فصار السلطان أمامي كالقط .
الثالث :المنذر بن سعيد البوطي (سلطان األندلس) وله مواقف عجيبة ،منها الموقف الت الي
:
كان الخليفة عبدالرحمن الناصر كلف اً بالعمارة ،وإقامة المعالم ،وتشيد الدور ،ومن ذلك
أنه ب نى مدينة الزه راء ،واس تفرغ جه ده في تنميقها وإتق ان قص ورها ،وزخرفة مص انعها ،
ح تى لقد ت رتب على اهتمامه ب ذلك األمر وإش رافه عليه بنفسه أن ت أخر عن ص الة الجمعة
ٍ
ثالثة اسابيع متوالية فلم يصلها مع المنذر بن سعيد – وكان يتولى الخطابة والقضاء – فأراد
المنذر أن يعظ الخليفة ويكسر من غروره ،ويحاسبه على إنفاقه األموال الطائلة في التشييد
والعمارة ،وعلى انشغاله بذلك عن اإلقبال على اهلل .
فلما كان يوم الجمعة ،وحضر الخليفة ،صعد المنذر المنبر ،فب دأ الخطبة بقول اهلل تعالى
(( أتبن ون بكل ري ٍع آية تعبث ون .وتتخ ذون مص انع لعلكم تخل دون .وإذا بطش تم بطش تم
جب ارين .ف اتقوا اهلل وأطيع ون .واتق وا ال ذي أم دكم بما تعلم ون .أم دكم بأنع ٍام وب نين .
يوم ٍ
عظيم )) ( س ورة الش عراء . ) 135 – 128واسترسل يقول : وجنات وعيون .إني أخاف عليكم ٍ ٍ
وال تقول وا (( س واء علينا أوعظت أم لم تكن من ال واعظين .إن ه ذا إال خلق األولين .وما
(( قل مت اع ال دنيا قليل واآلخ رة خ ير لمن اتقى وال (س ورة الش عراء ) 138 – 136 نحن بمع ذبين ]
تظلمون فتيالً )) ( س ورة النس اء ) 77ومضى يذم اإلسراف في تشييد البناء ،والعناية بالزخرف ،
بلهجة ش ديدة ثم تال ق ول اهلل عز وجل (( :أفمن أسس بنيانه على تق وى من اهلل ورض ٍ
وان
خ ير أم من أسس بنيانه على ش فا ج ٍ
رف ه ا ٍر فانه ار به في ن ار جهنم واهلل ال يه دي الق وم
( س ورة التوبة – 109 الظالمين .ال يزال بنيانهم الذي بنوا ريب ةً في قلوبهم إال أن تقطع قلوبهم ))
. ) 110
وأتى بما يش اكل ه ذا المع نى ؛ من التخويف ب الموت وفجاءته ،والتزهيد في ال دنيا ،
وال ترغيب في اآلخ رة ،وأس هب في ذلك وأض اف إليه ما حض ره من اآلي ات القرآنية ،
واألحاديث ،وآثار السلف ،وأقول الحكماء والشعراء وغير ذلك ،حتى بلغ التأثر بالناس
مبلغه ،وض جوا بالبك اء وك ان للخليفة من ذلك نص يب كب ير .إال أنه وجد في نفسه على
المنذر ،وشكا إلى ولده " الحكم " ما لقيه من الشيخ ،وقال :واهلل لقد تعمدني بالكالم ،
وقد أسرف علي وبالغ في تقريعي .وأقسم أال يصلي وراءه مرة أخرى ،وصار يصلي وراء
أحمد بن مطرف خطيب جامع قرطبة .
هذه هي أقصى عقوبة كان بإمكانه أن ينـزلها بالمنذر بن سعيد ،ألنه يعرف له مكانته وقدره .
فرحم اهلل أولئك العلماء العاملين ،اآلمرين بالمعروف والناهين عن المنكر غير خائفين في
الئم ،أو جبروت حاكم .اهلل لومة ٍ
إنهم ق وم ش عروا بثقل األمانة الملق اة على ع واتقهم ؛ فش مروا لحملها .وأيقن وا بحفظ اهلل
لهم وتأييده إياهم ،فبذلوا في سبيل إظهار دينه كل ما يملكون ،ونصحوا لألمة حق النصح
،فال عدمت أمثالهم األمة ،إلى أن يرث اهلل األرض ومن عليها .
***********