You are on page 1of 51

‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬

‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫أستاذ النقد األدبي والبالغة المساعد بقسم اللغة العربية وآدابها‪-‬‬
‫كلية اآلداب‪ -‬جامعة اإلسكندرية‬
‫المقدمة‪:‬‬
‫غني عن البيان أن الشعر الحديث له من الصوالت والجوالت ما ال يمكن إنكارها في‬ ‫ٌّ‬
‫تطور الحركة الشعرية وقد كان ذلك بمحاكاة القديم كما نرى في مدرسة البعث واإلحياء ‪،‬‬
‫أو الدعوة إلى التجديد كما نرى في شعراء مدرسة الديوان هذا من جهة ‪ ،‬ومن جهة أخرى‬
‫كانت هناك دعوة إلى إضفاء نوع من المغايرة لما قد كان مألوفا في الشعر القديم كما في‬
‫ال مدرسة الرومانسية واتصالها بالغرب واالنشغال بقضايا اإلحساس والشعور والتدفق‬
‫الوجداني‪ ،‬ناهيك بالمدرسة الواقعية التي اتصلت بالواقع وقضاياه اتصاال وثيقا ‪ ،‬وذلك كله‬
‫تبعا لمتطلبات العصر ومقتضاياته الحداثية ‪ .‬وقد انعكس ذلك كله على تجارب الشعراء‬
‫وإنتاجهم األدبي وما انبثق عن ذلك كله من ٍ‬
‫قيمة أثرت التجربة الشعرية بشتى أركانها‪.‬‬
‫افدي األدب(الشعر‬
‫وما من شك أنه إذا كانت النهضة الشعرية الحديثة قد أولت اهتمامها بر ْ‬
‫والنثر) في آن معا؛ فإن الشعر كان له الغلبة واليد الطولى في هذا المحراب اإلبداعي‪،‬‬
‫خاصة في ظل التقلبات السياسية واالقتصادية واالجتماعية التي ضربت المجتمعات الشرقية‬
‫عامة والعربية منها خاصة في أوائل القرن التاسع عشر وامتد صداها وأثرها إلى وقتنا‬
‫الحاضر ‪.‬‬
‫ومن نافلة القول إن تلك النهضة األدبية لم تكن إال نتيجة ما تمخض عنه الوعي العربي‬
‫بفعل تلك التجاذبات الثقافية والفكرية التي رسختها االحتالالت المتعاقبة على المنطقة‬
‫العربية‪ ،‬وما دعت إليه من اتجاهات قد القت استحسانا وقبوال تارة ‪ ،‬ولم تلق ذلك تارات‬
‫أخرى‪.‬‬
‫اسات الحديثة ضالتها في البحث عن الجذور القديمة‬ ‫دت الدر ُ‬‫ومن هذا المنطلق فقد َو َج ْ‬
‫الضاربة بسهم وافر في الذهنية العربية؛ وقد تجلى أثرها في البحث عن القديم بثوب جديد‬
‫لعل ما كان غائبا عن الحركة األدبية لبضعة قرون‪ -‬منذ نهاية العصور العباسية وما تالها‬
‫من حركات تنويرية تقدمية غلب عليها التردد وعدم االرتكاز أحيانا وعلى مجاراة العصر‬
‫أحايين أخرى‪ -‬لعل ذلك كله قد وجد مأربه في الحركة اإلحيائية‬
‫َ‬ ‫األدبي والسياسي آنذاك في‬
‫التي كانت نقطة انطالق للمغايرة‪.‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪163‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫وانطالقا من تلك الحالة أخذ بعض الشعراء الحداثيين ‪-‬ومنهم رائد المدرسة اإلحيائية محمود‬
‫اح فنية تجعل له‬ ‫سامي البارودي‪ -‬بتالبيب القديم بغية المحافظة عليه مع ترصيعه بنو ٍ‬
‫اطر‬
‫تكاز على ما صار يجيش في قلوب الشعراء وعقولهم من خو َ‬ ‫خصوصية وتفردا‪ ،‬ار ًا‬
‫ورطتهم فيها قضايا العصر المحيطة بهم كما ذكرنا آنفا‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫انفعاالت َّ‬‫و‬
‫وانتقاال إلى عنوان الدراسة فإنها تنحصر بين طرفين شديدي التجاذب أال وهما االستشراف‬
‫والتغريب‪ ،‬فعالقة المصطلحين طردية صرفة بناء على معطيات العصر؛ فلوال الحاضر ما‬
‫كان المستقبل واستشرافه ‪ ،‬ولوال الحاضر ومالبساته المتعددة النفسية منها واالجتماعية لما‬
‫ويسور ديوانه من الدفة إلى الدفة‪ ،‬وال يغيب عنا‬ ‫وجدنا تغريبا يطل بعنقه في شعر البارودي ِّ‬
‫أنه قد ُنفي نفيا نفسيا موازيا للنفي المكاني‪.‬‬
‫ومن هذا المنطلق‪ ،‬رأى الباحث أن تنقسم الدراسة في هذا البحث إلى مبحثين متمخضين عن‬
‫العنوان‪ ،‬يسبقهما مقدمة وإطار نظري‪ ،‬وفي النهاية نتيجةٌ وتوصيات يليها ثبت بالمصادر‬
‫والمراجع‪.‬‬
‫اإلطار النظري للدراسة ‪.‬‬
‫المبحث األول ‪ :‬ثنائية التفاؤل والتشاؤم‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬ثنائية الزمان والمكان‬
‫اإلطار النظري للدراسة‬
‫االستشراف‪:‬‬
‫المعنى اللغوي يعني االقتراب من شيء أو أن تتطلع إليه وترقبه من بعيد " شرف‪ -‬الشرف‪:‬‬
‫عال"‪ 1‬و"شارف الشيء دنا منه‬ ‫اطلع عليه من مكان ٍ‬ ‫العلو والمكان العالي‪ ...‬وأشرف عليه َّ‬
‫وقارب أن يظفر به‪...‬واالستشراف أن تضع يدك على حاجبك وتنظر‪ ،‬وأصله من الشرف‬ ‫َ‬
‫‪2‬‬ ‫ُّ‬
‫وحديث النفس وتوق ُعه"‬ ‫النظر إليه‬ ‫ُّ‬
‫ُ‬ ‫التشرف للشيء التطلع و ُ‬ ‫الع ُلو ‪...‬و ُّ‬
‫ُ‬
‫المعنى االصطالحي ‪ :‬يعني أنه أن تتوقع ما يحدث مستقبال بناء على معطيات الحاضر‬
‫مبني على أسباب‬
‫ٌّ‬ ‫وأدواته ومسبباته‪ ،‬وليس بالقطع حدوثه‪ ،‬إنما هو ترقب وتوقع وانتظار‬
‫وعلل ودوافع‪.‬‬

‫الصحاح‪ :‬دار المعرفة ‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الخامسة‪( ،2012 ،‬شرف)‪ ،‬ص‬
‫‪ 1‬الرازي‪ :‬مختار ِّ‬
‫‪302‬‬
‫‪ 2‬ابن منظور ‪ :‬لسان العرب ‪ ،‬دار المعارف ‪ ،‬القاهرة (شرف) المجلد‪، ، 4‬د‪.‬ت ص ‪2242‬‬

‫‪164‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫اغرب عني‬ ‫ويقال ُ‬‫التغريب‪ :‬المعنى اللغوي‪ :‬من َغ َر َب يعني "النفي عن البلد‪َ ،‬غ َر َب أي َب ُع َد ‪ُ ،‬‬
‫أي تباعد‪ ...‬وفي الحديث أن النبي صلى هللا عليه وسلم أمر بتغريب الزاني سنة إذا لم‬
‫الغرب النزوح عن الوطن واالغتراب"‪" " 3‬وقولهم‪:‬‬ ‫الغربة و ُ‬
‫ُيحصن‪ ،‬وهو نفيه عن بلده ‪ ...‬و ُ‬
‫ِّ ‪4‬‬ ‫حبلُ ِّك على غار ِّ‬
‫حيث شئت"‬
‫بك؛ أي اذهبي ُ‬
‫المعنى االصطالحي‪ :‬هو التغريب يتعلق بشقين أساسيين هما ‪ :‬النفسي والمادي‪ ،‬أما األول‬
‫حل بوطنه‪ ،‬فالتغريب في االصطالح ال يترتبط‬ ‫فهو الذي يشعر فيه اإلنسان بغربته وإن َّ‬
‫بالضرورة بالمكان بقدر ارتباطه بالحالة النفسية التي يكون عليها اإلنسان نتيجة ظروف‬
‫محددة تسببت في ثورة ذلك الشعور‪ .‬أما الثاني فإنه ينطلق من اإلبعاد المكاني الموازي‬
‫للنفي‪.‬‬
‫وعن سبب اختياري للبارودي؛ فإن السبب يكمن في قيمة الشاعر ومكانته األدبية والفنية فهو‬
‫رائد الشعر العربي في العصر الحديث ‪ ،‬لِّما له من دور جلي في الحفاظ على التقاليد‬
‫الشعرية القديمة التي أضفى عليها بعضا من تجاربه ومن شعوره وإحساسه‪ ،‬وقد عنه د‬
‫محمد مندور"ولعل البارودي أن يكون أول ثمرة لذلك البعث إن لم يكن رائده بمختاراته‬
‫وديوانه‪ ،‬وذلك في مجال اللغة وفن الشعر "‪ 5.‬عالوة على ذلك فإنه أعتقه من ربقة الصنعة‬
‫والزخرف التي غلبت عليه قديما‪ ،‬ناهيك بأنه مزج الشعر بالعصر ومتطلباته وخرج به عن‬
‫أغراضه الغثة السقيمة ولغته الركيكة ‪ ،‬بحيث يمكننا الذهاب بالقول ‪ :‬إن البارودي استطاع‬
‫أن يعيد الشعر العربي إلى مساره الطبيعي بعد أن توقف ثم انحرف عن طريقه‪ ،‬كذلك لما له‬
‫من حنكة ورؤية استشرافية بناء على معطيات الواقع‪ ،‬وكيف ال يحدث ذلك؟! وهو رجل‬
‫عسكري تربى في كنف النظام وااللتزام والحسابات الدقيقة والمدخالت التي يتمخض عنها‬
‫أن شعره‬ ‫شاعر الدراسة َّ‬
‫َ‬ ‫مخرجات محددة‪ .‬أضف إلى ذلك أن الدافع وراء اختياري البارودي‬
‫درس الدراسة التي تليق بمكانته مقارنة بخليل مطران وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وغيرهم‬ ‫لم ُي ْ‬
‫من الشعراء‪ُ ،‬يضاف إلى ذلك أن كثي ار من الدراسات دارت حول البارودي نفسه ولم يكن لها‬
‫النصيب األوفر في دراسة شعره وخاصة ما يتعلق باالستشراف والتغريب في شعره‪.‬‬

‫‪ 3‬السابق ‪( :‬غرب) المجلد‪ 5‬ص ‪3225‬‬


‫‪ 4‬الرازي ‪ :‬مختار الصحاح‪،‬من غرب‪ ،‬ص ‪414‬‬
‫‪ 5‬د محمد مندور‪ :‬في الميزان الجديد ‪ ،‬دار نهضة مصر للطباعة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬طبعة يناير ‪ ،2004‬ص‬
‫‪52‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪165‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫وعن السؤال الذي يؤطر هذه الدراسة فإنه يكمن في‪ :‬ما خصوصية االستشراف والتغريب في‬
‫شعر البارودي وما األسباب الحقيقية التي دفعته‪ -‬كما أرى‪ -‬إلى تمظهر شعره بهاتين‬
‫الظاهرتين ‪ ،‬وإلى أي مدى تحقق ذلك في شعره؟!‬
‫وقد تجلت اإلجابة عن هذا السؤال باختصار في طبيعة البارودي وشخصيته من ناحية‪ ،‬وما‬
‫طوق عنقه من حياة عسكرية قائمة على الطاعة واالستجابة من ناحية أخرى‪ ،‬ومن ناحية‬
‫ثالثة قد بزغت في محاوالته إلى تخطي الواقع بل الوثب فوقه للعروج إلى فضاءات نفسية‬
‫جديدة ارتبطت بالقيم واألخالق وما ينبغي أن يكون عليه الواقع؛ وكذلك بحث في قيمة‬
‫الصداقة والعالئق التي تتمخض عنها ‪ ،‬هذا إلى جانب تلك الحياة التي كان يأملها آنذاك مع‬
‫تتابع المرحلة الخديوية التي عاصرها وتنوع شخصياتها انتهاء بتلك المرحلة التي قضى جزءا‬
‫من حياته فيها أال وهي مرحلة المنفى‪.‬‬
‫تقصي الظواهر في شعر البارودي من‬ ‫أما عن المنهج المتبع في الدراسة ؛ فإنه بناء على ِّ‬
‫حيث‪ :‬عالقة االستشراف بثنائية التفاؤل والتشاؤم‪ ،‬وكذلك عالقة التغريب بثنائية الزمان‬
‫سالفي الذكر ودورهما في صهر عنوان البحث بين‬ ‫المصطلحي ِّن‬ ‫والمكان ومدى التماهي بين‬
‫َْ‬ ‫ْ‬
‫الثنائيات السابقة ومن ثم فقد كان المنهج التحليلي له السبق والحظ األوفر في البحث‬
‫والتقصي عما اشتمل عليه خطاب البارودي من أغراض عدة ما بين مدح ووصف ونسيب‬
‫وفخر وحكمة جعل له أث ار ممتدا إلى يومنا هذا وسيمتد بفعل البحث والتقصي في كتاباته‬
‫‪6‬‬
‫يهمل في تحديد مالمح عنوان الدراسة‪.‬‬ ‫(وتشكيالته المتنوعة) وكان لتلك األغراض دور ال ُ‬
‫ناهيك بما أقره الشاعر نفسه في حديثه عن الغيب واالستشراف وأنه ليس بعالم الغيوب؛‬
‫وإنما يتخذ من الحاضر أسبابا ومعراجا لسبر الفضاءات العالئقية والتوقعات المستقبلية‬
‫االستشرافية سواء أكانت متعلقة بالتشاؤم أم التفاؤل‪ ،‬فقال في ذلك من الطويل‪:‬‬

‫‪ 6‬في هذا السياق لفت انتباهي ما ذكره ديان مكدونيل وسؤاله الوجودي الجوهري عن أثر المؤلف‬
‫وامتداده بعد وفاته؛ وذلك ال يكون إال من خالل تتبع النقاد ألعماله والبحث عن ذلك الخيط الرفيع‬
‫األفقي الرابط بين أفكاره ومعتقداته الشخصية واالجتماعية فيقول‪ ":‬وماذا عندما يكون المؤلف قد‬
‫قضى نحبه ‪ ،‬ولم يبق منه سوى جملة من الكتابات؟ إن النقاد حينئذ يحاولون أن يعيدوا تشكيل هذه‬
‫الكتابات‪ ،‬وقد يرتضونها على ما هي عليه‪ ،‬بحيث يمثلون لها كيانا موحدا‪ ،‬أو خيطا ينتظمها‬
‫ويجعل منها بناء متماسكًا‪ ،‬وأن يتصوروا لها موضوعا أو موضوعات هي من قبيل ما يأتلف‬
‫ومنطق ذلك المؤلف"ديان مكدونيل‪ :‬مقدمة في نظريات الخطاب‪ ،‬ترجمة د عز الدين إسماعيل ‪،‬‬
‫المكتبة األكاديمية‪ ،‬القاهرة‪ ،2001 ،‬ص‪52‬‬

‫‪166‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫‪7‬‬
‫ولست بعالم الغيوب وإنما – أرى بلحاظ الرأي ما هو و ُ‬
‫اقع‬ ‫ُ‬
‫ولعل هذ ا الواقع كان دافعا لكل جديد عند البارودي بعد أن تهيأت له أسباب النجاح والرقي "‬
‫فهذا هو السيف بين يديه‪ ،‬وهو فوق فرسه‪،‬وجنوده تحت إمرته‪ ،‬والماضي حافل بتاريخ‬
‫أجداده وبطوالتهم‪ ،‬وهذه األيام تحقق له ما كان يطمح إلى تحقيقه‪ ،‬وتهيأ له الجاه والثروة‬
‫والعيش الرغيد"‪ 8‬وما من شك أن اإلنسان بطبعه يبحث عن الجديد والتجديد خاصة إذا‬
‫توافرت له كل معطيات النجاح والسمو‪.‬‬
‫وفيما يتصل بالدراسات السابقة فهناك دراسة ثرية بعنوان( البارودي رائد الشعر الحديث‪،‬‬
‫للدكتور شوقي ضيف)ودراسة (القديم والجديد في الشعر العربي الحديث‪ ،‬لواصف أبو‬
‫الشباب ) ودراسة (البارودي رائد النهضة الشعرية الحديثة‪ ،‬للدكتور خليل الموسى) ودراسة(‬
‫( محمود‬ ‫محمود سامي البارودي‪ ،‬شاعر النهضة‪ ،‬للدكتور علي الحديدي) ودراسة‬
‫سامي البارودي للدكتور عمر الدسوقي) ‪.‬‬
‫أما عن الديوان فلقد آثرت أن يكون ديوان البارودي طبعة مكتبة اآلداب بالقاهرة‪ ،‬تدقيق‬
‫محمد فوزي حمزة ‪ ،2013‬والسبب وراء ذلك يكمن في أن المدقق قد جمع وأوجز ما قد حققه‬
‫الشاعر علي الجارم ومحمد شفيق معروف طبعة دار العودة – بيروت ‪ ،1998‬فقد‬ ‫ُ‬ ‫من قبل‬
‫( في الثابت‬ ‫أضاف آراء كثيرة قد قيلت في الشاعر وعنه من مثل رأي أدونيس‬
‫والمتحول) حول شاعرية البارودي وأنه ال يراه شاع ار كبي ار بل يراه مقلدا‪.‬‬
‫كما أشار المحقق إلى أنه قد اطلع على كتاب الدكتور إبراهيم صبري راشد ( محمود سامي‬
‫البارودي وقراءتان في شعره) الصادر عن مكتبة اآلداب ‪ ،2006‬وفيه كثي ار من الآراء التي‬
‫قيلت عن شعره هل هو شعر ذاتي أم أنغام مرددة؟ كما أنه (د راشد) قد أضاف مخطوطا‬
‫للشيخ حسين المرصفي في كتاب الوسيلة األدبية عن البارودي‪ .‬ناهيك بحديثه عن الجذور‬
‫والقراءة األولى والقراءة الثانية لشعر البارودي‪ ،‬كما أن المدقق(حمزة) قد قدم للديوان بدراسة‬
‫نشرت في مجلة الرسالة لألديب أحمد الزين عنوانها( أدب البارودي وشعره) التي كانت‬
‫بمناسبة انقضاء مئة عام على مولد شاعرنا وقد استغرقت الدراسة‪ -‬كما ذكر األستاذ حمزة ‪-‬‬

‫‪ 7‬البارودي‪ :‬الديوان‪ ،‬قدم له محمد حسين هيكل ‪ ،‬تدقيق‪ :‬محمد فوزي حمزة ‪ ،‬مكتية اآلداب ‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،2013 ،‬ص‪295‬‬
‫‪ 8‬د خليل الموسى‪ :‬البارودي (رائد النهضة الشعرية الحديثة)‪ ،‬دار ابن كثير(دمشق‪ -‬يروت) ط‪،1‬‬
‫‪ ،1999‬ص ‪30‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪167‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫عددين هما ‪ 129‬في ‪ 23‬ديسمبر و ‪ 130‬في ‪ 30‬ديسمبر ‪ .1935‬وقد كانت الدراسة تتبنى‬
‫وجهة نظر مناوئة للبارودي وشعره ‪.‬‬
‫أفدت في هذه الدراسة من طبعة مكتبة هنداوي بالقاهرة الصادرة في عام ‪ 2013‬التي‬ ‫كما ُ‬
‫كانت ُمعنونة ب (ديوان محمود سامي البارودي‪ -‬تأليف محمود سامي البارودي) وقد كتب‬
‫البارودي نفسه مقدمة قد تلت المقدمة المعروفة لألستاذ محمد حسين هيكل؛ إذ تحدث‬
‫الشاعر عن نفسه وعن تجربته الشعرية والشعورية في تلك المقدمة‪ .‬ومن ثم يمكن الذهاب‬
‫بالقول إنني أفدت من تلك الدراسات المدققة ولكن كانت المرجعية الشعرية في توثيق‬
‫األشعار لطبعة مكتبة اآلداب تدقيق محمد فوزي حمزة‪.‬‬
‫التعريف بالشاعر (‪)1904-1839‬‬
‫ولد في القاهرة عام ‪ ،1839‬وهو من أصل شركسي‪ ،‬وتعود نسبته إلى إيتاي البارود‪ ،‬هو‬
‫رائد النهضة الشعرية الحديثة وقد جدد في القصيدة بمستوييها‪ :‬الشكل والمضمون‪ .‬التحق‬
‫(‬ ‫بالجيش وترقى في الرتب العسكرية‪ ،‬وقاد معركة ضد ثورة اشتعلت في جزيرة‬
‫مناوئة للدولة العثمانية ‪ ،‬وأبلى فيها بالء حسنا‪ ،‬وقد شغله الحنين إلى‬ ‫أقريطش‪ -‬كريت) ِّ‬
‫مصر فقال من الطويل ‪:‬‬
‫ِّ ‪9‬‬
‫لست أنساهُ من عهد‬ ‫أذك َرني ما ُ‬
‫و َ‬ ‫سرى البر ُق مصرًيا َّ‬
‫فأرَقني وحدي‬
‫اهتم باألدب واألدباء واطلع على الشعر القديم خاصة للمتنبي وأبي تمام والبحتري والشريف‬
‫الرضي وأبي العالء ‪ ،‬وقد أثر فيه كل ذلك تأثي ار جليا ‪ .‬تولى منصب محافظ الشرقية ثم‬
‫القاهرة‪ ،‬ثم صار وزي ار لألوقاف‪ ،‬والحربية وكذلك ترأس الحكومة لمدة أربعة أشهر (فبراير‬
‫‪ -1882‬مايو ‪ )1882‬وتلك الفترة األخيرة كان لها الحظ األوفر من التجليات النفسية التي‬
‫انعكست على شعره‪ ،‬وقد عانى منها قبيل نفيه إلى جزيرة سرنديب حتى عودته إلى مصر‬
‫عام ‪.1899‬‬
‫السبب ذاته في‬
‫َ‬ ‫عدة في الدولة المصرية‪ ،‬فقد كان‬
‫وكما كان تفرده سببا في تقلده مناصب ً‬
‫نفيه خارج البالد‪ُ .‬نفي إلى جزيرة سرنديب(سريالنكا) لمدة سبعة عشر عاما ‪ ،‬حيث اشتدت‬
‫به العلل واألمراض ثم عاد إلى مصر في سبتمبر ‪ 1899‬وكان أول ما قاله من الطويل‪:‬‬
‫‪10‬‬
‫السحر‬
‫ُ‬ ‫فإني أرى فيها عيونا هي‬ ‫أبابل رأى العين أم هذه مصر‬
‫ُ‬

‫‪ 9‬الديوان‪ :‬ص‪185‬‬
‫‪ 10‬الديوان ‪ :‬ص‪215‬‬

‫‪168‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫وقد تجسدت فلسفته الشعرية في إيثاره الحفاظ على القديم وبزوغ العامل النفسي في أشعاره؛‬
‫ناهيك بتلك القدرة على التنويع اللغوي واألسلوبي بما يقتضيه المقام والحال ‪.‬ورغم ما قيل‬
‫عنه – على لسان أساطين األدب ‪-‬من نهضته بالشعر وبعثه من جديد فإن الشاعر أدونيس‬
‫كان له رأي آخر في هذه النهضة؛ إذ رأى أن "جوهر اإلبداع هو في التباين ال في‬
‫التماثل‪...‬والعودة إلى الماضي أو الجذور هي العودة إلى اإلبداع ‪ ،‬ال العودة إلى األشكال‬
‫التي أبدعت"‪ 11‬وَل َعلي أميل إلى ذلك الرأي في أن بعث الشعر من مرقده‪ -‬بشكل عام‪ُ -‬يحمد‬
‫لكن ال شيء يفوق اإلبداع‪ ،‬أما االتباع فهو وسيلة ومطية ال غبار عليها في الوصول إلى‬
‫مناطق التجديد والتطوير‪.‬‬
‫أما عن إنتاجة األدبي؛ فله ديوان شعري كبير عامر باألغراض المختلفة ‪ ،‬وله كذلك قصيدة‬
‫تضمنة في الديوان)‪ ،‬عارض فيها البوصيري وقد أطلق عليها‬ ‫(م َّ‬
‫طويلة في مدح رسول هللا ُ‬
‫الغ َّمة) وله كذلك كتاب نثري (قيد األوابد) أضف إلى ذلك (مختارات البارودي) من‬ ‫(كشف ُ‬
‫شعر فحول العباسيين‪.‬‬
‫وفي نهاية المطاف بعد عودته إلى القاهرة ترك العمل السياسي وتفرغ لإلبداع األدبي وجعل‬
‫بيته مرك از للنقاش والتحليل وإفراغ القريحة ‪ ،‬ومن بين ضيوفه حافظ وشوقي وخليل مطران‬
‫الذين تأثروا به ونسجوا على منواله من أجل النهوض بالشعر‪ ،‬وقد وافته المنية في عام‬
‫‪1904‬عن ُعمر ناهز ثالثا وستين سنة‪.‬‬

‫المبحث األول‪:‬‬
‫ثنائية التفاؤل والتشاؤم‬

‫ٌ‬
‫بحث في اإلبداع واالتباع عند العرب) – صدمة الحداثة ‪ ،‬الهيئة‬ ‫‪ 11‬أدونيس‪ :‬الثابت والمتحول (‬
‫العامة لقصور الثقافة‪ ،‬القاهرة‪4/52 ،2016 ،‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪169‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫باديء ذي بدء أود أن أشير إلى أن التفاؤل والتشاؤم هما نتيجتان متمخضتان عن‬
‫معطيات مادية أو معنوية‪(-‬نفسية كانت أم فلسفية) قد عاشها األديب أو المؤلف في فترة‬
‫زمنية محددة ‪،‬وتشبعت بهما نفسه حتى انتهى به المطاف إلى تلك النتيجة التي تمظهرت في‬
‫أحد العنصرين السابقين‪ ،‬ومن ثم كان للجانب النفسي أثر ال يمكن التقليل من شأنه أو هضم‬
‫حقه في توجيه دفة الشاعر‪ ،‬ومن ثم ينبغي فهمه والتفاعل معه وإال سيجانبنا التوفيق في‬
‫الحكم على شعره‪ -‬كما أشار إلى ذلك األستاذ أمين الخولي إذ قال "بدون هذا الفهم النفسي‬
‫‪12‬‬
‫اكا حقيقيا‪ ،‬ولن نتذوقه ‪ ،‬وسيكون حكمنا عليه قاص ار خاطئا‪"...‬‬ ‫لن ندرك األدب إدر ً‬
‫وحر ٌّي بنا في هذا المقام أن نشير إلى قيمة ذلك االستشراف الذي أدى بالبارودي إلى ذلك‬
‫الجانب من التفاؤل المنبني على حكمة قد انبثقت عن تجربة عميقة وضاربة بجذورها في‬
‫ربوع تفاصيل حياته‪ ،‬فها هو يستخلص من حياته ما يقدمه للورى في ضرورة النهوض‬
‫الغد لميقاته‪ ،‬فيقول من السريع‪:‬‬ ‫واألمل واالبتهاج وأن يترك اإلنسان َ‬
‫لتْروِى َّ‬
‫الص َدى‬ ‫اشرب ُ‬ ‫ِ‬ ‫وسر وانظر و ِم ْل وابتهج‬ ‫ض ِ‬
‫امَر ْح وطب و ْ‬ ‫وْ‬ ‫فاْن َه ْ‬
‫‪13‬‬
‫المبتدا‬ ‫خير لم ِ‬
‫ميقاته وانظر إلى ُ‬ ‫ُ‬ ‫يح ْن‬ ‫تسل عن ٍ‬ ‫وال ْ‬
‫من الوهلة األولى عند قراءة البيتين نشعر بتلك الطاقة اإليجابية التي يعمد الشاعر إلى‬
‫إنفاذها إلى قلوبنا‪ ،‬وتبدو قيمة تلك الطاقة في تلك المفردات التي عبرت عن األمر المفعم‬
‫بالتوجيه واإلرشاد – وغني عن البيان أن التوجيه واإلرشاد يرتبط بالمستقبل‪ -‬فهو يطلب‬
‫متحمسا أن يستل اإلنسان سيف المبادرة الواعية المنبثقة عن تجربة حياة لكي يالمس البهجة‬
‫والتفاؤل محاوال قنص مسببات السعادة وأن يهيء نفسه لمستقبل مشرق يطبق صداها اآلفاق‪،‬‬
‫أما البيت الثاني فيأتي فيه ذلك النصيب من الحكمة المتجلية في عدم التعجل في األمر ألن‬
‫لكل حادثة حديث ولكل مقام مقال كما أن لكل طريق‪ -‬ال محالة‪ُ -‬مبتدا‪.‬‬
‫وأريد أن أؤكد هنا على نجاح البارودي في توظيف اإليقاع بنوعية الخارجي والداخلي الذي‬
‫تجلى في البحر السريع وتفعيالته الست هي‪:‬‬
‫ُم ْس َت ْف ِعُل ْن ُم ْس َت ْف ِعُل ْن َم ْف ُعوَال ُت‬ ‫ُم ْس َت ْف ِعُل ْن ُم ْس َت ْف ِعُل ْن َم ْف ُعوَال ُت‬
‫وحركة حرف الروي الممتد (دا) الذي أوحى بالصدى واالمتداد الذي يبتغيه الشاعر‪ .‬وكذلك‬
‫اإليقاع الداخلي الذي وشحه بأفعال غلب عليها الوثب والقفز الذي يناسب الفرحة والسرور‬

‫‪ 12‬أمين الخولي‪ :‬مناهج تجديد في النحو والبالغة والتفسير واألدب‪ ،‬الهيئة المصرية العامة‬
‫للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،2017 ،‬ص ‪256‬‬
‫‪ 13‬الديوان ص ‪178‬‬

‫‪170‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫ومل – وامرح‬ ‫وبذلك التناوب بين الساكن والمتحرك من الحروف (فانهض وسر – وانظر ِّ‬
‫وطب) لتناسب تلك الطاقة التعبيرية الوهاجة التي قصدها الشاعر بتلك (الموسيقى‬
‫التعبيرية)‪ 14‬التي عبرت بشكل جلي عن تلك الموسيقى التركيبية ‪،‬فكأننا أمام صورة إيقاعية‬
‫مرسومة تتجاذب فيها اإليقاعات وتتواثب تباعا عاكسة ما يختلج قلب الشاعر وعقله في تلك‬
‫اللحظة الشعورية المتشحة بالتفاؤل وما يرتبط بها من موثرات حركية ألقت بظاللها على‬
‫المقطعة الشعرية‪.‬‬
‫ومما قاله مستشرفا التفاؤل بوالية الخديو إسماعيل مهنئا إياه بوالية مصر سنة ‪ 1863‬م‪،‬‬
‫قال من الكامل ‪:‬‬
‫ِ ‪15‬‬ ‫ِ‬
‫طوب‬ ‫هن بشاش ٍة وُق ُ‬ ‫والمرُء ر ُ‬ ‫طروب‬ ‫ط ِر َب الفؤ ُاد وكان َ‬
‫غير‬ ‫َ‬
‫علي فهو حسيبي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الحديث َّ‬
‫َ‬ ‫أعد‬ ‫المنى‬
‫فقلت م ْن َسَرف ُ‬ ‫البشير ُ‬
‫ُ‬ ‫ورد‬
‫َ‬
‫تحف ٍز لِ َوجيبِ‬
‫فيها مجال ُّ‬ ‫ِ‬
‫خبر جال صدأَ القلوب فلم َ‬
‫يد ْع‬ ‫ٌ‬
‫َ‬
‫البشير به إلى يعقوبِ‬ ‫ُ‬ ‫ورد‬
‫َ‬ ‫يوسف عندما‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫ضرح القذى كقميص‬ ‫َ‬
‫ِ ‪16‬‬
‫طوب‬ ‫خ‬ ‫بعد‬ ‫ِ‬
‫باألمن‬ ‫لها‬ ‫جاءت‬ ‫ٍ‬
‫ة‬ ‫بسالم‬ ‫ها‬ ‫ل‬ ‫أه‬
‫و‬ ‫صر‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫تهن‬
‫ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َفْل َ‬

‫إن أول ما يأخذ النظر ويسترعي االنتباه هو المفتتح وتلك (العتبة)‪ 17‬التي تشكل جانبا من‬
‫قصدية البارودي ؛ وما تغلغل فيها من تلك الموسيقى التي جعلت البيت األول في غاية‬

‫‪ 14‬يُحمد للبارودي أن كان من أوائل الشعراء الذين كان لهم كبير األثر يموسيقاهم التعبيرية‬
‫المرتكنة إلى الحركة والسكون والنشاط والخمول وفقا لمتطلبات الغرض الشعري الذي ينظم فيه‬
‫قصيدته بناء على حالته الشعورية ومن ثم " اتجه الشعراء‪ -‬ومنهم البارودي‪ -‬إلى خلق حاالت‬
‫من اإليحاء عن طريق موسيقى األلفاظ وإلى اإللحاح على استخدام الكلمة كداللة وكصوت‬
‫انفعالي‪،‬كما اهتموا بخلق جو من الموسيقى التصويرية المصاحبة لالنفعال "دالسعيد الورقي‪ :‬لغة‬
‫الشعر العربي الحديث‪ ،‬دار المعارف ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪1983 ،‬ص ‪248‬‬
‫‪ 15‬أرى أن هذه القصيدة قد نظمها البارودي على نسج القدامى ومنوالهم متأثرا بقصيدة علقمة بن‬
‫عبدة الفحل المتوفى نحو ( ‪ 1‬ق‪.‬هـ ‪603 -‬م أو ‪20‬ق‪.‬هـ ‪625 -‬م)‪ -‬وذلك باب ليس بغريب على‬
‫البارودي‪ -‬الذي يقول في مفتتحها‪:‬‬
‫مشيب‬
‫ُ‬ ‫بُعي َد الشباب عصر حان‬ ‫قلب في الحِّ سان طروب ُ‬
‫طحا بك ٌ‬
‫ُ‬
‫وعادت عوا ٍد بيننا وخطوب ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫ُكلفُني ليلى وقد شط وليُها‬
‫ت ِّ‬
‫‪ 16‬الديوان ص ‪121‬‬
‫‪ 17‬وفقا لجيرار جنت العتبة هي كل ما يتصل بالنص من عناصر يكون لها أثر واضح في تأويل‬
‫رؤية الشاعر وتوضيحها بالشكل األقرب إلى الحقيقي ومنها العنوان واإلهداء والمقدمة ومواضع‬
‫العناوين وغيرها من العناصر التي تنظم النص المكتوب‪ .‬وفيما يتصل بشاعرنا فإن افتتاحياته أو‬
‫عتباته تبرز لنا عالمه الذي يبني فيه لغته ألن" الكاتب أو المؤلف عندما يكتب كلماته أو يؤلف‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪171‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫الرشاقة والمرونة‪ ،‬وقد تجلت تلك الحالة عبر عدد من العناصر منها‪( :‬الجانب الموسيقي)‬
‫الذي وشح به الشاعر مقدمته؛ فناهيك بأن البحر هو البحر الكامل بصورته التامة‬
‫الموسومة بالوقار‪ -‬وهو مايناسب حال الشاعر‪ -‬بين سكونه وحركاته في تفعيلته المتزنة بين‬
‫حركاته الثالثية المتتابعة ثم تليها حالة السكون ثم إردافها تارة أخرى بالحركتين ثم السكون‪،‬‬
‫ثم تكرار تلك الصورة الموسيقية ست مرات ‪:‬‬
‫اعُلن‬‫اعُلن م َت َف ِ‬‫م َت ِفاعلن م َت َف ِ‬ ‫متفاعلن‬ ‫اعُل ْن م َت َف ِ‬
‫اعُلن ُ‬ ‫م َت َف ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ط ِ‬
‫وب‬ ‫ُُ‬ ‫ق‬ ‫و‬ ‫ٍ‬
‫ة‬ ‫بشاش‬ ‫هن‬‫ر‬
‫ُ ُ‬ ‫ء‬
‫المر‬ ‫و‬ ‫ِ‬
‫طروب‬ ‫غير‬
‫َ‬ ‫وكان‬ ‫اد‬
‫ُ‬ ‫ؤ‬ ‫الف‬ ‫ب‬‫ر‬‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫ط‬
‫فناهيك ببحر الكامل نجد أن التصريع لعب دو ار فاعال في بيان تلك الحالة من الطرب‬
‫ِّ‬
‫قطوب) ذلك إلى‬ ‫ِّ‬
‫(طروب –‬ ‫والسرور بين طرفي الشطر األول والثاني من البيت األول‬
‫جانب حركة حرف َّ ِّ‬
‫المطلق الباء الشفهي المجهور ووصله وإشباعه بالكسرة التي دلت‬ ‫الروي ُ‬
‫على التفاؤل المشوب بالحذر وقد أغنى امتداد الكسر في نهاية حرف الروي عن التصريح‬
‫بذلك الشعور صراح ًة‪ .‬عالوة على ذلك كله فقد نشأت تلك الطاقة التفاؤلية نتيجة ذلك‬
‫الرْدف وهو المد ( بالواو في البيت األول والياء في البيت الثاني)‬ ‫التناوب الصوتي لحرف ِّ‬
‫حسيب) وقبل حرف الروي‬ ‫س في ِّ‬ ‫طوب‪ِّ -‬‬ ‫ط في ُق ُ‬
‫ومناسبته وتجانسه مع الحرف الكائن قبله ( ُ‬
‫(ب)‪ .‬ومن ذلك التوظيف الموسيقى ما نجده في توظيف حرف الراء في المقطعة السابقة‬
‫( طرب‪ -‬غير‪-‬‬ ‫ثالث عشرة مرة وهو أكثر األصوات الجهرية تك ار ار إذ حضر في ‪:‬‬
‫طروب‪ -‬المرء‪ -‬ورد‪ -‬البشير‪ -‬سرف ‪-‬خبر ‪-‬ضرح‪-‬ورد (مرتان) – البشير (مرتان) –‬
‫مصر (مرتان )) وذلك مدعاة لفخر الشاعر بموقفه فهو يجهر بما يود أن يقوله في افتتاحيته‬
‫فقد أصاب (مقاتل الكالم)‪ 18‬بتلك البداية‪.‬‬

‫بينها يبني عوالم نصه وفقا كيفية ما‪ ،‬محاكيا بناءات موجودة‪ ،‬أو مبدعا في نطاق الممكن النوعي‬
‫طرائق جديدة في تنظيم بنياته النصية التي يتشكل منها النص الذي يبدع وفق رؤيته لعمله‬
‫اإلبداعي أو تبعا لضرورات تشكيل المعنى"عبد الحق بلعابد‪ :‬عتبات جيرار جنيت من النص إلى‬
‫المناص‪ ،‬تقديم د سعيد يقطين ‪ ،‬الدار العربية للعلوم ناشرون ‪ :‬لبنان ‪ ،‬ومنشورات االختالف ‪،‬‬
‫الجزائر‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،2008 ،‬ص‪14‬‬
‫‪ 18‬ذكر ابن رشيق القيرواني ت( ‪456‬هـ) قيمة المفتتح وأثره في شهرة الشعراء وكالمهم فقال‪" :‬‬
‫قيل لبعض الحذاق بصناعة الشعر‪ :‬لقد طار اسمك واشتهر‪ ،‬فقال‪ :‬ألنني أقللت الحز‪ ،‬وطبقت‬
‫المفصل‪ ،‬وأصبت مقاتل الكالم‪ ،‬وقرطست نكت األغراض بحسن الفواتح والخواتم ولطف الخروج‬
‫إلى المدح والهجاء‪ ،‬وقد صدق‪ ،‬ألن حسن االفتتاح داعية االنشراح‪ ،‬ومطية النجاح‪ ،‬ولطافة‬
‫الخروج إلى المديح‪ ،‬سبب ارتياح الممدوح‪ ،‬وخاتمة الكالم أبقى في السمع‪ ،‬وألصق بالنفس؛ لقرب‬
‫العهد بها؛ فإن حسنت حسن‪ ،‬وإن قبحت قبح‪ ،‬واألعمال بخواتيمها‪ ،‬كما قال رسول هللا صلى هللا‬

‫‪172‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫وغني عن البيان ما للتجنيس من أثر ال يمكن هضم حقه أو الغمط من قيمته؛ إذ تجلى ذلك‬
‫السحر الصوتي في ( طرب‪ -‬طروب‪ -‬خطوب – قطوب) فانعكس ذلك على األذن المشتاقة‬
‫إلى ذلك الطرب من البارودي‪ ،‬وقد ضرب التالؤم اللفظي بسهم وافر في ذلك اإلحكام‬
‫الموسيقى عبر تلك المتواليات اللفظية التي وسمت المقطع بالخصوصية من مثل( طرب‬
‫الفؤاد‪ -‬ورد البشير‪ -‬خبر جال – ضرح القذى )فأحدث ذلك تناسبا موسيقيا متناغما مع حالة‬
‫الشاعر النفسية‪.‬‬
‫ولننتقل إلى الجانب الثاني؛ (األلفاظ) فقد كمنت الحالة االستشرافية التفاؤلية في توظيف‬
‫الشاعر لعدد من األلفاظ الموغلة في ذلك من مثل‪ :‬األفعال الماضية في ( طرب‪ -‬جال‪-‬‬
‫ضرح – جاء بــ) ومن المصادر الدالة على الغرض نفسه( بشاشة‪ -‬المنى‪ -‬سالمة –‬
‫األمن ) ومن المفردات التي علت واعتلت وكان لها السبق في تبيان ما يجيش في صدر‬
‫الشاعر لفظة (البشير) إذ كررها الشاعر مرتين ليس سدى ولكن ليؤصل لقصة يوسف‬
‫المنتظر‬
‫وموقف أبيه يعقوب ‪-‬عليهما السالم‪ -‬ومن ثم فقد كانت لفظة (البشير) هي الوسيط ُ‬
‫الذي جاء حقا بالبشرى بعد طول انتظار كما كان القميص بمثابة كلمة السر في النص‬
‫الشعري السابق‪:‬‬
‫ِ‬
‫يعقوب‬ ‫البشير به إلى‬
‫ُ‬ ‫ورد‬
‫َ‬ ‫يوسف عندما‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫كقميص‬ ‫ضرح القذى‬
‫َ‬
‫ثم كان في نهاية تلك المقدمة ما دعا به الشاعر لمصر وأهلها بالهناء واألمن بعد ما قد مر‬
‫بها من خطوب وأحداث‪ .‬وأود اإلشارة إلى فاعلية الفعل (جال) فهو يتناسب عمليا مع تلك‬
‫الخطوب التي تمكنت من مصر وجعلتها تصدأ؛ فكان القميص معادال لفظيا ونفسيا وماديا‬
‫القميص العمى عن عين يعقوب‪.‬‬‫ُ‬ ‫ومعنويا إلزالة تلك الخطوب عن مصر كما أزال‬
‫‪19‬‬
‫وانتقاال إلى الجانب الثالث (األخير) فنراه قد انبلج في (الصور المجازية) التي فتحت‬
‫اآلفاق والئمت ذلك االستشراف؛ علما بأن ذلك التفاؤل قد انبنى كثي ار على ما قد مضى من‬
‫تجارب الشاعر في الحياة ‪ ،‬فكان الماضي هو المنطلق والقوة الدافعة ليشعر بالتجديد الذي‬

‫عليه وسلم‪ ".‬ابن رشيق القيرواني‪ :‬العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده ‪ :‬تحقيق د محمد محي‬
‫الدين عبد الحميد ‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الخامسة ‪217/1 ،1981 ،‬‬
‫‪ 19‬يرى د صالح فضل أن الصورة في الشعر الحديث قد تكون بأدوات غير اللغة بفعل ما قد شهده‬
‫العالم من صور بصرية؛ فيقول إن " الصورة المصنوعة بغير أدوات اللغة تكاثرت وتكثفت‪،‬‬
‫وهيمنت على المخيلة البشرية‪ ،‬وهذه يجعل الحديث اليوم عن الصورة الشاعرية أكثر مجازية من‬
‫أي وقت مضى ‪ ،‬فما تنتجه اللغة ليس سوى رموز تصويرية مجردة في الواقع " د صالح فضل‪:‬‬
‫أساليب الشعرية المعاصرة‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،2016 ،‬ص ‪163-162‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪173‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫يأمله؛ فمن الصور‪( :‬طرب الفؤاد) إذ جعل الشاعر من الفؤاد إنسانا يطرب ويغني متمايال‬
‫أصل تلك الحال هو أن الفؤاد من قبل لم يكن طروبا بل‬ ‫فرحا هزجا منتشي الحال‪ .‬ومما َّ‬
‫(خبر جال القلوب)‬‫كان مغتما مهتما‪ ،‬ومن ثم فبدا طربه واضحا جليا لكل عين‪ .‬ومنها كذلك ٌ‬
‫إذ شبه الشاعر خبر والية إسماعيل بتلك المادة التي يمكنها أن تجلي الصدأ من المعادن هذا‬
‫من ناحية قوة التأثير‪ ،‬وقد نراها صورة كشفت النقاب عن قيمة إسماعيل األخالقية عند‬
‫حضوره وواليته ما قد اعتلى قلوب الناس من هم‬ ‫ُ‬ ‫الشاعر والمصريين بحيث يمكنه أن يجلي‬
‫ومن ظلم؛ فسيجيء إسماعيل ليقشع تلك الغمة عن تلك القلوب‪ .‬ومن تلك الصور (ضرح‬
‫القذى‪ -‬كقميص يوسف) وذلك تشبيه واضح األركان والمعالمم؛ فالذي جعل بصر يعقوب‬
‫ألم بها من فساد‪.‬‬ ‫يرتد (بكن فيكون) هو القادر على إصالح حال البالد والعباد بعد ما َّ‬
‫ومما قاله مستبش ار موقنا بقيمة التغيير وأثره في النفوس عند تنصيب محمد باشا توفيق‬
‫بجلوسه على األريكة الخديوية ‪ ،1879‬فقال من الكامل‪:‬‬
‫وثقوا براع في المكارمِ ِ‬
‫أوحد‬ ‫الك ِ‬
‫نانة أبشروا بمحم ٍد‬ ‫أَب ِني ِ‬
‫ٍ‬ ‫َ‬
‫ِ ‪20‬‬ ‫ِ‬
‫الح َّسد‬
‫ف ُ‬ ‫طْر َ‬
‫قصر ْت على اإلغضاء َ‬‫َ‬ ‫أبعد غاي ٍة‬
‫اآلمال َ‬
‫ُ‬ ‫بلغت بك‬
‫إن البيتين يجسدان ما ترمقه عين الشاعر‪ -‬تفاؤال‪ -‬من اإلصالح والصالح المستقبلي ؛ فهو‬
‫يبدأ بذلك األسلوب اإلنشائي (النداء) وذلك للفت انتباه أهل مصر إلى ما سيقوله من كالم‬
‫في حق الخديو محمد وما سوف يفعله لهم ‪ ،‬فيبدأ بالنداء ثم يردفه بفعل األمر الدال على‬
‫الب ْشرى بوجود محمد باشا ‪ ،‬ولم يكتف‬ ‫اليقين؛ إذ ربط الشاعر الشخص بالحدث والفعل فربط ُ‬
‫بذلك بل جعل ما سيقوله محققا بأن وظف فعل األمر الثاني في السطر الشعري (وثقوا) ثم‬
‫أتى بالبيت الثاني موغال في التقريرية واإلخبارية؛ مؤكدا أن اآلمال ستتحقق؛ حتى إن تلك‬
‫اآلمال ستغض طرف هؤالء الحساد عن زالته وبعض هفواته‪ .‬وال يمكننا أن نغمض العين‬
‫عن قيمة (االلتفات األسلوبي)‪ 21‬الذي وظفه الشاعر في االنتقال بالخطاب من (بني الكنانة)‬
‫بك اآلمال) يستمر بالدعاء الموشح بالفرح‬ ‫إلى توجيه الخطاب إلى الخديو نفسه (بلغت َ‬
‫والسرور والمجد والعلو واالرتقاء والنشاط ‪ ،‬ألن ما سبق قوله لن يتحقق إال بكل ما هو ٍ‬
‫آت‬
‫من أفعال ‪ ،‬فيقول‪:‬‬

‫‪ 20‬الديوان ص‪ -159‬ص ‪162‬‬


‫‪ 21‬يقصد بااللتفات كما ذكره ابن المعتز بأنه "وهو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى اإلخبار‬
‫وعن اإلخبار إلى المخاطبة" ابن المعتز (ت ‪ 296‬هــ)‪ :‬البديع ‪ ،‬تحقيق اغناطيوس كراتشقوفسكي‬
‫‪ ،‬دار المسيرة‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،1982 ،‬ص ‪.58‬‬

‫‪174‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫لم و َازَد ِد‬‫اس ْ‬ ‫وت َه َّن و َ‬
‫وعد َ‬‫و ْاب َد ْأ ُ‬ ‫وس ْد‬‫انع ْم ُ‬ ‫وجد و َ‬ ‫اغنم ُ‬
‫ودم و ْ‬ ‫فاسعد ُ‬
‫ْ‬
‫َّ ِ ‪22‬‬ ‫ال زال عدُل َك في األ نامِ م َّ‬
‫خير ُمخلد‬ ‫فالعدل في األيامِ ُ‬ ‫ُ‬ ‫خلدا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ال غرو أن غاية البارودي الكبرى هي إقامة العدل ؛ وقد قال في ذلك م ار ار وتك ار ار من‬
‫مجزوء الرمل‪:‬‬
‫العداله‬
‫ْ‬ ‫مرًة منك‬ ‫َّ‬ ‫الظالم هب لي‬ ‫ُ‬ ‫أيها‬
‫‪23‬‬
‫حباله‬
‫ْ‬ ‫فيك لم أقطع‬ ‫حق ِودا ٍد‬‫وارع لي َّ‬
‫المحب للمحبوب‪ ،‬ما بين السعادة‬ ‫ومن ثم ففي األبيات األولى تتجلى قيمة الدعاء من ُ‬
‫الغنم والجود والسيادة ‪ ،‬والبداية من جديد في فعل الخيرات والعودة لتكرار الخير‬ ‫والدوام و ُ‬
‫والتهنئة ونيل السرور والسالمة واألمان من كل شر ويرجو له الخير من كل شيء وزيادة‪،‬‬
‫والبد هنا أن أشير إلى قيمة اختيار األفعال من قبل الشاعر وداللتها السياقية‪ .‬إن الشاعر‬
‫بالغنم أي‬
‫بدأ بضرورة تحقيق السعادة التي سوف يتمخض عنها الدوام في الحكم ‪ ،‬ثم تالها ُ‬
‫الكسب واالغتنام الذي سوف يعود بالخير والجود على شعب مصر ‪ ،‬وإذا تحقق ذلك فهو‬
‫النعيم الذي يستوجب سيادتك‪ ،‬ولم يغفل الشاعر أن اإلنسان قد يخطيء ذلك قال (ابدأ وعد)‬
‫أي أن أخطـت فنحن معك داعموك إن خلصت النية في تحقيق العدل‪ ،‬فإن تحقق ذلك فلك‬
‫التهاني والسالمة والزيادة؛ فإن وفقك هللا إلى إصابة ذلك كله فال شك أن العدل بين الناس‬
‫هو المخلد كسيرة صاحبها؛ فالنعيم يكون في األثر بعد الذهاب‪.‬‬
‫ومن الشواهد الدلة على التحول وانقالب الحال من التشاؤم إلى التفاؤل واألمل في شعر‬
‫اض عما فعله به الدهر فإنه ينتظر صفو الليالي‬ ‫البارودي؛ فها هو رغم أنه في منفاه غير ر ٍ‬
‫‪ :‬يقول من البسيط ‪:‬‬
‫الملتقى من ِّشيعتي َكثَ ُب‬ ‫بها وال ُ‬ ‫أبيت في غربة ال النفس راضيةٌ‬ ‫ُ‬
‫فيكتئب‬
‫ُ‬ ‫بي‬ ‫ما‬ ‫ى‬ ‫ير‬ ‫صديق‬
‫ٌ‬ ‫ال‬‫و‬ ‫ه‬ ‫طلعت‬
‫ُ‬ ‫النفس‬
‫َ‬ ‫تسر‬
‫رفيق ُّ‬
‫فال ٌ‬
‫يوسف من قبلي َد ٌم َك ِذ ُب‬ ‫ُ‬ ‫في ثوب‬ ‫ها إنها فري ٌة قد كان َ‬
‫باء بها‬
‫ِ ‪24‬‬
‫خ َحد ُب‬ ‫في غرب ٍة ليس لي فيها أ ٌ‬ ‫فإن يكن ساءني دهري وغادرني‬
‫‪25‬‬
‫ينقلب‬
‫ُ‬ ‫تم‬
‫دور إذا ما َّ‬ ‫وكل ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫فسوف تصفو الليالي بعد ُكدرتها‬

‫‪ 22‬الديوان‪ :‬ص ‪162‬‬


‫‪ 23‬الديوان ص ‪366‬‬
‫‪ 24‬األخ الحدب أي األخ الودود أو الصديق الرفيق بحالي‬
‫‪ 25‬الديوان ص ‪ 119-118‬حمزة‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪175‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫نم البيتان األخيران عن تلك الطاقة اإليجابية التي كست الشاعر‪ -‬في غربته‪ -‬وجعلته‬ ‫لقد َّ‬
‫كل عناصر السرور‪ ،‬ففهو مطمئن بأن دوام الحال من المحال؛ إذ إنه ينتظر الفرج‬ ‫يستدعي َّ‬
‫يسر ‪ ،‬وقد استدعى هنا واسترعى انتباهنا بقصة يوسف‬ ‫سر بعده‪ -‬ال محالة – ٌّ‬ ‫فكل ُع ٍ‬‫واألمل ُّ‬
‫بل َسَّوَل ْت َل ُكم أ َْنُف ُس ُكم‬ ‫قال ْ‬ ‫ِّ ٍ‬ ‫ِّ ِّ‬
‫اءوا َعَلى َق َميصه ب َد ٍم َكذب‪َ ،‬‬ ‫‪-‬عليه السالم‪ -‬في قوله تعالى" َو َج ُ‬
‫صُفون" ‪ 26‬وكأنه يصبر نفسه وغيره بالصبر‬ ‫أَمرا‪َ ،‬فصبر ج ِّميل‪،‬وهللا المستَعان عَلى ما تَ ِّ‬
‫َ ٌْ َ ٌ ُ ُ ْ َ ُ َ َ‬ ‫ًْ‬
‫الجميل فإن ما تعرض له يوسف‪ -‬عليه السالم‪ -‬من إخوته لفيه عبرة ألولي األبصار‬
‫والنهى‪.‬‬
‫ومما قاله الشاعر في غربته وتغريبه إنه مؤمن بقيمة القضاء والقدر وأثره البين في حياة‬
‫اإلنسان‪ ،‬وأنه ال شيء يستمر إلى األبد وكل ظلمة ‪-‬ال شك‪ -‬بعدها نور وضياء ‪:‬‬
‫رحيم‬ ‫تود من الحاجات فهو‬ ‫ُّ‬ ‫هللا في الذي‬ ‫تعتمد إال على ِ‬
‫ْ‬ ‫فال‬
‫ُ‬
‫نعيم‬
‫ُ‬ ‫بؤس تاله‬‫ٍ‬ ‫إليك فكم‬ ‫وال تبتئس من حكم ٍة ساقها القضا‬
‫هشيم‬ ‫النبت وهو‬ ‫ِ‬ ‫ساق‬ ‫األشجار بعد ذبولِها‬ ‫ق‬
‫ُ‬ ‫ويخضر ُ‬‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫فقد ُتور ُ‬
‫‪27‬‬
‫قيم‬
‫أنت ُم ُ‬ ‫أتتك على َو ْش ٍك و َ‬ ‫َ‬ ‫إذا ما أراد هللا إتمام حاج ٍة‬
‫لقد تمظهرت األبيات السابقة بما تمخضت عنه تجربة شاعرنا من حيث االعتماد على هللا ‪،‬‬
‫وقد أثرى أبياته بعدد من الفضاءات النفسية التي لو قرأها اإلنسان لتبدد يأسه وحل محله أمل‬
‫وتفاؤل؛ ومن ذلك ما قاله في مدحه عباسا مازجا المدح بتلك النظرة المشبعة بالتفاؤل الذي‬
‫ينعكس ‪ -‬ال شك ‪-‬على من يق أر تلك األبيات‪ :‬من الكامل‪:‬‬
‫ِ‬
‫أسمائه‬ ‫لم من‬ ‫ِ‬
‫أوصافه والح ُ‬ ‫العلم من‬
‫العدل من أخالقه و ُ‬ ‫ُ‬
‫ظر ِائه‬ ‫ن‬ ‫على‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت‬ ‫بهم‬ ‫وسما‬ ‫ا‬ ‫يافع‬ ‫المحامد‬ ‫ع‬
‫ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ً‬ ‫ال َ ْ َ َ َ‬
‫م‬ ‫ج‬ ‫أن‬ ‫غرو‬
‫ِ ‪28‬‬ ‫ِ‬
‫بأرضه وسمائه‬ ‫تسع الفضاء‬ ‫ُ‬ ‫فالعين وهي صغيرٌة في حجمها‬ ‫ُ‬
‫بد اية أود اإلشارة إلى ذلك التقسيم الموسيقي الحسن في البيت األول الذي يعد من التوزاي‬
‫التام عند الشاعر؛ إذا وظف الشاعر (األخالق)‪ 29‬وقسمها قسمة عادلة فجعل( العدل من‬

‫‪ 26‬سورة يوسف‪ :‬اآلية ‪18‬‬


‫‪ 27‬الديوان ‪ :‬ص‪596‬‬
‫‪ 28‬الديوان‪ :‬ص‪94‬‬
‫‪ 29‬إن األخالق عند الشاعر هي القيمة الكبرى التي ال مناص منها وال فرار ‪،‬وقد أبدى ذلك في غير‬
‫موضع من الديوان وقد عبر عن ذلك صراحة بقوله من البسيط من الديوان ص‪:. 251‬‬
‫وتنقير‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ث‬ ‫ما خ َّ‬
‫طه الفك ُر من بح ٍ‬ ‫ح بِّ ِّه‬ ‫والشع ُر ديوانُ أخال ٍ‬
‫ق يلو ُ‬

‫‪176‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫أخالقه – والعلم من أوصافه – والحلم من أسمائه) فقد أقام الشاعر (التوازي)‪ 30‬التركيبي‬
‫على االسم – المصدر ‪ +‬متبوعا بحرف الجر (من)‪ +‬متبوعا باسم (مصدر) ملتصقا بضمير‬
‫اإلضافة) فهذا التصنيف والتقسيم أوحى إلينا دون النظر إلى بقية األبيات إلى ان الشاعر‬
‫أراد أن يقيم عدال مطلقا يوازيه عدال تركيبيا في الجملة بدوالها ومدلوالتها الجزيئة منها والكلية‬
‫فالغرو أن البيت األخير هو بيت القصيد أو الهدف المرجو فكيف لمن امتلك عينا صغيرة‬
‫يمكنه أن يرى السماء بكل فضاءاتها؟ أليس ذلك من عجب وال يستوى ذلك القول وال يصدق‬
‫إال من باب التفاؤل المشع من قلب الشاعر وانعكس بالضرورة على عينه‪ ،‬وهذا ما يمكن أن‬
‫أطلق عليه‪ -‬في رأيي‪( -‬تواصل األعضاء والحواس)‪ ،31‬أي تتابعية الحواس واألعضاء في‬
‫اإلحساس؛ فإذا أحب القلب اتسعت العين ولمعت لترى كل جميل‪ ،‬وإذا أظلم العقل انطفأت‬
‫معه بقية الحواس واألعضاء وهكذا‪.‬‬
‫رحيم‬ ‫تود من الحاجات فهو‬ ‫ُّ‬ ‫تعتمد إال على ِ‬
‫هللا في الذي‬ ‫ْ‬ ‫فال‬
‫ُ‬
‫نعيم‬
‫ُ‬ ‫بؤس تاله‬
‫ٍ‬ ‫إليك فكم‬ ‫وال تبتئس من حكم ٍة ساقها القضا‬
‫وقد استطاع البارودي أن يوجه القاريء ‪-‬بفلسفته ‪ -‬إلى حقيقة مفادها أن هللا وحده هو‬
‫صاحب الحل والعقد وهو مسبب األسباب‪ ،‬فبدأ بال الناهية في البيتين األول والثاني وأردفهما‬
‫بفعلين هما ( تعتمد‪ -‬تبتئس) وهما فعالن مضارعان ُين َّمان عن حالتين من حاالت النفس‬
‫السلبية األولى االعتمادية‪ ،‬والثانية االبتئاس واليأس‪ ،‬وفي األولى نهى عن تلك االعتمادية‬

‫وفي هذا السياق ينبغي اإلشارة إلى الدوافع التي جعلت األخالق هي الغاية الكبرى عند شاعرنا ما‬
‫قاله د أحمد الطامي" ولعل هذا التأكيد على الغاية األخالقية من الشعر قد فرضه الدور الهامشي‬
‫الذي كان يؤديه الشعر في زمن البارودي وما سبقه من قرون حيث هبطت منزلة الشعر وضعف‬
‫تأثيره أو انعدم واقتصر تداولوه على فئة قليلة من الناس" د أحمد صالح الطامي‪ :‬المفهوم النظري‬
‫للشعر عند البارودي وشوقي‪ :‬مجلة جامعة الملك سعود‪ ،‬اآلداب (‪ )1‬م ‪1421 ،13‬هـ‪2001-‬م‪،‬‬
‫ص‪105‬‬
‫‪ 30‬يقصد تشابه أو تساوي البنية التركيبية لجملة من الجمل مع جمل أخريات في نفس السياق أو‬
‫الفقرة أو البيت الشاعري السابق أو الالحق بغية إحداث موسيقة سمعية تخترق القلب وباعثة على‬
‫استثارة العقل والقلب والوجدان‪ .‬وقدأُطلق عليها قديما حسن التقسيم أو التناسب التركيبي‪.‬‬
‫‪ 31‬ينبغي في هذا المقام أن أشير إلى ذلك المقصد الذي أعنيه من مصطلح تواصل الحواس وافتراقه عن‬
‫المصطلح النقدي المعلوم (تراسل الحواس) فاألول يقتضي تواصال بين حاسة ما وحاسة أخرى (أو عضو‬
‫وعضو) وأن الفعل من حاسة ما يقتضي رد فعل من حاسة أخرى‪ .‬أما المصطلح الخاص بتراسل الحواس‬
‫فقد أوجزه د علي عشري زايد فيما يلي " وصف مدركات حاسة من الحواس بصفات مدركات حاسة أخرى‬
‫فتعطي لألشياء التي تدركها بحاسة السمع صفات األشياء التي ندركها بحاسة البصر‪ ،‬ونصف األشياء التي‬
‫ندركها بحاسة الذوق بصفات األشياء التي ندركها حاسة الشم‪ ،‬وهكذا تصبح األصوات ألوانا والطعوم‬
‫عطورا" د علي عشري زايد‪ :‬عن بناء القصيدة العربية الحديثة‪ ،‬مكتبة اآلداب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الخامسة‪،‬‬
‫‪ ،2008‬ص‪78‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪177‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫وأبدلها ضمنيا بالصبر‪ ،‬والثانية نهى عنها وأبدلها ضمنيا باألمل مادمت تدعو هللا ‪.‬ثم تال‬
‫بؤس تاله نعيم) وهذا إن دل فإنه يدل‬ ‫ذلك في البيت نفسه بما يدل على الكثرة في قوله( فكم ٍ‬
‫على قيمة الصبر في نيل المراد‪ ،‬وقد قفا ذلك بحكمة واقعة ناجمة عن الصبر واالبتالء فما‬
‫أكثر األوراق التي يحل بها الذبول ثم يحيها هللا وتكون يانعة‪ ،‬ثم جاء بالبيت األخير متناصا‬
‫ضمنيا مع قوله تعالى " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون"‪ 32‬وكأنه يؤكد ويصل‬
‫لقيمة االعتقاد والثقة في الخالق عزوجل‪ .‬وكذلك متناصا مع قول اإلمام علي – كرم هللا‬
‫وجهه " الرزق رزقان‪ :‬رزق تطلبه ورزق يطلبك‪ ،‬فإن لم تأته أتاك "‪33‬ومن ثم كان حال‬
‫الصابر؛ فالبيت األخير كمن يأتيه رزقه وهو مقيم‪ ،‬لكن كانت البادرة األولى منه في األخذ‬
‫باألسباب‪.‬‬
‫ومما نظمه نتيجة شعوره بالتغريب النفسي ما نجده فيما ينطوي على الخضوع واليأس‪ .‬من‬
‫الطويل ‪:‬‬
‫أي امريء يقوى على الدهر َزْن ُد ُه‬ ‫و ُّ‬ ‫رضيت من الدنيا بما ال ُّ‬
‫أوده‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫وفاء والطبيع ُة ض ُد ُه‬
‫وأبغي ً‬ ‫خصيمه‬
‫ُ‬ ‫دود‬
‫الص ُ‬
‫وصال و ُّ‬
‫ُحاول ْ‬
‫أ ُ‬
‫يتبع الهزل ِج ُد ُه‬‫ات ُ‬ ‫أخو غدر ٍ‬ ‫حسبت الهوى سهال ولم ِ‬
‫أدر أنه‬ ‫ُ‬
‫‪34‬‬
‫أشد ُه‬
‫ٍ ُ‬ ‫صعب‬ ‫ِ‬
‫كل‬ ‫من‬ ‫له‬ ‫ويعنو‬ ‫ة‬‫ٌ‬ ‫رزين‬ ‫وهي‬ ‫األحالم‬
‫ُ‬ ‫له‬ ‫ِت ُّ‬
‫خف‬
‫لقد حاول البارودي في األبيات السابقة أن يعبر عن المجموع بصيغة الذات والفرد‪ ،‬كأنه‬
‫حمل على عاتقه مسئولية كل مغبون وآيس مما يحيط به ويقيد حريته‪ ،‬وذلك هو ا(ألديب‬
‫الحق)‪ 35‬الذي يواجه مجتمعه بضمير واحد‪ .‬وكما ذكرنا فإن ظاهرتي التفاؤل والتشاؤم وما‬
‫يرتبط بهما من حكمة لم تكن لتنبع وتنبثق إال من خالل الوعي الشمولي بتجربته ومفرداتها‬

‫‪ 32‬سورة يس‪ :‬اآلية ‪82‬‬


‫‪ 33‬هذا جزء من وصية اإلمام علي‪ -‬كرم هللا وجهه‪ -‬إلى ابنه محمد ابن الحنفية ‪ ،‬في العقد الفريد ‪.‬‬
‫ابن ع بد ربه ‪ :‬العقد الفريد‪ :‬تحقيق د عبد المجيد الترحيني‪،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪1404‬هـ‪1983- ،‬م‪ – 102/3 ،‬وينبغي التنويه هنا إلى أن كتاب العقد الفريد قد حقق منه د مفيد محمد‬
‫قميحة الجزءين األول والثاني ‪ ،‬وبد ًءا من الجزء الثالث قد حققه د عبد المجيد الترحيني‪.‬‬
‫‪ 34‬الديوان‪ :‬ص ‪174‬‬
‫‪ 35‬أشار د عز الدين إسماعيل إلى رأيه في األديب الحق بأنه " ال يمكن أن يعيش بضميرين‪ ،‬ضمير‬
‫مع نفسه وضمير مع الناس‪،‬إنما يواجه األديب الحق نفسه ومجتمعه بضمير واحد ‪ ،‬ألنه يحس أن‬
‫مشكالته ال تنفصل عن مشكالت الناس‪ ،‬وربما مشكالت الناس بالنسبة إليه هي محور مشكالته" د‬
‫عز الدين إسماعيل ‪ :‬الشعر العربي المعاصر( قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية) دار الفكر‬
‫العربي‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬د‪.‬ت ص ‪375 -374‬‬

‫‪178‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫وعناصرها "فالكاتب ال يمكنه – في رأيي‪ -‬أن يكون شموليا إال إذا كان محليا أو بمعنى‬
‫آخر‪ :‬إنه ينطلق من أرضه لكي يعانق المجموع‪ ...‬وكلما كانت جذور المرء أعمق في أرضه‬
‫‪36‬‬
‫انتشرت هذه الجذور في أرض الناس كلهم"‬
‫ولنق أر في موقفه من الحياة وما ينتظر كل امريء ظن أنه امتلك ناصيتها‪ ،‬فها هو ُيذكر نفسه‬
‫ويتذكر من الطويل‪:‬‬

‫بر ِ‬
‫ماء‬ ‫مولع ِ‬ ‫وذا الدهر فينا‬ ‫العيش إال ساع ٌة سوف تنقضي‬
‫ُ‬ ‫فما‬
‫ٌ‬
‫ِ ‪37‬‬ ‫تحسبن المرء يبقى َّ‬
‫بعد كل نماء‬
‫النقض إال َ‬
‫ُ‬ ‫فما‬ ‫مخل ًدا‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫وال‬
‫‪38‬‬
‫إن أول ما يلفت االنتباه ويستثير الذهن في البيتين السابقين تلك (الصور المتكررة) في‬
‫مولع‬
‫شعر البارودي؛ تلك الصور يغلب عليها البساطة التي عبر بها عن فكرته ( الدهر فينا ٌ‬
‫برماء)وهنا تشبيه الدهر بذلك السيف الذي ال ينشغل إال برمي اإلنسان بكل االبتالءات ولم‬
‫يكتف بأن شبه الدهر بإنسان سفاك الدماء بل جعل فيه صفة ال يمكن فصلها عن أال وهي‬
‫مولع) أي أنها هواية ال يمكن بترها أو فصلها عن صاحبها ‪ ،‬ثم تأتي الصورة المجازية‬
‫ٌ‬ ‫(‬
‫الثانية (ما النقض إال بعدكل نماء) إذ جعل الشاعر النقض‪ -‬الهدم بفعل الدهر يكون سريعا؛‬
‫إذ ينتظر الدهر لحظة اكتمال الثمار ونضجها حتى ينقض عليها وينقضها وفي ذلك حسرة‬
‫تصيب صاحب الجهد والمجهود المضني‪ ،‬وكأن الدهر ينتظر وينتظر ليصيب اإلنسان في‬
‫قلبه كما ينهدم الكيان بعد اكتمال البناء‪ .‬فقد استطاع شاعرنا أن يحرك حواسنا ويستثيرها‬
‫بفعل ذلك التصوير إذ إن"التصوير في الشعر استثارة بواسطة الكلمات‪ .‬وعن طريق الحواس‬

‫‪ 36‬د محمد زكي العشماوي‪ :‬أعالم األدب العربي الحديث‪ ،‬دار المعرفة الجامعية‪ ،‬اإلسكندرية‪،‬‬
‫‪ ،1997‬ص ‪372‬‬
‫‪ 37‬الديوان ص ‪97‬‬
‫‪ 38‬هي الصور التي تربط الشاعر بحالته النفسية ونظرا إللحاح صور محددة ومتكررة فإن ذلك فيه‬
‫من الىداللة عل أن تلك الصور لها معان في وعي الشاعر ومن ثم تنعكس تحت قلمه ‪ .‬ويعد هذا‬
‫العنصر أحد العناصر التي ربط بها ستيفن أولمان بين أسلوب األديب وشخصيته وجعل هناك‬
‫مجموعة من العناصر التي يتحقق بها ومن خاللها ذلك الربط وتلك العناصر هي‪ :‬التحليل‬
‫اإلحصائي والمنهج النفسي واألنماط الرمزية لألسلوب‪ ،‬والكلمات الكاشفة ‪،‬والصور المتكررة‪.‬‬
‫يمكن الرجوع لكتاب الخيال واألسلوب والحداثة للدكتور جابر عصفور مجموعة مقاالت مترجمة‬
‫عن القضايا السابقة ‪ .‬د جابر عصفور‪ :‬الخيال واألسلوب والحداثة (مقاالت مترجمة) المجلس‬
‫األعلى للثقافة ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ،2005 ،‬ص‪208‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪179‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫يمكن بسرعة إثارة ذهن القاريء وعواطفه‪ ،‬ومن ثم يستخدم الشعر المجاز بكثرة‪ ،‬ولكن هذا ال‬
‫‪39‬‬
‫يعني القول بأن كل شعر جيد ينبغي أن يكون متضمنا لمجاز"‬
‫وال يمكننا أن ننسى أو نتناسى دور االستشراف‪ -‬في البيتين‪-‬الذي ُيعد م ِّ‬
‫ؤذنا بما ستؤل إليه‬ ‫ُ‬
‫األمور‪ ،‬كذلك دور االستثناء المنفي الذي أصر عليه الشاعر في البيتين ( فما العيش إال‬
‫النقض إال بعد كل نماء) بغية إحكام التأكيد على أن الحياة زائلة فال تطمئن‬ ‫ُ‬ ‫ساعة)‪ ( -‬فما‬
‫إليها كل االطمئنان‪ .‬أما عن عالقة ذلك بالتغريب النفسي عند الشاعر فقد أدى به ذلك‬
‫الحال إلى مآل آدم‪ -‬عليه السالم‪ -‬بقوله من الطويل ‪:‬‬
‫ِّ ‪40‬‬ ‫الجنان بحب ٍ‬
‫وبعت أنا الدنيا َبجرعة ماء‬ ‫ُ‬ ‫َّة‬ ‫باع ِّ َ‬
‫أبي آدم َ‬
‫ما أروعها صورة تماثلية قرنت بين حال الشاعر وحال آدم فكالهما باع ما هو فيه من متعة‬
‫وسرور وحياة سرمدية إلى ما دون ذلك‪ ،‬أدى به وأوداه إلى ترك موطنه اآلمن إلى موطن‬
‫آخر ال يعرف إالم سينتهي به المطاف عنده‪.‬‬
‫وفي بيان موقفه من الناس وتلك الحالة التي تتردد بين التفاؤل والتشاؤم واليأس واألمل‬
‫والغدر والخيانة يقول ‪:‬‬
‫تقول‬
‫ُ‬ ‫الخالئق ما‬
‫ُ‬ ‫فهل تدري‬ ‫ألمر ما تحيرت العقول‬ ‫ٍ‬
‫البقول‬
‫ُ‬ ‫تخضر‬
‫ُّ‬ ‫وت ْذوى ثم‬ ‫تعود فينا‬
‫الشمس ثم ُ‬‫ُ‬ ‫تغيب‬
‫ُ‬
‫الحقول‬ ‫وتشتمل‬ ‫ى‬‫ر‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫كما‬ ‫مرددات‬
‫ٍ‬ ‫ب‬ ‫غ‬‫ِ‬
‫ُ ُ ُّ‬‫ت‬ ‫ال‬ ‫طبائع‬
‫ُ‬ ‫َْ‬
‫ول‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الع ُق ُ‬
‫األيام وال َفط ُن َ‬
‫ُ‬ ‫به‬ ‫ول إذا تناهت‬
‫جه ُ‬ ‫فسيان اَل ُ‬
‫وتختلف الحقائق والنقول‬ ‫طور‬
‫الخلق طو ار بعد ٍ‬
‫ُ‬ ‫يزول‬
‫فما جرت الظنو ُن على ٍ‬
‫‪41‬‬
‫المقول‬
‫ُ‬ ‫صح‬
‫تفيء به وال َّ‬
‫ُ‬ ‫يقين‬
‫ومما قاله مستشرفا ممزوجا بالتفاؤل المشوب بالحذر من الطويل‪:‬‬
‫وبئس القول كان بال ِ‬
‫فعل‬ ‫َ‬ ‫أردت‬
‫ُ‬ ‫أقول وأتلو القول بالفعل َّ‬
‫كلما‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ ‪42‬‬ ‫ِ‬
‫بغير اقتحام الصعب ُمَّدَر َك السهل‬ ‫ى‬‫بصعب وال أر‬
‫ٍ‬ ‫السهل مقرونا‬
‫َ‬ ‫أرى‬

‫‪ 39‬د محمد حسن عبد هللا‪ :‬اللغة الفنية(مجموعة مقاالت أجنبية مترجمة) دار المعارف القاهرة‪،‬‬
‫‪ ،1985‬ص‪72‬‬
‫‪ 40‬الديوان‪ :‬ص ‪97‬‬
‫‪ 41‬الديوان ‪:‬ص ‪363-362‬‬
‫‪ 42‬الديوان ‪ :‬ص‪365‬‬

‫‪180‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫إن القول عند الشاعر البد أن يكون مقرونا بفعل‪ ،‬كما أن الشاعر قد أخرج من معجم حياته‬
‫كلمة سهل؛ ألنه ال يرى شيئا سهال‪ ،‬فمن أراد العال والمعالي فعليه أن يصبر على البالء‪،‬‬
‫فيقول من الكامل‪:‬‬
‫عاجل‬
‫ُ‬ ‫صب ار فإن الصبر ُغْن ٌم‬ ‫شئت أن تحوي المعالي َّ‬
‫فاد ِر ْع‬ ‫إن َ‬
‫غافل‬
‫ٌ‬ ‫ذاهل وافطن كأنك‬
‫ٌ‬ ‫نــــك‬ ‫اذكْر كأنـ‬
‫جاهل و ُ‬
‫ٌ‬ ‫احُل ْم كأنك‬
‫وْ‬
‫‪43‬‬
‫المتجاهل‬
‫ُ‬ ‫لعالم‬
‫في الدهر إال ا ُ‬ ‫فلقلما ُيفضي إلى آرابه‬
‫يوشح البارودي تفاؤله بحكمة مفادها الصبر؛ فعليك أن تتخذ من الصبر درعا واقية لكي‬
‫تغنم ُغنما عاجال ليس بآجل‪ ،‬كذلك وظف شاعرنا في البيت الثاني تلك البنى التركيبية الدالة‬
‫على العدالة من حيث‪ :‬المعنى واللفظ والصوت والصورة فجعل هنلك توازيا أفقيا ينم عن‬
‫موسيقي داخلية باعثة على اليقظة وكيفية مجاراة الحياة بتقلباتها وقد وظف الشاعر (فعل‬
‫األمر (احلم‪ -‬اذكر‪ -‬افطن ) ‪ +‬حرف التشبيه (ك) متبوعا بحرف التوكيد والنسخ (أن) مذيال‬
‫(أنك) للتحديد ‪ ،‬ثم أخبر عن (كأن) باسم الفاعل ( جاهل‪-‬‬ ‫بضمير متصل للخطاب (ك) َّ‬
‫ذاهل ‪ -‬غ افل) داللة على الديمومة والثبات واالستمرار في الفاعلية مع الثبات على االمتداد‬
‫الصوتي لحرف الالم الكائن في الضم (غافل‪-‬و) للداللة على االمتداد والعمق وكأن هذا‬
‫الصوت هو صدى لما يقوله من حكمة بالغة طبقت اآلفاق وال يصل إليها إال كل صابر وهو‬
‫ذلك العالم المتجاهل ألصوات التشاؤم وذويها‪.‬‬
‫ولنعرج إلى ما اتشح به شعر البارودي من لفتات أبانت وكشفت النقاب عن التشاؤم المنبني‬
‫على معطيات الشاعر الحالية‪ -‬في حينه‪ -‬التي – الشك‪ -‬كان لها دور جلي في بيان‬
‫(قصدية الشاعر)‪ 44‬وراء شعره في ذلك الصدد أو تلك الظاهرة؛ أي أن الشاعر كان ينظم‬
‫أ شعاره وهو يستشرف بلحاظ رأيه ما يمكن أن يقع‪ .‬فمن الجوانب التي أطلت علينا بعنقها في‬
‫شعر البارودي عالقته باألخالء واألصدقاء حتى إنه كاد يجزم أنه ال صديق على وجه‬

‫‪ 43‬الديوان‪ :‬ص ‪363‬‬


‫‪" 44‬تشير القصدية بالمعنى األوسع لهذا المصطلح إلى جميع الطرق التي يتخذها منتجو النصوص‬
‫في استغالل النصوص من أجل متابعه مقاصدهم وتحقيقها" د إلهام أبو غزالة وعلي خليل حمد‪:‬‬
‫مدخل إلى علم لغة النص‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،1999‬ص‬
‫‪ . 157‬وأرى أن هذا المصطلح قد تحقق في شعر البارودي وليس البارودي فحسب بل عند كثير‬
‫من شعراء العصر الحديث من أمثال شوقي وحافظ إبراهيم وغيرهم فكان لهم ما يرومونه عبر‬
‫التكرار والتتابع والتنازع ‪-‬ك ُّل في حقله ومحفله ‪ -‬وراء الهدف الواحد الذي ال يتحول في النهاية‬
‫إلى سراب بل كان ظاهرا جليا بين دفتي أعمالهم ‪.‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪181‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫توقع حاله إن لم ينقذه‬
‫األرض‪ ،‬وقد ألقت به تلك النظرة إلى حالة من الغضب والتشاؤم وقد َ‬
‫هللا منهم ؛ فيقول من الطويل‪:‬‬
‫وخبيت‬
‫ُ‬ ‫طيب‬
‫اء لديهم ٌ‬ ‫سو ٌ‬ ‫معشر‬
‫ٍ‬ ‫إلى هللا أشكو أنني بين‬
‫دميث‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫العيش وهو‬ ‫طيب‬
‫أنكرت َ‬
‫و ُ‬ ‫سئمت مكانتي‬
‫ُ‬ ‫مت بهم حتى‬ ‫َب ِر ُ‬
‫‪45‬‬
‫غيث‬
‫فما لي بين العالمين ُم ُ‬ ‫ِ‬
‫بفضله‬ ‫إذا لم ُيغثني هللا منهم‬
‫لقد أبانت األبيات السابقة وكشفت النقاب عن موقف الشاعر الحزين المتشائم؛ وقد تجلت‬
‫تلك الحالة وانعكست على (اختياراته اللفظية‪ 46‬واألسلوبية)‪ 47‬بما تنطوي عليه من إيحاءات‬
‫ودالالت عبرت عن شخصية الشاعر‪ .‬فبدأ بشبه الجملة الجار والمجرور وجعل لفظ الجاللة‬
‫(إلى هللا) هو المنقذ للداللة على انقياده إلى هللا ال غيره بعد أن قطعت به أسباب الحياة في‬
‫العالئق بين الناس‪ ،‬ثم أردف بأن جعل الفعل المنوط به التعلق بالجاروالمجرور متأخ ار ( إلى‬
‫هللا – أشكو) ثم كان للظرف المكاني (بين) له من الداللة على كثرة من يحيطون به من هذه‬
‫الشاكلة (معشر) كما كانت لفظة (معشر) لها من القوة لتدل على الكثرة واالزدحام والتنوع‬
‫اء بين طيب وخبيث‪ ،‬وال تدل الفضيلة‬ ‫بين بني البشر ورغم تلك الكثرة البائنة فإن هؤالء سو ٌ‬
‫على التقدم وال تدل الرذيلة بينهم على التأخر؛ لذلك كان رد فعل الشاعر حادا صارما بأن‬
‫(برمت بهم) التي أودت به إلى السأم المفضي إلى‬ ‫ُ‬ ‫شعر بتلك الحالة من التبرم والغضب‬
‫ورقيِّه‪ ،‬وذلك اإلنكار هو المطية التي مظهرت أبياته‬ ‫إنكار طيب العيش رغم دماثته وحسنه ُ‬
‫سن إلى قبح ومن تفاؤل إلى تشاؤم‪ ،‬ثم جعل األمر‬ ‫بتحول الحال من غنى إلى فقر ومن ُح ٍ‬

‫‪ 45‬الديوان‪ :‬ص‪132‬‬
‫‪ 46‬وفيما يتعلق بالقدرة على اختيار اللفظ وتموضعه في سياقه المالئم؛ فقد أشار ابن عبد ربه إلى‬
‫ذلك األمر في العقد الفريد بقوله " وال تجعل اللفظة قلقة في موضعها‪ ،‬نافرة عن مكانها؛ فإنك متى‬
‫فعلت [ذلك] هجنت الموضع الذي حاولت تحسينه‪ ،‬وأفسدت المكان الذي أردت إصالحه؛ فإن وضع‬
‫األلفاظ في غير أماكنها‪ ،‬وقصدك بها إلى غير مصابها‪ ،‬إنما هو كترقيع الثوب الذي لم تتشابه‬
‫رقاعه‪ ،‬ولم تتقارب أجزاؤه‪ ،‬خرج عن حد الجده وتغيَّر ُحسنُه" ابن عبد ربه‪ :‬العقد الفريد ‪269/4‬‬
‫‪ 47‬ما من شك أن األسلوب وصاحبه في كثير من الدراسات هما محور التجربة اإلبداعية؛ إذ إن‬
‫المؤلف يختار من بين أدواته اللغوية ما يحاكي قضيته وموقفه منها؛ ومن ثم فاألسلوب هنا يعني"‬
‫اختيار واع يسلطه المؤلف على ما توفره اللغة من سعة وطاقات‪ .‬وإلحاح هذا المنحى على أن‬
‫األسلوب عملية واعية تقوم على اختيار يبلغ تمامه في إدراك صاحبه كل مقوماته هو الذي يحدث‬
‫خد الفصل بين التقديرات الفلسفية لألسلوب وتقديراته الموضوعية التجريبية" د عبد السالم‬
‫المسدي‪ :‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪ ،‬طرابلس‪ ،‬الجماهيرية الليبية‪ -‬تونس‪،‬‬
‫الجمهورية التونسية ) ‪ ،1982‬ص ‪75-74‬‬

‫‪182‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫والنهي عند هللا بأن استشرف بيته الثالث ب (إذا) ذلك الحرف الضارب في أعماق الشرطية‬
‫الصه؛ وإال فلن يجد بين العالمين من يغيثه‬ ‫المستقبلية معوال على فضل هللا عليه في خ ِّ‬
‫َ‬
‫وينقذه مما هو فيه‪.‬‬
‫وفي هذا البيت تجلت اختيارات الشاعر األسلوبية بأن وظف الشاعر أساليب عدة تصب في‬
‫معين القصر والتحديد بأن هللا وحده القادر من مثل‪ :‬الشرط (إذا) مع الجزم ( لم يغثني) مع‬
‫الجار والمجرور المتكرر ( منهم ‪-‬بفضله ‪ -‬لي) مع النفي ( فما ) مع شبه الجملة ( بين‬
‫العالمين) ثم كان دور اسم الفاعل الرباعي األصل ( أغاث‪ -‬مغيث) له من الداللة على‬
‫حاجة الشاعر الملحة إلى الغوث ‪.‬‬
‫ومما نظمه في ذلك من الكامل‪:‬‬
‫اإلبالء‬ ‫وملِْل ُت حتى َّ‬
‫ملني‬ ‫ناس في أطو ِارهم‬ ‫بلو ُت ال َ‬ ‫ولقد ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫رياء‬ ‫ِ‬ ‫فإذا المودة َخَّل ٌة مكذوب ٌة‬
‫الوفاء ُ‬
‫بين البرية و ُ‬
‫‪48‬‬
‫سوداء؟‬ ‫قلب نقط ٌة‬ ‫ِ‬
‫وبكل ٍ‬ ‫صاحب‬
‫ٍ‬ ‫ق بذم ٍة من‬ ‫كيف الوثو ُ‬
‫ُ‬
‫يستمر الشاعر في عرض قضيته التي أرقت مضجعه وأظلمت عينه؛ تلك القضية التي‬
‫كانت ومازالت ولسوف – إن كان على قيد الحياة‪ -‬سيتحدث عنها أال وهي قضية وفاء‬
‫األصدقاء ‪ ،‬فها هو يبدأ األبيات ب ( ل‪ +‬قد) وتلك البداية المؤكدة أسلوبيا ب(الالم وقد)‬
‫الدالة على التحقق لها من القيمة التي ال تقبل الشك بأن الشاعر سيقول كالما موثوقا ‪ ،‬ثم‬
‫تال ذلك بالفعل المستغرق في الزمن الماضي البعيد المتصل بضمير الرفع المتحرك ( بال‬
‫بت الناس في شتى أطوار حياتهم حتى إنه من تكرار التجارب‬ ‫‪ +‬و ‪ +‬ت) أي اختبرت وجر ُ‬
‫مل منهم ومنه‪ ،‬فكان توظيف الفعل الماضي المتصل‬ ‫لم يمل هو وحده بل إن اإلبالء كذلك َّ‬
‫(ت) للمرة الثانية في نفس السطر الشعري داال على تمكن الشاعر‬ ‫بضمير الرفع المتحرك ُ‬
‫(مل‪ +‬ن‪+‬ي) وهنا تغير‬ ‫من قوله وتأكده منه ثم كانت النهاية الفعلية من كثرت التجارب أن َّ‬
‫اإلسناد من ضمير الرفع المتحرك المتصل بالشاعر (الفاعل) إلى انتقال اإلسناد إلى‬
‫(اإلبالء) ذاته حرصا من الشاعر على بلوغ الغاية والنهاية في كل شيء حتى انتهى به‬
‫مله من كثرة مجاورته وأصحابه‪.‬‬ ‫الحال والمطاف إلى أن اإلبالء نفسه قد َّ‬
‫ثم يستمر في الجانب االستشرافي التغريبي في آن‪ ،‬إذ جعل (إذا) وما اتصل بها من تلك‬
‫المودة بين الناس مرتكنة إلى أكاذيب وتضليل وكذلك ما يعرف بالوفاء قد تحول إلى رياء ‪،‬‬
‫ومن ثم ينتهي بجواب الشرط الكائن في ذلك السؤال المؤطر باإلجابة المنفية ضمنيا(كيف‬

‫‪ 48‬الديوان‪ :‬ص‪91‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪183‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫سوداء؟!) أي أنه ال مفر وال محيص من هؤالء‬ ‫قلب نقطةٌ‬ ‫ِّ‬
‫وبكل ٍ‬ ‫ٍ‬
‫صاحب‬ ‫الوثوق بذمة من‬
‫ُ‬
‫الرفاق الذين يتغنون بالفضائل وفي الوقت نفسه ينفي أنه ال صديق يمكن االرتكان إليه وقت‬
‫الضيق‪ .‬وتلك هي قضية الشاعر الكبرى‪.‬‬
‫ومن الشواهد الدالة على أثر التغريب المرير ذلك الحس الفاتر المشوب باليأس وفقدان‬
‫األمل المصبوغ بالتشاؤم انطالقا من الواقع المخزي‪ ،‬يقول من الكامل‪:‬‬
‫ميثاق‬
‫ُ‬ ‫ونعيم دنيا ما لها‬
‫ُ‬ ‫لحسنها‬‫بقاء ُ‬
‫نعيم ال َ‬ ‫ُدنيا ٌ‬
‫اق‬
‫الهم واإلير ُ‬
‫إلي ُّ‬‫وسما َّ‬
‫َ‬ ‫الزمان بحسنه‬
‫ُ‬ ‫فلقد مضى ذاك‬
‫‪49‬‬
‫علي ُبرح ِبها اآلفاق‬
‫ضاقت َّ‬ ‫وغدوت َحَّران الفؤ ِاد كأنما‬
‫ُ‬
‫إن أول ما يشد انتتباهنا في األبيات السابقة تلك التحوالت اللفظية التي تجلت في تلك‬
‫التبادلية السياقية بين ( دنيا نعيم‪ -‬نعيم دنيا) وكذلك التقسيم الموسيقي المشع بين( ال بقاء‬
‫لحسنها – ما لها ميثاق) إذ غير الشاعر في ترتيب الضمائر وفقا للتراكيب اإلسنادية بين‬
‫( ال بقاء‪ -‬ما لها – لحسنها – ميثاق) فاستطاع البارودي التالعب باأللفاظ وتنقالتها وفقا‬
‫لنظرية االختيار األسلوبية‪ ،‬إذ يمكننا القول (دنيا نعيم ما لها ميثاق‪ -‬ونعيم دنيا ال بقاء‬
‫لحسنها )‪ .‬ولعل الشاعر قد حافظ على تلك الصيغة المتوازية جزئيا بين الجملتين األوليين‬
‫وخالفها في نهاية الشطرين فذلك له من داللة التغيير التي يرجوها الشاعر‪ ،‬ألن كل شيء‬
‫عنده زائل وليس له من عهد أو الوفاء بوعد‪ ،‬ومن تلك التحوالت التي أراد الشاعر إبرازها في‬
‫صورتها الحقيقة ما نراه متجليا في دور الزمان في قياداته لدفة األعمار فلقد ذهب حسن‬
‫الشباب ولم يبق للشاعر سوى الهم والحزن واليأس واإليراق وامتناع النوم عن زيارته‪ .‬وكأن‬
‫الزمان قد أوصى أيامه بأال تترك الشاعر وحيدا بل يجب مؤانسته بالهموم ‪ ،‬ثم يأتي البيت‬
‫الثالث ليكون بمثابة ثالثة األثافي فبعد أن خاب الظن وذهب الوعد وانصرف الشباب بنزقه‬
‫ونشاطه سار الشاعر حران الفؤاد وقد ضاقت عليه األرض بما رحبت وأظلمت في وجهه‬
‫السبل ‪.‬‬
‫وحري بنا أن نعرض في هذا المقام موقف الشاعر من الشيب والشباب متذرعا بالحكمة متكئا‬
‫عليها في تغريبه النفسي مستشرفا في الوقت ذاته مآله ؛ وفي الحال ذاته يعبر عن موقفه من‬
‫النهاية المنتظرة حتى إن الموت صار عند الشاعر مالزما لفظيا في جل قصائده؛ وهذا إن‬
‫دل فإنما يدل على موقفه وتلك الحالة التشاؤمية من الحياة التي بزغت في غير موضع‬
‫وانسحابها على عقله وقلبه ؛ ليس هذل فحسب بل امتد األثر إلى أسلوبه واختياراته اللفظية‬

‫‪ 49‬الديوان‪ :‬ص‪319-318‬‬

‫‪184‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫واألسلوبية المختلفة‪ .‬فيقول من باب الحكمة والواقع وهو في سرنديب مستشرفا المستقبل وما‬
‫ينتظره من م اررة ستحل عليه ال محالة‪ -‬كما يرى‪ -‬النقضاء وقت الشباب من الخفيف‪:‬‬
‫تعود بعد الذهاب ؟‬ ‫ُأتراها ُ‬ ‫ام لذتي وشبابي‬ ‫أين أي ُ‬
‫الزمان عهد التصابي‬ ‫ُ‬ ‫أن يرد‬ ‫أبعد شيء‬ ‫عهد مضى و ُ‬ ‫ذاك ٌ‬
‫ِ ‪50‬‬
‫المصاب‬ ‫من ُذ فارقته شديد ُ‬ ‫علي ذكراه إني‬ ‫فأدي ار َّ‬
‫إن حديث البارودي في البيتين السابقين إنما هو حديث حقيقي واقعي ال خالف على ذلك؛‬
‫وفي الوقت ذاته فإنه يتحسر على ما فاته ومؤسسا عليه أن ذلك سينحسب ال محالة على‬
‫المستقبل؛ فيقول في البيت الثالث‪ :‬إني منذ فارقته شديد المصاب‪ ،‬وهذه المصائب وتجلياتها‬
‫عند البارودي تعبر عن الحال الجمعي وليس الفردي فقط ؛ لذلك كان الجانب االستشرافي‬
‫عنده في الشاهد السابق منبنيا على أحداث الماضي وفي الوقت ذاته فإنه يقر ويعترف‬
‫ويجيب عن االستفهام الذي صدر به قصيدته‪ :‬أين أيام لذتي وشبابي؟ ليأتي في البيت الثاني‬
‫باإلجابة المنطقية التي تناسب جوهر السؤال ‪ :‬ذاك عهد مضى وأبعد شيء أن يرد الزمان‬
‫عهد التصابي‪ .‬ومن ثم فإنه يستشرف مستقبله متكئا على حقيقة أال وهي حقيقة عدم العودة‬
‫إلى أيام الشباب‪ ،‬وذلك االستشراف كان مفعما ومغلفا باليأس والتشاؤم‪.‬‬
‫وفي السياق االستشرافي التشاؤمي يقول من المنسرح‪:‬‬
‫أرب؟‬ ‫ِ‬ ‫بح ِ‬
‫لم َك َّ‬ ‫إالم يهفو ِ‬
‫خمسين في الصبا ُ‬ ‫َ‬ ‫أبعد‬ ‫الطَر ُب ؟‬ ‫َ‬
‫القَر ُب‬
‫َ‬ ‫بها‬ ‫دنا‬ ‫د‬
‫ٍ‬‫ر‬ ‫ِ‬
‫و‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫ساع‬ ‫اقتربت‬‫و‬ ‫اب‬
‫ُ‬ ‫الشب‬ ‫ى‬ ‫ول‬ ‫هيهات‬
‫َ‬
‫قترب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬
‫وليس نحو الحياة ُم ُ‬ ‫بتعد‬
‫فليس دو الحمامِ ُم ٌ‬
‫‪51‬‬
‫له عن فنائها َهَر ُب‬ ‫ليس ُ‬ ‫سائر لِ َم ِ‬
‫نزل ٍة‬ ‫ُك ُّل امري ٍء ٌ‬
‫صدر الشاعر قصيدته بسؤال مألوف وروده على األسماع؛ فها هو يسأل فيه عن غايته‬
‫وهدفه بعد أن اكتسى بصفات الرزانة والحكمة المقترنة بالتقدم في السن ‪ ،‬ما غاية الطرب‬
‫الذي ينزعُ إليك قاصدا ؟ ثم يأتي الشطر الثاني بسؤال متضمنا اإلجابة عن االستفهام في‬
‫الشطر األول ‪ .‬أبعد الخمسين مازالت عند اإلنسان حاجة ورغبة ؟ إن كثي ار من األساليب‬
‫االستفه امية عند الشاعر ال يقصد من وراءها االستفهام المباشر لكن يقصد من وراءها‬
‫التقرير بنفي هذا االستفهام وأن األجابة تكمن في بلى ‪ :‬ليس هناك غاية أو رغبة أو هدف‬
‫بعد لخمسين‪ ،‬إذن من الظواهر األسلوبية عند الشاعر توظيف اإلنشاء وخاصة االستفهام‬
‫منه – بغرض التقرير واإلثبات ال االستفسار واالستوضاح كما هو مألوف دالليا‪ .‬ثم يأتي‬
‫التقرير الذي أشرنا إليه في استخدام اسم الفعل الماضي ( هيهات) المتوغل في االستبعاد لقد‬

‫‪ 50‬الديوان‪ :‬ص‪104‬‬
‫‪ 51‬الديوان‪ :‬ص ‪100‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪185‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫ولى عهد الشباب وها أنا أنتظر وقت الذهاب والموت‪ ،‬ثم ينتقل إلى البيت الثالث إلى‬
‫التوضيح والمباشرة ‪-‬التي عهدناها من البارودي‪ -‬فيسوق حالة التشاؤم في شكل حكمة‬
‫بازغة بأنه ال مفر من الموت وليس هناك مهرب من مواجهته وإدراكه لنا متناصا باإليجاب‬
‫تكونوا يد ِّرْك ُكم الموت وَلو ُكنتُم في برو ٍج م َشي ٍ‬
‫َّدة‪ 52"...‬وقوله تعالى "‬ ‫ُُ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫مع قوله تعالى " أينما ُ ُ ُ ْ‬
‫‪53‬‬ ‫ُم ٍة أجل‪َ ،‬فِّإ َذا جاء أَجلُهم ال يس ِّ‬
‫تأخ ُرو َن ساع ًة‪ ،‬وال َي ْستَْق ِّد ُمون" وذلك التناص الديني‬ ‫َولِّ ُك ِّل أ َّ‬
‫َْ‬ ‫َ َ َ ُ‬ ‫ٌ‬
‫ليس بمفترق عن شعر البارودي فهو من لبناته األساسية ومقوم األخالق عنده‪.‬‬
‫وبنظرتنا إلى مركزية الموسيقى‪ ،‬فنجده في البيت الثالث قد وظف تقنية التوازي األفقي التام‪:‬‬
‫قترب‬ ‫فليس دون ِ‬
‫وليس نحو الحياة ُم ُ‬ ‫بتعد‬
‫الحمامِ ُم ٌ‬
‫قسم الشاعر الشطرين إلى جملتين طويلتين اتخذ من أحدهما مرآة النعكاس الثانية وهو ما‬ ‫إذ َّ‬
‫ُيعرف بالتوازي التركيبي التام؛ إذ بدأ الشطر األول بالفاء (ف) االستئنافية ثم أتبعها بالفعل‬
‫الجامد الناسخ ليس ‪ +‬دون ( ظرف ) ‪ +‬اإلضافة المعرفة بأل في لفظة ( الحمام) ‪+‬‬
‫االشتقاق الصرفي وهو بمثابة (زمكان صرفي) على وزن ( ُمفتعل)‪ .‬ثم جاء الشطر الثاني‬
‫موازيا تركيبيا تاما في (حرف العطف (و) الموازي لحرف االستئناف‪ +‬الفعل الماضي الجامد‬
‫الناسخ (ليس)‪ +‬ظرف ‪ +‬اإلضافة المعرفة بأل في لفظة ( الحياة) ‪ +‬ثم لفظة ُمقترب‬
‫فتعل) وهو كما أراه معب ار عن الزمكانية الصرفية التي تجمع بين الزمان والمكان في آن‬ ‫(م ُ‬ ‫ُ‬
‫في هذا السياق‪ .‬هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن الموسيقى التعبيرية تجلت في تلك‬
‫المقابلة النصية بين ( الحمام – الحياة) ( مبتعد – مقترب) كل ذلك أحدث موسيقى عبرت‬
‫عن حال الشاعر ونظرته التشاؤمية نحو المستقبل‪ ،‬ناهيك بالقافية المتجلية في صوت (ب)‬
‫المجهور وهي قافية مطلقة ُوصلت بصوت الواو الممتد في األعماق للداللة على تلك‬
‫الفضاءات الكونية التي يقصدها الشاعر ويرومها؛ وقد خفف الشاعر وطأة قصديته عبر‬
‫صوت (س) وهو من (األصوات المهموسة)‪ 54‬الذي أضفى همسا موائما ومالئما للحقيقة‬

‫‪ 52‬سورة النساء‪ :‬اآلية ‪78‬‬


‫‪ 53‬سورة األعراف‪ :‬اآلية ‪34‬‬
‫‪" 54‬واألصوات الساكنة المجهورة في اللغة العربية كما تبرهن عليها التجارب الحديثة هي ثالثة‬
‫عشر ‪ :‬ب ج د ذ ر ز ض ظ ع غ ل م ن يضاف إليها كل أصوات اللين ‪ Vowels‬بما فيها الواو‬
‫والياء ‪ .‬في حين أن األصوات المهموسة هي اثنا عشر‪ :‬ت ث ح خ س ش ص ط ف ق ك هـ‪...‬‬
‫وقد برهن االستقراء على أن نسبة شيوع األصوات المهموسة في الكالم ال تكاد تزيد على ال ُخمس‬
‫أو عشرين في المِّ ئة منه ‪ ،‬في حين أن أربعة أخماس الكالم تتكون من أصوات مجهورة" د‬
‫إبراهيم أنيس ‪ :‬األصوات اللغوية ‪،‬مكتبة األنجلو المصرية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الخامسة‪ ،1975 ،‬ص‬
‫‪21‬‬

‫‪186‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫التي يباشر بها الشاعر مستمعيه أال وهي حقيقة الموت مقارنة باألصوات المجهورة التي‬
‫برزت في النص الشعري السابق من ‪( :‬م ب د ع ن ل ر ا ي و) ‪.‬‬
‫ثم ننتقل إلى شاهد آخر تكمن فيه الالمباالة وعدم االكتراث فقد استوت فيه عنده األنوار‬
‫والظلَُل ُم والسعادة والحزن ‪ ،‬فيقول من البسيط ‪:‬‬
‫حاج‬
‫وش ُ‬ ‫صف ٌار َّ‬ ‫سيان عندي َّ‬‫ِ‬ ‫غنت وإن َن َعَبت‬ ‫الطير إن َّ‬ ‫َ‬ ‫أح ِف ُل‬
‫ال ْ‬
‫‪55‬‬
‫َّاج‬
‫وكل قومٍ بهم للظُلمِ حج ُ‬ ‫ُّ‬ ‫يستعظمون من الحجَّاج صولته‬
‫ومن الجوانب األخرى أنه كان يصهر الزمان والدهر في كل ما يود التوجيه إليه أو اإلشارة‬
‫بشكل مباشر أو غير مباشر‪ ،‬فها هو يقحم الزمان مجددا ليعبر عن استشرافه السلبي‬
‫للمستقبل فيقول من الوافر‪:‬‬
‫قاب‬ ‫به اللذات واضع َة ِّ‬
‫الن ِّ‬ ‫العصر الذي دارت علينا‬ ‫هو‬
‫ُ‬
‫‪56‬‬
‫وننطق بالصواب وال ُنحابي‬ ‫ام وال نبالي‬ ‫نجاهر بالغر ِّ‬
‫إن التصدير السابق من ِّقبل البارودي لفيه من الداللة القاطعة على ما هو آت؛ إذ يمكننا‬
‫قبل الشروع في اإلكمال أن نتوقع أن الشاعر بصدد الحديث عن المستقبل منطلقا من واقعه‬
‫الذي يعيشه‪ ،‬فالبرغم من أن العصر الذي عاشه – كما يقول‪ -‬كانت تطالعه اللذات منكشفة‬
‫من غير نقاب فإنه في الوقت ذاته يسلط الضوء على قضية وجودية عنده تجلت في النطق‬
‫بالحق والصواب وال يخشى فيه لومة الئم‪ ،‬كما كان للفعلين المضارعين في البيت الثاني‬
‫(نجاهر ‪-‬ننطق) أثر ال ينكر في أنهما يكتنزان موقفا جوهريا في المجاهرة بالفعل والنطق‬
‫بالحق مع إردافهما بالفعل المنفي ( ال نبالي) وذلك يعمق الحال الذي وصلت إليه األمور‬
‫في عصره‪ ،‬مع الوضع في االعتبار أن المجاهرة ال تكون – كما هو متفق عليه سياقيا‬
‫وثقافيا ومجتمعيا – إال بالسوء ‪ ،‬وكأنه ُيسقط ما يريد أن يقوله على ذلك العصر الرديء؛‬
‫ومن ثم جعل المجاهرة للغرام وجعل النطق أي الفعل والحدث الحقيقي كائنا في عدم المحاباة‬
‫‪ ،‬ولننتقل إلى األبيات التالية من الوافر‪:‬‬
‫ِ‬
‫الهيف الك ِ‬
‫عاب‬ ‫ِ‬
‫اح و َ‬
‫نديم الر ِ‬ ‫عشت فيه‬
‫ُ‬ ‫زمان‬
‫فيا لك من ٍ‬
‫ِ‬
‫الطماعة ِ‬
‫بالك ِ‬
‫ذاب‬ ‫َي ُغُّر أخا‬ ‫وب‬
‫ق َخُل ٌ‬‫الدهر مالَّ ٌ‬
‫ُ‬ ‫كذاك‬
‫اه به يئول إلى َذ َه ِ‬
‫اب‬ ‫تر ُ‬ ‫شيء‬
‫ٍ‬ ‫فكل‬
‫فال تركن إليه ُّ‬
‫ُ‬
‫ِ ‪57‬‬
‫يسر َك في ِبعا ٍد واقتراب‬
‫ُّ‬ ‫فردا فما في الناس ِخ ٌل‬ ‫وعش ً‬

‫‪ 55‬الديوان‪ :‬ص‪133‬‬
‫‪ 56‬الديوان‪ :‬ص ‪108‬‬
‫‪ 57‬الديوان‪ :‬ص‪108‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪187‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫واستكماال لما سبق فإنه في البيت األول اتجه الشاعر إلى مخاطبة الزمان مباشرًة لكنه‬
‫المدام‬
‫خطاب الالئم إلى اللئيم المتحول فقد كان الشاعر (نديم الراح) كناية عن مداومته ُ‬
‫( الخمر) وكذلك الحسناوت والهيفاوات من النساء من مختلف األعمار ‪ ،‬ورغم ذلك يأتي‬
‫الشاعر بالمستقبل المرتكن إلى النصح واإلرشاد المعبق في التقريرية ( فال تركن إليه) فهو‬
‫يخاطب كل إنسان أال يغتر بصفو الزمان مهما قدم وأعطى؛ ألن كل ذلك مصيره الذهاب‪،‬‬
‫وهنا تتجلى الرؤية التشاؤمية عند البارودي في البيت األخير ‪:‬‬
‫يسرك في بعاد واقتراب‬
‫ُّ‬ ‫فردا فما في الناس ِّخ ٌّل‬
‫وعش ً‬ ‫ِّ‬
‫كل شيء غير صادق ألنه‬ ‫الزمان والدهر وسئم َّ‬
‫َ‬ ‫األخالء واألصدقاء وسئم‬
‫َ‬ ‫الشاعر‬
‫ُ‬ ‫لقد سئم‬
‫في النهاية (يئول إلى ذهاب) ومما ُيحمد للبارودي هنا أنه ال ينصح بدون مبرر أو مسوغ‬
‫لكلماته بل يضع خاتم القصدية والممارسة والتجريب على ما ينم عن تشاؤمه عبر الواقع‬
‫الذي يعيشه‪.‬‬
‫خالصة المبحث األول‪:‬‬
‫ما من شك أن هذا المبحث أضاء لنا كثي ار من القضايا التي شغلت البارودي وكانت مثاال‬
‫للصراع النفسي الذي لم يترك الشاعر في حله أو ترحاله‪ ،‬فكانت تلك النزعة التفاؤلية تبرق‬
‫في ظلمات بحر لجي غلب عليه م اررة الواقع وكانت بمثابة ومضات تنير حياته وتؤثر في‬
‫فعله وقوله أمال في تغيير قريب تهب من خالله نسمات العدل والحق المأمولين‪ ،‬أما اليأس‬
‫وفقدان األمل فقد وجدا طريقهما إلى عقل الشاعر قبل قلبه ‪ ،‬إذ اتخذ من واقعه معراجا‬
‫يستشرف به الحال والمآل بناء على ما تجلى له في آفاق حاضره ‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪:‬‬
‫ثنائية الزمان والمكان‬
‫ما من شك أن للزمان والمكان أث ار جليا في حياة الشعراء قديما وحديثا‪ ،‬فهناك من‬
‫عاتب الزمان وفقا لتقلباته وعدم القدرة عليه‪ ،‬ومنهم من عاتب المكان تبعا لقيمة المكان‬
‫الراسخة في ذهن الشاعر‪ ،‬ولعل الدافع وراء ذلك هو خشية الشعراء مواجهة الفاعل الحقيقي‬
‫أال وهو القدر ألنه المنتصر ال محالة‪ .‬وقلما نجد منهم من احتفى بهما إال لِّ َّ‬
‫علة كائنة في‬
‫نفس صاحبها‪.‬‬

‫‪188‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫وإذا عرجنا بحديثنا عن ثنائية الزمان والمكان في شعر البارودي انطالقا من ثناية‬
‫االستشراف والتغريب؛ فإنه يمكننا أن نرصد عددا من المواقف التي أطلت بعنقها وجعلت‬
‫للزمان والمكان كينونة كبرى في نفس الشاعر‪ ،‬ولكن يجب أن نضع في االعتبار أن حديث‬
‫الشاعر عن الزمان والمكان نابع من حكمة بالغة قد رسختها التجارب وجعلته قاد ار على‬
‫استشراف المستقبل ارتكا از على معطيات الحاضر بل يمكننا الذهاب بالقول إلى استرجاع‬
‫الماضي؛ ليقف على أطالله مغتربا في موطنه مستشرفا المستقبل المنتظر‪ ،‬ومن ثم فإن‬
‫دراسة الزمان والمكان ال ينبغي أن تتصل بالضرورة بزمان معين ومكان محدد ملموس بل‬
‫يمكن أن يكونا منطلقين من الحيز النفسي لألديب أو ما ينبغي أن يكون عليه الحال " وعلى‬
‫ذلك فليس هناك سبب يدعونا ألن ننسب درجة عالية من الواقعية للزمان والمكان إال‬
‫للموضوعات التي نضعها في الزمان والمكان ‪ .‬وحتى هذه ستكون من خلق عقولنا ومن‬
‫‪58‬‬
‫ابتداع الشعور"‬
‫نطالع ما استرجعه البارودي بل جعله صورة ماثلة أمامه‬ ‫َ‬ ‫المنطلق حرٌّي بنا أن‬
‫ومن هذا ُ‬
‫‪59‬‬
‫عاقدا عليها وبها عالقة الزمان بالمكان أو (الزمكانية) التي أقام عليها مبدأ المعاودة‬
‫والعودة إلى القديم ‪ :‬فنق أر من مجزوء الكامل‪:‬‬
‫ماد؟‬‫الع ِ‬
‫ذات ِ‬ ‫أين األُلى ُّ‬
‫َر وشيدوا َ‬ ‫شقوا البحو‬ ‫َ‬
‫اضر والبوادي‬ ‫ِ‬
‫ئ َد والحو َ‬ ‫التهائم والنجا‬
‫َ‬ ‫ملكوا‬
‫الفر ِاد؟‬
‫الكلِمِ ِ‬
‫الج ْز ِل و َ‬
‫ــض َ‬‫ِ‬ ‫صناع القريــ‬ ‫بل أين ُ‬
‫س بن ِ‬
‫ساعد َة اإليادي‬ ‫ُق ِ‬ ‫يل أو‬ ‫كالشاعر ِ‬
‫الضلِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ورمى بهم في كل وادي‬ ‫الزمان بجمعهم‬
‫ُ‬ ‫لعب‬
‫َ‬
‫ِ ‪60‬‬
‫إال بياضاً في سواد‬ ‫وكأنهم لم يلبثوا‬

‫‪ 58‬إميل توفيق ‪ :‬الزمن بين العلم والفلسفة واألدب‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،1982 ،‬ص ‪79‬‬
‫‪ 59‬يقصد بهذا المصطلح ارتباط الزمان بالمكان وقت الفعل أوالحدث أو الواقعة إذ إن عدم انفصالهما‬
‫وافتراقهما يحققان لألديب أو الشاعر والكاتب طاقة إيحائية تعبيرية تمكنه من توصيل خيطه الفكري‬
‫و الشعوري إلى المتلقي وذلك ما لحظناه في النص السابق للبارودي من حيث استدعاء فترة زمنية معينة‬
‫وما وازاها من محددات مكانية ارتبطت به وقت األحداث ‪ .‬ومن الواضح أيضا أن "بِّنَى الزمكانية ليست‬
‫محض ظواهر شكلية وإنما هي أيضا بِّنى ذهنية تتشكل من خالل تفاعلها التبادلي مع النصوص؛ إذ رغم أن‬
‫النصوص تنطوي على الزمن والمكان فإن اتحادهما وتوحدهما ال يتحقق مالم يصبحا جزءا من ذهنية‬
‫القاريء والمؤلف الحقيقيين" د ميجان الرويلي ودسعد البازعي‪:‬دليل الناقد األدبي‪ ،‬المركز الثقافي‬
‫العربي( الدار البيضاء ‪،‬المغرب‪ -‬بيروت‪ ،‬لبنان) الطبعة الخامسة ‪ ،2007‬ص‪172‬‬
‫‪ 60‬الديوان ص‪188‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪189‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫عرضت األبيات السابقة قضية جد مهمة ال يمكن االنفكاك عنها وال فصلها عن شعر‬
‫البارودي وهي قضية استدعاء القديم قوال وفعال وشخوصا وزمانا ومكانا‪ ،‬فقد استهل قضيته‬
‫بسؤال إجابته معلومة لدى الجميع بأن قال‪ :‬أين األُلى؟ فكان تصديره للنص بهذا السؤال داال‬
‫بما ال يدع مجاال للشك على المعاودة واالسترجاع الطامح إلى االستشراف(المثالي) المنتظر‪.‬‬
‫فمن ناحية الشخوص فها هو يبحث ويفتش في جعبة الماضي السحيق عن امريء القيس‬
‫والقس بن ساعدة‪ ،‬أما من ناحية المكان فإنه يبحث عما فعله السابقون بأن شقوا البحور‬
‫وأقاموا القصور الشاهقة (إرم) ذات العماد الرصينة التي لم ُيخلق مثلها في البالد‪ .‬ومن ثم‬
‫فهو ينادي‪ -‬أمال‪ -‬بأن يفعل الحاضرون مثلما فعل السابقون‪ .‬ومن ناحية الفعل فإنه‬
‫يستدعي ما فعله هؤالء القدامى ‪-‬موظفا األلفاظ القديمة ألماكن العرب من البوادي‬
‫والحواضر والنجائد‪ -‬من امتالك المرتفعات والمنخفضات والمدن والحضر ألنهم كانوا رجاال‬
‫أشداء‪ .‬ثم يأتي إلى الفاعل الحقيقي الذي ذهب بكل ذلك فقدم لنا لفظة الزمان وفتح لنا‬ ‫َ‬
‫مصاريع داللتها ثم نجده قد أغلق تلك المصاريع فجأة وجعل كل ذلك كأنه لم يغن باألمس‬
‫‪61‬‬
‫"كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إال عشي ًة أو ضحاها"‬
‫ومن نافلة القول إن اعتناء الشاعر بالقديم كان هو القوى الدافعة للمأمول مستقبال‪ ،‬ليس هذا‬
‫فحسب بل يمكننا القول إنه لما أراد مستقبال مشرًقا من خالل عقده العزم استجالء القديم‬
‫وإعادته؛ فكان التغريب هو النتيجة التي انتهى إليها نظ ار لرسوخ دوافعه ومنطلقاته األخالقية‬
‫ثم قد اختلط عند الشاعر أمر التبجيل للماضي وعالقته‬ ‫أحايين أخرى‪ ،‬ومن َّ‬
‫َ‬ ‫حينا والدينية في‬
‫بالتفسير العلمي للمستقبل بناء على الواقع الذي يقف عنده متأمال غده المنتظر كما أشار (أ‪.‬‬
‫أ‪.‬ريتشاردز)‪. 62‬‬

‫‪ 61‬النازعات‪ :‬اآلية ‪46‬‬


‫‪ 62‬هو إيغور أرمسترونج ريتشاردز أحد نقاد األدب اإلنجليزي عاش في الفترة بين( ‪-1883‬‬
‫‪ ) 1979‬له دراسات عدة في مجال النقد األدبي منها ( معنى المعنى) و( مباديء النقد األدبي والعلم‬
‫والشعر) وغيرها ‪ .‬وقد أشار في كتابة في الفصل المعنون بالشعر والعقيدة إلى ذلك الخلط الذي‬
‫يكون بين تبجيل الماضي وتقديم التفسير العقلي فقال " ولكنه ينبغي لنا أن نميز جيدا بين إثارة‬
‫موقف تبجيلي وبين تقديم تفسير عقلي ‪ ،‬كما يجب عدم تشجيع عادة الخلط بينهما واعتبار إثارة‬
‫الموقف تقريرا لحقيقة من الحقائق‪ ،‬وذلك ألن عدم األمانة العقلية يزداد خطرا بقدر ما يكون‬
‫محوطا باعتبارات انفعالية مقدسة" أ‪.‬أ‪ .‬ريتشاردز ‪ :‬مباديء النقد األدبي والعلم والشعر‪ ،‬ترجمة‬
‫وتقديم وتعليق د محمد مصطفى بدوي‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة القاهرة‪ ،2005 ،‬ص ‪340‬‬

‫‪190‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫وبناء على ما تقدم ذكره فإن البارودي اتكأ على الماضي والحاضر ليحدد موقفه المستقبلي‬
‫من الزمان ‪ ،‬فنجده يستشرف بحذر فيقول‪:‬‬
‫ولست بعالم الغيوب وإنما – أرى بلحاظ الرأي ما هو واقع‬‫ُ‬
‫الشاعر في البيت السابق يؤكد على عدم علميته المستقبلية (الغيب) ألنه من أمر هللا‪ ،‬لكنه‬
‫أشار إلى إمكانية ما يمكنه أن يحدث وذلك بناء على مالحظاته ومتابعاته التجريبية فيقول‬
‫موظفا أسلوب القصر ‪:‬‬
‫إنما أرى بلحاظ الرأي ما هو واقع‬
‫آت‪ ،‬والشك أن‬ ‫فنلحظ أنه نفى عن نفسه علم الغيب لكنه اعتمد على الواقع لقراءة ما هو ٍ‬
‫جملة (أرى ما هو واقع) قد ضربت بسهم في الحاضر والمستقبل في آن معا عبر توظيف‬
‫الفعل المضار ع(أرى) واالسم الموصول (ما ) ثم الجملة الخبرية المثبته (هو واقع) فكان‬
‫أثر كبير في تحديد زمن الفعل السابق ( أرى) وما تاله من اسم الفاعل (واقع)‬ ‫السم الفاعل ٌ‬
‫أي يقع اآلن وقد يقع مستقبال‪.‬‬
‫‪63‬‬
‫ويمضي الشاعر في إبداء (موقفه من الزمان) وكثرما تحدث عنه ومما هو معروف‬
‫ومألوف أن "الزمان ال يرى وال يرحم؛ إنه يضربنا بجناحه ويفر‪ ،‬إنه يحفر تجاعيده على‬
‫وجهنا متالعبا بحياتنا‪ ،‬متحكما بمصيرنا‪ ،‬إنه عازف بارع يوقع بأنامله المبدعة على أوتار‬
‫قلوبنا مستخرجا منها كل تلك العواطف الكيانية المبهمة‪ .‬التي ال نعرف لها سببا"‪ 64‬ومن تلك‬
‫المنطلقات فإن البارودي يمضي معوال على قيمة العالقات بين الناس ويفاجئنا مرة أخرى‬
‫بضرورة ضرب التكهن عرض الحائط ألنه يعرف ما ألم به من هول الهوى‪ .‬فيقول من‬
‫الكامل‪:‬‬
‫دائي الهوى ولكل نفس ُ‬
‫داء‬ ‫طبيب فإنما‬
‫ُ‬ ‫فدع التكهن يا‬
‫‪65‬‬
‫اء‬ ‫ِ‬
‫علمت دو ُ‬
‫َ‬ ‫نفسي ودائي لو‬ ‫الصبابة لذ ٌة تحيا بها‬ ‫ألم‬
‫ُ‬

‫‪ 63‬تحدث الشاعر نفسه عن موقفه من الزمان بعدد من األسئلة التي تتضمن إجابة شافية وتقريرا‬
‫بأن الزمان ال ضمانة ألحد عليه قائال " وأي امريء عاهده الدهر ولم يغدر أو صف له ثم ولم‬
‫يكدر؟ وكيف ال ينقلب الحال والزمان قُلَّ ٌ‬
‫ب ‪ ...‬هيهات ما وعد إال وخلف ‪ ...‬وال أضحك إال وأبكى‪...‬‬
‫فال تحزن على ما ذهب إذا استرد الدهر ما وهب" محمود سامي البارودي‪ :‬الديوان‪ ،‬طبعة مكتبة‬
‫هنداوي‪ ،‬القاهرة‪ ،2013 ،‬ص ‪30‬‬
‫‪ 64‬سمير الحاج شاهين‪ :‬لحظة األبدية ‪ ،‬دراسة الزمان في أدب القرن العشرين‪ ،‬المؤسسة العربية‬
‫للدراسات والنشر ‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪،‬الطبعة األولى‪ ،1980 ،‬ص ‪52‬‬
‫‪ 65‬الديوان ص ‪89‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪191‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫ولنق أر له في البيتين اآلتيين تلك المعضلة بل الظاهرة التي لم تغب كثي ار عن قصائد ديوانه‬
‫أال وهي قضية الود الصادق النابع من القلب ‪ .‬فيقول من الكامل‪:‬‬
‫جفاء‬
‫ُ‬ ‫ما حال بين ال ُخلتين‬ ‫وداد صادق‬ ‫لو كان في الدنيا ٌ‬
‫‪66‬‬
‫هباء‬
‫فانفض يديك من الزمان وأهله فالسعي في طلب الصديق ُ‬
‫إن البيتين السابقين يوضحان بجالء موقف الشاعر من زمانه معوال على تلك البنية الزمنية‬
‫حال) وفعل األمر ( انفض) وكان لتلك المتوالية‬ ‫التي تتناوب بين الفعلين الماضيين ( كاَ َن – َ‬
‫دور في استجالء المستقبل واستشرافه من تلك المعلومات التي قد امدنا بها الشاعر ومن‬
‫المحدد للتأويل المطلوب"‬‫ِّ‬ ‫خالل عالمه الخارجي " حيث تشكل هذه المعلومات األثر السياقي‬
‫‪67‬وما نراه عبر تلك المعطيات فإن الشاعر استطاع تسوير الزمن بأفعال ال يكف عن‬
‫الخروج من فلكها ومن ثم فال رجاء في الزمان وال منه‪ ،‬فإن لم يكن هناك وداد صادق فال‬
‫خير في فعل الزمان‪ ،‬وهنا ال يلوم البارودي الزمان فحسب بل يلوم كذلك أهله؛ أي أن‬
‫المسبب بل كذلك على من تحققت فيه وبه األسباب‪ ،‬ناهيك بتلك‬ ‫ِّ‬ ‫العتاب ال يقع فقط على‬
‫البنية التي صدر بها البيت األول بحرف (لو) المتغلغل في امتناع وجود الوداد الصادق‬
‫المتناع حدوث الجفاء بين أصحاب الخالل والصفات الطيبة‪ ،‬ثم كان البيت الثاني مفتتحا‬
‫بفاء السرعة مع النفض والترك واالبتعاد عن الزمان ‪،‬وهذا فيه داللة التيقن القائم على‬
‫استشراف المستقبل من خالل معطيات الماضي‪.‬‬
‫إن علة عالقة الشاعر بزمانه قائمة على أفعال األصدقاء إذ نجده دائما يعول على‬
‫ا ألصدقاء وعن عالقتهم به فها هو يوضح ويبين موقفه منهم أمال في أن يتغير ذلك‬
‫مستقبال‪ .‬فيقول من الوافر‪:‬‬
‫ق‬‫وي َة في الحقو ِ‬ ‫الس َّ‬
‫أمنحه َّ‬ ‫ِ‬
‫عنه و ُ‬ ‫ود ُ‬ ‫أض ُّن بصاحبي وأ ُذ ُ‬
‫ِ‬
‫الصديق‬ ‫عل‬ ‫ِ ِ‬
‫بنصره ف َ‬ ‫أقوم‬ ‫وإن غدر الزمان به فإني‬
‫ِ‬
‫وضيق‬ ‫أخاه على الحالين في َس َع ٍة‬‫إذا ما المرُء لم ينفع ُ‬
‫‪68‬‬
‫ِ‬
‫الطريق‬ ‫فخير منه إخوان‬
‫ٌ‬ ‫مأسوف عليه‬
‫ٍ‬ ‫فدعه غير‬

‫‪ 66‬الديوان‪ :‬ص ‪91‬‬


‫‪ 67‬محمد المالخ ‪ :‬الزمن في اللغة العربية ( بنياته التركيبية والداللية) دار األمان ‪ ،‬الرباط‪،‬‬
‫الطبعة األولى ‪ ،2009 ،‬ص‪460‬‬
‫‪ 68‬الديوان‪ :‬ص ‪232‬‬

‫‪192‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫لقد وظف الشاعر في البيت الثالث حرف الشرط ( إذا) لما يستشرف من الزمان للداللة على‬
‫يقينه بفعله لذلك وضع شرطا ومضمونا ال يمكن االنفكاك عنه أال وهو ‪ :‬إن لم ينفعك‬
‫صديقك فدعه واتركه وال تكترث به ‪ ،‬ليس ذلك فحسب بل اجعل رفيقك هو رفيق الدرب‬
‫الطريق ال رفيق العمر‪ .‬إذن م اررة الشاعر تبنع من وتكمن في رفاق العمر ‪ ،‬وفي الوقت‬
‫نفسه يعبر عن اغترابه حال فقده صديقه؛ وذلك االغتراب ال يتأتى وال يمرق في القلب‬
‫إالعبر م اررة المواقف واألحداث‪ ،‬ولم ال وقد َّأن َبه كثي ار رفقاء الثورة العرابية بعد النفي إلى‬
‫سرنديب وألبوا عليه زعماء الثورة فيمن يكمن السبب وراء فشل الثورة‪ ،‬كل ذلك رغم نصرته‬
‫أضن بصاحبي وأذود عنه) فكان التغريب المكاني والنفسي بمثاية النار التي تحرق‬ ‫ُّ‬ ‫لهم (‬
‫قلب البارودي وعقله‪.‬‬
‫وقال في ذلك وهو في سرنديب حاكيا عن غربته وما انطوي عليها من تغريب مازجا كما‬
‫أشار جورج مولينيه‪ -‬بين الصور ذات البنية الصغرى‪ -‬التي يمكن فصلها عن الخطاب‬
‫العام ‪ -‬بالصور ذات (البنية الكبرى)‪ – 69‬التي تنسحب على فكر الشاعر وال تتغير‬
‫باختالف (السياق الخطابي)‪70‬؛ إذ إن الغربة المكانية وما انطوى عليها من تغريب نفسي لم‬
‫تغب يوما عن الشاعر في صورتها الكلية‪ .‬فيقول عبر رسم تلك الصورة المجازية للغربة‬
‫ببنيتها الصغرى (صورة نزع ثياب العالئق) منتقال منها إلى الحقيقة الكبرى المتجلية في‬
‫الواقع (صورة طلب العدل والرضا) فيقول من الطويل‪:‬‬
‫ِ‬
‫العالئق‬ ‫عني ثياب‬‫عت بها ِ‬ ‫نز ُ‬ ‫سرنديب ُغرب ًة‬ ‫بمقامي في‬
‫َ‬ ‫كفى ُ‬
‫ِ‬
‫المضايق‬ ‫لِ ِ‬
‫قاء المنايا واقتحام‬ ‫فليصطبر على‬ ‫نيل ِ‬
‫العز‬
‫ْ‬ ‫ومن رام َ‬
‫تكن من خالئقي‬‫هنات لم ْ‬
‫وتلك ٌ‬ ‫خالعا‬
‫ثرت ً‬ ‫أناس‪ :‬إنني ُ‬‫يقول ٌ‬
‫‪71‬‬
‫ِ‬
‫الحقائق‬ ‫رضا هللا واستنهض ُت أهل‬ ‫ناديت بالعدل طالبا‬
‫ُ‬ ‫ولكنني‬

‫‪ 69‬وفي السياق ذاته يوضح مولينيه و"يميز بين الصور ذات البنية الصغرى والصور ذات البنية الكبرى‪.‬ويحددها بما يل ‪ :‬تمتاز‬
‫الصور ذات البنية الصغرى عن الصور ذات البنية الكبرى بكونها يمكن عزلها في عناصر محددة من الخطاب تزول أو تتغير إذا‬
‫غيرنا في العناصر الشبكية للخطاب‪ ،‬تدل على نفسها فورا وتفرض نفسها عند تلقي المرسلة‪ ،‬ت ُفسر انطالقا من سياقها المباشر‪ .‬أما‬
‫الصور ذات البني ة الكبرى فإنها على عكس ذلك تعمل على مستوى النص أو الخطاب وال يمكن عزلها أو تمييزها في مفردات معينة‬
‫منه"جورج مولينييه‪ :‬األسلوبية ترجمة د بسام بركة المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪،‬لبنان‪،‬الطبعة األولى ‪،‬‬
‫‪،1999‬ص‪26-25‬‬
‫المتواري أو الموازي ضمنيا لتلك البنى‬
‫ِّ‬ ‫‪ 70‬وفي هذا المقام قد أشار د عيد بلبع إلى أن هناك ما يمكننا أن نُطلق عليه السياق‬
‫الصرفية والنحوية والصوتية والمعجمية التي حددها األديب؛ أي الداللة التي يبتغيها الشاعر من وراء تتابعية وتكرار بنى تركيبية‬
‫معينة تكون ُملحة على ذهنية الشاعر وقت النظم؛ فيقول د بلبع في ذلك" إذا كان سياق النص يمثل مستوى من األطر السياقية التي‬
‫تضم في طياتها مستويات أخرى من المستوى الصوتي والصرفي والمعجمي والنحوي؛ فإنه يعد في الوقت نفسه مستوى مستقال ال‬
‫يقف عند حدود سياق التراكيب بل يتعداه لينتج بعض الدالالت أو يحدد بعضها بع القات غير نحوية تأتي من الفحوى أو المفهوم‬
‫العام للعناصر السياقية األخرى" د عيد بلبع ‪ :‬السياق وتوجيه داللة النص‪ ،‬دار بلنسية للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪ ،2008‬ص‪162‬‬
‫‪ 71‬الديوان ص ‪327‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪193‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫بيَّن الشاعر في المقطعة السابقة موقفه من األصدقاء‪،‬؛ وذوي العالقات‪ ،‬ومن الثورة بشكل‬
‫َّن أنه لم يخن ولم يؤثر نفسه بل كان كل ما أراده هو العدل‪،‬‬ ‫صارم غير مغمود الداللة ؛ بي َ‬
‫وغير ذلك فليس من أخالقه وال خالئقه‪ .‬وقد عالج الشاعر موقفه من الغربة في سرنديب بأن‬ ‫ُ‬
‫رسم صورة للمكان بأن نزع عن كاهله تلك العالئق الكاذبة‪ ،‬فشبه الزمان هنا بالشيء الذي‬
‫يستخدمه اإلنسان لخلع مالبسه‪ ،‬فلم يشر إلى المالبس لكنه أشار إلى ما يمكن أن يخلعه‬
‫عنه به‪ ،‬وكأن تلك العالئق (الثياب المخلوعة) كانت تشعره بالضيق واألذى فجاء المكان‬
‫وخلصه من ربقته ؛ ففي الوقت الذي يشتكي فيه البارودي من تغريبه المادي والنفسي نجده‬
‫يعود مادحا المكان نفسه فكأن المكان سالحا ذا حدين وتلك صورة رائعة خلت من التعقيد‬
‫واإلغراب واإلغراق‪ ،‬كتلك التي نادى بها (ابن طباطبا في عيار الشاعر)‪ .72‬وهذا من باب‬
‫التجديد عند البارودي‪ ،‬ليس هذا فحسب بل إنه أضاف صورة أخرى بأنه يجب على اإلنسان‬
‫الشاعر المنايا‬
‫ُ‬ ‫مواجهة المنايا واقتحام المضايق( وهي صورة رائعة تخلو من التعقيد إذ جسد‬
‫بالشيء أو اإلنسان صعب المراس والعصي على التفاهم ويصعب مواجهته ولكن ينبغي‬
‫على من أراد بلوغ المرام أن يواجه تلك الصعاب والمضايق‪.‬‬
‫وهنا ينبغي اإلشارة إلى الذوق وعالقته بالتأريخ األدبي وضرورة الفصل بينهما من حيث‬
‫الحكم على الشاعر وصدق موقفه إزاء قضية محددة األركان كما نجدها عند البارودي قضية‬
‫عالقته بأصدقائه‪ ،‬ومن منهم كان معه ومن منهم كان ضده وكذلك قضية العدالة‬
‫االجتماعية واإلنصاف النفسي واالقتصاص ممن أساءوا إليه في حله وترحاله ‪ ،‬وتحضرني‬
‫في هذا السياق مقولة الدكتور محمد مندور إذ قال عن األحكام النقدية " نحن عندما نق أر ال‬
‫تكون استجابتنا الفنية تامة النقاء‪ ،‬إذ إن ما نسمية ذوقا ليس إال مزيجا من المشاعر‬
‫والعادات واألهواء التي تسهم فيها كل عناصر شخصيتنا المعنوية بشيء‪ .‬ومن ثم يدخل في‬
‫تأثراتنا األدبية شيء من أخالقنا ومعتقداتنا وأهوائنا"‪ 73‬وهذا ما أراه آليات النقد بنوعيه البناء‬
‫والهدام وفقا لما يمثله المنقود سواء أكان شاع ار أم شعرا‪.‬‬

‫‪ 72‬هو أحد أهم نقاد القرن الرابع الهجري ت ‪ 322‬قال فيما أشرنا إليه فيما ينبغي أن يتجنبه‬
‫الشاعر "وينبغي للشاعر ان يجتنب اإلشارات البعيدة والحكايات الغلقة واإليماء ال ُمشكل ‪ ،‬ويتعمد‬
‫ما خالف ذلك‪ ،‬ويستعمل من المجاز ما يقارب الحقيقة وال يبعد عنها ومن االستعارات ما يليق‬
‫بالمعاني التي يأتي بها " ابن طباطبا العلوي ‪ :‬عيار الشعر ‪ ،‬تحقيق د عبد العزيز المانع ‪،‬دار‬
‫العلوم للطبع والنشر‪ ،‬الرياض‪ ،1985 ،‬ص ‪200-199‬‬
‫‪ 73‬د محمد مندور‪ :‬النقد المنهجي عند العرب ومنهج البحث في األدب واللغة‪ ،‬دار نهضة مصر‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،1996 ،‬ص‪405‬‬

‫‪194‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫ال ريب أن البارودي استعمل فلسفته األدبية والتاريخية لكي يحكي لنا قصصا من واقعه‬
‫رو على مسمع ومرأى من‬ ‫التاريخي‪ ،‬فجعل القصة تحكي مواقف وتبث فينا حكايات لم تُ َ‬
‫الناس‪ ،‬وهنا حري بنا أن نشد على أيدي البارودي الذي استلهم أحداث عصره بأدوات فلسفته‬
‫وتاريخية المواقف‪ .‬وعندما تتماهى الفلسفة والتاريخ فإن مخرجاتها ال يمكننا أن ننزع منها‬
‫عناصر اإلجادة واإلتقان بل الحس الشعري الموشح بالصدق كذلك "وإلى هذا المدى يلتقي‬
‫الحس الشعري مع أحداث التاريخ‪ ،‬ويظل شاعر العصر مؤرخا مبدعا في آن بل يتحول إلى‬
‫‪74‬‬
‫صاحب فكر متميز في إطار ما خصصه من ديوان شعره حول اتجاه ما بعينه"‬
‫ولعل هذا ما تقصينا عنه في ديوان البارودي من قيمة بعث ذلك القديم ودوره في استبصار‬
‫الروح األدبية التي تستثير أفكا ار تقفز بين أرجل األحداث الحاضرة بوعي جديد وعقل منفتح‬
‫اآلفاق يذهب خارج المألوف ويخرج الشاعر من (عقالنيته وإخضاعة للقاعدة العلمية)‪ 75‬التي‬
‫كانت تمثل جوه ار في نقد الشاعر العربي في فترات كثيرة منها ما كان في القرنين الثالث‬
‫والرابع الهجريين علما بأن ذلك االستبصار ال يخرج إال من رحم المعاناة القائمة على‬
‫التجريب والمعاملة‪. .‬‬
‫ومن قوله االستبصاري االستشرافي في الشأن ذاته ‪ ،‬من الكامل‪:‬‬
‫وح َذ ِار ال ُتطلع عليه رفيقا‬ ‫َ‬ ‫عدوك جاهدا‬
‫َ‬ ‫ضميرك من‬
‫َ‬ ‫تم‬
‫اك ْ‬
‫‪76‬‬
‫العد ُّو صديقا‬
‫ولربما رجع ُ‬ ‫فلربما انقلب الصديق معاديا‬
‫إن الشاعر في البيتين السابقين يعول على ضرورة كتمان ما يدور في الضمير؛ ألنه ال‬
‫شيء يستقر على حال واحدة‪ ،‬وهذا يتناص باإليجاب مع قول اإلمام علي ‪-‬رضي هللا عنه‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫يض َك َه ْوًنا َما‪َ ،‬ع َسى‬‫ض َبغ َ‬ ‫يض َك َي ْو ًما َما‪َ ،‬وأ َْبغ ْ‬ ‫َحِّب ْب َحِّب َيب َك َه ْوًنا َما‪َ ،‬ع َسى أ ْ‬
‫َن َي ُكو َن َبغ َ‬ ‫"أ ْ‬

‫‪ 74‬د عبد هللا التطاوي‪ :‬حركة الشعر بين الفلسفة والتاريخ‪ ،‬دار الثقافة للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ 1992‬ص‪56‬‬
‫‪ 75‬في تلك العالقة بين الجانب العقلي والجانب العلمي أشار أدونيس إلى رأيه بأنه وجد طريقا ثالثة‬
‫قال" صرتُ أبحث عن طرق مغايرة ‪ ،‬ال تنفي هاجس المستقبل ‪ ،‬وال تنفي الماضي بإطالق‪ ...‬وذلك‬
‫من أجل أن أبتعد عن عقالنية العلم الباردة‪ ،‬وتطلعا إلى الكشف عن حقائق أسمى إنسانيا ‪،‬وأعمق‬
‫من حقائق العلم ‪ ،‬ولم تكن هذه عودة ماضوية‪ ...‬إنما هي نوع من االستبصار في كلية الكيان‬
‫اإلنساني واإلحاطة به" أدونيس‪ :‬الشعرية العربية‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية‪،1984 ،‬‬
‫ص‪104‬‬
‫‪ 76‬الديوان‪ :‬ص ‪329‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪195‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫َن َي ُكو َن َحِّب َيب َك َي ْو ًما َما"‪ 77‬فيشير الشاعر إلى التعلم من الماضي وضرورة تجنب ذلك في‬ ‫أْ‬
‫ِّ‬
‫(حذار) وأسلوب النهي‬ ‫المستقبل وقد تجلى المستقبل دالليا في توظيفه أسلوب التحذير في‬
‫(ال تطع)‬
‫وغني عن البيان ان التحذير يكون من شيء آت والنهي كذلك يكون لما يستقبل من زمن‬
‫الفعل‪.‬وبين تلكما الحالتين من االستشراف والتراجع يظل البارودي مناوئا الزمان فيقول من‬
‫الكامل ملتزما‪:‬‬
‫‪78‬‬
‫يلت ُه الفؤ َاد الغافال‬
‫مخ ُ‬‫خدعت ِ‬ ‫ِ‬
‫الزمان فربما‬ ‫تركنن إلى‬
‫َّ‬ ‫ال‬
‫هب الغدا َة أتى العشي َة قافال‬‫َذ َ‬ ‫واصبر على ما كان منه فكلما‬
‫‪79‬‬
‫ابن آدم بالمصائب كافال‬ ‫وكفى َ‬ ‫بع ِه‬
‫كفل الشقاء لمن أنا َخ بر ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫‪80‬‬
‫عام الجافال‬ ‫فاسأل لتعرَفه َّ‬
‫الن َ‬ ‫الدهر معرف ًة به‬
‫َ‬ ‫سألت‬
‫َ‬ ‫فإذا‬
‫‪81‬‬
‫ويرفع سافال‬
‫ُ‬ ‫غير ما قص ٍد‬ ‫اب يخفض عاليا من ِ‬ ‫فالدهر كالدو ِ‬
‫ُ‬
‫باالطالع على األبيات السابقة فإننا ال يمكننا أن نفصل بين البارودي وغيره من قدامى‬
‫الشعراء في عصر صدر اإلسالم والعصر العباسي وكأننا نق أر قصيدة لديك الجن أو البحتري‬
‫شعر أديبٍ متأخر‬
‫أو أبي تمام أو المتنبي حتى إن األستاذ العقاد قال عنه "وال تكاد تجد َ‬
‫يستقيم له أن يذكر في شعر كل عصر من لدن زمننا إلى صدر اإلسالم ثم ال تنحط مرتبته‬
‫غير كالم البارودي هذا"‪82‬؛ وذلك لما للبارودي من تأثُّ ٍر ال تغفله عين وال ينكره قلب‪،‬‬

‫ِّي‪ ،‬عَنْ أَ ِّبي ِّه قَالَ‪ :‬سَمِّ عْتُ َ‬


‫ع ِّليًّا يَقُو ُل ِّالب ِّْن ا ْلك ََّواءِّ ‪َ :‬ه ْل‬ ‫ّللا قَالَ‪َ :‬ح َّدثَنَا َم ْر َوا ُن ْب ُن ُمعَا ِّويَةَ قَالَ‪َ :‬ح َّدثَنَا ُم َح َّم ُد ْب ُن ُ‬
‫عبَ ْي ٍد ا ْل ِّك ْند ُّ‬ ‫‪َ 77‬ح َّدثَنَا َ‬
‫ع ْب ُد َّ ِّ‬
‫سى أَنْ يَكُونَ َحبِّيبَكَ ي َْو ًما‬ ‫ع َ‬ ‫ِّض بَغِّيضَكَ ه َْونًا َما‪َ ،‬‬ ‫سى أَنْ يَكُونَ بَغِّيضَكَ ي َْو ًما َما‪َ ،‬وأَ ْبغ ْ‬ ‫ع َ‬‫تَد ِّْري َما قَا َل ْاألَ َّولُ؟ أَحْ بِّ ْب َحبِّيبَكَ ه َْونًا َما‪َ ،‬‬
‫َما"‬
‫قال الشيخ األلباني ‪ :‬حسن لغيره موقوفا وقد صح مرفوعا‪ .‬محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري‪ ،‬أبو عبد هللا‬
‫(المتوفى‪256 :‬هـ) ‪ :‬صحيح األدب المفرد ‪،‬المح قق‪ :‬محمد فؤاد عبد الباقي‪،‬الناشر‪ :‬دار البشائر اإلسالمية – بيروت‪،‬الطبعة‪:‬‬
‫الثالثة‪ ،1989 – 1409 ،‬ص‪.447‬‬
‫‪ 78‬ال ُمخيلة يقصد بها المظهر والمظنَّة‪.‬‬
‫‪ 79‬هذا النوع من التشبيه أطلق عليه الشيخ عبد القاهر الجرجاني التخييل الشبيه بالحقيقة‪ ،‬وذلك ألن اإلنسان الذي يركن إلى أفعال‬
‫الزمان ويقيم فيها فإنه لن ينفلت منها وكأنه مقيم بربعه (مكانه) وفي الوقت ذاته فإنه قد كفل ابن آدم بأن يكون هو راعيا لمصائبه‬
‫التي لن يصرفه عنها ‪ ،‬فهذه حقيقة ولئن تمثلت تلك الحقيقة في مسببات القدر فإن ذلك سيكون في النهاية بمعية الزمان وحضرته ‪،‬‬
‫وقد ضرب الجرجاني بذلك مثال ألبي تمام من الخفيف ‪:‬‬
‫س ُن أن يُهــــ دِّي الرزايا إلى ذوي األحسا ِّ‬
‫ب‬ ‫الزمان يُح ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ريب‬ ‫َ‬ ‫إنَّ‬
‫روض ال ِّوها ِّد روضُ الروابي‬ ‫ِّ‬ ‫قبل‬ ‫ف بعد اخضرار‬ ‫فَلِّهذا ي َِّج ُّ‬
‫الوهاد‪ :‬المناطق المنخفضة – الروابي‪ :‬األماكن المرتفعة‬
‫إن الحقيقة الكائنة في الشاه د السابق هي إن االخضرار الذي يكون في الرياض في القمم العالية يذهب لونه ويصفر قبل تلك الكائنة‬
‫عند السفح ‪ ،‬الحال نفسه إذا أُصيب ذوو األحساب بالرزايا والمصائب فإنها تنتهي ويذهب عنهم أثرها سريعا عكس من هم من أهل‬
‫طغام الذين هم سِّفلة الناس‪.‬‬ ‫ال َّ‬
‫‪ 80‬جفل يجفل ‪-‬جفوال ‪ :‬هي صفة للنعام عندما يفزع ويهرب من شيء يطارده ويخافه‬
‫‪ 81‬الديوان‪ :‬ص ‪350-349‬‬
‫‪ 82‬مصطفى صادق الرافعي‪ :‬وحي القلم ‪ ،‬مؤسسة هنداوي‪ ،‬القاهرة‪ ،2014 ،‬ص‪1094/3‬‬

‫‪196‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫وخاصة في ذلك النمط من (التخييل الشبيه بالحقيقة)‪ .83‬إذ إن الموقف من الزمان غرض‬
‫قديم حديث في آن‪ ،‬فالشاعر يقف من الزمان موقف الخبير العليم بدروبه؛ ولذا بدأ األبيات‬
‫بحرف النهي في البيت األول ثم أردفه باألمر في البيت الثاني وما بينهما هو ما ينبغي أن‬
‫يلتفت إليه اإلنسان فبين النهي واألمر يجب على اإلنسان أن يحتاط من خداع الزمان ( ال‬
‫تركنن إلى الزمان – فربما – خدعت مخيلته) فالنهي متبوع بنون التوكيد الثقيلة التي لم يكن‬
‫لها غرض غير التوجيه والمباشرة في التأكيد على حقيقة الزمان المخادع‪ ،‬ثم تال ذلك بلفظة‬
‫(ف‪ +‬رب ‪+‬ما ) الفاء واقعة في جواب الشرط لإلحاطة بما هو آت‪ ،‬و(رب) جاءت هنا ال‬
‫للشك والريبة بل للتأكيد و(ما) زائدة في المبنى والشك أنها تزيد المعنى فقد أفادت تأكيد‬
‫التحقق في خداع الزمان‪ .‬ثم أردف ذلك بالفعل صراحة من دون مواربة أو تورية (خدع) إذن‬
‫هذا حال الزمان فهو يغري اإلنسان بمظهره ولكن ال تغشى عنه إال عيون الغافلين‪ .‬ثم جاء‬
‫البي ت الثاني ليؤصل ذلك الخداع بأمر ال يقبل التأجيل أو النقاش أال وهو(اصبر) وهذا األمر‬
‫ال ينطوي على خضوع اإلنسان فحسب بل على جبروت الزمان وقدرته على أن يكفل‬
‫اإلنسان بالشقاء سواء أكان مقيما بربعه أم متنقال فهو كفيل بابن آدم أينما غدا أو راح‪.‬‬
‫ومن جميل القول إن البارودي جعل الزمان بين لفظتي من نفس الجذر (ك – ف‪ -‬ل )‬
‫(كفل ‪-‬كافال) وبينهما (كفى)الدالة على التمام والكمال والكفاية ‪.‬وكأن اإلنسان هو الشغل‬
‫الكبد الذي‬
‫الشاغل للزمان الذي لن ينفك من قبضته أو ينحل من ربقته‪ .‬وذلك نوع من أنواع َ‬
‫يعيشه اإلنسان‪.‬‬
‫عام الجافال‬ ‫فاسأل لتعرَفه َّ‬
‫الن َ‬ ‫الدهر معرف ًة به‬
‫َ‬ ‫سألت‬
‫َ‬ ‫فإذا‬
‫ثم ينتقل الشاعر إلى ما يتوقعه من اإلنسان وهو شيء استشرافي يتعلق بأن اإلنسان سوف‬
‫الزمان؟ إنه الدهر‪ ،‬هنا تكمن المفاجأة‬
‫ُ‬ ‫يسأل عن أفعال الزمان‪ ،‬لكن من ذا الذي سوف يسأله‬
‫بأن الدهر لسوف يفر من الزمان وأفعاله كم يفر النعام من صائديه وتلك هي شدة المفارقة‬
‫في أن يكون الرفيقان (الدهر والزمان)منفصلين إلى ذلك الحد وهما متالزمان لفظيان من‬
‫ناحية البنى التركيبية عند البارودي‪ .‬ثم يختم الشاعر مقطعته بإثبات حقيقة وتأكيد واقع بأن‬
‫ذلك الدهر ما هو إال وسيلة خلقت إلرهاق اإلنسان وإصابته بالتعب والنصب‪ ،‬أما األقدار‬
‫وما تحتويه فليس لها من دون هللا كاشفة‪.‬‬

‫‪ 83‬وقد قال شيخ النقاد عن ذلك النمط من التشبيه " هو النمط العدل والنُ ْم ُرقة الوسطى‪ ،‬وهو شيء‬
‫تراه كثيرا باآلداب والحكم البريئة من الكذب" عبد القاهر الجرجاني‪ :‬أسرار البالغة‪ ،‬تحقيق د‬
‫محمود محمد شاكر‪ ،‬دار المدني‪ ،‬جدة‪ ،‬الطبعة االولى‪ ،1991 ،‬ص‪276‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪197‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫ارَقة ما نجده في البيت األخير‬ ‫المف ِّ‬
‫ُ‬
‫‪84‬‬ ‫ومن ِّ‬
‫البنى التركيبية الدالة على (لغة البارودي الشعرية)‬
‫فقد شبه الشاعر الدهر بالدواب ؛ وذلك داللة على عدم تركيز الزمان وعشوائيته في انتقاء‬
‫البشر واألحداث بل وتك اررية أحداثه ‪ ،‬ولكنني أرى الجملة االعتراضية – من غير ما قصد‬
‫– هي حقيقة موشحة بالسخرية؛ فالدهر يعرف ما يفعل ‪ ،‬فهو يخفض عاليا ويرفع سافال‪،‬‬
‫وفي تلك المقابلة ما يدل داللة قاطعة على ظلم الزمان لإلنسان فهو يعدل ويظلم‪ ،‬يعز ويذل‬
‫يرفع ويخفض وغيرها من ثنائيات الزمان وتناقضاته ‪.‬‬
‫ويستمر في تأكيداته على معرفته بالزمان وخصاله وما يوشح به قلوب الناس‪:‬‬
‫ِ‬
‫الحرباء‬ ‫يتلوتون تلو َن‬ ‫اشر‬
‫وم َع ٍ‬
‫زمان غادر َ‬
‫أنا في ٍ‬
‫ِ ‪85‬‬
‫محضر ورخاء‬
‫ٍ‬ ‫منهم وإخوُة‬ ‫صاحب‬
‫ٌ‬ ‫يسلم‬
‫ُ‬ ‫غيب ليس‬
‫أعداء ٍ‬
‫ُ‬
‫وهنا يربط البارودي حاضره بمستقبله بين جملتين واضحتين ( أنا في زمان غادر) وهذا فيه‬
‫من الداللة الراسخة على الحالية اآلنية والممارسة الفعلية ‪ ،‬ثم يتبعها بجماة استشرافية‬
‫استقبالية (أعداء غيب‪ -‬ليس يسلم) فيكف يمكن لإلنسان أن يتحرى أعداء الغيب ؟ و َّأنى له‬
‫يسلم‬
‫ُ‬ ‫ذلك اليقين الذي دفعه إلى توظيف تلك الجملة المنفية الموغلة في اإلثبات(ليس‬
‫صاحب) فقد نفى سالمة األصحاب من هؤالء األعداء ليس أعداء الحاضر بل أعداء الغيب‬ ‫ٌ‬
‫مع إردافه ذلك النفي بجملة تقريرية ال تقبل الشك (وإخوة محضر ورخاء) فهؤالء األعداء‬
‫ملتفون حول األعناق كالتفاف الُلبالب حول عنق النافذة ال مناص منهم وال مفر‪ .‬وتلك رؤية‬
‫استشرافية انبنت على سمة زمنية اتجاهية عبر تلك المتوالية الزمنية في (يتلونون – ليس‬
‫يسلم) فجاء المضارع هنا مرادفا الستبصار الشاعر بحال المستقبل واستشرافه‪.‬‬
‫إن تلك الرؤية قد قادت الشاعر إلى تأكيد نظرته ونظريته في آن وذلك بفعل حياته التي‬
‫بدأت بحال من الفقد والتشاؤم بفقد األب‪ ،‬وما تاله من مجاورة عصور الخديوية واختالف‬

‫‪ 84‬غني عن البيان أن اللغة ال تعني تلك الكلمات المتراصة بالتجاور فحسب؛ بل إنها تشتمل على‬
‫عناصر أخرى تمكن الكاتب من أن يروم هدفه ويصيبه" ولو كنا نعني باللغة مجرد مجموعة من‬
‫الكلمات لم تكن هناك لغة شعرية خاصة‪ ،‬أما لو كنا نعني باللغة الشعرية تراكيب مكونة من كلمات‬
‫ومصنوعة بأنساق معينة فالشك إذن من وجود لغة شعرية ال تتميز عما سواها بمضمونها وإنما‬
‫ببنيتها" د صالح فضل‪ :‬نظرية البنائية في النقد االدبي‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ ،2003‬ص‪234‬‬
‫‪ 85‬الديوان ص ‪93‬‬

‫‪198‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫مشاربهم وطباعهم ناهيك بمناصرته (للثورة العرابية)‪ 86‬التي فشلت انتهاء بنفيه (وفقده‬
‫وطنه)‪ 87‬وفقده بصره؛ وكأن فقدان البصر نتيجة حتمية لفقد الوطن‪.‬‬
‫يقر الشاعر بأنه الشيء سيتغير طالما كنا تابعين لصروف الزمان وأفعاله – ال‬ ‫وفي النهاية ُّ‬
‫مناص وال مفر من ذلك ‪ -‬وشبه الناس بأنهم كالقطيع الذي ال يعرف إلى أي مكان يذهب‪،‬‬
‫فيقول من الكامل‪:‬‬
‫قود (الجنيب)‪ 88‬لغاي ٍة لم ُت ْعلمِ‬ ‫يقوده‬ ‫والمرء طو ِ‬
‫َ‬ ‫ع يد الزمان ُ‬ ‫ُ ُْ‬
‫ِ َّ ‪89‬‬
‫السماء ب ُسلمِ‬ ‫ِ‬
‫عنه ولو َصع َد‬ ‫يستطيع المرُء يبل ُغ ما نأى‬ ‫ال‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫إن اشتياق الشاعر لمكانه متعدد األضرب فمنه اشتياق إلى الدار ومنه اشتياق إلى األهل‬
‫أهل من دون مكان‪ ،‬ومنه االشتياق إلى دفء الوطن في قلبه ‪ ،‬وما من شك أن‬ ‫فما من ٍ‬
‫ذلك الشعور بالعزلة والتغريب قد عانى منه شاعرنا وغيره من الشعراء " فالعزلة التي يعيشها‬
‫إنسان هذا العالم تكاد تكون واحدة"‪ 90‬وبالعودة إلى البارودي فقد فاق ذلك الشعور كل‬
‫إحساس فها هو يحن إلى المكان بألفاظ القدامى من الشعراء وكذلك بألفاظ الحداثيين منهم ‪،‬‬
‫فيقول وقد بلغ أثر التغريب كل أوصاله وفي الوقت نفسه مستشرفا المكان (وطنه) استشرافا‬
‫نفسيا ويمني نفسه لو المسه واقترب منه‪ :‬من البسيط‪:‬‬
‫أهال ِكَراما لهم ُوِدي وإشفاقي؟‬ ‫تركت بها‬
‫ديار قد ُ‬‫وكيف أنسى ًا‬
‫الدمع آماقي‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بغروب‬ ‫َّ‬
‫تحدرت‬ ‫تذكرت أياما بهم سلفت‬‫ُ‬ ‫إذا‬
‫‪91‬‬
‫قيم على عهدي وميثاقي‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الص َبا بلِغ ذوي رحمي‬
‫أني ُم ٌ‬ ‫فيا بريد َّ‬

‫‪ 86‬لم تكن الثورة العرابية بقياد أحمد عرابي ثورة جيش فقط بل "تطورت إلى ثورة عامة حمل‬
‫الجيش‪ ،‬ونهضت مصر على إثره تؤيده‪ ،‬وتشجعه‪ .‬لوال أن مصركانت في ذلك الوقت‬ ‫ُ‬ ‫لوا َءها‬
‫ضعيفة وكانت مواردها قد استنزفها إسماعيل‪ ...‬وكانت إنجلترا في أوج عصرها االستعماري‪..‬‬
‫في زعماؤها إلى سرنديب‪ ...‬ومن هؤالء البارودي" د عمر الدسوقي ‪:‬‬ ‫ولهذا أخفقت الثورة ‪ ،‬ونُ َ‬
‫محمود سامي البارودي ‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪ 1953 ،‬ص‪8‬‬
‫‪ 87‬لقد قال البارودي نفسه في مقدمة الديوان " تاهلل ما بعد الوطن دار‪ ،‬وال في غير الكعبة مدار‪،‬‬
‫ولكن من لم يجد حراكا سكن‪ ،‬ومن أعجزته الحيلة ركن" البارودي ديوانه‪ ،‬طبعة مكتبة هنداوي‪،‬‬
‫مقدمته ص ‪28‬‬
‫‪ 88‬الجنيب أي البعير المربوط بجوار أخيه وال ينفصل عنه يُمنة أو يسرةً‪.‬‬
‫‪ 89‬الديوان ص ‪435‬‬
‫‪ 90‬ماجدة محمود‪ :‬جماليات رواية (مئة عام من العزلة ) لماركيز‪ ،‬مجلة عالمات في النقد األدبي‪،‬‬
‫النادي األدبي الثقافي بجدة‪ ،‬المملكة العربية السعودية‪ ،‬المجلد ‪ ،20‬العدد ‪ ،2014 ،80‬ص‪313‬‬
‫‪ 91‬الديوان‪ :‬ص ‪337‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪199‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫في البيت األول يسأل الشاعر مستنك ار كيف يمكنه أن ينسى دياره وأهلها‪ ،‬فكيف به ذلك‬
‫وتفيض مدامعه لمجرد أنه يتذكرهم‪ .‬وفي البيت الثالث يبدأ الشاعر بجملة إنشائية ندائية‬
‫الصبا بلغ ذوي رحمي) ناهيك بتلك الصورة المجازية‬ ‫غرضها التقرير والتأكيد ‪( :‬فيا بريد َّ‬
‫الرائعة إذ شبه الشاعر ريح الصبا بالبريد الذي ينقل الرسائل من مكان إلى مكان‪ ،‬وجعل‬
‫الصبا هو المبلِّغ لما في ريح الصبا من نسيم عليل يشفي الصدور والقلوب خاصة أن‬
‫ب(أن) مفادها وداللتها الظاهرة والباطنة‬‫َّ‬ ‫الشطر الثاني من البيت يحمل جملة تقريرية مؤكدة‬
‫أن ه على عهده بأهله ولن ينقض عهده وميثاقه‪ .‬ومن ثم فقد وفق الشاعر في اختيار الوسيط‬
‫لئال يخون فيما يقول وينزع من رسالته فحواها‪.‬‬
‫ويمضي الشاعر ويستمر في سرد عالقته بالمكان فها هو يرى من منفاه روضة المنيل ويرى‬
‫ذلك المرعى والملعب الذي قضى فيه حينا من الدهر‪ .‬فهو يستشرف ببعد نظره ما يود أن‬
‫يلقاه رغم أنه محفور في ذاكرته وال يمكن نسيانه‪ ،‬لكن التغريب يلعب دوره في إشعال لوعة‬
‫الحنين إلى الوطن ويرجو ذلك اليوم الذي يعود فيه فيقول من الخفيف‪:‬‬
‫ـيل ذات النخيل واألعناب؟‬ ‫ليت شعرى متى أرى روضة المنـ‬ ‫َ‬
‫نهر مثل الُلجين المذابِ‬ ‫فوق ٍ‬ ‫ستبقات‬
‫ٍ‬ ‫السفين ُم‬
‫ُ‬ ‫ي‬ ‫حيث تجر‬
‫ُ‬
‫وش َع ِ‬
‫اب‬ ‫أفنان جن ٍة ِ‬
‫ِ‬ ‫بين‬ ‫ملعب تسرح النواظر منه‬
‫ٌ‬
‫ِ ‪92‬‬
‫كالم َالب‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫ة‬ ‫بنفح‬ ‫منه‬ ‫عاد‬
‫َ‬ ‫اه‬‫ر‬ ‫ث‬
‫ُ َ ُ‬ ‫النسيم‬ ‫شافه‬ ‫كلما‬
‫وم ْغَنى صحابي‬ ‫وجنى َصْب َوتي َ‬ ‫َ‬ ‫وملعب لهوي‬
‫ُ‬ ‫ذاك مرعى أُنسي‬
‫‪93‬‬
‫غير صابي‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫أن تراني لعهده ً‬ ‫حييت وحاشا‬‫ُ‬ ‫لست أنساه ما‬
‫ُ‬
‫ما أصعب أن يسترجع اإلنسان ماضيه بكل تفاصيله؟! فهو يخاطب تلك األماكن وكأنها‬
‫أمام عينيه يصفها ويراها بل يخاطبها ويناجيها من شرفته‪.‬‬
‫لقد طغت األماكن ‪-‬في األبيات السابقة‪ -‬على مشاعر البارودي وأحاسيسه فصار مستدعيا‬
‫لتلك األماكن ويمني نفسه بالعودة إليها‪ ،‬وقد تجلت تلك األماكن في غير موضع منها‪:‬‬
‫روضة المنيل – والملعب الذي صال وجال فيه – والملهى الذي كان ملتقى األحباب‬
‫واألصدقاء) وقد كان لألفعال المضارعة أثر جلي في ذلك االستدعاء واالستشراف – الذي‬
‫يرجوه ويأمله فنجد ( أرى‪ -‬تجري‪ -‬تسرح – أنسى‪ -‬تراني) وكلها أفعال يستمد منها الشاعر‬

‫‪ 92‬ال َم َالب ‪ :‬نوع من الطيب كالزعفران‪.‬‬


‫‪ 93‬الديوان‪ :‬ص ‪.104‬‬

‫‪200‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫األمل في المستقبل حتى إنه لئن قال ذلك مغتربا فإنه ال تفارقه صور المكان التي تنفى عنه‬
‫إمكانية نسيانها ما دام على قيد الحياة‪.‬‬
‫وعن األثر الموسيقي فنود اإلشارة هنا إلى أن القافية جاءت مكسورة (حرف الروي الباء )‬
‫إمعانا في تلك الحال التي يعيشها فقد توغل أثر الفراق في نفسه وانسحب كذلك على‬
‫موسيقاه الخارجية التي كانت بمثابة غالف أوحدود نفسية ال يمكنه االنعتاق منها‪ ،‬ورغم ذلك‬
‫فال زال يحتفظ بأمل العودة إلى أماكنه‪.‬‬
‫ومن غلبة المكان وتأثيره في نفسه ها قد خاطب مصر متعجبا من حالها بعد أن عاد إليها‬
‫في عام ‪1899‬م‪ .‬فيقول من الطويل‪:‬‬
‫‪94‬‬ ‫ِّ‬
‫حر‬
‫عيونا هي الس ُ‬ ‫فإني أرى فيها ً‬ ‫مصر ؟!‬ ‫ُ‬ ‫أي العين أم هذه‬
‫أبابل ر َ‬
‫ُ‬
‫إن البارودي كثي ار ما يوظف األسلوب اإلنشاني وخاصة االستفهام في مفتتح قصائده‪ ،‬ولعل‬
‫الدافع وراء ذلك يكمن في محاولته الدائمة أن يجد إجابة عن أسئلته ويرجو دائما أن تكون‬
‫متعجبا‪ :‬هل هذه‬‫ً‬ ‫اإلجابة عند غيره؛ ألنه يسأل سؤال العارف‪ .‬وفي المفتتح السابق يسأل‬
‫بابل التي أراها أم أنها مصر؟ ثم يوضح السبب الذي دفعه للسؤال رغم يقينه بمعرفة اإلجابة‬
‫ويبرر سؤاله ألنه يرى فيها عيونا هي السحر‪ ،‬وتلك العالقة بين بابل والسحر معروفة تاريخيا‬
‫ودينيا من حيث عالقة هاروت وماروت بالسحر وموطنهما الذي كان في بابل آنذاك‪.‬‬
‫والسحر المقصود يؤخذ على المحمل اإليجابي الذي يبعث على الجمال ومدعاة للتأمل من‬
‫عجب ما رآه في مصر بعد العود ة‪ .‬والمتمعن في داللة ذلك السؤال يعرف بحق ما فعله‬
‫التغريب في نفس البارودي إذ اختلفت في ذهنه الصور واختلطت عليه األماكن لدرجة أنه‬
‫يتعجب مما رآه‪.‬‬
‫ومما قاله في المكان ما نجده في حبه لروضة المقياس ويبعث إليها السالم ويقول مستشرفا‬
‫اك األذن من خرير‬ ‫تألفك العين من حسن المنظر‪ ،‬وتهو ِّ‬ ‫إني قادم إليك أيتها الروضة التي ُ‬
‫أنت ندية ال ُيقارن بك مكان‪ ،‬ومن ثم يرجو طالبا‪ :‬فبلغوها مني سالما ‪ ،‬فيقول من‬ ‫الماء‪ ،‬و ِّ‬
‫الطويل‪:‬‬
‫وقل لها منا تحي ُة قادمِ‬ ‫ِ‬
‫بالمقياس ريا المعالمِ‬ ‫حي‬
‫أال ِ‬
‫ِ ‪95‬‬
‫‪96‬‬
‫فعل الصاديات الحوائمِ‬ ‫على الماء َ‬ ‫ترى حولها األشجار ولهي ُم ِكَّب ٌة‬

‫‪ 94‬الديوان‪ :‬ص ‪215‬‬


‫‪ 95‬الصاديات الحوائم أي ترى حول الروضة الطير العطشان يطوف ويدور ويحوم حول المكان‬
‫لينال رزقه من طعام أو ماء‪.‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪201‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫إن الفعل المضارع (يرى) يعد أيقونة الشاعر االستشرافية ألنه يستحضر من مخزون الذاكرة‬
‫ما يمكنه من الرؤية االستشرافية ‪ ،‬ناهيك بالفعل ( يلوح) الذي يدل على االستبصار ويمكننا‬
‫الذهاب بالقول إنهما من األفعال المحايدة التي ينبني عليها الخطاب حسبما قاد السياق‪،‬‬
‫فيقول في المكان من الطويل‪:‬‬
‫غيب ما لم تكن تدري‬
‫لعلك تدري َ‬ ‫مصر‬
‫َ‬ ‫هرَمي‬ ‫الفيحاء عن‬ ‫ِ‬
‫سل الجيزَة‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫‪97‬‬
‫تنفك ُتتلى إلى الحشر‬
‫أساطير ال ُّ‬ ‫تلوح اآلثار العقول عليهما‬
‫غني عن البيان أن اآلثار تتعلق بكل ما مضى وليس بأية حال أن تتعلق بالمستقبل إال إذا‬
‫اقترنت بقرينة زمنية قادرة على الغوص بين أمواج المستقبل وتقلباته‪ ،‬ولعلنا نجد هذه القرينة‬
‫في البيتين السابقين في عاملين األول منهما‪ :‬يكمن في الفعل المضارع (تلوح) الذي كشف‬
‫النقاب عن شيء مستور‪ ،‬وكان ذلك المستور كامنا في تلك اآلثار هذا من ناحية ‪ ،‬ومن‬
‫ناحية أخرى كان التوظيف الداللي للفعل (ال تنفك) موغال في االستم اررية الحالية الضاربة‬
‫بجذورها في الماضي السحيق بناء على لفظة (أساطير) وكما أشرنا إلى توظيفه لفظة‬
‫(آثار)‪.‬‬
‫(‬ ‫ولعلنا نرى أن الفعل المضارع (تُتلى) مع متعلقه اآلتي بعده أال وهو الجار والمجرور‬
‫إلى الحشر) مع الفعل المضارع (التنفك) قد أضفى على البيتين صبغة االستشراف‬
‫واالستقبال والتوقع‪ ،‬بل يمكننا أن نقول إنه السياق السرمدي الذي ال نهاية له بما انطوى‬
‫عليه من داللة قد انتقلت بنا من الماضي مرو ار بالحاضر وتفاؤال بالمستقبل‪ ،‬ومن ثم كان‬
‫الجانب االستبصاري لدى الشاعر نابعا من الماضي فبنى عليه توقعاته المستقبلية بأن هذين‬
‫الهرمين كما الحا منذ الماضي البعيد فيسظل أثرهما األسطوري باقيا ومستم ار إلى يوم‬
‫الحشر‪.‬‬
‫وقال على طريقة العرب‪ ،‬وهي (خاصة أسلوبية)‪ 98‬عند البارودي‪ ،‬في الحنين إلى المكان‬
‫وأهله فيقف مستشرفا مطلعا على الحاضر‪ -‬أال وهو طلل المكان‪ -‬وما تبقى من الدار االتي‬

‫‪ 96‬الديوان‪ :‬ص ‪425‬‬


‫‪ 97‬الديوان‪ :‬ص ‪231‬‬
‫‪ 98‬إن الخاصة األسلوبية لدى شاعر ما تجعلنا نقيس شعره بمقاييس ومعايير تكون مغايره لغيره‬
‫من الشعراء بناء على ما يوظفه ويستخدمه من مفردات وعبارات وصور مجازية قريبة منه أو‬
‫يركبها بطريقة ما لتكون من سمات شعره‪ .‬وهنا ينبغي اإلشارة إلى نقطة مهمة تكمن في أنه "ال‬
‫تعد الخاصية أسلوبيةً بمجرد وجودها في النص إذ إن النظر إليها بهذا االعتبار يرتبط بالشيوع‬
‫والندرة النسبيين ‪ ،‬ومن ثم كان البعد اإلحصائي جزءا مهما من ماهيتها" د سعد عبد العزيز‬

‫‪202‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫صارت أث ار بعد عين‪ ،‬فها هو يضنيه االغتراب والتغريب رغم أنه قائم ومقيم على رأس‬
‫الدار‪ :‬فقال من الطويل‪:‬‬
‫ِ‬
‫لسائل‬ ‫إن هي لم ترجع بيانا‬‫وْ‬ ‫أسماء َر ْس َم المنازل‬ ‫حي من‬
‫أال ِ‬
‫َ‬
‫أهاضيب الغيوم الحو ِ‬
‫افل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫عليها‬ ‫التقت‬
‫تعفتها الروامس و ْ‬ ‫خالء َّ‬
‫ٌ‬
‫‪99‬‬
‫ِ‬
‫باألمس شاغلي‬ ‫أراني بها ما كان‬ ‫فت الدار بعد َتر ُّس ٍم‬
‫فأليا َ ُ‬
‫عر‬ ‫ً‬
‫بدأ الشاعر القصيدة بحرف االستفتاح (أال) الدال على جذب االنتباه كما كان يفعل قدامى‬
‫الشعراء‪ ،‬بل ويستخدم نفس األلفاظ القديمة من مثل ( حي – رسم – روامس‪ -‬أهاضيب) فها‬
‫هو يقف على ذلك الرسم ( البيت) الدارس الذي تركه قاطنوه؛ فما زال يخاطبها أمال في رد‬
‫تلك الرسوم البالية ‪ ،‬لكن هيههات فهي لم ترجع بيانا لسائل‪ ،‬فقد صارت الدار خالية‬
‫وصارت ملتقى للرياح الروامس التي تزف التراب إليها من شدتها‪ ،‬ليس هذا فحسب بل كانت‬
‫الد ار ملتقى لتلك الغيوم الكبيرة إيذانا بسقوط األمطار نظ ار لسكوت وذهاب من كانوا فيها‪.‬‬
‫أليا) أي بعد جهد ونصب‪ ،‬وهو يسير‬ ‫ولكنه لم يصل إلى تلك الدار بيسر لكنه وصل إليها ( ً‬
‫على خطى عنترة في افتتاحيته لمعلقته التي بدأها بالبكاء على األطالل والرسوم البالية‪ :‬من‬
‫الكامل‪:‬‬
‫‪100‬‬
‫أم هل عرفت الدار بعد توهمِ؟‬ ‫اء من متردمِ‬ ‫هل غادر الشعر ُ‬

‫مصلوح‪ :‬في البالغة العربية واألسلوبيات اللسانية (آفاق جديدة) مجلس النشر العلمي ‪ ،‬جامعة‬
‫الكويت‪ ،‬الكويت‪ ،2003 ،‬ص‪ .68‬وإكماال لما سبق فإنه في الخاصة األسلوبية قد يختلف الشاعر‬
‫القديم عن الشاعر الحديث في تلك المعطيات واألدوات الشعرية ‪ ،‬ول َّما كان لتلك الخاصة سمات‬
‫وصفات محددة يُكسبها الشاعر شعره فقد كان للدكتور عدنان حسين قاسم رأي في استخدام‬
‫العنصر الغريب أو اللفظ الغريب في الشعر خاصة أو األدب عامة بأن ذلك قد يشكل لدى الشاعر‬
‫خاصة أسلوبية تجعلها قادرة على االستثارة الجمالية " فقد يكون استخدام القوافي الداخلية‬
‫والتوازي وما يقتضيه اليصل إلى الدرجة التي تجعل تلك العناصر تتمتع بفاعلية تأثيرية‪ .‬ألنها‬
‫شاعر مفردات قديمة مهجورة‪،‬‬‫ٌ‬ ‫استخدمت بطرق تقليدية ‪ ،‬على امتداد القصيدة كلها ‪ .‬فإذا استخدم‬
‫اطرادها‪ -‬خاصة أسلوبية‪ ،‬ولكن هذه الخاصة قد تؤدي إلى نتيجة‬ ‫فإنها تصبح لديه‪ -‬وعن طريق ِّ‬
‫سلبية تماما" د عدنان حسين قاسم ‪ :‬االتجاه األسلوبي البنيوي في الشعر الحديث‪ ،‬الدار العربية‬
‫للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،2000 ،‬ص ‪131‬‬
‫‪ 99‬الديوان‪ :‬ص ‪376‬‬
‫‪ 100‬لقد عارض البارودي هذه القصيدة بقصيدة أخرى في ديوانه على الوزن نفسه من الكامل‪،‬يقول‬
‫في مطلعها‪:‬‬
‫ب تا ٍل بَذَّ َ‬
‫شأو ُمقد َِّّم‬ ‫َولَ ُر َّ‬ ‫ك ْم غادر الشعراءِّ من ُمترد َِّّم‬
‫حكم‬
‫ي بك ُِّل قو ٍل ُم ِّ‬‫عبقري ال َينِّي َي ْف ِّري الفَ ِّر َّ‬
‫ٌّ‬ ‫في كل عصر‬
‫وفي موضع آخر قال عن نفسه في تتبعه آثار األقدمين في الديوان ص ‪:431-430‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪203‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫وعمي صباحا دار عبلة واسلمي‬ ‫دار عبل َة بالجواء تكلمي‬ ‫يا َ‬
‫إن المعاودة جزء أصيل من بناء البارودي لقصائده‪ ،‬أو كما نقول المعمارية الفنية للنص " إذ‬
‫يقتضي معاودة دائمة للنص الذي أنتج بالفعل دوره اإلبالغي‪ ،‬بغية مقارنته بالنص في‬
‫اط َراده ‪ ،‬وخالل تلك العملية الدائمة من المقارنة‪ ،‬فإن النص القديم يتجلى تجليا جديدا‬ ‫ِّ‬
‫‪101‬‬
‫مفصحا عما كتم مكنونا فيه قبل من منظور داللي"‬
‫إن االستشراف والتغريب في النموذجين السابقين يبدوان في ذلك االستشراف المادي في‬
‫حي) واالستشراف المعنوي في المقطع األول عبر توظيف الفعل‬ ‫المقطع الثاني( أال ِّ‬
‫المضارع (وكيف أنسى ديارا) فهو ينفي عبر االستفهام أن ينسى تلك الديار ‪ ،‬وكالهما قد‬
‫غلب عليه التغريب النفسي ؛ فالتغريب في الشاهد األول يبدو في ذلك االستفهام الموغل في‬
‫االستنكار فهو يسأل ‪ :‬كيف أنسى‪ ،‬واإلجابة لم ولن أنسى لسيطرة فكرة الوطن على الشاعر‬
‫بكل حواسه‪ ،‬وبدا التغريب في الشاهد الثاني عبر فقدان الحبيبة التي تعد هي األهل والوطن‬
‫والدف والملجأ والمالذ‪ ،‬فما للمكان قيمة من دون المحبوبة ‪ ،‬وما للحياة قيمة بفراق األهل‬
‫واألحبة‪.‬‬
‫مصر وأهلِّها‬
‫َ‬ ‫وها هو يجمع بين الزمان والمكان في آن في سرنديب فهو مقيم بها وينظر إلى‬
‫‪ ،‬فمشاعره تصهر رغبته في العودة إلى الوطن مع ما يفعله الزمان به في غربته من البسيط‪:‬‬
‫أوجاع‬
‫هم و ِ‬ ‫نابي المضاجع من ٍ‬ ‫مبتئسا‬
‫ً‬ ‫غريب الدار‬
‫َ‬ ‫أظل فيها‬
‫ُّ‬
‫على الهمومِ إذا هاجت وال راعي‬ ‫تعين به‬ ‫ِ‬
‫سرنديب خ ٌل أس ُ‬ ‫ال في‬
‫َ‬
‫اع‬ ‫فإن يكن ساءني دهري وغادرني َرْه َن األسى بين ٍ‬
‫جدب بعد إمر ِ‬
‫‪102‬‬
‫ُقربي ويعجبهم نظمي وإبداعي‬ ‫يسرُه ُم‬
‫مصر إخوانا ُّ‬ ‫َ‬ ‫فإن في‬
‫إن أول ما أود اإلشارة إليه في المقطع السابق هو البحر الذي نظم عليه الشاعر قصيدته؛ إذ‬
‫كان البحر البسيط هو كلمة السر في ذلك التنغيم المتتابع في سكينة ووقار من دون عجلة‬
‫أو هوينى (مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن) وصوال إلى بر األمن النفسي الذي يرجوه‬
‫الشاعر وما أحلى ذلك البر إن كان على شط مصر! ‪ ،‬ثم كانت تلك القافية (العين)‬
‫المشبعة بالكسر واالنكسار‪ ،‬فما أشد ذال وأكبر خضوعا من انكسار النفس‪ ،‬وال معبر عن‬

‫سبَقتُ إلى أشيا َء وهللاُ أعل ُم‬


‫َوسِّرتُ على آثارهم ول ُربَّ َما َ‬
‫‪ 101‬يوري لوتمان ‪ :‬تحليل النص الشعري‪ ،‬ترجمة د محمد أحمد فتوح ‪ ،‬النادي األدبي الثقافي‪،‬‬
‫جدة‪ ،‬الطبعة األول ‪ ،1999‬ص‪83‬‬
‫‪ 102‬الديوان ص ‪289-288‬‬

‫‪204‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫ذلك أكثر من الجبهة التي تحتوي العين‪ ،‬فحال الشاعر عبرت عنه تلك القافية الممتدة ‪،‬‬
‫األمر الثاني نجده في البيت الثاني إذ إنه وظف ال النافية (ال ِّخ ٌّل) مفرقا بين (ال واالسم‬
‫خل) ثم نجده قد جعل‬ ‫نديب ٌ‬ ‫بالجار والمجرور) للداللة على القصر واالنقطاع ( ال في سر َ‬
‫هموم معرفة (بأل) داللة على أن هموم الشاعر كثيرة ومتنوعة وفي الوقت ذاته ثابته ومستقرة‬
‫في قلبه ووعيه‪ ،‬فهو لم ينف وجود الخليل والصديق فقط بل نفى كذلك وجود من يرعاه‪ ،‬هذا‬
‫من ناحية المكان وفعله‪ ،‬وانتقاال إلى فعل الزمان فيستمر في طلب الود والتماس العودة إلى‬
‫مصر وأهلها ‪ ،‬فها هو يستظهر ما فعله به دهره في منفاه فقد تحول من حال الزرع المثمر‬
‫اليانع إلى حال الجدب والقفر المانع وصوال إلى حالته األولى من الخصب العقلي ونماء‬
‫الهوى في وجدانه‪،‬وكانت الصورة المجازية هنا خير معبر عما أصاب الشاعر؛ إذ شبه‬
‫وجوده في وطنه بحال األرض البهية المزدانة باالخضرار‪ ،‬وخروجه منها بحال األرض‬
‫‪103‬‬
‫الجدباء المطوقة بالصفار وشتان هذا وذاك‪ .‬كما نود اإلشارة إلى أن (الداللة السياقية)‬
‫(جدب‪ -‬إمراع) كان لها كبير األثر في ألالة الداللة بإشعاع قيمة الوطن في ارتباطه‬ ‫ٍ‬ ‫للفظتي‬
‫بالنماء ‪ ،‬ثم يأتي في البيت األخير مؤكدا بصرامة وجدة (إن في مصر إخوانا) يسعدون‬
‫بقربي ويسعدون بنظمي القريض وإبداعي ‪ ،‬كما وظف الشاعر التوازي األفقي في البيت‬
‫الواحد ( يسرهم قربي‪ -‬يعجبهم نظمي) إلظهار تلك المودة التي تجمعه بأهله فجعل لفظتين‬
‫من غمستان في السرور والبهجة والحالة النفسية المنبعثة من راحة القلب وهدوء العقل بمجرد‬
‫أنه استدعى حال العودة ‪.‬‬
‫لقد فعل التغريب بالشاعر ما فعل؛ وأخذ منه ما أخذ من شباب وعمر ضائع ُسدى( سبعة‬
‫عشر عاما) وصار المكان الحالي هو شغله الشاغل‪ ،‬ومكانه المعقود في قلبه وعقله هو أمله‬
‫المنتظر‪ ،‬حتى إنه صار يبحث عنه في ذاته وفي أصحابه وفي خادمه ورغم أمله فإنه مازال‬
‫يتخذ من المعاودة للماضي واالسترجاع قوة دافعة للمستقبل فيقول من الطويل على طريقة‬
‫القدماء ‪:‬‬
‫الغد؟‬ ‫ضل عن ِ‬
‫نهجه ُ‬ ‫اكبه أم َّ‬
‫كو ُ‬ ‫الدجى أم َّ‬
‫تقيدت‬ ‫طال ُ‬
‫خليلي هل َ‬
‫َّ‬
‫َّد‬ ‫ن‬
‫الخليــــو َ ُهج ُ‬
‫طوال الليالي و ُّ‬ ‫أبيت حزينا في سرنديب ساه ار‬‫ُ‬

‫‪ 103‬يقصد بالداللة السياقية‪" :‬هي الداللة التي يعنيها السياق اللغوي‪ ،‬وهو البيئة التي تحيط‬
‫بالكلمة أو العبارة أو الجملة‪ ،‬وتستمد أيضا من السياق االجتماعي وسياق الموقف وهو المقام‬
‫الذي يُقال فيه الكالم بجميع عناصره‪ ،‬من متكلم ومستمع وغير ذلك من الظروف المحيطة‬
‫والمناسبة التي قيل فيها الكالم" د فريد عوض حيدر‪ ،‬علم الداللة ‪ ،‬دراسة نظرية وتطبيقية‪ ،‬مكتبة‬
‫اآلداب القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،2005 ،‬ص‪56‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪205‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الي ُد‬
‫غير ما تمل ُك َ‬ ‫النفس تهوى َ‬ ‫ُ‬ ‫كذا‬ ‫البه‬
‫أستطيع ط ُ‬
‫ُ‬ ‫أحاول ما ال‬
‫ُ‬
‫تتوقد‬
‫ُ‬ ‫َن َز ْت بين قلبي ُشعل ٌة‬ ‫ان َن ْسم ٌة‬ ‫ِ‬
‫طر ْت من نحو ُحلو َ‬ ‫إذا َخ َ‬
‫معهد‬ ‫يطيب وال بعد الجزيرِة‬ ‫موسم‬ ‫ِ‬
‫الشبيبة‬ ‫بعد‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫وهيهات ما َ‬
‫ويسعد‬
‫ُ‬ ‫وكل امري في الدهر يشقى‬ ‫وداد ُهم‬
‫ئت َ‬ ‫ان ُر ِز ُ‬
‫شباب وإخو ٌ‬‫ٌ‬
‫‪104‬‬
‫أسود‬
‫ُ‬ ‫خويدم‬ ‫ِ‬
‫ُيعلـــُلني فيها‬ ‫كنت أخشى أن أعيش بغرب ٍة‬ ‫وما ُ‬
‫ُ‬
‫خليليه كما عهدنا عنده من مجاراته الشعر القديم‪ ،‬وما يهمنا‬ ‫ْ‬ ‫استهل الشاعر مقطعته بنداء‬
‫في األبيات السابقة هو أثر التغريب في المكان‪ ،‬لقد كان المكان هو محور المقطعة على‬
‫مستوى األسماء ( سرنديب‪ُ -‬حلوان – الجزيرة‪ -‬معهد ) وعلى مستوى األفعال ( تقيَّد – َّ‬
‫ضل‬
‫ئت ) ومن األماكن المطلقة المفتوحة (كواكب – يد – قلبي ‪-‬غربة)‬ ‫َّ‬
‫– تملك ُرز ُ‬
‫تكون من أربع مفردات وهذا‬ ‫وبالمقارنة اإلحصائية بين ما سبق فإننا نجد أن كل حقل قد َّ‬
‫يؤكد قيمة المكان في قلب الشاعر ‪ ،‬كذلك نسبة األفعال الماضية كانت تامة في الحقل‬
‫المذكور باستثناء الفعل (أعيش) الدال على االستمرار والمداومة‪ ،‬وهذا يعكس م اررة الشاعر‬
‫بإحساسه الحالي بكل ما مضي‪ ،‬وإردافها بالجار والمجرور لتعميق تلك الداللة المريرة الماكثة‬
‫في قلبه بقوله ( أعيش في غربة)‪ .‬وإذا ما انتقلنا إلى الحقل الثالث فإن هناك ثالث مفردات‬
‫جاءت على الحالة المفردة باسثناء الجمع كان في (كواكب) وداللة ذلك إنه يراقب ويتابع تلك‬
‫الفضاءات والسماوات المفتوحة أمامه وذلك الجمع يناسب تلك الحالة من المملل والسأم‬
‫والضجر التي يعانيها البارودي‪،‬كا أنه أضاف ياء المتكلم فقط إلى لفظ (قلب – قلبي) ولم‬
‫ال؟! ألنه هو صاحب الوحدة والغربة والتغريب واأللم فكانت اإلضافة هنالك عاكسة لتمكن‬
‫تلك الحالة النفسية التي تغللت في قلب الشاعر ووشحت أبياته بأنين التغريب‪.‬‬
‫وإذا ما توسعنا في تبيين قيمة المكان وأثره النفسي بانتقالنا إلى األساليب ما بين إنشائية‬
‫وخبرية فكان األسلوب اإلنشائي حاض ار متصد ار المطلع (النداء في‪ :‬خليلي‪ -‬االستفهام في ‪:‬‬
‫هل) وما تال ذلك كان مجموعة من الجمل اإلخبارية المتراوحة بين النفي واإلثبات بغية دعم‬
‫صدر باإلنشاء ليحكي ويسرد ويفصح عما لم تكشفه‬ ‫موقفه وحالته النفسية‪ ،‬وكأن الشاعر َّ‬
‫خلجات نفسه‪ .‬فآثر أن يكون هو السائل وهو المجيب وتلك الطامة الكبرى في حادثة‬
‫(أبيت حزينا –‬
‫ُ‬ ‫التغريب المادي والنفسي التي يواجهها أيما إنسان‪ .‬فكان اإلخبار من مثل ‪:‬‬
‫ئت‬‫أحاول ما – الخليون هجد‪ -‬كذا النفس – نزت بين قلبي – هيهات ما – شباب وإخوان ُرز ُ‬

‫‪ 104‬الديوان‪ :‬ص ‪150-149‬‬

‫‪206‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫كنت أخشى) كلها أساليب إخبارية داللتها الشرح‬ ‫ودداهم – وكل امريء يشقى ويسعد‪ -‬وما ُ‬
‫والتفسير والتقرير‪ ،‬أما عن اسم الفعل الماضي ( هيهات) فجاء به الشاعر لالستبعاد بل‬
‫االستحالة بأن يعود الشباب بعد الشيب أو أن تطيب اإلقامة في غير الروضة‪.‬‬
‫إن تفوق األفعال المضارعة في األبيات السابقة على مثيلتها الماضي واألمر تصب في‬
‫أحاول‪ -‬أستطيع – تهوى ‪-‬تملك‪ -‬تتوقد‬‫ُ‬ ‫أبيت‪-‬‬
‫معين المقاومة فقد حفلت المقطعة باألفعال( ُ‬
‫– يطيب ‪-‬يشقى‪ -‬يسعد‪ -‬أخشى – أعيش‪ُ -‬يعللني) اثنا عشر فعال مضارعا كان لها السبق‬
‫في وسم المقطعة بديمومة حال الشاعر من الحزن والمحاولة والشقاء والخشية والتوقد بفعل‬
‫التغريب‪ ،‬حتى إن األفعال المضارعة األخرى رغم أنها يبدو عليها التفاؤل والرغد فإنها كانت‬
‫مسبوقة بنفي أو متبوعة بمغاير يهدف إلى سلب تلك الصفات عن تلكم األفعال في ( تهوى‬
‫غير ما تملك – والمرء يشقى ويسعد‪ -‬كنت أخشى – أعيش في غربة – يعللني خويدم‬
‫أسود)‪.‬‬

‫خالصة المبحث الثاني‪:‬‬


‫لقد كشفت لنا الدراسة في هذا المبحث عن دور كل من الزمان والمكان في حياة الشاعر‬
‫وأثرهما الجلي في استجالء الحاضر والمستقبل؛ كما اتكأ عليهما في استحضار تجارب‬
‫الماضي‪ ،‬وكانت معطيات الشاعر الواقعية هي الدافع للحديث بجسارة عما يجيش بصدره‬
‫ويجول بخاطره مستبص ار األمل ‪ ،‬ناهيك بأن التغريب بنوعيه المادي عبر النفي‪ ،‬والنفسي‬
‫عبر الشعور بم اررة الواقع قد كان له قصب السبق في توجيه الشاعر واختياراته األسلوبية‬
‫التي غلفت المبحث الثاني بعالئق متعددة األطراف ما بين الزمان والمكان واألصدقاء‬
‫والعائلة وجوانب الحياة التي ال تنفك وال تنفصل عن ذاكرته من نواح سياسية واقتصادية‬
‫واجتماعية وما تمخض عن ذلك من حكمة وزهد بلغت شأوها ومكانتها في طلب العدل‬
‫المنبني على مكارم األخالق‪.‬‬
‫نتيجة الدراسة ‪:‬‬
‫يمكننا أن نلخص نتيجة الدراسة‪ -‬التي ُعنونت باالستشراف والتغريب في شعر محمود سامي‬
‫البارودي‪ -‬فيما يأتي‪:‬‬
‫رب السيف والقلم وأنه باعث الشعر العربي من مرقده ولكن‬
‫‪ -‬إن البارودي ‪-‬ال غرو – هو ُّ‬
‫كانت نزعته إلى التجديد واالنفكاك من براثن القديم ليست بالكثيرة مقارنة بما مأل به‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪207‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫السمع والبصر من تقليد للقديم والبناء على تقاليده ويمكننا اإلشارة إلى تلك المواضع‬
‫التجديدية في شعره وال يمكن إنكارها في‪:‬‬
‫أ‪ .‬من ناحية األسلوب والعبارات والتراكيب‪ :‬غلب على شعره بساطة األسلوب وقرب الفكرة‬
‫والخروج من عباءة األلفاظ المركبة المعقدة الت توشح بها قدامى الشعراء ‪.‬‬
‫ب‪ .‬من ناحية األغراض فقد جدد في األغراض القديمة وخاصة في رثاء المرأة‪ ،‬إذ إنه رثى‬
‫ابنته وزوجته في قالب قريب إلى القلب؛ فكان له في هذا الباب صدى في الشعر‬
‫الحديث‪ .‬كذلك التأكيد على الشعر الحواري الذي أبان عنه وكشف النقاب في غير‬
‫قصيدة من مثل‪ :‬مخاطبة الزهور والرياض ومخاطبة الشمس والضياء والخمر ومخاطبة‬
‫الشيب والشباب‪ .‬كذلك كان للبارودي أياد بيضاء في مزج الحكمة بعنصري التفاؤل‬
‫والتشاؤم ‪.‬‬
‫ت‪ .‬إن كان البارودي قد اتخذ من القديم قالبا فإنه أفرغ القديم من مكوناته ومألها بما يناسب‬
‫عصره وزمانه‪ ،‬وخاصة فيما يتعلق بالجانب الموسيقى فكانت القصيدة القديمة تتكي على‬
‫اإليقاع بنوعيه الداخلي والخارجي أما البارودي فقد كان له منزع إلى الموسيقى التعبيرية‬
‫التي طربت لها القلوب واآلذان‪.‬‬
‫‪ -‬استطاع البارودي أن يعبر عن قضايا عصره ومجتمعه بشكل جريء في وقت كان‬
‫الشعر ال يزال بعيدا نظ ار لطول الفترة بين الشعر القديم والحديث‪ ،‬فكان بمثابة األديب‬
‫ذي الضمير الواحد هو الضمير الجمعي؛ وقد نسج على ذلك المنوال بعد ذلك كثير من‬
‫شعراء االتجاهات الالحقة لعصره وصوال إلى الشعر الحر‪.‬‬
‫‪ -‬انعكست نشأة الشاعر وحياته على أشعاره فكان ملتزما إلى أبعد حد بالتقاليد الشعرية‬
‫القديمة التي أثرت في نظمه وإنتاجه األدبي فكان ينظم وكأنه ينظر إلى الوراء؛ وهذا‬
‫االلتزام ال ينفي عنه النزعة التجديدة التي أضاء طريقها‪ ،‬فكانت لحظات يقظته ولفتاته‬
‫وتحوله عن القديم هي التي اتخذناها للبناء عليها في هذه الدراسة‪.‬‬

‫التوصيات ‪:‬‬
‫يمكننا أن نوجز التوصيات التي تمخضت عن هذه الدراسة في عدد من النقاط التي‬
‫تستوجب – كما أرى‪ -‬ضرورة دراسة البارودي دراسات موسعة فيما يتصل بالقضايا‬
‫والظواهر اآلتية ‪:‬‬

‫‪208‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫التوازي في شعر البارودي؛ إذ بزغت هذه الظاهرة بزوغا الفتا ال يمكن إغفالها أو‬ ‫‪-‬‬
‫االنتقاص من حضورها في شعره‪.‬‬
‫التناص في شعر البارودي قد يلقى قبوال حسنا خاصة في الشقين‪ :‬األدبي والديني‬ ‫‪-‬‬
‫القرآني؛ وذلك انطالقا من نزعتيه األدبية التراثية وكذلك الدينية وهما النزعتان اللتان‬
‫أظلتا الديوان‪.‬‬
‫اإليقاع في شعر البارودي سيكون له الحظوة في هذا السياق نظ ار لتنوع أبحره‬ ‫‪-‬‬
‫وتعددها وكذلك تنويعه قوافيه ما بين مطلقة ومقيده ؛ ناهيك باإليقاع الداخلي وما‬
‫توسط هذا وذاك من موسيقى تعبيرية كان لها األثر الوضاء في غنائياته وفقا‬
‫لقصدية القصيد‪.‬‬

‫المصادر والمراجع‬
‫أوًال‪ :‬المصادر‬
‫‪ -‬البخاري‪ :‬محمد بن إسماعيل بن المغيرة البخاري‪ ،‬أبو عبد هللا (ت‪256 -‬هـ)‬
‫‪ -1‬صحيح األدب المفرد ‪،‬المحقق‪ :‬محمد فؤاد عبد الباقي‪،‬الناشر‪ :‬دار البشائر اإلسالمية –‬
‫بيروت‪ ،‬الطبعة‪ :‬الثالثة‪.1989 – 1409 ،‬‬
‫‪ -‬الرازي‪ :‬زين الدين محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي الرازي (ت‪666 -‬هـ)‬
‫الصحاح‪ :‬دار المعرفة ‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الخامسة‪.2012 ،‬‬‫‪ -2‬مختار ِّ‬
‫‪ -‬ابن رشيق القيرواني‪ :‬أبو على الحسن بن رشيق القيرواني األزدي (ت‪)463 -‬‬
‫‪ -3‬العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده ‪ :‬تحقيق د محمد محي الدين عبد الحميد ‪ ،‬دار‬
‫الجيل‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الخامسة ‪.1981 ،‬‬
‫‪ -‬ابن طباطبا العلوي ‪ :‬محمد بن أحمد طباطبا‪ ،‬الحسني العلوي‪ ،‬أبو الحسن (ت‪322 -‬هـ)‬
‫‪ -4‬عيار الشعر ‪ ،‬تحقيق د عبد العزيز المانع ‪،‬دار العلوم للطبع والنشر‪ ،‬الرياض‪.1985 ،‬‬
‫‪ -‬ابن عبد ربه‪ :‬أبو عمر‪ ،‬شهاب الدين األندلسي (ت‪328-‬هـ)‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪209‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫‪ -5‬العقد الفريد‪ :‬تحقيق‪ :‬د مفيد محمد قميحة‪ ،‬د عبد المجيد الترحيني‪ ،‬دار الكتب العلمية‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪1404 ،‬هـ‪1983-‬م‪.‬‬
‫‪ -‬عبد القاهر الجرجاني‪( :‬أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن‪ -‬المتوفى ‪471‬هـ)‬
‫‪ -6‬أسرار البالغة ‪ ،‬تحقيق الشيخ محمود محمد شاكر‪ ،‬دار المدني‪ ،‬جدة ‪ ،‬المملكة العربية‬
‫السعودية‪،‬ط‪.1991 ،1‬‬
‫‪ -‬محمود سامي البارودي (ت ‪1904‬هـ)‬
‫‪ -7‬ديوانه‪ :‬قدم له محمد حسين هيكل‪ ،‬تدقيق‪ :‬محمد فوزي حمزة‪ ،‬مكتية اآلداب‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪.2013‬‬
‫‪ -8‬ديوانه‪ :‬قدم له محمد حسين هيكل ومحمود سامي البارودي ‪ ،‬مكتبة هنداوي‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪.2013‬‬
‫‪ -9‬ديوانه‪ :‬قدم له محمد حسين هيكل ‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بيروت‪.1998 ،‬‬
‫‪ -‬ابن المعتز‪ :‬عبد هللا بن محمد المعتز باهلل ابن المتوكل ابن الرشيد (ت‪296 :‬هـ)‬
‫‪ -10‬البديع ‪ ،‬تحقيق اغناطيوس كراتشقوفسكي ‪ ،‬دار المسيرة‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثالثة‪،‬‬
‫‪.1982‬‬
‫‪ -‬ابن منظور ‪ :‬محمد بن مكرم ‪،‬أبو الفضل‪،‬جمال الدين ابن منظور األنصاري(ت‪711‬هـ)‬
‫‪ -11‬لسان العرب ‪ ،‬دار المعارف ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬المجلد‪ 4‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬المراجع‬
‫أ‪ .‬المراجع العربية‪:‬‬
‫‪ -‬د إبراهيم أنيس ‪:‬‬
‫األصوات اللغوية ‪،‬مكتبة األنجلو المصرية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الخامسة‪.1975 ،‬‬ ‫‪-12‬‬
‫‪ -‬أدونيس‪( :‬علي أحمد سعيد)‬
‫بحث في اإلبداع واالتباع عند العرب) – صدمة الحداثة ‪ ،‬الهيئة‬‫‪ -13‬الثابت والمتحول ( ٌ‬
‫العامة لقصور الثقافة‪ ،‬القاهرة‪.2016 ،‬‬
‫‪ -14‬الشعرية العربية‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية‪.1984 ،‬‬
‫‪ -‬د إلهام أبو غزالة وعلي خليل حمد‪:‬‬
‫‪ -15‬مدخل إلى علم لغة النص‪:‬الهيئة المصرية للكتاب‪،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية ‪.1999‬‬
‫‪ -‬إميل توفيق ‪:‬‬
‫‪ -16‬الزمن بين العلم والفلسفة واألدب‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى‪.1982 ،‬‬

‫‪210‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫‪ -‬أ‪.‬أمين الخولي‪:‬‬
‫‪ -17‬مناهج تجديد في النحو والبالغة والتفسير واألدب‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪،‬‬
‫القاهرة‪.2017 ،‬‬
‫‪ -‬د جابر عصفور‪:‬‬
‫‪ -18‬الخيال واألسلوب والحداثة (مقاالت مترجمة) المجلس األعلى للثقافة ‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫الطبعة األولى ‪.2005 ،‬‬
‫‪ -‬د خليل الموسى‪:‬‬
‫‪ -19‬البارودي (رائد النهضة الشعرية الحديثة)‪ ،‬دار ابن كثير(دمشق‪ -‬يروت) ط‪،1‬‬
‫‪.1999‬‬
‫‪ -‬د سعد عبد العزيز مصلوح‪:‬‬
‫‪ -20‬في البالغة العربية واألسلوبيات اللسانية (آفاق جديدة) مجلس النشر العلمي ‪،‬‬
‫جامعة الكويت‪ ،‬الكويت‪.2003 ،‬‬
‫‪ -‬د السعيد الورقي‪:‬‬
‫لغة الشعر العربي الحديث‪ ،‬دار المعارف ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪.1983 ،‬‬ ‫‪-21‬‬
‫‪ -‬سمير الحاج شاهين‪:‬‬
‫‪ -22‬لحظة األبدية ‪ ،‬دراسة الزمان في أدب القرن العشرين‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات‬
‫والنشر ‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪،‬الطبعة األولى‪.1980 ،‬‬
‫‪ -‬د صالح فضل‪:‬‬
‫‪ -23‬أساليب الشعرية المعاصرة‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪،2016 ،‬‬
‫‪ -24‬نظرية البنائية في النقد االدبي‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪.2003 ،‬‬
‫‪ -‬د عبد هللا التطاوي‪:‬‬
‫‪ -25‬حركة الشعر بين الفلسفة والتاريخ‪ ،‬دار الثقافة للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪.1992 ،‬‬
‫‪ -‬عبد الحق بلعابد‪:‬‬
‫‪ -26‬عتبات جيرار جنيت من النص إلى المناص‪ ،‬تقديم د سعيد يقطين ‪ ،‬الدار العربية‬
‫للعلوم‪ :‬لبنان‪ ،‬ومنشورات االختالف ‪ ،‬الجزائر‪ ،‬الطبعة األولى‪.2008 ،‬‬
‫‪ -‬د عبد السالم المسدي‪:‬‬
‫‪ -27‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪ ،‬طرابلس‪ ،‬الجماهيرية الليبية‪ -‬تونس‪،‬‬
‫الجمهورية التونسية‪.1982 ،‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪211‬‬


‫د ‪ /‬نور الدين زين العابدين متولي أحمد‬
‫‪ -‬د عدنان حسين قاسم‪:‬‬
‫‪ -28‬االتجاه األسلوبي البنيوي في الشعر الحديث‪ ،‬الدار العربية للنشر والتوزيع‪،‬‬
‫القاهرة‪.2000،‬‬
‫‪ -‬د عز الدين إسماعيل ‪:‬‬
‫الشعر العربي المعاصر( قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية) دار الفكر العربي‪،‬‬ ‫‪-29‬‬
‫الطبعة الثالثة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬د‪.‬ت‬
‫‪ -‬د علي عشري زايد‪:‬‬
‫‪ -30‬عن بناء القصيدة العربية الحديثة‪ ،‬مكتبة اآلداب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الخامسة‪،‬‬
‫‪.2008‬‬
‫‪ -‬د عمر الدسوقي ‪:‬‬
‫‪ -31‬محمود سامي البارودي ‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪.1953 ،‬‬
‫‪ -‬د عيد بلبع ‪:‬‬
‫‪ -32‬السياق وتوجيه داللة النص‪ ،‬دار بلنسية للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪.2008‬‬
‫‪ -‬د فريد عوض حيدر‪:‬‬
‫‪ -33‬علم الداللة ‪ ،‬دراسة نظرية وتطبيقية‪ ،‬مكتبة اآلداب القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪.2005‬‬
‫‪ -‬د محمد حسن عبد هللا‪:‬‬
‫‪ -34‬اللغة الفنية(مجموعة مقاالت أجنبية مترجمة) دار المعارف القاهرة‪.1985 ،‬‬
‫‪ -‬د محمد زكي العشماوي‪:‬‬
‫‪ -35‬أعالم األدب العربي الحديث‪ ،‬دار المعرفة الجامعية‪ ،‬اإلسكندرية‪.1997 ،‬‬
‫‪ -‬محمد المالخ ‪:‬‬
‫الزمن في اللغة العربية ( بنياته التركيبية والداللية) دار األمان ‪ ،‬الرباط‪ ،‬الطبعة‬ ‫‪-36‬‬
‫األولى ‪.2009 ،‬‬
‫‪ -‬د محمد مندور‪:‬‬
‫‪ -37‬في الميزان الجديد ‪ ،‬دار نهضة مصر للطباعة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬طبعة يناير ‪.2004‬‬
‫‪ -38‬النقد المنهجي عند العرب ومنهج البحث في األدب واللغة‪ ،‬دار نهضة مصر‪،‬‬
‫القاهرة‪،1996 ،‬‬

‫‪212‬‬ ‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬


‫االستشراف والتغريب في شعر محمود سامي البارودي‬
‫‪ -‬مصطفى صادق الرافعي‪:‬‬
‫‪ -39‬وحي القلم ‪ ،‬مؤسسة هنداوي’ القاهرة‪.2014 ،‬‬
‫‪ -‬د ميجان الرويلي ودسعد البازعي‪:‬‬
‫‪ -40‬دليل الناقد األدبي‪ ،‬المركز الثقافي العربي( الدار البيضاء ‪،‬المغرب‪ -‬بيروت‪ ،‬لبنان)‬
‫الطبعة الخامسة‪.2007 ،‬‬
‫ب‪ .‬المراجع المترجمة‬
‫‪ -‬أ‪.‬أ‪ .‬ريتشاردز ‪:‬‬
‫‪ -41‬مباديء النقد األدبي والعلم والشعر‪ ،‬ترجمة وتقديم وتعليق د محمد مصطفى بدوي‪،‬‬
‫المجلس األعلى للثقافة القاهرة‪.2005 ،‬‬
‫‪ -‬جورج مولينييه‪:‬‬
‫‪ -42‬األسلوبية‪ :‬ترجمة د بسام بركة المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع‪،‬‬
‫بيروت‪،‬لبنان‪،‬الطبعة األولى ‪.1999 ،‬‬
‫‪ -‬ديان مكدونيل ‪:‬‬
‫‪ -43‬مقدمة في نظريات الخطاب‪ ،‬ترجمة د عز الدين إسماعيل ‪ ،‬المكتبة األكاديمية‪،‬‬
‫القاهرة‪.2001 ،‬‬
‫‪ -‬يوري لوتمان ‪:‬‬
‫‪ -44‬تحليل النص الشعري‪ ،‬ترجمة د محمد أحمد فتوح ‪ ،‬النادي األدبي الثقافي‪ ،‬جدة‪،‬‬
‫الطبعة األول ‪.1999‬‬
‫ثال ًثــا‪ :‬الدوريات والمجالت العلمية‬
‫‪ -‬د أحمد صالح الطامي‪:‬‬
‫‪ -45‬المفهوم النظري للشعر عند البارودي وشوقي‪ :‬مجلة جامعة الملك سعود‪ ،‬اآلداب‬
‫(‪ )1‬م ‪1421 ،13‬هـ‪2001-‬م‬
‫‪ -‬ماجدة محمود‪:‬‬
‫‪ -46‬جماليات رواية (مئة عام من العزلة ) لماركيز‪ ،‬مجلة عالمات في النقد األدبي‪،‬‬
‫النادي األدبي الثقافي بجدة‪ ،‬المملكة العربية السعودية‪ ،‬المجلد ‪ ،20‬العدد ‪.2014 ،80‬‬

‫مجلة بحوث كلية اآلداب‬ ‫‪213‬‬

You might also like