You are on page 1of 31

‫م‬2018 ‫العدد السابع والثالثون‬ ‫جملة كلية اللغة العربية باملنصورة‬

‫ملخص‬
Abstract
This research aims to study the ‫يرمي هذا البحث إلى دراسة ما للمكان‬
place of the meanings in the
poetry of one of the most ‫من دالالت في شعر أحد أهم الشعراء‬
important Mauritanian poets is
the poet Sidi Abdullah bin ‫الموريتانيين هو الشاعر سيدي عبد هللا بن‬
Ahmed Dam, who was
associated with the place ‫ الذي ارتبط بالمكان ارتباطا شديدا‬،‫أحمد دام‬
strongly linked to love and ‫ فالشك أن المكان يمثل محو ار‬،‫حبا وبغضا‬
hatred, Flckk that the place is a
central axis of the axes revolve ‫أساسيا من المحاور التي تدور حولها نظرية‬
around the theory of literature,
but the place did not It is ‫ غير أن المكان لم يعد مجرد خلفية‬،‫األدب‬
merely a background to literary
or artistic work. It has become ‫عنصر‬
‫ا‬ ‫ بل أضحى‬،‫للعمل األدبي أو الفني‬
a formative and formal
component of the literary text, ‫شكليا وتشكيليا من عناصر النص األدبي شعريا‬
whether it is poetry or natria, ،‫ بل ومن العمل الفني عموما‬،‫كان أم نثريا‬
or of artistic work in general,
and the interaction and ‫وأصبح تفاعل العناصر المكانية وتضادها‬
contrast of spatial elements
constitute an aesthetic .‫يشكالن بعدا جماليا من أبعاد النص األدبي‬
dimension of the literary text.
We have adopted in this ‫ولقد اعتمدنا في هذا البحث المنهج‬
research the psychological
approach based on the fact that ‫النفسي القائم على أن اإلنتاج األدبي هو‬
literary production is a ‫انعكاس لشخصية األديب وما يعتمل في‬
reflection of the personality of
the writer and his feelings. ‫ هذا مع اإلفادة من‬.‫نفسه من مشاعر‬
This, while benefiting from
other approaches, is useful. .‫المناهج األخرى كلما كان ذلك مفيدا‬
And followed the search
divided into: : ‫واتبعت في البحث تقسيمه إلى‬
The first topic: psychological ‫ الدالالت النفسية‬:‫المبحث األول‬
and social implications of the
place in the poetry of Ibn ‫واالجتماعية للمكان في شعر ابن أحمد دام‬
Ahmed Dam
In this subject, we aim to ‫نرمي في هذا المبحث إلى تناول شعر ابن‬
address the poetry of Ibn
Ahmad Dam from a ،‫أحمد دام منظو ار إليه من زاوية نفسية واجتماعية‬
psychological and social
perspective, ‫أما المبحث الثاني فننصرف فيه إلى‬
As for the second topic, we will ‫تبيان الجوانب النفسية واالجتماعية التي‬
turn to the psychological and
social aspects reflected in the ‫عكسها شعر الرجل في تفاعله مع ظروف‬
man's hair in his interaction
with the circumstances of his .‫حياته المضطربة‬
troubled life.
The first requirement: in the ‫ في السياق االجتماعي‬:‫المطلب األول‬
social and cultural context. . ‫والثقافي‬

993
‫الشيخ أمحد املنى‬ ‫دالالت املكان يف شعر ابن أمحد دام‬

‫لتعريف المكان‪ ،‬فتنوعت زوايا النظر‬ ‫مقدمة‪:‬‬


‫وتعددت التعريفات تبعا لذلك‪ .‬ولن نشغل‬ ‫يرمي هذا البحث إلى دراسة ما للمكان‬
‫أنفسنا باستطراد تعريفات المكان لغويا كما‬ ‫من دالالت في شعر أحد أهم الشعراء‬
‫أوردها أصحاب المعاجم‪ ،‬وإنما نقتصر على‬ ‫الموريتانيين هو الشاعر سيدي عبد هللا بن‬
‫ما ذكره صاحب كتاب "التعريفات" من‬ ‫أحمد دام‪ ،‬الذي ارتبط بالمكان ارتباطا شديدا‬
‫العرب‪ ،‬وما ذكره "باشالر" ‪ Bachlard‬من‬ ‫حبا وبغضا‪ ،‬حنينا وتبرما‪ .‬ومما جعل‬
‫لنفس الفلسفي‬
‫الغربيين العتقادنا أن ا َ‬ ‫للمكان هذا الحضور في شعر الرجل‪ ،‬أنه ما‬
‫والكالمي لديهما هو األكثر قدرة على تعريف‬ ‫فتئ يضرب في األرض متنقال بين موطنه‬
‫المفاهيم الشائكة مثل هذا المفهوم‪.‬‬ ‫وبالد االغتراب الكثيرة التي شملت مناطق‬
‫فأما صاحب "التعريفات" فيتناول تعريف‬ ‫واسعة من إفريقيا السوداء‪ .‬وربما كان من‬
‫المكان من وجهة نظر الحكماء (الفالسفة)‬ ‫أسباب هذا الحضور الملحوظ للمكان لدى‬
‫والمتكلمين كما تعرض للمكان المبهم‬ ‫شاعرنا أنه تزوج وأنجب في بالد الغربة‪،‬‬
‫والمعين فقال‪" :‬المكان‪ :‬عند الحكماء‪ ،‬هو‬ ‫ولذلك عاش ممزقا بين وطنه ومغتربه‪ ،‬فلم‬
‫السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس‬ ‫يكن يستقر في أحدهما إال ونازعته نفسه إلى‬
‫محوي‪ ،‬وعند‬
‫للسطح الظاهر من الجسم ال َ‬ ‫اآلخر‪ ،‬فهنا زوجه وأبناؤه وأسباب رزقه‪،‬‬
‫المتكلمين‪ :‬هو الفراغ المتوهم الذي يشغله‬ ‫وهناك أهله و ِخالنه و مرابع صباه‪.‬‬
‫وتنفذ فيه أبعاده‪ .‬المكان المبهم‪:‬‬
‫ُ‬ ‫الجسم‬ ‫وليس شاعرنا في ذلك بدعا من الشعراء‪ ،‬إذ‬
‫عبارة عن مكان له اسم نسميه به‪ ،‬بسبب‬ ‫للمكان أهمية كبيرة في حياة اإلنسان عامة‪،‬‬
‫أمر داخل في مسماه‪ ،‬كالخلف‪ ،‬فإن تسمية‬ ‫وجوده‪ ،‬فقد خلق هللا تعالى‬
‫َ‬ ‫وجوده‬
‫ُ‬ ‫حيث سبق‬
‫ذلك المكان بالخلف إنما هو بسبب كون‬ ‫له األرض‪ ،‬وله هيأها بل وهيأ له الكون كله‬
‫الخلف في جهة‪ ،‬وهو غير داخل في مسماه‪.‬‬ ‫باعتباره بيتَه الكبير‪ .‬وعلى أديم األرض وفي‬
‫المكان المعين‪ :‬عبارة عن مكان له اسم‬ ‫كنف الكون‪ ،‬أدرك اإلنسان ـ أول ما أدرك ـ‬
‫سمي به‪ ،‬بسبب أمر داخل في مسماه‪،‬‬ ‫الزمان والمكان‪ ،‬بيد أن إدراكه للمكان كان أسرع‬
‫َ‬
‫كالدار؛ فإن تسميته بها بسبب الحائط‬ ‫وأسهل إذ هو محسوس وملموس عكس الزمان‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫والسقف وغيرهما‪ ،‬وكلها داخلة في مسماه‪.‬‬ ‫فإدراك المكان إدراك مباشر خالفا للزمان‪.‬‬
‫وقد تعرض كثير من العلماء والباحثين‬
‫(‪)1‬‬

‫حصرا‪ .‬فليرجع إليه للتوسع لمن شاء‪.‬‬


‫(‪)2‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ـ علي بن محمد بن علي الزين الشريف‬ ‫ـ كابن منظور في اللسان‪ ،‬ومرتضى الزبيدي‬
‫الجرجاني‪ ،‬كتاب التعريفات‪ ،‬تحقيق وضبط‬ ‫في التاج‪ ،‬وابن دريد في الجمهرة‪ ،‬مثاال ال‬

‫‪994‬‬
‫العدد السابع والثالثون ‪2018‬م‬ ‫جملة كلية اللغة العربية باملنصورة‬

‫منه‪ ،‬وهو أعمق وأكبر وأهم من أن ينحصر‬ ‫وأما "باشالر" فينظر إلى المكان من‬
‫صر‬
‫في ما يمثله من ظرف ووعاء‪ ،‬وأن ُيْقتَ َ‬ ‫زاوية االختالف في إدراك اإلنسان للزمان‬
‫فيه على البين الناتئ من مستوياته‪ ،‬ألن كل‬ ‫وإدراكه للمكان‪ ،‬فـ "إدراك اإلنسان للزمن‬
‫مناحي الحياة ومستوياتها وقطاعاتها‪ ،‬بل‬ ‫إدراك غير مباشر‪ ،‬فهو يتحقق من خالل‬
‫وكل مناحي النفس أيضا تشهد على حضوره‬ ‫فعل اإلنسان وعالقته باألشياء‪ ،‬في حين أن‬
‫الكثيف‪ ،‬وتعدد مظاهره‪ ،‬وتفصح عن أثره‪،‬‬ ‫إدراك اإلنسان للمكان إدراك حسي مباشر‪،‬‬
‫وتدفع إلى اإلقرار بأنه جزء ال يتج أز من كل‬ ‫وهو يستمر مع اإلنسان طوال سني عمره‪،‬‬
‫الموجودات (‪ ).....‬وهو مصبها ومنطلقها‪،‬‬ ‫مما يؤكد حميمية العالقة التي تربط اإلنسان‬
‫وهو ترجمتها أيضا"(‪.)4‬‬ ‫لحركة‬ ‫ومالزمتها‬ ‫ومباشرتها‬ ‫بالمكان‬
‫اإلنسان"‪.‬‬
‫(‪)3‬‬

‫والشك أن المكان يمثل محو ار أساسيا من‬


‫المحاور التي تدور حولها نظرية األدب‪،‬‬
‫غير أن المكان لم يعد مجرد خلفية للعمل‬
‫عنصر شكليا‬
‫ا‬ ‫األدبي أو الفني‪ ،‬بل أضحى‬
‫وتشكيليا من عناصر النص األدبي شعريا‬
‫كان أم نثريا‪ ،‬بل ومن العمل الفني عموما‪،‬‬
‫وأصبح تفاعل العناصر المكانية وتضادها‬
‫يشكالن بعدا جماليا من أبعاد النص األدبي‪.‬‬
‫لذلك انعقد إجماع الباحثين على محورية‬
‫المكان في العمل األدبي‪ ،‬وبينوا ما له من‬
‫دالالت ومن "عميق األثر في الحياة‬
‫البشرية‪ ،‬إذ ما من حركة إال وهي مقترنة به‪،‬‬
‫وما من فعل إال وهو مستو ٍح لبعض دوافعه‬

‫وتصحيح‪ :‬جماعة من العلماء بإشراف الناشر‪،‬‬


‫دار الكتب العلمية بيروت –لبنان‪ ،‬الطبعة‪:‬‬
‫(‪)4‬‬
‫ـ نقال عن‪ :‬بدر نايف الرشيدي‪ ،‬صورة المكان‬ ‫األولى ‪1403‬هـ ‪ ،1983-‬ص‪.277.‬‬
‫في شعر أحمد السقاف‪ ،‬رسالة ماجستير‪ ،‬كلية‬ ‫(‪ ))3‬ـ غاستون باشالر‪ ،‬جماليات المكان‪ ،‬ترجمة‪:‬‬
‫اللغة العربية وآدابها‪ ،‬جامعة الشرق األوسط‪،‬‬ ‫غالب هلسا‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات‬
‫‪ 2011‬ـ‪ ،2012‬ص‪.42 .‬‬ ‫والنشر‪ ،‬ص‪.42.‬‬

‫‪995‬‬
‫الشيخ أمحد املنى‬ ‫دالالت املكان يف شعر ابن أمحد دام‬

‫ومتذوقي األدب من خالل البعد المكاني‬ ‫دوافع االختيار‪:‬‬


‫ودالالته وما يكمن خلفه من مظاهر‬ ‫لم يكن اهتمامي بشعر سيدي عبد هللا بن‬
‫إبداعية‪ ،‬وهو بعد لم يتم تناوله قبل هذا‬ ‫أحمد دام وليد هذا البحث‪ ،‬بل إنه يعود إلى‬
‫البحث‪.‬‬ ‫عشرات السنين إذ تربيت في وسط كان فيه‬
‫الدراسات السابقة‪:‬‬ ‫شعر الرجل رائجا‪ ،‬وكنا ونحن أطفال نترنم‬
‫لم يحظ شاعرنا ببحوث كثيرة تتناول‬ ‫به في أسمارنا ومطارحاتنا‪ .‬وهكذا نشأت‬
‫جوانب شعره بالدراسة والتحقيق‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫على حب شعر الرجل وحفظت جله‪ ،‬فلما‬
‫يمكن أن نذكر أعماال ثالثة تناولت شعره‬ ‫أتيحت لي فرصة الكتابة عنه كان الحنين‬
‫على اختالف في طبيعتها ومراميها‪:‬‬ ‫في شعره موضوع بحث نشر منذ سنوات في‬
‫‪ 1‬ـ ـ كتاب "الوسيط في تراجم أدباء‬ ‫مجلة العلوم العربية واإلنسانية بجامعة‬
‫شنقيط" لمؤلفه أحمد بن األمين الشنقيطي‬ ‫القصيم بالمملكة العربية السعودية‪ .‬ويمكن‬
‫نزيل القاهرة (ت ‪ .)5()1911‬والكتاب ج ْمع‬ ‫إجمال دوافع االختيار في النقاط التالية‪:‬‬
‫لشعر مجموعة من الشعراء الشناقطة‪ ،‬أماله‬ ‫‪ 1‬ـ حبي لشعر الرجل ومعايشتي له لفترة‬
‫المؤلف من حافظته مستَقرهُ في مصر‬ ‫طويلة األمر الذي أرسى بيني وبين هذا‬
‫وطبعه بمؤازرة السيد أمين الخانجي‪ )6(.‬ولئن‬ ‫الشعر وشائج قوية جعلته دائم الحضور في‬
‫كان المؤلف بذل جهدا طيبا في التعريف‬ ‫الذهن‪ ،‬شديد الصلة بالوجدان‪.‬‬
‫بالشعر الشنقيطي في المشرق العربي من‬ ‫‪ 2‬ـ تجربته المتفردة بين الشعراء الشناقطة‬
‫خالل هذا الكتاب‪ ،‬وتعرض فيه لشعر طائفة‬ ‫حيث تميز بنغمة الحنين التي رافقته في حياته‬
‫كبيرة من الشعراء الشناقطة‪ ،‬فإن هدفه األول‬ ‫المضطربة متنقال بين مكانين‪ :‬وطنه موريتانيا‬
‫واألخير كان حفظ هذا التراث األدبي من‬ ‫حيث أهله وأحباؤه وبالد إفريقيا حيث زوجه‬
‫عاديات الزمن ليس إال‪ .‬وعلى كل حال فقد‬ ‫وأبناؤه ‪ ،‬فغذا حنينه مزدوجا‪ :‬فال يستقر في أحد‬
‫ترجم المؤلف ـ ضمن من ترجم لهم ـ‬ ‫المكانين إال ودعاه الشوق والحنين إلى الثاني‪.‬‬
‫لشاعرنا وأورد جل إنتاجه الشعري‪.‬‬ ‫وله في ذلك قصائد سنعرض لها في ثنايا هذا‬
‫البحث بحول هللا‪.‬‬
‫(‪)5‬‬
‫ـ ابن األمين‪ ،‬أحمد‪ ،‬الوسيط في تراجم أدباء‬ ‫‪ 3‬ـ قلة البحوث والدراسات التي تناولت‬
‫شنقيط‪ ،‬مكتبة الخانجي في القاهرة ومكتبة‬ ‫شعره بالدراسة والتحقيق‪ ،‬وأقل منها تلك التي‬
‫منير في موريتانيا‪ ،‬مطبعة المدني‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫تناولت الجوانب الفنية والظواهر األدبية‬
‫‪ ،1986‬ص‪.13.‬‬
‫والخصائص اإلبداعية‪ ،‬وهو ما سيظهر جليا‬
‫(‪)6‬صاحب مكتبة الخانجي الشهيرة في القاهرة‪،‬‬
‫عند حديثنا عن الدراسات السابقة‪.‬‬
‫راجع‪ :‬الوسيط‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.16.‬‬
‫‪ 4‬ـ الرغبة في تقديم الرجل لقراء العربية‬
‫‪996‬‬
‫العدد السابع والثالثون ‪2018‬م‬ ‫جملة كلية اللغة العربية باملنصورة‬

‫المنهج المتبع‪:‬‬ ‫‪ 2‬ـ كتاب "الشعر الشنقيطي في القرن‬


‫لقد اعتمدنا في هذا البحث المنهج النفسي‬ ‫الثالث عشر الهجري" لمؤلفه د‪ .‬أحمد جمال‬
‫القائم على أن اإلنتاج األدبي هو انعكاس‬ ‫بن الحسن‪ ،‬وهو عبارة عن دراسة أسلوبية‬
‫لشخصية األديب وما يعتمل في نفسه من‬ ‫لشعر ثالثة عشر شاع ار شنقيطيا من‬
‫مشاعر‪ .‬هذا مع اإلفادة من المناهج األخرى‬ ‫ضمنهم شاعرنا سيدي عبد هللا بن أحمد دام‪.‬‬
‫كلما كان ذلك مفيدا‪.‬‬ ‫ونظ ار ألن الدراسة تناولت عددا البأس به من‬
‫خطة البحث‪:‬‬ ‫الشعراء‪ ،‬فقد ضاق الحيز المخصص لكل‬
‫سيتم نتناول هذا الموضوع في مبحثين‬ ‫شاعر‪ ،‬واقتصرت الدراسة على نماذج قليلة‪.‬‬
‫يتضمن كل واحد منهما مطلبين‪ ،‬نتعرض‬ ‫‪ 3‬ـ تحقيق ودراسة شعر سيدي عبد هللا بن‬
‫في المبحث األول إلى الدالالت النفسية‬ ‫أحمد دام‪ ،‬وهو عبا ةر عن مذك ةر تخرج من مدرسة‬
‫واالجتماعية للمكان في شعر ابن أحمد دام‬ ‫المعلمين العليا في نواكشوط سنة ‪ ،1986‬جمع‬
‫حيث نتعرض في المطلب األول للسياق‬ ‫فيها األستاذ محمد رضوان هللا وحقق ما استطاع‬
‫االجتماعي والثقافي الذي نشأ فيه وفي‬ ‫الوصول إليه من إنتاجه الشعري‪.‬‬
‫المطلب الثاني للدالالت النفسية واالجتماعية‬ ‫‪ 3‬ـ بحث "الحنين في الشعر الشنقيطي‬
‫للمكان في شعر ابن أحمد دام‪ .‬أما المبحث‬ ‫ـــ ابن أحمد دام نموذجا" للباحث د‪ .‬الشيخ‬
‫الثاني فقد محضناه لظالل المكان في شعر‬ ‫أحمد المنى‪ ،‬والمنشور بمجلة العلوم العربية‬
‫ابن أحمد دام حيث تناولنا في المطلب األول‬ ‫واإلنسانية بجامعة القصيم سنة ‪،2016‬‬
‫وعنوانه‪ :‬المكان رم از للقيم اإليجابية‪ ،‬ما‬ ‫وتناول ظاهرة الحنين ومميزاته في شعر‬
‫يتعلق بالمكان من حنين وعشق وتعلق‬ ‫الرجل‪ ،‬وهي أول محاولة لدراسة الظواهر‬
‫وانتماء‪ .‬هذا في حين درسنا في المطلب‬ ‫األدبية في شعره‪.‬‬
‫الثاني وعنوانه‪ :‬المكان رم از للقيم السلبية‪،‬‬ ‫هذا كل ما نمى إلى علمنا من دراسات‬
‫هجاء وذم وتبرم‬ ‫ما يتعلق بالمكان من‬ ‫سابقة تعرضت لشعر ابن أحمد دام من‬
‫وبغض وتوق إلى االنعتاق‪ .‬وقد حاولنا في‬ ‫قريب أو من بعيد‪ ،‬ومن الواضح أنها قليلة‬
‫الخاتمة التي عقدناها في ختام البحث‬ ‫جدا مقارنة بمكانة الشاعر وغ ازرة وجودة‬
‫استعراض ما توصلنا إليه من نتائج‪.‬‬ ‫إنتاجه‪ .‬ومع ذلك فإنها أفادت كل من‬
‫المبحث األول‪ :‬الدالالت النفسية‬ ‫يتصدى لدراسة شعر الرجل‪ ،‬إذ قدمت له‬
‫واالجتماعية للمكان في شعر ابن أحمد دام‬ ‫على األقل مدونة شملت أغلب نصوصه‪،‬‬
‫نرمي في هذا المبحث إلى تناول شعر‬ ‫وهو ما يشكل مادة أولية يمكن للباحث‬
‫ابن أحمد دام منظو ار إليه من زاوية نفسية‬ ‫االعتماد عليها للمضي قدما في تقديم هذا‬
‫واجتماعية‪ ،‬بغية استكناه ما فيه من دالالت‬ ‫الشعر بظواهره ومميزاته للجمهور الواسع‪.‬‬

‫‪997‬‬
‫الشيخ أمحد املنى‬ ‫دالالت املكان يف شعر ابن أمحد دام‬

‫المولد والنشأة‪:‬‬ ‫وإشارات ال يخلو منها العمل األدبي الجدير‬


‫ولد سيدي عبد هللا بن أحمد دام الحسني‬ ‫بهذا االسم‪ .‬وقد رأينا أن نقسم هذا المبحث‬
‫‪1170‬ﮬ ‪1756/‬م في منطقة‬ ‫(‪)7‬‬
‫حوالي‬ ‫إلى مطلبين‪ ،‬نخصص أولهما لما نسميه‬
‫والواقعة‬ ‫"العقل" التي تتميز بآبارها القصيرة‬
‫(‪)8‬‬ ‫السياق االجتماعي والثقافي الذي عاش فيه‬
‫في الجنوب الغربي من موريتانيا الحالية‪.‬‬ ‫شاعرنا‪ ،‬فنعرض لنبذة البيئة الجغرافية‬
‫ونشأ في بيت يتعاطى أهله ومحيطهم العلوم‬ ‫والثقافية التي عاش فيها‪ ،‬على أن نختم بنبذة‬
‫السائدة في عصرهم وأهمها‪ :‬القرآن واللغة‬ ‫عن حياته وثقافته ومميزات شعره‪.‬‬
‫واألدب والنحو والفقه مع بعض المتمات‬ ‫أما المبحث الثاني فننصرف فيه إلى‬
‫كالمنطق مثال‪ .‬ولكن الدرس اللغوي وعماده‬ ‫تبيان الجوانب النفسية واالجتماعية التي‬
‫دواوين الستة الجاهليين بشرح األعلم‬ ‫عكسها شعر الرجل في تفاعله مع ظروف‬
‫وديوان غيالن ذي الرمة(‪،)10‬‬ ‫ي(‪)9‬‬
‫الشنتمر‬ ‫حياته المضطربة‪.‬‬
‫المطلب األول‪ :‬في السياق االجتماعي‬
‫والثقافي‪:‬‬
‫(‪)7‬‬
‫ـ لم تساعد طبيعة الحياة البدوية وسمتها الترحال‬
‫نتعرض في هذا المطلب لمولد ابن أحمد‬
‫الدائم على حفظ تواريخ الميالد والوفيات بشكل‬
‫دام ونشأته وثقافته‪ ،‬كما نلمح إلى مكانته‬
‫دقيق في بالد شنقيط في ذلك العصر‪.‬‬
‫ـ الوسيط في تراجم أدباء شنقيط‪ ،‬مرجع سابق‪،‬‬ ‫(‪)8‬‬ ‫الشعرية ومميزات شعره‪ ،‬وبكلمة واحدة‬

‫ص‪.465.‬‬ ‫نحاول تقديما موج از للسياق الذي عاش فيه‬


‫‪ .‬يوسف بن سليمان بن عيسى الشنتمري‬ ‫(‪)9‬‬ ‫شاعرنا وتفاعل معه طيلة حياته‪.‬‬
‫األندلسي‪ ،‬أبو الحجاج المعروف باألعلم (‪410‬‬
‫‪ 476 -‬هـ = ‪ 1084 - 1019‬م)‪ ،‬عالم‬
‫باألدب واللغة‪ .‬ولد في شنتمري الغرب ( ‪Santa‬‬
‫‪ )Maria Algarve‬ورحل إلى قرطبة‪ .‬وكف‬
‫بصره في آخر عمره ومات في إشبيلية‪ .‬كان‬
‫مشقوق الشفة العليا‪ ،‬فاشتهر باألعلم‪ .‬من كتبه‬
‫"شرح الشعراء الستة" و "شرح ديوان زهير بن‬
‫أبي سلمى" و " شرح ديوان طرفة بن العبد" و‬
‫" شرح ديوان علقمة الفحل" و " تحصيل عين‬
‫الذهب" في شرح شواهد سيبويه‪ ،‬و "شرح ديوان‬
‫الحماسة" في مجلدين كتبا سنة ‪514 - 513‬‬
‫من مخطوطات الخزانة األحمدية بتونس‪ ،‬و"‬
‫النكت على كتاب سيبويه" متقن‪ ،‬في الرباط‬

‫‪998‬‬
‫العدد السابع والثالثون ‪2018‬م‬ ‫جملة كلية اللغة العربية باملنصورة‬

‫التي كانت للدراسات اللغوية‬ ‫(‪)13‬‬


‫الجكني‬ ‫على ما سواه من الدروس خاصة‬ ‫(‪)11‬‬
‫طغى‬
‫واألدبية فيها مكانة خاصة‪ ،‬وانتمى إلى‬ ‫في القرن الثالث عشر الهجري وفي الجنوب‬
‫الطريقة الصوفية القادرية التي أخذها عن‬ ‫الغربي من موريتانيا الحيزين الزماني‬
‫الشيخ سيديا بن الهيبه(‪)14‬الذي كانت‬ ‫والمكاني لشاعرنا‪.‬‬
‫حضرته من أكبر الحضرات الصوفية‬
‫(‪)15‬‬ ‫وقد قاده طلب العلم إلى االلتحاق‬
‫وأكثرها تأثي ار آنئذ‪ .‬وبعد أن تخرج على ولد‬ ‫العالمة المختار ولد بونه‬ ‫(‪)12‬‬
‫بمحظرة‬
‫بونه علميا ورباها صوفيا رحل إلى بالد‬
‫إفريقيا لالكتساب فأكثر الحنين إلى بالده‬
‫(‪ 142‬أوقاف) لعله غير كتابه " تحصيل عين‬
‫وشوقه إلى أهله وخالنه‪" :‬حتى كان الحنين‬ ‫الذهب" في شرح شواهد سيبويه‪ .‬ينظر‪ :‬األعالم‬
‫للزركلي (‪.)233 /8‬‬
‫(‪)10‬‬
‫الرمة ‪ 77‬ـ ‪ 117‬هـ ‪735 - 696 /‬‬
‫ـ ذو ُ‬
‫م‪ ،‬غيالن بن عقبة بن نهيس بن مسعود‬
‫المستوى الجامعي‪ ،‬وهي التي حفظت لبالد‬ ‫العدوي‪ ،‬من مضر ‪.‬من فحول الطبقة الثانية في‬
‫شنقيط (موريتانيا) تراثها اللغوي واألدبي عالوة‬ ‫عصره‪ ،‬قال أبو عمرو بن العالء‪ :‬فتح الشعر‬
‫على حفظ العلوم الشرعية‪ ،‬ومن هنا أعلن عليها‬ ‫بامرئ القيس وختم بذي الرمة ‪.‬كان شديد‬
‫الفرنسيون حربا ال هوادة فيها طيلة احتاللهم‬ ‫القصر دميماً‪ ،‬يضرب لونه إلى السواد‪ ،‬أكثر‬
‫للبالد‪ .‬حول "المحظرة" راجع‪ :‬النحوي‪ ،‬الخليل‪،‬‬ ‫شعره تشبيب وبكاء على األطالل‪ ،‬يذهب في‬
‫بالد شنقيط‪ :‬المنارة والرباط‪ ،‬المنظمة العربية‬ ‫ذلك مذهب الجاهليين وكان مقيماً بالبادية‪،‬‬
‫للتربية والثقافة والعلوم‪ ،‬تونس‪ ،1986 ،‬و‬ ‫يختلف إلى اليمامة والبصرة كثي اًر‪ ،‬امتاز بإجادة‬
‫الشعر الشنقيطي في القرن الثالث عشر‪،‬‬ ‫التشبيه ‪ .‬قال جرير‪ :‬لو خرس ذو الرمة بعد‬
‫مرجع سابق‪.‬‬ ‫قصيدته (ما بال عينيك منها الماء ينسكب)‬
‫(‪)13‬‬
‫ـ عالم جليل (ت ‪1220‬ﮬ‪1805/‬م)‪ ،‬تخرج‬ ‫لكان أشعر الناس ‪.‬عشق (مية) المنقرية واشتهر‬
‫عليه في اللغة والنحو معظم علماء شنقيط في‬ ‫بها ‪.‬توفي بأصبهان‪ ،‬وقيل‪ :‬بالبادية‪ .‬ينظر‪ :‬أبو‬
‫عصره والعصر الذي يليه‪ ،‬الوسيط‪ ،‬مرجع‬ ‫محمد عبد هللا بن مسلم بن قتيبة الدينوري‬
‫سابق‪ ،‬ص‪ 277 .‬ـ‪.279‬‬ ‫(المتوفى‪276 :‬هـ)‪ ،‬الشعر والشعراء‪ ،‬دار‬
‫(‪)14‬هو الشيخ سيديا الكبير ولد المختار ولد الهيبه‬ ‫الحديث‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫(‪)11‬‬
‫(ت ‪1284‬ﮬ)‪ ،‬عالم جليل ومتصوف كبير‬ ‫ـ أحمد جمال ولد الحسن‪ ،‬الشعر الشنقيطي‬
‫وشاعر مكثر‪ .‬ينظر‪ :‬الوسيط في تراجم أدباء‬ ‫في القرن الثالث عشر‪ ،‬مساهمة في وصف‬
‫شنقيط‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ 340 .‬ـ ‪.341‬‬ ‫األساليب‪ ،‬جمعية الدعوة اإلسالمية العالمية‪،‬‬
‫(‪ ))15‬ـ "الحضرة" في السياق الشنقيطي تعني مستقر‬ ‫طرابلس الغرب‪ ، 1995 ،‬ص‪.118.‬‬
‫الشيخ في حيه المتنقل‪ ،‬ويقابلها في البالد‬ ‫(‪ ))12‬ـ جمعها محاضر أو محاظر وهي مؤسسات‬
‫العربية "زاوية"‪.‬‬ ‫تعليمية أهلية تتدرج من المستوى االبتدائي إلى‬

‫‪999‬‬
‫الشيخ أمحد املنى‬ ‫دالالت املكان يف شعر ابن أمحد دام‬

‫مميزات شعره‪:‬‬ ‫على حد وصف ولد الحسن‪.‬‬ ‫(‪)16‬‬


‫نغمة له مميزة"‬
‫يتبوأ ابن أحمد دام مكانة بارزة بين‬ ‫وكان يعود إلى بالده أحيانا ثم ال يلبث الحنين‬
‫الشعراء الشناقطة وخاصة بين معاصريه من‬ ‫إلى زوجه وأوالده أن يغريه بالعودة إلى‬
‫شعراء القرن الثالث عشر الهجري‪ .‬لذلك كان‬ ‫حيث تركهم‪ .‬ومع أن تاريخ وفاته‬ ‫السنغال‬
‫(‪)17‬‬

‫حضوره الفتا في األعمال التي تناولت‬ ‫غير مضبوط فالغالب أنه توفي بعيد سنة‬
‫الشعر الشنقيطي في هذا القرن وفي القرون‬ ‫ن(‪)19‬‬
‫وله ديوان شعر مرقو‬ ‫(‪)18‬‬
‫‪1264‬ﮬ‪1848/‬م‬
‫التي تلته (‪ .)21‬فهو إذن ليس نكرة في الشعر‬ ‫ومؤلفات في العقيدة والفقه والحديث(‪.)20‬‬
‫الشنقيطي‪ ،‬وإن لم يحظ ـ كما ألمحنا إلى‬ ‫وقد ضم هذا الديوان جل شعره‬
‫ذلك سابقا ـ بدراسات وبحوث كثيرة خاصة‬ ‫المحفوظ‪ ،‬والذي يدل على أنه كان شاع ار‬
‫به‪.‬‬ ‫متمكنا من ناصية اللغة وكانت له شاعرية‬
‫إن المتتبع إلنتاجه الشعري ليعجب من‬ ‫ال تخطئها العين‪ ،‬نحاول استجالءها في‬
‫حضور أغلب األغراض المعروفة في عصره‬ ‫المطلب التالي من هذا البحث‪.‬‬
‫من مدح ومديح وغزل وفخر ورثاء‬
‫ومساجالت وحنين إلى األهل والوطن وغيرها‬ ‫ـ الشعر الشنقيطي في القرن الثالث عشر‪،‬‬ ‫(‪)16‬‬

‫مرجع سابق‪ ،‬ص‪.130.‬‬


‫(‪)21‬‬ ‫(‪ ))17‬دولة إفريقية مسلمة تقع في غرب أفريقيا‪ ،‬استقلت‬
‫ـ فقد أورد جل شعره المحفوظ محمد األمين‬
‫عن فرنسا سنة ‪ ،1960‬عاصمتها داكار‪ ،‬غير أن‬
‫الشنقيطي في كتابه "الوسيط في تراجم أدباء‬
‫هذا االسم كان يطلق في عصر الشاعر على‬
‫شنقيط" المشار إليه سابقا‪ .‬كما كان على رأس‬
‫مناطق واسعة من إفريقيا الغربية قبل أن يقسمها‬
‫الشعراء الذين تناولهم د‪ .‬أحمد جمال ولد‬
‫االستعمار الفرنسي إلى دول متعددة‪.‬‬
‫الحسن في كتابه سابق الذكر‪" :‬الشعر‬
‫(‪ ))18‬ـ لكون صديقه الشاعر محمدي ولد سيدينا‬
‫الشنقيطي في القرن الثالث عشر‪ ،‬مساهمة‬
‫في وصف األساليب‪ .‬كما تطرق إلى شعره د‪.‬‬ ‫(ت شوال ‪1264‬ﮬ‪/‬أغسطس أو سبتمبر‬

‫محمد المختار ولد اباه في كتابه "الشعر‬ ‫‪1848‬م) خاطبه بأبيات وهو يحتضر‪ .‬راجع‪:‬‬

‫والشعراء في موريتانيا"‪ ،‬طبعة دار األمان‬ ‫د‪ .‬أحمد جمال ولد الحسن‪ ،‬الشعر الشنقيطي‬

‫بالرباط‪1424 ،‬ﮬ‪2003/‬م‪ .‬وتناوله كل من‬ ‫في القرن الثالث عشر‪ :‬مساهمة في وصف‬

‫الدكتور عبد هللا ولد محمد سالم ولد السيد في‬ ‫األساليب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.130.‬‬
‫(‪)19‬‬
‫كتابه "الشعر الشنقيطي في القرن الثاني‬ ‫ـ حققه محمد رضوان هللا ولد محمد سالم‪،‬‬

‫عشر والثالث عشر الهجريين‪ :‬دراسة في‬ ‫المدرسة العليا للتعليم‪ ،‬نواكشوط‪1983،‬م‪.‬‬
‫المرجع والبنية والقراءة"‪ ،‬مطبعة المنار‪،‬‬ ‫(‪ ))20‬ـ ‪Mohamed El Mokhjar Ould Bah,‬‬
‫نواكشوط‪2008 ،‬م‪... .‬إلى غير هؤالء من‬ ‫‪La‬‬ ‫‪Litterature‬‬ ‫‪juridique‬‬ ‫‪et‬‬
‫‪l'evolution du Malikisme en‬‬
‫الباحثين‪.‬‬ ‫‪Mauritanie,Tunis,1982.‬‬

‫‪1000‬‬
‫العدد السابع والثالثون ‪2018‬م‬ ‫جملة كلية اللغة العربية باملنصورة‬

‫السبك وسالسة اللغة هذا على مستوى‬ ‫في ديوانه(‪ .)22‬والمالحظ أنه في كل هذه‬
‫الشكل‪ ،‬كما يتميز بصدق العاطفة وح اررتها‪،‬‬ ‫األغراض مجيد حتى ليخيل إلى المرء وهو‬
‫وكذلك بتعدد األغراض التي تناولها‪ .‬ولعل‬ ‫يق أر مديحياته مثال أنه على المديح أقدر‬
‫ميزته األبرز هو التأثر بالشعر الجاهلي‬ ‫وأكثر تمرسا منه على ما سواه‪ .‬وقل الشيء‬
‫على مستوى الشكل وبشعر صدر اإلسالم‬ ‫نفسه في المدح والغزل والحنين والمساجالت‬
‫على مستوى المضامين‪ .‬ولذلك جاءت‬ ‫وبقية األغراض‪ ،‬وهو أمر ال يتاح لكل‬
‫قصائده مضارعة لشعراء هذين العصرين‬ ‫الشعراء‪ ،‬إذ يكون بعضهم في أحيان كثيرة‬
‫على وجه التحديد‪ ،‬ولكنه إلى ذلك بقي‬ ‫أكثر تمكنا في غرض معين منه في‬
‫محافظا على شخصيته المميزة‪ ،‬فلم يجتر‬ ‫األغراض األخرى‪ .‬ويدل ذلك على أن‬
‫إنتاج ِ‬
‫متقدميه اجت ار ار بل مهره بطابع ذاته‬ ‫بالمقاييس‬ ‫(‪)23‬‬
‫صاحبنا كان بالفعل "شاعرا"‬
‫الشاعرة‪ .‬ويمكن القول إن لشعر ابن أحمد‬ ‫التي كانت مسلطة على‬ ‫(‪)24‬‬
‫النقدية التقليدية‬
‫دام ميزات بارزة‪ ،‬نلمح إلى بعضها إلماحا‬ ‫الشعر والشعراء في عصره الذي كان "عصر‬
‫إلعطاء صورة مقتضبة عن إمكانياته وقدراته‬ ‫كبار الشعراء"(‪ .)25‬ويتميز شعره بالجزالة وقوة‬
‫الشعرية‪ ،‬حتى يكون ذلك منطلقا لما نحن‬
‫بصدده من الحديث دالالت المكان في‬ ‫ـ راجع‪" :‬الوسيط في تراجم أدباء شنقيط"‬ ‫(‪)22‬‬

‫شعره‪ ،‬ومن تلك السمات‪:‬‬ ‫و"الشعر والشعراء في موريتانيا" و"الشعر‬


‫الشنقيطي في القرن الثالث عشر الهجري"‬
‫والديوان بتحقيق محمد رضوان هللا لد محمد‬
‫سالم‪ ،‬وكلها مراجع مذكورة سابقا‪.‬‬
‫(‪)23‬‬
‫ـ لم يكن من السهل الوصول إلى هذه المرتبة‬
‫في بالد شنقيط وخاصة في القرن الثالث عشر‬
‫الهجري الذي استوى فيه شعر تلك البالد على‬
‫سوقه‪ ،‬وغدت فيه المقاييس النقدية صارمة أشد‬
‫ما تكون الصرامة‪.‬‬
‫(‪)24‬‬
‫ـ ال يتصف بهذه الصفة في بالد شنقيط عادة‬
‫إال المتمكن في نسج الشعر الجيد في كل‬
‫األغراض‪ ،‬المثقف ثقافة لغوية وأدبية وعلمية‬
‫جيدة‪ .‬لذلك ضاع كثير من الشعر الشنقيطي‬
‫الذي لم يكن مستوفيا لهذه الشروط التي كان‬
‫لها من النقاد سدنة ال يتهاونون في تطبيقها‪.‬‬
‫مرجع سابق‪ ،‬ص‪.25.‬‬ ‫ـ الشعر الشنقيطي في القرن الثالث عشر‪،‬‬ ‫(‪)25‬‬

‫‪1001‬‬
‫الشيخ أمحد املنى‬ ‫دالالت املكان يف شعر ابن أمحد دام‬

‫تألق لماع الوميض لموح‬ ‫حضور الشخصية‪:‬‬


‫(‪)28‬‬
‫بذي السرح يخفى تارة ويلوح‬ ‫عكس شعر ابن أحمد دام شخصيته القوية‬
‫حيث يقول‪:‬‬ ‫واستقالليته وعدم تعويله على غيره‪ ،‬وهو ما‬
‫فدع ما ترى وافزع إلى الصبر إنما‬ ‫تجلى في بعض نصوصه‪ ،‬ومن ذلك قوله من‬
‫أخو الصبر في عقبى األمور نجوح‬ ‫قصيدة يعاتب فيها قومه بعد أن وعدوه برفيق‬
‫وإياك أن تلفى هيوبا يص ــده‬ ‫يصحبه في سفره إلى بالد السنغال حيث زوجه‬
‫عن األمر حينا أن يمر سنيح‬
‫(‪)29‬‬ ‫وأوالده‪ ،‬فلم يفوا‪ ،‬فقرر أن يسافر وحده وأن ال‬
‫فيعلي من قيمة الصبر مستلهما في ذلك‬ ‫يقبل منهم أي مساعدة‪:‬‬
‫(‪)30‬‬
‫ما ورد في غير موضع من القرآن الكريم‬ ‫تجلدت للتوديع والقلب جازع‬
‫من الحث على الصبر ومن األجر الجزيل‬ ‫وأخفيت ما كادت تبين المدامع‬
‫الذي ينتظر الصابرين‪.‬‬ ‫ترقرق دمع لو أطعت غروبه‬
‫وكثي ةر هي النماذج التي يمكن إيرادها للداللة‬ ‫ذرفن كأجرى ما تفيض الدوافع‬
‫على قوة شخصيته وحضور هذه الشخصية في‬ ‫فيا عجبا أخشى الفراق وطالما‬
‫شعره‪ ،‬لكننا نقتصر على هذا النموذج تجنبا للطول‪.‬‬ ‫حرصت عليه مكرها أنا طائع‬
‫(‪)26‬‬

‫وتجلِي هذه األبيات قوة شخصية ابن‬


‫صدق العاطفة‪:‬‬ ‫أحمد دام واعتداده بنفسه وتجلده وصبره‪،‬‬
‫أما السمة الثانية التي نود الوقوف عندها‬ ‫واستقالل ق ارره‪ ،‬رغم حاجته الماسة إلى رفيق‬
‫قليال فهي صدق عاطفة ابن أحمد دام في‬ ‫يعينه على أهوال الطريق وبعد الشقة‪ .‬ويبلغ‬
‫تعبيره عن مواقفه ومشاعره جميعا‪ .‬واألمثلة‬ ‫االعتداد بالنفس ذروته حين يقول من نفس‬
‫على ذلك كثيرة لكننا نقتصر منها على‬ ‫القصيدة‪:‬ولست ألمر إن تعاصى بتارك‬
‫النموذجين التاليين‪ ،‬أحدهما في الحنين إلى‬ ‫ولست لمرء في أموري أطاوع‬
‫(‪)27‬‬

‫فهو ال يعول على غيره‪ ،‬وال يتكل على‬


‫سواه‪ ،‬وإنما يتخذ من التصميم وقوة اإلرادة‬
‫(‪ )28‬ـ نفسه‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬ ‫الركن الذي إليه يأوي والعصا التي عليها‬
‫(‪)29‬‬
‫ـ نفسه‪ ،‬ص‪.297.‬‬ ‫يتوكأ‪ .‬ويكرر هذا المعنى في قصيدته‬
‫ـ مثل قوله تعالى‪﴿ :‬إنما يوفى الصابرون‬ ‫(‪)30‬‬
‫المديحية التي مطلعها‪:‬‬
‫أجرهم بغير حساب﴾‪ ،‬الزمر‪ ،‬اآلية ‪ .10‬وقوله‪:‬‬
‫﴿واصبر وما صبرك إال باهلل وال تحزن عليهم‬
‫(‪)26‬‬
‫وال تك في ضيق مما يمكرون﴾‪،‬النحل‪ ،‬اآلية‬ ‫ـ الوسيط‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.294 .‬‬
‫(‪)27‬‬
‫‪.126‬‬ ‫ـ نفس المرجع‪ ،‬ص‪.296.‬‬

‫‪1002‬‬
‫العدد السابع والثالثون ‪2018‬م‬ ‫جملة كلية اللغة العربية باملنصورة‬

‫قد كنت يا ذي إلى قلبي محببــة‬ ‫الوطن وفيه يقول‪:‬‬


‫وربما صدقت حال امرئ خب ـره‬ ‫أفي الحق أني كلما مر قافـ ــل‬
‫طاشت عن القلب رميات الحسان سوى‬ ‫طغت زفرات في الحشا ونشيج‬
‫(‪)33‬‬
‫سهميك قد قرعا أعشاره العشره‬ ‫ووارى غروب الدمع إنسان مقلتي‬
‫(‪)31‬‬
‫فيا لمعين سال وهو مشيج‬
‫فأنت ترى المعاني الجميلة المكتنزة في‬
‫أما الثاني فهو في المديح وهو قوله بعد‬
‫هذه العبارات الرقيقة العذبة المنسابة‪ ،‬وتلك‬
‫أن ذكر مرابع صباه قبل التخلص إلى مدح‬
‫هي الجزالة في أبسط تعريفاتها‪ .‬أما النموذج‬
‫النبي عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫الثاني فهو في المدح من قصيدة يمدح بها‬
‫معاهد يرتاح الفؤاد لذكرها‬
‫الشيخ سيديا(‪:)34‬‬
‫وأهتف شوقا باسمها وأبـوح‬
‫حارت أناس بجدوى حاتم ولقد‬
‫وتعتادني منها طوارق لوعة‬
‫نرى سخاء كمال الدين قد غلبه‬
‫(‪)32‬‬
‫كما انقض رواع الرعيل جروح‬
‫أغنى العماعم من راجيه سيب ندى‬
‫(‪)35‬‬
‫من ال يمن على العافين ما وهبه‬ ‫ويعبر هذان النموذجان عن صدق‬

‫ونكتفي بهذه النماذج التي نرى أنها تمثل‬ ‫عاطفة الرجل سواء وهو يذكر موطن أهله‬

‫شعر الرجل إلى حد بعيد‪ ،‬سواء في حضور‬ ‫ومرابع صباه‪ ،‬أو وهو يحن إلى تلك المواطن‬

‫شخصيته أو في صدق عاطفته أو في‬ ‫والربوع‪ .‬ولعل بعض العبارات تنهض دليال‬

‫جزالته‪ ،‬لننتقل إلى المطلب الثاني من هذا‬ ‫على ذلك من قبيل‪ :‬زفرات‪ ،‬الحشا‪ ،‬نشيج‪،‬‬

‫المبحث‪.‬‬ ‫يرتاح‪ ،‬أهتف‪ ،‬أبوح‪ ،‬وهي كلمات يمتحها من‬


‫سويداء فؤاده وتلك آية صدق العاطفة‪.‬‬
‫الجزالة وقوة السبك‪:‬‬
‫امتاز شعر ابن أحمد دام بالجزالة وقوة‬
‫السبك وهي سمة لكل ما وصل إلينا من‬
‫شعره‪ ،‬ويمكن االستئناس بالنموذجين التاليين‬
‫الذين نرى أنهما يمثالن جزالة شعره خير‬
‫تمثيل‪ ،‬أما أحدهما فهو في الغزل‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫(‪)33‬‬
‫ـ سبق التعريف به في الهامش (‪.)14‬‬
‫(‪ ))34‬ـ نفسه‪ ،‬ص‪.292.‬‬ ‫ـ نفسه‪ ،‬ص‪.290 .‬‬ ‫(‪)31‬‬

‫(‪)35‬‬ ‫(‪)32‬‬
‫ـ نفس المرجع‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬ ‫ـ نفسه‪ ،‬ص‪.296 .‬‬

‫‪1003‬‬
‫الشيخ أمحد املنى‬ ‫دالالت املكان يف شعر ابن أمحد دام‬

‫خلفه لنا من تراث شعري كان المكان فيه‬ ‫المطلب الثاني‪ :‬الدالالت النفسية‬
‫لحمة اإلبداع وسداه‪.‬‬ ‫واالجتماعية للمكان في شعر ابن أحمد دام‪:‬‬
‫ويمكن أن نلمس تلك الدالالت النفسية‬ ‫كان المكان وما زال أحد أهم أركان‬
‫للمكان في عدد من قصائده‪ ،‬بيد أننا‬ ‫هوية الشاعر النفسية واالجتماعية‪ ،‬وإحدى‬
‫سنكتفي باستعراض نماذج نراها دالة على ما‬ ‫المقومات الثقافية األساسية لكل تجمع‬
‫نحن بصدده‪ ،‬فمن تجليات ذلك ما محضه‬ ‫إنساني‪ .‬ومن هنا كان الشعراء يستدعون‬
‫من حب لوطنه ومالعب صباه وشبابه‪،‬‬ ‫المكان ليعكسوا من خالله انفعاالتهم النفسية‬
‫تجلى في حنينه الذي ال ينقطع إلى تلك‬ ‫وهمومهم االجتماعية‪ ،‬ولم يكن ابن أحمد دام‬
‫الربوع‪ .‬وعلى ذلك يمكن الحديث عن بعض‬ ‫إال واحدا من هؤالء حيث عكس شعره تلك‬
‫تلك التجليات‪:‬‬ ‫األبعاد فغدا لوحة ترتسم عليها ظالل وجدانه‬
‫التعلق بالمكان‪:‬‬ ‫وحياة مجتمعه‪.‬‬
‫عبر ابن أحمد دام عن تعلقه بالمكان‬ ‫أوال‪ :‬الدالالت النفسية‪:‬‬
‫بصيغ مختلفة وبطرق متعددة‪ ،‬فإن كان‬ ‫كان ابن أحمد دام شاع ار مرهف الحس‬
‫المكان وطنا طال الغياب عنه واشتد الحنين‬ ‫شفاف الروح‪ ،‬لذلك حمل شعره أشواقه‬
‫إليه‪ ،‬جاء التعبير عن التعلق به صادقا‬ ‫وحنينه‪ ،‬حبه وتولهه كما حمله بغضه‬
‫ومباش ار مستندا إلى عبارات الحرقة والتمني‬ ‫وتبرمه‪ ،‬نفوره وكرهه لألمكنة الكثيرة التي‬
‫والشوق‪ ،‬من قبيل قوله‪:‬‬ ‫عاش فيها‪ ،‬سواء كانت في وطنه أم في‬
‫أال ليت شعري هل إلى معهد النـوى‬ ‫مغتربه‪ .‬وألن شاعرنا عاش حياة مضطربة‬
‫خالص من ايدي النأي والجوالن‬ ‫قوامها التنقل الدائب من مكان إلى مكان بين‬
‫وهل لي بجنبي تغرريت إلى الصفــا‬ ‫بالده موريتانيا وبالد السنغال التي مارس‬
‫إلى األجرع الغربي فالجـ ــرذان‬ ‫فيها التجارة واستقر بها برهة من الزمن‪ ،‬فقد‬
‫إلى جنبتي ذي قسطل متن ـ ـزه‬ ‫وذلك‬ ‫التقلبات‬ ‫بتلك‬ ‫شعره‬ ‫اصطبغ‬
‫فإني إليها دائم الهيم ــان‬ ‫االضطراب‪ ،‬فانطلق يعبر عن مشاعره‬
‫وتبدو لعيني بلدة وأحب ــة‬ ‫المتناقضة تبعا للحالة النفسية التي يعيشها‪،‬‬
‫(‪)36‬‬
‫عداني قديما عنهما الملـ ـوان‬ ‫متخذا من المكان أداته التعبيرية‬

‫فقد رسم في هذه األبيات صور تعلقه‬ ‫على أن هذا التمزق الذي عاشه بين‬
‫وطنه وبالد الغربة ليس وحده مرد تلك‬
‫(‪)36‬‬ ‫العواطف الجياشة والعواطف المتدفقة‪ ،‬ففي‬
‫ـ الوسيط في تراجم أدباء شنقيط‪ ،‬مرجع‬
‫شعره ما ينهض دليال على أنه استصحب‬
‫سابق‪ ،‬ص‪.220 .‬‬
‫شفافية الروح وحساسية النفس في كل ما‬
‫‪1004‬‬
‫العدد السابع والثالثون ‪2018‬م‬ ‫جملة كلية اللغة العربية باملنصورة‬

‫الذوبان واالهتزاز ال يكفيان للتعبير عن حبه‬ ‫بهذه األمكنة عبر كلمات مثل‪ :‬ليت‪،‬‬
‫لتلك الربوع وتعلق نفسه بها‪ ،‬فيبدأ تعدادها‬ ‫خالص‪ ،‬هل لي‪....‬إلخ‪ ،‬وكذلك من خالل‬
‫واحدا واحدا وكأنه يقول للقارئ‪ :‬هذه آية‬ ‫تعداد أسماء األماكن فإللحاح على مدى‬
‫حبي لها وشوقي إليها‪ :‬أن أذكرها بأسمائها‬ ‫الحنين والشوق‪ :‬تَ ْغ َرَرْي َت‪ ،‬الصفا‪ ،‬األجرع‪،‬‬
‫واحدا تلو اآلخر ُليعَلم أن مشاعري نحوها‬ ‫الجرذان‪ ،‬ذي قسطل‪ .‬فابن أحمد دام هنا‬
‫صادقة ال شية فيها‪ .‬ويبلغ تعلقه بتلك‬ ‫يعدد أماكن يعرفها حق المعرفة‪ ،‬ويعبر عن‬
‫األماكن ذروته حين يقول‪ :‬وأهتف شوقا‬ ‫شوقه إليها وتعلقه بها‪ .‬فكان حديثه عنها‬
‫باسمها وأبوح‪....‬وعلى الرغم من أن هذه‬ ‫ينطلق من خلفية واقعية‪ ،‬إذ كان يعود إلى‬
‫األماكن جميعا تقع في منطقة واحدة بإمكانه‬ ‫تلك الربوع من حين آلخر كلما أتيح له ذلك‪.‬‬
‫االستغناء بذكرها عن ذكر كل مكان على‬ ‫وفي نموذج آخر يستمطر ابن أحمد دام‬
‫حدة‪ ،‬فإنه يأبى إال أن يذكرها كلها‪ ،‬إذ ربما‬ ‫السماء ألماكن أخرى أبعد‪ ،‬أماكن ال هي‬
‫كان في ذلك راحة لنفسه وهو يمرر كل اسم‬ ‫من مواطنه وإن كان يغشاها أحيانا زائ ار‬
‫على مسمعيه فيستحضر الذكريات المرتبطة‬ ‫ألهلها أو مريدا لمشايخها‪:‬‬
‫بكل مكان‪ ،‬كل ذلك تعبي ار عن تعلقه بها‬ ‫تألق لماع الوميض لمــوح‬
‫وشوقه إليها‪.‬‬ ‫بذي السرح يخفى تارة ويل ــوح‬
‫هذا وبوسعنا استطراد نماذج أخرى من‬ ‫جال عن روايا بتن يمأدن مثلما‬
‫شعر ابن أحمد دام يكتنز فيها المكان‬ ‫ينوء مدانى الساعدين طليـ ــح‬
‫دالالت نفسية متنوعة‪ ،‬لكننا أحجمنا عن‬ ‫سقى دمنا حول اللوي وأربعــا‬
‫ذلك خشية اإلطالة‪ ،‬وألننا نعتقد أن في‬ ‫على الغار ثجاج الفواق سحوح‬
‫النماذج السابقة ما يقيم أود البحث فيما‬ ‫وجادت على أطالل زار مرب ــة‬
‫يتعلق بهذا الجانب‪ .‬لذلك فإننا مولون وجهنا‬ ‫بها كل غراء الجبين دل ــوح‬
‫ـ في األسطر التالية ـ شطر الدالالت‬ ‫معاهد يرتاح الفؤاد لذكرهـ ــا‬
‫االجتماعية للمكان عند شاعرنا‪ ،‬غير ناسين‬ ‫وأهتف شوقا باسمها وأبــوح‬
‫أن العالقة بين هذين النوعين من الدالالت‬ ‫وتعتادني منها طوارق لوعــة‬
‫قوية متشابكة‪ ،‬وإنما نفرق بينهما تفريقا‬ ‫(‪)37‬‬
‫كما انقض رواع الرعيل جروح‬
‫منهجيا ال غير‪ .‬ولهذا السبب ترانا نأتي‬
‫إن نفسه لتذوب شوقا‪ ،‬وإن فؤاده ليهتز‬
‫بالنص الواحد في سياق الدالت النفسية‬
‫طربا لمجرد ذكر هذه األماكن‪ ،‬وكأن ذلك‬
‫واالجتماعية معا لشدة التداخل بين البعدين‬
‫مما جعل الشاعر يطرقهما في القصيدة‬ ‫ـ نفسه‪ ،‬ص‪.296.‬‬ ‫(‪)37‬‬

‫الواحدة‪ ،‬بل في البيت الواحد‪.‬‬

‫‪1005‬‬
‫الشيخ أمحد املنى‬ ‫دالالت املكان يف شعر ابن أمحد دام‬

‫السمر الليلية‪ ،‬وموضوع الندوات الثقافية‬ ‫ثانيا‪ :‬الدالالت االجتماعية‬


‫واألدبية‪ ،‬ولهذا لم تكن صورة المكان‬ ‫قيل قديما ـ وبحق ـ إن اإلنسان ابن بيئته‬
‫الحقيقة‬ ‫هذه‬ ‫عن‬ ‫لتنفصل‬ ‫ودالالته‬ ‫ونتاج مجتمعه‪ ،‬فهو لذلك جزء من الجماعة‬
‫االجتماعية الماثلة‪ .‬على أن المكان في‬ ‫يؤثر فيها ويتأثر بها‪ ،‬ولهذا فال غرو من‬
‫دالالته االجتماعية يتجاوز تلك الظالل‬ ‫استحضار ابن أحمد دام للمكان باعتباره‬
‫األدبية والفنية إلى ما تعج به الحياة‬ ‫أساس كل اجتماع‪ ،‬فطفق ِ‬
‫يحمل المكان من‬
‫االجتماعية ذاتها من صنوف المشاغل‬ ‫الدالالت االجتماعية ما يشي بمركزية‬
‫والمشاكل‪ ،‬وما يجري فيها من أحداث‬ ‫المكان في شعر الرجل‪ .‬فالمكان عنده موئل‬
‫وتقلبات‪ ،‬فكان للمكان بما له من دالالت‪،‬‬ ‫التقلبات االجتماعية‪ ،‬تنسج فيه العالقات‬
‫حضوره في تلك األبعاد جميعا‪ .‬وبهذا‬ ‫فيه‬ ‫ويحتفل‬ ‫المشكالت‬ ‫فيه‬ ‫وتعالج‬
‫المعنى يمكن الحديث عن مكان ثقافي فيه‬ ‫بالنجاحات وتناقش فيه اإلخفاقات‪.‬‬
‫تتعاطى الثقافة بمختلف أوجهها وخاصة‬ ‫كان المجتمع الذي نشأ فيه ابن أحمد دام‬
‫األدبي منها‪ ،‬ومكان اجتماعي فيه يتم‬ ‫يعلي من قيمة العلم‪ ،‬يتعلم‬ ‫(‪)38‬‬
‫مجتمعا بدويا‬
‫التفاعل مع حركة المجتمع وصيرورته‬ ‫فيه األطفال منذ نعومة أظافرهم كتاب هللا‬
‫ومواضعاته‪.‬‬ ‫الفقه‬ ‫يدرسوا‬ ‫أن‬ ‫قبل‬ ‫العرب‬ ‫ولغة‬
‫المكان الثقافي‪:‬‬ ‫والمتمات(‪ .)39‬ولهذا نشأ الفتى في مجتمع‬
‫لعل مما يلفت االنتباه هنا هذا االغتراب‬ ‫عربي يتعاطى اللغة واألدب وخاصة الشعر‬
‫الثقافي شديد الوطأة على شاعرنا وهو يعيش‬ ‫الذي كان غذاءه الروحي‪ ،‬فهو عماد جلسات‬
‫بين أعاجم ال يكادون يبينون‪ ،‬فيغدو المكان‬
‫لديه مكانين‪ :‬مكان بعيد يرمز إلى الثقافة‬
‫(‪ ))38‬ـ شكلت بوادي موريتانيا (بالد شنقيط) استثناء‬
‫واألدب والعلم‪ ،‬يتناشد أهله الشعر ويتذوقونه‬
‫من البوادي العربية حيث ازدهر فيها العلم‬
‫ويقومونه‪ ،‬وهو وطنه الذي أشار إليه في‬
‫ومؤسساته المعروفة محليا باسم "المحاظر"‪،‬‬
‫البيت األول من القطعة التالية باألرض‪،‬‬ ‫هذا في الوقت الذي كان العلم في البالد العربية‬
‫ومكان يرمز إلى الجهل المطبق والعجمة‬ ‫سمة للمدن‪ .‬يمكن الرجوع إلى‪:‬‬
‫مهاج ُره الذي أشار إليه في‬
‫َ‬ ‫المستحكمة وهو‬ ‫ـ الخليل النحوي‪ ،‬بالد شنقيط ــ المنارة والرباط‪،‬‬

‫الج َبا(‪.)41‬‬ ‫منشورات المنظمة العربية للتربية والثقافة‬


‫البيت الثالث بالسدم و َ‬
‫(‪)40‬‬

‫والعلوم‪ ،‬تونس‪.1986 ،‬‬


‫ـ الشعر الشنقيطي في القرن الثالث عشر‪ ،‬مرجع‬
‫(‪ ))40‬ـ الماء اآلسن‪ ،‬انظر‪ :‬محمد بن مكرم بن‬ ‫مذكور في ثنايا هذا البحث‪.‬‬
‫(‪)39‬‬
‫على‪ ،‬أبو الفضل‪ ،‬جمال الدين ابن منظور‬ ‫ـ كالمنطق والفلسفة والفلك والرياضيات‪.‬‬

‫‪1006‬‬
‫العدد السابع والثالثون ‪2018‬م‬ ‫جملة كلية اللغة العربية باملنصورة‬

‫حنينه لمبرح لتلك الربوع التي يتعاطى أهلها‬ ‫ولشدة هذه الغربة الثقافية نراه يفصل‬
‫األدب الرفيع والشعر الرقيق بعد إخضاعه‬ ‫جوانب العجمة لدى سكان مغتَربه‪ ،‬فيأتي‬
‫لمقاييس نقدية صارمة ال تتساهل مع رديء‬ ‫بالتشبيهات الساخرة‪ ،‬لدرجة أنه شبههم‬
‫األدب وال ركيك الشعر‪ .‬هناك وهناك فقط‬ ‫بالقطا‪ ،‬هذا في حين ُي ْج ِمل عند ذكر أهله‬
‫نفقت بضاعة الشعراء وراجت إبداعات‬ ‫واألرض التي نشأ بها‪ ،‬فال يزيد على وصف‬
‫األدباء‪ .‬فالمكان إذن مضمخ بالثقافة واألدب‬ ‫أهله بالعز والكرم‪ ،‬وهي معاني ودالالت‬
‫يتعاطاهما مجتمع بدوي بسيط يمأل أوقات‬ ‫ترتبط بالشعر أيما ارتباط‪.‬‬
‫فراغه ـ وما أكثرها ـ بالشعر إنشاء وإنشادا‪،‬‬ ‫َهلِ َه ـ ـا‬
‫ض الَ أ ََود ِبأ ْ‬ ‫ْت ِبأ َْر ٍ‬ ‫َن َشأ ُ‬
‫وبالثقافة عموما إنتاجا واستهالكا‪:‬‬ ‫اس ِفي اْلِبالَِد َوأَ ْك َرَمـ ـ ـا‬ ‫َعز أ َُن ٍ‬ ‫أَ‬
‫وهل أراني في قوم إذا سمعوا‬ ‫اس تَ َخــالِني‬ ‫و َها أ ََنا أَس َعى َب ْي َن َن ٍ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫من صائب القول مسرودا ِ‬ ‫ِ‬
‫ومنتث ار‬ ‫يث أ َْب َك َم ـا‬ ‫َحاد َ‬ ‫اضوا ْاأل َ‬ ‫َل َد ْي ِه ْم ِإ َذا َخ ُ‬
‫تمايلوا ميد صرعى قر ٍ‬
‫قف ورموا‬ ‫َ‬ ‫طا َق َذَف ْت ِبـ ِه‬ ‫َوتَ ْح َسُب ُه ْم ُوْر َق اْلَق َ‬
‫عن قوس أعينهم من قاله ش ــز ار‬ ‫َعَلى َس َد ٍم َقْف ِر اْل َج َبا َل ْو َع ُة الظ َمـ ـا‬
‫ُعجبا بذاك وال يغني تمايلهم‬ ‫َيَق ْع َن َف َما َي ْنَق ْع َن ِإال ِبُلجـ ـ ٍة‬
‫عن أن ٍة كاهتياج العاشق ادك ـ ار‬ ‫(‪)42‬‬
‫َغلِيالً َف َما تَ ْد ِري َب َكى أ َْم تَ َرن َمـا؟‬
‫هناك راج بليغ القول وانتُِبذت‬
‫له في هذه األبيات عن‬
‫أجم ُ‬
‫ولكن ما َ‬
‫(‪)43‬‬
‫ُزيوفه غير معني بها ه ــذ ار‬
‫بالده وأهله‪ ،‬فصله في أبيات أخرى يتوق‬
‫المكان االجتماعي‪:‬‬
‫فيها إلى العودة إلى وطنه وقومه الذين‬
‫نقصد بالمكان االجتماعي دالالت‬
‫يتنفسون الشعر واألدب‪ ،‬عساهم ينسونه تلك‬
‫المكان في بعدها االجتماعي‪ ،‬أي في عالقة‬
‫البالد ورطانات أهلها‪ .‬إن شوقه لممض وإن‬
‫المكان بساكنيه‪ .‬وألن الحياة االجتماعية‬
‫حبلى بالتطورات والتقلبات‪ ،‬وباعتبار الشاعر‬
‫األنصاري الرويفعى اإلفريقى (المتوفى‪:‬‬
‫العربي لسان حال مجتمعه‪ ،‬كان من‬
‫‪711‬هـ)‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬دار صادر – بيروت‪،‬‬
‫الطبيعي أن يتفاعل ابن أحمد دام مع‬ ‫الطبعة‪ :‬الثالثة ‪ 1414 -‬هـ‪ ،‬ص‪.247 .‬‬
‫مجتمعه سلبا وإيجابا‪ ،‬لذلك تنوعت دالالت‬ ‫ـ الماء المجموع في الحوض‪ ،‬أو هو ما حول‬ ‫(‪)41‬‬

‫المكان في ظالله االجتماعية في شعره‪ .‬وقد‬ ‫الحوض والبئر من التراب‪ ،‬معجم المعاني‪،‬‬
‫تراوحت تلك الدالالت بين المقابلة بين‬ ‫األلكترونية‪،‬‬ ‫الطبعة‬
‫‪http://www.almaany.com‬‬
‫(‪ ))42‬ـ الشعر الشنقيطي في القرن الثالث عشر‪،‬‬
‫(‪ ))43‬ـ نفسه‪ ،‬ص‪.356.‬‬ ‫مرجع سابق‪ ،‬ص‪.356.‬‬

‫‪1007‬‬
‫الشيخ أمحد املنى‬ ‫دالالت املكان يف شعر ابن أمحد دام‬

‫الوهد‪ ،‬األجارع‪ ،‬المهمه‪ .‬فكأن ابن أحمد دام‬ ‫الشرق والغرب باعتبارهما مكانين متناقضين‬
‫عمد إلى حشر هذه األماكن الوحشة‬ ‫في رمزيتهما بالنسبة للشاعر‪:‬‬
‫والمخيفة حشدا‪ ،‬ليذكر قومه بأنه قادر على‬ ‫\أتيحت لغرب األرض مني زيارة‬
‫تحدي كل تلك الصعاب سبيال إلى زيارة أهله‬ ‫وفي الشرق أرض في المزار تنازع‬
‫(‪)44‬‬

‫المهاجر‪.‬‬
‫َ‬ ‫في‬ ‫فالغرب هنا هو موطن الشاعر حيث أهله‬
‫ويتضح مدى الم اررة التي يشعر بها في‬ ‫وأحباؤه وأقرانه وهو مكان محبب لذاته ولما‬
‫هذا البيت الذي يكاد يشي بما يعتمل في‬ ‫يرتبط به من ذكريات عاشها مع خالنه‪،‬‬
‫نفس الشاعر من عتب على قومه الذين لم‬ ‫بينما الشرق هو بالد الغربة حيث زوجه‬
‫يقدروا عاطفته نحو أهله في بالد الغربة حق‬ ‫وأبناؤه وهو مكان مكروه لذاته محبب لوجود‬
‫قدرها‪ ،‬لذلك أوالهما الصماء من أذنيه‪:‬‬ ‫أبنائه فيه‪ .‬فزيارة الغرب أي الوطن هي زيارة‬
‫أأصغي وأفراخي قد اعرض دونهم‬ ‫للمكان ولمن في المكان‪ ،‬أما التوق إلى زيارة‬
‫(‪)45‬‬
‫عراض الفيافي والجبال الفوارع‬ ‫الشرق أي المهاجر‪ ،‬فهو توق لزيارة من في‬
‫وال يكاد هذا العتب وتلك الم اررة يخفيان‬ ‫المكان وليس توقا إلى زيارة المكان نفسه‪.‬‬
‫استعطافا مبطنا عبرت عنه كلمة "أفراخي"‬ ‫وقد ورد هذا البيت ضمن قصيدة طويلة‬
‫التي تدل على الهشاشة والضعف في مقابل‬ ‫يعاتب فيها قومه الذين أرادوا تثبيطه عن‬
‫كلمة قوية موحشة من قبيل‪ :‬الجبال الفوارع‪.‬‬ ‫السفر إلى إفريقيا إشفاقا عليه‪ ،‬فوعدوه بالزاد‬
‫ولكنه ال يلبث أن يأوي إلى ركن من اإلقدام‬ ‫والرفيق‪ .‬وبعدما تبين له مماطلتهم أزمع‬
‫يخرجه من لحظة الضعف اآلنية‪ ،‬ويدفعه‬ ‫السفر ورفض أن يأخذ منهم أي مساعدة‪ ،‬ثم‬
‫إلى اقتحام الصعاب والمخاطر‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫أنشدهم تلك القصيدة التي يذكر فيها أماكن‬
‫فإني لمقدام على كل مهمه‬ ‫كثيرة محملة بالدالالت االجتماعية المتنوعة‪.‬‬
‫(‪)46‬‬
‫يتيه به لو كان يغشاه رافع‬ ‫بيد أن دالالت األماكن التي يذكرها‬
‫ويحسن بنا أن ال ننهي هذا الحديث‬ ‫الشاعر في هذه القصيدة مألى بالم اررة‬
‫المقتضب عن المكان االجتماعي قبل‬ ‫والتحدي‪ :‬الم اررة التي يشعر بها جراء خذالن‬
‫الدالالت‬ ‫من‬ ‫آخر‬ ‫لجانب‬ ‫التعرض‬ ‫قومه وتحدي أهوال الطريق وصعابها‪ .‬ولهذا‬
‫االجتماعية للمكان لدى شاعرنا‪ ،‬أال وهو‬ ‫كانت األماكن المذكورة في النص تحيل إلى‬
‫الخوف والوحشة‪ ،‬فهي مفازات‪ ،‬بالد شواسع‪،‬‬
‫بالقع‪ ،‬عراض الفيافي‪ ،‬الجبال الفوارع‪ ،‬البيد‪،‬‬
‫(‪ ))45‬ـ نفسه‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬
‫(‪)46‬‬
‫ـ نفسه‪ .295 ،‬ورافع صحابي كان من أشد‬
‫الناس هداية‪.‬‬ ‫(‪ ))44‬ـ الوسيط‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.294.‬‬

‫‪1008‬‬
‫العدد السابع والثالثون ‪2018‬م‬ ‫جملة كلية اللغة العربية باملنصورة‬

‫المبحث الثاني‪ :‬الدالالت القيمية للمكان‬ ‫تفاعله مع ما كان منتش ار في عصره من‬
‫في شعر ابن أحمد دام‬ ‫التصوف‪ ،‬إذ كان هو نفسه مريدا للشيخ‬
‫َن ْن َكب في هذا المبحث على القيم‬ ‫الذي كانت حضرته من أشهر‬ ‫(‪)47‬‬
‫سيديا‬
‫التي عكستها دالالت المكان عند ابن أحمد‬ ‫الحضرات الصوفية في بالد شنقيط‪.‬‬
‫دام‪ ،‬فنتناول في اللمطلب األول ما نسميه‬ ‫وتمتاز الدالالت االجتماعية للمكان هنا‬
‫بالقيم اإليجابية وفي الثاني ما ندعوه القيم‬ ‫بطابعها الديني الصوفي الذي يبالغ في‬
‫السلبية التي يدل عليها المكان ضمن دالالته‬ ‫إطراء الممدوح‪ ،‬وهو أمر مفهوم من شاعر‬
‫المتعددة‪ .‬ولنبادر إلى القول إن هذه القيم‬ ‫مريد‪ ،‬يقول بعد مقدمة طويلة‪:‬‬
‫ليست مرتبطة بالمكان أصال وإنما يضفيها‬ ‫ناجيت فكري وقد أمعنت من نظري‬
‫عليه وجدان الشاعر عندما يعبر عن موقفه‬ ‫ثم استمر بي الرأي الذي اكتسب ــه‬
‫سلبا أو إيجابا‪ ،‬تعبي ار عن حالة نفسية‬ ‫أن يممت شرف الدين الكمال بن ــا‬
‫معينة‪.‬‬ ‫علياء تعتسف اآلكام والهضب ــه‬
‫المطلب األول‪ :‬المكان رم از للقيم‬ ‫حتى وضعت عصا سيري بباب فتى‬
‫اإليجابية‬ ‫يؤوي الطريد ويولي الراغب الرغبة‬
‫(‪)48‬‬

‫إن ارتباط الشعراء بالمكان قديم قدم‬


‫النفسية‬ ‫الدالت‬ ‫أوجه‬ ‫بعض‬ ‫تلك‬
‫المكان وقدم اإلنسان أيضا‪ ،‬وعادة ما يعكس‬
‫واالجتماعية للمكان في شعر سيدي عبد هللا‬
‫شعر معب ار عن‬
‫ا‬ ‫الشاعر ذلك االرتباط‬
‫بن أحمد دام‪ ،‬آثرنا أن تكون شاملة في غير‬
‫خلجات نفسه وبوح فؤاده فيضفي على‬
‫إطالة‪ ،‬آخذة من كل داللة بطرف‪ .‬وكان‬
‫المكان من الصفات ويحليه من القيم بما‬
‫تركيزنا على الدالالت المباشرة للمكان ألنا‬
‫يناسب المقام ويتسق مع شعوره إن سلبا‬
‫في المبحث الثاني متناولون هذه الدالالت‬
‫فسلبا وإن إيجابا فإيجابا‪ .‬وفي هذا المطلب‬
‫لكن من زاوية القيم التي تحيل إليها‪ ،‬سواء‬
‫نتعرض لما نسميه القيم اإليجابية المرتبطة‬
‫كانت قيما سلبية أم إيجابية‪.‬‬
‫بالمكان كما عكسها شعر ابن أحمد دام‪ ،‬وقد‬
‫رتبنا هذه القيم ترتيبا اعتمدنا فيه على ورود‬
‫القيمة في نصوص الشاعر كثرة وقلة‪ ،‬وهو‬
‫ترتيب منهجي ال غير‪ ،‬وإال فلكل واحدة من‬
‫القيم المدروسة قيمة ذاتية غير منقوصة‪.‬‬
‫(‪)47‬‬
‫ـ سبق التعريف به في الهامش ‪.14‬‬
‫(‪)48‬‬
‫ـ الوسيط‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.292.‬‬

‫‪1009‬‬
‫الشيخ أمحد املنى‬ ‫دالالت املكان يف شعر ابن أمحد دام‬

‫تيسر من أمكنة ألفها في مرحلة ما من‬ ‫(‪)49‬‬


‫أوال‪ :‬الحنين‬
‫حياته‪ .‬ويبدو أن تكثيفه هذا لمعاني الشوق‬ ‫اشتهر ابن أحمد دام أكثر ما اشتهر‬
‫والحنين ال يستوي إال باستدعاء أكبر عدد‬ ‫بالحنين إلى حتى صار له "نغمة مميزة" كما‬
‫ممكن من األمكنة المألوفة والمحبوبة‪:‬‬ ‫وقد ذكرنا أنه طوف‬ ‫يقول ابن الحسن‪.‬‬
‫(‪)50‬‬

‫أال ليت شعري هل إلى معهد النــوى‬ ‫في غرب إفريقيا ومارس فيها التجارة وتزوج‬
‫خالص من ايدي النأي والجوالن‬ ‫وأنجب‪ ،‬هذا في وقت كان أهله في بالد‬
‫وهل لي بجنبي تغرريت إلى الصفــا‬ ‫شنقيط أي موريتانيا الحالية‪ ،‬لذلك عاش‬
‫إلى األجرع الغربي فالج ــرذان‬ ‫ممزقا بين مكانين كبيرين هما موطنه‬
‫إلى جنبتي ذي قسطل متنـ ـزه‬ ‫ومغتَربه تتفرع عنهما أمكنة أخرى قدر له أن‬
‫فإني إليها دائم الهيمـ ـ ــان‬ ‫يعرفها في فترة من فترات حياته‪ ،‬فكان له‬
‫وتبدو لعيني بلدة وأحب ـ ــة‬ ‫بها ارتباط من نوع ما جعله يحن إليها ويعبر‬
‫عداني قديما عنهما المل ـوان‬
‫(‪)51‬‬
‫عن ذلك شع ار يفيض رقة وصدق عاطفة‪.‬‬
‫أما المالحظة الثانية التي يمكن التعرض لها‬ ‫ومن أشهر نصوص الحنين لديه هذه‬
‫فهي أن تصوير الشاعر لحنينه إلى موطنه ال‬ ‫القصيدة التي كتبها وهو في بالد الغربة‬
‫وينفر منها‬
‫يكتمل إال بذكر األماكن التي يكرهها ُ‬ ‫معب ار عن حنينه وشوقه إلى مسقط رأسه‬
‫والموجودة في بالد الغربة‪ ،‬فكأن المقارنة‬ ‫ومرابع صباه‪ .‬ولنا مع هذه القصيدة ثالث‬
‫الضمنية بين المكانين حاضرة في ذهن الشاعر‬ ‫وقفات نضمنها ثالث مالحظات‪ :‬أوالها أن‬
‫بشكل بارز عكسه هذا النص بجالء‪:‬‬ ‫الشاعر لم يقتصر على ذكر المكان‬
‫فيرأب ما أثأته أيام سـ ــالم‬ ‫األساسي الذي ولد فيه وترعرع‪ ،‬وإنما ذكر‬
‫وأيامنا في ساحة السُن َغـ ـ ِ‬
‫ـان‬ ‫عدة أماكن مجاورة له‪ ،‬فكأن نار الحنين‬
‫وأخرى أقمنا في قرى ُجُل َ‬
‫ف التي‬ ‫والشوق المتقدة في فؤاده ال يطفئها أو ال‬
‫أقمنا بها في ضيعة وه ـوان‬ ‫يخفف من لهيبها على األصح‪ ،‬إال ذكر ما‬
‫فمن منظر تقذى به ورطان ــة‬
‫تصمك أخزى منظر ولس ــان‬ ‫ـ للتوسع يمكن الرجوع إلى د‪ .‬الشيخ أحمد‬ ‫(‪)49‬‬

‫بالد رمتنا بينها ال محب ـ ــب‬ ‫المنى‪ ،‬الحنين في الشعر الشنقيطي‪ :‬ابن‬

‫إلى العين مرآها يد الحدثـان‬


‫(‪)52‬‬ ‫أحمد دام نموذجا‪ ،‬مجلة العلوم العربية‬
‫واإلنسانية‪ ،‬جامعة القصيم‪ ،‬العدد ‪ ،4‬المجلد‪،9‬‬
‫يوليو ‪ ،2016‬ص‪.1153.‬‬
‫ـ الوسيط في تراجم أدباء شنقيط‪ ،‬مرجع‬ ‫(‪)51‬‬
‫ـ الشعر الشنقيطي في القرن الثالث عشر‪،‬‬ ‫(‪)50‬‬

‫سابق‪ ،‬ص‪.220 .‬‬ ‫مرجع سابق‪ ،‬ص‪.130.‬‬

‫‪1010‬‬
‫العدد السابع والثالثون ‪2018‬م‬ ‫جملة كلية اللغة العربية باملنصورة‬

‫"الجرذان"‪ ،‬ومنها الباقي على صنهاجيته‪:‬‬ ‫على أننا عائدون ـ بشيئ من التفصيل ـ‬
‫"تَ ْغ َرَرْي َت"‪ ،‬غدت مألوفة ومنسجمة مع غيرها‬ ‫إلى هذا التبرم ببالد الغربة وذكر مساوئها‬
‫من الكلمات العربية‪ .‬وربما كانت ح اررة‬ ‫عندما حديثنا القيم السلبية في المطلب‬
‫عاطفة الشاعر قد صهرتها في بوتقة لغة‬ ‫الثاني من هذا المبحث بحول هللا وقوته‪.‬‬
‫الضاد‪ ،‬فائتلفت مع باقي الكلمات أيما‬ ‫وأما المالحظة الثالثة فهي أن تقلب‬
‫ائتالف‪.‬‬ ‫الشاعر في الحياة في هذه األمكنة المتباينة‬
‫لقد ذكر الشاعر في هذه القصيدة عشرة‬ ‫صورتها نفسيا والمتباعدة أعالمها جغرافيا‪،‬‬
‫أماكن على األقل منها ما صرح باسمه‪:‬‬ ‫أسلمته إلى أن يستخلص من تجربته في‬
‫تَ ْغ َرَرْي َت‪ ،‬الصفا‪ ،‬األجرع الغربي‪ ،‬الجرذان‪،‬‬ ‫التنقل الدائب بينها حكمة بالغة لعله أراد‬
‫ذو قسطل‪ ،‬سالم‪ ،‬السنغان وهو االسم القديم‬ ‫الركون إليها للتخفيف من معاناته‪:‬‬
‫لجمهورية السنغال (‪ ،)54((Senegal‬جلف‬ ‫ومن صحب األيام أنأين جاره‬
‫وهي منطقة سنغالية‪ .‬ومن‬ ‫(‪)55‬‬
‫(‪(Djoloff‬‬ ‫وأدنت له من ليس بالمتداني‬
‫(‪)53‬‬

‫تلك األماكن التي لم يصرح باسمها وإنما‬ ‫وال يخفى ما تحمله هذه القصيدة من‬
‫رمز بها إلى بالده‪ :‬معهد النوى‪ ،‬بلدة‪ .‬فهذه‬ ‫شوق مبرح إلى المكان الذي يجد فيه‬
‫أكثر من عشرة أماكن ذكرها في عشرة‬ ‫الشاعر الخالص من ربقة الغربة‪ ،‬لكنه‬
‫أبيات‪ ،‬وما هذا اإللحاح على المكان إال‬ ‫خالص متمنى ال متحقق وهو ما يعبر عنه‬
‫تعبير عن التعلق بتلك الربوع والشوق إليها‪،‬‬ ‫الشاعر بقوله‪ :‬أال ليت‪......‬وهل لي؟ وهما‬
‫وهو شوق وتعلق يزيده تجلية بذكر بعض‬ ‫صيغتان مفعمتان بالتمني والتوق لكنهما‬
‫ديار الغربة وما تثيره في نفسه من م اررة‪.‬‬ ‫مفعمتان كذلك بالشك والخوف‪ .‬كما أن كلمة‬
‫وبذلك يغدو المكان لدى ابن أحمد دام جزءا‬ ‫"خالص" تشي بمعاناة الشاعر في غربته‪،‬‬
‫أصيال من البناء الشعري وموضوعا للحنين‬ ‫وال يكون خالصه من تلك الغربة إال بالعوة‬
‫والشوق‪ ،‬حتى يكاد موضوع الحنين الذي هو‬ ‫إلى موطنه‪ .‬وإن حرص الشاعر على تعداد‬
‫اإلنسان من أهل وأحبة يتوارى تاركا للمكان‬ ‫األمكنة ليدل على شدة تعلقه بها وتوقه إلى‬
‫تصدر المشهد بل واحتكاره‪.‬‬ ‫العودة إليها أسرع ما تكون العودة‪ .‬ويبدو لي‬
‫أن هذه األماكن وكلها صنهاجية‪ ،‬منها‬
‫الغربي"‪،‬‬ ‫"األجرع‬ ‫"الصفا"‪،‬‬ ‫المعرب‪:‬‬
‫(‪)54‬‬
‫ـ المقصود جمهورية السنغال الحالية التي تقع‬
‫في غرب إفريقيا وعاصمتها داكار‪.‬‬
‫ـ منطقة في شرق السنغال تعتمد على الزراعة‬ ‫(‪)55‬‬ ‫(‪ ))52‬ـ نفسه‪ ،‬ص‪.291.‬‬
‫(‪)53‬‬
‫والتجارة وتربية الماشية‪.‬‬ ‫ـ نفسه‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬

‫‪1011‬‬
‫الشيخ أمحد املنى‬ ‫دالالت املكان يف شعر ابن أمحد دام‬

‫ومع أننا استعرضنا في المقاطع السابقة‬ ‫ولئن كان الحنين عادة ما يكون إلى ربوع‬
‫داللة المكان في الحنين‪ ،‬فإن في المقاطع‬ ‫الوطن وساكني تلك الربوع‪ ،‬فمن المالحظ‬
‫ذاتها أبعادا ودالالت أخرى يمكن التعرض‬ ‫أن ابن أحمد دام حن كثي ار إلى بالد الغربة‬
‫إلى بعضها في القيم األخرى‪ .‬ففي‬ ‫التي طالما خلع عليها سيئ النعوت‪ ،‬وما‬
‫النصوص التي تناولنا بعضها سابقا ونعرج‬ ‫ذلك إال لوجود أهله وولده فيها‪ ،‬ومن ذلك‬
‫على بعضها اآلخر الحقا‪ ،‬تتجاور في‬ ‫قوله في الحنين يصف حاله حين عاد إلى‬
‫النص الواحد األبعاد المختلفة لقيم الحنين‬ ‫بالده ومكث فيها ثم نازعته نفسه إلى أهله‬
‫واالنتماء والنفور والتبرم‪ ،‬بحيث يغدو التفريق‬ ‫وولده في الغربة‪:‬‬
‫بينها ضربا من التمرين‪.‬‬ ‫أمر النوى منأى حبيب إذا دنا‬
‫ثانيا‪ :‬االنتماء‬ ‫لوتك بمحبوب بالد شواس ــع‬
‫االنتماء إلى المكان ظاهرة‬ ‫هما طرفا ميزان شوق كالهم ــا‬
‫إنسانية قديمة متجددة طالما عبر عنها‬ ‫تطلقني أهواله وت ارجــع‬
‫التعبير‬ ‫وسائط‬ ‫بمختلف‬ ‫اإلنسان‬ ‫أتيحت لغرب األرض مني زيارة‬
‫المعروفة ومن أهمها الشعر‪ .‬أما تعبير‬ ‫(‪)56‬‬
‫وفي الشرق أرض في المزار تنازع‬
‫الشعراء العرب عن االنتماء ألوطانهم‬
‫إن التمزق الذي يعيشه الشاعر بين‬
‫فحدث وال حرج‪ ،‬فالمكان هو المستقر‬
‫مكانين وأهلين (بالد الوطن وفيها مرابع‬
‫وهو األمن والحماية وهو الذكريات‬
‫صباه وأهله وأحباؤه‪ ،‬وبالد الغربة وفيها أهله‬
‫بحلوها ومرها‪ ،‬لذلك فهو مقترن بالفعل‬
‫وولده)‪ ،‬جعله يصور معاناته تصوي ار دقيقا‬
‫اإلنساني ليعكس الشاعر عبره خلجات‬
‫أشد ما تكون الدقة‪ ،‬صادقا أشد ما يكون‬
‫نفسه وخطرات فؤاده وأحاسيس نفسه‪ ،‬أي‬
‫الصدق‪:‬‬
‫تعلقه وارتباطه به وبكلمة واحدة انتماءه‬
‫هما طرفا ميزان شوق كالهما‬
‫إليه‪ .‬وإن شئت فاق أر قول ابن الرومي‪:‬‬ ‫(‪)57‬‬
‫تطلقني أهواله وتراجع‬
‫وحبب أوطان الرجال إليهم‬
‫تلك صورة من صور الحنين إلى المكان‬
‫مآرب قضاها الشباب هنالكا‬
‫في شعر ابن أحمد دام‪ ،‬وليست الصورة‬
‫إذا ذكروا أوطانهم ذكرْت ُه ُم‬
‫الوحيدة ولكننا نقتصر عليها داللة على قيمة‬
‫(‪)58‬‬
‫عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا‬
‫الحنين إلى المكان كما عكسها شعر الرجل‪.‬‬

‫(‪)56‬‬
‫(‪ ))58‬ـ أبو أحمد الحسن بن عبد هللا بن سعيد بن إسماعيل‬ ‫ـ الديوان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.52.‬‬
‫إسماعيل العسكري (المتوفى‪382 :‬هـ)‪ ،‬المصون في‬ ‫(‪ ))57‬ـ نفسه‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬

‫‪1012‬‬
‫العدد السابع والثالثون ‪2018‬م‬ ‫جملة كلية اللغة العربية باملنصورة‬

‫وغني عن البيان أن في هذه األبيات ما‬ ‫إذن رأيت االنتماء إلى المكان في أبهى‬
‫يشي بقوة انتماء الشاعر إلى وطنه‪ ،‬أال ترى‬ ‫صوره‪ ،‬عبر استذكار الماضي الجميل الذي‬
‫أنه حشد فيها من أسماء األماكن وعبارات‬ ‫تختلط فيه صورة المكان بجميل الذكريات‬
‫التعلق ما فيه دليل على ذلك؟ من ذلك مثال‪:‬‬ ‫فتتقد في القلب نار الحنين المعبر عن‬
‫"معهد النوى"‪" ،‬تغرريت"‪" ،‬الصفا"‪" ،‬األجرع‬ ‫االنتماء القوي والتعلق المتين‪.‬‬
‫الغربي"‪" ،‬الجرذان"‪" ،‬ذي قسطل" هذا من‬ ‫وأما شاعرنا فقد برز االنتماء في شعره‬
‫األماكن‪ ،‬أما من التعابير فيمكن ذكر‪" :‬أال‬ ‫برو از الفتا سبق أن ذكرنا بعض أسبابه‪ ،‬ولعل‬
‫ليت شعري"‪" ،‬هل إلى معهد النوى"‪،‬‬ ‫ميزة انتمائه تعدد الصور التي يتجلى فيها‪ .‬فقد‬
‫"خالص"‪" ،‬هل لي"‪" ،‬دائم الهيمان"‪ .‬فحضور‬ ‫يتجلى في الحنين كما ذكرنا آنفا‪ ،‬كما يتجلى في‬
‫كل هذه األماكن في ذهن الشاعر‪ ،‬والتعبير‬ ‫التغني بالمكان ذاته أو بأهله‪ ،‬بل ربما تجلى في‬
‫عن انتمائه إليها بمثل تلك العبارات‬ ‫مقارنته ببالد الغربة التي ال يكاد يتحدث عنها إال‬
‫المضمخة بالشوق والحنين واألمل في‬ ‫وذكر في مقابل ما يعبر عنه من نفور وضيق‬
‫العودة‪ ،‬لهو دليل على االنشغال بهم الوطن‬ ‫وطنه وما له في نفسه من مكانة وتقدير‬
‫تجاهها‪َ ،‬‬
‫والتوق إلى لثم ترابه‪ .‬ليس هذا فحسب‪،‬‬ ‫وتوق إلى الرجوع إلى ربوعه‪.‬‬
‫فكلمة "خالص" تكان تختصر معاناة الشاعر‬ ‫أما االنتماء كما عكسه الحنين فقد تناولنا‬
‫في مبارحته لوطنه الذي ال يرى للحياة طعما‬ ‫منه جانبا في األسطر السابقة فنكتفي بذلك‪،‬‬
‫إال على أديمه‪ ،‬ومن هنا كانت هذه الكلمة‬ ‫لكن االنتماء للمكان كما تجلى في التغني به‬
‫حبلى بالدالالت المنفتحة في اتجاهين‬ ‫والتعلق بكل ذرة من ترابه فربما كان في‬
‫متناقضين‪ :‬الخالص من بالد الغربة بما‬ ‫األبيات التالية ما فيه منه ُبْل َغة‪:‬‬
‫تمثله من قيم سلبية‪ ،‬والخالص بالرجوع إلى‬ ‫أال ليت شعري هل إلى معهد النــوى‬
‫الوطن بما يمثله من قيم إيجابية قوامها‬ ‫خالص من ايدي النأي والجـوالن‬
‫الحب والطمأنينة واالنتماء‪.‬‬ ‫وهل لي بجنبي تغرريت إلى الصفــا‬
‫لكن االنتماء لدى ابن أحمد دام يتجاوز‬ ‫إلى األجرع الغربي فالجــرذان‬
‫المكان ال ليبتعد عنه بل ليبث في جوانبه‬ ‫إلى جنبتي ذي قسطل متـ ــنزه‬
‫الحياة من خالل قاطنيه الذين هم األهل‬ ‫فإني إليها دائم الهيمـ ــان‬
‫(‪)59‬‬

‫واألحبة‪ ،‬كل ذلك ليزيد صورة المكان‬


‫اندماجا‬
‫ً‬ ‫االنتماء‬
‫ُ‬ ‫وليغدو‬
‫َ‬ ‫وضوحا وجالء‬
‫األدب‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد السالم محمد هارون‪ ،‬مطبعة‬
‫كامال بالمكان واإلنسان عبر استحضار‬
‫حكومة الكويت‪ ،‬الطبعة‪ :‬الثانية‪1984 ،‬م‪.308. ،‬‬
‫ذكريات الماضي المشرق‪:‬‬ ‫(‪ ))59‬ـ الوسيط‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.290.‬‬

‫‪1013‬‬
‫الشيخ أمحد املنى‬ ‫دالالت املكان يف شعر ابن أمحد دام‬

‫وشبابه‪ .‬ولئن كانت األبيات السابقة تفيض‬ ‫َهلِ َها‬


‫ض الَ أ ََود ِبأ ْ‬
‫ْت ِبأ َْر ٍ‬
‫َن َشأ ُ‬
‫وشعور ًّ‬
‫حادا‬ ‫ًا‬ ‫ضيقا وتبرما بعجمة القوم‪،‬‬ ‫(‪)60‬‬
‫اس ِفي اْلِبالَِد َوأَ ْك َرَما‬ ‫َعز أ َُن ٍ‬‫أَ‬
‫بالغربة المادية والثقافية في ديارهم‪ ،‬فإن‬ ‫ولكن هذا االنتماء إلى المكان واإلنسان‬
‫األبيات التالية تكاد ترسم صورة مختلفة كل‬ ‫متين من الشوق‬ ‫والذي يأوي إلى ركن‬
‫االختالف مفصلة كل التفصيل ألهله ودياره‪،‬‬ ‫والحنين (أرض‪ ،‬أود‪ ،‬أهلها‪ ،‬أعز‪ ،‬أكرما)‪ ،‬ال‬
‫لوحة كل ما فيها مغاير‪ :‬الفصاحة‪ ،‬تذوق‬ ‫يبلغ مداه ما لم يعقد ابن أحمد دام مقارنة‬
‫الشعر واألدب‪...‬إلخ وللداللة على ذلك يمكن‬ ‫بين أهله بما لديهم من قيم وبين األعاجم‬
‫استخراج كلمات وعبارات كثيرة من األبيات‬ ‫الذين اضطرته ظروفه إلى العيش بين‬
‫مثل‪ :‬صائب القول‪ ،‬مسرودا‪ ،‬منتثرا‪ ،‬تمايلوا‪،‬‬ ‫االنتماء لديه بعد‬ ‫ظهرانيهم‪ ،‬وهنا يتلب ُس‬
‫َ‬
‫قرقف‪ ،‬راج بليغ القول‪ ،‬انتبذت زيوفه‪ .‬ويبدو‬ ‫ثقافي ال تخطئه العين‪ ،‬ذلك أن المكان يمد‬
‫أن الشاعر انتقى مثل هذه الكلمات‬ ‫جسو ار معرفية وحدسية وتخيلية تربط بين‬
‫والعبارات انتقاء لتنتصب مقابل العبارات‬ ‫المكان والمكانة والوجود نفسه‪ .‬وتعكس‬
‫والكلمات الواردة في األبيات أعاله في تضاد‬ ‫األبيات التالية ضجر الشاعر من عجمة‬
‫وتناقض صارخ بين البلدين والمجتمعين وهو‬ ‫القوم وهو الذي نشأ في أرض يتعاطى أهلها‬
‫ما نعتقد أنه وفق إليه إلى حد بعيد‪:‬‬ ‫الشعر واألدب‪ ،‬وهي الفكرة التي كثفها بعبارات‬
‫َو َه ْل أ ََرِاني ِفي َق ْو ٍم ِإ َذا َس ِم ُع ـوا‬ ‫من قبيل‪ُ :‬ورق القطا‪َ ،‬سَدم‪ ،‬بكى أم ترنما‪:‬‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اس تَخـ ِ‬
‫ودا َو ُم ْنتَث َار‬‫صائ ِب اْلَق ْو ِل َم ْس ُر ً‬ ‫م ْن َ‬ ‫ـالني‬ ‫َس َعى َب ْي َن َن ٍ َ‬ ‫َو َها أ ََنا أ ْ‬
‫ٍ‬ ‫َح ِاد َ‬
‫موا‬
‫ص ْرَعى َق ْرَقف َوَر ْ‬ ‫تَ َم َايلُوا َم ْي َد َ‬ ‫يث أ َْب َك َم ــا‬ ‫اضوا ْاأل َ‬ ‫َل َد ْي ِه ْم ِإ َذا َخ ُ‬
‫َعُيِن ِه ْم َم ْن َقاَل ُه َش َـزَار‬ ‫س أْ‬ ‫َع ْن َق ْو ِ‬ ‫طا َق َذَف ْت ِبـ ِـه‬‫َوتَ ْح َسُب ُه ْم ُوْر َق اْلَق َ‬
‫اك َوَال ُي ْغِني تَ َم ُايُل ُه ـ ْـم‬
‫ُع ْجًبا ِب َذ َ‬ ‫َعَلى َس َد ٍم َقْف ِر اْل َج َبا َل ْو َع ُة الظ َم ــا‬
‫اش ِق اد َكـ َا‬
‫ـر‬ ‫اج اْلع ِ‬ ‫عن أَن ٍة َك ِ‬ ‫َيَق ْع َن َف َما َي ْنَق ْع َن ِإال ِبُلج ـ ٍـة‬
‫اهت َي ِ َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬
‫يغ اْلَق ْو ِل َو ْانتََب َذ ْت‬ ‫ه َناك ر ِ‬ ‫َغلِيالً َف َما تَ ْد ِري َب َكى أ َْم تَ َرن َمـا؟‬
‫اج َبل ُ‬
‫(‪)61‬‬
‫ُ َ َ َ‬
‫(‪)62‬‬
‫ُزُيوُف ُه َغ ْي َر َم ْعِن ٍي ِب َها َهـ َذ َار‬ ‫وتسلمه تلك الغربة الثقافية إلى التعبير‬
‫وتعبر هذه األبيات عن قوي االنتماء ومبرِح‬ ‫عن الحنين إلى بيئة مغايرة أشد ما تكون‬
‫الشوق إلى المكان وأهله والتغني بثقافتهم‬ ‫وسداها‬
‫المغايرة‪ ،‬بيئة ُلحمتها الثقافة العالمة ُ‬
‫الواسعة وذوقهم الرفيع‪ ،‬فاالنتماء لدى‬ ‫الذوق السليم‪ ،‬ديار أهله ومرابع طفولته‬

‫(‪)60‬‬
‫(‪ ))62‬ـ الشعر الشنقيطي في القرن الثالث عشر‪،‬‬ ‫ـ الشعر الشنقيطي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.292.‬‬
‫مرجع سابق‪ ،‬ص‪.357.‬‬ ‫(‪ ))61‬ـ الديوان‪ ،‬ص‪.66.‬‬

‫‪1014‬‬
‫العدد السابع والثالثون ‪2018‬م‬ ‫جملة كلية اللغة العربية باملنصورة‬

‫أوال‪ :‬هجاء المكان‬ ‫الشاعر ال يقتصر على المكان المجرد وإنما‬


‫تميز شعر ابن أحمد دام بالمقارنة‬ ‫هو انتماء مؤسس ثقافيا وهو ما يعطيه‬
‫الحاضرة غالبا بين وطنه وبالد الغربة مدحا‬ ‫وجاهة أكثر لدى المتلقي‪ .‬وربما كان حضور‬
‫لألول وذما للثانية‪ ،‬ولكن هجاءه للبالد‬ ‫هذا البعد الثقافي والمعرفي في انتماء ابن‬
‫البعيدة التي ألقت به األقدار فيها كان معب ار‬ ‫أحمد دام ميزة له‪ ،‬إذ لم نعثر في مدونة‬
‫عن معاناة متعددة األوجه‪ .‬فعالوة على‬ ‫الشعر الموريتاني في عصر الشاعر على‬
‫النفور من المكان والتبرم به وبسكانه‪ ،‬فقد‬ ‫مثيل لها‪.‬‬
‫كان هناك بعد آخر جعل معاناته مضاعفة‬ ‫ولئن كانت النصوص السابقة تعبر‬
‫أال وهو الغربة الثقافية‪ ،‬بل إننا نزعم أن جل‬ ‫عن بعض القيم اإليجابية من قبيل الحنين‬
‫هجائه لتلك البالد وضيقه ونفوره منها ومن‬ ‫إلى المكان واالنتماء إليه‪ ،‬فهناك في تلك‬
‫أهلها تأتى من عجمة أهلها الذين افتقد فيهم‬ ‫النصوص وفي غيرها من نصوص الشاعر‬
‫الشاعر تلك البيئة العالمة التي تتعاطى‬ ‫ما يعبر عن قيم سلبية تجاه المكان الذي‬
‫األدب والشعر والتي نشأ وتربى فيها‪ ،‬فصب‬ ‫شكل بالنسبة للشاعر مصدر ضيق ونفور‬
‫جام غضبه على المكان‪ ،‬ليس بما هو مكان‬ ‫ورم از للعذاب والقلق والمعاناة‪ ،‬وهو األمر‬
‫فقط‪ ،‬بل على أهله ألسباب لعل هذا أهمها‪.‬‬ ‫الذي نتعرض له في األسطر التالية‪.‬‬
‫وتعبر األبيات التالية عن ذلك االنشغال‪:‬‬ ‫المطلب الثاني‪ :‬المكان رم از للقيم‬
‫اس تَ َخـ ــالِني‬ ‫و َها أ ََنا أَس َعى َب ْي َن َن ٍ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫السلبية‬
‫ِ‬
‫يث أ َْب َك َمـ ـا‬
‫َحاد َ‬‫اضوا ْاأل َ‬ ‫َل َد ْي ِه ْم ِإ َذا َخ ُ‬ ‫ذكرنا سابقا كيف أن ظروف الحياة‬
‫طا َق َذَف ْت ِب ـ ِه‬ ‫َوتَ ْح َسُب ُه ْم ُوْر َق اْلَق َ‬ ‫تاجر‬
‫ًا‬ ‫ألقت بشاعرنا في مجاهل إفريقيا‬
‫َعَلى َس َد ٍم َقْف ِر اْل َج َبا َل ْو َع ُة الظ َمـا‬ ‫وحيث قدر له أن يتزوج وينجب‪ .‬ورغم كل‬
‫َيَق ْع َن َف َما َي ْنَق ْع َن ِإال ِبُلج ـ ـ ـ ٍة‬ ‫هذه الروابط التي من المفترض أن تجعله‬
‫(‪)63‬‬
‫َغلِيالً َف َما تَ ْد ِري َب َكى أ َْم تَ َرن َمـا؟‬ ‫يألف مغتربه ويتأقلم مع المكان الجديد الواقع‬
‫ففي هذه األبيات يرسم الشاعر‬ ‫على بعد مئات الكلومترات من موطنه في‬
‫صورة شديدة الوضوح لحاله ورطانة العجم‬ ‫موريتانيا‪ ،‬فإن ابن أحمد دام ما انفك يعبر‬
‫تحاصره من جميع الجهات‪ ،‬وهو ما عبرت‬ ‫عن تمرده وضيقه ونفوره من تلك البالد التي‬
‫عنه كلمات من قبيل‪ :‬أبكم‪ ،‬بكى‪ ،‬ترنم‪.‬‬ ‫ترد في شعره مقترنة بكل القيم السلبية التي‬
‫وليس هجاؤه مقتص ار على الناس الذين‬ ‫عبر عنها الشاعر بهجاء المكان والنفور منه‬
‫والتوق إلى الخالص منه‪ .‬وبين هذه‬

‫(‪ ))63‬ـ الشعر الشنقيطي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.292.‬‬ ‫العناصر الثالثة تتراوح دالالت المكان‬
‫منظو ار إليه نظرة سلبية‪.‬‬

‫‪1015‬‬
‫الشيخ أمحد املنى‬ ‫دالالت املكان يف شعر ابن أمحد دام‬

‫يذكر بأنه لم ُيِق ْم فيها اختيا ار‬


‫و"هوانا"‪ ،‬لذلك فإنه ِ‬ ‫يعيش بينهم وإنما للمكان الذي يضمهم‬
‫وإنما اضط اررا‪ :‬قال الشيخ سيدي محمد بن‬ ‫والذي دفعته الظروف إلى اإلقامة فيه فورد‬
‫الشيخ سيدي‪:‬‬ ‫هجاؤه تلميحا ال تصريحا‪ .‬على أن هجاء‬
‫ومن يأتي األمور على اضطرار‬ ‫المكان تصريحا ورد في قصائد عدة لعل من‬
‫(‪)66‬‬
‫فليس كمثل آتيها اختيا ار‬ ‫أبرزها قوله‪:‬‬
‫فالقدر هو الذي ساق الشاعر إلى تلك‬ ‫(‪)64‬‬
‫فيرأب ما أثأته أيام سـالم‬
‫البالد وهو ما يعبر عنه بفعل َ"رَم ْت َنا" الذي‬ ‫وأيامنا في ساحة السُن َغ ـ ِ‬
‫ـان‬
‫هو أبلغ في التعبير عن البغض والنفور‬ ‫وأخرى أقمنا في قرى ُجُل َ‬
‫ف التي‬
‫والضجر‪ ،‬إذ الشاعر هنا مفعول به ال‬ ‫أقمنا بها في ضيعة وه ـ ـوان‬
‫فاعل‪ ،‬مجبر ال مخير بلغة المتكلمين‪.‬‬ ‫فمن منظر تقذى به ورطانــة‬
‫ويمضي مكثفا هذا الملمح وكأنه يعتذر‬ ‫تصمك أخزى منظر ولس ــان‬
‫للمتلقي عندما يذكر أنه لم يحب تلك البالد‬ ‫بالد رمتنا بينها ال محب ــب‬
‫أبدا‪ ،‬ولكن يد القدر هي من قذفته في تلك‬ ‫إلى العين مرآها يد الحدث ــان‬
‫(‪)65‬‬

‫الربوع‪.‬‬ ‫في هذه األبيات يبلغ هجاء المكان أو‬


‫تلك هي الصورة التي رسمها ابن أحمد‬ ‫األمكنة مداه‪ ،‬فال يجد لها الشاعر فضيلة‬
‫دام المناطق التي تنقل بينها والواقعة في‬ ‫ينسبها إليها‪ ،‬وإنما هي رمز للخراب "أثأته"‬
‫جمهورية السنغال الحالية وهي صورة حية‬ ‫صمك"‪.‬‬ ‫والقبح "تَْق َذى به" والعجمة "رطانة"‪" ،‬تُ ِ‬
‫نفخ فيها من معاناته ما جعلها تفيض هجاء‬ ‫وإن نحن قدرنا الحالة النفسية للشاعر حق قدرها‬
‫للمكان وتبرما به ونفو ار منه‪ .‬ولصدق تجربته‬ ‫ألمكننا تفهم هذه المبالغة في الذم "أخزى"‪" ،‬ال‬
‫وصدق معاناته‪ ،‬ال يجد المتلقي بدا من أن‬ ‫محبب"‪...‬إلخ‪ ،‬ذلك أنه يعيش معاناة متعددة‬
‫يبادله ذلك الشعور تجاه تلك البالد الغريبة‬ ‫األوجه‪ :‬فالغربة الجسدية ال تسلمه إال إلى غربة‬
‫والبعيدة‪ ،‬لكنه الشعر عندما يصدر من القلب‬ ‫نفسية وهذه بدورها إلى غربة ثقافية هي األشد‬
‫تنكشف الحجب بينه وبين قلب المتلقي‬ ‫وطئا كما يتضح من مجمل النصوص‬
‫فيتسلل إليه بلطف وسالسة‪.‬‬ ‫المذكورة‪ .‬فهذه األماكن على تعددها‪ ،‬لم يعش‬
‫ويبلغ تبرم ابن أحمدا دام بالمكان ذروته‬ ‫فيها الشاعر راحة بال وإنما عاش "ضيعة"‬
‫حين يصف رحلته إلى مدينة َ"ب ْي َر" في‬
‫إفريقيا‪ ،‬ويبدو أنها األبعد عن بالده‬ ‫(‪)64‬‬
‫ـ يقصد منطقة سين سالم ‪Sine Saloum‬ـ‬
‫بالسنغال‪.‬‬
‫(‪)66‬‬ ‫(‪)65‬‬
‫ـ الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديا‪.‬‬ ‫ـ الوسيط‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.290.‬‬

‫‪1016‬‬
‫العدد السابع والثالثون ‪2018‬م‬ ‫جملة كلية اللغة العربية باملنصورة‬

‫المغترب أوصافا سلبية كثيرة وفصل أوجه‬ ‫موريتاني‪ ،‬فكان كلما أوغل في تلك البالد‬
‫السوء في كل مكان على حدة‪ ،‬أما هنا فقد‬ ‫وقابل في طريقه العائدين إلى الوطن‪ ،‬شعر‬
‫أطبقت عليه الم اررة والمعاناة فلم يجد في‬ ‫بغصة فليته كان مثلهم عائدا إلى األهل‬
‫نفسه متسعا لذلك التفصيل فاكتفى بتعبير‬ ‫والديار‪ ،‬لكنها مطالب الحياة تدفع المرء إلى‬
‫رائع يفي بالغرض وأكثر أال وهو "حلقة خاتم"‬ ‫خالف رغبته‪ .‬وقد صور حالته النفسية وهو‬
‫التي تتيح للمتلقي تصور كل العيوب حتى‬ ‫على مشارف تلك المدينة التي ضاقت عليه‬
‫تلك التي لم تخطر للشاعر على بال‪.‬‬ ‫األرض بما رحبت لمجرد رؤيتها‪:‬‬
‫أفي الحق أني كلما مر قافـ ــل‬
‫ثانيا‪ :‬التوق إلى الخالص من المكان‬ ‫طغت زفرات في الحشا ونشي ــج‬
‫على الرغم من إقامة شاعرنا في مناطق إفريقية‬ ‫ووارى غروب الدمع إنسان مقلتي‬
‫مختلفة ولمدة طويلة‪ ،‬فإنه لم َي ِن يتوق إلى العودة‬ ‫فيا لمعين سال وهو مشيـ ــج‬
‫إلى بالده والخالص من براثن الغربة المكانية‬ ‫كذاك حسبت األفق حلقة خاتم‬
‫والثقافية التي عانى منها طويال‪ .‬فال تلك اإلقامة‬ ‫(‪)67‬‬
‫غداة بدت من دير َ"ب ْي َر" بروج‬
‫الطويلة‪ ،‬وال وجود زوجه وأوالده هناك‪ ،‬استطاعت‬
‫وإن شئت فتأمل هذه العبارة "حلقة خاتم"‬
‫التخفيف من بغضه لتلك البالد كمكان للتجا ةر‬
‫فهي محملة بكل معاني الضيق والضجر‬
‫واالستقرار‪ ،‬وال لسكانها الذين تواشجت بينه وبينهم‬
‫والتبرم‪ ،‬كما أن فيها من هجاء المكان ما‬
‫األرحام‪ ،‬فظل تواقا إلى حياة أخرى بين أهله‬
‫ينفتح في كل اتجاه‪ .‬إنها رمز للغربة بكل‬
‫وعشيرته وفي ربوع وطنه‪ .‬والتوق إلى الخالص‬
‫أبعادها الجغرافية والنفسية واالجتماعية‬
‫ملمح الزم شاعرنا في أغلب قصائده‪ ،‬فلم يتبرم ببالد‬
‫والثقافية‪ .‬وألن الغربة أصناف وألوان‪ ،‬فإن‬
‫الغربة ويبين عيوبها ومساوئها إال وهو مستحضر‬
‫األماكن تتفاوت في درجة شعور المرء‬
‫ذلك التوق والشوق إلى بالده‪ ،‬فمن ذلك قوله‪:‬‬
‫بالغربية فيها‪ ،‬فكلما كان المكان أبعد عن‬
‫أال ليت شعري هل إلى معهد النـوى‬
‫الوطن األم كلما كانت وطأة االغتراب فيه‬
‫خالص من ايدي النأي والجـوالن‬
‫أقوى وأمض شأن مدينة "ب ْي َر" المذكورة‪.‬‬
‫وهل لي بجنبي تغرريت إلى الصفـا‬
‫ولذلك رأينا ابن أحمد دام يعزف عن تفصيل‬
‫إلى األجرع الغربي فالجــرذان‬
‫أوجه الغربة وأبعادها وقسوتها كما هو شأنه‬
‫إلى جنبتي ذي قسطل مت ــنزه‬
‫في قصائده األخرى حيث خلع على المكان ـ‬
‫فإني إليها دائم الهيم ــان‬
‫(‪)68‬‬

‫(‪ ))68‬ـ نفسه‪ ،‬ص‪.290 .‬‬ ‫) ـ الوسيط‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.290.‬‬ ‫(‪)67‬‬

‫‪1017‬‬
‫الشيخ أمحد املنى‬ ‫دالالت املكان يف شعر ابن أمحد دام‬

‫"يرأب" "أثأى" في األبيات أعاله عن هذا‬ ‫مقروءة في سياقها ليست‬


‫ً‬ ‫فهذه األبيات‬
‫التضاد والتعارض بين اإلصالح والفساد‪،‬‬ ‫مجرد حنين إلى األماكن المذكورة‪ ،‬بل هي ـ‬
‫بين الطمأنينة والقلق‪ ،‬بين الحب والبغض‬ ‫عالوة على ما فيها من حنين ـ تعبير عن‬
‫إلى غيرها من الثنائيات‪.‬‬ ‫التوق إلى الخالص من بالد الغربة التي‬
‫بيد أن في صلب ذلك "الرأب" أيضا‬ ‫عدد الشاعر أماكنها في النص نفسه حيث‬
‫إصالح "ثأى" اللغة واألدب‪ ،‬الذي عانى‬ ‫يقول‪:‬‬
‫الشاعر وطأته أكثر من غيره على ما يبدو‬ ‫فيرأب ما أثأته أيام س ــالم‬
‫كما تعبر عنه كلمة "رطانة" أحسن تعبير‪،‬‬ ‫وأيامنا في ساحة السُن َغـ ِ‬
‫ـان‬
‫وعلى ذلك يغدو "الهوان" و"الضياع" ذوي‬ ‫وأخرى أقمنا في قرى ُجُل َ‬
‫ف التي‬
‫بعد ثقافي عالوة على البعد المادي الواضح‪.‬‬ ‫أقمنا بها في ضيعة وه ـ ـ ـوان‬
‫وال يتأتى تجاوز المحنة ببعديها إال باالنتقال‬ ‫فمن منظر تقذى به ورطان ــة‬
‫من "الثأى" أي بالد الغربة إلى "الرأب" أي‬ ‫تصمك أخزى منظر ولس ــان‬
‫بالد الوطن‪ ،‬وبكلمة واحدة بالخالص من‬ ‫بالد رمتنا بينها ال محبـ ـ ــب‬
‫األولى إلى الثانية‪.‬‬ ‫إلى العين مرآها يد الحدثـان‬
‫(‪)69‬‬

‫إن اإللحاح على هذا البعد الثقافي للغربة‬


‫وربط الخالص به ألمر يشي بما كان عليه‬ ‫فيقيم هذا التضاد وهذا التناقض بين‬
‫ابن أحمد دام من علم ومعرفة ومن ذوق‬ ‫المكان ـ المغترب بقيمه السلبية وبين المكان‬
‫أدبي رفيع وروح شفافة‪ ،‬وهو ال يجد في‬ ‫ـ الوطن بقيمه اإليجابية‪ ،‬وهي مقارنة ال‬
‫المكان ـ المغترب ما يقيم به أود هذه الروح‬ ‫ينفك ابن أحمد دام يستخدمها حتى أوشكت‬
‫الشاعرة التي بين جنبيه‪ ،‬ولهذا يغدو مفهوما‬ ‫أن تكون له ميزة‪ .‬والخالص لدى الشاعر ال‬
‫تبرمه بالبالد التي عاش فيها ردحا من الزمن‬ ‫يعني مجرد العودة إلى الوطن‪ ،‬وإنما يعني‬
‫الختالف المرجعيات الثقافية والمعرفية‪ .‬ومن‬ ‫االغتسال من أدران الغربة وأوصابها‪ ،‬أال‬
‫هنا قسوته على أهلها‪ ،‬فتراه ينعتهم بشتى‬ ‫ترى إلى قوله بعد التعبير عن ألوان الشوق‬
‫النعوت القدحية مما يدل على مدى شعوره‬ ‫والحنين والتوق إلى الخالص‪ ،‬يذكر أن‬
‫باالغتراب‪ ،‬وهو ما عبر عنه في األبيات‬ ‫الخالص المؤمل سينسيه كل معاناته‬
‫التالية‪:‬‬ ‫وعذاباته التي تجرعها في جميع األمكنة التي‬
‫"جُل ْف"‪ .‬ولفعلي‬
‫مر بها‪" :‬سالم"‪" ،‬السنغان"‪ُ ،‬‬

‫(‪)69‬‬
‫ـ نفسه‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬

‫‪1018‬‬
‫العدد السابع والثالثون ‪2018‬م‬ ‫جملة كلية اللغة العربية باملنصورة‬

‫تلك رحلة قصيرة في دالالت المكان في‬ ‫اس تَ َخـالِني‬ ‫و َها أ ََنا أَس َعى َب ْي َن َن ٍ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫شعر ابن أحمد دام‪ ،‬حاولنا خاللها التعرض‬ ‫يث أ َْب َك َمـا‬
‫َحاد َ‬ ‫اضوا ْاأل َ‬ ‫َل َد ْي ِه ْم ِإ َذا َخ ُ‬
‫ألوجه المكان وظالله كما عكسها شعر‬ ‫طا َق َذَف ْت ِب ـ ِه‬‫َوتَ ْح َسُب ُه ْم ُوْر َق اْلَق َ‬
‫الرجل‪ .‬ونرى أن هذا البحث وضع صوى‬ ‫َعَلى َس َد ٍم َقْف ِر اْل َج َبا َل ْو َع ُة الظ َمـا‬
‫على طريق دراسة شعر الرجل عموما‪،‬‬ ‫َََق ْع َن َف َما َي ْنَق ْع َن ِإال ِبُلج ـ ٍة‬
‫ودالالت المكان فيه على وجه خاص‪ ،‬مما‬ ‫(‪)70‬‬
‫ََِليالً َف َما تَ ْد ِري َب َكى أ َْم تَ َرن َما؟‬
‫يتيح للباحثين االطالع على بعض األفكار‬ ‫وكأن ابن أحمد دام ال يطمئن إلى‬
‫التي من شأنها أن تنير لهم الطريق‪.‬‬ ‫وضوح صورة هؤالء العجم ما لم يقرنها‬
‫بالصورة المغايرة ألهله وعشيرته حيث تروج‬
‫المطارحات األدبية والعلمية واإلعالء من‬
‫قيم الفصاحة والذوق الرفيع‪ ،‬فيغدو التوق‬
‫إلى لقائهم واالستئناس بهم بعد طول وحشة‬
‫ومعاناة توقا إلى الخالص من تلك المعاناة‬
‫وتلك الوحشة‪ .‬وهذا التوق إلى الخالص من‬
‫المكان ـ المغترب إلى المكان ـ الوطن تعبر‬
‫عنه كلمات من قبيل‪ :‬هل أراني ـ أنة ـ‬
‫اهتياج ـ العاشق ـ هناك ـ راج ـ بليغ‬
‫القول‪...‬إلخ‬
‫َو َه ْل أ ََرِاني ِفي َق ْو ٍم ِإ َذا َس ِم ُع ـوا‬
‫َ‬
‫ودا َو ُم ْنتَِث َار‬ ‫ر‬ ‫س‬
‫َْ ْ َ ْ ُ ً‬ ‫م‬ ‫ِ‬
‫ل‬ ‫و‬ ‫ق‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ب‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ائ‬ ‫ص‬‫مْ َ‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫ف َوَرَم ـ ْوا‬ ‫تَمايُلوا ميد صرعى َقرَق ٍ‬
‫َ َ َ َْ َ ْ َ ْ‬
‫َعُيِن ِه ْم َم ْن َقاَل ُه َش ـ َزَار‬ ‫س أْ‬‫َع ْن َق ْو ِ‬
‫اك َوَال ُي ْغِني تَ َم ُايُل ُهـ ـ ْم‬
‫ُع ْجًبا ِب َذ َ‬
‫اش ِق اد َك ـ َار‬ ‫اج اْلع ِ‬ ‫عن أَن ٍة َك ِ‬
‫اهت َي ِ َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬
‫يغ اْلَق ْو ِل َو ْانتََب َذ ْت‬ ‫ه َناك ر ِ‬
‫اج َبل ُ‬‫ُ َ َ َ‬
‫(‪)71‬‬
‫ُزُيوُف ُه َغ ْي َر َم ْعِن ٍي ِب َها َه ـ َذ َار‬

‫(‪ ))70‬ـ الشر الشنقيطي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.356.‬‬


‫(‪)71‬‬
‫ـ نفسه‪ ،‬ص‪.357.‬‬

‫‪1019‬‬
‫الشيخ أمحد املنى‬ ‫دالالت املكان يف شعر ابن أمحد دام‬

‫الخصوص‪ .‬فتراه يلح على المكان سواء كان‬ ‫الخاتمة‪:‬‬


‫ذلك في سياق الهجاء أو في سياق المدح‪،‬‬ ‫إن ثقافة ابن أحمد دام المركبة وموهبته‬
‫فللمكان في الحالين حضور كبير في‬ ‫الشعرية الجامحة‪ ،‬أمور جعلته يحس بالغربة‬
‫نصوصه‪ ،‬األمر الذي نستبعد اعتباطيته‪.‬‬ ‫المكانية سواء كانت ثقافية أو اجتماعية‬
‫ـ أن داللة المكان ال تتحقق ما لم يقرنها‬ ‫بشكل الفت عكسه تأثيث قصائده باألمكنة‬
‫بنقيضها‪ ،‬أي أنه إن رمز بالمكان إلى قيمة‬ ‫لغايات تعبيرية وإبداعية غير خافية‪ .‬وسواء‬
‫سلبية لزم أن يأتي بمكان يرمز بالمقابل إلى‬ ‫كان المكان ثقافيا أو اجتماعيا أو رم از للقيم‬
‫قيمة إيجابية بحيث بلغ من حرصه على هذا‬ ‫اإليجابية أم السلبية في دالالته‪ ،‬فإنه يبقى‬
‫األمر أن أصبح لديه قريبا من الهوس‪.‬‬ ‫ركنا ركينا في إنتاجه الشعري وخاصة في‬
‫المغترب دائم الحضور في ذهنه‬
‫َ‬ ‫فالمكان ـ‬ ‫النماذج التي تطرق إليها البحث‪ .‬ولكن‬
‫بجانب المكان ـ الوطن‪ ،‬ومن ثم تكرر‬ ‫المكان عند شاعرنا ليس مكانا فيزيائيا‬
‫ورودهما مقترنين في شعره‪ ،‬وكأنه ال يثق‬ ‫فحسب‪ ،‬بل هو أداة للتعبير عن مشاعره من‬
‫كامل الثقة في استيعاب المتلقي لداللة‬ ‫شوق وحنين وتبرم ونفور‪ ،‬وبذلك يضحي‬
‫المكان فيسارع إلى تقديم الداللة المناقضة‬ ‫المكان ركنا أصيال من البناء الشعري لديه‪.‬‬
‫ربما إيمانا بالقول المعروف‪" :‬وبضدها تتميز‬ ‫ولئن كان الرجل توكأ على المكان‬
‫األشياء"‪.‬‬ ‫للتعبير عن معاناته في غربته بأبعادها‬
‫ـ أن داللة المكان لديه داللة حدية‪ :‬فإما‬ ‫المختلفة‪ ،‬وكذلك عن أشواقه وحنينه إلى‬
‫أن يكون موضوعا للشوق والحنين والحب‬ ‫وطنه وتوقه إلى الخالص من مغتربه‪ ،‬فإنه‬
‫وإما أن يكون موضوعا للبغض والنفور‬ ‫اتخذ منه أيضا أداة للتعبير‪ ،‬ليس عن غربته‬
‫والتبرم‪ ،‬فال وجود لديه للمنزلة بين المنزلتين‪.‬‬ ‫الجغرافية والنفسية واالجتماعية‪ ،‬بل عن‬
‫ونعتقد أن هذا المنحى متأت من شدة‬ ‫غربته الثقافية والمعرفية واالجتماعية وهو‬
‫معاناته وقسوتها‪ ،‬لذلك صب جام غضبه‬ ‫ملمح طريف لديه‪.‬‬
‫المغترب وغمر المكان ـ‬
‫َ‬ ‫على المكان ـ‬ ‫ولقد كشف هذا البحث عن بعض‬
‫الوطن بالحب والشوق والحنين باعتباره‬ ‫القضايا المتعلقة بدالالت المكان في شعر‬
‫موضوع التوق إلى الخالص ووضع عصا‬ ‫سيدي عبد هللا بن أحمد دام‪ ،‬لعل أهمها‪:‬‬
‫الترحال‪.‬‬ ‫ـ عنايته بالمكان عناية خاصة واستخدامه‬
‫ـ أن االغتراب الثقافي واللساني بارز في‬ ‫المكان رم از للقيم اإليجابية والسلبية معا‪،‬‬
‫دالالت المكان لديه‪ ،‬حتى أنه ال يكاد يخلو‬ ‫وهو ما تجلى في إلحاحه على ذكر األمكنة‬
‫منه نص من النصوص التي تناولناها‪ ،‬وهي‬ ‫وتكرارها في شعره بصفة عامة‪ ،‬وفي النماذج‬
‫ظاهرة نرى أنها تستحق دراسة مستقلة‬ ‫التي عرضنا لها في هذا البحث على وجه‬
‫‪1020‬‬
‫العدد السابع والثالثون ‪2018‬م‬ ‫جملة كلية اللغة العربية باملنصورة‬

‫الجانب وتالفي ما شاب هذه المحاولة من‬ ‫تستكنه ما لها من أسباب وأبعاد ودالالت‪.‬‬
‫هنات‪ ،‬حتى يكتمل تصورنا عن منزلة‬ ‫ـ أن قدرته على المزج بين اإلنسان‬
‫المكان ودالالته لدى الشاعر سيدي عبد هللا‬ ‫والمكان ال يضاهيها إال قدرته على الفصل‬
‫بن أحمد دام‪.‬‬ ‫بينهما لغايات تعبيرية محضة‪ .‬فمثال عندما‬
‫يعبر عن شوقه ألهله في بالد الغربة فإنك‬
‫ال تجد ذك ار للمكان ـ المغترب إطالقا‪ ،‬هذا‬
‫في الوقت الذي يلح فيه على ذكر المكان ـ‬
‫الوطن عند التعبير عن الشوق إليه والحنين‬
‫إلى ربوعه والتوق إلى العودة إليه‪ .‬ولعل في‬
‫فصله التام ألهله في الغربة عن أي حيز‬
‫مكاني‪ ،‬داللة على مستوى من القصدية‪ ،‬إذ‬
‫يصعب أن يأتي ذلك عفو الخاطر‪ ،‬خاصة أن‬
‫الشاعر كأنما "سلخ" أهله في بالد الغربة سلخا‪،‬‬
‫فلم يأت على ذكر المكان الذي فيه يعيشون‬
‫وفي نطاقه يتحركون‪.‬‬
‫وبعد فهذه محاولة لقراءة دالالت المكان‬
‫لدى شاعر من شعراء موريتانيا قلما حظي‬
‫شعره بما يستحقه من عناية الباحثين‪ ،‬فلعلها‬
‫أن تكون صوة على طريق دراسة هذا‬
‫الشاعر والكشف عن جوانب إبداعية في‬
‫إنتاجه الثر‪ .‬ويبقى على الباحثين تعميق هذا‬

‫‪1021‬‬
‫الشيخ أمحد املنى‬ ‫دالالت املكان يف شعر ابن أمحد دام‬

‫قائمة المراجع‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني‪ ،‬التعريفات‪ ،‬تحقيق وضبط وتصحيح‪ :‬جماعة‬
‫من العلماء بإشراف الناشر‪ ،‬دار الكتب العلمية بيروت –لبنان‪ ،‬الطبعة‪ :‬األولى ‪1403‬هـ ‪-‬‬
‫‪.1983‬‬
‫‪ 3‬ـ غاستون باشالر‪ ،‬جماليات المكان‪ ،‬ترجمة‪ :‬غالب هلسا‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر‪،‬‬
‫‪.1984‬‬
‫‪ 4‬ـ بدر نايف الرشيدي‪ ،‬صورة المكان في شعر أحمد السقاف‪ ،‬رسالة ماجستير‪ ،‬كلية اللغة العربية‬
‫وآدابها‪ ،‬جامعة الشرق األوسط‪ 2011 ،‬ـ‪42. ،2012‬‬
‫‪ 5‬ـ ابن األمين‪ ،‬أحمد‪ ،‬الوسيط في تراجم أدباء شنقيط‪ ،‬مكتبة الخانجي في القاهرة ومكتبة منير‬
‫في موريتانيا‪ ،‬مطبعة المدني‪ ،‬القاهرة‪.1986 ،‬‬
‫‪ 6‬ـ أمل محسن العميري‪ ،‬المكان في الشعر األندلسي ــ عصر ملوك الطوائف‪ ،‬دار االنتشار‬
‫العربي‪ ،‬الطبعة األولى‪.2012 ،‬‬
‫‪ 7‬ـ ِ‬
‫امرؤ القيس بن حجر ابن الحارث الكندي‪ ،‬من بني آكل المرار (المتوفى‪ 545 :‬م)‪ ،‬الديوان‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬عبد الرحمن المصطاوي‪ ،‬دار المعرفة – بيروت‪ ،‬الطبعة‪ :‬الثانية‪ 1425 ،‬هـ ‪-‬‬
‫‪2004‬م‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ علي الغريب محمد الشناوي‪ ،‬الصورة الشعرية عند األعمى التطيلي‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬مكتبة‬
‫اآلداب‪ ،‬القاهرة‪.2003 ،‬‬
‫‪ 9‬ـ د‪ .‬محمد مندور‪ ،‬النقد المنهجي عند العرب‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية‪ ،‬القاهرة‪.1984 ،‬‬
‫‪ 10‬ـ أبو الحجاج‪ ،‬يوسف بن سليمان بن عيسى الشنتمري األندلسي المعروف باألعلم (المتوفى‪:‬‬
‫‪476‬هـ)‪ ،‬أشعار الشعراء الستة الجاهليين‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ أبو بكر محمد بن داود بن علي بن خلف األصبهاني ثم البغدادي الظاهري (المتوفى‪:‬‬
‫‪297‬هـ)‪ ،‬الزهرة‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪.1979 ،‬‬
‫‪ 12‬ـ عبد الرحمن بن عبد هللا بن أحمد بن درهم (المتوفى‪1362 :‬هـ)‪ ،‬نزهة األبصار بطرائف‬
‫األخبار واألشعار‪ ،‬دار العباد – بيروت‪.1979 ،‬‬
‫‪Mohamed El Mokhtar Ould Bah, La Litterature juridique et‬‬ ‫‪ 13‬ـ‬
‫‪l'Evolution du Malikisme en Mauritanie,Tunis,1982.‬‬
‫‪ 14‬ـ د‪ .‬الشيخ أحمد المنى‪ ،‬الحنين في الشعر الشنقيطي‪ :‬ابن أحمد دام نموذجا‪ ،‬مجلة العلوم‬
‫العربية واإلنسانية‪ ،‬جامعة القصيم‪ ،‬العدد ‪ ،4‬المجلد‪ ،9‬يوليو ‪2016.‬‬
‫‪ 15‬ـ أحمد جمال ولد الحسن‪ ،‬الشعر الشنقيطي في القرن الثالث عشر‪ ،‬جمعية الدعوة اإلسالمية‪،‬‬
‫‪1022‬‬
‫العدد السابع والثالثون ‪2018‬م‬ ‫جملة كلية اللغة العربية باملنصورة‬

‫‪.1995‬‬
‫‪ 16‬ـ عبد هللا محمد سالم السيد‪ ،‬الشعر الشنقيطي في القرنين الثاني عشر والرابع عشر‪ ،‬ـ دراسة‬
‫في المرجع والبنية والقراءة‪ ،‬مطبعة المنار‪ ،‬نواكشوط‪2012 ،‬م‪.‬‬
‫‪ 17‬ـ الشيخ ولد سيدي عبد هللا‪ ،‬نقد الشعر الفصيح عند الشناقطة (‪ 1700‬ـ ‪1960‬م)‪ :‬الموقف‬
‫والممارسة‪ ،‬منشورات اتحاد األدباء والكتاب الموريتانيين‪2013. ،‬‬
‫‪ 18‬ـ عبد هللا محمد سالم السيد‪ ،‬المعارضة في الشعر الموريتاني ـ مدخل لدراسة االحتذاء عند‬
‫شعراء القرن الثالث عشر الهجري‪ ، ،‬المطبعة المدرسية بالمعهد التربوي الوطني‪1995. ،‬‬
‫‪ 19‬ـ الخليل النحوي‪ ،‬بالد شنقيط المنارة والرباط‪ ، ،‬نشر المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم‪،‬‬
‫تونس‪1987. ،‬‬
‫‪ 20‬ـ الشيخ أحمد المنى‪ ،‬الشعر السياسي الموريتاني في القرن العشرين‪ :‬من المقاومة إلى‬
‫المعرضة‪ ،‬قراءة في األساليب والمضامين‪ ،‬أطروحة دكتوراه‪ ،‬جامعة داكار‪.2010 ،‬‬

‫‪1023‬‬

You might also like