You are on page 1of 158

‫وظيفية مقا�صد ال�شريعة‬

‫ر�ؤية منهجية‬

‫د‪ .‬حممد املنتار‬

‫(�أغ�سط�س ‪2013‬م ‪ /‬رم�ضان ‪1434‬هـ )‬ ‫الإ�صدار‪68 :‬‬


‫الإخراج الفني‪ :‬حممود حممد �أبو الف�ضل‬
‫د‪ .‬حممد املنتار‬
‫من مواليد املغرب‪ ،‬حا�صل على الدكتوراه يف �أ�صول الفقه ومقا�صد ال�شريعة‬
‫الإ�سالمية من جامعة القا�ضي عيا�ض مبراك�ش‪.‬‬
‫يعمل رئي�سا ملركز الدرا�سات القر�آنية بالرابطة املحمدية للعلماء باململكة‬
‫املغربية ومديرا للبوابة الإلكرتونية للرابطة ‪.‬‬
‫من �إنتاجه العلمي‪« :‬الأمر والنهي بني الق�صد الأ�صلي والق�صد التبعي عند‬
‫الإمام ال�شاطبي»‪ ،‬و«مفهوم الأمة والإمامة يف القر�آن الكرمي» وغريهما‪...‬‬

‫نهـ ــر مت ـعـ ـ ــدد‪ ...‬مت ـجـ ـ ـ ــدد‬


‫م�شروع فكري وثقايف و�أدبي يهدف �إلى الإ�سهام النوعي يف �إثراء املحيط الفكري والأدبي‬
‫والثقايف ب�إ�صدارات دورية وبرامج تدريبية وفق ر�ؤية و�سطية تدرك الواقع وت�ست�شرف امل�ستقبل‪.‬‬

‫وزارة الأوقاف وال�ش�ؤون الإ�سالمية‬


‫قطاع ال�ش�ؤون الثقافية‬
‫�إدارة الثقافة الإ�سالمية‬
‫�ص‪.‬ب‪ 13 :‬ال�صفاة ‪ -‬رمز بريدي‪ 13001 :‬دولة الكويت‬
‫الهاتف‪ - )+965( 22487310 :‬فاك�س‪)+965( 22445465 :‬‬
‫نقال‪)+965( 99255322 :‬‬
‫الربيد الإلكرتوين‪rawafed@islam.gov.kw :‬‬
‫موقع «روافد»‪www.islam.gov.kw/rawafed :‬‬

‫‪3‬‬
‫مت طبع هذا الكتاب يف هذه ال�سل�سلة للمرة الأوىل‪،‬‬

‫وال يجوز �إعادة طبعه �أو طبع �أجزاء منه ب�أية و�سيلة �إلكرتونية �أو غري‬

‫ذلك �إال بعد احل�صول على موافقة خطية من النا�شر‬

‫الطبعة الأوىل ‪ -‬دولة الكويت‬

‫�أغ�سط�س ‪ 2013‬م ‪ /‬رم�ضان ‪1434‬هــ‬

‫الآراء املن�شورة يف هذه ال�سل�سلة ال تعرب بال�ضرورة عن ر�أي الوزارة‬

‫كافة احلقوق حمفوظـة للنا�شر‬

‫وزارة الأوقاف وال�ش�ؤون الإ�سالمية‬


‫املوقع الإلكرتوين‪www.islam.gov.kw :‬‬

‫رقم الإيداع مبركز املعلومات‪2012 / 130 :‬‬

‫مت احلفظ والت�سجيل مبكتبة الكويت الوطنية‬

‫رقم الإيداع‪540 / 2012 :‬‬


‫ردمك‪978-99966-50-69-7 :‬‬

‫‪4‬‬
‫فهر�س املحتويات‬

‫‪9‬‬ ‫ت�صدير‬
‫‪11‬‬ ‫مقدمة‬
‫‪17‬‬ ‫مدخل‬
‫الف�صل الأول‪:‬‬
‫‪25‬‬ ‫مناهج البحث الأ�صويل و�س�ؤال التجديد‬
‫‪28‬‬
‫املبحث الأول‪ :‬يف جدلية العالقة بني املقا�صد و�أ�صول الفقه‬
‫‪41‬‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬وظيفية مقا�صد ال�شريعة وتدبري االختالف الفقهي‬

‫الف�صل الثاين‪:‬‬
‫طرق الك�شف عن مقا�صد ال�شريعة و�أثرها‬
‫‪63‬‬ ‫يف بناء التكليف ال�شرعي‬
‫‪66‬‬ ‫املبحث الأول‪ :‬بني مقا�صد ال�شارع ومقا�صد املكلف‬
‫‪79‬‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬معرفة مقا�صد ال�شريعة وبناء التكليف ال�شرعي‬

‫الف�صل الثالث‪:‬‬
‫�أثر مقا�صد ال�شريعة‬
‫‪91‬‬ ‫يف تر�شيد ما �أ�ضحى اليوم ي�سمى بـ «حقوق الإن�سان»‬
‫‪94‬‬ ‫املبحث الأول‪ :‬مقا�صد ال�شريعة وحقوق الإن�سان‪ :‬مدخل مفاهيمي‪.‬‬
‫‪102‬‬ ‫املبحث الثاين‪� :‬أثر مقا�صد ال�شريعة يف تر�شيد حقوق الإن�سان‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫الف�صل الرابع‪:‬‬
‫نحو تفعيل مقا�صد ال�شريعة يف حتقيق التكامل احل�ضاري‬
‫‪117‬‬ ‫والتقريب بني مذاهب �أهل القبلة‬
‫ ‬ ‫املبحث الأول‪� :‬أثر معرفة مقا�صد ال�شريعة يف �إغناء التكامل‬
‫‪120‬‬ ‫احل�ضاري‪.‬‬ ‫ ‬
‫املبحث الثاين‪� :‬أثر معرفة مقا�صد ال�شريعة يف وحدة الأمة ‬
‫‪128‬‬ ‫والتقريب بني مذاهب �أهل القبلة‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪134‬‬ ‫اخلامتة‬
‫‪136‬‬ ‫امل�صادر واملراجع‬

‫‪6‬‬
‫ت�صدير‬
‫احلمد هلل رب العاملني وال�صالة وال�سالم على �سيد املر�سلني وعلى �آله‬
‫و�صحبه �أجمعني‪.‬‬
‫�إذا كان البحث يف مقا�صد ال�شريعة قد عرف ن�ش�أة وقوة يف العهود ال�سابقة‬
‫من نه�ضة الأمة‪ ،‬ف�إن امل�آالت التي انتهت �إليها حركة املجتمعات الإ�سالمية‬
‫يف ك�سبها الديني واحل�ضاري تك�شف عن حجم اخللل والأع �ط��اب التي‬
‫�أ�صابت الفكر الإ�سالمي يف تعامله مع مو�ضوع املقا�صد‪� ،‬إذ عرف جمودا‬
‫وتراجعا يف ظل التعامل الظاهري مع الن�صو�ص ‪ ،‬و�سيطرة النظر التجزيئي‬
‫الذي ينكفئ على �آحاد الأحكام دون ربطها مبقا�صدها وم�آالت تنزيلها على‬
‫واقع الأفراد وامل�ؤ�س�سات‪.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬تظل احلاجة ما�سة �إلى التح�سي�س بوجوب جتاوز تلك الأو�ضاع‬
‫م��ن خ�لال ت�أ�سي�س منهج متكامل يف درا��س��ة مقا�صد ال�شريعة وفهمها‬
‫وتنزيلها ‪ ،...‬وقد �شهدت ال�سنوات الأخرية �أ�صواتا طيبة يف هذا االجتاه‪،‬‬
‫�أبرزت منافع ذلك املنهج املتكامل‪ ،‬و�أكدت على ال�شروط اللغوية والداللية‬
‫واملقا�صدية لفهم اخلطاب‪.‬‬
‫وميثل كتاب«وظيفية مقا�صد ال�شريعة» للأ�ستاذ الباحث حممد املنتار خطوة‬
‫يف طريق ب�سط �أركان منهج متوازن للتعامل مع مقا�صد ال�شريعة ‪ ،‬وتنبع �أهميته‬
‫من كونه اليقت�صر على املو�ضوعات املطروقة لدى الأ�صوليني قدميا وحديثا‪،‬‬
‫بل ميتد نظره ليب�سط نقا�شا علميا حول مو�ضوعات ذات �أهمية ق�صوى من‬
‫مثل «حقوق الإن�سان» و«تدبري اخلالف الفقهي» وغريها من املو�ضوعات التي‬
‫ت�ؤرق الإن�سانية يف ظل ال�سياق الثقايف وال�سيا�سي العاملي املعا�صر‪.‬‬
‫وي�سر �إدارة الثقافة الإ�سالمية بوزارة الأوقاف وال�ش�ؤون الإ�سالمية‬
‫بدولة الكويت �أن تقدم هذا الكتاب �إلى جمهور القراء واملهتمني‪� ،‬سائلني‬
‫املولى عز وجل �أن ينفع به ويثيب م�ؤلفه‪.‬‬
‫�إنه �سميع الدعاء‪...‬‬

‫‪9‬‬
‫مقدمة‬
‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على خامت الأنبياء واملر�سلني‪،‬‬
‫وعلى �آله الطيبني‪ ،‬و�أ�صحابه الأكرمني‪ ،‬ومن اهتدى بهديهم �إلى يوم الدين‪.‬‬
‫�أما بعد؛‬
‫فال ميرتي �أحد يف �أن كل �شريعة �شرعت للنا�س ترمي ب�أحكامها �إلى مقا�صد‬
‫مرادة مل�ش ّرعها ووا�ضعها؛ ومن هذا املنطلق ف�شريعة الإ�سالم اخلامتة‪ ،‬كما‬
‫�أراد لها وا�ضعها عز وجل‪ ،‬جاءت ملا فيه �صالح الب�شر يف العاجل والآجل‪� ،‬أي‬
‫يف حا�ضر الأمور وعواقبها‪ ،‬يف �إطار ال�ضرورات االجتهادية مبفهومها الوا�سع‬
‫والتعامل العميق مع الن�صو�ص امل�ؤ�س�سة؛ قر�آنا و�سنة‪ ،‬واال�ستمداد منها‬
‫مبختلف الطرائق واملناهج‪ ،‬وا�ستثمار ذلك يف حتقيق الوحدة واالئتالف‪،‬‬
‫والتحذير من الفرقة واالختالف بني �أهل القبلة والعامل من حولهم‪.‬‬
‫وال �شك �أن ه��ذا اال�ستثمار ال ميكن �أن يتم �إال بوا�صلة ب�ين ال�صبغة‬
‫وال�صيغة وال�صياغة متكن من �إخ�ضاع الواقع الكوين ل�شرع اهلل‪ ،‬فيتم ربط‬
‫الإن�سان بخالقه‪ ،‬وتتحقق حقوق اهلل وحقوق العباد بدون �إفراط وال تفريط‬
‫يف اجلهتني معا؛ �صبغة اهلل التي ت�شكل ت�أ�صيل الر�ؤية الكلية الكونية وت�أ�سي�س‬
‫الر�ؤية الفطرية لأ�صول احلياة العمرانية } ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ‬
‫ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ{ (البقرة ‪.)138 :‬‬
‫ومن هذه ال�صبغة (�صبغة اهلل) تنبع ال�صيغة الكلية العامة‪ ،‬وهي ال�صيغة‬
‫املقا�صدية مدخال م� ِّؤطرا؛ التي تعد من �أهم املطالب التي يحتاجها الفقيه‬
‫وال �ع��امل‪ ،‬وال�سالك وامل��رب��ي‪ ،‬والتلميذ والأ��س�ت��اذ‪ ،‬على ت�ف��اوت قرائحهم‬
‫وفهومهم‪ ،‬يف عملية احلوار مع كتاب اهلل امل�سطور؛ القر�آن الكرمي‪ ،‬وكتاب‬
‫اهلل املنظور؛ �أي الكون‪ ،‬وتتطلب وعي اال�ستجابة و�سعيها‪ ،‬والكد يف التعرف‬
‫على الطرق املو�صلة �إليها؛ املن�صو�صة وامل�ستنبطة‪ ،‬وال�سعي �إلى �ضبط �شروط‬
‫اعتبارها‪ ،‬ومن ثم ح�سن �صياغة ذلك كله وح�سن تنزيله‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫�إن�ه��ا ال�صيغة املقا�صدية التي تت�سم بكليتها وان�ضباطها وظهورها‪،‬‬
‫واطرادها و�إطالقها‪ ،‬و�شمولها وعموميتها‪ ..‬والتي من �ش�أنها تر�سيم الفقه‬
‫احل َكمي‬
‫احلي؛ الذي يدخل القلوب من دون ا�ستئذان‪ ،‬فقه يتفاعل فيه الفهم ِ‬
‫والوعي املقا�صدي بعنا�صر الرتبية والرتقية‪ ،‬والتخلية والتحلية‪ ،‬والواقع‬
‫والواجب على �ضوء �سياق ال ينفلت فيه الواقع من الواجب‪ ،‬وال يهمل الواجب‬
‫فيه الواقع‪.‬‬
‫وملا كانت ال�صيغة املقا�صدية �أه��م ما ي�ستعان به على فهم الن�صو�ص‬
‫ال�شرعية‪ ،‬وتنزيلها على الواقع‪ ،‬على النحو الأعدل والأو�سط الذي ال ميل‬
‫فيه‪ ..‬كان بحث �أثرها يف تدبري االختالف الفقهي من البحوث املهمة التي‬
‫يجب �أن تظفر بالرعاية‪ ،‬ومن امل�سائل التي يجب �أن توجه لها الغاية‪ ،‬ويبذل‬
‫الباحث فيها جهده‪ ،‬نظرا لدورها يف فهم ال�شريعة واالجتهاد يف �أحكامها‬
‫من ناحية‪ ،‬ولأثرها يف جتديد الفقه‪ ،‬وتقوية دوره ومكانته من ناحية �أخرى‬
‫وت�أ�سي�سا على ما �سبق‪ ،‬ف ��إن ه��ذا الكتاب منتظمة مباحثه يف مدخل‬
‫منهجي‪ ،‬و�أربعة ف�صول‪ ،‬وخامتة‪ .‬يناق�ش املدخل �س�ؤال املقا�صد ومنهج‬
‫القراءة والت�أويل بر�ؤية منهجية ا�ست�شرافية‪ ،‬ويتناول الف�صل الأول ق�ضايا‬
‫يف مناهج البحث الأ�صويل و�س�ؤال التجديد‪� .‬أما الف�صل الثاين فيعنى ببيان‬
‫�أثر مقا�صد ال�شريعة؛ بق�سميها مقا�صد ال�شارع ومقا�صد املكلف‪ ،‬يف بناء‬
‫التكليف ال�شرعي‪ .‬ويعتني الف�صل الثالث ببيان �أثر مقا�صد ال�شريعة يف‬
‫تر�شيد ما �أ�ضحى ي�سمى بـ «حقوق الإن�سان»‪� .‬أما الف�صل الرابع فخ�ص�ص‬
‫ال�ست�شراف �أثر مقا�صد ال�شريعة يف حتقيق التكامل احل�ضاري بني مذاهب‬
‫�أه��ل القبلة‪ ،‬وحت��وي اخلامتة ب�سط خال�صة البحث‪ ،‬مع اق�تراح جماالت‬
‫معرفية لتنزيل كليات وجزئياتها مقا�صد ال�شريعة‪.‬‬
‫ويف اخلتام‪ ،‬ال �أقول �إين وفيت يف هذا البحث باملراد‪ ،‬ولكن �أجهدت نف�سي‬
‫على قدر طاقتي لعلي �أوافق ال�صواب‪ ،‬و�أعرتف بالعجز عن الإحاطة به‪ ،‬كما‬

‫‪14‬‬
‫�أعرتف بالق�صور يف حتليل بع�ض م�سائله‪ ،‬وما تو�صلت �إليه من نتائج‪ .‬وقد‬
‫اتخدت طلب احلق يل نحلة‪ ،‬واالع�تراف به لأهله ملة‪ ،‬وال�سعيد من عدت‬
‫�سقطاته‪ ،‬وعلمت غلطاته‪ ،‬و�إمنا الأعمال بالنيات و�إمنا لكل امرئ ما نوى‪.‬‬
‫واحلمد هلل الذي بنعمته تتم ال�صاحلات‪...‬‬

‫‪15‬‬
‫مدخل‬
‫�س�ؤال املقا�صد ومنهج القراءة والت�أويل‬
‫ت�شكل درا�سة املقا�صد �أهمية كربى يف العمل املنهجي؛ �إذ هي التي حتدد‬
‫الأط��ر العامة والكليات التي تندرج حتتها اجلزئيات‪ ،‬وال انفكاك لهاته‬
‫الأخ�يرة عن �سابقتها بو�صف هاته �أحد املكونات الأ�سا�سية للإطار العام‬
‫الذي ي�س ّيج القراءة‪ ،‬وير�سم حدود الت�أويل املمكنة التي ال ميكن لأي مق�صد‬
‫جزئي �أن يتعداها‪� ،‬أو �أن يتج�سد بعيدا عن اعتبارها‪ .‬وعلى مدار م�سرية‬
‫التفاعل مع الن�ص امل� ّؤ�س�س ج�سد �س�ؤال املقا�صد ب�ؤرة فعل القراءة ومركزها‬
‫الذي ين�آى بفعل املكلف عن العبث والالمعنى‪ ،‬ويك�سبه الق�صدية الالزمة يف‬
‫فهمه وا�ستنباطه وتنزيله‪..‬‬
‫ووفق هذا املهيع؛ تغدو املقا�صد �إطارا منهجيا �ضابطا للفهوم‪ ،‬وم�سلكا‬
‫علميا م�ؤطرا للتنزيالت لي�س يف العلوم ال�شرعية فح�سب بل يف باقي الفنون‬
‫الأخرى؛ من علوم اجتماعية‪ ،‬واقت�صادية‪ ،‬و�سيا�سية‪ ،‬وعلوم جتريبية‪ ،‬ب�شتى‬
‫فروعها؛ من حيث كونها منهجية معرفية ل�شتى ف��روع املعرفة؛ فهي ـ �أي‬
‫املقا�صد ـ تعد بكليتها منهجية علمية ومعرفية‪ ،‬وت�شكل باطرادها‪ ،‬وثباتها‪،‬‬
‫و�شموليتها‪ ،‬وببعديها امل ��آيل واال�ست�شرايف‪ ،‬طريقا ونهجا لبلوغ الغايات‬
‫والأهداف يف جمال العلم واملعرفة‪.‬‬
‫فعلى �سبيل املثال عند درا�سة كليات املقا�صد وجزئياتها جند �أنها ت�ؤ�س�س‬
‫على ما يعتربه ال�شارع م�صالح للنا�س «درء مفا�سد حا�صلة �أو متوقعة‪،‬‬
‫�أو جلب م�صالح قائمة �أو متوقعة‪� ،‬أو الرتجيح بني امل�صالح واملفا�سد»‪ ،‬ومن‬
‫(((‬
‫ثم ميكن �أن ن�ؤ�س�س علومنا االجتماعية والإ�سالمية على بعدين مو�ضوعيني‬
‫وف�صل‬
‫ذكرهما الإم��ام ال�شاطبي (مقا�صد ال�شارع‪ ،‬ومقا�صد املكلف)‪ّ ،‬‬
‫خمتلف امتداداتها الت�شريعية واحلكمية‪.‬‬

‫‪ -1‬اجتاهات النظر يف الت�أ�سي�س املقا�صدي للعلوم االجتماعية‪ ،‬د‪ .‬عبد اهلل حممد الأمني‬
‫النعيم‪ ،‬من كتاب مقا�صد ال�شريعة‪ :‬نحو �إطار للبحث يف العلوم االجتماعية والإن�سانية‪� ،‬ص ‪.62‬‬

‫‪19‬‬
‫من ناحية �أخرى‪ ،‬ف�إن الأفق الطبيعي والوا�سع الذي تفتحه نظرية املقا�صد‬
‫هو �أفق ما ي�سمى «املجتمع املدين» على امل�ستوى املحلي والعاملي‪ ،‬وما يتعلق‬
‫بذلك من مهمات تنموية وعمرانية‪ ،‬كما �أن النزعة الإن�سانية العميقة الكامنة‬
‫يف نظام الوقف ومنظومة العمل اخل�يري امل�ستندة �إل��ى �أ�صول ال�شريعة‬
‫ومقا�صدها هي ما ت�سعى �إليه نظرية املجتمع املدين املحلي والعاملي‪ .‬و�إذا كان‬
‫هدف املقا�صد هو حفظ نظام العامل وا�ستدامة �صالحه ب�صالح الإن�سان‪،‬‬
‫ف�إن مقا�صد ال�شريعة ال ميكن �أن تبلغ كمال حتققها �إال على م�ستوى عاملي‪،‬‬
‫ومو�ضوع املجتمع املدين‪ ،‬على امل�ستويني املحلي والعاملي‪ ،‬هو �أحد املو�ضوعات‬
‫التي تتجلى فيها مقا�صد ال�شريعة بكل �أبعادها املدنية والإن�سانية(((‪.‬‬
‫والناظر يف ال�سياق التاريخي ملقا�صد ال�شريعة‪ ،‬بدء ًا مبرحلة الت�أ�صيل‬
‫املرجعي م��ع ن��زول ال �ق��ر�آن ال�ك��رمي وترجمته العملية ال�سنة ال�شريفة‪،‬‬
‫وم ��روا مب��راح��ل‪ :‬الت�أ�سي�س ال�ن�ظ��ري م��ع الإم���ام اجلويني(ت‪478‬هـ)‪،‬‬
‫والإم� ��ام ال� �غ ��زايل(ت‪505‬ه� �ـ)‪ ،‬والإم� ��ام ال� ��رازي(ت‪606‬ه � �ـ)‪ ،‬والإم ��ام‬
‫الآم� ��دي(ت‪631‬ه � �ـ)‪ ،‬ومرحلة اجل�م��ع ب�ين الت�أ�صيل النظري والتفعيل‬
‫العملي م��ع �سلطان العلماء العز ب��ن عبد ال �� �س�لام(ت‪660‬ه �ـ)‪ ،‬والإم��ام‬
‫القرايف(ت‪684‬هـ)‪ ،‬وابن تيمية(‪728‬هـ)‪ ،‬وتلميذه ابن القيم(‪751‬هـ)‪،‬‬
‫ومرحلة الن�ضج النظري والإبداع املنهجي مع اللوذعي الإمام �أبي �إ�سحاق‬
‫ال�شاطبي املالكي(ت‪790‬هـ)‪ ،‬ثم مرحلة الركود والرتاجع التي عرفها هذا‬
‫املجال املعريف بني القرنني الثامن الهجري والقرن الرابع ع�شر الهجري‪،‬‬
‫و�صوال �إلى مرحلة الإحياء وا�ستئناف االجتهاد املقا�صدي مع جيل الن�صف‬
‫الثاين من القرن الرابع ع�شر الهجري �إلى اليوم الذي حاول �أ�صحابه حتقيق‬
‫�أهم ن�صو�ص هذا العلم‪ ،‬وحماوله نقده‪ ،‬وقراءة حمتويات �أهم م�صنفاته‪،‬‬
‫تدقيقا وتركيزا على بع�ض ق�ضاياه‪ ،‬واالجتهاد يف جتديد م�ضامينه‪ ،‬وتقريبها‬
‫من التداول العام‪..‬‬
‫‪ -1‬املجتمع املدين يف �ضوء املقا�صد العامة لل�شريعة‪ ،‬د‪� .‬إبراهيم البيومي غامن‪ ،‬من كتاب «مقا�صد‬
‫ال�شريعة وق�ضايا الع�صر»‪� ،‬ص ‪151‬ـ‪.152‬‬

‫‪20‬‬
‫�إن الناظر يف كل هذا الرتاكم املعريف يجد �أبا �إ�سحاق ال�شاطبي يتحدث يف‬
‫�آخر كتاب املقا�صد من مو�سوعته «املوافقات»‪ ،‬وك�أن �شيئا مهما مل ُي َقل بعد‪،‬‬
‫وعليه يقوم بناء املقا�صد ب�أكمله‪ ،‬و�إن مل ينجز انهار هذا البناء كله‪ ،‬ولي�س‬
‫ذلك ال�شيء غري بيان الطريق الأ�صوب الذي به يتم الو�صول �إلى املقا�صد‬
‫حتى ت�سمى كذلك‪ ،‬يقول ال�شاطبي‪« :‬ولكن البد من خامتة تكر على باب‬
‫املقا�صد بالبيان وتعرف بتمام املق�صود فيه بحول اهلل‪ .‬ف�إن للقائل �أن يقول‪:‬‬
‫�إن ما تقدم من امل�سائل يف هذا الكتاب مبني على املعرفة مبق�صود ال�شارع؛‬
‫(((‬
‫فبماذا يعرف ما هو له مما لي�س مبق�صود له؟» ‪.‬‬
‫فعال �إن الأهمية التي تكت�سيها الإجابة عن ال�س�ؤال املب�سوط من قبل‬
‫�أب��ي �إ�سحاق بالغة اخلطورة‪ ،‬فعليه يقوم كل ما قيل بخ�صو�ص املقا�صد‪،‬‬
‫وكل ما ميكن �أن يقال حولها‪ ،‬فال �شرعية لها‪ ،‬وال اعرتاف بها‪ ،‬وال تق ّبل‬
‫لأ�صنافها‪ ،‬وال للنتائج التي تبنى عليها من دون تو�ضيح الكيفية التي بها‬
‫ميكن الو�صول �إليها؛ لأن « كل كالم يف املقا�صد وكل تو�سع يف بحثها‪ ،‬وكل‬
‫اكت�شاف جديد لكلياتها‪ ،‬كل هذا متوقف على �إيجاد و�ضبط املنهاج ال�صحيح‬
‫(((‬
‫ملعرفة مقا�صد ال�شارع»‬
‫ولأن هذا «املنهاج ال�صحيح» لي�س معطى جاهزا‪ ،‬وال بناء م�سبقا‪ ،‬تتطابق‬
‫حوله مواقف القراء على اختالف م�شاربهم‪ ،‬ف�إنه من الطبيعي �أن تختلف‬
‫ال��ر�ؤى حول �أي منهج يدعي الو�صول �إلى املقا�صد‪ ،‬كما �أنه من الطبيعي‬
‫�أي�ضا‪ ،‬واحلال هذه‪� ،‬أن �أي حماولة جادة لبناء هذا املنهج لن تقوم �إال يف �أفق‬
‫املعرفة اجليدة باملناهج التي تختلف معها‪ ،‬بل ويف �أفق حوار علمي بني هذا‬
‫البناء والبناءات املختلفة‪.‬‬
‫يهم ببناء منهجه املو�صل‬ ‫هذا الإجراء عني ما قام به الإمام ال�شاطبي وهو ّ‬
‫�إلى املقا�صد؛ الذي جتاوز احلديث عن م�سالك �إجناز ا َمل َق ِ‬
‫ا�صد‪ ،‬واكتفى يف‬
‫‪ -1‬املوافقات ‪.265/2‬‬
‫‪ -2‬املوافقات ‪297/3 ،50/2‬‬

‫‪21‬‬
‫ا�صد‪ ،‬وهذا‬ ‫موافقاته بت�أ�صيل القول يف م�سالك الك�شف عن ا َمل َق ِ‬
‫ن�ص ما قاله بهذا ال�صدد»‪ ..‬ف�صل‪ :‬بيان اجلهات التي تعرف بها مقا�صد‬ ‫ُّ‬
‫جهات‪� :‬إحداها‪ :‬جمرد‬ ‫ٍ‬ ‫ال�شرع‪ ..‬فنقول ‪-‬وب��اهلل التوفيق‪� -‬إ َّن��ه يعرف من‬
‫الأمر والنهي االبتدائي الت�صريحي؛ ف�إنَّ الأمر معلوم �أ َّنه �إنمَّ ا كان �أم ًرا‬
‫القت�ضائه الفعل‪ ،‬فوقوع الفعل عند وجود الأمر به مق�صود لل�شارع ‪ .‬وكذلك‬
‫الكف عنه‪ ،‬فعدم وقوعه مق�صود له‪،‬‬ ‫مقت�ض لنفي الفعل �أو ِّ‬ ‫النهي معلوم �أ َّنه ٍ‬
‫و�إيقاعه خمالف ملق�صوده‪ ،‬كما �أنَّ عدم �إيقاع امل�أمور به خمالف ملق�صوده‪...‬‬
‫الثانية‪ :‬اعتبار علل الأمر والنهي‪ ،‬وملاذا �أمر بهذا الفعل؟ وملاذا نهى عن‬
‫هذا الآخر؟ ‪ ..‬واجلهة الثالثة‪� :‬أنَّ لل�شارع يف �شرع الأحكام العاد َّية والعباد َّية‬
‫ا�صد‬ ‫ن�ص عليه من هذه ا َمل َق ِ‬ ‫مقا�صد �أ�صل َّية ومقا�صد تابعة‪ ..‬وذلك �أنَّ ما َّ‬
‫وم�ستدع لطلبه و�إدامته‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫أ�صلي‪ ،‬ومق ٍّو حلكمته‪،‬‬
‫التوابع هو مثبت للمق�صد ال ِّ‬
‫(فكل) ما مل ين�ص عليه مما �ش�أنه ذلك مق�صود لل�شارع‪ ...‬واجلهة الرابعة‪:‬‬
‫مما يعرف به مق�صد ال�شارع ال�سكوت عن �شرع الت�سبب‪� ،‬أو عن �شرع َّية‬
‫(((‬
‫العمل مع قيام املعنى املقت�ضي له‪»..‬‬
‫ومل يكن الإم��ام ال�شاطبي وح��ده ال��ذي �سلك هذا املنهج يف التعامل مع‬
‫ا�صد‪ ،‬بل �إنَّ الإمام ابن عا�شور‪ ،‬جتاوز يف مقا�صده‬ ‫م�سالك التحقق من ا َمل َق ِ‬
‫احلديث عن هذه امل�سالك‪ ،‬واكتفى بذكر الطرق التي تثبت بها ا َمل َق ِ‬
‫ا�صد‪،‬‬
‫ن�صه‪� ..« :‬أح�سبك قد وثقت مما ق َّررته لك �آن ًفا ب�أنَّ لل�شريعة مقا�صد‬ ‫وقال ما ُّ‬
‫من الت�شريع ب�أدل ٍة ح�صل لك العلم بها حتقق الغر�ض على وجه الإجمال‪،‬‬
‫فتطلعت الآن �إلى معرفة الطرق التي ن�ستطيع �أن نبلغ بها �إلى �أعيان‬
‫ا�صد ال�شرع َّية يف خمتلف الت�شريعات‪ ،‬وكيف ن�صل �إلى اال�ستدالل‬ ‫ا َمل َق ِ‬
‫ا�صد‪ ..‬فعلينا �أن نر�سم طرائق اال�ستدالل‬ ‫مق�صد ما من تلك ا َمل َق ِ‬‫ٍ‬ ‫على تعيني‬
‫على مقا�صد ال�شريعة مبا بلغنا �إليه بالت�أمل وبالرجوع �إلى كالم �أ�ساطني‬
‫العلماء‪ ..‬الطريق الأول‪ :‬وهو �أعظمها‪ ،‬ا�ستقراء ال�شريعة يف ت�صرفاتها‪،‬‬
‫‪ -1‬املوافقات ‪681-666/2‬‬

‫‪22‬‬
‫وهو على نوعني‪ :‬النوع الأول‪� :‬أعظمهما‪ :‬ا�ستقراء الأحكام املعروفة عللها‪،‬‬
‫الآئ��ل �إلى ا�ستقراء تلك العلل املثبتة بطرق م�سالك الع َّلة‪ ..‬النوع الثاين‪:‬‬
‫ا�ستقراء �أدلة �أحكام ا�شرتكت يف ع َّلة بحيث يح�صل لنا اليقني ب�أنَّ تلك الع َّلة‬
‫مق�صد مراد لل�شارع‪ ..‬الطريق الثاين‪� :‬أدلة القر�آن الوا�ضحة الداللة التي‬
‫ي�ضعف احتمال �أن يكون املراد منها غري ما هو ظاهرها بح�سب اال�ستعمال‬
‫العربي بحيث ال ي�شك يف املراد منها �إال من �شاء �أن يدخل على نف�سه �ش ًّكا‬ ‫ِّ‬
‫ال يعت ُّد به‪ ..‬الطريق الثالث‪ :‬ال�س َّنة املتواترة‪ ،‬وهذا الطريق ال يوجد له مثال‬
‫�إال يف حالني‪ :‬احلال الأول‪ :‬املتواتر املعنوي احلا�صل من م�شاهدة عموم‬
‫النبي [ فيح�صل لهم علم بت�شريع يف ذلك ي�ستوي فيه‬ ‫ال�صحابة عم ًال من ِّ‬
‫عملي يح�صل لآحاد ال�صحابة من‬ ‫جميع امل�شاهدين‪ ..‬احلال الثاين‪ :‬تواتر ٌّ‬
‫تكرر م�شاهدة �أعمال ر�سول اهلل [ بحيث ي�ستخل�ص من جمموعها مق�صدً ا‬
‫(((‬
‫�شرع ًّيا‪»..‬‬
‫وال يخفى �أن الإجابة عن هذا ال�س�ؤال ال تعني البحث عن �أدوات وو�سائل‬
‫بقدر ما تعني بناء ت�صور كامل للقراءة والت�أويل ثم منهج هذه القراءة‬
‫وجتلياتها‪ ،‬ب�شكل يبوئ املقا�صد �أن تكون قاعدة لبناء العلوم واملعارف‬
‫ومر�شدا لالجتهاد‪ ،‬وبهذا نعطيها انطالقة جديدة لأداء دوره��ا قاعدة‬
‫لالجتهاد وت�أ�سي�س العلوم‪ ..‬وهو طبعا لي�س بالأمر الي�سري الذي ميكن �إجنازه‬
‫يف حماولة بحثية واحدة‪ ،‬ولكن الق�صد هو حتديد املجاالت وو�ضع املعامل‬
‫الهادية يف هذا الطريق‪ ،‬وهو �أمر ال تخفى �صعوبته‪ ،‬ولكن البد من اقتحامه‪،‬‬
‫ولو بخطوات حمدودة‪ ،‬مع الرتكيز على بع�ض الق�ضايا التي تتمتع ب�إحلاحية‬
‫وا�ست�شكال يف ال�سياق الثقايف املعا�صر من مثل‪ :‬تدبري االختالف الفقهي‪،‬‬
‫وحقوق الإن�سان‪ ،‬والتكامل احل�ضاري‪.‬‬

‫‪ -1‬مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية �ص ‪.140-136‬‬

‫‪23‬‬
‫الف�صل الأول‪:‬‬
‫مناهج البحث الأ�صويل‬
‫و�س�ؤال التجديد‬
‫متهيد‬
‫من مظاهر جتديد التفعيل العملي والتنزيلي ملقا�صد ال�شريعة‪� ،‬أن يحر�ص‬
‫املكلف على فهمها يف �إط��ار �سياقها الكوين وبعدها ال�شمويل‪ ،‬ال��ذي من‬
‫مقت�ضياته الت�أطري العملي لعموم �أحكام ال�شريعة الواقعة واملتوقعة‪ ،‬مبعنى‬
‫رعاية الأهداف والغايات التي يرجع �إليها من اختلطت عليه الأمور �أو �ضلت‬
‫به ال�شعاب خ�صو�صا عند غلبة الع�صبيات والتقليد‪� ،‬أو من اختلطت عليه‬
‫احللول �أو ز ّل��ت به الفهوم‪ ،‬ف�إنه �سيجد �أع�لام مقا�صد ال�شريعة قائمة‪،‬‬
‫وداللتها وا�ضحة‪.‬‬
‫وقد �شكل �س�ؤال التجديد يف علم الأ�صول ان�شغاال حموريا عند العديد من‬
‫علماء الإ�سالم‪ ،‬منذ الإرها�صات الأولى لظهور املنهجيات الأ�صولية‪� ،‬سواء‬
‫مع املنهجية ال�شافعية‪� ،‬أو املنهجية احلنفية‪� ،‬أو مع حماولة ال�شاطبي الفريدة‬
‫يف هذا الباب الذي ا�ستطاع �أن يف ّعل مقا�صد ال�شريعة يف الإجابة على هذا‬
‫ال�س�ؤال مبختلف تف�صيالتها وتق�سيماتها‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫املبحث الأول‪ :‬يف جدلية العالقة بني املقا�صد و�أ�صول الفقه‬
‫ميثل علم �أ�صول الفقه �أ�صالة الفكر الإ�سالمي �أ�صدق متثيل‪ ،‬فهو عماد‬
‫االجتهاد وبه قوام منهج اال�ستنباط‪ ،‬مما جعله مو�ضوعا م�شرتكا بكل جوانبه‬
‫بني كل الباحثني عن الفكر ال�سامي الراغبني يف اال�ستق�صاء ملعامل الإنتاج‬
‫الفكري العايل‪ .‬وقد منا هذا الرتاث املنهجي الفريد وتكامل على مدى قرون‬
‫من الزمن‪ ،‬و�أجيال من الأعالم‪ ،‬وت�أثر قوة و�ضعفا مبا ت�أثرت به احل�ضارة‬
‫الإ�سالمية عرب التاريخ‪.‬‬
‫وب�إحكام املرء حللقات هذا العلم وقواعده‪ ،‬ي�ستطيع التو�صل �إلى فهم‬
‫�سديد وقومي لن�صو�ص الوحي كتابا و�سنة‪ ،‬كما �أن عدم الإ�شراف على م�سارح‬
‫هذا الفن‪« ،‬وع ّدم التمكن من مبادئه يقود �إلى �صريورة فهم املرء ملعاين‬
‫ن�صو�ص الوحي فهما غري موثوق به‪ ،‬وذلك ال�شتمال هذا الفن على معظم‬
‫الأدوات العلمية التي يتوقف على �إجادتها ح�سن �إدراك املعاين الثاوية بني‬
‫طيات ن�صو�ص الوحي كتابا و�سنة»(((‪.‬‬
‫وكما هو معلوم‪ ،‬فمباحث هذا العلم قد تنامت وتطورت‪ ،‬وم�سائله قد‬
‫جتددت وتبلورت على �أيدي �سائر علماء الأمة من حمدثني ولغويني وفقهاء‬
‫ومتكلمني‪ .(((...‬ولهذا فال عجب �أن يجد املرء اتفاقا من لدن �أهل العلم‬
‫ومباحثه الأ�سا�سية؛ وذل��ك منذ �أن مت تدوينه‪ ،‬وقع ّدت ق��واع� ّده‪ ،‬و�أ�صلت‬
‫مباحثه‪ ،‬بل �إن بع�ض علماء القرن ال�ساد�س الهجري انتهوا �إلى القول ب�أنه هو‬
‫العلم الأهم والأوحد الذي يحتاج �إليه املرء امل�ؤهل للنظر االجتهادي‪ ،‬فبعد‬
‫‪ -1‬انظر �أدوات النظر االجتهادي املن�شود يف �ضوء الواقع املعا�صر‪ ،‬د‪.‬قطب م�صطفى �سانو‪� ،‬ص‪.110:‬‬
‫‪-2‬وقد �أ�شار الإمام الغزايل �إلى ت�أثر كثري من مباحث علم الأ�صول بخلفيات امل�ؤلفني من متكلمني‬
‫ولغويني‪ ،‬وفقهاء‪ ،‬و�أ�شار يف معر�ض بيانه تعلق الأ�صول بالكالم �إلى �أن ذلك يرجع �إلى غلبة الكالم‬
‫على طبائعهم‪ ،‬فقد حملهم «‪ ...‬حب �صناعتهم على خلط بهذه ال�صنعة‪ ،‬كما حمل حب اللغة والنحو‬
‫بع�ض الأ�صوليني على مزج جملة من النحو بالأ�صول‪ ،‬فذكروا فيه من معاين احلروف‪ ،‬ومعاين الإعراب‬
‫جمال هي من علم النحو خا�صة‪ ،‬وكما حمل حب الفقه جماعة من فقهاء ما وراء النهر ك�أبي زيد‬
‫–رحمه اهلل‪ -‬و�أتباعه على مزج م�سائل كثرية من تفاريع الفقه بالأ�صول» امل�ست�صفى �ص ‪.10‬‬

‫‪28‬‬
‫�أن �أورد �شروط الت�صدي لالجتهاد يف ع�صره –ناقال عن الإمام الغزايل‪-‬‬
‫قال الإمام ال��رازي‪ ...«:‬وقد ظهر مما ذكرنا �أن �أهم العلوم للمجتهد علم‬
‫�أ�صول الفقه‪ ،‬و�أما �سائر العلوم فغري مهمة يف ذلك»(((‪.‬‬
‫كما �أن بع�ضهم كالإمام ال�شوكاين‪ ،‬وغ�يره خل�صوا �إل��ى اعتباره عماد‬
‫ف�سطاط االجتهاد‪ ،‬و�أ�سا�سه ال��ذي تقوم عليه �أرك��ان بنائه‪ ،‬ويف ذلك‬
‫يقول –رحمه اهلل‪...«:-‬ف � ��إن ه��ذا العلم هو عماد ف�سطاط االجتهاد‪،‬‬
‫و�أ�سا�سه الذي تقوم عليه �أركان بنائه‪.(((»...‬‬
‫وال نعجب من كالم ه�ؤالء الأعالم؛ لأن مرده �إلى ما يتميز به هذا العلم‬
‫من �ضبط منهجي حٌم َكم‪ ،‬زد على ذلك قدرة مبادئه وق�ضاياه على تر�شيد‬
‫الفهم وتقوميه‪ ،‬و�إبعاده عن ال�شطط يف فهم الن�صو�ص وت�أويلها‪.‬‬
‫ولئن كانت لهذا العلم هذه املكانة واملنزلة العالية ف�إنه‪ ،‬وللأ�سف قد‬
‫خالطت مباحثه الأ�صلية م�سائل دخيلة غريبة‪ ،‬كما �أنه قد حطت ب�شواطئه‬
‫روا�سب كالمية معقدة‪ ،‬وق�ضايا لغوية جم��ردة(((‪ ،‬بعيدة عن حقيقة هذا‬
‫العلم وق�ضاياه الأ�سا�سية الكربى‪ ،‬كادت �أن تطم�س معامله‪ ،‬وجعلته يدور يف‬
‫حلقة مفرغة �إلى �أن و�صل يف نهاية القرن الثامن الهجري �إلى م�ستوى من‬
‫التقليد واجلمود جعله عر�ضة حلملة من الت�شكيك يف جدواه‪ ،‬بل ويف اعتباره‬
‫علما قائم الذات‪.‬‬
‫ويجد هذا الت�شكيك م�سوغا له يف كون هذه املرحلة ات�سمت باجلمود‬
‫وتوقف حركة االجتهاد‪ ،‬بحيث �صار علم الأ�صول علما نظريا جدليا‪ ،‬ال دو َر‬
‫له يف حركة االجتهاد‪ ،‬وهذا ما جعل معظم امل�ؤلفات الأ�صولية يف هذه الفرتة‬
‫ال تتع ّدى ال�شرح واالخت�صار والنظم ملا �سبق‪.‬‬

‫‪-1‬انظر املح�صول للرازي ‪.25/6‬‬


‫‪-2‬انظر �إر�شاد الفحول‪ ،‬لل�شوكاين ‪.301/2‬‬
‫‪-3‬انظر املوافقات ‪.19/1‬‬

‫‪29‬‬
‫وقد كان للإمام ال�شاطبي ف�ضل ال�سبق يف حماولة و�ضع ميزان ملحاكمة‬
‫كثري من هذه املباحث الدخيلة على علم الأ�صول(((‪� ،‬إذا ا�سرت�شد املرء بها‪،‬‬
‫كان �إلى �ضبط هذا العلم و�إتقانه �أقدر و�أقوى؛ بل لو نال ميزان ال�شاطبي‬
‫هذا كبري اهتمام منذ ذلك اليوم لأعيد علم �أ�صول الفقه �إلى �سريته الأولى؛‬
‫�أعني خدمة كتاب اهلل و�سنة ر�سوله [‪.‬‬
‫و�إذا تقرر هذا‪ ،‬فحري بنا �أن نثني ذلك بالإ�شارة �إلى �أهم �آلية يتوقف‬
‫عليها �إتقان حلقات هذا العلم‪ ،‬تلك هي اللغة العربية‪ ،‬ذلك «�أن ال�شريعة‬
‫عربية‪ ،‬و�إذا كانت عربية فال يفهمها حق الفهم �إال من فهم اللغة العربية حق‬
‫الفهم»(((‪ ،‬و�أي�ضا ف�إن جل القواع ّد التي اعتمدها علماء الأ�صول م�ستعارة‬
‫وم�شتقة من قواعد اللغة العربية من نحو‪ ،‬و�صرف وبالغة؛ فمباحث املفهوم‬
‫واملنطوق‪ ،‬والأمر والنهي‪ ،‬والإطالق والتقييد‪ ،‬والعموم واخل�صو�ص‪ ،‬واملجاز‬
‫واحلقيقة‪ ،‬والظهور واخلفاء‪ ،‬والإجمال والتف�صيل وغريها‪ ،‬كلها مباحث‬
‫قائمة على قواعد العربية‪.‬‬
‫وقد �أ�شار الإمام ال�شاطبي �إلى ذلك بقوله‪«:‬وغالب ما �صنف يف �أ�صول‬
‫الفقه من الفنون �إمن��ا هو من املطالب العربية التي تكفل املجتهد فيها‬
‫باجلواب عنها‪ ،‬وما �سواها من املقدمات فقد يفي فيه التقليد‪ ،‬كالكالم‬
‫يف الأحكام ت�صورا وت�صديقا‪ ،‬ك�أحكام الن�سخ‪ ،‬و�أحكام احلديث وما �أ�شبه‬
‫ذلك»(((‪.‬‬
‫فيتح�صل لدينا �أنه ال غنى للمجتهد يف ال�شريعة عن الإملام والإحاطة باللغة‬
‫العربية(((‪� ،‬إن هو �أراد �أن يحكم حلقات علم الأ�صول‪ ،‬وي�صبح قادرا على‬
‫‪--1‬انظر املوافقات ‪.28-19/1‬‬
‫‪-2‬انظر املوافقات ‪.83/4‬‬
‫‪-3‬نف�س امل�صدر ‪ ،85-84/4‬وراجع تعليق ال�شيخ دراز يف الهام�ش (‪ )1‬من املوافقات ‪.85/4‬‬
‫‪-4‬يقول الإمام ال�شاطبي‪« :‬وال �أعني بذلك النحو وحده‪ ،‬وال ال�صرف وحده‪ ،‬وال اللغة وال علم املعاين‪،‬‬
‫وال غري ذلك من �أنواع العلوم املتعلقة بالل�سان‪ ،‬بل املراد جملة علم الل�سان �ألفاظ ًا �أو معاين‪ »...‬انظر‬
‫املوافقات ‪.82/4‬‬

‫‪30‬‬
‫اال�ستفادة منه‪� ،‬سواء يف فهم ن�صو�ص الوحي –كتابا و�سنة‪� -‬أم يف ا�ستنباط‬
‫الأحكام من تلكم الن�صو�ص‪ ،‬بل �إن الإمام ال�شاطبي –رحمه اهلل‪ -‬انتهى �إلى‬
‫�أن �أمر العلم بالعربية مرتبط ببلوغ درجة االجتهاد الذي يبوئ �صاحبه مكانة‬
‫الفهم ي�ؤدي �إلى مثله يف ال�شريعة «ف�إذا فر�ضنا مبتدئا يف فهم اللغة العربية‬
‫فهو مبتدئ يف فهم ال�شريعة‪� ،‬أو متو�سطا فهو متو�سط يف فهم ال�شريعة‪،‬‬
‫واملتو�سط مل يبلغ درجة النهاية‪ ،‬ف�إن انتهى �إلى درجة الغاية يف العربية كان‬
‫كذلك يف ال�شريعة‪ ،‬فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم ال�صحابة وغريهم‬
‫من الف�صحاء»(((‪.‬‬
‫ولئن �أوجزنا احلديث عن �أهمية الإحاطة باملعرفة الأ�صولية‪ ،‬وتثنيتها‬
‫ب�إبراز دور اللغة العربية يف التو�صل �إلى فهم �سديد للمعاين املرادة‬
‫لل�شارع من ن�صو�ص ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬ف�إنه ال متام لتحقيق هذا‬
‫الهدف ما مل تتم اال�ستعانة مبعرفة �أخ��رى ال تقل �أهمية عن �سابقاتها‪،‬‬
‫وهي «املعرفة املقا�صدية» التي ت�شكل‪� ،‬إلى جانب املعرفة اللغوية واملعرفة‬
‫الأ�صولية مركبا معرفيا متنا�سقا من �ش�أنه �أن ير�سم معامل منهج يخول‬
‫للمجتهدين –مبقت�ضى التمر�س به‪ -‬االنخراط يف �سلك العلماء الربانيني‬
‫الرا�سخني‪ ،‬الناظرين يف امل�آالت قبل اجلواب عن ال�س�ؤاالت‪.‬‬
‫وقد اعترب الإم��ام ال�شاطبي هذه املعرفة الأداة الأول��ى والأخ�يرة للنظر‬
‫االجتهادي‪ ،‬فمن مل ي�شرف عليها «لي�س له من حق �أن ينب�س ببنت �شفة‬
‫يف هذا املجال بل يحرم عليه ممار�سة النظر االجتهادي»(((‪ ،‬ويف هذا‬
‫يقول –رحمه اهلل‪�«:-‬إمن��ا حت�صل درجة االجتهاد ملن ات�صف بو�صفني‪:‬‬
‫�أحدهما‪ :‬فهم مقا�صد ال�شريعة على كمالها‪ .‬والثاين‪ :‬التمكن من اال�ستنباط‬
‫بناء على فهمه فيها‪ ...‬ف�إذا بلغ الإن�سان مبلغا فهم عن ال�شارع فيه ق�صده يف‬
‫كل م�س�ألة من م�سائل ال�شريعة‪ ،‬ويف كل باب من �أبوابها‪ ،‬فقد ح�صل له و�صف‬
‫هو ال�سبب يف تنزله منزلة اخلليفة للنبي [ يف التعليم والفتيا واحلكم مبا‬
‫‪-1‬نف�س امل�صدر ‪.83/4‬‬
‫‪--2‬انظر �أدوات النظر االجتهادي املن�شود‪ ،‬قطب م�صطفى �سانو �ص ‪.83‬‬

‫‪31‬‬
‫�أراه اهلل‪ .‬و�أما الثاين –يق�صد بذلك علم اال�ستنباط‪ -‬فهو كاخلادم للأول؛‬
‫ف�إن التمكن من ذلك �إمنا هو بوا�سطة معارف حمتاج �إليها يف فهم ال�شريعة‬
‫�أوال‪ ،‬ومن هنا كان خادما للأول‪ ،‬ويف ا�ستنباط الأحكام ثانيا‪ .‬لكن ال تظهر‬
‫ثمرة الفهم �إال يف اال�ستنباط‪ ،‬فلذلك جعل �شرطا ثانيا‪ ،‬و�إمنا كان الأول هو‬
‫ال�سبب يف بلوغ هذه املرتبة لأنه املق�صود‪ ،‬والثاين و�سيلة‪ ...‬فاالجتهاد يف‬
‫ا�ستنباط الأحكام ال�شرعية علم م�ستقل بنف�سه‪ ...‬و�إن كان ثم علم ال يح�صل‬
‫االجتهاد يف ال�شريعة �إال باالجتهاد فيه‪ ،‬فهو بالبد م�ضطر �إليه‪ ...‬والأقرب‬
‫يف العلوم �إلى �أن يكون هكذا علم اللغة العربية»(((‪.‬‬
‫وع�ن��دم��ا ف��رق ب�ين �أن� ��واع االج�ت�ه��اد انتهى –رحمه اهلل‪� -‬إل ��ى القول‬
‫�إن‪«:‬االجتهاد �إن تعلق باال�ستنباط من الن�صو�ص فالبد من ا�شرتاط العلم‬
‫بالعربية‪ .‬و�إن تعلق باملعاين من امل�صالح واملفا�سد جم��ردة عن اقت�ضاء‬
‫الن�صو�ص لها‪� ،‬أو م�سلمة من �صاحب االجتهاد يف الن�صو�ص فال يلزم يف‬
‫ذلك العلم بالعربية‪ ،‬و�إمنا يلزم العلم مبقا�صد ال�شرع من ال�شريعة جملة‬
‫وتف�صيال خا�صة‪.(((»...‬‬
‫�إن هذا النظر ال�شاطبي يعطي مكانة هامة للمعرفة املقا�صدية ال تقل ب�أي‬
‫حال من الأحوال عن مكانة املعرفة الأ�صولية –كما �سبقت الإ�شارة‪ -‬ولعل‬
‫ذلك راجع �إلى �إح�سا�س �أبي �إ�سحاق ب�أن ما انتهى �إليه ع�صره من انحرافات‪،‬‬
‫واعوجاج فكري‪ ،‬كان �سببه اجلهل مبقا�صد ال�شريعة؛ والتوغل يف االن�شغال‬
‫باجلزئيات عو�ض االهتمام بالكليات‪ ،‬فتجدهم يتجر�ؤون جتر�ؤ ًا مهينا على‬
‫�أحكام اهلل و�شريعته‪ ،‬بل جتد بع�ضهم �آخذا ببع�ض جزئياتها يف هدم كلياتها‬
‫حتى ي�صري منها �إلى ما ظهر له ببادئ ر�أيه‪ ،‬من غري �إحاطة مبعانيها‪ ،‬وال‬
‫رجوع االفتقار �إليها‪ ،‬ويعني على هذا –كما ين�ص ال�شاطبي‪ -‬اجلهل مبقا�صد‬
‫ال�شريعة‪ ،‬وتوهم بلوغ مرتبة االجتهاد‪.‬‬

‫‪--1‬انظر املوافقات ‪.82-76/4‬‬


‫‪--2‬نف�س امل�صدر ‪.117/4‬‬

‫‪32‬‬
‫والناظر يف �صنيع ال�شاطبي يلم�س يف عباراته تلميحات و�إ�شارات‪ ،‬يرتجح‬
‫بها ميله �إلى و�ضع علمي الأ�صول واملقا�صد يف �إطار واحد‪ ،‬منها قوله يف‬
‫مقدمته للموافقات‪...« :‬ث��م ا�ستخرت اهلل تعالى يف نظم تلك الفوائد‪،‬‬
‫وجمع تلك الفوائد‪� ،‬إلى تراجم تردها �إلى �أ�صولها‪ ،‬وتكون عونا على تعقلها‬
‫وحت�صيلها‪ ،‬فان�ضمت �إلى تراجم الأ�صول الفقهية‪ ،‬وانتظمت يف �أ�سالكها‬
‫ال�سنية البهية‪ ،‬ف�صار كتابا منح�صرا يف خم�سة �أق �� �س��ام‪ .(((»...‬ومنها‬
‫ا�ستدالله على قطعية �أ�صول الفقه‪ ،‬ب�إرجاعها �إلى كليات املقا�صد الثالثة‪،‬‬
‫معتمدا يف ذلك على اال�ستقراء املفيد للقطع(((‪.‬‬
‫والذي يظهر من �صنيع ال�شاطبي �أنه �أراد �أن يوفق –بقدر ا�ستطاعته‪-‬‬
‫(((‬

‫بني كثري من امل�سائل التي اختلفت فيها �آراء الفقهاء نظرا الختالف �أ�صولهم‬
‫التي هي �أ�سا�س هذه امل�سائل‪ ،‬ف�أراد رحمه اهلل �أن يجمعهم حتت �سقف �أ�شمل‬
‫من مظلة �أ�صول الفقه‪ ،‬فعمد �إل��ى البحث يف مقا�صد ال�شريعة بطريقته‬
‫الإبداعية الفريدة‪.‬‬
‫وبعد �أن �أعطى الإمام ال�شاطبي للمعرفة املقا�صدية هذه املرتبة العليا يف‬
‫النظر االجتهادي‪ ،‬وهذا الوزن الثقيل يف ممار�سة العملية االجتهادية‪� ،‬أخذ‬
‫علماء كثريون –بعده‪ -‬ي�سلكون م�سلكه يف �إبراز �ضرورة املقا�صد مللجتهدين‪،‬‬
‫وبيان �أهميتها يف فهم ن�صو�ص الوحي –كتابا و�سنة‪.-‬‬
‫فقد �أكد الأ�ستاذ عالل الفا�سي �أن «مقا�صد ال�شريعة هي املرجع الأبدي‬
‫ال�ستيفاء ما يتوقف عليه الت�شريع والق�ضاء يف الفقه الإ�سالمي‪ ،‬ولكنها‬
‫‪ -1‬انظر املوافقات ‪.16/1‬‬
‫‪-2‬نف�س امل�صدر‪.16/1 .‬‬
‫‪-3‬ويف ذلك يقول ال�شاطبي يف كتابه‪« :‬وق��د مت –واحلمد هلل‪ -‬الغر�ض املق�صود‪ ،‬وح�صل بف�ضل‬
‫اهلل �إجناز ذلك املوعود‪ ،‬على �أنه بقيت �أ�شياء مل ي�سع �إيرادها‪� ،‬إذ مل ي�سهل على كثري من ال�سالكني‬
‫مرادها‪ ،‬وقل على كرثة التعط�ش �إليها ورادها‪ ،‬فخ�شيت �أن ال يردوا مواردها‪ ،‬و�أن ال ينظموا يف �سلك‬
‫التحقيق �شواردها‪ ،‬فثنيت من جماع بيانها العنان‪ ،‬و�أرح��ت من ر�سمها القلم والبيان» املوافقات‬
‫‪ 251/4‬ويا ليته مل يثن ‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫من �صميمه‪ ،‬ولي�ست غام�ضة غمو�ض القانون الطبيعي ال��ذي ال يعرف‬
‫له حد وال مورد‪ ..‬و�أن املقا�صد ت�ؤثر حتى على ما هو من�صو�ص عليه عند‬
‫االقت�ضاء»(((‪.‬‬
‫و�أما ال�شيخ ابن عا�شور‪ ،‬فقد تعر�ض غري ما مرة لبيان �أهمية املقا�صد‬
‫و�ضرورتها يف االجتهاد؛ فقد كتب ف�صال �سماه «احتياج الفقيه �إلى معرفة‬
‫مقا�صد ال�شريعة» بني فيه �أن االجتهاد يف ال�شريعة يكون على خم�سة �أوجه‬
‫هي‪:‬‬
‫‪-1‬فهم �أقوالها ون�صو�صها مبقت�ضى اللغة واال�صطالح ال�شرعي‪.‬‬
‫‪-2‬النظر فيما يعار�ض الن�ص من ن�سخ‪� ،‬أو تقييد‪� ،‬أو تخ�صي�ص‪� ،‬أو ن�ص‬
‫راجح‪...‬‬
‫‪-3‬معرفة علل الأحكام ثم القيا�س عليها‬
‫‪-4‬احلكم فيما ال ي�شمله ن�ص وال قيا�س‬
‫‪-5‬تقرير الأحكام التعبدية على ماهي عليه‪ ،‬فهذه خم�سة جماالت الجتهاد‬
‫الفقهاء‪ .‬ثم قال‪«:‬فالفقيه بحاجة �إل��ى معرفة مقا�صد ال�شريعة يف هذه‬
‫الأنحاء كلها»(((‪.‬‬
‫وكتب ف�صال �آخر بعنوان‪�«:‬أدلة ال�شريعة اللفظية ال ت�ستغني عن معرفة‬
‫املقا�صد ال�شرعية»(((‪� ،‬أكد فيه �ضرورة �أخذ الن�صو�ص مبقا�صدها‪ .‬وعقد‬
‫الدكتور حممد حامد العامل مبحثا يف حاجة املجتهد �إلى معرفة مقا�صد‬
‫ال�شارع(((‪.‬‬
‫‪-1‬انظر مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬ومكارمها �ص ‪ ،52-51‬وقد انتقد فيه الأ�ستاذ عالل الفا�سي‬
‫الدكتور �صبحي حمم�صاين �صاحب كتاب ‪«:‬فل�سفة الت�شريع الإ�سالمي»‪ ،‬لكونه اعترب مقا�صد ال�شريعة‪،‬‬
‫من امل�صادر اخلارجية للت�شريع الإ�سالمي‪.‬‬
‫‪-2‬انظر مقا�صد ال�شريعة �ص ‪.18-15‬‬
‫‪-3‬نف�س املرجع �ص ‪ 28-27‬وقد تعر�ض ابن عا�شور يف كتابه املخ�ص�ص لإ�صالح التعليم‪�«:‬ألي�س‬
‫ال�صبح بقريب»‪ ،‬تعر�ض فيه لأ�سباب �ضعف العلوم الإ�سالمية‪ ،‬ومن �ضمنها الفقه‪ ،‬وذكر �أن من‬
‫�أ�سباب �ضعفه‪ ،‬وت�أخره؛ �إهمال الفقهاء ملقا�صد ال�شريعة‪� .‬ألي�س ال�صبح بقريب �ص ‪.200‬‬
‫‪-4‬انظر املقا�صد العامة لل�شريعة الإ�سالمية �ص ‪.122-106‬‬

‫‪34‬‬
‫و�ألف الدكتور نور الدين اخلادمي كتابا حول «االجتهاد املقا�صدي» بني‬
‫فيه حجيته‪ ،‬و�ضوابطه(((‪.‬‬
‫وللدكتور �أحمد الري�سوين ر�سالة قيمة يف املو�ضوع بعنوان‪«:‬الفكر املقا�صدي‪:‬‬
‫قواعده وفوائده»(((‪ ،‬ذكر فيها �أمهات الفوائد والآثار التي جننيها من العلم‬
‫مبقا�صد ال�شريعة‪ ،‬جعل �أعظمها تلك التي يجنيها العلماء املجتهدون‪.‬‬
‫وتكمن �أهمية علم املقا�صد يف نظر الدكتور قطب م�صطفى �سانو يف‬
‫ا�شتماله على قواعد ومباحث قادرة على ح�سن �ضبط كثري من م�ستجدات‬
‫الع�صر وق�ضاياه اجلديدة‪ ،‬وتوجيهها وفق �إرادة الإ�سالم ور�ؤيته(((‪.‬‬
‫ومب��ا �أن الدرا�سات يف ه��ذا الع�صر قد �أ�ضحت تتمركز على املنهجية‬
‫العلمية ال�شاملة‪ ،‬ف�إنه ميكن �أن يكون هذا العلم ال�شرعي املر�شح مللء هذا‬
‫الفراغ؛ ذلك لأن «املقا�صد لي�ست –فح�سب‪� -‬أداة لإن�ضاج االجتهاد وتقوميه‪،‬‬
‫ولكنها –�أي�ضا‪� -‬أداة لتو�سيعه ومتكينه من ا�ستيعاب احلياة بكل تقلباتها‬
‫وت�شعباتها»(((‪.‬‬
‫وفائدة املقا�صد و �أهميتها ال تنح�صر يف االجتهاد واملجتهدين‪،‬‬
‫بل ميكن حت�صيلها لكل من ت�شبع بن�صيب منها؛ لأن مقا�صد ال�شرع‬
‫علمتنا �أنه ما من �شيء خلقه اهلل تعالى‪ ،‬وما من �شيء �أمر به �أو نهى‬
‫عنه‪ ،‬وما من �شيء ذكره �أو �أخرب عنه‪� ،‬إال وله مق�صوده �أو مقا�صده‪،‬‬
‫و�أن املطلوب ينطلق منها‪ ،‬ويهتدي بها‪ ،‬وهو ما عرب عنه الدكتور �أحمد‬
‫الري�سوين بقوله‪«:‬فاملقا�صد ب�أ�س�سها ومراميها‪ ،‬وبكلياتها مع جزئياتها‪،‬‬
‫وب�أق�سامها ومراتبها‪ ،‬ومب�سالكها وو�سائلها‪ ،‬ت�شكل منهجا متميزا للفكر‬
‫‪-1‬وهو الكتاب ‪ 65‬من �سل�سلة كتاب الأمة‪.‬‬
‫‪-2‬من�شور �ضمن من�شورات الزمن‪ ،‬الكتاب التا�سع‪ ،‬دي�سمرب ‪.1999‬‬
‫‪-3‬انظر �أدوات النظر االجتهادي‪� ،‬ص ‪.119-118‬‬
‫‪-4‬انظر نظرية املقا�صد عند الإم��ام ال�شاطبي‪ ،‬د‪� .‬أحمد الري�سوين �ص ‪ ،286‬وراج��ع مدخل �إلى‬
‫مقا�صد ال�شريعة‪ ،‬لنف�س امل�ؤلف �ص ‪ ،14‬والفكر املقا�صدي بني ابن عا�شور وعالل الفا�سي‪ ،‬له �أي�ضا‬
‫�ضمن ندوة احلركة ال�سلفية يف املغرب العربي �ص ‪.303-301‬‬

‫‪35‬‬
‫والنظر‪ ،‬والتحليل والتقومي‪ ،‬واال�ستنتاج‪ ،‬والرتكيب»(((‪.‬‬
‫وعلى حد تعبري الإمام ال�شاطبي ف�إن «زلة العامل �أكرث ما تكون عند الغفلة‬
‫عن اعتبار مقا�صد ال�شرع يف ذلك املعنى الذي اجتهد فيه»(((‪ .‬وهو ما ن�شهده‬
‫يف واقعنا املعي�ش؛ �إذ �إن �سبب جملة من االنحرافات املعا�صرة يف الت�صور‪،‬‬
‫ويف التعامل مع ن�صو�ص الوحي‪ ،‬و�إدراك �أولويات الأمة يف هذه املرحلة‪ ،‬يعود‬
‫كل ذلك �إلى عدم متكن كثري من علماء الع�صر ودعاته من هذه املعرفة‪،‬‬
‫ونبذ �أكرثهم االهتمام بها‪ ،‬و�إيالئها ما ت�ستحق من عناية ومكانة‪ .‬ولذلك‬
‫فال غرو �أن تنتع�ش الفتاوى والأحكام التي ال تويل �أدنى اهتمام للم�آالت التي‬
‫ت�ؤول �إليها تلك الأحكام يف �أر�ض الواقع(((‪.‬‬
‫مما �سبق يتبني �أن ق�ضية جتديد �أ�صول الفقه تقت�ضي �ضرورة حتديد‬
‫ت�صور علمي دقيق لهذا التجديد‪ ،‬مع بيان دواعيه ومقا�صده‪ ،‬ودوره يف‬
‫�إح��داث نقلة نوعية وم�ستقبلية لأمة اخلتم‪ ،‬وهنا �أ�سوق مقدمات منهجية‬
‫م�ساعدة يف هذا ال�سياق‪:‬‬
‫‪ -‬املقدمة الأوىل‪� :‬إن جتديد �أمر الدين يتوقف على جتديد مناهج فهم‬
‫حقائق الدين‪ ،‬وطرق التعامل مع تلك احلقائق‪ ،‬و�سبل تطويع الواقع حلقائق‬
‫الدين وتعليماته ال�سديدة‪ ،‬وجتديد مناهج الفهم يتوقف على جتديد الفكر‬
‫الأ�صويل‪ .‬وبالتايل‪ ،‬ف�إن جتديد �أمر الدين يتوقف على جتديد الفكر الأ�صويل‬
‫بو�صفه املنهجية التي حتدد مناهج فهم حقائق الدين وطرق التعامل معها‪،‬‬
‫وتفعيل الواقع بها‪ .‬وما مل يتم جتديد الفكر الأ�صويل‪ ،‬ف�إنه من املتعذر جتديد‬
‫�أمر الدين جتديدا من�شودا‪.‬‬
‫‪ -‬املقدمة الثانية‪ :‬هذه الأ�صول البديعة ‪�-‬أعني علم �أ�صول الفقه‪ -‬والتي‬
‫تتميز بها الأمة‪ ،‬هي منتج ن�سج يف فرتة ن�ش�أته حول الوحي‪ ،‬وفيه جتليات‬
‫‪--1‬انظر الفكر املقا�صدي‪ ،‬احمد الري�سوين �ص ‪.99‬‬
‫‪--2‬انظر املوافقات ‪.122/4‬‬
‫‪--3‬انظر �أدوات النظر االجتهادي‪ ،‬قطب �سانو �ص ‪.117‬‬

‫‪36‬‬
‫لعبقريات كثرية‪ ،‬كما �أن فيه �آليات ميكن �أن تلهم املفكر يف الع�صر الراهن‪،‬‬
‫لكنها مل حتافظ على تدفقها وحيويتها لأ�سباب وظروف عديدة‪ ،‬وبالتايل‬
‫وج��ب وب�شكل كبري‪ ،‬فتح االجتهاد يف �أبوابها وف�صولها من جديد وفق‬
‫�ضوابط‪ .‬وكتاب الر�سالة للإمام حممد بن �إدري�س ال�شافعي واملوافقات‬
‫لل�شاطبي‪ ،‬و�إر�شاد الفحول لل�شوكاين‪ ،‬وغريها ال تعدو جميعها �أن تكون فتحا‬
‫م�ست�أنفا ل�سجالت هذا العلم البديع‪.‬‬
‫‪ -‬املقدمة الثالثة‪� :‬إن �أ�صول الفقه ب�صورته احلالية‪ ،‬ومبختلف مدار�سه‪،‬‬
‫ميثل جهدا غزيرا ونفي�سا‪ ،‬ال يزال حا�ضرا وح ّيا‪ ،‬عنده قابلية الإ�سهام يف‬
‫حل الإ�شكاالت‪ ،‬وما زالت عنده قابلية للتعاطي مع كل امل�ستجدات‪ .‬واحلوار‬
‫دائر حول املقدرة وكيفية الت�شغيل واال�ستعمال من �أجل املق�صد الكلي وهو‬
‫حت�صيل ال�سعادة يف الدارين‪ ،‬ودور �أ�صول الفقه هو تي�سري هذا التح�صيل‬
‫يف العاجل والآجل‪.‬‬
‫‪ -‬املقدمة الرابعة‪ :‬كان وراء كل �أ�صل من الأ�صول جمموعة من النماذج‬
‫املعرفية التي كانت توجه حركة العقل امل�سلم يف عملية اال�ستنباط‪ ،‬غري‬
‫�أن هذه الق�ضية قد ح�صل الذهول عنها وانح�صر جهد العقل امل�سلم يف‬
‫اال�سرتجاع واال�سرتداد واال�ستخراج اللهم �إال ما ح�صل يف فرتات التجديد‬
‫التي وجب ا�ستئناف احلفر يف حمدداتها‪.‬‬
‫‪ -‬املقدمة اخلام�سة‪ :‬ال غ��رو �أن االنقطاعات التي حدثت �إث��ر فرتات‬
‫اال�ستعمار كانت ردود �أفعال للعقل امل�سلم النا�ضج‪ ،‬و�أول ما بد�أ التفكري‬
‫فيه �إبان فرتات اال�ستقالل هو الت�أليف يف العلوم التي تعد مبثابة اخليوط‬
‫الناظمة‪ ،‬فر�أينا �أن عالل الفا�سي يف املغرب �ألف يف مقا�صد ال�شريعة‪ ،‬ويف‬
‫تون�س جند حممد الطاهر بن عا�شور �ألف يف املقا�صد كذلك‪ ،‬ويف الهند و�ضع‬
‫ويل اهلل الدهلوي حجة اهلل البالغة‪ .‬وبد�أ احلديث امل�ست�أ َنف حول املقا�صد‬
‫وحول الكليات وامل�صالح واملفا�سد‪ ،‬وبد�أ ا�ستذكار كتب من ِقبل العقل امل�سلم‬

‫‪37‬‬
‫من قبيل قواعد الأحكام يف م�صالح الأنام للعز بن عبد ال�سالم وحماولة‬
‫اال�سرتجاع للوعي بعد االنقطاع الق�سري الذي ح�صل‪.‬‬
‫‪ -‬املقدمة ال�ساد�سة‪ :‬ال بد من االهتمام واالعتناء باملعرفة املقا�صدية‪ ،‬من‬
‫فقه بالواقع‪ ،‬واعتبار م�آالت الأفعال‪ ،‬ومراعاة ال�سياق ومقامات الأحوال‪،‬‬
‫واعتبار �سكوت ال�شارع‪ ،‬وغريها من املباحث املقا�صدية املنهجية ذات ال�صلة‬
‫الوثيقة بعلم الأ�صول‪.‬‬
‫‪ -‬املقدمة ال�سابعة‪� :‬إن امل�شكلة ال تكمن يف �إبداع مناهج جديدة يف جمال‬
‫علم الأ��ص��ول‪ ،‬ولكن يف نوعية ه��ذه املناهج املطلوبة يف اللحظة العاملية‬
‫التي نعي�شها‪ ،‬وهذا ال يتم يف نظري �إال ب�إعادة النظر يف املناهج القائمة‪،‬‬
‫وباال�ستيعاب البناء للمناهج الأ�صولية القدمية مبا يحافظ على �أ�صالتها‬
‫الإ�سالمية‪ ،‬ويجدد يف �أدائها دون �أن ي�ؤدي ذلك �إلى الت�صادم مع �أبجديات‬
‫الر�ؤية الكونية الإ�سالمية‪.‬‬
‫‪ -‬املقدمة الثامنة‪ :‬وجب القيام بعملية ت�صفية ملختلف التكل�سات املنهجية‬
‫التي غطت نورانية الآليات املنهجية الأ�صولية لظروف و�أ�سباب مبثوثة يف‬
‫مظانها ويطول املقام بذكرها‪ ،‬حيث كانت هذه الآليات ناب�ضة ونا�ضجة‬
‫وقوية وفعالة‪ ،‬ولكن �أ�صابها نوع من الرت�سبات حتتاج �إلى تنقية وتطهري‪.‬‬
‫حتى ي�سرتجع الفقه الإ�سالمي حيويته وي�ضمن ا�ستمراريته بقوة وثبات يف‬
‫هذا الذي ن�سميه واقعا مبختلف معامله‪.‬‬
‫‪ -‬املقدمة التا�سعة‪ :‬ال بد من ا�ستح�ضار البعد اال�ست�شرايف وامل�ستقبلي‬
‫عند احلديث عن التجديد يف الفقه �أو يف �أ�صول الفقه‪� ،‬إذ ال ميكن �أن‬
‫نت�صور فقها حيا ال يتعامل بطريقة ا�ست�شرافية مع الق�ضايا التي يثريها‬
‫الواقع العلمي املعا�صر مثل اال�ستن�ساخ‪ ،‬واجلينوم‪ ،‬وق�ضية �أطفال الأنابيب‪،‬‬
‫وق�ضايا الغبار النووي العابر للحدود‪ ،‬والنفايات التي تو�ضع يف املحيطات‪،‬‬
‫وغري ذلك؟ �إذا مل يكن عندنا هذا النظر اال�ست�شرايف‪ ،‬ف�إننا نكون قد حرمنا‬

‫‪38‬‬
‫عاملنا اخلري الكثري‪.‬‬
‫‪ -‬املقدمة العا�شرة‪ :‬الق�ضية ق�ضية تكليف جماعي‪ ،‬لذلك وجب احلر�ص‬
‫على �أن يتم هذا الفعل التجديدي يف �شكل م�شروع جماعي بدل اجلهود‬
‫الفردية(((‪ ،‬الغاية من ذلك �إعادة النظر يف �إمكانية تطعيم الأدلة التبعية‬
‫املعتمدة يف �أ�صول الفقه من قيا�س‪ ،‬وا�ستح�سان‪ ،‬وم�صلحة مر�سلة‪ ،‬و�سد‬
‫الذرائع‪ ،‬والعرف‪ ،‬ومراعاة اخلالف‪ ،‬وغريها بحموالت واقعية ت�أخذ بعني‬
‫االعتبار خمتلف العوامل الفكرية والثقافية وال�سيا�سية‪ ،‬حتى يت�سنى لنا‬
‫�إعادة الفاعلية واحليوية املن�شودة لهذه الأدوات‪.‬‬
‫فالذي يدعو �إلى غري قليل من الأ�سى ما �أ�صبح يعانيه هذا العلم املنهجي‬
‫من �ضعف وانح�سار‪ ،‬حيث ك��ان يف �أزم��ان م�ضت رائ��دا و�ضابطا للعلوم‬
‫الإ�سالمية بال منازع‪ ،‬بل ا�ستطاع هذا العلم �أن يكون موجها ملنهجية التفكري‬
‫الإ�سالمي ب�أكملها‪ ،‬وقائدا و�ضابطا للعلوم الإ�سالمية الأخرى‪.‬‬
‫و�إذا نظرنا �إلى واقع تدري�س هذا العلم وجدنا الإ�شكال �أعمق‪ .‬حيث جند‬
‫االفتقار �إلى كتاب �أ�صويل منوذجي‪ ،‬نتج عنه غياب التدريب على كيفية‬
‫ا�ستخدم القواعد الأ�صولية يف ا�ستنباط الأحكام ال�شرعية‪ ،‬مما حول �أ�صول‬
‫الفقه �إلى �أداة معطلة‪� ،‬إن مل يجعل حت�صيله من قبيل الرتف الفكري‪.‬‬
‫وحتى ال يتحول هذا العلم ‪-‬وعلى حد تعبري الدكتور الري�سوين‪ -‬من علم‬
‫للتفكر والتفقه �إلى علم للتربك والتفكه(((‪ ،‬وجب جتديد النظر يف منهجية‬
‫فهمه وتنزيله‪ .‬وبذلك ن�ستطيع ا�ستعادة الفاعلية والقدرة اال�ستيعابية والدور‬

‫‪ -1‬ويلحق بها البحوث الفردية التي حتمل عنوان التجديد‪ ،‬والتي متلأ رفوف خمتلف املعاهد و�أق�سام‬
‫الدرا�سات العليا والدكتوراه باجلامعات‪ ،‬لكن التكرار واالجرتار و�إعادة نف�س الأفكار حال ويحول دون‬
‫جني الثمرة املرجوة‪ ،‬و�إحراز البغية‪ ،‬وهي اخلروج مبباحث هذا العلم اجلليل نحو التفعيل والتنزيل‬
‫العمليني‪.‬‬
‫‪� -2‬أحمد الري�سوين‪« ،‬جتديد �أ�صول الفقه‪� ..‬أما �آن للمخا�ض �أن ينتج» جملة امل�سلم املعا�صر‪ ،‬العدد‬
‫‪ ،126/125‬ال�سنة ‪� ،32‬ص ‪.8‬‬

‫‪39‬‬
‫الريادي ملختلف مباحثه؛ ب�إدخال كل ما يخدم هذا الهدف‪ ،‬وتفعيل اجلانب‬
‫الإجرائي الذي يعنى بكيفية ت�شغيل القواعد الأ�صولية يف ا�ستنباط الأحكام‬
‫ال�شرعية‪ .‬و�إع��ادة ال�صياغة والرتتيب لكل مل يرتتب عليه حتقيق الهدف‬
‫املذكور على م�ستوى ال�شكل واملنهج واملحتوى‪.‬‬
‫وهذا ال يلغي متاما ما ن�شاهده اليوم من البحوث والدرا�سات الأ�صولية‪،‬‬
‫التي �أتت‪ ،‬وهلل احلمد‪ ،‬بال�شيء الكثري من التجديد والت�صحيح والتكميل‪،‬‬
‫�سواء يف البحوث اجلامعية �أو غريها‪ ،‬غري �أن م�شكلتها تكمن يف كونها متت‬
‫مبجهودات فردية‪ ،‬ويف ق�ضايا حمددة ومتفرقة‪ ،‬ومل ينتظمها بناء �شامل‬
‫ومتكامل وال نظر مت�سق‪ ،‬من �ش�أنه متكني العقلية الإ�سالمية املعا�صرة من‬
‫جمابهة امل�ستجدات والنوازل بفكر �أ�صيل معا�صر‪.‬‬
‫ه��ي �إذن مقدمات ع�شرة �أردت م��ن خاللها عر�ض بع�ض املحددات‬
‫ال�ضرورية التي ظهرت يل �أهميتها و�أولويتها عند حديثي عن ق�ضية جتديد‬
‫�أ�صول الفقه‪ ،‬وهي حمددات ت�ستدعي الت�أطري ب�أطر منهجة عملية لو�ضع‬
‫اليد على الإ�شكاالت املعرفية التي نريد جتاوزها‪ ،‬مع الرتكيز على البعد‬
‫الوظيفي للم�س�ألة‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫املبحث الثاين‪ :‬وظيفية مقا�صد ال�شريعة يف �سياق التجديد وتدبري‬
‫االختالف الفقهي‬
‫�شكل البحث يف �آفاق �أ�صول الفقه واملقا�صد و�إمكاناتها التجديدية ان�شغاال‬
‫حموريا يف اجلهود النه�ضوية لأمة اخلتم‪ ،‬منذ بوادر الت�أ�سي�س الأولى مع‬
‫ال�شافعي مرورا مبن جاء من بعده يف القرنني الرابع واخلام�س الهجريني‪.‬‬
‫حتى �إذا �أقبل القرن ال�ساد�س الهجري‪ ،‬وجد ال�ساحة الفكرية الأ�صولية‬
‫تزخر برتاث �أ�صويل ثري و�ضخم‪ ،‬الأمر الذي كان له الأثر الكبري يف انتهاج‬
‫علماء هذا القرن منهجا مغايرا يف التعامل مع تلك املدونات الأ�صولية‬
‫املوروثة‪ ،‬خمالفا ملنهج علماء القرنني الرابع واخلام�س الذي متيز باالبتكار‬
‫والإبداع‪.‬‬
‫حيث غدوا م�ستهلكني‪ ،‬يف �أغلبهم‪ ،‬للفكر الأ�صويل بدال من �إنتاجه‪ ،‬وتوزعت‬
‫جهود �أكرثهم بني �شرح املدونات الأ�صولية املوروثة حينا‪ ،‬والتعليق على تلك‬
‫املدونات حينا �آخر؛ فظهرت بذلك �أنواع عديدة من امل�ؤلفات‪ ،‬منها ما يتعلق‬
‫بامل�ؤلفات املخت�صرة‪ ،‬وت�سمى املتون‪ ،‬ومنها ما يتعلق بامل�ؤلفات ال�شارحة‬
‫وت�سمى بال�شروح‪ ،‬ومنها ما يتعلق ب�شروح ال�شرح‪ ،‬وت�سمى احلوا�شي‪ .‬وو�صل‬
‫الأمر يف هذه الفرتة �إلى التعليقات على احلوا�شي‪ ،‬و�سميت بالتقريرات‪.‬‬
‫وتركز االهتمام على العناية باملناق�شات اللفظية دون االهتمام باجلوهر‬
‫واملعنى‪.(((...‬‬
‫وك��ان ق��دوم القرنني ال�سابع والثامن الهجريني �إيذانا ب�بروز حماوالت‬
‫جريئة من علماء ت�سلحوا مبعرفة منهجية قوية‪ ،‬قوامها التفكري يف الكليات‬
‫بدل االن�شغال باجلزئيات(((‪ ،‬والنظر يف امل�آالت قبل اجلواب عن ال�س�ؤاالت‪،‬‬
‫‪ -1‬علي حممد جعفر تاريخ القوانني ومراحل الت�شريع الإ�سالمي‪� ،‬ص‪ ،181-180:‬بت�صرف‪.‬‬
‫‪ -2‬دافعها الأ�سا�سي العمل على اجتثاث الأزم��ات والنوازل الفكرية وال�سيا�سية واالجتماعية التي‬
‫�أ�صابت املجتمع الإ�سالمي �سواء يف ال�شرق �أو يف الغرب‪ ،‬نتيجة الغزوات والتحديات الكربى التي‬
‫كانت تهدد وجوده وتهدف �إلى الق�ضاء عليه جملة وتف�صيال‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫�سواء على م�ستوى فتاواهم �أو �آراءه��م االجتهادية‪ ،‬فربز اهتمام منقطع‬
‫النظري بالقواعد الفقهية واملقا�صد ال�شرعية‪�« ،‬سعيا �إلى مواجهة الواقع‬
‫الفكري الذي غدا مائال عن الكليات واملبادئ العامة»(((‪.‬‬
‫ولعل اجتهادات ابن تيمية وتلميذه ابن قيم اجلوزية‪ ،‬واختياراتهما الفقهية‬
‫خري �شاهد على هذا االجت��اه‪ ،‬كما �أن جملة من الأفكار الإ�صالحية التي‬
‫تبناها �سلطان العلماء الإمام العز بن عبد ال�سالم ت�صب‪ ،‬هي الأخرى‪ ،‬يف‬
‫هذا االجتاه‪ ،‬ونف�س الأمر بالن�سبة لتقي الدين ال�سبكي‪ ،‬يف تقريراته النرية‬
‫واجلريئة يف هذا املجال‪� .‬أما الإمام �أبو �إ�سحاق ال�شاطبي‪ ،‬فقد قدم‪ ،‬رحمه‬
‫اهلل‪ ،‬يف «نتيجة عمره ويتيمة دهره»؛ �أعني كتاب املوافقات‪ ،‬م�شروعا علميا‪،‬‬
‫�أ�ضحت معه نظرية املقا�صد روحا �ساريا يف كل امل�صطلحات الأ�صولية على‬
‫اختالف جماالتها من �أحكام و�أدلة واجتهاد وما يتفرع عن كل منها(((‪.‬‬
‫وللأ�سف كان �أف��ول �شم�س القرن الثامن الهجري �إيذانا بانتهاء عهد‬
‫االبتكار والإب��داع‪ ،‬و�شروق فجر جديد لقرون ا�ستثنائية يف تاريخ خري �أمة‬
‫�أخرجت للنا�س‪ ،‬قرون االنتكا�س واالرتكا�س يف الغالب الأعم‪ ،‬والبكاء الدائم‬
‫واملرير على املا�ضي الذي مل يبنوه ومل يحافظوا عليه‪� ،‬إال ما يعد ا�ستثناء‬
‫ال يجر�ؤ �أحد على تعميمه‪.‬‬
‫وقد كان حظ علم �أ�صول الفقه يف هذا الواقع املرير كبريا‪ ،‬فلم ي�شهد هذا‬

‫‪ -1‬قطب �سانو‪� ،‬أدوات النظر االجتهاد املن�شود يف �ضوء الواقع املعا�صر‪� ،‬ص‪.82:‬‬
‫‪ -2‬فريد الأن�صاري‪ ،‬امل�صطلح الأ�صويل عند ال�شاطبي‪� ،‬ص‪.148‬‬
‫وبف�ضل ذلك امل�شروع نقى ال�شاطبي �أهم علوم ال�شريعة فميز بني الأ�صيل والدخيل فيها‪ ،‬ف�أوجد‬
‫البديل ال�شرعي بنظرة جتديدية‪ ،‬ومل يكن �أمر التجديد بالأمر ال�سهل �إذ يتطلب �إمتام ذلك �صربا‬
‫وجلدا وفكرا ثاقبا‪ ،‬وفوق ذلك جر�أة يف احلق‪ ،‬لأن الفطام عن امل�ألوف �شديد‪ ،‬فجاءت يتيمة دهره‬
‫بعد �سهر طول الليايل والأيام �أمنوذجا يحتذى به يف جتديد علم �أ�صول الفقه يف جميع مباحثه بدءا‬
‫باملقدمات التمهيدية وانتهاء بكتاب االجتهاد‪ .‬انظر االجتهاد عند الإمام ال�شاطبي‪ ،‬درا�سة مقارنة‬
‫لآراء الأ�صوليني نا�صح علوان‪ ،‬مرقون نال به �صاحبه ر�سالة الدكتوراه يف الدرا�سات الإ�سالمية كلية‬
‫الآداب الرباط‪� .2003 ،‬ص‪.5:‬‬

‫‪42‬‬
‫العلم �أي جتدد وال مراجعة جذرية ملباحثه وق�ضاياه الأ�سا�سية(((‪.‬‬
‫و�إن يكن من تغيري �أو تطور ميكن للمرء �أن يلحظه يف هذا الفكر بعد‬
‫القرن الثامن‪ ،‬فال يعدو �أن يكون على م�ستوى ال�شرح‪ ،‬والتلخي�ص‪ ،‬والتعليق‪،‬‬
‫والتغليق‪ ،‬ومل تتجاوز جهود �أعالمه دائرة ح�سن ال�صياغة والرتجيح بني‬
‫الآراء وحتقيق القول فيما اختلف فيه الأول��ون‪ ،‬دومن��ا حماولة ربط ذلك‬
‫بالواقع املعي�ش‪ ،‬ولعل م�ؤلفات الإم��ام ال�سيوطي(‪911‬هـ) يف (الأ�صول)‬
‫وال�شوكاين(‪1250‬هـ) يف (�إر�شاد الفحول �إلى حتقيق احلق من علم الأ�صول)‬
‫متثل هذا االجتاه يف تناول مو�ضوعات ومباحث الفكر الأ�صويل بوجه عام‪،‬‬
‫وم�سائل النظر االجتهادي بوجه خا�ص(((‪.‬‬
‫حتى �إذا و�صلنا �إلى الع�صر احلا�ضر‪ ،‬وبال�ضبط يف بداية ال�سبعينيات‬
‫جند ق�ضية جتديد �أ�صول الفقه اكت�سبت طابعا �إ�شكاليا؛ حيث �أثريت عدة‬
‫ت�سا�ؤالت عن املعنى املق�صود بتجديد العلم املوروث املبارك؟ وما �ضوابط‬
‫هذه العملية؟ وما املجاالت التي ميكن للتجديد ارتيادها؟ وما الو�سائل‬
‫املعتمدة لتنفيذ �أي م�شروع جتديدي؟ وما املنهج املعتمد يف ذلك؟ ثم‬
‫هل هو منهج �أو مناهج؟ وغريها من الأ�سئلة امللحة التي تتطلب �أجوبة‬
‫علمية وافية‪.‬‬
‫�إن التجديد يف هذه املناهج هو ال��ذي من خالله ميكن �أن يتم �إ�سهام‬
‫امل�سلمني و�شراكتهم يف ت�شكيل التاريخ املعريف واحل�ضاري الكوين‪ ،‬انطالقا‬
‫من قوة اقرتاح قابلة للفهم والفح�ص‪ ،‬مت�أبية على الرد والتفنيد‪ ،‬و�إال ف�إن‬
‫‪ -1‬جتدر الإ�شارة �إلى املحاولة اليتيمة التي قام بها ال�شوكاين‪- ،‬رحمة اهلل عليه‪ -‬يف القرن الثاين‬
‫ع�شر الهجري يف كتابه �إر�شاد الفحول �إلى حتقيق احلق من علم الأ�صول‪ ،‬انح�صرت فيما �أورده من‬
‫مالحظات قيمة حول �أحاديث �سابقيه عن �آيات و�أحاديث الأحكام الواجب معرفتها قبل الت�صدي‬
‫لالجتهاد‪ ،‬واحلال �أن تلك الآي��ات والأحكام غري خا�ضعة للح�صر‪ ،‬ينظر يف هذا ال�صدد �إر�شاد‬
‫الفحول لل�شوكاين حتقيق‪� ،‬شعبان حممد �إ�سماعيل ‪ ،203-792/2‬و�أدوات النظر االجتهادي‪،‬‬
‫قطب �سانو‪� ،‬ص‪.19:‬‬
‫‪ -2‬قطب �سانو‪�،‬أدوات النظر االجتهادي �ص‪ 91-90:‬بت�صرف‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫غياب‬
‫هذا التاريخ املعريف واحل�ضاري العام �سوف ي�ستمر يف الت�شكل ونحن ٌ‬
‫هذا الغياب اجلزئي(((‪.‬‬
‫ومن املهم الت�أكيد هنا على �أن تف�سري �إ�شكالية التجديد وتقدمي مفهوم‬
‫له‪،‬كان مرتبط ًا دوم ًا بطبيعة التحديات التاريخية التي كانت تواجه امل�سلمني‬
‫ك�أمة ووجود‪ ،‬وكل ع�صر ينفرد بخ�صو�صياته‪ .‬وهذا ما جعل هذا امل�صطلح‬
‫يتخذ يف الفكر الإ�سالمي املعا�صر تف�سريات خمتلفة‪ .‬حيث �أ�صبح من �أكرث‬
‫امل�صطلحات �إثار ًة و�شيوع ًا يف الفكر الإ�سالمي املعا�صر‪ ،‬و�أعني باملعا�صر‬
‫هنا كل التيارات الراهنة دون ا�ستثناء‪ ،‬ويف الوقت نف�سه يثري ح�سا�سية‬
‫بالغة يف بع�ض الأو�ساط نتيجة ل�سوء ا�ستخدامه والتالعب بالدين حتت‬
‫عباءته‪ .‬ولي�س همي يف هذا البحث عر�ض هذه االجتاهات وتتبعها‪ ،‬فذلك‬
‫�أ�صبح متاحا م�شاعا بني الباحثني يف هذا املجال‪ ،‬و�أجنزت حوله درا�سات‬
‫و�أطروحات جامعية يف خمتلف جامعات العامل‪ ،‬ومظانه حمددة ومعروفة‬
‫ومتداولة‪ .‬لي�س حملها هنا‪ ،‬ولكن ق�صدي الأ�صلي بيان �أن الأم��ر �أ�صبح‬
‫ي�ستدعي �ضرورة �إيالء ق�ضية املنهج ما ت�ستحق يف هذا اجلانب‪.‬‬
‫فرغم �أن ق�ضية (املنهج) تعد مبثابة القلب من ج�سد البحث العلمي‬
‫ب�صفة عامة‪ ،‬ف�إن الناظر يف �أحوال الأمة عامة‪ ،‬واحلال العلمية منها خا�صة‪،‬‬
‫يلحظ بي�سر �أن كثريا من الأم��وال والأوق��ات والطاقات ت�ضيع ب�سبب ف�ساد‬
‫املنهج‪ .‬و�إذا كان هذا حال املنهج على م�ستوى العلوم الإ�سالمية؛ مل يلق حظه‬
‫الكايف من العناية والرعاية‪ ،‬ف�إن حاله يف علم �أ�صول الفقه‪ ،‬الذي يعد علما‬
‫منهجيا بالدرجة الأولى يبقى من الأهمية مبكان‪ .‬وغيابه ي�شكل حتديا كبريا‬
‫مل�سرية هذا العلم‪ ،‬ذلك �أن ال�سعي �إلى جتديد علم الأ�صول يف غياب منهج‬
‫ر�صني يف�ضي قطعا �إلى �ضرب من التهافت والفو�ضى يف �شكل هذا التجديد‬
‫وحمتواه‪.‬‬
‫‪� -1‬أحمد عبادي «ولقد ي�سرنا القر�آن للذكر» افتتاحية العدد ‪ 27‬من جملة الإحياء‪ ،‬فرباير‬
‫‪� ،2008‬ص ‪.11‬‬

‫‪44‬‬
‫و�سواء قلنا �إن علم �أ�صول الفقه ي�شتمل على ثالثة �أركان‪� ،‬أولها التعريفات‬
‫وامل�صطلحات و�إ�شكالية املفاهيم‪ ،‬وثانيها قواعد الأ�صول مثل «الأمر للوجوب‬
‫ما مل ت�صرفه قرينة تدل على غري ذلك» و«�أن امل�شرتك ال يعم»‪ ،‬وثالثها‬
‫م�سائل الأ�صول‪ ،‬كما ذهب �إلى ذلك الدكتور علي جمعة(((‪� ،‬أو ذهبنا مع‬
‫اعتبار �أ�صول الفقه يقوم على بنية رباعية‪ ،‬هي الأحكام واملقا�صد والأدلة‬
‫واالجتهاد‪ ،‬كما ذه��ب �إل��ى ذل��ك ح�سن حنفي(((‪ ،‬كل ذل��ك ي�ؤكد ق�صدنا‬
‫الأ�سا�س من �أن الأمر فعال يحتاج �إلى جتديد املنهج‪ ،‬منهج الفهم ومنهج‬
‫التنزيل‪ ،‬وعيا منا بدور علم �أ�صول الفقه يف ا�ستئناف امل�سار االجتهادي‬
‫للأمة‪ ،‬وجتديد العلوم الإ�سالمية‪ ،‬وحتقيق نه�ضة �شاملة تخرج الأمة من‬
‫م�أزقها الفكري و�أزمتها احل�ضارية‪.‬‬
‫واملق�صود الأ�سا�سي م��ن قولنا جتديد املنهج يف فهم وتنزيل الفكر‬
‫الأ��ص��ويل‪ ،‬هو �إع��ادة ق��راءة وفهم العديد من الأدوات املعرفية واملناهج‬
‫الفكرية التي تعترب �أدوات بحثية معرفية ي�ستعان بها يف الك�شف عن مراد‬
‫اهلل يف امل�سائل غري املن�صو�ص عليها‪ ،‬وذلك بغية تفعيل ما ال يزال منها‬
‫قواعد هامة و�ضرورية‪ ،‬ف�ضال عن �إ�ضافة �أدوات منهجية �آنية تزيد الفكر‬
‫الأ�صويل ح�ضورا ومتكينا وت�أثريا وفاعلية وديناميكية‪.‬‬
‫وهذا التجديد مي�س تلك الأدوات املعرفية التي تعرف يف الدر�س الأ�صويل‬
‫بالأدلة التبعية �أو امل�صادر الفرعية‪ ،‬وت�شمل القيا�س‪ ،‬والإجماع‪ ،‬واال�ستح�سان‪،‬‬
‫و�سد ال��ذرائ��ع‪ ،‬وامل�صالح املر�سلة‪ ،‬وعمل �أه��ل املدينة‪ ،‬وق��ول ال�صحابي‪،‬‬
‫والعرف‪ ،‬ومراعاة اخلالف‪ ،‬و�شرع من قبلنا‪ ،‬واال�ستقراء‪ ،‬واال�ست�صحاب‪،‬‬
‫وغريها من الأدلة التبعية التي اجتهد علماء الأ�صول‪ ،‬رحمة اهلل عليهم‪ ،‬يف‬
‫�إقامتها وبيان فائدتها(((‪.‬‬
‫‪ -1‬علي جمعة‪«،‬جتديد علم �أ�صول الفقه‪ :‬الواقع والآفاق»‪ ،‬جملة امل�سلم املعا�صر‪ ،‬العدد ‪،126/125‬‬
‫ال�سنة ‪� ،32‬ص ‪ 24‬ـ‪.31‬‬
‫‪ -2‬ح�سن حنفي‪« ،‬مقا�صد ال�شريعة و�أه��داف الأم��ة‪ :‬قراءة يف املوافقات لل�شاطبي»‪ ،‬جملة امل�سلم‬
‫املعا�صر‪ ،‬العدد ‪ ،103‬ال�سنة ‪� ،26‬ص ‪78.‬‬
‫‪ -3‬قطب �سانو‪" ،‬قراءة معرفية يف الفكر الأ�صويل"‪� ،‬ص ‪ 145‬ـ‪ 146‬بت�صرف‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫وعندما نتحدث عن فقه التنزيل ن�ستح�ضر بال�ضرورة حمورية مقا�صد‬
‫ال�شريعة يف هذا التنزيل؛ ذلك �أن اجلانب التنزيلي يحتاج �إلى من يقدر‬
‫الأم��ور حق قدرها‪ ،‬مراعيا م�آالتها‪ ،‬معتربا ل�سياقاتها وخمتلف قرائنها‪،‬‬
‫ويدخل يف هذا الإطار كل ما قرره وقعده علماء الأ�صول حتت عنوان‪� :‬أ�صل‬
‫اعتبار امل ��آل‪ ...‬وللمدر�سة املالكية �إ�سهامها الكبري يف هذا اجلانب‪ ،‬لعل‬
‫�أبرزها �إ�سهامات �صاحب املوافقات واالعت�صام؛ الإمام �أبي �إ�سحاق ال�شاطبي‬
‫املالكي‪ ،‬وقبله الإمام القرايف املالكي‪ .‬فال ميكن �أن نطمح �إلى تنزيل را�شد‬
‫دون تدبري م�آيل ودون النظر يف العواقب وامل�آالت‪.‬‬
‫لذلك فال متام لتحقيق مق�صد فهم ال�شريعة وتنزيلها‪ ،‬وتدبري االختالف‬
‫بني ورادها و�أهلها العاملني ب�أحكامها‪ ،‬الذي هو الغاية من �إبداع علم �أ�صول‬
‫الفقه‪ ،‬ووظيفته احلقيقية‪ ،‬ما مل تتم اال�ستعانة باملعرفة املقا�صدية التي ت�شكل‬
‫�إلى جانب املعرفة الأ�صولية مركبا معرفيا متنا�سقا من �ش�أنه �أن ير�سم معامل‬
‫منهج يخول للمجتهدين ‪-‬مبقت�ضى التمر�س به‪ -‬االنخراط يف �سلك العلماء‬
‫الربانيني الرا�سخني‪ ،‬الناظرين يف امل�آالت قبل اجلواب عن ال�س�ؤاالت‪.‬‬
‫�أ�ضف �إلى ذلك �أن املق�صد الأ�سا�س من جتديد النظر يف منهج فهم وتنزيل‬
‫�أ�صول الفقه يف ع�صرنا احلا�ضر‪ ،‬هو يف حقيقته ربط بني الفهم والتقومي‬
‫والتنزيل‪ ،‬يرافقه الدرا�سة والتحليل والت�أ�صيل‪ ،‬وبيان مدى �إمكانية اال�ستفادة‬
‫من هذا املركب الثالثي يف االجتهاد املعا�صر بغية حتقيق قيومية الدين على‬
‫واقع الأف��راد واجلماعات والأم��م‪ ...« ،‬فقد ر�أينا بوادر الجتهادات فردية‬
‫وجماعية‪ ،‬وهذا �شيء م�شرف �إلى حد ما‪ ،‬ولكن املرعب حقا الذي نخاف‬
‫�أن تنقلب �آث��اره �إلى نتيجة عك�سية هو ت�صدي كثري من غري املتخ�ص�صني‬
‫للكالم عن العلوم الإ�سالمية وعن االجتهاد‪ ،‬وقد اجتهدوا بالفعل‪ ،‬ودلتنا‬
‫اجتهاداتهم هذه على �أنهم ال يح�سنون من �ضروريات �آالت االجتهاد �شيئا‪،‬‬
‫ف�ضال عن �شروطه وكمالياته‪ ،‬ملا يف فتاواهم من تناق�ض �صريح لن�صو�ص‬
‫الكتاب وال�سنة‪� ،‬أو لإ ج�م��اع ا لأ ئ�م��ة‪� ،‬أو خمالفة القواعد العامة‪،‬‬

‫‪46‬‬
‫ونحن ال نق�صد �أن جنعل االجتهاد وعلومه كن�سية ‪-‬كما يف الغرب‪ -‬تقت�صر‬
‫على فئة معينة‪ ،‬بل نريد التخ�ص�ص يف هذا املجال كغريه‪.(((»...‬‬
‫لذلك وجب على املجتهد يف تنزيل �أحكام ال�شرع على الواقع ـ �إ�ضافة �إلى‬
‫معرفته وحيازته جملة من املعارف الأ�سا�سية من �أ�صول‪ ،‬ولغة‪ ،‬وبالغة‪،‬‬
‫و�آيات و�أحاديث �أحكام ـ �أن يكون عارفا �أي�ضا بـ«مقا�صد ال�شارع‪ ،‬وت�صرفاته‬
‫يف �أحكامه‪ ،‬وتنزيله الكليات على اجلزئيات‪ ،‬وربط الأ�سباب بامل�سببات»(((‪.‬‬
‫وهذا املنهج يفيد يف العديد من الق�ضايا من مثل االختالف الفقهي‪ ،‬مما‬
‫يجعل ال�س�ؤال الآت��ي ذا قيمة علمية‪ :‬ما هي وظيفية مقا�صد ال�شريعة يف‬
‫تدبري االختالف الفقهي الذي ما جاء علم �أ�صول الفقه �إال ل�ضبطه وتقنينه؟‬
‫ثم ما هي الإمكانات النظرية لهذا البعد الوظيفي؟ وما هي �سبل التحقق‬
‫العملي لهذا الغر�ض؟‬
‫اختلفت ت�صنيفات العلماء ملقا�صد ال�شريعة؛ فهناك من يعتربه �أ�صول‬
‫�أ�صول الفقه‪ ،‬ي�ؤثر يف ترتيب امل�صادر‪ ،‬ويحكم خطى اال�ستنباط‪ ،‬ويتدخل‬
‫يف منطقة تنـزيل الأحكام مقدمات ونتائج‪ ،‬وهناك من يراه علم الأخالق‬
‫الإ�سالمية‪ ،‬ويكاد ي��رادف قيم ال�شريعة‪ ،‬وهو علم للمنهج عند الآخرين‬
‫ي�ضبط العقل الإ�سالمي يف النظرية والتطبيق(((‪ .‬وهذه االجتهادات كلها‬
‫حممودة باعتبارها �صحوة عقلية حتارب اجلمود‪ ،‬ونه�ضة جد فاعلة تتغيى‬
‫ح�ضور الإ�سالم يف كل امل�ساحات‪.‬‬
‫�أ�ضف �إلى ذلك �أن هذا املبحث قد انبثقت عنه �إ�شكالية يف غاية الأهمية‪،‬‬
‫وعلى درجة ال ي�ستهان بها؛ تعترب من املرتكزات الأ�سا�سية للقول باملقا�صد‬
‫‪ -1‬احل�سني �أيت �سعيد‪« ،‬من امل�ؤهل لتقدير امل�صالح واملفا�سد»‪ ،‬جملة الإملاع‪ ،‬العدد‪ ،‬ال�سنة الأولى‪،‬‬
‫يوليوز ‪� ،2000‬ص ‪.94‬‬
‫‪ -2‬احل�سن �أيت �سعيد‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪ ،96‬وراجع �أي�ضا «التجديد يف التعليل الفقهي» له �أي�ضا‪� ،‬ضمن‬
‫�أعمال ندوة‪« :‬االجتهاد الفقهي �أي دور و�أي جتديد» تن�سيق الدكتور حممد الروكي‪� ،‬ص ‪119‬ـ ‪.123‬‬
‫‪ -3‬حممد كمال الدين �إمام‪«،‬نظرة يف املقا�صد ال�شرعية»‪ ،‬جملة امل�سلم املعا�صر‪ ،‬ع ‪ ،103‬فرباير‪/‬‬
‫مار�س ‪� ،2002‬ص ‪.5‬‬

‫‪47‬‬
‫الكلية بعد �أن ظهر �أن علم �أ�صول الفقه مل يحقق الغر�ض منه وهو «اخلروج‬
‫من اخلالف»‪ ،‬وهي الإ�شكالية املتعلقة بطبيعة املقا�صد امل�ستنبطة من حيث‬
‫ما �إذا كانت قطعية �أم ظنية‪.‬‬
‫فقد اختار ال�شاطبي علم �أ�صول الفقه‪ ،‬وجعله حمال لتحقيق طموحه الأول‬
‫وهو التجديد‪ ،‬وتقدمي �أدوات منهجية فعالة ت�ساعد على التقريب بني مدارك‬
‫الفقهاء وجتميع منطلقاتهم النظرية يف �أطر كلية �ضابطة‪ ،‬ومتوافق عليها‬
‫بعيدا عن املقت�ضيات اجلزئية للمذاهب الفقهية‪ .‬ولي�س بغريب �أن يكون‬
‫على وعي بقيمة ما �أبدعه‪ ،‬فهو يقول يف �ش�أن كتاب املوافقات‪« :‬ال جرم �أنه‬
‫قرب عليك يف امل�سري‪ ،‬و�أعلمك كيف ترقى يف علوم ال�شريعة و�إلى �أين ت�سري‪،‬‬
‫ووقف بك من الطريق ال�سابلة على الظهر‪ ،‬وخطب لك عرائ�س احلكمة ثم‬
‫وهب لك املهر»(((‪.‬‬
‫والوا�ضح من �صنيع ال�شاطبي يف موافقاته �أنه مل يق�صد �إلى و�ضع كتاب‬
‫تقليدي ي�ستويف مباحث الأ�صول على �صورتها‪ ،‬و�إال فقد �أعر�ض عن مباحث‬
‫هي من �صميم ما تداوله كتب �أ�صول الفقه‪ ،‬ولكن كان اختياره مق�صودا‪،‬‬
‫يتمثل‪� :‬أوال يف ا�ستجالء �أ��س��رار ال�شريعة؛ �أو كما ا�صطلح عليه «�أ�سرار‬
‫التكليف»‪ ،‬وثانيا العمل على تقليل االختالف الفقهي؛ �أو كما �سماه «التوفيق‬
‫بني مذهبي ابن القا�سم و�أبي حنيفة»(((‪.‬‬
‫وق��د ب�ّي�نّ ذل��ك يف مقدمة امل��واف�ق��ات ف�ق��ال‪« :‬ولأج ��ل م��ا �أودع فيه ‪�-‬أي‬
‫املوافقات‪ -‬من الأ�سرار التكليفية املتعلقة بهذه ال�شريعة احلنيفية‪� ،‬سميته‬
‫بعنوان التعريف ب�أ�سرار التكليف‪ ،‬ثم انتقلت عن هذه ال�سيماء ل�سند غريب‬
‫يق�ضي العجب منه الفطن الأري��ب‪ ،‬وحا�صله �أين لقيت يوما بع�ض ال�شيوخ‬
‫‪ --1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.17/1‬‬
‫‪ -2‬ذكر ال�شاطبي الإمام �أبا حنيفة وذكر معه ابن القا�سم وهو من تالمذة الإمام مالك بن �أن�س‪،‬‬
‫مما يفهم منه �أن �أبا �إ�سحاق كان يعلم علم اليقني �أن �أهل الأندل�س ال ير�ضون ب�أي مذهب غري مذهب‬
‫مالك‪ ،‬فخ�شية للفتنة على نف�سه جتنب �أن ي�سوي بني مالك وغريه حتى ولو كان �أبا حنيفة‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫الذين �أحللتهم مني حمل الإفادة‪ ،‬وجعلت جمال�سهم العلمية حمطا للرحل‬
‫ومناخا للوفادة‪ ،‬وقد �شرعت يف ترتيب الكتاب وت�صنيفه‪ ،‬ونابذت ال�شواغل‬
‫دون تهذيبه وت�أليفه‪ .‬فقال يل‪ :‬ر�أيتك البارحة يف النوم‪ ،‬ويف يدك كتاب‬
‫�ألفته‪ ،‬ف�س�ألتك عنه‪ ،‬ف�أخربتني �أنه «كتاب املوافقات» قال‪ :‬فكنت �أ�س�ألك عن‬
‫هذه الت�سمية الظريفة‪ ،‬فتخربين �أنك وفقت به بني مذهبي ابن القا�سم و�أبي‬
‫حنيفة‪.(((»...‬‬
‫وهو املعنى الذي ختم به موافقاته عندما قال‪ ...« :‬على �أن يف �أثناء الكتاب‬
‫رموزا م�شرية‪ ،‬و�أ�شعة تو�ضح من �شم�سها املنرية‪ .‬فمن تهدى �إليها رجا بحول‬
‫اهلل الو�صول‪ ،‬ومن ال فال عليه �إذا اقت�صر التح�صيل على املح�صول‪ ،‬ففيه �إن‬
‫�شاء اهلل مع حتقيق علم الأ�صول علم يذهب به مذاهب ال�سلف‪ ،‬ويقفه على‬
‫الوا�ضحة �إذا ا�ضطرب النظر واختلف»(((‪.‬‬
‫اختار ال�شاطبي �إذن مدخل �أ�سرار التكليف‪ ،‬وهي يف حقيقتها مقا�صد‬
‫ال�شريعة الكلية‪ ،‬للتوفيق بني فقهاء الأم��ة وعلمائها �إذا ا�ضطرب النظر‬
‫واختلف‪ ،‬وهو ما يفهم من قوله‪ ...« :‬ليكون ـ �أيها اخلل ال�صفي‪ ،‬وال�صديق‬
‫ال��ويف ـ ه��ذا الكتاب عونا لك يف �سلوك الطريق‪ ،‬و�شارحا ملعاين الوفاق‬
‫والتوفيق‪ ،‬ال ليكون عمدتك يف كل حتقق وحتقيق‪ ،‬ومرجعك يف ما يعن لك من‬
‫ت�صور وت�صديق؛ �إذ قد �صار علما من جملة العلوم‪ ،‬ور�سما ك�سائر الر�سوم‪،‬‬
‫وموردا الختالف العقول وتعار�ض الفهوم‪ ،‬ال جرم �أنه قرب عليك يف امل�سري‪،‬‬
‫و�أعلمك كيف ترقى يف علوم ال�شريعة و�إلى �أين ت�سري‪ ،‬ووقف بك من الطريق‬
‫ال�سابلة على الظهر‪ ،‬وخطب لك عرائ�س احلكمة ثم وهب لك املهر»(((‪.‬‬
‫وهو يقول ب�صريح العبارة �إن الغاية من ت�أليف كتابه التوفيق بني الأ�شباه‬
‫والنظائر «�شارحا ملعاين الوفاق والتوفيق»؛ مبعنى �أن فيه قواعد يزال بها‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪16 /1‬ـ‪.17‬‬
‫‪ -2‬امل�صدر ال�سابق ‪.251/4‬‬
‫‪ -3‬امل�صدر ال�سابق ‪.17/1‬‬

‫‪49‬‬
‫التعار�ض‪ ،‬وقواعد ميكن �أن تلحق ال�شبيه بال�شبيه‪ ،‬والنظري بالنظري‪ ،‬ملن �أراد‬
‫�إ�صابة احلق والعمل به‪ ،‬ولهذا يو�صي املت�صدر لهذا الفعل اجللل باالبتعاد‬
‫عن كل �أ�شكال التع�صب املقيت‪ ،‬بقوله‪« :‬والب�س التقوى �شعارا واالت�صاف‬
‫بالإن�صاف دثارا‪ ،‬واجعل طلب احلق لك نحلة‪ ،‬واالعرتاف به لأهله ملة‬
‫ال متلك قلبك عوار�ض الأغرا�ض‪ ،‬وال تغر جوهرة ق�صدك طوارق الإعرا�ض‪،‬‬
‫وقف وقفة املتخريين ال وقفة املتحريين‪� ،‬إال �إذا ا�شتبهت املطالب‪ ،‬ومل يلح‬
‫وجه املطلوب للطالب فال عليك من الإحجام‪ ،‬و�إن لج اخل�صوم‪ ،‬فالواقع يف‬
‫حمى امل�شتبهات هو املخ�صوم‪ ،‬والواقف دونها هو الرا�سخ املع�صوم‪ ،‬و�إمنا‬
‫العار وال�شنار على من اقتحم املناهي ف�أوردته النار‪ .،‬ال ترد م�شرع الع�صبية‪،‬‬
‫وال ت�أنف �إذا الح وجه الق�ضية‪.(((»..‬‬
‫و�سواء قلنا �إن ال�شاطبي �أراد �أن يقدم حال �شامال لإخراج علم �أ�صول الفقه‬
‫من حالة االن�سداد املعريف الذي وقع فيه يف غفلة عن املقا�صد ال�شرعية‪،‬‬
‫�أو قلنا �إنه �أراد �أن يحدث نقلة نوعية يف املباحث الأ�صولية‪ ،‬و�إجراء مراجعة‬
‫نقدية جذرية تنتقل ب�أ�صول الفقه من مرحلة ا�ستنباط الأحكام من �ألفاظ‬
‫ال�شارع‪� ،‬إلى مرحلة ا�ستنباط املعاين من الأحكام‪ ،‬وهي م�س�ألة تتجاوز بيئتها‬
‫التاريخية واالجتماعية‪ ،‬للتحول �إلى م�س�ألة معرفية بالأ�سا�س(((‪� .‬أو قلنا غري‬
‫ذلك‪ ،‬ف�إن الرجل قد فعلها �إذن‪ ،‬وعزم وتوكل على خالقه‪ ،‬فخطب عرائ�س‬
‫احلكمة‪ ،‬ووهب املهر نيابة عن علماء الأمة‪ ،‬مق�صده من ذلك تدبري اختالف‬
‫العقول‪ ،‬ودفع تعار�ض الفهوم با�ستعمال البعد الوظيفي ملقا�صد ال�شريعة‪..‬‬
‫وك�أين به‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬يلقي بالعهدة على علماء ال�شرع لعقد القران حتت‬
‫م�سمى تدبري االختالف الواقع بني فقهاء الأم�صار‪ ،‬ب�شرط �أن «ال ي�سمح‬
‫للناظر يف هذا الكتاب ـ يعني املوافقات ـ نظر مفيد �أو م�ستفيد حتى يكون‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.17/1‬‬
‫‪ -2‬حممد بن ن�صر‪ ،‬املقا�صد ال�شرعية بني حيوية الفكرة وحمدودية املفهوم واملنهج‪ ،‬جملة �إ�سالمية‬
‫املعرفة‪ ،‬العدد ‪� ،49‬صيف ‪� ،2007‬ص ‪.56‬‬

‫‪50‬‬
‫ر ّيانَ من علم ال�شريعة‪� ،‬أ�صولها وفروعها‪ ،‬منقولها ومعقولها‪ ،‬غري خملد‬
‫�إلى التقليد والتع�صب للمذهب؛ ف�إنه �إن كان هكذا خيف عليه �أن ينقلب‬
‫عليه ما �أودع فيه فتنة بال َع َر�ض‪ ،‬و�إن كان حكمة بالذات»(((‪.‬‬
‫ويف �سبيل حتقيق هذا الهدف الأ�سمى‪ ،‬كانت املقدمة التي افتتح بها‬
‫ال�شاطبي موافقاته هي‪�« :‬أن �أ�صول الفقه يف الدين قطعية ال ظنية؛ والدليل‬
‫على ذلك �أنها راجعة �إلى كليات ال�شريعة‪ ،‬وما كان كذلك فهو قطعي»(((‪.‬‬
‫وهو بهذا يريد بناء الأ�صول على القطع وتخلي�صها من الظنون وما دخلها‬
‫مما هو عارية‪ ،‬قائ ًال‪�« :‬إن �أدهى ما يلقاه ال�سالك للطريق فق ُد الدليل»(((‪،‬‬
‫والدليل هو ما يف�ضي �إلى القطع ويرفع اخلالف‪.‬‬
‫وهو املعنى عينه الذي ي�ؤكد عليه ابن عا�شور؛ �إذ يقول يف �سبب ت�أليف‬
‫كتابه‪« :‬دعاين �إلى �صرف الهمة �إليه ما ر�أيت من ع�سر االحتجاج بني‬
‫املختلفني يف م�سائل ال�شريعة؛ �إذ كانوا ال ينتهون يف حجاجهم �إلى �أدلة‬
‫�ضرورية �أو قريبة منها يذعن �إليها املكابر ويهتدي بها امل�شبه عليه‪ ،‬كما ينتهي‬
‫�أهل العلوم العقلية يف حجاجهم املنطقي والفل�سفي �إلى الأدلة ال�ضروريات‬
‫وامل�شاهدات والأ�صول املو�ضوعة فينقطع بني اجلميع احلجاج‪ ،‬ويرتفع‬
‫من �أهل اجلدل ما هم فيه من جلاج‪ ،‬ور�أيت علماء ال�شريعة بذلك �أولى‪،‬‬
‫وللآخرة خري من الأولى»(((‪.‬‬
‫وبعد عر�ضه لطرق الك�شف عن مقا�صد ال�شريعة املعلومة لدى ال�سلف‪،‬‬
‫وعند من حلق بهم من املجتهدين والأئمة الفقهاء؛ دعا ال�شيخ ابن عا�شور‬
‫‪-‬رحمه اهلل‪� -‬إلى جتديد علم الأ�صول بالإبقاء على امل�سائل الهامة التعليمية‬
‫املت�صلة به ات�صاال �أ�صليا‪ ،‬وتفريغه مما ي�شوبه من م�سائل العلوم ‪-‬وهي‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.61/1‬‬
‫‪ -2‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.19/1‬‬
‫‪ -3‬امل�صدر ال�سابق ‪.15/1‬‬
‫‪ -4‬حممد الطاهر ابن عا�شور‪ ،‬مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية �ص‪.3‬‬

‫‪51‬‬
‫نف�س الدعوة التي ب�سطها الإمام ال�شاطبي يف املقدمة الرابعة من مقدماته‬
‫املنهجية لكتاب املوافقات‪ -‬ثم �إلى تعوي�ضه بعلم املقا�صد ال�شرعية الذي هو‬
‫�أو�سع منه ملا فيه من املقا�صد القطعية والقريبة منها والظنية‪.‬‬
‫هم ت�أ�سي�س قواعد اال�ستدالل الفقهي على القطع م�شرت ًكا بني‬ ‫و�إذا كان ّ‬
‫زمرة من علماء الأ�صول حاولوا �إجنازه يف �سياق نظراتهم التجديدية يف علم‬
‫�أ�صول الفقه‪ ،‬مثل اجلويني‪ ،‬والعز بن عبد ال�سالم‪ ،‬والقرايف‪ ،‬وال�شاطبي‪،‬‬
‫وابن عا�شور(((‪ ،‬ف�إن هذا الهم نف�سه كان حمور االهتمام يف املقا�صد‪ ،‬و�صو ًال‬
‫�إلى ا�ستقاللها عن الأ�صول مع ابن عا�شور ومن منطلق البحث عن اليقني‬
‫وت�ضييق اخلالف(((‪.‬‬
‫فما هي حدود الوفاق واالختالف بني ال�شاطبي وابن عا�شور يف �س�ؤال‬
‫القطعية والظنية يف �أ�صول الفقه؟ ثم ما هي �آث��ار ذلك على االختالف‬
‫الفقهي؟‬
‫اعتمد الإمام ال�شاطبي �س�ؤال القطع والظن مدخال للقول باملقا�صد الكلية‬
‫التي تعد ال�سبيل الأوح��د للخروج من اخل�لاف‪ ،‬والتقليل منه بني فقهاء‬
‫امل�سلمني‪ .‬وليتخذ علم �أ�صول الفقه جماال خ�صبا مل�شروعه االجتهادي‪،‬‬
‫وليقطع داب��ر الظنيات املهيمنة على القواعد الأ�صولية‪ .‬ومل يتوان منذ‬
‫ال�صفحات الأولى من موافقاته عن تقرير قطعية �أ�صول الفقه «�إن �أ�صول‬
‫الفقه يف الدين قطعية ال ظنية»(((‪ ،‬معلنا تطهري علم الأ�صول من الظنيات‬
‫و�إقامته على القطعيات‪.‬‬
‫والظاهر �أن �أبا �إ�سحاق كان يرمي �إلى �إعادة ت�أ�سي�س قواعد قطعية جديرة‬
‫ب�أن ترفع االختالف العميق بني امل�سلمني يف زمن ا�ستفحل فيه التقليد‪ ،‬و�ساد‬
‫‪� -1‬إ�سماعيل احل�سني‪ ،‬نظرية املقا�صد عند ابن عا�شور‪� ،‬ص ‪ 102‬بت�صرف‪.‬‬
‫‪ -2‬معتز اخلطيب‪ ،‬الوظيفية واملقا�صدية‪ :‬م�شروعيتها وغاياتها‪� ،‬إ�سالمية املعرفة‪ ،‬العدد ‪ ،48‬ربيع‬
‫‪� ،2007‬ص ‪.23‬‬
‫‪ -3‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.19/1‬‬

‫‪52‬‬
‫اجلهل باملعاين احلقيقية لل�شريعة‪ ،‬وت�ضمن تدبري �ش�ؤون الأمة بحفظ كيانها‬
‫وحتقق م�صاحلها احليوية دون حرج �أو افتيات؛ �إذ املقا�صد الكلية تدع‬
‫للفقيه والقا�ضي جماال ف�سيحا لالجتهاد وتقدير الأحكام بح�سب ما تقت�ضيه‬
‫الظروف والأحوال‪ ،‬وتكفل لل�شريعة مرونتها و�صالحها لكل الع�صور(((‪.‬‬
‫وقد ا�ست�شكل العديد من الباحثني قول الإمام ال�شاطبي بقطعية �أ�صول‬
‫الفقه‪ ،‬على ر�أ�سهم ال�شيخ حممد الطاهر بن عا�شور –رحمه اهلل‪ -‬وف�ضيلة‬
‫الدكتور عبد املجيد النجار‪ .‬فال�شيخ ابن عا�شور مل ير�ض قول الإمام ال�شاطبي‬
‫بقطعية (�أ�صول الفقه)‪ ،‬ورد عليه دون تبني املفهوم ب�صورة دقيقة‪ ،‬من ذلك‬
‫قوله‪«:‬حاول �أبو �إ�سحاق ال�شاطبي يف املقدمة الأول��ى من كتابه املوافقات‬
‫اال�ستدالل على كون �أ�صول الفقه قطعية فلم ي�أت بطائل»((( !!‬
‫وو�صف ا�ستدالل ال�شاطبي على قطعية �أ�صول الفقه يف مو�ضع �آخر من‬
‫كتابه مقا�صد ال�شريعة ب�أنها قائمة على مقدمات خطابية و�سف�سطائية‬
‫�أكرثها مدخول وخملوط غري منخول((( !!!‪ .‬وكان الدكتور عبد املجيد النجار‬
‫امتدادا لل�شيخ ابن عا�شور يف هذه امل�س�ألة(((‪.‬‬
‫ولعل �سبب ا�ست�شكال ه�ؤالء الف�ضالء لر�أي الإمام ال�شاطبي هو حماكمة‬
‫ال�شاطبي مبباحث �أ�صول الفقه كما هو عند الأ�صوليني‪ ،‬وكان الأولى �أن‬
‫يحاكم مبباحث �أ�صول الفقه كما يراها هو‪ ،‬وكما هي عنده يف م�ؤلفاته‬
‫هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة �أخرى ف�إمنا الح لهم ذلك احلكم من اعتمادهم‬
‫على ن�ص وحيد يف ه��ذه امل�سالة‪� ،‬أو ن�صو�ص واردة يف موطن واحد‪،‬‬

‫‪ -1‬حول مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية‪� ،‬ص‪.118‬‬


‫‪ -2‬حممد الطاهر ابن عا�شور‪ ،‬مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية �ص ‪7‬‬
‫‪ -3‬حممد الطاهر ابن عا�شور‪ ،‬مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية �ص ‪.41‬‬
‫‪ -4‬عبد املجيد النجار‪ ،‬ف�صول يف الفكر الإ�سالمي باملغرب �ص ‪.148-147‬‬

‫‪53‬‬
‫خا�صة ما جاء يف املقدمة الأولى من املوافقات(((‪.‬‬
‫وهذا خلل منهجي وقع فيه ه�ؤالء الأعالم الف�ضالء‪� ،‬إذ ملا كان �أهم باب‬
‫يف املوافقات هو املنهج اال�ستقرائي‪ ،‬ك��ان الأول��ى �أن يعتمد وي�ؤخذ بعني‬
‫االعتبار عند مناق�شة فقيه الأندل�س يف �أي م�س�ألة من م�سائل «عرو�سه‬
‫ونتيجة عمره»‪ ،‬وكان الأجدر �أن يثار ال�س�ؤال التايل‪ :‬ما املراد عند ال�شاطبي‬
‫(ب�أ�صول الفقه؟) حتى يعلم حكمه (بالقطعية) عالم ين�صب؟ و�إلى �أي حد‬
‫ينتهي؟ وبذلك نن�صف الرجل فيما ذهب �إليه‪ ،‬و�سبيل ذلك هو اال�ستقراء‪،‬‬
‫هذا املنهج الذي نبه �صاحبنا على �إغفاله من طرف كثري من املتقدمني‪،‬‬
‫وهاهو للأ�سف يهمل يف هذه امل�س�ألة عند غري واحد من املعا�صرين‪ ،‬يقول‬
‫ال�شاطبي‪�« :‬إن املتقدمني من الأ�صوليني رمبا تركوا هذا املعنى والتنبيه عليه‪،‬‬
‫فح�صل �إغفاله من بع�ض املت�أخرين‪ ،‬فا�ست�شكل اال�ستدالل بالآيات على‬
‫حدتها‪ ،‬وبالأحاديث على انفرادها‪� ،‬إذ مل ي�أخذها م�أخذ االجتماع فكر�س‬
‫عليها باالعرتا�ض ن�صا ن�صا‪ ،‬وا�ست�ضعف اال�ستدالل بها على قواعد الأ�صول‬
‫املراد منها القطع»(((‪.‬‬
‫�أما ابن عا�شور فقد جاء حتديده مل�سالك الك�شف عن مقا�صد ال�شريعة‬
‫متما�شيا مع طبيعة العمل ال��ذي رام��ه يف م�ؤلفه‪ ،‬فقد كان هدف الرجل‬
‫الو�صول يف مقا�صد ال�شريعة �إل��ى ت�أ�سي�س ما هو كلي ع��ام‪ ،‬يكون كفيال‬
‫‪ -1‬قدم الدكتور فريد الأن�صاري‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬مناق�شة فريدة لآراء ابن عا�شور وعبد املجيد النجار‬
‫وغريهما يف م�س�ألة قطعية �أ�صول الفقه‪ ،‬ومما قاله رحمه اهلل‪«:‬ولقد ظلم ال�شيخ حممد الطاهر بن‬
‫عا�شور �أبا �إ�سحاق ظلما رحمهما اهلل معا ‪ ,‬وذلك لأنه مل ير�ض قوله بقطعية �أ�صول الفقه دون تبني‬
‫املفهوم ب�صورة دقيقة ‪� ،‬أو نق�ض �أدلته مبنهج علمي ‪ ،‬ولكن �أجمل رده كله ب�أ�سلوب خ�شن هو اقرب �إلى‬
‫ال�شتم وال�سباب منه الى النقد العلمي ‪ ،‬ولقد تكرر منه دلك يف �أكرث من موطن من كتابه ( مقا�صد‬
‫ال�شريعة ) مما يوحي ب�أن الرجل كان متحامال على �أبي �إ�سحاق ‪ »...‬انظر امل�صطلح الأ�صويل عند‬
‫ال�شاطبي‪ ،‬د‪ .‬فريد الأن�صاري‪� ،‬ص ‪ ..243-241‬وانظر قراءة يف امل�صطلح الأ�صويل منوذج م�صطلح‬
‫�أ�صول الفقه‪ ،‬للأ�ستاذ حممد �أبو غامن يف اجلزء ‪ 2‬من ندوة الدرا�سة امل�صطلحية والعلوم الإ�سالمية‬
‫�ص ‪.463-457‬‬
‫‪ -2‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات‪.25/1:‬‬

‫‪54‬‬
‫عندما يتحاكم �إليه الفقهاء وا لأ�صوليون ب�أن يقطع جدلهم ويخفف‬
‫خالفهم �أو يقطعه؛ ففكرة احلد من الت�شتت الفقهي كانت م�سيطرة عليه‪،‬‬
‫وما و�ضع كتابه �إال لهذا الغر�ض؛ قال‪ ،‬رحمه اهلل «هذا كتاب ق�صدت منه �إلى‬
‫�إمالء مباحث جليلة يف مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية والتمثيل لها واالحتجاج‬
‫لإثباتها لتكون نربا�سا للمتفقهني يف الدين‪ ،‬ومرجعا بينهم عند اختالف‬
‫الأنظار‪ ،‬وتبدل الأع�صار‪ ،‬وتو�سال �إلى �إقالل االختالف بني فقهاء الأم�صار‪،‬‬
‫ودربة التباعهم على الإن�صاف يف ترجيح الأق��وال على بع�ض‪ ،‬عند تطاير‬
‫�شرر اخلالف حتى ي�ستتب بذلك ما �أردن��اه غري ما مرة من نبذ التع�صب‬
‫والفئة �إلى احلق»(((‪.‬‬
‫هم ابن عا�شور �إذن و�ضع �أد ّلة �ضرورية �أو قريبة من ال�ضرور ّية ينتهي‬
‫كان ّ‬
‫�إليها الفقهاء يف حجاجهم وعند اختالفهم كما ينتهي �أهل العلوم العقل ّية‬
‫يف حجاجهم املنطقي والفل�سفي �إلى الأد ّلة ال�ضرور ّية وامل�شاهدات والأ�صول‬
‫املو�ضوعة فينقطع احلجاج(((‪ .‬لذلك جاءت دعوته هذه كمحاولة منهجية‬
‫ال�ستك�شاف جمموعة من الأ�صول الكلية املقا�صدية القطعية‪ ،‬التي من �ش�أنها‬
‫توحيد امل�سالك االجتهادية للخروج من اخلالفات الفقهية والأزمة الفكرية‬
‫التي يعاين منها الفكر الأ�صويل‪.‬‬
‫هكذا يتح ّول علم املقا�صد الذي يبحث يف فل�سفة الت�شريع وغاياته البعيدة‬
‫مرجعا بني العلماء عند اختالف الأن�ط��ار وت�ب� ّدل الأم�صار ودرب��ة على‬
‫الإن�صاف عند تطاير �شرر االختالف‪.‬‬
‫املقا�صدي جاء ر ّدا على ا�ستحواذ النظرة الن�ص ّية‬
‫ّ‬ ‫ولئن كان االتجّ ��اه‬
‫واملذهب ّية ال�ض ّيقة على العقل الفقهي التقليدي ال��ذي غ��دا فيه الفقه‬
‫ا�سرتجاعا للمعارف الفقهية القدمية ا�ستحالت من خالله �أقوال الرجال؛‬
‫بغ ّثها و�سمينها‪ ،‬ن�صو�صا علت‪ ،‬عند بع�ضهم‪ ،‬على الن�صو�ص امل�ؤ�س�سة‬
‫‪ -1‬حممد الطاهر ابن عا�شور‪ ،‬مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية‪� ،‬ص ‪.3‬‬
‫‪ -2‬عبد املجيد الرتكي‪ ،‬مناظرات يف �أ�صول ال�شريعة الإ�سالمية بني ابن حزم والباجي‪� ،‬ص ‪.512‬‬

‫‪55‬‬
‫وال�سنة ال�صحيحة)‪ ،‬وجعلت الكرخي احلنفي يقول «الأ�صل �أن‬ ‫(القر�آن ّ‬
‫ك ّل �آية تخالف قول �أ�صحابنا ف�إ ّنها حممولة على الن�سخ �أو على الرتجيح‬
‫والأولى �أن حتمل على الت�أويل من جهة التوفيق»(((‪ .‬ف�إن من �أ�سا�سيات املنزع‬
‫التع�صب‬
‫ّ‬ ‫املقا�صدي «‪� ..‬أن يكون الرائد الأعظم للفقيه هو الإن�صاف ونبذ‬
‫لبادئ الر�أي �أو ل�سابق اجتهاد �أو لقول �إمام �أو �أ�ستاذ‪ ،‬فال يكون حال الفقيه‬
‫يف هذا العلم (املقا�صد) كحال �صاحب ابن عرفة (عي�سى الغربيني) الذي‬
‫قال يف حقّ ابن عرفة ما خالفته يف حياته فال �أخالفه بعد مماته‪ ،‬بحيث‬
‫�إذا انتظم ال ّدليل على �إثبات مق�صد �شرعي وجب على املتجادلني فيه �أن‬
‫ي�ستقبلوا قبلة الإن�صاف وينبذوا االحتماالت ّ‬
‫ال�ضعاف»(((‪.‬‬
‫انطالقا من ه��ذه ال��ر�ؤي��ة التي ت�سعى �إل��ى ��ض��رورة اال�ستدعاء الوا�سع‬
‫للمقا�صد يف جمال تدبري االختالف وتقليله‪ ،‬وبالنظر �إل��ى كل متعلقات‬
‫ذلك جاءت حماولة كل من ال�شاطبي وابن عا�شور من �أجل التقريب بني‬
‫امل�سالك اال�ستنباطية االجتهادية‪ ،‬للخروج من اخلالفات الفقهية �أو التقليل‬
‫من حدتها‪ ،‬ونبذ التع�صب لأن علم �أ�صول الفقه يف نظرهما مل يحقق هذا‬
‫الهدف‪.‬‬
‫والقدر الذي نرومه هنا هو �أن كال من ال�شاطبي وابن عا�شور ان�شغل‬
‫بغ�ض النظر عن تفا�صيل مقوالتهم‪ ،‬وهما ي�سلمان‬ ‫بالبحث عن اليقني‪ّ ،‬‬
‫ب�أن �أ�صول الفقه يجب �أن تكون قطعية‪ ،‬و�س�ؤال القطع واليقني كان مدخل‬
‫القول باملقا�صد الكلية بعد �أن ظهر �أن علم �أ�صول الفقه مل يحقق الغر�ض‬
‫منه وهو «اخلروج من اخلالف»‪ ،‬وهنا ي�أتي البحث عن اليقني للتخفيف‬
‫م��ن ك�ثرة الظنيات واالخ �ت�لاف��ات‪ ،‬وق��د ب��دا ه��ذا وا��ض� ً�ح��ا يف مقدمات‬
‫ال�شاطبي واب��ن عا�شور القائل‪« :‬ه��ذا كتاب ق�صدتُ منه‪ ...‬تو�س ًال �إلى‬

‫‪� -1‬أبو حامد الغزايل‪� ،‬إحياء علوم الدين‪.216/4 ،‬‬


‫‪ -2‬م�صطفى اخلن‪� ،‬أثر االختالف يف القواعد الأ�صولية يف اختالف الفقهاء‪� ،‬ص ‪.9‬‬

‫‪56‬‬
‫�إقالل االختالف بني فقهاء الأم�صار»(((‪.‬‬
‫ولعله ال يخفى ما يكت�سبه مبحث ا�ستمداد املقا�صد من �أهمية بالغة‬
‫اخلطورة يف هذا اجلانب؛ وذلك لأن ما تقرر يف �صلبه من مبادئ و�أ�صول‬
‫هو مبثابة الأ�سا�س الذي ينبني عليه �صرح نظرية املقا�صد برمتها‪ ،‬وت�ستند‬
‫�إليه م�شروعية منحى اجتهادي بكامله �أي�ضا‪ ،‬وهو ما ي�سمى «االجتهاد‬
‫املقا�صدي»(((‪ ،‬الذي ميثل �أحد الأبعاد الوظيفية لعلم املقا�صد‪.‬‬
‫فمن املقدمات املمهدات امل�ساعدة على ولوج علم املقا�صد‪ ،‬وحت�صيل‬
‫كلياته وفهم جزئياته عند علماء املقا�صد قدماء وحمدثني؛ العلم بامل�سالك‬
‫التي منها ت�ستمد مقا�صد ال�شريعة‪ ،‬وكذا معرفة مراتبها و�شروط اعتبارها‪،‬‬
‫�سواء يف �أ�صولها العامة‪� ،‬أو يف تفا�صيلها اجلزئية‪ ،‬ف�إذا مل تكن مقا�صد‬
‫ال�شريعة من�صو�صا عليها على وجه القطع والتف�صيل‪ ،‬ف�إن احلاجة تدعو‬
‫�إلى �أن يعلم الدار�س لعلم املقا�صد كمقدمة من مقدمات الدر�س امل�سالك‬
‫العامة التي تع ّرف باملقا�صد‪ ،‬ليكون على بينة وهو يلج �إلى تفا�صيلها طرق‬
‫الدخول �إليها‪ ،‬ف�أبواب الدخول يف البيوت مقدمة ملعرفة حمتوياتها من‬
‫الغرف وما فيها‪.‬‬
‫يتبينّ ‪� ،‬إذن‪ ،‬مما �سبق ما للمقا�صد ال�شرعية من �أهمية يف تدبري االختالف‬
‫‪ -1‬حممد الطاهر ابن عا�شور‪ ،‬مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية‪� ،‬ص ‪ .165‬وانظر معتز اخلطيب‪ ،‬الوظيفة‬
‫املقا�صدية‪ :‬م�شروعيتها وغاياتها‪� ،‬ص ‪.23‬‬
‫‪ -2‬حممد‪ ،‬مطاع اهلل‪� ،‬أ�صول الفقه عند املحدثني‪ ،‬من�شورات كلية الآداب والعلوم الإن�سانية بالقريوان‪،‬‬
‫ماي ‪� .2000‬ص‪ .340‬وهنا ينبغي التنبيه على �أن الذين كتبوا يف مو�ضوع املقا�صد واالجتهاد املقا�صدي‬
‫يف الع�صر احلديث غلب على ما كتبوه العر�ض التاريخي‪ ،‬مبعنى �أن ما كتبوه يندرج حتت باب بيان‬
‫تاريخ الت�شريع؛ فهم يقررون �أن الأئمة والعلماء والفقهاء اعتمدوا منهجية املقا�صد‪ ،‬و�أن كل ما قالوه‬
‫من فتاوى يعتمد املقا�صد‪ .‬ولكنهم بعد اجلوالت التاريخية الطويلة مع الأئمة الأعالم وق�صتهم مع‬
‫املقا�صد واملعاين جتدهم يتحرجون من �أن ي�أتوا مبثال جديد‪ ،‬ويغلب عليهم �سوء الظن والتخوف‬
‫ال�شديد �أن يكون املعنى العملي ملنهجية املقا�صد هو تغطية للآراء الفردية والذاتية �أو دواعي الهوى‬
‫وال�شهوة التي ال تن�ضبط بال�شرع‪ ،‬وجتد هذا التخوف مبثوثا �إلى درجة كبرية بحيث ترتدد كلمة‬
‫�ضوابط مرات كثرية يف ال�صفحة الواحدة‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫املوجهة للأحكام ال�شرعية‬
‫أهم االعتبارات ّ‬ ‫وت�أطريه والتقليل منه؛ �إذ هو �أحد � ّ‬
‫بتنـزيلها �أو بالعدول عن التنـزيل ت�أجيال �أو ا�ستثناء �أو ا�ستبداال بحكم �آخر‬
‫يتحقق مق�صده‪ ،‬وقد �أ�شار الإم��ام ال�شاطبي �إلى هذه الأهمية التطبيقية‬
‫للمقا�صد بقوله‪« :‬هو جمال للمجتهد �صعب املورد �إ ّال �أ ّنه عذب املذاق حممود‬
‫الغب جار على مقا�صد ال�شريعة»(((‪ ،‬وقال ببيانه وبيان خطورته‪�« :‬إنّ املجتهد‬ ‫ّ‬
‫ال يحكم على فعل من الأفعال ال�صادرة عن املك ّلفني بالإقدام �أو بالإحجام‬
‫�إ ّال بعد نظره �إلى ما ي�ؤول �إليه ذلك الفعل (فقد يكون ذلك الفعل) م�شروعا‬
‫مل�صلحة فيه ت�ستجلب �أو ملف�سدة تدر�أ‪ ،‬ولكن له م�آل على خالف ما ُق�صد‬
‫فيه‪ ...‬ف�إذا �أُطلق القول يف الأ ّول بامل�شروعية فربمّ ا �أ ّدى ا�ستجالب امل�صلحة‬
‫�إلى مف�سدة ت�ساوي امل�صلحة �أو تزيد عليها‪ ،‬فيكون هذا مانعا من �إطالق‬
‫القول بامل�شروعية»(((‪.‬‬
‫ولكنّ هذا النظر االجتهادي للتحقيق يف م ��آالت املقا�صد �إل��ى التح ّقق‬
‫الفعلي �أو عدمه هو نظر دقيق‪ ،‬والقواعد ال�ضابطة فيه عزيزة يف درا�سات‬
‫الأ�صوليني واملقا�صديني؛ ولذلك و�صفه ال�شاطبي ب�أ ّنه �صعب املورد‪ .‬ولع ّلنا‬
‫والتق�صي ال جند من املقا�صديني القدامى من انتبه �إلى �أهمية‬‫ّ‬ ‫عند البحث‬
‫هذا امللحظ مثل ما انتبه الإمام ال�شاطبي‪ ،‬فقد تعر�ض له بالبيان يف موا�ضع‬
‫متعددة من م�ؤلفاته حتى انتظمت من ذلك �صورة جلية للأهمية التنزيلية‬
‫التطبيقية للمقا�صد قد يح�سن عر�ضها قبل عر�ض نظرية الإمام ابن عا�شور‪،‬‬
‫�إذ ُيعترب ما جاء به تطورا ملا �أورده ال�شاطبي يف هذا املجال‪.‬‬
‫وقد كان ال�شاطبي يويل اهتماما كبريا لهذه الق�ضية‪ ،‬فهو يف �شرحه ملقا�صد‬
‫ال�شريعة كثري االلتفات �إلى �أيلولتها الواقعية حينما تتنـزل الأحكام على �آحاد‬
‫الأفعال والوقائع‪ ،‬كثري التنبيه على �أن تلك الآحاد من الأفعال والوقائع ينبغي‬
‫�أن يتم �إجراء الأحكام عليها بالكيفية التي تتحقق بها املقا�صد‪ .‬ويف خالل‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.141/4‬‬
‫‪ -2‬امل�صدر ال�سابق ‪.141/4‬‬

‫‪58‬‬
‫م�ؤلفاته وخا�صة املوافقات تع ّر�ض يف مواطن عديدة �إلى طرق و�أ�ساليب يقع‬
‫بها التحقيق يف ح�صول املقا�صد من تطبيق الأحكام لينتهي ذلك التحقيق‬
‫�إلى �ضبط الكيفية يف التطبيق‪ .‬وباجلمع بني تلك الطرق والأ�ساليب ميكن �أن‬
‫نبني �أ�صال من �أ�صول ال�شاطبي يف منهج التطبيق‪.‬‬
‫وعنا�صر هذا الأ�صل التطبيقي تن�ضبط بالإجابة على ال�س�ؤال التايل‪ :‬كيف‬
‫ميكن التح ّقق من �أن مق�صد احلكم يتحقق عند �إجرائه على الأفعال فيقع‬
‫�إج��را�ؤه‪� ،‬أو ال يتحقق فال يقع وي�صرف عنه �إلى حكم �آخ��ر؟ ويف اجلواب‬
‫على هذا ال�س�ؤال نظفر عند ال�شاطبي ب�شروح و�إ�شارات عديدة‪� ،‬إذا جمعناها‬
‫ور ّكبناها تبينّ لنا منهج متكامل يف ا�ستخدام املقا�صد ا�ستخداما تطبيقيا‬
‫ُيبتغى به تر�شيد النظر الفقهي لتكون الأحكام مثمرة ملقا�صدها يف الواقع‬
‫عند تنزيلها عليه‪ ،‬فيكون املق�صد �إذن موجها لبناء احلكم ال�شرعي يف‬
‫خمتلف �صور بنائه(((‪.‬‬
‫وينبني هذا املنهج على املوازنة بني الك ّلي من املقا�صد وبني اجلزئي منها‬
‫يف ن�سبتها من بع�ضها وقوعا وتخ ّلفا‪ ،‬وهو يق�صد بالك ّلي املق�صد اجلن�س‪،‬‬
‫ويق�صد باجلزئي ما يندرج حتته من الأنواع‪ ،‬وكثريا ما ت�ساءل يف املق�صد‬
‫الكلي �إذا حتقق من �إجراء احلكم العام على �أنواع جن�سه‪ ،‬هل يتحقق يف كل‬
‫تلك الأنواع‪� ،‬أم قد يتخلف يف بع�ض منها‪ ،‬وكيف ميكن معرفة ذلك ل�صرف‬
‫ما ال يتحقق فيه املق�صد عن تطبيق احلكم عليه؟(((‪.‬‬
‫ويقول يف اجلواب على ذلك‪« :‬جاء ال�شارع باعتبار امل�صلحة والن�صفة‬
‫املطلقة يف كل حني‪ ،‬وبينّ من امل�صالح ما ّ‬
‫يطرد وما يعار�ضه وجه �آخر من‬
‫امل�صلحة‪ ،‬كما يف ا�ستثناء العرايا ونحوه‪ ،‬فلو �أعر�ض عن اجلزئيات ب�إطالق‬
‫‪ -1‬عبد املجيد النجار‪ ،‬املنحى التطبيقي يف مقا�صد ابن عا�شور‪� ،‬ضمن �أعمال اجلل�سة الثانية من‬
‫جل�سات امل�ؤمتر ال��دويل «ال�شيخ حممد الطاهر ابن عا�شور وق�ضايا الإ�صالح والتجديد يف الفكر‬
‫الإ�سالمي املعا�صر‪ :‬ر�ؤية معرفية ومنهجية»‪ 2 .‬ـ ‪ 3‬ماي ‪� ،2009‬ص ‪.7‬‬
‫‪ -2‬املرجع ال�سابق �ص ‪.8‬‬

‫‪59‬‬
‫لدخلت مفا�سد‪ ،‬ولفاتت م�صالح‪ ،‬وهو مناق�ض ملق�صود ال�شارع‪ ...‬فاحلا�صل‬
‫�أنه البد من اعتبار خ�صو�ص اجلزئيات مع اعتبار ك ّلياتها‪ ،‬وبالعك�س‪ .‬وهو‬
‫منتهى نظر املجتهدين ب�إطالق‪ ،‬و�إليه ينتهي ط َل ُقهم»(((‪.‬‬
‫�إنه‪� ،‬إذن‪ ،‬منهج تطبيقي للمقا�صد خرج به ال�شاطبي باملقا�صد من اجلانب‬
‫النظري �إلى اجلانب التطبيقي التنزيلي الذي ميثل اجلانب الوظيفي لهذه‬
‫الأداة‪ ،‬وجعل منه نظرية تكاد تكون متكاملة‪ ،‬من �ش�أنها �أن تقنع ّ‬
‫النظار‬
‫امل�ضي العملي مبقت�ضاها يف‬‫ّ‬ ‫بوجاهتها‪ ،‬و�أن تكون لهم عونا حقيقيا على‬
‫ممار�سة االجتهاد الفقهي‪ .‬وهو اجلانب الذي اهتم به �شيخ املقا�صديني يف‬
‫الع�صر احلديث و�أكمله بنوع من التف�صيل‪ .‬وقد �أ�شار يف موا�ضع خمتلفة‬
‫من كتابه مقا�صد ال�شريعة �إلى هذه املعاين‪ ،‬مبا يبينّ �أنه كان يق�صد �إلى‬
‫�أن ي�ضع بني يدي النظار واملجتهدين علما ي�ساعدهم ب�صفة عملية تطبيقية‬
‫على ّ‬
‫تخطي ه��ذا املف�صل اخلطري‪ ،‬وذل��ك ما ب ّينه اب��ن عا�شور يف فاحتة‬
‫كتابه بقوله‪« :‬كان الق�صد (من هذا الكتاب) �إغاثة امل�سلمني ب ُباللة ت�شريع‬
‫م�صاحلهم الطارئة متى نزلت احل��وادث وا�شتبكت النوازل‪ ،‬وبف�صل من‬
‫القول �إذا �شجرت حجج املذاهب‪ ،‬وتبارت يف مناظرتها تلكم املقانب»(((‪.‬‬
‫وبعد معرفة تلك املقا�صد باملنهج الذي ر�سمه ي�أتي دور ا�ستخدامها عمليا‬
‫يف النظر الفقهي يف تلك الوجوه من النظر‪ ،‬وهي الوجوه التي ا�ستجمعت ك ّل‬
‫مناحي االجتهاد من قبول الدليل ور ّده �إلى تعيني الأفهام يف الظنيات �إلى‬
‫ن�ص عليه وال قيا�س له‪،‬‬
‫اجلمع والرتجيع‪� ،‬إلى القيا�س �إلى احلكم فيما ال ّ‬
‫وا�ستعمال املقا�صد يف تلك الوجوه كلها ما هو �إال انتحاء بها املنحى التطبيقي‬
‫العملي وهو ال�سمت العام الذي بنى عليه ابن عا�شور مقا�صده‪.‬‬
‫يوظف‬‫وكثريا ما جند ابن عا�شور يف تف�سريه للقر�آن و�شرحه للحديث ّ‬
‫لريجح وجها من وج��وه املعاين على وج��ه �آخ��ر ي�شمله‬‫مقا�صد ال�شريعة ّ‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪12/3‬ـ‪.13‬‬
‫‪ -2‬ابن عا�شور‪ ،‬مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية �ص‪.121‬‬

‫‪60‬‬
‫االحتمال وقد يكون يف الظاهر �أبني‪� ،‬أو قد يكون عند النا�س �أ�شهر‪.‬‬
‫ومن �أمثلة ذلك ما ورد يف تف�سريه لقوله تعالى } ﯔﯕﯖ ﯗ‬
‫ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ{ (الن�ساء‪)5:‬‬
‫فقد تر ّدد عند البع�ض �أنّ الأموال املق�صودة هي �أموال املخاطبني من جمموع‬
‫النا�س‪ ،‬والذين حملوا املعنى على �أ ّنها �أموال ال�سفهاء مل يكن تربيرهم لهذا‬
‫الفهم مقنعا‪ ،‬وجاء �شرح ابن عا�شور قاطعا ب�أنّ الأموال هي �أموال ال�سفهاء‬
‫بناء على مق�صد دقيق من مقا�صد ال�شريعة ذلك لأنّ مال الأف��راد «عند‬
‫الت�أ ّمل تلوح فيه حقوق الأمة جمعاء؛ لأن يف ح�صوله منفعة للأمة كلها؛ ولأن‬
‫ما يف �أيدي بع�ض �أفرادها من الرثوة يعود �إلى اجلميع بال�صاحلة‪ ...‬فلأجل‬
‫هذه احلكمة �أ�ضاف اهلل تعالى الأموال �إلى جميع املخاطبني ليكون لهم احلق‬
‫رجح الإمام‬‫يف �إقامة الأحكام التي حتفظ الأموال والرثوة العامة»(((‪ ،‬فقد ّ‬
‫معنى على معنى بناء على مق�صد �شرعي‪ ،‬وب ّرر اختياره بذات املق�صد‪.‬‬
‫ومن �أمثلة ذلك �أي�ضا �شرحه ل�صنيع عمر ر�ضي اهلل عنه مع الرجل الذي‬
‫ا�ست�شري يف �أخته للزواج فقال للم�ست�شري �إنها �أحدثت‪� :‬أي زنت‪ ،‬ف�أنكر عليه‬
‫عمر ذلك و�ضربه �أو كاد ي�ضربه‪ ،‬فرمبا وقع يف النف�س �أنّ الرجل �سلك‬
‫امل�سلك ال�صحيح وهو ال�صدق عند اال�ست�شارة وت�لايف الكتمان ال��ذي هو‬
‫�ضرب من الغ�ش‪ ،‬ولكن ابن عا�شور انت�صر للموقف الإنكاري ال�صادر عن‬
‫ابن اخلطاب بناء على معنى مق�صدي �إذ قد «ح�صل العلم ب�أن من مقا�صد‬
‫ال�شريعة ال�سرت على امل�سلمني يف املعا�صي ما مل يخ�ش �ض ّر على الأمة لأن يف‬
‫ال�سرت م�صالح كثرية‪.(((»..‬‬
‫وكثريا ما يبني ابن عا�شور �أنظاره الفقهية يف تقرير الأحكام على مقا�صد‬
‫ال�شريعة مب ّينا وجه االرتباط بني احلكم الذي ينتهي �إليه وبني مق�صده‬
‫‪ -1‬ابن عا�شور‪ ،‬التحرير والتنوير ‪ ،234/4‬وانظر عبد املجيد النجار‪ ،‬املنحى التطبيقي يف مقا�صد‬
‫ابن عا�شور‪ ،‬للدكتور �ص ‪23‬ـ‪.24‬‬
‫‪ -2‬ابن عا�شور‪ ،‬ك�شف املغطى‪� ،‬ص‪ .256‬نفال عن املنحى التطبيقي لعبد املجيد النجار �ص‪.24‬‬

‫‪61‬‬
‫املبتغى منه‪ .‬ويندرج �ضمن هذا ال�سياق ما جاء من تف�سرياته الجتهادات‬
‫بع�ض الأئمة وانت�صاره لأحكام انتهوا �إليها ورمبا عار�ضهم فيها غريهم‪،‬‬
‫وذلك �إظهارا للمقا�صد التي ُبنيت عليها تلك الأحكام‪ .‬ومن �أمثلة ذلك‬
‫االنت�صار الجتهاد مالك يف عدم اعتباره للخيار يف البيع حال عدم التف ّرق‪،‬‬
‫خمالفا بذلك ملن يقول باخليار طيلة مدة عدم التفرق‪ ،‬فقد انت�صر لر�أي‬
‫مالك بناء على مق�صد ال�شريعة يف العقود وهو االن�ضباط والتحديد قطعا‬
‫للخ�صومات‪ ،‬وعدم التفرق معنى غري من�ضبط‪ ،‬فقد يق�صر حلظات وقد‬
‫يطول �أ�شهرا و�سنوات‪ ،‬و�إذا كان ال منا�ص من الأخذ بعدم التفرق فينبغي‬
‫حمله على قدر من ال�ضبط بامل�صري �إلى �أنّ «الأظهر �أنّ ر�سول اهلل [ �أراد‬
‫بالتفرق التفرق املعتاد‪ ،‬وهو الذي يح�صل بني املتبايعني من االن�صراف عقب‬
‫الرتا�ضي ودفع الثمن وقب�ض ال�سلعة»(((‪ ،‬وهو قريب مما ذهب �إليه مالك‪� ،‬إذ‬
‫ف�سر التفرق بالبت يف �صفقة البيع‪.‬‬

‫‪ -1‬ابن عا�شور‪ ،‬ك�شف املغطى‪� ،‬ص‪ ،285‬نقال عن عبد املجيد النجار �ص ‪.24‬‬

‫‪62‬‬
‫الف�صل الثاين‪:‬‬
‫طرق الك�شف عن مقا�صد ال�رشيعة‬
‫و�أثرها يف بناء التكليف ال�رشعي‬
‫‪ -‬متهيد‪:‬‬
‫من الأبواب الثابتة يف امل�ؤلفات الأ�صولية‪ ،‬قدميا وحديثا‪� ،‬أبواب الأحكام‬
‫ال�شرعية‪ ،‬تكليفية كانت �أو و�ضعية مبختلف �أق�سامها و�أنواعها‪ .‬وال تخفى‬
‫امتداداتها الفهمية والتنزيلية يف �أبواب الفقه الإ�سالمي‪.‬‬
‫وال �شك �أن درا�سة هذه املباحث وحماولة �إرج��اع جزئياتها �إلى كلياتها‬
‫تك�شف عن الدقة العالية التي امتاز بها الأ�صوليون خ�صو�صا عند ارتباط‬
‫هذه الأحكام مع مباحث مقا�صد ال�شريعة‪ ،‬و�سرب ذلك كله يعطي الباحث‬
‫فهما عميقا للأحكام ال�شرعية‪ ،‬بل ولل�شريعة كلها‪.‬‬
‫و�س�أحاول يف هذا الف�صل بيان �أوجه العالقة بني مقا�صد املكلف ومقا�صد‬
‫ال�شارع‪ ،‬وبيان ما بينهما من تالزم وتكامل‪ ،‬مع الك�شف عن دور مقا�صد‬
‫ال�شريعة يف تر�شيد التكليف ال�شرعي‪ ،‬وذلك من خالل مبحثني �أثنني‪..‬‬

‫‪65‬‬
‫املبحث الأول‪ :‬بني مقا�صد ال�شارع ومقا�صد املكلف‬
‫كتب الغزايل يف م�ست�صفاه «�أما امل�صلحة فهي عبارة يف الأ�صل عن جلب‬
‫منفعة �أو دفع م�ضرة‪ ،‬ول�سنا نعني به ذلك‪ ،‬ف�إن جلب املنفعة ودفع امل�ضرة‬
‫مقا�صد اخللق‪ ،‬و�صالح اخللق يف حت�صيل مقا�صدهم‪ ،‬لكنا نعني بامل�صلحة‬
‫املحافظة على مق�صود ال�شرع‪ .‬ومق�صود ال�شرع من اخللق خم�سة‪ ،‬وهو �أن‬
‫يحفظ عليهم دينهم‪ .(((»...‬وكانت تلك التفاتة حممودة منه‪ ،‬رحمه اهلل‪،‬‬
‫�إلى م�س�ألة مقا�صد املكلفني يف عالقتها مبقا�صد ال�شارع‪.‬‬
‫و�أورد الدكتور عمر �سليمان الأ�شقر يف كتابه «مقا�صد املكلفني» ن�صا‬
‫جميال عن ابن �أبي جمرة الأندل�سي املالكي يقول فيه‪« :‬وددت لو كان من‬
‫الفقهاء من لي�س له �شغل‪� ،‬إال �أن يعلم النا�س مقا�صدهم يف �أعمالهم‪،‬‬
‫ويقعد �إلى التدري�س يف �أعمال النيات لي�س �إال‪ ،‬ف�إنه ما �أتي على كثري من‬
‫النا�س �إال من ت�ضييع ذلك»(((‪.‬‬
‫لعل هذه الن�صو�ص وغريها هي التي �أوحت لأبي �إ�سحاق ال�شاطبي تف�صيل‬
‫القول يف عالقة مقا�صد املكلف مبقا�صد املكلف‪ ،‬مع بيان ما ينبني عليها من‬
‫فقه وعلم‪ .‬وهذا ما جنده متناثرا يف موافقات الرجل؛ حيث يرى يف اجلانب‬
‫الت�شريعي �أن �أحكام ال�شريعة ملا كانت ت�شتمل على م�صلحة كلية يف اجلملة‪،‬‬
‫وعلى م�صلحة جزئية يف كل م�س�ألة على اخل�صو�ص‪ ،‬يكون مطلوبا من «كل‬
‫مكلف �أن يكون حتت قانون معني من تكاليف ال�شرع يف جميع حركاته و�أقواله‬
‫واعتقاداته فال يكون كالبهيمة امل�سيبة تعمل بهواها‪ ،‬حتى يرتا�ض بلجام‬
‫ال�شرع»(((‪ ،‬و�أن املطلوب من جهة الق�صد هو «�أن يكون ق�صده يف العمل‬
‫موافقا لق�صد ال�شارع يف الت�شريع‪ ،‬والدليل على ذلك ظاهر من و�ضع‬
‫ال�شريعة‪ ..‬مل�صالح العباد على الإطالق والعموم‪ ،‬واملطلوب من املكلف‬
‫‪� -1‬أبو حامد الغزايل‪ ،‬امل�ست�صفى ‪264 /1‬ـ ‪.265‬‬
‫‪� -2‬سليمان الأ�شقر‪ ،‬مقا�صد املكلفني �ص ‪.97‬‬
‫‪ -3‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.199/1‬‬

‫‪66‬‬
‫�أن يجري على ذلك يف �أفعاله‪ ،‬و�أن ال يق�صد خالف ما ق�صد ال�شارع‪ .‬ولأن‬
‫املكلف خلق لعبادة اهلل‪ ،‬وذلك راجع �إلى العمل على وفق الق�صد يف و�ضع‬
‫ال�شريعة ـ هذا حم�صول العبادة ـ فينال بذلك اجلزاء يف الدنيا والآخرة ـ‬
‫و�أي�ضا فقد مر �أن ق�صد ال�شارع املحافظة على ال�ضروريات وما رجع �إليها‬
‫يف احلاجيات والتح�سينيات‪ ،‬وهو عني ما كلف به العبد‪ ،‬فال بد �أن يكون‬
‫مطلوبا بالق�صد �إلى ذلك‪ ،‬و�إال مل يكن عامال على املحافظة؛ لأن الأعمال‬
‫بالنيات»(((‪.‬‬
‫يت�ضح من الكالم ال�سابق �أن ال�شاطبي يربط بني تطبيق التكاليف‬
‫يف جمال العبادات واملعامالت‪ ،‬واملقا�صد التي ا�ستهدفها ال�شارع من ت�شريع‬
‫تلك التكاليف‪ ،‬ووظيفة التعرف على تلك املقا�صد هي �أن ي��وازن املكلف‬
‫باالعتماد عليها بني �سلوكه و�أفعاله‪ ،‬واملقا�صد التي راعتها ال�شريعة‪ ،‬و�أ�س�ست‬
‫�أحكام التكليف عليها‪ ،‬في�سعى �إلى �أن يكون �سلوكه وعمله متطابقني مع تلك‬
‫املقا�صد وم�ستجيبني لها‪ .‬ومن ثم يظهر بجالء �أن اطالع املكلف على �أ�سرار‬
‫الت�شريع له وظيفة عملية ذات عالقة مبا�شرة ب�سلوكه و�أفعاله يف احلياة‪.‬‬
‫وهذا جانب من جوانب الإبداع والإلهام عند الإمام ال�شاطبي‪ ،‬ذلك �أن‬
‫مقا�صد ال�شارع ال تتم وال تتحقق �إال بت�صحيح مقا�صد املكلف‪ .‬فكان من �شدة‬
‫عناية ال�شاطبي مبقا�صد ال�شارع �أن اهتدى لتتويج الكالم فيها بالكالم‬
‫يف مقا�صد املكلفني ملا بينهما من التالزم والتكامل‪.‬‬
‫و�إن كان ال�شاطبي قد ا�ستفاد يف هذه امل�س�ألة مما جادت به قرائح بع�ض‬
‫الأ�صوليني قبله‪ ،‬ف�إنه «مدين يف هذا ـ على وجه اخل�صو�ص ـ ملذهبه املالكي‪،‬‬
‫الذي مل يقف عند حد العناية مبقا�صد املكلفني فيما ي�سمى بالعبادات‪ ،‬ولكنه‬
‫�أولى العناية البالغة ملقا�صد املكلفني يف جميع �أقوالهم و�أفعالهم وعقودهم‬
‫وت�صرفاتهم»(((‪ .‬فكما �أن املذهب املالكي هو مذهب امل�صلحة‪ ،‬واال�ست�صالح‪،‬‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬م�صدر �سابق ‪.251/2‬‬
‫‪� -2‬أحمد الري�سوين‪ ،‬نظرية املقا�صد عند الإمام ال�شاطبي �ص ‪.272‬‬

‫‪67‬‬
‫واال�ستح�سان امل�صلحي‪ ،‬والتف�سري امل�صلحي للن�صو�ص‪ ،‬وهو املذهب احلازم‬
‫يف درء املفا�سد و�سد الذرائع وا�ستئ�صال �أ�سبابها‪ ..‬هو كذلك املذهب الذي‬
‫اعتنى واهتم علما�ؤه اهتماما كبريا مبقا�صد املكلفني معتربا لنياتهم‪ ،‬غري‬
‫واقف عند �ألفاظهم ومظاهرهم فقط‪.‬‬
‫وميكن النظر �إلى عالقة مقا�صد املكلف مبقا�صد ال�شارع من جانبني(((‪:‬‬
‫�أوال ـ جانب يتعلق مبا يجب �أن يكون عليه ق�صد املكلف جت��اه ق�صد‬
‫ال�شارع‪ ،‬وهو املعرب عنه �إجماال بقول ال�شاطبي «ق�صد ال�شارع من املكلف‬
‫�أن يكون ق�صده يف العمل موافقا لق�صده يف الت�شريع»(((‪ ،‬وذل��ك لأنه‬
‫م�ستخلف يف الأر� ��ض}‪ ...‬ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ‬
‫ﯲ{(الأعراف ‪ ،)129‬فكان عليه �أن يقوم مقام من ا�ستخلفه‪ُ ،‬يجري‬
‫�أحكامه ومقا�صده جماريها‪ ،‬ومبا �أن عامة املكلفني ال يعرفون ـ بالتف�صيل‬
‫مقا�صد ال�شارع يف كثري من �أحكامه‪ ،‬وتكاليفه‪ ،‬و�ضع الإم��ام ال�شاطبي‬
‫�أمامهم ثالث خيارات كلها م�شروعة‪ ،‬ب�شرط اعتبار امل�صلحة يف التكاليف‪،‬‬
‫وهي‪:‬‬
‫الأول ـ �أن يق�صد بالتكاليف ما فهم من مق�صد ال�شارع يف �شرعها‪ ،‬ولكن‬
‫ينبغي �أن ال يخليه من ق�صد التعبد‪ ،‬ظهرت له م�صلحة احلكم �أم ال(((‪.‬‬
‫الثاين ـ �أن يق�صد بالتكاليف ما ع�سى �أن يق�صده ال�شارع‪ ،‬مما اطلع عليه‬
‫�أو مل يطلع عليه‪ ،‬وهذا �أكمل من الأول(((‪ .‬ف�إذا علم املكلف �أن هذا العمل‬
‫�شرع مل�صلحة كذا‪ ،‬ثم عمل لذلك الق�صد‪ ،‬غافال عن امتثال الأمر فيها‪،‬‬
‫يكون بذلك قد فوت ق�صد التعبد‪ ،‬و�إن كان ال يخلو من �أجر ف�إنه يعد يف هذه‬
‫احلالة غري كامل‪.‬‬
‫‪� -1‬إدري�س حمادي‪ ،‬امل�صالح املر�سلة وبناء املجتمع الإن�ساين �ص ‪177‬ـ ‪.183‬‬
‫‪ -2‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.251/2‬‬
‫‪ -3‬امل�صدر ال�سابق ‪.283 /2‬‬
‫‪ -4‬امل�صدر ال�سابق ‪.283/2‬‬

‫‪68‬‬
‫الثالث ـ �أن يق�صد جمرد امتثال الأمر‪ ،‬فهِ م ق�صد امل�صلحة �أم مل يفهم‪،‬‬
‫فهذا �أكمل و�أ�سلم(((؛ لأنه ن�صب نف�سه عبدا م�ؤمترا ممتثال خلالقه‪ ،‬ومملوكا‬
‫ملبيا ملواله‪ ،‬ويف هذه احلالة يكون عامال مبقت�ضى العبودية‪ ،‬واقف ًا عند‬
‫حدود ذلك‪.‬‬
‫وال �شك �أن ما قدمه ال�شاطبي يف هذه امل�س�ألة يعد قاعدة ال غنى عنها‬
‫جلميع املكلفني‪ ،‬ملا لها من دور يف حماية مقا�صد ال�شريعة من �أن ت�أتي عليها‬
‫مقا�صد املكلفني غري امل�شروعة فتنق�ضها �أو مت�سها‪ ،‬ذلك �أن الق�صد ما دام‬
‫يف النف�س ي�سمى باعثا �أو دافعا نف�سيا‪ ،‬لكنه عند مبا�شرة الفعل ي�صبح �أثرا‬
‫وواقعا جم�سدا يف الوجود اخلارجي‪ ،‬ويف حالة كونه منافيا للحكمة‪،‬‬
‫�أو امل�صلحة التي �شرع اهلل عز وجل الفعل يف الأ�صل من �أجلها ف�إنه قد‬
‫يكون هادما(((‪.‬‬
‫وال يخفى �أن احلفاظ على �أ�صل امل�صلحة التي قامت عليها ال�شريعة‬
‫الإ�سالمية ميلي اعتبار هذه القاعدة؛ لأن خمالفة ق�صد ال�شارع �أو منافاته‬
‫هدم للم�صالح التي �شرعت الأحكام من �أجلها؛ �إذ الق�صد غري ال�شرعي‬
‫هادم للق�صد ال�شرعي‪.‬‬
‫ومن �أمثلة ذلك �أن ال�شارع �إذا �شرع الطالق فلتعذر ا�ستمرار احلياة‬
‫الزوجية‪ ،‬بحيث مت�سي دميومة العالقة بني الزوجني مظنة ال�ضطراب حالة‬
‫العائلة ودخول عوامل الف�ساد على كال الزوجني(((‪ ،‬ف�إذا ا�ستعمل الزوج حق‬
‫الطالق يف �سبيل حرمان املر�أة من املرياث؛ ك�أن يطلق زوجته طالقا باتا يف‬
‫مر�ض موته‪ ،‬ف�إنه يف هذه احلالة يكون خمالفا لق�صد ال�شارع من ت�شريعه؛‬
‫�إذ ا�ستعمل الفعل امل�شروع يف �أ�صله لتحقيق غاية غري م�شروعة(((‪.‬‬
‫‪ -1‬امل�صدر ال�سابق ‪.284/2‬‬
‫‪ -2‬عبد الرحمن الكيالين‪ ،‬قواعد املقا�صد عند الإمام ال�شاطبي �ص ‪.385‬‬
‫‪ -3‬عبد الرحمن ال�صابوين‪ ،‬نظام الأ�سرة وحل م�شكالتها يف �ضوء الإ�سالم �ص ‪ ،94‬نقال عن عبد‬
‫الرحمن الكيالين‪ ،‬قواعد املقا�صد �ص ‪.386‬‬
‫‪ -4‬فتحي الدريني‪ ،‬نظرية التع�سف يف ا�ستعمال احلق �ص ‪.172‬‬

‫‪69‬‬
‫ويف ت�شريع النكاح واحل�ض عليه حكم ومقا�صد �أ�شار �إلى بع�ضها النبي‬
‫[ بقوله‪« :‬يا مع�شر ال�شباب من ا�ستطاع منكم الباءة فليتزوج‪ ،‬ف�إنه �أغ�ض‬
‫للب�صر و�أح�صن للفرج»(((‪ .‬ووا�ضح �أن لل�شارع من ت�شريع النكاح مقا�صد‬
‫معينة‪� ،‬سواء �أكانت �أ�صلية؛ كاحلفاظ على مق�صد ا�ستمرار الن�سل‬
‫ومنائه‪� ،‬أم كانت تبعية؛ وهي التي روعي فيها حظ املكلف من اال�ستمتاع‬
‫باملر�أة وجمالها وح�سنها ومالها‪ .‬ف�إذا تنكب املكلف هذه املقا�صد الت�شريعية؛‬
‫ك��أن يكون ق�صده من زواج��ه جم��رد �أن يحلل امل��ر�أة لزوجها الأول الذي‬
‫طلقها ثالثا‪ ،‬كان املكلف بهذا الق�صد خمالفا لق�صد ال�شارع من ت�شريع‬
‫النكاح‪ ،‬وهادما للم�صلحة التي و�ضعها ال�شارع حكمة ومق�صدا وغاية لإباحة‬
‫النكاح(((‪.‬‬
‫و�إذا كان هذا ال�ضابط قد �أ�شار �إلى وجوب موافقة ق�صد املكلف لق�صد‬
‫ال�شارع �إبان قيامه بالتكليف‪ ،‬ف�إن �أبا �إ�سحاق �صاغ �ضابطا �آخر يبني �أن‬
‫املوافقة لق�صد ال�شارع لي�ست فقط ب�أن يتوجه ق�صد املكلف �إلى ما ق�صده‬
‫ال�شارع‪ ،‬و�إمنا تتحقق املوافقة �أي�ضا برتك ق�صد ما ق�صده ال�شارع ما دام‬
‫مل ي�صاحب ذاك ال�ترك ق�صد ملناق�ضته عني ما ق�صده ال�شارع(((‪ ،‬وهو‬
‫ما عناه بقوله‪« :‬ال يلزم الق�صد �إلى امل�س َّبب‪ ،‬فللمكلف ترك الق�صد �إليه‬
‫ب�إطالق‪ ،‬وله الق�صد �إليه»(((؛ �أي �أن املكلف له �أن يرتك الق�صد �إلى عني ما‬
‫ق�صده ال�شارع من ذلك الفعل املكلف به‪ ،‬وله �أن يوجه ق�صده �إلى عني ما‬
‫ق�صده ال�شارع‪.‬‬
‫وال�شاطبي يف ا�ستعماله للفظ «امل�س َّبب» يريد معنيني‪:‬‬
‫الأول‪ :‬معاين الأحكام‪ ،‬وغاياتها الكلية‪ ،‬ومقا�صدها العامة التي �شرعت‬
‫الأح�ك��ام من �أجلها‪ ،‬وه��و ي�صرح بذلك فيقول‪« :‬الأح�ك��ام ال�شرعية �إمنا‬
‫‪ -1‬احلديث رواه البخاري يف �صحيحه ـ كتاب ـ باب ـ رقم ‪.1905‬‬
‫‪ -2‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪ ،187/2‬وعبد الرحمن الكيالين‪ ،‬قواعد املقا�صد �ص ‪.386‬‬
‫‪ -3‬عبد الرحمن الكيالين‪ ،‬قواعد املقا�صد �ص ‪.390‬‬
‫‪ -4‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.143 /1‬‬

‫‪70‬‬
‫�شرعت جللب امل�صالح �أو درء املفا�سد‪ ،‬وهي م�سبباتها قطعا»(((‪ ،‬ويقول‬
‫�أي�ضا‪« :‬واملعاين هي م�سببات الأحكام»(((‪ ،‬ويقول‪« :‬الأ�سباب من حيث هي‬
‫�أ�سباب �إمنا �شرعت لتح�صيل م�سبباتها‪،‬وهي امل�صالح املجتلبة �أو املفا�سد‬
‫امل�ستدفعة»(((‪.‬‬
‫واملعنى الثاين ال��ذي يريده من «امل�سبب» الآث��ار اجلزئية التي ترتتب‬
‫على الأفعال‪ ،‬مثل حل االنتفاع باملبيع الذي يرتتب على عقد البيع‪ ،‬وحلية‬
‫اال�ستمتاع املرتتبة على عقد النكاح‪ ،‬وحت�صيل الرزق امل�سبب عن ال�ضرب‬
‫يف الأر�ض‪ ،‬والق�صا�ص الناجم عن القتل العمد‪� ،‬إلى غري ذلك من الأمثلة‬
‫التي ت�صور امل�سببات اجلزئية ب�أ�سبابها(((‪ .‬واملراد هنا هو املعنى الأول دون‬
‫الثاين؛ ومن �أمثلته �أن ال�شارع قد �أمر بال�صالة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬واحلج‪ ،‬وغريها‬
‫من الواجبات دون التفات �إلى م�سبباتها‪ ،‬وامل�صالح املرتتبة عليها‪ ،‬فله ذلك؛‬
‫ك�أن يقول مثال‪� « :‬إن ال�شارع �أمر ونهى لأجل امل�صالح‪ ...‬ف�أ�صرف ق�صدي‬
‫يل‪ ،‬و�أَ ِك ُل ما لي�س يل �إلى من هو له»(((‪.‬‬
‫�إلى ما ُجعل �إ ّ‬
‫ولتو�ضيح هذا اجلانب من النظر وك�شف متعلقاته �صاغ علماء الأ�صول‬
‫ثنائية معربة عن مق�صودهم‪ ،‬وهي املتعلقة باملقا�صد الأ�صلية واملقا�صد‬
‫التبعية‪ ،‬التي هي يف مبناها ومعناها لب مقا�صد ال�شارع ومقا�صد املكلف؛‬
‫فبينوا فيما بينوه يف هذا ال�سياق �أن املقا�صد ا لأ�صلية ‪-‬عينية كانت‬
‫�أو كفائية‪ -‬هي التي ال حظ فيها للمكلف‪� ،‬إذ هي من ال�ضروريات املعتربة يف‬
‫كل ملة‪ ،‬و�أن من يقوم بها «يقوم مب�صالح عامة مطلقة ال تخت�ص بحال‬
‫دون حال‪ ،‬وال ب�صورة دون �صورة‪ ،‬وال بوقت دون وقت»(((‪.‬‬

‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.142/1‬‬


‫‪ -2‬امل�صدر ال�سابق ‪.146 /1‬‬
‫‪ -3‬امل�صدر ال�سابق ‪.200 /1‬‬
‫‪ -4‬عبد الرحمن الكيالين‪ ،‬قواعد املقا�صد �ص ‪.391‬‬
‫‪ -5‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.143‬‬
‫‪ -6‬امل�صدر ال�سابق ‪.176 /2‬‬

‫‪71‬‬
‫ومن ثم جند «كل مكلف يف العينية منها م�أمورا بحفظ دينه ونف�سه وعقله‬
‫ون�سله وماله‪ ،‬حتى �إن العبد لو فر�ض اختياره خالف هذه الأم��ور حلجر‬
‫عليه‪ ،‬وحليل بينه وبني اختياره‪ ،‬فمن هنا �صار م�سلوب احلظ حمكوما‬
‫عليه يف نف�سه‪ ،‬و�إن �صار له فيها حظ فمن جهة �أخرى تابعة لهذا املق�صد‬
‫الأ�صلي»(((‪ .‬كما جند من اجلهة الكفائية ـ �أي امل�صالح العامة ـ �أن �أمورها‬
‫منوطة بجميع املكلفني على العموم‪ ،‬وذلك من �أجل �أن ت�ستقيم الأحوال‬
‫التي ال تقوم اخلا�صة �إال بها‪� ..‬إذ ال يقوم العيني �إال بالكفائي‪ ..‬ف�إن‬
‫ال��واح��د ال يقدر على �إ�صالح نف�سه والقيام بجميع �أهله‪ ،‬ف�ضال عن �أن‬
‫يقوم بقبيلته‪ ،‬ف�ضال عن �أن يقوم مب�صالح �أهل الأر�ض‪ ،‬فجعل اهلل اخللق‬
‫خالئق يف �إقامة ال�ضروريات العامة حتى قام امللك يف الأر�ض»(((‪ .‬ومن هنا‬
‫كان هذا التق�سيم معرى من احلظ �شرعا؛ لأن القائمني به يف ظاهر الأمر‬
‫ممنوعون من ا�ستجالب احلظ لأنف�سهم ملا قاموا به من ذلك «من حيث كان‬
‫ال يجوز لوال وال لقا�ض‪ ،‬وال حلاكم‪ ،‬وال ملفت‪ ،‬وال ملح�سن‪ ،‬وال ملقر�ض‪� ...‬أن‬
‫ي�أخذ �أجرة ممن توالهم على واليته عليهم‪� ،‬أو ممن تقا�ضى لديه‪� ،‬أو ممن‬
‫ا�ستفتاه‪ ...‬لأن ا�ستجالب امل�صلحة هنا م�ؤد �إلى مف�سدة عامة ت�ضاد‬
‫حكمة ال�شريعة يف ن�صب هذه الواليات‪ ،‬وعلى هذا امل�سلك يجري العدل يف‬
‫جميع الأنام وي�صلح النظام‪ ،‬وعلى خالفه يجري اجلور يف الأحكام وهدم‬
‫قواعد الإ�سالم»(((‪.‬‬
‫�أما فيما يخ�ص املقا�صد التابعة؛ مقا�صد املكلف‪ ،‬فقد بني ال�شاطبي �أن‬
‫حظوظها يجب �أن تراعى؛ �إذ «من جهتها يح�صل للمكلف مقت�ضى ما جبل‬
‫عليه من نيل ال�شهوات واال�ستمتاع باملباحات و�سد اخل�لات‪ ،‬ومن جهتها‬
‫ي�صبح القيام بامل�صالح الأ�صلية ممكنا‪ ،‬لأن قيام الدين والدنيا �إمنا ي�صلح‬

‫‪ -1‬امل�صدر ال�سابق ‪ 177/2‬بت�صرف‪.‬‬


‫‪ -2‬امل�صدر ال�سابق ‪.177 /2‬‬
‫‪ -3‬امل�صدر ال�سابق ‪ 178 /2‬بت�صرف‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫وي�ستمر ب��دواع من قبل الإن�سان‪ ،‬حتمله على اكت�ساب ما يحتاج �إليه هو‬
‫وغريه»(((‪.‬‬
‫فمن طريق �سد حاجة الطعام وال�شراب وامللب�س وامل�سكن حت�صل املحافظة‬
‫على النف�س والعقل‪ ،‬ومن طريق �سد حاجة الزواج حت�صل املحافظة على‬
‫الن�سل‪ ،‬ومن طريق التطلع �إلى الفوز بنعيم اجلنة واالبتعاد عن النار حت�صل‬
‫املحافظة على املال وتنميته‪ ..‬وهكذا تكون هذه امل�صالح قد �صارت من هذه‬
‫اجلهة خادمة للمقا�صد الأ�صلية ومكملة لها‪� ،‬إذ لوالها ما كان للمقا�صد‬
‫الأ�صلية وجود يف اخلارج(((‪.‬‬
‫ث��ان��ي��ا ـ �أم��ا عن جانب ما يناله الأف��راد من حظوظ ج��راء قيامهم‬
‫بامل�صالح العامة؛ وهو اجلانب الذي يتم النظر فيه �إلى هذه العالقة من‬
‫زاوية ما يناله اخل�صو�ص والعموم من حظوظ جراء القيام بهذه املقا�صد‬
‫بق�سميها‪ ،‬فنجد الإمام ال�شاطبي قد خ�ص�ص لهذه العالقة ف�صلني‪ ،‬ف�صل‬
‫تناول فيه احلظوظ التي ينالها املكلف من جراء قيامه بامل�صالح الأ�صلية‬
‫والتبعية‪ ،‬وف�صل تناول فيه احلظوظ التي تنعك�س على العموم واخل�صو�ص‬
‫�أو املجتمع ب�أفراده وجماعاته من جراء القيام بامل�صالح العامة‪.‬‬
‫فريى بالن�سبة للحظوظ التي ينالها املكلف بعد �إجماله احلديث عنها يف‬
‫هذه القاعدة‪« :‬ما لي�س فيه للمكلف حظ بالق�صد الأول‪ ،‬يح�صل له فيه حظ‬
‫بالق�صد الثاين من ال�شارع‪ ،‬وما فيه للمكلف حظ بالق�صد الأول يح�صل فيه‬
‫العمل املرب�أ من احلظ‪ »،‬ف�إنك جتد املكلف يف الفرو�ض العينية بالرغم من‬
‫خلوها من احلظوظ املق�صودة بالق�صد الأول‪ ،‬يح�صل له من جلبها حظوظ‬
‫بطريق غري مبا�شر‪ ،‬وذلك ملا «ثبت يف ال�شريعة �أوال من حظ نف�سه وماله‪،‬‬
‫وما وراء ذلك من احرتام �أهل التقوى والف�ضل والعدالة‪ ،‬وجعلهم عمدة يف‬
‫ال�شريعة يف الواليات وال�شهادات‪ ،‬و�إقامة املعامل الدينية‪ ،‬زائدا �إلى ما جعل‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.179/2‬‬
‫‪� -2‬إدري�س حمادي‪ ،‬امل�صالح املر�سلة وبناء املجتمع الإن�ساين �ص‪.179‬‬

‫‪73‬‬
‫لهم من حب اهلل وحب �أهل ال�سموات لهم‪ ،‬وو�ضع القبول لهم يف الأر�ض حتى‬
‫يحبهم النا�س ويكرمونهم ويقدمونهم على �أنف�سهم‪.(((»...‬‬
‫ومثل ه��ذا جن��ده يف الفرو�ض الكفائية خمدوما من ط��رف الأم��ة‪� ،‬إذ‬
‫ي�سخر كل طاقاته خلدمة م�صالح الأمة يكون واجبا على هذه الأمة �أن تقوم‬
‫بخدمة �أموره اخلا�صة‪ ،‬من بيت مالها الذي تر�صده خلدمة م�صاحلها(((‪،‬‬
‫ومعنى هذا �أن املكلف يف جلبه امل�صالح العامة الأ�صلية « ال يعرى من نيل‬
‫حظوظه الدنيوية يف طريق جترده من حظوظه‪ ،‬وما له يف الآخرة من النعيم‬
‫�أعظم»(((‪.‬‬
‫وبناء على مبد�أ االرتباط بني تطبيق التكاليف ومراعاة املقا�صد ي�صنف‬
‫ال�شاطبي املكلفني �إلى عدة �أ�صناف(((‪ :‬ال�صنف الأول‪ :‬هو الذي يكون يف‬
‫الفعل �أو الرتك موافقا لق�صد ال�شارع‪ ،‬وق�صده املوافقة‪ ،‬وذلك كال�صالة‬
‫وال�صيام وال�صدقة واحلج وغريها‪ ،‬يق�صد بها امتثال اهلل تعالى و�أداء ما‬
‫وجب عليه �أو ندب �إليه‪ ،‬وكذلك ترك الزنى واخلمر و�سائر املنكرات‪ ،‬يق�صد‬
‫بذلك االمتثال‪ ،‬فال �إ�شكال يف �صحة هذا العمل‪ .‬ال�صنف الثاين هو الذي‬
‫يكون خمالفا وق�صده املخالفة‪ ،‬وذلك مثل ترك الواجبات وفعل املحرمات‬
‫ق�صدا فهذا �أي�ضا ظاهر احلكم‪ .‬ال�صنف الثالث هو الذي يكون فعله �أو تركه‬
‫موافقا لأوامر ال�شارع ونوايهه وق�صده املخالفة‪ .‬وهذا ال�صنف ينق�سم بدوره‬
‫�إلى �ضربني �أحدهما «�أن ال يعلم بكون الفعل �أو الرتك موافقا»(((‪ ،‬وميثل‬
‫ال�شاطبي على ذلك بتارك ال�صالة معتقدا �أنها باقية على ذمته‪ ،‬وكواطئ‬
‫زوجته ظانا �أنها �أجنبية‪ ،‬وه��ذا ال�ضرب قد ح�صل فيه ق�صد الع�صيان‬
‫باملخالفة‪ .‬والثاين «�أن يكون الفعل �أو الرتك موافقا �إال �أنه عامل باملوافقة‪،‬‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.184 /2‬‬
‫‪� -2‬إدري�س حمادي‪ ،‬امل�صالح املر�سلة �ص‪.181‬‬
‫‪ -3‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.184/2‬‬
‫‪ -4‬امل�صدر ال�سابق ‪256 /2‬ـ ‪.258‬‬
‫‪ -5‬امل�صدر ال�سابق ‪.256/2‬‬

‫‪74‬‬
‫ومع ذلك ق�صد املخالفة»(((‪ ،‬وميثل على ذلك بالذي ي�صلي رياء لينال دنيا‬
‫�أو تعظيما عند النا�س‪ ،‬و«هذا الق�سم �أ�شد من الذي قبله»(((‪ .‬ال�صنف الرابع‬
‫هو الذي يكون فعله �أو تركه خمالفا والق�صد موافقا‪ .‬وهذا ال�صنف ينق�سم‬
‫�أي�ضا �إلى �ضربني‪� :‬أحدهما‪� :‬أن يكون خمالفا مع العلم باملخالفة‪ ،‬و«هذا‬
‫هو االبتداع ك�إن�شاء العبادات امل�ست�أنفة والزيادات على ما �ش ّرع‪ ...‬والذي‬
‫يتح�صل هنا �أن جميع البدع مذمومة»(((‪ .‬والثاين �أن يكون العمل املخالف‬
‫مع اجلهل باملخالفة‪.‬‬
‫وهذا ال�ضرب الثاين له وجهان‪� :‬أحدهما �أن يكون الق�صد موافقا لق�صد‬
‫ال�شارع‪ ،‬ومن هذا الوجه ال يكون املكلف خمالفا‪ ،‬وذلك «لأن العمل و�إن كان‬
‫خمالفا‪ ،‬فالأعمال بالنيات‪ ،‬ونية هذا العامل على املوافقة‪ ،‬لكن اجلهل �أوقعه‬
‫يف املخالفة‪ ،‬ومن ال يق�صد خمالفة ال�شارع كفاحا ال يجري جمرى املخالف‬
‫بالق�صد والعمل معا‪ ،‬فعمله بهذا النظر منظور فيه على اجلملة ال مطرح‬
‫على الإطالق»(((‪.‬‬
‫والوجه الثاين هو �أن يكون العمل خمالفا‪ ،‬ويف املخالفة عدم االمتثال‬
‫للأوامر والنواهي‪ ،‬ويف عدم االمتثال خمالفة لق�صد ال�شارع‪ ،‬و«ال يعار�ض‬
‫املخالفة موافقة الق�صد الباعث على العمل؛ لأنه مل يح�صل ق�صد ال�شارع يف‬
‫ذلك العمل على وجه‪ ،‬وال طابق الق�صد العمل‪ ،‬ف�صار املجموع خمالفا كما‬
‫لو خولف فيهما معا‪ ،‬فال يح�صل االمتثال»(((‪.‬‬
‫ولعل حر�ص ال�شاطبي على توثيق ال�صلة بني التطبيق للأحكام اجلزئية‬
‫ليتحقق التطابق املطلوب بني ال�سلوك والأف�ع��ال من ناحية ومقت�ضيات‬
‫ال�شرع من ناحية ثانية‪ ،‬لعل ذلك يرتبط على ما يبدو بالظروف االجتماعية‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.257/2‬‬
‫‪ -2‬امل�صدر ال�سابق ‪.257/2‬‬
‫‪ -3‬امل�صدر ال�سابق ‪.258/2‬‬
‫‪ -4‬امل�صدر ال�سابق ‪.260/2‬‬
‫‪ -5‬امل�صدر ال�سابق ‪.260/2‬‬

‫‪75‬‬
‫والفكرية التي كان يعي�شها يف ع�صره‪ .‬فقد ات�سمت غرناطة يف هذه الفرتة‬
‫باالزدهار العمراين واحل�ضاري‪ ،‬و�صاحب ذلك حتوالت اجتماعية ت�ضخمت‬
‫تدريجيا‪ ،‬حتى ف�شا االختالط‪ ،‬و�شرب امل�سكرات‪ ،‬وظهور ما ينكر يف الدين‪،‬‬
‫وبد�أ يظهر الت�صعلك يف املجتمع(((‪ .‬ومن خالل ت�صنيف الإمام ال�شاطبي‬
‫للعلوم‪-‬كما ج��اء ذل��ك يف املقدمة التا�سعة(((‪ ،‬ن�ستخل�ص معامل ملا كان‬
‫�سائدا يف الواقع الثقايف العلمي يف ع�صر امل�ؤلف‪ ،‬وحتدياته املتمثلة يف‬
‫�شيوع اخلرافات‪ ،‬وانت�شار البدع و�آراء املت�صوفة ومذاهبهم‪ ،‬وهيمنة التقليد‬
‫يف �أب�شع �صوره‪ ،‬هذا الواقع الذي حر�ص ال�شاطبي على نقده وت�صحيحه‬
‫وتنقيته‪ ،‬وتوجيه العقلية الإ�سالمية نحو التمحي�ص والتدقيق‪ ،‬بعد تربية‬
‫هذه العقلية وتزويدها باملعايري الدقيقة للتمييز بني املعارف والعلوم‪ ،‬وكيفية‬
‫التعامل معها بالنقد والبحث الدقيق‪.‬‬
‫فت�صدر‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬للرد عليها ومقاومتها‪ ،‬وهو ما جتلى لنا عند حديثه‬
‫عن ال�صنف الرابع من �أ�صناف املكلفني‪ ،‬وهو ما �أبدع يف عر�ضه ومناق�شته‬
‫يف كتابه االعت�صام معلنا �أن �أ�سباب االبتداع يف الدين «راجعة يف التح�صيل‬
‫�إلى وجه واحد‪ :‬وهو اجلهل مبقا�صد ال�شريعة»(((‪ ،‬و�أن «زلة العامل �أكرث‬
‫(((‬
‫ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقا�صد ال�شرع‪»..‬‬
‫يف هذا اجلو نبغ الإم��ام ال�شاطبي‪ ،‬و�شكلت �شخ�صيته يف م�ضمار نقد‬
‫الفكر ال�صويف باخل�صو�ص �أهم �أمنوذج لفعاليات ال�صراع الفكري خالل‬
‫القرن الثامن الهجري‪.‬‬
‫وهذا العامل جدير بالتنويه يف ف�صل ال�صراع؛ لأنه كان قويا �أمام تيار‬
‫التقليد املذهبي وال�صويف‪ ،‬وحتمل يف �سبيل موقفه املحن والغربة التي �أ�شار‬
‫‪ -1‬ابن اخلطيب‪ ،‬اللمحة البدرية يف الدولة الن�صرية �ص ‪.45‬‬
‫‪--2‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات‪.61-53/1 ،‬‬
‫‪ -3‬ال�شاطبي‪ ،‬االعت�صام ‪.182/2‬‬
‫‪ -4‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.170/4‬‬

‫‪76‬‬
‫�إليها يف كتابه االعت�صام‪ ،‬من ذلك قوله‪« :‬ملا وقع علي من الإنكار ما وقع‪،‬‬
‫مع ما هدى اهلل �إليه‪ ،‬واحلمد هلل‪ ،‬مل �أزل �أتتبع البدع‪...‬لعلي �أجتنبها فيما‬
‫ا�ستطعت»(((‪ ،‬وهو ر�أي علمي متزن وملتزم يكلف �صاحبه نف�سه قبل غريه‬
‫الإم�ساك عن البدع‪.‬‬
‫المة وف ّوق �إ َ‬
‫يل‬ ‫علي ا َمل َ‬
‫وقال يف مو�ضع �آخر‪« :‬قامت علي القيامة وتواترت َّ‬
‫العتاب �سهامه‪ ،‬ون�سبت �إلى البدعة وال�ضاللة‪ ،‬و�أنزلت منزلة �أهل الغباوة‬
‫واجلهالة»(((‪.‬‬
‫ويف هذا اجلو امل�شحون‪ ،‬ورغم هذه احلملة ال�شعواء‪ ،‬وهذه الغربة التي‬
‫ا�ستوح�شت ال�شاطبي مع ك�ثرة �أع��دائ��ه وخ�صومه الفكريني من العامة‬
‫واخلا�صة الذين ت�ألبوا عليه‪ ،‬رغ��م ذل��ك مل ي�ترك لنف�سه العنان يف‬
‫االنتقام منهم �أو حتى ال��وق��وع فيهم �أو النيل �أو التعر�ض لذممهم‪،‬‬
‫وذكرهم مبا ي�سو�ؤهم كما هو الأمر بالن�سبة للعديد من علماء الأندل�س‪.‬‬
‫بل �إميانا منه بدوره الفعال يف معاجلة االنحرافات االجتماعية وال�شوائب‬
‫احللم والعلم والرتبية والأخالق‪،‬‬
‫االعتقادية‪� ،‬سلك يف تقوميهم طريق �أهل ِ‬
‫وتعامل معهم معاملة العامل الرا�سخ ال��رب��اين‪ ،‬الواعي ب�أحكام �شرعه‪،‬‬
‫اخلائف من دب روح االختالف‪ ،‬والراغب يف �سيادة روح املوافقات‪ ،‬واتبع‬
‫يف جمادلتهم ونقا�شهم منهج القر�آن‪ ،‬امتثاال لقوله تعالى‪ } :‬ﮦﮧﮨ‬
‫ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ‬
‫ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ { (النحل‪ ،)125 :‬فعزم‬
‫على و�ضع تلخي�ص يو�ضح فيه �أ�صول هذه الطريقة‪ ،‬وما �شابها من نزغات‬
‫وترهات‪ ،‬ليميز اخلبيث من الطيب‪ ،‬ولكن املنية عاجلته قبل �أن يحقق عزمه‪،‬‬
‫ووافاه �أجله قبل �أن ي�ضع �أمنوذجه وم�صنفه يف الت�صوف‪.‬‬

‫‪ --1‬ال�شاطبي‪ ،‬االعت�صام ‪..21/1‬‬


‫‪ --2‬امل�صدر ال�سابق ‪.18/1‬‬

‫‪77‬‬
‫وقد �صرح ال�شاطبي با�سم هذا امل�صنف فقال‪« :‬و�إن ف�سح اهلل يف املدة‬
‫و�أعان بف�ضله ب�سطنا الكالم يف هذا الباب يف كتاب (مذهب �أهل الت�صوف)‬
‫(((‬
‫وبيان ما �أدخل فيه مما لي�س بطريق لهم»‪.‬‬
‫ومبوقف ال�شاطبي ه��ذا من البدع و�أهلها ا�ستحق �أن يلقب فيما بعد‬
‫بامل�صلح الديني واالجتماعي(((‪ ،‬و�أن يع ّد من املجددين الذين عملوا على‬
‫تخلي�ص الفكر الإ�سالمي من جملة �شوائب علقت به يوما‪ ،‬فكانت حاجزا‬
‫�أمام النه�ضة املرجوة والرتقي املنتظر من �أهل العلم يف ذلك الوقت‪.‬‬
‫ومع هذا وذاك‪ ،‬ف�إن ال�شاطبي �أح�سن وتفرد يف حترير القول يف مقا�صد‬
‫املكلف وعالقتها ـ �إيجابا و�سلبا ـ مع مقا�صد ال�شارع‪ ،‬وا�ستطاع �أن يدمج‬
‫بينهما يف نظرته �إلى ن�صو�ص ال�شريعة وفق ر�ؤية مقا�صدية‪.‬‬

‫‪ --1‬ال�شاطبي‪ ،‬االعت�صام ‪ ،155/1‬وانظر كذلك ‪.90/1‬‬


‫‪ --2‬عبد املتعال ال�صعيدي‪ ،‬املجددون يف الإ�سالم‪� ،‬ص‪.233 ،‬‬

‫‪78‬‬
‫املبحث الثاين‪ :‬معرفة مقا�صد ال�شريعة وبناء التكليف ال�شرعي‬
‫�إذا كان الإمام ال�شاطبي �أولى اهتماما خا�صا لوظيفة املقا�صد بالن�سبة‬
‫�إلى املكلف فتناولها‪ ،‬على عادته يف ذلك‪ ،‬بالتو�ضيح والتف�صيل واال�ستدالل‪،‬‬
‫ف�إن ال�شيخ ابن عا�شور ر�أى �أنه «لي�س كل مكلف بحاجة �إلى معرفة مقا�صد‬
‫ال�شريعة؛ لأن معرفة مقا�صد ال�شريعة نوع دقيق من �أن��واع العلم‪ ،‬فحق‬
‫العامي �أن يتلقى ال�شريعة بدون معرفة املق�صد؛ لأنه ال يح�سن �ضبطه‬
‫وال تنزيله»(((‪.‬‬
‫والذي ميكن �أن �أ�ستدركه على ابن عا�شور فيما ذهب �إليه هو �أن ال�شاطبي‬
‫عندما ا�ستوجب تعرف املكلف على مقا�صد ال�شريعة‪ ،‬مل يق�صد بذلك �أن‬
‫ي�صبح املكلف عاملا بها وبدقائقها وتفا�صيلها علم الفقهاء املتخ�ص�صني‪،‬‬
‫والأئمة املعتربين‪ ،‬و�إمنا ق�صد فقط �أن تكون تلك املعرفة م�ساعدة له على‬
‫�أن يبلغ بغيته‪ ،‬فيحقق يف تطبيق التكاليف ال�شرعية من �أوامر ونواه‪ ،‬املقا�صد‬
‫التي جعلت من �أجلها؛ �أي �أن يكون �سلوكه يف الأفعال والرتوك من�سجما مع‬
‫مقت�ضيات ال�شرع من ناحية الأحكام واملقا�صد يف نف�س الوقت‪ ،‬فاملعرفة التي‬
‫يطالب بها ال�شاطبي هي املعرفة العملية ال املعرفة العلمية(((‪.‬‬
‫ومهما يكن من �أمر هذه االختالفات يف وجهات النظر‪ ،‬ف�إن ابن عا�شور‬
‫يركز عنايته على وظيفة املقا�صد يف عالقتها بالفقيه املجتهد قبل غريه‬
‫من �أ�صناف املكلفني بال�شريعة‪ ،‬وبهذه الر�ؤية يربط ابن عا�شور ربطا وثيقا‬
‫بني االجتهاد كباب من �أبواب علم الأ�صول وبني البعد املقا�صدي للن�صو�ص‬
‫ال�شرعية‪ ،‬وك�أين به‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬يقتفي �آثار الإمام ال�شاطبي يف تقرير‬
‫�أوجه العالقة بني خمتلف مباحث علم الأ�صول والعلم مبقا�صد ال�شريعة‪،‬‬
‫ويف اتخاذ البعد املقا�صدي �إطارا مرجعيا لتلك املباحث كلها‪.‬‬

‫‪ -1‬حممد الطاهر بن عا�شور‪ ،‬مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية �ص ‪.18‬‬


‫‪ -2‬حممد مطاع اهلل‪� ،‬أ�صول الفقه عند املحدثني �ص ‪.353‬‬

‫‪79‬‬
‫يف حني �أول��ى ال�شاطبي‪ ،‬وكما مر معنا بع�ض من ذل��ك‪ ،‬عناية خا�صة‬
‫ملقا�صد املكلف؛ وذلك راجع بالأ�سا�س لعلمه �أن عدم اعتبار هذه املقا�صد‬
‫من �ش�أنه �إبقاء مقا�صد ال�شارع جمرد فكرة يف الذهن ال تنزل �إلى واقع‬
‫حياة املكلف‪ ،‬ومن هذا املنطلق قرن‪ ،‬رحمه اهلل‪« ،‬بني التكليف والق�صد؛ فال‬
‫تكليف �إال على من تعني ق�صده‪ ،‬و�إال كلف مبا ال يطاق؛ بحيث ي�صري الق�صد‬
‫نازال منزلة العقل الذي هو بالذات مناط التكليف»(((‪.‬‬
‫من هنا �أكد على ارتباط الأحكام ال�شرعية اخلم�سة مبقا�صدها بحيث‬
‫�إذا عريت عن املقا�صد مل تتعلق بها‪ ،‬وت�صبح غري معتربة �شرعا‪ ،‬وهذا‬
‫(((‬
‫ما قرره يف �صدر امل�س�ألة ال�ساد�سة من كتاب الأحكام‪« :‬الأحكام اخلم�سة‬
‫�إمنا تتعلق بالأفعال والرتوك باملقا�صد‪ .‬ف�إذا عريت عن املقا�صد مل تتعلق‬
‫بها»(((‪ .‬وك�أنه به بذلك ي�ستدرك على التعريف الذي ا�ستقر عند الأ�صوليني‬
‫للحكم ال�شرعي ب�أنه‪« :‬خطاب اهلل تعالى املتعلق ب�أفعال املكلفني باالقت�ضاء‬
‫�أو التخيري»(((‪ ..‬فخطاب اهلل تعالى ح�سب ال�شاطبي ال يتعلق ب�أفعال املكلفني‬
‫�إذا كان خاليا من الق�صد‪.‬‬
‫مما يفهم منه �أن الأحكام التكليفية �إمنا هي معتربة مبقا�صد ال�شرع‪،‬‬
‫ومبجرد ما تبتعد عن هذه املقا�صد تفقد قيمتها وفاعليتها‪ ،‬مما يحتم على‬
‫املكلف ب�أن يجعل �أفعاله وتروكه املتعلقة بالأحكام التكليفية اخلم�سة مبنية‬
‫على الق�صد‪ ،‬و�إال نزل �إلى م�ستوى العجماوات واجلمادات التي ال ق�صد لها‬
‫وال غاية‪ ،‬وعلى عادته يف الدفاع عن مراده‪ ،‬ا�ستدل الإمام ال�شاطبي على‬
‫اختياره ربط الأحكام التكليفية مبقا�صدها ب�أدلة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫�أوالـ قيام الأعمال والت�صرفات على النيات‪ ،‬وهو �أمر مقطوع به ومتفق‬
‫‪ -1‬طه عبد الرحمن‪ ،‬جتديد املنهج يف تقومي الرتاث �ص ‪100‬ـ‪.101‬‬
‫‪ -2‬وهي‪ :‬الإباحة‪ ،‬والندب‪ ،‬والإيجاب‪ ،‬والكراهة‪ ،‬والتحرمي‪.‬‬
‫‪ -3‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.106/1‬‬
‫‪ -4‬الطويف‪� ،‬شرح خمت�صر الرو�ضة ‪.250/1‬‬

‫‪80‬‬
‫عليه يف اجلملة‪ ،‬ذلك �أن الأعمال املجردة من حيث كونها حم�سو�سة‬
‫فقط ال اعتبار لها �شرعا‪� ،‬إال ما ثبت اعتباره يف باب خطاب الو�ضع‪،‬‬
‫والتي ال دخل للنيات فيها؛ �إذ الأعمال والت�صرفات �إذا «مل تكن معتربة‬
‫حتى تقرتن بها املقا�صد كان جمردها يف ال�شرع مبثابة حركة العجماوات‬
‫واجلمادات»(((‪ ،‬والأحكام اخلم�سة ال تتعلق بها عقال وال �سمعا‪.‬‬
‫ثانيا ـ ومما يدل على ابتناء الأحكام ال�شرعية على النيات واملقا�صد‬
‫«ما ثبت من عدم اعتبار الأفعال ال�صادرة من املجنون‪ ،‬والنائم‪ ،‬وال�صبي‪،‬‬
‫واملغمى عليه‪ ،‬و�أنها ال حكم لها يف ال�شرع ب�أن يقال فيها‪ :‬جائز‪� ،‬أو ممنوع‪،‬‬
‫�أو واجب‪� ،‬أو غري ذلك»(((‪ .‬والن�صو�ص ال�شرعية دالة على ذلك‪ ،‬منها‬
‫قوله تعالى }ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ‬
‫ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ‬
‫ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ {(الأح�� ��زاب‪،)5 :‬‬
‫وقوله �سبحانه}ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ‬
‫ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ‬
‫ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ {(البقرة‪ )285 :‬ويف معناه قول‬
‫النبي [‪« :‬رفع عن �أمتي اخلط�أ والن�سيان وما ا�ستكرهوا عليه»(((‪ .‬ويخل�ص‬
‫ال�شاطبي �إلى القول‪« :‬فجميع ه�ؤالء ال ق�صد لهم‪ ،‬وهي العلة يف رفع �أحكام‬
‫التكليف عنهم»(((‪.‬‬
‫الثالث ـ الإجماع على تكليف ما ال يطاق غري واقع يف ال�شريعة‪ ،‬وتكليف من‬
‫ال ق�صد له تكليف مبا ال يطاق(((‪.‬‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.106/1‬‬
‫‪ -2‬امل�صدر ال�سابق ‪.106/1‬‬
‫‪ -3‬احلديث رواه ابن ماجه يف �سنه ـ كتاب الطالق ـ باب طالق املكره والنا�سي ـ رقم احلديث ‪.2043‬‬
‫‪ -4‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.106/1‬‬
‫‪ -5‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.107/1‬‬

‫‪81‬‬
‫فهذه الأمور لها تعلق مبقا�صد املكلف من حيث ت�أثريها على اعتبارها �شرعا‬
‫�أو �إهمالها‪ ،‬وتكييف الفعل ال�صادر عن املكلف واحلكم عليه وفق مق�صده‬
‫وغايته؛ �أي من حيث ظاهر الفعل ومن حيث الق�صد الذي توخاه املكلف من‬
‫مبا�شرة الفعل‪ ،‬حتى ال تكون موافقة املكلف لق�صد ال�شارع يف الظاهر فقط‪،‬‬
‫بينما جتد باطنه مناق�ضا للمق�صد ال�شرعي املراد‪ ،‬وهو ما عناه ال�شاطبي‬
‫بقوله يف ر�أ�س امل�س�ألة الأولى من م�سائل الق�سم الثاين من كتاب املقا�صد؛‬
‫وهو املخ�ص�ص ملقا�صد املكلف‪�« :‬أن الأعمال بالنيات‪ ،‬واملقا�صد معتربة يف‬
‫الت�صرفات‪ ،‬من العبادات والعادات»(((‪ .‬فق�صد املكلف يف فعله هو الذي يجعل‬
‫عمله �صحيحا �أو باطال‪ ،‬ويجعله عبادة �أو رياء‪ ،‬ويجعله فر�ضا �أو نافلة‪ ،‬بل‬
‫يجعله �إميانا �أو كفرا‪ ،‬وهو نف�س العمل‪ ،‬كال�سجود هلل �أو لغري اهلل‪.‬‬
‫و�إذا نظرنا �إلى بع�ض تفا�صيل الأحكام التكليفية‪ ،‬وجدنا فيها �أمورا من‬
‫هذا القبيل‪ ،‬من ذلك �أن املندوب بالن�سبة للواجب �إما مقدمة له �أو تذكار‬
‫به‪ .‬فالذي من جن�سه كنوافل ال�صالة مع فرائ�ضها‪ ،‬وال�صدقة واحلج‪ ،‬وغري‬
‫ذلك مع فرائ�ضها‪ .‬والذي من غري جن�سه كطهارة اخلبث يف اجل�سد والثوب‬
‫وامل�صلى‪ ،‬وال�سواك‪ ،‬و�أخذ الزينة‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬مع ال�صالة‪ .‬وكتعجيل الإفطار‪،‬‬
‫وت�أخري ال�سحور‪ ،‬وكف الل�سان عما ال يعني مع ال�صيام‪ ،‬وما �أ�شبه ذلك‪.‬‬
‫وبع�ض الواجبات منه ما يكون مق�صودا وهو �أعظمها‪ ،‬ومنه ما يكون و�سيلة‬
‫وخادما للمق�صود الأول؛ مثل طهارة احلدث‪ ،‬و�سرت العورة‪ ،‬وا�ستقبال القبلة‪،‬‬
‫والأذان للتعريف بالأوقات و�إظهار �شعائر الإ�سالم مع ال�صالة‪ ،‬فمن حيث‬
‫كانت و�سيلة‪ ،‬حكمه مع املق�صود حكم املندوب مع الواجب‪ ،‬يكون وجوبه باجلزء‬
‫دون وجوبه بالكل‪ ،‬وكذلك يف عالقة املكروه باملمنوع؛ فبع�ض املمنوعات منه‬
‫ما يكون مق�صودا‪ ،‬ومنه ما يكون و�سيلة له‪ ،‬كالواجب متاما(((‪.‬‬
‫هذا عن النظر يف الواجبات اخلادمة لواجبات �أخرى‪� ،‬أما من حيث النظر‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي املوافقات ‪.246/2‬‬
‫‪ -2‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪ 108/1‬بت�صرف‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫�إلى الواجبات يف نف�سها‪ ،‬ف�إن ال�شاطبي يق�سمها ويجعلها على �ضربني‪:‬‬
‫الأول‪ :‬الواجب بح�سب اجلواز؛ �أي بح�سب �إمكان وقوعه‪ ،‬وبح�سب جواز‬
‫اختالف حكم الكلية واجلزئية‪ .‬فهذا ظاهر يف اختالف احلكم بني الكلية‬
‫واجلزئية‪ ،‬حيث �إن املف�سدة املرتتبة باملداومة على ترك الواجبات �أعظم‬
‫منها بالوقوع فيها مرة واحدة‪ .‬فرتك ال�صالة الفر�ض تعترب خطيئة ي�أثم‬
‫�صاحبها على تركها‪ ،‬والتارك لكل �صالة �أحرى يف ا�ستحقاق الإثم والوعيد‪،‬‬
‫و�إن كان املدام �أعظم مف�سدة من غريه‪ .‬وكذلك القاتل عمدا �إذا فعل ذلك‬
‫مرة‪ ،‬مع من كرث منه ذلك وداوم عليه‪ ،‬وما �أ�شبه ذلك(((‪.‬‬
‫ال��ث��اين‪ :‬ال��واج��ب بح�سب ال��وق��وع؛ �أي بح�سب ما هو واق��ع حقيقة يف‬
‫ال�شريعة‪ ،‬ومن �أمثلة ذلك قوله [ يف تارك �صالة اجلمعة‪« :‬من ترك اجلمعة‬
‫ثالث مرات تهاونا بها طبع اهلل على قلبه»(((‪ ،‬واحلديث قيد الرتك بالثالث‬
‫كما ترى‪ .‬وفيه دليل على �أن املداومة ترتب مف�سدة �أعظم وترتب عقابا �أثقل‪،‬‬
‫فمن ترك اجلمعة مرة لي�س كمن تركها ثالث مرات‪� ،‬أو �أكرث‪ .‬ومن تركها‬
‫غري م�ستخف بها لي�س كمن تركها ا�ستخفافا وتهاونا وا�ستهزاء‪ ،‬وكذلك يقول‬
‫الفقهاء فيمن ارتكب �إثما ومل يكرث منه ذلك‪� ،‬إنه ال يقدح يف �شهادته �إذا‬
‫مل يكن كبرية‪ ،‬ف�إن متادى و�أكرث منه كان قادحا يف �شهادته‪ ،‬و�صار يف عداد‬
‫من فعل كبرية؛ بناء على �أن الإ�صرار على ال�صغرية ي�صريها كبرية(((‪.‬‬
‫�أما املكروه ف�إن كان الفعل فيه مكروها باجلزء كان ممنوع ًا بالكل‪ .‬مثل‬
‫�سائر الأفعال والت�صرفات املكروهة‪ ،‬ف�إنها �إذا وقعت من املكلف من غري‬
‫مداومة عليها مل تقدح يف عدالته‪ ،‬ف�إن فعل ذلك وداوم قدحت يف عدالته‪،‬‬

‫‪ -1‬امل�صدر ال�سابق ‪.94/1‬‬


‫‪ -2‬احلديث رواه الرتمذي يف �سننه ـ �أبواب الوتر ـ باب ما جاء يف ترك اجلمعة من غري عذر ـ رقم‬
‫احلديث ‪ ،500‬وابن ماجه يف �سننه ـ كتاب �إقامة ال�صالة وال�سنة فيها ـ باب يف من ترك اجلمعة من‬
‫غري عذر ـ رقم احلديث ‪.1125‬‬
‫‪ -3‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.95/1‬‬

‫‪83‬‬
‫و�سبب ارتقاء املكروه �إلى ال�شارع(((‪ .‬ولهذا قال املالكية يف اللعب بال�شطرجن‬
‫ف�إن كان يكرث منه حتى ي�شغله عن اجلماعة مل تقبل �شهادته‪ ،‬يقول ابن‬
‫عبد الرب‪« :‬ومن �أدمن اللعب بال�شطرجن‪� ،‬أو الرند‪ ،‬وا�شتهر يف ذلك وا�شتهر‬
‫به مل جتز �شهادته‪ ،‬وقد قيل �أن اللعب بالرند �إذا عرف به‪ ،‬و�إن مل يدمن‬
‫ال جتوز �شهادته للحديث الوارد فيه ن�صا‪ ،‬من ثبت عليه �أن اللعب بال�شطرجن‬
‫�ألهاه عن وقت ال�صالة الواحدة حتى خرج وقتها‪ ،‬ك�صالتي النهار بغروب‬
‫ال�شم�س‪� ،‬أو ك�صالتي الليل بطلوع الفجر‪� ،‬أو ال�صبح بطلوع ال�شم�س مل تقبل‬
‫�شهادته حتى يتوب»(((‪ .‬فاحلفاظ على ال�صلوات يف �أوقاتها ومع اجلماعة‬
‫مق�صد �شرعي ينبغي رعايته‪ ،‬وتفويت املكلف لهذا املق�صد تفويت للم�صالح‬
‫املرادة �شرعا‪.‬‬
‫وه��ذا تقرير �آخ��ر ملعنى الكلية واجلزئية يف �أفعال املكلفني‪ ،‬واختالف‬
‫احلكم بينهما‪ ،‬وقد اعتربه ال�شاطبي بالغ ًا مبلغ القطع ملن ا�ستقر�أ ال�شريعة‬
‫يف مواردها وم�صادرها‪ ،‬ويعزز ت�صحيح هذه القاعدة بجملة �أدلة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫تفريق العلماء بني من ي��داوم على بع�ض املباحات املكروهات فيجرح‪،‬‬
‫وبني من مل يداوم على ذلك‪ ،‬ولوال �أن للمداومة ت�أثريا‪ ،‬يف تفويت امل�صالح‬
‫والإف�ضاء �إلى املفا�سد‪ ،‬مل ي�صح لهم التفرقة بني املداوم عليه من الأفعال‬
‫وبني من مل يداوم عليه‪ .‬واعترب ال�شاطبي �أن هذا الأمر مقطوع به متفق‬
‫عليه بني العلماء يف اجلملة‪ ،‬وهو كاف لت�صوير الكلية واجلزئية يف الأحكام‬
‫التكليفية اخلم�سة(((‪.‬‬
‫ما ثبت باال�ستقراء �أن و�ضع ال�شريعة قائم على اعتبار امل�صالح‪ ،‬وامل�صالح‬
‫املعتربة �شرعا هي الكليات دون اجلزئيات‪ ،‬وهذا �أمر مطرد يف ال�شرعيات‬
‫والعاديات‪ ،‬مما يدل على �أن اعتبار اجلزئيات ال يرتقي �إلى اعتبار الكليات‪.‬‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.94/1‬‬
‫‪ -2‬ابن عبد الرب القرطبي‪ ،‬الكايف يف فقه �أهل املدينة �ص ‪462‬ـ‪ .463‬وانظر �أح�سن حل�سا�سنة‪،‬الفقه‬
‫املقا�صدي عند الإمام ال�شاطبي �ص‪.116‬‬
‫‪ -3‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.98/1‬‬

‫‪84‬‬
‫وما ي�شهد لهذا املعنى �أن احلكم بال�شهادة مثال‪ ،‬وقبول خرب الواحد‪ ،‬مع‬
‫احتمال وق��وع الغلط والن�سيان يف الآح��اد‪ ،‬لكن الغالب يف ذل��ك ال�صدق‬
‫«ف�أجريت الأحكام الكلية على ما هو الغالب حفظا على الكليات‪ ،‬ولو اعتربت‬
‫اجلزئيات مل يكن بينهما ف��رق‪ ...‬وه��ذا دليل على �صحة اختالف الفعل‬
‫الواحد بح�سب الكلية واجلزئية‪ ،‬و�أن �ش�أن اجلزئية �أخف»(((‪.‬‬
‫التفريق بني زلة العامل يف عمله �أو علمه يف خا�صة نف�سه فيغلب عليها‬
‫حكم اجلزئية‪ ،‬وتعديها �إلى غريه فيغلب عليها حكم الكلية‪ ،‬فتكون زلة العامل‬
‫«جزئية �إذا اخت�صت به ومل تتعد �إلى غريه‪ ،‬ف�إن تعدت �صارت كلية ب�سبب‬
‫االقتداء واالتباع على ذلك الفعل‪� ،‬أو على مقت�ضى القول‪ ،‬ف�صارت عند‬
‫االتباع عظيمة جدا‪ ،‬ومل تكن كذلك على فر�ض اخت�صا�صها به»(((‪.‬‬
‫وهذا جانب من جوانب الإلهام والإب��داع عند ال�شاطبي‪ ،‬فكان من �شدة‬
‫عنايته ورغبته يف تفعل مقا�صد ال�شارع �أن اهتدى لتتويج الكالم فيها‬
‫باحلديث عن مقا�صد املكلفني‪ ،‬لذلك ال �أتفق مع ما ذهب �إليه الأ�ستاذ‬
‫املنجي بن العبيدي امليغري عندما اتهم ال�شاطبي بالتحفظ يف تفعيل نظرية‬
‫املقا�صد‪ ،‬واعتربه‪�« :‬أ�شد حمافظة من �سابقيه ممن قالوا بفكر مقا�صدي؛‬
‫�أمثال اجلويني والغزايل‪ ،‬والطويف‪ ،‬وابن عبد ال�سالم‪ ،‬وغريهم‪ ،‬و�أن الرجل‬
‫رغم �أنه و�ضع �أطروحة املقا�صد لكنه مل ي�ستثمر هذه الأطروحة يف تفعيل‬
‫القول املقا�صدي‪ ،‬بل ظل متحفظا متدثرا بعباءة الأ�صوليني وال�شافعي‬
‫خ�صو�صا»(((‪ ،‬لأن ما �أقدم عليه ال�شاطبي يف هذا اجلانب يعد �إ�ضافة نوعية‬
‫ومنهجية‪ ،‬وخطوة علمية وعملية نحو ت�أطري الدليل ال�شرعي‪ ،‬ومن خالله‬
‫�أفعال املكلفني وت�صرفاتهم‪ ،‬يف �سياق معنوي كلي قوامه مقا�صد ال�شريعة‪،‬‬
‫على امل�ستوى الفهمي‪ ،‬واال�ستنباطي‪ ،‬والتنزيلي‪.‬‬

‫‪ -1‬امل�صدر ال�سابق ‪98/1‬ـ‪.99‬‬


‫‪ -2‬امل�صدر ال�سابق ‪.99/1‬‬
‫‪ -3‬املنجي امليغري‪ ،‬املقا�صد ال�شرعية ورهانات التحديث �ص ‪.308‬‬

‫‪85‬‬
‫و�إذا كان ال�شاطبي قد تنبه �إلى هذا اجلانب املنهجي يف عالقة مقا�صد‬
‫املكلف مبقا�صد ال�شارع‪ ،‬فقد حر�ص‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬على بنائها بناء مقا�صديا‬
‫مرنا‪� ،‬آخذا بعني االعتبار نظرية املقا�صد يف عمومها و�شمولها كما انتهى‬
‫�إليها يف موافقاته‪ ،‬فوجه اهتمامه �إلى تكييف ال�سلوك الفردي واجلماعي‬
‫للمكلفني بحيث يكون �سلوكا على وفق املق�صود ال�شرعي‪ ،‬وهو املق�صود الذي‬
‫ن�صت عليه ن�صو�ص الوحي‪ ،‬و�سار عليه ال�سلف ال�صالح‪.‬‬
‫وال يعني هذا بحال �أن املكلف يف هذه العالقة مبثابة «موظف»؟؛ �أي فاعل‬
‫�شرعي مهمته االن�ضباط لهذه ال�شريعة فقط كما ذهب �إلى ذلك الأ�ستاذ‬
‫امليغري(((؛ ولكنه مكلف مبعناه الأ�صويل والفقهي النابع وامل�ستمد من ن�صو�ص‬
‫الوحي‪ ،‬باعتبار �أن املكلف هو اخلليفة الذي ا�ستخلفه اخلالق �سبحانه يف‬
‫هذا الوجود‪ ،‬و�أم��ده مبا �شاء من الإمكانات والقدرات الفهمية واملادية‬
‫واملعنوية ليحقق مق�صد ال�شارع من اخللق‪ ،‬يف حوار دائم وم�ستمر مع باقي‬
‫اخلالئق؛ م�صداقا لقوله تعالى‪}:‬ﭳﭴﭵﭶﭷﭸ{‬
‫(الذاريات ‪.)56 :‬‬
‫وبالإ�ضافة �إلى مراعاته مقا�صد املكلف يف الأحكام الفقهية‪ ،‬ومراعاة‬
‫موافقة ق�صده ملق�صود املكلف‪ ،‬ويف �سبيل تكييف �أفعال املكلفني مع مقا�صد‬
‫ال�شارع يف �إطار نظرية املقا�صد بكلياتها وجزئياتها‪ ،‬حدد ال�شاطبي حمددات‬
‫�أ�سا�سية‪ ،‬تكمل �سابقتيها‪ ،‬ت�شكل جميعها �أركان ًا لبناء التكليف ال�شرعي من‬
‫منظور مقا�صدي‪ ،‬من �أهمها‪:‬‬
‫‪ -‬مراعاة التي�سري وعدم التكليف بامل�شاق‬
‫جعل ال�شاطبي «ق�صد ال�شارع يف و�ضع ال�شريعة للتكليف مبقت�ضاها»‬
‫النوع الرابع من الأنواع الأربعة التي ق�سم �إليها مقا�صد ال�شارع‪ ،‬وقد تطرق‬
‫ال�شاطبي يف هذا النوع ملقا�صد ال�شارع يف التكليف‪ ،‬وبني حدود ما ق�صده‬
‫‪ -1‬املنجي اليغري‪ ،‬مرجع �سابق �ص‪.341‬‬

‫‪86‬‬
‫ال�شارع احلكيم مما مل يق�صده يف تكاليف العباد‪ ،‬ويتلخ�ص هذا النوع يف‬
‫ق�ضيتني‪ :‬الأولى يف التكليف مبا ال يطاق‪ ،‬وهو منفي عن ال�شريعة �إجماعا‪،‬‬
‫ولذلك قرر ال�شاطبي �أنه ثبت يف الأ�صول �أن �شرط التكليف �أو �سببه القدرة‬
‫على املكلف به‪ ،‬فما ال قدرة للمكلف عليه ال ي�صح التكليف به �شرعا‪ .‬وبعد‬
‫�أن قرر هذه امل�سلمة‪ ،‬بد�أ يبحث يف بع�ض احلاالت امل�شتبهة يف التكليف‬
‫نف�سه؛ فبني �أنه �إذا ظهر من ال�شارع يف بادئ الر�أي الق�صد �إلى التكليف‬
‫مبا ال يدخل حتت ق��درة العبد‪ ،‬فذلك راج��ع �إل��ى التحقيق �إل��ى �سوابقه‬
‫�أو لواحقه �أو قرائنه(((‪.‬‬
‫ومثال ذلك �أن ال�شارع �إذا �أمر امل�ؤمنني بالتحابب مثال‪ ،‬ف�إن املق�صود‬
‫ما ي�ؤدي �إلى احلب من �أ�سباب �سابقة‪� ،‬أو مقارنة والحقة‪ ،‬تقويه وتر�سخه‪،‬‬
‫ولي�س املق�صود بالتكليف ح�صول احلب ذاته‪ ،‬ف�إنَّ هذا خارج عن قدرة النا�س‪،‬‬
‫وهكذا كل ما كان من هذا القبيل(((‪ .‬الثانية يف التكليف مبا فيه م�شقة‪ ،‬وهو‬
‫منفي عن ال�شريعة ب�إطالق؛ فال�شارع مل يق�صد �إلى التكليف بال�شاق والإعنات‬
‫والدليل على ذلك قوله تعالى‪ } :‬ﭴﭵ ﭶﭷﭸﭹ‬
‫ﭺﭻﭼ ﭽﭾﭿﮀﮁ‬
‫ﮂ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮊ‬
‫ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬
‫ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ{‬
‫(الأعراف‪ ،)157 :‬وقوله �سبحانه‪ } :‬ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ‬
‫ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ‬
‫ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ‬
‫ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ‬
‫ﰌ ﰍ {(البقرة‪ ،)286 :‬وما ثبت من الرخ�ص يف العديد‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪2‬‬
‫‪ -2‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪83 /2‬ـ ‪ ،84‬و�أحمد الري�سوين‪ ،‬نظرية املقا�صد عند الإمام ل�شاطبي �ص‪.114‬‬

‫‪87‬‬
‫من التكاليف؛ كرخ�ص الق�صر‪ ،‬والفطر‪ ،‬واجلمع‪ ،‬وتناول املحرمات يف‬
‫اال�ضطرار‪ ،‬وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والت�سبب يف‬
‫االنقطاع عن دوام الأعمال‪ ..‬كل ذلك وغريه يدل على �أن ال�شريعة مو�ضوعة‬
‫على الرفق والتي�سري‪ ،‬وهي منزهة عن التكليف بال�شاق‪.‬‬
‫و�إن ك��ان ال�شارع قا�صد ًا للتكليف مبا يلزم فيه كلفة وم�شقة ما‪،‬‬
‫ولكن ال ت�سمى يف العادة امل�ستمرة م�شقة‪ ،‬كما ال ي�سمى يف العادة م�شقة طلب‬
‫املعا�ش بالتحرف و�سائر ال�صنائع؛ لأنه ممكن معتاد ال يقطع ما فيه من‬
‫الكلفة عن العمل يف الغالب املعتاد‪ ،‬بل �أهل القلوب و�أرباب العادات يعدون‬
‫املنقطع ك�سالن‪ ،‬ويذمونه بذلك‪ ،‬فكذلك املعتاد يف التكاليف(((‪.‬‬
‫وبنى ال�شاطبي على هذا �أن ما ت�ضمنه التكليف من امل�شقة املعتادة لي�س‬
‫مبق�صود الطلب لل�شارع يف نف�س امل�شقة‪ ،‬بل من جهة امل�صالح العائدة على‬
‫املكلف‪ ،‬ويرتتب على هذا �أ�صل �آخر‪ ،‬وهو �أن امل�شقة لي�س للمكلف �أن يق�صدها‬
‫يف التكليف نظرا �إلى عظم �أجرها‪ ،‬وله �أن يق�صد العمل الذي يعظم �أجره‬
‫لعظم م�شقته من حيث هو عمل‪ ،‬ولهذا كان ق�صد امل�شقة ق�صدا باطال‪،‬‬
‫وم�ضادا ملا ق�صد ال�شارع من التخفيف املعلوم املقطوع به(((‪.‬‬
‫وختاما ملباحث امل�شقة والتي�سري‪� ،‬سطر ال�شاطبي �إحدى ن��وادره‪ ،‬ور�سم‬
‫حدود منهج كرث العطا�ش �إليه‪ ،‬ووجب الأخذ به‪ ،‬وهو �أن ال�شريعة يف مواردها‬
‫و�أ�صولها «جارية يف التكليف مبقت�ضاها على الطريق الو�سط الأعدل‪ ،‬الآخذ‬
‫من الطرفني بق�سط ال ميل فيه‪ ،‬الداخل حتت ك�سب العبد من غري م�شقة‬
‫عليه وال انحالل‪ ،‬بل هو تكليف جار على موازنة تقت�ضي يف جميع املكلفني‬
‫غاية االع�ت��دال»(((‪ .‬وعلى هذا جاءت معظم التكاليف كتكاليف ال�صالة‪،‬‬
‫وال�صيام والزكاة‪ ،‬وكتحرمي معظم املحرمات‪ ،‬فقد جاء كل هذا يف اعتدال‬
‫ينا�سب عامة املكلفني‪.‬‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.94/2‬‬
‫‪ -2‬امل�صدر ال�سابق ‪.98/2‬‬
‫‪ -3‬امل�صدر نف�سه ‪.124/2‬‬

‫‪88‬‬
‫ليخل�ص رحمه اهلل �إلى و�ضع قاعدة ذهبية يف عالقة التكليف مبقا�صد‬
‫ال�شريعة‪ ،‬تدخل �إلى القلوب من دون ا�ستئذان‪ ،‬تدل على فقهه احلي‪ ،‬بل‬
‫على فق ِه فقهه‪ ،‬يقول‪« :‬ف�إذا نظرت يف كلية ال�شريعة‪ ،‬فت�أملها جتدها حاملة‬
‫على التو�سط‪ .‬ف ��إذا ر�أي��ت ميال من جهة طرف من الأط��راف‪ ،‬فذلك يف‬
‫مقابلة واقع �أو متوقع يف الطرف الآخر‪ .‬فطرف الت�شديد‪ ،‬وعامة ما يكون يف‬
‫التخويف والرتهيب والزجر‪ ،‬ي�ؤتى به يف مقابلة من غلب عليه االنحالل يف‬
‫الدين‪ .‬وطرف الت�شديد‪ ،‬وعامة ما يكون يف الرتجية والرتغيب والرتخي�ص‪،‬‬
‫ي�ؤتى به يف مقابلة من غلب عليه احلرج يف الت�شديد‪ .‬ف�إذا مل يكن هذا وال‬
‫ذاك ر�أيت التو�سط الئحا‪ ،‬وم�سلك االعتدال وا�ضحا‪ ،‬وهو الأ�صل الذي يرجع‬
‫�إليه‪ ،‬واملعقل الذي يلج�أ �إليه»(((‪.‬‬
‫‪ -‬االهتمام ب�إخراج املكلف عن داعية هواه‬
‫بعد �أن و�ضع ال�شاطبي «مق�صد ال�شارع يف و�ضع ال�شريعة ابتداء»(((عنوانا‬
‫للنوع الأول من �أنواع مقا�صد ال�شارع‪ ،‬وقرر فيه �أن مق�صد ال�شارع �إقامة‬
‫امل�صالح الدنيوية والأخروية على وجه كلي‪ ..‬رجع و�أ�شبعه كالما وتو�ضيحا‬
‫يف النوع الرابع من �أن��واع مقا�صد ال�شارع‪ ،‬الذي افتتحه بقوله‪« :‬املق�صد‬
‫ال�شرعي من و�ضع ال�شريعة �إخراج املكلف عن داعية هواه‪ ،‬حتى يكون عبدا‬
‫هلل اختيارا‪ ،‬كما هو عبد هلل ا�ضطرارا»(((‪ .‬ثم قال بعد �أن �ساق جمموعة‬
‫من الن�صو�ص ال�شرعية الدالة على �أن العباد خلقوا للتعبد هلل‪ ،‬بعيدا عن‬
‫كل �أنواع الهوى‪ ،‬وجتاذبات �أهل الأهواء قال‪« :‬فهذا كله وا�ضح يف �أن ق�صد‬
‫ال�شارع اخلروج عن اتباع الهوى‪ ،‬والدخول حتت التعبد للمولى»(((‪.‬‬
‫و�إذا ثبت هذا‪ ،‬مل ي�صح لأحد �أن يدعي على ال�شريعة �أنها و�ضعت على‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.128/2‬‬
‫‪ -2‬امل�صدر ال�سابق ‪.3/2‬‬
‫‪ -3‬امل�صدر ال�سابق ‪ .128 /2‬وراجع كالم ال�شيخ دراز يف هام�ش املوافقات عن العالقة بني الق�صدين‪،‬‬
‫والرتابط املنهجي بني النوعني‪ .‬الهام�ش ‪ 1‬من املوافقات ‪ 3/2‬و ‪.128/2‬‬
‫‪ -4‬امل�صدر ال�سابق ‪.130/2‬‬

‫‪89‬‬
‫مقت�ضى ت�شهي العباد و�أغرا�ضهم؛ �إذ ال تخلو �أحكام ال�شرع اخلم�سة من‬
‫اعتبار ومراعاة مقا�صد ال�شارع يف ت�شريعه لكل حكم منها �إن يف العاجل‬
‫�أو الآجل‪ ،‬من هنا رجح ال�شاطبي �أن «الفرق ال�ضالة‪� ..‬أ�صل ابتداعها اتباع‬
‫�أهوا ِئها‪ ،‬دون توخي مقا�صد ال�شارع»(((‪ .‬ـ‬
‫‪ -‬معاملة املكلف بنقي�ض مق�صوده الفا�سد‬
‫ذلك �أن املكلف �إذا عمل عمال وكان و�سيلة �إلى نق�ض مق�صود ال�شرع‪،‬‬
‫ف�إنه يعاقب ب�إبطال عمله‪ ،‬ثم يعامل ذلك املكلف بحكم خا�ص به؛ ينا�سب‬
‫�سعيه �إلى �إبطال ق�صد ال�شارع‪ ،‬فيعاقب بنقي�ض �سعيه‪ ،‬ويدخل حتت هذا‬
‫املعنى عدم جواز طالق املري�ض مر�ض املوت زوجته طالقا بائنا‪ ،‬معاملة‬
‫له بنقي�ض مق�صوده القا�ضي مبنع املر�أة من حقها يف املرياث‪ ،‬الذي �أراد‬
‫ال�شارع حتقيقه‪.‬‬
‫ومن باب مراعاة مقا�صد املكلف �أي�ضا‪ ،‬معاملة القاتل ملورثه عمدا بنقي�ض‬
‫مق�صوده؛ لأنه متهم يف ذلك با�ستعجال موته للتو�صل �إلى �إرثه فعومل بنقي�ض‬
‫مق�صوده‪ ،‬وهو معنى القاعدة الفقهية التي مت ت�أ�صيلها‪ ،‬والتي تن�ص على �أن‬
‫«من ا�ستعجل ال�شيء قبل �أوانه عوقب بحرمانه»(((‪.‬‬
‫‪� -‬إبطال عمل من ابتغى يف التكاليف ما مل ت�شرع له‬
‫فاملكلف �إذا قام بعمل‪ ،‬وكان ذلك العمل و�سيلة �إلى نق�ض مق�صود امل�شرع‬
‫يف امل�س�ألة املتعلقة بعمل املكلف‪ ،‬ف�إن النتيجة هي �إبطال هذا العمل‪ ،‬وعدم‬
‫حتقيق ما ق�صد الو�صل �إليه‪ .‬ومن �أمثلة هذا املعنى �إبطال نكاح املحلل؛ لأنه‬
‫ينطوي على ق�صد فا�سد خمالف ملقا�صد ال�شارع من النكاح‪.‬‬

‫‪ -1‬امل�صدر ال�سابق ‪.134/2‬‬


‫‪ -2‬حممد الروكي‪ ،‬نظرية التقعيد الفقهي و�أثرها يف اختالف الفقهاء �ص ‪ ،150‬حممد ن�صيف‬
‫الع�سري‪ ،‬الفكر املقا�صدي عند الإمام مالك �ص ‪123‬ـ ‪.129‬‬

‫‪90‬‬
‫الف�صل الثالث‪:‬‬
‫�أثر مقا�صد ال�رشيعة‬
‫يف تر�شيد «حقوق الإن�سان»‬
‫‪ -‬متهيد‪:‬‬
‫ت�أتي حماولة الك�شف عن �أث��ر مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية يف تر�شيد‬
‫ما �أ�ضحى ي�سمى «حقوق الإن�سان» �ضمن حماولة لقراءة يف ثنايا الفكر‬
‫املقا�صدي‪ ،‬وا�ست�شراف ما هو كامن وراءه من املحددات التي من �ش�أنها �أن‬
‫توجه وتر�شد منظومتنا الفكرية عموما‪ ،‬وق�ضايا حقوق الإن�سان خ�صو�صا‪.‬‬
‫كما �أنه يتغيى الت�أكيد على وظيفية علم املقا�صد‪ ،‬والداللة على دوره يف‬
‫�صوغ الر�ؤية احل�ضارية العامة للمجتمع‪ ،‬ولي�س فقط يف التعرف على علل‬
‫الأحكام �أو احلكمة منها مبعزل عن التطبيقات العملية لها‪.‬‬
‫وللإ�سهام يف جتاوز هذا اخل�صا�ص املعريف املقا�صدي‪ ،‬خ�ص�صت هذا‬
‫الف�صل حماولة �أولية لو�ضع لبنات بعيدة الأمد عميقة الأثر لتقدمي مقاربة‬
‫مقا�صدية حلقوق الإن�سان‪ ،‬يف �أبعادها الكونية‪ ،‬وو�سائل املحافظة عليها‬
‫ورعايتها‬

‫‪93‬‬
‫املبحث الأول‪ :‬مقا�صد ال�شريعة وحقوق الإن�سان‪ :‬مدخل مفاهيمي‬
‫تعد مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية الهيكل العام لعموم �أحكام ال�شريعة‬
‫الواقعة واملتوقعة‪ ،‬وهي الغايات والأهداف الكلية التي يرجع �إليها من‬
‫اختلطت عليه الأمور �أو �ضلت به ال�شعاب‪� ،‬أو من احتار يف البحث عن‬
‫خمرج لأزم��ة‪� ،‬أو غابت عنه احللول ال�شرعية لنازلة معينة‪ ،‬ف�إنه �سيجد‬
‫رايات املقا�صد عالية ومناراتها وا�ضحة للنظر واال�سرت�شاد واالهتداء‪.‬‬
‫وامل�ستقرئ لن�صو�ص الوحي الغراء يجدها قد �أق َّرت املقا�صد ال�شرعية‬
‫الإ�سالمية؛ لتحقيق الإ�صالح االجتماعي القائم على �إن�صاف الإن�سان‪،‬‬
‫و�إعطائه كامل حقوقه يف ِّ‬
‫ظل العدل وامل�ساواة‪ ،‬وبنا ًء على ذلك تتطابق نتائج‬
‫الكم وعلته‪ ،‬ويتجلى ذلك يف املق�صد الذي ترمي �إليه الأحكام من‬ ‫ِح ْك َم ِة حْ ُ‬
‫خالل درء املفا�سد‪ ،‬وجلب امل�صالح للمخلوقات‪.‬‬
‫كما �أن ا�ستقراء املقا�صد الكلية لل�شريعة الإ�سالمية يو�ضح �أن ال�شريعة‬
‫قد جاءت من �أجل حماية الكون‪ ،‬ويف مقدمته �إن�صاف الإن�سان‪ ،‬وحتريره‬
‫من الظلم‪ ،‬وفر�ضت �أحكام احلالل واحلرام‪ ،‬و�أباحت الرخ�ص ب�شروطها‬
‫املعقولة يف حاالت ا�ستثنائية من �أجل حفظ املهجة‪ ،‬ورعاية امل�صالح العامة‬
‫واخلا�صة‪ ،‬واعتماد تقعيد العموم واخل�صو�ص‪ ،‬و�إقرار فقه احلقوق الإن�سانية‬
‫العامة واخلا�صة عمال بقاعدة «ال �ضرر وال �ضرار»‪.‬‬
‫َومن ي�ستقرئ �أ�صول الأحكام ال�شرعية وفروعها يجد توافق ًا عقلي ًّا و�شرعي ًّا‬
‫وال�شرط العا ّم هو توفر‬ ‫ُ‬ ‫على �ضرورة توفر ال�شروط اخلا�صة بكل ُحكم‪،‬‬
‫أمر بطاع ٍة‪ ،‬والنهي‬ ‫الأهلية باعتبارها مناط التكليف ال�شرعي القائم على ال ِ‬
‫وا�شرتاط الأهلية لوجوب التكليف هو ال�ضمان الأ�سا�سي حلقوق‬ ‫ُ‬ ‫عن مع�صي ٍة‪،‬‬
‫الإن�سان لأن انعدام الأهلية ُي�سقط التكليف لعدم وجود اال�ستطاعة‪.‬‬
‫وت�أ�سي�سا عليه‪ ،‬ف�إن جميع املخاطبني ب�أحكام ال�شريعة مطالبون بالرجوع‬
‫�إليها يف كل ما يتعلق بفل�سفة الوجود‪ ،‬واملعرفة‪ ،‬والقيم‪ ،‬والت�شريع‪ ،‬واحلياة‪،‬‬

‫‪94‬‬
‫واملمات‪ ،‬والغيب وال�شهادة‪ ،‬والعمل على تطبيقها يف حياتهم اخلا�صة والعامة‪،‬‬
‫ظاهرا وباطنا «لأن ال�شريعة كما �أنها عامة يف جميع املكلفني‪ ،‬وجارية على‬
‫خمتلف �أحوالهم‪ ،‬فهي عامة �أي�ضا بالن�سبة لعامل الغيب وال�شهادة من جهة‬
‫كل مكلف‪ ،‬ف�إليها نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن كما نرد �إليها كل ما يف‬
‫الظاهر»(((‪.‬‬
‫وعليه؛ فلأن ق�صد ال�شارع �ضبط اخللق �إلى القواعد العامة �صار النا�س‬
‫�سوا�سية �أمام ال�شريعة‪ ،‬وقوانينها ت�سري على كافة الب�شر بدون ا�ستثناء‪،‬‬
‫فال ميز وال فرق وال حماباة‪ ،‬وال ح�صانة ل�صاحب �شرف �أو جاه �أو �سلطة‬
‫�أو مال �أو جن�س �أو عرق �أو لون �أو ن�سب‪� ،‬أو غري ذلك مما ال يعترب يف ميزان‬
‫ال�شرع ومعايريه بالق�صد الأول‪ ،‬بل الكل خماطب ب�صفته الإن�سانية‪،‬‬
‫�أو بانتمائه العقدي ال غري(((‪ ،‬م�صداقا لقوله تعالى}ﮢ ﮣ ﮤ‬
‫ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ‬
‫ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ‬
‫ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ{(الأعراف‪ ،)158 :‬وهو‬
‫ما �أكده اخلطاب النبوي؛ كما دل عليه قول احلبيب امل�صطفى [‪ ..»:‬ف�إن‬
‫دماءكم و�أموالكم و�أعرا�ضكم حرام عليكم‪ ،(((»..‬مما يدل على �أن الب�شر‬
‫كلهم مت�ساوون يف �أ�صل التكليف‪ ،‬وهو ما قرره ال�شاطبي بقوله‪« :‬لأن ال�شريعة‬
‫بح�سب املكلفني كلية عامة‪ ،‬مبعنى �أن��ه ال يخت�ص باخلطاب بحكم من‬
‫�أحكامها الطلبية بع�ض دون بع�ض‪ ،‬وال يتحا�شى من الدخول حتت �أحكامها‬
‫مكلف البتة»(((‪.‬‬
‫ولذلك ملا �سرقت املر�أة املخزومية‪ ،‬وهي من �أ�شرف قري�ش‪ ،‬و�شفع فيها‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.209/2‬‬
‫‪ -2‬عبد النور بزا‪ ،‬م�صالح الإن�سان‪ :‬مقاربة مقا�صدية‪� ،‬ص ‪.132‬‬
‫‪ -3‬احلديث رواه البخاري يف �صحيحه ـ كتاب احلج ـ باب اخلطبة �أيام منى ـ رقم احلديث ‪.1652‬‬
‫‪ -4‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪ 186/2‬ـ‪.187‬‬

‫‪95‬‬
‫حب ر�سول اهلل [؛ �أ�سامة بن زيد ر�ضي اهلل عنه‪ ،‬قال له النبي [‪�« :‬أت�شفع‬
‫ّ‬
‫يف حد من حدود اهلل؟»‪ ،‬ثم قام فخطب‪ ،‬فقال‪« :‬يا �أيها النا�س؛ �إمنا �ضل‬
‫من كان قبلكم �أنهم كانوا �إذا �سرق ال�شريف تركوه‪ ،‬و�إذا �سرق ال�ضعيف‬
‫�أق��ام��وا عليه احل��د‪ ،‬و�أمي اهلل لو �أن فاطمة بنت حممد �سرقت لقطع‬
‫حممد يدها»(((‪.‬‬
‫وبهذه ال�صرامة النبوية احلا�سمة قطعت ال�شريعة ب�أن القانون الإلهي فوق‬
‫اجلميع‪ ،‬عمال بقاعدة امل�ساواة بني اجلن�سني �أمام �أحكام ال�شريعة‪ ،‬ومبا‬
‫و�ضعت له ال�شريعة ابتداء‪ ،‬وهو «�أن الأحكام �إذا كانت مو�ضوعة مل�صالح‬
‫العباد‪ ،‬فالعباد بالن�سبة �إلى ما تقت�ضيه من امل�صالح م��ر�آة(((‪ .‬فلو و�ضعت‬
‫على اخل�صو�ص مل تكن مو�ضوعة مل�صالح العباد ب�إطالق‪ ،‬لكنها كذلك‪،‬‬
‫فثبت �أن �أحكامها على العموم ال على اخل�صو�ص‪� ...‬إعالما ب�أن الأحكام‬
‫ال�شرعية خارجة عن قانون االخت�صا�ص»(((‪.‬‬
‫وكما ال يخفى‪ ،‬ف�إن ال�سنني الأخرية‪� ،‬سيما العقدين الأخريين من القرن‬
‫املا�ضي‪ ،‬عرفت حديثا غزيرا عن مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬ففي كل‬
‫بحث ملعاجلة م�شكلة من امل�شكالت �أو يف كل كتاب عن ال�شريعة يربز مو�ضوع‬
‫املقا�صد كمنهجية �ضرورية للخروج من �أي �أزمة وللتعامل مع الن�ص اخلامت‬
‫للتفاعل مع املتغريات واملتجدد يف حياة الأمة‪ .‬وهذه ظاهرة �صحية يف غاية‬
‫النفع لأمة اخلتم‪ ،‬وللعامل من حولها خ�صو�صا يف هذا الزمن الذي كرثت‬
‫فيه حتريفات الغالني‪ ،‬وانتحاالت املبطلني‪ ،‬وت�أويالت اجلاهلني‪ .‬لكن هذا‬
‫اال�ستح�ضار وجب �أن يقيد وي�ستعمل بنوع من الوظيفية والعلمية‪ ،‬حتى تعطي‬
‫‪ -1‬احلديث رواه البخاري يف �صحيحه ـ كتاب احلدود ـ باب كراهية ال�شفاعة يف احلد �إذا رفع �إلى‬
‫ال�سلطان ـ رقم احلديث ‪.6406‬‬
‫‪ -2‬علق ال�شيخ دراز يف هام�ش املوافقات بقوله‪�" :‬أي تنطبع فيهم هذه امل�صالح على ال�سواء‪ ،‬لأنهم‬
‫مطبوعون بطابع النوع الإن�ساين املتحد يف حاجياته و�ضرورياته وما يكملها" ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات‪،‬‬
‫هام�ش ‪.187/2 ،1‬‬
‫‪ -3‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪ 187/2‬ـ‪.189‬‬

‫‪96‬‬
‫املقا�صد �أكلها كل حني ب�إذن ربها‪ ،‬وبف�ضل تنزيالت واجتهادات علماء الأمة‪.‬‬
‫وذلك من خالل ا�ستح�ضار �شامل خل�صائ�ص ال�شريعة ومقا�صدها العامة‪،‬‬
‫وكذلك من خالل تنـزيل املعاين والقيم يف الواقع ال��ذي نحياه مبداخله‬
‫وتفا�صيله ومالب�ساته‪ ،‬وتعقداته‪ ،‬بعقلية مبتكرة مبدعة متتلك الب�صرية‬
‫ملعرفة منا�سبة الو�سائل ومدى حتقيقها للمعاين والقيم يف الواقع‪.‬‬
‫ولأن الع�صر الذي نعي�ش فيه هو ع�صر قد انهارت فيه كل ال�سدود واحلدود‪،‬‬
‫ومل يعد بالإمكان �أن نحجر على النا�س فيما ي�سمعون �أو يقر�أون‪ ،‬فال بد من‬
‫تزويد الأمة مبعيار وميزان للتعامل مع ما ت�سمع وما تقر�أ‪ ،‬وذلك ب�إ�شاعة‬
‫ثقافة املقا�صد العقالنية العملية‪ ،‬التي تربط الأحكام بوظيفتها ودورها يف‬
‫ترقية النف�س وتزكية احلياة‪.‬‬
‫هناك جانب ثان وهو الأه��م‪ ،‬وهو �أنه على الرغم من االن�شغال الوا�سع‬
‫للقر�آن الكرمي وال�سنة النبوية ال�شريفة بق�ضية حقوق الإن�سان‪ ،‬ف�إنها‬
‫مل تتبلور مبا يكفي يف الأدبيات الإ�سالمية عموما‪ ،‬ويف الأدبيات الأ�صولية‬
‫املقا�صدية خ�صو�صا‪ ،‬على �شكل ن�سق نظري‪� ،‬أو بحث علمي م�ستقل بذاته‪،‬‬
‫يعرب عن موقعها احلقيقي يف منظومة اخلطاب الإلهي‪ ،‬بل بقيت ـ يف عموم‬
‫امل�صنفات الأ�صولية القدمية ـ عبارة عن فقرات ون�صو�ص متفرقة يف ثنايا‬
‫هذه الف�صول �أو تلك الأبواب‪ ،‬من هذا الكتاب �أو ذاك‪ ،‬كما يف قواعد العز‪،‬‬
‫وفروق القرايف‪ ،‬وفتاوى ابن تيمية‪ ،‬ومفتاح ابن القيم‪ ،‬وموافقات ال�شاطبي‪،‬‬
‫وغريها‪ .‬ونف�س الأمر ينطبق على الكتابات الأ�صولية احلديثة‪� ،‬إذا �أ�ضفنا‬
‫�إليه مقاالت حتليلية وتاريخية يف عدد من الدوريات‪.‬‬
‫وه��ذا مما يدل بو�ضوح على �أن البحث املقا�صدي مل ينتقل بعد‪ ،‬فيما‬
‫وقفت عليه حلد الآن‪ ،‬بق�ضية «حقوق الإن�سان» �إلى م�ستوى الرتجمة العملية‬
‫والعلمية ملقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية يف �أبعادها العقدية والقيمية والرتبوية‬
‫واملعرفية واحلقوقية واالجتماعية واالقت�صادية وال�سيا�سية‪ ،‬وغريها من‬
‫الأبعاد احليوية؛ الفردية واجلماعية‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫وهنا تربز �أ�سئلة من قبيل‪� :‬أين تتجلى �أهمية مقا�صد ال�شريعة ب�أق�سامها‬
‫و�أنواعها يف تر�شيد وت�صويب منظومة حقوق الإن�سان؟ وكيف ميكن للوعي‬
‫املقا�صدي �أن ي�سهم يف تنقيح احلقوق نف�سها وت�صحيح م�سار امل�شكالت‬
‫النف�سية واالجتماعية املدمرة للإن�سان‪ ،‬والتي هي �إحدى �إفرازات التطور‬
‫الفل�سفي املادي املح�ض؟‬
‫لقد غدت ق�ضية حقوق الإن�سان من �أكرث الق�ضايا تداوال يف املحافل الدولية‬
‫والقارية‪ ،‬وهيئات املجتمع ال�سيا�سي‪ ،‬ومنظمات املجتمع الأهلي املدين‪،‬‬
‫وو�سائل االت�صال املبا�شرة وغري املبا�شرة‪ ،‬و�أو�ساط الر�أي العام‪.‬‬
‫بل هناك من وجد يف ال�سنوات الأخ�يرة يف هذه الق�ضية ال�سند الكايف‬
‫لتحقيق طموحاته التو�سعية‪ ،‬وت�سويغ احتالله لعباد اهلل امل�ست�ضعفني‪،‬‬
‫وحماولة �إقناعهم ب�أن ما جاء من �أجله هو ال�سبيل الأوحد مل�ساعدتهم على‬
‫حتقيق الإ�صالحات ال�شاملة بزعمهم وزعم �شركائهم‪ ،‬يف مناهج الرتبية‬
‫والتعليم‪ ،‬وق�ضايا الأ��س��رة‪ ،‬وك��ل ما يتعلق باحلقوق واحل��ري��ات‪ ،‬وق�ضايا‬
‫التنمية‪.‬‬
‫كما تنامى يف العقدين الأخريين احلديث عن ق�ضية حقوق الإن�سان‪،‬‬
‫وارتبطت مبادئ حقوق الإن�سان والدفاع عنها يف الع�صر احلديث بالغرب‬
‫ال��ذي �أ�صبح مرجع ًا للحقوق الإن�سانية‪ ،‬وقد �ساهم اال�ستعمار يف ت�أطري‬
‫النظرية الغربية للمفاهيم املكونة للحقوق الأ�سا�سية للإن�سان‪ ،‬ثم ظهرت‬
‫العوملة امتداد ًا لال�ستعمار الثقايف من خالل �أوعيتها الإعالمية النافذة �إلى‬
‫قلب العامل الإ�سالمي‪ ،‬والتي ت�سعى �إلى قولبة ال�شعوب على النمط الغربي‪،‬‬
‫فكانت الو�سيلة املُثلى لت�سويق حقوق الإن�سان‪.‬‬
‫لذلك بات من الالزم علينا �إبراز القواعد والأ�س�س الرتبوية التي ُيبنى‬
‫عليها مو�ضوع حقوق الإن�سان يف الإ�سالم وارتباطها مبقا�صد ال�شريعة‬
‫الإ�سالمية‪ ،‬وتو�ضيح اختالفها‪ ،‬ومباينتها للفكر والت�صور الغربي للمو�ضوع‪،‬‬
‫بقدر حجم الق�ضية وزخمها العاملي‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫و�إذا كانت مقا�صد ال�شريعة بهذا ال�شمول والعموم من الهيمنة على �أحكام‬
‫ال�شريعة وارتباط الت�شريع بها يف كل جزيئاته‪ ،‬كما �سبقت الإ�شارة �إليه‪،‬‬
‫فلماذا ال جند كالما نظريا وعمليا عن مق�صدية حقوق الإن�سان ي�شفي‬
‫الغليل‪ ،‬ويجيب على ت�سا�ؤالت عباد اهلل امل�ست�ضعفني؟‬
‫و�إذا كان العامي يلحظ مبقا�صد ال�شريعة حكمة الت�شريع و�أ�سرار الأمر‬
‫والنهي مما يزيده يقين ًا و�إميان ًا وعلم ًا وعم ًال‪ .‬والفقيه يراعي بوا�سطتها‬
‫مقا�صد ال�شرع عند اال�ستنباط وفهم الن�صو�ص والنظر يف �أحكام ال�شرع؛‬
‫ف�إذا �أراد معرفة حكم واقعة من الوقائع احتاج �إلى فهم الن�صو�ص لتطبيقها‬
‫على الوقائع و�إذا �أراد التوفيق بني الأدلة املتعار�ضة ا�ستعان مبق�صد الت�شريع‪.‬‬
‫و�إن دعته احلاجة �إلى بيان حكم اهلل يف نازلة م�ستجدة عن طريق القيا�س �أو‬
‫اال�ستح�سان وغريها حترى بكل دقة �أهداف ال�شريعة ومقا�صدها(((‪.‬‬
‫�إذا كان هذا وذك‪ ،‬بات لزاما على من يت�صدى للحديث عن حقوق الإن�سان‪،‬‬
‫�أو التنظري لها؛ فردا كان �أو م�ؤ�س�سة �أن ي�صبغ خطابه بروح مقا�صد ال�شريعة‪،‬‬
‫و�أن ينتج معرفته وفق �أركان هذا امل�سمى‪ ،‬معتربا للم�صالح ومظانها‪ ،‬حمرتزا‬
‫عن املفا�سد‪ ،‬ومتعلقاتها‪ ،‬يف الأفعال ودور هذه الأفعال؛ ذلك �أن ت�صرفات‬
‫النا�س العامة ال تخلو يف كونها من قبيل امل�صالح �أو املفا�سد ول�ضبط هذه‬
‫الأفعال يقول العز بن عبد ال�سالم ‪-‬رحمه اهلل‪« :-‬الأفعال �ضربان‪� :‬أحدهما‬
‫امل�صالح وهي �أق�سام‪� :‬أحدهما‪ :‬ما هو م�صلحة خال�صة من املفا�سد ال�سابقة‬
‫والالحقة واملقرتنة و ال يكون �إال م�أذون ًا فيها �إما �إيجابا �أو ندب ًا �أو �إباحة‪.‬‬
‫الق�سم الثاين‪ ،‬ما هو م�صلحة على مف�سدة �أو مفا�سد وهي ما دونه‪.‬‬
‫الق�سم الثالث‪ ،‬ما هو م�صلحة م�ساوية ملف�سدته �أو مفا�سده‪ .‬الق�سم‬
‫الرابع‪ ،‬ما هو م�صلحة م�ساوية مل�صلحة �أو م�صالح ف�إن �أمكننا اجلمع جمعنا‬
‫و�إن تعذر اجلمع تخرينا‪ ،‬ومهما متح�صت امل�صالح قدمنا الأف�ضل فالأف�ضل‪،‬‬
‫والأح�سن فالأح�سن وال نبايل بفوات املرجوح‪.‬‬
‫‪ -1‬يو�سف العامل‪ ،‬املقا�صد العامة لل�شريعة الإ�سالمية‪� ،‬ص ‪106‬ـ‪.107‬‬

‫‪99‬‬
‫ال�ضرب الثاين‪ :‬املفا�سد وهي �أق�سام‪� :‬أحدها ما هو مف�سدة خال�صة‬
‫ال يتعلق بها م�صلحة �سابقة وال الحقة وال مقرتنة‪ ،‬فال تكون �إال منهي ًا عنها‪،‬‬
‫�إما حظر ًا‪ ،‬و�إما كراهة‪ .‬الق�سم الثاين‪ ،‬ما هو مف�سدة راجحة على م�صلحة‬
‫�أو م�صالح وهي منهية‪ .‬الق�سم الثالث‪ ،‬ما هو مف�سدة م�ساوية مل�صلحة‬
‫�أو م�صالح‪ ،‬ف�إن �أمكن درء املف�سدة وجلب امل�صلحة �أو امل�صالح قلنا بذلك‬
‫وتركنا املف�سدة و�أثبتنا امل�صلحة �أو امل�صالح‪ .‬و�إن تعذر اجللب والدرء ففيه‬
‫نظر‪ .‬الق�سم الرابع‪ ،‬ما هو مف�سدة م�ساوية ملف�سدة �أو مفا�سد ف�إن �أمكن‬
‫متح�صت املفا�سد در�أنا الأرذل‬
‫ّ‬ ‫درء اجلميع در�أناه و�إن تعذر تخرينا ومهما‬
‫فالأرذل والأقبح فالأقبح»(((‪.‬‬
‫وهذه امل�صالح التي �أ�شار �إليها �سلطان العلماء‪ ،‬هي املراد لل�شارع يف �شرع‬
‫الأحكام‪ ،‬وهي ما عرب عنه ال�شاطبي بقوله يف النوع الأول من �أنواع املقا�صد‬
‫الأربعة عنده بـ «ق�صد ال�شارع يف و�ضع ال�شريعة ابتداء»(((؛ مبعنى �أن‬
‫كل ما جاءت به ال�شريعة من �أحكام‪ ،‬وقيم‪ ،‬وحقوق‪ ،‬ومقا�صد‪ ..‬كل ذلك‬
‫�إمنا هو خدمة مل�صالح الإن�سان بالق�صد الأول ب�إطالق‪ ،‬وهو ما �أجمع عليه‬
‫العقالء؛ �إذ «ال خالف بني العقالء �أن �شرائع الأنبياء ق�صد بها م�صالح‬
‫اخللق الدينية والدنيوية»(((‪ ،‬وهو ما عناه �سلطان العلماء بقوله‪« :‬ال�شريعة‬
‫كلها م�صالح»(((‪ ،‬مما يدل داللة �صريحة عل حمورية م�صالح الإن�سان يف‬
‫ن�صو�ص ال�شريعة‪ ،‬فبها وعليها تقوم‪ ،‬وهو ما �أ�شار �إليه ابن القيم بقوله‪�« :‬إن‬
‫ال�شريعة مبناها و�أ�سا�سها على احلكم وم�صالح العباد يف املعا�ش واملعاد‪،‬‬
‫وهي عدل كلها‪ ،‬ورحمة كلها‪ ،‬وحكمة كلها‪ ،‬فكل م�س�ألة خرجت عن العدل �إلى‬
‫اجلور‪ ،‬وعن الرحمة �إلى �ضدها‪ ،‬وعن امل�صلحة �إلى املف�سدة‪ ،‬وعن احلكمة‬

‫‪ -1‬العز بن عبد ال�سالم‪ ،‬قواعد الأحكام يف م�صالح الأنام �ص ‪. 56‬‬


‫‪ -2‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.7/2‬‬
‫‪ -3‬القرطبي‪ ،‬اجلامع لأحكام القر�آن ‪.64/2‬‬
‫‪ -4‬العز بن عبد ال�سالم‪ ،‬قواعد الأحكام ‪.9/1‬‬

‫‪100‬‬
‫�إلى العبث‪ ،‬فلي�ست من ال�شريعة‪ ،‬و�إن �أُدخلت فيها بالت�أويل‪ ،‬فال�شريعة عدل‬
‫اهلل بني عباده‪ ،‬ورحمته بني خلقه‪ ،‬وظله يف �أر�ضه‪ ،‬وحكمته الدالة عليه‪،‬‬
‫وعلى �صدق ر�سوله [ �أمت داللة و�أ�صدقها»(((‪ ،‬وهو ما جمعه ال�شاطبي يف‬
‫قوله‪« :‬و�ضع ال�شريعة على اعتبار امل�صالح باتفاق»(((‪.‬‬
‫وعليه؛ ف�إن جملة ما يخرج به الناظر بعلم يف �شرع اهلل هو �أن الق�صد‬
‫العام من الت�شريع الإلهي رعاية امل�صالح الإن�سانية ب�إطالق‪ ،‬حتى يكون‬
‫النا�س منعمني يف دنياهم و�آخرتهم ب�إطالق(((‪.‬‬
‫ومن ت�أمل �أق�ضية ال�صحابة‪ ،‬واجتهادات علماء امل�سلمني‪ ،‬وجدها مت�شبعة‬
‫ال�سنن‪ ،‬مراعية حلدوده و�ضوابطه‪ ،‬وكل من‬ ‫بهذه الروح‪ ،‬قائمة على هذا َ‬
‫خالفه �أ�ضاع على النا�س حقوقهم‪ ،‬ون�سب �إلى ال�شريعة ما لي�س منها‪.‬‬
‫وه��و م��ا �سنحاول الك�شف ع��ن بع�ض معامله يف املبحث ال�ث��اين م��ن هذا‬
‫الف�صل‪.‬‬

‫‪ -1‬ابن قيم اجلوزية‪� ،‬إعالم املوقعني ‪.14/3‬‬


‫‪ -2‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.98/1‬‬
‫‪ -3‬عبد النور بزا‪ ،‬م�صالح الإن�سان �ص ‪.158‬‬

‫‪101‬‬
‫املبحث الثاين‪� :‬أثر مقا�صد ال�شريعة يف تر�شيد حقوق الإن�سان‬
‫�شكلت مقا�صد ال�شريعة النظرية الإط��ار للحقوق واحلريات العامة من‬
‫منظور �إ�سالمي‪ ،‬وقدمت للفكر الإ�سالمي املعا�صر �أداة منهجية فعالة و�سلما‬
‫من القيم لتنظيم حياته االجتماعية وال�سيا�سية على هدى من الر�سالة‬
‫الإ�سالمية‪.‬‬
‫لكن رغم ذلك‪ ،‬مازال الفكر الإ�سالمي يف حاجة �إلى جهود كبرية لتقدمي‬
‫الإ�سالم كمنظومة مفتوحة للحريات وحقوق الإن�سان‪ ،‬ت�ستوعب انتظارات‬
‫الإن�سان و�آف��اق��ه للتحرر من كل ج�بروت‪ .‬وعلى احلركات الإ�صالحية �أن‬
‫جتعل من �أولى �أولوياتها تر�سيخ فقه احلريات وتعميق وعي الإن�سان بذاته‬
‫وحقوقه ومواهبه‪ ،‬و�سد املنافذ الفكرية واملنهجية �أمام الطاغوت ال�ستغالل‬
‫الدين وا�ستعباد النا�س مبقوالته‪ ،‬مما ي�سيء يف الأخري �إلى منظومة الإ�سالم‬
‫العظيم‪ ،‬عند �إغراقها بن�صو�ص حتث على طاعة اال�ستبداد واال�ست�سالم له‪.‬‬
‫من هنا‪ ،‬فلعل الر�ؤية املتوازنة ملقا�صد ال�شريعة بالن�سبة ملو�ضوع حقوق الإن�سان‬
‫تنبني على �أ�سا�س �أن هناك مقا�صد �إجمالية وعامة‪� ،‬أو �أ�سا�سية كلية عامة‬
‫لل�شريعة الإ�سالمية ينبغي �أن تكون هي املنطلق لأي حديث عن هذه احلقوق‪..‬‬
‫ميكننا �أن نتو�صل �إليها مب�سالك وطرق منها املن�صو�صة وامل�ستنبطة‪ ..‬هذه‬
‫املقا�صد هي مرياث كل ال�شرائع الإلهية التي �أوحى بها اهلل تعالى �إلى ر�سله ـ‬
‫عليهم ال�صالة وال�سالم ـ لأنها ت�ستند �إلى اال�ستقراء القطعي‪ ،‬كما �أنها ت�ستند‬
‫�إلى منطق الفطرة التي فطر اهلل النا�س عليها}ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ‬
‫ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ‬
‫ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ‬
‫ﮟﮠﮡﮢ{ (ال�شورى‪.)13 :‬‬
‫فحفظ الدين مثال؛ ال��ذي يعد �ضروريا ثابتا باال�ستقراء القطعي‪،‬‬
‫ال يقت�صر على الفرد‪ ،‬بل �إنه ميتد �إلى دائرة اجلماعة‪ ،‬كما �أنه ال يخت�ص‬

‫‪102‬‬
‫به الإن�سان امل�سلم دون غريه‪ ،‬وكذلك ف�إن حفظ النف�س‪ ،‬والذي ترتبط يف‬
‫التعبري املعا�صر مبعاين احلياة الكرمية‪ ،‬يهم كل فئات املجتمع‪ ..‬وهكذا مع‬
‫جميع الكليات ال�شرعية‪.‬‬
‫ويف هذا ال�سياق‪ ،‬جند ال�شيخ حممد الطاهر بن عا�شور يذكر �أن ثمة‬
‫مفاهيم �أربعة �أ�سا�سية م�ؤ�س�سة ومت�صلة بهموم الت�أ�صيل الإ�سالمي للدرا�سات‬
‫االجتماعية‪ ،‬وتنمية الإن�سان وحتقيق ر�سالته اال�ستخالفية‪ ،‬بل اعتربها‬
‫مق�صدا من مقا�صد ال�شريعة‪ ...‬وهي‪:‬‬
‫‪1‬ـ الفطرة‪ :‬وهي احلال التي فطر اهلل تعالى عليها النوع الإن�ساين‪ ..‬ظاهرا‬
‫وباطنا‪ ،‬ج�سدا وعقال وروحا‪ .‬وهي الو�صف الأعظم الذي تبنى عليه مقا�صد‬
‫ال�شريعة كافة‪ .‬بل اعتربها �أ�صال كليا تنبني عليه جملة من املقا�صد ال�شرعية‬
‫�سواء كانت خا�صة �أو عامة‪ .‬واحلرية وامل�ساواة من �أبرز املقا�صد العامة التي‬
‫تنبني على و�صف الفطرة‪.‬‬
‫‪2‬ـ ال�سماحة‪ :‬والتي تعني �سهولة التعامل الفردي واجلماعي يف اعتدال‬
‫وتو�سط‪ ،‬بعيدا عن الغلو والتق�صري‪.‬‬
‫‪3‬ـ احل��ري��ة‪ /‬امل �� �س��اواة‪ :‬مبعناها املبا�شر الأ� �ص �ل��ي‪ ..‬ال ��ذي ه��و م�ضاد‬
‫للعبودية(املادية وال��روح�ي��ة)‪ ،‬ومبعناها التبعي(الذي ال يقل �أهمية عن‬
‫الأول)؛ وهو متكن ال�شخ�ص العاقل من الت�صرف يف نف�سه و�ش�ؤونه كما ي�شاء‪.‬‬
‫وا�ستقراء ن�صو�ص ال�شريعة (كتابا و�سنة) يدل على �أن من �أهم مقا�صدها‬
‫�إبطال العبودية بجميع �صورها‪ ،‬وتعميم احلرية مبراتبها الأربعة الأ�سا�سية‪:‬‬
‫االعتقاد‪ ،‬والتفكري‪ ،‬والقول والفعل‪ .‬وهي منوطة بجلب امل�صالح ودرء املفا�سد‪..‬‬
‫على امل�ستوى ال�شخ�صي(الفردي) وامل�ستوى العام(الأمة واملجتمع)‪.‬‬
‫‪4‬ـ احلق‪/‬العدل‪ :‬الذي هو �شرط ا�ستقرار املجتمع وتوازنه‪ .‬واحلق والعدل‬
‫متالزمان ال ينف�صل �أحدهما عن الآخ��ر‪ ،‬وه��و يدخل يف جميع احلقوق‬
‫بالفطرة وال�شرع‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫هذه هي املفاهيم الأ�سا�سية يف نظر ابن عا�شور‪ ،‬التي ت�شكل املحور الذي‬
‫تدور عليه عقائد الإ�سالم وتعاليمه وت�شريعاته‪ ،‬وتفتح �آفاقا �أرحب و�أغنى‬
‫للتنظري االجتماعي وال�سيا�سي باملعنى ال�شامل‪ (((.‬وهي مفاهيم �شكلت‬
‫نظرته ونظريته ملقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬ومن خاللها نظر يف كليات‬
‫ال�شرع وجزئياته‪ ،‬و�أ�صول ال�شريعة وفروعها‪ ،‬ومن ثم وجب على الناظر يف‬
‫ن�صو�ص ال�شريعة نظر مفيد �أو م�ستفيد اعتبارها و�إعمالها‪.‬‬
‫من جهة ثانية‪ ،‬فكلما ت�أملنا املقا�صد العامة لل�شريعة �سواء املن�صو�صة‬
‫منها �أو ما ا�ستنبطه الأولون واملحدثون‪ ،‬وجدنا �أنها ت�شكل منظومة متما�سكة‬
‫وتقيم بنيانا ي�شد بع�ضه بع�ضا بحيث ي�صعب جدا �أن نت�صور مق�صدا مبعزل‬
‫عن بقية املقا�صد‪ ،‬فكل منها ي�أخذ بيد الآخر‪ ،‬وكلها ما�ض على طريق م�صلحة‬
‫الآدمي‪ ،‬م�سلما كان �أو غري م�سلم‪ ،‬ذلك لأنها كلها موثوقة برباط الفطرة‬
‫الإن�سانية ومبنية عليها باعتبار �أن الفطرة هي و�صف ال�شريعة الأعظم‪ ،‬وقد‬
‫�أ�صاب و�أجاد العالمة ابن عا�شور يف �شرحه هذه ال�صفة املركزية من �صفات‬
‫ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬وا�ستخل�ص �أن ال�سماحة هي �أول �أو�صاف ال�شريعة‬
‫و�أكرب مقا�صدها‪.‬‬
‫وه��ذا ما تنبه �إليه الأ�ستاذ ع�لال الفا�سي‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬عندما رف�ض‬
‫اعتبار مقا�صد ال�شريعة جمرد مرجع ت�شريعي ثانوي‪� ،‬أو مرجع خارجي‪،‬‬
‫يرجع �إليه وي�ست�أن�س به‪� ،‬إلى جانب م�صادر الت�شريع الأ�صلية‪ ،‬بل هي من‬
‫�صميم تلك امل�صادر‪ ،‬وهي العن�صر املحوري الثابت فيها ويف خلودها‪ ،‬يقول‬
‫رحمه اهلل‪« :‬مقا�صد ال�شريعة هي املرجع الأبدي ال�ستقاء ما يتوقف عليه‬
‫الت�شريع والق�ضاء يف الفقه الإ�سالمي‪ ،‬و�أنها لي�ست م�صدرا خارجيا عن‬
‫ال�شرع الإ�سالمي‪ ،‬ولكنها من �صميمه‪ ،‬وهي لي�ست غام�ضة غمو�ض القانون‬
‫‪� -1‬إ�سماعيل احل�سني‪ ،‬نظرية املقا�صد عند الإمام حممد الطاهر بن عا�شور �ص ‪ 263‬وما بعدها‪.‬‬
‫وانظر مقدمة حتقيق"مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية" حممد الطاهر بن عا�شور‪ ،‬حتقيق ودرا�سة‬
‫حممد الطاهر املي�ساوي‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫الطبيعي‪ ،‬الذي ال يعرف له حد وال مورد‪.(((»..‬‬
‫ومن حما�سن كلمه يف هذا الباب قوله‪« :‬وال�شريعة �أحكام تنطوي على‬
‫مقا�صد‪ ،‬ومقا�صد تنطوي على �أحكام»(((‪ ،‬وهذا معناه �أن املقا�صد ت�ؤخذ من‬
‫الأحكام‪ ،‬و�أن الأحكام ت�ؤخذ من املقا�صد(((‪.‬‬
‫وهذا �أح�سن ت�صوير و�أوجز تقرير لعالقة املقا�صد باالجتهاد واال�ستنباط‪،‬‬
‫يف خمتلف املجاالت؛ فلل�شريعة مقا�صد حيوية منا�سبة لكل ع�صر‪ ،‬واملقا�صد‬
‫تتعلق بالفرد وباملجتمع‪ ،‬وهي بذلك حتفظ حقوق الإن�سان الفرد ال�ضرورية‬
‫املتمثلة يف حفظ النف�س‪ ،‬وحفظ الدين‪ ،‬وحفظ العر�ض‪ ،‬وحفظ العقل‪،‬‬
‫وحفظ املال‪ ،‬كما حتفظ ال�شريعة الإ�سالمية حقوق اجلماعة الإن�سانية التي‬
‫تبد�أ بالأ�سرة‪ ،‬وتت�سع لت�شمل الإن�سانية عامة‪ ،‬وتبد�أ بحفظ احلقوق الإن�سانية‬
‫ابتدا ًء بالعالقات الأُ َ�سر ّية التي ت�شمل حفظ النوع الب�شري بتنظيم العالقة‬
‫بني اجلن�سني‪ ،‬وحفظ الن�سب‪ ،‬وحتقيق ال�سكن واملودة والرحمة جراء التعاون‬
‫علمي ًّا وعملي ًّا يف كافة املنا�شط الإن�سانية العاطفية والدينية واالقت�صادية‪.‬‬
‫وبالإ�ضافة للعالقات الأ�سرية‪� ،‬أوجبت ال�شريعة يف حلقة �أو�سع حقوق الأُ ّمة‪،‬‬
‫وفر�ضت قيام م�ؤ�س�سات الدولة لإقامة العدل بني النا�س‪ ،‬وحلفظ الأمن‬
‫والأمان‪ ،‬ورعاية مكارم الأخالق‪ ،‬و�إقرار التكافل االجتماعي‪ ،‬ون�شر العلوم‪،‬‬
‫ومكافحة اجلهل‪ ،‬واملحافظة على املال اخلا�ص والعام‪ ،‬والتعاون مع الأمم‬
‫الأخرى لتحقيق �إعمار الأر�ض امل�أمور به �شرع ًا‪ ،‬ومكافحة التدمري والتخريب‬
‫املنهي عنه �شرعا‪.‬‬
‫وال تقت�صر حقوق الإن�سان يف ال�شريعة الإ�سالمية على ال�ضروريات‪،‬‬
‫بل تتجاوزها �إلى احلاجيات والتح�سينيات والتكميليات‪ ،‬ف�أما احلاج ّيات فهي‬
‫ما ُي ْف َت َق ُر �إليه من حيث ال َّت ْو ِ�سعة على النا�س‪ ،‬ورفع ال�ضيق امل�ؤدي يف الغالب‬
‫‪ -1‬عالل الفا�سي‪ ،‬مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية مكارمها �ص ‪ 55‬ـ‪.56‬‬
‫‪ -2‬نف�س املرجع �ص ‪.47‬‬
‫‪� -3‬أحمد الري�سوين‪ ،‬حما�ضرات يف مقا�صد ال�شريعة �ص ‪.103‬‬

‫‪105‬‬
‫�إلى احلرج وامل�شقة الالحقة بفوت املطلوب‪ ،‬وت�شمل ما يتعلق باحلاجات‬
‫العامة‪ ،‬وال ي�صل �إلى مرتبة ال�ضروريات‪ ،‬و�أما التح�سينيات فت�شمل مكارم‬
‫�ستح�سن العادات والتقاليد‪ ،‬وت�ستبعد ما ي�ؤذي الذوق العام‬ ‫الأخ�لاق‪ ،‬و ُم َ‬
‫مما ي�أنفه العاقلون‪ ،‬وا�ستقراء ما ت�ضمنته ال�شريعة الإ�سالمية من مقا�صد‬
‫ال�شريعة وم��ا انطوت عليه من ال�ضروريات واحلاجيات والتح�سينيات‬
‫والتكميليات ُيو�ضح لنا �أن ال�شريعة الإ�سالمية قد �ضمنت حقوق الإن�سان‬
‫ك�أف�ضل ما يكون‪ .‬يقول العز بن عبد ال�سالم رحمه اهلل تعالى‪« :‬اعلم �أن اهلل‬
‫�سبحانه مل ي�شرع حك ًما من �أحكامه �إال مل�صلحة عاجلة �أو �آجلة‪� ،‬أو عاجلة‬
‫و�آجلة‪ ،‬تف�ض ًال منه على عباده»‪ ،‬ثـم قال‪« :‬ولي�س من �آثار اللطف والرحمة‬
‫والي�سر واحلكمة �أن يكلف عباده امل�شاق بغيـر فائدة عاجلة وال �آجـلة‪ ،‬لكنه‬
‫دعاهم �إلى كل ما يقربهم �إليه»(((‪ ..‬وم�صالح النا�س يف الدنيا هي كل ما فيه‬
‫نفعهم وفائدتهم و�صالحهم و�سعادتهم وراحتهم‪ ،‬وكل ما ي�ساعدهم على‬
‫جتنب الأذى وال�ضرر‪ ،‬ودفع الف�ساد‪� ،‬إن عاج ًال �أو �آج ًال‪.‬‬
‫وق��ال العالمة ال�ق��رايف‪« :‬ال�شرائع مبنية على امل�صالح»(((‪ ،‬وق��ال ابن‬
‫تيمية‪« :‬جاءت هذه ال�شريعة لتح�صيل امل�صالح وتكميلها‪ ،‬وتقليل املفا�سد‬
‫(((‬
‫وتعطيلها»‬
‫وقال الإمام ال�شاطبي‪�«:‬إن و�ضع ال�شرائع �إمنا هو مل�صالح العباد يف العاجل‬
‫والآجل»(((�إما بجلب النفع لهم‪� ،‬أو لدفع ال�ضرر والف�ساد عنهم‪.‬‬
‫وقد وردت الأحكام ال�شرعية جللب امل�صالح للنا�س‪ ،‬ودفع املفا�سد عنهم‪،‬‬
‫و�أن كل حكم �شرعي �إمنا نزل لت�أميـن �أحد امل�صالح‪� ،‬أو لدفع �أحد املفا�سد‪،‬‬
‫�أو لتحقيق الأمرين م ًعا‪ .‬وما من م�صلحة يف الدنيا والآخرة �إال وقد رعاها‬
‫‪ 1‬ـالعز بن عبد ال�سالم‪� ،‬شجرة املعارف والأحوال �ص ‪.401‬‬
‫‪ -2‬القرايف‪� ،‬شرح تنقيح الأ�صول �ص ‪.427‬‬
‫‪ -3‬ابن تيمية‪ ،‬الفتاوى الكربى ‪ ،48/20‬وال�سيا�سة ال�شرعية �ص ‪.47‬‬
‫‪ -4‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.9/2‬‬

‫‪106‬‬
‫امل�شرع‪ ،‬و�أوجد لها الأحكام التي تكفل �إيجادها واحلفاظ عليها‪ .‬و�إن ال�شرع‬
‫احلكيم مل يرتك مف�سدة يف الدنيا والآخ��رة‪ ،‬يف العاجل والآج��ل‪� ،‬إال بينها‬
‫للنا�س‪ ،‬وحذرهم منها‪ ،‬و�أر�شدهم �إلى اجتنابها والبعد عنها‪ ،‬مع �إيجاد‬
‫(((‬
‫البديل لها‪.‬‬
‫والدليل على ذل��ك اال�ستقراء الكامل للن�صو�ص ال�شرعية من جهة‪،‬‬
‫ومل�صالح النا�س من جهة ثانية‪ ،‬و�أن اهلل ال يفعل الأ�شياء عب ًثا يف اخللق‬
‫والإيجاد والتهذيب والت�شريع‪ ،‬و�أن الن�صو�ص ال�شرعية يف العقائد والعبادات‪،‬‬
‫والأخ�لاق واملعامالت‪ ،‬والعقود املالية‪ ،‬وال�سيا�سة ال�شرعية‪ ،‬والعقوبات‪،‬‬
‫وغريها‪ ،‬جاءت معللة ب�أنها لتحقيق امل�صالح ودفع املفا�سد‪.‬‬
‫فالعقيدة ب�أ�صولها وفروعها جاءت لرعاية م�صالح الإن�سان يف هدايته �إلى‬
‫الدين احلق‪ ،‬والإميان ال�صحيح‪ ،‬مع تكرميه وال�سمو به عن مزالق ال�ضالل‬
‫واالنحراف‪ ،‬و�إنقاذه من العقائد الباطلة‪ ،‬والأه��واء املختلفة‪ ،‬وال�شهوات‬
‫احليوانية‪ ،‬فجاءت �أحكام العقيدة لرت�سيخ الإميان باهلل تعالى‪ ،‬واجتناب‬
‫الطاغوت‪ ،‬لي�سمو الإن�سان بعقيدته و�إميانه �إلى العليا‪ ،‬وينجو من الوقوع‬
‫يف �شرك الوثنية‪ ،‬وت�أليه املخلوقات من بقر وقرود‪ ،‬و�شم�س وقمر‪ ،‬وجنوم‬
‫و�شياطني‪ ،‬و�إن�س وجن‪ ،‬ويرتفع عن الأوهام وال�سخافات واخلياالت‪ ،‬والأمثلة‬
‫على ذلك وا�ضحة و�صريحة وكثرية‪ ،‬من التاريخ القدمي واحلديث‪ ،‬ومذكورة‬
‫يف الن�صو�ص ال�شرعية‪.‬‬
‫ويف جمال العبادات وردت ن�صو�ص كثرية تبني �أن احلكمة والغاية من‬
‫العبادات �إمنا هي حتقيق م�صالح الإن�سان‪ ،‬و�أن اهلل تعالى غني عن العبادة‬
‫والطاعة‪ ،‬فال تنفعه طاعة وال ت�ضره مع�صية‪ ،‬و�أن العبادات تعود منافعها‬
‫للإن�سان يف كل ركن من �أركانها‪� ،‬أو فرع من فروعها‪ ،‬والن�صو�ص ال�شرعية‬
‫�صريحة يف ذلك وكثرية‪.‬‬

‫‪� -1‬سعيد رم�ضان البوطي‪� ،‬ضوابط امل�صلحة‪� ،‬ص‪ 45 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫ويف املعامالت ب�ّي�نّ اهلل تعالى ال�ه��دف واحلكمة منها‪ ،‬و�أن�ه��ا لتحقيق‬
‫م�صالح النا�س بجلب النفع واخلري لهم‪ ،‬ودفع املفا�سد والأ�ضرار وامل�شاق‬
‫عنهم‪ ،‬و�إزالة الف�ساد والغ�ش واحليف والظلم من العقود‪ ،‬لتقوم على امل�ساواة‬
‫والعدل بني الأطراف‪.‬‬
‫وتتجلى م�صالح العباد يف حترمي اخلبائث واملنكرات لدفع الف�ساد وال�ضرر‬
‫عن الإن�سان‪ ،‬وحمايته من كل �أذى �أو وهن‪.‬‬
‫وتظهر م�صالح الإن�سان ب�شكل قطعي يف الدعوة �إلى مكارم الأخالق‪،‬‬
‫وح�سن التعامل‪ ،‬والإح�سان �إلى الإن�سان‪ ،‬وجتنب الإ�ساءة �إليه ولو باحلركة‬
‫والإ�شارة والكلمة والل�سان‪ ،‬واليد والت�صرفات‪ ،‬لت�سود املودة بني النا�س‪ .‬‬
‫وبنا ًء على ما �سبق ذك��ره‪ ،‬وكما هو مقرر يف علم التاريخ‪ ،‬ف�إننا جند �أن‬
‫املجتمعات يف م�سريتها التاريخية �إمنا تتطور وتنمو وتقوى بفعل الإن�سان‬
‫ون�ضجه ومتام وعيه بهدفه احلقيقي يف احلياة وب�إعماله �سنن القوة والن�صر‬
‫والتمكني يف الأر���ض‪ ..‬وال تنهار الأمم واملجتمعات �أوت�ضعف وتتال�شى �إلى‬
‫العدم �أحيان ًا �إال ب�سبب غياب �أو انحراف معنى ذلك الوجود الإن�ساين‪..‬‬
‫وهذا هو �س ّر احل�ضارة عند قيامها �أو انهيارها‪.‬‬
‫وملا كانت مقا�صد ال�شريعة هي الرابط اجلامع لكل فروع الت�شريع يف جميع‬
‫املناحي العبادية والعادية واالجتماعية والق�ضائية وغريها‪ ،‬فهي ال تخرج عن‬
‫كلياتها ومقا�صدها الثابتة العائدة �إلى ال�ضرورات اخلم�س من حفظ الدين‬
‫والنف�س والن�سل والعقل وامل��ال‪ ،‬وهذه الكليات العامة والأه��داف الرئي�سة‬
‫للت�شريع حاكمة للفروع ولي�ست حمكومة بها‪ ،‬وي�سري االجتهاد الفقهي يف‬
‫فلكها وال تخ�ضع لأفالك املجتهدين �أو الفقهاء‪ ،‬يقول الإمام ال�شاطبي رحمه‬
‫اهلل يف وجوب موافقة ق�صد املكلف من عمله ق�صد ال�شارع �سوا ًء كان متعلم ًا‬
‫�أو جمتهد ًا‪« :‬ق�صد ال�شارع من املكلف �أن يكون ق�صده يف العمل موافق ًا‬
‫لق�صده يف الت�شريع والدليل على ذلك ظاهر من و�ضع ال�شريعة‪ ..‬واملطلوب‬

‫‪108‬‬
‫من املكلف �أن يجري على ذلك يف �أفعاله وال يخالف ما ق�صد ال�شارع»‬
‫(((‪.‬‬

‫ت�صور فرد �أو جمتمع ميكنه �أن يتخلى‬ ‫كذلك هي �أمر م�شرتك ال ميكن �أن ُي ّ‬
‫عن حفظها وحماولة دميومتها يف �ش�أنه اخلا�ص والعام‪ ،‬فهي مق�صودة‬
‫ومرادة لكل النا�س ال يختلف يف �ضرورتها �أحد‪ ،‬والت�شريع الإ�سالمي ت�شك ّل‬
‫يف �أحكامه و�آداب��ه على حفظها من جهة الوجود ومن جهة العدم‪ .‬يقول‬
‫الإمام ال�شاطبي رحمه اهلل‪ »:‬فلم يعتمد النا�س يف �إثبات مق�صد ال�شارع يف‬
‫هذه القواعد(((على دليل خم�صو�ص وال على وجه خم�صو�ص‪ ،‬بل ح�صل لهم‬
‫ذلك من الظواهر والعمومات‪ ،‬واملطلقات واملقيدات‪ ،‬واجلزئيات اخلا�صة‪،‬‬
‫يف �أعيان خمتلفة‪ ،‬ووقائع خمتلفة يف كل باب من �أبواب الفقه‪ ،‬وكل نوع من‬
‫�أنواعه‪ ،‬حتى �ألفوا �أدلة ال�شريعة كلها دائرة على حفظ تلك القواعد‪ ،‬هذا‬
‫مع ما ين�ضاف �إلى ذلك من قرائن �أحوال منقولة وغري منقولة»(((‪ .‬فبما �أن‬
‫للمقا�صد هذا ال�ش�أن العايل والأهمية الوا�ضحة يف ال�ضبط والتحديد كان‬
‫الرجوع لها يف البحث عن اخللل �أمر مطلوب عق ًال كما �أن اعتبارها يف �إن�شاء‬
‫الأحكام وبناء الت�شريعات احلياتية �أمر الزم �شرع ًا و�إال كانت اجلزئيات‬
‫خالف كلياتها وامل�آالت خالف االجتهادات ولنبني لذلك ب�أمثلة واقعية‪.‬‬
‫فالذين ح ّملوا نظام احلدود والعقوبة يف الإ�سالم �أنه هدم للحريات وق�سوة‬
‫على املخطئني مل ينظروا �إلى املجتمع كوحدة كاملة و�أن ا�ستقرار نظامه‬
‫و�صالح العي�ش فيه ال ميكن �إال من خالل عقوبات رادع��ه وزواج��ر ناهية‬
‫حتفظ للنا�س جميع ًا حقوقهم وحرياتهم‪ .‬مع �أن �آيات احلدود والعقوبات ال‬
‫متثل من جممل �أحكام ال�شريعة �إال الع�شر و�إال فبناء الإن�سان و�إ�صالح باطنه‬
‫يحتل امل�ساحة الأكرب من التوجيهات ال�شرعية‪.‬‬
‫وكذلك من �أباح الربا ك�ضرورة اقت�صادية معا�صرة مل ينظر �إلى �آثاره‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪23 /3‬ـ ‪. 24‬‬
‫‪ -2‬املق�صود بالقواعد هنا‪:‬ال�ضروريات واحلاجيات والتح�سينيات‪ ،‬انظر حا�شية املوافقات ‪.79/2‬‬
‫‪ -3‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.82/2‬‬

‫‪109‬‬
‫الأخالقية واالجتماعية وه��ي من الكليات التي تتناغم يف حفظ الفرد‬
‫واملجتمع دون رعاية جزء منه و�إهمال باقيه‪.‬‬
‫واعتبار املقا�صد ال�شرعية كق�ضايا كلية ت�ضبط الفهم وتر�سخ الأهداف‬
‫احلقيقة من الوجود الإن�ساين‪ ،‬والكيفية التي بها يعي�ش ويتعامل مع غريه‬
‫ومع ظروف احلياة ونوامي�س الكون؛ ي�ؤكد �أن اعتبارها كفيل بحفظ حقوق‬
‫الإن�سان‪ ،‬وبنية العقل الإن�ساين من ال�شطط �أو الوهم‪ ،‬وكفيل �أي�ض ًا بتنظيم‬
‫العقل وترتيب �أولويته يف الذهن‪ ،‬لذلك عمد الإم��ام الطاهر بن عا�شور‬
‫رحمه اهلل ـ وقد َع ِلم بهذا الدور الكبري الذي ت�ؤ�س�سه وتعمقه املقا�صد‬
‫يف بنية العقل ـ �إل��ى حماولة �ضبط املقا�صد حتى ال يختلط املق�صد‬
‫بالو�سيلة وال الكلية باجلزئية‪ .‬فجعل رحمه اهلل للمق�صد املعترب �شروط ًا‬
‫و�ضوابط ال بد من توافرها عند اعتبار كل مق�صد من املقا�صد‪.‬‬
‫وقبل حتديد ه��ذه ال�شروط �أو اخل�صائ�ص‪ ،‬الب��د من الإ��ش��ارة �إل��ى �أن‬
‫املقا�صد ال�شرعية نوعان‪ :‬معان حقيقية‪ ،‬ومعان عرفية عامة‪ .‬ف�أما املعاين‬
‫احلقيقية فهي التي لها حتقق يف نف�سها بحيث ت��درك العقول ال�سليمة‬
‫مالءمتها للم�صلحة �أو منافرتها لها‪� :‬أي تكون جالبة نفعا عاما �أو �ضررا‬
‫عاما �إدراكا م�ستقال عن التوقف على معرفة عادة �أو قانون‪ ،‬ك�إدراك كون‬
‫العدل نافعا‪ ،‬وكون االعتداء على النفو�س �ضارا‪ ،‬وكون الأخذ على يد الظامل‬
‫نافعا ل�صالح املجتمع‪ ،‬والتقييد بالعقول ال�سليمة‪ ،‬لإخراج مدركات العقول‬
‫ال�ش َم َيذر احلارثي من‬ ‫ال�شاذة‪ ،‬كمحبة الظلم يف اجلاهلية‪ ،‬كما يف قول َّ‬
‫�شعراء احلما�سة مفتخرا‪:‬‬
‫ـــل َ�ضي ًما �أو ُن َح ِّك َ‬
‫ـــــم قـــا�ضـيـــــا‬ ‫فل�سنا كمن كنتُم ت�صيبون َ�س َّل ًة َف َن َق َب َ‬
‫(((‬ ‫ُ‬
‫ال�سيف را�ضيا‬ ‫ولكنَّ حك َـم ال�سيـف فينا م�س ّلط َفنرَ َ�ضى �إذا ما �أَ�ص َبح‬

‫‪ 1‬البيتان هما الثاين والثالث من ّ‬


‫مقطعة ذات خم�سة �أبيات‪ ،‬عزاها الربقي ل�سويد بن جميح املرثدي‬
‫من بني احلارث‪ .‬املرزوقي‪� ،‬شرح ديوان احلما�سة‪ .126-125/1 :‬انظر تعليق ال�شيخ حممد احلبيب‬
‫ابن اخلوجة على هام�ش مقا�صد ال�شريعة البن عا�شور‪ ،‬هام�ش ‪.166 /2 ،1‬‬

‫‪110‬‬
‫�أما املعاين العرفية العامة‪ ،‬فهي املجربات التي �ألفتها نفو�س اجلماهري‬
‫وا�ستح�سنتها ا�ستح�سانا نا�شئا عن جتربة مالءمتها ل�صالح اجلمهور‪،‬‬
‫ك�إدراك كون الإح�سا�س معنى ينبغي تعامل الأمة معه‪ ،‬وك�إدراك كون عقوبة‬
‫اجلاين رادعة �إياه عن العود �إلى مثل جنايته‪ ،‬ورادعة غريه عن الإجرام‪،‬‬
‫و�إدراك كون القذارة تقت�ضي التطهر(((‪.‬‬
‫وق��د ا��ش�ترط اب��ن عا�شور لهذين النوعني م��ن املقا�صد جمموعة من‬
‫ال�شروط‪ ،‬هي‪ :‬الثبوت‪ ،‬والظهور واالن�ضباط واالطراد‪ .‬و�أرادوا بالثبوت �أن‬
‫يكون املق�صد �أو املعنى امل�ستنبط جمزوما بتحققه‪� ،‬أو �أن يكون ذلك التحقق‬
‫مظنونا ظنا يقرب من اجلزم‪.‬‬
‫و�أراد بالظهور �أن يكون املق�صد مت�ضحا ب�صورة ال يختلف معها الفقهاء‬
‫يف ت�شخي�صه‪ ،‬وذلك مثل حفظ الن�سب الذي هو مق�صد �أ�سا�سي وظاهر‬
‫من ت�شريع الزواج‪ ،‬وال يلتب�س مع ما ي�شبهه كالذي يح�صل مثال باملخادنة‬
‫�أو بالإالطة‪ ،‬وهي‪� :‬إل�صاق امل��ر�أة البغي احلمل الذي تعلقه برجل معني‬
‫(((‬
‫ممن �ضاجعوها‬
‫و�أراد باالن�ضباط �أن يكون للمق�صد حد غري م�شكوك فيه بحيث ال يتجاوزه‬
‫وال يق�صر عنه‪ ،‬بحيث يكون القدر ال�صالح منه يعترب مق�صدا �شرعيا قدرا‬
‫غري م�شكك‪ .‬وذلك مثل حفظ العقل �إلى القدر الذي يخرج به العاقل عن‬
‫ت�صرفات غري العقالء؛ الذي هو املق�صد من م�شروعية التعزير بال�ضرب‬
‫عن الإ�سكار(((‪.‬‬
‫�أما املراد باالطراد والإط�لاق عنده؛ فهو �أن يكون املق�صد متفقا عليه‪،‬‬
‫وغري خمتلف فيه‪ ،‬مهما اختلفت الأزم��ان والأماكن‪ ،‬والأقطار والقبائل‪.‬‬
‫وذل��ك مثل و�صف الإ�سالم‪ ،‬ومثل القدرة على الإنفاق يف حتقيق مق�صد‬
‫‪ -1‬ابن عا�شور‪ ،‬مقا�صد ال�شريعة �ص ‪.63‬‬
‫‪ 2‬حممد الطاهر ابن عا�شور‪ ،‬مرجع �سابق �ص ‪.50‬‬
‫‪ -3‬املرجع ال�سابق‪ ،‬بت�صرف �ص ‪.50‬‬

‫‪111‬‬
‫املالءمة للمعا�شرة‪� :‬أي الكفاءة امل�شروطة يف الزواج لدى املالكية(((‪.‬‬
‫فمقا�صد ال�شارع يف بث امل�صالح يف الت�شريع مطلقة عامة‪ ،‬ال تخت�ص بباب‬
‫دون باب‪ ،‬وال مبحل دون حمل‪ ،‬وال مبحل وفاق دون حمل خالف‪ .‬فالأمر‪،‬‬
‫�إذن‪ ،‬يف امل�صالح مطرد مطلقا يف كليات ال�شريعة وجزئياتها‪ .‬و�سبب ذلك‬
‫�أن الأحكام م�شروعة مل�صالح العباد‪ ،‬وال يت�أتى بحال �أن تكون خمت�صة ببع�ض‬
‫املكلفني دون بع�ض‪ ،‬ولو كان الأمر كذلك؛ يعني اخت�صت بالبع�ض‪ ،‬مل تكن‬
‫�آنئذ مو�ضوعة على الإطالق‪ ،‬وذلك على خالف ظواهر الن�صو�ص التي ت�ؤكد‬
‫عموم �شريعة الإ�سالم‪.‬‬
‫لكن قد ترتدد معان بني كونها �صالحا تارة وف�سادا �أخرى‪� ،‬أي ب�أن اختل‬
‫منها و�صف االطراد‪ ،‬فهذه «ال ت�صلح العتبارها مقا�صد �شرعية على الإطالق‬
‫وال لعدم اعتبارها كذلك‪ ،‬بل املق�صد ال�شرعي فيها �أن توكل �إلى نظر علماء‬
‫الأمة ووالة �أمورها الأمناء على م�صاحلها من �أهل احلل والعقد ليعينوا لها‬
‫الو�صف اجلدير باالعتبار يف �أحد الأح��وال دون غريه‪ .‬وذلك مثل‪ :‬القتال‬
‫واملجالدة فقد يكون �ضرا �إذا كان ل�شق ع�صا الأمة‪ ،‬وقد يكون نفعا �إذا كان‬
‫للذب عن احلوزة ودفع العدو‪� ،‬أال ترى �أن اهلل تعالى قال‪ } :‬ﭻﭼﭽ‬
‫ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ{ (املائدة‪،)33:‬‬
‫فجعل قتالهم وهو احلرابة موجبا للعقاب؛ لأنها ف�ساد‪ .‬وقال تعالى‪:‬‬
‫} ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ{ (احلجرات‪ )9:‬ف�أعلمنا‬
‫�أن هذا التقاتل �ضر‪ ،‬فلذلك �أمر البقية بالإ�صالح بينهما لتنهية القتال‪ .‬ثم‬
‫قال تعالى‪} :‬ﮡﮢﮣﮤﮥ{ (احلجرات‪� )9 :‬أي الطائفتني‬
‫على الأخ��رى }ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ{ (احل �ج��رات‪ )9:‬ف�أمر‬
‫ب�إيقاع قتال للإ�صالح»(((‪.‬‬

‫‪ -1‬املرجع ال�سابق‪.‬‬
‫‪ -2‬حممد الطاهر بن عا�شور‪ ،‬مرجع �سابق �ص ‪.51- 50‬‬

‫‪112‬‬
‫وم��ن �شروط اعتبار املقا�صد التي ينبغي الإ� �ش��ارة �إليها والتن�صي�ص‬
‫عليها‪� ،‬شرط العموم وال�شمول؛ ذل��ك �أن ه��ذه اخلا�صية تعد من لوازم‬
‫مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬وخا�صة �أ�صولها من ال�ضروريات واحلاجيات‬
‫والتح�سينيات‪ ،‬حيث يجعلها ذلك مبثوثة يف كل مباحث ال�شريعة �شاملة‬
‫لأبوابها و�أدلتها‪ ،‬وكل م�سائل ال�شريعة وفروعها‪ ،‬بحيث تعم اجلزئيات‬
‫وت�ستغرق الكليات‪ ،‬وال تفتقر يف �إثباتها �إلى قيا�س �أو غريه(((‪.‬‬
‫وم��ن ه��ذه ال�شروط‪ ،‬ع��دم الن�سخ‪ ،‬وذل��ك ب ��أن ال يعرتي ه��ذه املقا�صد‬
‫ن�سخ بالإبطال �أو الإلغاء‪ ،‬يقول �أبو �إ�سحاق ال�شاطبي‪« :‬القواعد الكلية من‬
‫ال�ضروريات واحلاجيات والتح�سينيات مل يقع فيها ن�سخ‪ ،‬و�إمنا وقع الن�سخ‬
‫يف �أمور جزئية‪ ،‬بدليل اال�ستقراء‪ ،‬ف�إن كل ما يعود باحلفظ على الأمور‬
‫اخلم�سة ثابت‪ ،‬و�إن فر�ض الن�سخ يف بع�ضها �إلى غري بدل‪ ،‬ف�أ�صل احلفظ‬
‫باق‪� ،‬إذ ال يلزم من رفع بع�ض �أنواع اجلن�س رفع اجلن�س»(((‪.‬‬
‫ف�إذا حتققت املقا�صد بال�شروط املذكورة ح�صل اليقني لدى م�ستنبطها‬
‫ب�أنها هي املقا�صد ال�شرعية املعتربة‪ .‬وهي يف ارتباطها بتلك ال�شروط تتميز‬
‫عن الأوهام‪ ،‬وهي املعاين التي يخرتعها وهم الإن�سان دون �أن يكون لذلك �أثر‬
‫متحقق يف الواقع‪ ،‬وذلك مثل توهم كثري من النا�س‪.‬‬
‫واملقا�صد يف ارتباطها بتلك ال�شروط تتميز عن «الأوه��ام»‪ ،‬وهي املعاين‬
‫التي يخرتعها وهم الإن�سان دون �أن يكون لذلك �أثر حمقق يف الواقع‪ ،‬وذلك‬
‫مثل توهم كثري من النا�س وجود معنى يف امليت يوجب اخلوف منه �أو النفور‬
‫عنه عند اخللوة‪ .‬كما تتميز عن «التخيالت»‪ ،‬وهي املعاين التي يخرتعها‬
‫اخليال ويركبها ويت�صورها ب�صور املح�سو�سات‪ ،‬ومن ذلك ت�صور الأ�شباح‬
‫والأ�شخا�ص ونحوها‪ .‬ولي�س �شيء من تلك الأوهام والتخيالت ي�صلح �أن يعد‬

‫‪ -1‬ال�شاطبي‪،‬املوافقات ‪.7/3‬‬
‫‪ -2‬نف�س امل�صدر ‪.109/3‬‬

‫‪113‬‬
‫مق�صدا �شرعيا(((‪ ،‬وقد �أبطل الإ�سالم �أحكام التبني التي كانت يف اجلاهلية‬
‫و�صدر الإ�سالم؛ لأنه اعتربها من الأمور الوهمية(((‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬ومن حق الفقيه مهما الح له ما يوهم جعل الوهم مدرك حكم �شرعي‬
‫�أن يتعمق يف الت�أمل ع�سى �أن يظفر مبا يزيل ذلك الوهم‪ ،‬ويرى �أن ثمة معنى‬
‫حقيقيا هو مناط الت�شريع قد قارنه �أمر وهمي فغطى عليه يف نظر عموم‬
‫النا�س؛ لأنهم �ألفوا امل�صري �إلى الأوهام‪.‬‬
‫ومن هنا ميكن ا�ستثمار الفطرة الإن�سانية والربط بينها وبني املق�صد‬
‫ال�شرعي يف تر�شيد حقوق الإن�سان؛ �سواء اعتربنا الفطرة «هي احلالة التي‬
‫خلق اهلل عليها النوع الإن�ساين �ساملا من االختالط بالرعونات والعادات‬
‫الفا�سدة‪ ،‬وهي �صاحلة ل�صدور الف�ضائل عنها»(((‪� ،‬أو اعتربناها «الهيئة‬
‫اخللقية والروحية التي انطوت عليها نف�س الإن�سان والتي تو�صله �إلى معرفة‬
‫عبوديته للخالق»(((‪.‬‬
‫وكما �سبقت الإ�شارة‪ ،‬فقد ذهب الإم��ام ابن عا�شور رحمه اهلل �إلى �أن‬
‫الفطرة ال�سليمة هي القاعدة التي ُ�شي َّد عليها �صرح املقا�صد ال�شرعية‪،‬‬
‫ويجب �أن تكون الأ�سا�س الذي ينطلق منه املكلفون حتى تكون مقا�صدهم من‬
‫وراء ت�صرفاتهم موافقة ملق�صد ال�شارع‪ .‬يقول رحمه اهلل‪« :‬نحن �إذا �أجدنا‬
‫النظر يف املق�صد العام من الت�شريع جنده ال يعدو �أن ي�ساير حفظ الفطرة‬
‫واحلذر من خرقها واختاللها‪ ،‬ولعل ما �أف�ضى �إلى خرق عظيم فيها يع ّد يف‬
‫ال�شرع حمذور ًا وممنوع ًا‪ ،‬وما �أف�ضى �إلى حفظ كيانها يع ّد واجب ًا‪ ،‬وما كان‬
‫دون ذلك يف �أمرين فهو منهي �أو مطلوب يف احلملة‪ ،‬وما ال مي�سها مباح‪،‬‬
‫ي�صار‬
‫ثم �إذا تعار�ضت مقت�ضيات الفطرة ومل ميكن اجلمع بينها يف العمل ُ‬
‫‪ -1‬حممد الطاهر بن عا�شور‪ ،‬مقا�صد ال�شريعة �ص ‪.51‬‬
‫‪ -2‬املرجع ال�سابق �صر ‪.51‬‬
‫‪ -3‬املرجع ال�سابق �ص‪.180‬‬
‫‪ -4‬طه عبد الرحمن‪ ،‬جتديد املنهج يف تقومي الرتاث �ص ‪.100‬‬

‫‪114‬‬
‫�إلى ترجيح �أواله��ا على ا�ستقامة الفطرة‪ ،‬فلذلك كان قتل النف�س �أعظم‬
‫الذنوب‪.(((»..‬‬
‫من هنا ن�ستطيع القول �إن الفطرة هي املوج ّه للإن�سان تفكري ًا وت�صرف ًا‬
‫و�أخالق ًا‪ ،‬وهي ال�سمة الرئي�سية للدين وو�صفه العظيم‪ }:‬ﯔﯕﯖ‬
‫ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ‬
‫ﯧ{ (�سورة الروم‪.)30:‬‬
‫فمقا�صد ال�شريعة مت�سقة مع الفطرة ال�سليمة غري خمالفة لها ولي�س هذا‬
‫االت�ساق يف النوازع واملنافع املادية فقط؛ بل له �آثار ُه على الفكر واحلريات‬
‫املتعلقة بحياة الإن�سان‪ .‬وهذا اجلانب املهم واملتعلق ب�ضبط ال�سلوك الباطني‬
‫بالفكر والعقل الواعي مل يعط حقه من التنظري والت�أ�صيل مع �أن له اثاره يف‬
‫حياة الإن�سان �سواء كانت �إيجابية ب�إعماله واالن�سياق يف موارده‪� ،‬أو �سلبية يف‬
‫�إنكاره وخمالفة منزعه الفطري املك ِّون حلقيقة الفرد الإن�ساين‪ ،‬ولعل الدور‬
‫املقا�صدي �أن ُيعيد االهتمام بهذا اجلانب العرفاين وي�ضبطه من االنحراف‬
‫�أو التعدي يف تقديره واعتباره‪.‬‬
‫�إن املت�أمل يف م�صن ّفات مقا�صد ال�شريعة يرى �أن هناك دور ًا �إ�صالحي ًا قام‬
‫به �أولئك امل�ص ّنفون ملا حتم ّلوا هذا اجلانب من الت�أليف والعودة �إلى كليات‬
‫ال�شريعة بتجديد ال�صلة بها و�إحياء دورها املتجدد يف النظر والوقائع املختلفة‪،‬‬
‫و�شواهد �أح��وال �أولئك املجددين تثبت �أن املقا�صد ال�شرعية هي احلامل‬
‫على التغيري نحو الأف�ضل والت�صحيح نحو الأولى والأهم والإمام ال�شاطبي‬
‫–رحمه اهلل‪ -‬يف م�صنفه العظيم املوافقات يعترب من رواد الإ�صالح الفكري‬
‫يف دوره يف رد اخلالف الفقهي �إلى مقا�صد ال�شريعة الكلية وترتيب الذهنية‬
‫الفقهية وتنقية علوم اال�ستدالل من �شوائب الإيغال الفل�سفي والكالمي‪ .‬كما‬
‫�أن دور الإمام الطاهر بن عا�شور وعالل الفا�سي ال يختلف عن �سابقهما‪ ،‬فقد‬

‫‪ -1‬ابن عا�شور‪ ،‬مقا�صد ال�شريعة �ص ‪59‬ـ‪.60‬‬

‫‪115‬‬
‫جعلوا من مقا�صد ال�شريعة حمور التجديد الذي دعوا �إليه وكذلك منهاجهم‬
‫الإ�صالحي الذي ّ‬
‫ب�شروا به �سواء كان على م�ستوى الت�شريعات النظامية‬
‫�أو املحافظة على دور الفقه يف عالج م�ستجدات احلياة‪.‬‬
‫والناظر يف ما كتب اليوم من درا��س��ات و�أب�ح��اث يف مقا�صد ال�شريعة‪،‬‬
‫ي�ستنتج‪ ،‬دون عناء‪ ،‬تراكما جيدا يف الت�أ�صيل؛ من خالل اال�شتغال على‬
‫م�صادر علم �أ�صول الفقه و�أعالمه‪ ،‬وا�ستنطاق �آرائهم ومذاهبهم يف كتب‬
‫الفقه‪ ،‬واالجتهادات الفقهية ال�ستنباط قواعدهم يف التعامل مع الن�ص‪ .‬مع‬
‫ظهور بع�ض الأبحاث والدرا�سات التي حاول �أ�صحابها االنتقال من الت�أ�صيل‬
‫�إلى تنزيل هذه القواعد واملقا�صد على ق�ضايا معا�صرة حمددة وم�ستجدات‬
‫معينة‪.‬‬
‫والطموح كل الطموح �أن ينتقل البحث من الت�أ�صيل والتنزيل على ق�ضايا‬
‫ومن��اذج معينة‪� ،‬إلى �أن يجعل من املقا�صد وامل�صالح منهجا ناظما لبناء‬
‫تفكري �إ�سالمي يجمع بني قراءة الوحي وقراءة الكون داخل الذات‪ ،‬و�آلية من‬
‫�آليات املجادلة واحلوار مع الآخر يف ق�ضايا الر�ؤية الإ�سالمية مبنطق العقل‬
‫وم�صلحة الإن�سان التي تعد �صلب و�سياج �أي حق من حقوقه‪.‬‬
‫ذلك كله بهدف تكوين فكر مقا�صدي منفتح وم�ستوعب لدى امل�ؤتلف‬
‫مع املرجعية الإ�سالمية من منطلق مقا�صد الإ�سالم‪ ،‬وتفكري عادل لدى‬
‫املختلف معها من منطلق م�صالح الإن�سان‪ ،‬من �أجل توفري العزة والكرامة‬
‫لهذا الإن�سان الذي خلقه اهلل يف �أح�سن تقومي‪ ،‬وكرمه وف�ضله على كثري من‬
‫خملوقاته‪ ،‬و�سخر له الأكوان ليدبر �أمره �ضمن ظواهرها بالوحي ويف ظل‬
‫الوحي ومبنهج الوحي‪ ،‬لأنه املنهج الرباين احلري�ص مبقا�صد ت�شريعاته على‬
‫م�صلحة الإن�سان و�سعادته‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫الف�صل الرابع‪:‬‬
‫نحو تفعيل مقا�صد ال�رشيعة‬
‫يف حتقيق التكامل احل�ضاري‬
‫والتقريب بني مذاهب‬
‫�أهل القبلة‬
‫‪ -‬متهيد‪:‬‬
‫غاية ا لأمر يف هذا املقام �أن نتعرف على مكانة املدخل املقا�صدي‬
‫يف حتقيق التكامل احل�ضاري والتقريب بني مذاهب �أهل القبلة‪ ،‬ودوره‬
‫يف حتقيق هذا املعنى‪ ،‬وهو واحد من �أهم املداخل اجلامعة التي جتعل‬
‫من تكامل الر�ؤى والت�صورات عملية �أ�سا�سية‪ ،‬كما تقوم ب�أدوار �أخرى‬
‫�ضمن قيام الباحثني بعمليات التوظيف والتفعيل لهذا النموذج يف �سياق‬
‫املجاالت املعرفية املختلفة‪.‬‬
‫فكيف ميكن لنظرية املقا�صد يف �صورتها احلالية �أن ت�سهم يف تفعيل دائرة‬
‫امل�شرتك بني احل�ضارات‪ ،‬والتقريب بني مذاهب �أهل القبلة؟‬
‫وهذا ما �سنحاول ب�سطه من خالل �إبراز �أثر معرفة مقا�صد ال�شريعة يف‬
‫�إغناء التكامل احل�ضاري‪ ،‬و حتقيق وحدة الأمة والتقريب بني مذاهب �أهل‬
‫القبلة‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫املبحث الأول‪� :‬أثر معرفة مقا�صد ال�شريعة يف �إغناء التكامل احل�ضاري‬
‫ال ميرتي �أحد يف �أن كل �شريعة �شرعت للنا�س ترمي ب�أحكامها �إلى مقا�صد‬
‫مرادة مل�ش ّرعها ووا�ضعها؛ ومن هذا املنطلق ف�شريعة الإ�سالم‪ ،‬كما �أراد لها‬
‫وا�ضعها عز وجل‪ ،‬جاءت ملا فيه �صالح الب�شر يف العاجل والآجل‪� ،‬أي يف حا�ضر‬
‫الأمور وعواقبها‪ .‬يف �إطار ال�ضرورات االجتهادية مبفهومها الوا�سع والتعامل‬
‫العميق مع الن�صو�ص امل�ؤ�س�سة؛ قر�آنا و�سنة‪ ،‬واال�ستمداد منها مبختلف‬
‫الطرائق واملناهج‪ .‬وال �شك �أن هذا اال�ستثمار ال ميكن �أن يتم �إال بوا�صلة بني‬
‫ال�صبغة وال�صيغة وال�صياغة؛ �صبغة اهلل التي ت�شكل ت�أ�صيل الر�ؤية الكلية‬
‫الكونية وت�أ�سي�س الر�ؤية الفطرية لت�شكيل �أ�صول احلياة العمرانية } ﮚ‬
‫ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ{ (البقرة‪.)138 :‬‬
‫ومن هذه ال�صبغة (�صبغة اهلل) تنبع ال�صيغة الكلية العامة‪ ،‬وهي ال�صيغة‬
‫املقا�صدية مدخال م� ِّؤطرا؛ التي تعد من �أهم املطالب التي يحتاجها الفقيه‪،‬‬
‫وال �ع��امل‪ ،‬وال�سالك وامل��رب��ي‪ ،‬والتلميذ والأ��س�ت��اذ‪ ،‬على ت�ف��اوت قرائحهم‬
‫وفهومهم‪ ،‬يف عملية احلوار مع كتاب اهلل امل�سطور؛ القر�آن الكرمي‪ ،‬وكتاب‬
‫اهلل املنظور؛ �أي الكون‪ ،‬وتتطلب وعي اال�ستجابة و�سعيها‪ ،‬والكد يف التعرف‬
‫على الطرق املو�صلة �إليها؛ املن�صو�صة وامل�ستنبطة‪ ،‬وال�سعي �إل��ى �ضبط‬
‫�شروط اعتبارها‪.‬‬
‫�إنها ال�صيغة املقا�صدية التي تت�سم بكليتها وان�ضباطها وظهورها‪ ،‬واطرادها‬
‫و�إطالقها و�شمولها وعموميتها‪ ،..‬والتي من �ش�أنها �أن تقدم عنا�صر النموذج‬
‫الإر�شادي واملدخل الفهمي ملقاي�سة الظواهر وت�أ�سي�س معايري (الو�صف)‬
‫لها واحلكم (والتقومي) عليها‪�« ،‬إنه الفقه الذي يتفاعل فيه الفقه احلكمي‬
‫بعنا�صر الرتبية والرتقية‪ ،‬والتخلية والتحلية‪ ،‬والواقع والواجب من �سياق ال‬
‫ينفلت فيه الواقع من الواجب‪ ،‬وال يهمل الواجب فيه الواقع»(((‪.‬‬
‫‪� -1‬سيف الدين عبد الفتاح‪ ،‬العملية االجتهادية و�أ�صول الفقه احل�ضاري‪� ،‬ضمن �أعمال ندوة "�أهمية‬
‫اعتبار ال�سياق يف املجاالت الت�شريعية و�صلته ب�سالمة العمل بالأحكام" �ص ‪.617‬‬

‫‪120‬‬
‫وهي ال�صيغة التي تعرب عن كماالت الر�ؤية التوحيدية الفطرية اال�ستخالفية‬
‫العمرانية التي تت�سم بكمالها �صحة و�صالحية وفعالية‪ ،‬وتت�سم بتمامها‬
‫كتمام الكلمة ال�صادرة عنها �صدقية يف الأداء وعدال يف مقامها‪} ..‬ﯙ‬
‫ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ‬
‫ﯩﯪﯫ{(الأنعام ‪.)116 :‬‬
‫و�إذا كان هذا هو مقام اهتمام ال�شريعة باملقا�صد الأ�سا�سية‪ ،‬ف�إن معرفة‬
‫مقا�صد ال�شريعة وحتريها مقدمة الزمة يف كل ذلك؛ لأنها تعني على حتقيق‬
‫املق�صد الكلي يف ربط حركة الإن�سان يف هذا الكون باملق�صد الأ�سا�سي وهو‬
‫املق�صد التوحيدي؛ مبعنى حتقيق العبودية هلل �سبحانه «وباجلملة حتقيق‬
‫ما ميكن �أن ن�سميه حفظ الأمة‪ ،‬وكيانها‪ ،‬وهويتها من خالل حفظ الكليات‬
‫اخلم�س من دي��ن‪ ،‬ونف�س‪ ،‬ون�سل‪ ،‬وعقل‪ ،‬وم��ال؛ التي ت�شكل �أعمدة الأمة‬
‫وجماالت حركاتها‪ ،‬وذلك بفهم الرتب‪ ،‬والتدرج فيما بينها من �ضروريات‪،‬‬
‫وحاجيات‪ ،‬وحت�سينيات‪ ،‬ويف �إطار ربط ذلك مبجموعة من القيم الإ�سالمية‬
‫الأ�سا�سية‪ ،‬وهو ما يحقق الربط بني هذه العنا�صر جميعا لتحقيق مقت�ضى‬
‫الأمانة للإن�سان وا�ستخالفه بحرا�سة الدين و�سيا�سة الدنيا به»(((‪.‬‬
‫وم��ن رحمة اهلل بهذه الأم��ة �أن وف��ق ثلة من نوابغها �إل��ى بناء مقاربة‬
‫مقا�صدية‪ ،‬قطعوا يف طلبها م َهامه فيحا‪ ،‬وكابدوا من طوارق طوارقها ح�سنا‬
‫وقبيحا‪ ،‬والقوا من وجوهها املعرت�ضة جهما و�صبيحا‪ ..‬وحالفوا يف �سبيل‬
‫ذلك الليايل والأيام‪ ،‬وا�ستبدلوا التعب بالراحة وال�سهر باملنام‪ ..‬وفتَح عليهم‬
‫يف التنظري لها‪ ،‬ون�سج خيوطها‪ ،‬وتقييد �أوابدها‪ ،‬و�ضم �شواردها‪ ،‬تفا�صيل‬
‫وجمال‪ ..‬معتمدين على اال�ستقراءات الكلية‪ ،‬غري مقت�صرين على الأفراد‬
‫اجلزئية‪ ،‬ومبينني �أ�صولها النقلية‪ ،‬ب�أطراف من الق�ضايا العقلية‪ ،‬ح�سب‬
‫ما �أعطته اال�ستطاعة واملنة‪ ،‬يف بيان مقا�صد الكتاب وال�سنة‪ ..‬ف�أ�س�سوا‬
‫ملا ميكن ت�سميته بـ «الكليات العمرانية»‪ ،‬والتي حتتاج �إلى رحلة ا�ستك�شافية‬
‫‪� -1‬سيف الدين عبد الفتاح‪ ،‬نحو تفعيل النموذج املقا�صدي يف املجال ال�سيا�سي واالجتماعي‪� ،‬ضمن‬
‫كتاب «مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية‪ :‬درا�سات يف ق�ضايا املنهج وجماالت التطبيق» �ص‪ .364 :‬بت�صرف‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫م�ضبوطة املراحل‪ ،‬قد ال يويف هذا املبحث ببيانها يف هذا ال�سياق‪ ،‬لإكراهات‬
‫منهجية؛ وهي حتتاج �إلى بحث خا�ص‪� ،‬أ�س�أله �سبحانه �أن يي�سر يل خو�ض‬
‫غماره‪ ،‬وبيان �سلطانه‪.‬‬
‫لكن هذا لن يعفيني من ا لإ�شارة �إلى بع�ض جتليات هذا املق�صود‬
‫يف �إجمال‪ ،‬من غري ا�ستيعاب كامل‪ ،‬وال تف�صيل تام‪.‬‬
‫احلكمية يف حركتنا املعرفية والبحثية ال يت�أتى‬
‫�إن ا�ستئناف فاعلية املعاين ِ‬
‫�إال من خالل �صياغتها مبا يحقق هذه الفاعلية النظرية املعرفية‪� ،‬ضمن فعل‬
‫الت�أ�سي�س (الر�ؤية العقدية الدافعة‪� ،‬أ�صول ال�شرعة الرافعة‪ ،‬قيم الت�أ�سي�س‬
‫وقيم الأ�سا�س احلاكمة‪ ،‬وجمال الأمة اجلامعة‪ ،‬وعنا�صر احل�ضارة الفاعلة‪،‬‬
‫و�سنن الكون والنف�س واملجتمع والتاريخ القا�ضية‪ ،‬وجماالت ورتب املقا�صد‬ ‫ُ‬
‫الكلية العامة احلافظة واحلا�ضنة)‪ ،‬ذلك كله يزكي �سبل التوا�صل‪ ،‬ويقطع‬
‫دابر االختالف‪ ،‬ويغني التكامل احل�ضاري؛ الذي تت�صل بع�ض امل�ستويات‬
‫فيه بفقه بناء املعيار وت�أ�سي�سه و�صياغاته‪ ،‬كر�ؤى قابلة للتفعيل والت�شغيل‬
‫�ضمن �سياقات متنوعة‪ ،‬و�أهمها املجال املعريف والعلمي والفكري والثقايف‬
‫واحل�ضاري‪ .‬ذلك �أن امل�ستويات والفئات الأخرى ُتعنى بفهم الواقع و�إمكان‬
‫مقاي�سته على املعيار ورده الرد اجلميل �إليه‪ ،‬ومالحظة االنحراف املعياري‬
‫جل‪ ،‬مبنهج علمي �سديد من�ضبط يتفهم عنا�صر الظاهرة‬ ‫دق �أو َّ‬
‫وتقوميه مهما َّ‬
‫االجتماعية والإن�سانية يف خ�صو�صيتها‪ ،‬كمجال بحثي ي�ستحق االهتمام(((‪.‬‬
‫�إنها عنا�صر �شديدة الأهمية تتحقق من خالل ت�أ�سي�س املقاربة املقا�صدية‬
‫كمنظومة جامعة لعنا�صر فاعلة‪ ،‬وم ِّفعلة لها يف البحث‪ ،‬وما يو ِّلده ذلك من‬
‫�إمكانات مفاهيمية ومنهجية وحتليلية وتف�سريية وتقوميية‪.‬‬
‫و�إذا ما ربطنا هذا كله مبا نحن فيه‪ ،‬وجب علينا �أن نتعرف كيف �أهملنا‬
‫تراثنا حينما مل ن�صله بالواقع ومل نفعله يف �سياقاته‪ ،‬ومل نوظفه يف م�ساراتنا‬
‫‪� -1‬سيف الدين عبد الفتاح‪ ،‬العملية االجتهادية و�أ�صول الفقه احل�ضاري‪� ،‬ضمن �أعمال ندوة "�أهمية‬
‫اعتبار ال�سياق يف املجاالت الت�شريعية و�صلته ب�سالمة العمل بالأحكام" �ص ‪.615‬‬

‫‪122‬‬
‫البحثية �أو املنهجية‪ ،‬ف�ضال عن طرائقنا ال�سلوكية والرتبوية والتدبريية‪.‬‬
‫بناء عليه؛ نحن يف حاجة �إل��ى معرفة مقا�صد ال�شريعة‪ ،‬والك�شف عن‬
‫م�سالكها؛ لأن ذلك يعد من اللوازم للمجتهد حتى ين�ضبط اجتهاده وي�ستويف‬
‫فيه بذلك غاية الو�سع‪ ،‬فمن املعلوم �أنه لي�س كل مكلف بحاجة �إلى معرفة‬
‫مقا�صد ال�شريعة‪ ،‬لأن معرفة مقا�صد ال�شريعة نوع دقيق من �أنواع العلم‪،‬‬
‫فحق العامي �أن يتلقى ال�شريعة بدون معرفة املق�صد لأنه ال يح�سن �ضبطه‬
‫وال تنزيله‪ ،‬ثم يتو�سع النا�س يف تعريفهم للمقا�صد مبقدار ازدياد حظهم‬
‫من العلوم ال�شرعية لئال ي�ضعوا ما يلقفون من املقا�صد يف غري موا�ضعه‬
‫وحق العامل فهم املقا�صد‪ ،‬والعلماء يف ذلك متفاوتون على قدر القرائح‬
‫والفهوم(((‪.‬‬
‫وال يخفى �أن معرفة مقا�صد ال�شريعة وحت ِّريها مقدمة الزم��ة لعملية‬
‫االجتهاد مبفهومها الوا�سع؛ امل�ست�شرف حلكم اهلل يف نوازل الأمة والعامل‬
‫من حولها‪ ،‬وال ي�صح ملجتهد �أن يقوم بها دون ذلك‪ ،‬لأنها تعينه على متام‬
‫فقه احلكم والواقعة والتنزيل جمي ًعا‪ ،‬كما �أنها حتقق املق�صود الكلي يف ربط‬
‫حركة االجتهاد باملق�صود الأ�سا�سي وهو التوحيد‪ ،‬وحتقيق مطلق العبودية‬
‫هلل‪ ،‬وباجلملة حتقيق ما ميكن �أن ن�سميه حفظ الأمة‪ ،‬وكيانها وهويتها من‬
‫خالل حفظ الكليات اخلم�س من (دين ونف�س ون�سل‪ ،‬وعقل‪ ،‬ومال)‪ ،‬التي‬
‫ت�شكل �أعمدة الأمة وجماالت حركاتها‪ ،‬وذلك بفهم الرتب‪ ،‬والتدرج فيما‬
‫بينها من �ضروريات وحاجيات وحت�سينيات‪ ،‬ويف �إطار ربط ذلك مبجموعة‬
‫من القيم الإ�سالمية الأ�سا�سية‪ ،‬وهو ما يحقق الربط بني هذه العنا�صر جمي ًعا‬
‫لتحقيق مقت�ضى الأمانة للإن�سان وا�ستخالفه بحرا�سة الدين و�سيا�سة الدنيا‬
‫به‪ ،‬وهو �أمر ي�ضفي على االجتهاد �أهميته‪ ،‬ودوره ووظيفته يف حفظ الأمة‬
‫ً‬
‫بلوغا ملر�ضاة اهلل بالتزام �شرعته ونهجه‪.‬‬
‫واملقا�صد �ضمن هذا التفكري تقوم على مفهوم امل�صلحة املعتربة �شرعا‪،‬‬
‫‪ -1‬حممد الطاهر ابن عا�شور‪ ،‬مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية �ص ‪15 ،7‬ـ‪.18‬‬

‫‪123‬‬
‫لأنها ترتبط بنظرية املقا�صد كلها بعروة وثقى ال انف�صام لها‪ ،‬وامل�صلحة‬
‫ه��ي القا�سم امل�شرتك ال��ذي تلتقي ع�ن��ده مقا�صد ال���ش��ارع ومقا�صد‬
‫املكلف‪ ،‬كما �أن ذلك كله ي�سهم يف ت�أ�صيل املدخل القيمي كمدخل منهجي يف‬
‫ر�ؤية جممل احلياة احل�ضارية وما يعتمل فيها من �أفعال وعالقات وقدرات‬
‫وجماالت‪ ،‬ذلك �أن الفكر املقا�صدي «يب�صر يف املقام اخلا�ص مبا دق وج ّل‪،‬‬
‫ويحمل فيه على الو�سط الذي هو جمال العدل واالعتدال‪ ،‬وي�أخذ باملختلفني‬
‫على طريق م�ستقيم بني اال�ست�صعاد واال�ستنزال‪ ،‬ليخرجوا من انحرايف‬
‫الت�شديد واالنحالل‪ ،‬وطريف التناق�ض واملحال»(((‪.‬‬
‫هذه الر�ؤية هي التي ح��اول علماء املقا�صد التعرف من خاللها على‬
‫امل�ستويات املعرفية املو�ضحة والكا�شفة عن العالقة بني مق�صد ال�شارع‬
‫ومق�صد الإن�سان املكلف؛ ور�سموا بوا�سطتها املعمار الذهني القادر‬
‫على املزاوجة والتالحم بني امل�صلحة املعتربة �شرعا‪ ،‬باعتبارها �أ�سا�س‬
‫املقا�صد‪ ،‬وبني امل�صالح والقيم االجتماعية احل�ضارية‪ ،‬من دون �أدنى‬
‫ت�ع��ار���ض‪ ،‬ب��ل بالعك�س يف نف�س تكاملي ا�ست�شرايف للأن�ساق املعرفية‬
‫وال�سياقات االجتماعية لهذه القيم‪.‬‬
‫هذا كله يف �سياق بيان جملة الكليات الت�أ�سي�سية لإقامة عنا�صر العمارة‬
‫احل�ضارية والفاعليات احل�ضارية‪ ،‬وحماولة الربط بني الفقه اجلزئي والفقه‬
‫الكلي‪ ،‬وفقه املقا�صد العامة وفقه مقا�صد املكلف‪ .‬هذا الربط بني الكلي‬
‫واجلزئي‪ ،‬والأ�صل الذي يحرك �أحد معانيه يف الو�صل وال�صلة و�ص ٌل بني‬
‫اجلزئي واندراجه يف الكلي‪ ،‬وو�صل بني الكلي والكلي‪ ،‬وو�صل بني اجلزئي‬
‫واجلزئي‪ ،‬وو�صل بني كل هذه ال�صنوف والأمناط والواقع املعي�شي يف �إطار‬
‫التهيئة واال�ستعداد لتحريك هذا الأم��ر �ضمن عمليات فقه الواقع وفقه‬
‫التنزيل يف م�سار ح�ضاري ممتد ينه�ض من خالل تفاعل الأفعال اجلزئية مبا‬
‫تقت�ضية من �أحكام جزئية فتكون فعال قابال للرتاكم من الناحية احل�ضارية‪،‬‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.16/1‬‬

‫‪124‬‬
‫قادرا على الت�أثري يف عملية النهو�ض احل�ضاري‪ .‬وامل�شاركة اجلماعية يف‬
‫البناء اال�ستخاليف الذي ُندب �إليه الإن�سان بتكليف ال�شرع(((‪.‬‬
‫وينبغي التنبيه على �أن التفعيل على ه��ذا ال��و��ص��ف‪ ،‬لي�س مبق�صور‬
‫على ال ُّنظار من الفقهاء املجتهدين‪ ،‬و�إمنا هو عا ّم يف امل�سلمني على قدر‬
‫طاقاتهم فيه؛ فكل م�سلم مطلوب منه �أن يكون ت�صرفه يف احلياة‪ ،‬تفك ًريا‬
‫نظر ًّيا و�سلو ًكا عمل ًّيا‪ ،‬مواف ًقا لأحكام ال�شريعة حمق ًقا ملقا�صدها التي يجب‬
‫�أن تكون حا�ضرة يف ذهنه عند ذلك الت�صرف ليكيفه بح�سبها يف حدود‬
‫اهتماما كب ًريا يف العقود الأخرية‪ ،‬حيث‬
‫ً‬ ‫قدرته‪� .‬صحيح �أن املقا�صد �شهدت‬
‫جرى الك�شف عن القواعد العلمية‪ ،‬والأ�س�س املعرفية التي ا�ستخدمها الرواد‬
‫الأوائ��ل يف علم املقا�صد‪ ،‬والتي �أنتجت هذه احل�صيلة العلمية التي نراها‬
‫يف ال�ساحة من االجتهادات الفذة؛ وهذا �أمر حممود‪ ،‬وهو يف نظري من‬
‫م�ستلزمات بزوغ املنهجية يف كل علم من العلوم‪ ،‬لكن ال يجب التوقف عند‬
‫هذه املرحلة‪ ،‬بل يجب تطوير و�إعادة التك�شيف لكل تلك القواعد بالفهم‪،‬‬
‫ثم التحليل‪ ،‬والتقومي‪ ،‬لي�أتي بعد ذلك الرتكيب و�إع��ادة الإخ��راج العلمي‪،‬‬
‫والتنزيل الفهمي‪.‬‬
‫ذلك �أن «الدرا�سة الأ�صولية منذ القرن ال�ساد�س مل تقدم جديدا با�ستثناء‬
‫ما قام به ال�شاطبي‪ .‬والدرا�سات املعا�صرة يف الأ�صول‪ ،‬على جدواها‪ ،‬قدمت‬
‫مادة ميكن توفرها يف الكتب القدمية‪ ،‬فهذه الدرا�سات �صياغة جديدة لآراء‬
‫غري جديدة‪ ،‬ومن ثم كان التفاوت بينها يف ال�شكل ال يف امل�ضمون‪ ،‬ويف التعبري‬
‫ال يف التفكري والكيف»(((‪.‬‬
‫ومن الأمثلة البارزة للداللة على الثبات على م�ستوى القواعد العلمية حيز‬
‫‪� -1‬سيف الدين عبد الفتاح‪ ،‬العملية االجتهادية و�أ�صول الفقه احل�ضاري‪� ،‬ضمن �أعمال ندوة «�أهمية‬
‫اعتبار ال�سياق يف املجاالت الت�شريعية و�صلته ب�سالمة العمل بالأحكام» �ص ‪ ،619‬بت�صرف‪.‬‬
‫‪ -2‬حممد الد�سوقي‪ ،‬نحو منهج جديد لدرا�سة علم الأ�صول‪ ،‬جملة �إ�سالمية املعرفة‪ ،‬العدد ‪ ،3‬يناير‬
‫‪� ،1996‬ص ‪.147‬‬

‫‪125‬‬
‫تطبيقها‪ ،‬قاعدة �أو منهج اال�ستقراء؛ «ف�إنه بقي تقريبا مب�ضمونه وتطبيقاته‬
‫ثابتا على ال�صورة التي �أبدعها ال�شاطبي‪ ،‬و�إذا كان الثبات على معامل‬
‫اال�ستقراء كما �أ�س�سها الإمام ال�شاطبي يبدو م�ست�ساغا �إلى حد ما ا�ستنادا‬
‫�إلى طبيعة التفكري العلمي للإمام ال�شاطبي‪ ،‬ف�إن جمال تطبيق اال�ستقراء‬
‫يجب �أن ي�أخذ نطاقا �أو�سع؛ لأن املنطق العلمي يقت�ضي �أن يتنا�سب هذا‬
‫املجال مع احلاجة الت�شريعية للأمة الإ�سالمية‪.(((»..‬‬
‫كما �أن حيز تطبيق اال�ستقراء مل يت�سع بالقدر الكايف على ما تركه‬
‫ال�شاطبي؛ ف ��إذا ك��ان «ال�شاطبي‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬ا�ستطاع با�ستقراء تعاليم‬
‫ال�شريعة يف املجاالت املتعددة �أن ينتهي �إلى حتديد املقا�صد بحماية الكليات‬
‫اخلم�س‪ ،‬وال�ضرورات اخلم�س‪ ،‬ف�إن ذلك ال يعدو �أن يكون اجتهادا‪ ..‬ويبقى‬
‫الباب مفتوحا ملزيد من االجتهاد واالكت�شاف لآفاق �أخرى يف املقا�صد يف‬
‫�ضوء التطورات االجتماعية‪ ،‬و�ضمور وغياب بع�ض املعاين التي تق�صد‬
‫ال�شريعة �إلى حتقيقها‪ ،‬حفظا مل�صالح العباد‪� ،‬أو على الأقل حماولة �إعادة‬
‫قراءة هذه املقا�صد يف �ضوء امل�صطلحات واملفهومات اجلديدة»(((‪.‬‬
‫لذلك ف�صياغة الأهداف اجلديدة للبحث املقا�صدي‪ ،‬والعمل على جتديد‬
‫م�صطلحاته‪ ،‬بت�سهيل نقلها �إلى ع�صرنا احلا�ضر‪ ،‬وحتكيمها يف ا�ستيعاب‬
‫�أهم ق�ضاياه وم�شاكله‪ ،‬وو�ضع احللول ال�شرعية ال�سليمة للم�شكالت والتطور‬
‫االجتماعي الكبري ال��ذي �شهدته الع�صور املت�أخرة مثل حقوق الإن�سان‪،‬‬
‫وق�ضايا �صراع احل�ضارات وحوار الثقافات‪ ،‬وحوار الأديان‪ ،‬وق�ضايا البيئة‪،‬‬
‫وق�ضايا الطفولة والتنمية الب�شرية‪ ،‬وما يتعلق بتدبري االختالف مبفهومه‬
‫الوا�سع‪ ،‬والتطلع للحاجة امل�ستقبلية للمجتمعات الإ�سالمية وغريها‪ ،‬انطالقا‬
‫من عاملية الر�سالة وخامتيتها‪ ،‬التي تفر�ض على حامليها امليل اخليرّ على‬
‫عباد اهلل امل�ست�ضعفني‪ ...‬كل ذلك يعد من �أولويات البحث يف هذا املجال‪،‬‬
‫التي وجب �أن يبذل فيها النفي�س والغايل من املاديات واملعنويات‪ ،‬وت�ستحق‬
‫‪ -1‬عبد القادر بن حرز اهلل‪� ،‬ضوابط اعتبار املقا�صد‪� ،‬ص ‪323‬ـ‪.324‬‬
‫‪ -2‬نور الدين اخلادمي‪ ،‬االجتهاد املقا�صدي ‪.26/1‬‬

‫‪126‬‬
‫�أن تثنى عليها الركب‪ ،‬وتقو�س الظهور حتى ن�صل فيه �إلى الثمرة املرجوة‪،‬‬
‫والغر�ض املق�صود‪ ،‬وهي �إخ��راج العباد من عبادة العباد �إل��ى عبادة رب‬
‫العباد‪ ،‬ومن �ضيق الدنيا �إلى �سعة الدنيا والآخرة‪.‬‬
‫ومما ي�شهد لهذا املعنى �أن وقائع التاريخ الإ�سالمي تو�ضح �أن مراحل‬
‫االزده ��ار احل���ض��اري ه��ي نف�سها امل��راح��ل التي من��ا فيها فقه املقا�صد‬
‫وازدهرت ثقافته على نطاق وا�سع يف �صفوف الأمة‪ ،‬و�أن مراحل التدهور‬
‫والرتاجع احل�ضاري �شهدت تراجعا لفقه املقا�صد و�ضمورا للثقافة العامة‬
‫املبنية على هذا الفقه‪ ،‬وجتلى هذا ب�شكل وا�ضح يف وجود فجوة بني الإميان‬
‫النظري وال�شعائري من جهة‪ ،‬واملمار�سة االجتماعية والت�صرفات ال�سلوكية‬
‫من جهة �أخرى‪.‬‬
‫وه��و ما يفهم منه �أن ثمة عالقة قوية بني ازده��ار فقه املقا�صد وبني‬
‫االزدهار احل�ضاري ب�شكل عام يف الأمة و�أن �ضمور املعرفة النظرية بهذا‬
‫الفقه م�ؤ�شر على تراجعه يف املمار�سة العملية‪ ،‬والعك�س �صحيح‪ ،‬ومن ثم‬
‫ف�إن الواقع الراهن بحاجة ما�سة �إلى �إحياء ثقافة املقا�صد والتنبيه على‬
‫م�صادرها‪ ،‬و�إعادة و�صلها بالواقع الذي نعي�شه‪ ،‬و�إذاعتها على �أو�سع نطاق‬
‫ممكن لتكون م�صدرا من م�صادر تكوين الوعي احل�ضاري ب�شكل �إيجابي يف‬
‫جمتمعاتنا(((‪.‬‬
‫وعليه فا�ستدعاء ال�ضوابط واملعايري يف التوجه املقا�صدي ميكن �أن‬
‫ي�ساهم يف �إحداث نقلة منهجية‪ ،‬يتم من خاللها التحول من مرحلة الت�أ�صيل‬
‫والرتكيز على �أهمية املقا�صد ودورها يف االجتهاد �إلى مرحلة بناء وتكوين‬
‫�ضوابط القبول والرف�ض لأي ت�أويل �أو جهد يروم ا�ستح�ضار النهج املقا�صدي‪،‬‬
‫يف ا�ستح�ضار علمي وفهمي وتنزيلي للمبادئ العامة والغايات الكربى التي‬
‫جاءت الر�سالة اخلامتة لتحقيقها‪.‬‬

‫‪� -1‬إب��راه �ي��م ب�ي��وم��ي غ ��امن‪ ،‬ث�ق��اف��ة امل�ق��ا��ص��د م��دخ��ل ل�ل�ازده��ار احل �� �ض��اري‪ ،‬ج��ري��دة الأه���رام‬
‫‪.2008/11/17‬‬

‫‪127‬‬
‫املبحث الثاين‪� :‬أثر معرفة مقا�صد ال�شريعة يف وحدة الأمة‬
‫والتقريب بني مذاهب �أهل القبلة‬
‫حدد ابن خلدون يف مقدمة تاريخه �شروط وح��دة امل�سلمني ونه�ضتهم‬
‫حتديدا �سلبيا من خالل ق��راءة التاريخ وحماولة �صياغة قوانينه العلمية‬
‫ا�ستقراء للتجربة الإ�سالمية‪ .‬ثم عاد وحددها حتديدا �إيجابيا من خالل ن�سق‬
‫من النظريات العلمية يع�ضدها التعريف القر�آين ل�سنن التاريخ واحل�ضارة‪.‬‬
‫لذلك فال يكاد ف�صل من ف�صول املقدمة يخلو من الإر�شاد �إلى التوازي بني‬
‫ما ي�سميه بقوانني العمران بح�سب �سنن الوجود وقوانينه بح�سب �سنن ال�شرع‬
‫يف كل ما له �صلة مب�صائر احل�ضارات والأمم(((‪.‬‬
‫ولئن اتخذ عبد الرحمن بن خلدون ق��راءة التاريخ وقوانني العمران‬
‫مدخال منهجيا نظر بوا�سطته �إلى حال الأمة امل�سلمة يف ع�صره‪ ،‬وحاول‬
‫�أن ي�ست�شرف بذلك م�صائر احل�ضارات والأمم‪ ،‬وقد �أبدع و�أقنع‪ .‬ف�إن‬
‫�أبا �إ�سحاق ال�شاطبي‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬اتخذ من �س�ؤال املقا�صد كما اهتدى �إليه‪،‬‬
‫وكما حرره يف موافقاته واعت�صامه‪ ،‬مدخال علميا وعمليا حاول من خالله‬
‫التوفيق والتقريب بني مذاهب �أهل القبلة‪ ،‬وقد �أ�شبع و�أقنع هو كذلك‪.‬‬
‫ففي عالجه‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬مل�س�ألة اخلالف الواقع بني حملة ال�شريعة‬
‫يف الآراء والأحكام‪� ،‬أورد �أ�سبابا ثمانية((( مقتب�سة من ابن ال�سيد ال َب َط ْل ُيو�سي‬
‫(ت‪521:‬ه �ـ)‪ ،‬منها‪ :‬اال�شرتاك الواقع يف الألفاظ‪ ،‬واحتمالها للت�أويالت‪،‬‬
‫ودوران اللفظ بني احلقيقة واملجاز‪ ،‬ودوران الدليل بني العموم واخل�صو�ص‪،‬‬
‫واختالف الرواية‪ ،‬ودعوى الن�سخ وعدمه‪.‬‬

‫‪� -1‬أبو يعرب املرزوقي‪� ،‬شروط وحدة امل�سلمني و�شروط نه�ضتهم ال�ستئناف دورهم الكوين‪� ،‬ضمن‬
‫كتاب الإ�سالم يف عامل متغري‪� ،‬ص ‪ ،134‬وانظر عبد الرحمن بن خلدون‪ ،‬املقدمة‪ ،‬الباب الثالث‪،‬‬
‫الف�صل ‪� ،26‬ص ‪.374‬‬
‫‪ -2‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.153/4‬‬

‫‪128‬‬
‫وي�ؤكد �أي�ضا �أن «نقل اخلالف يف م�س�ألة ال خالف فيها خط�أ‪ ،‬كما �أن نقل‬
‫الوفاق يف مو�ضع اخلالف ال ي�صح»(((‪ ،‬ولهذا يورد �أ�سبابا ع�شرة‪ ،‬يجعلها من‬
‫الأ�سباب التي �أوهمت باالختالف‪ ،‬وهي لي�ست من م�سبباته‪ ،‬هي‪:‬‬
‫‪1‬ـ �أن يذكر يف التف�سري عن النبي [ �أ�شياء متعددة‪� ،‬أو عن �أح��د من‬
‫�أ�صحابه‪� ،‬أو غريهم‪ ،‬ويكون ذلك املنقول بع�ض ما ي�شمله اللفظ‪ ،‬ثم يذكر‬
‫غري ذلك القائل �أ�شياء �أخر مما ي�شمله اللفظ‪ ،‬فين�صهما املف�سرون على‬
‫ن�صهما على �أنه خالف؛ ومن ذلك ما ذكر يف �شرح كلمة «املن» من معان‪،‬‬
‫وجميعها تتفق على �أنها نعمة من اهلل‪.! ‬‬
‫‪2‬ـ �أن يذكر يف النقل �أ�شياء تتفق يف املعنى‪ ،‬بحيث ترجع �إلى معنى واحد‪،‬‬
‫فيكون التف�سري فيها على قول واحد‪ ،‬ويوهم نقلها على اختالف اللفظ �أنه‬
‫خالف حمقق‪ ،‬مثلما قيل يف «ال�سلوى»‪ ،‬وتلتقي جميعها على �أنها طائر‪� ،‬سواء‬
‫اختلف �شكله‪� ،‬أم حجمه‪� ،‬أم لونه‪.‬‬
‫‪3‬ـ �أن يذكر �أحد الأق��وال على تف�سري اللغة‪ ،‬ويذكر الآخ��ر على التف�سري‬
‫املعنوي‪ ،‬وفرق بني تقرير الإعراب وتف�سري املعنى‪ ،‬وهما معا يرجعان �إلى‬
‫حكم واحد؛ لأن النظر اللغوي راجع �إلى تقرير �أ�صل الو�ضع‪ ،‬والآخر راجع‬
‫�إلى تقرير املعنى يف اال�ستعمال‪ ،‬مثلما قيل يف قوله تعالى‪ } :‬ﮰﮱ‬
‫ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ{‬
‫(الرعد‪ ،)32 :‬فقيل داهية تفج�ؤهم‪ ،‬وقيل �سارية من �سرايا ر�سول اهلل [‪،‬‬
‫وهما يتفقان يف الفاجعة‪.‬‬
‫‪4‬ـ �أن ال يتوارد اخلالف على حمل واح��د‪ ،‬كاختالفهم يف �أن املفهوم له‬
‫عموم �أو ال؟‬
‫‪5‬ـ يخت�ص بخرب الآح��اد يف خا�صة �أنف�سهم‪ ،‬كاختالف الأق��وال بالن�سبة‬
‫للإمام الواحد‪ ،‬بناء على تغري االجتهاد والرجوع عما �أفتى به �إلى خالفه‪،‬‬
‫‪ -1‬امل�صدر ال�سابق ‪.155/4‬‬

‫‪129‬‬
‫فمثل هذا ال ي�صح �أن يعتد به خالفا يف امل�س�ألة‪ ،‬لأن رجوع الإمام عن القول‬
‫الأول �إلى القول الثاين اطراح منه للأول ون�سخ له بالثاين‪ .‬ويف هذا من بع�ض‬
‫املت�أخرين تنازع‪ ،‬واحلق فيه ما ذكر �أوال‪ .‬وال ينبغي �أن يذكر مثل هذا يف‬
‫م�سائل اخلالف‪.‬‬
‫‪6‬ـ �أن يقع االختالف يف العمل ال يف احلكم‪ ،‬كاختالف القراء يف وجوه‬
‫ال�ق��راءات‪ ،‬ف�إمنا وقع اخل�لاف بينهم يف االختيارات‪ ،‬ولي�س يف احلقيقة‬
‫باختالف‪ ،‬ف�إن املرويات على ال�صحة منها ال يختلفون فيها‪.‬‬
‫‪7‬ـ �أن يقع تف�سري الآي��ة �أو احلديث من املف�سر ال��واح��د على �أوج��ه من‬
‫االحتماالت‪ ،‬ويبني على كل احتمال ما يليق به من غري �أن يذكر خالفا يف‬
‫الرتجيح‪ ،‬بل على تو�سيع املعاين خا�صة‪ .‬فهذا لي�س مب�ستقر خالفا‪.‬‬
‫‪8‬ـ �أن يقع اخلالف يف تنزيل املعنى الواحد‪ ،‬فيحمله قوم على املجاز مثال‪،‬‬
‫وقوم على احلقيقة‪ ،‬واملطلوب �أمر واحد‪ ،‬كما يقع لأرباب التف�سري كثريا‪.‬‬
‫‪9‬ـ �أن يقع اخلالف يف الت�أويل‪ ،‬و�صرف الظاهر عن مقت�ضاه �إلى ما دل‬
‫عليه الدليل اخلارجي‪ ،‬ف�إن مق�صود كل مت�أول ال�صرف عن ظاهر‬
‫اللفظ �إ ل��ى وجه يتالقى مع الدليل املوجب للت�أويل‪ ،‬وجميع الت�أويالت يف‬
‫ذلك �سواء‪ ،‬فال خالف يف املعنى امل��راد‪ ،‬وكثريا ما يقع هذا يف الظواهر‬
‫املوهمة للت�شبيه‪.‬‬
‫‪10‬ـ اخل�لاف يف جم��رد التعبري عن املعنى املق�صود‪ ،‬وه��و متحد‪ ،‬كما‬
‫اختلفوا يف اخلرب هل هو منق�سم �إلى �صدق وكذب خا�صة‪� ،‬أم َثم ق�سم ثالث‬
‫لي�س ب�صدق وال كذب؟ فهذا خالف يف العبارة‪ ،‬واملعنى متفق عليه‪.‬‬
‫تلك ع�شرة �أ�سباب كاملة يرى ال�شاطبي �أنها من موجبات عدم االعتداد‬
‫باخلالف‪ ،‬ثم �أوجب «�أن تكون على بال من املجتهد‪ ،‬ليقي�س عليها ما �سواها‪،‬‬
‫فال يت�ساهل في�ؤدي ذلك �إلى خمالفة الإجماع»(((‪.‬‬
‫وبناء عليه‪ ،‬يظهر �أن معرفة �أ�سباب االختالف‪ ،‬وما يعتد به منها‪،‬‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.159/4‬‬

‫‪130‬‬
‫وما ال يعتد به‪ ،‬مما ي�ساعد الدار�س على تبني �أدلة كل فريق‪ ،‬والوقوف على‬
‫احلق منها‪ ،‬ولعل �شدة الوعي بهذا وما يف معناه هو الذي «جعل ال�شاطبي‬
‫حري�صا منذ البداية على �أن يقدم املوافقات م�شروعا �إنقاذيا للتوفيق بعد‬
‫االختالف‪ ،‬وللتوحيد بعد الت�شتت‪ ،‬وعمال يبغي به درجة القطع‪ ،‬وي�ستبدل‬
‫الظن باليقني»(((‪.‬‬
‫وبيان ذلك «�أن ال�شريعة راجعة �إلى قول واحد‪ ..‬واالختالف يف م�سائلها‬
‫راجع �إلى دورانها بني طرفني وا�ضحني‪ ..‬يتعار�ضان يف �أنظار املجتهدين‪،‬‬
‫و�إل��ى خفاء بع�ض الأدل��ة وع��دم االط�لاع عليه‪� .‬أم��ا ه��ذا الثاين فلي�س يف‬
‫احلقيقة خالفا‪� ،‬إذ لو فر�ضنا اطالع املجتهد على ما خفي عليه لرجع عن‬
‫قوله»(((؛ كما وقع مع الإمام مالك وغريه من املجتهدين؛ فكل جمتهد منهم‬
‫لقي جمتهدا �آخر واطلع على �أدلة مل تكن عنده رجع عن ر�أي��ه‪ ،‬ويف ق�صة‬
‫الإمام �أبي يو�سف �صاحب �أبي حنيفة مع الإمام مالك يف املد وال�صاع‪ ،‬خري‬
‫مثال‪ ،‬حيث رجع �أبو يو�سف ملا الح له وجه ال�صواب‪.‬‬
‫ومن هنا ير�شدنا ال�شاطبي �إلى �ضرورة «املواالة والتحاب والتعاطف بني‬
‫املختلفني يف م�سائل االجتهاد‪ ،‬حتى ال ي�صريوا �شيعا وال يتفرقوا فرقا؛ لأنهم‬
‫جمتمعون على طلب ق�صد ال�شارع‪ ،(((»...‬ويعلل اختياره ب�أنهم «متفقون يف‬
‫�أ�صل التوجه هلل املعبود و�إن اختلفوا يف �أ�صناف التوجه»(((‪.‬‬
‫وملا كان ق�صد املجتهدين �إ�صابة مق�صد ال�شارع‪� ،‬صارت كلمتهم واحدة‬
‫وقولهم واح��د ًا‪ ،‬ولأج��ل ذلك «ال ي�صح لهم وال ملن قلدهم التعبد بالأقوال‬
‫املختلفة‪ ...‬لأن التعبد بها راج��ع �إل��ى اتباع الهوى‪ ،‬ال �إل��ى حتري مق�صد‬
‫ال�شارع‪ ،‬والأقوال لي�ست مق�صودة لأنف�سها بل ليتعرف منها املق�صد املتحد‪،‬‬

‫‪ -1‬عبد املجيد ال�صغري‪ ،‬الفكر الأ�صويل و�إ�شكالية ال�سلطة يف الإيالم �ص ‪.490‬‬


‫‪ -2‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪159/4‬ـ ‪.160‬‬
‫‪ -3‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪.160 /4‬‬
‫‪ -4‬امل�صدر ال�سابق ‪.160/4‬‬

‫‪131‬‬
‫فال بد �أن يكون التعبد متحد الوجهة و�إال مل ي�صح»(((‪.‬‬
‫�إن ا�ستح�ضار �أ�صالة التعبد من طرف ال�شاطبي فيما ات�سمت به �أحكام‬
‫ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬ومراعاته يف عملية �ضبط التوجه املقا�صدي يعد التفاتة‬
‫نبيه و�إ�شارة لبيب �إلى حمورية هذا املدخل الرباين يف التقليل من االختالف‬
‫بني املت�صدرين لالجتهاد داخل املذهب الواحد‪� ،‬أو داخل الإطار املذهبي‬
‫للفكر الإ�سالمي على مر التاريخ‪.‬‬
‫ويف هذا ال�سياق وحتت هذا املفهوم الرباين‪ ،‬يجب بناء العقل املقا�صدي‬
‫اجلماعي الذي ي�شرتك فيه كل م�سلم قادر على العطاء ليكون منا�سب ًا‬
‫لو�ضع ال�شريعة‪ ،‬وبذلك تتفتح العقول وتذوب اخلالفات وتتقارب وجهات‬
‫النظر‪ ،‬وتندحر البدع والأخ�ط��اء‪ ،‬وت�صحو الأم��ة من �سباتها العميق‪،‬‬
‫ويتقهقر التقليد الأعمى‪ ،‬ونتعامل مع املتغريات وامل�ستحدثات ب�أ�ساليب‬
‫جديدة قائمة على التفكري واال�ستنتاج والربهان وحتقيق املقا�صد والغايات‬
‫ال�سامية حتى ن�ستنبط الأحكام املنا�سبة لكل جديد حلل م�شكالت هذا‬
‫املجتمع املعا�صر وق�ضاياه‪.‬‬
‫وه��ذا ما �أك��ده ال�شاطبي ب�أ�سلوب رائ��ع عندما اعترب �أن «‪...‬انحراف‬
‫اخلوارج بفرقها وطوائفها و�ضالل املبتدعة ب�صنوفها نابع من وقوفهم‬
‫عند اتباع ظواهر القر�آن على غري تدبر وال نظر يف مقا�صده ومعاقده‪...‬‬
‫فمدار الغلط‪� ...‬إمن��ا هو على حرف واح��د هو اجلهل مبقا�صد ال�شرع‪،‬‬
‫وعدم �ضم �أطرافه بع�ضها لبع�ض‪ .‬ف�إن م�آخذ الأدلة عند الأئمة الرا�سخني‬
‫�إمنا هو �أن ت�ؤخذ ال�شريعة كال�صورة الواحدة بح�سب ما ثبت من كلياتها‪،‬‬
‫وجزئياتها املرتبة عليها‪ ...‬ف�ش�أن الرا�سخني ت�صور ال�شريعة �صورة واحدة‬
‫يخدم بع�ضها بع�ضا ك�أع�ضاء الإن�سان �إذا �صورت �صورة مثمرة‪ ...‬و�ش�أن‬
‫متبعي املت�شابهات �أخذ دليل ما‪ ،‬عفوا و�أخذا �أوليا‪ ،‬و�إن كان ثم ما يعار�ضه‬

‫‪ -1‬امل�صدر ال�سابق ‪160/4‬ـ‪.161‬‬

‫‪132‬‬
‫من كلي �أو جزئي‪ ،‬فكان الع�ضو الواحد ال يعطي يف مفهوم �أحكام ال�شريعة‬
‫حكما حقيقيا‪.(((»...‬‬
‫وقد خل�ص ال�شاطبي �إلى و�ضع قاعدة ح�سنة يف هذا املعنى‪ ،‬يقول فيها‪:‬‬
‫«كل م�س�ألة حدثت يف الإ�سالم فاختلف النا�س فيها ومل يورث ذلك االختالف‬
‫بينهم عداوة وال بغ�ضاء‪ ،‬وال فرقة علمنا �أنها من م�سائل الإ�سالم‪ .‬وكل م�س�ألة‬
‫طر�أت ف�أوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا �أنها لي�ست من‬
‫�أمر الدين يف �شيء‪ ...‬وهو ظاهر يف �أن الإ�سالم يدعو �إلى الألفة والتحاب‬
‫والرتاحم والتعاطف؛ فكل ر�أي �أدى �إلى خالف ذلك فخارج عن الدين»(((‪.‬‬
‫من هذا املنطلق‪ ،‬كان ال بد من البحث يف علم مقا�صد ال�شريعة‪ ،‬ومعرفة‬
‫�أدلته واال�ستفادة منه لبناء الأحكام على �ضوئه دون �إفراط وال تفريط‪،‬‬
‫مطردة ومو�صلة‬ ‫بل لقد جعل اهلل ال�سنن والأ�سباب والنوامي�س والقوانني ّ‬
‫�إلى حتقيق املقا�صد والنتائج‪ ،‬وطلب من العقل امل�سلم ا�ستيعاب هذه ال�سنن‬
‫والأ�سباب بعد �أن �شرعها له وخاطبه بها‪ ،‬وجعل التعامل معها هو غاية‬
‫التكليف‪ ،‬ودلل على فعاليتها بالعربة التاريخية‪ ،‬واحلجة املنطقية‪ ،‬والربهان‬
‫املح�سو�س‪ ،‬وناط النجاح يف الدنيا والفوز يف الآخرة بالقدرة على ا�ستيعاب‬
‫هذه الأ�سباب وح�سن ت�سخريها والتعامل معها‪ ،‬وعدم الركون واال�ست�سالم‬
‫أحب �إلى اهلل‪ ،‬وبذلك يرب�أ امل�سلم من علل التدين‬
‫بقد ٍر � ُّ‬
‫قدر َ‬‫للقدر بل مدافع ُة َ‬
‫التي حلقت بالأمم ال�سابقة‪.‬‬
‫وبناء عليه؛ فاحلر�ص على ا�ستق�صاء عملية �ضبط التوجه واالجتهاد‬
‫املقا�صدي‪� ،‬أمر ي�صل حد ال�ضرورة‪ .‬فالأ�صل �أن ترتبط الأ�سباب مب�سبباتها‪،‬‬
‫واملقدمات بنتائجها‪ .‬والعجز عن توقع النتائج البعيدة من جراء التوغل‬
‫والإف��راط يف التوجه املقا�صدي على غري �ضابط �أو رابط‪ ،‬ميكن �أن ي�سوق‬
‫�إلى تق�صري �أو خلل كبري ي�صل حد منازلة املقا�صد الأ�سا�سية ذاتها بنا ًء على‬
‫فهم خم ّل �أو ت�أويل فو�ضوي قا�صر‪.‬‬
‫‪ -1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات ‪174/4‬‬
‫‪ -2‬امل�صدر ال�سابق ‪134/4‬ـ‪.135‬‬

‫‪133‬‬
‫خامتة‬
‫كان الق�صد من خالل هذه الرحلة �إعطاء �سمة واقعية ومنوذجية ووظيفية‬
‫يف �آن حول �أثر مقا�صد ال�شريعة يف املنهج الأ�صويل‪ ،‬ب�شكل يبو�ؤها املكان‬
‫الأليق يف جماالت االجتهاد الفقهي مبختلف م�ستوياته‪.‬‬
‫ولئن غدا احلديث عن مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية اليوم معهودا وحممودا‬
‫يف حمافلنا البحثية‪ ،‬ف�إننا ال ن��زال يف �شديد احلاجة �إل��ى خطو خطوات‬
‫مقدورة لرفع و�ضبط �صرح الك�شف عن هذه املقا�صد ال�شرعية يف خمتلف‬
‫مناحي الك�سب الإن�ساين �إفرادا واجتماعا؛ وم ّد اجل�سور املنهجية �إلى جمال‬
‫�آخر مت�س احلاجة فيه �إلى هذا الوعي املقا�صدي املنهاجي‪� ،‬أق�صد تدبري‬
‫االختالف‪ ،‬والذي ال تخفى فيه النطاقات العديدة التي �سوف تتم بلورتها‬
‫وظيفيا با�ستح�ضار البحث املقا�صدي فيها و�إدماجه �أثناء معاجلتها‪.‬‬
‫من جهة ثانية‪ ,‬ف�إن الفكر الإ�سالمي املعا�صر قد �أ�صبح عر�ضة ـ �أكرث من‬
‫�أي وقت م�ضى ـ لت�أثريات قوية نافذة من الفكر الغربي احلديث‪ ،‬مما يو�سع‬
‫من احتماالت االختالف والتباعد‪ ،‬لي�س بني رواده ومدار�سه فح�سب‪ ،‬ولكن‬
‫التباعد حتى عن بع�ض �ضوابط الإ�سالم ومقت�ضياته وعن �صبغته وطبيعته‪.‬‬
‫ومقا�صد ال�شريعة مبا تت�ضمنه وتربزه من كليات وثوابت‪ ،‬ومن �شمولية‬
‫وتنا�سق يف النظر �إلى الأمور‪ ،‬ومبا تت�ضمنه من مراتب و�أولويات هي خري‬
‫م�ؤ�س�س وموجه وموحد للفكر الإ�سالمي يف خمتلف الق�ضايا التي يواجهها‬
‫ويعاجلها اليوم‪� ،‬سواء منها العقدية‪� ،‬أو االجتماعية‪� ،‬أو االقت�صادية‪،‬‬
‫�أو الرتبوية‪� ،‬أو ال�سيا�سية‪ ...‬وال نبالغ �إذا قلنا �إن «الفكر ا لإ�سالمي»‬
‫ال يكون جديرا بهذه ال�صفة �إال بقدر ما يتمثل مقا�صد ال�شريعة وي�صطبغ‬
‫بها‪ ،‬ويرتجمها �إلى �إجابات وحلول لق�ضايا الع�صر و�إ�شكاالته وحتدياته يف‬
‫العديد من الق�ضايا ويف مقدمتها ق�ضايا حقوق الإن�سان‪ ،‬وحقوق الطفل‪،‬‬
‫وم�شاكل البيئة‪ ،‬والتلوث النووي‪ ،‬والتنمية االجتماعية‪ ،‬وغريها‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫وال يخفى �أن القول يف مقا�صد ال�شريعة وحتديدها وتعيينها وترتيبها‬
‫حينما ي�صبح عمال علميا دقيقا وم�ضبوطا له �أ�صوله وم�سالكه وقواعده‪ ،‬ف�إن‬
‫ذلك ميكن الدار�سني من التقدم بثبات وثقة يف طريق الك�شف عن مقا�صد‬
‫الأحكام‪� ،‬إمتاما ورمبا ت�صحيحا ـ ملا قام به �أ�سالفنا من فقهاء‪ ،‬وغريهم‪،‬‬
‫على مر الع�صور‪.‬‬
‫واهلل من وراء الق�صد‪ ،‬وهو يهدي �إلى �سواء ال�سبيل‪...‬‬

‫‪135‬‬
‫الئحة امل�صادر واملراجع‬
‫* ال�سنة وعلومها‪:‬‬
‫‪�-‬سنن �أبي داود‪ ،‬للإمام �أبي داود �سليمان بن الأ�شعت ال�سج�ستاين الأزدي‬
‫(ت‪275‬هـ)‪ ،‬مطبعة املكتبة التجارية الكربى‪( ،‬بال تاريخ)‪.‬‬
‫‪�-‬سنن اب���ن م��اج��ة ‪ ،‬ل�ل�إم��ام �أب��ي عبد اهلل حممد ب��ن يزيد ب��ن ماجة‬
‫(ت‪273‬هـ)‪ ،‬حتقيق حممد ف�ؤاد عبد الباقي‪ ،‬ن�شر مطبعة عي�سى احللبي‪،‬‬
‫(بال تاريخ)‪.‬‬
‫‪�-‬سنن الن�سائي‪ ،‬لأبي عبد الرحمان الن�سائي (ت ‪303‬هـ)‪ ،‬حتقيق ال�شيخ‬
‫عبد الفتاح �أبي غدة‪ ،‬طبعة مكتب املطبوعات الإ�سالمية‪ ،‬حلب‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية‪1406 ،‬هـ‪1986/‬م‪.‬‬
‫‪�-‬صحيح البخاري‪ ،‬للإمام �أبي عبد اهلل حممد بن �إ�سماعيل البخاري‬
‫حتقيق قا�سم ال�شماعي الرفاعي‪ ،‬دار القلم الطبعة الأولى ‪1407‬هـ‪.‬‬
‫‪�-‬صحيح م�سلم‪ ،‬ل�ل�إم��ام �أب��ي احل�سني م�سلم ب��ن احل�ج��اج الق�شريي‬
‫الني�سابوري(ت ‪261‬هـ)‪ ،‬حقق ن�صو�صه و�صححه ورقمه وع ّد كتبه و�أبوابه‬
‫و�أحاديثه‪ ،‬وعلق عليه حممد ف ��ؤاد عبد الباقي‪ ،‬دار احلديث بالقاهرة‪،‬‬
‫الطبعة الأولى ‪1412‬هـ‪1991/‬م‪.‬‬
‫‪-‬املوط�أ‪ ،‬للإمام مالك بن �أن�س (ت‪179‬هـ)‪ ،‬حتقيق وتخريج حممد ف�ؤاد‬
‫عبد الباقي‪ ،‬طبعة عي�سى احللبي‪1370 ،‬هـ‪1951/‬م‪.‬‬

‫* الفقه و�أ�صوله‪ ،‬ومقا�صد ال�شريعة‬


‫‪�-‬أبحاث ح��ول تطور �أ�صول الفقه‪ ،‬للدكتور م�صطفى اخلن‪ ،‬طبع دار‬
‫الكلم الطيب‪ ،‬الطبعة الأولى ‪2000‬م‪.‬‬
‫‪-‬الإبهاج يف �شرح املنهاج‪ ،‬ت�أليف تقي الدين علي بن عبد الكايف ال�سبكي‬

‫‪136‬‬
‫(ت ‪756‬هـ) وولده تاج الدين عبد الوهاب بن علي ال�سبكي (ت ‪771‬هـ)‪،‬‬
‫طبع دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1404‬هـ‪1984/‬م‪.‬‬
‫‪�-‬أثر االختالف يف القواع ّد الأ�صولية يف اختالف الفقهاء‪ ،‬ت�أليف الدكتور‬
‫م�صطفى اخلن‪ ،‬طبع م�ؤ�س�سة الر�سالة‪ ،‬الطبعة الثانية ‪1424‬هـ‪2003/‬م‪.‬‬
‫‪-‬االجتهاد املقا�صدي‪ ،‬حجيته‪ ،‬و�ضوابطه‪ ،‬وجماالته‪ ،‬ت�أليف نور الدين‬
‫بن خمتار اخلادمي‪ ،‬كتاب الأمة ع ّدد ‪ ،66‬قطر‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1998‬م‪.‬‬
‫‪-‬الإحكام يف �أ�صول الأحكام‪ ،‬للإمام �سيف الدين �أبي احل�سن علي بن‬
‫حممد الآم��دي (ت‪631‬ه��ـ)‪ ،‬قابلها على مطبوعة املعارف امل�صرية‪ ،‬دار‬
‫الكتب اخلديوية ورقمها حممد �أحمد الأمد‪ ،‬ن�شر دار �إحياء الرتاث العربي‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1423‬هـ‪2002/‬م‪.‬‬
‫‪�-‬أدوات النظر االجتهادي املن�شود يف �ضوء الواقع املعا�صر‪ ،‬ت�أليف الدكتور‬
‫قطب م�صطفى �سانو‪ ،‬ن�شر دار الفكر‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1421‬هـ‪2000/‬م‪.‬‬
‫‪�-‬إر���ش��اد الفحول �إىل حتقيق احل��ق م��ن علم الأ���ص��ول‪ ،‬ت�أليف الإمام‬
‫حممد بن علي ال�شوكاين (ت ‪1250‬هـ)‪ ،‬مطبعة م�صطفى احللبي‪ ،‬الطبعة‬
‫‪1356‬هـ‪.‬‬
‫‪�-‬أ�صول الت�شريع الإ�سالمي‪ ،‬ت�أليف الأ�ستاذ علي ح�سب اهلل‪ ،‬دار املعارف‬
‫مب�صر‪ ،‬الطبعة اخلام�سة ‪1396‬هـ‪1976/‬م‪.‬‬
‫‪�-‬أ���ص��ول ال�سرخ�سي‪ ،‬ل�ل�إم��ام �أب��ي بكر حممد بن �أحمد بن �أب��ي �سهل‬
‫ال�سرخ�سي(ت‪490‬هـ) حققه �أبو الوفاء الأفغاين‪ ،‬عنيت بن�شره جلنة �إعياء‬
‫املعارف النعمانية بحيدر �آباد الدكن بالهند‪ ،‬بال تاريخ‪.‬‬
‫‪�-‬أ�صول الفقه‪ ،‬ت�أليف ال�شيخ حممد �أبي زهرة‪ ،‬ن�شر دار الفكر العربي‪،‬‬
‫(بال تاريخ)‪.‬‬
‫‪�-‬أ�صول الفقه‪ ،‬ت�أليف م�صطفى �شلبي‪ ،‬طبع دار النه�ضة العربية‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫الطبعة الثانية ‪1978‬م‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫‪�-‬أ�صول الفقه الإ�سالمي منهج بحث ومعرفة‪ ،‬ت�أليف الدكتور طه جابر‬
‫العلواين‪ ،‬ن�شر العهد العاملي للفكر الإ�سالمي هريندن‪ ،‬فريجينيا‪ ،‬الواليات‬
‫املتحدة‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1408‬هـ‪1988/‬م‪.‬‬
‫‪-‬االعت�صام‪ ،‬للإمام �أبي �إ�سحاق �إبراهيم بن مو�سى ال�شاطبي (‪790‬هـ)‪،‬‬
‫مطبعة املنار مب�صر‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1331‬ه�ـ‪1913/‬م‪ ،‬وفيه مقدمة لل�شيخ‬
‫حممد ر�شيد ر�ضا‪.‬‬
‫‪-‬االعت�صام‪ ،‬لأبي �إ�سحاق �إبراهيم بن مو�سى ال�شاطبي (‪790‬هـ)‪( ،‬وهو‬
‫املعتمد يف هذا البحث)‪ ،‬حتقيق �سيد �إبراهيم‪ ،‬طبع دار احلديث القاهرة‪،‬‬
‫الطبعة الأولى ‪1421‬هـ‪2000/‬م‪.‬‬
‫‪-‬االعت�صام بال�شريعة‪ ،‬ت�أليف ال�شيخ طارق ال�شاخمي‪ ،‬ن�شر املركز العربي‬
‫للبحوث والرتجمة‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1421‬هـ‪2000/‬م‪.‬‬
‫‪�-‬إعالم املوقعني عن رب العاملني‪ ،‬للإمام �شم�س الدين حممد بن �أبي بكر‬
‫امل�شهور بابن القيم (ت ‪751‬هـ)‪ ،‬حتقيق ع�صام الدين ال�صبابطي‪ ،‬ن�شر دار‬
‫احلديث بالقاهرة‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1414‬هـ‪1993/‬م‪.‬‬
‫‪-‬الإن�صاف يف بيان �أ�سباب االختالف يف الأحكام الفقهية‪ ،‬ت�أليف �أحمد‬
‫بن عبد الرحيم امل�شهور ب�شاه ويل اهلل الدهلوي‪ ،‬طبع املطبعة ال�سلفية‪،‬‬
‫القاهرة‪1385 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬البحر املحيط يف �أ���ص��ول الفقه‪ ،‬للإمام بدر الدين حممد بن بهادر‬
‫بن عبد اهلل الزرك�شي (ت‪794‬هـ)‪� ،‬ضبط وتخريج وتعليق‪ :‬الدكتور حممد‬
‫حممد تامر‪ ،‬طبع دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1421‬هـ‪2000/‬م‪.‬‬
‫‪-‬بداية املجتهد ونهاية املقت�صد‪ ،‬للإمام �أبي الوليد حممد بن �أحمد ابن‬
‫ر�شد (ت ‪595‬هـ)‪ ،‬حتقيق ال�شيخ علي حممد معو�ض‪ ،‬وال�شيخ عادل �أحمد‬
‫عبد املوجود‪ ،‬ن�شر دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1422‬هـ‪2002/‬م‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫‪-‬البدعة وامل�صالح املر�سلة‪ ،‬بيانها‪ ،‬ت�أ�صيلها‪� ،‬أقوال العلماء فيها‪ ،‬ت�أليف‬
‫الدكتور توفيق يو�سف الواعي‪ ،‬ن�شر مكتبة دار ال�تراث‪ ،‬الكويت‪ ،‬الطبعة‬
‫الأولى ‪1404‬هـ‪1984/‬م‪.‬‬
‫‪-‬الربهان يف �أ�صول الفقه‪ ،‬لأبي املعايل عبد امللك بن عبد اهلل اجلويني‬
‫(ت ‪478‬هـ)‪ ،‬طبع دار الوفاء‪ ،‬املن�صورة‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪1992‬م‪.‬‬
‫‪-‬التجديد واملجددون يف �أ�صول الفقه‪ ،‬ت�أليف �أبي الف�ضل عبد ال�سالم‬
‫بن حممد بن عبد الكرمي‪ ،‬ن�شر املكتبة الإ�سالمية‪ ،‬الطبعة الأولى ‪.2001‬‬
‫‪-‬الثابت واملتغري يف فكر الإم��ام �أب��ي �إ�سحاق ال�شاطبي‪ ،‬ت�أليف جمدي‬
‫حممد حممد عا�شور‪ ،‬ن�شر دار البحوث للدرا�سات الإ�سالمية و�إحياء الرتاث‪،‬‬
‫الطبعة الأولى‪1423 ،‬هـ‪2002/‬م‪.‬‬
‫‪-‬اخلطاب ال�شرعي وط��رق ا�ستثماره‪ ،‬ت�أليف الدكتور �إدري�س حمادي‪،‬‬
‫ن�شر املركز الثقايف العربي‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1994‬م‪.‬‬
‫‪-‬درا�سات يف االجتهاد وفهم الن�ص‪ ،‬ت�أليف الدكتور حممد ال�سو�سوه‪ ،‬ن�شر‬
‫دار الب�شائر الإ�سالمية‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1424‬هـ‪2003/‬م‪.‬‬
‫‪-‬درا�سات يف �أ�صول الفقه الإ�سالمي‪ ،‬ت�أليف با بكر احل�سن‪ ،‬ن�شر مكتبة‬
‫الزهراء‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1422‬هـ‪2001/‬م‪.‬‬
‫‪-‬درا�سة تاريخية للفقه و�أ�صوله واالجتاهات التي ظهرت فيه‪ ،‬ت�أليف‬
‫م�صطفى �سعيد اخلن‪ ،‬ن�شر ال�شركة املتحدة للتوزيع‪ ،‬دم�شق طبعة ‪1984‬م‪.‬‬
‫‪-‬الر�سالة‪ ،‬للإمام �أبي عبد اهلل حممد بن �إدري�س ال�شافعي (ت ‪204‬هـ)‪،‬‬
‫حتقيق و�شرح �أحمد حممد �شاكر‪ ،‬طبع دار الفكر (بال تاريخ)‪.‬‬
‫‪-‬ال�شاطبي ومقا�صد ال�شريعة‪ ،‬ت�أليف الدكتور حمادي العبيدي‪ ،‬ن�شر دار‬
‫قتيبة‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1412‬هـ‪1992/‬م‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫‪�-‬شرح تنقيح الف�صول يف اخت�صار املح�صول‪ ،‬ت�أليف الإمام �شهاب الدين‬
‫�أب��ي العبا�س �أحمد اب��ن �إدري����س ال�ق��رايف‪( ،‬ت ‪684‬ه��ـ)‪ ،‬حتقيق طه عبد‬
‫الر�ؤوف �سع ّد‪ ،‬ن�شر دار الفكر ومكتبة الكليات الأزهرية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة‬
‫الأولى‪1393 ،‬هـ‪1973/‬م‪.‬‬
‫‪�-‬شرح الكوكب املنري‪ ،‬ت�أليف حممد بن �أحمد الفتوحي املعروف بابن‬
‫النجار (ت‪972‬ه �ـ) ‪ ،‬حتقيق حممد الزحيلي‪ ،‬ونزيه حماد‪ ،‬ن�شر مكتبة‬
‫العبيكان‪ ،‬طبعة ‪1413‬هـ‪1993/‬م‪.‬‬
‫‪-‬فتاوى الإم���ام ال�شاطبي‪� ،‬أب��ي �إ�سحاق �إبراهيم بن مو�سى الأندل�س‬
‫�صاحب املوافقات‪ ،‬واالعت�صام‪ ،‬حققها وقدم لها حممد �أبو الأجفان ‪-‬وهي‬
‫من جمعه ال من ت�صنيف ال�شاطبي‪ -‬الطبعة الثالثة ‪1408‬هـ‪1987/‬م‪.‬‬
‫‪-‬الفروق‪ ،‬للإمام �شهاب الدين �أحمد بن �إدري�س القرايف‪ ،‬ومعه حا�شية‬
‫�سراج الدين �أبي القا�سم ابن ال�شاط امل�سماة «�إدرار ال�شروق على �أنواء‬
‫الفروق» ن�شر دار املعرفة (بال تاريخ)‪.‬‬
‫‪-‬فقه املقا�صد و�أث���ره يف الفكر النوازيل‪ ،‬ت�أليف الدكتور عبد ال�سالم‬
‫الرفعي‪ ،‬ن�شر �إفريقيا ال�شرق‪ ،‬طبعة ‪2004‬م‪.‬‬
‫‪-‬الفكر الأ���ص��ويل‪ ،‬درا���س��ة حتليلية نقدية‪ ،‬للدكتور عبد الوهاب �أبي‬
‫�سليمان‪ ،‬ن�شر دار ال�شروق‪ ،‬الطبعة الثانية ‪1404‬هـ‪1984/‬م‪.‬‬
‫‪-‬الفكر الأ�صويل و�إ�شكالية ال�سلطة العلمية يف الإ�سالم‪ ،‬قراءة يف ن�ش�أة‬
‫علم الأ�صول ومقا�صد ال�شريعة‪ ،‬ت�أليف الدكتور عبد املجيد ال�صغري‪ ،‬ن�شر‬
‫دار املنتخب العربي‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1994‬م‪.‬‬
‫‪-‬الفكر ال�سامي يف تاريخ الفقه الإ�سالمي‪ ،‬ت�أليف حممد بن احل�سن‬
‫احلجوي الثعالبي الفا�سي (ت ‪1376‬هـ)‪ ،‬اعتنى به �أمين �صالح �شعبان‪ ،‬ن�شر‬
‫دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1416‬هـ‪1995/‬م‪.‬‬
‫‪-‬الفكر الفقهي ومنطلقات علم �أ���ص��ول الفقه‪ ،‬ت�أليف الدكتور �أحمد‬

‫‪140‬‬
‫اخلملي�شي‪ ،‬ن�شر مطبعة املعارف اجلديدة‪ ،‬الرباط طبعة ‪2000‬م‪.‬‬
‫‪-‬قواطع الأدلة يف الأ�صول‪ ،‬ت�أليف الإمام �أبي املظفر من�صور بن حممد‬
‫بن عبد اجلبار ال�سمعاين (ت ‪489‬ه �ـ)‪ ،‬حتقيق حممد ح�سن �إ�سماعيل‬
‫ال�شافعي‪ ،‬ن�شر دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1418‬هـ‪1997/‬م‪.‬‬
‫‪-‬القواع ّد ال�صغرى املعروف مبخت�صر الفوائد يف �أحكام املقا�صد‪ ،‬لأبي‬
‫حممد العز ابن عبد ال�سالم (ت‪660‬هـ)‪ ،‬حتقيق الدكتور �صالح �آل من�صور‪،‬‬
‫دار الفرقان‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1997‬م‪.‬‬
‫‪-‬القواع ّد الكربى �أو قواع ّد الأحكام يف �إ�صالح الأنام‪ ،‬لأبي حممد عز‬
‫الدين بن عبد العزيز بن عبد ال�سالم (ت ‪660‬هـ)‪ ،‬حتقيق الدكتور نزيه‬
‫كمال حماد والدكتور عثمان جمعة �ضمريي‪ ،‬ن�شر دار القلم دم�شق‪ ،‬الطبعة‬
‫الأولى ‪1421‬هـ‪.2000/‬‬
‫‪-‬املح�صول يف علم �أ���ص��ول الفقه‪ ،‬للإمام فخر الدين حممد بن عمر‬
‫ال��رازي (ت ‪606‬ه �ـ)‪ ،‬درا�سة وحتقيق الدكتور طه جابر العلواين‪ ،‬ن�شر‬
‫م�ؤ�س�سة الر�سالة بريوت‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1412‬هـ‪1992/‬م‪.‬‬
‫‪-‬مدخل �إىل مقا�صد ال�شريعة‪ ،‬ت�أليف الدكتور �أحمد الري�سوين‪ ،‬ن�شر‬
‫مطبعة التوفيق‪ ،‬الرباط‪ ،‬الطبعة الثانية ‪1417‬هـ‪1997/‬م‪.‬‬
‫‪-‬امل�ست�صفى يف علم الأ�صول‪ ،‬لأبي حامد الغزايل (ت ‪505‬ه �ـ)‪ ،‬طبعه‬
‫و�صححه حممد عبد ال�سالم عبد ال�شايف‪ ،‬ن�شر دار الكتب العلمية‪ ،‬طبعة‬
‫‪1417‬هـ‪1996/‬م‪.‬‬
‫‪-‬م�سرية الفقه الإ�سالمي املعا�صر ومالحمه‪ ،‬ت�أليف الدكتور �شوي�ش‬
‫هزاع علي املحاميد‪ ،‬ن�شر دار عمار الطبعة الأولى ‪1422‬هـ‪2001/‬م‪.‬‬
‫‪-‬امل�صطلح الأ�صويل عند ال�شاطبي‪ ،‬ت�أليف الدكتور فريد الأن�صاري‪،‬‬
‫ن�شر املعهد العاملي للفكر الإ�سالمي‪ ،‬ومعهد الدرا�سات امل�صطلحية‪ ،‬الطبعة‬
‫الأولى ‪1424‬هـ‪2004/‬م‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫‪-‬م�صطلحات �أ�صولية يف كتاب املوافقات لل�شاطبي‪ ،‬بحث مقدم لنيل‬
‫دبلوم الدرا�سات العليا يف الدرا�سات الإ�سالمية من كلية الآداب بالرباط‪،‬‬
‫نوق�ش �سنة ‪1990‬م‪� ،‬إع ّداد فريد الأن�صاري (مرقون)‪.‬‬
‫‪-‬املعتمد يف �أ���ص��ول الفقه‪ ،‬لأب��ي احل�سني حممد ب��ن علي ب��ن الطيب‬
‫الب�صري املعتزيل‪( ،‬ت ‪436‬هـ)‪ ،‬حتقيق حممد حميد اهلل بتعاون مع حممد‬
‫بكر وح�سن حنفي‪ ،‬ن�شر دار الفكر‪ ،‬طبعة ‪1384‬هـ‪1964/‬م‪.‬‬
‫‪-‬مقا�صد ال�شريعة‪ ،‬حترير عبد اجلبار الرفاعي‪ ،‬ن�شر دار الفكر‪ ،‬الطبعة‬
‫الأولى ‪1422‬هـ‪2002/‬م‪.‬‬
‫‪-‬مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬لل�شيخ حممد الطاهر بن عا�شور (ت‬
‫‪1393‬هـ)‪ ،‬ن�شر ال�شركة التون�سية للتوزيع‪ ،‬تون�س‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪1988‬م‪.‬‬
‫‪-‬مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬وعالقتها بالأدلة الت�شريعية‪ ،‬ت�أليف‬
‫حممد �سعيد اليوبي‪ ،‬ن�شر دار الهجرة‪ ،‬ال�سعودية‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1998‬م‪.‬‬
‫‪-‬مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية ومكارمها‪ ،‬ت�أليف الأ�ستاذ عالل الفا�سي‬
‫(ت ‪1394‬هـ)‪ ،‬ن�شر مكتبة الوحدة العربية‪ ،‬الدار البي�ضاء (بال تاريخ)‪.‬‬
‫‪-‬مقا�صد ال�شريعة اخلا�صة بالت�صرفات املالية‪ ،‬ت�أليف الدكتور عز الدين‬
‫بن زغيبة‪ ،‬قدم له وراجعه الدكتور نور الدين �صغريي‪ ،‬ن�شر مركز جمعية‬
‫املاجد للثقافة والرتاث‪ ،‬دبي‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1422‬هـ‪2001/‬م‪.‬‬
‫‪ -‬مقا�صد ال�شريعة‪ :‬نحو �إطار للبحث يف العلوم االجتماعية والإن�سانية‪،‬‬
‫حترير د‪ .‬عبد اهلل حممد الأمني النعيم‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬ط‪2009 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -‬مقا�صد ال�شريعة وق�ضايا الع�صر‪ ،‬جمموعة �أبحاث‪ ،‬م�ؤ�س�سة الفرقان‬
‫للرتاث الإ�سالمي‪ ،‬ط ‪2007 ،1‬م‪.‬‬
‫‪-‬املقا�صد العامة لل�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬ت�أليف الدكتور يو�سف حامد‬
‫العامل‪ ،‬دار احلديث القاهرة‪( ،‬بال تاريخ)‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫‪-‬امل��ن��اه��ج الأ���ص��ول��ي��ة يف االج��ت��ه��اد ب���ال���ر�أي يف ال��ت�����ش��ري��ع الإ�سالمي‪،‬‬
‫ت��أل�ي��ف ال��دك�ت��ور حممد فتحي ال��دري�ن��ي‪ ،‬ن�شر م�ؤ�س�سة الر�سالة طبعة‬
‫‪1418‬هـ‪1997/‬م‪.‬‬
‫‪-‬منهج الأ�صوليني يف بحث الداللة اللفظية الو�ضعية‪ ،‬ت�أليف مولود‬
‫ال�سريري‪ ،‬ن�شر دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1424‬هـ‪2003/‬م‪.‬‬
‫‪-‬م��ن��ه��ج ال���در����س ال�����داليل ع��ن��د الإم������ام ال�����ش��اط��ب��ي‪ ،‬ت��أل�ي��ف الدكتور‬
‫العلمي‪ ،‬طبع وزارة الأوق��اف وال�ش�ؤون الإ�سالمية باململكة املغربية‪ ،‬طبعة‬
‫‪1422‬هـ‪2001/‬م‪.‬‬
‫‪-‬املوافقات‪ ،‬لأب��ي �إ�سحاق �إبراهيم بن مو�سى ال�شاطبي (ت ‪790‬هـ)‪،‬‬
‫�ضبط ن�صه وقدم له وعلق عليه وخرج �أحاديثه �أبو عبيدة‪ ،‬م�شهور بن ح�سن‬
‫�آل �سلمان‪ ،‬ن�شر دار ابن عفان للن�شر والتوزيع‪ ،‬ال�سعودية‪ ،‬الطبعة الأولى‬
‫‪1417‬هـ ‪1997/‬م‪.‬‬
‫‪-‬املوافقات يف �أ�صول ال�شريعة‪ ،‬لأبي �إ�سحاق �إبراهيم بن مو�سى ال�شاطبي‬
‫(ت ‪790‬ه �ـ)‪ ،‬ب�شرح ال�شيخ عبد اهلل دراز (بال تاريخ)‪– .‬وهي الطبعة‬
‫املعتمدة يف هذا البحث‪.-‬‬
‫‪-‬نحو تفعيل مقا�صد ال�شريعة‪ ،‬ت�أليف الدكتور جمال الدين عطية‪ ،‬ن�شر دار‬
‫الفكر واملعهد العاملي للفكر الإ�سالمي‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1422‬هـ‪2001/‬م‪.‬‬
‫‪-‬نظرية التقعيد الفقهي و�أثرها يف اختالف الفقهاء‪ ،‬ت�أليف الدكتور‬
‫حممد الروكي‪ ،‬من�شورات كلية الآداب الرباط‪� ،‬سل�سلة ر�سائل و�أطروحات‬
‫رقم ‪ ،25‬مطبعة النجاح اجلديدة بالدار البي�ضاء‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1994‬م‪.‬‬
‫‪-‬نظرية املقا�صد عند الإمام ال�شاطبي‪ ،‬ت�أليف الدكتور �أحمد الري�سوين‪،‬‬
‫ن�شر دار الكلمة للن�شر وال �ت��وزي��ع‪ ،‬امل�ن���ص��ورة‪ ،‬م�صر‪ ،‬الطبعة الأول��ى‬
‫‪1418‬هـ‪1997/‬م‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫‪-‬نظرية املقا�صد عند الإمام حممد الطاهر بن عا�شور‪ ،‬ت�أليف الدكتور‬
‫�إ�سماعيل ح�سني‪ ،‬من�شورات املعهد العاملي للفكر الإ�سالمي وا�شنطن‪ ،‬الطبعة‬
‫الأولى ‪1995‬م‪.‬‬
‫‪-‬الو�سيط يف قواع ّد فهم الن�صو�ص ال�شرعية‪ ،‬ت�أليف الدكتور عبد الهادي‬
‫الف�ضلي‪ ،‬ن�شر م�ؤ�س�سة االنت�شار العربي‪ ،‬الطبعة الأولى ‪2001‬م‪.‬‬
‫* كتب خمتلفة‬
‫‪-‬الأث��ر ال�شاطبي يف الفكر ال�سلفي باملغرب‪ ،‬ت�أليف عبد اجلليل بادو‪،‬‬
‫من�شورات �سليكي‪� ،‬إخوان (بال تاريخ)‪.‬‬
‫‪�-‬أ�سرار البالغة‪ ،‬للإمام عبد القاهر اجلرجاين‪� ،‬صححها وعلق على‬
‫حوا�شيها حممد ر�شيد ر�ضا‪ ،‬ن�شر دار املعرفة ب�يروت‪ ،‬الطبعة الثانية‬
‫‪1398‬هـ‪1978/‬م‪.‬‬
‫‪�-‬ألي�س ال�صبح بقريب‪ ،‬ت�أليف ال�شيخ حممد بن عا�شور‪ ،‬ن�شر ال�شركة‬
‫التون�سية لفنون الر�سم‪ ،‬الطبعة الثانية ‪1408‬هـ‪1988/‬م‪.‬‬
‫‪-‬جتديد املنهج يف تقومي الرتاث‪ ،‬ت�أليف الدكتور طه عبد الرحمان‪ ،‬ن�شر‬
‫املركز الثقايف العربي‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1994‬م‪-.‬تف�سري املنار‪ ،‬لل�شيخ حممد‬
‫ر�شيد ر�ضا‪( ،‬ت ‪1923‬م)‪ ،‬ن�شر مطبعة حجازي (بال تاريخ)‪.‬‬
‫‪-‬تكوين العقل العربي‪ ،‬ت�أليف الدكتور حممد عابد اجلابري‪ ،‬ن�شر املركز‬
‫الثقايف العربي‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪1991‬م‪.‬‬
‫‪-‬حفريات املعرفة العربية الإ�سالمية‪ ،‬التعليل الفقهي‪ ،‬ت�أليف الدكتور‬
‫�سامل يفوت‪ ،‬ن�شر دار الطليعة للطباعة والن�شر‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1990‬م‪.‬‬
‫‪-‬ف�صول يف الفكر الإ�سالمي باملغرب‪ ،‬ت�أليف الدكتور عبد املجيد النجار‪،‬‬
‫ن�شر دار الغرب الإ�سالمي‪ ،‬الطبعة الأولى ‪1992‬م‪.‬‬
‫‪-‬القيم ال�ضرورية ومقا�صد الت�شريع الإ�سالمي‪ ،‬ت�أليف الدكتور فهمي‬
‫حممد علوان‪ ،‬طبعة الهيئة امل�صرية العامة للكتاب ‪1989‬م‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫‪-‬املقدمة‪،‬البن خلدون (ت‪808‬هـ)‪ ،‬ن�شر دار القلم بريوت‪ ،‬الطبعة الرابعة‬
‫‪1981‬م‪.‬‬
‫‪-‬مناظرات يف �أ�صول ال�شريعة الإ�سالمية بني ابن حزم والباجي‪ ،‬ت�أليف‬
‫الدكتور عبد املجيد تركي‪ ،‬ترجمة وحتقيق الدكتور عبد ال�صبور �شاهني‪،‬‬
‫مراجعة حممد عبد احلليم حممود‪ ،‬ن�شر دار الغرب الإ�سالمي‪ ،‬الطبعة‬
‫الأولى ‪1406‬هـ‪1984/‬م‪.‬‬
‫* مقاالت و�أبحاث علمية‪.‬‬
‫‪�-‬أ�صالة الإمام ال�شاطبي يف املغرب جذريا وثقافيا‪ ،‬مقال للأ�ستاذ اجلياليل‬
‫عبد الرحمان من�شور مبجلة املوافقات‪ ،‬الع ّدد ‪ 1‬ذو احلجة ‪1412‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬التقعيد املعريف ملقا�صد ال�شريعة‪ ،‬مقال للأ�ستاذ عبد الرزاق اجلربات‪،‬‬
‫من�شور مبجلة النب�أ‪ ،‬الع ّدد ‪ ،42‬ذو القع ّدة ‪1420‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬جلب امل�صالح ودرء املفا�سد‪ ،‬مقال للأ�ستاذ علي العمرييني‪ ،‬من�شور‬
‫مبجلة جامعة الإمام حممد بن م�سعود يف ال�سعودية‪ ،‬الع ّدد ‪1412 ،5‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬حفريات يف م�صطلح مقاربة �أولية‪ ،‬مقال للدكتور حممد عابد اجلابري‪،‬‬
‫من�شور مبجلة املناظرة‪ ،‬الع ّدد ‪ ،6‬ال�سنة الرابعة‪ ،‬رجب ‪1414‬ه �ـ‪ ،‬دجنرب‬
‫‪1993‬م‪.‬‬
‫‪-‬ال�صراع الفكري وانعكا�ساته على ال�شعر الأندل�سي (القرن الثامن‬
‫منوذجا)‪ ،‬بحث للدكتور عبد احلميد عبد اهلل الهرامة �ضمن �أعمال ملتقى‬
‫الدرا�سات املغربية الأندل�سية‪ ،‬تيارات الفكر يف املغرب والأندل�س‪ ،‬الروافد‪،‬‬
‫املنظم �أيام ‪� 28-27-26‬أبريل ‪1993‬م‪ ،‬من�شورات كلية الآداب جامعة عبد‬
‫املالك ال�سع ّدي‪ ،‬تطوان‪.‬‬
‫‪-‬علم �أ���ص��ول الفقه وع��ل��م امل��ق��ا���ص��د‪ ،‬م��و���ض��وع��ات مقرتحة للر�سائل‬
‫والأط��روح��ات اجلامعية‪ ،‬مقال للدكتور �أحمد الري�سوين‪ ،‬من�شور مبجلة‬
‫�إ�سالمية املعرفة‪ ،‬الع ّدد ‪ 16‬ربيع ‪1419‬هـ‪1999/‬م‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫‪-‬عناية الأ�صوليني بامل�صطلح‪ ،‬بحث للأ�ستاذ عبد الرحمان الزخنيني‪،‬‬
‫من �أعمال ندوة الدرا�سة امل�صطلحية والعلوم الإ�سالمية‪ ،‬اجلزء الثاين‪،‬‬
‫كمطبعة املعارف ‪1996‬م‪.‬‬
‫‪-‬فل�سفة مقا�صد الت�شريع يف الفقه الإ�سالمي و�أ�صوله‪ ،‬مقال للأ�ستاذ‬
‫بابكر احل�سن‪ ،‬من�شور مبجلة كلية ال�شريعة والقانون‪ ،‬جامعة الإم��ارات‬
‫العربية املتحدة‪ ،‬الع ّدد ‪� ،1‬سنة ‪1978‬م‪.‬‬
‫‪-‬قراءة يف كتاب «مقا�صد ال�شريعة عند الإمام ال�شاطبي» ت�أليف حممد‬
‫خالد م�سعود‪ ،‬مقال للأ�ستاذ نعمان جغيم‪ ،‬من�شور مبجلة �إ�سالمية املعرفة‪،‬‬
‫الع ّدد ‪ 15‬ال�سنة ‪� ،4‬شتاء ‪1419‬هـ‪1999/‬م‪.‬‬
‫‪-‬ق��راءة يف امل�صطلح الأ���ص��ويل‪ ،‬من��وذج م�صطلح «�أ�صول الفقه»‪ ،‬مقال‬
‫للأ�ستاذ حممد �أبي غامن‪ ،‬من�شور �ضمن �أعمال ندوة الدرا�سة امل�صطلحية‬
‫والعلوم الإ�سالمية‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬مطبعة املعارف ‪1996‬م‪.‬‬
‫‪-‬م�شروع جتديد علمي ملبحث مقا�صد ال�شريعة‪ ،‬مقال للدكتور طه عبد‬
‫الرحمان‪ ،‬من�شور مبجلة امل�سلم املعا�صر‪ ،‬الع ّدد ‪ ،103‬ال�سنة ‪� ،26‬شوال‪-‬ذو‬
‫القع ّدة‪-‬ذو احلجة ‪1422‬هـ‪/‬يناير –فرباير‪-‬مار�س ‪2002‬م‪.‬‬
‫‪-‬مقا�صد ال�شريعة و�أه��داف الأمة‪ ،‬مقال للدكتور ح�سن حنفي‪ ،‬من�شور‬
‫مبجلة امل�سلم املعا�صر‪ ،‬الع ّدد ‪ ،103‬ال�سنة ‪� 26‬شوال‪-‬ذو القع ّدة‪-‬ذو احلجة‬
‫‪1422‬هـ‪ ،‬يناير‪-‬فرباير‪-‬مار�س ‪2002‬م‪.‬‬
‫‪-‬من قراء كتاب اهلل‪ ،‬ال�شاطبي‪ ،‬مقال للأ�ستاذ �أحمد �أحمد بدوي من�شور‬
‫مبجلة الر�سالة‪ ،‬الع ّدد ‪ ،966‬ال�سنة ‪ 20‬ربيع الآخر ‪1379‬هـ‪ ،‬يناير ‪1952‬م‪.‬‬
‫‪-‬منهاج فهم الكتاب وال�سنة عند الإمام ال�شاطبي‪ ،‬مقال للأ�ستاذ ميلود‬
‫الفرجي‪ ،‬من�شور مبجلة املوافقات‪ ،‬الع ّدد ‪ 3‬ذو احلجة ‪1414‬هـ‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫‪-‬منهج فقه املوازنات يف ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬بحث للدكتور عبد املجيد‬
‫حممد �إ�سماعيل ال�سو�سرة‪ ،‬من�شور مبجلة البحوث الفقهية‪ ،‬الع ّدد ‪ ،51‬ال�سنة‬
‫‪ 13‬ربيع الآخر‪-‬جمادى الأولى‪-‬جمادى الآخرة ‪1422‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬موافقات �أبي �إ�سحاق وا�ستمرارية ت�أثريها يف م�ؤلفات الع�صر احلديث‪،‬‬
‫مقال للعالمة حممد املنوين‪ ،‬من�شور مبجلة املوافقات‪ ،‬الع ّدد ‪ 1‬ذو احلجة‬
‫‪1412‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬م��وق��ع امل��ق��ا���ص��د ال�����ش��رع��ي��ة يف امل��ن��ه��ج�ين ال��ف��ه��م��ي وال��ت��ط��ب��ي��ق��ي عند‬
‫الأ�صوليني‪ ،‬مقال للأ�ستاذ عبد الرحيم الع�ضراوي‪ ،‬من�شور مبجلة الإحياء‪،‬‬
‫الع ّدد ‪ 13‬رم�ضان ‪1419‬هـ‪ ،‬يناير ‪1999‬م‪.‬‬
‫‪-‬نحو تفعيل مقا�صد ال�شريعة (مدخل تنظريي)‪ ،‬بحث للدكتور جمال‬
‫الدين عطية‪ ،‬من�شور مبجلة امل�سلم املعا�صر‪ ،‬الع ّدد ‪ ،103‬ال�سنة ‪� 26‬شوال‪-‬‬
‫ذو القع ّدة‪-‬ذو احلجة ‪1422‬هـ‪ ،‬يناير‪-‬فرباير‪-‬مار�س ‪2002‬م‪.‬‬
‫‪-‬نحو منهج جديد لدرا�سة علم �أ�صول الفقه‪ ،‬مقال للأ�ستاذ حممد‬
‫الد�سوقي‪ ،‬من�شور مبجلة �إ�سالمية املعرفة‪ ،‬الع ّدد ‪ ،3‬ال�سنة ‪ 1‬رم�ضان‬
‫‪1416‬هـ‪ ،‬يناير ‪1696‬م‪.‬‬
‫‪-‬نظرات يف تطور �أ�صول الفقه‪ ،‬مقال للدكتور طه جابر العلواين‪ ،‬من�شور‬
‫مبجلة �أ�ضواء ال�شريعة بالريا�ض الع ّدد ‪.10‬‬
‫‪-‬نظرة يف املقا�صد ال�شرعية‪ ،‬كلمة التحرير للدكتور كمال الدين �إمام‬
‫مبجلة امل�سلم املعا�صر‪ ،‬الع ّدد ‪ ،103‬ال�سنة ‪.26‬‬

‫‪147‬‬
‫�سل�سل ــة �إ�صـ ــدارات‬

‫‪ -1‬ال�شهود احل�ضاري للأمة الو�سط يف ع�صر العوملة‪.‬‬


‫د‪.‬عبد العزيز برغوث‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -2‬عينان مطف�أتان وقلب ب�صري( رواية)‪.‬‬
‫د‪ .‬عبد اهلل الطنطاوي‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -3‬دور ال�سياق يف الرتجيح بني الأقاويل التف�سريية‪.‬‬
‫د‪ .‬حممد �إقبال عروي‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪� -4‬إ�شكالية املنهج يف ا�ستثمار ال�سنة النبوية‪.‬‬
‫د‪ .‬الطيب برغوث‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -5‬ظالل وارفة ( جمموعة ق�ص�صية) ‪.‬‬
‫د‪� .‬سعاد النا�صر( �أم �سلمى)‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -6‬قراءات معرفية يف الفكر الأ�صويل‪.‬‬
‫د‪ .‬م�صطفى قطب �سانو‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -7‬من ق�ضايا الإ�سالم والإعالم بالغرب‪.‬‬
‫د‪ .‬عبد الكرمي بوفرة‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -8‬اخلط العربي وحدود امل�صطلح الفني‪.‬‬
‫د‪� .‬إدهام حممد حن�ش‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -9‬االختيار الفقهي و�إ�شكالية جتديد الفقه الإ�سالمي‪.‬‬
‫د‪ .‬حممود النجريي‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -10‬مالمح تطبيقية يف منهج الإ�سالم احل�ضاري‪.‬‬
‫د‪ .‬حممد كمال ح�سن‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -11‬العمران والبنيان يف منظور الإ�سالم‪.‬‬
‫د‪ .‬يحيى وزيري‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -12‬ت�أمل واعتبار‪ :‬قراءة يف حكايات �أندل�سية‪.‬‬
‫د‪ .‬عبد الرحمن احلجي‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -13‬ومنها تتفجر الأنهار( ديوان �شعر)‪.‬‬
‫ال�شاعرة �أمينة املريني‪.‬‬ ‫ ‬
‫‪ -14‬الطــريــق‪ ...‬مـ ــن هن ـ ـ ـ ـ ــا‪.‬‬
‫ال�شيخ حممد الغزايل‬ ‫ ‬
‫‪ -15‬خطاب احلداثة‪ :‬قراءة نقدية‪.‬‬
‫د‪ .‬حـمـيــد �سـم ـيـ ــر‬ ‫ ‬
‫‪ -16‬العودة �إىل ال�صف�صاف (جمموعة ق�ص�صية لليافعني)‪.‬‬
‫فريد حممد معو�ض‬ ‫ ‬
‫‪ -17‬ارت�سامات يف بناء الذات‪.‬‬
‫د‪ .‬حممد بن �إبراهيم احلمد‬ ‫ ‬
‫‪ -18‬هو وهي‪ :‬ق�صة الرجل واملر�أة يف القر�آن الكرمي‪.‬‬
‫د‪ .‬عودة خليل �أبو عودة‬ ‫ ‬
‫‪ -19‬الت�صرفات املالية للمر�أة يف الفقه الإ�سالمي‪.‬‬
‫د‪ .‬ثــريــة �أقـ�صـ ــري‬ ‫ ‬
‫‪� -20‬إ�شكالية ت�أ�صيل الر�ؤية الإ�سالمة يف النقد والإبداع‪.‬‬
‫د‪ .‬عمر �أحمد بو قرورة‬ ‫ ‬
‫‪ -21‬مالمح الر�ؤية الو�سطية يف املنهج الفقهي‪.‬‬
‫د‪� .‬أبو �أمامة نوار بن ال�شلي‬ ‫ ‬
‫‪� -22‬أ�ضواء على الرواية الإ�سالمية املعا�صرة‪.‬‬
‫د‪ .‬حلمي حممد القاعود‬ ‫ ‬
‫‪ -23‬ج�سور التوا�صل احل�ضاري بني العامل الإ�سالمي واليابان‪.‬‬
‫ �أ‪.‬د‪�.‬سمري عبد احلميد نوح‬
‫‪ -24‬الكليات الأ�سا�سية لل�شريعة الإ�سالمية‪.‬‬
‫د‪� .‬أحمد الري�سوين‬ ‫ ‬
‫‪ -25‬املرتكزات البيانية يف فهم الن�صو�ص ال�شرعية‪.‬‬
‫د‪ .‬جنم الدين قادر كرمي الزنكي‬ ‫ ‬
‫‪ -26‬معامل منهجية يف ت�أ�صيل مفهوم الأدب الإ�سالمي‪.‬‬
‫د‪ .‬ح�سن الأمراين‬ ‫ ‬
‫د‪ .‬حممد �إقبال عروي‬ ‫ ‬
‫‪� -27‬إمام احلكمة (رواية)‪.‬‬
‫الروائي‪ /‬عبد الباقـي يو�سـف‬ ‫ ‬
‫‪ -28‬بناء اقت�صاديات الأ�سرة على قيم االقت�صاد الإ�سالمي‪.‬‬
‫ �أ‪.‬د‪ .‬عبد احلميد حممود البعلي‬
‫‪� -29‬إمنا �أنت‪ ...‬بل�سم ( ديوان �شعر)‪.‬‬
‫ال�شاعر حممود مفلح‬ ‫ ‬
‫‪ -30‬نظرية العقد يف ال�شريعة الإ�سالمية‪.‬‬
‫د‪ .‬حممد احلبيب التجكاين‬ ‫ ‬

‫‪ -31‬حممد [ ملهم ال�شعراء‬


‫�أ‪ .‬طالل العامر‬ ‫ ‬
‫‪ -32‬نحو تربية مالية �أ�سرية را�شدة‪.‬‬
‫د‪� .‬أ�شرف حممد دوابه‬ ‫ ‬
‫‪ -33‬جماليات ت�صوير احلركة يف القر�آن الكرمي ‪.‬‬
‫د‪ .‬حكمت �صالح‬ ‫ ‬
‫‪ -34‬الفكر املقا�صدي وتطبيقاته يف ال�سيا�سة ال�شرعية‪.‬‬
‫د‪ .‬عبد الرحمن الع�ضراوي‬ ‫ ‬
‫‪ -35‬ال�سنابل‪( ...‬ديوان �شعر)‪.‬‬
‫�أ‪ .‬حميي الدين عطية‬ ‫ ‬
‫‪ -36‬نظرات يف �أ�صول الفقه‪.‬‬
‫د‪� .‬أحمد حممد كنعان‬ ‫ ‬
‫‪ -37‬القراءات املف�سرة ودورها يف توجيه معاين الآيات القر�آنية‪.‬‬
‫د‪ .‬عبد الهادي دحاين‬ ‫ ‬

‫‪� -38‬شعر �أبي طالب يف ن�صرة النبي [‪.‬‬


‫د‪ .‬حممد عبد احلميد �سامل‬ ‫ ‬
‫‪� -39‬أثر اللغة يف اال�ستنباطات ال�شرعية‪.‬‬
‫د‪ .‬حمدي بخيت عمران‬ ‫ ‬
‫‪ -40‬ر�ؤية نقدية يف �أزمة الأموال غري احلقيقية‪.‬‬
‫ �أ‪.‬د‪ .‬مو�سى العرباين‬
‫د‪.‬نا�صر يو�سف‬ ‫ ‬
‫‪ -41‬مرافىء اليقني (ديوان �شعر)‪.‬‬
‫ال�شاعر ي�س الفيل‬ ‫ ‬
‫‪ -42‬م�سائل يف علوم القر�آن‪.‬‬
‫د‪ .‬عبد الغفور م�صطفى جعفر‬ ‫ ‬
‫‪ -43‬الت�أ�صيل ال�شرعي للتعامل مع غري امل�سلمني‪.‬‬
‫د‪ .‬م�صطفى بن حمزة‬ ‫ ‬
‫‪ -44‬يف مدارج احلكة (ديوان �شعر)‪.‬‬
‫ال�شاعر وحيد الده�شان‬ ‫ ‬
‫‪� -45‬أحاديث ف�ضائل �سور القر�آن‪ :‬درا�سة نقدية حديثية‪.‬‬
‫د‪ .‬فاطمة خديد‬ ‫ ‬
‫‪ -46‬يف ميـ ـ ـ ــزان الإ�س ــالم‪.‬‬
‫د‪ .‬عبد احلليم عوي�س‬ ‫ ‬
‫‪ -47‬النظر امل�صلحي عند الأ�صوليني‪.‬‬
‫د‪ .‬م�صطفى قرطاح‬ ‫ ‬
‫‪ -48‬درا�سات يف الأدب الإ�سالمي‪.‬‬
‫د‪ .‬جابر قميحة‬ ‫ ‬
‫‪ -49‬القيمُ الروحيّة يف الإ�سالم‪.‬‬
‫د‪ .‬حممّ د حلمي عبد ّ‬
‫الوهاب‬ ‫ ‬
‫‪ -50‬ت ــالمي ــذ النب ـ ــوة (ديوان �شعر)‪.‬‬
‫ال�شاعر عبد الرحمن الع�شماوي‬ ‫ ‬
‫‪� -51‬أ�سماء ال�سور ودورها يف �صناعة النه�ضة اجلامعة‪.‬‬
‫د‪ /‬فــــــ�ؤاد البنــــا‬ ‫ ‬
‫‪ -52‬الأ�سرة بني العدل والف�ضل‪.‬‬
‫د‪ .‬فريد �شكري‬ ‫ ‬
‫‪ -53‬هي القد�س‪( ...‬ديوان �شعر)‪.‬‬
‫ال�شاعرة‪ :‬نبيلة اخلطيب‬ ‫ ‬
‫‪ -54‬م�سار العمارة و�آفاق التجديد‪.‬‬
‫م‪ .‬فالح بن ح�سن املطريي‬ ‫ ‬
‫‪ -55‬ر�سالة يف الوعظ والإر�شاد وطرقهما‪.‬‬
‫ال�شيخ حممد عبد العظيم ُّ‬
‫الزرْقاين‬ ‫ ‬
‫‪ -56‬مقا�صد الأحكام الفقهية‪.‬‬
‫د‪ .‬و�صفي عا�شور �أبو زيد‬ ‫ ‬
‫‪ -57‬الو�سطية يف منهج الأدب الإ�سالمي‪.‬‬
‫د‪ .‬وليد �إبراهيم الق�صاب‬ ‫ ‬
‫‪ -58‬املدخل املعريف واللغوي للقر�آن الكرمي‪.‬‬
‫د‪ .‬خديجة �إيكر‬ ‫ ‬
‫‪� -59‬أحاديث ال�شعر وال�شعراء‪.‬‬
‫د‪ .‬احل�ســني زروق‬ ‫ ‬
‫‪ -60‬من �أدب الو�صايا‪.‬‬
‫د‪ /‬زهري حممود حموي‬ ‫ ‬
‫‪� -61‬سنن التداول وم�آالت احل�ضارة‪.‬‬
‫د‪ .‬حممد هي�شور‬ ‫ ‬
‫‪ -62‬نظام العدالة الإ�سالمية يف منوذج اخلالفة الرا�شدة‪.‬‬
‫د‪ .‬خليل عبد املنعم خليل مرعي‬ ‫ ‬
‫‪ -63‬التــراث العمــراين للمدينة الإ�س ــالمـ ـيــة‬
‫د‪ .‬خالد عزب‬ ‫ ‬
‫‪ -64‬فرا�شات مكة‪...‬دعوها حتلق‪( ..‬رواية)‪.‬‬
‫الروائية‪ /‬زبيدة هرما�س‬ ‫ ‬
‫‪ -65‬مباحث يف فقه لغة القر�آن الكرمي‪.‬‬
‫د‪ .‬خالد فهمي‬ ‫ ‬
‫د‪� .‬أ�شرف �أحمد حافظ‬ ‫ ‬
‫‪ -66‬حممود حممد �شاكر‪ :‬درا�سة يف حياته و�شعره‪.‬‬
‫د‪� .‬أماين حامت جمدي ب�سي�سو‬ ‫ ‬
‫‪ -67‬بوح ال�سالكني (ديوان �شعر)‪.‬‬
‫ال�شاعر طلعت املغربي‬ ‫ ‬
‫‪ -68‬وظيفية مقا�صد ال�شريعة‪.‬‬
‫د‪ .‬حممد املنتـــــار‬ ‫ ‬

You might also like