Professional Documents
Culture Documents
Figh10895 وظييفة مقاصد الشريعه رؤية
Figh10895 وظييفة مقاصد الشريعه رؤية
ر�ؤية منهجية
3
مت طبع هذا الكتاب يف هذه ال�سل�سلة للمرة الأوىل،
وال يجوز �إعادة طبعه �أو طبع �أجزاء منه ب�أية و�سيلة �إلكرتونية �أو غري
4
فهر�س املحتويات
9 ت�صدير
11 مقدمة
17 مدخل
الف�صل الأول:
25 مناهج البحث الأ�صويل و�س�ؤال التجديد
28
املبحث الأول :يف جدلية العالقة بني املقا�صد و�أ�صول الفقه
41 املبحث الثاين :وظيفية مقا�صد ال�شريعة وتدبري االختالف الفقهي
الف�صل الثاين:
طرق الك�شف عن مقا�صد ال�شريعة و�أثرها
63 يف بناء التكليف ال�شرعي
66 املبحث الأول :بني مقا�صد ال�شارع ومقا�صد املكلف
79 املبحث الثاين :معرفة مقا�صد ال�شريعة وبناء التكليف ال�شرعي
الف�صل الثالث:
�أثر مقا�صد ال�شريعة
91 يف تر�شيد ما �أ�ضحى اليوم ي�سمى بـ «حقوق الإن�سان»
94 املبحث الأول :مقا�صد ال�شريعة وحقوق الإن�سان :مدخل مفاهيمي.
102 املبحث الثاين� :أثر مقا�صد ال�شريعة يف تر�شيد حقوق الإن�سان.
5
الف�صل الرابع:
نحو تفعيل مقا�صد ال�شريعة يف حتقيق التكامل احل�ضاري
117 والتقريب بني مذاهب �أهل القبلة
املبحث الأول� :أثر معرفة مقا�صد ال�شريعة يف �إغناء التكامل
120 احل�ضاري.
املبحث الثاين� :أثر معرفة مقا�صد ال�شريعة يف وحدة الأمة
128 والتقريب بني مذاهب �أهل القبلة.
134 اخلامتة
136 امل�صادر واملراجع
6
ت�صدير
احلمد هلل رب العاملني وال�صالة وال�سالم على �سيد املر�سلني وعلى �آله
و�صحبه �أجمعني.
�إذا كان البحث يف مقا�صد ال�شريعة قد عرف ن�ش�أة وقوة يف العهود ال�سابقة
من نه�ضة الأمة ،ف�إن امل�آالت التي انتهت �إليها حركة املجتمعات الإ�سالمية
يف ك�سبها الديني واحل�ضاري تك�شف عن حجم اخللل والأع �ط��اب التي
�أ�صابت الفكر الإ�سالمي يف تعامله مع مو�ضوع املقا�صد� ،إذ عرف جمودا
وتراجعا يف ظل التعامل الظاهري مع الن�صو�ص ،و�سيطرة النظر التجزيئي
الذي ينكفئ على �آحاد الأحكام دون ربطها مبقا�صدها وم�آالت تنزيلها على
واقع الأفراد وامل�ؤ�س�سات.
ومن هنا ،تظل احلاجة ما�سة �إلى التح�سي�س بوجوب جتاوز تلك الأو�ضاع
م��ن خ�لال ت�أ�سي�س منهج متكامل يف درا��س��ة مقا�صد ال�شريعة وفهمها
وتنزيلها ،...وقد �شهدت ال�سنوات الأخرية �أ�صواتا طيبة يف هذا االجتاه،
�أبرزت منافع ذلك املنهج املتكامل ،و�أكدت على ال�شروط اللغوية والداللية
واملقا�صدية لفهم اخلطاب.
وميثل كتاب«وظيفية مقا�صد ال�شريعة» للأ�ستاذ الباحث حممد املنتار خطوة
يف طريق ب�سط �أركان منهج متوازن للتعامل مع مقا�صد ال�شريعة ،وتنبع �أهميته
من كونه اليقت�صر على املو�ضوعات املطروقة لدى الأ�صوليني قدميا وحديثا،
بل ميتد نظره ليب�سط نقا�شا علميا حول مو�ضوعات ذات �أهمية ق�صوى من
مثل «حقوق الإن�سان» و«تدبري اخلالف الفقهي» وغريها من املو�ضوعات التي
ت�ؤرق الإن�سانية يف ظل ال�سياق الثقايف وال�سيا�سي العاملي املعا�صر.
وي�سر �إدارة الثقافة الإ�سالمية بوزارة الأوقاف وال�ش�ؤون الإ�سالمية
بدولة الكويت �أن تقدم هذا الكتاب �إلى جمهور القراء واملهتمني� ،سائلني
املولى عز وجل �أن ينفع به ويثيب م�ؤلفه.
�إنه �سميع الدعاء...
9
مقدمة
احلمد هلل رب العاملني ،وال�صالة وال�سالم على خامت الأنبياء واملر�سلني،
وعلى �آله الطيبني ،و�أ�صحابه الأكرمني ،ومن اهتدى بهديهم �إلى يوم الدين.
�أما بعد؛
فال ميرتي �أحد يف �أن كل �شريعة �شرعت للنا�س ترمي ب�أحكامها �إلى مقا�صد
مرادة مل�ش ّرعها ووا�ضعها؛ ومن هذا املنطلق ف�شريعة الإ�سالم اخلامتة ،كما
�أراد لها وا�ضعها عز وجل ،جاءت ملا فيه �صالح الب�شر يف العاجل والآجل� ،أي
يف حا�ضر الأمور وعواقبها ،يف �إطار ال�ضرورات االجتهادية مبفهومها الوا�سع
والتعامل العميق مع الن�صو�ص امل�ؤ�س�سة؛ قر�آنا و�سنة ،واال�ستمداد منها
مبختلف الطرائق واملناهج ،وا�ستثمار ذلك يف حتقيق الوحدة واالئتالف،
والتحذير من الفرقة واالختالف بني �أهل القبلة والعامل من حولهم.
وال �شك �أن ه��ذا اال�ستثمار ال ميكن �أن يتم �إال بوا�صلة ب�ين ال�صبغة
وال�صيغة وال�صياغة متكن من �إخ�ضاع الواقع الكوين ل�شرع اهلل ،فيتم ربط
الإن�سان بخالقه ،وتتحقق حقوق اهلل وحقوق العباد بدون �إفراط وال تفريط
يف اجلهتني معا؛ �صبغة اهلل التي ت�شكل ت�أ�صيل الر�ؤية الكلية الكونية وت�أ�سي�س
الر�ؤية الفطرية لأ�صول احلياة العمرانية } ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ
ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ{ (البقرة .)138 :
ومن هذه ال�صبغة (�صبغة اهلل) تنبع ال�صيغة الكلية العامة ،وهي ال�صيغة
املقا�صدية مدخال م� ِّؤطرا؛ التي تعد من �أهم املطالب التي يحتاجها الفقيه
وال �ع��امل ،وال�سالك وامل��رب��ي ،والتلميذ والأ��س�ت��اذ ،على ت�ف��اوت قرائحهم
وفهومهم ،يف عملية احلوار مع كتاب اهلل امل�سطور؛ القر�آن الكرمي ،وكتاب
اهلل املنظور؛ �أي الكون ،وتتطلب وعي اال�ستجابة و�سعيها ،والكد يف التعرف
على الطرق املو�صلة �إليها؛ املن�صو�صة وامل�ستنبطة ،وال�سعي �إلى �ضبط �شروط
اعتبارها ،ومن ثم ح�سن �صياغة ذلك كله وح�سن تنزيله.
13
�إن�ه��ا ال�صيغة املقا�صدية التي تت�سم بكليتها وان�ضباطها وظهورها،
واطرادها و�إطالقها ،و�شمولها وعموميتها ..والتي من �ش�أنها تر�سيم الفقه
احل َكمي
احلي؛ الذي يدخل القلوب من دون ا�ستئذان ،فقه يتفاعل فيه الفهم ِ
والوعي املقا�صدي بعنا�صر الرتبية والرتقية ،والتخلية والتحلية ،والواقع
والواجب على �ضوء �سياق ال ينفلت فيه الواقع من الواجب ،وال يهمل الواجب
فيه الواقع.
وملا كانت ال�صيغة املقا�صدية �أه��م ما ي�ستعان به على فهم الن�صو�ص
ال�شرعية ،وتنزيلها على الواقع ،على النحو الأعدل والأو�سط الذي ال ميل
فيه ..كان بحث �أثرها يف تدبري االختالف الفقهي من البحوث املهمة التي
يجب �أن تظفر بالرعاية ،ومن امل�سائل التي يجب �أن توجه لها الغاية ،ويبذل
الباحث فيها جهده ،نظرا لدورها يف فهم ال�شريعة واالجتهاد يف �أحكامها
من ناحية ،ولأثرها يف جتديد الفقه ،وتقوية دوره ومكانته من ناحية �أخرى
وت�أ�سي�سا على ما �سبق ،ف ��إن ه��ذا الكتاب منتظمة مباحثه يف مدخل
منهجي ،و�أربعة ف�صول ،وخامتة .يناق�ش املدخل �س�ؤال املقا�صد ومنهج
القراءة والت�أويل بر�ؤية منهجية ا�ست�شرافية ،ويتناول الف�صل الأول ق�ضايا
يف مناهج البحث الأ�صويل و�س�ؤال التجديد� .أما الف�صل الثاين فيعنى ببيان
�أثر مقا�صد ال�شريعة؛ بق�سميها مقا�صد ال�شارع ومقا�صد املكلف ،يف بناء
التكليف ال�شرعي .ويعتني الف�صل الثالث ببيان �أثر مقا�صد ال�شريعة يف
تر�شيد ما �أ�ضحى ي�سمى بـ «حقوق الإن�سان»� .أما الف�صل الرابع فخ�ص�ص
ال�ست�شراف �أثر مقا�صد ال�شريعة يف حتقيق التكامل احل�ضاري بني مذاهب
�أه��ل القبلة ،وحت��وي اخلامتة ب�سط خال�صة البحث ،مع اق�تراح جماالت
معرفية لتنزيل كليات وجزئياتها مقا�صد ال�شريعة.
ويف اخلتام ،ال �أقول �إين وفيت يف هذا البحث باملراد ،ولكن �أجهدت نف�سي
على قدر طاقتي لعلي �أوافق ال�صواب ،و�أعرتف بالعجز عن الإحاطة به ،كما
14
�أعرتف بالق�صور يف حتليل بع�ض م�سائله ،وما تو�صلت �إليه من نتائج .وقد
اتخدت طلب احلق يل نحلة ،واالع�تراف به لأهله ملة ،وال�سعيد من عدت
�سقطاته ،وعلمت غلطاته ،و�إمنا الأعمال بالنيات و�إمنا لكل امرئ ما نوى.
واحلمد هلل الذي بنعمته تتم ال�صاحلات...
15
مدخل
�س�ؤال املقا�صد ومنهج القراءة والت�أويل
ت�شكل درا�سة املقا�صد �أهمية كربى يف العمل املنهجي؛ �إذ هي التي حتدد
الأط��ر العامة والكليات التي تندرج حتتها اجلزئيات ،وال انفكاك لهاته
الأخ�يرة عن �سابقتها بو�صف هاته �أحد املكونات الأ�سا�سية للإطار العام
الذي ي�س ّيج القراءة ،وير�سم حدود الت�أويل املمكنة التي ال ميكن لأي مق�صد
جزئي �أن يتعداها� ،أو �أن يتج�سد بعيدا عن اعتبارها .وعلى مدار م�سرية
التفاعل مع الن�ص امل� ّؤ�س�س ج�سد �س�ؤال املقا�صد ب�ؤرة فعل القراءة ومركزها
الذي ين�آى بفعل املكلف عن العبث والالمعنى ،ويك�سبه الق�صدية الالزمة يف
فهمه وا�ستنباطه وتنزيله..
ووفق هذا املهيع؛ تغدو املقا�صد �إطارا منهجيا �ضابطا للفهوم ،وم�سلكا
علميا م�ؤطرا للتنزيالت لي�س يف العلوم ال�شرعية فح�سب بل يف باقي الفنون
الأخرى؛ من علوم اجتماعية ،واقت�صادية ،و�سيا�سية ،وعلوم جتريبية ،ب�شتى
فروعها؛ من حيث كونها منهجية معرفية ل�شتى ف��روع املعرفة؛ فهي ـ �أي
املقا�صد ـ تعد بكليتها منهجية علمية ومعرفية ،وت�شكل باطرادها ،وثباتها،
و�شموليتها ،وببعديها امل ��آيل واال�ست�شرايف ،طريقا ونهجا لبلوغ الغايات
والأهداف يف جمال العلم واملعرفة.
فعلى �سبيل املثال عند درا�سة كليات املقا�صد وجزئياتها جند �أنها ت�ؤ�س�س
على ما يعتربه ال�شارع م�صالح للنا�س «درء مفا�سد حا�صلة �أو متوقعة،
�أو جلب م�صالح قائمة �أو متوقعة� ،أو الرتجيح بني امل�صالح واملفا�سد» ،ومن
(((
ثم ميكن �أن ن�ؤ�س�س علومنا االجتماعية والإ�سالمية على بعدين مو�ضوعيني
وف�صل
ذكرهما الإم��ام ال�شاطبي (مقا�صد ال�شارع ،ومقا�صد املكلف)ّ ،
خمتلف امتداداتها الت�شريعية واحلكمية.
-1اجتاهات النظر يف الت�أ�سي�س املقا�صدي للعلوم االجتماعية ،د .عبد اهلل حممد الأمني
النعيم ،من كتاب مقا�صد ال�شريعة :نحو �إطار للبحث يف العلوم االجتماعية والإن�سانية� ،ص .62
19
من ناحية �أخرى ،ف�إن الأفق الطبيعي والوا�سع الذي تفتحه نظرية املقا�صد
هو �أفق ما ي�سمى «املجتمع املدين» على امل�ستوى املحلي والعاملي ،وما يتعلق
بذلك من مهمات تنموية وعمرانية ،كما �أن النزعة الإن�سانية العميقة الكامنة
يف نظام الوقف ومنظومة العمل اخل�يري امل�ستندة �إل��ى �أ�صول ال�شريعة
ومقا�صدها هي ما ت�سعى �إليه نظرية املجتمع املدين املحلي والعاملي .و�إذا كان
هدف املقا�صد هو حفظ نظام العامل وا�ستدامة �صالحه ب�صالح الإن�سان،
ف�إن مقا�صد ال�شريعة ال ميكن �أن تبلغ كمال حتققها �إال على م�ستوى عاملي،
ومو�ضوع املجتمع املدين ،على امل�ستويني املحلي والعاملي ،هو �أحد املو�ضوعات
التي تتجلى فيها مقا�صد ال�شريعة بكل �أبعادها املدنية والإن�سانية(((.
والناظر يف ال�سياق التاريخي ملقا�صد ال�شريعة ،بدء ًا مبرحلة الت�أ�صيل
املرجعي م��ع ن��زول ال �ق��ر�آن ال�ك��رمي وترجمته العملية ال�سنة ال�شريفة،
وم ��روا مب��راح��ل :الت�أ�سي�س ال�ن�ظ��ري م��ع الإم���ام اجلويني(ت478هـ)،
والإم� ��ام ال� �غ ��زايل(ت505ه� �ـ) ،والإم� ��ام ال� ��رازي(ت606ه � �ـ) ،والإم ��ام
الآم� ��دي(ت631ه � �ـ) ،ومرحلة اجل�م��ع ب�ين الت�أ�صيل النظري والتفعيل
العملي م��ع �سلطان العلماء العز ب��ن عبد ال �� �س�لام(ت660ه �ـ) ،والإم��ام
القرايف(ت684هـ) ،وابن تيمية(728هـ) ،وتلميذه ابن القيم(751هـ)،
ومرحلة الن�ضج النظري والإبداع املنهجي مع اللوذعي الإمام �أبي �إ�سحاق
ال�شاطبي املالكي(ت790هـ) ،ثم مرحلة الركود والرتاجع التي عرفها هذا
املجال املعريف بني القرنني الثامن الهجري والقرن الرابع ع�شر الهجري،
و�صوال �إلى مرحلة الإحياء وا�ستئناف االجتهاد املقا�صدي مع جيل الن�صف
الثاين من القرن الرابع ع�شر الهجري �إلى اليوم الذي حاول �أ�صحابه حتقيق
�أهم ن�صو�ص هذا العلم ،وحماوله نقده ،وقراءة حمتويات �أهم م�صنفاته،
تدقيقا وتركيزا على بع�ض ق�ضاياه ،واالجتهاد يف جتديد م�ضامينه ،وتقريبها
من التداول العام..
-1املجتمع املدين يف �ضوء املقا�صد العامة لل�شريعة ،د� .إبراهيم البيومي غامن ،من كتاب «مقا�صد
ال�شريعة وق�ضايا الع�صر»� ،ص 151ـ.152
20
�إن الناظر يف كل هذا الرتاكم املعريف يجد �أبا �إ�سحاق ال�شاطبي يتحدث يف
�آخر كتاب املقا�صد من مو�سوعته «املوافقات» ،وك�أن �شيئا مهما مل ُي َقل بعد،
وعليه يقوم بناء املقا�صد ب�أكمله ،و�إن مل ينجز انهار هذا البناء كله ،ولي�س
ذلك ال�شيء غري بيان الطريق الأ�صوب الذي به يتم الو�صول �إلى املقا�صد
حتى ت�سمى كذلك ،يقول ال�شاطبي« :ولكن البد من خامتة تكر على باب
املقا�صد بالبيان وتعرف بتمام املق�صود فيه بحول اهلل .ف�إن للقائل �أن يقول:
�إن ما تقدم من امل�سائل يف هذا الكتاب مبني على املعرفة مبق�صود ال�شارع؛
(((
فبماذا يعرف ما هو له مما لي�س مبق�صود له؟» .
فعال �إن الأهمية التي تكت�سيها الإجابة عن ال�س�ؤال املب�سوط من قبل
�أب��ي �إ�سحاق بالغة اخلطورة ،فعليه يقوم كل ما قيل بخ�صو�ص املقا�صد،
وكل ما ميكن �أن يقال حولها ،فال �شرعية لها ،وال اعرتاف بها ،وال تق ّبل
لأ�صنافها ،وال للنتائج التي تبنى عليها من دون تو�ضيح الكيفية التي بها
ميكن الو�صول �إليها؛ لأن « كل كالم يف املقا�صد وكل تو�سع يف بحثها ،وكل
اكت�شاف جديد لكلياتها ،كل هذا متوقف على �إيجاد و�ضبط املنهاج ال�صحيح
(((
ملعرفة مقا�صد ال�شارع»
ولأن هذا «املنهاج ال�صحيح» لي�س معطى جاهزا ،وال بناء م�سبقا ،تتطابق
حوله مواقف القراء على اختالف م�شاربهم ،ف�إنه من الطبيعي �أن تختلف
ال��ر�ؤى حول �أي منهج يدعي الو�صول �إلى املقا�صد ،كما �أنه من الطبيعي
�أي�ضا ،واحلال هذه� ،أن �أي حماولة جادة لبناء هذا املنهج لن تقوم �إال يف �أفق
املعرفة اجليدة باملناهج التي تختلف معها ،بل ويف �أفق حوار علمي بني هذا
البناء والبناءات املختلفة.
يهم ببناء منهجه املو�صل هذا الإجراء عني ما قام به الإمام ال�شاطبي وهو ّ
�إلى املقا�صد؛ الذي جتاوز احلديث عن م�سالك �إجناز ا َمل َق ِ
ا�صد ،واكتفى يف
-1املوافقات .265/2
-2املوافقات 297/3 ،50/2
21
ا�صد ،وهذا موافقاته بت�أ�صيل القول يف م�سالك الك�شف عن ا َمل َق ِ
ن�ص ما قاله بهذا ال�صدد» ..ف�صل :بيان اجلهات التي تعرف بها مقا�صد ُّ
جهات� :إحداها :جمرد ٍ ال�شرع ..فنقول -وب��اهلل التوفيق� -إ َّن��ه يعرف من
الأمر والنهي االبتدائي الت�صريحي؛ ف�إنَّ الأمر معلوم �أ َّنه �إنمَّ ا كان �أم ًرا
القت�ضائه الفعل ،فوقوع الفعل عند وجود الأمر به مق�صود لل�شارع .وكذلك
الكف عنه ،فعدم وقوعه مق�صود له، مقت�ض لنفي الفعل �أو ِّ النهي معلوم �أ َّنه ٍ
و�إيقاعه خمالف ملق�صوده ،كما �أنَّ عدم �إيقاع امل�أمور به خمالف ملق�صوده...
الثانية :اعتبار علل الأمر والنهي ،وملاذا �أمر بهذا الفعل؟ وملاذا نهى عن
هذا الآخر؟ ..واجلهة الثالثة� :أنَّ لل�شارع يف �شرع الأحكام العاد َّية والعباد َّية
ا�صد ن�ص عليه من هذه ا َمل َق ِ مقا�صد �أ�صل َّية ومقا�صد تابعة ..وذلك �أنَّ ما َّ
وم�ستدع لطلبه و�إدامته.. ٍ أ�صلي ،ومق ٍّو حلكمته،
التوابع هو مثبت للمق�صد ال ِّ
(فكل) ما مل ين�ص عليه مما �ش�أنه ذلك مق�صود لل�شارع ...واجلهة الرابعة:
مما يعرف به مق�صد ال�شارع ال�سكوت عن �شرع الت�سبب� ،أو عن �شرع َّية
(((
العمل مع قيام املعنى املقت�ضي له»..
ومل يكن الإم��ام ال�شاطبي وح��ده ال��ذي �سلك هذا املنهج يف التعامل مع
ا�صد ،بل �إنَّ الإمام ابن عا�شور ،جتاوز يف مقا�صده م�سالك التحقق من ا َمل َق ِ
احلديث عن هذه امل�سالك ،واكتفى بذكر الطرق التي تثبت بها ا َمل َق ِ
ا�صد،
ن�صه� ..« :أح�سبك قد وثقت مما ق َّررته لك �آن ًفا ب�أنَّ لل�شريعة مقا�صد وقال ما ُّ
من الت�شريع ب�أدل ٍة ح�صل لك العلم بها حتقق الغر�ض على وجه الإجمال،
فتطلعت الآن �إلى معرفة الطرق التي ن�ستطيع �أن نبلغ بها �إلى �أعيان
ا�صد ال�شرع َّية يف خمتلف الت�شريعات ،وكيف ن�صل �إلى اال�ستدالل ا َمل َق ِ
ا�صد ..فعلينا �أن نر�سم طرائق اال�ستدالل مق�صد ما من تلك ا َمل َق ٍِ على تعيني
على مقا�صد ال�شريعة مبا بلغنا �إليه بالت�أمل وبالرجوع �إلى كالم �أ�ساطني
العلماء ..الطريق الأول :وهو �أعظمها ،ا�ستقراء ال�شريعة يف ت�صرفاتها،
-1املوافقات 681-666/2
22
وهو على نوعني :النوع الأول� :أعظمهما :ا�ستقراء الأحكام املعروفة عللها،
الآئ��ل �إلى ا�ستقراء تلك العلل املثبتة بطرق م�سالك الع َّلة ..النوع الثاين:
ا�ستقراء �أدلة �أحكام ا�شرتكت يف ع َّلة بحيث يح�صل لنا اليقني ب�أنَّ تلك الع َّلة
مق�صد مراد لل�شارع ..الطريق الثاين� :أدلة القر�آن الوا�ضحة الداللة التي
ي�ضعف احتمال �أن يكون املراد منها غري ما هو ظاهرها بح�سب اال�ستعمال
العربي بحيث ال ي�شك يف املراد منها �إال من �شاء �أن يدخل على نف�سه �ش ًّكا ِّ
ال يعت ُّد به ..الطريق الثالث :ال�س َّنة املتواترة ،وهذا الطريق ال يوجد له مثال
�إال يف حالني :احلال الأول :املتواتر املعنوي احلا�صل من م�شاهدة عموم
النبي [ فيح�صل لهم علم بت�شريع يف ذلك ي�ستوي فيه ال�صحابة عم ًال من ِّ
عملي يح�صل لآحاد ال�صحابة من جميع امل�شاهدين ..احلال الثاين :تواتر ٌّ
تكرر م�شاهدة �أعمال ر�سول اهلل [ بحيث ي�ستخل�ص من جمموعها مق�صدً ا
(((
�شرع ًّيا»..
وال يخفى �أن الإجابة عن هذا ال�س�ؤال ال تعني البحث عن �أدوات وو�سائل
بقدر ما تعني بناء ت�صور كامل للقراءة والت�أويل ثم منهج هذه القراءة
وجتلياتها ،ب�شكل يبوئ املقا�صد �أن تكون قاعدة لبناء العلوم واملعارف
ومر�شدا لالجتهاد ،وبهذا نعطيها انطالقة جديدة لأداء دوره��ا قاعدة
لالجتهاد وت�أ�سي�س العلوم ..وهو طبعا لي�س بالأمر الي�سري الذي ميكن �إجنازه
يف حماولة بحثية واحدة ،ولكن الق�صد هو حتديد املجاالت وو�ضع املعامل
الهادية يف هذا الطريق ،وهو �أمر ال تخفى �صعوبته ،ولكن البد من اقتحامه،
ولو بخطوات حمدودة ،مع الرتكيز على بع�ض الق�ضايا التي تتمتع ب�إحلاحية
وا�ست�شكال يف ال�سياق الثقايف املعا�صر من مثل :تدبري االختالف الفقهي،
وحقوق الإن�سان ،والتكامل احل�ضاري.
23
الف�صل الأول:
مناهج البحث الأ�صويل
و�س�ؤال التجديد
متهيد
من مظاهر جتديد التفعيل العملي والتنزيلي ملقا�صد ال�شريعة� ،أن يحر�ص
املكلف على فهمها يف �إط��ار �سياقها الكوين وبعدها ال�شمويل ،ال��ذي من
مقت�ضياته الت�أطري العملي لعموم �أحكام ال�شريعة الواقعة واملتوقعة ،مبعنى
رعاية الأهداف والغايات التي يرجع �إليها من اختلطت عليه الأمور �أو �ضلت
به ال�شعاب خ�صو�صا عند غلبة الع�صبيات والتقليد� ،أو من اختلطت عليه
احللول �أو ز ّل��ت به الفهوم ،ف�إنه �سيجد �أع�لام مقا�صد ال�شريعة قائمة،
وداللتها وا�ضحة.
وقد �شكل �س�ؤال التجديد يف علم الأ�صول ان�شغاال حموريا عند العديد من
علماء الإ�سالم ،منذ الإرها�صات الأولى لظهور املنهجيات الأ�صولية� ،سواء
مع املنهجية ال�شافعية� ،أو املنهجية احلنفية� ،أو مع حماولة ال�شاطبي الفريدة
يف هذا الباب الذي ا�ستطاع �أن يف ّعل مقا�صد ال�شريعة يف الإجابة على هذا
ال�س�ؤال مبختلف تف�صيالتها وتق�سيماتها.
27
املبحث الأول :يف جدلية العالقة بني املقا�صد و�أ�صول الفقه
ميثل علم �أ�صول الفقه �أ�صالة الفكر الإ�سالمي �أ�صدق متثيل ،فهو عماد
االجتهاد وبه قوام منهج اال�ستنباط ،مما جعله مو�ضوعا م�شرتكا بكل جوانبه
بني كل الباحثني عن الفكر ال�سامي الراغبني يف اال�ستق�صاء ملعامل الإنتاج
الفكري العايل .وقد منا هذا الرتاث املنهجي الفريد وتكامل على مدى قرون
من الزمن ،و�أجيال من الأعالم ،وت�أثر قوة و�ضعفا مبا ت�أثرت به احل�ضارة
الإ�سالمية عرب التاريخ.
وب�إحكام املرء حللقات هذا العلم وقواعده ،ي�ستطيع التو�صل �إلى فهم
�سديد وقومي لن�صو�ص الوحي كتابا و�سنة ،كما �أن عدم الإ�شراف على م�سارح
هذا الفن« ،وع ّدم التمكن من مبادئه يقود �إلى �صريورة فهم املرء ملعاين
ن�صو�ص الوحي فهما غري موثوق به ،وذلك ال�شتمال هذا الفن على معظم
الأدوات العلمية التي يتوقف على �إجادتها ح�سن �إدراك املعاين الثاوية بني
طيات ن�صو�ص الوحي كتابا و�سنة»(((.
وكما هو معلوم ،فمباحث هذا العلم قد تنامت وتطورت ،وم�سائله قد
جتددت وتبلورت على �أيدي �سائر علماء الأمة من حمدثني ولغويني وفقهاء
ومتكلمني .(((...ولهذا فال عجب �أن يجد املرء اتفاقا من لدن �أهل العلم
ومباحثه الأ�سا�سية؛ وذل��ك منذ �أن مت تدوينه ،وقع ّدت ق��واع� ّده ،و�أ�صلت
مباحثه ،بل �إن بع�ض علماء القرن ال�ساد�س الهجري انتهوا �إلى القول ب�أنه هو
العلم الأهم والأوحد الذي يحتاج �إليه املرء امل�ؤهل للنظر االجتهادي ،فبعد
-1انظر �أدوات النظر االجتهادي املن�شود يف �ضوء الواقع املعا�صر ،د.قطب م�صطفى �سانو� ،ص.110:
-2وقد �أ�شار الإمام الغزايل �إلى ت�أثر كثري من مباحث علم الأ�صول بخلفيات امل�ؤلفني من متكلمني
ولغويني ،وفقهاء ،و�أ�شار يف معر�ض بيانه تعلق الأ�صول بالكالم �إلى �أن ذلك يرجع �إلى غلبة الكالم
على طبائعهم ،فقد حملهم « ...حب �صناعتهم على خلط بهذه ال�صنعة ،كما حمل حب اللغة والنحو
بع�ض الأ�صوليني على مزج جملة من النحو بالأ�صول ،فذكروا فيه من معاين احلروف ،ومعاين الإعراب
جمال هي من علم النحو خا�صة ،وكما حمل حب الفقه جماعة من فقهاء ما وراء النهر ك�أبي زيد
–رحمه اهلل -و�أتباعه على مزج م�سائل كثرية من تفاريع الفقه بالأ�صول» امل�ست�صفى �ص .10
28
�أن �أورد �شروط الت�صدي لالجتهاد يف ع�صره –ناقال عن الإمام الغزايل-
قال الإمام ال��رازي ...«:وقد ظهر مما ذكرنا �أن �أهم العلوم للمجتهد علم
�أ�صول الفقه ،و�أما �سائر العلوم فغري مهمة يف ذلك»(((.
كما �أن بع�ضهم كالإمام ال�شوكاين ،وغ�يره خل�صوا �إل��ى اعتباره عماد
ف�سطاط االجتهاد ،و�أ�سا�سه ال��ذي تقوم عليه �أرك��ان بنائه ،ويف ذلك
يقول –رحمه اهلل...«:-ف � ��إن ه��ذا العلم هو عماد ف�سطاط االجتهاد،
و�أ�سا�سه الذي تقوم عليه �أركان بنائه.(((»...
وال نعجب من كالم ه�ؤالء الأعالم؛ لأن مرده �إلى ما يتميز به هذا العلم
من �ضبط منهجي حٌم َكم ،زد على ذلك قدرة مبادئه وق�ضاياه على تر�شيد
الفهم وتقوميه ،و�إبعاده عن ال�شطط يف فهم الن�صو�ص وت�أويلها.
ولئن كانت لهذا العلم هذه املكانة واملنزلة العالية ف�إنه ،وللأ�سف قد
خالطت مباحثه الأ�صلية م�سائل دخيلة غريبة ،كما �أنه قد حطت ب�شواطئه
روا�سب كالمية معقدة ،وق�ضايا لغوية جم��ردة((( ،بعيدة عن حقيقة هذا
العلم وق�ضاياه الأ�سا�سية الكربى ،كادت �أن تطم�س معامله ،وجعلته يدور يف
حلقة مفرغة �إلى �أن و�صل يف نهاية القرن الثامن الهجري �إلى م�ستوى من
التقليد واجلمود جعله عر�ضة حلملة من الت�شكيك يف جدواه ،بل ويف اعتباره
علما قائم الذات.
ويجد هذا الت�شكيك م�سوغا له يف كون هذه املرحلة ات�سمت باجلمود
وتوقف حركة االجتهاد ،بحيث �صار علم الأ�صول علما نظريا جدليا ،ال دو َر
له يف حركة االجتهاد ،وهذا ما جعل معظم امل�ؤلفات الأ�صولية يف هذه الفرتة
ال تتع ّدى ال�شرح واالخت�صار والنظم ملا �سبق.
29
وقد كان للإمام ال�شاطبي ف�ضل ال�سبق يف حماولة و�ضع ميزان ملحاكمة
كثري من هذه املباحث الدخيلة على علم الأ�صول(((� ،إذا ا�سرت�شد املرء بها،
كان �إلى �ضبط هذا العلم و�إتقانه �أقدر و�أقوى؛ بل لو نال ميزان ال�شاطبي
هذا كبري اهتمام منذ ذلك اليوم لأعيد علم �أ�صول الفقه �إلى �سريته الأولى؛
�أعني خدمة كتاب اهلل و�سنة ر�سوله [.
و�إذا تقرر هذا ،فحري بنا �أن نثني ذلك بالإ�شارة �إلى �أهم �آلية يتوقف
عليها �إتقان حلقات هذا العلم ،تلك هي اللغة العربية ،ذلك «�أن ال�شريعة
عربية ،و�إذا كانت عربية فال يفهمها حق الفهم �إال من فهم اللغة العربية حق
الفهم»((( ،و�أي�ضا ف�إن جل القواع ّد التي اعتمدها علماء الأ�صول م�ستعارة
وم�شتقة من قواعد اللغة العربية من نحو ،و�صرف وبالغة؛ فمباحث املفهوم
واملنطوق ،والأمر والنهي ،والإطالق والتقييد ،والعموم واخل�صو�ص ،واملجاز
واحلقيقة ،والظهور واخلفاء ،والإجمال والتف�صيل وغريها ،كلها مباحث
قائمة على قواعد العربية.
وقد �أ�شار الإمام ال�شاطبي �إلى ذلك بقوله«:وغالب ما �صنف يف �أ�صول
الفقه من الفنون �إمن��ا هو من املطالب العربية التي تكفل املجتهد فيها
باجلواب عنها ،وما �سواها من املقدمات فقد يفي فيه التقليد ،كالكالم
يف الأحكام ت�صورا وت�صديقا ،ك�أحكام الن�سخ ،و�أحكام احلديث وما �أ�شبه
ذلك»(((.
فيتح�صل لدينا �أنه ال غنى للمجتهد يف ال�شريعة عن الإملام والإحاطة باللغة
العربية(((� ،إن هو �أراد �أن يحكم حلقات علم الأ�صول ،وي�صبح قادرا على
--1انظر املوافقات .28-19/1
-2انظر املوافقات .83/4
-3نف�س امل�صدر ،85-84/4وراجع تعليق ال�شيخ دراز يف الهام�ش ( )1من املوافقات .85/4
-4يقول الإمام ال�شاطبي« :وال �أعني بذلك النحو وحده ،وال ال�صرف وحده ،وال اللغة وال علم املعاين،
وال غري ذلك من �أنواع العلوم املتعلقة بالل�سان ،بل املراد جملة علم الل�سان �ألفاظ ًا �أو معاين »...انظر
املوافقات .82/4
30
اال�ستفادة منه� ،سواء يف فهم ن�صو�ص الوحي –كتابا و�سنة� -أم يف ا�ستنباط
الأحكام من تلكم الن�صو�ص ،بل �إن الإمام ال�شاطبي –رحمه اهلل -انتهى �إلى
�أن �أمر العلم بالعربية مرتبط ببلوغ درجة االجتهاد الذي يبوئ �صاحبه مكانة
الفهم ي�ؤدي �إلى مثله يف ال�شريعة «ف�إذا فر�ضنا مبتدئا يف فهم اللغة العربية
فهو مبتدئ يف فهم ال�شريعة� ،أو متو�سطا فهو متو�سط يف فهم ال�شريعة،
واملتو�سط مل يبلغ درجة النهاية ،ف�إن انتهى �إلى درجة الغاية يف العربية كان
كذلك يف ال�شريعة ،فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم ال�صحابة وغريهم
من الف�صحاء»(((.
ولئن �أوجزنا احلديث عن �أهمية الإحاطة باملعرفة الأ�صولية ،وتثنيتها
ب�إبراز دور اللغة العربية يف التو�صل �إلى فهم �سديد للمعاين املرادة
لل�شارع من ن�صو�ص ال�شريعة الإ�سالمية ،ف�إنه ال متام لتحقيق هذا
الهدف ما مل تتم اال�ستعانة مبعرفة �أخ��رى ال تقل �أهمية عن �سابقاتها،
وهي «املعرفة املقا�صدية» التي ت�شكل� ،إلى جانب املعرفة اللغوية واملعرفة
الأ�صولية مركبا معرفيا متنا�سقا من �ش�أنه �أن ير�سم معامل منهج يخول
للمجتهدين –مبقت�ضى التمر�س به -االنخراط يف �سلك العلماء الربانيني
الرا�سخني ،الناظرين يف امل�آالت قبل اجلواب عن ال�س�ؤاالت.
وقد اعترب الإم��ام ال�شاطبي هذه املعرفة الأداة الأول��ى والأخ�يرة للنظر
االجتهادي ،فمن مل ي�شرف عليها «لي�س له من حق �أن ينب�س ببنت �شفة
يف هذا املجال بل يحرم عليه ممار�سة النظر االجتهادي»((( ،ويف هذا
يقول –رحمه اهلل�«:-إمن��ا حت�صل درجة االجتهاد ملن ات�صف بو�صفني:
�أحدهما :فهم مقا�صد ال�شريعة على كمالها .والثاين :التمكن من اال�ستنباط
بناء على فهمه فيها ...ف�إذا بلغ الإن�سان مبلغا فهم عن ال�شارع فيه ق�صده يف
كل م�س�ألة من م�سائل ال�شريعة ،ويف كل باب من �أبوابها ،فقد ح�صل له و�صف
هو ال�سبب يف تنزله منزلة اخلليفة للنبي [ يف التعليم والفتيا واحلكم مبا
-1نف�س امل�صدر .83/4
--2انظر �أدوات النظر االجتهادي املن�شود ،قطب م�صطفى �سانو �ص .83
31
�أراه اهلل .و�أما الثاين –يق�صد بذلك علم اال�ستنباط -فهو كاخلادم للأول؛
ف�إن التمكن من ذلك �إمنا هو بوا�سطة معارف حمتاج �إليها يف فهم ال�شريعة
�أوال ،ومن هنا كان خادما للأول ،ويف ا�ستنباط الأحكام ثانيا .لكن ال تظهر
ثمرة الفهم �إال يف اال�ستنباط ،فلذلك جعل �شرطا ثانيا ،و�إمنا كان الأول هو
ال�سبب يف بلوغ هذه املرتبة لأنه املق�صود ،والثاين و�سيلة ...فاالجتهاد يف
ا�ستنباط الأحكام ال�شرعية علم م�ستقل بنف�سه ...و�إن كان ثم علم ال يح�صل
االجتهاد يف ال�شريعة �إال باالجتهاد فيه ،فهو بالبد م�ضطر �إليه ...والأقرب
يف العلوم �إلى �أن يكون هكذا علم اللغة العربية»(((.
وع�ن��دم��ا ف��رق ب�ين �أن� ��واع االج�ت�ه��اد انتهى –رحمه اهلل� -إل ��ى القول
�إن«:االجتهاد �إن تعلق باال�ستنباط من الن�صو�ص فالبد من ا�شرتاط العلم
بالعربية .و�إن تعلق باملعاين من امل�صالح واملفا�سد جم��ردة عن اقت�ضاء
الن�صو�ص لها� ،أو م�سلمة من �صاحب االجتهاد يف الن�صو�ص فال يلزم يف
ذلك العلم بالعربية ،و�إمنا يلزم العلم مبقا�صد ال�شرع من ال�شريعة جملة
وتف�صيال خا�صة.(((»...
�إن هذا النظر ال�شاطبي يعطي مكانة هامة للمعرفة املقا�صدية ال تقل ب�أي
حال من الأحوال عن مكانة املعرفة الأ�صولية –كما �سبقت الإ�شارة -ولعل
ذلك راجع �إلى �إح�سا�س �أبي �إ�سحاق ب�أن ما انتهى �إليه ع�صره من انحرافات،
واعوجاج فكري ،كان �سببه اجلهل مبقا�صد ال�شريعة؛ والتوغل يف االن�شغال
باجلزئيات عو�ض االهتمام بالكليات ،فتجدهم يتجر�ؤون جتر�ؤ ًا مهينا على
�أحكام اهلل و�شريعته ،بل جتد بع�ضهم �آخذا ببع�ض جزئياتها يف هدم كلياتها
حتى ي�صري منها �إلى ما ظهر له ببادئ ر�أيه ،من غري �إحاطة مبعانيها ،وال
رجوع االفتقار �إليها ،ويعني على هذا –كما ين�ص ال�شاطبي -اجلهل مبقا�صد
ال�شريعة ،وتوهم بلوغ مرتبة االجتهاد.
32
والناظر يف �صنيع ال�شاطبي يلم�س يف عباراته تلميحات و�إ�شارات ،يرتجح
بها ميله �إلى و�ضع علمي الأ�صول واملقا�صد يف �إطار واحد ،منها قوله يف
مقدمته للموافقات...« :ث��م ا�ستخرت اهلل تعالى يف نظم تلك الفوائد،
وجمع تلك الفوائد� ،إلى تراجم تردها �إلى �أ�صولها ،وتكون عونا على تعقلها
وحت�صيلها ،فان�ضمت �إلى تراجم الأ�صول الفقهية ،وانتظمت يف �أ�سالكها
ال�سنية البهية ،ف�صار كتابا منح�صرا يف خم�سة �أق �� �س��ام .(((»...ومنها
ا�ستدالله على قطعية �أ�صول الفقه ،ب�إرجاعها �إلى كليات املقا�صد الثالثة،
معتمدا يف ذلك على اال�ستقراء املفيد للقطع(((.
والذي يظهر من �صنيع ال�شاطبي �أنه �أراد �أن يوفق –بقدر ا�ستطاعته-
(((
بني كثري من امل�سائل التي اختلفت فيها �آراء الفقهاء نظرا الختالف �أ�صولهم
التي هي �أ�سا�س هذه امل�سائل ،ف�أراد رحمه اهلل �أن يجمعهم حتت �سقف �أ�شمل
من مظلة �أ�صول الفقه ،فعمد �إل��ى البحث يف مقا�صد ال�شريعة بطريقته
الإبداعية الفريدة.
وبعد �أن �أعطى الإمام ال�شاطبي للمعرفة املقا�صدية هذه املرتبة العليا يف
النظر االجتهادي ،وهذا الوزن الثقيل يف ممار�سة العملية االجتهادية� ،أخذ
علماء كثريون –بعده -ي�سلكون م�سلكه يف �إبراز �ضرورة املقا�صد مللجتهدين،
وبيان �أهميتها يف فهم ن�صو�ص الوحي –كتابا و�سنة.-
فقد �أكد الأ�ستاذ عالل الفا�سي �أن «مقا�صد ال�شريعة هي املرجع الأبدي
ال�ستيفاء ما يتوقف عليه الت�شريع والق�ضاء يف الفقه الإ�سالمي ،ولكنها
-1انظر املوافقات .16/1
-2نف�س امل�صدر.16/1 .
-3ويف ذلك يقول ال�شاطبي يف كتابه« :وق��د مت –واحلمد هلل -الغر�ض املق�صود ،وح�صل بف�ضل
اهلل �إجناز ذلك املوعود ،على �أنه بقيت �أ�شياء مل ي�سع �إيرادها� ،إذ مل ي�سهل على كثري من ال�سالكني
مرادها ،وقل على كرثة التعط�ش �إليها ورادها ،فخ�شيت �أن ال يردوا مواردها ،و�أن ال ينظموا يف �سلك
التحقيق �شواردها ،فثنيت من جماع بيانها العنان ،و�أرح��ت من ر�سمها القلم والبيان» املوافقات
251/4ويا ليته مل يثن .
33
من �صميمه ،ولي�ست غام�ضة غمو�ض القانون الطبيعي ال��ذي ال يعرف
له حد وال مورد ..و�أن املقا�صد ت�ؤثر حتى على ما هو من�صو�ص عليه عند
االقت�ضاء»(((.
و�أما ال�شيخ ابن عا�شور ،فقد تعر�ض غري ما مرة لبيان �أهمية املقا�صد
و�ضرورتها يف االجتهاد؛ فقد كتب ف�صال �سماه «احتياج الفقيه �إلى معرفة
مقا�صد ال�شريعة» بني فيه �أن االجتهاد يف ال�شريعة يكون على خم�سة �أوجه
هي:
-1فهم �أقوالها ون�صو�صها مبقت�ضى اللغة واال�صطالح ال�شرعي.
-2النظر فيما يعار�ض الن�ص من ن�سخ� ،أو تقييد� ،أو تخ�صي�ص� ،أو ن�ص
راجح...
-3معرفة علل الأحكام ثم القيا�س عليها
-4احلكم فيما ال ي�شمله ن�ص وال قيا�س
-5تقرير الأحكام التعبدية على ماهي عليه ،فهذه خم�سة جماالت الجتهاد
الفقهاء .ثم قال«:فالفقيه بحاجة �إل��ى معرفة مقا�صد ال�شريعة يف هذه
الأنحاء كلها»(((.
وكتب ف�صال �آخر بعنوان�«:أدلة ال�شريعة اللفظية ال ت�ستغني عن معرفة
املقا�صد ال�شرعية»(((� ،أكد فيه �ضرورة �أخذ الن�صو�ص مبقا�صدها .وعقد
الدكتور حممد حامد العامل مبحثا يف حاجة املجتهد �إلى معرفة مقا�صد
ال�شارع(((.
-1انظر مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية ،ومكارمها �ص ،52-51وقد انتقد فيه الأ�ستاذ عالل الفا�سي
الدكتور �صبحي حمم�صاين �صاحب كتاب «:فل�سفة الت�شريع الإ�سالمي» ،لكونه اعترب مقا�صد ال�شريعة،
من امل�صادر اخلارجية للت�شريع الإ�سالمي.
-2انظر مقا�صد ال�شريعة �ص .18-15
-3نف�س املرجع �ص 28-27وقد تعر�ض ابن عا�شور يف كتابه املخ�ص�ص لإ�صالح التعليم�«:ألي�س
ال�صبح بقريب» ،تعر�ض فيه لأ�سباب �ضعف العلوم الإ�سالمية ،ومن �ضمنها الفقه ،وذكر �أن من
�أ�سباب �ضعفه ،وت�أخره؛ �إهمال الفقهاء ملقا�صد ال�شريعة� .ألي�س ال�صبح بقريب �ص .200
-4انظر املقا�صد العامة لل�شريعة الإ�سالمية �ص .122-106
34
و�ألف الدكتور نور الدين اخلادمي كتابا حول «االجتهاد املقا�صدي» بني
فيه حجيته ،و�ضوابطه(((.
وللدكتور �أحمد الري�سوين ر�سالة قيمة يف املو�ضوع بعنوان«:الفكر املقا�صدي:
قواعده وفوائده»((( ،ذكر فيها �أمهات الفوائد والآثار التي جننيها من العلم
مبقا�صد ال�شريعة ،جعل �أعظمها تلك التي يجنيها العلماء املجتهدون.
وتكمن �أهمية علم املقا�صد يف نظر الدكتور قطب م�صطفى �سانو يف
ا�شتماله على قواعد ومباحث قادرة على ح�سن �ضبط كثري من م�ستجدات
الع�صر وق�ضاياه اجلديدة ،وتوجيهها وفق �إرادة الإ�سالم ور�ؤيته(((.
ومب��ا �أن الدرا�سات يف ه��ذا الع�صر قد �أ�ضحت تتمركز على املنهجية
العلمية ال�شاملة ،ف�إنه ميكن �أن يكون هذا العلم ال�شرعي املر�شح مللء هذا
الفراغ؛ ذلك لأن «املقا�صد لي�ست –فح�سب� -أداة لإن�ضاج االجتهاد وتقوميه،
ولكنها –�أي�ضا� -أداة لتو�سيعه ومتكينه من ا�ستيعاب احلياة بكل تقلباتها
وت�شعباتها»(((.
وفائدة املقا�صد و �أهميتها ال تنح�صر يف االجتهاد واملجتهدين،
بل ميكن حت�صيلها لكل من ت�شبع بن�صيب منها؛ لأن مقا�صد ال�شرع
علمتنا �أنه ما من �شيء خلقه اهلل تعالى ،وما من �شيء �أمر به �أو نهى
عنه ،وما من �شيء ذكره �أو �أخرب عنه� ،إال وله مق�صوده �أو مقا�صده،
و�أن املطلوب ينطلق منها ،ويهتدي بها ،وهو ما عرب عنه الدكتور �أحمد
الري�سوين بقوله«:فاملقا�صد ب�أ�س�سها ومراميها ،وبكلياتها مع جزئياتها،
وب�أق�سامها ومراتبها ،ومب�سالكها وو�سائلها ،ت�شكل منهجا متميزا للفكر
-1وهو الكتاب 65من �سل�سلة كتاب الأمة.
-2من�شور �ضمن من�شورات الزمن ،الكتاب التا�سع ،دي�سمرب .1999
-3انظر �أدوات النظر االجتهادي� ،ص .119-118
-4انظر نظرية املقا�صد عند الإم��ام ال�شاطبي ،د� .أحمد الري�سوين �ص ،286وراج��ع مدخل �إلى
مقا�صد ال�شريعة ،لنف�س امل�ؤلف �ص ،14والفكر املقا�صدي بني ابن عا�شور وعالل الفا�سي ،له �أي�ضا
�ضمن ندوة احلركة ال�سلفية يف املغرب العربي �ص .303-301
35
والنظر ،والتحليل والتقومي ،واال�ستنتاج ،والرتكيب»(((.
وعلى حد تعبري الإمام ال�شاطبي ف�إن «زلة العامل �أكرث ما تكون عند الغفلة
عن اعتبار مقا�صد ال�شرع يف ذلك املعنى الذي اجتهد فيه»((( .وهو ما ن�شهده
يف واقعنا املعي�ش؛ �إذ �إن �سبب جملة من االنحرافات املعا�صرة يف الت�صور،
ويف التعامل مع ن�صو�ص الوحي ،و�إدراك �أولويات الأمة يف هذه املرحلة ،يعود
كل ذلك �إلى عدم متكن كثري من علماء الع�صر ودعاته من هذه املعرفة،
ونبذ �أكرثهم االهتمام بها ،و�إيالئها ما ت�ستحق من عناية ومكانة .ولذلك
فال غرو �أن تنتع�ش الفتاوى والأحكام التي ال تويل �أدنى اهتمام للم�آالت التي
ت�ؤول �إليها تلك الأحكام يف �أر�ض الواقع(((.
مما �سبق يتبني �أن ق�ضية جتديد �أ�صول الفقه تقت�ضي �ضرورة حتديد
ت�صور علمي دقيق لهذا التجديد ،مع بيان دواعيه ومقا�صده ،ودوره يف
�إح��داث نقلة نوعية وم�ستقبلية لأمة اخلتم ،وهنا �أ�سوق مقدمات منهجية
م�ساعدة يف هذا ال�سياق:
-املقدمة الأوىل� :إن جتديد �أمر الدين يتوقف على جتديد مناهج فهم
حقائق الدين ،وطرق التعامل مع تلك احلقائق ،و�سبل تطويع الواقع حلقائق
الدين وتعليماته ال�سديدة ،وجتديد مناهج الفهم يتوقف على جتديد الفكر
الأ�صويل .وبالتايل ،ف�إن جتديد �أمر الدين يتوقف على جتديد الفكر الأ�صويل
بو�صفه املنهجية التي حتدد مناهج فهم حقائق الدين وطرق التعامل معها،
وتفعيل الواقع بها .وما مل يتم جتديد الفكر الأ�صويل ،ف�إنه من املتعذر جتديد
�أمر الدين جتديدا من�شودا.
-املقدمة الثانية :هذه الأ�صول البديعة �-أعني علم �أ�صول الفقه -والتي
تتميز بها الأمة ،هي منتج ن�سج يف فرتة ن�ش�أته حول الوحي ،وفيه جتليات
--1انظر الفكر املقا�صدي ،احمد الري�سوين �ص .99
--2انظر املوافقات .122/4
--3انظر �أدوات النظر االجتهادي ،قطب �سانو �ص .117
36
لعبقريات كثرية ،كما �أن فيه �آليات ميكن �أن تلهم املفكر يف الع�صر الراهن،
لكنها مل حتافظ على تدفقها وحيويتها لأ�سباب وظروف عديدة ،وبالتايل
وج��ب وب�شكل كبري ،فتح االجتهاد يف �أبوابها وف�صولها من جديد وفق
�ضوابط .وكتاب الر�سالة للإمام حممد بن �إدري�س ال�شافعي واملوافقات
لل�شاطبي ،و�إر�شاد الفحول لل�شوكاين ،وغريها ال تعدو جميعها �أن تكون فتحا
م�ست�أنفا ل�سجالت هذا العلم البديع.
-املقدمة الثالثة� :إن �أ�صول الفقه ب�صورته احلالية ،ومبختلف مدار�سه،
ميثل جهدا غزيرا ونفي�سا ،ال يزال حا�ضرا وح ّيا ،عنده قابلية الإ�سهام يف
حل الإ�شكاالت ،وما زالت عنده قابلية للتعاطي مع كل امل�ستجدات .واحلوار
دائر حول املقدرة وكيفية الت�شغيل واال�ستعمال من �أجل املق�صد الكلي وهو
حت�صيل ال�سعادة يف الدارين ،ودور �أ�صول الفقه هو تي�سري هذا التح�صيل
يف العاجل والآجل.
-املقدمة الرابعة :كان وراء كل �أ�صل من الأ�صول جمموعة من النماذج
املعرفية التي كانت توجه حركة العقل امل�سلم يف عملية اال�ستنباط ،غري
�أن هذه الق�ضية قد ح�صل الذهول عنها وانح�صر جهد العقل امل�سلم يف
اال�سرتجاع واال�سرتداد واال�ستخراج اللهم �إال ما ح�صل يف فرتات التجديد
التي وجب ا�ستئناف احلفر يف حمدداتها.
-املقدمة اخلام�سة :ال غ��رو �أن االنقطاعات التي حدثت �إث��ر فرتات
اال�ستعمار كانت ردود �أفعال للعقل امل�سلم النا�ضج ،و�أول ما بد�أ التفكري
فيه �إبان فرتات اال�ستقالل هو الت�أليف يف العلوم التي تعد مبثابة اخليوط
الناظمة ،فر�أينا �أن عالل الفا�سي يف املغرب �ألف يف مقا�صد ال�شريعة ،ويف
تون�س جند حممد الطاهر بن عا�شور �ألف يف املقا�صد كذلك ،ويف الهند و�ضع
ويل اهلل الدهلوي حجة اهلل البالغة .وبد�أ احلديث امل�ست�أ َنف حول املقا�صد
وحول الكليات وامل�صالح واملفا�سد ،وبد�أ ا�ستذكار كتب من ِقبل العقل امل�سلم
37
من قبيل قواعد الأحكام يف م�صالح الأنام للعز بن عبد ال�سالم وحماولة
اال�سرتجاع للوعي بعد االنقطاع الق�سري الذي ح�صل.
-املقدمة ال�ساد�سة :ال بد من االهتمام واالعتناء باملعرفة املقا�صدية ،من
فقه بالواقع ،واعتبار م�آالت الأفعال ،ومراعاة ال�سياق ومقامات الأحوال،
واعتبار �سكوت ال�شارع ،وغريها من املباحث املقا�صدية املنهجية ذات ال�صلة
الوثيقة بعلم الأ�صول.
-املقدمة ال�سابعة� :إن امل�شكلة ال تكمن يف �إبداع مناهج جديدة يف جمال
علم الأ��ص��ول ،ولكن يف نوعية ه��ذه املناهج املطلوبة يف اللحظة العاملية
التي نعي�شها ،وهذا ال يتم يف نظري �إال ب�إعادة النظر يف املناهج القائمة،
وباال�ستيعاب البناء للمناهج الأ�صولية القدمية مبا يحافظ على �أ�صالتها
الإ�سالمية ،ويجدد يف �أدائها دون �أن ي�ؤدي ذلك �إلى الت�صادم مع �أبجديات
الر�ؤية الكونية الإ�سالمية.
-املقدمة الثامنة :وجب القيام بعملية ت�صفية ملختلف التكل�سات املنهجية
التي غطت نورانية الآليات املنهجية الأ�صولية لظروف و�أ�سباب مبثوثة يف
مظانها ويطول املقام بذكرها ،حيث كانت هذه الآليات ناب�ضة ونا�ضجة
وقوية وفعالة ،ولكن �أ�صابها نوع من الرت�سبات حتتاج �إلى تنقية وتطهري.
حتى ي�سرتجع الفقه الإ�سالمي حيويته وي�ضمن ا�ستمراريته بقوة وثبات يف
هذا الذي ن�سميه واقعا مبختلف معامله.
-املقدمة التا�سعة :ال بد من ا�ستح�ضار البعد اال�ست�شرايف وامل�ستقبلي
عند احلديث عن التجديد يف الفقه �أو يف �أ�صول الفقه� ،إذ ال ميكن �أن
نت�صور فقها حيا ال يتعامل بطريقة ا�ست�شرافية مع الق�ضايا التي يثريها
الواقع العلمي املعا�صر مثل اال�ستن�ساخ ،واجلينوم ،وق�ضية �أطفال الأنابيب،
وق�ضايا الغبار النووي العابر للحدود ،والنفايات التي تو�ضع يف املحيطات،
وغري ذلك؟ �إذا مل يكن عندنا هذا النظر اال�ست�شرايف ،ف�إننا نكون قد حرمنا
38
عاملنا اخلري الكثري.
-املقدمة العا�شرة :الق�ضية ق�ضية تكليف جماعي ،لذلك وجب احلر�ص
على �أن يتم هذا الفعل التجديدي يف �شكل م�شروع جماعي بدل اجلهود
الفردية((( ،الغاية من ذلك �إعادة النظر يف �إمكانية تطعيم الأدلة التبعية
املعتمدة يف �أ�صول الفقه من قيا�س ،وا�ستح�سان ،وم�صلحة مر�سلة ،و�سد
الذرائع ،والعرف ،ومراعاة اخلالف ،وغريها بحموالت واقعية ت�أخذ بعني
االعتبار خمتلف العوامل الفكرية والثقافية وال�سيا�سية ،حتى يت�سنى لنا
�إعادة الفاعلية واحليوية املن�شودة لهذه الأدوات.
فالذي يدعو �إلى غري قليل من الأ�سى ما �أ�صبح يعانيه هذا العلم املنهجي
من �ضعف وانح�سار ،حيث ك��ان يف �أزم��ان م�ضت رائ��دا و�ضابطا للعلوم
الإ�سالمية بال منازع ،بل ا�ستطاع هذا العلم �أن يكون موجها ملنهجية التفكري
الإ�سالمي ب�أكملها ،وقائدا و�ضابطا للعلوم الإ�سالمية الأخرى.
و�إذا نظرنا �إلى واقع تدري�س هذا العلم وجدنا الإ�شكال �أعمق .حيث جند
االفتقار �إلى كتاب �أ�صويل منوذجي ،نتج عنه غياب التدريب على كيفية
ا�ستخدم القواعد الأ�صولية يف ا�ستنباط الأحكام ال�شرعية ،مما حول �أ�صول
الفقه �إلى �أداة معطلة� ،إن مل يجعل حت�صيله من قبيل الرتف الفكري.
وحتى ال يتحول هذا العلم -وعلى حد تعبري الدكتور الري�سوين -من علم
للتفكر والتفقه �إلى علم للتربك والتفكه((( ،وجب جتديد النظر يف منهجية
فهمه وتنزيله .وبذلك ن�ستطيع ا�ستعادة الفاعلية والقدرة اال�ستيعابية والدور
-1ويلحق بها البحوث الفردية التي حتمل عنوان التجديد ،والتي متلأ رفوف خمتلف املعاهد و�أق�سام
الدرا�سات العليا والدكتوراه باجلامعات ،لكن التكرار واالجرتار و�إعادة نف�س الأفكار حال ويحول دون
جني الثمرة املرجوة ،و�إحراز البغية ،وهي اخلروج مبباحث هذا العلم اجلليل نحو التفعيل والتنزيل
العمليني.
� -2أحمد الري�سوين« ،جتديد �أ�صول الفقه� ..أما �آن للمخا�ض �أن ينتج» جملة امل�سلم املعا�صر ،العدد
،126/125ال�سنة � ،32ص .8
39
الريادي ملختلف مباحثه؛ ب�إدخال كل ما يخدم هذا الهدف ،وتفعيل اجلانب
الإجرائي الذي يعنى بكيفية ت�شغيل القواعد الأ�صولية يف ا�ستنباط الأحكام
ال�شرعية .و�إع��ادة ال�صياغة والرتتيب لكل مل يرتتب عليه حتقيق الهدف
املذكور على م�ستوى ال�شكل واملنهج واملحتوى.
وهذا ال يلغي متاما ما ن�شاهده اليوم من البحوث والدرا�سات الأ�صولية،
التي �أتت ،وهلل احلمد ،بال�شيء الكثري من التجديد والت�صحيح والتكميل،
�سواء يف البحوث اجلامعية �أو غريها ،غري �أن م�شكلتها تكمن يف كونها متت
مبجهودات فردية ،ويف ق�ضايا حمددة ومتفرقة ،ومل ينتظمها بناء �شامل
ومتكامل وال نظر مت�سق ،من �ش�أنه متكني العقلية الإ�سالمية املعا�صرة من
جمابهة امل�ستجدات والنوازل بفكر �أ�صيل معا�صر.
ه��ي �إذن مقدمات ع�شرة �أردت م��ن خاللها عر�ض بع�ض املحددات
ال�ضرورية التي ظهرت يل �أهميتها و�أولويتها عند حديثي عن ق�ضية جتديد
�أ�صول الفقه ،وهي حمددات ت�ستدعي الت�أطري ب�أطر منهجة عملية لو�ضع
اليد على الإ�شكاالت املعرفية التي نريد جتاوزها ،مع الرتكيز على البعد
الوظيفي للم�س�ألة.
40
املبحث الثاين :وظيفية مقا�صد ال�شريعة يف �سياق التجديد وتدبري
االختالف الفقهي
�شكل البحث يف �آفاق �أ�صول الفقه واملقا�صد و�إمكاناتها التجديدية ان�شغاال
حموريا يف اجلهود النه�ضوية لأمة اخلتم ،منذ بوادر الت�أ�سي�س الأولى مع
ال�شافعي مرورا مبن جاء من بعده يف القرنني الرابع واخلام�س الهجريني.
حتى �إذا �أقبل القرن ال�ساد�س الهجري ،وجد ال�ساحة الفكرية الأ�صولية
تزخر برتاث �أ�صويل ثري و�ضخم ،الأمر الذي كان له الأثر الكبري يف انتهاج
علماء هذا القرن منهجا مغايرا يف التعامل مع تلك املدونات الأ�صولية
املوروثة ،خمالفا ملنهج علماء القرنني الرابع واخلام�س الذي متيز باالبتكار
والإبداع.
حيث غدوا م�ستهلكني ،يف �أغلبهم ،للفكر الأ�صويل بدال من �إنتاجه ،وتوزعت
جهود �أكرثهم بني �شرح املدونات الأ�صولية املوروثة حينا ،والتعليق على تلك
املدونات حينا �آخر؛ فظهرت بذلك �أنواع عديدة من امل�ؤلفات ،منها ما يتعلق
بامل�ؤلفات املخت�صرة ،وت�سمى املتون ،ومنها ما يتعلق بامل�ؤلفات ال�شارحة
وت�سمى بال�شروح ،ومنها ما يتعلق ب�شروح ال�شرح ،وت�سمى احلوا�شي .وو�صل
الأمر يف هذه الفرتة �إلى التعليقات على احلوا�شي ،و�سميت بالتقريرات.
وتركز االهتمام على العناية باملناق�شات اللفظية دون االهتمام باجلوهر
واملعنى.(((...
وك��ان ق��دوم القرنني ال�سابع والثامن الهجريني �إيذانا ب�بروز حماوالت
جريئة من علماء ت�سلحوا مبعرفة منهجية قوية ،قوامها التفكري يف الكليات
بدل االن�شغال باجلزئيات((( ،والنظر يف امل�آالت قبل اجلواب عن ال�س�ؤاالت،
-1علي حممد جعفر تاريخ القوانني ومراحل الت�شريع الإ�سالمي� ،ص ،181-180:بت�صرف.
-2دافعها الأ�سا�سي العمل على اجتثاث الأزم��ات والنوازل الفكرية وال�سيا�سية واالجتماعية التي
�أ�صابت املجتمع الإ�سالمي �سواء يف ال�شرق �أو يف الغرب ،نتيجة الغزوات والتحديات الكربى التي
كانت تهدد وجوده وتهدف �إلى الق�ضاء عليه جملة وتف�صيال.
41
�سواء على م�ستوى فتاواهم �أو �آراءه��م االجتهادية ،فربز اهتمام منقطع
النظري بالقواعد الفقهية واملقا�صد ال�شرعية�« ،سعيا �إلى مواجهة الواقع
الفكري الذي غدا مائال عن الكليات واملبادئ العامة»(((.
ولعل اجتهادات ابن تيمية وتلميذه ابن قيم اجلوزية ،واختياراتهما الفقهية
خري �شاهد على هذا االجت��اه ،كما �أن جملة من الأفكار الإ�صالحية التي
تبناها �سلطان العلماء الإمام العز بن عبد ال�سالم ت�صب ،هي الأخرى ،يف
هذا االجتاه ،ونف�س الأمر بالن�سبة لتقي الدين ال�سبكي ،يف تقريراته النرية
واجلريئة يف هذا املجال� .أما الإمام �أبو �إ�سحاق ال�شاطبي ،فقد قدم ،رحمه
اهلل ،يف «نتيجة عمره ويتيمة دهره»؛ �أعني كتاب املوافقات ،م�شروعا علميا،
�أ�ضحت معه نظرية املقا�صد روحا �ساريا يف كل امل�صطلحات الأ�صولية على
اختالف جماالتها من �أحكام و�أدلة واجتهاد وما يتفرع عن كل منها(((.
وللأ�سف كان �أف��ول �شم�س القرن الثامن الهجري �إيذانا بانتهاء عهد
االبتكار والإب��داع ،و�شروق فجر جديد لقرون ا�ستثنائية يف تاريخ خري �أمة
�أخرجت للنا�س ،قرون االنتكا�س واالرتكا�س يف الغالب الأعم ،والبكاء الدائم
واملرير على املا�ضي الذي مل يبنوه ومل يحافظوا عليه� ،إال ما يعد ا�ستثناء
ال يجر�ؤ �أحد على تعميمه.
وقد كان حظ علم �أ�صول الفقه يف هذا الواقع املرير كبريا ،فلم ي�شهد هذا
-1قطب �سانو� ،أدوات النظر االجتهاد املن�شود يف �ضوء الواقع املعا�صر� ،ص.82:
-2فريد الأن�صاري ،امل�صطلح الأ�صويل عند ال�شاطبي� ،ص.148
وبف�ضل ذلك امل�شروع نقى ال�شاطبي �أهم علوم ال�شريعة فميز بني الأ�صيل والدخيل فيها ،ف�أوجد
البديل ال�شرعي بنظرة جتديدية ،ومل يكن �أمر التجديد بالأمر ال�سهل �إذ يتطلب �إمتام ذلك �صربا
وجلدا وفكرا ثاقبا ،وفوق ذلك جر�أة يف احلق ،لأن الفطام عن امل�ألوف �شديد ،فجاءت يتيمة دهره
بعد �سهر طول الليايل والأيام �أمنوذجا يحتذى به يف جتديد علم �أ�صول الفقه يف جميع مباحثه بدءا
باملقدمات التمهيدية وانتهاء بكتاب االجتهاد .انظر االجتهاد عند الإمام ال�شاطبي ،درا�سة مقارنة
لآراء الأ�صوليني نا�صح علوان ،مرقون نال به �صاحبه ر�سالة الدكتوراه يف الدرا�سات الإ�سالمية كلية
الآداب الرباط� .2003 ،ص.5:
42
العلم �أي جتدد وال مراجعة جذرية ملباحثه وق�ضاياه الأ�سا�سية(((.
و�إن يكن من تغيري �أو تطور ميكن للمرء �أن يلحظه يف هذا الفكر بعد
القرن الثامن ،فال يعدو �أن يكون على م�ستوى ال�شرح ،والتلخي�ص ،والتعليق،
والتغليق ،ومل تتجاوز جهود �أعالمه دائرة ح�سن ال�صياغة والرتجيح بني
الآراء وحتقيق القول فيما اختلف فيه الأول��ون ،دومن��ا حماولة ربط ذلك
بالواقع املعي�ش ،ولعل م�ؤلفات الإم��ام ال�سيوطي(911هـ) يف (الأ�صول)
وال�شوكاين(1250هـ) يف (�إر�شاد الفحول �إلى حتقيق احلق من علم الأ�صول)
متثل هذا االجتاه يف تناول مو�ضوعات ومباحث الفكر الأ�صويل بوجه عام،
وم�سائل النظر االجتهادي بوجه خا�ص(((.
حتى �إذا و�صلنا �إلى الع�صر احلا�ضر ،وبال�ضبط يف بداية ال�سبعينيات
جند ق�ضية جتديد �أ�صول الفقه اكت�سبت طابعا �إ�شكاليا؛ حيث �أثريت عدة
ت�سا�ؤالت عن املعنى املق�صود بتجديد العلم املوروث املبارك؟ وما �ضوابط
هذه العملية؟ وما املجاالت التي ميكن للتجديد ارتيادها؟ وما الو�سائل
املعتمدة لتنفيذ �أي م�شروع جتديدي؟ وما املنهج املعتمد يف ذلك؟ ثم
هل هو منهج �أو مناهج؟ وغريها من الأ�سئلة امللحة التي تتطلب �أجوبة
علمية وافية.
�إن التجديد يف هذه املناهج هو ال��ذي من خالله ميكن �أن يتم �إ�سهام
امل�سلمني و�شراكتهم يف ت�شكيل التاريخ املعريف واحل�ضاري الكوين ،انطالقا
من قوة اقرتاح قابلة للفهم والفح�ص ،مت�أبية على الرد والتفنيد ،و�إال ف�إن
-1جتدر الإ�شارة �إلى املحاولة اليتيمة التي قام بها ال�شوكاين- ،رحمة اهلل عليه -يف القرن الثاين
ع�شر الهجري يف كتابه �إر�شاد الفحول �إلى حتقيق احلق من علم الأ�صول ،انح�صرت فيما �أورده من
مالحظات قيمة حول �أحاديث �سابقيه عن �آيات و�أحاديث الأحكام الواجب معرفتها قبل الت�صدي
لالجتهاد ،واحلال �أن تلك الآي��ات والأحكام غري خا�ضعة للح�صر ،ينظر يف هذا ال�صدد �إر�شاد
الفحول لل�شوكاين حتقيق� ،شعبان حممد �إ�سماعيل ،203-792/2و�أدوات النظر االجتهادي،
قطب �سانو� ،ص.19:
-2قطب �سانو�،أدوات النظر االجتهادي �ص 91-90:بت�صرف.
43
غياب
هذا التاريخ املعريف واحل�ضاري العام �سوف ي�ستمر يف الت�شكل ونحن ٌ
هذا الغياب اجلزئي(((.
ومن املهم الت�أكيد هنا على �أن تف�سري �إ�شكالية التجديد وتقدمي مفهوم
له،كان مرتبط ًا دوم ًا بطبيعة التحديات التاريخية التي كانت تواجه امل�سلمني
ك�أمة ووجود ،وكل ع�صر ينفرد بخ�صو�صياته .وهذا ما جعل هذا امل�صطلح
يتخذ يف الفكر الإ�سالمي املعا�صر تف�سريات خمتلفة .حيث �أ�صبح من �أكرث
امل�صطلحات �إثار ًة و�شيوع ًا يف الفكر الإ�سالمي املعا�صر ،و�أعني باملعا�صر
هنا كل التيارات الراهنة دون ا�ستثناء ،ويف الوقت نف�سه يثري ح�سا�سية
بالغة يف بع�ض الأو�ساط نتيجة ل�سوء ا�ستخدامه والتالعب بالدين حتت
عباءته .ولي�س همي يف هذا البحث عر�ض هذه االجتاهات وتتبعها ،فذلك
�أ�صبح متاحا م�شاعا بني الباحثني يف هذا املجال ،و�أجنزت حوله درا�سات
و�أطروحات جامعية يف خمتلف جامعات العامل ،ومظانه حمددة ومعروفة
ومتداولة .لي�س حملها هنا ،ولكن ق�صدي الأ�صلي بيان �أن الأم��ر �أ�صبح
ي�ستدعي �ضرورة �إيالء ق�ضية املنهج ما ت�ستحق يف هذا اجلانب.
فرغم �أن ق�ضية (املنهج) تعد مبثابة القلب من ج�سد البحث العلمي
ب�صفة عامة ،ف�إن الناظر يف �أحوال الأمة عامة ،واحلال العلمية منها خا�صة،
يلحظ بي�سر �أن كثريا من الأم��وال والأوق��ات والطاقات ت�ضيع ب�سبب ف�ساد
املنهج .و�إذا كان هذا حال املنهج على م�ستوى العلوم الإ�سالمية؛ مل يلق حظه
الكايف من العناية والرعاية ،ف�إن حاله يف علم �أ�صول الفقه ،الذي يعد علما
منهجيا بالدرجة الأولى يبقى من الأهمية مبكان .وغيابه ي�شكل حتديا كبريا
مل�سرية هذا العلم ،ذلك �أن ال�سعي �إلى جتديد علم الأ�صول يف غياب منهج
ر�صني يف�ضي قطعا �إلى �ضرب من التهافت والفو�ضى يف �شكل هذا التجديد
وحمتواه.
� -1أحمد عبادي «ولقد ي�سرنا القر�آن للذكر» افتتاحية العدد 27من جملة الإحياء ،فرباير
� ،2008ص .11
44
و�سواء قلنا �إن علم �أ�صول الفقه ي�شتمل على ثالثة �أركان� ،أولها التعريفات
وامل�صطلحات و�إ�شكالية املفاهيم ،وثانيها قواعد الأ�صول مثل «الأمر للوجوب
ما مل ت�صرفه قرينة تدل على غري ذلك» و«�أن امل�شرتك ال يعم» ،وثالثها
م�سائل الأ�صول ،كما ذهب �إلى ذلك الدكتور علي جمعة(((� ،أو ذهبنا مع
اعتبار �أ�صول الفقه يقوم على بنية رباعية ،هي الأحكام واملقا�صد والأدلة
واالجتهاد ،كما ذه��ب �إل��ى ذل��ك ح�سن حنفي((( ،كل ذل��ك ي�ؤكد ق�صدنا
الأ�سا�س من �أن الأمر فعال يحتاج �إلى جتديد املنهج ،منهج الفهم ومنهج
التنزيل ،وعيا منا بدور علم �أ�صول الفقه يف ا�ستئناف امل�سار االجتهادي
للأمة ،وجتديد العلوم الإ�سالمية ،وحتقيق نه�ضة �شاملة تخرج الأمة من
م�أزقها الفكري و�أزمتها احل�ضارية.
واملق�صود الأ�سا�سي م��ن قولنا جتديد املنهج يف فهم وتنزيل الفكر
الأ��ص��ويل ،هو �إع��ادة ق��راءة وفهم العديد من الأدوات املعرفية واملناهج
الفكرية التي تعترب �أدوات بحثية معرفية ي�ستعان بها يف الك�شف عن مراد
اهلل يف امل�سائل غري املن�صو�ص عليها ،وذلك بغية تفعيل ما ال يزال منها
قواعد هامة و�ضرورية ،ف�ضال عن �إ�ضافة �أدوات منهجية �آنية تزيد الفكر
الأ�صويل ح�ضورا ومتكينا وت�أثريا وفاعلية وديناميكية.
وهذا التجديد مي�س تلك الأدوات املعرفية التي تعرف يف الدر�س الأ�صويل
بالأدلة التبعية �أو امل�صادر الفرعية ،وت�شمل القيا�س ،والإجماع ،واال�ستح�سان،
و�سد ال��ذرائ��ع ،وامل�صالح املر�سلة ،وعمل �أه��ل املدينة ،وق��ول ال�صحابي،
والعرف ،ومراعاة اخلالف ،و�شرع من قبلنا ،واال�ستقراء ،واال�ست�صحاب،
وغريها من الأدلة التبعية التي اجتهد علماء الأ�صول ،رحمة اهلل عليهم ،يف
�إقامتها وبيان فائدتها(((.
-1علي جمعة«،جتديد علم �أ�صول الفقه :الواقع والآفاق» ،جملة امل�سلم املعا�صر ،العدد ،126/125
ال�سنة � ،32ص 24ـ.31
-2ح�سن حنفي« ،مقا�صد ال�شريعة و�أه��داف الأم��ة :قراءة يف املوافقات لل�شاطبي» ،جملة امل�سلم
املعا�صر ،العدد ،103ال�سنة � ،26ص 78.
-3قطب �سانو" ،قراءة معرفية يف الفكر الأ�صويل"� ،ص 145ـ 146بت�صرف.
45
وعندما نتحدث عن فقه التنزيل ن�ستح�ضر بال�ضرورة حمورية مقا�صد
ال�شريعة يف هذا التنزيل؛ ذلك �أن اجلانب التنزيلي يحتاج �إلى من يقدر
الأم��ور حق قدرها ،مراعيا م�آالتها ،معتربا ل�سياقاتها وخمتلف قرائنها،
ويدخل يف هذا الإطار كل ما قرره وقعده علماء الأ�صول حتت عنوان� :أ�صل
اعتبار امل ��آل ...وللمدر�سة املالكية �إ�سهامها الكبري يف هذا اجلانب ،لعل
�أبرزها �إ�سهامات �صاحب املوافقات واالعت�صام؛ الإمام �أبي �إ�سحاق ال�شاطبي
املالكي ،وقبله الإمام القرايف املالكي .فال ميكن �أن نطمح �إلى تنزيل را�شد
دون تدبري م�آيل ودون النظر يف العواقب وامل�آالت.
لذلك فال متام لتحقيق مق�صد فهم ال�شريعة وتنزيلها ،وتدبري االختالف
بني ورادها و�أهلها العاملني ب�أحكامها ،الذي هو الغاية من �إبداع علم �أ�صول
الفقه ،ووظيفته احلقيقية ،ما مل تتم اال�ستعانة باملعرفة املقا�صدية التي ت�شكل
�إلى جانب املعرفة الأ�صولية مركبا معرفيا متنا�سقا من �ش�أنه �أن ير�سم معامل
منهج يخول للمجتهدين -مبقت�ضى التمر�س به -االنخراط يف �سلك العلماء
الربانيني الرا�سخني ،الناظرين يف امل�آالت قبل اجلواب عن ال�س�ؤاالت.
�أ�ضف �إلى ذلك �أن املق�صد الأ�سا�س من جتديد النظر يف منهج فهم وتنزيل
�أ�صول الفقه يف ع�صرنا احلا�ضر ،هو يف حقيقته ربط بني الفهم والتقومي
والتنزيل ،يرافقه الدرا�سة والتحليل والت�أ�صيل ،وبيان مدى �إمكانية اال�ستفادة
من هذا املركب الثالثي يف االجتهاد املعا�صر بغية حتقيق قيومية الدين على
واقع الأف��راد واجلماعات والأم��م ...« ،فقد ر�أينا بوادر الجتهادات فردية
وجماعية ،وهذا �شيء م�شرف �إلى حد ما ،ولكن املرعب حقا الذي نخاف
�أن تنقلب �آث��اره �إلى نتيجة عك�سية هو ت�صدي كثري من غري املتخ�ص�صني
للكالم عن العلوم الإ�سالمية وعن االجتهاد ،وقد اجتهدوا بالفعل ،ودلتنا
اجتهاداتهم هذه على �أنهم ال يح�سنون من �ضروريات �آالت االجتهاد �شيئا،
ف�ضال عن �شروطه وكمالياته ،ملا يف فتاواهم من تناق�ض �صريح لن�صو�ص
الكتاب وال�سنة� ،أو لإ ج�م��اع ا لأ ئ�م��ة� ،أو خمالفة القواعد العامة،
46
ونحن ال نق�صد �أن جنعل االجتهاد وعلومه كن�سية -كما يف الغرب -تقت�صر
على فئة معينة ،بل نريد التخ�ص�ص يف هذا املجال كغريه.(((»...
لذلك وجب على املجتهد يف تنزيل �أحكام ال�شرع على الواقع ـ �إ�ضافة �إلى
معرفته وحيازته جملة من املعارف الأ�سا�سية من �أ�صول ،ولغة ،وبالغة،
و�آيات و�أحاديث �أحكام ـ �أن يكون عارفا �أي�ضا بـ«مقا�صد ال�شارع ،وت�صرفاته
يف �أحكامه ،وتنزيله الكليات على اجلزئيات ،وربط الأ�سباب بامل�سببات»(((.
وهذا املنهج يفيد يف العديد من الق�ضايا من مثل االختالف الفقهي ،مما
يجعل ال�س�ؤال الآت��ي ذا قيمة علمية :ما هي وظيفية مقا�صد ال�شريعة يف
تدبري االختالف الفقهي الذي ما جاء علم �أ�صول الفقه �إال ل�ضبطه وتقنينه؟
ثم ما هي الإمكانات النظرية لهذا البعد الوظيفي؟ وما هي �سبل التحقق
العملي لهذا الغر�ض؟
اختلفت ت�صنيفات العلماء ملقا�صد ال�شريعة؛ فهناك من يعتربه �أ�صول
�أ�صول الفقه ،ي�ؤثر يف ترتيب امل�صادر ،ويحكم خطى اال�ستنباط ،ويتدخل
يف منطقة تنـزيل الأحكام مقدمات ونتائج ،وهناك من يراه علم الأخالق
الإ�سالمية ،ويكاد ي��رادف قيم ال�شريعة ،وهو علم للمنهج عند الآخرين
ي�ضبط العقل الإ�سالمي يف النظرية والتطبيق((( .وهذه االجتهادات كلها
حممودة باعتبارها �صحوة عقلية حتارب اجلمود ،ونه�ضة جد فاعلة تتغيى
ح�ضور الإ�سالم يف كل امل�ساحات.
�أ�ضف �إلى ذلك �أن هذا املبحث قد انبثقت عنه �إ�شكالية يف غاية الأهمية،
وعلى درجة ال ي�ستهان بها؛ تعترب من املرتكزات الأ�سا�سية للقول باملقا�صد
-1احل�سني �أيت �سعيد« ،من امل�ؤهل لتقدير امل�صالح واملفا�سد» ،جملة الإملاع ،العدد ،ال�سنة الأولى،
يوليوز � ،2000ص .94
-2احل�سن �أيت �سعيد ،مرجع �سابق� ،ص ،96وراجع �أي�ضا «التجديد يف التعليل الفقهي» له �أي�ضا� ،ضمن
�أعمال ندوة« :االجتهاد الفقهي �أي دور و�أي جتديد» تن�سيق الدكتور حممد الروكي� ،ص 119ـ .123
-3حممد كمال الدين �إمام«،نظرة يف املقا�صد ال�شرعية» ،جملة امل�سلم املعا�صر ،ع ،103فرباير/
مار�س � ،2002ص .5
47
الكلية بعد �أن ظهر �أن علم �أ�صول الفقه مل يحقق الغر�ض منه وهو «اخلروج
من اخلالف» ،وهي الإ�شكالية املتعلقة بطبيعة املقا�صد امل�ستنبطة من حيث
ما �إذا كانت قطعية �أم ظنية.
فقد اختار ال�شاطبي علم �أ�صول الفقه ،وجعله حمال لتحقيق طموحه الأول
وهو التجديد ،وتقدمي �أدوات منهجية فعالة ت�ساعد على التقريب بني مدارك
الفقهاء وجتميع منطلقاتهم النظرية يف �أطر كلية �ضابطة ،ومتوافق عليها
بعيدا عن املقت�ضيات اجلزئية للمذاهب الفقهية .ولي�س بغريب �أن يكون
على وعي بقيمة ما �أبدعه ،فهو يقول يف �ش�أن كتاب املوافقات« :ال جرم �أنه
قرب عليك يف امل�سري ،و�أعلمك كيف ترقى يف علوم ال�شريعة و�إلى �أين ت�سري،
ووقف بك من الطريق ال�سابلة على الظهر ،وخطب لك عرائ�س احلكمة ثم
وهب لك املهر»(((.
والوا�ضح من �صنيع ال�شاطبي يف موافقاته �أنه مل يق�صد �إلى و�ضع كتاب
تقليدي ي�ستويف مباحث الأ�صول على �صورتها ،و�إال فقد �أعر�ض عن مباحث
هي من �صميم ما تداوله كتب �أ�صول الفقه ،ولكن كان اختياره مق�صودا،
يتمثل� :أوال يف ا�ستجالء �أ��س��رار ال�شريعة؛ �أو كما ا�صطلح عليه «�أ�سرار
التكليف» ،وثانيا العمل على تقليل االختالف الفقهي؛ �أو كما �سماه «التوفيق
بني مذهبي ابن القا�سم و�أبي حنيفة»(((.
وق��د ب�ّي�نّ ذل��ك يف مقدمة امل��واف�ق��ات ف�ق��ال« :ولأج ��ل م��ا �أودع فيه �-أي
املوافقات -من الأ�سرار التكليفية املتعلقة بهذه ال�شريعة احلنيفية� ،سميته
بعنوان التعريف ب�أ�سرار التكليف ،ثم انتقلت عن هذه ال�سيماء ل�سند غريب
يق�ضي العجب منه الفطن الأري��ب ،وحا�صله �أين لقيت يوما بع�ض ال�شيوخ
--1ال�شاطبي ،املوافقات .17/1
-2ذكر ال�شاطبي الإمام �أبا حنيفة وذكر معه ابن القا�سم وهو من تالمذة الإمام مالك بن �أن�س،
مما يفهم منه �أن �أبا �إ�سحاق كان يعلم علم اليقني �أن �أهل الأندل�س ال ير�ضون ب�أي مذهب غري مذهب
مالك ،فخ�شية للفتنة على نف�سه جتنب �أن ي�سوي بني مالك وغريه حتى ولو كان �أبا حنيفة.
48
الذين �أحللتهم مني حمل الإفادة ،وجعلت جمال�سهم العلمية حمطا للرحل
ومناخا للوفادة ،وقد �شرعت يف ترتيب الكتاب وت�صنيفه ،ونابذت ال�شواغل
دون تهذيبه وت�أليفه .فقال يل :ر�أيتك البارحة يف النوم ،ويف يدك كتاب
�ألفته ،ف�س�ألتك عنه ،ف�أخربتني �أنه «كتاب املوافقات» قال :فكنت �أ�س�ألك عن
هذه الت�سمية الظريفة ،فتخربين �أنك وفقت به بني مذهبي ابن القا�سم و�أبي
حنيفة.(((»...
وهو املعنى الذي ختم به موافقاته عندما قال ...« :على �أن يف �أثناء الكتاب
رموزا م�شرية ،و�أ�شعة تو�ضح من �شم�سها املنرية .فمن تهدى �إليها رجا بحول
اهلل الو�صول ،ومن ال فال عليه �إذا اقت�صر التح�صيل على املح�صول ،ففيه �إن
�شاء اهلل مع حتقيق علم الأ�صول علم يذهب به مذاهب ال�سلف ،ويقفه على
الوا�ضحة �إذا ا�ضطرب النظر واختلف»(((.
اختار ال�شاطبي �إذن مدخل �أ�سرار التكليف ،وهي يف حقيقتها مقا�صد
ال�شريعة الكلية ،للتوفيق بني فقهاء الأم��ة وعلمائها �إذا ا�ضطرب النظر
واختلف ،وهو ما يفهم من قوله ...« :ليكون ـ �أيها اخلل ال�صفي ،وال�صديق
ال��ويف ـ ه��ذا الكتاب عونا لك يف �سلوك الطريق ،و�شارحا ملعاين الوفاق
والتوفيق ،ال ليكون عمدتك يف كل حتقق وحتقيق ،ومرجعك يف ما يعن لك من
ت�صور وت�صديق؛ �إذ قد �صار علما من جملة العلوم ،ور�سما ك�سائر الر�سوم،
وموردا الختالف العقول وتعار�ض الفهوم ،ال جرم �أنه قرب عليك يف امل�سري،
و�أعلمك كيف ترقى يف علوم ال�شريعة و�إلى �أين ت�سري ،ووقف بك من الطريق
ال�سابلة على الظهر ،وخطب لك عرائ�س احلكمة ثم وهب لك املهر»(((.
وهو يقول ب�صريح العبارة �إن الغاية من ت�أليف كتابه التوفيق بني الأ�شباه
والنظائر «�شارحا ملعاين الوفاق والتوفيق»؛ مبعنى �أن فيه قواعد يزال بها
-1ال�شاطبي ،املوافقات 16 /1ـ.17
-2امل�صدر ال�سابق .251/4
-3امل�صدر ال�سابق .17/1
49
التعار�ض ،وقواعد ميكن �أن تلحق ال�شبيه بال�شبيه ،والنظري بالنظري ،ملن �أراد
�إ�صابة احلق والعمل به ،ولهذا يو�صي املت�صدر لهذا الفعل اجللل باالبتعاد
عن كل �أ�شكال التع�صب املقيت ،بقوله« :والب�س التقوى �شعارا واالت�صاف
بالإن�صاف دثارا ،واجعل طلب احلق لك نحلة ،واالعرتاف به لأهله ملة
ال متلك قلبك عوار�ض الأغرا�ض ،وال تغر جوهرة ق�صدك طوارق الإعرا�ض،
وقف وقفة املتخريين ال وقفة املتحريين� ،إال �إذا ا�شتبهت املطالب ،ومل يلح
وجه املطلوب للطالب فال عليك من الإحجام ،و�إن لج اخل�صوم ،فالواقع يف
حمى امل�شتبهات هو املخ�صوم ،والواقف دونها هو الرا�سخ املع�صوم ،و�إمنا
العار وال�شنار على من اقتحم املناهي ف�أوردته النار .،ال ترد م�شرع الع�صبية،
وال ت�أنف �إذا الح وجه الق�ضية.(((»..
و�سواء قلنا �إن ال�شاطبي �أراد �أن يقدم حال �شامال لإخراج علم �أ�صول الفقه
من حالة االن�سداد املعريف الذي وقع فيه يف غفلة عن املقا�صد ال�شرعية،
�أو قلنا �إنه �أراد �أن يحدث نقلة نوعية يف املباحث الأ�صولية ،و�إجراء مراجعة
نقدية جذرية تنتقل ب�أ�صول الفقه من مرحلة ا�ستنباط الأحكام من �ألفاظ
ال�شارع� ،إلى مرحلة ا�ستنباط املعاين من الأحكام ،وهي م�س�ألة تتجاوز بيئتها
التاريخية واالجتماعية ،للتحول �إلى م�س�ألة معرفية بالأ�سا�س(((� .أو قلنا غري
ذلك ،ف�إن الرجل قد فعلها �إذن ،وعزم وتوكل على خالقه ،فخطب عرائ�س
احلكمة ،ووهب املهر نيابة عن علماء الأمة ،مق�صده من ذلك تدبري اختالف
العقول ،ودفع تعار�ض الفهوم با�ستعمال البعد الوظيفي ملقا�صد ال�شريعة..
وك�أين به ،رحمه اهلل ،يلقي بالعهدة على علماء ال�شرع لعقد القران حتت
م�سمى تدبري االختالف الواقع بني فقهاء الأم�صار ،ب�شرط �أن «ال ي�سمح
للناظر يف هذا الكتاب ـ يعني املوافقات ـ نظر مفيد �أو م�ستفيد حتى يكون
-1ال�شاطبي ،املوافقات .17/1
-2حممد بن ن�صر ،املقا�صد ال�شرعية بني حيوية الفكرة وحمدودية املفهوم واملنهج ،جملة �إ�سالمية
املعرفة ،العدد � ،49صيف � ،2007ص .56
50
ر ّيانَ من علم ال�شريعة� ،أ�صولها وفروعها ،منقولها ومعقولها ،غري خملد
�إلى التقليد والتع�صب للمذهب؛ ف�إنه �إن كان هكذا خيف عليه �أن ينقلب
عليه ما �أودع فيه فتنة بال َع َر�ض ،و�إن كان حكمة بالذات»(((.
ويف �سبيل حتقيق هذا الهدف الأ�سمى ،كانت املقدمة التي افتتح بها
ال�شاطبي موافقاته هي�« :أن �أ�صول الفقه يف الدين قطعية ال ظنية؛ والدليل
على ذلك �أنها راجعة �إلى كليات ال�شريعة ،وما كان كذلك فهو قطعي»(((.
وهو بهذا يريد بناء الأ�صول على القطع وتخلي�صها من الظنون وما دخلها
مما هو عارية ،قائ ًال�« :إن �أدهى ما يلقاه ال�سالك للطريق فق ُد الدليل»(((،
والدليل هو ما يف�ضي �إلى القطع ويرفع اخلالف.
وهو املعنى عينه الذي ي�ؤكد عليه ابن عا�شور؛ �إذ يقول يف �سبب ت�أليف
كتابه« :دعاين �إلى �صرف الهمة �إليه ما ر�أيت من ع�سر االحتجاج بني
املختلفني يف م�سائل ال�شريعة؛ �إذ كانوا ال ينتهون يف حجاجهم �إلى �أدلة
�ضرورية �أو قريبة منها يذعن �إليها املكابر ويهتدي بها امل�شبه عليه ،كما ينتهي
�أهل العلوم العقلية يف حجاجهم املنطقي والفل�سفي �إلى الأدلة ال�ضروريات
وامل�شاهدات والأ�صول املو�ضوعة فينقطع بني اجلميع احلجاج ،ويرتفع
من �أهل اجلدل ما هم فيه من جلاج ،ور�أيت علماء ال�شريعة بذلك �أولى،
وللآخرة خري من الأولى»(((.
وبعد عر�ضه لطرق الك�شف عن مقا�صد ال�شريعة املعلومة لدى ال�سلف،
وعند من حلق بهم من املجتهدين والأئمة الفقهاء؛ دعا ال�شيخ ابن عا�شور
-رحمه اهلل� -إلى جتديد علم الأ�صول بالإبقاء على امل�سائل الهامة التعليمية
املت�صلة به ات�صاال �أ�صليا ،وتفريغه مما ي�شوبه من م�سائل العلوم -وهي
-1ال�شاطبي ،املوافقات .61/1
-2ال�شاطبي ،املوافقات .19/1
-3امل�صدر ال�سابق .15/1
-4حممد الطاهر ابن عا�شور ،مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية �ص.3
51
نف�س الدعوة التي ب�سطها الإمام ال�شاطبي يف املقدمة الرابعة من مقدماته
املنهجية لكتاب املوافقات -ثم �إلى تعوي�ضه بعلم املقا�صد ال�شرعية الذي هو
�أو�سع منه ملا فيه من املقا�صد القطعية والقريبة منها والظنية.
هم ت�أ�سي�س قواعد اال�ستدالل الفقهي على القطع م�شرت ًكا بني و�إذا كان ّ
زمرة من علماء الأ�صول حاولوا �إجنازه يف �سياق نظراتهم التجديدية يف علم
�أ�صول الفقه ،مثل اجلويني ،والعز بن عبد ال�سالم ،والقرايف ،وال�شاطبي،
وابن عا�شور((( ،ف�إن هذا الهم نف�سه كان حمور االهتمام يف املقا�صد ،و�صو ًال
�إلى ا�ستقاللها عن الأ�صول مع ابن عا�شور ومن منطلق البحث عن اليقني
وت�ضييق اخلالف(((.
فما هي حدود الوفاق واالختالف بني ال�شاطبي وابن عا�شور يف �س�ؤال
القطعية والظنية يف �أ�صول الفقه؟ ثم ما هي �آث��ار ذلك على االختالف
الفقهي؟
اعتمد الإمام ال�شاطبي �س�ؤال القطع والظن مدخال للقول باملقا�صد الكلية
التي تعد ال�سبيل الأوح��د للخروج من اخل�لاف ،والتقليل منه بني فقهاء
امل�سلمني .وليتخذ علم �أ�صول الفقه جماال خ�صبا مل�شروعه االجتهادي،
وليقطع داب��ر الظنيات املهيمنة على القواعد الأ�صولية .ومل يتوان منذ
ال�صفحات الأولى من موافقاته عن تقرير قطعية �أ�صول الفقه «�إن �أ�صول
الفقه يف الدين قطعية ال ظنية»((( ،معلنا تطهري علم الأ�صول من الظنيات
و�إقامته على القطعيات.
والظاهر �أن �أبا �إ�سحاق كان يرمي �إلى �إعادة ت�أ�سي�س قواعد قطعية جديرة
ب�أن ترفع االختالف العميق بني امل�سلمني يف زمن ا�ستفحل فيه التقليد ،و�ساد
� -1إ�سماعيل احل�سني ،نظرية املقا�صد عند ابن عا�شور� ،ص 102بت�صرف.
-2معتز اخلطيب ،الوظيفية واملقا�صدية :م�شروعيتها وغاياتها� ،إ�سالمية املعرفة ،العدد ،48ربيع
� ،2007ص .23
-3ال�شاطبي ،املوافقات .19/1
52
اجلهل باملعاين احلقيقية لل�شريعة ،وت�ضمن تدبري �ش�ؤون الأمة بحفظ كيانها
وحتقق م�صاحلها احليوية دون حرج �أو افتيات؛ �إذ املقا�صد الكلية تدع
للفقيه والقا�ضي جماال ف�سيحا لالجتهاد وتقدير الأحكام بح�سب ما تقت�ضيه
الظروف والأحوال ،وتكفل لل�شريعة مرونتها و�صالحها لكل الع�صور(((.
وقد ا�ست�شكل العديد من الباحثني قول الإمام ال�شاطبي بقطعية �أ�صول
الفقه ،على ر�أ�سهم ال�شيخ حممد الطاهر بن عا�شور –رحمه اهلل -وف�ضيلة
الدكتور عبد املجيد النجار .فال�شيخ ابن عا�شور مل ير�ض قول الإمام ال�شاطبي
بقطعية (�أ�صول الفقه) ،ورد عليه دون تبني املفهوم ب�صورة دقيقة ،من ذلك
قوله«:حاول �أبو �إ�سحاق ال�شاطبي يف املقدمة الأول��ى من كتابه املوافقات
اال�ستدالل على كون �أ�صول الفقه قطعية فلم ي�أت بطائل»((( !!
وو�صف ا�ستدالل ال�شاطبي على قطعية �أ�صول الفقه يف مو�ضع �آخر من
كتابه مقا�صد ال�شريعة ب�أنها قائمة على مقدمات خطابية و�سف�سطائية
�أكرثها مدخول وخملوط غري منخول((( !!! .وكان الدكتور عبد املجيد النجار
امتدادا لل�شيخ ابن عا�شور يف هذه امل�س�ألة(((.
ولعل �سبب ا�ست�شكال ه�ؤالء الف�ضالء لر�أي الإمام ال�شاطبي هو حماكمة
ال�شاطبي مبباحث �أ�صول الفقه كما هو عند الأ�صوليني ،وكان الأولى �أن
يحاكم مبباحث �أ�صول الفقه كما يراها هو ،وكما هي عنده يف م�ؤلفاته
هذا من جهة ،ومن جهة �أخرى ف�إمنا الح لهم ذلك احلكم من اعتمادهم
على ن�ص وحيد يف ه��ذه امل�سالة� ،أو ن�صو�ص واردة يف موطن واحد،
53
خا�صة ما جاء يف املقدمة الأولى من املوافقات(((.
وهذا خلل منهجي وقع فيه ه�ؤالء الأعالم الف�ضالء� ،إذ ملا كان �أهم باب
يف املوافقات هو املنهج اال�ستقرائي ،ك��ان الأول��ى �أن يعتمد وي�ؤخذ بعني
االعتبار عند مناق�شة فقيه الأندل�س يف �أي م�س�ألة من م�سائل «عرو�سه
ونتيجة عمره» ،وكان الأجدر �أن يثار ال�س�ؤال التايل :ما املراد عند ال�شاطبي
(ب�أ�صول الفقه؟) حتى يعلم حكمه (بالقطعية) عالم ين�صب؟ و�إلى �أي حد
ينتهي؟ وبذلك نن�صف الرجل فيما ذهب �إليه ،و�سبيل ذلك هو اال�ستقراء،
هذا املنهج الذي نبه �صاحبنا على �إغفاله من طرف كثري من املتقدمني،
وهاهو للأ�سف يهمل يف هذه امل�س�ألة عند غري واحد من املعا�صرين ،يقول
ال�شاطبي�« :إن املتقدمني من الأ�صوليني رمبا تركوا هذا املعنى والتنبيه عليه،
فح�صل �إغفاله من بع�ض املت�أخرين ،فا�ست�شكل اال�ستدالل بالآيات على
حدتها ،وبالأحاديث على انفرادها� ،إذ مل ي�أخذها م�أخذ االجتماع فكر�س
عليها باالعرتا�ض ن�صا ن�صا ،وا�ست�ضعف اال�ستدالل بها على قواعد الأ�صول
املراد منها القطع»(((.
�أما ابن عا�شور فقد جاء حتديده مل�سالك الك�شف عن مقا�صد ال�شريعة
متما�شيا مع طبيعة العمل ال��ذي رام��ه يف م�ؤلفه ،فقد كان هدف الرجل
الو�صول يف مقا�صد ال�شريعة �إل��ى ت�أ�سي�س ما هو كلي ع��ام ،يكون كفيال
-1قدم الدكتور فريد الأن�صاري ،رحمه اهلل ،مناق�شة فريدة لآراء ابن عا�شور وعبد املجيد النجار
وغريهما يف م�س�ألة قطعية �أ�صول الفقه ،ومما قاله رحمه اهلل«:ولقد ظلم ال�شيخ حممد الطاهر بن
عا�شور �أبا �إ�سحاق ظلما رحمهما اهلل معا ,وذلك لأنه مل ير�ض قوله بقطعية �أ�صول الفقه دون تبني
املفهوم ب�صورة دقيقة � ،أو نق�ض �أدلته مبنهج علمي ،ولكن �أجمل رده كله ب�أ�سلوب خ�شن هو اقرب �إلى
ال�شتم وال�سباب منه الى النقد العلمي ،ولقد تكرر منه دلك يف �أكرث من موطن من كتابه ( مقا�صد
ال�شريعة ) مما يوحي ب�أن الرجل كان متحامال على �أبي �إ�سحاق »...انظر امل�صطلح الأ�صويل عند
ال�شاطبي ،د .فريد الأن�صاري� ،ص ..243-241وانظر قراءة يف امل�صطلح الأ�صويل منوذج م�صطلح
�أ�صول الفقه ،للأ�ستاذ حممد �أبو غامن يف اجلزء 2من ندوة الدرا�سة امل�صطلحية والعلوم الإ�سالمية
�ص .463-457
-2ال�شاطبي ،املوافقات.25/1:
54
عندما يتحاكم �إليه الفقهاء وا لأ�صوليون ب�أن يقطع جدلهم ويخفف
خالفهم �أو يقطعه؛ ففكرة احلد من الت�شتت الفقهي كانت م�سيطرة عليه،
وما و�ضع كتابه �إال لهذا الغر�ض؛ قال ،رحمه اهلل «هذا كتاب ق�صدت منه �إلى
�إمالء مباحث جليلة يف مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية والتمثيل لها واالحتجاج
لإثباتها لتكون نربا�سا للمتفقهني يف الدين ،ومرجعا بينهم عند اختالف
الأنظار ،وتبدل الأع�صار ،وتو�سال �إلى �إقالل االختالف بني فقهاء الأم�صار،
ودربة التباعهم على الإن�صاف يف ترجيح الأق��وال على بع�ض ،عند تطاير
�شرر اخلالف حتى ي�ستتب بذلك ما �أردن��اه غري ما مرة من نبذ التع�صب
والفئة �إلى احلق»(((.
هم ابن عا�شور �إذن و�ضع �أد ّلة �ضرورية �أو قريبة من ال�ضرور ّية ينتهي
كان ّ
�إليها الفقهاء يف حجاجهم وعند اختالفهم كما ينتهي �أهل العلوم العقل ّية
يف حجاجهم املنطقي والفل�سفي �إلى الأد ّلة ال�ضرور ّية وامل�شاهدات والأ�صول
املو�ضوعة فينقطع احلجاج((( .لذلك جاءت دعوته هذه كمحاولة منهجية
ال�ستك�شاف جمموعة من الأ�صول الكلية املقا�صدية القطعية ،التي من �ش�أنها
توحيد امل�سالك االجتهادية للخروج من اخلالفات الفقهية والأزمة الفكرية
التي يعاين منها الفكر الأ�صويل.
هكذا يتح ّول علم املقا�صد الذي يبحث يف فل�سفة الت�شريع وغاياته البعيدة
مرجعا بني العلماء عند اختالف الأن�ط��ار وت�ب� ّدل الأم�صار ودرب��ة على
الإن�صاف عند تطاير �شرر االختالف.
املقا�صدي جاء ر ّدا على ا�ستحواذ النظرة الن�ص ّية
ّ ولئن كان االتجّ ��اه
واملذهب ّية ال�ض ّيقة على العقل الفقهي التقليدي ال��ذي غ��دا فيه الفقه
ا�سرتجاعا للمعارف الفقهية القدمية ا�ستحالت من خالله �أقوال الرجال؛
بغ ّثها و�سمينها ،ن�صو�صا علت ،عند بع�ضهم ،على الن�صو�ص امل�ؤ�س�سة
-1حممد الطاهر ابن عا�شور ،مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية� ،ص .3
-2عبد املجيد الرتكي ،مناظرات يف �أ�صول ال�شريعة الإ�سالمية بني ابن حزم والباجي� ،ص .512
55
وال�سنة ال�صحيحة) ،وجعلت الكرخي احلنفي يقول «الأ�صل �أن (القر�آن ّ
ك ّل �آية تخالف قول �أ�صحابنا ف�إ ّنها حممولة على الن�سخ �أو على الرتجيح
والأولى �أن حتمل على الت�أويل من جهة التوفيق»((( .ف�إن من �أ�سا�سيات املنزع
التع�صب
ّ املقا�صدي «� ..أن يكون الرائد الأعظم للفقيه هو الإن�صاف ونبذ
لبادئ الر�أي �أو ل�سابق اجتهاد �أو لقول �إمام �أو �أ�ستاذ ،فال يكون حال الفقيه
يف هذا العلم (املقا�صد) كحال �صاحب ابن عرفة (عي�سى الغربيني) الذي
قال يف حقّ ابن عرفة ما خالفته يف حياته فال �أخالفه بعد مماته ،بحيث
�إذا انتظم ال ّدليل على �إثبات مق�صد �شرعي وجب على املتجادلني فيه �أن
ي�ستقبلوا قبلة الإن�صاف وينبذوا االحتماالت ّ
ال�ضعاف»(((.
انطالقا من ه��ذه ال��ر�ؤي��ة التي ت�سعى �إل��ى ��ض��رورة اال�ستدعاء الوا�سع
للمقا�صد يف جمال تدبري االختالف وتقليله ،وبالنظر �إل��ى كل متعلقات
ذلك جاءت حماولة كل من ال�شاطبي وابن عا�شور من �أجل التقريب بني
امل�سالك اال�ستنباطية االجتهادية ،للخروج من اخلالفات الفقهية �أو التقليل
من حدتها ،ونبذ التع�صب لأن علم �أ�صول الفقه يف نظرهما مل يحقق هذا
الهدف.
والقدر الذي نرومه هنا هو �أن كال من ال�شاطبي وابن عا�شور ان�شغل
بغ�ض النظر عن تفا�صيل مقوالتهم ،وهما ي�سلمان بالبحث عن اليقنيّ ،
ب�أن �أ�صول الفقه يجب �أن تكون قطعية ،و�س�ؤال القطع واليقني كان مدخل
القول باملقا�صد الكلية بعد �أن ظهر �أن علم �أ�صول الفقه مل يحقق الغر�ض
منه وهو «اخلروج من اخلالف» ،وهنا ي�أتي البحث عن اليقني للتخفيف
م��ن ك�ثرة الظنيات واالخ �ت�لاف��ات ،وق��د ب��دا ه��ذا وا��ض� ً�ح��ا يف مقدمات
ال�شاطبي واب��ن عا�شور القائل« :ه��ذا كتاب ق�صدتُ منه ...تو�س ًال �إلى
56
�إقالل االختالف بني فقهاء الأم�صار»(((.
ولعله ال يخفى ما يكت�سبه مبحث ا�ستمداد املقا�صد من �أهمية بالغة
اخلطورة يف هذا اجلانب؛ وذلك لأن ما تقرر يف �صلبه من مبادئ و�أ�صول
هو مبثابة الأ�سا�س الذي ينبني عليه �صرح نظرية املقا�صد برمتها ،وت�ستند
�إليه م�شروعية منحى اجتهادي بكامله �أي�ضا ،وهو ما ي�سمى «االجتهاد
املقا�صدي»((( ،الذي ميثل �أحد الأبعاد الوظيفية لعلم املقا�صد.
فمن املقدمات املمهدات امل�ساعدة على ولوج علم املقا�صد ،وحت�صيل
كلياته وفهم جزئياته عند علماء املقا�صد قدماء وحمدثني؛ العلم بامل�سالك
التي منها ت�ستمد مقا�صد ال�شريعة ،وكذا معرفة مراتبها و�شروط اعتبارها،
�سواء يف �أ�صولها العامة� ،أو يف تفا�صيلها اجلزئية ،ف�إذا مل تكن مقا�صد
ال�شريعة من�صو�صا عليها على وجه القطع والتف�صيل ،ف�إن احلاجة تدعو
�إلى �أن يعلم الدار�س لعلم املقا�صد كمقدمة من مقدمات الدر�س امل�سالك
العامة التي تع ّرف باملقا�صد ،ليكون على بينة وهو يلج �إلى تفا�صيلها طرق
الدخول �إليها ،ف�أبواب الدخول يف البيوت مقدمة ملعرفة حمتوياتها من
الغرف وما فيها.
يتبينّ � ،إذن ،مما �سبق ما للمقا�صد ال�شرعية من �أهمية يف تدبري االختالف
-1حممد الطاهر ابن عا�شور ،مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية� ،ص .165وانظر معتز اخلطيب ،الوظيفة
املقا�صدية :م�شروعيتها وغاياتها� ،ص .23
-2حممد ،مطاع اهلل� ،أ�صول الفقه عند املحدثني ،من�شورات كلية الآداب والعلوم الإن�سانية بالقريوان،
ماي � .2000ص .340وهنا ينبغي التنبيه على �أن الذين كتبوا يف مو�ضوع املقا�صد واالجتهاد املقا�صدي
يف الع�صر احلديث غلب على ما كتبوه العر�ض التاريخي ،مبعنى �أن ما كتبوه يندرج حتت باب بيان
تاريخ الت�شريع؛ فهم يقررون �أن الأئمة والعلماء والفقهاء اعتمدوا منهجية املقا�صد ،و�أن كل ما قالوه
من فتاوى يعتمد املقا�صد .ولكنهم بعد اجلوالت التاريخية الطويلة مع الأئمة الأعالم وق�صتهم مع
املقا�صد واملعاين جتدهم يتحرجون من �أن ي�أتوا مبثال جديد ،ويغلب عليهم �سوء الظن والتخوف
ال�شديد �أن يكون املعنى العملي ملنهجية املقا�صد هو تغطية للآراء الفردية والذاتية �أو دواعي الهوى
وال�شهوة التي ال تن�ضبط بال�شرع ،وجتد هذا التخوف مبثوثا �إلى درجة كبرية بحيث ترتدد كلمة
�ضوابط مرات كثرية يف ال�صفحة الواحدة.
57
املوجهة للأحكام ال�شرعية
أهم االعتبارات ّ وت�أطريه والتقليل منه؛ �إذ هو �أحد � ّ
بتنـزيلها �أو بالعدول عن التنـزيل ت�أجيال �أو ا�ستثناء �أو ا�ستبداال بحكم �آخر
يتحقق مق�صده ،وقد �أ�شار الإم��ام ال�شاطبي �إلى هذه الأهمية التطبيقية
للمقا�صد بقوله« :هو جمال للمجتهد �صعب املورد �إ ّال �أ ّنه عذب املذاق حممود
الغب جار على مقا�صد ال�شريعة»((( ،وقال ببيانه وبيان خطورته�« :إنّ املجتهد ّ
ال يحكم على فعل من الأفعال ال�صادرة عن املك ّلفني بالإقدام �أو بالإحجام
�إ ّال بعد نظره �إلى ما ي�ؤول �إليه ذلك الفعل (فقد يكون ذلك الفعل) م�شروعا
مل�صلحة فيه ت�ستجلب �أو ملف�سدة تدر�أ ،ولكن له م�آل على خالف ما ُق�صد
فيه ...ف�إذا �أُطلق القول يف الأ ّول بامل�شروعية فربمّ ا �أ ّدى ا�ستجالب امل�صلحة
�إلى مف�سدة ت�ساوي امل�صلحة �أو تزيد عليها ،فيكون هذا مانعا من �إطالق
القول بامل�شروعية»(((.
ولكنّ هذا النظر االجتهادي للتحقيق يف م ��آالت املقا�صد �إل��ى التح ّقق
الفعلي �أو عدمه هو نظر دقيق ،والقواعد ال�ضابطة فيه عزيزة يف درا�سات
الأ�صوليني واملقا�صديني؛ ولذلك و�صفه ال�شاطبي ب�أ ّنه �صعب املورد .ولع ّلنا
والتق�صي ال جند من املقا�صديني القدامى من انتبه �إلى �أهميةّ عند البحث
هذا امللحظ مثل ما انتبه الإمام ال�شاطبي ،فقد تعر�ض له بالبيان يف موا�ضع
متعددة من م�ؤلفاته حتى انتظمت من ذلك �صورة جلية للأهمية التنزيلية
التطبيقية للمقا�صد قد يح�سن عر�ضها قبل عر�ض نظرية الإمام ابن عا�شور،
�إذ ُيعترب ما جاء به تطورا ملا �أورده ال�شاطبي يف هذا املجال.
وقد كان ال�شاطبي يويل اهتماما كبريا لهذه الق�ضية ،فهو يف �شرحه ملقا�صد
ال�شريعة كثري االلتفات �إلى �أيلولتها الواقعية حينما تتنـزل الأحكام على �آحاد
الأفعال والوقائع ،كثري التنبيه على �أن تلك الآحاد من الأفعال والوقائع ينبغي
�أن يتم �إجراء الأحكام عليها بالكيفية التي تتحقق بها املقا�صد .ويف خالل
-1ال�شاطبي ،املوافقات .141/4
-2امل�صدر ال�سابق .141/4
58
م�ؤلفاته وخا�صة املوافقات تع ّر�ض يف مواطن عديدة �إلى طرق و�أ�ساليب يقع
بها التحقيق يف ح�صول املقا�صد من تطبيق الأحكام لينتهي ذلك التحقيق
�إلى �ضبط الكيفية يف التطبيق .وباجلمع بني تلك الطرق والأ�ساليب ميكن �أن
نبني �أ�صال من �أ�صول ال�شاطبي يف منهج التطبيق.
وعنا�صر هذا الأ�صل التطبيقي تن�ضبط بالإجابة على ال�س�ؤال التايل :كيف
ميكن التح ّقق من �أن مق�صد احلكم يتحقق عند �إجرائه على الأفعال فيقع
�إج��را�ؤه� ،أو ال يتحقق فال يقع وي�صرف عنه �إلى حكم �آخ��ر؟ ويف اجلواب
على هذا ال�س�ؤال نظفر عند ال�شاطبي ب�شروح و�إ�شارات عديدة� ،إذا جمعناها
ور ّكبناها تبينّ لنا منهج متكامل يف ا�ستخدام املقا�صد ا�ستخداما تطبيقيا
ُيبتغى به تر�شيد النظر الفقهي لتكون الأحكام مثمرة ملقا�صدها يف الواقع
عند تنزيلها عليه ،فيكون املق�صد �إذن موجها لبناء احلكم ال�شرعي يف
خمتلف �صور بنائه(((.
وينبني هذا املنهج على املوازنة بني الك ّلي من املقا�صد وبني اجلزئي منها
يف ن�سبتها من بع�ضها وقوعا وتخ ّلفا ،وهو يق�صد بالك ّلي املق�صد اجلن�س،
ويق�صد باجلزئي ما يندرج حتته من الأنواع ،وكثريا ما ت�ساءل يف املق�صد
الكلي �إذا حتقق من �إجراء احلكم العام على �أنواع جن�سه ،هل يتحقق يف كل
تلك الأنواع� ،أم قد يتخلف يف بع�ض منها ،وكيف ميكن معرفة ذلك ل�صرف
ما ال يتحقق فيه املق�صد عن تطبيق احلكم عليه؟(((.
ويقول يف اجلواب على ذلك« :جاء ال�شارع باعتبار امل�صلحة والن�صفة
املطلقة يف كل حني ،وبينّ من امل�صالح ما ّ
يطرد وما يعار�ضه وجه �آخر من
امل�صلحة ،كما يف ا�ستثناء العرايا ونحوه ،فلو �أعر�ض عن اجلزئيات ب�إطالق
-1عبد املجيد النجار ،املنحى التطبيقي يف مقا�صد ابن عا�شور� ،ضمن �أعمال اجلل�سة الثانية من
جل�سات امل�ؤمتر ال��دويل «ال�شيخ حممد الطاهر ابن عا�شور وق�ضايا الإ�صالح والتجديد يف الفكر
الإ�سالمي املعا�صر :ر�ؤية معرفية ومنهجية» 2 .ـ 3ماي � ،2009ص .7
-2املرجع ال�سابق �ص .8
59
لدخلت مفا�سد ،ولفاتت م�صالح ،وهو مناق�ض ملق�صود ال�شارع ...فاحلا�صل
�أنه البد من اعتبار خ�صو�ص اجلزئيات مع اعتبار ك ّلياتها ،وبالعك�س .وهو
منتهى نظر املجتهدين ب�إطالق ،و�إليه ينتهي ط َل ُقهم»(((.
�إنه� ،إذن ،منهج تطبيقي للمقا�صد خرج به ال�شاطبي باملقا�صد من اجلانب
النظري �إلى اجلانب التطبيقي التنزيلي الذي ميثل اجلانب الوظيفي لهذه
الأداة ،وجعل منه نظرية تكاد تكون متكاملة ،من �ش�أنها �أن تقنع ّ
النظار
امل�ضي العملي مبقت�ضاها يفّ بوجاهتها ،و�أن تكون لهم عونا حقيقيا على
ممار�سة االجتهاد الفقهي .وهو اجلانب الذي اهتم به �شيخ املقا�صديني يف
الع�صر احلديث و�أكمله بنوع من التف�صيل .وقد �أ�شار يف موا�ضع خمتلفة
من كتابه مقا�صد ال�شريعة �إلى هذه املعاين ،مبا يبينّ �أنه كان يق�صد �إلى
�أن ي�ضع بني يدي النظار واملجتهدين علما ي�ساعدهم ب�صفة عملية تطبيقية
على ّ
تخطي ه��ذا املف�صل اخلطري ،وذل��ك ما ب ّينه اب��ن عا�شور يف فاحتة
كتابه بقوله« :كان الق�صد (من هذا الكتاب) �إغاثة امل�سلمني ب ُباللة ت�شريع
م�صاحلهم الطارئة متى نزلت احل��وادث وا�شتبكت النوازل ،وبف�صل من
القول �إذا �شجرت حجج املذاهب ،وتبارت يف مناظرتها تلكم املقانب»(((.
وبعد معرفة تلك املقا�صد باملنهج الذي ر�سمه ي�أتي دور ا�ستخدامها عمليا
يف النظر الفقهي يف تلك الوجوه من النظر ،وهي الوجوه التي ا�ستجمعت ك ّل
مناحي االجتهاد من قبول الدليل ور ّده �إلى تعيني الأفهام يف الظنيات �إلى
ن�ص عليه وال قيا�س له،
اجلمع والرتجيع� ،إلى القيا�س �إلى احلكم فيما ال ّ
وا�ستعمال املقا�صد يف تلك الوجوه كلها ما هو �إال انتحاء بها املنحى التطبيقي
العملي وهو ال�سمت العام الذي بنى عليه ابن عا�شور مقا�صده.
يوظفوكثريا ما جند ابن عا�شور يف تف�سريه للقر�آن و�شرحه للحديث ّ
لريجح وجها من وج��وه املعاين على وج��ه �آخ��ر ي�شملهمقا�صد ال�شريعة ّ
-1ال�شاطبي ،املوافقات 12/3ـ.13
-2ابن عا�شور ،مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية �ص.121
60
االحتمال وقد يكون يف الظاهر �أبني� ،أو قد يكون عند النا�س �أ�شهر.
ومن �أمثلة ذلك ما ورد يف تف�سريه لقوله تعالى } ﯔﯕﯖ ﯗ
ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ{ (الن�ساء)5:
فقد تر ّدد عند البع�ض �أنّ الأموال املق�صودة هي �أموال املخاطبني من جمموع
النا�س ،والذين حملوا املعنى على �أ ّنها �أموال ال�سفهاء مل يكن تربيرهم لهذا
الفهم مقنعا ،وجاء �شرح ابن عا�شور قاطعا ب�أنّ الأموال هي �أموال ال�سفهاء
بناء على مق�صد دقيق من مقا�صد ال�شريعة ذلك لأنّ مال الأف��راد «عند
الت�أ ّمل تلوح فيه حقوق الأمة جمعاء؛ لأن يف ح�صوله منفعة للأمة كلها؛ ولأن
ما يف �أيدي بع�ض �أفرادها من الرثوة يعود �إلى اجلميع بال�صاحلة ...فلأجل
هذه احلكمة �أ�ضاف اهلل تعالى الأموال �إلى جميع املخاطبني ليكون لهم احلق
رجح الإماميف �إقامة الأحكام التي حتفظ الأموال والرثوة العامة»((( ،فقد ّ
معنى على معنى بناء على مق�صد �شرعي ،وب ّرر اختياره بذات املق�صد.
ومن �أمثلة ذلك �أي�ضا �شرحه ل�صنيع عمر ر�ضي اهلل عنه مع الرجل الذي
ا�ست�شري يف �أخته للزواج فقال للم�ست�شري �إنها �أحدثت� :أي زنت ،ف�أنكر عليه
عمر ذلك و�ضربه �أو كاد ي�ضربه ،فرمبا وقع يف النف�س �أنّ الرجل �سلك
امل�سلك ال�صحيح وهو ال�صدق عند اال�ست�شارة وت�لايف الكتمان ال��ذي هو
�ضرب من الغ�ش ،ولكن ابن عا�شور انت�صر للموقف الإنكاري ال�صادر عن
ابن اخلطاب بناء على معنى مق�صدي �إذ قد «ح�صل العلم ب�أن من مقا�صد
ال�شريعة ال�سرت على امل�سلمني يف املعا�صي ما مل يخ�ش �ض ّر على الأمة لأن يف
ال�سرت م�صالح كثرية.(((»..
وكثريا ما يبني ابن عا�شور �أنظاره الفقهية يف تقرير الأحكام على مقا�صد
ال�شريعة مب ّينا وجه االرتباط بني احلكم الذي ينتهي �إليه وبني مق�صده
-1ابن عا�شور ،التحرير والتنوير ،234/4وانظر عبد املجيد النجار ،املنحى التطبيقي يف مقا�صد
ابن عا�شور ،للدكتور �ص 23ـ.24
-2ابن عا�شور ،ك�شف املغطى� ،ص .256نفال عن املنحى التطبيقي لعبد املجيد النجار �ص.24
61
املبتغى منه .ويندرج �ضمن هذا ال�سياق ما جاء من تف�سرياته الجتهادات
بع�ض الأئمة وانت�صاره لأحكام انتهوا �إليها ورمبا عار�ضهم فيها غريهم،
وذلك �إظهارا للمقا�صد التي ُبنيت عليها تلك الأحكام .ومن �أمثلة ذلك
االنت�صار الجتهاد مالك يف عدم اعتباره للخيار يف البيع حال عدم التف ّرق،
خمالفا بذلك ملن يقول باخليار طيلة مدة عدم التفرق ،فقد انت�صر لر�أي
مالك بناء على مق�صد ال�شريعة يف العقود وهو االن�ضباط والتحديد قطعا
للخ�صومات ،وعدم التفرق معنى غري من�ضبط ،فقد يق�صر حلظات وقد
يطول �أ�شهرا و�سنوات ،و�إذا كان ال منا�ص من الأخذ بعدم التفرق فينبغي
حمله على قدر من ال�ضبط بامل�صري �إلى �أنّ «الأظهر �أنّ ر�سول اهلل [ �أراد
بالتفرق التفرق املعتاد ،وهو الذي يح�صل بني املتبايعني من االن�صراف عقب
الرتا�ضي ودفع الثمن وقب�ض ال�سلعة»((( ،وهو قريب مما ذهب �إليه مالك� ،إذ
ف�سر التفرق بالبت يف �صفقة البيع.
-1ابن عا�شور ،ك�شف املغطى� ،ص ،285نقال عن عبد املجيد النجار �ص .24
62
الف�صل الثاين:
طرق الك�شف عن مقا�صد ال�رشيعة
و�أثرها يف بناء التكليف ال�رشعي
-متهيد:
من الأبواب الثابتة يف امل�ؤلفات الأ�صولية ،قدميا وحديثا� ،أبواب الأحكام
ال�شرعية ،تكليفية كانت �أو و�ضعية مبختلف �أق�سامها و�أنواعها .وال تخفى
امتداداتها الفهمية والتنزيلية يف �أبواب الفقه الإ�سالمي.
وال �شك �أن درا�سة هذه املباحث وحماولة �إرج��اع جزئياتها �إلى كلياتها
تك�شف عن الدقة العالية التي امتاز بها الأ�صوليون خ�صو�صا عند ارتباط
هذه الأحكام مع مباحث مقا�صد ال�شريعة ،و�سرب ذلك كله يعطي الباحث
فهما عميقا للأحكام ال�شرعية ،بل ولل�شريعة كلها.
و�س�أحاول يف هذا الف�صل بيان �أوجه العالقة بني مقا�صد املكلف ومقا�صد
ال�شارع ،وبيان ما بينهما من تالزم وتكامل ،مع الك�شف عن دور مقا�صد
ال�شريعة يف تر�شيد التكليف ال�شرعي ،وذلك من خالل مبحثني �أثنني..
65
املبحث الأول :بني مقا�صد ال�شارع ومقا�صد املكلف
كتب الغزايل يف م�ست�صفاه «�أما امل�صلحة فهي عبارة يف الأ�صل عن جلب
منفعة �أو دفع م�ضرة ،ول�سنا نعني به ذلك ،ف�إن جلب املنفعة ودفع امل�ضرة
مقا�صد اخللق ،و�صالح اخللق يف حت�صيل مقا�صدهم ،لكنا نعني بامل�صلحة
املحافظة على مق�صود ال�شرع .ومق�صود ال�شرع من اخللق خم�سة ،وهو �أن
يحفظ عليهم دينهم .(((»...وكانت تلك التفاتة حممودة منه ،رحمه اهلل،
�إلى م�س�ألة مقا�صد املكلفني يف عالقتها مبقا�صد ال�شارع.
و�أورد الدكتور عمر �سليمان الأ�شقر يف كتابه «مقا�صد املكلفني» ن�صا
جميال عن ابن �أبي جمرة الأندل�سي املالكي يقول فيه« :وددت لو كان من
الفقهاء من لي�س له �شغل� ،إال �أن يعلم النا�س مقا�صدهم يف �أعمالهم،
ويقعد �إلى التدري�س يف �أعمال النيات لي�س �إال ،ف�إنه ما �أتي على كثري من
النا�س �إال من ت�ضييع ذلك»(((.
لعل هذه الن�صو�ص وغريها هي التي �أوحت لأبي �إ�سحاق ال�شاطبي تف�صيل
القول يف عالقة مقا�صد املكلف مبقا�صد املكلف ،مع بيان ما ينبني عليها من
فقه وعلم .وهذا ما جنده متناثرا يف موافقات الرجل؛ حيث يرى يف اجلانب
الت�شريعي �أن �أحكام ال�شريعة ملا كانت ت�شتمل على م�صلحة كلية يف اجلملة،
وعلى م�صلحة جزئية يف كل م�س�ألة على اخل�صو�ص ،يكون مطلوبا من «كل
مكلف �أن يكون حتت قانون معني من تكاليف ال�شرع يف جميع حركاته و�أقواله
واعتقاداته فال يكون كالبهيمة امل�سيبة تعمل بهواها ،حتى يرتا�ض بلجام
ال�شرع»((( ،و�أن املطلوب من جهة الق�صد هو «�أن يكون ق�صده يف العمل
موافقا لق�صد ال�شارع يف الت�شريع ،والدليل على ذلك ظاهر من و�ضع
ال�شريعة ..مل�صالح العباد على الإطالق والعموم ،واملطلوب من املكلف
� -1أبو حامد الغزايل ،امل�ست�صفى 264 /1ـ .265
� -2سليمان الأ�شقر ،مقا�صد املكلفني �ص .97
-3ال�شاطبي ،املوافقات .199/1
66
�أن يجري على ذلك يف �أفعاله ،و�أن ال يق�صد خالف ما ق�صد ال�شارع .ولأن
املكلف خلق لعبادة اهلل ،وذلك راجع �إلى العمل على وفق الق�صد يف و�ضع
ال�شريعة ـ هذا حم�صول العبادة ـ فينال بذلك اجلزاء يف الدنيا والآخرة ـ
و�أي�ضا فقد مر �أن ق�صد ال�شارع املحافظة على ال�ضروريات وما رجع �إليها
يف احلاجيات والتح�سينيات ،وهو عني ما كلف به العبد ،فال بد �أن يكون
مطلوبا بالق�صد �إلى ذلك ،و�إال مل يكن عامال على املحافظة؛ لأن الأعمال
بالنيات»(((.
يت�ضح من الكالم ال�سابق �أن ال�شاطبي يربط بني تطبيق التكاليف
يف جمال العبادات واملعامالت ،واملقا�صد التي ا�ستهدفها ال�شارع من ت�شريع
تلك التكاليف ،ووظيفة التعرف على تلك املقا�صد هي �أن ي��وازن املكلف
باالعتماد عليها بني �سلوكه و�أفعاله ،واملقا�صد التي راعتها ال�شريعة ،و�أ�س�ست
�أحكام التكليف عليها ،في�سعى �إلى �أن يكون �سلوكه وعمله متطابقني مع تلك
املقا�صد وم�ستجيبني لها .ومن ثم يظهر بجالء �أن اطالع املكلف على �أ�سرار
الت�شريع له وظيفة عملية ذات عالقة مبا�شرة ب�سلوكه و�أفعاله يف احلياة.
وهذا جانب من جوانب الإبداع والإلهام عند الإمام ال�شاطبي ،ذلك �أن
مقا�صد ال�شارع ال تتم وال تتحقق �إال بت�صحيح مقا�صد املكلف .فكان من �شدة
عناية ال�شاطبي مبقا�صد ال�شارع �أن اهتدى لتتويج الكالم فيها بالكالم
يف مقا�صد املكلفني ملا بينهما من التالزم والتكامل.
و�إن كان ال�شاطبي قد ا�ستفاد يف هذه امل�س�ألة مما جادت به قرائح بع�ض
الأ�صوليني قبله ،ف�إنه «مدين يف هذا ـ على وجه اخل�صو�ص ـ ملذهبه املالكي،
الذي مل يقف عند حد العناية مبقا�صد املكلفني فيما ي�سمى بالعبادات ،ولكنه
�أولى العناية البالغة ملقا�صد املكلفني يف جميع �أقوالهم و�أفعالهم وعقودهم
وت�صرفاتهم»((( .فكما �أن املذهب املالكي هو مذهب امل�صلحة ،واال�ست�صالح،
-1ال�شاطبي ،م�صدر �سابق .251/2
� -2أحمد الري�سوين ،نظرية املقا�صد عند الإمام ال�شاطبي �ص .272
67
واال�ستح�سان امل�صلحي ،والتف�سري امل�صلحي للن�صو�ص ،وهو املذهب احلازم
يف درء املفا�سد و�سد الذرائع وا�ستئ�صال �أ�سبابها ..هو كذلك املذهب الذي
اعتنى واهتم علما�ؤه اهتماما كبريا مبقا�صد املكلفني معتربا لنياتهم ،غري
واقف عند �ألفاظهم ومظاهرهم فقط.
وميكن النظر �إلى عالقة مقا�صد املكلف مبقا�صد ال�شارع من جانبني(((:
�أوال ـ جانب يتعلق مبا يجب �أن يكون عليه ق�صد املكلف جت��اه ق�صد
ال�شارع ،وهو املعرب عنه �إجماال بقول ال�شاطبي «ق�صد ال�شارع من املكلف
�أن يكون ق�صده يف العمل موافقا لق�صده يف الت�شريع»((( ،وذل��ك لأنه
م�ستخلف يف الأر� ��ض} ...ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ
ﯲ{(الأعراف ،)129فكان عليه �أن يقوم مقام من ا�ستخلفهُ ،يجري
�أحكامه ومقا�صده جماريها ،ومبا �أن عامة املكلفني ال يعرفون ـ بالتف�صيل
مقا�صد ال�شارع يف كثري من �أحكامه ،وتكاليفه ،و�ضع الإم��ام ال�شاطبي
�أمامهم ثالث خيارات كلها م�شروعة ،ب�شرط اعتبار امل�صلحة يف التكاليف،
وهي:
الأول ـ �أن يق�صد بالتكاليف ما فهم من مق�صد ال�شارع يف �شرعها ،ولكن
ينبغي �أن ال يخليه من ق�صد التعبد ،ظهرت له م�صلحة احلكم �أم ال(((.
الثاين ـ �أن يق�صد بالتكاليف ما ع�سى �أن يق�صده ال�شارع ،مما اطلع عليه
�أو مل يطلع عليه ،وهذا �أكمل من الأول((( .ف�إذا علم املكلف �أن هذا العمل
�شرع مل�صلحة كذا ،ثم عمل لذلك الق�صد ،غافال عن امتثال الأمر فيها،
يكون بذلك قد فوت ق�صد التعبد ،و�إن كان ال يخلو من �أجر ف�إنه يعد يف هذه
احلالة غري كامل.
� -1إدري�س حمادي ،امل�صالح املر�سلة وبناء املجتمع الإن�ساين �ص 177ـ .183
-2ال�شاطبي ،املوافقات .251/2
-3امل�صدر ال�سابق .283 /2
-4امل�صدر ال�سابق .283/2
68
الثالث ـ �أن يق�صد جمرد امتثال الأمر ،فهِ م ق�صد امل�صلحة �أم مل يفهم،
فهذا �أكمل و�أ�سلم(((؛ لأنه ن�صب نف�سه عبدا م�ؤمترا ممتثال خلالقه ،ومملوكا
ملبيا ملواله ،ويف هذه احلالة يكون عامال مبقت�ضى العبودية ،واقف ًا عند
حدود ذلك.
وال �شك �أن ما قدمه ال�شاطبي يف هذه امل�س�ألة يعد قاعدة ال غنى عنها
جلميع املكلفني ،ملا لها من دور يف حماية مقا�صد ال�شريعة من �أن ت�أتي عليها
مقا�صد املكلفني غري امل�شروعة فتنق�ضها �أو مت�سها ،ذلك �أن الق�صد ما دام
يف النف�س ي�سمى باعثا �أو دافعا نف�سيا ،لكنه عند مبا�شرة الفعل ي�صبح �أثرا
وواقعا جم�سدا يف الوجود اخلارجي ،ويف حالة كونه منافيا للحكمة،
�أو امل�صلحة التي �شرع اهلل عز وجل الفعل يف الأ�صل من �أجلها ف�إنه قد
يكون هادما(((.
وال يخفى �أن احلفاظ على �أ�صل امل�صلحة التي قامت عليها ال�شريعة
الإ�سالمية ميلي اعتبار هذه القاعدة؛ لأن خمالفة ق�صد ال�شارع �أو منافاته
هدم للم�صالح التي �شرعت الأحكام من �أجلها؛ �إذ الق�صد غري ال�شرعي
هادم للق�صد ال�شرعي.
ومن �أمثلة ذلك �أن ال�شارع �إذا �شرع الطالق فلتعذر ا�ستمرار احلياة
الزوجية ،بحيث مت�سي دميومة العالقة بني الزوجني مظنة ال�ضطراب حالة
العائلة ودخول عوامل الف�ساد على كال الزوجني((( ،ف�إذا ا�ستعمل الزوج حق
الطالق يف �سبيل حرمان املر�أة من املرياث؛ ك�أن يطلق زوجته طالقا باتا يف
مر�ض موته ،ف�إنه يف هذه احلالة يكون خمالفا لق�صد ال�شارع من ت�شريعه؛
�إذ ا�ستعمل الفعل امل�شروع يف �أ�صله لتحقيق غاية غري م�شروعة(((.
-1امل�صدر ال�سابق .284/2
-2عبد الرحمن الكيالين ،قواعد املقا�صد عند الإمام ال�شاطبي �ص .385
-3عبد الرحمن ال�صابوين ،نظام الأ�سرة وحل م�شكالتها يف �ضوء الإ�سالم �ص ،94نقال عن عبد
الرحمن الكيالين ،قواعد املقا�صد �ص .386
-4فتحي الدريني ،نظرية التع�سف يف ا�ستعمال احلق �ص .172
69
ويف ت�شريع النكاح واحل�ض عليه حكم ومقا�صد �أ�شار �إلى بع�ضها النبي
[ بقوله« :يا مع�شر ال�شباب من ا�ستطاع منكم الباءة فليتزوج ،ف�إنه �أغ�ض
للب�صر و�أح�صن للفرج»((( .ووا�ضح �أن لل�شارع من ت�شريع النكاح مقا�صد
معينة� ،سواء �أكانت �أ�صلية؛ كاحلفاظ على مق�صد ا�ستمرار الن�سل
ومنائه� ،أم كانت تبعية؛ وهي التي روعي فيها حظ املكلف من اال�ستمتاع
باملر�أة وجمالها وح�سنها ومالها .ف�إذا تنكب املكلف هذه املقا�صد الت�شريعية؛
ك��أن يكون ق�صده من زواج��ه جم��رد �أن يحلل امل��ر�أة لزوجها الأول الذي
طلقها ثالثا ،كان املكلف بهذا الق�صد خمالفا لق�صد ال�شارع من ت�شريع
النكاح ،وهادما للم�صلحة التي و�ضعها ال�شارع حكمة ومق�صدا وغاية لإباحة
النكاح(((.
و�إذا كان هذا ال�ضابط قد �أ�شار �إلى وجوب موافقة ق�صد املكلف لق�صد
ال�شارع �إبان قيامه بالتكليف ،ف�إن �أبا �إ�سحاق �صاغ �ضابطا �آخر يبني �أن
املوافقة لق�صد ال�شارع لي�ست فقط ب�أن يتوجه ق�صد املكلف �إلى ما ق�صده
ال�شارع ،و�إمنا تتحقق املوافقة �أي�ضا برتك ق�صد ما ق�صده ال�شارع ما دام
مل ي�صاحب ذاك ال�ترك ق�صد ملناق�ضته عني ما ق�صده ال�شارع((( ،وهو
ما عناه بقوله« :ال يلزم الق�صد �إلى امل�س َّبب ،فللمكلف ترك الق�صد �إليه
ب�إطالق ،وله الق�صد �إليه»(((؛ �أي �أن املكلف له �أن يرتك الق�صد �إلى عني ما
ق�صده ال�شارع من ذلك الفعل املكلف به ،وله �أن يوجه ق�صده �إلى عني ما
ق�صده ال�شارع.
وال�شاطبي يف ا�ستعماله للفظ «امل�س َّبب» يريد معنيني:
الأول :معاين الأحكام ،وغاياتها الكلية ،ومقا�صدها العامة التي �شرعت
الأح�ك��ام من �أجلها ،وه��و ي�صرح بذلك فيقول« :الأح�ك��ام ال�شرعية �إمنا
-1احلديث رواه البخاري يف �صحيحه ـ كتاب ـ باب ـ رقم .1905
-2ال�شاطبي ،املوافقات ،187/2وعبد الرحمن الكيالين ،قواعد املقا�صد �ص .386
-3عبد الرحمن الكيالين ،قواعد املقا�صد �ص .390
-4ال�شاطبي ،املوافقات .143 /1
70
�شرعت جللب امل�صالح �أو درء املفا�سد ،وهي م�سبباتها قطعا»((( ،ويقول
�أي�ضا« :واملعاين هي م�سببات الأحكام»((( ،ويقول« :الأ�سباب من حيث هي
�أ�سباب �إمنا �شرعت لتح�صيل م�سبباتها،وهي امل�صالح املجتلبة �أو املفا�سد
امل�ستدفعة»(((.
واملعنى الثاين ال��ذي يريده من «امل�سبب» الآث��ار اجلزئية التي ترتتب
على الأفعال ،مثل حل االنتفاع باملبيع الذي يرتتب على عقد البيع ،وحلية
اال�ستمتاع املرتتبة على عقد النكاح ،وحت�صيل الرزق امل�سبب عن ال�ضرب
يف الأر�ض ،والق�صا�ص الناجم عن القتل العمد� ،إلى غري ذلك من الأمثلة
التي ت�صور امل�سببات اجلزئية ب�أ�سبابها((( .واملراد هنا هو املعنى الأول دون
الثاين؛ ومن �أمثلته �أن ال�شارع قد �أمر بال�صالة ،والزكاة ،واحلج ،وغريها
من الواجبات دون التفات �إلى م�سبباتها ،وامل�صالح املرتتبة عليها ،فله ذلك؛
ك�أن يقول مثال� « :إن ال�شارع �أمر ونهى لأجل امل�صالح ...ف�أ�صرف ق�صدي
يل ،و�أَ ِك ُل ما لي�س يل �إلى من هو له»(((.
�إلى ما ُجعل �إ ّ
ولتو�ضيح هذا اجلانب من النظر وك�شف متعلقاته �صاغ علماء الأ�صول
ثنائية معربة عن مق�صودهم ،وهي املتعلقة باملقا�صد الأ�صلية واملقا�صد
التبعية ،التي هي يف مبناها ومعناها لب مقا�صد ال�شارع ومقا�صد املكلف؛
فبينوا فيما بينوه يف هذا ال�سياق �أن املقا�صد ا لأ�صلية -عينية كانت
�أو كفائية -هي التي ال حظ فيها للمكلف� ،إذ هي من ال�ضروريات املعتربة يف
كل ملة ،و�أن من يقوم بها «يقوم مب�صالح عامة مطلقة ال تخت�ص بحال
دون حال ،وال ب�صورة دون �صورة ،وال بوقت دون وقت»(((.
71
ومن ثم جند «كل مكلف يف العينية منها م�أمورا بحفظ دينه ونف�سه وعقله
ون�سله وماله ،حتى �إن العبد لو فر�ض اختياره خالف هذه الأم��ور حلجر
عليه ،وحليل بينه وبني اختياره ،فمن هنا �صار م�سلوب احلظ حمكوما
عليه يف نف�سه ،و�إن �صار له فيها حظ فمن جهة �أخرى تابعة لهذا املق�صد
الأ�صلي»((( .كما جند من اجلهة الكفائية ـ �أي امل�صالح العامة ـ �أن �أمورها
منوطة بجميع املكلفني على العموم ،وذلك من �أجل �أن ت�ستقيم الأحوال
التي ال تقوم اخلا�صة �إال بها� ..إذ ال يقوم العيني �إال بالكفائي ..ف�إن
ال��واح��د ال يقدر على �إ�صالح نف�سه والقيام بجميع �أهله ،ف�ضال عن �أن
يقوم بقبيلته ،ف�ضال عن �أن يقوم مب�صالح �أهل الأر�ض ،فجعل اهلل اخللق
خالئق يف �إقامة ال�ضروريات العامة حتى قام امللك يف الأر�ض»((( .ومن هنا
كان هذا التق�سيم معرى من احلظ �شرعا؛ لأن القائمني به يف ظاهر الأمر
ممنوعون من ا�ستجالب احلظ لأنف�سهم ملا قاموا به من ذلك «من حيث كان
ال يجوز لوال وال لقا�ض ،وال حلاكم ،وال ملفت ،وال ملح�سن ،وال ملقر�ض� ...أن
ي�أخذ �أجرة ممن توالهم على واليته عليهم� ،أو ممن تقا�ضى لديه� ،أو ممن
ا�ستفتاه ...لأن ا�ستجالب امل�صلحة هنا م�ؤد �إلى مف�سدة عامة ت�ضاد
حكمة ال�شريعة يف ن�صب هذه الواليات ،وعلى هذا امل�سلك يجري العدل يف
جميع الأنام وي�صلح النظام ،وعلى خالفه يجري اجلور يف الأحكام وهدم
قواعد الإ�سالم»(((.
�أما فيما يخ�ص املقا�صد التابعة؛ مقا�صد املكلف ،فقد بني ال�شاطبي �أن
حظوظها يجب �أن تراعى؛ �إذ «من جهتها يح�صل للمكلف مقت�ضى ما جبل
عليه من نيل ال�شهوات واال�ستمتاع باملباحات و�سد اخل�لات ،ومن جهتها
ي�صبح القيام بامل�صالح الأ�صلية ممكنا ،لأن قيام الدين والدنيا �إمنا ي�صلح
72
وي�ستمر ب��دواع من قبل الإن�سان ،حتمله على اكت�ساب ما يحتاج �إليه هو
وغريه»(((.
فمن طريق �سد حاجة الطعام وال�شراب وامللب�س وامل�سكن حت�صل املحافظة
على النف�س والعقل ،ومن طريق �سد حاجة الزواج حت�صل املحافظة على
الن�سل ،ومن طريق التطلع �إلى الفوز بنعيم اجلنة واالبتعاد عن النار حت�صل
املحافظة على املال وتنميته ..وهكذا تكون هذه امل�صالح قد �صارت من هذه
اجلهة خادمة للمقا�صد الأ�صلية ومكملة لها� ،إذ لوالها ما كان للمقا�صد
الأ�صلية وجود يف اخلارج(((.
ث��ان��ي��ا ـ �أم��ا عن جانب ما يناله الأف��راد من حظوظ ج��راء قيامهم
بامل�صالح العامة؛ وهو اجلانب الذي يتم النظر فيه �إلى هذه العالقة من
زاوية ما يناله اخل�صو�ص والعموم من حظوظ جراء القيام بهذه املقا�صد
بق�سميها ،فنجد الإمام ال�شاطبي قد خ�ص�ص لهذه العالقة ف�صلني ،ف�صل
تناول فيه احلظوظ التي ينالها املكلف من جراء قيامه بامل�صالح الأ�صلية
والتبعية ،وف�صل تناول فيه احلظوظ التي تنعك�س على العموم واخل�صو�ص
�أو املجتمع ب�أفراده وجماعاته من جراء القيام بامل�صالح العامة.
فريى بالن�سبة للحظوظ التي ينالها املكلف بعد �إجماله احلديث عنها يف
هذه القاعدة« :ما لي�س فيه للمكلف حظ بالق�صد الأول ،يح�صل له فيه حظ
بالق�صد الثاين من ال�شارع ،وما فيه للمكلف حظ بالق�صد الأول يح�صل فيه
العمل املرب�أ من احلظ »،ف�إنك جتد املكلف يف الفرو�ض العينية بالرغم من
خلوها من احلظوظ املق�صودة بالق�صد الأول ،يح�صل له من جلبها حظوظ
بطريق غري مبا�شر ،وذلك ملا «ثبت يف ال�شريعة �أوال من حظ نف�سه وماله،
وما وراء ذلك من احرتام �أهل التقوى والف�ضل والعدالة ،وجعلهم عمدة يف
ال�شريعة يف الواليات وال�شهادات ،و�إقامة املعامل الدينية ،زائدا �إلى ما جعل
-1ال�شاطبي ،املوافقات .179/2
� -2إدري�س حمادي ،امل�صالح املر�سلة وبناء املجتمع الإن�ساين �ص.179
73
لهم من حب اهلل وحب �أهل ال�سموات لهم ،وو�ضع القبول لهم يف الأر�ض حتى
يحبهم النا�س ويكرمونهم ويقدمونهم على �أنف�سهم.(((»...
ومثل ه��ذا جن��ده يف الفرو�ض الكفائية خمدوما من ط��رف الأم��ة� ،إذ
ي�سخر كل طاقاته خلدمة م�صالح الأمة يكون واجبا على هذه الأمة �أن تقوم
بخدمة �أموره اخلا�صة ،من بيت مالها الذي تر�صده خلدمة م�صاحلها(((،
ومعنى هذا �أن املكلف يف جلبه امل�صالح العامة الأ�صلية « ال يعرى من نيل
حظوظه الدنيوية يف طريق جترده من حظوظه ،وما له يف الآخرة من النعيم
�أعظم»(((.
وبناء على مبد�أ االرتباط بني تطبيق التكاليف ومراعاة املقا�صد ي�صنف
ال�شاطبي املكلفني �إلى عدة �أ�صناف((( :ال�صنف الأول :هو الذي يكون يف
الفعل �أو الرتك موافقا لق�صد ال�شارع ،وق�صده املوافقة ،وذلك كال�صالة
وال�صيام وال�صدقة واحلج وغريها ،يق�صد بها امتثال اهلل تعالى و�أداء ما
وجب عليه �أو ندب �إليه ،وكذلك ترك الزنى واخلمر و�سائر املنكرات ،يق�صد
بذلك االمتثال ،فال �إ�شكال يف �صحة هذا العمل .ال�صنف الثاين هو الذي
يكون خمالفا وق�صده املخالفة ،وذلك مثل ترك الواجبات وفعل املحرمات
ق�صدا فهذا �أي�ضا ظاهر احلكم .ال�صنف الثالث هو الذي يكون فعله �أو تركه
موافقا لأوامر ال�شارع ونوايهه وق�صده املخالفة .وهذا ال�صنف ينق�سم بدوره
�إلى �ضربني �أحدهما «�أن ال يعلم بكون الفعل �أو الرتك موافقا»((( ،وميثل
ال�شاطبي على ذلك بتارك ال�صالة معتقدا �أنها باقية على ذمته ،وكواطئ
زوجته ظانا �أنها �أجنبية ،وه��ذا ال�ضرب قد ح�صل فيه ق�صد الع�صيان
باملخالفة .والثاين «�أن يكون الفعل �أو الرتك موافقا �إال �أنه عامل باملوافقة،
-1ال�شاطبي ،املوافقات .184 /2
� -2إدري�س حمادي ،امل�صالح املر�سلة �ص.181
-3ال�شاطبي ،املوافقات .184/2
-4امل�صدر ال�سابق 256 /2ـ .258
-5امل�صدر ال�سابق .256/2
74
ومع ذلك ق�صد املخالفة»((( ،وميثل على ذلك بالذي ي�صلي رياء لينال دنيا
�أو تعظيما عند النا�س ،و«هذا الق�سم �أ�شد من الذي قبله»((( .ال�صنف الرابع
هو الذي يكون فعله �أو تركه خمالفا والق�صد موافقا .وهذا ال�صنف ينق�سم
�أي�ضا �إلى �ضربني� :أحدهما� :أن يكون خمالفا مع العلم باملخالفة ،و«هذا
هو االبتداع ك�إن�شاء العبادات امل�ست�أنفة والزيادات على ما �ش ّرع ...والذي
يتح�صل هنا �أن جميع البدع مذمومة»((( .والثاين �أن يكون العمل املخالف
مع اجلهل باملخالفة.
وهذا ال�ضرب الثاين له وجهان� :أحدهما �أن يكون الق�صد موافقا لق�صد
ال�شارع ،ومن هذا الوجه ال يكون املكلف خمالفا ،وذلك «لأن العمل و�إن كان
خمالفا ،فالأعمال بالنيات ،ونية هذا العامل على املوافقة ،لكن اجلهل �أوقعه
يف املخالفة ،ومن ال يق�صد خمالفة ال�شارع كفاحا ال يجري جمرى املخالف
بالق�صد والعمل معا ،فعمله بهذا النظر منظور فيه على اجلملة ال مطرح
على الإطالق»(((.
والوجه الثاين هو �أن يكون العمل خمالفا ،ويف املخالفة عدم االمتثال
للأوامر والنواهي ،ويف عدم االمتثال خمالفة لق�صد ال�شارع ،و«ال يعار�ض
املخالفة موافقة الق�صد الباعث على العمل؛ لأنه مل يح�صل ق�صد ال�شارع يف
ذلك العمل على وجه ،وال طابق الق�صد العمل ،ف�صار املجموع خمالفا كما
لو خولف فيهما معا ،فال يح�صل االمتثال»(((.
ولعل حر�ص ال�شاطبي على توثيق ال�صلة بني التطبيق للأحكام اجلزئية
ليتحقق التطابق املطلوب بني ال�سلوك والأف�ع��ال من ناحية ومقت�ضيات
ال�شرع من ناحية ثانية ،لعل ذلك يرتبط على ما يبدو بالظروف االجتماعية
-1ال�شاطبي ،املوافقات .257/2
-2امل�صدر ال�سابق .257/2
-3امل�صدر ال�سابق .258/2
-4امل�صدر ال�سابق .260/2
-5امل�صدر ال�سابق .260/2
75
والفكرية التي كان يعي�شها يف ع�صره .فقد ات�سمت غرناطة يف هذه الفرتة
باالزدهار العمراين واحل�ضاري ،و�صاحب ذلك حتوالت اجتماعية ت�ضخمت
تدريجيا ،حتى ف�شا االختالط ،و�شرب امل�سكرات ،وظهور ما ينكر يف الدين،
وبد�أ يظهر الت�صعلك يف املجتمع((( .ومن خالل ت�صنيف الإمام ال�شاطبي
للعلوم-كما ج��اء ذل��ك يف املقدمة التا�سعة((( ،ن�ستخل�ص معامل ملا كان
�سائدا يف الواقع الثقايف العلمي يف ع�صر امل�ؤلف ،وحتدياته املتمثلة يف
�شيوع اخلرافات ،وانت�شار البدع و�آراء املت�صوفة ومذاهبهم ،وهيمنة التقليد
يف �أب�شع �صوره ،هذا الواقع الذي حر�ص ال�شاطبي على نقده وت�صحيحه
وتنقيته ،وتوجيه العقلية الإ�سالمية نحو التمحي�ص والتدقيق ،بعد تربية
هذه العقلية وتزويدها باملعايري الدقيقة للتمييز بني املعارف والعلوم ،وكيفية
التعامل معها بالنقد والبحث الدقيق.
فت�صدر ،رحمه اهلل ،للرد عليها ومقاومتها ،وهو ما جتلى لنا عند حديثه
عن ال�صنف الرابع من �أ�صناف املكلفني ،وهو ما �أبدع يف عر�ضه ومناق�شته
يف كتابه االعت�صام معلنا �أن �أ�سباب االبتداع يف الدين «راجعة يف التح�صيل
�إلى وجه واحد :وهو اجلهل مبقا�صد ال�شريعة»((( ،و�أن «زلة العامل �أكرث
(((
ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقا�صد ال�شرع»..
يف هذا اجلو نبغ الإم��ام ال�شاطبي ،و�شكلت �شخ�صيته يف م�ضمار نقد
الفكر ال�صويف باخل�صو�ص �أهم �أمنوذج لفعاليات ال�صراع الفكري خالل
القرن الثامن الهجري.
وهذا العامل جدير بالتنويه يف ف�صل ال�صراع؛ لأنه كان قويا �أمام تيار
التقليد املذهبي وال�صويف ،وحتمل يف �سبيل موقفه املحن والغربة التي �أ�شار
-1ابن اخلطيب ،اللمحة البدرية يف الدولة الن�صرية �ص .45
--2ال�شاطبي ،املوافقات.61-53/1 ،
-3ال�شاطبي ،االعت�صام .182/2
-4ال�شاطبي ،املوافقات .170/4
76
�إليها يف كتابه االعت�صام ،من ذلك قوله« :ملا وقع علي من الإنكار ما وقع،
مع ما هدى اهلل �إليه ،واحلمد هلل ،مل �أزل �أتتبع البدع...لعلي �أجتنبها فيما
ا�ستطعت»((( ،وهو ر�أي علمي متزن وملتزم يكلف �صاحبه نف�سه قبل غريه
الإم�ساك عن البدع.
المة وف ّوق �إ َ
يل علي ا َمل َ
وقال يف مو�ضع �آخر« :قامت علي القيامة وتواترت َّ
العتاب �سهامه ،ون�سبت �إلى البدعة وال�ضاللة ،و�أنزلت منزلة �أهل الغباوة
واجلهالة»(((.
ويف هذا اجلو امل�شحون ،ورغم هذه احلملة ال�شعواء ،وهذه الغربة التي
ا�ستوح�شت ال�شاطبي مع ك�ثرة �أع��دائ��ه وخ�صومه الفكريني من العامة
واخلا�صة الذين ت�ألبوا عليه ،رغ��م ذل��ك مل ي�ترك لنف�سه العنان يف
االنتقام منهم �أو حتى ال��وق��وع فيهم �أو النيل �أو التعر�ض لذممهم،
وذكرهم مبا ي�سو�ؤهم كما هو الأمر بالن�سبة للعديد من علماء الأندل�س.
بل �إميانا منه بدوره الفعال يف معاجلة االنحرافات االجتماعية وال�شوائب
احللم والعلم والرتبية والأخالق،
االعتقادية� ،سلك يف تقوميهم طريق �أهل ِ
وتعامل معهم معاملة العامل الرا�سخ ال��رب��اين ،الواعي ب�أحكام �شرعه،
اخلائف من دب روح االختالف ،والراغب يف �سيادة روح املوافقات ،واتبع
يف جمادلتهم ونقا�شهم منهج القر�آن ،امتثاال لقوله تعالى } :ﮦﮧﮨ
ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ
ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ { (النحل ،)125 :فعزم
على و�ضع تلخي�ص يو�ضح فيه �أ�صول هذه الطريقة ،وما �شابها من نزغات
وترهات ،ليميز اخلبيث من الطيب ،ولكن املنية عاجلته قبل �أن يحقق عزمه،
ووافاه �أجله قبل �أن ي�ضع �أمنوذجه وم�صنفه يف الت�صوف.
77
وقد �صرح ال�شاطبي با�سم هذا امل�صنف فقال« :و�إن ف�سح اهلل يف املدة
و�أعان بف�ضله ب�سطنا الكالم يف هذا الباب يف كتاب (مذهب �أهل الت�صوف)
(((
وبيان ما �أدخل فيه مما لي�س بطريق لهم».
ومبوقف ال�شاطبي ه��ذا من البدع و�أهلها ا�ستحق �أن يلقب فيما بعد
بامل�صلح الديني واالجتماعي((( ،و�أن يع ّد من املجددين الذين عملوا على
تخلي�ص الفكر الإ�سالمي من جملة �شوائب علقت به يوما ،فكانت حاجزا
�أمام النه�ضة املرجوة والرتقي املنتظر من �أهل العلم يف ذلك الوقت.
ومع هذا وذاك ،ف�إن ال�شاطبي �أح�سن وتفرد يف حترير القول يف مقا�صد
املكلف وعالقتها ـ �إيجابا و�سلبا ـ مع مقا�صد ال�شارع ،وا�ستطاع �أن يدمج
بينهما يف نظرته �إلى ن�صو�ص ال�شريعة وفق ر�ؤية مقا�صدية.
78
املبحث الثاين :معرفة مقا�صد ال�شريعة وبناء التكليف ال�شرعي
�إذا كان الإمام ال�شاطبي �أولى اهتماما خا�صا لوظيفة املقا�صد بالن�سبة
�إلى املكلف فتناولها ،على عادته يف ذلك ،بالتو�ضيح والتف�صيل واال�ستدالل،
ف�إن ال�شيخ ابن عا�شور ر�أى �أنه «لي�س كل مكلف بحاجة �إلى معرفة مقا�صد
ال�شريعة؛ لأن معرفة مقا�صد ال�شريعة نوع دقيق من �أن��واع العلم ،فحق
العامي �أن يتلقى ال�شريعة بدون معرفة املق�صد؛ لأنه ال يح�سن �ضبطه
وال تنزيله»(((.
والذي ميكن �أن �أ�ستدركه على ابن عا�شور فيما ذهب �إليه هو �أن ال�شاطبي
عندما ا�ستوجب تعرف املكلف على مقا�صد ال�شريعة ،مل يق�صد بذلك �أن
ي�صبح املكلف عاملا بها وبدقائقها وتفا�صيلها علم الفقهاء املتخ�ص�صني،
والأئمة املعتربين ،و�إمنا ق�صد فقط �أن تكون تلك املعرفة م�ساعدة له على
�أن يبلغ بغيته ،فيحقق يف تطبيق التكاليف ال�شرعية من �أوامر ونواه ،املقا�صد
التي جعلت من �أجلها؛ �أي �أن يكون �سلوكه يف الأفعال والرتوك من�سجما مع
مقت�ضيات ال�شرع من ناحية الأحكام واملقا�صد يف نف�س الوقت ،فاملعرفة التي
يطالب بها ال�شاطبي هي املعرفة العملية ال املعرفة العلمية(((.
ومهما يكن من �أمر هذه االختالفات يف وجهات النظر ،ف�إن ابن عا�شور
يركز عنايته على وظيفة املقا�صد يف عالقتها بالفقيه املجتهد قبل غريه
من �أ�صناف املكلفني بال�شريعة ،وبهذه الر�ؤية يربط ابن عا�شور ربطا وثيقا
بني االجتهاد كباب من �أبواب علم الأ�صول وبني البعد املقا�صدي للن�صو�ص
ال�شرعية ،وك�أين به ،رحمه اهلل ،يقتفي �آثار الإمام ال�شاطبي يف تقرير
�أوجه العالقة بني خمتلف مباحث علم الأ�صول والعلم مبقا�صد ال�شريعة،
ويف اتخاذ البعد املقا�صدي �إطارا مرجعيا لتلك املباحث كلها.
79
يف حني �أول��ى ال�شاطبي ،وكما مر معنا بع�ض من ذل��ك ،عناية خا�صة
ملقا�صد املكلف؛ وذلك راجع بالأ�سا�س لعلمه �أن عدم اعتبار هذه املقا�صد
من �ش�أنه �إبقاء مقا�صد ال�شارع جمرد فكرة يف الذهن ال تنزل �إلى واقع
حياة املكلف ،ومن هذا املنطلق قرن ،رحمه اهلل« ،بني التكليف والق�صد؛ فال
تكليف �إال على من تعني ق�صده ،و�إال كلف مبا ال يطاق؛ بحيث ي�صري الق�صد
نازال منزلة العقل الذي هو بالذات مناط التكليف»(((.
من هنا �أكد على ارتباط الأحكام ال�شرعية اخلم�سة مبقا�صدها بحيث
�إذا عريت عن املقا�صد مل تتعلق بها ،وت�صبح غري معتربة �شرعا ،وهذا
(((
ما قرره يف �صدر امل�س�ألة ال�ساد�سة من كتاب الأحكام« :الأحكام اخلم�سة
�إمنا تتعلق بالأفعال والرتوك باملقا�صد .ف�إذا عريت عن املقا�صد مل تتعلق
بها»((( .وك�أنه به بذلك ي�ستدرك على التعريف الذي ا�ستقر عند الأ�صوليني
للحكم ال�شرعي ب�أنه« :خطاب اهلل تعالى املتعلق ب�أفعال املكلفني باالقت�ضاء
�أو التخيري»((( ..فخطاب اهلل تعالى ح�سب ال�شاطبي ال يتعلق ب�أفعال املكلفني
�إذا كان خاليا من الق�صد.
مما يفهم منه �أن الأحكام التكليفية �إمنا هي معتربة مبقا�صد ال�شرع،
ومبجرد ما تبتعد عن هذه املقا�صد تفقد قيمتها وفاعليتها ،مما يحتم على
املكلف ب�أن يجعل �أفعاله وتروكه املتعلقة بالأحكام التكليفية اخلم�سة مبنية
على الق�صد ،و�إال نزل �إلى م�ستوى العجماوات واجلمادات التي ال ق�صد لها
وال غاية ،وعلى عادته يف الدفاع عن مراده ،ا�ستدل الإمام ال�شاطبي على
اختياره ربط الأحكام التكليفية مبقا�صدها ب�أدلة ،منها:
�أوالـ قيام الأعمال والت�صرفات على النيات ،وهو �أمر مقطوع به ومتفق
-1طه عبد الرحمن ،جتديد املنهج يف تقومي الرتاث �ص 100ـ.101
-2وهي :الإباحة ،والندب ،والإيجاب ،والكراهة ،والتحرمي.
-3ال�شاطبي ،املوافقات .106/1
-4الطويف� ،شرح خمت�صر الرو�ضة .250/1
80
عليه يف اجلملة ،ذلك �أن الأعمال املجردة من حيث كونها حم�سو�سة
فقط ال اعتبار لها �شرعا� ،إال ما ثبت اعتباره يف باب خطاب الو�ضع،
والتي ال دخل للنيات فيها؛ �إذ الأعمال والت�صرفات �إذا «مل تكن معتربة
حتى تقرتن بها املقا�صد كان جمردها يف ال�شرع مبثابة حركة العجماوات
واجلمادات»((( ،والأحكام اخلم�سة ال تتعلق بها عقال وال �سمعا.
ثانيا ـ ومما يدل على ابتناء الأحكام ال�شرعية على النيات واملقا�صد
«ما ثبت من عدم اعتبار الأفعال ال�صادرة من املجنون ،والنائم ،وال�صبي،
واملغمى عليه ،و�أنها ال حكم لها يف ال�شرع ب�أن يقال فيها :جائز� ،أو ممنوع،
�أو واجب� ،أو غري ذلك»((( .والن�صو�ص ال�شرعية دالة على ذلك ،منها
قوله تعالى }ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ
ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ
ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ {(الأح�� ��زاب،)5 :
وقوله �سبحانه}ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ
ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ
ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ {(البقرة )285 :ويف معناه قول
النبي [« :رفع عن �أمتي اخلط�أ والن�سيان وما ا�ستكرهوا عليه»((( .ويخل�ص
ال�شاطبي �إلى القول« :فجميع ه�ؤالء ال ق�صد لهم ،وهي العلة يف رفع �أحكام
التكليف عنهم»(((.
الثالث ـ الإجماع على تكليف ما ال يطاق غري واقع يف ال�شريعة ،وتكليف من
ال ق�صد له تكليف مبا ال يطاق(((.
-1ال�شاطبي ،املوافقات .106/1
-2امل�صدر ال�سابق .106/1
-3احلديث رواه ابن ماجه يف �سنه ـ كتاب الطالق ـ باب طالق املكره والنا�سي ـ رقم احلديث .2043
-4ال�شاطبي ،املوافقات .106/1
-5ال�شاطبي ،املوافقات .107/1
81
فهذه الأمور لها تعلق مبقا�صد املكلف من حيث ت�أثريها على اعتبارها �شرعا
�أو �إهمالها ،وتكييف الفعل ال�صادر عن املكلف واحلكم عليه وفق مق�صده
وغايته؛ �أي من حيث ظاهر الفعل ومن حيث الق�صد الذي توخاه املكلف من
مبا�شرة الفعل ،حتى ال تكون موافقة املكلف لق�صد ال�شارع يف الظاهر فقط،
بينما جتد باطنه مناق�ضا للمق�صد ال�شرعي املراد ،وهو ما عناه ال�شاطبي
بقوله يف ر�أ�س امل�س�ألة الأولى من م�سائل الق�سم الثاين من كتاب املقا�صد؛
وهو املخ�ص�ص ملقا�صد املكلف�« :أن الأعمال بالنيات ،واملقا�صد معتربة يف
الت�صرفات ،من العبادات والعادات»((( .فق�صد املكلف يف فعله هو الذي يجعل
عمله �صحيحا �أو باطال ،ويجعله عبادة �أو رياء ،ويجعله فر�ضا �أو نافلة ،بل
يجعله �إميانا �أو كفرا ،وهو نف�س العمل ،كال�سجود هلل �أو لغري اهلل.
و�إذا نظرنا �إلى بع�ض تفا�صيل الأحكام التكليفية ،وجدنا فيها �أمورا من
هذا القبيل ،من ذلك �أن املندوب بالن�سبة للواجب �إما مقدمة له �أو تذكار
به .فالذي من جن�سه كنوافل ال�صالة مع فرائ�ضها ،وال�صدقة واحلج ،وغري
ذلك مع فرائ�ضها .والذي من غري جن�سه كطهارة اخلبث يف اجل�سد والثوب
وامل�صلى ،وال�سواك ،و�أخذ الزينة ،وغري ذلك ،مع ال�صالة .وكتعجيل الإفطار،
وت�أخري ال�سحور ،وكف الل�سان عما ال يعني مع ال�صيام ،وما �أ�شبه ذلك.
وبع�ض الواجبات منه ما يكون مق�صودا وهو �أعظمها ،ومنه ما يكون و�سيلة
وخادما للمق�صود الأول؛ مثل طهارة احلدث ،و�سرت العورة ،وا�ستقبال القبلة،
والأذان للتعريف بالأوقات و�إظهار �شعائر الإ�سالم مع ال�صالة ،فمن حيث
كانت و�سيلة ،حكمه مع املق�صود حكم املندوب مع الواجب ،يكون وجوبه باجلزء
دون وجوبه بالكل ،وكذلك يف عالقة املكروه باملمنوع؛ فبع�ض املمنوعات منه
ما يكون مق�صودا ،ومنه ما يكون و�سيلة له ،كالواجب متاما(((.
هذا عن النظر يف الواجبات اخلادمة لواجبات �أخرى� ،أما من حيث النظر
-1ال�شاطبي املوافقات .246/2
-2ال�شاطبي ،املوافقات 108/1بت�صرف.
82
�إلى الواجبات يف نف�سها ،ف�إن ال�شاطبي يق�سمها ويجعلها على �ضربني:
الأول :الواجب بح�سب اجلواز؛ �أي بح�سب �إمكان وقوعه ،وبح�سب جواز
اختالف حكم الكلية واجلزئية .فهذا ظاهر يف اختالف احلكم بني الكلية
واجلزئية ،حيث �إن املف�سدة املرتتبة باملداومة على ترك الواجبات �أعظم
منها بالوقوع فيها مرة واحدة .فرتك ال�صالة الفر�ض تعترب خطيئة ي�أثم
�صاحبها على تركها ،والتارك لكل �صالة �أحرى يف ا�ستحقاق الإثم والوعيد،
و�إن كان املدام �أعظم مف�سدة من غريه .وكذلك القاتل عمدا �إذا فعل ذلك
مرة ،مع من كرث منه ذلك وداوم عليه ،وما �أ�شبه ذلك(((.
ال��ث��اين :ال��واج��ب بح�سب ال��وق��وع؛ �أي بح�سب ما هو واق��ع حقيقة يف
ال�شريعة ،ومن �أمثلة ذلك قوله [ يف تارك �صالة اجلمعة« :من ترك اجلمعة
ثالث مرات تهاونا بها طبع اهلل على قلبه»((( ،واحلديث قيد الرتك بالثالث
كما ترى .وفيه دليل على �أن املداومة ترتب مف�سدة �أعظم وترتب عقابا �أثقل،
فمن ترك اجلمعة مرة لي�س كمن تركها ثالث مرات� ،أو �أكرث .ومن تركها
غري م�ستخف بها لي�س كمن تركها ا�ستخفافا وتهاونا وا�ستهزاء ،وكذلك يقول
الفقهاء فيمن ارتكب �إثما ومل يكرث منه ذلك� ،إنه ال يقدح يف �شهادته �إذا
مل يكن كبرية ،ف�إن متادى و�أكرث منه كان قادحا يف �شهادته ،و�صار يف عداد
من فعل كبرية؛ بناء على �أن الإ�صرار على ال�صغرية ي�صريها كبرية(((.
�أما املكروه ف�إن كان الفعل فيه مكروها باجلزء كان ممنوع ًا بالكل .مثل
�سائر الأفعال والت�صرفات املكروهة ،ف�إنها �إذا وقعت من املكلف من غري
مداومة عليها مل تقدح يف عدالته ،ف�إن فعل ذلك وداوم قدحت يف عدالته،
83
و�سبب ارتقاء املكروه �إلى ال�شارع((( .ولهذا قال املالكية يف اللعب بال�شطرجن
ف�إن كان يكرث منه حتى ي�شغله عن اجلماعة مل تقبل �شهادته ،يقول ابن
عبد الرب« :ومن �أدمن اللعب بال�شطرجن� ،أو الرند ،وا�شتهر يف ذلك وا�شتهر
به مل جتز �شهادته ،وقد قيل �أن اللعب بالرند �إذا عرف به ،و�إن مل يدمن
ال جتوز �شهادته للحديث الوارد فيه ن�صا ،من ثبت عليه �أن اللعب بال�شطرجن
�ألهاه عن وقت ال�صالة الواحدة حتى خرج وقتها ،ك�صالتي النهار بغروب
ال�شم�س� ،أو ك�صالتي الليل بطلوع الفجر� ،أو ال�صبح بطلوع ال�شم�س مل تقبل
�شهادته حتى يتوب»((( .فاحلفاظ على ال�صلوات يف �أوقاتها ومع اجلماعة
مق�صد �شرعي ينبغي رعايته ،وتفويت املكلف لهذا املق�صد تفويت للم�صالح
املرادة �شرعا.
وه��ذا تقرير �آخ��ر ملعنى الكلية واجلزئية يف �أفعال املكلفني ،واختالف
احلكم بينهما ،وقد اعتربه ال�شاطبي بالغ ًا مبلغ القطع ملن ا�ستقر�أ ال�شريعة
يف مواردها وم�صادرها ،ويعزز ت�صحيح هذه القاعدة بجملة �أدلة ،منها:
تفريق العلماء بني من ي��داوم على بع�ض املباحات املكروهات فيجرح،
وبني من مل يداوم على ذلك ،ولوال �أن للمداومة ت�أثريا ،يف تفويت امل�صالح
والإف�ضاء �إلى املفا�سد ،مل ي�صح لهم التفرقة بني املداوم عليه من الأفعال
وبني من مل يداوم عليه .واعترب ال�شاطبي �أن هذا الأمر مقطوع به متفق
عليه بني العلماء يف اجلملة ،وهو كاف لت�صوير الكلية واجلزئية يف الأحكام
التكليفية اخلم�سة(((.
ما ثبت باال�ستقراء �أن و�ضع ال�شريعة قائم على اعتبار امل�صالح ،وامل�صالح
املعتربة �شرعا هي الكليات دون اجلزئيات ،وهذا �أمر مطرد يف ال�شرعيات
والعاديات ،مما يدل على �أن اعتبار اجلزئيات ال يرتقي �إلى اعتبار الكليات.
-1ال�شاطبي ،املوافقات .94/1
-2ابن عبد الرب القرطبي ،الكايف يف فقه �أهل املدينة �ص 462ـ .463وانظر �أح�سن حل�سا�سنة،الفقه
املقا�صدي عند الإمام ال�شاطبي �ص.116
-3ال�شاطبي ،املوافقات .98/1
84
وما ي�شهد لهذا املعنى �أن احلكم بال�شهادة مثال ،وقبول خرب الواحد ،مع
احتمال وق��وع الغلط والن�سيان يف الآح��اد ،لكن الغالب يف ذل��ك ال�صدق
«ف�أجريت الأحكام الكلية على ما هو الغالب حفظا على الكليات ،ولو اعتربت
اجلزئيات مل يكن بينهما ف��رق ...وه��ذا دليل على �صحة اختالف الفعل
الواحد بح�سب الكلية واجلزئية ،و�أن �ش�أن اجلزئية �أخف»(((.
التفريق بني زلة العامل يف عمله �أو علمه يف خا�صة نف�سه فيغلب عليها
حكم اجلزئية ،وتعديها �إلى غريه فيغلب عليها حكم الكلية ،فتكون زلة العامل
«جزئية �إذا اخت�صت به ومل تتعد �إلى غريه ،ف�إن تعدت �صارت كلية ب�سبب
االقتداء واالتباع على ذلك الفعل� ،أو على مقت�ضى القول ،ف�صارت عند
االتباع عظيمة جدا ،ومل تكن كذلك على فر�ض اخت�صا�صها به»(((.
وهذا جانب من جوانب الإلهام والإب��داع عند ال�شاطبي ،فكان من �شدة
عنايته ورغبته يف تفعل مقا�صد ال�شارع �أن اهتدى لتتويج الكالم فيها
باحلديث عن مقا�صد املكلفني ،لذلك ال �أتفق مع ما ذهب �إليه الأ�ستاذ
املنجي بن العبيدي امليغري عندما اتهم ال�شاطبي بالتحفظ يف تفعيل نظرية
املقا�صد ،واعتربه�« :أ�شد حمافظة من �سابقيه ممن قالوا بفكر مقا�صدي؛
�أمثال اجلويني والغزايل ،والطويف ،وابن عبد ال�سالم ،وغريهم ،و�أن الرجل
رغم �أنه و�ضع �أطروحة املقا�صد لكنه مل ي�ستثمر هذه الأطروحة يف تفعيل
القول املقا�صدي ،بل ظل متحفظا متدثرا بعباءة الأ�صوليني وال�شافعي
خ�صو�صا»((( ،لأن ما �أقدم عليه ال�شاطبي يف هذا اجلانب يعد �إ�ضافة نوعية
ومنهجية ،وخطوة علمية وعملية نحو ت�أطري الدليل ال�شرعي ،ومن خالله
�أفعال املكلفني وت�صرفاتهم ،يف �سياق معنوي كلي قوامه مقا�صد ال�شريعة،
على امل�ستوى الفهمي ،واال�ستنباطي ،والتنزيلي.
85
و�إذا كان ال�شاطبي قد تنبه �إلى هذا اجلانب املنهجي يف عالقة مقا�صد
املكلف مبقا�صد ال�شارع ،فقد حر�ص ،رحمه اهلل ،على بنائها بناء مقا�صديا
مرنا� ،آخذا بعني االعتبار نظرية املقا�صد يف عمومها و�شمولها كما انتهى
�إليها يف موافقاته ،فوجه اهتمامه �إلى تكييف ال�سلوك الفردي واجلماعي
للمكلفني بحيث يكون �سلوكا على وفق املق�صود ال�شرعي ،وهو املق�صود الذي
ن�صت عليه ن�صو�ص الوحي ،و�سار عليه ال�سلف ال�صالح.
وال يعني هذا بحال �أن املكلف يف هذه العالقة مبثابة «موظف»؟؛ �أي فاعل
�شرعي مهمته االن�ضباط لهذه ال�شريعة فقط كما ذهب �إلى ذلك الأ�ستاذ
امليغري(((؛ ولكنه مكلف مبعناه الأ�صويل والفقهي النابع وامل�ستمد من ن�صو�ص
الوحي ،باعتبار �أن املكلف هو اخلليفة الذي ا�ستخلفه اخلالق �سبحانه يف
هذا الوجود ،و�أم��ده مبا �شاء من الإمكانات والقدرات الفهمية واملادية
واملعنوية ليحقق مق�صد ال�شارع من اخللق ،يف حوار دائم وم�ستمر مع باقي
اخلالئق؛ م�صداقا لقوله تعالى}:ﭳﭴﭵﭶﭷﭸ{
(الذاريات .)56 :
وبالإ�ضافة �إلى مراعاته مقا�صد املكلف يف الأحكام الفقهية ،ومراعاة
موافقة ق�صده ملق�صود املكلف ،ويف �سبيل تكييف �أفعال املكلفني مع مقا�صد
ال�شارع يف �إطار نظرية املقا�صد بكلياتها وجزئياتها ،حدد ال�شاطبي حمددات
�أ�سا�سية ،تكمل �سابقتيها ،ت�شكل جميعها �أركان ًا لبناء التكليف ال�شرعي من
منظور مقا�صدي ،من �أهمها:
-مراعاة التي�سري وعدم التكليف بامل�شاق
جعل ال�شاطبي «ق�صد ال�شارع يف و�ضع ال�شريعة للتكليف مبقت�ضاها»
النوع الرابع من الأنواع الأربعة التي ق�سم �إليها مقا�صد ال�شارع ،وقد تطرق
ال�شاطبي يف هذا النوع ملقا�صد ال�شارع يف التكليف ،وبني حدود ما ق�صده
-1املنجي اليغري ،مرجع �سابق �ص.341
86
ال�شارع احلكيم مما مل يق�صده يف تكاليف العباد ،ويتلخ�ص هذا النوع يف
ق�ضيتني :الأولى يف التكليف مبا ال يطاق ،وهو منفي عن ال�شريعة �إجماعا،
ولذلك قرر ال�شاطبي �أنه ثبت يف الأ�صول �أن �شرط التكليف �أو �سببه القدرة
على املكلف به ،فما ال قدرة للمكلف عليه ال ي�صح التكليف به �شرعا .وبعد
�أن قرر هذه امل�سلمة ،بد�أ يبحث يف بع�ض احلاالت امل�شتبهة يف التكليف
نف�سه؛ فبني �أنه �إذا ظهر من ال�شارع يف بادئ الر�أي الق�صد �إلى التكليف
مبا ال يدخل حتت ق��درة العبد ،فذلك راج��ع �إل��ى التحقيق �إل��ى �سوابقه
�أو لواحقه �أو قرائنه(((.
ومثال ذلك �أن ال�شارع �إذا �أمر امل�ؤمنني بالتحابب مثال ،ف�إن املق�صود
ما ي�ؤدي �إلى احلب من �أ�سباب �سابقة� ،أو مقارنة والحقة ،تقويه وتر�سخه،
ولي�س املق�صود بالتكليف ح�صول احلب ذاته ،ف�إنَّ هذا خارج عن قدرة النا�س،
وهكذا كل ما كان من هذا القبيل((( .الثانية يف التكليف مبا فيه م�شقة ،وهو
منفي عن ال�شريعة ب�إطالق؛ فال�شارع مل يق�صد �إلى التكليف بال�شاق والإعنات
والدليل على ذلك قوله تعالى } :ﭴﭵ ﭶﭷﭸﭹ
ﭺﭻﭼ ﭽﭾﭿﮀﮁ
ﮂ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮊ
ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ
ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ{
(الأعراف ،)157 :وقوله �سبحانه } :ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ
ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ
ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ
ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ
ﰌ ﰍ {(البقرة ،)286 :وما ثبت من الرخ�ص يف العديد
-1ال�شاطبي ،املوافقات 2
-2ال�شاطبي ،املوافقات 83 /2ـ ،84و�أحمد الري�سوين ،نظرية املقا�صد عند الإمام ل�شاطبي �ص.114
87
من التكاليف؛ كرخ�ص الق�صر ،والفطر ،واجلمع ،وتناول املحرمات يف
اال�ضطرار ،وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والت�سبب يف
االنقطاع عن دوام الأعمال ..كل ذلك وغريه يدل على �أن ال�شريعة مو�ضوعة
على الرفق والتي�سري ،وهي منزهة عن التكليف بال�شاق.
و�إن ك��ان ال�شارع قا�صد ًا للتكليف مبا يلزم فيه كلفة وم�شقة ما،
ولكن ال ت�سمى يف العادة امل�ستمرة م�شقة ،كما ال ي�سمى يف العادة م�شقة طلب
املعا�ش بالتحرف و�سائر ال�صنائع؛ لأنه ممكن معتاد ال يقطع ما فيه من
الكلفة عن العمل يف الغالب املعتاد ،بل �أهل القلوب و�أرباب العادات يعدون
املنقطع ك�سالن ،ويذمونه بذلك ،فكذلك املعتاد يف التكاليف(((.
وبنى ال�شاطبي على هذا �أن ما ت�ضمنه التكليف من امل�شقة املعتادة لي�س
مبق�صود الطلب لل�شارع يف نف�س امل�شقة ،بل من جهة امل�صالح العائدة على
املكلف ،ويرتتب على هذا �أ�صل �آخر ،وهو �أن امل�شقة لي�س للمكلف �أن يق�صدها
يف التكليف نظرا �إلى عظم �أجرها ،وله �أن يق�صد العمل الذي يعظم �أجره
لعظم م�شقته من حيث هو عمل ،ولهذا كان ق�صد امل�شقة ق�صدا باطال،
وم�ضادا ملا ق�صد ال�شارع من التخفيف املعلوم املقطوع به(((.
وختاما ملباحث امل�شقة والتي�سري� ،سطر ال�شاطبي �إحدى ن��وادره ،ور�سم
حدود منهج كرث العطا�ش �إليه ،ووجب الأخذ به ،وهو �أن ال�شريعة يف مواردها
و�أ�صولها «جارية يف التكليف مبقت�ضاها على الطريق الو�سط الأعدل ،الآخذ
من الطرفني بق�سط ال ميل فيه ،الداخل حتت ك�سب العبد من غري م�شقة
عليه وال انحالل ،بل هو تكليف جار على موازنة تقت�ضي يف جميع املكلفني
غاية االع�ت��دال»((( .وعلى هذا جاءت معظم التكاليف كتكاليف ال�صالة،
وال�صيام والزكاة ،وكتحرمي معظم املحرمات ،فقد جاء كل هذا يف اعتدال
ينا�سب عامة املكلفني.
-1ال�شاطبي ،املوافقات .94/2
-2امل�صدر ال�سابق .98/2
-3امل�صدر نف�سه .124/2
88
ليخل�ص رحمه اهلل �إلى و�ضع قاعدة ذهبية يف عالقة التكليف مبقا�صد
ال�شريعة ،تدخل �إلى القلوب من دون ا�ستئذان ،تدل على فقهه احلي ،بل
على فق ِه فقهه ،يقول« :ف�إذا نظرت يف كلية ال�شريعة ،فت�أملها جتدها حاملة
على التو�سط .ف ��إذا ر�أي��ت ميال من جهة طرف من الأط��راف ،فذلك يف
مقابلة واقع �أو متوقع يف الطرف الآخر .فطرف الت�شديد ،وعامة ما يكون يف
التخويف والرتهيب والزجر ،ي�ؤتى به يف مقابلة من غلب عليه االنحالل يف
الدين .وطرف الت�شديد ،وعامة ما يكون يف الرتجية والرتغيب والرتخي�ص،
ي�ؤتى به يف مقابلة من غلب عليه احلرج يف الت�شديد .ف�إذا مل يكن هذا وال
ذاك ر�أيت التو�سط الئحا ،وم�سلك االعتدال وا�ضحا ،وهو الأ�صل الذي يرجع
�إليه ،واملعقل الذي يلج�أ �إليه»(((.
-االهتمام ب�إخراج املكلف عن داعية هواه
بعد �أن و�ضع ال�شاطبي «مق�صد ال�شارع يف و�ضع ال�شريعة ابتداء»(((عنوانا
للنوع الأول من �أنواع مقا�صد ال�شارع ،وقرر فيه �أن مق�صد ال�شارع �إقامة
امل�صالح الدنيوية والأخروية على وجه كلي ..رجع و�أ�شبعه كالما وتو�ضيحا
يف النوع الرابع من �أن��واع مقا�صد ال�شارع ،الذي افتتحه بقوله« :املق�صد
ال�شرعي من و�ضع ال�شريعة �إخراج املكلف عن داعية هواه ،حتى يكون عبدا
هلل اختيارا ،كما هو عبد هلل ا�ضطرارا»((( .ثم قال بعد �أن �ساق جمموعة
من الن�صو�ص ال�شرعية الدالة على �أن العباد خلقوا للتعبد هلل ،بعيدا عن
كل �أنواع الهوى ،وجتاذبات �أهل الأهواء قال« :فهذا كله وا�ضح يف �أن ق�صد
ال�شارع اخلروج عن اتباع الهوى ،والدخول حتت التعبد للمولى»(((.
و�إذا ثبت هذا ،مل ي�صح لأحد �أن يدعي على ال�شريعة �أنها و�ضعت على
-1ال�شاطبي ،املوافقات .128/2
-2امل�صدر ال�سابق .3/2
-3امل�صدر ال�سابق .128 /2وراجع كالم ال�شيخ دراز يف هام�ش املوافقات عن العالقة بني الق�صدين،
والرتابط املنهجي بني النوعني .الهام�ش 1من املوافقات 3/2و .128/2
-4امل�صدر ال�سابق .130/2
89
مقت�ضى ت�شهي العباد و�أغرا�ضهم؛ �إذ ال تخلو �أحكام ال�شرع اخلم�سة من
اعتبار ومراعاة مقا�صد ال�شارع يف ت�شريعه لكل حكم منها �إن يف العاجل
�أو الآجل ،من هنا رجح ال�شاطبي �أن «الفرق ال�ضالة� ..أ�صل ابتداعها اتباع
�أهوا ِئها ،دون توخي مقا�صد ال�شارع»((( .ـ
-معاملة املكلف بنقي�ض مق�صوده الفا�سد
ذلك �أن املكلف �إذا عمل عمال وكان و�سيلة �إلى نق�ض مق�صود ال�شرع،
ف�إنه يعاقب ب�إبطال عمله ،ثم يعامل ذلك املكلف بحكم خا�ص به؛ ينا�سب
�سعيه �إلى �إبطال ق�صد ال�شارع ،فيعاقب بنقي�ض �سعيه ،ويدخل حتت هذا
املعنى عدم جواز طالق املري�ض مر�ض املوت زوجته طالقا بائنا ،معاملة
له بنقي�ض مق�صوده القا�ضي مبنع املر�أة من حقها يف املرياث ،الذي �أراد
ال�شارع حتقيقه.
ومن باب مراعاة مقا�صد املكلف �أي�ضا ،معاملة القاتل ملورثه عمدا بنقي�ض
مق�صوده؛ لأنه متهم يف ذلك با�ستعجال موته للتو�صل �إلى �إرثه فعومل بنقي�ض
مق�صوده ،وهو معنى القاعدة الفقهية التي مت ت�أ�صيلها ،والتي تن�ص على �أن
«من ا�ستعجل ال�شيء قبل �أوانه عوقب بحرمانه»(((.
� -إبطال عمل من ابتغى يف التكاليف ما مل ت�شرع له
فاملكلف �إذا قام بعمل ،وكان ذلك العمل و�سيلة �إلى نق�ض مق�صود امل�شرع
يف امل�س�ألة املتعلقة بعمل املكلف ،ف�إن النتيجة هي �إبطال هذا العمل ،وعدم
حتقيق ما ق�صد الو�صل �إليه .ومن �أمثلة هذا املعنى �إبطال نكاح املحلل؛ لأنه
ينطوي على ق�صد فا�سد خمالف ملقا�صد ال�شارع من النكاح.
90
الف�صل الثالث:
�أثر مقا�صد ال�رشيعة
يف تر�شيد «حقوق الإن�سان»
-متهيد:
ت�أتي حماولة الك�شف عن �أث��ر مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية يف تر�شيد
ما �أ�ضحى ي�سمى «حقوق الإن�سان» �ضمن حماولة لقراءة يف ثنايا الفكر
املقا�صدي ،وا�ست�شراف ما هو كامن وراءه من املحددات التي من �ش�أنها �أن
توجه وتر�شد منظومتنا الفكرية عموما ،وق�ضايا حقوق الإن�سان خ�صو�صا.
كما �أنه يتغيى الت�أكيد على وظيفية علم املقا�صد ،والداللة على دوره يف
�صوغ الر�ؤية احل�ضارية العامة للمجتمع ،ولي�س فقط يف التعرف على علل
الأحكام �أو احلكمة منها مبعزل عن التطبيقات العملية لها.
وللإ�سهام يف جتاوز هذا اخل�صا�ص املعريف املقا�صدي ،خ�ص�صت هذا
الف�صل حماولة �أولية لو�ضع لبنات بعيدة الأمد عميقة الأثر لتقدمي مقاربة
مقا�صدية حلقوق الإن�سان ،يف �أبعادها الكونية ،وو�سائل املحافظة عليها
ورعايتها
93
املبحث الأول :مقا�صد ال�شريعة وحقوق الإن�سان :مدخل مفاهيمي
تعد مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية الهيكل العام لعموم �أحكام ال�شريعة
الواقعة واملتوقعة ،وهي الغايات والأهداف الكلية التي يرجع �إليها من
اختلطت عليه الأمور �أو �ضلت به ال�شعاب� ،أو من احتار يف البحث عن
خمرج لأزم��ة� ،أو غابت عنه احللول ال�شرعية لنازلة معينة ،ف�إنه �سيجد
رايات املقا�صد عالية ومناراتها وا�ضحة للنظر واال�سرت�شاد واالهتداء.
وامل�ستقرئ لن�صو�ص الوحي الغراء يجدها قد �أق َّرت املقا�صد ال�شرعية
الإ�سالمية؛ لتحقيق الإ�صالح االجتماعي القائم على �إن�صاف الإن�سان،
و�إعطائه كامل حقوقه يف ِّ
ظل العدل وامل�ساواة ،وبنا ًء على ذلك تتطابق نتائج
الكم وعلته ،ويتجلى ذلك يف املق�صد الذي ترمي �إليه الأحكام من ِح ْك َم ِة حْ ُ
خالل درء املفا�سد ،وجلب امل�صالح للمخلوقات.
كما �أن ا�ستقراء املقا�صد الكلية لل�شريعة الإ�سالمية يو�ضح �أن ال�شريعة
قد جاءت من �أجل حماية الكون ،ويف مقدمته �إن�صاف الإن�سان ،وحتريره
من الظلم ،وفر�ضت �أحكام احلالل واحلرام ،و�أباحت الرخ�ص ب�شروطها
املعقولة يف حاالت ا�ستثنائية من �أجل حفظ املهجة ،ورعاية امل�صالح العامة
واخلا�صة ،واعتماد تقعيد العموم واخل�صو�ص ،و�إقرار فقه احلقوق الإن�سانية
العامة واخلا�صة عمال بقاعدة «ال �ضرر وال �ضرار».
َومن ي�ستقرئ �أ�صول الأحكام ال�شرعية وفروعها يجد توافق ًا عقلي ًّا و�شرعي ًّا
وال�شرط العا ّم هو توفر ُ على �ضرورة توفر ال�شروط اخلا�صة بكل ُحكم،
أمر بطاع ٍة ،والنهي الأهلية باعتبارها مناط التكليف ال�شرعي القائم على ال ِ
وا�شرتاط الأهلية لوجوب التكليف هو ال�ضمان الأ�سا�سي حلقوق ُ عن مع�صي ٍة،
الإن�سان لأن انعدام الأهلية ُي�سقط التكليف لعدم وجود اال�ستطاعة.
وت�أ�سي�سا عليه ،ف�إن جميع املخاطبني ب�أحكام ال�شريعة مطالبون بالرجوع
�إليها يف كل ما يتعلق بفل�سفة الوجود ،واملعرفة ،والقيم ،والت�شريع ،واحلياة،
94
واملمات ،والغيب وال�شهادة ،والعمل على تطبيقها يف حياتهم اخلا�صة والعامة،
ظاهرا وباطنا «لأن ال�شريعة كما �أنها عامة يف جميع املكلفني ،وجارية على
خمتلف �أحوالهم ،فهي عامة �أي�ضا بالن�سبة لعامل الغيب وال�شهادة من جهة
كل مكلف ،ف�إليها نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن كما نرد �إليها كل ما يف
الظاهر»(((.
وعليه؛ فلأن ق�صد ال�شارع �ضبط اخللق �إلى القواعد العامة �صار النا�س
�سوا�سية �أمام ال�شريعة ،وقوانينها ت�سري على كافة الب�شر بدون ا�ستثناء،
فال ميز وال فرق وال حماباة ،وال ح�صانة ل�صاحب �شرف �أو جاه �أو �سلطة
�أو مال �أو جن�س �أو عرق �أو لون �أو ن�سب� ،أو غري ذلك مما ال يعترب يف ميزان
ال�شرع ومعايريه بالق�صد الأول ،بل الكل خماطب ب�صفته الإن�سانية،
�أو بانتمائه العقدي ال غري((( ،م�صداقا لقوله تعالى}ﮢ ﮣ ﮤ
ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ
ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ
ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ{(الأعراف ،)158 :وهو
ما �أكده اخلطاب النبوي؛ كما دل عليه قول احلبيب امل�صطفى [ ..»:ف�إن
دماءكم و�أموالكم و�أعرا�ضكم حرام عليكم ،(((»..مما يدل على �أن الب�شر
كلهم مت�ساوون يف �أ�صل التكليف ،وهو ما قرره ال�شاطبي بقوله« :لأن ال�شريعة
بح�سب املكلفني كلية عامة ،مبعنى �أن��ه ال يخت�ص باخلطاب بحكم من
�أحكامها الطلبية بع�ض دون بع�ض ،وال يتحا�شى من الدخول حتت �أحكامها
مكلف البتة»(((.
ولذلك ملا �سرقت املر�أة املخزومية ،وهي من �أ�شرف قري�ش ،و�شفع فيها
-1ال�شاطبي ،املوافقات .209/2
-2عبد النور بزا ،م�صالح الإن�سان :مقاربة مقا�صدية� ،ص .132
-3احلديث رواه البخاري يف �صحيحه ـ كتاب احلج ـ باب اخلطبة �أيام منى ـ رقم احلديث .1652
-4ال�شاطبي ،املوافقات 186/2ـ.187
95
حب ر�سول اهلل [؛ �أ�سامة بن زيد ر�ضي اهلل عنه ،قال له النبي [�« :أت�شفع
ّ
يف حد من حدود اهلل؟» ،ثم قام فخطب ،فقال« :يا �أيها النا�س؛ �إمنا �ضل
من كان قبلكم �أنهم كانوا �إذا �سرق ال�شريف تركوه ،و�إذا �سرق ال�ضعيف
�أق��ام��وا عليه احل��د ،و�أمي اهلل لو �أن فاطمة بنت حممد �سرقت لقطع
حممد يدها»(((.
وبهذه ال�صرامة النبوية احلا�سمة قطعت ال�شريعة ب�أن القانون الإلهي فوق
اجلميع ،عمال بقاعدة امل�ساواة بني اجلن�سني �أمام �أحكام ال�شريعة ،ومبا
و�ضعت له ال�شريعة ابتداء ،وهو «�أن الأحكام �إذا كانت مو�ضوعة مل�صالح
العباد ،فالعباد بالن�سبة �إلى ما تقت�ضيه من امل�صالح م��ر�آة((( .فلو و�ضعت
على اخل�صو�ص مل تكن مو�ضوعة مل�صالح العباد ب�إطالق ،لكنها كذلك،
فثبت �أن �أحكامها على العموم ال على اخل�صو�ص� ...إعالما ب�أن الأحكام
ال�شرعية خارجة عن قانون االخت�صا�ص»(((.
وكما ال يخفى ،ف�إن ال�سنني الأخرية� ،سيما العقدين الأخريين من القرن
املا�ضي ،عرفت حديثا غزيرا عن مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية ،ففي كل
بحث ملعاجلة م�شكلة من امل�شكالت �أو يف كل كتاب عن ال�شريعة يربز مو�ضوع
املقا�صد كمنهجية �ضرورية للخروج من �أي �أزمة وللتعامل مع الن�ص اخلامت
للتفاعل مع املتغريات واملتجدد يف حياة الأمة .وهذه ظاهرة �صحية يف غاية
النفع لأمة اخلتم ،وللعامل من حولها خ�صو�صا يف هذا الزمن الذي كرثت
فيه حتريفات الغالني ،وانتحاالت املبطلني ،وت�أويالت اجلاهلني .لكن هذا
اال�ستح�ضار وجب �أن يقيد وي�ستعمل بنوع من الوظيفية والعلمية ،حتى تعطي
-1احلديث رواه البخاري يف �صحيحه ـ كتاب احلدود ـ باب كراهية ال�شفاعة يف احلد �إذا رفع �إلى
ال�سلطان ـ رقم احلديث .6406
-2علق ال�شيخ دراز يف هام�ش املوافقات بقوله�" :أي تنطبع فيهم هذه امل�صالح على ال�سواء ،لأنهم
مطبوعون بطابع النوع الإن�ساين املتحد يف حاجياته و�ضرورياته وما يكملها" ال�شاطبي ،املوافقات،
هام�ش .187/2 ،1
-3ال�شاطبي ،املوافقات 187/2ـ.189
96
املقا�صد �أكلها كل حني ب�إذن ربها ،وبف�ضل تنزيالت واجتهادات علماء الأمة.
وذلك من خالل ا�ستح�ضار �شامل خل�صائ�ص ال�شريعة ومقا�صدها العامة،
وكذلك من خالل تنـزيل املعاين والقيم يف الواقع ال��ذي نحياه مبداخله
وتفا�صيله ومالب�ساته ،وتعقداته ،بعقلية مبتكرة مبدعة متتلك الب�صرية
ملعرفة منا�سبة الو�سائل ومدى حتقيقها للمعاين والقيم يف الواقع.
ولأن الع�صر الذي نعي�ش فيه هو ع�صر قد انهارت فيه كل ال�سدود واحلدود،
ومل يعد بالإمكان �أن نحجر على النا�س فيما ي�سمعون �أو يقر�أون ،فال بد من
تزويد الأمة مبعيار وميزان للتعامل مع ما ت�سمع وما تقر�أ ،وذلك ب�إ�شاعة
ثقافة املقا�صد العقالنية العملية ،التي تربط الأحكام بوظيفتها ودورها يف
ترقية النف�س وتزكية احلياة.
هناك جانب ثان وهو الأه��م ،وهو �أنه على الرغم من االن�شغال الوا�سع
للقر�آن الكرمي وال�سنة النبوية ال�شريفة بق�ضية حقوق الإن�سان ،ف�إنها
مل تتبلور مبا يكفي يف الأدبيات الإ�سالمية عموما ،ويف الأدبيات الأ�صولية
املقا�صدية خ�صو�صا ،على �شكل ن�سق نظري� ،أو بحث علمي م�ستقل بذاته،
يعرب عن موقعها احلقيقي يف منظومة اخلطاب الإلهي ،بل بقيت ـ يف عموم
امل�صنفات الأ�صولية القدمية ـ عبارة عن فقرات ون�صو�ص متفرقة يف ثنايا
هذه الف�صول �أو تلك الأبواب ،من هذا الكتاب �أو ذاك ،كما يف قواعد العز،
وفروق القرايف ،وفتاوى ابن تيمية ،ومفتاح ابن القيم ،وموافقات ال�شاطبي،
وغريها .ونف�س الأمر ينطبق على الكتابات الأ�صولية احلديثة� ،إذا �أ�ضفنا
�إليه مقاالت حتليلية وتاريخية يف عدد من الدوريات.
وه��ذا مما يدل بو�ضوح على �أن البحث املقا�صدي مل ينتقل بعد ،فيما
وقفت عليه حلد الآن ،بق�ضية «حقوق الإن�سان» �إلى م�ستوى الرتجمة العملية
والعلمية ملقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية يف �أبعادها العقدية والقيمية والرتبوية
واملعرفية واحلقوقية واالجتماعية واالقت�صادية وال�سيا�سية ،وغريها من
الأبعاد احليوية؛ الفردية واجلماعية.
97
وهنا تربز �أ�سئلة من قبيل� :أين تتجلى �أهمية مقا�صد ال�شريعة ب�أق�سامها
و�أنواعها يف تر�شيد وت�صويب منظومة حقوق الإن�سان؟ وكيف ميكن للوعي
املقا�صدي �أن ي�سهم يف تنقيح احلقوق نف�سها وت�صحيح م�سار امل�شكالت
النف�سية واالجتماعية املدمرة للإن�سان ،والتي هي �إحدى �إفرازات التطور
الفل�سفي املادي املح�ض؟
لقد غدت ق�ضية حقوق الإن�سان من �أكرث الق�ضايا تداوال يف املحافل الدولية
والقارية ،وهيئات املجتمع ال�سيا�سي ،ومنظمات املجتمع الأهلي املدين،
وو�سائل االت�صال املبا�شرة وغري املبا�شرة ،و�أو�ساط الر�أي العام.
بل هناك من وجد يف ال�سنوات الأخ�يرة يف هذه الق�ضية ال�سند الكايف
لتحقيق طموحاته التو�سعية ،وت�سويغ احتالله لعباد اهلل امل�ست�ضعفني،
وحماولة �إقناعهم ب�أن ما جاء من �أجله هو ال�سبيل الأوحد مل�ساعدتهم على
حتقيق الإ�صالحات ال�شاملة بزعمهم وزعم �شركائهم ،يف مناهج الرتبية
والتعليم ،وق�ضايا الأ��س��رة ،وك��ل ما يتعلق باحلقوق واحل��ري��ات ،وق�ضايا
التنمية.
كما تنامى يف العقدين الأخريين احلديث عن ق�ضية حقوق الإن�سان،
وارتبطت مبادئ حقوق الإن�سان والدفاع عنها يف الع�صر احلديث بالغرب
ال��ذي �أ�صبح مرجع ًا للحقوق الإن�سانية ،وقد �ساهم اال�ستعمار يف ت�أطري
النظرية الغربية للمفاهيم املكونة للحقوق الأ�سا�سية للإن�سان ،ثم ظهرت
العوملة امتداد ًا لال�ستعمار الثقايف من خالل �أوعيتها الإعالمية النافذة �إلى
قلب العامل الإ�سالمي ،والتي ت�سعى �إلى قولبة ال�شعوب على النمط الغربي،
فكانت الو�سيلة املُثلى لت�سويق حقوق الإن�سان.
لذلك بات من الالزم علينا �إبراز القواعد والأ�س�س الرتبوية التي ُيبنى
عليها مو�ضوع حقوق الإن�سان يف الإ�سالم وارتباطها مبقا�صد ال�شريعة
الإ�سالمية ،وتو�ضيح اختالفها ،ومباينتها للفكر والت�صور الغربي للمو�ضوع،
بقدر حجم الق�ضية وزخمها العاملي.
98
و�إذا كانت مقا�صد ال�شريعة بهذا ال�شمول والعموم من الهيمنة على �أحكام
ال�شريعة وارتباط الت�شريع بها يف كل جزيئاته ،كما �سبقت الإ�شارة �إليه،
فلماذا ال جند كالما نظريا وعمليا عن مق�صدية حقوق الإن�سان ي�شفي
الغليل ،ويجيب على ت�سا�ؤالت عباد اهلل امل�ست�ضعفني؟
و�إذا كان العامي يلحظ مبقا�صد ال�شريعة حكمة الت�شريع و�أ�سرار الأمر
والنهي مما يزيده يقين ًا و�إميان ًا وعلم ًا وعم ًال .والفقيه يراعي بوا�سطتها
مقا�صد ال�شرع عند اال�ستنباط وفهم الن�صو�ص والنظر يف �أحكام ال�شرع؛
ف�إذا �أراد معرفة حكم واقعة من الوقائع احتاج �إلى فهم الن�صو�ص لتطبيقها
على الوقائع و�إذا �أراد التوفيق بني الأدلة املتعار�ضة ا�ستعان مبق�صد الت�شريع.
و�إن دعته احلاجة �إلى بيان حكم اهلل يف نازلة م�ستجدة عن طريق القيا�س �أو
اال�ستح�سان وغريها حترى بكل دقة �أهداف ال�شريعة ومقا�صدها(((.
�إذا كان هذا وذك ،بات لزاما على من يت�صدى للحديث عن حقوق الإن�سان،
�أو التنظري لها؛ فردا كان �أو م�ؤ�س�سة �أن ي�صبغ خطابه بروح مقا�صد ال�شريعة،
و�أن ينتج معرفته وفق �أركان هذا امل�سمى ،معتربا للم�صالح ومظانها ،حمرتزا
عن املفا�سد ،ومتعلقاتها ،يف الأفعال ودور هذه الأفعال؛ ذلك �أن ت�صرفات
النا�س العامة ال تخلو يف كونها من قبيل امل�صالح �أو املفا�سد ول�ضبط هذه
الأفعال يقول العز بن عبد ال�سالم -رحمه اهلل« :-الأفعال �ضربان� :أحدهما
امل�صالح وهي �أق�سام� :أحدهما :ما هو م�صلحة خال�صة من املفا�سد ال�سابقة
والالحقة واملقرتنة و ال يكون �إال م�أذون ًا فيها �إما �إيجابا �أو ندب ًا �أو �إباحة.
الق�سم الثاين ،ما هو م�صلحة على مف�سدة �أو مفا�سد وهي ما دونه.
الق�سم الثالث ،ما هو م�صلحة م�ساوية ملف�سدته �أو مفا�سده .الق�سم
الرابع ،ما هو م�صلحة م�ساوية مل�صلحة �أو م�صالح ف�إن �أمكننا اجلمع جمعنا
و�إن تعذر اجلمع تخرينا ،ومهما متح�صت امل�صالح قدمنا الأف�ضل فالأف�ضل،
والأح�سن فالأح�سن وال نبايل بفوات املرجوح.
-1يو�سف العامل ،املقا�صد العامة لل�شريعة الإ�سالمية� ،ص 106ـ.107
99
ال�ضرب الثاين :املفا�سد وهي �أق�سام� :أحدها ما هو مف�سدة خال�صة
ال يتعلق بها م�صلحة �سابقة وال الحقة وال مقرتنة ،فال تكون �إال منهي ًا عنها،
�إما حظر ًا ،و�إما كراهة .الق�سم الثاين ،ما هو مف�سدة راجحة على م�صلحة
�أو م�صالح وهي منهية .الق�سم الثالث ،ما هو مف�سدة م�ساوية مل�صلحة
�أو م�صالح ،ف�إن �أمكن درء املف�سدة وجلب امل�صلحة �أو امل�صالح قلنا بذلك
وتركنا املف�سدة و�أثبتنا امل�صلحة �أو امل�صالح .و�إن تعذر اجللب والدرء ففيه
نظر .الق�سم الرابع ،ما هو مف�سدة م�ساوية ملف�سدة �أو مفا�سد ف�إن �أمكن
متح�صت املفا�سد در�أنا الأرذل
ّ درء اجلميع در�أناه و�إن تعذر تخرينا ومهما
فالأرذل والأقبح فالأقبح»(((.
وهذه امل�صالح التي �أ�شار �إليها �سلطان العلماء ،هي املراد لل�شارع يف �شرع
الأحكام ،وهي ما عرب عنه ال�شاطبي بقوله يف النوع الأول من �أنواع املقا�صد
الأربعة عنده بـ «ق�صد ال�شارع يف و�ضع ال�شريعة ابتداء»(((؛ مبعنى �أن
كل ما جاءت به ال�شريعة من �أحكام ،وقيم ،وحقوق ،ومقا�صد ..كل ذلك
�إمنا هو خدمة مل�صالح الإن�سان بالق�صد الأول ب�إطالق ،وهو ما �أجمع عليه
العقالء؛ �إذ «ال خالف بني العقالء �أن �شرائع الأنبياء ق�صد بها م�صالح
اخللق الدينية والدنيوية»((( ،وهو ما عناه �سلطان العلماء بقوله« :ال�شريعة
كلها م�صالح»((( ،مما يدل داللة �صريحة عل حمورية م�صالح الإن�سان يف
ن�صو�ص ال�شريعة ،فبها وعليها تقوم ،وهو ما �أ�شار �إليه ابن القيم بقوله�« :إن
ال�شريعة مبناها و�أ�سا�سها على احلكم وم�صالح العباد يف املعا�ش واملعاد،
وهي عدل كلها ،ورحمة كلها ،وحكمة كلها ،فكل م�س�ألة خرجت عن العدل �إلى
اجلور ،وعن الرحمة �إلى �ضدها ،وعن امل�صلحة �إلى املف�سدة ،وعن احلكمة
100
�إلى العبث ،فلي�ست من ال�شريعة ،و�إن �أُدخلت فيها بالت�أويل ،فال�شريعة عدل
اهلل بني عباده ،ورحمته بني خلقه ،وظله يف �أر�ضه ،وحكمته الدالة عليه،
وعلى �صدق ر�سوله [ �أمت داللة و�أ�صدقها»((( ،وهو ما جمعه ال�شاطبي يف
قوله« :و�ضع ال�شريعة على اعتبار امل�صالح باتفاق»(((.
وعليه؛ ف�إن جملة ما يخرج به الناظر بعلم يف �شرع اهلل هو �أن الق�صد
العام من الت�شريع الإلهي رعاية امل�صالح الإن�سانية ب�إطالق ،حتى يكون
النا�س منعمني يف دنياهم و�آخرتهم ب�إطالق(((.
ومن ت�أمل �أق�ضية ال�صحابة ،واجتهادات علماء امل�سلمني ،وجدها مت�شبعة
ال�سنن ،مراعية حلدوده و�ضوابطه ،وكل من بهذه الروح ،قائمة على هذا َ
خالفه �أ�ضاع على النا�س حقوقهم ،ون�سب �إلى ال�شريعة ما لي�س منها.
وه��و م��ا �سنحاول الك�شف ع��ن بع�ض معامله يف املبحث ال�ث��اين م��ن هذا
الف�صل.
101
املبحث الثاين� :أثر مقا�صد ال�شريعة يف تر�شيد حقوق الإن�سان
�شكلت مقا�صد ال�شريعة النظرية الإط��ار للحقوق واحلريات العامة من
منظور �إ�سالمي ،وقدمت للفكر الإ�سالمي املعا�صر �أداة منهجية فعالة و�سلما
من القيم لتنظيم حياته االجتماعية وال�سيا�سية على هدى من الر�سالة
الإ�سالمية.
لكن رغم ذلك ،مازال الفكر الإ�سالمي يف حاجة �إلى جهود كبرية لتقدمي
الإ�سالم كمنظومة مفتوحة للحريات وحقوق الإن�سان ،ت�ستوعب انتظارات
الإن�سان و�آف��اق��ه للتحرر من كل ج�بروت .وعلى احلركات الإ�صالحية �أن
جتعل من �أولى �أولوياتها تر�سيخ فقه احلريات وتعميق وعي الإن�سان بذاته
وحقوقه ومواهبه ،و�سد املنافذ الفكرية واملنهجية �أمام الطاغوت ال�ستغالل
الدين وا�ستعباد النا�س مبقوالته ،مما ي�سيء يف الأخري �إلى منظومة الإ�سالم
العظيم ،عند �إغراقها بن�صو�ص حتث على طاعة اال�ستبداد واال�ست�سالم له.
من هنا ،فلعل الر�ؤية املتوازنة ملقا�صد ال�شريعة بالن�سبة ملو�ضوع حقوق الإن�سان
تنبني على �أ�سا�س �أن هناك مقا�صد �إجمالية وعامة� ،أو �أ�سا�سية كلية عامة
لل�شريعة الإ�سالمية ينبغي �أن تكون هي املنطلق لأي حديث عن هذه احلقوق..
ميكننا �أن نتو�صل �إليها مب�سالك وطرق منها املن�صو�صة وامل�ستنبطة ..هذه
املقا�صد هي مرياث كل ال�شرائع الإلهية التي �أوحى بها اهلل تعالى �إلى ر�سله ـ
عليهم ال�صالة وال�سالم ـ لأنها ت�ستند �إلى اال�ستقراء القطعي ،كما �أنها ت�ستند
�إلى منطق الفطرة التي فطر اهلل النا�س عليها}ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ
ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ
ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ
ﮟﮠﮡﮢ{ (ال�شورى.)13 :
فحفظ الدين مثال؛ ال��ذي يعد �ضروريا ثابتا باال�ستقراء القطعي،
ال يقت�صر على الفرد ،بل �إنه ميتد �إلى دائرة اجلماعة ،كما �أنه ال يخت�ص
102
به الإن�سان امل�سلم دون غريه ،وكذلك ف�إن حفظ النف�س ،والذي ترتبط يف
التعبري املعا�صر مبعاين احلياة الكرمية ،يهم كل فئات املجتمع ..وهكذا مع
جميع الكليات ال�شرعية.
ويف هذا ال�سياق ،جند ال�شيخ حممد الطاهر بن عا�شور يذكر �أن ثمة
مفاهيم �أربعة �أ�سا�سية م�ؤ�س�سة ومت�صلة بهموم الت�أ�صيل الإ�سالمي للدرا�سات
االجتماعية ،وتنمية الإن�سان وحتقيق ر�سالته اال�ستخالفية ،بل اعتربها
مق�صدا من مقا�صد ال�شريعة ...وهي:
1ـ الفطرة :وهي احلال التي فطر اهلل تعالى عليها النوع الإن�ساين ..ظاهرا
وباطنا ،ج�سدا وعقال وروحا .وهي الو�صف الأعظم الذي تبنى عليه مقا�صد
ال�شريعة كافة .بل اعتربها �أ�صال كليا تنبني عليه جملة من املقا�صد ال�شرعية
�سواء كانت خا�صة �أو عامة .واحلرية وامل�ساواة من �أبرز املقا�صد العامة التي
تنبني على و�صف الفطرة.
2ـ ال�سماحة :والتي تعني �سهولة التعامل الفردي واجلماعي يف اعتدال
وتو�سط ،بعيدا عن الغلو والتق�صري.
3ـ احل��ري��ة /امل �� �س��اواة :مبعناها املبا�شر الأ� �ص �ل��ي ..ال ��ذي ه��و م�ضاد
للعبودية(املادية وال��روح�ي��ة) ،ومبعناها التبعي(الذي ال يقل �أهمية عن
الأول)؛ وهو متكن ال�شخ�ص العاقل من الت�صرف يف نف�سه و�ش�ؤونه كما ي�شاء.
وا�ستقراء ن�صو�ص ال�شريعة (كتابا و�سنة) يدل على �أن من �أهم مقا�صدها
�إبطال العبودية بجميع �صورها ،وتعميم احلرية مبراتبها الأربعة الأ�سا�سية:
االعتقاد ،والتفكري ،والقول والفعل .وهي منوطة بجلب امل�صالح ودرء املفا�سد..
على امل�ستوى ال�شخ�صي(الفردي) وامل�ستوى العام(الأمة واملجتمع).
4ـ احلق/العدل :الذي هو �شرط ا�ستقرار املجتمع وتوازنه .واحلق والعدل
متالزمان ال ينف�صل �أحدهما عن الآخ��ر ،وه��و يدخل يف جميع احلقوق
بالفطرة وال�شرع.
103
هذه هي املفاهيم الأ�سا�سية يف نظر ابن عا�شور ،التي ت�شكل املحور الذي
تدور عليه عقائد الإ�سالم وتعاليمه وت�شريعاته ،وتفتح �آفاقا �أرحب و�أغنى
للتنظري االجتماعي وال�سيا�سي باملعنى ال�شامل (((.وهي مفاهيم �شكلت
نظرته ونظريته ملقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية ،ومن خاللها نظر يف كليات
ال�شرع وجزئياته ،و�أ�صول ال�شريعة وفروعها ،ومن ثم وجب على الناظر يف
ن�صو�ص ال�شريعة نظر مفيد �أو م�ستفيد اعتبارها و�إعمالها.
من جهة ثانية ،فكلما ت�أملنا املقا�صد العامة لل�شريعة �سواء املن�صو�صة
منها �أو ما ا�ستنبطه الأولون واملحدثون ،وجدنا �أنها ت�شكل منظومة متما�سكة
وتقيم بنيانا ي�شد بع�ضه بع�ضا بحيث ي�صعب جدا �أن نت�صور مق�صدا مبعزل
عن بقية املقا�صد ،فكل منها ي�أخذ بيد الآخر ،وكلها ما�ض على طريق م�صلحة
الآدمي ،م�سلما كان �أو غري م�سلم ،ذلك لأنها كلها موثوقة برباط الفطرة
الإن�سانية ومبنية عليها باعتبار �أن الفطرة هي و�صف ال�شريعة الأعظم ،وقد
�أ�صاب و�أجاد العالمة ابن عا�شور يف �شرحه هذه ال�صفة املركزية من �صفات
ال�شريعة الإ�سالمية ،وا�ستخل�ص �أن ال�سماحة هي �أول �أو�صاف ال�شريعة
و�أكرب مقا�صدها.
وه��ذا ما تنبه �إليه الأ�ستاذ ع�لال الفا�سي ،رحمه اهلل ،عندما رف�ض
اعتبار مقا�صد ال�شريعة جمرد مرجع ت�شريعي ثانوي� ،أو مرجع خارجي،
يرجع �إليه وي�ست�أن�س به� ،إلى جانب م�صادر الت�شريع الأ�صلية ،بل هي من
�صميم تلك امل�صادر ،وهي العن�صر املحوري الثابت فيها ويف خلودها ،يقول
رحمه اهلل« :مقا�صد ال�شريعة هي املرجع الأبدي ال�ستقاء ما يتوقف عليه
الت�شريع والق�ضاء يف الفقه الإ�سالمي ،و�أنها لي�ست م�صدرا خارجيا عن
ال�شرع الإ�سالمي ،ولكنها من �صميمه ،وهي لي�ست غام�ضة غمو�ض القانون
� -1إ�سماعيل احل�سني ،نظرية املقا�صد عند الإمام حممد الطاهر بن عا�شور �ص 263وما بعدها.
وانظر مقدمة حتقيق"مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية" حممد الطاهر بن عا�شور ،حتقيق ودرا�سة
حممد الطاهر املي�ساوي.
104
الطبيعي ،الذي ال يعرف له حد وال مورد.(((»..
ومن حما�سن كلمه يف هذا الباب قوله« :وال�شريعة �أحكام تنطوي على
مقا�صد ،ومقا�صد تنطوي على �أحكام»((( ،وهذا معناه �أن املقا�صد ت�ؤخذ من
الأحكام ،و�أن الأحكام ت�ؤخذ من املقا�صد(((.
وهذا �أح�سن ت�صوير و�أوجز تقرير لعالقة املقا�صد باالجتهاد واال�ستنباط،
يف خمتلف املجاالت؛ فلل�شريعة مقا�صد حيوية منا�سبة لكل ع�صر ،واملقا�صد
تتعلق بالفرد وباملجتمع ،وهي بذلك حتفظ حقوق الإن�سان الفرد ال�ضرورية
املتمثلة يف حفظ النف�س ،وحفظ الدين ،وحفظ العر�ض ،وحفظ العقل،
وحفظ املال ،كما حتفظ ال�شريعة الإ�سالمية حقوق اجلماعة الإن�سانية التي
تبد�أ بالأ�سرة ،وتت�سع لت�شمل الإن�سانية عامة ،وتبد�أ بحفظ احلقوق الإن�سانية
ابتدا ًء بالعالقات الأُ َ�سر ّية التي ت�شمل حفظ النوع الب�شري بتنظيم العالقة
بني اجلن�سني ،وحفظ الن�سب ،وحتقيق ال�سكن واملودة والرحمة جراء التعاون
علمي ًّا وعملي ًّا يف كافة املنا�شط الإن�سانية العاطفية والدينية واالقت�صادية.
وبالإ�ضافة للعالقات الأ�سرية� ،أوجبت ال�شريعة يف حلقة �أو�سع حقوق الأُ ّمة،
وفر�ضت قيام م�ؤ�س�سات الدولة لإقامة العدل بني النا�س ،وحلفظ الأمن
والأمان ،ورعاية مكارم الأخالق ،و�إقرار التكافل االجتماعي ،ون�شر العلوم،
ومكافحة اجلهل ،واملحافظة على املال اخلا�ص والعام ،والتعاون مع الأمم
الأخرى لتحقيق �إعمار الأر�ض امل�أمور به �شرع ًا ،ومكافحة التدمري والتخريب
املنهي عنه �شرعا.
وال تقت�صر حقوق الإن�سان يف ال�شريعة الإ�سالمية على ال�ضروريات،
بل تتجاوزها �إلى احلاجيات والتح�سينيات والتكميليات ،ف�أما احلاج ّيات فهي
ما ُي ْف َت َق ُر �إليه من حيث ال َّت ْو ِ�سعة على النا�س ،ورفع ال�ضيق امل�ؤدي يف الغالب
-1عالل الفا�سي ،مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية مكارمها �ص 55ـ.56
-2نف�س املرجع �ص .47
� -3أحمد الري�سوين ،حما�ضرات يف مقا�صد ال�شريعة �ص .103
105
�إلى احلرج وامل�شقة الالحقة بفوت املطلوب ،وت�شمل ما يتعلق باحلاجات
العامة ،وال ي�صل �إلى مرتبة ال�ضروريات ،و�أما التح�سينيات فت�شمل مكارم
�ستح�سن العادات والتقاليد ،وت�ستبعد ما ي�ؤذي الذوق العام الأخ�لاق ،و ُم َ
مما ي�أنفه العاقلون ،وا�ستقراء ما ت�ضمنته ال�شريعة الإ�سالمية من مقا�صد
ال�شريعة وم��ا انطوت عليه من ال�ضروريات واحلاجيات والتح�سينيات
والتكميليات ُيو�ضح لنا �أن ال�شريعة الإ�سالمية قد �ضمنت حقوق الإن�سان
ك�أف�ضل ما يكون .يقول العز بن عبد ال�سالم رحمه اهلل تعالى« :اعلم �أن اهلل
�سبحانه مل ي�شرع حك ًما من �أحكامه �إال مل�صلحة عاجلة �أو �آجلة� ،أو عاجلة
و�آجلة ،تف�ض ًال منه على عباده» ،ثـم قال« :ولي�س من �آثار اللطف والرحمة
والي�سر واحلكمة �أن يكلف عباده امل�شاق بغيـر فائدة عاجلة وال �آجـلة ،لكنه
دعاهم �إلى كل ما يقربهم �إليه»((( ..وم�صالح النا�س يف الدنيا هي كل ما فيه
نفعهم وفائدتهم و�صالحهم و�سعادتهم وراحتهم ،وكل ما ي�ساعدهم على
جتنب الأذى وال�ضرر ،ودفع الف�ساد� ،إن عاج ًال �أو �آج ًال.
وق��ال العالمة ال�ق��رايف« :ال�شرائع مبنية على امل�صالح»((( ،وق��ال ابن
تيمية« :جاءت هذه ال�شريعة لتح�صيل امل�صالح وتكميلها ،وتقليل املفا�سد
(((
وتعطيلها»
وقال الإمام ال�شاطبي�«:إن و�ضع ال�شرائع �إمنا هو مل�صالح العباد يف العاجل
والآجل»(((�إما بجلب النفع لهم� ،أو لدفع ال�ضرر والف�ساد عنهم.
وقد وردت الأحكام ال�شرعية جللب امل�صالح للنا�س ،ودفع املفا�سد عنهم،
و�أن كل حكم �شرعي �إمنا نزل لت�أميـن �أحد امل�صالح� ،أو لدفع �أحد املفا�سد،
�أو لتحقيق الأمرين م ًعا .وما من م�صلحة يف الدنيا والآخرة �إال وقد رعاها
1ـالعز بن عبد ال�سالم� ،شجرة املعارف والأحوال �ص .401
-2القرايف� ،شرح تنقيح الأ�صول �ص .427
-3ابن تيمية ،الفتاوى الكربى ،48/20وال�سيا�سة ال�شرعية �ص .47
-4ال�شاطبي ،املوافقات .9/2
106
امل�شرع ،و�أوجد لها الأحكام التي تكفل �إيجادها واحلفاظ عليها .و�إن ال�شرع
احلكيم مل يرتك مف�سدة يف الدنيا والآخ��رة ،يف العاجل والآج��ل� ،إال بينها
للنا�س ،وحذرهم منها ،و�أر�شدهم �إلى اجتنابها والبعد عنها ،مع �إيجاد
(((
البديل لها.
والدليل على ذل��ك اال�ستقراء الكامل للن�صو�ص ال�شرعية من جهة،
ومل�صالح النا�س من جهة ثانية ،و�أن اهلل ال يفعل الأ�شياء عب ًثا يف اخللق
والإيجاد والتهذيب والت�شريع ،و�أن الن�صو�ص ال�شرعية يف العقائد والعبادات،
والأخ�لاق واملعامالت ،والعقود املالية ،وال�سيا�سة ال�شرعية ،والعقوبات،
وغريها ،جاءت معللة ب�أنها لتحقيق امل�صالح ودفع املفا�سد.
فالعقيدة ب�أ�صولها وفروعها جاءت لرعاية م�صالح الإن�سان يف هدايته �إلى
الدين احلق ،والإميان ال�صحيح ،مع تكرميه وال�سمو به عن مزالق ال�ضالل
واالنحراف ،و�إنقاذه من العقائد الباطلة ،والأه��واء املختلفة ،وال�شهوات
احليوانية ،فجاءت �أحكام العقيدة لرت�سيخ الإميان باهلل تعالى ،واجتناب
الطاغوت ،لي�سمو الإن�سان بعقيدته و�إميانه �إلى العليا ،وينجو من الوقوع
يف �شرك الوثنية ،وت�أليه املخلوقات من بقر وقرود ،و�شم�س وقمر ،وجنوم
و�شياطني ،و�إن�س وجن ،ويرتفع عن الأوهام وال�سخافات واخلياالت ،والأمثلة
على ذلك وا�ضحة و�صريحة وكثرية ،من التاريخ القدمي واحلديث ،ومذكورة
يف الن�صو�ص ال�شرعية.
ويف جمال العبادات وردت ن�صو�ص كثرية تبني �أن احلكمة والغاية من
العبادات �إمنا هي حتقيق م�صالح الإن�سان ،و�أن اهلل تعالى غني عن العبادة
والطاعة ،فال تنفعه طاعة وال ت�ضره مع�صية ،و�أن العبادات تعود منافعها
للإن�سان يف كل ركن من �أركانها� ،أو فرع من فروعها ،والن�صو�ص ال�شرعية
�صريحة يف ذلك وكثرية.
107
ويف املعامالت ب�ّي�نّ اهلل تعالى ال�ه��دف واحلكمة منها ،و�أن�ه��ا لتحقيق
م�صالح النا�س بجلب النفع واخلري لهم ،ودفع املفا�سد والأ�ضرار وامل�شاق
عنهم ،و�إزالة الف�ساد والغ�ش واحليف والظلم من العقود ،لتقوم على امل�ساواة
والعدل بني الأطراف.
وتتجلى م�صالح العباد يف حترمي اخلبائث واملنكرات لدفع الف�ساد وال�ضرر
عن الإن�سان ،وحمايته من كل �أذى �أو وهن.
وتظهر م�صالح الإن�سان ب�شكل قطعي يف الدعوة �إلى مكارم الأخالق،
وح�سن التعامل ،والإح�سان �إلى الإن�سان ،وجتنب الإ�ساءة �إليه ولو باحلركة
والإ�شارة والكلمة والل�سان ،واليد والت�صرفات ،لت�سود املودة بني النا�س .
وبنا ًء على ما �سبق ذك��ره ،وكما هو مقرر يف علم التاريخ ،ف�إننا جند �أن
املجتمعات يف م�سريتها التاريخية �إمنا تتطور وتنمو وتقوى بفعل الإن�سان
ون�ضجه ومتام وعيه بهدفه احلقيقي يف احلياة وب�إعماله �سنن القوة والن�صر
والتمكني يف الأر���ض ..وال تنهار الأمم واملجتمعات �أوت�ضعف وتتال�شى �إلى
العدم �أحيان ًا �إال ب�سبب غياب �أو انحراف معنى ذلك الوجود الإن�ساين..
وهذا هو �س ّر احل�ضارة عند قيامها �أو انهيارها.
وملا كانت مقا�صد ال�شريعة هي الرابط اجلامع لكل فروع الت�شريع يف جميع
املناحي العبادية والعادية واالجتماعية والق�ضائية وغريها ،فهي ال تخرج عن
كلياتها ومقا�صدها الثابتة العائدة �إلى ال�ضرورات اخلم�س من حفظ الدين
والنف�س والن�سل والعقل وامل��ال ،وهذه الكليات العامة والأه��داف الرئي�سة
للت�شريع حاكمة للفروع ولي�ست حمكومة بها ،وي�سري االجتهاد الفقهي يف
فلكها وال تخ�ضع لأفالك املجتهدين �أو الفقهاء ،يقول الإمام ال�شاطبي رحمه
اهلل يف وجوب موافقة ق�صد املكلف من عمله ق�صد ال�شارع �سوا ًء كان متعلم ًا
�أو جمتهد ًا« :ق�صد ال�شارع من املكلف �أن يكون ق�صده يف العمل موافق ًا
لق�صده يف الت�شريع والدليل على ذلك ظاهر من و�ضع ال�شريعة ..واملطلوب
108
من املكلف �أن يجري على ذلك يف �أفعاله وال يخالف ما ق�صد ال�شارع»
(((.
ت�صور فرد �أو جمتمع ميكنه �أن يتخلى كذلك هي �أمر م�شرتك ال ميكن �أن ُي ّ
عن حفظها وحماولة دميومتها يف �ش�أنه اخلا�ص والعام ،فهي مق�صودة
ومرادة لكل النا�س ال يختلف يف �ضرورتها �أحد ،والت�شريع الإ�سالمي ت�شك ّل
يف �أحكامه و�آداب��ه على حفظها من جهة الوجود ومن جهة العدم .يقول
الإمام ال�شاطبي رحمه اهلل »:فلم يعتمد النا�س يف �إثبات مق�صد ال�شارع يف
هذه القواعد(((على دليل خم�صو�ص وال على وجه خم�صو�ص ،بل ح�صل لهم
ذلك من الظواهر والعمومات ،واملطلقات واملقيدات ،واجلزئيات اخلا�صة،
يف �أعيان خمتلفة ،ووقائع خمتلفة يف كل باب من �أبواب الفقه ،وكل نوع من
�أنواعه ،حتى �ألفوا �أدلة ال�شريعة كلها دائرة على حفظ تلك القواعد ،هذا
مع ما ين�ضاف �إلى ذلك من قرائن �أحوال منقولة وغري منقولة»((( .فبما �أن
للمقا�صد هذا ال�ش�أن العايل والأهمية الوا�ضحة يف ال�ضبط والتحديد كان
الرجوع لها يف البحث عن اخللل �أمر مطلوب عق ًال كما �أن اعتبارها يف �إن�شاء
الأحكام وبناء الت�شريعات احلياتية �أمر الزم �شرع ًا و�إال كانت اجلزئيات
خالف كلياتها وامل�آالت خالف االجتهادات ولنبني لذلك ب�أمثلة واقعية.
فالذين ح ّملوا نظام احلدود والعقوبة يف الإ�سالم �أنه هدم للحريات وق�سوة
على املخطئني مل ينظروا �إلى املجتمع كوحدة كاملة و�أن ا�ستقرار نظامه
و�صالح العي�ش فيه ال ميكن �إال من خالل عقوبات رادع��ه وزواج��ر ناهية
حتفظ للنا�س جميع ًا حقوقهم وحرياتهم .مع �أن �آيات احلدود والعقوبات ال
متثل من جممل �أحكام ال�شريعة �إال الع�شر و�إال فبناء الإن�سان و�إ�صالح باطنه
يحتل امل�ساحة الأكرب من التوجيهات ال�شرعية.
وكذلك من �أباح الربا ك�ضرورة اقت�صادية معا�صرة مل ينظر �إلى �آثاره
-1ال�شاطبي ،املوافقات 23 /3ـ . 24
-2املق�صود بالقواعد هنا:ال�ضروريات واحلاجيات والتح�سينيات ،انظر حا�شية املوافقات .79/2
-3ال�شاطبي ،املوافقات .82/2
109
الأخالقية واالجتماعية وه��ي من الكليات التي تتناغم يف حفظ الفرد
واملجتمع دون رعاية جزء منه و�إهمال باقيه.
واعتبار املقا�صد ال�شرعية كق�ضايا كلية ت�ضبط الفهم وتر�سخ الأهداف
احلقيقة من الوجود الإن�ساين ،والكيفية التي بها يعي�ش ويتعامل مع غريه
ومع ظروف احلياة ونوامي�س الكون؛ ي�ؤكد �أن اعتبارها كفيل بحفظ حقوق
الإن�سان ،وبنية العقل الإن�ساين من ال�شطط �أو الوهم ،وكفيل �أي�ض ًا بتنظيم
العقل وترتيب �أولويته يف الذهن ،لذلك عمد الإم��ام الطاهر بن عا�شور
رحمه اهلل ـ وقد َع ِلم بهذا الدور الكبري الذي ت�ؤ�س�سه وتعمقه املقا�صد
يف بنية العقل ـ �إل��ى حماولة �ضبط املقا�صد حتى ال يختلط املق�صد
بالو�سيلة وال الكلية باجلزئية .فجعل رحمه اهلل للمق�صد املعترب �شروط ًا
و�ضوابط ال بد من توافرها عند اعتبار كل مق�صد من املقا�صد.
وقبل حتديد ه��ذه ال�شروط �أو اخل�صائ�ص ،الب��د من الإ��ش��ارة �إل��ى �أن
املقا�صد ال�شرعية نوعان :معان حقيقية ،ومعان عرفية عامة .ف�أما املعاين
احلقيقية فهي التي لها حتقق يف نف�سها بحيث ت��درك العقول ال�سليمة
مالءمتها للم�صلحة �أو منافرتها لها� :أي تكون جالبة نفعا عاما �أو �ضررا
عاما �إدراكا م�ستقال عن التوقف على معرفة عادة �أو قانون ،ك�إدراك كون
العدل نافعا ،وكون االعتداء على النفو�س �ضارا ،وكون الأخذ على يد الظامل
نافعا ل�صالح املجتمع ،والتقييد بالعقول ال�سليمة ،لإخراج مدركات العقول
ال�ش َم َيذر احلارثي من ال�شاذة ،كمحبة الظلم يف اجلاهلية ،كما يف قول َّ
�شعراء احلما�سة مفتخرا:
ـــل َ�ضي ًما �أو ُن َح ِّك َ
ـــــم قـــا�ضـيـــــا فل�سنا كمن كنتُم ت�صيبون َ�س َّل ًة َف َن َق َب َ
((( ُ
ال�سيف را�ضيا ولكنَّ حك َـم ال�سيـف فينا م�س ّلط َفنرَ َ�ضى �إذا ما �أَ�ص َبح
110
�أما املعاين العرفية العامة ،فهي املجربات التي �ألفتها نفو�س اجلماهري
وا�ستح�سنتها ا�ستح�سانا نا�شئا عن جتربة مالءمتها ل�صالح اجلمهور،
ك�إدراك كون الإح�سا�س معنى ينبغي تعامل الأمة معه ،وك�إدراك كون عقوبة
اجلاين رادعة �إياه عن العود �إلى مثل جنايته ،ورادعة غريه عن الإجرام،
و�إدراك كون القذارة تقت�ضي التطهر(((.
وق��د ا��ش�ترط اب��ن عا�شور لهذين النوعني م��ن املقا�صد جمموعة من
ال�شروط ،هي :الثبوت ،والظهور واالن�ضباط واالطراد .و�أرادوا بالثبوت �أن
يكون املق�صد �أو املعنى امل�ستنبط جمزوما بتحققه� ،أو �أن يكون ذلك التحقق
مظنونا ظنا يقرب من اجلزم.
و�أراد بالظهور �أن يكون املق�صد مت�ضحا ب�صورة ال يختلف معها الفقهاء
يف ت�شخي�صه ،وذلك مثل حفظ الن�سب الذي هو مق�صد �أ�سا�سي وظاهر
من ت�شريع الزواج ،وال يلتب�س مع ما ي�شبهه كالذي يح�صل مثال باملخادنة
�أو بالإالطة ،وهي� :إل�صاق امل��ر�أة البغي احلمل الذي تعلقه برجل معني
(((
ممن �ضاجعوها
و�أراد باالن�ضباط �أن يكون للمق�صد حد غري م�شكوك فيه بحيث ال يتجاوزه
وال يق�صر عنه ،بحيث يكون القدر ال�صالح منه يعترب مق�صدا �شرعيا قدرا
غري م�شكك .وذلك مثل حفظ العقل �إلى القدر الذي يخرج به العاقل عن
ت�صرفات غري العقالء؛ الذي هو املق�صد من م�شروعية التعزير بال�ضرب
عن الإ�سكار(((.
�أما املراد باالطراد والإط�لاق عنده؛ فهو �أن يكون املق�صد متفقا عليه،
وغري خمتلف فيه ،مهما اختلفت الأزم��ان والأماكن ،والأقطار والقبائل.
وذل��ك مثل و�صف الإ�سالم ،ومثل القدرة على الإنفاق يف حتقيق مق�صد
-1ابن عا�شور ،مقا�صد ال�شريعة �ص .63
2حممد الطاهر ابن عا�شور ،مرجع �سابق �ص .50
-3املرجع ال�سابق ،بت�صرف �ص .50
111
املالءمة للمعا�شرة� :أي الكفاءة امل�شروطة يف الزواج لدى املالكية(((.
فمقا�صد ال�شارع يف بث امل�صالح يف الت�شريع مطلقة عامة ،ال تخت�ص بباب
دون باب ،وال مبحل دون حمل ،وال مبحل وفاق دون حمل خالف .فالأمر،
�إذن ،يف امل�صالح مطرد مطلقا يف كليات ال�شريعة وجزئياتها .و�سبب ذلك
�أن الأحكام م�شروعة مل�صالح العباد ،وال يت�أتى بحال �أن تكون خمت�صة ببع�ض
املكلفني دون بع�ض ،ولو كان الأمر كذلك؛ يعني اخت�صت بالبع�ض ،مل تكن
�آنئذ مو�ضوعة على الإطالق ،وذلك على خالف ظواهر الن�صو�ص التي ت�ؤكد
عموم �شريعة الإ�سالم.
لكن قد ترتدد معان بني كونها �صالحا تارة وف�سادا �أخرى� ،أي ب�أن اختل
منها و�صف االطراد ،فهذه «ال ت�صلح العتبارها مقا�صد �شرعية على الإطالق
وال لعدم اعتبارها كذلك ،بل املق�صد ال�شرعي فيها �أن توكل �إلى نظر علماء
الأمة ووالة �أمورها الأمناء على م�صاحلها من �أهل احلل والعقد ليعينوا لها
الو�صف اجلدير باالعتبار يف �أحد الأح��وال دون غريه .وذلك مثل :القتال
واملجالدة فقد يكون �ضرا �إذا كان ل�شق ع�صا الأمة ،وقد يكون نفعا �إذا كان
للذب عن احلوزة ودفع العدو� ،أال ترى �أن اهلل تعالى قال } :ﭻﭼﭽ
ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ{ (املائدة،)33:
فجعل قتالهم وهو احلرابة موجبا للعقاب؛ لأنها ف�ساد .وقال تعالى:
} ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ{ (احلجرات )9:ف�أعلمنا
�أن هذا التقاتل �ضر ،فلذلك �أمر البقية بالإ�صالح بينهما لتنهية القتال .ثم
قال تعالى} :ﮡﮢﮣﮤﮥ{ (احلجرات� )9 :أي الطائفتني
على الأخ��رى }ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ{ (احل �ج��رات )9:ف�أمر
ب�إيقاع قتال للإ�صالح»(((.
-1املرجع ال�سابق.
-2حممد الطاهر بن عا�شور ،مرجع �سابق �ص .51- 50
112
وم��ن �شروط اعتبار املقا�صد التي ينبغي الإ� �ش��ارة �إليها والتن�صي�ص
عليها� ،شرط العموم وال�شمول؛ ذل��ك �أن ه��ذه اخلا�صية تعد من لوازم
مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية ،وخا�صة �أ�صولها من ال�ضروريات واحلاجيات
والتح�سينيات ،حيث يجعلها ذلك مبثوثة يف كل مباحث ال�شريعة �شاملة
لأبوابها و�أدلتها ،وكل م�سائل ال�شريعة وفروعها ،بحيث تعم اجلزئيات
وت�ستغرق الكليات ،وال تفتقر يف �إثباتها �إلى قيا�س �أو غريه(((.
وم��ن ه��ذه ال�شروط ،ع��دم الن�سخ ،وذل��ك ب ��أن ال يعرتي ه��ذه املقا�صد
ن�سخ بالإبطال �أو الإلغاء ،يقول �أبو �إ�سحاق ال�شاطبي« :القواعد الكلية من
ال�ضروريات واحلاجيات والتح�سينيات مل يقع فيها ن�سخ ،و�إمنا وقع الن�سخ
يف �أمور جزئية ،بدليل اال�ستقراء ،ف�إن كل ما يعود باحلفظ على الأمور
اخلم�سة ثابت ،و�إن فر�ض الن�سخ يف بع�ضها �إلى غري بدل ،ف�أ�صل احلفظ
باق� ،إذ ال يلزم من رفع بع�ض �أنواع اجلن�س رفع اجلن�س»(((.
ف�إذا حتققت املقا�صد بال�شروط املذكورة ح�صل اليقني لدى م�ستنبطها
ب�أنها هي املقا�صد ال�شرعية املعتربة .وهي يف ارتباطها بتلك ال�شروط تتميز
عن الأوهام ،وهي املعاين التي يخرتعها وهم الإن�سان دون �أن يكون لذلك �أثر
متحقق يف الواقع ،وذلك مثل توهم كثري من النا�س.
واملقا�صد يف ارتباطها بتلك ال�شروط تتميز عن «الأوه��ام» ،وهي املعاين
التي يخرتعها وهم الإن�سان دون �أن يكون لذلك �أثر حمقق يف الواقع ،وذلك
مثل توهم كثري من النا�س وجود معنى يف امليت يوجب اخلوف منه �أو النفور
عنه عند اخللوة .كما تتميز عن «التخيالت» ،وهي املعاين التي يخرتعها
اخليال ويركبها ويت�صورها ب�صور املح�سو�سات ،ومن ذلك ت�صور الأ�شباح
والأ�شخا�ص ونحوها .ولي�س �شيء من تلك الأوهام والتخيالت ي�صلح �أن يعد
-1ال�شاطبي،املوافقات .7/3
-2نف�س امل�صدر .109/3
113
مق�صدا �شرعيا((( ،وقد �أبطل الإ�سالم �أحكام التبني التي كانت يف اجلاهلية
و�صدر الإ�سالم؛ لأنه اعتربها من الأمور الوهمية(((.
هذا ،ومن حق الفقيه مهما الح له ما يوهم جعل الوهم مدرك حكم �شرعي
�أن يتعمق يف الت�أمل ع�سى �أن يظفر مبا يزيل ذلك الوهم ،ويرى �أن ثمة معنى
حقيقيا هو مناط الت�شريع قد قارنه �أمر وهمي فغطى عليه يف نظر عموم
النا�س؛ لأنهم �ألفوا امل�صري �إلى الأوهام.
ومن هنا ميكن ا�ستثمار الفطرة الإن�سانية والربط بينها وبني املق�صد
ال�شرعي يف تر�شيد حقوق الإن�سان؛ �سواء اعتربنا الفطرة «هي احلالة التي
خلق اهلل عليها النوع الإن�ساين �ساملا من االختالط بالرعونات والعادات
الفا�سدة ،وهي �صاحلة ل�صدور الف�ضائل عنها»(((� ،أو اعتربناها «الهيئة
اخللقية والروحية التي انطوت عليها نف�س الإن�سان والتي تو�صله �إلى معرفة
عبوديته للخالق»(((.
وكما �سبقت الإ�شارة ،فقد ذهب الإم��ام ابن عا�شور رحمه اهلل �إلى �أن
الفطرة ال�سليمة هي القاعدة التي ُ�شي َّد عليها �صرح املقا�صد ال�شرعية،
ويجب �أن تكون الأ�سا�س الذي ينطلق منه املكلفون حتى تكون مقا�صدهم من
وراء ت�صرفاتهم موافقة ملق�صد ال�شارع .يقول رحمه اهلل« :نحن �إذا �أجدنا
النظر يف املق�صد العام من الت�شريع جنده ال يعدو �أن ي�ساير حفظ الفطرة
واحلذر من خرقها واختاللها ،ولعل ما �أف�ضى �إلى خرق عظيم فيها يع ّد يف
ال�شرع حمذور ًا وممنوع ًا ،وما �أف�ضى �إلى حفظ كيانها يع ّد واجب ًا ،وما كان
دون ذلك يف �أمرين فهو منهي �أو مطلوب يف احلملة ،وما ال مي�سها مباح،
ي�صار
ثم �إذا تعار�ضت مقت�ضيات الفطرة ومل ميكن اجلمع بينها يف العمل ُ
-1حممد الطاهر بن عا�شور ،مقا�صد ال�شريعة �ص .51
-2املرجع ال�سابق �صر .51
-3املرجع ال�سابق �ص.180
-4طه عبد الرحمن ،جتديد املنهج يف تقومي الرتاث �ص .100
114
�إلى ترجيح �أواله��ا على ا�ستقامة الفطرة ،فلذلك كان قتل النف�س �أعظم
الذنوب.(((»..
من هنا ن�ستطيع القول �إن الفطرة هي املوج ّه للإن�سان تفكري ًا وت�صرف ًا
و�أخالق ًا ،وهي ال�سمة الرئي�سية للدين وو�صفه العظيم }:ﯔﯕﯖ
ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ
ﯧ{ (�سورة الروم.)30:
فمقا�صد ال�شريعة مت�سقة مع الفطرة ال�سليمة غري خمالفة لها ولي�س هذا
االت�ساق يف النوازع واملنافع املادية فقط؛ بل له �آثار ُه على الفكر واحلريات
املتعلقة بحياة الإن�سان .وهذا اجلانب املهم واملتعلق ب�ضبط ال�سلوك الباطني
بالفكر والعقل الواعي مل يعط حقه من التنظري والت�أ�صيل مع �أن له اثاره يف
حياة الإن�سان �سواء كانت �إيجابية ب�إعماله واالن�سياق يف موارده� ،أو �سلبية يف
�إنكاره وخمالفة منزعه الفطري املك ِّون حلقيقة الفرد الإن�ساين ،ولعل الدور
املقا�صدي �أن ُيعيد االهتمام بهذا اجلانب العرفاين وي�ضبطه من االنحراف
�أو التعدي يف تقديره واعتباره.
�إن املت�أمل يف م�صن ّفات مقا�صد ال�شريعة يرى �أن هناك دور ًا �إ�صالحي ًا قام
به �أولئك امل�ص ّنفون ملا حتم ّلوا هذا اجلانب من الت�أليف والعودة �إلى كليات
ال�شريعة بتجديد ال�صلة بها و�إحياء دورها املتجدد يف النظر والوقائع املختلفة،
و�شواهد �أح��وال �أولئك املجددين تثبت �أن املقا�صد ال�شرعية هي احلامل
على التغيري نحو الأف�ضل والت�صحيح نحو الأولى والأهم والإمام ال�شاطبي
–رحمه اهلل -يف م�صنفه العظيم املوافقات يعترب من رواد الإ�صالح الفكري
يف دوره يف رد اخلالف الفقهي �إلى مقا�صد ال�شريعة الكلية وترتيب الذهنية
الفقهية وتنقية علوم اال�ستدالل من �شوائب الإيغال الفل�سفي والكالمي .كما
�أن دور الإمام الطاهر بن عا�شور وعالل الفا�سي ال يختلف عن �سابقهما ،فقد
115
جعلوا من مقا�صد ال�شريعة حمور التجديد الذي دعوا �إليه وكذلك منهاجهم
الإ�صالحي الذي ّ
ب�شروا به �سواء كان على م�ستوى الت�شريعات النظامية
�أو املحافظة على دور الفقه يف عالج م�ستجدات احلياة.
والناظر يف ما كتب اليوم من درا��س��ات و�أب�ح��اث يف مقا�صد ال�شريعة،
ي�ستنتج ،دون عناء ،تراكما جيدا يف الت�أ�صيل؛ من خالل اال�شتغال على
م�صادر علم �أ�صول الفقه و�أعالمه ،وا�ستنطاق �آرائهم ومذاهبهم يف كتب
الفقه ،واالجتهادات الفقهية ال�ستنباط قواعدهم يف التعامل مع الن�ص .مع
ظهور بع�ض الأبحاث والدرا�سات التي حاول �أ�صحابها االنتقال من الت�أ�صيل
�إلى تنزيل هذه القواعد واملقا�صد على ق�ضايا معا�صرة حمددة وم�ستجدات
معينة.
والطموح كل الطموح �أن ينتقل البحث من الت�أ�صيل والتنزيل على ق�ضايا
ومن��اذج معينة� ،إلى �أن يجعل من املقا�صد وامل�صالح منهجا ناظما لبناء
تفكري �إ�سالمي يجمع بني قراءة الوحي وقراءة الكون داخل الذات ،و�آلية من
�آليات املجادلة واحلوار مع الآخر يف ق�ضايا الر�ؤية الإ�سالمية مبنطق العقل
وم�صلحة الإن�سان التي تعد �صلب و�سياج �أي حق من حقوقه.
ذلك كله بهدف تكوين فكر مقا�صدي منفتح وم�ستوعب لدى امل�ؤتلف
مع املرجعية الإ�سالمية من منطلق مقا�صد الإ�سالم ،وتفكري عادل لدى
املختلف معها من منطلق م�صالح الإن�سان ،من �أجل توفري العزة والكرامة
لهذا الإن�سان الذي خلقه اهلل يف �أح�سن تقومي ،وكرمه وف�ضله على كثري من
خملوقاته ،و�سخر له الأكوان ليدبر �أمره �ضمن ظواهرها بالوحي ويف ظل
الوحي ومبنهج الوحي ،لأنه املنهج الرباين احلري�ص مبقا�صد ت�شريعاته على
م�صلحة الإن�سان و�سعادته.
116
الف�صل الرابع:
نحو تفعيل مقا�صد ال�رشيعة
يف حتقيق التكامل احل�ضاري
والتقريب بني مذاهب
�أهل القبلة
-متهيد:
غاية ا لأمر يف هذا املقام �أن نتعرف على مكانة املدخل املقا�صدي
يف حتقيق التكامل احل�ضاري والتقريب بني مذاهب �أهل القبلة ،ودوره
يف حتقيق هذا املعنى ،وهو واحد من �أهم املداخل اجلامعة التي جتعل
من تكامل الر�ؤى والت�صورات عملية �أ�سا�سية ،كما تقوم ب�أدوار �أخرى
�ضمن قيام الباحثني بعمليات التوظيف والتفعيل لهذا النموذج يف �سياق
املجاالت املعرفية املختلفة.
فكيف ميكن لنظرية املقا�صد يف �صورتها احلالية �أن ت�سهم يف تفعيل دائرة
امل�شرتك بني احل�ضارات ،والتقريب بني مذاهب �أهل القبلة؟
وهذا ما �سنحاول ب�سطه من خالل �إبراز �أثر معرفة مقا�صد ال�شريعة يف
�إغناء التكامل احل�ضاري ،و حتقيق وحدة الأمة والتقريب بني مذاهب �أهل
القبلة.
119
املبحث الأول� :أثر معرفة مقا�صد ال�شريعة يف �إغناء التكامل احل�ضاري
ال ميرتي �أحد يف �أن كل �شريعة �شرعت للنا�س ترمي ب�أحكامها �إلى مقا�صد
مرادة مل�ش ّرعها ووا�ضعها؛ ومن هذا املنطلق ف�شريعة الإ�سالم ،كما �أراد لها
وا�ضعها عز وجل ،جاءت ملا فيه �صالح الب�شر يف العاجل والآجل� ،أي يف حا�ضر
الأمور وعواقبها .يف �إطار ال�ضرورات االجتهادية مبفهومها الوا�سع والتعامل
العميق مع الن�صو�ص امل�ؤ�س�سة؛ قر�آنا و�سنة ،واال�ستمداد منها مبختلف
الطرائق واملناهج .وال �شك �أن هذا اال�ستثمار ال ميكن �أن يتم �إال بوا�صلة بني
ال�صبغة وال�صيغة وال�صياغة؛ �صبغة اهلل التي ت�شكل ت�أ�صيل الر�ؤية الكلية
الكونية وت�أ�سي�س الر�ؤية الفطرية لت�شكيل �أ�صول احلياة العمرانية } ﮚ
ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ{ (البقرة.)138 :
ومن هذه ال�صبغة (�صبغة اهلل) تنبع ال�صيغة الكلية العامة ،وهي ال�صيغة
املقا�صدية مدخال م� ِّؤطرا؛ التي تعد من �أهم املطالب التي يحتاجها الفقيه،
وال �ع��امل ،وال�سالك وامل��رب��ي ،والتلميذ والأ��س�ت��اذ ،على ت�ف��اوت قرائحهم
وفهومهم ،يف عملية احلوار مع كتاب اهلل امل�سطور؛ القر�آن الكرمي ،وكتاب
اهلل املنظور؛ �أي الكون ،وتتطلب وعي اال�ستجابة و�سعيها ،والكد يف التعرف
على الطرق املو�صلة �إليها؛ املن�صو�صة وامل�ستنبطة ،وال�سعي �إل��ى �ضبط
�شروط اعتبارها.
�إنها ال�صيغة املقا�صدية التي تت�سم بكليتها وان�ضباطها وظهورها ،واطرادها
و�إطالقها و�شمولها وعموميتها ،..والتي من �ش�أنها �أن تقدم عنا�صر النموذج
الإر�شادي واملدخل الفهمي ملقاي�سة الظواهر وت�أ�سي�س معايري (الو�صف)
لها واحلكم (والتقومي) عليها�« ،إنه الفقه الذي يتفاعل فيه الفقه احلكمي
بعنا�صر الرتبية والرتقية ،والتخلية والتحلية ،والواقع والواجب من �سياق ال
ينفلت فيه الواقع من الواجب ،وال يهمل الواجب فيه الواقع»(((.
� -1سيف الدين عبد الفتاح ،العملية االجتهادية و�أ�صول الفقه احل�ضاري� ،ضمن �أعمال ندوة "�أهمية
اعتبار ال�سياق يف املجاالت الت�شريعية و�صلته ب�سالمة العمل بالأحكام" �ص .617
120
وهي ال�صيغة التي تعرب عن كماالت الر�ؤية التوحيدية الفطرية اال�ستخالفية
العمرانية التي تت�سم بكمالها �صحة و�صالحية وفعالية ،وتت�سم بتمامها
كتمام الكلمة ال�صادرة عنها �صدقية يف الأداء وعدال يف مقامها} ..ﯙ
ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ
ﯩﯪﯫ{(الأنعام .)116 :
و�إذا كان هذا هو مقام اهتمام ال�شريعة باملقا�صد الأ�سا�سية ،ف�إن معرفة
مقا�صد ال�شريعة وحتريها مقدمة الزمة يف كل ذلك؛ لأنها تعني على حتقيق
املق�صد الكلي يف ربط حركة الإن�سان يف هذا الكون باملق�صد الأ�سا�سي وهو
املق�صد التوحيدي؛ مبعنى حتقيق العبودية هلل �سبحانه «وباجلملة حتقيق
ما ميكن �أن ن�سميه حفظ الأمة ،وكيانها ،وهويتها من خالل حفظ الكليات
اخلم�س من دي��ن ،ونف�س ،ون�سل ،وعقل ،وم��ال؛ التي ت�شكل �أعمدة الأمة
وجماالت حركاتها ،وذلك بفهم الرتب ،والتدرج فيما بينها من �ضروريات،
وحاجيات ،وحت�سينيات ،ويف �إطار ربط ذلك مبجموعة من القيم الإ�سالمية
الأ�سا�سية ،وهو ما يحقق الربط بني هذه العنا�صر جميعا لتحقيق مقت�ضى
الأمانة للإن�سان وا�ستخالفه بحرا�سة الدين و�سيا�سة الدنيا به»(((.
وم��ن رحمة اهلل بهذه الأم��ة �أن وف��ق ثلة من نوابغها �إل��ى بناء مقاربة
مقا�صدية ،قطعوا يف طلبها م َهامه فيحا ،وكابدوا من طوارق طوارقها ح�سنا
وقبيحا ،والقوا من وجوهها املعرت�ضة جهما و�صبيحا ..وحالفوا يف �سبيل
ذلك الليايل والأيام ،وا�ستبدلوا التعب بالراحة وال�سهر باملنام ..وفتَح عليهم
يف التنظري لها ،ون�سج خيوطها ،وتقييد �أوابدها ،و�ضم �شواردها ،تفا�صيل
وجمال ..معتمدين على اال�ستقراءات الكلية ،غري مقت�صرين على الأفراد
اجلزئية ،ومبينني �أ�صولها النقلية ،ب�أطراف من الق�ضايا العقلية ،ح�سب
ما �أعطته اال�ستطاعة واملنة ،يف بيان مقا�صد الكتاب وال�سنة ..ف�أ�س�سوا
ملا ميكن ت�سميته بـ «الكليات العمرانية» ،والتي حتتاج �إلى رحلة ا�ستك�شافية
� -1سيف الدين عبد الفتاح ،نحو تفعيل النموذج املقا�صدي يف املجال ال�سيا�سي واالجتماعي� ،ضمن
كتاب «مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية :درا�سات يف ق�ضايا املنهج وجماالت التطبيق» �ص .364 :بت�صرف.
121
م�ضبوطة املراحل ،قد ال يويف هذا املبحث ببيانها يف هذا ال�سياق ،لإكراهات
منهجية؛ وهي حتتاج �إلى بحث خا�ص� ،أ�س�أله �سبحانه �أن يي�سر يل خو�ض
غماره ،وبيان �سلطانه.
لكن هذا لن يعفيني من ا لإ�شارة �إلى بع�ض جتليات هذا املق�صود
يف �إجمال ،من غري ا�ستيعاب كامل ،وال تف�صيل تام.
احلكمية يف حركتنا املعرفية والبحثية ال يت�أتى
�إن ا�ستئناف فاعلية املعاين ِ
�إال من خالل �صياغتها مبا يحقق هذه الفاعلية النظرية املعرفية� ،ضمن فعل
الت�أ�سي�س (الر�ؤية العقدية الدافعة� ،أ�صول ال�شرعة الرافعة ،قيم الت�أ�سي�س
وقيم الأ�سا�س احلاكمة ،وجمال الأمة اجلامعة ،وعنا�صر احل�ضارة الفاعلة،
و�سنن الكون والنف�س واملجتمع والتاريخ القا�ضية ،وجماالت ورتب املقا�صد ُ
الكلية العامة احلافظة واحلا�ضنة) ،ذلك كله يزكي �سبل التوا�صل ،ويقطع
دابر االختالف ،ويغني التكامل احل�ضاري؛ الذي تت�صل بع�ض امل�ستويات
فيه بفقه بناء املعيار وت�أ�سي�سه و�صياغاته ،كر�ؤى قابلة للتفعيل والت�شغيل
�ضمن �سياقات متنوعة ،و�أهمها املجال املعريف والعلمي والفكري والثقايف
واحل�ضاري .ذلك �أن امل�ستويات والفئات الأخرى ُتعنى بفهم الواقع و�إمكان
مقاي�سته على املعيار ورده الرد اجلميل �إليه ،ومالحظة االنحراف املعياري
جل ،مبنهج علمي �سديد من�ضبط يتفهم عنا�صر الظاهرة دق �أو َّ
وتقوميه مهما َّ
االجتماعية والإن�سانية يف خ�صو�صيتها ،كمجال بحثي ي�ستحق االهتمام(((.
�إنها عنا�صر �شديدة الأهمية تتحقق من خالل ت�أ�سي�س املقاربة املقا�صدية
كمنظومة جامعة لعنا�صر فاعلة ،وم ِّفعلة لها يف البحث ،وما يو ِّلده ذلك من
�إمكانات مفاهيمية ومنهجية وحتليلية وتف�سريية وتقوميية.
و�إذا ما ربطنا هذا كله مبا نحن فيه ،وجب علينا �أن نتعرف كيف �أهملنا
تراثنا حينما مل ن�صله بالواقع ومل نفعله يف �سياقاته ،ومل نوظفه يف م�ساراتنا
� -1سيف الدين عبد الفتاح ،العملية االجتهادية و�أ�صول الفقه احل�ضاري� ،ضمن �أعمال ندوة "�أهمية
اعتبار ال�سياق يف املجاالت الت�شريعية و�صلته ب�سالمة العمل بالأحكام" �ص .615
122
البحثية �أو املنهجية ،ف�ضال عن طرائقنا ال�سلوكية والرتبوية والتدبريية.
بناء عليه؛ نحن يف حاجة �إل��ى معرفة مقا�صد ال�شريعة ،والك�شف عن
م�سالكها؛ لأن ذلك يعد من اللوازم للمجتهد حتى ين�ضبط اجتهاده وي�ستويف
فيه بذلك غاية الو�سع ،فمن املعلوم �أنه لي�س كل مكلف بحاجة �إلى معرفة
مقا�صد ال�شريعة ،لأن معرفة مقا�صد ال�شريعة نوع دقيق من �أنواع العلم،
فحق العامي �أن يتلقى ال�شريعة بدون معرفة املق�صد لأنه ال يح�سن �ضبطه
وال تنزيله ،ثم يتو�سع النا�س يف تعريفهم للمقا�صد مبقدار ازدياد حظهم
من العلوم ال�شرعية لئال ي�ضعوا ما يلقفون من املقا�صد يف غري موا�ضعه
وحق العامل فهم املقا�صد ،والعلماء يف ذلك متفاوتون على قدر القرائح
والفهوم(((.
وال يخفى �أن معرفة مقا�صد ال�شريعة وحت ِّريها مقدمة الزم��ة لعملية
االجتهاد مبفهومها الوا�سع؛ امل�ست�شرف حلكم اهلل يف نوازل الأمة والعامل
من حولها ،وال ي�صح ملجتهد �أن يقوم بها دون ذلك ،لأنها تعينه على متام
فقه احلكم والواقعة والتنزيل جمي ًعا ،كما �أنها حتقق املق�صود الكلي يف ربط
حركة االجتهاد باملق�صود الأ�سا�سي وهو التوحيد ،وحتقيق مطلق العبودية
هلل ،وباجلملة حتقيق ما ميكن �أن ن�سميه حفظ الأمة ،وكيانها وهويتها من
خالل حفظ الكليات اخلم�س من (دين ونف�س ون�سل ،وعقل ،ومال) ،التي
ت�شكل �أعمدة الأمة وجماالت حركاتها ،وذلك بفهم الرتب ،والتدرج فيما
بينها من �ضروريات وحاجيات وحت�سينيات ،ويف �إطار ربط ذلك مبجموعة
من القيم الإ�سالمية الأ�سا�سية ،وهو ما يحقق الربط بني هذه العنا�صر جمي ًعا
لتحقيق مقت�ضى الأمانة للإن�سان وا�ستخالفه بحرا�سة الدين و�سيا�سة الدنيا
به ،وهو �أمر ي�ضفي على االجتهاد �أهميته ،ودوره ووظيفته يف حفظ الأمة
ً
بلوغا ملر�ضاة اهلل بالتزام �شرعته ونهجه.
واملقا�صد �ضمن هذا التفكري تقوم على مفهوم امل�صلحة املعتربة �شرعا،
-1حممد الطاهر ابن عا�شور ،مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية �ص 15 ،7ـ.18
123
لأنها ترتبط بنظرية املقا�صد كلها بعروة وثقى ال انف�صام لها ،وامل�صلحة
ه��ي القا�سم امل�شرتك ال��ذي تلتقي ع�ن��ده مقا�صد ال���ش��ارع ومقا�صد
املكلف ،كما �أن ذلك كله ي�سهم يف ت�أ�صيل املدخل القيمي كمدخل منهجي يف
ر�ؤية جممل احلياة احل�ضارية وما يعتمل فيها من �أفعال وعالقات وقدرات
وجماالت ،ذلك �أن الفكر املقا�صدي «يب�صر يف املقام اخلا�ص مبا دق وج ّل،
ويحمل فيه على الو�سط الذي هو جمال العدل واالعتدال ،وي�أخذ باملختلفني
على طريق م�ستقيم بني اال�ست�صعاد واال�ستنزال ،ليخرجوا من انحرايف
الت�شديد واالنحالل ،وطريف التناق�ض واملحال»(((.
هذه الر�ؤية هي التي ح��اول علماء املقا�صد التعرف من خاللها على
امل�ستويات املعرفية املو�ضحة والكا�شفة عن العالقة بني مق�صد ال�شارع
ومق�صد الإن�سان املكلف؛ ور�سموا بوا�سطتها املعمار الذهني القادر
على املزاوجة والتالحم بني امل�صلحة املعتربة �شرعا ،باعتبارها �أ�سا�س
املقا�صد ،وبني امل�صالح والقيم االجتماعية احل�ضارية ،من دون �أدنى
ت�ع��ار���ض ،ب��ل بالعك�س يف نف�س تكاملي ا�ست�شرايف للأن�ساق املعرفية
وال�سياقات االجتماعية لهذه القيم.
هذا كله يف �سياق بيان جملة الكليات الت�أ�سي�سية لإقامة عنا�صر العمارة
احل�ضارية والفاعليات احل�ضارية ،وحماولة الربط بني الفقه اجلزئي والفقه
الكلي ،وفقه املقا�صد العامة وفقه مقا�صد املكلف .هذا الربط بني الكلي
واجلزئي ،والأ�صل الذي يحرك �أحد معانيه يف الو�صل وال�صلة و�ص ٌل بني
اجلزئي واندراجه يف الكلي ،وو�صل بني الكلي والكلي ،وو�صل بني اجلزئي
واجلزئي ،وو�صل بني كل هذه ال�صنوف والأمناط والواقع املعي�شي يف �إطار
التهيئة واال�ستعداد لتحريك هذا الأم��ر �ضمن عمليات فقه الواقع وفقه
التنزيل يف م�سار ح�ضاري ممتد ينه�ض من خالل تفاعل الأفعال اجلزئية مبا
تقت�ضية من �أحكام جزئية فتكون فعال قابال للرتاكم من الناحية احل�ضارية،
-1ال�شاطبي ،املوافقات .16/1
124
قادرا على الت�أثري يف عملية النهو�ض احل�ضاري .وامل�شاركة اجلماعية يف
البناء اال�ستخاليف الذي ُندب �إليه الإن�سان بتكليف ال�شرع(((.
وينبغي التنبيه على �أن التفعيل على ه��ذا ال��و��ص��ف ،لي�س مبق�صور
على ال ُّنظار من الفقهاء املجتهدين ،و�إمنا هو عا ّم يف امل�سلمني على قدر
طاقاتهم فيه؛ فكل م�سلم مطلوب منه �أن يكون ت�صرفه يف احلياة ،تفك ًريا
نظر ًّيا و�سلو ًكا عمل ًّيا ،مواف ًقا لأحكام ال�شريعة حمق ًقا ملقا�صدها التي يجب
�أن تكون حا�ضرة يف ذهنه عند ذلك الت�صرف ليكيفه بح�سبها يف حدود
اهتماما كب ًريا يف العقود الأخرية ،حيث
ً قدرته� .صحيح �أن املقا�صد �شهدت
جرى الك�شف عن القواعد العلمية ،والأ�س�س املعرفية التي ا�ستخدمها الرواد
الأوائ��ل يف علم املقا�صد ،والتي �أنتجت هذه احل�صيلة العلمية التي نراها
يف ال�ساحة من االجتهادات الفذة؛ وهذا �أمر حممود ،وهو يف نظري من
م�ستلزمات بزوغ املنهجية يف كل علم من العلوم ،لكن ال يجب التوقف عند
هذه املرحلة ،بل يجب تطوير و�إعادة التك�شيف لكل تلك القواعد بالفهم،
ثم التحليل ،والتقومي ،لي�أتي بعد ذلك الرتكيب و�إع��ادة الإخ��راج العلمي،
والتنزيل الفهمي.
ذلك �أن «الدرا�سة الأ�صولية منذ القرن ال�ساد�س مل تقدم جديدا با�ستثناء
ما قام به ال�شاطبي .والدرا�سات املعا�صرة يف الأ�صول ،على جدواها ،قدمت
مادة ميكن توفرها يف الكتب القدمية ،فهذه الدرا�سات �صياغة جديدة لآراء
غري جديدة ،ومن ثم كان التفاوت بينها يف ال�شكل ال يف امل�ضمون ،ويف التعبري
ال يف التفكري والكيف»(((.
ومن الأمثلة البارزة للداللة على الثبات على م�ستوى القواعد العلمية حيز
� -1سيف الدين عبد الفتاح ،العملية االجتهادية و�أ�صول الفقه احل�ضاري� ،ضمن �أعمال ندوة «�أهمية
اعتبار ال�سياق يف املجاالت الت�شريعية و�صلته ب�سالمة العمل بالأحكام» �ص ،619بت�صرف.
-2حممد الد�سوقي ،نحو منهج جديد لدرا�سة علم الأ�صول ،جملة �إ�سالمية املعرفة ،العدد ،3يناير
� ،1996ص .147
125
تطبيقها ،قاعدة �أو منهج اال�ستقراء؛ «ف�إنه بقي تقريبا مب�ضمونه وتطبيقاته
ثابتا على ال�صورة التي �أبدعها ال�شاطبي ،و�إذا كان الثبات على معامل
اال�ستقراء كما �أ�س�سها الإمام ال�شاطبي يبدو م�ست�ساغا �إلى حد ما ا�ستنادا
�إلى طبيعة التفكري العلمي للإمام ال�شاطبي ،ف�إن جمال تطبيق اال�ستقراء
يجب �أن ي�أخذ نطاقا �أو�سع؛ لأن املنطق العلمي يقت�ضي �أن يتنا�سب هذا
املجال مع احلاجة الت�شريعية للأمة الإ�سالمية.(((»..
كما �أن حيز تطبيق اال�ستقراء مل يت�سع بالقدر الكايف على ما تركه
ال�شاطبي؛ ف ��إذا ك��ان «ال�شاطبي ،رحمه اهلل ،ا�ستطاع با�ستقراء تعاليم
ال�شريعة يف املجاالت املتعددة �أن ينتهي �إلى حتديد املقا�صد بحماية الكليات
اخلم�س ،وال�ضرورات اخلم�س ،ف�إن ذلك ال يعدو �أن يكون اجتهادا ..ويبقى
الباب مفتوحا ملزيد من االجتهاد واالكت�شاف لآفاق �أخرى يف املقا�صد يف
�ضوء التطورات االجتماعية ،و�ضمور وغياب بع�ض املعاين التي تق�صد
ال�شريعة �إلى حتقيقها ،حفظا مل�صالح العباد� ،أو على الأقل حماولة �إعادة
قراءة هذه املقا�صد يف �ضوء امل�صطلحات واملفهومات اجلديدة»(((.
لذلك ف�صياغة الأهداف اجلديدة للبحث املقا�صدي ،والعمل على جتديد
م�صطلحاته ،بت�سهيل نقلها �إلى ع�صرنا احلا�ضر ،وحتكيمها يف ا�ستيعاب
�أهم ق�ضاياه وم�شاكله ،وو�ضع احللول ال�شرعية ال�سليمة للم�شكالت والتطور
االجتماعي الكبري ال��ذي �شهدته الع�صور املت�أخرة مثل حقوق الإن�سان،
وق�ضايا �صراع احل�ضارات وحوار الثقافات ،وحوار الأديان ،وق�ضايا البيئة،
وق�ضايا الطفولة والتنمية الب�شرية ،وما يتعلق بتدبري االختالف مبفهومه
الوا�سع ،والتطلع للحاجة امل�ستقبلية للمجتمعات الإ�سالمية وغريها ،انطالقا
من عاملية الر�سالة وخامتيتها ،التي تفر�ض على حامليها امليل اخليرّ على
عباد اهلل امل�ست�ضعفني ...كل ذلك يعد من �أولويات البحث يف هذا املجال،
التي وجب �أن يبذل فيها النفي�س والغايل من املاديات واملعنويات ،وت�ستحق
-1عبد القادر بن حرز اهلل� ،ضوابط اعتبار املقا�صد� ،ص 323ـ.324
-2نور الدين اخلادمي ،االجتهاد املقا�صدي .26/1
126
�أن تثنى عليها الركب ،وتقو�س الظهور حتى ن�صل فيه �إلى الثمرة املرجوة،
والغر�ض املق�صود ،وهي �إخ��راج العباد من عبادة العباد �إل��ى عبادة رب
العباد ،ومن �ضيق الدنيا �إلى �سعة الدنيا والآخرة.
ومما ي�شهد لهذا املعنى �أن وقائع التاريخ الإ�سالمي تو�ضح �أن مراحل
االزده ��ار احل���ض��اري ه��ي نف�سها امل��راح��ل التي من��ا فيها فقه املقا�صد
وازدهرت ثقافته على نطاق وا�سع يف �صفوف الأمة ،و�أن مراحل التدهور
والرتاجع احل�ضاري �شهدت تراجعا لفقه املقا�صد و�ضمورا للثقافة العامة
املبنية على هذا الفقه ،وجتلى هذا ب�شكل وا�ضح يف وجود فجوة بني الإميان
النظري وال�شعائري من جهة ،واملمار�سة االجتماعية والت�صرفات ال�سلوكية
من جهة �أخرى.
وه��و ما يفهم منه �أن ثمة عالقة قوية بني ازده��ار فقه املقا�صد وبني
االزدهار احل�ضاري ب�شكل عام يف الأمة و�أن �ضمور املعرفة النظرية بهذا
الفقه م�ؤ�شر على تراجعه يف املمار�سة العملية ،والعك�س �صحيح ،ومن ثم
ف�إن الواقع الراهن بحاجة ما�سة �إلى �إحياء ثقافة املقا�صد والتنبيه على
م�صادرها ،و�إعادة و�صلها بالواقع الذي نعي�شه ،و�إذاعتها على �أو�سع نطاق
ممكن لتكون م�صدرا من م�صادر تكوين الوعي احل�ضاري ب�شكل �إيجابي يف
جمتمعاتنا(((.
وعليه فا�ستدعاء ال�ضوابط واملعايري يف التوجه املقا�صدي ميكن �أن
ي�ساهم يف �إحداث نقلة منهجية ،يتم من خاللها التحول من مرحلة الت�أ�صيل
والرتكيز على �أهمية املقا�صد ودورها يف االجتهاد �إلى مرحلة بناء وتكوين
�ضوابط القبول والرف�ض لأي ت�أويل �أو جهد يروم ا�ستح�ضار النهج املقا�صدي،
يف ا�ستح�ضار علمي وفهمي وتنزيلي للمبادئ العامة والغايات الكربى التي
جاءت الر�سالة اخلامتة لتحقيقها.
� -1إب��راه �ي��م ب�ي��وم��ي غ ��امن ،ث�ق��اف��ة امل�ق��ا��ص��د م��دخ��ل ل�ل�ازده��ار احل �� �ض��اري ،ج��ري��دة الأه���رام
.2008/11/17
127
املبحث الثاين� :أثر معرفة مقا�صد ال�شريعة يف وحدة الأمة
والتقريب بني مذاهب �أهل القبلة
حدد ابن خلدون يف مقدمة تاريخه �شروط وح��دة امل�سلمني ونه�ضتهم
حتديدا �سلبيا من خالل ق��راءة التاريخ وحماولة �صياغة قوانينه العلمية
ا�ستقراء للتجربة الإ�سالمية .ثم عاد وحددها حتديدا �إيجابيا من خالل ن�سق
من النظريات العلمية يع�ضدها التعريف القر�آين ل�سنن التاريخ واحل�ضارة.
لذلك فال يكاد ف�صل من ف�صول املقدمة يخلو من الإر�شاد �إلى التوازي بني
ما ي�سميه بقوانني العمران بح�سب �سنن الوجود وقوانينه بح�سب �سنن ال�شرع
يف كل ما له �صلة مب�صائر احل�ضارات والأمم(((.
ولئن اتخذ عبد الرحمن بن خلدون ق��راءة التاريخ وقوانني العمران
مدخال منهجيا نظر بوا�سطته �إلى حال الأمة امل�سلمة يف ع�صره ،وحاول
�أن ي�ست�شرف بذلك م�صائر احل�ضارات والأمم ،وقد �أبدع و�أقنع .ف�إن
�أبا �إ�سحاق ال�شاطبي ،رحمه اهلل ،اتخذ من �س�ؤال املقا�صد كما اهتدى �إليه،
وكما حرره يف موافقاته واعت�صامه ،مدخال علميا وعمليا حاول من خالله
التوفيق والتقريب بني مذاهب �أهل القبلة ،وقد �أ�شبع و�أقنع هو كذلك.
ففي عالجه ،رحمه اهلل ،مل�س�ألة اخلالف الواقع بني حملة ال�شريعة
يف الآراء والأحكام� ،أورد �أ�سبابا ثمانية((( مقتب�سة من ابن ال�سيد ال َب َط ْل ُيو�سي
(ت521:ه �ـ) ،منها :اال�شرتاك الواقع يف الألفاظ ،واحتمالها للت�أويالت،
ودوران اللفظ بني احلقيقة واملجاز ،ودوران الدليل بني العموم واخل�صو�ص،
واختالف الرواية ،ودعوى الن�سخ وعدمه.
� -1أبو يعرب املرزوقي� ،شروط وحدة امل�سلمني و�شروط نه�ضتهم ال�ستئناف دورهم الكوين� ،ضمن
كتاب الإ�سالم يف عامل متغري� ،ص ،134وانظر عبد الرحمن بن خلدون ،املقدمة ،الباب الثالث،
الف�صل � ،26ص .374
-2ال�شاطبي ،املوافقات .153/4
128
وي�ؤكد �أي�ضا �أن «نقل اخلالف يف م�س�ألة ال خالف فيها خط�أ ،كما �أن نقل
الوفاق يف مو�ضع اخلالف ال ي�صح»((( ،ولهذا يورد �أ�سبابا ع�شرة ،يجعلها من
الأ�سباب التي �أوهمت باالختالف ،وهي لي�ست من م�سبباته ،هي:
1ـ �أن يذكر يف التف�سري عن النبي [ �أ�شياء متعددة� ،أو عن �أح��د من
�أ�صحابه� ،أو غريهم ،ويكون ذلك املنقول بع�ض ما ي�شمله اللفظ ،ثم يذكر
غري ذلك القائل �أ�شياء �أخر مما ي�شمله اللفظ ،فين�صهما املف�سرون على
ن�صهما على �أنه خالف؛ ومن ذلك ما ذكر يف �شرح كلمة «املن» من معان،
وجميعها تتفق على �أنها نعمة من اهلل.!
2ـ �أن يذكر يف النقل �أ�شياء تتفق يف املعنى ،بحيث ترجع �إلى معنى واحد،
فيكون التف�سري فيها على قول واحد ،ويوهم نقلها على اختالف اللفظ �أنه
خالف حمقق ،مثلما قيل يف «ال�سلوى» ،وتلتقي جميعها على �أنها طائر� ،سواء
اختلف �شكله� ،أم حجمه� ،أم لونه.
3ـ �أن يذكر �أحد الأق��وال على تف�سري اللغة ،ويذكر الآخ��ر على التف�سري
املعنوي ،وفرق بني تقرير الإعراب وتف�سري املعنى ،وهما معا يرجعان �إلى
حكم واحد؛ لأن النظر اللغوي راجع �إلى تقرير �أ�صل الو�ضع ،والآخر راجع
�إلى تقرير املعنى يف اال�ستعمال ،مثلما قيل يف قوله تعالى } :ﮰﮱ
ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ{
(الرعد ،)32 :فقيل داهية تفج�ؤهم ،وقيل �سارية من �سرايا ر�سول اهلل [،
وهما يتفقان يف الفاجعة.
4ـ �أن ال يتوارد اخلالف على حمل واح��د ،كاختالفهم يف �أن املفهوم له
عموم �أو ال؟
5ـ يخت�ص بخرب الآح��اد يف خا�صة �أنف�سهم ،كاختالف الأق��وال بالن�سبة
للإمام الواحد ،بناء على تغري االجتهاد والرجوع عما �أفتى به �إلى خالفه،
-1امل�صدر ال�سابق .155/4
129
فمثل هذا ال ي�صح �أن يعتد به خالفا يف امل�س�ألة ،لأن رجوع الإمام عن القول
الأول �إلى القول الثاين اطراح منه للأول ون�سخ له بالثاين .ويف هذا من بع�ض
املت�أخرين تنازع ،واحلق فيه ما ذكر �أوال .وال ينبغي �أن يذكر مثل هذا يف
م�سائل اخلالف.
6ـ �أن يقع االختالف يف العمل ال يف احلكم ،كاختالف القراء يف وجوه
ال�ق��راءات ،ف�إمنا وقع اخل�لاف بينهم يف االختيارات ،ولي�س يف احلقيقة
باختالف ،ف�إن املرويات على ال�صحة منها ال يختلفون فيها.
7ـ �أن يقع تف�سري الآي��ة �أو احلديث من املف�سر ال��واح��د على �أوج��ه من
االحتماالت ،ويبني على كل احتمال ما يليق به من غري �أن يذكر خالفا يف
الرتجيح ،بل على تو�سيع املعاين خا�صة .فهذا لي�س مب�ستقر خالفا.
8ـ �أن يقع اخلالف يف تنزيل املعنى الواحد ،فيحمله قوم على املجاز مثال،
وقوم على احلقيقة ،واملطلوب �أمر واحد ،كما يقع لأرباب التف�سري كثريا.
9ـ �أن يقع اخلالف يف الت�أويل ،و�صرف الظاهر عن مقت�ضاه �إلى ما دل
عليه الدليل اخلارجي ،ف�إن مق�صود كل مت�أول ال�صرف عن ظاهر
اللفظ �إ ل��ى وجه يتالقى مع الدليل املوجب للت�أويل ،وجميع الت�أويالت يف
ذلك �سواء ،فال خالف يف املعنى امل��راد ،وكثريا ما يقع هذا يف الظواهر
املوهمة للت�شبيه.
10ـ اخل�لاف يف جم��رد التعبري عن املعنى املق�صود ،وه��و متحد ،كما
اختلفوا يف اخلرب هل هو منق�سم �إلى �صدق وكذب خا�صة� ،أم َثم ق�سم ثالث
لي�س ب�صدق وال كذب؟ فهذا خالف يف العبارة ،واملعنى متفق عليه.
تلك ع�شرة �أ�سباب كاملة يرى ال�شاطبي �أنها من موجبات عدم االعتداد
باخلالف ،ثم �أوجب «�أن تكون على بال من املجتهد ،ليقي�س عليها ما �سواها،
فال يت�ساهل في�ؤدي ذلك �إلى خمالفة الإجماع»(((.
وبناء عليه ،يظهر �أن معرفة �أ�سباب االختالف ،وما يعتد به منها،
-1ال�شاطبي ،املوافقات .159/4
130
وما ال يعتد به ،مما ي�ساعد الدار�س على تبني �أدلة كل فريق ،والوقوف على
احلق منها ،ولعل �شدة الوعي بهذا وما يف معناه هو الذي «جعل ال�شاطبي
حري�صا منذ البداية على �أن يقدم املوافقات م�شروعا �إنقاذيا للتوفيق بعد
االختالف ،وللتوحيد بعد الت�شتت ،وعمال يبغي به درجة القطع ،وي�ستبدل
الظن باليقني»(((.
وبيان ذلك «�أن ال�شريعة راجعة �إلى قول واحد ..واالختالف يف م�سائلها
راجع �إلى دورانها بني طرفني وا�ضحني ..يتعار�ضان يف �أنظار املجتهدين،
و�إل��ى خفاء بع�ض الأدل��ة وع��دم االط�لاع عليه� .أم��ا ه��ذا الثاين فلي�س يف
احلقيقة خالفا� ،إذ لو فر�ضنا اطالع املجتهد على ما خفي عليه لرجع عن
قوله»(((؛ كما وقع مع الإمام مالك وغريه من املجتهدين؛ فكل جمتهد منهم
لقي جمتهدا �آخر واطلع على �أدلة مل تكن عنده رجع عن ر�أي��ه ،ويف ق�صة
الإمام �أبي يو�سف �صاحب �أبي حنيفة مع الإمام مالك يف املد وال�صاع ،خري
مثال ،حيث رجع �أبو يو�سف ملا الح له وجه ال�صواب.
ومن هنا ير�شدنا ال�شاطبي �إلى �ضرورة «املواالة والتحاب والتعاطف بني
املختلفني يف م�سائل االجتهاد ،حتى ال ي�صريوا �شيعا وال يتفرقوا فرقا؛ لأنهم
جمتمعون على طلب ق�صد ال�شارع ،(((»...ويعلل اختياره ب�أنهم «متفقون يف
�أ�صل التوجه هلل املعبود و�إن اختلفوا يف �أ�صناف التوجه»(((.
وملا كان ق�صد املجتهدين �إ�صابة مق�صد ال�شارع� ،صارت كلمتهم واحدة
وقولهم واح��د ًا ،ولأج��ل ذلك «ال ي�صح لهم وال ملن قلدهم التعبد بالأقوال
املختلفة ...لأن التعبد بها راج��ع �إل��ى اتباع الهوى ،ال �إل��ى حتري مق�صد
ال�شارع ،والأقوال لي�ست مق�صودة لأنف�سها بل ليتعرف منها املق�صد املتحد،
131
فال بد �أن يكون التعبد متحد الوجهة و�إال مل ي�صح»(((.
�إن ا�ستح�ضار �أ�صالة التعبد من طرف ال�شاطبي فيما ات�سمت به �أحكام
ال�شريعة الإ�سالمية ،ومراعاته يف عملية �ضبط التوجه املقا�صدي يعد التفاتة
نبيه و�إ�شارة لبيب �إلى حمورية هذا املدخل الرباين يف التقليل من االختالف
بني املت�صدرين لالجتهاد داخل املذهب الواحد� ،أو داخل الإطار املذهبي
للفكر الإ�سالمي على مر التاريخ.
ويف هذا ال�سياق وحتت هذا املفهوم الرباين ،يجب بناء العقل املقا�صدي
اجلماعي الذي ي�شرتك فيه كل م�سلم قادر على العطاء ليكون منا�سب ًا
لو�ضع ال�شريعة ،وبذلك تتفتح العقول وتذوب اخلالفات وتتقارب وجهات
النظر ،وتندحر البدع والأخ�ط��اء ،وت�صحو الأم��ة من �سباتها العميق،
ويتقهقر التقليد الأعمى ،ونتعامل مع املتغريات وامل�ستحدثات ب�أ�ساليب
جديدة قائمة على التفكري واال�ستنتاج والربهان وحتقيق املقا�صد والغايات
ال�سامية حتى ن�ستنبط الأحكام املنا�سبة لكل جديد حلل م�شكالت هذا
املجتمع املعا�صر وق�ضاياه.
وه��ذا ما �أك��ده ال�شاطبي ب�أ�سلوب رائ��ع عندما اعترب �أن «...انحراف
اخلوارج بفرقها وطوائفها و�ضالل املبتدعة ب�صنوفها نابع من وقوفهم
عند اتباع ظواهر القر�آن على غري تدبر وال نظر يف مقا�صده ومعاقده...
فمدار الغلط� ...إمن��ا هو على حرف واح��د هو اجلهل مبقا�صد ال�شرع،
وعدم �ضم �أطرافه بع�ضها لبع�ض .ف�إن م�آخذ الأدلة عند الأئمة الرا�سخني
�إمنا هو �أن ت�ؤخذ ال�شريعة كال�صورة الواحدة بح�سب ما ثبت من كلياتها،
وجزئياتها املرتبة عليها ...ف�ش�أن الرا�سخني ت�صور ال�شريعة �صورة واحدة
يخدم بع�ضها بع�ضا ك�أع�ضاء الإن�سان �إذا �صورت �صورة مثمرة ...و�ش�أن
متبعي املت�شابهات �أخذ دليل ما ،عفوا و�أخذا �أوليا ،و�إن كان ثم ما يعار�ضه
132
من كلي �أو جزئي ،فكان الع�ضو الواحد ال يعطي يف مفهوم �أحكام ال�شريعة
حكما حقيقيا.(((»...
وقد خل�ص ال�شاطبي �إلى و�ضع قاعدة ح�سنة يف هذا املعنى ،يقول فيها:
«كل م�س�ألة حدثت يف الإ�سالم فاختلف النا�س فيها ومل يورث ذلك االختالف
بينهم عداوة وال بغ�ضاء ،وال فرقة علمنا �أنها من م�سائل الإ�سالم .وكل م�س�ألة
طر�أت ف�أوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا �أنها لي�ست من
�أمر الدين يف �شيء ...وهو ظاهر يف �أن الإ�سالم يدعو �إلى الألفة والتحاب
والرتاحم والتعاطف؛ فكل ر�أي �أدى �إلى خالف ذلك فخارج عن الدين»(((.
من هذا املنطلق ،كان ال بد من البحث يف علم مقا�صد ال�شريعة ،ومعرفة
�أدلته واال�ستفادة منه لبناء الأحكام على �ضوئه دون �إفراط وال تفريط،
مطردة ومو�صلة بل لقد جعل اهلل ال�سنن والأ�سباب والنوامي�س والقوانني ّ
�إلى حتقيق املقا�صد والنتائج ،وطلب من العقل امل�سلم ا�ستيعاب هذه ال�سنن
والأ�سباب بعد �أن �شرعها له وخاطبه بها ،وجعل التعامل معها هو غاية
التكليف ،ودلل على فعاليتها بالعربة التاريخية ،واحلجة املنطقية ،والربهان
املح�سو�س ،وناط النجاح يف الدنيا والفوز يف الآخرة بالقدرة على ا�ستيعاب
هذه الأ�سباب وح�سن ت�سخريها والتعامل معها ،وعدم الركون واال�ست�سالم
أحب �إلى اهلل ،وبذلك يرب�أ امل�سلم من علل التدين
بقد ٍر � ُّ
قدر َللقدر بل مدافع ُة َ
التي حلقت بالأمم ال�سابقة.
وبناء عليه؛ فاحلر�ص على ا�ستق�صاء عملية �ضبط التوجه واالجتهاد
املقا�صدي� ،أمر ي�صل حد ال�ضرورة .فالأ�صل �أن ترتبط الأ�سباب مب�سبباتها،
واملقدمات بنتائجها .والعجز عن توقع النتائج البعيدة من جراء التوغل
والإف��راط يف التوجه املقا�صدي على غري �ضابط �أو رابط ،ميكن �أن ي�سوق
�إلى تق�صري �أو خلل كبري ي�صل حد منازلة املقا�صد الأ�سا�سية ذاتها بنا ًء على
فهم خم ّل �أو ت�أويل فو�ضوي قا�صر.
-1ال�شاطبي ،املوافقات 174/4
-2امل�صدر ال�سابق 134/4ـ.135
133
خامتة
كان الق�صد من خالل هذه الرحلة �إعطاء �سمة واقعية ومنوذجية ووظيفية
يف �آن حول �أثر مقا�صد ال�شريعة يف املنهج الأ�صويل ،ب�شكل يبو�ؤها املكان
الأليق يف جماالت االجتهاد الفقهي مبختلف م�ستوياته.
ولئن غدا احلديث عن مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية اليوم معهودا وحممودا
يف حمافلنا البحثية ،ف�إننا ال ن��زال يف �شديد احلاجة �إل��ى خطو خطوات
مقدورة لرفع و�ضبط �صرح الك�شف عن هذه املقا�صد ال�شرعية يف خمتلف
مناحي الك�سب الإن�ساين �إفرادا واجتماعا؛ وم ّد اجل�سور املنهجية �إلى جمال
�آخر مت�س احلاجة فيه �إلى هذا الوعي املقا�صدي املنهاجي� ،أق�صد تدبري
االختالف ،والذي ال تخفى فيه النطاقات العديدة التي �سوف تتم بلورتها
وظيفيا با�ستح�ضار البحث املقا�صدي فيها و�إدماجه �أثناء معاجلتها.
من جهة ثانية ,ف�إن الفكر الإ�سالمي املعا�صر قد �أ�صبح عر�ضة ـ �أكرث من
�أي وقت م�ضى ـ لت�أثريات قوية نافذة من الفكر الغربي احلديث ،مما يو�سع
من احتماالت االختالف والتباعد ،لي�س بني رواده ومدار�سه فح�سب ،ولكن
التباعد حتى عن بع�ض �ضوابط الإ�سالم ومقت�ضياته وعن �صبغته وطبيعته.
ومقا�صد ال�شريعة مبا تت�ضمنه وتربزه من كليات وثوابت ،ومن �شمولية
وتنا�سق يف النظر �إلى الأمور ،ومبا تت�ضمنه من مراتب و�أولويات هي خري
م�ؤ�س�س وموجه وموحد للفكر الإ�سالمي يف خمتلف الق�ضايا التي يواجهها
ويعاجلها اليوم� ،سواء منها العقدية� ،أو االجتماعية� ،أو االقت�صادية،
�أو الرتبوية� ،أو ال�سيا�سية ...وال نبالغ �إذا قلنا �إن «الفكر ا لإ�سالمي»
ال يكون جديرا بهذه ال�صفة �إال بقدر ما يتمثل مقا�صد ال�شريعة وي�صطبغ
بها ،ويرتجمها �إلى �إجابات وحلول لق�ضايا الع�صر و�إ�شكاالته وحتدياته يف
العديد من الق�ضايا ويف مقدمتها ق�ضايا حقوق الإن�سان ،وحقوق الطفل،
وم�شاكل البيئة ،والتلوث النووي ،والتنمية االجتماعية ،وغريها.
134
وال يخفى �أن القول يف مقا�صد ال�شريعة وحتديدها وتعيينها وترتيبها
حينما ي�صبح عمال علميا دقيقا وم�ضبوطا له �أ�صوله وم�سالكه وقواعده ،ف�إن
ذلك ميكن الدار�سني من التقدم بثبات وثقة يف طريق الك�شف عن مقا�صد
الأحكام� ،إمتاما ورمبا ت�صحيحا ـ ملا قام به �أ�سالفنا من فقهاء ،وغريهم،
على مر الع�صور.
واهلل من وراء الق�صد ،وهو يهدي �إلى �سواء ال�سبيل...
135
الئحة امل�صادر واملراجع
* ال�سنة وعلومها:
�-سنن �أبي داود ،للإمام �أبي داود �سليمان بن الأ�شعت ال�سج�ستاين الأزدي
(ت275هـ) ،مطبعة املكتبة التجارية الكربى( ،بال تاريخ).
�-سنن اب���ن م��اج��ة ،ل�ل�إم��ام �أب��ي عبد اهلل حممد ب��ن يزيد ب��ن ماجة
(ت273هـ) ،حتقيق حممد ف�ؤاد عبد الباقي ،ن�شر مطبعة عي�سى احللبي،
(بال تاريخ).
�-سنن الن�سائي ،لأبي عبد الرحمان الن�سائي (ت 303هـ) ،حتقيق ال�شيخ
عبد الفتاح �أبي غدة ،طبعة مكتب املطبوعات الإ�سالمية ،حلب ،الطبعة
الثانية1406 ،هـ1986/م.
�-صحيح البخاري ،للإمام �أبي عبد اهلل حممد بن �إ�سماعيل البخاري
حتقيق قا�سم ال�شماعي الرفاعي ،دار القلم الطبعة الأولى 1407هـ.
�-صحيح م�سلم ،ل�ل�إم��ام �أب��ي احل�سني م�سلم ب��ن احل�ج��اج الق�شريي
الني�سابوري(ت 261هـ) ،حقق ن�صو�صه و�صححه ورقمه وع ّد كتبه و�أبوابه
و�أحاديثه ،وعلق عليه حممد ف ��ؤاد عبد الباقي ،دار احلديث بالقاهرة،
الطبعة الأولى 1412هـ1991/م.
-املوط�أ ،للإمام مالك بن �أن�س (ت179هـ) ،حتقيق وتخريج حممد ف�ؤاد
عبد الباقي ،طبعة عي�سى احللبي1370 ،هـ1951/م.
136
(ت 756هـ) وولده تاج الدين عبد الوهاب بن علي ال�سبكي (ت 771هـ)،
طبع دار الكتب العلمية ،الطبعة الأولى 1404هـ1984/م.
�-أثر االختالف يف القواع ّد الأ�صولية يف اختالف الفقهاء ،ت�أليف الدكتور
م�صطفى اخلن ،طبع م�ؤ�س�سة الر�سالة ،الطبعة الثانية 1424هـ2003/م.
-االجتهاد املقا�صدي ،حجيته ،و�ضوابطه ،وجماالته ،ت�أليف نور الدين
بن خمتار اخلادمي ،كتاب الأمة ع ّدد ،66قطر ،الطبعة الأولى 1998م.
-الإحكام يف �أ�صول الأحكام ،للإمام �سيف الدين �أبي احل�سن علي بن
حممد الآم��دي (ت631ه��ـ) ،قابلها على مطبوعة املعارف امل�صرية ،دار
الكتب اخلديوية ورقمها حممد �أحمد الأمد ،ن�شر دار �إحياء الرتاث العربي،
بريوت ،الطبعة الأولى 1423هـ2002/م.
�-أدوات النظر االجتهادي املن�شود يف �ضوء الواقع املعا�صر ،ت�أليف الدكتور
قطب م�صطفى �سانو ،ن�شر دار الفكر ،الطبعة الأولى 1421هـ2000/م.
�-إر���ش��اد الفحول �إىل حتقيق احل��ق م��ن علم الأ���ص��ول ،ت�أليف الإمام
حممد بن علي ال�شوكاين (ت 1250هـ) ،مطبعة م�صطفى احللبي ،الطبعة
1356هـ.
�-أ�صول الت�شريع الإ�سالمي ،ت�أليف الأ�ستاذ علي ح�سب اهلل ،دار املعارف
مب�صر ،الطبعة اخلام�سة 1396هـ1976/م.
�-أ���ص��ول ال�سرخ�سي ،ل�ل�إم��ام �أب��ي بكر حممد بن �أحمد بن �أب��ي �سهل
ال�سرخ�سي(ت490هـ) حققه �أبو الوفاء الأفغاين ،عنيت بن�شره جلنة �إعياء
املعارف النعمانية بحيدر �آباد الدكن بالهند ،بال تاريخ.
�-أ�صول الفقه ،ت�أليف ال�شيخ حممد �أبي زهرة ،ن�شر دار الفكر العربي،
(بال تاريخ).
�-أ�صول الفقه ،ت�أليف م�صطفى �شلبي ،طبع دار النه�ضة العربية ،بريوت،
الطبعة الثانية 1978م.
137
�-أ�صول الفقه الإ�سالمي منهج بحث ومعرفة ،ت�أليف الدكتور طه جابر
العلواين ،ن�شر العهد العاملي للفكر الإ�سالمي هريندن ،فريجينيا ،الواليات
املتحدة ،الطبعة الأولى 1408هـ1988/م.
-االعت�صام ،للإمام �أبي �إ�سحاق �إبراهيم بن مو�سى ال�شاطبي (790هـ)،
مطبعة املنار مب�صر ،الطبعة الأولى 1331ه�ـ1913/م ،وفيه مقدمة لل�شيخ
حممد ر�شيد ر�ضا.
-االعت�صام ،لأبي �إ�سحاق �إبراهيم بن مو�سى ال�شاطبي (790هـ)( ،وهو
املعتمد يف هذا البحث) ،حتقيق �سيد �إبراهيم ،طبع دار احلديث القاهرة،
الطبعة الأولى 1421هـ2000/م.
-االعت�صام بال�شريعة ،ت�أليف ال�شيخ طارق ال�شاخمي ،ن�شر املركز العربي
للبحوث والرتجمة ،الطبعة الأولى 1421هـ2000/م.
�-إعالم املوقعني عن رب العاملني ،للإمام �شم�س الدين حممد بن �أبي بكر
امل�شهور بابن القيم (ت 751هـ) ،حتقيق ع�صام الدين ال�صبابطي ،ن�شر دار
احلديث بالقاهرة ،الطبعة الأولى 1414هـ1993/م.
-الإن�صاف يف بيان �أ�سباب االختالف يف الأحكام الفقهية ،ت�أليف �أحمد
بن عبد الرحيم امل�شهور ب�شاه ويل اهلل الدهلوي ،طبع املطبعة ال�سلفية،
القاهرة1385 ،هـ.
-البحر املحيط يف �أ���ص��ول الفقه ،للإمام بدر الدين حممد بن بهادر
بن عبد اهلل الزرك�شي (ت794هـ)� ،ضبط وتخريج وتعليق :الدكتور حممد
حممد تامر ،طبع دار الكتب العلمية ،الطبعة الأولى 1421هـ2000/م.
-بداية املجتهد ونهاية املقت�صد ،للإمام �أبي الوليد حممد بن �أحمد ابن
ر�شد (ت 595هـ) ،حتقيق ال�شيخ علي حممد معو�ض ،وال�شيخ عادل �أحمد
عبد املوجود ،ن�شر دار الكتب العلمية ،الطبعة الأولى 1422هـ2002/م.
138
-البدعة وامل�صالح املر�سلة ،بيانها ،ت�أ�صيلها� ،أقوال العلماء فيها ،ت�أليف
الدكتور توفيق يو�سف الواعي ،ن�شر مكتبة دار ال�تراث ،الكويت ،الطبعة
الأولى 1404هـ1984/م.
-الربهان يف �أ�صول الفقه ،لأبي املعايل عبد امللك بن عبد اهلل اجلويني
(ت 478هـ) ،طبع دار الوفاء ،املن�صورة ،الطبعة الثالثة 1992م.
-التجديد واملجددون يف �أ�صول الفقه ،ت�أليف �أبي الف�ضل عبد ال�سالم
بن حممد بن عبد الكرمي ،ن�شر املكتبة الإ�سالمية ،الطبعة الأولى .2001
-الثابت واملتغري يف فكر الإم��ام �أب��ي �إ�سحاق ال�شاطبي ،ت�أليف جمدي
حممد حممد عا�شور ،ن�شر دار البحوث للدرا�سات الإ�سالمية و�إحياء الرتاث،
الطبعة الأولى1423 ،هـ2002/م.
-اخلطاب ال�شرعي وط��رق ا�ستثماره ،ت�أليف الدكتور �إدري�س حمادي،
ن�شر املركز الثقايف العربي ،الطبعة الأولى 1994م.
-درا�سات يف االجتهاد وفهم الن�ص ،ت�أليف الدكتور حممد ال�سو�سوه ،ن�شر
دار الب�شائر الإ�سالمية ،الطبعة الأولى 1424هـ2003/م.
-درا�سات يف �أ�صول الفقه الإ�سالمي ،ت�أليف با بكر احل�سن ،ن�شر مكتبة
الزهراء ،الطبعة الأولى 1422هـ2001/م.
-درا�سة تاريخية للفقه و�أ�صوله واالجتاهات التي ظهرت فيه ،ت�أليف
م�صطفى �سعيد اخلن ،ن�شر ال�شركة املتحدة للتوزيع ،دم�شق طبعة 1984م.
-الر�سالة ،للإمام �أبي عبد اهلل حممد بن �إدري�س ال�شافعي (ت 204هـ)،
حتقيق و�شرح �أحمد حممد �شاكر ،طبع دار الفكر (بال تاريخ).
-ال�شاطبي ومقا�صد ال�شريعة ،ت�أليف الدكتور حمادي العبيدي ،ن�شر دار
قتيبة ،الطبعة الأولى 1412هـ1992/م.
139
�-شرح تنقيح الف�صول يف اخت�صار املح�صول ،ت�أليف الإمام �شهاب الدين
�أب��ي العبا�س �أحمد اب��ن �إدري����س ال�ق��رايف( ،ت 684ه��ـ) ،حتقيق طه عبد
الر�ؤوف �سع ّد ،ن�شر دار الفكر ومكتبة الكليات الأزهرية ،القاهرة ،الطبعة
الأولى1393 ،هـ1973/م.
�-شرح الكوكب املنري ،ت�أليف حممد بن �أحمد الفتوحي املعروف بابن
النجار (ت972ه �ـ) ،حتقيق حممد الزحيلي ،ونزيه حماد ،ن�شر مكتبة
العبيكان ،طبعة 1413هـ1993/م.
-فتاوى الإم���ام ال�شاطبي� ،أب��ي �إ�سحاق �إبراهيم بن مو�سى الأندل�س
�صاحب املوافقات ،واالعت�صام ،حققها وقدم لها حممد �أبو الأجفان -وهي
من جمعه ال من ت�صنيف ال�شاطبي -الطبعة الثالثة 1408هـ1987/م.
-الفروق ،للإمام �شهاب الدين �أحمد بن �إدري�س القرايف ،ومعه حا�شية
�سراج الدين �أبي القا�سم ابن ال�شاط امل�سماة «�إدرار ال�شروق على �أنواء
الفروق» ن�شر دار املعرفة (بال تاريخ).
-فقه املقا�صد و�أث���ره يف الفكر النوازيل ،ت�أليف الدكتور عبد ال�سالم
الرفعي ،ن�شر �إفريقيا ال�شرق ،طبعة 2004م.
-الفكر الأ���ص��ويل ،درا���س��ة حتليلية نقدية ،للدكتور عبد الوهاب �أبي
�سليمان ،ن�شر دار ال�شروق ،الطبعة الثانية 1404هـ1984/م.
-الفكر الأ�صويل و�إ�شكالية ال�سلطة العلمية يف الإ�سالم ،قراءة يف ن�ش�أة
علم الأ�صول ومقا�صد ال�شريعة ،ت�أليف الدكتور عبد املجيد ال�صغري ،ن�شر
دار املنتخب العربي ،بريوت ،الطبعة الأولى 1994م.
-الفكر ال�سامي يف تاريخ الفقه الإ�سالمي ،ت�أليف حممد بن احل�سن
احلجوي الثعالبي الفا�سي (ت 1376هـ) ،اعتنى به �أمين �صالح �شعبان ،ن�شر
دار الكتب العلمية ،الطبعة الأولى 1416هـ1995/م.
-الفكر الفقهي ومنطلقات علم �أ���ص��ول الفقه ،ت�أليف الدكتور �أحمد
140
اخلملي�شي ،ن�شر مطبعة املعارف اجلديدة ،الرباط طبعة 2000م.
-قواطع الأدلة يف الأ�صول ،ت�أليف الإمام �أبي املظفر من�صور بن حممد
بن عبد اجلبار ال�سمعاين (ت 489ه �ـ) ،حتقيق حممد ح�سن �إ�سماعيل
ال�شافعي ،ن�شر دار الكتب العلمية ،الطبعة الأولى 1418هـ1997/م.
-القواع ّد ال�صغرى املعروف مبخت�صر الفوائد يف �أحكام املقا�صد ،لأبي
حممد العز ابن عبد ال�سالم (ت660هـ) ،حتقيق الدكتور �صالح �آل من�صور،
دار الفرقان ،الطبعة الأولى 1997م.
-القواع ّد الكربى �أو قواع ّد الأحكام يف �إ�صالح الأنام ،لأبي حممد عز
الدين بن عبد العزيز بن عبد ال�سالم (ت 660هـ) ،حتقيق الدكتور نزيه
كمال حماد والدكتور عثمان جمعة �ضمريي ،ن�شر دار القلم دم�شق ،الطبعة
الأولى 1421هـ.2000/
-املح�صول يف علم �أ���ص��ول الفقه ،للإمام فخر الدين حممد بن عمر
ال��رازي (ت 606ه �ـ) ،درا�سة وحتقيق الدكتور طه جابر العلواين ،ن�شر
م�ؤ�س�سة الر�سالة بريوت ،الطبعة الأولى 1412هـ1992/م.
-مدخل �إىل مقا�صد ال�شريعة ،ت�أليف الدكتور �أحمد الري�سوين ،ن�شر
مطبعة التوفيق ،الرباط ،الطبعة الثانية 1417هـ1997/م.
-امل�ست�صفى يف علم الأ�صول ،لأبي حامد الغزايل (ت 505ه �ـ) ،طبعه
و�صححه حممد عبد ال�سالم عبد ال�شايف ،ن�شر دار الكتب العلمية ،طبعة
1417هـ1996/م.
-م�سرية الفقه الإ�سالمي املعا�صر ومالحمه ،ت�أليف الدكتور �شوي�ش
هزاع علي املحاميد ،ن�شر دار عمار الطبعة الأولى 1422هـ2001/م.
-امل�صطلح الأ�صويل عند ال�شاطبي ،ت�أليف الدكتور فريد الأن�صاري،
ن�شر املعهد العاملي للفكر الإ�سالمي ،ومعهد الدرا�سات امل�صطلحية ،الطبعة
الأولى 1424هـ2004/م.
141
-م�صطلحات �أ�صولية يف كتاب املوافقات لل�شاطبي ،بحث مقدم لنيل
دبلوم الدرا�سات العليا يف الدرا�سات الإ�سالمية من كلية الآداب بالرباط،
نوق�ش �سنة 1990م� ،إع ّداد فريد الأن�صاري (مرقون).
-املعتمد يف �أ���ص��ول الفقه ،لأب��ي احل�سني حممد ب��ن علي ب��ن الطيب
الب�صري املعتزيل( ،ت 436هـ) ،حتقيق حممد حميد اهلل بتعاون مع حممد
بكر وح�سن حنفي ،ن�شر دار الفكر ،طبعة 1384هـ1964/م.
-مقا�صد ال�شريعة ،حترير عبد اجلبار الرفاعي ،ن�شر دار الفكر ،الطبعة
الأولى 1422هـ2002/م.
-مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية ،لل�شيخ حممد الطاهر بن عا�شور (ت
1393هـ) ،ن�شر ال�شركة التون�سية للتوزيع ،تون�س ،الطبعة الثالثة 1988م.
-مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية ،وعالقتها بالأدلة الت�شريعية ،ت�أليف
حممد �سعيد اليوبي ،ن�شر دار الهجرة ،ال�سعودية ،الطبعة الأولى 1998م.
-مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية ومكارمها ،ت�أليف الأ�ستاذ عالل الفا�سي
(ت 1394هـ) ،ن�شر مكتبة الوحدة العربية ،الدار البي�ضاء (بال تاريخ).
-مقا�صد ال�شريعة اخلا�صة بالت�صرفات املالية ،ت�أليف الدكتور عز الدين
بن زغيبة ،قدم له وراجعه الدكتور نور الدين �صغريي ،ن�شر مركز جمعية
املاجد للثقافة والرتاث ،دبي ،الطبعة الأولى 1422هـ2001/م.
-مقا�صد ال�شريعة :نحو �إطار للبحث يف العلوم االجتماعية والإن�سانية،
حترير د .عبد اهلل حممد الأمني النعيم ،دار الفكر ،ط2009 ،1م.
-مقا�صد ال�شريعة وق�ضايا الع�صر ،جمموعة �أبحاث ،م�ؤ�س�سة الفرقان
للرتاث الإ�سالمي ،ط 2007 ،1م.
-املقا�صد العامة لل�شريعة الإ�سالمية ،ت�أليف الدكتور يو�سف حامد
العامل ،دار احلديث القاهرة( ،بال تاريخ).
142
-امل��ن��اه��ج الأ���ص��ول��ي��ة يف االج��ت��ه��اد ب���ال���ر�أي يف ال��ت�����ش��ري��ع الإ�سالمي،
ت��أل�ي��ف ال��دك�ت��ور حممد فتحي ال��دري�ن��ي ،ن�شر م�ؤ�س�سة الر�سالة طبعة
1418هـ1997/م.
-منهج الأ�صوليني يف بحث الداللة اللفظية الو�ضعية ،ت�أليف مولود
ال�سريري ،ن�شر دار الكتب العلمية ،الطبعة الأولى 1424هـ2003/م.
-م��ن��ه��ج ال���در����س ال�����داليل ع��ن��د الإم������ام ال�����ش��اط��ب��ي ،ت��أل�ي��ف الدكتور
العلمي ،طبع وزارة الأوق��اف وال�ش�ؤون الإ�سالمية باململكة املغربية ،طبعة
1422هـ2001/م.
-املوافقات ،لأب��ي �إ�سحاق �إبراهيم بن مو�سى ال�شاطبي (ت 790هـ)،
�ضبط ن�صه وقدم له وعلق عليه وخرج �أحاديثه �أبو عبيدة ،م�شهور بن ح�سن
�آل �سلمان ،ن�شر دار ابن عفان للن�شر والتوزيع ،ال�سعودية ،الطبعة الأولى
1417هـ 1997/م.
-املوافقات يف �أ�صول ال�شريعة ،لأبي �إ�سحاق �إبراهيم بن مو�سى ال�شاطبي
(ت 790ه �ـ) ،ب�شرح ال�شيخ عبد اهلل دراز (بال تاريخ)– .وهي الطبعة
املعتمدة يف هذا البحث.-
-نحو تفعيل مقا�صد ال�شريعة ،ت�أليف الدكتور جمال الدين عطية ،ن�شر دار
الفكر واملعهد العاملي للفكر الإ�سالمي ،الطبعة الأولى 1422هـ2001/م.
-نظرية التقعيد الفقهي و�أثرها يف اختالف الفقهاء ،ت�أليف الدكتور
حممد الروكي ،من�شورات كلية الآداب الرباط� ،سل�سلة ر�سائل و�أطروحات
رقم ،25مطبعة النجاح اجلديدة بالدار البي�ضاء ،الطبعة الأولى 1994م.
-نظرية املقا�صد عند الإمام ال�شاطبي ،ت�أليف الدكتور �أحمد الري�سوين،
ن�شر دار الكلمة للن�شر وال �ت��وزي��ع ،امل�ن���ص��ورة ،م�صر ،الطبعة الأول��ى
1418هـ1997/م.
143
-نظرية املقا�صد عند الإمام حممد الطاهر بن عا�شور ،ت�أليف الدكتور
�إ�سماعيل ح�سني ،من�شورات املعهد العاملي للفكر الإ�سالمي وا�شنطن ،الطبعة
الأولى 1995م.
-الو�سيط يف قواع ّد فهم الن�صو�ص ال�شرعية ،ت�أليف الدكتور عبد الهادي
الف�ضلي ،ن�شر م�ؤ�س�سة االنت�شار العربي ،الطبعة الأولى 2001م.
* كتب خمتلفة
-الأث��ر ال�شاطبي يف الفكر ال�سلفي باملغرب ،ت�أليف عبد اجلليل بادو،
من�شورات �سليكي� ،إخوان (بال تاريخ).
�-أ�سرار البالغة ،للإمام عبد القاهر اجلرجاين� ،صححها وعلق على
حوا�شيها حممد ر�شيد ر�ضا ،ن�شر دار املعرفة ب�يروت ،الطبعة الثانية
1398هـ1978/م.
�-ألي�س ال�صبح بقريب ،ت�أليف ال�شيخ حممد بن عا�شور ،ن�شر ال�شركة
التون�سية لفنون الر�سم ،الطبعة الثانية 1408هـ1988/م.
-جتديد املنهج يف تقومي الرتاث ،ت�أليف الدكتور طه عبد الرحمان ،ن�شر
املركز الثقايف العربي ،الطبعة الأولى 1994م-.تف�سري املنار ،لل�شيخ حممد
ر�شيد ر�ضا( ،ت 1923م) ،ن�شر مطبعة حجازي (بال تاريخ).
-تكوين العقل العربي ،ت�أليف الدكتور حممد عابد اجلابري ،ن�شر املركز
الثقايف العربي ،الطبعة الرابعة 1991م.
-حفريات املعرفة العربية الإ�سالمية ،التعليل الفقهي ،ت�أليف الدكتور
�سامل يفوت ،ن�شر دار الطليعة للطباعة والن�شر ،الطبعة الأولى 1990م.
-ف�صول يف الفكر الإ�سالمي باملغرب ،ت�أليف الدكتور عبد املجيد النجار،
ن�شر دار الغرب الإ�سالمي ،الطبعة الأولى 1992م.
-القيم ال�ضرورية ومقا�صد الت�شريع الإ�سالمي ،ت�أليف الدكتور فهمي
حممد علوان ،طبعة الهيئة امل�صرية العامة للكتاب 1989م.
144
-املقدمة،البن خلدون (ت808هـ) ،ن�شر دار القلم بريوت ،الطبعة الرابعة
1981م.
-مناظرات يف �أ�صول ال�شريعة الإ�سالمية بني ابن حزم والباجي ،ت�أليف
الدكتور عبد املجيد تركي ،ترجمة وحتقيق الدكتور عبد ال�صبور �شاهني،
مراجعة حممد عبد احلليم حممود ،ن�شر دار الغرب الإ�سالمي ،الطبعة
الأولى 1406هـ1984/م.
* مقاالت و�أبحاث علمية.
�-أ�صالة الإمام ال�شاطبي يف املغرب جذريا وثقافيا ،مقال للأ�ستاذ اجلياليل
عبد الرحمان من�شور مبجلة املوافقات ،الع ّدد 1ذو احلجة 1412هـ.
-التقعيد املعريف ملقا�صد ال�شريعة ،مقال للأ�ستاذ عبد الرزاق اجلربات،
من�شور مبجلة النب�أ ،الع ّدد ،42ذو القع ّدة 1420هـ.
-جلب امل�صالح ودرء املفا�سد ،مقال للأ�ستاذ علي العمرييني ،من�شور
مبجلة جامعة الإمام حممد بن م�سعود يف ال�سعودية ،الع ّدد 1412 ،5هـ.
-حفريات يف م�صطلح مقاربة �أولية ،مقال للدكتور حممد عابد اجلابري،
من�شور مبجلة املناظرة ،الع ّدد ،6ال�سنة الرابعة ،رجب 1414ه �ـ ،دجنرب
1993م.
-ال�صراع الفكري وانعكا�ساته على ال�شعر الأندل�سي (القرن الثامن
منوذجا) ،بحث للدكتور عبد احلميد عبد اهلل الهرامة �ضمن �أعمال ملتقى
الدرا�سات املغربية الأندل�سية ،تيارات الفكر يف املغرب والأندل�س ،الروافد،
املنظم �أيام � 28-27-26أبريل 1993م ،من�شورات كلية الآداب جامعة عبد
املالك ال�سع ّدي ،تطوان.
-علم �أ���ص��ول الفقه وع��ل��م امل��ق��ا���ص��د ،م��و���ض��وع��ات مقرتحة للر�سائل
والأط��روح��ات اجلامعية ،مقال للدكتور �أحمد الري�سوين ،من�شور مبجلة
�إ�سالمية املعرفة ،الع ّدد 16ربيع 1419هـ1999/م.
145
-عناية الأ�صوليني بامل�صطلح ،بحث للأ�ستاذ عبد الرحمان الزخنيني،
من �أعمال ندوة الدرا�سة امل�صطلحية والعلوم الإ�سالمية ،اجلزء الثاين،
كمطبعة املعارف 1996م.
-فل�سفة مقا�صد الت�شريع يف الفقه الإ�سالمي و�أ�صوله ،مقال للأ�ستاذ
بابكر احل�سن ،من�شور مبجلة كلية ال�شريعة والقانون ،جامعة الإم��ارات
العربية املتحدة ،الع ّدد � ،1سنة 1978م.
-قراءة يف كتاب «مقا�صد ال�شريعة عند الإمام ال�شاطبي» ت�أليف حممد
خالد م�سعود ،مقال للأ�ستاذ نعمان جغيم ،من�شور مبجلة �إ�سالمية املعرفة،
الع ّدد 15ال�سنة � ،4شتاء 1419هـ1999/م.
-ق��راءة يف امل�صطلح الأ���ص��ويل ،من��وذج م�صطلح «�أ�صول الفقه» ،مقال
للأ�ستاذ حممد �أبي غامن ،من�شور �ضمن �أعمال ندوة الدرا�سة امل�صطلحية
والعلوم الإ�سالمية ،اجلزء الثاين ،مطبعة املعارف 1996م.
-م�شروع جتديد علمي ملبحث مقا�صد ال�شريعة ،مقال للدكتور طه عبد
الرحمان ،من�شور مبجلة امل�سلم املعا�صر ،الع ّدد ،103ال�سنة � ،26شوال-ذو
القع ّدة-ذو احلجة 1422هـ/يناير –فرباير-مار�س 2002م.
-مقا�صد ال�شريعة و�أه��داف الأمة ،مقال للدكتور ح�سن حنفي ،من�شور
مبجلة امل�سلم املعا�صر ،الع ّدد ،103ال�سنة � 26شوال-ذو القع ّدة-ذو احلجة
1422هـ ،يناير-فرباير-مار�س 2002م.
-من قراء كتاب اهلل ،ال�شاطبي ،مقال للأ�ستاذ �أحمد �أحمد بدوي من�شور
مبجلة الر�سالة ،الع ّدد ،966ال�سنة 20ربيع الآخر 1379هـ ،يناير 1952م.
-منهاج فهم الكتاب وال�سنة عند الإمام ال�شاطبي ،مقال للأ�ستاذ ميلود
الفرجي ،من�شور مبجلة املوافقات ،الع ّدد 3ذو احلجة 1414هـ.
146
-منهج فقه املوازنات يف ال�شريعة الإ�سالمية ،بحث للدكتور عبد املجيد
حممد �إ�سماعيل ال�سو�سرة ،من�شور مبجلة البحوث الفقهية ،الع ّدد ،51ال�سنة
13ربيع الآخر-جمادى الأولى-جمادى الآخرة 1422هـ.
-موافقات �أبي �إ�سحاق وا�ستمرارية ت�أثريها يف م�ؤلفات الع�صر احلديث،
مقال للعالمة حممد املنوين ،من�شور مبجلة املوافقات ،الع ّدد 1ذو احلجة
1412هـ.
-م��وق��ع امل��ق��ا���ص��د ال�����ش��رع��ي��ة يف امل��ن��ه��ج�ين ال��ف��ه��م��ي وال��ت��ط��ب��ي��ق��ي عند
الأ�صوليني ،مقال للأ�ستاذ عبد الرحيم الع�ضراوي ،من�شور مبجلة الإحياء،
الع ّدد 13رم�ضان 1419هـ ،يناير 1999م.
-نحو تفعيل مقا�صد ال�شريعة (مدخل تنظريي) ،بحث للدكتور جمال
الدين عطية ،من�شور مبجلة امل�سلم املعا�صر ،الع ّدد ،103ال�سنة � 26شوال-
ذو القع ّدة-ذو احلجة 1422هـ ،يناير-فرباير-مار�س 2002م.
-نحو منهج جديد لدرا�سة علم �أ�صول الفقه ،مقال للأ�ستاذ حممد
الد�سوقي ،من�شور مبجلة �إ�سالمية املعرفة ،الع ّدد ،3ال�سنة 1رم�ضان
1416هـ ،يناير 1696م.
-نظرات يف تطور �أ�صول الفقه ،مقال للدكتور طه جابر العلواين ،من�شور
مبجلة �أ�ضواء ال�شريعة بالريا�ض الع ّدد .10
-نظرة يف املقا�صد ال�شرعية ،كلمة التحرير للدكتور كمال الدين �إمام
مبجلة امل�سلم املعا�صر ،الع ّدد ،103ال�سنة .26
147
�سل�سل ــة �إ�صـ ــدارات