You are on page 1of 12

‫‪161‬‬ ‫المعرّ ف الرقمي   ‪DOI‬‬

‫‪https://doi.org/10.31430/HYOJ1159‬‬
‫القبول   ‪Accepted‬‬
‫‪2022-1-19‬‬
‫التعديل   ‪Revised‬‬
‫‪2022-1-17‬‬
‫التسلم   ‪Received‬‬
‫‪2022-1-16‬‬

‫*(‪((6‬‬
‫محمد أمين بن جياللي | ‪Mohammed Amine Bendjilali‬‬
‫ّ‬

‫مراجعة كتاب‬
‫بالج ْمع‪[ :‬سياسات ثقاف َّية جديدة]‬
‫َ‬ ‫اف ُة‬ ‫َّ‬
‫الث َق َ‬
‫لميشال دو‪ ‬سارتو‬
‫‪Book review‬‬
‫‪Culture in the Plural‬‬
‫‪by Michel de Certeau‬‬

‫‪La culture au pluriel‬‬ ‫العنوان األصلي للكتاب‪:‬‬


‫ال َّثقَا َف ُة بال َ‬
‫ج ْمع‪.‬‬ ‫عنوان الكتاب‪:‬‬
‫ ‬
‫ميشال دو سارتو‪.‬‬ ‫المؤلف‪:‬‬
‫ ‬
‫محمد شوقي الزين‪.‬‬ ‫المترجم‪:‬‬
‫ ‬
‫بيروت‪ :‬دار الروافد الثقافية؛ وهران‪ :‬دار ابن النديم للنشر‬ ‫الناشر‪:‬‬
‫والتوزيع‪.‬‬
‫‪.2022‬‬ ‫سنة النشر‪:‬‬
‫ ‬
‫‪.263‬‬ ‫عدد الصفحات‪ :‬‬

‫مؤهل في كلية الحقوق والعلوم السياسية‪ ،‬جامعة أبي بكر بلقايد بتلمسان‪ ،‬الجزائر‪.‬‬
‫* أستاذ محاضر ّ‬
‫‪Assistant Professor, Faculty of Law and Political Science, Abi Bakr Belkaid University, Tlemcen, Algeria.‬‬
‫‪amine.bendjilali@yahoo.fr‬‬
‫العدد ‪ - 44‬المجلد ‪Issue 44 - Volume 11 / 11‬‬
‫ربيع   ‪Spring 2023‬‬ ‫‪162‬‬
‫مقاربة جديدة من أجل فهم مغاير للثقافة التي لم‬ ‫مقدمة‬
‫تَعد في المنظور التداولي عند دو سارتو منفصل ًة‬ ‫يضطلع كتاب الثقافة بالجمع ‪La‬‬
‫عن المجتمع‪ ،‬بل هي ما يشبه تعبير كليفورد غيرتز‬ ‫‪ ((()1993( culture au pluriel‬لميشال‬
‫‪ Geertz Clifford‬في تأويل الثقافات عام ‪1973‬‬ ‫دو سارتو ‪ (((Michel de Certeau‬بمه ّمة ترسيخ‬
‫"نسيج المعنى الذي يولّد األفعال االجتماعية"(((‪،‬‬ ‫‪(1) Michel de Certeau, La culture au pluriel, 3ème ed.‬‬
‫على عكس ما كان سائ ًدا في التَّصور الح ّدي‬ ‫‪(Paris: Seuil, 1974), p. 228.‬‬
‫هذا الكتاب هو في األصل لقاءات أجراها دو سارتو مع‬
‫الثابت للثقافة الذي اختزلها في "مجموع اإلدراكات‬ ‫مختلف الفاعلين الرسميين وغير الرسميين في الحقل الثقافي‪،‬‬
‫والتقاليد واألفكار والمعارف والعادات التي تُشكّل‬ ‫المتفرقة‬
‫ّ‬ ‫دونها في شكل نصوص وسلسلة من المقاالت‬ ‫ثم ّ‬
‫التي نشرها بين عامي ‪ 1968‬و‪( 1973‬يمكن الرجوع إلى‬
‫رؤية العالم" (ص ‪ .)10‬عطفًا على ما سبق‪ ،‬يكتسي‬ ‫الصفحات ‪ 34‬و‪ 35‬من المؤ َّلف لالطالع على عناوين تلك‬
‫هذا المؤلَّف أهمية نظرية ونقدية وديناميكية بالغة‬ ‫وعدلها‬
‫ّ‬ ‫المقاالت في نشرتها األولى)‪ .‬راجعها الكاتب‬
‫وجمعها في الطبعة األولى التي صدرت عن دار النشر الفرنسية‬ ‫ّ‬
‫للحقول المعرفية في العلوم اإلنسانية‪ .‬تُشير لوس‬ ‫‪ Seuil‬بباريس عام ‪ ،1974‬وهناك طبعة ثانية صدرت عام‬
‫جيار ‪ Luce Giard‬أنّه "يُمكن لكتاب الثقافة بالجمع‬ ‫‪ ،1980‬وهي دراسات وإضافات وتعديالت أدرجها دو سارتو‪،‬‬
‫وهي الطبعة التي اعتمدتها الباحثة والكاتبة الفرنسية لوس‬
‫أ ْن يكو َن مق ّدم ًة مشروع ًة لألنثروبولوجيا السياسية‬ ‫وقدمت‬ ‫جيار ‪ Louis Geyer‬لتخريج الطبعة الثالثة التي نقحتها ّ‬
‫عند دو سارتو" (ص ‪ .)34‬ومن هنا أحدث دو سارتو‬ ‫لها عام ‪ .1993‬وبحسب تصريح المترجم محمد شوقي‬
‫الزين‪ ،‬في حوار صحفي ليومية الوسط الجزائرية (عدد ‪ 7‬آب‪/‬‬
‫تح ّواًلً بارزًا في مسار الفكر والثقافة والدراسات‬ ‫أغسطس ‪ )2021‬قبل نحو شهر من صدور الكتاب‪ ،‬كان أول‬
‫الثقافية المعاصرة تحدي ًدا‪ ،‬إذ ط َر َق مسألة الثقافة‬ ‫نشر لهذه الترجمة في سنة ‪ 2012‬بالمنامة في البحرين عن‬
‫وزارة الثقافة والفنون‪ ،‬في إطار فعاليات المنامة عاصمة الثقافة‬
‫باستدعاء اليومي والعادي من الحياة المعيشة‪،‬‬ ‫يتعد بضع نسخ؛ لذلك‬ ‫خاصا لم ّ‬ ‫نشرا ً‬ ‫العربية‪ ،‬والذي كان ً‬
‫فأصبحت الثقافة معه مجااًلً يُدرس على المستوى‬ ‫أعادت "الروافد الثقافية" بعث الكتاب من جديد في نسخته‬
‫العربية عام ‪ .2022‬ينظر‪" :‬ترجمة جديدة لكتاب الثقافة بالجمع‬
‫وخصوصا عند تفكيكه‬
‫ً‬ ‫الجزئي "الميكروسكوبي"‪،‬‬ ‫لميشال دو سارتو"‪ ،‬الوسط‪ ،2012/8/6 ،‬شوهد في‪:‬‬
‫علوم اإلنسان إلى مجاالت أصغر وأدق هي‪ :‬الدين‬ ‫‪ ،2023/2/25‬في‪https://bit.ly/3ExsjQz :‬‬

‫والتاريخ والثقافة‪ .‬ويبدو أ ّن نقد دو سارتو لمفهوم‬ ‫مؤرخ وأنثروبولوجي وفيلسوف فرنسي معاصر‪َ .‬عمل‬ ‫((( ّ‬
‫زائرا في جامعة سان دييغو بكاليفورنيا‪ ،‬وأستاذ‬ ‫أستا ًذا ً‬
‫الثقافة‪ ،‬كان في سياق ميالد فلسفة الثقافة‪ ،‬في‬ ‫األنثروبولوجيا الثقافية وأنساق االعتقاد في المدرسة العليا‬
‫صلة قويّة بالحدث الثقافي األهم؛ ثورة مايو‬ ‫للدراسات االجتماعية في باريس‪ .‬من أهم أعماله حول‬
‫الثقافة‪ :‬األخذ بزمام الكالم (‪)1968‬؛ والثقافة بالجمع (‪)1974‬؛‬
‫‪ 1968‬بفرنسا(((‪ ،‬بالرغم من "صعوبة استيعاب‬ ‫وابتكار الحياة اليومية (‪ .)1980‬توجد طريقتان لفهم فكر‬
‫المجتمع الفرنسي للقطيعة الثقافية والجيلية"(((‪.‬‬ ‫دو سارتو‪ :‬قراءة جوانية وقراءة برانية‪ .‬األولى‪ ،‬ترتبط بالسؤال‬
‫التالي‪ :‬أي وسيلة تمكننا من قراءة ميشال دو سارتو؟‬
‫ما المرجعيات والمفاهيم والمناهج المستعملة لالشتغال على‬
‫"‪(3) Stephen Muers, "Culture, Values and Public Policy,‬‬
‫‪IPR Report, University of Bath (September 2018), p. 5.‬‬
‫نصوصه؟ يفضل المترجم "قراءة ميشال دو سارتو بميشال‬
‫دو سارتو نفسه" ‪Lire Michel de Certeau par Michel de‬‬
‫((( ثورة مايو ‪ 1968‬هي معركة األفراد من أجل سياسة‬ ‫‪Certeau lui-même‬؛ أي بقراءة أفكاره وفقًا للمفاتيح المفاهيمية‬
‫ُدبر على مستوى العتبة التحتية للمجتمع وليس على‬ ‫ت َّ‬ ‫الخاصة بنصوصه في إطار نسيج راهنيتها‪ .‬الثانية‪ ،‬هي استقراء‬
‫صعيد البنية الهرمية لمراكز القرار‪ .‬للتفصيل أكثر‪ ،‬ينظر‪:‬‬ ‫أفكار خارج نص دو سارتو ومحاولة إسقاطها عليه كما فعل‬
‫محمد شوقي الزين‪ ،‬الغسق والنسق‪ :‬مقدمة في أفكار‬ ‫يان بوكانان ‪ Ian Buchanan‬وفلور كورتوا لورو –‪Fleur Courtois‬‬
‫ميشال دو سارتو (الكنان‪ ،‬التاريخ‪ ،‬اليومي) (بيروت‪:‬‬ ‫‪ L’heureux‬باستعمالهما مفاهيم جيل دولوز ‪Gilles Deleuze‬‬
‫المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر؛ الجزائر‪ :‬مدارج –‬ ‫(‪ )1995–1925‬في تحري نصوص دو سارتو‪ ،‬ينظر‪:‬‬
‫‪Mohammed Chaouki Zine, L’ordinaire et le quotidien.‬‬
‫الوسام العربي‪ ،)2018 ،‬ص ‪.68‬‬ ‫‪Introduction à la théorie des pratiques et des usages chez‬‬
‫‪(5) Michel de Certeau, "Pour une nouvelle culture. Le‬‬ ‫‪Michel de Certeau (Beirut: University Foundation for‬‬
‫‪pouvoir de parler," Études, vol. 408, no. 5 (2008), p. 629.‬‬ ‫‪Studies and Publishing, 2016), p. 49.‬‬
‫‪163‬‬ ‫بتكلا تاعجارم‬
‫راس ود لاشيمل ]ةديج ةَّيفاقث تاسايس[ ‪:‬عْمَجلاب ُةَفاَقَّثلا‬
‫د‬

‫االجتماعية‪ ،‬على أ ْن يكون هذا الفعل مصحوبًا‬ ‫يتلّخص المسعى الحثيث للمؤلّف في محاولته‬
‫بال ّداللية والفاعلية والتبادليّة‪ .‬فال ّداللية متصلة‬ ‫نزع الطابع التجريدي عن مفهوم الثقافة‪ ،‬في مقابل‬
‫بتبديد األوهام العالقة في ذهن الفرد حول رؤيته‬ ‫االشتغال على إضفاء السمة اإلجرائية عليه‪ ،‬وذلك‬
‫للممارسات االجتماعية ولغة الخطاب المتشكّلة‬ ‫عن طريق جعله مرتبطًا بالفعل الثقافي‪ ،‬ومتميّ ًزا‬
‫حول المجتمع‪ .‬أما الفاعلية‪ ،‬فمرتبطة بإيجاد الفضاء‬ ‫جا لعمليات ثقافية مبدعة داخل‬ ‫بداللة واضحة‪ ،‬ومنت ً‬
‫المالئم للممارسات الثقافية للحاضر‪ ،‬وإعادة بعث‬ ‫الفضاء االجتماعي‪ .‬وعليه‪ ،‬تتمحور اإلشكالية‬
‫الطاقات اإلبداعية من مكانها الهامشي‪ .‬وأخي ًرا‬ ‫المركزية للكتاب حول البحث عن كيفية تشكّل‬
‫التبادليّة التي ترسم خريطة طريق للبحث عن‬ ‫خاَّلقًا داخل‬
‫الثقافة وتكوينها‪ ،‬باعتبارها نشاطًا َّ‬
‫سياسات ثقافية في إمكانها وصل الدولة ومؤسساتها‬ ‫فضاءات إكراهية واشتراطات قسرية‪ ،‬مما يُبين عن‬
‫باليومي الخاص بالجمهور‪ .‬ترتبط الرهانات‬ ‫مفارقة مستترة تُلزم الكاتب بالحفر في المقتضيات‬
‫السياسية واالجتماعية لألسئلة التي يتناولها الكتاب‬ ‫األيديولوجية والسياسية التي تقبع تحت سطح‬
‫بخلق الحاضر والقدرة على إضفاء داللة على معنى‬ ‫الثقافة وتتحكم في الفعل الثقافي‪ .‬لذلك ينطلق‬
‫االختالف من أجل العيش المشترك‪.‬‬ ‫دو سارتو من فرضية "االبتكار" الثقافي التي يقصد‬
‫بها كل ما يصنعه الجمهور ثقافيًا خارج إرادة النخبة‪،‬‬
‫ً‬
‫أوال‪َ :‬غ َرائِب َّيات َ‬ ‫وبعي ًدا عن كل ما تنتجه سلطتها‪ ،‬وبمعنى آخر؛‬
‫يعات‬
‫ط َ‬‫وق ِ‬
‫ما يمكنه أن ينفلت من المخطط الصارم للسياسة‬
‫غة‬ ‫في ال ُّل َ‬
‫الثقافية‪ ،‬ويرتهن بفاعلية اإلنجاز لدى الجمهور‪،‬‬
‫ينطلق دو سارتو من اإلشارة إلى أزمة شاملة في‬ ‫بحيث يربط دو سارتو ذلك بشرط إمكانٍ هو‬
‫"التمثيالث" داخل الحضارة الغربية‪ ،‬والتي ت ُع ُّد‬ ‫الحرية؛ أل ّن هذا الكتاب بحسب لوس جيار ‪Luce‬‬
‫السيادة في المجتمعات‪،‬‬ ‫رئيسا لتناقض ّ‬
‫ً‬ ‫سببًا‬ ‫درسا‬‫نصا سياس ًيا‪ً ،‬‬‫‪" Giard‬يتبدى بشكل أساس ً‬
‫وتقويض الثقة في المؤسسات وتداعي القيم‬ ‫في الحرية" (ص ‪ ،)33‬اعتمد دو سارتو على نقد‬
‫في الممارسات‪ ،‬ويدعو إلى ضرورة البحث‬ ‫البداهات والمسلمات والخطابات الجامدة التي‬
‫عن سلطة شرعية تَضمن الثقة المجتمعية‬ ‫تحوزها النخبة حول الثقافة‪ ،‬وفي المقابل سار نحو‬
‫والمؤسسية(((‪ ،‬وبقاء القيم في المجتمع باعتبارها‬
‫ّ‬ ‫اإلزاحة على الممارسة التداولية للثقافة من الفاعل‬
‫مرجعيات مشتركة‪ ،‬وذلك ما يفترضه في موضع‬ ‫االجتماعي‪ .‬وارتكز على توليف منهجية مركّبة‬
‫آخر من كتاباته‪" :‬يجب إضفاء الشرعية على‬ ‫تتناغم داخلها األدوات التاريخية‪ ،‬واألنثروبولوجية‪،‬‬
‫السلطة‪ ،‬لتحديد القوة التي تجعلها ف ّعالة‪ ،‬وخلق‬ ‫والدراسات الفلسفية‪ ،‬واأللسنية‪ ،‬والنفسية‪ .‬واعتبر‬
‫المفهوم التداولي للثقافة في ح ّد ذاته أداة تأويلية‬
‫((( أكّ د هذا االتجاه األستاذ فرانسيس فوكوياما ‪Francis‬‬
‫‪ ،Fukuyama‬عندما اعتبر أنّ الثقة هي بمنزلة رأس المال‬ ‫وتحليلية للممارسات اليومية‪.‬‬
‫االجتماعي و"السمة الثقافية الوحيدة" والراسخة التي‬
‫ال يمكن االستغناء عنها في بناء القدرة التنافسية للمؤسسات‬ ‫يتجه دو سارتو من خالل هذا العمل الذي تبرز‬
‫والدول واألفراد في المجال االقتصادي‪ .‬ينظر‪ :‬فرانسيس‬ ‫ِمعماريته األساسية في بناء تمفصل بين الثقافة‬
‫فوكوياما‪ ،‬الثقة‪ :‬الفضائل االجتماعية ودورها في خلق الرخاء‬
‫االقتصادي‪ ،‬ترجمة معين اإلمام ومجاب اإلمام (الدوحة‪:‬‬ ‫العالِمة والثقافة الجماهيرية إلى الكشف عن‬
‫منتدى العالقات العربية والدولية‪ ،)2015 ،‬ص ‪.27–26‬‬ ‫المسارات اإلبداعية للفعل الثقافي داخل الحياة‬
‫العدد ‪ - 44‬المجلد ‪Issue 44 - Volume 11 / 11‬‬
‫ربيع   ‪Spring 2023‬‬ ‫‪164‬‬
‫الغضب‪ ،‬ثمة الرغبة في خلق مدينة وسياسة"‬ ‫سيادة تمكنها من القابلية للتصديق"(((‪ .‬تخلق هذه‬
‫(ص ‪ .)53‬وكأ ّن دو سارتو يلفت االنتباه إلى العنف‬ ‫األزمة في األفق المنتظر لإلنسان الغربي حضو ًرا‬
‫الخالق في المدينة؛ أي إلى مكان مع ّين في الحاضر‬ ‫للقلق وغيابًا للمعنى وحج ًبا للحقيقة‪ ،‬وقد تحمل‬
‫يتميّز بمظهر العنف‪ ،‬ثم سرعان ما يتح ّول في‬ ‫والعنف‬
‫َ‬ ‫هذه التجليات لفقدان الصدقية الوه َم‬
‫المستقبل إلى إمكانية لإلبداع الثقافي لمظهر جديد‪.‬‬ ‫وكل ما هو غريب عن واقع التنظيم االجتماعي‪،‬‬
‫وبتعبير دو سارتو "االفتقار إلى التمثيالت‬
‫وفقًا لرؤية دو سارتو‪ ،‬يَبدأ هذا النمط من العنف‬
‫االجتماعية" (ص ‪ .)48‬تع ّبر أزمة التمثيالت‬
‫ضمن الوعي والخيال عند األفراد الذين يعيشون في‬
‫االجتماعية للحركات الشعبية عن شمولية واقع‬
‫المدينة‪ ،‬أ ّما على الضفة األخرى فيوجد ال ِمخيال‬
‫المنفعة والهيمنة في مقابل انحسار القيم والحرية‪،‬‬
‫المؤسسة‪ .‬األول فيه مساحة كبيرة من اإلبداع‬ ‫َّ‬ ‫لدى‬
‫نظ ًرا إلى ارتباط مرجعياتها بتوازنات سياسية‬
‫واالبتكار واالنفتاح على التع ّدد الفكري؛ أما الثاني‬
‫واقتصادية وثقافية يمكن أن تعمل على تدمير‬
‫فتُالزمه الهيمنة والسطوة والقوة واعتماد األحادية‬
‫الوعي الجمعي الذي شكّل صدقيتها‪.‬‬
‫حد‬ ‫في التفكير والممارسة؛ أي إنتاج نمط فكري مو ّ‬
‫للعيش‪ .‬والوظيفة األساسية لهذا ال ِمخيال هي‬ ‫إ ّن انهيار الصدقية وانعدام الثقة بين المجتمع‬
‫فاعاًل‬
‫ً‬ ‫التح ّول في نظرة الفرد إلى ذاته‪ ،‬من كونه‬ ‫والمؤسسات‪ ،‬يتجلّى تحدي ًدا في حدوث العنف‬
‫سوسيولوجيًا وثقافيًا‪ ،‬إلى كونه متتبّ ًعا ومشاه ًدا‬ ‫الذي تبدأ مالمحه بارز ًة في سلوكيات أفراد المجتمع‬
‫لألحداث‪ ،‬فقد "نتحول إلى مشاهدين بالتخلي عن‬ ‫المؤسسي التي تبدو‬‫ّ‬ ‫الرافضة لمخرجات النسق‬
‫كوننا فاعلين" (ص ‪ .((()62‬ربما يَنحو دو سارتو‪،‬‬ ‫واهي ًة وغير يقينية وتسلّطية‪ ،‬قائمة على اإلخضاع‬
‫حداثي‬
‫ّ‬ ‫حى ما بعد‬‫في الوظيفة الثانية لل ِمخيال‪ ،‬من ً‬ ‫واإلذعان والقهر‪ .‬فالعنف هو نتيجة طبيعية للعصيان‬
‫عندما يُؤكّد أ ّن األسطورة بوصفها موضو ًعا‬ ‫المدني‪" ،‬يُولد العنف قبل كل شيء من التم ُّرد ضد‬
‫لل ِمخيال ال تزال حاضرة في العقل العلمي اليوم‪،‬‬ ‫المؤسسات وضد تمثيالت أصبحت 'غير قابلة‬ ‫َّ‬
‫ولكن بقالب مغاير للتقليدية األسطورية‪ .‬ويسوق لنا‬ ‫للتصديق'" (ص ‪ .)52‬من هنا يُحاول دو سارتو‬
‫مثااًل توضيح ًيا عن خطاب‬ ‫صاحب الثقافة بالجمع ً‬ ‫االقتراب من العنف باعتباره ظاهر ًة صح ّي ًة يمكن أن‬
‫اإلشهار في مجتمع االستهالك الذي يزخر بالنظم‬ ‫تُعيد التوازن واالستقرار داخل المجتمع‪ ،‬فـ "ينبغي‬
‫المخيالية كالرموز واأليقونات والخطابات والصور‪،‬‬ ‫االعتراف به كواقعة لها قوة" (ص ‪)52‬؛ إذ يمكن أن‬
‫إلى درجة التأث ّر بها بحيث يَغدو الواقع غير فعلي‪،‬‬ ‫يكون وسيل ًة للمقاومة المنتظمة من أجل تحصيل‬
‫الحقوق العمالية والنقابية واالنتخابية‪ ،‬فال‪ ‬ينبغي‬
‫((( يشبه هذا الطرح – إلى حدٍّ ما – النموذج "البانوبتيكي"‬
‫عند ميشال فوكو ‪ )1984–1926( Michel Foucault‬في‬ ‫النظر إلى العنف في ذاته‪ ،‬ومن الضروري الحديث‬
‫هندسة السجون بصيغة المراقبة‪ :‬أن أرى وال يراني أحد‪.‬‬ ‫يؤسس طاقات جديدة عند األفراد‬ ‫عن العنف الذي ّ‬
‫فاعاًل إلى مراقب‪ .‬لكن يرفض‬ ‫فتتحول السلطة من كونها ً‬
‫والفئات االجتماعية‪ ،‬سوا ًء على مستوى اللغة أو‬
‫دو سارتو "اختزال سيرورة المجتمع إلى نمط مهيمن‬
‫ووحيد"‪ ،‬فالمعرفة التي شكلها فوكو حول المجتمع‬ ‫اإلرادة المتطلّعة إلى بناء عالقات على أساس‬
‫الهامشي هي في ذاتها سلطة‪ .‬ينظر‪ :‬محمد شوقي الزين‪،‬‬ ‫االتصال بالحوار في ظل نشوء المؤسسات‪ ،‬فـ "وراء‬
‫ميشال دو سارتو‪ :‬منطق الممارسات وذكاء االستعماالت –‬
‫مدخل إلى قراءة تداولية (الجزائر‪ :‬ابن النديم للنشر والتوزيع؛‬ ‫‪(7) Michel de Certeau, L'écriture de l'histoire (Paris:‬‬
‫بيروت‪ :‬دار الروافد الثقافية ناشرون‪ ،)2013 ،‬ص ‪.162–161‬‬ ‫‪Gallimard, 1975), p. 13.‬‬
‫‪165‬‬ ‫بتكلا تاعجارم‬
‫راس ود لاشيمل ]ةديج ةَّيفاقث تاسايس[ ‪:‬عْمَجلاب ُةَفاَقَّثلا‬
‫د‬

‫موضوعها أصل تلك الثقافة" (ص ‪ .)89‬وهذا راجع‬ ‫فيقع تحويل جذري في التمثالت االجتماعية؛‬
‫بحسب الكاتب إلى الحقيقة ال ُمختلَقة التي تحملها‬ ‫استبدال اللغة العادية بالجسد الغرائبي‪ ،‬وأنماط‬
‫هذه المقاربة‪ ،‬نظ ًرا إلى محيطها الذي ُولدت فيه‬ ‫الخطاب بوهم الصورة واالستعارة‪ .‬ويَهدف هذا‬
‫والمليء باإلكراهات السياسية واأليديولوجية‪،‬‬ ‫"التحويل الثقافي" إلى ربط الرغبة بالواقع‪ ،‬وهذا‬
‫فمن الطبيعي أ ْن يبقى هذا األصل منس ًيا ومعت ًما‪.‬‬ ‫ما يعنيه دو سارتو باإلغراء‪" :‬ما هو ُمعطى للعين‬
‫وعلى عكس ما يُؤمن به الفولكلوريون من أنّه‬ ‫يُختطف من اليد" (ص ‪.)62‬‬
‫يمكن رؤية الثقافة مستقل ًة تما ًما عن السياسات‬ ‫وفي إطار التشريح النقدي للظواهر الثقافية‪ ،‬والثقافة‬
‫وآلياتها وغاياتها‪ ،‬لكن من دون الخوض في العنف‬ ‫الشعبية واحدة من تلك الظواهر التي تحتاج إلى‬
‫التأويلي‪ ،‬فيجب دائ ًما تجنب ممارسة العنف حتى‬ ‫تأصيل أنثروبولوجي وتاريخي لفهم "غرائبية"‬
‫في أثناء فحص الثقافة الشعبية ودراستها‪ ،‬ومعالجة‬ ‫خصص دو سارتو بحثًا مشتركًا مع‬ ‫الواقع الغربي‪ّ ،‬‬
‫مختلف التلوينات الثقافية‪.‬‬ ‫المؤرخين الفرنسيين دومينيك جوليا ‪Dominique‬‬

‫نتيج ًة لهذا‪ ،‬لم تتع ّد مظاهر اللغة في المجتمع‬ ‫‪ Julia‬وجاك روفيل ‪ ،Jacques Revel‬موسوم‬
‫إال أداء دورين أساسيين في صورة خطاب متناقض‪،‬‬ ‫بـ "بهاء الم ّيت‪ :‬مفهوم الثقافة الشعبية"‪ ،‬حاول‬
‫تأويل مفردة "بهاء الميت" وفك شفرتها‪ ،‬فوجد أنها‬
‫مرصعة بقيم المساواة‬
‫فالظاهر هو خطابات سلمية ّ‬
‫اقتراض لغوي يُع ّبر عن سياق تاريخي مع ّين للثقافة‬
‫والحرية والسالم‪ ،‬لكنها في الواقع تتباين بحسب‬
‫الشعبية وأدب التج ّول خالل القرن الثامن عشر؛‬
‫اختالف "المواقع والمصالح"‪ ،‬في ضوء ما تمليه‬
‫أي كل ما هو عتيد وعميق في الذاكرة من آداب‬
‫الشروط المتصلة باألمكنة واألزمنة‪ ،‬ومن ثم ت ُعيد‬
‫ونصوص وثقافات‪ ،‬فُرضت على مضامينها الرقابة‬
‫إنتاج لغة العنف لدى األفراد ومختلف الفاعلين‬
‫االجتماعية بداعي ُمقارعة مبادئ "النظام العام‬
‫االجتماعيين‪ ،‬وهذا ما يخلق فارقًا جوهريًا بين‬
‫واألخالق والدين" (ص ‪ ،)82‬حاول دو سارتو‬
‫ما يُقال وما يمكن ِفعلُه‪" ،‬فتصبح اللغة – الخيال‬
‫معالجة التحول اإلبستيمولوجي الذي ح َدث في‬
‫شيئًا فشيئًا قناع العنف وأداته" (ص ‪ .)104‬يتجلّى‬
‫دراسة الثقافة الشعبية متتب ًعا تاريخها االجتماعي‪،‬‬
‫بوضوح العنف الذي يسكُن اللغة االجتماعية في‬ ‫و ُمبرزًا في النهاية ما ترتّب على نقلها من كونها‬
‫الظاهرة البيروقراطية التي أبانت عن دورها اإليجابي‬ ‫مجرد قناعات متشظية ُمعبّر عنها‪ ،‬إلى موضوع‬
‫المتمثل في تنظيم العالقات االجتماعية‪ ،‬لكن هذا‬ ‫"فولكلوري" قابل للفحص العلمي يندرج ضمن‬
‫الدور أصبح سلب ًيا‪" ،‬فكلما اتجهت الحياة العمومية‬ ‫الدراسات األنثروبولوجية‪ ،‬بحيث كانت النتيجة‬
‫نحو البيروقراطية‪ ،‬تفاقمت الرغبة في اللجوء إلى‬ ‫هي توطيد التأسيس العلمي على حساب إقصاء‬
‫العنف" (ص ‪)108–107‬؛ واألمر الذي يدل على‬ ‫الممارسات الثقافية‪ .‬إ ّن البحث عن أصل الثقافة‬
‫ذلك توجه المؤسسات إلى ممارسات النفوذ‬ ‫الشعبية في نظر دو سارتو ال يخلو من تناقضات‬
‫والهيمنة والصراع لتحقيق المكاسب والمصالح؛‬ ‫داخلية؛ فمن جهة‪ ،‬يُعتبر استعمال المقاربة العلمية‬
‫ما جعل عمل سلطة هذه المؤسسات يفتقر إلى‬ ‫مه ًّما ج ًدا في صياغة فرضيات حول هذه الثقافة‪،‬‬
‫السيادة الفعلية والشرعية‪ .‬لكن هذا الصراع –‬ ‫بالرغم من عدم التوصل إلى حلول نهائية‪" ،‬ثمة‬
‫بحسب فهم دو سارتو – يمكن أن نعتبره ناظ ًما‬ ‫ِ‬ ‫فرضية تفرض ذاتها وإ ْن كانت ال تدرك كل شيء‪.‬‬
‫وليس هاد ًما للمجتمع‪ ،‬ما دام يُعيد لألشكال األكثر‬ ‫تتخذ تلك الدراسات حول الثقافة الشعبية من‬
‫العدد ‪ - 44‬المجلد ‪Issue 44 - Volume 11 / 11‬‬
‫ربيع   ‪Spring 2023‬‬ ‫‪166‬‬
‫يقول دو سارتو‪" :‬الجامعة هي محل ينبغي ابتكاره"‬ ‫هامشية مركزها الحقيقي في المجتمع كالجامعة‬
‫(ص ‪ ،)121‬فال‪ ‬يمكن ابتكار الحياة الجامعية‬ ‫والمدرسة واألقليات‪.‬‬
‫إال بحل العديد من المعضالت البيداغوجية‬
‫المؤسسة‬
‫َّ‬ ‫والتربوية والتقنية والمعرفية التي ت ُواجه‬ ‫يدة‬
‫ش َّيات َج ِد َ‬ ‫ثان ًيا‪َ :‬‬
‫هامِ ِ‬
‫الجامعية؛ ومن أبرزها ُمعضلة البحثي والتعليمي‪:‬‬ ‫ما يُريد دو سارتو تَوضيحه هو التركيز على‬
‫"ينقسم األساتذة اليوم بحسب هذا التمييز بين‬ ‫الرؤية القائلة بضرورة التحول في طبيعة الدور‬
‫السوسيولوجي والثقافي والمعرفي الذي تَضطلع‬
‫البحث الذي يدفعهم إلى مغادرة التدريس‪ ،‬وبين‬
‫به الجامعة‪ ،‬في ظل تغ ّير النظام االجتماعي الغربي‬
‫التعليم الذي يُجبرهم على التخلّي عن البحث"‬
‫الموسوم بالحضور القوي للطبقة الوسطى وحالة‬
‫(ص ‪ ،)124‬يَدعو دو سارتو إلى بناء ثقافي وجيه‬ ‫االكتظاظ الطالبي‪ ،‬وإضفاء الطابع الديمقراطي‬
‫للجامعة‪ ،‬من أجل إحداث منظومة عالئقية‬ ‫على منظومة التعليم داخل المشهد الجامعي‬
‫متوازنة قائمة على فلسفة تشاركية ومنطق حواري‬ ‫إضافة إلى ارتفاع مستوى الرفاه االجتماعي‪ ،‬فلم‬
‫نقدي بين فواعل المنظومة الجامعية المتك ّونة‬ ‫يَعد للجامعة دو ٌر في احتكار المعرفة النظرية‪ ،‬بل‬
‫من األستاذ والطالب‪ ،‬البحث والتعليم‪ ،‬المعرفة‬ ‫عليها السعي نحو إنزال معارفها النخبوية من برجها‬
‫والعمل‪ ،‬الثقافة والسلوك‪ .‬في النهاية يُمكن تطوير‬ ‫العاجي لترافق الواقع االجتماعي بمختلف تمثالته‬
‫العالقة بين الجامعة والمجتمع بإزالة السور‬ ‫في همومه ومشكالته‪ ،‬هذا ما يُبرز أهمية إنتاج‬
‫العازل بينهما‪ ،‬وربطهما بتغيير عقلية الطالب‬ ‫الجامعة لثقافة جماهيرية‪ .‬ويُشير دو سارتو إلى‬
‫في التفكير من "منتجات البحث إلى منهجيات‬ ‫أهمية التغيّر الحاصل على مستوى األداء الوظيفي‬
‫للجامعة‪ ،‬فلم تَعد وظيفتها محصور ًة في اتجاه‬
‫اإلنتاج" (ص ‪ ،)130‬ودحض فكرة االستقالل‬
‫تخصصات معرفية‬ ‫ّ‬ ‫حركة البوصلة اإلرشادية نحو‬
‫الذاتي للجامعة(‪ ،((1‬باندماج هذه األخيرة في‬
‫مح ّددة‪ ،‬فقد أكدت ضرورة االنتقال إلى القصد‬
‫ثقافة الجمهور‪ ،‬فقد يتعذّر إصالح الجامعة من‬
‫من وراء اختيار تخصص ما؛ "يتساءل الطلبة أمام‬
‫دون وجود ثقافة سياسية جماهيرية تُدرك قيمة‬ ‫دراساتهم‪ :‬ما داللتها؟ على ماذا ّ‬
‫تدل؟ ما تقوله‬
‫اإلصالح داخل المجتمع‪.‬‬ ‫وخاصة طرح السؤال العملي‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫لهم؟" (ص ‪،)119‬‬
‫ما فائدة هذا التخصص في المجتمع؟ هل يُحدث‬
‫(‪ ((1‬بدأت فكرة االستقالل الذاتي للجامعة مع الفيلسوف‬
‫األلماني مارتن هايدغر ‪،)1976–1889( Martin Heidegger‬‬ ‫هذا الصرح الجامعي بمخرجاته الفكرية والمعرفية‬
‫منذ تقلده منصب رئيس جامعة فرايبورغ‪ .‬ففي محاضرته‬ ‫"ثقافة" يمكن أن تخلق فارقًا أدات ًيا في الحياة‬
‫االفتتاحية في ‪ 27‬أيار‪ /‬مايو ‪ ،1933‬ألقى خطاب العمادة‬ ‫الجامعية؟ في هذا السياق‪ ،‬ط ّور دو سارتو ما يمكن‬
‫الموسوم بـ "التأكيد الذاتي للجامعة األلمانية"‬
‫"‪ ."Die selbstbehauptung der deutschen Universität‬لالطالع‬ ‫أن نسميه "البراغماتية الثقافية" التي تركّز على‬
‫على الخطاب بلغته األصلية‪ ،‬ينظر‪:‬‬ ‫عمليات إعادة التوظيف التي ال يمكن التنبؤ بها في‬
‫‪Martin Heidegger, Die Rektoratsrede: Selbstbehauptung‬‬ ‫خضع لها المستخ َدمون‬ ‫كثير من األحيان‪ ،‬والتي يُ ِ‬
‫‪der Deutschen Universität (German: Opensource, 1933).‬‬
‫تجدر اإلشارة إلى أنّ تطوير الجامعة عند هايدغر يرتبط‬
‫الموارد الثقافية المتاحة(((‪.‬‬
‫بإدراك ماهيتها األنطولوجية ومهمتها المعرفية وضرورتها‬
‫‪(9) Jeremy Ahearne, Between Cultural Theory and‬‬
‫الروحية والتربوية‪ ،‬على عكس دو سارتو الذي يعتبر أنّ‬ ‫‪Policy: The Cultural Policy Thinking of Pierre Bourdieu,‬‬
‫اآللية الحقيقية لإلصالح الجامعي هي االنفتاح على الثقافة‬ ‫‪Michel de Certeau & Régis Debray (trans.) (Coventry:‬‬
‫الجماهيرية‪.‬‬ ‫‪Centre for Cultural Policy Studies, 2004), p. 12.‬‬
‫‪167‬‬ ‫بتكلا تاعجارم‬
‫راس ود لاشيمل ]ةديج ةَّيفاقث تاسايس[ ‪:‬عْمَجلاب ُةَفاَقَّثلا‬
‫د‬

‫الذي يحتاج إلى تدبير سياسات ثقافية ت ُعيد للثقافة‬‫المؤسسة قويّة بما فيه الكفاية‬ ‫َّ‬ ‫يجب أن تكو َن‬
‫أمكنتها الحقيقية في المجتمع‪ ،‬فعالقة المدرسة‬ ‫للحفاظ على الفرد من "جنون الرؤية"‪ .‬وفي الوقت‬
‫بالسلطة تمثل مؤش ًرا حقيق ًيا على هذا التعقيد‪،‬‬ ‫المؤسسة ضعيفة بما فيه‬ ‫َّ‬ ‫نفسه‪ ،‬يجب أن تكون هذه‬
‫خاصة عندما انفلت النشاط القيمي للمدرسة من‬ ‫الكفاية لتترك مجااًلً للرؤية والحركة واإلبداع ‪.‬‬
‫(‪((1‬‬

‫التمركز السياسي من خالل االنتشار عمل ًيا ومهن ًيا‬‫عانت الحضارة الغربية من الصناعة الثقافية التي‬
‫مثاًل تسلل السلطة‬ ‫إلى أدق تفاصيل المجتمع‪ً ،‬‬ ‫تتوالها المؤسسات في أدائها لوظائفها تجاه‬
‫الجماهير من أجل تحقيق مكاسبها‪ ،‬األمر الذي‬
‫الثقافية إلى كل فرد داخل األسرة بالوسائل التقنية‬
‫حذّر منه ثيودور أدورنو ‪Theodor W. Adorno‬‬
‫أو تبني أطر تنظيمية خارج المقرر المدرسي‬
‫(‪ ،)1969–1903‬في مشروعه النقدي والتح ّرري‬
‫في صورة نشاطات ترفيهية مح ّددة‪ ،‬بمعنى آخر‬
‫من خالل استعمال الفن‪ ،‬فهو يدعو إلى تجاوز‬
‫"إيجار ُمتع ّدد للثقافة" (ص ‪.)152‬‬
‫العقل األداتي الذي يَنظر إلى الثقافة باعتبارها‬
‫مؤسس ًيا معي ًنا داخل المجتمع إ ّن المعنى الحقيقي والفعلي للثقافة عند دو سارتو‬ ‫ّ‬ ‫آلية تؤ ّدي دو ًرا‬
‫هو أن تَحوز داللة لدى الفرد في سلوكياته‬ ‫الصناعي والتقني واالستهالكي‪.‬‬
‫يَعود دو سارتو إلى إبراز مظاهر االختالل الوظيفي اليومية‪ .‬والمقصود بالداللة هنا رمزية الثقافة‪،‬‬
‫جه بحثي‬ ‫في العالقة بين الجامعة والمجتمع نتيج ًة لخروج فالبحث عن البنية الرمزية للثقافة تو ُّ‬
‫األولى عن سلطة الثقافة وخضوعها لقوى سياسية ج ّدده دو سارتو‪ ،‬باالعتماد على نماذج اللسانيات‬
‫ومالية وصناعية وإعالمية؛ ما أ ّدى إلى تقويض البنيوية‪ ،‬بحيث ركّز من خالله على الجوانب‬
‫االستقالل الذاتي للجامعة وانحدار وظيفة األنطولوجية القابعة في قلب الثقافة(‪((1‬؛ أي‬
‫التوزيع القيمي التي تقوم بها المدرسة التي لم داللة الوجود التي ال يمكن إال أ ْن نجدها داخل‬
‫ت َعد قادرة على "إعادة تعريف الثقافة وإدماج الثقافة اإلنسانية‪ ،‬لكن هذه الداللة مخفية بسبب‬
‫يفسره دو سارتو‬ ‫الشباب" (ص ‪ .)146‬هذا العجز ّ‬
‫تحكّم السياسي والمصالح العليا للدولة في كل‬
‫بقصور المنظور الوظيفي للمدرسة باعتبارها‬
‫ما هو ثقافي؛ ففي ظل التوحيد االقتصادي يمكن‬
‫مؤسسة انحصر دورها في محتوى التعليم فقط‪،‬‬ ‫َّ‬
‫أن نجد تع ّددية ثقافية؛ لذلك "أضحت الثقافة‬
‫ولم يتع ّد ذلك إلى إعمال نسق التثقيف والتربية‬
‫بالمفرد عبارة عن خداع سياسي‪ .‬وأكثر من ذلك‪،‬‬
‫الذي يرتبط بالنظام االجتماعي الكلّي(‪ .((1‬وهذا‬
‫مرده إلى مظهر أساسي من مظاهر التعقيد الثقافي فهي قاتلة وتُه ّدد اإلبداع ذاته" (ص ‪ .)154‬يُبرز‬
‫دو سارتو أهمية الثقافة في ترسيخ وجود األقليات‬
‫)‪ (11‬في ظل التع ّددية اللغوية السائدة (البروطونية‬ ‫‪François Dosse, "Michel de Certeau: Un historien de‬‬
‫‪l’altérité," Texte inédit, Conférence à Mexico (Septembre‬‬
‫‪ 2003), accessed on 7/3/2023, at: https://bit.ly/3Z6smeh‬والقسطانية والباسيكية) التي ترتّب عليها أزمة‬
‫(‪ ((1‬يرفض دو سارتو الفصل بين محتوى التعليم الذي هوية داخل المجتمع الفرنسي قبل توحيد اللغة‪.‬‬
‫يشمل عالقة العمل‪ ،‬الماضي‪ ،‬السلطة؛ والعالقة التربوية‬
‫نقاشا حرا بين المعلم والطالب بحكم أنّ وبحسب المؤلف‪ ،‬دائ ًما ما تسعى األقلية إلى‬ ‫التي تفترض ً‬
‫ًّ‬
‫تناقض العالقة بينهما يمكن أن ينعكس على ترتيب المنظومة فرض كيانها الذاتي باستعمال الثقافة في التعبير‬
‫الخاصة بالمدرسة وجوهر الثقافة‪ .‬للتفصيل‪ ،‬ينظر‪:‬‬
‫‪(13) Edgar Morin, "De la culturanalyse à la politique‬‬ ‫‪Jean–Yves Séradin, "L’inventivité pédagogique de Michel de‬‬
‫‪culturelle," Communications, no. 14 (1969), pp. 5–38,‬‬ ‫‪Certeau: Une approche ignacienne de l’enseignement, " Educatio,‬‬
‫‪accessed on 7/3/2023, at: https://bit.ly/3xTMmVt‬‬ ‫‪no. 6 (2017), accessed on 7/3/2023, at: https://bit.ly/3kpmj5H‬‬
‫العدد ‪ - 44‬المجلد ‪Issue 44 - Volume 11 / 11‬‬
‫ربيع   ‪Spring 2023‬‬ ‫‪168‬‬
‫ص ّنف المؤلف من أبرز الشخصيات المثقفة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فكل أقلية في حاجة إلى‬ ‫عن مطلبها السياسي‪ّ ،‬‬
‫إضافة إلى بيير بورديو ‪Pierre Bourdieu‬‬ ‫"قوة سياسية تمنح للمنطوق الثقافي القدرة على‬
‫(‪ )2002–1930‬وريجيس دوبريه ‪،Régis Debray‬‬ ‫إثبات الذات بشكل فعلي" (ص ‪ ،)159‬وفي‬
‫التي انخرطت بصفة مستدامة ضمن القضايا‬ ‫المقابل‪ ،‬وبمنهجية تفكيكية تقوم السياسة بعملية‬
‫االستراتيجية للسياسة الثقافية‪ .‬كان دو سارتو‬ ‫مؤسساتي‬‫ّ‬ ‫تصدير ثقافتها للمجتمع عبر غطاء‬
‫منخرطًا إلى ح ّد ما وعلى نحو مستمر بين عامي‬ ‫ونخبوي‪ .‬ويمكن أن يتح ّول المطلب الثقافي إلى‬
‫‪ 1970‬و‪ 1985‬في سلسلة من أبحاث السياسة‬ ‫نضال سياسي‪ ،‬فال‪ ‬توجد وحدة اجتماعية وسياسية‬
‫الثقافية والمشاريع االستشارية التي تركّزت إلى‬ ‫إال بالقدر الذي تبحث فيه الفئة األقلية عن تأمين‬
‫ح ّد كبير في وحدة البحث التابعة لوزارة الثقافة‬ ‫وجودها‪ .‬إ ّن االستقالل الذاتي لألقليات ال ب ّد من‬
‫والخطة الوطنية(‪.((1‬‬ ‫أن يكون في ظل البناء الشامل للمجتمع؛ فاألقلية‬
‫أو الفئات العرقية تؤ ّدي دورها في ظل التع ّدد لكن‬
‫ينطلق دو سارتو في كتابه من مبدأ إبستيمولوجي؛‬ ‫في اتجاه خدمة األهداف الوطنية الكبرى(‪،((1‬‬
‫فحواه بناء جسور بين الخطابات المختلفة في‬ ‫وبهذا‪ ،‬فإ ّن االستقالل الذاتي مسألة ثقافية تحتاج‬
‫العلوم اإلنسانية(‪ ،((1‬وهذا ما ينطبق على مدارات‬ ‫وخاصة أ ّن لغة االستقالل‬
‫ّ‬ ‫إلى نضاالت مستمرة‪،‬‬
‫السياسة الثقافية عنده التي شملت معالجة‬ ‫الذاتي الحقيقية هي سياسية‪ ،‬وأكبر دليل على‬
‫مسائل عضوية متداخلة‪ ،‬بحيث اتسمت حال ًيا‬ ‫ذلك هو أ ّن البنى االستعمارية كانت تستعمل‬
‫بالتعقيد الثقافي‪ :‬الهجرة‪ ،‬اللغة‪ ،‬السلطة‪ ،‬الثقافة‬ ‫األثنولوجيا ض ّد الثقافة المستع َمرة ولصالح قواها‬
‫والمدرسة‪ ،‬الجامعة‪ ،‬األقليات‪ ،‬التع ّددية الثقافية‪،‬‬ ‫المستع ِمرة‪.‬‬
‫العنف ‪ ...‬إلخ‪ .‬يحتاج هذا التعقيد الثقافي إلى‬
‫صناعة سياسات ثقافية فاعلة في الحدث الثقافي‬ ‫اسات َث َقافِ َّية‬
‫س َي َ‬ ‫ً‬
‫ثالثا‪ِ :‬‬
‫الفرنسي؛ لذلك "ت ُشير الثقافة اليوم إلى عملٍ ينبغي‬ ‫اعتبِر عمل دو سارتو نقطة مرجعية راسخة في‬
‫مباشرته على مدى الحياة االجتماعية" (ص ‪.)200‬‬ ‫النقاش حول السياسة الثقافية الفرنسية(‪ ،((1‬بحيث‬
‫وفيما يتعلق بموقع الثقافة في المجتمع‪ ،‬يحاكي‬
‫هذا التصور إلى ح ّد بعيد ما ذهب إليه عالم‬ ‫(‪ ((1‬إنّ مسألة األقليات تنشأ ً‬
‫دائما في إطار الدولة–األمة‬
‫‪ l’Etat–nation‬ومن ثم فهي تهم‪ ،‬كما يشير دو سارتو‪،‬‬
‫السياسة األميركي جويل إس مجدال ‪Joel S.‬‬ ‫جميع مواطني الدولة‪ ،‬وليس أعضاء هذه األقلية فحسب‪.‬‬
‫على سبيل المثال انفصال كيبيك ‪ Québec‬عن كندا عام‬
‫‪ Migdal‬في بحثه عن حدود العالقة بين الدولة‬ ‫‪ ،1998‬والحكم الذاتي لمنطقة فينيتو ‪ Vénétie‬في إيطاليا‪.‬‬
‫والمجتمع‪ ،‬حيث اقترح مقاربة‪" :‬الدولة في‬ ‫أكدت شروط الحكم الذاتي عام ‪ 1998‬أن الوحدة‬
‫السياسية لشعب ما تتطلب من الدولة إشراك جميع‬
‫المجتمع" لحل الصراع االجتماعي‪ ،‬مستشه ًدا‬ ‫المواطنين في اتخاذ القرارات بشأن مسألة األقليات‪ ،‬حتى‬
‫بفكرة دو سارتو عن مقاومة الصورة المتجلّية في‬ ‫محدد‪ .‬ينظر‪:‬‬
‫لو كانت تتعلق بجزء منهم أو بإقليم ّ‬
‫‪Claire Barthélemy, "La culture au pluriel: Une lecture du‬‬
‫‪(16) Ibid., p. 12.‬‬ ‫–‪livre de Michel de Certeau," Centre international Lebret‬‬
‫‪(17) "Ignacio Gárate–Martínez, Entretien avec Michel de‬‬ ‫‪Irfed, December 2006, accessed on 7/3/2023, at: http://bit.‬‬
‫‪Certeau," Figures de la psychanalyse, vol. 1, no. 8 (2003),‬‬ ‫‪ly/40VeZyA‬‬
‫‪p. 105.‬‬ ‫‪(15) Ahearne, p. 79.‬‬
‫‪169‬‬ ‫بتكلا تاعجارم‬
‫راس ود لاشيمل ]ةديج ةَّيفاقث تاسايس[ ‪:‬عْمَجلاب ُةَفاَقَّثلا‬
‫د‬

‫النسبي‪ ،‬من حيث إنّه ال يخضع للدقة الحسابية‪.‬‬ ‫القوانين التاريخية للحالة االجتماعية(‪ .((1‬على‬
‫على هذا األساس يقترح المؤلف ما يسميه "النسق‬ ‫هذا األساس تتجه مقاربة الثقافة عند دو سارتو‬
‫الثقافي" (ص ‪ )183‬الذي ال بد من أن يَنتج من‬ ‫نحو نحت سياسة ثقافية قائمة على "تماسك‬
‫إعادة قراءة نقدية لعلوم اإلنسان من خالل مناقشة‬ ‫في األهداف والوسائل واألفعال التي تَصبو إلى‬
‫بنيته التاريخية واالجتماعية المتوافقة مع التجارب‬ ‫تعديل السلوكيات تب ًعا لمبادئ أو معايير موضَّ حة"‬
‫الثقافية المتباينة (المجتمعات األوروبية‪ ،‬الثقافة‬ ‫(ص ‪.)203‬‬
‫الالتينية – األميركية‪ ،‬بلدان العالم الثالث)‪.‬‬
‫خصص دو سارتو في هذا القسم من الدراسة‬ ‫يُ ّ‬
‫استعاض دو سارتو عن المناهج الكمية‬ ‫قسطًا من االهتمام بتحديد أدوات اشتغال الرؤية‬
‫"التخاصص" في العلوم اإلنسانية‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫بـ‬ ‫النخبوية للثقافة داخل بنية المجتمع‪ ،‬بحيث‬
‫التخاصص؛‬
‫ُ‬ ‫"ال إمكانية لمراجعة هيكلية سوى في‬ ‫وفصاًل‬
‫ً‬ ‫يعتبرها أدا ًة لعزل المعرفة عن األداء‬
‫أي في العالقة الممكن إدراكها ومناقشتها‪ ،‬وفي‬ ‫للنظرية عن الفعل وتميي ًزا للنخبة من الجمهور‪،‬‬
‫الحدود والتقسيمات الدالَّة على نسق‪ ،‬الممكن‬ ‫وكذا تفريقًا بين الطلبة والعمال لتصوير حالة‬
‫نقدها" (ص ‪ ،)195‬وفي هذا الصدد يقدم أبسط‬ ‫القلق االجتماعي السائد في أثناء ثورة مايو‬
‫مثال عن إبستيمولوجيا الظاهرة االجتماعية عند‬ ‫‪1968‬؛ ما عكس البهتان المخ ّيم على المجتمع‬
‫هاربرت ماركوز ‪–1898( Herbert Marcuse‬‬ ‫والصادر عن المؤسسات‪ .‬تضع النخبة جدا ًرا‬
‫‪ ،)1979‬حول كيفية اشتغال المعرفة في مجتمع‬ ‫عازاًلً بين الجمهور والثقافة من خالل التحليل‬
‫كاًل من‬
‫االستهالك األميركي‪ .‬فقد اختار ماركوز ً‬ ‫الكمي الدقيق لمكونات المجتمع‪ ،‬إ ّن الثقافة بهذا‬
‫علم االقتصاد وعلم النفس بالتركيز على العملية‬ ‫التعبير السابق‪ ،‬الذي يدل على "الواقع المه َّمش"‬
‫اإلنتاجية والتقسيم االجتماعي للعمل بحسب‬ ‫(ص ‪ ،)194‬تغدو خاوية من القيم الخصوصية‬
‫المقاربة الماركسية‪ ،‬وفي اآلن ذاته االهتمام‬ ‫للفرد‪ ،‬وإفرازًا للحالة السكونية للجمهور‪ ،‬وهذا‬
‫بكل ما هو مدفون ومختزن في البنية الالشعورية‬ ‫ناتج من هيمنة التقني على الثقافي؛ بمعنى‬
‫من خالل التحليل النفسي الفرويدي (الرغبة‬ ‫"استخدام الثقافة كإطار تأويلي لفهم السلوك‬
‫المكبوتة)‪ .‬وفي النهاية يؤكد هذا التقاطع بين‬ ‫البشري كرد فعل ض ّد هيمنة األرقام‪ ،‬والتفسيرات‬
‫المقاربتين عند ماركوز أ ّن اإلنتاج وتقسيم‬ ‫األحادية"(‪ .((1‬يَدعو دو سارتو إلى ضرورة التأكيد‬
‫العمل‪ ،‬بتشكلهما داخل نفسية المستهلك‬ ‫على علوم إنسانية منفلتة من المعرفة التقنية؛ أل ّن‬
‫وانعكاسهما على سلوكه الذي يع ّبر عن مظاهر‬ ‫العلم اإلنساني في جوهره قابل للنقد واالعتبار‬
‫المقاومة والقمع في اآلن نفسه‪ ،‬هما‪" :‬الدور‬ ‫‪(18) Joel S. Migdal, "The State–in–Society Approach: A‬‬
‫الخاّلق والثوري للعمل بالنسبة للماركسية؛‬ ‫ّ‬ ‫‪New Definition of the State and Transcending the‬‬
‫‪Narrowly Constructed World of Rigor," in: Joel S. Migdal,‬‬
‫الوظيفة القمعية والتسلُّطية لألب في الفرويدية"‬ ‫‪State in Society: Studying How States and Societies‬‬
‫(ص ‪ .)187‬إ ّن ماركوز يرسم هذه التكاملية‬ ‫‪Transform and Constitute One Another (Cambridge:‬‬
‫‪Cambridge Studies in Comparative Politics, 2001), p. 26.‬‬
‫المعرفية ليُبرز أوجه الصراع داخل المجتمع‪،‬‬ ‫'‪(19) Peter Jackson, "Pierre Bourdieu, the 'Cultural Turn‬‬
‫لكن كل نسق فكري (ماركسي أو فرويدي)‬ ‫‪and the Practice of International History," Review of‬‬
‫‪International Studies, vol. 34, no. 1 (January 2008),‬‬
‫له حمولة تاريخية تميّزه من اآلخر؛ ما يص ّعب‬ ‫‪p. 157.‬‬
‫العدد ‪ - 44‬المجلد ‪Issue 44 - Volume 11 / 11‬‬
‫ربيع   ‪Spring 2023‬‬ ‫‪170‬‬
‫مهمة االستعمال األصلي بوصفها مقاربة شاملة خاتمة‬
‫ينظر دو سارتو إلى الثقافة على أنها صناعة‬ ‫و ُمدمجة‪.‬‬
‫بالجمع محورها استعادة الثقافة المنسيّة من ضفة‬ ‫وفي السياق نفسه‪ ،‬ال بد من التذكير أ ّن للعلم بنية‬
‫الهامشي والمنبوذ‪" :‬دهليزية" الثقافة(‪ ،((2‬وإعادتها‬ ‫مجتمعية معقدة؛ فمن جهة‪ ،‬في إمكانه أن يشكّل‬
‫إلى مكانها األصلي في المجتمع‪ .‬ركّز المؤلف‬
‫ذاته من المعرفة‪ ،‬وعلى الضد من ذلك يمكن أن‬
‫"حقاًل في الصراع‬
‫ً‬ ‫في عمله على الثقافة‪ ،‬بوصفها‬
‫تشكله البنى السياسية واالقتصادية‪ .‬ففي اعتقاد‬
‫المتع ّدد األشكال بين الخشن واللين" (ص ‪،)239‬‬
‫دو سارتو إ ّن العلم مرتبط أشد االرتباط بالشرط‬
‫من خالل البحث عن بديل الستراتيجية الثقافة‬
‫اإلنساني؛ "في أصل كل علم هناك خيارات‬
‫بالمفرد التي "تقوم بفرض قانون سلطتها"‬
‫أخالقية وثقافية‪ .‬القبليات التاريخية واالجتماعية‬
‫(ص ‪ ،)245‬وفقًا للسيطرة والتحكّم اللذين‬
‫لمعرفتنا يكشف عنها اليوم الحدث كما هي"‬
‫تزاولهما السلطة من أجل تشكيل تصور نخبوي‬
‫للثقافة‪ ،‬يُنتج نمطًا مجتمعيًا واح ًدا‪ .‬هذا البديل‬ ‫(ص ‪ .)183–182‬إ ّن الخطاب العلمي‪ ،‬في رأيه‪،‬‬
‫هو تكتيكية الثقافة بالجمع التي "تستدعي النضال‬ ‫يولد في سياق الواقع االجتماعي ومح ّدداته‬
‫دو ًما" (ص ‪ ،)245‬وت ُم ّيز نشاط الجمهور وفقًا لقيم‬ ‫الشاملة‪ .‬وهنا تبرز الثقافة بوصفها مح ّد ًدا أساس ًيا‬
‫التع ّدد والتنوع واالختالف المتطلِّع إليها‪ ،‬مسم ًعا‬ ‫لموقعها داخل المجتمع‪ .‬ومن أجل تفكيك البنية‬
‫صوته للنخبة بأ ّن حركة اإلبداع الثقافي ال يمكنها‬ ‫الكلية للثقافة باعتبارها موق ًعا تحتله في المجتمع‪،‬‬
‫أن تتحقق من دون تمثل واضح للحرية‪ .‬إ ّن تح ّرر‬ ‫وواق ًعا يَعكس حاجيات الفاعل االجتماعي‪،‬‬
‫الطاقات السائلة والمتع ّددة لألفراد‪ ،‬يمكن أن‬ ‫انطلق دو سارتو من جرد اصطالحي وظيفي‬
‫تمنحهم حرية التسلل إلى النواة االستراتيجية‬ ‫للعالقة بين الثقافة والثقافي‪" ،‬فمن الضروري‬
‫الصلبة للنظام االجتماعي المهيمن إلحداث تغيير‬ ‫على األقل تحديد االستعمال الخاص هنا بالثقافة‬
‫خاّلق في مكوناته المفصلية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والثقافي" (ص ‪ ،)201‬لتوضيح أبرز المشكالت‬
‫قصب السبق على التمثالت‬ ‫َ‬ ‫حازت الممارسات‬ ‫الثقافية التي يمكن حصرها في نظره في ثنائية‬
‫ولعل‬
‫ّ‬ ‫عند دو سارتو في مقاربته لمسألة الثقافة‪،‬‬ ‫النخبة والجمهور‪ .‬والهدف من ذلك هو تحطيم‬
‫هذا وجه النقد اإلبستيمولوجي الذي يمكن‬ ‫هذه الثنائية بممارسة تقنية قلب المواقع؛ أن‬
‫جه إلى الثقافة بالجمع؛ إذ إ ّن التمثالت‬ ‫أن يو َّ‬ ‫فاعاًل أساس ًيا بداًلً من أن يكون‬
‫ً‬ ‫يغدو الجمهور‬
‫االجتماعية في أصلها هي عبارة عن "أنظمة اآلراء‬ ‫منفعاًل لكل ما يصدر عن النخبة‪ ،‬بما يحوزه من‬ ‫ً‬
‫والمعارف والمعتقدات الخاصة بثقافة أو فئة أو‬ ‫ثقافة شعبية من خالل استعداده الدائم لتجسيد‬
‫مجموعة اجتماعية والمرتبطة أيضً ا بموضوعات‬ ‫عملية االبتكار الثقافي التي تنبع من سياقه‬
‫(‪ ((2‬بشأن هذا المصطلح‪ .‬ينظر‪ :‬محمد شوقي الزين‪،‬‬
‫األنطولوجي الخاص به‪ ،‬على عكس المقاربة‬
‫"فلسفات الثقافة المعاصرة أمام تحديات العلوم اإلنسانية‪:‬‬ ‫التقنويّة والتحكّمية التي تر ّوج لها النخبة وفقًا‬
‫لوتشيان بالغا‪ ،‬فرناند دومون‪ ،‬ميشال دو سارتو"‪ ،‬مجلة‬
‫دراسات إنسانية واجتماعية‪ ،‬العدد ‪( 9‬كانون الثاني‪ /‬يناير‬
‫لصياغتها لسياسات ثقافية تحتكم إلى التخطيط‬
‫‪ ،)2019‬ص ‪.58‬‬ ‫والبرمجة والقولبة‪.‬‬
‫‪171‬‬ ‫بتكلا تاعجارم‬
‫راس ود لاشيمل ]ةديج ةَّيفاقث تاسايس[ ‪:‬عْمَجلاب ُةَفاَقَّثلا‬
‫د‬

‫البيئة االجتماعية"(‪ ،((2‬بمعنى أنها صور ذهنية المجتمع‪ ،‬في المقابل يرمي وفقًا للثقافة بالجمع‬
‫"الخاّلقة"‬
‫ّ‬ ‫متم ِثلة لدى الفرد عن موضوعات متمثَلة في إلى معنى الممارسات الثقافية اليومية‬
‫الواقع االجتماعي ؛ ما يدل على الفصل خارج توجه السلطة‪ .‬لكن أال يمكن لحركة‬
‫(‪((2‬‬

‫التعسفي الراديكالي الذي أقامه دو سارتو بين اإلبداع الثقافي التي تقودها الجماهير بوصفها‬
‫التمثالت والممارسات‪ ،‬فالثانية هي فرع من أصل تكتيكية أن تتحول يو ًما ما إلى سلطة استراتيجية‪،‬‬
‫تمثله األولى‪ .‬وعلى هذا األساس‪ ،‬تجد المكونات وال سيما في ظل مقاومتها للبرامج المركزية‬
‫الذاتية والهوياتية للثقافة رافدها األساس الذي‬
‫لدوائر القرار السياسي النخبوية المتصلة بعملية‬
‫تتغذى منه في الشروط البنيوية المحيطة بالفرد‬
‫صناعة السياسات الثقافية‪ ،‬من أجل تلبية مطلبها‬
‫والمشكلة لثقافته‪ .‬كان يقصد دو سارتو من‬
‫الجوهري‪ :‬الحرية؟ هل يمكن أن يغدو الهامش‬
‫الثقافة بالمفرد التمثالت اإلكراهية للسلطة داخل‬
‫مرك ًزا؟ وإذًا‪ ،‬عودة إلى حالة الصفر‪ :‬الثقافة‬
‫)‪ (21‬بالمفرد‪ ،‬على اعتبار أ ّن منطق تمثالت السلطة‬ ‫‪Patrick Rateau, Grégory Lo Monaco, "La théorie des‬‬
‫‪représentations sociales: Orientations conceptuelles,‬‬
‫داخل الممارسات الثقافية والتاريخية يعني أ ّن‬ ‫‪champs d’applications et méthodes," Revista CES‬‬
‫‪Psicología, vol. 6, no. 1 (Enero–Junio 2013), p. 3.‬‬
‫(‪ ((2‬حول مفهوم التمثالت االجتماعية ينظر‪ :‬بن ميسية المركز االستراتيجي يوجد في الهامش التكتيكي؛‬
‫فوزية وضيف غنية‪" ،‬التمثالت االجتماعية‪ :‬مقاربات ألن الهامش يحاول دائ ًما تفكيك المركز إلعادة‬
‫المفهوم في العلوم االجتماعية"‪ ،‬مجلة المعيار للدراسات‬
‫إنتاج مركزيات مضادة‪.‬‬ ‫اإلسالمية واإلنسانية‪ ،‬مج ‪ ،25‬العدد ‪.)2021( 60‬‬

‫‪References‬‬ ‫المراجع‬
‫العربية‬
‫الزين‪ ،‬محمد شوقي‪" .‬فلسفات الثقافة المعاصرة أمام تحديات العلوم اإلنسانية‪ :‬لوتشيان بالغا‪ ،‬فرناند‬
‫دومون‪ ،‬ميشال دو سارتو"‪ .‬مجلة دراسات إنسانية واجتماعية‪ .‬العدد ‪( 9‬كانون الثاني‪ /‬يناير ‪.)2019‬‬

‫_______‪ .‬الغسق والنسق‪ :‬مقدمة في أفكار ميشال دو سارتو (الكنان‪ ،‬التاريخ‪ ،‬اليومي)‪ .‬بيروت‪/‬‬
‫الجزائر‪ :‬المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر‪ ،‬مدارج – الوسام العربي‪.2018 ،‬‬

‫_______‪ .‬ميشال دو سارتو‪ :‬منطق الممارسات وذكاء االستعماالت – مدخل إلى قراءة تداولية‪.‬‬
‫الجزائر‪ :‬ابن النديم للنشر والتوزيع؛ بيروت‪ :‬دار الروافد الثقافية ناشرون‪.2013 ،‬‬

‫فوزية‪ ،‬بن ميسية وضيف غنية‪" .‬التمثالت االجتماعية‪ :‬مقاربات المفهوم في العلوم االجتماعية"‪ .‬مجلة‬
‫المعيار للدراسات اإلسالمية واإلنسانية‪ .‬مج ‪ .25‬العدد ‪.)2021( 60‬‬

‫فوكوياما‪ ،‬فرانسيس‪ .‬الثقة‪ :‬الفضائل االجتماعية ودورها في خلق الرخاء االقتصادي‪ .‬ترجمة معين اإلمام‬
‫ومجاب اإلمام‪ .‬الدوحة‪ :‬منتدى العالقات العربية والدولية‪.2015 ،‬‬
Issue 44 - Volume 11 / 11 ‫ المجلد‬- 44 ‫العدد‬
Spring 2023   ‫ربيع‬ 172
‫األجنبية‬
Ahearne, Jeremy. Between Cultural Theory and Policy: The Cultural Policy Thinking
of Pierre Bourdieu. Michel de Certeau & Régis Debray (trans.). Coventry: Centre for
Cultural Policy Studies, 2004.
Barthélemy, Claire. "La culture au pluriel: Une lecture du livre de Michel de Certeau."
Centre international Lebret–Irfed, December 2006. https://2u.pw/VuR5Px
de Certeau, Michel. "Pour une nouvelle culture. Le pouvoir de parler." Études. vol. 408,
no. 5 (2008).
_______. L'écriture de l'histoire Paris: Gallimard, 1975.
_______. La culture au pluriel. 3ème ed. Paris: Seuil, 1974.
Dosse, François. "Michel de Certeau: Un historien de l’altérité." Texte inédit, Conférence
à Mexico (Septembre 2003). at: https://bit.ly/3Z6smeh
Gárate–Martínez, Ignacio. "Entretien avec Michel de Certeau." Figures de la
psychanalyse. vol. 1, no. 8 (2003).
Jackson, Peter. "Pierre Bourdieu, the 'Cultural Turn' and the Practice of International
History." Review of International Studies. vol. 34, no. 1 (January 2008).
Migdal, Joel S. State in Society: Studying How States and Societies Transform and
Constitute One Another. Cambridge: Cambridge Studies in Comparative Politics, 2001.
Morin, Edgar. "De la culturanalyse à la politique Culturelle." Communications. no. 14
(1969). at: https://bit.ly/3xTMmVt
Muers, Stephen. "Culture, Values and Public Policy." IPR Report, University of Bath
(September 2018).
Séradin, Jean–Yves. "L’inventivité pédagogique de Michel de Certeau: Une approche
ignacienne de l’enseignement." Educatio. no. 6 (2017). at: https://bit.ly/3kpmj5H
Zine, Mohammed Chaouki. L’ordinaire et le quotidien. Introduction à la théorie des
pratiques et des usages chez Michel de Certeau. Beirut: University Foundation for
Studies and Publishing, 2016.

You might also like