Professional Documents
Culture Documents
Tabayunالثقافة بالجمع
Tabayunالثقافة بالجمع
https://doi.org/10.31430/HYOJ1159
القبول Accepted
2022-1-19
التعديل Revised
2022-1-17
التسلم Received
2022-1-16
*(((6
محمد أمين بن جياللي | Mohammed Amine Bendjilali
ّ
مراجعة كتاب
بالج ْمع[ :سياسات ثقاف َّية جديدة]
َ اف ُة َّ
الث َق َ
لميشال دو سارتو
Book review
Culture in the Plural
by Michel de Certeau
مؤهل في كلية الحقوق والعلوم السياسية ،جامعة أبي بكر بلقايد بتلمسان ،الجزائر.
* أستاذ محاضر ّ
Assistant Professor, Faculty of Law and Political Science, Abi Bakr Belkaid University, Tlemcen, Algeria.
amine.bendjilali@yahoo.fr
العدد - 44المجلد Issue 44 - Volume 11 / 11
ربيع Spring 2023 162
مقاربة جديدة من أجل فهم مغاير للثقافة التي لم مقدمة
تَعد في المنظور التداولي عند دو سارتو منفصل ًة يضطلع كتاب الثقافة بالجمع La
عن المجتمع ،بل هي ما يشبه تعبير كليفورد غيرتز ((()1993( culture au plurielلميشال
Geertz Cliffordفي تأويل الثقافات عام 1973 دو سارتو (((Michel de Certeauبمه ّمة ترسيخ
"نسيج المعنى الذي يولّد األفعال االجتماعية"(((، (1) Michel de Certeau, La culture au pluriel, 3ème ed.
على عكس ما كان سائ ًدا في التَّصور الح ّدي (Paris: Seuil, 1974), p. 228.
هذا الكتاب هو في األصل لقاءات أجراها دو سارتو مع
الثابت للثقافة الذي اختزلها في "مجموع اإلدراكات مختلف الفاعلين الرسميين وغير الرسميين في الحقل الثقافي،
والتقاليد واألفكار والمعارف والعادات التي تُشكّل المتفرقة
ّ دونها في شكل نصوص وسلسلة من المقاالت ثم ّ
التي نشرها بين عامي 1968و( 1973يمكن الرجوع إلى
رؤية العالم" (ص .)10عطفًا على ما سبق ،يكتسي الصفحات 34و 35من المؤ َّلف لالطالع على عناوين تلك
هذا المؤلَّف أهمية نظرية ونقدية وديناميكية بالغة وعدلها
ّ المقاالت في نشرتها األولى) .راجعها الكاتب
وجمعها في الطبعة األولى التي صدرت عن دار النشر الفرنسية ّ
للحقول المعرفية في العلوم اإلنسانية .تُشير لوس Seuilبباريس عام ،1974وهناك طبعة ثانية صدرت عام
جيار Luce Giardأنّه "يُمكن لكتاب الثقافة بالجمع ،1980وهي دراسات وإضافات وتعديالت أدرجها دو سارتو،
وهي الطبعة التي اعتمدتها الباحثة والكاتبة الفرنسية لوس
أ ْن يكو َن مق ّدم ًة مشروع ًة لألنثروبولوجيا السياسية وقدمت جيار Louis Geyerلتخريج الطبعة الثالثة التي نقحتها ّ
عند دو سارتو" (ص .)34ومن هنا أحدث دو سارتو لها عام .1993وبحسب تصريح المترجم محمد شوقي
الزين ،في حوار صحفي ليومية الوسط الجزائرية (عدد 7آب/
تح ّواًلً بارزًا في مسار الفكر والثقافة والدراسات أغسطس )2021قبل نحو شهر من صدور الكتاب ،كان أول
الثقافية المعاصرة تحدي ًدا ،إذ ط َر َق مسألة الثقافة نشر لهذه الترجمة في سنة 2012بالمنامة في البحرين عن
وزارة الثقافة والفنون ،في إطار فعاليات المنامة عاصمة الثقافة
باستدعاء اليومي والعادي من الحياة المعيشة، يتعد بضع نسخ؛ لذلك خاصا لم ّ نشرا ً العربية ،والذي كان ً
فأصبحت الثقافة معه مجااًلً يُدرس على المستوى أعادت "الروافد الثقافية" بعث الكتاب من جديد في نسخته
العربية عام .2022ينظر" :ترجمة جديدة لكتاب الثقافة بالجمع
وخصوصا عند تفكيكه
ً الجزئي "الميكروسكوبي"، لميشال دو سارتو" ،الوسط ،2012/8/6 ،شوهد في:
علوم اإلنسان إلى مجاالت أصغر وأدق هي :الدين ،2023/2/25فيhttps://bit.ly/3ExsjQz :
والتاريخ والثقافة .ويبدو أ ّن نقد دو سارتو لمفهوم مؤرخ وأنثروبولوجي وفيلسوف فرنسي معاصرَ .عمل ((( ّ
زائرا في جامعة سان دييغو بكاليفورنيا ،وأستاذ أستا ًذا ً
الثقافة ،كان في سياق ميالد فلسفة الثقافة ،في األنثروبولوجيا الثقافية وأنساق االعتقاد في المدرسة العليا
صلة قويّة بالحدث الثقافي األهم؛ ثورة مايو للدراسات االجتماعية في باريس .من أهم أعماله حول
الثقافة :األخذ بزمام الكالم ()1968؛ والثقافة بالجمع ()1974؛
1968بفرنسا((( ،بالرغم من "صعوبة استيعاب وابتكار الحياة اليومية ( .)1980توجد طريقتان لفهم فكر
المجتمع الفرنسي للقطيعة الثقافية والجيلية"(((. دو سارتو :قراءة جوانية وقراءة برانية .األولى ،ترتبط بالسؤال
التالي :أي وسيلة تمكننا من قراءة ميشال دو سارتو؟
ما المرجعيات والمفاهيم والمناهج المستعملة لالشتغال على
"(3) Stephen Muers, "Culture, Values and Public Policy,
IPR Report, University of Bath (September 2018), p. 5.
نصوصه؟ يفضل المترجم "قراءة ميشال دو سارتو بميشال
دو سارتو نفسه" Lire Michel de Certeau par Michel de
((( ثورة مايو 1968هي معركة األفراد من أجل سياسة Certeau lui-même؛ أي بقراءة أفكاره وفقًا للمفاتيح المفاهيمية
ُدبر على مستوى العتبة التحتية للمجتمع وليس على ت َّ الخاصة بنصوصه في إطار نسيج راهنيتها .الثانية ،هي استقراء
صعيد البنية الهرمية لمراكز القرار .للتفصيل أكثر ،ينظر: أفكار خارج نص دو سارتو ومحاولة إسقاطها عليه كما فعل
محمد شوقي الزين ،الغسق والنسق :مقدمة في أفكار يان بوكانان Ian Buchananوفلور كورتوا لورو –Fleur Courtois
ميشال دو سارتو (الكنان ،التاريخ ،اليومي) (بيروت: L’heureuxباستعمالهما مفاهيم جيل دولوز Gilles Deleuze
المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر؛ الجزائر :مدارج – ( )1995–1925في تحري نصوص دو سارتو ،ينظر:
Mohammed Chaouki Zine, L’ordinaire et le quotidien.
الوسام العربي ،)2018 ،ص .68 Introduction à la théorie des pratiques et des usages chez
(5) Michel de Certeau, "Pour une nouvelle culture. Le Michel de Certeau (Beirut: University Foundation for
pouvoir de parler," Études, vol. 408, no. 5 (2008), p. 629. Studies and Publishing, 2016), p. 49.
163 بتكلا تاعجارم
راس ود لاشيمل ]ةديج ةَّيفاقث تاسايس[ :عْمَجلاب ُةَفاَقَّثلا
د
االجتماعية ،على أ ْن يكون هذا الفعل مصحوبًا يتلّخص المسعى الحثيث للمؤلّف في محاولته
بال ّداللية والفاعلية والتبادليّة .فال ّداللية متصلة نزع الطابع التجريدي عن مفهوم الثقافة ،في مقابل
بتبديد األوهام العالقة في ذهن الفرد حول رؤيته االشتغال على إضفاء السمة اإلجرائية عليه ،وذلك
للممارسات االجتماعية ولغة الخطاب المتشكّلة عن طريق جعله مرتبطًا بالفعل الثقافي ،ومتميّ ًزا
حول المجتمع .أما الفاعلية ،فمرتبطة بإيجاد الفضاء جا لعمليات ثقافية مبدعة داخل بداللة واضحة ،ومنت ً
المالئم للممارسات الثقافية للحاضر ،وإعادة بعث الفضاء االجتماعي .وعليه ،تتمحور اإلشكالية
الطاقات اإلبداعية من مكانها الهامشي .وأخي ًرا المركزية للكتاب حول البحث عن كيفية تشكّل
التبادليّة التي ترسم خريطة طريق للبحث عن خاَّلقًا داخل
الثقافة وتكوينها ،باعتبارها نشاطًا َّ
سياسات ثقافية في إمكانها وصل الدولة ومؤسساتها فضاءات إكراهية واشتراطات قسرية ،مما يُبين عن
باليومي الخاص بالجمهور .ترتبط الرهانات مفارقة مستترة تُلزم الكاتب بالحفر في المقتضيات
السياسية واالجتماعية لألسئلة التي يتناولها الكتاب األيديولوجية والسياسية التي تقبع تحت سطح
بخلق الحاضر والقدرة على إضفاء داللة على معنى الثقافة وتتحكم في الفعل الثقافي .لذلك ينطلق
االختالف من أجل العيش المشترك. دو سارتو من فرضية "االبتكار" الثقافي التي يقصد
بها كل ما يصنعه الجمهور ثقافيًا خارج إرادة النخبة،
ً
أوالَ :غ َرائِب َّيات َ وبعي ًدا عن كل ما تنتجه سلطتها ،وبمعنى آخر؛
يعات
ط َوق ِ
ما يمكنه أن ينفلت من المخطط الصارم للسياسة
غة في ال ُّل َ
الثقافية ،ويرتهن بفاعلية اإلنجاز لدى الجمهور،
ينطلق دو سارتو من اإلشارة إلى أزمة شاملة في بحيث يربط دو سارتو ذلك بشرط إمكانٍ هو
"التمثيالث" داخل الحضارة الغربية ،والتي ت ُع ُّد الحرية؛ أل ّن هذا الكتاب بحسب لوس جيار Luce
السيادة في المجتمعات، رئيسا لتناقض ّ
ً سببًا درسانصا سياس ًياً ،" Giardيتبدى بشكل أساس ً
وتقويض الثقة في المؤسسات وتداعي القيم في الحرية" (ص ،)33اعتمد دو سارتو على نقد
في الممارسات ،ويدعو إلى ضرورة البحث البداهات والمسلمات والخطابات الجامدة التي
عن سلطة شرعية تَضمن الثقة المجتمعية تحوزها النخبة حول الثقافة ،وفي المقابل سار نحو
والمؤسسية((( ،وبقاء القيم في المجتمع باعتبارها
ّ اإلزاحة على الممارسة التداولية للثقافة من الفاعل
مرجعيات مشتركة ،وذلك ما يفترضه في موضع االجتماعي .وارتكز على توليف منهجية مركّبة
آخر من كتاباته" :يجب إضفاء الشرعية على تتناغم داخلها األدوات التاريخية ،واألنثروبولوجية،
السلطة ،لتحديد القوة التي تجعلها ف ّعالة ،وخلق والدراسات الفلسفية ،واأللسنية ،والنفسية .واعتبر
المفهوم التداولي للثقافة في ح ّد ذاته أداة تأويلية
((( أكّ د هذا االتجاه األستاذ فرانسيس فوكوياما Francis
،Fukuyamaعندما اعتبر أنّ الثقة هي بمنزلة رأس المال وتحليلية للممارسات اليومية.
االجتماعي و"السمة الثقافية الوحيدة" والراسخة التي
ال يمكن االستغناء عنها في بناء القدرة التنافسية للمؤسسات يتجه دو سارتو من خالل هذا العمل الذي تبرز
والدول واألفراد في المجال االقتصادي .ينظر :فرانسيس ِمعماريته األساسية في بناء تمفصل بين الثقافة
فوكوياما ،الثقة :الفضائل االجتماعية ودورها في خلق الرخاء
االقتصادي ،ترجمة معين اإلمام ومجاب اإلمام (الدوحة: العالِمة والثقافة الجماهيرية إلى الكشف عن
منتدى العالقات العربية والدولية ،)2015 ،ص .27–26 المسارات اإلبداعية للفعل الثقافي داخل الحياة
العدد - 44المجلد Issue 44 - Volume 11 / 11
ربيع Spring 2023 164
الغضب ،ثمة الرغبة في خلق مدينة وسياسة" سيادة تمكنها من القابلية للتصديق"((( .تخلق هذه
(ص .)53وكأ ّن دو سارتو يلفت االنتباه إلى العنف األزمة في األفق المنتظر لإلنسان الغربي حضو ًرا
الخالق في المدينة؛ أي إلى مكان مع ّين في الحاضر للقلق وغيابًا للمعنى وحج ًبا للحقيقة ،وقد تحمل
يتميّز بمظهر العنف ،ثم سرعان ما يتح ّول في والعنف
َ هذه التجليات لفقدان الصدقية الوه َم
المستقبل إلى إمكانية لإلبداع الثقافي لمظهر جديد. وكل ما هو غريب عن واقع التنظيم االجتماعي،
وبتعبير دو سارتو "االفتقار إلى التمثيالت
وفقًا لرؤية دو سارتو ،يَبدأ هذا النمط من العنف
االجتماعية" (ص .)48تع ّبر أزمة التمثيالت
ضمن الوعي والخيال عند األفراد الذين يعيشون في
االجتماعية للحركات الشعبية عن شمولية واقع
المدينة ،أ ّما على الضفة األخرى فيوجد ال ِمخيال
المنفعة والهيمنة في مقابل انحسار القيم والحرية،
المؤسسة .األول فيه مساحة كبيرة من اإلبداع َّ لدى
نظ ًرا إلى ارتباط مرجعياتها بتوازنات سياسية
واالبتكار واالنفتاح على التع ّدد الفكري؛ أما الثاني
واقتصادية وثقافية يمكن أن تعمل على تدمير
فتُالزمه الهيمنة والسطوة والقوة واعتماد األحادية
الوعي الجمعي الذي شكّل صدقيتها.
حد في التفكير والممارسة؛ أي إنتاج نمط فكري مو ّ
للعيش .والوظيفة األساسية لهذا ال ِمخيال هي إ ّن انهيار الصدقية وانعدام الثقة بين المجتمع
فاعاًل
ً التح ّول في نظرة الفرد إلى ذاته ،من كونه والمؤسسات ،يتجلّى تحدي ًدا في حدوث العنف
سوسيولوجيًا وثقافيًا ،إلى كونه متتبّ ًعا ومشاه ًدا الذي تبدأ مالمحه بارز ًة في سلوكيات أفراد المجتمع
لألحداث ،فقد "نتحول إلى مشاهدين بالتخلي عن المؤسسي التي تبدوّ الرافضة لمخرجات النسق
كوننا فاعلين" (ص .((()62ربما يَنحو دو سارتو، واهي ًة وغير يقينية وتسلّطية ،قائمة على اإلخضاع
حداثي
ّ حى ما بعدفي الوظيفة الثانية لل ِمخيال ،من ً واإلذعان والقهر .فالعنف هو نتيجة طبيعية للعصيان
عندما يُؤكّد أ ّن األسطورة بوصفها موضو ًعا المدني" ،يُولد العنف قبل كل شيء من التم ُّرد ضد
لل ِمخيال ال تزال حاضرة في العقل العلمي اليوم، المؤسسات وضد تمثيالت أصبحت 'غير قابلة َّ
ولكن بقالب مغاير للتقليدية األسطورية .ويسوق لنا للتصديق'" (ص .)52من هنا يُحاول دو سارتو
مثااًل توضيح ًيا عن خطاب صاحب الثقافة بالجمع ً االقتراب من العنف باعتباره ظاهر ًة صح ّي ًة يمكن أن
اإلشهار في مجتمع االستهالك الذي يزخر بالنظم تُعيد التوازن واالستقرار داخل المجتمع ،فـ "ينبغي
المخيالية كالرموز واأليقونات والخطابات والصور، االعتراف به كواقعة لها قوة" (ص )52؛ إذ يمكن أن
إلى درجة التأث ّر بها بحيث يَغدو الواقع غير فعلي، يكون وسيل ًة للمقاومة المنتظمة من أجل تحصيل
الحقوق العمالية والنقابية واالنتخابية ،فال ينبغي
((( يشبه هذا الطرح – إلى حدٍّ ما – النموذج "البانوبتيكي"
عند ميشال فوكو )1984–1926( Michel Foucaultفي النظر إلى العنف في ذاته ،ومن الضروري الحديث
هندسة السجون بصيغة المراقبة :أن أرى وال يراني أحد. يؤسس طاقات جديدة عند األفراد عن العنف الذي ّ
فاعاًل إلى مراقب .لكن يرفض فتتحول السلطة من كونها ً
والفئات االجتماعية ،سوا ًء على مستوى اللغة أو
دو سارتو "اختزال سيرورة المجتمع إلى نمط مهيمن
ووحيد" ،فالمعرفة التي شكلها فوكو حول المجتمع اإلرادة المتطلّعة إلى بناء عالقات على أساس
الهامشي هي في ذاتها سلطة .ينظر :محمد شوقي الزين، االتصال بالحوار في ظل نشوء المؤسسات ،فـ "وراء
ميشال دو سارتو :منطق الممارسات وذكاء االستعماالت –
مدخل إلى قراءة تداولية (الجزائر :ابن النديم للنشر والتوزيع؛ (7) Michel de Certeau, L'écriture de l'histoire (Paris:
بيروت :دار الروافد الثقافية ناشرون ،)2013 ،ص .162–161 Gallimard, 1975), p. 13.
165 بتكلا تاعجارم
راس ود لاشيمل ]ةديج ةَّيفاقث تاسايس[ :عْمَجلاب ُةَفاَقَّثلا
د
موضوعها أصل تلك الثقافة" (ص .)89وهذا راجع فيقع تحويل جذري في التمثالت االجتماعية؛
بحسب الكاتب إلى الحقيقة ال ُمختلَقة التي تحملها استبدال اللغة العادية بالجسد الغرائبي ،وأنماط
هذه المقاربة ،نظ ًرا إلى محيطها الذي ُولدت فيه الخطاب بوهم الصورة واالستعارة .ويَهدف هذا
والمليء باإلكراهات السياسية واأليديولوجية، "التحويل الثقافي" إلى ربط الرغبة بالواقع ،وهذا
فمن الطبيعي أ ْن يبقى هذا األصل منس ًيا ومعت ًما. ما يعنيه دو سارتو باإلغراء" :ما هو ُمعطى للعين
وعلى عكس ما يُؤمن به الفولكلوريون من أنّه يُختطف من اليد" (ص .)62
يمكن رؤية الثقافة مستقل ًة تما ًما عن السياسات وفي إطار التشريح النقدي للظواهر الثقافية ،والثقافة
وآلياتها وغاياتها ،لكن من دون الخوض في العنف الشعبية واحدة من تلك الظواهر التي تحتاج إلى
التأويلي ،فيجب دائ ًما تجنب ممارسة العنف حتى تأصيل أنثروبولوجي وتاريخي لفهم "غرائبية"
في أثناء فحص الثقافة الشعبية ودراستها ،ومعالجة خصص دو سارتو بحثًا مشتركًا مع الواقع الغربيّ ،
مختلف التلوينات الثقافية. المؤرخين الفرنسيين دومينيك جوليا Dominique
نتيج ًة لهذا ،لم تتع ّد مظاهر اللغة في المجتمع Juliaوجاك روفيل ،Jacques Revelموسوم
إال أداء دورين أساسيين في صورة خطاب متناقض، بـ "بهاء الم ّيت :مفهوم الثقافة الشعبية" ،حاول
تأويل مفردة "بهاء الميت" وفك شفرتها ،فوجد أنها
مرصعة بقيم المساواة
فالظاهر هو خطابات سلمية ّ
اقتراض لغوي يُع ّبر عن سياق تاريخي مع ّين للثقافة
والحرية والسالم ،لكنها في الواقع تتباين بحسب
الشعبية وأدب التج ّول خالل القرن الثامن عشر؛
اختالف "المواقع والمصالح" ،في ضوء ما تمليه
أي كل ما هو عتيد وعميق في الذاكرة من آداب
الشروط المتصلة باألمكنة واألزمنة ،ومن ثم ت ُعيد
ونصوص وثقافات ،فُرضت على مضامينها الرقابة
إنتاج لغة العنف لدى األفراد ومختلف الفاعلين
االجتماعية بداعي ُمقارعة مبادئ "النظام العام
االجتماعيين ،وهذا ما يخلق فارقًا جوهريًا بين
واألخالق والدين" (ص ،)82حاول دو سارتو
ما يُقال وما يمكن ِفعلُه" ،فتصبح اللغة – الخيال
معالجة التحول اإلبستيمولوجي الذي ح َدث في
شيئًا فشيئًا قناع العنف وأداته" (ص .)104يتجلّى
دراسة الثقافة الشعبية متتب ًعا تاريخها االجتماعي،
بوضوح العنف الذي يسكُن اللغة االجتماعية في و ُمبرزًا في النهاية ما ترتّب على نقلها من كونها
الظاهرة البيروقراطية التي أبانت عن دورها اإليجابي مجرد قناعات متشظية ُمعبّر عنها ،إلى موضوع
المتمثل في تنظيم العالقات االجتماعية ،لكن هذا "فولكلوري" قابل للفحص العلمي يندرج ضمن
الدور أصبح سلب ًيا" ،فكلما اتجهت الحياة العمومية الدراسات األنثروبولوجية ،بحيث كانت النتيجة
نحو البيروقراطية ،تفاقمت الرغبة في اللجوء إلى هي توطيد التأسيس العلمي على حساب إقصاء
العنف" (ص )108–107؛ واألمر الذي يدل على الممارسات الثقافية .إ ّن البحث عن أصل الثقافة
ذلك توجه المؤسسات إلى ممارسات النفوذ الشعبية في نظر دو سارتو ال يخلو من تناقضات
والهيمنة والصراع لتحقيق المكاسب والمصالح؛ داخلية؛ فمن جهة ،يُعتبر استعمال المقاربة العلمية
ما جعل عمل سلطة هذه المؤسسات يفتقر إلى مه ًّما ج ًدا في صياغة فرضيات حول هذه الثقافة،
السيادة الفعلية والشرعية .لكن هذا الصراع – بالرغم من عدم التوصل إلى حلول نهائية" ،ثمة
بحسب فهم دو سارتو – يمكن أن نعتبره ناظ ًما ِ فرضية تفرض ذاتها وإ ْن كانت ال تدرك كل شيء.
وليس هاد ًما للمجتمع ،ما دام يُعيد لألشكال األكثر تتخذ تلك الدراسات حول الثقافة الشعبية من
العدد - 44المجلد Issue 44 - Volume 11 / 11
ربيع Spring 2023 166
يقول دو سارتو" :الجامعة هي محل ينبغي ابتكاره" هامشية مركزها الحقيقي في المجتمع كالجامعة
(ص ،)121فال يمكن ابتكار الحياة الجامعية والمدرسة واألقليات.
إال بحل العديد من المعضالت البيداغوجية
المؤسسة
َّ والتربوية والتقنية والمعرفية التي ت ُواجه يدة
ش َّيات َج ِد َ ثان ًياَ :
هامِ ِ
الجامعية؛ ومن أبرزها ُمعضلة البحثي والتعليمي: ما يُريد دو سارتو تَوضيحه هو التركيز على
"ينقسم األساتذة اليوم بحسب هذا التمييز بين الرؤية القائلة بضرورة التحول في طبيعة الدور
السوسيولوجي والثقافي والمعرفي الذي تَضطلع
البحث الذي يدفعهم إلى مغادرة التدريس ،وبين
به الجامعة ،في ظل تغ ّير النظام االجتماعي الغربي
التعليم الذي يُجبرهم على التخلّي عن البحث"
الموسوم بالحضور القوي للطبقة الوسطى وحالة
(ص ،)124يَدعو دو سارتو إلى بناء ثقافي وجيه االكتظاظ الطالبي ،وإضفاء الطابع الديمقراطي
للجامعة ،من أجل إحداث منظومة عالئقية على منظومة التعليم داخل المشهد الجامعي
متوازنة قائمة على فلسفة تشاركية ومنطق حواري إضافة إلى ارتفاع مستوى الرفاه االجتماعي ،فلم
نقدي بين فواعل المنظومة الجامعية المتك ّونة يَعد للجامعة دو ٌر في احتكار المعرفة النظرية ،بل
من األستاذ والطالب ،البحث والتعليم ،المعرفة عليها السعي نحو إنزال معارفها النخبوية من برجها
والعمل ،الثقافة والسلوك .في النهاية يُمكن تطوير العاجي لترافق الواقع االجتماعي بمختلف تمثالته
العالقة بين الجامعة والمجتمع بإزالة السور في همومه ومشكالته ،هذا ما يُبرز أهمية إنتاج
العازل بينهما ،وربطهما بتغيير عقلية الطالب الجامعة لثقافة جماهيرية .ويُشير دو سارتو إلى
في التفكير من "منتجات البحث إلى منهجيات أهمية التغيّر الحاصل على مستوى األداء الوظيفي
للجامعة ،فلم تَعد وظيفتها محصور ًة في اتجاه
اإلنتاج" (ص ،)130ودحض فكرة االستقالل
تخصصات معرفية ّ حركة البوصلة اإلرشادية نحو
الذاتي للجامعة( ،((1باندماج هذه األخيرة في
مح ّددة ،فقد أكدت ضرورة االنتقال إلى القصد
ثقافة الجمهور ،فقد يتعذّر إصالح الجامعة من
من وراء اختيار تخصص ما؛ "يتساءل الطلبة أمام
دون وجود ثقافة سياسية جماهيرية تُدرك قيمة دراساتهم :ما داللتها؟ على ماذا ّ
تدل؟ ما تقوله
اإلصالح داخل المجتمع. وخاصة طرح السؤال العملي: ّ لهم؟" (ص ،)119
ما فائدة هذا التخصص في المجتمع؟ هل يُحدث
( ((1بدأت فكرة االستقالل الذاتي للجامعة مع الفيلسوف
األلماني مارتن هايدغر ،)1976–1889( Martin Heidegger هذا الصرح الجامعي بمخرجاته الفكرية والمعرفية
منذ تقلده منصب رئيس جامعة فرايبورغ .ففي محاضرته "ثقافة" يمكن أن تخلق فارقًا أدات ًيا في الحياة
االفتتاحية في 27أيار /مايو ،1933ألقى خطاب العمادة الجامعية؟ في هذا السياق ،ط ّور دو سارتو ما يمكن
الموسوم بـ "التأكيد الذاتي للجامعة األلمانية"
" ."Die selbstbehauptung der deutschen Universitätلالطالع أن نسميه "البراغماتية الثقافية" التي تركّز على
على الخطاب بلغته األصلية ،ينظر: عمليات إعادة التوظيف التي ال يمكن التنبؤ بها في
Martin Heidegger, Die Rektoratsrede: Selbstbehauptung خضع لها المستخ َدمون كثير من األحيان ،والتي يُ ِ
der Deutschen Universität (German: Opensource, 1933).
تجدر اإلشارة إلى أنّ تطوير الجامعة عند هايدغر يرتبط
الموارد الثقافية المتاحة(((.
بإدراك ماهيتها األنطولوجية ومهمتها المعرفية وضرورتها
(9) Jeremy Ahearne, Between Cultural Theory and
الروحية والتربوية ،على عكس دو سارتو الذي يعتبر أنّ Policy: The Cultural Policy Thinking of Pierre Bourdieu,
اآللية الحقيقية لإلصالح الجامعي هي االنفتاح على الثقافة Michel de Certeau & Régis Debray (trans.) (Coventry:
الجماهيرية. Centre for Cultural Policy Studies, 2004), p. 12.
167 بتكلا تاعجارم
راس ود لاشيمل ]ةديج ةَّيفاقث تاسايس[ :عْمَجلاب ُةَفاَقَّثلا
د
الذي يحتاج إلى تدبير سياسات ثقافية ت ُعيد للثقافةالمؤسسة قويّة بما فيه الكفاية َّ يجب أن تكو َن
أمكنتها الحقيقية في المجتمع ،فعالقة المدرسة للحفاظ على الفرد من "جنون الرؤية" .وفي الوقت
بالسلطة تمثل مؤش ًرا حقيق ًيا على هذا التعقيد، المؤسسة ضعيفة بما فيه َّ نفسه ،يجب أن تكون هذه
خاصة عندما انفلت النشاط القيمي للمدرسة من الكفاية لتترك مجااًلً للرؤية والحركة واإلبداع .
(((1
التمركز السياسي من خالل االنتشار عمل ًيا ومهن ًياعانت الحضارة الغربية من الصناعة الثقافية التي
مثاًل تسلل السلطة إلى أدق تفاصيل المجتمعً ، تتوالها المؤسسات في أدائها لوظائفها تجاه
الجماهير من أجل تحقيق مكاسبها ،األمر الذي
الثقافية إلى كل فرد داخل األسرة بالوسائل التقنية
حذّر منه ثيودور أدورنو Theodor W. Adorno
أو تبني أطر تنظيمية خارج المقرر المدرسي
( ،)1969–1903في مشروعه النقدي والتح ّرري
في صورة نشاطات ترفيهية مح ّددة ،بمعنى آخر
من خالل استعمال الفن ،فهو يدعو إلى تجاوز
"إيجار ُمتع ّدد للثقافة" (ص .)152
العقل األداتي الذي يَنظر إلى الثقافة باعتبارها
مؤسس ًيا معي ًنا داخل المجتمع إ ّن المعنى الحقيقي والفعلي للثقافة عند دو سارتو ّ آلية تؤ ّدي دو ًرا
هو أن تَحوز داللة لدى الفرد في سلوكياته الصناعي والتقني واالستهالكي.
يَعود دو سارتو إلى إبراز مظاهر االختالل الوظيفي اليومية .والمقصود بالداللة هنا رمزية الثقافة،
جه بحثي في العالقة بين الجامعة والمجتمع نتيج ًة لخروج فالبحث عن البنية الرمزية للثقافة تو ُّ
األولى عن سلطة الثقافة وخضوعها لقوى سياسية ج ّدده دو سارتو ،باالعتماد على نماذج اللسانيات
ومالية وصناعية وإعالمية؛ ما أ ّدى إلى تقويض البنيوية ،بحيث ركّز من خالله على الجوانب
االستقالل الذاتي للجامعة وانحدار وظيفة األنطولوجية القابعة في قلب الثقافة(((1؛ أي
التوزيع القيمي التي تقوم بها المدرسة التي لم داللة الوجود التي ال يمكن إال أ ْن نجدها داخل
ت َعد قادرة على "إعادة تعريف الثقافة وإدماج الثقافة اإلنسانية ،لكن هذه الداللة مخفية بسبب
يفسره دو سارتو الشباب" (ص .)146هذا العجز ّ
تحكّم السياسي والمصالح العليا للدولة في كل
بقصور المنظور الوظيفي للمدرسة باعتبارها
ما هو ثقافي؛ ففي ظل التوحيد االقتصادي يمكن
مؤسسة انحصر دورها في محتوى التعليم فقط، َّ
أن نجد تع ّددية ثقافية؛ لذلك "أضحت الثقافة
ولم يتع ّد ذلك إلى إعمال نسق التثقيف والتربية
بالمفرد عبارة عن خداع سياسي .وأكثر من ذلك،
الذي يرتبط بالنظام االجتماعي الكلّي( .((1وهذا
مرده إلى مظهر أساسي من مظاهر التعقيد الثقافي فهي قاتلة وتُه ّدد اإلبداع ذاته" (ص .)154يُبرز
دو سارتو أهمية الثقافة في ترسيخ وجود األقليات
) (11في ظل التع ّددية اللغوية السائدة (البروطونية François Dosse, "Michel de Certeau: Un historien de
l’altérité," Texte inédit, Conférence à Mexico (Septembre
2003), accessed on 7/3/2023, at: https://bit.ly/3Z6smehوالقسطانية والباسيكية) التي ترتّب عليها أزمة
( ((1يرفض دو سارتو الفصل بين محتوى التعليم الذي هوية داخل المجتمع الفرنسي قبل توحيد اللغة.
يشمل عالقة العمل ،الماضي ،السلطة؛ والعالقة التربوية
نقاشا حرا بين المعلم والطالب بحكم أنّ وبحسب المؤلف ،دائ ًما ما تسعى األقلية إلى التي تفترض ً
ًّ
تناقض العالقة بينهما يمكن أن ينعكس على ترتيب المنظومة فرض كيانها الذاتي باستعمال الثقافة في التعبير
الخاصة بالمدرسة وجوهر الثقافة .للتفصيل ،ينظر:
(13) Edgar Morin, "De la culturanalyse à la politique Jean–Yves Séradin, "L’inventivité pédagogique de Michel de
culturelle," Communications, no. 14 (1969), pp. 5–38, Certeau: Une approche ignacienne de l’enseignement, " Educatio,
accessed on 7/3/2023, at: https://bit.ly/3xTMmVt no. 6 (2017), accessed on 7/3/2023, at: https://bit.ly/3kpmj5H
العدد - 44المجلد Issue 44 - Volume 11 / 11
ربيع Spring 2023 168
ص ّنف المؤلف من أبرز الشخصيات المثقفة، ُ فكل أقلية في حاجة إلى عن مطلبها السياسيّ ،
إضافة إلى بيير بورديو Pierre Bourdieu "قوة سياسية تمنح للمنطوق الثقافي القدرة على
( )2002–1930وريجيس دوبريه ،Régis Debray إثبات الذات بشكل فعلي" (ص ،)159وفي
التي انخرطت بصفة مستدامة ضمن القضايا المقابل ،وبمنهجية تفكيكية تقوم السياسة بعملية
االستراتيجية للسياسة الثقافية .كان دو سارتو مؤسساتيّ تصدير ثقافتها للمجتمع عبر غطاء
منخرطًا إلى ح ّد ما وعلى نحو مستمر بين عامي ونخبوي .ويمكن أن يتح ّول المطلب الثقافي إلى
1970و 1985في سلسلة من أبحاث السياسة نضال سياسي ،فال توجد وحدة اجتماعية وسياسية
الثقافية والمشاريع االستشارية التي تركّزت إلى إال بالقدر الذي تبحث فيه الفئة األقلية عن تأمين
ح ّد كبير في وحدة البحث التابعة لوزارة الثقافة وجودها .إ ّن االستقالل الذاتي لألقليات ال ب ّد من
والخطة الوطنية(.((1 أن يكون في ظل البناء الشامل للمجتمع؛ فاألقلية
أو الفئات العرقية تؤ ّدي دورها في ظل التع ّدد لكن
ينطلق دو سارتو في كتابه من مبدأ إبستيمولوجي؛ في اتجاه خدمة األهداف الوطنية الكبرى(،((1
فحواه بناء جسور بين الخطابات المختلفة في وبهذا ،فإ ّن االستقالل الذاتي مسألة ثقافية تحتاج
العلوم اإلنسانية( ،((1وهذا ما ينطبق على مدارات وخاصة أ ّن لغة االستقالل
ّ إلى نضاالت مستمرة،
السياسة الثقافية عنده التي شملت معالجة الذاتي الحقيقية هي سياسية ،وأكبر دليل على
مسائل عضوية متداخلة ،بحيث اتسمت حال ًيا ذلك هو أ ّن البنى االستعمارية كانت تستعمل
بالتعقيد الثقافي :الهجرة ،اللغة ،السلطة ،الثقافة األثنولوجيا ض ّد الثقافة المستع َمرة ولصالح قواها
والمدرسة ،الجامعة ،األقليات ،التع ّددية الثقافية، المستع ِمرة.
العنف ...إلخ .يحتاج هذا التعقيد الثقافي إلى
صناعة سياسات ثقافية فاعلة في الحدث الثقافي اسات َث َقافِ َّية
س َي َ ً
ثالثاِ :
الفرنسي؛ لذلك "ت ُشير الثقافة اليوم إلى عملٍ ينبغي اعتبِر عمل دو سارتو نقطة مرجعية راسخة في
مباشرته على مدى الحياة االجتماعية" (ص .)200 النقاش حول السياسة الثقافية الفرنسية( ،((1بحيث
وفيما يتعلق بموقع الثقافة في المجتمع ،يحاكي
هذا التصور إلى ح ّد بعيد ما ذهب إليه عالم ( ((1إنّ مسألة األقليات تنشأ ً
دائما في إطار الدولة–األمة
l’Etat–nationومن ثم فهي تهم ،كما يشير دو سارتو،
السياسة األميركي جويل إس مجدال Joel S. جميع مواطني الدولة ،وليس أعضاء هذه األقلية فحسب.
على سبيل المثال انفصال كيبيك Québecعن كندا عام
Migdalفي بحثه عن حدود العالقة بين الدولة ،1998والحكم الذاتي لمنطقة فينيتو Vénétieفي إيطاليا.
والمجتمع ،حيث اقترح مقاربة" :الدولة في أكدت شروط الحكم الذاتي عام 1998أن الوحدة
السياسية لشعب ما تتطلب من الدولة إشراك جميع
المجتمع" لحل الصراع االجتماعي ،مستشه ًدا المواطنين في اتخاذ القرارات بشأن مسألة األقليات ،حتى
بفكرة دو سارتو عن مقاومة الصورة المتجلّية في محدد .ينظر:
لو كانت تتعلق بجزء منهم أو بإقليم ّ
Claire Barthélemy, "La culture au pluriel: Une lecture du
(16) Ibid., p. 12. –livre de Michel de Certeau," Centre international Lebret
(17) "Ignacio Gárate–Martínez, Entretien avec Michel de Irfed, December 2006, accessed on 7/3/2023, at: http://bit.
Certeau," Figures de la psychanalyse, vol. 1, no. 8 (2003), ly/40VeZyA
p. 105. (15) Ahearne, p. 79.
169 بتكلا تاعجارم
راس ود لاشيمل ]ةديج ةَّيفاقث تاسايس[ :عْمَجلاب ُةَفاَقَّثلا
د
النسبي ،من حيث إنّه ال يخضع للدقة الحسابية. القوانين التاريخية للحالة االجتماعية( .((1على
على هذا األساس يقترح المؤلف ما يسميه "النسق هذا األساس تتجه مقاربة الثقافة عند دو سارتو
الثقافي" (ص )183الذي ال بد من أن يَنتج من نحو نحت سياسة ثقافية قائمة على "تماسك
إعادة قراءة نقدية لعلوم اإلنسان من خالل مناقشة في األهداف والوسائل واألفعال التي تَصبو إلى
بنيته التاريخية واالجتماعية المتوافقة مع التجارب تعديل السلوكيات تب ًعا لمبادئ أو معايير موضَّ حة"
الثقافية المتباينة (المجتمعات األوروبية ،الثقافة (ص .)203
الالتينية – األميركية ،بلدان العالم الثالث).
خصص دو سارتو في هذا القسم من الدراسة يُ ّ
استعاض دو سارتو عن المناهج الكمية قسطًا من االهتمام بتحديد أدوات اشتغال الرؤية
"التخاصص" في العلوم اإلنسانية ،يقول: ُ بـ النخبوية للثقافة داخل بنية المجتمع ،بحيث
التخاصص؛
ُ "ال إمكانية لمراجعة هيكلية سوى في وفصاًل
ً يعتبرها أدا ًة لعزل المعرفة عن األداء
أي في العالقة الممكن إدراكها ومناقشتها ،وفي للنظرية عن الفعل وتميي ًزا للنخبة من الجمهور،
الحدود والتقسيمات الدالَّة على نسق ،الممكن وكذا تفريقًا بين الطلبة والعمال لتصوير حالة
نقدها" (ص ،)195وفي هذا الصدد يقدم أبسط القلق االجتماعي السائد في أثناء ثورة مايو
مثال عن إبستيمولوجيا الظاهرة االجتماعية عند 1968؛ ما عكس البهتان المخ ّيم على المجتمع
هاربرت ماركوز –1898( Herbert Marcuse والصادر عن المؤسسات .تضع النخبة جدا ًرا
،)1979حول كيفية اشتغال المعرفة في مجتمع عازاًلً بين الجمهور والثقافة من خالل التحليل
كاًل من
االستهالك األميركي .فقد اختار ماركوز ً الكمي الدقيق لمكونات المجتمع ،إ ّن الثقافة بهذا
علم االقتصاد وعلم النفس بالتركيز على العملية التعبير السابق ،الذي يدل على "الواقع المه َّمش"
اإلنتاجية والتقسيم االجتماعي للعمل بحسب (ص ،)194تغدو خاوية من القيم الخصوصية
المقاربة الماركسية ،وفي اآلن ذاته االهتمام للفرد ،وإفرازًا للحالة السكونية للجمهور ،وهذا
بكل ما هو مدفون ومختزن في البنية الالشعورية ناتج من هيمنة التقني على الثقافي؛ بمعنى
من خالل التحليل النفسي الفرويدي (الرغبة "استخدام الثقافة كإطار تأويلي لفهم السلوك
المكبوتة) .وفي النهاية يؤكد هذا التقاطع بين البشري كرد فعل ض ّد هيمنة األرقام ،والتفسيرات
المقاربتين عند ماركوز أ ّن اإلنتاج وتقسيم األحادية"( .((1يَدعو دو سارتو إلى ضرورة التأكيد
العمل ،بتشكلهما داخل نفسية المستهلك على علوم إنسانية منفلتة من المعرفة التقنية؛ أل ّن
وانعكاسهما على سلوكه الذي يع ّبر عن مظاهر العلم اإلنساني في جوهره قابل للنقد واالعتبار
المقاومة والقمع في اآلن نفسه ،هما" :الدور (18) Joel S. Migdal, "The State–in–Society Approach: A
الخاّلق والثوري للعمل بالنسبة للماركسية؛ ّ New Definition of the State and Transcending the
Narrowly Constructed World of Rigor," in: Joel S. Migdal,
الوظيفة القمعية والتسلُّطية لألب في الفرويدية" State in Society: Studying How States and Societies
(ص .)187إ ّن ماركوز يرسم هذه التكاملية Transform and Constitute One Another (Cambridge:
Cambridge Studies in Comparative Politics, 2001), p. 26.
المعرفية ليُبرز أوجه الصراع داخل المجتمع، '(19) Peter Jackson, "Pierre Bourdieu, the 'Cultural Turn
لكن كل نسق فكري (ماركسي أو فرويدي) and the Practice of International History," Review of
International Studies, vol. 34, no. 1 (January 2008),
له حمولة تاريخية تميّزه من اآلخر؛ ما يص ّعب p. 157.
العدد - 44المجلد Issue 44 - Volume 11 / 11
ربيع Spring 2023 170
مهمة االستعمال األصلي بوصفها مقاربة شاملة خاتمة
ينظر دو سارتو إلى الثقافة على أنها صناعة و ُمدمجة.
بالجمع محورها استعادة الثقافة المنسيّة من ضفة وفي السياق نفسه ،ال بد من التذكير أ ّن للعلم بنية
الهامشي والمنبوذ" :دهليزية" الثقافة( ،((2وإعادتها مجتمعية معقدة؛ فمن جهة ،في إمكانه أن يشكّل
إلى مكانها األصلي في المجتمع .ركّز المؤلف
ذاته من المعرفة ،وعلى الضد من ذلك يمكن أن
"حقاًل في الصراع
ً في عمله على الثقافة ،بوصفها
تشكله البنى السياسية واالقتصادية .ففي اعتقاد
المتع ّدد األشكال بين الخشن واللين" (ص ،)239
دو سارتو إ ّن العلم مرتبط أشد االرتباط بالشرط
من خالل البحث عن بديل الستراتيجية الثقافة
اإلنساني؛ "في أصل كل علم هناك خيارات
بالمفرد التي "تقوم بفرض قانون سلطتها"
أخالقية وثقافية .القبليات التاريخية واالجتماعية
(ص ،)245وفقًا للسيطرة والتحكّم اللذين
لمعرفتنا يكشف عنها اليوم الحدث كما هي"
تزاولهما السلطة من أجل تشكيل تصور نخبوي
للثقافة ،يُنتج نمطًا مجتمعيًا واح ًدا .هذا البديل (ص .)183–182إ ّن الخطاب العلمي ،في رأيه،
هو تكتيكية الثقافة بالجمع التي "تستدعي النضال يولد في سياق الواقع االجتماعي ومح ّدداته
دو ًما" (ص ،)245وت ُم ّيز نشاط الجمهور وفقًا لقيم الشاملة .وهنا تبرز الثقافة بوصفها مح ّد ًدا أساس ًيا
التع ّدد والتنوع واالختالف المتطلِّع إليها ،مسم ًعا لموقعها داخل المجتمع .ومن أجل تفكيك البنية
صوته للنخبة بأ ّن حركة اإلبداع الثقافي ال يمكنها الكلية للثقافة باعتبارها موق ًعا تحتله في المجتمع،
أن تتحقق من دون تمثل واضح للحرية .إ ّن تح ّرر وواق ًعا يَعكس حاجيات الفاعل االجتماعي،
الطاقات السائلة والمتع ّددة لألفراد ،يمكن أن انطلق دو سارتو من جرد اصطالحي وظيفي
تمنحهم حرية التسلل إلى النواة االستراتيجية للعالقة بين الثقافة والثقافي" ،فمن الضروري
الصلبة للنظام االجتماعي المهيمن إلحداث تغيير على األقل تحديد االستعمال الخاص هنا بالثقافة
خاّلق في مكوناته المفصلية.
ّ والثقافي" (ص ،)201لتوضيح أبرز المشكالت
قصب السبق على التمثالت َ حازت الممارسات الثقافية التي يمكن حصرها في نظره في ثنائية
ولعل
ّ عند دو سارتو في مقاربته لمسألة الثقافة، النخبة والجمهور .والهدف من ذلك هو تحطيم
هذا وجه النقد اإلبستيمولوجي الذي يمكن هذه الثنائية بممارسة تقنية قلب المواقع؛ أن
جه إلى الثقافة بالجمع؛ إذ إ ّن التمثالت أن يو َّ فاعاًل أساس ًيا بداًلً من أن يكون
ً يغدو الجمهور
االجتماعية في أصلها هي عبارة عن "أنظمة اآلراء منفعاًل لكل ما يصدر عن النخبة ،بما يحوزه من ً
والمعارف والمعتقدات الخاصة بثقافة أو فئة أو ثقافة شعبية من خالل استعداده الدائم لتجسيد
مجموعة اجتماعية والمرتبطة أيضً ا بموضوعات عملية االبتكار الثقافي التي تنبع من سياقه
( ((2بشأن هذا المصطلح .ينظر :محمد شوقي الزين،
األنطولوجي الخاص به ،على عكس المقاربة
"فلسفات الثقافة المعاصرة أمام تحديات العلوم اإلنسانية: التقنويّة والتحكّمية التي تر ّوج لها النخبة وفقًا
لوتشيان بالغا ،فرناند دومون ،ميشال دو سارتو" ،مجلة
دراسات إنسانية واجتماعية ،العدد ( 9كانون الثاني /يناير
لصياغتها لسياسات ثقافية تحتكم إلى التخطيط
،)2019ص .58 والبرمجة والقولبة.
171 بتكلا تاعجارم
راس ود لاشيمل ]ةديج ةَّيفاقث تاسايس[ :عْمَجلاب ُةَفاَقَّثلا
د
البيئة االجتماعية"( ،((2بمعنى أنها صور ذهنية المجتمع ،في المقابل يرمي وفقًا للثقافة بالجمع
"الخاّلقة"
ّ متم ِثلة لدى الفرد عن موضوعات متمثَلة في إلى معنى الممارسات الثقافية اليومية
الواقع االجتماعي ؛ ما يدل على الفصل خارج توجه السلطة .لكن أال يمكن لحركة
(((2
التعسفي الراديكالي الذي أقامه دو سارتو بين اإلبداع الثقافي التي تقودها الجماهير بوصفها
التمثالت والممارسات ،فالثانية هي فرع من أصل تكتيكية أن تتحول يو ًما ما إلى سلطة استراتيجية،
تمثله األولى .وعلى هذا األساس ،تجد المكونات وال سيما في ظل مقاومتها للبرامج المركزية
الذاتية والهوياتية للثقافة رافدها األساس الذي
لدوائر القرار السياسي النخبوية المتصلة بعملية
تتغذى منه في الشروط البنيوية المحيطة بالفرد
صناعة السياسات الثقافية ،من أجل تلبية مطلبها
والمشكلة لثقافته .كان يقصد دو سارتو من
الجوهري :الحرية؟ هل يمكن أن يغدو الهامش
الثقافة بالمفرد التمثالت اإلكراهية للسلطة داخل
مرك ًزا؟ وإذًا ،عودة إلى حالة الصفر :الثقافة
) (21بالمفرد ،على اعتبار أ ّن منطق تمثالت السلطة Patrick Rateau, Grégory Lo Monaco, "La théorie des
représentations sociales: Orientations conceptuelles,
داخل الممارسات الثقافية والتاريخية يعني أ ّن champs d’applications et méthodes," Revista CES
Psicología, vol. 6, no. 1 (Enero–Junio 2013), p. 3.
( ((2حول مفهوم التمثالت االجتماعية ينظر :بن ميسية المركز االستراتيجي يوجد في الهامش التكتيكي؛
فوزية وضيف غنية" ،التمثالت االجتماعية :مقاربات ألن الهامش يحاول دائ ًما تفكيك المركز إلعادة
المفهوم في العلوم االجتماعية" ،مجلة المعيار للدراسات
إنتاج مركزيات مضادة. اإلسالمية واإلنسانية ،مج ،25العدد .)2021( 60
References المراجع
العربية
الزين ،محمد شوقي" .فلسفات الثقافة المعاصرة أمام تحديات العلوم اإلنسانية :لوتشيان بالغا ،فرناند
دومون ،ميشال دو سارتو" .مجلة دراسات إنسانية واجتماعية .العدد ( 9كانون الثاني /يناير .)2019
_______ .الغسق والنسق :مقدمة في أفكار ميشال دو سارتو (الكنان ،التاريخ ،اليومي) .بيروت/
الجزائر :المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ،مدارج – الوسام العربي.2018 ،
_______ .ميشال دو سارتو :منطق الممارسات وذكاء االستعماالت – مدخل إلى قراءة تداولية.
الجزائر :ابن النديم للنشر والتوزيع؛ بيروت :دار الروافد الثقافية ناشرون.2013 ،
فوزية ،بن ميسية وضيف غنية" .التمثالت االجتماعية :مقاربات المفهوم في العلوم االجتماعية" .مجلة
المعيار للدراسات اإلسالمية واإلنسانية .مج .25العدد .)2021( 60
فوكوياما ،فرانسيس .الثقة :الفضائل االجتماعية ودورها في خلق الرخاء االقتصادي .ترجمة معين اإلمام
ومجاب اإلمام .الدوحة :منتدى العالقات العربية والدولية.2015 ،
Issue 44 - Volume 11 / 11 المجلد- 44 العدد
Spring 2023 ربيع 172
األجنبية
Ahearne, Jeremy. Between Cultural Theory and Policy: The Cultural Policy Thinking
of Pierre Bourdieu. Michel de Certeau & Régis Debray (trans.). Coventry: Centre for
Cultural Policy Studies, 2004.
Barthélemy, Claire. "La culture au pluriel: Une lecture du livre de Michel de Certeau."
Centre international Lebret–Irfed, December 2006. https://2u.pw/VuR5Px
de Certeau, Michel. "Pour une nouvelle culture. Le pouvoir de parler." Études. vol. 408,
no. 5 (2008).
_______. L'écriture de l'histoire Paris: Gallimard, 1975.
_______. La culture au pluriel. 3ème ed. Paris: Seuil, 1974.
Dosse, François. "Michel de Certeau: Un historien de l’altérité." Texte inédit, Conférence
à Mexico (Septembre 2003). at: https://bit.ly/3Z6smeh
Gárate–Martínez, Ignacio. "Entretien avec Michel de Certeau." Figures de la
psychanalyse. vol. 1, no. 8 (2003).
Jackson, Peter. "Pierre Bourdieu, the 'Cultural Turn' and the Practice of International
History." Review of International Studies. vol. 34, no. 1 (January 2008).
Migdal, Joel S. State in Society: Studying How States and Societies Transform and
Constitute One Another. Cambridge: Cambridge Studies in Comparative Politics, 2001.
Morin, Edgar. "De la culturanalyse à la politique Culturelle." Communications. no. 14
(1969). at: https://bit.ly/3xTMmVt
Muers, Stephen. "Culture, Values and Public Policy." IPR Report, University of Bath
(September 2018).
Séradin, Jean–Yves. "L’inventivité pédagogique de Michel de Certeau: Une approche
ignacienne de l’enseignement." Educatio. no. 6 (2017). at: https://bit.ly/3kpmj5H
Zine, Mohammed Chaouki. L’ordinaire et le quotidien. Introduction à la théorie des
pratiques et des usages chez Michel de Certeau. Beirut: University Foundation for
Studies and Publishing, 2016.