Professional Documents
Culture Documents
بين السيميائية و التأويل، ّإيكوّ في مواجهة المؤولة التداولية
بين السيميائية و التأويل، ّإيكوّ في مواجهة المؤولة التداولية
مجلد 14عدد 2أفريل 2022السنة الرابعة عشر ISSN: 1112- 9751 / EISSN: 2253-0363
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
boulkandoul.fouzia@umc.edu.dz
282
دراسات وأبحاث املجلة العربية لألبحاث والدراسات في العلوم اإلنسانية واالجتماعية
مجلد 14عدد 2أفريل 2022السنة الرابعة عشر ISSN: 1112- 9751 / EISSN: 2253-0363
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملخص:
استثمر الناقد اإليطالي "أمبرتو إيكو" مفاهيم عديدة منبثقة عن ظاهراتية "هوسرل" ليؤسس للتأويل ،و مادام التأويل يبحث
عن املعنى الخفي الذي ال يظهر إال عبر العالمة فإن العالقة بين السيميائية و التأويل متينة جدا ،و من هنا أمكننا القول بأن
(السيميائيات في املقام األول هي نظرية للتأويل) .ضمن هذا السياق ،يهدف هذا البحث إلى االشتغال على كشف حدود تأثير
التوجه السيميائي في النموذج الهيرمينوطيقي (التأويلي) بالنسبة لطروحات "إيكو" و من ّ
ثم الوقوف على مظاهر تجلي
السيميائيات في نشاط "إيكو" التأويلي .كما تبحث هذه الورقة في الكيفية التي جعل بها "إيكو" السيميائية بحثا في شروط اإلنتاج
و التداول و االستهالك .كل هذا و غيره أمكننا من الوصول إلى نتائج أهمها أن التأويل ليس هو الغاية األسمى إليكو بل كينونة هذا
التأويل في عالقته بالنص "املفتوح".
Abstract :
The Italian critic Umberto Eco has invested is many concepts emanating from the
"Husserle" phenomenon to establish the interpretation, and as long as the
interpretation seeks the hidden meaning that appears only through the mark, the
relationship between semiotics and interpretation is very strong, hence we can say
that (semiotics in the first place is a theory of interpretation). In this context, this
research aims to work to explore the limits of the effect of the semiotic orientation in
the herminotical model in relation to the "Echo" thesis and then to identify the
manifestations of the manifestations of semiotics in echo's interpretive activity. This
paper also examines how Eco has made semiotics a research on the terms of
production, trading and consumption. All of this and others enable us to reach
conclusions, the most important of which is that interpretation is not the supreme
purpose of Eko, but the fact that this interpretation is in relation to the "open" text .
283
دراسات وأبحاث املجلة العربية لألبحاث والدراسات في العلوم اإلنسانية واالجتماعية
مجلد 14عدد 2أفريل 2022السنة الرابعة عشر ISSN: 1112- 9751 / EISSN: 2253-0363
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"إيكو" على ذاته املعرفية وجعل كل جزء منها في مجال ،كان من وعليه ،فقد كان ّ
توجهنا إلى قراءة أحد أعماله البارزة
الصعب علي بحثه أن يخرج عن إطار املالمسة األفقية للظاهرة "التأويل بين السيميائيات والتفكيكية" ،مغامرة حقيقية ،إذ ّ
إن
السيميائية ّ طروحات "إيكو" في الحقل السيميائي –كونه من أبرز منظري
ألنه في األصل لم يكن متفرغا للمشروع السيميائي
وحسب بل خاض غمار التاريخ (القرون الوسطى ّ
خاصة) واللسانيات السيميائيات املعاصرة -متشبعة بالنموذج الهيرمينوطيقي (التأويلي)
واألدب واألنثروبولوجيا والسينما واملوسيقى والفنون التشكيلية إلى درجة كبيرة ،بل ّإنه قد بذل جهودا معتبرة في استثمار املفاهيم
والشعبية وحتى اإلعالم والصحافة .ومن يشغل فكره بكل هذه الهيرمينوطيقية املنبثقة عن فينومينولوجيا "هوسرل" ّ
حتى يؤسس
امليادين املعرفية ،يكون من الصعب ّ
جدا ،وقد ّ ّ
نتجرأ لنقول إنه من لتأويل يبحث في املعنى الخفي الذي ال ينكشف إال عبر العالمة.
املستحيل أن تكون كل بحوثه عميقة بالقدر الذي تستقص ي فيه
ولهذا تحاول هذه الورقة البحثية الغوص في إشكال
الظاهرة حتى منتهاها. جوهري مفاده :إلى أي ّ
حد استطاعت طروحات "إيكو" السيميائية أن
وعلى العكس من ذلك فإن "بورس" قد ّ ّ
كرس كل حياته تتجلى في نشاطه التأويلي؟ وكيف جمع بين الحقلين السيميائي
املعرفية ملشروع فكري واحد هو "إرساء دعائم السيميائية" ،فغاص والتأويلي في الوقت ذاته الذي كان يشتغل فيه ضمن التداوليات
فيه إلى العمق حتى صار مرجعيته األولى ،وظل يقشر حفرياته إلى أن ّ
النصية؟؟ و قد جاز لنا أن نؤسس من خالل هذه األسئلة اإلشكالية
فوصف مشروعه بالوضوح في املعالم ّ
والدقة أرس ى قواعده وضوابطه ُ فرضية قابلة للمناقشة و املقاربة مفادها النبش في املضامين
في املسار والضخامة والتعقيد في جهازه االصطالحي .وهذا ما يجعلنا السيميائية التي أسهمت في بلورة النشاط التأويلي لدى "إيكو" .و عليه
نعتقد ّ
بأن "طموح إيكو كان كبيرا حينما حاول أن يضع علما قائما فإن الغاية األساسية لهذا البحث تدور حول حدود تأثير النزعة
بنفسه للتأويل مستثمرا في ذلك السيميائية والتداولية وفلسفة السيميائية في النموذج التأويلي إليكو و املنبثق عن الهيرمينوطيقا
اللغة".1 الهوسرلية بامتياز.و من أجل تحقيق ممارسة مقارباتية تحاول تلمس
هذا اإلشكال االبستيمي تتبعت منهجا استقرائيا تحليليا من خالل
وقد يتساءل سائل :ملاذا هذا التأثر بسيميائية "بورس" مع
ّ التعاطي مع كتاب " التأويل بين السيميائيات و التفكيكية " ألمبرتو
العالم "فردينان دي سوسير" ( )F. De Saussureكان على الطرف
أن ِ
إيكو .
املقابل من قارة أمريكا (موطن بورس) يشتغل على درس
"السيميولوجيا" ويرس ي قواعدها؟؟ ".2إيكو" داخل عباءة "بورس"*:
ً ٌ
نجيب –حسب بساطة املعرفة التي صارت ُملكا ُمشاعا- قمين بنا أن نشير بداية إلى أن كل طروحات "أمبرتو إيكو"
ّ ّ
إن اللغة عند "سوسير" هي "نظام مغلق" ،تجمع بين دال فنقول السيميائية قد انبثقت من تنظيرات "شارل سندرس
ومدلول فقط .لكن يغيب "املرجع" في نظريته ،بينما تنفتح سيميائية جل ما أنجزه في "البنية الغائبة" ( La بورس" ،C.S.Peirceذلك ّ
أن ّ
"الدليل" بقطبيه اللساني واألنساقي ،وهذا األخير"بورس" على ّ )structure absenteأو "العالمة" ( Le signe histoire et analyse
يتضمن األيقونة والرمز واألمارة .وهذا أيضا ما عرفناه فيما يطلق )d’un conceptأو "السيميائية وفلسفة اللغة" ،من مفاهيم
عليه "بالنظرية اإلشارية" حينما أضيف "املرجع" لإلحالة على ومصطلحات من مثل "عتبة السيمياء" و"عالم اإلشارة" و"عالم
السياقات واملالبسات الخارجية وهذا هو جوهر التأويل الذي ربطه املعنى" و"املرجع" و"نظام الرمز"ّ ...إنما هو مستوحى من أفكار ورؤى
"إيكو" بالسيميائية "البورسية" التي تعكس "تصوره لعملية اإلدراك، "بورس" السيما فيما يتعلق بسيرورة إنتاج الداللة واشتغال
إدراك الذات ،وإدراك اآلخر ،إدراك "األنا" وإدراك العالم الذي العالمات.
ّ
تتحرك داخله هذه "األنا"" .2وليس هذا اإلدراك لألنا واآلخر إال حلقة
ومع ذلك ينبغي أن نلفت االنتباه إلى مسألة في غاية
من حلقات التأويل الذي يصبو إليه "إيكو". األهمية ،وهي ّ
أن الفرق بين اشتغال "إيكو" على السيميائية وتنظيرات
َ ّ
1.2العالمة ،املفهوم و التصنيف: بوس فلسفي وليس "بورس" هو أن "إيكو" قد ظهرت سيميائياته بل ٍ
أن الفلسفة هي اختصاصه األصلي .ونظرا النشطار لسانيا؛ وذلك ّ
284
دراسات وأبحاث املجلة العربية لألبحاث والدراسات في العلوم اإلنسانية واالجتماعية
مجلد 14عدد 2أفريل 2022السنة الرابعة عشر ISSN: 1112- 9751 / EISSN: 2253-0363
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبالحديث عن األنساق العامة ،فإن "إيكو" لم ّ
يقصر في أن العالمة هي لفظة من األصل يرى "أمبرتو إيكو" ّ
ّ
الدفاع عن أطروحته الثقافية كونه نقل مفهوم النسق من حقله الالتيني ، signumوهي السمة التمثال ،اإلشارة والدليل ويضيف إلى
اللساني –بوصفه جملة من العناصر اللسانية -إلى الحقل الثقافي أن العالمة يمكن أن تدل على أمارات ال حصر لها .من أمثلة ذلك ّ
باقتراحه ملصطلح "الوحدة الثقافية" .وترتكز على "أي ش يء يمكن أن نذكر:3
يعرف ثقافيا ويميز بوصفه وحدة مستقلة ،قد يكون شخصا ،مكانا، ّ
* َ
العرض ،السمة ،هو ش يء يدرك ويمكن أن نستخلص
هلو َسة ،فكرة ...وقد نظر "إيكو" شعورا ،حالة ُ
توج ًّسا بالبشر ،خياال َ ً
منه توقعات واستنتاجات وإشارات خاصة بش يء آخر غائب ومرتبط
إلى الوحدة الثقافية بوصفها وحدة داللية سيميائية مدمجة في نظام،
به كأن تبدو آثار مرض ما على وجه مريض ،أو يعبر املريض عن هذا
قد تجاوز هذا النظام إلى التفاعل بين ثقافتين" .9وبهذا يصير النسق
املرض (عالمات فيزيقية).
الثقافي –حسب إيكو -وحدة ثقافية دالة داخل حقل من الوحدات
يتطابق مع تلك التي تحيل عليها العالمات. * سمات فيزيقية مثل لطخة ،ندبة تسهل التعرف على
ش يء آخر أو على شخص ما.
وقد اعترف "إيكو" في معرض حديثه عن تصنيف العالمات
ّ
بفضل جهود "بيرس" عليه ،معلال ذلك بما وصفه "بالتصنيف * إيماءات وأفعال تحيل على طريقة في الوجود والفعل
الشامل ،قائال" :تعود كل التصنيفات التي قدمناها إلى جهات نظر واإلحساس (مثل التعابير :عن فرح مثال ،أو عالمة خارجية تدل على
خاصة ،بما في ذلك تصنيف بيرس الذي يقدمه لنا باعتباره تصنيفا الثراء والغنى).
شامال ّ
ولعل بيرس هو املفكر الوحيد الذي حاول تقديم تصنيف عام
* كل عنصر داخل فعل بصري يحيل على صورة سمعية
آخذا بعين االعتبار كل جهات النظر.10 ""...
أو على كلمة أو مفهوم أو موضوع مثل :حروف األبجدية ،عالمات
ودون أن نخوض في تفصيالت تصنيف "بورس" للعالمة، الضبط ،النوطات املوسيقية ،أبجدية املورس ،البراي.
وهو التصنيف الذي تبناه "إيكو" ّ
بكل تفريعاته ،فإنه سيكفينا أن
وفي الواقع ،فقد أورد "إيكو" أمثلة أخرى كثيرة ال تسعنا
نشير إلى أن "بورس" قد ّميز بين "ثالثة تقسيمات فرعية ثالثية، هذه الصفحات لذكرها ،وهذا دليل واضح على ّ
ّ أن "ال ش يء يوجد
ويتولد عن تأليفات هذه التقسيمات عشرة أقسام وثالثيات ً
اعتمادا على نفسه خارج العالمات أو بدونها ،وال ش يء يمكن أن يدل
ما يعني أن العالمات عند "بورس" هي نتاج توزيع 11 للعالمات"... ّ
دون االستناد إلى ما توفره العالمات كقوة للتمثيل ...إن اإلنسان
ثالثي ،ينحدر من ثالث زوايا مختلفة هي "العالمة في ذاتها ،العالمة في
ّ عالمة وما يحيط به عالمة وما ينتجه عالمة ،وما يتداوله هو أيضا
باملؤول" 12وبهذا نكون أمام عالقتها باملوضوع ،والعالمة في عالقتها
فئات تسعة باعتبار أن كل اوية ينحدر منها ثالث فئات ،وقد ّ عالمة".4
صنفها ز
ّ ّ
"بورس" كاآلتي:13 ويعد موضوع "العالمة" من ّأول مظاهر تجلي البحث
السيميائي في نشاط "إيكو" التأويلي ،بوصفها (أي العالمة) "علما
* العالمة في ذاتها :عالمة نوعية ،عالمة مفردة ،عالمة للعالمات أو السيرورات التأويلية" ،5ذلك ّ
أن "السيميائيات في املقام
معيارية. األول هي نظرية في التأويل"ّ 6
وأن "السيميائيات تعتقد أن كل عملية ّ
* العالمة في عالقتها بموضوعها :أيقونة ،مؤشر ،رمز. تأويل تأتي بمعلومة جديدة تغني املعرفة التي تختزنها العالمة في
ّ
* العالمة في عالقتها باملؤول :خبر ،تصديقّ ، تحققها املبدئي" .7وهذا يؤكد أن "إيكو" ينطلق في تنظيراته السيميائية
حجة.
من مبدإ "املواضعة الثقافية" التي ال يمكن للبحث السيميائي أن
ّ
وعليه ،تتولد عن هذه التأليفات الفئات التي تجمع كل يتجاهلها على اإلطالق .ويرتكز هذا املفهوم على لبنة أساسية هي
َُ
زاوية بما يليها من الفئات األخر ،وهكذا دواليك ...ويمكننا تبسيط "الشيفرات التي يتم االتفاق الجمعي حولها ضمن مواضعة ثقافية
هذه التأليفات على شكل ثالثيات متوالدة: معينة ،تتحكم فيها األنساق العامة".8
285
دراسات وأبحاث املجلة العربية لألبحاث والدراسات في العلوم اإلنسانية واالجتماعية
مجلد 14عدد 2أفريل 2022السنة الرابعة عشر ISSN: 1112- 9751 / EISSN: 2253-0363
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ّ ّ
يؤكد "إيكو" ّ
"تتحدد من خالل أن العالمة بعناصرها املتظافرة كما – (عالمة نوعية أيقونية خبرية) – (عالمة مفردة أيقونية
وظيفتها األصلية واآلثار التي تحدثها عند املتلقين ،أي الطريقة التي خبرية)
يستعمل من خاللها املتلقي هذه العالمة".17
– (عالمة مفردة مؤشرية خبرية) ( -عالمة مفردة مؤشرية
ؤول" –حسب إيكو -منوطا بقراءة النصوص ومادام "امل ّ تصديقية)
أن السيميائيات ال يمكن أنذات الطبيعة الجمالية ،فذلك يعني ّ
تكون ذات جدوى إذا لم ّ – (عالمة معيارية أيقونية خبرية) ( -عالمة معيارية
يتم استثمارها في القراءات التداولية؛ حيث
إن " بط السيميائيات بالطابع التداولي ّّ مؤشرية تصديقية)
يعد ثورة حقيقية في العلوم ر
اإلنسانية املعاصرةّ ،
ألن هذه الطاقة ال تنكفئ على تبيين اشتغاالت – (الرمز الخبري املعياري) ( -الرمز التصديقي املعياري)-
األنظمة كمعطى ما ،بل تبدي جليا الطريقة التي يستحيل بها علم (الحجة الرمزية املعيارية).
وصفي إلى مشروع فعلي" .18وعليه ،فإن مالمح هذا العلم لم تفتأ ّ
وبهذا ،يعلق "إيكو"" ،يمكن للعالمات أن تمثل أمامنا من
تشق طريقها نحو التأويل ،فالسيميائيات بوجه عام "ال تبحث عن
خالل خصائص مختلفة وذلك وفق الحاالت والظروف التي تستعمل
دالالت جاهزة أو معطاة بشكل سابق على املمارسة اإلنسانية ،بل ّإنها
تصدر من عمقها ،أو ل َن ُقل ّ داخلها ،وهذا يعود بالتأكيد إلى أنها تمتلك طابعا أساسيا مشتركا وهو
إن السيميائيات بحث في شروط اإلنتاج ِ
والتداول واالستهالكّ ، يشكل موضوع نظرية موحدة للعالمة تتجاوز كل هذه التصنيفات".14
مما يجعل منها ممارسة أكثر منها فلسفة".19
2.2السميوزيس الوحدة الثالثية:
والجدير بالذكر ّ
أن هذه التأليفات الثالثية هي ما أطلق
عليه "بورس" مصطلح "السميوزيس" معتبرا إياه "سيرورة سيميائية
تتظافر عناصرها من أجل إنتاج الداللة وتداولها وقد شرح "إيكو"
تعريف "بورس" للسميوزيس على أنها عالمة ّ
وأنه نتاج دينامي أو
مباشر يفض ي إلى ّ
املؤول وفق سيرورة جدلية ومحايثة" 15فإذا أردنا
تحديد عناصر ّ
"الس ْم ُيوزيس فهي ببساطة كاآلتي16 :
ِ
تحديد األثر الواقع على ذات ما ،فأطلق على هذا األثر مصطلح
َّ
"مؤول".
أن ّ
املؤول –بالنسبة املؤول :من تعريف املوضوع ،يتضح ّ
* ّ
لبورس -هو دليل وليس شخصية ما ،وقد دافع عنه "بورس" ّ
ألنه
الضامن لصحة العالقة بين املاثول واملوضوعّ .أما "إيكو" فيرى ّ
أن
فعال في قراءة النصوص ذات الطبيعة الجمالية، ّ
"املؤول" يقوم بدور ّ
286
دراسات وأبحاث املجلة العربية لألبحاث والدراسات في العلوم اإلنسانية واالجتماعية
مجلد 14عدد 2أفريل 2022السنة الرابعة عشر ISSN: 1112- 9751 / EISSN: 2253-0363
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبما ّ
أن السميوزيس هي "املسؤولة عن إقامة العالقة ّ 3 .2
املؤول :بين التأويل والتداول:
السيميائية بين املاثول واملوضوع عبر فعل التوسط اإللزامي الذي
فإن هذا ّاملؤول"ّ ،21
يقوم به ّ في الوقت الذي أهمل فيه "دي سوسير" –كما أشرنا إلى
املؤول يصير الحلقة األقوى في فعل ذلك في السابق -عنصر املرجع مكتفيا ّ
التأويل والتداول ً بالدال واملدلول كطرفين
معا ،ولهذا األخير (التداول) دور هام "فهو يكشف ّ
وحيدين في معادلة [اللغة = نظام مغلق] ،خرج "بورس" من صمته
عن املظاهر املتنوعة للش يء وألنماط وجوده وتجلياته .ولهذا السبب، ّ
ليتحدث عن ّ
"املؤول" الذي هو نفسه "املرجع" وبمواضعة اصطالحية
إذا كان تغيير موقع الش يء من نسق إلى آخر يؤدي حتما إلى تغيير في بين "رتشارد" و"أجدن" ،عام ُ 1923جعل ّ
داللته ،فهذا معناه أن ّ املؤول –باصطالح بورس-
الداللة ليست معطى جاهزا بل هي سيرورة ،وال
(املرجع باصطالح أوجدن ورتشارد) واحدا من معادلة [دال +مدلول
تحضر في الذهن باعتبارها كال بل باعتبارها مستويات" .22وعلى إثر ّ مؤول (مرجع)] ،وصارت العالقة بين ّ ّ +
ذلك ،فقد أرس ى "إيكو" دعائم فرضية مفادها ّ واملؤول الدال واملدلول
أن كل الظواهر ّ مباشرة بينما استحالت أن تكون كذلك بين ّ
واملؤول (املرجع)، الدال
الثقافية يمكن أن تصير ثيمات لعمليات تواصلية ،وبالتالي ،فإن هذه وهذا ما ّ
الفرضية تستلزم تركيبا معينا ّ يوضحه الشكل التخطيطي اآلتي:
فصله "إيكو" كاآلتي:23
عّمباشرة
* بإمكان الثقافة من تدرس من زاوية سيميائية.
287
دراسات وأبحاث املجلة العربية لألبحاث والدراسات في العلوم اإلنسانية واالجتماعية
مجلد 14عدد 2أفريل 2022السنة الرابعة عشر ISSN: 1112- 9751 / EISSN: 2253-0363
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ّ
تعلق األمر بفكرة ّ إن ّ النفعي فيها" .25وهذا هو جوهر التداولية ،من حيث ّ
(أن نقطة نهاية (املتاهة) فال أحد يعرفها ،خاصة إذا املؤول يمارس
نص قابل للتأويل) ،فال العالم ُم َنت ٍه وال التأويل محدود.
العالم هو ّ قراءة في مضامين ثقافية تحيلنا عليها العالمة ،وهو نوع من القراءة
(الخارج-عالماتية) ،يستوجبها السياق أو النسق .وعليهّ ،
فإن "ما
يضعنا "إيكو" وجها لوجه مع الفلسفة اليونانية القديمة يطلق العنان لهذه الحركة وما ّ
يمدها بعناصر التأويل هو هذا ّ
التي ّ املؤول
مجدت اإلله "هرمس" الذي "أطلقه اليونان على اإلله املصري الذي يعرف عناصر تأويله من مصادر ّ
متعددة :الثقافي واإليديولوجي
وسماه األفالطونيون املحدثون هرمس املثلث القطعة".30(تحوت) ّ
والخرافي واألسطوري والديني وكل ما يمكن أن يسهم في إغناء التأويل
ومنه َت ّم تحديد مفهوم "الهيرمينوطيقا" بداية باالستناد على تفسير وتنويعه"ّ .26
ّ متناه ،ال محدود ،بل إن
ٍ ولعل هذا ما يجعل التأويل ال
النص املقدس (اإلنجيل) ضمن "مجموعة املعارف والتقنيات التي ّ
"بورس" يسميه "املتاهة التأويلية" و"االنحدار الالمتناهي للعالمة"،
تسمح باستنطاق العالمات واكتشاف معانيها ...إنها تفترض بأن و"إيكو" ّ
العالمات ومختلف أنواع الخطاب ليست واضحةّ ، يقر بأننا نمارس التأويل لغايات "خارج-سيميائية".
وأن علينا أن
ّ
نكتشف خلف كل معنى ظاهر جلي معنى خفيا كامنا أكثر ُعمقا ،أي ما .3التأويل الالمحدود :بين املتاهة الهرمسية وال نهائية
فإن "الهرمسية" التييعني في ثقافتنا معنى أكثر قيمة" .31ومنهّ ، السميوزيس:
قصدها "إيكو" تنبثق في أصلها عن "هرمس" بوصفه متعدد الوظائف ّ
ّ يضم كتاب "التأويل بين السيميائيات والتفكيكية" ألمبرتو
واالختصاصات ،إنه "اإلله" املتقلب الغامض ،وصاحب املعرفة
ّ
الكلي .ولكن ،علينا أن ّ إيكو ،ستة فصول ارتكزت جميعها على مسألة التأويل في عالقته
نقر هنا بأن التأويل من وجهة الشاملة والتأويل بالتاريخ ّ
ّ نظر "الهرمسية" ال ّ والنص واملؤلف واالستعارة ،وقد لفت انتباهنا الفصل
يتغيى هدفا بعينه ،ألن أسمى ما يصبو إليه ،هو
املعنون" :التأويل بين بورس ودريدا" 27وذلك لتماشيه و نسق هذا
تحقيق لذة النهائية اإلحاالت ،إنه ال يريد أن تنتهي الداللة ،وذلك
اجع إلى ّ املقال.
أن "الخاصية الرئيسة للمتاهة الهرمسية هي قدرتها على ر
االنتقال من مدلول إلى آخر ،ومن تشابه إلى آخر ،ومن رابط إلى آخر إضافة إلى ّ
أن ما قدمه "إيكو" عن قضية التأويل بين
َ
دون ضابط أو رقيب"ّ .32إنه ش يء شبيه بالروابط التشعبية التي َعلمين بارزين هما "بورس" و"دريدا" ،جدير بأن تمارس عليه قراءة
ّ فاحصة ،السيما إذا عرفنا ّ
تتيحها القراءة اإللكترونية؛ فكل رابط يحيلنا على روابط أخرى ،وكلها بأن التفكيكية بزعامة "جاك
ً
حدودا تحيل على روابط النهائية ،وكأننا في عالم ال يمكن أن نجد له دريدا" J.Derridaقد دأبت على تقديم نماذج تأويلية ورؤى نظرية
أو نقطة نهاية. تخدم في معظمها ،بل في جوهرها التوجه الهيرمينوطيقي العام.
وقد يتساءل سائل :ما عالقة "الهرمسية" بالعالمة وقف أمبرتو إيكو في هذا الفصل عند تحليل تصورين
السيميائية التي طرحها "بورس"؟ نص ما ،حسب التصور ّ
األول ،يعني مختلفين للتأويل "فتأويل ّ
ّ ًّ الكشف عن الداللة التي أرادها املؤلف ،أو على األقل الكشف عن
إن كال من الهرمسية و السيميوزيس، نقول ببساطة
طابعها املوضوعي ،وهو ما يعني إجالء جوهرها املستقل عن فعل
يرتميان في بوتقة واحدة :هي النهائية الدالالت .ولكن ،علينا أوال – التأويلّ .أما التصور الثاني فيرى ،على العكس من ذلكّ ،
تفاديا ألي إشكال منهجي -أن نعي جيدا ّ أن النصوص
بأن مفهوم الهرمسية عند إيكو
تحتمل كل تأويل" .28ويمكننا –كما ذهب إلى ذلك "إيكو" -أن نصنف
قد ارتبط –كما أشرنا -بالتأويل (الهيرمينوطيقا بوصفها نظرية ّ
للتأويل) .وقد أخذنا "إيكو" في جولة تاريخية ملسألة "اإلله ّ التصورين على النحو اآلتي: هذين
املؤول -
هرمس "-حينما تحدث في فصله املعنون "التأويل والتاريخ" (ضمن 1.3املتاهة الهرمسية:
الكتاب قيد مقاربتنا هذه) عن النهائية التأويل التي تعود إلى أعماق
كانت نقطة بداية املتاهة الهرمسية عند "إيكو" من طرحه
الحقبة الفلسفية اإلغريقية ،مستفيضا في إيراد أمثلة في النثر
والشعر والفلسفة والعلوم والفنون .وعليهّ ، للسؤال اإلشكالي "هل هناك مدلول ثابت ،أم هناك مدلوالت متعددة
فإن "الهرمسية" كانت
مبتدأ "التأويل" ومنتهاه ،في الحقب القديمة ّ
وأن كل ممارسة ّ أم على العكس من ذلك ال وجود ألي مدلول على اإلطالق؟"ّ ،29أما
نصية هي
288
دراسات وأبحاث املجلة العربية لألبحاث والدراسات في العلوم اإلنسانية واالجتماعية
مجلد 14عدد 2أفريل 2022السنة الرابعة عشر ISSN: 1112- 9751 / EISSN: 2253-0363
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النص الكبير للعالم ،عن امتالء املدلول ال عن غيابه ...ولهذاّ كما في من قبيل التعاطي "الهرمس ي" إنه "عالم القرن الثاني امليالدي ...ملتقى
ّ ّ
السبب ،فإن مدلول نص ما قضية ال أهمية لها ،واملدلول النهائي ِس ٌّر لكل الشعوب واألفكار واآللهة ...فلم يعد هناك فرق بين إزيس Isis ّ
الدياليكتيكي -الجدلي - الدور ّيستعص ي على اإلد اك"ّ .34إنها معضلة ّ وديمتير Demterوسيبيل Cybeleو وأستارتيAsterté
ر
ونص عائمّ بين قارئ باحث عن معنى نهائي –في تصوره الخاص- أنايتيس Anaïtisو مايا .33"Mai
ّ
وسط مدلوالت زئبقية ،يصعب اإلمساك بها ،وهذا الالنهائي "ال يمكنه
مما يعني أن "هرمسية" القرن الثاني امليالدي –حسب ّ
الحد الفاصل بين عنصر وآخر] وبالتاليامتالك (املوديس) [ويعني به ّ
ّ ّ
ّ إيكو -قد تخلصت من "أحادية" الذهنية الالهوتية املتعصبة،
فإن األسطورة الهرمسية قد أتت على إلغاء مبدإ الهوية وعدم ّ
التعدد ،والجمع بين املتناقضات كأحد مبادئ العقالنية وأتاحت مبدأ
التناقض ،والثالث املرفوع" .35ولتبسيط هذه املفاهيم نقترح الشكل كل ّ ومما سبق ندرك ّ
أن العالمة الهرمسية "تبحث في ّ اإلغريقيةّ .
اآلتي36:
نص،
فإذا أردنا أن نصل إلى معرفة ما ،فعلينا ّأوال اإلمساك بسبب هذه املعرفة وانطالقا من ذلك نكون قادرين -مثال -على إعطاء "العالم" ً
معنى
ْ ّ ّ
خط سيرها في اتجاه واحد ،حيث ّ أو تعريفا سببيا .وهذا يستوجب ّ
إن "أ" تسير منا أن نضع في الحسبان فكرة وجود سلسلة أحادية االتجاه ،أي أن
منطقيا نحو "ب" دون أن تكون "ب" قادرة على السير نحو "أ" في االتجاه املعاكس .وهذه السلسلة تحميها ثالثة قواعد ومبادئ رئيسة هي :مبدأ الهوية؛
حينما تكون "أ" تساوي بالضرورة "أ" وال تساوي شيئا آخر .ومبدأ عدم التناقض؛ عندما ال تكون "أ" و ال"أ" هما الش يء ذاتهّ .أما مبدأ الثالث املرفوع؛
فيقتض ي أن تكون "أ" ّإما صحيحة ّ
وإما خاطئة فليست لها حالة ثالثة تكون عليها.
2.3النهائية السميوزيس:
يتساءل "إيكو" في هذا الفصل إن كان "باإلمكان الحديث عن سميوزيس المتناهية انطالقا من قدرة املتاهة الهرمسية على االنتقال من ّ
حد
نتحدث عن سميوزيس المتناهية من خالل األساليب التي يستعملها القراء املعاصرون الذين يتيهون في ّ
النص حد ومن ش يء إلى آخر؟ وهل يمكن أن ّ
إلى ّ
ّ
بحثا عن لعب سري بالكلمات أو عن االشتقاقات املجهولة ،والتداعيات الالواعية ،والصور الغامضة...؟" .37وقد جاء الجواب سريعا ومباشرا ُيفيد بأن
289
دراسات وأبحاث املجلة العربية لألبحاث والدراسات في العلوم اإلنسانية واالجتماعية
مجلد 14عدد 2أفريل 2022السنة الرابعة عشر ISSN: 1112- 9751 / EISSN: 2253-0363
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السيميائية عند "شارل سندرس بورس" أساسها العالمة ،و"العالمة ش يء تفيد معرفته معرفة ش يء آخر" ،وأن هذه املعرفة املضافة تدل على ّ
أن
مؤول إلى آخر يكسب العالمة تحديدات أكثر اتساعا سواء كان ذلك على مستوى التقرير أو على مستوى اإليحاءّ .38
إن "بورس" لم ينظر االنتقال من ّ
إلى ظاهرة العالمة كمعطى مغلق أو باألحرى منغلق ،ولكن كظاهرة داللية منفتحة والتي بمقتضاها سيصبح "مفهوم التأويل الحلقة املركزية التي
ّ
الخاصة انطالقا من مفهوم "السميوزيس".39 ستتكثف حولها كل اإلجراءات التحليلية
أن معرفة ّ ى ّ
إال ّ ويرى "إيكو" ّ
مكونات العالمة هي أن مصدر معرفة الش يء (يعني العالمة) هو أن يقوم اإلنسان بتأويل العالمة بصفة أو بأخر
ّ
إال ّ إال ضمن سياق ّ ّ ّ
أن غايتنا اإلمكانات.40 محدد أو من زاوية بعينها .فالسميوزيس المتناهية في املطلق، مجرد احتمال سميوزيس ال يمكن أن يتحقق
ّ أن الحديث عن حدود للسميوزيس هو من قبيل الترف الفكري الذي ال فائدة منه ،ذلك ّ وهذا يعني ّ
أن الجري خلف اإلمكانات الالمحدودة
ً ّ للسميوزيس قد يقودنا إلى دوامةّ ،
املحددة بدال من الحديث عن فضل "إيكو" تسميتها "باملتاهة" .وعليه ،نراه يرمي إلى تأطير سلسلة اإلمكانات غير
نقطة نهائية ،ال تأتي أبدا.
نود عرضه على الطريقة ذاتها خشية انغالقه على األذهانّ ،وقد وقف "إيكو" عند مثال توضيحي لسلسلة من األشياء ،ولكن لم ّ
وإنما حاولنا
تبسيطه من خالل ترجمة حروفه إلى العربية حتى ّ
نقربه إلى األفهام .فإذا كانت سلسلة األشياء مثال هي :أ ،ب ،ج ،د ،ﻫ قابلة في ذاتها للتحليل إلى
ّ
خصائص جزئية هي :أ* ،ب* ،ج* ،د* ،ﻫ* ،و* ،ز* ،ح* وقد ال تشترك هذه األشياء مع بعضها البعض إال بعناصر معينة .وسيظهر ّأنه حتى في الحالة التي
نقتصر فيها على خصائص محدودة ،فإننا سنعثر على قرابة بين شيئين ال رابط بينهما في الواقع ،ومع ذلك فهما مرتبطان هنا بسلسلة متتالية من
عالقات التشابه ونظهرها على النحو اآلتي41:
290
دراسات وأبحاث املجلة العربية لألبحاث والدراسات في العلوم اإلنسانية واالجتماعية
مجلد 14عدد 2أفريل 2022السنة الرابعة عشر ISSN: 1112- 9751 / EISSN: 2253-0363
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أسماه "إيكو" (باملغامرات املنحرفة) ،إنها مغامرات التفكيك على
طريقة "إيكو" وليس على طريقة "ديريدا".
بين "إيكو" و"دريدا" :السجال حول 3.3
من هنا بات من الواضح ّ
جدا أن التأويل الذي يستند إلى السميوزيس:
النص ،هو تأويل منحرف وسقيم، الحرة التي تهمل مقوالت ّ
القراءة ّ
أفرد "إيكو" ملسألة التفكيكية كالما كثيرا ،السيما أن
وباصطالح "إيكو" هو تأويل مضاعف (.)Surinterprétation
هناك سجاال طويال قد دار بينه وبين التفكيكيين وعلى رأسهم "جاك
عندما ألف "إيكو" كتابه الشهير "التأويل والتأويل ديريدا" الذي "انصب اهتمامه في الفصل الثاني من كتاب De la
املضاعف" عام ،1996كان زاده املعرفي الذي أسسه عليه هو فكرة 1967( grammatologieص 42وما بعدها) على البحث عن سلطة
ّ
"املتناهي" و"الالمتناهي" و"النمو اللولبي للعالمة" و"حركية [معرفية] تضفي نوعا من الشرعية على محاولته لضبط حدود
ّ
وكلها مفاهيم ّ ّ
تحدد أبعاد التأويل وأشكاله وطرائقه. السميوزيس"، سميوزيس للعب الالمتناهي واالختالف والنمو اللولبي للتأويل".43
يحدد "إيكو" كل هذه الخصائص لعملية ولكن ،في الوقت ذاته الذي ّ
ُ
وهذا املعطى الفكري أزعج "إيكو" إلى درجة ّأنه انتقد
التأويل -فهو يحذر أيضا م ّما أسماه "باالنزالق" نحو ما ال يريده
"ديريدا" في مؤلفات مختلفة (منها كتابه "حدود التأويل") ملا نادى به
النص ،وبالتالي تحميله ما ال يحتمل.
(دريدا) من االنفتاح التأويلي استنادا إلى "فهم س يء" –كما يقر إيكو-
ففي النهاية ،ليس التأويل بالنسبة إليه سوى "التحيين ملقوالت "بيرس" .وجوهر ما استاء منه "إيكو" في تفكيكية "ديريدا" أنها
ّ
النص قوله باعتباره استراتيجية ،من خالل الداللي لكل ما يريد "ال تؤمن على اإلطالق بوجود معنى مفارق ،ألن التأويل عبارة عن لعبة
اشتراك قارئه النموذجي" .49ويقر "إيكو" أنه "يمكن للمرء االعتراض ال منتهية من اإلحاالت في عالم سديمي ،منعدم املرجعيات ،معدوم
على أنه كي ّ
نحدد تأويال فاسدا فإننا نحتاج إلى معايير لتحديد التأويل املعالم".44
الجيد تساعدنا على تبيين أي التأويالت هي "األفضل"" .50وبهذا يكون
وبما أن "ديريدا" قد اشتغل على ثنائية (الحضور ،الغياب)
"إيكو" قد التزم بمبدإ إقصاء ما أسماه بالتأويالت "الفاسدة" والتي ال ّ
النص ،وهذا في ّ يكون لها أي فائدة ُترجى في ّ فإنه ربط "الحضور" بمفهوم الدليل االعتباطي عند "دي سوسير"
حد ذاته هو محاولة ّ
بينما رأى بأن مقولة "الغياب" ارتبطت بالسميوزيس الالمنتهية عند
لحماية النصوص من دعاوى استراتيجية التفكيك الديريدية القائمة
ّ "بورس" .وبالتالي "ال ينبغي التعامل مع النصوص من خالل ما تقوله
النص متوالية النهائية من االختالفات تنسجها العالمات على اعتبار أو ّ
َ ّ ّ تصرح به ،بل ما ال تقوله وتسكت عنه ،وبما تخفيه وتستبعده".45
متناه من
ٍ الخطية ،وعليه يمكن للنص الواحد أن يكون له عدد ال
كل قراءة قد تصادف ما أسماه "بسوء فهم النص". القراءاتّ ،
وأن ّ لقد ّأثرت مقولة "ميتافيزيقا الحضور" ّ
الديريدية على
وبهذا سنضطر لتصحيح سوء الفهم هذا بقراءة أخرى وهكذا ...وهذا أن هذا األساس قد استند عليه تفكيكية املدلوالت ورأى "إيكو" ّ
ّ
ما أصاب "إيكو" بالغيظ (املنهجي واالبستيمولوجي) حتى دفعه "ديريدا" في محاولة منه للبرهنة على السلطة التي تمتلكها اللغة
ّ
املتجلية في قدرتها على أن تقول أكثر ّ
لتوصيف هذه التفكيكية "بالتأويل املضاعف" أو "املفرط" أو مما تدل عليه ألفاظها مباشرة.46
"السيئ" .وعليه ،وكموقف مقابل للتأويل التفكيكي الذي ّ
أسس له أن جوهر هذا السجال هو أن مقوالت "ديريدا" التفكيكية قد وأعتقد ّ
ُ فصلت النص عن ُم ْنتجه ،أو لنقل قد ّ
ديريدا في طروحاته املختلفة ،اتخذ "إيكو" لنفسه استراتيجية مغايرة غيبت الذات املنتجة في مقابل
تقوم أساسا على أن التأويل هو نشاط سيميائي –تأثرا ببورس- استحضار الخطاب وهذا ّ
يؤدي بالضرورة إلى انتفاء صفة "القصدية"
تحكمه مجموعة قواعد ومعايير ّ
مبررا ذلك بقوله "ليس من املعقول التي تعكس الذات املنتجة .وعندها "فلن يكون من واجب القراء وال
ّ
املزهو بقدرته واملسكون بنزواته النص لعنف القارئّ أن ُيترك في مقدورهم التقيد بمقتضيات هذه القصدية الغائبة"ّ .47
ألن "إيكو"
ّ
واملهووس بغرائزه ولذاته".51 وببساطة شديدة يقولRien n’est plus ouvert qu’un texte " :
نص مغلق) ،يستفز ً
انفتاحا من ّ ،48"ferméأي (ليس هناك أكثر
معنى ذلك أن "إيكو" الذي أعطى للقارئ في "األثر املفتوح" ّ بانغالقه القارئ ليكشف عن اآللة التي ّ
النص إلى ما حولت هذا
كل الصالحيات التأويليةّ ،إنما في الحقيقة يحاول تقييده بمعايير
291
دراسات وأبحاث املجلة العربية لألبحاث والدراسات في العلوم اإلنسانية واالجتماعية
مجلد 14عدد 2أفريل 2022السنة الرابعة عشر ISSN: 1112- 9751 / EISSN: 2253-0363
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ُ
للتأويل املضاعف (املفرط) ،فإن تفكيكية "جاك ديريدا" تزاحمنا وأسنن معينة حتى ال تكون قراءته على حساب النص ،وحتى يشعر
ّ ّ هذا القارئ بوجود قيود تأويلية ّ
النص الواحد .و عليه ،لن باملتواليات الالنهائية من االختالفات في أهمها "النص" الذي ال يجب عليه أن
تكون قراءتنا هذه إال إحدى حلقات السميوزيس الالمتناهية. يتجاوز مقصديتهّ .إنه ميزان تأويلي من صنف "إيكو" ،فمهما ُسمح
ّ وأخيرا نقولّ ، فالب ّد أن يدرك أن حدود
نص ماُ ،
حرة ومنطلقة على ّللقارئ بممارسة ّ
إن مؤلف "التأويل بين السيميائيات التأويل هي نقطة ما ال ينبغي تجاوزها وهي النقطة نفسها التي ّ
والتفكيكية" يدرك ّ يعدها
جيدا أن هناك ما هو أسمى من التأويل ذاته ،إنه "إيكو" ُمنطلق الذات ّ
كينونة هذا التأويل ،مادام ّ املؤولة بكل ما تضعه من فرضيات وتخمينات
"املؤول" ال ينأى بنفسه عن وجوده وال عن
وتصورات ّأولية للمعنى.
العالم الذي ينتمي إليه وهو يجلس وجها لوجه مع النص "املفتوح" .و
إثراء للمنظومة الفكرية ألمبرتو إيكو نقترح تأسيس مخابر متخصصة .4خاتمة:
لالشتغال على املنظومة التأويلية في الفلسفة املعاصرة ،و كذا عقد
أبان توجه "إيكو" السيميائي التأويلي عن مخزون معرفي
ندوات و ملتقيات في هذا املجال املعرفي الخصب.
منشطر على منابع ابستيمية متعددة ،ما جعل إشكالية القراءة
.5قائمة املراجع: التأويلية املتشبعة بالنموذج "البورس ي" تقف بين ّ
حدي السيميائيات
تتغي البحث في شروط إنتاج ّ
املؤول و تداوله و كذا و الهيرمينوطيقا و ّ
-أمبرتو إيكو :التأويل بين السيميائيات والتفكيكية ،ترجمة
استهالكه .من أجل ذلك ،و بعد استقراء و تتبع هذا اإلشكال في
وتقديم :سعيد بنكراد ،املركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،ط،2
.2004 الفصل املعنون " :التأويل بين بورس و دريدا" في كتاب "التأويل بين
-أمبرتو إيكو :العالمة ،تحليل املفهوم وتاريخه ،ترجمة سعيد السيميائيات و التفكيكية" توصلنا إلى جملة من النتائج نجملها في
بنكراد ،ومراجعة سعيد الغانمي ،املركز الثقافي العربي ،بيروت، االتي:
ط2007 ،1
_1ليست مسألة التأويل بالش يء ّ
الهين ،السيما إذا
-أمبرتو إيكو :التأويل والتأويل املفرط ،ترجمة ناصر الحلواني،
ّ ّ
مركز اإلنماء الحضاري ،حلب ،ط.2009 ،1 تعلق األمر ببناء عوالم ممكنة يصنعها القارئ بيدي املؤلف ،وليس
الحديث عن عالم ال متناه من العالمات كفيال بإشباع شغف ّ
النص..
-جميل صليبا :املعجم الفلسفي ،دار الكتاب اللبناني ،بيروت، ٍ
ط ،1ج.1971 2 ّإنه املعنى الذي يتشكل منفتحا على التعدد واالختالف وإمكانية ال
-سعيد بنكراد :السيميائيات والتأويل ،مدخل لسيميائيات محدودة من الفرضيات واالحتماالت.
الدار البيضاء ،ط2005 ،1ش.س .بورس ،املركز الثقافي العربيّ ،
_2كان "إيكو" الخارج من عباءة "بورس" ّ
يروج لحرية
-سعيد بنكراد :السيميائيات ،مفاهيمها وتطبيقاتها ،دار الحوار
للنشر والتوزيع ،سوريا ،ط.2005 ،2 التأويل واالنفتاح على املعنى ّ
ولكنه في الوقت ذاته ،كان يخش ى على
ّ توجس خيفة من قرائه ّ ّ
النص من كل تلك الحرية .لقد ّ
-سعيد بنكراد :مفاهيم في السيميائيات ،مجلة عالمات ،العدد "املؤولين" إلى
،17مكناس املغرب ،سنة .2000 ّ
الحد الذي جعله يعترف لهم دون ّ
تردد "لقد توجهت أنظار قرائي
-ضياء الكعبي :السرد العربي القديم ،األنساق الثقافية خاصة نحو جانب "االنفتاح" ،فالقول ّ
بأن هذا التأويل قابل بأن يكون
وإشكاليات التأويل ،املؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بيروت،
ال نهائيا ،ال يعني أن التأويل يفتقد ملوضوع بعينه".52
ط2005. 1
-9 -وحيد بن بوعزيز :حدود التأويل (قراءة في مشروع أمبرتو _3إن التعاطي مع املشروع التأويلي ألمبرتو إيكو هو
الدار العربية للعلوم ناشرون (بيروت) ،منشورات إيكو النقدي) ّ
مخاطرة ابستيمولوجية صعبة خاصة أن الباحث يتعامل مع مفكر
االختالف (الجزائر) ،ط.2008 ،1 ّ
متعدد االهتمامات الفكرية؛ فحينما نقف عند مقولة العالمة ،نجد
-أمبرتو إيكو :سيميائيات األنساق البصرية ،ترجمة محمد
كل تفصيلة ،وعندما ّ
تتوجه صوب بصمات فلسفة "شارل بورس" في ّ
التهامي العماري ،محمد أودادا ،مراجعة وتقديم سعيد بنكراد ،دار
الحوار للنشر والتوزيع ،سوريا ،ط.2013 ،2 التأويل (الصحيح) ،تطل علينا الفلسفة الهرمسية وتأويالت
ّ
النصوص الالهوتية القديمة .أما إذا أردنا أن نفقه منظومة نقده
292
دراسات وأبحاث املجلة العربية لألبحاث والدراسات في العلوم اإلنسانية واالجتماعية
مجلد 14عدد 2أفريل 2022السنة الرابعة عشر ISSN: 1112- 9751 / EISSN: 2253-0363
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- Umberto Eco : Lector in fabula, traduit par : Myriem -القارئ في الحكاية ،التعاضد التأويلي في النصوص الحكائية،
Bouzaher, édition : Grasset, Paris, 1985. ترجمة أنطوان أبو زيد ،املركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،ط،1
.1996
-جاك ديريدا :الكتابة واالختالف ،ترجمة كاظم جهاد ،دار
توبقال ،الدار البيضاء ،ط.1988 ،1
-جان ماري شايفر :العالماتية :مقال ضمن كتاب "العالماتية
.6هوامش :
وعلم النص" (نصوص مختارة ومترجمة) ،إعداد وترجمة منذر
العياش ي ،املركز الثقافي العربيّ ،
الدار البيضاء ،ط.2004 ،1
- U. Eco : L’interprétation et surinterprétation, traduit de
l’anglais par Jean-Pierre Cometti, édité par Stefan Collini,
presses universitaires de France, 3éd, Juillet 2002.
- Umberto Eco : La structure absente, introduction à la
recherche sémiotique, traduit par : Uccio Esposito-
Torrigiani, édition : Mercure de France, Paris, 1972.
294