Professional Documents
Culture Documents
المحاضرة رقم 02بين الحقيقة الفلسفية والعلمية
المحاضرة رقم 02بين الحقيقة الفلسفية والعلمية
يسعى كل من العلم و الفلسفة إىل كشف الغموض الذي حييط باإلنسان و من مثة فإن بلوغ احلقيقة هو اهلدف
املشرتك من البحث العلمي و الفلسفي يف آن واحد ،وإن اشرتك العلم و الفلسفة يف نفس اهلدف -وهو بلوغ احلقيقة
-فإهنما خيتلفان يف طبيعتها .فاحلقيقة اليت يطلبها العامل مغايرة للحقيقة اليت يطلبها الفيلسوف" و الحقيقة ليست
شيء من األشياء بل هي حكم على األشياء بما هي عليه " .1وتتميز احلقيقة العلمية باخلصائص التالية :
أ -حسية:
احلقائق العلمية حقائق مادية ندركها باحلواس ،ألن موضوع العلم مادي حمسوس و إن مل تدرك باحلواس مباشرة فإن
آثارها تدرك باحلواس " و لهذا صح أن نقول أن القوانين العلمية حقائق علمية ألننا نعلم أن عناصرها مدركات
حسية ،و ألن العالقة القائمة بينها على أساس االقتران في الوجود و الغياب هي أمور تدرك بالحواس في إطاري
الزمان و المكان " .2ولتوضيح األمر يكفي أن ننظر إىل احلقائق املوجودة على مستوى البيولوجيا أو الفيزياء ،فهي
حقائق مدركة .باحلس أو على األقل ميكن إدراك آثارها باحلس ،و كل ما خيرج عن قدرة احلواس و استطاعتها خرج من
دائرة احلقيقة العلمية.
ب -ظاهرية:
ملا كانت املعرفة العلمية حسية كانت بالضرورة ظاهرية ،مبعىن أهنا حمصورة يف حدود الصفات احلسية اليت تظهر هبا
للحواس ،أي أن معرفة الشيء تكون يف حدود الصفات اليت يظهر هبا و اليت متيزه عن غريه من األشياء األخرى.3
حبيث جيعل هذه الصفات الظاهرة العامل قادرا على دراسة األشياء و إصدار األحكام عليها دون خوف من تبدهلا أو
تغريها أو إخفائها ملاهية ختتلف عن املاهية اليت تظهرها.
ج -موضوعية:
وال يقصد باملوضوعية هنا املوضوعية املقصودة يف الروح العلمية واليت تعين االعتدال وعدم التعصب ،و إمنا هلا مدلول
آخر مفاده ،أن احلقيقة اليت تصل إليها الذات العارفة مصدرها املوضوع املعروف ،وحقيقة الشيء موجودة يف موضوعه،
وينجر عن هذا أن احلقيقة العلمية ثابتة لدى مجيع طالبيها.4
د -واقعية:
أي أن احلقيقة العلمية موجودة يف الواقع احمل سوس ،و ال ميكن أن تبدعها لييلة العامل .فهي يرري يف الزمان و متتد
يف املكان ،و ال يستطيع الباحث أن يوجه احلقيقة العلمية وفقا إلرادته أو رغبته ،5ألن احلقيقة العلـمية خـارجة عن
اإلرادة احلرة للعامل ،و تفرض نفسها عليه ،و ما هو إالّ باحث عن واقعها كما هو موجود.
و -كمية قانونية:
املعرفة العلمية تصاغ يف شكل قوانني رمزية تنتهي إىل مقادير قابلة للقياس و كل ما خرج عن نطاق املقدار خرج
عن دائرة العلم ،و ال ميكن أن يعرف معرفة علمية . 6و العلم اليوم يركز على املقادير القابلة للقياس بعيدا عن العلة و
املعلول .و متتاز القوانني العلمية بأن هلا شروط معلومة و أهنا شاملة جلميع األسباب و هذا ما جيعلها حتمية ،و حتمية
القوانني داللة على علميتها.7
ه -عملية:
احلقيقة العلمية هلا غاية عملية أي أهنا تستخدم للتأثري على الواقع العملي املتعلق حباجات اإلنسان اليومية.8وصالحية
احلقيقة العلمية عندئذ متوقعة على مدى تغريها و انسجامها مع احلياة اليومية.
ي -وضعية:
احلقيقة العلمية تعكس العالقات الضرورية اليت تربط الظواهر بعضها بالبعض اآلخر.9و لن تكون احلقيقة العلمية
بعد هذا حباجة إىل إضافات أو زيادات يفرتضها العامل.
ن -نسبية:
وقانونه و خصائصه ،فالرياضيات مثال هلا حقيقتها والنسبية هنا تعين التخصص فلكل علم من العلوم موضوعه
و يكون للتاريخ حقيقته اخلاصة و و املتمثلة يف توافق املقدمات مع النتائج وفقا لقواعد االستنتاج اخلاصة
املتمثلة يف مدى و جود شواهد قوية على التفسري للحوادث املاضية.11
و تبقى احلقائق العلمية قابلة للتغري و التعديل إذن احلقيقة العلمية تتغري معايريها و وسائلها من علم إىل علم
رغم الدقة املشهودة فيها ،و رغم االتفاق بني العلماء حول احلقيقة العلمية الواحدة.
/0ماهية البحث الفلسفي
أ -قيمة البحث الفلسفي:
ال َفلـْ َس َفةُ حقل للبحث والتفكري يسعى إىل فهم وتفسري كل غموض يصادف اإلنسان يف هذه احلياة ،كما أننا
بالتفلسف حناول أن نصل اىل احلقيقة واملعرفة ،وأن ندرك كل ما له قيمة أساسية وأمهية عظمى يف احلياة .كذلك تنظر
التعجب وحب االستطالع
الفلسفة يف العالقات القائمة بني اإلنسان والطبيعة ،وبني الفرد واجملتمع .والفلسفة نابعة من ّ
والرغبة يف املعرفة والفهم .بل هي عملية تشمل التحليل والنقد والتفسري والتأمل.
وكلمة فلسفة ال ميـكـن حتديـد معـناهـا بدقـة؛ ألن موضوعها ُمعقد جدا ومثري للجدال .فقد ختتلف آراء الفالسفة حول
طبيعتها ومناهجها وجماهلا .أما كلمة فلسفة يف حد ذاهتا فأصلها من الكلمة اليونانية فيلو صوفيا اليت تعين حب احلكمة.
بناء على ذلك فاحلكمة تتمثل يف االستخدام اإلجيايب للذكاء ،وليست شيئا سلبيا قد ميتلكه اإلنسان.
عاش رواد الفلسفة الغربية املعروفون ،يف اليونان القدمية يف مطلع السنوات اخلمس مائة األوىل ق.م .وقد حاول هؤالء
الفالسفة األوائل أن يكتشفوا الرتكيبة األساسية لألشياء ،وكذا طبيعة العامل والواقع .وكان الناس يف استفسارهم عن مثل
هذه املسائل يعتمدون إىل حد كبري على السحر واخلرافات وأصحاب اخلربة .لكن فالسفة اليونان اعتربوا هذه املصادر
وللفلسفة من املعرفة غري موثوقة ،وعوضا عن ذلك التمسوا األجوبة عن تلك املسائل بالتفكري ودراسة الطبيعة
تاريخ طويل يف بعض الثقافات غري الغربية ،خصوصا يف الصني واهلند .وانتقلت الفلسفة وازدهرت أيضا عند املسلمني
ال سيما يف عصر املأمون ،كما كان للفلسفة املسيحية نشاطها الفكري أيضا خاصة قضايا النفس والالهوت ،مث
انتعشت الفلسفة الغربية بشقيها احلديثة واملعاصرة لتعاجل قضايا هتم اإلنسانية ويف مجيع اجملاالت السياسية والنفسية
واالجتماعية والعلمية وغري ذلك ،وهاهي الفلسفة العربية اليوم تناضل من أجل إجياد ليرج لتخلف اإلنسان العريب .
ما يهمنا هنا ان الفالسفة عرب األزمان وجهوا حبثهم وتفكريهم للرقي بالبشرية وحل مشاكلها ،وهذا ما حنن مطالبون
به اليوم من خالل حبوثنا الفلسفية .وهبذه البحوث نفند كل مقولة تدعي ان البحث الفلسفي عقيم ونربهن أن أهل
الفلسفة هم أعقل الناس حد تعبري املفكر الفرنسي ديكارت.
وليحقق البحث الفلسفي غايته ونفعيته البد له من ضوابط .فطالب احلقيقة الفلسفية جيب أن يدرك خصائصها ومميزاهتا،
كما جيب أن يتمتع بالقدرة على بناء املقال الفلسفي وحتليل النصوص الفلسفية واختيار املنهج املناسب لإلشكالية اليت
يعاجلها.
ب -مميزات الحقيقة الفلسفية:
و اهتمامه خيتلف عن هدف العامل و إن كان احلقيقة الفلسفية مغايرة كليا للحقيقة العلمية و هدف الفيلسوف
التكامل بينهما قائما و هذه بعض ميزات احلقيقة الفلسفية.
-عقلية:
احلقيقة الفلسفية ال ميكن حتصيلها بواسطة احلس ،ألن ميداهنا غييب ميتافيزيقي لذا يلجأ الفيلسوف إىل استخدام
التأمل العقلي لبلوغ احلقيقة ليرتقا بذلك حدود الواقع احلسي ،فالعامل الفيزيائي مثال ينظر إىل تركيبة األجسام اخلارجية
و بنيتها الداخلية اليت تكون سببا يف حركتها ،بينما الفيلسوف يتعدى هذا األمر إىل دراسة الروح يف اإلنسان .و الروح
كما هو معلوم شيء ميتافيزيقي غييب ال يـدرك باألعضاء ،و إمنا بالعقل " فيعرف العقل حبركة الفكر اليت تتحدى ضروب
اإلثبات اجلزئية و احملتويات احملدودة وتزعزعها و تذيبها ".إذن يعمل العقل على يراوز حدود احلواس و حىت إبطال
حقائقها.
-غيبية:
مبا أن احلقيقة الفلسفية تتجاوز ،احلس فهذا يعين أهنا غيبية ما ورائية فاألشياء ذات مظاهر تندرج يف نطاق احلقائق
العلمية و ذات جواهر خفية يستبطنها العقل و يدركها ،و قبل فهم جواهر األشياء كان لزاما علينا التسليم بوجودها مث
الربهنة عليها .فنحن نسلم بوجود النفس مث نتغلغل لفهم حقيقتها ،و نفس الشيء يقال عن اهلل فنحن نسلم بوجوده
مث نربهن على هذا التسليم باستخدام العقل.
-ذاتية:
احلقائق الفلسفية ال تعرف االتفاق ،فلكل فيلسوف تصور ذهين يعمل على إثبات هـذا التصور الذهين ،و إعطـاء
األدلـة الكافية الدالة على وجـود هـذا التـصور " فالحقيقة الفلسفية تختلف باختالف الذوات العارفة و تتفق باتفاقها
بحسب االختالف و االتفاق في الوسائل و الغايات " ،و إن اتفق ذاتان على نفس احلقيقة ففي الغالب خيتلفان يف
طريقة اإلثبات.
-كيفية:
و املتأثرة ببعضها البعض ،و إمنا تبحث عن عالقة احلقيقة الفلسفية ال تعكس املقادير اليت تتألف منها األشياء
املوجودات بعضها بالبعض اآلخر و كيفية استمرار هذه العالقات .فمشروع الفلسفة هو البحث عن سبب و كيفية
حدوث الظواهر ال عن مقدار و كمية هذه الظواهر كما هو وارد يف العلم.
-تحليلية:
تعتمد الفلسفة على التحليل " و هو إرجاع الكل إلى أجزائه " .والتحليل الفلسفي قائم على التحليل الذهين
اخليايل ،و املتمثل يف عزل أجزاء املوضوع عن بعضها عزال كليا و ذهنيا و دراسة هذه األجزاء ،و لقد بني كانط* حقيقة
و هو يقوم التحليل املتعايل الذي هتدف إليه الفلسفة و عرفه بأنه " علم الصور القبلية التي يتألف منها العقل
عـلى تحليل المعرفة للكشف عن المبادئ و المفاهيم القبلية التي تجـعل المعرفة مـمكنة ".
وأكد رسل على ضرورة التحليل يف الفلسفة و بني أن رفض الفلسفة التحليلية هو رفض للتقدم العلمي.
-علية وجوهرية:
حياول العلم يراوز العلل و البحث عن املقادير القابلة للقياس لكن الفلسفة تبحث دائما و برتكيز على العلل املؤدية
إىل حدوث الظاهرة ،و البحث بواسطة العلل يف نظر الفالسفة يدل على التعمق يف حقيقة الظاهرة ،و ملا كانت احلقيقة
الفلسفية عليه كانت بالضرورة جوهرية ،أي أهنا ال تنتهي إىل دراسة قانونية بل تتجاوز هذا األمر إىل دراسة سبب وجود
هذه القوانني.
-نظرية و مطلقة:
احلقيقة الفلسفية نظرية ،يبنيها العقل على جمموعة من األسس اليت يتصورها هو ،من أجل تكوين صورة تتناسق فيها
وميتاز التفسري الفلسفي بالشمولية. مج يع التصورات اليت يؤمن هبا لينتهي بذلك العقل إىل تفسري نظري.
فالفيلسوف يبحث عن تفسري مطلق و شامل للعامل " فالفلسفة في جانبها النظري تعين على فهم العالم ككل ما
أمكنها هذا " .معىن هذا أن فهم العامل جبميع حيثياته و تصوره تصورا عاما هو هدف الفلسفة.
ج -التداخل بين حقائق العلم و حقائق الفلسفة:
رغم االختالف الواضح بني احلقيقة العلمية و احلقيقة الفلسفية ،إالّ أن هذا ال يعين االنفصال التام بينهما .فالتداخل
و التكامل بني االثنني يبقى قائما رغم أن هناك من ينفي هذا التداخل من أمثال داملبري) (Dalembertالذي يقول
" إما أن تكون الميتافيزيقا علما بوقائع و إما أن ال تكون بالمرة ".
إن هذا القول فيه حماولة لنفي امليتافيزيقا و إلغاء للفلسفة و حماولة لقلب امليتافيزيقا إىل علم واقعي ،لكن رغم هذا
يتفق أغلب املفكرين أن السؤال الفلسفي هو أساس بناء املعارف العلمية ،ألن السؤال الفلسفي يفتح اآلفاق أمام
العلماء للبحث و االكتشاف ،و هذا ما عرب عنه حممود زيدان يف كتابه نظريات العلم املعاصر إىل املواقف الفلسفية
بقوله " :إن العلم و الفلسفة ليس أحدهما غريب عن اآلخر فالفالسفة الطبيعيون مشتغلون منذ أقدم العصور
بالعلم الطبي ــعي ومحاولة فهمه ".
لــذا ال جيب أن حنرف عقولنا عن املهمة املزدوجة للعلم والفلسفة ،و أن حركتهما تسري وفق حتمية و كل منهما
يصحب اآلخر ،فنحن نتنقل قدما من الكشف إىل الفهم و منه إىل احلكمة مث إىل الفلسفة و شؤون الروح اإلنسانية.
و بني ريشنباخ ) *(Reichenbachالتداخل بني الفلسفة و العلم بقوله " :والحق أن تاريخ العلم في القرن
التاسع عشر ،يــضع أمام أنظار الفيلسوف آفاقا هائلة ذلك ألنه يجمع إلى وفرة الكشوف الفنية تحليال منطقيا
زاخ ـرا و قـد نش ــأت عـلى أسـاس العلم الجـديد فـلسفة جديدة ".
فالفالسفة اليوم حياولون أن يستفيدوا من أحباث العلماء يف حماولة ملناقشتها و توسيع أفقها ،و العلماء بدورهم
يستفيدون من انتقادات الفلسفة و يعملون وفقها على تعديل نظرياهتم و تصحيحها و بذلك يهتم الفالسفة بأحباث
العلماء كما يهتم العلماء باختاذ مواقف فلسفية ،و فلسفة العلوم اليوم تعمل على ترسيخ التكامل بني العلم و الفلسفة
من خالل ممارسة النقد على نتائج العلم و وسائله وفروضه ،بغية تصحيح هذه النتائج و تفعيلها على مستوى احلياة
العلمية و العملية ،و يبقى الفصل املطلق بني العلم و الفلسفة غري وارد ،و إن صح التعبري غري ممكن برغم االختالف
بني االثنني.
-4أنواع البحث الفلسفي :
البحث الفلسفي عادة ال خيرج عن إحدى ثالث وهي:
املراد باإلبداعات الفلسفية تلك البحوث اليت تقدم حقائق وتصورات جديدة أصيلة وتفسريات جديدة مل نعهدها عند
السابقني ،وحىت يتوصل الباحث إىل هذا النوع من اإلبداع جيب أن ميتلك قدرات عالية ،كما جيب أن ميتلك معارف
عقلية وتارخيية يرعله مييز بني ما هو أصيل وما هو قدمي ،لذا فإن اإلبداع حيتاج من الباحث التمسك مببادئ العقل
وقواعد املنطق دون أن يتجاهل الرتاث املعريف والفكري ،فتاريخ الفلسفة ال يقبل باحثا يفتقر إىل هذه اخلصائص .وليس
املقصود باإلبداع ان يكون موضوع البحث معاصرا وإمنا املقصود أن يكون اإلشكال معاصرا ،فقد نعاجل قضية يف
الفلسفة اليونانية لكن اإلشكال الذي نطرحه يكون جمهوال يف تاريخ الفلسفة ومل يسبق إليه احد .فاجلديد يف الفلسفة
هو اإلشكال املطروح وليس املوضوع يف حد ذاته ،ومن هنا نقول بأن الباحث يف حقل الفلسفة جيب ان يتمتع بقدرة
إبداع اإلشكاليات الفلسفية.
ب -الحديث عن اإلبداع الفلسفي :
واملراد به احلديث عن إبداعات اآلخرين لكن هبدف وهو فك الغموض الذي يكتنف هذه اإلبداعات يف حماولة
ل بعثها من جديد وحل مشكالت راهنة ختص إنسان اليوم .مبعىن أننا نتكلم عن إبداع فيلسوف مضى وانقضى أمره،
لكن جيب ان نوظف فلسفته يف حل مشكالتنا الراهنة ،وهذا األمر ليس أقل درجة من اإلبداع فإضافة أفكار جديدة
لفلسفات قدمية لتعطي هذه الفلسفة مثارها يف عصرنا يعترب إبداعا فلسفيا.
-4تحقيق بحث فلسفي :
هناك أحباث فلسفية ضاعت من البشرية لسبب أو آلخر وبعضها كتب خبط أو بلغة غري اللغة املستخدمة يف عصرنا
هذا ،ومن املمكن أن تكون هذه البحوث الفلسفية على غاية من األمهية فيعمل الباحث على مجعها وإعادة كتابتها
وسد الثغرات املوجودة فيها ليفهمها الناس ،فهذا النوع من البحث والتحقيق حيتاج إىل اطالع معريف وخربة منهجية
ودراية بأنواع اخلط وأفكار السابقني.
ومن هنا نستنتج أن البحث الفلسفي ال يستحق صفته إال من كان مبدعا أو فيه شيء من اإلبداع يعتقد صاحبه
انه صواب حبيث يكون مقتنع به وبإمكانه أن يقنع به غريه كما يعتقد أنه يساهم يف توسيع آفاق املعرفة الفلسفية أو يف
تصحيح هذه املعرفة املتعلقة حبقائق األشياء أو بعلل وجودها.
-5الحوار الفلسفي والدقة و اإلقناع :
احلاجة إىل الدقة يف التعريفات أمر مطلوب ألن احلوار يقوم على التعامل مع املعاين اليت يسهل معها احلوار بقدر ما
تكون واضحة متميزة ،ومبا أن تبادل املعاين ال ميكن أن حيصل إال بواسطة األلفاظ فإن احلاجة إىل ضبط داللة األلفاظ
وإىل حتديدها ماسة أو ضرورية ويكون من واجب املتحدث أن حيدد مدلوالت ألفاظه ومن حق املستمع أن يطالبه
بتحديد ألفاظه ،وهنا جيد الباحث نفسه مضطرا إىل استخدام قواعد التعريف املنطقي حىت يصل إىل الدقة يف خطابه
الفلسفي.
إن حتديد مدلوالت األلفاظ يتعني خاصة عند إظهار تصور جديد ال يستطيع غري صاحبة أن يدركه دون أن يعرف
ذلك من حتديد صاحبة ،كما فعل أرسطو عندما أظهر فكرة الجوهر وفكرة المحرك األول غير المتحرك أو كما
فعل ابن سينا عندما أظهر فكرة واجب الوجود ،وهكذا يتبني ضرورة االلتزام بالدقة وضبط املصطلحات يف اخلطاب
الفلسفي حىت يكون مقنعا للذات وللغري.
إن حتديد األلفاظ ليس مطلوبا من املتحدث لكي يفهم حديث غريه فحسب ،بل هو مطلوب منه أيضا لكي يلتزم
املعىن الذي حدده لنفسه قبل أن حيدده لغريه ،أنه ينبغي علينا أن نقاوم امليل الطبيعي إىل االحنراف عن املعىن الذي
يكون قد حدده بلفظ معني وذلك بإقحام معىن آخر يف اللفظ بعده مماثال ومرادفا للمعىن األول كما ينبغي احرتام الدقة
يف املصطلحات لكي مننع املستمع من االنزالق من معىن إىل معىن آخر يف اللفظ أو األلفاظ عموما ،وبناء على هذا
فإن احلاجة إىل الدقة ضرورية يف اخلطاب الفلسفي ويف غياهبا ال ميكن اجتناب الوقوع يف اخلطأ.
واخلطاب الفلسفي عموما هو حديث عن ماهيات األشياء وعللها من أجل معرفة حقائق هذه األشياء ومعرفة
مصدرها إنه يف جوهره خطاب معريف سواء أكان موضوعه النظر أو العمل وال ميكن أن يكون هناك حديث فلسفي
دون أن يكون حديثا عن معرفة حقائق األشياء وعللها فالفلسفة معرفة تريد أن تكون دائما مطلقة.
ومما الشك فيه أن أرسطو يريد باملعرفة املطلقة املعرفة الفلسفية ومن هنا يتبني أن اخلطاب الفلسفي جيب أن يكون
كشفا عن املاهيات والعلل وبياهنما ملن جيهلهما ،وبيان املاهية والعلة ملن ال يعرفها ال يكون إال بالعمل العقلي الذي
يكون حمال لإلقناع واالقتناع.
وال إقناع يف الفلسفة إال باألحكام الصادقة واألحكام اليت ميكن للباحث أن يستعملها للتعبري عن آراءه تنحصر يف
نوعني مها :األحكام التحليلية و األحكام التركيبية ،وتكون األحكام التحليلية صادقة مىت كان احملمول فيها صفة
ذاتية ملوضوع حبيث يكون تعبري حقيقي عن كل تصورات املوضوع فيكون العقل هو املرجع يف ذلك ،وتكون األحكام
الرتكيبية صادقة مىت كانت مطابقة للواقع ويكون املرجع يف ذلك الوقائع.
واحلقائق األولية يف الفلسفة هي املبادئ املنطقية اليت يكشف هبا العقل عن حقيقة العالقة بني تصور وآخر من جهة
وبني تصديق وآخر من جهة أخرى ،فهذه حقائق ال ميكن الشك فيها كما هو الشأن بالنسبة إىل قواعد التعريف وإىل
قواعد القياس واالستنتاج ،حبيث يكون كل شك يف هذه القواعد أو كل تشكيك فيها إبطال لعمل العقل وبالتايل
إبطاال للحوار واملناقشة.
وبناء على هذا فإن استناد الباحث إىل مبادئ العقل عامة وإىل قواعد املنطق خاصة يعد شرطا ضروريا إلمكان
حصول احلوار مع غريه إن كان غريه ملتزما هبذه املبادئ والقواعد ،أي مىت توفرت سالمة العقل والنية لدى املتحاورين
معا ،فيكون احلوار باعتماد قوانني العقل وقواعد املنطق وضمان سالمة التفكري واألمان من الوقوع يف اخلطأ ورجاء يف
الوصول إىل املطلوب.
كما أن املنطلق الثاين واملت مثل يف الواقع قد يكون أداة الباحث يف اإلقناع والواقعة كما يقول الالند "هي ما هو
موجود أو ما يقع بصفته معطاً حقيقياً للتجربة يمكن للفكر أن يستند إليه" .فتكون بذلك الواقعة أساسا صلبا يقاوم
كل شك أو تشكيك.
اهلوامش :
-1حممود يعقويب :خالصة امليتافيزيقا ،د ط ،دار الكتاب احلديث القاهرة ،2112 ،ج ،1ص 28
-2مجيل صليبا :املعجم الفلسفي ،ج ،1مادة احلقيقة ،ص 485
-3حممود يعقويب :خالصة امليتافيزيقا ،ج ،1ص 29
-4نفسه ،ص 29
-5نفسه ،الصفحة نفسها
-6حممود يعقويب :خالصة امليتافيزيقا ،ج ،1ص 31
-7نفسه ،ص 31
-8نفسه :الصفحة نفسها
-9نفسه :الصفحة نفسها
-11حممود يعقويب :خالصة امليتافيزيقا ،ج ، 1ص 31