You are on page 1of 9

‫المحاضرة رقم ‪20‬‬

‫بين الحقيقة العلمية و الحقيقة الفلسفية‬

‫‪ -1‬مميزات الحقيقة العلمية‪:‬‬

‫يسعى كل من العلم و الفلسفة إىل كشف الغموض الذي حييط باإلنسان و من مثة فإن بلوغ احلقيقة هو اهلدف‬
‫املشرتك من البحث العلمي و الفلسفي يف آن واحد ‪ ،‬وإن اشرتك العلم و الفلسفة يف نفس اهلدف ‪ -‬وهو بلوغ احلقيقة‬
‫‪ -‬فإهنما خيتلفان يف طبيعتها‪ .‬فاحلقيقة اليت يطلبها العامل مغايرة للحقيقة اليت يطلبها الفيلسوف" و الحقيقة ليست‬
‫شيء من األشياء بل هي حكم على األشياء بما هي عليه "‪ .1‬وتتميز احلقيقة العلمية باخلصائص التالية ‪:‬‬

‫أ‪ -‬حسية‪:‬‬
‫احلقائق العلمية حقائق مادية ندركها باحلواس‪ ،‬ألن موضوع العلم مادي حمسوس و إن مل تدرك باحلواس مباشرة فإن‬
‫آثارها تدرك باحلواس " و لهذا صح أن نقول أن القوانين العلمية حقائق علمية ألننا نعلم أن عناصرها مدركات‬
‫حسية‪ ،‬و ألن العالقة القائمة بينها على أساس االقتران في الوجود و الغياب هي أمور تدرك بالحواس في إطاري‬
‫الزمان و المكان "‪ .2‬ولتوضيح األمر يكفي أن ننظر إىل احلقائق املوجودة على مستوى البيولوجيا أو الفيزياء‪ ،‬فهي‬
‫حقائق مدركة‪ .‬باحلس أو على األقل ميكن إدراك آثارها باحلس‪ ،‬و كل ما خيرج عن قدرة احلواس و استطاعتها خرج من‬
‫دائرة احلقيقة العلمية‪.‬‬
‫ب‪ -‬ظاهرية‪:‬‬
‫ملا كانت املعرفة العلمية حسية كانت بالضرورة ظاهرية‪ ،‬مبعىن أهنا حمصورة يف حدود الصفات احلسية اليت تظهر هبا‬
‫للحواس‪ ،‬أي أن معرفة الشيء تكون يف حدود الصفات اليت يظهر هبا و اليت متيزه عن غريه من األشياء األخرى‪.3‬‬
‫حبيث جيعل هذه الصفات الظاهرة العامل قادرا على دراسة األشياء و إصدار األحكام عليها دون خوف من تبدهلا أو‬
‫تغريها أو إخفائها ملاهية ختتلف عن املاهية اليت تظهرها‪.‬‬
‫ج ‪ -‬موضوعية‪:‬‬
‫وال يقصد باملوضوعية هنا املوضوعية املقصودة يف الروح العلمية واليت تعين االعتدال وعدم التعصب ‪ ،‬و إمنا هلا مدلول‬
‫آخر مفاده‪ ،‬أن احلقيقة اليت تصل إليها الذات العارفة مصدرها املوضوع املعروف‪ ،‬وحقيقة الشيء موجودة يف موضوعه‪،‬‬
‫وينجر عن هذا أن احلقيقة العلمية ثابتة لدى مجيع طالبيها‪.4‬‬
‫د ‪ -‬واقعية‪:‬‬
‫أي أن احلقيقة العلمية موجودة يف الواقع احمل سوس‪ ،‬و ال ميكن أن تبدعها لييلة العامل‪ .‬فهي يرري يف الزمان و متتد‬
‫يف املكان‪ ،‬و ال يستطيع الباحث أن يوجه احلقيقة العلمية وفقا إلرادته أو رغبته‪ ،5‬ألن احلقيقة العلـمية خـارجة عن‬
‫اإلرادة احلرة للعامل‪ ،‬و تفرض نفسها عليه‪ ،‬و ما هو إالّ باحث عن واقعها كما هو موجود‪.‬‬
‫و ‪ -‬كمية قانونية‪:‬‬
‫املعرفة العلمية تصاغ يف شكل قوانني رمزية تنتهي إىل مقادير قابلة للقياس و كل ما خرج عن نطاق املقدار خرج‬
‫عن دائرة العلم‪ ،‬و ال ميكن أن يعرف معرفة علمية‪ . 6‬و العلم اليوم يركز على املقادير القابلة للقياس بعيدا عن العلة و‬
‫املعلول‪ .‬و متتاز القوانني العلمية بأن هلا شروط معلومة و أهنا شاملة جلميع األسباب و هذا ما جيعلها حتمية‪ ،‬و حتمية‬
‫القوانني داللة على علميتها‪.7‬‬
‫ه ‪ -‬عملية‪:‬‬
‫احلقيقة العلمية هلا غاية عملية أي أهنا تستخدم للتأثري على الواقع العملي املتعلق حباجات اإلنسان اليومية‪.8‬وصالحية‬
‫احلقيقة العلمية عندئذ متوقعة على مدى تغريها و انسجامها مع احلياة اليومية‪.‬‬
‫ي ‪ -‬وضعية‪:‬‬
‫احلقيقة العلمية تعكس العالقات الضرورية اليت تربط الظواهر بعضها بالبعض اآلخر‪.9‬و لن تكون احلقيقة العلمية‬
‫بعد هذا حباجة إىل إضافات أو زيادات يفرتضها العامل‪.‬‬
‫ن ‪ -‬نسبية‪:‬‬
‫وقانونه و خصائصه‪ ،‬فالرياضيات مثال هلا حقيقتها‬ ‫والنسبية هنا تعين التخصص فلكل علم من العلوم موضوعه‬
‫و يكون للتاريخ حقيقته اخلاصة و‬ ‫و املتمثلة يف توافق املقدمات مع النتائج وفقا لقواعد االستنتاج‬ ‫اخلاصة‬
‫املتمثلة يف مدى و جود شواهد قوية على التفسري للحوادث املاضية‪.11‬‬
‫و تبقى احلقائق العلمية قابلة للتغري و التعديل‬ ‫إذن احلقيقة العلمية تتغري معايريها و وسائلها من علم إىل علم‬
‫رغم الدقة املشهودة فيها‪ ،‬و رغم االتفاق بني العلماء حول احلقيقة العلمية الواحدة‪.‬‬
‫‪ /0‬ماهية البحث الفلسفي‬
‫أ‪ -‬قيمة البحث الفلسفي‪:‬‬
‫ال َفلـْ َس َفةُ حقل للبحث والتفكري يسعى إىل فهم وتفسري كل غموض يصادف اإلنسان يف هذه احلياة‪ ،‬كما أننا‬
‫بالتفلسف حناول أن نصل اىل احلقيقة واملعرفة‪ ،‬وأن ندرك كل ما له قيمة أساسية وأمهية عظمى يف احلياة‪ .‬كذلك تنظر‬
‫التعجب وحب االستطالع‬
‫الفلسفة يف العالقات القائمة بني اإلنسان والطبيعة‪ ،‬وبني الفرد واجملتمع‪ .‬والفلسفة نابعة من ّ‬
‫والرغبة يف املعرفة والفهم‪ .‬بل هي عملية تشمل التحليل والنقد والتفسري والتأمل‪.‬‬
‫وكلمة فلسفة ال ميـكـن حتديـد معـناهـا بدقـة؛ ألن موضوعها ُمعقد جدا ومثري للجدال‪ .‬فقد ختتلف آراء الفالسفة حول‬
‫طبيعتها ومناهجها وجماهلا‪ .‬أما كلمة فلسفة يف حد ذاهتا فأصلها من الكلمة اليونانية فيلو صوفيا اليت تعين حب احلكمة‪.‬‬
‫بناء على ذلك فاحلكمة تتمثل يف االستخدام اإلجيايب للذكاء‪ ،‬وليست شيئا سلبيا قد ميتلكه اإلنسان‪.‬‬
‫عاش رواد الفلسفة الغربية املعروفون‪ ،‬يف اليونان القدمية يف مطلع السنوات اخلمس مائة األوىل ق‪.‬م‪ .‬وقد حاول هؤالء‬
‫الفالسفة األوائل أن يكتشفوا الرتكيبة األساسية لألشياء‪ ،‬وكذا طبيعة العامل والواقع‪ .‬وكان الناس يف استفسارهم عن مثل‬
‫هذه املسائل يعتمدون إىل حد كبري على السحر واخلرافات وأصحاب اخلربة‪ .‬لكن فالسفة اليونان اعتربوا هذه املصادر‬
‫وللفلسفة‬ ‫من املعرفة غري موثوقة‪ ،‬وعوضا عن ذلك التمسوا األجوبة عن تلك املسائل بالتفكري ودراسة الطبيعة‬
‫تاريخ طويل يف بعض الثقافات غري الغربية‪ ،‬خصوصا يف الصني واهلند‪ .‬وانتقلت الفلسفة وازدهرت أيضا عند املسلمني‬
‫ال سيما يف عصر املأمون‪ ،‬كما كان للفلسفة املسيحية نشاطها الفكري أيضا خاصة قضايا النفس والالهوت‪ ،‬مث‬
‫انتعشت الفلسفة الغربية بشقيها احلديثة واملعاصرة لتعاجل قضايا هتم اإلنسانية ويف مجيع اجملاالت السياسية والنفسية‬
‫واالجتماعية والعلمية وغري ذلك‪ ،‬وهاهي الفلسفة العربية اليوم تناضل من أجل إجياد ليرج لتخلف اإلنسان العريب ‪.‬‬
‫ما يهمنا هنا ان الفالسفة عرب األزمان وجهوا حبثهم وتفكريهم للرقي بالبشرية وحل مشاكلها‪ ،‬وهذا ما حنن مطالبون‬
‫به اليوم من خالل حبوثنا الفلسفية ‪ .‬وهبذه البحوث نفند كل مقولة تدعي ان البحث الفلسفي عقيم ونربهن أن أهل‬
‫الفلسفة هم أعقل الناس حد تعبري املفكر الفرنسي ديكارت‪.‬‬
‫وليحقق البحث الفلسفي غايته ونفعيته البد له من ضوابط‪ .‬فطالب احلقيقة الفلسفية جيب أن يدرك خصائصها ومميزاهتا‪،‬‬
‫كما جيب أن يتمتع بالقدرة على بناء املقال الفلسفي وحتليل النصوص الفلسفية واختيار املنهج املناسب لإلشكالية اليت‬
‫يعاجلها‪.‬‬
‫ب‪ -‬مميزات الحقيقة الفلسفية‪:‬‬
‫و اهتمامه خيتلف عن هدف العامل و إن كان‬ ‫احلقيقة الفلسفية مغايرة كليا للحقيقة العلمية و هدف الفيلسوف‬
‫التكامل بينهما قائما و هذه بعض ميزات احلقيقة الفلسفية‪.‬‬
‫‪ -‬عقلية‪:‬‬
‫احلقيقة الفلسفية ال ميكن حتصيلها بواسطة احلس‪ ،‬ألن ميداهنا غييب ميتافيزيقي لذا يلجأ الفيلسوف إىل استخدام‬
‫التأمل العقلي لبلوغ احلقيقة ليرتقا بذلك حدود الواقع احلسي‪ ،‬فالعامل الفيزيائي مثال ينظر إىل تركيبة األجسام اخلارجية‬
‫و بنيتها الداخلية اليت تكون سببا يف حركتها‪ ،‬بينما الفيلسوف يتعدى هذا األمر إىل دراسة الروح يف اإلنسان‪ .‬و الروح‬
‫كما هو معلوم شيء ميتافيزيقي غييب ال يـدرك باألعضاء‪ ،‬و إمنا بالعقل " فيعرف العقل حبركة الفكر اليت تتحدى ضروب‬
‫اإلثبات اجلزئية و احملتويات احملدودة وتزعزعها و تذيبها "‪.‬إذن يعمل العقل على يراوز حدود احلواس و حىت إبطال‬
‫حقائقها‪.‬‬
‫‪ -‬غيبية‪:‬‬
‫مبا أن احلقيقة الفلسفية تتجاوز‪ ،‬احلس فهذا يعين أهنا غيبية ما ورائية فاألشياء ذات مظاهر تندرج يف نطاق احلقائق‬
‫العلمية و ذات جواهر خفية يستبطنها العقل و يدركها‪ ،‬و قبل فهم جواهر األشياء كان لزاما علينا التسليم بوجودها مث‬
‫الربهنة عليها‪ .‬فنحن نسلم بوجود النفس مث نتغلغل لفهم حقيقتها‪ ،‬و نفس الشيء يقال عن اهلل فنحن نسلم بوجوده‬
‫مث نربهن على هذا التسليم باستخدام العقل‪.‬‬
‫‪ -‬ذاتية‪:‬‬
‫احلقائق الفلسفية ال تعرف االتفاق‪ ،‬فلكل فيلسوف تصور ذهين يعمل على إثبات هـذا التصور الذهين‪ ،‬و إعطـاء‬
‫األدلـة الكافية الدالة على وجـود هـذا التـصور " فالحقيقة الفلسفية تختلف باختالف الذوات العارفة و تتفق باتفاقها‬
‫بحسب االختالف و االتفاق في الوسائل و الغايات "‪ ،‬و إن اتفق ذاتان على نفس احلقيقة ففي الغالب خيتلفان يف‬
‫طريقة اإلثبات‪.‬‬
‫‪ -‬كيفية‪:‬‬
‫و املتأثرة ببعضها البعض‪ ،‬و إمنا تبحث عن عالقة‬ ‫احلقيقة الفلسفية ال تعكس املقادير اليت تتألف منها األشياء‬
‫املوجودات بعضها بالبعض اآلخر و كيفية استمرار هذه العالقات‪ .‬فمشروع الفلسفة هو البحث عن سبب و كيفية‬
‫حدوث الظواهر ال عن مقدار و كمية هذه الظواهر كما هو وارد يف العلم‪.‬‬
‫‪ -‬تحليلية‪:‬‬
‫تعتمد الفلسفة على التحليل " و هو إرجاع الكل إلى أجزائه "‪ .‬والتحليل الفلسفي قائم على التحليل الذهين‬
‫اخليايل‪ ،‬و املتمثل يف عزل أجزاء املوضوع عن بعضها عزال كليا و ذهنيا و دراسة هذه األجزاء‪ ،‬و لقد بني كانط* حقيقة‬
‫و هو يقوم‬ ‫التحليل املتعايل الذي هتدف إليه الفلسفة و عرفه بأنه " علم الصور القبلية التي يتألف منها العقل‬
‫عـلى تحليل المعرفة للكشف عن المبادئ و المفاهيم القبلية التي تجـعل المعرفة مـمكنة "‪.‬‬
‫وأكد رسل على ضرورة التحليل يف الفلسفة و بني أن رفض الفلسفة التحليلية هو رفض للتقدم العلمي‪.‬‬
‫‪ -‬علية وجوهرية‪:‬‬
‫حياول العلم يراوز العلل و البحث عن املقادير القابلة للقياس لكن الفلسفة تبحث دائما و برتكيز على العلل املؤدية‬
‫إىل حدوث الظاهرة‪ ،‬و البحث بواسطة العلل يف نظر الفالسفة يدل على التعمق يف حقيقة الظاهرة‪ ،‬و ملا كانت احلقيقة‬
‫الفلسفية عليه كانت بالضرورة جوهرية‪ ،‬أي أهنا ال تنتهي إىل دراسة قانونية بل تتجاوز هذا األمر إىل دراسة سبب وجود‬
‫هذه القوانني‪.‬‬
‫‪ -‬نظرية و مطلقة‪:‬‬
‫احلقيقة الفلسفية نظرية‪ ،‬يبنيها العقل على جمموعة من األسس اليت يتصورها هو‪ ،‬من أجل تكوين صورة تتناسق فيها‬
‫وميتاز التفسري الفلسفي بالشمولية‪.‬‬ ‫مج يع التصورات اليت يؤمن هبا لينتهي بذلك العقل إىل تفسري نظري‪.‬‬
‫فالفيلسوف يبحث عن تفسري مطلق و شامل للعامل " فالفلسفة في جانبها النظري تعين على فهم العالم ككل ما‬
‫أمكنها هذا "‪ .‬معىن هذا أن فهم العامل جبميع حيثياته و تصوره تصورا عاما هو هدف الفلسفة‪.‬‬
‫ج‪ -‬التداخل بين حقائق العلم و حقائق الفلسفة‪:‬‬
‫رغم االختالف الواضح بني احلقيقة العلمية و احلقيقة الفلسفية‪ ،‬إالّ أن هذا ال يعين االنفصال التام بينهما‪ .‬فالتداخل‬
‫و التكامل بني االثنني يبقى قائما رغم أن هناك من ينفي هذا التداخل من أمثال داملبري)‪ (Dalembert‬الذي يقول‬
‫" إما أن تكون الميتافيزيقا علما بوقائع و إما أن ال تكون بالمرة "‪.‬‬
‫إن هذا القول فيه حماولة لنفي امليتافيزيقا و إلغاء للفلسفة و حماولة لقلب امليتافيزيقا إىل علم واقعي‪ ،‬لكن رغم هذا‬
‫يتفق أغلب املفكرين أن السؤال الفلسفي هو أساس بناء املعارف العلمية‪ ،‬ألن السؤال الفلسفي يفتح اآلفاق أمام‬
‫العلماء للبحث و االكتشاف‪ ،‬و هذا ما عرب عنه حممود زيدان يف كتابه نظريات العلم املعاصر إىل املواقف الفلسفية‬
‫بقوله‪ " :‬إن العلم و الفلسفة ليس أحدهما غريب عن اآلخر فالفالسفة الطبيعيون مشتغلون منذ أقدم العصور‬
‫بالعلم الطبي ــعي ومحاولة فهمه "‪.‬‬
‫لــذا ال جيب أن حنرف عقولنا عن املهمة املزدوجة للعلم والفلسفة‪ ،‬و أن حركتهما تسري وفق حتمية و كل منهما‬
‫يصحب اآلخر‪ ،‬فنحن نتنقل قدما من الكشف إىل الفهم و منه إىل احلكمة مث إىل الفلسفة و شؤون الروح اإلنسانية‪.‬‬
‫و بني ريشنباخ )‪ *(Reichenbach‬التداخل بني الفلسفة و العلم بقوله‪ " :‬والحق أن تاريخ العلم في القرن‬
‫التاسع عشر‪ ،‬يــضع أمام أنظار الفيلسوف آفاقا هائلة ذلك ألنه يجمع إلى وفرة الكشوف الفنية تحليال منطقيا‬
‫زاخ ـرا و قـد نش ــأت عـلى أسـاس العلم الجـديد فـلسفة جديدة "‪.‬‬
‫فالفالسفة اليوم حياولون أن يستفيدوا من أحباث العلماء يف حماولة ملناقشتها و توسيع أفقها‪ ،‬و العلماء بدورهم‬
‫يستفيدون من انتقادات الفلسفة و يعملون وفقها على تعديل نظرياهتم و تصحيحها و بذلك يهتم الفالسفة بأحباث‬
‫العلماء كما يهتم العلماء باختاذ مواقف فلسفية‪ ،‬و فلسفة العلوم اليوم تعمل على ترسيخ التكامل بني العلم و الفلسفة‬
‫من خالل ممارسة النقد على نتائج العلم و وسائله وفروضه‪ ،‬بغية تصحيح هذه النتائج و تفعيلها على مستوى احلياة‬
‫العلمية و العملية‪ ،‬و يبقى الفصل املطلق بني العلم و الفلسفة غري وارد‪ ،‬و إن صح التعبري غري ممكن برغم االختالف‬
‫بني االثنني‪.‬‬
‫‪ -4‬أنواع البحث الفلسفي ‪:‬‬
‫البحث الفلسفي عادة ال خيرج عن إحدى ثالث وهي‪:‬‬

‫أ‪ -‬اإلبداعات الفلسفية ‪:‬‬

‫املراد باإلبداعات الفلسفية تلك البحوث اليت تقدم حقائق وتصورات جديدة أصيلة وتفسريات جديدة مل نعهدها عند‬
‫السابقني‪ ،‬وحىت يتوصل الباحث إىل هذا النوع من اإلبداع جيب أن ميتلك قدرات عالية‪ ،‬كما جيب أن ميتلك معارف‬
‫عقلية وتارخيية يرعله مييز بني ما هو أصيل وما هو قدمي‪ ،‬لذا فإن اإلبداع حيتاج من الباحث التمسك مببادئ العقل‬
‫وقواعد املنطق دون أن يتجاهل الرتاث املعريف والفكري‪ ،‬فتاريخ الفلسفة ال يقبل باحثا يفتقر إىل هذه اخلصائص‪ .‬وليس‬
‫املقصود باإلبداع ان يكون موضوع البحث معاصرا وإمنا املقصود أن يكون اإلشكال معاصرا‪ ،‬فقد نعاجل قضية يف‬
‫الفلسفة اليونانية لكن اإلشكال الذي نطرحه يكون جمهوال يف تاريخ الفلسفة ومل يسبق إليه احد ‪ .‬فاجلديد يف الفلسفة‬
‫هو اإلشكال املطروح وليس املوضوع يف حد ذاته‪ ،‬ومن هنا نقول بأن الباحث يف حقل الفلسفة جيب ان يتمتع بقدرة‬
‫إبداع اإلشكاليات الفلسفية‪.‬‬
‫ب‪ -‬الحديث عن اإلبداع الفلسفي ‪:‬‬
‫واملراد به احلديث عن إبداعات اآلخرين لكن هبدف وهو فك الغموض الذي يكتنف هذه اإلبداعات يف حماولة‬
‫ل بعثها من جديد وحل مشكالت راهنة ختص إنسان اليوم‪ .‬مبعىن أننا نتكلم عن إبداع فيلسوف مضى وانقضى أمره‪،‬‬
‫لكن جيب ان نوظف فلسفته يف حل مشكالتنا الراهنة ‪ ،‬وهذا األمر ليس أقل درجة من اإلبداع فإضافة أفكار جديدة‬
‫لفلسفات قدمية لتعطي هذه الفلسفة مثارها يف عصرنا يعترب إبداعا فلسفيا‪.‬‬
‫‪ -4‬تحقيق بحث فلسفي ‪:‬‬
‫هناك أحباث فلسفية ضاعت من البشرية لسبب أو آلخر وبعضها كتب خبط أو بلغة غري اللغة املستخدمة يف عصرنا‬
‫هذا‪ ،‬ومن املمكن أن تكون هذه البحوث الفلسفية على غاية من األمهية فيعمل الباحث على مجعها وإعادة كتابتها‬
‫وسد الثغرات املوجودة فيها ليفهمها الناس‪ ،‬فهذا النوع من البحث والتحقيق حيتاج إىل اطالع معريف وخربة منهجية‬
‫ودراية بأنواع اخلط وأفكار السابقني‪.‬‬
‫ومن هنا نستنتج أن البحث الفلسفي ال يستحق صفته إال من كان مبدعا أو فيه شيء من اإلبداع يعتقد صاحبه‬
‫انه صواب حبيث يكون مقتنع به وبإمكانه أن يقنع به غريه كما يعتقد أنه يساهم يف توسيع آفاق املعرفة الفلسفية أو يف‬
‫تصحيح هذه املعرفة املتعلقة حبقائق األشياء أو بعلل وجودها‪.‬‬
‫‪ -5‬الحوار الفلسفي والدقة و اإلقناع ‪:‬‬
‫احلاجة إىل الدقة يف التعريفات أمر مطلوب ألن احلوار يقوم على التعامل مع املعاين اليت يسهل معها احلوار بقدر ما‬
‫تكون واضحة متميزة‪ ،‬ومبا أن تبادل املعاين ال ميكن أن حيصل إال بواسطة األلفاظ فإن احلاجة إىل ضبط داللة األلفاظ‬
‫وإىل حتديدها ماسة أو ضرورية ويكون من واجب املتحدث أن حيدد مدلوالت ألفاظه ومن حق املستمع أن يطالبه‬
‫بتحديد ألفاظه‪ ،‬وهنا جيد الباحث نفسه مضطرا إىل استخدام قواعد التعريف املنطقي حىت يصل إىل الدقة يف خطابه‬
‫الفلسفي‪.‬‬
‫إن حتديد مدلوالت األلفاظ يتعني خاصة عند إظهار تصور جديد ال يستطيع غري صاحبة أن يدركه دون أن يعرف‬
‫ذلك من حتديد صاحبة‪ ،‬كما فعل أرسطو عندما أظهر فكرة الجوهر وفكرة المحرك األول غير المتحرك أو كما‬
‫فعل ابن سينا عندما أظهر فكرة واجب الوجود‪ ،‬وهكذا يتبني ضرورة االلتزام بالدقة وضبط املصطلحات يف اخلطاب‬
‫الفلسفي حىت يكون مقنعا للذات وللغري‪.‬‬
‫إن حتديد األلفاظ ليس مطلوبا من املتحدث لكي يفهم حديث غريه فحسب‪ ،‬بل هو مطلوب منه أيضا لكي يلتزم‬
‫املعىن الذي حدده لنفسه قبل أن حيدده لغريه‪ ،‬أنه ينبغي علينا أن نقاوم امليل الطبيعي إىل االحنراف عن املعىن الذي‬
‫يكون قد حدده بلفظ معني وذلك بإقحام معىن آخر يف اللفظ بعده مماثال ومرادفا للمعىن األول كما ينبغي احرتام الدقة‬
‫يف املصطلحات لكي مننع املستمع من االنزالق من معىن إىل معىن آخر يف اللفظ أو األلفاظ عموما‪ ،‬وبناء على هذا‬
‫فإن احلاجة إىل الدقة ضرورية يف اخلطاب الفلسفي ويف غياهبا ال ميكن اجتناب الوقوع يف اخلطأ‪.‬‬
‫واخلطاب الفلسفي عموما هو حديث عن ماهيات األشياء وعللها من أجل معرفة حقائق هذه األشياء ومعرفة‬
‫مصدرها إنه يف جوهره خطاب معريف سواء أكان موضوعه النظر أو العمل وال ميكن أن يكون هناك حديث فلسفي‬
‫دون أن يكون حديثا عن معرفة حقائق األشياء وعللها فالفلسفة معرفة تريد أن تكون دائما مطلقة‪.‬‬
‫ومما الشك فيه أن أرسطو يريد باملعرفة املطلقة املعرفة الفلسفية ومن هنا يتبني أن اخلطاب الفلسفي جيب أن يكون‬
‫كشفا عن املاهيات والعلل وبياهنما ملن جيهلهما‪ ،‬وبيان املاهية والعلة ملن ال يعرفها ال يكون إال بالعمل العقلي الذي‬
‫يكون حمال لإلقناع واالقتناع‪.‬‬
‫وال إقناع يف الفلسفة إال باألحكام الصادقة واألحكام اليت ميكن للباحث أن يستعملها للتعبري عن آراءه تنحصر يف‬
‫نوعني مها ‪ :‬األحكام التحليلية و األحكام التركيبية‪ ،‬وتكون األحكام التحليلية صادقة مىت كان احملمول فيها صفة‬
‫ذاتية ملوضوع حبيث يكون تعبري حقيقي عن كل تصورات املوضوع فيكون العقل هو املرجع يف ذلك‪ ،‬وتكون األحكام‬
‫الرتكيبية صادقة مىت كانت مطابقة للواقع ويكون املرجع يف ذلك الوقائع‪.‬‬
‫واحلقائق األولية يف الفلسفة هي املبادئ املنطقية اليت يكشف هبا العقل عن حقيقة العالقة بني تصور وآخر من جهة‬
‫وبني تصديق وآخر من جهة أخرى‪ ،‬فهذه حقائق ال ميكن الشك فيها كما هو الشأن بالنسبة إىل قواعد التعريف وإىل‬
‫قواعد القياس واالستنتاج ‪ ،‬حبيث يكون كل شك يف هذه القواعد أو كل تشكيك فيها إبطال لعمل العقل وبالتايل‬
‫إبطاال للحوار واملناقشة‪.‬‬
‫وبناء على هذا فإن استناد الباحث إىل مبادئ العقل عامة وإىل قواعد املنطق خاصة يعد شرطا ضروريا إلمكان‬
‫حصول احلوار مع غريه إن كان غريه ملتزما هبذه املبادئ والقواعد‪ ،‬أي مىت توفرت سالمة العقل والنية لدى املتحاورين‬
‫معا‪ ،‬فيكون احلوار باعتماد قوانني العقل وقواعد املنطق وضمان سالمة التفكري واألمان من الوقوع يف اخلطأ ورجاء يف‬
‫الوصول إىل املطلوب‪.‬‬
‫كما أن املنطلق الثاين واملت مثل يف الواقع قد يكون أداة الباحث يف اإلقناع والواقعة كما يقول الالند "هي ما هو‬
‫موجود أو ما يقع بصفته معطاً حقيقياً للتجربة يمكن للفكر أن يستند إليه"‪ .‬فتكون بذلك الواقعة أساسا صلبا يقاوم‬
‫كل شك أو تشكيك‪.‬‬
‫اهلوامش ‪:‬‬
‫‪ -1‬حممود يعقويب‪ :‬خالصة امليتافيزيقا‪ ،‬د ط ‪ ،‬دار الكتاب احلديث القاهرة ‪ ،2112 ،‬ج‪ ،1‬ص ‪28‬‬
‫‪ -2‬مجيل صليبا‪ :‬املعجم الفلسفي‪ ،‬ج‪ ،1‬مادة احلقيقة‪ ،‬ص ‪485‬‬
‫‪ -3‬حممود يعقويب‪ :‬خالصة امليتافيزيقا ‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪29‬‬
‫‪ -4‬نفسه ‪ ،‬ص ‪29‬‬
‫‪ -5‬نفسه ‪ ،‬الصفحة نفسها‬
‫‪ -6‬حممود يعقويب‪ :‬خالصة امليتافيزيقا‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪31‬‬
‫‪ -7‬نفسه‪ ،‬ص ‪31‬‬
‫‪ -8‬نفسه‪ :‬الصفحة نفسها‬
‫‪ -9‬نفسه‪ :‬الصفحة نفسها‬
‫‪ -11‬حممود يعقويب‪ :‬خالصة امليتافيزيقا‪ ،‬ج‪ ، 1‬ص ‪31‬‬

You might also like