You are on page 1of 34

‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫أنماط املسؤولية الجنائية البي ية بين الثابت واملتغير‬


‫ياسين الكعيوش‬
‫دكتور في الحقوق‬
‫كلية العلوم القانونية واالقتصادية واالجتماعية‬
‫جامعة سيدي محمد بن عبد هللا‪-‬فاس‬

‫تقديم‪:‬‬
‫تعد مسألة حماية البيئة من أعقد قضايا العصر التي تستحوذ على اهتمام‬
‫املتخصصين في شتى املجاالت ومختلف املجتمعات اإلنسانية مهما تباينت نظمها القانونية‬
‫واالجتماعية‪ ،‬فبعدما كان االهتمام بقضايا البيئة بمثابة نوع من الرفاهية التي ال قبل لدول العالم‬
‫الثالث به؛ أضحى وسيلة يلهث الجميع ورائها في محاولة إلنقاذ كوكب األرض الذي نعيش عليه من‬
‫الدمار والخراب الذي أصبح في تزايد مستمر بفعل الطفرة النوعية التي حدثت في استغالل املوارد‬
‫الطبيعية وإنتاج الطاقة‪ ،‬كما انعكس التقدم الصناعي الهائل الذي شهده العالم على البيئة‬
‫وعناصرها‪ ،‬إذ زادت نسبة التلوث والتدهور البيئي وأصبحت البيئة غير قادرة على تجديد‬
‫عناصرها الطبيعية واختالل توازن عناصرها‪ ،‬وبات مستقبل الحياة على األرض مهددا بأخطار‬
‫جسيمة نتيجة لتصرفات اإلنسان واعتداءاته املتزايدة على البيئة‪.341‬‬
‫ومن هنا وجد اإلنسان نفسه أمام واقعا مؤملا‪ ،‬فقد فسدت التربة باملبيدات‪ ،‬وتلوث‬
‫الهواء بالدخان واإلشعاعات‪ ،‬وتعكرت البحار ببقع الزيوت النفطية‪ ،‬وتسممت األنهار بفعل‬
‫النفايات وبدأت الغابات تحتضر‪ ،‬والسالالت تنقرض والطقس يضطرب واملوازين الطبيعية‬
‫تختل‪ ،‬وظهرت أمراض جديدة ال براء منها‪ ،‬وفيروسات فتاكة ال ترى بالعين املجردة وال يجدي معها‬

‫‪ 341‬أعطــى املش ــرع املغربــي "للبيئ ــة" تعريفــا واس ــعا‪ ،‬قــائال ف ــي املــادة ‪ 3‬م ــن القــانون املتعل ــق بحمايــة واستص ــالح البيئــة ‪ " 11.03‬ه ــي مجموع ــة‬
‫العناصر الطبيعية والثقافية التي تمكن من تواجد الكائنات الحية واألنشطة اإلنسانية وتساعد على تطورها‪...‬إلخ"‪.‬‬
‫‪170‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫عالج‪ ،‬وأصبحت الحروب دمارا شامال‪.342‬‬

‫لذا أصبح هذا املوضوع يفرض نفسه على الساحة الوطنية والدولية مع بروز اإلحساس‬
‫بخطورة ظاهرة التلوث البيئي وفداحة اآلثار املترتبة عليها‪ ،‬حيث لفتت انتباه املفكرين والعلماء‬
‫وحتى عامة الناس على املستوى املحلي‪ ،‬ومن ثم أصبحت الدول تسعى جاهدة للمحافظة على‬
‫البيئة كقيمة اجتماعية تستحق الحماية نظرا ألهميتها على الفرد واملجتمع‪.‬‬
‫كما شهد النصف الثاني من القرن العشرين اهتماما متزايدا بحماية ورفع الوعي البيئي‬
‫لدى األفراد للحفاظ على البيئة‪ ،‬وذلك بانعقاد املؤتمرات واالتفاقيات الدولية واإلقليمية الداعية‬
‫للحفاظ على بيئة نقية صالحة لالستعمال البشري‪ ،‬على أسس علمية ومنهجية صحيحة؛ حيث‬
‫زاد االهتمام العالمي بالبيئة بعد وقوع عدد من الكوارث البيئية الناجمة عن تعدي اإلنسان على‬
‫البيئة والوسط الطبيعي الذي يعيش فيه مع غيره من الكائنات الحية األخرى‪ ،‬وبصفة خاصة بعد‬
‫غرق ناقلة البترول الليبيرية " توري كانيون ‪ " Torry-Canyon‬أمام شواطئ اململكة املتحدة في ماي‬
‫‪ .،3431967‬ومن ثم تنبهت األمم املتحدة للخطر البيئي املهدد للبشرية‪ ،‬فوجهت الجمعية العامة‬
‫الدعوة إلى عقد مؤتمر عالمي حول البيئة‪ ،‬وذلك للبحث عن حلول ناجعة ملشاكل التلوث العديدة‬
‫وغيرها من األضرار التي تهدد املجاالت البيئية‪ ،‬وبعد اجتماعات تمهيدية مكثفة تم عقد مؤتمر‬
‫البيئة اإلنسانية بستوكهولم بالسويد سنة ‪ ،1972‬وتبنى هذا املؤتمر شعار "أرض واحدة‬

‫‪ 342‬دقت منظمة الصحة العاملية ناقوس الخطر‪ ،‬في تقريرها الصادر ‪ 6‬مارس ‪ 2018‬ملا تشهده البيئة العاملية مـن ملوثـات خطيـرة تتسـبب‬
‫ســنويا فــي وفــاة ‪ 1.7‬مليــون طفــل نتيجــة النفايــات اإللكترونيــة الناشــئة عــن إعــادة تــدويرها – تنــاول املــواد الكيميائيــة الضــارة عــن طريــق‬
‫الغذاء واملاء والهواء واملنتجات املحيطة بهم ‪ -‬وتردي الخدمات الصحية وارتفاع اإلصابة باملواد الكيميائية كالزئبق والرصاص والفلورايد‬
‫الناتجـة عـن بقايـا الحـروب التـي يشـهدها العـالم‪ ،...‬كمـا دعـت منظمــة الصـحة العامليـة حكومـات الـدول إلـى تحسـين جـودة امليـاه الصــالحة‬
‫للشــرب والصــرف الصــحي والخــدامات الصــحية والحــد مــن تلــوث الهــواء ودحــر تــأثير تغيــر املنــاخ والتــي تــؤثر جميعهــا علــى صــحة األطفــال‬
‫للوقايـة مــن املخــاطر البيئيـة‪ ،‬قصــد بلــوغ أهـداف التنمي ـة املســتدامة التـي ســطرتها املنظمــة وأهمهـا وضــع نهايــة لوفيـات املواليــد واألطفــال‬
‫حــدي ي الــوالدة واألطف ــال دون ســن الخامس ــة بحلــول عــام ‪ .2030‬أنظ ــر تقريــر منظم ــة الصــحة العامليــة ‪ 6‬م ــارس ‪ 2017‬بموقــع ‪www. :‬‬
‫‪ .Who.int.ig/‬تاريخ االطالع ‪ .2019 /09/12 :‬التاسعة صباحا‪.‬‬
‫‪343‬‬
‫من أضخم ناقالت البترول في العالم‪ ،‬حيث كانت‬ ‫الليبيري‬ ‫تعد ناقلة البترول "توري كانيون ‪ "Torry- Canyon‬التي كانت تحمل العلم‬
‫تحمل ‪ 880‬ألف برميل من البترول الخام الكويتي‪ ،‬وقد تحطمت فـي ‪ 17‬مـارس ‪ 1967‬فـي بحـر الشـمال أمـام الشـواطئ اإلنجليزيـة‪ ،‬وتسـرب‬
‫منهــا ‪ 60‬أل ــف طــن م ــن البتــرول‪ ،‬حي ــث نــتج عن ــه هــالك اآلالف م ــن الطيــور البحري ــة‪ ،‬ومــوت كمي ــات هائلــة م ــن األســماك‪ ،‬وق ــدرت آن ــذاك‬
‫تكــاليف نظاف ــة الش ــواطئ بح ــوالي ‪ 8‬ماليــين دوالر‪ .‬أنظ ــر‪ .www.eufje.org/uploads.com 36474htm :‬ت ــاريخ اإلط ــالع‪ 6 :‬ش ــتنبر ‪.2019‬‬
‫التاسعة صباحا‪.‬‬
‫‪171‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫فقط"‪ ،344‬الذي تمخض عنه إقرار مجموعة من املبادئ والتوصيات‪ ،345‬التي تعد وبال جدال‬
‫بمثابة الركيزة األساسية لكافة البحوث العلمية والقانونية في املجال البيئي‪.‬‬
‫كما شكل مؤتمر األمم املتحدة للبيئة والتنمية املعروف باسم " قمة األرض" املنعقد في‬
‫ريو دي جانيرو بالبرازيل خالل شهر يونيو ‪ ،1992‬محطة هامة إلقرار حق الدول في استثمار‬
‫مواردها الطبيعية شريطة أال تسبب ضررا للبيئة؛ كما تناول مؤتمر األمم املتحدة التاسع ملنع‬
‫الجريمة ومعاملة املجرمين ‪ ،1995‬حماية البيئة وبحث إمكانيات وصعوبات إعمال العدالة‬
‫الجنائية لتكثيف التعاون الدولي ملكافحة اآلثار الضارة الناجمة عن الجرائم التي ترتكب ضد‬
‫البيئة‪ ،‬وقد دعا املؤتمر إلى ضرورة التنسيق على كافة األصعدة الوطنية والدولية‪ ،‬في إتباع أساليب‬
‫مبتكرة ملعالجة ما يتطلبه القانون الجنائي من شروط بشأن إدخال الجريمة البيئية لنطاق‬
‫التجريم وأدلة إثباتها‪ ،‬خصوصا عندما تكون آثار الجريمة البيئة واسعة االنتشار‪.346‬‬
‫وغيرها من املؤتمرات التي حظيت فيها البيئة وقضايا الجرائم البيئية باالهتمام‬
‫والعناية‪ ،‬خصوصا قمة املناخ أواخر سنة ‪ 2015‬بباريس‪ ،347‬ومؤتمر األطراف حول التغيرات‬
‫املناخية الذي عقد أيام ‪ 7‬إلى ‪ 18‬نونبر ‪ 2016‬بمراكش‪ 348‬قصد توقيع اتفاق ملزم بين الدول‬

‫‪344‬‬
‫‪Voir : Eric Naim-Gesbert, « Pour une théorie générale du droit de l’environnement » R.J.E, vol 39, 2014, p 5 et 6.‬‬
‫‪345‬‬
‫تمخض عن مؤتمر ستوكهولم بالسويد‪ 109 ،‬توصية و‪ 26‬مبدأ لدعم حماية البيئة‪ ،‬ومن بين أبرز هـذه املبـادئ نـذكر املبـدأ ‪ 24‬الـذي‬
‫جاء فيه‪:‬‬
‫‪Le principe 24 du déclaration de la conférence des Nation Unies sur l’environnement proclame que : « les questions‬‬
‫‪internationales se rapportant à la protection et à l’amélioration de l’environnement devraient être abordées dans un‬‬
‫‪esprit de coopération par tous les pays, grands ou petits sur un pied d’égalité, une coopération par voie d’accords‬‬
‫‪multilatéraux ou bilatéraux ou par d’autres moyens appropriés et indispensable pour limiter efficacement prévenir‬‬
‫‪réduire et éliminer les atteintes à l’environnement résultant d’activités exercées dans tous les domaines, et ce dans les‬‬
‫‪respect de la souveraineté et des intérêts de tous les Etats ».‬‬
‫‪ 346‬أنظر‪ :‬الفصل السادس من املؤتمر التاسع ملنع الجريمة ومعاملة املجرمين‪ ،‬املنعقد مـا بـين ‪ 29‬أبريـل و‪ 8‬مـاي‪ ،‬القـاهرة ‪ ،‬مصـر سـنة‬
‫‪.1995‬‬
‫‪347‬‬
‫أول‬
‫مــؤتمر بــاريس بش ــأن تغيــر املنــاخ أو اتف ــاق بــاريس ( ‪" )Accord de Paris‬كــوب ‪ "21‬ه ــو اتفــاق عــالمي بش ــأن املنــاخ‪ ،‬جــاء عق ــب‬
‫املفاوضات التي عقدت أثناء مؤتمر األمم املتحدة ‪ 21‬للتغير املنا ي في باريس مابين ‪ 30‬نونبر ‪ 12‬دجنبر ‪ 2015‬من أجل الوصول إلى اتفاق‬
‫دائم ومتوازن وملزم قانونيا‪ .‬صادقت عليه ‪ 195‬دولة‪.‬‬
‫‪ 348‬مؤتمر مراكش بشأن االحتباس الحراري أو كوب ‪ 22‬هو مؤتمر واجتماع قمة جرى عقده في مـراكش خـالل الفتـرة مـا بـين ‪ 7‬و‪ 18‬نـونبر‬
‫‪ ،2016‬ويعد هذا املؤتمر النسخة ‪ 22‬من مؤتمر األطراف )‪ (cop22‬حسب اتفاقية األمم املتحدة املبدئية بشـأن التغيـر املنـا ي‪ ،‬وشـاركت‬
‫‪172‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ملواجهة التهديدات الخطيرة التي أصبحت تشهدها دول املعمور‪ ،‬والوصول إلى الحلول الناجعة‬
‫ملعالجة هذا النوع من الجرائم املستحدثة‪.‬‬
‫كل هذه املؤتمرات حتمت على الدول ومن بينها املغرب‪ ،‬إصدار تشريعات بيئية‬
‫ومالءمتها مع املرجعية الدولية‪ ،‬من أجل تأمين املجال البيئي ضد األضرار واألفعال غير املشروعة‪،‬‬
‫الناتجة عن سوء استعمال املوارد الطبيعية‪.349‬‬
‫وترتب عن هذا التطور الهائل في مجال االهتمام بقضايا البيئة ومشاكلها املختلفة ظهور‬
‫بوادر الحماية انعكست على جميع الدول‪ ،‬حيث بدأت كل الدول بما فيها املغرب؛ تصدر تشريعات‬
‫خاصة بمكافحة التلوث وحماية البيئة وعناصرها املختلفة من كافة أفعال املساس بها‪ ،‬لذلك‬
‫شهدت السنوات األخيرة اهتماما بالغا بموضوع األضرار البيئية كواحدة من أبرز الجرائم التي‬
‫تقترف في حق املجتمع‪ ،‬األمر الذي دعا معظم الدول إلى إعطاء األولوية ملوضوع حماية البيئة‬
‫وادارجه ضمن أجندتها الوطنية‪ ،‬وسعت الدول إلى تكريس هذه الحماية من خالل سن عدة‬
‫تشريعات وقوانين تعنى بالبيئة وعناصرها املختلفة‪.‬‬
‫بيد أن الحماية الجنائية للبيئة لم تأتي إال في مرحلة متأخرة بعدما عجزت القواعد‬
‫القانونية املدنية واإلدارية على توفير الحماية الالزمة للبيئة من أفعال التلوث وكافة أشكال‬
‫االعتداء األخرى‪ ،‬إذ لوحظ غياب فعالية النصوص القانونية املدنية واإلدارية والدولية في ردع‬
‫مرتكبي أفعال التلويث البيئي‪ .350‬حيث تتنوع األفعال التي تشكل اعتداءا على البيئة بقدر تنوع‬
‫وتعدد العناصر البيئية املختلفة (ماء‪،‬هواء‪ ،‬نبات‪ ،‬حيوان‪ ،‬تربة‪ ،)...،‬والتي تصلح كقيم اجتماعية‬
‫محل التجريم؛ فكل عنصر من هذه العناصر يتعرض العتداء بصورة مختلفة عن غيره من‬
‫العناصر‪ ،‬سواء كان هذا االعتداء في شكل نشاط إيجابي أو سلبي‪ ،‬عمدي أو غير عمدي‪ ،‬سلوك‬

‫فيه ‪ 196‬دولة‪ ،‬ويأتي "كوب ‪ "22‬كتكملة "كوب ‪ "21‬التي أحرزت تقدما مهما‪ ،‬وتندرج هذه الدورة في إطار الجهود املبذولـة لبلـورة مختلـف‬
‫املحاور املنصوص عليها في اتفاق باريس‪ ،‬والتي وقعت عليه كل الوفود البالغ عددهم ‪ 195‬واملتعلق بخفض احتواء االحترار العـالمي ألقـل‬
‫من درجتين‪.‬‬
‫‪349‬‬
‫إن تطــور الترســانة القانونيــة البيئيــة ببالدنــا تــأثرت باألحــداث والتطــورات التاريخيــة التــي شــهدها املغــرب‪ ،‬فبعــد أن كانــت البيئــة وبــاقي‬
‫املجــاالت األخــرى ينحصــر تنظيمهــا وتأطيرهــا مــن طــرف الشــريعة اإلســالمية املتمثلــة فــي الق ـران الك ـريم والســنة النبويــة واإلجمــاع‪ ،‬أضــحى‬
‫مصدرها الرسمي السيما بعد ‪ 1965‬يتمثل أوال في التشريع ثم العرف والقواعد الدينية واالجتهاد القضائي والفقه‪.‬‬
‫‪350‬‬
‫‪Dominique Guihal, droit répressif de L’environnement, 3eme Edition, économica,Paris France, 2008, p 203.‬‬
‫‪173‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫مجرم في حد ذاته أم ال بد من تحقق نتيجة مادية‪ ،‬وبالتالي تحدد كل جريمة من الجرائم املنصوص‬
‫عليها صورة النشاط املادي املتطلب حتى يقع تحت طائلة التجريم والعقاب‪ ،351‬ونتيجة لتعدد‬
‫صور االعتداء على البيئة فقد أصدر املشرعاملغربي العديد من القوانين سعيا منه لحماية البيئة‬
‫بمختلف عناصرها‪ ،‬إذ صدرت عدة قوانين لحماية البيئة األرضية واملائية والهوائية وحماية التنوع‬
‫البيولوجي وغيرها من العناصر األخرى‪.352‬‬
‫مما الشك فيه أن حق الفرد في الحرية أساس مشروع شريطة أن ال يمس حقه هذا‬
‫حرية وحقوق اآلخرين‪ ،‬وهكذا فحق اإلنسان في العيش ضمن بيئة سليمة حق مكفول‬
‫دستوريا‪ ،353‬فإن هذا الحق مقيد بضرورة مراعاة حقوق اآلخرين‪ ،‬وكذا مراعاة البيئة كقيمة‬
‫اجتماعية وإنسانية وأخالقية‪ ،‬وكل تصرف مشين تجاه عناصرها يجب أن يشكل مصدرا‬
‫للمسؤولية بصورة عامة‪ ،‬يؤاخذ فيها الشخص على تصرفاته‪ ،‬وترتدي هذه املؤاخذة طابعا عقابيا‬
‫قد يكون جنائيا وقد يكون مدنيا‪.‬‬
‫وباعتبار القانون الجنائي البيئي يشكل جزءا ال يتجزأ من القانون الجنائي العام‬
‫بعناصره الثالثية‪ ،‬الجريمة‪ -‬العقوبة – املسؤولية‪ ،-‬تبقى هذه األخيرة من أهم اإلشكاالت التي تطرح‬
‫بحدة في مجال البيئة‪ ،‬حيث إن القاض ي الجنائي في املادة البيئية يجد صعوبة أحيانا في تحديد‬

‫‪ 351‬الجريمة البيئية باعتبارها سلوك ايجابي أو سلبي سواء كان عمدي أو غير عمدي‪ ،‬يصدر عـن شـخص طبيعـي أو معنـوي يضـر أو يحـاول‬
‫اإلضرار بأحد عناصر البيئة‪ ،‬بطريقة مباشرة أو غير مباشرة‪ .‬أنظر‪:‬‬
‫‪Jacques-Henri Robert et Martine Rémond-Gouilloud, « Droit Pénal de l’environnement », Masson, Paris, 1983 p 30.‬‬
‫(‪ )352‬يتــوفر املغــرب علــى ترســانة قانونيــة بيئيــة ضــخمة تشــمل مختلــف عناصــر البيئــة‪ ،‬وتغطــي مجموعــة مــن املجــاالت‪( ،‬ميــاه وغابــات‬
‫ونباتـات وتطهيــر ومكافحــة التلــوث وحمايــة الثــروة الحيوانيــة‪...‬إلخ )‪ ،‬منهــا مـا صــدر قــديما وحــديثا‪ ،‬وأهــم هــذه النصــوص القانونيــة علــى‬
‫سبيل املثال وليس الحصر‪ :‬ظهير ‪ 1914‬املتعلق باملؤسسات املزعجة واملضرة بالصحة ‪ -‬ظهير ‪ 10‬أكتوبر ‪ 1917‬املتعلق بحفظ الغابات‬
‫واستغاللها‪ -‬ظهير ‪ 28‬نونبر ‪ 1973‬املتعلق بالصيد البحري ‪...‬إلخ‪ ،‬كما تم تدعيم الترسانة البيئية بصدور قوانين حديثـة لحمايـة البيئـة‬
‫مــن قبيــل قــانون ‪ 36.15‬املتعلــق باملــاء‪ ،‬قــانون ‪ 11.03‬املتعلــق بحمايــة واستصــالح البيئــة‪ -‬وقــانون ‪ 12.03‬بدراســة التــأثير علــى البيئــة‪-‬‬
‫وقانون ‪ 13.03‬املتعلق بمحاربة تلوث الهواء وقانون ‪ 28.00‬املتعلـق بتـدبير النفايـات والـتخلص منهـا‪ -‬قـانون ‪ 99.12‬بمثابـة ميثـاق البيئـة‬
‫والتنميـة املسـتدامة ‪ -‬قـانون رقـم ‪ 81.12‬املتعلـق بالسـاحل‪ ،‬قـانون ‪ 09.13‬املتعلـق بالطاقـات املتجـددة ق ــانون رقــم ‪ 77.15‬يقضـ ي بمنـع‬
‫صنع األكياس من مادة البالستيك واستيرادها وتصديرها وتسويقها واستعمالها‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫‪353‬‬
‫مــا يحس ــب للدس ــتور املغربــي لس ــنة ‪ 2011‬أن ــه اعتبــر الحص ــول عل ــى املــاء والع ــيش ف ــي بيئــة س ــليمة حق ــا مــن الحق ــوق األساس ــية لجمي ــع‬
‫املواطنين على قدم املساواة‪ ،‬وذلك في الفصل ‪ 31‬من الدستور الباب املتعلق بالحريات والحقوق األساسية‪ ،‬كما عمل املشـرع علـى إحـداث‬
‫املجلـس االقتصــادي واالج تمــاعي والبيئــي‪ ،‬يــدلي برأيــه فــي التوجهــات العامـة لالقتصــاد الــوطني والتنميــة املســتدامة‪ ،‬فــي البــاب الحــادي عشــر‬
‫(الفصول ‪.)153-152-151‬‬
‫‪174‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الشخص املسؤول املباشر عن ارتكاب الفعل اإلجرامي‪ ،‬لكون األشخاص املعنوية قد طغت بشكل‬
‫واضح على الساحة التنموية‪ ،‬مما جعل كذلك مهمة البحث عن الشخص الطبيعي املسؤول في‬
‫ظلها تزيد من حدة هذه الصعوبة‪.‬‬
‫وإذا كان املقصود باملسؤولية عن الجرائم البيئية تحمل الجزاءات املقررة قانونا لكل من‬
‫يمس بسالمة عناصر البيئة‪ ،‬فإن كل شخص طبيعي أو معنوي ساهم في اإلضرار بهذه العناصر‬
‫يعد مرتكبا لجرم املساس البيئي‪ .354‬ولذلك تقوم املسؤولية الجنائية في القانون على االلتزام‬
‫بتحمل الفاعل للجزاءات التي تفرضها القواعد القانونية بسبب مخالفة أحكامها‪ ،‬وهذه الجزاءات‬
‫ال تطال كمبدأ عام إال اإلنسان املرتكب للفعل‪ ،‬تكريسا ألحد املبادئ املؤطرة للقانون الجنائي‬
‫الكالسيكي‪ ،‬أال وهو "مبدأ شخصية العقوبة الجنائية"‪ ،‬لكن وأمام التطورات والتغيرات التي عرفتها‬
‫املجتمعات الحديثة‪ ،‬واستيعابها ملعظم األنشطة في املجتمع‪ ،‬وزيادة مساحة الخطر الذي يهدد‬
‫األفراد جراء هذا النشاط‪ ،‬األمر الذي أدى في النهاية إلى حماية املتضررين‪ ،‬من خالل إقرار‬
‫مسؤولية الشخص املعنوي دون خطأ ينسب إليه تفاديا إلعسار ممثله القانوني وعدم قدرته على‬
‫تعويض املتضررين‪ ،‬تماشيا مع الخصوصية التي تطبع الجرائم البيئية‪ ،‬وإن كان شمول األشخاص‬
‫املعنوية للعقوبة طرح نقاشا فقهيا وإشكاالت عملية‪ ،‬تضاف للمسؤولية الجنائية للشخص‬
‫الطبيعي عن الجرائم البيئية‪.‬‬
‫انطالقا من هذه التوطئة‪ ،‬يمكن التساؤل حول مدى تطابق أسس املسؤولية الجنائية‬
‫البيئية مع القواعد العامة املنظمة للمسؤولية الجنائية ؟‬
‫وتبعا لذلك سنقوم بتسليط الضوء على تنوع املسؤولية الجنائية البيئية‪ ،‬من خالل‬
‫التطرق للمسؤولية الجنائية البيئية للشخص الطبيعي (املبحث األول)‪ ،‬قبل الحديث عن مساءلة‬
‫الشخص املعنوي عن الجريمة البيئية (املبحث الثاني)‪.‬‬

‫‪ 354‬بخ ــدة مه ــدي‪ ،‬املس ــؤولية الجنائي ــة البيئي ــة‪ ،‬مجل ــة البح ــوث العلمي ــة ف ــي التش ـريعات البيئي ــة‪ ،‬ع التجريب ــي‪ ،‬كلي ــة الحق ــوق‪ ،‬جامع ــة اب ــن‬
‫خلدون‪ ،‬تيارت‪ 2011،‬ص ‪.34‬‬
‫‪175‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫املبحث األول‪ :‬املسؤولية الجنائية البيئية للشخص الطبيعي‬


‫بتطور النظام القانوني وبروز معطيات جديدة في ميدان املسؤولية الجنائية‪ ،‬ومن أجل‬
‫ضمان حماية فعالة للمصالح الجوهرية املشروعة ضد بعض صور اإلجرام الخطير السيما ما تعلق‬
‫منه ذلك املرتكب في إطار املشاريع االقتصادية الكبرى‪ ،‬حاولت التشريعات املعاصرة هجر‬
‫شخصية العقوبة بعقاب أشخاص لم يقترفوا الركن املادي للجريمة‪ ،‬والذين ال يمكن أن توجه‬
‫إليهم تهمة االشتراك بمعناه القانوني‪ ،‬ومن هذا املنطلق برزت فكرة املسؤولية الجنائية عن فعل‬
‫الغير‪.‬‬
‫فالصورة التقليدية للمسؤولية الجزائية تتمثل في مسؤولية الشخص الطبيعي عن‬
‫خطئه الشخص ي‪ ،‬أما مسؤولية الشخص عن فعل غيره‪ ،‬فأساسها املسؤولية عن الجرائم املرتكبة‬
‫من طرف غيره‪ .‬فهاتان الصورتان من املسؤولية الجنائية تجدان تطبيقا واسعا لهما في القوانين‬
‫البيئية‪ ،‬رغبة من املشرع توفير حماية فعالة للبيئة‪ .‬وفي ظل خصوصية هذه املسؤولية سيتم‬
‫تناول مسؤولية الشخص الطبيعي عن فعله الشخص ي في (املطلب األول)‪ ،‬على أن يتم الحديث عن‬
‫شروط املسؤولية الجنائية عن فعل الغير في (املطلب الثاني)‪.‬‬
‫املطلب األول‪ :‬إسناد املسؤولية الجنائية البيئية‬
‫تقتض ي املسؤولية الجنائية تحمل الشخص تبعات أفعاله التي يعتبرها القانون الجنائي‬
‫جريمة تستوجب توقيع العقاب‪ ،‬ومن املسلم به أن املسؤولية الجنائية للشخص الطبيعي ال تثير‬
‫أية إشكالية ألنها الصورة التقليدية للمسؤولية الجنائية‪ ،‬لكن واقع الحال يجعل هذا القول غير‬
‫ذي جدوى أمام ما يعترض جرائم تلوث البيئة من صعوبات خاصة على مستوى تحديد الفعل‬
‫الشخص ي‪ ،‬وما يرافقه من صعوبة في تحديد املسؤولية عن الجريمة البيئية‪.355‬‬
‫فقد يشترك عدد من األشخاص في ارتكاب الجريمة البيئية سواء وجد بينهم اتفاق أو‬
‫تفاهم (رابطة معنوية) أم لم يوجد‪ ،‬فتتحدد مسؤولية كل منهم على أساس ما اقترفه من أفعال ما‬
‫دامت النتيجة اإلجرامية املحظورة قانونا قائمة‪ ،‬فإن تعذر معرفة نصيب كل منهم في إحداثها اعتبر‬

‫‪355‬‬
‫‪David Deharbe,« le droit de l’environnement industriel 10 ans de jurisprudence »Ed, Litec 2002 p 291.‬‬
‫‪176‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الجميع مسؤولين عنها؛ وعلى هذا األساس جرم القضاء الفرنس ي‪ ،‬فعل أربعة مصانع قامت بإلقاء‬
‫مواد ضارة في مجرى أحد األنهار وذلك بصرف النظر عما إذا كان التلوث قد تم بفعل أحد هذه‬
‫املصانع من عدمه‪.356‬‬
‫لهذا يالحظ على املشرع الجنائي البيئي‪ ،‬نادرا ما يقرر في النصوص الخاصة بجرائم البيئة‬
‫شخصية الفاعل‪ 357‬فمعظم النصوص تجرم بألفاظ عامة بالقول " كل من‪ "...‬أو " من تسبب‬
‫في‪ ،"...‬وبذلك يترك للقاض ي مسؤولية تحديد من هو فاعل الجريمة الذي يقصده القانون‪ .358‬إال‬
‫أن هذا ال يمنع من القول إن هناك بعض النصوص التي تجرم األفعال الضارة بالبيئة‪ ،‬والتي يحدد‬
‫فيها صفة الفاعل‪ ،‬ولكن هذه املقتضيات محدودة والغرض منها تحديد مسؤولية كل من يرتكب‬
‫الفعل أو يساهم فيه وذلك بتجريم نشاطه‪.‬‬
‫ومن هنا نهج املشرع البيئي مساءلة الشخص الطبيعي عن جريمة البيئة معتمدا في ذلك‬
‫على ثالثة وسائل وهي اإلسناد القانوني(الفقرة األولى)‪ ،‬واإلسناد املادي (الفقرة الثانية) ثم اإلسناد‬
‫االتفاقي (الفقرة الثالثة)‪.‬‬
‫الفقرة األولى‪ :‬اإلسناد القانوني‬
‫يقص د باإلسناد القانوني تلك الطريقة التي يتولى فيها املشرع البيئي تحديد بشكل دقيق‬
‫ومباشر صفة الفاعل أو تعيين شخص أو عدة أشخاص كفاعلين للجريمة؛ وذلك بغض النظر عن‬
‫الصلة املادية بين شخصية الفاعل وبين الفعل الضار بالبيئة‪ ،‬أي بصرف النظر عن كون هذا‬
‫الشخص هو مرتكب األفعال املادية املكونة للجريمة أم ال‪ .‬كما هو الحال مثال في املادة ‪ 61‬من‬
‫قانون رقم ‪ 27.13‬املتعلق باملقالع‪ 359‬والتي تنص على"" يعاقب بغرامة من خمسة آالف درهم‬
‫‪356‬‬
‫‪Jean Lamarque,« Droit de la protection de la nature et de l’environnement »L.G.D.J, Paris,1973, p 479.‬‬
‫‪ 357‬باسـتثناء ظهيــر ‪ 10‬أكتــوبر ‪ 1917‬املتعلـق بحفــظ الغابــات واسـتغاللها‪ ،‬الــذي يعــد أهـم القــوانين تعبي ـرا عـن إســناد املســؤولية الجنائيــة‬
‫لألفراد الذاتيين‪ ،‬كمـا هـو منصـوص عليـه مـثال ضـمن الفصـل ‪ 34‬والـدي جـاء فيـه " كـل مـن حـرث أو زرع أو غـرس أرضـا مـن أراضـ ي الغابـة‬
‫يحكم عليه بذعيرة تتراوح من ‪ 2000‬إلى ‪ 12000‬فرانك عن كل هكتار محروث أو مزروع أو مغروس ‪."....‬‬
‫‪ 358‬فرقان معمر‪ ،‬املسـؤولية الجزائيـة عـن الجريمـة البيئيـة‪ ،‬مجلـة الدراسـات القانونيـة املقارنـة‪ ،‬ع ‪ ،1‬كليـة الحقـوق‪ ،‬جامعـة حسـيبة بـن‬
‫بوعلي‪ ،‬الشلف‪ 2015 ،‬ص ‪. 165‬‬
‫‪ 359‬ظ ش رق ــم ‪ 1.15.66‬ص ــادر ف ــي ‪ 21‬م ــن ش ــعبان ‪ 9( 1436‬يوني ــو ‪ )2015‬الص ــادر بتنفي ــذ الق ـ رق ــم ‪ 27.13‬املتعل ــق باملق ــالع‪ ،‬ج ر ع‬
‫ـانون‬
‫‪ 6374‬بتاريخ ‪ 15‬رمضان ‪ 2 ( 1436‬يوليو ‪ ،)2015‬ص ‪.6082‬‬

‫‪177‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫(‪ )5.000‬إلى عشرين ألف (‪ )20.000‬درهم‪ :‬كل مفوت ومفوت له الستغالل مقلع ال يصرحان إلى‬
‫اإلدارة بتفويت هذا االستغالل وفقا ملقتضيات املادة ‪ 33‬أعاله؛ ‪ ""...‬كما نجد أيضا املادة ‪ 11‬من‬
‫القانون رقم ‪ 11.03‬املتعلق بحماية واستصالح البيئة‪ 360‬تحمل مسؤولية " كل شخص يملك أو‬
‫يشغل منشأة مصنفة أن يتخذ كل التدابير الالزمة للوقاية وملحاربة تلوث البيئة وتدهور الوسط‬
‫الطبيعي‪ ،‬وذلك طبقا للمقتضيات التشريعية والتنظيمية‪"...‬‬
‫نفس التوجه نجده في التشريعات املقارنة كالقانون الفرنس ي رقم ‪ 599‬الصادر في ‪7‬‬
‫يونيو ‪ 1976‬بشأن التلوث الناتج عن عمليات الدفن واإلغراق تنفيذا التفاقية أوسلو لعام ‪1972‬‬
‫الخاصة بمنع التلوث البحري الناجم عن إلقاء النفايات من السفن والطائرات‪ ،‬إذ يعاقب مالك‬
‫السفينة أو املشغل لها باعتباره شريكا في جريمة اإلغراق التي ترتكب بدون أمر منه‪.‬‬
‫لذلك تقوم مسؤولية الشخص في ظل اإلسناد القانوني‪ ،‬حسب الصفة التي حددها‬
‫املشرع ولو لم يكن هذا املسؤول قد ارتكب بنفسه الفعل الضار بالبيئة‪.‬‬
‫الفقرة الثانية‪ :‬اإلسناد املادي‬
‫تتحقق املسؤولية الجنائية وفق اإلسناد املادي‪ ،‬عندما ينسب لشخص ما الفعل املادي‬
‫سواء كان إيجابيا أو سلبيا املكون للجريمة البيئية‪ ،‬إذ يعتبر مسؤوال عن الجريمة البيئية كل‬
‫شخص طبيعي يرتكب النشاط املادي املكون للجريمة بنفسه أ و مع غيره‪ ،‬أو الشخص الذي يمتنع‬
‫عن اتخاذ التدابير واإلجراءات التي تقض ي بها القوانين البيئية‪ ،‬حيث تستعمل نصوص التجريم في‬
‫هذا اإلطار عبارات فضفاضة وعامة من قبيل "كل شخص"‪" ،‬من تسبب" أي الفاعل املادي‬
‫للجريمة البيئية‪.361‬‬
‫عالوة على ذلك‪ ،‬يقوم اإلسناد املادي على إدراك الرابطة املادية بين السلوك املجرم‬
‫ومرتكبه‪ ،‬وعليه فالشخص يعد مرتكبا للجريمة البيئية إذا كان هو املنفذ األساس ي للعناصر املادية‬

‫‪360‬‬
‫ظ ش رق ــم ‪ 1.03.59‬ص ــادر ف ــي ‪ 10‬ربي ــع األول ‪ 1424‬املواف ــق ‪ 12‬م ــاي ‪ ،2003‬الص ــادر بتنفي ــذ الق ــانون رق ــم ‪ 11.03‬املتعل ــق بحماي ــة‬
‫واستصالح البيئية‪ ،‬ج رع ‪ 5118‬بتاريخ ‪ 18‬ربيع األخر ‪ 1424‬املوافق ‪ 19‬يونيو ‪ ،2003‬ص ‪.1900‬‬
‫‪361‬‬
‫‪Roselyne Nèrac Croisier, « Sauvegarde de l’environnement et droit Pénal »Coll: Sc.Crim, Ed L’harmattan, 2007, p -86‬‬
‫‪85.‬‬
‫‪178‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫كما حددها القانون أما جريمة االمتناع فيعتبر فاعال للجريمة كل من يقع على عاتقه االلتزام‬
‫بالعمل‪ ،‬وإن كان املشرع البيئي يميل دا ئما إلى توسيع مفهوم النشاط املادي ليشمل عدد‬
‫املسؤولين حتى يضمن حماية أكبر للبيئة كما هو الحال في املادة ‪ 41‬من القانون رقم ‪13-09‬‬
‫املتعلق بالطاقات املتجددة‪ " 362‬يعاقب بالحبس من ‪ 3‬أشهر إلى سنة وبغرامة من ‪ 100.000‬إلى‬
‫مليون درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط كل شخص يقوم بإنجاز منشأة إلنتاج الطاقة‬
‫الكهربائية انطالقا من مصادر الطاقات املتجددة أو يستغلها أو يقوم بتوسيع قدرتها دون‬
‫الحصول على الترخيص املنصوص عليه في املادة ‪."3‬‬
‫ومن هنا نستنتج أن املشرع ال يحدد الشخص املسؤول بصفته‪ ،‬وإنما يضع عبارات عامة‬
‫تستوعب كل األشخاص املمكن مساءلتهم عن الضرر البيئي‪.‬‬
‫الفقرة الثالثة‪ :‬اإلسناد االتفاقي‬
‫يقوم اإلسناد االتفاقي على أساس اختيار صاحب العمل أو املؤسسة للشخص املسؤول ‪-‬‬
‫من بين العاملين لديه – عن كل املخالفات التي ترتكب في حق البيئة‪ ،‬ومن ثم إضفاء املسؤولية‬
‫الجنائية عليه‪ ،‬لكونه صاحب القرار املفوض له املهام الذي ألحق ضرر بالبيئة‪ .363‬فهذا األسلوب‬
‫يزيل الغموض عن االختصاصات لكل شخص طبيعي يمثل الشخص املعنوي بسبب صعوبة‬
‫تحديد الشخص املسؤول جنائيا عن الجريمة البيئية التي ترتكب في إطار الشخص املعنوي‪ ،‬وهذا‬
‫املعيار من شأنه تحقيق ردعا فعاال للجرائم التي تمس البيئة‪ ،‬كما جاء في املادة ‪ 35‬من قانون رقم‬
‫‪ 30.05‬املتعلق بنقل البضائع الخطرة عبر الطرق‪ "" 364‬يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وبغرامة‬
‫من ‪ 2.000‬إلى ‪ 8.000‬درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط‪:‬‬
‫مرسل البضائع الخطرة الذي ال يسلم الناقل التصريح باإلرسال املنصوص عليه في املادة‬
‫‪ 20‬من هذا القانون؛‬

‫‪362‬‬
‫ظ ش رقــم ‪ 1.10.16‬صــادر ف ــي ‪ 26‬مــن صــقر ‪ 1431‬املواف ــق ‪ 11‬فبرايــر ‪ ،2010‬الص ــادر بتنفيــذ‪ ،‬القــانون رق ــم ‪ 13.09‬املتعلــق بالطاق ــات‬
‫املتجددة‪ .‬ج ر ع ‪ 5822‬بتاريخ ‪ 18‬مارس ‪ 2010‬ص ‪.1118‬‬
‫‪363‬‬
‫‪Jean Marie Prinet et Hublot, « Les crimes contre l’environnement, » Rev.Dr.Pén.Crim, Avril-Juin 1993, p 268.‬‬
‫‪ 364‬ظ ش رق ــم ‪ 1.11.37‬ص ــادر ف ــي ‪ 29‬م ــن جم ــادى الثاني ــة ‪ 2( 1432‬يوني ــو ‪ )2011‬بتنفي ــذ الق ــانون رق ــم ‪ 30.05‬املتعل ــق بنق ــل البض ــائع‬
‫الخطرة عبر الطرق‪ ،‬ج ر ع ‪ 5956‬الصادرة في ‪ 27‬رجب ‪ 30( 1432‬يونيو ‪ ،)2011‬ص ‪.3072‬‬
‫‪179‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ناقل البضائع الخطرة الذي ال يسلم سائق املركبة املخصصة لنقل هذه البضائع نسخة‬
‫من بطاقة السالمة أو التصريح باإلرسال أوهما معا كما هو منصوص عليهما على التوالي في املادتين‬
‫‪ 19‬و‪ 20‬من هذا القانون؛‬
‫املرسل إليه الذي يؤجل دون سبب قبول البضاعة الخطرة أو يرفض توقيع إشهاد بتسلمها‬
‫خالفا ألحكام املادة ‪ 32‬أعاله؛ ‪.""...‬‬
‫كما حرص التشريع البلجيكي على اعتماد هذا األسلوب بإلزام صاحب العمل بتعيين أحد‬
‫العاملين لديه ليتولى تنفيذ االلتزامات والتدابير املنصوص عليها في القوانين واللوائح ومن تم يضحى‬
‫مسؤوال جنائيا عن مخالفة هذه النصوص‪ ،‬حيث تنص املادة ‪ 20‬من القانون البلجيكي الصادر في‬
‫‪ 22‬يوليوز ‪ 1974‬بشأن النفايات السامة على أن أعمال التخلص من النفايات السامة تكون تحت‬
‫سلطة شخص مسؤول يعينه صاحب العمل‪.365‬‬
‫إن هذا األسلوب في تحديد املسؤولية يتو ى منه املشرع الحد من الصعوبات التي تعتري‬
‫القضاء في تحديد الشخص املسؤول عن بعض الجرائم التي يتدخل فيها مجموعة من األشخاص‪،‬‬
‫خصوصا تحديد الشخص الطبيعي املسؤول داخل الشركة امللوثة الذي يعد من األمور التي تثير‬
‫إشكاال‪ ،‬إما على مستوى الفقه أو على مستوى القضاء‪ ،‬ومرد هذا اإلشكال وجود اختالف في مركز‬
‫اتخاذ القرار داخل املنشأة من جهة‪ ،‬وتعدد املسؤولين من جهة أخرى‪ ،‬خاصة إذا تعلق األمر‬
‫بمنشأة ضخمة تقوم املسؤولية في إطارها‪ ،‬على التضامن بين املسؤولين أو الفاعلين سواء األصليين‬
‫أو املشاركين‪.366‬‬
‫هذا ما جعل توجهات السياسة الجنائية املعاصرة تميل إلى إقرار املسؤولية الجنائية‬
‫للشخص املعنوي تطبيقا ملبدأ عدم اإلفالت من العقاب‪ ،‬لكن جانبا من الفقه‪ 367‬يتحفظ على‬

‫‪ 365‬كريم بنموس ى‪ ،‬أحكام املسؤولية في الجرائم البيئية‪ ،‬األمن البيئـي مـن خـالل اجتهـادات محكمـة الـنقض‪ ،‬دفـاتر محكمـة الـنقض ع ‪28‬‬
‫سنة ‪ ،2017‬ص ‪.251‬‬
‫‪366‬‬
‫إلهام العلمي‪ ،‬الحماية الجنائية للبيئة من خالل قانون املنشآت املصنفة‪ ،‬أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق‪ ،‬كلية العلوم القانونية‬
‫واالقتصادية واالجتماعية عين الشق‪ ،‬جامعة الحسن الثاني‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬السنة الجامعية ‪ ، 2003/2002‬ص ‪.168‬‬
‫‪367‬‬
‫– ‪Bouloc Bernard, « la responsabilité pénale des entreprises en droit français », Rev, int, dr, comp, V 46, N° 2, Avril‬‬
‫‪Juin 1994 ; p 671.‬‬
‫‪180‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫أسلوب اإلسناد االتفاقي كوسيلة لتعيين الشخص الطبيعي املسؤول عن الجريمة البيئية‪ ،‬استنادا‬
‫إلى الحجج اآلتية‪:‬‬
‫ال يمكن تعميم هذه املقولة على جميع األشخاص املعنوية‪ ،‬ذلك أن تعيين األشخاص‬
‫املسؤولين قد يؤدي إلى إدانة هؤالء على جرائم معينة‪ ،‬مقابل إفالت املسؤولين الحقيقيين عن تلك‬
‫الجرائم‪.‬‬
‫إن الفائدة العملية لهذا األسلوب ليست بالقدر الكافي‪ ،‬حيث أن تعيين الشخص املسؤول‬
‫مسبقا ال يقيد القاض ي عند بحثه عن املسؤول الحقيقي عن الجريمة‪ ،‬كما أنه يحول دون أن يكون‬
‫عقبة أمام إدانة الجاني‪.‬‬
‫املطلب الثاني‪ :‬شروط املسؤولية الجنائية عن فعل الغير‬
‫إذا كان املبدأ الثابت في القوانين الجنائية عامة تقض ي بشخصية العقوبة‪ ،‬ومن ثمة‬
‫شخصية املسؤولية‪ ،‬إذ ال يسأل الشخص إال عن فعله الشخص ي‪ ،‬فإنه واستثناء من ذلك‪ ،‬توجد‬
‫بعض الحاالت التي يرتب فيها القانون على شخص مسؤولية عمل قام به غيره؛ وهو ما يسمى‬
‫باملسؤولية الجنائية عن فعل الغير‪ ،‬لذلك تنازع الفقه الجنائي في تأصيل هذه املسؤولة‪ ،‬فرأي أول‬
‫أقامها على أساس نظرية املشاركة في الجريمة‪ ،368‬فيما أسسها رأي ثاني على نظرية الفاعل‬
‫املعنوي‪ ،369‬بينما ذهب رأي ثالث إلى نظرية افتراض الخطأ‪370‬؛ وعلة إقرار هذه املسؤولية في‬

‫‪ 368‬جعل هذا الرأي املسؤول عن فعل الغير بمثابة شريك في الجريمة التي يرتكبها غيره سواء بالتحريض أو االتفاق أو املساعدة السلبية‪،‬‬
‫وســند دلــك أن القاســم املشــترط بــين املســؤولية الجنائيــة عــن فعــل الغيــر واإلش ـراك يكمــن فــي الطــابع املعنــوي‪ ،‬فاملســؤول عــن فعــل الغيــر‬
‫يتصف سلوكه بالصبغة املعنوية‪ ،‬ألنه ال يأتي الفعل اإلجرامي بنفسه وال يتدخل فـي ارتكابـه إذا كـان يتكـون مـن جملـة أفعـال وإنمـا يحجـم‬
‫عن الوفاء بالتزامه القانوني فيقع األمر املنهي عنـه فـي العـالم الخـارجي‪...‬إلخ‪ .‬راجـع فـي ذلـك ‪ :‬محمـود عثمـان الهشـري‪ ،‬املسـؤولية الجنائيـة‬
‫عن فعل الغير‪ ،‬رسالة دكتوراه في الحقوق‪ ،‬جامعة القاهرة‪ ،‬سنة ‪ 1969‬ص ‪.19‬‬
‫‪ 369‬يرى هذا الرأي أن فاعـل الجريمـة ال يقتصـر علـى مرتكـب الفعـل املـادي وإنمـا يشـمل حتـى مـن يـدفع غيـره إلـى ارتكابـه جريمـة مسـتغال فـي‬
‫فيه عدم أهليته الجنائية أو حسن نيتـه تحقيقـا ملصـلحته أو مـن يرتكـب الفعـل اإلجرامـي بنـاء علـى أوامـره‪ ،‬ويطلـق عليـه الفاعـل املعنـوي‪،‬‬
‫ومـن ثــم فــإن صـاحب املعمــل أو املنشــأة الـذي يــأمر أحــد تابعيـه أو الخاضــعين إلش ـرافه ورقابتـه بخــرق أحكــام القـانون أو يتــركهم بإهمالــه‬
‫يقترفان جريمة من الجرائم لحسابه‪ ،‬أو من أجل تحقيق مصلحة خاصة به يعد فاعلها املعنوي‪...‬إلخ‪ .‬راجع في ذلك ‪ :‬حسام محمد سامي‬
‫جابر‪ ،‬الجريمة البيئية‪ ،‬مطبعة دار شتات للنشر والبرمجيات‪ ،‬مصر‪ ،‬سنة ‪ ،2011‬ص ‪.178‬‬
‫‪ 370‬بيد أن هذا الرأي اعتناق املسؤولية الجنائية عن فعل الغير لـيس علـى أسـاس افتـراض ملسـؤولية الجنائيـة فـي الشـخص‪ ،‬وإنمـا أسسـها‬
‫على افتراض الخطأ في حقه ‪ ، la faute présumée‬والذي يتمثل في اإلهمال املتبوع على واجب اإلشراف والرقابة على أفعال تابعيه‪ ،‬وذلك‬
‫‪181‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫مجال الجرائم البيئية‪ ،‬هي توجه السياسة الجنائية الحديثة إلى حث صاحب املنشأة أو القائم‬
‫عليها على حسن الرقابة واإلشراف على تابعيه أثناء مباشرة كل منهم ملهام العمل املكلف به‪،‬‬
‫والعمل على متابعة تنفيذ أحك ام التشريع البيئي لحماية البيئة من التلوث واملحافظة على طبيعتها‪،‬‬
‫حيث أضحت هذه املسؤولية تمثل أكثر أنواع املسؤولية تمردا على القواعد التقليدية؛ وفي هذا‬
‫اإلطار تنص املادة ‪ 41‬من ظهير ‪ 23‬نونبر ‪ 1973‬املتعلق "بالصيد البحري‪ "371‬يعتبر األشخاص‬
‫اآلتي ذكرهم مسؤولين عن أداء الغرامات املقررة والعقوبات املدنية املحكوم بها‪ ،‬مجهز بواخر‬
‫الصيد أو مستأجروها أو املؤمنون عليها من أجل األفعال التي يرتكبها قواد هذه البواخر ورجال‬
‫طاقمها‪ ،‬وكذا األشخاص الذين يشغلون مؤسسات الصيد ومستودعات الرخويات أو القنافذ أو‬
‫القشريات من أجل األفعال التي يرتكبها أعوانهم ومستخدموهم"‪ .‬ومؤدى ذلك تتحقق املسؤولية‬
‫عن أعمال التابع كلما توفرت ثالثة شروط ‪( :‬أولها) وقوع جريمة من التابع‪( ،‬وثانيها) أن تكون عالقة‬
‫سببية بين هذه الجريمة ومسؤولية املتبوع‪( ،‬وثالثها) عدم وجود تفويض من رب العمل يجعل‬
‫الفعل الذي أقدم عليه تابعه خارج عن نطاق رقابته واختصاصه‪.‬‬
‫الفقرة األولى‪ :‬وقوع الجريمة البيئية من التابع‬
‫لقيام املسؤولية الجنائية البيئية حيال رب العمل‪ ،‬صاحب املنشأة‪ ،‬يجب أن يأتي التابع‬
‫سلوك يخضع للوم القانون الجنائي‪ ،‬سواء في صورته العمدية أو غير العمدية؛ ففي نطاق الجرائم‬
‫العمدية يسأل املتبوع عن جرائم تابعه متى كان القانون يتطلب لقيامها توافر القصد الجنائي لدى‬
‫مرتكبها حتى ولو انتفى املخاطب بالقاعدة القانونية‪ ،‬وهي ما يطلق عليها الجرائم التنظيمية‪ ،‬ومن‬
‫ثم فإذا توافر القصد الجنائي لدى الغير ال يحول دون مساءلة املتبوع جنائيا‪ ،‬متى قام في حقه‬
‫اإلخالل بواجب حسن تنفيذ القانون وإعمال الرقابة واإلشراف على تابعيه‪ ،‬أما إذا كان املشرع‬

‫يعد بمثابة جريمة مستقلة عن جريمة التابع‪ ...‬راجع في ذلك‪ :‬أحمد فتحي سرور‪ ،‬الوسيط في قانون العقوبات القسم العـام‪ ،‬دار النهضـة‬
‫العربية‪ ،‬سنة ‪ ،1981‬ص ‪.581‬‬
‫‪ 371‬الظهير الشريف بمثابة قانون رقم ‪ 1.73.255‬بتاريخ ‪ 27‬شوال ‪ 23( 1393‬نونبر ‪ )1973‬املتعلق بتنظـيم الصـيد البحـري‪ ،‬ج ر ع ‪ 28‬نـونبر‬
‫‪ .1974‬ص ‪.2789‬‬
‫‪182‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يوجب توافر القصد الجنائي لدى املخاطب بالقاعدة القانونية‪ ،‬فاملتبوع في هذه الحالة ال يسأل‬
‫عن جريمة تابعه العمدية ما لم يتوافر لديه القصد الجنائي الالزم لقيام هذه الجريمة‪.372‬‬
‫فإذا ما حصلت مخالفة أو إهمال لاللتزامات البيئية امللقاة على عاتق املنشأة الصناعية‬
‫من التابع‪ ،‬كتسريب بعض املواد امللوثة في إحدى املجاري املائية أو سمح بانبعاث مواد غازية سامة‬
‫في الهواء دون احترام الضوابط املحددة في هذا اإلطار‪ ،‬أقيمت مسؤولية الرئيس عن املخالفة أو‬
‫اإلهمال‪ ،‬وليس ضروريا أن يسأل جنائيا التابع عن هذه املخالفة‪ ،‬ألن احترام هذه الضوابط يعد‬
‫من الواجبات امللقاة على عاتق رئيس املؤسسة املمثل لها‪ ،‬الذي يتعين عليه السهر على تأمين قيام‬
‫التابع بعمله تحت رقابته وإدارته‪ ،‬وبالتالي تحت مسؤوليته الشخصية‪.373‬‬
‫هذا هو التوجه الذي سارت عليه محكمة النقض الفرنسية في إحدى قراراتها‪374‬‬
‫املؤسسة ملسؤولية رب العمل عن أعمال التابع حيث جاء فيه "" ‪ ...‬إذا كان مبدئيا أن ال أحد‬
‫يعاقب إال بناء على فعله الشخص ي‪ ،‬فإن مع ذلك يمكن للمسؤولية الجنائية أن تنشأ عن فعل‬
‫الغير في حاالت استثنائية التي تفرض فيها بعض النصوص القانونية على رئيس املقاولة واجب‬
‫ممارسة إشراف مباشر على أفعال املساعدين أو التابعين له خصوصا في الصناعات التي تخضع‬
‫ألنظمة تملي مراعاة مصلحة أو متطلبات الصحة أو األمن العام‪ ،‬فاملسؤولية الجنائية تقع أساسا‬
‫على عاتق رؤساء املقاوالت الذين يفرض عليهم شخصيا شروط وطرق استغالل صناعاتهم "‪.375‬‬

‫‪ 372‬حسام محمد سامي جابر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.167‬‬


‫‪ 373‬تــنص املــادة الثالثــة مــن قــانون الوقايــة مــن اإلشــعاعات املؤينــة العراقــي رقــم ‪ 99‬لســنة ‪ 1980‬علــى أنــه " يكــون مالــك املصــدر دون غيــره‬
‫مسـؤوال عــن تعــويض جميــع األض ـرار املتحققــة عــن مصــادر اإلشــعاع وتعتبـر مســؤولية املالــك مفترضــة بحكــم القــانون وغيــر قابلــة إلثبــات‬
‫العكس"‪.‬‬
‫‪ 374‬قرار محكمة النقض الفرنسية ع ‪ 11‬الصادر‪ /24‬فبراير ‪ 1965‬أشار إليه ‪ :‬عادل الشاوي‪ ،‬مسؤولية رئيس املقاولة عن جريمـة تلويـث‬
‫البيئية املرتكبة من طرف تابعيه‪ ،‬دراسة في ضوء العمل القضائي‪ ،‬مجلة القضاء التجاري‪ ،‬ع ‪ 3‬شتاء‪ /‬ربيع ‪ 2014‬ص ‪.116‬‬
‫‪ 375‬وقد جاءت حيثيات القرار في لغته األصلية كما يلي ‪:‬‬
‫‪* si en principe nul n’est passible de peines qu’a raison de son fait personnel la responsabilité pénal peut cependant‬‬
‫‪naitre du fait du d’autrui dans les cas exceptionnels ou certaines obligations légales imposent le devoir d’exercer une‬‬
‫‪action directe sur les faits d’un auxiliaire ou d’un subordonné , notamment dans les industries soumises a des‬‬
‫‪règlements édictés dans un intérêt de salubrité ou de sûreté publique la responsabilité pénale remonte‬‬
‫‪essentiellement aux chefs d’entreprise, a qui sont personnellement imposes les conditions et le mode d’exploitation‬‬
‫‪de leur industrie*.‬‬
‫‪183‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬السببية بين الجريمة ومسؤولية املتبوع‬


‫يلزم لقيام مسؤولية املتبوع الجنائية عن فعل تابعه أن يصدر عن األول خطأ شخص ي‪،‬‬
‫ويتمثل هذا الخطأ في امتناعه عن تنفيذ االلتزامات التي تفرضها عليه أحكام القانون‪ ،‬مما مفاده‬
‫أن املتبوع قد فرض عليه التزام قانوني معين بأداء عمل محدد‪ ،‬ويتقاعس عن أدائه ويترتب على‬
‫ذلك وقوع النتيجة املؤثمة قانونا‪ ،‬ومن بين هذه االلتزامات حسن اختيار تابعيه بدقة وإسناد‬
‫العمل إلى الشخص املؤهل له وتزويد تابعيه باآلالت والوسائل الالزمة لحمايتهم وحماية البيئة من‬
‫التلوث وبحسن سير العمل‪ ،‬وأن يكون من شأن امتناعه عن تنفيذ التزاماته امللقاة على عاتقه‬
‫تحقق النتيجة اإلجرامية بفعل أحد تابعيه‪ .376‬وأكثر من هذا‪ ،‬ذهبت محكمة النقض إلى القول‬
‫بأنه " إذا كان األصل أن العقوبة ال توقع على شخص إال بناء على فعله الشخص ي‪ ،‬فإن املسؤولية‬
‫الجنائية يمكن أن تتولى مع ذلك عن فعل الغير في الحاالت االستثنائية التي تفترض فيها بعض‬
‫النصوص القانونية واجب القيام بعمل مباشر بالرقابة على أفعال أحد املساعدين أو التابعين‬
‫خاصة في الصناعات الخاضعة للوائح الصادرة من أجل سالمة الصحة واألمن العام‪ ،‬فاملسؤولية‬
‫الجنائية هنا تقع أساسا على رؤساء املنشآت الذين تفرض عليهم شخصيا شروط وطرق حسن‬
‫استغالل صناعتهم"‪.377‬‬
‫وترتيبا على ما تقدم‪ ،‬تنتفي مسؤولية املتبوع الجنائية تجاه فعل تابعه‪ ،‬إذا ما قامت‬
‫عوامل شاذة من شأنها قطع رابطة السببية بين التزامه بواجب تنفيذ القانون ووقوع خطأ املتبوع‬
‫الذي يشكل جريمة يعاقب عليها القانون‪ ،‬وعليه قضت محكمة النقض الفرنسية بمساءلة رئيس‬
‫املقاولة جنائيا عن أفعال الغير التابعين له‪ ،‬باعتبار أن القوانين والقرارات الخاصة باملنشأة‬
‫املصنفة التي يتولى رئاستها تفرض عليه التزامات تقض ي مباشرة سلطة ورقابة صارمة على أفعال‬
‫تابعيه‪ ،‬ومساعديه‪ ،‬خصوصا فيما يتعلق بأنظمة حماية الصحة والسالمة واآلمن‪ ،‬ولذلك يسأل في‬

‫‪376‬‬
‫حسام محمد سامي جابر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.168‬‬
‫‪ 377‬هنـد والــي علمــي‪ ،‬الحمايــة القانونيــة للبيئــة بــاملغرب وعالقتهــا بالتنميـة املســتدامة‪ ،‬أطروحــة لنيــل الــدكتوراه فــي القــانون الخــاص‪ ،‬كليــة‬
‫العلوم القانونية واالقتصادية واالجتماعية مكناس‪ ،‬جامعة موالي إسماعيل‪ ،‬السنة الجامعية ‪ ،2016/2015‬ص ‪.292‬‬
‫‪184‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫مثل هذه األحول عن أفعال هؤالء املخالفين للقوانين‪378‬؛ بيد أن التمسك باملبادئ التقليدية‬
‫للقانون الجنائي قد ال يسعف في زجر مرتكبي الجرائم البيئية‪ ،‬إذا علمنا أن هذه األخيرة أصبحت‬
‫تتخذ أبعادا خطيرة وطنيا ودوليا‪.379‬‬
‫الفقرة الثالثة‪ :‬عدم وجود تفويض من رب العمل‬
‫يجب لقيام املسؤولية حيال رب العمل أو صاحب املنشأة على الجريمة التي يرتكبها‬
‫تابعه أال يكون قد فوض غيره للقيام بواجب الرقابة واإلشراف على تابعيه نيابة عنه‪ ،‬ألن مسؤولية‬
‫رب العمل أو صاحب املنشأة ترجع إلى خطئه الشخص ي الناتج عن امتناعه عن أداء واجب‬
‫اإلشراف والرقابة املفروضة عليه قبل تابعه‪ ،‬طبقا ألحكام القانون الجاري به العمل‪.380‬‬
‫لذلك فإن األخذ بنظام املسؤولية الجنائية عن فعل الغير يدفع أصحاب املنشآت‬
‫االقتصادية والتجارية وغيرها إلى حسن الرقابة واإلشراف على تابعيهم‪ ،‬ومحاولة توجههم لاللتزام‬
‫بأحكام القانون ومتابعتهم بصفة دائمة ومستمرة؛ ومن ناحية أخرى صعوبة إقامة املسؤولية‬
‫الجنائية بشكل واضح ومحدد تجاه الجريمة البيئية التي وقعت من املنشأة حيال شخص بعينه‪،‬‬
‫وذلك لتشابك االختصاصات املسندة إلى العاملين بها وتعددها‪ ،‬األمر الذي يؤدي إلى شيوع االتهام‬
‫وتعثر الوصول إلى الجاني الحقيقي‪ ،‬مما يتعارض واعتبارات العدالة‪.‬‬
‫ولعل توجه القضاء الفرنس ي الذي أحدث تحوال كبيرا في قواعد املسؤولية الجنائية‬
‫الشخصية‪ ،‬فإنه عالوة على ذلك ساهم في تكريس قاعدتين أساسيتين‪:‬‬
‫القاعدة األولى تؤكد أن رئيس املقاولة هو الذي يتولى بشكل شخص ي ومباشر فرض‬
‫شروط العمل داخل املقاولة‪ ،‬كما يتولى رسم وتحديد خطة العمل املراد إنجازها‪ ،‬وتبعا لذلك فإنه‬
‫يتحمل املسؤولية الجنائية في حالة ارتكاب جريمة ضد البيئة من طرف أحد تابعيه بسبب اإلخالل‬
‫بشروط العمل داخل هذه املقاولة؛ أما القاعدة الثانية فمؤداها ما يتمتع به رئيس املقاولة من‬

‫‪378‬‬
‫إلهام العلمي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.170‬‬
‫‪379‬‬
‫‪David Deharbe, « le droit de l’environnement industriel 10 ans de jurisprudence », Edition, litec, 2002. p293.‬‬
‫‪ 380‬حسام محمد سامي جابر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.168‬‬
‫‪185‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫سلطة تنظيمية‪ ،‬تفرض عليه القيام باإلشراف الدقيق واملباشر على كافة تابعيه من أجل تجنب‬
‫جل الجرائم التي يمكن أن ترتكب داخل املقاولة تحت طائلة متابعته جنائيا‪.381‬‬
‫وخالصة القول‪ ،‬ال يمكن إنكار أن اإلسناد االتفاقي أو ما يعرف ب ـ "اإلنابة في االختصاص"‬
‫قد أوجد تناسقا في توزيع األعمال واملسؤوليات داخل املنشأة‪ ،‬فاملبدأ املسلم به اليوم أن رئيس‬
‫املنشأة ال يعتبر املسؤول الوحيد عن فعل غيره بخصوص الجرائم املرتكبة داخل منشأته‪ ،‬إذ‬
‫يستطيع إنابة بعض تابعيه املؤهلين في القيام بمهام اإلشراف على مراعاة تطبيق القوانين واللوائح‪،‬‬
‫بحيث يترتب على هذه اإلنابة أثر معف من العقاب‪.‬‬
‫املبحث الثاني‪ :‬مساءلة الشخص املعنوي عن الجريمة البيئية‬
‫إن ظهور أنواع جديدة من الجرائم دفعت املشرع إلى نهج سياسة جنائية جديدة‪ ،‬تتالءم‬
‫مع طبيعة هذه الجرائم‪ ،‬ولعل الجديد في هذه السياسة الجنائية البيئية هو االعتراف للمؤسسة‬
‫(مصنع – سفينة‪ -‬معمل ‪ )...‬بالشخصية املعنوية‪ ،382‬وبالتالي تحميلها نتائج تصرفاتها الخارجة‬
‫عن القانون الجنائي البيئي الذي وسع من مفهوم املسؤولية الجنائية‪ ،‬لتطال بشكل أكبر الشخص‬
‫املعنوي الذي أصبح أكثر من أي وقت مض ى املسؤول األول على ارتكاب الجرائم البيئية‪ ،383‬األمر‬
‫الذي أسال مداد في األوساط الفقهية والقضائية بين معارض ومؤيد (املطلب األول)‪ ،‬إلى أن أدى‬
‫‪381‬‬
‫‪Patrick Mistretta, « la responsabilité pénale du délinquant écologique », Thèse pour obtenir le doctorat en droit,‬‬
‫‪Université Jean Moulin, Lyon, France, 1997-1998 p13.‬‬
‫‪ 382‬يقص ــد بالش ــخص املعن ــوي مجموع ــة م ــن األش ــخاص أو األم ــوال يعت ــرف له ــا الق ــانون بالشخص ــية القانوني ــة املس ــتقلة‪ ،‬فتك ــون قابل ــة‬
‫الكتساب الحقوق وتحمل االلتزامات القانونية الناتجة عن تصرفاته‪ .‬أنظر‪ :‬شريف سـيد كامـل‪ ،‬املسـؤولية الجنائيـة لألشـخاص املعنويـة‬
‫"دراسة مقارنة"‪ ،‬ط األولى‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬سنة ‪ ،1997‬ص ‪.3‬‬
‫‪383‬‬
‫طرحت فكرة املسؤولية الجنائية للشخص املعنوي ضمن املؤتمر الدولي الثاني لقـانون العقوبـات فـي بوخاريسـت‪ ،‬ألول مـرة فـي أكتـوبر‬
‫سنة ‪ 1929‬حيث أشار هذا املؤتمر إلى التزايد املستمر في عدد وأهمية األشخاص املعنوية وما تمثله من قوة اجتماعية ضخمة في العصر‬
‫الحــديث‪ ،‬وأن أنش ــطتها الت ــي أصــبحت تخ ــالف أحك ــام قــانون العقوب ــات يمك ــن أن تحــدث ب ــاملجتمع أض ـرارا بالغــة الخط ــورة‪ ،‬وخل ــص إل ــى‬
‫توصية بأن يتضمن قانون العقوبـات الـداخلي التـدابير الفعالـة للـدفاع االجتمـاعي ضـد األشـخاص املعنويـة بالنسـبة للجـرائم التـي ترتكـب‬
‫ملصـلحتها أو بوســائلها وبالتــالي تتحمــل مســؤوليتها‪ ،‬وأن تطبيــق هــذه التـدابير يجــب أن ال يحــول دون معاقبــة األشــخاص الطبيعيــين الــذين‬
‫يتولون إدارة الشخص املعنوي‪ ،‬كمـا ناقشـه أيضـا املـؤتمر الـدولي السـابع لقـانون العقوبـات الـذي عقـد فـي أثينـا سـنة ‪ 1957‬بصـدد بحثـه"‬
‫االتجاهـات الحديثــة فـي تعريــف الفاعـل والش ـريك فـي الجريمــة" وأو"ـ ى بأنــه" ال يسـأل الشــخص املعنـوي عــن الجريمـة إال فــي األحـوال التــي‬
‫يحددها القانون‪ ،‬وعندئذ يكون الجزاء الطبيعي هو الغرامة‪ ،‬وهو جزاء مستقل عن التدابير األخرى كالحل والوقف وتعيين حارس‪ ،‬على‬
‫أن يظـل ممثــل الشــخص املعنــوي مســؤوال شخصــيا عــن الجريمــة التـي ارتكبهــا‪ .‬أنظــر‪ :‬ش ـريف ســيد كامــل‪ ،‬املســؤولية الجنائيــة لألشــخاص‬
‫املعنوية "دراسة مقارنة"‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬سنة ‪ ،1997‬ص ‪.9-8‬‬
‫‪186‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫هذا النقاش إلى تحديد شروطا ملساءلة الشخص املعنوي جنائيا (املطلب الثاني)‪ ،‬مع إمكانية نفيها‬
‫عنه (املطلب الثالث)‪.‬‬
‫املطلب األول‪ :‬إمكانية مساءلة الشخص املعنوي عن الجريمة البيئية‬
‫تعتبر املسؤولية الجنائية للشخص املعنوي من املواضيع التي أثارت نقاشا فقهيا ملدة‬
‫طويلة بعدما أصبح االعتراف بوجود الشخص املعنوي أمرا واقعا ومسلما به في مختلف القوانين‬
‫الوضعية‪ ،‬لكن الفقه الجنائي التقليدي كان يعارض فكرة تحمل الشخص املعنوي املسؤولية‬
‫الجنائية‪ ،‬حيث يرى أنه ليس آهال لتحملها‪ ،‬ويبني موقفه هذا على مجموعة من االعتبارات (الفقرة‬
‫األولى)‪ ،‬وفي املقابل ظهر اتجاه حديث ينادي بضرورة تقرير مسؤولية الشخص املعنوي الجنائية‬
‫ألنه يتمتع بشخصية قانونية تجعله آهال لتحمل االلتزامات وأداء الواجبات واكتساب الحقوق‪،‬‬
‫ويستند بدوره على مجموعة من الحجج (الفقرة الثانية)‪ ،‬وإن كان األمر قد حسم على مستوى‬
‫التشريع والقضاء (الفقرة الثالثة)‪.‬‬
‫الفقرة األولى‪ :‬االتجاه الرافض ملساءلة الشخص املعنوي جنائيا‬
‫يعارض هذا االتجاه فكرة تحمل الشخص املعنوي املسؤولية الجنائية بشكل قطعي‪،‬‬
‫ألنه في الواقع ال يملك اإلرادة التي تمنح له األهلية الالزمة الكتساب الحقوق وتحمل االلتزامات‬
‫القانونية‪ ،384‬حيث يؤكد أن الشخص املعنوي أو االعتباري افتراض قانوني ومجازي‪ ،‬اقتضته‬
‫الضرورة لتحقيق مصالحه‪ ،‬وال وجود له في الواقع‪ ،‬وليس له إرادة حقيقية يمكن مساءلته عنها‪،‬‬
‫وإنما يستمد إرادته من الشخص الطبيعي الذي يمثله‪ ،‬فهو شخص غير مادي وصوري من صنع‬
‫القانون‪ ،‬ومن ثم ال يسأل جنائيا لعدم قدرته على ارتكاب الجريمة بركنيها‪ ،385‬أي أن املشرع‬
‫الجنائي ال يوجه خطابه إال للشخص الطبيعي الذي يعد وحده صاحب إرادة قادرة على التمييز‬
‫واإلدراك‪ ،‬أما الشخص املعنوي فهو يفتقر لإلرادة بمعناها الذي يقصده القانون الجنائي في مجال‬

‫‪384‬‬
‫محمود نجيب حسني‪ ،‬شرح قانون العقوبات‪" ،‬القسم العام"‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬سنة ‪ ،1989‬ص ‪.514‬‬
‫‪ 385‬عادل ماهر سيد أحمد األلفي‪ ،‬الحماية الجنائيـة للبيئـة‪ " ،‬دراسـة مقارنـة"‪ ،‬رسـالة للحصـول علـى درجـة الـدكتوراه فـي الحقـوق‪ ،‬قسـم‬
‫القانون الجنائي‪ ،‬كلية الحقوق‪ ،‬جامعة املنصورة‪ ،‬مصر‪ ،‬السنة الجامعية ‪ ،2009/2008‬ص ‪.325‬‬
‫‪187‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫املسؤولية‪ ،386‬وما دام األمر كذلك فإنه ال يتوفر على اإلرادة الشخصية التي يتوفر عليها‬
‫األشخاص الذاتيين وحدهم‪ ،‬والتي بدونها ال يمكن تصور املسؤولية الجنائية‪.‬‬
‫فضال عن ذلك فال يمكن مساءلة إال الشخص الطبيعي جنائيا‪ ،‬على اعتبار أن الشخص‬
‫املعنوي ما وجد إال لتحقيق غرض مشروع‪ ،‬وحتى وإن خالف القانون فإن املسؤول هو ممثلوه ‪-‬‬
‫الشخص الطبيعي‪ -‬خصوصا وأن أهم العقوبات الجنائية السالبة للحرية يستحيل تطبيقها أبدا في‬
‫حق الشخص االعتباري‪.387‬‬
‫غير أن هذه االنتقادات ملبدأ مسؤولية الشخص املعنوي جنائيا لم تصمد أما اتساع‬
‫نشاطات األشخاص املعنوية وتزايد أعدادها في العصر الحديث تحت شعار التنمية في شتى‬
‫املجاالت‪ ،‬والتي اقتضت ضرورة التفكير في إمكانية مساءلتها جنائيا عن الجرائم التي يرتكبها‬
‫ممثلوها أو مديروها أو وكالؤها لحسابها أو باسمها‪ ،‬كما سنرى مع االتجاه املؤيد‪.‬‬
‫الفقرة الثانية‪ :‬االتجاه القائل بمساءلة الشخص املعنوي جنائيا‬
‫فرض التطور الحاصل في النشاط االقتصادي الذي يقوم به الشخص املعنوي ضرورة‬
‫إعادة النظر في موقف االتجاه املعارض ملسؤولية الشخص املعنوي الجنائية‪ ،‬واالعتبارات التي‬
‫يستند إليها؛ ونتيجة لذلك ظهر اتجاه حديث يدعو إلى مساءلة هذا األخير جنائيا عن األفعال‬
‫اإلجرامي ة التي يقوم بها‪ ،‬كما أوصت املؤتمرات الدولية الخاصة بالبيئة‪ 388‬بضرورة األخذ‬
‫باملسؤولية الجنائية للشخص املعنوي‪ ،‬إذ أن جرائم تلويث البيئة ترتكب عادة بواسطة الشخص‬
‫املعنوي أكثر من األفراد‪.‬‬

‫‪ 386‬إبراهيم علي صالح‪ ،‬املسؤولية الجنائية لألشخاص املعنوية‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬سنة ‪ ،1980‬ص ‪.105‬‬
‫‪ 387‬شريف سيد كامل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫‪ 388‬كمـؤتمر هـامبورج الــذي انعقـد فـي شــتنبر ‪ 1979‬بشـأن " الحمايــة الجنائيـة للوسـط الطبيعــي"‪ ،‬والـذي خـرج بمجموعــة مـن التوصــيات‪،‬‬
‫حيث تضـمنت التوصـية السادسـة مـا يلـي " ‪ ...‬وحيـث أن االعتـداءات الخطيـرة علـى الوسـط الطبيعـي غاليـا مـا تكـون صـادرة عـن الشـخص‬
‫املعنوي واملشروعات الخاصة أو العامة أو الدولة يصير من الضروري تقبل املسـؤولية الجنائيـة لهـؤالء وأن يفـرض علـيهم احتـرام الوسـط‬
‫الطبيعي تحت تهديد الجزاءات املدنية أو اإلدارية‪"...‬‬
‫‪ -‬مؤتمر الجمعية الدولية للقانون الجنائي املنعقد فـي مدينـة ريـو دي جـانيرو بالبرازيـل فـي شـتنبر ‪ 1994‬بشـأن موضـوع " الجـرائم ضـد‬
‫البيئـة"‪ ،‬حيـث أكــدت التوصـية الثالثـة علــى ضـرورة املسـاءلة الجنائيــة لألشـخاص املعنويـة وتوقيــع العقوبـات املناسـبة لهــا‪ ،‬شـأنها ش ـأن‬
‫األشخاص الطبيعية‪ ،‬بل وضرورة مالحقة األشخاص املعنوية جنائيا‪.‬‬
‫‪188‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫وقد استند الفقه املؤيد إلقرار مسؤولية الشخص املعنوي جنائيا إلى مبررات كثيرة‪ ،‬ففي‬
‫الرد على السند املتعلق بافتقاد الشخص املعنوي لإلرادة‪ ،‬يذهب أنصار هذا املوقف إلى التسليم‬
‫بتمتع الشخص املعنوي بإرادة مستقلة‪ ،‬وهي ترجمة إلرادات األعضاء املكونين له‪ ،‬فهذه اإلرادة‬
‫الجماعية ليست بإرادة خيالية ومجازية بل حقيقة مجسدة في كل مرحلة من مراحل حياة‬
‫الشخص املعنوي‪ ،‬بحيث يعبر عنها باالجتماعات واملداوالت التي تتم بين األعضاء املكونين له‪.389‬‬
‫أما بخصوص حجة اإلخالل بمبدأ شخصية العقوبة‪ ،‬فهي حجة تنبني على الخلط بين‬
‫العقوبة والنتيجة غير املباشرة لها‪ ،‬فتوقع العقوبة على الشخص املعنوي‪ ،‬إنما يرد به تحقيق غاية‬
‫هي حماية املجتمع‪ ،‬فامتداد آثارها إلى األشخاص املكونين له ال يعني معاقبتهم على الجريمة التي لم‬
‫يأتونها‪ ،‬وإنما هذا االمتداد بمثابة حافز لهؤالء من أجل الزيادة في املراقبة واتخاذ كافة الوسائل‬
‫للحيلولة دون ارتكاب الشخص املعنوي لألفعال اإلجرامية‪ ،390‬وامتداد آثار العقوبة لألشخاص‬
‫الذاتيين‪ ،‬يصدق أيضا على امتداد آثار العقوبة على الشخص الطبيعي بصلة غير مباشرة على‬
‫أسرته بحيث يحرمون من مورد رزقهم في حالة ما إذا كان هو املنفق عليهم‪.391‬‬
‫وتأسيسا على الرأي السالف الذكر‪ ،‬فإن إقرار املسؤولية الجنائية للشخص املعنوي في‬
‫مجال االعتداء على البيئة ضرورة ملحة فرضتها ظروف اقتصادية واقعية يعيشها العالم‪ ،‬تشكل‬
‫خطورة بالغة على وجود الكائنات الحية باملقارنة مع الجرائم البيئية املرتكبة بواسطة األشخاص‬
‫الطبيعية‪.‬‬
‫الفقرة الثالثة‪ :‬موقف املشرع من املسؤولية الجنائية للشخص املعنوي‬
‫تكتس ي املسؤولية الجنائية للشخص املعنوي في املجال البيئي أهمية خاصة‪ ،‬نظرا لكون‬
‫العديد من جرائم تلويث البيئة تتم عن طريق هؤالء األشخاص حين ممارسة أنشطتها‬
‫االقتصادية‪ ،‬مما يطرح تعقيدا وتشابكا على نحو يصعب معه تحديد مرتكبي النشاط اإلجرامي‬

‫‪389‬‬
‫محمود مصطفى‪ ،‬الجرائم االقتصادية في القانون املقارن‪ ،‬ج األول‪( ،‬بدون دار النشر)‪ ،‬ط ‪ ،1963‬ص ‪.119‬‬
‫‪ 390‬محمد ملياني‪ ،‬القانون الجنائي العام‪ ،‬مطبعة الجسور‪ ،‬وجدة‪ ،‬سنة ‪ ،2008‬ص ‪.205‬‬
‫‪ 391‬يوسف وهابي‪ ،‬املسؤولية الجنائية لألشخاص املعنوية والحاجة إلى التقنين"‪ ،‬مجلة القضاء والقانون‪ ،‬ع ‪ ،150‬سنة ‪ 2013‬ص ‪.109‬‬
‫‪189‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫البيئي والجهة املختصة في ذلك‪.392‬‬

‫ولقد أقرت أغلب التشريعات الجنائية الحديثة بمبدأ املسؤولية الجنائية للشخص‬
‫املعنوي‪ 393‬نتيجة ما يمثله هذا األخير من عدوان على عناصر البيئة‪ ،‬لهذا أخذ املشرع األمريكي‬
‫باملسؤولية الصارمة للشخص املعنوي ضمن القوانين الخاصة بحماية الهواء واملياه وتداول املواد‬
‫الخطيرة على صحة اإلنسان‪ ،‬وذلك بعد ""قضية فورد"" التي قض ى فيها القضاء األمريكي بمسؤولية‬
‫الشركة عن جريمة قتل الخطأ بعدما ثبت تقصيرها في تحذير املستهلكين بنتائج التجارب األولية‬
‫التي أدت إلى تسرب الوقود ووفاة ثالثة أشخاص‪.394‬‬
‫بيد أن املشرع اإلماراتي كان أكثر تشددا ووضوحا في تحميل مسؤولية املنشآت‬
‫الصناعية‪ ،‬حيث وضع القيود والضوابط على كافة املنشآت بعدم ارتكاب أي فعل من شأنه‬
‫إحداث ضرر بالبيئة املائية سواء كان الفعل تصريفا أو إلقاء‪ ،‬إذ نصت املادة ‪ 35‬من قانون ‪1999‬‬
‫املتعلق بحماية البيئة وتنميتها " يحظر على جميع املنشآت بما في ذلك املجال العام أو التجارية أو‬
‫الصناعية تصريف أو إلقاء أي مواد نفايات أو سوائل غير معالجة من شأنها إحداث تلوث في‬
‫البيئة املائية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة"‪.395‬‬
‫كما أخذ املشرع الفرنس ي بمبدأ املسؤولية الجنائية حيال األشخاص املعنويين‪ ،‬ضمن‬
‫القانون الجنائي لسنة ‪ 1994‬الذي نصت مادته ‪ 121.2‬على أن " األشخاص املعنوية باستثناء‬
‫الدولة‪ ،‬تسأل جنائيا وفقا للقواعد املنصوص عليه في املواد ‪ 121.4‬إلى ‪ 121.7‬وفي الحاالت‬

‫‪ 392‬رضــا عبــد الحلــيم عبــد املجيــد‪ ،‬املســؤولية القانونيــة عــن النفايــات الطبيــة " دراســة مقارنــة بالقــانون الفرنس ـ ي" دار النهضــة العربيــة‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬سنة ‪ ،1999‬ص ‪.211‬‬
‫‪ 393‬ممـا الشـك أن تحديـد املسـؤولية الجنائيــة للشـخص الطبيعـي فـي املشــروعات الكبيـرة كمـا هـو الشــأن بالنسـبة لشـركات املسـاهمة‪ ،‬التــي‬
‫تعد مصدر تلوث حقيقي للبيئة أمر صعب للغاية‪ ،‬خصوصا في ظل وجود عدة متداخلين في تسيير الشركة‪ ،‬إذن فمن يتحمل املسـؤولية‬
‫هل العامل أم أعضاء مجلـس اإلدارة أم الـرئيس ؟ هـذه اإلشـكاالت هـي التـي دفعـت إلـى إقـرار بمسـؤولية الشـخص املعنـوي وإن كـان مجـرد‬
‫افتراض وال يتوفر على إرادة حقيقية‪.‬‬
‫‪394‬‬
‫حسام محمد سامي جابر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.176‬‬
‫‪ 395‬املشــرع الهولن ــدي ب ــدوره أق ــر ه ــذه املس ــؤولية ض ــمن ق ــانون الج ـرائم االقتص ــادية الص ــادر س ـنة ‪ 1951‬إذ ج ــاء ف ــي مادت ــه ‪ 15‬عل ــى أن "‬
‫الجرائم يمكن أن ترتكب سواء من األشخاص الطبيعيين أو األشخاص املعنوية‪".‬‬
‫‪190‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫املنصوص عليها في القانون أو النظام عن الجرائم املرتكبة لحسابها‪ ،‬وعن طريق أعضائها أو‬
‫ممثلها"‪.396‬‬
‫وعلى هذا النهج سار املشرع املغربي بموجب الفصل ‪ 127‬منه‪ ،397‬وإن كان هذا‬
‫الفصل جاء على إطالقه وحصر فقط العقوبات التي يمكن الحكم بها‪ ،‬لم يحدد أو يحصر الحاالت‬
‫املوجبة للمساءلة الجنائية بالنسبة للشخص املعنوي‪ ،‬وهو ما انعكس على مسألة تطبيق القضاء‬
‫لهذا الفصل‪ ،‬حيث نجد القضاء املغربي تعامل مع إحدى القضايا البيئية ‪ -‬قضية معمل الفلين‬
‫بسال‪ - 398‬بنوع من املرونة‪ ،‬علما بأن هذه الشركة خلفت أضرارا صحية جسيمة وأمراضا في‬
‫شريحة واسعة من السكان املجاورين للمنشأة‪.399‬‬
‫واملالحظ من حيثيات القرار‪ ،‬أن األفعال الواردة فيه هي أفعال جنائية‪ ،‬إذ كان على‬
‫النيابة العامة تحريك متابعة جنائية في حق الشركة مع تنصيب األطراف املتضررة كمطالبين‬
‫بالحق املدني‪ ،‬بدل االقتصار على معالجة القضية في إطار قواعد املسؤولية املدنية‪ 400‬دون‬
‫مساءلة جنائية‪ ،‬مما يوضح ضعف تشبع القضاة بثقافة حماية البيئة ضمن هذا الحكم‪.‬‬
‫عالوة على ذلك‪ ،‬تناول املشرع الجنائي املغربي املسؤولية الجنائية للشخص املعنوي بنوع‬
‫من الغموض‪ ،‬ضمن الفصل ‪ 127‬من ق ج‪ ،‬وإن كان بعض الفقه‪ 401‬يؤكد أن املشرع قد وضع‬

‫‪396‬‬
‫‪Article 121-2 du code pénal Français énonce que : « les Personnes morales à l’exclusion de l’état sont responsables‬‬
‫‪pénalement, selon les distinctions des articles 121-4 à 121-7 et dans les cas prévus par la loi où le règlement des‬‬
‫‪infractions commises pour leur compte, par leur organes on représentants ».‬‬
‫‪ 397‬يـنص الفصـل ‪ 127‬مـن ق ج م أنـه " ال يحكـم علـى األشـخاص املعنويــة إال بالعقوبـات املاليـة والعقوبـات اإلضـافية الـواردة فـي األرقــام ‪5‬‬
‫و‪ 6‬و‪ 7‬من الفصل ‪ 36‬ويجوز أيضا أن يحكم عليها بالتدابير الوقاية العينية الواردة في الفصل ‪."62‬‬
‫‪ 398‬حكم رقم ‪ 27‬صادر عن املحكمة االبتدائية بسال‪ ،‬ملف جنحي ع ‪ 16/2001/96‬الصادر بتاريخ ‪( 2002/01/21‬حكم غير منشور)‪.‬‬
‫‪ 399‬حيث جاء في حيثيات هذا الحكم ما يلي‪..." :‬وحيث إنه ال ضرر وال ضرار‪ ،‬وأن الضرر يزال‪ ،‬وانطالقا من الحالة التي وصلت إليها صحة‬
‫املدعين الثابتة بمقتض ى الشواهد الطبية املستدل بها وفق املقال‪ ،‬ونفس الش يء يقال بالنسبة للبيئة املحيطة بهم والتي حالها كمـا أشـير‬
‫إليهــا بــالخبرة املرفقــة بهــا يتعــين القــول بوجــود الضــرر املشــار إليــه بالحيثيــات أعــاله‪ ،‬وعالقــة الســببية بينــه وبــين األم ـراض األنفــة الــذكر‪،‬‬
‫الش يء الذي يستدعي االستجابة لطلب املدعين وفق املسطرة املنطوقة ‪."...‬‬
‫‪400‬‬
‫يـنص الفصـل ‪ 91‬مــن ق ل ع علـى أنـه " للجي ـران الحـق فـي إقامــة دعـوى علـى أصــحاب املحـالت املضـرة بالصــحة أو املقلقـة للراحـة‪ ،‬إمــا‬
‫إزالــة هــذه املحــالت وإمــا إج ـراء مــا يلــزم فيهــا مــن التغييــر لرفــع األض ـرار التــي يتظلمــون منهــا‪ ،‬وال يحــول التــرخيص الصــادرة عــن الســلطات‬
‫املختصة دون مباشرة الدعوى‪".‬‬
‫‪ 401‬أحمد الخمليش ي‪ ،‬شرح القانون الجنائي " القسم العام"‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬دار املعرفة للنشر والتوزيع‪ ،‬الرباط‪ ،‬سنة ‪ ،1989‬ص ‪.252‬‬
‫‪191‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫قاعدة عامة ملساءلة الشخص املعنوي جنائيا بنص صريح ال مجال للمناقشة فيه‪ ،‬ذلك أن‬
‫الفصل ‪ 127‬ق ج‪ ،‬ومن خالل وروده في الكتاب الثاني الخاص باملجرم قد نظر صراحة إلى هذه‬
‫األشخاص على مساواة واحدة مع األشخاص الذاتيين في موضوع الجرائم املرتكبة‪ .‬في حين كان على‬
‫املشرع أن يكون أكثر حزما مع املؤسسات امللوثة للبيئة‪ ،‬ما دامت هذه األخيرة دائما لها رغبة‬
‫جامحة في تحقيق املزيد من الربح واإلنتاج ولو على حساب املجال البيئي‪ ،‬في ظل وعيها التام‬
‫بصعوبة إثبات أفعالها وتأخر ظهور النتائج الضارة منها‪.‬‬
‫وبالرجوع إلى القانون الجنائي البيئي‪ ،‬نالحظ أن املشرع يوظف في كثير من نصوصه‬
‫عبارات " كل من‪ "...‬أو" كل شخص‪ ،"...‬يمكن اعتبارها من ناحية الصياغة القانونية أنها ال تقص ي‬
‫األشخاص املعنوية من املساءلة الجنائية غير أن ما يعاب عليها أنها جاءت خالية من الحصر‬
‫والتحديد‪ ،‬وكمثال على ذلك ما نجده في قانون رقم ‪ 13.03‬املتعلق بمكافحة تلوث الهواء‪ 402‬ينص‬
‫في املادة ‪ 40316‬منه على مسؤولية كل شخص عن حدوث تلوث‪ ،‬أي أنه لم يحدد بدقة الشخص‬
‫املسؤول جنائيا‪ ،‬مما يفهم أن املشرع الجنائي البيئي يقر باملسؤولية الجنائية لألشخاص املعنوية‪،‬‬
‫ولكن بطريقة غير دقيقة‪ ،‬وإن كانت املادة ‪ 2‬من نفس القانون تنص " يهدف هذا القانون إلى‬
‫الوقاية والحد من انبعاثات امللوثات الجوية التي يمكن أن تلحق أضرارا بصحة اإلنسان والحيوان‬
‫والتربة والثروات الثقافية والبيئية بشكل عام ويطبق على كل شخص طبيعي أو معنوي خاضع‬
‫للقانون العام أو الخاص‪ ،‬يمكن أن يحوز أو يستعمل أو يشغل عقارات أو منشآت منجمية أو‬
‫صناعية أو تجارية أو فالحية أو منشآت متعلقة بالصناعة التقليدية أو عربات أو أجهزة ذات‬
‫محرك أو آليات الحتراق الوقود أو إلحراق النفايات أو للتسخين أو للتبريد‪."...‬‬
‫كما نجد أيضا ميزة أخرى نفهم منها على أن املشرع الجنائي البيئي يقر باملسؤولية‬
‫الجنائية لألشخاص املعنوية‪ ،‬بحيث يعتمد في كثير من نصوصه بالنص على عقوبة الغرامة‪ -‬التي‬

‫‪402‬‬
‫ظ ش رق ــم ‪ 1.03.61‬ص ــادر ف ــي ‪ 10‬ربي ــع األول ‪ 12( 1424‬م ــاي ‪ ،)2003‬الص ــادر بتنفي ــذ الق ــانون رق ــم ‪ 13.03‬املتعل ــق بمكافح ــة تل ــوث‬
‫الهواء‪ ،‬ج رع ‪ 5118‬بتاريخ ‪ 18‬ربيع اآلخر ‪ 19( 1424‬يونيو ‪ ،)2003‬ص ‪.1912‬‬
‫‪ 403‬تـنص املــادة ‪ 16‬علــى" يعاقـب بغرامــة مــن ألــف ‪ 1000‬إلـى عش ـرين ألــف ‪ 20.000‬درهـم كــل شــخص مســؤول عـن حــدوث تلــوث وأهمــل‬
‫متعمدا إبالغ السلطات املعنية بانبعاث طارئ وخطير ملواد ملوثة"‪.‬‬
‫‪192‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫تتناسب والشخص املعنوي‪ -‬إلى جانب العقوبات السالبة للحرية مع ترك املجال للحكم بإحدى‬
‫هاتين العقوبتين‪ ،404‬باإلضافة إلى قانون م ج الذي ينص في مادته الثالثة على أن" تمارس الدعوى‬
‫العمومية ضد الفاعل األصلي للجريمة واملساهمين واملشاركين في ارتكابها سواء كانوا أشخاصا‬
‫ذاتيين أم معنويين"‪.‬‬
‫كل هذا يجعلنا نقول بأن املسؤولية الجنائية للشخص املعنوي عن الجرائم البيئية واردة‬
‫ضمن القانون الجنائي البيئي‪ ،‬وتزكيها القرارات القضائية الصادرة في هذا الشأن‪ ،‬لكن يجب أن‬
‫يعدل املشرع من صيغه الفضفاضة التي ال تخدم مصلحة حماية البيئة بقدر ما تضرها‪ ،‬خصوصا‬
‫بعد تبنيه ملختلف االتفاقيات الدولية الرامية إلى تحقيق األمن البيئي‪.‬‬
‫املطلب الثاني‪ :‬شروط مساءلة الشخص املعنوي عن الجريمة البيئية‬
‫إن املسؤولية الجنائية للشخص املعنوي في الجرائم البيئية ليست مطلقة‪ ،‬وإنما هناك‬
‫شروط حددتها معظم التشريعات‪ ،‬أولهما أن تكون هذه الجريمة قد ارتكبت من طرف شخص‬
‫طبيعي يعبر عن إرادة الشخص املعنوي (الفقرة األولى)‪ ،‬وثانيهما ارتكاب الجريمة لفائدة أو لصالح‬
‫الشخص املعنوي (الفقرة الثانية)‪.‬‬

‫الفقرة األولى‪ :‬ارتكاب الجريمة من شخص طبيعي يعبر عن إرادة الشخص املعنوي‬
‫ال يكفي أن يكون التصرف املكون للجريمة صادرا ممن يمثل الشخص املعنوي قانونيا‬
‫بل يلزم فضال عن ذلك‪ ،‬أن يكون التصرف الصادر عن هذا املمثل في حدود السلطة املمنوحة له‬
‫طبقا للنظام األساس ي‪ ،405‬ومفاد ذلك أن الشخص املعنوي بحكم طبيعته ال يمكن أن يرتكب‬
‫الجريمة بنفسه‪ ،‬وإنما يتصرف عن طريق شخص طبيعي يعبر عن إرادته‪ ،‬وإسناد الفعل الجرمي‬
‫للشخص املعنوي وفق هذا املبدأ يقتض ي معرفة الشخص الطبيعي الذي ارتكب الجريمة‪ ،‬ما إذا‬
‫كان يملك التصرف باسم الشخص املعنوي‪ ،‬وبالتالي تعتبر األفعال الصادرة عنه بمثابة أفعال‬
‫الشخص املعنوي ذاته أم ال؟‪.‬‬

‫‪ 404‬كما هو الحال بالنسبة للمادة ‪ 76 ،74 ،73 ،72 ،71 ،70‬من قانون ‪ 28.00‬املتعلق بتدبير النفايات والتخلص منها‪.‬‬
‫‪ 405‬محمد حسن الكندري‪ ،‬املسؤولية الجنائية عن التلوث البيئي‪ ،‬ط األولى‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬سنة ‪ 2006‬ص ‪.129‬‬
‫‪193‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫بالرجوع إلى القانون ‪ 13.03‬املتعلق بمكافحة تلوث الهواء نجد املادة ‪ 16‬منه‪ ،‬تعاقب كل‬
‫شخص مسؤول عن حدوث تلوث وأهمل متعمدا إبالغ السلطات املعنية بانبعاث طارئ وخطير‬
‫ملواد ملوثة‪ "...‬فإذا افترضنا أن الشخص املسؤول عن حدوث التلوث وفقا لهذه املادة‪ ،‬شخص‬
‫معنوي فإن منطق األمور يقول بأن مهمة إبالغ السلطات املعنية تكون على الشخص الطبيعي الذي‬
‫يعبر عن إرادة الشخص املعنوي‪ ،‬فاملسؤولية هنا تقع على الشخص املعنوي‪.‬‬
‫وقد اختلفت التشريعات املقارنة في تحديد األشخاص الطبيعيين الذين يسأل الشخص‬
‫املعنوي عن سلوكهم اإلجرامي‪ ،‬حيث نص القانون الجنائي الفرنس ي في املادة ‪ 121‬فقرة ‪ ،2‬على أنه‬
‫يكون الشخص املعنوي مسؤوال جنائيا عندما ينص القانون أو التنظيم على ذلك‪ ،‬عند ارتكاب‬
‫جرائم لحسابه من طرف أجهزته وممثليه‪ ،406‬مما يعني أن القانون الفرنس ي حصر األشخاص‬
‫الطبيعيين الذين يسأل عن أعمالهم الشخص املعنوي‪ ،‬في أعضاء الشخص املعنوي وممثليه‪ .‬في‬
‫حين ذهبت بعض التشريعات األخرى ومنها القانون اللبناني والهولندي إلى توسيع نطاق األشخاص‬
‫الطبيعيين‪ ،‬الذين يسأل الشخص املعنوي جنائيا عن أنشطتهم‪ ،‬بحيث ال تقتصر على األعضاء‬
‫واملمثلين‪ ،‬بل تمتد لتشمل املوظفين والعمال التابعين له‪407‬؛ وهذا من شأنه أن يوفر حماية‬
‫جنائية أكبر للمجال البيئي من األخطار التي يتعرض لها من الشخص املعنوي باألساس كمصدر‬
‫أول لإلضرار بالبيئة‪.‬‬
‫تجدر اإلشارة في األخير‪ ،‬أن قيام املسؤولية الجنائية لألشخاص املعنوية ال تخلو من‬
‫صعوبات‪ ،‬تتمثل في صعوبة مطاردة األشخاص املعنوية بسبب حجم الشركات وتعقيد التنظيمات‬
‫الخاصة بهذه الشركات‪ .‬غير أننا نرى والحالة هذه أن إقرار مسؤولية الشخص الطبيعي إلى جانب‬
‫الشخص املعنوي‪ ،‬أي الجمع بين املسؤولية الجنائية للشخص املعنوي واملسؤولية الجنائية‬
‫للشخص الطبيعي‪ ،‬فيه فعالية أكثر وتجسيدا كبيرا لروح القانون الجنائي البيئي الذي يرمي إلى‬
‫إضفاء الحماية الجنائية على املجال البيئي‪.‬‬
‫الفقرة الثانية‪ :‬ارتكاب الجريمة البيئية لحساب الشخص املعنوي‬
‫‪406‬‬
‫‪Bouloc Bernard, « la responsabilité pénale des entreprises en droit français », op, cit, p 672.‬‬
‫‪407‬‬
‫‪Philippe Malingrey, introduction au droit de l’environnement, 4eme éditions, TEC -DOC,France,2008, p148‬‬
‫‪194‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫من املعلوم أن الشخص املعنوي ال يسأل عن الجريمة البيئية‪ ،‬إال إذا ارتكبت باسمه‬
‫ولحسابه‪ ،‬ألن اشتراط ارتكاب الجريمة لحساب الشخص املعنوي يحمل بين طياته أن يكون ذلك‬
‫لفائدة هذا األخير وملصلحته‪ ،‬وتستوي هذه الفائدة سواء كانت مادية أو معنوية‪ ،‬لذلك ال تثار‬
‫املسؤولية إذا ارتكب الشخص الطبيعي الجريمة لحسابه‪.408‬‬
‫معنى ذلك‪ ،‬يشترط أن يكون الفاعل الذي ارتكب الجريمة‪ ،‬قد انصرفت نيته إلى‬
‫التصرف باسم الشخص املعنوي‪ ،‬ال بصفته الشخصية‪ ،‬واملقصود أن الجريمة ارتكبت بهدف‬
‫تحقيق مصلحة له‪ ،‬كتحقيق ربح‪ ،‬أو تجنب إلحاق ضرر به‪ ،‬سواء أكانت هذه املصلحة مادية أو‬
‫معنوية‪ ،‬مباشرة أو غير مباشرة‪ ،‬وهناك من يضيف أن الجريمة ترتكب لحساب الشخص‬
‫املعنوي‪ ،‬عندما تنفذ من طرف شخص طبيعي لضمان سير أعمال الشخص املعنوي وتحقيق‬
‫أغراضه‪.409‬‬
‫فالسلوك املادي الذي يقوم به الشخص الطبيعي‪ ،‬كعضو أو ممثل للشخص املعنوي‪،‬‬
‫يعد عنصرا من عناصر الجريمة البيئية املسندة للشخص املعنوي‪ ،‬وفي حالة قيام الشخص‬
‫املعنوي (مجلس اإلدارة) بتوكيل شخص طبيعي للقيام بعمل ما وارتكب الوكيل جريمة تلويث‬
‫البيئة لحساب الشخص املعنوي‪ ،‬فإن هذا األخير يسأل عن هذه الجريمة‪ ،‬ألن الوكيل يعد بمثابة‬
‫املمثل القانوني للشخص املعنوي‪.410‬‬
‫وبالرجوع إلى القانون الجنائي البيئي‪ ،‬يتبين أن املشرع املغربي غير واضح في كثير من‬
‫نصوصه‪ ،411‬بشأن قيام املسؤولية الجنائية للشخص املعنوي في حالة ارتكاب الجريمة من طرف‬
‫شخص طبيعي تابع لهذا الشخص االعتباري ولحسابه؛ حيث تنص املادة ‪ 17‬من القانون املتعلق‬
‫بمكافحة تلوث الهواء " يعاقب بغرامة من مائة ‪ 100‬إلى عشرة االف ‪ 10.000‬درهم كل من عرقل‬
‫القيام باملراقبة أو ممارسة مهام األشخاص املشار إليهم في املادة التاسعة من هذا القانون‪".‬‬

‫‪ 408‬نادية املشيش ي‪ ،‬املسؤولية الجنائية عن الجرائم البيئية في القانون املغربي‪ ،‬م م إ م ت‪ ،‬عدد ‪ ،119‬نونبر – دجنبر ‪ ،2014‬ص ‪.203‬‬
‫‪409‬‬
‫شريف سيد كامل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.130‬‬
‫‪ 410‬محمد حسن الكندري‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.174‬‬
‫‪ 411‬كما هو الحال ضمن املادة ‪ 79‬من قانون رقم ‪ 28.00‬املتعلق بتدبير النفايات والتخلص منها‪.‬‬
‫‪195‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫فبديهي أن عرقلة مهام األشخاص املشار إليه وفق املادة التاسعة‪ 412‬تكون من طرف شخص‬
‫طبيعي‪ ،‬فهل يسأل هو بصفته الشخصية عن هذا الفعل حتى وإن كان فعله هذا لحساب‬
‫وملصلحة الشخص املعنوي ؟ أم أن األمر في هذه الحالة يقتض ي مساءلة الشخص املعنوي ؟‪.‬‬
‫إن املشرع وفقا املادة ‪ 17‬السالفة الذكر‪ ،‬لم يحدد من املسؤول جنائيا في هذه الحالة‪،‬‬
‫حيث يمكن القول إنه سوى بين الشخص الطبيعي مرتكب الفعل اإلجرامي لحساب الشخص‬
‫املعنوي وبين هذا األخير في إقرار املسؤولية الجنائية‪ ،‬بيد أن الفقرة الثانية من هذه املادة تنص في‬
‫حالة العود على إمكانية الحكم بعقوبة حبسية من يوم إلى شهر‪ ،‬وهذا املقتض ى ال يمكن تطبيقه‬
‫على الشخص املعنوي‪ ،‬ما يفهم على أنه يخص الشخص الطبيعي املرتكب للفعل املخالف‬
‫ملقتضيات هذه املادة‪.‬‬
‫املطلب الثالث‪ :‬مدى إمكانية نفي املسؤولية الجنائية البيئية‬
‫إذا كان املشرع قد تو ى من وراء تجريم بعض األفعال في القانون الجنائي بصورة عامة‪،‬‬
‫حماية مصالح محل اعتبار بنظر املجتمع‪ ،‬فإن التسليم بهذا املبدأ على إطالقه قد ال يحقق الغاية‬
‫املرجوة منه‪ ،‬إما ألن الفعل لم يعد ينطوي على عدوان يصيب املصلحة املحمية قانونا‪ ،‬أو أن‬
‫العقاب عليه يهدر مصالح أولى بالرعاية واالعتبار‪ ،‬ومن هنا برزت أهمية أسباب اإلباحة‪413‬‬
‫وموانع املسؤولية كحاالت مفضية إلى سقوط املسؤولية واآلثار املترتبة عليها والتي أصبحت فيما‬
‫بعد محل اعتراف التشريعات العقابية عموما‪.‬‬
‫وألجل اإلحاطة بأهم الحاالت التي يمكن أن يستند إليها املتهم لنفي املسؤولية الجنائية‬
‫البيئية‪ ،‬فيتعين البحث عن خصوصيتها ضمن القواعد العامة‪ ،‬من خالل الدفع بالترخيص البيئي‬
‫(الفقرة األولى)‪ ،‬ثم الركون إلى حالة الضرورة (الفقرة الثانية)‪ ،‬كأهم األسباب التي يمكن للمتهم‬

‫‪ 412‬وه ــم حس ــب امل ــادة ‪ 9‬م ــن ق ــانون ‪ 13.03‬املتعل ــق بمكافح ــة تل ــوث اله ــواء " يكل ــف بمعاين ــة مخالف ــات أحك ــام ه ــذا الق ــانون والنص ــوص‬
‫الصادرة بتطبيقه‪ ،‬عالوة على ضباط الشرطة القضائية‪ ،‬املوظفون واألعوان املأمورون املنتدبون لهذا الغرض من لـدن اإلدارة املختصـة‬
‫وكذا املحلفون وفقا للتشريع الخاص باليمين املفروض أداؤها على املأمورين محرري املحاضر"‪.‬‬
‫‪413‬‬
‫تقوم أسباب اإلباحـة أساسـا علـى إزالـة الصـفة غيـر املشـروعة عـن الفعـل املرتكـب‪ ،‬بمـا يـؤدي إلـى عـدم تحقـق مسـؤولية الفاعـل أو مـن‬
‫يشــاركه فــي ارتكاب ــه مــن الناحي ــة الجنائيــة واملدنيــة‪ ،‬بمعن ــى أخــر أن أس ــباب اإلباحــة ذات طبيعــة موض ــوعية ينصــرف أثره ــا إلــى الفع ــل أو‬
‫االمتن ــاع‪ ،‬فتن ــزع عن ــه الوص ــف الجرم ــي وتعط ــل ب ــذلك نص ــوص التج ـريم‪ .‬أنظ ــر‪ :‬محم ــود نجي ــب حس ــني‪ ،‬أس ــباب اإلباح ــة ف ــي التش ـريعات‬
‫العربية‪ ،‬معهد الدراسات العربية‪ ،‬جامعة الدول العربية‪ 1962 ،‬ص ‪.5‬‬
‫‪196‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الدفع بها غالبا لنفي املسؤولية عنه أو التخفيف منها باإلضافة إلى أمر السلطة والقوة القاهرة‬
‫كمبادئ عامة‪.‬‬
‫الفقرة األولى‪ :‬الترخيص البيئي وأثره على املسؤولية‬
‫قد ال يكتفي املشرع لتقرير املسؤولية الجنائية عن الجرائم البيئية بمجرد توافر ركنيها‪،‬‬
‫وإنما اشتراط فوق ذلك انتفاء اإلذن أو الترخيص الذي يسمح بممارسة النشاط الضار‪ ،‬بمعنى‬
‫أخر إذا تم الفعل استنادا إلذن أو ترخيص صادر من جهة مختصة تسمح به‪ ،‬أصبح عندئذ‬
‫مشروعا ويخرج بالتالي من دائرة األفعال املحظورة‪.414‬‬
‫وهذا يعني بأن الترخيص ما هو إال وسيلة من وسائل تدخل الدولة في تقييد النشاط‬
‫الفردي من أجل الوقاية مما قد ينجم عنه من أضرار محققة أو أخطار محتملة تصيب املجتمع‪،‬‬
‫على الرغم من املزايا التي ترافق اشتراط الحصول على التراخيص البيئية من حيث إمكانية الجهة‬
‫املانحة لها من مباشرة نوع من الرقابة األولية على جدوى املشاريع املضرة أو املقلقة أو املزعجة أو‬
‫امللوثة للبيئة‪ ،‬فتمتنع من إعطاء الترخيص متى كانت اآلثار التي تلحق بالبيئة تزيد عما هو مسموح‬
‫به بموجب املعايير واملحددات النوعية املنصوص عليها قانونا‪ ،‬إال أنه مع ذلك لم يسلم من‬
‫االنتقادات لكونه يغل يد السلطات من متابعة املتهم‪.415‬‬
‫والواقع أنه بصرف النظر عن الغاية التي أرادها املشرع من توقف التجريم واملسؤولية‬
‫على انتفاء اإلذن أو الترخيص‪ ،‬فإن مشكلة التكييف القانوني له ال تزال محل خالف‪ ،‬فمن يعتبر‬
‫الترخيص سببا لإلباحة ينطلق من كون أسباب التبرير هي ظروف أو حاالت مادية أو واقعية‬
‫تكتنف إتيان السلوك املشتمل على عناصر الجريمة فتجعله في وصف الفعل املباح‪ ،‬ومن ثم فإن‬

‫‪ 414‬نوار دهام مطر الزبيدي‪ ،‬الحماية الجنائية للبيئة‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬منشورات الحلبي الحقوقية‪ ،‬بيروت لبنان‪ ،‬سنة ‪ ،2014‬ص ‪.471‬‬
‫‪ 415‬لإلشارة فان موضوع التراخيص البيئية طرح نقاشا حادا بين أعضاء الكونغرس األمريكي وفقهاء القانون‪ ،‬فمنهم من رأى أن الترخيص‬
‫يعد تنـازال مـن الحكومـة عـن مسـؤوليتها فـي التطبيـق الحـازم لنصـوص قـانون البيئـة ضـد املخـالف‪ ،‬فإصـدار التـراخيص بتصـريف أو إلقـاء‬
‫النفايات في املياه سوف تمنح امللوث حصانة ضد املالحقة الجزائية‪ ،‬وستكون هذه التـراخيص بمثابـة إجـازات للتلـوث‪ .‬ويشـير البروفسـور‬
‫"وليام روجرز" أستاذ قانون البيئة بجامعة واشنطن‪ ،‬إلى أن نظام التراخيص يقيد سلطة الحكومة من اللجوء إلـى القضـاء ويعيـق توجيـه‬
‫االتهام ويؤدي إلى إلغاء املحتوى الجنائي لقانون البيئة‪ .‬أنظر ‪.‬‬
‫‪ad‬‬
‫‪William Rodgers, “Handbook on Environmental law”, 2 Edition, Published by West Publishing Company, USA 1994 p‬‬
‫‪689.‬‬
‫‪197‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫لزوم انتفاء الترخيص يعني قيام الركن الشرعي للجريمة بكونه بمثابة ركن خاص في الجريمة‬
‫البيئية‪ ،‬جرى تحديده بواسطة النموذج التجريمي الذي يصفه النص القانوني‪416‬؛ في املقابل‬
‫هناك من اعتبر الترخيص بمثابة مانع للمسؤولية الجنائية‪ ،‬لكون وجود اإلذن شرط الزم لعدم‬
‫تحقق العقاب على الرغم من اعتبار الجريمة قائمة بمجرد توفر عناصرها األساسية‪.417‬‬
‫بالرجوع إلى القانون الجنائي البيئي نالحظ أن املشرع أوجب الحصول على التراخيص‬
‫كسبب لنفي املسؤولية الجنائية‪ ،‬حيث نصت املادة ‪ 57‬من قانون املقالع " يعاقب بغرامة من‬
‫ثالثمائة ألف (‪ )300.000‬درهم إلى خمسمائة ألف (‪ )500.000‬درهم كل من يستغل مقلعا عند‬
‫انتهاء مدة صالحية وصل التصريح باالستغالل ألي سبب من األسباب دون الحصول على وصل‬
‫جديد للتصريح باالستغالل‪ ،‬تكون هذه العقوبة مقرونة باإلغالق الفوري للمقلع‪ .‬كما أكدت أيضا‬
‫املادة ‪ 11‬من القانون رقم ‪ 11.03‬املتعلق بحماية واستصالح البيئة على أنه " يخضع تخصيص أو‬
‫تهيئة األراض ي ألغراض فالحية أو صناعية أو منجمية أو سياحية أو تجارية أو تعميرية‪ ،‬وكذا‬
‫أشغال التنقيب عن اآلثار أو استغالل مواد جوف األرض والتي من شأنها أن تهدد البيئة إلى رخصة‬
‫مسبقة حسب الحاالت ووفق تحددها النصوص التشريعية والتنظيمية‪.418"...‬‬
‫هذا ما يؤكده التوجه القضائي ملحكمة النقض إذ جاء في أحد قراراتها‪ " 419‬وحيث إن‬
‫املحكمة ملا ناقشت مضمون املحضر املؤسسة عليه املتابعة وما أدلى به املتهم من ترخيص قانوني‬
‫بمنحه بقعة أرضية مستخرجة من امللك الغابوي وتصميم البناء املرخص به فخلصت إلى كون‬
‫املتهم بالقطعة األرضية املتنازع بشأنها مبررا‪ ،‬وأن جنحة البناء داخل امللك الغابوي غير متوفرة‬
‫نظرا المتالكه ترخيص تكون املحكمة قد طبقت القانون تطبيقا سليما"‪.‬‬

‫‪ 416‬نوار دهام مطر الزبيدي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ .474‬أنظر أيضا ‪ :‬رؤوف عبيد‪ ،‬مبادئ القسـم العـام فـي التشـريع العقـابي‪ ،‬ط الرابعـة‪ ،‬دار‬
‫الفكر العربي للطباعة‪ ،‬سنة ‪ 1989‬ص ‪.332‬‬
‫‪417‬‬
‫رمسيس بهنام‪ ،‬النظرية العامة للقانون الجنائي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.451‬‬
‫‪418‬‬
‫تــنص املــادة ‪ 29‬مــن القــانون البيئــي املصــري رقــم ‪ 4‬لســنة ‪ 1994‬علــى أنــه " يحظــر تــداول املــواد والنفايــات الخطــرة بغيــر تــرخيص مــن‬
‫الجهة اإلدارية املختصة‪."...‬‬
‫‪ 419‬ق ـرار محكمــة الــنقض ع ‪ 850‬الصــادر بتــاريخ ‪ 20‬يونيــو ‪ 2013‬فــي امللــف الجنحــي ع ‪ 2013 /8 /6 -04‬املنشــور بمجلــة محكمــة الــنقض‬
‫ملفات عقارية ع ‪ 4‬سنة ‪ 2014‬ص ‪.296‬‬
‫‪198‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫واضح من هذا‪ ،‬أن املشرع يعلق قيام الجريمة البيئية على انتفاء الحصول على ترخيص‬
‫كقطع أشجار أو التسبب باإلزعاج أو حفر أو استغالل املقالع أو دفن الفضالت أو تصريف املياه‬
‫امللوثة أو ممارسة الصيد‪ ،420‬ولذلك فإن الطبيعة القانونية لإلذن أو الترخيص باعتقادي‬
‫تتأسس على فكرة م فادها أن التصرف في حدود الترخيص املسموح به يؤثر على إمكانية مساءلة‬
‫الفاعل عما قام به من نشاط‪ ،‬والواقع أن الحصول على الترخيص أو اإلذن من الجهات املختصة‬
‫ال يمنع من تحقق املسؤولية املدنية للفاعل والتزامه بالتعويض عما يحدث من أضرار لآلخرين‪،‬‬
‫على أنه يتعين لكي ينتج مثل هذا الترخيص أثره باعتباره سببا خاصا المتناع املسؤولية الجنائية‪،‬‬
‫أن يكون قد صدر عن جهة مختصة بإصداره وفق الشكل الذي تطلبه القانون‪ ،‬والقول بخالف‬
‫ذلك يعني تحقق املسؤولية ومعاقبة الفاعل‪.‬‬
‫لكن يجب أن ال يعتد بالترخيص اإلداري بشكل مطلق كسبب لتبرير السلوك الذي يعتبر‬
‫جريمة بيئية في األحوال العادية‪ ،‬ألن طريقة الحصول على الترخيص قد تكون غير مشروعة‪،‬‬
‫وبالتالي يبقى الشخص دون مسؤولية‪.‬‬
‫الفقرة الثانية‪ :‬حالة الضرورة وآثراها على املسؤولية‬
‫بالرجوع إلى الفصل ‪ 124‬ق ج م‪ ،‬نجد أن حالة الضرورة تضمنتها الفقرة الثانية حينما‬
‫قضت بأنه " ال جناية وال جنحة وال مخالفة ‪ ...‬إذا اضطر الفاعل ماديا إلى ارتكاب الجريمة أو كان‬
‫في حالة استحال عليه معها استحالة مادية اجتنابها وذلك بسبب خارجي لم يستطيع‬
‫مقاومته‪ ،421"...‬فحالة الضرورة التي تهمنا هنا هي الحالة التي يجد اإلنسان نفسه أو غيره مهددا‬
‫‪420‬‬
‫جاء في قرار ملحكمة النقض"‪ ...‬إن املحكمة مصدرة القرار املطعون فه ملا قضت ببراءة املطلوبين في النقض من جنحة سرقة الكثبان‬
‫الرمليـة مـن أماكنهـا الطبيعيــة واملشـاركة فـي ذلــك‪ ،‬اعتمـدت فـي ذلـك علــى كـون مـا أخــذه السـائق يعتبـر مجـرد أتربــة ال يشـملها نـص الفصــل‬
‫‪ 517‬ق ج م‪ ،‬والحال أن املادة املضبوطة على متن الشاحنة تعتبر من األتربة الصفراء من نوع توفنة املسـتخرجة مـن مقلـع غيـر مـرخص‪،‬‬
‫وطامل ـ ا أن اس ــتغاللها يخض ــع لتــرخيص خ ــاص كم ــا ه ــو واضــح م ــن املحض ــر املنجــز م ــن ط ــرف الفرق ــة اإلقليميــة للمق ــالع إال ويعتب ــر ذل ــك‬
‫مخالفة لنص الفصل ‪ 517‬ق ج م‪ ،‬األمر الذي يجعل القرار املطعون فيه ملا قض ى ببراءة املطلـوبين فـي الـنقض للعلـة املـذكورة بـه‪ ،‬مشـوبا‬
‫بعيب نقصان التعليل املوازي النعدامه وهو ما يعرضه للنقض واإلبطال‪ ".‬قرار محكمة النقض ع ‪ 9.937‬املؤرخ في‪ ،09/10/2014 :‬ملف‬
‫جنائي ع ‪( .18262/6/9/2013‬غير منشور)‪.‬‬
‫‪421‬‬
‫نظمــت املــادة ‪ 25‬مــن القــانون الجنــائي الكــويتي شــروط حالــة الضــرورة تنظيمــا محكمــا حيــث نصــت " ال يســأل جنائيــا مــن ارتكــب فعــال‬
‫دفعتـه إلـى ارتكابـه ضـرورة وقايـة نفسـه أو غيــره‪ ،‬مـن خطـر جسـيم حـال يصـيب الـنفس أو املــال‪ ،‬إذا لـم يكـن إلرادتـه دخـل فـي حلولـه وال فــي‬
‫استطاعته دفعه بطريقة أخرى ‪ ،‬بشرط أن يكون الفعل الذي ارتكبه متناسبا مع جسامة الخطر الذي توقاه"‪.‬‬
‫‪199‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫بخطر جسيم وحال يضيق عليه نطاق اختياره فال يستطيع تالفيه وال تجنبه إال بارتكاب جريمة في‬
‫حق البيئة وهي ما يمكن تسميتها بالجريمة البيئية الضرورية التي قد تمس حقوق الدولة‬
‫ومؤسساتها وحتى الغير‪.422‬‬
‫إن خير مثال على الجريمة البيئية الضرورية اشتعال نار بقنينة غاز داخل منزل فيضطر‬
‫الشخص إلى التخلص منها لحماية أفراد أسرته وإنقاذ متاعه‪ ،‬وذلك برميها خارج املنزل فتشتعل‬
‫النار في الغابة املجاورة كملك خاص للدولة‪ ،‬في هذه الحالة وهي كثير ما تقع‪ ،‬يكون الشخص‬
‫مضطرا الرتكاب جريمة البيئية الضرورية‪ 423‬مما يمكن القول معه أن إرادته وقعت تحت تأثير‬
‫قوة من شأنها أن تعدمها أو تقيدها لدرجة كبيرة بسبب إكراه مادي أو معنوي أو بسبب ضرورة‬
‫دفعته إلى ارتكابها‪.‬‬
‫لذا يمكن القول إن أسباب منع املسؤولية الجنائية ذات طبيعة شخصية يقتصر أثرها‬
‫على من توفر لديه هذا املانع وال يمتد إلى سواه ممن ساهم معه في ارتكاب الجريمة‪ ،‬ويعني توافر‬
‫أي منهما منع املسؤولية الجنائية وسقوط العقوبة املقررة قانونا‪ ،‬من غير أن يؤثر ذلك على‬
‫املسؤولية املدنية‪ ،‬حيث تبقى قائمة على الرغم من عدم قيام املسؤولية الجنائية‪.424‬‬
‫مما يترتب على ذلك أن كافة أسباب امتناع املسؤولية تسري أيضا على الجرائم املرتكبة‬
‫ضد سالمة عناصر البيئة‪ ،‬فعلى الرغم من أن القانون الجنائي البيئي تضمن عقوبات األنشطة‬
‫امللوثة بالنسبة للبيئة إال أنه لم يتضمن إضافة أي سبب خاص من أسباب امتناع املسؤولية‬
‫الجنائية عنها؛ ومن ثم فال مناص من الرجوع إلى القواعد العامة املقررة بمقتض ى القانون الجنائي‬
‫السالفة الذكر‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬تمنع مسؤولية املتهم عن إكراه مادي أو كان مرتكبها فاقدا لإلدراك أو اإلرادة أو‬
‫كان في حالة ضرورة أو قوة قاهرة استحال معه أن يتفادى الضرر البيئي‪ ،‬وهذا ما عبرت عنه بعض‬

‫‪422‬‬
‫نادية املشيش ي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.208‬‬
‫‪423‬‬
‫يشترط لقيام حالة الضرورة توافر عدة شروط نجملها باختصار استنادا ملا يفهم من الفصل ‪ 124‬ق ج م – توافر خطر جسيم يهدد‬
‫النفس أول املال – أن يكون الخطر حقيقيا وليس وهميا أو محتمال – أال يكون إلرادة الفاعل دخل في حدوث الخطر – يجب أال يكون ما‬
‫وقع التضحية به أكثر مما وقع االحتفاظ به‪.‬‬
‫‪ 424‬نوار دهام مطر الزبيدي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.468‬‬
‫‪200‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫التشريعات املقارنة التي تضمنت قوانينها البيئية نصوصا مانعة من تحقق املسؤولية الجنائية‪،‬‬
‫ومنها على سبيل املثال‪ ،‬القانون الفرنس ي رقم ‪ 1181-28‬الصادر ‪ 30‬شتنبر ‪ 1968‬بشأن منع تلويث‬
‫مياه البحر والجرف القاري بالهيدروكربون‪ ،‬ضمن املادة ‪ .42528‬كما تنص املادة ‪ 5‬من قانون‬
‫البيئة الفرنس ي لسنة ‪ 1977‬بشأن التلويث البحري "بأن الجريمة ال تعتبر قائمة إذا كان التصريف‬
‫ناش ئ عن عطب أو تسريب غير متوقع ومن املستحيل دفعه"‪.426‬‬
‫كما سار املشرع الصيني على نفس املنوال‪ ،‬حيث قررت املادة ‪ 43‬من قانون البيئة‬
‫الصيني على أنه "يحق ألي شخص أن يرتكب تحت ظروف قاهرة أو رغبة ملحة في حماية نفسه‬
‫واآلخرين من خطر وشيك أو يتخذ إجراءات ضرورية ربما تسبب أضرار بالبيئة‪ ،‬يمكن أن يتمتع‬
‫بإعفاء من العقوبة"‪.427‬‬
‫ويبدو أن االعتراف بحالة الضرورة وتنظيم أحكامها وشروطها على الرغم مما تثيره من‬
‫اختالفات بشأن طبيعتها القانونية‪ ،‬قصد به عدم إثقال كاهل الشخص بتحمل تبعة أمور ال دخل‬
‫إلرادته فيها ولم تقع بخطأ من جانبه‪.428‬‬
‫يالحظ أن أغلب التشريعات تميل إلى التنصيص على حالة الضرورة بخصوص‬
‫االنتهاكات البيئة البحرية بدل من عناصر البيئة األخرى‪ ،‬وذلك راجع إلى وعي املشرع بخطورة‬
‫التلوث املياه البحرية من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى فالبيئة البحرية تكون فيها السفن وناقالت املواد‬

‫‪ 425‬تـنص الفقــرة الثانيـة مــن هـذه املــادة علـى ‪ ":‬إن جنحــة التلـوث لــن تـتم ‪ - :‬إدا كـ ـان االنسـكاب قــد تـم ألجــل الضـمان األمنــي للمؤسســة أو‬
‫ألجل تفادي أضرار جسيمة أو ألجل حماية وإنقاذ الحياة البشرية في البحر ‪ -‬إذا كان االنسكاب قد تم بعد أخد كافة االحتياطات ملنعه أو‬
‫وقفه أو تعطيله ولم يكن باألمان استحالة تجنبه‪".‬‬
‫‪426‬‬
‫‪Mireille Delmas Marty, « La protection pénal de l’environnement en France », rev.int.dr. pén. N° 4. 1978 p 4.‬‬
‫‪ 427‬كما نص املشرع اليمني صراحة على حالة الضرورة كسبب ملنع املسؤولية الجنائية ضد مقترفي جرائم تلويث البيئية البحرية بالقول"‬
‫تنتفـي املســؤولية الجنائيـة عــن الشــخص أو املرفـق أو الســفينة أو الطـائرة عــن تص ـريف أيـة مــادة ملوثـة إدا ثبــت أن تص ـريفها قـد نــتج مــن‬
‫أجـل إنقـاذ األرواح أو ضـمان سـالمة أيـة سـفينة أو طـائرة أو الحيلولـة دون وقــوع ضـرر خطيـر ألي موقـع بـري وتظـل مسـؤوليته قائمـة فيمــا‬
‫يتعلــق بــالتعويض عــن التكــاليف واألض ـرار املتخلفــة مــن ج ـراء هــدا التصــرف" املــادة ‪ 33‬مــن القــانون اليمنــي رقــم ‪ 11‬لســنة ‪ 1993‬بشــأن‬
‫حماية البيئية البحرية من التلوث‪.‬‬
‫‪ 428‬املشـرع املغربـي لــم يـدرج الغلـط فــي القـانون أو الواقــع ضـمن حـاالت اإلعفــاء مـن املســؤولية الجنائيـة‪ .‬وإن كـان افت ـراض العلـم بالقــانون‬
‫البيئــي فــي ظــل تضــخم الترســانة البيئيــة علــى نحــو جعــل مــن الصــعب علــى املــواطن واألجنبــي أن يلــم بأحكامهــا املتعــددة‪ ،‬بــل حتــى القضــاة‬
‫أنفسهم أصبحوا في حاجة دائمة للعلم بالنصوص الجنائية الجديدة‪.‬‬
‫‪201‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫التجارية عرضة لقوة قا هرة في أي وقت وبالتالي حاول املشرع التلطيف من املسؤولية في هذه‬
‫إحاالت بشكل خاص وترك حاالت أخرى للقواعد العامة للقانون الجنائي‪ .‬إذ جاء مشروع مدونة‬
‫الصيد البحري املغربي بصور عديدة لحاالت الضرورة التي تعفي من املسؤولية حينما ال يكون‬
‫التلوث قد حدث بمعرفة الربان أو املسؤول عن السفينة بهدف تعطيلها (املادة ‪.429)288‬‬
‫إن عبء إثبات حالة الضرورة تقع على عاتق املتابع الذي يدعي أنه ارتكب الجريمة تحت‬
‫تأثيرها ومحكمة املوضوع هي التي يرجع إليها أمر التثبت من مدى قيامها بشروطها كاملة أو انتفائها‬
‫تبعا‪ ،‬لكن ملزمة مع ذلك بإبراز الوقائع التي استخلصت على أساسها وجود "حالة الضرورة" لكي‬
‫يتسنى ملحكمة النقض مراقبة مدى كفايتها‪.430‬‬
‫وإذا كان قيام حالة الضرورة بجميع شروطها تنفي املسؤولية الجنائية في حق الفاعل‪،‬‬
‫يبقى السؤال مطروحا‪ ،‬حول مدى تحمله للمسؤولية التقصيرية أم أنها بدورها تنتفي كما هو الحال‬
‫في الدفاع الشرعي؟‪.‬‬
‫لم يتطرق املشرع املغربي لهذه املسألة‪ ،‬ولكن كما هو معروف ضمن قواعد املسؤولية‬
‫املدنية فإن املسؤولية عن العمل الشخص ي هو إتيان الشخص للفعل عن حرية واختيار ومن غير‬
‫أن يسمح به القانون كما ينص الفصل ‪ 77‬ق ل ع م‪ ،‬وفي حالة الضرورة فإن الشخص ال تكون له‬
‫حرية االختيار وبالتالي ينتفي الخطأ الشخص ي مما يعني معه انتفاء املسؤولية التقصيرية‪.‬‬
‫خاتمة‪:‬‬
‫من املسلم به أن املسؤولية املترتبة على األضرار البيئية تعد أكثر أنواع املسؤولية تمردا‬
‫على الخضوع للقواعد التقليدية‪ ،‬بعدما أصبحت أسس هذه األخيرة غير مالئمة بالنظر إلى‬
‫خصوصية املسؤولية عن األضرار البيئية‪ ،‬التي تتسم أحكامها بالدقة والتعقيد وأحيانا الغموض‪،‬‬
‫مما دعا إلى املناداة بضرورة تطوير قواعد املسؤولية الجنائية‪ ،‬نظرا لعدم استقرار الفقه الجنائي‬

‫‪429‬‬
‫نفس املنحى يأخذ به املشرع املصري ضمن املادة ‪ 54‬مـن القـانون رقـم ‪ 4‬لسـنة ‪ 1994‬التـي تـنص " ال تسـري العقوبـات املنصـوص عليهـا‬
‫فـي هــذا القــانون علــى حــاالت التلويــث الناجمــة عــن ‪ :‬التفريــغ النــاتج عــن عطــب فــي الســفينة وأحــد أجهزتهــا‪ ،‬ويشــترط فــي جميــع األحــوال أن‬
‫يكون ربان السفينة أو املسؤول عنها قد اتخذ قبل وقوع العطب جميع االحتياطات الكافية ملنع أو تقليل آثار التلوث‪."...‬‬
‫‪ 430‬عبد الواحد العلمي‪ ،‬شرح القانون الجنائي املغربي‪" ،‬القسم العام"‪ ،‬الطبعة السادسة‪ ،‬مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء‪ ،‬سنة‬
‫‪ ،2015‬ص ‪.137‬‬
‫‪202‬‬
‫مجلة المنارة للدراسات القانونية واإلدارية العدد الخاص بالبيئة والتنمية المستدامة‪ /‬ابريل ‪2020‬ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫على تعريف محدد للتلوث البيئي إذ يكتفي بما يستمده من تعريفات في مجال العلوم الطبيعية‪،‬‬
‫كما قد يترتب على ارتكاب جريمة تلويث البيئة كم ضخم من األضرار واألخطار التي قد يتعذر‬
‫تقديرها وتحديدها‪ ،‬وقد تكون ناجمة عن سلسلة من األفعال يمكن أن تنسب للعديد من‬
‫األشخاص‪ ،‬بل قد تكون ناتجة عن مزاولة أنشطة عابرة للحدود الدولية‪ ،‬األمر الذي يزيد من‬
‫صعوبة البحث عن املتسبب الذي يتحمل املسؤولية عن ارتكاب الجريمة البيئية‪.‬‬
‫والشك أن القاعدة التي تقوم عليها التشريعات الجنائية الحديثة مفادها ال يسأل جنائيا‬
‫غير اإلنسان‪ ،‬لكن إسباغ نوع من املساءلة لألشخاص املعنوية جنائيا مسألة ضرورية في مجال‬
‫التلوث البيئي‪ ،‬حيث يتم ارتكاب الكثير من جرائم تلويث البيئة في إطار األنشطة التي تمارسها‪،‬‬
‫ومن ثم يتحتم تقرير مسؤوليتها إلى جانب مسؤولية من يمثلها وذلك من منطلق معاملة قانونية‬
‫خاصة‪.‬‬
‫لكن وبالرغم من الكم التشريعي الهائل الخاص بحماية البيئة‪ ،‬فإن األهداف املسطرة‬
‫من طرف املشرع املغربي تجاه عناصر البيئة يشوبها نقص من حيث اآلليات املعتمدة لتحقيق هذه‬
‫الغاية‪ ،‬في ظل حماية جنائية تتسم بالضعف بسبب عدم التطبيق السليم والصارم لهذه‬
‫النصوص وعدم توافر اإلمكانيات الالزمة‪ ،‬وبالدرجة الثانية إلى غياب الوعي البيئي لألفراد في حد‬
‫ذاتهم‪ ،‬وعدم الحرص على تطبيق القوانين الرامية لحماية البيئة الذي يؤدي ال محالة لتشجيع على‬
‫االعتداء على البيئة‪ ،‬وخير مثال على ذلك آفة التدخين في األماكن العمومية ورمي النفايات بشتى‬
‫أنواعها بشكل عشوائي‪ ،‬هي أفعال ال تلقى أي استهجان اجتماعي بل أضحىت سلوكات مألوفة لدى‬
‫املواطن وهذا أمر يضعف من فعالية تطبيق القوانين الرامية لحماية البيئة‪.‬‬

‫‪203‬‬

‫)‪Powered by TCPDF (www.tcpdf.org‬‬

You might also like