Professional Documents
Culture Documents
3
3
المحاضرة الثالثة
النظام اإلداري لإلمبراطورية البيزنطية ومركزية الحكم
قام نظام الحكم الروماني -كما نعلم -على أساس الحكم الثنائي ،والذي يعني تقسيم جميع المهام داخل
اإلمبراطورية بين اإلمبراطور ،ومجلس السناتو ،الذي ينتمي أعضاؤه للطبقة األرستقراطية ،ومع انفراد قسطنطين
بالحكم ،لم يعلن تغيير ذلك النظام ،فظل مسمى الحكم ثنائي ،غير أن قسطنطين قرر أن يجمع بين يديه جميع الصالحيات،
وينفرد بالقرارات ،وأن يصبح وحده مصدر التشريع ،فأقدم بذلك على أول التجاوزات السياسية في نظم الحكم الروماني،
فكما كان قرار دقلديانوس بوضع شركاء له في الحكم ،مجازفة سياسية ،كانت قرارات قسطنطين ،انحراف سياسي عن
نظام الحكم الروماني ،ليس ألنه تخلى عن التقسيم الرباعي الذي أقره سلفه ،وعاد لحكم اإلمبراطور الواحد ،ولكن لقيامه
بأمرين لم يحدثا في التاريخ الروماني من قبل:
.1جعل حكم اإلمبراطورية وراثيا في ذريته.
.2تهميش سلطة أعضاء مجلس السناتو ،واالنفراد بجميع أمور الحكم.
ويعتبر هذا االنحراف الذي أقدم عليه قسطنطين في نظام الحكم ،تحديد لنهاية العصر الروماني ،وبداية العصر البيزنطي،
أما بالنسبة للتعديالت اإلدارية األخرى؛ فقد تابع قسطنطين ما بدأه دقلديانوس ،فاستمر على نفس النهج الخاص بفصل
السلطة المدنية عن السلطة العسكرية ،والحد من تدخل القادة العسكريين في الشئون الداخلية لإلمبراطورية ،وبذلك عادت
مسئوليات حكام الواليات المدنيين إلى سابق عهدها ،فأصبح حاكم الوالية مسئوالً عن جميع الشئون المدنية ،واإلدارية،
بمختلف أنواعها -داخل حدود واليته ،-فيما عدا شئون اإلدارة العسكرية.
والنظم اإلدارية المدنية ،تختص بجميع الشئون الداخلية لإلمبراطورية ،فتشمل مهامها كل ما يتعلق بالمواطنين
من وظائف ،وصحة ،وتعليم ،وسن القوانين ،وتطبيقها ،أو فرض الضرائب ،ومتابعة جمعها ،أو متابعة تنفيذ العقوبات
الصادرة من القضاء ،إلى غير ذلك من شئون الحياة اليومية العامة ،وتمتد كذلك مهام اإلدارة المدنية ،للعالقات الخارجية
لإلمبراطورية ،من خالل الجهاز الدبلوماسي للدولة ،أما الحفاظ على أمن اإلمبراطورية الداخلي ،فهو من اختصاص
جهاز الشرطة ،وهو يتبع اإلدارة المدنية كذلك ،ولكن له تدرج وظيفي مختلف.
أما فيما يتعلق بأمن اإلمبراطورية الخارجي ،وسالمة أراضيها ،وحماية حدودها من األعداء ،وخوض الحروب ،فهذا من
شأن اإلدارة العسكرية ،وتتناوله المحاضرة القادمة بإذن هللا.
ونظرا ً التساع مساحة اإلمبراطورية ،فإن كل والية من واليات اإلمبراطورية تميزت بخصائصها ،وظروفها الخاصة،
وربما يتطلب األمر تمييز إحدى الواليات بتنظيم إداري ،أو قوانين ال يحتاج لها غيرها من أقاليم اإلمبراطورية ،فقد تحتاج
والية أفريقيا إلى تنظيم إداري يختلف عن نظيره في إيطاليا ،أو في مصر ،أو القسطنطينية ،ولذلك تتناول المحاضرة
مالمح النظام اإلداري بصفة عامة دون الدخول في تفاصيل الواليات المختلفة.
من أهم المبادئ التي وضعها قسطنطين لنظام حكمه ،والذي استمر حتى نهاية اإلمبراطورية البيزنطية ،هو االعتماد على
إدارة مركزية قوية ،تمتد سلطاتها لجميع أنحاء اإلمبراطورية.
(لمعرفة المباديء التي وضعها قسطنطين لنظام حكمه يمكن مراجعة المحاضرة األولى)
وتمسك قسطنطين باستمرار الكثير من اإلصالحات اإلدارية ،التي وضعها دقلديانوس ،ووجد أنها توافق نظامه الجديد في
إدارة الدولة ،مثل:
oفصل السلطة المدنية عن السلطة العسكرية.
oتقسيم الواليات الكبيرة إلى وحدات إدارية صغيرة المساحة.
وكان دقلديانوس قد قام بهذا اإلجراء (فصل السلطة المدنية عن السلطة العسكرية)؛ لوقف حالة الفوضى التي سادت
اإلمبراطورية ،ولكي يحد من محاوالت بعض القادة ،أو والة األقاليم ،للقيام بحركات تمرد ،أو محاوالت االنفصال
بأقاليمهم عن الحكم ،ولكي يمنع تطلعات بعضهم للوصول للعرش ،وكان نتيجة ذلك زيادة عدد الوالة بشكل كبير ،وزاد
بالتبعية عدد الموظفين ،الذين يعملون تحت إشراف هؤالء الوالة ،منذ بداية عصر دقلديانوس.
زادت أعداد الموظفين اإلداريين في بداية العصر البيزنطي ،بعد تأسيس القسطنطينية ،وحاجتها لعدد كبير من الموظفين،
والعمال ،ثم تعرض هذا العدد للتغيير على مدار التاريخ البيزنطي ،فعلى سبيل المثال ،انخفضت أعداد الموظفين اإلداريين
بشكل كبير ،مع انفصال الجانب الغربي ،بعد سيطرة العناصر الجرمانية على أغلب األقاليم الغربية ،ثم عاد للزيادة لفترة
قصيرة ،بعد حروب جستنيان في الغرب ،ثم انخفض من جديد مع انفصال األقاليم التى استردها جستنيان مرة أخرى ،ثم
انخفض مع حركة الفتوحات اإلسالمية ،وانفصال بعض األقاليم عن اإلمبراطورية ،حتى انهار الجهاز اإلداري بشكل
كامل مع سقوط القسطنطينية في يد الصليبيين عام 1204م ،ثم حاولت إمبراطوريات المنفى بناء نظام إداري جديد ،مماثل
لما كان قائما بالقسطنطينية ،ولكنه لم يخرج بنفس الشكل المتقن ،نظرا لمحدودية اإلمكانات االقتصادية المتاحة لديهم،
والظروف السياسية التي مروا بها.
وبقرار قسطنطين االستمرار على مبدأ تقليل مساحة الواليات ،وتشكيل حكومته المركزية في العاصمة ،ومد سلطتها
لجميع األقاليم ،أصبح النظام اإلداري البيزنطي يندرج تحت التصنيف البيروقراطي ،متخذا ً الشكل الهرمي ،ويأتي
اإلمبراطور على قمته ،ثم يتسع الهرم اإلداري تدريجيا ،تبعا ً لتدرج الوظائف من حيث األهمية ،والمسئولية التي يتحملها
كبار الموظفين في الدولة ،ثم أصحاب المهام األقل في تسلسل وانسيابية ،تساعد اإلدارة المركزية على السيطرة على
جميع أجزاء اإلمبراطورية ،وصوالً إلى قاعدة الهرم التي تقوم على صغار الموظفين ،في جميع اإلدارات الحكومية ،وقد
بلغ عدد هؤالء الموظفين الذين يتولون المهام الصغيرة ،في اإلمبراطورية البيزنطية ،عشرات اآلالف.
وتميز النظام اإلداري البيزنطي باالتقان ،ودقة التنظيم ،تجعله يستطيع السيطرة على جميع أقاليم اإلمبراطورية الشاسعة،
مترامية األطراف ،وقد وضع هذا النظام لكي يسهل أمور اإلدارة ،على الموظفين ،والمواطنين ،بعيدا عن التعقيد ،وليثبت
الحقوق ،ويعاقب المقصرين في أداء مهام وظائفهم ،ولكنه مع الوقت بدأ يتخخله الفساد ،بسبب زيادة األعباء على
المواطنين ،خاصة عندما أصبحت الوظائف ،في بعض األوقات ،متاحة للبيع.
اإلمبراطور
يأتي اإلمبراطور على رأس الدولة بجميع إداراتها المدنية والعسكرية ،بيده جميع الصالحيات واالمتيازات
ويجمع بيده السلطتين التشريعية والتنفيذية ،ولم يكن المنصب اإلمبراطوري في القوانين البيزنطية ،مشروطا ً على فئة
معينة ،فلم يشترط أن يكون من أهل روما ،أو من سكان القسطنطينية ،أو أن يكون من بين أعضاء مجلس السناتو ،سواء
المدنيين ،أو العسكريين ،فالعرش في األعراف البيزنطية ،ملك هلل ،يهبه من يشاء ،وهذا يعني أن المنصب اإلمبراطوري
متاح للجميع ،سواء من طبقة النبالء ،أو من الفالحين ،وسواء كان من الطبقة المثقفة أصحاب العلم الغزير ،أو من األميين،
غير أنه منذ عهد ثيودوسيوس األول ،أصبح يشترط أن يكون اإلمبراطور مسيحي ،يتبع المذهب األرثوذكسي ،ومن المهم
اإلشارة ،إلى أن القوانين البيزنطية لم تشترط ذكورية المنصب اإلمبراطوري ،ولذلك ،ومن خالل دراسة التاريخ السياسي،
وجدنا سيدات تولين العرش.
ورغم أن المنصب اإلمبراطوري لم يكن مقصورا على فئة معينة ،إال أن هناك شروط يجب توافرها في
اإلمبراطور ،أهم هذه الشروط ،هي صحة البدن ،والعقل ،وذلك لكي يكون اإلمبراطور قادر على متابعة كل شئون الدولة
بنفسه ،ويقوم بجميع واجباته ،وقادرا على الزواج (لتكوين أسرة حاكمة ،وإنجاب أبناء يرثون العرش) ،ولذلك كان
المنصب اإلمبراطوري محظورا على الخصيان ،رغم أن بعضهم وصل لقيادة الجيوش ،إال أنهم منعوا من تولي منصب
اإلمبراطور ،وكذلك فاقدو البصر ،لم يكن يحق لهم المطالبة بمنصب اإلمبراطور ،أو من لديه إعاقة تمنعه من القيام
بمهامه ،ولذلك كان عقاب المتمردين ،والذين يخشى مطالبتهم بالعرش ،أن يتم حرمانهم من البصر بسمل العينين ،أو جدع
األنف (لم تعد عقوبة جدع األنف تطبق بعد عهد اإلمبراطور جستنيان الثاني) ،أو قطع اللسان ،أو اإلخصاء ،فيصبحون
بذلك خارج المنافسة على المنصب اإلمب راطوري ،وكان كل من يخشى من مطالبته بالعرش ،توجه له تهمة التمرد على
اإلمبراطور ،أو تناول المنصب اإلمبراطوري باإلهانة ،فتوقع عليه إحدى هذه العقوبات ،وكثيرا ما أساء ذوو السلطة
استخدام هذه العقوبات؛ لحرمان من له األحقية في وراثة العرش من تولي منصب اإلمبراطور ،كما فعلت اإلمبراطورة
إيرين مع ابنها قسطنطين السادس عام 797م ،وانفردت بحكم اإلمبراطورية ،وكما فعل قنستانز الثاني مع شقيقه ،وكما
فعل ابنه قسطنطين الرابع مع أشقائه ،وغير ذلك من الحوادث ،التي مرت بنا ،خالل دراسة التاريخ السياسي
لإلمبراطورية.
وألن بداية عهد قسطنطين كان مزيجا من اآلداب المسيحية ،والعادات الوثنية؛ فقد عمل قسطنطين على إضفاء
قدر من القداسة على حكمه ،حيث رسخ فكرة أنه مختار من هللا ،لتنفيذ أوامره ،وإعالء راية المسيحية (كيف رسخ
قسطنطين فكرة أنه اإلمبراطور المختار من هللا؟) ،فارتقت سلطة اإلمبراطور على سلطة بطريرك القسطنطينية منذ عهد
قسطنطين ،وأصبحت العالقة بينهما عالقة سلمية ،تقوم على التكامل -كما سبق أن رأينا ،كما أن قسطنطين حرص على
احترام العادات الوثنية التي كانت متأصلة في اإلمبراطورية ،وحمل لقب الحبر األعظم ،كعادة األباطرة الرومان ،وظل
هذا اللقب يحمله األباطرة حتى عهد اإلمبراطور جراتيان ،الذي رفض أن يحمل لقب وثني ،واكتفي بأنه اإلمبراطور
المسيحي ،وتبعه في ذلك ثيودوسيوس األول ،الذي جعل المسيحية الدين الرسمي لإلمبراطورية ،وحرم ذلك اللقب الوثني،
واندثرت الوثنية ونظمها.
وحمل اإلمبراطور البيزنطي ،اللقب الروماني أغسطس ،وكان بعض األباطرة يفضلون حمل لقب الباسيليوس ،وهولقب
يعني ملك الملوك ،ولكنه لم يضاف رسميا ً إلى األلقاب اإلمبراطورية ،ولم يكن اإلمبراطور يستطيع تزييل خطاباته
الرسمية بهذا اللقب ،وبعد زوال دولة الفرس ،التي كان ملكها يحمل لقب الشاهنشاه ،وهو لقب له نفس المعنى ،ملك الملوك،
لم يعد هناك منافس للقب ،أو خلط بين األلقاب ،فتم إضافته لأللقاب الرسمية لإلمبراطور البيزنطي ،حتى نهاية الدولة
البيزنطية.
ومع هذا القدر من القداسة التي تمتع بها األباطرة ،دون أن يكون للكنيسة دور في ذلك ،كان دور البطريرك
ينحصر في مباركة اإلمبراطور عند تتويجه ،والصالة من أجل نصرته ،ولم يكن للبطريرك سلطة على اإلمبراطور ،وال
يحق له مناقشة قراراته ،ولم يقم كذلك بأي دور في تتويج اإلمبراطور ،سوى مباركة اإلمبراطور بعد تمام التتويج ،حتى
القرن الخامس؛ فأصبح البطريرك هو الذي يقوم بنفسه بوضع التاج على رأس اإلمبراطور ،وظلت خطوة تتويج البطريرك
لإلمبراطور قائمة ،حتى استولى الصليبيون على القسطنطينية عام 1204م ،فتم اتباع خطوات التتويج نفسها مع أباطرة
إمبراطوريات المنفى الثالث ،ثم أضيف تقليد جديد منذ ذلك الوقت ،حيث دخلت بعض المؤثرات الغربية على الحضارة
البيزنطية ،فأصبح التقليد المتبع منذ ذلك الحين أن يقوم البطريرك بعد تتويجه اإلمبراطور ،ومباركته ،بمسحه بالزيت،
في طقس احتفالي كبير ،كما كان التقليد المتبع في الغرب األوروبي ،وأصبح ذلك اإلجراء ،بعد عودة القسطنطينية
لإلمبراطورية البيزنطية عام 1261م ،شرطا من شروط التتويج حتى نهاية اإلمبراطورية.
غير أن هذه القدسية التي تمتع بها األباطرة منذ البداية؛ ألزمت الجميع ببعض الواجبات:
فبالنسبة لإلمبراطور
عليه أن يسير على خطى السيد المسيح عليه السالم ،وألن هذا األمر كان مستحيال ،مع الظروف التي تمر بها
اإلمبراطورية ،واألخطار الخارجية التي تهددها ،والفتن الداخلية بسبب تعدد المذاهب ،كما أن اإلمبراطور مجرد بشر
معرض للخطأ ،لذلك أصبح عليه واجب ،أن يبذل قصارى جهده من أجل الصالح العام للشعب ،حتى يحظى برضى
اإلله ،وصلوات رجال الدين من أجله.
من المفروض أن يكون ملما بالمهارات العسكرية والحربية ،حتى يستطيع الدفاع عن اإلمبراطورية وخوض
الحروب ،إال أن المهارات الحربية ،لم تكن شرطا أساسيا ً في توليه العرش ،فمن الممكن أال يكون اإلمبراطور قائدا
حربيا ،وال خبرة له في خوض المعارك والحروب ،وفي هذه الحال يقوم كبار القادة العسكريين بمهام حماية
اإلمبراطورية ،والحفاظ على الحدود وخوض المعارك ،وعليه متابعة تلك األمور بنفسه ،حتى وإن لم يكن ملما باألمور
العسكرية.
على اإلمبراطور ،سواء كان قائدا عسكريا أو ينتمي لألرستقراطية المدنية ،أن يكون متابعا بنفسه لجميع الشئون
اإلدارية (المدنية والعسكرية) ومطلعا على اختصاصات جميع اإلدارات ،حتى ال تنسحب االختصاصات من بين يديه،
فيفقد سيطرته على أمور الدولة ،ولذلك عليه أن يجتهد في اإللمام بجميع األمور اإلدارية لإلمبراطورية.
وعلي اإلمبراطور كذلك أن يتكفل بإقامة العدل ،وحماية جميع رعاياه ،ويعمل على نيل محبتهم ،وعليه كذلك أن
يتجنب الطغيان في حكمه ،وقراراته ،وأال يكون متعسفا في أحكامه ،وإال عرض نفسه للغضب اإللهي ،الذي يحل على
اإلمبراطورية كلها ،في صورة كوارث طبيعية ،أو حروب ،وهزائم تحل بالجيوش ،فيحرم اإلمبراطور في هذه الحال
من مباركة البطريرك ،وجميع رجال الدين.
بالنسبة لعامة أفراد الشعب البيزنطي
يعتبر المنصب االمبراطوري منصب مقدس ،وعلى الجميع احترامه ،وتبجيله ،واقامة الصلوات من أجل نصرة
االمبراطور ،وال يحق ألي شخص مجرد االعتراض على شخص اإلمبراطور ،أو مناقشة ،أو نقد قراراته ،وعلى
الجميع أن يؤمن بأن هناك مسافة ال يحق لهم اجتيازها ،بينهم وبين االمبراطور ،فالحديث إليه يجب أن يكون تبع
أصول وقواعد تظهر احترام المتحدث لشخص االمبراطور.
كل تجاوز في حق االمبراطور ،أو هجوم على شخصه ،أو قراراته ،يعرض صاحبه للعقوبة المشددة ،والتي غالبا ما
كانت سمل العينين.
وبالنسبة ألعضاء مجلس السناتو
لم يقرر قسطنطين إ لغاء مجلس السناتو ،فظل حكم اإلمبراطورية ،حكم ثنائي شكأل ،ولكنه في الحقيقة تحول لحكم
أوتوقراطي ،منذ أصبحت القسطنطينية عاصمة ،ومقر اإلقامة الدائمة لإلمبراطور ،فكان قسطنطين قد قرر منذ البداية،
تهميش مجلس السناتو ،وتحديد مهامه ،وسحب سلطة أعضائه بالتدريج ،وبدالً من القضاء على كبار الشخصيات ،أو
التخلص من المنافسين ،حاول جذبهم لإلقامة بالعاصمة الجديدة ،ومنحهم كثير من االمتيازات ،مع تخفيف األعباء ،التي
كانوا يقومون بها قبل اعتالئه العرش.
(يمكن مراجعة المحاضرة الثانية لمعرفة كيف استطاع قسطنطين جذب أعضاء السناتو للعاصمة الجديدة)
لم يقم قسطنطين بنقل مجلس السناتو من روما للقسطنطينية ،فكما عرفنا ،كان يريد الحد من نفوذهم ،لذلك بنى لهم مقر
جديد في العاصمة الجديدة ،ورحب بمن قبل منهم االنتقال للقسطنطينية ،وأضاف لهم أعضاء جدد من سكان الشرق ،وقد
زاد خلفاء قسطنطين من امتيازات أعضاء السناتو الجديد الذي تكون في القسطنطينية ،ومنحوهم لقب النبالء (وهو لقب
أقل من لقب األشراف الذي عرف به أعضاء السناتو في روما) ،ودعوهم لعقد االجتماعات لمناقشة أمور اإلمبراطورية،
وذلك حتى يتخلصوا من منافسة أعضاء مجلس السناتو الروماني ،الذين رفضوا مغادرة روما ،وظلوا متمسكين بالتقاليد
الرومانية القديمة ،وبحقهم في تسيير أمور البالد إلى جانب اإلمبراطور ،والذين عبروا عن رفضهم للقرارات التي تتخذ
من قبل المجلس الجديد ،الذي يتم عقده بعيدا ً عن روما ،ورفضوا مساواته بمجلس سناتو روما ،وتوقعوا فشل المجلس
الجديد ،وشبهوه بالشجرة التي زرعت في غير موطنها ،فال تكاد تنمو ،حتى تذبل وتموت.
بعد وفاة قسطنطين ،اعتقد أعضاء السناتو في روما ،أن بإمكانهم عودة السلطة لمجلسهم من جديد ،ولذلك نجد
قسطنطيوس يتخذ إجراءات قوية ،فقام في عام 357م ،بزيارة مفاجأة لروما ،ودعا مجلس روما لالنعقاد ،ورصد جميع
الذين تغيبوا عن الحضور ،واستدعاهم لالستفسار عن تغيبهم ،وفشلوا جميعا ً في تبرير تغيبهم عن المجلس ،وخشى
قسطنطيوس إن طبق عليهم عقاب تغيبهم عن المجلس دون مبرر ،أن ينقلبوا عليه ،لذلك ،اتخذ قرار بعدم ضرورة وجود
العضو في االجتماع ،ولكن عليه إبداء الرأي فيما ناقشه المجلس من موضوعات ،في نفس الوقت ،اتخذ قسطنطيوس
قرار ،بأن من حق اإلمبراطور ندب أحد أعضاء السناتو من روما ،للعمل بالقسطنطينية ،أو العكس ،بهدف تبادل الخبرة
والمشورة ،وأن ليس من حق العضو الرفض ،أو االعتراض ،وربما كان قسطنطيوس يقصد من ذلك ،أن يمنح أعضاء
السناتو الرومان ،فرصة لمشاهدة القسطنطينية ،وعقد المقارنة بينها ،وبين روما القديمة ،وبالفعل زاد اإلقبال على االلتحاق
بسناتو القسطنطينية بعد قرارات قسطنطيوس.
وبعدما زاد ضغط العناصر الجرمانية على روما ،قرر عدد كبير من أعضاء السناتو مغادرة روما ،واإلقامة بالقسطنطينية،
يبدو ألنها كانت أكثر أمانا ً من الجانب الغربي ،فيذكر المؤرخون أن عهد فالنز ،وفالنتيان ،كان عدد األعضاء الموجودين
في روما قد قل بشكل كبير.
وناقشت قوانين ثيودوسيوس مهام وحقوق أعضاء السناتو ،فأكدت على أن المشاركة بالحضور المباشر في المجلس،
ليست شرطا ً الستمرار العضوية ،ولكن على العضو أن يقوم بجميع مهامه التي يكلفه بها اإلمبراطور ،مادام يحمل اللقب
السيناتوري (الشريف) ،فإذا لم يقم بواجبه ،يسحب منه اللقب ،ك ما اهتمت قوانين ثيودوسيوس بالحي السكني ألعضاء
السناتو ،ونصت على أن هذا الحي يجب أن يكون مميزاً ،وتتوفر به كامل الخدمات ،ألن جميع سكانه من األشراف.
غير أن مجلس السناتو الجديد الذي نشأ في القسطنطينية كان يضم عدداً كبيرا ً من رجال الجيش بين أعضائه،
ولم يكن سوى مجلس استشاري ،ال يتخذ قرارات ،وكانت العقوبات المشددة ،مثل عقوبة سمل العين كفيلة بتحديد سلطة
أعضاء المجلس ،فانحصرت مهامهم في حضور االجتماعات ،والتصديق على قرارات اإلمبراطور ،ونادرا ما اعترض
أحدهم على شخص اإلمبراطور ،أو خال أوامره؛ حتى ال يتعرض للعقوبة المشددة ،حتى عندما بدأ األعضاء القدامى من
مجلس روما االنتقال للقسطنطينية ،ظل الحال كما هو ،فقد نجحت خطة قسطنطين األول في تهميش مجلس السناتو،
وأصبح ،في نهاية األمر ،مجرد مجلس شكلي ال رأي له ،إال في حاالت نادرة ظهرت فيها همتهم ،وحسن إدارتهم لألمور،
وفي ظروف تعرض اإلمبراطورية لمخاطر كبيرة ،أو تخلي اإلمبراطور عن مهام وظيفته ،مثلما حدث أثناء ثورة نيقا،
حيث قرر اإلمبراطور جستنيان الفرار ،فتصدت له اإلمبراطورة ثيودورا ،وساعدها بعض القادة ورجال السناتو؛ لحمل
اإلمبراطور على التراجع ،وإنقاذ اإلمبراطورية ،وكذلك ،عند التخلص من مارتينا وابنها هرقليون ،قام مجلس السناتو
بإدارة اإلمبراطورية ،من خالل الوصاية على اإلمبراطور الصغير قنستانز الثاني ،فرغم تهميش دور مجلس السناتو ،إال
أن بعض األعضاء كان لهم دور في إنقاذ اإلمبراطورية ،في مثل تلك المواقف الحرجة.
وريث العرش
كان مبدأ وراثة العرش في اإلمبراطورية البيزنطية ،مالزما لنقل العاصمة إلى الشرق في عهد قسطنطين األول،
الذي عمل على إ عداد أكبر أبنائه لتولي منصب اإلمبراطور من بعده ،وكان ذلك قبل االنتقال إلى القسطنطينية ،ويبدو أن
زوجته الثانية كانت تعلم نية قسطنطين بتوريث العرش ،ويبدو أنها رغبت بأن تكون وراثة العرش في أحد أبنائها الثالث،
فأوشت إلى قسطنطين بأفكار مغلوطة ،عن ابنه األكبر ،فقتله.
غير أن اإلمبراطورة هيلينا والدة قسطنطين كانت على علم بما تدبر له الزوجة ،واطلعت قسطنطين على ما
تعلمه بشأنها ،فقتلها جز اء لها على الوشاية بابنه األكبر ،ويبدو أن ذلك كان وراء قرار قسطنطين بتقسيم اإلمبراطورية
بين أبنائه الثالث ،تعويضا لهم عما فعله بأمهم ،وحتى ال يدبر أحدهم للتخلص من شقيقه الذي يرث العرش ،واستمر
توريث األبناء بعد عهد قسطنطين حتى نهاية اإلمبراطورية.
وغالبا م ا يتوج االبن األكبر وريثا للعرش ،ووليا للعهد في حياة والده ،ويحمل لقب قيصر ،ويضع فوق رأسه
تاجا من الذهب ،غير أن الصليب ال يوضع على تاج ولي العهد ،وال يحق له وضع الصليب على رأسه ،إال بعد التتويج
إمبراطور ،فإذا لم يكن لإلمبراطور نسل ،فله أن يختار وريثا للعرش من أهله ،أو من يراه مناسبا لذلك ،مثلما توج جستنيان
وليا لعهد جستين ،وأحيانا يكون االبن األكبر مصابا بعيب ال يسمح له بتولي الحكم ،أو يكون مصاب بمرض ال يرجى
شفاءه ،فيتم تتويج شقيقه األصغر ،أو يتم تتويج أكثر من ابن ،حتى إذا تعرض أحدهم لمرض يمنه من تولى العرش ،أو
مات ،ينتقل العرش لإلبن المتوج الثاني ،دون أن ينازعه أحدا ،مثلما توج هرقل ابنه هرقليون مع ابنه قسطنطين ،الذي
كان معتل الصحة ،ولم يمنع القانون البيزنطي تتويج البنات ،فقد توج اإلمبراطور ثيوفيلوس بناته ،حتى تستطيع إحداهن
منح العرش لزوجها ،بعد وفاة اإلمبراطور ،غير أنه رزق بابنه ميخائيل الثالث ،فقام بتتويجه على الفور ،وتوج قسطنطين
الثامن بناته زوي وثيودورا.
وبمجرد تحديد ولي العرش ،عليه أن يبدأ دروسه الخاصة في كيفية إدارة شئون البالد ،على يد عدد من األساتذة
الذين يتم اختيارهم بعناية ،وتحت إشراف اإلمبراطور نفسه ،وعليه كذلك التقدم في تدريبات الفروسية ،حتى يكون جديرا
بتولي الدفاع عن اإلمبراطورية ،وقيادة الجيوش ،حال وصوله لمنصب اإلمبراطور ،ومع ذلك مر بنا أباطرة فضلوا
الثقافة والعلم ،على دراسة فنون الحرب ،أو إدارة الجيوش ،ولكن هذا لم يكن حائالً بينهم ،وبين تولي منصب اإلمبراطور،
مثل ثيودوسيوس الثاني ،أو قسطنطين الثامن ،وغير هؤالء من األباطرة.
البالط االمبراطوري
أقام اإلمبراطور البيزنطي طوال الوقت في القصر اإلمبراطوري الرئيسي أو الكبير ،وقريبا منه ،يقيم كبار رجال
اإلمبراطورية الذين يمكن أن يحتاج اإلمبراطور وجودهم في أي وقت ،مثل قائد القوات العسكرية ،وبالقرب من القصر
الكبير معسكرات الجيش اإلمبراطوري ،أما معسكرات التدريب فتقع على مسافة قريبة من القصر اإلمبراطوري ،حتى
يتمكن اإلمبراطور من متابعتها دون عناء.
في القصر اإلمبراطوري يقيم جميع أفراد العائلة اإلمبراطورية ،وجميع الرجال الذين يعملون في خدمة اإلمبراطور،
وهناك نوعان من هؤالء الرجال الذين يخدمون اإلمبراطور ،وأسرته ،النوع األول ،هم الخصيان ،وهؤالء أعدادهم تفوق
النوع الثاني ،وهم المسموح لهم بالدخول إلى حجرة اإلمبراطور ،وولي العهد ،وسيدات القصر ،ومن بينهم يختار رئيس
ا لحجاب ،وهو شخصية تتمتع بسلطات واسعة في القصر ،وتزايدت أعداهم بشكل كبير داخل القسطنطينية ،وبلغت سلطتهم
مبلغا كبيرا ،حتى أصبحوا يشكلون خطرا على النظام اإلداري لإلمبراطوري ،فقد كان اإلخصاء فرصة للحصول على
وظائف مهمة في اإلمبراطورية ،ولم يكن األباطرة يخشون زيادة نفوذهم ،فهم ال يمكن أن يتطلعوا للوصول للعرش،
فقوانين اإلمبراطورية تمنع ذلك ،وقد مر بنا من أشهرهم يوحنا طواشي القصر في عهد أزواج اإلمبراطورة زوى ،ورأى
كيف بلغت سلطته نطاقا واسعا ،حتى تخلص منه ابن شقيقته اإلمبراطور ميخائيل الخامس ،وكان األباطرة كذلك يأمنون
على تعليمهم بناتهم على يد الخصيان ،ومن أشهرهم معلم آنا كومنينا ابنة اإلمبراطور ألكسيوس األول كومنين ،وتشهد
له بسعة علمه ،وأدبه ،والنوع الثاني هم الملقبون بذوي اللحى ،وهذا تمييزا لهم عن الخصيان ،ويمنع هؤالء من الدخول
على الحجرات الخاصة باإلمبراطور ،أو أي من أفراد أسرته ،كما أن مقابالتهم مع اإلمبراطور ،لمناقشة أمور الدولة،
تكون بناء على موعد محدد ،أو بعد اإلذن لهم بالمقابلة ،والذي يتولى تدبير تلك المقابالت بينهم وبين األباطرة ،أو أي من
أفراد األسرة الحاكمة ،هو رئيس الحجاب ،الذي يكون عادة واحد من الخصيان.
و بالقرب من القصر اإلمبراطوري الكبير ،تقع جميع مكاتب الخدمات اإلدارية المركزية ،ومكتب إدارة الشرق ،التابع
لوالي الشرق ،ويترأس جميع اإلدارات المحلية ،الواقعة تحت قيادة والي الشرق.
تدعو صاحب أكبر المناصب إلى الجلوس على المائدة ،بجوار اإلمبراطور ،ويليه األقل فاألقل ،فيجلس ولي العهد بجوار
ال ،مبراطور ويحيط به اثنان من المستشارين ،ووالي القسطنطينية ،وكبير اإلداريين ،ورئيس الخزانة ،وكبير حجاب
القصر اإلمبراطوري ،ثم حكام األقاليم فالوزراء حسب األهمية ،وكبار رجال القضاء ،وكبار قادة الشرطة ،ومسئول
العالقات الخارجية ،ومسئول استقبال الوفود الدبلوماسية ،والسفراء األجانب ،ورئيس ديوان البريد والمراسالت.
وكان كل شخص من هؤالء يعمل تحت سلطته آالف الموظفين ،موزعين على جميع أنحاء اإلمبراطوية ،ومنح هؤالء
الخاصة مرتبات ضخمة ،وعطايا كان اإلمبراطور يقوم بنفسه بتوزيعها عليهم ،وحملوا ألقابا تشريفية ،تميز كل منهم
حسب مكانته ،غير أن هذه المناصب تعرضت في بعض األوقات للشراء ،مقابل مبالغ مالية ضخمة كانت توضع في
خزانة اإلمبراطورية أثناء األزمات ،التي كانت تمر بها الدولة ،نتيجة خوض الحروب ،ولذلك فكثير من هذه الوظائف
فقدت قيمتها مع الوقت ،وفقد أصحابها أهميتهم ،ومصداقيتهم في المجتمع البيزنطي.
ولم تستمر هذه الوظائف طوال الوقت ،فكانت المسميات تتغير من وقت آلخر ،خاصة حين يظهر التضارب في
االختصاصات ،فتتمسك كل إدارة باختصاصها ،خاصة فيما يتعلق باإلدارة المالية ،وإدارة الخزانة العامة ،فكثيرا ما حدثت
المشاحنات بين رؤساء تلك اإلدارات ،والتنافس بينهم ،وكذلك التداخل بين اختصاصات السلطات التنفيذية ،والتشريعية
على مهام كل منهم ،فكان كل إمبراطور يغير الوظائف ،ويحدد المسميات حسب رؤيته ،أو يقوم بدمج وظيفتين متشابهتين
في وظيفة واحدة ،وخاصة فيما يتعلق باألمور المالية ،فكثيرا ما حدث الخلط بين مهام المسئول المالي الخاص باإلمبراطور
وأسرته ،وبين مهام المسئول عن المال العام لإلمبراطورية ،وهذا يختلف عن المسئول المدني عن الهبات المقدسة.
والجدير بالذكر أن عددا ً من هذه الوظائف الكبرى في اإلمبراطورية كان يتوالها أصحابها كمناصب شرفية ،نظير ما
قدموه لإلمبراطورية من خدمات طوال سنوات خدمتهم ،فكانت بمثابة مكافأة لهم عما قاموا به لصالح اإلمبراطورية ،ومن
المهم ذكره كذلك ،أن بعض هذه الوظائف الشرفية ال يتقاضى أصحابها أجور نظير القيام بها ،ولكنها في حد ذاتها تكريم
لصاحب الوظيفة.
ولم يكن أفراد األسرة اإلمبراطورية يتقلدون هذه الوظائف ،وال يمنحون ألقاب أصحابها ،فهم أعلى شأن من ذلك ،ولهم
ألقاب خاصة بهم ،واستمر هذا األمر حتى وصول أسرة كومنين للعرش ،فسمح ألفراد األسرة الحاكمة تقلد تلك المناصب
الحكومية ،وأصبح لهم األولوية في توليها ،يليهم في ذلك أتباع اإلمبراطور ،ومعارفه ،واألصدقاء المقربين من األسرة
الحاكمة ،واستمر هذا النظام معموال به حتى نهاية الدولة البيزنطية.