Professional Documents
Culture Documents
بحث التخرج 2022
بحث التخرج 2022
1
كلمة شكر:
يف احلديث " :من مل يشكر الناس مل يشكر هللا"..
لو االمتثال لها لما استقام بحثنا ولما أمكن لنا إتمامه على هذا النسق البتة،
إهـــــــــــــــــــــــــــــــداء:
2
مقــــــــــــــــــــــــدمة:
ليست تخفى أهمية السلطة التقديرية في تحقيق العدالة المنشودة ببلدنا العزيز ،إذ ال وجود لهذه
األخيرة دون حضور األولى ،فالقاضي باعتباره الساهر على إصدار األحكام والحارس على
تنفيذها ،في حاجة دائمة ملموسة لهذه السلطة حتى يتسنى له استخالص وقائع النوازل وتكييفها
ثم تنزيل القاعدة القانونية عليها ،فهي إذن لحمة وسدى القضاء ،إذ ال يستقيم عمل القاضي
دونها ،من هذا المنطلق نلحظ أن المادة العقارية مادة معقدة متشابكة قد تو َجت وال تزال
بصدارة المحاكم من حيث َكم المنازعات والقضايا الرائجة ،من ثم حري بنا أن نكشف عن
بس،
سلطة القاضي العقاري ونرصد المشكالت التي تتسم بها ،لما يعتري هذا الموضوع من ل ٍ
ضف إلى ذلك أن القضية لم تبحث جيدا بما يشفي الغليل ويذهب حير القلوب ،حسب اطالعنا
المتواضع .على أن المقنن المغربي قد أخذ بالمذهب المختلط في اإلثبات في المادة المدنية ،إال
أن سلطة القاضي العقاري مقيدة جدا ،وهو إشكال كبير نقف عليه طويال ،ولتسهيل فهمه
وتيسير استيعابه نسبره إلى سؤالين:
3
متبعين في دراستنا منهجا فريدا هو المنهج المقارن ،حيث إن قضية التماس الفروق وكشفها
ورصد ما يختلف فيه المقارنين "الفقه اإلسالمي" و"الفكرالقانوني" وأسباب ودوافع
االختالف فرض علينا ذلك.
يعالج هذا الفصل تكييف السلطة التقديرية للقاضي من الناحيتين الفقهية والتشريعية ،حيث من
الناحية الفقهية نتعرض لمشكل تكييف قضاء القاضي أاجتهاد رأي أو تنزيل أم محض تقليد،
ومن الناحية القانونية ننظر مذاهب اإلثبات واختيار المقنن المغربي ،وكذا رقابة محكمة النقض
على سلطة القاضي وما تعلق بذلك من مشكالتٍ ،وقد اهتدينا إلى تقسيم الفصل إلى مبحثين:
يــود هذا المبحث أن يبين التكييف الفقهي للقضية من خالل الحديث عن حكم قضاء القاضي
بعلمه ،وموقعه من طرق اإلثبات ،وهل هذا األخير حصره الفقهاء أم ال؟ مع العروج على
المشكل المتعلق بقضاء القاضي أهو اجتهاد أم تنزيل أو مجرد تقليد؟
من أجل ذلك ننظر أوال آراء الفقهاء في مسألة قضاء القاضي بعلمه ,ثم نخلص بموقفنا من
المسألة.
4
المطلب األول :رأي الفقهاء في قضاء القاضي بعلمه ومركزه من طرق اإلثبات:
لقد اختلف الفقهاء في قضاء القاضي بعلمه ،فذهب األحناف 1إلى جواز القضاء بالعلم بشروط
نجملها؛
3ـ أن يكون القضاء بالعلم مختصا بحقوق اآلدميين( من ضمان ورهن وطالق ،الخ) ،ال بحقوق
هللا ،وهو رأي المتقدمين من األحناف.
ومذهب المالكية 3المنع مطلقا ،سواء اكتسب القاضي العلم قبل توليته منصب القضاء أو بعده،
قاض فيه أو غيره ،في مجلس حكمه أو غيره ،في حقوق اآلدميين أو
ٍ في المصر الذي هو
حقوق هللا سواء ،وهو أشد المذاهب في المسألة هذه ،إذ مذهب مالك أن القاضي ال يقضي إال
ببينة أو إقرار ،4من ثم خرج به علم القاضي ,إال أنه قد ورد عن بعض أصحاب مالك جواز
القضاء بالعلم في مجلس الحكم ,ولو لم يشهد عنده المحكوم عليه بذلك ,ولكن الراجح والصحيح
هو المنع لما تقدم بيانه.
1ــ حاشية ابن عابدين جزء 4ص ،333والمبسوط للسرخسي جزء 11ص .103
2ــ ،م.س ( ،)333-343/4وعزاء إلى األشباه والنظائر البن نجيم وجامع الفصولين ،كما عزاه إلى الحصفكي في الدر
(هامش )333/4لشرح الوهبانية للشرنباللي.
3ــ الشرح الصغير ( ،)230/4والفروق للقرافي ( ،)44/4و حلى المعاصم للتاودي (.)41/1
4ــ بداية المجتهد ونهاية المقتصد ،أبو الوليد ابن رشد ،جزء ،1كتاب األقضية ص .32
5
وقد ورد عن الشافعي 1قوالن:
األول؛ للقاضي أن يقضي بكل ما علمه قبل الوالية وبعدها ،في مجلس القضاء أو غيره ،في
حقوق اآلدميين.
وقد رجح الغزالي القول الثاني ،2ولكن المتأخرون من الشافعية أخذوا بالقول األول وجوزوه
بشرطين 3تحت طائلة عدم نفوذ حكم القاضي:
والحاصل أن المذاهب الفقهاء اختلفوا في قضاء القاضي بعلمه ,إلى ثالثة أقوال:
القول األول؛ المنع كليا سواء في حقوق هللا أو حقوق األفراد ,قبل والية القاضي أم بعدها ,وهو
مذهب المالكية وقول متأخري الحنفية ,والمشهور في مذهب الحنابلة ,وإحدى روايات مذهب
الشافعية.
القول الثاني؛ ال يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه في حقوق هللا خاصة ,فيما يجوز له ذلك في
حقوق اآلدميين ,وينسب هذا القول إلى بعض الشافعية.
6
القول الثالث؛ ذهب بعضهم إلى منع القاضي من الحكم بعلمه في الحدود وجواز ذلك فيما
عداها ,وهو ما ذهب إليه الصاحبان من الحنفية.
القول الرابع؛ جواز قضاء القاضي بعلمه مطلقا ,في حقوق األفراد او في حقوق هللا ,أو في
الحقوق المشتركة بينهم ,إذ ذلك سواء ,وهو مذهب ابن حزم ,والمشهور في مذهب الشافعية,
وإحدى روايات مذهب أحمد ,وقول سحنون وأصبغ وابن الماجشون من المالكية.
وذهب عمر بن عبد العزيز في قول آخر إلى عدم جواز قضاء القاضي بعلمه في الزنا ,وجواز
ذلك فيما عداها.
وأما عمدة 1من أجازوه :فهو حديث أم المؤمنين عائشة رضوان هللا عليها في قصة هند بنت
عتبة ابن ربيعة مع زوجها أبي سفيان بن حرب حين قال لها -ملسو هيلع هللا ىلص وقد شكت أبا سفيان": -
خذي َما َيكفيك َو َولَ َدك بال َمعروف" ,2فحكم لها النبي ملسو هيلع هللا ىلص أن يسمع قول خصمها ،مما دل أنه
ملسو هيلع هللا ىلص حكم بعلمه.
حثت على إقامة العدل كل حسب قدرته وطاقته ,من ثم فليس معقوال أن يعلم القاضي حقا
فيسكت عنه.
7
﴿ وقوله تعالى أيضا:
﴿ وقوله هلالج لج:
.2﴾
فهاتان اآلياتان فرضتا على الحاكم إقامة الحد على الجاني إذا علم عليه أنه سرق أو زنى.
ومن السنة قوله ملسو هيلع هللا ىلص" :من رأى منكم المنكر فليغيره بيده ,فإن لم يستطع فبلسانه ,فإن لم يستطع
بقلبه وذلك أضعف اإليمان".3
فهذا الشريف صريح في حث كل مسلم مكلف في تغيير المنكر حين رأيته ,وأولى أحرى بذلك
القاضي نظرا لمنصبه وواليته ,وإنما يقوم بذلك بناء على علمه.
كما استدل ابن حزم 4بقوله ملسو هيلع هللا ىلص ":بينتك أو يمينه " ,أنه ال بينة أبين من صحة علم القاضي
بصحة حقه.
وبالمعقول فإن بينة الخصم المدعى عليه مبنية على الظن ,وعلم الحاكم(القاضي) مبني على
اليقين ,فيقدم اليقين على الشك ,من ثم ح َّق للقاضي أن يحكم بعلمه.
8
وأما عمدة الذين منعوا قضاء القاضي بعلمه ,فهو الحديث الذي روته أم سلمة زوج رسول هللا
ملسو هيلع هللا ىلص ":إنما أنا بشر مثلكم -وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن حجة من بعض ,فأقضي له
بنحو ما أسمع ,فمن قضيت له بحق أخيه ,فإنما أقطع له قطعة من النار فليأخدها أو ليدعها",1
وهو حديث صريح دال على أن النبي ملسو هيلع هللا ىلص ال يقضي بعلمه ,إنما يقضي بناء على حجج
األطراف ,من ثم حذر ملسو هيلع هللا ىلص من أكل حقوق الناس وأموالهم بالباطل استنادا إلى شهادة الزور أو
التدليس في عرض الحجج.
واستدلوا أيضا بما رواه البيهقي عن أبي هريرة رضي هللا عنه قال :قال رسول هللا ملسو هيلع هللا ىلص ":رأى
عيسى ابن مريم رجال يسرق ,فقال له عيسى ابن مريم :سرقت ,قال :ال والذي ال إله إال هو,
2
قال عيسى :آمنت باهلل وكذبت عيني".
فالحديث دال على أن عيسى عليه السالم لم يحكم بعلمه على السارق فصدق يمينه مع أنه رأه
يسرق جهارا نهارا.
ما روي أيضا عنه ملسو هيلع هللا ىلص في قصة المالعنة ,وهي قصة هالل بن أمية حينما رمى زوجته بالزنا
مع شريك بن سمحاء ,فقال رسول هللا ملسو هيلع هللا ىلص أنظروها فإن جاءت به كذا فهو لهالل بن أمية ,وإن
جاءت به كذا فهو لشريك بن سمحاء ,فجاءت به علال الوصف المكروه ,فقال صلى هللا عليه
وسلم ":لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمت هذه".3
فدل ذلك على أن رسول هللا ملسو هيلع هللا ىلص ال يحكم وال يقضي بعلمه ,فقد علم ملسو هيلع هللا ىلص بزناها ألن ابنها جاء
مشابها لشريك بن سمحاء ,إال أنه ملسو هيلع هللا ىلص غض الطرف عنها النعدام البينة.
ومن األثر ما روي من طريق الضحاك ,أن عمر ابن الخطاب رضي هللا عنه ,اختصم إليه فيما
4
يعرفه ,فقال للطالب :إن شئت شهدت ولم أقض ,وإن شئت قضيت ولم أشهد.
9
فأمير المؤمنين كان على علم تام بأحقية المدعي بحقه ,إال أنه رضي هللا عنه امتنع أن يقضي
بعلمه لذا رفض أن يكون قاضيا وشاهدا في نفس الوقت ,فخير المدعي بين األمرين ,وفي
جميع األحوال يلزم المدعي اإليتاء بالبينة ليقتص حقه.
زعمهم أن قضاء القاضي بعلمه قضاء بدون بينة وال يمين ,من ثم فهو قضاء غير صحيح ألن
الشارع قدر أناط الحكم بأحدهما (واستدلوا بآيات من سورة النور المنصوصة على إلزامية
الشهود في حد الزنا وحد القذف) ,كذلك إن القاضي يصير كبش فداء لالتهام بين الناس ,وقد
يغريه الشيطان فيحكم بالتشهي والهواء ,ومنع القضاء بالعلم جملة هو الحل سدا للذريعة.
و أما الطائفة التي منعت قضاء القاضي بعلمه في الحدود وجواز ذلك فيما عداها؛
فقد استدلوا بقوله ملسو هيلع هللا ىلص في قصة المالعنة زوج هالل بن أمية ":لو كنت راجما أحدا بغير بينة
لرجمت هذه".1
والحديث صريح في أن النبي ملسو هيلع هللا ىلص لم يقضي بعلمه في حد المالعنة رغم علمه بفعلتها إضافة إلى
اجتماع القرائن على ذلك ,والحديث رغم أنه اشتمل فقط على حد الزنا أصالة ,إال أنه اشتمل
على بقية الحدود تبعا ,فحد الزنا يعد من أخلص حدود هللا ,والستر فيه أولى وأندب.
كما استدلوا بقوله ملسو هيلع هللا ىلص فيما أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي هللا عنه أن رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم قال":إدرؤا الحدود بالشبهات" وفي رواية ":إدفعوا الحدود ما وجدتم مدفعا".2
لما كانت الحدود تسقَط بمجرد الشبهة وبمجرد رجوع المتهم عن إقراره ,آنئذ ال يكفي علم
القاضي للبت فيها-الحدود ,-ألنه سيصير مظنة للتهمة.
واستدلوا بالمعقول؛ على أن الحدود تدرأ بالشبهات ,كما تسقط برجوع المقر ,من ثم يقدم رجوع
المقر على شهادة الشهود ,كما يقدم على علم القاضي ,فإن رأى القاضي بأم عينه أن فالنا
1سبق تخريجه
2سنن ابن ماجة ,كتاب الحدود ,باب الستر على المؤمن ودفع الحدود بالشبهات ,جزء 2ص.530
10
يشرب الخمر فحكم عليه القاضي بالحد طبقا لعلمه ,فأنكر الظنين ,فإنه يقدم إنكاره على علم
القاضي ,من ثم ال مجال لقضاء القاضي بعلمه في الحدود درءا للشبهة وصونا لهيبة ومكانة
القاضي من لغط وغلط ولغو الناس.
وقد أجمع الفقهاء بال مخالف على جواز استناد القاضي لعلمه الشخصي في التعديل و التجريح,
وهو منطوق ما جاء في البيت رقم 54من المية الزقاق:
شهادة معروف لمعروف إن جرت && على مثله والشيء معروف اقبال
قال اإلمام أحمد بن دمحم الرهوني التطواني 1في شرحه على المية الزقاق المسمى بــــ" حادي
الرفاق إلى فهم المية الزقاق" -قال :يعني ,اقبل أيها القاضي شهادة شاهد معروف عندك,
لشخص معروف كذلك ,إذا جرت على شخص معروف أيضا ,وكان الشيء المشهود به
معروفا ,واحكم بها؛ وإال بأن انتفت معرفة واحد من األربعة فال تقبل تلك الشهادة ,وال تحكم
بها ,كما ال تحكم بها عند ثبوت الجرح لديك في الشاهد بأحد المجرحات وإن عدله عدالن؛ ألن
2
القاضي يستند لعلمه في التعديل والتجريح اتفاقا.
وهكذا بعد سردنا للمذاهب الفقهية في مسألة قضاء القاضي بعلمه ,وخَلصنا إلى أنهم اختلفوا في
ذلك؛ فمنهم من أجازه بإطالق ,ومنهم من منعه بإطالق ,ومنهم من منعه في الحدود وأجازه
فيما عداها ,وأخيرا إن منهم من أجازه في حقوق األفراد دون حقوق هللا.
وقد أشرنا إلى عمدة كل مذهب إضافة إلى األدلة األخرى التي استندوا عليها من الكتاب والسنة
واألثر والمعقول.
البد أن نشير أننا اعتمدنا اإليجاز واالختصار في سرد األدلة ,وتَ َحرينا منها األدلة المشهورة,
وإال لن يسعنا المجال ولن يسعفنا الموضوع في ذللك.
1ــ هو أحمد بن محد بن الحسن الرهوني التطواني عالم فاضل مؤرخ وأديب مغربي ،ولد بتطوان سنة 1255ه ( 1501م)
وفيها توفي سنة 1303ه ( 1233م ) ،له مصنفات فريدة ،ومما اشتهر بها؛ "تحفة اإلخوان بسيرة سيدي األكوان"" ،حادي
الرفاق إلى فهم المية الزقاق" وهو في ستة أجزاء" ،حصول األلفة لطالب التحفة" ،و "عمدة الراوين في تاريخ تطاوين".
2موسوعة قواعد الفقه والتوثيق ,دمحم القدوري ,الطبعة األولى ,1424-2004دون ذكر اسم الطبعة ,ص .222
11
لف الفقهاء في مسألة قضاء القاضي بعلمه راجع أساسا
والذي يظهر لنا من خالل ما سبق أن خ َ
إلى أمرين:
األمر الثاني؛ اختالف األزمنة وتغير حال القضاة ,ففي العصر الذهبي كان قضاة اإلسالم أكثر
عدال وثقة وتورعا وعلما وعدالة وهيبة ,مقارنة مع باقي قضاة األزمنة المتأخرة ,مما دفع
ببعض المذاهب إلى تجويز قضاء القاضي بعلمه أول األمر من قبل متقدمي المذهب ثم منعه
متأخريه سدا للذريعة كما هو صنيع األحناف على سبيل المثال.
ونرى أن ما ذهب إليه المالكية من منع قضاء القاضي بعلمه جملة ,هو ما نميل إليه ونراه
صوابا ,وهو ما تبناه التقنين المعاصر صراحة ,ذلك أن األزمان تغيرت واألحوال تبدلت,
واألصح أن يبني القاضي كل أقضيته على البينات الواضحات والحجج الالئحات ,حتى ال
يصير مظنة لتهم الناس ,ثم لو تم فتح ذلك الباب على مصريه ,لصار بعض القضاة حاكمون
بين الناس بما يشتهون وبما يهوون ,ولربما اتخذوا ذلك وسيلة لالنتقام من أعدائهم ومعارضهم,
وقد يأخذون الرشاوي مقابل حكمهم بعلمهم فيصير القضاء آنئذ تجارة بين يدي القضاة ,وهو ما
ال يرتضيه كل عاقل ,لكل ذلك فإن األحوط واألفيد واألصوب سد ذلك الباب.
بعدما تعرفنا على حكم قضاء القاضي بعلمه ,فإن ذلك يجرنا لطرح المشكل اآلتي:
لقد اختلف الفقه صراحة في طرق اإلثبات نفسها ,فمن الفقهاء من جعلها محصورة في عدد
معين ال تتعداه ,ومنهم من أطلقها دون حصر ,وخلفهم راجع إلى المقصود من البينة.
هل يقتصر معناها على الشهادة وحسب؟ أم تشمل شهادة الشهود وعلم القاضي معا؟ أو
المقصود منها كل ما يبين الحق ويظهره.
12
تشمل شهادة الشهود2 فيما جعلها ابن حزم, قصروا البينة في شهادة الشهود1على أن الجمهور
ومن نحا منحاه من مقصود البينة وجعلها تشمل3 بينما وسع ابن القيم الجوزية,وعلم القاضي
.كل ما يبين الحق ويظهره
أنها وردت على,والعلة التي استند عليها الجمهور في تقصيرهم البينة على شهادة الشهادة
واستدلوا على ذلك بآيات من كتاب هللا؛,لسان الشرع بما يفيد ذلك
﴿ :قوله تعالى
﴿ : وقوله جل في عاله،4 ﴾
: وقوله سبحانه وتعالى،5﴾
﴿
.6﴾
.223 ص0 جزء, هــ1325 الطبعة األولى سنة, مطبعة الجمالية, الكاساني, بدائع الصنائع: األحناف1
.151 ص4 جزء, الدردير, حاشية الدسوقي على الشرح الكبير:المالكية
.325 ص2 جزء, هــ1343 سنة, مطبعة البابي الحلبي, الشيرازي, المهذب:الشافعية
.21-23 ص2 جزء, هــ1345 سنة, مطبعة المنار, ابن قدامة, المغني:الحنابلة
.425 ص2 جزء, هــ1331 سنة, المطبعة المنيرية, ابن حزم الظاهري, المحلى باآلثار2
.14 ص, دون ذكر سنة وال عدد الطبعة,لبنان- مطبعة دار الفكر–بيروت, الطرق الحكمية في السياسة الشرعية3
)4( سورة النور اآلية4
)13( سورة النساء اآلية5
)252( سورة البقرة اآلية6
13
فهذه اآليات وغيرها كثيرة قد قصرت البينة في الشهود سيما في حقوق هللا مثل الحدود (حد
الزنا ,وحد القذف) ,أو في المعامالت كالبيوعات والمعاوضات ,واألحوال الشخصية كاألنكحة
وغيرها...
ومما استدلوا به من الحديث الشريف ,قوله ملسو هيلع هللا ىلص حينما اختصم إليه األشعت بن القيس مع آخر في
بئر ":شاهداك أو يمينه" ,و في رواية ":بينتك أو يمينه" ,1فالحديث األول مفسر للحديث الثاني,
من ثم فالبينة مقتصرة في الشهود ال غير.
وأما ابن حزم فضمن البينة الشهود إضافة إلى علم القاضي ,فقال في م َحاله :أنه صح عن
رسول هللا ملسو هيلع هللا ىلص قوله":بينتك أو يمينه" ,ومن البينة التي ال أبين منها صحة علم الحاكم بصحة حقه
2
فهو يدخل في هذا الخبر.
وقال بأنه يفرض على الحاكم أن يحطم بعلمه في الدماء والقصاص واألموال و الفروج
والحدود ,سواء علم بذلك قبل واليته أو بعد واليته فإن أقوى حكم يحكمه عن علم هو ما قضى
به عن علمه به ألنه يقين الحق ثم يليه الحكم نتيجة إقرار المدعى عليه ثم البينة وعلم الحاكم
3
أبين البينة وأعدلها.
وأما مذهب ابن القيم وابن تيمية فقد ذهبوا إلى أن البينة تشمل كل ما يظهر الحق ويبينه ,قال
ابن القيم رحمه هللا:
فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره .ومن خصها بالشاهدين ,أو األربعة ,أو الشاهد لم يوف
مسماها حقه ,ولم تأت البينة قط في القرآن مرادا بها الشاهدان ,وإنما أتت مرادا بها الحجة
4
والدليل والبرهان ,مفردة ومجموعة.
واستدلوا أيضا بأن قوله ملسو هيلع هللا ىلص" :البينة على المدعي" ,إنما المراد به:
1صحيح البخاري ,كتاب الشهادات ,باب قول هللا تعلى إن الذين يشترون بعهد هللا ثمنا قليال ,رقم الحديث ( ,)4342وهو
حديث صحيح.
2المحلى ,ج 2ص .425
3المحلى ,البن حزم الظاهري ,المجلد السادس ج 2ص .422/421
4الطرق الحكمية ,ص .14
14
أن عليه م ا يصحح دعواه ليحكم له ,والشاهدان من البينة ,وال ريب أن غيرها من أنواع البينة
قد يكون أقوى منها ,كداللة الحال على صدق المدعي ,فهي أقوى من داللة إخبار الشاهد,
1
والبينة والحجة والبرهان.
فالشارع لم يلغ القرائن واألمارات ودالئل األحوال ,بل من استقرأ الشرع في مصادره وموارده
2
وجده شاهدا لها باالعتبار مرتبا عليها األحكام.
قال السنهوري " :البينة لها معنيان )1( :معنى عام؛ وهو الدليل أيا كان ،كتابة أو شهادة أو
قرائن .فإذا قلنا :البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ،فإنما نقصد هنا البينة بهذا المعنى
العام ) 2( .معنى خاص؛ وهو شهادة الشهود دون غيرها من األدلة .وقد كانت الشهادة في
الماضي هي الدليل الغالب ،وكانت األدلة األخرى من الندرة إلى حد أنها ال تذكر إلى جانب
3
الشهادة ،فانصرف لفظ (البينة) إلى الشهادة دون غيرها".
والذي نميل إليه ونراه صوابا هو ما ذهب إليه الجمهور ,حيث إن حصر وسائل اإلثبات 4في
طرق معينة ,هو صنيع الشارع الحكيم سبحانه وتعالى في كتابه العزيز ,والنبي ملسو هيلع هللا ىلص في كل
أقضيته ,وبعده الخلفاء الراشدون المهديون ,و بعدهم التابعون وتابعوهم ,إذ كانوا يستندون في
أقضيتهم إلى وسائل إثبات منضبطة ثابتة وشرعية.
15
حيث إن فتح باب وسائل اإلثبات أمام القاضي دون تقييد وال ضبط ,سيؤدي حتما والبد إلى
زيغ القضاة وانحرافهم عن الحق والعدل وفساد أقضيتهم ,حيث سيلجؤون إلى وسائل إثبات
غير شرعية وما أنزل هللا من سلطان ,ونفس الشيء بالنسبة للمتقاضين إذ سيتحايلون عن
الشرع والقانون ,وسيدعون حقوقا بال حق استنادا إلى حجج زائغة بغاية خداع القاضي.
من كل ما سبق ,وحيث إن القاضي يحظر عليه أن يقضي بعلمه عند المالكية ,كما أن وسائل
اإلثبات محصورة عندهم يبقى المشكل المعلق؛
بداية البد أن نشير إلى أن المالكية 1اشترطوا في القاضي أن يكون مجتهدا ,وال يجوز تولية
المقلد إال عند الضرورة حيث ال يوجد المجتهد ,فوافقوا الجمهور 2في ذلك ,أما الحنفية 3فقد
جعلوا االجتهاد شرطا لألولوية وليس شرطا لصحة تولية غير المجتهد القضاء ,معللين ذلك
بتعذر وجود المجتهد في كل زمان ومكان.4
هذا ,ويمكن التوفيق بين رأ َيي المالكية والحنفية بأن تولية المجتهد المطلق القضاء أولى وأحرى
من غيره من المقلدين ,ولكنه نادر جدا ,بل يكاد أن يكون معدوما خاصة في العصور المتأخرة
بله عصرنا الحاضر ,فأضعف اإليمان أن يكون مجتهد المذهب ,لكنه أيضا نادر ,من ثم
1حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير بهامشه تقريرات عليش ,المكتبة التجارية الكبرى(توزيع دار الفكر)-بيروت,
جزء ,4ص .113
2المغني البن قدامة جزء 2ص .41-40
3المبسوط للسرخسي جزء 11ص ,02-10رد المحتار جزء 4ص .424
4نظام القضاء في الشريعة اإلسالمية ,الدكتور عبد الكريم زيدان ,مكتبة البشائرَ ,عمان ,الطبعة الثانية 1402هــ1252-م,
ص.245
16
سيضطر أوالة األمور إلى تولية المقلدين وجاز ذلك النعدام المجتهدين ,وعلل الفقهاء 1ذلك
بالضرورة ,وعليه فالقاضي قد يكون مجتهدا وقد يكون مقلدا!
إذا كان القاضي مقلدا فإنه يلزم عليه أن يحكم بالمشهور أو الراجح من مذهب البلد ,سواء أكان
هو مذهبه أم أنه يقلد مذهبا آخر ,وقد صح عن اإلمام سحنون أنه ولي رجال القضاء فألزمه
القضاء بمذهب أهل المدينة أي المذهب المالكي ,مما يستَش ُّ
َف منه أن بإمكان اإلمام الحاكم أن
يلزم القاضي بمذهب بعينه دون غيره ,وهذا إنما يحق ويصح في القاضي المقلد ,أما إن كان
القاضي مجتهدا ,فهل يحق للحاكم إلزامه بمذهب بعينه؟
لقد تضاربت آراء الفقهاء في هذه المسألة ,فقد ذكر ابن فرحون 2أن ذلك ال يجوز لما فيه من
تضييق الخناق على القاضي ,وأن وجه الحق قد يكون في مذهب غير مذهب القاضي ,من ثم
يمنع القاضي من الحكم به ,ألنه ملزم بمذهب معين.
وهو أيضا منطوق ما نص عليه أيضا الماوردي :3على أن شرط تقييد القاضي بمذهب معين
شرط باطل ألنه يحول بين اجتهاد القاضي فيما يجب فيه االجتهاد.
ونرى خالف ما ذهب إليه اإلمامان ابن فرحون والماوردي ,ذلك أن القاضي وإن كان مجتهدا
فإن وظيفته تختلف تماما عن وظيفة الفقيه المفتي ,ألنه إنما ولي لفض النزاعات وصد
الخصومات ,ورد الحقوق ألهلها وحقن الدماء ,وإقامة الحدود وسجن المجرمين ,إلى غيره...
وحكمه ملزم لألطراف سواء المدعي وال المدعى عليه ,مما يجعل القاضي محاصرا عليه
بأعراف ال َمصر الذي يتقلد فيه القضاء وما جرى به العمل هناك ,وقبل ذلك وبعد ذلك المذهب
المتبع راجحه ومشهوره ,والعادات وأحوال الزمان ,كل هذا يضيق على القاضي فيلزمه أن ال
1أنظر :مغني المحتاج جزء 4ص ,300تبصرة الحكام جزء 1ص .24
2تبصرة الحكام في أصول األقضية ومناهج األحكام ,ابن فرحون ,جزء 1ص .22
3أدب القاضي ,الماوردي جزء 1ص 155-150بتصرف.
17
يخرج حكمه القضائي عنه ,ما يجعله ملزما باالحتكام إلى مذهب البلد الذي ولي فيه القضاء
دون الخروج عنه إال للضرورة القصوى.
من ثم فالقاضي ال يجتهد اجتهاد رأي فذلك من عمل الفقيه المجتهد المفتي كما سبق,
وألن اجتهاده قد يخالف المذهب المقضى به أو أعراف وعادات الناس وهذا ال يجوز
طبعا ومخالف لمنطق الشريعة ,كما أن القاضي ال يقضي عن محض تقليد إذ البد له من
تكييف األحكام ومراعاة الزمان والمكان واألحوال واألعراف ,وال يصح بل وال يعقل
أن يقلد القضاة في أقضيتهم اللهم إال عن سبيل االستئناس وحسب ,من ثم فالقاضي إنما
يجتهد اجتهاد تنزيــــل أوعلى األقل اجتهاد تخريـــج؛
أي يبذل ما في وسعه للكشف عن األحكام المناسبة والمالئمة للنازلة المعروضة عليه ,فيبحث
في القرآن أوال فإن لم يجد فيه يبحث في سنة رسول هللا ملسو هيلع هللا ىلص فإن لم يجد فيه يبحث في إجماعات
الصحابة والتابعين وكذا إجماعات العلماء فإن لم يجد فيه ,يجتهد بقيــاس الوقائع على األخرى
فإن لم يسعفه ذلك ,وقف على أصول مذهبه وعمل على استنباط الحكم استنادا إلى أصل منها,
ثم ينزله تنزيـــال صحيحا على الواقعة المعروضة عليه ,وههنا تجلي حنكة القاضي ولمسته
االجتهادية ,وذلك بعد استشارة أهل الحل والعقد من علماء وفقهاء وقضاة حتى يتحرى الحق
ويرتاح ضميره للحكم المن ٌَّزل ,بل إن بعض الفقهاء أوجبوا على القاضي المقلد استشارة العلماء
أحكامه. في
لقد بدأت الرؤية تكتمل حول سلطة القاضي التقديرية خصوصا بعدما تعرضنا للتكييف الفقهي
لها ،ولكي تبلغ الرؤية كمالها وتصل تمامها البد أن ننظر في التكييف القانوني لها ،حينها يجلو
لنا األمر بشكل أدق ،وهو موضوع المبحث الثاني من هذا الفصل.
18
يسعى هذا المبحث إلى كشف الغموض عن السلطة التقديرية لقضاء الموضوع ,وذلك من خالل
تكييفها تكييفا قانونيا ,حيث إن قاضي الموضوع كما هو معلوم يتعامل مع الواقع والقانون,
فيستخلص الوقائع ويكيفها تكييفا مناسبا ثم ينزل القاعدة القانونية عليها ,ما يطرح إشكاال كبيرا
ح ول محل سلطته التقديرية هل تنصب في الواقع وحسب دون القانون؟ أم في القانون دون
الواقع؟ أم فيهما معا؟ وهل محكمة النقض تراقب السلطة التقديرية للقاضي ؟ فما مدى رقابتها
لها؟ ومن يحدد مجالها وحدودها؟ وهل تتسع وتضيق أم هي ثابتة؟
لكن قبل ذلك ,البد أن نبحث في ماهية السلطة التقديرية (الفقرة األولى) وعالقتها بوسائل
اإلثبات ,ومذاهب الفقهاء في اإلثبات (الفقرة الثاني) ,ثم بعده ننظر إشكالية :شكلية وموضوعية
وسائل اإلثبات وسلطة القاضي التقديرية إزاءها(الفقرة الثالثة) ,لنختم باإلشكالية التي استهلنا بها
حول محل سلطة القاضي التقديرية ومدى رقابة محكمة النقض لها(الفقرة الرابعة) ,هذا في
سننقل الحديث إلى المادة الجنائية ،حيث أخذ فيها المشرع
مطلب أول ,أما في المطلب الثاني ف َ
بالمذهب الحر أو اصطل َح عليه قانونيا بمبدأ حرية اإلثبات (الفقرة األولى) ،هذا األخير يدفعنا
للحديث عن حرية القاضي في االقتناع (الفقرة الثانية).
نشير في البداية إلى أن الدراسات قليلة جدا في هذا المجال-السلطة التقديرية لقاضي الموضوع-
من ثم لم نقف لحد اآلن على تعريف جامع مانع للسلطة التقديرية إال ما تناثر وتبعثر هنا
وهناك ,بل إن الذين تصدوا لها –وإن كانوا قلة -قد اختلفوا في تعريفها وماهيتها ,ألنه في
الحقيقة مصطلح يشوبه الغموض وغير مستقر ما جعل الفقه ينفر منه وإن كان عمل هذا األخير
هو التصدي للتعريفات وتفسير المبهمات وسد الثغرات !
19
وقد وقفنا على تعريف ألحد الباحثين المصريين وعرفها بأنها ":نشاط ذهني يقوم به القاضي
في فهم الواقع المطروح عليه ,واستنباط العناصر التي تدخل هذا الواقع في نطاق قاعدة قانونية
1
معينة ,يقدر أنها هي التي تحكم النزاع المطروح عليه هذا النشاط وعالقته بالواقع والقانون".
وهو تعريف جيد معتبر ,لكن يؤاخذ عليه أمران؛ األول :حين اعتبر السلطة التقديرية نشاط
ذهني يقوم به القاضي بغية فهم الواقع المطروح !! ,نتساءل أين تتجلى سلطة القاضي هنا ؟ بل
إن ذلك واجب على القاضي وليس سلطة ممنوحة له ,فإذا لم يفهم القاضي الواقع فكيف له أن
يقضي أصال؟ ,األمر الثاني :قوله في القاعدة القانونية (يقدر أنها هي التي تحكم النزاع
المطروح) بل ليس هناك شك وال تقدير أنها التي تحكم النزاع ,بل هي التي ينزلها القاضي على
النزاع ليفصل فيه.
ولقد وقفنا على تعريفات أخرى وكلها تكاد تكون مشابهة للتعريف الذي أوردناه ,إنما الذي نؤكد
عليه أن مفهوم السلطة التقديرية تحكمه مجموعة من األمور نقف عليها أوال لنخرج بتعريف
مناسب.
إن السلطة التقديرية ضرورية للقاضي لتكييف الوقائع وتنزيل القواعد القانونية عليها بشكل
صواب ,وهذه السلطة تكون في الواقع كما تكون في القانون (وسنفصل في هذا األمر بعده),
فيستحيل إذن تنزيل النص القانوني على الواقعة المطروحة دون استناد القاضي إلى سلطته
التقديرية بتكييف الواقع وتفسير الغامض وتقريب المهم من األدلة وإبعاد ما ال فائدة منه,
والمطالبة بإجراء تحقيق إن تطلب األمر ...إلى غيره ,كل هذا يدخل ضمن سلطة القاضي
التقديرية.
من هنا إذن نقول إن السلطة التقديرية ":ضمانة ممنوحة للقاضي على إثرها يكيف الواقع
ويقدره فينزل عليه القاعدة القانونية".
1
سلطة القاضي التقديرية في المواد المدنية والتجارية ,نبيل إسماعيل عمر ,دار الجامعة الجديدة للنشر ,ص .52
20
لكن المشكل المطروح ,ما محل وسائل اإلثبات في هذا الصدد؟ وهل تشملها سلطة القاضي
التقديرية؟
قبل أن نشرع في مناقشة هذه القضية ,نتعرف أوال على مذاهب اإلثبات وموقف المشرع
المغربي منها.
يتخذ التنظيم القانوني لإلثبات ثالث صور ,وجوهر هذه الصور في مجملها متعلق بوسائل
اإلثبات والفسحة الممنوحة للقاضي في تقدير هذه الوسائل وتفسيرها وفي قبولها وردها,
وتوجيه الخصوم إليها ,وقدرة القاضي كذلك على التأكد بنفسه من الواقعة ,إلى غيره ,..فإذا
منح للقاضي فسحة واسعة فنحن في ظل الصورة األولى وهو المذهب الحر (أوال) ,أما إذا
كانت هذه الفسحة ضيقة فنحن امام المذهب المقيد ( ثانيا) ,وبين المذهب الحر والمذهب المقيد
هناك إثبات مختلط (ثالثا) جمع محاسن اإلثباتين.
ويتسم هذا المذهب بالحرية الكاملة للمتقاضين في تقديم األدلة والحجج ولو بوسائل إثبات لم
ينص عليها القانون ,كما يملك القاضي السلطة الكاملة في البحث عن وسائل وعناصر اقتناعه
وتكوين عقيدته تجاه النزاع المطروح أمامه ,فله الخيار في االستناد إلى أي وسيلة يراها أقرب
إلى قناعته ,كما له أن يطالب باالستماع إلى الشهود أو إجراء تحقيق متال تطلب األمر ذلك أو
طلبه أحد الخصمين ,كل ذلك لتكوين قناعته ,وكل دليل عرض عليه فإنه يحدد قيمته ويقدره قبل
أن يأخذ به أو يرده ,بل له حسب هذا المذهب أن يتمم دليل أحد الخصمين إن عاره نقص أو
غموض.
وميزة هذا المذهب أنه يجعل الحقائق القضائية التي يصل إليها القاضي في حكمه
21
مطابقة إلى درجة كبيرة للحقائق الواقعة المنازع فيها ,1ومما يؤاخذ عليه أنه منح للقاضي سلطة
واسعة جدا تفضي أحيانا إلى زعزعة الثقة العامة ,وتضع القاضي محل تهمة وشبهة ,فيحكم بما
يهوى دون رقيب عليه.
وهذا المذهب ال تزال دول ألمانيا وسويسرا وإنجلترا وأمريكا تتبناه وهو المذهب
األنجلوسكسوني وله صالحية واسعة بالمقارنة مع المذاهب األخرى ,وهو حاضر بقوة في
المواد الجنائية والتجارية.
لتفادي ما وقع فيه المذهب السابق من تناقضات وإخالالت وعيوب ,رأت التشريعات قديما
خالل مرحلة تطورها وضع مذهب ثان يكون أضبط وأدق-حسب زعمهم -من المذهب السابق,
بحيث تحصر فيه وسائل اإلثبات وتعين تعيينا دقيقا (وهي ميزته الكبرى) ,ويتم تحديد قيمة كل
وسيلة على حدى ,وال يملك الخصوم إثبات حقوقهم إال بها.
والقاضي -على غرار المذهب السابق ,-يحظر عليه تحديد قيمة وسائل اإلثبات ألنها محددة
قانونا ,وليس له تفسير األدلة وال إتمام نقصها ,وال أن يقضي بدليل قدمه أحد الخصمين إال بعد
تمكين الخصم اآلخر من مناقشته ,كما يمنع عليه القضاء بعلمه الشخصي ,بل هو مطالب
بالحياد التام تجاه النزاع المعروض.
ي فيه عيوب المذهب السابق ,إال أنه والحال جامد جدا ,وجعل
وهذا المذهب ,رغم أنه تحوش َّ
القاضي محجورا عليه وأفقده نشاطه وحريته ,فمادام أن القاضي في ظل هذا المذهب ,ال
يستطيع تفسير وال تقدير وال وضع قيمة األدلة إال أن سلطته تكاد تكون منعدمة ,وهذا يفضي
بنا إلى عيب أكبر من عيوب المذهب السابق ,هو أن حكم القاضي الصادر في ظل هذا المذهب
يكون بعيدا جدا عن الحقيقة الواقعية ,مادام والحال أن القاضي لم يجد حريته التامة وسلطته
الكاملة في تكييف الوقائع ووزنها وتحديد قيمتها.
1
وسائل اإلثبات في القانون المدني المغربي ,إدريس العلوي العبدالوي ,مطبعة النجاح الجديدة ,سنة ,1402-1251ص .10
22
ثالثا :المذهب المختلطSYSTEM MIXTE :
َو َّد هذا المذهب أن يجمع بين مبادئ المذهبين السابقين ,فال يأخذ بالحرية المطلقة وال بالتقييد
الكامل ,بل يجعل لكل واحد منهما موضعا في وسائل اإلثبات ,فتحدد وسائل اإلثبات وتعين قوة
بعضها في اإلثبات مع وضع شروط الوقائع الالزم إثباتها ,والقاضي يلتزم موقف الحياد وال
يقضي بعلمه الشخصي البتة.
هذا ,ومن جهة أخرى فالقاضي له سلطة معتبرة ومحددة قانونا على إثرها يقوم بنشاطه
المستفاد من جمع األدلة واستجواب الخصوم والمطالبة بإجراء التحقيق ,كما له سلطة تقييم
وتقدير الدليل المستفاد من بعض وسائل اإلثبات (كالشهادة واإلقرار والقرائن .)...
إذ األخذ بالمذهب المختلط يقتضي التخفيف من حدة التقييد الذي يحوط القاضي إزاء اإلثبات؛
فال يجعل عمله آليا مقتصرا على التطبيق الجامد للنصوص ,بل يخوله سلطة تقديرية واسعة في
1
تكوين قناعته دون اإلخالل بمبدأ الحياد المفروض فيه والذي قد يتسبب فيه المذهب المطلق.
والقاضي في ظل هذا المذهب جانب سلبيات المذهبين :الحر والمقيد ,واستفاد من ميزاتهما,
فكأنه ضرب عصفورين بحجر واحد.
هذا ,المذهب هو ما اصطلح عليه بالمذهب الالتيني وتبنته أغلب التشريعات العربية منهم
المغرب وسوريا ولبنان ومصر.
لكن يتبادر إلى ذهننا سؤال !! هو ماذا عسى القاضي أن يفعل إذا استنفذ جميع وسائل اإلثبات
المحددة قانونا فلم يقف على حكم مناسب ,أو لم يؤسس قناعته بعد ؟؟
وسائل اإلثبات حددها المقنن في الفصل 404من ظهير االلتزامات والعقود ,2وجاء على سبيل
الحصر ومرتبة ترتيبا دقيقا ,فال يمكن االنتقال إلى وسيلة دون استنفاد الوسيلة التي قبلها ,والذي
1مقال بعنوان" :إثبات الزوجية بين مقتضيات المادة 11من مدونة األسرة والقواعد العامة لإلثبات" ,ألستاذنا الفاضل د .حسن
القصاب ,منشور بمجلة كلية الشريعة-أكادير ,العدد - 3سنة -2013ص .124
2الظهير الشريف الصادر في 2رمضان 12( 1331غشت )1213بمثابة قانون االلتزامات والعقود.
23
نراه أن المذهب المختلط في معناه الدقيق بعيدا عن التعريفات المشهورة ,هو أن القاضي إذا لم
تسعفه وسائل اإلثبات المحددة قانونا يمكن اللجوء إلى أدلة أو أي وسائل أخرى يراها مناسبة
في تأسيس قناعته ,ولو لم ينصص عليها قانونا شريطة أال تخالفه طبعا.
إن فلسفة المذهب المختلط -الذي أخذ به المقنن المغربي -تقضي أن تحدد وسائل اإلثبات
للقاضي وهو األصل ,فإذا لم تسعفه نظر في غيرها وذلك استثناء وحسب ,أما المذهب المقيد
فال يملك فيه القاضي هذا االستثناء ,وفي المذهب األنجلوسكسوني (الحر) ,فالقاضي مخير
ابتداء بين أن ينظر في وسائل اإلثبات المحددة أو يلتجأ إلى غيرها.
بعد هذا ,نتساءل ما مدى سلطة القاضي التقديرية إزاء وسائل اإلثبات؟ وأين يمكن تصنيفها أفي
القواعد الموضوعية أم ضمن القواعد الشكلية ؟ وهو ما سنناقشه في الفقرة الموالية.
الفقرة الثالثة :وسائل اإلثبات بين الشكلية والموضوعية ومدى سلطة القاضي إزاءها:
ف ك أيضا من عرفه بأنه ":إقامة الدليل أمام القضاء ،على وجود واقعة قانونية ( fait
عر َ
، )juridiqueأي وضع يرتب حقا ،أو يعدله أو يرتب انقضاؤه ،سواء كان حقا اإلثبات بأنه":
إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددها القانون على وجود واقعة قانونية ترتبت آثارها".1
2
وهنا موضوعيا ،أو حقا متعلقا باإلجراءات".
وقد نظم المشرع المغربي وسائل اإلثبات في الفصل 404من ظهير االلتزامات والعقود
وجاءت فيه مرتبة كاآلتي:
هذا ,وقد جرى خالف فقهي 1حول تصنيف وسائل اإلثبات هل هي موضوعية أم شكلية؟ بمعنى
هل تدخل ضمن القانون الموضوعي أم القانون الشكلي اإلجرائي! ,وذلك ينعكس عليها تماما,
1الوسيط في شرح القانون المدني ,عبد الرزاق السنهوري ,الجزء الثاني ,ص.13
" 2التعليق على نصوص قانونية " ،أحمد أبو الوفا ،الطبعة الثالثة ،منشأة المعارف -اإلسكندرية -مصر ،ص .13
24
حيث إن اإلجراءات الشكلية تدخل في النظام العام أي :ال يصح االتفاق على مخالفتها وال على
إسقاطها كما تثيرها المحكمة تلقائيا عند خرقها أو انعدامها وتفرض جزاء على ذلك ,ألن خرقها
وعدم احترامها يؤثر في المصلحة العامة قبل أن يؤثرعلى أطراف النزاع ,أما القواعد
الموضوعية فال تدخل في النظام العام بل ضمن حقوق األفراد التي يجوز التنازل عنها
واالتفاق على إسقاطها.
إذ غني عن البيان أن قواعد اإلثبات لم توضع في األصل إال لمصلحة الخصوم وليس للمصلحة
العامة ,ذلك أن قواعد اإلثبات وثيقة الصلة بالحق ,فالتنازل عنها أو التعديل فيها يمس مصلحة
األفراد عن قرب ,وإذا كان للشخص أن يتنازل عن حقه أو يعدل فيه ,فبدهي أن يكون له ذلك
2
فيما يتعلق بإثباته.
,من ث م فهي الكفيلة بتحديد محل اإلثبات وعبئه (على من يقع؟) ,وقيمته وطرقه ,على غرار
القواعد اإلجرائية التي تحدد مسطرة التقاضي وكيفية إقامة الدليل أمام القاضي القتضاء الحق
أو نفي االتهام.
ومنه ,فاألسلم واألوفق -في ظل المذهب المختلط -الذي تبناه المشرع المغربي أن تدخل وسائل
اإلثبات ضمن القواعد الموضوعية ,حيث نظمها المشرع في قانون االلتزامات والعقود في
فصله 404من الباب السابع من الكتاب األول ,حيث إن سلطة القاضي إزاءها -وسائل اإلثبات
في ظ.ل.ع -محكومة بالمذهب المختلط ,أي :تتراوح ما بين اإلطالق والتقييد ,حيث إن للقاضي
تقييم األدلة ووزنها وتقديريها وتقييمها ,وكذا قبولها وردها إن اقتضى األمر ,من جهة أخرى؛
فالقاضي مقيد بوسائل اإلثبات المحددة قانونا في الفصل 404من ق ل ع ,وال يملك صناعة
دليل جديد غير منصوص عليه قانونا ,وما يؤكد األمرما ورد في الفصل 443من ظهير
االلتزامات والعقود" :من َّ
أن المعامالت المدنية التي تفوق قيمتها 10.000.00درهم ال تثبت
1للمزيد من التفصيل أنظر" ,وسائل اإلثبات في القانون المدني المغربي" ,إدريس العلوي العبدالوي ,ص 11وما يليها.
" 2رقابة المجلس األعلى على محاكم الموضوع في المواد المدنية (محاولة للتمييز بين الواقع والقانون)" ,دمحم الكشبور,مطبعة
النجاح الجديدة ,الطبعة األولى سنة ,1422-2001ص .212
25
إال كتابةً" ,نضف إليها مقتضيات الفصل 401من نفس الظهيرالذي نص في منطوقه؛ أن
القانون إذا نص على إثبات االلتزامات بشكل معين ال يسوغ إثباتها بشكل آخر يخالفه.
هذه االزدواجية في السلطة التقديرية ما بين اإلطالق والتقييد هي فلسفة المشرع في ظل
المذهب المختلط ,أما إجراءات التحقيق التي حصرها المشرع في المسطرة المدنية 1من الفصل
33إلى الفصل 102منه تحت عنوان ":في إجراءات التحقيق" ,وهذه اإلجراءات هي :الخبرة
والمعاينة و اليمينان؛ المتممة والحاسمة ,ثم تحقيق الخطوط ,فسلطة القاضي إزاء -هذه
اإلجراءات -واسعة جدا ,بدءا ً بقبول طلب االلتجاء إليها من عدمه ,وهو المشرف عليها من
بدايتها إلى نهايتها ,أما الخبير-في إطار الخبرة مثال -فإنما يبدي رأيه في نقطة فنية دقيقة جدا
وحسب ,ويمنع عليه التصدي للمسائل القانونية ,كما يمنع عليه التدخل في جوهر الخصومة,
والقاضي مثال حر في توجيه اليمين المتممة من عدمه ،وله أن يستجيب للخصم الذي طلبها وله
أال يستجيب ،كما له أن يوجهها ألي من الخصمين شاء ،وله أن يقبلها بعد أدائها ،وله أن
يرفضها ،وحتى بعد انتهاء التحقيق فللقاضي سلطة واسعة في األخذ به وتبنيه أو رده والمطالبة
بإجراء تحقيق جديد ,إنما يلزمه التعليل في حالة عدم قَبول االلتجاء إلى إحدى إجراءات التحقيق
بناء على طلب أحد األطراف ,وكذلك يلزمه التعليل في حالة رد إحداها -إجراءات التحقيق-
تحت طائلة نقض حكمه من قبل محكمة النقض.
26
الفقرة الرابعة :محل السلطة التقديرية ومدى رقابة محكمة النقض لها:
تتجلى وظيفة قاضي الموضوع في استخالص الوقائع أوال وتكييفها تكييفا مناسبا ,ثم تنزيل
َّ
ولكن صعوبتها لم القاعدة القانونية عليها تنزيال صحيحا ,وهي عملية تظهر بسيطة في الظاهر,
سا شبه يومي -وهو القاضي -بطبيعة الحال ,وعليه فإن القاضي
يذقها إال من مارسها مرا ً
يمارس نشاطا متشابكا في فض النزاعات المعروضة عليه ,تحوي على جوانب واقعية وأخرى
وجوانب يمتزج فيها الواقع بالقانون.
ٌ قانونية
ومنه ,فإن القاضي يمارس سلطته التقديرية أوال :في استخالص الواقع وتكييفه :و االستخالص
ي عني ــــ من الناحية النظرية على األقل ـــ محاولة قاضي الموضوع الوصول إلى صورة
كاملة أو تقريبية لوقائع النزاع كما هي أو كما حدثت .1ووضعه ــ النزاع ـــ في حدود معلومة,
حتى يسهل عليه اإلحاطة به من ثم النظر فيه ,وهي مرحلة صعبة وخطيرة فعليها ينبني ما
يأتي بعده ا ,ثم يكيف الواقع أي :يضعه في إطاره القانوني بعد جرد عناصره وإبقاء المهم,
وإخراج ما ال جدوى منه ,بعده يقوم بالنظر في األدلة المعروضة عليه ويقيمها ويقدرها ويزنها
ويضعها موضعها ,ويحلل أوراق القضية تحليال عميقا دقيقا استعدادا لتنزيل النص القانوني
على النزاع ,كل ذلك بعد أن يتثبت تثبيتا يقينيا جازما من حصول الواقعة فعال.
بعد استخالص الواقائع يأتي بعده التكييف وهو محاولة صلة الواقعة المعروضة على القاضي
بقاعدتها القانونية ,أو بمعنى أوضح؛ البحث عن القاعدة القانونية الواجبة التطبيق على الوقائع
التي استخلصها قاضي الموضوع ,2أو بعبارة جلية واضحة هو :التقريب بين الوقائع
والنصوص التي تنظمها وتحكمها.
" 1رقابة المجلس األعلى على محاكم الموضوع في المواد المدنية" ,م.س ص .243
2
Igaux – op – cit – p - 83- et s
27
ومن المفترض أن يجد القاضي صلة وثيقة جدا بين الوقائع والنصوص المنظمة لها ,التي ما
وجدت أصال إال لالنطباق عليها.
وبدهي أن مجموع الوقائع التي تطرح أمام القضاء تعتبر بمثابة حاالت خاصة ,أما القواعد
القانونية التي تنطبق عليها فمن صفاتها التجريد والعموم 1ألنها النصوص القانونية متناهية
والوقائع غير متناهية.
فالتكييف إذن ما هو في النهاية إال عملية ذهنية غايتها البحث عن العالقة التي تربط الوقائع
التي استخلصها قاضي الموضوع بقواعد القانون.2
والتكييف كنشاط يمارسه قاضي الموضوع ,اختلف الفقه في تصنيفه ! هل هو من مجال الواقع
أم مجال القانون أم من هما معا؟
فمن الفقه من يرى أن عملية التكييف عملية قانونية محضة نظرا لصلتها الوثيقة بالبحث عن
القاعدة القاعدة القانوينة الواجبة التطبيق ,3وألن ال سلطة وال إرادة للخصوم تجهاها ,بل حدهم
الوقائع التي يطرحونها أمام القضاء ,والقاضي باعتباره مختصا في القانون هو من يستأثر بهذه
العملية ،وهو الرأي الذي نرجحه؛ العتبارات:
ــ َّ
أن عملية التكييف ال أثر ألطراف النزاع فيها ،من ثم فهي ال تدخل أبدا في الواقع.
ــ أنها عملية لصيقة بالبحث عن القاعدة القانونية المالئمة لواقعة النزاع المستخلصة والواجبة
التطبيق عليها.
28
ــ أنها خاضعة لرقابة شاملة من قبل محكمة النقض ،وسنتطرق إليها فيما بعد.
وهناك من يرى أن التكييف يدخل في مجال الواقع ال القانون ,إذ هو عبارة عن عمل ذهني
محض يتمثل في المقارنة بين وقائع النزاع من جهة ومفترض القاعدة القانونية كما تخيله
المشرع من جهة أخرى ,من أجل الوصول إلى وجود تطابق تام بينهما.2
ومنهم من يرى أن التكييف عمل قانوني في بعض جوانبه ,وعمل موضوعي في بعض جوانبه
األخرى ,3وهو الرأي الذي تأثرت به محكمة النقض الفرنسية ,وأخذت به في العديد من
قراراتها.
دون أن ننسى أن هناك رأيا أخيرا يرى أن عملية التكييف ال تدخل في مجال القانون وال تدخل
في مجال الواقع ,وإنما هي مجرد وسيلة أو صياغة فنية الزمة للعبور بالوقائع إلى حكم
القانون ،4وهو رأي بعيد عن الصواب.
ثانيا :يمارس القاضي أيضا سلطته التقديرية في تطبيق القانون؛ وهي المرحلة األخيرة من
النشاط المبذول من قبل قاضي الموضوع ,حيث تتمثل في إنزال حكم القانون على الواقعة التي
تم استخالصها وتكييفها بشكل صحيح.
من هنا إ ٍذ تبين لنا أن القاضي يمارس نشاطه ــ سلطته التقديرية ــ ليس فقط في الواقع ــ من
خالل استخالص الوقائع وتكييفها وتقدير األدلة ووزنها ــ بل يمت ُّد نشاطه هذا إلى الجانب
القانوني ,من خالل البحث عن القاعدة القانونية الموافقة والمناسبة والمالئمة لنازلة الحال التي
تم استخالصها وتكييفها ,ليس هذا فحسب ,بل يعمـل القاضي سلطته أيضا في تقدير الغرامة
" 1رقابة المجلس األعلى على محاكم الموضوع في المواد المدنية" ،مرجع سابق ،ص 222بتصرف يسير.
" 2السلطة التقديرية للقاضي في المواد المدنية والتجارية" ,م.س – ص .142
" 3رقابة المجلس األعلى على محاكم الموضوع في المواد المدنية" ,مرجع سابق ,ص .222
" 4النظرية الخاصة للتكييف القانوني للدعوى في قانون المرافعات" ,دار الفكر العربي( ,م .ط .غ .م) ,ص .2
29
كمثال ,وتحديد التعويض المناسب للضرر الحاصل بعد التثبت من وجود عالقة سببية ثابتة
يقينية بين الخطأ والنتيجة ــ وهو ما يدخل أيضا ضمن سلطة القاضي التقديرية ــ.
والحاصلَّ ،
أن مجاالت سلطة القاضي التقديرية في المادة المدنية واسعة بمعنى الكلمة ،ولن
تكفنا هاته األسطر لجردها كلها ،بل نكتفي بضرب األمثلة فحسب ل َيع َّم الوضوح.
والسؤال المطروح اآلن :ـــ هل هذه السلطة التقديرية الممنوحة للقاضي مشمولة برقابة محكمة
النقض؟ فما مداها؟ وهو موضوع ما يأتي:
َّ
ولكن هذه القاعدة يرد عليها استثنا ٌء؛ وهو أن محكمة النقض تبسط رقابتها على مدى احترام
قاضي الموضوع للقواعد القانونية المتعلقة باإلثبات ،1ألن قواعد اإلثبات ندخل في الشق
القانوني الذي يخضع لرقابة محكمة النقض ،كما تراقب أيضا ،مدى توافق الوقائع التي
استخلصها قاضي الموضوع مع التحقيقات الجارية وشهادة الشهود إلخ ...
" 1قضاء النقض والتمييــز؛ في الواد المدنية والتجارية في التشريعين المصري والكويتي" ،جالل الدين هاللي ،مكتبة الفالح
للنشر والتوزيع ،الطبعة األولى ،1253 -ص .134
30
وطبيعي أن الوقائع تهم الخصوم ,من ثم فالقاضي ال يقبلها وال يأخذ منها إال ما استقام منها
بدليل ،لهذا ،جاء في قرار لمحكمة النقض المصرية " :1يجب أن تكون الوقائع التي استخلصتها
المحكمة متمشية مع التحقيقات وشهادة الشهود ...بحيث إذا كان ال أثر لها في شيئ منها ،فإن
علم القاضي في هذه الصورة يعتبر ابتداعا للوقائع وانتزاعا من الخيال".
وقريبا منه ما جاء في قرار للمجلس األعلى للقضاء ــ محكمة النقض حاليا ــ ... ":عندما
تواجه المحكمة أي التباس في نازلة ما ،يتعين عليها أن تأمر بإجراء كل بحث يؤدي إلى
معرفة الحقيقة .2"...
كما تبسط محكمة النقض رقابتها على إعمال قواعد اإلثبات المنصوص عليها في الفصل 404
من ظهير االلتزامات والعقود ,وفي الفصول من 33إلى 102من نص قانون المسطرة المدنية
فيما يخص إجراءات التحقيق.
فاإلقـرار ــ مثال ــ وجوده من عدمه ،ومدى حجيته ،وعدم تجزئته ،وقصوره على المقر دون
3
سواه ،من مسائل القانون التي تخضع لرقابة قاضي النقض.
وفي الحجة الكتابية ،فإن كل استبعاد كلي أو جزئي لما تضمنته الوثيقة ،وكل ترجيح لوثيقة
على أخرى يجب أن يعلل تعليال كافيا مقنعا .والتحريف والتعليــل ،مسألتان خاضعتان لرقابة
المجلس األعلى ،4ونفس األمر بالنسبة لشهادة الشهود فإن إجراءاتها خاضعة لرقابة محكمة
النقض من حيث عددها وكيفية ومكان أدائها ،وعالقة الشهود بالمدعي أو المدعى عليه ...إلخ.
والقرائن القانونية دون القرائن القضائية يخضع فيها قاضي الموضوع لرقابة محكمة النقض في
كل ممارسته لها ألنها محددة قانونا ،من ثم سلطته التقديرية ضيقة لحد كبير تجاهها ،على
1نقص جنائي صادر في 2يناير ،1233مجموعة القواغد ،الجزء األول ،رقم ،315ص .411
2قرار صادر بتاريخ 14فبراير ،1202منشور بمجلة المحاماة ،العدد ،11ص 113وما بعدها.
3الوسيط في شرح القانون المدني ،مرجع سابق ،جزء ــ2ــ ،ص .313
" 4رقابة المجلس األعلى على محاكم الموضوع في المواد المدنية" ،م.س ،ص 200وما بعدها بتصرف يسير.
31
عكس القرائن القضائية التي يتمتع بسلطة تقديرية واسعة جدا إزاءها ،ألنها ليست محددة قانونا
بل يستنبطها من وقائع النزاع.
وأما اليمين الحاسمة أو المتممة ،فإن كيفية إعمالها يعتبر من المسائل القانونية التي تخضع
1
لرقابة قاضي النقض.
وما بقي من وسائل اإلثبات من خبرة ومعاينة فال تخضع لرقابة محكمة النقض أساسا ،ألنها
كلها تدخل ضمن اإلجراءات المتبعة إلثبات الوقائع ،وال تندرج ضمن القانون ،فيتمتع قاضي
الموضوع ئ ٍذ على إثرها بسلطة واسعة جدا.
ألنه كلما بسطت محكم ة النقض رقابتها على قاضي الموضوع إال وضيقت من سلطته التقديرية
والعكس صحيح.
مر بنا أن التكييف عمل قانوني يستأثر به قاضي الموضوع من خالله يحاول ربط ووصل
َّ
الوقائع بقواعدها القانونية المنظمة له ،وبما أنها عملية قانونية محضة ،فإنها بكل تأكيد تخضع
لرقابة محكمة النقض ،فتكييف النزاع بمعنى :تحديد القوانين الواجبة التطبيق عليه يخضع
لرقابة محكمة النقض باعتبارها محكمة قانون تسهر على تطبيق محاكم الموضوع القوانين
بشكل سليم ،وكذلك األمر بالنسبة تكييف العقود واالتفاقات المبرمة بين األشخاص فهي ترد
عليها أوصافا متعددة يلزم على القاضي احترامها ،وأال يقع في خطأ يستتبعه تطبيق قاعدة
قانونية ال تتماشى والعقد أو االتفاق المبرم بين المتعاقدين ،فالوصف الذي يتمسك به أطراف
النزاع أو يتمسكون به تجاه العقد ال يشكل قيدا للقاضي الذي يتحتم عليه أن يبحث عن التكييف
الصحيح للعقد ،مع ذلك أال يأتي بتكييف مخالف ألوصاف العقد أو االتفاق ،وههنا تظهر
صعوبة وخطورة التكييف ،ففي هذا الجانب يخضع قاضي الموضوع لرقابة محكمة النقض،
وفي هذا المنعطف جاء في أحد قرارات المجلس األعلى ــ محكمة النقض حاليا ــ:
32
"إن الطبيعة القانوني ة للعقود رهينة ،ليس بالتحديد الصادر عن األطراف ،وإنما بالطبيعة
المستخلصة من بنودها ،لذلك فإن على قاضي الموضوع أن يحدد هذه الطبيعة وأن يستخلص
من هذا التحديد اآلثار القانونية أو االتفاقية التي تولدها هذه العقود .1"...
ومما يخضع أيضا لرقابة محكمة النقض تكييف األحكام ،أي :وصفها ،لهذا جاء في قرار
للمجلس األعلى:
"...القانون هو الذي يحدد وصف األحكام ... ،ولهذا فإن الوصف الذي تعطيه المحكمة
ألحكامها يخضع لمراقبة المجلس األعلى.2" ....
هذا ال يعني أن كل التكييفات التي يقوم بها قضاء الموضوع تخضع لرقابة محكمة النقض ،بل
إن منها ما ال يخضع لهذه الرقابة ،إما ألن التكييف يتداخل مع الواقع ،أو ألنه يتعلق بحالة
نفسية أو بتقدير كمي أو يحتاج إلى خبرة فنية ،3والنقط التي ال تخضع لرقابة محكمة النقض
هي:
وألن هذه النقط الثالث التي أوردناها ،بعضها لصيق بالواقع تماما ،وبعضها متعلق بالحالة
النفسية لطرف النزاع ،والبعض اآلخر متعلق بتقدير كمي ،وإذا بسطت محكمة النقض رقابتها
عليها فستتجرد من صفتها القانونية ،وتدخل في اختصاص محاكم الموضوع وهو ما ال يستقيم.
1قرار المجلس األعلى الصادر بتاريخ 0يناير ،1201منشور بمجلة المعيار الصادرة عن نقابة المحامين بفاس ،العدد األول،
ص 43وما بعدها.
2قرار المجلس األعلى الصادر بتاريخ 21فبراير ،1202مجلة قضاء المجلس األعلى ،عدد ،21ص 210وما بعدها.
" 3رقابة المجلس األعلى على محاكم الموضوع في المواد المدنية" ،م.س ،ص 330وما بعدها.
33
ـــ رقابة محكمة النقض على تطبيق القانون:
يعد استخالص النتائج القانونية وإنزالها على الوقائع العمل األخير من نشاط قاضي الموضوع،
ويدخل في هذا الشق القانوني مجموعةً من األمور كلها تدور حول الحكم القاضي الحامل
للقاعدة القانونية ،ويمكن تصنيفها إلى ما يتعلق بالجانب الموضوعي للحكم (أوال) ،ثم ما يتعلق
بالجانب الشكلي له (ثانيا) نذكر ذلك باقتضاب:
بعد وقوف قاضي الموضوع على القاعدة القانونية الواجبة التطبيق على النزاع المعروض
عليه ،فيحدث أن يجد القاضي هذه القاعدة قد شابها الغموض أو نقص ،فيكون آنئذ مضطرا
لتفسيرها إذا كانت غامضة ،أو تكميلها إن كانت ناقصة ،أو على األقل أن يبدي رأيه تجاهها ال
أن يدعها كالمعلقة.
باإلضافة إلى ما سبق ،فإن على قاضي الموضوع أن يحترم عند إعداده للحكم القضائي ،جميع
النصوص القانونية التي يتوقف عليها اكتساب الحكم للصفة القانونية ،والخطأ الشكلي أو
اإلجرائي الذي من الممكن أن يشوب الحكم ،قد يتخذ بصفة عامة إحدى الصورتين :خطأ يتعلق
بالسلطة التي أصدرت الحكم ،وخطأ يتعلق بعملية إصدار الحكم.1
ومحكمة النقض ــ المجلس األعلى سابقا ــ بطبيعة الحال تبسط رقابتها القضائية على "الحكم/
القرار" القضائي الذي يصدره قاضي الموضوع ،هل استجاب فعال للشروط الشكلية
والموضوعية التي تشترط فيه ،وإال فإنها تنقضه.
1
" رقابة المجلس األعلى على محاكم الموضوع في المواد المدنية " ،مرجع سابق ،ص .341
34
المطلب الثاني :السلطة التقديرية للقاضي الجنائي:
وهذا المبدأ له أصل شرعي متين ،فقد ذكر ابن فرحون في كتابه "تبصرة الحكام بأصول
األقضية ومناهج األحكام" في جزئه الثالث أنه" :ينبغي أن يوسع على حكام الجنايات والجرائم
وأال يضيق عليهم" ،وقبل األمام شهاب الدين القرافي تطرق لهذا المبدأ ،3فهاذان العالمان
الفقيهان القاضيان عاش األول في القرن الثامن الهجري وعاش الثاني في القرن السابع الهجري
قد سبقا األنظمة القانونية المعاصرة إلى العديد من النظريات ومنها هذا المبدأ الذي ذكرناه.
كما يختلف نظام اإلثبات في المواد الزجرية عن المواد المدنية ،حيث إن وسائل اإلثبات في هذه
األخيرة ت َهيَّأ قبل النزاع وقبل إثارة الدعوى من ثم حصرها المشرع وحددها في عدد معين،
على عكس وسائل اإلثبات في المادة الجنائية إذ تهيأ األدلة بعد فتح الدعوى وإثارتها وأثناء
مناقشتها وعرضها.
35
لهذا أخذ المشرع المغربي كباقي التشريعات األخرى بالمذهب الحر في المادة الزجرية ،على
غرار المادة المدنية التي تستمد أساسها من الحقوق وااللتزامات الشخصية المتبادلة بين
المتعاقدين ،من ثم حصرت لهم األدلة ووسائل اإلثبات ،ألنه ليس ثمة هناك ما يدعو إلى فرض
هذا المبدأ.
وهكذا إ ٍذ ،فمبدأ حرية اإلثبات من القواعد العامة األساسية التي تحكم اإلثبات الجنائي ،1ذلك
ألنها تتعلق بوقائع وأحداث غير قانونية ،وتهدف إلى إثبات ما ارتبط بها من أفعال جرمية،
ونسبتها إلى شخص بعينه ،أو أشخاص معينين.2
وبناء على ذلك يتعين على القاضي الزجري أن يمكن أطراف النزاع من اإلدالء بكافة الحجج
واألدلة ،التي يرون أنها ستعزز موقفهم ووجهة نظرهم ،لكن يتحتم عليه أن يستبعد ما يراه غير
ذي نفع وجدوى في إثبات النزاع المطروح عليه.
وقد نص المشرع المغربي على مبدأ حرية اإلثبات في المادة 251من الفرع األول من الباب
األول من القسم الثالث من المسطرة الجنائية المغربية ،3فحسب ما نصت عليه الفقرة األولى
من هذه المادة" :يمكن إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل اإلثبات ،ما عدا األحوال التي
يقضي القانون فيها بخالف ذلك".
فهذه الفقرة أجملت ما قلناه سابقا؛ من أن المذهب الحر هو السائد في المادة الجنائية لالعتبارات
التي أشرنا إليها.
بنا ًء على ذلك ،فإن القاضي الجنائي يتمتع بسلطة واسعة وبصالحية كبيرة ،في استخالص
الوقائع (الجرائم) وتكييفها وتنزيل القاعدة القانونية عليها ،وال يخضع لرقابة محكمة النقض إال
1لئن كانت هذه القاعدة مما تنص عليه القوانين الوضعية ،فإنها ال تتعارض مع األحكام الشـــرعية اإلسالمية ،بل تقرها
وتطبقها.
"أدلة اإلثبات الجنائي وقواعده العامة في الشريعة اإلسالمية" ،د.حسن بن دمحم اليندوزي ،الطبع :طوب بريس ،الطبعة األولى،
شتنبر ،2004ص .32
2المرجع السابق ،نفس الصفحة.
3ظهير شريف رقم 1.02.233الصادر بتاريخ 23رجب 3 (1423أكتوبر )2002بتنفيذ القانون رقم 22.01المتعلق
بالمسطرة الجنائية ،منشور بالجريدة الرسمية عدد 3005بتاريخ 20ذي القعدة 30( 1423يناير ،)2003ص .313
36
في حدود ضيقة ،فهو يبحث عن تأسيس قناعته وإشباعها ،ولن يبني حكمه إال على الجزم
واليقين التام ،أما إن شك في نسبة الواقعة للمتهم فإنه يحكم له بالبراءة ،استنادا لقاعدة" :الشك
يفسر للمتهم" ،وقاعدة "البراءة األصلية" ،التي تتفرع عنها قاعدة" :األصل براءة الذمة"،
و"بقاء ما كان على ما كان" ،و" درء الحدود بالشبهات" ،وقاعدة البينة على المدعي واليمين
على المدعى عليه أو على من أنكر" ،وكلها وغيرها قواعد وضوابط استقتها التشريعات
المعاصرة من َرحم الشريعة اإلسالمية السمحة ،وهي ضمانات معتبرة للمتهم ،تضمن له
مدعى عليه
ً المحاكمة العادلة ،وتضعه في مركز قانوني معتبر ،فال يقع عليه عبئ اإلثبات ألنه
وليس مدعيا ،فالمدعي هو الذي يقع عليه عبئ اإلثبات ألنه ادعى خالف األصل والظاهر،
فيتحتم عليه إثبات ما ادعاه وهو المبدأ العام الذي جسدته الشريعة الغراء قبل زمن بعيد لتأخذ به
األنظمة القانونية المعاصرة.
و في هذا الصدد قضت محكمة النقض المصرية بأن( :األحكام في المواد الجنائية يجب أن
تبني على الجزم واليقين ،ال على الظن واالحتمال).
وقضت أيضا بأن( :األحكام الصادرة باإلدانة يجب أن ال تنبني إال على حجج قطعية الثبوت،
تفيد الجزم واليقين ).1
وليس يعني هذا أن مبدأ الحرية في اإلثبات الجنائي على إطالقه ،بل ترد عليه مجموعة من
القيود فرضتها فكرة العدالة" ،ذلك أن فكرة العدالة تقضي بضرورة عرض الحجج ،وتمكين
الخصوم من مناقشتها شفاهيا وحضوريا ،أمام القاضي الجنائي لتكوين القناعة التامة لديه"،2
كما يمنع استقاء أي حجية كتابية من المراسالت التي تتم أو تمت بين المتهم ووكيله ،وهو ما
نصت عليه المادة 224من المسطرة الجنائية ":ال يمكن أن ينتج الدليل الكتابي من الرسائل
المتبادلة بين المتهم ومحاميه" ،ويضاف إلى ذلك القيود المفروضة على الوسائل المستعملة في
1نقض( 10-3-1235/11-10-1230/13-4-1241 :أنظر" :قانون اإلجراءات الجنائية" علق عليه الدكتور أحمد دمحم
إبراهيم ص ،311_313 :القاهرة ،سنة.)1213 :
" 2أدلة اإلثبات الجنائي وقواعده في الشريعة اإلسالمية" ،مرجع سابق ،ص .33
37
التحقيق واالستنطاق وكذلك في إثبات الجريمة ،إذ يمنع منها ما يمس بكرامة اإلنسان أو حرمته
أو بدنه ،كتخدير المتهم أو تنويمه تنويما مغناطيسيا ،1أو إخضاعه للفحص بآلة الكذب أو
لجراحة الدماغ ،بغرض الحصول على اعترافه.2
فكل ذلك يمس بكرامة المتهم وشخصيته ويضر بنفسيته ،وهو ما حرمته الشريعة اإلسالمية من
قبل ،قب َل أن تجرمه المجتمعات اإلنسانية فيما بعد ،ومنها أيضا :أن يتم استخدام الحيل والخديعة
والوعو د الكاذبة ضد المتهم مقابل اعترافه أو إقراره بما نسب أو لم ينسب إليه ،كأن يتم تغريره
باإلفراج المؤقت أو اإلفراج الشرطي ،أو تبرئته مما نسب إليه ،كما يحظر تعذيب المتهم أو
تعنيفه نفسيا أو جسديا أثناء مرحلتي البحث التمهيدي أو التحقيق اإلعدادي معه ،باإلضافة إلى
أن كل هذه الوسائل ال تؤدي غالبا إلى الحقيقة المنشودة بل تعقد األمور.
تقدم بنا أن مبدأ حرية اإلثبات هو السائد في المادة الزجرية ،من ثم فالقاضي له سلطة تقديرية
واسعة في تقدير األدلة ،وفي استخالص الوقائع ،وتكييفها وحتى في تنزيل القاعدة القانونية
عليها ،ومادام مبدأ حرية اإلثبات قائم فإن حرية االقتناع قائمة ،فاألول يقتضي الثاني وهي
معادلة يسيرة اقتضاها منطق األمور ،وحرية اقتناع القاضي تستمد أساسها من تتمة الفقرة
األولى من المادة 251من المسطرة الجنائية إذ جاء فيها:
"ويحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم ويجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي وفقا
للبند 5من المادة 313اآلتية بعده".
وإذا رجعنا إلى هذا البند المذكور وجدنا مضمونه يدور حول األسباب الواقعية والقانونية التي
بني عليها الحكم أو القرار او األمر ولو في حالة البراءة ،والتي يتحتم أن يتضمنها الحكم
1على أن هناك من الفقهاء القانونيين المغاربة من أباح هذه الوسائل ،وعدَّها من وسائل اإلثبات الحديثة ،وهو ما يخالف
شريعتنا أصالة والعدالة القانونية تبعا ،من ثم اليعتد بموقفهم.
" 2دراسة في المسطرة الجنائية المغربية" ،الدكتور دمحم عياط ،شركة بابل للنشر والتوزيع-الرباط ،الطبعة األولى ،سنة
،1221الجزء األول /ص .240
38
الصادر من الهيئة القضائية ،ولو معَّنَّا النظر في هذه المسألة ،فإن الواقع أساسا والقانون تبعا
هما األرضية الخصبة لممارسة القاضي لنشاطه ،وهذا األخير ال يَستَتم وال يكتمل إال بعد أن
يؤسس القاضي قناعته تجاه النزاع المطروح.
َّ
وألن الواقعة الزجرية لما لها من حساسية مفرطة فتثير تارة عاطفة المجتمع وتارة أخرى هذا،
غضبهم ،فيأخذون نظرة سلبية عن المتهم ويحتقرونه مدى عمره ،لهذا فإن القاضي َيت َ َحيَّط
كثيرا ويتأنى ويلزم التؤدة قبل أن يدين المتهم بما نسب إليه ،من ثم فال َج َر َم أن القاضي ال
يحكم إال بناء على اليقين التام ،فيبحث في األدلة المقدمة إليه ويقيمها ويوزنها ،فإذا لم تكف أمر
بالشهود أو اليمين أو انتقل إلى إجراءات التحقيق ،كل هذا ليؤسس قناعته على أرضية صلبة،
ويجد ما يعلل به حكمه.
بعدما َكيـَّفنا السلطة التقديرية للقاضي في ك ٍل من الفقه المالكي والتقنين المغربي في الفصل
األول ،ننتقل إلى النظر في بعض تطبيقاتها في المادة العقارية وما يشوب ذلك من إشكاال ٍ
ت
لتكمل الرؤيا وتتضح ،وهو موضوع الفصل الثاني.
الفصل الثاني :السلطة التقديرية للقاضي في العقار المحفظ والعقار غير المحفظ:
يهدف هذا الفصل إلى معالجة اإلشكالت التي اتسمت بها سلطة القاضي العقاري ،مع بيان
حدودها ومجاالتها في كل من العقار المحفظ والعقار غير المحفظ ،علما أن المقنن أخذ
بالمذهب المختلط في اإلثبات في المادة المدنية ،لكن سلطة القاضي في العقار المحفظ
محدود جدا وهو إشكال نعالجه في المبحث األول ،على أن العقار غير المحفظ وثيق الصلة
بالفقه المالكي من جهة كسب الملكية وإثباتها ،وكذلك الترجيح بين البينات وما اتسم به ذلك
من إشكاالت ،وهو ما نتناوله في المبحث الثاني ،على أننا اخترنا تقسيم الفصل إلى مبحثين
تسهيال للدراسة؛
39
المبحث األول :السلطة التقديرية للقاضي في العقار المحفظ:
يرمي هذا المبحث إلى رصد سلطة القاضي العقاري والتعرض إلى المشكالت المتعلقة بها أثناء
إنجاز عملية التحفيظ وبعد إنجازها ،على أن األصل في هذه المسطرة أنها إدارية ــ تتم داخل
المحافظة العقارية ــ لكنها في أغلب األحايين تنتهي قضائية ،بنشوب التعرضات ،وبعد فشل
مسطرة الصلح والتحفيظ الجزئي الذي يقوم بهما السيد المحافظ ،فيقوم هذا األخير بإحالة الملف
إلى المحكمة االبتدائية ــ الغرفة العقارية ــ ،لتنظر في صحة هذه التعرضات من عدمها المقدمة
ضد مطلب التحفيظ ،ما يطرح مشكال حول سلطة القاضي؟ عل ًما َّ
أن المشرع المغربي تبنى
المذهب المختلط في المواد المدنية ،ــ والمادة العقارية بطبيعتها مادة مدنية ــ فهل امتد المذهب
أن اإلثبات فيها مقيدٌ؟ (المطلب األول) ،ومعلو ٌم َّ
أن القضاء في المختلط ليشملها في اإلثبات؟ أم َّ
منازعات التحفيظ قضاء مختلط تحكمه االزدواجية بين القضاء العادي والقضاء اإلداريَّ ،
وأن
ٌ
رهين بإدارية قرار المحافظ العقاري ،فكيف نفصل بين القضاءين في منازعات هذا األخير
التحفيظ ؟ (المطلب الثاني).
مـر بنا أن المشرع المغربي تبنى المذهب المختلط في المادة المدنية ،طبقا للفصلين 404
َّ
و 443وغيرهما من ظهير االلتزامات والعقود ،حيث حصر وسائل اإلثبات وحددها للقاضي
فال يملك الركون لغيرها وسلطته التقديرية تتفاوت من دليل آلخر ،ثم قيد المعامالت التي تفوت
عشرة آالف درهم بالكتابة كما هو منصوص عليه في الفصل 443السالف ،وال يختلف اثنان
على أن المادة العقارية مادة مدنية محضة يحكمها ظهير االلتزامات والعقود من الناحية
40
الموضوعية فيما لم يرد فيه نص خاص ،أما من الجانب الشكلي فتحكمها المسطرة المدنية إال
أن يرد نص خاص فإنه يقدم عليها ،لكن المشكل المطروح أن اإلثبات مقيد جدا في المادة
العقارية خصوصا ً في العقار المحفظ ،فــتــقَيَّد به من ثم سلطة القاضي العقاري ،وهذا مخالف
لمعهود المادة المدنية؟؟
وغني عن البيان أن المادة العقارية من ألصق المواد القانونية بالفقه المالكي ،حيث إن أحكامها
مستمدة من المنظومات والمدونات الفقيهة المشهورة ،وهذا ال يجاحد فيه أحد ،فالقانون كما هو
معلوم فقه قنن ،لكن المادة العقارية تمتاز بخصوصية كبيرة في هذا الصدد ،حيث إن المذهب
المالكي من أعظم المذاهب وأكيــفها مع واقع الناس على مر العصور ،فقد َكــا َي َ
ف جميع
النوازل والوقائع التي تحل بالناس في دينهم ودنياهم معا ،وتمذهب به الناس في الشرق والغرب
معا ،وهو أول مذهب يجمع بين ذلك ،ومرد كل ذلك إلى أصوله المرنة ،إذ يجمع بين األثر
والنظر في وقت واحد ،وهي ميزة عزت في بقية المذاهب ،ضف إلى ذلك قاعدة ما جرى به
العمل؛ وهي من أدق ما وقف عليه فقهاء المغرب ،دون أن ننسى عمل أهل المدينة ومراعاة
الخالف ،1وبناء على ذلك فإن فقهاء المالكية اعتنوا كثيرا أكثر من غيرهم بالمادة العقارية
(ألنها تشكل جزءا كبيرا من الفقه) وحرروا فيها مؤلفات فريدة ال تعد ،ونظموا فيه منظومات
بهية ال تحصى ،أل ن اإلنسان بطبعه مهووس بتملك األراضي والتصرف فيها منفعة أو كراء أو
بيعا أو رهنا ،ومعلوم عند المغاربة أن من ملك األرض ملك الفكر وملك من عليها وما تحتها.
َّ
لكن الرجوع إلى هذه المؤلفات 2والنظر فيها واالرتواء من معينها ،ليس باألمر الهين ،بل
يحتاج ذلك إلى دربة ومراس وعلم رصين ،وهو ما ال يتأتى البتة عند القضاة المعاصرين الذين
1للتوسع في هذه المسألة؛ أنظر على سبيل المثال ال الحصر " :خصائص المذهب المالكي للدكتور دمحم التاويل"" ،لم المذهب
المالكي؟" للدكتور دمحم الروكي" ،محاضرات في تاريخ المذهب المالكي"" ،مباحث في المذهب المالكي " كالهما للدكتور عمر
الجيدي.
2وأقصد ههنا المؤلفات الفقهية المعتمدة في القضاء؛ كمتن مختصر خليل وشروحه المعتبرة ،وكذا المنظومات المعتمدة في
هذا الصدد؛ تحفة ابن عاصم ،وشروحها؛ كشرح التسولي وميارة وشرح المهدي الوزاني ،المية الزقاق وشروحها؛ كشرح
التاودي والهواري والرهوني ،العمل الفاسي ،العمل المطلق ،كذلك كتب النوازل؛ كالمعيار للونشريسي والنوازل الكبرى
والصغرى للمهدي الوزاني.
ــ للمزيد أنظر "أصول االجتهاد والفتوى والقضاء في المذهب المالكي" للدكتور دمحم رياض.
41
غالبهم من خريجي كليات الحقوق ،أما النبهاء من خريجي كليات الشريعة والقانون فهم أهل
الصنعة وأسياد التخصص وال يضاهيهم في ذلك أحد - ،لكنهم مع األسف الشديد يشكلون نسبة
ضئيلة جدا من قضاة المغرب ،-ومرد ذلك :أوال؛ ألنهم ثلة قليلة جدا مقارنة مع طلبة الحقوق .
على أن كليات الشريعة والقانون بالمغرب عددها ثنتان فحسب ،ثانيا؛ أن نسبتهم الكبرى تنحاز
إلى المجاالت األخرى من غير القضاء(كولوج مهن التربية والتكوين او االلتحاق بخطة العدالة
أو إتمام الدراسات العليا ...او غيرها).
لهـذا قام المشرع المغربي بالرجوع إلى المدونات الفقهية المذكورة وتقنين المهم منها ووضعه
بين يدي القاضي ،ليسهل عليه تناوله وتنزيله على الوقائع والنوازل المعروضة عليه ،وهذا
تحجير على القاضي تماما وتقييد لسلطته تقييدا تاما ،فلم يعد للقاضي أي دور هام غير
استخالص الواقعة ووضعها في إطارها القانوني أو :ما يسمى بالتكييف ثم تنزيل النص المقنن
عليها ،وهنا المشكل.
لكن ،لوال ذلك لتوقفت عجلة القضاء في المغرب تماما ،فالقاضي خريج كلية الحقوق ال يتقن
الفقه المالكي وال يفهم فيه شيئا ،بل وال يعرف المصنفات المعتمدة في القضاء ،وال يدري كيف
ار في التمييز
يرجع إليها وال كيف يحيل عليها ،ولو افترضنا أنه يعلم ذلك و-هذا بعيد جدا ،-ل َح َ
بين الراجح والمشهور 1في الكتب الفقيهة ،وبين ما جرى به العمل 2عند المتأخرين ،ضف إلى
ذلك أن كتب الفقه معقدة جدا من ناحية اللغة والمنهج معا ومتشابكة الخيوط ،3فهي ليست للعامة
1على أن هاذين المصطلحين وقع فيهما خلف كبير بين الفقهاء على مر العصور.
2ومعناه الدقيق :العدول عن القول الراجح أو المشهور في بعض المسائل إلى القول الضعيف فيها رعيا لمصلحة أو
ضرورة ،أو غير ذلك.
3ليس تنقيصا منها بل تبجيال لها ورفعة لمقامها.
42
بل لخاصة الخاصة ،ألنها كتب تدريسية أساسا ،1وضعها الفقهاء رحمهم هللا لطلبة العلم
المتقدمين 2الذين قضوا نحبهم في تحصيل العلم.
ناهيك أن المنازعات العقارية يشوبها طابع التعقيد ومستغرقة في الزمن ،وتتعلق أساسا بالملكية
والحيا زة وباقي الحقوق العينية األصلية منها والتبعية ،...ولو أراد القاضي أن يرجع
للمصنفات الفقيهة ليجد حال مناسبا شافيا كافيا لنازلة الحال ،لوجد نفسه أمام عشرات
المصنفات ،ولن يدري بأي منها يأخذ وعلى أي منها يحيل.3
خصوصا وأن القواعد الفقهية المنظمة للمواد العقارية رغم أنها مشتتة في بطون األمهات
التدرك إال بمشقة ،وال يفك رموزها إال من كان جهبذا ذا عدة لغوية وفقيهة.4
إذا علمنا هذا ،نفطن إلى السبب الذي جعل المشرع يقنن الفقه في مدونات قانونية قيدت من
سلطة القاضي العقاري وحجرت عليه ،والتحجير على القاضي ليس وليد اليوم بل هي عادة
قديمة جدا في المغرب ،وقديما قال العالمة أبو شعيب الدكالي رحمه هللا " :القاضي في المغرب
محجر عليه بالراجح والمشهور".
وإذا كانت محاسن التقنين على نحو ما قرره فقهاء القانون هي تحقيق مبدأ االستقرار القانوني
الم َ
طبق قضا ًء ،فإن من مساوئه :تقييد القضاء بتلك القوانين بحيث ال يحيد عنها في أحكامه حتى
لو لم تعد تحقق المصلحة والعدل المرجوين ،وهذا بخالف نصوص الفقه اإلسالمي األوسع
مجاال واألكثر ثراء ،تترك للقاضي فرصة اختيار ما يناسب النازلة القضائية ويحقق المصلحة
والعدل.5
1ولذلك تجد الفقهاء رحمة هللا عليهم كثيرا ما يستعملون لفظ "إعلم رحمك هللا" –والضمير راحع إلى طالب العلم -في
مؤلفاتهم الفقهية واألصولية وحتى اللغوية.
2أما العوام وطبقة المثقفين (باللغة المعاصرة) وأرباب المهن والخرف والتخصصات األخرى فحدهم أن يطرقوا باب المفتين
الستفتائهم فيما شابهم من مشكل أو حل عليهم في األمور المرتبطة بدينهم عبادات أو معامالت.
3وقد ذكر المهتمون بهذا الشأن أن المصنفات التي يلزم القاضي الرجوع إليها في المنازعات العقارية تفوق الثالثين مصنفا
بين المتون والحواشي والذيول والمنظومات.
" 4القواعد الفقهية وتطبيقاتها القضائية في المادة العقارية والمدنية في ضوء مدونة الحقوق العينية وقانون االلتزامات والعقود
والفقه اإلسالمي" ،د /عادل حاميدي ،الطبعة الثانية – ،5102مطبعة النجاح الجديدة ،ص .50
5نفسه صفحة .01
43
هذا ،وقبل صدور مدونة الحقوق العينية 1سنة 2011كان القضاة يرجعون إلى الفقه المالكي
في المنازعات المرتبطة بالعقار غير المحفظ باعتباره مرجعا أساسا ال غنى عنه في هذا
الصدد ،فيلفون أنفسهم في أرضية واسعة بين دفتي عشرات المصنفات ،فيكلفون أنفسهم عناء
البحث عن حل مناسب للنزاع المطروح ،وهي مهمة شاقة جدا تأخذ زمنا ليس باليسير من
القاضي ،لكنه بها يصير قاضيا مربيا فقيها نبيها ذو ملكة وفطنة ال يغلبه أي نزاع.
لكن بصدور المدونة سنة 2011تم تقييد سلطة القاضي العقاري تماما ،إذ كان العقار غير
المحفظ قبل صدور المدونة المسترا َح األوحد للقاضي العقاري ،لكن مع األسف الشديد فغالبية
قضاة المملكة – حتى قبل صدور المدونة – إنما يركنون للسوابق القضائية ،وقليل جدا منهم
من كان يكلف نفسه عبء الرجوع لبطون المؤلفات الفقيهة ،والسبب راجع بطبيعة الحال لمن
حررناه أعاله ،من أنهم ال يدرون كيفية الرجوع إليها ،إما لضعف تكوينهم أو لقلة خبرتهم أو
هما معا.
وما زاد الطين بلة أن قصر المقنن اإلحالة في المادة األولى من م ح ع على الراجح والمشهور
وما جرى به العمل في المذهب المالكي وجعله مصدرا تكميليا ولم يشر على كل المذهب،2
بعدما أحال أوال إلى ظهير االلتزامات والعقود وجعله مصدرا أصليا وهذا تضييق محكم لسلطة
القاضي العقاري ،وإن كان ظهير االلتزامات والعقود فقه مالكي قائم وضعه فقهاء مالكيون،
م بني أساسا على المصالح المرسلة ،وهذا ال جدل وال شك فيه ،لكننا نساؤل المقنن -إن كان ما
نظمه هذا الظهير من محتوى المادة العقارية كافٍ لجعله مصدرا ً أصليا محيال عليه ؟ والجواب
طبعا ال ،ألن ظ ل ع إنما نظم الحقوق الشخصية من االلتزامات بين المتعاقدين بشكل عام في
1الظهير الشريف رقم 1.11.105الصادر بتاريخ 22نونبر 2011بتنفيذ القانون رقم 32-05المتعلق بمدونة الحقوق العينية،
المنشور في الجريدة الرسمية عدد 3225بتاريخ 24نونبر .2011
2كما صنع في مدونة األسرة ،وإن أخر اإلحالة وأوردها في المادة األخيرة منها (المادة ،)044ولم يكتف باإلحالة إلى
المذهب المالكي على شساعته فحسب ،بل أحال إحالة مطلقة على االجتهاد الذي يراعى فيه قيم اإلسالم في العدل والمساواة
والمعاشرة بالمعروف على حد تعبير المادة ،وهذا يقتضي اإلحالة على جميع المذاهب ،ألنها كلها تحوي االجتهاد المشروط
بما شرطته المادة ،وإن كان األجدر بالمقنن أن يضيق اإلحالة في المادة األسرية لما لها من خصوصية وحساسية شديدة
مرتبطة بديننا الحنيف أوال وبالمجتمع المغربي ثانيا ــ حتى ال تصير المادة األسرية محل اجتهادات مخالفة للمذهب المالكي
والعرف المغربي ـــ وأن يوسعها (اإلحالة) في المادة العقارية ،ولكنه مع األسف أعكس اآلية ،وكذلك نفس الصنيع في
مدونة األوقاف في المادة 961حيث جاء فيها" :كل ما لم يرد فيه نص في هذه المدونة ،يرجع فيه إلى أحكام المذهب
المالكي فقها واجتهادا بما يراعى فيه تحقيق مصلحة الواقف".
44
ا لكتاب األول ثم نظم العقود وأشباه العقود في الكتاب الثاني منه وذلك باعتباره قانونا مدنيا ،فما
دخل المادة العينية فيه أساسا؟ إال في جزئيات يسيرة منه ،وإن كان يصلح ليكون مصدرا
محيال عليه في المنقوالت دون العقارات ،وهذا مشكل أيضا.
فكان األجدر بالمقنن أن يحيل على كل المذهب المالكي ويجعله مصدرا أصليا ،ويستتبعه
ظهير االلتزامات والعقود كمصدر تكميلي ،فهذا في صالح القضاء من الدرجة األولى حتى ال
يضيق عليهم كما هو الحال اآلن ،حتى إن المصطلحين "الراجح" و "المشهور" غير
ف كبير بين فقهاء المالكية فيما بينهم على مر العصور ،ضف
مضبوطين البتة ووقع فيه خل ٌ
إليهم كذلك مصطلح "ما جرى به العمل".
لكننا لسنا نجانب الصواب إذا قلنا إن هذه االصطالحات التي ال َكتها األلسنة وتلقفها الباحثون
في أكثر األحوال هي ألفاظ بال ثمرة بل فيها مشكل يوقف كل استنتاج وكل إحالة مادامت هذه
المصطلحات لم تحسم في وجه الجزم ما هو الراجح إلى زمن صدور مدونة الحقوق العينية وال
ما هو مشهور .فهذه اصطالحات أشكلت على الفقهاء في زمن القضاء بالفقه المالكي لما كان
المصدر المباشر فيما يقضى به فكيف ال تشكل في زمن التقنين وتواري رتبة الفقه المالكي
المجرد !. 1
فهذا االضطراب الحاصل في االصطالحات المحيل عليها من قبل المشرع أفرز غموضا
والتباسا وأشكل على الفقهاء والقضاة المالكيين المتمكنين على مر العصور فكيف ال يشكل على
قضاة اليوم !.
" 1مدونة الحقوق العينية ومشكل اإلحالة على المذهب المالكي" ،أستاذنا /د .حسن القصاب ،مقالة منشورة في مجلة الفقه
والقانون الدولية – العدد ،104يونيو ،2021ص .23
45
القاضي هاذان
َ به العمل من مذهب مالك كمصدر تكميلي ،لكن ما العمل إذا لم يسعف
حل للنزاع ؟ وههنا اإلشكال ،فلو أن المقنن أحال على كل المذهب
المصدران خالل بحثه عن ٍ
المالكي الَنتفى اإلشكال من أصله ،فالمادة العقارية مادة دسمة بالنوازل والقضايا الحديثة ،لذلك
فكثيرا ما يرجع القضاة لكتب النوازل كالمعيار المعرب والمعيار الجديد خصوصا في قضايا
الشفعة والقسمة والحيازة بنوعيها ...وغيرها ،إذا استعصهم الحل في المدونات القانونية
المختصرة ،لكن ليس دائما كتب النوزل أو حتى السوابق القضائية تشفي الغليل ،وحتى الراجح
والمشهور وما جرى به العمل ال يفي بالغرض دائما ،فكيف العمل إذا في ظل هذا اإلشكال؟
إننا طرحنا هذا اإلشكال لنفهمه في أحسن األحوال ،ولسنا ههنا نبحث عن حل أو حلول ،لكننا
إذ نأمل أن نثير فهم ونظر المقنن ليجد له حال شافيا ،فقاضي اليوم مقل ٌد وفي أفضل األحوال
يَلمس "اجتهاد التخريج" ،لكن هذا األخير عند المالكية رهين بالجماعة ال بالفرد وهو ما يمكن
لَحظه في قضاة محكمة النقض عند اجتماعها بغرفتين أو بجميع الغرف ،على أن قضاة محكمة
النقض علما ٌء في الشريعة (أصولها وفروعها) والقانون ،ألن مجتهد التخريج يلزمه أن يكون
قياس في
ٌ ضابطا ألصول المذهب محيطا بفروعه فيقوم ئـ ٍذ بتخريج الفرع على األصل وهو
جميع األحوال ،1ألن الفرع مجهول واألصل معلوم وبينهما علة محكومة بحكم ثابت يدور معها
ــ الحكم ــ وجودا وعدما.
المطلب الثاني :ازدواجية الطعون القضائية المقدمة ضد ق اررات المحافظ العقاري وسلطة
ــ الفقرة األولى :مركز القضاء العادي في مسطرة التحفيظ وسلطة القاضي التقديرية إزاءها:
ــ الفقرة الثانية :إدارية قرار المحافظ العقاري ومركز القضاء اإلداري في نزاعات التحفيظ:
46
الفقرة األولى :مركز القضاء العادي في مسطرة التحفيظ وسلطة القاضي التقديرية إزاءها:
غالبا ما تنتهي مسطرة التحفيظ قضائية 1بعد نشوب التعرضات ،فيحيل المحافظ على األمالك
العقارية مباشرة الملف إلى محكمة التحفيظ (المحكمة االبتدائية) ،لتبت في صحة هذه
التعرضات من عدمها ،بعد فشل عمليتي الصلح والتحفيظ الجزئي –هذا إن كان ممكنا ،-وهو
منطوق الفصل - 31الفقرتان الثالثة والرابعة منه -من ظهير التحفيظ العقاري ،2على أن
المحكمة في هذا الصدد إنما يقتصر دورها في النظر إلى وجه صحة التعرضات المقدمة مع
تحديد نوعها ومحتواها ومداها ...إلخ ،ثم تحيل الملف إلى السيد المحافظ للعمل بقرارها 3الذي
قضت به ،وهي مسطرة قضائية مدنية عادية تطبق فيها إجراءات 4نص قانون المسطرة
المدنية 5باعتباره الشريعة العامة في الدعاوي المدنية ،والمحافظ ملزم 6بتطبيق الحكم القضائي
النهائي 7الصادر في القضية ،لكن مع ذلك تبقى له سلطة واسعة في قَبول مطلب التحفيظ كالً أو
جزءا ً مع إبقاء حق الطعن لألطراف أمام القضاء العادي ،8ليس هذا فحسب بل الطعن في
قرار المحافظ يطال أيضا رفضه تقييد حق عيني أو التشطيب عليه ،كذلك إلغاء التعرض لعدم
اإلدالء بالحجج والمستندات (الفصول 24و 23و 21و 20و 22و 32من ظهير التحفيظ
العقاري) ،ورفض التصحيح بطلب من األطراف أو عدم قَبول التصحيحات المنجزة من طرف
47
المحافظ (الفصول 21و 20من ظ ت ع) ،وكذلك رفض تسليم نظير الرسم العقاري أو شهادة
خاصة بالتقييد ( الفصول 101و 102و 103من ظ ت ع).
كل هذه القرارات تقبل الطعن أمام القضاء العادي ،على أن المحافظ يلزمه أن يعلل قراراته
لكن اإلشكال المطروح َّ
أن؛ القاضي العقاري في منازعات تعليال كافيا حتى تتسم بالحيادَّ ،
التحفيظ سلطته محدودة جدا وضيقة ،فمن جانب التعرضات ال يملك إال النظر في صحتها من
عدمه ،فال يملك تقييم األدلة وال مقارعة الحجج ،ومن جهة أخرى فإن المحافظ العقاري يمتع
بسلطات واسعة جدا وامتيازات عديدة ،ال تظهر أمامها سلطة القاضيَ ،مع أن القاضي في ظل
منازعات التحفيظ هو المحور الرئيس وعليه المدار ،إذ هو الذي يفض النزاع ويحدد حدود
العقار المتنازع فيه وينظر في صحة التعرضات ،وإذا تضرر أحد الطرفين من قرار المحافظ
جرد المقنن القاضي من جميع
فهو الذي ينظر في األمر ..إلى غير ذلكَ ،مع كل هذا َّ
الصالحيات وضيق من سلطته وحجر عليه ،وفي المقابل متَّع المحافظ بامتيازات وسلطات ثقيلة
وضمانات واسعة تجعله ال يلقي باال وال يأبى للمؤسسة القضائية وال لمقرراتها ،وهو الحال
فعال ،وهذا أمر خطير يمس بهيبة القضاء وقداسته ،ليس هذا فحسب ،بل دائما ما تخلق هذه
المسألة نقاشا وجدال واسعا في صفوف القضاة والمحامين ،تجعلهم َينقمون من السيد المحافظ
ويعضون عليهم أناملهم غيظا ،من ثم فقد وقع المقنن في تناقض كبير يدفع القضاء ثمنه غاليا.
فلو أن المقنن وازن بين السلطتين :سلطة المحافظ وسلطة القاضي ،ال أن يرفع إحداهما إلى عنان
السماء مقابل األخرى ،لجنب الوقوع في مثل هذا التناقض المحرج.
التحفيظ: الفقرة الثانية :إدارية قرار المحافظ العقاري ومركز القضاء اإلداري في نزاعات
نشب خالف بين الفقه فيما إذا كان المحافظ على األمالك العقارية سلطة إدارية 1من ثم تقع
عليه المسؤولية اإلدارية في قراراته ،وشأنه شأن سائر الموظفين فإنه يتحمل تبعات األخطاء
1ــ قرار الغرفة اإلدارية للمجلس األعلى سابقا –محكمة النقض حاليا -عدد 132في الملف اإلداري عدد 52552بتاريخ 30
أبريل " ،1252القضاء العقاري أحكام وقرارات" ،الجزء األول ،أكتوبر ،1252ص.3 :
48
التي يرتكبها أثناء نشاطه اإلداري ،سواء شابت هذه القرارات أخطاء أم شابها الشطط في
استعمال السلطة أم تكون تسببت في أضرار للمرتفقين ،وليس اإلشكال ههنا ،فنحن نؤيد هذا
أي من قرارات المحافظ يصح الطعن فيها أمام القضاء
االتجاه ونراه صوابا ،إنما المشكل هوٌّ :
اإلداري ؟ فإذا وجدنا حال لهذا المشكل نكون قد حددنا متى يكون قرار المحافظ إداريا ،على أن
المقنن في ظهير التحفيظ العقاري لم يتعرض لهذه المسألة بشكل صريح ،إنما في غالب
األحوال يفهم منه متى يمكن الطعن أمام القضاء اإلداري ،على أنه –المقنن -حسم األمر في
قرارات المحافظ الخاصة بمسطرة التحفيظ؛ أثناء التحفيظ وبعده- ،وقد استقصيناها أعاله -فكل
قرارات المحافظ الصادرة منه أثناء عملية التحفيظ وبعدها فإنما يطعن فيها أمام القضاء العادي،
حيث أشار المقنن إلى ذلك في العديد من الفصول ،مثال (في الفصل 30مكرر عند رفض
مطلب التحفيظ ،ف 21عند رفض التشطيب على حق عيني ،ف 103عند رفض تسليم
نظيرالرسم العقاري) إلى غيرها من الفصول.
وحتى إن محكمة النقض كثيرا ما وقعت في تناقض فادح في قراراتها ،إذ تصنف بعض
قرارات المحافظ بأنها قرارات إدارية من ثم يطعن فيها أمام القضاء اإلداري ،ثم تأتي بعد ذلك
فتخرجها عن اختصاص القضاء اإلداري لتدخلها ضمن اختصاص القضاء العادي ،فهي
متأرجحة ليس لها توجه موحد في هذه المسألة ،وهذا ليس في صالح القضاء وال المتقاضين.
وبنا ًء على ما سبق فإننا نخرج بأن القضاء العادي هو المختص في البت في قرارات المحافظ
الصادرة منه أثناء عملية التحفيظ (رفض مطلب التحفيظ ،إلغاء مطلب التحفيظ ،رفض
التعرض ،إلغاؤه )...وبعدها (التشطيب على حق عيني ،رفض التقييد ،قرار رفض تسليم نظير
من الرسم العقاري ،)...وبتعبير أدق فالقضاء العادي هو المرجع في المرحلتين اإلدارية
والقضائية لعملية التحفيظ.
49
فلم يبق ئذ للقضاء اإلداري إال البت في قرار المحافظ برفض تنفيذ حكم أو قرار 1نهائي اكتسب
ضى به ،قلنا "األحكام النهائية" ألنها تحصنت من جميع الطعون العادية وغير
قوة الشيء المق َ
عذر ليتقَعَّس عن تنفيذها ،2ويستمد ما ذكرناه أساسه من
ٌ العادية ،من ثم فلم يعد لدى المحافظ
المادة 5من قانون إحداث المحاكم اإلدارية 3التي حددث االختصاص النوعي لها ،ومن بينه:
البت في قرارات تجاوز السلطة ودعاوي التعويض عن األضرار حسب المادة المذكورة،
وكذلك شرعية هذه القرارات (المادة 44من القانون المذكور).
فالقضاء اإلداري إذن بشقيه؛ "الشامل" و"قضاء اإللغاء" هو المختص في مثل هذه الدعاوي،
فمادام المحافظ سلطة إدارية فإن قراره ذاك إن كان مجحفا في حق أحد المرتفقين فال يملك إال
أن يدق باب قضاء اإللغاء ليبت فيه فيلغيه إذا اتسم فعال ب"تجاوز السلطة" أو بتعبير أدق
الشطط في استعمال السلطة ،ألنها الوسيلة الوحيدة التي بها يستطيع الطاعن اقتضاء حقه ،وإذا
تضرر أحد من ذلك القرار ضررا معتبرا 4فيمكنه رفع دعوى التعويض في إطار القضاء
ا لشامل ،ونحن نؤيد االتجاه القائل بإلزام إثبات العالقة السببية بين الضرر والخطأ ونراه
األصوب واألسلم ،حتى ال يصير المحافظ مظنة للوم والتهمة ،مع إثبات العالقة السببية ليس
سهال دائما بل في بعض األحايين قد يكون من الصعوبة بمكان.
والذي نلحظه أن سلطة القاضي اإلداري محدودة جدا في في هذا الصدد ،إذ ال تتجاوز إلغاء
قرار المحافظ برفض تنفيذ حكم نهائي أو البت في دعوى التعويض عن الضرر الناجم عن
تنفيذ القرار المذكور ،مع أن المحافظ على األمالك العقارية والرهون سلطة إدارية يتوجب
1ــ األحكام القضائية الصادرة عن محاكم أول درجة يطلق عليها "أحكام" أما التي تصدر عن محاكم االستئناف ومحكمة
النقض فتسمى ب " القرارات".
2ــ ولكن غالبا ما يدفع المحافظون العقاريون بصعوبة تنفيذ الحكم النهائي أو استحالة ذلك (وفي هذه النقطة نقاش واسع ،فلسنا
نلوم المحافظ دائما ،فمساطر التنفيذ المنطمة في المسطرة المدنية معقدة جدا وتأخذ زمنا طويال ما يطرح إشكاال).
3ــ الظهير الشريف رقم 203-21-1الصادر في 22ربيع األول 1414الموافق ل 10شتنبر 1223بتنفيذ القانون رقم -20
41المحدث بموجبه المحاكم اإلدارية.
4ــ وقد حصل خلف كبير حول هذه المسألة سواء في القضاء اإلداري الفرنسي أو القضاء اإلداري المغربي على مجرد الخطأ
أم أنه يشترط وقوع الضرر مع وجود عالقة سببية بين الخطأ والضرر التي يلزم إثباتها.
50
معها أن تمنح للقاضي اإلداري سلطة واسعة ،وهو تضارب وقع فيه المقنن الذي لم يتعرض
مطلقا الختصاص القضاء اإلداري في منازعات التحفيظ.
بعدما وقفنا على سلطة القاضي التقديرية في العقار المحفظ ورصدنا اإلشكاالت المتعلقة بها
فقها وقانونا وقضاء ،بقي لنا أن ننظر في سلطته إزاء العقار غير المحفظ وما يتسم به من
إشكاال ت ،لتكتمل الرؤية التطبيقية على المادة العقارية التي خصصنا لها هذا الفصل وهو
موضوع المبحث اآلتي.
يرمي هذا المبحث إلى الوقوف على سلطة القاضي في كسب ملكية العقار وكذا في إثباتها من
خ الل األدلة والحجج المقدمة له ،وسلطته في الترجيح بينها إذا تعذر الجمع ،وليس يخفى أن
سدى ولحمةَ سلطة القاضي في الحجج التي يقدمها له أطراف النزاع من حيث تقريبها وتقييمها
والترجيح بينها ،ومن أجل التيسير على القاضي فقد استنبط الفقهاء مرجحات يستعان بها عند
عشر ،وهي التي نص عليها المقنن في المادة
ٍ تعذر الجمع بين األدلة ،وقد حصرها بعضهم في
الثالثة من مدونة الحقوق العينية.
(المطلب الثاني) نتعرض فيه إلى سلطة القاضي في إعمال ضوابط الترجيح بين البيِّنات:
إن الملكية ال تكسب هكذا مجردا ،بل لها أسباب تصدى لها الفقهاء رحمهم هللا وبسطوا فيها
القول بما فيه الكفاية ،والتي خصص لها المقنن الكتاب الثاني من مدونة الحقوق العينية ،وعدَّها
51
في أحد عشر سببا ،1في حين أن الفقهاء لم يحصروها في عدد معين( ألنهم في الغالب ينتبهون
إلى ما يوافق الشرع من األمور وليس إلى عدها وحصرها) ،على أن الفقهاء لم يجعلوا
الحيازة 2سببا من أسباب الملك كما هو صنيع المقنن في المدونة إنما جعلوها قرينة على التملك
وحسب ،ومن ذكاء الفقهاء أنهم صنَّفوها في باب الشهادات وبذلك فهي تنفع في اإلثبات،
فينظرون إلى الحيازة على أنها تمنع من سماع الدعوى؛ وفسر اإلمام الحطاب معناه بقوله":
والظاهر أن المراد بعدم سماعها عدم العمل بها من أنه ال توجه على المدعى عليه يمين إذا
أنكر ،ال أنها ال تسمع ابتداء ،فإن ذلك غير ظاهر الحتمال أن يقر المدعى عليه ،ويعتقد أن
مجرد حوزه يوجب له الملك" ،3وذلك حسما للخالفات وتقليال من كثرة النزاعات القضائية
التي كانت تسببها مثل هذه الدعاوي (التي أغلبها كيدية صادرة عن سوء نية) ،وتجنبا كذلك لما
يثار من مشكالت اإلثبات ،والشكوك في أصول الحقوق ،ثم لو ألقينا نظرة متمعنة في محاكم
اليوم لوجدنا أن أكثر القضايا روا ًجا هي المتعلقة بوضع اليد أو الحيازة الظاهرة ،4ولو أن
المقنن سار على نهج الفقهاء – فجعل الحيازة قرينة على التملك ال سببا له من ثم تمنع من رفع
الدعوى إذا لم يعزز دعواه بحجج أخرى -لَ َح َ
سم أمر هذه الدعاوي التي تذهب فيها أوقات الناس
وأموالهم وأعمارهم هباء منثورا ،ف"أساس الحيازة مبني في القانون على قواعد التقادم
المكسب ،والتقادم غير مكسب للحقوق العينية عند فقهاء المسلمين ،ألن التوسيع في الحيازة
لم يتجاوزعند متأخري الفقهاء األخذ بالتقادم باعتباره مانعا عن سماع الدعوى التي تحمي
1ــ وهي إحياء أراضي الموات والحريم وااللتصاق والحيازة والمواريث والوصية والمغارسة والهبة والصدقة والشفعة ثم
القسمة.
2ــ على أن الحيازة عند القانونيين يقسمونها إلى حيازة عرضية وأخرى استحقاقية ،وهو تقسيم مدرسي وحسب ،أما وإن
الفقهاء يقسمونها إلى حيازة مثبتة وأخرى نافية أو مبطلة ،فاألولى تنفع عندما ال يعرف للملك مالك (أي أصله مجهول) فتكفي
فيها عشرة أشهر إلى سنة ،وهي التي نص عليها خليل بقوله " :وصحة الملك بالتصرف ،وعدم منازع ،وحوز طال كعشرة
أشهر ،وأنه لم يخرج عن ملكه ،".والثانية عندما يعلم للملك أصل وصاحبه ساكت ،بذلك فال بد فيها من عشرة سنوات ،وهي
ما أشار إليها صاحب التحفة ،على أن مدة الحيازة تبدأ عند القانونيين بعد انتهاء مدتها األصلية (عشرة أشهر /عشر سنوات)
وهذا يخالف ما عليه الفقهاء ،إذ الحيازة عندهم تبدأ ببداية مدتها.
3ــ مواهب الجليل في شرح مختصر خليل ،للعالمة الحطاب ،جزء 1ص .22
4ــ تم تنظيمها ضمن مسطرة خاصة في المسطرة المدنية في الفصول من 111إلى ،100من ثم فهي خاصة بالدعوى إذ
تنعدم فيها نية التملك ،وأما الحيازة االستحقاقية التي تشترط فيها نية التملك مع ادعائه فتم تنظيمها في مدونة الحقوق العينية.
52
الحق ،ال باعتباره مكسبا للحق أو مسقطا له ،1.ونفس األمر بالنسبة للتقادم فالقانونيون فهموه
عكس ما نظر إليه الفقهاء ،ألنهم ال يقرون بالتقادم على أنه مكسب للملكية بل مانع من سماع
جر مشكال بمشكل،
الدعوى بحق مضى عليه زمن معين وحسب ،لهذا يمكن القول :إن المقنن َّ
كما أن الحائز ليس مدعيا بل مدعا عليه فال يقع عليه عبء اإلثبات وال يسأل عن أصل الحق،
خالفا ً لنقول الملكية األخرى.
وبناء على ما سبق ،فإن سبب الملكية ينظر إليه على أنه دليل إثبات وحجة ،من ثم يملك
القاضي إزاءه سلطة واسعة في تقديره ووزنه وفي قَبوله ورده ،وهذا قبل صدور م ح ع حيث
كان القضاة يحتكون بالفقه اإلسالمي في المنازعات المتعلقة بالعقار غير المحفظ ،مما يوفر لهم
سلطة واسعة في هذا الصدد ،لكن مع صدور المدونة ح ع سنة 2011حدًّت من سلطتهم نوعا ً
ما ،2لكن ما تزال لهم فسحة يعملون فيها سلطتهم التقديرية ،وعلى رأسها أسباب كسب الملكية
وكذا إثباتها؛ فالقاضي حينما تعرض عليه قضية متعلقة بوضع اليد أو استحقاق عقار غير
محفظ فإن له سلطةً في هذا الصدد فهو يقدر األدلة والحجج المعروضة عليه من قبل أطراف
النزاع ويوزنها ويقبل المهم منها ويرد ما ال جدوى فيه ،ويتفقد أيضا وجود شروط الملكية
الخمس 3في الدعوى إلى غير ذلك ،..كذلك من أحيى أرضا مواتا ثم وقع على إثر ذلك نزاعٌ،
فالقاضي ههنا نظرا لس لطته فإنه ينظر إلى األدلة المقدمة له ،كذلك يتفقد تحقق شرط اإلحياء؛
وهو اإلذن من الدولة 4بصريح المادة 5222من م ح ع إضافة إلى العمل في األرض من
غرس وزراعة وسقي وري ..كل هذا ،يدخل ضمن صميم سلطة القاضي التقديرية التي البد
منها لتحقيق العدالة المنشودة .
1ــ "الموجز في الحقوق العينية وفق أحكام المدونة واألصول الفقهية" ،أستاذنا د.حسن القصاب ،مكتبة دار العرفان للنشر
والتوزيع ،الطبعة األولى سنة ،2012ص .55
2ــ وقد فصلنا القول في هذه النقطة في المبحث السابق.
3ــ وهما إجماال :الهدوء ،الظهور ،الوضوح ،االستمرار.
4ــ على أن الجمهور ومنهم الحنفية لم يشترطوا إذنا لذلك ،وأما ما تمسك به المالكية من اشتراط اإلذن من اإلمام في العقار
القريب من العمران فقد استندوا فيه إلى دليل ضعيف ،وقد حقق ابن حجر هذه المسألة في الفتح ،ولسنا ندري على أي أصل
فقهي استند المقنن في هذه المسألة.
5ــ " األراضي الموات التي ال ملك لها تكون ملكا للدولة ،وال يجوز وضع اليد عليها إال بإذن صريح من السلطة المختصة
طبقا للقانون".
53
وهذه الملكية كما أن لها بداية فإن لها نهاية (ألن العقد عامة له بداية ونهاية) ،وما تكسب به
الملكية فبه تنقضي ،لكن المقنن المغربي وخالفا للفقهاء فقد جعل القسمة والشفعة مما تكسب به
الملكية ال بما ينقضي به الحق (كما اعتبره الفقهاء) ،وهو مشكل تشابه على الفقه القانوني،
فاعتبروا أن القسمة والشفعة منشئتان للملكية ،ولكن الفقه اعتبرهما كاشفتان عنها ،وهو
التحقيق ،ألن الملك قائم في ظل الشيوع ،وال تنشئه الشفعة وال القسمة بل ينقضي وينكشف
بهما ،والفكر القانوني استقر على أن القسمة منشئة للملكية (الحق) ،بينما الفقهاء رحمهم هللا لهم
نظرة ثاقبة متمعنة ،فنظروا إلى القسمة نظرة مزدوجة أي أنها كاشفة ومنشئة في نفس الوقت
على أن ،هذا التمييز بين النظر القانوني والنظر الفقهي في هذه المسألة له آثار؛ وهو أن القسمة
فيها المعنيان معا :معنى المبادلة وهو النقل وفيها أيضا معنى الفرز وهو الكشف إذ لها طبيعة
مزدوجة ،لكن القانونيين اقتصروا على المعنى األول وحسب ،ولم يتفطنوا للمعنى الثاني الذي
سبقهم به الفقهاء من قبل.
على أن المقنن خالل إيراده ألسباب كسب الملكية األحد عشر في الكتاب الثاني من م ح ع خلَّط
بين األسباب المكسبة للملكية واألسباب الناقلة لها واألسباب الكاشفة عنها ،فضمها جميعا إلى
األسباب المكسبة ،فالشفعة والقسمة قلنا إنها تكشف عن الحق وليست تنشئه وهو نظر الفقهاء
قديما ونعتبره صوابا ،أما الهبة والوصية والصدقة والميراث فهي أسباب ناقلة للملكية وليس
ناشئة لها ألن الملكية قائمة قبل حصول نقلها ،فإنما انتقلت من ذمة إلى أخرى ،ولم تنشئ في
ذمة المنقول له ،فهي ملكية واحدة وانتقلت ،وليستا ملكيتان كما يرى الفكر القانوني ،ولكن
المقنن لم يميز بين النظرين الفقهي والقانوني.
البينات:
المطلب الثاني :السلطة التقديرية للقاضي في إعمال ضوابط الترجيح بين ّ
إن القاضي وهو يبت في القضايا والنوازل المعروضة عليه تقدم له أدلة وحججا من قبل
أطراف النزاع ،فيقوم بتقديرها ووزنها وتقريبها طبقا لسلطته التقديرية ،من ثم يحسم النزاع
بالفصل بينها ،ولكن أحيانا قد تكون هذه األدلة (البينات) متعارضة فيلزم عليه الترجيح بينها إذا
54
تعذر الجمع .فما مدى سلطة القاضي التقديرية في إعمال ضوابط الترجيح بين البينات؟
نعرض لهذا المشكل من خالل فقرتين:
ــ الفقرة األولى :أحكام التعارض والترجيح بين البينات في الفقه المالكي ومدونة الحقوق
العينية:
ــ الفقرة الثانية :قواعد الترجيح بين البينات في ضوء الفقه المالكي ومدونة الحقوق العينية:
الفقرة األولى :أحكام التعارض والترجيح بين البينات في الفقه المالكي ومدونة الحقوق
العينية:
يعرف التعارض بأنه ":اشتمال كل منهما (يقصد البينات) °ما ينافي األخرى" ،1وعرفه
السرخسي بأنه " :تقابل الحجتين المتساويتين ،على وجه يوجب على كل واحد منهما ضد ما
توجبه األخرى ،كالكل والحرمة ،والنفي واإلثبات ،2".ويعرفه األصوليون بأنه " :تقابل الدليلين
3
عرفه بأنه" :أن يقدم كل طرف في الخصومة
على سبيل الممانعة " ومن المعاصرين من ًّ
4
دليال ،يؤيد دعواه ،وينفي دعوى األخر ،بحيث لو أنفرد دليل أحدهما لحكم له به".
وتعمدنا تقديم تعريف ابن عرفة(بالسكون) ،ألنه تعريف جزيل ودقيق وموجز ،وال ضير فهو
شيخ التعاريف رحمه هللا ،على أن هذه التعاريف التي أوردناها تتفق أن التعارض هو مقابلة
1ــ وهو تعريف البن عرفة أورده الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير للدردير ،دار إحياء الكتب العربية ،جزء 4ص
.212
2ــ أصول السرخسي ،جزء ،2ص .12
3ــ " الجامع ألحكام أصول الفقه (المسمى ب :حصول المأمول من علم األصول)" ،دمحم صديق حسن خان القنوجي ،تحقيق
ودراسة :أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي ،راجعه وقدم له :أبو الحسن عطية مسعد العكاوي ،ط ،1القاهرة ،دار الفضيلة للنشر
والتوزيع ،2013 ،ص .322
°زيادة غير واردة في التعريف.
4ــ "وسائل في اإلثبات في الشريعة األسالمية والمعامالت المدنية واألحوال الشخصية" ،الدكتور مصطفى الزحيلي ،الجزءان
األول والثاني مجموعين ،ط ،1402/1252 ،1ص .233
55
الحجج بعضها ببعض على وجه يستحيل الجمع بينها مما يستدعي الترجيح ،على أننا نميز بين
التعارض والتضاد ،فهذا األخير ال يرد عليه الترجيح على غرار األول وهو التمييز ،فما
شروط التعارض؟
شروط التعارض:
وشروطه خمسةٌ كما نص على ذلك الباحثون؛ وهي اتحاد البينتان أو البينات موضوعا وزمنا
وقوة ً مع شرعيتها وعدم إمكانية الجمع بينها ،والتفصيل كما يلي:
فالبينات البد أن ينصب موضوعها على محل واحد ،كالعقار مثال أو األسرة ،ال أن يكون
مو ضوع إحداهما الحيازة مثال وموضوع األخرى الوعد بالبيع فذلك ال يستقيم.
أي :أن يكون لها تاريخ واحد ،ألن التأريخ من أساب الترجيح بين البينات ،فالبينة السابقة مقدمة
على البينة الالحقة (وسنتطرق لهذا فيما بعد).
أي :أن تكون لها قوة واحدة من حيث الثبوتية ،بحيث تكون على درجة واحدة من اإلثبات ،كأن
يأتي طرفا النزاع كالها بأوراق رسمية ،فهذا اتحاد في القوة وتعارض واضح ،أما أن يأتي
أحدهما بورقة رسمية ويأتي أخر بورقة عرفية فال اتحاد في القوة ههنا ،وال تعارض أيضا ،إذ
تقدم الورقة الرسمية على الورقة العرفية ،والخط الرسمي على الخط العرفي.
56
رابعا :مشروعيتها:
معناه أن تكون كال البينات التي يدلي بها أطراف المنازعة شرعية غير مخالفة للقانون وال
األعراف ،فال يصح أن يدلي أحدهما أو كالهما بأوراق مزورة (سبق أن صدر فيها حكم
قضائي نهائي بذلك) ليثبت بها ملكية العقار محل النزاع ،وهكذا ...
أي :أن تكونا غير متفقتين فإذا أمكن الجمع بينهما انتفى التعارض من أصله ،وهو شرط
أساس ،لقول خليل ":وإن أمكن جمع بين البينتين ُجمع وإال رجح" ،1فال تعارض إذا بين
بينتين متفقتين متكاملتين.
على أنه إذا تحققت هذه الشروط يمكن ئذ الحديث عن التعارض ،والقاضي له سلطة تقديرية
واسعة في التحقق من توفرها.
ــ مفهومه:
ــ شروطه:
يعرف الترجيح بأنه " :تقوية أحد الطرفين على اآلخر ،فيعلم األقوى فيعمل به ،ويطرح اآلخر
والقصد منه تصحيح الصحيح ،وإبطال الباطل " ،1.نكتفي بهذا التعريف الدقيق المنسوب لإلمام
ناكر أن األصوليين هم األكثر دقة في هذا الباب.
ٌ الرازي ،وال ينكر
57
ثانيا :شروطه:
نميز ههنا بين الشروط التي قررها الفقهاء وبين الشروط التي وضعها القانونيون ،فالفقهاء
األصوليون اشترطوا للترجيح2؛
أ ــ التساوي في الثبوت فال تعارض بين الكتاب وخبر الواحد إال من حيث الداللة.
ب ــ التساوي في القوة فال تعارض بين المتواتر واآلحاد ،بل يقدم المتواتر باالتفاق ،كما نقله
غير واحد من األصوليين.
ج ــ اتفاقهم ا في الحكم مع اتحاد الوقت ،والمحل ،والجهة ،فال تعارض بين النهي عن البيع
3
وقت النداء مع اإلذن به في غيره.
فالقاضي أول ما يقوم به هو التأكد من صحة وشرعية الحجج التي أدلى بها أطراف النزاع،
فإن تأكد من صحتها نظر فيها وإال صرف عنها النظر ،وفي هذا الصدد جاء قرار لمحكمة
النقض ..." :المحكمة ال تلجأ إلى قواعد الترجيح بين الحجج إال عندما تكون حجج الطرفين
مستوفية للشروط المتطلبة شرعا ومنطقية على أرض النزاع".4
1ــ "الجامع ألحكام أصول الفقه (المسمى ب :حصول المأمول من علم األصول)" ،م .س ،ص .322
2ــ للتفصيل ينظر( :البحر المحيط) جزء 1ص ص 102ــ ( ،110إرشاد الفحول) للشوكاني ،جزء 2ص ( ،005إحكام
الفصول) جزء 2ص ،141وكذلك (شرح الكوكب المنير) ،جزء 4ص ،111ومن المعاصرين (التعارض والترجيح)
للدكتور دمحم الحفناوي.
3ــ "الجامع في أحكام أصول الفقه" (المسمى ب :حصول األمول في علم األصول) ،ص .322
4ــ قرار عدد 030الصادر بتاريخ 2001/2/20ملف مدني عدد ،2000/1/1/1132عبد العزيز توفيق " قضاء المجلس
األعلى في التحفيظ خالل 40سنة" ،مطبعة النجاح الجديدة -الدار البيضاء ،الطبعة األولى .1222
58
ب ــ تعارض الحجج:
جاء في المادة الثالثة من م ح ع ":إذا تعارضت البينات المدلى بها إلثبات ملكية عقار أو حق
عيني على عقار ،وكان الجمع بينهما غير ممكن ،فإنه يعمل بقواعد الترجيح بين األدلة".
ونشير إلى أن التعارض ال يحصل بين الحجيتين إال بتحقق شروط التعارض الذي أشارنا إليه
سابقا؛ من اتحا ٍد في القوة والزمن والثبوت والمحل(وهو الموضوع أو نوع الحجتين).
بعد الشرطين األولين ،البد أن يتأكد القاضي من أن الحجج المدلى به في ملك طرفا النزاع،
أي :تحقق صفة التملك في الحجج ،وهو ما أكدته محكمة النقض في غير ما مرة ... " :فإن
عبء اإلثبات يقع على عاتق المستأنف عليهم والذين لم يؤيدوا مطلبهم بأية حجة معتبرة شرعا
إلثبات تملكهم للعقار المدعى فيه خاصة بعد استبعاد رسم ملكيتهم ...فإنه نتيجة لما ذكر يكون
القرار المطعون فيه مرتكزا على أساس قانوني ،ومعالل تعليال سليما والسبب بالتالي غير
جدير باالعتبار".1
وهو شرط أساس بدهي فال بد أن تكون الرسوم في ملكية األطراف المتنازعة حول مثال.
الفقرة الثانية :قواعد الترجيح بين البينات في ضوء الفقه المالكي ومدونة الحقوق العينية:
نعرض للقضية من خالل بيان قواعد الترجيح التي قررها فقهاء المالكية مع ما يوافقها في
التقنين العقاري المغربي وسلطة القاضي إزاءها؛
حيث إن القاضي وهو ينظر في النزاع بعدما عرضت عليه حجج األطراف وأدلتهم ،يحاول
الجمع بينها ،فإذا استحال عليه ذلك ،استبعد إحداها أو كالهما عن طريق دفعها (إسقاطها) ،وإال
تحتم عليه الترجيح بينها ،وهو أخر ما يلجأ إليه القاضي ،وقد وضع فقهاء المالكية رحمهم هللا
1ــ قرار عدد 1/341بتاريخ 2014/11/4ملف مدني رقم 2014/1/1/21/21صادر عن محكمة االستئناف بوجدة.
59
أسبابا للترجيح بين األدلة ،1لتساعد القاضي وتسهل عليه حسم النزاع ،وهي التي نص عليها
المقنن في المادة الثالثة من م ح ع إذ جاء فيها ما يلي:
" إذا تعارض البينات المدلى بها اإلثبات ملكية عقار أو حق عيني على عقار ،وكان الجمع
بينهما غير ممكن ،فإنه يعمل بقواعد الترجيح بين األدلة ومن بينها:
فهذه البينات وردت على سبيل التمثيل ال الحصر ،وقد أجملها صاحب الالمية وزاد عليها
بقوله:
1ــ وقد حصرها أبو الشتاء الصنهاجي رحمه هللا في عشر مرجحات.
60
بالنقل واإلثبات أو ما قد أصـــــال وملك على حوز وزيد عدالــــــة
وفع ٌل بال خصم بها الملك يجتـــال يـ ٌد نسبة طو ٌل كعشرة أشهــــــــر
61
والبينات في الحقيقة كثيرة جدا ال تحصى ،بل تتجدد بتجدد الوقائع واألحوال ،والمقنن إنما
استقى ما اشتهر منها في كل من المتن الخليلي 1وتحفة ابن عاصم والمية الزقاق ..وغيرها من
كتب ومنظومات القضاء.
وتعرف البينة بأنها ":كل ما يبين الحق ويظهره" على أصح األقوال ،2إذ اختلف الفقهاء في
3
صروها على الشهادة وزاد ابن حزم علم القاضي،
ص َدها ،على أن جمهور الفقهاء ق َّ
معناها و َمق َ
أما متأخري الحنابلة ومنهم ابن القيم وابن تيمية رحمهما هللا فوسعوا في معناها لتشمل كل ما
يبين الحق ويظهره ،فشهادة الشهود هي المنتشرة قديما وعليها المدار ،إذ لم تكن الكتابة
معروفة ،فأغلب الناس ال يكتبون إال العلماء والمتعلمين ،فارتقت الشهادة إلى حد البينة (أي
الحجة والبرهان) لكثرة االعتماد عليها واللجوء إليها ،والخلف لفظي في الحقيقة بين الجمهور
صروها على الشهادة فإنهم لم يمنعوا إدراج غيرها من
وغيرهم في معنى البينة ،فإن كانوا ق َّ
األدلة ووسائل اإلثبات تحتها من إقرار وكتابة (على ندرتها) وغيرها ..إنما السبب ما ذكرناه
أنفا ،على أن معنى البينة في هذا الزمان يتجه نحو الكتابة ال محالة لكثرة فشوها وانتشارها،
ولكون المقنن تحاشى اإلثبات بغيرها في غير ما موضع ،4إضافة إلى ما لها من ضمانات في
حفظ وصيانة حقوق الناس ،مقارنة مع غيرها من وسائل اإلثبات.
هذا ،والقاضي له سلطة تقديرية واسعة في الترجيح بين البينات المتعارضة ،اعتمادا على
أسباب الترجيح التي أوردناها ،فيقدم البينة التي ذكرت سبب الملك على التي لم تذكره ،ويقدم
بينة الملك على الحوز ،كما يقدم البينة المفصلة على البينة المجملة ،والبينة السابقة في التاريخ
على البينة الالحقة ،والبينة المؤرخة على التي لم تؤرخ... ،إلى غيره ،فكلها بينات دقيقة
استنبطت من رحيق الفقه من قبل فقهاء أفذاذ جهابذة تجعل القاضي مطمئن البال خالل فصله
للنزاع ،مع ما توفره له من سلطة واسعة.
1ــ النص الخليلي طويل جدا في هذا الصدد ،فلم نرتأ إيراده.
2ــ وهو قول ابن القيم رحمه في كتابه (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) ص ( 14أنظر أي طبعة).
3ــ على أننا تطرقنا لهذه القضية في المبحث األول من الفصل األول من هذا البحث ،فتحرينا االختصار.
4ــ أنظر على سبيل المثال الفصل 443من ق ل ع ،الذي نص على أن المعامالت التي تتجاوز 10.000.00درهم ال تثبت
إال بالكتابة.
62
خـــــــــــــــــــــاتمـــــــــــــــة:
يتحصل مما تقدم أن تناولنا في الفصل األول من هذا البحث التكييفين الفقهي والقانوني لسلطة
القاضي التقديرية ،حيث توصلنا في المبحث األول إلى أن قضاء القاضي بعلمه لم يجوزه
المالكية مطلقا ،وأن الفقهاء اختلفوا في ضمه إلى البينات(وسائل اإلثبات) ،وهي نتيجة المطلب
األول ،أما المطلب الثاني فخصصناه لمعالجة مشكل قضاء القاضي أهو اجتهاد أم تقليد،
واألصل عند المالكية أن القاضي ال يجتهد ،وإنما يجتهد في كشف األحكام وهو التحقيق.
وفي المبحث الثاني توصلنا إلى أن المقنن المغربي تبنى المذهب المختلط في اإلثبات مما يجعل
سلطة القاضي منضبطة مع وسائل اإلثبات المحددة قانونا ،وإن لم تسعفه أعمل سلطته التقديرية
صد الصواب من المذهب المختلط ،على أن محكمة النقض تبسط رقابتها على سلطة
وهو المق َ
القاضي من ناحية تنزيل القاعدة القانونية على الوقائع وهي خالصة المطلب األول ،أما المطلب
الثاني فتناولنا فيه سلطة القاضي الجنائي ،باعتباره يتمتع بسلطة واسعة.
في الفصل الثاني وقفنا على سلطة القاضي في المادة العقارية ،حيث توصلنا في المبحث األول
إلى أن القضاة المعاصرين ال يحسنون الرجوع إلى المؤلفات الفقيهة ،ما جعل المقنن يصدر
مدونة ح ع ،ما أسهم في الحد من سلطتهم ،وهي نتيجة المطلب األول ،وفي المطلب الثاني
تعرضنا إلى سلطة ك ٍل من القاضي العادي والقاضي اإلداري في العقار المحفظ ،حيث إن
األول باعتباره قاضي التحفيظ يبت في جميع النزاعات المتعلقة بهذه العملية ،رغم ذلك فسلطته
محدودة ،أما القاضي اإلداري فسلطته أيضا محدودة جدا واختصاصه محصور في البت في
طلبات إلغاء قرار المحافظ.
في المبحث الثاني خَلصنا إلى سلطة القاضي الواسعة في كسب الملكية وكذا في إثباتها ،وهي
نتيجة المطلب األول ،وفي المطلب الثاني وقفنا على سلطته في إعمال قواعد وضوابط الترجيح
تعارضها. بين البينات حين
63
فهرس المراجع:
1ــ القرآن الكريم برواية ورش عن نافع.
2ــ " الجامع ألحكام أصول الفقه (المسمى ب :حصول المأمول من علم األصول)" ،دمحم
صديق حسن خان القنوجي ،تحقيق ودراسة :أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي ،راجعه وقدم له:
أبو الحسن عطية مسعد العكاوي ،ط ،1القاهرة ،دار الفضيلة للنشر والتوزيع.2013 ،
3ــ "الموجز في الحقوق العينية وفق أحكام المدونة واألصول الفقهية" ،أستاذنا د.حسن
القصاب ،مكتبة دار العرفان للنشر والتوزيع ،الطبعة األولى سنة .2012
4ــ "وسائل في اإلثبات في الشريعة األسالمية والمعامالت المدنية واألحوال الشخصية"،
الدكتور مصطفى الزحيلي ،الجزءان األول والثاني مجموعين ،ط .1402/1252 ،1
3ــ أدب القاضي ،علي بن دمحم بن حبيب الماوردي البصري الشافعي ،حققه؛ محي هالل
السرحان ،دار النشر :مطبعة الرشاد ،بغداد 1202 ،م.1322 /
1ــ الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب مالك ،أبي البركات أحمد بن أبي أحمد
الدردير العدوي المالكي األزهري ،خرج أحاديثه الدكتور مصطفى كمال وصفي ،الناشر :دار
المعارف.
0ــ "أنوار الفروق في أنواء البروق" ،أبو العباس شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمان القرافي
المالكي ،نشره عالم الكتب ،الطبعة دون ذكر اسمها وال تاريخها.
5ــ "حلي المعاصم لبت فكر ابن عاصم" ،دمحم بن الطالب التاودي ابن سودة.
2ــ الوسيط في شرح القانون المدني ،عبد الرزاق السنهوري ،دار النشر للجامعات المصرية،
.1231
10ــ حسن الفهم لمسألة القضاء بالعلم ,دمحم أبو الهدى اليعقوبي الحسني ,دار البشائر
اإلسالمية ,ط.1
64
11ــ "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية" ،شمس الدين ابن القيم الجوزية ،دمحم بن أبي بكر
بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي ،حققه نايف بن أحمد الحمد ،مجمع الفقه اإلسالمي بجدة،
1425ه ،الطبعة األولى.
12ــ " التعليق على نصوص قانونية " ،أحمد أبو الوفا ،الطبعة الثالثة ،منشأة المعارف-
اإلسكندرية -مصر.
13ــ " دراسة في المسطرة الجنائية المغربية" ،الدكتور دمحم عياط ،شركة بابل للنشر
والتوزيع-الرباط ،الطبعة األولى ،سنة .1221
14ــ " رقابة المجلس األعلى على محاكم الموضوع في المواد المدنية "(،محاولة للتمييز بين
الواقع والقانون)" ,دمحم الكشبور,مطبعة النجاح الجديدة ,الطبعة األولى سنة .1422-2001
13ــ "السلطة التقديرية للقاضي في المواد المدنية والتجارية " ،نبيل اسماعيل عمر ،دار النشر
الجديدة للنشر.
11ــ "القواعد الفقهية و تطبيقاتها القضائية في المادة العقارية والمدنية في ضوء مدونة الحقوق
العينية وقانون االلتزامات والعقود والفقه اإلسالمي" ،د /عادل حاميدي ،الطبعة الثانية –
،5102مطبعة النجاح الجديدة.
10ــ "النظرية الخاصة للتكييف القانوني للدعوى في قانون المرافعات" ,دار الفكر العربي,
(م .ط .غ .م).
15ــ "علم قاعدة التنازع واالختيار بين الشرائع أصوال ومنهجا" ,مكتبة الجالء الجديدة
بالمنصورة.1221 ,
12ــ "قضاء النقض والتمييــز؛ في الواد المدنية والتجارية في التشريعين المصري
والكويتي" ،جالل الدين هاللي ،مكتبة الفالح للنشر والتوزيع ،الطبعة األولى – .1253
20ــ "مشكل اإلحالة في مدونة الحقوق العينية والفقه المالكي" ،أستاذنا د .حسن القصاب،
مقال منشور في مجلة الفقه والقانون الدولية – العدد ،104يونيو .2021
65
21ــ "نظرية اإلثبات في التشريع الجنائي المغربي" ،مقال منشور في مجلة المحاكم المغربية
عدد ،11أبريل سنة ،1201طبعة .1223
22ــ "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" ،عالء الدين الكاساني ,مطبعة الجمالية ,الطبعة
األولى سنة 1325هـ.
23ــ المحلى باآلثار ،ابن حزم الظاهري ،دار الفكر – بيروت – الطبعة :بدون ذكرها وال
ذكر تاريخها.
24ــ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير بهامشه تقريرات عليش ,المكتبة التجارية
الكبرى(توزيع دار الفكر)-بيروت.
23ــ سنن ابن ماجة ،أبو عبد هللا دمحم بن يزيد القزويني ،تحقيق :فؤاد عبد الباقي ،نشر إحياء
الكتب العربية ،القاهرة -مصر( ،دون ذكر الطبعة والتاريخ).
21ــ صحيح البخاري" ،الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم وسننه وأيامه" ،دمحم بن إسماعيل البخاري ،دار ابن كثير -اليمامة ،ط 1250م.
20ــ "وسائل اإلثبات في القانون المدني المغربي" ,إدريس العلوي العبدالوي , ،مطبعة النجاح
الجديدة ,سنة .1402-1251
25ــ "نظام القضاء في الشريعة اإلسالمية" ,الدكتور عبد الكريم زيدان ,مكتبة البشائرَ ,عمان,
الطبعة الثانية 1402هــ1252-م.
22ــ "أدلة اإلثبات الجنائي وقواعده العامة في الشريعة اإلسالمية" ،د .حسن بن دمحم
اليندوزي ،الطبع :طوب بريس ،الطبعة األولى ،شتنبر .2004
30ــ "الموطأ" ،مالك بن أنس األصبحي ،تصحيح وتخريج دمحم فؤاد عبد الباقي ،مطبعة دار
إحياء الكتب العربية ،ط .1255
31ــ "مسند اإلمام أحمد" ،تحقيق أحمد شاكر ،دار المعارف – مصر ،ط– 1242 /3 :
1315ه.
66
32ــ "الوجيز في فقه اإلمام الشافعي" ،أبو حامد الغزالي ،نشره :دار األرقم بن أبي األرقم،
1415ه1220 -م ،الطبعة األولى.
33ــ "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج" ،شمس الدين دمحم بن الخطيب ،طبعة
دار المنهاج.
34ــ "الدرر المنظومات في األقضية والحكومات" ،ابن أبي الدم الحومي الشافعي ،دار الفكر
المعاصر ،بيروت.
33ــ "المغني من مستودعات الفقه الحنبلي" ،موفق الدين ابن قدامة المقدسي ،دار الفكر،
دمشق.
3ّ1ــ تبصرة الحكام في أصول األقضية ومناهج األحكام ،ابراهيم بن علي بن دمحم ،ابن فرحون
المالكي ،برهان الدين اليعمري ،مكتبة الكليات األزهرية ،ط 1401 ،1ه 1251 ،م.
30ــ "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" ،أبو الوليد دمحم بن أحمد بن دمحم بن رشد القرطبي الحفيد،
دار الحديث -القاهرة ،بدون ذكر اسم وتاريخ الطبعة.
35ــ صحيح مسلم (ال مسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل إلى رسول هللا
ملسو هيلع هللا ىلص) ،أبو الحسن مسلم بن الحجاج النيسابوري ،تحقيق :أبو قتيبة بن دمحم الفارابي ،دار طيبة
للنشر والتوزيع ،الرياض -السعودية ،الطبعة ،1سنة 1420 /2000ه.
32ــ جامع األحاديث :الجامع الصغير وزوائده والجامع الكبير والجامع األزهر في حديث
األنور ويليه األحاديث الموضوعة من الجامع الكبير ويليه المسانيد والمراسيل ،عبد الرحمان
بن أبي بكر بن دمحم بن سابق الدين الخضيري السيوطي – جالل الدين و عبد الرؤوف المناوي،
حققه :عباس أحمد صقر – أحمد عبد الجواد ،.نشر سنة 1414 – 1224ه.
40ــ "أصول السرخسي " ،أحمد بن أبي سهل السرخسي ،حققه أبو الوفا األفغاني ،لجنة إحياء
المعارف العثمانية – حيدر آباد ،ط ،1سنة 1414 – 1223ه.
41ــ مجلة كلية الشريعة-أكادير ،العدد - 3سنة .2013
67
42ــ مواهب الجليل في شرح مختصر خليل ،أبو عبد هللا دمحم بن دمحم الحطاب ،دار الفكر،
بيروت ،ط .1325
43ــ "السنن الكبرى" ،أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخسروجردي الخراساني ،أبوبكر
البيهقي ،دار الكتب العلمية ،بيروت – لبنان ،ط .1424 ،3
44ــ "المختصر" ،خليل بن إسحاق بن موسى بن شعيب ،ضياء الدين أبو المودة الجندي
المصري المالكي ،حققه أحمد جاد ،دار الحديث 1421 ،ه – 2003م.
43ــ "رد المحتار على الدر المختار" ،ابن عابدين ،دمحم أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين
الحنفي ،دار الفكر ،بيروت – لبنان ،-ط .1412 ،2
41ــ " المبسوط" ،شمس الدين السرخسي ،دار المعرفة – بيروت – لبنان ،1402 ،ط .1
40ــ الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 1.04.440الصادر بتاريخ 11رمضان 24 ( 1324
شتنبر )1204بالمصادقة على نص قانون المسطرة المدنية.
45ــ الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 1.04.440الصادر بتاريخ 11رمضان 25( 1324
شتنبر ،) 1204بالمصادقة على نص قانون قانون المسطرة الجنائية ،منشور بالجريمة الرسمية
عدد 3230مكرر ،بتاريخ 13رمضان 30 ( 1324شتنبر ،)1204ص .2041
42ــ الظهير الشريف رقم 203-21-1الصادر في 22ربيع األول 1414الموافق ل 10
شتنبر 1223بتنفيذ القانون رقم 41-20المحدث بموجبه المحاكم اإلدارية.
30ــ "المهذب" ،اإلمام الشيرازي ،مطبعة البابي الحلبي ,سنة 1343هــ.
31ــ مجموعة القواعد ،الجزء األول ،رقم ،315ص .411
32ــ مجلة المعيار الصادرة عن نقابة المحامين بفاس ،العدد األول ،ص 43وما بعدها.
33ــ موسوعة قواعد الفقه والتوثيق ,دمحم القدوري ,الطبعة األولى ,1424-2004دون ذكر
اسم الطبعة.
34ــ مجلة قضاء المجلس األعلى ،عدد .21
68
33ــ مجلة المحاماة ،العدد .11
31ــ الظهير الشريف رقم 1.11.105الصادر بتاريخ 22نونبر 2011بتنفيذ القانون رقم
32-05المتعلق بمدونة الحقوق العينية ،المنشور في الجريدة الرسمية عدد 3225بتاريخ 24
نونبر .2011
فهرس الموضوعات:
كلمة شكر2 ................................................................... :
المطلب األول :رأي الفقهاء في قضاء القاضي بعلمه ومركزه من طرق اإلثبات5 ......... :
الفقرة الثانية :مركز قضاء القاضي بعلمه في طرق اإلثبات22 ........................ :
69
الفقرة األولى :ماهية السلطة التقديرية؟21 .............................................:
الفقرة الثانية :مذاهب اإلثبات وموقف المشرع المغربي منها22 ......................... :
الفقرة الثالثة :وسائل اإلثبات بين الشكلية والموضوعية ومدى سلطة القاضي إزاءها24 . :
الفقرة الرابعة :محل السلطة التقديرية ومدى رقابة محكمة النقض لها22 ................ :
ثانيا :رقابة محكمة النقض على السلطة التقديرية لقاضي الموضوع33 ............ :
70
الفقرة الثانية :حرية االقتناع31 ....................................................... :
الفصل الثاني :السلطة التقديرية للقاضي في العقار المحفظ والعقار غير المحفظ31 ........ :
ــــ القاضي العقاري بين متطلبات االجتهاد ومعيقات التقنين45 ..................... :
المطلب الثاني :ازدواجية الطعون القضائية المقدمة ضد ق اررات المحافظ العقاري وسلطة
الفقرة األولى :مركز القضاء العادي في مسطرة التحفيظ وسلطة القاضي التقديرية إزاءها:
42 ..................................................................................
الفقرة الثانية :إدارية قرار المحافظ العقاري ومركز القضاء اإلداري في نزاعات التحفيظ:
41 ..................................................................................
المبحث الثاني :السلطة التقديرية للقاضي في العقار غير المحفظ52 ....................... :
البينات54 ......:
المطلب الثاني :السلطة التقديرية للقاضي في إعمال ضوابط الترجيح بين ّ
71
الفقرة األولى :أحكام التعارض والترجيح بين البينات في الفقه المالكي ومدونة الحقوق
72
الفقرة الثانية :قواعد الترجيح بين البينات في ضوء الفقه المالكي ومدونة الحقوق العينية:
51 ..................................................................................
خـــــــــــــــــــــاتمـــــــــــــــة13 ....................................................:
73