You are on page 1of 73

‫بحث مقدم لنيل شهادة اإلجازة في كلية الشريعة‬

‫مسلك القضاء والتوثيق تحت عنوان‪:‬‬

‫السلطة التقديرية للق اضي في‬

‫المادة العق ارية‬

‫‪1‬‬
‫‪ ‬كلمة شكر‪:‬‬
‫يف احلديث‪ " :‬من مل يشكر الناس مل يشكر هللا"‪..‬‬

‫ننتهز الفرصة ألعبر عن كامل امتناني وعميق تشكراتي ‪...‬‬

‫ألستاذنا المفضال الدكتور سيدي حسن القصاب على كل ما أسداه لنا‬

‫من توجيهات وإرشادات وبما تفضل به علينا من مالحظات وتعقيبات‪،‬‬

‫لو االمتثال لها لما استقام بحثنا ولما أمكن لنا إتمامه على هذا النسق البتة‪،‬‬

‫وهي في الحقيقة ليست تكفي الكلمات لنسدي الشكر‬

‫ونرد الجميل ألستاذنا المحترم ‪...‬‬

‫إنما نقول له جزاك هللا عنا خير الجزاء‪.‬‬

‫‪ ‬إهـــــــــــــــــــــــــــــــداء‪:‬‬

‫إنما حاولنا في هذه الوريقات أن نمد يد العون بما استطعنا‬

‫للسادة قضاة مملكتنا العزيزة خاصة‬

‫والسادة األساتذة والباحثين والطلبة عامة‪،‬‬

‫ولهم جميعا نهدي هذه الكلمات‪...‬‬

‫على يسرها ووجازتها‪ ،‬مع ضف باعنا وقلة زادنا ‪..‬‬

‫وهللا الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل ‪...‬‬

‫نسأل هللا العي الكبير القَبـــــــــــــول‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫‪ ‬مقــــــــــــــــــــــــدمة‪:‬‬

‫ليست تخفى أهمية السلطة التقديرية في تحقيق العدالة المنشودة ببلدنا العزيز‪ ،‬إذ ال وجود لهذه‬

‫األخيرة دون حضور األولى‪ ،‬فالقاضي باعتباره الساهر على إصدار األحكام والحارس على‬
‫تنفيذها‪ ،‬في حاجة دائمة ملموسة لهذه السلطة حتى يتسنى له استخالص وقائع النوازل وتكييفها‬
‫ثم تنزيل القاعدة القانونية عليها‪ ،‬فهي إذن لحمة وسدى القضاء‪ ،‬إذ ال يستقيم عمل القاضي‬
‫دونها‪ ،‬من هذا المنطلق نلحظ أن المادة العقارية مادة معقدة متشابكة قد تو َجت وال تزال‬
‫بصدارة المحاكم من حيث َكم المنازعات والقضايا الرائجة‪ ،‬من ثم حري بنا أن نكشف عن‬
‫بس‪،‬‬
‫سلطة القاضي العقاري ونرصد المشكالت التي تتسم بها‪ ،‬لما يعتري هذا الموضوع من ل ٍ‬
‫ضف إلى ذلك أن القضية لم تبحث جيدا بما يشفي الغليل ويذهب حير القلوب‪ ،‬حسب اطالعنا‬
‫المتواضع‪ .‬على أن المقنن المغربي قد أخذ بالمذهب المختلط في اإلثبات في المادة المدنية‪ ،‬إال‬
‫أن سلطة القاضي العقاري مقيدة جدا‪ ،‬وهو إشكال كبير نقف عليه طويال‪ ،‬ولتسهيل فهمه‬
‫وتيسير استيعابه نسبره إلى سؤالين‪:‬‬

‫ـــ التكييف الفقهي والقانوني لسلطة القاضي التقديرية ؟‬

‫ـــ سلطة القاضي العقاري في العقار المحفظ والعقار غير المحفظ ؟‬

‫بنا ًء على الفرضيتين أعاله‪ ،‬اخترنا تقسيم البحث إلى فصلين؛‬

‫‪ ‬الفصل األول‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في المادة المدنية‪:‬‬


‫‪ ‬الفصل الثاني‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في العقار المحفظ والعقار غير المحفظ‪:‬‬

‫‪3‬‬
‫متبعين في دراستنا منهجا فريدا هو المنهج المقارن‪ ،‬حيث إن قضية التماس الفروق وكشفها‬
‫ورصد ما يختلف فيه المقارنين "الفقه اإلسالمي" و"الفكرالقانوني" وأسباب ودوافع‬
‫االختالف فرض علينا ذلك‪.‬‬

‫الفصل األول‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في المادة المدنية‪:‬‬


‫بين يدي الفصل‪:‬‬

‫يعالج هذا الفصل تكييف السلطة التقديرية للقاضي من الناحيتين الفقهية والتشريعية‪ ،‬حيث من‬
‫الناحية الفقهية نتعرض لمشكل تكييف قضاء القاضي أاجتهاد رأي أو تنزيل أم محض تقليد‪،‬‬
‫ومن الناحية القانونية ننظر مذاهب اإلثبات واختيار المقنن المغربي‪ ،‬وكذا رقابة محكمة النقض‬
‫على سلطة القاضي وما تعلق بذلك من مشكالتٍ‪ ،‬وقد اهتدينا إلى تقسيم الفصل إلى مبحثين‪:‬‬

‫المبحث األول‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في الفقه المالكي‪:‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في التقنين المغربي‪:‬‬

‫المبحث األول‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في الفقه المالكي‪:‬‬

‫بين يدي المبحث‪:‬‬

‫يــود هذا المبحث أن يبين التكييف الفقهي للقضية من خالل الحديث عن حكم قضاء القاضي‬
‫بعلمه‪ ،‬وموقعه من طرق اإلثبات‪ ،‬وهل هذا األخير حصره الفقهاء أم ال؟ مع العروج على‬
‫المشكل المتعلق بقضاء القاضي أهو اجتهاد أم تنزيل أو مجرد تقليد؟‬

‫من أجل ذلك ننظر أوال آراء الفقهاء في مسألة قضاء القاضي بعلمه‪ ,‬ثم نخلص بموقفنا من‬
‫المسألة‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫المطلب األول‪ :‬رأي الفقهاء في قضاء القاضي بعلمه ومركزه من طرق اإلثبات‪:‬‬

‫الفقرة األولى‪ :‬مذاهب الفقهاء في قضاء القاضي بعلمه‪:‬‬

‫لقد اختلف الفقهاء في قضاء القاضي بعلمه‪ ،‬فذهب األحناف‪ 1‬إلى جواز القضاء بالعلم بشروط‬
‫نجملها؛‬

‫‪ 1‬ـ أن يكون القاضي قد اكتسب العلم بعد توليته منصب القضاء‪.‬‬

‫‪2‬ـ أن ي َحصل العلم في المصر الذي هو قاض فيه‪.‬‬

‫‪3‬ـ أن يكون القضاء بالعلم مختصا بحقوق اآلدميين( من ضمان ورهن وطالق‪ ،‬الخ)‪ ،‬ال بحقوق‬
‫هللا‪ ،‬وهو رأي المتقدمين من األحناف‪.‬‬

‫تغير حال القضاة من العدل إلى الجور‪،‬‬


‫َ‬ ‫أما المتأخرون‪ 2‬منهم؛ فنظروا إلى عصرهم فأبصروا‬
‫ومن الصالح إلى الفساد‪ ،‬فأفتوا بمنع القضاء بالعلم سدا للذريعة وإقامة للمصلحة‪ ،‬مع إقرارهم‬
‫بأن أصل المذهب الجواز‪ ،‬وأن اإلفتاء بخالفه ليس خروجا عنه‪ ،‬إنما اقتضته الضرورة‪.‬‬

‫ومذهب المالكية‪ 3‬المنع مطلقا‪ ،‬سواء اكتسب القاضي العلم قبل توليته منصب القضاء أو بعده‪،‬‬
‫قاض فيه أو غيره‪ ،‬في مجلس حكمه أو غيره‪ ،‬في حقوق اآلدميين أو‬
‫ٍ‬ ‫في المصر الذي هو‬
‫حقوق هللا سواء‪ ،‬وهو أشد المذاهب في المسألة هذه‪ ،‬إذ مذهب مالك أن القاضي ال يقضي إال‬
‫ببينة أو إقرار‪ ،4‬من ثم خرج به علم القاضي‪ ,‬إال أنه قد ورد عن بعض أصحاب مالك جواز‬
‫القضاء بالعلم في مجلس الحكم‪ ,‬ولو لم يشهد عنده المحكوم عليه بذلك‪ ,‬ولكن الراجح والصحيح‬
‫هو المنع لما تقدم بيانه‪.‬‬

‫‪ 1‬ــ حاشية ابن عابدين جزء ‪ 4‬ص ‪ ،333‬والمبسوط للسرخسي جزء ‪ 11‬ص ‪.103‬‬

‫‪ 2‬ــ ‪،‬م‪.‬س (‪ ،)333-343/4‬وعزاء إلى األشباه والنظائر البن نجيم وجامع الفصولين‪ ،‬كما عزاه إلى الحصفكي في الدر‬
‫(هامش ‪ )333/4‬لشرح الوهبانية للشرنباللي‪.‬‬
‫‪ 3‬ــ الشرح الصغير (‪ ،)230/4‬والفروق للقرافي (‪ ،)44/4‬و حلى المعاصم للتاودي (‪.)41/1‬‬
‫‪ 4‬ــ بداية المجتهد ونهاية المقتصد‪ ،‬أبو الوليد ابن رشد‪ ،‬جزء ‪ ،1‬كتاب األقضية ص ‪.32‬‬

‫‪5‬‬
‫وقد ورد عن الشافعي‪ 1‬قوالن‪:‬‬

‫األول؛ للقاضي أن يقضي بكل ما علمه قبل الوالية وبعدها‪ ،‬في مجلس القضاء أو غيره‪ ،‬في‬
‫حقوق اآلدميين‪.‬‬

‫الثاني؛ المنع مطلقا حتى تقوم بينة بذلك‪.‬‬

‫وقد رجح الغزالي القول الثاني‪ ،2‬ولكن المتأخرون من الشافعية أخذوا بالقول األول وجوزوه‬
‫بشرطين‪ 3‬تحت طائلة عدم نفوذ حكم القاضي‪:‬‬

‫األول؛ أن يقول للمنكر‪ :‬قد علمت أن له عليك ما ادعاه‪.‬‬

‫الثاني؛ أن يقول‪ :‬وحكمت عليك بعلمي‪.‬‬

‫وأما مذهب الحنابلة‪ ,4‬فقد ورد عن اإلمام أحمد روايتان‪:‬‬


‫‪5‬‬
‫األولى؛ جواز قضاء القاضي بعلمه‪ ,‬وهي ضعيفة‬

‫الثانية؛ عدم الجواز‪ ,‬وهو الراجح عند الحنابلة‪.‬‬

‫والحاصل أن المذاهب الفقهاء اختلفوا في قضاء القاضي بعلمه‪ ,‬إلى ثالثة أقوال‪:‬‬

‫القول األول؛ المنع كليا سواء في حقوق هللا أو حقوق األفراد‪ ,‬قبل والية القاضي أم بعدها‪ ,‬وهو‬
‫مذهب المالكية وقول متأخري الحنفية‪ ,‬والمشهور في مذهب الحنابلة‪ ,‬وإحدى روايات مذهب‬
‫الشافعية‪.‬‬

‫القول الثاني؛ ال يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه في حقوق هللا خاصة‪ ,‬فيما يجوز له ذلك في‬
‫حقوق اآلدميين‪ ,‬وينسب هذا القول إلى بعض الشافعية‪.‬‬

‫‪ 1‬ــ ادب القاضي (ف‪.)3333‬‬


‫‪ 2‬ــ الوجيز للغزالي (‪.)241/2‬‬
‫‪ 3‬ــ مغني المحتاج (‪ ,)311/4‬والدرر المنظومات (ف‪ ,)22‬وأدب القاضي (ف ‪.)3353‬‬
‫‪ 4‬ــ المغني البن قدامة (‪.)400/11‬‬
‫‪ 5‬ــ حسن الفهم لمسألة القضاء بالعلم‪ ,‬دمحم أبو الهدى اليعقوبي الحسني‪ ,‬دار البشائر اإلسالمية‪ ,‬ط‪ ,1‬ص‪.21‬‬

‫‪6‬‬
‫القول الثالث؛ ذهب بعضهم إلى منع القاضي من الحكم بعلمه في الحدود وجواز ذلك فيما‬
‫عداها‪ ,‬وهو ما ذهب إليه الصاحبان من الحنفية‪.‬‬

‫القول الرابع؛ جواز قضاء القاضي بعلمه مطلقا‪ ,‬في حقوق األفراد او في حقوق هللا‪ ,‬أو في‬
‫الحقوق المشتركة بينهم‪ ,‬إذ ذلك سواء‪ ,‬وهو مذهب ابن حزم‪ ,‬والمشهور في مذهب الشافعية‪,‬‬
‫وإحدى روايات مذهب أحمد‪ ,‬وقول سحنون وأصبغ وابن الماجشون من المالكية‪.‬‬

‫وذهب عمر بن عبد العزيز في قول آخر إلى عدم جواز قضاء القاضي بعلمه في الزنا‪ ,‬وجواز‬
‫ذلك فيما عداها‪.‬‬

‫وأما عمدة‪ 1‬من أجازوه‪ :‬فهو حديث أم المؤمنين عائشة رضوان هللا عليها في قصة هند بنت‬
‫عتبة ابن ربيعة مع زوجها أبي سفيان بن حرب حين قال لها ‪ -‬ملسو هيلع هللا ىلص وقد شكت أبا سفيان‪": -‬‬
‫خذي َما َيكفيك َو َولَ َدك بال َمعروف"‪ ,2‬فحكم لها النبي ملسو هيلع هللا ىلص أن يسمع قول خصمها‪ ،‬مما دل أنه‬
‫ملسو هيلع هللا ىلص حكم بعلمه‪.‬‬

‫ومما استدلوا به أيضا قوله عز وجل ﴿‪   ‬‬


‫‪    ‬‬

‫‪              ‬‬

‫‪ ،3﴾     ‬فاآلية الكريمة‬


‫‪     ‬‬

‫حثت على إقامة العدل كل حسب قدرته وطاقته‪ ,‬من ثم فليس معقوال أن يعلم القاضي حقا‬
‫فيسكت عنه‪.‬‬

‫‪ 1‬بداية المجتهد‪ ,‬م‪.‬س‪ ,‬ص ص ‪231 /230‬‬


‫‪ 2‬صحيح البخاري‪ ,‬كتاب النفقات‪ ,‬باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف‪ ,‬رقم الحديث‪.3002 :‬‬
‫‪ 3‬سورة النساء اآلية (‪.)134‬‬

‫‪7‬‬
‫﴿‪           ‬‬ ‫وقوله تعالى أيضا‪:‬‬

‫‪.1﴾   ‬‬

‫﴿‪            ‬‬ ‫وقوله هلالج لج‪:‬‬

‫‪            ‬‬

‫‪.2﴾‬‬

‫فهاتان اآلياتان فرضتا على الحاكم إقامة الحد على الجاني إذا علم عليه أنه سرق أو زنى‪.‬‬

‫ومن السنة قوله ملسو هيلع هللا ىلص‪" :‬من رأى منكم المنكر فليغيره بيده‪ ,‬فإن لم يستطع فبلسانه‪ ,‬فإن لم يستطع‬
‫بقلبه وذلك أضعف اإليمان"‪.3‬‬

‫فهذا الشريف صريح في حث كل مسلم مكلف في تغيير المنكر حين رأيته‪ ,‬وأولى أحرى بذلك‬
‫القاضي نظرا لمنصبه وواليته‪ ,‬وإنما يقوم بذلك بناء على علمه‪.‬‬

‫كما استدل ابن حزم‪ 4‬بقوله ملسو هيلع هللا ىلص‪ ":‬بينتك أو يمينه "‪ ,‬أنه ال بينة أبين من صحة علم القاضي‬
‫بصحة حقه‪.‬‬

‫إلى غيرها من األحاديث واآلثار التي ال يكفي المقام لحصرها‪.‬‬

‫وبالمعقول فإن بينة الخصم المدعى عليه مبنية على الظن‪ ,‬وعلم الحاكم(القاضي) مبني على‬
‫اليقين‪ ,‬فيقدم اليقين على الشك‪ ,‬من ثم ح َّق للقاضي أن يحكم بعلمه‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة المائدة اآلية (‪.)40‬‬


‫‪ 2‬سورة النور اآلية (‪.)2‬‬
‫‪ 3‬السنن الكبرى للبيهقي‪ ,‬جزء ‪ 10‬ص ‪ ,20‬وهو حديث صحيح‪ ,‬الجامع الصغير للسيوطي‪ ,‬جزء ‪ 2‬ص ‪.320‬‬
‫‪ 4‬المحلى البن حزم‪ ,‬جزء ‪ 2‬ص ‪245‬‬

‫‪8‬‬
‫وأما عمدة الذين منعوا قضاء القاضي بعلمه‪ ,‬فهو الحديث الذي روته أم سلمة زوج رسول هللا‬
‫ملسو هيلع هللا ىلص‪ ":‬إنما أنا بشر مثلكم‪ -‬وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن حجة من بعض‪ ,‬فأقضي له‬
‫بنحو ما أسمع‪ ,‬فمن قضيت له بحق أخيه‪ ,‬فإنما أقطع له قطعة من النار فليأخدها أو ليدعها"‪,1‬‬
‫وهو حديث صريح دال على أن النبي ملسو هيلع هللا ىلص ال يقضي بعلمه‪ ,‬إنما يقضي بناء على حجج‬
‫األطراف‪ ,‬من ثم حذر ملسو هيلع هللا ىلص من أكل حقوق الناس وأموالهم بالباطل استنادا إلى شهادة الزور أو‬
‫التدليس في عرض الحجج‪.‬‬

‫واستدلوا أيضا بما رواه البيهقي عن أبي هريرة رضي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا ملسو هيلع هللا ىلص‪ ":‬رأى‬
‫عيسى ابن مريم رجال يسرق‪ ,‬فقال له عيسى ابن مريم‪ :‬سرقت‪ ,‬قال‪ :‬ال والذي ال إله إال هو‪,‬‬
‫‪2‬‬
‫قال عيسى‪ :‬آمنت باهلل وكذبت عيني‪".‬‬

‫فالحديث دال على أن عيسى عليه السالم لم يحكم بعلمه على السارق فصدق يمينه مع أنه رأه‬
‫يسرق جهارا نهارا‪.‬‬

‫ما روي أيضا عنه ملسو هيلع هللا ىلص في قصة المالعنة‪ ,‬وهي قصة هالل بن أمية حينما رمى زوجته بالزنا‬
‫مع شريك بن سمحاء‪ ,‬فقال رسول هللا ملسو هيلع هللا ىلص أنظروها فإن جاءت به كذا فهو لهالل بن أمية‪ ,‬وإن‬
‫جاءت به كذا فهو لشريك بن سمحاء‪ ,‬فجاءت به علال الوصف المكروه‪ ,‬فقال صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ":‬لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمت هذه"‪.3‬‬

‫فدل ذلك على أن رسول هللا ملسو هيلع هللا ىلص ال يحكم وال يقضي بعلمه‪ ,‬فقد علم ملسو هيلع هللا ىلص بزناها ألن ابنها جاء‬
‫مشابها لشريك بن سمحاء‪ ,‬إال أنه ملسو هيلع هللا ىلص غض الطرف عنها النعدام البينة‪.‬‬

‫ومن األثر ما روي من طريق الضحاك‪ ,‬أن عمر ابن الخطاب رضي هللا عنه‪ ,‬اختصم إليه فيما‬
‫‪4‬‬
‫يعرفه‪ ,‬فقال للطالب‪ :‬إن شئت شهدت ولم أقض‪ ,‬وإن شئت قضيت ولم أشهد‪.‬‬

‫‪ 1‬أخرجه مالك في الموطأ (‪ , )2103‬وأحمد (‪.)21152‬‬


‫‪ 2‬السنن الكبرى للبيهقي‪ ,‬جزء ‪ 10‬ص ‪.130‬‬
‫‪ 3‬صحيح مسلم ‪ ,‬جزء ‪ 11‬ص ‪ ,130-122‬وهو حديث صحيح‪ -‬الجامع الصغير للسيوطي‪ ,‬جزء ‪ 2‬ص ‪.302‬‬
‫‪ 4‬الطرق الحكمية البن القيم‪ ,‬ص ‪.213‬‬

‫‪9‬‬
‫فأمير المؤمنين كان على علم تام بأحقية المدعي بحقه‪ ,‬إال أنه رضي هللا عنه امتنع أن يقضي‬
‫بعلمه لذا رفض أن يكون قاضيا وشاهدا في نفس الوقت‪ ,‬فخير المدعي بين األمرين‪ ,‬وفي‬
‫جميع األحوال يلزم المدعي اإليتاء بالبينة ليقتص حقه‪.‬‬

‫وما استدل به أصحاب هذا القول من المعقول؛‬

‫زعمهم أن قضاء القاضي بعلمه قضاء بدون بينة وال يمين‪ ,‬من ثم فهو قضاء غير صحيح ألن‬
‫الشارع قدر أناط الحكم بأحدهما (واستدلوا بآيات من سورة النور المنصوصة على إلزامية‬
‫الشهود في حد الزنا وحد القذف)‪ ,‬كذلك إن القاضي يصير كبش فداء لالتهام بين الناس‪ ,‬وقد‬
‫يغريه الشيطان فيحكم بالتشهي والهواء‪ ,‬ومنع القضاء بالعلم جملة هو الحل سدا للذريعة‪.‬‬

‫و أما الطائفة التي منعت قضاء القاضي بعلمه في الحدود وجواز ذلك فيما عداها؛‬

‫فقد استدلوا بقوله ملسو هيلع هللا ىلص في قصة المالعنة زوج هالل بن أمية‪ ":‬لو كنت راجما أحدا بغير بينة‬
‫لرجمت هذه"‪.1‬‬

‫والحديث صريح في أن النبي ملسو هيلع هللا ىلص لم يقضي بعلمه في حد المالعنة رغم علمه بفعلتها إضافة إلى‬
‫اجتماع القرائن على ذلك‪ ,‬والحديث رغم أنه اشتمل فقط على حد الزنا أصالة‪ ,‬إال أنه اشتمل‬
‫على بقية الحدود تبعا‪ ,‬فحد الزنا يعد من أخلص حدود هللا‪ ,‬والستر فيه أولى وأندب‪.‬‬

‫كما استدلوا بقوله ملسو هيلع هللا ىلص فيما أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي هللا عنه أن رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم قال‪":‬إدرؤا الحدود بالشبهات" وفي رواية‪ ":‬إدفعوا الحدود ما وجدتم مدفعا"‪.2‬‬

‫لما كانت الحدود تسقَط بمجرد الشبهة وبمجرد رجوع المتهم عن إقراره‪ ,‬آنئذ ال يكفي علم‬
‫القاضي للبت فيها‪-‬الحدود‪ ,-‬ألنه سيصير مظنة للتهمة‪.‬‬

‫واستدلوا بالمعقول؛ على أن الحدود تدرأ بالشبهات‪ ,‬كما تسقط برجوع المقر‪ ,‬من ثم يقدم رجوع‬
‫المقر على شهادة الشهود‪ ,‬كما يقدم على علم القاضي‪ ,‬فإن رأى القاضي بأم عينه أن فالنا‬
‫‪ 1‬سبق تخريجه‬
‫‪ 2‬سنن ابن ماجة‪ ,‬كتاب الحدود‪ ,‬باب الستر على المؤمن ودفع الحدود بالشبهات‪ ,‬جزء ‪ 2‬ص‪.530‬‬

‫‪10‬‬
‫يشرب الخمر فحكم عليه القاضي بالحد طبقا لعلمه‪ ,‬فأنكر الظنين‪ ,‬فإنه يقدم إنكاره على علم‬
‫القاضي‪ ,‬من ثم ال مجال لقضاء القاضي بعلمه في الحدود درءا للشبهة وصونا لهيبة ومكانة‬
‫القاضي من لغط وغلط ولغو الناس‪.‬‬

‫وقد أجمع الفقهاء بال مخالف على جواز استناد القاضي لعلمه الشخصي في التعديل و التجريح‪,‬‬
‫وهو منطوق ما جاء في البيت رقم ‪ 54‬من المية الزقاق‪:‬‬

‫شهادة معروف لمعروف إن جرت && على مثله والشيء معروف اقبال‬

‫قال اإلمام أحمد بن دمحم الرهوني التطواني‪ 1‬في شرحه على المية الزقاق المسمى بــــ" حادي‬
‫الرفاق إلى فهم المية الزقاق"‪ -‬قال‪ :‬يعني‪ ,‬اقبل أيها القاضي شهادة شاهد معروف عندك‪,‬‬
‫لشخص معروف كذلك‪ ,‬إذا جرت على شخص معروف أيضا‪ ,‬وكان الشيء المشهود به‬
‫معروفا‪ ,‬واحكم بها؛ وإال بأن انتفت معرفة واحد من األربعة فال تقبل تلك الشهادة‪ ,‬وال تحكم‬
‫بها‪ ,‬كما ال تحكم بها عند ثبوت الجرح لديك في الشاهد بأحد المجرحات وإن عدله عدالن؛ ألن‬
‫‪2‬‬
‫القاضي يستند لعلمه في التعديل والتجريح اتفاقا‪.‬‬

‫وهكذا بعد سردنا للمذاهب الفقهية في مسألة قضاء القاضي بعلمه‪ ,‬وخَلصنا إلى أنهم اختلفوا في‬
‫ذلك؛ فمنهم من أجازه بإطالق‪ ,‬ومنهم من منعه بإطالق‪ ,‬ومنهم من منعه في الحدود وأجازه‬
‫فيما عداها‪ ,‬وأخيرا إن منهم من أجازه في حقوق األفراد دون حقوق هللا‪.‬‬

‫وقد أشرنا إلى عمدة كل مذهب إضافة إلى األدلة األخرى التي استندوا عليها من الكتاب والسنة‬
‫واألثر والمعقول‪.‬‬

‫البد أن نشير أننا اعتمدنا اإليجاز واالختصار في سرد األدلة‪ ,‬وتَ َحرينا منها األدلة المشهورة‪,‬‬
‫وإال لن يسعنا المجال ولن يسعفنا الموضوع في ذللك‪.‬‬

‫‪ 1‬ــ هو أحمد بن محد بن الحسن الرهوني التطواني عالم فاضل مؤرخ وأديب مغربي‪ ،‬ولد بتطوان سنة ‪ 1255‬ه (‪ 1501‬م)‬
‫وفيها توفي سنة ‪ 1303‬ه (‪ 1233‬م )‪ ،‬له مصنفات فريدة‪ ،‬ومما اشتهر بها؛ "تحفة اإلخوان بسيرة سيدي األكوان"‪" ،‬حادي‬
‫الرفاق إلى فهم المية الزقاق" وهو في ستة أجزاء‪" ،‬حصول األلفة لطالب التحفة"‪ ،‬و "عمدة الراوين في تاريخ تطاوين"‪.‬‬
‫‪ 2‬موسوعة قواعد الفقه والتوثيق‪ ,‬دمحم القدوري‪ ,‬الطبعة األولى ‪ ,1424-2004‬دون ذكر اسم الطبعة‪ ,‬ص ‪.222‬‬

‫‪11‬‬
‫لف الفقهاء في مسألة قضاء القاضي بعلمه راجع أساسا‬
‫والذي يظهر لنا من خالل ما سبق أن خ َ‬
‫إلى أمرين‪:‬‬

‫األول؛ اختالفهم في فهم اآليات الكريمات واألحاديث النبوية الشريفة‪.‬‬

‫األمر الثاني؛ اختالف األزمنة وتغير حال القضاة‪ ,‬ففي العصر الذهبي كان قضاة اإلسالم أكثر‬
‫عدال وثقة وتورعا وعلما وعدالة وهيبة‪ ,‬مقارنة مع باقي قضاة األزمنة المتأخرة‪ ,‬مما دفع‬
‫ببعض المذاهب إلى تجويز قضاء القاضي بعلمه أول األمر من قبل متقدمي المذهب ثم منعه‬
‫متأخريه سدا للذريعة كما هو صنيع األحناف على سبيل المثال‪.‬‬

‫ونرى أن ما ذهب إليه المالكية من منع قضاء القاضي بعلمه جملة‪ ,‬هو ما نميل إليه ونراه‬
‫صوابا ‪ ,‬وهو ما تبناه التقنين المعاصر صراحة‪ ,‬ذلك أن األزمان تغيرت واألحوال تبدلت‪,‬‬
‫واألصح أن يبني القاضي كل أقضيته على البينات الواضحات والحجج الالئحات‪ ,‬حتى ال‬
‫يصير مظنة لتهم الناس‪ ,‬ثم لو تم فتح ذلك الباب على مصريه‪ ,‬لصار بعض القضاة حاكمون‬
‫بين الناس بما يشتهون وبما يهوون‪ ,‬ولربما اتخذوا ذلك وسيلة لالنتقام من أعدائهم ومعارضهم‪,‬‬
‫وقد يأخذون الرشاوي مقابل حكمهم بعلمهم فيصير القضاء آنئذ تجارة بين يدي القضاة‪ ,‬وهو ما‬
‫ال يرتضيه كل عاقل‪ ,‬لكل ذلك فإن األحوط واألفيد واألصوب سد ذلك الباب‪.‬‬

‫بعدما تعرفنا على حكم قضاء القاضي بعلمه‪ ,‬فإن ذلك يجرنا لطرح المشكل اآلتي‪:‬‬

‫ما موقع قضاء القاضي بعلمه من طرق اإلثبات؟‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬مركز قضاء القاضي بعلمه في طرق اإلثبات‪:‬‬

‫لقد اختلف الفقه صراحة في طرق اإلثبات نفسها‪ ,‬فمن الفقهاء من جعلها محصورة في عدد‬
‫معين ال تتعداه‪ ,‬ومنهم من أطلقها دون حصر‪ ,‬وخلفهم راجع إلى المقصود من البينة‪.‬‬

‫هل يقتصر معناها على الشهادة وحسب؟ أم تشمل شهادة الشهود وعلم القاضي معا؟ أو‬
‫المقصود منها كل ما يبين الحق ويظهره‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫ تشمل شهادة الشهود‬2‫ فيما جعلها ابن حزم‬,‫ قصروا البينة في شهادة الشهود‬1‫على أن الجمهور‬
‫ ومن نحا منحاه من مقصود البينة وجعلها تشمل‬3‫ بينما وسع ابن القيم الجوزية‬,‫وعلم القاضي‬
.‫كل ما يبين الحق ويظهره‬

‫ أنها وردت على‬,‫والعلة التي استند عليها الجمهور في تقصيرهم البينة على شهادة الشهادة‬
‫ واستدلوا على ذلك بآيات من كتاب هللا؛‬,‫لسان الشرع بما يفيد ذلك‬

          ﴿ :‫قوله تعالى‬

﴿ :‫ وقوله جل في عاله‬،4 ﴾        

            

:‫ وقوله سبحانه وتعالى‬،5﴾         

            ﴿

.6﴾           

.223 ‫ ص‬0‫ جزء‬, ‫هــ‬1325 ‫ الطبعة األولى سنة‬,‫ مطبعة الجمالية‬,‫ الكاساني‬,‫ بدائع الصنائع‬:‫ األحناف‬1
.151 ‫ ص‬4 ‫ جزء‬,‫ الدردير‬,‫ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير‬:‫المالكية‬
.325 ‫ ص‬2 ‫ جزء‬, ‫هــ‬1343 ‫ سنة‬,‫ مطبعة البابي الحلبي‬,‫ الشيرازي‬,‫ المهذب‬:‫الشافعية‬
.21-23 ‫ ص‬2 ‫ جزء‬, ‫هــ‬1345 ‫ سنة‬,‫ مطبعة المنار‬,‫ ابن قدامة‬,‫ المغني‬:‫الحنابلة‬
.425 ‫ ص‬2 ‫ جزء‬, ‫هــ‬1331 ‫ سنة‬,‫ المطبعة المنيرية‬,‫ ابن حزم الظاهري‬,‫ المحلى باآلثار‬2
.14 ‫ ص‬,‫ دون ذكر سنة وال عدد الطبعة‬,‫لبنان‬-‫ مطبعة دار الفكر–بيروت‬,‫ الطرق الحكمية في السياسة الشرعية‬3
)4( ‫ سورة النور اآلية‬4
)13( ‫ سورة النساء اآلية‬5
)252( ‫ سورة البقرة اآلية‬6

13
‫فهذه اآليات وغيرها كثيرة قد قصرت البينة في الشهود سيما في حقوق هللا مثل الحدود (حد‬
‫الزنا‪ ,‬وحد القذف)‪ ,‬أو في المعامالت كالبيوعات والمعاوضات‪ ,‬واألحوال الشخصية كاألنكحة‬
‫وغيرها‪...‬‬

‫ومما استدلوا به من الحديث الشريف‪ ,‬قوله ملسو هيلع هللا ىلص حينما اختصم إليه األشعت بن القيس مع آخر في‬
‫بئر‪ ":‬شاهداك أو يمينه"‪ ,‬و في رواية‪ ":‬بينتك أو يمينه"‪ ,1‬فالحديث األول مفسر للحديث الثاني‪,‬‬
‫من ثم فالبينة مقتصرة في الشهود ال غير‪.‬‬

‫وأما ابن حزم فضمن البينة الشهود إضافة إلى علم القاضي‪ ,‬فقال في م َحاله‪ :‬أنه صح عن‬
‫رسول هللا ملسو هيلع هللا ىلص قوله‪":‬بينتك أو يمينه"‪ ,‬ومن البينة التي ال أبين منها صحة علم الحاكم بصحة حقه‬
‫‪2‬‬
‫فهو يدخل في هذا الخبر‪.‬‬

‫وقال بأنه يفرض على الحاكم أن يحطم بعلمه في الدماء والقصاص واألموال و الفروج‬
‫والحدود‪ ,‬سواء علم بذلك قبل واليته أو بعد واليته فإن أقوى حكم يحكمه عن علم هو ما قضى‬
‫به عن علمه به ألنه يقين الحق ثم يليه الحكم نتيجة إقرار المدعى عليه ثم البينة وعلم الحاكم‬
‫‪3‬‬
‫أبين البينة وأعدلها‪.‬‬

‫وأما مذهب ابن القيم وابن تيمية فقد ذهبوا إلى أن البينة تشمل كل ما يظهر الحق ويبينه‪ ,‬قال‬
‫ابن القيم رحمه هللا‪:‬‬

‫فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره‪ .‬ومن خصها بالشاهدين‪ ,‬أو األربعة‪ ,‬أو الشاهد لم يوف‬
‫مسماها حقه‪ ,‬ولم تأت البينة قط في القرآن مرادا بها الشاهدان‪ ,‬وإنما أتت مرادا بها الحجة‬
‫‪4‬‬
‫والدليل والبرهان‪ ,‬مفردة ومجموعة‪.‬‬

‫واستدلوا أيضا بأن قوله ملسو هيلع هللا ىلص‪" :‬البينة على المدعي"‪ ,‬إنما المراد به‪:‬‬
‫‪ 1‬صحيح البخاري‪ ,‬كتاب الشهادات‪ ,‬باب قول هللا تعلى إن الذين يشترون بعهد هللا ثمنا قليال ‪ ,‬رقم الحديث (‪ ,)4342‬وهو‬
‫حديث صحيح‪.‬‬
‫‪ 2‬المحلى‪ ,‬ج ‪ 2‬ص ‪.425‬‬
‫‪ 3‬المحلى‪ ,‬البن حزم الظاهري‪ ,‬المجلد السادس ج ‪ 2‬ص ‪.422/421‬‬
‫‪ 4‬الطرق الحكمية‪ ,‬ص ‪.14‬‬

‫‪14‬‬
‫أن عليه م ا يصحح دعواه ليحكم له‪ ,‬والشاهدان من البينة‪ ,‬وال ريب أن غيرها من أنواع البينة‬
‫قد يكون أقوى منها‪ ,‬كداللة الحال على صدق المدعي‪ ,‬فهي أقوى من داللة إخبار الشاهد‪,‬‬
‫‪1‬‬
‫والبينة والحجة والبرهان‪.‬‬

‫فالشارع لم يلغ القرائن واألمارات ودالئل األحوال‪ ,‬بل من استقرأ الشرع في مصادره وموارده‬
‫‪2‬‬
‫وجده شاهدا لها باالعتبار مرتبا عليها األحكام‪.‬‬

‫تقصير الجمهور البينةَ على شهادة الشهود‪ ,‬ال يعني َّ‬


‫أن طرق‬ ‫َ‬ ‫والذي تجدر اإلشارة إليه َّ‬
‫أن‬
‫اإلثبات منحصرة عندهم في شهادة الشهود وحسب‪ ,‬بل إن الشهادة انفردت باسم "البينة" لقوة‬
‫ثبوتيتها وكثرة اللجوء إليها فحسب‪ ,‬بدليل أن هناك أدلة إثبات أخرى كاليمين واإلقرار وعلم‬
‫القاضي ‪..‬إلخ‪.‬‬

‫قال السنهوري‪ " :‬البينة لها معنيان‪ )1( :‬معنى عام؛ وهو الدليل أيا كان‪ ،‬كتابة أو شهادة أو‬
‫قرائن‪ .‬فإذا قلنا‪ :‬البينة على من ادعى واليمين على من أنكر‪ ،‬فإنما نقصد هنا البينة بهذا المعنى‬
‫العام‪ ) 2( .‬معنى خاص؛ وهو شهادة الشهود دون غيرها من األدلة‪ .‬وقد كانت الشهادة في‬
‫الماضي هي الدليل الغالب‪ ،‬وكانت األدلة األخرى من الندرة إلى حد أنها ال تذكر إلى جانب‬
‫‪3‬‬
‫الشهادة‪ ،‬فانصرف لفظ (البينة) إلى الشهادة دون غيرها"‪.‬‬

‫والذي نميل إليه ونراه صوابا هو ما ذهب إليه الجمهور‪ ,‬حيث إن حصر وسائل اإلثبات‪ 4‬في‬
‫طرق معينة‪ ,‬هو صنيع الشارع الحكيم سبحانه وتعالى في كتابه العزيز‪ ,‬والنبي ملسو هيلع هللا ىلص في كل‬
‫أقضيته‪ ,‬وبعده الخلفاء الراشدون المهديون‪ ,‬و بعدهم التابعون وتابعوهم‪ ,‬إذ كانوا يستندون في‬
‫أقضيتهم إلى وسائل إثبات منضبطة ثابتة وشرعية‪.‬‬

‫‪ 1‬المصدر السابق‪ ,‬ص ‪.14‬‬


‫‪ 2‬الطرق الحكمية‪ ,‬ابن القيم الجوزية‪ ,‬تحقيق دمحم حامد الفقي‪ ,‬ص ‪.12‬‬
‫‪ 3‬ــ الوسيط‪ ،‬اإلثبات ــ آثار االلتزام‪ ،‬عبد الرزاق السنهوري‪ ،‬دار النشر للجامعات المصرية‪ ،1231 ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.311‬‬
‫‪ 4‬وتجدر اإلشارة إلى أن الفقهاء اختلفوا في باقي وسائل اإلثبات باستثناء الشهود واإلقرا‪ ,‬فقد اتفقوا عليها‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫حيث إن فتح باب وسائل اإلثبات أمام القاضي دون تقييد وال ضبط‪ ,‬سيؤدي حتما والبد إلى‬
‫زيغ القضاة وانحرافهم عن الحق والعدل وفساد أقضيتهم‪ ,‬حيث سيلجؤون إلى وسائل إثبات‬
‫غير شرعية وما أنزل هللا من سلطان‪ ,‬ونفس الشيء بالنسبة للمتقاضين إذ سيتحايلون عن‬
‫الشرع والقانون‪ ,‬وسيدعون حقوقا بال حق استنادا إلى حجج زائغة بغاية خداع القاضي‪.‬‬

‫من كل ما سبق‪ ,‬وحيث إن القاضي يحظر عليه أن يقضي بعلمه عند المالكية‪ ,‬كما أن وسائل‬
‫اإلثبات محصورة عندهم يبقى المشكل المعلق؛‬

‫هل قضاء القاضي اجتهاد أم تقليد؟‬

‫وإن كان اجتهادا؛ أهو اجتهاد رأي أم اجتهاد تنزيل؟‬

‫المطلب الثاني‪ :‬قضاء القاضي بين االجتهاد والتقليد‪:‬‬

‫بداية البد أن نشير إلى أن المالكية‪ 1‬اشترطوا في القاضي أن يكون مجتهدا‪ ,‬وال يجوز تولية‬
‫المقلد إال عند الضرورة حيث ال يوجد المجتهد‪ ,‬فوافقوا الجمهور‪ 2‬في ذلك‪ ,‬أما الحنفية‪ 3‬فقد‬
‫جعلوا االجتهاد شرطا لألولوية وليس شرطا لصحة تولية غير المجتهد القضاء‪ ,‬معللين ذلك‬
‫بتعذر وجود المجتهد في كل زمان ومكان‪.4‬‬

‫هذا‪ ,‬ويمكن التوفيق بين رأ َيي المالكية والحنفية بأن تولية المجتهد المطلق القضاء أولى وأحرى‬
‫من غيره من المقلدين‪ ,‬ولكنه نادر جدا‪ ,‬بل يكاد أن يكون معدوما خاصة في العصور المتأخرة‬
‫بله عصرنا الحاضر‪ ,‬فأضعف اإليمان أن يكون مجتهد المذهب‪ ,‬لكنه أيضا نادر‪ ,‬من ثم‬

‫‪ 1‬حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير بهامشه تقريرات عليش‪ ,‬المكتبة التجارية الكبرى(توزيع دار الفكر)‪-‬بيروت‪,‬‬
‫جزء‪ ,4‬ص ‪.113‬‬
‫‪ 2‬المغني البن قدامة جزء ‪ 2‬ص ‪.41-40‬‬
‫‪ 3‬المبسوط للسرخسي جزء ‪ 11‬ص ‪ ,02-10‬رد المحتار جزء ‪ 4‬ص ‪.424‬‬
‫‪ 4‬نظام القضاء في الشريعة اإلسالمية‪ ,‬الدكتور عبد الكريم زيدان‪ ,‬مكتبة البشائر‪َ ,‬عمان‪ ,‬الطبعة الثانية ‪1402‬هــ‪1252-‬م‪,‬‬
‫ص‪.245‬‬

‫‪16‬‬
‫سيضطر أوالة األمور إلى تولية المقلدين وجاز ذلك النعدام المجتهدين‪ ,‬وعلل الفقهاء‪ 1‬ذلك‬
‫بالضرورة‪ ,‬وعليه فالقاضي قد يكون مجتهدا وقد يكون مقلدا!‬

‫وفي كلتا الحالتين هل قضاؤه يؤول إلى االجتهاد أم إلى التقليد؟‬

‫إذا كان القاضي مقلدا فإنه يلزم عليه أن يحكم بالمشهور أو الراجح من مذهب البلد‪ ,‬سواء أكان‬
‫هو مذهبه أم أنه يقلد مذهبا آخر‪ ,‬وقد صح عن اإلمام سحنون أنه ولي رجال القضاء فألزمه‬
‫القضاء بمذهب أهل المدينة أي المذهب المالكي‪ ,‬مما يستَش ُّ‬
‫َف منه أن بإمكان اإلمام الحاكم أن‬
‫يلزم القاضي بمذهب بعينه دون غيره‪ ,‬وهذا إنما يحق ويصح في القاضي المقلد‪ ,‬أما إن كان‬
‫القاضي مجتهدا‪ ,‬فهل يحق للحاكم إلزامه بمذهب بعينه؟‬

‫لقد تضاربت آراء الفقهاء في هذه المسألة‪ ,‬فقد ذكر ابن فرحون‪ 2‬أن ذلك ال يجوز لما فيه من‬
‫تضييق الخناق على القاضي‪ ,‬وأن وجه الحق قد يكون في مذهب غير مذهب القاضي‪ ,‬من ثم‬
‫يمنع القاضي من الحكم به‪ ,‬ألنه ملزم بمذهب معين‪.‬‬

‫وهو أيضا منطوق ما نص عليه أيضا الماوردي‪ :3‬على أن شرط تقييد القاضي بمذهب معين‬
‫شرط باطل ألنه يحول بين اجتهاد القاضي فيما يجب فيه االجتهاد‪.‬‬

‫ونرى خالف ما ذهب إليه اإلمامان ابن فرحون والماوردي‪ ,‬ذلك أن القاضي وإن كان مجتهدا‬
‫فإن وظيفته تختلف تماما عن وظيفة الفقيه المفتي‪ ,‬ألنه إنما ولي لفض النزاعات وصد‬
‫الخصومات‪ ,‬ورد الحقوق ألهلها وحقن الدماء‪ ,‬وإقامة الحدود وسجن المجرمين‪ ,‬إلى غيره‪...‬‬
‫وحكمه ملزم لألطراف سواء المدعي وال المدعى عليه‪ ,‬مما يجعل القاضي محاصرا عليه‬
‫بأعراف ال َمصر الذي يتقلد فيه القضاء وما جرى به العمل هناك‪ ,‬وقبل ذلك وبعد ذلك المذهب‬
‫المتبع راجحه ومشهوره‪ ,‬والعادات وأحوال الزمان‪ ,‬كل هذا يضيق على القاضي فيلزمه أن ال‬

‫‪ 1‬أنظر‪ :‬مغني المحتاج جزء‪ 4‬ص ‪ ,300‬تبصرة الحكام جزء‪ 1‬ص ‪.24‬‬
‫‪ 2‬تبصرة الحكام في أصول األقضية ومناهج األحكام‪ ,‬ابن فرحون‪ ,‬جزء ‪ 1‬ص ‪.22‬‬
‫‪ 3‬أدب القاضي‪ ,‬الماوردي جزء‪ 1‬ص ‪ 155-150‬بتصرف‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫يخرج حكمه القضائي عنه‪ ,‬ما يجعله ملزما باالحتكام إلى مذهب البلد الذي ولي فيه القضاء‬
‫دون الخروج عنه إال للضرورة القصوى‪.‬‬

‫من ثم فالقاضي ال يجتهد اجتهاد رأي فذلك من عمل الفقيه المجتهد المفتي كما سبق‪,‬‬
‫وألن اجتهاده قد يخالف المذهب المقضى به أو أعراف وعادات الناس وهذا ال يجوز‬
‫طبعا ومخالف لمنطق الشريعة‪ ,‬كما أن القاضي ال يقضي عن محض تقليد إذ البد له من‬
‫تكييف األحكام ومراعاة الزمان والمكان واألحوال واألعراف‪ ,‬وال يصح بل وال يعقل‬
‫أن يقلد القضاة في أقضيتهم اللهم إال عن سبيل االستئناس وحسب‪ ,‬من ثم فالقاضي إنما‬
‫يجتهد اجتهاد تنزيــــل أوعلى األقل اجتهاد تخريـــج؛‬

‫أي يبذل ما في وسعه للكشف عن األحكام المناسبة والمالئمة للنازلة المعروضة عليه‪ ,‬فيبحث‬
‫في القرآن أوال فإن لم يجد فيه يبحث في سنة رسول هللا ملسو هيلع هللا ىلص فإن لم يجد فيه يبحث في إجماعات‬
‫الصحابة والتابعين وكذا إجماعات العلماء فإن لم يجد فيه‪ ,‬يجتهد بقيــاس الوقائع على األخرى‬
‫فإن لم يسعفه ذلك‪ ,‬وقف على أصول مذهبه وعمل على استنباط الحكم استنادا إلى أصل منها‪,‬‬
‫ثم ينزله تنزيـــال صحيحا على الواقعة المعروضة عليه‪ ,‬وههنا تجلي حنكة القاضي ولمسته‬
‫االجتهادية‪ ,‬وذلك بعد استشارة أهل الحل والعقد من علماء وفقهاء وقضاة حتى يتحرى الحق‬
‫ويرتاح ضميره للحكم المن ٌَّزل‪ ,‬بل إن بعض الفقهاء أوجبوا على القاضي المقلد استشارة العلماء‬
‫أحكامه‪.‬‬ ‫في‬

‫لقد بدأت الرؤية تكتمل حول سلطة القاضي التقديرية خصوصا بعدما تعرضنا للتكييف الفقهي‬
‫لها‪ ،‬ولكي تبلغ الرؤية كمالها وتصل تمامها البد أن ننظر في التكييف القانوني لها‪ ،‬حينها يجلو‬
‫لنا األمر بشكل أدق‪ ،‬وهو موضوع المبحث الثاني من هذا الفصل‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في التقنين المغربي‪:‬‬

‫بين يدي المبحث‪:‬‬

‫‪18‬‬
‫يسعى هذا المبحث إلى كشف الغموض عن السلطة التقديرية لقضاء الموضوع‪ ,‬وذلك من خالل‬
‫تكييفها تكييفا قانونيا‪ ,‬حيث إن قاضي الموضوع كما هو معلوم يتعامل مع الواقع والقانون‪,‬‬
‫فيستخلص الوقائع ويكيفها تكييفا مناسبا ثم ينزل القاعدة القانونية عليها‪ ,‬ما يطرح إشكاال كبيرا‬
‫ح ول محل سلطته التقديرية هل تنصب في الواقع وحسب دون القانون؟ أم في القانون دون‬
‫الواقع؟ أم فيهما معا؟ وهل محكمة النقض تراقب السلطة التقديرية للقاضي ؟ فما مدى رقابتها‬
‫لها؟ ومن يحدد مجالها وحدودها؟ وهل تتسع وتضيق أم هي ثابتة؟‬

‫لكن قبل ذلك‪ ,‬البد أن نبحث في ماهية السلطة التقديرية (الفقرة األولى) وعالقتها بوسائل‬
‫اإلثبات‪ ,‬ومذاهب الفقهاء في اإلثبات (الفقرة الثاني)‪ ,‬ثم بعده ننظر إشكالية‪ :‬شكلية وموضوعية‬
‫وسائل اإلثبات وسلطة القاضي التقديرية إزاءها(الفقرة الثالثة)‪ ,‬لنختم باإلشكالية التي استهلنا بها‬
‫حول محل سلطة القاضي التقديرية ومدى رقابة محكمة النقض لها(الفقرة الرابعة)‪ ,‬هذا في‬
‫سننقل الحديث إلى المادة الجنائية‪ ،‬حيث أخذ فيها المشرع‬
‫مطلب أول‪ ,‬أما في المطلب الثاني ف َ‬
‫بالمذهب الحر أو اصطل َح عليه قانونيا بمبدأ حرية اإلثبات (الفقرة األولى)‪ ،‬هذا األخير يدفعنا‬
‫للحديث عن حرية القاضي في االقتناع (الفقرة الثانية)‪.‬‬

‫المطلب األول‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في المجال المدني‪:‬‬

‫الفقرة األولى‪ :‬ماهية السلطة التقديرية؟‪:‬‬

‫نشير في البداية إلى أن الدراسات قليلة جدا في هذا المجال‪-‬السلطة التقديرية لقاضي الموضوع‪-‬‬
‫من ثم لم نقف لحد اآلن على تعريف جامع مانع للسلطة التقديرية إال ما تناثر وتبعثر هنا‬
‫وهناك‪ ,‬بل إن الذين تصدوا لها –وإن كانوا قلة‪ -‬قد اختلفوا في تعريفها وماهيتها‪ ,‬ألنه في‬
‫الحقيقة مصطلح يشوبه الغموض وغير مستقر ما جعل الفقه ينفر منه وإن كان عمل هذا األخير‬
‫هو التصدي للتعريفات وتفسير المبهمات وسد الثغرات !‬

‫‪19‬‬
‫وقد وقفنا على تعريف ألحد الباحثين المصريين وعرفها بأنها‪ ":‬نشاط ذهني يقوم به القاضي‬
‫في فهم الواقع المطروح عليه‪ ,‬واستنباط العناصر التي تدخل هذا الواقع في نطاق قاعدة قانونية‬
‫‪1‬‬
‫معينة‪ ,‬يقدر أنها هي التي تحكم النزاع المطروح عليه هذا النشاط وعالقته بالواقع والقانون‪".‬‬

‫وهو تعريف جيد معتبر‪ ,‬لكن يؤاخذ عليه أمران؛ األول‪ :‬حين اعتبر السلطة التقديرية نشاط‬
‫ذهني يقوم به القاضي بغية فهم الواقع المطروح !!‪ ,‬نتساءل أين تتجلى سلطة القاضي هنا ؟ بل‬
‫إن ذلك واجب على القاضي وليس سلطة ممنوحة له‪ ,‬فإذا لم يفهم القاضي الواقع فكيف له أن‬
‫يقضي أصال؟‪ ,‬األمر الثاني‪ :‬قوله في القاعدة القانونية (يقدر أنها هي التي تحكم النزاع‬
‫المطروح) بل ليس هناك شك وال تقدير أنها التي تحكم النزاع‪ ,‬بل هي التي ينزلها القاضي على‬
‫النزاع ليفصل فيه‪.‬‬

‫ولقد وقفنا على تعريفات أخرى وكلها تكاد تكون مشابهة للتعريف الذي أوردناه‪ ,‬إنما الذي نؤكد‬
‫عليه أن مفهوم السلطة التقديرية تحكمه مجموعة من األمور نقف عليها أوال لنخرج بتعريف‬
‫مناسب‪.‬‬

‫إن السلطة التقديرية ضرورية للقاضي لتكييف الوقائع وتنزيل القواعد القانونية عليها بشكل‬
‫صواب‪ ,‬وهذه السلطة تكون في الواقع كما تكون في القانون (وسنفصل في هذا األمر بعده)‪,‬‬
‫فيستحيل إذن تنزيل النص القانوني على الواقعة المطروحة دون استناد القاضي إلى سلطته‬
‫التقديرية بتكييف الواقع وتفسير الغامض وتقريب المهم من األدلة وإبعاد ما ال فائدة منه‪,‬‬
‫والمطالبة بإجراء تحقيق إن تطلب األمر ‪...‬إلى غيره‪ ,‬كل هذا يدخل ضمن سلطة القاضي‬
‫التقديرية‪.‬‬

‫من هنا إذن نقول إن السلطة التقديرية‪ ":‬ضمانة ممنوحة للقاضي على إثرها يكيف الواقع‬
‫ويقدره فينزل عليه القاعدة القانونية"‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫سلطة القاضي التقديرية في المواد المدنية والتجارية‪ ,‬نبيل إسماعيل عمر‪ ,‬دار الجامعة الجديدة للنشر‪ ,‬ص ‪.52‬‬

‫‪20‬‬
‫لكن المشكل المطروح‪ ,‬ما محل وسائل اإلثبات في هذا الصدد؟ وهل تشملها سلطة القاضي‬
‫التقديرية؟‬

‫قبل أن نشرع في مناقشة هذه القضية‪ ,‬نتعرف أوال على مذاهب اإلثبات وموقف المشرع‬
‫المغربي منها‪.‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬مذاهب اإلثبات وموقف المشرع المغربي منها‪:‬‬

‫يتخذ التنظيم القانوني لإلثبات ثالث صور‪ ,‬وجوهر هذه الصور في مجملها متعلق بوسائل‬
‫اإلثبات والفسحة الممنوحة للقاضي في تقدير هذه الوسائل وتفسيرها وفي قبولها وردها‪,‬‬
‫وتوجيه الخصوم إليها‪ ,‬وقدرة القاضي كذلك على التأكد بنفسه من الواقعة‪ ,‬إلى غيره‪ ,..‬فإذا‬
‫منح للقاضي فسحة واسعة فنحن في ظل الصورة األولى وهو المذهب الحر (أوال)‪ ,‬أما إذا‬
‫كانت هذه الفسحة ضيقة فنحن امام المذهب المقيد ( ثانيا)‪ ,‬وبين المذهب الحر والمذهب المقيد‬
‫هناك إثبات مختلط (ثالثا) جمع محاسن اإلثباتين‪.‬‬

‫أوال‪ :‬المذهب الحر‪SYSTEM DE LA PREUVE MORALE AU LIBRE :‬‬

‫ويتسم هذا المذهب بالحرية الكاملة للمتقاضين في تقديم األدلة والحجج ولو بوسائل إثبات لم‬
‫ينص عليها القانون‪ ,‬كما يملك القاضي السلطة الكاملة في البحث عن وسائل وعناصر اقتناعه‬
‫وتكوين عقيدته تجاه النزاع المطروح أمامه‪ ,‬فله الخيار في االستناد إلى أي وسيلة يراها أقرب‬
‫إلى قناعته‪ ,‬كما له أن يطالب باالستماع إلى الشهود أو إجراء تحقيق متال تطلب األمر ذلك أو‬
‫طلبه أحد الخصمين‪ ,‬كل ذلك لتكوين قناعته‪ ,‬وكل دليل عرض عليه فإنه يحدد قيمته ويقدره قبل‬
‫أن يأخذ به أو يرده‪ ,‬بل له حسب هذا المذهب أن يتمم دليل أحد الخصمين إن عاره نقص أو‬
‫غموض‪.‬‬

‫وميزة هذا المذهب أنه يجعل الحقائق القضائية التي يصل إليها القاضي في حكمه‬

‫‪21‬‬
‫مطابقة إلى درجة كبيرة للحقائق الواقعة المنازع فيها‪ ,1‬ومما يؤاخذ عليه أنه منح للقاضي سلطة‬
‫واسعة جدا تفضي أحيانا إلى زعزعة الثقة العامة‪ ,‬وتضع القاضي محل تهمة وشبهة‪ ,‬فيحكم بما‬
‫يهوى دون رقيب عليه‪.‬‬

‫وهذا المذهب ال تزال دول ألمانيا وسويسرا وإنجلترا وأمريكا تتبناه وهو المذهب‬
‫األنجلوسكسوني وله صالحية واسعة بالمقارنة مع المذاهب األخرى‪ ,‬وهو حاضر بقوة في‬
‫المواد الجنائية والتجارية‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬المذهب المقيد‪SYSTEME DE LA PREUVE LEGALE :‬‬

‫لتفادي ما وقع فيه المذهب السابق من تناقضات وإخالالت وعيوب‪ ,‬رأت التشريعات قديما‬
‫خالل مرحلة تطورها وضع مذهب ثان يكون أضبط وأدق‪-‬حسب زعمهم‪ -‬من المذهب السابق‪,‬‬
‫بحيث تحصر فيه وسائل اإلثبات وتعين تعيينا دقيقا (وهي ميزته الكبرى)‪ ,‬ويتم تحديد قيمة كل‬
‫وسيلة على حدى‪ ,‬وال يملك الخصوم إثبات حقوقهم إال بها‪.‬‬

‫والقاضي ‪-‬على غرار المذهب السابق‪ ,-‬يحظر عليه تحديد قيمة وسائل اإلثبات ألنها محددة‬
‫قانونا‪ ,‬وليس له تفسير األدلة وال إتمام نقصها‪ ,‬وال أن يقضي بدليل قدمه أحد الخصمين إال بعد‬
‫تمكين الخصم اآلخر من مناقشته‪ ,‬كما يمنع عليه القضاء بعلمه الشخصي‪ ,‬بل هو مطالب‬
‫بالحياد التام تجاه النزاع المعروض‪.‬‬

‫ي فيه عيوب المذهب السابق‪ ,‬إال أنه والحال جامد جدا‪ ,‬وجعل‬
‫وهذا المذهب‪ ,‬رغم أنه تحوش َّ‬
‫القاضي محجورا عليه وأفقده نشاطه وحريته‪ ,‬فمادام أن القاضي في ظل هذا المذهب‪ ,‬ال‬
‫يستطيع تفسير وال تقدير وال وضع قيمة األدلة إال أن سلطته تكاد تكون منعدمة‪ ,‬وهذا يفضي‬
‫بنا إلى عيب أكبر من عيوب المذهب السابق‪ ,‬هو أن حكم القاضي الصادر في ظل هذا المذهب‬
‫يكون بعيدا جدا عن الحقيقة الواقعية‪ ,‬مادام والحال أن القاضي لم يجد حريته التامة وسلطته‬
‫الكاملة في تكييف الوقائع ووزنها وتحديد قيمتها‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫وسائل اإلثبات في القانون المدني المغربي‪ ,‬إدريس العلوي العبدالوي‪ ,‬مطبعة النجاح الجديدة‪ ,‬سنة ‪ ,1402-1251‬ص ‪.10‬‬

‫‪22‬‬
‫ثالثا‪ :‬المذهب المختلط‪SYSTEM MIXTE :‬‬

‫َو َّد هذا المذهب أن يجمع بين مبادئ المذهبين السابقين‪ ,‬فال يأخذ بالحرية المطلقة وال بالتقييد‬
‫الكامل‪ ,‬بل يجعل لكل واحد منهما موضعا في وسائل اإلثبات‪ ,‬فتحدد وسائل اإلثبات وتعين قوة‬
‫بعضها في اإلثبات مع وضع شروط الوقائع الالزم إثباتها‪ ,‬والقاضي يلتزم موقف الحياد وال‬
‫يقضي بعلمه الشخصي البتة‪.‬‬

‫هذا‪ ,‬ومن جهة أخرى فالقاضي له سلطة معتبرة ومحددة قانونا على إثرها يقوم بنشاطه‬
‫المستفاد من جمع األدلة واستجواب الخصوم والمطالبة بإجراء التحقيق‪ ,‬كما له سلطة تقييم‬
‫وتقدير الدليل المستفاد من بعض وسائل اإلثبات (كالشهادة واإلقرار والقرائن ‪.)...‬‬

‫إذ األخذ بالمذهب المختلط يقتضي التخفيف من حدة التقييد الذي يحوط القاضي إزاء اإلثبات؛‬
‫فال يجعل عمله آليا مقتصرا على التطبيق الجامد للنصوص‪ ,‬بل يخوله سلطة تقديرية واسعة في‬
‫‪1‬‬
‫تكوين قناعته دون اإلخالل بمبدأ الحياد المفروض فيه والذي قد يتسبب فيه المذهب المطلق‪.‬‬

‫والقاضي في ظل هذا المذهب جانب سلبيات المذهبين‪ :‬الحر والمقيد‪ ,‬واستفاد من ميزاتهما‪,‬‬
‫فكأنه ضرب عصفورين بحجر واحد‪.‬‬

‫هذا‪ ,‬المذهب هو ما اصطلح عليه بالمذهب الالتيني وتبنته أغلب التشريعات العربية منهم‬
‫المغرب وسوريا ولبنان ومصر‪.‬‬

‫لكن يتبادر إلى ذهننا سؤال !! هو ماذا عسى القاضي أن يفعل إذا استنفذ جميع وسائل اإلثبات‬
‫المحددة قانونا فلم يقف على حكم مناسب‪ ,‬أو لم يؤسس قناعته بعد ؟؟‬

‫وسائل اإلثبات حددها المقنن في الفصل ‪ 404‬من ظهير االلتزامات والعقود‪ ,2‬وجاء على سبيل‬
‫الحصر ومرتبة ترتيبا دقيقا‪ ,‬فال يمكن االنتقال إلى وسيلة دون استنفاد الوسيلة التي قبلها‪ ,‬والذي‬

‫‪ 1‬مقال بعنوان‪" :‬إثبات الزوجية بين مقتضيات المادة ‪ 11‬من مدونة األسرة والقواعد العامة لإلثبات"‪ ,‬ألستاذنا الفاضل د‪ .‬حسن‬
‫القصاب‪ ,‬منشور بمجلة كلية الشريعة‪-‬أكادير‪ ,‬العدد ‪ - 3‬سنة ‪ -2013‬ص ‪.124‬‬
‫‪ 2‬الظهير الشريف الصادر في ‪ 2‬رمضان ‪ 12( 1331‬غشت ‪ )1213‬بمثابة قانون االلتزامات والعقود‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫نراه أن المذهب المختلط في معناه الدقيق بعيدا عن التعريفات المشهورة‪ ,‬هو أن القاضي إذا لم‬
‫تسعفه وسائل اإلثبات المحددة قانونا يمكن اللجوء إلى أدلة أو أي وسائل أخرى يراها مناسبة‬
‫في تأسيس قناعته‪ ,‬ولو لم ينصص عليها قانونا شريطة أال تخالفه طبعا‪.‬‬

‫إن فلسفة المذهب المختلط ‪-‬الذي أخذ به المقنن المغربي‪ -‬تقضي أن تحدد وسائل اإلثبات‬
‫للقاضي وهو األصل‪ ,‬فإذا لم تسعفه نظر في غيرها وذلك استثناء وحسب‪ ,‬أما المذهب المقيد‬
‫فال يملك فيه القاضي هذا االستثناء‪ ,‬وفي المذهب األنجلوسكسوني (الحر)‪ ,‬فالقاضي مخير‬
‫ابتداء بين أن ينظر في وسائل اإلثبات المحددة أو يلتجأ إلى غيرها‪.‬‬

‫بعد هذا‪ ,‬نتساءل ما مدى سلطة القاضي التقديرية إزاء وسائل اإلثبات؟ وأين يمكن تصنيفها أفي‬
‫القواعد الموضوعية أم ضمن القواعد الشكلية ؟ وهو ما سنناقشه في الفقرة الموالية‪.‬‬

‫الفقرة الثالثة‪ :‬وسائل اإلثبات بين الشكلية والموضوعية ومدى سلطة القاضي إزاءها‪:‬‬

‫ف ك أيضا من عرفه بأنه‪ ":‬إقامة الدليل أمام القضاء‪ ،‬على وجود واقعة قانونية ( ‪fait‬‬
‫عر َ‬
‫‪ ، )juridique‬أي وضع يرتب حقا‪ ،‬أو يعدله أو يرتب انقضاؤه‪ ،‬سواء كان حقا اإلثبات بأنه‪":‬‬
‫إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددها القانون على وجود واقعة قانونية ترتبت آثارها"‪.1‬‬
‫‪2‬‬
‫وهنا موضوعيا‪ ،‬أو حقا متعلقا باإلجراءات‪".‬‬

‫وقد نظم المشرع المغربي وسائل اإلثبات في الفصل ‪ 404‬من ظهير االلتزامات والعقود‬
‫وجاءت فيه مرتبة كاآلتي‪:‬‬

‫"اإلقرار‪-‬الكتابة‪ -‬شهادة الشهود‪ -‬القرائن‪ -‬اليمين والنكول عنها‪".‬‬

‫هذا‪ ,‬وقد جرى خالف فقهي‪ 1‬حول تصنيف وسائل اإلثبات هل هي موضوعية أم شكلية؟ بمعنى‬
‫هل تدخل ضمن القانون الموضوعي أم القانون الشكلي اإلجرائي!‪ ,‬وذلك ينعكس عليها تماما‪,‬‬

‫‪ 1‬الوسيط في شرح القانون المدني‪ ,‬عبد الرزاق السنهوري‪ ,‬الجزء الثاني‪ ,‬ص‪.13‬‬
‫‪ " 2‬التعليق على نصوص قانونية "‪ ،‬أحمد أبو الوفا‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬منشأة المعارف‪ -‬اإلسكندرية‪ -‬مصر‪ ،‬ص ‪.13‬‬

‫‪24‬‬
‫حيث إن اإلجراءات الشكلية تدخل في النظام العام أي‪ :‬ال يصح االتفاق على مخالفتها وال على‬
‫إسقاطها كما تثيرها المحكمة تلقائيا عند خرقها أو انعدامها وتفرض جزاء على ذلك‪ ,‬ألن خرقها‬
‫وعدم احترامها يؤثر في المصلحة العامة قبل أن يؤثرعلى أطراف النزاع‪ ,‬أما القواعد‬
‫الموضوعية فال تدخل في النظام العام بل ضمن حقوق األفراد التي يجوز التنازل عنها‬
‫واالتفاق على إسقاطها‪.‬‬

‫إذ غني عن البيان أن قواعد اإلثبات لم توضع في األصل إال لمصلحة الخصوم وليس للمصلحة‬
‫العامة‪ ,‬ذلك أن قواعد اإلثبات وثيقة الصلة بالحق‪ ,‬فالتنازل عنها أو التعديل فيها يمس مصلحة‬
‫األفراد عن قرب‪ ,‬وإذا كان للشخص أن يتنازل عن حقه أو يعدل فيه‪ ,‬فبدهي أن يكون له ذلك‬
‫‪2‬‬
‫فيما يتعلق بإثباته‪.‬‬

‫‪ ,‬من ث م فهي الكفيلة بتحديد محل اإلثبات وعبئه (على من يقع؟)‪ ,‬وقيمته وطرقه‪ ,‬على غرار‬
‫القواعد اإلجرائية التي تحدد مسطرة التقاضي وكيفية إقامة الدليل أمام القاضي القتضاء الحق‬
‫أو نفي االتهام‪.‬‬

‫ومنه‪ ,‬فاألسلم واألوفق ‪-‬في ظل المذهب المختلط ‪ -‬الذي تبناه المشرع المغربي أن تدخل وسائل‬
‫اإلثبات ضمن القواعد الموضوعية‪ ,‬حيث نظمها المشرع في قانون االلتزامات والعقود في‬
‫فصله ‪ 404‬من الباب السابع من الكتاب األول‪ ,‬حيث إن سلطة القاضي إزاءها ‪ -‬وسائل اإلثبات‬
‫في ظ‪.‬ل‪.‬ع‪ -‬محكومة بالمذهب المختلط‪ ,‬أي‪ :‬تتراوح ما بين اإلطالق والتقييد‪ ,‬حيث إن للقاضي‬
‫تقييم األدلة ووزنها وتقديريها وتقييمها‪ ,‬وكذا قبولها وردها إن اقتضى األمر‪ ,‬من جهة أخرى؛‬
‫فالقاضي مقيد بوسائل اإلثبات المحددة قانونا في الفصل ‪ 404‬من ق ل ع‪ ,‬وال يملك صناعة‬
‫دليل جديد غير منصوص عليه قانونا‪ ,‬وما يؤكد األمرما ورد في الفصل ‪ 443‬من ظهير‬
‫االلتزامات والعقود‪" :‬من َّ‬
‫أن المعامالت المدنية التي تفوق قيمتها ‪ 10.000.00‬درهم ال تثبت‬

‫‪ 1‬للمزيد من التفصيل أنظر‪" ,‬وسائل اإلثبات في القانون المدني المغربي"‪ ,‬إدريس العلوي العبدالوي‪ ,‬ص ‪ 11‬وما يليها‪.‬‬
‫‪" 2‬رقابة المجلس األعلى على محاكم الموضوع في المواد المدنية (محاولة للتمييز بين الواقع والقانون)"‪ ,‬دمحم الكشبور‪,‬مطبعة‬
‫النجاح الجديدة‪ ,‬الطبعة األولى سنة ‪ ,1422-2001‬ص ‪.212‬‬

‫‪25‬‬
‫إال كتابةً"‪ ,‬نضف إليها مقتضيات الفصل ‪ 401‬من نفس الظهيرالذي نص في منطوقه؛ أن‬
‫القانون إذا نص على إثبات االلتزامات بشكل معين ال يسوغ إثباتها بشكل آخر يخالفه‪.‬‬

‫هذه االزدواجية في السلطة التقديرية ما بين اإلطالق والتقييد هي فلسفة المشرع في ظل‬
‫المذهب المختلط‪ ,‬أما إجراءات التحقيق التي حصرها المشرع في المسطرة المدنية‪ 1‬من الفصل‬
‫‪ 33‬إلى الفصل ‪ 102‬منه تحت عنوان‪ ":‬في إجراءات التحقيق"‪ ,‬وهذه اإلجراءات هي‪ :‬الخبرة‬
‫والمعاينة و اليمينان؛ المتممة والحاسمة‪ ,‬ثم تحقيق الخطوط‪ ,‬فسلطة القاضي إزاء ‪-‬هذه‬
‫اإلجراءات‪ -‬واسعة جدا‪ ,‬بدءا ً بقبول طلب االلتجاء إليها من عدمه‪ ,‬وهو المشرف عليها من‬
‫بدايتها إلى نهايتها‪ ,‬أما الخبير‪-‬في إطار الخبرة مثال‪ -‬فإنما يبدي رأيه في نقطة فنية دقيقة جدا‬
‫وحسب‪ ,‬ويمنع عليه التصدي للمسائل القانونية‪ ,‬كما يمنع عليه التدخل في جوهر الخصومة‪,‬‬
‫والقاضي مثال حر في توجيه اليمين المتممة من عدمه‪ ،‬وله أن يستجيب للخصم الذي طلبها وله‬
‫أال يستجيب‪ ،‬كما له أن يوجهها ألي من الخصمين شاء‪ ،‬وله أن يقبلها بعد أدائها‪ ،‬وله أن‬
‫يرفضها‪ ،‬وحتى بعد انتهاء التحقيق فللقاضي سلطة واسعة في األخذ به وتبنيه أو رده والمطالبة‬
‫بإجراء تحقيق جديد‪ ,‬إنما يلزمه التعليل في حالة عدم قَبول االلتجاء إلى إحدى إجراءات التحقيق‬
‫بناء على طلب أحد األطراف‪ ,‬وكذلك يلزمه التعليل في حالة رد إحداها ‪-‬إجراءات التحقيق‪-‬‬
‫تحت طائلة نقض حكمه من قبل محكمة النقض‪.‬‬

‫فلم أدرجها المشرع إذن في ظهير ق ل ع ولم يدرجها‬


‫فلو كانت وسائل اإلثبات قواعد شكلية َ‬
‫في المسطرة المدنية؟ وحتى (وسائل اإلثبات) التي أدرجها المشرع في المسطرة المدنية س َّماها‬
‫بإجراءات التحقيق ولم يسمها وسائل اإلثبات !! مما يدل على أنها ال ترقي لتكون وسيلة إثبات‬
‫حقا؛ إنما هي مجرد إجراءات تحقيق يستأنس بها القاضي ويلتجأ إليها عند غياب وسائل‬
‫اإلثبات‪ ,‬أو يعزز بها قناعته‪ ,‬وال تقوم وحدها بل تقوم مع أحد وسائل اإلثبات المنصوص عليها‬
‫في ظهير ل ع‪.‬‬
‫‪ 1‬الظهير الشريف بمثابة قانون رقم ‪ 1.04.440‬الصادر بتاريخ ‪ 11‬رمضان ‪ 25( 1324‬شتنبر ‪ ،)1204‬بالمصادقة على نص‬
‫قانون قانون المسطرة الجنائية‪ ،‬منشور بالجريمة الرسمية عدد ‪ 3230‬مكرر‪ ،‬بتاريخ ‪ 13‬رمضان ‪ 30 ( 1324‬شتنبر‬
‫‪ ،)1204‬ص ‪.2041‬‬

‫‪26‬‬
‫الفقرة الرابعة‪ :‬محل السلطة التقديرية ومدى رقابة محكمة النقض لها‪:‬‬

‫أوال‪ :‬محل السلطة التقديرية لقاضي الموضوع‪:‬‬

‫تتجلى وظيفة قاضي الموضوع في استخالص الوقائع أوال وتكييفها تكييفا مناسبا‪ ,‬ثم تنزيل‬
‫َّ‬
‫ولكن صعوبتها لم‬ ‫القاعدة القانونية عليها تنزيال صحيحا‪ ,‬وهي عملية تظهر بسيطة في الظاهر‪,‬‬
‫سا شبه يومي‪ -‬وهو القاضي‪ -‬بطبيعة الحال‪ ,‬وعليه فإن القاضي‬
‫يذقها إال من مارسها مرا ً‬
‫يمارس نشاطا متشابكا في فض النزاعات المعروضة عليه‪ ,‬تحوي على جوانب واقعية وأخرى‬
‫وجوانب يمتزج فيها الواقع بالقانون‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫قانونية‬

‫ومنه‪ ,‬فإن القاضي يمارس سلطته التقديرية أوال‪ :‬في استخالص الواقع وتكييفه‪ :‬و االستخالص‬
‫ي عني ــــ من الناحية النظرية على األقل ـــ محاولة قاضي الموضوع الوصول إلى صورة‬
‫كاملة أو تقريبية لوقائع النزاع كما هي أو كما حدثت ‪ .1‬ووضعه ــ النزاع ـــ في حدود معلومة‪,‬‬
‫حتى يسهل عليه اإلحاطة به من ثم النظر فيه‪ ,‬وهي مرحلة صعبة وخطيرة فعليها ينبني ما‬
‫يأتي بعده ا‪ ,‬ثم يكيف الواقع أي‪ :‬يضعه في إطاره القانوني بعد جرد عناصره وإبقاء المهم‪,‬‬
‫وإخراج ما ال جدوى منه‪ ,‬بعده يقوم بالنظر في األدلة المعروضة عليه ويقيمها ويقدرها ويزنها‬
‫ويضعها موضعها‪ ,‬ويحلل أوراق القضية تحليال عميقا دقيقا استعدادا لتنزيل النص القانوني‬
‫على النزاع‪ ,‬كل ذلك بعد أن يتثبت تثبيتا يقينيا جازما من حصول الواقعة فعال‪.‬‬

‫بعد استخالص الواقائع يأتي بعده التكييف وهو محاولة صلة الواقعة المعروضة على القاضي‬
‫بقاعدتها القانونية‪ ,‬أو بمعنى أوضح؛ البحث عن القاعدة القانونية الواجبة التطبيق على الوقائع‬
‫التي استخلصها قاضي الموضوع‪ ,2‬أو بعبارة جلية واضحة هو‪ :‬التقريب بين الوقائع‬
‫والنصوص التي تنظمها وتحكمها‪.‬‬

‫‪" 1‬رقابة المجلس األعلى على محاكم الموضوع في المواد المدنية"‪ ,‬م‪.‬س ص ‪.243‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Igaux – op – cit – p - 83- et s‬‬

‫‪27‬‬
‫ومن المفترض أن يجد القاضي صلة وثيقة جدا بين الوقائع والنصوص المنظمة لها‪ ,‬التي ما‬
‫وجدت أصال إال لالنطباق عليها‪.‬‬

‫وبدهي أن مجموع الوقائع التي تطرح أمام القضاء تعتبر بمثابة حاالت خاصة‪ ,‬أما القواعد‬
‫القانونية التي تنطبق عليها فمن صفاتها التجريد والعموم‪ 1‬ألنها النصوص القانونية متناهية‬
‫والوقائع غير متناهية‪.‬‬

‫فالتكييف إذن ما هو في النهاية إال عملية ذهنية غايتها البحث عن العالقة التي تربط الوقائع‬
‫التي استخلصها قاضي الموضوع بقواعد القانون‪.2‬‬

‫والتكييف كنشاط يمارسه قاضي الموضوع‪ ,‬اختلف الفقه في تصنيفه ! هل هو من مجال الواقع‬
‫أم مجال القانون أم من هما معا؟‬

‫ومرد االختالف إلى َّ‬


‫أن – التكييف ‪ -‬جاء في مرحلة وسطـى ما بعد إرساء الوقائع والفراغ من‬
‫دراستها وتحليلها وتوجيهها‪ ,‬وقبل تنزيل القاعدة القانونية عليها‪ ,‬فيصعب ‪ -‬والحالة هاته ‪-‬‬
‫تصنيفه؟ !‬

‫فمن الفقه من يرى أن عملية التكييف عملية قانونية محضة نظرا لصلتها الوثيقة بالبحث عن‬
‫القاعدة القاعدة القانوينة الواجبة التطبيق‪ ,3‬وألن ال سلطة وال إرادة للخصوم تجهاها‪ ,‬بل حدهم‬
‫الوقائع التي يطرحونها أمام القضاء‪ ,‬والقاضي باعتباره مختصا في القانون هو من يستأثر بهذه‬
‫العملية‪ ،‬وهو الرأي الذي نرجحه؛ العتبارات‪:‬‬

‫ــ َّ‬
‫أن عملية التكييف ال أثر ألطراف النزاع فيها‪ ،‬من ثم فهي ال تدخل أبدا في الواقع‪.‬‬

‫ــ أنها عملية لصيقة بالبحث عن القاعدة القانونية المالئمة لواقعة النزاع المستخلصة والواجبة‬
‫التطبيق عليها‪.‬‬

‫‪" 1‬السلطة التقديرية للقاضي في المواد المدنية والتجارية" م‪.‬س ص ‪.142‬‬


‫‪ 2‬المصدر السابق‪ ,‬ص ‪.144‬‬
‫‪" 3‬علم قاعدة التنازع واالختيار بين الشرائع أصوال ومنهجا"‪ ,‬مكتبة الجالء الجديدة بالمنصورة‪ ,1221 ,‬ص ‪ 300‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫ــ أنها خاضعة لرقابة شاملة من قبل محكمة النقض‪ ،‬وسنتطرق إليها فيما بعد‪.‬‬

‫"بل يكاد ينعقد اإلجماع حاليا على أن التكييف عمل قانوني"‪.1‬‬

‫وهناك من يرى أن التكييف يدخل في مجال الواقع ال القانون‪ ,‬إذ هو عبارة عن عمل ذهني‬
‫محض يتمثل في المقارنة بين وقائع النزاع من جهة ومفترض القاعدة القانونية كما تخيله‬
‫المشرع من جهة أخرى‪ ,‬من أجل الوصول إلى وجود تطابق تام بينهما‪.2‬‬

‫ومنهم من يرى أن التكييف عمل قانوني في بعض جوانبه‪ ,‬وعمل موضوعي في بعض جوانبه‬
‫األخرى‪ ,3‬وهو الرأي الذي تأثرت به محكمة النقض الفرنسية‪ ,‬وأخذت به في العديد من‬
‫قراراتها‪.‬‬

‫دون أن ننسى أن هناك رأيا أخيرا يرى أن عملية التكييف ال تدخل في مجال القانون وال تدخل‬
‫في مجال الواقع‪ ,‬وإنما هي مجرد وسيلة أو صياغة فنية الزمة للعبور بالوقائع إلى حكم‬
‫القانون‪ ،4‬وهو رأي بعيد عن الصواب‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬يمارس القاضي أيضا سلطته التقديرية في تطبيق القانون؛ وهي المرحلة األخيرة من‬
‫النشاط المبذول من قبل قاضي الموضوع‪ ,‬حيث تتمثل في إنزال حكم القانون على الواقعة التي‬
‫تم استخالصها وتكييفها بشكل صحيح‪.‬‬

‫من هنا إ ٍذ تبين لنا أن القاضي يمارس نشاطه ــ سلطته التقديرية ــ ليس فقط في الواقع ــ من‬
‫خالل استخالص الوقائع وتكييفها وتقدير األدلة ووزنها ــ بل يمت ُّد نشاطه هذا إلى الجانب‬
‫القانوني‪ ,‬من خالل البحث عن القاعدة القانونية الموافقة والمناسبة والمالئمة لنازلة الحال التي‬
‫تم استخالصها وتكييفها‪ ,‬ليس هذا فحسب‪ ,‬بل يعمـل القاضي سلطته أيضا في تقدير الغرامة‬

‫‪" 1‬رقابة المجلس األعلى على محاكم الموضوع في المواد المدنية"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ 222‬بتصرف يسير‪.‬‬
‫‪" 2‬السلطة التقديرية للقاضي في المواد المدنية والتجارية"‪ ,‬م‪.‬س – ص ‪.142‬‬
‫‪" 3‬رقابة المجلس األعلى على محاكم الموضوع في المواد المدنية"‪ ,‬مرجع سابق‪ ,‬ص ‪.222‬‬
‫‪" 4‬النظرية الخاصة للتكييف القانوني للدعوى في قانون المرافعات"‪ ,‬دار الفكر العربي‪( ,‬م‪ .‬ط‪ .‬غ‪ .‬م)‪ ,‬ص ‪.2‬‬

‫‪29‬‬
‫كمثال‪ ,‬وتحديد التعويض المناسب للضرر الحاصل بعد التثبت من وجود عالقة سببية ثابتة‬
‫يقينية بين الخطأ والنتيجة ــ وهو ما يدخل أيضا ضمن سلطة القاضي التقديرية ــ‪.‬‬

‫والحاصل‪َّ ،‬‬
‫أن مجاالت سلطة القاضي التقديرية في المادة المدنية واسعة بمعنى الكلمة‪ ،‬ولن‬
‫تكفنا هاته األسطر لجردها كلها‪ ،‬بل نكتفي بضرب األمثلة فحسب ل َيع َّم الوضوح‪.‬‬

‫والسؤال المطروح اآلن‪ :‬ـــ هل هذه السلطة التقديرية الممنوحة للقاضي مشمولة برقابة محكمة‬
‫النقض؟ فما مداها؟ وهو موضوع ما يأتي‪:‬‬

‫ثانيا‪ :‬رقابة محكمة النقض على السلطة التقديرية لقاضي الموضوع‪:‬‬

‫الوقائع‪:‬‬ ‫ــ رقابة محكمة النقض على إثبات‬

‫سبق أن قلنا‪ًّ :‬‬


‫إن استخالص وقائع النزاع والتثبت من وجودها المادي عمل واقعي‪ ،‬يستأثر به‬
‫قاضي الموضوع وهو من صميم نشاطه وسلطته‪ ،‬ونشير َّ‬
‫أن ال رقابة لمحكمة النقض على‬
‫حصر الوقائع وتثبيتها ابتدا ًء‪ ،‬بل تأخذ ذلك كمسلمات لتبني عليه ما تراه مخالفا للقانون‪ ،‬فيمنع‬
‫عليها أن تنظر في أدلة جديدة لم تعرض سابقا على محاكم الموضوع‪ ,‬كما يمنع عليها أن ترجح‬
‫بين أدلة وحجج الخصوم فيما قد عرضوه من أدلة اإلثبات أثناء رواج الدعوى عند قضاة‬
‫الموضوع‪.‬‬

‫َّ‬
‫ولكن هذه القاعدة يرد عليها استثنا ٌء؛ وهو أن محكمة النقض تبسط رقابتها على مدى احترام‬
‫قاضي الموضوع للقواعد القانونية المتعلقة باإلثبات‪ ،1‬ألن قواعد اإلثبات ندخل في الشق‬
‫القانوني الذي يخضع لرقابة محكمة النقض‪ ،‬كما تراقب أيضا‪ ،‬مدى توافق الوقائع التي‬
‫استخلصها قاضي الموضوع مع التحقيقات الجارية وشهادة الشهود إلخ ‪...‬‬

‫‪" 1‬قضاء النقض والتمييــز؛ في الواد المدنية والتجارية في التشريعين المصري والكويتي"‪ ،‬جالل الدين هاللي‪ ،‬مكتبة الفالح‬
‫للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ،1253 -‬ص ‪.134‬‬

‫‪30‬‬
‫وطبيعي أن الوقائع تهم الخصوم‪ ,‬من ثم فالقاضي ال يقبلها وال يأخذ منها إال ما استقام منها‬
‫بدليل‪ ،‬لهذا‪ ،‬جاء في قرار لمحكمة النقض المصرية‪ " :1‬يجب أن تكون الوقائع التي استخلصتها‬
‫المحكمة متمشية مع التحقيقات وشهادة الشهود ‪ ...‬بحيث إذا كان ال أثر لها في شيئ منها‪ ،‬فإن‬
‫علم القاضي في هذه الصورة يعتبر ابتداعا للوقائع وانتزاعا من الخيال"‪.‬‬

‫وقريبا منه ما جاء في قرار للمجلس األعلى للقضاء ــ محكمة النقض حاليا ــ ‪ ... ":‬عندما‬
‫تواجه المحكمة أي التباس في نازلة ما‪ ،‬يتعين عليها أن تأمر بإجراء كل بحث يؤدي إلى‬
‫معرفة الحقيقة ‪.2"...‬‬

‫كما تبسط محكمة النقض رقابتها على إعمال قواعد اإلثبات المنصوص عليها في الفصل ‪404‬‬
‫من ظهير االلتزامات والعقود‪ ,‬وفي الفصول من ‪ 33‬إلى ‪ 102‬من نص قانون المسطرة المدنية‬
‫فيما يخص إجراءات التحقيق‪.‬‬

‫فاإلقـرار ــ مثال ــ وجوده من عدمه‪ ،‬ومدى حجيته‪ ،‬وعدم تجزئته‪ ،‬وقصوره على المقر دون‬
‫‪3‬‬
‫سواه‪ ،‬من مسائل القانون التي تخضع لرقابة قاضي النقض‪.‬‬

‫وفي الحجة الكتابية‪ ،‬فإن كل استبعاد كلي أو جزئي لما تضمنته الوثيقة‪ ،‬وكل ترجيح لوثيقة‬
‫على أخرى يجب أن يعلل تعليال كافيا مقنعا‪ .‬والتحريف والتعليــل‪ ،‬مسألتان خاضعتان لرقابة‬
‫المجلس األعلى‪ ،4‬ونفس األمر بالنسبة لشهادة الشهود فإن إجراءاتها خاضعة لرقابة محكمة‬
‫النقض من حيث عددها وكيفية ومكان أدائها‪ ،‬وعالقة الشهود بالمدعي أو المدعى عليه ‪...‬إلخ‪.‬‬

‫والقرائن القانونية دون القرائن القضائية يخضع فيها قاضي الموضوع لرقابة محكمة النقض في‬
‫كل ممارسته لها ألنها محددة قانونا‪ ،‬من ثم سلطته التقديرية ضيقة لحد كبير تجاهها‪ ،‬على‬

‫‪ 1‬نقص جنائي صادر في ‪ 2‬يناير ‪ ،1233‬مجموعة القواغد‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬رقم ‪ ،315‬ص ‪.411‬‬
‫‪ 2‬قرار صادر بتاريخ ‪ 14‬فبراير ‪ ،1202‬منشور بمجلة المحاماة‪ ،‬العدد ‪ ،11‬ص ‪ 113‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 3‬الوسيط في شرح القانون المدني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬جزء ــ‪2‬ــ ‪ ،‬ص ‪.313‬‬
‫‪" 4‬رقابة المجلس األعلى على محاكم الموضوع في المواد المدنية"‪ ،‬م‪.‬س‪ ،‬ص ‪ 200‬وما بعدها بتصرف يسير‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫عكس القرائن القضائية التي يتمتع بسلطة تقديرية واسعة جدا إزاءها‪ ،‬ألنها ليست محددة قانونا‬
‫بل يستنبطها من وقائع النزاع‪.‬‬

‫وأما اليمين الحاسمة أو المتممة‪ ،‬فإن كيفية إعمالها يعتبر من المسائل القانونية التي تخضع‬
‫‪1‬‬
‫لرقابة قاضي النقض‪.‬‬

‫وما بقي من وسائل اإلثبات من خبرة ومعاينة فال تخضع لرقابة محكمة النقض أساسا‪ ،‬ألنها‬
‫كلها تدخل ضمن اإلجراءات المتبعة إلثبات الوقائع‪ ،‬وال تندرج ضمن القانون‪ ،‬فيتمتع قاضي‬
‫الموضوع ئ ٍذ على إثرها بسلطة واسعة جدا‪.‬‬

‫ألنه كلما بسطت محكم ة النقض رقابتها على قاضي الموضوع إال وضيقت من سلطته التقديرية‬
‫والعكس صحيح‪.‬‬

‫التكييف‪:‬‬ ‫ـــ رقابة محكمة النقض على‬

‫مر بنا أن التكييف عمل قانوني يستأثر به قاضي الموضوع من خالله يحاول ربط ووصل‬
‫َّ‬
‫الوقائع بقواعدها القانونية المنظمة له‪ ،‬وبما أنها عملية قانونية محضة‪ ،‬فإنها بكل تأكيد تخضع‬
‫لرقابة محكمة النقض‪ ،‬فتكييف النزاع بمعنى‪ :‬تحديد القوانين الواجبة التطبيق عليه يخضع‬
‫لرقابة محكمة النقض باعتبارها محكمة قانون تسهر على تطبيق محاكم الموضوع القوانين‬
‫بشكل سليم‪ ،‬وكذلك األمر بالنسبة تكييف العقود واالتفاقات المبرمة بين األشخاص فهي ترد‬
‫عليها أوصافا متعددة يلزم على القاضي احترامها‪ ،‬وأال يقع في خطأ يستتبعه تطبيق قاعدة‬
‫قانونية ال تتماشى والعقد أو االتفاق المبرم بين المتعاقدين‪ ،‬فالوصف الذي يتمسك به أطراف‬
‫النزاع أو يتمسكون به تجاه العقد ال يشكل قيدا للقاضي الذي يتحتم عليه أن يبحث عن التكييف‬
‫الصحيح للعقد‪ ،‬مع ذلك أال يأتي بتكييف مخالف ألوصاف العقد أو االتفاق‪ ،‬وههنا تظهر‬
‫صعوبة وخطورة التكييف‪ ،‬ففي هذا الجانب يخضع قاضي الموضوع لرقابة محكمة النقض‪،‬‬
‫وفي هذا المنعطف جاء في أحد قرارات المجلس األعلى ــ محكمة النقض حاليا ــ‪:‬‬

‫‪ 1‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.221‬‬

‫‪32‬‬
‫"إن الطبيعة القانوني ة للعقود رهينة‪ ،‬ليس بالتحديد الصادر عن األطراف‪ ،‬وإنما بالطبيعة‬
‫المستخلصة من بنودها‪ ،‬لذلك فإن على قاضي الموضوع أن يحدد هذه الطبيعة وأن يستخلص‬
‫من هذا التحديد اآلثار القانونية أو االتفاقية التي تولدها هذه العقود ‪.1"...‬‬

‫ومما يخضع أيضا لرقابة محكمة النقض تكييف األحكام‪ ،‬أي‪ :‬وصفها‪ ،‬لهذا جاء في قرار‬
‫للمجلس األعلى‪:‬‬

‫"‪...‬القانون هو الذي يحدد وصف األحكام‪ ... ،‬ولهذا فإن الوصف الذي تعطيه المحكمة‬
‫ألحكامها يخضع لمراقبة المجلس األعلى‪.2" ....‬‬

‫هذا ال يعني أن كل التكييفات التي يقوم بها قضاء الموضوع تخضع لرقابة محكمة النقض‪ ،‬بل‬
‫إن منها ما ال يخضع لهذه الرقابة‪ ،‬إما ألن التكييف يتداخل مع الواقع‪ ،‬أو ألنه يتعلق بحالة‬
‫نفسية أو بتقدير كمي أو يحتاج إلى خبرة فنية‪ ،3‬والنقط التي ال تخضع لرقابة محكمة النقض‬
‫هي‪:‬‬

‫ــ تقدير سوء النية‪.‬‬

‫ــ تقدير مبلغ التعويض‪.‬‬

‫ــ تقدير مبلغ النفقة‪.‬‬

‫وألن هذه النقط الثالث التي أوردناها‪ ،‬بعضها لصيق بالواقع تماما‪ ،‬وبعضها متعلق بالحالة‬
‫النفسية لطرف النزاع‪ ،‬والبعض اآلخر متعلق بتقدير كمي‪ ،‬وإذا بسطت محكمة النقض رقابتها‬
‫عليها فستتجرد من صفتها القانونية‪ ،‬وتدخل في اختصاص محاكم الموضوع وهو ما ال يستقيم‪.‬‬

‫‪ 1‬قرار المجلس األعلى الصادر بتاريخ ‪ 0‬يناير ‪ ،1201‬منشور بمجلة المعيار الصادرة عن نقابة المحامين بفاس‪ ،‬العدد األول‪،‬‬
‫ص ‪ 43‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 2‬قرار المجلس األعلى الصادر بتاريخ ‪ 21‬فبراير ‪ ،1202‬مجلة قضاء المجلس األعلى‪ ،‬عدد ‪ ،21‬ص‪ 210‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪" 3‬رقابة المجلس األعلى على محاكم الموضوع في المواد المدنية"‪ ،‬م‪.‬س‪ ،‬ص ‪ 330‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫ـــ رقابة محكمة النقض على تطبيق القانون‪:‬‬

‫يعد استخالص النتائج القانونية وإنزالها على الوقائع العمل األخير من نشاط قاضي الموضوع‪،‬‬
‫ويدخل في هذا الشق القانوني مجموعةً من األمور كلها تدور حول الحكم القاضي الحامل‬
‫للقاعدة القانونية‪ ،‬ويمكن تصنيفها إلى ما يتعلق بالجانب الموضوعي للحكم (أوال)‪ ،‬ثم ما يتعلق‬
‫بالجانب الشكلي له (ثانيا) نذكر ذلك باقتضاب‪:‬‬

‫‪1‬ــ التقدير الموضوعي للحكم (تفسير القاعدة القانونية) ‪:‬‬

‫بعد وقوف قاضي الموضوع على القاعدة القانونية الواجبة التطبيق على النزاع المعروض‬
‫عليه‪ ،‬فيحدث أن يجد القاضي هذه القاعدة قد شابها الغموض أو نقص‪ ،‬فيكون آنئذ مضطرا‬
‫لتفسيرها إذا كانت غامضة‪ ،‬أو تكميلها إن كانت ناقصة‪ ،‬أو على األقل أن يبدي رأيه تجاهها ال‬
‫أن يدعها كالمعلقة‪.‬‬

‫وهو يخضع لرقابة محكمة النقض في تفسيره أو تكميله للقواعد القانونية‪.‬‬

‫‪2‬ــ األوضاع الشكلية للحكم القضائي‪:‬‬

‫باإلضافة إلى ما سبق‪ ،‬فإن على قاضي الموضوع أن يحترم عند إعداده للحكم القضائي‪ ،‬جميع‬
‫النصوص القانونية التي يتوقف عليها اكتساب الحكم للصفة القانونية‪ ،‬والخطأ الشكلي أو‬
‫اإلجرائي الذي من الممكن أن يشوب الحكم‪ ،‬قد يتخذ بصفة عامة إحدى الصورتين‪ :‬خطأ يتعلق‬
‫بالسلطة التي أصدرت الحكم‪ ،‬وخطأ يتعلق بعملية إصدار الحكم‪.1‬‬

‫ومحكمة النقض ــ المجلس األعلى سابقا ــ بطبيعة الحال تبسط رقابتها القضائية على "الحكم‪/‬‬
‫القرار" القضائي الذي يصدره قاضي الموضوع‪ ،‬هل استجاب فعال للشروط الشكلية‬
‫والموضوعية التي تشترط فيه‪ ،‬وإال فإنها تنقضه‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫" رقابة المجلس األعلى على محاكم الموضوع في المواد المدنية "‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.341‬‬

‫‪34‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي الجنائي‪:‬‬

‫الفقرة األولى‪ :‬مبدأ حرية اإلثبات‪:‬‬


‫‪1‬‬
‫على خالف المادة المدنية التي يسود فيها المذهب المختلط وفي بعض األحايين المذهب المقيد‬
‫كما رأينا‪ ،‬فإن المادة الجنائية تتسم بحرية اإلثبات وبناء على ذلك يمكن إثبات الواقعة الجنائية‬
‫بشتى وسائل اإلثبات‪ ،‬ذلك أن الوقائع الزجرية (المخالفات‪ ،‬الجنح والجنايات) تتسم بنوع من‬
‫السرية والخفاء أي‪ :‬تتم في منأ عن المأل وهو الغالب‪ ،‬من ثم ال يصلح إلثباتها المذهب المختلط‬
‫بله المذهب المقيد‪ ،‬وألن األفعال التي يقوم بها المتهم كلها مخالفة للقانون‪" ،‬لذلك يعمل جاهدا‬
‫على إخفائها عن األعين‪ ،‬الشيء الذي جعل المشرع يتوسع في إثبات األفعال المخالفة للقانون‬
‫وأجاز إثباتها بجميع وسائل اإلثبات كشاهدة الشهود"‪.2‬‬

‫وهذا المبدأ له أصل شرعي متين‪ ،‬فقد ذكر ابن فرحون في كتابه "تبصرة الحكام بأصول‬
‫األقضية ومناهج األحكام" في جزئه الثالث أنه‪" :‬ينبغي أن يوسع على حكام الجنايات والجرائم‬
‫وأال يضيق عليهم"‪ ،‬وقبل األمام شهاب الدين القرافي تطرق لهذا المبدأ‪ ،3‬فهاذان العالمان‬
‫الفقيهان القاضيان عاش األول في القرن الثامن الهجري وعاش الثاني في القرن السابع الهجري‬
‫قد سبقا األنظمة القانونية المعاصرة إلى العديد من النظريات ومنها هذا المبدأ الذي ذكرناه‪.‬‬

‫كما يختلف نظام اإلثبات في المواد الزجرية عن المواد المدنية‪ ،‬حيث إن وسائل اإلثبات في هذه‬
‫األخيرة ت َهيَّأ قبل النزاع وقبل إثارة الدعوى من ثم حصرها المشرع وحددها في عدد معين‪،‬‬
‫على عكس وسائل اإلثبات في المادة الجنائية إذ تهيأ األدلة بعد فتح الدعوى وإثارتها وأثناء‬
‫مناقشتها وعرضها‪.‬‬

‫‪ 1‬وقد فصلنا القول في هذه المسألة في المطلب األول من هذا المبحث‪.‬‬


‫‪" 2‬نظرية اإلثبات في التشريع الجنائي المغربي"‪ ،‬مقال منشور في مجلة المحاكم المغربية عدد ‪ ،11‬أبريل سنة ‪ ،1201‬طبعة‬
‫‪ ،1223‬ص ‪.3‬‬
‫‪ 3‬ــ أنظر كتابه الدخيرة‪ ،‬الجزء العاشر‪ ،‬ص ‪.43‬‬

‫‪35‬‬
‫لهذا أخذ المشرع المغربي كباقي التشريعات األخرى بالمذهب الحر في المادة الزجرية‪ ،‬على‬
‫غرار المادة المدنية التي تستمد أساسها من الحقوق وااللتزامات الشخصية المتبادلة بين‬
‫المتعاقدين‪ ،‬من ثم حصرت لهم األدلة ووسائل اإلثبات‪ ،‬ألنه ليس ثمة هناك ما يدعو إلى فرض‬
‫هذا المبدأ‪.‬‬

‫وهكذا إ ٍذ‪ ،‬فمبدأ حرية اإلثبات من القواعد العامة األساسية التي تحكم اإلثبات الجنائي‪ ،1‬ذلك‬
‫ألنها تتعلق بوقائع وأحداث غير قانونية‪ ،‬وتهدف إلى إثبات ما ارتبط بها من أفعال جرمية‪،‬‬
‫ونسبتها إلى شخص بعينه‪ ،‬أو أشخاص معينين‪.2‬‬

‫وبناء على ذلك يتعين على القاضي الزجري أن يمكن أطراف النزاع من اإلدالء بكافة الحجج‬
‫واألدلة‪ ،‬التي يرون أنها ستعزز موقفهم ووجهة نظرهم‪ ،‬لكن يتحتم عليه أن يستبعد ما يراه غير‬
‫ذي نفع وجدوى في إثبات النزاع المطروح عليه‪.‬‬

‫وقد نص المشرع المغربي على مبدأ حرية اإلثبات في المادة ‪ 251‬من الفرع األول من الباب‬
‫األول من القسم الثالث من المسطرة الجنائية المغربية‪ ،3‬فحسب ما نصت عليه الفقرة األولى‬
‫من هذه المادة‪" :‬يمكن إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل اإلثبات‪ ،‬ما عدا األحوال التي‬
‫يقضي القانون فيها بخالف ذلك"‪.‬‬

‫فهذه الفقرة أجملت ما قلناه سابقا؛ من أن المذهب الحر هو السائد في المادة الجنائية لالعتبارات‬
‫التي أشرنا إليها‪.‬‬

‫بنا ًء على ذلك‪ ،‬فإن القاضي الجنائي يتمتع بسلطة واسعة وبصالحية كبيرة‪ ،‬في استخالص‬
‫الوقائع (الجرائم) وتكييفها وتنزيل القاعدة القانونية عليها‪ ،‬وال يخضع لرقابة محكمة النقض إال‬

‫‪ 1‬لئن كانت هذه القاعدة مما تنص عليه القوانين الوضعية‪ ،‬فإنها ال تتعارض مع األحكام الشـــرعية اإلسالمية‪ ،‬بل تقرها‬
‫وتطبقها‪.‬‬
‫"أدلة اإلثبات الجنائي وقواعده العامة في الشريعة اإلسالمية"‪ ،‬د‪.‬حسن بن دمحم اليندوزي‪ ،‬الطبع‪ :‬طوب بريس‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫شتنبر ‪ ،2004‬ص ‪.32‬‬
‫‪ 2‬المرجع السابق‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬
‫‪ 3‬ظهير شريف رقم ‪ 1.02.233‬الصادر بتاريخ ‪ 23‬رجب ‪ 3 (1423‬أكتوبر ‪ )2002‬بتنفيذ القانون رقم ‪ 22.01‬المتعلق‬
‫بالمسطرة الجنائية‪ ،‬منشور بالجريدة الرسمية عدد ‪ 3005‬بتاريخ ‪ 20‬ذي القعدة ‪ 30( 1423‬يناير ‪ ،)2003‬ص ‪.313‬‬

‫‪36‬‬
‫في حدود ضيقة‪ ،‬فهو يبحث عن تأسيس قناعته وإشباعها‪ ،‬ولن يبني حكمه إال على الجزم‬
‫واليقين التام‪ ،‬أما إن شك في نسبة الواقعة للمتهم فإنه يحكم له بالبراءة‪ ،‬استنادا لقاعدة‪" :‬الشك‬
‫يفسر للمتهم"‪ ،‬وقاعدة "البراءة األصلية"‪ ،‬التي تتفرع عنها قاعدة‪" :‬األصل براءة الذمة"‪،‬‬
‫و"بقاء ما كان على ما كان"‪ ،‬و" درء الحدود بالشبهات"‪ ،‬وقاعدة البينة على المدعي واليمين‬
‫على المدعى عليه أو على من أنكر"‪ ،‬وكلها وغيرها قواعد وضوابط استقتها التشريعات‬
‫المعاصرة من َرحم الشريعة اإلسالمية السمحة‪ ،‬وهي ضمانات معتبرة للمتهم‪ ،‬تضمن له‬
‫مدعى عليه‬
‫ً‬ ‫المحاكمة العادلة‪ ،‬وتضعه في مركز قانوني معتبر‪ ،‬فال يقع عليه عبئ اإلثبات ألنه‬
‫وليس مدعيا‪ ،‬فالمدعي هو الذي يقع عليه عبئ اإلثبات ألنه ادعى خالف األصل والظاهر‪،‬‬
‫فيتحتم عليه إثبات ما ادعاه وهو المبدأ العام الذي جسدته الشريعة الغراء قبل زمن بعيد لتأخذ به‬
‫األنظمة القانونية المعاصرة‪.‬‬

‫و في هذا الصدد قضت محكمة النقض المصرية بأن‪( :‬األحكام في المواد الجنائية يجب أن‬
‫تبني على الجزم واليقين‪ ،‬ال على الظن واالحتمال)‪.‬‬

‫وقضت أيضا بأن‪( :‬األحكام الصادرة باإلدانة يجب أن ال تنبني إال على حجج قطعية الثبوت‪،‬‬
‫تفيد الجزم واليقين )‪.1‬‬

‫وليس يعني هذا أن مبدأ الحرية في اإلثبات الجنائي على إطالقه‪ ،‬بل ترد عليه مجموعة من‬
‫القيود فرضتها فكرة العدالة‪" ،‬ذلك أن فكرة العدالة تقضي بضرورة عرض الحجج‪ ،‬وتمكين‬
‫الخصوم من مناقشتها شفاهيا وحضوريا‪ ،‬أمام القاضي الجنائي لتكوين القناعة التامة لديه"‪،2‬‬
‫كما يمنع استقاء أي حجية كتابية من المراسالت التي تتم أو تمت بين المتهم ووكيله‪ ،‬وهو ما‬
‫نصت عليه المادة ‪ 224‬من المسطرة الجنائية‪ ":‬ال يمكن أن ينتج الدليل الكتابي من الرسائل‬
‫المتبادلة بين المتهم ومحاميه"‪ ،‬ويضاف إلى ذلك القيود المفروضة على الوسائل المستعملة في‬

‫‪ 1‬نقض‪( 10-3-1235/11-10-1230/13-4-1241 :‬أنظر‪" :‬قانون اإلجراءات الجنائية" علق عليه الدكتور أحمد دمحم‬
‫إبراهيم ص ‪ ،311_313 :‬القاهرة‪ ،‬سنة‪.)1213 :‬‬
‫‪" 2‬أدلة اإلثبات الجنائي وقواعده في الشريعة اإلسالمية"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.33‬‬

‫‪37‬‬
‫التحقيق واالستنطاق وكذلك في إثبات الجريمة‪ ،‬إذ يمنع منها ما يمس بكرامة اإلنسان أو حرمته‬
‫أو بدنه‪ ،‬كتخدير المتهم أو تنويمه تنويما مغناطيسيا‪ ،1‬أو إخضاعه للفحص بآلة الكذب أو‬
‫لجراحة الدماغ‪ ،‬بغرض الحصول على اعترافه‪.2‬‬

‫فكل ذلك يمس بكرامة المتهم وشخصيته ويضر بنفسيته‪ ،‬وهو ما حرمته الشريعة اإلسالمية من‬
‫قبل‪ ،‬قب َل أن تجرمه المجتمعات اإلنسانية فيما بعد‪ ،‬ومنها أيضا‪ :‬أن يتم استخدام الحيل والخديعة‬
‫والوعو د الكاذبة ضد المتهم مقابل اعترافه أو إقراره بما نسب أو لم ينسب إليه‪ ،‬كأن يتم تغريره‬
‫باإلفراج المؤقت أو اإلفراج الشرطي‪ ،‬أو تبرئته مما نسب إليه‪ ،‬كما يحظر تعذيب المتهم أو‬
‫تعنيفه نفسيا أو جسديا أثناء مرحلتي البحث التمهيدي أو التحقيق اإلعدادي معه‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫أن كل هذه الوسائل ال تؤدي غالبا إلى الحقيقة المنشودة بل تعقد األمور‪.‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬حرية االقتناع‪:‬‬

‫تقدم بنا أن مبدأ حرية اإلثبات هو السائد في المادة الزجرية‪ ،‬من ثم فالقاضي له سلطة تقديرية‬
‫واسعة في تقدير األدلة‪ ،‬وفي استخالص الوقائع‪ ،‬وتكييفها وحتى في تنزيل القاعدة القانونية‬
‫عليها‪ ،‬ومادام مبدأ حرية اإلثبات قائم فإن حرية االقتناع قائمة‪ ،‬فاألول يقتضي الثاني وهي‬
‫معادلة يسيرة اقتضاها منطق األمور‪ ،‬وحرية اقتناع القاضي تستمد أساسها من تتمة الفقرة‬
‫األولى من المادة ‪ 251‬من المسطرة الجنائية إذ جاء فيها‪:‬‬

‫"ويحكم القاضي حسب اقتناعه الصميم ويجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقتناع القاضي وفقا‬
‫للبند ‪ 5‬من المادة ‪ 313‬اآلتية بعده"‪.‬‬

‫وإذا رجعنا إلى هذا البند المذكور وجدنا مضمونه يدور حول األسباب الواقعية والقانونية التي‬
‫بني عليها الحكم أو القرار او األمر ولو في حالة البراءة‪ ،‬والتي يتحتم أن يتضمنها الحكم‬

‫‪ 1‬على أن هناك من الفقهاء القانونيين المغاربة من أباح هذه الوسائل‪ ،‬وعدَّها من وسائل اإلثبات الحديثة‪ ،‬وهو ما يخالف‬
‫شريعتنا أصالة والعدالة القانونية تبعا‪ ،‬من ثم اليعتد بموقفهم‪.‬‬
‫‪ " 2‬دراسة في المسطرة الجنائية المغربية"‪ ،‬الدكتور دمحم عياط‪ ،‬شركة بابل للنشر والتوزيع‪-‬الرباط‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬سنة‬
‫‪ ،1221‬الجزء األول‪ /‬ص ‪.240‬‬

‫‪38‬‬
‫الصادر من الهيئة القضائية‪ ،‬ولو معَّنَّا النظر في هذه المسألة‪ ،‬فإن الواقع أساسا والقانون تبعا‬
‫هما األرضية الخصبة لممارسة القاضي لنشاطه‪ ،‬وهذا األخير ال يَستَتم وال يكتمل إال بعد أن‬
‫يؤسس القاضي قناعته تجاه النزاع المطروح‪.‬‬

‫َّ‬
‫وألن الواقعة الزجرية لما لها من حساسية مفرطة فتثير تارة عاطفة المجتمع وتارة أخرى‬ ‫هذا‪،‬‬
‫غضبهم‪ ،‬فيأخذون نظرة سلبية عن المتهم ويحتقرونه مدى عمره‪ ،‬لهذا فإن القاضي َيت َ َحيَّط‬
‫كثيرا ويتأنى ويلزم التؤدة قبل أن يدين المتهم بما نسب إليه‪ ،‬من ثم فال َج َر َم أن القاضي ال‬
‫يحكم إال بناء على اليقين التام‪ ،‬فيبحث في األدلة المقدمة إليه ويقيمها ويوزنها‪ ،‬فإذا لم تكف أمر‬
‫بالشهود أو اليمين أو انتقل إلى إجراءات التحقيق‪ ،‬كل هذا ليؤسس قناعته على أرضية صلبة‪،‬‬
‫ويجد ما يعلل به حكمه‪.‬‬

‫بعدما َكيـَّفنا السلطة التقديرية للقاضي في ك ٍل من الفقه المالكي والتقنين المغربي في الفصل‬
‫األول‪ ،‬ننتقل إلى النظر في بعض تطبيقاتها في المادة العقارية وما يشوب ذلك من إشكاال ٍ‬
‫ت‬
‫لتكمل الرؤيا وتتضح‪ ،‬وهو موضوع الفصل الثاني‪.‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في العقار المحفظ والعقار غير المحفظ‪:‬‬

‫بين يدي الفصل‪:‬‬

‫يهدف هذا الفصل إلى معالجة اإلشكالت التي اتسمت بها سلطة القاضي العقاري‪ ،‬مع بيان‬
‫حدودها ومجاالتها في كل من العقار المحفظ والعقار غير المحفظ‪ ،‬علما أن المقنن أخذ‬
‫بالمذهب المختلط في اإلثبات في المادة المدنية‪ ،‬لكن سلطة القاضي في العقار المحفظ‬
‫محدود جدا وهو إشكال نعالجه في المبحث األول‪ ،‬على أن العقار غير المحفظ وثيق الصلة‬
‫بالفقه المالكي من جهة كسب الملكية وإثباتها‪ ،‬وكذلك الترجيح بين البينات وما اتسم به ذلك‬
‫من إشكاالت‪ ،‬وهو ما نتناوله في المبحث الثاني‪ ،‬على أننا اخترنا تقسيم الفصل إلى مبحثين‬
‫تسهيال للدراسة؛‬

‫‪39‬‬
‫المبحث األول‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في العقار المحفظ‪:‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في العقار غير المحفظ‪:‬‬

‫المبحث األول‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في العقار المحفظ‪:‬‬

‫بين يدي المبحث‪:‬‬

‫يرمي هذا المبحث إلى رصد سلطة القاضي العقاري والتعرض إلى المشكالت المتعلقة بها أثناء‬
‫إنجاز عملية التحفيظ وبعد إنجازها‪ ،‬على أن األصل في هذه المسطرة أنها إدارية ــ تتم داخل‬
‫المحافظة العقارية ــ لكنها في أغلب األحايين تنتهي قضائية‪ ،‬بنشوب التعرضات‪ ،‬وبعد فشل‬
‫مسطرة الصلح والتحفيظ الجزئي الذي يقوم بهما السيد المحافظ‪ ،‬فيقوم هذا األخير بإحالة الملف‬
‫إلى المحكمة االبتدائية ــ الغرفة العقارية ــ‪ ،‬لتنظر في صحة هذه التعرضات من عدمها المقدمة‬
‫ضد مطلب التحفيظ‪ ،‬ما يطرح مشكال حول سلطة القاضي؟ عل ًما َّ‬
‫أن المشرع المغربي تبنى‬
‫المذهب المختلط في المواد المدنية‪ ،‬ــ والمادة العقارية بطبيعتها مادة مدنية ــ فهل امتد المذهب‬
‫أن اإلثبات فيها مقيدٌ؟ (المطلب األول)‪ ،‬ومعلو ٌم َّ‬
‫أن القضاء في‬ ‫المختلط ليشملها في اإلثبات؟ أم َّ‬
‫منازعات التحفيظ قضاء مختلط تحكمه االزدواجية بين القضاء العادي والقضاء اإلداري‪َّ ،‬‬
‫وأن‬
‫ٌ‬
‫رهين بإدارية قرار المحافظ العقاري‪ ،‬فكيف نفصل بين القضاءين في منازعات‬ ‫هذا األخير‬
‫التحفيظ ؟ (المطلب الثاني)‪.‬‬

‫المطلب األول‪ :‬مشكل اإلثبــات في المادة العقــارية‪:‬‬

‫مـر بنا أن المشرع المغربي تبنى المذهب المختلط في المادة المدنية‪ ،‬طبقا للفصلين ‪404‬‬
‫َّ‬
‫و‪ 443‬وغيرهما من ظهير االلتزامات والعقود‪ ،‬حيث حصر وسائل اإلثبات وحددها للقاضي‬
‫فال يملك الركون لغيرها وسلطته التقديرية تتفاوت من دليل آلخر‪ ،‬ثم قيد المعامالت التي تفوت‬
‫عشرة آالف درهم بالكتابة كما هو منصوص عليه في الفصل ‪ 443‬السالف‪ ،‬وال يختلف اثنان‬
‫على أن المادة العقارية مادة مدنية محضة يحكمها ظهير االلتزامات والعقود من الناحية‬

‫‪40‬‬
‫الموضوعية فيما لم يرد فيه نص خاص‪ ،‬أما من الجانب الشكلي فتحكمها المسطرة المدنية إال‬
‫أن يرد نص خاص فإنه يقدم عليها‪ ،‬لكن المشكل المطروح أن اإلثبات مقيد جدا في المادة‬
‫العقارية خصوصا ً في العقار المحفظ‪ ،‬فــتــقَيَّد به من ثم سلطة القاضي العقاري‪ ،‬وهذا مخالف‬
‫لمعهود المادة المدنية؟؟‬

‫وغني عن البيان أن المادة العقارية من ألصق المواد القانونية بالفقه المالكي‪ ،‬حيث إن أحكامها‬
‫مستمدة من المنظومات والمدونات الفقيهة المشهورة‪ ،‬وهذا ال يجاحد فيه أحد‪ ،‬فالقانون كما هو‬
‫معلوم فقه قنن‪ ،‬لكن المادة العقارية تمتاز بخصوصية كبيرة في هذا الصدد‪ ،‬حيث إن المذهب‬
‫المالكي من أعظم المذاهب وأكيــفها مع واقع الناس على مر العصور‪ ،‬فقد َكــا َي َ‬
‫ف جميع‬
‫النوازل والوقائع التي تحل بالناس في دينهم ودنياهم معا‪ ،‬وتمذهب به الناس في الشرق والغرب‬
‫معا‪ ،‬وهو أول مذهب يجمع بين ذلك‪ ،‬ومرد كل ذلك إلى أصوله المرنة‪ ،‬إذ يجمع بين األثر‬
‫والنظر في وقت واحد‪ ،‬وهي ميزة عزت في بقية المذاهب‪ ،‬ضف إلى ذلك قاعدة ما جرى به‬
‫العمل؛ وهي من أدق ما وقف عليه فقهاء المغرب‪ ،‬دون أن ننسى عمل أهل المدينة ومراعاة‬
‫الخالف‪ ،1‬وبناء على ذلك فإن فقهاء المالكية اعتنوا كثيرا أكثر من غيرهم بالمادة العقارية‬
‫(ألنها تشكل جزءا كبيرا من الفقه) وحرروا فيها مؤلفات فريدة ال تعد‪ ،‬ونظموا فيه منظومات‬
‫بهية ال تحصى‪ ،‬أل ن اإلنسان بطبعه مهووس بتملك األراضي والتصرف فيها منفعة أو كراء أو‬
‫بيعا أو رهنا‪ ،‬ومعلوم عند المغاربة أن من ملك األرض ملك الفكر وملك من عليها وما تحتها‪.‬‬

‫َّ‬
‫لكن الرجوع إلى هذه المؤلفات‪ 2‬والنظر فيها واالرتواء من معينها‪ ،‬ليس باألمر الهين‪ ،‬بل‬
‫يحتاج ذلك إلى دربة ومراس وعلم رصين‪ ،‬وهو ما ال يتأتى البتة عند القضاة المعاصرين الذين‬

‫‪ 1‬للتوسع في هذه المسألة؛ أنظر على سبيل المثال ال الحصر ‪ " :‬خصائص المذهب المالكي للدكتور دمحم التاويل"‪" ،‬لم المذهب‬
‫المالكي؟" للدكتور دمحم الروكي‪" ،‬محاضرات في تاريخ المذهب المالكي"‪" ،‬مباحث في المذهب المالكي " كالهما للدكتور عمر‬
‫الجيدي‪.‬‬
‫‪ 2‬وأقصد ههنا المؤلفات الفقهية المعتمدة في القضاء؛ كمتن مختصر خليل وشروحه المعتبرة‪ ،‬وكذا المنظومات المعتمدة في‬
‫هذا الصدد؛ تحفة ابن عاصم‪ ،‬وشروحها؛ كشرح التسولي وميارة وشرح المهدي الوزاني‪ ،‬المية الزقاق وشروحها؛ كشرح‬
‫التاودي والهواري والرهوني‪ ،‬العمل الفاسي‪ ،‬العمل المطلق‪ ،‬كذلك كتب النوازل؛ كالمعيار للونشريسي والنوازل الكبرى‬
‫والصغرى للمهدي الوزاني‪.‬‬
‫ــ للمزيد أنظر "أصول االجتهاد والفتوى والقضاء في المذهب المالكي" للدكتور دمحم رياض‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫غالبهم من خريجي كليات الحقوق‪ ،‬أما النبهاء من خريجي كليات الشريعة والقانون فهم أهل‬
‫الصنعة وأسياد التخصص وال يضاهيهم في ذلك أحد‪ - ،‬لكنهم مع األسف الشديد يشكلون نسبة‬
‫ضئيلة جدا من قضاة المغرب ‪ ،-‬ومرد ذلك‪ :‬أوال؛ ألنهم ثلة قليلة جدا مقارنة مع طلبة الحقوق ‪.‬‬
‫على أن كليات الشريعة والقانون بالمغرب عددها ثنتان فحسب‪ ،‬ثانيا؛ أن نسبتهم الكبرى تنحاز‬
‫إلى المجاالت األخرى من غير القضاء(كولوج مهن التربية والتكوين او االلتحاق بخطة العدالة‬
‫أو إتمام الدراسات العليا ‪ ...‬او غيرها)‪.‬‬

‫لهـذا قام المشرع المغربي بالرجوع إلى المدونات الفقهية المذكورة وتقنين المهم منها ووضعه‬
‫بين يدي القاضي‪ ،‬ليسهل عليه تناوله وتنزيله على الوقائع والنوازل المعروضة عليه‪ ،‬وهذا‬
‫تحجير على القاضي تماما وتقييد لسلطته تقييدا تاما‪ ،‬فلم يعد للقاضي أي دور هام غير‬
‫استخالص الواقعة ووضعها في إطارها القانوني أو‪ :‬ما يسمى بالتكييف ثم تنزيل النص المقنن‬
‫عليها‪ ،‬وهنا المشكل‪.‬‬

‫لكن‪ ،‬لوال ذلك لتوقفت عجلة القضاء في المغرب تماما‪ ،‬فالقاضي خريج كلية الحقوق ال يتقن‬
‫الفقه المالكي وال يفهم فيه شيئا‪ ،‬بل وال يعرف المصنفات المعتمدة في القضاء‪ ،‬وال يدري كيف‬
‫ار في التمييز‬
‫يرجع إليها وال كيف يحيل عليها‪ ،‬ولو افترضنا أنه يعلم ذلك و‪-‬هذا بعيد جدا‪ ،-‬ل َح َ‬
‫بين الراجح والمشهور‪ 1‬في الكتب الفقيهة‪ ،‬وبين ما جرى به العمل‪ 2‬عند المتأخرين‪ ،‬ضف إلى‬
‫ذلك أن كتب الفقه معقدة جدا من ناحية اللغة والمنهج معا ومتشابكة الخيوط‪ ،3‬فهي ليست للعامة‬

‫‪ 1‬على أن هاذين المصطلحين وقع فيهما خلف كبير بين الفقهاء على مر العصور‪.‬‬
‫‪ 2‬ومعناه الدقيق‪ :‬العدول عن القول الراجح أو المشهور في بعض المسائل إلى القول الضعيف فيها رعيا لمصلحة أو‬
‫ضرورة‪ ،‬أو غير ذلك‪.‬‬
‫‪ 3‬ليس تنقيصا منها بل تبجيال لها ورفعة لمقامها‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫بل لخاصة الخاصة‪ ،‬ألنها كتب تدريسية أساسا‪ ،1‬وضعها الفقهاء رحمهم هللا لطلبة العلم‬
‫المتقدمين‪ 2‬الذين قضوا نحبهم في تحصيل العلم‪.‬‬

‫ناهيك أن المنازعات العقارية يشوبها طابع التعقيد ومستغرقة في الزمن‪ ،‬وتتعلق أساسا بالملكية‬
‫والحيا زة وباقي الحقوق العينية األصلية منها والتبعية ‪ ،...‬ولو أراد القاضي أن يرجع‬
‫للمصنفات الفقيهة ليجد حال مناسبا شافيا كافيا لنازلة الحال‪ ،‬لوجد نفسه أمام عشرات‬
‫المصنفات‪ ،‬ولن يدري بأي منها يأخذ وعلى أي منها يحيل‪.3‬‬

‫خصوصا وأن القواعد الفقهية المنظمة للمواد العقارية رغم أنها مشتتة في بطون األمهات‬
‫التدرك إال بمشقة‪ ،‬وال يفك رموزها إال من كان جهبذا ذا عدة لغوية وفقيهة‪.4‬‬

‫إذا علمنا هذا‪ ،‬نفطن إلى السبب الذي جعل المشرع يقنن الفقه في مدونات قانونية قيدت من‬
‫سلطة القاضي العقاري وحجرت عليه‪ ،‬والتحجير على القاضي ليس وليد اليوم بل هي عادة‬
‫قديمة جدا في المغرب‪ ،‬وقديما قال العالمة أبو شعيب الدكالي رحمه هللا‪ " :‬القاضي في المغرب‬
‫محجر عليه بالراجح والمشهور"‪.‬‬

‫وإذا كانت محاسن التقنين على نحو ما قرره فقهاء القانون هي تحقيق مبدأ االستقرار القانوني‬
‫الم َ‬
‫طبق قضا ًء‪ ،‬فإن من مساوئه‪ :‬تقييد القضاء بتلك القوانين بحيث ال يحيد عنها في أحكامه حتى‬
‫لو لم تعد تحقق المصلحة والعدل المرجوين‪ ،‬وهذا بخالف نصوص الفقه اإلسالمي األوسع‬
‫مجاال واألكثر ثراء‪ ،‬تترك للقاضي فرصة اختيار ما يناسب النازلة القضائية ويحقق المصلحة‬
‫والعدل‪.5‬‬

‫‪ 1‬ولذلك تجد الفقهاء رحمة هللا عليهم كثيرا ما يستعملون لفظ "إعلم رحمك هللا" –والضمير راحع إلى طالب العلم‪ -‬في‬
‫مؤلفاتهم الفقهية واألصولية وحتى اللغوية‪.‬‬
‫‪ 2‬أما العوام وطبقة المثقفين (باللغة المعاصرة) وأرباب المهن والخرف والتخصصات األخرى فحدهم أن يطرقوا باب المفتين‬
‫الستفتائهم فيما شابهم من مشكل أو حل عليهم في األمور المرتبطة بدينهم عبادات أو معامالت‪.‬‬
‫‪ 3‬وقد ذكر المهتمون بهذا الشأن أن المصنفات التي يلزم القاضي الرجوع إليها في المنازعات العقارية تفوق الثالثين مصنفا‬
‫بين المتون والحواشي والذيول والمنظومات‪.‬‬
‫‪" 4‬القواعد الفقهية وتطبيقاتها القضائية في المادة العقارية والمدنية في ضوء مدونة الحقوق العينية وقانون االلتزامات والعقود‬
‫والفقه اإلسالمي"‪ ،‬د‪ /‬عادل حاميدي‪ ،‬الطبعة الثانية – ‪ ،5102‬مطبعة النجاح الجديدة‪ ،‬ص ‪.50‬‬
‫‪ 5‬نفسه صفحة ‪.01‬‬

‫‪43‬‬
‫هذا‪ ،‬وقبل صدور مدونة الحقوق العينية‪ 1‬سنة ‪ 2011‬كان القضاة يرجعون إلى الفقه المالكي‬
‫في المنازعات المرتبطة بالعقار غير المحفظ باعتباره مرجعا أساسا ال غنى عنه في هذا‬
‫الصدد‪ ،‬فيلفون أنفسهم في أرضية واسعة بين دفتي عشرات المصنفات‪ ،‬فيكلفون أنفسهم عناء‬
‫البحث عن حل مناسب للنزاع المطروح‪ ،‬وهي مهمة شاقة جدا تأخذ زمنا ليس باليسير من‬
‫القاضي‪ ،‬لكنه بها يصير قاضيا مربيا فقيها نبيها ذو ملكة وفطنة ال يغلبه أي نزاع‪.‬‬
‫لكن بصدور المدونة سنة ‪ 2011‬تم تقييد سلطة القاضي العقاري تماما‪ ،‬إذ كان العقار غير‬
‫المحفظ قبل صدور المدونة المسترا َح األوحد للقاضي العقاري‪ ،‬لكن مع األسف الشديد فغالبية‬
‫قضاة المملكة – حتى قبل صدور المدونة – إنما يركنون للسوابق القضائية‪ ،‬وقليل جدا منهم‬
‫من كان يكلف نفسه عبء الرجوع لبطون المؤلفات الفقيهة‪ ،‬والسبب راجع بطبيعة الحال لمن‬
‫حررناه أعاله‪ ،‬من أنهم ال يدرون كيفية الرجوع إليها‪ ،‬إما لضعف تكوينهم أو لقلة خبرتهم أو‬
‫هما معا‪.‬‬
‫وما زاد الطين بلة أن قصر المقنن اإلحالة في المادة األولى من م ح ع على الراجح والمشهور‬
‫وما جرى به العمل في المذهب المالكي وجعله مصدرا تكميليا ولم يشر على كل المذهب‪،2‬‬
‫بعدما أحال أوال إلى ظهير االلتزامات والعقود وجعله مصدرا أصليا وهذا تضييق محكم لسلطة‬
‫القاضي العقاري‪ ،‬وإن كان ظهير االلتزامات والعقود فقه مالكي قائم وضعه فقهاء مالكيون‪،‬‬
‫م بني أساسا على المصالح المرسلة‪ ،‬وهذا ال جدل وال شك فيه‪ ،‬لكننا نساؤل المقنن ‪-‬إن كان ما‬
‫نظمه هذا الظهير من محتوى المادة العقارية كافٍ لجعله مصدرا ً أصليا محيال عليه ؟ والجواب‬
‫طبعا ال‪ ،‬ألن ظ ل ع إنما نظم الحقوق الشخصية من االلتزامات بين المتعاقدين بشكل عام في‬

‫‪ 1‬الظهير الشريف رقم ‪ 1.11.105‬الصادر بتاريخ ‪ 22‬نونبر ‪ 2011‬بتنفيذ القانون رقم ‪ 32-05‬المتعلق بمدونة الحقوق العينية‪،‬‬
‫المنشور في الجريدة الرسمية عدد ‪ 3225‬بتاريخ ‪ 24‬نونبر ‪.2011‬‬
‫‪ 2‬كما صنع في مدونة األسرة‪ ،‬وإن أخر اإلحالة وأوردها في المادة األخيرة منها (المادة ‪ ،)044‬ولم يكتف باإلحالة إلى‬
‫المذهب المالكي على شساعته فحسب‪ ،‬بل أحال إحالة مطلقة على االجتهاد الذي يراعى فيه قيم اإلسالم في العدل والمساواة‬
‫والمعاشرة بالمعروف على حد تعبير المادة‪ ،‬وهذا يقتضي اإلحالة على جميع المذاهب ‪ ،‬ألنها كلها تحوي االجتهاد المشروط‬
‫بما شرطته المادة‪ ،‬وإن كان األجدر بالمقنن أن يضيق اإلحالة في المادة األسرية لما لها من خصوصية وحساسية شديدة‬
‫مرتبطة بديننا الحنيف أوال وبالمجتمع المغربي ثانيا ــ حتى ال تصير المادة األسرية محل اجتهادات مخالفة للمذهب المالكي‬
‫والعرف المغربي ـــ وأن يوسعها (اإلحالة) في المادة العقارية‪ ،‬ولكنه مع األسف أعكس اآلية‪ ،‬وكذلك نفس الصنيع في‬
‫مدونة األوقاف في المادة ‪ 961‬حيث جاء فيها‪" :‬كل ما لم يرد فيه نص في هذه المدونة‪ ،‬يرجع فيه إلى أحكام المذهب‬
‫المالكي فقها واجتهادا بما يراعى فيه تحقيق مصلحة الواقف"‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫ا لكتاب األول ثم نظم العقود وأشباه العقود في الكتاب الثاني منه وذلك باعتباره قانونا مدنيا‪ ،‬فما‬
‫دخل المادة العينية فيه أساسا؟ إال في جزئيات يسيرة منه‪ ،‬وإن كان يصلح ليكون مصدرا‬
‫محيال عليه في المنقوالت دون العقارات‪ ،‬وهذا مشكل أيضا‪.‬‬
‫فكان األجدر بالمقنن أن يحيل على كل المذهب المالكي ويجعله مصدرا أصليا‪ ،‬ويستتبعه‬
‫ظهير االلتزامات والعقود كمصدر تكميلي‪ ،‬فهذا في صالح القضاء من الدرجة األولى حتى ال‬
‫يضيق عليهم كما هو الحال اآلن‪ ،‬حتى إن المصطلحين "الراجح" و "المشهور" غير‬
‫ف كبير بين فقهاء المالكية فيما بينهم على مر العصور‪ ،‬ضف‬
‫مضبوطين البتة ووقع فيه خل ٌ‬
‫إليهم كذلك مصطلح "ما جرى به العمل"‪.‬‬

‫لكننا لسنا نجانب الصواب إذا قلنا إن هذه االصطالحات التي ال َكتها األلسنة وتلقفها الباحثون‬
‫في أكثر األحوال هي ألفاظ بال ثمرة بل فيها مشكل يوقف كل استنتاج وكل إحالة مادامت هذه‬
‫المصطلحات لم تحسم في وجه الجزم ما هو الراجح إلى زمن صدور مدونة الحقوق العينية وال‬
‫ما هو مشهور‪ .‬فهذه اصطالحات أشكلت على الفقهاء في زمن القضاء بالفقه المالكي لما كان‬
‫المصدر المباشر فيما يقضى به فكيف ال تشكل في زمن التقنين وتواري رتبة الفقه المالكي‬
‫المجرد !‪. 1‬‬

‫فهذا االضطراب الحاصل في االصطالحات المحيل عليها من قبل المشرع أفرز غموضا‬
‫والتباسا وأشكل على الفقهاء والقضاة المالكيين المتمكنين على مر العصور فكيف ال يشكل على‬
‫قضاة اليوم !‪.‬‬

‫ــــ القاضي العقاري بين متطلبات االجتهاد ومعيقات التقنين‪:‬‬

‫صرت اإلحالة ــ في حالة إذا لم يجد القاضي ضالته في‬


‫رأينا أن المادة األولى من مدونة ح ع ق َّ‬
‫مواد المدونة ـــ على ظهير االلتزامات والعقود كمصدر أصلي والراجح والمشهور وما جرى‬

‫‪" 1‬مدونة الحقوق العينية ومشكل اإلحالة على المذهب المالكي"‪ ،‬أستاذنا‪ /‬د‪ .‬حسن القصاب‪ ،‬مقالة منشورة في مجلة الفقه‬
‫والقانون الدولية – العدد ‪ ،104‬يونيو ‪ ،2021‬ص ‪.23‬‬

‫‪45‬‬
‫القاضي هاذان‬
‫َ‬ ‫به العمل من مذهب مالك كمصدر تكميلي‪ ،‬لكن ما العمل إذا لم يسعف‬
‫حل للنزاع ؟ وههنا اإلشكال‪ ،‬فلو أن المقنن أحال على كل المذهب‬
‫المصدران خالل بحثه عن ٍ‬
‫المالكي الَنتفى اإلشكال من أصله‪ ،‬فالمادة العقارية مادة دسمة بالنوازل والقضايا الحديثة‪ ،‬لذلك‬
‫فكثيرا ما يرجع القضاة لكتب النوازل كالمعيار المعرب والمعيار الجديد خصوصا في قضايا‬
‫الشفعة والقسمة والحيازة بنوعيها ‪ ...‬وغيرها‪ ،‬إذا استعصهم الحل في المدونات القانونية‬
‫المختصرة‪ ،‬لكن ليس دائما كتب النوزل أو حتى السوابق القضائية تشفي الغليل‪ ،‬وحتى الراجح‬
‫والمشهور وما جرى به العمل ال يفي بالغرض دائما‪ ،‬فكيف العمل إذا في ظل هذا اإلشكال؟‬

‫إننا طرحنا هذا اإلشكال لنفهمه في أحسن األحوال‪ ،‬ولسنا ههنا نبحث عن حل أو حلول‪ ،‬لكننا‬
‫إذ نأمل أن نثير فهم ونظر المقنن ليجد له حال شافيا‪ ،‬فقاضي اليوم مقل ٌد وفي أفضل األحوال‬
‫يَلمس "اجتهاد التخريج"‪ ،‬لكن هذا األخير عند المالكية رهين بالجماعة ال بالفرد وهو ما يمكن‬
‫لَحظه في قضاة محكمة النقض عند اجتماعها بغرفتين أو بجميع الغرف‪ ،‬على أن قضاة محكمة‬
‫النقض علما ٌء في الشريعة (أصولها وفروعها) والقانون‪ ،‬ألن مجتهد التخريج يلزمه أن يكون‬
‫قياس في‬
‫ٌ‬ ‫ضابطا ألصول المذهب محيطا بفروعه فيقوم ئـ ٍذ بتخريج الفرع على األصل وهو‬
‫جميع األحوال‪ ،1‬ألن الفرع مجهول واألصل معلوم وبينهما علة محكومة بحكم ثابت يدور معها‬
‫ــ الحكم ــ وجودا وعدما‪.‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬ازدواجية الطعون القضائية المقدمة ضد ق اررات المحافظ العقاري وسلطة‬

‫القاضي التقديرية إزاءها‪:‬‬

‫نعرض للمسألة من خالل فقريتين‪:‬‬

‫ــ الفقرة األولى‪ :‬مركز القضاء العادي في مسطرة التحفيظ وسلطة القاضي التقديرية إزاءها‪:‬‬

‫ــ الفقرة الثانية‪ :‬إدارية قرار المحافظ العقاري ومركز القضاء اإلداري في نزاعات التحفيظ‪:‬‬

‫قياس كما أثر عن اإلمام الشافعي رحمه هللا‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫‪ 1‬ــ االجتهاد‬

‫‪46‬‬
‫الفقرة األولى‪ :‬مركز القضاء العادي في مسطرة التحفيظ وسلطة القاضي التقديرية إزاءها‪:‬‬

‫غالبا ما تنتهي مسطرة التحفيظ قضائية‪ 1‬بعد نشوب التعرضات‪ ،‬فيحيل المحافظ على األمالك‬
‫العقارية مباشرة الملف إلى محكمة التحفيظ (المحكمة االبتدائية)‪ ،‬لتبت في صحة هذه‬
‫التعرضات من عدمها‪ ،‬بعد فشل عمليتي الصلح والتحفيظ الجزئي –هذا إن كان ممكنا‪ ،-‬وهو‬
‫منطوق الفصل ‪- 31‬الفقرتان الثالثة والرابعة منه‪ -‬من ظهير التحفيظ العقاري‪ ،2‬على أن‬
‫المحكمة في هذا الصدد إنما يقتصر دورها في النظر إلى وجه صحة التعرضات المقدمة مع‬
‫تحديد نوعها ومحتواها ومداها ‪...‬إلخ‪ ،‬ثم تحيل الملف إلى السيد المحافظ للعمل بقرارها‪ 3‬الذي‬
‫قضت به‪ ،‬وهي مسطرة قضائية مدنية عادية تطبق فيها إجراءات‪ 4‬نص قانون المسطرة‬
‫المدنية‪ 5‬باعتباره الشريعة العامة في الدعاوي المدنية‪ ،‬والمحافظ ملزم‪ 6‬بتطبيق الحكم القضائي‬
‫النهائي‪ 7‬الصادر في القضية‪ ،‬لكن مع ذلك تبقى له سلطة واسعة في قَبول مطلب التحفيظ كالً أو‬
‫جزءا ً مع إبقاء حق الطعن لألطراف أمام القضاء العادي‪ ،8‬ليس هذا فحسب بل الطعن في‬
‫قرار المحافظ يطال أيضا رفضه تقييد حق عيني أو التشطيب عليه‪ ،‬كذلك إلغاء التعرض لعدم‬
‫اإلدالء بالحجج والمستندات (الفصول ‪ 24‬و‪ 23‬و‪ 21‬و‪ 20‬و‪ 22‬و‪ 32‬من ظهير التحفيظ‬
‫العقاري)‪ ،‬ورفض التصحيح بطلب من األطراف أو عدم قَبول التصحيحات المنجزة من طرف‬

‫‪ 1‬ــ مـع أن األصل أنها إدارية‪.‬‬


‫‪ 2‬ــ الظهير الشريف الصادر في ‪ 2‬رمضان ‪ 12 ( 1331‬أغسطس ‪ )1213‬المتعلق بالتحفيظ العقاري‪ ،‬كما تم تعديله بالقانون‬
‫‪14.00‬‬
‫‪3‬‬
‫ي في قضايا التحفيظ‪ ،‬وهو ما يستشف من الفصل ‪ 34‬الفقرة األولى منه " يعين رئيس المحكمة‬ ‫ــ على أن القضاء جماع ٌ‬
‫االبتدائية فور توصله بمطلب التحفيظ قاضيا مقررا ‪."...‬‬
‫‪ 4‬ــ منذ إحالة الملف على المحكمة إلى حين صدور الحكم االبتدائي مع االحتفاظ بحق الطعن باالستئناف وبعده الطعن بالنقض‪.‬‬
‫‪ 5‬ــ الظهير الشريف بمثابة قانون رقم ‪ 1.04.440‬الصادر بتاريخ ‪ 11‬رمضان ‪ 25 ( 1324‬شتنبر ‪ )1204‬بالمصادقة على‬
‫نص قانون المسطرة المدنية‪.‬‬
‫‪ 6‬ــ ألن حكم القاضي ملزم كما هو معلوم‪.‬‬
‫‪ 7‬ــ وهو الحكم الذي استنفذ جميع طرق الطعن الممكنة (وهو في الحقيقة مصطلح مضطرب تناقض فيه المقنن غير ما مرة‬
‫ويخلطه مع "قوة الشيء المقضى به"‪ ،‬والفقه أيضا تشابه عليه األمر ألنه ينقل عن التشريع المصري بأعين عمياء هكذا‪ ..‬دون نقد‬
‫وال تمحيص فينقل صحيحه وعليله‪.).‬‬
‫‪ 8‬ــ وهو ما نص عليه الفصل ‪ 21‬من ظ ت ع‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫المحافظ (الفصول ‪ 21‬و‪ 20‬من ظ ت ع)‪ ،‬وكذلك رفض تسليم نظير الرسم العقاري أو شهادة‬
‫خاصة بالتقييد ( الفصول ‪ 101‬و‪ 102‬و‪ 103‬من ظ ت ع)‪.‬‬

‫كل هذه القرارات تقبل الطعن أمام القضاء العادي‪ ،‬على أن المحافظ يلزمه أن يعلل قراراته‬
‫لكن اإلشكال المطروح َّ‬
‫أن؛ القاضي العقاري في منازعات‬ ‫تعليال كافيا حتى تتسم بالحياد‪َّ ،‬‬
‫التحفيظ سلطته محدودة جدا وضيقة‪ ،‬فمن جانب التعرضات ال يملك إال النظر في صحتها من‬
‫عدمه‪ ،‬فال يملك تقييم األدلة وال مقارعة الحجج‪ ،‬ومن جهة أخرى فإن المحافظ العقاري يمتع‬
‫بسلطات واسعة جدا وامتيازات عديدة‪ ،‬ال تظهر أمامها سلطة القاضي‪َ ،‬مع أن القاضي في ظل‬
‫منازعات التحفيظ هو المحور الرئيس وعليه المدار‪ ،‬إذ هو الذي يفض النزاع ويحدد حدود‬
‫العقار المتنازع فيه وينظر في صحة التعرضات‪ ،‬وإذا تضرر أحد الطرفين من قرار المحافظ‬
‫جرد المقنن القاضي من جميع‬
‫فهو الذي ينظر في األمر ‪..‬إلى غير ذلك‪َ ،‬مع كل هذا َّ‬
‫الصالحيات وضيق من سلطته وحجر عليه‪ ،‬وفي المقابل متَّع المحافظ بامتيازات وسلطات ثقيلة‬
‫وضمانات واسعة تجعله ال يلقي باال وال يأبى للمؤسسة القضائية وال لمقرراتها‪ ،‬وهو الحال‬
‫فعال‪ ،‬وهذا أمر خطير يمس بهيبة القضاء وقداسته‪ ،‬ليس هذا فحسب‪ ،‬بل دائما ما تخلق هذه‬
‫المسألة نقاشا وجدال واسعا في صفوف القضاة والمحامين‪ ،‬تجعلهم َينقمون من السيد المحافظ‬
‫ويعضون عليهم أناملهم غيظا‪ ،‬من ثم فقد وقع المقنن في تناقض كبير يدفع القضاء ثمنه غاليا‪.‬‬

‫فلو أن المقنن وازن بين السلطتين‪ :‬سلطة المحافظ وسلطة القاضي‪ ،‬ال أن يرفع إحداهما إلى عنان‬
‫السماء مقابل األخرى‪ ،‬لجنب الوقوع في مثل هذا التناقض المحرج‪.‬‬

‫التحفيظ‪:‬‬ ‫الفقرة الثانية‪ :‬إدارية قرار المحافظ العقاري ومركز القضاء اإلداري في نزاعات‬

‫نشب خالف بين الفقه فيما إذا كان المحافظ على األمالك العقارية سلطة إدارية‪ 1‬من ثم تقع‬
‫عليه المسؤولية اإلدارية في قراراته‪ ،‬وشأنه شأن سائر الموظفين فإنه يتحمل تبعات األخطاء‬

‫‪ 1‬ــ قرار الغرفة اإلدارية للمجلس األعلى سابقا –محكمة النقض حاليا‪ -‬عدد ‪ 132‬في الملف اإلداري عدد ‪ 52552‬بتاريخ ‪30‬‬
‫أبريل ‪" ،1252‬القضاء العقاري أحكام وقرارات"‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬أكتوبر ‪ ،1252‬ص‪.3 :‬‬

‫‪48‬‬
‫التي يرتكبها أثناء نشاطه اإلداري‪ ،‬سواء شابت هذه القرارات أخطاء أم شابها الشطط في‬
‫استعمال السلطة أم تكون تسببت في أضرار للمرتفقين‪ ،‬وليس اإلشكال ههنا‪ ،‬فنحن نؤيد هذا‬
‫أي من قرارات المحافظ يصح الطعن فيها أمام القضاء‬
‫االتجاه ونراه صوابا‪ ،‬إنما المشكل هو‪ٌّ :‬‬
‫اإلداري ؟ فإذا وجدنا حال لهذا المشكل نكون قد حددنا متى يكون قرار المحافظ إداريا‪ ،‬على أن‬
‫المقنن في ظهير التحفيظ العقاري لم يتعرض لهذه المسألة بشكل صريح‪ ،‬إنما في غالب‬
‫األحوال يفهم منه متى يمكن الطعن أمام القضاء اإلداري‪ ،‬على أنه –المقنن‪ -‬حسم األمر في‬
‫قرارات المحافظ الخاصة بمسطرة التحفيظ؛ أثناء التحفيظ وبعده‪- ،‬وقد استقصيناها أعاله‪ -‬فكل‬
‫قرارات المحافظ الصادرة منه أثناء عملية التحفيظ وبعدها فإنما يطعن فيها أمام القضاء العادي‪،‬‬
‫حيث أشار المقنن إلى ذلك في العديد من الفصول‪ ،‬مثال (في الفصل ‪ 30‬مكرر عند رفض‬
‫مطلب التحفيظ‪ ،‬ف ‪ 21‬عند رفض التشطيب على حق عيني‪ ،‬ف ‪ 103‬عند رفض تسليم‬
‫نظيرالرسم العقاري) إلى غيرها من الفصول‪.‬‬

‫وحتى إن محكمة النقض كثيرا ما وقعت في تناقض فادح في قراراتها‪ ،‬إذ تصنف بعض‬
‫قرارات المحافظ بأنها قرارات إدارية من ثم يطعن فيها أمام القضاء اإلداري‪ ،‬ثم تأتي بعد ذلك‬
‫فتخرجها عن اختصاص القضاء اإلداري لتدخلها ضمن اختصاص القضاء العادي‪ ،‬فهي‬
‫متأرجحة ليس لها توجه موحد في هذه المسألة‪ ،‬وهذا ليس في صالح القضاء وال المتقاضين‪.‬‬

‫وبنا ًء على ما سبق فإننا نخرج بأن القضاء العادي هو المختص في البت في قرارات المحافظ‬
‫الصادرة منه أثناء عملية التحفيظ (رفض مطلب التحفيظ‪ ،‬إلغاء مطلب التحفيظ‪ ،‬رفض‬
‫التعرض‪ ،‬إلغاؤه ‪ )...‬وبعدها (التشطيب على حق عيني‪ ،‬رفض التقييد‪ ،‬قرار رفض تسليم نظير‬
‫من الرسم العقاري ‪ ،)...‬وبتعبير أدق فالقضاء العادي هو المرجع في المرحلتين اإلدارية‬
‫والقضائية لعملية التحفيظ‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫فلم يبق ئذ للقضاء اإلداري إال البت في قرار المحافظ برفض تنفيذ حكم أو قرار‪ 1‬نهائي اكتسب‬
‫ضى به‪ ،‬قلنا "األحكام النهائية" ألنها تحصنت من جميع الطعون العادية وغير‬
‫قوة الشيء المق َ‬
‫عذر ليتقَعَّس عن تنفيذها‪ ،2‬ويستمد ما ذكرناه أساسه من‬
‫ٌ‬ ‫العادية‪ ،‬من ثم فلم يعد لدى المحافظ‬
‫المادة ‪ 5‬من قانون إحداث المحاكم اإلدارية‪ 3‬التي حددث االختصاص النوعي لها‪ ،‬ومن بينه‪:‬‬
‫البت في قرارات تجاوز السلطة ودعاوي التعويض عن األضرار حسب المادة المذكورة‪،‬‬
‫وكذلك شرعية هذه القرارات (المادة ‪ 44‬من القانون المذكور)‪.‬‬

‫فالقضاء اإلداري إذن بشقيه؛ "الشامل" و"قضاء اإللغاء" هو المختص في مثل هذه الدعاوي‪،‬‬
‫فمادام المحافظ سلطة إدارية فإن قراره ذاك إن كان مجحفا في حق أحد المرتفقين فال يملك إال‬
‫أن يدق باب قضاء اإللغاء ليبت فيه فيلغيه إذا اتسم فعال ب"تجاوز السلطة" أو بتعبير أدق‬
‫الشطط في استعمال السلطة‪ ،‬ألنها الوسيلة الوحيدة التي بها يستطيع الطاعن اقتضاء حقه‪ ،‬وإذا‬
‫تضرر أحد من ذلك القرار ضررا معتبرا‪ 4‬فيمكنه رفع دعوى التعويض في إطار القضاء‬
‫ا لشامل‪ ،‬ونحن نؤيد االتجاه القائل بإلزام إثبات العالقة السببية بين الضرر والخطأ ونراه‬
‫األصوب واألسلم‪ ،‬حتى ال يصير المحافظ مظنة للوم والتهمة‪ ،‬مع إثبات العالقة السببية ليس‬
‫سهال دائما بل في بعض األحايين قد يكون من الصعوبة بمكان‪.‬‬

‫والذي نلحظه أن سلطة القاضي اإلداري محدودة جدا في في هذا الصدد‪ ،‬إذ ال تتجاوز إلغاء‬
‫قرار المحافظ برفض تنفيذ حكم نهائي أو البت في دعوى التعويض عن الضرر الناجم عن‬
‫تنفيذ القرار المذكور‪ ،‬مع أن المحافظ على األمالك العقارية والرهون سلطة إدارية يتوجب‬

‫‪ 1‬ــ األحكام القضائية الصادرة عن محاكم أول درجة يطلق عليها "أحكام" أما التي تصدر عن محاكم االستئناف ومحكمة‬
‫النقض فتسمى ب " القرارات"‪.‬‬
‫‪ 2‬ــ ولكن غالبا ما يدفع المحافظون العقاريون بصعوبة تنفيذ الحكم النهائي أو استحالة ذلك (وفي هذه النقطة نقاش واسع‪ ،‬فلسنا‬
‫نلوم المحافظ دائما‪ ،‬فمساطر التنفيذ المنطمة في المسطرة المدنية معقدة جدا وتأخذ زمنا طويال ما يطرح إشكاال‪).‬‬
‫‪ 3‬ــ الظهير الشريف رقم ‪ 203-21-1‬الصادر في ‪ 22‬ربيع األول ‪ 1414‬الموافق ل ‪ 10‬شتنبر ‪ 1223‬بتنفيذ القانون رقم ‪-20‬‬
‫‪ 41‬المحدث بموجبه المحاكم اإلدارية‪.‬‬
‫‪ 4‬ــ وقد حصل خلف كبير حول هذه المسألة سواء في القضاء اإلداري الفرنسي أو القضاء اإلداري المغربي على مجرد الخطأ‬
‫أم أنه يشترط وقوع الضرر مع وجود عالقة سببية بين الخطأ والضرر التي يلزم إثباتها‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫معها أن تمنح للقاضي اإلداري سلطة واسعة‪ ،‬وهو تضارب وقع فيه المقنن الذي لم يتعرض‬
‫مطلقا الختصاص القضاء اإلداري في منازعات التحفيظ‪.‬‬

‫بعدما وقفنا على سلطة القاضي التقديرية في العقار المحفظ ورصدنا اإلشكاالت المتعلقة بها‬
‫فقها وقانونا وقضاء‪ ،‬بقي لنا أن ننظر في سلطته إزاء العقار غير المحفظ وما يتسم به من‬
‫إشكاال ت‪ ،‬لتكتمل الرؤية التطبيقية على المادة العقارية التي خصصنا لها هذا الفصل وهو‬
‫موضوع المبحث اآلتي‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في العقار غير المحفظ‪:‬‬

‫بين يدي المبحث‪:‬‬

‫يرمي هذا المبحث إلى الوقوف على سلطة القاضي في كسب ملكية العقار وكذا في إثباتها من‬
‫خ الل األدلة والحجج المقدمة له‪ ،‬وسلطته في الترجيح بينها إذا تعذر الجمع‪ ،‬وليس يخفى أن‬
‫سدى ولحمةَ سلطة القاضي في الحجج التي يقدمها له أطراف النزاع من حيث تقريبها وتقييمها‬
‫والترجيح بينها‪ ،‬ومن أجل التيسير على القاضي فقد استنبط الفقهاء مرجحات يستعان بها عند‬
‫عشر‪ ،‬وهي التي نص عليها المقنن في المادة‬
‫ٍ‬ ‫تعذر الجمع بين األدلة‪ ،‬وقد حصرها بعضهم في‬
‫الثالثة من مدونة الحقوق العينية‪.‬‬

‫ونعرض للقضية من خالل تسبيرها إلى مطلبين؛‬

‫(المطلب األول) نتناول فيه سلطة القاضي في كسب الملكية وإثباتها‪:‬‬

‫(المطلب الثاني) نتعرض فيه إلى سلطة القاضي في إعمال ضوابط الترجيح بين البيِّنات‪:‬‬

‫المطلب األول‪ :‬سلطة القاضي في كسب الملكية وإثباتها‪:‬‬

‫إن الملكية ال تكسب هكذا مجردا‪ ،‬بل لها أسباب تصدى لها الفقهاء رحمهم هللا وبسطوا فيها‬
‫القول بما فيه الكفاية‪ ،‬والتي خصص لها المقنن الكتاب الثاني من مدونة الحقوق العينية‪ ،‬وعدَّها‬

‫‪51‬‬
‫في أحد عشر سببا‪ ،1‬في حين أن الفقهاء لم يحصروها في عدد معين( ألنهم في الغالب ينتبهون‬
‫إلى ما يوافق الشرع من األمور وليس إلى عدها وحصرها)‪ ،‬على أن الفقهاء لم يجعلوا‬
‫الحيازة‪ 2‬سببا من أسباب الملك كما هو صنيع المقنن في المدونة إنما جعلوها قرينة على التملك‬
‫وحسب‪ ،‬ومن ذكاء الفقهاء أنهم صنَّفوها في باب الشهادات وبذلك فهي تنفع في اإلثبات‪،‬‬
‫فينظرون إلى الحيازة على أنها تمنع من سماع الدعوى؛ وفسر اإلمام الحطاب معناه بقوله‪":‬‬
‫والظاهر أن المراد بعدم سماعها عدم العمل بها من أنه ال توجه على المدعى عليه يمين إذا‬
‫أنكر‪ ،‬ال أنها ال تسمع ابتداء‪ ،‬فإن ذلك غير ظاهر الحتمال أن يقر المدعى عليه‪ ،‬ويعتقد أن‬
‫مجرد حوزه يوجب له الملك"‪ ،3‬وذلك حسما للخالفات وتقليال من كثرة النزاعات القضائية‬
‫التي كانت تسببها مثل هذه الدعاوي (التي أغلبها كيدية صادرة عن سوء نية)‪ ،‬وتجنبا كذلك لما‬
‫يثار من مشكالت اإلثبات‪ ،‬والشكوك في أصول الحقوق‪ ،‬ثم لو ألقينا نظرة متمعنة في محاكم‬
‫اليوم لوجدنا أن أكثر القضايا روا ًجا هي المتعلقة بوضع اليد أو الحيازة الظاهرة‪ ،4‬ولو أن‬
‫المقنن سار على نهج الفقهاء – فجعل الحيازة قرينة على التملك ال سببا له من ثم تمنع من رفع‬
‫الدعوى إذا لم يعزز دعواه بحجج أخرى‪ -‬لَ َح َ‬
‫سم أمر هذه الدعاوي التي تذهب فيها أوقات الناس‬
‫وأموالهم وأعمارهم هباء منثورا‪ ،‬ف"أساس الحيازة مبني في القانون على قواعد التقادم‬
‫المكسب‪ ،‬والتقادم غير مكسب للحقوق العينية عند فقهاء المسلمين‪ ،‬ألن التوسيع في الحيازة‬
‫لم يتجاوزعند متأخري الفقهاء األخذ بالتقادم باعتباره مانعا عن سماع الدعوى التي تحمي‬

‫‪ 1‬ــ وهي إحياء أراضي الموات والحريم وااللتصاق والحيازة والمواريث والوصية والمغارسة والهبة والصدقة والشفعة ثم‬
‫القسمة‪.‬‬
‫‪ 2‬ــ على أن الحيازة عند القانونيين يقسمونها إلى حيازة عرضية وأخرى استحقاقية‪ ،‬وهو تقسيم مدرسي وحسب‪ ،‬أما وإن‬
‫الفقهاء يقسمونها إلى حيازة مثبتة وأخرى نافية أو مبطلة‪ ،‬فاألولى تنفع عندما ال يعرف للملك مالك (أي أصله مجهول) فتكفي‬
‫فيها عشرة أشهر إلى سنة‪ ،‬وهي التي نص عليها خليل بقوله "‪ :‬وصحة الملك بالتصرف‪ ،‬وعدم منازع‪ ،‬وحوز طال كعشرة‬
‫أشهر‪ ،‬وأنه لم يخرج عن ملكه‪ ،".‬والثانية عندما يعلم للملك أصل وصاحبه ساكت‪ ،‬بذلك فال بد فيها من عشرة سنوات‪ ،‬وهي‬
‫ما أشار إليها صاحب التحفة‪ ،‬على أن مدة الحيازة تبدأ عند القانونيين بعد انتهاء مدتها األصلية (عشرة أشهر ‪ /‬عشر سنوات)‬
‫وهذا يخالف ما عليه الفقهاء‪ ،‬إذ الحيازة عندهم تبدأ ببداية مدتها‪.‬‬
‫‪ 3‬ــ مواهب الجليل في شرح مختصر خليل‪ ،‬للعالمة الحطاب‪ ،‬جزء ‪ 1‬ص ‪.22‬‬
‫‪ 4‬ــ تم تنظيمها ضمن مسطرة خاصة في المسطرة المدنية في الفصول من ‪ 111‬إلى ‪ ،100‬من ثم فهي خاصة بالدعوى إذ‬
‫تنعدم فيها نية التملك‪ ،‬وأما الحيازة االستحقاقية التي تشترط فيها نية التملك مع ادعائه فتم تنظيمها في مدونة الحقوق العينية‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫الحق‪ ،‬ال باعتباره مكسبا للحق أو مسقطا له‪ ،1.‬ونفس األمر بالنسبة للتقادم فالقانونيون فهموه‬
‫عكس ما نظر إليه الفقهاء‪ ،‬ألنهم ال يقرون بالتقادم على أنه مكسب للملكية بل مانع من سماع‬
‫جر مشكال بمشكل‪،‬‬
‫الدعوى بحق مضى عليه زمن معين وحسب‪ ،‬لهذا يمكن القول‪ :‬إن المقنن َّ‬
‫كما أن الحائز ليس مدعيا بل مدعا عليه فال يقع عليه عبء اإلثبات وال يسأل عن أصل الحق‪،‬‬
‫خالفا ً لنقول الملكية األخرى‪.‬‬

‫وبناء على ما سبق‪ ،‬فإن سبب الملكية ينظر إليه على أنه دليل إثبات وحجة‪ ،‬من ثم يملك‬
‫القاضي إزاءه سلطة واسعة في تقديره ووزنه وفي قَبوله ورده‪ ،‬وهذا قبل صدور م ح ع حيث‬
‫كان القضاة يحتكون بالفقه اإلسالمي في المنازعات المتعلقة بالعقار غير المحفظ‪ ،‬مما يوفر لهم‬
‫سلطة واسعة في هذا الصدد‪ ،‬لكن مع صدور المدونة ح ع سنة ‪ 2011‬حدًّت من سلطتهم نوعا ً‬
‫ما‪ ،2‬لكن ما تزال لهم فسحة يعملون فيها سلطتهم التقديرية‪ ،‬وعلى رأسها أسباب كسب الملكية‬
‫وكذا إثباتها؛ فالقاضي حينما تعرض عليه قضية متعلقة بوضع اليد أو استحقاق عقار غير‬
‫محفظ فإن له سلطةً في هذا الصدد فهو يقدر األدلة والحجج المعروضة عليه من قبل أطراف‬
‫النزاع ويوزنها ويقبل المهم منها ويرد ما ال جدوى فيه‪ ،‬ويتفقد أيضا وجود شروط الملكية‬
‫الخمس‪ 3‬في الدعوى إلى غير ذلك ‪ ،..‬كذلك من أحيى أرضا مواتا ثم وقع على إثر ذلك نزاعٌ‪،‬‬
‫فالقاضي ههنا نظرا لس لطته فإنه ينظر إلى األدلة المقدمة له‪ ،‬كذلك يتفقد تحقق شرط اإلحياء؛‬
‫وهو اإلذن من الدولة‪ 4‬بصريح المادة ‪ 5222‬من م ح ع إضافة إلى العمل في األرض من‬
‫غرس وزراعة وسقي وري‪ ..‬كل هذا‪ ،‬يدخل ضمن صميم سلطة القاضي التقديرية التي البد‬
‫منها لتحقيق العدالة المنشودة ‪.‬‬

‫‪ 1‬ــ "الموجز في الحقوق العينية وفق أحكام المدونة واألصول الفقهية"‪ ،‬أستاذنا د‪.‬حسن القصاب‪ ،‬مكتبة دار العرفان للنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬الطبعة األولى سنة ‪ ،2012‬ص ‪.55‬‬
‫‪ 2‬ــ وقد فصلنا القول في هذه النقطة في المبحث السابق‪.‬‬
‫‪ 3‬ــ وهما إجماال‪ :‬الهدوء‪ ،‬الظهور‪ ،‬الوضوح‪ ،‬االستمرار‪.‬‬
‫‪ 4‬ــ على أن الجمهور ومنهم الحنفية لم يشترطوا إذنا لذلك‪ ،‬وأما ما تمسك به المالكية من اشتراط اإلذن من اإلمام في العقار‬
‫القريب من العمران فقد استندوا فيه إلى دليل ضعيف‪ ،‬وقد حقق ابن حجر هذه المسألة في الفتح‪ ،‬ولسنا ندري على أي أصل‬
‫فقهي استند المقنن في هذه المسألة‪.‬‬
‫‪ 5‬ــ " األراضي الموات التي ال ملك لها تكون ملكا للدولة‪ ،‬وال يجوز وضع اليد عليها إال بإذن صريح من السلطة المختصة‬
‫طبقا للقانون"‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫وهذه الملكية كما أن لها بداية فإن لها نهاية (ألن العقد عامة له بداية ونهاية)‪ ،‬وما تكسب به‬
‫الملكية فبه تنقضي‪ ،‬لكن المقنن المغربي وخالفا للفقهاء فقد جعل القسمة والشفعة مما تكسب به‬
‫الملكية ال بما ينقضي به الحق (كما اعتبره الفقهاء)‪ ،‬وهو مشكل تشابه على الفقه القانوني‪،‬‬
‫فاعتبروا أن القسمة والشفعة منشئتان للملكية‪ ،‬ولكن الفقه اعتبرهما كاشفتان عنها‪ ،‬وهو‬
‫التحقيق‪ ،‬ألن الملك قائم في ظل الشيوع‪ ،‬وال تنشئه الشفعة وال القسمة بل ينقضي وينكشف‬
‫بهما‪ ،‬والفكر القانوني استقر على أن القسمة منشئة للملكية (الحق)‪ ،‬بينما الفقهاء رحمهم هللا لهم‬
‫نظرة ثاقبة متمعنة‪ ،‬فنظروا إلى القسمة نظرة مزدوجة أي أنها كاشفة ومنشئة في نفس الوقت‬
‫على أن‪ ،‬هذا التمييز بين النظر القانوني والنظر الفقهي في هذه المسألة له آثار؛ وهو أن القسمة‬
‫فيها المعنيان معا‪ :‬معنى المبادلة وهو النقل وفيها أيضا معنى الفرز وهو الكشف إذ لها طبيعة‬
‫مزدوجة‪ ،‬لكن القانونيين اقتصروا على المعنى األول وحسب‪ ،‬ولم يتفطنوا للمعنى الثاني الذي‬
‫سبقهم به الفقهاء من قبل‪.‬‬

‫على أن المقنن خالل إيراده ألسباب كسب الملكية األحد عشر في الكتاب الثاني من م ح ع خلَّط‬
‫بين األسباب المكسبة للملكية واألسباب الناقلة لها واألسباب الكاشفة عنها‪ ،‬فضمها جميعا إلى‬
‫األسباب المكسبة‪ ،‬فالشفعة والقسمة قلنا إنها تكشف عن الحق وليست تنشئه وهو نظر الفقهاء‬
‫قديما ونعتبره صوابا‪ ،‬أما الهبة والوصية والصدقة والميراث فهي أسباب ناقلة للملكية وليس‬
‫ناشئة لها ألن الملكية قائمة قبل حصول نقلها‪ ،‬فإنما انتقلت من ذمة إلى أخرى‪ ،‬ولم تنشئ في‬
‫ذمة المنقول له‪ ،‬فهي ملكية واحدة وانتقلت‪ ،‬وليستا ملكيتان كما يرى الفكر القانوني‪ ،‬ولكن‬
‫المقنن لم يميز بين النظرين الفقهي والقانوني‪.‬‬

‫البينات‪:‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في إعمال ضوابط الترجيح بين ّ‬
‫إن القاضي وهو يبت في القضايا والنوازل المعروضة عليه تقدم له أدلة وحججا من قبل‬
‫أطراف النزاع‪ ،‬فيقوم بتقديرها ووزنها وتقريبها طبقا لسلطته التقديرية‪ ،‬من ثم يحسم النزاع‬
‫بالفصل بينها‪ ،‬ولكن أحيانا قد تكون هذه األدلة (البينات) متعارضة فيلزم عليه الترجيح بينها إذا‬

‫‪54‬‬
‫تعذر الجمع‪ .‬فما مدى سلطة القاضي التقديرية في إعمال ضوابط الترجيح بين البينات؟‬
‫نعرض لهذا المشكل من خالل فقرتين‪:‬‬

‫ــ الفقرة األولى‪ :‬أحكام التعارض والترجيح بين البينات في الفقه المالكي ومدونة الحقوق‬
‫العينية‪:‬‬

‫ــ الفقرة الثانية‪ :‬قواعد الترجيح بين البينات في ضوء الفقه المالكي ومدونة الحقوق العينية‪:‬‬

‫الفقرة األولى‪ :‬أحكام التعارض والترجيح بين البينات في الفقه المالكي ومدونة الحقوق‬

‫العينية‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ أحكام التعارض‪:‬‬

‫يعرف التعارض بأنه‪ ":‬اشتمال كل منهما (يقصد البينات)‪ °‬ما ينافي األخرى"‪ ،1‬وعرفه‬
‫السرخسي بأنه‪ " :‬تقابل الحجتين المتساويتين‪ ،‬على وجه يوجب على كل واحد منهما ضد ما‬
‫توجبه األخرى‪ ،‬كالكل والحرمة‪ ،‬والنفي واإلثبات‪ ،2".‬ويعرفه األصوليون بأنه‪ " :‬تقابل الدليلين‬
‫‪3‬‬
‫عرفه بأنه‪" :‬أن يقدم كل طرف في الخصومة‬
‫على سبيل الممانعة " ومن المعاصرين من ًّ‬
‫‪4‬‬
‫دليال‪ ،‬يؤيد دعواه‪ ،‬وينفي دعوى األخر‪ ،‬بحيث لو أنفرد دليل أحدهما لحكم له به"‪.‬‬

‫وتعمدنا تقديم تعريف ابن عرفة(بالسكون)‪ ،‬ألنه تعريف جزيل ودقيق وموجز‪ ،‬وال ضير فهو‬
‫شيخ التعاريف رحمه هللا‪ ،‬على أن هذه التعاريف التي أوردناها تتفق أن التعارض هو مقابلة‬

‫‪ 1‬ــ وهو تعريف البن عرفة أورده الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير للدردير‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬جزء ‪ 4‬ص‬
‫‪.212‬‬
‫‪ 2‬ــ أصول السرخسي‪ ،‬جزء ‪ ،2‬ص ‪.12‬‬
‫‪ 3‬ــ " الجامع ألحكام أصول الفقه (المسمى ب‪ :‬حصول المأمول من علم األصول)"‪ ،‬دمحم صديق حسن خان القنوجي‪ ،‬تحقيق‬
‫ودراسة‪ :‬أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي‪ ،‬راجعه وقدم له‪ :‬أبو الحسن عطية مسعد العكاوي‪ ،‬ط‪ ،1‬القاهرة‪ ،‬دار الفضيلة للنشر‬
‫والتوزيع‪ ،2013 ،‬ص ‪.322‬‬
‫‪ °‬زيادة غير واردة في التعريف‪.‬‬
‫‪ 4‬ــ "وسائل في اإلثبات في الشريعة األسالمية والمعامالت المدنية واألحوال الشخصية"‪ ،‬الدكتور مصطفى الزحيلي‪ ،‬الجزءان‬
‫األول والثاني مجموعين‪ ،‬ط ‪ ،1402/1252 ،1‬ص ‪.233‬‬

‫‪55‬‬
‫الحجج بعضها ببعض على وجه يستحيل الجمع بينها مما يستدعي الترجيح‪ ،‬على أننا نميز بين‬
‫التعارض والتضاد‪ ،‬فهذا األخير ال يرد عليه الترجيح على غرار األول وهو التمييز‪ ،‬فما‬
‫شروط التعارض؟‬

‫شروط التعارض‪:‬‬

‫وشروطه خمسةٌ كما نص على ذلك الباحثون؛ وهي اتحاد البينتان أو البينات موضوعا وزمنا‬
‫وقوة ً مع شرعيتها وعدم إمكانية الجمع بينها‪ ،‬والتفصيل كما يلي‪:‬‬

‫أوال‪ :‬اتحاد البينات في المحل(الموضوع)‪:‬‬

‫فالبينات البد أن ينصب موضوعها على محل واحد‪ ،‬كالعقار مثال أو األسرة‪ ،‬ال أن يكون‬
‫مو ضوع إحداهما الحيازة مثال وموضوع األخرى الوعد بالبيع فذلك ال يستقيم‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬اتحادها في الزمن‪:‬‬

‫أي‪ :‬أن يكون لها تاريخ واحد‪ ،‬ألن التأريخ من أساب الترجيح بين البينات‪ ،‬فالبينة السابقة مقدمة‬
‫على البينة الالحقة (وسنتطرق لهذا فيما بعد)‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬اتحادها في القوة‪:‬‬

‫أي ‪ :‬أن تكون لها قوة واحدة من حيث الثبوتية‪ ،‬بحيث تكون على درجة واحدة من اإلثبات‪ ،‬كأن‬
‫يأتي طرفا النزاع كالها بأوراق رسمية‪ ،‬فهذا اتحاد في القوة وتعارض واضح‪ ،‬أما أن يأتي‬
‫أحدهما بورقة رسمية ويأتي أخر بورقة عرفية فال اتحاد في القوة ههنا‪ ،‬وال تعارض أيضا‪ ،‬إذ‬
‫تقدم الورقة الرسمية على الورقة العرفية‪ ،‬والخط الرسمي على الخط العرفي‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫رابعا‪ :‬مشروعيتها‪:‬‬

‫معناه أن تكون كال البينات التي يدلي بها أطراف المنازعة شرعية غير مخالفة للقانون وال‬
‫األعراف‪ ،‬فال يصح أن يدلي أحدهما أو كالهما بأوراق مزورة (سبق أن صدر فيها حكم‬
‫قضائي نهائي بذلك) ليثبت بها ملكية العقار محل النزاع‪ ،‬وهكذا ‪...‬‬

‫خامسا‪ :‬عدم إمكانية الجمع بينها‪:‬‬

‫أي‪ :‬أن تكونا غير متفقتين فإذا أمكن الجمع بينهما انتفى التعارض من أصله‪ ،‬وهو شرط‬
‫أساس‪ ،‬لقول خليل‪ ":‬وإن أمكن جمع بين البينتين ُجمع وإال رجح"‪ ،1‬فال تعارض إذا بين‬
‫بينتين متفقتين متكاملتين‪.‬‬

‫على أنه إذا تحققت هذه الشروط يمكن ئذ الحديث عن التعارض‪ ،‬والقاضي له سلطة تقديرية‬
‫واسعة في التحقق من توفرها‪.‬‬

‫الترجيح‪:‬‬ ‫‪1‬ــ أحكام‬

‫ونعرض له من خالل نقطتين‪:‬‬

‫ــ مفهومه‪:‬‬

‫ــ شروطه‪:‬‬

‫الترجيح‪:‬‬ ‫أوال‪ :‬مفهوم‬

‫يعرف الترجيح بأنه‪ " :‬تقوية أحد الطرفين على اآلخر‪ ،‬فيعلم األقوى فيعمل به‪ ،‬ويطرح اآلخر‬
‫والقصد منه تصحيح الصحيح‪ ،‬وإبطال الباطل "‪ ،1.‬نكتفي بهذا التعريف الدقيق المنسوب لإلمام‬
‫ناكر أن األصوليين هم األكثر دقة في هذا الباب‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫الرازي‪ ،‬وال ينكر‬

‫‪ 1‬ــ "مختصر الشيخ خليل"‪ ،‬باب في أحكام الشهادة‪ ،‬ص ‪.220‬‬

‫‪57‬‬
‫ثانيا‪ :‬شروطه‪:‬‬

‫نميز ههنا بين الشروط التي قررها الفقهاء وبين الشروط التي وضعها القانونيون‪ ،‬فالفقهاء‬
‫األصوليون اشترطوا للترجيح‪2‬؛‬

‫أ ــ التساوي في الثبوت فال تعارض بين الكتاب وخبر الواحد إال من حيث الداللة‪.‬‬

‫ب ــ التساوي في القوة فال تعارض بين المتواتر واآلحاد‪ ،‬بل يقدم المتواتر باالتفاق‪ ،‬كما نقله‬
‫غير واحد من األصوليين‪.‬‬

‫ج ــ اتفاقهم ا في الحكم مع اتحاد الوقت‪ ،‬والمحل‪ ،‬والجهة‪ ،‬فال تعارض بين النهي عن البيع‬
‫‪3‬‬
‫وقت النداء مع اإلذن به في غيره‪.‬‬

‫وأما القانونيون فاشترطوا للترجيح شروطا ثالثةً؛‬

‫أ ــ صحة الحجج المدلى بها شرعا وقانونا‪:‬‬

‫فالقاضي أول ما يقوم به هو التأكد من صحة وشرعية الحجج التي أدلى بها أطراف النزاع‪،‬‬
‫فإن تأكد من صحتها نظر فيها وإال صرف عنها النظر‪ ،‬وفي هذا الصدد جاء قرار لمحكمة‬
‫النقض‪ ..." :‬المحكمة ال تلجأ إلى قواعد الترجيح بين الحجج إال عندما تكون حجج الطرفين‬
‫مستوفية للشروط المتطلبة شرعا ومنطقية على أرض النزاع"‪.4‬‬

‫‪ 1‬ــ "الجامع ألحكام أصول الفقه (المسمى ب‪ :‬حصول المأمول من علم األصول)"‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،‬ص ‪.322‬‬
‫‪ 2‬ــ للتفصيل ينظر‪( :‬البحر المحيط) جزء ‪ 1‬ص ص ‪ 102‬ــ ‪( ،110‬إرشاد الفحول) للشوكاني‪ ،‬جزء ‪ 2‬ص ‪( ،005‬إحكام‬
‫الفصول) جزء ‪ 2‬ص ‪ ،141‬وكذلك (شرح الكوكب المنير)‪ ،‬جزء ‪ 4‬ص ‪ ،111‬ومن المعاصرين (التعارض والترجيح)‬
‫للدكتور دمحم الحفناوي‪.‬‬
‫‪ 3‬ــ "الجامع في أحكام أصول الفقه" (المسمى ب‪ :‬حصول األمول في علم األصول)‪ ،‬ص ‪.322‬‬
‫‪ 4‬ــ قرار عدد ‪ 030‬الصادر بتاريخ ‪ 2001/2/20‬ملف مدني عدد ‪ ،2000/1/1/1132‬عبد العزيز توفيق " قضاء المجلس‬
‫األعلى في التحفيظ خالل ‪ 40‬سنة"‪ ،‬مطبعة النجاح الجديدة ‪ -‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة األولى ‪.1222‬‬

‫‪58‬‬
‫ب ــ تعارض الحجج‪:‬‬

‫جاء في المادة الثالثة من م ح ع ‪ ":‬إذا تعارضت البينات المدلى بها إلثبات ملكية عقار أو حق‬
‫عيني على عقار‪ ،‬وكان الجمع بينهما غير ممكن‪ ،‬فإنه يعمل بقواعد الترجيح بين األدلة"‪.‬‬

‫ونشير إلى أن التعارض ال يحصل بين الحجيتين إال بتحقق شروط التعارض الذي أشارنا إليه‬
‫سابقا؛ من اتحا ٍد في القوة والزمن والثبوت والمحل(وهو الموضوع أو نوع الحجتين)‪.‬‬

‫ج ــ أن تكون الحجج ملكا ألصحابها‪:‬‬

‫بعد الشرطين األولين‪ ،‬البد أن يتأكد القاضي من أن الحجج المدلى به في ملك طرفا النزاع‪،‬‬
‫أي‪ :‬تحقق صفة التملك في الحجج‪ ،‬وهو ما أكدته محكمة النقض في غير ما مرة‪ ... " :‬فإن‬
‫عبء اإلثبات يقع على عاتق المستأنف عليهم والذين لم يؤيدوا مطلبهم بأية حجة معتبرة شرعا‬
‫إلثبات تملكهم للعقار المدعى فيه خاصة بعد استبعاد رسم ملكيتهم‪ ...‬فإنه نتيجة لما ذكر يكون‬
‫القرار المطعون فيه مرتكزا على أساس قانوني‪ ،‬ومعالل تعليال سليما والسبب بالتالي غير‬
‫جدير باالعتبار"‪.1‬‬

‫وهو شرط أساس بدهي فال بد أن تكون الرسوم في ملكية األطراف المتنازعة حول مثال‪.‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬قواعد الترجيح بين البينات في ضوء الفقه المالكي ومدونة الحقوق العينية‪:‬‬

‫نعرض للقضية من خالل بيان قواعد الترجيح التي قررها فقهاء المالكية مع ما يوافقها في‬
‫التقنين العقاري المغربي وسلطة القاضي إزاءها؛‬

‫حيث إن القاضي وهو ينظر في النزاع بعدما عرضت عليه حجج األطراف وأدلتهم‪ ،‬يحاول‬
‫الجمع بينها‪ ،‬فإذا استحال عليه ذلك‪ ،‬استبعد إحداها أو كالهما عن طريق دفعها (إسقاطها)‪ ،‬وإال‬
‫تحتم عليه الترجيح بينها‪ ،‬وهو أخر ما يلجأ إليه القاضي‪ ،‬وقد وضع فقهاء المالكية رحمهم هللا‬

‫‪ 1‬ــ قرار عدد ‪ 1/341‬بتاريخ ‪ 2014/11/4‬ملف مدني رقم ‪ 2014/1/1/21/21‬صادر عن محكمة االستئناف بوجدة‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫أسبابا للترجيح بين األدلة‪ ،1‬لتساعد القاضي وتسهل عليه حسم النزاع‪ ،‬وهي التي نص عليها‬
‫المقنن في المادة الثالثة من م ح ع إذ جاء فيها ما يلي‪:‬‬

‫" إذا تعارض البينات المدلى بها اإلثبات ملكية عقار أو حق عيني على عقار‪ ،‬وكان الجمع‬
‫بينهما غير ممكن‪ ،‬فإنه يعمل بقواعد الترجيح بين األدلة ومن بينها‪:‬‬

‫‪ ‬ذكر سبب الملك مقدم على عدم بيانه‪.‬‬

‫‪ ‬تقديم بنية الملك على بينة الحوز‪.‬‬

‫‪ ‬زيادة العدالة والعبرة ليست بالعدد‪.‬‬

‫‪ ‬تقديم بينة النقل على بينة االستصحاب‪.‬‬

‫‪ ‬تقديم بنية اإلثبات على بنية النفي‪.‬‬

‫‪ ‬تقديم بنية األصالة على خالفها أو ضدها‪.‬‬

‫‪ ‬تقديم تعدد الشهادة على شهادة الواحد‪.‬‬

‫‪ ‬تقديم البنية المؤرخة على البنية غير المؤرخة‪.‬‬

‫‪ ‬تقديم البنية السابقة على البنية الالحقة تاريخا‪.‬‬

‫‪ ‬تقديم بنية التفصيل على بنية اإلجمال‪".‬‬

‫فهذه البينات وردت على سبيل التمثيل ال الحصر‪ ،‬وقد أجملها صاحب الالمية وزاد عليها‬
‫بقوله‪:‬‬

‫بدا من شهود وانتفى الجمـع أوال‬ ‫بأسباب ملكٍ رجحن أن تعارض‬

‫على الملك إال من مقاسم فاقبــــــال‬ ‫كنسج لنفس أو نتاج ورجحـــــن‬

‫‪ 1‬ــ وقد حصرها أبو الشتاء الصنهاجي رحمه هللا في عشر مرجحات‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫بالنقل واإلثبات أو ما قد أصـــــال‬ ‫وملك على حوز وزيد عدالــــــة‬

‫يفصل فمختار على من أجمـــــال‬ ‫وباثنين والتاريخ أو سبقية ومــن‬

‫دم َجرحٍ انجال‬


‫ق و َمع ٍ‬ ‫ٍ‬
‫كحد طال ٍ‬ ‫بعتق نكاح ألغ زَ يد عدالــــــــــــة‬

‫وفع ٌل بال خصم بها الملك يجتـــال‬ ‫يـ ٌد نسبة طو ٌل كعشرة أشهــــــــر‬

‫ل أم صحة للحي للميت ذا اج َعـال‬ ‫وهل عدم التفويت في علمهم كما‬

‫ويحلف أو للذ يقر له اج َعــــــــــال‬ ‫وإن يعدم الترجيح فاحكم لحـــائز‬

‫وقال ابن عاصم رحمه هللا في التحفة‪:‬‬

‫مبرزا أتى لهم قـــــــــــــــوالن‬ ‫وفي ذوي عدل يعارضــــان‬

‫لف واألعدل أصبغ ارتضى‬


‫وال َح َ‬ ‫وبالشهيدين مطرف قضــــى‬

‫ال َمع ي ٍد والعكس عن بعض نقل‬ ‫وقدم التاريخ ترجي ٌح قبـــــــل‬

‫ال يمكن الجمع لنا بينهمـــــــــــا‬ ‫وإنما يكون ذاك عندمـــــــــا‬

‫وال ي ٌد وال شهي ٌد يدَّعــــــــــــــى‬ ‫والشيء يدَّعيه شخصان معا‬

‫وذاك حك ٌم في التساوي ملتـــزَ م‬ ‫يقسم ما بينهما بعد القســــــم‬

‫والقول قول ذي يد منفــــــــــرد‬ ‫في بينات أو نكو ٍل أو يــــــ ٍد‬

‫وحالة األعدل منها بينــــــــــــــه‬ ‫وهو لمن أقام فيه البينــــــــة‬

‫‪61‬‬
‫والبينات في الحقيقة كثيرة جدا ال تحصى‪ ،‬بل تتجدد بتجدد الوقائع واألحوال‪ ،‬والمقنن إنما‬
‫استقى ما اشتهر منها في كل من المتن الخليلي‪ 1‬وتحفة ابن عاصم والمية الزقاق‪ ..‬وغيرها من‬
‫كتب ومنظومات القضاء‪.‬‬

‫وتعرف البينة بأنها‪ ":‬كل ما يبين الحق ويظهره" على أصح األقوال‪ ،2‬إذ اختلف الفقهاء في‬
‫‪3‬‬
‫صروها على الشهادة وزاد ابن حزم علم القاضي‪،‬‬
‫ص َدها ‪ ،‬على أن جمهور الفقهاء ق َّ‬
‫معناها و َمق َ‬
‫أما متأخري الحنابلة ومنهم ابن القيم وابن تيمية رحمهما هللا فوسعوا في معناها لتشمل كل ما‬
‫يبين الحق ويظهره‪ ،‬فشهادة الشهود هي المنتشرة قديما وعليها المدار‪ ،‬إذ لم تكن الكتابة‬
‫معروفة‪ ،‬فأغلب الناس ال يكتبون إال العلماء والمتعلمين‪ ،‬فارتقت الشهادة إلى حد البينة (أي‬
‫الحجة والبرهان) لكثرة االعتماد عليها واللجوء إليها‪ ،‬والخلف لفظي في الحقيقة بين الجمهور‬
‫صروها على الشهادة فإنهم لم يمنعوا إدراج غيرها من‬
‫وغيرهم في معنى البينة‪ ،‬فإن كانوا ق َّ‬
‫األدلة ووسائل اإلثبات تحتها من إقرار وكتابة (على ندرتها) وغيرها ‪..‬إنما السبب ما ذكرناه‬
‫أنفا‪ ،‬على أن معنى البينة في هذا الزمان يتجه نحو الكتابة ال محالة لكثرة فشوها وانتشارها‪،‬‬
‫ولكون المقنن تحاشى اإلثبات بغيرها في غير ما موضع‪ ،4‬إضافة إلى ما لها من ضمانات في‬
‫حفظ وصيانة حقوق الناس‪ ،‬مقارنة مع غيرها من وسائل اإلثبات‪.‬‬

‫هذا‪ ،‬والقاضي له سلطة تقديرية واسعة في الترجيح بين البينات المتعارضة‪ ،‬اعتمادا على‬
‫أسباب الترجيح التي أوردناها‪ ،‬فيقدم البينة التي ذكرت سبب الملك على التي لم تذكره‪ ،‬ويقدم‬
‫بينة الملك على الحوز‪ ،‬كما يقدم البينة المفصلة على البينة المجملة‪ ،‬والبينة السابقة في التاريخ‬
‫على البينة الالحقة‪ ،‬والبينة المؤرخة على التي لم تؤرخ‪... ،‬إلى غيره‪ ،‬فكلها بينات دقيقة‬
‫استنبطت من رحيق الفقه من قبل فقهاء أفذاذ جهابذة تجعل القاضي مطمئن البال خالل فصله‬
‫للنزاع‪ ،‬مع ما توفره له من سلطة واسعة‪.‬‬

‫‪ 1‬ــ النص الخليلي طويل جدا في هذا الصدد‪ ،‬فلم نرتأ إيراده‪.‬‬
‫‪ 2‬ــ وهو قول ابن القيم رحمه في كتابه (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) ص ‪( 14‬أنظر أي طبعة)‪.‬‬
‫‪ 3‬ــ على أننا تطرقنا لهذه القضية في المبحث األول من الفصل األول من هذا البحث‪ ،‬فتحرينا االختصار‪.‬‬
‫‪ 4‬ــ أنظر على سبيل المثال الفصل ‪ 443‬من ق ل ع‪ ،‬الذي نص على أن المعامالت التي تتجاوز ‪ 10.000.00‬درهم ال تثبت‬
‫إال بالكتابة‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫‪ ‬خـــــــــــــــــــــاتمـــــــــــــــة‪:‬‬

‫يتحصل مما تقدم أن تناولنا في الفصل األول من هذا البحث التكييفين الفقهي والقانوني لسلطة‬
‫القاضي التقديرية‪ ،‬حيث توصلنا في المبحث األول إلى أن قضاء القاضي بعلمه لم يجوزه‬
‫المالكية مطلقا‪ ،‬وأن الفقهاء اختلفوا في ضمه إلى البينات(وسائل اإلثبات)‪ ،‬وهي نتيجة المطلب‬
‫األول‪ ،‬أما المطلب الثاني فخصصناه لمعالجة مشكل قضاء القاضي أهو اجتهاد أم تقليد‪،‬‬
‫واألصل عند المالكية أن القاضي ال يجتهد‪ ،‬وإنما يجتهد في كشف األحكام وهو التحقيق‪.‬‬

‫وفي المبحث الثاني توصلنا إلى أن المقنن المغربي تبنى المذهب المختلط في اإلثبات مما يجعل‬
‫سلطة القاضي منضبطة مع وسائل اإلثبات المحددة قانونا‪ ،‬وإن لم تسعفه أعمل سلطته التقديرية‬
‫صد الصواب من المذهب المختلط‪ ،‬على أن محكمة النقض تبسط رقابتها على سلطة‬
‫وهو المق َ‬
‫القاضي من ناحية تنزيل القاعدة القانونية على الوقائع وهي خالصة المطلب األول‪ ،‬أما المطلب‬
‫الثاني فتناولنا فيه سلطة القاضي الجنائي‪ ،‬باعتباره يتمتع بسلطة واسعة‪.‬‬

‫في الفصل الثاني وقفنا على سلطة القاضي في المادة العقارية‪ ،‬حيث توصلنا في المبحث األول‬
‫إلى أن القضاة المعاصرين ال يحسنون الرجوع إلى المؤلفات الفقيهة‪ ،‬ما جعل المقنن يصدر‬
‫مدونة ح ع‪ ،‬ما أسهم في الحد من سلطتهم‪ ،‬وهي نتيجة المطلب األول‪ ،‬وفي المطلب الثاني‬
‫تعرضنا إلى سلطة ك ٍل من القاضي العادي والقاضي اإلداري في العقار المحفظ‪ ،‬حيث إن‬
‫األول باعتباره قاضي التحفيظ يبت في جميع النزاعات المتعلقة بهذه العملية‪ ،‬رغم ذلك فسلطته‬
‫محدودة‪ ،‬أما القاضي اإلداري فسلطته أيضا محدودة جدا واختصاصه محصور في البت في‬
‫طلبات إلغاء قرار المحافظ‪.‬‬

‫في المبحث الثاني خَلصنا إلى سلطة القاضي الواسعة في كسب الملكية وكذا في إثباتها‪ ،‬وهي‬
‫نتيجة المطلب األول‪ ،‬وفي المطلب الثاني وقفنا على سلطته في إعمال قواعد وضوابط الترجيح‬
‫تعارضها‪.‬‬ ‫بين البينات حين‬

‫‪63‬‬
‫‪ ‬فهرس المراجع‪:‬‬
‫‪ 1‬ــ القرآن الكريم برواية ورش عن نافع‪.‬‬

‫‪ 2‬ــ " الجامع ألحكام أصول الفقه (المسمى ب‪ :‬حصول المأمول من علم األصول)"‪ ،‬دمحم‬
‫صديق حسن خان القنوجي‪ ،‬تحقيق ودراسة‪ :‬أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي‪ ،‬راجعه وقدم له‪:‬‬
‫أبو الحسن عطية مسعد العكاوي‪ ،‬ط‪ ،1‬القاهرة‪ ،‬دار الفضيلة للنشر والتوزيع‪.2013 ،‬‬

‫‪ 3‬ــ "الموجز في الحقوق العينية وفق أحكام المدونة واألصول الفقهية"‪ ،‬أستاذنا د‪.‬حسن‬
‫القصاب‪ ،‬مكتبة دار العرفان للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة األولى سنة ‪.2012‬‬
‫‪ 4‬ــ "وسائل في اإلثبات في الشريعة األسالمية والمعامالت المدنية واألحوال الشخصية"‪،‬‬
‫الدكتور مصطفى الزحيلي‪ ،‬الجزءان األول والثاني مجموعين‪ ،‬ط ‪.1402/1252 ،1‬‬
‫‪ 3‬ــ أدب القاضي‪ ،‬علي بن دمحم بن حبيب الماوردي البصري الشافعي‪ ،‬حققه؛ محي هالل‬
‫السرحان‪ ،‬دار النشر‪ :‬مطبعة الرشاد‪ ،‬بغداد‪ 1202 ،‬م‪.1322 /‬‬
‫‪ 1‬ــ الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب مالك‪ ،‬أبي البركات أحمد بن أبي أحمد‬
‫الدردير العدوي المالكي األزهري‪ ،‬خرج أحاديثه الدكتور مصطفى كمال وصفي‪ ،‬الناشر‪ :‬دار‬
‫المعارف‪.‬‬
‫‪ 0‬ــ "أنوار الفروق في أنواء البروق"‪ ،‬أبو العباس شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمان القرافي‬
‫المالكي‪ ،‬نشره عالم الكتب‪ ،‬الطبعة دون ذكر اسمها وال تاريخها‪.‬‬
‫‪ 5‬ــ "حلي المعاصم لبت فكر ابن عاصم"‪ ،‬دمحم بن الطالب التاودي ابن سودة‪.‬‬
‫‪ 2‬ــ الوسيط في شرح القانون المدني‪ ،‬عبد الرزاق السنهوري‪ ،‬دار النشر للجامعات المصرية‪،‬‬
‫‪.1231‬‬
‫‪ 10‬ــ حسن الفهم لمسألة القضاء بالعلم‪ ,‬دمحم أبو الهدى اليعقوبي الحسني‪ ,‬دار البشائر‬
‫اإلسالمية‪ ,‬ط‪.1‬‬

‫‪64‬‬
‫‪ 11‬ــ "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية"‪ ،‬شمس الدين ابن القيم الجوزية‪ ،‬دمحم بن أبي بكر‬
‫بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي‪ ،‬حققه نايف بن أحمد الحمد‪ ،‬مجمع الفقه اإلسالمي بجدة‪،‬‬
‫‪ 1425‬ه‪ ،‬الطبعة األولى‪.‬‬
‫‪ 12‬ــ " التعليق على نصوص قانونية "‪ ،‬أحمد أبو الوفا‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬منشأة المعارف‪-‬‬
‫اإلسكندرية‪ -‬مصر‪.‬‬
‫‪ 13‬ــ " دراسة في المسطرة الجنائية المغربية"‪ ،‬الدكتور دمحم عياط‪ ،‬شركة بابل للنشر‬
‫والتوزيع‪-‬الرباط‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬سنة ‪.1221‬‬
‫‪ 14‬ــ " رقابة المجلس األعلى على محاكم الموضوع في المواد المدنية "‪(،‬محاولة للتمييز بين‬
‫الواقع والقانون)"‪ ,‬دمحم الكشبور‪,‬مطبعة النجاح الجديدة‪ ,‬الطبعة األولى سنة ‪.1422-2001‬‬
‫‪ 13‬ــ "السلطة التقديرية للقاضي في المواد المدنية والتجارية "‪ ،‬نبيل اسماعيل عمر‪ ،‬دار النشر‬
‫الجديدة للنشر‪.‬‬
‫‪ 11‬ــ "القواعد الفقهية و تطبيقاتها القضائية في المادة العقارية والمدنية في ضوء مدونة الحقوق‬
‫العينية وقانون االلتزامات والعقود والفقه اإلسالمي"‪ ،‬د‪ /‬عادل حاميدي‪ ،‬الطبعة الثانية –‬
‫‪ ،5102‬مطبعة النجاح الجديدة‪.‬‬
‫‪ 10‬ــ "النظرية الخاصة للتكييف القانوني للدعوى في قانون المرافعات"‪ ,‬دار الفكر العربي‪,‬‬
‫(م‪ .‬ط‪ .‬غ‪ .‬م)‪.‬‬
‫‪ 15‬ــ "علم قاعدة التنازع واالختيار بين الشرائع أصوال ومنهجا"‪ ,‬مكتبة الجالء الجديدة‬
‫بالمنصورة‪.1221 ,‬‬
‫‪ 12‬ــ "قضاء النقض والتمييــز؛ في الواد المدنية والتجارية في التشريعين المصري‬
‫والكويتي"‪ ،‬جالل الدين هاللي‪ ،‬مكتبة الفالح للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة األولى – ‪.1253‬‬
‫‪ 20‬ــ "مشكل اإلحالة في مدونة الحقوق العينية والفقه المالكي"‪ ،‬أستاذنا د‪ .‬حسن القصاب‪،‬‬
‫مقال منشور في مجلة الفقه والقانون الدولية – العدد ‪ ،104‬يونيو ‪.2021‬‬

‫‪65‬‬
‫‪ 21‬ــ "نظرية اإلثبات في التشريع الجنائي المغربي"‪ ،‬مقال منشور في مجلة المحاكم المغربية‬
‫عدد ‪ ،11‬أبريل سنة ‪ ،1201‬طبعة ‪.1223‬‬
‫‪ 22‬ــ "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع"‪ ،‬عالء الدين الكاساني‪ ,‬مطبعة الجمالية‪ ,‬الطبعة‬
‫األولى سنة ‪1325‬هـ‪.‬‬
‫‪ 23‬ــ المحلى باآلثار‪ ،‬ابن حزم الظاهري‪ ،‬دار الفكر – بيروت – الطبعة‪ :‬بدون ذكرها وال‬
‫ذكر تاريخها‪.‬‬
‫‪ 24‬ــ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير بهامشه تقريرات عليش‪ ,‬المكتبة التجارية‬
‫الكبرى(توزيع دار الفكر)‪-‬بيروت‪.‬‬
‫‪ 23‬ــ سنن ابن ماجة‪ ،‬أبو عبد هللا دمحم بن يزيد القزويني‪ ،‬تحقيق‪ :‬فؤاد عبد الباقي‪ ،‬نشر إحياء‬
‫الكتب العربية‪ ،‬القاهرة‪ -‬مصر‪( ،‬دون ذكر الطبعة والتاريخ)‪.‬‬
‫‪ 21‬ــ صحيح البخاري‪" ،‬الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم وسننه وأيامه"‪ ،‬دمحم بن إسماعيل البخاري‪ ،‬دار ابن كثير‪ -‬اليمامة‪ ،‬ط ‪1250‬م‪.‬‬
‫‪ 20‬ــ "وسائل اإلثبات في القانون المدني المغربي"‪ ,‬إدريس العلوي العبدالوي‪ , ،‬مطبعة النجاح‬
‫الجديدة‪ ,‬سنة ‪.1402-1251‬‬
‫‪ 25‬ــ "نظام القضاء في الشريعة اإلسالمية"‪ ,‬الدكتور عبد الكريم زيدان‪ ,‬مكتبة البشائر‪َ ,‬عمان‪,‬‬
‫الطبعة الثانية ‪1402‬هــ‪1252-‬م‪.‬‬
‫‪ 22‬ــ "أدلة اإلثبات الجنائي وقواعده العامة في الشريعة اإلسالمية"‪ ،‬د‪ .‬حسن بن دمحم‬
‫اليندوزي‪ ،‬الطبع‪ :‬طوب بريس‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬شتنبر ‪.2004‬‬
‫‪ 30‬ــ "الموطأ"‪ ،‬مالك بن أنس األصبحي‪ ،‬تصحيح وتخريج دمحم فؤاد عبد الباقي‪ ،‬مطبعة دار‬
‫إحياء الكتب العربية‪ ،‬ط ‪.1255‬‬
‫‪ 31‬ــ "مسند اإلمام أحمد"‪ ،‬تحقيق أحمد شاكر‪ ،‬دار المعارف – مصر‪ ،‬ط‪– 1242 /3 :‬‬
‫‪1315‬ه‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫‪ 32‬ــ "الوجيز في فقه اإلمام الشافعي"‪ ،‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬نشره‪ :‬دار األرقم بن أبي األرقم‪،‬‬
‫‪ 1415‬ه‪1220 -‬م‪ ،‬الطبعة األولى‪.‬‬
‫‪ 33‬ــ "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج"‪ ،‬شمس الدين دمحم بن الخطيب‪ ،‬طبعة‬
‫دار المنهاج‪.‬‬
‫‪ 34‬ــ "الدرر المنظومات في األقضية والحكومات"‪ ،‬ابن أبي الدم الحومي الشافعي‪ ،‬دار الفكر‬
‫المعاصر‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪ 33‬ــ "المغني من مستودعات الفقه الحنبلي"‪ ،‬موفق الدين ابن قدامة المقدسي‪ ،‬دار الفكر‪،‬‬
‫دمشق‪.‬‬
‫‪ 3ّ1‬ــ تبصرة الحكام في أصول األقضية ومناهج األحكام‪ ،‬ابراهيم بن علي بن دمحم‪ ،‬ابن فرحون‬
‫المالكي‪ ،‬برهان الدين اليعمري‪ ،‬مكتبة الكليات األزهرية‪ ،‬ط ‪ 1401 ،1‬ه‪ 1251 ،‬م‪.‬‬
‫‪ 30‬ــ "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"‪ ،‬أبو الوليد دمحم بن أحمد بن دمحم بن رشد القرطبي الحفيد‪،‬‬
‫دار الحديث‪ -‬القاهرة‪ ،‬بدون ذكر اسم وتاريخ الطبعة‪.‬‬
‫‪ 35‬ــ صحيح مسلم (ال مسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل إلى رسول هللا‬
‫ملسو هيلع هللا ىلص)‪ ،‬أبو الحسن مسلم بن الحجاج النيسابوري‪ ،‬تحقيق‪ :‬أبو قتيبة بن دمحم الفارابي‪ ،‬دار طيبة‬
‫للنشر والتوزيع‪ ،‬الرياض‪ -‬السعودية‪ ،‬الطبعة ‪ ،1‬سنة ‪ 1420 /2000‬ه‪.‬‬
‫‪ 32‬ــ جامع األحاديث‪ :‬الجامع الصغير وزوائده والجامع الكبير والجامع األزهر في حديث‬
‫األنور ويليه األحاديث الموضوعة من الجامع الكبير ويليه المسانيد والمراسيل‪ ،‬عبد الرحمان‬
‫بن أبي بكر بن دمحم بن سابق الدين الخضيري السيوطي – جالل الدين و عبد الرؤوف المناوي‪،‬‬
‫حققه‪ :‬عباس أحمد صقر – أحمد عبد الجواد‪ ،.‬نشر سنة ‪1414 – 1224‬ه‪.‬‬
‫‪ 40‬ــ "أصول السرخسي "‪ ،‬أحمد بن أبي سهل السرخسي‪ ،‬حققه أبو الوفا األفغاني‪ ،‬لجنة إحياء‬
‫المعارف العثمانية – حيدر آباد‪ ،‬ط ‪ ،1‬سنة ‪1414 – 1223‬ه‪.‬‬
‫‪ 41‬ــ مجلة كلية الشريعة‪-‬أكادير‪ ،‬العدد ‪ - 3‬سنة ‪.2013‬‬

‫‪67‬‬
‫‪ 42‬ــ مواهب الجليل في شرح مختصر خليل‪ ،‬أبو عبد هللا دمحم بن دمحم الحطاب‪ ،‬دار الفكر‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط ‪.1325‬‬
‫‪ 43‬ــ "السنن الكبرى"‪ ،‬أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخسروجردي الخراساني‪ ،‬أبوبكر‬
‫البيهقي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت – لبنان‪ ،‬ط ‪.1424 ،3‬‬
‫‪ 44‬ــ "المختصر"‪ ،‬خليل بن إسحاق بن موسى بن شعيب‪ ،‬ضياء الدين أبو المودة الجندي‬
‫المصري المالكي‪ ،‬حققه أحمد جاد‪ ،‬دار الحديث‪ 1421 ،‬ه – ‪ 2003‬م‪.‬‬
‫‪ 43‬ــ "رد المحتار على الدر المختار"‪ ،‬ابن عابدين‪ ،‬دمحم أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين‬
‫الحنفي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت – لبنان‪ ،-‬ط ‪.1412 ،2‬‬
‫‪ 41‬ــ " المبسوط"‪ ،‬شمس الدين السرخسي‪ ،‬دار المعرفة – بيروت – لبنان‪ ،1402 ،‬ط ‪.1‬‬
‫‪ 40‬ــ الظهير الشريف بمثابة قانون رقم ‪ 1.04.440‬الصادر بتاريخ ‪ 11‬رمضان ‪24 ( 1324‬‬
‫شتنبر ‪ )1204‬بالمصادقة على نص قانون المسطرة المدنية‪.‬‬
‫‪ 45‬ــ الظهير الشريف بمثابة قانون رقم ‪ 1.04.440‬الصادر بتاريخ ‪ 11‬رمضان ‪25( 1324‬‬
‫شتنبر ‪ ،) 1204‬بالمصادقة على نص قانون قانون المسطرة الجنائية‪ ،‬منشور بالجريمة الرسمية‬
‫عدد ‪ 3230‬مكرر‪ ،‬بتاريخ ‪ 13‬رمضان ‪ 30 ( 1324‬شتنبر ‪ ،)1204‬ص ‪.2041‬‬
‫‪ 42‬ــ الظهير الشريف رقم ‪ 203-21-1‬الصادر في ‪ 22‬ربيع األول ‪ 1414‬الموافق ل ‪10‬‬
‫شتنبر ‪ 1223‬بتنفيذ القانون رقم ‪ 41-20‬المحدث بموجبه المحاكم اإلدارية‪.‬‬
‫‪ 30‬ــ "المهذب"‪ ،‬اإلمام الشيرازي‪ ،‬مطبعة البابي الحلبي‪ ,‬سنة ‪1343‬هــ‪.‬‬
‫‪ 31‬ــ مجموعة القواعد‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬رقم ‪ ،315‬ص ‪.411‬‬
‫‪ 32‬ــ مجلة المعيار الصادرة عن نقابة المحامين بفاس‪ ،‬العدد األول‪ ،‬ص ‪ 43‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 33‬ــ موسوعة قواعد الفقه والتوثيق‪ ,‬دمحم القدوري‪ ,‬الطبعة األولى ‪ ,1424-2004‬دون ذكر‬
‫اسم الطبعة‪.‬‬
‫‪ 34‬ــ مجلة قضاء المجلس األعلى‪ ،‬عدد ‪.21‬‬

‫‪68‬‬
‫‪ 33‬ــ مجلة المحاماة‪ ،‬العدد ‪.11‬‬
‫‪ 31‬ــ الظهير الشريف رقم ‪ 1.11.105‬الصادر بتاريخ ‪ 22‬نونبر ‪ 2011‬بتنفيذ القانون رقم‬
‫‪ 32-05‬المتعلق بمدونة الحقوق العينية‪ ،‬المنشور في الجريدة الرسمية عدد ‪ 3225‬بتاريخ ‪24‬‬
‫نونبر ‪.2011‬‬
‫‪ ‬فهرس الموضوعات‪:‬‬
‫كلمة شكر‪2 ................................................................... :‬‬

‫إهـــــــــــــــــــــــــــــــداء‪2 ................................................... :‬‬

‫مقــــــــــــــــــــــــدمة‪3 ........................................................ :‬‬

‫الفصل األول‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في المادة المدنية‪4 ................................ :‬‬

‫المبحث األول‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في الفقه المالكي‪4 ............................... :‬‬

‫المطلب األول‪ :‬رأي الفقهاء في قضاء القاضي بعلمه ومركزه من طرق اإلثبات‪5 ......... :‬‬

‫الفقرة األولى‪ :‬مذاهب الفقهاء في قضاء القاضي بعلمه‪5 ............................... :‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬مركز قضاء القاضي بعلمه في طرق اإلثبات‪22 ........................ :‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬قضاء القاضي بين االجتهاد والتقليد‪21 ................................. :‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في التقنين المغربي‪21 ........................... :‬‬

‫المطلب األول‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في المجال المدني‪21 ..........................:‬‬

‫‪69‬‬
‫الفقرة األولى‪ :‬ماهية السلطة التقديرية؟‪21 .............................................:‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬مذاهب اإلثبات وموقف المشرع المغربي منها‪22 ......................... :‬‬

‫أوال‪ :‬المذهب الحر‪22SYSTEM DE LA PREUVE MORALE AU LIBRE :‬‬

‫ثانيا‪ :‬المذهب المقيد‪22 ........... SYSTEME DE LA PREUVE LEGALE:‬‬

‫ثالثا‪ :‬المذهب المختلط‪23 ................................... SYSTEM MIXTE:‬‬

‫الفقرة الثالثة‪ :‬وسائل اإلثبات بين الشكلية والموضوعية ومدى سلطة القاضي إزاءها‪24 . :‬‬

‫الفقرة الرابعة‪ :‬محل السلطة التقديرية ومدى رقابة محكمة النقض لها‪22 ................ :‬‬

‫أوال‪ :‬محل السلطة التقديرية لقاضي الموضوع‪22 .................................. :‬‬

‫ثانيا‪ :‬رقابة محكمة النقض على السلطة التقديرية لقاضي الموضوع‪33 ............ :‬‬

‫ــ رقابة محكمة النقض على إثبات الوقائع‪33 .................................... :‬‬

‫ـــ رقابة محكمة النقض على التكييف‪32 ......................................... :‬‬

‫ـــ رقابة محكمة النقض على تطبيق القانون‪34 .................................. :‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي الجنائي‪35 .................................... :‬‬

‫الفقرة األولى‪ :‬مبدأ حرية اإلثبات‪35 .................................................. :‬‬

‫‪70‬‬
‫الفقرة الثانية‪ :‬حرية االقتناع‪31 ....................................................... :‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في العقار المحفظ والعقار غير المحفظ‪31 ........ :‬‬

‫المبحث األول‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في العقار المحفظ‪43 ............................ :‬‬

‫المطلب األول‪ :‬مشكل اإلثبــات في المادة العقــارية‪43 ................................... :‬‬

‫ــــ القاضي العقاري بين متطلبات االجتهاد ومعيقات التقنين‪45 ..................... :‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬ازدواجية الطعون القضائية المقدمة ضد ق اررات المحافظ العقاري وسلطة‬

‫القاضي التقديرية إزاءها‪41 ............................................................. :‬‬

‫الفقرة األولى‪ :‬مركز القضاء العادي في مسطرة التحفيظ وسلطة القاضي التقديرية إزاءها‪:‬‬

‫‪42 ..................................................................................‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬إدارية قرار المحافظ العقاري ومركز القضاء اإلداري في نزاعات التحفيظ‪:‬‬

‫‪41 ..................................................................................‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في العقار غير المحفظ‪52 ....................... :‬‬

‫المطلب األول‪ :‬سلطة القاضي في كسب الملكية وإثباتها‪52 ............................. :‬‬

‫البينات‪54 ......:‬‬
‫المطلب الثاني‪ :‬السلطة التقديرية للقاضي في إعمال ضوابط الترجيح بين ّ‬

‫‪71‬‬
‫الفقرة األولى‪ :‬أحكام التعارض والترجيح بين البينات في الفقه المالكي ومدونة الحقوق‬

‫العينية‪55 ........................................................................... :‬‬

‫‪ 1‬ـ أحكام التعارض‪55 ............................................................. :‬‬

‫شروط التعارض‪51 ................................................................:‬‬

‫أوال‪ :‬اتحاد البينات في المحل(الموضوع)‪51 ........................................ :‬‬

‫ثانيا‪ :‬اتحادها في الزمن‪51 ........................................................:‬‬

‫ثالثا‪ :‬اتحادها في القوة‪51 .........................................................:‬‬

‫رابعا‪ :‬مشروعيتها‪52 .............................................................. :‬‬

‫خامسا‪ :‬عدم إمكانية الجمع بينها‪52 .............................................. :‬‬

‫‪1‬ــ أحكام الترجيح‪52 ............................................................:‬‬

‫أوال‪ :‬مفهوم الترجيح‪52 ....................................................... :‬‬

‫ثانيا‪ :‬شروطه‪51 ............................................................. :‬‬

‫أ ــ صحة الحجج المدلى بها شرعا وقانونا‪51 ............................... :‬‬

‫ب ــ تعارض الحجج‪51 ..................................................... :‬‬

‫ج ــ أن تكون الحجج ملكا ألصحابها‪51 .....................................:‬‬

‫‪72‬‬
‫الفقرة الثانية‪ :‬قواعد الترجيح بين البينات في ضوء الفقه المالكي ومدونة الحقوق العينية‪:‬‬

‫‪51 ..................................................................................‬‬

‫خـــــــــــــــــــــاتمـــــــــــــــة‪13 ....................................................:‬‬

‫فهرس المراجع‪14 ........................................................ :‬‬

‫‪73‬‬

You might also like