رصد المجلس األعلى للحسابات في تقريره السنوي المتصل بافتحاص وتدقيق
حسابات األحزاب السياسية الصادر برسم سنة ،2022جملة من الخروقات والتجاوزات المتعلقة بعملية تدبير الدعم المالي العمومي اإلضافي ،الذي وجهته وزارة الداخلية لألحزاب السياسية ،في إطار دعمها وتحفيزها على إعداد دراسات علمية وأبحاث فكرية تهم الموضوعات والميادين ذات الراهنية واألهمية بالنسبة إليها. هذا الدعم العمومي اإلضافي المقرر بموجب مرسوم موقع من قبل السيد وزير الداخلية 2.22.447القاضي بتغيير وتتميم المرسوم رقم 2.12.293الصادر في 05يوليوز 2012بتحديد كيفيات توزيع الدعم العمومي الممنوح لألحزاب السياسية وطرق صرفه ،والذي جاء تنفيذًا للتعليمات الملكية السامية الواردة في الخطاب الملكي ،الذي ألقاه جاللة الملك حفظه هللا أمام نواب األمة بتاريخ 12 أكتوبر ،2018بمناسبة افتتاح الدورة األولى من السنة التشريعية الثالثة من الوالية التشريعية العاشرة ،والذي دعا من خالله إلى الرفع من الدعم المالي الموجه للهيئات السياسية ،مع تخصيص جزء منه لفائدة الكفاءات التي ستوظفها هذه الهيئات في مجال التفكير والتحليل واالبتكار ،بغاية اسعاف األحزاب السياسية على تجديد أساليب عملها وحثها على تحديث مناهج ممارساتها الحزبية والسياسية ،بما يرفع من جودة مقترحاتها التشريعية ويحسن من مبادراتها السياسية. غير أن تصرف أغلب األحزاب السياسية التي قبلت بهذا الدعم ،والطريقة التي اعتمدتها في انفاقه وصرفه ،بما في ذلك حزب االستقالل الذي ضفر بما يزيد عن ( )400مليون سنتيم طبقا لما ورد في تقرير المجلس األعلى للحسابات ،وِّز ع الجزء المخصص منه للدراسات واألبحاث على خمس “مراكز دراسات” كما جاء على لسان رئيس اللجنة التحضيرية الوطنية للمؤتمر العام الثامن عشر للحزب الذي أشرف على تدبير هذا المال باعتباره رئيس اللجنة العلمية المعين من قبل األمين العام للحزب ،في أحد خرجاته اإلعالمية ،تؤشر بما ال يدع مجاال للشك أن منسوب الشفافية كأحد مستلزمات الحكامة في أبعادها الشاملة ،المفروض أن تأطر عملها وممارساتها وأنشطتها المختلفة ،وال سيما في عالقتها على األقل بأطرها ونخبها ونضاالتها ومناضليها ضعيف جدًا إذ لم أقل منعدم. حيث ما كشف عنه التقرير المذكور أعاله من اختالالت وتجاوزات مالية فيها التفاف واضح على القانون ،اعطى صورة سيئة عن األحزاب السياسية ،ليس فقط إزاء قواعدها التي تسَّر ب لها اليأس واإلحباط لسنوات طويلة نتيجة ما يالحظوه داخل احزابهم من سلوكات وما يقرؤون عنها في اإلعالم الوطني من سلبيات ضد قناعاتهم وتطلعاتهم ،بل هذه الصورة السيئة وصلت أيضا للرأي العام بمختلف فئاته وحساسيته ،لتعمق وتكرس الصورة السيئة النمطية العامة التي اضحت لصيقة بالفاعل السياسي والحزبي بصفة عامة في مخيال عموم المواطنات والمواطنين ،ذهب ضحيتها حتى ذلك المناضل النظيف النزيه والملتزم المنتمي لصفوف هذه األحزاب ،والذي ال يمتلك قرارها من األصل. ولئن كان الهدف من اقرار هذا الدعم المالي العمومي االضافي ينصرف أساسًا إلى الرفع من وثيرة عمل األحزاب السياسية وتحسين مردوديتها وتجويد منتوجها الفكري واألدبي المتصل بالقضايا والموضوعات ذات الراهنية المستجدة داخل المجتمع ،سواء في بعدها االجتماعي أو االقتصادي أو السياسي أو الحقوقي والبيئي… ،عبر تنشيط نخبها الحزبية وتحفيزها على تركيز جهودها في اتجاه التفكير واالبتكار واالبداع بما يفضي بها إلى إنتاج دراسات واثمار ابحاث اصيلة، يمكن ترجمة خالصاتها واستنتاجاتها في برامج ومخططات وسياسات عمومية وقطاعية محكمة ،تستثمرها األحزاب السياسية نفسها سواء من موقعها في المعارضة أو مشاركتها في األغلبية الحكومية في دعم مسلسل التنمية في بالدنا وتعزيز فرص نجاحه ،لربح رهان النموذج التنموي الجديد ،نجدها وبكل أسف انتصرت في عملية تدبير وإنفاق هذا المال (العام) لمنطق الترضيات وألساليب المحسوبية والزبونية ،عبر تمريره لمراكز دراسات موالية من خالل تطويع القانون ولي مقتضياته ،بهدف إيجاد مخارج شرعية لتحقيق منافع مادية ذاتية ضيقة. إن موضوع مراقبة مالية األحزاب السياسية وترشيد عملية تدبيرها وعقلنة قنوات انفاقها ،ينبغي أن يحظى بأهمية قصوى في هذه الظرفية بالذات المتزامنة مع تعليمات جاللة الملك الرامية إلى تخليق الحياة العامة ،بالنظر لما لها من فوائد ومنافع كثيرة على الحقل السياسي والحياة االنتخابية برمتها ،لكون تعزيز الرقابة على هذه المالية سواء في بعدها الداخلي أو الخارجي النظامي ،سيعزز من شفافيتها ومصداقيتها عند الرأي العام ومنه إلى عموم المواطنات والمواطنين، الذي يمكن اعتبارها مدخل السترجاع بصيص ما تبقى من الثقة واألمل لدى شريحة ضيقة من المجتمع اتجاه هذه الهيئات ،كما أن اعمالها بالشكل المطلوب سيقلص حتمًا من مساحات استعمال المال المجهول المصدر -المال الحرام -في افساد العملية االنتخابية ،وهذا من شأنه تنظيف العملية االنتخابية واالرتقاء بها وتكريس قواعد وشروط الديمقراطية في مختلف مناحيها. على اعتبار أن مالية األحزاب السياسية ليست أموال خاصة ،حتى يمكن التصرف فيها وفق اهواء صاحبها واحتياجات مالكها ،بل إننا ازاء مال عام له حرمته وقدسيته ،خاضع لقواعد قانونية تحدد مصادره ومنابعه ،وتؤطر عملية صرفه وإنفاقه .تستفيد منه األحزاب السياسية من خزينة الدولة ،لغايات ومقاصد نبيلة وفضلى ،تتجلى في استثماره في مباشرة مهامها التأطيرية واالضطالع بأدوارها التمثيلية على أكمل وجه ،وبالتالي يستوجب احاطته بكافة الضمانات التي من شأنها توجيهه إلى خدمة هذه األهداف بنجاعة وفعالية وكفاءة ،وبطرق وأساليب مشروعة وشفافة. وحزب االستقالل باعتباره مهد العمل السياسي الوطني وأحد أعمدته الرئيسة الكبرى الذي ساهم في بناء مسار المغرب الحديث وبصم على تريخه السياسي في إطار الثوابت الجامعة لألمة ،ينبغي أن يعطي النموذج األمثل في شفافية ماليته ونجاعة تدبيرها وصدقية انفاقها ،ليس فقط على المستوى الداخلي أي إزاء برلمانه – المجلس الوطني – من خالل التقرير المالي الذي يعرض على أنظاره إبان كل مؤتمر عام قصد المصادقة عليه ،الذي يبقى -التقرير المالي -روتين اجرائي وتنظيمي غالبًا ما يتم القفز على مضمونه وتجاوز تفاصيله على اهميتها البالغة ،بل هذا التقرير ينبغي أن يكون في متناول الرأي العام أيضًا ،ليطلع بوضوح من منطلق حقه في المعلومة ومن موقعه كجزء من منظومة الرقابة على عمليات تدبير مالية أحزابه السياسية ،التي يمكن أن تكون آلية لتعزيز جاذبيتها واعالء منسوب الثقة في ممارساتها. ولعل من المداخل الرئيسية التي يجب ايالئها األهمية البالغة ضمن عمل اللجنة التحضيرية الوطنية للمؤتمر العام الثامن عشر للحزب ،وال سيما على مستوى لجنة القوانين واألنظمة -بحكم االختصاص -تتمثل أساسا في اعادة النظر في المقتضيات القانونية المؤطرة لمالية الحزب وامالكه ،وخصوصا على مستوى منظومة الرقابة المفروضة عليها ،التي ينبغي تقويتها وتحديثها ،بما يعزز شفافية قنوات اعتمادها وصدقية أساليب التصرف فيها ،في تناغم وانسجام مع الغايات واألهداف التي تنطوي عليها الحكامة المالية. وهذا األمر يتطلب عالوة عن تفعيل اختصاصات وأدور اللجنة الوطنية للمراقبة المالية ،المعهود لها بموجب مقتضيات النظام األساسي للحزب -الفصول -87 90-89-88مهمة مراقبة المداخيل والمصاريف الخاصة بالحزب ،يستوجب العمل أيضا على توسيع مهامها ووظائفها الرقابية لتشمل مالية الحزب برمتها، إلى جانب احاطتها بضمانات صريحة وقوية لتعزيز استقالليتها ،لكي تباشر مهاما الرقابية بحرية وموضوعية ،بمعزل عما يمكن أن يؤثر على عملها ومخرجاتها. هذه الرقابة المنشودة ،ال ينبغي أن تشمل الدعم المالي العمومي الممنوح من خزينة الدولة لفائدة األحزاب السياسية فحسب ،المحكوم مسبقًا برقابة نظامية تضطلع بها المحاكم المالية -المجلس األعلى للحسابات -إلى جانب مؤسسات أخرى ،بل ينبغي أن تنسحب هذه الرقابة حتى على مداخيلها المتعددة والمختلفة، من تبرعات وعائدات…وغيرها من الموارد المالية ،التي من شأن جعلها خارج منظومة الرقابة ،أن ُيَي ٍّسر عملية توظيفها في إفساد الحياة السياسية والعملية االنتخابية ،ما دام آليات الرقابة عليها الزالت تقليدية متسمة بالقصور والمحدودية. سنكون مجانبين للصواب والمنطق معًا ،أن نطالب في مواقفنا وبرامجنا االنتخابية وخطاباتنا السياسية وفي اوراقنا المرجعية والمذهبية المتضمنة لتطلعاتنا وانتظارا تنا كمناضالت ومناضلين منتسبين ألحزب سياسية نريدها في حالة وصورة افضل مما هي عليه اليوم ،بضرورة تكريس مبادئ الحكامة المالية واعمال مقوماتها في تدبير الشأن العام على اختالف انماطه ومستوياته -المركزي والترابي – وفي المقابل نكرس في ممارساتنا الحزبية وحياتنا السياسية نقيض ما نتوخاه وننشده من مؤسسات الدولة ،في تناقض فادح بين خطابنا السياسي وممارساتنا الحزبية. إن تقليص مساحة الهوة بين خطابنا السياسي الغارق في الشعارات الطوباوية، وبين ممارساتنا الحزبية المليئة بالتناقضات ،والسعي نحو بلوغ الحد األدنى على األقل من االنسجام والتناغم بينهما ،رهين بإحداث ثورة إصالحية شاملة داخل احزابنا ،ثورة ال تترك جانبًا واحدًا منها إال واستحضرته بالدرس والتحليل والتفكير واالبتكار ،لبلوغ ممارسة سياسية نظيفة وناضجة ومعقولة ،وفعل حزبي جذاب وجدير باالهتمام. واذا كان المغرب قد حسم في التعددية الحزبية مبكرًا وقطع الطريق عن الحزب الواحد ،ومهد السبيل نحو تعددية سياسية ثرية ومتنوعة ،لعبت عبر التاريخ السياسي للوطن أدوارًا مهمة في التثقيف والتكوين والتأطير والتأثير واالقتراح والتمثيل والتدبير ،غير أن اليوم وأمام خفوتها الملموس والمتجلي بشكل واضح في تماثل البرامج االنتخابية ،وتشابه مضامين الخطابات السياسية ،وتطابق المواقف السياسية ،المنفصلة عن جدورها المرجعية والمذهبية والقيمية ،لدرجة لم يعد الفاعل السياسي العادي يستطيع التفريق بينها وتحديد الجهة المصدرة لها إال عند االطالع على شعارها وتوقيعها ،فما بالك بالمواطن العادي ،ال يمكن معها الحديث عن تعددية سياسية بمفهومها السليم والصحيح ،بالنظر الفتقارها ألهم خصائصها ومميزاتها الرئيسة ،المتمثلة أساسا في ذلك الغنى في المقاربات، والثراء في المواقف ،والزخم في وجهات النظر بشأن مختلف القضايا المجتمعية الراهنة ،التي كانت تساهم بطريقة مباشرة وغير مباشرة في انضاج النقاش الوطني العمومي بشأنها ،كما تتيح تعدد الحلول والبدائل لمعالجتها في إطار من التنافس والتدافع المطلوب والمرغوب المكمل لبعضه البعض. وربما هذا ما استشعره ملك البالد وهو يعطي تعليماته السامية لتخصيص دعم مالي اضافي لفائدة األحزاب السياسية ،مع تخصيص جزء منه للنهوض بمجال التحليل والتفكير واالبتكار داخلها ،ليحثها بطريقة غير مباشرة على االضطالع بأدوارها واختصاصاتها التكوينية والتأطيرية والتمثيلية على الوجه المطلوب ،من خالل دفعها للرجوع إلى االهتمام بمرجعياتها الفكرية ومنطلقاتها المذهبية ومنظوماتها القيمية ،إلبراز هذا التنوع األيديولوجي والفكري في الحقل السياسي الوطني من جديد ،الذي من شأنه أن يساهم في تغذيته بالحلول والمبادرات والمقترحات واألفكار المتنوعة والمختلفة ،تنعكس أثارها ايجابًا ليس فقط على تدبير الشأن العام بمستوياته المتعددة ،بل حتى على انضاج النقاش العمومي المتصل بمختلف القضايا المجتمعية المستجدة. غير أن أحزابنا السياسية أو باألحرى بعض قياداتها كان لها رأي آخر ،ربما اتجه ضد هذه اإلرادة الملكية المتبصرة ،وفضلت الكسب الشخصي السريع على مصلحة احزابها وقضايا وطنها الراهنة ،من خالل تفويت هذا الدعم المالي لفائدة مراكز دراسات موالية بطرق ملتوية إلنجاز ما يسمى بأبحاث ودراسات -في حالة انجزت -لفائدة أحزابها ،بدون نفس سياسي وال حقوقي يعكس قيمها ومبادئها ومرجعيتها وروحها ،ليعود ذلك المال في النهاية إلى جيوبها دون عناء. محام بهية الرباط ،عضو اللجنة المركزية لحزب االستقالل ،وعضو لجنة القوانين واألنظمة ،المتفرعة عن اللجنة التحضيرية الوطنية للمؤتمر العام الثامن عشر.