You are on page 1of 157

‫الموسوعة الفقهية‪ /‬الجزء الثالث‬

‫*استئنافٌ‬
‫التّعريف‬
‫‪ -‬من معاني الستئناف لغ ًة ‪ :‬البتداء والستقبال ‪ ،‬وقد استأنف الشّيء أخذ أوّله وابتدأه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫وبتتبّع استعمالت هذا المصطلح لدى الفقهاء ‪ ،‬يمكن الوصول إلى تعريفٍ بأنّه ‪ :‬البدء بالماهيّة‬
‫ل بعد قطع‬
‫الشّرعيّة من أوّلها ‪ ،‬بعد التّوقّف فيها وقطعها لمعنًى خاصّ ‪ .‬فالستئناف ل يكون إ ّ‬
‫الماهيّة الولى ؛ لما جاء في ردّ المحتار ‪ « :‬قوله ( واستئنافه أفضل ) أي ‪ :‬بأن يعمل عملً‬
‫يقطع الصّلة ث ّم يشرع بعد الوضوء ‪ ،‬شرنبلليّ ٌة عن الكافي ‪ ،‬وفي حاشية أبي السّعود عن‬
‫شيخه ‪ :‬فلو لم يعمل ما يقطع الصّلة ‪ ،‬بل ذهب على الفور فتوضّأ ‪ ،‬ثمّ كبّر ينوي‬
‫الستئناف ‪ ،‬لم يكن مستأنفا بل بانيا ‪ .‬اهـ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬البناء ‪:‬‬
‫‪ -‬من معاني البناء لغ ًة ‪ :‬أنّه ضدّ الهدم ‪ ،‬واصطلحا ‪ :‬يأتي بمعنى المضيّ في الماهيّة‬ ‫‪2‬‬

‫الشّرعيّة المبدوء بها إلى نهايتها ‪ ،‬بعد زوال العارض الّذي قطعها بسببه ‪ ،‬ومثاله ‪ :‬أن يسبق‬
‫ث ‪ ،‬بعد أن صلّى ركع ًة ‪ ،‬فيتوضّأ ‪ ،‬ويبني على صلته بإكمال ما بقي ‪ ،‬وذلك‬
‫المصلّي حد ٌ‬
‫ن للستئناف ‪.‬‬
‫عند الحنفيّة ‪ .‬وفيه خلفٌ تفصيله في مباحث ( الصّلة ) فالبناء مباي ٌ‬
‫ب ‪ -‬الستقبال ‪:‬‬
‫‪ -‬الستقبال لغةً ‪ :‬المواجهة ‪ ،‬أمّا شرعا ‪ :‬فيأتي مرادفا للستئناف ‪ ،‬ومثاله قول الكاسانيّ ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫إذا أيست المعتدّة بالقراء ‪ ،‬تنتقل عدّتها إلى الشهر ‪ ،‬فتستقبل العدّة بها ‪ .‬ويأتي بمعنى التّجاه‬
‫إلى القبلة أو غيرها ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬البتداء ‪:‬‬
‫‪ -‬من معاني البتداء لغ ًة ‪ :‬التّقديم ‪ ،‬والخذ في الشّيء من أوّله ‪ ،‬ول يخرج التعريف‬ ‫‪4‬‬

‫الصطلحيّ عن ذلك ‪ .‬فالفرق بينه وبين الستئناف ‪ ،‬أنّ البتداء أعمّ ‪.‬‬
‫د ‪ -‬العادة ‪:‬‬
‫‪ -‬من معاني العادة لغةً ‪ :‬فعل الشّيء ثانيةً ‪ ،‬ومنه التّكرار ‪ .‬واصطلحا ‪ :‬عرّفها الغزاليّ‬ ‫‪5‬‬

‫عند كلمه عن إعادة الموقّت ‪ :‬بأنّها فعل الشّيء ثانيا في الوقت بعد فعله على نوعٍ من الخلل‬
‫ل بعد فعل العمل الوّل مع خللٍ ما ‪ ،‬أمّا‬
‫‪ .‬وتفترق العادة عن الستئناف بأنّها ل تكون إ ّ‬
‫الستئناف فل يكون إلّ بعد قطع العمل قبل تمامه ‪.‬‬
‫هـ ‪ :‬القضاء ‪:‬‬
‫‪ -‬القضاء لغ ًة ‪ :‬أداء الشّيء ‪ ،‬واصطلحا ‪ :‬عرّفه الغزاليّ ‪ :‬بأنّه فعل مثل ما فات وقته‬ ‫‪6‬‬

‫ل بعد الوقت ‪ ،‬ول يكون إلّ في‬


‫المحدّد ‪ ،‬فالفرق بينه وبين الستئناف ‪ ،‬أنّ القضاء ل يكون إ ّ‬
‫الفعال ذات الوقت المحدّد ‪ .‬أمّا الستئناف فقد يكون في الوقت ‪ ،‬وقد يكون بعده ‪ ،‬وقد يكون‬
‫في غير الوقت ‪.‬‬
‫صفته ‪ :‬الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪ -‬الستئناف تعتريه بضعة أحكامٍ تكليفيّ ٍة ‪ .‬فقد يكون واجبا اتّفاقا ‪ ،‬وذلك كما لو تعمّد الحدث‬ ‫‪7‬‬

‫ب عند المالكيّة ‪ ،‬إذا سبقه حدثٌ غير الرّعاف ‪ ،‬إذ ل بناء‬


‫وهو في الصّلة ‪ .‬وهو أيضا واج ٌ‬
‫عندهم إلّ في الرّعاف ؛ لنّه رخص ٌة فيتوقّف فيها على مورد النّصّ ‪ .‬وقد يكون مستحبّا ‪،‬‬
‫ن استئناف الذان أولى ‪ .‬وقد يكون‬
‫ل للتّطهّر ‪ ،‬فإ ّ‬
‫كمن أحدث وهو يؤذّن ‪ ،‬واحتاج لفاصلٍ طوي ٍ‬
‫ن البناء هنا أولى ‪ ،‬لئلّ‬
‫مكروها كما في الصّورة السّابقة إذا كان الفاصل للتّطهّر يسيرا ؛ ل ّ‬
‫يوهم التّلعب إذا استأنف ‪ .‬وقد يكون الستئناف مباحا ‪ ،‬كالبيع الصّحيح والجارة الصّحيحة‬
‫ح استئناف العقد ‪.‬‬
‫‪ -‬إذا جرت فيها القالة أو كان البيع فاسدا ‪ -‬فإنّه يص ّ‬
‫مواطن الستئناف ‪:‬‬
‫ن استعماله في أبواب العبادات أكثر‬
‫ح يرد في كثيرٍ من أبواب الفقه ‪ ،‬إلّ أ ّ‬
‫الستئناف مصطل ٌ‬
‫منه في غيرها ‪ ،‬وفيما يلي بعض الصّور ‪.‬‬
‫الستئناف في الوضوء ‪:‬‬
‫ح في معرض بيان أثر نسيان التّسمية على صحّة الوضوء ‪« :‬‬
‫‪ -‬جاء في الفروع لبن مفل ٍ‬ ‫‪8‬‬

‫وإن ذكر في بعضه ابتدأ ‪ ،‬وقيل بنى ‪ ،‬وعنه تستحبّ » أي أنّ المتوضّئ إذا ذكر التّسمية في‬
‫ل لدى الحنبليّة ‪ ،‬وفي قولٍ آخر ل يجب‬
‫أثناء الوضوء استأنف وضوءه وجوبا في قو ٍ‬
‫الستئناف ‪ ،‬ويجوز البناء ‪.‬‬
‫الستئناف في الغسل ‪:‬‬
‫ح في الغسل ‪ « :‬وحيث فاتت الموالة فيه أو في وضوءٍ ‪ ،‬وقلنا‬
‫‪ -‬جاء في الفروع لبن مفل ٍ‬ ‫‪9‬‬

‫ن من شرط ال ّنيّة الحكميّة ‪ :‬قرب الفعل‬


‫يجوز فل بدّ للتمام من نيّةٍ مستأنف ٍة ‪ ،‬بناءً على أ ّ‬
‫منها ‪ ،‬كحالة البتداء ‪. » ...‬‬
‫الستئناف في الذان والقامة ‪:‬‬
‫‪ -‬جاء في الدّرّ المختار في الذان والقامة ‪ « :‬إن تكلّم في الذان أو القامة ‪ -‬ولو بردّ‬ ‫‪10‬‬

‫سل ٍم ‪ -‬استأنف » ‪.‬‬


‫الستئناف في الصّلة ‪:‬‬
‫ث ) أي المصلّي ( توضّأ وبنى ) ‪ ،‬والقياس أن يستقبل‬
‫‪ -‬قال الزّيلعيّ ‪ ( « :‬وإن سبقه حد ٌ‬ ‫‪11‬‬

‫ن الحدث ينافيها ‪ ،‬والمشي والنحراف يفسدانها ‪ ،‬فأشبه‬


‫( يستأنف ) وهو قول الشّافعيّ ؛ ل ّ‬
‫الحدث العمد ‪ ،‬ولنا قوله عليه الصلة والسلم ‪ « :‬من أصابه قي ٌء أو رعافٌ أو قلسٌ أو مذيٌ‬
‫فلينصرف فليتوضّأ ‪ ،‬ثمّ ليبن على صلته ‪ ،‬وهو في ذلك ل يتكلّم » ‪ .‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم ‪ « :‬إذا رعف أحدكم في صلته أو قلس ‪ ،‬فلينصرف فليتوضّأ وليرجع فليتمّ صلته ‪،‬‬
‫على ما مضى منها ما لم يتكلّم » ‪ .‬والستئناف أفضل تحرّزا عن شبهة الخلف ‪ .‬وهذا الحكم‬
‫على سبيل الوجوب عند المالكيّة في غير الرّعاف ‪ ،‬إذ البناء رخصةٌ ‪.‬‬
‫الستئناف في التّيمّم ‪:‬‬
‫‪ -‬وقال الكاسانيّ ‪ « :‬وإن وجد الماء في الصّلة ‪ ،‬فإن وجده قبل أن يقعد قدر التّشهّد‬ ‫‪12‬‬

‫الخير انتقض تيمّمه ‪ ،‬وتوضّأ واستقبل ( استأنف ) الصّلة عندنا ‪ ،‬وللشّافعيّ ثلثة أقوالٍ ‪:‬‬
‫ل يقرّب الماء منه حتّى يتوضّأ ويبني ‪ ،‬وفي قولٍ يمضي على‬
‫في قولٍ مثل قولنا ‪ ،‬وفي قو ٍ‬
‫صلته وهو أظهر أقواله » ‪.‬‬
‫الستئناف في الكفّارات ‪:‬‬
‫‪ -‬ومن أمثلة الستئناف في الكفّارات ما قال صاحب الدّرّ المختار في كفّارة اليمين ‪:‬‬ ‫‪13‬‬

‫« ( والشّرط استمرار العجز إلى الفراغ من الصّوم ‪ ،‬فلو صام المعسر يومين ثمّ ) قبل فراغه‬
‫ولو بساعةٍ ( أيسر ) ولو بموت مورّثه موسرا ( ل يجوز له الصّوم ) ‪ ،‬ويستأنف بالمال » ‪،‬‬
‫ل بعد‬
‫ن الصّوم ل يقبل هنا إ ّ‬
‫والعجز المراد به هنا العجز عن الطعام والكسوة والتّحرير ؛ ل ّ‬
‫العجز عن تلك الثّلثة ‪.‬‬
‫الستئناف في العدّة ‪:‬‬
‫‪ -‬جاء في بدائع الصّنائع ‪ ... « :‬إذا طلّق امرأته ثمّ مات ‪ ،‬فإن كان الطّلق رجعيّا انتقلت‬ ‫‪14‬‬

‫صحّة ‪ ،‬وانهدمت عدّة الطّلق ‪،‬‬


‫عدّتها إلى عدّة الوفاة ‪ ،‬سواءٌ طلّقها في حالة المرض أو ال ّ‬
‫وعليها أن تستأنف عدّة الوفاة في قولهم جميعا » ‪ .‬وقال في ال ّدرّ المختار ‪ ( « :‬والصّغيرة )‬
‫ل إذا حاضت في أثنائها ) فتستأنف بالحيض‬
‫لو حاضت بعد تمام الشهر ( ل ) تستأنف ( إ ّ‬
‫( كما تستأنف ) العدّة ( بالشّهور من حاضت حيضةً ) أو اثنتين ( ث ّم أيست ) ‪ ،‬تحرّزا عن‬
‫الجمع بين الصل والبدل » ‪.‬‬

‫*أستارٌ‬
‫انظر ‪ :‬استتارٌ ‪.‬‬
‫*استباقٌ‬
‫انظر ‪ :‬سباقٌ ‪.‬‬

‫*استبدادٌ‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬الستبداد في اللّغة ‪ :‬مصدر استبدّ ‪ ،‬يقال ‪ :‬استبدّ بالمر ‪ ،‬إذا انفرد به من غير مشاركٍ له‬ ‫‪1‬‬

‫فيه ‪ .‬ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن ذلك ‪.‬‬


‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬الستقللٌ ‪:‬‬

‫‪ -‬من معاني الستقلل ‪ :‬العتماد على النّفس ‪ ،‬والستبداد بالمر ‪ ،‬وهو بهذا المعنى‬ ‫‪2‬‬

‫يرادف الستبداد ‪ ،‬غير أنّه يخالفه في غير ذلك من إطلقاته اللّغويّة ‪ ،‬فيكون من القلّة ومن‬
‫الرتفاع ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬المشورةٌ ‪:‬‬

‫‪ -‬الشّورى لغةً وشرعا ‪ :‬عدم الستئثار بالرّأي ‪ ،‬وهي ضدّ الستبداد بالرّأي ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫صفته ‪ :‬الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪ -‬الستبداد المفضي إلى الضّرر أو الظّلم ممنوعٌ ‪ ،‬كالستبداد في احتكار القوات ‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫واستبداد أحد الرّعيّة فيما هو من اختصاص المام مثل الجهاد ‪ ،‬والستبداد في إقامة الحدود‬
‫بغير إذن المام ‪ .‬ولتفصيل ذلك يرجع إلى مصطلح ( احتكارٌ ‪ ،‬وحدو ٌد ‪ ،‬وجهادٌ ) وإلى كتب‬
‫ل به فهو جائزٌ ‪،‬‬
‫ب ل يتمّ إ ّ‬
‫الفقه في المواطن المبيّنة بالهوامش ‪ .‬أمّا ما كان لتحقيق واج ٍ‬
‫ج الفريضة ‪.‬‬
‫كاستبداد المرأة بالخروج مع المحرم بغير إذن زوجها ‪ .‬لتح ّ‬

‫*استبدالٌ‬
‫انظر ‪ :‬إبدالٌ ‪.‬‬

‫*استبراءٌ‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬الستبراء لغ ًة ‪ :‬طلب البراءة ‪ ،‬وبرئ تطلق بإزاء ثلث معانٍ ‪ :‬برئ إذا تخلّص ‪ ،‬وبرئ‬ ‫‪1‬‬

‫إذا تنزّه وتباعد ‪ ،‬وبرئ إذا أعذر وأنذر ‪ .‬أمّا الستبراء فيقال ‪ :‬استبرأ الذّكر استنقاه ‪ ،‬أي‬
‫استنظفه من البول ‪ .‬واستبرأ من بوله إذا استنزه ‪.‬‬
‫ط لصحّتها ‪ ،‬فهو بهذا من‬
‫وللستبراء استعمالن شرعيّان ‪ :‬الوّل ‪ :‬يتّصل بالطّهارة كشر ٍ‬
‫مباحث العبادة ‪ ،‬وهو داخلٌ تحت قسم التّحسين ‪ .‬يقول الشّاطبيّ ‪ ( :‬وأمّا التّحسينات فمعناها‬
‫الخذ بما يليق من محاسن العادات ‪ .‬ففي العبادات كإزالة النّجاسة ) الثّاني ‪ :‬يتّصل بالطمئنان‬
‫على سلمة النساب ‪ ،‬وعدم اختلطها ‪ ،‬فهو بهذا من مباحث النّكاح ‪ ،‬وهو داخلٌ تحت قسم‬
‫الضّروريّ ‪ ،‬كما ذهب إليه الشّاطبيّ ‪.‬‬
‫ل ‪ :‬الستبراء في الطّهارة ‪:‬‬
‫أ ّو ً‬
‫‪ -‬عرّف ابن عرفة الستبراء بالستعمال الوّل بقوله ‪ ( :‬إزالة ما بالمخرجين من الذى ) ‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫فالستبراء على هذا يكون من البول ‪ ،‬والغائط ‪ ،‬والمذي ‪ ،‬والودي ‪ ،‬والمنيّ ‪ .‬وهو ما يفهم‬
‫من كلم الشّافعيّة والحنابلة ‪ .‬وعرّفه الحنفيّة ‪ :‬بأنّه طلب البراءة من الخارج ‪ ،‬وصرّحوا بأنّه‬
‫ل يتصوّر في المرأة ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫الستنقاء ‪ ،‬والستنجاء ‪ ،‬والستنزاه ‪ ،‬والستنثار ‪.‬‬


‫أ ‪ -‬الستنقاء ‪:‬‬

‫‪ -‬الستنقاء ‪ :‬هو طلب النّقاوة ‪ ،‬وهو أن يدلّك المقعدة بالحجار ‪ ،‬أو بالصابع حالة‬ ‫‪3‬‬

‫الستنجاء بالماء ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬الستنجاء ‪:‬‬

‫‪ -‬الستنجاء ‪ :‬هو استعمال الحجار أو الماء ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫ج ‪ -‬الستنزاه ‪:‬‬

‫‪ -‬الستنزاه ‪ :‬هو التّحفّظ من البول والتّوقّي منه ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫د ‪ -‬الستنثار ‪:‬‬

‫‪ -‬الستنثار ‪ :‬قال النّوويّ في تهذيب السماء ‪ :‬استنثر الرّجل من بوله اجتذبه واستخرج‬ ‫‪6‬‬

‫بقيّته من الذّكر ‪ .‬فالصّلة بين هذه اللفاظ وبين الستبراء ‪ ،‬هي أنّها كلّها تتعلّق بإنقاء‬
‫المخرجين من الخارج منهما ‪.‬‬
‫صفته ‪ :‬الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫ن ) إلى أنّ الستبراء‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬وبعض الشّافعيّة ( منهم القاضي حسي ٌ‬ ‫‪7‬‬

‫ض ‪ ،‬وذهب جمهور الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة إلى أنّه مستحبّ ؛ لنّ الظّاهر من انقطاع البول‬
‫فر ٌ‬
‫ن عامّة‬
‫عدم عوده ‪ .‬واستدلّ القائلون بالوجوب بحديث الدّارقطنيّ ‪ « :‬تنزّهوا من البول فإ ّ‬
‫ن أو تحقّق بمقتضى عادته أنّه إن لم يستبرئ‬
‫عذاب القبر منه » ويحمل الحديث على ما إذا ظ ّ‬
‫ب كما‬
‫خرج منه شيءٌ ‪ .‬ويقول ابن عابدين ‪ :‬وعبّر بعضهم بلفظ ينبغي ‪ ،‬وعليه فهو مندو ٌ‬
‫صرّح به بعض الشّافعيّة ‪ ،‬ومحلّه إذا أمن خروج شيءٍ بعده ‪ ،‬فيندب ذلك مبالغ ًة في الستبراء‬
‫‪.‬‬
‫س قال ‪:‬‬
‫ستّة عن ابن عبّا ٍ‬
‫‪ -‬ودليل الستبراء حديثان ‪ :‬الدّليل الوّل ‪ :‬الحديث الّذي أخرجه ال ّ‬ ‫‪8‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم بحائطٍ أي بستانٍ من حيطان المدينة أو مكّة ‪ ،‬فسمع صوت‬
‫« مرّ النّب ّ‬
‫إنسانين يعذّبان في قبورهما ‪ ،‬فقال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ :‬يعذّبان وما يعذّبان في كبيرٍ ‪،‬‬
‫ثمّ قال ‪ :‬بلى ‪ ،‬كان أحدهما ل يستتر من بوله ‪ ،‬وكان الخر يمشي بالنّميمة ‪ ،‬ثمّ دعا بجريدةٍ‬
‫ل قبرٍ منهما كسر ًة ‪ ،‬فقيل ‪ :‬له يا رسول اللّه ؛ لم فعلت‬
‫فكسرها كسرتين ‪ ،‬فوضع على ك ّ‬
‫هذا ؟ قال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬لعلّه يخفّف عنهما ما لم تيبسا » رواه البخاريّ ‪ .‬وعلّق ابن‬
‫حج ٍر على الحديث بقوله ‪ :‬ل يستتر في أكثر الرّوايات بمثناتين من فوق ‪ :‬الولى مفتوحةٌ‬
‫والثّانية مكسورةٌ ‪ .‬وفي رواية ابن عساكر ‪ :‬يستبرئ بموحّد ٍة ساكن ٍة من الستبراء ‪ ،‬ثمّ قال ‪:‬‬
‫وأمّا رواية الستبراء فهي أبلغ في التّوقّي ‪ .‬الدّليل الثّاني ‪ :‬عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال‬
‫‪ « :‬تنزّهوا من البول فإنّ عامّة عذاب القبر منه » ‪.‬‬
‫حكمة تشريعه ‪:‬‬
‫ن الستبراء معقول المعنى ‪ ،‬وليس من التّعبّد ؛ لنّه بالستبراء‬
‫‪ -‬يقول عليّ الجهوريّ ‪ :‬إ ّ‬ ‫‪9‬‬

‫ينتهي خروج الحدث المنافي للوضوء ‪ .‬وبنا ًء على ذلك فجميع المذاهب تتّفق على أنّ المحدث‬
‫إذا غلب على ظنّه عدم انقطاع الخارج فإنّه ل يصحّ وضوءه ؛ لنّ الحكام تبنى على غلبة‬
‫الظّنّ اتّفاقا ‪.‬‬
‫كيفيّة الستبراء ‪:‬‬
‫‪ -‬الستبراء إمّا أن يكون من الغائط ‪ ،‬وإمّا أن يكون من البول ‪ ،‬فإذا كان من الغائط فإنّه‬ ‫‪10‬‬

‫يكفيه أن يحسّ من نفسه أنّه لم يبق شي ٌء في المخرج ممّا هو بصدد الخروج ‪ .‬وأمّا إذا كان‬
‫من البول ‪ ،‬فهو إمّا من المرأة ‪ ،‬وإمّا من الرّجل ‪ ،‬فأمّا المرأة فإنّه ل استبراء عليها عند‬
‫ن المرأة‬
‫الحنفيّة ‪ ،‬ولكن إذا فرغت تنتظر قليلً ث ّم تستنجي ‪ ،‬وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أ ّ‬
‫ي أمرٍ اعتاده دون أن يجرّه ذلك إلى‬
‫تستبرئ بعصر عانتها ‪ .‬وأمّا الرّجل فاستبراؤه يحصل بأ ّ‬
‫الوسوسة ‪.‬‬
‫آداب الستبراء ‪:‬‬
‫‪ -‬للستبراء آدابٌ منها ‪ :‬أن يطرد الوسواس عن نفسه ‪ .‬قال الغزاليّ ‪ :‬ول يكثر التّفكّر في‬ ‫‪11‬‬

‫الستبراء ‪ ،‬فيتوسوس ويشقّ عليه المر ‪ .‬ومن وسائل طرد الوسواس النّضح ‪ ،‬وهو رشّ‬
‫ل بعد الوضوء‬
‫الماء ‪ ،‬واختلف في موضع النّضح ‪ ،‬فحكى النّوويّ أنّه نضح الفرج بما ٍء قلي ٍ‬
‫لدفع الوسواس ‪ .‬وقيل ‪ :‬هو أن ينضح ثوبه بالماء ‪ ،‬بعد الفراغ من الستنجاء ؛ لدفع الوسواس‬
‫أيضا ‪ .‬قال الغزاليّ ‪ :‬وما يحسّ به من بللٍ ‪ ،‬فليقدّر أنّه بقيّة الماء ‪ ،‬فإن كان يؤذيه فليرشّ‬
‫عليه الماء حتّى يقوى في نفسه ذلك ‪ ،‬ول يسلّط عليه الشّيطان بالوسواس ‪ ،‬وفي الخبر أنّه‬
‫صلى ال عليه وسلم فعله ‪ .‬وهذا الحديث أخرجه النّسائيّ عن الحكم عن أبيه أنّ رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬كان إذا توضّأ أخذ حفن ًة من ما ٍء فقال بها هكذا » وفي رواي ٍة أخرى‬
‫عن الحكم بن سفيان قال ‪ « :‬رأيت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم توضّأ ونضح فرجه »‬
‫قال أحمد ‪ :‬فنضح فرجه ‪ ،‬علّق عليه السّنديّ فقال ‪ :‬وقيل ‪ :‬نضح أي استنجى بالماء ‪ ،‬وعلى‬
‫هذا فمعنى إذا توضّأ أراد أن يتوضّأ ‪ ،‬وقيل ‪ :‬رشّ الفرج بالماء بعد الستنجاء ليدفع به‬
‫وسوسة الشّيطان ‪ ،‬وعليه الجمهور وكأنّه يؤخّره أحيانا إلى الفراغ من الوضوء ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الستبراء في النّسب ‪:‬‬
‫‪ -‬معنى الستبراء في النّسب ‪ ،‬طلب براءة المرأة من الحبل ‪ ،‬يقال ‪ :‬استبرأت المرأة ‪:‬‬ ‫‪12‬‬

‫سيّد جاريته م ّدةً مقدّرةً‬


‫طلبت براءتها من الحبل ‪ .‬وعرّفه ابن عرفة بما توضيحه ‪ :‬ترك ال ّ‬
‫ل بها على براءة الرّحم ‪.‬‬
‫شرعا يستد ّ‬
‫ل على براءة الرّحم ‪ ،‬وقد يكون بانتظارها مدّةً من‬
‫‪ -‬ويكون تارةً بحيضها ‪ ،‬إذ الحيض دلي ٌ‬ ‫‪13‬‬

‫الزّمن توجب الطمئنان بعدم الحمل ‪ ،‬وقد يكون بوضع الحمل الّذي علق بها ‪ ،‬حيّا أو ميّتا ‪،‬‬
‫تامّ الخلقة أو غير تامّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫العدّة ‪:‬‬

‫ن كلّ منهما‬
‫‪ -‬العدّة تربّصٌ يلزم المرأة عند زوال النّكاح ‪ ،‬فتشترك العدّة والستبراء في أ ّ‬ ‫‪14‬‬

‫ل للستمتاع بها ‪.‬‬


‫مدّةٌ تتربّص فيها المرأة لتح ّ‬
‫‪ -‬ومع هذا فهما يفترقان في النّواحي التّالية ‪:‬‬ ‫‪15‬‬

‫ن العدّة تجب ولو تي ّقنّا براءة الرّحم ‪ ،‬كمن طلّقها زوجها بعد أن غاب‬
‫( أ ) يقول القرافيّ ‪ :‬إ ّ‬
‫عنها عشر سنواتٍ ‪ ،‬وكذا إذا توفّي عنها ‪ ،‬وكذا الصّغيرة في المهد إذا توفّي عنها زوجها ‪،‬‬
‫ل حالٍ لتغليب جانب التّعبّد فيها ‪.‬‬
‫أمّا الستبراء فليس كذلك ‪ .‬والعدّة واجب ٌة على ك ّ‬
‫( ب ) اعتبر القرء الواحد كافيا في الستبراء ولم يعتبر كافيا في العدّة ‪.‬‬
‫( ج ) القرء في الستبراء هو الحيض ‪ ،‬وأمّا القرء في العدّة فمختلفٌ فيه بين الحيض والطّهر‬
‫‪.‬‬
‫( د ) الوطء في العدّة يوجب تحريم المدخول بها تحريما مؤبّدا عند بعض العلماء ‪ ،‬أمّا وطء‬
‫المملوكة في مدّة الستبراء ‪ ،‬فالتّفاق على أنّه ل يحرم تحريما مؤبّدا ‪.‬‬
‫استبراء الحرّة ‪:‬‬
‫ف بينهم في الوجوب والنّدب ‪ ،‬وفي‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على الستبراء في الحرّة ‪ ،‬على خل ٍ‬ ‫‪16‬‬

‫الحوال الّتي يطلب فيها ‪ .‬ففي المزنيّ بها ‪ ،‬استبرا ٌء على سبيل الوجوب عند المالكيّة ‪ ،‬وهو‬
‫ما نقل عن محمّد بن الحسن ‪ ،‬ونقل عنه الستحباب ‪ ،‬كالمنقول عن أبي حنيفة وأبي يوسف ‪.‬‬
‫وصرّح الشّافعيّة ‪ :‬بأنّه إن علّق طلق امرأته على وجود حملٍ بها فتستبرأ ندبا ‪ ،‬أمّا إن علّقه‬
‫على أنّها حائلٌ ( غير حاملٍ ) فتستبرأ وجوبا ‪ .‬وصرّح الحنابلة بطلب الستبراء في صورةٍ‬
‫ج سابقٍ ‪ ،‬ولم يكن لهذا الولد أصلٌ أو‬
‫من الميراث ‪ ،‬فيما إذا مات ولد الزّوجة من غير زو ٍ‬
‫فرعٌ وارثٌ ‪ ،‬فإنّه تستبرأ زوجته لتبيّن حملها من عدمه لمعرفة ميراث الحمل ‪ .‬كما اتّفق‬
‫الفقهاء على وجوب استبراء الحرّة الّتي وجب عليها إقامة الحدّ أو القصاص ‪ ،‬نظرا لحقّ‬
‫الحمل في الحياة ‪ .‬ودليل ذلك خبر الغامديّة المعروف ‪.‬‬
‫‪ -‬ومن المسائل الّتي صرّح المالكيّة فيها بوجوب استبراء الحرّة ما يأتي ‪:‬‬ ‫‪17‬‬

‫( أ ) إذا ظهر حملٌ بالمعقود عليها عقدا صحيحا ‪ ،‬ولم تعلم خلو ٌة ‪ ،‬وأنكر الوطء ‪ ،‬ونفى‬
‫الحمل بلعانٍ ‪ ،‬فتستبرأ بوضع الحمل ‪.‬‬
‫( ب ) إذا وطئت الزّوجة الحرّة بزنا ‪ .‬وبمثل ذلك قال الحنفيّة ‪.‬‬
‫( ج ) إذا وطئت بشبه ٍة بأن اعتقد المستمتع بها أنّها زوجته ‪.‬‬
‫( د ) الوطء بنكاحٍ فاسدٍ مجمعٍ على فساده ل يدرأ الحدّ ‪ ،‬كمحرّمٍ بنسبٍ أو رضاعٍ ‪.‬‬
‫( هـ ) إذا غصبها غاصبٌ وغاب عليها ( أي مكثت عنده مدّ ًة وخل بها ) ولو ادّعى أنّه لم‬
‫ن ذلك‬
‫يطأها وصدّقته ؛ وذلك لتّهامه بتخفيف عقوبته ‪ ،‬واتّهامها بحفظ شرفها ظاهرا ؛ ول ّ‬
‫ن الغيبة مظنّة الوطء ‪.‬‬
‫حقّ اللّه ؛ ول ّ‬
‫حكمة تشريع الستبراء ‪:‬‬
‫‪ -‬إنّ حكمة مشروعيّة الستبراء ‪ ،‬سواءٌ أكان في الحرائر أم الماء هي ‪ :‬تعرّف براءة‬ ‫‪18‬‬

‫الرّحم احتياطا لمنع اختلط النساب ‪ .‬وحفظ النّسب من أه ّم مقاصد الشّريعة السلميّة ‪.‬‬
‫استبراء المة ‪:‬‬
‫يكون استبراء المة واجبا ‪ ،‬ويكون مستحبّا ‪ ،‬فيكون واجبا في الصّور التية ‪:‬‬
‫( أ ) عند حصول الملك للّتي يقصد وطؤها ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا حصل الملك للمة الّتي يقصد وطؤها بسببٍ من أسباب الملك ‪ ،‬فاستبراؤها واجبٌ ‪.‬‬ ‫‪19‬‬

‫وهذا القدر متّفقٌ عليه بين المذاهب إجمالً ‪ ،‬وذلك للحديث الّذي رواه أبو سعي ٍد الخدريّ « أنّ‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال في سبي أوطاسٍ ‪ :‬ل توطأ حاملٌ حتّى تضع ‪ ،‬ول غير ذات‬
‫حملٍ حتّى تحيض » ومن القياس ما يقوله السّرخسيّ ‪ :‬والمعنى في المسبيّة حدوث ملك الحلّ‬
‫فيها لمن وقعت في سهمه بسبب ملك الرّقبة ‪ ،‬ويتعدّى الحكم إلى المشتراة أو الموهوبة ‪.‬‬
‫والحكمة صيانة ماء نفسه عن الخلط ‪ .‬وبعد التّفاق في الصل اختلفوا في التّفصيل ‪ :‬فالمالكيّة‬
‫اشترطوا لتحقّق وجوب الستبراء شروطا خلصتها ‪:‬‬
‫ل ‪ :‬ألّ يتيقّن براءة رحمها من الحمل ‪ ،‬وهذا الشّرط قال به أيضا ابن سريجٍ ‪ ،‬وابن تيميّة ‪،‬‬
‫أ ّو ً‬
‫وابن القيّم ‪ ،‬ورجّحه جماعةٌ من المتأخّرين كما روي عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ‪.‬‬
‫وذهب أبو حنيفة وجمهور الشّافعيّة وأحمد في أكثر الرّوايات عنه إلى أنّه ل ب ّد من‬
‫الستبراء ‪ ،‬لوجود العلّة ‪ ،‬وهي ملك ح ّل بسبب ملك الرّقبة ‪.‬‬
‫سيّد زوجته‬
‫ثانيا ‪ :‬ألّ يكون وطؤها مباحا لمن انتقل ملكها إليه قبل النتقال ‪ ،‬كما لو اشترى ال ّ‬
‫الّتي عقد عليها قبل الشّراء ‪ ،‬فإنّه غير مطالبٍ بأن يستبرئها على سبيل الوجوب ‪ .‬والباحة‬
‫هي الباحة المعتدّ بها المطابقة للواقع ‪ ،‬أمّا إذا كشف الغيب عن عدم حّليّةٌ وطئه فل ب ّد من‬
‫استبرائها ‪ ،‬وهو المعتمد عند الشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬ألّ يحرم عليه الستمتاع بها بعد ملكها ‪ ،‬فإن حرّمت في المستقبل لم يجب استبراؤها ‪،‬‬
‫وذلك كمن اشترى أخت زوجته ‪ ،‬أو متزوّجةً بغيره ‪ ،‬دخل بها أم لم يدخل ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬قصد تزويج المة ‪:‬‬
‫سيّد أن يستبرئ أمته إذا أراد تزويجها وذلك إذا وطئها ‪ ،‬أو إذا زنت عنده‬
‫‪ -‬يجب على ال ّ‬ ‫‪20‬‬

‫إذا اشتراها ممّن لم ينف وطأه لها ‪ ،‬وفي غير هذه ل يجب عليه أن يستبرئها ‪ .‬وفصّل الحنفيّة‬
‫سيّد وجب استبراؤها ‪ ،‬وإذا زنت عنده لم‬
‫‪ ،‬والشّافعيّة بين الزّنا وبين الوطء ‪ ،‬فإذا وطئها ال ّ‬
‫يلزم باستبرائها قبل التّزويج ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬زوال الملك بالموت أو العتق ‪:‬‬
‫سيّد يجب على وارثه أن يستبرئ المة الّتي ورثها عنه ‪ ،‬ول يحلّ له أن‬
‫‪ -‬إذا مات ال ّ‬ ‫‪21‬‬

‫ل بعد استبرائها ‪ ،‬سوا ٌء أكان سيّدها حاضرا ‪ ،‬أم غائبا يمكنه الوصول إليها ‪ ،‬أقرّ‬
‫يستمتع بها إ ّ‬
‫سيّد بعد انقضاء العدّة ‪ ،‬وذلك‬
‫بوطئها أم ل ‪ ،‬وكذلك إذا كانت متزوّج ًة وانقضت عدّتها ومات ال ّ‬
‫ج فل يجب‬
‫سيّد زمنا ‪ .‬أمّا لو لم تنقض العدّة ‪ ،‬أو كانت وقت الموت ذات زو ٍ‬
‫لنّها حلّت لل ّ‬
‫سيّد غائبا عنها غيب ًة ل يمكنه الوصول إليها ‪،‬‬
‫الستبراء ‪ ،‬كما ل يجب الستبراء إذا كان ال ّ‬
‫وامتدّ غيابه بمقدار الستبراء فأكثر ‪ .‬وأمّا أ ّم الولد فل بدّ لها أن تستأنف الستبراء بعد العتق‬
‫سيّد إذا زال فراشه عن المة الّتي كان يطؤها فالستبراء واجبٌ‬
‫‪ .‬وفي مذهب الشّافعيّ ‪ :‬أنّ ال ّ‬
‫‪ ،‬استولدها أو لم يستولدها ‪ ،‬وسوا ٌء في ذلك زال فراشه بعتقٍ أم موتٍ ‪ ،‬وسوا ٌء مضت عليها‬
‫مدّة الستبراء أم لم تمض ‪.‬‬
‫د ‪ -‬زوال الملك بالبيع ‪:‬‬
‫سيّد بيع المة فل يخلو حاله من أمرين ‪ :‬إمّا أن يكون قد وطئها قبل ذلك أو ل‬
‫‪ -‬إذا أراد ال ّ‬ ‫‪22‬‬

‫‪ .‬أمّا المة الّتي لم يطأها فيجوز له أن يبيعها بدون استبراءٍ ‪ .‬واستحبّ المام أحمد استبراءها‬
‫ب على‬
‫ن استبراءها واج ٌ‬
‫‪ .‬وأمّا المة الّتي كان يستمتع بها سيّدها ويطؤها ‪ ،‬فمذهب مالكٍ أ ّ‬
‫سيّد قبل البيع ‪ .‬ويفصّل أحمد بين اليائسة وغيرها ‪ .‬ودليله ‪ :‬أنّ عمر بن الخطّاب أنكر على‬
‫ال ّ‬
‫عبد الرّحمن بن عوفٍ بيع جاري ٍة كان يطؤها قبل استبرائها ‪ .‬وذهب الشّافعيّة إلى أنّ‬
‫الستبراء في هذه الحالة سنّةٌ ‪ ،‬وذلك قبل بيعه لها ؛ ليكون على بصيرةٍ منها ‪ .‬وقال الحنفيّة ‪:‬‬
‫إنّه مستحبّ ‪.‬‬
‫هـ ‪ -‬الستبراء بسوء الظّنّ ‪:‬‬
‫‪ -‬قال المازريّ ‪ :‬وكلّ من جاز حملها ففي استبرائها قولن ‪ .‬ومثّل له بأمثل ٍة منها ‪:‬‬ ‫‪23‬‬

‫استبراء المة خوف أن تكون زنت ‪ ،‬وهو المعبّر عنه بالستبراء لسوء الظّنّ ‪.‬‬
‫مدّة الستبراء ‪:‬‬
‫المستبرأة لها أحوا ٌل منها ‪ :‬الحرّة ‪ ،‬والمة الّتي بلغت المحيض وهي تحيض فعلً ‪ ،‬والحامل ‪،‬‬
‫والّتي ل تحيض لصغ ٍر أو كبرٍ ‪.‬‬
‫استبراء الحرّة ‪:‬‬
‫ل في ثلث مسائل يكتفى فيها بحيضةٍ واحد ٍة ‪ ،‬وهي استبراؤها‬
‫‪ -‬استبراء الحرّة كعدّتها ‪ ،‬إ ّ‬ ‫‪24‬‬

‫لقامة الحدّ عليها في الزّنا أو الرّدّة ؛ ليتبيّن عدم حملها ؛ لنّ ذلك مانعٌ من إقامة الحدّ ‪ ،‬أو‬
‫في الملعنة لنفي حملها ‪ .‬والكتفاء في المزنيّ بها بحيضةٍ واحد ٍة هو مذهب الحنفيّة ‪ ،‬وروايةٌ‬
‫عن كلّ من الشّافعيّة والحنابلة ‪ .‬ولهما روايةٌ أخرى أنّها تستبرأ بثلثٍ ‪ .‬استبراء المة‬
‫الحائض ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب مالكٌ ‪ ،‬والشّافعيّ ‪ ،‬وأحمد في روايةٍ ‪ ،‬وعثمان ‪ ،‬وعائشة ‪ ،‬والحسن ‪ ،‬والشّعبيّ ‪،‬‬ ‫‪25‬‬

‫والقا سم بن مح ّمدٍ ‪ ،‬وأ بو قل بة ‪ ،‬ومكحولٌ ‪ ،‬وأ بو ثورٍ ‪ ،‬وأ بو عبيدٍ ‪ ،‬إلى أ نّ ال مة إذا كا نت‬
‫ل شهرٍ أو نحوه ‪ ،‬فا ستبراؤها ي قع بحيض ٍة كاملةٍ ‪ ،‬سوا ٌء في ذلك‬
‫ممّن تح يض كعادة النّ ساء ك ّ‬
‫استبراء البيع والعتق والوفاة ‪ ،‬أ ّم ولدٍ كانت أو ل ‪ .‬وفرّق الحنفيّة بين أ مّ الولد وغيرها ‪ ،‬فإذا‬
‫كانـت المسـتبرأة غيـر أمّـ ولدٍ ‪ ،‬فاسـتبراؤها بحيضةٍ كامل ٍة ‪ ،‬أمّا أمّـ الولد ‪ ،‬إذا أعتقـت بإعتاق‬
‫المولى أو بموتـه ‪ ،‬فإنّ ها تعتدّ بثلثـة قرو ٍء ؛ لمـا روي عن ع مر وغيره أنّ هم قالوا ‪ :‬عدّة أ مّ‬
‫الولد ثلث حيضٍ ‪.‬‬
‫استبراء الحامل ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب المالكيّة ‪ ،‬والحنفيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬إلى أنّ المستبرأة إذا كانت حاملً فاستبراؤها‬ ‫‪26‬‬

‫ن المة‬
‫يكون بوضع حملها كلّه ‪ ،‬ولو وضعته بعد لحظةٍ من وجوبه ‪ .‬ومذهب الشّافعيّة أ ّ‬
‫سيّد يحصل استبراؤها بوضع حملها ‪ ،‬وإن كانت مشتراةً‬
‫المسبيّة ‪ ،‬أو الّتي زال عنها فراش ال ّ‬
‫ل من زوجٍ أو وطءٍ بشبه ٍة ‪ -‬فل استبراء في الحال ‪ ،‬ويجب بعد زوال العدّة أو‬
‫‪ -‬وهي حام ٌ‬
‫ن حدوث حلّ الستمتاع إنّما وجد بعد ذلك ‪ ،‬وإن تقدّم عليه الملك ؛ لنّه ملكٌ‬
‫النّكاح ‪ ،‬ل ّ‬
‫مشغولٌ بحقّ الغير ‪ .‬والحامل من زنا إذا كانت ل تحيض في أثناء مدّة الحمل تستبرأ بوضع‬
‫الحمل ‪ ،‬وإن كانت تحيض فكذلك على الصحّ ‪ ،‬وفي قولٍ يحصل استبراؤها بحيضةٍ على‬
‫الحمل ‪.‬‬
‫استبراء المة الّتي ل تحيض لصغرٍ أو كبرٍ ‪:‬‬
‫ن المة الّتي ل تحيض لصغرٍ أو كبرٍ ‪ :‬أنّها تتربّص ثلثة أشهرٍ ‪ ،‬ونقل‬
‫‪ -‬مذهب مالكٍ أ ّ‬ ‫‪27‬‬

‫ابن رشدٍ في المقدّمات أنّه قد جرى اختلفٌ في مذهب مالكٍ ‪ ،‬فقيل ‪ :‬استبراؤها شهرٌ ‪ ،‬وقيل‬
‫شهرٌ ونصفٌ ‪ ،‬وقيل شهران ‪ ،‬وقيل ثلثة أشهرٍ ‪ ،‬وهو المشهور في المذهب الحنبليّ ‪ ،‬وهو‬
‫ن في المذهب الشّافعيّ ‪.‬‬
‫قول الحسن ‪ ،‬وابن سيرين ‪ ،‬والنّخعيّ ‪ ،‬وأبي قلبة ‪ ،‬وهو قولٌ ثا ٍ‬
‫ن الشّهر‬
‫ومذهب أبي حنيفة ‪ ،‬والرّاجح عن الشّافعيّ ‪ ،‬أنّها تستبرأ بشهرٍ فقط ‪ ،‬وعلّل ذلك بأ ّ‬
‫ن الشّهر قائمٌ مقام الطّهر والحيض شرعا ‪.‬‬
‫يتحقّق فيه في غيرها طهرٌ وحيضٌ ‪ ،‬ول ّ‬
‫الستمتاع بالمة المستبرأة ‪:‬‬
‫ي في روايةٍ أنّ المستبرأة ل يقبّلها ‪ ،‬ول يباشرها ‪،‬‬
‫‪ -‬مذهب أبي حنيفة ‪ ،‬ومالكٍ ‪ ،‬والشّافع ّ‬ ‫‪28‬‬

‫ول ينظر منها إلى عور ٍة ‪ ،‬حتّى ينتهي أمد الستبراء ‪ ،‬وذلك لنّه من الجائز أنّها حملت من‬
‫ل في الملك ‪ .‬ووافقهم أحمد ‪ ،‬وله روايةٌ‬
‫البائع ‪ ،‬وأنّ البيع باطلٌ ‪ .‬وهذه التّصرّفات ل تحلّ إ ّ‬
‫بالتّفصيل بين المطيقة وغيرها ‪.‬‬
‫أثر العقد والوطء زمن الستبراء ‪:‬‬
‫‪ -‬العقد على المستبرأة حرامٌ في جميع المذاهب ‪ ،‬وكذلك الوطء بالولى ‪ ،‬وتفصيل أثره‬ ‫‪29‬‬

‫من حيث نشر الحرمة في كتب الفقه ‪.‬‬


‫إحداد المستبرأة ‪:‬‬
‫ن الحداد‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ المستبرأة ل يجب عليها الحداد ول يستحبّ لها ؛ ل ّ‬ ‫‪30‬‬

‫شرع لزوال نعمة الزّواج ‪.‬‬


‫*استبضاعٌ‬
‫التّعريف‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬الستبضاع في اللّغة ‪ :‬من البضع ‪ ،‬بمعنى القطع والشّقّ ‪ ،‬ويستعمل استعمالً مجازيّا‬ ‫‪1‬‬

‫ضمّ ‪ -‬الجماع ‪ ،‬والفرج نفسه ‪ ،‬وعلى هذا فالستبضاع‬


‫في النّكاح والمجامعة ‪ .‬والبضع ‪ -‬بال ّ‬
‫هو ‪ :‬طلب الجماع ‪ ،‬ومنه نكاح الستبضاع ‪ ،‬الّذي عرّفه ابن حجرٍ بقوله ‪ :‬وهو قول الرّجل‬
‫ن ‪ ،‬فاستبضعي منه » أي اطلبي منه المباضعة ‪ ،‬وهو‬
‫لزوجته في الجاهليّة ‪ « :‬أرسلي إلى فل ٍ‬
‫الجماع ‪ .‬وهذا كان في الجاهليّة ‪ ،‬وقد أبطله السلم ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ويأتي الستبضاع في اللّغة بمعنًى آخر ‪ ،‬وهو ‪ :‬استبضاع الشّيء ‪ ،‬أي جعله بضاعةً ؛‬
‫ن البضاعة هي طائف ٌة من مال الرّجل يبعثها للتّجارة ‪.‬‬
‫لّ‬
‫الحكم الجماليّ لنكاح الستبضاع ‪:‬‬

‫ن الثار المترتّبة عليه هي نفس الثار‬


‫ن نكاح الستبضاع هو زنًى محضٌ ‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪ -‬طالما أ ّ‬ ‫‪2‬‬

‫المترتّبة على الزّنى ‪ ،‬من حيث العقوبة ‪ ،‬وضمان العقر ‪ ،‬ووجوب الستبراء ‪ ،‬وعدم إلحاق‬
‫نسب المولود من ذلك بالزّاني ‪ ،‬بل يلحق بصاحب الفراش ‪ ،‬إلّ أن ينفيه بشروطه ‪ ،‬وغير‬
‫ذلك ‪ ( .‬ر ‪ :‬زنًى ) ‪.‬‬
‫الستبضاع في التّجارات ‪:‬‬

‫ل لخر ليعمل فيه ‪ ،‬على‬


‫‪ -‬يطلق بعض الفقهاء كلمة استبضاعٍ أيضا على ‪ :‬دفع الرّجل ما ً‬ ‫‪3‬‬

‫ب المال ‪ ،‬ول شيء للعامل ‪ .‬فيقال لصاحب المال مستبضعٌ ‪،‬‬


‫أن يكون الرّبح كلّه لر ّ‬
‫ومبضعٌ ‪ ( ،‬بالكسر ) ‪ ،‬ويقال للعامل مستبضعٌ ‪ ،‬ومبضعٌ معه ( بالفتح ) ‪ ،‬وهذه المعاملة هي‬
‫استبضاعٌ وإبضاعٌ ‪ .‬ولمعرفة أحكامه ( ر ‪ :‬إبضاعٌ ) ‪.‬‬

‫*استتابةٌ‬
‫التّعريف‬
‫‪ -‬الستتابة في اللّغة ‪ :‬طلب التّوبة ‪ ،‬يقال استتبت فلنا ‪ :‬عرضت عليه التّوبة ممّا اقترف ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫والتّوبة هي ‪ :‬الرّجوع والنّدم على ما فرّط منه ‪ ،‬واستتابه ‪ :‬سأله أن يتوب ‪ .‬ول يخرج‬
‫المعنى الصطلحيّ عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫صفتها ‪ :‬الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬استتابة المرتدّ واجبةٌ عند المالكيّة ‪ ،‬وهو المعتمد عند كلّ من الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ؛‬ ‫‪2‬‬

‫ل آخر للشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة إلى‬


‫لحتمال أن تكون عنده شبهةٌ فتزال ‪ .‬وذهب الحنفيّة وهو قو ٌ‬
‫ن الدّعوة قد بلغته ‪.‬‬
‫أنّها ‪ :‬مستحبّةٌ ؛ ل ّ‬
‫استتابة الزّنادقة والباطنيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬في استتابة الزّنادقة وفرق الباطنيّة رأيان ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫الوّل ‪ :‬للمالكيّة ‪ ،‬وفي الظّاهر عند الحنفيّة ‪ ،‬رأيٌ للشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬ل يستتابون ول يقبل‬
‫منهم ‪ ،‬ويقتلون لقول اللّه تعالى ‪ { :‬إلّ الّذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا } ‪ ،‬والزّنديق ل تظهر‬
‫منه علم ٌة تبيّن رجوعه وتوبته ؛ لنّه كان مظهرا للسلم ‪ ،‬مسرّا للكفر ‪ ،‬فإذا وقف على‬
‫ذلك ‪ ،‬فأظهر التّوبة ‪ ،‬لم يزد على ما كان منه قبلها ‪ ،‬وهو إظهار السلم ؛ ولنّهم يعتقدون‬
‫في الباطن خلف ما يظهرون ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬وهو للحنفيّة في غير الظّاهر ‪ ،‬ورأيٌ للشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬يستتاب ؛ لنّه كالمرتدّ ‪،‬‬
‫فتجري عليه أحكامه ‪ ( .‬ر ‪ :‬زندقةٌ ) ‪.‬‬
‫استتابة السّاحر ‪:‬‬
‫‪ -‬استتابة السّاحر فيها روايتان ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫ي للحنابلة ‪ ،‬أنّه ل يستتاب‬


‫الولى ‪ :‬للحنفيّة وهو ظاهر المذهب ‪ ،‬وهو رأيٌ للمالكيّة ‪ ،‬ورأ ٌ‬
‫وهو ظاهر ما نقل عن الصّحابة ‪ .‬فإنّه لم ينقل عن أحدٍ منهم أنّه استتاب ساحرا ‪ ،‬لخبر عائشة‬
‫ن السّاحرة سألت أصحاب النّبيّ صلى ال عليه وسلم وهم متوافرون ‪ :‬هل لها من توب ٍة ؟‬
‫‪:‬إّ‬
‫ن السّحر معنًى في نفسه ‪ ،‬ولسعيه بالفساد ‪.‬‬
‫فما أفتاها أحدٌ ول ّ‬
‫الثّانية ‪ :‬للشّافعيّة ورأيٌ للمالكيّة والحنابلة ‪ ،‬أنّه يستتاب ‪ .‬فإن تاب قبلت توبته ؛ لنّه ليس‬
‫بأعظم من الشّرك ‪ ،‬ولنّ اللّه قبل توبة سحرة فرعون ؛ ولنّ السّاحر لو كان كافرا فأسلم‬
‫صحّ إسلمه وتوبته ‪ ،‬فإذا صحّت التّوبة منهما ( أي السّاحر والكافر ) صحّت من أحدهما‬
‫( السّاحر المسلم ) ‪ ( ،‬ر ‪ :‬سحرٌ ) ويأخذ حكم المرتدّ ‪ ،‬فيحبس حتّى يتوب ‪.‬‬
‫استتابة تارك الفرض ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفقت المذاهب على استتابة تارك الفرض من غير جحو ٍد أو استخفافٍ ‪ ،‬حيث تقبل توبته‬ ‫‪5‬‬

‫‪ .‬فإن أبى أن يتوب ‪ ،‬قال الحنفيّة في المذهب ‪ ،‬والحنابلة في رأيٍ عندهم ‪ :‬يحبس حتّى يتوب‬
‫أو يموت ‪ .‬وقال المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة وهو رأيٌ للحنابلة ‪ :‬إن أبى يقتل ‪ ،‬وهو اختيار الجمهور‬
‫‪.‬‬

‫*استتارٌ‬
‫التّعريف‬
‫‪ -‬الستتار في اللّغة ‪ :‬التّغطّي والختفاء ‪ .‬يقال ‪ :‬استتر وتستّر أي تغطّى ‪ ،‬وجاري ٌة مستترةٌ‬ ‫‪1‬‬

‫أي مخدّر ٌة ‪ .‬وقد استعمله الفقهاء بهذا المعنى ‪ ،‬كما استعملوه بمعنى اتّخاذ السّترة في الصّلة ‪.‬‬
‫ضمّ ) هي في الصل ‪ :‬ما يستتر به مطلقا ‪ ،‬ثمّ غلب في الستعمال الفقهيّ على‬
‫والسّترة ( بال ّ‬
‫‪ :‬ما ينصب أمام المصلّي ‪ ،‬من عصا أو تسنيم ترابٍ أي تكويمه ونحوه ‪ ،‬لمنع المرور أمامه ‪.‬‬
‫ويسمّى ستر الصّدقة إخفاؤها ‪.‬‬
‫صفته ‪ :‬الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪ -‬يختلف حكم الستتار تبعا للحوال والفعال الّتي يكون فيها ‪ ،‬على ما سيأتي ‪ :‬الستتار (‬ ‫‪2‬‬

‫ع اتّفاقا ؛ لحديث ‪ « :‬ليستتر‬


‫بمعنى اتّخاذ المصلّي ستر ًة ) ‪ - 3‬اتّخاذ السّترة للمصلّي مشرو ٌ‬
‫سنّة أو الستحباب ‪ ،‬على‬
‫أحدكم ولو بسه ٍم » ‪ .‬ثمّ اختلف الفقهاء في حكمه بين الوجوب وال ّ‬
‫تفصيلٍ موطنه مصطلح ‪ ( :‬سترة المصلّي ) ‪.‬‬
‫الستتار حين الجماع ‪:‬‬
‫‪ -‬يشمل الستتار هنا أمرين ‪ :‬الوّل ‪ :‬الستتار عن أعين النّاس حين الوطء ‪ .‬الثّاني ‪ :‬عدم‬ ‫‪4‬‬

‫التّجرّد حين الوطء ‪.‬‬


‫أمّا الوّل ‪ :‬فإمّا أن يكون الوطء في حالة انكشاف العورة ‪ ،‬أو في حالة عدم انكشافها ‪ .‬ففي‬
‫حالة انكشاف العورة انعقد الجماع على فرضيّة الستتار ‪ ،‬أمّا في حالة عدم ظهور شيءٍ من‬
‫سنّة ؛ لقوله‬
‫ن من يتهاون فيه فقد خالف ال ّ‬
‫ن الستتار سنّةٌ ‪ .‬وأ ّ‬
‫العورة فقد اتّفق الفقهاء على أ ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إذا أتى أحدكم أهله فليستتر » ‪ .‬وحملوا المر على النّدب ولما في‬
‫ذلك من الدّناءة والخلل بالمروءة ‪.‬‬
‫وأمّا الثّاني ‪ ( :‬عدم التّجرّد حين الجماع ) وإن لم يكن معهما أحدٌ يطّلع عليهما ‪ ،‬فقد اختلف‬
‫الفقهاء فيه ‪ ،‬فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه يجوز للرّجل أن يجرّد زوجته للجماع ‪،‬‬
‫وقيّده الحنفيّة بكون البيت صغيرا ‪ ،‬ويستدلّ لذلك بحديث بهز بن حكيمٍ عن أبيه عن جدّه قال ‪:‬‬
‫ل من زوجتك ‪ ،‬أو‬
‫« قلت ‪ :‬يا رسول اللّه عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال احفظ عورتك إ ّ‬
‫ما ملكت يمينك ‪ ،‬قلت ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬أرأيت إن كان القوم بعضهم من بعضٍ ؟ قال ‪ :‬إن‬
‫ل تريها أحدا فل ترينّها ‪ .‬قلت يا رسول اللّه ‪ ،‬فإن كان أحدنا خاليا ‪ ،‬قال ‪ :‬فاللّه‬
‫استطعت أ ّ‬
‫أحقّ أن يستحيا منه من النّاس » وبحديث عبد اللّه بن عمر قال ‪ « :‬قال رسول اللّه صلى ال‬
‫ل عند الغائط ‪ ،‬وحين يفضي الرّجل‬
‫عليه وسلم ‪ :‬إيّاكم والتّعرّي ‪ ،‬فإنّ معكم من ل يفارقكم إ ّ‬
‫إلى أهله ‪ ،‬فاستحيوهم وأكرموهم » ‪ .‬وذهب الحنابلة إلى أنّه يكره ‪ ،‬لحديث عتبة بن عبدٍ‬
‫السّلميّ ‪ ،‬قال ‪ « :‬قال رسول اللّه ‪ :‬إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ‪ ،‬ول يتجرّدا تجرّد العيرين »‬
‫‪.‬‬
‫ما يخلّ بالستتار ‪:‬‬
‫‪-‬أ ‪ -‬يخ ّ‬
‫ل بالستتار وجود شخصٍ مم ّيزٍ مستيقظٍ معهما في البيت ‪ ،‬سواءٌ أكان زوج ًة ‪ ،‬أم‬ ‫‪5‬‬

‫س ّريّ ًة ‪ ،‬أم غيرهما ‪ ،‬يرى أو يسمع الحسّ ‪ ،‬وبه قال الجمهور ‪ ،‬وقد سئل الحسن البصريّ عن‬
‫الرّجل يكون له امرأتان في بيتٍ ‪ ،‬قال ‪ :‬كانوا يكرهون أن يطأ إحداهما والخرى ترى أو‬
‫تسمع ‪.‬‬
‫ص على ذلك المالكيّة ‪ ،‬فقال الرّهونيّ في حاشيته على‬
‫ب ‪ -‬ويخلّ بالستتار وجود نائمٍ ‪ ،‬ن ّ‬
‫شرح الزّرقانيّ لمتن خليلٍ ‪ :‬ل يجوز للرّجل أن يصيب زوجته أو أمته ومعه في البيت أحدٌ‬
‫ن النّائم قد يستيقظ فيراهما على تلك الحال ‪.‬‬
‫يقظان أو نائمٌ ‪ ،‬ل ّ‬
‫ج ‪ -‬ويخلّ بالستتار عند جمهور المالكيّة وجود صغيرٍ غير مم ّيزٍ ‪ ،‬اتّباعا لبن عمر الّذي‬
‫كان يخرج الصّبيّ في المهد عندما يريد الجماع ‪ .‬وذهب الجمهور ‪ -‬ومنهم بعض المالكيّة ‪-‬‬
‫إلى أنّ وجود غير المميّز ل يخلّ بالستتار ؛ لما فيه من مشقّةٍ وحرجٍ ‪.‬‬
‫الثار المرتّبة على ترك الستتار في الجماع ‪:‬‬
‫‪ -‬من حقّ المرأة المتناع عن إجابة طلب زوجها إلى فراشه ‪ ،‬إن كان ممّن ل يستتر عن‬ ‫‪6‬‬

‫النّاس حين الجماع ‪ ،‬ول تصير ناشزا بهذا المتناع ؛ لنّه امتناعٌ بحقّ ؛ ولنّ الحياء‬
‫والمروءة يأبيان ذلك ‪ ،‬نصّ على ذلك الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬وقواعد المالكيّة والحنابلة ل تأباه‬
‫‪.‬‬
‫الستتار عند قضاء الحاجة ‪:‬‬
‫‪ -‬يشمل هذا أمرين ‪ :‬الستتار عن النّاس ‪ ،‬والستتار عن القبلة إن كان خارج البنيان ‪ .‬أمّا‬ ‫‪7‬‬

‫الوّل ‪ ،‬فالصل وجوب ستر العورة عند قضاء الحاجة ‪ ،‬بحضور من ل يحلّ له النّظر إليها ‪،‬‬
‫وتفصيله في مصطلح ( عور ٌة ) ‪ ،‬كما أنّه يسنّ عند بعض الفقهاء استتار شخص النسان عند‬
‫إرادة الغائط ‪.‬‬
‫ن بعض الفقهاء يرى جواز استقبال القبلة واستدبارها عند‬
‫وأمّا الستتار عن القبلة بسات ٍر فإ ّ‬
‫قضاء الحاجة ‪ ،‬إن استتر عن القبلة بساترٍ ‪ .‬ويرى بعضهم تحريم استقبال القبلة واستدبارها‬
‫مطلقا ‪ ،‬وتفصيل ما يتّصل بالستتار عن القبلة في مصطلح ‪ ( :‬قضاء الحاجة ) ‪.‬‬
‫الستتار حين الغتسال ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬وجوب الستتار عمّن ل يحلّ له النّظر إليه ‪:‬‬
‫‪ -‬المر الّذي ل خلف فيه هو ‪ :‬افتراض الستتار حين الغتسال ‪ ،‬بحضرة من ل يجوز‬ ‫‪8‬‬

‫له النّظر إلى عورة المغتسل ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬احفظ عورتك إلّ من زوجتك ‪،‬‬
‫أو ما ملكت يمينك » ‪ .‬وعن أمّ هانئٍ قالت ‪ « :‬ذهبت إلى رسول اللّه عام الفتح فوجدته يغتسل‬
‫‪ ،‬وفاطمة تستره فقال ‪ :‬من هذه ؟ فقلت ‪ :‬أنا أمّ هانئٍ » ‪ ( .‬ر ‪ :‬عور ٌة ) فإذا لم يمكنه‬
‫الغتسال إلّ بكشف عورته أمام واحدٍ من هؤلء ‪ ،‬فقد صرّح الحنفيّة بأنّ كشف العورة حينئذٍ‬
‫ل يسقط وجوب الغسل عليه – إن كان رجلً بين رجالٍ ‪ ،‬أو امرأةً بين نساءٍ – لمرين ‪.‬‬
‫الوّل ‪ :‬نظر الجنس إلى الجنس أخفّ من النّظر إلى الجنس الخر ‪.‬‬
‫ن الغسل فرضٌ فل يترك لكشف العورة ‪ .‬أمّا إن كانت امرأةٌ بين رجالٍ ‪ ،‬أو رجلٌ‬
‫والثّاني ‪ :‬أ ّ‬
‫بين نساءٍ ‪ ،‬أو خنثى بين رجالٍ أو نساءٍ ‪ ،‬أو هما معا ‪ ،‬فل يجوز لهؤلء الكشف عن عوراتهم‬
‫ن ترك المنهيّ عنه‬
‫للغسل ‪ ،‬بل يتيمّمون ‪ ،‬لكن شارح منية المصلّي لم يسلّم بهذا التّفصيل ؛ ل ّ‬
‫مق ّدمٌ على فعل المأمور ‪ ،‬وللغسل خلفٌ وهو التّيمّم ‪ .‬وعموم كلم الحنابلة ‪ ،‬في تحريم كشف‬
‫العورة عند الغتسال بحضور من يحرم نظره إليها ‪ ،‬يشعر بأنّهم يخالفون الحنفيّة ‪ .‬والّذي‬
‫يؤخذ من كلم المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة أنّه لو ترتّب على القيام بالطّهارة المائيّة كشف العورة ‪،‬‬
‫ب للصّلة والصّيانة عن العيون‬
‫ن ستر العورة ل بدل له ؛ ولنّه واج ٌ‬
‫فإنّه يصار إلى التّيمّم ؛ ل ّ‬
‫‪ ،‬ويباح فعل المحظور من أجله ‪ ،‬كاستتار الرّجل بالحرير إذا تعيّن ‪ .‬أمّا الطّهارة المائيّة فلها‬
‫بدلٌ ‪ ،‬ول يباح فعل المحظور من أجلها ومن هنا كان السّلف والئمّة الربعة يتشدّدون في‬
‫ل بمئزرٍ ‪ .‬وروى ابن أبي شيبة في ذلك آثارا عن عليّ بن أبي طالبٍ‬
‫المنع من دخول الحمّام إ ّ‬
‫ومحمّد بن سيرين وأبي جعفرٍ محمّد بن عليّ وسعيد بن جبيرٍ ‪ ،‬حتّى بلغ المر بعمر بن‬
‫ن أحدٌ الحمّام إلّ بمئزرٍ ‪ ،‬وبعمر بن عبد العزيز أن كتب إلى عامله‬
‫الخطّاب أنّه كتب ‪ :‬ل يدخل ّ‬
‫ل بمئزرٍ ‪ ،‬وأخذ يفرض العقوبات الرّادعة‬
‫بالبصرة أمّا بعد ‪ :‬فمر من قبلك ألّ يدخلوا الحمّام إ ّ‬
‫على من دخل الحمّام بغير مئزرٍ ‪ ،‬وعلى صاحب الحمّام الّذي أدخله ‪ .‬وعن عبادة قال ‪ :‬رأيت‬
‫عمر بن عبد العزيز يضرب صاحب الحمّام ومن دخله بغير إزارٍ ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬استتار المغتسل بحضور الزّوجة ‪:‬‬
‫ن لكلّ واحدٍ من الزّوجين أن يغتسل بحضور الخر ‪ ،‬وهو‬
‫‪ -‬ممّا ل خلف فيه أيضا ‪ :‬أ ّ‬ ‫‪9‬‬

‫ل من زوجتك ‪ ،‬أو ما ملكت يمينك » ‪.‬‬


‫بادي العورة ‪ .‬للحديث المتقدّم ‪ « :‬احفظ عورتك إ ّ‬
‫ولحديث عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬كنت أغتسل أنا والنّبيّ صلى ال عليه وسلم من إناءٍ‬
‫واحدٍ من قدحٍ ‪ ،‬يقال له ‪ :‬الفرق » ‪ ،‬متّفقٌ عليه ‪.‬‬
‫استتار المغتسل منفردا ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة إلى أنّه يجوز للمنفرد أن يغتسل عريانا‬ ‫‪10‬‬

‫‪ .‬واستدلّوا على ذلك بما رواه البخاريّ عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم « قال ‪:‬‬
‫كانت بنو إسرائيل يغتسلون عرا ًة ‪ ،‬ينظر بعضهم إلى بعضٍ ‪ ،‬وكان موسى يغتسل وحده ‪،‬‬
‫ل أنّه آدرّ ‪ -‬منفوخ الخصية ‪ -‬فذهب مرّةً‬
‫فقالوا ‪ :‬واللّه ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إ ّ‬
‫يغتسل ‪ ،‬فوضع ثوبه على حجرٍ ‪ ،‬ففرّ الحجر بثوبه ‪ ،‬فخرج موسى في إثره يقول ‪ :‬ثوبي يا‬
‫حجر ‪ ،‬حتّى نظر بنو إسرائيل إلى موسى فقالوا ‪ :‬واللّه ما بموسى من بأسٍ ‪ ،‬وأخذ ثوبه ‪،‬‬
‫فطفق بالحجر ضربا » ‪ .‬وعن أبي هريرة عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم « قال ‪ :‬بينا أيّوب‬
‫يغتسل عريانا فخرّ عليه جرادٌ من ذهبٍ ‪ ،‬فجعل أيّوب يحتشي في ثوبه ‪ ،‬فناداه ربّه ‪ :‬يا أيّوب‬
‫ألم أكن أغنيتك عمّا ترى ؟ قال ‪ :‬بلى وعزّتك ‪ ،‬ولكن ل غنى بي عن بركتك » ‪ .‬فقد قصّ‬
‫علينا رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ذلك دون نكيرٍ ‪ ،‬فهو دليلٌ على الجواز ؛ لنّ شرع من‬
‫قبلنا شرعٌ لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه ‪ .‬وسئل المام مالكٌ عن الغسل في الفضاء ‪،‬‬
‫ن فيه حديثا ‪ ،‬فأنكر ذلك ‪ ،‬وقال تعجّبا ‪ :‬ل يغتسل‬
‫فقال ‪ :‬ل بأس به ‪ ،‬فقيل ‪ :‬يا أبا عبد اللّه إ ّ‬
‫الرّجل في الفضاء ؟ ‪ ،‬وجه إجازة مالكٍ للرّجل أن يغتسل في الفضاء إذا أمن أن يمرّ به أحدٌ ‪،‬‬
‫وأنّ الشّرع إنّما قرّر وجوب ستر العورة عن المخلوقين من بني آدم دون سواهم من‬
‫الملئكة ‪ ،‬إذ ل يفارقه الحفظة الموكّلون به في حالٍ من الحوال ‪ ،‬قال تعالى ‪ { :‬ما يلفظ من‬
‫ل لديه رقيبٌ عتي ٌد } ‪ .‬وقال تعالى ‪ { :‬وإنّ عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما‬
‫قولٍ إ ّ‬
‫تفعلون } ‪ :‬ولهذا قال مالكٌ تعجّبا ‪ :‬ل يغتسل الرّجل في الفضاء ‪ ،‬إذ ل فرق في حقّ الملئكة‬
‫بين الفضاء وغيره ‪ .‬ولكن هذا جوازٌ مقرونٌ بالكراهة التّنزيهيّة ‪ ،‬ولذلك يندب له الستتار ‪.‬‬
‫لما رواه البخاريّ تعليقا ‪ ،‬ووصله غيره ‪ ،‬عن معاوية بن حيدة ‪ ،‬عن رسول اللّه صلى ال‬
‫ل من زوجتك أو ما ملكت يمينك ‪ .‬قلت ‪ :‬يا رسول اللّه‬
‫عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬احفظ عورتك إ ّ‬
‫فإن كان أحدنا خاليا ؟ قال ‪ :‬فاللّه أحقّ أن يستحيا منه من النّاس » ‪ .‬وذهب عبد الرّحمن بن‬
‫أبي ليلى إلى وجوب الستتار حين الغسل ‪ ،‬ولو كان في خلو ٍة ‪ .‬مستدلّ بالحديث الّذي أخرجه‬
‫أبو داود والنّسائيّ « أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم رأى رجلً يغتسل بالبراز ‪ -‬أي‬
‫ن اللّه عزّ وجلّ حليمٌ حييّ ستّيرٌ ‪ ،‬يحبّ‬
‫بالخلء ‪ -‬فصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه وقال ‪ :‬إ ّ‬
‫الحياء والسّتر فإذا اغتسل أحدكم فليستتر » ‪.‬‬
‫استتار المرأة المتزيّنة ‪:‬‬
‫‪ -‬يجب على المرأة الستتار عن غير الزّوج والمحارم ‪ ،‬بستر عورتها وعدم إبداء‬ ‫‪11‬‬

‫ن من‬
‫زينتها ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ « :‬يا أيّها النّبيّ قل لزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليه ّ‬
‫ن » ‪ .‬وفيما يجب ستره عن المحارم وغيرهم ‪ ،‬وفي ستر الوجه والكفّين والقدمين‬
‫جلبيبه ّ‬
‫خلفٌ وتفصيلٌ موطنه مصطلح ‪ ( :‬تزيّنٌ ) ( وعورةٌ ) ‪.‬‬
‫الستتار من عمل الفاحشة ‪:‬‬
‫‪ -‬من ابتلي بمعصي ٍة ‪ ،‬كشرب الخمر والزّنا ‪ ،‬فعليه أن يستتر بذلك ‪ ،‬ول يجاهر بفعله‬ ‫‪12‬‬

‫سيّئ ‪ ،‬كما ينبغي لمن علم بفاحشته أن يستر عليه وينصحه ‪ ،‬ويمنعه عن المنكر بالوسيلة‬
‫ال ّ‬
‫الّتي يستطيعها ‪.‬‬
‫ن المرء إذا وقع منه ما يعاب عليه يندب له السّتر على نفسه ‪،‬‬
‫‪ -‬وقد اتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪13‬‬

‫فل يعلم أحدا ‪ ،‬حتّى القاضي ‪ ،‬بفاحشته لقامة الحدّ أو التّعزير عليه ‪ ،‬لما رواه البخاريّ‬
‫وغيره عن أبي هريرة رضي ال عنه قال ‪ :‬سمعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول ‪« :‬‬
‫ل المجاهرين ‪ ،‬وإنّ من المجاهرة أن يعمل الرّجل باللّيل عملً ‪ ،‬ثمّ يصبح‬
‫كلّ أمّتي معافًى إ ّ‬
‫وقد ستره اللّه تعالى ‪ ،‬فيقول ‪ :‬يا فلن عملت البارحة كذا وكذا ‪ ،‬وقد بات يستره ربّه ويصبح‬
‫يكشف ستر اللّه عنه » ‪ .‬وقوله صلى ال عليه وسلم « من أصاب من هذه القاذورات شيئا‬
‫فليستتر بستر اللّه ‪ ،‬فإنّه من يبدي لنا من صفحته نقم عليه كتاب اللّه » ‪ .‬وقال أبو بكرٍ‬
‫الصّدّيق ‪ :‬لو أخذت شاربا لحببت أن يستره اللّه ‪ ،‬ولو أخذت سارقا لحببت أن يستره اللّه ‪،‬‬
‫وأنّ الصّحابة أبا بكرٍ وعمر وعليّا وعمّار بن ياس ٍر وأبا هريرة وأبا الدّرداء والحسن بن عليّ‬
‫وغيرهم ‪ ،‬قد أثر عنهم السّتر على معترفٍ بالمعصية ‪ ،‬أو تلقينه الرّجوع من إقراره بها ‪،‬‬
‫سترا عليه ‪ ،‬وستر معترف المعصية على نفسه أولى من ستر غيره عليه ‪ .‬والجهر بالمعصية‬
‫ن من قصد إظهار المعصية‬
‫عن جهلٍ ‪ ،‬ليس كالجهر بالمعصية تبجّحا ‪ .‬قال ابن حجرٍ ‪ :‬فإ ّ‬
‫والمجاهرة بها أغضب ربّه ‪ .‬وقال الخطيب الشّربينيّ ‪ :‬وأمّا التّحدّث بها تفكّها فحرامٌ قطعا ‪.‬‬
‫أثر الستتار بالمعصية ‪:‬‬
‫‪ -‬يترتّب على الستتار بالمعصية ‪:‬‬ ‫‪14‬‬

‫ن العقوبات ل تجب إلّ بعد إثباتها ‪ ( .‬ر ‪ :‬إثباتٌ ) فإذا‬


‫أ ‪ -‬عدم إقامة العقوبة الدّنيويّة ؛ ل ّ‬
‫ي طريقٍ من طرق الثبات ‪ ،‬فل عقوبة ‪.‬‬
‫استتر بها ولم يعلنها ولم يقرّ بها ولم ينله أ ّ‬
‫ب ‪ -‬عدم شيوع الفاحشة ‪ ،‬قال اللّه تعالى ‪ { :‬إنّ الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الّذين‬
‫ب أليمٌ في الدّنيا والخرة واللّه يعلم وأنتم ل تعلمون } ‪.‬‬
‫آمنوا لهم عذا ٌ‬
‫ج ‪ -‬من ارتكب معصيةً فاستتر بها فهو أقرب إلى أن يتوب منها ‪ ،‬فإن تاب سقطت عنه‬
‫ن اللّه‬
‫ن التّوبة تسقط المؤاخذة ؛ ل ّ‬
‫المؤاخذة ‪ ،‬فإن كانت المعصية تتعلّق بحقّ اللّه تعالى فإ ّ‬
‫أكرم الكرمين ‪ ،‬ورحمته سبقت غضبه ‪ ،‬فلذلك إذا ستره في الدّنيا لم يفضحه في الخرة ‪.‬‬
‫ل وقذفٍ ونحو ذلك ‪ ،‬فإنّ من شروط التّوبة فيها‬
‫وإن كانت تتعلّق بحقّ من حقوق العباد ‪ ،‬كقت ٍ‬
‫أداء هذه الحقوق لصحابها ‪ ،‬أو عفو أصحابها عنها ‪ ،‬ولذلك وجب على من استتر بالمعصية‬
‫المتعلّقة بحقّ آدميّ أن يؤدّي هذا الحقّ لصاحبه ‪ ( .‬ر ‪ :‬التّوبة ) ‪.‬‬

‫*استثمارٌ‬
‫التّعريف‬
‫‪ -‬الستثمار في اللّغة ‪ :‬من ( ثمر ) ‪ ،‬وثمر الشّيء ‪ :‬إذا تولّد منه شي ٌء آخر ‪ ،‬وثمّر الرّجل‬ ‫‪1‬‬

‫ماله ‪ :‬أحسن القيام عليه ونمّاه ‪ ،‬وثمر الشّيء ‪ :‬هو ما يتولّد منه ‪ ،‬وعلى هذا فإنّ الستثمار‬
‫هو ‪ :‬طلب الحصول على الثّمرة ‪ .‬والفقهاء يستعملون هذا اللّفظ بهذا المعنى أيضا ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬النتفاع ‪:‬‬

‫‪ -‬النتفاع هو الحصول على المنفعة ‪ ،‬فالفرق بينه وبين الستثمار ‪ ،‬أنّ النتفاع أعمّ من‬ ‫‪2‬‬

‫الستثمار ؛ لنّ النتفاع قد يكون بالستثمار ‪ ،‬وقد ل يكون ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬الستغلل ‪:‬‬

‫ن حاصل ٍة من ريع الملك ‪ ،‬وهذا هو عين‬


‫‪ -‬الستغلل طلب الغلّة ‪ ،‬والغلّة هي ‪ :‬كلّ عي ٍ‬ ‫‪3‬‬

‫الستثمار ‪ ،‬فما تخرجه الرض هو ثمرةٌ ‪ ،‬وهو غّلةٌ ‪ ،‬وهو ريعٌ ‪ .‬وللحنفيّة تفرقةٌ خاصّةٌ بين‬
‫الثّمرة والغلّة في باب الوصيّة ‪ ،‬فإذا أوصى بثمرة بستانه انصرف إلى الموجود خاصّةً ‪ ،‬وإذا‬
‫أوصى بغلّته شمل الموجود وما هو بعرض الوجود ‪.‬‬
‫صفته الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪ -‬الصل استحباب استثمار الموال القابلة لذلك ؛ لما فيه من وجوه النّفع ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫أركان الستثمار ‪:‬‬


‫كلّ استثمارٍ ل يخلو من ركنين اثنين ‪ :‬المستثمر ( بكسر الميم ) ‪ ،‬والمستثمر ( بفتح الميم ) ‪.‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬المستثمر ( بكسر الميم ) ‪:‬‬
‫‪ -‬الصل أن يتمّ استثمار المال من قبل مالكه ‪ ،‬ولكن قد يحدث ما يجعل الغير يقوم بهذا‬ ‫‪5‬‬

‫الستثمار عن المالك ‪ ،‬وهذا على صورتين ‪:‬‬


‫أ ‪ -‬الستثمار بالنابة ‪ :‬والنابة قد تكون من المالك كالوكالة ‪ ،‬أو من الشّارع كالقيّم ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الستثمار بالتّعدّي ‪ :‬وقد يقدم على استثمار المال أجنبيّ بغير إذن صاحب المال ‪ ،‬وبغير‬
‫إعطاء الشّرع هذا الحقّ له ‪ ،‬وعندئذٍ يعتبر غاصبا ( ر ‪ :‬غصبٌ ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬المال المستثمر ‪:‬‬
‫‪ -‬لكي يكون الستثمار حللً يشترط في المال المستثمر أن يكون مملوكا ‪ ،‬ملكا مشروعا‬ ‫‪6‬‬

‫للمستثمر ( بكسر الميم ) ‪ ،‬أو لمن كان المستثمر نائبا عنه نيابةً شرعيّ ًة أو تعاقديّ ًة ‪ ،‬فإن لم‬
‫يكن كذلك لم يحلّ استثماره ‪ ،‬كالمال المغصوب أو المسروق ‪ .‬وكذلك ل يحلّ استثمار الوديعة‬
‫؛ لنّ يد الوديع يد حفظٍ ‪.‬‬
‫ملك الثّمرة ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا كان الستثمار مشروعا ‪ ،‬كانت الثّمرة ملكا للمالك ‪ ،‬أمّا إذا كان الستثمار غير‬ ‫‪7‬‬

‫ن الثّمرة عند الحنفيّة يملكها الغاصب ملكا خبيثا ‪،‬‬


‫ع ‪ ،‬كمن غصب أرضا واستغلّها ‪ ،‬فإ ّ‬
‫مشرو ٍ‬
‫ن الغلّة للمالك ‪ ،‬وفي‬
‫ويؤمر بالتّصدّق بها ‪ .‬وذهب المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة إلى ‪ :‬أ ّ‬
‫روايةٍ عن أحمد ‪ :‬أنّه يتصدّق بها ‪.‬‬
‫طرق الستثمار ‪:‬‬
‫ي طريقٍ مشروعٍ ‪.‬‬
‫‪ -‬يجوز استثمار الموال بأ ّ‬ ‫‪8‬‬

‫*استثناءٌ‬
‫التّعريف‬
‫‪ -‬الستثناء لغ ًة ‪ :‬مصدر استثنى ‪ ،‬تقول ‪ :‬استثنيت الشّيء من الشّيء إذا أخرجته ‪ ،‬ويقال ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫حلف فلنٌ يمينا ليس فيها ثنيا ‪ ،‬ول مثنويّةً ‪ ،‬ول استثناء ‪ ،‬كلّه واحدٌ ‪ .‬وذكر الشّهاب الخفاجيّ‬
‫ن الستثناء في اللّغة والستعمال يطلق على ‪ :‬التّقييد بالشّرط ‪ ،‬ومنه قوله تعالى { ول‬
‫أّ‬
‫يستثنون } أي ل يقولون ‪ « :‬إن شاء اللّه » ‪ .‬والستثناء في اصطلح الفقهاء والصوليّين إمّا‬
‫أن يكون لفظيّا أو معنويّا أو حكميّا ‪ ،‬فالستثناء اللّفظيّ هو ‪ :‬الخراج من متعدّ ٍد بإلّ ‪ ،‬أو‬
‫إحدى أخواتها ‪ ،‬ويلحق به في الحكم الخراج بأستثني وأخرج ونحوهما على لفظ المضارع ‪،‬‬
‫وعرّفه السّبكيّ بأنّه ‪ :‬الخراج بإلّ أو إحدى أخواتها من متكّلمٍ واحدٍ ‪ .‬وعرّفه صدر الشّريعة‬
‫الحنفيّ بأنّه ‪ :‬المنع من دخول بعض ما تناوله صدر الكلم في حكمه بإلّ أو إحدى أخواتها ‪،‬‬
‫ن الستثناء عند الحنفيّة ل إخراج به ‪ ،‬إذ لم يدخل‬
‫فعرّفه بالمنع ‪ ،‬ولم يعرّفه بالخراج ؛ ل ّ‬
‫المستثنى في المستثنى منه أصلً حتّى يكون مخرجا ‪ .‬فالستثناء لمنعه من الدّخول ‪ ،‬والفقهاء‬
‫يستعملون الستثناء أيضا بمعنى قول ‪ « :‬إن شاء اللّه » في كلمٍ إنشائيّ أو خبريّ ‪ .‬وهذا‬
‫النّوع ليس استثنا ًء حقيقيّا بل هو من متعارف النّاس ‪ .‬فإن كان بإلّ ونحوها فهو استثناءٌ حقيقيّ‬
‫ن كذا إلّ أن‬
‫ي » ‪ ،‬كأن يقول ‪ :‬ل أفعل كذا إلّ أن يشاء اللّه ‪ ،‬أو ‪ :‬لفعل ّ‬
‫‪ ،‬أو « استثناءٌ وضع ّ‬
‫يشاء اللّه ‪ ،‬ومن العرفيّ قول النّاس ‪ :‬إن يسّر اللّه ‪ ،‬أو إن أعان اللّه ‪ ،‬أو ما شاء اللّه ‪ .‬وإنّما‬
‫ل ‪ -‬استثنا ًء لشبهه بالستثناء المتّصل في صرفه الكلم‬
‫سمّي هذا التّعليق ‪ -‬ولو كان بغير إ ّ‬
‫السّابق له عن ظاهره ‪ .‬والستثناء المعنويّ هو ‪ :‬الخراج من الجملة بغير أداة استثناءٍ ‪،‬‬
‫كقول المقرّ ‪ « :‬له الدّار ‪ ،‬وهذا البيت منها لي » ‪ .‬وإنّما أعطوه حكم الستثناء ؛ لنّه في قوّة‬
‫قوله ‪ « :‬له جميع الدّار إلّ هذا البيت » ‪ .‬والستثناء الحكميّ يقصد به أن يرد التّصرّف مثلً‬
‫ن فيها حقّ للغير ‪ ،‬كبيع الدّار المؤجّرة ‪ ،‬فإنّ الجارة ل تنقطع بذلك ‪ ،‬والبيع‬
‫على عي ٍ‬
‫ن البيع ورد على العين باستثناء منفعتها مدّة الجارة ‪ .‬وهذا الطلق قليلٌ في‬
‫ح ‪ ،‬فكأ ّ‬
‫صحي ٌ‬
‫متعارف الفقهاء والصوليّين ‪ ،‬وقد ورد في الشباه والنّظائر للسّيوطيّ والقواعد لبن رجبٍ ‪،‬‬
‫إلّ أنّ هذا النّوع ل يدخل في مفهوم الستثناء المصطلح عليه ‪ ،‬ولذا فل تنطبق عليه أحكام‬
‫الستثناء فيما يلي من هذا البحث ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬التّخصيص ‪:‬‬

‫‪ -‬التّخصيص ‪ :‬قصر العامّ على بعض أفراده ‪ ،‬فهو يبيّن كون اللّفظ قاصرا عن البعض ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫ن الستثناء يشترط اتّصاله ‪ ،‬وأنّه يتطرّق‬


‫ن الستثناء يفارق التّخصيص في أ ّ‬
‫وقال الغزاليّ ‪ :‬إ ّ‬
‫ص جميعا ‪ ،‬إذ يجوز أن يقول ‪ :‬له عليّ عشر ٌة إلّ ثلث ًة ‪ ،‬كما يقول ‪ :‬اقتلوا‬
‫إلى الظّاهر والنّ ّ‬
‫ل زيدا ‪ ،‬والتّخصيص ل يتطرّق إلى النّصّ أصلً ‪ ،‬ومن الفرق بينهما أيضا أنّ‬
‫المشركين إ ّ‬
‫ل أو قرين ٍة أو فعلٍ أو دليلٍ عقليّ ‪ .‬هذا‬
‫الستثناء ل بدّ أن يكون بقولٍ ‪ ،‬ويكون التّخصيص بقو ٍ‬
‫وإنّ الفرق الوّل الّذي ذكره الغزاليّ من اشتراط التّصال في الستثناء ‪ ،‬وعدم اشتراطه في‬
‫التّخصيص ‪ ،‬ل يجري عند الحنفيّة ‪ ،‬لقولهم بوجوب اتّصال المخصّصات أيضا ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬النّسخ ‪:‬‬

‫‪ -‬النّسخ ‪ :‬رفع الشّارع حكما من أحكامه بدليلٍ لحقٍ ‪ ،‬والفرق بينه وبين الستثناء ‪ :‬أنّ‬ ‫‪3‬‬

‫النّسخ رفعٌ لما دخل تحت اللّفظ ‪ ،‬والستثناء يدخل على الكلم فيمنع أن يدخل تحت اللّفظ ما‬
‫كان يدخل لوله ‪ ،‬فالنّسخ قطعٌ ورفعٌ ‪ ،‬والستثناء منعٌ أو إخراجٌ ‪ ،‬وأنّ الستثناء متّصلٌ ‪،‬‬
‫والنّسخ ل بدّ أن يكون منفصلً ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الشّرط ‪:‬‬

‫‪ -‬يشبه الستثناء بإلّ وأخواتها الشّرط ( التّعليق ) ‪ ،‬لشتراكهما في منع الكلم من إثبات‬ ‫‪4‬‬

‫ل ‪ ،‬والستثناء يمنع البعض ‪ .‬ويشابه الستثناء‬


‫ن الشّرط يمنع الك ّ‬
‫موجبه ‪ ،‬ويفترقان في أ ّ‬
‫بالمشيئة الشّرط ‪ ،‬لشتراكهما في منع الكلّ وذكر أداة التّعليق ‪ ،‬ولكنّه ليس على طريقه ؛ لنّه‬
‫منعٌ ل إلى غايةٍ ‪ ،‬والشّرط منعٌ إلى غاية تحقّقه ‪ ،‬كما في قولك ‪ .‬أكرم بني تميمٍ إن دخلوا‬
‫داري ‪ .‬ومن هذه الحيثيّة ل يدخل الستثناء بالمشيئة في بحث التّعليق والشّرط ‪ .‬ول يورده‬
‫الفقهاء في مباحث تعليق الطّلق ‪ ،‬وإنّما في باب الستثناء ‪ ،‬لمشاركته له في السم ‪.‬‬
‫‪ -‬القاعدة الصيلة في الستثناء ‪ :‬الستثناء من النّفي إثباتٌ ‪ ،‬والستثناء من الثبات نفيٌ ‪،‬‬ ‫‪5‬‬

‫فنحو ‪ :‬ما قام أحدٌ إلّ زيدا ‪ ،‬يدلّ على إثبات القيام لزيدٍ ‪ ،‬ونحو ‪ :‬قام القوم إلّ زيدا ‪ ،‬يدلّ‬
‫على نفي القيام عنه ‪ ،‬وفي هذا خلف أبي حنيفة ومالكٍ ‪ .‬فأمّا أبو حنيفة فقد قيل ‪ :‬خلفه في‬
‫ن المستثنى من حيث الحكم مسكوتٌ عنه‬
‫المسألتين ‪ .‬وقيل ‪ :‬بل في الثّانية فقط ‪ ،‬فقد قال ‪ :‬إ ّ‬
‫غير محكومٍ عليه ‪ ،‬فزيدٌ في المثال المتقدّم غير محكومٍ بقيامه ول بعدمه ‪ .‬وحاصل الخلف‬
‫ن زيدا بالستثناء دخل في عدم القيام ‪.‬‬
‫ن الجمهور يقولون ‪ :‬إ ّ‬
‫في نحو ‪ :‬قام القوم إلّ زيدا ‪ ،‬أ ّ‬
‫ج من الكلم الوّل ‪ .‬وأمّا مالكٌ‬
‫وعند الحنفيّة انتقل إلى عدم الحكم ‪ .‬وعند الفريقين هو مخر ٌ‬
‫ن الستثناء من النّفي إثباتٌ في غير اليمان ‪ ،‬أمّا في اليمان فليس‬
‫فيوافق الجمهور على أ ّ‬
‫ل الكتّان ‪ ،‬يحنث عند الجمهور إذا قعد ذلك‬
‫الستثناء إثباتا ‪ .‬فمن حلف ‪ :‬ل يلبس اليوم ثوبا إ ّ‬
‫اليوم عاريّا فلم يلبس شيئا ؛ لنّه لمّا كان النّفي إثباتا فقد حلف أن يلبس الكتّان ‪ ،‬فإذا لم يلبسه‬
‫وقعد عاريّا حنث ‪ .‬أمّا عند مالكٍ فل يحنث ‪ ،‬وهو أحد الوجهين عند الشّافعيّة ‪ ،‬ووجّه القرافيّ‬
‫ل ) في هذا المثال ونحوها صف ٌة ‪ ،‬فهي بمعنى غير ‪ ،‬فيكون قد حلف على ألّ‬
‫ذلك بأنّ ( إ ّ‬
‫ف عليها‬
‫ن جميع الثّياب محلو ٌ‬
‫يلبس ثيابا مغاير ًة للكتّان ‪ .‬ووجّهه أيضا بأنّ معنى الكلم ‪ :‬أ ّ‬
‫غير الكتّان ‪.‬‬
‫أنواع الستثناء ‪:‬‬
‫‪ -‬الستثناء إمّا متّصلٌ وإمّا منفصلٌ ‪ .‬فالستثناء المتّصل ‪ :‬ما كان فيه المستثنى بعض‬ ‫‪6‬‬

‫المستثنى منه نحو جاء القوم إلّ زيدا ‪ .‬والستثناء المنقطع ‪ ( :‬ويسمّى المنفصل أيضا ) ما لم‬
‫يكن فيه المستثنى بعض المستثنى منه ‪ ،‬مثل قوله تعالى ‪ { :‬ما لهم به من علمٍ إلّ اتّباع الظّنّ‬
‫ن اتّباع الظّنّ ليس علما ‪ .‬ويتبيّن من هذا أنّ الستثناء المنقطع ل إخراج به ‪ ،‬ول يكون‬
‫} فإ ّ‬
‫ن المستثنى لم يدخل أصلً ‪ .‬هذا ول بدّ للستثناء المنقطع من المخالفة‬
‫من المخصّصات ؛ ل ّ‬
‫بين المستثنى والمستثنى منه بوجهٍ من الوجوه ‪ ،‬فيما يتوهّم فيه الموافقة ‪ .‬والفائدة فيه دفع هذا‬
‫التّوهّم ‪ ،‬وهو في ذلك شبيهٌ ب ( لكنّ ) ‪ ،‬فإنّه للستدراك ‪ ،‬أي دفع التّوهّم من السّابق ‪.‬‬
‫وأشهر صور المخالفة ‪ :‬أن ينفي عن المستثنى الحكم الّذي ثبت للمستثنى منه ‪ ،‬نحو ‪ :‬جاءني‬
‫المدرّسون إلّ طالبا ‪ ،‬فقد نفينا المجيء عن الطّالب بعدما أثبتناه للمدرّسين ‪ .‬ولمّا كان‬
‫الستثناء المنقطع ل إخراج به ‪ ،‬فإنّه ل يكون استثناءً حقيق ًة ‪ ،‬بل هو مجازٌ ‪ .‬قال المحّليّ ‪:‬‬
‫هذا هو الصحّ ‪ ،‬بدليل أنّه يتبادر إلى الذّهن المتّصل دون المنقطع ‪ .‬وعلى هذا جاء حدّ‬
‫ل أخرى موطن تفصيلها‬
‫الستثناء فيما سبق ‪ ،‬فقد عرّف بما ل يشمل المنقطع وفي المسألة أقوا ٌ‬
‫كتب الصول ‪.‬‬
‫صيغة الستثناء ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬ألفاظ الستثناء ‪:‬‬
‫‪ -‬يذكر اللّغويّون والصوليّون للستثناء الحقيقيّ اللفاظ التّالية ‪ :‬إلّ ‪ ،‬وغير ‪ ،‬وسوى ‪،‬‬ ‫‪7‬‬

‫وخل ‪ ،‬وعدا ‪ ،‬وحاشا ‪ ،‬وبيد ‪ ،‬وليس ‪ ،‬ول يكون ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬الستثناء بالمشيئة ونحوها ‪:‬‬
‫‪ -‬شرع اللّه تبارك وتعالى هذا النّوع من الستثناء ‪ ،‬فقد قال لنبيّه صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬ ‫‪8‬‬

‫ل أن يشاء اللّه } ‪ .‬قال القرطبيّ ‪ :‬عاتب اللّه تعالى‬


‫ن لشيءٍ إنّي فاعلٌ ذلك غدا إ ّ‬
‫{ ول تقول ّ‬
‫نبيّه عليه الصلة والسلم على قوله للكفّار حين سألوه عن الرّوح ‪ ،‬والفتية ‪ ،‬وذي القرنين ‪( :‬‬
‫ائتوني غدا ) ولم يستثن في ذلك ‪ .‬فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يوما ‪ ،‬حتّى شقّ ذلك عليه‬
‫‪ ،‬وأرجف الكفّار به ‪ ،‬فنزلت عليه سورة الكهف ‪ ،‬وأمر في هذه الية منها ‪ :‬ألّ يقول في أمرٍ‬
‫ل ‪ ،‬حتّى ل يكون‬
‫ل أن يعلّق ذلك بمشيئة اللّه عزّ وج ّ‬
‫من المور ‪ :‬إنّي أفعل غدا كذا وكذا إ ّ‬
‫ن ذلك ولم يفعل كان كاذبا ‪ ،‬وإذا قال لفعلنّ ذلك إن‬
‫محقّقا لحكم الخبر ‪ ،‬فإنّه إذا قال ‪ :‬لفعل ّ‬
‫شاء اللّه خرج عن أن يكون محقّقا للمخبر عنه ‪ .‬قال القرطبيّ ‪ :‬وقال ابن عطيّة ‪ :‬في الكلم‬
‫ل أن يشاء اللّه ‪ .‬أو ‪ :‬إلّ أن تقول ‪ :‬إن شاء اللّه ‪ .‬وقال ‪:‬‬
‫حذفٌ ‪ ،‬تقديره إلّ أن تقول ‪ :‬إ ّ‬
‫والية ليست في اليمان ‪ ،‬وإنّما هي في سنّة الستثناء في غير اليمين ‪ ،‬وأوضح كذلك أنّ آخر‬
‫الية ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪ { :‬واذكر ربّك إذا نسيت } ‪ .‬يدلّ ‪ -‬على أحد القوال في تفسيرها ‪-‬‬
‫أنّه إذا نسي الستثناء بالمشيئة يقوله بعد ذلك إذا تذكّره ‪ .‬فعن الحسن أنّه قال ‪ :‬ما دام في‬
‫س ‪ :‬سنتين ‪ .‬فيحمل‬
‫مجلس الذّكر ‪ ،‬وعن ابن عبّاسٍ ومجاهدٍ ‪ :‬ولو بعد سنةٍ ‪ ،‬وعن ابن عبّا ٍ‬
‫على تدارك التّبرّك بالستثناء ‪ .‬فأمّا الستثناء المفيد حكما ‪ -‬يعني في اليمين ونحوها ‪ -‬فل‬
‫ن الستثناء بالمشيئة ونحوها يدخل في كلم النّاس في الخبار ‪،‬‬
‫يصحّ إلّ متّصلً ‪ .‬هذا ‪ ،‬وإ ّ‬
‫واليمان ‪ ،‬والنّذور ‪ ،‬والطّلق ‪ ،‬والعتاق ‪ ،‬والوعد ‪ ،‬والعقد ‪ ،‬وغير ذلك ‪ .‬ثمّ يكون له أثره‬
‫ل اليمين ونحوها ‪.‬‬
‫في ح ّ‬
‫شكّ ‪:‬‬
‫استثناء عددين بينهما حرف ال ّ‬
‫‪ -‬إذا قال ‪ :‬له عليّ ألف درهمٍ إلّ مائة درهمٍ أو خمسين درهما ‪ ،‬فقد اختلف في الحاصل‬ ‫‪9‬‬

‫ح عند الحنفيّة ‪ :‬يلزمه تسعمائةٍ ؛ ووجهه أنّه لمّا كان‬


‫على قولين ‪ :‬الوّل ‪ :‬وهو الص ّ‬
‫الستثناء تكلّما بالباقي بعد الثّنيا شككنا في المتكلّم به ‪ ،‬والصل عدم شغل الذّمم ‪ ،‬فثبت القلّ‬
‫‪ .‬والثّاني ‪ :‬وهو ظاهر مذهب الشّافعيّ ‪ ،‬ورواي ٌة عند الحنفيّة ‪ :‬أنّ الستثناء « خروجٌ بعد‬
‫شكّ في المخرج ‪ ،‬فيخرج‬
‫دخولٍ » ‪ .‬يلزمه تسعمائةٍ وخمسون ؛ فإنّه لمّا دخل اللف صار ال ّ‬
‫القلّ ‪ .‬وتفصيل ذلك في القرار والملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫الستثناء بعد جملٍ متعاطفةٍ ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا ورد الستثناء بإلّ ونحوها بعد جملٍ متعاطفةٍ بالواو فعند الحنفيّة والفخر الرّازيّ من‬ ‫‪10‬‬

‫الشّافعيّة ‪ :‬الظّاهر أنّه يتعلّق بالجملة الخيرة فقط ‪ .‬وعند جمهور الشّافعيّة ومن وافقهم ‪:‬‬
‫الظّاهر أنّه يعود إلى الكلّ ‪ .‬وقال الباقلّنيّ بالتّوقّف في عوده إلى ما عدا الخير ‪ .‬وقال‬
‫الغزاليّ بالتّوقّف مطلقا ‪ .‬وقال أبو الحسين المعتزليّ ‪ :‬إن ظهر الضراب عن الولى ‪ ،‬كما لو‬
‫اختلف بالنشائيّة والخبريّة ‪ ،‬أو المريّة والنّهييّة ‪ ،‬أو لم يكن اشتراكٌ في الغرض المسوق له‬
‫الكلم ‪ ،‬فإنّه يعود للخيرة فقط ‪ ،‬وإلّ فللجميع ‪ .‬والنّزاع كما ترى في الظّهور ‪ .‬ول تتأتّى‬
‫دعوى النّصوصيّة في واحدٍ من الحتمالت المذكورة ‪ .‬ولم ينازع أحدٌ أيضا في إمكان عود‬
‫ل ‪ ،‬فقد ثبت ذلك في اللّغة ‪ ،‬هذا إذا كان‬
‫الستثناء إلى الخيرة وحدها ‪ ،‬وإمكان عوده إلى الك ّ‬
‫العطف بالواو ‪ ،‬أمّا إذا كان العطف بالفاء أو ثمّ فالخلف قائمٌ أيضا ‪ ،‬لكن ذهب بعض‬
‫ج الحنفيّة بأنّ‬
‫الشّافعيّة ‪ -‬كإمام الحرمين والمديّ ‪ -‬إلى أنّه يعود حينئذٍ إلى الخير ‪ .‬واحت ّ‬
‫حكم الجملة الولى ‪ ،‬ظاهرٌ في الثّبوت عموما ‪ ،‬ورفعه عن البعض بالستثناء مشكوكٌ فيه‬
‫لجواز كونه للخيرة فقط ‪ ،‬فل يرفع حكم الولى ؛ لنّ الظّاهر ل يعارضه المشكوك ‪ .‬بخلف‬
‫ن الرّفع ظاهرٌ فيها فيما ل صارف له ‪ ،‬فيتعلّق بها ‪.‬‬
‫الخيرة ‪ ،‬فإنّ حكمها غير ظاهرٍ ؛ ل ّ‬
‫واحتجّوا ثانيا بأنّ التّصال من شرط الستثناء ‪ ،‬والتّصال ثابتٌ في الجملة الخيرة ‪ ،‬أمّا فيما‬
‫ل آخر‬
‫ل بدلي ٍ‬
‫ن التّصال بالعطف فقط ضعيفٌ ‪ ،‬فل يعتبر إ ّ‬
‫قبلها فإنّها متّصل ٌة بالعطف ‪ ،‬إلّ أ ّ‬
‫ب لعتبار هذا التّصال ‪ .‬والشّافعيّة ومن معهم احتجّوا بالقياس على الشّرط ‪ ،‬فإنّه إذا‬
‫موج ٍ‬
‫ن العطف يجعل المتعدّد كالمفرد ‪ ،‬فالمتعلّق‬
‫ل رجع إليها اتّفاقا ‪ .‬واحتجّوا أيضا بأ ّ‬
‫تعقّب جم ً‬
‫ن الغرض من الستثناء قد يتعلّق بالكلّ ‪ ،‬فإمّا أن يكرّر‬
‫بالواحد هو المتعلّق بالكلّ ‪ .‬وبأ ّ‬
‫ل جملةٍ ‪ ،‬وإمّا أن يؤتى به بعد واحد ٍة فقط ‪ ،‬أو يؤتى به بعد الجميع ‪ .‬فالتّكرار‬
‫الستثناء بعد ك ّ‬
‫ح ‪ ،‬فبقي الوجه الثّالث ‪ ،‬فيلزم‬
‫ن ‪ ،‬فبطل الوّل وفي الثّاني ترجيحٌ من غير مرجّ ٍ‬
‫مستهج ٌ‬
‫الظّهور فيه ‪.‬‬
‫‪ -‬وممّا اختلف فيه بناءً على هذه القاعدة قول اللّه تبارك وتعالى ‪ { :‬والّذين يرمون‬ ‫‪11‬‬

‫المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلد ًة ول تقبلوا لهم شهاد ًة أبدا وأولئك‬
‫ل الّذين تابوا } ‪ ...‬قال الحنفيّة ‪ :‬الّذين تابوا من القاذفين ل تقبل شهادتهم ‪،‬‬
‫هم الفاسقون إ ّ‬
‫والستثناء عائدٌ على الحكم بفسقهم ‪ .‬وقال الشّافعيّة ومن وافقهم ‪ :‬تقبل شهادتهم ؛ لنّ‬
‫الستثناء يعود على الجمل الثّلث ‪ .‬أمّا الجلد فاتّفق على عدم سقوطه بالتّوبة لجل الدّليل‬
‫المانع من تعلّق الستثناء بقوله تعالى ‪ { :‬فاجلدوهم ثمانين جلدةً } والمانع هو كون الجلد حقّا‬
‫ي ل يسقط بالتّوبة ‪.‬‬
‫للدميّ ‪ ،‬وحقّ الدم ّ‬
‫الستثناء بعد المفردات المتعاطفة ‪:‬‬
‫‪ -‬إن كان الستثناء بعد مفرداتٍ متعاطف ٍة فالخلف فيه كالخلف في الجمل ‪ ،‬ولكن صرّح‬ ‫‪12‬‬

‫الشّافعيّة بأنّه أولى بعوده للكلّ من الوارد بعد الجمل المتعاطفة ‪ ،‬وذلك لعدم استقلل المفردات‬
‫‪ .‬نحو ‪ :‬تصدّق على الفقراء والمساكين وابن السّبيل إلّ الفسقة منهم ‪.‬‬
‫الستثناء العرفيّ بعد المتعاطفات ‪:‬‬
‫‪ -‬أمّا الستثناء العرفيّ بإن شاء اللّه ونحوها ‪ ،‬فإنّه إذا تعقّب جملً نحو ‪ :‬واللّه ل آكل ول‬ ‫‪13‬‬

‫أشرب إن شاء اللّه ‪ ،‬فيتعلّق بالجميع اتّفاقا ‪ .‬ووجهه أنّه شرطٌ وليس من حقيقة الستثناء ‪،‬‬
‫ح تعلّقه بالوّل ؛ لنّه مقارنٌ له‬
‫والشّرط مق ّدمٌ تقديرا ؛ لنّ له صدر الكلم باتّفاق النّحاة ‪ ،‬فيص ّ‬
‫خرٌ لفظا أو تقديرا ‪.‬‬
‫تقديرا ‪ .‬بخلف الستثناء فإنّه مؤ ّ‬
‫الستثناء بعد الستثناء ‪:‬‬
‫‪ -‬هذا النّوع من الستثناء ينقسم قسمين ‪ :‬الوّل ‪ :‬الستثناءات المتعدّدة المتعاطفة نحو ‪ :‬له‬ ‫‪14‬‬

‫ل ثلثةً ‪ ،‬وإلّ اثنين ‪ .‬وحكمها أن تعود كلّها إلى المستثنى منه‬


‫ل أربعةً ‪ ،‬وإ ّ‬
‫عليّ عشرةٌ إ ّ‬
‫المذكور قبلها ‪ .‬فيلزمه في المثال المذكور واحدٌ فقط ‪ .‬الثّاني ‪ :‬الستثناءات المتوالية بدون‬
‫ل منها يعود إلى ما قبله ‪ .‬فلو قال ‪ :‬له عليّ‬
‫عاطفٍ إن لم يكن أحدها مستغرقا لما قبله ‪ ،‬فإنّ ك ّ‬
‫ل درهمين‬
‫ن خمسة إ ّ‬
‫ح ‪ ،‬وكان مقرّا بستّ ٍة ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ل خمس ًة إلّ درهمين ‪ ،‬ص ّ‬
‫ل سبعةً ‪ ،‬إ ّ‬
‫عشرةٌ إ ّ‬
‫عبارة عن ثلث ٍة استثناها من سبعةٍ بقي أربع ٌة ‪ ،‬استثناها من عشر ٍة بقي ستّةٌ ‪ .‬وإن كان أحد‬
‫الستثناءات مستغرقا لما قبله فإنّها ل تبطل ‪ ،‬بل تعود جميعها إلى المستثنى منه ‪ ،‬وفي ذلك‬
‫تفصيلٌ واختلفٌ ‪.‬‬
‫شروط الستثناء‬
‫‪ -‬شروط الستثناء عامّ ٌة ‪ ،‬ما عدا شرط الستغراق ‪ ،‬فإنّه ل يأتي في الستثناء بالمشيئة ‪،‬‬ ‫‪15‬‬

‫وقد صرّح بذلك الرّمليّ ‪ ،‬وسيأتي أيضا أنّ شرط القصد مختلفٌ فيه في الستثناء بالمشيئة ‪.‬‬
‫الشّرط الوّل ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط في الستثناء أن يكون متّصلً بالمستثنى منه ‪ ،‬بألّ يكون مفصولً بما يعدّ في‬ ‫‪16‬‬

‫ل أو نحوهما لم يمنع التّصال ‪ ،‬وكذلك إن حال‬


‫س أو سعا ٍ‬
‫العادة فاصلً ‪ .‬فلو كان مفصولً بتنفّ ٍ‬
‫بين المستثنى والمستثنى منه كلمٌ غير أجنبيّ ‪ ،‬ومنه النّداء ؛ لنّه للتّنبيه والتّأكيد ‪ .‬أمّا إن‬
‫سكت سكوتا يمكنه الكلم فيه ‪ ،‬أو فصل بكل ٍم أجنبيّ ‪ ،‬أو عدل إلى شي ٍء آخر استقرّ حكم‬
‫المستثنى فلم يرتفع ‪ ،‬بخلف ما ل يمكن ‪ ،‬كما لو أخذ آخذٌ بفمه فمنعه الكلم ‪ .‬هذا هو القول‬
‫المقدّم عند الصوليّين والفقهاء ‪ ،‬ويشترط لتحقّق التّصال أن ينوي الستثناء في الكلم السّابق‬
‫ح ‪ .‬وعند المالكيّة ‪ :‬العمدة مجرّد التّصال سواءٌ‬
‫ل بعد فراغ المستثنى منه لم يص ّ‬
‫‪ ،‬فلو لم ينو إ ّ‬
‫نوى أوّل الكلم ‪ ،‬أو أثناءه ‪ ،‬أو بعد فراغ المستثنى منه ‪ .‬وقد نقل خلف هذا عن قو ٍم ‪ .‬فعن‬
‫ابن عبّاسٍ يجوز الستثناء إلى شهرٍ ‪ ،‬وقيل أبدا ‪ .‬وعن سعيد بن جبيرٍ ‪ :‬إلى أربعة أشهرٍ ‪،‬‬
‫وعن عطاءٍ والحسن ‪ :‬يجوز في المجلس ‪ ،‬وأومأ إليه أحمد في الستثناء في اليمين ‪ ،‬وعن‬
‫مجاهدٍ ‪ :‬إلى سنتين ‪ .‬وقيل ‪ :‬ما لم يأخذ في كلمٍ آخر ‪ .‬وقيل ‪ :‬إن نوى الستثناء في أثناء‬
‫الكلم جاز التّأخير بعده ‪ .‬ونسب هذا القول إلى المام أحمد ‪ .‬وقيل ‪ :‬يجوز التّأخير في كلم‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم لمّا حرّم مكّة ‪ ،‬وقال ‪ « :‬ل يختلى‬
‫اللّه تعالى خاصّةً ‪ .‬وما ورد أ ّ‬
‫ل الذخر ‪ ،‬فإنّه لقينهم وبيوتهم ‪،‬‬
‫شوكها ‪ ،‬ول يعضد شجرها ‪ ،‬قال العبّاس ‪ :‬يا رسول اللّه إ ّ‬
‫فقال ‪ :‬إلّ الذخر » فهذا ظاهره أنّه استثناءٌ منفصلٌ ‪ .‬فحمل على أنّه استثنا ٌء من محذوفٍ‬
‫مق ّدرٍ ‪ .‬فكأنّه كرّر القول ‪ ،‬فل يتعلّق بالكلم المذكور أ ّولً وحجّة الجمهور القائلين بوجوب‬
‫ب في شيءٍ‬
‫ل يجزم بصدقٍ أو كذ ٍ‬
‫التّصال ؛ أنّ القول بجواز الستثناء غير المتّصل يستلزم أ ّ‬
‫من الخبار لحتمال الستثناء ‪ ،‬وكذلك ل يثبت عق ٌد من العقود ‪ ،‬ولجماع أئمّة اللّغة على‬
‫ل ما روي‬
‫وجوب التّصال ‪ .‬فلو قال ‪ :‬له عشرةٌ ‪ ،‬ثمّ زاد بعد شهرٍ ‪ :‬إلّ ثلث ًة يعدّ لغوا ‪ .‬ولع ّ‬
‫ن من نسي أن يقول ‪ « :‬إن شاء اللّه »‬
‫س ‪ ،‬ومن قال شبه قوله ‪ ،‬إنّما قصد به أ ّ‬
‫عن ابن عبّا ٍ‬
‫يقولها متى تذكّر ذلك ‪ ،‬ولو بعد مدّةٍ طويلةٍ ‪ ،‬امتثالً للية ‪ ،‬وليس في الستثناء الموجب رفع‬
‫حكم المستثنى كما تقدّم ‪.‬‬
‫الشّرط الثّاني ‪:‬‬
‫ل يكون المستثنى مستغرقا للمستثنى منه ‪ ،‬فإنّ الستثناء‬
‫‪ -‬ويشترط في الستثناء أ ّ‬ ‫‪17‬‬

‫ل عند من شذّ ‪ .‬وادّعى البعض الجماع عليه ‪ .‬فلو‬


‫ل اتّفاقا ‪ ،‬إ ّ‬
‫المستغرق للمستثنى منه باط ٌ‬
‫قال ‪ « :‬له عليّ عشر ٌة إلّ عشرةً » لغا قوله « إلّ عشر ًة » ولزمه عشرةٌ كامل ٌة ‪ .‬وممّن شذّ‬
‫ابن طلحة المالكيّ في المدخل ‪ ،‬نقل عنه القرافيّ أنّه قال فيمن قال لزوجته ‪ « :‬أنت طالقٌ‬
‫ثلثا إلّ ثلثا » ‪ :‬ل يقع عليه طلقٌ ‪ .‬وعند الحنفيّة في ذلك تفصيلٌ ‪ ،‬فهم يوافقون على‬
‫ل عبيدي ‪ ،‬أو بلفظٍ‬
‫بطلن الستثناء إن كان بعين لفظ المستثنى منه ‪ ،‬كقوله ‪ :‬عبيدي أحرارٌ إ ّ‬
‫ل زوجاتي ‪ .‬أمّا إن كان بغيرهما كقوله ‪ :‬ثلث مالي لزيدٍ‬
‫مساوٍ له ‪ ،‬كقوله ‪ :‬نسائي طوالق إ ّ‬
‫ح الستثناء ول يستحقّ زيدٌ شيئا ‪ .‬فالشّرط عند الحنفيّة إيهام البقاء‬
‫إلّ ألفا ‪ ،‬والثّلث ألفٌ ‪ .‬فيص ّ‬
‫ستّة ل صحّة لها من‬
‫ح ‪ ،‬ووقع ثنتان ‪ .‬وإن كانت ال ّ‬
‫ل أربعا ص ّ‬
‫ل حقيقته ‪ ،‬حتّى لو طلّقها ستّا إ ّ‬
‫ن الطّلق ل يزيد عن ثلثٍ ‪ ،‬ومع هذا ل يجعل كأنّه قال ‪ :‬أنت طالقٌ ثلثا‬
‫حيث الحكم ؛ ل ّ‬
‫ن اعتبار اللّفظ أولى ‪ .‬وجعل صاحب المغني من الحنابلة من الستثناء‬
‫إلّ أربعا ‪ ،‬فكأ ّ‬
‫ل درهمين » فل يصحّ‬
‫ي ثلثة دراهم ودرهمان إ ّ‬
‫المستغرق أن يقول مثلً ‪ « :‬له عل ّ‬
‫الستثناء ‪ ،‬ويلزمه جميع ما أقرّ به ‪ ،‬وهو في مثالنا خمسة دراهم ‪.‬‬
‫استثناء الكثر والقلّ ‪:‬‬
‫‪ -‬أكثر العلماء على أنّه يجوز استثناء النّصف ‪ ،‬وما زاد على النّصف ‪ ،‬ما لم يكن‬ ‫‪18‬‬

‫مستغرقا كما تقدّم ‪ ،‬نحو ‪ « :‬له عليّ عشر ٌة إلّ ستّةً أو ‪ :‬له عليّ عشر ٌة إلّ خمسةً » ‪ .‬ونسب‬
‫صاحب فواتح الرّحموت هذا القول إلى الحنفيّة ‪ ،‬والكثر من المالكيّة والشّافعيّة ‪ .‬وخالف في‬
‫ذلك الحنابلة ‪ ،‬والقاضي أبو بكرٍ الباقلّنيّ من المالكيّة ‪ .‬قيل ‪ :‬إنّما يمنع الحنابلة استثناء أكثر‬
‫من النّصف ‪ ،‬ويجيزون استثناء النّصف ‪ .‬وقيل ‪ :‬يمنعون النّصف أيضا ‪ .‬وفي المسألة قولٌ‬
‫ل من المستثنى والمستثنى منه عددا صريحا ‪ .‬قيل‬
‫ثالثٌ ‪ :‬أنّه يمنع استثناء الكثر إن كان ك ّ‬
‫وبهذا قال القاضي الباقلّنيّ آخرا ‪ .‬وقد احتجّ لجواز استثناء الكثر في غير العدد بقول اللّه‬
‫ل من اتّبعك من الغاوين } والغاوون هم الكثر‬
‫ن عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ إ ّ‬
‫تعالى ‪ { :‬إ ّ‬
‫لقوله تعالى ‪ { :‬وما أكثر النّاس ولو حرصت بمؤمنين } واحتجّ لجوازه أيضا في العدد باتّفاق‬
‫الفقهاء جميعا على لزوم واحدٍ في القرار بلفظ ‪ « :‬له عليّ عشر ٌة إلّ تسعةً » واحتجّ الحنابلة‬
‫بأنّ أئمّة اللّغة أنكروا أن يكون استثناء الكثر جائزا لغ ًة ‪ ،‬منهم ابن ج ّنيّ ‪ ،‬وال ّزجّاج ‪،‬‬
‫ل من الكثير ‪.‬‬
‫ل في قلي ٍ‬
‫والقتيبيّ ‪ .‬قال ال ّزجّاج ‪ :‬لم يأت الستثناء إ ّ‬
‫الشّرط الثّالث ‪:‬‬
‫‪ -‬ويشترط في الستثناء أن يكون المستثنى ممّا يدخل تحت المستثنى منه ‪ ،‬واختلف العلماء‬ ‫‪19‬‬

‫في صحّة الستثناء إذا كان المستثنى من غير جنس المستثنى منه ‪ ،‬فجوّزه مالكٌ ‪ ،‬والشّافعيّ ‪،‬‬
‫والباقلّنيّ ‪ ،‬وجماع ٌة من المتكلّمين ‪ .‬ومثال ذلك قوله ‪ :‬له عليّ ألفٌ من الدّنانير إلّ فرسا » ‪.‬‬
‫وكذا لو قال ‪ :‬له عليّ فرسٌ إلّ عشرة دنانير ‪ ،‬فيجبر على البيان فإن استغرقت القيمة المقرّ‬
‫به بطل الستثناء ‪ .‬ولزمه اللف بتمامها ‪ .‬وأمّا الحنفيّة ‪ ،‬فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يصحّ‬
‫استحسانا استثناء المقدّر من المقدّر الكيليّ والوزنيّ ‪ ،‬والمعدود الّذي ل تتفاوت آحاده ‪،‬‬
‫كالفلوس والجوز ‪ ،‬من الدّراهم والدّنانير ‪ .‬وذلك لنّها تثبت في ال ّذمّة فاعتبرت جنسا واحدا ‪،‬‬
‫فكانت كالذّهب والفضّة ‪ .‬وتطرح قيمة المستثنى ممّا أقرّ به ‪ .‬ويصحّ عندهما هذا النّوع من‬
‫الستثناء ولو استغرقت القيمة جميع ما أقرّ به ‪ ،‬لستغراقه بغير المساوي ‪ .‬والقول الخر‬
‫للحنفيّة أنّه ل يصحّ ‪ ،‬وهو قول مح ّمدٍ وزفر ‪ .‬وهو القياس ‪ .‬أمّا في غير المقدّرات ‪ ،‬كما لو‬
‫ح عند الحنفيّة جميعا ‪ ،‬قياسا واستحسانا ‪ .‬وعند‬
‫قال ‪ :‬له عليّ مائة دره ٍم إلّ ثوبا ‪ ،‬فل يص ّ‬
‫الحنابلة الستثناء من غير الجنس ل يصحّ إلّ أن يستثنى الدّراهم من الدّنانير ‪ ،‬أو الدّنانير من‬
‫ن الستثناء من غير الجنس‬
‫الدّراهم ‪ .‬وفي روايةٍ عندهم ل يصحّ مطلقا ‪ .‬وحجّة المجيزين أ ّ‬
‫ورد في القرآن ‪ ،‬منه قوله تعالى ‪ { :‬وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لدم فسجدوا إلّ إبليس كان من‬
‫ن } ‪ .‬وقال اللّه تعالى ‪ { :‬ل يسمعون فيها لغوا ول تأثيما إلّ قيلً سلما سلما } ‪ .‬وحجّة‬
‫الج ّ‬
‫ن الستثناء صرف اللّفظ بحرف الستثناء عمّا كان يقتضيه لوله ‪ .‬وغير الجنس‬
‫المانعين أ ّ‬
‫المذكور ليس بداخلٍ في الكلم ‪ ،‬فإذا ذكره فما صرف الكلم عن صوبه ‪ ،‬ول ثناه عن وجه‬
‫استرساله ‪ ،‬فل يكون استثناءً ‪ ،‬وإنّما يسمّى هذا النّوع استثناءً مجازا ‪ ،‬وهو ما تقدّم بيانه في‬
‫ن ‪ ،‬فإذا‬
‫ل بمعنى لك ّ‬
‫الستثناء المنقطع ( ف ‪ ) 6 /‬وإنّما هو في الحقيقة استدراكٌ ‪ ،‬وتكون إ ّ‬
‫ذكر الستدراك بعد القرار ‪ ،‬كأن قال ‪ :‬له عندي مائة درهمٍ إلّ ثوبا لي عليه كان باطلً ؛‬
‫لنّه يكون مقرّا بشيءٍ ‪ ،‬مدّعيا لشيءٍ سواه ‪ ،‬فيقبل إقراره ‪ ،‬وتبطل دعواه وهي الستثناء ‪.‬‬
‫ن قدر الدّنانير من الدّراهم معلومٌ ‪ ،‬ويعبّر بأحدهما عن‬
‫وحجّة من فرّق بين الثمان وغيرها أ ّ‬
‫الخر ‪ ،‬فإذا استثنى أحدهما من الخر علم أنّه أراد التّعبير بأحدهما عن الخر ‪ ،‬فإنّ قوما‬
‫يسمّون عشرة دراهم دينارا ‪ ،‬وفي بل ٍد أخرى يسمّون ثمانية دراهم دينارا ‪.‬‬
‫الشّرط الرّابع ‪ :‬التّلفّظ بالستثناء‬
‫‪ -‬ذهب ابن حبيبٍ من المالكيّة إلى أنّه يجزئ في الستثناء تحريك الشّفتين إن لم يكن‬ ‫‪20‬‬

‫مستحلفا ‪ ،‬فإن كان مستحلفا لم يجزئه إلّ الجهر ‪ .‬وقال ابن القاسم ‪ :‬ينفعه وإن لم يسمعه‬
‫المحلوف له ‪ .‬واشترط الشّافعيّة للستثناء أن يتلفّظ به بحيث يسمع غيره ‪ ،‬وإلّ فالقول قول‬
‫خصمه في النّفي ‪ ،‬وحكم بالوقوع إذا حلف الخصم على نفي الستثناء ‪ .‬هذا فيما يتعلّق به حقّ‬
‫الغير ‪ ،‬أمّا فيما عداه فيكفي أن يسمع نفسه ‪ ،‬إن اعتدل سمعه ول عارض ‪ ،‬ويديّن فيما بينه‬
‫وبين اللّه تعالى ‪ .‬ولم يظهر للحنابلة تعرّضٌ لصفة النّطق المعتبرة في الستثناء ‪ ،‬غير أنّهم‬
‫فرّقوا في نيّة الستثناء بالقلب بين أن يكون المستثنى منه المنطوق به عامّا ‪ ،‬كقوله ‪ :‬نسائي‬
‫طوالق ‪ ،‬واستثنى بقلبه واحد ًة ‪ ،‬فيكون له استثناؤه ديان ًة ل قضاءً ؛ لنّ قوله « نسائي » اسمٌ‬
‫عامّ يجوز التّعبير به عن بعض ما وضع له ‪ ،‬وبين أن يكون نصّا فيما يتناوله ل يحتمل غيره‬
‫كالعدد ‪ ،‬فل يرتفع بال ّنيّة ما ثبت باللّفظ ‪ ،‬كقوله ‪ :‬نسائي الربع أو الثّلث طوالق ‪ ،‬فل يقبل‬
‫استثناؤه ظاهرا ‪ ،‬وقيل ل يقبل ول باطنا ‪ .‬وعند الحنفيّة الصّحيح أنّه إذا تكلّم بالطّلق‬
‫واستثنى فل بدّ أن يكون استثناؤه مسموعا ‪ ،‬والمراد ما شأنه أن يسمع ‪ ،‬بحيث لو قرّب‬
‫شخصٌ أذنه إلى فمه يسمع استثناءه ‪ ،‬ولو حال دون سماع المنشئ للكلم صممٌ أو كثرة‬
‫ظ مسموعٍ‬
‫أصواتٍ ‪ .‬وفي قول الكرخيّ من الحنفيّة ليس من شرط صحّة الستثناء أن يكون بلف ٍ‬
‫ح ‪ ،‬حتّى لو تلفّظ بالطّلق وكتب الستثناء‬
‫ن الستثناء بالكتابة صحي ٌ‬
‫ويقول الحنفيّة أيضا ‪ :‬إ ّ‬
‫موصولً ‪ ،‬أو عكس ‪ ،‬أو أزال الستثناء بعد الكتابة لم يقع الطّلق ‪ .‬وجاء في التتارخانية من‬
‫ن الزّوجة إذا سمعت الطّلق ولم تسمع الستثناء ل يسعها أن تمكّنه من الوطء‬
‫كتب الحنفيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫‪ ،‬ويلزمها منازعته ‪.‬‬
‫‪ -‬ولو اختلف الزّوجان في صدور الستثناء ‪ ،‬فادّعاه الزّوج وأنكرته الزّوجة ‪ ،‬فيقبل قوله‬ ‫‪21‬‬

‫ل ببيّنةٍ‬
‫ل عند الحنفيّة ‪ :‬ل يقبل إ ّ‬
‫‪ .‬وهذا ظاهر الرّواية عن أبي حنيفة ‪ .‬وهو المذهب ‪ .‬وفي قو ٍ‬
‫‪ ،‬عليه العتماد والفتوى احتياطا لغلبة الفساد ‪ ،‬إذ قد يعلّمه ذلك حيلةً بعض من ل يخاف اللّه‬
‫ن دعوى الزّوج خلف الظّاهر ‪ ،‬فإنّه بدعوى الستثناء يدّعي إبطال الموجب بعد‬
‫تعالى ‪ ،‬ول ّ‬
‫العتراف به ‪ .‬فالظّاهر خلف قوله ‪ ،‬وإذا ع ّم الفساد ينبغي الرّجوع إلى الظّاهر ‪ .‬وفي قولٍ‬
‫ثالثٍ عندهم نقله ابن الهمام عن المحيط إن عرف الزّوج بالصّلح فالقول قوله تصديقا له ‪،‬‬
‫وإن عرف بالفسق أو جهل حاله فل ؛ لغلبة الفساد ‪ .‬وأيّده ابن عابدين ‪ .‬ولم نطّلع على‬
‫نصوصٍ لغير الحنفيّة في هذه المسألة ‪.‬‬
‫الشّرط الخامس ‪ :‬القصد ‪:‬‬
‫‪ -‬اشترط المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة لصحّة الستثناء في اليمين والطّلق القصد ‪،‬‬ ‫‪22‬‬

‫سوا ٌء أكان الستثناء حقيقيّا ‪ ،‬بإلّ أو إحدى أخواتها ‪ ،‬أم عرفيّا ‪ ،‬بإن شاء اللّه ونحوه ‪ .‬فل يفيد‬
‫ل اليمين ‪ ،‬ل أن يقصد مجرّد التّبرّك ‪،‬‬
‫ل أن يقصد معنى الستثناء أي ‪ :‬ح ّ‬
‫الستثناء الحالف إ ّ‬
‫أو لم يقصد شيئا ‪ .‬وكذا ل بدّ أن يقصد التّلفّظ به ‪ ،‬فلو جرى الستثناء على ‪ ،‬لسانه سهوا لم‬
‫ينفعه ‪ .‬وقد اتّفقوا أيضا على صحّة هذا القصد إن تحقّق في أوّل النّطق بالكلم المشتمل على‬
‫الستثناء ‪ ،‬أو في أثنائه وقبل الفراغ منه ‪ .‬أمّا إن وجدت ال ّنيّة بعد الفراغ منه فهي صحيحةٌ‬
‫عند الحنابلة بشرط التّصال ‪ .‬أمّا المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة فلكلّ منهم قولن ‪ :‬الوّل وهو المقدّم‬
‫ل بها اليمين أو الطّلق‬
‫ح عند الشّافعيّة ‪ :‬أنّ ال ّنيّة صحيح ٌة وينح ّ‬
‫عند المالكيّة ‪ ،‬ومقابل الص ّ‬
‫بشرط التّصال كما تقدّم ‪ ،‬والقول الثّاني ‪ ،‬وهو غير المقدّم عند المالكيّة وهو الصحّ عند‬
‫الشّافعيّة ‪ :‬أنّ القصد بعد الفراغ ل يصحّ ‪ ،‬فتنعقد اليمين ‪ ،‬ويقع الطّلق ‪ .‬أمّا الحنفيّة فقد‬
‫صرّحوا بعدم اشتراط القصد في الستثناء بالمشيئة ‪ ،‬فيكون عدم اشتراطه في الستثناء بإلّ‬
‫ن الطّلق‬
‫وأخواتها من باب أولى ‪ .‬وهذا ما قاله ( أسدٌ ) من الحنفيّة ‪ ،‬وهو ظاهر المذهب ؛ ل ّ‬
‫مع الستثناء ليس طلقا ‪ .‬وكذا إذا قال ‪ « :‬إن شاء اللّه » من ل يعرف معناها ‪ .‬والقول‬
‫الخر عندهم أنّه يفتقر إلى نيّةٍ ‪ ،‬وهو قول ( خلفٍ ) ‪.‬‬
‫جهالة المستثنى بإلّ وأخواتها ‪:‬‬
‫‪ -‬الستثناء من حيث الجهالة نوعان ‪ :‬الوّل ‪ :‬ما سوى العقود ‪ ،‬كالقرار ‪ ،‬فيجوز أن‬ ‫‪23‬‬

‫ل كأن يقول المقرّ ‪ :‬له عندي ألف دينارٍ إلّ شيئا ‪ ،‬أو ‪ :‬إلّ قليلً ‪،‬‬
‫يستثني المتكلّم شيئا مجهو ً‬
‫أو ‪ :‬إلّ بعضها ‪ ،‬أو يقرّ له بدارٍ ويستثني غرف ًة منها دون أن يعيّنها ‪ .‬وكما يجري في القرار‬
‫يجري في غيره من النّذر واليمين والطّلق وغيرها ‪ .‬ويطالب المتكلّم ببيان ما أبهمه ‪ ،‬ويلزمه‬
‫ذلك إن تعلّق به حقّ الغير ‪ ،‬وفي حكم ذلك في البواب المختلفة تنظر المصطلحات الخاصّة‬
‫بتلك البواب ‪ .‬النّوع الثّاني ‪ :‬العقود ‪ ،‬والستثناء المبهم في العقود باطلٌ ومفسدٌ للعقد ‪ .‬وفي‬
‫الحديث « نهى النّبيّ صلى ال عليه وسلم عن الثّنيا إلّ أن تعلم » ‪ .‬وعلّة ذلك أنّ المعقود‬
‫عليه يشترط أن يكون معلوما ‪ ،‬فلو كان ما استثنى غير معلومٍ عاد المستثنى منه غير معلومٍ ‪،‬‬
‫كمن باع ثوبا إلّ شيئا منه ‪.‬‬
‫‪ -‬وقد وضع الحنفيّة قاعد ًة لما يجوز استثناؤه في العقود بأنّ « ما جاز إيراد العقد عليه‬ ‫‪24‬‬

‫بانفراده صحّ استثناؤه من العقد » فبيع قفيزٍ من صبرةٍ جائزٌ ‪ ،‬فكذا استثناؤه ‪ .‬واشترط‬
‫المالكيّة كذلك معلوميّة المستثنى ‪ ،‬فلو استثنى جزءا شائعا فله استثناء ما شاء ‪ ،‬أمّا إن استثنى‬
‫قدرا معلوما بالكيل من صبرةٍ باعها جزافا ‪ ،‬أو أرطالً من لحم شا ٍة ‪ ،‬لم يجز أن يستثني أكثر‬
‫من قدر الثّلث ‪ ،‬ويجوز عندهم استثناء جل ٍد وساقطٍ من رأسٍ وأكارع ‪ ،‬في السّفر فقط ‪ ،‬وإنّما‬
‫جاز استثناؤهما في السّفر فقط لخفّة ثمنهما فيه دون الحضر ‪ .‬والحنابلة في اشتراط كون‬
‫المستثنى معلوما يوافقون الحنفيّة ‪ ،‬ويقولون بالقاعدة الّتي قرّروها في هذه المسألة ‪ ،‬وإن كانوا‬
‫يخالفونهم في بعض آحاد المسائل ‪ ،‬لمخالفتهم في تحقّق مناط الحكم فيها ‪ ،‬فهم مثلً يجيزون‬
‫استثناء الرّأس والطراف من الشّاة المبيعة ؛ لنّهم اعتبروها معلومةً ‪ .‬واحتجّوا بأنّ النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم « لمّا هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكرٍ وعامر بن فهيرة ‪ ،‬مرّوا براعي‬
‫غنمٍ ‪ ،‬فذهب أبو بكرٍ وعامرٌ ‪ ،‬فاشتريا منه شا ًة وشرطا له سلبها » ‪.‬‬
‫ما يثبت فيه حكم الستثناء الحقيقيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬حكم الستثناء الحقيقيّ عند الجمهور التّخصيص ‪ ،‬وعند الحنفيّة القصر ‪ ،‬لنّهم‬ ‫‪25‬‬

‫ل ‪ .‬ويثبت حكمه هذا حيثما تمّت شروطه المعتبرة‬


‫يشترطون في المخصّص أن يكون مستق ّ‬
‫الّتي تقدّم ذكرها ‪ ،‬فيثبت في العقود والوعود والنّذور واليمان والطّلق ‪ ،‬وسائر التّصرّفات‬
‫القوليّة ‪ ،‬فلو استثنى من المبيع جزءا معلوما من العين ‪ ،‬أو منفعةً معلومةً لمدّةٍ معلوم ٍة جاز ‪،‬‬
‫إلّ أنّه قد يعرض لبعض الستثناءات البطلن لمانعٍ ‪.‬‬
‫ما يثبت فيه حكم الستثناء بالمشيئة ‪:‬‬
‫‪ -‬الستثناء بالمشيئة إذا تمّت شروطه يستتبع أثره وهو ‪ :‬إبطال حكم ما قبله ‪ .‬وهذا‬ ‫‪26‬‬

‫ل بعد النعقاد ‪ ،‬وإمّا بمعنى منع النعقاد ‪ ،‬فإذا بدا للحالف مثلً أن‬
‫البطال إمّا بمعنى الح ّ‬
‫يستثني بعد تمام يمينه تنحلّ يمينه باستثنائه عند من أجاز نيّة الستثناء بعد تمام اليمين ‪ .‬والّذي‬
‫ينويه الحالف قبل الفراغ من يمينه ثمّ يأتي به يمنع انعقاد يمينه ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا ما يبطله الستثناء ‪ ،‬فقد اتّفق الفقهاء على أنّه يبطل اليمين ‪ ،‬لما ورد من الحاديث‬ ‫‪27‬‬

‫الّتي قدّم ذكرها ‪ .‬وأمّا ما عدا ذلك فقد اختلفوا فيه على اتّجاهين ‪ :‬التّجاه الوّل ‪ :‬أنّ الستثناء‬
‫بالمشيئة يمنع انعقاد ما اقترن به من التّصرّفات القوليّة ‪ .‬وهذا مذهب الحنفيّة والشّافعيّة ‪ .‬غير‬
‫ن حكم الستثناء يثبت في صيغ الخبار ‪ ،‬وإن كان إنشاء إيجابٍ ‪ ،‬ل‬
‫ن الحنفيّة نصّوا على أ ّ‬
‫أّ‬
‫ن بعد موتي إن شاء اللّه بطل الستثناء‬
‫في المر والنّهي ‪ .‬فلو قال ‪ :‬اعطوا ثلث مالي لفل ٍ‬
‫ل ما يختصّ باللّسان يبطله الستثناء ‪،‬‬
‫نكّ‬
‫وصحّت الوصيّة ‪ .‬وعن الحلوانيّ من الحنفيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫كالطّلق والبيع ‪ ،‬بخلف ما ل يختصّ به كنيّة الصّوم ‪ ،‬فل يرفعها الستثناء فلو قال ‪ :‬نويت‬
‫ن الستثناء بالمشيئة ل يمنع انعقاد‬
‫صيام غ ٍد إن شاء اللّه ‪ ،‬له أداؤه بتلك ال ّنيّة التّجاه الثّاني ‪ :‬أ ّ‬
‫أيّ تص ّرفٍ ما عدا اليمان ‪ ،‬وهو مذهب المالكيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ .‬وبه قال الوزاعيّ والحسن‬
‫ن الستثناء ( بإن شاء اللّه ) يبطل اليمان ‪،‬‬
‫وقتادة ‪ ،‬فعند المالكيّة ‪ -‬باستثناء ابن الموّاز ‪ -‬أ ّ‬
‫ول يبطل ما قبله في غير اليمان ‪ ،‬فلو أقرّ قائلً ‪ :‬له في ذمّتي ألفٌ إن شاء اللّه ‪ ،‬أو ‪ :‬إن‬
‫ن اللّه شاء أو قضى ‪ .‬وسوا ٌء عند المالكيّة أكان‬
‫قضى اللّه ‪ ،‬لزمه اللف ؛ لنّه لمّا أقرّ علمنا أ ّ‬
‫الطّلق والعتاق منجّزا أم كان معلّقا ‪ .‬قال ابن عبد البرّ من المالكيّة في المشيئة بعد تعليق‬
‫الطّلق ‪ :‬إنّما ورد التّوقيف بالستثناء في اليمين باللّه تعالى ‪ ،‬وقول المتقدّمين ‪ :‬اليمان‬
‫ل باللّه ‪ ،‬وهذا‬
‫بالطّلق والعتاق إنّما جاز على التّقريب والتّساع ‪ ،‬ول يمين في الحقيقة إ ّ‬
‫ن اليمين يبطلها الستثناء ‪ .‬وأمّا غيرها فل يؤثّر‬
‫طلقٌ وعتاقٌ ‪ .‬أمّا الحنابلة فقد نصّوا على أ ّ‬
‫فيه ‪ ،‬كما لو قال ‪ :‬بعتك أو وهبتك كذا إن شاء اللّه ‪ ،‬فيثبت حكم البيع والهبة وهذا هو القول‬
‫المقدّم عندهم ‪ .‬أمّا الطّلق والعتاق ففي رواي ٍة ‪ :‬توقّف أحمد عن القول فيهما ‪ .‬وفي روايةٍ‬
‫أخرى ‪ :‬قطع أنّه ل ينفعه الستثناء فيهما ‪ ،‬وقال ‪ :‬من حلف فقال ‪ :‬إن شاء اللّه لم يحنث ‪،‬‬
‫وليس له استثنا ٌء في الطّلق والعتاق لنّهما ليسا من اليمان ‪ .‬ونقله صاحب المغني أيضا عن‬
‫ن الحديث إنّما تناول اليمان ‪ ،‬وليس هذا بيمينه ‪ ،‬إنّما هو تعليقٌ على‬
‫الحسن وقتادة ‪ ،‬وقال ‪ :‬إ ّ‬
‫شرطٍ ‪.‬‬
‫‪ -‬وذكر متأخّرو الحنابلة في الستثناء في الطّلق والعتاق وغيرهما قولً ثالثا ‪ ،‬قال ابن‬ ‫‪28‬‬

‫ن إيقاع الطّلق والعتاق ل يدخل فيما يبطله الستثناء ‪،‬‬


‫تيميّة ‪ ،‬ونقله روايةً عن أحمد ‪ -‬وهو أ ّ‬
‫أمّا الحلف بالطّلق والعتاق فيدخل ‪ -‬قال ‪ :‬ومن أصحابه من قال ‪ :‬إن كان الحلف بصيغة‬
‫ي الطّلق لفعلنّ كذا ) دخل في حديث الستثناء ‪ ،‬ونفعته المشيئة‬
‫القسم ( كما لو قال ‪ :‬عل ّ‬
‫روايةٌ واحدةٌ ‪ .‬وإن كان بصيغة الجزاء كما لو قال لزوجته ‪ :‬إن فعلت كذا فأنت طالقٌ ففيه‬
‫روايتان ‪ .‬قال ابن تيميّة ‪ :‬وهذا القول هو الصّواب المأثور عن أصحاب رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم وجمهور التّابعين كسعيدٍ والحسن ‪ ،‬لم يجعلوا في الطّلق استثناءً ‪ ،‬ولم يجعلوه من‬
‫اليمان ‪ .‬ثمّ نقل عن الصّحابة وجمهور التّابعين أنّهم جعلوا الحلف بالصّدقة والهدي والعتاق‬
‫ونحو ذلك يمينا مكفّرةً ‪ .‬وقال أحمد ‪ :‬إنّما يكون الستثناء فيما فيه كفّارةٌ ‪ .‬وتمام القول في‬
‫الستثناء في الطّلق المعلّق ينظر في بحث اليمان ‪ ،‬وتمام الكلم على تفريع مسائل الستثناء‬
‫ل مسأل ٍة منها إلى بابها في الطّلق‬
‫وتفصيل الكلم فيها في أبواب الفقه المختلفة ‪ ،‬فيرجع في ك ّ‬
‫والعتاق والهبة واليمين والنّذر وغير ذلك ‪ ،‬وما يتعلّق منه بالمباحث الصوليّة يرجع إليه في‬
‫الملحق الصوليّ ‪.‬‬

‫*استجمارٌ‬
‫التّعريف‬
‫‪ -‬الستجمار لغةً ‪ :‬الستنجاء بالحجارة ‪ ،‬مأخوذٌ من الجمرات والجمار ‪ ،‬وهي الحجار‬ ‫‪1‬‬

‫الصّغيرة ‪ .‬واستجمر واستنجى واحدٌ ‪.‬‬


‫صفته ‪ :‬الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫ب عند الجمهور على التّخيير ‪،‬‬


‫‪ -‬الستنجاء بالحجر ونحوه وحده ‪ ،‬أو بالماء وحده واج ٌ‬ ‫‪2‬‬

‫وسنّ ٌة مؤكّد ٌة عند الحنفيّة ‪ ،‬والجمع بينهما أفضل ‪ .‬ولكن يتعيّن الستنجاء بالماء في المنيّ ‪،‬‬
‫والحيض ‪ ،‬والنّفاس ‪ ،‬وفي البول ‪ ،‬والغائط إذا انتشر انتشارا كثيرا ‪ ،‬واختلف في بول المرأة‬
‫‪ .‬وتفصيل أحكام الستجمار في مصطلح « استنجاءٌ » ‪.‬‬

‫*استحاضةٌ‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬الستحاضة لغ ًة ‪ :‬مصدر استحيضت المرأة فهي مستحاض ٌة ‪ .‬والمستحاضة من يسيل‬ ‫‪1‬‬

‫دمها ول يرقأ ‪ ،‬في غير أيّامٍ معلوم ٍة ‪ ،‬ل من عرق الحيض بل من عرقٍ يقال له ‪ :‬العاذل ‪.‬‬
‫ق انفجر ليس من الرّحم ‪ .‬وعرّفها الشّافعيّة بأنّها ‪:‬‬
‫وعرّف الحنفيّة الستحاضة بأنّها ‪ :‬دم عر ٍ‬
‫دم عّلةٍ يسيل من عرقٍ من أدنى الرّحم يقال له العاذل ‪ ،‬قال الرّمليّ ‪ :‬الستحاضة دمٌ تراه‬
‫المرأة غير دم الحيض والنّفاس ‪ ،‬سوا ٌء اتّصل بهما أم ل ‪ .‬وجعل من أمثلتها الدّم الّذي تراه‬
‫الصّغيرة ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة‬

‫أ ‪ -‬الحيض ‪:‬‬
‫‪ -‬الحيض دمٌ ينفضه رحم امرأ ٍة بالغ ٍة ل داء بها ول حبل ‪ ،‬ولم تبلغ سنّ الياس‬ ‫‪2‬‬

‫ب ‪ -‬النّفاس ‪:‬‬
‫‪ -‬النّفاس دمٌ يخرج عقب الولدة ‪ ،‬وهذا القدر ل خلف فيه ‪ ،‬وزاد المالكيّة في الرجح ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫ومع الولدة ‪ ،‬وزاد الحنابلة ‪ :‬مع ولد ٍة وقبلها بيومين أو ثلثةٍ ‪.‬‬
‫‪ -‬وتفترق الستحاضة عن الحيض والنّفاس بأمورٍ منها ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫ت ‪ ،‬وذلك حين تبلغ المرأة تسع سنين فصاعدا ‪ ،‬فل يكون المرئيّ فيما دونه‬
‫أ ‪ -‬الحيض له وق ٌ‬
‫حيضا ‪ ،‬وكذلك ما تراه بعد سنّ اليأس ل يكون حيضا عند الكثر ‪ ،‬أمّا الستحاضة فليس لها‬
‫وقتٌ معلومٌ ‪.‬‬
‫ل شهرٍ ‪ ،‬أمّا الستحاضة فهي دمٌ شاذّ‬
‫ب ‪ -‬الحيض دمٌ يعتاد المرأة في أوقاتٍ معلوم ٍة من ك ّ‬
‫يخرج من فرج المرأة في أوقاتٍ غير معتادةٍ ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الحيض د ٌم طبيعيّ ل علقة له بأيّ سببٍ مرضيّ ‪ ،‬في حين أنّ دم الستحاضة دمٌ ناتجٌ‬
‫ض أو اختلل الجهزة أو نزف عرقٍ ‪.‬‬
‫عن فسادٍ أو مر ٍ‬
‫ن له رائح ٌة كريهةٌ غالبا ‪ ،‬بينما لون دم الستحاضة أحمر‬
‫د ‪ -‬لون دم الحيض أسود ثخينٌ منت ٌ‬
‫رقيقٌ ل رائحة له ‪.‬‬
‫هـ – دم النّفاس ل يكون إلّ مع ولدةٍ ‪ .‬الستمرار عند الحنفيّة ‪:‬‬
‫– الستحاضة غالبا ما تحصل بالستمرار ‪ ،‬وهو ‪ :‬زيادة الدّم عن أكثر مدّة الحيض أو‬ ‫‪5‬‬

‫النّفاس ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة إذ لم يعتبر الستمرار بهذا المعنى غيرهم ‪ ،‬والستمرار إمّا أن‬
‫يكون في المعتادة أو في المبتدأة ‪.‬‬
‫الستمرار في المعتادة ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا استمرّ دم المعتادة وجاوز أكثر الحيض فطهرها وحيضها ما اعتادت ‪ ،‬وتردّ إلى‬ ‫‪6‬‬

‫عادتها في الحيض والطّهر في جميع الحكام ‪ ،‬بشرط أن يكون طهرها المعتاد أقلّ من ستّة‬
‫أشهرٍ ‪ ،‬أمّا إذا كان طهرها أكثر من ستّة أشهرٍ فل تردّ إلى عادتها في الطّهر ‪ ،‬وقد بيّن ابن‬
‫ل من أدنى مدّة الحمل عادةً ‪ ،‬وأدنى مدّة‬
‫ن الطّهر بين الدّمين أق ّ‬
‫عابدين سبب ذلك فقال ‪ :‬ل ّ‬
‫ل لتقدير طهر المرأة في مثل هذه الحالة‬
‫الحمل كما هو معلو ٌم ستّة أشهرٍ ‪ .‬وللعلماء عدّة أقوا ٍ‬
‫أقواها قولن ‪ ،‬وهما ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬يقدّر طهرها بستّة أشهرٍ إلّ ساعةً ؛ تحقيقا للتّفاوت بين طهر الحمل وطهر الحيض ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬يقدّر طهرها بشهرين ‪ ،‬وهو ما اختاره الحاكم الشّهيد ‪ .‬قال ابن عابدين ‪ :‬إنّ أكثر‬
‫العلماء يقولون بالوّل ‪ ،‬ولكن الفتوى على الثّاني ؛ لنّه أيسر على المفتي والنّساء ‪.‬‬
‫الستمرار في المبتدأة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذكر البركويّ أربع حالتٍ للمبتدأة ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة ‪ ،‬أمّا عند الئمّة الثّلثة ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫الشّافعيّ ‪ ،‬وأحمد ‪ ،‬ومالكٍ ‪ ،‬فسيأتي بيان أحوالها في الموضع التّالي ‪ .‬وثلثٌ من حالت‬
‫‪13‬‬ ‫المبتدأة تتّصل بموضوع الستمرار ‪ ،‬أمّا الحالة الرّابعة للمبتدأة عند الحنفيّة فستأتي ف‬
‫حالت الستمرار في المبتدأة ‪:‬‬
‫‪ -‬الولى ‪ :‬أن يستمرّ بها الدّم من أوّل ما بلغت ‪ ،‬فحينئذٍ يقدّر حيضها من أوّل الستمرار‬ ‫‪8‬‬

‫عشرة أيّا مٍ ‪ ،‬وطهرها عشرين ث مّ ذلك دأبها ‪ ،‬وإذا صارت نفساء فنفاسها يقدّر بأربعين يوما ‪،‬‬
‫س وحي ضٌ ع ند الحنفيّة ‪ ،‬بل ل بدّ‬
‫ث مّ ب عد النّفاس يقدّر بعشر ين يوما طهرا ‪ ،‬إذ ل يتوالى نفا ٌ‬
‫مـن طهرٍ تامّ بينهمـا ‪ ،‬ولمّا كان تقديره بيـن الحيضتيـن عشريـن ‪ ،‬فليكـن كذلك بيـن النّفاس‬
‫والحيض تقديرا مطّردا ‪.‬‬
‫الثّانية ‪ :‬أن ترى دما وطهرا فاسدين ‪ ،‬والدّم الفاسد عند الحنفيّة ما زاد على عشرة أيّامٍ ‪،‬‬
‫والطّهر الفاسد ما نقص عن خمسة عشر يوما ‪ ،‬فل يعتدّ بما رأت من حيث نصب العادة به ‪،‬‬
‫بل يكون حيضها عشرةً ‪ ،‬ولو حكما ‪ ،‬من حين استمرّ بها الدّم ‪ ،‬ويكون طهرها عشرين ‪،‬‬
‫وذلك دأبها حتّى ترى دما وطهرا صحيحين ‪ .‬بيان ذلك ‪ :‬مراهق ٌة ( أي مقاربةٌ للبلوغ ) رأت‬
‫أحد عشر يوما دما وأربعة عشر طهرا ‪ ،‬ثمّ استمرّ بها الدّم ‪ ،‬فحيضها عشر ٌة وطهرها‬
‫عشرون ‪ ،‬والطّهر النّاقص الفاصل بين الدّمين يعتبر كالدّم المستمرّ حكما ‪ ،‬وعليه تكون هذه‬
‫كالّتي استمرّ بها الدّم من أوّل ما بلغت ‪ ،‬فيكون حيضها عشرة أيّامٍ من أوّل أيّام الدّم الحد‬
‫عشر وطهرها عشرين ‪ .‬هذا إذا كان الطّهر فاسدا بأن كان أقلّ من خمسة عشر يوما ‪ ،‬أمّا إذا‬
‫كان خمسة عشر يوما فأكثر وقد فسد بمخالطته دم الستحاضة ‪ ،‬كمبتدأةٍ رأت أحد عشر دما‬
‫وخمسة عشر طهرا ث ّم استمرّ بها الدّم ‪ ،‬فالدّم الوّل فاسدٌ لزيادته على العشرة ‪ ،‬والطّهر‬
‫ح ظاهرا لنّه تامّ إذ هو خمسة عشر يوما ‪ ،‬ولكنّه فاسدٌ في المعنى لنّ أوّله دمٌ ‪ ،‬وهو‬
‫صحي ٌ‬
‫اليوم الزّائد على العشرة ‪ ،‬وليس من الحيض عند الحنفيّة ؛ لنّ أكثر الحيض عشرة أيّامٍ فقط‬
‫عندهم فهو من الطّهر ‪ ،‬وبما أنّ الطّهر خالطه الدّم في أوّله فل يصلح أن يكون عادةً ‪ .‬قال‬
‫ن فساد الدّم يفسد الطّهر المتخلّل فيجعله‬
‫ابن عابدين في شرح رسالة الحيض ‪ :‬والحاصل أ ّ‬
‫كالدّم المتوالي ‪ ،‬فتصير المرأة كأنّها ابتدئت بالستمرار ‪ ،‬ويكون حيضها عشرةً وطهرها‬
‫عشرين ‪ ،‬ولكن إن لم يزد الدّم والطّهر على ثلثين يعتبر ذلك من أوّل ما رأت ‪ ،‬وإن زاد‬
‫يعتبر من أوّل الستمرار الحقيقيّ ‪ ،‬ويكون جميع ما بين دم الحيض الوّل ودم الستمرار‬
‫طهرا ‪.‬‬
‫ن الدّم الصّحيح يعتبر عاد ًة لها فقط ‪ ،‬فتردّ‬
‫الثّالثة ‪ :‬أن ترى دما صحيحا ‪ ،‬وطهرا فاسدا ‪ ،‬فإ ّ‬
‫إليه في زمن الستمرار ‪ ،‬ويكون طهرها أثناء الستمرار بقيّة الشّهر ‪ .‬فلو رأت المبتدأة خمسةً‬
‫دما وأربعة عشر طهرا ثمّ استمرّ الدّم ‪ ،‬فحيضها خمسةٌ وطهرها بقيّة الشّهر خمسةٌ‬
‫وعشرون ‪ ،‬فتصلّي من أوّل الستمرار أحد عشر يوما تكملة الطّهر ‪ ،‬ثمّ تترك الصّلة‬
‫خمسةً ‪ ،‬ثمّ تغتسل وتصلّي خمسةً وعشرين وهكذا ‪ ،‬وكذلك الحكم إذا كان الطّهر فاسدا في‬
‫المعنى فقط ‪ ،‬كما لو رأت المبتدأة ثلث ًة دما وخمسة عشر طهرا ‪ ،‬ث ّم يوما دما ثمّ خمسة عشر‬
‫طهرا ثمّ استمرّ بها الدّم ‪ ،‬فإنّ اليوم الّذي رأت فيه الدّم ‪ -‬وقد توسّط بين الطّهرين ‪ -‬أفسدهما‬
‫معا لنّه ل يعتبر حيضا فهو من الطّهر ‪ ،‬وعليه ‪ :‬فاليّام الثّلثة الولى حيضٌ ‪ ،‬وواحدٌ‬
‫وثلثون يوما طهرٌ ‪ ،‬ثمّ تستأنف من أوّل الستمرار فثلث ٌة حيضٌ ‪ ،‬وسبع ٌة وعشرون طهرٌ ‪،‬‬
‫وهكذا دأبها ‪ ،‬وبهذا تشترك هذه المسألة مع السّابقة في الحكم ‪ ،‬من حيث نصب العادة عند‬
‫ل شهرٍ ‪ .‬وإذا كان الطّهر الثّاني الّذي مرّ بها قبل الستمرار طهرا فاسدا ‪-‬‬
‫الستمرار في ك ّ‬
‫ل من خمسة عشر يوما ‪ -‬فالحكم يختلف عمّا تقرّر ؛ لنّه أمكن اعتبار اليوم الّذي رأت‬
‫لنّه أق ّ‬
‫فيه الدّم بعد الخمسة عشر الولى من أيّام الحيض ‪ .‬فلو رأت المراهقة ثلثة أيّامٍ دما ‪ ،‬ثمّ‬
‫خمسة عشر يوما طهرا ‪ ،‬ث ّم يوما دما ‪ ،‬ثمّ أربعة عشر يوما طهرا ‪ ،‬ثمّ استمرّ بها الدّم ‪،‬‬
‫ح ‪ ،‬فهو حيضٌ ‪ ،‬والخمسة عشر بعدها طهرٌ صحيحٌ ‪ ،‬واليوم‬
‫فاليّام الثّلثة الول دمٌ صحي ٌ‬
‫الّذي بعدها مع اثنين ممّا بعده حيضٌ ‪ ،‬ث ّم طهرها خمسة عشر ‪ ،‬اثنا عشر من أيّام النقطاع‬
‫الّتي سبقت الستمرار ‪ ،‬وثلثةٌ من أوّل الستمرار ‪ ،‬ولهذا تصلّي من أوّل الستمرار ثلث ًة ثمّ‬
‫تعتبر حائضا ثلثةً فتترك فيها الصّلة ‪ ،‬ث ّم تغتسل وتصلّي خمسة عشر يوما ‪ ،‬وهكذا يقدّر‬
‫حيضها بثلث ٍة وطهرها بخمسة عشر ‪.‬‬
‫أمّا الحالة الرّابعة فستبحث في الفقرة استحاضة المبتدأة بالحمل ‪.‬‬
‫استحاضة المبتدأة بالحيض ‪ ،‬والمبتدأة بالحمل ‪:‬‬
‫ض فابتدأت بالدّم ‪ ،‬واستمرّ بها ‪ .‬فعند الحنفيّة‬
‫‪ -‬المبتدأة بالحيض هي الّتي كانت في أوّل حي ٍ‬ ‫‪9‬‬

‫تقدّم تفصيل حكمها ‪.‬‬


‫‪ -‬وعند المالكيّة تعتبر المبتدأة بأترابها ‪ ،‬فإن تجاوزتهنّ فرواية ابن القاسم في المدوّنة ‪:‬‬ ‫‪10‬‬

‫تتمادى إلى تمام خمسة عشر يوما ‪ ،‬ثمّ هي مستحاضةٌ تغتسل وتصلّي وتصوم ‪ .‬وفي رواية‬
‫سنّ ‪ ،‬فتأخذ بعوائدهنّ في‬
‫ابن زيادٍ عن مالكٍ ‪ :‬أنّها تقتصر على عوائد أترابها أي في ال ّ‬
‫الحيض من قلّة الدّم وكثرته ‪ ،‬يقال إنّها تقيم قدر أيّام لدّاتها ‪ ،‬ثمّ هي مستحاض ٌة بعد ذلك تصلّي‬
‫ل أن ترى دما تستكثره ل تشكّ فيه أنّه دم حيض ٍة ‪ .‬وقالوا أيضا ‪ :‬إنّ المستحاضة‬
‫وتصوم ‪ ،‬إ ّ‬
‫ن أو لونٍ أو تأّلمٍ ‪ ،‬فهو‬
‫إذا عرفت أنّ الدّم النّازل هو دم الحيض ‪ ،‬بأن ميّزته بريحٍ أو ثخ ٍ‬
‫حيضٌ بشرط أن يتقدّمه أقلّ الطّهر ‪ ،‬وهو خمسة عشر يوما ‪ ،‬فإن لم تميّز ‪ ،‬أو ميّزت قبل‬
‫ل الطّهر فهي مستحاضةٌ أي باقي ٌة على أنّها طاهرةٌ ‪ ،‬ولو مكثت على ذلك طول حياتها‬
‫تمام أق ّ‬
‫‪.‬‬
‫‪ -‬وأمّا المبتدأة بالحيض عند الشّافعيّة ‪ ،‬فقد قالوا ‪ :‬المبتدأة إمّا أن تكون مميّز ًة لما تراه أو‬ ‫‪11‬‬

‫ل ‪ ،‬فإذا كانت المبتدأة مميّزةً لما تراه بأن ترى في بعض اليّام دما قويّا وفي بعضها دما‬
‫ضعيفا ‪ ،‬أو في بعضها دما أسود وفي بعضها دما أحمر ‪ ،‬وجاوز الدّم أكثر الحيض ‪،‬‬
‫ض إن لم ينقص السود أو‬
‫فالضّعيف أو الحمر استحاضةٌ وإن طال ‪ ،‬والسود أو القويّ حي ٌ‬
‫القويّ عن أقلّ الحيض ‪ ،‬وهو يومٌ وليلةٌ عندهم ‪ ،‬ول جاوز أكثر الحيض وهو خمسة عشر‬
‫يوما أيضا ‪ ،‬حتّى لو رأت يوما وليلةً أسود ثمّ اتّصل به الضّعيف ‪ ،‬وتمادى سنين كان طهرا ‪،‬‬
‫ط من ذلك كأن رأت‬
‫ن أكثر الطّهر ل حدّ له ‪ ،‬فإن فقد شر ٌ‬
‫وإن كانت ترى الدّم دائما ؛ ل ّ‬
‫السود أقلّ من يومٍ وليل ٍة أو ستّة عشر ‪ ،‬أو رأت الضّعيف أربعة عشر ‪ ،‬أو رأت أبدا يوما‬
‫أسود ويومين أحمر فحكمها كحكم غير المميّزة لما تراه ‪ .‬والمبتدأة غير المميّزة عند‬
‫الشّافعيّة ‪ ،‬بأن رأت الدّم بصف ٍة واحدةٍ أو بصفاتٍ مختلفةٍ لكن فقدت شرطا من شروط التّمييز‬
‫الّتي ذكرت ‪ ،‬فإن لم تعرف وقت ابتداء دمها فحكمها حكم المتحيّرة ‪ ،‬كما ذكره الرّافعيّ‬
‫ن حيضها يومٌ وليلةٌ من أوّل الدّم وإن كان ضعيفا ؛ لنّ‬
‫وسيأتي بيانه ‪ ،‬وإن عرفته فالظهر أ ّ‬
‫ض ‪ ،‬وطهرها تسعةٌ وعشرون يوما‬
‫ك فيه ‪ ،‬فل يحكم بأنّه حي ٌ‬
‫ذلك هو المتيقّن ‪ ،‬وما زاد مشكو ٌ‬
‫تتمّة الشّهر ‪.‬‬
‫ن المبتدأة إمّا أن تكون مميّز ًة لما تراه أو ل ‪ ،‬فإن كانت مميّزةً‬
‫‪ -‬وأمّا الحنابلة فقالوا ‪ :‬إ ّ‬ ‫‪12‬‬

‫عملت بتمييزها إن صلح القوى أن يكون حيضا ‪ ،‬بأن لم ينقص عن يومٍ وليلةٍ ‪ ،‬ولم يزد على‬
‫خمسة عشر يوما ‪ ،‬وإن كانت غير مميّزةٍ قدّر حيضها بيومٍ وليل ٍة ‪ ،‬وتغتسل بعد ذلك وتفعل ما‬
‫تفعله الطّاهرات ‪ .‬وهذا في الشّهر الوّل والثّاني والثّالث ‪ ،‬أمّا في الشّهر الرّابع فتنتقل إلى‬
‫غالب الحيض ‪ ،‬وهو ستّة أيّامٍ أو سبع ٌة باجتهادها أو تحرّيها ‪ .‬وقال صاحب مطالب أولي‬
‫النّهى في شرح غاية المنتهى ‪ :‬لو رأت يوما وليلةً دما أسود ‪ ،‬ثمّ رأت دما أحمر ‪ ،‬وجاوز‬
‫خمسة عشر يوما ‪ ،‬فحيضها زمن الدّم السود ‪ ،‬وما عداه استحاضةٌ لنّه ل يصلح حيضا ‪ .‬أو‬
‫رأت في الشّهر الوّل خمسة عشر يوما دما أسود ‪ ،‬وفي الشّهر الثّاني أربعة عشر ‪ ،‬وفي‬
‫الشّهر الثّالث ثلثة عشر ‪ ،‬فحيضها زمن السود ‪ .‬وإن لم يكن دمها متميّزا ‪ ،‬بأن كان كلّه‬
‫أسود أو أحمر ونحوه ‪ ،‬أو كان متميّزا ‪ ،‬ولم يصلح السود ونحوه أن يكون حيضا بأن نقص‬
‫ل الحيض من كلّ شهرٍ لنّه اليقين‬
‫عن يومٍ وليلةٍ ‪ ،‬أو زاد عن الخمسة عشر يوما ‪ ،‬فتجلس أق ّ‬
‫حتّى تتكرّر استحاضتها ثلثا ؛ لنّ العادة ل تثبت بدونها ‪ ،‬ثمّ تجلس بعد التّكرار من مثل أوّل‬
‫وقت ابتدا ٍء بها إن علمته من كلّ شهرٍ ستّا أو سبعا بتحرّ ‪ ،‬أو تجلس من أوّل كلّ شهرٍ هلليّ‬
‫إن جهلته ‪ ،‬أي ‪ :‬وقت ابتدائها بالدّم ستّا أو سبعا من اليّام بلياليها بتحرّ في حال الدّم وعادة‬
‫أقاربها النّساء ‪ ،‬ونحوه ‪ ،‬لحديث « حمنة بنت جحشٍ قالت ‪ :‬يا رسول اللّه إنّي أستحاض‬
‫حيض ًة كبيرةً شديدةً ‪ ،‬قد منعتني الصّوم والصّلة ‪ ،‬فقال ‪ :‬تحيضي في علم اللّه ستّا أو سبعا ثمّ‬
‫اغتسلي » ‪ .‬ويتّجه احتمالٌ قويّ بوجوب قضاء من جهلت وقت ابتدائها بالدّم نحو صومٍ‬
‫كطوافٍ واعتكافٍ واجبين فيما فعلته أي الصّوم ونحوه قبل التّحرّي ‪ ،‬كمن جهل القبلة وصلّى‬
‫بل تحرّ فيقضي ولو أصاب ‪.‬‬
‫‪ -‬وأمّا المبتدأة بالحمل ‪ :‬وهي الّتي حملت من زوجها قبل أن تحيض إذا ولدت فرأت الدّم‬ ‫‪13‬‬

‫زيادةً عن أربعين يوما عند الحنفيّة ‪ ،‬والحنابلة فالزّيادة استحاضةٌ عند الحنفيّة ؛ لنّ الربعين‬
‫للنّفاس كالعشرة للحيض ‪ ،‬فالزّيادة في كلّ منهما استحاض ٌة دون نظرٍ إلى تمييزٍ أو عدمه ‪ .‬أمّا‬
‫عند الحنابلة فإن أمكن أن يكون حيضا فحيضٌ ‪ ،‬وإلّ فاستحاضةٌ ؛ لنّه يتصوّر عندهم اقتران‬
‫ستّين استحاض ٌة ‪ ،‬وفرّقوا بين‬
‫الحيض بالنّفاس ‪ .‬وعند المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة الزّيادة على ال ّ‬
‫المميّزة لما ترى وغير المميّزة ‪ ،‬كما في الحيض ‪ .‬فإذا بلغت بالحمل وولدت واستمرّ بها‬
‫الدّم ‪ ،‬ولم تر طهرا صحيحا بعد ولدتها وانتهاء مدّة نفاسها ‪ -‬وهي أربعون يوما عند‬
‫الحنفيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ -‬فيقدّر طهرها بعد الربعين بعشرين يوما ‪ ،‬ث ّم بعده يكون حيضها عشرةً‬
‫وطهرها عشرين ‪ ،‬وهذا شأنها ما دامت حالة الستمرار قائم ًة بها ‪ .‬وإذا ولدت فرأت أربعين‬
‫يوما دما ‪ ،‬ثمّ خمسة عشر طهرا ‪ ،‬ث ّم استمرّ بها الدّم ‪ ،‬فحيضها عشرةٌ من أوّل الستمرار ‪،‬‬
‫وطهرها خمسة عشر ‪ ،‬أي تردّ إلى عادتها في الطّهر إذا كان طهرا صحيحا خمسة عشر يوما‬
‫فأكثر ‪ ،‬وكذلك يكون هذا ال ّردّ إذا رأت ستّة عشر يوما طهرا فما فوقها إلى واحدٍ وعشرين ‪،‬‬
‫فعندئذٍ يقدّر حيضها بتسعةٍ وطهرها بواحدٍ وعشرين ‪ ،‬ثمّ كلّما زاد الطّهر نقص من الحيض‬
‫مثله إلى أن يكون حيضها ثلث ًة ‪ ،‬وطهرها سبعةً وعشرين ‪ ،‬فإذا زاد الطّهر على سبعةٍ‬
‫وعشرين فحيضها عشرةٌ من أوّل الستمرار ‪ ،‬وطهرها مثل ما رأيت قبل الستمرار كائنا ما‬
‫كان عدده ‪ .‬بخلف ما إذا كان طهرها ناقصا عن خمسة عشر يوما فإنّه يقدّر بعد الربعين ‪-‬‬
‫الّتي هي مدّة نفاسها ‪ -‬بعشرين وحيضها بعشرةٍ ‪ ،‬فهي بمنزلة الّذي وضعت واستمرّ بها الدّم‬
‫ابتداءً ‪ ،‬وإذا كان طهرها الّذي رأته بعد الربعين الّتي للنّفاس كاملً خمسة عشر يوما فأكثر ‪،‬‬
‫وقد زاد دمها على أربعين في النّفاس بيومٍ مثلً ‪ ،‬فسد هذا الطّهر في المعنى ؛ لنّه خالطه دمٌ‬
‫يوم تؤمر بالصّلة فيه ‪ ،‬ولهذا ل يصلح لعتباره عاد ًة لها ‪ ،‬فيقدّر حيضها وطهرها حسب‬
‫التّفصيل التّالي ‪ :‬فإذا كان بين نهاية النّفاس ‪ -‬الربعين ‪ -‬وأوّل الستمرار عشرون يوما‬
‫فأكثر ‪ ،‬كأن زاد دمها على الربعين بخمس ٍة أو ستّ ٍة وطهرت بعده خمسة عشر ثمّ استمرّ بها‬
‫الدّم ‪ ،‬فإنّه يقدّر حيضها من أوّل الستمرار بعشرة أيّامٍ ‪ ،‬وطهرها بعشرين ‪ ،‬وهكذا دأبها ‪.‬‬
‫وإن كان بين النّفاس وأوّل الستمرار أقلّ من عشرين كأن زاد دمها على الربعين بيومٍ أو‬
‫يومين فإنّه يكمل طهرها إلى العشرين ‪ ،‬ويؤخذ من أوّل الستمرار ما يتمّ به تكميل هذه‬
‫العشرين ‪ ،‬ثمّ يقدّر حيضها بعد ذلك بعشرةٍ وطهرها بعشرين وهكذا ‪ .‬والجدير بالذّكر أنّ‬
‫المبتدأة بالحيض أو النّفاس إذا انقطع دمها لقلّ من عشرة أيّامٍ في الحيض ‪ ،‬ولقلّ من أربعين‬
‫في النّفاس ‪ ،‬فإنّها تغتسل وتصلّي في آخر الوقت ‪ ،‬وتصوم احتياطا ‪ ،‬ول يحلّ لزوجها وطؤها‬
‫حتّى يستمرّ النقطاع إلى تمام العشرة في الحيض ‪ ،‬هذا إذا انقطع لتمام ثلثة أيّامٍ ‪ ،‬أمّا إذا‬
‫انقطع لقلّ من ثلثةٍ فهو استحاض ٌة وليس بحيضٍ ‪ ،‬فتتوضّأ وتصلّي في آخر الوقت ‪ .‬وهذا‬
‫كلّه عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا أحكام المبتدأة بالحمل عند الشّافعيّة والمالكيّة فقولهم هنا كأقوالهم في المبتدأة بالحيض‬ ‫‪14‬‬

‫‪ .‬والمالكيّة قالوا ‪ :‬تعتبر المبتدأة بأترابها ‪ ،‬فإن تمادى بها الدّم فالمشهور أنّها تعتكف ستّين‬
‫ستّين عند‬
‫يوما ‪ ،‬ثمّ هي مستحاضةٌ تغتسل ‪ ،‬وتصوم وتصلّي ‪ ،‬وتوطأ ‪ .‬فإذا عبر الدّم ال ّ‬
‫ن النّفاس كالحيض في غالب أحكامه ‪ ،‬فكذلك‬
‫الشّافعيّة فينزل منزلة عبوره أكثر الحيض ؛ ل ّ‬
‫في ال ّردّ إليه ‪ ،‬فيقاس بما ذكر في الحيض وفاقا وخلفا ‪ ،‬فينظر هنا أيضا إذا كانت المرأة‬
‫مبتدأ ًة في النّفاس أم معتاد ًة ‪ ،‬مميّز ًة لما تراه أم غير مميّزةٍ ‪ ،‬ويقاس بما تقدّم في الحيض ‪،‬‬
‫ي على ستّين عند الشّافعيّة والمالكيّة ‪،‬‬
‫ل يزيد القو ّ‬
‫فتردّ المبتدأة المميّزة إلى التّمييز شرط أ ّ‬
‫وغير المميّزة تر ّد إلى لحظةٍ في الظهر عند الشّافعيّة ‪ ،‬والمعتادة المميّزة تردّ إلى التّمييز ل‬
‫العادة في الصحّ ‪ ،‬وغير المميّزة الحافظة تردّ إلى العادة ‪ ،‬وتثبت العادة بمرّةٍ في الصحّ عند‬
‫ل ‪ ،‬وتحتاط في القول الخر ‪ .‬أمّا‬
‫الشّافعيّة ‪ ،‬وأمّا النّاسية لعادتها فتردّ إلى مردّ المبتدأة في قو ٍ‬
‫ض فهو حيضٌ ‪ ،‬وما‬
‫ن النّفساء إذا زاد دمها على الربعين ‪ ،‬ووافق عادة حي ٍ‬
‫الحنابلة فيرون أ ّ‬
‫زاد فهو استحاضةٌ ‪ .‬وإن لم يوافق عادة حيضٍ فما زاد على الربعين استحاض ٌة ‪ ،‬ولم يفرّقوا‬
‫بين مبتدأ ٍة بالحمل أو معتادةٍ له ‪.‬‬
‫استحاضة ذات العادة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬ذات العادة بالحيض ‪:‬‬
‫‪ -‬مذهب الحنفيّة في ذات العادة بالحيض ‪ -‬وهي الّتي تعرف شهرها ووقت حيضها وعدد‬ ‫‪15‬‬

‫أيّامها أنّه ‪ :‬إذا رأت المعتادة ما يوافق عادتها من حيث الزّمن والعدد ‪ ،‬فكلّ ما رأته حيضٌ ‪.‬‬
‫وإذا رأت ما يخالف عادتها من حيث الزّمن أو العدد أو كلهما ‪ ،‬فحينئذٍ قد تنتقل العادة وقد ل‬
‫تنتقل ‪ ،‬ويختلف حكم ما رأت ‪ ،‬فتتوقّف معرفة حال ما رأت من الحيض والستحاضة على‬
‫انتقال العادة ‪ .‬فإن لم تنتقل كما إذا زاد الدّم عن العشرة ردّت إلى عادتها ‪ ،‬فيجعل المرئيّ في‬
‫العادة حيضا ‪ ،‬والباقي الّذي جاوز العادة استحاضةً ‪ .‬وإن انتقلت العادة فكلّ ما رأته حيضٌ ‪.‬‬
‫وتفصيل قاعدة انتقال العادة وحالتها وأمثلتها في مصطلح ( حيضٌ ) ‪.‬‬
‫‪ -‬وعند المالكيّة ‪ :‬أقوالٌ متعدّدةٌ أشار إليها ابن رشدٍ في المقدّمات أشهرها ‪ :‬أنّها تبقى‬ ‫‪16‬‬

‫أيّامها المعتادة ‪ ،‬وتستظهر ( أي تحتاط ) بثلثة أيّامٍ ‪ ،‬ثمّ تكون مستحاض ًة تغتسل وتصلّي‬
‫وتصوم وتطوف ويأتيها زوجها ‪ ،‬ما لم تر دما تنكره بعد مضيّ أقلّ مدّة الطّهر من يوم حكم‬
‫ك في المدوّنة ‪ .‬وعلى هذه الرّواية تغتسل‬
‫باستحاضتها ‪ ،‬وهو ظاهر رواية ابن القاسم عن مال ٍ‬
‫عند تمام الخمسة عشر يوما استحبابا ل إيجابا ‪ .‬وهذا كلّه إذا لم تكن مميّز ًة ‪ ،‬أمّا المميّزة‬
‫فتعمل بتمييزها من رؤية أوصاف الدّم وأحواله من التّقطّع والزّيادة واللّون ‪ ،‬فتميّز به ما هو‬
‫حيضٌ ‪ ،‬وما هو استحاضةٌ ‪ .‬وإذا أتاها الحيض في وقته ‪ ،‬وانقطع بعد يومٍ أو يومين أو ساعةٍ‬
‫‪ ،‬وأتاها بعد ذلك قبل طهرٍ تامّ ‪ ،‬فإنّها تلفّق أيّام الدّم بعضها إلى بعضٍ ‪ ،‬فإن كانت معتادةً‬
‫فتلفّق عادتها واستظهارها ‪ ،‬وإن كانت مبتدأ ًة لفّقت نصف شهرٍ ‪ ،‬وإن كانت حاملً في ثلثة‬
‫أشهرٍ فأكثر لفّقت نصف شهرٍ ونحوه ‪ ،‬أو بعد ستّة أشهرٍ لفّقت عشرين يوما ونحوها ‪ .‬واليّام‬
‫الّتي استظهرت بها هي فيها حائضٌ ‪ ،‬وهي مضاف ٌة إلى الحيض ‪ ،‬إن رأت الدّم فيها بعد ذلك‬
‫وإن لم تره ‪ ،‬وأيّام الطّهر الّتي كانت تلغيها عند انقطاع الدّم في خلل ذلك ‪ ،‬وكانت ل ترى‬
‫فيها دما هي فيها طاهرةٌ ‪ ،‬تصلّي فيها ويأتيها زوجها وتصومها ‪ ،‬وليست تلك اليّام بطهرٍ‬
‫ن الّذي قبل تلك اليّام من الدّم ‪ ،‬والّتي بعد تلك اليّام قد‬
‫تعت ّد به في ع ّدةٍ من طلقٍ ؛ ل ّ‬
‫أضيفت بعضها إلى بعضٍ وجعل حيضةً واحدةً ‪ ،‬وكلّ ما بين ذلك من الطّهر ملغًى ‪ ،‬ثمّ‬
‫تغتسل بعد الستظهار ‪ ،‬وتصلّي ‪ ،‬وتتوضّأ لكلّ صل ٍة ‪ ،‬إن رأت الدّم في تلك اليّام ‪ ،‬وتغتسل‬
‫كلّ يومٍ إذا انقطع عنها الدّم من أيّام الطّهر ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا عند الشّافعيّة فالمعتادة بالحيض إمّا أن تكون غير مميّز ٍة لما ترى بأن كان الدّم بصفةٍ‬ ‫‪17‬‬

‫ت متعدّدةٍ ‪ ،‬وفقدت شرط التّمييز ‪ ،‬ولكن سبق لها حيضٌ وطهرٌ ‪ ،‬وهي‬
‫واحد ٍة ‪ ،‬أو كان بصفا ٍ‬
‫تعلم أيّام حيضها وطهرها قدرا ووقتا فتردّ إليهما قدرا ووقتا ‪ ،‬وتثبت العادة بمرّ ٍة في الصحّ ‪.‬‬
‫ح ‪ ،‬كما لو كانت عادتها خمس ًة من‬
‫وأمّا المعتادة المميّزة فيحكم بالتّمييز ل بالعادة في الص ّ‬
‫أوّل كلّ شهرٍ وباقيه طهرٌ ‪ ،‬فاستحيضت فرأت عشرةً سوادا من أوّل الشّهر وباقيه حمرةً ‪،‬‬
‫فحيضتها العشرة السّواد وما يليه استحاضةٌ ‪ .‬والقول الثّاني يحكم بالعادة ‪ ،‬فيكون حيضها‬
‫الخمسة الولى ‪ .‬والوّل أصحّ لنّ التّمييز علمةٌ قائمةٌ في شهر الستحاضة ‪ ،‬فكان اعتباره‬
‫أولى من اعتبار عادةٍ انقضت ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا الحنابلة ‪ :‬فقالوا ل تخلو المستحاضة من أربعة أحوالٍ ‪ :‬مميّز ٍة ل عادة لها ‪ ،‬ومعتادةٍ‬ ‫‪18‬‬

‫ل تمييز لها ‪ ،‬ومن لها عادةٌ وتمييزٌ ‪ ،‬ومن ل عادة لها ول تمييز ‪ .‬أمّا المميّزة ‪ :‬وهي الّتي‬
‫ن منتنٌ ‪ ،‬وبعضه أحمر مس ّرقٌ أو أصفر أو ل رائحة‬
‫لدمها إقبالٌ وإدبارٌ ‪ ،‬بعضه أسود ثخي ٌ‬
‫له ‪ ،‬ويكون الدّم السود أو الثّخين ل يزيد عن أكثر الحيض ‪ ،‬ول ينقص عن أقلّه ‪ ،‬فحكم هذه‬
‫ن حيضها زمان الدّم السود أو الثّخين أو المنتن ‪ ،‬فإن انقطع فهي مستحاضةٌ ‪ ،‬تغتسل‬
‫‪:‬أّ‬
‫للحيض ‪ ،‬وتتوضّأ بعد ذلك لكلّ صل ٍة وتصلّي ‪ .‬أمّا المستحاضة الّتي لها عادةٌ ول تمييز لها ؛‬
‫لكون دمها غير منفصلٍ أي على صفةٍ ل تختلف ‪ ،‬ول يتميّز بعضه من بعضٍ ‪ ،‬أو كان‬
‫ن الدّم الّذي يصلح للحيض دون أقلّ الحيض ‪ ،‬أو فوق أكثره ؟ فهذه ل تمييز‬
‫منفصلً ‪ ،‬إلّ أ ّ‬
‫لها ‪ ،‬فإن كانت لها عاد ٌة قبل أن تستحاض جلست أيّام عادتها ‪ ،‬واغتسلت عند انقضائها ‪ ،‬ثمّ‬
‫تتوضّأ بعد ذلك لوقت كلّ صلةٍ ‪ .‬والقسم الثّالث ‪ :‬من لها عاد ٌة وتمييزٌ ‪ ،‬فاستحيضت ‪ ،‬ودمها‬
‫متميّزٌ ‪ ،‬بعضه أسود وبعضه أحمر ‪ ،‬فإن كان السود في زمن العادة فقد اتّفقت العادة والتّمييز‬
‫في الدّللة فيعمل بهما ‪ ،‬وإن كان أكثر من العادة أو أقلّ ‪ -‬ويصلح أن يكون حيضا ‪ -‬ففيه‬
‫روايتان ‪ :‬الرّواية الولى ‪ :‬اعتبار العادة لعموم قوله صلى ال عليه وسلم لمّ حبيبة إذ سألته‬
‫ن العادة أقوى ‪.‬‬
‫عن الدّم ‪ « :‬امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثمّ اغتسلي وصلّي » ول ّ‬
‫والثّانية ‪ :‬يقدّم التّمييز فيعمل به وتدع العادة ‪ .‬أمّا القسم الرّابع ‪ :‬وهي الّتي ل عادة لها ول‬
‫تمييز فسيأتي تفصيله في موضوع ( استحاضة من ليس لها عادةٌ ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ذات العادة في النّفاس ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا رأت ذات العادة بالنّفاس زيادةً عن عادتها ‪ ،‬فإن كانت عادتها أربعين فعند الحنفيّة‬ ‫‪19‬‬

‫الزّيادة استحاضةٌ ‪ ،‬وإن كانت عادتها دون الربعين ‪ ،‬وكانت الزّيادة إلى الربعين أو دونها ‪،‬‬
‫فما زاد يكون نفاسا ‪ ،‬وإن زاد على الربعين تردّ إلى عادتها فتكون عادتها نفاسا ‪ ،‬وما زاد‬
‫على العادة يكون استحاض ًة ‪ .‬أمّا عند المالكيّة والشّافعيّة فما ذكر في الحيض للمعتادة يذكر هنا‬
‫أيضا ‪ .‬حيث ذهب مالكٌ والشّافعيّ إلى أنّ أكثر النّفاس ستّون يوما ‪ .‬فعند المالكيّة الزّائد عن‬
‫ن الستظهار خاصّ بالحيض ‪ ،‬وأمّا عند الشّافعيّة فما‬
‫ستّين كلّه استحاض ٌة ول تستظهر ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ال ّ‬
‫ستّين ففيه طريقان ‪ :‬أصحّهما أنّه‬
‫ستّين فهو استحاض ٌة فإذا عبر دم النّفساء ال ّ‬
‫زاد على ال ّ‬
‫كالحيض إذا عبر الخمسة عشر في ال ّردّ إلى التّمييز إن كانت مميّزةً لما ترى ‪ ،‬أو العادة إن‬
‫كانت معتادةً غير مميّزةٍ ‪ ،‬والثّاني له ثلثة أوجهٍ ‪ :‬الوّل ‪ :‬أصحّهما كالطّريق الوّل أي أنّه‬
‫ستّين استحاض ٌة ‪ ،‬اختاره المزنيّ ‪.‬‬
‫ستّين كلّها نفاسٌ ‪ ،‬وما زاد على ال ّ‬
‫كالحيض ‪ .‬الثّاني ‪ :‬أنّ ال ّ‬
‫ستّين نفاسٌ ‪ ،‬والّذي بعده حيضٌ فعلى هذا قال أبو الحسن بن المرزبانيّ ‪ :‬قال‬
‫ن ال ّ‬
‫الثّالث ‪ :‬أ ّ‬
‫ستّين حكمنا بأنّها مستحاضةٌ في الحيض ‪ .‬وهذا‬
‫صاحبا التّتمّة والعدّة ‪ :‬إن زاد الدّم بعد ال ّ‬
‫الوجه ضعيفٌ جدّا ‪ ،‬وهو أضعف من الّذي قبله ‪ .‬وقالت الحنابلة ‪ :‬إن زاد دم النّفساء على‬
‫ل فهو استحاضةٌ ‪ .‬ولم نقف فيما بين أيدينا‬
‫أربعين يوما وأمكن جعله حيضا فهو حيضٌ ‪ ،‬وإ ّ‬
‫من مراجع الحنابلة أنّهم تحدّثوا عن عادة في النّفاس ‪.‬‬
‫استحاضة من ليس لها عادةٌ معروفةٌ ‪:‬‬
‫‪ -‬من لم يكن لها عادةٌ معروف ٌة في الحيض ‪ -‬بأن كانت ترى شهرا ستّا وشهرا سبعا ‪-‬‬ ‫‪20‬‬

‫ق الصّلة والصّوم والرّجعة بالقلّ ‪ ،‬وفي حقّ انقضاء العدّة‬


‫فاستم ّر بها الدّم ‪ ،‬فإنّها تأخذ في ح ّ‬
‫والوطء بالكثر ‪ ،‬فعليها أن تغتسل في اليوم السّابع لتمام اليوم السّادس وتصلّي فيه ‪ ،‬وتصوم‬
‫إن كان دخل عليها شهر رمضان احتياطا ‪ .‬وإذا كانت هذه تعتبر حيضةً ثالث ًة يكون قد سقط‬
‫ل استمتاع الزّوج بها‬
‫حقّ الزّوج في مراجعتها ‪ .‬وأمّا في انقضاء العدّة للزّواج من آخر ‪ ،‬وح ّ‬
‫فتأخذ بالكثر ؛ لنّ تركها التّزوّج مع جوازه أولى من أن تتزوّج بدون حقّ التّزوّج ‪ ،‬وكذا‬
‫ترك الوطء مع احتمال الحلّ ‪ ،‬أولى من الوطء مع احتمال الحرمة ‪ ،‬فإذا جاء اليوم الثّامن‬
‫فعليها أن تغتسل ثانيا ‪ ،‬وتقضي اليوم السّابع الّذي صامته ؛ لنّ الداء كان واجبا ‪ ،‬ووقع‬
‫شكّ في السّقوط ‪ ،‬إن لم تكن حائضا فيه صحّ صومها ول قضاء عليها ‪ ،‬وإن كانت حائضا‬
‫ال ّ‬
‫فعليها القضاء ‪ ،‬فل يسقط القضاء بالشّكّ ‪ .‬وليس عليها قضاء الصّلوات ؛ لنّها إن كانت‬
‫طاهر ًة في هذا اليوم فقد صلّت ‪ ،‬وإن كانت حائضا فيه فل صلة عليها ‪ ،‬وبالتّالي ل قضاء‬
‫عليها ‪ .‬ولو كانت عادتها خمسةً فحاضت ستّةً ‪ ،‬ثمّ حاضت حيض ًة أخرى سبع ًة ‪ ،‬ثمّ حاضت‬
‫حيض ًة أخرى ستّةً ‪ ،‬فعادتها ستّ ٌة بالجماع حتّى ينبني الستمرار عليها ‪ .‬أمّا عند أبي يوسف‬
‫ن العادة انتقلت‬
‫فلنّ العادة تنتقل بالمرّة الواحدة ‪ ،‬وإنّما ينبني الستمرار على المرّة الخيرة ل ّ‬
‫ستّة‬
‫ن العادة وإن كانت ل تنتقل إلّ بالمرّتين فقد رأت ال ّ‬
‫إليها ‪ ،‬وأمّا عند أبي حنيفة ومح ّمدٍ فل ّ‬
‫مرّتين ‪ .‬وكذلك الحكم في جميع ما ذكر لمن ليس لها عاد ٌة معروف ٌة في النّفاس ‪.‬‬
‫استحاضة المتحيّرة ‪:‬‬
‫‪ -‬المتحيّرة ‪ :‬هي الّتي نسيت عادتها بعد استمرار الدّم وتوصف بالمحيّرة بصيغة اسم‬ ‫‪21‬‬

‫الفاعل ‪ ،‬لنّها تحيّر المفتي ‪ ،‬وبصيغة اسم المفعول لنّها حيّرت بسبب نسيانها ‪ ،‬وتدعى أيضا‬
‫المضلّة ؛ لنّها أضلّت عادتها ‪ .‬ومسائل المحيّرة من أصعب مسائل الحيض وأدقّها ‪ ،‬ولها‬
‫ع دقيق ٌة ‪ ،‬ولهذا يجب على المرأة حفظ عادتها في الزّمان والعدد ‪ .‬وجميع‬
‫صورٌ كثير ٌة وفرو ٌ‬
‫الحكام في هذه المسألة تبنى على الحتياط ‪ ،‬وإن كان هناك تشديدٌ في بعض الصّور فليس‬
‫القصد التّشديد لنّها لم ترتكب محظورا ‪ .‬وتفصيل أحكام المتحيّرة في مصطلحها ‪.‬‬
‫ما تراه المرأة الحامل من الدّم أثناء حملها ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا رأت المرأة الحامل الدّم حال الحبل وقبل المخاض ‪ ،‬فليس بحيضٍ وإن كان ممتدّا‬ ‫‪22‬‬

‫بالغا نصاب الحيض ‪ ،‬بل هو استحاضةٌ عند الحنفيّة والحنابلة ‪ .‬وكذلك ما تراه حالة المخاض‬
‫ن الدّم الّذي تراه الحامل قبل‬
‫وقبل خروج أكثر الولد عند الحنفيّة ‪ ،‬أمّا الحنابلة فقد نصّوا على أ ّ‬
‫الولدة بيومين أو ثلثةٍ دم نفاسٍ وإن كان ل يع ّد من مدّة النّفاس ‪ .‬واستدلّ الحنفيّة ‪ :‬بقول‬
‫ض في حقّ ترك‬
‫عائشة الحامل ل تحيض ومثل هذا ل يعرف بالرّأي ‪ .‬وقال الشّافعيّ ‪ :‬هو حي ٌ‬
‫ج بما يروى عنه صلى ال‬
‫الصّوم والصّلة وحرمة القربان ‪ ،‬ل في حقّ أقراء العدّة ‪ ،‬واحت ّ‬
‫عليه وسلم « أنّه قال لفاطمة بنت أبي حبيشٍ ‪ :‬إذا أقبل قرؤك فدعي الصّلة » من غير فصلٍ‬
‫ق أقراء العدّة ؛‬
‫ن حيضها ل يعتبر في ح ّ‬
‫ن الحامل من ذوات القراء إلّ أ ّ‬
‫بين حالٍ وحالٍ ‪ .‬ول ّ‬
‫ن المقصود من أقراء العدّة فراغ الرّحم ‪ ،‬وحيضها ل يدلّ على ذلك ‪ .‬أمّا المالكيّة فإنّهم‬
‫لّ‬
‫ن الحامل إذا رأت دما في الشّهر الوّل أو الثّاني يعتبر حيضا ‪ ،‬وتعامل كأنّها‬
‫نصّوا على أ ّ‬
‫ن الحمل ل يستبين ‪ -‬عادةً ‪ -‬في هذه المدّة ‪ ،‬وأمّا إذا رأت دما في الشّهر الثّالث أو‬
‫حاملٌ ؛ ل ّ‬
‫الرّابع أو الخامس واستمرّ كان أثر حيضها عشرين يوما ‪ ،‬وما زاد فهو استحاضةٌ ‪ .‬وإنّما‬
‫ن الحمل يحبس الدّم ‪ ،‬فإذا خرج كان زائدا ‪،‬‬
‫فرّقوا في أكثر الحيض بين الحامل وغيرها ؛ ل ّ‬
‫وربّما استمرّ لطول المكث ‪ .‬وأمّا إن رأته في الشّهر السّابع أو الثّامن أو التّاسع واستمرّ نازلً‬
‫كان أكثر الحيض في حقّها ثلثين يوما ‪ .‬وأمّا إن رأته في الشّهر السّادس فظاهر المدوّنة أنّ‬
‫ن حكمه‬
‫حكمها حكم ما إذا حاضت في الشّهر الثّالث ‪ ،‬وخالف في ذلك شيوخ إفريقيّة فرأوا أ ّ‬
‫حكم ما بعده وهو المعتمد ‪ .‬وبعد هذه المدّة يعتبر استحاضةً ‪.‬‬
‫ل بتوأمين ‪:‬‬
‫ما تراه المرأة من الدّم بين الولدتين ‪ :‬إن كانت حام ً‬
‫ن واحدٍ ‪ ،‬فالتّوأمان هما الولدان في بطنٍ واحدٍ‬
‫‪ -‬التّوأم ‪ :‬اسم ول ٍد إذا كان معه آخر في بط ٍ‬ ‫‪23‬‬

‫ل واحدٍ توأمٌ ‪ ،‬وللنثى توأمةٌ ‪ .‬فإن كان بين الوّل‬


‫إذا كان بينهما أقلّ من ستّة أشهرٍ ‪ ،‬يقال لك ّ‬
‫س في‬
‫والثّاني أقلّ من ستّة أشهرٍ فالدّم الّذي تراه النّفساء بين الولدتين دمٌ صحيحٌ ‪ ،‬أي نفا ٌ‬
‫قول أبي حنيفة وأبي يوسف ‪ ،‬وعند مح ّمدٍ وزفر دمٌ فاسدٌ أي استحاض ٌة ‪ ،‬وذلك بناءً على أنّ‬
‫المرأة إذا ولدت وفي بطنها ولدٌ آخر ‪ ،‬فالنّفاس من الولد الوّل عند أبي حنيفة وأبي يوسف ‪،‬‬
‫وعند مح ّمدٍ وزفر من الولد الثّاني ‪ ،‬وانقضاء العدّة بالولد الثّاني بالجماع ‪ .‬وجه قول مح ّمدٍ‬
‫وزفر ‪ :‬أنّ النّفاس يتعلّق بوضع ما في البطن ‪ ،‬كانقضاء العدّة ‪ ،‬فيتعلّق بالولد الخير ‪ ،‬وهذا‬
‫لنّها ل تزال حبلى ‪ ،‬وكما ل يتصوّر انقضاء عدّة الحمل بدون وضع الحمل ‪ ،‬ل يتصوّر‬
‫ن النّفاس بمنزلة الحيض ‪ ،‬فكان الموجود قبل وضع الولد الثّاني‬
‫وجود النّفاس من الحبلى ؛ ل ّ‬
‫شكّ ‪ .‬ولبي حنيفة وأبي يوسف ‪ :‬أنّ‬
‫نفاسا من وج ٍه دون وج ٍه ‪ ،‬فل تسقط الصّلة عنها بال ّ‬
‫النّفاس إن كان دما يخرج عقيب الولدة فقد وجد بولدة الوّل ‪ ،‬بخلف انقضاء العدّة ؛ لنّه‬
‫يتعلّق بفراغ الرّحم ولم يوجد ‪ ،‬وبقاء الولد الثّاني في البطن ل ينافي النّفاس ‪ .‬ويتّفق الحنابلة‬
‫في إحدى الرّوايتين مع الشّيخين ‪ ،‬وفي الرّواية الثّانية مع مح ّمدٍ وزفر وذكر أبو الخطّاب أنّ‬
‫س جديدٍ ‪.‬‬
‫أوّل النّفاس من الولد الوّل ‪ .‬وتبدأ للثّاني بنفا ٍ‬
‫س ‪ ،‬وقيل حيضٌ ‪ ،‬والقولن في المدوّنة ‪.‬‬
‫‪ -‬وعند المالكيّة ‪ :‬الدّم الّذي بين التّوأمين نفا ٌ‬ ‫‪24‬‬

‫وعند الشّافعيّة ‪ :‬ثلثة أوج ٍه كالّتي رويت عن الحنابلة ‪.‬‬


‫أحكام المستحاضة ‪:‬‬
‫‪ -‬دم الستحاضة حكمه كالرّعاف الدّائم ‪ ،‬أو كسلس البول ‪ ،‬حيث تطالب المستحاضة‬ ‫‪25‬‬

‫بأحكامٍ خاصّةٍ تختلف عن أحكام الصحّاء ‪ ،‬وعن أحكام الحيض والنّفاس ‪ ،‬وهي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬يجب ردّ دم الستحاضة ‪ ،‬أو تخفيفه إذا تعذّر ردّه بالكلّيّة ‪ ،‬وذلك برباطٍ أو حش ٍو أو بالقيام‬
‫أو بالقعود ‪ ،‬كما إذا سال أثناء السّجود ولم يسل بدونه ‪ ،‬فتومئ من قيامٍ أو من قعو ٍد ‪ ،‬وكذا لو‬
‫ن ترك السّجود أو القيام أو القعود أهون من الصّلة‬
‫سال الدّم عند القيام صلّت من قعودٍ ؛ ل ّ‬
‫مع الحدث ‪ .‬وهكذا إذا كانت المستحاضة تستطيع منع سيلن الدّم بالحتشاء فيلزمها ذلك ‪،‬‬
‫فإذا نفذت البلّة أو أخرجت الحشوة المبتلّة انتقض وضوءها ‪ .‬فإذا ردّت المستحاضة الدّم بسببٍ‬
‫من السباب المذكورة أو نحوها خرجت عن أن تكون صاحبة عذرٍ ‪ .‬واعتبر المالكيّة‬
‫المستحاضة صاحبة عذرٍ كمن به سلسٌ ‪ ،‬فإذا فارقها الدّم أكثر زمن وقت الصّلة لم تعدّ‬
‫صاحبة عذرٍ ‪ .‬ونصّ المالكيّة على أنّها إذا رأت الدّم عند الوضوء فإذا قامت ذهب عنها ‪ ،‬قال‬
‫شدّ أو الحتشاء أمران ‪:‬‬
‫مالكٌ ‪ :‬تش ّد ذلك بشي ٍء ول تترك الصّلة ‪ .‬ويستثنى من وجوب ال ّ‬
‫شدّ أو الحتشاء ‪ .‬الثّاني ‪ :‬أن تكون صائم ًة فتترك‬
‫الوّل ‪ :‬أن تتضرّر المستحاضة من ال ّ‬
‫ل يفسد صومها ‪ .‬وإذا قامت المستحاضة ومن في حكمها من المعذورين‬
‫الحتشاء نهارا لئ ّ‬
‫بالشّدّ أو الحتشاء ثمّ خرج الدّم رغم ذلك ولم يرتدّ ‪ ،‬أو تعذّر ردّه واستمرّ وقت صل ٍة كاملٍ ‪،‬‬
‫فل يمنع خروج الدّم أو وجوده من صحّة الطّهارة والصّلة ‪ ،‬فقد روي عن عائشة رضي ال‬
‫عنها قالت ‪ « :‬قالت فاطمة بنت أبي حبيشٍ لرسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إنّي امرأةٌ‬
‫أستحاض فل أطهر ‪ ،‬أفأدع الصّلة ؟ فقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إنّ ذلك عرقٌ ‪،‬‬
‫وليس بالحيضة ‪ ،‬فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصّلة ‪ ،‬فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدّم‬
‫وصلّي » ‪ ،‬وفي رواي ٍة ‪ « :‬توضّئي لكلّ صل ٍة » ‪ ،‬وفي روايةٍ ‪ « :‬توضّئي لوقت كلّ صلةٍ‬
‫» ‪ ،‬وفي رواي ٍة أخرى ‪ « :‬وإن قطر الدّم على الحصير » ‪ .‬وذكر الحنفيّة للمستحاضة‬
‫ولغيرها من المعذورين ثلثة شروطٍ ‪ :‬الوّل ‪ :‬شرط الثّبوت ‪ :‬حيث ل يصير من ابتلي بالعذر‬
‫معذورا ‪ ،‬ول تسري عليه أحكام المعذورين ‪ ،‬حتّى يستوعبه العذر وقتا كاملً لصلةٍ مفروضةٍ‬
‫ولو حكما ‪ ،‬وليس فيه انقطاعٌ ‪ -‬في جميع ذلك الوقت ‪ -‬زمنا بقدر الطّهارة والصّلة ‪ ،‬وهذا‬
‫ل وقتٍ آخر ‪،‬‬
‫شرطٌ متّفقٌ عليه بين الفقهاء ‪ .‬الثّاني ‪ :‬شرط الدّوام ‪ ،‬وهو أن يوجد العذر في ك ّ‬
‫سوى الوقت الوّل الّذي ثبت به العذر ولو مرّ ًة واحدةً ‪ .‬الثّالث ‪ :‬شرط النقطاع ‪ ،‬وبه يخرج‬
‫صاحبه عن كونه معذورا ‪ ،‬وذلك بأن يستمرّ النقطاع وقتا كاملً فيثبت له حينئذٍ حكم‬
‫الصحّاء من وقت النقطاع ‪.‬‬
‫ما تمتنع عنه المستحاضة ‪:‬‬
‫ث أصغر كالرّعاف ‪ .‬فل تسقط بها‬
‫‪ -‬قال البركويّ من علماء الحنفيّة ‪ :‬الستحاضة حد ٌ‬ ‫‪26‬‬

‫الصّلة ول تمنع صحّتها أي على سبيل الرّخصة للضّرورة ‪ ،‬ول تحرّم الصّوم فرضا أو‬
‫نفلً ‪ ،‬ول تمنع الجماع ‪ -‬لحديث حمنة ‪ :‬أنّها كانت مستحاضةً وكان زوجها يأتيها ‪ -‬ول‬
‫س مصحفٍ ‪ ،‬ول دخول مسجدٍ ‪ ،‬ول طوافا إذا أمنت التّلويث ‪ .‬وحكم‬
‫قراءة قرآنٍ ‪ ،‬ول م ّ‬
‫الستحاضة كالرّعاف الدّائم ‪ ،‬فتطالب المستحاضة بالصّلة والصّوم ‪ .‬وكذلك الشّافعيّة ‪،‬‬
‫والحنابلة ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ل تمنع المستحاضة عن شيءٍ ‪ ،‬وحكمها حكم الطّاهرات في وجوب‬
‫العبادات ‪ ،‬واختلف عن أحمد في الوطء ‪ ،‬فهناك روايةٌ أخرى عنه بالمنع كالحيض ما لم يخف‬
‫على نفسه الوقوع في محظورٍ ‪ .‬وقال المالكيّة كما في الشّرح الصّغير ‪ :‬هي طاهرٌ حقيقةً ‪.‬‬
‫ن لها أحكاما خاصّ ًة تنظر تحت عنوان ( متحيّرةٌ ) ‪.‬‬
‫وهذا في غير المستحاضة المتحيّرة ‪ ،‬فإ ّ‬
‫طهارة المستحاضة ‪:‬‬
‫‪ -‬يجب على المستحاضة عند الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة الحتياط في طهارتي الحدث والنّجس ‪،‬‬ ‫‪27‬‬

‫فتغسل عنها الدّم ‪ ،‬وتحتشي بقطنةٍ أو خرقةٍ دفعا للنّجاسة أو تقليلً لها ‪ ،‬فإن لم يندفع الدّم بذلك‬
‫شدّ والتّعصيب ‪ .‬وهذا الفعل يسمّى استثفارا وتلجّما ‪ ،‬وسمّاه الشّافعيّ‬
‫وحده تحفّظت بال ّ‬
‫ب إلّ في موضعين ‪ :‬أحدهما أن تتأذّى‬
‫شدّ واج ٌ‬
‫التّعصيب ‪ .‬قال الشّافعيّة ‪ :‬وهذا الحشو وال ّ‬
‫شدّ والتّلجّم فإذا‬
‫بالشّدّ ‪ .‬والثّاني ‪ :‬أن تكون صائم ًة فتترك الحشو نهارا وتقتصر على ال ّ‬
‫‪-‬‬ ‫‪28‬‬ ‫استوثقت على الصّفة المذكورة ‪ ،‬ثمّ خرج دمها بل تفريطٍ لم تبطل طهارتها ول صلتها‬
‫وأمّا إذا خرج الدّم لتقصيرها في التّحفّظ فإنّه يبطل طهرها ‪ .‬وأمّا عند الحنفيّة فيجب على‬
‫المعذور ردّ عذره ‪ ،‬أو تقليله إن لم يمكن ردّه بالكّليّة ‪ .‬وبردّه ل يبقى ذا عذرٍ ‪ .‬أمّا إن كان ل‬
‫ش فهو معذورٌ ‪ .‬وأمّا غسل المحلّ وتجديد العصابة والحشو لكلّ‬
‫يقدر على الرّبط أو منع النّ ّ‬
‫ض ‪ ،‬فقال الشّافعيّة ‪ :‬ينظر إن زالت العصابة عن موضعها زوالً له تأثيرٌ ‪ ،‬أو ظهر الدّم‬
‫فر ٍ‬
‫على جوانبها ‪ ،‬وجب التّجديد بل خلفٍ ؛ لنّ النّجاسة كثرت وأمكن تقليلها والحتراز عنها ‪.‬‬
‫فإن لم تزل العصابة عن موضعها ول ظهر الدّم ‪ ،‬فوجهان عند الشّافعيّة ‪ ،‬أصحّهما ‪ :‬وجوب‬
‫التّجديد كما يجب تجديد الوضوء ‪ ،‬والثّاني ‪ :‬إذ ل معنى للمر بإزالة النّجاسة مع استمرارها ‪،‬‬
‫بخلف المر بتجديد طهارة الحدث مع استمراره فإنّه معهو ٌد في التّيمّم ‪ .‬وعند الحنابلة ل‬
‫ل صل ٍة إن لم تفرّط ‪ ،‬قالوا ‪ :‬لنّ الحدث مع قوّته وغلبته ل‬
‫يلزمها إعادة الغسل والعصب لك ّ‬
‫يمكن التّحرّز منه ‪ ،‬ولحديث عائشة رضي ال عنها قالت « اعتكف مع النّبيّ صلى ال عليه‬
‫وسلم امرأ ٌة من أزواجه ‪ ،‬فكانت ترى الدّم والصّفرة والطّست تحتها وهي تصلّي » رواه‬
‫البخاريّ ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬حكم ما يسيل من دم المستحاضة على الثّوب ‪:‬‬
‫‪28‬ـ إذا أصاب الثّوب من الدّم مقدار مقعّر الكفّ فأكثر وجب عند الحنفيّة غسله ‪ ،‬إذا كان‬
‫الغسل مفيدا ‪ ،‬بأن كان ل يصيبه مرّةً بعد أخرى ‪ ،‬حتّى لو لم تغسل وصلّت ل يجوز ‪ ،‬وإن لم‬
‫يكن مفيدا ل يجب ما دام العذر قائما ‪ .‬أي إن كان لو غسلت الثّوب تنجّس ثانيا قبل الفراغ من‬
‫الصّلة ‪ ،‬جاز ألّ تغسل ؛ لنّ في إلزامها التّطهير مشقّ ًة وحرجا ‪ .‬وإن كان لو غسلته ل‬
‫ل في قولٍ مرجوحٍ ‪.‬‬
‫يتنجّس قبل الفراغ من الصّلة ‪ ،‬فل يجوز لها أن تصلّي مع بقائه ‪ ،‬إ ّ‬
‫وعند الشّافعيّة إذا تحفّظت لم يضرّ خروج الدّم ‪ ،‬ولو لوّث ملبوسها في تلك الصّلة خاصّةً ‪.‬‬
‫ول يضرّ كذلك عند الحنابلة ؛ لقولهم ‪ :‬إن غلب الدّم وقطر بعد ذلك لم تبطل طهارتها ‪.‬‬
‫متى يلزم المستحاضة أن تغتسل ‪:‬‬
‫‪ -‬نقل صاحب المغني في ذلك أقوالً ‪ :‬الوّل ‪ :‬تغتسل عندما يحكم بانقضاء حيضها أو‬ ‫‪29‬‬

‫نفاسها ‪ .‬وليس عليها بعد ذلك إلّ الوضوء ويجزيها ذلك ‪ .‬وهذا رأي جمهور العلماء ‪ « .‬لقول‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيشٍ ‪ :‬إنّما ذلك عرقٌ وليست بالحيضة ‪ ،‬فإذا‬
‫أقبلت فدعي الصّلة ‪ ،‬فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدّم وصلّي ‪ ،‬وتوضّئي لكلّ صل ٍة » قال‬
‫ن صحيحٌ ‪ .‬ولحديث عديّ بن ثابتٍ عن أبيه عن جدّه « أنّ النّبيّ‬
‫التّرمذيّ ‪ :‬هذا حديثٌ حس ٌ‬
‫صلى ال عليه وسلم قال في المستحاضة ‪ :‬تدع الصّلة أيّام أقرائها ثمّ تغتسل وتصلّي ‪،‬‬
‫ل صلةٍ » ‪ .‬الثّاني ‪ :‬أنّها تغتسل لكلّ صل ٍة ‪ .‬روي ذلك عن عليّ وابن عمر وابن‬
‫وتتوضّأ لك ّ‬
‫عبّاسٍ وابن الزّبير ‪ ،‬وهو أحد قولي الشّافعيّ في المتحيّرة ؛ لنّ عائشة روت « أنّ أمّ حبيبة‬
‫استحيضت ‪ ،‬فأمرها النّبيّ صلى ال عليه وسلم أن تغتسل لكلّ صل ٍة » متّفقٌ عليه ‪ .‬إلّ أنّ‬
‫ل صلةٍ زياد ٌة يجب قبولها ‪ .‬ومن هنا قال‬
‫أصحاب القول الوّل قالوا ‪ :‬إنّ ذكر الوضوء لك ّ‬
‫المالكيّة والحنابلة ‪ :‬يستحبّ لها أن تغتسل لكلّ صلةٍ ‪ .‬ويكون المر في الحديث للستحباب ‪.‬‬
‫ل واحدا ‪ ،‬روي هذا عن عائشة وابن عمر وسعيد بن المسيّب‬
‫الثّالث ‪ :‬أنّها تغتسل لكلّ يومٍ غس ً‬
‫ل واحدٍ ‪ ،‬وتغتسل للصّبح ‪.‬‬
‫ل صلتي جم ٍع بغس ٍ‬
‫‪ .‬الرّابع ‪ :‬تجمع بين ك ّ‬
‫وضوء المستحاضة وعبادتها ‪:‬‬
‫‪ -‬قال الشّافعيّ ‪ :‬تتوضّأ المستحاضة لكلّ فرضٍ وتصلّي ما شاءت من النّوافل ‪ ،‬لحديث‬ ‫‪30‬‬

‫ن اعتبار طهارتها ضرورةٌ لداء المكتوبة ‪ ،‬فل تبقى بعد‬


‫فاطمة بنت أبي حبيشٍ السّابق ؛ ول ّ‬
‫ل صلةٍ ‪ ،‬واحتجّ بالحديث المذكور ‪.‬‬
‫الفراغ منها ‪ .‬وقال مالكٌ في أحد قولين ‪ :‬تتوضّأ لك ّ‬
‫ن الصّلة عند الطلق تنصرف‬
‫ي قيّده بالفرض ؛ ل ّ‬
‫فمالكٌ عمل بمطلق اسم الصّلة ‪ ،‬والشّافع ّ‬
‫إلى الفرض ‪ ،‬والنّوافل أتباع الفرائض ؛ لنّها شرعت لتكميل الفرائض جبرا للنّقصان المتمكّن‬
‫فيها ‪ ،‬فكانت ملحق ًة بأجزائها ‪ ،‬والطّهارة الواقعة لصلةٍ مفروضةٍ واقع ٌة لها بجميع أجزائها ‪،‬‬
‫ن تجديد‬
‫بخلف فرضٍ آخر لنّه ليس بتبعٍ ‪ ،‬بل هو أصلٌ بنفسه ‪ .‬والقول الثّاني للمالكيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫الوضوء لوقت كلّ صل ٍة مستحبّ ‪ ،‬وهو طريقة العراقيّين من المالكيّة ‪ .‬وعند الحنفيّة‬
‫ل صلةٍ مفروضةٍ ‪ ،‬وتصلّي به‬
‫والحنابلة ‪ :‬تتوضّأ المستحاضة وأمثالها من المعذورين لوقت ك ّ‬
‫في الوقت ما شاءت من الفرائض والنّذور والنّوافل والواجبات ‪ ،‬كالوتر والعيد وصلة الجنازة‬
‫والطّواف ومسّ المصحف ‪ .‬واستدلّ الحنفيّة بقوله صلى ال عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيشٍ‬
‫‪ « :‬وتوضّئي لوقت كلّ صل ٍة » ‪ .‬ول ينتقض وضوء المستحاضة بتجدّد العذر ‪ ،‬بعد أن‬
‫يكون الوضوء في حال سيلن الدّم ‪ .‬قال الحنفيّة ‪ :‬فلو توضّأت مع النقطاع ثمّ سال الدّم‬
‫انتقض الوضوء ‪ .‬ولو توضّأت من حدثٍ آخر ‪ -‬غير العذر ‪ -‬في فترة انقطاع العذر ‪ ،‬ثمّ‬
‫سال الدّم انتقض الوضوء أيضا ‪ .‬وكذا لو توضّأت من عذر الدّم ‪ ،‬ثمّ أحدثت حدثا آخر انتقض‬
‫ن دائمٌ مثلً ‪ ،‬وتوضّأت له ‪ ،‬ث ّم أحدثت بخروج بولٍ‬
‫الوضوء ‪ .‬بيان ذلك ‪ :‬لو كان معها سيل ٌ‬
‫انتقض الوضوء ‪.‬‬
‫‪ -‬ثمّ اختلف الحنفيّة في طهارة المستحاضة ‪ ،‬هل تنتقض عند خروج الوقت ؟ أم عند‬ ‫‪31‬‬

‫دخوله ؟ أم عند كلّ من الخروج والدّخول ؟ قال أبو حنيفة ومح ّمدٌ ‪ :‬تنتقض عند خروج الوقت‬
‫ل غير ؛ لنّ طهارة المعذور مقيّد ٌة بالوقت فإذا خرج ظهر الحدث ‪ .‬وقال زفر ‪ :‬عند دخول‬
‫ل صل ٍة » وفي رواي ٍة « لوقت‬
‫الوقت ل غير ‪ ،‬وهو ظاهر كلم أحمد ؛ لحديث « توضّئي لك ّ‬
‫كلّ صل ٍة » ‪ .‬وقال أبو يوسف ‪ :‬عند كلّ منهما ‪ ،‬أي للحتياط ‪ .‬وهو قول أبي يعلى من‬
‫الحنابلة ‪ .‬وثمرة الخلف تظهر في موضعين ‪ :‬أحدهما ‪ :‬أن يوجد الخروج بل دخولٍ ‪ ،‬كما‬
‫ن طهارتها تنتقض عند أبي حنيفة وأبي‬
‫إذا توضّأت في وقت الفجر ثمّ طلعت الشّمس ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن من‬
‫يوسف ومح ّمدٍ لوجود الخروج ‪ ،‬وعند زفر وأحمد ل تنتقض لعدم دخول الوقت ؛ ل ّ‬
‫ت مهملٌ ‪ .‬والثّاني ‪ :‬أن يوجد الدّخول‬
‫طلوع الشّمس إلى الظّهر ليس بوقت صل ٍة ‪ ،‬بل هو وق ٌ‬
‫ن طهارتها ل تنتقض عند أبي‬
‫ج ‪ ،‬كما إذا توضّأت قبل الزّوال ثمّ زالت الشّمس ‪ ،‬فإ ّ‬
‫بل خرو ٍ‬
‫حنيفة ومح ّمدٍ لعدم الخروج ‪ ،‬وعند أبي يوسف وزفر وأحمد تنتقض لوجود الدّخول ‪ .‬فلو‬
‫توضّأت لصلة الضّحى أو لصلة العيد فل يجوز لها أن تصلّي الظّهر بتلك الطّهارة ‪ ،‬على‬
‫قول أبي يوسف وزفر وأحمد ‪ ،‬بل تنتقض الطّهارة لدخول وقت الظّهر ‪ .‬وأمّا على قول أبي‬
‫حنيفة ومح ّمدٍ فتجوز لعدم خروج الوقت ‪ .‬أمّا عند الشّافعيّة فينتقض وضوءها بمجرّد أداء أيّ‬
‫فرضٍ ‪ ،‬ولو لم يخرج الوقت أو يدخل كما تقدّم ‪ .‬وأمّا عند المالكيّة فهي طاهرٌ حقيق ًة على ما‬
‫سبق ‪.‬‬
‫برء المستحاضة وشفاؤها ‪:‬‬
‫‪ -‬عند الشّافعيّة إذا انقطع دم المستحاضة انقطاعا محقّقا حصل معه برؤها وشفاؤها من‬ ‫‪32‬‬

‫علّتها ‪ ،‬وزالت استحاضتها ‪ ،‬نظر ‪ :‬إن حصل هذا خارج الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬فإن كان بعد صلتها ‪ ،‬فقد مضت صلتها صحيحةً ‪ ،‬وبطلت طهارتها فل تستبيح بها بعد‬
‫ذلك نافلةً ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وإن كان ذلك قبل الصّلة بطلت طهارتها ‪ ،‬ولم تستبح تلك الصّلة ول غيرها ‪ .‬أمّا إذا‬
‫حصل النقطاع في نفس الصّلة ففيه قولن ‪ :‬أحدهما ‪ :‬بطلن طهارتها وصلتها ‪ .‬والثّاني ‪:‬‬
‫ل تبطل كالتّيمّم ‪ .‬والرّاجح الوّل ‪ .‬وإذا تطهّرت المستحاضة وصلّت فل إعادة عليها ‪ .‬ول‬
‫يتصوّر هذا التّفصيل عند الحنفيّة ؛ لنّهم يعتبرونها معذورةً لوجود العذر في الوقت ولو لحظةً‬
‫كما سبق ‪ .‬ول يتصوّر هذا عند المالكيّة أيضا ؛ لنّها طاهرٌ حقيق ًة ‪ .‬أمّا الحنابلة فعندهم‬
‫تفصيلٌ ‪ .‬قالوا ‪ :‬إن كان لها عاد ٌة بانقطاعٍ زمنا يتّسع للوضوء والصّلة تعيّن فعلهما فيه ‪ .‬وإن‬
‫عرض هذا النقطاع لمن عادتها التّصال بطلت طهارتها ‪ ،‬ولزم استئنافها ‪ .‬فإن وجد‬
‫النقطاع قبل الدّخول في الصّلة لم يجز الشّروع فيها ‪ .‬وإن عرض النقطاع في أثناء الصّلة‬
‫أبطلها مع الوضوء ‪ .‬ومجرّد النقطاع يوجب النصراف إلّ أن يكون لها عاد ٌة بانقطاعٍ يسيرٍ‬
‫‪ .‬ولو توضّأت ثمّ برئت بطل وضوءها إن وجد منها د ٌم بعد الوضوء ‪.‬‬
‫عدّة المستحاضة ‪:‬‬
‫‪ -‬سبقت الشارة إلى بعض أحكامها ‪ .‬وتفصيل ذلك في مصطلح ( عدّةٌ ) ‪.‬‬ ‫‪33‬‬

‫*استحالةٌ‬
‫التّعريف‬
‫‪ -‬من معاني الستحالة لغ ًة ‪ :‬تغيّر الشّيء عن طبعه ووصفه ‪ ،‬أو عدم المكان ‪ .‬ول يخرج‬ ‫‪1‬‬

‫استعمال الفقهاء والصوليّين للفظ ( استحالةٍ ) عن هذين المعنيين اللّغويّين ‪.‬‬


‫الحكم الجماليّ وموطن البحث ‪:‬‬

‫يختلف الحكم تبعا للستعمالت الفقهيّة أو الصوليّة ‪:‬‬


‫‪ -‬الستعمال الفقهيّ الوّل ‪ :‬بمعنى تحوّل الشّيء وتغيّره عن وصفه ‪ .‬ومن ذلك استحالة‬ ‫‪2‬‬

‫العين النّجسة ‪ .‬وبم تكون الستحالة ؟ العيان النّجسة ‪ ،‬كالعذرة ‪ ،‬والخمر ‪ ،‬والخنزير ‪ ،‬قد‬
‫تتحوّل عن أعيانها وتتغيّر أوصافها ‪ ،‬وذلك بالحتراق أو بالتّخليل ‪ ،‬أو بالوقوع في شيءٍ‬
‫طاهرٍ ‪ ،‬كالخنزير يقع في الملحة ‪ ،‬فيصير ملحا ‪ .‬وقد اتّفق الفقهاء على طهارة الخمر‬
‫باستحالتها بنفسها خلّ ‪ ،‬ويختلفون في طهارتها بالتّخليل ‪ .‬أمّا النّجاسات الخرى الّتي تتحوّل‬
‫عن أصلها فقد اختلفوا في طهارتها ‪ .‬ويفصّل ذلك الفقهاء في مبحث النجاس ‪ ،‬وكيفيّة‬
‫ن استحالة العين تستتبع زوال الوصف المرتّب عليها‬
‫تطهيرها ‪ ،‬فمن يحكم بطهارتها يقول ‪ :‬إ ّ‬
‫عند بعض الفقهاء ‪ .‬ويرتّبون على ذلك فروعا كثيرةً ‪ ،‬تفصيلها في مصطلح ( تحوّلٌ ) ‪.‬‬
‫‪ -‬الستعمال الفقهيّ الثّاني ‪ :‬بمعنى عدم إمكان الوقوع ‪ .‬ومن ذلك استحالة وقوع المحلوف‬ ‫‪3‬‬

‫عليه ‪ ،‬أو استحالة الشّرط الّذي علّق عليه الطّلق ونحوه ‪ .‬فمن الشّرائط الّتي ذكرها الفقهاء‬
‫في المحلوف عليه ‪ :‬ألّ يكون مستحيل التّحقّق عقلً أو عاد ًة ‪ ،‬أي بأن يكون متصوّر الوجود‬
‫ن الماء الّذي في الكوز ‪ ،‬ول ماء‬
‫حقيقةً أو عادةً ‪ ،‬ويضربون لذلك أمثل ًة ‪ ،‬كمن يحلف ‪ :‬لشرب ّ‬
‫ن إلى السّماء ‪ ،‬فهو مستحيلٌ عادةً ‪ .‬وهم‬
‫فيه ‪ ،‬وهذا في المستحيل حقيقةً ‪ .‬وكحلفه ليصعد ّ‬
‫يختلفون في الحنث وعدمه ‪ ،‬والكفّارة وعدمها ‪ ،‬وهل يكون ذلك في يمين البرّ أو الحنث ؟‬
‫وهل الحكم يستوي في ذلك إن كانت اليمين مؤقّتةً أو مطلقةً ؟ ويفصّل الفقهاء ذلك في مسائل‬
‫اليمان ‪ ،‬ومسائل الطّلق ‪ ،‬ومسائل العتق ‪.‬‬
‫الستعمال الصوليّ ‪:‬‬
‫‪ -‬يستعمل الصوليّون لفظ استحال ٍة بمعنى ‪ :‬عدم إمكان الوقوع ‪ ،‬ومن ذلك حكم التّكليف‬ ‫‪4‬‬

‫بالمستحيل لذاته أو لغيره وقد اختلف الصوليّون في جواز التّكليف بالممتنع ‪ ،‬وقسّموه إلى ‪:‬‬
‫ضدّين ‪ .‬اختار جمهور الصوليّين‬
‫ممتنعٍ لذاته ‪ ،‬وممتنعٍ لغيره ‪ .‬فالممتنع لذاته ‪ ،‬كالجمع بين ال ّ‬
‫أنّه ل يجوز التّكليف به ‪ .‬والمستحيل لغيره إن كانت استحالته عاد ًة ‪ ،‬كالتّكليف بحمل الجبل ‪،‬‬
‫فالجمهور على جواز التّكليف به عقلً ‪ ،‬وعدم وقوعه شرعا ‪ .‬وإن كانت استحالته لعدم تعلّق‬
‫ل ‪ ،‬فالكلّ مجمعٌ على جوازه عقلً ‪ ،‬ووقوعه شرعا ‪ .‬وتفصيل‬
‫إرادة اللّه به ‪ ،‬كإيمان أبي جه ٍ‬
‫ذلك في الملحق الصوليّ ‪.‬‬

‫*استحبابٌ‬
‫التّعريف‬
‫‪ -‬الستحباب في اللّغة ‪ :‬مصدر استحبّه إذا أحبّه ‪ ،‬ويكون الستحباب بمعنى الستحسان ‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫واستحبّه عليه ‪ :‬آثره ‪ .‬والستحباب عند الصوليّين غير الحنفيّة ‪ :‬اقتضاء خطاب اللّه العقل‬
‫اقتضاءً غير جازمٍ ‪ ،‬بأن يجوز تركه ‪ .‬وضدّه الكراهية ‪.‬‬
‫سنّة والنّافلة والنّفل والقربة والمرغّب‬
‫‪ -‬ويرادف المستحبّ ‪ :‬المندوب والتّطوّع والطّاعة وال ّ‬ ‫‪2‬‬

‫فيه والحسان والفضيلة والرّغيبة والدب والحسن ‪ .‬وخالف بعض الشّافعيّة في التّرادف‬
‫ن الفعل إن واظب عليه النّبيّ صلى ال عليه‬
‫المذكور ‪ -‬كالقاضي حسينٍ وغيره ‪ -‬فقالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫سنّة ‪ ،‬وإن لم يواظب عليه ‪ -‬كأن فعله مرّةً أو مرّتين ‪ -‬فهو المستحبّ ‪ ،‬وإن لم‬
‫وسلم فهو ال ّ‬
‫يفعله ‪ -‬وهو ما ينشئه النسان باختياره من الوراد ‪ -‬فهو التّطوّع ‪ ،‬ولم يتعرّضوا للمندوب‬
‫ن كلّ من القسام‬
‫هنا لعمومه للقسام الثّلثة بل شكّ ‪ .‬وهذا الخلف لفظيّ ‪ ،‬إذ حاصله أ ّ‬
‫الثّلثة ‪ ،‬كما يسمّى باس ٍم من السماء الثّلثة كما ذكر ‪ ،‬هل يسمّى بغيره منها ؟ فقال البعض ‪:‬‬
‫سنّة ‪ :‬الطّريقة والعادة ‪ ،‬والمستحبّ ‪ :‬المحبوب ‪ ،‬والتّطوّع ‪ :‬الزّيادة ‪ .‬والكثر‬
‫ل يسمّى ‪ ،‬إذ ال ّ‬
‫قالوا ‪ :‬نعم يسمّى ‪ ،‬ويصدق على كلّ من القسام الثّلثة أنّه طريقةٌ أو عادةٌ في الدّين ‪،‬‬
‫ب هو ما فعله‬
‫ن المستح ّ‬
‫ب للشّارع بطلبه ‪ ،‬وزائدٌ على الواجب ‪ .‬وذهب الحنفيّة إلى أ ّ‬
‫ومحبو ٌ‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم مرّ ًة وتركه أخرى ‪ ،‬فيكون دون السّنن المؤكّدة كما قال التّهانويّ ‪،‬‬
‫بل دون سنن الزّوائد كما قال أبو البقاء الكفويّ ‪ .‬ويسمّى عندهم بالمندوب لدعاء الشّارع إليه ‪،‬‬
‫ب ‪ ،‬وبالنّفل لزيادته على غيره ‪ .‬وإنّما سمّي المستحبّ مستحبّا‬
‫وبالتّطوّع لكونه غير واج ٍ‬
‫لختيار الشّارع إيّاه على المباح ‪ .‬وهم بهذا يقتربون ممّا ذهب إليه القاضي حسينٌ ‪ ،‬لول أنّهم‬
‫يختلفون معه في التّطوّع ‪ ،‬حيث يجعلونه مرادفا للمستحبّ ‪ ،‬ويجعله قسيما له على ما تقدّم ‪،‬‬
‫سنّة بأنّها هي ‪ :‬الطّريقة المسلوكة في الدّين من غير التزامٍ على‬
‫ويفرّقون بين المستحبّ وبين ال ّ‬
‫سبيل المواظبة ‪ ،‬فيخرج المستحبّ بالقيد الخير ‪ ،‬إذ ل مواظبة عليه من قبل النّبيّ عليه‬
‫الصّلة والتّسليم ‪ .‬وبعض الحنفيّة لم يفرّق بين المستحبّات وسنن الزّوائد ‪ ،‬فقال ‪ :‬المستحبّ‬
‫هو الّذي يكون على سبيل العادة ‪ ،‬سوا ٌء أترك أحيانا أم ل ‪ .‬وفي نور النوار شرح المنار ‪:‬‬
‫السّنن الزّوائد في معنى المستحبّ ‪ ،‬إلّ أنّ المستحبّ ما أحبّه العلماء ‪ ،‬والسّنن الزّوائد ما‬
‫ي عليه السلم ‪ .‬هذا وقد يطلق المستحبّ على كون الفعل مطلوبا ‪ ،‬طلبا جازما أو‬
‫اعتاده النّب ّ‬
‫سنّة والنّدب ‪ ،‬وعلى كونه مطلوبا طلبا غير جازمٍ فيشمل‬
‫غير جازمٍ ‪ ،‬فيشمل الفرض وال ّ‬
‫الخيرين فقط ‪ .‬حكم المستحبّ ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الصوليّون ‪ -‬من غير الحنفيّة ‪ -‬إلى أنّ المستحبّ يمدح فاعله ويثاب ‪ ،‬ول يذمّ‬ ‫‪3‬‬

‫ن هذا التّرك إن ورد فيه نهيٌ غير‬


‫ب جائزٌ ‪ .‬غير أ ّ‬
‫ن ترك المستح ّ‬
‫تاركه ول يعاقب ‪ .‬وذلك ل ّ‬
‫جازمٍ نظر ‪ :‬فإن كان مخصوصا ‪ ،‬كالنّهي في حديث الصّحيحين ‪ « :‬إذا دخل أحدكم المسجد‬
‫فل يجلس حتّى يصلّي ركعتين » كان مكروها ‪ ،‬وإن كان نهيا غير مخصوصٍ ‪ ،‬وهو النّهي‬
‫ن المر بالشّيء يفيد النّهي عن تركه ‪،‬‬
‫عن ترك المندوبات عامّةً المستفاد من أوامرها ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ص آكد من الطّلب‬
‫ن الطّلب بدليلٍ خا ّ‬
‫فيكون خلف الولى ‪ ،‬كترك صلة الضّحى ‪ .‬وذلك ل ّ‬
‫بدليلٍ عامّ ‪ .‬والمتقدّمون يطلقون المكروه على ذي النّهي المخصوص وغير المخصوص ‪ ،‬وقد‬
‫يقولون في الوّل ‪ :‬مكروهٌ كراه ًة شديد ًة ‪ ،‬كما يقال في المندوب ‪ :‬سنّةٌ مؤكّدةٌ ‪ .‬أمّا الحنفيّة‬
‫فإنّهم ينصّون على أنّ الشّيء إذا كان مستحبّا أو مندوبا عندهم وليس سنّ ًة فل يكون تركه‬
‫مكروها أصلً ‪ ،‬ول يوجب تركه إساء ًة أيضا فل يوجب عتابا في الخرة ‪ ،‬كترك سنن‬
‫الزّوائد ‪ ،‬بل أولى في عدم الساءة وعدم استحقاق العتاب ؛ لنّه دونها في الدّوام والمواظبة ‪،‬‬
‫وإن كان فعله أفضل ولمعرفة ما تبقّى من مباحث الستحباب ‪ ،‬ككون المستحبّ مأمورا به ‪،‬‬
‫وهل يلزم بالشّروع فيه ؟ يرجع إلى الملحق الصوليّ ‪.‬‬

‫*استحدادٌ‬
‫التّعريف‬
‫‪ -‬الستحداد لغةً ‪ :‬مأخو ٌذ من الحديدة ‪ ،‬يقال ‪ :‬استحدّ إذا حلق عانته ‪ .‬استعمل على طريق‬ ‫‪1‬‬

‫الكناية والتّورية ‪ .‬والتعريف الصطلحيّ ل يفترق عن المعنى اللّغويّ ‪ ،‬حيث عرّفه الفقهاء‬
‫بقولهم ‪ :‬الستحداد حلق العانة ‪ ،‬وسمّي استحدادا ‪ ،‬لستعمال الحديدة وهي ‪ :‬الموسى ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬الحداد ‪:‬‬

‫‪ -‬الحداد ‪ :‬مصدر أحدّ ‪ .‬وإحداد المرأة على زوجها تركها للزّينة ‪ ،‬فعلى هذا يكون‬ ‫‪2‬‬

‫الستحداد مخالفا للحداد ‪ ،‬ول يشترك معه في وجهٍ من الوجوه ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬التّنوّر ‪:‬‬

‫‪ -‬التّنوّر هو ‪ :‬الطّلء بالنّورة ‪ .‬يقال ‪ :‬تنوّر ‪ .‬تطلّى بالنّورة ليزيل الشّعر ‪ .‬والنّورة من‬ ‫‪3‬‬

‫الحجر الّذي يحرق ‪ ،‬ويسوّى من الكلس ‪ ،‬ويزال به الشّعر ‪ .‬فعلى هذا يكون الستحداد أعمّ‬
‫في الستعمال من التّنوّر ‪ ،‬لنّه كما يكون بالحديدة يكون بغيرها كالنّورة وغيرها ‪.‬‬
‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ الستحداد سنّ ٌة للرّجال والنّساء على السّواء ‪ .‬وصرّح الشّافعيّة ‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫والمالكيّة دون غيرهم بالوجوب للمرأة إذا طلب منها زوجها ذلك ‪.‬‬
‫دليل مشروعيّته ‪:‬‬
‫سنّة ؛ لما روى سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة‬
‫‪ -‬يستدلّ على مشروعيّة الستحداد بال ّ‬ ‫‪5‬‬

‫رضي ال عنه عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم « أنّه قال ‪ :‬الفطرة خمسٌ ‪ ،‬أو خمسٌ من‬
‫ص الشّارب » ‪ .‬ولما روي‬
‫الفطرة ‪ :‬الختان ‪ ،‬والستحداد ‪ ،‬ونتف البط ‪ ،‬وتقليم الظافر ‪ ،‬وق ّ‬
‫عن عائشة رضي ال عنها « أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬عشرٌ من الفطرة ‪ :‬قصّ‬
‫ص الظافر ‪ ،‬وغسل البراجم ‪ ،‬ونتف‬
‫الشّارب ‪ ،‬وإعفاء اللّحية ‪ ،‬والسّواك ‪ ،‬والستنشاق ‪ ،‬وق ّ‬
‫البط ‪ ،‬وحلق العانة ‪ ،‬وانتقاص الماء » ‪ -‬قال زكريّا ‪ ( -‬الرّاوي ) ‪ :‬ونسيت العاشرة إلّ أن‬
‫تكون المضمضة ‪.‬‬
‫ما يتحقّق به الستحداد ‪:‬‬
‫سنّة الحلق للرّجل ‪،‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء فيما يتحقّق به الستحداد على أقوالٍ ‪ .‬فقال الحنفيّة ‪ :‬ال ّ‬ ‫‪6‬‬

‫والنّتف للمرأة ‪ .‬وقال المالكيّة ‪ :‬الحلق للرّجل والمرأة ‪ ،‬ويكره النّتف للمرأة ؛ لنّه يعدّ من‬
‫التّنمّص المنهيّ عنه ‪ ،‬وهذا رأي بعض الشّافعيّة ‪ .‬وقال جمهور الشّافعيّة ‪ :‬النّتف للمرأة الشّابّة‬
‫‪ ،‬والحلق للعجوز ‪ .‬ونسب هذا الرّأي إلى ابن العربيّ ‪ .‬وقال الحنابلة ‪ :‬ل بأس بالزالة بأيّ‬
‫شيءٍ ‪ ،‬والحلق أفضل ‪.‬‬
‫وقت الستحداد ‪:‬‬
‫‪ -‬يكره تركه بعد الربعين ‪ ،‬كما أخرجه مسلمٌ من حديث أنسٍ ‪ « :‬وقّت لنا في قصّ‬ ‫‪7‬‬

‫ل يترك أكثر من أربعين يوما » ‪ .‬والضّابط‬


‫الشّارب وتقليم الظافر ونتف البط وحلق العانة أ ّ‬
‫في ذلك يختلف باختلف الحوال والشخاص والزمان والماكن ‪ ،‬بشرط ألّ يتجاوز‬
‫الربعين يوما ‪ ،‬وهو التّوقيت الّذي جاء في الحديث الصّحيح ‪.‬‬
‫الستعانة بالخرين في الستحداد ‪:‬‬
‫‪ -‬الصل عند الفقهاء جميعا أنّه يحرم على النسان ذكرا كان أو أنثى أن يظهر عورته‬ ‫‪8‬‬

‫ل لضرور ٍة ‪ .‬ويرجع إلى تفصيل ذلك في ‪ ( :‬استتارٌ ‪ ،‬وعورةٌ ) ‪ .‬واعتبر الفقهاء‬


‫لجنبيّ إ ّ‬
‫حلق العانة لمن ل يستطيع أن يحلقها بالحديدة أو يزيلها بالنّورة ضرورةً ‪.‬‬
‫آداب الستحداد ‪:‬‬
‫‪ -‬تكلّم الفقهاء على آداب الستحداد في ثنايا الكلم على الستحداد ‪ ،‬وخصال الفطرة ‪،‬‬ ‫‪9‬‬

‫سرّة ‪ ،‬كما يستحبّ أن يحلق‬


‫ب أن يبدأ في حلق العانة من تحت ال ّ‬
‫والعورة ‪ .‬فقالوا ‪ :‬يستح ّ‬
‫الجانب اليمن ‪ ،‬ثمّ اليسر ‪ ،‬كما يستحبّ أن يستتر ‪ ،‬وألّ يلقي الشّعر في الحمّام أو الماء ‪،‬‬
‫وأن يواري ما يزيله من شعرٍ وظفرٍ ‪.‬‬
‫مواراة الشّعر المزال أو إتلفه ‪:‬‬
‫‪ -‬صرّح الفقهاء باستحباب مواراة شعر العانة بدفنه ؛ لما روى الخلّل بإسناده عن ممل‬ ‫‪10‬‬

‫بنت مشرّحٍ الشعريّة قالت ‪ « :‬رأيت أبي يقلّم أظافره ‪ ،‬ويدفنها ويقول ‪ :‬رأيت النّبيّ صلى ال‬
‫عليه وسلم يفعل ذلك » ‪ .‬وسئل أحمد ‪ ،‬يأخذ الرّجل من شعره وأظافره أيلقيه أم يدفنه ؟ قال ‪:‬‬
‫ي صلى ال‬
‫ن النّب ّ‬
‫يدفنه ‪ ،‬قيل ‪ :‬بلغك في ذلك شي ٌء ؟ قال ‪ :‬كان ابن عمر يدفنه ‪ .‬وروي « أ ّ‬
‫ب أصحابنا دفنها ؛‬
‫عليه وسلم أمر بدفن الشّعر والظافر » ‪ ،‬قال الحافظ ابن حجرٍ ‪ :‬وقد استح ّ‬
‫ق عليه بين المذاهب ‪.‬‬
‫لكونها أجزاءٍ من الدميّ ‪ ،‬ونقل ذلك عن ابن عمر وهو متّف ٌ‬

‫*استحسانٌ‬
‫التّعريف‬
‫‪ -‬الستحسان في اللّغة ‪ :‬هو عدّ الشّيء حسنا ‪ ،‬وضدّه الستقباح ‪ .‬وفي علم أصول الفقه‬ ‫‪1‬‬

‫ص أو الجماع أو‬
‫عرّفه بعض الحنفيّة بأنّه ‪ :‬اسمٌ لدليلٍ يقابل القياس الجليّ يكون بالنّ ّ‬
‫الضّرورة أو القياس الخفيّ ‪ .‬كما يطلق عند الحنفيّة ‪ -‬في كتاب الكراهية والستحسان ‪ -‬على‬
‫ج بمعنى إخراجٍ ‪ .‬قال النّجم‬
‫استخراج المسائل الحسان ‪ ،‬فهو استفعالٌ بمعنى إفعالٍ ‪ ،‬كاستخرا ٍ‬
‫ن الستحسان هاهنا إحسان المسائل ‪ ،‬وإتقان الدّلئل ‪.‬‬
‫النّسفيّ ‪ :‬فكأ ّ‬
‫جيّة الستحسان عند الصوليّين ‪:‬‬
‫حّ‬
‫‪ -‬اختلف الصوليّون في قبول الستحسان ‪ ،‬فقبله الحنفيّة ‪ ،‬وردّه الشّافعيّة وجمهور‬ ‫‪2‬‬

‫الصوليّين ‪ .‬أمّا المالكيّة فقد نسب إمام الحرمين القول به إلى مالكٍ ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬الّذي‬
‫يظهر من مذهب مالكٍ القول بالستحسان ل على ما سبق ‪ ،‬بل حاصله ‪ :‬استعمال مصلحةٍ‬
‫جزئيّ ٍة في مقابلة قياسٍ كّليّ ‪ ،‬فهو يقدّم الستدلل المرسل على القياس ‪ .‬وأمّا الحنابلة فقد حكي‬
‫عنهم القول به أيضا ‪ .‬والتّحقيق أنّ الخلف لفظيّ ؛ لنّ الستحسان إن كان هو القول بما‬
‫ل فهو باطلٌ ‪ ،‬ول يقول به أحدٌ ‪ ،‬وإن كان هو العدول‬
‫يستحسنه النسان ويشتهيه من غير دلي ٍ‬
‫عن دليلٍ إلى دليلٍ أقوى منه ‪ ،‬فهذا ممّا ل ينكره أحدٌ ‪.‬‬
‫أقسام الستحسان ‪:‬‬
‫ع‪:‬‬
‫ينقسم الستحسان بحسب تنوّع الدّليل الّذي يثبت به إلى أربعة أنوا ٍ‬
‫سنّة ‪:‬‬
‫ل ‪ -‬استحسان الثر أو ال ّ‬
‫أ ّو ً‬
‫سنّة النّبويّة حكمٌ لمسألةٍ ما مخالفٌ للقاعدة المعروفة في الشّرع في‬
‫‪ -‬وهو أن يرد في ال ّ‬ ‫‪3‬‬

‫سنّة نظرا للحاجة ‪ ،‬على خلف‬


‫أمثالها ؛ لحكم ٍة يراعيها الشّارع ‪ ،‬كبيع السّلم ‪ ،‬جوّزته ال ّ‬
‫الصل في بيع ما ليس عند النسان وهو المنع ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ -‬استحسان الجماع ‪:‬‬
‫‪ -‬وهو أن ينعقد الجماع في أمرٍ على خلف مقتضى القاعدة ‪ ،‬كما في صحّة عقد‬ ‫‪4‬‬

‫الستصناع ‪ ،‬فهو في الصل أيضا بيع معدومٍ ل يجوز ‪ ،‬وإنّما جوّز بالجماع استحسانا‬
‫للحاجة العامّة إليه ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ -‬استحسان الضّرورة ‪:‬‬
‫‪ -‬وهو أن يخالف المجتهد حكم القاعدة نظرا إلى ضرور ٍة موجبةٍ من جلب مصلح ٍة أو دفع‬ ‫‪5‬‬

‫مفسد ٍة ‪ ،‬وذلك عندما يكون اطّراد الحكم القياسيّ مؤدّيا إلى حرجٍ في بعض المسائل ‪ ،‬كتطهير‬
‫ج شديدٌ ‪ .‬رابعا ‪-‬‬
‫ل بجريان الماء عليها ‪ ،‬وفيه حر ٌ‬
‫ل تطهر إ ّ‬
‫ن القياس أ ّ‬
‫البار والحياض ؛ ل ّ‬
‫الستحسان القياسيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬و هو أن يعدل عن ح كم القياس الظّا هر المتبادر إلى حك مٍ مخال فٍ بقيا سٍ آ خر هو أد قّ‬ ‫‪6‬‬

‫قياسـ سـمّي‬
‫ٌ‬ ‫وأخفـى مـن القياس الوّل ‪ ،‬لكن ّه أقوى حجّ ًة وأسـّد نظرا ‪ .‬فهـو على الحقيقـة‬
‫ا ستحسانا أي قيا سا م ستحسنا للفرق بينه ما ‪ .‬وذلك كالح كم على سؤر سباع الطّ ير ‪ ،‬فالقياس‬
‫ن السّؤر معتبرٌ باللّحم ‪،‬‬
‫نجاسة سؤرها قياسا على نجاسة سؤر سباع البهائم كالسد والنّمر ؛ ل ّ‬
‫ن ما يتّ صل‬
‫ولحم ها نج سٌ ‪ .‬وال ستحسان طهارة سؤرها قيا سا على طهارة سؤر الدم يّ ‪ ،‬فإ ّ‬
‫بالماء من ك ّل منه ما طاهرٌ ‪ .‬وإنّ ما ر جح القياس الثّا ني لض عف المؤثّر في الح كم في القياس‬
‫الوّل ‪ ،‬وهو مخالطة اللّعاب النّجس للماء في سؤر سباع البهائم ‪ ،‬فإنّه منت فٍ في سباع الطّير‬
‫إذ تشرب بمنقار ها ‪ ،‬و هو عظ ٌم طاهرٌ جافّ ل لعاب ف يه ‪ ،‬فانت فت علّة النّجا سة فكان سؤرها‬
‫طاهرا ك سؤر الدم يّ ‪ ،‬لكنّه مكرو ٌه ؛ لنّ ها ل تحترز عن المي تة فكا نت كالدّجا جة المخلة ‪.‬‬
‫ولبيان أق سام ال ستحسان الخرى من ح يث قوّ ته وترجي حه على القياس وبقيّة مباح ثه ين ظر‬
‫الملحق الصوليّ ‪.‬‬

‫*استحقاقٌ‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬الستحقاق لغ ًة ‪ :‬إمّا ثبوت الحقّ ووجوبه ‪ ،‬ومنه قوله تعالى ‪ « :‬فإن عثر على أنّهما‬ ‫‪1‬‬

‫استحقّا إثما » أي ‪ :‬وجبت عليهما عقوبةٌ ‪ ،‬وإمّا بمعنى طلب الحقّ ‪ .‬واصطلحا عرّفه الحنفيّة‬
‫بأنّه ‪ :‬ظهور كون الشّيء حقّا واجبا للغير ‪ .‬وعرّفه ابن عرفة من المالكيّة بأنّه ‪ :‬رفع ملك‬
‫شيءٍ بثبوت ملكٍ قبله بغير عوضٍ ‪ .‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة يستعملونه بالمعنى اللّغويّ ‪ .‬ولم‬
‫ف للستحقاق ‪ ،‬ولكن باستقراء كلمهم وجد أنّهم يستعملونه‬
‫نقف للشّافعيّة والحنابلة على تعري ٍ‬
‫بالمعنى الصطلحيّ ‪ ،‬ول يخرجون فيه عن الستعمال اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫التّملّك ‪:‬‬

‫‪ -‬التّملّك ثبوت ملكيّ ٍة جديدةٍ ‪ ،‬إمّا بانتقالها من مالكٍ إلى مالكٍ جديدٍ ‪ ،‬أو بالستيلء على‬ ‫‪2‬‬

‫مباحٍ ‪ ،‬والستحقاق إخراج المستحقّ من غير المالك إلى المالك ‪ ،‬فالستحقاق يختلف عن‬
‫ن التّملّك يحتاج إلى إذن المالك ورضاه ‪ ،‬أو حكم حاكمٍ في خروج الملكيّة ‪ ،‬بخلف‬
‫التّملّك ؛ ل ّ‬
‫ق منه ‪.‬‬
‫الستحقاق فإنّ المستحقّ يعود لمالكه ولو دون رضا المستح ّ‬
‫حكم الستحقاق ‪:‬‬
‫‪ -‬الصل في الستحقاق ( بمعنى الطّلب ) الجواز ‪ ،‬وقد يصير واجبا إذا تيسّرت أسبابه‬ ‫‪3‬‬

‫وترتّب على عدم القيام به الوقوع في الحرام ‪ ،‬نصّ عليه المالكيّة ‪ ،‬وقواعد المذاهب الخرى‬
‫ل تأبى ذلك ‪.‬‬
‫إثبات الستحقاق ‪:‬‬
‫‪ -‬يثبت الستحقاق بالبيّنة عند عامّة الفقهاء ‪ ،‬والبيّنة تختلف من حقّ لخر ‪ ،‬ومنها ما هو‬ ‫‪4‬‬

‫ق الواحد ‪ .‬كذلك يثبت بإقرار المشتري للمستحقّ ‪ ،‬أو بنكوله‬


‫مختلفٌ فيه بين المذاهب في الح ّ‬
‫عن يمين نفي العلم بالستحقاق ‪ .‬هذا في الجملة ‪ ،‬وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في البيّنات ‪.‬‬
‫ما يظهر به الستحقاق ‪:‬‬
‫‪ -‬ذكر المالكيّة أنّ سبب الستحقاق ( بمعنى ثبوت الحقّ ) قيام البيّنة على عين الشّيء‬ ‫‪5‬‬

‫المستحقّ أنّه ملكٌ للمدّعي ‪ ،‬ل يعلمون خروجه ‪ ،‬ول خروج شيءٍ منه عن ملكه حتّى الن ‪،‬‬
‫وبقيّة الفقهاء ل يخالفون في ذلك ‪ ،‬فالبيّنة سبب إظهار الواجب لغير حائزه ‪ ،‬ول بدّ من إقامتها‬
‫حتّى يظهر الستحقاق ؛ لنّ الثّبوت كان بسببٍ سابقٍ على الشّهادة ‪ .‬وأمّا سبب ادّعاء العين‬
‫ث ‪ ،‬أو شرا ٍء ‪ ،‬أو وصيّ ٍة ‪ ،‬أو وقفٍ ‪ ،‬أو هبةٍ‬
‫المستحقّة فهو سبب تملّك العين المدّعاة من إر ٍ‬
‫إلى غير ذلك من أسباب الملكيّة ‪ .‬وهل يشترط في دعوى الستحقاق بيان سببه وشروطه في‬
‫كلّ الدّعاوى ؟ أم في بعضها كالمال والنّكاح ونحو ذلك ؟ للفقهاء خلفٌ وتفصيلٌ ‪ .‬موضع‬
‫استيفائه مصطلح ( دعوى ) ‪.‬‬
‫موانع الستحقاق ‪:‬‬
‫‪ -‬موانع الستحقاق ‪ ،‬كما صرّح بها المالكيّة نوعان ‪ :‬فعلٌ ‪ ،‬وسكوتٌ ‪ .‬فالفعل ‪ :‬مثل أن‬ ‫‪6‬‬

‫يشتري ما ادّعاه من عند حائزه من غير بيّن ٍة ‪ -‬يشهدها سرّا ‪ -‬قبل الشّراء بأنّي إنّما اشتريته‬
‫خوف أن يغيب عليّ ‪ ،‬فإذا أثبته رجعت عليه بالثّمن ‪ .‬ولو اشتراه وهو يرى أن ل بيّنة له ‪ ،‬ثمّ‬
‫وجد بيّن ًة ‪ ،‬فله المطالبة ‪ .‬وأمّا السّكوت ‪ :‬فمثل أن يترك المطالبة من غير مانعٍ أمد الحيازة ‪.‬‬
‫وبقيّة الفقهاء لم يصرّحوا بذكر موانع الستحقاق إلّ أنّ قواعدهم ل تأبى المانع الوّل ‪ .‬وهو‬
‫الفعل ‪ ،‬أمّا السّكوت مدّة أمد الحيازة وكونه يبطل الستحقاق ‪ ،‬فلم نقف على من صرّح به‬
‫غيرهم سوى الحنفيّة ‪ ،‬على تفصيلٍ عندهم في مدّته ‪ ،‬وفي الحقوق الّتي تسقط به والّتي ل‬
‫تسقط ‪ ،‬ويتعرّضون لذلك في باب الدّعوى ‪.‬‬
‫شروط الحكم بالستحقاق ‪:‬‬
‫‪ -‬عدّد المالكيّة للحكم بالستحقاق ثلثة شروطٍ ‪ ،‬شاركهم بعض الفقهاء في اثنين منها ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫الشّرط الوّل ‪ :‬العذار إلى الحائز لقطع حجّته ‪ ،‬فإن ادّعى الحائز ما يدفع به الدّعوى أجّله‬
‫القاضي بحسب ما يراه للثبات ‪ .‬وقد صرّح الحنفيّة والمالكيّة بهذا الشّرط ‪ ،‬وأشار إليه‬
‫غيرهم في البيّنات ‪ .‬الشّرط الثّاني ‪ :‬يمين الستبراء ( وتسمّى أيضا يمين الستظهار ) ‪،‬‬
‫وللمالكيّة في لزومها ثلثة آرا ٍء أشهرها ‪ :‬أنّه ل بدّ منها في جميع الشياء ‪ ،‬قاله ابن القاسم‬
‫وابن وهبٍ وابن سحنونٍ ‪ ،‬وهو قول أبي يوسف ‪ ،‬والمفتى به عند الحنفيّة ‪ .‬وكيفيّة الحلف كما‬
‫في الحطّاب وجامع الفصولين وغيرهما ‪ :‬أن يحلف المستحقّ باللّه أنّه ما باعه ‪ ،‬ول وهبه ‪،‬‬
‫ول فوّته ‪ ،‬ول خرج عن ملكه بوجهٍ من الوجوه حتّى الن ‪ .‬والشّرط الثّالث الّذي تفرّد‬
‫المالكيّة بالقول به هو ‪ :‬الشّهادة على العين المستحقّة إن أمكن ‪ ،‬وهو في المنقول ‪ ،‬وإلّ فعلى‬
‫ل مع الشّهود‬
‫الحيازة ‪ ،‬وهو في العقار ‪ ،‬وكيفيّتها أن يبعث القاضي عدلين ‪ ،‬وقيل ‪ :‬أو عد ً‬
‫الّذين شهدوا بالملكيّة ‪ ،‬فإن كانت دارا قالوا لهما مثلً ‪ :‬هذه الدّار هي الّتي شهدنا فيها عند‬
‫القاضي الشّهادة المقيّدة أعله ‪.‬‬
‫الستحقاق في البيع علم المشتري باستحقاق المبيع ‪:‬‬
‫‪ -‬يحرم شراء الشّيء المستحقّ عند العلم بالستحقاق ‪ ،‬فإن حصل البيع مع علم المشتري‬ ‫‪8‬‬

‫بالستحقاق ‪ ،‬فللمشتري الرّجوع بالثّمن على البائع عند الستحقاق إذا ثبت بالبيّنة ‪ ،‬فإن ثبت‬
‫بإقرار المشتري أو نكوله عن اليمين بالستحقاق ‪ ،‬فإنّه ل يرجع عند جمهور الفقهاء ‪ ،‬وهو‬
‫خلف المشهور عند المالكيّة ‪ .‬والمشهور عند المالكيّة أنّه يرجع ‪ .‬وفي هذه المسألة تفصيلٌ‬
‫يرد فيما يأتي ‪.‬‬
‫استحقاق المبيع كلّه ‪.‬‬
‫ن البيع يبطل ‪ ،‬وهو قول الحنفيّة‬
‫‪ -‬إذا استحقّ المبيع كلّه فذهب الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة إلى أ ّ‬ ‫‪9‬‬

‫ل للملك ‪ ،‬وهو الستحقاق الّذي يرد على محلّ ل يقبل التّملّك ‪ .‬وهو‬
‫إن كان الستحقاق مبط ً‬
‫المفهوم من فروع مذهب المالكيّة ‪ .‬فإن كان الستحقاق ناقلً للملكيّة ‪ -‬وهو الّذي يرد على‬
‫محلّ قابلٍ للتّملّك ‪ -‬كان العقد موقوفا على إجازة المستحقّ ‪ ،‬فإن أجازه نفذ ‪ ،‬وإن لم يجزه‬
‫انفسخ ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة ‪ ،‬ولهم في وقت النفساخ بالستحقاق ثلثة أقوالٍ ‪ ،‬الصّحيح منها ‪:‬‬
‫أنّه ل ينفسخ العقد ما لم يرجع المشتري على البائع بالثّمن ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ينفسخ بنفس القضاء ‪،‬‬
‫وقيل ‪ :‬إذا قبضه المستحقّ ‪.‬‬
‫الرّجوع بالثّمن ‪:‬‬
‫‪ -‬عند الفسخ يختلف الفقهاء في رجوع المشتري بالثّمن على البائع وعدمه إذا بطل البيع‬ ‫‪10‬‬

‫بالستحقاق ‪ ،‬ولهم في ذلك رأيان ‪ :‬الوّل ‪ :‬أنّ المشتري يرجع بالثّمن على البائع مطلقا ‪،‬‬
‫سوا ٌء أثبت الستحقاق بالبيّنة أم بالقرار أم بالنّكول ‪ ،‬وهو قول الحنابلة ‪ ،‬وهو أيضا قول‬
‫الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة إن ثبت الستحقاق بالبيّنة ‪ .‬وقال المالكيّة ‪ :‬إن لم يعلم المشتري بصحّة‬
‫ملك البائع ول عدمه يرجع ‪ .‬وكذلك إن علم عدم ملك البائع على المشهور نظرا لسبق ظلم‬
‫ن المشتري ل يرجع على‬
‫البائع ‪ ،‬لبيعه ما ليس في ملكه ‪ ،‬فهو أحقّ بالحمل عليه ‪ .‬الثّاني ‪ :‬أ ّ‬
‫البائع إن أقرّ المشتري باستحقاق المبيع ‪ ،‬أو نكل عن اليمين ‪ ،‬وهو قول الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪،‬‬
‫وقد علّل الشّافعيّة ذلك بتقصير المشتري باعترافه بالستحقاق مع الشّراء ‪ ،‬أو بنكوله ‪ .‬وهو‬
‫قول ابن القاسم من المالكيّة ‪ ،‬إن أقرّ المشتري أنّ جميع المبيع للبائع ‪ ،‬وقال أشهب وغيره ‪:‬‬
‫ل يمنع إقراره من الرّجوع ‪.‬‬
‫استحقاق بعض المبيع ‪:‬‬
‫ل حسب القوال التّالية ‪:‬‬
‫‪ -‬يختلف الفقهاء كذلك إن حصل الستحقاق في البعض دون الك ّ‬ ‫‪11‬‬

‫أ ‪ -‬بطلن البيع في الجميع سوا ٌء أكان المبيع قيميّا أم مثليّا ‪ ،‬وهو رواي ٌة عند الحنابلة ‪ ،‬وقولٌ‬
‫ن الصّفقة جمعت شيئين ‪ :‬حراما وهو‬
‫للشّافعيّة ‪ ،‬واقتصر عليه الشّافعيّ في المّ ؛ ل ّ‬
‫المستحقّ ‪ ،‬وحللً وهو الباقي ‪ ،‬فبطل بيع الجميع وهو أيضا قول المالكيّة إن استحقّ الكثر ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تخيير المشتري بين ردّ المبيع بالفسخ ‪ ،‬وبين التّمسّك بالباقي والرّجوع بحصّة القدر‬
‫المستحقّ والثّمن ‪ .‬وهو الرّواية الثّانية للحنابلة ‪ .‬والتّخيير أيضا هو قول الحنفيّة لو استحقّ‬
‫المبيع قبل قبضه ‪ ،‬سواءٌ أورث الستحقاق في الباقي عيبا أم ل ؛ لتفرّق الصّفقة قبل التّمام ‪،‬‬
‫وكذا لو استحقّ ‪ :‬البعض بعد القبض وأورث في الباقي عيبا ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬بطلن البيع في القدر المستحقّ وصحّته في الباقي ‪ ،‬وهو القول الخر للشّافعيّة ‪ ،‬وهو‬
‫أيضا قول الحنفيّة إن استحقّ البعض بعد قبض الكلّ ‪ ،‬ولم يحدث الستحقاق عيبا في الباقي ‪،‬‬
‫ل ما ل يضرّ تبعيضه ‪.‬‬
‫ق بعضه ‪ ،‬وكذا ك ّ‬
‫كثوبين استحقّ أحدهما ‪ ،‬أو كيليّ أو وزنيّ استح ّ‬
‫وأمّا المالكيّة فقد فرّقوا بين الستحقاق في الشّائع وغيره ‪ ،‬وكون المستحقّ الثّلث أو أقلّ من‬
‫الثّلث ‪ .‬قال البنانيّ ‪ :‬حاصل استحقاق البعض أن تقول ‪ :‬ل يخلو إمّا أن يكون شائعا أو معيّنا‬
‫فإن كان شائعا ممّا ل ينقسم ‪ ،‬وليس من رباع الغلّة ‪ -‬أي العقارات المستغلّة ‪ -‬خيّر المشتري‬
‫في التّمسّك والرّجوع بحصّة المستحقّ من الثّمن ‪ ،‬وفي ردّه لضرر الشّركة ‪ ،‬سوا ٌء استحقّ‬
‫القلّ أو الكثر ‪ .‬وإن كان ممّا ينقسم ‪ ،‬أو كان متّخذا لغلّ ٍة خيّر في استحقاق الثّلث ‪ ،‬ووجب‬
‫التّمسّك فيما دون الثّلث ‪ .‬وإن استحقّ جزءٌ معيّنٌ ‪ ،‬فإن كان مقوّما كالعروض والحيوان رجع‬
‫بحصّة البعض المستحقّ بالقيمة ل بالتّسمية ‪ .‬وإن استحقّ وجه الصّفقة تعيّن ردّ الباقي ‪ ،‬ول‬
‫يجوز التّمسّك بالقلّ ‪ .‬وإن كان الجزء المعيّن مثليّا ‪ ،‬فإن استحقّ القلّ رجع بحصّته من‬
‫الثّمن ‪ ،‬وإن استحقّ الكثر خيّر في التّمسّك والرّجوع بحصّته من الثّمن ‪ ،‬وفي ال ّردّ ‪.‬‬
‫‪ -‬وكيفيّة الرّجوع هي ‪ :‬أن ينظر لقيمة المبيع كلّه يوم استحقاقه ‪ ،‬فيرجع المشتري على‬ ‫‪12‬‬

‫) وقيمة‬ ‫‪1000‬‬ ‫البائع بما يخصّه من الثّمن بميزان القيمة ‪ .‬مثلً إذا قيل ‪ :‬قيمة المبيع كلّه (‬
‫) فيكون الرّجوع عليه بخمس الثّمن ‪.‬‬ ‫‪800‬‬ ‫) وقيمة الباقي (‬ ‫‪200‬‬ ‫المستحقّ (‬
‫استحقاق الثّمن ‪:‬‬
‫‪ -‬أكثر الفقهاء ‪ -‬خلفا لرواي ٍة ضعيفةٍ عند الحنابلة ‪ -‬على بطلن البيع إن استحقّ الثّمن‬ ‫‪13‬‬

‫المعيّن ‪ .‬قال الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ :‬يرجع البائع بعين المبيع إن كان قائما ‪ ،‬وبقيمته إن كان‬
‫تالفا ‪ ،‬ول يرجع بقيمة المستحقّ ‪ .‬غير أنّ بعض الشّافعيّة قيّد التّعيين بكونه في العقد ل بعده ‪.‬‬
‫فإن كان الثّمن غير معيّنٍ فل يفسد العقد باستحقاقه ‪ ،‬ويرجع بقيمته إن كان مقوّما ‪ ،‬وبمثله إن‬
‫كان مثليّا ‪ ،‬مع ملحظة خلف الفقهاء فيما يتعيّن بالتّعيين وما ل يتعيّن به ‪.‬‬
‫زيادة المبيع المستحقّ ‪:‬‬
‫ل بين الفقهاء على النّحو التّالي ‪ :‬ذهب الحنفيّة‬
‫‪ -‬زيادة المبيع المستحقّ محلّ خلفٍ وتفصي ٍ‬ ‫‪14‬‬

‫إلى أنّه إذا كانت الزّيادة منفصل ًة متولّد ًة ‪ -‬كالولد والثّمر ‪ -‬وثبت الستحقاق بالبيّنة فهي‬
‫للمستحقّ ‪ .‬واختلف هل يجب القضاء بالزّيادة مقصودا أو يكتفى بالقضاء بالصل ؟ على‬
‫رأيين ‪ .‬أمّا إذا كانت الزّيادة متّصل ًة غير متولّدةٍ ‪ -‬كالبناء والغرس ‪ -‬واستحقّ الصل ‪ ،‬فإنّه‬
‫يخيّر المستحقّ بين أخذ الزّيادة بقيمتها مقلوعةً ‪ ،‬وبين أمر المأخوذ منه بقلعها مع تضمينه‬
‫نقصان الرض ‪ .‬ولهذا الخير الرّجوع على البائع بالثّمن ‪ .‬وإذا كانت الزّيادة متّصلةً متولّدةً‬
‫كالسّمن فاستحقّ الصل فهي للمستحقّ ‪ ،‬وجاء في الحامديّة أنّ المأخوذ منه يرجع على بائعه‬
‫بما زاد ‪ ،‬بأن تقوّم قبل الزّيادة وبعدها ويرجع بالفرق ( ول يرجع المشتري على البائع بما‬
‫أنفق ) ‪ .‬وذهب المالكيّة إلى أنّ غلّة المستحقّ من أجر ٍة أو استعمالٍ ‪ ،‬أو لبنٍ ‪ ،‬أو صوفٍ ‪ ،‬أو‬
‫ثمر ٍة هي للمستحقّ منه من يوم وضع يده إلى يوم الحكم ‪ .‬وهذا في غير الغصب ‪ ،‬فإن كان‬
‫المستحقّ مغصوبا والمشتري من الغاصب يجهل ذلك ‪ ،‬فالزّيادة للمستحقّ ‪ .‬والحنابلة كالحنفيّة‬
‫في أنّ الزّيادة للمستحقّ ‪ ،‬سوا ٌء أكانت متّصلةً أم منفصل ًة ‪ ،‬فإن أحدث فيها شيئا كأن أتلفها أو‬
‫أكل الثّمرة أخذت منه القيمة ‪ ،‬وإن تلفت بغير فعل المستحقّ منه فإنّه ل يغرم شيئا ‪ ،‬فإن ردّت‬
‫الزّيادة على المستحقّ ‪ ،‬فالمأخوذ منه يردّ له النّفقة أو قيمة الغراس ‪ ،‬إن كان قد غرس أو‬
‫زرع ‪ ،‬والعبرة في القيمة بيوم الستحقاق ‪ ،‬وذكر القاضي أبو يعلى أنّ الّذي يدفع النّفقة هو‬
‫المالك ( المستحقّ ) ‪ ،‬ويرجع بها على من غرّ المأخوذ منه ‪ .‬وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الزّيادة‬
‫للمأخوذ منه ‪ ،‬وقيّدوا ذلك بما إذا أخذت العين المستحقّة ببيّن ٍة مطلق ٍة لم تصرّح بتاريخ الملك ‪،‬‬
‫ن الغلّة للمستحقّ‬
‫ول يرجع بالنّفقة عندهم ‪ ،‬لنّه بي ٌع فاسدٌ ‪ .‬وفصّل المالكيّة في ذلك فقالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫مطلقا إلّ كانت غير ثمرةٍ ‪ ،‬أو ثمر ًة غير مؤبّر ٍة ‪ ( ،‬وفي المدوّنة ‪ :‬إن يبست ‪ ،‬وفي رواية‬
‫ق منه بما سقى وعالج إن كان فيه سقيٌ‬
‫ابن القاسم ‪ :‬إن جذّت ) ‪ .‬واختلفوا في رجوع المستح ّ‬
‫وعلجٌ ‪ ،‬وكانت الثّمرة لم تؤبّر ‪ -‬كاختلفهم في الرّجوع في الرّدّ بالعيب على رأيين ‪.‬‬
‫استحقاق الرض المشتراة ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا كانت الزّيادة غرسا أو بناءً ‪ ،‬كما لو اشترى أرضا فبنى فيها أو غرس ‪ ،‬فأكثر‬ ‫‪15‬‬

‫ن للمستحقّ قلع الزّرع والبناء ‪.‬‬


‫الفقهاء ( الحنفيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬وظاهر الشّافعيّة ) على أ ّ‬
‫ن المشتري يرجع على البائع بما غرم من ثمنٍ‬
‫وصرّح الحنابلة ‪ ،‬وهو ظاهر الشّافعيّة بأ ّ‬
‫ن مستهلكةٍ ‪ ،‬وأرش نقصٍ بقل ٍع ونحو ذلك ؛ لنّ البائع غرّ‬
‫أقبضه ‪ ،‬وأجرة الباني ‪ ،‬وثمن مؤ ٍ‬
‫المشتري ببيعه إيّاها ‪ ،‬وأوهمه أنّها ملكه ‪ ،‬وكان سببا في غراسه وبنائه وانتفاعه فرجع عليه‬
‫بما غرمه ‪ ،‬قال الحنابلة ‪ :‬والقيمة تعتبر بيوم الستحقاق ‪ .‬أمّا عند الحنفيّة فيرجع بالثّمن ‪ ،‬ول‬
‫يرجع بقيمة الشّجرة ‪ ،‬ول بما ضمن من نقصان الرض ‪ ،‬هذا إن استحقّت قبل ظهور الثّمر ‪،‬‬
‫فإن كان الستحقاق بعد ظهور الثّمر ‪ -‬بلغ الجذاذ أو لم يبلغ ‪ -‬كان للمستحقّ قلع الشّجر أيضا‬
‫‪ ،‬فإن كان بائع الرض حاضرا كان للمشتري أن يرجع على البائع بقيمة الشّجر نابتا في‬
‫الرض ‪ ،‬ويسلّم الشّجر قائما إلى البائع ‪ ،‬ول يرجع على البائع بقيمة الثّمر ‪ ،‬ويجبر المشتري‬
‫على قطع الثّمر بلغ أو لم يبلغ ‪ .‬ويجبر البائع على قلع الشّجر ‪ ،‬وإن اختار المستحقّ أن يدفع‬
‫إلى المشتري قيمة الشّجر مقلوعا ويمسك الشّجر ‪ ،‬وأعطاه القيمة ثمّ ظفر المشتري بالبائع ‪،‬‬
‫فإنّه يرجع على البائع بالثّمن ‪ ،‬ول يرجع بقيمة الشّجر ‪ ،‬ول يكون للمستحقّ أن يرجع على‬
‫البائع ول على المشتري بنقصانٍ ‪ .‬وأمّا المالكيّة فليس للمستحقّ عندهم قلع البناء والغرس‬
‫والزّرع ‪ ،‬وقال الدّردير من المالكيّة ‪ :‬إن غرس ذو الشّبهة أو بنى ‪ ،‬وطالبه المستحقّ ‪ ،‬قيل‬
‫للمالك ‪ :‬أعطه قيمته قائما منفردا عن الرض ‪ ،‬فإن أبى المالك فللغارس أو الباني دفع قيمة‬
‫الرض بغير غرسٍ وبناءٍ ‪ ،‬فإن أبى فهما شريكان بالقيمة ‪ ،‬هذا بقيمة أرضه ‪ ،‬وهذا بقيمة‬
‫غرسه أو بنائه ‪ ،‬ويعتبر التّقويم يوم الحكم ل يوم الغرس والبناء ‪ .‬ويستثنى من ذلك الرض‬
‫الموقوفة ‪ ،‬وتفصيله في موطنه ‪ .‬وقد صرّح المالكيّة بأنّ للمستحقّ كراء تلك السّنة ‪ ،‬إن كانت‬
‫تزرع مرّةً واحد ًة في السّنة ‪ ،‬وكان الستحقاق قبل فوات وقت ما تراد تلك الرض لزراعته ‪،‬‬
‫فلو استحقّت بعد فوات إبّان الزّرع فل شيء لمستحقّها ؛ لنّ الزّارع قد استوفى المنفعة ‪،‬‬
‫والغلّة له ‪ .‬وغرس المكتري ‪ ،‬والموهوب له ‪ ،‬والمستعير ‪ ،‬كغرس المشتري عند المالكيّة‬
‫والحنابلة في امتناع القلع ‪ .‬وهذا كلّه إذا كان هناك شبهةٌ ‪ ،‬كأن لم يعلم أنّها ليست للبائع ‪ ،‬أو‬
‫المؤجّر ونحوهما ‪ .‬وقد نقل ابن رجبٍ مثل هذا في قواعده عن أحمد ‪ ،‬وقال ‪ :‬لم يصحّ عن‬
‫أحمد غيره ‪.‬‬
‫الستحقاق في الصّرف ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا استحقّ العوضان في الصّرف ( بيع النّقد بالنّقد ) أو أحدهما ‪ ،‬فللفقهاء في بطلنه‬ ‫‪16‬‬

‫وعدمه ثلثة آراءٍ ‪:‬‬


‫أ ‪ -‬بطلن العقد وهو قول الشّافعيّة ‪ ،‬والمذهب عند الحنابلة ‪ ،‬وهو قول المالكيّة أيضا في‬
‫المصوغ مطلقا ‪ ،‬سوا ٌء أكان قبل التّفرّق وطول المجلس أم بعده ؛ لنّ المصوغ يراد لعينه‬
‫فغيره ل يقوم مقامه ‪ ،‬وفي المسكوكين ‪ ،‬أو المسكوك والمصوغ إن استحقّ المسكوك بعد‬
‫ح معه الصّرف ‪،‬‬
‫افتراق المتصارفين ‪ ،‬أو قبل أن يفترقا ولكن بعد طول المجلس طولً ل يص ّ‬
‫ومع البطلن ل يجوز البدل ‪ ،‬ويعني بالمسكوك ما قابل المصوغ ‪ ،‬فيشمل التّبر والمصوغ‬
‫المكسور ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬صحّة العقد وهو مذهب الحنفيّة ‪ ،‬وروايةٌ عن أحمد ‪ ،‬وهو قول المالكيّة أيضا في‬
‫المسكوك إن كان الستحقاق قبل التّفرّق وطول المجلس ‪ .‬وللعاقد إعطاء بدل المستحقّ ‪ ،‬وهل‬
‫ل متأخّري المالكيّة في‬
‫البدال على سبيل التّراضي أو الجبار ؟ لم أجد من صرّح بالجبار إ ّ‬
‫طريق ٍة من طريقتين لهم ‪ ،‬والخرى بالتّراضي ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬البطلن في الدّراهم المعيّنة ‪ ،‬وعدمه في غيرها قبل التّفرّق وطول المجلس ‪ ،‬وهو قول‬
‫أشهب من المالكيّة ‪.‬‬
‫استحقاق المرهون ‪:‬‬
‫ق المرهون المعيّن قبل‬
‫‪ -‬إن استحقّ المرهون المعيّن كلّه بطل الرّهن اتّفاقا ‪ ،‬وإن استح ّ‬ ‫‪17‬‬

‫القبض خيّر المرتهن بين فسخ عقد المداينة من بيعٍ ونحوه ‪ ،‬وبين إمضائه مع إبقاء الدّين بل‬
‫رهنٍ ‪ ،‬وكذلك يخيّر المرتهن إن كان الستحقاق بعد القبض وغرّه ‪ .‬الرّاهن ‪ ،‬فإن لم يغرّه بقي‬
‫الدّين بل رهنٍ ‪ ،‬وإن كان المرهون غير معيّنٍ واستحقّ بعد قبضه أجبر الرّاهن على التيان‬
‫برهنٍ بدله على القول الرّاجح ‪ ،‬ول يتصوّر استحقاق غير المعيّن قبل قبضه ‪.‬‬
‫‪ -‬لو استحقّ بعض المرهون ففي بطلن الرّهن وبقائه ثلثة آرا ٍء ‪:‬‬ ‫‪18‬‬

‫أ ‪ -‬صحّة الرّهن ‪ ،‬والباقي من المرهون رهن جميع الدّين ‪ ،‬وهو قول المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪،‬‬
‫والحنابلة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬بطلن الرّهن ‪ ،‬وهو قول الحنفيّة ‪ ،‬إن كان الباقي ممّا ل يجوز رهنه ابتداءً عندهم ‪،‬‬
‫كأن كان مشاعا ‪.‬‬
‫ن بحصّته من الدّين ‪ ،‬وهو قول ابن‬
‫ج ‪ -‬بطلن الرّهن بحصّته ‪ ،‬والباقي من المرهون ره ٌ‬
‫شعبان من المالكيّة ‪ ،‬وهو قول الحنفيّة إن كان الباقي ممّا يجوز رهنه ابتداءً ‪.‬‬
‫تلف المرهون المستحقّ في يد المرتهن ‪:‬‬
‫‪ -‬لو تلفت العين المرهونة في يد المرتهن ‪ ،‬ثمّ استحقّت ‪ ،‬فللعلماء فيمن يضمن العين‬ ‫‪19‬‬

‫التّالفة المرهونة ثلثة آرا ٍء ‪:‬‬


‫ل واحدٍ منهما متعدّ ‪ ،‬أمّا الرّاهن فإنّه متعدّ‬
‫أ ‪ -‬للمستحقّ تضمين الرّاهن أو المرتهن ؛ لنّ ك ّ‬
‫بالتّسليم ‪ ،‬وأمّا المرتهن فإنّه متعدّ بالقبض ‪ ،‬واستقرار الضّمان على الرّاهن فل يرجع على‬
‫غيره لو ضمن ‪ ،‬فإن ضمن المرتهن رجع على الرّاهن بما ضمن وبدينه ‪ ،‬وهو قول الحنفيّة ‪،‬‬
‫والشّافعيّة ‪ ،‬إلّ أنّ الشّافعيّة اشترطوا أن يكون المرتهن جاهلً ‪ ،‬فإن كان عالما فالقرار عليهما‬
‫‪.‬‬
‫ب ‪ -‬للمستحقّ تضمين الرّاهن أو المرتهن واستقرار الضّمان على المرتهن ‪ ،‬فإن ضمن لم‬
‫يرجع على أحدٍ ‪ ،‬وهو قول الحنابلة إن علم المرتهن بالغصب ‪ ،‬وإن ضمن الرّاهن رجع على‬
‫المرتهن ‪ ،‬فإن لم يعلم بالغصب حتّى تلف بتفريطٍ فالحكم كذلك ؛ لنّ الضّمان يستقرّ عليه ‪،‬‬
‫فإن تلف بغير تفريطٍ ففيه ثلثة أوجهٍ ‪ :‬أحدها ‪ :‬يضمن المرتهن ويستقرّ الضّمان عليه ؛ لنّ‬
‫مال غيره تلف تحت يده العادية ‪ .‬والثّاني ‪ :‬ل ضمان عليه لنّه قبضه على أنّه أمانةٌ من غير‬
‫علمه ‪ ،‬فلم يضمنه كالوديعة ‪ ،‬فعلى هذا يرجع المالك على الغاصب ل غيره ‪ .‬والثّالث ‪ :‬أنّ‬
‫للمالك تضمين أيّهما شاء ‪ ،‬ويستقرّ الضّمان على الغاصب ‪ ،‬فإن ضمن الغاصب لم يرجع على‬
‫أحدٍ ‪ ،‬وإن ضمن المرتهن رجع على الغاصب لنّه غرّه فرجع عليه ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬للمستحقّ تضمين المرتهن إن حدث التّلف قبل ظهور الستحقاق ‪ ،‬فإن حصل الستحقاق‬
‫وتركها المستحقّ تحت يد المرتهن بل عذرٍ فل يضمن ‪ ،‬لنّ المرهون خرج عن الرّهنيّة‬
‫بالستحقاق وصار المرتهن أمينا فل يضمن ‪ ،‬وهذا ما صرّح به المالكيّة ‪.‬‬
‫استحقاق المرهون بعد بيع العدل له ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا وضع المرهون بيد عدلٍ ‪ ،‬وباعه العدل برضا الرّاهن والمرتهن ‪ ،‬وأوفى المرتهن‬ ‫‪20‬‬

‫الثّمن ‪ ،‬ثمّ استحقّ المرهون المبيع ‪ ،‬فللفقهاء فيمن يرجع وعلى من يرجع آرا ٌء ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬رجوع المستحقّ على العدل أو الرّاهن ‪ ،‬وهو قول الحنفيّة إن كان المبيع هالكا ‪ ،‬فإن‬
‫ضمن الرّاهن قيمته صحّ البيع والقبض ؛ لنّه ملكه بأداء الضّمان فتبيّن أنّه باع ملك نفسه ‪،‬‬
‫ل من جهته‬
‫وإن ضمن العدل كان العدل بالخيار إن شاء رجع على الرّاهن بالقيمة ؛ لنّه وكي ٌ‬
‫ح اقتضاء المرتهن لدينه ‪ ،‬وإن‬
‫عاملٌ له ‪ ،‬فيرجع عليه بما لحقه من العهدة ‪ ،‬ونفذ البيع وص ّ‬
‫شاء العدل رجع على المرتهن ؛ لنّه تبيّن أنّه أخذ الثّمن بغير حقّ ‪ ،‬وإذا رجع بطل اقتضاء‬
‫المرتهن دينه منه ‪ ،‬فيرجع على الرّاهن بدينه ‪ .‬فإن كان المبيع قائما أخذه المستحقّ من‬
‫المشتري ؛ لنّه وجد عين ماله ‪ ،‬ثمّ يرجع المشتري على العدل بالثّمن ‪ ،‬لنّه العاقد ‪ ،‬فتتعلّق‬
‫به حقوق العقد لصيرورته وكيلً بعد الذن بالبيع ‪ ،‬وهذا من حقوقه حيث وجب له بالبيع ‪،‬‬
‫وإنّما أدّاه ليسلم له المبيع ولم يسلم ‪ .‬ث ّم العدل بالخيار إن شاء رجع على الرّاهن بالقيمة ؛ لنّه‬
‫هو الّذي أدخله في هذه العهدة فيجب عليه تخليصه ‪ ،‬وإذا رجع عليه صحّ قبض المرتهن ؛‬
‫ن المقبوض سلم له ‪ ،‬وإن شاء رجع على المرتهن ؛ لنّه إذا انتقض العقد بطل الثّمن ‪ ،‬وقد‬
‫لّ‬
‫قبض ثمنا فيجب نقض قبضه ضرور ًة ‪ ،‬وإذا رجع عليه عاد حقّ المرتهن كما كان فيرجع به‬
‫على الرّاهن ‪.‬‬
‫ن المبيع له ‪ ،‬فالعهدة عليه ‪ ،‬ول يرجع على العدل إن‬
‫ب ‪ -‬رجوع المشتري على الرّاهن ؛ ل ّ‬
‫علم أنّه وكيلٌ ‪ ،‬فإن لم يعلم بالمال رجع عليه ‪ ،‬وهو مذهب الحنابلة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬رجوع المستحقّ على المرتهن بالثّمن وإجازة البيع ‪ ،‬ويرجع المرتهن على الرّاهن ‪ ،‬وهو‬
‫قولٌ للمالكيّة ‪ ،‬وقال ابن القاسم ‪ ،‬يرجع على الرّاهن إلّ أن يكون مفلسا فيرجع على المرتهن ‪،‬‬
‫ورأى المالكيّة هذا عند تسليم السّلطان الثّمن للمرتهن ‪ ،‬إذ لم يظهر نصّ صريحٌ لهم في ضمان‬
‫العدل غير السّلطان ‪.‬‬
‫د ‪ -‬تخيير المشتري في الرّجوع على العدل ‪ ( ،‬ما لم يكن العدل حاكما أو مأذونا من قبل‬
‫الحاكم ) أو الرّاهن ‪ ،‬أو المرتهن إذا كان المرتهن قد تسلّم الثّمن ‪ ،‬وهو قول الشّافعيّة ‪.‬‬
‫استحقاق ما باعه المفلس ‪:‬‬
‫‪ -‬المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة على أنّه لو استحقّ ما باعه المفلس قبل الحجر‬ ‫‪21‬‬

‫فالمشتري يشارك الغرماء من غير نقص القسمة ‪ ،‬إن كان الثّمن تالفا وتعذّر ردّه ‪ ،‬وإن كان‬
‫غير تالفٍ فالمشتري أولى به ‪ .‬وإن استحقّ شيءٌ بعد أن باعه الحاكم قدّم المشتري بالثّمن‬
‫ص الغرماء ‪.‬‬
‫ل عند الشّافعيّة يحا ّ‬
‫على باقي الغرماء ‪ ،‬صرّح بذلك الشّافعيّة والمالكيّة ‪ ،‬وفي قو ٍ‬
‫وهذه المسألة ل يمكن تصوّرها على قول أبي حنيفة إذ ل يرى جواز الحجر بالفلس ‪ ،‬ولكن‬
‫يمكن تصوّرها على قول الصّاحبين ‪ ،‬إذ أنّهما قال بالحجر على المفلس بشروطه ‪ ،‬ولكن لم‬
‫يتعرّض الحنفيّة لهذه المسألة بالذّات تفريعا على قولهما فيما اطّلعنا عليه ‪.‬‬
‫الستحقاق في الصّلح ‪:‬‬
‫‪ -‬يفرّق الحنفيّة والحنابلة في الصّلح بين أن يكون عن إقرارٍ ‪ ،‬أو عن إنكارٍ ‪ ،‬أو سكوتٍ ‪.‬‬ ‫‪22‬‬

‫فإن كان الصّلح عن إقرارٍ ‪ ،‬فهو بمنزلة البيع عندهم ‪ ،‬بالنّسبة لطرفي الصّلح ‪ ،‬وقد تقدّم حكم‬
‫الستحقاق في المبيع ‪ .‬أمّا إذا كان الصّلح عن إنكارٍ أو سكوتٍ ‪ ،‬فهو في حقّ المدّعي‬
‫معاوضةٌ ‪ ،‬وفي حقّ المدّعى عليه افتداءٌ لليمين وقط ٌع للخصومة ‪ ،‬وينبني عليه أنّه إذا استحقّ‬
‫بدل الصّلح كلّه يبطل الصّلح ‪ ،‬ويعود المدّعي إلى الخصومة ‪ ،‬وإذا استحقّ بعضه عاد المدّعي‬
‫للخصومة في ذلك البعض ‪ .‬أمّا إذا استحقّ محلّ النّزاع ( المصالح عنده ) فإنّ المدّعى عليه‬
‫ل البدل أو بعضه ؛ لنّ المدّعي إنّما أخذ البدل بدون وجه حقّ فلصاحبه‬
‫يرجع على المدّعي بك ّ‬
‫استرداده ‪ .‬وعند المالكيّة إن كان الصّلح عن إقرارٍ فاستحقّ بدل الصّلح رجع المدّعي بالعين‬
‫المدّعاة إن كانت قائم ًة ‪ ،‬فإن فاتت رجع بعوضها ‪ -‬وهو القيمة ‪ -‬إن كانت قيميّةً ‪ ،‬والمثل إن‬
‫كانت مثليّةً ‪ ...‬فإن كان الصّلح عن إنكارٍ واستحقّ بدل الصّلح رجع بالعوض مطلقا ‪ ،‬ول‬
‫يرجع بالعين ولو كانت قائم ًة ‪ .‬أمّا إن استحقّ المصالح عنه وهو محلّ النّزاع ‪ ،‬فإن كان‬
‫الصّلح عن إنكارٍ رجع المدّعى عليه على المدّعي بما دفع له إن كان قائما ‪ ،‬فإن فات رجع‬
‫بقيمته إن كان قيميّا ‪ ،‬وبمثله إن كان مثليّا ‪ .‬وإن كان الصّلح عن إقرارٍ ل يرجع المقرّ على‬
‫المدّعي بشيءٍ لعترافه أنّه ملكه ‪ ،‬وأنّ المستحقّ أخذه منه ظلما ‪ .‬وعند الشّافعيّة ل صلح إلّ‬
‫مع القرار ‪ ،‬فإن استحقّ بدل الصّلح وكان معيّنا بطل الصّلح ‪ ،‬سواءٌ استحقّ كلّه أو بعضه ‪،‬‬
‫وإن كان بدل الصّلح غير معيّنٍ ‪ ،‬أي موصوفا في ال ّذمّة أخذ المدّعي بدله ‪ ،‬ول ينفسخ الصّلح‬
‫‪.‬‬
‫استحقاق عوض الصّلح عن دم العمد ‪:‬‬
‫ح الصّلح عن دم العمد على مالٍ ‪ ،‬فإن استحقّ العوض فل يبطل الصّلح ‪ ،‬ويأخذ‬
‫‪ -‬يص ّ‬ ‫‪23‬‬

‫المستحقّ عوض المستحقّ عند الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ .‬وعند الشّافعيّة يرجع إلى أرش‬
‫الجناية ‪.‬‬
‫ضمان الدّرك ‪:‬‬
‫ن ضمان الدّرك استعمل في ضمان الستحقاق عرفا ‪ ،‬وهو أن‬
‫‪ -‬من الفقهاء من قال ‪ :‬إ ّ‬ ‫‪24‬‬

‫يضمن الثّمن عند استحقاق المبيع ‪ ،‬ومنهم من جعله نوعا من ضمان العهدة ‪ ،‬ومنهم من قال ‪:‬‬
‫ن ضمان الدّرك هو ضمان العهدة ‪ .‬ويتّفق الفقهاء على أنّه يجوز ضمان الثّمن عند استحقاق‬
‫إّ‬
‫ب لو خرج مبيعه أو ثمنه مستحقّا لم يظفر به ‪.‬‬
‫المبيع لمسيس الحاجة إلى ذلك ‪ ،‬في نحو غري ٍ‬
‫ولتفصيل القول في ضمان الدّرك ( ر ‪ :‬ضمان الدّرك ) ‪.‬‬
‫الستحقاق في الشّفعة ‪:‬‬
‫‪ -‬يتّفق الفقهاء على أنّه لو استحقّ المشفوع بطلت الشّفعة ‪ ،‬ورجع الشّفيع بالثّمن على من‬ ‫‪25‬‬

‫أخذه منه ‪ ،‬وقرار الضّمان ( أي نهايته ) على البائع ‪ .‬ويختلفون عند استحقاق الثّمن الّذي وقع‬
‫عليه البيع الوّل ‪ ،‬ولهم في ذلك رأيان ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الوّل ‪ :‬بطلن البيع والشّفعة ‪ ،‬وهو قول الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬وقول غير‬
‫ن مالكه لم يأذن فيه ‪ ،‬ويرجع الشّفيع بمثل ما دفع ‪،‬‬
‫المقدّم عند المالكيّة إن كان الثّمن معيّنا ؛ ل ّ‬
‫وهو قول المالكيّة إن كان الستحقاق قبل الخذ بالشّفعة حيث كان الثّمن غير نقدٍ ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬والثّاني ‪ :‬صحّة الشّفعة ‪ ،‬وهو قول المالكيّة الّذي هو المذهب إن حصل الستحقاق بعد‬
‫الخذ بالشّفعة ‪ ،‬ويرجع البائع بقيمة الشّفعة ل بقيمة المستحقّ ‪ ،‬إلّ إن كان المستحقّ نقدا‬
‫ح البيع والشّفعة اتّفاقا ‪ -‬كأن اشترى‬
‫مسكوكا فيرجع بمثله ‪ .‬أمّا إن كان الثّمن غير معيّنٍ فيص ّ‬
‫في ال ّذمّة ودفع عمّا فيها فخرج المدفوع مستحقّا ‪ -‬وأبدل الثّمن بما يحلّ محلّه في الخذ‬
‫ق بعض الثّمن المعيّن بطل البيع فيه عند الشّافعيّة‬
‫بالشّفعة عند صحّة البيع والشّفعة ‪ .‬فإن استح ّ‬
‫ح في الباقي عند الشّافعيّة ‪ ،‬وفيه خلفٌ عند الحنابلة بناءً على روايتي تفريق‬
‫والحنابلة ‪ ،‬وص ّ‬
‫الصّفقة ‪ .‬وإن دفع الشّفيع بدلً مستحقّا لم تبطل شفعته عند الشّافعيّة والمالكيّة ‪ ،‬زاد الشّافعيّة ‪:‬‬
‫وإن علم أنّه مستحقّ ‪ ،‬لنّه لم يقصّر في الطّلب والخذ ‪ ،‬سواءٌ أكان بمعيّنٍ أم ل ‪ ،‬فإن كان‬
‫بمعيّنٍ احتاج إلى تمّلكٍ جديدٍ ‪.‬‬
‫الستحقاق في المساقاة ‪:‬‬
‫ن المساقاة تنفسخ باستحقاق الشجار ‪ ،‬ول حقّ‬
‫‪ -‬الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة على أ ّ‬ ‫‪26‬‬

‫للعامل في الثّمرة حينئذٍ ؛ لنّه عمل فيها بغير إذن المالك ‪ .‬وللعامل على من تعاقد معه أجرة‬
‫المثل ‪ ،‬غير أنّ الحنفيّة اشترطوا لوجوب الجرة ظهور الثّمر ‪ ،‬فإن لم تظهر الثّمار حتّى‬
‫ن الجرة تستحقّ في حالة جهله بالستحقاق ؛‬
‫استحقّت الشجار فل أجرة ‪ ،‬وقال الشّافعيّة ‪ :‬إ ّ‬
‫ن الّذي تعاقد معه غرّه ‪ ،‬فإن علم فل أجرة له ‪ .‬ولو خرج الثّمر في الشّجر ثمّ استحقّت‬
‫لّ‬
‫الرض ‪ ،‬فالكلّ للمستحقّ ( الرض والشّجر والثّمر ) ويرجع العامل على من تعاقد معه بأجر‬
‫مثل عمله ‪ .‬وقال المالكيّة ‪ :‬إنّ المستحقّ مخ ّيرٌ بين إبقاء العامل وبين فسخ عقده ‪ ،‬فإن فسخ‬
‫دفع له أجر عمله ‪ .‬والحكم في ضمان تلف الشجار والثّمار ‪ -‬بعد الستحقاق ‪ -‬يرجع فيه‬
‫إلى باب الضّمان ‪.‬‬
‫الستحقاق في الجارة استحقاق العين المكتراة ‪:‬‬
‫‪ -‬يختلف الفقهاء عند استحقاق العين المكتراة ‪ ،‬فمنهم من يقول ببطلن الجارة ‪ ،‬ومنهم‬ ‫‪27‬‬

‫من يقول بتوقّفها على إجازة المستحقّ ‪ ،‬بالوّل قال الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬وبالثّاني قال الحنفيّة‬
‫‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬وهو احتمالٌ عند الحنابلة ‪ ،‬بناءً على جواز بيع الفضوليّ وتوقّفه على إجازة‬
‫ق الجرة ‪ ،‬ولهم في هذا ثلثة آرا ٍء ‪:‬‬
‫المالك كذلك يختلفون فيمن يستح ّ‬
‫أ ‪ -‬الجرة للعاقد ‪ ،‬وهو قول الحنفيّة إن كانت الجازة بعد استيفاء المنفعة ‪ ،‬ول اعتبار‬
‫للجازة حينئذٍ ‪ ،‬وهو قول المالكيّة إن كان الستحقاق بعد المد ‪ ،‬وهو قول الشّافعيّة إن كانت‬
‫العين المكتراة غير مغصوبةٍ ؛ لنّه استحقّها بالملك ظاهرا ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬إنّ الجرة للمستحقّ ‪ ،‬وهو قول الحنابلة ‪ ،‬وهو قول الحنفيّة إن كانت الجازة قبل‬
‫استيفاء المنفعة ‪ ،‬وكذا إن كانت بعد استيفاء بعض المنفعة في قول أبي يوسف ‪ ،‬وهو قول‬
‫الشّافعيّة إن كانت العين المؤجّرة مغصوب ًة ويجهل المستأجر الغصب ‪ .‬ويرجع المالك على‬
‫الغاصب أو المستأجر عند الشّافعيّة بالمنفعة الّتي استوفاها ‪ ،‬والقرار ( أي نهاية الضّمان )‬
‫على المستأجر إن كان قد استوفى المنفعة ‪ ،‬فإن لم يستوفها فقرار الضّمان على المؤجّر الغارّ‬
‫‪ .‬ويرجع المستحقّ عليهما أيضا عند الحنابلة والقرار على المستأجر ‪ ،‬وفي المواهب السّنيّة‬
‫ن المالك‬
‫ن الرض الموقوفة المستحقّة إن آجرها النّاظر وأخذ الجرة وسلّمها للمستحقّين ‪ ،‬فإ ّ‬
‫أّ‬
‫يرجع على المستأجر ل على النّاظر ‪ ،‬ورجوع المستأجر على من أخذ دراهمه ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أجر ما مضى للعاقد ‪ ،‬وما بعده للمستحقّ ‪ ،‬وهو قول المالكيّة ‪ ،‬وهو قول محمّد بن‬
‫الحسن من الحنفيّة ‪ ،‬ويتصدّق العاقد عنده بنصيبه بعد ضمان النّقص ‪ .‬والمراد بما مضى عند‬
‫المالكيّة ما قبل الحكم بالستحقاق ‪.‬‬
‫تلف العين المستحقّة المكتراة ‪:‬‬
‫‪ -‬لو تلفت العين المؤجّرة أو نقصت ثمّ ظهر أنّها مستحقّةٌ فللمستحقّ تضمين المستأجر أو‬ ‫‪28‬‬

‫المؤجّر ‪ ،‬والقرار على المؤجّر ‪ ،‬هذا عند الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ .‬والرّجوع يكون‬
‫بأعلى قيمةٍ من يوم الغصب إلى يوم التّلف عند الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ؛ لنّها مغصوبةٌ في الحال‬
‫الّتي زادت فيها قيمتها ‪ ،‬فالزّيادة لمالكها مضمونةٌ على الغاصب ‪ .‬وقال المالكيّة ‪ :‬يرجع‬
‫المستحقّ على المكتري إن كان متعدّيا ‪ ،‬ول يرجع عليه إذا لم يتعدّ وفعل ما يجوز له ‪ ،‬فلو‬
‫اكترى دارا فهدمها ‪ ،‬ثمّ ظهر مستحقّ ‪ ،‬فله أخذ النّقص إن وجده وقيمة الهدم من الهادم ‪ ،‬أي‬
‫قيمة ما أفسد الهدم من البناء ‪.‬‬
‫استحقاق الجرة ‪:‬‬
‫ن الجرة لو استحقّت فإمّا أن تكون مثليّ ًة أو عينا قيميّ ًة ‪ ،‬فإن كانت‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة إلى أ ّ‬ ‫‪29‬‬

‫الجرة عينا قيميّةً واستحقّت بطلت الجارة ‪ ،‬وتجب قيمة المنفعة ( أجر المثل ) ل قيمة‬
‫البدل ‪ ،‬وإن كانت الجرة مثليّ ًة لم تبطل الجارة ويجب المثل ‪ .‬فلو دفع عشرة دراهم أجرةً‬
‫فاستحقّت ينبغي أن تجب عشرةٌ مثلها ل قيمة المنفعة ‪ .‬وقال المالكيّة ‪ :‬إن استحقّت الجرة‬
‫المعيّنة من يد المؤجّر ‪ ،‬كالدّابّة ونحوها ‪ ،‬فإن كان الستحقاق قبل حرث الرض المؤجّرة أو‬
‫ن الجارة تنفسخ من أصلها ‪ ،‬ويأخذ الرض صاحبها ‪ ،‬وإن استحقّت بعد‬
‫قبل زرعها ‪ ،‬فإ ّ‬
‫حرث الرض أو زرعها فإنّ الجارة بين المؤجّر والمستأجر ل تنفسخ ‪ ،‬وفي هذه الحالة إن‬
‫أخذ المستحقّ ماله من المؤجّر ‪ ،‬ولم يجز الجارة ‪ ،‬كان للمؤجّر على المستأجر أجرة المثل ‪،‬‬
‫وتبقى الرض له ‪ ،‬كما كانت أ ّولً ‪ .‬وإن لم يأخذ المستحقّ ماله من المؤجّر وأبقاه له وأجاز‬
‫الجارة ‪ ،‬فإن دفع للمستأجر أجرة حرثه كان الحقّ له في منفعة الرض مدّة الجارة ‪ ،‬وإن‬
‫أبى المستحقّ دفع أجرة الحرث قيل للمستأجر ‪ :‬ادفع للمستحقّ أجرة الرض ‪ ،‬ويكون لك‬
‫منفعتها ‪ ،‬فإن دفع انتهى المر ‪ ،‬وإن لم يدفع قيل له ‪ :‬سلّم الرض له مجّانا مدّة الجارة بل‬
‫مقابلٍ عن الحرث ‪ .‬أمّا إذا كانت الجرة شيئا غير معيّنٍ كالنّقود والمكيل والموزون واستحقّ ‪،‬‬
‫فإنّ الجارة ل تنفسخ ‪ ،‬سواءٌ أكان الستحقاق قبل الحرث أم بعده ‪ ،‬وذلك لقيام عوضه مقامه‬
‫‪.‬‬
‫استحقاق الرض الّتي بها غراسٌ أو بناءٌ للمستأجر ‪:‬‬
‫‪ -‬لو استحقّت الرض المؤجّرة وقد غرس فيها المستأجر ‪ ،‬فإنّ الفقهاء يختلفون في قلع‬ ‫‪30‬‬

‫الغراس ‪ ،‬وفي إبقائه وتملّكه ‪ ،‬ولهم في ذلك ثلثة آراءٍ ‪:‬‬


‫أحدها ‪ :‬للمستحقّ قلع الغراس دون مقابلٍ ‪ .‬وهو قول الحنفيّة فيما بعد انقضاء المدّة والشّافعيّة‬
‫‪ .‬قال الشّافعيّة ‪ :‬وليس للمالك تملّك الغراس بالقيمة أو البقاء له بالجرة ؛ لتمكّن الغاصب من‬
‫القلع ‪ .‬ويغرّم المستأجر المؤجّر قيمة الشّجر مقلوعا عند الحنفيّة ‪ ،‬وعند الشّافعيّة يرجع‬
‫ن السّلمة ‪ .‬والثّاني ‪ :‬للمستحقّ‬
‫المستأجر بالرش على الغاصب لشروعه في العقد على ظ ّ‬
‫ي المدّة ‪ ،‬وليس له‬
‫تملّك الغراس بقيمته قائما ‪ ،‬وهو قول المالكيّة إن فسخ المستحقّ قبل مض ّ‬
‫ن المكتري غرس بوجه شبهةٍ ‪ ،‬فإن أبى المستحقّ دفع‬
‫قلع الغراس ول دفع قيمته مقلوعا ‪ ،‬ل ّ‬
‫قيمة الغراس قائما قيل للمكتري ‪ :‬ادفع له قيمة الرض ‪ ،‬فإن أبى كانا شريكين ‪ :‬المكتري‬
‫بقيمة غرسه ‪ ،‬والمستحقّ بقيمة أرضه ‪ ،‬فإن أجاز بعد مضيّ المدّة يدفع قيمة الغراس مقلوعا‬
‫بعد طرح أجر القلع ‪.‬‬
‫الثّالث ‪ :‬تملّك المستحقّ للغراس بما أنفقه المستأجر على الغراس ‪ ،‬وهو المنصوص عند‬
‫الحنابلة ‪ ،‬والمتوجّه على قول القاضي ومن وافقه أنّ غرسه كغرس الغاصب ‪ ،‬ولهم قولٌ آخر‬
‫‪ ،‬وهو أنّ الغراس للمستأجر ‪ ،‬وعليه الجرة لصاحب الرض ‪ ،‬ويرجع على من آجره ‪.‬‬
‫والبناء كالغراس عند فقهاء المذاهب الربعة ‪.‬‬
‫استحقاق الهبة بعد التّلف ‪:‬‬
‫‪ -‬للعلماء عند استحقاق الهبة التّالفة اتّجاهان ‪:‬‬ ‫‪31‬‬

‫أ ‪ -‬تخيير المستحقّ بين الرّجوع على الواهب أو على الموهوب له ‪ ،‬أمّا على الواهب فلنّه‬
‫سبب إتلف ماله ‪ ،‬وأمّا على الموهوب له فلنّه هو المستهلك له ‪ ،‬وهو قول المالكيّة ‪،‬‬
‫والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬غير أنّ المالكيّة جعلوا الرّجوع على الموهوب له عند تعذّر الرّجوع‬
‫على الواهب ‪ ،‬ويكون للموهوب له من الغلّة قيمة عمله وعلجه ‪ .‬فإن رجع على الواهب فل‬
‫شيء له على الموهوب له ‪ ،‬صرّح بذلك الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ .‬وإن رجع على الموهوب له‬
‫رجع هذا على الواهب عند الحنابلة ‪ ،‬ذكر ذلك صاحب كشّاف القناع قولً واحدا ‪ ،‬وشهّره ابن‬
‫رجبٍ لنّه دخل على أنّه غير ضامنٍ لشيءٍ فهو مغرورٌ ‪ .‬والخلف يجري كذلك في رجوع‬
‫الموهوب له على الواهب عند الشّافعيّة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ل يرجع على الواهب ؛ لنّ الواهب لم يأخذ‬
‫منه عوضا فيرجع بعوضه ‪ ،‬وإنّما هو رجلٌ غرّه من أمرٍ قد كان له ألّ يقبله ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الرّجوع على الموهوب له دون الواهب ‪ ،‬وهو قول الحنفيّة ؛ لنّ الهبة عقد تب ّرعٍ‬
‫ل له ‪ ،‬فل يستحقّ الموهوب له السّلمة ‪ ،‬ول يثبت به الغرور ؛ ولنّ‬
‫والواهب غير عام ٍ‬
‫الموهوب له يقبض لنفسه ‪.‬‬
‫استحقاق الموصى به ‪:‬‬
‫‪ -‬تبطل الوصيّة باستحقاق الموصى به ‪ ،‬فإن استحقّ بعضه بقيت الوصيّة في الباقي ‪،‬‬ ‫‪32‬‬

‫لنّها تبطل بخروج الموصى به عن ملك الموصي ‪ ،‬وبالستحقاق تبيّن أنّه أوصى بمالٍ غير‬
‫مملوكٍ له ‪ ،‬والوصيّة بما ل يملك باطلةٌ ‪.‬‬
‫استحقاق الصّداق ‪:‬‬
‫ن النّكاح ل يبطل باستحقاق الصّداق ‪ ،‬لنّه ليس شرطا لصحّة النّكاح‬
‫‪ -‬يتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪33‬‬

‫‪ .‬لكنّهم يختلفون فيما يجب للزّوجة عند الستحقاق ‪ ،‬ولهم في ذلك اتّجاهان ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬الرّجوع بقيمة المتقوّم ومثل المثليّ وهو مذهب الحنفيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬وهو قولٌ‬
‫للشّافعيّة ‪ ،‬والمالكيّة معهم في المثليّ مطلقا ‪ ،‬وفي المتقوّم إن كان معيّنا ‪ ،‬فإن كان متقوّما‬
‫موصوفا رجعت بالمثل ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬الرّجوع بمهر المثل ‪ ،‬وهو قول الشّافعيّة ‪.‬‬
‫استحقاق العوض في الخلع ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق فقهاء المذاهب المشهورة على أنّ الخلع ل يبطل بخروج العوض مستحقّا ‪،‬‬ ‫‪34‬‬

‫واختلفوا فيما يجب للزّوج عند الستحقاق ‪ ،‬ولهم في ذلك اتّجاهان ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬الرّجوع بالقيمة أو بالمثل ‪ ،‬وهو مذهب الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬والحنابلة ؛ لتعذّر تسليم‬
‫العوض مع بقاء السّبب الموجب تسليمه ‪ ،‬وهو الخلع إذ هو ل يقبل النّقض بعد تمامه ‪ .‬إلّ أنّ‬
‫الحنابلة قالوا بالقيمة إن كان العوض مقوّما ‪ ،‬وبالمثل إن كان مثليّا ‪ ،‬وقال المالكيّة بوجوب‬
‫القيمة إن كان معيّنا ‪ ،‬فإن كان موصوفا ففيه المثل ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬بينونة المرأة بمهر المثل ‪ ،‬وهو قول الشّافعيّة ‪ ،‬لنّه المراد عند فساد العوض ‪.‬‬
‫استحقاق الضحيّة ‪:‬‬
‫ن الضحيّة المستحقّة ل تجزئ عن الذّابح ول عن‬
‫‪ -‬الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة على أ ّ‬ ‫‪35‬‬

‫المستحقّ ‪ ،‬استثنى الحنفيّة من ذلك ما لو ضمّنه المالك قيمتها فإنّها تجزئ عن الذّابح ‪ .‬وفي‬
‫لزوم البدل قال الحنفيّة ‪ ،‬يلزم كلّ منهما أن يضحّي عند عدم الجزاء ‪ ،‬فإن فات وقت النّحر‬
‫فعلى الذّابح أن يتصدّق بقيمة شاةٍ وسطٍ ‪ ،‬وقال الحنابلة يلزمه بدلها إن تعيّنت قبل الستحقاق ‪،‬‬
‫وكانت واجب ًة قبل التّعيين ‪ ،‬كأن نذرها للضحيّة ‪ ،‬فإن كان الستحقاق قبل التّعيين فل يلزمه‬
‫بدلها لعدم صحّة التّعيين حينئذٍ ‪ .‬وقال المالكيّة ‪ :‬تتوقّف الضحيّة المستحقّة على إجازة‬
‫المستحقّ ‪ ،‬فإن أجاز البيع أجزأت قطعا ‪.‬‬
‫استحقاق بعض المقسوم ‪:‬‬
‫‪ -‬للفقهاء في بطلن القسمة وبقائها صحيح ًة ‪ -‬عند استحقاق بعض المقسوم ‪ -‬اتّجاهاتٌ ‪:‬‬ ‫‪36‬‬

‫أ ‪ -‬أوّلها ‪ :‬بقاء القسمة صحيحةً إن كان المستحقّ بعضا معيّنا وهو قول الحنفيّة ‪ ،‬سواءٌ‬
‫عندهم في ذلك كون الجزء المستحقّ المعيّن في نصيب أحد الشّريكين أم في نصيب كلّ منهما‬
‫‪ ،‬فإن كان في نصيب أحدهما رجع على شريكه بحصّته من المستحقّ ‪ .‬والشّافعيّة والحنابلة‬
‫يرون بقاءها صحيحةً إن كان الستحقاق في نصيب الشّريكين على السّواء ‪.‬‬
‫ل ‪ ،‬أو شائعا في أحد‬
‫ب ‪ -‬بطلن القسمة وهو قول الحنفيّة إن كان الستحقاق شائعا في الك ّ‬
‫النصبة عند أبي يوسف ‪ .‬والبطلن أيضا قول الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة إن كان المستحقّ بعضا‬
‫ن المستحقّ شريكٌ لهما وقد اقتسما من غير حضوره ول إذنه ‪ ،‬فأشبه ما لو كان‬
‫شائعا ؛ ل ّ‬
‫لهما شريكٌ يعلّمانه فاقتسما دونه ‪ ،‬ومثل الشّائع عند الشّافعيّة والحنابلة أيضا المعيّن المستحقّ‬
‫في نصيب أحدهما فقط أو في نصيب أحدهما أكثر من الخر ؛ لنّها قسمةٌ لم تعدل فيها السّهام‬
‫فكانت باطلةً ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬بطلن القسمة في القدر المستحقّ إن كان شائعا وثبوت الخيار في الباقي بين إنفاذه‬
‫القسمة أو إلغائها ‪ .‬وهو أظهر الطّريقين عند الشّافعيّة ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّخيير بين التّمسّك بالباقي وعدم الرّجوع بشيءٍ ‪ ،‬وبين رجوعه فيما بيد شريكه بنصف‬
‫قدر المستحقّ إن كان قائما ‪ ،‬وإلّ فبنصف قيمته يوم قبضه ‪ ،‬وهو قول المالكيّة إن استحقّ‬
‫النّصف أو الثّلث ‪ ،‬فإن كان المستحقّ الرّبع فل خيار له والقسمة باقيةٌ ل تنقض ‪ ،‬وليس له‬
‫الرّجوع إلّ بنصف قيمة ما استحقّ ‪.‬‬
‫هـ ‪ -‬التّخيير بين إبقاء القسمة على حالها فل يرجع بشيءٍ وبين فسخ القسمة ‪ ،‬وهو قول‬
‫المالكيّة إن استحقّ الكثر ‪ ،‬وهو ما زاد عن النّصف و ‪ -‬التّخيّر بين ردّ الباقي والقتسام ثانيا‬
‫‪ ،‬وبين البقاء على القسمة والرّجوع على الشّريك بقدر ما استحقّ ‪ ،‬وهو قول أبي حنيفة إن‬
‫استحقّ جزءٌ شائعٌ من نصيب أحدهما وحده ‪ ،‬وتنتقض القسمة عند أبي يوسف كما تقدّم ‪.‬‬

‫*استحللٌ‬
‫التّعريف‬
‫ل الشّيء ‪ :‬بمعنى اتّخذه حللً ‪ ،‬أو سأل غيره أن يحلّه له وتحلّلته‬
‫‪ -‬هو مصدر استح ّ‬ ‫‪1‬‬

‫واستحللته ‪ :‬إذا سألته أن يجعلك في حلّ من قبله ‪ .‬ويستعمله الفقهاء بالمعنى اللّغويّ ‪ ،‬وبمعنى‬
‫اعتقاد الحلّ ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪ -‬الستحلل بمعنى ‪ :‬اعتبار الشّيء حللً ‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫فإن كان فيه تحليل ما حرّمه الشّارع فهو حرامٌ ‪ ،‬وقد يكفر به إذا كان التّحريم معلوما من‬
‫الدّين بالضّرورة ‪ .‬فمن استحلّ على جهة العتقاد محرّما ‪ -‬علم تحريمه من الدّين بالضّرورة‬
‫ن إنكار ما ثبت ضرور ًة أنّه من دين مح ّمدٍ صلى ال‬
‫‪ -‬دون عذرٍ يكفر وسبب التّكفير بهذا أ ّ‬
‫عليه وسلم فيه تكذيبٌ له صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وقد ضرب الفقهاء أمثل ًة لذلك باستحلل القتل‬
‫والزّنى ‪ ،‬وشرب الخمر ‪ ، ،‬والسّحر ‪ .‬وقد يكون الستحلل حراما ‪ ،‬ويفسق به المستحلّ ‪،‬‬
‫لكنّه ل يكفر ‪ ،‬كاستحلل البغاة أموال المسلمين ودماءهم ‪ .‬ووجه عدم التّكفير أنّهم متأوّلون ‪.‬‬
‫ويترتّب على الفسق بالستحلل حينئذٍ عدم قبول قضاء قاضيهم عند عامّة الفقهاء ‪ ،‬إلّ رأيا‬
‫للمالكيّة يقضي بتعقّب أقضيتهم ‪ ،‬فما كان منها صوابا نفذ ‪ ،‬وما كان على خلف كذلك ردّ ‪.‬‬
‫وردّ شهادتهم كنقض قضائهم كما صرّح بذلك كثيرٌ من الفقهاء ‪ .‬ولتفصيل هذه الحكام ( ر ‪:‬‬
‫بغيٌ ) ‪.‬‬
‫وأمّا الستحلل بمعنى ‪ :‬اتّخاذ الشّيء حللً ‪ .‬كاستحلل الفروج بطريق النّكاح ‪ ،‬فقد يكون‬
‫مكروها ‪ ،‬أو مباحا ‪ ،‬أو مستحبّا ‪.‬‬
‫ل فقد يكون واجبا ‪ ،‬كالستحلل من الغيبة‬
‫وأمّا الستحلل بمعنى ‪ :‬طلب جعل الشّخص في ح ّ‬
‫إن علم بها المغتاب ‪ ،‬وقد يكون مباحا كاستحلل الغاصب من المغصوب بدلً من ردّ‬
‫المغصوب ‪ ،‬وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في أحكام الغيبة والغصب ‪.‬‬
‫مواطن البحث ‪:‬‬

‫‪ -‬جاء لفظ الستحلل في كثيرٍ من المواطن ‪ ،‬كالقتل ‪ ،‬وحدّ الزّنى ‪ ،‬وشرب الخمر ‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫والبغي ‪ ،‬والرّدّة ‪ ،‬والتّوبة ‪ ،‬والغيبة ‪ .‬ويرجع في كلّ مح ّرمٍ إلى موطنه لمعرفة حكم استحلله‬
‫‪.‬‬

‫*استحياءٌ‬
‫التّعريف‬
‫ن متعدّد ٍة منها ‪:‬‬
‫‪ -‬الستحياء يأتي في اللّغة بمعا ٍ‬ ‫‪1‬‬

‫أ ‪ -‬بمعنى الحياء ‪ ،‬وهو ‪ :‬النزواء والنقباض ‪ ،‬وقيّد بعضهم هذا النقباض ليكون استحياءً‬
‫بأن يكون انقباضا عن القبائح ‪ .‬وقد ورد الستحياء بهذا المعنى في عد ٍد من آيات القرآن‬
‫ل شأنه في سورة القصص ‪ { :‬فجاءته إحداهما تمشي على استحياءٍ قالت‬
‫الكريم ‪ ،‬منها قوله ج ّ‬
‫ن اللّه ل‬
‫ل في سورة البقرة ‪ { :‬إ ّ‬
‫ن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } وقوله عزّ وج ّ‬
‫إّ‬
‫ل في سورة الحزاب‬
‫يستحيي أن يضرب مثلً ما بعوض ًة فما فوقها } وقوله ع ّز من قائ ٍ‬
‫{ واللّه ل يستحيي من الحقّ } والستحياء ‪ -‬بهذا المعنى ‪ -‬مرغّبٌ فيه في الجملة ‪ ،‬وتفصيله‬
‫في مصطلح ( حياءٌ ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬بمعنى البقاء على الحياة ‪ ،‬فيقال ‪ :‬استحييت فلنا إذا تركته حيّا ولم أقتله ‪ ،‬ومن ذلك‬
‫قوله تعالى في سورة القصص ‪ { :‬يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم } أي يبقيهم أحياءً ‪.‬‬
‫واستعمل الفقهاء كلمة استحيا ٍء بهذين المعنيين ‪ ،‬فقالوا في البكر ‪ :‬تستأذن في النّكاح ‪ ،‬وإذنها‬
‫صماتها ‪ ،‬لنّها تستحيي من النّطق ‪ .‬وقالوا في السرى يقعون في يد المسلمين ‪ :‬إن شاء أمير‬
‫المؤمنين استحياهم ‪ ،‬وإن شاء قتلهم ‪ .‬وكثيرا ما يعبّرون عن الستحياء بلفظ البقاء على‬
‫الحياة ‪ ،‬فيقولون في الصّغير يأبى الرّضاع من غير أمّه ‪ :‬تجبر أمّه على إرضاعه إبقاءً على‬
‫حياته الستحياء بمعنى إدامة الحياة ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة‬
‫الحياءٌ ‪:‬‬
‫‪ -‬كلمة « إحياءٌ » تستعمل في إيجاد الحياة فيما ل حياة فيه ‪ ،‬كقوله تعالى ‪ { :‬كيف تكفرون‬ ‫‪2‬‬

‫باللّه وكنتم أمواتا فأحياكم } ‪ .‬أمّا كلمة « استحياءٍ » فإنّها تستعمل في إدامة الحياة الموجودة ‪،‬‬
‫ن الحياء مسبوقٌ بالعدم ‪،‬‬
‫وعدم إعدامها ‪ ،‬كما تقدّم في المثلة السّابقة ‪ .‬فالفرق بينهما أ ّ‬
‫بخلف الستحياء ‪.‬‬
‫صفته ‪ :‬الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪ -‬ل يمكن اطّراد الستحياء على حكمٍ واح ٍد ‪ ،‬نظرا لختلف أحوال الستحياء ‪ ،‬بل تتعاقبه‬ ‫‪3‬‬

‫أكثر الحكام التّكليفيّة ‪.‬‬


‫فأحيانا يكون الستحياء واجبا ‪ ،‬كما هو الحال في استحياء من بذلنا له المان ( ر ‪ :‬أمانٌ ) ‪،‬‬
‫واستحياء الصّغير بالجبار على الرّضاعة ( ر ‪ :‬رضاعٌ ) ‪ ،‬واستحياء النسان العاجز عن‬
‫الكسب ‪ ،‬والحيوان المحبوس بالنفاق عليه ( ر ‪ :‬نفقةٌ ) ‪ ،‬واستحياء الذّراريّ والنّساء من‬
‫السّبي ( ر ‪ :‬سبيٌ ) ‪ ،‬واستحياء الجنين في بطن أمّه ( ر ‪ :‬إجهاضٌ ) ‪.‬‬
‫وأحيانا يكون الستحياء مكروها ‪ ،‬كاستحياء الحيوان المؤذي بطبعه ‪.‬‬
‫وأحيانا يكون الستحياء محرّما ‪ ،‬كاستحياء من وجب قتله في حدّ ( ر ‪ :‬حدّ ) ‪ ،‬واستحياء ما‬
‫يستفيد منه جنود العدوّ قطعا في حربهم لنا ‪ ،‬كالحيوانات الّتي عجزنا عن حملها إلى بلد‬
‫المسلمين ( ر ‪ :‬جهادٌ ) ‪.‬‬
‫وأحيانا يكون الستحياء مباحا ‪ ،‬كتخيير المام في أسرى المشركين بين القتل أو المنّ أو الفداء‬
‫أو السترقاق ‪.‬‬
‫المستحيي ‪:‬‬
‫إمّا أن يكون هو نفس المستحيا ( كاستحياء النسان نفسه ) أو غيره ‪.‬‬
‫استحياء النسان نفسه ‪:‬‬
‫‪ -‬يجب على المرء أن يعمل على استحياء نفسه ما استطاع إلى ذلك سبيلً ‪ ،‬ويكون ذلك‬ ‫‪4‬‬

‫بأمرين ‪:‬‬
‫أوّلهما ‪ :‬بدفع التّلف عنها بإزالة سببه ‪ ،‬كالجوع والعطش ‪ ،‬وإطفاء الحريق أو الهرب منه ‪،‬‬
‫ن ركابها لو ألقوا أنفسهم في‬
‫كما إذا احترقت سفينةٌ ولم يمكن إطفاؤها ‪ ،‬وغلب على الظّنّ أ ّ‬
‫الماء نجوا ‪ ،‬وجب عليهم ذلك ‪.‬‬
‫ض إلى الموت حتما ؛ ولنّ الشّفاء بتناول‬
‫وليس من هذا تناول الدّواء ؛ لنّ المرض غير مف ٍ‬
‫الدّواء غير مقطوعٍ به ‪ ،‬لكن التّداوي مطلوبٌ شرعا ؛ لحديث « تداووا عباد اللّه » فإن لم يكن‬
‫س غير‬
‫في دفع التّلف عن نفسه إتلفٌ للغير ‪ ،‬أو لعض ٍو من أعضائه ‪ ،‬أو كان فيه إتلفٌ لنف ٍ‬
‫محترمةٍ وجب عليه استحياء نفسه ‪ ،‬كما هو الحال في طلب الزّاد ممّن هو معه وهو مستغنٍ‬
‫عنه ‪ ،‬أو في دفع الصّائل على النّفس ‪ .‬وإن كان في إحياء نفسه إتلفٌ لنفسٍ محترمةٍ ‪ ،‬فإنّه ل‬
‫يجوز له القدام على هذا التلف إحياءً لنفسه ؛ لنّ الضّرر ل يزال بضرر مثله ‪.‬‬
‫ثانيهما ‪ :‬عدم القدام على إماتة نفسه بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ ‪ ،‬أمّا إماتة نفسه بشكلٍ‬
‫مباشرٍ كما إذا بعج بطنه بحديدةٍ ‪ ،‬أو ألقى نفسه من شاهقٍ ليموت ‪ ،‬فمات ‪ ،‬لقوله صلى ال‬
‫ل فهو في نار جهنّم ‪ ،‬يتردّى خالدا مخلّدا فيها أبدا ‪ ،‬ومن‬
‫عليه وسلم ‪ « :‬من تردّى من جب ٍ‬
‫تحسّى سمّا فسمّه بيده ‪ ،‬يتحسّاه في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها أبدا ‪ ،‬ومن وجأ بطنه بحديدةٍ‬
‫فحديدته في يده ‪ ،‬يجأ بها في بطنه في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها أبدا » وتفصيل ذلك في‬
‫كتاب الجنايات من كتب الفقه ‪ ،‬أو كتاب الحظر والباحة ‪ ،‬عند كلمهم على النتحار ( ر ‪:‬‬
‫انتحارٌ ) ‪.‬‬
‫وأمّا إماتة نفسه بشكلٍ غير مباشرٍ ‪ ،‬كما إذا اقتحم عدوّا ‪ ،‬أو مجموعةً من اللّصوص ‪ ،‬وهو‬
‫ل ل محالة ‪ ،‬دون أن يقتل منهم أحدا ‪ ،‬أو يوقع فيهم نكايةً ‪ ،‬أو يؤثّر فيهم أثرا‬
‫ن أنّه مقتو ٌ‬
‫موق ٌ‬
‫ن هذا إلقا ٌء للنّفس في التّهلكة ‪ ،‬واللّه تعالى يقول ‪ { :‬ول تلقوا بأيديكم‬
‫ينتفع به المسلمون ؛ ل ّ‬
‫إلى التّهلكة } ‪ ،‬ومحلّ تفصيل ذلك كتاب الجهاد من كتب الفقه ( ر ‪ :‬جهادٌ ) ‪.‬‬
‫ن حرمة نفسه عليه فوق حرمة نفسٍ أخرى ‪،‬‬
‫‪ -‬واستحياء نفسه مقدّ ٌم على استحياء غيره ؛ ل ّ‬ ‫‪5‬‬

‫ن من قتل نفسه كان إثمه أكثر ممّن قتل غيره ‪ ،‬ومن هنا قرّر الفقهاء أنّ‬
‫وبنا ًء على ذلك فإ ّ‬
‫ل ‪ ،‬ثمّ على غيره كما هو معروفٌ في النّفقات ( ر ‪ :‬نفقةٌ )‬
‫المرء يكلّف بالنفاق على نفسه أ ّو ً‬
‫‪ ،‬وكمن اضطرّ إلى طعام غيره استحياءً لنفسه ‪ ،‬وصاحب الطّعام مضطرّ لطعامه استحياءً‬
‫لنفسه أيضا ‪ ،‬فصاحب الطّعام أولى به من غيره ‪.‬‬
‫استحياء النسان غيره ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط في المستحيي لغيره حتّى يجب عليه الستحياء ما يلي ‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪ -‬أن يكون المستحيي مكلّفا عالما بحاجة المستحيا إلى الستحياء ؛ لنّه ل يثبت الوجوب‬ ‫‪1‬‬

‫على غير المكلّف ‪.‬‬


‫‪ -‬أن يكون قادرا على الستحياء ‪ ،‬فإن لم يكن قادرا عليه فإنّه ل يكلّف به ‪ ،‬لقوله تعالى ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫ل من رأى إنسانا في مهلكةٍ فلم ينجّه‬


‫{ ل يكلّف اللّه نفسا إلّ وسعها } ‪ ،‬قال في المغني ‪ « :‬ك ّ‬
‫منها مع قدرته على ذلك لم يلزمه ضمانه وقد أساء » وقال أبو الخطّاب ‪ :‬يضمنه لنّه لم ينجّه‬
‫من الهلك مع قدرته عليه ‪ ،‬كما لو منعه من الطّعام والشّراب ‪ ،‬فالخلف واقعٌ في الضّمان ‪،‬‬
‫ل في الستحياء ‪ ،‬وتفصيل ذلك في الجنايات ( ر ‪ :‬جنايةٌ ) ‪ .‬فإذا تحقّقت هذه الشّروط في‬
‫مجموعةٍ من النّاس وجب الستحياء على القرب منهم إلى المستحيا فالقرب ‪ ،‬على حسب‬
‫ترتيبهم في النّفقة ( ر ‪ :‬نفقةٌ ) ‪ .‬فإذا امتنع أحدهم عن الستحياء انتقل الوجوب إلى من يليه ‪،‬‬
‫إن كان الوقت ل يتّسع إلى إجباره على الستحياء ‪ ،‬وكذا إن اختلّ فيه شرطٌ من الشّروط‬
‫السّابقة ‪ ،‬إلى أن يصل الوجوب إلى من علم من النّاس ‪.‬‬
‫المستحيا ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط في المستحيا حتّى يجب استحياؤه أن يكون ذا حيا ٍة محترمةٍ ‪ -‬سوا ٌء أكان إنسانا أم‬ ‫‪7‬‬

‫حيوانا ‪ -‬وتبدأ الحياة المحترمة بنفخ الرّوح في الجنين بل خلفٍ ‪ .‬وفي ابتدائها قبل نفخ‬
‫ض ) ‪ .‬وتهدر هذه الحرمة للحياة ويسقط وجوب الستحياء بما يلي‬
‫الرّوح خلفٌ ‪ ( .‬ر ‪ :‬إجها ٌ‬
‫‪:‬‬
‫أ ‪ -‬بإهدار اللّه تعالى لها أصلً ‪ ،‬كما هو الحال في إهدار حرمة حياة الخنزير ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أو بتصرّفه تصرّفا اعتبره الشّارع موجبا لهدار دمه ‪ ،‬كقتال المسلمين ( ر ‪ :‬بغيٌ )‬
‫( وجهادٌ ) والقتل ( ر ‪ :‬جنايةٌ ) وال ّردّة ( ر ‪ :‬ردّ ٌة ) وزنى المحصن ( ر ‪ :‬إحصانٌ ) والسّحر‬
‫عند البعض ( ربّ سحرٍ ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أو بالضّرر ‪ ،‬بأصل خلقته ‪ ،‬كالحيوانات المؤذية بأصل خلقتها ‪ ،‬كالخمس الفواسق الّتي‬
‫ب ليس على المحرم في‬
‫نصّ عليها رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بقوله ‪ « :‬خمسٌ من الدّوا ّ‬
‫ن جناحٌ ‪ :‬الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور » وزاد أبو داود « السّبع‬
‫قتله ّ‬
‫العادي » ( المتعدّي ) ونحو ذلك ‪.‬‬
‫د ‪ -‬أو بالضّرر وقوعا إذا لم يمكن دفع ضرره إلّ بقتله ‪ ،‬كالصّائل من الحيوان والنسان ‪.‬‬
‫الجبار على الستحياء ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا تعيّن وجوب الستحياء أجبر عليه عند توفّر الشّروط السّابقة وتعيّن لذلك ‪ ،‬كما إذا‬ ‫‪9‬‬

‫رفض الصّغير الرّضاع من ثديٍ غير ثدي أمّه ‪ ،‬فإنّها تجبر على إرضاعه استحياءً له ‪ ( .‬ر‬
‫‪ :‬رضاعٌ ) ‪.‬‬
‫وجوب الستحياء في الزّمن الّذي يتّسع له ‪:‬‬
‫‪ -‬يجب الستحياء في الزّمن الّذي يمكن أن يتحقّق به الستحياء ‪ ،‬وأوّله وقت الحاجة إلى‬ ‫‪10‬‬

‫الستحياء ‪ ،‬وآخره هو الفراغ من الستحياء ‪ ،‬فإنقاذ الغريق حدّد له الشّرع الزّمان ‪ ،‬فأوّله ‪:‬‬
‫ما يلي زمن السّقوط ‪ ،‬وآخره الفراغ من إنقاذه ‪.‬‬

‫*استخارةٌ‬
‫التّعريف‬
‫‪ -‬الستخارة لغ ًة ‪ :‬طلب الخيرة في الشّيء ‪ .‬يقال ‪ :‬استخر اللّه يخر لك ‪ .‬وفي الحديث ‪« :‬‬ ‫‪1‬‬

‫كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يعلّمنا الستخارة في المور كلّها » ‪.‬‬
‫واصطلحا ‪ :‬طلب الختيار ‪ .‬أي طلب صرف الهمّة لما هو المختار عند اللّه والولى ‪،‬‬
‫بالصّلة ‪ ،‬أو الدّعاء الوارد في الستخارة ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬الطّيرة ‪:‬‬

‫‪ -‬الطّيرة ‪ :‬ما يتشاءم به من الفأل الرّديء ‪ ،‬وفي الحديث عنه صلى ال عليه وسلم « أنّه‬ ‫‪2‬‬

‫كان يحبّ الفأل ‪ ،‬ويكره الطّيرة » ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬الفأل ‪:‬‬

‫‪ -‬الفأل ما يستبشر به ‪ ،‬كأن يكون مريضا فيسمع من يقول ‪ :‬يا سالمٌ ‪ ،‬أو يكون طالبا‬ ‫‪3‬‬

‫فيسمع من يقول ‪ :‬يا واجدٌ ‪ ،‬وفي الحديث ‪ « :‬كان صلى ال عليه وسلم يحبّ الفأل » ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الرّؤيا ‪:‬‬

‫ضمّ مهموزا ‪ ،‬وقد يخفّف ‪ :‬ما رأيته في منامك ‪.‬‬


‫‪ -‬الرّؤيا بال ّ‬ ‫‪4‬‬

‫د ‪ -‬الستقسام ‪:‬‬

‫ب بالقداح ليخرج له قدحٌ منها يأتمر بما كتب عليه ‪ ،‬وهو‬


‫‪ -‬الستقسام بالزلم ‪ :‬هو ضر ٌ‬ ‫‪5‬‬

‫منهيّ عنه لقوله تعالى ‪ { :‬وأن تستقسموا بالزلم } ‪.‬‬


‫هـ ‪ -‬الستفتاح ‪:‬‬

‫‪ -‬الستفتاح ‪ :‬طلب النّصر وفي الحديث ‪ « :‬كان صلى ال عليه وسلم يستفتح ويستنصر‬ ‫‪6‬‬

‫بصعاليك المسلمين » وبعض النّاس قد يستفتح ويستطلع الغيب من المصحف أو الرّمل أو‬
‫القرعة ‪ ،‬وهذا ل يجوز لحرمته ‪ .‬قال الطّرطوشي وأبو الحسن المغربيّ وابن العربيّ ‪ :‬هو‬
‫ن اللّه قد رفعه بعد نبيّه صلى ال‬
‫من الزلم ‪ ،‬لنّه ليس لحدٍ أن يتعرّض للغيب ويطلبه ؛ ل ّ‬
‫ل في الرّؤيا ‪.‬‬
‫عليه وسلم إ ّ‬
‫صفتها ‪ :‬حكمها التّكليفيّ ‪:‬‬

‫ن الستخارة سنّةٌ ‪ ،‬ودليل مشروعيّتها ما رواه البخاريّ عن جابرٍ‬


‫‪ -‬أجمع العلماء على أ ّ‬ ‫‪7‬‬

‫رضي ال عنه قال ‪ « :‬كان النّبيّ صلى ال عليه وسلم يعلّمنا الستخارة في المور كلّها ‪،‬‬
‫كالسّورة من القرآن ‪ :‬إذا ه ّم أحدكم بالمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثمّ يقول » ‪:‬‬
‫إلخ ‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من سعادة ابن آدم استخارة اللّه عزّ وجلّ » ‪.‬‬
‫حكمة مشروعيّتها ‪:‬‬
‫‪ -‬حكمة مشروعيّة الستخارة ‪ ،‬هي التّسليم لمر اللّه ‪ ،‬والخروج من الحول والطّول ‪،‬‬ ‫‪8‬‬

‫واللتجاء إليه سبحانه ‪ .‬للجمع بين خيري الدّنيا والخرة ‪ .‬ويحتاج في هذا إلى قرع باب الملك‬
‫‪ ،‬ول شيء أنجع لذلك من الصّلة والدّعاء ؛ لما فيها من تعظيم اللّه ‪ ،‬والثّناء عليه ‪ ،‬والفتقار‬
‫إليه قالً وحالً ‪.‬‬
‫سببها ‪ :‬ما يجري فيه الستخارة ‪:‬‬
‫ن الستخارة تكون في المور الّتي ل يدري العبد وجه‬
‫‪ -‬اتّفقت المذاهب الربعة على أ ّ‬ ‫‪9‬‬

‫الصّواب فيها ‪ ،‬أمّا ما هو معروفٌ خيره أو شرّه كالعبادات وصنائع المعروف والمعاصي‬
‫والمنكرات فل حاجة إلى الستخارة فيها ‪ ،‬إلّ إذا أراد بيان خصوص الوقت كالحجّ مثلً في‬
‫سنّة ؛ لحتمال عدوّ أو فتنةٍ ‪ ،‬والرّفقة فيه ‪ ،‬أيرافق فلنا أم ل ؟ وعلى هذا فالستخارة‬
‫هذه ال ّ‬
‫ل محلّ لها في الواجب والحرام والمكروه ‪ ،‬وإنّما تكون في المندوبات والمباحات ‪.‬‬
‫والستخارة في المندوب ل تكون في أصله ؛ لنّه مطلوبٌ ‪ ،‬وإنّما تكون عند التّعارض ‪ ،‬أي‬
‫إذا تعارض عنده أمران أيّهما يبدأ به أو يقتصر عليه ؟ أمّا المباح فيستخار في أصله ‪ .‬وهل‬
‫ن فيه « إن كنت تعلم‬
‫يستخير في معيّنٍ أو مطلقٍ ؟ اختار بعضهم الوّل ؛ لظاهر الحديث ‪ .‬ل ّ‬
‫ن هذا المر » إلخ ‪ ،‬واختار ابن عرفة الثّاني ‪ ،‬وقال الشّعرانيّ ‪ :‬وهو أحسن ‪ ،‬وقد جرّبناه‬
‫أّ‬
‫فوجدناه صحيحا ‪.‬‬
‫متى يبدأ الستخارة ؟‬
‫‪ -‬ينبغي أن يكون المستخير خالي الذّهن ‪ ،‬غير عازمٍ على أمرٍ معيّنٍ ‪ ،‬فقوله صلى ال‬ ‫‪10‬‬

‫عليه وسلم في الحديث ‪ « :‬إذا همّ » يشير إلى أنّ الستخارة تكون عند أوّل ما يرد على القلب‬
‫‪ ،‬فيظهر له ببركة الصّلة والدّعاء ما هو الخير ‪ ،‬بخلف ما إذا تمكّن المر عنده ‪ ،‬وقويت‬
‫فيه عزيمته وإرادته ‪ ،‬فإنّه يصير إليه ميلٌ وحبّ ‪ ،‬فيخشى أن يخفى عنه الرّشاد ؛ لغلبة ميله‬
‫ن الخاطر ل يثبت فل يستمرّ‬
‫إلى ما عزم عليه ‪ .‬ويحتمل أن يكون المراد بالهمّ العزيمة ؛ ل ّ‬
‫ل لو استخار في كلّ خاطرٍ لستخار‬
‫إلّ على ما يقصد التّصميم على فعله من غير ميلٍ ‪ .‬وإ ّ‬
‫فيما ل يعبأ به ‪ ،‬فتضيع عليه أوقاته ‪ .‬ووقع في حديث أبي سعيدٍ « إذا أراد أحدكم أمرا فليقل‬
‫‪. » ...‬‬
‫الستشارة قبل الستخارة ‪:‬‬
‫ب أن يستشير قبل الستخارة من يعلم من حاله النّصيحة والشّفقة‬
‫‪ -‬قال النّوويّ ‪ :‬يستح ّ‬ ‫‪11‬‬

‫والخبرة ‪ ،‬ويثق بدينه ومعرفته ‪ .‬قال تعالى ‪ { :‬وشاورهم في المر } وإذا استشار وظهر أنّه‬
‫مصلح ٌة ‪ ،‬استخار اللّه تعالى في ذلك ‪ .‬قال ابن حج ٍر الهيثميّ ‪ :‬حتّى عند المعارض ( أي تقدّم‬
‫ن الطّمأنينة إلى قول المستشار أقوى منها إلى النّفس لغلبة حظوظها وفساد‬
‫الستشارة ) ل ّ‬
‫خواطرها ‪ .‬وأمّا لو كانت نفسه مطمئنّةً صادقةٌ إرادتها متخلّيةً عن حظوظها ‪ ،‬قدّم الستخارة‬
‫‪.‬‬
‫كيفيّة الستخارة ‪:‬‬
‫ث‪:‬‬
‫‪ -‬ورد في الستخارة حالتٌ ثل ٌ‬ ‫‪12‬‬

‫الولى ‪ :‬وهي الوفق ‪ ،‬واتّفقت عليها المذاهب الربعة ‪ ،‬تكون بركعتين من غير الفريضة‬
‫بنيّة الستخارة ‪ ،‬ثمّ يكون الدّعاء المأثور بعدها ‪.‬‬
‫الثّانية ‪ :‬قال بها المذاهب الثّلثة ‪ :‬الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬تجوز بالدّعاء فقط من‬
‫غير صل ٍة ‪ ،‬إذا تعذّرت الستخارة بالصّلة والدّعاء معا ‪.‬‬
‫ي صلةٍ‬
‫الثّالثة ‪ :‬ولم يصرّح بها غير المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬تجوز بالدّعاء عقب أ ّ‬
‫كانت مع نيّتها ‪ ،‬وهو أولى ‪ ،‬أو بغير نيّتها كما في تحيّة المسجد ‪ .‬ولم يذكر ابن قدامة إلّ‬
‫الحالة الولى ‪ ،‬وهي الستخارة بالصّلة والدّعاء ‪ .‬وإذا صلّى الفريضة أو النّافلة ‪ ،‬ناويا بها‬
‫الستخارة ‪ ،‬حصل له بها فضل سنّة صلة الستخارة ‪ ،‬ولكن يشترط ال ّنيّة ؛ ليحصل الثّواب‬
‫قياسا على تحيّة المسجد ‪ ،‬وعضّد هذا الرّأي ابن حجرٍ الهيثميّ ‪ ،‬وقد خالف بعض المتأخّرين‬
‫في ذلك ونفوا حصول الثّواب واللّه أعلم ‪.‬‬
‫وقت الستخارة ‪:‬‬
‫ت من الوقات ؛ لنّ‬
‫‪ -‬أجاز القائلون بحصول الستخارة بالدّعاء فقط وقوع ذلك في أيّ وق ٍ‬ ‫‪13‬‬

‫الدّعاء غير منهيّ عنه في جميع الوقات ‪ .‬أمّا إذا كانت الستخارة بالصّلة والدّعاء فالمذاهب‬
‫ص المالكيّة والشّافعيّة صراح ًة على المنع غير أنّ‬
‫الربعة تمنعها في أوقات الكراهة ‪ .‬ن ّ‬
‫الشّافعيّة أباحوها في الحرم الم ّكيّ في أوقات الكراهة ‪ ،‬قياسا على ركعتي الطّواف ‪ .‬لما روي‬
‫عن جبير بن مطعمٍ ‪ « :‬أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬يا بني عبد منافٍ ل تمنعوا‬
‫أحدا طاف بهذا البيت وصلّى في أيّ ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ » ‪ .‬وأمّا الحنفيّة والحنابلة فلعموم‬
‫المنع عندهم ‪ .‬فهم يمنعون صلة النّفل في أوقات الكراهة ‪ ،‬لعموم أحاديث النّهي ‪ ،‬ومنها ‪:‬‬
‫س قال ‪ « :‬شهد عندي رجالٌ مرضيّون ‪ ،‬وأرضاهم عندي عمر رضي ال‬
‫روى ابن عبّا ٍ‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم نهى عن الصّلة بعد الصّبح حتّى تشرق الشّمس ‪ ،‬وبعد‬
‫عنه ‪ ،‬أ ّ‬
‫العصر حتّى تغرب » ‪ .‬وعن « عمرو بن عبسة قال ‪ :‬قلت يا رسول اللّه ‪ :‬أخبرني عن‬
‫الصّلة ‪ .‬قال ‪ :‬صلّ صلة الصّبح ‪ ،‬ثمّ اقصر عن الصّلة حين تطلع الشّمس حتّى ترتفع ‪،‬‬
‫فإنّها تطلع بين قرني الشّيطان ‪ ،‬وحينئذٍ يسجد لها الكفّار ‪ ،‬ثمّ صلّ فإنّ الصّلة محضورةٌ‬
‫ل الظّلّ بالرّمح ‪ ،‬ثمّ اقصر عن الصّلة فإنّه حينئذٍ تسجر جهنّم ‪ ،‬فإذا أقبل‬
‫مشهودةٌ حتّى يستق ّ‬
‫الفيء فصلّ ‪ ،‬فإنّ الصّلة مشهود ٌة محضور ٌة حتّى تصلّي العصر ‪ ،‬ثمّ اقصر عن الصّلة حتّى‬
‫تغرب الشّمس ‪ ،‬فإنّها تغرب بين قرني الشّيطان ‪ ،‬وحينئذٍ يسجد لها الكفّار »‬
‫كيفيّة صلة الستخارة ‪:‬‬
‫ن الفضل في صلة الستخارة أن تكون ركعتين ‪.‬‬
‫‪ -‬اتّفق فقهاء المذاهب الربعة على أ ّ‬ ‫‪14‬‬

‫ولم يصرّح الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬بأكثر من هذا ‪ ،‬أمّا الشّافعيّة فأجازوا أكثر من‬
‫الرّكعتين ‪ ،‬واعتبروا التّقييد بالرّكعتين لبيان أقلّ ما يحصل به ‪.‬‬
‫القراءة في صلة الستخارة ‪:‬‬
‫‪ -‬فيما يقرأ في صلة الستخارة ثلثة آراءٍ ‪:‬‬ ‫‪15‬‬

‫أ ‪ -‬قال الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ :‬يستحبّ أن يقرأ في الرّكعة الولى بعد الفاتحة { قل‬
‫يا أيّها الكافرون } ‪ ،‬وفي الثّانية { قل هو اللّه أحدٌ } ‪ .‬وذكر النّوويّ تعليلً لذلك فقال ‪ :‬ناسب‬
‫التيان بهما في صلةٍ يراد منها إخلص الرّغبة وصدق التّفويض وإظهار العجز ‪ ،‬وأجازوا‬
‫أن يزاد عليهما ما وقع فيه ذكر الخيرة من القرآن الكريم ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬واستحسن بعض السّلف أن يزيد في صلة الستخارة على القراءة بعد الفاتحة بقوله‬
‫تعالى ‪ { :‬وربّك يخلق ما يشاء ويختار ‪ .‬ما كان لهم الخيرة سبحان اللّه وتعالى عمّا يشركون‬
‫ل هو له الحمد في الولى‬
‫ن صدورهم وما يعلنون ‪ .‬وهو اللّه ل إله إ ّ‬
‫‪ .‬وربّك يعلم ما تك ّ‬
‫والخرة وله الحكم وإليه ترجعون } ‪ .‬في الرّكعة الولى ‪ ،‬وفي الرّكعة الثّانية قوله تعالى ‪{ :‬‬
‫وما كان لمؤمنٍ ول مؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن‬
‫يعص اللّه ورسوله فقد ضلّ ضللً مبينا }‬
‫ج ‪ -‬أمّا الحنابلة وبعض الفقهاء فلم يقولوا بقراء ٍة معيّن ٍة في صلة الستخارة ‪.‬‬
‫دعاء الستخارة ‪:‬‬
‫‪ -‬روى البخاريّ ومسلمٌ عن جابر بن عبد اللّه رضي ال عنهما قال ‪ « :‬كان رسول اللّه‬ ‫‪16‬‬

‫صلى ال عليه وسلم يعلّمنا الستخارة في المور كلّها ‪ ،‬كالسّورة من القرآن إذا همّ أحدكم‬
‫بالمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ‪ ،‬ثمّ ليقل ‪ :‬اللّهمّ إنّي أستخيرك بعلمك ‪ ،‬وأستقدرك‬
‫بقدرتك ‪ ،‬وأسألك من فضلك العظيم ‪ ،‬فإنّك تقدر ول أقدر ‪ ،‬وتعلم ول أعلم ‪ ،‬وأنت علّم‬
‫ن هذا المر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ‪ -‬أو قال‬
‫الغيوب ‪ .‬اللّهمّ إن كنت تعلم أ ّ‬
‫عاجل أمري وآجله ‪ -‬فاقدره لي ويسّره لي ‪ ،‬ثمّ بارك لي فيه ‪ ،‬وإن كنت تعلم أنّ هذا المر‬
‫ش ّر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ‪ -‬أو قال عاجل أمري وآجله ‪ -‬فاصرفه عنّي‬
‫واصرفني عنه ‪ .‬واقدر لي الخير حيث كان ‪ ،‬ثمّ رضّني به ‪ .‬قال ‪ :‬ويسمّي حاجته » ‪ .‬قال‬
‫الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ :‬يستحبّ افتتاح الدّعاء المذكور وختمه بالحمد للّه والصّلة‬
‫والتّسليم على رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫استقبال القبلة في الدّعاء ‪:‬‬
‫‪ -‬يستقبل القبلة في دعاء الستخارة رافعا يديه مراعيا جميع آداب الدّعاء ‪.‬‬ ‫‪17‬‬

‫موطن دعاء الستخارة ‪:‬‬


‫‪ -‬قال الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ :‬يكون الدّعاء عقب الصّلة ‪ ،‬وهو‬ ‫‪18‬‬

‫ص الحديث الشّريف عن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ .‬وزاد‬


‫الموافق لما جاء في ن ّ‬
‫ي وابن حجرٍ من الشّافعيّة ‪ ،‬والعدويّ من المالكيّة جوازه في أثناء الصّلة في‬
‫الشّوبر ّ‬
‫السّجود ‪ ،‬أو بعد التّشهّد ‪.‬‬
‫ما يطلب من المستخير بعد الستخارة ‪:‬‬
‫ن ذلك مكرو ٌه ‪ ،‬لحديث رسول اللّه صلى ال‬
‫ل يتعجّل الجابة ؛ ل ّ‬
‫‪ -‬يطلب من المستخير أ ّ‬ ‫‪19‬‬

‫عليه وسلم « يستجاب لحدكم ما لم يعجل ‪ .‬يقول ‪ :‬دعوت فلم يستجب لي » ‪ .‬كما يطلب منه‬
‫الرّضا بما يختاره اللّه له ‪.‬‬
‫تكرار الستخارة ‪:‬‬
‫‪ -‬قال الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ :‬ينبغي أن يكرّر المستخير الستخارة بالصّلة‬ ‫‪20‬‬

‫سنّيّ عن أنسٍ ‪ .‬قال ‪ « :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه‬


‫والدّعاء سبع مرّاتٍ ؛ لما روى ابن ال ّ‬
‫وسلم ‪ :‬يا أنس إذا هممت بأمرٍ فاستخر ربّك فيه سبع مرّاتٍ ‪ ،‬ثمّ انظر إلى الّذي يسبق إلى‬
‫ن الخير فيه » ‪ .‬ويؤخذ من أقوال الفقهاء أنّ تكرار الستخارة يكون عند عدم ظهور‬
‫قلبك فإ ّ‬
‫شيءٍ للمستخير ‪ ،‬فإذا ظهر له ما ينشرح به صدره لم يكن هناك ما يدعو إلى التّكرار ‪.‬‬
‫وصرّح الشّافعيّة بأنّه إذا لم يظهر له شي ٌء بعد السّابعة استخار أكثر من ذلك ‪ .‬أمّا الحنابلة فلم‬
‫نجد لهم رأيا في تكرار الستخارة في كتبهم الّتي تحت أيدينا رغم كثرتها ‪.‬‬
‫النّيابة في الستخارة ‪:‬‬
‫‪ -‬الستخارة للغير قال بجوازها المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة أخذا من قوله صلى ال عليه وسلم «‬ ‫‪21‬‬

‫ل نظرٍ ‪ .‬فقال ‪ :‬هل‬


‫من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه » ‪ .‬وجعله الحطّاب من المالكيّة مح ّ‬
‫ورد أنّ النسان يستخير لغيره ؟ لم أقف في ذلك على شيءٍ ‪ ،‬ورأيت بعض المشايخ يفعله ‪.‬‬
‫ولم يتعرّض لذلك الحنابلة ‪ ،‬والحنفيّة ‪.‬‬
‫أثر الستخارة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬علمات القبول ‪:‬‬
‫ن علمات القبول في الستخارة انشراح الصّدر ‪،‬‬
‫‪ -‬اتّفق فقهاء المذاهب الربعة على أ ّ‬ ‫‪22‬‬

‫) ‪ « :‬ثمّ انظر إلى الّذي‬ ‫‪20‬‬ ‫لقول الرّسول صلى ال عليه وسلم في الحديث المتقدّم في ( فقرة‬
‫ن الخير فيه » أي فيمضي إلى ما انشرح به صدره ‪ ،‬وشرح الصّدر ‪ :‬عبارةٌ‬
‫سبق إلى قلبك فإ ّ‬
‫عن ميل النسان وحبّه للشّيء من غير هوًى للنّفس ‪ ،‬أو ميلٍ مصحوبٍ بغرضٍ ‪ ،‬على ما‬
‫قرّره العدويّ ‪ .‬قال الزّملكانيّ من الشّافعيّة ‪ :‬ل يشترط شرح الصّدر ‪ .‬فإذا استخار النسان‬
‫ربّه في شيءٍ فليفعل ما بدا له ‪ ،‬سوا ٌء انشرح له صدره أم ل ‪ ،‬فإنّ فيه الخير ‪ ،‬وليس في‬
‫الحديث انشراح الصّدر ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬علمات عدم القبول ‪:‬‬
‫‪ -‬وأمّا علمات عدم القبول فهو ‪ :‬أن يصرف النسان عن الشّيء ‪ ،‬لنصّ الحديث ‪ ،‬ولم‬ ‫‪23‬‬

‫ل يبقى قلبه بعد صرف المر عنه‬


‫يخالف في هذا أح ٌد من العلماء ‪ ،‬وعلمات الصّرف ‪ :‬أ ّ‬
‫معلّقا به ‪ ،‬وهذا هو الّذي نصّ عليه الحديث ‪ « :‬فاصرفه عنّي واصرفني عنه ‪ ،‬واقدر لي‬
‫الخير حيث كان ‪ ،‬ثمّ رضّني به » ‪.‬‬

‫*استخدامٌ‬
‫التّعريف‬
‫‪ -‬الستخدام لغةً ‪ :‬سؤال الخدمة ‪ ،‬أو اتّخاذ الخادم ‪ .‬ول يخرج الستعمال الفقهيّ عن هذين‬ ‫‪1‬‬

‫المعنيين ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬الستعانة ‪:‬‬

‫ن كلّ‬
‫‪ -‬الستعانة لغةً واصطلحا ‪ :‬طلب العانة ‪ .‬فيتّفق الستخدام مع الستعانة في أ ّ‬ ‫‪2‬‬

‫ن الستخدام يكون من العبد وله ‪ ،‬وتكون الستعانة باللّه‬


‫منهما فيه نوع معاونةٍ ‪ ،‬غير أ ّ‬
‫تعالى ‪ ،‬وقد تكون بالعبد ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الستئجار ‪:‬‬

‫‪ -‬الستئجار لغةً واصطلحا ‪ :‬طلب إجارة العين أو الشّخص ‪ .‬فبين الستئجار والستخدام‬ ‫‪3‬‬

‫عمومٌ وخصوصٌ من وجهٍ ‪ ،‬فالستئجار للزّراعة ‪ ،‬ورعي الغنام ل يسمّى خدمةً ‪ ،‬وكذلك ل‬
‫يقال للمستأجر لتعليم القرآن خادمٌ ‪ ،‬وينفرد الستخدام إن كان بغير أجرةٍ ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪ -‬يختلف حكم الستخدام باختلف الخادم والمخدوم ‪ ،‬والغرض الدّاعي إلى الستخدام ‪ ،‬ممّا‬ ‫‪4‬‬

‫يجعل الحكام الخمسة تعتريه ‪ .‬فالوالي يباح أن يخصّص له خادمٌ ‪ -‬كجزءٍ من عمالته الّتي‬
‫هي أجرة مثله ‪ -‬ما لم يكن ذلك ترفّها » ‪ .‬ويكون خلف الولى إن استعان بمن يصبّ عليه‬
‫ماء الوضوء دون عذرٍ ‪ .‬فإن استعان بدون عذرٍ في غسل أعضاء الوضوء كره ويكون واجبا‬
‫‪ ،‬كالعاجز عن الوضوء يستخدم من يعينه على تلك العبادة ‪ .‬ويكون مندوبا كخدمة أهل‬
‫المجاهد وخدمة المسجد ‪ .‬ويكون حراما ‪ ،‬كاستئجار الكافر للمسلم ‪ ،‬والبن أباه عند من يقول‬
‫بذلك على ما سيأتي ‪ ،‬ويجب على الحاكم منع الستخدام المحرّم ‪ .‬وفي استخدام المسلم للكافر‬
‫وعكسه ‪ ،‬واستخدام الذّكر للنثى وعكسه تجري القاعدة في أمن الفتنة وعدمه ‪ ،‬وفي المتهان‬
‫)‬ ‫‪102‬‬ ‫والذلل وعدمه ‪ ،‬وتفصيل ذلك في مصطلح إجارةٌ ( ف ‪/‬‬
‫‪ -‬ويمتنع استخدام البن أباه سواءٌ أكان على سبيل الستعارة أم على سبيل الستئجار ؛‬ ‫‪5‬‬

‫صيانةً له عن الذلل ‪.‬‬


‫‪ -‬والستخدام حقّ للزّوجة ‪ ،‬ويجب على الزّوج للزّوجة إخدامها إن كان موسرا ‪ ،‬وكانت‬ ‫‪6‬‬

‫شريفةً يخدم مثلها ‪ ،‬ول يحلّ للزّوجة استخدام زوجها إذا كان للهانة والذلل ‪.‬‬

‫*استخفافٌ‬
‫التّعريف‬
‫‪ -‬من معاني الستخفاف لغ ًة ‪ :‬الستهانة ‪ .‬ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن ذلك ‪ .‬وقد‬ ‫‪1‬‬

‫يعبّر الفقهاء عن الستخفاف بالحتقار ‪ ،‬والزدراء ‪ ،‬والنتقاص ‪.‬‬


‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬ليس للستخفاف حكمٌ عا ّم جامعٌ ‪ ،‬وإنّما يختلف حكمه باختلف ما يتعلّق به ‪ .‬فقد يكون‬ ‫‪2‬‬

‫محظورا ‪ ،‬وقد يكون مطلوبا ‪.‬‬


‫فمن المطلوب ‪ :‬الستخفاف بالكافر لكفره ‪ ،‬والمبتدع لبدعته ‪ ،‬والفاسق لفسقه ‪ .‬وكذلك‬
‫الستخفاف بالديان الباطلة والملل المنحرفة ‪ ،‬وعدم احترامها ‪ ،‬واعتقاد ذلك بين المسلمين‬
‫أفرادا وجماعاتٍ إذا علم تحريفها ‪ ،‬وهذا من الدّين ؛ لنّه استخفافٌ بكفرٍ أو بباطلٍ ‪ .‬وأمّا‬
‫المحظور ‪ :‬فهو ما سيأتي ‪.‬‬
‫ما يكون به الستخفاف ‪:‬‬
‫يكون الستخفاف بالقوال أو الفعال أو العتقادات ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬الستخفاف باللّه تعالى ‪:‬‬
‫‪ -‬قد يكون بالقول ‪ ،‬مثل الكلم الّذي يقصد به النتقاص والستخفاف في مفهوم النّاس على‬ ‫‪3‬‬

‫اختلف اعتقاداتهم ‪ ،‬كاللّعن والتّقبيح ‪ ،‬سوا ٌء أكان هذا الستخفاف القوليّ باسمٍ من أسمائه أم‬
‫صف ٍة من صفاته تعالى ‪ ،‬منتهكا لحرمته انتهاكا يعلم هو نفسه أنّه منتهكٌ مستخفّ مستهزئٌ ‪.‬‬
‫مثل وصف اللّه بما ل يليق ‪ ،‬أو الستخفاف بأمرٍ من أوامره ‪ ،‬أو وعدٍ من وعيده ‪ ،‬أو قدره ‪.‬‬
‫وقد يكون بالفعال ‪ ،‬وذلك بكلّ عملٍ يتضمّن الستهانة ‪ ،‬أو النتقاص ‪ ،‬أو تشبيه الذّات‬
‫المقدّسة بالمخلوقات ‪ ،‬مثل رسم صور ٍة للحقّ سبحانه ‪ ،‬أو تصويره في مجسّمٍ كتمثالٍ وغيره ‪.‬‬
‫وقد يكون بالعتقاد ‪ ،‬مثل اعتقاد حاجة اللّه تعالى إلى الشّريك حكم الستخفاف باللّه تعالى ‪:‬‬
‫‪ -‬أجمع الفقهاء على أنّ الستخفاف باللّه تعالى بالقول ‪ ،‬أو الفعل ‪ ،‬أو العتقاد حرامٌ ‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫فاعله مرتدّ عن السلم تجري عليه أحكام المرتدّين ‪ ،‬سوا ٌء أكان مازحا أم جادّا ‪ .‬قال تعالى ‪:‬‬
‫ن إنّما كنّا نخوض ونلعب قل أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ل‬
‫{ ولئن سألتهم ليقول ّ‬
‫تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } ‪.‬‬
‫الستخفاف بالنبياء ‪:‬‬
‫‪ -‬الستخفاف بالنبياء وانتقاصهم والستهانة بهم ‪ ،‬كسبّهم ‪ ،‬أو تسميتهم بأسما ٍء شائنةٍ ‪ ،‬أو‬ ‫‪5‬‬

‫وصفهم بصفاتٍ مهين ٍة ‪ ،‬مثل وصف النّبيّ بأنّه ساحرٌ ‪ ،‬أو خادعٌ ‪ ،‬أو محتالٌ ‪ ،‬وأنّه يضرّ من‬
‫ن نظم ذلك شعرا كان أبلغ في الشّتم ؛ لنّ‬
‫ن ما جاء به زو ٌر وباطلٌ ونحو ذلك ‪ .‬فإ ّ‬
‫اتّبعه ‪ ،‬وأ ّ‬
‫الشّعر يحفظ ويروى ‪ ،‬ويؤثّر في النّفوس كثيرا – مع العلم ببطلنه – أكثر من تأثير‬
‫البراهين ‪ ،‬وكذلك إذا استعمل في الغناء أو النشاد ‪.‬‬
‫حكم الستخفاف بالنبياء ‪:‬‬
‫ن المستخفّ بهم مرتدّ ‪ ،‬وهذا فيمن‬
‫ن الستخفاف بالنبياء حرامٌ ‪ ،‬وأ ّ‬
‫‪ -‬اتّفق العلماء على أ ّ‬ ‫‪6‬‬

‫ثبتت نبوّته بدليلٍ قطعيّ ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬ومنهم الّذين يؤذون النّبيّ } ‪ ،‬وقوله تعالى ‪ { :‬إنّ‬
‫الّذين يؤذون اللّه ورسوله لعنهم اللّه في الدّنيا والخرة وأع ّد لهم عذابا مهينا } ‪ .‬وقوله تعالى‬
‫ل أم كان جادّا ‪ ،‬لقوله‬
‫‪ { :‬ل تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } ‪ .‬وسوا ٌء أكان المستخفّ هاز ً‬
‫تعالى ‪ { ،‬قل أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ‪ .‬ل تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } ‪ .‬إلّ‬
‫ل للمالكيّة ‪ ،‬والصّحيح‬
‫ن العلماء اختلفوا في استتابته قبل القتل ‪ ،‬فالرّاجح عند الحنفيّة ‪ ،‬وقو ٌ‬
‫أّ‬
‫ن المستخفّ بالرّسول والنبياء ل يستتاب بل يقتل ‪ ،‬ول تقبل توبته في الدّنيا ؛‬
‫عند الحنابلة ‪ ،‬أ ّ‬
‫ن الّذين يؤذون اللّه ورسوله لعنهم اللّه في الدّنيا والخرة وأعدّ لهم عذابا‬
‫لقوله تعالى ‪ { :‬إ ّ‬
‫مهينا } ‪ .‬وقال المالكيّة ‪ ،‬وهو الرّاجح عندهم ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬وهو رأيٌ للحنفيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪:‬‬
‫يستتاب مثل المرتدّ ‪ ،‬وتقبل توبته إن تاب ورجع ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬قل للّذين كفروا إن ينتهوا‬
‫يغفر لهم ما قد سلف } ولخبر ‪ « :‬فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم » ‪.‬‬
‫‪ -‬وفرّق بعض الفقهاء بين الستخفاف بالسّلف ‪ ،‬وبين الستخفاف بغيرهم ‪ ،‬وأرادوا بالسّلف‬ ‫‪7‬‬

‫ب السّلف ‪ :‬إنّه يفسّق‬


‫ب الصّحابة وسا ّ‬
‫الصّحابة والتّابعين ‪ .‬فقال الحنفيّة والشّافعيّة في سا ّ‬
‫سيّدة عائشة ‪ -‬بالفك الّذي برّأها‬
‫ب ال ّ‬
‫ويضلّل ‪ ،‬والمعتمد عند المالكيّة أنّه يؤدّب ‪ .‬ولكن من س ّ‬
‫اللّه منه ‪ -‬أو أنكر صحبة أبي بكرٍ الّتي ثبتت بنصّ القرآن يكفر ؛ لنكاره تلك النّصوص‬
‫س أنّه قال في قوله تعالى ‪ { :‬إنّ‬
‫الدّالّة على براءتها وصحبة أبيها ‪ ،‬ولما روي عن ابن عبّا ٍ‬
‫ب عظيمٌ } قال‬
‫الّذين يرمون المحصنات الغافلت المؤمنات لعنوا في الدّنيا والخرة ولهم عذا ٌ‬
‫‪ :‬هذا في شأن عائشة وأزواج النّبيّ صلى ال عليه وسلم خاصّةً ‪ ،‬وليس فيها توبةٌ ‪ .‬وأمّا‬
‫الستخفاف بغيرهم من المسلمين ‪ ،‬ولو كان مستور الحال ‪ ،‬فقد قال فقهاء المذاهب الربعة ‪:‬‬
‫إنّه ذنبٌ يوجب العقاب والزّجر على ما يراه السّلطان ‪ ،‬مع مراعاة قدر القائل وسفاهته ‪ ،‬وقدر‬
‫المقول فيه ؛ لنّ الستخفاف والسّخرية من المسلم منهيّ عنه ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬ل يسخر قومٌ‬
‫ن خيرا منهنّ ول تلمزوا‬
‫من قومٍ عسى أن يكونوا خيرا منهم ول نساءٌ من نساءٍ عسى أن يك ّ‬
‫أنفسكم ول تنابزوا باللقاب ‪ .‬بئس السم الفسوق بعد اليمان } ‪.‬‬
‫حكم الستخفاف بالملئكة ‪:‬‬
‫ف بملكٍ ‪ ،‬بأن وصفه بما ل يليق به ‪ ،‬أو سبّه ‪ ،‬أو عرّض‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ من استخ ّ‬ ‫‪8‬‬

‫ي كجبريل ‪ ،‬وملك الموت ‪،‬‬


‫به كفر وقتل ‪ .‬وهذا كلّه فيما تحقّق كونه من الملئكة بدليلٍ قطع ّ‬
‫ومالكٍ خازن النّار ‪.‬‬
‫حكم الستخفاف بالكتب والصّحف السّماويّة ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّه من استخفّ بالقرآن ‪ ،‬أو بالمصحف ‪ ،‬أو بشيءٍ منه ‪ ،‬أو جحد حرفا‬ ‫‪9‬‬

‫منه ‪ ،‬أو كذب بشي ٍء ممّا صرّح به من حكمٍ أو خبرٍ ‪ ،‬أو شكّ في شيءٍ من ذلك ‪ ،‬أو حاول‬
‫إهانته بفع ٍل معيّنٍ ‪ ،‬مثل إلقائه في القاذورات كفر بهذا الفعل ‪ .‬وقد أجمع المسلمون على أنّ‬
‫القرآن هو المتل ّو في جميع المصار ‪ ،‬المكتوب في المصحف الّذي بأيدينا ‪ ،‬وهو ما جمعته‬
‫ب العالمين } إلى آخر { قل أعوذ بربّ النّاس } ‪ .‬وكذلك من‬
‫الدّفّتان من أوّل { الحمد للّه ر ّ‬
‫استخفّ بالتّوراة والنجيل ‪ ،‬أو كتب اللّه المنزّلة ‪ ،‬أو كفر بها ‪ ،‬أو سبّها فهو كافرٌ ‪ .‬والمراد‬
‫بالتّوراة والنجيل وكتب النبياء ما أنزله اللّه تعالى ‪ ،‬ل ما في أيدي أهل الكتاب بأعيانها ؛‬
‫ن بعض ما في تلك الكتب باطلٌ قطعا ‪،‬‬
‫ن عقيدة المسلمين المأخوذة من النّصوص فيها ‪ :‬أ ّ‬
‫لّ‬
‫ف بالحاديث النّبويّة الّتي ظهر‬
‫ض منه صحيح المعنى وإن حرّفوا لفظه ‪ .‬وكذلك من استخ ّ‬
‫وبع ٌ‬
‫له ثبوتها ‪.‬‬
‫الستخفاف بالحكام الشّرعيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على كفر من استخفّ بالحكام الشّرعيّة من حيث كونها أحكاما شرعيّةً ‪،‬‬ ‫‪10‬‬

‫ج ‪ ،‬أو الصّيام ‪ ،‬أو الستخفاف بحدود اللّه كحدّ‬


‫مثل الستخفاف بالصّلة ‪ ،‬أو الزّكاة ‪ ،‬أو الح ّ‬
‫السّرقة والزّنى ‪.‬‬
‫الستخفاف بالزمنة والمكنة الفاضلة وغيرها ‪:‬‬
‫ب الدّهر والزّمان والستخفاف بهما ‪ ،‬لحديث رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫‪ -‬منع العلماء س ّ‬ ‫‪11‬‬

‫ن اللّه هو الدّهر » وحديث « يؤذيني ابن آدم يسبّ الدّهر‬


‫وسلم « ل تقولوا خيبة الدّهر ‪ ،‬فإ ّ‬
‫وأنا الدّهر ‪ ،‬بيدي اللّيل والنّهار » ‪ .‬وكذلك الزمنة والمكنة الفاضلة والستخفاف بها ‪ ،‬فإنّه‬
‫يأخذ الحكم السّابق من المنع والحرمة ‪ .‬أمّا إذا قصد من ذلك الستخفاف بالشّريعة ‪ ،‬كأن‬
‫يستخفّ بشهر رمضان ‪ ،‬أو بيوم عرفة ‪ ،‬أو بالحرم والكعبة ‪ ،‬فإنّه يأخذ حكم الستخفاف‬
‫بالشّريعة أو بحكمٍ من أحكامها ‪ ،‬وقد مرّ حكم ذلك ‪.‬‬

‫*استخلفٌ‬
‫التّعريف‬
‫ن فلنا‬
‫ن فلنا إذا جعله خليفةً ‪ ،‬ويقال ‪ :‬خلف فل ٌ‬
‫‪ -‬الستخلف لغةً ‪ :‬مصدر استخلف فل ٌ‬ ‫‪1‬‬

‫ل ‪ ،‬وبمعنى مفعولٍ‬
‫على أهله وماله صار خليفته ‪ ،‬وخلفته جئت بعده ‪ ،‬فخليف ٌة يكون بمعنى فاع ٍ‬
‫‪ .‬وفي الصطلح ‪ :‬استنابة النسان غيره لتمام عمله ‪ ،‬ومنه استخلف المام غيره من‬
‫المأمومين لتكميل الصّلة بهم لعذ ٍر قام به ‪ ،‬ومنه أيضا إقامة إمام المسلمين من يخلفه في‬
‫المامة بعد موته ‪ ،‬ومنه الستخلف في القضاء على ما سيأتي ‪ .‬وسيقتصر البحث هنا على‬
‫الستخلف في الصّلة والقضاء ‪ ،‬وأمّا الستخلف في المامة العظمى فموضع بيانه مصطلح‬
‫( خلف ٌة ) ومصطلح ( ولية العهد ) ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫التّوكيل ‪:‬‬

‫‪ -‬التّوكيل في اللّغة ‪ :‬التّفويض ونحوه النابة أو الستنابة أو النّيابة ‪ .‬وفي الصطلح ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫إقامة النسان غيره مقام نفسه في تص ّرفٍ جائ ٍز معلومٍ ممّن يملكه ‪ .‬ويتبيّن من هذا أنّ‬
‫الستخلف والتّوكيل لفظان متقاربان ‪ ،‬إلّ أنّ مجال الستخلف أوسع ‪ ،‬إذ هو في بعض‬
‫ن التّوكيل‬
‫إطلقاته يظهر أثره بعد وفاة المستخلف ‪ ،‬ويشمل الصّلة وغيرها ‪ .‬في حين أ ّ‬
‫يقتصر أثره على حياة الموكّل ‪.‬‬
‫صفة الستخلف ‪ :‬حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪ -‬يختلف حكم الستخلف باختلف المر المستخلف فيه ‪ ،‬والشّخص المستخلف ‪ .‬فقد يكون‬ ‫‪3‬‬

‫واجبا على المستخلف والمستخلف ‪ ،‬كما إذا تعيّن شخصٌ للقضاء ‪ ،‬بأن لم يوجد من يصلح‬
‫ليكون قاضيا غيره ‪ ،‬فحينئذٍ يجب على من بيده الستخلف أن يستخلفه ‪ ،‬ويجب على‬
‫المستخلف أن يجيبه ‪ .‬وقد يكون حراما كاستخلف من ل يصلح للقضاء لجهله ‪ ،‬أو لطلبه‬
‫القضاء بالرّشوة ‪ .‬وقد يكون مندوبا في مثل ما ذهب إليه المالكيّة من استخلف المام غيره‬
‫ب على‬
‫ب عندهم على المام ‪ ،‬وواج ٌ‬
‫في الصّلة إذا سبقه حدثٌ ليتمّ الصّلة بالنّاس ‪ ،‬فهو مندو ٌ‬
‫المأمومين إن لم يستخلف في الجمعة ‪ ،‬ومندوبٌ في غيرها ‪ .‬وقد يكون الستخلف جائزا ‪،‬‬
‫كاستخلف إمام المسلمين عليهم من يخلفه بعد وفاته ‪ ،‬إذ يجوز له أن يترك لهم الختيار بعده‬
‫‪.‬‬
‫أوّلً ‪ :‬الستخلف في الصّلة ‪:‬‬
‫‪ -‬مذهب الحنفيّة ‪ ،‬والظهر عند الشّافعيّة ‪ ،‬وهو المذهب القديم للشّافعيّ ‪ ،‬وإحدى روايتين‬ ‫‪4‬‬

‫للمام أحمد ‪ :‬أنّ الستخلف جائزٌ في الصّلة ‪ .‬وغير الظهر عند الشّافعيّة ‪ ،‬ورواي ٌة أخرى‬
‫عن المام أحمد ‪ :‬أنّه غير جائزٍ ‪ .‬وقال أبو بكرٍ من الحنابلة ‪ :‬إذا سبق المام في الصّلة‬
‫ن استخلف المام‬
‫حدثٌ بطلت صلته وصلة المأمومين روايةٌ واحدةٌ ‪ .‬ومذهب المالكيّة أ ّ‬
‫ب في الجمعة وغيرها ‪ ،‬وواجبٌ على المأمومين ‪ ،‬في الجمعة إن لم يستخلف المام‬
‫لغيره مندو ٌ‬
‫‪ .‬لنّه ليس لهم أن يصلّوا الجمعة أفذاذا ‪ ،‬بخلف غيرها ‪ .‬وذهب الحنفيّة إلى أنّه لو أحدث‬
‫المام وكان الماء في المسجد فإنّه يتوضّأ ويبني ‪ ،‬ول حاجة إلى الستخلف ‪ ،‬وإن لم يكن في‬
‫ن الستخلف أفضل في حقّ الكلّ‬
‫المسجد ما ٌء ‪ ،‬فالفضل الستخلف ‪ .‬وظاهر المتون أ ّ‬
‫ن عمر لمّا طعن ‪ -‬وهو في الصّلة ‪ -‬أخذ بيد عبد الرّحمن بن عوفٍ‬
‫ل المجوّزون بأ ّ‬
‫استد ّ‬
‫فقدّمه ‪ ،‬فأتمّ بالمأمومين الصّلة ‪ ،‬وكان ذلك بمحضرٍ من الصّحابة وغيرهم ‪ ،‬ولم ينكر ‪ ،‬فكان‬
‫ن صلة المام قد بطلت ؛ لنّه فقد شرط صحّة الصّلة ‪ ،‬فتبطل‬
‫إجماعا ‪ .‬واستدلّ المانعون بأ ّ‬
‫صلة المأمومين كما لو تعمّد الحدث ‪.‬‬
‫كيفيّة الستخلف ‪:‬‬
‫‪ -‬قال صاحب ال ّدرّ المختار من الحنفيّة ‪ :‬يأخذ المام بثوب رجلٍ إلى المحراب ‪ ،‬أو يشير‬ ‫‪5‬‬

‫إليه ‪ ،‬ويفعله محدودب الظّهر ‪ ،‬آخذا بأنفه ‪ ،‬يوهم أنّه رعف ‪ ،‬ويشير بأصبعٍ لبقاء ركعةٍ ‪،‬‬
‫وبأصبعين لبقاء ركعتين ‪ ،‬ويضع يده على ركبته لترك ركوعٍ ‪ ،‬وعلى جبهته لترك سجودٍ ‪،‬‬
‫وعلى فمه لترك قراءةٍ ‪ ،‬وعلى جبهته ولسانه لسجود تلو ٍة ‪ ،‬وصدره لسجود سه ٍو ‪ .‬ولم يذكر‬
‫ن المالكيّة ذكروا أنّه يندب للمام إذا خرج أن يمسك بيده على أنفه‬
‫هذا غير الحنفيّة ‪ ،‬إلّ أ ّ‬
‫سترا على نفسه ‪ .‬وإذا حصل للمام سبب الستخلف في ركوعٍ أو سجودٍ فإنّه يستخلف ‪ ،‬كما‬
‫يستخلف في القيام وغيره ‪ ،‬ويرفع بهم من السّجود الخليفة بالتّكبير ‪ ،‬ويرفع المام رأسه بل‬
‫تكبيرٍ ؛ لئلّ يقتدوا به ‪ ،‬ول تبطل صلة المأمومين إن رفعوا رءوسهم برفعه ‪ ،‬وقيل تبطل‬
‫صلتهم ‪.‬‬
‫أسباب الستخلف ‪:‬‬
‫‪ -‬جمهور الفقهاء يجوّزون الستخلف لعذرٍ ل تبطل به صلة المأمومين ‪ ،‬والعذر إمّا‬ ‫‪6‬‬

‫خارجٌ عن الصّلة أو متعلّقٌ بها ‪ ،‬والمتعلّق بها إمّا مانعٌ من المامة دون الصّلة ‪ ،‬وإمّا مانعٌ‬
‫ن المام إذا سبقه الحدث في الصّلة‬
‫من الصّلة ‪ .‬والقائلون بجواز الستخلف اتّفقوا على أ ّ‬
‫ل مذهبٍ أسبابٌ وشروطٌ ‪.‬‬
‫ح أو غيرهما ‪ ،‬انصرف واستخلف ‪ ،‬وفي ك ّ‬
‫من بولٍ ‪ ،‬أو ري ٍ‬
‫ن السباب المجوّزة للستخلف هي المجوّزة‬
‫ن لجواز البناء شروطا ‪ ،‬وأ ّ‬
‫‪ -‬فعند الحنفيّة أ ّ‬ ‫‪7‬‬

‫للبناء ‪ .‬والشّروط هي ‪:‬‬


‫( أ ) أن يكون سبب الستخلف حدثا ‪ ،‬فلو كانت نجاس ًة لم يجز الستخلف ‪ ،‬حتّى لو كانت‬
‫من بدنه ‪ ،‬خلفا لبي يوسف الّذي أجاز الستخلف إن كانت النّجاسة خارجةً من بدنه ‪.‬‬
‫( ب ) كون الحدث سماويّا ‪ ،‬وفسّروا السّماويّ بأنّه ‪ :‬ما ليس للعبد ‪ -‬ولو غير المصلّي ‪-‬‬
‫اختيارٌ فيه ‪ ،‬ول في سببه ‪ ،‬فلو أحدث عمدا ل يجوز له الستخلف ‪ ،‬وكذلك الحكم لو أصابته‬
‫ث حصل‬
‫ل مثلً عند أبي حنيفة ومحمّدٍ ‪ ،‬لنّه حد ٌ‬
‫ضةٌ ‪ ،‬أو سقط عليه حجرٌ من رج ٍ‬
‫شجّةٌ أو ع ّ‬
‫بصنع العباد ‪ .‬وعند أبي يوسف يجوز الستخلف ؛ لنّه ل صنع فيه فصار كالسّماويّ ‪.‬‬
‫( ج ) أن يكون الحدث من بدنه ‪ ،‬فلو أصابته نجاس ٌة من خارجٍ ‪ ،‬أو كان من جنونٍ فل‬
‫استخلف ‪.‬‬
‫ب للغسل ‪.‬‬
‫( د ) أن يكون الحدث غير موج ٍ‬
‫( هـ ) ألّ يكون الحدث نادر الوجود ‪.‬‬
‫ث ‪ ،‬ويحترز بذلك عمّا إذا سبقه الحدث وهو راكعٌ أو‬
‫ل يؤدّي المستخلف ركنا مع حد ٍ‬
‫( و ) وأ ّ‬
‫ساجدٌ فرفع رأسه قاصدا الداء ‪.‬‬
‫ب بعد الطّهارة ‪.‬‬
‫ل يؤدّي ركنا مع مشيٍ ‪ ،‬كما لو قرأ وهو آي ٌ‬
‫( ز ) وأ ّ‬
‫( ح ) وألّ يفعل فعلً منافيا ‪ ،‬فلو أحدث عمدا بعد سبق الحدث ل يجوز الستخلف ‪.‬‬
‫ل يفعل فعلً له منه بدّ ‪ ،‬فلو تجاوز ماءً إلى أبعد منه بأكثر من قدر صفّين بل عذرٍ‬
‫( ط ) وأ ّ‬
‫فل يجوز الستخلف ‪.‬‬
‫ل يتراخى قدر أداء الرّكن بل عذرٍ ‪ .‬أمّا لو تراخى بعذرٍ كزحم ٍة أو نزول دمٍ فإنّه‬
‫( ي ) وأ ّ‬
‫يبني ‪.‬‬
‫ل يظهر حدثه السّابق ‪ ،‬كمضيّ مدّة مسحه على الخفّين ‪.‬‬
‫( ك ) وأ ّ‬
‫( ل ) وألّ يتذكّر فائتةً وهو ذو ترتيبٍ ‪ ،‬فلو ت ّذكّرها فل يصحّ بناؤه حتما ‪.‬‬
‫( م ) أن يتمّ المؤتمّ في مكانه ‪ ،‬وذلك يشمل المام الّذي سبقه الحدث ‪ ،‬فإنّه يصير مؤتمّا بعد‬
‫أن كان إماما ‪ ،‬فإذا توضّأ وكان إمامه لم يفرغ من صلته فعليه أن يعود ليتمّ صلته خلف‬
‫إمامه ‪ ،‬إن كان بينهما ما يمنع القتداء ‪ ،‬فلو أتمّ في مكانه مع وجود ما يمنع القتداء فسدت‬
‫صلته خاصّةً ‪ ،‬وهذا شرطٌ لصحّة بناء من سبقه الحدث على ما سبق من صلته ‪ ،‬ل لصحّة‬
‫الستخلف ‪.‬‬
‫( ن ) أن يستخلف المام من يصلح للمامة ‪ ،‬فلو استخلف صبيّا أو امرأةً أو أ ّميّا ‪ -‬وهو من‬
‫ل يحسن شيئا من القرآن ‪ -‬فسدت صلة المام والمأمومين ‪ .‬واختلفوا فيما إذا حصر المام‬
‫عن قراءة ما تصحّ به الصّلة ‪ ،‬هل له أن يستخلف أو ل ؟ فقال أبو يوسف ومح ّمدٌ ‪ :‬ل يجوز‬
‫ن الحصر عن القراءة يندر وجوده فأشبه الجنابة في الصّلة ‪ ،‬ويتمّ الصّلة بل‬
‫الستخلف ‪ ،‬ل ّ‬
‫قراءةٍ كال ّميّ إذا أمّ قوما أ ّميّين ‪ ،‬وعنهما رواي ٌة أخرى ‪ :‬أنّ الصّلة تفسد ‪ ،‬وقال المام أبو‬
‫حنيفة ‪ :‬يجوز الستخلف ؛ لنّه في باب الحدث جاز للعجز عن المضيّ في الصّلة ‪ ،‬والعجز‬
‫ن المحدث قد يجد في المسجد ماءً فيمكنه إتمام صلته من غير استخلفٍ ‪ ،‬أمّا‬
‫هنا ألزم ؛ ل ّ‬
‫الّذي نسي جميع ما يحفظ فل يستخلف بإجماع الحنفيّة ‪ ،‬لنّه ل يقدر على التمام إلّ بالتّعلّم‬
‫ح الستخلف عندهم ‪ ،‬وذكر المام‬
‫والتّعليم والتّذكير ‪ ،‬ومتى عجز عن البناء لم يص ّ‬
‫ن الرّازيّ قال ‪ :‬إنّما يستخلف إذا لم يمكنه أن يقرأ شيئا ‪ ،‬فإن أمكنه قراءة آي ٍة فل‬
‫التّمرتاشيّ أ ّ‬
‫يستخلف ‪ ،‬وإن استخلف فسدت صلته ‪ ،‬وقال صدر السلم ‪ :‬صورة المسألة إذا كان حافظا‬
‫ل أو خوفٌ فامتنعت عليه القراءة ‪ ،‬أمّا إذا نسي فصار أ ّميّا لم يجز‬
‫للقرآن إلّ أنّه لحقه خج ٌ‬
‫الستخلف ‪.‬‬
‫‪ -‬وعند المالكيّة ‪ :‬أنّه يندب لمن ثبتت إمامته بال ّنيّة وتكبيرة الحرام أن يستخلف في ثلثة‬ ‫‪8‬‬

‫س محترمةٍ ‪ -‬ولو كافرةً ‪ -‬أو تلف مالٍ ‪ ،‬سواءٌ أكان‬


‫مواضع ‪ :‬الوّل ‪ :‬إذا خشي تلف نف ٍ‬
‫المال له أم لغيره ‪ ،‬قليلً كان المال أم كثيرا ‪ ،‬ولو كان المال لكافرٍ ‪ ،‬وقيّد بعضهم المال بكونه‬
‫ذا بالٍ بحسب الشخاص ‪ .‬والثّاني ‪ :‬إذا طرأ على المام ما يمنع المامة لعجزٍ عن ركنٍ‬
‫يعجزه عن الرّكوع أو عن القراءة في بقيّة صلته ‪ ،‬وأمّا عجزه عن السّورة فل يجيز‬
‫الستخلف ‪ .‬والثّالث ‪ :‬ما اتّفق عليه جمهور الفقهاء من سبق الحدث أو الرّعاف ‪ .‬وإذا طرأ‬
‫على المام ما يمنعه المامة كالعجز عن بعض الركان فإنّه يستخلف ويتأخّر وجوبا بال ّنيّة ‪،‬‬
‫بأن ينوي المأموميّة ‪ ،‬فإن لم ينوها بطلت صلته ‪.‬‬
‫‪ -‬وعند الشّافعيّة ‪ :‬للمام أن يستخلف إذا بطلت صلته ‪ ،‬أو أبطلها عمدا ‪ ،‬جمع ًة كانت أو‬ ‫‪9‬‬

‫غيرها ‪ ،‬بحدثٍ أو غيره ‪ ،‬بشروطٍ هي ‪ :‬أن يكون الستخلف قبل أن يأتي المأمومون بركنٍ ‪،‬‬
‫وأن يكون المستخلف صالحا للمامة ‪ ،‬وأن يكون مقتديا بالمام قبل حدثه ‪ ،‬ولو صبيّا أو‬
‫متنفّلً ‪.‬‬
‫‪ -‬وعند الحنابلة ‪ :‬للمام أن يستخلف إذا سبقه الحدث في الرّواية المقدّمة عندهم ‪ ،‬كأن قاء‬ ‫‪10‬‬

‫أو رعف ‪ ،‬وكذلك إذا تذكّر نجاسةً ‪ ،‬أو جناب ًة لم يغتسل منها ‪ ،‬أو تنجّس في أثناء الصّلة ‪ ،‬أو‬
‫ن يمنع الئتمام كالرّكوع والسّجود ‪.‬‬
‫عجز عن إتمام الفاتحة ‪ ،‬أو عن رك ٍ‬
‫ثانيا ‪ :‬الستخلف لقامة الجمعة ونحوها ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف فقهاء الحنفيّة في جواز الستخلف ( بمعنى النابة ) من الخطيب المأذون له من‬ ‫‪11‬‬

‫وليّ المر بالخطبة ( بنا ًء على اشتراطهم الذن لقامة الجمعة ) وهل يملك الستنابة للخطبة ؟‬
‫وهذا الختلف بين المتأخّرين ناشئٌ من اختلفهم في فهم عبارات مشايخ المذهب ‪ .‬فقال‬
‫صاحب الدّرّ ‪ :‬ل يملك ذلك مطلقا ‪ ،‬أي سواءٌ أكان الستخلف لضرور ٍة أم ل ‪ ،‬إلّ أن يفوّض‬
‫إليه ذلك ‪ .‬وقال ابن كمالٍ باشا ‪ :‬إن دعت إلى الستخلف ضرور ٌة جاز ‪ ،‬وإلّ ل ‪ ،‬وقال‬
‫ب الدّين بن جرباشٍ والتمرتاشي والحصكفيّ والبرهان الحلبيّ وابن نجيمٍ‬
‫قاضي القضاة مح ّ‬
‫والشرنبللي ‪ :‬يجوز مطلقا بل ضرورةٍ ‪ ،‬وهذه المسألة خاصّةٌ بالحنفيّة ؛ لعدم اشتراط غيرهم‬
‫إذن وليّ المر في الخطبة ‪.‬‬
‫الستخلف في أثناء خطبة الجمعة ‪:‬‬
‫ن الخطيب سبقه الحدث وهو‬
‫ن الطّهارة في الخطبة سنّةٌ مؤكّدةٌ ‪ ،‬فلو أ ّ‬
‫‪ -‬يرى الحنفيّة أ ّ‬ ‫‪12‬‬

‫يخطب ‪ ،‬فإمّا أن يتمّ الخطبة وهو محدثٌ ‪ ،‬وذلك جائزٌ ‪ ،‬وإمّا أن يستخلف فيكون حكمه على‬
‫الخلف السّابق في جواز الستنابة في الخطبة ‪ .‬أمّا المذاهب الخرى فالصّحيح عندهم أنّ‬
‫الطّهارة سنّةٌ وليست واجبةً لصحّة الخطبة ‪ ،‬فإذا أحدث جاز له إتمام خطبته ‪ ،‬لكن الفضل‬
‫الستخلف وأمّا على القول بوجوب طهارة الخطيب فإذا أحدث وجب الستخلف منه أو من‬
‫المأمومين ‪ ،‬وهل يبدأ المستخلف من حيث انتهى الخطيب الوّل أم يستأنف الخطبة من أوّلها ؟‬
‫صرّح المالكيّة بأنّه من حيث انتهى الوّل إن علم ‪ ،‬وإلّ ابتدأ الخطبة ‪.‬‬
‫الستخلف في صلة الجمعة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ -‬في الجديد ‪ -‬والحنابلة في رواي ٍة هي المذهب‬ ‫‪13‬‬

‫إلى ‪ :‬جواز الستخلف في صلة الجمعة لعذرٍ ‪ ،‬هذا إذا أحدث المام بعد الخطبة وقبل‬
‫الشّروع في الصّلة فقدّم رجلً يصلّي بالنّاس ‪ ،‬فإن كان المقدّم ممّن شهد الخطبة أو شيئا منها‬
‫جاز اتّفاقا ‪ ،‬وإن لم يكن شهد شيئا من الخطبة ‪ ،‬أو كان الحدث في أثناء الصّلة فهناك تفصيلٌ‬
‫في المذاهب إليك بيانه ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة إلى أنّه إن لم يكن المقدّم قد شهد شيئا من الخطبة فإن استخلفه المام قبل‬ ‫‪14‬‬

‫أن يشرع في الصّلة لم يجز الستخلف ‪ ،‬وعلى من يؤمّهم أن يصلّي بهم الظّهر أربعا ؛ لنّه‬
‫منشئٌ للجمعة ‪ ،‬وليس ببانٍ تحريمته على تحريمة المام ‪ ،‬والخطبة شرط إنشاء الجمعة ولم‬
‫توجد ‪ .‬أمّا لو شرع المام في الصّلة ثمّ أحدث ‪ ،‬فقدّم رجلً جاء ساعة القامة ‪ ،‬أي لم يشهد‬
‫ن تحريمة الوّل انعقدت للجمعة لوجود شرطها‬
‫شيئا من الخطبة جاز وصلّى بهم الجمعة ؛ ل ّ‬
‫وهو الخطبة ‪ ،‬والثّاني بنى تحريمته على تحريمة المام ‪ .‬والخطبة شرط انعقاد الجمعة في‬
‫ق من يبني تحريمته على تحريمة غيره ‪ ،‬بدليل‬
‫حقّ من ينشئ التّحريمة في الجمعة ‪ ،‬ل في ح ّ‬
‫ن المقتدي بالمام تصحّ جمعته وإن لم يدرك الخطبة لهذا المعنى ‪ ،‬فكذا إذا استخلف المام‬
‫أّ‬
‫ن المام إذا أحدث وقدّم رجلً لم يشهد‬
‫بعدما شرع في الصّلة ‪ .‬وذكر الحاكم في المختصر ‪ :‬أ ّ‬
‫الخطبة ‪ ،‬فأحدث المقدّم قبل الشّروع لم يجز للثّاني الستخلف ؛ لنّه ليس من أهل إقامة‬
‫الجمعة بنفسه ‪.‬‬
‫‪ -‬وذهب المالكيّة إلى أنّه لو أحدث بعد الخطبة ‪ ،‬أو بعدما أحرم ‪ ،‬فاستخلف من لم يشهدها‬ ‫‪15‬‬

‫فصلّى بهم أجزأتهم ‪ ،‬وإن خرج المام ولم يستخلف لم يصلّوا أفذاذا ‪ ،‬ويستخلفون من يتمّ‬
‫بهم ‪ ،‬وأولى أن يقدّموا من شهد الخطبة ‪ ،‬وإن استخلفوا من لم يشهدها أجزأتهم ‪ ،‬ول يجوز‬
‫استخلف من ل تجب عليه الجمعة كالمسافر ‪ ،‬وقال مالكٌ ‪ :‬أكره استخلف من لم يشهد‬
‫الخطبة ‪.‬‬
‫‪ -‬وذهب الشّافعيّ في القديم إلى أنّه ل يستخلف ‪ ،‬وفي الجديد يستخلف ‪ ،‬فعلى القول القديم‬ ‫‪16‬‬

‫إن أحدث المام بعد الخطبة وقبل الحرام لم يجز له أن يستخلف ؛ لنّ الخطبتين مع الرّكعتين‬
‫كالصّلة الواحدة ‪ ،‬فلمّا لم يجز أن يستخلف في صلة الظّهر بعد الرّكعتين ‪ -‬كما ل يجوز‬
‫فيهما ‪ -‬لم يجز له أن يستخلف في صلة الجمعة بعد الخطبتين ‪ ،‬وإن أحدث بعد الحرام ففيه‬
‫قولن ‪ .‬أحدهما ‪ :‬يتمّون الجمعة فرادى ؛ لنّه لمّا لم يجز الستخلف بقوا على حكم‬
‫الجماعة ‪ ،‬فجاز لهم أن يصلّوا فرادى ‪ .‬والثّاني ‪ :‬أنّه إذا كان الحدث قبل أن يصلّي بهم ركعةً‬
‫صلّوا الظّهر ‪ ،‬وإن كان بعض الرّكعة صلّوا ركع ًة أخرى فرادى ( كالمسبوق إذا لم يدرك‬
‫ركع ًة أتمّ الظّهر ‪ ،‬وإن أدرك ركعةً أتمّ جمع ًة ) ‪ .‬أمّا في المذهب الجديد فإن استخلفه من لم‬
‫يحضر الخطبة لم يجز ؛ لنّ من حضر كمّل ‪ -‬أي العدد المطلوب وهو أربعون ‪ -‬بالسّماع‬
‫فانعقدت به الجمعة ‪ ،‬ومن لم يحضر لم يكمل ‪ ،‬فلم تنعقد به الجمعة ‪ ،‬ولهذا لو خطب بأربعين‬
‫فقاموا وصلّوا الجمعة جاز ‪ ،‬ولو حضر أربعون لم يحضروا الخطبة فصلّوا الجمعة لم يجز ‪.‬‬
‫وإن كان الحدث بعد الحرام ‪ .‬فإن كان في الرّكعة الولى فاستخلف من كان معه قبل الحدث‬
‫جاز ؛ لنّه من أهل الجمعة ‪ ،‬وإن استخلف مسبوقا لم يكن معه قبل الحدث لم يجز ؛ لنّه ليس‬
‫من أهل الجمعة ‪ ،‬ولهذا لو صلّى المستخلف المسبوق بانفراده الجمعة لم تصحّ ‪ .‬وإن كان‬
‫الحدث في الرّكعة الثّانية ‪ .‬فإن كان قبل الرّكوع فاستخلف من كان معه قبل الحدث جاز ‪ ،‬وإن‬
‫استخلف من لم يكن معه قبل الحدث لم يجز ‪ ،‬وإن كان بعد الرّكوع فاستخلف من لم يحضر‬
‫قبل الحدث لم يجز ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه‬
‫سنّة أن يتولّى الصّلة من يتولّى الخطبة ؛ ل ّ‬
‫‪ -‬وعند الحنابلة ‪ :‬ال ّ‬ ‫‪17‬‬

‫وسلم كان يتولّهما بنفسه ‪ ،‬وكذلك خلفاؤه من بعده ‪ .‬فإن خطب رجلٌ وصلّى آخر لعذرٍ‬
‫جاز ‪ ،‬نصّ عليه أحمد وهو المذهب ‪ .‬وإن لم يوجد عذرٌ فقال أحمد ‪ :‬ل يعجبني من غير‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان يتولّهما ‪ ،‬وقد قال ‪ « :‬صلّوا كما‬
‫عذرٍ فيحتمل المنع ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن الخطبة أقيمت مقام ركعتين ‪ ،‬ويحتمل الجواز – مع الكراهة – لنّ‬
‫رأيتموني أصلّي » ‪ .‬ول ّ‬
‫الخطبة منفصل ٌة عن الصّلة فأشبهتا صلتين ‪.‬‬
‫وهل يشترط أن يكون المستخلف ممّن حضر الخطبة ؟ فيه روايتان ‪:‬‬
‫إحداهما ‪ :‬يشترط ذلك ‪ ،‬وهو قول كثي ٍر من الفقهاء ؛ لنّه إمامٌ في الجمعة فاشترط حضوره‬
‫الخطبة ‪ ،‬كما لو لم يستخلف ‪.‬‬
‫والثّانية ‪ :‬ل يشترط ؛ لنّه ممّن تنعقد به الجمعة ‪ ،‬فجاز أن يؤمّ فيها كما لو حضر الخطبة ‪.‬‬
‫وقد روي عن أحمد أنّه ل يجوز الستخلف لعذرٍ ول لغيره ‪ ،‬قال في رواية حنبلٍ ‪ :‬في‬
‫ل أن يعيد‬
‫ل أربعا ‪ ،‬إ ّ‬
‫ل يصلّي بهم ‪ ،‬لم يصلّ بهم إ ّ‬
‫المام إذا أحدث بعدما خطب ‪ ،‬فقدّم رج ً‬
‫ن هذا لم ينقل عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ول عن‬
‫الخطبة ثمّ يصلّي بهم ركعتين ‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫أحدٍ من خلفائه ‪.‬‬
‫الستخلف في العيدين ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا أحدث المام في أثناء صلة العيد فإنّه تجري عليه الحكام السّابقة في الستخلف‬ ‫‪18‬‬

‫ي صلةٍ ‪ .‬أمّا إذا أحدث المام يوم العيد قبل الخطبة بعد الصّلة فقد صرّح المالكيّة ‪ :‬أنّه‬
‫في أ ّ‬
‫يخطب النّاس على غير وضوءٍ ‪ ،‬ول يستخلف ‪ .‬وقواعد غيرهم ل تأبى ذلك ‪ ،‬على ما مرّ في‬
‫الستخلف في خطبة الجمعة ‪.‬‬
‫الستخلف في صلة الجنازة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة في الصّحيح عندهم ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬والحنابلة إلى جواز الستخلف في صلة‬ ‫‪19‬‬

‫الجنازة ‪ .‬وعند المالكيّة ‪ :‬أنّ للمام إذا استخلف فذهب فتوضّأ ‪ ،‬وقد بقي بعض التّكبير من‬
‫الصّلة على الجنازة ‪ ،‬أن يرجع فيصلّي ما أدرك ‪ ،‬ويقضي ما فاته ‪ ،‬وإن شاء ترك ‪ .‬وقال‬
‫الشّافعيّة ‪ :‬إذا اجتمع وليّان في درجةٍ واحدةٍ ‪ ،‬وكان أحدهما أفضل ‪ ،‬كان أولى بالصّلة ‪ ،‬فإن‬
‫ي ‪ -‬ففي تمكينه من ذلك وجهان ‪ ،‬حكاهما صاحب العدّة‬
‫أراد أن يستنيب أجنبيّا ‪ -‬أي غير ول ّ‬
‫ل برضاء الخر ‪.‬‬
‫‪ :‬أحدهما ‪ :‬أنّه ل يمكّن إ ّ‬
‫الستخلف في صلة الخوف ‪:‬‬
‫‪ -‬المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة هم الّذين تكلّموا عن الستخلف في صلة الخوف في السّفر ‪ ،‬ولم‬ ‫‪20‬‬

‫ص في هذا الموضوع ‪.‬‬


‫نقف للحنفيّة والحنابلة على ن ّ‬
‫‪ -‬فعند المالكيّة ‪ :‬إذا صلّى المام ركعةً من صلة الخوف ‪ ،‬ثمّ أحدث قبل قيامه إلى‬ ‫‪21‬‬

‫الثّانية ‪ ،‬فليقدّم من يؤمّهم ‪ ،‬ثمّ يثبت المستخلف ‪ ،‬ويتمّ من خلفه صلتهم ‪ ،‬وهو قائمٌ ساكتا أو‬
‫داعيا ‪ ،‬ثمّ تأتي الطّائفة الخرى فيصلّي بهم ركعةً ويسلّم ‪ ،‬ث ّم تتمّ هذه الطّائفة الرّكعة الثّانية ‪.‬‬
‫ولو أحدث بعد قيامه إلى الثّانية فل يستخلف ؛ لنّ من خلفه خرجوا من إمامته بالقتداء به في‬
‫ركع ٍة ‪ ،‬حتّى لو تعمّد حينئذٍ الحدث أو الكلم لم تفسد عليهم ‪ .‬فإذا أتمّ هؤلء الرّكعة الثّانية‬
‫وذهبوا أتت الطّائفة الخرى بإمامٍ فقدّموه ‪.‬‬
‫‪ -‬وقال المام الشّافعيّ ‪ :‬إذا أحدث المام في صلة الخوف فهو كحدثه في غيرها ‪ ،‬وأحبّ‬ ‫‪22‬‬

‫إليّ ألّ يستخلف أحدا ‪ .‬فإن كان أحدث في الرّكعة الولى أو بعدما صلّها ‪ ،‬وهو واقفٌ في‬
‫الرّكعة الثّانية فقرأ ولم تدخل معه الطّائفة الثّانية ‪ ،‬قضت الطّائفة الولى ما عليهم من‬
‫الصّلة ‪ ،‬وأمّ الطّائفة الخرى إمامٌ منهم ‪ ،‬أو صلّوا فرادى ‪ ،‬ولو قدّم رجلً فصلّى بهم أجزأ‬
‫عنهم إن شاء اللّه تعالى ‪ .‬وإذا أحدث المام وقد صلّى ركعةً وهو قائمٌ يقرأ ‪ -‬ينتظر فراغ‬
‫الّتي خلفه ‪ -‬وقف الّذي قدّم كما يقف المام ‪ ،‬وقرأ في وقوفه ‪ ،‬فإذا فرغت الطّائفة الّتي خلفه‬
‫‪ .‬ودخلت الطّائفة الّتي وراءه قرأ بأمّ القرآن وقدر سور ٍة ‪ ،‬ثمّ ركع بهم ‪ ،‬وكان في صلته لهم‬
‫كالمام الوّل ل يخالفه في شيءٍ إذا أدرك الرّكعة الولى مع المام الوّل ‪ ،‬وانتظرهم حتّى‬
‫يتشهّدوا ثمّ يسلّم بهم ‪ ،‬وهناك صورٌ أخرى نادر ٌة ‪ ،‬موطن بيانها صلة الخوف ‪.‬‬
‫من يحقّ له الستخلف ‪:‬‬
‫‪ -‬مذهب الحنفيّة ‪ :‬أنّ الستخلف حقّ المام ‪ .‬فلو استخلف هو شخصا ‪ ،‬واستخلف‬ ‫‪23‬‬

‫المأمومون سواه ‪ ،‬فالخليفة من قدّمه المام ‪ ،‬فمن اقتدى بمن قدّمه المأمومون فسدت صلته ‪،‬‬
‫وإن قدّم المام واحدا ‪ ،‬أو تقدّم بنفسه لعدم استخلف المام جاز إن قام مقام الوّل قبل أن‬
‫يخرج من المسجد ‪ ،‬ولو خرج منه فسدت صلة الكلّ دون المام ‪ ،‬ولو تقدّم رجلن فالسبق‬
‫أولى ‪.‬‬
‫‪ -‬ومذهب المالكيّة ‪ :‬أنّ استخلف المام لغيره مندوبٌ ‪ ،‬وللمام ترك الستخلف ‪ ،‬ويترك‬ ‫‪24‬‬

‫المصلّين ليستخلفوا بأنفسهم أحدهم ‪ ،‬وإنّما ندب له الستخلف ؛ لنّه أعلم بمن يستحقّ التّقديم‬
‫فهو من التّعاون على البرّ ؛ ولئلّ يؤدّي تركه إلى التّنازع فيمن يتقدّم فتبطل صلتهم ‪ ،‬فإن لم‬
‫يستخلف ندب ذلك للمأمومين ‪ ،‬وإن تقدّم غير من استخلفه المام وأتمّ بهم صحّت صلتهم ‪.‬‬
‫ن المام أو القوم إن قدّموا رجلً فأتمّ لهم ما بقي من الصّلة‬
‫‪ -‬ومذهب الشّافعيّة ‪ :‬أ ّ‬ ‫‪25‬‬

‫ل إذا‬
‫ن من قدّمه المأمون أولى ممّن قدّمه المام لنّ الحظّ لهم ‪ ،‬إ ّ‬
‫أجزأتهم صلتهم ‪ ،‬على أ ّ‬
‫كان المام راتبا فمقدّمه أولى ‪ .‬وإن تقدّم واحدٌ بنفسه جاز ‪.‬‬
‫ن للمام أن يستخلف من يت ّم الصّلة‬
‫‪ -‬ومذهب الحنابلة ‪ :‬وهو إحدى روايتين عندهم ‪ ،‬أ ّ‬ ‫‪26‬‬

‫بالمأمومين ‪ ،‬فإن لم يفعل فقدّم المأمون رجلً فأتمّ بهم جاز ‪.‬‬
‫من يصحّ استخلفه ‪ ،‬وأفعال المستخلف ‪:‬‬
‫ل من يصلح إماما ابتداءً يصحّ استخلفه ‪،‬‬
‫‪ -‬المنصوص عليه في مذاهب الفقهاء ‪ :‬أنّ ك ّ‬ ‫‪27‬‬

‫ت‪:‬‬
‫ب تفصيل ٌ‬
‫ح استخلفه ‪ ،‬وفي كلّ مذه ٍ‬
‫ومن ل يصلح ابتداءً ل يص ّ‬
‫ل يقبل ‪ ،‬وإن‬
‫‪ -‬فعند الحنفيّة ‪ :‬الولى للمام ألّ يستخلف مسبوقا ‪ ،‬وإن استخلفه ينبغي له أ ّ‬ ‫‪28‬‬

‫قبل جاز ‪ ،‬ولو تقدّم يبتدئ من حيث انتهى إليه المام ‪ ،‬وإذا انتهى إلى السّلم يقدّم مدركا يسلّم‬
‫بهم ‪ ،‬ولو أنّ الخليفة المسبوق حين أتمّ الصّلة الّتي ابتدأها المام المستخلف أتى بمبطلٍ‬
‫لصلته ‪ -‬كأن قهقه أو أحدث متعمّدا أو تكلّم أو خرج من المسجد ‪ -‬فسدت صلته ‪ ،‬وصلة‬
‫القوم تامّةٌ ‪ .‬أمّا فساد صلته فلنّه أتى بمبطلٍ قبل إكمال ما سبق به ‪ ،‬وأمّا صحّة صلة القوم‬
‫فلنّ المبطل المتعمّد تمّت به صلتهم لتحقّق الرّكن ‪ ،‬وهو الخروج بالصّنع ‪ ،‬والمام إن كان‬
‫فرغ من صلته فصلته صحيحةٌ ‪ ،‬وإن لم يكن فرغ تفسد صلته في الصحّ ‪ .‬ولو اقتدى‬
‫رجلٌ بالمام في صلةٍ رباعيّ ٍة فأحدث المام ‪ ،‬وقدّم المام هذا الرّجل ‪ ،‬والمقتدي ل يدري كم‬
‫ل ركع ٍة احتياطا ‪.‬‬
‫صلّى المام وكم بقي عليه ؟ فإنّ المقتدي يصلّي أربع ركعاتٍ ‪ ،‬ويقعد في ك ّ‬
‫ولو استخلف لحقا فللخليفة أن يشير للمأمومين حتّى يؤدّي ما عليه من الصّلة ‪ ،‬ثمّ يتمّ بهم‬
‫الصّلة ‪ .‬ولو لم يفعل ذلك ومضى على صلة المام ‪ ،‬وأخّر ما عليه حتّى انتهى إلى موضع‬
‫السّلم ‪ ،‬واستخلف من سلّم بهم جاز ‪ .‬وإذا كان خلف المام شخصٌ واحدٌ ‪ ،‬وأحدث المام‬
‫تعيّن ذلك الواحد للمامة ‪ ،‬عيّنه المام بال ّنيّة أو لم يعيّنه ‪ .‬ولو اقتدى مسافرٌ بمسافرٍ فأحدث‬
‫المام ‪ ،‬فاستخلف مقيما لم يلزم المسافر التمام ‪.‬‬
‫ح استخلفه أن يدرك مع المام الصليّ قبل العذر‬
‫‪ -‬وقال المالكيّة ‪ :‬إنّه يشترط فيمن يص ّ‬ ‫‪29‬‬

‫جزءا يعتدّ به من الرّكعة المستخلف هو فيها ‪ ،‬قبل العتدال من الرّكوع ‪ ،‬وإذا استخلف المام‬
‫مسبوقا صلّى بهم على نظام صلة المام الوّل ‪ ،‬فإذا انتهى إلى الرّكعة الرّابعة بالنّسبة لهم‬
‫أشار إليهم فجلسوا ‪ ،‬وقام ليتمّ صلته ثمّ يسلّم معهم ‪.‬‬
‫‪ -‬وعند الشّافعيّة ‪ :‬يصحّ استخلف مأمومٍ يصلّي صلة المام أو مثلها في عدد الرّكعات‬ ‫‪30‬‬

‫بالتّفاق ‪ ،‬سواءٌ أكان مسبوقا أم غيره ‪ ،‬وسواءٌ استخلفه في الرّكعة الولى أم في غيرها ؛ لنّه‬
‫ملتزمٌ بترتيب المام باقتدائه ‪ ،‬فل يؤدّي إلى المخالفة ‪ .‬وإذا استخلف مأموما مسبوقا لزمه‬
‫مراعاة ترتيب المام ‪ ،‬فيقعد موضع قعوده ‪ ،‬ويقوم موضع قيامه ‪ ،‬كما كان يفعل لو لم يخرج‬
‫المام من الصّلة ‪ .‬فلو اقتدى المسبوق في ثانية الصّبح ‪ ،‬ثمّ أحدث المام فيها فاستخلفه فيها‬
‫قنت ‪ ،‬وقعد وتشهّد ‪ ،‬ثمّ يقنت في الثّانية لنفسه ‪ ،‬ولو كان المام قد سها قبل اقتداء المستخلف‬
‫أو بعده ‪ ،‬سجد في آخر صلة المام ‪ ،‬وأعاد في آخر صلة نفسه ‪ ،‬على أصحّ القولين ‪ .‬وإذا‬
‫أتمّ بالقوم صلة المام قام لتدارك ما عليه ‪ ،‬والمأمومون بالخيار إن شاءوا فارقوه وسلّموا ‪،‬‬
‫ح صلتهم بل خلفٍ للضّرورة ‪ ،‬وإن شاءوا صبروا جلوسا ليسلّموا معه ‪ ،‬هذا كلّه إذا‬
‫وتص ّ‬
‫عرف المسبوق نظم صلة المام وما بقي منها ‪ ،‬فإن لم يعرف فقولن حكاهما صاحب‬
‫التّلخيص وآخرون ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هما وجهان أقيسهما ل يجوز ‪ ،‬وقال الشّيخ أبو عليّ ‪ :‬أصحّهما‬
‫الجواز ‪ ،‬ونقله ابن المنذر عن الشّافعيّ ولم يذكر غيره ‪ ،‬فعلى هذا يراقب المستخلف‬
‫ل قعد ‪.‬‬
‫المأمومين إذا أتمّ الرّكعة ‪ ،‬فإن همّوا بالقيام قام وإ ّ‬
‫‪ -‬وقال الحنابلة ‪ :‬يجوز استخلف المسبوق ببعض الصّلة ‪ ،‬ولمن جاء بعد حدث المام ‪،‬‬ ‫‪31‬‬

‫فيبني على ما مضى من صلة المام من قراء ٍة أو ركعةٍ أو سجد ٍة ‪ ،‬ويقضي بعد فراغ صلة‬
‫المأمومين ‪ ،‬وحكي هذا القول عن عمر وعليّ وأكثر من وافقهما في الستخلف ‪ .‬وفيه روايةٌ‬
‫أخرى أنّه مخ ّيرٌ بين أن يبني أو يبتدي ‪ ،‬فإذا فرغوا من صلتهم قعدوا وانتظروه حتّى يتمّ‬
‫ن المام إنّما جعل ليؤتمّ به‬
‫ويسلّم معهم ؛ لنّ اتّباع المأمومين للمام أولى من اتّباعه لهم ‪ .‬فإ ّ‬
‫وعلى كلتا الرّوايتين إذا فرغ المأمومون قبل فراغ إمامهم ‪ ،‬وقام لقضاء ما فاته فإنّهم يجلسون‬
‫وينتظرون حتّى يتمّ ويسلّم بهم ؛ لنّ المام ينتظر المأمومين في صلة الخوف ‪ ،‬فانتظارهم له‬
‫ل ‪ :‬يستخلف من يسلّم بهم ‪ ،‬والولى‬
‫أولى ‪ ،‬وإن سلّموا ولم ينتظروه جاز ‪ .‬وقال ابن عقي ٍ‬
‫انتظاره ‪ .‬وإن سلّموا لم يحتاجوا إلى خليفةٍ ‪ .‬فإنّه لم يبق من الصّلة إلّ السّلم ‪ ،‬فل حاجة‬
‫ح الستخلف في هذه الصّورة ؛ لنّه إن بنى‬
‫إلى الستخلف فيه ‪ ،‬ويقوى عندي أنّه ل يص ّ‬
‫جلس في غير موضع جلوسه وصار تابعا للمأمومين ‪ ،‬وإن ابتدأ جلس المأمومون في غير‬
‫موضع جلوسهم ‪ ،‬ولم يرد الشّرع بهذا ‪ ،‬وإنّما ثبت الستخلف في موضع الجماع حيث لم‬
‫يحتج إلى شي ٍء من هذا ‪ ،‬فل يلحق به ما ليس في معناه ‪ .‬وإذا استخلف من ل يدري كم صلّى‬
‫المام ‪ ،‬احتمل أن يبني على اليقين ‪ ،‬فإن وافق الحقّ وإلّ سبّحوا به فرجع إليهم ‪ ،‬ويسجد‬
‫للسّهو ‪ .‬وفي روايةٍ ‪ :‬إنّ المستخلف إن شكّ في عدد الرّكعات الّتي صلّها المام لم يجز له‬
‫شكّ ‪ ،‬كغير المستخلف ‪ ،‬ورواية البناء على اليقين بنيت على أنّه شكّ ممّن ل‬
‫الستخلف لل ّ‬
‫ظنّ له فوجب البناء على اليقين كسائر المصلّين ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬استخلف القاضي‬
‫ن المام إذا أذن للقاضي في الستخلف فله ذلك ‪ ،‬وعلى أنّه‬
‫‪ -‬اتّفق فقهاء المذاهب على أ ّ‬ ‫‪32‬‬

‫إذا نهاه فليس له أن يستخلف ‪ ،‬وذلك لنّ القاضي إنّما يستمدّ وليته من المام ‪ ،‬فل يملك أن‬
‫يخالفه إذا نهاه ‪ ،‬كالوكيل مع الموكّل ‪ ،‬فإنّ الموكّل إذا نهى الوكيل عن تص ّرفٍ ما فليس له أن‬
‫ص على ذلك ‪ .‬أمّا إن‬
‫يخالفه ‪ .‬قال الدّسوقيّ ‪ :‬وينبغي أنّ العرف بالستخلف وعدمه كالنّ ّ‬
‫أطلق المام فلم يأذن ولم ينه فهناك اتّجاهاتٌ في المذاهب ‪ .‬ذهب الحنفيّة ‪ ،‬وابن عبد الحكم ‪،‬‬
‫ن من المالكيّة ‪ ،‬وهو احتمالٌ في مذهب الحنابلة إلى ‪ :‬أنّه ل يجوز أن يستخلف ؛ لنّه‬
‫وسحنو ٌ‬
‫يتصرّف بإذن المام ولم يأذن له ‪ .‬وذهب الحنابلة ‪ ،‬وهو وجهٌ للشّافعيّة إلى ‪ :‬أنّه يجوز له أن‬
‫يستخلف مطلقا ‪ .‬والمشهور عند المالكيّة ‪ ،‬وهو الوجه الخر للشّافعيّة أنّه يجوز الستخلف‬
‫ن القاضي في هذه الحالة‬
‫لعذرٍ كمرضٍ ‪ ،‬أو سفرٍ ‪ ،‬أو سعة الجهات المولّى عليها ‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫ن قرينة الحال تقتضي ذلك ‪ ،‬فإن استخلف القاضي ‪ -‬بغير إذنٍ ‪-‬‬
‫يحتاج إلى الستخلف ؛ ول ّ‬
‫وقضى المستخلف فإنّ قضاءه ينفذ عند الحنفيّة إذا أنفذه القاضي المستخلف بشرط أن يكون‬
‫المستخلف بحالٍ يصلح معها أن يكون قاضيا ؛ لنّه بإجازة القاضي المستخلف صار كأنّه هو‬
‫الّذي قضى ‪.‬‬
‫ح به وينعقد ‪ ،‬سواءٌ‬
‫ل لفظٍ يفيد الستخلف يص ّ‬
‫‪ -‬ما يثبت به الستخلف في القضاء ‪ :‬ك ّ‬ ‫‪33‬‬

‫أكان ممّا قاله الفقهاء في ألفاظ تولية القضاء أم ل ‪ ،‬وكذلك أيّ دليلٍ أو قرين ٍة يثبت بها‬
‫الستخلف يعمل بها ويعوّل عليها ‪.‬‬

‫*استدانةٌ‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬الستدانة لغةً ‪ :‬الستقراض وطلب الدّين ‪ ،‬أو ‪ :‬صيرورة الشّخص مدينا ‪ ،‬أو ‪ :‬أخذه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫والمداينة ‪ :‬التّبايع بالجل ‪ .‬والقرض ‪ :‬هو ما يعطى من المال ليقضى ‪ .‬وأمّا في الشّرع‬
‫فتطلق الستدانة ويراد بها ‪ :‬طلب أخذ مالٍ يترتّب عليه شغل ال ّذمّة ‪ ،‬سوا ٌء كان عوضا في‬
‫مبيعٍ أو سلمٍ أو إجارةٍ ‪ ،‬أو قرضا ‪ ،‬أو ضمان متلفٍ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬الستقراض ‪:‬‬

‫‪ -‬الستقراض ‪ :‬طلب القرض ‪ ،‬وكلّ من القرض والدّين ل بدّ أن يكون ممّا يثبت في ال ّذمّة‬ ‫‪2‬‬

‫‪ .‬وعلى هذا فالستدانة أعمّ من الستقراض ‪ ،‬إذ الدّين شاملٌ عامّ للقرض وغيره ‪ .‬وفرّق‬
‫ن الستدانة ل بدّ أن تكون إلى أجلٍ ‪ ،‬في‬
‫المرتضى الزّبيديّ بين الستدانة والستقراض ‪ ،‬بأ ّ‬
‫ل عند الجمهور ‪ ،‬أمّا المالكيّة فيقولون بلزوم الجل في‬
‫حين أنّ الستقراض ل يكون إلى أج ٍ‬
‫القرض بالنّسبة للمقرض ( ر ‪ .‬أجلٌ ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الستلف ‪:‬‬

‫‪ -‬الستلف لغ ًة ‪ :‬أخذ السّلف ‪ ،‬وسلف في كذا وأسلف ‪ :‬إذا قدّم الثّمن فيه ‪ .‬والسّلف كالسّلم‬ ‫‪3‬‬

‫والقرض بل منفع ٍة أيضا ‪ .‬يقال ‪ :‬أسلفه مالً إذا أقرضه ‪ .‬صفة الستدانة‬
‫ي ‪:‬‬
‫حكمها التّكليف ّ‬
‫‪ -‬الصل في الستدانة الباحة ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى‬ ‫‪4‬‬

‫ن النّبيّ كان يستدين ‪.‬‬


‫أجلٍ مسمّى فاكتبوه } ‪ .‬ول ّ‬
‫وقد تعتريها أحكا ٌم أخرى بحسب السّبب الباعث ‪ ،‬كالنّدب في حال عسر المدين ‪ ،‬وكالوجوب‬
‫للمضطرّ ‪ ،‬وكالتّحريم فيمن يستدين قاصدا المماطلة ‪ ،‬أو جحد الدّين ‪ .‬وكالكراهة إذا كان غير‬
‫قادرٍ على الوفاء ‪ ،‬وليس مضطرّا ول قاصدا المماطلة ‪.‬‬
‫صيغة الستدانة ‪:‬‬
‫ن ‪ ،‬قرضا كان أو سلما ‪ ،‬أو ثمنا لمبيعٍ‬
‫ل ما يدلّ على التزام ال ّذمّة بدي ٍ‬
‫‪ -‬تكون الستدانة بك ّ‬ ‫‪5‬‬

‫بأجلٍ ويفصّل الفقهاء ذلك عند الكلم في مصطلح ‪ ( :‬عق ٌد ) ( وقرضٌ ) ( ودينٌ ) ‪.‬‬
‫السباب الباعثة على الستدانة ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ :‬الستدانة لحقوق اللّه تعالى ‪:‬‬
‫ل على الغنيّ القادر عليها ‪-‬‬
‫‪ -‬حقوق اللّه تعالى الماليّة ‪ ،‬كالزّكاة ‪ ،‬ل تثبت في ال ّذمّة إ ّ‬ ‫‪6‬‬

‫والغنيّ في كلّ تكليفٍ بحسبه ‪ -‬فل يكلّف بالستدانة ليصير ملزما بشي ٍء منها بالتّفاق ‪ .‬أمّا ما‬
‫ج ‪ ،‬فإن كان ل يرجو الوفاء فالستدانة لجله مكروهةٌ أو‬
‫شرط اللّه لوجوبه الستطاعة ‪ ،‬كالح ّ‬
‫حرامٌ عند المالكيّة ‪ ،‬وخلف الفضل عند الحنفيّة ‪ .‬أمّا إن كان يرجو الوفاء فيجب عليه عند‬
‫المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬وهو الفضل عند الحنفيّة ‪ .‬وعند الحنابلة ‪ -‬يفهم ممّا في المغني ‪ -‬أنّه‬
‫ب له إن لم يكن عليه في ذلك ضررٌ أو‬
‫إن أمكنه الحجّ بالستدانة لم يلزمه ذلك ‪ ،‬ولكن يستح ّ‬
‫على غيره ‪ .‬فإذا وجبت حقوق اللّه تعالى الماليّة على عبدٍ حال غناه ‪ ،‬ثمّ افتقر قبل أدائها ‪،‬‬
‫فهل يكلّف بالستدانة لدائها ؟ يفرّق فقهاء الحنفيّة في ذلك بين الحالتين ‪ :‬إن لم يكن عنده مالٌ‬
‫وأراد أن يستقرض ‪ ،‬فإن كان في أكبر رأيه أنّه إذا استقرض وأدّى الزّكاة ‪ ،‬واجتهد لقضاء‬
‫دينه يقدر على ذلك ‪ ،‬كان الفضل له أن يستقرض ‪ ،‬فإن استقرض وأدّى ولم يقدر على قضاء‬
‫الدّين حتّى مات ‪ ،‬يرجى أن يقضي اللّه تعالى دينه في الخرة ‪ .‬وإن كان أكبر رأيه أنّه إذا‬
‫ن خصومة صاحب‬
‫ل يستقرض ‪ ،‬ل ّ‬
‫استقرض ل يقدر على قضاء الدّين ‪ ،‬كان الفضل له أ ّ‬
‫ل حالٍ ‪ .‬ومذهب الحنابلة أنّه إذا‬
‫الدّين أشدّ ‪ .‬وظاهر هذا أنّه ل يجب عليه الستقراض على ك ّ‬
‫وجبت عليه الزّكاة ‪ ،‬فتلف المال بعد وجوبها ‪ ،‬فأمكنه أداؤها أدّاها ‪ ،‬وإلّ أمهل إلى ميسرته‬
‫وتمكّنه من أدائها من غير مضرّةٍ عليه ول على غيره ‪ ،‬قالوا ‪ :‬لنّه إذا لزم النظار في دين‬
‫الدميّ المعيّن فهذا أولى ‪ .‬ولم يتعرّض الشّافعيّة لهذه المسألة فيما اطّلعنا عليه ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الستدانة لداء حقوق العباد ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الستدانة لحقّ النّفس ‪:‬‬
‫‪ -‬تجب الستدانة على المضطرّ لحياء نفسه ؛ لنّ حفظ النّفس مق ّدمٌ على حفظ المال ‪،‬‬ ‫‪7‬‬

‫صرّح به الشّافعيّة ‪ ،‬وقواعد غيرهم ل تأباه ؛ لما ورد في الضّرورة من نصوصٍ معروفةٍ ‪.‬‬
‫أمّا الستدانة لسدّ حاج ٍة من الحاجيّات ‪ ،‬فهو جائزٌ إن كان يرجو وفاءً ‪ ،‬وإن كان الولى له أن‬
‫يصبر ‪ .‬لما في الستدانة من المنّة ‪ ،‬قال في الفتاوى الهنديّة ‪ .‬ل بأس أن يستدين الرّجل إذا‬
‫كانت له حاج ٌة ل بدّ منها ‪ ،‬وهو يريد قضاءها ‪ .‬وكلمة « ل بأس » إذا أطلقها فقهاء الحنفيّة‬
‫فإنّهم يعنون بها ‪ :‬ما كان تركه أولى من فعله ‪ .‬أمّا إذا كان ل يرجو وفا ًء فتحرم عليه‬
‫ب ؛ لما في الستدانة من تعريض مال الغير إلى التلف ‪ .‬أمّا‬
‫الستدانة ‪ ،‬والصّبر واج ٌ‬
‫الستدانة من أجل غايةٍ غير مشروع ٍة فإنّه ل يجوز ‪ ،‬كما إذا استدان لينفق في وج ٍه غير‬
‫ع ‪ ،‬مثل أن يكون عنده من المال ما يكفيه ‪ ،‬فيتوسّع في النّفقة ‪ .‬ويستدين لجل أن يأخذ‬
‫مشرو ٍ‬
‫ن قصده مذمومٌ ‪.‬‬
‫من الزّكاة ‪ ،‬فإنّه ل يعطى منها ؛ ل ّ‬
‫ق الغير ‪:‬‬
‫ب ‪ -‬الستدانة لح ّ‬
‫أوّلً ‪ -‬الستدانة لوفاء الدّين ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يلزم المعسر بالستدانة لقضاء دين غرمائه ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وإن كان ذو عسرةٍ‬ ‫‪8‬‬

‫ن الضّرر ل يزال بمثله ‪ ،‬صرّح بذلك‬


‫فنظرةٌ إلى ميسر ٍة } ‪ .‬ولما في ذلك من منّةٍ ‪ .‬ول ّ‬
‫المالكيّة والحنابلة ‪ ،‬وقواعد غيرهم ل تأباه ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الستدانة للنّفقة على الزّوجة ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ نفقة الزّوجة واجبةٌ ‪ ،‬سوا ٌء أكان الزّوج موسرا أم معسرا ‪ ،‬فإن كان‬ ‫‪9‬‬

‫ن أئمّة الحنفيّة يرون‬


‫ل ‪ ،‬أنفق من ماله جبرا عنه ‪ ،‬وإن كان معسرا فإ ّ‬
‫الزّوج حاضرا ‪ ،‬وله ما ٌ‬
‫ن القاضي يفرض لها النّفقة ‪ ،‬ثمّ يأمرها بالستدانة عليه ‪ ،‬فإن لم تجد من تستدين منه أوجب‬
‫أّ‬
‫القاضي نفقتها على من تجب عليه من أقاربها لو لم تكن متزوّج ًة ‪ ،‬أمّا إن كان غائبا وليس له‬
‫مالٌ حاضرٌ ‪ ،‬فإنّه ل تفرض لها نفقةٌ عليه ‪ ،‬خلفا لزفر ‪ ،‬وقوله هو المفتى به عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫ن ‪ ،‬وترجع عليه بما استدانت‬
‫وذهب الحنابلة إلى أنّ لها الستدانة ‪ ،‬لها ولولدها ولو بغير إذ ٍ‬
‫ن نفقة الزّوجة تسقط بالعسار إذا ثبت ‪ ،‬أمّا إذا لم يثبت إعساره فلها أن‬
‫‪ .‬ومذهب المالكيّة أ ّ‬
‫تستدين عليه ‪ .‬وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا كان له مالٌ حاض ٌر ينفق عليها منه جبرا عنه ‪ .‬وإذا‬
‫كان ل مال له وهو قادرٌ على الكسب ‪ ،‬أجبر على التّكسّب ‪ ،‬ويستدين للنّفقة الحاضرة ‪ ،‬أمّا إن‬
‫كان ماله غائبا فإنّه يجبر على الستدانة ‪ ،‬فإن لم يستدن كان لها طلب الفسخ ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬الستدانة للنفاق على الولد والقارب ‪:‬‬
‫‪ -‬نفقة الصّغار من الولد الفقراء غير المتكسّبين واجب ٌة في الجملة على الوالد دون غيره‬ ‫‪10‬‬

‫في الصل ‪ ،‬فإن امتنع عن النفاق عليهم ‪ ،‬وكان موسرا ‪ ،‬أجبر على ذلك ‪ ،‬ويؤمرون‬
‫بالستدانة عليه ‪ .‬وإن كان معسرا فعند الحنفيّة ‪ :‬تؤمر المّ بالنفاق عليهم من مالها إن كانت‬
‫موسرةً ‪ ،‬وإلّ ألزم بنفقتهم من تجب عليه لو كان الب ميّتا ‪ ،‬ثمّ يرجع المنفق على الب إن‬
‫أيسر ‪ .‬وإن كان الب زمنا اعتبر كالميّت ‪ ،‬فل رجوع للمنفق بل هو تب ّرعٌ ‪ .‬ومذهب المالكيّة‬
‫كالحنفيّة في حال اليسار ‪ ،‬وينوب عن إذن القاضي عندهم إشهاد المنفق على أنّه أنفق على‬
‫سبيل الرّجوع ‪ ،‬أو يحلف على ذلك ‪ .‬أمّا إذا كان معسرا فيعتبر النفاق على أولده تبرّعا من‬
‫المنفق ‪ ،‬ل رجوع له ولو أيسر الب بعدئذٍ ‪ .‬وعند الشّافعيّة ‪ :‬للولد الستدانة بإذن‬
‫القاضي ‪ ،‬ول رجوع إلّ إذا حصل القتراض بالفعل للمنفق المأذون ‪ .‬وذهب الحنابلة إلى أنّه‬
‫ن جاز تبعا لل ّم ‪ .‬أمّا‬
‫ن ‪ ،‬لكن لو استدانت ال ّم لها ولولدها بل إذ ٍ‬
‫يستدان للولد بإذ ٍ‬
‫الستدانة لغير الزّوجة والولد ففي ذلك تفصيلٌ وخلفٌ كبيرٌ ‪ ،‬موطنه « نفقةٌ » ‪.‬‬
‫الستدانة ليتمحّض المال حللً ‪:‬‬
‫ل فيه شبهةٌ ‪،‬‬
‫ج بمالٍ حللٍ ‪ ،‬فإن لم يتوفّر له إلّ ما ٌ‬
‫ج فيستحبّ أن يح ّ‬
‫‪ -‬إذا أراد أن يح ّ‬ ‫‪11‬‬

‫ج ‪ ،‬ويقضي دينه من ماله ‪.‬‬


‫ج بمالٍ حللٍ ‪ ،‬ففي فتاوى قاضي خان ‪ :‬يستدين للح ّ‬
‫وأراد أن يح ّ‬
‫شروط صحّة الستدانة ‪:‬‬
‫الشّرط الوّل ‪ :‬عدم انتفاع الدّائن ‪:‬‬
‫‪ -‬إنّ انتفاع الدّائن من عمليّة الستدانة إمّا أن يتمّ بشرطٍ في العقد ‪ ،‬أو بغير شرطٍ ‪ ،‬فإن‬ ‫‪12‬‬

‫كان بشرطٍ فهو حرامٌ بل خلفٍ ‪ ،‬قال ابن المنذر ‪ :‬أجمعوا على أنّ المسلف ‪ -‬أي الدّائن ‪-‬‬
‫إذا شرط على المستلف زياد ًة أو هديّةً ‪ ،‬فأسلف على ذلك ‪ ،‬أنّ أخذ الزّيادة على ذلك ربا ‪ ،‬وقد‬
‫ي بن أبي طالبٍ رضي ال عنه عن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قوله ‪ « :‬كلّ‬
‫روى عل ّ‬
‫ض جرّ منفعةً فهو ربا » ‪ .‬وهو وإن كان ضعيف السّند إلّ أنّه صحيحٌ معنًى ‪ ،‬وروي عن‬
‫قر ٍ‬
‫أبيّ بن كعبٍ ‪ ،‬وعبد اللّه بن عبّاسٍ ‪ ،‬وعبد اللّه بن مسعو ٍد ‪ ،‬أنّهم نهوا عن كلّ قرضٍ جرّ‬
‫منفع ًة للمقرض ‪ .‬ولنّ عقد الستدانة عقد إرفاقٍ وقرب ٍة ‪ ،‬واشتراط المنفعة فيه للدّائن إخراجٌ‬
‫له عن موضوعه ‪ ،‬وهو شرطٌ ل يقتضيه العقد ول يلئمه ‪ ،‬وقد أورد الفقهاء كثيرا من‬
‫التّطبيقات العمليّة على القرض الّذي يجرّ نفعا للدّائن ‪ .‬ومن ذلك ‪ :‬أن يشترط الدّائن أن يردّ له‬
‫المدين أكثر ممّا أخذ ‪ ،‬أو أجود ممّا أخذ ‪ ،‬وهذا هو الرّبا بعينه ( ر ‪ :‬ربا ) ‪ .‬وليس من ذلك‬
‫ن هذا شرطٌ يلئم‬
‫اشتراط الدّائن على المدين أن يعطيه رهنا بالدّين ‪ ،‬أو كفيلً ضمانا لدينه ؛ ل ّ‬
‫العقد كما سيأتي ‪ .‬أمّا إن كانت المنفعة الّتي حصل عليها الدّائن من المدين غير مشروطةٍ ‪،‬‬
‫فيجوز ذلك عند جمهور الفقهاء ‪ :‬الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ .‬وهو مرويّ‬
‫عن عبد اللّه بن عمر ‪ ،‬وسعيد بن المسيّب ‪ ،‬والحسن البصريّ ‪ ،‬وعامرٍ الشّعبيّ ‪ ،‬والزّهريّ ‪،‬‬
‫ل ‪ ،‬وقتادة ‪ ،‬وإسحاق بن راهويه ‪ ،‬وهو إحدى الرّوايتين عن إبراهيم النّخعيّ ‪ .‬واستدلّ‬
‫ومكحو ٍ‬
‫هؤلء بما رواه مسلمٌ في صحيحه عن جابر بن عبد اللّه قال ‪ « :‬أقبلنا من مكّة إلى المدينة مع‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فاعتلّ جملي » ‪ .‬وساق الحديث بقصّته ‪ ،‬وفيه « ثمّ قال ‪:‬‬
‫بعني جملك هذا ‪ ،‬قال ‪ :‬فقلت ‪ :‬ل ‪ ،‬بل هو لك ‪ ،‬قال ‪ :‬بل بعنيه ‪ ،‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬ل ‪ ،‬بل هو‬
‫لك يا رسول اللّه ‪ ،‬قال ‪ :‬ل ‪ ،‬بل بعنيه ‪ ،‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬فإنّ لرجلٍ عليّ أوقيّة ذهبٍ فهو لك‬
‫بها ‪ ،‬قال ‪ :‬قد أخذته ‪ ،‬فتبلّغ عليه إلى المدينة ‪ ،‬ث ّم قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم لبللٍ ‪:‬‬
‫ب وزادني قيراطا » وهذه زيادةٌ‬
‫أعطه أوقيّ ًة من ذهبٍ وزياد ًة ‪ ،‬قال ‪ :‬فأعطاني أوقيّ ًة من ذه ٍ‬
‫في القدر ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا الزّيادة في الصّفة ‪ :‬فعن أبي رافعٍ مولى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم « أنّ‬ ‫‪13‬‬

‫رسول اللّه استسلف من رجلٍ بكرا ‪ ،‬فقدمت عليه إبلٌ من إبل الصّدقة ‪ ،‬فأمر أبا رافعٍ أن‬
‫ل خيارا بعيرا رباعيّا ‪ ،‬فقال ‪ :‬أعطه‬
‫يقضي الرّجل بكره ‪ ،‬فرجع أبو رافعٍ فقال ‪ :‬لم أجد فيها إ ّ‬
‫إيّاه ‪ ،‬إنّ خير النّاس أحسنهم قضا ًء » ‪ .‬ولنّه لم يجعل تلك الزّيادة عوضا عن القرض ‪ ،‬ول‬
‫وسيل ًة إليه ‪ ،‬ول إلى استيفاء دينه ‪ .‬وقال بعض المالكيّة ‪ ،‬وهي إحدى الرّوايتين عند الحنابلة ‪،‬‬
‫وهو المرويّ عن أبيّ ‪ ،‬وابن عبّاسٍ ‪ ،‬وابن عمر ‪ ،‬وإحدى الرّوايتين عن النّخعيّ ‪ :‬ل يجوز‬
‫للمقرض قبول هديّة المقترض ‪ ،‬ول الحصول على ما به النتفاع له ‪ ،‬كركوب دابّته ‪ ،‬وشرب‬
‫شيءٍ عنده في بيته ‪ ،‬إن لم يكن ذلك معروفا بينهما قبل القرض ‪ ،‬أو حدث ما يستدعي ذلك ؛‬
‫لزواجٍ وولدةٍ ونحو ذلك ‪ .‬قال الدّسوقيّ ‪ « :‬والمعتمد جواز الشّرب والتّظلّل ‪ ،‬وكذلك الكل‬
‫إن كان لجل الكرام ل لجل الدّين » لنّه إن أخذ فضلً ‪ ،‬أو حصل على منفعةٍ يكون قد‬
‫تعاطى قرضا جرّ منفع ًة بالفعل ‪ ،‬فقد روى الثرم أنّ رجلً كان له على ‪ ،‬سمّاكٍ عشرون‬
‫درهما ‪ ،‬فجعل يهدي إليه السّمك ويقوّمه ‪ ،‬حتّى بلغ ثلثة عشر درهما ‪ ،‬فسأل ابن عبّاسٍ ‪،‬‬
‫ن عمر أسلف أبيّ بن كعبٍ عشرة دراهم ‪،‬‬
‫فقال له ‪ :‬أعطه سبعة دراهم ‪ .‬وعن ابن سيرين أ ّ‬
‫فأهدى إليه أبيّ بن كعبٍ من ثمرة أرضه ‪ ،‬فردّها عليه ولم يقبلها ‪ ،‬فأتاه أبيّ فقال ‪ :‬لقد علم‬
‫أهل المدينة أنّي من أطيبهم ثمرةً ‪ ،‬وأنّه ل حاجة لنا ‪ ،‬فبم منعت هديّتنا ؟ ثمّ أهدى إليه بعد‬
‫ذلك فقبل ‪ .‬وهذا يدلّ على ردّها عند الشّبهة ‪ ،‬وقبولها عند انتفائها ‪ .‬وعن زرّ بن حبيشٍ قال ‪:‬‬
‫قلت لبيّ بن كعبٍ ‪ :‬إنّي أريد أن أسير إلى أرض الجهاد إلى العراق ‪ ،‬فقال ‪ :‬إنّك تأتي أرضا‬
‫ل قرضا فأتاك بقرضك ‪ ،‬ومعه هديّةٌ ‪ ،‬فاقبض قرضك ‪،‬‬
‫فاشٍ فيها الرّبا ‪ ،‬فإن أقرضت رج ً‬
‫وأردد عليه هديّته ‪ .‬الشّرط الثّاني ‪ :‬عدم انضمام عقدٍ آخر ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط لصحّة الستدانة ألّ ينضمّ إليها عق ٌد آخر ‪ ،‬سوا ٌء اشترط ذلك في عقد الستدانة ‪،‬‬ ‫‪14‬‬

‫أم تمّ التّوافق عليه خارجه ‪ ،‬كأن يؤجّر المستقرض داره للمقرض ‪ ،‬أو يستأجر المستقرض‬
‫ن « رسول اللّه صلى ال عليه وسلم نهى عن بي ٍع وسلفٍ » ‪ .‬وفي ذلك‬
‫دار المقرض ‪ ،‬ل ّ‬
‫تفصيلٌ وخلفٌ يرجع إليه في ( البيوع المنهيّ عنها ) ‪.‬‬
‫الستدانة من بيت المال ‪ ،‬ولبيت المال ‪ ،‬ونحوه ‪ ،‬كالوقف ‪:‬‬
‫‪ -‬الصل في ذلك أنّ الستدانة لبيت المال ‪ ،‬أو منه جائز ٌة شرعا ‪ .‬أمّا الستدانة منه ‪ :‬فلما‬ ‫‪15‬‬

‫ورد أنّ أبا بكرٍ استقرض من بيت المال سبعة آلف درهمٍ ‪ ،‬فمات وهي عليه ‪ ،‬فأوصى أن‬
‫تقضى عنه ‪ .‬وقال عمر ‪ :‬إنّي أنزلت مال اللّه منّي منزلة مال اليتيم ‪ ،‬إن احتجت إليه أخذت‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫ن النّب ّ‬
‫منه ‪ ،‬فإذا أيسرت قضيت ‪ .‬أمّا الستدانة عليه ‪ :‬فلما روى أبو راف ٍع « أ ّ‬
‫وسلم استسلف من رجلٍ بكرا ‪ ،‬فقدمت على النّبيّ صلى ال عليه وسلم إبل الصّدقة ‪ ،‬فأمر أبا‬
‫رافعٍ أن يقضي الرّجل بكره » ‪ ...‬الحديث ‪ .‬فهذه استدانةٌ على بيت المال ؛ لنّ ال ّردّ كان من‬
‫ل هذا يراعى فيه المصلحة العامّة ‪ ،‬والحيطة الشّديدة في توثيق الدّين ‪،‬‬
‫مال الصّدقة ‪ ،‬وك ّ‬
‫والقدرة على استيفائه ‪ .‬ويشترط لذلك على ما صرّح به الحنفيّة في الوقف ‪ -‬وبيت المال مثله‬
‫‪ -‬أن يكون بإذن من له الولية ‪ ،‬وأن يكون القراض لمليءٍ مؤتمنٍ ‪ ،‬وألّ يوجد من يقبل‬
‫ل يوجد مستغلّتٌ تشترى بذلك المال ‪ .‬وقد صرّح الشّافعيّة بالنّسبة للوقف‬
‫المال مضاربةً ‪ ،‬وأ ّ‬
‫بأنّه يستغنى بشرط الواقف عن إذن القاضي ‪ .‬وكذلك الحكم في مال اليتيم ومال الغائب‬
‫واللّقطة ‪ .‬وفي ذلك خلفٌ وتفصيلٌ ‪ ،‬موطنه مصطلح ‪ ( :‬قرضٌ ) ( ودينٌ ) ‪.‬‬
‫آثار الستدانة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬ثبوت الملك ‪:‬‬
‫ت هي‬
‫ل المقابل للدّين بالعقد نفسه إلّ في القرض ‪ ،‬ففيه ثلثة اتّجاها ٍ‬
‫‪ -‬يملك المستدين المح ّ‬ ‫‪16‬‬

‫‪ :‬أنّه يملك بالعقد ‪ ،‬أو بالقبض ‪ ،‬أو بالستهلك ‪ ،‬على تفصيلٍ موطنه مصطلح ‪ ( :‬قرضٌ ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬حقّ المطالبة ‪ ،‬وحقّ الستيفاء ‪:‬‬
‫‪ -‬من آثار الستدانة وجوب الوفاء على المستدين عند حلول الجل ‪ ،‬لقوله تعالى ‪:‬‬ ‫‪17‬‬

‫{ وأداءٌ إليه بإحسانٍ } ولقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬مطل الغنيّ ظلمٌ » ‪ .‬وندب الحسان‬
‫في المطالبة ‪ ،‬ووجوب إنظار المدين المعسر إلى حين الميسرة بالتّفاق ‪ .‬واستدلّ لذلك بقوله‬
‫تعالى ‪ { :‬وإن كان ذو عسر ٍة فنظرةٌ إلى ميسرةٍ } وأنّها عامّ ٌة في الدّيون كلّها وليست خاصّةً‬
‫بالرّبا ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬حقّ المنع من السّفر ‪:‬‬
‫ل ‪ ،‬إن لم يكن للمدين مالٌ‬
‫‪ -‬للدّائن في الجملة حقّ منع المدين من السّفر في الدّين الحا ّ‬ ‫‪18‬‬

‫ن سفر المدين قد‬


‫حاضرٌ يمكنه الستيفاء منه ‪ ،‬أو كفيلٌ ‪ ،‬أو رهنٌ ‪ .‬وإنّما ثبت هذا الحقّ ل ّ‬
‫ل تبعا لنوع الدّين ‪ ،‬والجل ‪،‬‬
‫يفوّت على الدّائن حقّ المطالبة والملزمة ‪ ،‬وفي ذلك تفصي ٌ‬
‫والسّفر ‪ ،‬والمدين ‪ ( .‬ر ‪ :‬دينٌ ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬حقّ ملزمة المدين ‪:‬‬
‫ل إذا كان الدّائن‬
‫‪ -‬من حقّ الدّائن أن يلزم المدين ‪ -‬على تفصيلٍ في هذه الملزمة ‪ -‬إ ّ‬ ‫‪19‬‬

‫رجلً والمدين امرأ ًة ؛ لما في ملزمتها من الفضاء إلى الخلوة بالجنبيّة ‪ ،‬ولكن يجوز للدّائن‬
‫أن يبعث بالمرأة تنوب عنه في ملزمتها ‪ ،‬وكذلك العكس ‪.‬‬
‫هـ ‪ -‬طلب الجبار على الوفاء ‪:‬‬
‫‪ -‬يلزم المدين وفاء دينه ما دام قادرا على ذلك ‪ ،‬فإن امتنع وكان الدّين الّذي عليه مثليّا‬ ‫‪20‬‬

‫وعنده مثله ‪ ،‬قضى القاضي الدّين ممّا عنده جبرا عنه ‪ .‬وأمّا إن كان الدّين مثليّا ‪ ،‬وما عنده‬
‫قيميّ ‪ ،‬فقد ذهب جمهور الفقهاء ( المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬وأبو يوسف ‪ ،‬ومحمّد بن‬
‫ن القاضي يبيع ما عند المدين جبرا عنه ‪ -‬عدا حاجاته‬
‫الحسن صاحبا أبي حنيفة ) إلى أ ّ‬
‫الضّروريّة ‪ -‬ويقضي دينه ‪ .‬وذهب أبو حنيفة إلى أنّه ل يجبره القاضي على البيع ‪ ،‬ولكن‬
‫يحبسه إلى أن يؤدّي الدّين ‪.‬‬
‫و ‪ -‬الحجر على المدين المفلس ‪:‬‬
‫‪ -‬الحجر على المدين المفلس أجازه جمهور الفقهاء ‪ ،‬ومنعه المام أبو حنيفة ‪ ،‬وتفصيل‬ ‫‪21‬‬

‫ذلك سيأتي في ( حجرٌ ) ( وإفلسٌ ) ‪.‬‬


‫ز ‪ -‬حبس المدين ‪:‬‬
‫‪ -‬للدّائن أن يطلب حبس المدين الغنيّ الممتنع عن الوفاء ‪.‬‬ ‫‪22‬‬

‫اختلف الدّائن والمدين ‪:‬‬


‫‪ -‬إذا اختلف الدّائن والمدين ول بيّنة لهما ‪ ،‬فالقول قول المدين مع يمينه في الصّفة ‪،‬‬ ‫‪23‬‬

‫والقدر ‪ ،‬واليسار ‪ .‬وإن كانت لهما بيّن ٌة ‪ ،‬فالبيّنة بيّنة الدّائن في اليسار والعسار ‪ ،‬وتفصيل‬
‫ذلك مكانه مبحث ( دعوى ) ‪.‬‬

‫*استدراكٌ‬
‫التّعريف‬
‫‪ -‬الستدراك لغةً ‪ :‬استفعالٌ من ( درك ) ‪ .‬والدّرك الدّرك ‪ :‬اللّحاق والبلوغ ‪ .‬يقال ‪ :‬أدرك‬ ‫‪1‬‬

‫الشّيء إذا بلغ وقته وانتهى ‪ ،‬وعشت حتّى أدركت زمانه ‪ .‬وللستدراك في اللّغة استعمالن ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬أن يستدرك الشّيء بالشّيء ‪ ،‬إذا حاول اللّحاق به ‪ ،‬يقال ‪ :‬استدرك النّجاة بالفرار ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬في مثل قولهم ‪ :‬استدرك الرّأي والمر ‪ ،‬إذا تلفى ما فرّط فيه من الخطأ أو النّقص‬
‫‪ .‬وللستدراك في الصطلح معنيان ‪:‬‬
‫الوّل ‪ .‬وهو للصوليّين والنّحويّين ‪ :‬رفع ما يتوهّم ثبوته من كلمٍ سابقٍ ‪ .‬أو إثبات ما يتوهّم‬
‫ن ‪ ،‬أو ما يقوم مقامها من أدوات‬
‫نفيه ‪ .‬وزاد بعضهم ‪ ( :‬باستعمال أداة الستدراك وهي لك ّ‬
‫الستثناء ) ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬وهو ما يرد في كلم الفقهاء كثيرا وهو ‪ :‬إصلح ما حصل في القول أو العمل من‬
‫خللٍ أو قصورٍ أو فواتٍ ‪ .‬ومنه عندهم ‪ :‬استدراك نقص الصّلة بسجود السّهو ‪ ،‬واستدراك‬
‫الصّلة إذا بطلت بإعادتها ‪ ،‬واستدراك الصّلة المنسيّة بقضائها ‪ ،‬والستدراك بإبطال خطأ‬
‫ص الستدراك الّذي بمعنى فعل الشّيء المتروك بعد محلّه بعنوان‬
‫القول وإثبات صوابه ‪ .‬ويخ ّ‬
‫« التّدارك » سواءٌ ترك سهوا أو ترك عمدا ‪ .‬كقول الرّمليّ ‪ « :‬إذا سلّم المام من صلة‬
‫الجنازة تدارك المسبوق باقي التّكبيرات بأذكارها » وقوله ‪ « :‬لو نسي تكبيرات صلة العيد‬
‫فت ّذكّرها ‪ -‬وقد شرع في القراءة ‪ -‬فاتت فل يتداركها » ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫أـ الضراب ‪:‬‬

‫‪ -‬وهو لغةً ‪ :‬العراض عن الشّيء والكفّ عنه ‪ ،‬بعد القبال عليه ‪ .‬وفي اصطلح‬ ‫‪2‬‬

‫النّحويّين قد يلتبس بالستدراك « بالمعنى الوّل » فالضراب ‪ :‬إبطال الحكم السّابق ببل ‪ ،‬أو‬
‫نحوها من الدوات الموضوعة لذلك ‪ ،‬أو ببدل الضراب ‪ .‬والفرق بينه وبين الستدراك ‪ ،‬أنّك‬
‫في الستدراك ل تبطل الحكم السّابق ‪ ،‬كما في قولك ‪ :‬جاء زيدٌ لكنّ أخاه لم يأت ‪ ،‬فإثبات‬
‫المجيء لزيدٍ لم يلغ ‪ ،‬بل نفي المجيء عن أخيه ‪ ،‬وفي الضراب تبطل الحكم السّابق ‪ ،‬فإذا‬
‫قلت ‪ :‬جاء زيدٌ ‪ ،‬ثمّ ظهر لك أنّك غلطت فيه فقلت ‪ :‬بل عمرٌو أبطلت حكمك الوّل بإثبات‬
‫المجيء لزيدٍ ‪ ،‬وجعلته في حكم المسكوت عنه ‪.‬‬
‫ب ـ الستثناء ‪:‬‬

‫‪ -‬حقيقة الستثناء ‪ :‬إخراج بعض ما دخل في الكلم السّابق بإلّ ‪ ،‬أو إحدى أخواتها ‪ .‬ومن‬ ‫‪3‬‬

‫هنا كان الستثناء معيار العموم ‪ .‬أمّا الستدراك فهو إثبات نقيض الحكم السّابق لما يتوهّم‬
‫ن الستدراك لما لم يدخل في‬
‫انطباق الحكم عليه ‪ .‬فالفرق أنّ الستثناء للدّاخل في الوّل ‪ ،‬وأ ّ‬
‫الوّل ‪ ،‬ولكن توهّم دخوله ‪ ،‬أو سريان الحكم عليه ‪ .‬ولجل هذا التّقارب تستعمل أدوات‬
‫الستثناء مجازا في الستدراك ‪ .‬وهو ما يسمّى في عرف النّحاة ‪ :‬الستثناء المنقطع ‪ ،‬وحقيقته‬
‫ن } كما يجوز‬
‫الستدراك ( ر ‪ :‬استثناءٌ ) كقوله تعالى ‪ { :‬ما لهم به من علمٍ إلّ اتّباع الظّ ّ‬
‫استعمال لكنّ ‪ -‬مثل غيرها ممّا يؤدّي مؤدّاها ‪ -‬في الستثناء بالمعنى ‪ ،‬إذ الستثناء بالمعنى‬
‫ليس له صيغةٌ محدّد ٌة ‪ ،‬كقولك ‪ :‬ما جاء القوم لكن جاء بعضهم ‪.‬‬
‫ج ـ القضاء ‪:‬‬

‫‪ -‬المراد به هنا ‪ :‬فعل العبادة إذا خرج وقتها المقدّر لها شرعا قبل فعلها صحيحةً ‪ ،‬سواءٌ‬ ‫‪4‬‬

‫أتركت عمدا أم سهوا ‪ ،‬وسوا ٌء أكان المكلّف قد تمكّن من فعلها في الوقت ‪ ،‬كالمسافر بالنّسبة‬
‫إلى الصّوم ‪ .‬أم لم يتمكّن ‪ ،‬كالنّائم والنّاسي بالنّسبة للصّلة ‪ .‬أمّا الستدراك فهو أعمّ من‬
‫القضاء ‪ ،‬إذ أنّه يشمل تلفي النّقص بكلّ وسيلةٍ مشروعةٍ ‪ ،‬ومنه قول صاحب مسلّم الثّبوت‬
‫وشارحه ‪ « :‬القضاء فعل الواجب بعد وقته المقدّر شرعا استدراكا لما فات » فجعل القضاء‬
‫استدراكا ‪.‬‬
‫د ـ العادة ‪:‬‬

‫ل واقعٍ في الفعل الوّل والستدراك أعمّ من العادة‬


‫‪ -‬هي ‪ :‬فعل العبادة ثانيا في الوقت لخل ٍ‬ ‫‪5‬‬

‫كذلك ‪.‬‬
‫هـ ـ التّدارك ‪:‬‬

‫‪ -‬لم نجد أحدا من الفقهاء عرّف التّدارك ‪ ،‬ولكنّه دائرٌ في كلمهم كثيرا ‪ ،‬ويعنون به في‬ ‫‪6‬‬

‫الفعال ‪ :‬فعل العبادة أو فعل جزئها إذا ترك المكلّف فعل ذلك في محلّه المقرّر شرعا ما لم‬
‫يفت ‪ .‬كما في قول صاحب كشّاف القناع ‪ « :‬لو دفن الميّت قبل الغسل وقد أمكن غسله لزم‬
‫نبشه ‪ ،‬وأن يخرج ويغسّل تداركا لواجب غسله » ‪ .‬وقد يقع الغلط في القوال فيحتاج النسان‬
‫إلى تداركه ‪ ،‬بأن يبطله ويثبت الصّواب ‪ ،‬ولذلك طرقٌ منها ‪ :‬بدل الغلط ‪ ،‬ومنها « بل » في‬
‫اليجاب والمر ‪ .‬وفسّر بعضهم التّدارك ببل بكون الخبار الوّل أولى منه الخبار الثّاني ‪،‬‬
‫فيعرض عن الوّل إلى الثّاني ‪ ،‬ل أنّه إبطال الوّل وإثبات الثّاني ‪.‬‬
‫و ـ الصلح ‪:‬‬

‫ح للمالكيّة ذكروه في باب سجود السّهو في مواضع منها ‪ :‬قول الدّردير «‬


‫‪ -‬وهو اصطل ٌ‬ ‫‪7‬‬

‫شكّ فل إصلح عليه ‪ ،‬فإن أصلح بأن أتى بما شكّ فيه لم تبطل صلته » ( فهو‬
‫من كثر منه ال ّ‬
‫بمعنى التّدارك ) ‪.‬‬
‫ز ـ الستئناف ‪:‬‬

‫– استئناف العمل ‪ :‬ابتداؤه ‪ ،‬أي فعله مرّةً أخرى إذا نقض الفعل الوّل قبل تمامه ‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫فاستئناف الصّلة تجديد التّحريمة بعد إبطال التّحريمة الولى ‪ ،‬وبهذا المعنى وقع في قولهم ‪:‬‬
‫« المصلّي إذا سبقه الحدث يتوضّأ ‪ ،‬ثمّ يبني على صلته ‪ ،‬أو يستأنف ‪ ،‬والستئناف أولى »‬
‫ل ‪ ،‬واستئناف الصّوم في كفّارة الظّهار إذا انقطع‬
‫وكاستئناف الذان إذا قطعه بفاصلٍ طوي ٍ‬
‫التّتابع ‪ .‬فالستئناف على هذا طريقةٌ من طرق الستدراك ‪ ،‬والتّفصيل في مصطلح ( استئنافٌ‬
‫)‪.‬‬
‫هذا وبسبب استعمال هذا المصطلح « الستدراك » بمعنيين ‪:‬‬
‫ي بأداة الستدراك وما يقوم مقامها ‪،‬‬
‫أحدهما ‪ :‬الستدراك القول ّ‬
‫والخر ‪ :‬الستدراك بإصلح الخلل في الفعال والقوال ‪ ،‬ينقسم البحث قسمين تبعا لذلك ‪.‬‬
‫القسم الوّل الستدراك القوليّ بـ « لكنّ » وأخواتها‬
‫صيغ الستدراك ‪:‬‬
‫ن ( مشدّدةٌ ) ولكن ( مخفّفةٌ ) وبل وعلى ‪ ،‬وأدوات الستثناء ‪.‬‬
‫هي ‪ :‬لك ّ‬
‫ن ‪ :‬وهي أ ّم الباب ‪ .‬وهي الموضوعة له ‪ .‬وقد ذكر بعض الصوليّين أنّه يشترط‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬لك ّ‬ ‫‪9‬‬

‫ن » وما في معناها للستدراك ‪ :‬الختلف بين ما قبل ( لكنّ ) وما بعدها‬


‫في استعمال « لك ّ‬
‫باليجاب والسّلب لفظا ‪ ،‬نحو ما جاء زيدٌ لكنّ أخاه جاء ‪ .‬ولو كان الختلف معنويّا جاز‬
‫ن أخاه مسافرٌ ‪ ،‬أي ليس بحاضرٍ ‪.‬‬
‫أيضا ‪ .‬كقول القائل ‪ :‬عليّ حاضرٌ لك ّ‬
‫ب ‪ -‬لكن ‪ « :‬بسكون النّون » فهي في الصل مخفّف ٌة من « لكنّ » ‪ ،‬وتكون على حالين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬وهو الغلب أن تكون ابتدائيّةً فتليها جملةٌ ‪ ،‬كقوله تعالى ‪ { :‬وإن من شي ٍء إلّ يسبّح‬
‫بحمده ولكن ل تفقهون تسبيحهم } والحال الثّاني ‪ :‬أن تكون عاطفةً ‪ ،‬ويشترط لذلك ‪ :‬أن‬
‫يسبقها نفيٌ أو نهيٌ ‪ ،‬وأن يليها مفردٌ ‪ ،‬وألّ تدخل عليها الواو مثل ‪ :‬ما جاء زيدٌ لكن عمرٌو ‪.‬‬
‫ول تخلو في كل الحالين من معنى الستدراك ‪ ،‬فتقرّر حكم ما قبلها ‪ ،‬وتثبت نقيضه لما بعدها‬
‫‪.‬‬
‫ك مثل ( لكن ) تقرّر حكم ما قبلها ‪،‬‬
‫ي تكون حرف استدرا ٍ‬
‫ي أو نه ٌ‬
‫ج ‪ -‬بل ‪ :‬إذا سبقها نف ٌ‬
‫وتثبت نقيضه لما بعدها ‪ .‬فإن وقعت بعد إيجابٍ أو أمرٍ لم تفد ذلك ‪ ،‬بل تفيد الضراب عن‬
‫الوّل ‪ ،‬حتّى كأنّه مسكوتٌ عنه ‪ ،‬وتنقل حكمه لما بعدها ‪ ،‬كقولك ‪ :‬جاء زيدٌ بل عمرٌو ‪ ،‬وهذا‬
‫ن الخبار عنه ما كان ينبغي أن يقع ‪.‬‬
‫ما يسمّى بالضراب البطاليّ ‪ .‬قال السّعد ‪ « :‬أي إ ّ‬
‫سنّة‬
‫وإذا انضمّ إليه « ل » صار نصّا في نفي الوّل » ‪ .‬ولذا ل يقع مثله في القرآن ول في ال ّ‬
‫ض إلى آخر ‪ ،‬ومنه‬
‫ل على سبيل الحكاية ‪ .‬وقد تكون للضراب النتقاليّ ‪ ،‬أي من غر ٍ‬
‫‪،‬إّ‬
‫قوله تعالى ‪ { :‬قد أفلح من تزكّى وذكر اسم ربّه فصلّى بل تؤثرون الحياة الدّنيا } ‪.‬‬
‫د ‪ -‬على ‪ :‬تستعمل للستدراك ‪ ،‬كما في قول الشّاعر ‪ :‬بكلّ تداوينا فلم يشف ما بنا على أنّ‬
‫ن قرب الدّار ليس بناف ٍع إذا كان من تهواه ليس بذي ودّ ‪.‬‬
‫قرب الدّار خيرٌ من البعد على أ ّ‬
‫هـ ‪ ( -‬أدوات الستثناء ) ‪ :‬قد تستخدم أدوات الستثناء في الستدراك ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬زيدٌ غنيّ‬
‫غير أنّه بخيلٌ ‪ ،‬ومنه قوله تعالى { قال ل عاصم اليوم من أمر اللّه إلّ من رحم } وهذا ما‬
‫يسمّى الستثناء المنقطع ( ر ‪ :‬استثناءٌ ) ‪ ،‬فيستعمل في ذلك ( إلّ وغير ) ‪ ،‬ويستعمل فيه‬
‫ح عند أهل اللّغة ‪.‬‬
‫أيضا ( سوى ) على الص ّ‬
‫شروط الستدراك ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط لصحّة الستدراك شروطٌ ‪ ،‬وهي ‪ :‬الشّرط الوّل ‪ :‬اتّصاله بما قبله ولو حكما ‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫ل ونحو ذلك‬
‫فل يضرّ انفصاله بما له تعّلقٌ بالكلم الوّل ‪ ،‬أو بما ل بدّ له منه ‪ ،‬كتنفّسٍ وسعا ٍ‬
‫ت يمكنه الكلم فيه ‪ ،‬أو كلمٌ أجنبيّ عن الموضوع ‪ ،‬استقرّ‬
‫‪ .‬فإن حال بينه وبين الوّل سكو ٌ‬
‫ب ‪ ،‬فقال زيدٌ ‪ :‬ما كان لي قطّ ‪ ،‬لكن‬
‫حكم الكلم الوّل ‪ ،‬وبطل الستدراك ‪ .‬فلو أقرّ لزيدٍ بثو ٍ‬
‫لعمرٍو ‪ ،‬فإن وصل فلعمرٍو ‪ ،‬وإن فصل فللمقرّ ‪ ،‬لنّ النّفي يحتمل أمرين ‪ :‬يحتمل أن يكون‬
‫تكذيبا للمقرّ وردّا لقراره ‪ ،‬وهو الظّاهر من الكلم ‪ ،‬فيكون النّفي ردّا إلى المقرّ ‪ .‬ويحتمل ألّ‬
‫يكون تكذيبا ‪ ،‬إذ يجوز أن يكون الثّوب معروفا بكونه لزيدٍ ‪ ،‬ثمّ وقع في يد المقرّ فأقرّ به لزيدٍ‬
‫ف بكونه لي ‪ ،‬لكنّه في الحقيقة لعمرٍو ‪ ،‬فقوله ‪ « :‬لكنّه لعمرٍو »‬
‫‪ ،‬فقال زيدٌ ‪ :‬الثّوب معرو ٌ‬
‫ح إلّ‬
‫ن بيان التّغيير عند الحنفيّة ل يص ّ‬
‫بيان تغييرٍ لذلك النّفي ‪ ،‬فيتوقّف على التّصال ؛ ل ّ‬
‫ح متراخيا ‪ ،‬فإن وصل يثبت النّفي عن زيدٍ والثبات لعمرٍو معا ‪ ،‬إذ صدر‬
‫موصولً ‪ ،‬ول يص ّ‬
‫الكلم موقوفٌ على آخره فيثبت حكمهما معا ‪ .‬ولو فصل يصير النّفي ردّا للقرار ‪ .‬ثمّ ل‬
‫تثبت الملكيّة لعمرٍو بمجرّد إخباره بذلك ‪ .‬الشّرط الثّاني ‪ :‬اتّساق الكلم أي انتظامه وارتباطه‬
‫‪ .‬والمراد أن يصلح للستدراك ‪ ،‬بأن يكون الكلم السّابق للداة بحيث يفهم منه المخاطب‬
‫عكس الكلم اللّحق لها ‪ ،‬أو يكون فيما بعد الداة تداركٌ لما فات من مضمون الكلم ‪ .‬نحو ‪:‬‬
‫ما قام زيدٌ لكن عمرٌو ‪ ،‬بخلف نحو ‪ :‬ما جاء زيدٌ لكن ركب المير ‪ ،‬وفسّر صاحب المنار‬
‫ل الثبات ‪ ،‬ليمكن الجمع بينهما ول يناقض آخر الكلم‬
‫التّساق ‪ :‬بكون محلّ النّفي غير مح ّ‬
‫أوّله ‪ ،‬ثمّ إن اتّسق الكلم فهو استدراكٌ ‪ ،‬وإلّ فهو كلمٌ مستأنفٌ ‪ .‬ومثّل في التّوضيح للمتّسق‬
‫من الستدراك بما لو قال المقرّ ‪ :‬لك عليّ ألفٌ قرضٌ ‪ ،‬فقال له المق ّر له ‪ :‬ل ‪ ،‬لكن غصبٌ ‪.‬‬
‫الكلم متّسقٌ فصحّ الوصل على أنّه نفيٌ لسبب الحقّ ‪ ،‬وهو كون المقرّ به عن قرضٍ ‪ ،‬ل نفيٍ‬
‫ن قوله ‪ « :‬ل » ل يمكن حمله على نفي الواجب ؛ لنّ حمله على‬
‫للواجب وهو اللف ‪ .‬فإ ّ‬
‫ب » ول يكون الكلم متّسقا مرتبطا ‪ .‬فلمّا نفى‬
‫نفي الواجب ل يستقيم مع قوله ‪ « :‬لكن غص ٌ‬
‫كونه قرضا تدارك بكونه غصبا ‪ ،‬فصار الكلم مرتبطا ‪ ،‬ول يكون ردّا لقراره بل يكون‬
‫لمجرّد نفي السّبب ‪ .‬ومن أمثلة ما يجب حمله على الستئناف عند الحنفيّة ‪ :‬ما إذا تزوّجت‬
‫الصّغيرة المميّزة من كف ٍء بغير إذن وليّها بمائةٍ ‪ ،‬فقال الوليّ ‪ :‬ل أجيز النّكاح لكن أجيزه‬
‫بمائتين ‪ .‬قالوا ‪ :‬ينفسخ النّكاح ‪ ،‬ويجعل « لكن » وما بعدها كلما مبتدأً ؛ لنّه لمّا قال ‪ « :‬ل‬
‫ن النّفي انصرف إلى أصل النّكاح ‪ ،‬فل يمكن إثبات‬
‫أجيز النّكاح » انفسخ النّكاح الوّل ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ذلك النّكاح بعد ذلك بمائتين ؛ لنّه يكون نفي النّكاح وإثباته بعينه ‪ ،‬فيعلم أنّه غير متّسقٍ ‪،‬‬
‫فيحمل « لكن بمائتين » على أنّه كلمٌ مستأنفٌ ‪ ،‬فيكون إجاز ًة لنكاحٍ آخر ‪ ،‬المهر فيه مائتان‬
‫‪ .‬وإنّما يكون كلمه متّسقا لو قال بدل ذلك ‪ :‬ل أجيز هذا النّكاح بمائ ٍة لكن أجيزه بمائتين ؛‬
‫ن النّفي ينصرف إلى القيد وهو كونه بمائ ٍة ‪ ،‬ل إلى أصل النّكاح ‪ ،‬فيكون الستدراك في‬
‫لّ‬
‫المهر ل في أصل النّكاح ‪ .‬وبذلك ل يكون قوله إبطالً للنّكاح ‪ ،‬فل ينفسخ به ‪ .‬وفي عدم‬
‫التّساق في هذا المثال اختلفٌ بين الصوليّين من الحنفيّة ‪ .‬الشّرط الثّالث ‪ :‬أن يكون‬
‫الستدراك بلفظٍ مسموعٍ إن تعلّق به حقّ ‪ .‬وأدناه أن يسمع نفسه ومن بقربه ‪ .‬قال الحصكفيّ ‪:‬‬
‫ل ما يتعلّق بنطقٍ كتسميته على ذبيح ٍة ‪ ،‬وطلقٍ ‪ ،‬واستثناءٍ وغيرها ‪ .‬فلو‬
‫يجري ذلك في ك ّ‬
‫ح في الصحّ ‪ .‬وقيل في نحو البيع ‪ :‬يشترط سماع‬
‫طلّق أو استثنى ولم يسمع نفسه ‪ ،‬لم يص ّ‬
‫المشتري ‪.‬‬
‫القسم الثّاني‬
‫الستدراك بمعنى تلفي النّقص والقصور ‪.‬‬
‫ي المقرّر للعبادة ‪،‬‬
‫‪-‬الستدراك إمّا أن يكون لما فعله النسان ناقصا عن الوضع الشّرع ّ‬ ‫‪11‬‬

‫كمن ترك ركع ًة من الصّلة أو سجودا فيها ‪ ،‬وإمّا أن يكون فيما أخبر به ‪ ،‬ثمّ تبيّن له خطؤه ‪،‬‬
‫أو فيما فعله من التّصرّفات ‪ ،‬ثمّ تبيّن له أنّ التّصرّف على غير ذلك الوضع أتمّ وأولى ‪ ،‬كمن‬
‫باع شيئا ولم يشترط ‪ ،‬ثمّ بدا له أن ‪ .‬يشترط شرطا لمصلحته ‪ .‬فالكلم في هذا القسم يرجع‬
‫إلى مبحثين ‪ :‬الوّل ‪ :‬الستدراك بمعنى تلفي القصور عن الوضع الشّرعيّ ‪ .‬والثّاني ‪:‬‬
‫تلفي القصور عن الحقيقة ‪ ،‬حقيقةً أو ادّعاءً في باب الخبار ‪ ،‬أو عمّا فيه المصلحة للمكلّف‬
‫بحسب تصوّره ‪ ،‬في باب النشاء ‪.‬‬
‫أوّلً ‪ :‬الستدراك بمعنى تلفي النّقص عن الوضاع الشّرعيّة ‪:‬‬
‫ع شرعّيةٌ مقرّرةٌ ‪ ،‬كالوضوء والصّلة ‪ ،‬فإنّ‬
‫‪ -‬هذا النّقص يقع في العبادات الّتي لها أوضا ٌ‬ ‫‪12‬‬

‫لكلّ منهما أركانا وسننا وهيئاتٍ ‪ ،‬تفعل بترتيباتٍ معيّن ٍة ‪ .‬ثمّ قد يترك المكلّف فعل شيءٍ منها‬
‫في محلّه لسببٍ من السباب الخارجة عن إرادته ‪ ،‬كالمسبوق في الصّلة أو النّاسي أو‬
‫المكره ‪ ،‬وقد يترك ذلك عمدا ‪ ،‬وقد يفعل المكلّف الفعل عمدا على غير الوجه المطلوب شرعا‬
‫‪ ،‬أو يقع عليه بغير إرادته ما يمنع صحّة العبادة أو صحّة جزءٍ منها ‪ .‬والشّريعة قد أتاحت‬
‫الفرصة في كثي ٍر من الصّور لستدراك النّقص الحاصل في العمل ‪.‬‬
‫وسائل استدراك النّقص في العبادة ‪:‬‬
‫‪ -‬لستدراك النّقص في العبادة طرقٌ مختلف ٌة بحسب أحوال ذلك النّقص ‪ .‬ومن تلك الوسائل‬ ‫‪13‬‬

‫‪:‬‬
‫( أ ) القضاء ‪ :‬ويكون الستدراك بالقضاء في العبادة الواجبة أو المسنونة بعد خروج وقتها‬
‫المقدّر لها شرعا ‪ ،‬سوا ٌء فاتت عمدا ‪ ،‬أو سهوا كما تقدّم ‪ .‬وسوا ٌء كان المكلّف لم يفعل العبادة‬
‫صحّة ‪ ،‬أو لوجود‬
‫أصلً ‪ ،‬أو فعلها على فسادٍ ؛ لترك ركنٍ ‪ ،‬أو لفوات شرطٍ من شروط ال ّ‬
‫مانعٍ ‪ .‬وفي استدراك العبادة المسنونة بالقضاء خلفٌ بين الفقهاء ‪ ،‬وتفصيله في ( قضاء‬
‫الفوائت ) ‪.‬‬
‫( ب ) العادة ‪ :‬وهي فعل العبادة مرّ ًة أخرى في وقتها لما وقع في فعلها أ ّولً من الخلل ‪.‬‬
‫ولمعرفة مواقع الستدراك بالعادة وأحكام العادة ( ر ‪ :‬إعادةٌ )‬
‫( ج ) الستئناف ‪ :‬فعل العبادة من أوّلها مرّ ًة أخرى بعد قطعها والتّوقّف فيها لسببٍ من‬
‫السباب ‪ ،‬ولمعرفة مواقع الستدراك بالستئناف ( ر ‪ :‬استئنافٌ ) ‪.‬‬
‫ل يومٍ ممّن لم يستطع الصّوم ؛‬
‫( د ) الفدية ‪ :‬كاستدراك فائت الصّوم بفدية طعام مسكينٍ لك ّ‬
‫لكب ٍر أو مرضٍ مزمنٍ ‪ .‬وكاستدراك النّقص الحاصل في الحرام ممّن قصّ شعره ‪ ،‬أو لبس‬
‫ثيابا بفديةٍ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ ( ر ‪ :‬إحرامٌ ) وشبي ٌه بذلك هدي الجبران في الحجّ ‪.‬‬
‫وتفصيل ذلك في ( الحجّ ) ‪.‬‬
‫(هـ ) الكفّارة ‪ :‬كاستدراك المكلّف ما أفسده من الصّوم بالجماع بالكفّارة ( ر ‪ :‬كفّارةٌ ) ‪.‬‬
‫( و ) سجود السّهو ‪ :‬يستدرك به النّقص الحاصل في الصّلة في بعض الحوال ‪ ( .‬ر ‪:‬‬
‫سجود السّهو ) ‪.‬‬
‫( ز ) التّدارك ‪ :‬هو التيان بجزء العبادة بعد موضعه المقرّر شرعا ‪ .‬ثمّ قد يكون الستدراك‬
‫ن المكلّف‬
‫بواحدٍ ممّا ذكر ‪ ،‬وقد يكون بأكثر ‪ ،‬كما في ترك شي ٍء من أركان الصّلة ‪ ،‬فإ ّ‬
‫يتداركه ويسجد للسّهو ‪ ،‬وكما في الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما لو صامتا ‪ ،‬فإنّ‬
‫لهما الفطار ‪ ،‬ويلزمهما القضاء والفدية على قول الحنابلة ‪ ،‬والشّافعيّة على المشهور عندهم ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬تلفي القصور في الخبار والنشاء ‪.‬‬
‫‪ -‬من تكلّم بكلمٍ خبريّ أو إنشائيّ ثمّ بدا له أنّه غلط في كلمه ‪ ،‬أو نقص من الحقيقة ‪ ،‬أو‬ ‫‪14‬‬

‫زاد علي ها ‪ ،‬أو بدا له أن ين شئ كلما مخالفا ل ما كان قد قاله فله أن يف عل ذلك ‪ ،‬بل قد ي جب‬
‫عليه في بعض الحوال ‪ ،‬وخا صّ ًة في الكلم الخبريّ ‪ ،‬إذ أنّه بذلك يتدارك ما وقع في كلمه‬
‫من الكذب والخبار بخلف الح قّ ‪ ،‬ول كن إن ث بت بالكلم الوّل حقّ ‪ ،‬ك من حلف يمينا ‪ ،‬أو‬
‫فإنـ له صـورتين ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قذف غيره ‪ ،‬أو أقرّ له ‪ ،‬ففـي حكـم الكلم المخالف التّالي له تفصـيلٌ ‪،‬‬
‫الصّورة الولى ‪ :‬أن يكون متّصلً بالوّل ‪ .‬فله حالتان ‪.‬‬
‫الحالة الولى ‪ :‬أن يرتبط الثّاني بالوّل بطريقٍ من طرق التّخصيص ‪ ،‬فيثبت حكمهما تبعا‬
‫حيث أمكن ‪ ،‬سوا ٌء أكان ممّا يمكن الرّجوع عنه كالوصايا ‪ ،‬أم كان ممّا ل رجوع فيه‬
‫كالقرار ‪ ،‬فلو كان الثّاني استثناءً ثبت حكم المستثنى ‪ ،‬وخرج من حكم المستثنى منه ‪ ،‬كمن‬
‫ل من‬
‫ل ثلثةً ‪ ،‬أو قال ‪ :‬أعطه عشر ًة إلّ ثلث ًة ‪ ،‬كان الباقي سبعةً في ك ّ‬
‫قال ‪ :‬له عليّ عشرةٌ إ ّ‬
‫ل ما يتغيّر به الحكم في المتكلّم به ‪ ،‬كالشّرط والصّفة والغاية وسائر‬
‫المسألتين ‪ .‬وهكذا في ك ّ‬
‫المخصّصات المتّصلة ‪ .‬فالشّرط كما لو قال ‪ :‬وهبتك مائة دينا ٍر إن نجحت ‪ .‬والصّفة كما لو‬
‫قال ‪ :‬أبرأتك من ثمن البل الّتي هلكت عندك ‪ .‬والغاية كما لو قال للوصيّ ‪ :‬أعطه كلّ يومٍ‬
‫ل أو بعضا ‪ .‬قال القرافيّ ‪:‬‬
‫ل من هذه المخصّصات تغيّر به الحكم ك ّ‬
‫درهما إلى شهرٍ ‪ ،‬فإنّ ك ّ‬
‫ل بنفسه ‪،‬‬
‫ل كل ٍم ل يستقلّ بنفسه إذا اتّصل بكلمٍ مستقلّ بنفسه صيّره غير مستق ّ‬
‫نكّ‬
‫القاعدة أ ّ‬
‫وكذلك الصّفة والستثناء والشّرط والغاية ونحوها ‪ .‬وجعل منه ما لو قال المقرّ ‪ « :‬له عليّ‬
‫ألفٌ من ثمن خمرٍ » فقال فيها ‪ :‬ل يلزمه شي ٌء ‪ ،‬وتقييد حكم هذه الحالة بأنّه « حيث أمكن »‬
‫ليخرج نحو قول المقرّ ‪ :‬له عليّ عشر ٌة إلّ تسع ًة ‪ ،‬إذ تلزمه عند الحنابلة العشرة ويسقط حكم‬
‫الستثناء ؛ لنّه ل يجوز عندهم استثناء أكثر من النّصف ‪ .‬ومثلها عندهم لو قال ‪ :‬له عليّ‬
‫ألفٌ من ثمن خمرٍ ‪ .‬ول خلف في ذلك في المخصّصات ‪.‬‬
‫الحالة الثّانية ‪ :‬أن يتغيّر الحكم بكلمٍ مستقلّ ‪ ،‬ومثاله ما لو قال المقرّ ‪ :‬له الدّار وهذا البيت‬
‫منها لي ‪ ،‬فيؤخذ بإقراره ‪ ،‬ويعمل بالقيد في الجملة الثّانية ‪ ،‬وهو المذهب عند الحنابلة ؛ لنّ‬
‫ل بأنّه ل‬
‫المعطوف بالواو مع المعطوف عليه في حكم الجملة الواحدة ‪ ،‬خلفا لختيار ابن عقي ٍ‬
‫ن المعطوف بالواو جمل ٌة مستقّلةٌ ‪ .‬وعند المالكيّة ما يفيد أنّ مذهبهم‬
‫يعمل القيد قضاءً ؛ ل ّ‬
‫كمذهب الحنابلة ‪ .‬لكن لو عطف في الثبات أو المر بـ « بل » ‪ .‬قال صدر الشّريعة « إنّ‬
‫( بل ) للعراض عمّا قبله وإثبات ما بعده على سبيل التّدارك » فإن كان فيما يقبل الرّجوع‬
‫فيه كالوصيّة أو التّولية أو الخبر المجرّد ‪ ،‬لغا الوّل وثبت الثّاني ‪ ،‬كما لو قال ‪ :‬أوصيت لزيدٍ‬
‫ف بل بألفين ‪ ،‬يثبت ألفان فقط ‪ .‬أو قول المام ‪ :‬ولّيت فلنا قضاء كذا بل فلنا ‪ ،‬أو قول‬
‫بأل ٍ‬
‫القائل ‪ :‬ذهبت إلى زي ٍد بل إلى عمرٍو ‪ .‬وإن كان ممّا ل رجوع فيه كالقرار والطّلق ثبت‬
‫ب ‪ ،‬يلزمه‬
‫ي ألف درهمٍ ‪ ،‬بل ألف ثو ٍ‬
‫حكم الوّل ‪ ،‬ولم يمكن إبطاله ‪ ،‬فلو قال المقرّ ‪ :‬له عل ّ‬
‫ي ألف درهمٍ ‪ ،‬بل ألفان يثبت اللفان ‪ ،‬قال‬
‫الجميع ؛ لنّهما من جنسين ‪ .‬ولو قال ‪ :‬له عل ّ‬
‫ن التّدارك في العداد يراد به نفي انفراد ما أقرّ به أ ّولً ‪ ،‬ل نفي أصله ‪،‬‬
‫التّفتازانيّ ‪ « :‬ل ّ‬
‫ف ليس معه غيره ‪ ،‬ثمّ تدارك ذلك النفراد وأبطله » ‪ ،‬وفي هذه‬
‫فكأنّه قال أ ّولً ‪ :‬له عليّ أل ٌ‬
‫المسألة خلف زفر إذ قال ‪ « :‬بل يثبت ثلثة آلفٍ » ‪ .‬ولم يختلف قول الحنفيّة في أنّه لو قال‬
‫‪ :‬أنت طالقٌ طلق ًة بل طلقتين أنّه يقع به – في المدخول بها – ثلث طلقاتٍ ‪ .‬ووجّه صاحب‬
‫ح فل‬
‫ن القرار إخبارٌ على الص ّ‬
‫مسلّم الثّبوت وشارحه الفرق بين مسألتي القرار والطّلق بأ ّ‬
‫يثبت شيئا ‪ ،‬فله أن يعرض عن خب ٍر كان أخبر به ‪ ،‬ويخبر بدله بخبرٍ آخر ‪ ،‬بخلف النشاء‬
‫إذ به يثبت الحكم ‪ ،‬وليس في يده بعد ثبوته أن يعرض عنه ‪ .‬أمّا عند الحنابلة ‪ :‬فل يقع في‬
‫ل طلقتان ‪ ،‬كما ل يلزمه في مسألة القرار إلّ ألفان ‪.‬‬
‫مسألة الطّلق المذكورة إ ّ‬
‫الصّورة الثّانية ‪ :‬أن يكون الكلم الثّاني متراخيا عن الوّل منفصلً عنه ‪ .‬فله حالتان ‪:‬‬
‫الحالة الولى ‪ :‬أن يكون في كلمٍ ل يمكن الرّجوع عنه ‪ ،‬ول يقبل منه ‪ ،‬كالقارير والعقود ‪،‬‬
‫فل يكون القرار الثّاني ول العقد الثّاني رجوعا عن الوّل ‪ .‬فلو أقرّ له بمائة درهمٍ ‪ ،‬ثمّ سكت‬
‫سكوتا يمكنه الكلم فيه ‪ ،‬ثمّ قال « زائفةٌ » أو « إلى شهرٍ » لزمه مائةٌ جيّد ٌة حالّةٌ ‪.‬‬
‫الحالة الثّانية ‪ :‬أن يكون رجوعه ممكنا ‪ ،‬كالوصيّة وعزل المام أحدا ممّن يمكنه عزلهم‬
‫وتوليتهم ‪ ،‬فإن صرّح برجوعه عن الوّل ‪ ،‬أو بإلحاقه شرطا ‪ ،‬أو تقييده بحالٍ ‪ ،‬أو غير ذلك‬
‫لحق ‪ -‬وإن لم يتبيّن أنّه قصد الرّجوع ‪ -‬فهذا يشبه التّعارض في الدلّة الشّرعيّة ‪ ،‬فهو تبديلٌ‬
‫عند الحنفيّة مطلقا ‪ .‬ولو كان خاصّا بعد عامّ أو عكسه فالعمل بالثّاني بكلّ حالٍ ‪ .‬وعند غيرهم‬
‫ص سابقا أم متأخّرا ‪.‬‬
‫ص على العامّ سواءٌ أكان الخا ّ‬
‫قد يجري فيه تقديم الخا ّ‬

‫*استدللٌ‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬الستدلل لغ ًة ‪ :‬طلب الدّليل ‪ ،‬وهو من دلّه على الطّريق دلل ًة ‪ :‬إذا أرشده إليه ‪ .‬وله في‬ ‫‪1‬‬

‫عرف الصوليّين إطلقاتٌ ‪ .‬أهمّها اثنان ‪ :‬الوّل ‪ :‬أنّه إقامة الدّليل مطلقا ‪ ،‬أي سوا ٌء أكان‬
‫ص ول إجماعٍ ول‬
‫الدّليل نصّا ‪ ،‬أم إجماعا ‪ ،‬أم غيرهما ‪ .‬والثّاني ‪ :‬أنّه الدّليل الّذي ليس بن ّ‬
‫قياسٍ ‪ .‬وفي قولٍ ‪ :‬الدّليل الّذي ليس بنصّ ول إجماعٍ ول قياسٍ عّلةٌ ‪ .‬قال الشّربينيّ ‪« :‬‬
‫ن المراد منها هنا ( أي في هذا الطلق الثّاني ) التّخاذ ‪.‬‬
‫الستفعال يرد لمعانٍ ‪ .‬وعندي أ ّ‬
‫سنّة والجماع والقياس فقيامها أدلّ ًة لم‬
‫ن هذه الشياء اتّخذت أدلّ ًة ‪ ،‬أمّا الكتاب وال ّ‬
‫والمعنى أ ّ‬
‫ينشأ عن صنيع المجتهدين واجتهادهم ‪ ،‬أمّا الستصحاب ونحوه ممّا اعتبر استدللً فشيءٌ قاله‬
‫كلّ إمامٍ بمقتضى اجتهاده ‪ ،‬فكأنّه اتّخذه دليلً » ‪.‬‬
‫‪ -‬فعلى هذا الطلق الثّاني يدخل في الستدلل الدلّة التّالية ‪:‬‬ ‫‪2‬‬
‫( أ ‪ ،‬ب ) ‪ -‬القياس القترانيّ ‪ ،‬والقياس الستثنائيّ ‪ ،‬وهما نوعا القياس المنطقيّ ‪ .‬مثال‬
‫ل مسكرٍ حرامٌ ‪ ،‬ينتج ‪ :‬النّبيذ حرامٌ ‪ .‬ومثال الستثنائيّ ‪ :‬إن كان‬
‫القترانيّ ‪ :‬النّبيذ مسكرٌ ‪ ،‬وك ّ‬
‫النّبيذ مسكرا فهو حرامٌ ‪ ،‬لكنّه مسكرٌ ‪ ،‬ينتج ‪ :‬فهو حرامٌ ‪ .‬أو ‪ :‬إن كان النّبيذ مباحا فهو ليس‬
‫بمسكرٍ ‪ ،‬لكنّه مسكرٌ ‪ ،‬ينتج ‪ :‬فهو ليس بمباحٍ ‪.‬‬
‫( ج ) وقياس العكس ‪ :‬ذكر السّبكيّ أنّه من الستدلل ‪ .‬وقياس العكس هو ‪ :‬إثبات عكس حكم‬
‫شيءٍ لمثله ‪ ،‬لتعاكسهما في العلّة ‪ ،‬كما في حديث مسلمٍ ‪ « :‬وفي بضع أحدكم صدقةٌ قالوا ‪:‬‬
‫أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجرٌ ؟ قال ‪ :‬أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزرٌ ؟‬
‫فكذلك إذا وضعها في الحلل كان له أج ٌر »‬
‫ل يكون المر كذا ‪ ،‬خولف في صورة كذا ‪ ،‬لمعنًى‬
‫( د ) وقول العلماء ‪ :‬الدّليل يقتضي أ ّ‬
‫مفقودٍ في صورة النّزاع ‪ ،‬فتبقى هي على الصل الّذي اقتضاه الدّليل ‪.‬‬
‫( هـ ) انتفاء الحكم لنتفاء دليله ‪ ،‬بأن لم يجده المجتهد بعد الفحص الشّديد ‪ ،‬فعدم وجدانه‬
‫دليلٌ على انتفاء الحكم ‪ .‬قال في المحلّى ‪ :‬خلفا للكثر ‪.‬‬
‫( و ) قول العلماء ‪ :‬وجد السّبب فوجد الحكم ‪ ،‬أو وجد المانع أو فقد الشّرط فانتفى الحكم ‪،‬‬
‫قال السّبكيّ ‪ :‬خلفا للكثر ‪.‬‬
‫( ز ) الستقراء وهو ‪ :‬الستدلل بالجزئيّ على الكّليّ ‪ .‬قال السّبكيّ ‪ :‬فإن كان تامّا بكلّ‬
‫ل صورة النّزاع ‪ ،‬فهو دليلٌ قطعيّ عند الكثر ‪ ،‬وإن كان ناقصا ‪ ،‬أي بأكثر‬
‫الجزئيّات إ ّ‬
‫الجزئيّات ‪ ،‬فدليلٌ ظ ّنيّ ‪ .‬ويسمّى هذا عند الفقهاء بإلحاق الفرد بالغلب ‪.‬‬
‫( ح ) الستصحاب وهو كما عرّفه السّعد ‪ :‬الحكم ببقاء أمرٍ كان في الزّمان الوّل ‪ ،‬ولم يظنّ‬
‫عدمه ‪ ،‬وينظر تفصيل القول فيه في بحث الستصحاب ‪ ،‬وفي الملحق الصوليّ ‪ .‬ونفى قومٌ‬
‫أن يكون استدللً ‪.‬‬
‫( ط ) شرع من قبلنا ‪ ،‬على تفصيلٍ فيه ‪ ،‬يرجع إليه في الملحق الصوليّ ‪ .‬ونفى قومٌ أن‬
‫يكون استدللً ‪ .‬ذكر هذه النواع التّسعة السّبكيّ في جمع الجوامع ‪.‬‬
‫( ي ) وزاد الحنفيّة الستحسان ‪ ،‬واستدلّ به غيرهم لكن سمّوه بأسما ٍء أخرى ‪.‬‬
‫( ك ) وزاد المالكيّة المصالح المرسلة ‪ .‬وسمّاه الغزاليّ الستدلل المرسل ‪ .‬وسمّاه أيضا‬
‫ل به غيرهم ‪.‬‬
‫الستصلح ‪ ،‬واستد ّ‬
‫( ل ) ويدخل في الستدلل أيضا ‪ :‬القياس في معنى الصل ‪ ،‬وهو المسمّى بتنقيح المناط ‪.‬‬
‫( م ) وفي كشف السرار للبزدويّ ‪ :‬الستدلل هو ‪ :‬انتقال الذّهن من المؤثّر إلى الثر ‪،‬‬
‫وقيل بالعكس ‪ ،‬وقيل مطلقا ‪ .‬وقيل ‪ :‬بل النتقال من المؤثّر إلى الثر يسمّى تعليلً ‪ ،‬والنتقال‬
‫من الثر إلى المؤثّر يسمّى استدللً ‪.‬‬
‫‪ -‬وأكثر هذه النواع يفصّل القول فيها تحت مصطلحاتها الخاصّة ‪ ،‬ويرجع إليها أيضا في‬ ‫‪3‬‬

‫الملحق الصوليّ ‪.‬‬


‫مواطن البحث في كلم الفقهاء ‪:‬‬

‫‪ -‬يرد عند الفقهاء ذكر الستدلل في مواطن كثير ٍة ‪ .‬منها في مبحث استقبال القبلة ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫الستدلل بالنّجوم ‪ ،‬ومهابّ الرّياح ‪ ،‬والمحاريب المنصوبة وغير ذلك ‪ ،‬على القبلة ‪ .‬ومنها‬
‫في مبحث مواقيت الصّلة ‪ :‬الستدلل بالنّجوم ومقادير الظّلل على ساعات اللّيل والنّهار ‪،‬‬
‫ومواعيد الصّلة ‪ .‬ومنها في مبحث الدّعاوى والبيّنات ‪ :‬الستدلل على الحقّ بالشّهادات ‪،‬‬
‫والقرائن والفراسة ونحو ذلك ‪.‬‬

‫*استراق السّمع‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬قال أهل اللّغة ‪ :‬استراق السّمع يعني التّسمّع مستخفيا ‪ .‬وقال القرطبيّ في تفسيره ‪ :‬هو‬ ‫‪1‬‬

‫الخطفة اليسيرة ‪.‬‬


‫اللفاظ ذات الصّلة‬

‫أ ‪ -‬التّجسّس ‪:‬‬
‫‪ -‬التّجسّس هو ‪ :‬التّفتيش عن بواطن المور ‪ ،‬ومن الفروق بين التّجسّس واستراق السّمع ما‬ ‫‪2‬‬

‫ن التّجسّس هو التّنقيب عن أمورٍ معيّنةٍ ‪ ،‬يبغي المتجسّس الحصول عليها ‪ ،‬أمّا استراق‬
‫يلي ‪ :‬أ ّ‬
‫السّمع فيكون بحمل ما يقع له من معلوماتٍ ‪ .‬وأنّ التّجسّس مبناه على الصّبر والتّأنّي للحصول‬
‫ن مبناه على التّعجّل ‪ .‬ويرى البعض ‪ :‬أنّ‬
‫على المعلومات المطلوبة ‪ ،‬أمّا استراق السّمع فإ ّ‬
‫التّجسّس يعني البحث عن العورات ‪ ،‬وأنّه أكثر ما يقال في الشّرّ ‪ .‬أمّا استراق السّمع فيكون‬
‫ل ‪ ،‬خيرا كانت أم شرّا ‪.‬‬
‫فيه حمل ما يقع له من أقوا ٍ‬
‫ب ‪ -‬التّحسّس ‪:‬‬
‫‪ -‬التّحسّس أعمّ من استراق السّمع ‪ ،‬قال في عون المعبود في شرح قوله صلى ال عليه‬ ‫‪3‬‬

‫وسلم ‪ « :‬ول تحسّسوا » أي ‪ :‬ل تطلبوا الشّيء بالحاسّة ‪ ،‬كاستراق السّمع ‪ .‬ويقرب من هذا‬
‫ما في شرح النّوويّ لصحيح مسلمٍ ‪ ،‬وما في فتح الباري وعمدة القاريّ لشرح صحيح البخاريّ‬
‫‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬الصل تحريم استراق السّمع ‪ ،‬وقد ورد النّهي عنه على لسان رسول اللّه صلى ال عليه‬ ‫‪4‬‬

‫وسلم فقال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من استمع إلى حديث قو ٍم وهم له كارهون ‪ ،‬أو يفرّون‬
‫ن ‪ ،‬فإنّ‬
‫ب في أذنيه النك يوم القيامة » ‪ .‬ولقوله صلى ال عليه وسلم « إيّاكم والظّ ّ‬
‫منه ‪ ،‬ص ّ‬
‫الظّنّ أكذب الحديث ‪ ،‬ول تحسّسوا ول تجسّسوا » ولنّ السرار الشّخصيّة للنّاس محترم ٌة ل‬
‫ل بحقّ مشروعٍ ‪.‬‬
‫يجوز انتهاكها إ ّ‬
‫‪ -‬يستثنى من هذا النّهي ‪ :‬الحالت الّتي يشرع فيها التّجسّس ( الّذي هو أشدّ تحريما من‬ ‫‪5‬‬

‫س من الهلك ‪،‬‬
‫استراق السّمع ) كما لو تعيّن التّجسّس أو استراق السّمع طريقا إلى إنقاذ نف ٍ‬
‫ن فلنا خل بشخصٍ ليقتله ظلما ‪ ،‬فيشرع في هذه الصّورة التّجسّس ‪ ،‬وما هو‬
‫كأن يخبر ثقةٌ بأ ّ‬
‫أدنى منه من استراق السّمع ‪ .‬كما يستثنى من ذلك أيضا ‪ :‬استراق وليّ المر السّمع بنيّة‬
‫معرفة الخلل الواقع في المجتمع ؛ ليقوم بإصلحه ‪ ،‬فيحلّ للمحتسب استراق السّمع ‪ ،‬كما يحلّ‬
‫له أن ينشر عيونه ؛ لينقلوا له أخبار النّاس وأحوال السّوقة ‪ ،‬ليعرف ألعيبهم وطرق‬
‫تحايلهم ‪ ،‬فيضع لهم من أساليب القمع ما يدرأ ضررهم عن المجتمع ‪ ،‬قال في نهاية الرّتبة في‬
‫طلب الحسبة ‪ « :‬ويلزم المحتسب السواق والدّروب في أوقات الغفلة عنه ‪ ،‬ويتّخذ له فيها‬
‫عيونا يوصّلون إليه الخبار وأحوال السّوقة » ‪ .‬وقد كان عمر بن الخطّاب رضي ال عنه‬
‫يعسّ في شوارع المدينة المنوّرة ليلً يسترق السّمع ‪ ،‬ويتسقّط أخبار المسلمين لمعرفة‬
‫أحوالهم ‪ ،‬ويعين ذا الحاجة ‪ ،‬ويرفع الظّلم عن المظلوم ‪ ،‬ويكتشف الخلل ليسارع إلى إصلحه‬
‫‪ ،‬وقصصه في ذلك كثير ٌة ل تحصى ‪.‬‬
‫عقوبة استراق السّمع ‪:‬‬
‫ت ‪ -‬وإتيان المنهيّ عنه يوجب‬
‫ل في حال ٍ‬
‫‪ -‬إذا كان استراق السّمع منهيّا عنه في الجملة إ ّ‬ ‫‪6‬‬

‫التّعزير ‪ -‬فإنّ استراق السّمع في غير الحالت المسموح به فيها يستحقّ فاعله التّعزير ‪.‬‬
‫ويرجع في تفصيل أحكام استراق السّمع إلى مصطلح ( تجسّسٌ ) ‪ .‬وإلى باب الجهاد ( قتل‬
‫الجاسوس ) وإلى الحظر والباحة ( أحكام النّظر ) ‪.‬‬

‫*استرجاعٌ‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬السترجاع لغةً ‪ :‬مادّتها رجع ‪ ،‬أي ‪ :‬انصرف ‪ .‬واسترجعت منه الشّيء ‪ :‬إذا أخذت منه‬ ‫‪1‬‬

‫ما دفعته إليه ‪ .‬واسترجع الرّجل عند المصيبة ‪ :‬قال ‪ :‬إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ‪.‬‬
‫ويستعمل عند الفقهاء بمعنيين ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬بمعنى استردادٍ ‪ ،‬ومن ذلك قولهم ‪ :‬للمشتري ‪ -‬بعد فسخه بالعيب ‪ -‬حبس المبيع إلى حين‬
‫استرجاع ثمنه من البائع ‪ .‬وقولهم ‪ :‬السّلع المبيعة أو المجعولة ثمنا إذا علم بعيوبها من‬
‫صارت إليه بعد العقد فإنّ له الفسخ ‪ ،‬واسترجاع عوضها من قابضه إن كان باقيا ‪ ،‬أو بدله إن‬
‫تعذّر ردّه ‪ ( .‬ر ‪ :‬استردادٌ ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬بمعنى قول ‪ « :‬إنّا للّه وإنّا إليه راجعون » ‪ ،‬عند المصيبة ‪ .‬وتفصيل الكلم في ذلك‬
‫على الوجه التي ‪:‬‬
‫متى يشرع السترجاع عند المصيبة ؟ ومتى ل يشرع ؟ ‪.‬‬
‫ل ما يبتلى به النسان من مصائب ‪ ،‬عظمت أو صغرت ‪.‬‬
‫‪ -‬يشرع السترجاع عند ك ّ‬ ‫‪2‬‬

‫ل ‪ { :‬ولنبلونّكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الموال‬


‫والصل فيه قول اللّه عزّ وج ّ‬
‫والنفس والثّمرات وبشّر الصّابرين الّذين إذا أصابتهم مصيب ٌة قالوا إنّا للّه وإنّا إليه راجعون‬
‫ت من ربّهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون } وإنّما يشرع السترجاع عند كلّ‬
‫أولئك عليهم صلوا ٌ‬
‫شيءٍ يؤذي النسان ويضرّه ؛ لما روي « أنّه طفئ سراج رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫فقال ‪ :‬إنّا للّه وإنّا إليه راجعون فقيل ‪ :‬أمصيب ٌة هي ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬كلّ شيءٍ يؤذي المؤمن فهو‬
‫له مصيب ٌة » وقال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ليسترجع أحدكم في كلّ شيءٍ ‪ ،‬حتّى في شسع‬
‫نعله ‪ ،‬فإنّها من المصائب » ‪ .‬وغير ذلك كثيرٌ ممّا روي عن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫‪.‬‬
‫‪ -‬والحكمة في السترجاع عند المصائب ‪ :‬القرار بعبوديّة اللّه ووحدانيّته ‪ ،‬والتّصديق‬ ‫‪3‬‬

‫بالمعاد ‪ ،‬والرّجوع إليه ‪ ،‬والتّسليم بقضائه ‪ ،‬والرّجاء في ثوابه ‪ .‬ولذلك يقول النّبيّ ‪ « :‬من‬
‫استرجع عند المصيبة جبر اللّه مصيبته ‪ ،‬وأحسن عقباه ‪ ،‬وجعل له خلفا صالحا يرضاه » ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا متى ل يشرع ‪ :‬فمعلومٌ أنّ السترجاع بعض آي ٍة من القرآن الكريم ‪ ،‬وأنّه يحرم على‬ ‫‪4‬‬

‫غير الطّاهر قراءة أيّ شي ٍء منه ‪ ،‬ولو بعض آيةٍ ‪ .‬وقد ذكر الفقهاء في كتبهم ‪ :‬أنّه يحرم على‬
‫الجنب والحائض والنّفساء قراءة شيءٍ من القرآن وإن قلّ ‪ ،‬حتّى بعض آيةٍ ‪ ،‬ولو كان يقرأ في‬
‫كتاب فق ٍه أو غيره فيه احتجاجٌ بآي ٍة حرم عليه قراءتها ؛ لنّه يقصد القرآن للحتجاج ‪ ،‬أمّا إذا‬
‫كان ل يقصد القرآن فل بأس ؛ لنّهم قالوا ‪ :‬يجوز للجنب والحائض والنّفساء أن تقول عند‬
‫المصيبة ‪ :‬إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ‪ ،‬إذا لم تقصد القرآن ‪.‬‬
‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬
‫ن السترجاع ينطوي على أمرين ‪:‬‬
‫‪ -‬يذكر الفقهاء أ ّ‬ ‫‪5‬‬

‫ل باللّسان ‪ ،‬وهو أن يقول عند المصيبة ‪ :‬إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ‪ .‬وهذا مستحبّ ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬قو ٍ‬
‫ب ‪ -‬عملٍ بالقلب ‪ ،‬وهو الستسلم والصّبر والتّوكّل ‪ ،‬وما يتبع ذلك ‪ ،‬وهذا واجبٌ ‪.‬‬
‫*استردادٌ‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬السترداد في اللّغة ‪ :‬طلب ال ّردّ ‪ ،‬يقال ‪ :‬استردّ الشّيء وارتدّه ‪ :‬طلب ردّه عليه ‪ ،‬ويقال ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫وهب هب ًة ث ّم ارتدّها أي ‪ :‬استردّها ‪ ،‬واستردّه الشّيء ‪ :‬سأله أن يردّه عليه ‪ .‬ولم يخرج الفقهاء‬
‫في استعمالهم عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬الردّ ‪:‬‬

‫‪ -‬ال ّردّ ‪ :‬هو صرف الشّيء ورجعه ‪ .‬فال ّردّ قد يكون أثرا للسترداد ‪ ،‬وقد يحصل ال ّردّ بل‬ ‫‪2‬‬

‫استردادٍ ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الرتجاعٌ ‪ -‬السترجاعٌ ‪:‬‬

‫‪ -‬يقال رجع في هبته ‪ :‬إذا أعادها إلى ملكه ‪ ،‬وارتجعها واسترجعها كذلك ‪ ،‬واسترجعت‬ ‫‪3‬‬

‫ن السترداد والرتجاع‬
‫منه الشّيء ‪ :‬إذا أخذت منه ما دفعته إليه ‪ .‬ويتبيّن من ذلك أ ّ‬
‫والسترجاع بمعنًى واحدٍ لغةً واصطلحا ‪.‬‬
‫صفته ‪ :‬حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬

‫‪ -‬السترداد من التّصرّفات الجائزة ‪ ،‬وقد يعرض له الوجوب ‪ ،‬كما في البيوع الفاسدة ‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫حيث يجب الفسخ ‪ ،‬فإن كانت السّلعة قائم ًة ردّت بعينها ‪ ،‬وإن كانت فائت ًة ردّت قيمتها على‬
‫البائع بالغةً ما بلغت ‪ ،‬وردّ الثّمن على المشتري ‪ ،‬وذلك في الجملة ‪ ،‬على خلفٍ تفصيله في‬
‫مصطلحي ‪ ( :‬فسادٌ ‪ -‬وبطلنٌ ) لنّ الفسخ حقّ الشّرع ‪ .‬وقد يحرم السترداد ‪ ،‬كمن أخرج‬
‫صدقةً ‪ ،‬فإنّه يحرم عليه استردادها ؛ لقول عمر ‪ :‬من وهب هبةً على وجه صدقةٍ فإنّه ل‬
‫يرجع فيها ولنّ المقصود هو الثّواب وقد حصل ‪.‬‬
‫أسباب حقّ السترداد ‪:‬‬
‫للسترداد أسبابٌ متنوّعةٌ منها ‪ :‬الستحقاق ‪ ،‬والتّصرّفات الّتي ل تلزم ‪ ،‬وفساد العقد ‪ ..‬إلخ‬
‫وبيان ذلك فيما يأتي ‪:‬‬
‫ل ‪ :‬الستحقاق ‪:‬‬
‫أ ّو ً‬
‫‪ -‬الستحقاق ‪ -‬بمعناه العمّ ‪ -‬ظهور كون الشّيء حقّا واجبا للغير ‪ .‬وهذا التعريـف يشمل‬ ‫‪5‬‬

‫الغصب والسّرقة ‪ ،‬فالمغصوب منه والمسروق منه يثبت لهما حقّ السترداد ‪ ،‬ويجب على‬
‫الغاصب والسّارق ردّ المغصوب والمسروق لربّه ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬على‬
‫اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » ‪ .‬ويشمل استحقاق المبيع على المشتري ‪ ،‬أو الموهوب على‬
‫المتّهب ‪ ،‬فيوجب الفسخ والسترداد ‪ ،‬لفساد العقد في الصحّ عند الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬ويتوقّف‬
‫العقد على إجازة ربّه عند الحنفيّة والمالكيّة ‪ .‬والقول بالتّوقّف هو أيضا مقابل الصحّ عند‬
‫الشّافعيّة والحنابلة ‪ .‬وإذا فسخ البيع ثبت للمشتري في الجملة حقّ استرداد الثّمن ‪ ،‬على تفصيلٍ‬
‫بين ما إذا كان ثبوت الستحقاق بالبيّنة ‪ ،‬أو بالقرار ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في ( استحقاقٌ ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬التّصرّفات الّتي ل تلزم ‪ :‬التّصرّفات الّتي ل تلزم متنوّعةٌ ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬العقود غير اللّزمة ‪:‬‬
‫‪ -‬وهي الّتي تقبل بطبيعتها أن يرجع فيها أحد العاقدين كالوديعة ‪ ،‬والعاريّة ‪ ،‬والمضاربة ‪،‬‬ ‫‪6‬‬

‫والشّركة ‪ ،‬والوكالة ‪ .‬فهذه العقود غير لزم ٍة ‪ ،‬ويجوز الرّجوع فيها في الجملة ‪ ،‬ويثبت عند‬
‫ت يجب ردّها ؛ لقول اللّه‬
‫فسخها حقّ السترداد للمالك ‪ ،‬ويجب ال ّردّ عند الطّلب ؛ لنّها أمانا ٌ‬
‫ن اللّه يأمركم أن تؤدّوا المانات إلى أهلها } ‪ ،‬ولذلك لو حبسها بعد الطّلب‬
‫تعالى ‪ { :‬إ ّ‬
‫ق عليها في الجملة‬
‫فضاعت ضمن ‪ ،‬ولو هلكت بل تعدّ أو تفريطٍ لم يضمن ‪ .‬وهذه الحكام متّف ٌ‬
‫‪ ،‬إذا توافرت الشّروط المعتبرة شرعا ‪ ،‬كنضو رأس المال في المضاربة ‪ ،‬أي تحوّل السّلع‬
‫إلى نقودٍ ‪ .‬ولو كان في السترداد ضررٌ فإنّه يتوقّف حتّى يزول الضّرر ‪ ،‬كالرض إذا‬
‫استعيرت للزّراعة ‪ ،‬وأراد المعير الرّجوع ‪ ،‬فيتوقّف السترداد حتّى يحصد الزّرع ‪ .‬والعاريّة‬
‫ل أو أجلٍ عند المالكيّة ل تستردّ حتّى ينقضي الجل أو العمل ‪ .‬هذا حكم السترداد‬
‫المقيّدة بعم ٍ‬
‫في الجملة في هذه التّصرّفات ‪ ،‬وفي ذلك تفاصيل كثيرةٌ يرجع إليها في موضوعاتها ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬العقود الّتي يدخلها الخيار ‪:‬‬
‫‪-‬كخيار الشّرط ‪ ،‬وخيار العيب ونحوهما كثيرةٌ من أهمّها ‪ :‬البيع ‪ ،‬والجارة ‪ .‬ففي البيع ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫بكون العقد في مدّة خيار الشّرط غير لزمٍ ‪ ،‬ولمن له الخيار حقّ الفسخ وال ّردّ ‪ .‬جاء في بدائع‬
‫الصّنائع ‪ :‬البيع بشرط الخيار بي ٌع غير لزمٍ ‪ ،‬لنّ الخيار يمنع لزوم الصّفقة ‪ ،‬قال سيّدنا عمر‬
‫ن الخيار هو التّخيير بين الفسخ والجازة ‪،‬‬
‫رضي ال تعالى عنه ‪ :‬البيع صفق ٌة أو خيارٌ ول ّ‬
‫وهذا يمنع اللّزوم ‪ ،‬ومثل ذلك في بقيّة المذاهب مع التّفاصيل ‪ .‬كذلك خيار العيب يجعل العقد‬
‫غير لزمٍ وقابلً للفسخ ‪ ،‬فإذا نقض المشتري البيع بخيار العيب انفسخ العقد ‪ ،‬وردّ المشتري‬
‫البيع معيبا إلى البائع واستردّ الثّمن ‪ .‬ويختلف الفقهاء في حقّ المشتري في إمساك المبيع معيبا‬
‫‪ ،‬والرّجوع على البائع بأرش العيب في المعيب ‪ ،‬فالحنفيّة والشّافعيّة ل يعطونه هذا الحقّ ‪،‬‬
‫وإنّما له أن يردّ السّلعة ويستردّ الثّمن ‪ ،‬أو يمسك المعيب ول رجوع له بنقصانٍ ؛ لنّ‬
‫الوصاف ل يقابلها شيءٌ من الثّمن في مجرّد العقد ؛ ولنّه لم يرض بزواله عن ملكه بأقلّ‬
‫ن بالرّ ّد بدون تضرّره ‪ .‬أمّا‬
‫من المسمّى ‪ ،‬فيتضرّر به ‪ ،‬ودفع الضّرر عن المشتري ممك ٌ‬
‫الحنابلة فإنّه يكون للمشتري عندهم الخيار بين ال ّردّ والرّجوع بالثّمن ‪ ،‬وبين المساك والرّجوع‬
‫بأرش العيب ‪ .‬ويفصّل المالكيّة بين العيب اليسير غير المؤثّر ‪ ،‬فل شيء فيه ول ردّ به ‪،‬‬
‫وبين العيب المؤثّر الّذي له قيم ٌة فيرجع بأرشه ‪ ،‬وبين العيب الفاحش فيجب هنا ال ّردّ ‪ ،‬حتّى‬
‫إذا أمسكه ليس له الرّجوع بالنّقصان ‪ ،‬وفي خيار العيب تفصيلٌ يرجع إليه في مصطلحه ‪.‬‬
‫هذه أمثلةٌ لبعض الخيارات الّتي تجعل العقد غير لزمٍ ‪ ،‬ويثبت بها حقّ السترداد وهناك‬
‫ت أخرى تسير على هذا النّمط ‪ ،‬كخيار التّعيين ‪ ،‬وخيار الغبن ‪ ،‬وخيار التّدليس ‪،‬‬
‫خيارا ٌ‬
‫وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬خيارٌ ) ‪.‬‬
‫‪ -‬ويدخل الخيار كذلك عقد الجارة ‪ ،‬فيثبت به حقّ الفسخ وال ّردّ ‪ ،‬فمن استأجر دارا فوجد‬ ‫‪8‬‬

‫بها عيبا حادثا يضرّ بالسّكنى ‪ ،‬فله الفسخ والرّدّ ‪.‬‬


‫ثالثا ‪ :‬العقد الموقوف عند عدم الجازة ‪:‬‬
‫‪ -‬ومن أشهر أمثلته ‪ :‬بيع الفضوليّ ‪ ،‬فإنّه ل ينفذ لنعدام الملك ‪ ،‬لكنّه ينعقد موقوفا على‬ ‫‪9‬‬

‫إجازة المالك عند الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬فإن أمضاه مضى ‪ ،‬وإن ردّه ردّ ‪ .‬وإذا أجاز المالك البيع‬
‫ي بمنزلة الوكيل ‪ ،‬وينتقل ملك المبيع إلى المشتري ‪ ،‬ويكون الثّمن للمالك ؛ لنّه‬
‫صار الفضول ّ‬
‫بدل ملكه ‪ .‬وبيع الفضوليّ قابلٌ للفسخ من جهة المشتري وجهة الفضوليّ عند الحنفيّة ‪ ،‬فلو‬
‫فسخه الفضوليّ قبل الجازة انفسخ ‪ ،‬واستردّ المبيع إن كان قد سلّم ‪ ،‬ويرجع المشتري بالثّمن‬
‫على البائع إن كان قد نقده ‪ ،‬وكذا إذا فسخه المشتري ينفسخ ‪ .‬أمّا عند المالكيّة ‪ :‬فهو لزمٌ من‬
‫جهة الفضوليّ ومن جهة المشتري ‪ ،‬منحلّ من جهة المالك ‪ .‬أمّا عند الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪:‬‬
‫ح ويجب ردّه ‪ ،‬وفي الرّواية الخرى ‪ :‬أنّه يتوقّف على إجازة‬
‫فبيع الفضوليّ باطلٌ في الص ّ‬
‫ي ‪ -‬بيعٌ ) ‪.‬‬
‫المالك ‪ .‬وفي ذلك تفصيلٌ كثيرٌ ( ر ‪ :‬فضول ّ‬
‫رابعا ‪ :‬فساد العقد ‪:‬‬
‫‪ -‬يفرّق الحنفيّة بين العقد الباطل والعقد الفاسد ‪ ،‬فالعقد الباطل عندهم ‪ :‬هو ما لم يشرع‬ ‫‪10‬‬

‫بأصله ول وصفه ‪ ،‬والعقد الفاسد ‪ :‬هو ما شرع بأصله دون وصفه ‪ .‬أمّا حكم السترداد‬
‫بالنّسبة لكلّ من الباطل والفاسد فيظهر فيما يأتي ‪ :‬العقد الباطل ل وجود له شرعا ‪ ،‬ول يفيد‬
‫الملك ؛ لنّه ل أثر له ‪ ،‬ول يملك أحد العاقدين أن يجبر الخر على تنفيذه ‪ .‬ففي البيع يقول‬
‫الكاسانيّ ‪ :‬ل حكم لهذا البيع ( الباطل ) أصلً ؛ لنّ الحكم للموجود ‪ ،‬ول وجود لهذا البيع إلّ‬
‫من حيث الصّورة ؛ لنّ التّصرّف الشّرعيّ ل وجود له بدون الهليّة والمحّليّة شرعا ‪ ،‬كما ل‬
‫ل من الهل في المحلّ حقيقةً ‪ ،‬وذلك نحو بيع الميتة ‪ ،‬والدّم ‪ ،‬وكلّ‬
‫وجود للتّصرّف الحقيقيّ إ ّ‬
‫ما ليس بمالٍ ‪ .‬وما دام العقد الباطل ل وجود له شرعا ‪ ،‬ول ينتج أيّ أثرٍ ‪ ،‬فإنّه يترتّب على‬
‫ن البائع لو سلّم المبيع باختياره للمشتري ‪ ،‬أو دفع المشتري باختياره الثّمن للبائع ‪ ،‬كان‬
‫ذلك أ ّ‬
‫للبائع أن يستردّ المبيع ‪ ،‬وللمشتري أن يستردّ الثّمن ؛ لنّ البيع الباطل ل يفيد الملك ولو‬
‫بالقبض ‪ ،‬ولذلك لو تصرّف المشتري فيه ببيعٍ ‪ ،‬أو هب ٍة ‪ ،‬أو عتقٍ ‪ ،‬فإنّ هذا التّصرّف ل يمنع‬
‫ن البيع الباطل لم ينقل الملكيّة‬
‫البائع من استرداد المبيع من يد المشتري الثّاني ‪ ،‬ذلك أ ّ‬
‫ك له ‪.‬‬
‫للمشتري ‪ ،‬فيكون المشتري قد باع مالً غير مملو ٍ‬
‫ع بوصفه ‪ ،‬فلذلك يفيد‬
‫‪ -‬أمّا العقد الفاسد فإنّه وإن كان مشروعا بأصله لكنّه غير مشرو ٍ‬ ‫‪11‬‬

‫ك غير لزمٍ ‪ ،‬بل هو مستحقّ الفسخ ‪ ،‬حقّا للّه تعالى ؛‬


‫الملك بالقبض في الجملة ‪ ،‬إلّ أنّه مل ٌ‬
‫لما في الفسخ من رفع الفساد ‪ ،‬ورفع الفساد حقّ اللّه تعالى ‪ ،‬والفسخ في البيع الفاسد يستلزم‬
‫ردّ المبيع على بائعه ‪ ،‬وردّ الثّمن على المشتري ‪ ،‬هذا إذا كان المبيع قائما في يد المشتري ‪.‬‬
‫ن المشتري ملكه بالقبض ‪،‬‬
‫أمّا إذا تصرّف فيه ببيعٍ أو هب ٍة ‪ ،‬فليس لواحدٍ منهما فسخه ؛ ل ّ‬
‫ق البائع في السترداد ؛ لنّه تعلّق به حقّ العبد ‪،‬‬
‫فتنفذ فيه تصرّفاته كلّها ‪ ،‬وينقطع به ح ّ‬
‫ل غلب حقّ العبد لحاجته ‪ .‬وسواءٌ‬
‫والسترداد حقّ الشّرع ‪ ،‬وما اجتمع حقّ اللّه وحقّ العبد إ ّ‬
‫ل الجارة فإنّها ل تقطع حقّ البائع في السترداد ؛‬
‫أكان التّصرّف يقبل الفسخ ‪ ،‬أو ل يقبله ‪ ،‬إ ّ‬
‫ن الجارة عق ٌد ضعيفٌ يفسخ بالعذار ‪ ،‬وفساد الشّراء عذرٌ ‪ ،‬هذا هو مذهب الحنفيّة ‪.‬‬
‫لّ‬
‫‪ -‬أمّا الجمهور ‪ :‬فإنّهم ل يفرّقون بين العقد الفاسد والعقد الباطل ‪ .‬فالفاسد والباطل عندهم‬ ‫‪12‬‬

‫شيءٌ واحدٌ ‪ ،‬ول يحصل به الملك ‪ ،‬سواءٌ اتّصل به القبض ‪ ،‬أم لم يتّصل ‪ ،‬ويلزم ردّ المبيع‬
‫على بائعه ‪ ،‬والثّمن على المشتري هذا إذا كان المبيع قائما في يد المشتري ‪ .‬أمّا إذا تصرّف‬
‫فيه المشتري ببيعٍ أو هبةٍ فقد اختلفوا في ذلك ‪ .‬فعند الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬ل ينفذ تصرّف‬
‫المشتري بذلك ‪ ،‬ويكون من حقّ البائع استرداد المبيع ‪ ،‬ومن حقّ المشتري استرداد الثّمن ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة ‪ :‬فإنّه يجب عندهم ردّ المبيع الفاسد لربّه إن لم يفت ‪ ،‬كأن لم يخرج عن يده‬
‫س ‪ ،‬فإن فات بيد المشتري مضى المختلف فيه ‪ -‬ولو خارج المذهب‬
‫ببيعٍ ‪ ،‬أو بنيانٍ ‪ ،‬أو غر ٍ‬
‫المالكيّ ‪ -‬بالثّمن الّذي وقع به البيع ‪ ،‬وإن لم يكن مختلفا فيه بل متّفقا على فساده ‪ ،‬ضمن‬
‫المشتري قيمته إن كان مقوّما حين القبض ‪ ،‬وضمن مثل المثليّ إذا بيع كيلً أو وزنا ‪ ،‬وعلم‬
‫كيله أو وزنه ‪ ،‬ولم يتعذّر وجوده ‪ ،‬وإلّ ضمن قيمته يوم القضاء عليه بالرّدّ ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬انتهاء مدّة العقد ‪:‬‬
‫‪ -‬انتهاء مدّة العقد في العقود المقيّدة بمدّةٍ يثبت حقّ السترداد ‪ ،‬ففي عقد الجارة يكون‬ ‫‪13‬‬

‫للمؤجّر أن يستردّ ما آجره إذا انقضت مدّة الجارة ‪ ،‬فمن استأجر أرضا للبناء ‪ ،‬وغرس‬
‫الشجار ‪ ،‬ومضت مدّة الجارة ‪ ،‬لزم المستأجر أن يقلع البناء والغرس ويسلّمها إلى ربّها‬
‫فارغةً ‪ ،‬لنّه يجب عليه ردّها إلى صاحبها غير مشغولةٍ ببنائه وغرسه ؛ لنّ البناء والغرس‬
‫ليس لهما حال ٌة منتظر ٌة ينتهيان إليها ‪ .‬وفي تركهما على الدّوام بأجرٍ أو بغير أجرٍ يتضرّر‬
‫ل أن يختار صاحب الرض أن يغرم له قيمة ذلك‬
‫صاحب الرض ‪ ،‬فيتعيّن القلع في الحال ‪ ،‬إ ّ‬
‫مقلوعا ‪ ،‬ويتملّكه ‪ ( ،‬وذلك برضى صاحب الغرس والشّجر ‪ ،‬إلّ أن تنقص الرض بقلعهما ‪،‬‬
‫فحينئذٍ يتملّكهما بغير رضاه ) أو يرضى بتركه على حاله ‪ ،‬فيكون البناء لهذا ‪ ،‬والرض‬
‫ل يستوفيه ‪ .‬هذا مذهب الحنفيّة ‪ .‬وعند الحنابلة ‪ :‬يخيّر المالك بين‬
‫ن الحقّ له ‪ ،‬فله أ ّ‬
‫لهذا ؛ ل ّ‬
‫تملّك الغراس والبناء بقيمته ‪ ،‬أو تركه بأجرته ‪ ،‬أو قلعه وضمان نقصه ‪ ،‬ما لم يقلعه مالكه ‪.‬‬
‫ومثل ذلك مذهب الشّافعيّة ‪ ،‬إلّ إذا كان صاحب الرض شرط القلع عند انتهاء المدّة ‪ ،‬فإنّه‬
‫يعمل بشرطه ‪ .‬وعند المالكيّة ‪ :‬يجبر صاحب الغرس على القلع بعد انتهاء المدّة ‪ ،‬ويجوز‬
‫لربّ الرض كراؤها له مدّةً مستقبل ًة ‪ ،‬وهذا بالنّسبة للغرس والبناء ‪ .‬أمّا بالنّسبة للزّراعة إذا‬
‫انقضت المدّة والزّرع لم يدرك ‪ ،‬فليس للمؤجّر في هذه الحالة أن يستردّ أرضه ‪ ،‬وإنّما يترك‬
‫ن للزّرع نهايةً معلومةً ‪،‬‬
‫الزّرع على حاله إلى أن يستحصد ‪ ،‬ويكون للمالك أجر المثل ؛ ل ّ‬
‫ن الحنابلة يقيّدون ذلك‬
‫فأمكن رعاية الجانبين ‪ .‬وهذا هو الحكم في الجملة عند الفقهاء ‪ .‬غير أ ّ‬
‫بعدم التّفريط من المستأجر ‪ ،‬فإن كان بتفريطٍ أجبر على القلع ‪ .‬وهذا هو رأي الشّافعيّة في‬
‫الزّرع المطلق ‪ ،‬أي الّذي لم يحدّد نوعه ‪ ،‬فيكون للمالك عندهم أن يتملّكه بنقله ‪ .‬وأمّا في‬
‫الزّرع المعيّن إن كان هناك شرطٌ بالقلع ‪ ،‬فله جبر صاحب الزّرع على قلعه ‪ ،‬وإن لم يكن‬
‫هناك شرطٌ فقولن ‪ :‬بالجبر وعدمه ‪ .‬وعند المالكيّة ‪ :‬يلزمه البقاء إلى الحصاد ‪ .‬وينظر‬
‫تفصيل ذلك في ( إجارةٌ ) ‪.‬‬
‫سادسا ‪ :‬القالة ‪:‬‬
‫‪ -‬القالة ‪ -‬سوا ٌء اعتبرت فسخا أم بيعا ‪ -‬يثبت بها حقّ السترداد ‪ ،‬لنّها من التّصرّفات‬ ‫‪14‬‬

‫الجائزة ؛ لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من أقال مسلما أقال اللّه عثرته يوم القيامة » ‪.‬‬
‫ل حقّ إلى صاحبه ‪ .‬ففي البيع يعود بمقتضاها المبيع إلى‬
‫والقصد من القالة هو ‪ :‬ردّ ك ّ‬
‫البائع ‪ ،‬والثّمن إلى المشتري ‪ .‬وبالجملة فإنّه يجب ردّ الثّمن الوّل ‪ ،‬أو مثله ‪ ،‬ول يجوز ردّ‬
‫زياد ٍة على الثّمن ‪ ،‬أو نقصه ‪ ،‬أو ردّ غير جنسه ؛ لنّ مقتضى القالة ردّ المر إلى ما كان‬
‫عليه ‪ ،‬ورجوع كلّ منهما إلى ما كان له ‪ .‬وهذا بالتّفاق في الجملة ‪ .‬وعند أبي يوسف ‪:‬‬
‫القالة جائزةٌ بما سمّيا كالبيع الجديد ‪.‬‬
‫سابعا ‪ :‬الفلس ‪:‬‬
‫ن المشتري إذا حجر عليه‬
‫‪ -‬حقّ الغرماء يتعلّق بمال المفلس ‪ ،‬ول خلف بين الفقهاء في أ ّ‬ ‫‪15‬‬

‫س قبل أداء الثّمن الحالّ ‪ -‬والمبيع بيد البائع ‪ -‬فإنّ للبائع أن يحبسه عن المشتري ‪ ،‬ويكون‬
‫لفل ٍ‬
‫أحقّ به من سائر الغرماء ‪ .‬أمّا إذا كان المشتري قد قبض المبيع ‪ ،‬ولم يدفع الثّمن ‪ ،‬ثمّ حجر‬
‫عليه لفلسٍ ‪ ،‬ووجد البائع عين ماله الّذي باعه للمفلس ‪ ،‬فإنّه يكون أحقّ بالمبيع من سائر‬
‫الغرماء ‪ ،‬ول يسقط حقّه بقبض المشتري للمبيع ‪ ،‬لحديث أبي هريرة مرفوعا ‪ « :‬من أدرك‬
‫ماله عند إنسانٍ أفلس فهو أحقّ به » ‪ ،‬وبه قال عثمان وعليّ ‪ .‬قال ابن المنذر ‪ :‬ل نعلم أحدا‬
‫من أصحاب رسول اللّه صلى ال عليه وسلم خالفهما ‪ .‬فإن شاء البائع استردّه من المشتري‬
‫ص باقي الغرماء بثمنه ‪ .‬وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة‬
‫وفسخ البيع ‪ ،‬وإن شاء تركه وحا ّ‬
‫والحنابلة ‪ .‬هذا مع مراعاة الشّروط الّتي وضعت لسترداد عين المبيع ‪ ،‬ككونه باقيا في ملك‬
‫ن حقّ البائع في المبيع‬
‫المشتري ‪ ،‬ولم يتغيّر ‪ ،‬ولم يتعلّق به حقّ ‪ ...‬إلخ ‪ .‬وذهب الحنفيّة إلى أ ّ‬
‫يسقط بقبض المشتري له بإذنه ‪ ،‬ويصير أسو ًة بالغرماء ‪ ،‬فيباع ويقسم ثمنه بالحصص ؛ لنّ‬
‫ملك البائع قد زال عن المبيع ‪ ،‬وخرج من ضمانه إلى ملك المشتري وضمانه ‪ ،‬فساوى باقي‬
‫الغرماء في سبب الستحقاق ‪ ،‬وإن كان المشتري قبضه بغير إذن البائع كان له استرداده ‪.‬‬
‫وإن كان البائع قبض بعض الثّمن ‪ ،‬فقال مالكٌ ‪ :‬إن شاء ردّ ما قبض وأخذ السّلعة كلّها ‪ ،‬وإن‬
‫ص الغرماء فيما بقي ‪ .‬وقال الشّافعيّ ‪ :‬يأخذ من سلعته بما بقي من الثّمن ‪ .‬وقال‬
‫شاء حا ّ‬
‫جماع ٌة من أهل العلم ‪ :‬إسحاق وأحمد ‪ :‬هو أسوة الغرماء ‪ .‬ولو بذل الغرماء للبائع الثّمن‬
‫فيلزمه أخذ الثّمن عند المالكيّة ‪ ،‬ول كلم له فيه ‪ ،‬وعند الشّافعيّة ‪ :‬له الفسخ ؛ لما في التّقديم‬
‫من المنّة ‪ ،‬وخوف ظهور غريمٍ آخر ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ليس له الفسخ ‪ .‬وعند الحنابلة ‪ :‬ل يلزمه‬
‫القبول من الغرماء ‪ ،‬إلّ إذا بذله الغريم للمفلس ‪ ،‬ثمّ بذله المفلس لربّ السّلعة ‪ .‬وفي الموضوع‬
‫تفصيلتٌ كثير ٌة تنظر في ( حجرٌ ‪ -‬إفلسٌ ) ‪.‬‬
‫ثامنا ‪ :‬الموت ‪:‬‬
‫‪ -‬من مات وعليه ديونٌ تعلّقت الدّيون بماله ‪ ،‬وإذا مات مفلسا قبل تأدية ثمن ما اشتراه‬ ‫‪16‬‬

‫وقبضه ‪ ،‬ووجد البائع عين ماله في التّركة ‪ ،‬فقال الشّافعيّة ‪ :‬يكون البائع بالخيار ‪ ،‬بين أن‬
‫يضرب مع الغرماء بالثّمن ‪ ،‬وبين أن يفسخ ‪ ،‬ويرجع في عين ماله ؛ لما روي عن « أبي‬
‫ل أفلس ‪ :‬هذا الّذي قضى فيه رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أيّما‬
‫هريرة أنّه قال في رج ٍ‬
‫رجلٍ مات أو أفلس فصاحب المتاع أحقّ بمتاعه إذا وجده بعينه » فإن كانت التّركة تفي بالدّين‬
‫ففيه وجهان ‪ :‬أحدهما ‪ ،‬وهو قول أبي سعيدٍ الصطخريّ ‪ :‬له أن يرجع في عين ماله ‪،‬‬
‫ن المال‬
‫لحديث أبي هريرة ‪ ،‬والثّاني ‪ :‬ل يجوز أن يرجع في عين ماله ‪ ،‬وهو المذهب ؛ ل ّ‬
‫يفي بالدّين ‪ ،‬فلم يجز الرّجوع في المبيع ‪ ،‬كالحيّ المليء ‪ .‬وعند الحنابلة والمالكيّة والحنفيّة ‪:‬‬
‫ليس للبائع الرّجوع في عين ماله ‪ ،‬بل يكون أسوة الغرماء ؛ لحديث أبي بكر بن عبد الرّحمن‬
‫بن الحارث بن هشامٍ أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬أيّما رجلٍ باع متاعه فأفلس الّذي‬
‫ابتاعه ‪ ،‬ولم يقبض الّذي باعه من ثمنه شيئا ‪ ،‬فوجد متاعه بعينه فهو أحقّ به ‪ ،‬وإن مات‬
‫ن الملك انتقل عن المفلس إلى الورثة فأشبه ‪.‬‬
‫المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء » ‪ .‬ول ّ‬
‫ما لو باعه ‪.‬‬
‫تاسعا ‪ :‬الرّشد ‪:‬‬
‫‪ -‬يجب دفع المال إلى المحجور عليه إذا بلغ ورشد ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وابتلوا اليتامى حتّى‬ ‫‪17‬‬

‫إذا بلغوا النّكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } حتّى لو منعه الوليّ ‪ ،‬أو الوصيّ‬
‫منه حين طلبه ماله يكون ضامنا ‪ .‬وفي ذلك تفصيلٌ ( ر ‪ :‬رشدٌ ‪ -‬حجرٌ ) ‪.‬‬
‫صيغة السترداد ‪:‬‬
‫‪ -‬في العقد الفاسد ( وهو ما يجب فيه الفسخ والرّدّ ) يكون الفسخ بالقول ‪ ،‬كفسخت العقد‬ ‫‪18‬‬

‫ن هذا‬
‫أو نقضت أو رددت ‪ ،‬فينفسخ ول يحتاج إلى قضاء القاضي ‪ ،‬ول إلى رضى البائع ؛ ل ّ‬
‫البيع استحقّ الفسخ حقّا للّه تعالى ‪ .‬ويكون ال ّردّ بالفعل ‪ ،‬وهو أن يردّ المبيع على بائعه على‬
‫أيّ وجهٍ ردّه ‪ .‬والرّجوع في الهبة ‪ -‬وهو استردادٌ ‪ -‬يكون بقول الواهب ‪ :‬رجعت في هبتي ‪،‬‬
‫أو ارتجعتها ‪ ،‬أو رددتها ‪ ،‬أو عدت فيها ‪ .‬أو يكون بالخذ بنيّة الرّجوع ‪ ،‬أو الشهاد ‪ ،‬أو‬
‫بقضاء القاضي كما هو عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫كيفيّة السترداد ‪:‬‬
‫ن في شي ٍء ما ‪ ،‬بأيّ سببٍ من السباب السّابق ذكرها ‪ ،‬فإنّ‬
‫إذا ثبت حقّ السترداد لنسا ٍ‬
‫السترداد يتحقّق بعدّة أمو ٍر ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬استرداد عين الشّيء ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا كان ما يستحقّ استرداده قائما بعينه فإنّه يردّ بعينه ‪ ،‬فالمغصوب ‪ ،‬والمسروق ‪،‬‬ ‫‪19‬‬

‫والمبيع بيعا فاسدا ‪ ،‬والمفسوخ لخيارٍ ‪ ،‬أو لنقطاع مسلمٍ فيه ‪ ،‬أو لقال ٍة ‪ ،‬كلّ هذا يستردّ بعينه‬
‫ما دام قائما ‪ .‬وكذلك المانات ‪ ،‬كالودائع والعواريّ تردّ بعينها ما دامت قائمةً ‪ ،‬ومثل ذلك ما‬
‫انتهت مدّته في العقد كالجارة ‪ ،‬والعاريّة المقيّدة بأجلٍ ‪ ،‬وما وجد بعينه عند المفلس وثبت‬
‫استحقاقه ‪ ،‬وما يجوز الرّجوع فيه كالهبة ‪ .‬والصل في ذلك قول اللّه تعالى ‪ { :‬إنّ اللّه‬
‫يأمركم أن تؤدّوا المانات إلى أهلها } وقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬على اليد ما‬
‫أخذت حتّى تردّ » ‪ .‬وقوله ‪ « :‬من وجد ماله بعينه عند رجلٍ قد أفلس فهو أحقّ به » ‪ .‬وردّ‬
‫العين هو الواجب الصليّ ( إلّ ما جاء في القرض من أنّه ل يجب ردّ العين ‪ ،‬ولو كانت‬
‫قائمةً ‪ ،‬وإن كان ذلك جائزا ) على ما ذهب إليه الحنابلة والمالكيّة ‪ ،‬وفي ظاهر الرّواية عند‬
‫الحنفيّة ‪ ،‬وفي قولٍ للشّافعيّة ‪ .‬هذا إذا كانت العين قائم ًة بعينها دون حدوث تغييرٍ فيها ‪ ،‬لكنّها‬
‫ص ‪ ،‬أو تغيير صور ٍة ‪ ،‬فهل يؤثّر ذلك على استرداد العين ؟ أورد‬
‫قد تتغيّر بزيادةٍ ‪ ،‬أو نق ٍ‬
‫الفقهاء في ذلك صورا كثير ًة ‪ ،‬وفروعا متعدّدةً ‪ ،‬وأه ّم ما ورد فيه ذلك ‪ :‬البيع الفاسد ‪،‬‬
‫والغصب والهبة ‪ .‬ونورد فيما يلي بعض القواعد الكّليّة الّتي يندرج تحتها كثيرٌ من الفروع‬
‫والمسائل ‪.‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬بالنّسبة للبيع الفاسد والغصب ‪:‬‬
‫‪ -‬يتشابه الحكم في البيع الفاسد والغصب ‪ ،‬حيث إنّ البيع الفاسد يجب فيه الفسخ وال ّردّ حقّا‬ ‫‪20‬‬

‫للشّرع ‪ ،‬وكذلك المغصوب يجب ردّه ‪ ،‬وبيان ذلك فيما يلي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّغيير بالزّيادة ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا تغيّر المبيع بيعا فاسدا أو المغصوب بالزّيادة ‪ ،‬فإن كانت الزّيادة متّصل ًة متولّد ًة من‬ ‫‪21‬‬

‫الصل ‪ ،‬كالسّمن والجمال ‪ ،‬أو كانت منفصلةً ‪ ،‬سواءٌ أكانت متولّدةً من الصل ‪ ،‬كالولد‬
‫واللّبن والثّمرة ‪ ،‬أم غير متولّدةٍ من الصل ‪ ،‬كالهبة والصّدقة والكسب ‪ ،‬فإنّها ل تمنع الرّدّ ‪،‬‬
‫ن الزّيادة نماء ملكه ‪ ،‬وتابع ٌة للصل ‪ ،‬والصل‬
‫ق أن يستردّ الصل مع الزّيادة ؛ ل ّ‬
‫وللمستح ّ‬
‫مضمون ال ّردّ ‪ ،‬فكذلك التّبع ‪ .‬وهذا باتّفاق الفقهاء في الغصب ‪ ،‬وعند غير المالكيّة في المبيع‬
‫بيعا فاسدا ‪ .‬أمّا عند المالكيّة فإنّ المبيع بيعا فاسدا يفوت بالزّيادة ‪ ،‬ول يجب ردّ عينه ‪ .‬وإن‬
‫كانت الزّيادة متّصلةً غير متولّد ٍة من الصل ‪ ،‬كمن غصب ثوبا فصبغه ‪ ،‬أو سويقا فلتّه بسمنٍ‬
‫‪ .‬فعند الحنفيّة ‪ :‬يمتنع ال ّردّ في البيع الفاسد ؛ لتعذّر الفصل ‪ ،‬أمّا في الغصب فإنّ المالك‬
‫بالخيار إن شاء ضمّنه قيمة الثّوب دون صبغٍ ‪ ،‬ومثله السّويق ‪ ،‬وإن شاء أخذهما وغرم ما‬
‫زاد الصّبغ والسّمن فيهما ‪ ،‬وذلك رعايةٌ للجانبين ‪ .‬وعند المالكيّة ‪ .‬ل ردّ في البيع الفاسد ‪،‬‬
‫وفي الغصب يخيّر المالك في الثّوب فقط ‪ ،‬أمّا السّويق فل يستردّ ؛ لنّه تفاضل طعامين ‪.‬‬
‫وعند الحنابلة والشّافعيّة ‪ :‬يردّ لصاحبه ‪ ،‬ويكونان شريكين في الزّيادة إن زاد بذلك ‪ ،‬ويقول‬
‫الشّافعيّة ‪ :‬إن أمكن قلع الصّبغ أجبر عليه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّغيير بالنّقص ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا كان التّغيير بالنّقص ‪ ،‬كما إذا نقص العقار بسكناه وزراعته ‪ ،‬وكتخرّق الثّوب ‪ ،‬فإنّه‬ ‫‪22‬‬

‫يردّ مع أرش النّقصان ‪ ،‬وسوا ٌء أكان النّقصان بآفةٍ سماويّ ٍة ‪ ،‬أم بفعل الغاصب والمشتري‬
‫شرا ًء فاسدا ‪ ،‬وهذا باتّفاقٍ في الغصب ‪ ،‬وعند غير المالكيّة في البيع الفاسد حيث يعتبر التّغيير‬
‫بالنّقص مانعا لل ّردّ وفوتا عند المالكيّة ‪ ،‬كالزّيادة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّغيير بالصّورة والشّكل ‪:‬‬
‫‪ -‬وإذا تغيّرت صورة المستحقّ ‪ ،‬بأن كان شا ًة فذبحها وشواها ‪ ،‬أو حنطةً فطحنها ‪ ،‬أو‬ ‫‪23‬‬

‫غزلً فنسجه ‪ ،‬أو قطنا فغزله ‪ ،‬أو ثوبا فخاطه قميصا ‪ ،‬أو طينا جعله لبنا أو فخّارا ‪ ،‬فعند‬
‫الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬ل ينقطع حقّ صاحبه في السترداد ‪ ،‬ويجب ردّه لصاحبه ؛ لنّه عين‬
‫ماله ‪ ،‬وله مع ذلك أرش نقصه إن نقص بذلك ‪ .‬وعند الحنفيّة والمالكيّة ‪ :‬ينقطع حقّ صاحبه‬
‫ن اسمه قد تبدّل ‪.‬‬
‫في استرداد عينه ‪ ،‬ل ّ‬
‫د ‪ -‬التّغيير بالغرس والبناء في الرض ‪:‬‬
‫‪ -‬والغرس والبناء في الرض ل يمنع السترداد ‪ ،‬ويؤمر صاحب الغرس والبناء بقلع‬ ‫‪24‬‬

‫غرسه ‪ ،‬ونقض بنائه ‪ ،‬ور ّد الرض لصاحبها ‪ ،‬وهذا عند الحنابلة والشّافعيّة وأبي يوسف‬
‫ومح ّمدٍ من الحنفيّة ‪ ،‬وهو الحكم أيضا عند أبي حنيفة والمالكيّة في الغصب دون البيع الفاسد ‪.‬‬
‫فعند المالكيّة ‪ :‬يعتبر فوتا في البيع الفاسد ‪ ،‬وعند أبي حنيفة ‪ :‬البناء والغرس حصل بتسليطٍ‬
‫من البائع ‪ ،‬فينقطع حقّه في السترداد ‪ .‬وعلى الجملة فإنّه عند الحنابلة والشّافعيّة ‪ :‬ل ينقطع‬
‫ل بالهلك الكّليّ ‪ ،‬وعند الحنفيّة ‪ :‬ل ينقطع حقّ السترداد في‬
‫حقّ المالك في استرداد العين إ ّ‬
‫المستحقّ إلّ إذا تغيّرت صورته وتبدّل اسمه ‪ .‬والمر كذلك عند المالكيّة في الغصب ‪ ،‬أمّا في‬
‫البيع الفاسد فإنّ الزّيادة والنّقصان والتّغيير يعتبر فوتا ‪ ،‬ول يردّ به المبيع ‪ .‬وفي الموضوع‬
‫ب ‪ -‬بيعٌ ‪ -‬فسادٌ ‪ -‬فسخٌ ) ‪.‬‬
‫تفاصيل كثير ٌة ومسائل متعدّدةٌ ‪ ( .‬ر ‪ :‬غص ٌ‬
‫ثانيا ‪ :‬بالنّسبة للهبة ‪:‬‬
‫‪ -‬من وهب لمن يجوز الرّجوع عليه ‪ -‬على خلفٍ بين الفقهاء في ذلك ‪ ،‬تفصيله في الهبة‬ ‫‪25‬‬

‫‪ -‬فإنّه يجوز للواهب أن يرجع في هبته ‪ ،‬ويستردّها ما دامت قائم ًة بعينها ‪ .‬فإن زادت الهبة‬
‫في يد الموهوب له ‪ ،‬فإمّا أن تكون زياد ًة متّصلةً أو منفصل ًة ‪ ،‬فإن كانت الزّيادة منفصلةً ‪-‬‬
‫كالولد والثّمرة ‪ -‬فهذه الزّيادة ل تمنع السترداد ‪ ،‬لكنّه يستردّ الصل فقط ‪ ،‬دون الزّيادة ‪.‬‬
‫وهذا عند الحنابلة والشّافعيّة والحنفيّة ‪ .‬وإن كانت الزّيادة متّصلةً ‪ ،‬فإنّها ل تمنع الرّجوع عند‬
‫الشّافعيّة ويرجع بالزّيادة ‪ .‬أمّا عند الحنابلة والحنفيّة ‪ :‬فإنّ الزّيادة المتّصلة تمنع الرّجوع في‬
‫الهبة ‪ .‬وإذا نقصت الهبة في يد الواهب فإنّها ل تمنع الرّجوع ‪ ،‬وللواهب أن يستردّها من غير‬
‫ل لم تصحّ ‪ ،‬كما‬
‫ب معلومٍ تصحّ ‪ ،‬فإن كان الثّواب مجهو ً‬
‫أرش ما نقص ‪ .‬والهبة بشرط ثوا ٍ‬
‫يقول الحنابلة والشّافعيّة ‪ ،‬وصارت كالبيع الفاسد ‪ ،‬وحكمها حكمه ‪ ،‬وتردّ بزوائدها المتّصلة‬
‫والمنفصلة ؛ لنّها نماء ملك الواهب ‪ .‬ومذهب المالكيّة يجيز للب ‪ ،‬ولمن وهب هبةً لثوابٍ‬
‫الرّجوع فيها ‪ ،‬إذا كانت قائمةً بعينها ‪ ،‬فإن حدث فيها تغييرٌ بزيادةٍ أو نقصٍ فل تستردّ ‪ ،‬أو‬
‫كان الولد الموهوب له تزوّج لجل الهبة ‪ ،‬فذلك يمنع الرّجوع فيها ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬التلف بواسطة المستحقّ ‪:‬‬
‫‪ -‬يعتبر إتلف المالك ما يستحقّه عند واضع اليد عليه استردادا له ‪ ،‬فالطّعام المغصوب إذا‬ ‫‪26‬‬

‫أطعمه الغاصب لمالكه ‪ ،‬فأكله عالما أنّه طعامه برئ الغاصب من الضّمان ‪ ،‬واعتبر المالك‬
‫مستردّا لطعامه ؛ لنّه أتلف ماله عالما من غير تغريرٍ ‪ ،‬وهذا باتّفاقٍ ‪ .‬فإن لم يعلم المالك أنّه‬
‫طعامه ‪ ،‬فعند الحنابلة ‪ ،‬وغير الظهر عند الشّافعيّة ‪ :‬ل يبرأ الغاصب من الضّمان ‪ .‬وإذا‬
‫ي سببٍ ‪ ،‬فأتلفه في يد المشتري ‪،‬‬
‫قبض المشتري المبيع ‪ ،‬وثبت للبائع حقّ السترداد فيه ل ّ‬
‫صار مستردّا للمبيع بالستهلك ‪ .‬وإذا هلك الباقي من سراية جناية البائع يصير مستردّا‬
‫للجميع ‪ ،‬ويسقط عن المشتري جميع الثّمن ؛ لنّ تلف الباقي حصل مضافا إلى فعله فصار‬
‫مستردّا للكلّ ‪ .‬ولو قتل البائع المبيع يعتبر مستردّا بالقتل ‪ ،‬وكذلك لو حفر البائع بئرا فوقع فيه‬
‫ومات ؛ لنّ ذلك في معنى القتل فيصير مستردّا ‪.‬‬
‫من له حقّ السترداد ‪:‬‬
‫ل للتّصرّف ‪ -‬استرداد ما يستحقّ له عند غيره ‪ .‬وكما يثبت‬
‫‪ -‬يثبت للمالك ‪ -‬إن كان أه ً‬ ‫‪27‬‬

‫هذا الحقّ للمالك ‪ ،‬فإنّه يثبت لمن يقوم مقامه ‪ ،‬فالوليّ أو الوصيّ يقوم مقام المحجور عليه في‬
‫ب ‪ ،‬ومسروقٍ ‪ ،‬وما يشترى شراءً فاسدا ‪ ،‬وجمع‬
‫تخليص حقّه من ردّ وديعةٍ ‪ ،‬ومغصو ٍ‬
‫الموال الضّائعة ‪ ،‬وهو الّذي يقوم بالرّفع للحاكم إذا لم يمكنه السترداد ‪ .‬وإذا تبرّع الصّبيّ ل‬
‫ي ردّها ‪ .‬وكذلك الوكيل يقوم مقام موكّله فيما وكّل فيه ‪ ،‬وال ّردّ‬
‫تنفذ تبرّعاته ‪ ،‬ويتعيّن على الول ّ‬
‫على الوكيل حينئذٍ يكون كال ّردّ على الموكّل ‪ ،‬حيث إنّ الوكالة تجوز في الفسوخ ‪ ،‬وفي قبض‬
‫الحقوق ‪ .‬ومثل ذلك ناظر الوقف ‪ ،‬فإنّه يملك ردّ التّصرّفات الّتي تضرّ بالوقف ‪ .‬والحاكم أو‬
‫القاضي له النّظر في مال الغائب ‪ ،‬ويأخذ له المال من الغاصب والسّارق ويحفظه عليه ؛ لنّ‬
‫القاضي ناظرٌ في حقّ العاجز ‪.‬‬
‫‪ -‬كذلك للمام حقّ السترداد ‪ ،‬فمن أقطعه المام شيئا من الموات لم يملكه بذلك ‪ ،‬لكن‬ ‫‪28‬‬

‫يصير أحقّ به ‪ ،‬كالمتحجّر الشّارع في الحياء ؛ لما روي من حديث بلل بن الحارث حيث‬
‫استرجع عمر منه ما عجز عن إحيائه ‪ ،‬من العقيق الّذي أقطعه إيّاه رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬ولو ملكه لم يجز استرجاعه ‪ .‬وكذلك ردّ عمر قطيعة أبي بكرٍ لعيينة بن حصنٍ ‪،‬‬
‫فسأل عيينة أبا بكرٍ أن يجدّد له كتابا فقال ‪ :‬ل ‪ ،‬واللّه ل أجدّد شيئا ردّه عمر ‪ .‬لكن المقطع‬
‫ل قال له السّلطان ‪ :‬ارفع يدك‬
‫يصير أحقّ به من سائر النّاس ‪ ،‬وأولى بإحيائه ‪ ،‬فإن أحياه وإ ّ‬
‫عنه ‪.‬‬
‫موانع السترداد ‪:‬‬
‫‪ -‬سقوط حقّ المالك أو من يقوم مقامه في السترداد لمانعٍ من الموانع يشمل ما يأتي ‪:‬‬ ‫‪29‬‬

‫أ ‪ -‬سقوط الحقّ في استرداد العين مع سقوط الضّمان ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬سقوط الحقّ في استرداد العين مع بقاء الحقّ في الضّمان ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬سقوط الحقّ في استرداد العين والضّمان قضاءً ل ديانةً ‪.‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬يسقط الحقّ في استرداد العين والضّمان بما يأتي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬حكم الشّرع ‪:‬‬
‫‪ -‬وذلك كالصّدقة ‪ ،‬فمن تصدّق بصدق ٍة فإنّه ل يجوز الرّجوع فيها ؛ لنّ الصّدقة لرادة‬ ‫‪30‬‬

‫الثّواب من اللّه عزّ وجلّ ‪ ،‬وقد قال سيّدنا عمر رضي ال تعالى عنه ‪ :‬من وهب هبةً على‬
‫ن الرّأي الرّاجح عند الشّافعيّة أنّ‬
‫وجه الصّدقة فإنّه ل يرجع فيها ‪ .‬وهذا في الجملة ‪ ،‬ل ّ‬
‫الصّدقة للتّطوّع على الولد يجوز الرّجوع فيها ‪ .‬وكذلك ل يجوز الرّجوع في الهبة لغير الولد‬
‫عند الجمهور ‪ ،‬وفي إحدى الرّوايتين عند أحمد ‪ :‬ل يجوز رجوع المرأة فيما وهبته لزوجها ‪.‬‬
‫ل الجمهور‬
‫ولذي الرّحم المحرم عند الحنفيّة ‪ ،‬وكذلك هبة أحد الزّوجين للخر عندهم ‪ ،‬واستد ّ‬
‫بقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل يحلّ لرجلٍ أن يعطي عطيّ ًة فيرجع فيها إلّ الوالد فيما‬
‫ل الحنفيّة بقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬الرّجل أحقّ بهبته ما لم‬
‫يعطي ولده » ‪ .‬واستد ّ‬
‫ض معنًى ؛ لنّ التّواصل سبب الثّواب في الدّار‬
‫يثب منها » أي لم يعوّض ‪ ،‬وصلة الرّحم عو ٌ‬
‫الخرة ‪ ،‬فكان أقوى من المال ‪ .‬وكذلك الوقف إذا ت ّم ولزم ‪ ،‬ل يجوز الرّجوع فيه ؛ لنّه من‬
‫الصّدقة ‪ ،‬وقد روى عبد اللّه بن عمر قال ‪ « :‬أصاب عمر أرضا بخيبر ‪ ،‬فأتى النّبيّ صلى‬
‫ال عليه وسلم يستأمره فيها ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول اللّه إنّي أصبت أرضا بخيبر لم أصب قطّ مالً‬
‫أنفس عندي منه ‪ ،‬فما تأمرني فيها ؟ فقال ‪ :‬إن شئت حبست أصلها وتصدّقت بها ‪ ،‬غير أنّه ل‬
‫يباع أصلها ‪ ،‬ول يبتاع ‪ ،‬ول يوهب ‪ ،‬ول يورث » ‪ .‬والخمر ل تستردّ ؛ لحرمة تملّكها‬
‫ن أبا طلحة «‬
‫للمسلم ‪ ،‬فل يجوز له استردادها إن غصبت منه ‪ ،‬ويجب إراقتها ؛ لما روي أ ّ‬
‫سأل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم عن أيتامٍ ورثوا خمرا ‪ ،‬فأمر بإراقتها » ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّصرّف والتلف ‪:‬‬
‫‪ -‬الهبة الّتي يجوز الرّجوع فيها سواءٌ أكانت للبن أم للجنبيّ ‪ -‬على اختلف الفقهاء في‬ ‫‪31‬‬

‫ذلك ‪ -‬إذا تصرّف فيها الموهوب له أو أتلفها ‪ ،‬فإنّه يسقط حقّ الواهب في الرّجوع فيها مع‬
‫سقوط الضّمان ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّلف ‪:‬‬
‫‪ -‬ما كان أمان ًة ‪ ،‬كالمال تحت يد الوكيل وعامل القراض ‪ ،‬وكالوديعة ‪ ،‬وكالعاريّة عند‬ ‫‪32‬‬

‫الحنفيّة والمالكيّة ‪ -‬إذا تلف دون تعدّ أو تفريطٍ ‪ -‬فإنّه يسقط حقّ المالك في السترداد مع‬
‫سقوط الضّمان ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬ما يسقط الحقّ في استرداد العين مع بقاء الحقّ في الضّمان ‪:‬‬
‫‪ -‬استرداد العين هو الصل لما يجب فيه ال ّردّ ‪ ،‬كالمغصوب ‪ ،‬والمبيع بيعا فاسدا ‪ ،‬فما دام‬ ‫‪33‬‬

‫ن القطع في السّرقة ل يمنع الرّدّ ‪ ،‬فيجتمع على السّارق ‪:‬‬


‫قائما بعينه فإنّه يجب ردّه ‪ .‬بل إ ّ‬
‫القطع وضمان ما سرقه ؛ لنّهما حقّان لمستحقّين ‪ ،‬فجاز اجتماعهما ‪ ،‬فيردّ السّارق ما سرقه‬
‫لمالكه إن بقي ؛ لنّه عين ماله ‪ .‬وقد يحدث في العين ما يمنع ردّها وذلك باستهلكها ‪ ،‬أو‬
‫ق في الضّمان ( المثل أو القيمة‬
‫تلفها ‪ ،‬أو تغيّرها تغيّرا يخرجها عن اسمها ‪ ،‬وعندئذٍ يثبت الح ّ‬
‫) وتفصيله في مصطلح ( ضمانٌ ) ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬سقوط الحقّ في استرداد العين والضّمان قضاءً ل ديانةً ‪:‬‬
‫‪ -‬وذلك كما لو أنّ مسلما دخل دار الحرب بأمانٍ ‪ ،‬فأخذ شيئا من أموالهم ل يحكم عليه‬ ‫‪34‬‬

‫بال ّردّ ول بالضّمان ‪ ،‬ويلزمه ذلك فيما بينه وبين اللّه جلّ جلله ‪.‬‬
‫عودة حقّ السترداد بعد زوال المانع ‪:‬‬
‫ن هذا الحقّ يعود إذا زال المانع ؛‬
‫‪ -‬ما وجب ردّه ثمّ بطل حقّ السترداد فيه لمانعٍ ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫‪35‬‬

‫ن المانع إذا زال عاد الممنوع ‪ ،‬ومن أمثلة ذلك ‪ :‬البيع الفاسد ‪ -‬حيث يجب فيه ال ّردّ ‪ -‬إذا‬
‫لّ‬
‫ق الرّدّ ‪ ،‬فإن ردّ على المشتري بخيار شرطٍ ‪ ،‬أو رؤيةٍ ‪ ،‬أو‬
‫تصرّف فيه المشتري ببيعٍ سقط ح ّ‬
‫ن الرّ ّد بهذه‬
‫ب بقضاء قاضٍ ‪ ،‬وعاد على حكم الملك الوّل عاد حقّ الفسخ وال ّردّ ؛ ل ّ‬
‫عي ٍ‬
‫ل له كأن لم يكن ‪ .‬أمّا لو اشتراه ثانيا ‪،‬‬
‫خ محضٌ ‪ ،‬فكان دفعا للعقد من الصل وجع ً‬
‫الوجوه فس ٌ‬
‫ن الملك اختلف لختلف السّبب ‪ ،‬فكان‬
‫أو عاد إليه بسببٍ مبتدأٍ ل يعود حقّ الفسخ ؛ ل ّ‬
‫اختلف الملكين بمنزلة اختلف العقدين ‪ .‬هذا هو مذهب الحنفيّة ‪ ،‬ويسايره مذهب المالكيّة في‬
‫عودة حقّ السترداد إذا زال المانع ‪ ،‬غير أنّهم يخالفون الحنفيّة في أنّه لو عاد المبيع الفاسد‬
‫إلى المشتري بأيّ وجهٍ كان ‪ -‬سواءٌ كان عوده اختياريّا أو ضروريّا كإرثٍ ‪ -‬فإنّه يعود حقّ‬
‫السترداد ‪ ،‬ما لم يحكم حاكمٌ بعدم ال ّردّ ‪ ،‬أو كان الفوات راجعا لتغيّر السّوق ‪ ،‬ثمّ عاد السّوق‬
‫إلى حالته الولى ‪ ،‬فل يرتفع حكم السّبب المانع ‪ ،‬ول يجب على المشتري ال ّردّ ‪ .‬أمّا الحنابلة‬
‫والشّافعيّة ‪ :‬فإنّ البيع الفاسد عندهم ل يحصل به الملك للمشتري ‪ ،‬ول ينفذ فيه تصرّف‬
‫المشتري ببيعٍ ول هب ٍة ول عتقٍ ول غيره ‪ ،‬هو واجب ال ّردّ ما لم يتلف فيكون فيه الضّمان ‪.‬‬
‫ومن ذلك ‪ :‬أنّه إذا وجبت الدّية في الجناية على منافع العضاء ‪ ،‬ثمّ عادت إلى حالتها‬
‫ن فزال السّمع ‪ ،‬وأخذت منه‬
‫الطّبيعيّة فإنّ الدّية تستردّ ‪ .‬وعلى ذلك ‪ :‬من جنى على سمع إنسا ٍ‬
‫الدّية ‪ ،‬ثمّ عاد السّمع ‪ ،‬وجب ردّ الدّية ؛ لنّ السّمع لم يذهب ؛ لنّه لو ذهب لما عاد ‪ .‬ومن‬
‫جنى على عينين فذهب ضوءهما وجبت الدّية ‪ ،‬فإن أخذت الدّية ‪ ،‬ث ّم عاد الضّوء وجب ردّ‬
‫الدّية ‪ .‬وهذا عند الجمهور ‪ ،‬وعند الحنفيّة خلفٌ بين أبي حنيفة وصاحبيه ‪ ( .‬ر ‪ :‬جنايةٌ ‪-‬‬
‫ديةٌ ) ‪.‬‬
‫أثر السترداد ‪:‬‬
‫‪ -‬السترداد حقّ من الحقوق الّتي تثبت نتيج ًة لبعض التّصرّفات ‪ ،‬ففي الغصب يثبت‬ ‫‪36‬‬

‫للمغصوب منه حقّ السترداد من الغاصب ‪ ،‬وفي العاريّة يثبت للمعير حقّ السترداد من‬
‫المستعير ‪ ،‬وفي الوديعة يثبت للمودع حقّ السترداد من المودع ‪ ،‬وفي الرّهن يثبت للرّاهن‬
‫حقّ استرداد المرهون من المرتهن بعد وفاء الدّين ‪ .‬وما وجب ردّه بعينه كالمغصوب ‪،‬‬
‫والمبيع بيعا فاسدا ‪ ،‬والمانات حين طلبها إذا ردّت أو استردّها كلّها فإنّه يترتّب على ذلك ما‬
‫يأتي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬البراءة من الضّمان ‪ ،‬فالغاصب يبرأ بردّ المغصوب ‪ ،‬والمودع يبرأ بردّ الوديعة ‪ ،‬وهكذا‬
‫‪.‬‬
‫ب ‪ -‬يعتبر ال ّردّ فسخا للعقد ‪ ،‬فر ّد العاريّة الوديعة والمبيع بيعا فاسدا يعتبر فسخا للعقد ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬ترتّب بعض الحقوق ‪ ،‬كثبوت الرّجوع بالثّمن لمن استحقّ بيده شيءٌ على من اشتراها‬
‫منه ‪.‬‬

‫*استرسالٌ‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬السترسال أصله في اللّغة ‪ :‬السّكون والثّبات ‪ .‬ومن معانيه لغ ًة ‪ :‬الستئناس والطّمأنينة‬ ‫‪1‬‬

‫إلى النسان والثّقة به ‪ .‬ويستعمله الفقهاء بعدّة معانٍ ‪:‬‬


‫أ ‪ -‬بمعنى الطّمأنينة إلى النسان والثّقة به ‪ ،‬وذلك في البيع ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬بمعنى النسحاب واللّحاق والنجرار من الشّيء إلى غيره ‪ ،‬وذلك في الولء ‪.‬‬
‫ث ‪ ،‬وذلك في الصّيد ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬بمعنى النطلق والنبعاث بدون باع ٍ‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫أوّلً ‪ -‬بالنّسبة للبيع ‪:‬‬

‫‪ -‬المسترسل هو الجاهل بقيمة السّلعة ‪ ،‬ول يحسن المبايعة ‪ ،‬قال المام أحمد ‪ :‬المسترسل ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫هو الّذي ل يماكس ‪ ،‬فكأنّه استرسل إلى البائع ‪ ،‬فأخذ ما أعطاه ‪ ،‬من غير مماكس ٍة ول معرفةٍ‬
‫بغبنه ‪ .‬وقد اختلف الفقهاء في ثبوت الخيار للمسترسل إذا غبن غبنا يخرج عن العادة ‪ .‬فعند‬
‫المالكيّة والحنابلة ‪ :‬يثبت له الخيار بين الفسخ والمضاء ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫« غبن المسترسل حرامٌ » ‪ .‬وعند الشّافعيّة ‪ ،‬وفي ظاهر الرّواية عند الحنفيّة ‪ :‬ل يثبت له‬
‫ال ّردّ ؛ لنّ المبيع سليمٌ ‪ ،‬ولم يوجد من جهة البائع تدليسٌ ‪ ،‬وإنّما فرّط المشتري في ترك‬
‫التّأمّل ‪ ،‬فلم يجز له ال ّردّ ‪ .‬وفي رواي ٍة أخرى عند الحنفيّة ‪ :‬أنّه يفتى بال ّردّ إن حدث غررٌ ‪،‬‬
‫ل فيما يعتبر غبنا وما ل يعتبر ‪ ،‬وهل يقدّر بالثّلث أو أقلّ‬
‫وذلك رفقا بالنّاس ‪ .‬وللفقهاء تفصي ٌ‬
‫أو أكثر وغير ذلك ‪ ،‬يرجع إليه في مصطلح ( غبنٌ ‪ -‬خيارٌ ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬بالنّسبة للصّيد ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط لباحة ما قتله الحيوان الجارح إرسال الصّائد له ‪ .‬فإذا استرسل من نفسه دون‬ ‫‪3‬‬

‫إرسال الصّائد فل يحلّ ما قتله ‪ ،‬إلّ إذا وجده غير منفوذ المقاتل فذكّاه ‪ .‬وهذا باتّفاق الفقهاء ‪،‬‬
‫إلّ أنّهم يختلفون فيما إذا أشله الصّائد ‪ -‬أي أغراه ‪ -‬أو زجره أثناء استرساله ‪ ،‬هل يحلّ أو‬
‫ل موطنه مصطلح ( صيدٌ ‪ -‬وإرسالٌ ) ‪.‬‬
‫ل ؟ على تفصي ٍ‬
‫ثالثا ‪ :‬بالنّسبة للولء ‪:‬‬
‫ل لموالي أمّهم ‪ ،‬ما‬
‫‪ -‬إذا تزوّج المملوك حرّةً مولةً لقو ٍم أعتقوها ‪ ،‬فولدت له أولدا فهم موا ٍ‬ ‫‪4‬‬

‫دام الب رقيقا مملوكا ‪ ،‬فإذا عتق الب استرسل الولء ( انجرّ وانسحب ) من موالي المّ إلى‬
‫موالي العبد ‪ .‬أمّا لو ولدت المة قبل عتقها ‪ ،‬ثمّ عتقت بعد ذلك فل ينسحب الولء ؛ لنّ الولد‬
‫مسّه رقّ ‪ ،‬وهذا باتّفاقٍ ‪.‬‬
‫مواطن البحث ‪:‬‬

‫‪ -‬ينظر تفصيل هذه المواضيع في باب الخيار في البيع ‪ ،‬وفي باب الولء ‪ ،‬وفي شروط‬ ‫‪5‬‬

‫حلّ الصّيد في باب الصّيد ‪.‬‬

‫*استرقاقٌ‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬السترقاق لغ ًة ‪ :‬الدخال في ال ّرقّ ‪ ،‬وال ّرقّ ‪ :‬كون الدميّ مملوكا مستعبدا ‪ .‬ول يخرج‬ ‫‪1‬‬

‫الستعمال الفقهيّ عن ذلك ‪.‬‬


‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬السر والسّبي ‪:‬‬

‫شدّ بالسار ‪ ،‬والسار ‪ :‬ما يشدّ به ‪ ،‬وقد يطلق السر على الخذ ذاته ‪.‬‬
‫‪ -‬السر هو ‪ :‬ال ّ‬ ‫‪2‬‬

‫والسّبي هو ‪ :‬السر أيضا ‪ ،‬ولكن يغلب إطلق السّبي على أخذ النّساء والذّراريّ ‪ .‬والسر‬
‫والسّبي مرحلةٌ متقدّم ٌة على السترقاق في الجملة ‪ .‬وقد يتبعها استرقاقٌ أو ل يتبعها ‪ ،‬إذ قد‬
‫يؤخذ المحارب ‪ ،‬ثمّ يمنّ عليه ‪ ،‬أو يفدى ‪ ،‬أو يقتل ول يسترقّ ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ للسترقاق ‪:‬‬

‫‪ -‬يختلف حكم السترقاق باختلف المسترقّ ( بالفتح ) ‪ ،‬فإن كان السير ممّن يجوز قتله‬ ‫‪3‬‬

‫في الحرب فل يجب استرقاقه ‪ ،‬بل يجوز ‪ ،‬ويكون النّظر فيه إلى المام ‪ ،‬إن رأى في قتله‬
‫مصلح ًة للمسلمين قتله ‪ ،‬وإن رأى في استرقاقه مصلح ًة للمسلمين استرقّه ‪ ،‬كما يجوز المنّ‬
‫والفداء أيضا ‪ .‬أمّا إن كان ممّن ل يجوز قتله في الحرب فقد اختلف الفقهاء فيه على اتّجاهين‬
‫‪ :‬فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب استرقاقه ‪ ،‬بل إنّهم قالوا ‪ :‬إنّه يسترقّ بنفس السر ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى جواز استرقاقه ‪ ،‬حيث يخيّر المام بين السترقاق وغيره ‪،‬‬
‫ن عليهم ‪ -‬كما فعل الرّسول صلى ال عليه‬
‫كجعلهم ذمّ ًة للمسلمين ‪ ،‬أو المفاداة بهم ‪ ،‬أو الم ّ‬
‫وسلم في فتح مكّة ‪ -‬على ما يرى من المصلحة في ذلك ‪ .‬وللتّفصيل ( ر ‪ :‬أسرى )‬
‫حكمة تشريع السترقاق ‪:‬‬
‫‪ -‬قال محمّد بن عبد الرّحمن البخاريّ شيخ صاحب الهداية ‪ « :‬ال ّرقّ إنّما ثبت في بني آدم‬ ‫‪4‬‬

‫لستنكافهم من عبوديّتهم للّه تعالى الّذي خلقهم ‪ ،‬وكلّهم عبيده وأرقّاؤه ‪ ،‬فإنّه خلقهم وكوّنهم ‪،‬‬
‫فلمّا استنكفوا عن عبوديّتهم للّه تعالى جزاهم برقّهم لعباده ‪ ،‬فإذا أعتقه فقد أعاده المعتق إلى‬
‫رقّه حقّا للّه تعالى خالصا ‪ ،‬فعسى يرى هذه المنّة ‪ :‬أنّه لو استنكف من عبوديّته للّه تعالى‬
‫لبتلي برقّ لعبيده ‪ ،‬فيقرّ للّه تعالى بالوحدانيّة ‪ ،‬ويفتخر بعبوديّته ‪ ،‬قال اللّه تعالى ‪ { :‬لن‬
‫يستنكف المسيح أن يكون عبدا للّه } ‪.‬‬
‫‪ -‬وكان طريق التّخلّص من ال ّرقّ الّذي انتهجه السلم يتلخّص في أمرين ‪ :‬المر الوّل ‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫حصر مصادر السترقاق بمصدرين اثنين ل ثالث لهما ‪ ،‬وإنكار أن يكون أيّ مصدر غيرهما‬
‫مصدرا مشروعا للسترقاق ‪ :‬أحدهما ‪ :‬السرى والسّبي من حربٍ لعد ّو كافرٍ إذا رأى المام‬
‫ن من المصلحة استرقاقهم ‪ .‬وثانيهما ‪ :‬ما ولد من أ ّم رقيق ٍة من غير سيّدها ‪ ،‬أمّا لو كان من‬
‫أّ‬
‫سيّدها فهو حرّ ‪ .‬المر الثّاني ‪ :‬فتح أبواب تحرير الرّقيق على مصاريعها ‪ ،‬كالكفّارات ‪،‬‬
‫والنّذور ‪ ،‬والعتق تقرّبا إلى اللّه تعالى ‪ ،‬والمكاتبة ‪ ،‬والستيلد ‪ ،‬والتّدبير ‪ ،‬والعتق بملك‬
‫المحارم ‪ ،‬والعتق بإساءة المعاملة ‪ ،‬وغير ذلك ‪.‬‬
‫من له حقّ السترقاق ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ الّذي له حقّ السترقاق أو الم ّ‬
‫ن أو الفداء هو المام العظم‬ ‫‪6‬‬

‫للمسلمين ‪ ،‬بحكم وليته العامّة ‪ ،‬أو من ينيبه ‪ ،‬ولذلك جعل إليه أمر الخيار في السترقاق‬
‫وعدمه ‪.‬‬
‫أسباب السترقاق ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ -‬من يضرب عليه الرّقّ ‪:‬‬
‫ل إذا توفّرت فيمن يسترقّ صفتان ‪ :‬الصّفة الولى‬
‫‪ -‬ل يجوز ضرب ال ّرقّ على النّساء إ ّ‬ ‫‪7‬‬

‫الكفر ‪ ،‬والصّفة الثّانية الحرب ‪ ،‬سوا ٌء أكان محاربا بنفسه ‪ ،‬أم تابعا لمحاربٍ ‪ ،‬على التّفصيل‬
‫التّالي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬السرى من الّذين اشتركوا في حرب المسلمين فعلً ‪.‬‬
‫‪ -‬وهؤلء إمّا أن يكونوا من أهل الكتاب ‪ ،‬أو من المشركين ‪ ،‬أو من المرتدّين ‪ ،‬أو من‬ ‫‪8‬‬

‫البغاة ‪.‬‬
‫( أ ) فإن كانوا من أهل الكتاب ‪ :‬جاز استرقاقهم بالتّفاق ‪ ،‬والمجوس يعاملون مثلهم في هذا ‪.‬‬
‫( ب ) أمّا إن كانوا من المشركين ‪ :‬فإمّا أن يكونوا من العرب أو من غيرهم ‪ ،‬فإن كانوا من‬
‫غير العرب فقد قال الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬وبعض الشّافعيّة ‪ ،‬وبعض الحنابلة ‪ :‬يجوز استرقاقهم‬
‫‪ .‬وقال بعض الشّافعيّة ‪ ،‬وبعض الحنابلة ‪ :‬ل يجوز ‪ .‬أمّا إن كانوا من العرب ‪ :‬فقد ذهب‬
‫المالكيّة ‪ ،‬وبعض الشّافعيّة ‪ ،‬وبعض الحنابلة إلى جواز استرقاقهم ‪ .‬واستثنى المالكيّة من ذلك‬
‫القرشيّين ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬ل يجوز استرقاقهم ‪ .‬وذهب الحنفيّة ‪ ،‬وبعض الشّافعيّة ‪ ،‬وبعض الحنابلة‬
‫إلى أنّه ل يجوز استرقاقهم ‪ ،‬بل ل يقبل منهم إلّ السلم ‪ ،‬فإن رفضوه قتلوا ؛ وعلّل الحنفيّة‬
‫هذا التّفريق في الحكم بين العربيّ وغيره من المشركين بأنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم نشأ‬
‫بين أظهرهم ‪ ،‬والقرآن نزل بلغتهم ‪ ،‬فالمعجزة في حقّهم أظهر ‪ ،‬فكان كفرهم ‪ -‬والحالة هذه‬
‫‪ -‬أغلظ من كفر العجم ‪.‬‬
‫( ج ) وأمّا إن كانوا من المرتدّين ‪ :‬فإنّه ل يجوز استرقاقهم بالتّفاق ‪ ،‬ول يقبل منهم إلّ‬
‫السلم ‪ ،‬فإن رفضوه قتلوا لغلظ كفرهم ‪.‬‬
‫( د ) وأمّا إن كانوا من البغاة ‪ :‬فإنّه ل يجوز استرقاقهم بالتّفاق ؛ لنّهم مسلمون ‪ ،‬والسلم‬
‫يمنع ابتداء ال ّرقّ ‪.‬‬
‫ي وغيرهم ‪:‬‬
‫ب ‪ -‬السرى من الّذين أخذوا في الحرب ممّن ل يجوز قتلهم ‪ ،‬كالنّساء والذّرار ّ‬
‫‪ -‬وهؤلء يجوز استرقاقهم بالتّفاق ‪ ،‬إن كانوا من أهل الكتاب ‪ ،‬أو من الوثنيّين‬ ‫‪9‬‬

‫المشركين ‪ ،‬سواءٌ أكانوا من العرب أو من غيرهم ‪ .‬واستثنى المالكيّة من ذلك الرّهبان‬


‫المنقطعين عن النّاس في الجبال ‪ ،‬إن لم يكن لهم رأيٌ في الحرب ‪ ،‬وإنّما كان السترقاق‬
‫لهؤلء دون القتل للتّوسّل إلى إسلمهم ؛ لنّهم ليسوا من أهل الحرب ‪ .‬واستدلّوا على جواز‬
‫استرقاق أهل الكتاب « باسترقاق رسول اللّه نساء بني قريظة وذراريّهم » ‪ ،‬واستدلّوا على‬
‫جواز استرقاق سبي المرتدّين باسترقاق أبي بك ٍر الصّدّيق نساء المرتدّين من العرب ‪،‬‬
‫واستدلّوا على جواز استرقاق سبي المشركين « باسترقاق رسول اللّه نساء هوازن وذراريّهم ‪،‬‬
‫وهم من صميم العرب » ‪ .‬أمّا من يؤخذ من نساء البغاة وذراريّهم ‪ ،‬فل يسترقّون بالتّفاق ؛‬
‫لنّهم مسلمون ‪ ،‬والسلم يمنع ضرب ال ّرقّ ابتداءً ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬استرقاق من أسلم من السرى أو السّبي ‪:‬‬
‫ن السلم ل ينافي ال ّرقّ جزاءً على‬
‫‪ -‬من أسلم من السرى بعد الخذ فيجوز استرقاقه ؛ ل ّ‬ ‫‪10‬‬

‫الكفر الصليّ ‪ ،‬وقد وجد السلم بعد انعقاد سبب الملك ‪ ،‬وهو الخذ ‪.‬‬
‫د ‪ -‬المرأة المرتدّة في بلد السلم ‪:‬‬
‫ن المرأة إذا ارتدّت ‪ ،‬وأصرّت على ردّتها ل تسترقّ ‪ ،‬بل تقتل‬
‫‪ -‬ذهب الجمهور إلى أ ّ‬ ‫‪11‬‬

‫كالمرتدّ ‪ ،‬ما دامت في دار السلم ‪ .‬وعن الحسن ‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز ‪ ،‬وأبي حنيفة في‬
‫النّوادر ‪ :‬تسترقّ في دار السلم أيضا ‪ .‬قيل ‪ :‬لو أفتي بهذه ل بأس به فيمن كانت ذات‬
‫سيّئ بالرّدّة من إثبات الفرقة ‪.‬‬
‫زوجٍ ‪ ،‬حسما لقصدها ال ّ‬
‫هـ ‪ -‬استرقاق ال ّذ ّميّ النّاقض لل ّذمّة ‪:‬‬
‫ي ما يعتبر نقضا لل ّذمّة ‪ -‬على اختلف الجتهادات فيما يعتبر نقضا لل ّذمّة‬
‫‪ -‬إذا أتى ال ّذمّ ّ‬ ‫‪12‬‬

‫وما ل يعتبر ( ر ‪ :‬ذمّ ٌة ) ‪ -‬فإنّه يجوز استرقاقه وحده ‪ ،‬دون نسائه وذراريّه ؛ لنّه بنقضه‬
‫ال ّذمّة قد عاد حربيّا ‪ ،‬فيطبّق عليه ما يطبّق على الحربيّين ‪ .‬أمّا نساؤه وذراريّه فيبقون على‬
‫ض لها ‪.‬‬
‫ال ّذمّة ‪ ،‬إن لم يظهر منهم نق ٌ‬
‫و ‪ -‬الحربيّ الّذي دخل إلينا بغير أمانٍ ‪.‬‬
‫‪ -‬إذا دخل الحربيّ بلدنا بغير أمانٍ ‪ ،‬فمقتضى قول أبي حنيفة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة في‬ ‫‪13‬‬

‫ل الرّسل فإنّهم ل يرقّون بالتّفاق‬


‫الجملة ‪ :‬أنّه يصير فيئا بالدّخول ‪ ،‬ويجوز عندئ ٍذ استرقاقه ‪ ،‬إ ّ‬
‫( ر ‪ :‬رسولٌ ) ‪ .‬ويقول الشّافعيّة ‪ :‬إن ادّعى أنّه إنّما دخل ليسمع كلم اللّه ‪ ،‬وليتعرّف على‬
‫شريعة السلم فإنّه ل يصير فيئا ‪.‬‬
‫ز ‪ -‬التّولّد من الرّقيقة ‪:‬‬
‫ن الولد يتبع أمّه في الح ّريّة ‪ ،‬فإذا كانت المّ حرّةً كان‬
‫‪ -‬من المقرّر في الفقه السلميّ أ ّ‬ ‫‪14‬‬

‫ولدها حرّا ‪ ،‬وإن كانت أم ًة كان ولدها رقيقا ‪ ،‬وهذا ممّا ل خلف فيه بين الفقهاء ‪ .‬ويستثنى‬
‫من ذلك ما لو كان التّولّد من سيّد المة ‪ ،‬إذ يولد حرّا وينعقد لمّه سبب الح ّريّة ‪ ،‬فتصبح حرّةً‬
‫بموت سيّدها ‪.‬‬
‫انتهاء السترقاق ‪:‬‬
‫‪ -‬ينتهي السترقاق بالعتق ‪ .‬والعتق قد يكون بحكم الشّرع ‪ ،‬كمن ولدت من سيّدها تعتق‬ ‫‪15‬‬

‫بموته ‪ ،‬وكمن ملك ذا رحمٍ منه فإنّه يعتق عليه بمجرّد الملك ‪ .‬وقد يكون العتق بالعتاق‬
‫ب للعتق ‪ ،‬كأن يعتقه في كفّارةٍ ( ر ‪ :‬كفّارةٌ ) ‪،‬‬
‫لمجرّد التّقرّب إلى اللّه تعالى ‪ ،‬أو لسببٍ موج ٍ‬
‫أو نذرٍ ( ر ‪ :‬نذرٌ ) ‪ .‬كما تنتهي بالتّدبير ‪ ،‬وهو أن يجعله حرّا دبر وفاته أي بعدها ( ر ‪:‬‬
‫تدبيرٌ ) ‪ ،‬أو بالمكاتبة ‪ ،‬أو إجبار وليّ المر سيّدا على إعتاق عبده لضراره به ( ر ‪ :‬عتقٌ )‬
‫‪.‬‬
‫آثار السترقاق ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬يترتّب على السترقاق آثارٌ كثير ٌة ‪ ،‬منها ما يتعلّق بالعبادات البدنيّة المسنونة إذا‬ ‫‪16‬‬

‫سيّد ‪ ،‬كصلة الجماعة مثلً ( ر ‪ :‬صلة الجماعة ) ‪ ،‬أو الواجبات‬


‫ق ال ّ‬
‫كانت مخلّ ًة بح ّ‬
‫سيّد أيضا ‪ ،‬أو لمرٍ آخر كالجهاد ‪ ،‬فإنّه يرخّص للعبد في تركها ‪.‬‬
‫الكفائيّة ؛ لخللها بحقّ ال ّ‬
‫ومنها جميع العبادات الماليّة ‪ ،‬فإنّها تسقط عن المرء باسترقاقه ‪ ،‬لنّ العبد ل يملك المال ‪،‬‬
‫كالزّكاة ‪ ،‬وصدقة الفطر ‪ ،‬والصّدقات والحجّ ‪.‬‬
‫‪ -‬ب ‪ -‬الواجبات الماليّة على من استرقّ إن كان لها بدلٌ بدنيّ ‪ ،‬فإنّه يصار إلى بدلها ‪،‬‬ ‫‪17‬‬

‫كالكفّارات ‪ ،‬فالرّقيق ل يكفّر في الحنث في اليمين بالعتق ول بالطعام ول بالكسوة ‪ ،‬ولكنّه‬


‫يكفّر بالصّيام ‪ .‬أمّا إن لم يكن لهذه الواجبات الماليّة بدلٌ بدنيّ ‪ ،‬فإنّها تتعلّق بعين المسترقّ ‪،‬‬
‫فإذا جنى العبد على يد إنسانٍ فقطعها خطأً ‪ ،‬وكانت ديتها أكثر من قيمة العبد ‪ ،‬لم يكلّف‬
‫المالك بأكثر من دفع العبد إلى المجنيّ عليه ‪ ،‬كما يذكر في أبواب الجنايات ‪ .‬وكذا إذا استدان‬
‫ن هذا الدّين يتعلّق بعينه ‪ ،‬ويبقى في ذمّته ‪ ،‬ول يكلّف سيّده‬
‫من شخصٍ بغير إذن سيّده ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن شغل ذمّته قد حصل ‪،‬‬
‫بوفائه ‪ .‬فإن استرقّ وعليه دينٌ لمسلمٍ أو ذ ّميّ لم يسقط الدّين عنه ؛ ل ّ‬
‫ولم يوجد ما يسقطه ‪ ،‬بخلف ما إذا كان الدّين لحربيّ ‪ ،‬فإنّه يسقط ؛ لعدم احترام الحربيّ ‪.‬‬
‫‪ -‬ج ‪ -‬والسترقاق يمنع المسترقّ من سائر التّبرّعات كالهبة ‪ ،‬والصّدقة ‪ ،‬والوصيّة ونحو‬ ‫‪18‬‬

‫ذلك ‪.‬‬
‫‪ -‬د ‪ -‬كما يمنع السترقاق من سائر الستحقاقات الماليّة ‪ ،‬فإن وقع شيءٌ منها استحقّه‬ ‫‪19‬‬

‫المالك ل الرّقيق ‪ ،‬فالرّقيق ل يرث ‪ ،‬وما يستحقّه من أرش الجناية عليه فهو لسيّده ‪ .‬وإن‬
‫ن سيّده هو الّذي يطالب بهذا الدّين ‪ ،‬أمّا إن كان الدّين‬
‫استرقّ وله دينٌ على مسل ٍم أو ذمّيّ ‪ ،‬فإ ّ‬
‫على حربيّ فيسقط ‪.‬‬
‫‪ -‬هـ ‪ -‬وإذا سبي الصّبيّ الصّغير دون والديه ‪ ،‬حكم بإسلمه تبعا للسّابي ؛ لنّ له عليه‬ ‫‪20‬‬

‫ولي ًة ‪ ،‬وليس معه من هو أقرب إليه منه فيتبعه ‪.‬‬


‫‪ -‬و ‪ -‬والسترقاق يمنع الرّجل من أن تكون له ولي ٌة على غيره ‪ ،‬وعلى هذا فإنّ الرّقيق‬ ‫‪21‬‬

‫ل يكون أميرا ول قاضيا ؛ لنّه ل ولية له على نفسه ‪ ،‬فكيف تكون له الولية على غيره ‪،‬‬
‫وبنا ًء على ذلك فإنّه ل يصحّ أمان الرّقيق ‪ ،‬ول تقبل شهادته أيضا ‪ ،‬على خلفٍ في ذلك ‪.‬‬
‫ق الرّقيق ‪ ،‬إن كانت قابلةً‬
‫‪ -‬ز ‪ -‬والسترقاق مخ ّفضٌ للعقوبة ‪ ،‬فتنصّف الحدود في ح ّ‬ ‫‪22‬‬

‫للتّنصيف ‪.‬‬
‫‪ -‬ح ‪ -‬وللسترقاق أثرٌ في النّكاح ‪ ،‬إذ العبد ليس بكف ٍء للحرّة ‪ ،‬ول بدّ فيه من إذن‬ ‫‪23‬‬

‫سيّد ‪ ،‬ول يملك العبد نكاح أكثر من امرأتين ‪ ،‬ول تنكح أم ٌة على حرّةٍ ‪.‬‬
‫ال ّ‬
‫‪ -‬ط ‪ -‬وله أثرٌ في الطّلق أيضا ‪ ،‬إذ ل يملك الرّقيق من الطّلق أكثر من طلقتين ‪ ،‬وإذا‬ ‫‪24‬‬

‫نكح بغير إذن سيّده فالطّلق بيد سيّده ‪.‬‬


‫‪ -‬ي ‪ -‬وله أثرٌ في العدّة ‪ ،‬إذ عدّة المة في الطّلق حيضتان ‪ ،‬ل ثلث حيضٍ ‪ ،‬وفي ذلك‬ ‫‪25‬‬

‫خلفٌ وتفصيلٌ ينظر في مصطلحاته ‪.‬‬

‫*استسعاءٌ‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬الستسعاء لغ ًة ‪ :‬سعي الرّقيق في فكاك ما بقي من رقّه إذا عتق بعضه ‪ ،‬فيعمل ويكسب ‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫ويصرف ثمنه إلى موله ‪ .‬واستسعيته في قيمته ‪ :‬طلبت منه السّعي ‪ .‬ول يخرج استعمال‬
‫الفقهاء عن ذلك وإعتاق المستسعى غير العتاق بالكتابة ‪ ،‬فالمستسعى ل يردّ إلى ال ّرقّ ‪ ،‬لنّه‬
‫إسقاطٌ ل إلى أحدٍ ‪ ،‬والسقاط ل إلى أحدٍ ليس فيه معنى المعاوضة ‪ ،‬بخلف المكاتب ؛ لنّ‬
‫الكتابة عقدٌ ترد عليه القالة والفسخ ‪ ،‬لكنّه يشبه الكتابة في أنّه إعتاقٌ بعوضٍ ‪ .‬ومحلّ‬
‫الستسعاء ‪ :‬من أعتق بعضه ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪ -‬أغلب الفقهاء على أنّ المولى لو أعتق جزءا من عبده فإنّه يسري العتق إلى باقيه ‪ ،‬ول‬ ‫‪2‬‬

‫ل أعتق‬
‫ن رج ً‬
‫ن العتق ل يتبعّض ابتداءً ‪ ،‬ولحديث أبي المليح عن أبيه ‪ « :‬أ ّ‬
‫يستسعى ؛ ل ّ‬
‫شقصا له من غلمٍ ‪ ،‬فذكر ذلك لرسول اللّه صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬ليس للّه شريكٌ » ‪،‬‬
‫وأجاز عتقه ‪ .‬رواه أحمد وأبو داود ‪ ،‬وفي لفظٍ ‪ « :‬هو حرّ كلّه ‪ ،‬ليس للّه شريكٌ » ‪ .‬وقال‬
‫أبو حنيفة ‪ :‬يستسعى في الباقي ‪.‬‬
‫ن الفقهاء يفرّقون بين ما إذا‬
‫‪ -‬أمّا إذا كان العبد مشتركا ‪ ،‬وأعتق أحد الشّركاء نصيبه ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫‪3‬‬

‫كان المعتق موسرا أو معسرا ‪ ،‬فإن كان موسرا فقد خيّر أبو حنيفة الشّريك الخر بين ثلثة‬
‫أمورٍ ‪ :‬العتق ‪ ،‬أو تضمين الشّريك المعتق ‪ ،‬أو استسعاء العبد ‪ .‬وإن كان معسرا فالشّريك‬
‫بالخيار ‪ ،‬بين العتاق وبين الستسعاء فقط ‪ ،‬وقال أبو يوسف ومح ّمدٌ هنا ‪ :‬ليس له إلّ‬
‫الضّمان مع اليسار ‪ ،‬والسّعاية مع العسار ‪ ،‬وقولهما هو روايةٌ عن أحمد ‪ ،‬لما رواه أبو‬
‫هريرة قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من أعتق شقصا في مملوكه فعليه أن‬
‫يعتقه كلّه إن كان له مالٌ ‪ ،‬وإلّ استسعى العبد غير مشقوقٍ عليه » أي ل يغلي عليه الثّمن ‪.‬‬
‫والمالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬وظاهر مذهب الحنابلة على أنّه مع اليسار يسري العتق إلى الباقي ‪،‬‬
‫ويغرم المعتق قيمة حصّة الشّركاء ‪ ،‬فإن كان معسرا فل سراية ول استسعاء ‪.‬‬
‫‪ -‬ويقع الخلف بين الفقهاء كذلك إذا أعتق في مرض موته أو دبّر ‪ ،‬أو أوصى بعبيده ‪ ،‬ولم‬ ‫‪4‬‬

‫ل سواهم ‪ ،‬فقال أبو حنيفة ‪ :‬يعتق جزءٌ من كلّ واحدٍ ‪ ،‬ويستسعى في باقيه ‪ ،‬وقال‬
‫يكن له ما ٌ‬
‫غيره ‪ :‬يعتق ثلثهم بالقتراع بينهم ‪ ،‬فمن خرج له سهم الحرّيّة عتق ‪ ،‬وقيمة العبد المستسعى‬
‫دينٌ في ذمّته ‪ ،‬يقدّرها عدلٌ ‪ ،‬وأحكامه أحكام الحرار ‪ ،‬وقال البعض ‪ :‬ل يأخذ حكم الحرّ إلّ‬
‫بعد الداء ‪ .‬وتعتبر القيمة وقت العتاق ؛ لنّه وقت التلف ‪.‬‬
‫مواطن البحث ‪:‬‬

‫‪ -‬الكلم عن الستسعاء منثورٌ في كتاب العتق ‪ ،‬وأغلب ذكره مع السّراية ‪ ،‬وفي باب‬ ‫‪5‬‬

‫( العبد يعتق بعضه ) ( والعتاق في مرض الموت ) كما يذكر في الكفّارة ‪.‬‬

‫*استسقاءٌ‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬الستسقاء لغةً ‪ :‬طلب السّقيا ‪ ،‬أي طلب إنزال الغيث على البلد والعباد ‪ .‬والسم ‪ :‬السّقيا‬ ‫‪1‬‬

‫ضمّ ‪ ،‬واستسقيت فلنا ‪ :‬إذا طلبت منه أن يسقيك ‪ .‬والمعنى الصطلحيّ للستسقاء هو ‪:‬‬
‫بال ّ‬
‫طلب إنزال المطر من اللّه بكيفيّةٍ مخصوص ٍة عند الحاجة إليه ‪.‬‬
‫صفته ‪ :‬حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬قال الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة ‪ :‬الستسقاء سنّ ٌة مؤكّدةٌ ‪ ،‬سواءٌ‬ ‫‪2‬‬

‫أكان بالدّعاء والصّلة أم بالدّعاء فقط ‪ ،‬فعله رسول اللّه صلى ال عليه وسلم وصحابته‬
‫والمسلمون من بعدهم ‪ .‬وأمّا أبو حنيفة فقال بسنّيّة الدّعاء فقط ‪ ،‬وبجواز غيره ‪ .‬وعند المالكيّة‬
‫تعتريه الحكام الثّلثة التّالية ‪ :‬الوّل ‪ :‬سنّةٌ مؤكّدةٌ ‪ ،‬إذا كان للمحلّ والجدب ‪ ،‬أو للحاجة إلى‬
‫الشّرب لشفاههم ‪ ،‬أو لدوابّهم ومواشيهم ‪ ،‬سوا ٌء أكانوا في حضرٍ ‪ ،‬أم سفرٍ في صحراء ‪ ،‬أو‬
‫سفين ٍة في بحرٍ مالحٍ ‪ .‬الثّاني ‪ :‬مندوبٌ ‪ ،‬وهو الستسقاء ممّن كان في خصبٍ لمن كان في‬
‫ب ؛ لنّه من التّعاون على البرّ والتّقوى ‪ .‬ولما روى ابن ماجه « ترى المؤمنين في‬
‫محلّ وجد ٍ‬
‫تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد ‪ ،‬إذا اشتكى منه عض ٌو تداعى له سائر جسده بالسّهر‬
‫ح ‪ « :‬دعوة المرء المسلم لخيه بظهر الغيب مستجاب ٌة ‪ ،‬عند رأسه ملكٌ‬
‫والحمّى » ‪ .‬وص ّ‬
‫موكّلٌ كلّما دعا لخيه بخيرٍ قال الملك الموكّل به ‪ :‬آمين ولك بمثلٍ » ‪ .‬ولكنّ الوزاعيّ‬
‫ب زجرا وتأديبا‬
‫ل لم يستح ّ‬
‫والشّافعيّة قيّدوه بألّ يكون الغير صاحب بدع ٍة أو ضللةٍ وبغيٍ ‪ .‬وإ ّ‬
‫؛ ولنّ العامّة تظنّ بالستسقاء لهم حسن طريقهم والرّضى بها ‪ ،‬وفيها من المفاسد ما فيها ‪.‬‬
‫مع أنّهم قالوا ‪ :‬لو احتاجت طائف ٌة من أهل ال ّذمّة وسألوا المسلمين الستسقاء لهم فهل ينبغي‬
‫إجابتهم أم ل ؟ القرب ‪ :‬الستسقاء لهم وفا ًء بذمّتهم ‪ .‬ثمّ علّلوا ذلك بقولهم ‪ :‬ول يتوهّم مع‬
‫ذلك أنّا فعلناه لحسن حالهم ؛ لنّ كفرهم مح ّققٌ معلو ٌم ‪ .‬ولكن تحمل إحابتنا لهم على الرّحمة‬
‫بهم ‪ ،‬من حيث كونهم من ذوي الرّوح ‪ ،‬بخلف الفسقة والمبتدعة ‪ .‬الثّالث ‪ :‬مباحٌ ‪ ،‬وهو‬
‫استسقاء من لم يكونوا في محلّ ‪ ،‬ول حاجة إلى الشّرب ‪ ،‬وقد أتاهم الغيث ‪ ،‬ولكن لو‬
‫اقتصروا عليه لكان دون السّعة ‪ ،‬فلهم أن يسألوا اللّه من فضله ‪ .‬دليل المشروعيّة ‪:‬‬
‫ص فقوله تعالى ‪ { :‬فقلت استغفروا ربّكم إنّه‬
‫ص والجماع ‪ ،‬أمّا النّ ّ‬
‫‪ -‬ثبتت مشروعيّته بالنّ ّ‬ ‫‪3‬‬

‫ل وبنين ويجعل لكم جنّاتٍ ويجعل لكم‬


‫كان غفّارا يرسل السّماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموا ٍ‬
‫أنهارا } ‪ .‬كما استدلّ له بعمل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم وخلفائه والمسلمين من بعده ‪،‬‬
‫س رضي ال عنه‬
‫فقد وردت الحاديث الصّحيحة في استسقائه صلى ال عليه وسلم ‪ .‬روى أن ٌ‬
‫ن النّاس قد قحطوا في زمن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فدخل رجلٌ من باب المسجد‬
‫‪«:‬أّ‬
‫ورسول اللّه صلى ال عليه وسلم يخطب ‪ .‬فقال ‪ :‬يا رسول اللّه هلكت المواشي ‪ ،‬وخشينا‬
‫الهلك على أنفسنا ‪ ،‬فادع اللّه أن يسقينا ‪ .‬فرفع رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يديه فقال ‪:‬‬
‫ل غير رائثٍ ‪ .‬قال الرّاوي ‪ :‬ما كان في‬
‫اللّهمّ اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا غدقا مغدقا عاج ً‬
‫السّماء قزعةٌ ‪ ،‬فارتفعت السّحاب من هنا ومن هنا حتّى صارت ركاما ‪ ،‬ثمّ مطرت سبعا من‬
‫الجمعة إلى الجمعة ‪ .‬ثمّ دخل ذلك الرّجل ‪ ،‬والنّبيّ صلى ال عليه وسلم يخطب ‪ ،‬والسّماء‬
‫تسكب ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول اللّه تهدّم البنيان ‪ ،‬وانقطعت السّبل ‪ ،‬فادع اللّه أن يمسكه ‪ ،‬فتبسّم‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم لمللة بني آدم ‪ .‬قال الرّاوي ‪ :‬واللّه ما نرى في السّماء‬
‫خضراء ‪ .‬ثمّ رفع يديه ‪ ،‬فقال ‪ :‬اللّهمّ حوالينا ول علينا ‪ ،‬اللّهمّ على الكام والظّراب ‪ ،‬وبطون‬
‫الودية ‪ ،‬ومنابت الشّجر ‪ .‬فانجابت السّماء عن المدينة حتّى صارت حولها كالكليل » ‪.‬‬
‫سنّة في الستسقاء هي الدّعاء‬
‫ن ال ّ‬
‫واستدلّ أبو حنيفة بهذا الحديث وجعله أصلً ‪ ،‬وقال ‪ :‬إ ّ‬
‫ج ‪ .‬واستدلّ الجمهور بحديث عائشة رضي ال عنها قالت ‪« :‬‬
‫فقط ‪ ،‬من غير صلةٍ ول خرو ٍ‬
‫شكا النّاس إلى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قحوط المطر ‪ ،‬فأمر بمنبرٍ فوضع له في‬
‫المصلّى ‪ ،‬ووعد النّاس يوما يخرجون فيه ‪ ،‬قالت عائشة ‪ :‬فخرج رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫ل ثمّ قال ‪ :‬إنّكم‬
‫وسلم حين بدا حاجب الشّمس ‪ ،‬فقعد على المنبر ‪ ،‬فكبّر وحمد اللّه عزّ وج ّ‬
‫شكوتم جدب دياركم ‪ ،‬واستئخار المطر عن إبّان زمانه عنكم ‪ ،‬وقد أمركم اللّه عزّ وجلّ أن‬
‫ب العالمين ‪ ،‬الرّحمن الرّحيم ‪ ،‬مالك‬
‫تدعوه ‪ ،‬ووعدكم أن يستجيب لكم ‪ .‬ثمّ قال ‪ :‬الحمد للّه ر ّ‬
‫ل أنت ‪ ،‬أنت الغنيّ ونحن‬
‫ل اللّه يفعل ما يريد ‪ ،‬اللّهمّ أنت اللّه ل إله إ ّ‬
‫يوم الدّين ‪ ،‬ل إله إ ّ‬
‫ن ‪ .‬ث ّم رفع يديه فلم يزل‬
‫الفقراء ‪ ،‬أنزل علينا الغيث ‪ ،‬واجعل ما أنزلت لنا قوّ ًة وبلغا إلى حي ٍ‬
‫في الرّفع حتّى بدا بياض إبطيه ‪ ،‬ثمّ حوّل إلى النّاس ظهره ‪ ،‬وقلب أو حوّل رداءه وهو رافعٌ‬
‫يديه ‪ ،‬ثمّ أقبل على النّاس ‪ ،‬ونزل فصلّى ركعتين ‪ ،‬فأنشأ اللّه سحابةً فرعدت وبرقت ثمّ‬
‫أمطرت بإذن اللّه تعالى ‪ ،‬فلم يأت مسجده حتّى سالت السّيول ‪ ،‬فلمّا رأى سرعتهم إلى الكنّ‬
‫ل شيءٍ قديرٍ ‪ ،‬وأنّي عبد اللّه ورسوله »‬
‫ن اللّه على ك ّ‬
‫ضحك حتّى بدت نواجزه فقال ‪ :‬أشهد أ ّ‬
‫‪ .‬وقد استسقى عمر رضي ال عنه بالعبّاس ‪ ،‬وقال ‪ :‬اللّهمّ إنّا كنّا إذا قحطنا توسّلنا إليك بنبيّك‬
‫ن معاوية استسقى بيزيد بن‬
‫فتسقينا ‪ ،‬وإنّا نتوسّل بعمّ نبيّك فاسقنا فيسقون ‪ .‬وكذلك روي أ ّ‬
‫السود ‪ .‬فقال ‪ :‬اللّهمّ إنّا نستسقي بخيرنا وأفضلنا ‪ ،‬اللّهمّ إنّا نستسقي بيزيد بن السود ‪ ،‬يا‬
‫يزيد ارفع يديك إلى اللّه تعالى » فرفع يديه ‪ ،‬ورفع النّاس أيديهم ‪ .‬فثارت سحاب ٌة من الغرب‬
‫ب لها ريحٌ ‪ ،‬فسقوا حتّى كاد النّاس ألّ يبلغوا منازلهم ‪.‬‬
‫كأنّها ترسٌ ‪ ،‬وه ّ‬
‫حكمة المشروعيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬إنّ النسان إذا نزلت به الكوارث ‪ ،‬وأحدقت به المصائب فبعضها قد يستطيع إزالتها ‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫وبعضها ل يستطيع بأيّ وسيلةٍ من الوسائل ‪ ،‬ومن أكبر المصائب والكوارث الجدب المسبّب‬
‫ل ذي روحٍ وغذاؤه ‪ ،‬ول يستطيع النسان إنزاله أو‬
‫عن انقطاع الغيث ‪ ،‬الّذي هو حياة ك ّ‬
‫الستعاضة عنه ‪ ،‬وإنّما يقدر على ذلك ويستطيعه ربّ العالمين فشرع الشّارع الحكيم سبحانه‬
‫ل شيءٍ ممّن يملك ذلك ‪،‬‬
‫الستسقاء ‪ ،‬طلبا للرّحمة والغاثة بإنزال المطر الّذي هو حياة ك ّ‬
‫ويقدر عليه ‪ ،‬وهو اللّه جلّ جلله ‪.‬‬
‫أسباب الستسقاء ‪:‬‬
‫‪ -‬الستسقاء يكون في أربع حالتٍ ‪ :‬الولى ‪ :‬للمحلّ والجدب ‪ ،‬أو للحاجة إلى الشّرب‬ ‫‪5‬‬

‫لشفاههم ‪ ،‬أو دوابّهم ومواشيهم ‪ ،‬سوا ٌء أكانوا في حضرٍ ‪ ،‬أم سفرٍ في صحراء ‪ ،‬أم سفينةٍ في‬
‫بح ٍر مالحٍ ‪ .‬وهو محلّ اتّفاقٍ ‪ .‬الثّانية ‪ :‬استسقاء من لم يكونوا في محلّ ‪ ،‬ول حاجة إلى‬
‫الشّرب ‪ ،‬وقد أتاهم الغيث ‪ ،‬ولكن لو اقتصروا عليه لكان دون السّعة ‪ ،‬فلهم أن يستسقوا‬
‫ي للمالكيّة والشّافعيّة ‪ .‬الثّالثة ‪ :‬استسقاء من كان في‬
‫ويسألوا اللّه المزيد من فضله ‪ .‬وهو رأ ٌ‬
‫خصبٍ لم كان في محلّ وجدبٍ ‪ ،‬أو حاجةٍ إلى شربٍ ‪ .‬قال به الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة‬
‫‪ .‬الرّابعة ‪ :‬إذا استسقوا ولم يسقوا ‪ .‬اتّفقت المذاهب الربعة ‪ :‬الحنفيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪،‬‬
‫ن اللّه تعالى يحبّ‬
‫والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة على تكرار الستسقاء ‪ ،‬واللحاح في الدّعاء ؛ ل ّ‬
‫الملحّين في الدّعاء ‪ ،‬ولقوله تعالى ‪ { :‬فلول إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا ولكن قست قلوبهم }‬
‫ن الصل في تكرار الستسقاء قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬يستجاب لحدكم ما لم‬
‫ول ّ‬
‫ن العلّة الموجبة للستسقاء هي الحاجة إلى الغيث‬
‫يعجل ‪ ،‬يقول ‪ :‬دعوت فلم يستجب لي » ول ّ‬
‫‪ ،‬والحاجة إلى الغيث قائمةٌ ‪ .‬قال أصبغ في كتاب ابن حبيبٍ ‪ :‬وقد فعل عندنا بمصر ‪،‬‬
‫واستسقوا خمسةً وعشرين يوما متوالي ًة يستسقون على سنّة الستسقاء ‪ ،‬وحضر ذلك ابن‬
‫ن الحنفيّة قالوا بالخروج ثلثة أيّامٍ فقط ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬لم ينقل أكثر من‬
‫القاسم وابن وهبٍ ‪ .‬إلّ أ ّ‬
‫ذلك ‪ .‬ولكن صاحب الختيار قال ‪ :‬يخرج النّاس ثلثة أيّامٍ متتابعةٍ ‪ .‬وروي أكثر من ذلك ‪.‬‬
‫أنواعه وأفضله ‪:‬‬
‫ع ‪ .‬اتّفق على ذلك فقهاء المذاهب الربعة ؛ لثبوت ذلك عن‬
‫‪ -‬والستسقاء على ثلثة أنوا ٍ‬ ‫‪6‬‬

‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ .‬وقد فضّل بعض الئمّة بعض النواع على بعضٍ ‪ ،‬ورتّبوها‬
‫حسب أفضليّتها ‪ .‬فقال الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬الستسقاء ثلثة أنواعٍ ‪:‬‬
‫النّوع الوّل ‪ :‬وهو أدناها ‪ ،‬الدّعاء بل صلةٍ ‪ ،‬ول بعد صل ٍة ‪ ،‬فرادى ومجتمعين لذلك ‪ ،‬في‬
‫المسجد أو غيره ‪ ،‬وأحسنه ما كان من أهل الخير ‪.‬‬
‫النّوع الثّاني ‪ :‬وهو أوسطها ‪ ،‬الدّعاء بعد صلة الجمعة أو غيرها من الصّلوات ‪ ،‬وفي خطبة‬
‫الجمعة ونحو ذلك ‪ .‬قال الشّافعيّ في المّ ‪ :‬وقد رأيت من يقيم مؤذّنا فيأمره بعد صلة الصّبح‬
‫ض النّاس على الدّعاء ‪ ،‬فما كرهت ما صنع من ذلك ‪ .‬وخصّ‬
‫والمغرب أن يستسقي ‪ ،‬ويح ّ‬
‫الحنابلة هذا النّوع بأن يكون الدّعاء من المام في خطبة الجمعة على المنبر ‪.‬‬
‫ب لها قبل ذلك ‪،‬‬
‫النّوع الثّالث ‪ :‬وهو أفضلها ‪ ،‬الستسقاء بصلة ركعتين وخطبتين ‪ ،‬وتأهّ ٍ‬
‫على ما سيأتي في الكيفيّة ‪ .‬يستوي في ذلك أهل القرى والمصار والبوادي والمسافرون ‪،‬‬
‫ن لهم جميعا الصّلة والخطبتان ‪ ،‬ويستحبّ ذلك للمنفرد إلّ الخطبة ‪ .‬وقال المالكيّة ‪:‬‬
‫ويس ّ‬
‫الستسقاء بالدّعاء سنّ ٌة ‪ ،‬أي ‪ :‬سوا ٌء أكان بصل ٍة أم بغير صلةٍ ‪ ،‬ول يكون الخروج إلى‬
‫ل عند الحاجة الشّديدة إلى الغيث ‪ ،‬حيث فعله رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ .‬وأمّا‬
‫المصلّى إ ّ‬
‫سنّة ‪ ،‬وأمّا الصّلة فرادى‬
‫الحنفيّة ‪ :‬فأبو حنيفة يفضّل الدّعاء والستغفار في الستسقاء ؛ لنّه ال ّ‬
‫فهي مباحةٌ عنده ‪ ،‬وليست بسنّ ٍة ‪ ،‬لفعل الرّسول لها مرّ ًة وتركها أخرى ‪ .‬وأمّا مح ّمدٌ فقد قال ‪:‬‬
‫ل عنده سنّةٌ ‪ ،‬وفي مرتبةٍ واحدةٍ وأمّا أبو‬
‫الستسقاء يكون بالدّعاء ‪ ،‬أو بالصّلة والدّعاء ‪ ،‬والك ّ‬
‫ي أنّه‬
‫يوسف فالنّقل عنه مختلفٌ في المسألة ‪ ،‬فقد روى الحاكم أنّه مع المام ‪ ،‬وروى الكرخ ّ‬
‫مع مح ّمدٍ ‪ ،‬ورجّح ابن عابدين أنّه مع محمّدٍ ‪.‬‬
‫وقت الستسقاء‬
‫‪ -‬إذا كان الستسقاء بالدّعاء فل خلف في أنّه يكون في أيّ وقتٍ ‪ ،‬وإذا كان بالصّلة‬ ‫‪7‬‬

‫والدّعاء ‪ ،‬فالكلّ مجمعٌ على منع أدائها في أوقات الكراهة ‪ ،‬وذهب الجمهور إلى أنّها تجوز‬
‫ي وقتٍ عدا أوقات الكراهة ‪ .‬والخلف بينهم إنّما هو في الوقت الفضل ‪ ،‬ما عدا المالكيّة‬
‫في أ ّ‬
‫فقالوا ‪ :‬وقتها من وقت الضّحى إلى الزّوال ‪ ،‬فل تصلّى قبله ول بعده ‪ ،‬وللشّافعيّة في الوقت‬
‫الفضل ثلثة أوجهٍ ‪ :‬الوّل ‪ :‬ووافقهم عليه المالكيّة ‪ ،‬وهو الولى عند الحنابلة ‪ :‬وقت صلة‬
‫الستسقاء وقت صلة العيد ‪ .‬وبهذا قال الشّيخ أبو حام ٍد السفرايينيّ وصاحبه المحامليّ في‬
‫كتبه ‪ :‬المجموع ‪ ،‬والتّجريد ‪ ،‬والمقنع ‪ ،‬وأبو عليّ السّنجيّ ‪ ،‬والبغويّ ‪ .‬وقد يستدلّ له بحديث‬
‫ابن عبّاسٍ الّذي روته السّنن الربع عن إسحاق بن عبد اللّه بن كنانة قال ‪ « :‬أرسلني الوليد‬
‫س أسأله عن استسقاء رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫بن عتبة ‪ -‬وكان أمير المدينة ‪ -‬إلى ابن عبّا ٍ‬
‫وسلم فقال ‪ :‬خرج رسول اللّه صلى ال عليه وسلم متبذّلً متواضعا متضرّعا ‪ ،‬حتّى أتى‬
‫المصلّى ‪ ،‬فلم يخطب خطبتكم هذه ‪ ،‬ولكن لم يزل في الدّعاء والتّضرّع والتّكبير ‪ ،‬وصلّى‬
‫ركعتين كما كان يصلّي في العيد » ‪ .‬الثّاني ‪ :‬أوّل وقتها وقت صلة العيد ‪ ،‬وتمتدّ إلى صلة‬
‫ن رسول‬
‫العصر ‪ .‬وهو الّذي ذكره البندنيجيّ ‪ ،‬والرّويانيّ وآخرون ‪ .‬لما روت عائشة ‪ « :‬أ ّ‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم خرج حين بدا حاجب الشّمس » لنّها تشبهها في الوضع والصّفة ‪،‬‬
‫ن وقتها ل يفوت بالزّوال ‪ .‬الثّالث ‪ :‬وعبّر عنه الشّافعيّة بالصّحيح‬
‫فكذلك في الوقت ‪ ،‬إلّ أ ّ‬
‫والصّواب ‪ ،‬وهو الرّأي المرجوح عند الحنابلة أيضا ‪ :‬أنّها ل تختصّ بوقتٍ معيّنٍ ‪ ،‬بل تجوز‬
‫ت من ليلٍ أو نهارٍ ‪ ،‬إلّ أوقات الكراهة على أحد الوجهين ‪ ،‬وهو الّذي نصّ عليه‬
‫ل وق ٍ‬
‫في ك ّ‬
‫الشّافعيّ ‪ ،‬وبه قطع الجمهور ‪ ،‬وصحّحه المحقّقون ‪ .‬وممّن قطع به صاحب الحاوي ‪،‬‬
‫وصحّحه الرّافعيّ في المحرّر ‪ ،‬وصاحب جمع الجوامع ‪ ،‬واستصوبه إمام الحرمين ‪ .‬واستدلّوا‬
‫له بأنّها ل تختصّ بيو ٍم كصلة الستخارة ‪ ،‬وركعتي الحرام وغيرهما ‪ .‬وقالوا ‪ :‬إنّ‬
‫ن الشّافعيّ نصّ على ذلك وأكثر‬
‫تخصيصها بوقتٍ كصلة العيد ليس له وجهٌ أصلً ‪ .‬ول ّ‬
‫الصحاب ‪ .‬وقال ابن عبد البرّ ‪ :‬الخروج إليها عند زوال الشّمس عند جماع ٍة من العلماء ‪.‬‬
‫سنّة‬
‫ت لها ‪ ،‬ولم يتكلّموا في تحديده ‪ .‬وقد يكون هذا ؛ لنّ ال ّ‬
‫وأمّا الحنفيّة ‪ :‬فلم يذكر عندهم وق ٌ‬
‫ن معيّنٌ ‪.‬‬
‫ت ‪ ،‬وليس له زما ٌ‬
‫عند المام في الستسقاء الدّعاء ‪ ،‬والدّعاء في كلّ وق ٍ‬
‫مكان الستسقاء ‪:‬‬
‫ن الستسقاء يجوز في المسجد ‪ ،‬وخارج المسجد ‪ .‬إلّ أنّ‬
‫‪ -‬اتّفقت المذاهب الربعة على أ ّ‬ ‫‪8‬‬

‫شدّة إلى الغيث ‪ ،‬والشّافعيّة والحنابلة يفضّلون الخروج‬


‫ل في وقت ال ّ‬
‫المالكيّة ل تقول بالخروج إ ّ‬
‫مطلقا ‪ ،‬لحديث ابن عبّاسٍ رضي ال عنهما ‪ « .‬خرج رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫للستسقاء متب ّذلً متواضعا متضرّعا حتّى أتى المصلّى ‪ ،‬فلم يخطب خطبتكم هذه ‪ ،‬ولكن لم‬
‫يزل في الدّعاء والتّضرّع والتّكبير ‪ ،‬وصلّى ركعتين كما كان يصلّي في العيد » ‪ .‬وقال‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم صلّها في الصّحراء ؛‬
‫الشّافعيّة ‪ :‬يصلّي المام في الصّحراء ‪ ،‬ل ّ‬
‫ولنّه يحضرها غالب النّاس والصّبيان والحيّض والبهائم وغيرهم ‪ ،‬فالصّحراء أوسع لهم‬
‫وأرفق ‪ .‬وقال الحنفيّة بالخروج أيضا ‪ ،‬إلّ أنّهم قالوا ‪ :‬إنّ أهل مكّة وبيت المقدس يجتمعون‬
‫في المسجدين ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬ينبغي كذلك لهل المدينة أن يجتمعوا في المسجد النّبويّ ؛ لنّه‬
‫من أشرف بقاع الرض ‪ ،‬إذ حلّ فيه خير خلق اللّه صلى ال عليه وسلم وعلّل ابن عابدين‬
‫جواز الجتماع في مسجد الرّسول صلى ال عليه وسلم بقوله ‪ :‬ينبغي الجتماع للستسقاء‬
‫فيه ‪ ،‬إذ ل يستغاث وتستنزل الرّحمة في المدينة المنوّرة بغير حضرته ومشاهدته صلى ال‬
‫ل حادثةٍ ‪.‬‬
‫عليه وسلم في ك ّ‬
‫الداب السّابقة على الستسقاء ‪:‬‬
‫‪ -‬أورد الفقهاء آدابا يستحبّ فعلها قبل الستسقاء ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يعظ المام النّاس ‪ ،‬ويأمرهم‬ ‫‪9‬‬

‫بالخروج من المظالم ‪ ،‬والتّوبة من المعاصي ‪ ،‬وأداء الحقوق ؛ ليكونوا أقرب إلى الجابة ‪،‬‬
‫ن أهل القرى آمنوا‬
‫فإنّ المعاصي سبب الجدب ‪ ،‬والطّاعة سبب البركة ‪ ..‬قال تعالى ‪ { :‬ولو أ ّ‬
‫ت من السّماء والرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون }‬
‫واتّقوا لفتحنا عليهم بركا ٍ‬
‫وروى أبو وائلٍ عن عبد اللّه قال ‪ « :‬إذا بخس المكيال حبس القطر » وقال مجاهدٌ في قوله‬
‫تعالى ‪ { :‬ويلعنهم اللعنون } قال ‪ :‬دوابّ الرض تلعنهم يقولون ‪ :‬يمنع القطر بخطاياهم ‪.‬‬
‫كما يترك التّشاحن والتّباغض ؛ لنّها تحمل على المعصية والبهت ‪ ،‬وتمنع نزول الخير ‪.‬‬
‫بدليل قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬خرجت لخبركم بليلة القدر فتلحى فلنٌ وفلنٌ فرفعت »‬
‫‪.‬‬
‫الصّيام قبل الستسقاء ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفقت المذاهب على الصّيام ‪ ،‬ولكنّهم اختلفوا في مقداره ‪ ،‬والخروج به إلى الستسقاء ‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫ن الصّيام مظنّة إجابة الدّعاء ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ثلثة ل تردّ دعوتهم ‪ :‬الصّائم‬
‫لّ‬
‫حين يفطر ‪ » ...‬ولما فيه من كسر الشّهوة ‪ ،‬وحضور القلب ‪ ،‬والتّذلّل للرّبّ ‪ .‬قال الشّافعيّة ‪،‬‬
‫والحنفيّة ‪ ،‬وبعض المالكيّة ‪ :‬يأمرهم المام بصوم ثلثة أيّامٍ قبل الخروج ‪ ،‬ويخرجون في‬
‫اليوم الرّابع وهم صيامٌ ‪ .‬وقال بعض المالكيّة بالخروج بعد الصّيام في اليوم الرّابع مفطرين ؛‬
‫للتّقوّي على الدّعاء ‪ ،‬كيوم عرفة ‪ .‬وقال الحنابلة بالصّيام ثلثة أيّامٍ ‪ ،‬ويخرجون في آخر أيّام‬
‫صيامهم ‪.‬‬
‫الصّدقة قبل الستسقاء ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفقت المذاهب على استحباب الصّدقة قبل الستسقاء ‪ ،‬ولكنّهم اختلفوا في أمر المام بها‬ ‫‪11‬‬

‫‪ ،‬قال الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬والحنفيّة ‪ ،‬وهو المعتمد عند المالكيّة ‪ :‬يأمرهم المام بالصّدقة في‬
‫حدود طاقتهم ‪ .‬وقال بعض المالكيّة ‪ :‬ل يأمرهم بها ‪ ،‬بل يترك هذا للنّاس بدون أمرٍ ؛ لنّه‬
‫أرجى للجابة ‪ ،‬حيث تكون صدقتهم بدافعٍ من أنفسهم ‪ ،‬ل بأمرٍ من المام ‪.‬‬
‫آدابٌ شخصيّةٌ ‪:‬‬
‫ب أن يفعلها النّاس قبل الستسقاء ‪ ،‬بعد أن‬
‫ب شخصيّ ٍة ‪ ،‬يستح ّ‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على آدا ٍ‬ ‫‪12‬‬

‫يعدهم المام يوما يخرجون فيه ؛ لحديث عائشة المتقدّم عن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫« وعد النّاس يوما يخرجون فيه » فيستحبّ عند الخروج للستسقاء ‪ :‬التّنظّف بغسلٍ وسواكٍ ؛‬
‫ن لها الجتماع والخطبة ‪ ،‬فشرع لها الغسل ‪ ،‬كصلة الجمعة ‪ .‬ويستحبّ ‪ :‬أن‬
‫لنّها صلةٌ يس ّ‬
‫يترك النسان الطّيب والزّينة ‪ ،‬فليس هذا وقت الزّينة ‪ ،‬ولكنّه يقطع الرّائحة الكريهة ‪ ،‬ويخرج‬
‫ل متضرّعا ماشيا ‪ ،‬ول‬
‫ب بذلةٍ ‪ ،‬وهي ثياب مهنته ‪ ،‬ويخرج متواضعا خاشعا متذلّ ً‬
‫في ثيا ٍ‬
‫ض ونحوه ‪ .‬والصل في هذا حديث ابن‬
‫ل لعذرٍ ‪ ،‬كمر ٍ‬
‫يركب في شي ٍء من طريقه ذهابا إ ّ‬
‫عبّاسٍ رضي ال عنهما قال ‪ « :‬خرج رسول اللّه صلى ال عليه وسلم متواضعا متب ّذلً‬
‫متخشّعا متضرّعا » وهي مستحبّاتٌ لم يرد فيها خلفٌ ‪.‬‬
‫الستسقاء بالدّعاء ‪:‬‬
‫ن الستسقاء هو دعا ٌء واستغفارٌ ‪ ،‬وليس فيه صل ٌة مسنونةٌ في جماعةٍ‬
‫‪ -‬قال أبو حنيفة ‪ :‬إ ّ‬ ‫‪13‬‬

‫‪ .‬فإن صلّى النّاس وحدانا جاز ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬فقلت استغفروا ربّكم إنّه كان غفّارا يرسل‬
‫السّماء عليكم مدرارا } الية ‪ ،‬وقد استدلّ له كذلك بحديث عمر رضي ال عنه واستسقائه‬
‫بالعبّاس رضي ال عنه من غير صلةٍ ‪ ،‬مع حرصه على القتداء برسول اللّه صلى ال عليه‬
‫ن الحاديث لمّا اختلفت في‬
‫وسلم ‪ .‬وقد علّل ابن عابدين رأي أبي حنيفة فقال ‪ :‬الحاصل أ ّ‬
‫س ّنيّة ‪ ،‬لم يقل أبو حنيفة بس ّنيّتها ‪،‬‬
‫الصّلة بالجماعة وعدمها على وج ٍه ل يصحّ معه إثبات ال ّ‬
‫ول يلزم من قوله هذا أنّها بدع ٌة ‪ ،‬كما نقل بعض المتعصّبين ‪ ،‬بل هو قال بالجواز ‪ ،‬والظّاهر‬
‫ن المراد النّدب والستحباب ‪ ،‬لقوله في الهداية ‪ :‬لمّا فعله الرّسول صلى ال عليه وسلم مرّةً‬
‫أّ‬
‫سنّة ما واظب عليه ‪ .‬والفعل مرّةً والتّرك أخرى يفيد النّدب‬
‫وتركه أخرى لم يكن سنّةً ؛ لنّ ال ّ‬
‫‪ .‬وأمّا المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬وأبو يوسف ومح ّمدٌ من الحنفيّة ‪ :‬فقالوا بس ّنيّة الدّعاء‬
‫وحده ‪ ،‬وبس ّنيّته مع صلةٍ له على التّفصيل الّذي تقدّم ‪.‬‬
‫الستسقاء بالدّعاء والصّلة ‪:‬‬
‫‪ -‬المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬وأبو يوسف ‪ ،‬ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة قالوا ‪:‬‬ ‫‪14‬‬

‫الستسقاء يكون بالصّلة والدّعاء والخطبة ‪ ،‬للحاديث الواردة في ذلك ‪ .‬وقال أبو حنيفة ‪ :‬ل‬
‫س ل يثبت الخطبة ؛ لنّ طلب السّقيا من رسول‬
‫خطبة في الستسقاء ‪ ،‬وما تقدّم من رواية أن ٍ‬
‫اللّه وقع له صلى ال عليه وسلم وهو يخطب ‪ ،‬فالخطبة سابقةٌ في هذه الحادثة على الخبار‬
‫بالجدب ‪.‬‬
‫تقديم الصّلة على الخطبة وتأخيرها ‪:‬‬
‫‪ -‬في المسألة ثلثة آرا ٍء ‪:‬‬ ‫‪15‬‬

‫الوّل ‪ :‬تقديم الصّلة على الخطبة ‪ ،‬وهو قول المالكيّة ‪ ،‬ومحمّد بن الحسن ‪ ،‬والرّاجح عند‬
‫الحنابلة ‪ ،‬وهو الولى عند الشّافعيّة ‪ ،‬وعليه جماعة الفقهاء ؛ لقول أبي هريرة ‪ « :‬صلّى‬
‫س ‪ :‬صنع في الستسقاء‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ركعتين ثمّ خطبنا » ولقول ابن عبّا ٍ‬
‫كما يصنع في العيد ؛ ولنّها صلةٌ ذات تكبيراتٍ ‪ ،‬فأشبهت صلة العيد ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬تقديم الخطبة على الصّلة وهو رأيٌ للحنابلة ‪ ،‬وخلف الولى عند الشّافعيّة ‪ ،‬وروي‬
‫ذلك عن ابن الزّبير ‪ ،‬وأبان بن عثمان ‪ ،‬وهشام بن إسماعيل ‪ ،‬واللّيث بن سعدٍ ‪ ،‬وابن‬
‫ن رسول اللّه صلى‬
‫المنذر ‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز ‪ .‬ودليله ما روي عن أنسٍ وعائشة ‪ « :‬أ ّ‬
‫ال عليه وسلم خطب وصلّى » ‪ ،‬وروي عن عبد اللّه بن زيدٍ قال ‪ « :‬رأيت النّبيّ صلى ال‬
‫عليه وسلم لمّا خرج يستسقي حوّل إلى النّاس ظهره ‪ ،‬واستقبل القبلة يدعو ‪ ،‬ثمّ حوّل رداءه ‪،‬‬
‫ثمّ صلّى لنا ركعتين جهر فيهما بالقراءة » ‪ .‬متّفقٌ عليه ‪.‬‬
‫الثّالث ‪ :‬هو مخ ّيرٌ في الخطبة قبل الصّلة أو بعدها ‪ ،‬وهو رأيٌ للحنابلة ؛ لورود الخبار بكل‬
‫المرين ‪ ،‬ودللتها على كلتا الصّفتين ‪.‬‬
‫كيفيّة صلة الستسقاء ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يعلم بين القائلين بصلة الستسقاء خلفٌ في أنّها ركعتان ‪ ،‬واختلف في صفتها على‬ ‫‪16‬‬

‫رأيين ‪:‬‬
‫ل لمحمّدٍ ‪ ،‬وسعيد بن المسيّب ‪ ،‬وعمر بن عبد‬
‫الرّأي الوّل ‪ ،‬وهو للشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬وقو ٌ‬
‫العزيز ‪ :‬يصلّيها ركعتين يكبّر في الولى سبعا ‪ ،‬وخمسا في الثّانية مثل صلة العيد ‪ ،‬لقول‬
‫ابن عبّاسٍ في حديثه المتقدّم ‪ :‬وصلّى ركعتين كما كان يصلّي في العيد ‪ ،‬ولما روي عن جعفر‬
‫ي صلى ال عليه وسلم وأبا بكرٍ وعمر كانوا يصلّون صلة‬
‫ن النّب ّ‬
‫بن محمّدٍ عن أبيه « أ ّ‬
‫الستسقاء يكبّرون فيها سبعا وخمسا » ‪.‬‬
‫الرّأي الثّاني ‪ :‬وهو للمالكيّة ‪ ،‬والقول الثّاني لمح ّمدٍ ‪ ،‬وهو قول الوزاعيّ ‪ ،‬وأبي ثورٍ ‪،‬‬
‫وإسحاق ‪ :‬تصلّى ركعتين كصلة النّافلة والتّطوّع ؛ لما روي عن عبد اللّه بن زيدٍ ‪ « :‬أنّ‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم استسقى فصلّى ركعتين » وروى أبو هريرة نحوه ‪ ،‬ولم يذكرا‬
‫التّكبير ‪ ،‬فتنصرف إلى الصّلة المطلقة ‪ .‬واتّفقت المذاهب على الجهر بالقراءة في الستسقاء ؛‬
‫ل صلةٍ لها خطبةٌ فالقراءة فيها تكون جهرا ؛ لجتماع النّاس‬
‫لنّها صلةٌ ذات خطبةٍ ‪ ،‬وك ّ‬
‫للسّماع ‪ ،‬ويقرأ بما شاء ‪ ،‬ولكن الفضل أن يقرأ فيهما بما كان يقرأ في العيد ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يقرأ‬
‫بسورتي ق ونوحٍ ‪ ،‬أو يقرأ بسورتي العلى والغاشية ‪ ،‬أو بسورتي العلى والشّمس ‪ .‬وحذف‬
‫التّكبيرات أو بعضها أو الزّيادة فيها ل تفسد الصّلة ‪ .‬وقال الشّافعيّة ‪ :‬ولو ترك التّكبيرات أو‬
‫بعضها أو زاد فيهنّ ل يسجد للسّهو ‪ ،‬ولو أدرك المسبوق بعض التّكبيرات الزّائدة فهل يقضي‬
‫ما فاته من التّكبيرات ؟ قالوا ‪ :‬فيها القولن ‪ ،‬مثل صلة العيد ‪.‬‬
‫كيفيّة الخطبة ومستحبّاتها ‪:‬‬
‫‪ -‬قال الشّافعيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة ‪ :‬يخطب المام خطبتين‬ ‫‪17‬‬

‫كخطبتي العيد بأركانهما وشروطهما وهيئاتهما ‪ ،‬وفي الجلوس إذا صعد المنبر وجهان كما في‬
‫العيد أيضا ‪ ،‬لحديث ابن عبّاسٍ المتقدّم ؛ ولنّها أشبهتها في التّكبير وفي صفة الصّلة ‪ .‬وقال‬
‫الحنابلة ‪ ،‬وأبو يوسف من الحنفيّة ‪ ،‬وعبد الرّحمن بن مهديّ ‪ :‬يخطب المام خطب ًة واحدةً‬
‫يفتتحها بالتّكبير ‪ ،‬لقول ابن عبّاسٍ ‪ :‬لم يخطب خطبتكم هذه ‪ ،‬ولكن لم يزل في الدّعاء‬
‫ن كلّ من‬
‫ل على أنّه ما فصل بين ذلك بسكوتٍ ول جلوسٍ ؛ ول ّ‬
‫والتّضرّع والتّكبير ‪ ،‬وهذا يد ّ‬
‫سنّة‬
‫نقل الخطبة لم ينقل خطبتين ‪ .‬ول يخرج المنبر إلى الخلء في الستسقاء ؛ لنّه خلف ال ّ‬
‫‪ .‬وقد عاب النّاس على مروان بن الحكم عند إخراجه المنبر في العيدين ‪ ،‬ونسبوه إلى مخالفة‬
‫سنّة ‪ .‬ويخطب المام على الرض معتمدا على قوسٍ أو سيفٍ أو عصا ‪ ،‬ويخطب مقبلً‬
‫ال ّ‬
‫بوجهه إلى النّاس ‪ .‬وقد صرّح المالكيّة بأنّ الخطبة على الرض مندوبةٌ ‪ ،‬وعلى المنبر‬
‫مكروهةٌ ‪ .‬أمّا إذا كان المنبر موجودا في الموضع الّذي فيه الصّلة ‪ ،‬ولم يخرجه أحدٌ ففيه‬
‫رأيان ‪ :‬الجواز ‪ ،‬والكراهة ‪ .‬وقال الحنفيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬والشّافعيّة في القول المرجوح ‪ :‬يكبّر‬
‫في الخطبة كما في صلة العيد ‪ .‬وقال المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة في الرّاجح عندهم ‪ :‬يستبدل‬
‫بالتّكبير الستغفار ‪ ،‬فيستغفر اللّه في أوّل الخطبة الولى تسعا ‪ ،‬وفي الثّانية سبعا ‪ ،‬يقول ‪:‬‬
‫أستغفر اللّه الّذي ل إله إلّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه ‪ ،‬ويختم كلمه بالستغفار ‪ ،‬ويكثر منه‬
‫في الخطبة ‪ ،‬ومن قوله تعالى ‪ { :‬استغفروا ربّكم إنّه كان غفّارا } الية ‪ ،‬ويخوّفهم من‬
‫المعاصي الّتي هي سبب الجدب ‪ ،‬ويأمرهم بالتّوبة ‪ ،‬والنابة والصّدقة والبرّ ‪ .‬وقال الحنفيّة ‪،‬‬
‫والشّافعيّة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ :‬يستقبل المام النّاس في الخطبة مستدبرا القبلة ‪ ،‬حتّى إذا قضى خطبته‬
‫توجّه بوجهه إلى القبلة يدعو ‪ .‬وقال الحنابلة ‪ :‬يستحبّ للخطيب استقبال القبلة في أثناء الخطبة‬
‫؛ لما روى عبد اللّه بن زيدٍ ‪ « :‬أنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم خرج يستسقي ‪ ،‬فتوجّه إلى‬
‫القبلة يدعو » وفي لفظٍ ‪ « :‬فحوّل إلى النّاس ظهره واستقبل القبلة يدعو » ‪.‬‬
‫صيغ الدّعاء المأثورة ‪:‬‬
‫‪ -‬يستحبّ الدّعاء بما أثر عن النّبيّ ‪ ،‬ومن ذلك ما روي عنه صلى ال عليه وسلم « أنّه‬ ‫‪18‬‬

‫كان يدعو في الستسقاء فيقول ‪ :‬اللّهمّ اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا مريعا غدقا مجلّلً سحّا‬
‫ن بالبلد والعباد والخلق‬
‫عامّا طبقا دائما ‪ .‬اللّهمّ اسقنا الغيث ول تجعلنا من القانطين ‪ .‬اللّهمّ إ ّ‬
‫من اللّأواء والضّنك ما ل نشكو إلّ إليك ‪ .‬اللّهمّ أنبت لنا الزّرع ‪ ،‬وأدرّ لنا الضّرع ‪ ،‬واسقنا‬
‫من بركات السّماء ‪ ،‬وأنبت لنا من بركات الرض ‪ .‬اللّه ّم إنّا نستغفرك إنّك كنت غفّارا ‪،‬‬
‫فأرسل السّماء علينا مدرارا ‪ ،‬فإذا مطروا ‪ .‬قالوا ‪ :‬اللّهمّ صيّبا نافعا ‪ .‬ويقولون ‪ :‬مطرنا‬
‫بفضل اللّه وبرحمته » ‪ .‬وروي « أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال وهو على المنبر ‪،‬‬
‫حين قال له الرّجل ‪ :‬يا رسول اللّه هلكت الموال ‪ ،‬وانقطعت السّبل ‪ ،‬فادع اللّه أن يغيثنا ‪.‬‬
‫فرفع يديه وقال ‪ :‬اللّهمّ أغثنا ‪ ،‬اللّهمّ أغثنا ‪ ،‬اللّهمّ أغثنا » ‪ .‬وروي عن الشّافعيّ قوله ‪ « :‬ليكن‬
‫من دعائهم في هذه الحالة ‪ :‬اللّهمّ أنت أمرتنا بدعائك ‪ ،‬ووعدتنا إجابتك ‪ ،‬وقد دعوناك كما‬
‫أمرتنا ‪ ،‬فأجبنا كما وعدتنا ‪ ،‬اللّهمّ امنن علينا بمغفرة ما قارفنا ‪ ،‬وإجابتك في سقيانا ‪ ،‬وسعة‬
‫رزقنا ‪ ،‬فإذا فرغ من دعائه أقبل على النّاس بوجهه ‪ ،‬وحثّهم على الطّاعة ‪ ،‬وصلّى على النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم ودعا للمؤمنين والمؤمنات ‪ ،‬وقرأ آيةً من القرآن أو آيتين ‪ ،‬ويكثر من‬
‫الستغفار ‪ ،‬ومن قوله تعالى ‪ { :‬استغفروا ربّكم إنّه كان غفّارا ‪ ،‬يرسل السّماء عليكم‬
‫مدرارا ‪ ،‬ويمددكم بأموالٍ وبنين ويجعل لكم جنّاتٍ ويجعل لكم أنهارا } ‪ .‬وروي عن عمر‬
‫رضي ال عنه أنّه استسقى فكان أكثر دعائه الستغفار ‪ ،‬وقال ‪ :‬لقد استسقيت بمجاديح السّماء‬
‫‪.‬‬
‫رفع اليدين في الدّعاء في الستسقاء ‪:‬‬
‫س قال ‪« :‬‬
‫‪ -‬استحبّ الئمّة رفع اليدين إلى السّماء في الدّعاء ‪ ،‬لما روى البخاريّ عن أن ٍ‬ ‫‪19‬‬

‫ل في الستسقاء » ‪ .‬وأنّه‬
‫كان النّبيّ صلى ال عليه وسلم ل يرفع يديه في شيءٍ من دعائه إ ّ‬
‫يرفع حتّى يرى بياض إبطيه ‪ .‬وفي حديثٍ لنسٍ « فرفع الرّسول صلى ال عليه وسلم ورفع‬
‫النّاس أيديهم » وقد روي عن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قريبٌ من ثلثين حديثا في رفع‬
‫اليدين في الستسقاء ‪ .‬وذكر الئمّة ‪ :‬أنّه يدعو سرّا وجهرا ‪ ،‬فإذا دعا سرّا دعا النّاس سرّا ‪،‬‬
‫فيكون أبلغ في البعد عن الرّياء ‪ .‬وإذا دعا جهرا أمّن النّاس على دعاء المام ‪ .‬ولهذا يستحبّ‬
‫أن يدعو بعض الدّعاء سرّا ‪ ،‬وبعضه جهرا ‪ ،‬ويستقبل القبلة في دعائه متضرّعا خاشعا متذلّلً‬
‫تائبا ‪.‬‬
‫الستسقاء بالصّالحين ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق جمهور الفقهاء على استحباب الستسقاء بأقارب النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬ ‫‪20‬‬

‫وبالصّالحين من المسلمين الّذين عرفوا بالتّقوى والستقامة ‪ ،‬لنّ عمر رضي ال عنه استسقى‬
‫بالعبّاس وقال ‪ :‬اللّهمّ إنّا كنّا إذا قحطنا توسّلنا إليك بنبيّك فتسقينا ‪ ،‬وإنّا نتوسّل بعمّ نبيّنا‬
‫ن معاوية استسقى بيزيد بن السود فقال ‪ « :‬اللّهمّ إنّا نستسقي‬
‫فاسقنا ‪ ،‬فيسقون ‪ .‬وروي أ ّ‬
‫بخيرنا وأفضلنا ‪ ،‬اللّهمّ إنّا نستسقي بيزيد بن السود ‪ .‬يا يزيد ارفع يديك إلى اللّه تعالى ‪،‬‬
‫ب لها ريحٌ ‪،‬‬
‫فرفع يديه ورفع النّاس أيديهم ‪ ،‬فثارت سحاب ٌة من المغرب كأنّها ترسٌ ‪ ،‬وه ّ‬
‫ل يبلغوا منازلهم ‪.‬‬
‫فسقوا حتّى كاد النّاس أ ّ‬
‫التّوسّل بالعمل الصّالح ‪:‬‬
‫ح ‪ .‬واستدلّ على هذا بحديث‬
‫ل صال ٍ‬
‫ل في نفسه بما قدّم من عم ٍ‬
‫ب أن يتوسّل ك ّ‬
‫‪20‬م ـ ويستح ّ‬
‫ابن عمر في الصّحيحين عن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم في قصّة أصحاب الغار ‪ ،‬وهم‬
‫الثّلثة الّذين آووا إلى الغار ‪ ،‬فأطبقت عليهم صخر ٌة ‪ ،‬فتوسّل كلّ واحدٍ بصالح عمله ‪ ،‬فكشف‬
‫اللّه عنهم الصّخرة ‪ ،‬وقشع الغمّة ‪ ،‬وخرجوا يمشون ‪.‬‬
‫تحويل الرّداء في الستسقاء ‪:‬‬
‫ب تحويل الرّداء للمام والمأموم ‪ ،‬لفعل‬
‫‪ -‬قال الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ :‬يستح ّ‬ ‫‪21‬‬

‫الرّسول صلى ال عليه وسلم له ‪ ،‬ولنّ ما فعله الرّسول صلى ال عليه وسلم ثبت في حقّ‬
‫ل على اختصاصه به ‪ .‬وقد عقل المعنى في ذلك ‪ ،‬وهو التّفاؤل بقلب‬
‫غيره ‪ ،‬ما لم يقم دلي ٌ‬
‫الرّداء ‪ ،‬ليقلب اللّه ما بهم من الجدب إلى الخصب ‪ .‬وهو خاصّ بالرّجال دون النّساء عند‬
‫الجميع ‪ .‬وقال محمّد بن الحسن من الحنفيّة ‪ ،‬وابن المسيّب ‪ ،‬وعروة ‪ ،‬والثّوريّ ‪ ،‬واللّيث ‪:‬‬
‫ن تحويل الرّداء مختصّ بالمام فقط دون المأموم ؛ لنّه نقل عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫إّ‬
‫دون أصحابه ‪ .‬وقال أبو حنيفة ‪ :‬ل يسنّ تقليب الرّداء ؛ لنّه دعاءٌ فل يستحبّ تحويل الرّداء‬
‫فيه ‪ ،‬كسائر الدعية ‪.‬‬
‫كيفيّة تقليب الرّداء ‪:‬‬
‫‪ -‬قال الحنابلة ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬وهو رأيٌ للشّافعيّة ‪ ،‬وقول أبان بن عثمان ‪ ،‬وعمر بن عبد‬ ‫‪22‬‬

‫العزيز ‪ ،‬وهشام بن إسحاق ‪ ،‬وأبو بكر بن محمّد بن حزمٍ ‪ :‬يقلب المستسقون أرديتهم ‪،‬‬
‫فيجعلون ما على اليمين على اليسار ‪ ،‬وما على اليسار على اليمين ‪ ،‬ودليلهم في ذلك ما روى‬
‫ي صلى ال عليه وسلم حوّل رداءه ‪ ،‬وجعل‬
‫ن النّب ّ‬
‫أبو داود بإسناده عن عبد اللّه بن زيدٍ ‪ « ،‬أ ّ‬
‫عطافه اليمن على عاتقه اليسر ‪ ،‬وجعل عطافه اليسر على عاتقه اليمن » ‪ .‬وفي حديث‬
‫أبي هريرة نحو ذلك ‪ ،‬وقد نقل تحويل الرّداء جماع ٌة ‪ ،‬كلّهم نقلوه بهذه الصّفة ‪ ،‬ولم ينقل عن‬
‫أحدٍ منهم أنّه جعل أعله أسفله ‪ .‬وقال محمّد بن الحسن من الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة في الرّأي‬
‫الرّاجح ‪ :‬إن كان الرّداء مدوّرا بأن كان جّبةً يجعل اليمن على اليسر ‪ ،‬واليسر على اليمن‬
‫‪ ،‬وإن كان الرّداء مربّعا يجعل أعله أسفله ‪ ،‬وأسفله أعله ‪ ،‬لما روي عن النّبيّ صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ « :‬أنّه استسقى وعليه ردا ٌء ‪ ،‬فأراد أن يجعل أسفلها أعلها ‪ ،‬فلمّا ثقلت عليه جعل‬
‫العطاف الّذي في اليسر على عاتقه اليمن ‪ ،‬والّذي على اليمن على عاتقه اليسر » ‪ ،‬ويبدأ‬
‫بتحويل الرّداء عند البدء بالدّعاء والتّضرّع إلى اللّه تعالى ‪.‬‬
‫المستسقون ‪:‬‬
‫سنّة خروج المام للستسقاء مع النّاس ‪ ،‬فإذا تخلّف فقد أساء‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على ‪ ،‬أنّ ال ّ‬ ‫‪23‬‬

‫سنّة ‪ ،‬ول قضاء عليه ‪.‬‬


‫بترك ال ّ‬
‫تخلّف المام عن الستسقاء ‪:‬‬
‫‪ -‬في مسألة تخلّف المام رأيان ‪:‬‬ ‫‪24‬‬
‫الرّأي الوّل ‪ :‬وهو رأي الشّافعيّة ‪ ،‬ورأيٌ للحنابلة ‪ :‬إذا تخلّف المام عن الستسقاء أناب عنه‬
‫‪ .‬فإذا لم ينب لم يترك النّاس الستسقاء ‪ ،‬وقدّموا أحدهم للصّلة ‪ ،‬كما إذا خلت المصار من‬
‫الولة قدّموا أحدهم للجمعة والعيد والكسوف ‪ ،‬كما قدّم النّاس أبا بكرٍ رضي ال عنه حين ذهب‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم ليصلح بين بني عمر وبني عوفٍ ‪ ،‬وقدّموا عبد الرّحمن بن عوفٍ‬
‫في غزوة تبوك حين تأخّر النّبيّ صلى ال عليه وسلم لحاجته ‪ ،‬وكان ذلك في الصّلة المكتوبة‬
‫‪ .‬قال الشّافعيّ ‪ :‬فإذا جاز في المكتوبة فغيرها أولى ‪.‬‬
‫ب الستسقاء بالصّلة إلّ بخروج المام ‪ ،‬أو رجلٍ من قبله ‪ .‬وهو رأيٌ‬
‫الرّأي الثّاني ‪ :‬ل يستح ّ‬
‫للحنابلة والحنفيّة ‪ ،‬فإذا خرجوا بغير إذن المام دعوا وانصرفوا بل صل ٍة ول خطبةٍ ‪.‬‬
‫من يستحبّ خروجهم ‪ ،‬ومن يجوز ‪ ،‬ومن يكره ‪:‬‬
‫‪ -‬يستحبّ عند المذاهب الربعة خروج الشّيوخ والضّعفاء والصّبيان والعجزة وغير ذات‬ ‫‪25‬‬

‫الهيئة من النّساء ‪ .‬وقال المالكيّة ‪ :‬بخروج من يعقل من الصّبيان ‪ ،‬أمّا من ل يعقل فيكره‬
‫خروجهم مع الجماعة للصّلة ‪ .‬واستدلّوا لخروج من ذكر بقول الرّسول عليه الصلة والسلم‬
‫‪ « :‬هل تنصرون وترزقون إلّ بضعفائكم » ‪.‬‬
‫إخراج الدّوابّ في الستسقاء ‪:‬‬
‫ب ؛ لنّه قد تكون السّقيا بسببهم ‪.‬‬
‫‪ -‬في المسألة ثلثة آراءٍ ‪ :‬الوّل ‪ :‬يستحبّ إخراج الدّوا ّ‬ ‫‪26‬‬

‫وهو قول الحنفيّة ‪ ،‬ورأيٌ للشّافعيّة ؛ لقول رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬لول عبادٌ للّه‬
‫ص رصّا » ‪ .‬ولما روى‬
‫ركّعٌ ‪ ،‬وصبيانٌ رضّعٌ ‪ ،‬وبهائم رتّعٌ لصبّ عليكم العذاب صبّا ‪ ،‬ثمّ ر ّ‬
‫المام أحمد أنّ سليمان عليه السلم « خرج بالنّاس يستسقي ‪ ،‬فإذا هو بنمل ٍة رافع ٍة بعض‬
‫قوائمهما إلى السّماء ‪ .‬فقال ‪ :‬ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل هذه النّملة » وقال أصحاب‬
‫هذا الرّأي ‪ :‬إذا أقيمت في المسجد ‪ ،‬أوقفت الدّوابّ عند باب المسجد ‪ .‬الثّاني ‪ :‬ل يستحبّ‬
‫إخراج البهائم ؛ لنّ النّبيّ صلى ال عليه وسلم لم يفعله ‪ .‬وهو قول الحنابلة ‪ ،‬والمالكيّة ‪،‬‬
‫ن للشّافعيّة ‪ .‬الثّالث ‪ :‬ل يستحبّ ول يكره ‪ ،‬وهو رأيٌ ثالثٌ للشّافعيّة ‪.‬‬
‫ورأيٌ ثا ٍ‬
‫خروج الكفّار وأهل ال ّذمّة ‪:‬‬
‫‪ -‬في المسألة رأيان ‪:‬‬ ‫‪27‬‬

‫الوّل ‪ :‬وهو للمالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ :‬ل يستحبّ خروج الكفّار وأهل ال ّذمّة ‪ ،‬بل‬
‫يكره ‪ ،‬ولكن إذا خرجوا مع النّاس في يومهم ‪ ،‬وانفردوا في مكان وحدهم لم يمنعوا ‪ .‬وجملة‬
‫ما استدلّوا به أنّه ل يستحبّ إخراج أهل ال ّذمّة والكفّار ؛ لنّهم أعداء اللّه الّذين كفروا به وبدّلوا‬
‫نعمة اللّه كفرا ‪ ،‬فهم بعيدون من الجابة ‪ .‬وإن أغيث المسلمون فربّما قالوا ‪ :‬هذا حصل‬
‫بدعائنا وإجابتنا ‪ ،‬وإن خرجوا لم يمنعوا ؛ لنّهم يطلبون أرزاقهم من ربّهم فل يمنعون من ذلك‬
‫‪ ،‬ول يبعد أن يجيبهم اللّه تعالى ؛ لنّه قد ضمن أرزاقهم في الدّنيا ‪ ،‬كما ضمن أرزاق‬
‫ب فيعمّ من‬
‫المؤمنين ‪ .‬ولكن يؤمرون بالنفراد عن المسلمين ؛ لنّه ل يؤمن أن يصيبهم بعذا ٍ‬
‫حضرهم ‪ .‬ول يخرجون وحدهم ‪ ،‬فإنّه ل يؤمن أن يتّفق نزول الغيث يوم خروجهم وحدهم ‪،‬‬
‫فيكون أعظم فتن ًة لهم ‪ ،‬وربّما افتتن غيرهم ‪.‬‬
‫الرّأي الثّاني ‪ :‬وهو للحنفيّة ‪ ،‬ورأيٌ للمالكيّة ‪ ،‬قال به أشهب وابن حبيبٍ ‪ :‬ل يحضر ال ّذمّيّ‬
‫والكافر الستسقاء ‪ ،‬ول يخرج له ؛ لنّه ل يتقرّب إلى اللّه تعالى بدعائه ‪ .‬والستسقاء‬
‫لستنزال الرّحمة ‪ ،‬وهي ل تنزل عليهم ‪ ،‬ويمنعون من الخروج ؛ لحتمال أن يسقوا فتفتتن به‬
‫الضّعفاء والعوامّ ‪.‬‬

‫*استسلمٌ‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬الستسلم في اللّغة ‪ :‬النقياد والخضوع للغير ‪ .‬ويستعمل الفقهاء كلمة « استسلمٍ » بهذا‬ ‫‪1‬‬

‫المعنى أيضا ‪ .‬ويعبّرون أيضا عن الستسلم بـ « النّزول على الحكم وقبول الجزية » ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪ ،‬ومواطن البحث ‪:‬‬

‫‪ -‬أ ‪ -‬استسلم العدوّ سوا ٌء أكان كافرا ‪ -‬ما لم يكن من مشركي العرب ‪ -‬أم مسلما باغيا‬ ‫‪2‬‬

‫ب للكفّ عن قتاله ‪ .‬وقد أفاض الفقهاء في الحديث عن ذلك في كتاب الجهاد ‪ ،‬وفي كتاب‬
‫موج ٌ‬
‫البغاة ‪.‬‬
‫‪ -‬ب ‪ -‬ل يجوز للمسلم أن يستسلم لعدوّه الظّالم ‪ -‬سوا ٌء كان مسلما أو كافرا ‪ -‬إلّ أن‬ ‫‪3‬‬

‫ل بالستسلم ‪،‬‬
‫يخاف على نفسه ‪ ،‬أو على عض ٍو من أعضائه ‪ ،‬ول يجد حيل ًة للحفاظ عليها إ ّ‬
‫فيجوز له الستسلم حينئذٍ ‪ .‬وقد ذكر الفقهاء في كتاب الجهاد ‪ :‬أنّه ل يجوز للمسلمين‬
‫الستسلم لعدوّهم في ساحة المعركة إلّ بهذا الشّرط ‪ .‬وذكروا في كتاب الصّيال ‪ :‬أنّه ل‬
‫يجوز للمصول عليه أن يستسلم للصّائل إلّ بهذا الشّرط أيضا ‪ .‬وذكروا في كتاب الكراه ‪ :‬أنّ‬
‫الكراه على بعض الفعال ‪ ،‬ل تترتّب آثاره إلّ إذا كان الستسلم للمكره ( بكسر الرّاء ) بهذا‬
‫الشّرط ‪.‬‬

‫*استشارةٌ‬
‫انظر ‪ :‬شورى ‪.‬‬
‫*استشرافٌ‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬الستشراف في اللّغة ‪ :‬وضع اليد على الحاجب للنّظر ‪ ،‬كالّذي يستظلّ من الشّمس حتّى‬ ‫‪1‬‬

‫يستبين الشّيء ‪ .‬وأصله من الشّرف ‪ :‬العل ّو ‪ ،‬وأشرفت عليه باللف ‪ :‬اطّلعت عليه ‪ .‬ويستعمله‬
‫الفقهاء بمعنى ‪ :‬التّطلّع إلى الشّيء ‪ ،‬كما في استشراف الضحيّة ‪ .‬وهو في الموال بأن يقول‬
‫‪ :‬سيبعث إليّ فلنٌ ‪ ،‬أو لعلّه يبعث ‪ ،‬وإن لم يسأل ‪ .‬وقال أحمد ‪ :‬الستشراف بالقلب وإن لم‬
‫ن هذا شديدٌ ‪ ،‬قال ‪ :‬وإن كان شديدا فهو هكذا ‪ ،‬قيل له ‪ :‬فإن كان الرّجل‬
‫يتعرّض ‪ ،‬قيل له ‪ :‬إ ّ‬
‫لم يو ّد في أن يرسل إليّ شيئا ‪ ،‬إلّ أنّه قد عرض بقلبي ‪ ،‬فقلت ‪ :‬عسى أن يبعث إليّ ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫هذا إشرافٌ ‪ ،‬فإذا جاءك من غير أن تحسّه ‪ ،‬ول خطر على قلبك ‪ ،‬فهذا الن ليس فيه‬
‫إشرافٌ ‪ .‬وقال البعض ‪ :‬الستشراف هو ‪ :‬التّعرّض للسّؤال ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪ -‬ينبغي استشراف الضحيّة لتعرف سلمتها من العيوب المانعة من الجزاء ‪ ،‬لحديث عليّ‬ ‫‪2‬‬

‫رضي ال تعالى عنه « أمرنا رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أن نستشرف العين والذن ‪،‬‬
‫ل نضحّي بمقابل ٍة ‪ ،‬ول مدابرةٍ ‪ ،‬ول شرقاء ‪ ،‬ول خرقاء » ‪ .‬رواه أبو داود والنّسائيّ‬
‫وأ ّ‬
‫وغيرهما ‪ ،‬وصحّحه التّرمذيّ ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا الستشراف في الموال ‪ :‬فإن كان بالقلب فل يؤاخذ النسان عليه ؛ لنّ اللّه عزّ وجلّ‬ ‫‪3‬‬

‫تجاوز لهذه المّة عمّا حدّثت به أنفسها ‪ ،‬ما لم ينطق به لسانٌ أو تعمله جارحةٌ ‪ ،‬وما اعتقده‬
‫القلب من المعاصي – غير الكفر – فليس بشيءٍ حتّى يعمل به ‪ ،‬وخطرات النّفس متجاوزٌ‬
‫عنها بالجماع ‪ .‬وعند أحمد ‪ :‬الستشراف بالقلب كالتّعرّض باللّسان ‪.‬‬
‫ل ‪ -‬ثلثة‬
‫وللعلماء في قبول المال دون استشرافٍ ‪ -‬بمعنى التّحدّث في النّفس من غير سؤا ٍ‬
‫آراءٍ ‪:‬‬
‫ن من الفقهاء من أطلق ذلك ‪ ،‬ومنهم من جعله لمن ملك‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬جواز القبول وعدمه ‪ ،‬غير أ ّ‬ ‫‪4‬‬

‫ص بعطيّة غير السّلطان ‪ .‬واستدلّوا بحديث حكيم بن‬


‫ب ‪ ،‬وقال قومٌ ‪ :‬إنّ ذلك خا ّ‬
‫أقلّ من نصا ٍ‬
‫حزامٍ رضي ال عنه قال ‪ « :‬سألت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فأعطاني ‪ ،‬ثمّ سألته‬
‫ن هذا المال حلو ٌة خضر ٌة ‪ ،‬فمن أخذه‬
‫فأعطاني ‪ ،‬ثمّ سألته فأعطاني ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬يا حكيم إ ّ‬
‫بسخاوة نفسٍ بورك له فيه ‪ ،‬ومن أخذه بإشرافٍ لم يبارك فيه ‪ ،‬وكان كالّذي يأكل ول يشبع ‪،‬‬
‫واليد العليا خيرٌ من اليد السّفلى ‪ .‬قال حكيمٌ ‪ :‬فقلت ‪ :‬يا رسول اللّه والّذي بعثك بالحقّ ل أرزأ‬
‫أحدا بعدك شيئا حتّى أفارق الدّنيا ‪ ،‬فكان أبو بكرٍ رضي ال عنه يدعو حكيما ليعطيه العطاء‬
‫ن عمر رضي ال عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا‬
‫فيأبى أن يقبل منه شيئا ‪ ،‬ثمّ إ ّ‬
‫معشر المسلمين أشهدكم على حكيمٍ أنّي أعرض عليه حقّه الّذي قسم اللّه له في هذا الفيء‬
‫فيأبى أن يأخذه ‪ ،‬فلم يرزأ حكيمٌ أحدا من النّاس بعد رسول اللّه صلى ال عليه وسلم حتّى‬
‫توفّي » رواه البخاريّ ‪.‬‬
‫‪ -‬ب ـ وجوب الخذ ‪ ،‬وحرمة الرّدّ ‪ ،‬لحديث سالم بن عبد اللّه بن عمر عن أبيه عن عمر‬ ‫‪5‬‬

‫رضي ال عنه قال ‪ « :‬كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يعطيني العطاء ‪ ،‬فأقول ‪ :‬أعطه‬
‫أفقر منّي ‪ ،‬فقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬خذه ‪ ،‬وما جاءك من هذا المال وأنت غير‬
‫سائلٍ ول مشرفٍ فخذه ‪ ،‬وما ل فل تتبعه نفسك ‪ ،‬قال ‪ :‬فكان سالمٌ ل يسأل أحدا شيئا ‪ ،‬ول‬
‫يردّ شيئا أعطيه » رواه البخاريّ ومسلمٌ ‪.‬‬
‫‪ -‬ج ‪ -‬استحباب الخذ ‪ ،‬وحمل النّصوص المذكورة للوجوب على الستحباب ‪ ،‬غير أنّ‬ ‫‪6‬‬

‫منهم من أطلق ‪ ،‬ومنهم من قصره على عطيّة غير السّلطان ‪ .‬جاء في شرح مسلمٍ ‪« :‬‬
‫الصّحيح الّذي عليه الجمهور ‪ :‬يستحبّ القبول في غير عطيّة السّلطان ‪ ،‬وأمّا عطيّة السّلطان‬
‫فحرّمها قومٌ ‪ ،‬وأباحها قومٌ ‪ ،‬وكرهها قو ٌم ‪ ،‬قال ‪ :‬والصّحيح إن غلب الحرام فيما في يد‬
‫ل أبيح ‪ ،‬إن لم يكن في القابض مانعٌ من الستحقاق » ‪.‬‬
‫السّلطان حرّمت ‪ ،‬وإ ّ‬
‫‪ -‬والستشراف بمعنى التّعرّض للسّؤال ‪ ،‬ل تختلف أحكامه عن أحكام السّؤال ‪ ( .‬ر ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫سؤالٌ ) ‪.‬‬
‫مواطن البحث ‪:‬‬

‫‪ -‬يتكلّم الفقهاء عن الستشراف في صدقة التّطوّع ‪ ،‬وفي الضحيّة ‪ ،‬وفي الحظر والباحة‬ ‫‪8‬‬

‫‪.‬‬

‫*استشهادٌ‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬الستشهاد في اللّغة ‪ :‬طلب الشّهادة من الشّهود ‪ ،‬فيقال ‪ :‬استشهده ‪ :‬إذا سأله تحمّل أو‬ ‫‪1‬‬

‫أداء الشّهادة ‪ ،‬قال تعالى ‪ { :‬واستشهدوا شهيدين من رجالكم } واستعمل في القتل في سبيل‬
‫اللّه ‪ ،‬فيقال ‪ :‬استشهد ‪ :‬قتل في سبيل اللّه ‪ .‬وفي اصطلح الفقهاء ل يخرج استعمالهم عن‬
‫هذين المعنيين ‪ .‬ويستعمل الفقهاء في الغالب لفظة إشهادٍ ‪ ،‬ويراد بها ‪ :‬الستشهاد على حقّ من‬
‫الحقوق ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ -‬الستشهاد ‪ -‬بمعنى طلب الشّهادة ‪ -‬يختلف من حقّ إلى حقّ ؛ لذا يختلف الحكم تبعا‬ ‫‪2‬‬

‫للمواطن ‪ ،‬ومن تلك المواطن ‪ :‬الستشهاد في الرّجعة ‪ ،‬فهو مستحبّ عند الحنفيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪،‬‬
‫ل آخر عند الشّافعيّة ‪.‬‬
‫ب في قو ٍ‬
‫ب عند المالكيّة ‪ ،‬وواج ٌ‬
‫ل عند الشّافعيّة ‪ ،‬ومندو ٌ‬
‫وفي قو ٍ‬
‫مواطن البحث ‪:‬‬

‫ل مسألةٍ في موضعها ‪ ،‬ومن تلك المواطن ‪:‬‬


‫‪ -‬يفصّل الفقهاء أحكام الستشهاد بالنّسبة لك ّ‬ ‫‪3‬‬

‫النّكاح ‪ ،‬والرّجعة ‪ ،‬والوصيّة ‪ ،‬والزّنا ‪ ،‬واللّقطة ‪ ،‬واللّقيط ‪ ،‬وكتاب القاضي للقاضي ‪،‬‬
‫وغيرها عند الكلم عن الستشهاد ‪ ،‬أو الشهاد فيها ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا الستعمال الثّاني ‪ -‬بمعنى القتل في سبيل اللّه ‪ -‬فيرجع في تفصيل ذلك إلى الجنائز ‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫عند الكلم عن غسل الميّت وعدم غسله ‪ .‬والجهاد ‪ ،‬عند الحديث عن فضل القتل في سبيل‬
‫اللّه ‪.‬‬

‫*استصباحٌ‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬الستصباح في اللّغة ‪ :‬مصدر استصبح بمعنى ‪ :‬أوقد المصباح ‪ ،‬وهو الّذي يشتعل منه‬ ‫‪1‬‬

‫الضّوء ‪ .‬واستصبح بالزّيت ونحوه ‪ :‬أي أمدّ به مصباحه ‪ ،‬كما في حديث جابرٍ في السّؤال‬
‫عن شحوم الميتة ‪ « ..‬ويستصبح بها النّاس » ‪ :‬أي يشعلون بها سرجهم " ولم يخرج استعمال‬
‫الفقهاء عن هذا المعنى ‪ ،‬فقد ورد في طلبة الطّلبة الستصباح بالدّهن ‪ :‬إيقاد المصباح ‪ ،‬وهو‬
‫السّراج ‪ .‬وفي المصباح المنير استصبحت بالمصباح ‪ ،‬واستصبحت بالدّهن ‪ :‬نوّرت به‬
‫المصباح ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬القتباس ‪:‬‬

‫‪ -‬القتباس له معانٍ ع ّد ٌة أهمّها ‪ :‬طلب القبس ‪ ،‬وهو الشّعلة من النّار ‪ ،‬فإذا كان بهذا المعنى‬ ‫‪2‬‬

‫فهو يختلف عن الستصباح ‪ ،‬كما ظهر من التعريف ‪ .‬والفرق واضحٌ بين طلب الشّعلة ‪،‬‬
‫وإيقاد الشّيء لتتكوّن لنا شعلةٌ ‪ ،‬فاليقاد سابقٌ لطلب الشّعلة ‪ .‬أمّا كون القتباس بمعنى تضمين‬
‫المتكلّم كلمه ‪ -‬شعرا كان أو نثرا ‪ -‬شيئا من القرآن الكريم ‪ ،‬أو الحديث النّبويّ الشّريف ‪،‬‬
‫على وج ٍه ل يكون فيه إشعارٌ بأنّه من القرآن أو الحديث ‪ ،‬فهو بعيدٌ جدّا عن معنى الستصباح‬
‫‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الستضاءة ‪:‬‬
‫‪ -‬الستضاءة مصدر ‪ :‬استضاء ‪ .‬والستضاءة ‪ :‬طلب الضّوء ‪ .‬يقال ‪ :‬استضاء بالنّار ‪ :‬أي‬ ‫‪3‬‬

‫استنار بها ‪ ،‬أي انتفع بضوئها ‪ ،‬فإيقاد السّراج غير النتفاع بضوئه ‪ ،‬إذ أنّه يكون سابقا‬
‫للستضاءة ‪.‬‬
‫حكم الستصباح ‪:‬‬
‫‪ -‬يختلف حكم الستصباح باختلف ما يستصبح به ‪ ،‬والمكان الّذي يستصبح فيه ‪ ،‬فإن كان‬ ‫‪4‬‬

‫ل فيفرّق بين ما هو نجسٌ وما هو متنجّسٌ ‪ ،‬وما إذا كان في‬


‫ما يستصبح به طاهرا فبها ‪ ،‬وإ ّ‬
‫المسجد وما إذا كان في غيره ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬فإن كان ما يستصبح به نجسا بعينه ‪ ،‬كشحم الخنزير ‪ ،‬أو شحم الميتة ‪ ،‬فجمهور الفقهاء‬
‫على حرمة الستصباح به ‪ ،‬سوا ٌء أكان في المسجد أم في غيره ‪ ،‬وذلك للدلّة التّالية ‪ :‬أ ّولً ‪:‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم « لمّا سئل عن النتفاع بشحوم الميتة باستصباحٍ وغيره قال ‪ :‬ل‬
‫أّ‬
‫‪ ،‬هو حرامٌ » ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬وقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل تنتفعوا من الميتة بشيءٍ » ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬ولنّه مظنّة التّلوّث به ‪ ،‬ولكراهة دخان النّجاسة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وإن كان متنجّسا ‪ ،‬أي أنّ الوقود طاهرٌ في الصل ‪ ،‬وأصابته نجاسةٌ ‪ ،‬فإن كان‬
‫الستصباح به في المسجد فجمهور الفقهاء على عدم جواز ذلك ‪ .‬أمّا إن كان الستصباح‬
‫بالمتنجّس في غير المسجد ‪ ،‬فيجوز عند جمهور الفقهاء ‪ ،‬لنّ الوقود يمكن النتفاع به من‬
‫غير ضررٍ ‪ ،‬فجاز كالطّاهر ‪ .‬وقد جاء عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم « في العجين الّذي‬
‫عجن بماءٍ من آبار ثمود أنّه نهاهم عن أكله ‪ ،‬وأمرهم أن يعلفوه النّواضح » ( البل الّتي‬
‫يستقى عليها ) وهذا الوقود ليس بميتةٍ ‪ ،‬ول هو من شحومها فيتناوله الخبر ‪.‬‬
‫حكم استعمال مخلّفاتهما ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا استصبح بالمتنجّس ‪ ،‬أو النّجس فل بأس بدخانه أو رماده عند الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬إذا‬ ‫‪5‬‬

‫لم يكن يعلق بالثّياب ‪ ،‬وذلك لضمحلل النّجاسة بالنّار ‪ ،‬وزوال أثرها ‪ ،‬فمجرّد الملقاة ل‬
‫ينجّس ‪ ،‬بل ينجّس إذا علق ‪ .‬والظّاهر أنّ المراد بالعلوق أن يظهر أثره ‪ ،‬أمّا مجرّد الرّائحة‬
‫ن العلّة في جواز النتفاع هي التّغيّر وانقلب الحقيقة ‪ ،‬وأنّه يفتى به‬
‫فل ‪ .‬وكذلك يرون أ ّ‬
‫ن المتنجّس كالنّجس ؛ لنّه جزءٌ يستحيل منه ‪،‬‬
‫للبلوى ‪ .‬أمّا الشّافعيّة والحنابلة فيرون أ ّ‬
‫والستحالة ل تطهر ‪ ،‬فإن علق شيءٌ وكان يسيرا عفي عنه ؛ لنّه ل يمكن التّحرّز منه فأشبه‬
‫دم البراغيث ‪ ،‬وإن كان كثيرا لم يعف عنه ‪ .‬وقيل أيضا بأنّ دخان النّجاسة نجسٌ ‪ ،‬ول شكّ‬
‫ن ما ينفصل من الدّخان يؤثّر في الحيطان ‪ ،‬وذلك يؤدّي إلى تنجيسها فل يجوز ‪ .‬وينظر‬
‫أّ‬
‫تفصيل هذا في ( نجاسةٌ ) ‪.‬‬
‫آداب الستصباح ‪:‬‬
‫‪ -‬يستحبّ عند جمهور الفقهاء إطفاء المصباح عند النّوم ‪ ،‬خوفا من الحريق المحتمل بالغفلة‬ ‫‪6‬‬

‫‪ ،‬فإن وجدت الغفلة حصل النّهي ‪ .‬وقد وردت أحاديث كثير ٌة للرّسول صلى ال عليه وسلم تدلّ‬
‫على هذا ‪ ،‬منها حديث جابر بن عبد اللّه رضي ال عنه قال ‪ « :‬قال رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ :‬خمّروا النية » أي غطّوها « وأجيفوا البواب » أي أغلقوها « وأطفئوا‬
‫ن الفويسقة ربّما جرّت الفتيلة ‪ ،‬فأحرقت أهل البيت » ‪ .‬قال ابن مفلحٍ ‪ :‬يستحبّ‬
‫المصابيح ‪ ،‬فإ ّ‬
‫إطفاء النّار عند النّوم ؛ لنّها عدوّ مزمومٌ بزمامٍ ل يؤمن لهبها في حالة نوم النسان ‪ .‬أمّا إن‬
‫ق أو على شيءٍ ل يمكن الفواسق والهوامّ التّسلّق إليه فل أرى‬
‫جعل المصباح في شي ٍء معلّ ٍ‬
‫بذلك بأسا ‪.‬‬

‫*استصحابٌ‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬الستصحاب في اللّغة ‪ :‬الملزمة ‪ ،‬يقال ‪ :‬استصحبت الكتاب وغيره ‪ :‬حملته بصحبتي ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫وأمّا في الصطلح ‪ ،‬فقد عرّف بعدّة تعريفاتٍ منها ما عرّفه به السنويّ بقوله ‪ :‬الستصحاب‬
‫عبارةٌ عن الحكم بثبوت أم ٍر في الزّمن التي ‪ ،‬بناءً على ثبوته في الزّمن الوّل ‪ .‬ومثاله ‪ :‬أنّ‬
‫المتوضّئ بيقينٍ يبقى على وضوئه وإن شكّ في نقض طهارته ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة‬
‫الباحة ‪:‬‬
‫ع من أنواع الستصحاب ‪ ،‬وهي ما يسمّى‬
‫‪ -‬الباحة الصليّة ‪ -‬بمعنى براءة ال ّذمّة ‪ -‬نو ٌ‬ ‫‪2‬‬

‫باستصحاب العدم الصليّ ‪ .‬وأمّا الباحة الّتي هي قسمٌ من أقسام الحكم التّكليفيّ ‪ ،‬فهي مغايرةٌ‬
‫ع من الدلّة الّتي تثبت بها الباحة‬
‫للستصحاب ‪ ،‬إذ الستصحاب ‪ -‬عند من يقول به ‪ -‬نو ٌ‬
‫وغيرها من الحكام ‪.‬‬
‫أنواع الستصحاب ‪:‬‬
‫‪ -‬للستصحاب أنواعٌ ثلث ٌة متّفقٌ عليها ‪ ،‬هي ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫أ ‪ -‬استصحاب العدم الصليّ ‪ ،‬كنفي وجوب صلةٍ سادسةٍ ‪ ،‬ونفي وجوب صوم شوّالٍ ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬استصحاب العموم إلى أن يرد المخصّص ‪ ،‬كبقاء العموم في قوله تعالى ‪ { :‬وحرّم الرّبا‬
‫ص إلى أن يرد ناسخٌ ‪ ،‬كوجوب جلد كلّ قاذفٍ زوجا أو غيره ‪ ،‬إلى أن‬
‫} ‪ ،‬واستصحاب النّ ّ‬
‫ورد النّاسخ الجزئيّ ‪ ،‬بالنّسبة للزّوج دون غيره ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬استصحاب حكمٍ دلّ الشّرع على ثبوته ودوامه ‪ ،‬كالملك عند جريان العقد الّذي يفيد‬
‫التّمليك ‪ ،‬وكشغل ال ّذمّة عند جريان إتلفٍ أو إلزامٍ ‪ ،‬فيبقى الملك والدّين إلى أن يثبت زوالهما‬
‫جيّتهما ‪ ،‬وموضع تفصيلهما‬
‫ع ‪ .‬وهناك نوعان آخران للستصحاب مختلفٌ في ح ّ‬
‫بسببٍ مشرو ٍ‬
‫الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫جيّته ‪:‬‬
‫حّ‬
‫جيّة الستصحاب على أقوالٍ أشهرها ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الصوليّون في ح ّ‬ ‫‪4‬‬

‫أ ‪ -‬قال المالكيّة ‪ ،‬وأكثر الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة بحجّيّته مطلقا ‪ ،‬أي في النّفي والثبات ‪.‬‬
‫جيّته مطلقا ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وقال أكثر الحنفيّة ‪ ،‬والمتكلّمين بعدم ح ّ‬
‫ج ‪ -‬ومنهم من قال بحجّيّته في النّفي دون الثبات ‪ ،‬وهم أكثر المتأخّرين من الحنفيّة ‪ .‬وهناك‬
‫أقوالٌ أخرى موضعها وتفصيلها في الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫جيّة ‪:‬‬
‫مرتبته في الح ّ‬
‫جيّته ‪ -‬هو آخر دليلٍ يلجأ إليه المجتهد ‪ ،‬لمعرفة حكم ما‬
‫‪ -‬الستصحاب ‪ -‬عند من يقول بح ّ‬ ‫‪5‬‬

‫يعرض عليه ‪ ،‬ولهذا قال الفقهاء ‪ :‬إنّه آخر مدار الفتوى ‪ ،‬وعليه ثبتت القاعدة الفقهيّة‬
‫المشهورة ‪ ( :‬الصل بقاء ما كان على ما كان ‪ ،‬حتّى يقوم الدّليل على خلفه ) والقاعدة ‪:‬‬
‫شكّ ) ‪.‬‬
‫( ما ثبت باليقين ل يزول بال ّ‬

‫*استصلحٌ‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬الستصلح في اللّغة ‪ :‬نقيض الستفساد ‪ .‬وعند الصوليّين ‪ :‬استنباط الحكم في واقع ٍة ل‬ ‫‪1‬‬

‫نصّ فيها ول إجماع ‪ ،‬بنا ًء على مصلح ٍة عا ّمةٍ ل دليل على اعتبارها ول إلغائها ‪ .‬ويعبّر عنه‬
‫أيضا بالمصلحة المرسلة ‪.‬‬
‫‪ -‬والمصلحة في اللّغة ‪ :‬ضدّ المفسدة ‪ .‬وفي الصطلح عند الغزاليّ ‪ :‬المحافظة على‬ ‫‪2‬‬

‫مقاصد الشّرع الخمسة ‪.‬‬


‫‪ -‬والمصالح المرسلة ‪ :‬ما ل يشهد لها أصلٌ بالعتبار ول باللغاء ‪ ،‬ل بالنّصّ ول‬ ‫‪3‬‬

‫بالجماع ‪ ،‬ول يترتّب الحكم على وفقه ‪.‬‬


‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫أ ‪ -‬الستحسان ‪:‬‬
‫‪ -‬عرّفه الصوليّون بتعاريف كثيرةٍ ‪ ،‬المختار منها ‪ :‬العدول إلى خلف النّظير بدليلٍ أقوى‬ ‫‪4‬‬

‫منه ‪ ،‬كدخول الحمّام من غير تقييدٍ بزمان مكثٍ ‪ ،‬ول مقدار ما ٍء ‪ ،‬لدليل العرف ‪ .‬وعلى ذلك‬
‫فالستحسان يكون في مقابلة قياسٍ بقياسٍ ‪ ،‬أو بمقابلة نصّ بقاعد ٍة عا ّمةٍ ‪ ،‬والستصلح ليس‬
‫كذلك ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬القياس ‪:‬‬

‫‪ -‬وهو مساواة المسكوت عنه بالمنصوص عليه في علّة الحكم ‪ .‬فالفرق بين الستصلح‬ ‫‪5‬‬

‫وبين القياس ‪ :‬أنّ للقياس أصلً يقاس الفرع عليه ‪ ،‬في حين أنّه ليس للستصلح هذا الصل‬
‫‪ .‬أقسام المناسب المرسل ‪:‬‬
‫‪ -‬المناسب الّذي يقوم عليه الستصلح ينقسم إلى ثلثة أقسامٍ ‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫ع من أنواع العتبارات ‪.‬‬


‫أ ‪ -‬إمّا أن يعتبره الشّارع بأيّ نو ٍ‬
‫ب ‪ -‬وإمّا أن يلغيه ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬وإمّا أن يسكت عنه ‪ .‬والخير هو الستصلح ‪.‬‬
‫جيّة الستصلح ‪:‬‬
‫حّ‬

‫ل يأخذ به‬
‫جيّته على مذاهب كثيرةٍ ‪ ،‬والحقّ أنّه ما من مذهبٍ من المذاهب إ ّ‬
‫‪ -‬اختلف في ح ّ‬ ‫‪7‬‬

‫إجمالً ‪ ،‬وقد وضع بعضهم قيودا لجواز الخذ به ‪ ،‬وبيان ذلك كلّه في الملحق الصوليّ ‪ ،‬عند‬
‫الكلم عن المصلحة المرسلة ‪.‬‬

‫*استصناعٌ‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬الستصناع في اللّغة ‪ :‬مصدر استصنع الشّيء ‪ :‬أي دعا إلى صنعه ‪ ،‬ويقال ‪ :‬اصطنع‬ ‫‪1‬‬

‫فلنٌ بابا ‪ :‬إذا سأل رجلً أن يصنع له بابا ‪ ،‬كما يقال ‪ :‬اكتتب أي أمر أن يكتب له ‪ .‬وفي‬
‫الصطلح هو على ما عرّفه بعض الحنفيّة ‪ :‬عقدٌ على مبيعٍ في ال ّذمّة شرط فيه العمل ‪ .‬فإذا‬
‫قال شخصٌ لخر من أهل الصّنائع ‪ :‬اصنع لي الشّيء الفلنيّ بكذا درهما ‪ ،‬وقبل الصّانع ذلك‬
‫‪ ،‬انعقد استصناعا عند الحنفيّة ‪ ،‬وكذلك الحنابلة ‪ ،‬حيث يستفاد من كلمهم أنّ الستصناع ‪:‬‬
‫بيع سلع ٍة ليست عنده على غير وجه السّلم ‪ ،‬فيرجع في هذا كلّه عندهم إلى البيع وشروطه عند‬
‫الكلم عن البيع بالصّنعة ‪ .‬أمّا المالكيّة والشّافعيّة ‪ :‬فقد ألحقوه بالسّلم ‪ ،‬فيؤخذ تعريفه وأحكامه‬
‫من السّلم ‪ ،‬عند الكلم عن السّلف في الشّيء المسلم للغير من الصّناعات ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الجارة على الصّنع ‪:‬‬

‫‪ -‬الجارة على الصّنع هي عند بعض الفقهاء ‪ :‬بيع عملٍ تكون العين فيه تبعا ‪ .‬فالجارة‬ ‫‪2‬‬

‫على الصّنع تتّفق مع الستصناع في كون العمل على العامل ‪ ،‬وهو الصّانع في الستصناع ‪،‬‬
‫ل البيع ‪ .‬ففي الجارة على الصّنع ‪:‬‬
‫والجير في الجارة على الصّنع ‪ .‬ويفترقان في مح ّ‬
‫المحلّ هو العمل ‪ ،‬أمّا في الستصناع ‪ :‬فهو العين الموصوفة في ال ّذمّة ‪ ،‬ل بيع العمل ‪.‬‬
‫ن الجارة على الصّنع تكون بشرط ‪ :‬أن يقدّم المستأجر للعامل « المادّة » ‪،‬‬
‫وفرقٌ آخر هو أ ّ‬
‫فالعمل على العامل ‪ ،‬والمادّة من المستأجر ‪ ،‬أمّا في الستصناع ‪ :‬فالمادّة والعمل من الصّانع‬
‫‪.‬‬
‫ب ‪ -‬السّلم في الصّناعات ‪:‬‬

‫ن السّلم إمّا أن يكون بالصّناعات أو‬


‫‪ -‬السّلم في الصّناعات هو نوعٌ من أنواع السّلم ‪ ،‬إذ أ ّ‬ ‫‪3‬‬

‫بالمزروعات ‪ ،‬أو غير ذلك ‪ .‬والسّلم هو ‪ « :‬شراء آجلٍ بعاجلٍ » فالستصناع يتّفق مع السّلم‬
‫بصورةٍ كبيرةٍ ‪ ،‬فالجل الّذي في السّلم هو ما وصف في ال ّذمّة ‪ ،‬وممّا يؤكّد هذا جعل الحنفيّة‬
‫ن السّلم عامّ‬
‫مبحث الستصناع ضمن مبحث السّلم ‪ ،‬وهو ما فعله المالكيّة والشّافعيّة ‪ ،‬إلّ أ ّ‬
‫للمصنوع وغيره ‪ ،‬والستصناع خاصّ بما اشترط فيه الصّنع ‪ ،‬والسّلم يشترط فيه تعجيل‬
‫ن الستصناع التّعجيل ‪ -‬فيه عند أكثر الحنفيّة ‪ -‬ليس بشرطٍ ‪.‬‬
‫الثّمن ‪ ،‬في حين أ ّ‬
‫ج ‪ -‬الجعالة ‪:‬‬

‫ل عسر عمله ‪ ،‬وهي عقدٌ‬


‫‪ -‬الجعالة هي ‪ :‬التزام عوضٍ معلومٍ على عملٍ معيّنٍ أو مجهو ٍ‬ ‫‪4‬‬

‫على عملٍ ‪ .‬فالجعالة تتّفق مع الستصناع في أنّهما عقدان شرط فيهما العمل ‪ .‬ويفترقان في‬
‫ص في الصّناعات ‪ ،‬كما أنّ‬
‫ن الجعالة عامّةٌ في الصّناعات وغيرها ‪ ،‬إلّ أنّ الستصناع خا ّ‬
‫أّ‬
‫ن الستصناع ل بدّ أن‬
‫الجعالة العمل فيها قد يكون معلوما ‪ ،‬وقد يكون مجهولً ‪ ،‬في حين أ ّ‬
‫يكون معلوما ‪.‬‬
‫معنى الستصناع ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف المشايخ فيه ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬هو مواعد ٌة وليس ببيعٍ ‪ .‬وقال بعضهم ‪ :‬هو بي ٌع لكن‬ ‫‪5‬‬

‫ن محمّدا رحمه ال ذكر في جوازه القياس‬


‫للمشتري فيه خيارٌ ‪ ،‬وهو الصّحيح ‪ ،‬بدليل أ ّ‬
‫والستحسان ‪ ،‬وذلك ل يكون في العدّات ‪ .‬وكذا أثبت فيه خيار الرّؤية ‪ ،‬وأنّه يختصّ‬
‫بالبياعات ‪ .‬وكذا يجري فيه التّقاضي ‪ ،‬وأنّ ما يتقاضى فيه الواجب ‪ ،‬ل الموعود ‪ .‬وهناك‬
‫ن الصّانع له ألّ يعمل ‪ ،‬وبذلك كان ارتباطه مع‬
‫ي عند بعض الحنفيّة أنّه وع ٌد ‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫رأ ٌ‬
‫ن كلّ ما ل يلزم به الصّانع مع إلزام نفسه به يكون وعدا ل‬
‫المستصنع ارتباط وعدٍ ل عقدٍ ؛ ل ّ‬
‫عقدا ‪ ،‬لنّ الصّانع ل يجبر على العمل بخلف السّلم ‪ ،‬فإنّه مجبرٌ بما التزم به ؛ ولنّ‬
‫المستصنع له الحقّ في عدم تقبّل ما يأتي به الصّانع من مصنوعٍ ‪ ،‬وله أن يرجع عمّا‬
‫استصنعه قبل تمامه ورؤيته ‪ ،‬وهذا علمة أنّه وعدٌ ل عقدٌ ‪.‬‬
‫الستصناع بيعٌ أم إجارةٌ ‪:‬‬

‫ن الستصناع بي ٌع ‪ .‬فقد عدّد الحنفيّة أنواع البيوع ‪ ،‬وذكروا‬


‫‪ -‬يرى أكثر الحنفيّة والحنابلة أ ّ‬ ‫‪6‬‬

‫ن شرط فيه العمل ‪ ،‬أو هو بيعٌ لكن للمشتري خيار الرّؤية ‪،‬‬
‫منها الستصناع ‪ ،‬على أنّه بيع عي ٍ‬
‫ل أنّه ليس على إطلقه ‪ ،‬فخالف البيع المطلق في اشتراط العمل في الستصناع ‪،‬‬
‫فهو بيعٌ إ ّ‬
‫والمعروف أنّ البيع ل يشترط فيه العمل ‪ .‬وقال بعض الحنفيّة ‪ :‬إنّ الستصناع إجارةٌ‬
‫محض ٌة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إنّه إجار ٌة ابتدا ًء ‪ ،‬بيعٌ انتهاءً ‪.‬‬
‫صفة الستصناع ‪ :‬حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬
‫ع عند أكثر الحنفيّة على سبيل الستحسان ‪،‬‬
‫ل ‪ -‬مشرو ٌ‬
‫‪ -‬الستصناع ‪ -‬باعتباره عقدا مستق ّ‬ ‫‪7‬‬

‫ومنعه زفر من الحنفيّة أخذا بالقياس ؛ لنّه بيع المعدوم ‪ .‬ووجه الستحسان ‪ :‬استصناع‬
‫الرّسول صلى ال عليه وسلم الخاتم ‪ ،‬والجماع من لدن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم دون‬
‫ص الحنابلة على أنّه ل يصحّ‬
‫نكيرٍ ‪ ،‬وتعامل النّاس بهذا العقد والحاجة الماسّة إليه ‪ .‬ون ّ‬
‫استصناع سلعةٍ ‪ ،‬لنّه بيع ما ليس عنده على وجه غير السّلم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يصحّ بيعه إلى‬
‫المشتري إن صحّ جم ٌع بين بيعٍ وإجارةٍ منه بعقدٍ واحدٍ ؛ لنّه بيعٌ وسلمٌ ‪.‬‬
‫حكمة مشروعيّة الستصناع ‪:‬‬
‫‪ -‬الستصناع شرع لسدّ حاجات النّاس ومتطلّباتهم ؛ نظرا لتطوّر الصّناعات تطوّرا كبيرا ‪،‬‬ ‫‪8‬‬

‫فالصّانع يحصل له الرتفاق ببيع ما يبتكر من صناع ٍة هي وفق الشّروط الّتي وضع عليها‬
‫المستصنع في المواصفات والمقايسات ‪ ،‬والمستصنع يحصل له الرتفاق بسدّ حاجيّاته وفق ما‬
‫يراه مناسبا لنفسه وبدنه وماله ‪ ،‬أمّا الموجود في السّوق من المصنوعات السّابقة الصّنع فقد ل‬
‫تس ّد حاجات النسان ‪ .‬فل بدّ من الذّهاب إلى من لديه الخبرة والبتكار ‪.‬‬
‫أركان الستصناع ‪:‬‬
‫ل ‪ ،‬والصّيغة ‪.‬‬
‫أركان الستصناع هي ‪ :‬العاقدان ‪ ،‬والمح ّ‬
‫ل ما يدلّ على رضا الجانبين « البائع‬
‫‪ -‬أمّا الصّيغة ‪ ،‬أو اليجاب والقبول فهي ‪ :‬ك ّ‬ ‫‪9‬‬

‫والمشتري » ومثالها هنا ‪ :‬اصنع لي كذا ‪ ،‬ونحو هذه العبارة لفظا أو كتابةً ‪.‬‬
‫‪ -‬وأمّا محلّ الستصناع فقد اختلف فقهاء الحنفيّة فيه ‪ ،‬هل هو العين أو العمل ؟ فجمهور‬ ‫‪10‬‬

‫الحنفيّة على أنّ العين هي المعقود عليه ‪ ،‬وذلك لنّه لو استصنع رجلٌ في عينٍ يسلّمها له‬
‫الصّانع بعد استكمال ما يطلبه المستصنع ‪ ،‬سوا ٌء أكانت الصّنعة قد تمّت بفعل الصّانع أم بفعل‬
‫غيره بعد العقد ‪ ،‬فإنّ العقد يلزم ‪ ،‬ول تردّ العين لصانعها إلّ بخيار الرّؤية ‪ .‬فلو كان العقد‬
‫ح العقد إذا تمّت الصّنعة بصنع غيره ‪ .‬وهذا‬
‫واردا على صنعة الصّانع أي « عمله » لما ص ّ‬
‫ن الستصناع‬
‫ن العقد يتوجّه على العين ل على الصّنعة ‪ .‬ويرون أنّ المتّفق عليه أ ّ‬
‫دليلٌ على أ ّ‬
‫ل في بيع العين ‪ ،‬فدلّ ذلك على أنّ‬
‫ثبت فيه للمستصنع خيار الرّؤية ‪ ،‬وخيار الرّؤية ل يكون إ ّ‬
‫ن المعقود عليه في الستصناع هو‬
‫المبيع هو العين ل الصّنعة ‪ .‬ومن الحنفيّة من يرى أ ّ‬
‫ل ‪ ،‬فالستصناع طلب العمل لغةً‬
‫العمل ‪ ،‬وذلك لنّ عقد الستصناع ينبئ عن أنّه عقدٌ على عم ٍ‬
‫‪ ،‬والشياء الّتي تستصنع بمنزلة اللة للعمل ‪ ،‬ولو لم يكن عقد الستصناع عقد عملٍ لما جاز‬
‫أن يفرد بالتّسمية ‪.‬‬
‫الشّروط الخاصّة للستصناع ‪:‬‬
‫‪ -‬للستصناع شروطٌ هي ‪:‬‬ ‫‪11‬‬

‫أ ‪ -‬أن يكون المستصنع فيه معلوما ‪ ،‬وذلك ببيان الجنس والنّوع والقدر ‪ .‬والستصناع يستلزم‬
‫شيئين هما ‪ :‬العين والعمل ‪ ،‬وكلهما يطلب من الصّانع ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن يكون ممّا يجري فيه التّعامل بين النّاس ؛ لنّ ما ل تعامل فيه يرجع فيه للقياس‬
‫فيحمل على السّلم ويأخذ أحكامه ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬عدم ضرب الجل ‪ :‬اختلف في هذا الشّرط ‪ ،‬فمن الحنفيّة من يرى أنّه يشترط في عقد‬
‫الستصناع خلوّه من الجل ‪ ،‬فإذا ذكر الجل في الستصناع صار سلما ‪ ،‬ويعتبر فيه شرائط‬
‫ن السّلم عق ٌد على مبيعٍ‬
‫السّلم ‪ .‬وقد استدلّوا على اشتراط عدم ضرب الجل في الستصناع ‪ :‬بأ ّ‬
‫ل صار بمعنى السّلم ولو كانت الصّيغة‬
‫ل ‪ .‬فإذا ما ضرب في الستصناع أج ٌ‬
‫في ال ّذمّة مؤجّ ً‬
‫ص بالدّيون ؛ لنّه وضع لتأخير المطالبة ‪ ،‬وتأخير المطالبة إنّما‬
‫استصناعا ‪ .‬وبأنّ التّأجيل يخت ّ‬
‫ل في السّلم ‪ ،‬إذ ل دين في الستصناع ‪ .‬وخالف في‬
‫يكون في عق ٍد فيه مطالبةٌ ‪ ،‬وليس ذلك إ ّ‬
‫ن العرف عندهما جرى بضرب الجل في الستصناع ‪،‬‬
‫ذلك أبو يوسف ومح ّمدٌ ‪ ،‬إذ أ ّ‬
‫والستصناع إنّما جاز للتّعامل ‪ ،‬ومن مراعاة التّعامل بين النّاس رأى الصّاحبان ‪ :‬أنّ ‪.‬‬
‫الستصناع قد تعورف فيه على ضرب الجل ‪ ،‬فل يتحوّل إلى السّلم بوجود الجل ‪ .‬وعندهما‬
‫ن كلم المتعاقدين يحمل على مقتضاه ‪ ،‬وإذا‬
‫ن الستصناع إذا أريد يحمل على حقيقته ‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪:‬أّ‬
‫كان كذلك فالجل يحمل على الستعجال ل الستمهال ‪ ،‬خروجا من خلف أبي حنيفة ‪.‬‬
‫الثار العامّة للستصناع ‪:‬‬
‫‪ -‬الستصناع عقدٌ غير لزمٍ عند أكثر الحنفيّة ‪ ،‬سواءٌ ت ّم أم لم يتمّ ‪ ،‬وسواءٌ أكان موافقا‬ ‫‪12‬‬

‫للصّفات المتّفق عليها أم غير موافقٍ ‪ .‬وذهب أبو يوسف إلى أنّه إن ت ّم صنعه ‪ -‬وكان مطابقا‬
‫للوصاف المتّفق عليها ‪ -‬يكون عقدا لزما ‪ ،‬وأمّا إن كان غير مطابقٍ لها فهو غير لزمٍ عند‬
‫الجميع ؛ لثبوت خيار فوات الوصف ‪.‬‬
‫ما ينتهي به عقد الستصناع ‪:‬‬
‫‪ -‬ينتهي الستصناع بتمام الصّنع ‪ ،‬وتسليم العين ‪ ،‬وقبولها ‪ ،‬وقبض الثّمن ‪ .‬كذلك ينتهي‬ ‫‪13‬‬

‫الستصناع بموت أحد العاقدين ؛ لشبهه بالجارة ‪.‬‬

‫*استطابةٌ‬
‫التعريف‬
‫طيّب لغةً ‪ :‬خلف الخبث ‪ ،‬يقال ‪ :‬شيءٌ طيّبٌ ‪ :‬أي طاهرٌ نظيفٌ ‪ .‬والستطابة ‪:‬‬
‫‪ -‬ال ّ‬ ‫‪1‬‬

‫ن المستنجي يطهّر المكان‬


‫مصدر استطاب ‪ ،‬بمعنى ‪ :‬رآه طيّبا ‪ ،‬ومن معانيها ‪ :‬الستنجاء ؛ ل ّ‬
‫وينظّفه من النّجس ‪ ،‬فتطيب نفسه بذلك ‪ .‬ويطلق الفقهاء الستطابة على الستنجاء ‪ ،‬ويجعلون‬
‫الكلمتين مترادفتين ‪ .‬قال ابن قدامة في المغني ‪ « :‬الستطابة هي ‪ :‬الستنجاء بالماء أو‬
‫الحجار ‪ ،‬سمّي استطاب ًة ؛ لنّه يطيّب جسده بإزالة الخبث عنه » ‪ .‬وقد وردت استطابةٌ‬
‫بمعنى حلق العانة في حديث خبيب بن عديّ لمّا أرادوا قتله أنّه قال لمرأة عقبة بن الحارث ‪:‬‬
‫« ابغني حديد ًة أستطيب بها » ‪.‬‬
‫‪ -‬ولحكام الستطابة بمعنى الستنجاء ( ر ‪ :‬استنجاءٌ ) ‪ .‬ولحكامها بمعنى حلق العانة ( ر‬ ‫‪2‬‬

‫‪ :‬استحدادٌ ) ‪.‬‬

‫*استطاعةٌ‬
‫التّعريف‬
‫‪ -‬الستطاعة في اللّغة ‪ :‬القدرة على الشّيء ‪ .‬والقدرة ‪ :‬هي صف ٌة بها إن شاء فعل ‪ ،‬وإن‬ ‫‪1‬‬

‫شاء لم يفعل ‪ .‬وهي عند الفقهاء كذلك ‪ ،‬فهم يقولون مثلً ‪ :‬الستطاعة شرطٌ لوجوب الحجّ ‪.‬‬
‫ن الفقهاء يستعملون كلتا‬
‫وإذا كانت الستطاعة والقدرة بمعنًى واحدٍ ‪ ،‬فإنّه يجدر بنا أن ننوّه أ ّ‬
‫الكلمتين ‪ ( :‬استطاعةٌ ‪ ،‬قدرةٌ ) ‪ .‬وأنّ الصوليّين يستعملون كلمة ‪ ( :‬قدر ٌة ) ‪ .‬قال في فواتح‬
‫الرّحموت شرح مسلّم الثّبوت ‪ :‬اعلم أنّ القدرة المتعلّقة بالفعل ‪ ،‬المستجمعة لجميع الشّرائط‬
‫الّتي يوجد الفعل بها ‪ ،‬أو يخلق اللّه تعالى عندها ‪ ،‬تسمّى ‪ ( :‬استطاعةٌ ) ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬

‫الطاقة‬
‫ن كلّ كلمةٍ منهما تدلّ على غاية مقدور‬
‫‪ -‬ل خلف في المعنى بين استطاعةٍ وإطاق ٍة ‪ ،‬إذ أ ّ‬ ‫‪2‬‬

‫ن ما يفرّقهما عن ( القدرة ) في الستعمال اللّغويّ‬


‫القادر ‪ ،‬واستفراغ وسعه في المقدور ‪ .‬إلّ أ ّ‬
‫ن القدرة ليست لغاية المقدور ‪ ،‬ولذلك يوصف اللّه تعالى بالقادر ول يوصف بالمطيق‬
‫هو ‪ :‬أ ّ‬
‫أو المستطيع ‪.‬‬
‫الستطاعة شرطٌ للتّكليف ‪:‬‬

‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ الستطاعة شرطٌ للتّكليف ‪ ،‬فل يجوز التّكليف بما ل يستطاع عادةً ‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫ل شأنه ‪ { :‬ل يكلّف اللّه نفسا إلّ‬


‫سنّة ‪ ،‬فقال ج ّ‬
‫دلّ على ذلك كثيرٌ من نصوص القرآن وال ّ‬
‫وسعها } ‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إخوانكم خولكم ‪ ،‬جعلهم اللّه تحت أيديكم ‪ ،‬فمن‬
‫كان أخوه تحت يده فليطعمه ممّا يأكل ‪ ،‬وليلبسه ممّا يلبس ‪ ،‬ول تكلّفوهم ما يغلبهم ‪ ،‬فإن‬
‫كلّفتموهم فأعينوهم » ‪ .‬وقد حكى في عمدة القاريّ عند كلمه على هذا الحديث التّفاق على‬
‫تحريم التّكليف بغير المستطاع ‪ .‬وإذا صدر التّكليف حين الستطاعة ‪ ،‬ثمّ فقدت هذه‬
‫الستطاعة حين الداء ‪ ،‬أوقف هذا التّكليف إلى حين الستطاعة ‪ .‬فقد كلّف اللّه تعالى من أراد‬
‫الصّلة بالوضوء ‪ ،‬فإن لم يستطعه سقط عنه الوضوء ‪ ،‬وصيّر إلى البدل ‪ ،‬وهو التّيمّم ‪.‬‬
‫وكلّف الحانث في يمينه بكفّارة الطعام أو الكسوة أو العتاق ‪ ،‬فإن لم يستطع واحدا منها حين‬
‫ج ‪ ،‬فإن لم يستطعه‬
‫الداء سقطت عنه وصير إلى البدل ‪ ،‬وهو الصّيام ‪ .‬وكلّف المسلم بالح ّ‬
‫حين الداء لمرضٍ ‪ ،‬أو فقد نفقةٍ ‪ ،‬أو غير ذلك ‪ ،‬سقط هذا التّكليف إلى حين الستطاعة ‪.‬‬
‫وتجد ذلك مبسوطا في أبوابه من كتب الفقه ‪ ،‬وفي مبحث الحكم من كتب الصول ‪.‬‬
‫شرط الستطاعة ‪:‬‬
‫‪ -‬وشرط تحقّق الستطاعة ‪ :‬وجودها حقيق ًة ل حكما ‪ .‬ومعنى وجودها حقيقةً وجود القدرة‬ ‫‪4‬‬

‫سرٍ ‪.‬‬
‫سرٍ ‪ ،‬ومعنى وجودها حكما القدرة على الداء بتع ّ‬
‫على الفعل من غير تع ّ‬
‫أنواع الستطاعة ‪:‬‬
‫‪ -‬يمكن تقسيم الستطاعة إلى عدّة تقسيماتٍ بحسب أنواعها ‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫التّقسيم الوّل ‪ :‬استطاع ٌة ماليّةٌ ‪ ،‬واستطاعةٌ بدنيّةٌ ‪.‬‬


‫‪ -‬الستطاعة الماليّة ‪ :‬يشترط توافرها فيما يلي ‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫ل ‪ :‬في أداء الواجبات الماليّة المحضة ‪ ،‬كالزّكاة ‪ ،‬وصدقة الفطر ‪ ،‬والهدي في الحجّ ‪،‬‬
‫أ ّو ً‬
‫والنّفقة ‪ ،‬والجزية ‪ ،‬والكفّارات الماليّة ‪ ،‬والنّذر الماليّ ‪ ،‬والكفالة بالمال ‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬في الواجبات البدنيّة الّتي يتوقّف القيام بها على الستطاعة الماليّة ‪ ،‬كقدرة فاقد الماء‬
‫على شرائه بثمن المثل للوضوء أو الغسل ‪ ،‬وقدرة فاقد ما يستر به عورته على شراء ثوبٍ‬
‫بثمن المثل ليصلّي فيه ‪ ،‬وقدرة مريد الحجّ على توفير الزّاد والرّاحلة ونفقة العيال ‪ ،‬وقد فصّل‬
‫ذلك الفقهاء في البواب المذكورة ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا الستطاعة البدنيّة ‪ .‬فإنّها مشترط ٌة في وجوب الواجبات البدنيّة ‪ ،‬كوجوب الطّهارة ‪،‬‬ ‫‪7‬‬

‫ي كالصّلة‬
‫ج ‪ ،‬وفي النّذر البدن ّ‬
‫وأداء الصّلة على الوجه الكمل ‪ ،‬وفي الصّوم ‪ ،‬وفي الح ّ‬
‫والصّوم ‪ ،‬وفي الكفّارات البدنيّة كالصّيام ‪ ،‬وفي النّكاح ‪ ،‬وفي الحضانة ‪ ،‬وفي الجهاد ‪ ،‬وقد‬
‫فصّلت أحكام ذلك في البواب المذكورة في كتب الفقه ‪ .‬التّقسيم الثّاني ‪ :‬استطاعةٌ بالنّفس ‪،‬‬
‫واستطاع ٌة بالغير ‪.‬‬
‫‪ -‬الستطاعة بالنّفس ‪ :‬تكون بقدرة المكلّف على القيام بما كلّف به بنفسه من غير افتقارٍ إلى‬ ‫‪8‬‬

‫غيره ‪.‬‬
‫‪ -‬والستطاعة بالغير ‪ :‬هي قدرة المكلّف على القيام بما كلّف به بإعانة غيره ‪ ،‬وعدم قدرته‬ ‫‪9‬‬

‫بنفسه ‪ .‬وهذا النّوع من الستطاعة اختلف الفقهاء في تحقّق شرط التّكليف به ‪ :‬فالجمهور من‬
‫الفقهاء يعتبرون المستطيع بغيره مكلّفا بمقتضى هذه الستطاعة ‪ ،‬ذهب إلى ذلك المالكيّة ‪،‬‬
‫والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬وأبو يوسف ومح ّمدٌ ؛ لنّ المستطيع بغيره يعتبر قادرا على الداء ‪.‬‬
‫وعند أبي حنيفة ‪ :‬المستطيع بغيره عاجزٌ وغير مستطيعٌ ؛ لنّ العبد يكلّف بقدرة نفسه ل بقدرة‬
‫ص بحالةٍ تهيّئ له الفعل متى أراد ‪ ،‬وهذا ل يتحقّق بقدرة غيره‬
‫غيره ؛ ولنّه يعدّ قادرا إذا اخت ّ‬
‫‪ .‬ويستثني أبو حنيفة من ذلك حالتين ‪ :‬الحالة الولى ‪ :‬ما إذا وجد من كانت إعانته واجبةً عليه‬
‫‪ ،‬كولده وخادمه ‪ .‬الحالة الثّانية ‪ :‬ما إذا وجد من إذا استعان به أعانه من غير منّةٍ ‪،‬‬
‫كزوجته ‪ ،‬فإنّه يكون قادرا بقدرة هؤلء ‪ .‬وقد أورد الفقهاء ذلك في كثيرٍ من أبواب الفقه ‪.‬‬
‫واختلفوا في حكمها ‪ ،‬ومنها ‪ :‬العاجز عن الوضوء إذا وجد من يعينه ‪ .‬والعاجز عن التّوجّه‬
‫إلى القبلة إذا وجد من يوجّهه إليها ‪ .‬والعمى إذا وجد من يقوده إلى صلة الجمعة والجماعة‬
‫‪ .‬والعمى والشّيخ الكبير إذا وجدا من يعينهما على أداء أفعال الحجّ ‪ .‬التّقسيم الثّالث ‪ - :‬وهو‬
‫للحنفيّة ‪ -‬استطاع ٌة ممكنةٌ ‪ ،‬واستطاعةٌ ميسّرةٌ ‪:‬‬
‫‪ -‬الستطاعة الممكنة مفسّرةٌ بسلمة اللت وصحّة السباب ‪ ،‬وارتفاع الموانع ‪ ،‬إذ عديم‬ ‫‪10‬‬

‫ج وهكذا ‪ .‬والستطاعة الممكنة‬


‫الرّجلين ل يستطيع المشي ‪ ،‬ومن حبسه عدوّ ل يستطيع الح ّ‬
‫شرطٌ في أداء الواجب عينا ‪ ،‬فإن فاتت ل يسقط الواجب عن ال ّذمّة بفواتها ‪ .‬ول يشترط‬
‫ن اشتراطها لتحقّق التّكليف ‪ ،‬وقد وجد ‪ ،‬فإذا لم يتكرّر الوجوب‬
‫توفّرها في قضاء الواجب ؛ ل ّ‬
‫ل يجب تكرّر الستطاعة الّتي هي شرط الوجوب ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا الستطاعة الميسّرة ‪ ،‬فهي قدرة النسان على الفعل بسهولةٍ ويسرٍ ‪ .‬والستطاعة‬ ‫‪11‬‬

‫الميسّرة شرطٌ في وجوب بعض الواجبات المشروطة بها ‪ ،‬حتّى لو فاتت هذه القدرة سقط‬
‫الواجب عن ال ّذمّة ‪ .‬فالزّكاة واجب ٌة بالقدرة الميسّرة ‪ ،‬ومن وجوه اليسر فيها ‪ :‬أنّها قليلٌ من‬
‫كثيرٍ ‪ ،‬وتؤدّى مرّةً واحد ًة في الحول ‪ ،‬ولهذا التّيسير سقط وجوبها بهلك النّصاب ‪ ،‬إذ لو‬
‫وجبت مع الهلك انقلب اليسر عسرا ‪.‬‬
‫اختلف الستطاعة من شخصٍ لخر ‪ ،‬ومن عملٍ لخر ‪:‬‬
‫ن قد يكون شخصٌ‬
‫‪ -‬الستطاعة تختلف من شخصٍ إلى شخصٍ آخر ‪ ،‬فتجاه عم ٍل معيّ ٍ‬ ‫‪12‬‬

‫ص آخر غير مستطيعٍ له ‪ ،‬كالمرض بأنواعه الّتي يختلف أثرها على‬


‫مستطيعا له ‪ ،‬وشخ ٌ‬
‫ل إلى عملٍ ‪ ،‬فالعرج غير مستطيعٍ للجهاد بالنّفس ‪،‬‬
‫القدرة ‪ .‬كما تختلف الستطاعة من عم ٍ‬
‫ولكنّه مستطيعٌ للجهاد بالمال ‪ ،‬ومستطيعٌ لداء صلة الجمعة وهكذا ‪.‬‬

‫*استطلق البطن‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬استطلق البطن في اللّغة ‪ :‬هو مشيه ‪ ،‬وكثرة خروج ما فيه ‪ .‬والمعنى الصطلحيّ هو‬ ‫‪1‬‬

‫المعنى اللّغويّ ‪ ،‬فقد عرّفه الفقهاء بقولهم ‪ :‬استطلق البطن هو ‪ :‬جريان ما فيه من الغائط ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪ -‬استطلق البطن من العذار الّتي تبيح العبادة مع وجود العذر ‪ .‬وشروط اعتباره عذرا‬ ‫‪2‬‬

‫هو ‪ :‬أن يستوعب وجوده تمام وقت صلةٍ مفروضةٍ ‪ ،‬وهذا عند الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪،‬‬
‫والحنابلة ‪ .‬وعند المالكيّة ‪ :‬يعتبر عذرا إن لزم الحدث كلّ الوقت ‪ ،‬أو أغلبه ‪ ،‬أو نصفه ‪.‬‬
‫ويختلف المالكيّة في المقصود بالوقت ‪ ،‬هل هو وقت الصّلة أو الوقت مطلقا ؟ أي غير مق ّيدٍ‬
‫بكونه وقت صل ٍة ‪ ،‬فيشمل ما بين طلوع الشّمس والزّوال على قولين ‪ :‬أظهرهما ‪ :‬أنّه وقت‬
‫ن غير وقت الصّلة ل عبرة بمفارقته وملزمته ‪ ،‬إذ ليس هو مخاطبا حينئذٍ‬
‫الصّلة ؛ ل ّ‬
‫ل صلةٍ عند الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ .‬وذلك لما‬
‫ب لوقت ك ّ‬
‫بالصّلة ‪ .‬والوضوء واج ٌ‬
‫ل صلةٍ » ‪ .‬وينتقض‬
‫روي عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم في المستحاضة ‪ « :‬أنّها تتوضّأ لك ّ‬
‫الوضوء بخروج الوقت عند الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬وأبي حنيفة ومح ّمدٍ ‪ .‬وينتقض عند زفر‬
‫بدخول الوقت ‪ .‬وبأيّهما عند أبي يوسف ‪ .‬أمّا المالكيّة ‪ :‬فعندهم أنّ الوضوء ل ينتقض ‪ ،‬وهو‬
‫ب فقط لمن‬
‫ب ول مستحبّ لمن لزمه الحدث كلّ الوقت ‪ ،‬ومستح ّ‬
‫( أي الوضوء ) غير واج ٍ‬
‫ل صلةٍ ‪.‬‬
‫لزمه الحدث أكثر الوقت أو نصفه ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إن لزمه نصفه وجب الوضوء لك ّ‬

‫*استظللٌ‬
‫التّعريف‬
‫ل هو ‪ :‬كلّ ما لم تصل إليه الشّمس ‪ .‬وفي‬
‫‪ -‬الستظلل في اللّغة ‪ :‬طلب الظّلّ ‪ ،‬والظّ ّ‬ ‫‪1‬‬

‫الصطلح ‪ :‬هو قصد النتفاع بالظّلّ ‪.‬‬


‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬

‫‪ -‬الستظلل عموما ‪ -‬سوا ٌء تحت شجرةٍ أو جدارٍ أو سقفٍ وما كان في معناه ‪ -‬مباحٌ لكلّ‬ ‫‪2‬‬

‫مسلمٍ محرمٍ أو غير محرمٍ اتّفاقا ‪ .‬أمّا الستظلل للمحرم في المحمل خاصّةً ‪ -‬وما كان في‬
‫معناه ‪ -‬فقد اختلف الفقهاء فيه ‪ ،‬فمنهم من جوّزه مطلقا ‪ ،‬وهم الشّافعيّة ‪ ،‬ومنهم من اشترط ألّ‬
‫يصيب رأسه أو وجهه ‪ ،‬وهم الحنفيّة ‪ ، ...‬وكره ذلك المالكيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪.‬‬
‫مواطن البحث ‪:‬‬

‫ج ‪ ،‬عند الكلم عن المحرم ‪ :‬ما يجوز له وما ل‬


‫‪ -‬الستظلل في الحرام موطنه مبحث الح ّ‬ ‫‪3‬‬

‫يجوز ‪ .‬والجارة على الستظلل ذكروها في الجارة ‪ ،‬عند الكلم عن شروطها ‪ .‬والجلوس‬
‫بين الشّمس والظّلّ ذكر في الداب الشّرعيّة للمجالس ‪ ،‬عند الكلم عن النّوم والجلوس بين‬
‫الشّمس والظّلّ ‪ .‬والنّذر بترك الستظلل ذكر في النّذر ‪ ،‬عند الكلم عن النّذر المباح ‪.‬‬

‫*استظهارٌ‬
‫التعريف‬
‫‪ -‬ذكر صاحب اللّسان للستظهار ثلثة معانٍ ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫أ ‪ -‬أن يكون بمعنى ‪ :‬الستعانة ‪ ،‬أي طلب العون ‪ .‬قال ‪ « :‬استظهر به أي استعانه ‪،‬‬
‫وظهرت عليه ‪ :‬أعنته ‪ ،‬وظاهر فلنا ‪ :‬أعانه » ‪ .‬وقال أيضا ‪ « :‬استظهره ‪ :‬استعانه » ‪،‬‬
‫وعلى هذا يكون الفعل ممّا يتعدّى بنفسه وبالباء ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ويكون بمعنى القراءة عن ظهر قلبٍ ‪ ،‬قال ‪ « :‬قرأت القرآن عن ظهر قلبي أي ‪ :‬قرأته‬
‫من حفظي ‪ ،‬وقد قرأه ظاهرا واستظهره أي ‪ :‬حفظه وقرأه ظاهرا » ‪ .‬وفي القاموس «‬
‫استظهره ‪ :‬قرأه من ظهر القلب ‪ ،‬أي حفظا بل كتابٍ » ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬ويكون بمعنى الحتياط ‪ ،‬قال صاحب اللّسان ‪ « :‬في كلم أهل المدينة إذا استحيضت‬
‫المرأة ‪ ،‬واستمرّ بها الدّم فإنّها تقعد أيّامها للحيض ‪ ،‬فإذا انقضت استظهرت بثلثة أيّامٍ ‪ ،‬تقعد‬
‫فيها للحيض ول تصلّي ‪ ،‬ثمّ تغتسل وتصلّي ‪ .‬قال الزهريّ ‪ :‬ومعنى الستظهار في قولهم‬
‫هذا ‪ :‬الحتياط والستيثاق » ‪ .‬ويستعمل الفقهاء الستظهار بالمعاني الثّلثة السّابقة ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫استظهار القرآن ‪:‬‬

‫ل للعلماء ‪ :‬أوّلها ‪:‬‬


‫‪ -‬في كون استظهار القرآن أفضل من قراءته من المصحف ثلثة أقوا ٍ‬ ‫‪2‬‬

‫ن القراءة في المصحف أفضل من استظهاره ‪ ،‬ونسبه النّوويّ إلى الشّافعيّة ‪ ،‬وقال ‪ :‬إنّه‬
‫أّ‬
‫ن النّظر في المصحف عبادةٌ ‪ .‬واحتجّ له الزّركشيّ‬
‫المشهور عن السّلف ‪ .‬ووجهه ‪ :‬أ ّ‬
‫والسّيوطيّ برواية أبي عبيدٍ بسنده مرفوعا ‪ « :‬فضل قراءة القرآن نظرا على من يقرؤه‬
‫ح ‪ .‬وثانيها ‪ :‬أنّ القراءة‬
‫ظاهرا كفضل الفريضة على النّافلة » ‪ .‬قال السّيوطيّ ‪ :‬سنده صحي ٌ‬
‫عن ظهر قلبٍ أفضل ‪ ،‬ونسب إلى أبي محمّد بن عبد السّلم ‪ .‬وثالثها ‪ :‬واختاره النّوويّ ‪ ،‬إنّ‬
‫القارئ من حفظه إن كان يحصل له من التّدبّر والتّفكّر وجمع القرآن أكثر ممّا يحصل له من‬
‫المصحف فالقراءة من الحفظ أفضل ‪ ،‬وإن استويا فمن المصحف أفضل ‪ .‬وبقيّة مباحث‬
‫الستظهار تنظر تحت عنوان ( تلوةٌ ) ‪.‬‬
‫يمين الستظهار ‪:‬‬
‫ي المالكيّ بأنّها مقوّي ٌة للحكم فقط ‪،‬‬
‫‪ -‬ذكر بعض الفقهاء يمين الستظهار ‪ ،‬وفسّرها الدّسوق ّ‬ ‫‪3‬‬

‫فل ينقض الحكم بدونها ‪ .‬وأمّا ما يتوقّف عليه الحكم فهو يمين القضاء ‪ ،‬أو يمين الستبراء ‪.‬‬
‫ويحلف المدّعي يمين الستظهار إذا ادّعى على ميّتٍ أو غائبٍ ‪ ،‬وأقام شاهدين بالحقّ ‪ .‬فمن‬
‫يمين الستظهار ما قال الرّمليّ الشّافعيّ ‪ :‬أنّه لو ادّعى من لزمته الزّكاة ممّن استولى عليهم‬
‫ن لبناء الزّكاة على التّخفيف ‪ ،‬ويندب‬
‫البغاة دفع الزّكاة إلى البغاة ‪ ،‬فإنّه يصدق بل يمي ٍ‬
‫الستظهار بيمينه على صدقه إذا اتّهم ‪ ،‬خروجا من خلف من أوجبها ‪ .‬وذكر المالكيّة في‬
‫المرأة تريد الفراق من زوجها الغائب لعدم النّفقة ‪ ،‬فإن كانت الغيبة بعيد ًة أجّلها القاضي‬
‫بحسب ما يراه ‪ ،‬فإذا انقضت المدّة استظهر عليها باليمين ‪ .‬والحنفيّة ‪ ،‬والحنابلة ذكروا‬
‫استحلف المدّعي إذا ادّعى على ميّتٍ أو غائبٍ وأقام بيّنةً ‪.‬‬
‫مواطن البحث ‪:‬‬

‫‪ -‬يذكر الفقهاء يمين الستظهار في مباحث الدّعوى ‪ ،‬ومباحث القضاء ‪ ،‬والقضاء على‬ ‫‪4‬‬

‫الغائب ‪ .‬وأمّا الستظهار ‪ -‬بمعنى الستعانة ‪ -‬فتذكر أحكامه تحت عنوان ‪ ( :‬استعانةٌ ) ‪.‬‬
‫ويذكر الستظهار ‪ -‬بمعنى الحتياط ‪ -‬في مباحث الحيض ‪ ،‬وانظر ( احتياطٌ ) ‪.‬‬
‫نهاية الجزء الثالث‪ /‬الموسوعة الفقهية‬

You might also like