Professional Documents
Culture Documents
آراء معاصرة عن تغير الأحكام بتغير الزمان
آراء معاصرة عن تغير الأحكام بتغير الزمان
د .بسطامي محمد </SPAN> آراء معاصرة عن تغير األحكام بتغير الزمان ()1/3
*
خير
2005-08-17
مقدمة
ال يشك مسلم في صالحية اإلسالم لكل زمان ومكان ،وحيويته لمعالجة
مشكالت كل عصر وقطر .ولقد كان من آثار الصحوة اإلسالمية المعاصرة ،
السعي الجاد لتجديد الفقه وبعث االجتهاد ،ليقدم الحلول لمشكالت العصر الحاضر
،ومواجهة التطور والتغير الذي حدث في كثير من نواحي الحياة ونظمها .ومن
القواعد الهامة التي شاعت عند كثير من المعاصرين ،دليال على قابلية اإلسالم
الستيعاب التطور ،قاعدة تغير األحكام بتغير الزمان .وهي قاعدة هامة صاغها
الفقهاء قبل العصر الحاضر وتناولها عدد منهم بالشرح والتوضيح .ولكن من
يتأمل في استعماالت المعاصرين لها ،يجد اضطرابا في فهمها وخلطا في ضبطها
، . بين موسع ومضيق لدائرة األحكام التي تتغير بتغير الظروف والعصور
وتسعى هذه الورقة إللقاء الضوء على هذه القاعدة ،وبحث معناها وتحقيق
محتواها ،وتحرير فهم األولين لها ،وعرض أراء المعاصرين عنها ،للخلوص
من ذلك كله إلى تعريف دقيق لها ،يعين في تحديد تأثير اختالف الزمان والمكان
. في تغير األحكام ،واإلجابة على السؤال الهام ما الثابت والمتغير من اإلسالم
تحرير القاعدة
قرر كثير من الفقهاء Tقديما وحديثا قاعدة تغير األحكام تبعا لتغير األحوال
والظروف واألوضاع والعادات ،منهم على سبيل المثال ابن القيم والشوكانى
ومصطفى الزرقاء والقرضاوي .ولقد عقد اإلمام ابن القيم لها فصال قيما في
كتابه "إعالم الموقعين" واستدل عليها ونصرها أتم نصر ،ومثل لها بأمثلة
كثيرة .ومما استدل به الشيخ القرضاوي[ ]1على هذه القاعدة من القرآن قول
اهلل تعالى( :يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ،إن يكن منكم عشرون
صابرون يغلبوا مائتين ،وإ ن يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا من الذين كفروا بأنهم قوم
ال يفقهون) (األنفال ،)65 :ثم قال( :اآلن Tخفف اهلل عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا،
فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ،وإ ن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن
اهلل ،واهلل مع الصابرين)( .األنفال .)66 :فقد قال بعض المفسرين أن هذا نسخ ،
ولكن نقل القرطبي وغيره أن هذا تخفيف وليس بنسخ[ ، ]2فاآلية األولي حكم
في حالة القوة والثانية حكم آخر في حالة الضعف .ومن السنة استدل على
قاعدة تغير األحكام بتغير الزمان األحاديث الصحيحة في ادخار لحوم األضاحي
من مثل ما رواه مسلم[ ]3عن عائشة قالت :دف ناس من أهل البادية حضرة
األضحى في زمان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال ادخروا لثالث وتصدقوا
بما بقى فلما كان بعد ذلك قيل يا رسول اهلل لقد كان الناس ينتفعون من ضحاياهم
فقال(:إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت فكلوا وتصدقوا وادخروا) .فالنهي
عن االدخار كان في وقت الحاجة وجاءت الرخصة بزوال هذه الحاجة ،ولهذا
يقول القرطبي :لو قدم على أهل بلدة ناس محتاجون في زمان األضحى ولم يكن
عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إال الضحايا لتعين عليهم أال يدخروها
. فوق ثالث كما فعل النبي صلى اهلل عليه وسلم[]4
والظاهر أن هذه األدلة من القرآن والسنة مجرد أمثلة لالستدالل على هذه
القاعدة الهامة ،وإ ال فإن هناك شواهد كثيرة ألحكام ثابتة بالقرآن والسنة قد
بينت النصوص نفسها األحوال التى تتغير فيها .والواضح أنه ليس هناك اشكال
في ثبوت القاعدة لكن قد أشكل بعض المعاصرين فهمها وتطبيقها و تعيين ما
الثابت من األحكام وما المتغير .فمن المعروف أن أحكام الشريعة تنقسم إلي
قسمين رئيسيين :أحكام مصدرها نصوص القرآن والسنة مباشرة ،وأحكام
مصدرها االجتهاد دون أن تستند مباشرة علي النصوص مثل أن تكون مبنية
. علي مصلحة سكتت عنها النصوص أو عرف أو عادة لم ينشئها نص شرعي
وال يختلف اثنان أن األحكام في كال القسمين إنما ترمي إلي تحقيق مصالح الناس
ومراعاة منافعهم .ومما ال ريب فيه أن بعض هذه المصالح والمنافع يتبدل
ويتغير بتغير الزمان أو المكان ،أو ألي عامل من العوامل التي تؤثر في تغير
. المصالح
ففي القسم الثاني من األحكام الذي لم يكن مصدره النص مباشرة ،لم يجد عامة
الفقهاء صعوبة تذكر في تقرير أن المصلحة التي لم يأت بها نص أصال يمكن أن
تتغير وتصبح في حين من األحيان مفسدة ،أو أن العادة والعرف الذي لم يتكون
نتيجة نص شرعي أصال ،يمكن أن يتبدل ويتغير ،وحينئذ قرروا بال تحفظ أن
األحكام في هذا القسم تتغير بتغير الزمان ،ألن األصل الذي تبني عليه أصل
. متغير ،وتغيره سواء كان مصلحة أو عرفا متصور عقال وواقع ملموس
أما القسم الثاني من األحكام وهي األحكام التي تقررها النصوص مباشرة فكل
أحد يقر أن النص مقصود منه تحقيق المصلحة للناس ومقصود منه منفعتهم ،
فغاية النص وهدفه وحكمته هي المصلحة .حينئذ لم يستطع ذهن عامة الفقهاءT
أن يتصور أن هذه المصلحة التي يثبتها النص يمكن أن تتغير وتصبح في زمن
من األزمان مفسدة .ذلك أن من المتفق عليه أن المصلحة ليست تابعة للهوي
أو المزاج الشخصي ،وأن المصالح التي تقررها النصوص هي المصالح
حقيقة .وأن من التناقض الواضح أن يقال أن مصلحة ما عارضت النص .
فالنص هو عدل كله ورحمة كله وحكمة كله ومصلحة كله ،فأي مصلحة تلك
التي تعارض النص ،إال إذا كانت نابعة من هوي أو مصدرها مزاج سقيم .
حينئذ قرر عامة الفقهاء Tأن الحكم الذي مصدره النص حكم ثابت إلي يوم الدين
. ال يتغير بتغير الزمان
: يقول اإلمام ابن حزم مؤكدا هذه الحقيقة
إذا ورد النص من القرآن أو السنة الثابتة في أمر ما علي حكم ما ..فصح أنه (
ال معني لتبدل الزمان وال لتبدل المكان وال لتغير األحوال ،وأن ما ثبت فهو ثابت
أبدا ،في كل زمان وفي كل مكان وعلي كل حال ،حتى يأتي نص ينقله عن
)[5] . حكمه في زمان آخر أو مكان آخر أو حال أخرى
وعلي هذا فإن القاعدة الفقهية ( ال ينكر تغير األحكام بتدل الزمان ) قد وضعها
الفقهاء للقسم الثاني من األحكام ،وهي األحكام التي ال تستند مباشرة علي نص
شرعي ،بل مصدرها عرف أو مصلحة سكتت عنها النصوص .وهذه القاعدة
هي إحدى قواعد المجلة وقررتها المادة ،39وقد جاء شرح هذه القاعدة
بقصرها علي األحكام التي لم تستنبط من النصوص [ ، ]6وعلي هذا استقر فهم
. الفقهاءT
يقول ابن القيم( :األحكام نوعان :نوع ال يتغير عن حالة واحدة هو عليها ،ال
بحسب األزمنة وال األمكنة وال اجتهاد األئمة ،كوجوب الواجبات وتحريم
المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك ،فهذا ال يتطرق إليه
تغيير وال اجتهاد يخالف ما وضع عليه .والنوع الثاني ما يتغير بحسب اقتضاء
المصلحة له زمانا ومكانا وحاال كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها فإن
الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة ]7[).
: ويقول الدكتور مصطفي الزرقاء من المعاصرين في بحثه لهذا الموضوع
من المقرر في فقه الشريعة أن لتغير األوضاع واألحوال الزمنية تأثيرا كبيرا (
في كثير من األحكام الشرعية االجتهادية ،وعلي هذا األساس أسست القاعدة
وقد اتفقت كلمة فقهاء ) الفقهية القائلة ال ينكر تغير األحكام بتغير الزمان
المذاهب علي أن األحكام التي تتبدل بتبدل الزمان واختالف الناس هي األحكام
االجتهادية من قياسية ومصلحيه وهي المعنية بالقاعدة اآلنفة الذكر ،أما األحكام
األساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها األصلية فهذه ال
تتبدل بتبدل األزمان بل هي األصول التي جاءت بها الشريعة إلصالح األزمان
. واألجيال )[]8
آراء معاصرة
ومع استقرار هذا الفهم لقاعدة تغير األحكام بتغير الفتوى ،فقد توسع بعض
المعاصرين في استعمالهم لها ،ومن األمثلة على ذلك رأي الدكتور معروف
الدواليبي الذي يشرحه في مقال له بعنوان ( النصوص وتغيير األحكام بتغيير
: الزمان ) فيقول
إذا كان النسخ ال يصح إال من قبل الشارع نفسه فهل يصح في االجتهاد تغيير (
ما لم ينسخه الشارع من األحكام وذلك تبعا لتغير األزمان؟
إن جميع الشرائع من قديمة وحديثة قد أخذت بمبدأ جواز النسخ لما في الشريعة
من بعض األحكام ،تبعا لتغير المصلحة في األزمان .غير أنها لم تأخذ بمبدأ
السماح للمجتهدين بتغير حكم من األحكام ما دام ذلك الحكم باقيا في الشريعة ولم
ينسخ من قبل من له سلطة االشتراع .وقد تفردت الشريعة اإلسالمية من بين
جميع تلك الشرائع من قديمة وحديثة ،بالتمييز ما بين المبدأين أوال وباألخذ
. بهما ثانيا
فلقد اعتبرت الشريعة اإلسالمية النسخ لبعض األحكام الشرعية حقا خاصا بمن
له سلطة االشتراع وأخذت به .أما التغيير لحكم لم ينسخ نصه من قبل الشارع
فقد أجازته للمجتهدين ،من قضاة ومفتين تبعا لتغير المصالح في األزمان
أيضا ،وامتازت بذلك علي غيرها من الشرائع ،وأعطت فيه درسا بليغ عن
مقدار ما تعطيه من حرية للعقول في االجتهاد ،ومن تقدير لتحكيم المصالح في
األحكام .وهكذا أصبح العمل بهذا المبدأ الجليل قاعدة مقررة في التشريع
. افسالمي ،تعلن بأنه ( ال ينكر تغير األحكام بتغير األزمان )[]10
فعلي رأي الكاتب الفاضل أن الشريعة اإلسالمية تمتاز بالمرونة والطواعية في
هذه الناحية علي غيرها من التشريعات ،فتجيز للقاضي أو المفتي تغيير حكم من
األحكام ،ولو كان هذا الحكم ثابتا بنص القرآن أو السنة ،تبعا لتغير المصالح
بتغير األزمان ،مع أن كثيرا من القوانين قديما وحديثا ال تتميز بهذه المرونة ،
فال يمكن لقانون وضعه مجلس تشريعي أن ينقضه أحد كائنا من كان ولو أحد
قضاة المحاكم العليا أو رئيس الوزراء .ويقول أن ذلك أصبح في اإلسالم قاعدة
. فقهية مقررة وهي أنه ( ال ينكر تغير األحكام بتغير األزمان )
وقد شذ بعض المعاصرين وتطرفوا في توسيع قاعدة تغير األحكام بتغير الزمان ،
فألبسوا بسببها العلمانية ثوبا إسالميا ،فجعلوا العبادات وحدها هي الثابتة في
اإلسالم التي يلتزم بها بالنصوص ،أما في غير دائرة العبادات فالباب مفتوح
علي مصراعيه لتعديل النصوص وتغييرها ،وحذفها وإ ضافة غيرها .يقول
. الدكتور النويهي في مقاله بعنوان ( نحو ثورة الفكر الديني )[]11
إن كل التشريعات التي تخص أمور المعاش الدنيوي والعالقات االجتماعية بين (
الناس والتي يحتويها القرآن والسنة لم يقصد بها الدوام وعدم التغير ولم تكن إال
حلوال مؤقتة ،احتاج لها المسلمون األوائل وكانت صالحة وكافية لزمانهم ،
فليست بالضرورة ملزمة لنا ،ومن حقنا بل من واجبنا أن ندخل عليها من
). اإلضافة والحذف والتعديل والتغير ،ما نعتقد أن تغير األحوال يستلزمه
ويعتمد هؤالء المعاصرين لتأييدا رأيهم في تغير األحكام الثابتة بالنص تبعا لتغير
المصالح بتغير الزمان على بعض الحجج :منها رأي الطوفي في المصلحة ،
ومنها اجتهادات عمر بن الخطاب ،التي يرون أنه لم يتمسك فيها بالتطبيق
الحرفي للنصوص ،ومنها استبدال الشافعي لمذهبه العراقي القديم بمذهبه
. المصري الجديد[ .]12ونتناول هذه الحجج فيما يلي بالمناقشة والنقد
------------------------------
. انظر عوامل السعة والمرونة للشيخ يوسف القرضاوي ][1
. تفسير القرطبي ج 1/ص ، 45/دار الشعب القاهرة ][2
انظر شرح النووي على صحيح مسلم ج 13/ص ، 129/دار إحياء التراث ][3
. العربي ،بيروت 1392 ،
. تفسير القرطبي ج 12/ص [4] 48
األحكام في أصول األحكام – ابن حزم ج 5/ص [5] 774 - 771
أنظر شرح المجلة – محمد خالد األتاسي ج 1/ص [6] 91
إغاثة اللهفان Tالبن القيم ،دار المعرفة بيروت ن ، 1975ج 1/ص ][7
330 .
د .مصطفي الزرقاء – مجلة المسلمون ع ) 8/تغيير األحكام بتغير الزمان ( ][8
ص )1373 ( 891
أنظر الموافقات – للشاطبي ج 2/ص 283وما بعدها ][9
مجلة المسلمون ع 6/اسنة األولي ص [10] 553
مجلة اآلداب ( بيروت ) عدد مايو 1970ص [11] 101
راجع مقال معروف الدواليبي ( النصوص وتغير األحكام ) – مجلة ][12
المسلمون ع 6/السنة األولي ص 553ومقدمة في إحياء الشريعة المحمصاني
ص 67