Professional Documents
Culture Documents
الرنتيسي
رحمه الله
بقلم
الشهاب الثاقب
1
بسم ال الرحمن الرحيم
ل الّلهُمّ مَاِلكَ
الحمد لك يا رب وحدك ل شريك لك أنت الذي تقول على لسان المؤمنين { قُ ِ
خ ْيرُ
ا ْل ُملْكِ ُت ْؤتِي ا ْل ُم ْلكَ مَن تَشَاء َوتَنزِعُ ا ْل ُملْكَ ِممّن تَشَاء َو ُت ِعزّ مَن تَشَاء َوتُذِلّ مَن تَشَاء ِبيَ ِدكَ الْ َ
شيْءٍ قَدِيرٌ} ( )26سورة آل عمران
عَلىَ كُلّ َ
ِإ ّنكَ َ
جعُونَ} ( )83سورة يــس
شيْءٍ َوِإَليْهِ ُترْ َ
سبْحَانَ الّذِي ِبيَ ِدهِ َمَلكُوتُ كُلّ َ
وأنت الذي تقول { فَ ُ
لرْضُ إِلّ مَا شَاء َر ّبكَ إِنّ َر ّبكَ َفعّالٌ ّلمَا
سمَاوَاتُ وَا َ
وأنت الذي تقول { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَا َمتِ ال ّ
ُيرِيدُ } ( )107سورة هود
نعم نقر ونعترف أنه ل يجري شيء في هذا الكون إل بقدر وحكمة علمها من علمها وجهلها
من جهلها
شيْءٍ مّنَ
اللهم إنا نسلم بقضائك كله عرفنا الحكمة أم لم نعرف فأنت الذي تقول { َوَل َن ْبُلوَ ّنكُمْ بِ َ
ش ِر الصّا ِبرِينَ ( )155الّذِينَ إِذَا
ل َموَالِ وَالن ُفسِ وَال ّثمَرَاتِ َوبَ ّ
الْخَوفْ وَالْجُوعِ َونَقْصٍ مّنَ ا َ
حمَةٌ
صلَوَاتٌ مّن ّر ّبهِمْ َورَ ْ
عَل ْيهِمْ َ
َأصَا َب ْتهُم ّمصِيبَةٌ قَالُواْ ِإنّا ِللّهِ َوِإنّا ِإَليْهِ رَاجِعونَ ( )156أُوَل ِئكَ َ
َوأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُم ْهتَدُونَ} ( )157سورة البقرة
اللهم إنا نحتسب عندك فقيدنا الغالي الدكتور عبد العزيز الرنتيسي
الذي طالما تمنى الشهادة في سبيلك منذ زمان بعيد
وكأنه قد شعر بدنو أجله ولذلك لم يكن هو رئيس الحركة بعد استشهاد الشيخ أحمد ياسين
وقد حاول اليهود اللئام اغتياله مرات عديدة ونجاه ال تعالى من كيدهم
ولكن هذه المرة يصيبون هدفهم ويبطشون به بعد أن بطشوا بالشيخ أحمد ياسين (( عليهما
شآبيب الرحمة والرضوان )) ولم يمض على استشهاد الشيخ أحمد ثلثة أسابيع
***************
2
ماذا أقول ؟
وقد كنت أتابع الحداث عن كثب وكنت أتابع ما يجري في الفلوجة بشيء من السى
والفرحة السى على وضعنا المزري المخزي الذي يدل على أننا فقدنا كل شيء ولم يبق لنا
مطمع في أي شيء
والفرحة بما أبداه أهلنا فيها من الصمود والبسالة وبما قدموه من تضحيات جسام
وقد قلت إن هؤلء هم أشبه بأهل جنين الصامدة
فهذا يدل على أن هذه المة لن تموت إنها حية حية حية إلى قيام الساعة
عبَا ِدنَا َف ِم ْنهُمْ ظَالِمٌ ّلنَفْسِهِ َو ِم ْنهُم مّ ْق َتصِدٌ
يقول ال تعالى { ثُمّ َأ ْو َر ْثنَا ا ْل ِكتَابَ الّذِينَ اصْطَفَ ْينَا مِنْ ِ
ن اللّهِ َذِلكَ ُهوَ الْ َفضْلُ ا ْل َكبِيرُ} ( )32سورة فاطر
خ ْيرَاتِ بِإِذْ ِ
َو ِم ْنهُمْ سَابِقٌ بِالْ َ
يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال :
هذا هو الكتاب في ذاته .وقد أورثه ال لهذه المة المسلمة ,اصطفاها لهذه الوراثة ,كما يقول
هنا في كتابه:
(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) . .
وهي كلمات جديرة بأن توحي لهذه المة بكرامتها على ال ; كما توحي إليها بضخامة التبعة
الناشئة عن هذا الصطفاء وعن تلك الوراثة .وهي تبعة ضخمة ذات تكاليف ,فهل تسمع المة
المصطفاة وتستجيب ?
إن ال سبحانه قد أكرم هذه المة بالصطفاء للوراثة ; ثم أكرمها بفضله في الجزاء حتى لمن
أساء:
(فمنهم ظالم لنفسه .ومنهم مقتصد .ومنهم سابق بالخيرات بإذن ال) . .
فالفريق الول -ولعله ذكر أولً لنه الكثر عددا ( -ظالم لنفسه) تربى سيئاته في العمل على
حسناته .والفريق الثاني وسط(مقتصد) تتعادل سيئاته وحسناته .والفريق الثالث (سابق
بالخيرات بإذن ال) ,تربى حسناته على سيئاته . .ولكن فضل ال شمل الثلثة جميعا .فكلهم
انتهى إلى الجنة وإلى النعيم الموصوف في اليات التالية .على تفاوت في الدرجات .
ول ندخل هنا في تفصيل أكثر مما أراد القرآن عرضه في هذا الموضع من كرامة هذه المة
باصطفائها ,وكرم ال سبحانه في جزائها .فهذا هو الظل الذي تلقيه النصوص هنا ,وهي
3
النهاية التي تنتهي إليها هذه المة جيمعا -بفضل ال -ونطوي ما قد يسبق هذه النهاية من
جزاء مقدر في علم ال .
نطوي هذا الجزاء المبدئي لنخلص إلى ما قدره ال لهذه المة بصنوفها الثلثة من حسن
الجزاء:
(ذلك هو الفضل الكبير .جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم
فيها حرير .وقالوا:الحمد ل الذي أذهب عنا الحزن .إن ربنا لغفور شكور .الذي أحلّنا دار
المقامة من فضله ل يمسنا فيها نصب ول يمسنا فيها لغوب) . .
إن المشهد يتكشف عن نعيم مادي ملموس ,ونعيم نفسي محسوس .فهم (يحلون فيها من أساور
من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير) . .وذلك بعض المتاع ذي المظهر المادي ,الذي يلبي
بعض رغائب النفوس .وبجانبه ذلك الرضا وذلك المن وذلك الطمئنان( :وقالوا الحمد ل
الذي أذهب عنا الحزن) . .والدنيا بما فيها من
قلق على المصير ,ومعاناة للمور تعد حزنا بالقياس إلى هذا النعيم المقيم .والقلق يوم الحشر
على المصير مصدر حزن كبير ( .إن ربنا لغفور شكور) . .غفر لنا وشكر لنا أعمالنا بما
جازانا عليها ( .الذي أحلّنا دار المقامة) . .للقامة والستقرار (من فضله) فما لنا عليه من
حق ,إنما هو الفضل يعطيه من يشاء ( .ل يمسنا فيها نصب ول يمسنا فيها لغوب) . .بل
يجتمع لنا فيها النعيم والراحة والطمئنان .
فالجو كله يسر وراحة ونعيم .واللفاظ مختارة لتتسق بجرسها وإيقاعها مع هذا الجو الحاني
الرحيم .حتى "الحزن" ل يتكأ عليه بالسكون الجازم .بل يقال "الحزَن" بالتسهيل والتخفيف .
والجنة (دار المقامة) .والنصب واللغوب ل يمسانهم مجرد مساس .واليقاع الموسيقي للتعبير
كله هادىء ناعم رتيب .
******************
ولكن لماذا يجري ما يجري علينا من نكبات ؟
س ْتهُمُ ا ْلبَأْسَاء
خَل ْواْ مِن َق ْبِلكُم مّ ّ
جنّةَ َوَلمّا يَ ْأ ِتكُم ّمثَلُ الّذِينَ َ
خلُواْ الْ َ
س ْبتُمْ أَن تَدْ ُ
يقول ال تعالى { أَمْ حَ ِ
ص ُر اللّهِ أَل إِنّ َنصْ َر اللّهِ َقرِيبٌ}
ل الرّسُولُ وَالّذِينَ آ َمنُواْ َمعَهُ َمتَى َن ْ
حتّى يَقُو َ
ضرّاء َو ُز ْلزِلُواْ َ
وَال ّ
( )214سورة البقرة
يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال :
4
هكذا خاطب ال الجماعة المسلمة الولى ,وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها ,
وإلى سنته -سبحانه -في تربية عباده المختارين ,الذين يكل إليهم رايته ,وينوط بهم أمانته
في الرض ومنهجه وشريعته .وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم . .
وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة . .إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه .من
الرسول الموصول بال ,والمؤمنين الذين آمنوا بال .إن سؤالهم( :متى نصر ال ?) ليصور
مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة .ولن تكون إل محنة فوق الوصف ,تلقي
ظللها على مثل هاتيك القلوب ,فتبعث منها ذلك السؤال المكروب( :متى نصر ال ?) . .
وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة . .عندئذ تتم كلمة ال ,ويجيء النصر من
ال:
(أل إن نصر ال قريب) . .
إنه مدخر لمن يستحقونه .ولن يستحقه إل الذين يثبتون حتى النهاية .الذين يثبتون على البأساء
والضراء .الذين يصمدون للزلزلة .الذين ل يحنون رؤوسهم للعاصفة .الذين يستيقنون أن ل
نصر إل نصر ال ,وعندما يشاء ال .وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها ,فهم يتطلعون فحسب
إلى (نصر ال) ,ل إلى أي حل آخر ,ول إلى أي نصر ل يجيء من عند ال .ول نصر إل
من عند ال .
بهذا يدخل المؤمنون الجنة ,مستحقين لها ,جديرين بها ,بعد الجهاد والمتحان ,والصبر
والثبات ,والتجرد ل وحده ,والشعور به وحده ,وإغفال كل ما سواه وكل من سواه .
إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة ,ويرفعها على ذواتها ,ويطهرها في بوتقة اللم ,
فيصفو عنصرها ويضيء ,ويهب العقيدة عمقا وقوة وحيوية ,فتتلل حتى في أعين أعدائها
وخصومها .وعندئذ يدخلون في دين ال أفواجا كما وقع ,وكما يقع في كل قضية حق ,يلقي
أصحابها ما يلقون في أول الطريق ,حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم
وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين . .
على أنه -حتى إذا لم يقع هذا -يقع ما هو أعظم منه في حقيقته .يقع أن ترتفع أرواح
أصحاب الدعوة على كل قوى الرض وشرورها وفتنتها ,وأن تنطلق من إسار الحرص على
الدعة والراحة ,والحرص على الحياة نفسها في النهاية . .وهذا النطلق كسب للبشرية كلها ,
5
وكسب للرواح التي تصل إليه عن طريق الستعلء .كسب يرجح جميع اللم وجميع البأساء
والضراء التي يعانيها المؤمنون ,والمؤتمنون على راية ال وأمانته ودينه وشريعته .
وهذا النطلق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف . .وهذا هو الطريق . .
هذا هو الطريق كما يصفه ال للجماعة المسلمة الولى ,وللجماعة المسلمة في كل جيل .
هذا هو الطريق:إيمان وجهاد . .ومحنة وابتلء .وصبر وثبات . .وتوجه إلى ال وحده .ثم
يجيء النصر .ثم يجيء النعيم . .
**************
ح َزنُوا َوأَنتُمُ
ويقول تعالى { :هَـذَا َبيَانٌ لّلنّاسِ وَهُدًى َو َموْعِظَةٌ ّل ْل ُمتّقِينَ ( )138وَلَ َت ِهنُوا وَلَ تَ ْ
سكُمْ َقرْحٌ فَقَدْ َمسّ الْ َقوْمَ َقرْحٌ ّم ْثلُهُ َو ِت ْلكَ اليّامُ نُدَا ِوُلهَا
عَلوْنَ إِن كُنتُم ّم ْؤ ِمنِينَ ( )139إِن َيمْسَ ْ
الَ ْ
حبّ الظّاِلمِينَ (َ )140وِل ُيمَحّصَ
شهَدَاء وَاللّهُ لَ يُ ِ
َبيْنَ النّاسِ َوِل َي ْعلَ َم اللّهُ الّذِينَ آ َمنُواْ َو َيتّخِذَ مِنكُمْ ُ
جنّةَ َوَلمّا َي ْعلَ ِم اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُواْ
خلُواْ الْ َ
س ْبتُمْ أَن تَدْ ُ
اللّهُ الّذِينَ آ َمنُواْ َو َيمْحَقَ ا ْلكَا ِفرِينَ ( )141أَمْ حَ ِ
مِنكُمْ َو َي ْعلَمَ الصّا ِبرِينَ (َ )142ولَقَدْ كُنتُمْ َت َم ّنوْنَ ا ْل َم ْوتَ مِن َقبْلِ أَن َتلْ َق ْوهُ فَقَدْ َرَأ ْي ُتمُوهُ َوأَنتُمْ
علَى
خَلتْ مِن َق ْبلِ ِه الرّسُلُ أَفَإِن مّاتَ َأوْ ُقتِلَ ان َقَلبْتُمْ َ
حمّدٌ إِلّ رَسُولٌ قَدْ َ
ظرُونَ (َ )143ومَا مُ َ
تَن ُ
جزِي اللّهُ الشّا ِكرِينَ (َ )144ومَا كَانَ
سيَ ْ
ش ْيئًا وَ َ
ض ّر اللّهَ َ
عَلىَ عَ ِق َبيْهِ َفلَن َي ُ
أَعْقَا ِبكُمْ َومَن يَن َقِلبْ َ
خ َرةِ
ِلنَ ْفسٍ أَنْ َتمُوتَ إِلّ بِإِذْنِ ال ِكتَابًا ّمؤَجّلً َومَن ُيرِدْ َثوَابَ ال ّد ْنيَا ُن ْؤتِهِ ِم ْنهَا َومَن ُيرِدْ َثوَابَ ال ِ
جزِي الشّا ِكرِينَ (َ )145وكََأيّن مّن ّن ِبيّ قَاتَلَ َمعَهُ ِر ّبيّونَ َكثِيرٌ َفمَا وَ َهنُواْ ِلمَا
سنَ ْ
ُن ْؤتِهِ ِم ْنهَا وَ َ
ب الصّا ِبرِينَ (َ )146ومَا كَانَ َق ْوَلهُمْ إِلّ
ح ّ
س َتكَانُواْ وَاللّهُ يُ ِ
ضعُفُواْ َومَا ا ْ
ل اللّهِ َومَا َ
سبِي ِ
َأصَا َبهُمْ فِي َ
علَى الْ َقوْمِ ا ْلكَا ِفرِينَ (
ص ْرنَا َ
سرَا َفنَا فِي َأ ْم ِرنَا َو َث ّبتْ أَقْدَا َمنَا وان ُ
أَن قَالُواْ ر ّبنَا اغْ ِفرْ َلنَا ُذنُو َبنَا َوإِ ْ
سنِينَ ( } )148سورة آل
حبّ ا ْلمُحْ ِ
خ َرةِ وَاللّهُ يُ ِ
)147فَآتَاهُمُ اللّهُ َثوَابَ ال ّد ْنيَا وَحُسْنَ َثوَابِ ال ِ
عمران
يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال :
ل تهنوا -من الوهن والضعف -ول تحزنوا -لما أصابكم ولما فاتكم -وأنتم العلون . .
عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون ل وحده ,وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه !
ومنهجكم أعلى .فأنتم تسيرون على منهج من صنع ال ,وهم يسيرون على منهج من صنع
خلق ال ! ودوركم أعلى .فأنتم الوصياء على هذه البشرية كلها ,الهداة لهذه البشرية كلها ,
وهم شاردون عن النهج ,ضالون عن الطريق .ومكانكم في الرض أعلى ,فلكم وراثة
6
الرض التي وعدكم ال بها ,وهم إلى الفناء والنسيان صائرون . .فإن كنتم مؤمنين حقا فأنتم
العلون .وإن كنتم مؤمنين حقا فل تهنوا ول تحزنوا .فإنما هي سنة ال أن تصابوا وتصيبوا
,على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والبتلء والتمحيص:
(إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله .وتلك اليام نداولها بين الناس .وليعلم ال الذين
آمنوا ,ويتخذ منكم شهداء .وال ل يحب الظالمين .وليمحص ال الذين آمنوا ويمحق
الكافرين) . .
وذكر القرح الذي أصابهم وأصاب المكذبين قرح مثله ,قد يكون إشارة إلى غزوة بدر .وقد
مس القرح فيها المشركين وسلم المسلمون .وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد .وقد انتصر فيها
المسلمون في أول المر .حتى هزم المشركون وقتل منهم سبعون ,وتابعهم المسلمون
يضربون أقفيتهم حتى لقد سقط علم المشركين في ثنايا المعركة فلم يتقدم إليه منهم أحد .حتى
رفعته لهم امرأة فلثوا بها وتجمعوا عليها . .ثم كانت الدولة للمشركين ,حينما خرج الرماة
على أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم واختلفوا فيما بينهم .فأصاب المسلمين ما أصابهم في
نهاية المعركة .جزاء وفاقا لهذا الختلف وذلك الخروج ,وتحقيقا لسنة من سنن ال التي ل
تتخلف ,إذ كان اختلف الرماة وخروجهم ناشئين من الطمع في الغنيمة .وال قد كتب النصر
في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله ,ل ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد
.وتحقيقا كذلك لسنة أخرى من سنن ال في الرض ,وهي مداولة اليام بين الناس -وفقا لما
يبدو من عمل الناس ونيتهم -فتكون لهؤلء يوما ولولئك يوما .ومن ثم يتبين المؤمنون
ويتبين المنافقون .كما تتكشف الخطاء .وينجلي الغبش .
(إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله .وتلك اليام نداولها بين الناس . .وليعلم ال الذين
آمنوا) . .
إن الشدة بعد الرخاء ,والرخاء بعد الشدة ,هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس ,وطبائع
القلوب ,ودرجة الغبش فيها والصفاء ,ودرجة الهلع فيها والصبر ,ودرجة الثقة فيها بال أو
القنوط ,ودرجة الستسلم فيها لقدر ال أو البرم به والجموح !
عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن:مؤمنين ومنافقين ,ويظهر هؤلء وهؤلء على حقيقتهم ,
وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم .ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ
من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده ,وهم مختلطون مبهمون !
7
وال سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين .وال سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور .ولكن
الحداث ومداولة اليام بين الناس تكشف المخبوء ,وتجعله واقعا في حياة الناس ,وتحول
اليمان إلى عمل ظاهر ,وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر ,ومن ثم يتعلق به الحساب
والجزاء .فال سبحانه ل يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه
منهم .
ومداولة اليام ,وتعاقب الشدة والرخاء ,محك ل يخطىء ,وميزان ل يظلم .والرخاء في هذا
كالشدة .وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك ,ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل .والنفس
المؤمنة هي التي تصبر للضراء ول تستخفها السراء ,وتتجه إلى ال في الحالين ,وتوقن أن ما
أصابها من الخير والشر فبإذن ال .
وقد كان ال يربي هذه الجماعة -وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية -فرباها بهذا
البتلء بالشدة بعد البتلء بالرخاء ,والبتلء بالهزيمة المريرة بعد البتلء بالنصر العجيب -
وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن ال الجارية في النصر والهزيمة .لتتعلم
هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة .ولتزيد طاعة ل ,وتوكل عليه ,والتصاقا بركنه .
ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين .
ويمضي السياق يكشف للمة المسلمة عن جوانب من حكمة ال فيما وقع من أحداث المعركة ,
وفيما وراء مداولة اليام بين الناس ,وفيما بعد تمييز الصفوف ,وعلم ال للمؤمنين:
(ويتخذ منكم شهداء) . .
وهو تعبير عجيب عن معنى عميق -إن الشهداء لمختارون .يختارهم ال من بين المجاهدين ,
ويتخذهم لنفسه -سبحانه -فما هي رزية إذن ول خسارة أن يستشهد في سبيل ال من يستشهد
.إنما هو اختيار وانتقاء ,وتكريم واختصاص . .إن هؤلء هم الذين اختصهم ال ورزقهم
الشهادة ,ليستخلصهم لنفسه -سبحانه -ويخصهم بقربه .
ثم هم شهداء يتخذهم ال ,ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس .يستشهدهم فيؤدون
الشهادة .يؤدونها أداء ل شبهة فيه ,ول مطعن عليه ,ول جدال حوله .يؤدونها بجهادهم حتى
الموت في سبيل إحقاق هذا الحق ,وتقريره في دنيا الناس .يطلب ال -سبحانه -منهم أداء
هذه الشهادة ,على أن ما جاءهم من عنده الحق ; وعلى أنهم آمنوا به ,وتجردوا له ,وأعزوه
حتى أرخصوا كل شيء دونه ; وعلى أن حياة الناس ل تصلح ول تستقيم إل بهذا الحق ; وعلى
8
أنهم هم استيقنوا هذا ,فلم يألوا جهدا في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس ,وإقرار هذا الحق
في عالمهم وتحقيق منهج ال في حكم الناس . .يستشهدهم ال على هذا كله فيشهدون .وتكون
شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت .وهي شهادة ل تقبل الجدال والمحال !
وكل من ينطق بالشهادتين:شهادة أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال .ل يقال له أنه شهد ,
إل أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها .ومدلولها هو أل يتخذ إل ال إلها .ومن ثم ل
يتلقى الشريعة إل منال .فأخص خصائص اللوهية التشريع للعباد ; وأخص خصائص العبودية
التلقي من ال . .ومدلولها كذلك أل يتلقى من ال إل عن محمد بما أنه رسول ال .ول يعتمد
مصدرا آخر للتلقي إل هذا المصدر . .
ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح اللوهية ل وحده في الرض ,كما بلغها محمد
صلى ال عليه وسلم فيصبح المنهج الذي أراده ال للناس ,والذي بلغه عنه محمد صلى ال
عليه وسلم هو المنهج السائد والغالب والمطاع ,وهو النظام الذي يصرف حياة الناس كلها بل
استثاء .
فإذا اقتضى هذا المر أن يموت في سبيله ,فهو إذن شهيد .أي شاهد طلب ال إليه أداء هذه
الشهادة فأداها .واتخذه ال شهيدا . .ورزقه هذا المقام .
هذا فقه ذلك التعبير العجيب:
(ويتخذ منكم شهداء . . ). .
وهو مدلول شهادة أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال ,ومقتضاه . .ل ما انتهى إليه مدلول
هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع !
(وال ل يحب الظالمين) . .
والظلم كثيرا ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك .بوصفه أظلم الظلم وأقبحه .وفي القرآن:
(إن الشرك لظلم عظيم) . .وفي الصحيحين عن ابن مسعود:أنه قال:قلت:يا رسول ال .أي
الذنب أعظم ? قال ":أن تجعل ل ندا وهو خلقك . . " . . .
وقد أشار السياق من قبل إلى سنة ال في المكذبين ; فالن يقرر أن ال ل يحب الظالمين .فهو
توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين ل يحبهم ال .والتعبير بأن
ال ل يحب الظالمين ,يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين .وهذه الثارة في
معرض الحديث عن الجهاد والستشهاد ,لها مناسبتها الحاضرة .فالمؤمن إنما يبذل نفسه في
9
مكافحة ما يكرهه ال ومن يكرهه .وهذا هو مقام الستشهاد ,وفي هذا تكون الشهادة ; ومن
هؤلء يتخذ ال الشهداء . .
ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الحداث ,في تربية المة المسلمة
وتمحيصها وإعدادها لدورها العلى ,ولتكون أداة من أدوات قدره في محق الكافرين ,وستارا
لقدرته في هلك المكذبين:
(وليمحص ال الذين آمنوا ويمحق الكافرين) . .
والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز .التمحيص عملية تتم في داخل النفس ,وفي مكنون
الضمير . .إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية ,وتسليط الضوء على هذه المكنونات .
تمهيدا لخراج الدخل والدغل والوشاب ,وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق ,بل غبش
ول ضباب . .
وكثيرا ما يجهل النسان نفسه ,ومخابئها ودروبها ومنحنياتها .وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها
وقوتها ,وحقيقة ما استكن فيها من رواسب ,ل تظهر إل بمثير !
وفي هذا التمحيص الذي يتوله ال -سبحانه -بمداولة اليام بين الناس بين الشدة والرخاء ,
يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير:محك الحداث والتجارب
والمواقف العملية الواقعية .
ولقد يظن النسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلص من الشح والحرص . .ثم إذا
هو يكشف -على ضوء التجربة العملية ,وفي مواجهة الحداث الواقعية -إن في نفسه عقابيل
لم تمحص .وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط ! ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه ,
ليعاود المحاولة في سبكها من جديد ,على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة ,
وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة !
وال -سبحانه -كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية ,وكان يريد بها أمرا في هذه
الرض .فمحصها هذا التمحيص ,الذي تكشفت عنه الحداث في أحد ,لترتفع إلى مستوى
الدور المقدر لها ,وليتحقق على يديها قدر ال الذي ناطه بها:
(ويمحق الكافرين) . .
تحقيقا لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق ,وخلص من الشوائب بالتمحيص . .
10
وفي سؤال استنكاري يصحح القرآن تصورات المسلمين عن سنة ال في الدعوات ,وفي
النصر والهزيمة ,وفي العمل والجزاء .ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره ,وزاده
الصبر على مشاق الطريق ,وليس زاده التمني والماني الطائرة التي ل تثبت على المعاناة
والتمحيص:
(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ,ولما يعلم ال الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين .ولقد كنتم
تمنون الموت من قبل أن تلقوه .فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) . .
إن صيغة السؤال الستنكارية يقصد بها إلى التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور:تصور أنه يكفي
النسان أن يقولها كلمة باللسان:أسلمت وأنا على استعداد للموت .فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي
تكاليف اليمان ,وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان !
إنما هي التجربة الواقعية ,والمتحان العملي .وإنما هو الجهاد وملقاة البلء ,ثم الصبر على
تكاليف الجهاد ,وعلى معاناة البلء .
وفي النص القرآني لفتة ذات مغزى:
(ولما يعلم ال الذين جاهدوا منكم) ( . .ويعلم الصابرين) . .
فل يكفي أن يجاهد المؤمنون .إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضا .التكاليف
المستمرة المتنوعة التي ل تقف عند الجهاد في الميدان .فربما كان الجهاد في الميدان أخف
تكاليف هذه الدعوة التي يطلب لها الصبر ,ويختبر بها اليمان .إنما هنالك المعاناة اليومية
التي ل تنتهي:معاناة الستقامة على أفق اليمان .والستقرار على مقتضياته في الشعور
والسلوك ,والصبر في أثناء ذلك على الضعف النساني:في النفس وفي الغير ,ممن يتعامل
معهم المؤمن في حياته اليومية .والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو
كالمنتصر ! والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات .والصبر على وسوسة
الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال . .والصبر على أشياء كثيرة ليس
الجهاد في الميدان إل واحدا منها ,في الطريق المحفوف بالمكاره .طريق الجنة التي ل تنال
بالماني وبكلمات اللسان !
(ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه .فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) . .
وهكذا يقفهم السياق وجها لوجه مرة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة ,وقد كانوا
من قبل يتمنون لقاءه .ليوازنوا في حسهم بين وزن الكلمة يقولها اللسان ,ووزن الحقيقة
11
يواجهها في العيان .فيعلمهم بهذا أن يحسبوا حسابا لكل كلمة تطلقها السنتهم ,ويزنوا حقيقة
رصيدها الواقعي في نفوسهم ,على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم ! وبذلك
يقدرون قيمة الكلمة ,وقيمة المنية ,وقيمة الوعد ,في ضوء الواقع الثقيل ! ثم يعلمهم أن
ليست الكلمات الطائرة ,والماني المرفرفة هي التي تبلغهم الجنة ,إنما هو تحقيق الكلمة ,
وتجسيم المنية ,والجهاد الحقيقي ,والصبر على المعاناة .حتى يعلم ال منهم ذلك كله واقعا
كائنا في دنيا الناس !
ولقد كان ال -سبحانه -قادرا على أن يمنح النصر لنبيه ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة
الولى ,وبل كد من المؤمنين ول عناء .وكان قادرا أن ينزل الملئكة تقاتل معهم -أو
بدونهم -وتدمر على المشركين ,كما دمرت على عاد وثمود وقوم لوط . .
ولكن المسألة ليست هي النصر . .إنما هي تربية الجماعة المسلمة ,التي تعد لتتسلم قيادة
البشرية . .البشرية بكل ضعفها ونقصها ; وبكل شهواتها ونزواتها ; وبكل جاهليتها وانحرافها
. .وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعدادا عاليا من القادة .وأول ما تقتضيه صلبة في الخلق ,
وثبات على الحق ,وصبر على المعاناة ,ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس
البشرية ,وخبرة بمواطن الزلل ودواعي النحراف ,ووسائل العلج . .ثم صبر على الرخاء
كالصبر على الشدة .وصبر على الشدة بعد الرخاء .وطعمها يومئذ لذع مرير ! . .
وهذه التربية هي التي يأخذ ال بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة ,ليعدها
بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق ,الذي ينوطه بها في هذه الرض .وقد شاء -سبحانه
-أن يجعل هذا الدور من نصيب "النسان" الذي استخلفه في هذا الملك العريض !
وقدر ال في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه ,بشتى السباب والوسائل ,
وشتى الملبسات والوقائع . .يمضي أحيانا عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة ,
فتستبشر ,وترتفع ثقتها بنفسها -في ظل العون اللهي -وتجرب لذة النصر ,وتصبر على
نشوته ,وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلء ,وعلى التزام التواضع والشكر
ل . .ويمضي أحيانا عن طريق الهزيمة والكرب والشدة .فتلجأ إلى ال ,وتعرف حقيقة قوتها
الذاتية ,وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج ال .وتجرب مرارة الهزيمة ; وتستعلي
مع ذلك على الباطل ,بما عندها من الحق المجرد ; وتعرف مواضع نقصها وضعفها ,ومداخل
12
شهواتها ,ومزالق أقدامها ; فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة . .وتخرج من
النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد . .ويمضي قدر ال وفق سنته ل يتخلف ول يحيد . .
وقد كان هذا كله طرفا من رصيد معركة أحد ; الذي يحشده السياق القرآني للجماعة المسملة -
على نحو ما نرى في هذه اليات -وهو رصيد مدخر لكل جماعة مسلمة ولكل جيل من أجيال
المسلمين .
ثم يمضي السياق في تقرير حقائق التصور السلمي الكبيرة ; وفي تربية الجماعة المسلمة بهذه
الحقائق ; متخذا من أحداث المعركة محورا لتقرير تلك الحقائق ; ووسيلة لتربية الجماعة
المسلمة بها على طريقة المنهج القرآني الفريد:
(وما محمد إل رسول قد خلت من قبله الرسل .أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ? ومن
ينقلب على عقبيه فلن يضر ال شيئا ; وسيجزي ال الشاكرين .وما كان لنفس أن تموت إل
بإذن ال كتابا مؤجل ; ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ,ومن يرد ثواب الخرة نؤته منها ;
وسنجزي الشاكرين .وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ,فما وهنوا لما أصابهم في سبيل
ال ,وما ضعفوا وما استكانوا ,وال يحب الصابرين .وما كان قولهم إل أن قالوا:ربنا اغفر
لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ,وثبت أقدامنا ,وانصرنا على القوم الكافرين .فآتاهم ال ثواب
الدنيا وحسن ثواب الخرة ,وال يحب المحسنين) . .
إن الية الولى في هذه الفقرة تشير إلى واقعة معينة ,حدثت في غزوة أحد .ذلك حين انكشف
ظهر المسلمين بعد أن ترك الرماة أماكنهم من الجبل ,فركبه المشركون ,وأوقعوا بالمسلمين ,
وكسرت رباعية الرسول صلى ال عليه وسلم وشج وجهه ,ونزفت جراحه ; وحين اختلطت
المور ,وتفرق المسلمون ,ل يدري أحدهم مكان الخر . .حينئذ نادى مناد:إن محمدا قد قتل
. .وكان لهذه الصيحة وقعها الشديد على المسلمين .فانقلب الكثيرون منهم عائدين إلى المدينة
,مصعدين في الجبل منهزمين ,تاركين المعركة يائسين . .لول أن ثبت رسول ال صلى ال
عليه وسلم في تلك القلة من الرجال ; وجعل ينادي المسلمين وهم منقلبون ,حتى فاءوا إليه ,
وثبت ال قلوبهم ,وأنزل عليهم النعاس امنة منه وطمأنينة . .كما سيجيء . .
فهذه الحادثة التي أذهلتهم هذا الذهول ,يتخذها القرآن هنا مادة للتوجيه ,ومناسبة لتقرير حقائق
التصور السلمي ; ويجعلها محورا لشارات موحية في حقيقة الموت وحقيقة الحياة ,وفي
تاريخ اليمان ومواكب المؤمنين:
13
(وما محمد إل رسول قد خلت من قبله الرسل .أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ? ومن
ينقلب على عقبيه فلن يضر ال شيئا .وسيجزي ال الشاكرين) . .
إن محمدا ليس إل رسول .سبقته الرسل .وقد مات الرسل .ومحمد سيموت كما مات الرسل
قبله . .هذه حقيقة أولية بسيطة .فما بالكم غفلتم عنها حينما واجهتكم في المعركة ?
إن محمدا رسول من عند ال ,جاء ليبلغ كلمة ال .وال باق ل يموت ,وكلمته باقية ل تموت
. .وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو
قتل . .وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول .وما ينبغي للمؤمنين أن
يغفلوا عن هذه الحقيقة الولية البسيطة !
إن البشر إلى فناء ,والعقيدة إلى بقاء ,ومنهج ال للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه
ويؤدونه إلى الناس ,من الرسل والدعاة على مدار التاريخ . .والمسلم الذي يحب رسول ال
صلى ال عليه وسلم وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في
تاريخها كله نظيرا .الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة .وقد رأينا أبا دجانة
يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ول يتحرك ! ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه
ويستشهدون واحدا إثر واحد . .وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك
الحب العجيب بكل كيانهم ,وبكل مشاعرهم ,حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره صلى ال
عليه وسلم . .هذا المسلم الذي يحب محمدا ذلك الحب ,مطلوب منه أن يفرق بين شخص
محمد صلى ال عليه وسلم والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده ,باقية ممتدة موصولة
بال الذي ل يموت .
إن الدعوة أقدم من الداعية:
(وما محمد إل رسول قد خلت من قبله الرسل) . .
قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن ,العميقة في منابت
التاريخ ,المبتدئة مع البشرية ,تحدو لها بالهدى والسلم من مطالع الطريق .
وهي أكبر من الداعية ,وأبقى من الداعية .فدعاتها يجيئون ويذهبون ,وتبقى هي على الجيال
والقرون ,ويبقى اتباعها موصولين بمصدرها الول ,الذي أرسل بها الرسل ,وهو باق -
سبحانه -يتوجه إليه المؤمنون . .وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه ,ويرتد عن هدى
ال .وال حي ل يموت:
14
ومن ثم هذا الستنكار ,وهذا التهديد ,وهذا البيان المنير:
(أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ? ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر ال شيئا .وسيجزي
ال الشاكرين) . .
وفي التعبير تصوير حي للرتداد( :انقلبتم على أعقابكم) ( . .ومن ينقلب على عقبيه) .فهذه
الحركة الحسية في النقلب تجسم معنى الرتداد عن هذه العقيدة ,كأنه منظر مشهود .
والمقصود أصل ليس حركة الرتداد الحسية بالهزيمة في المعركة ,ولكن حركة الرتداد
النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف:إن محمدا قد قتل ,فأحس بعض المسلمين أن ل
جدوى إذن من قتال المشركين ,وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين ,وانتهى أمر الجهاد
للمشركين ! فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا ,فيصورها حركة ارتداد على العقاب ,
كارتدادهم في المعركة على العقاب ! وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس -رضي ال
عنه -فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم ,وقالوا له:إن محمدا قد مات ":فما تصنعون
بالحياة من بعده ? فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم " .
(ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر ال شيئا) . .
فإنما هو الخاسر ,الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق . .وانقلبه لن يضر ال شيئا .فال غني
عن الناس وعن إيمانهم .ولكنه -رحمة منه بالعباد -شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم ,
ولخيرهم هم .وما يتنكبه متنكب حتى يلقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن
حوله .وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق ,وتعوج المور كلها ,ويذوق الناس وبال
أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة ,وتستقيم في ظله النفوس ,وتجد
الفطرة في ظله السلم مع ذاتها ,والسلم مع الكون الذي تعيش فيه .
(وسيجزي ال الشاكرين) . .
الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها ال لعباده في إعطائهم هذا المنهج ,فيشكرونها باتباع
المنهج ,ويشكرونها بالثناء على ال ,ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيبا على
شكرهم ,ثم يسعدون بجزاء ال لهم في الخرة ,وهو أكبر وأبقى . .
وكأنما أراد ال -سبحانه -بهذه الحادثة ,وبهذه الية ,أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد
بشخص النبي صلى ال عليه وسلم وهو حي بينهم .وأن يصلهم مباشرة بالنبع .النبع الذي لم
15
يفجره محمد صلى ال عليه وسلم ولكن جاء فقط ليومىء إليه ,ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق
,كما أومأ إليه من قبله من الرسل ,ودعوا القافلة إلى الرتواء منه !
وكأنما أراد ال -سبحانه -أن يأخذ بأيديهم ,فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى .العروة التي لم
يعقدها محمد صلى ال عليه وسلم إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر ,ثم يدعهم عليها ويمضي وهم
بها مستمسكون !
وكأنما أراد ال -سبحانه -أن يجعل ارتباط المسلمين بالسلم مباشرة ,وأن يجعل عهدهم مع
ال مباشرة ,وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام ال بل وسيط .حتى يستشعروا تبعتهم
المباشرة ,التي ل يخليهم منها أن يموت الرسول صلى ال عليه وسلم أو يقتل ,فهم إنما بايعوا
ال .وهم أمام ال مسؤولون !
وكأنما كان ال -سبحانه -يعد الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى -حين تقع -وهو
-سبحانه -يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم .فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب ,
وأن يصلهم به هو ,وبدعوته الباقية ,قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول ولقد أصيبوا -حين
وقعت بالفعل -بالدهش والذهول .حتى لقد وقف عمر -رضي ال عنه -شاهرا سيفه ,يهدد
به من يقول:إن محمدا قد مات !
ولم يثبت إل أبو بكر ,الموصول القلب بصاحبه ,وبقدر ال فيه ,التصال المباشر الوثيق .
وكانت هذه الية -حين ذكرها وذكر بها المدهوشين الذاهلين -هي النداء اللهي المسموع ,
فإذا هم يثوبون ويرجعون !
ثم يلمس السياق القرآني مكمن الخوف من الموت في النفس البشرية ,لمسة موحية ,تطرد ذلك
الخوف ,عن طريق بيان الحقيقة الثابتة في شأن الموت وشأن الحياة ,وما بعد الحياة والموت
من حكمة ل وتدبير ,ومن ابتلء للعباد وجزاء:
(وما كان لنفس أن تموت إل بإذن ال كتابا مؤجل .ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ; ومن يرد
ثواب الخرة نؤته منها .وسنجزي الشاكرين) . .
إن لكل نفس كتابا مؤجل إلى أجل مرسوم .ولن تموت نفس حتى تستوفي هذا الجل المرسوم
.فالخوف والهلع ,والحرص والتخلف ,ل تطيل أجل .والشجاعة والثبات والقدام والوفاء ل
تقصر عمرا .فل كان الجبن ,ول نامت أعين الجبناء .والجل المكتوب ل ينقص منه يوم
ول يزيد !
16
بذلك تستقر حقيقة الجل في النفس ,فتترك الشتغال به ,ول تجعله في الحساب ,وهي تفكر
في الداء والوفاء باللتزامات والتكاليف اليمانية .وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص ,
كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع .وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته ,
في صبر وطمأنينة ,وتوكل على ال الذي يملك الجال وحده .
ثم ينتقل بالنفس خطوة وراء هذه القضية التي حسم فيها القول . .فإنه إذا كان العمر مكتوبا ,
والجل مرسوما . .فلتنظر نفس ما قدمت لغد ; ولتنظر نفس ماذا تريد . .أتريد أن تقعد عن
تكاليف اليمان ,وأن تحصر همها كله في هذه الرض ,وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها ? أم
تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى ,وإلى اهتمامات أرفع ,وإلى حياة أكبر من هذه الحياة ? . .مع
تساوي هذا الهم وذاك فيما يختص بالعمر والحياة ?!
(ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها .ومن يرد ثواب الخرة نؤته منها) .
وشتان بين حياة وحياة ! وشتان بين اهتمام واهتمام ! -مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر
والجل -والذي يعيش لهذه الرض وحدها ,ويريد ثواب الدنيا وحدها . .إنما يحيا حياة
الديدان والدواب والنعام ! ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب .والذي يتطلع إلى
الفق الخر . .إنما يحيا حياة "النسان" الذي كرمه ال واستخلفه وأفرده بهذا المكان ثم يموت
في موعده المضروب بأجله المكتوب ( . .وما كان لنفس أن تموت إل بإذن ال كتابا مؤجل) .
.
(وسنجزي الشاكرين) . .
الذين يدركون نعمة التكريم اللهي للنسان ,فيرتفعون عن مدارج الحيوان ; ويشكرون ال
على تلك النعمة ,فينهضون بتبعات اليمان . .
وهكذا يقرر القرآن حقيقة الموت والحياة ,وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الحياء ,وفق ما
يريدونه لنفسهم ,من اهتمام قريب كاهتمام الدود ,أو اهتمام بعيد كاهتمام النسان ! وبذلك
ينقل النفس من النشغال بالخوف من الموت والجزع من التكاليف -وهي ل تملك شيئا في
شأن الموت والحياة -إلى النشغال بما هو أنفع للنفس ,في الحقل الذي تملكه ,وتملك فيه
الختيار .فتختار الدنيا أو تختار الخرة .وتنال من جزاء ال ما تختار !
ثم يضرب ال للمسلمين المثل من إخوانهم المؤمنين قبلهم .من موكب اليمان اللحب الممتد
على طول الطريق ,الضارب في جذور الزمان . .من أولئك الذين صدقوا في إيمانهم ,
17
وقاتلوا مع أنبيائهم ,فلم يجزعوا عند البتلء ; وتأدبوا -وهم مقدمون على الموت -بالدب
اليماني في هذا المقام . .مقام الجهاد . .فلم يزيدوا على أن يستغفروا ربهم ; وأن يجسموا
أخطاءهم فيروها "إسرافا" في أمرهم .وأن يطلبوا من ربهم الثبات والنصر على الكفار . .
وبذلك نالوا ثواب الدارين ,جزاء إحسانهم في أدب الدعاء ,وإحسانهم في موقف الجهاد .
وكانوا مثل يضربه ال للمسلمين:
(وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ,فما وهنوا لما أصابهم في سبيل ال ,وما ضعفوا وما
استكانوا .وال يحب الصابرين .وما كان قولهم إل أن قالوا:ربنا اغفر لنا ذنوبنا ,وإسرافنا في
أمرنا ; وثبت أقدامنا ; وانصرنا على القوم الكافرين .فآتاهم ال ثواب الدنيا وحسن ثواب
الخرة .وال يحب المحسنين) . .
لقد كانت الهزيمة في "أحد" ,هي أول هزيمة تصدم المسلمين ,الذين نصرهم ال ببدر وهم
ضعاف قليل ; فكأنما وقر في نفوسهم أن النصر في كل موقعة هو السنة الكونية .فلما أن
صدمتهم أحد ,فوجئوا بالبتلء كأنهم ل ينتظرونه !
ولعله لهذا طال الحديث حول هذه الواقعة في القرآن الكريم .واستطرد السياق يأخذ المسلمين
بالتأسية تارة ,وبالستنكار تارة ,وبالتقرير تارة ,وبالمثل تارة ,تربية لنفوسهم ,وتصحيحا
لتصورهم ,وإعدادا لهم .فالطريق أمامهم طويل ,والتجارب أمامهم شاقة ,والتكاليف عليهم
باهظة ,والمر الذي يندبون له عظيم .
والمثل الذي يضربه لهم هنا مثل عام ,ل يحدد فيه نبيا ,ول يحدد فيه قوما .إنما يربطهم
بموكب اليمان ; ويعلمهم أدب المؤمنين ; ويصور لهم البتلء كأنه المر المطرد في كل دعوة
وفي كل دين ; ويربطهم بأسلفهم من اتباع النبياء ; ليقرر في حسهم قرابة المؤمنين للمؤمنين
; ويقر في أخلدهم أن أمر العقيدة كله واحد .وإنهم كتيبة في الجيش اليماني الكبير:
(وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير .فما وهنوا لما أصابهم في سبيل ال وما ضعفوا وما
استكانوا) . .
. .وكم من نبي قاتلت معه جماعات كثيرة .فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من البلء والكرب
والشدة والجراح .وما ضعفت قواهم عن الستمرار في الكفاح ,وما استسلموا للجزع ول
للعداء . .فهذا هو شأن المؤمنين ,المنافحين عن عقيدة ودين . .
(وال يحب الصابرين) . .
18
الذين ل تضعف نفوسهم ,ول تتضعضع قواهم ,ول تلين عزائمهم ,ول يستكينون أو
يستسلمون . .والتعبير بالحب من ال للصابرين .له وقعه .وله إيحاؤه .فهو الحب الذي يأسو
الجراح ,ويمسح على القرح ,ويعوض ويربو عن الضر والقرح والكفاح المرير !
وإلى هنا كان السياق قد رسم الصورة الظاهرة لهؤلء المؤمنين في موقفهم من الشدة والبتلء
.فهو يمضي بعدها ليرسم الصورة الباطنة لنفوسهم ومشاعرهم .صورة الدب في حق ال ,
وهم يواجهون الهول الذي يذهل النفوس ,ويقيدها بالخطر الراهق ل تتعداه .ولكنه ل يذهل
نفوس المؤمنين عن التوجه إلى ال . .ل لتطلب النصر أول ما تطلب -وهو ما يتبادر عادة
إلى النفوس -ولكن لتطلب العفو والمغفرة ,ولتعترف بالذنب والخطيئة ,قبل أن تطلب الثبات
والنصر على العداء:
(وما كان قولهم إل أن قالوا:ربنا اغفر لنا ذنوبنا ,وإسرافنا في أمرنا ,وثبت أقدامنا ,
وانصرنا على القوم الكافرين) . .
إنهم لم يطلبوا نعمة ول ثراء .بل لم يطلبوا ثوابا ول جزاء . .لم يطلبوا ثواب الدنيا ول ثواب
الخرة .لقد كانوا أكثر أدبا مع ال ,وهم يتوجهون إليه ,بينما هم يقاتلون في سبيله .فلم
يطلبوا منه -سبحانه -إل غفران الذنوب ,وتثبيت القدام . .والنصر على الكفار .فحتى
النصر ل يطلبونه لنفسهم إنما يطلبونه هزيمة للكفر وعقوبة للكفار . .إنه الدب اللئق
بالمؤمنين في حق ال الكريم .
وهؤلء الذين لم يطلبوا لنفسهم شيئا ,أعطاهم ال من عنده كل شيء .أعطاهم من عنده كل
ما يتمناه طلب الدنيا وزيادة .وأعطاهم كذلك كل ما يتمناه طلب الخرة ويرجونه:
(فآتاهم ال ثواب الدنيا ,وحسن ثواب الخرة) . .
وشهد لهم -سبحانه -بالحسان .فقد أحسنوا الدب وأحسنوا الجهاد ,وأعلن حبه لهم .وهو
أكبر من النعمة وأكبر من الثواب:
(وال يحب المحسنين) . .
وهكذا تنتهي هذه الفقرة في الستعراض ; وقد تضمنت تلك الحقائق الكبيرة في التصور
السلمي .وقد أدت هذا الدور في تربية الجماعة المسلمة .وقد ادخرت هذا الرصيد للمة
المسلمة في كل جيل . .
***********
19
بعد هذا أقول :كلنا سنموت شئنا أم أبينا
جعُونَ} ( )35سورة
خ ْيرِ ِف ْتنَةً َوِإَل ْينَا ُترْ َ
شرّ وَالْ َ
قال تعالى { :كُلّ نَ ْفسٍ ذَائِقَةُ ا ْل َموْتِ َو َن ْبلُوكُم بِال ّ
النبياء
حزِحَ عَنِ النّارِ
وقال تعالى { :كُلّ نَ ْفسٍ ذَآئِقَةُ ا ْل َم ْوتِ َوِإ ّنمَا ُتوَ ّفوْنَ أُجُو َركُمْ َيوْمَ الْ ِقيَامَةِ َفمَن زُ ْ
سكُمْ
حيَاةُ ال ّد ْنيَا إِلّ َمتَاعُ ا ْل ُغرُورِ (َ )185ل ُت ْبَلوُنّ فِي َأ ْموَاِلكُمْ َوأَنفُ ِ
جنّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْ َ
َوأُدْخِلَ الْ َ
ص ِبرُواْ َو َتتّقُواْ
ش َركُواْ أَذًى َكثِيرا َوإِن َت ْ
س َمعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْل ِكتَابَ مِن َق ْبِلكُمْ َومِنَ الّذِينَ أَ ْ
َوَلتَ ْ
لمُورِ ( )186سورة آل عمران
عزْمِ ا ُ
فَإِنّ َذِلكَ مِنْ َ
يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال :
وفي هذا الدرس استعراض لبعض أفاعيل يهود وأقاويلها .يبدو فيه سوء الدب مع ال -
سبحانه -بعد سوء الفعل مع المسلمين .وهم يبخلون بالوفاء بتعهداتهم المالية للرسول صلى
ال عليه وسلم ثم يزيدون فيقولون( :إن ال فقير ونحن أغنياء) !
ويبدو فيه التعلل الواهي ,الذي يدفعون به دعوة السلم الموجهة إليهم ; وكذب هذا التعلل ,
ومخالفته لواقعهم التاريخي المعروف .هذا الوقاع الذي ينضح بمخالفتهم لعهد ال معهم ,
وبكتمانهم لما أمرهم ال ببيانه من الحق ,ونبذه وراء ظهورهم ,وشرائهم به ثمنا قليل .
وبقتلهم أنبياءهم بغير حق ,وقد جاءوهم بالخوارق التي طلبوها ,وجاءوهم بالبينات فرفضوها
.
وهذا الكشف المخجل لفاعيل اليهود مع أنبيائهم ,وأقاويلهم على ربهم ,كان هو المر الذي
يقتضيه سوء موقفهم من الجماعة المسلمة ,وتأثير كيدهم ودسهم وإيذائهم -هم والمشركون -
للمسلمين .كما كانت تقتضيه تربية ال للجماعة المسلمة تربية واعية ; تبصرهم بما حولهم ,
وبمن حولهم ; وتعرفهم طبيعة الرض التي يعملون فيها ,وطبيعة العقبات والفخاخ المنصوبة
لهم ,وطبيعة اللم والتضحيات المرصودة لهم في الطريق . .وقد كان الكيد اليهودي للجماعة
المسلمة في المدينة أقسى وأخطر من عداوة المشركين لهم في مكة .ولعله ما يزال أخطر ما
يرصد للجماعات المسلمة في كل مكان ,على مدار التاريخ . .
ومن ثم نجد التوجيهات الربانية تتولى على المسلمين في ثنايا الستعراض المثير . .نجد
توجيههم إلى حقيقة القيم الباقية والقيم الزائلة .فالحياة في هذه الرض محدودة بأجل .وكل
نفس ذائقة الموت على كل حال .إنما الجزاء هناك ,والكسب والخسارة هناك ( .فمن زحزح
20
عن النار وأدخل الجنة فقد فاز .وما الحياة الدنيا إل متاع الغرور) . .وهم مبتلون في أموالهم
وأنفسهم ,والذى سينالهم من أعدائهم المشركين وأهل الكتاب .فلعاصم لهم إل الصبر
والتقوى ,والمضي مع المنهج ,الذي يزحزحهم عن النار !
وهذا التوجيه اللهي للجماعة المسلمة في المدينة ما يزال هو هو ,قائما اليوم وغدا ,يبصر كل
جماعة مسلمة تعتزم سلوك الطريق ,لعادة نشأة السلم ولستئناف حياة إسلمية في ظل ال
. .يبصرها بطبيعة أعدائها -وهم هم مشركين وملحدين وأهل كتاب -الصهيونية العالمية
والصليبية العالمية والشيوعية ! -ويبصرها بطبيعة العقبات والفخاخ المرصودة في طريقها ,
وبطبيعة اللم والتضحيات والذى والبتلء .ويعلق قلوبها وأبصارها بما هنالك .بما عند ال
.ويهون عليها الذى والموت والفتنة في النفس والمال .ويناديها -كما نادى الجماعة المسلمة
الولى ( :-كل نفس ذائقة الموت ,وإنما توفون أجوركم يوم القيامة .فمن زحزح عن النار
وأدخل الجنة فقد فاز .وما الحياة الدنيا إل متاع الغرور .لتبلون في أموالكم وأنفسكم ;
ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا .وإن تصبروا وتتقوا
فإن ذلك من عزم المور) . .
والقرآن هو القرآن .كتاب هذه المة الخالد .ودستورها الشامل .وحاديها الهادي .وقائدها
المين .
وأعداؤها هم أعداؤها . .والطريق هو الطريق . .
ويقول :
إنه ل بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس:حقيقة أن الحياة في هذه الرض موقوتة ,محدودة
بأجل ; ثم تأتي نهايتها حتما . .يموت الصالحون يموت الطالحون .يموت المجاهدون ويموت
القاعدون .يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد .يموت الشجعان الذين يأبون
الضيم ,ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن . .يموت ذوو الهتمامات الكبيرة
والهداف العالية ,ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص .
الكل يموت ( . .كل نفس ذائقة الموت) . .كل نفس تذوق هذه الجرعة ,وتفارق هذه الحياة . .
ل فارق بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة من هذه الكأس الدائرة على الجميع .إنما الفارق
في شيء آخر .الفارق في قيمة أخرى .الفارق في المصير الخير:
21
(وإنما توفون أجوركم يوم القيامة .فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) . .هذه هي
القيمة التي يكون فيها الفتراق .وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلن عن فلن .القيمة
الباقية التي تستحق السعي والكد .والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب:
(فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) . .
ولفظ "زحزح" بذاته يصور معناه بجرسه ,ويرسم هيئته ,ويلقي ظله ! وكأنما للنار جاذبية تشد
إليها من يقترب منها ,ويدخل في مجالها ! فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليل قليل ليخلصه
من جاذبيتها المنهومة ! فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها ,ويستنقذ من جاذبيتها ,ويدخل الجنة
. .فقد فاز . .
صورة قوية .بل مشهد حي .فيه حركة وشد وجذب ! وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته .
فللنار جاذبية ! أليست للمعصية جاذبية ? أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها زحزحة
عن جاذبية المعصية ? بلى ! وهذه هي زحزحتها عن النار ! أليس النسان -حتى مع
المحاولة واليقظة الدائمة -يظل أبدا مقصرا في العمل . .إل أن يدركه فضل ال ? بلى !
وهذه هي الزحزحة عن النار ; حين يدرك النسان فضل ال ,فيزحزحه عن النار ! (وما
الحياة الدنيا إل متاع الغرور) . .
إنها متاع .ولكنه ليس متاع الحقيقة ,ول متاع الصحو واليقظة . .إنها متاع الغرور .المتاع
الذي يخدع النسان فيحسبه متاعا .أو المتاع الذي ينشىء الغرور والخداع ! فأما المتاع الحق
.المتاع الذي يستحق الجهد في تحصيله . .فهو ذاك . .هو الفوز بالجنة بعد الزحزحة عن
النار .
وعندما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في النفس .عندما تكون النفس قد أخرجت من حسابها
حكاية الحرص على الحياة -إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال -وأخرجت من حسابها
حكاية متاع الغرور الزائل . .عندئذ يحدث ال المؤمنين عما ينتظرهم من بلء في الموال
والنفس .وقد استعدت نفوسهم للبلء:
(لتبلون في أموالكم وأنفسكم ,ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى
كثيرا .وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم المور) . .
إنها سنة العقائد والدعوات .ل بد من بلء ,ول بد من أذى في الموال والنفس ,ول بد من
صبر ومقاومة واعتزام .
22
إنه الطريق إلى الجنة .وقد حفت الجنة بالمكاره .بينما حفت النار بالشهوات .
ثم إنه هو الطريق الذي ل طريق غيره ,لنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة ,وتنهض
بتكاليفها .طريق التربية لهذه الجماعة ; وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والحتمال .وهو
طريق المزاولة العملية للتكاليف ; والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة .
ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودا .فهؤلء هم الذين يصلحون لحملها إذن
والصبر عليها .فهم عليها مؤتمنون .
وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو ,بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلء ,وبقدر ما
يضحون في سبيلها من عزيز وغال .فل يفرطوا فيها بعد ذلك ,مهما تكن الحوال .
وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة .فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة ,وتنميها
وتجمعها وتوجهها .والدعوة الجديدة في حاجة إلى استثارة هذه القوى لتتأصل جذورها وتتعمق
; وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة . .
وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم ; وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة
عملية واقعية .ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها .وحقيقة الجماعات والمجتمعات .وهم
يرون كيف تصطرع مبادىء دعوتهم ,مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس .ويعرفون
مداخل الشيطان إلى هذه النفوس ,ومزالق الطريق ,ومسارب الضلل !
ثم . .لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه ل بد فيها من خير ,ول بد فيها من سر ,
يجعل أصحابها يلقون في سبيلها ما يلقون وهم صامدون . .فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها
إليها . .أفواجا . .في نهاية المطاف !
إنها سنة الدعوات .وما يصبر على ما فيها من مشقة ; ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على
تقوى ال ,فل يشط فيعتدي وهو يرد العتداء ; ول ييأس من رحمة ال ويقطع أمله في نصره
وهو يعاني الشدائد . .ما يصبر على ذلك كله إل أولو العزم القوياء:
(وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم المور) . .
وهكذا علمت الجماعة المسلمة في المدينة ما ينتظرها من تضحيات وآلم .وما ينتظرها من
أذى وبلء في النفس والموال .من أهل الكتاب من حولها .ومن المشركين أعدائها . .
ولكنها سارت في الطريق .لم تتخاذل ,ولم تتراجع ,ولم تنكص على أعقابها . .لقد كانت
تستيقن أن كل نفس ذائقة الموت .وأن توفية الجور يوم القيامة .وأنه من زحزح عن النار
23
وأدخل الجنة فقد فاز .وأن الحياة الدنيا ما هي إل متاع الغرور . .على هذه الرض الصلبة
المكشوفة كانت تقف ; وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو . .والرض الصلبة
المكشوفة باقية لصحاب هذه الدعوة في كل زمان .والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل
إنسان .وأعداء هذه الدعوة هم أعداؤها ,تتوالى القرون والجيال ; وهم ماضون في الكيد لها
من وراء القرون والجيال . .والقرآن هو القرآن . .
وتختلف وسائل البتلء والفتنة باختلف الزمان ; وتختلف وسائل الدعاية ضد الجماعة المسلمة
,ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وأغراضها . .ولكن
القاعدة واحدة( :لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن
الذين أشركوا أذى كثيرا) !
ولقد حفلت السورة بصور من مكايد أهل الكتاب والمشركين ; وصور من دعايتهم للبلبلة
والتشكيك .أحيانا في أصول الدعوة وحقيقتها ,وأحيانا في أصحابها وقيادتها .وهذه الصور
تتجدد مع الزمان .وتتنوع بابتداع وسائل الدعاية الجديدة ,وتوجه كلها إلى السلم في أصوله
العتقادية ,وإلى الجماعة المسلمة والقيادة السلمية .فل تخرج على هذه القاعدة التي كشف
ال عنها للجماعة المسلمة الولى ,وهو يكشف لها عن طبيعة الطريق ,وطبيعة العداء
الراصدين لها في الطريق . .
ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيدا للجماعة المسلمة كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة ,وأن
تحاول تحقيق منهج ال في الرض ; فتجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة ,ووسائل الدعاية
الحديثة ,لتشويه أهدافها ,وتمزيق أوصالها . .يبقى هذا التوجيه القرآني حاضرا يجلو
لبصارها طبيعة هذه الدعوة ,وطبيعة طريقها .وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق .
ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد ال ذاك ; فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالذى ,
وحين تعوي حولها بالدعاية ,وحين يصيبها البتلء والفتنة . .أنها سائرة في الطريق ,وأنها
ترى معالم الطريق !
ومن ثم تستبشر بالبتلء والذى والفتنة والدعاء الباطل عليها وإسماعها ما يكره وما يؤذي .
.تستبشر بهذا كله ,لنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها ال لها من قبل .
وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق .ويبطل عندها الكيد والبلبلة ويصغر عندها
24
البتلء والذى ; وتمضي في طريقها الموعود ,إلى المل المنشود . .في صبر وفي تقوى .
.وفي عزم أكيد . .
**************
وأما الشهيد عبد العزيز (( عليه الرحمة والرضوان )) فما أحسبه إل مثل صاحب ياسين بل
ربما كان خيرا منه الذي قال ال عنه
سلِينَ ( )20ا ّت ِبعُوا مَن لّ يَسَْأُلكُمْ
سعَى قَالَ يَا َقوْمِ ا ّت ِبعُوا ا ْل ُمرْ َ
{ وَجَاء مِنْ أَ ْقصَى ا ْلمَدِينَةِ رَجُلٌ يَ ْ
جعُونَ (َ )22أَأتّخِذُ مِن دُونِهِ آِلهَةً
ط َرنِي َوِإَليْهِ ُترْ َ
عبُدُ الّذِي فَ َ
جرًا وَهُم ّم ْهتَدُونَ (َ )21ومَا لِي لَ أَ ْ
أَ ْ
ش ْيئًا وَلَ يُنقِذُونِ (ِ )23إنّي إِذًا لّفِي ضَلَلٍ ّمبِينٍ (
ع ُتهُمْ َ
عنّي شَفَا َ
ضرّ لّ ُتغْنِ َ
حمَن ِب ُ
إِن ُيرِدْنِ الرّ ْ
جنّةَ قَالَ يَا َل ْيتَ َق ْومِي َي ْعَلمُونَ (ِ )26بمَا غَ َفرَ
س َمعُونِ ( )25قِيلَ ادْخُلِ الْ َ
ِ )24إنّي آمَنتُ ِب َر ّبكُمْ فَا ْ
سمَاء َومَا ُكنّا
علَى َق ْومِهِ مِن َبعْ ِدهِ مِنْ جُندٍ مّنَ ال ّ
ج َعَلنِي مِنَ ا ْل ُم ْك َرمِينَ (َ )27ومَا أَن َز ْلنَا َ
لِي َربّي َو َ
علَى ا ْل ِعبَادِ مَا يَ ْأتِيهِم
س َرةً َ
صيْحَةً وَاحِ َدةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ( )29يَا حَ ْ
ل َ
مُن ِزلِينَ ( )28إِن كَا َنتْ إِ ّ
س َت ْه ِزئُون (َ )30ألَمْ َي َروْا كَمْ أَ ْهَل ْكنَا َق ْبَلهُم مّنْ الْ ُقرُونِ َأ ّنهُمْ ِإَل ْيهِمْ لَ
مّن رّسُولٍ إِلّ كَانُوا بِهِ يَ ْ
ضرُونَ ( )32سورة يس
ح َ
جمِيعٌ لّ َد ْينَا مُ ْ
جعُونَ (َ )31وإِن كُلّ ّلمّا َ
َيرْ ِ
يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال :
ويوحي سياق القصة بعد ذلك أنهم لم يمهلوه أن قتلوه .وإن كان ل يذكر شيئا من هذا صراحة
.إنما يسدل الستار على الدنيا وما فيها ,وعلى القوم وما هم فيه ; ويرفعه لنرى هذا الشهيد
الذي جهر بكلمة الحق ,متبعا صوت الفطرة ,وقذف بها في وجوه من يملكون التهديد والتنكيل
.نراه في العالم الخر .ونطلع على ما ادخر ال له من كرامة .تليق بمقام المؤمن الشجاع
المخلص الشهيد:
(قيل:ادخل الجنة .قال:يا ليت قومي يعلمون .بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) . .
وتتصل الحياة الدنيا بالحياة الخرة .ونرى الموت نقلة من عالم الفناء إلى عالم البقاء .وخطوة
يخلص بها المؤمن من ضيق الرض إلى سعة الجنة .ومن تطاول الباطل إلى طمأنينة الحق .
ومن تهديد البغي إلى سلم النعيم .ومن ظلمات الجاهلية إلى نور اليقين .
ونرى الرجل المؤمن .وقد اطلع على ما آتاه ال في الجنة من المغفرة والكرامة ,يذكر قومه
طيب القلب رضي النفس ,يتمنى لو يراه قومه ويرون ما آتاه ربه من الرضى والكرامة ,
ليعرفوا الحق ,معرفة اليقين .
25
****************
وما أحسبه إل مثل أنس بن النضر رضي ال عنه ففي البخاري عَنْ َأ َنسٍ -رضى ال عنه -
شهَ َدنِى اللّهُ
ى -صلى ال عليه وسلمَ -لئِنْ أَ ْ
غ ْبتُ عَنْ َأوّلِ ِقتَالِ ال ّنبِ ّ
عمّهُ غَابَ عَنْ بَ ْدرٍ فَقَالَ ِ
أَنّ َ
مَعَ ال ّن ِبىّ -صلى ال عليه وسلمَ -ل َي َريَنّ اللّهُ مَا أُجِدَّ .فلَ ِقىَ َيوْمَ أُحُدٍ َف ُهزِ َم النّاسُ فَقَالَ الّلهُمّ ِإنّى
سيْفِهِ
ش ِركُونََ .فتَقَدّمَ بِ َ
سِلمِينَ َ -وَأ ْبرَأُ ِإَل ْيكَ ِممّا جَاءَ بِهِ ا ْلمُ ْ
صنَعَ َهؤُلَءِ َ -ي ْعنِى ا ْلمُ ْ
عتَ ِذرُ ِإَل ْيكَ ِممّا َ
أَ ْ
حتّى
ع ِرفَ َ
جنّةِ دُونَ أُحُدٍَ .ف َمضَى فَ ُقتِلَ َفمَا ُ
سعْدُ ِإنّى أَجِدُ رِيحَ الْ َ
سعْدَ بْنَ ُمعَاذٍ فَقَالَ َأيْنَ يَا َ
َفلَ ِقىَ َ
سهْمٍ.
ض ْربَةٍ َو َر ْميَةٍ بِ َ
ط ْعنَةٍ َو َ
ختُهُ بِشَامَةٍ َأوْ ِب َبنَانِهِ َوبِهِ ِبضْعٌ َو َثمَانُونَ مِنْ َ
عرَ َفتْهُ أُ ْ
َ
ضرَ بْنَ َأ َنسٍ عَمّ َأنَسِ بْنِ مَاِلكٍ غَابَ عَنْ
عنْهُ :أَنّ النّ ْ
ى اللّهُ َ
ضَوفي سنن البيهقي :عَنْ َأ َنسٍ َر ِ
ش ِركِينَ
غ ْبتُ عَنْ َأوّلِ ِقتَالِ قَا َتلَهُ رَسُولُ اللّهِ -صلى ال عليه وسلم -ا ْلمُ ْ
ِقتَالِ بَ ْدرٍ َفَلمّا قَدِمَ قَالَ ِ :
سِلمُونَ فَقَالَ :الّلهُمّ ِإنّى
شفَ ا ْلمُ ْ
صنَعَُ .فَلمّا كَانَ َيوْمُ أُحُدٍ ا ْنكَ َ
شهَ َدنِى اللّهُ ِقتَالً َل َي َريَنّ اللّهُ مَا َأ ْ
َلئِنِ أَ ْ
سِلمِينَ ثُمّ
صنَعَ َهؤُلَءِ َي ْعنِى ا ْلمُ ْ
عتَذَرُ ِإَل ْيكَ ِممّا َ
ش ِركِينَ َوأَ ْ
َأ ْب َرأُ ِإَل ْيكَ ِممّا جَاءَ بِهِ َهؤُلَءِ َي ْعنِى ا ْلمُ ْ
جنّةِ دُونَ أُحُدٍ
لجِدُ رِيحَ الْ َ
سعْدُ وَالّذِى نَفْسِى ِبيَ ِدهِ ِإنّى َ
سعْدُ بْنُ ُمعَاذٍ فَقَالَ َ :أىْ َ
سيْفِهِ َفلَ ِقيَهُ َ
مَشَى بِ َ
صنَعَ َفوَجَ ْدنَاهُ َبيْنَ الْ َق ْتلَى َوبِهِ ِبضْعٌ
ط ْعتُ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا َ
ستَ َ
سعْدٌ َ :فمَا ا ْ
جنّةِ .قَالَ َ
وَاهًا ِلرِيحِ الْ َ
ختُهُ
عرَ َفتْهُ أُ ْ
حتّى َ
سهْمٍ وَقَدْ َم ّثلُوا بِهِ َ
ط ْعنَةٍ ِب ُرمْحٍ َو َر ْميَةٍ بِ َ
س ْيفٍ وَ َ
ض ْربَةٍ بِ َ
ن َ
جرَاحَةً مِ ْ
َو َثمَانُونَ ِ
عَليْهِ)
ل صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ َ
ِب َبنَانِهِ .قَالَ َأنَسٌ ُ :كنّا نَقُولُ ُأ ْن ِزلَتْ هَ ِذهِ اليَةُ (مِنَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ رِجَا ٌ
خرَجَهُ ا ْلبُخَا ِرىّ فِى الصّحِيحِ مِنْ
صوَابُ َأ َنسُ بْنُ ال ّنضْرِ .أَ ْ
فِيهِ وَفِى َأصْحَابِهِ .كَذَا فِى ِكتَابِى وَال ّ
عنْهُ.
ى اللّهُ َ
ضَسلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ثَا ِبتٍ عَنْ َأ َنسٍ َر ِ
خرَجَهُ مُ ْ
ح َميْدٍ َوأَ ْ
َأوْجُهٍ عَنْ ُ
***************
ل صَدَقُوا مَا
وما أحسبه إل ممن قال ال تعالى فيهم في سورة الحزاب :مِنَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ رِجَا ٌ
ي اللّهُ
ج ِز َ
ظرُ َومَا بَ ّدلُوا َتبْدِيلًا (ِ )23ليَ ْ
حبَهُ َو ِم ْنهُم مّن يَنتَ ِ
عَليْهِ َف ِم ْنهُم مّن َقضَى نَ ْ
عَاهَدُوا اللّهَ َ
ن اللّهَ كَانَ غَفُورًا رّحِيمًا ()24
عَل ْيهِمْ إِ ّ
الصّادِقِينَ ِبصِدْ ِقهِمْ َو ُيعَ ّذبَ ا ْل ُمنَافِقِينَ إِن شَاء َأوْ َيتُوبَ َ
يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال :
لقد كانوا ناسا من البشر ,ل يملكون أن يتخلصوا من مشاعر البشر ,وضعف البشر .وليس
مطلوبا منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري ; ول أن يخرجوا من إطار هذا الجنس ;
ويفقدوا خصائصه ومميزاته .فلهذا خلقهم ال .خلقهم ليبقوا بشرا ,ول يتحولوا جنسا آخر .ل
ملئكة ول شياطين ,ول بهيمة ول حجرا . .كانوا ناسا من البشر يفزعون ,ويضيقون بالشدة
26
,ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة .ولكنهم كانوا -مع هذا -مرتبطين بالعروة الوثقى
التي تشدهم إلى ال ; و تمنعهم من السقوط ; وتجدد فيهم المل ,وتحرسهم من القنوط . .
وكانوا بهذا وذاك نموذجا فريدا في تاريخ البشرية لم يعرف له نظير .
وعلينا أن ندرك هذا لندرك ذلك النموذج الفريد في تاريخ العصور .علينا أن ندرك أنهم كانوا
بشرا ,لم يتخلوا عن طبيعة البشر ,بما فيها من قوة و ضعف .وأن منشأ امتيازهم أنهم بلغوا
في بشريتهم هذه أعلى قمة مهيأة لبني النسان ,في الحتفاظ بخصائص البشر في الرض مع
الستمساك بعروة السماء .
وحين نرانا ضعفنا مرة ,أو زلزلنا مرة ,أو فزعنا مرة ,أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة
والضيق . .فعلينا أل نيأس من أنفسنا ,وأل نهلع ونحسب أننا هلكنا ; أو أننا لم نعد نصلح
لشيء عظيم أبدا ! ولكن علينا في الوقت ذاته أل نقف إلى جوار ضعفنا لنه من فطرتنا
البشرية ! ونصر عليه لنه يقع لمن هم خير منا ! هنالك العروة الوثقى .عروة السماء .وعلينا
أن نستمسك بها لننهض من الكبوة ,ونسترد الثقة والطمأنينة ,ونتخذ من الزلزال بشيرا بالنصر
.فنثبت ونستقر ,ونقوى ونطمئن ,ونسير في الطريق . .
وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر السلم .النموذج الذي يذكر عنه
القرآن الكريم مواقفه الماضية وحسن بلئه وجهاده ,وثباته على عهده مع ال ,فمنهم من لقيه ,
ومنهم من ينتظر أن يلقاه:
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا ال عليه .فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر .وما
بدلوا تبديل) . .
هذا في مقابل ذلك النموذج الكريه .نموذج الذين عاهدوا ال من قبل ل يولون الدبار .ثم ولم
يوفوا بعهد ال( :وكان عهد ال مسؤول) . .
***************
كثير من الناس يلومون حماس على موقفها فيقولون بلسان الحال والمقال :نحن اليوم ضعفاء
فكيف نقابل أعتى قوة في العالم ؟ والنتيجة هي البادة ل محالة وإهلك الحرث والنسل في
عالم ل يؤمن إل بالقوة !!!!!
والجواب على هذه الشبهة يسير :
27
فال تعالى أمرنا بالجهاد في سبيله مهما كنا قلة فليس النصر للكثرة دائما قال تعالى في سورة
البقرة :
ط َعمْهُ
ش ِربَ ِمنْهُ َفَل ْيسَ ِمنّي َومَن لّمْ يَ ْ
ن اللّهَ ُم ْب َتلِيكُم ِب َن َهرٍ َفمَن َ
جنُودِ قَالَ إِ ّ
َفَلمّا َفصَلَ طَالُوتُ بِا ْل ُ
ش ِربُواْ ِمنْهُ إِلّ َقلِيلً ّم ْنهُمْ َفَلمّا جَا َو َزهُ ُهوَ وَالّذِينَ آ َمنُواْ َمعَهُ
غرْفَةً ِبيَ ِدهِ فَ َ
غ َت َرفَ ُ
فَِإنّهُ ِمنّي إِلّ مَنِ ا ْ
غَل َبتْ
ظنّونَ َأ ّنهُم مّلَقُو اللّهِ كَم مّن ِفئَةٍ َقلِيلَةٍ َ
قَالُواْ لَ طَاقَةَ َلنَا ا ْل َيوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنو ِدهِ قَالَ الّذِينَ يَ ُ
جنُو ِدهِ قَالُواْ َر ّبنَا أَ ْفرِغْ
ن اللّهِ وَاللّهُ مَ َع الصّا ِبرِينَ (َ )249وَلمّا َب َرزُواْ لِجَالُوتَ وَ ُ
ِفئَةً َكثِي َرةً بِإِذْ ِ
ن اللّهِ وَ َقتَلَ دَاوُودُ
علَى الْ َقوْمِ ا ْلكَا ِفرِينَ (َ )250ف َه َزمُوهُم بِإِذْ ِ
صرْنَا َ
ص ْبرًا َو َث ّبتْ أَقْدَا َمنَا وَان ُ
عَل ْينَا َ
َ
ضهُمْ ِب َبعْضٍ لّفَسَ َدتِ
عّلمَهُ ِممّا يَشَاء َوَلوْلَ دَفْ ُع اللّ ِه النّاسَ َب ْع َ
ح ْكمَةَ وَ َ
جَالُوتَ وَآتَا ُه اللّهُ ا ْل ُم ْلكَ وَالْ ِ
عَل ْيكَ بِالْحَقّ َوِإ ّنكَ َلمِنَ
ت اللّهِ َن ْتلُوهَا َ
علَى ا ْلعَاَلمِينَ (ِ )251ت ْلكَ آيَا ُ
ن اللّهَ ذُو َفضْلٍ َ
لرْضُ َولَـكِ ّ
اَ
سلِينَ ()252
ا ْل ُمرْ َ
والمؤمنون والمجاهدون في سبيل ال كانوا قلة عبر العصور السلمية كلها
وكذلك فإنها بيعة مع ال قال تعالى في سورة التوبة :
ل اللّهِ َفيَ ْق ُتلُونَ
سبِي ِ
جنّةَ يُقَا ِتلُونَ فِي َ
سهُمْ َوَأ ْموَاَلهُم بِأَنّ َلهُمُ ال َ
ش َترَى مِنَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ أَنفُ َ
ن اللّهَ ا ْ
إِ ّ
شرُواْ
س َتبْ ِ
ن اللّهِ فَا ْ
عَليْهِ حَقّا فِي ال ّتوْرَاةِ وَالِنجِيلِ وَالْ ُقرْآنِ َومَنْ َأوْفَى ِب َعهْ ِدهِ مِ َ
َويُ ْق َتلُونَ وَعْدًا َ
ِب َب ْي ِعكُمُ الّذِي بَا َي ْعتُم بِهِ وَ َذِلكَ ُهوَ الْ َف ْوزُ ا ْلعَظِيمُ ()111
والبيعة ل بد لها من ثمن ويجب أن يكون باهظا
يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال :
إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن . .كل مؤمن على الطلق منذ كانت
الرسل ومنذ كان دين اللّه . .إنها السنة الجارية التي ل تستقيم هذه الحياة بدونها ول تصلح
الحياة بتركها( :ولول دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الرض) ( . .ولول دفع اللّه الناس
بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اللّه كثيرا) . .
إن الحق ل بد أن ينطلق في طريقه .ول بد أن يقف له الباطل في الطريق ! . .بل ل بد أن
يأخذ عليه الطريق . .إن دين اللّه ل بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى
العبودية للّه وحده .ول بد أن يقف له الطاغوت في الطريق . .بل ل بد أن يقطع عليه
الطريق . .ول بد لدين ال أن ينطلق في "الرض" كلها لتحرير "النسان" كله .ول بد للحق
أن يمضي في طريقه ول ينثني عنه ليدع للباطل طريقا ! . .وما دام في "الرض" كفر .وما
28
دام في "الرض" باطل .وما دامت في "الرض" عبودية لغير اللّه تذل كرامة "النسان" فالجهاد
في سبيل اللّه ماض ,والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء .وإل فليس باليمان:و " من
مات ولم يغز ,ولم يحدث نفسه بغزو ,مات على شعبة من النفاق " [ . . .رواه المام أحمد ,
وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي ] .
(فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ,وذلك هو الفوز العظيم) .
استبشروا بإخلص أنفسكم وأموالكم للّه ,وأخذ الجنة عوضا وثمنا ,كما وعد اللّه . .وما الذي
فات ? ما الذي فات المؤمن الذي يسلم للّه نفسه وماله ويستعيض الجنة ? واللّه ما فاته شيء .
فالنفس إلى موت ,والمال إلى فوت .سواء أنفقهما صاحبهما في سبيل اللّه أم في سبيل سواه !
والجنة كسب .كسب بل مقابل في حقيقة المر ول بضاعة ! فالمقابل زائل في هذا الطريق أو
ذاك !
ودع عنك رفعة النسان وهو يعيش للّه .ينتصر -إذا انتصر -لعلء كلمته ,وتقرير دينه ,
وتحرير عباده من العبودية المذلة لسواه .ويستشهد -إذا استشهد -في سبيله ,ليؤدي لدينه
شهادة بأنه خير عنده من الحياة .ويستشعر في كل حركة وفي كل خطوة -أنه أقوى من قيود
الرض وأنه أرفع من ثقلة الرض ,واليمان ينتصر فيه على اللم ,والعقيدة تنتصر فيه على
الحياة .
إن هذا وحده كسب .كسب بتحقيق إنسانية النسان التي ل تتأكد كما تتأكد بانطلقه من أوهاق
الضرورة ; وانتصار اليمان فيه على اللم ,وانتصار العقيدة فيه على الحياة . .فإذا أضيفت
إلى ذلك كله . .الجنة . .فهو بيع يدعو إلى الستبشار ; وهو فوز ل ريب فيه ول جدال:
(فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ,وذلك هو الفوز العظيم) .
ثم نقف وقفة قصيرة أمام قوله تعالى في هذه الية:
(وعدا عليه حقا في التوراة والنجيل والقرآن) . .
فوعد اللّه للمجاهدين في سبيله في القرآن معروف مشهور مؤكد مكرور . .وهو ل يدع مجال
للشك في إصالة عنصر الجهاد في سبيل اللّه في طبيعة هذا المنهج الرباني ; باعتباره الوسيلة
المكافئة للواقع البشري -ل في زمان بعينه ول في مكان بعينه -ما دام أن الجاهلية ل تتمثل
في نظرية تقابل بنظرية ولكنها تتمثل في تجمع عضوي حركي ,يحمي نفسه بالقوة المادية ;
ويقاوم دين اللّه وكل تجمع إسلمي على أساسه بالقوة المادية كذلك ; ويحول دون الناس
29
والستماع لعلن السلم العام بألوهية اللّه وحده للعباد ,وتحرير "النسان" في "الرض" من
العبودية للعباد .كما يحول دونهم ودون النضمام العضوي إلى التجمع السلمي المتحرر من
عبادة الطاغوت بعبوديته ل وحده دون العباد . .ومن ثم يتحتم على السلم في انطلقه في
"الرض" لتحقيق إعلنه العام بتحرير "النسان" أن يصطدم بالقوة المادية التي تحمي التجمعات
الجاهلية ; والتي تحاول بدورها -في حتمية ل فكاك منها -أن تسحق حركة البعث السلمي
وتخفت إعلنه التحريري ,لستبقاء العباد في رق العبودية للعباد !
فأما وعد اللّه للمجاهدين في التوراة والنجيل .فهو الذي يحتاج إلى شيء من البيان . .
إن التوراة والنجيل اللذين في أيدي اليهود والنصارى اليوم ل يمكن القول بأنهما هما اللذان
أنزلهما اللّه على نبيه موسى وعلى نبيه عيسى عليهما السلم ! وحتى اليهود والنصارى أنفسهم
ل يجادلون في أن النسخة الصلية لهذين الكتابين ل وجود لها ; وأن ما بين أيديهم قد كتب بعد
فترة طويلة ضاعت فيها معظم أصول الكتابين ; ولم يبق إل ما وعته ذاكرة بعد ذاكرة . .وهو
قليل . .أضيف إليه الكثير !
ومع ذلك فما تزال في كتب العهد القديم إشارات إلى الجهاد ,والتحريض لليهود على قتال
أعدائهم الوثنيين ,لنصر إلههم وديانته وعبادته ! وإن كانت التحريفات قد شوهت تصورهم للّه
-سبحانه -وتصورهم للجهاد في سبيله .
فأما في الناجيل التي بين أيدي النصارى اليوم فل ذكر ول إشارة إلى جهاد . .ولكننا في
حاجة شديدة إلى تعديل المفهومات السائدة عن طبيعة النصرانية ; فهذه المفهومات إنما جاءت
من هذه الناجيل التي ل أصل لها -بشهادة الباحثين النصارى أنفسهم ! -وقبل ذلك بشهادة
اللّه سبحانه كما وردت في كتابه المحفوظ الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه .
واللّه سبحانه يقول في كتابه المحفوظ:إن وعده بالجنة لمن يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون
; ثابت في التوراة والنجيل والقرآن . .فهذا إذن هو القول الفصل الذي ليس بعده لقائل مقال !
إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن .كل مؤمن على الطلق .منذ كانت
الرسل ,ومنذ كان دين اللّه . .
ولكن الجهاد في سبيل اللّه ليس مجرد اندفاعة إلى القتال ; إنما هو قمة تقوم على قاعدة من
اليمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلق وأعمال .والمؤمنون الذين عقد اللّه معهم البيعة ,
والذين تتمثل فيهم حقيقة اليمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة:
30
(التائبون .العابدون .الحامدون .السائحون .الراكعون الساجدون .المرون بالمعروف
والناهون عن المنكر .والحافظون لحدود ال) . .
(التائبون) . .مما أسلفوا ,العائدون إلى اللّه مستغفرين .والتوبة شعور بالندم على ما مضى ,
وتوجه إلى اللّه فيما بقي ,وكف عن الذنب ,وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل كما يحققها
بالترك .فهي طهارة وزكاة وتوجه وصلح .
(العابدون) . .المتوجهون إلى اللّه وحده بالعبادة وبالعبودية ,إقرارا بالربوبية . .صفة هذه
ثابتة في نفوسهم تترجمها الشعائر ,كما يترجمها التوجه إلى ال وحده بكل عمل وبكل قول
وبكل طاعة وبكل اتباع .فهي إقرار باللوهية والربوبية للّه في صورة عملية واقعية .
(الحامدون) . .الذين تنطوي قلوبهم على العتراف للمنعم بالنعمة ; وتلهج ألسنتهم بحمد اللّه
في السراء والضراء .في السراء للشكر على ظاهر النعمة ,وفي الضراء للشعور بما في
البتلء من الرحمة .وليس الحمد هو الحمد في السراء وحدها ,ولكنه الحمد في الضراء حين
يدرك القلب المؤمن أن اللّه الرحيم العادل ما كان ليبتلي المؤمن إل لخير يعلمه ,مهما خفي
على العباد إدراكه .
(السائحون) . .وتختلف الروايات فيهم .فمنها ما يقول:إنهم المهاجرون .ومنها ما يقول:إنهم
المجاهدون .ومنها ما يقول:إنهم المتنقلون في طلب العلم .ومنهم من يقول:إنهم الصائمون . .
ونحن نميل إلى اعتبارهم المتفكرين في خلق اللّه وسننه ,ممن قيل في أمثالهم في موضع آخر:
(إن في خلق السماوات والرض .واختلف الليل والنهار ليات لولي اللباب ,الذين يذكرون
اللّه قياما وقعودا وعلى جنوبهم ,ويتفكرون في خلق السماوات والرض:ربنا ما خلقت هذا
باطلً سبحانك ! . . ). . .فهذه الصفة أليق هنا بالجو بعد التوبة والعبادة والحمد .فمع التوبة
والعبادة والحمد يكون التدبر في ملكوت اللّه على هذا النحو الذي ينتهي بالنابة إلى اللّه ,
وإدراك حكمته في خلقه ,وإدراك الحق الذي يقوم عليه الخلق .ل للكتفاء بهذا الدراك وإنفاق
العمر في مجرد التأمل والعتبار .ولكن لبناء الحياة وعمرانها بعد ذلك على أساس هذا
الدراك . .
(الراكعون الساجدون) . .الذين يقيمون الصلة ويقومون بالصلة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم
; وكأن الركوع والسجود طابع مميز بين الناس لهم .
31
(المرون بالمعروف والناهون عن المنكر) . .وحين يقوم المجتمع المسلم الذي تحكمه شريعة
اللّه ,فيدين للّه وحده ول يدين لسواه ,يكون المر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل هذا
المجتمع ; ويتناول ما يقع فيه من أخطاء وانحرافات عن منهج اللّه وشرعه . .ولكن حين ل
يكون في الرض مجتمع مسلم ; وذلك حين ل يكون في الرض مجتمع الحاكمية فيه للّه وحده
,وشريعة اللّه وحدها هي الحاكمة فيه ,فإن المر بالمعروف يجب أن يتجه أولً إلى المر
بالمعروف الكبر ,وهو تقرير ألوهية اللّه وحده سبحانه وتحقيق قيام المجتمع المسلم .والنهي
عن المنكر يجب أن يتجه أولً إلى النهي عن المنكر الكبر .وهو حكم الطاغوت وتعبيد الناس
لغير اللّه عن طريق حكمهم بغير شريعة اللّه . .والذين آمنوا بمحمد -صلى ال عليه وسلم -
هاجروا وجاهدوا ابتداء لقامة الدولة المسلمة الحاكمة بشريعة اللّه ,وإقامة المجتمع المسلم
المحكوم بهذه الشريعة .فلما تم لهم ذلك كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في
الفروع المتعلقة بالطاعات والمعاصي .ولم ينفقوا قط جهدهم ,قبل قيام الدولة المسلمة
والمجتمع المسلم في شيء من هذه التفريعات التي ل تنشأ إل بعد قيام الصل الصيل ! ومفهوم
المر بالمعروف والنهي عن المنكر ل بد أن يدرك وفق مقتضى الواقع .فل يبدأ بالمعروف
الفرعي والمنكر الفرعي قبل النتهاء من المعروف الكبر والمنكر الكبر ,كما وقع أول مرة
عند نشأة المجتمع المسلم !
(والحافظون لحدود اللّه) . .وهو القيام على حدود اللّه لتنفيذها في النفس وفي الناس .ومقاومة
من يضيعها أو يعتدي عليها . .ولكن هذه كالمر بالمعروف والنهي عن المنكر ,ل يقام عليها
إل في مجتمع مسلم .ول مجتمع مسلم إل المجتمع الذي تحكمه شريعة اللّه وحدها في أمره كله
; وإل الذي يفرد اللّه سبحانه باللوهية والربوبية والحاكمية والتشريع ; ويرفض حكم الطاغوت
المتمثل في كل شرع لم يأذن به اللّه . .والجهد كله يجب أن ينفق ابتداء لقامة هذا المجتمع .
ومتى قام كان هناك مكان للحافظين لحدود اللّه فيه . .كما وقع كذلك أول مرة عند نشأة
المجتمع المسلم !
هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد اللّه معها بيعته .وهذه هي صفاتها ومميزاتها:توبة ترد العبد
إلى اللّه ,وتكفه عن الذنب ,وتدفعه إلى العمل الصالح .وعبادة تصله باللّه وتجعل اللّه معبوده
وغايته ووجهته .وحمد للّه على السراء والضراء نتيجة الستسلم الكامل للّه والثقة المطلقة
برحمته وعدله .وسياحة في ملكوت اللّه مع آيات اللّه الناطقة في الكون الدالة على الحكمة
32
والحق في تصميم الخلق .وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلح الذات إلى إصلح
العباد والحياة .وحفظ لحدود اللّه يرد عنها العادين والمضيعين ,ويصونها من التهجم والنتهاك
..
هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها اللّه على الجنة ,واشترى منها النفس والموال ,لتمضي
مع سنة اللّه الجارية منذ كان دين اللّه ورسله ورسالته .قتال في سبيل اللّه لعلء كلمة اللّه ;
وقتل لعداء اللّه الذين يحادون ال ; أو استشهاد في المعركة التي ل تفتر بين الحق والباطل ,
وبين السلم والجاهلية ,وبين الشريعة والطاغوت ,وبين الهدى والضلل .
وليست الحياة لهوا ولعبا .وليست الحياة أكلً كما تأكل النعام ومتاعا .وليست الحياة سلمة
ذليلة ,وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة . .إنما الحياة هي هذه:كفاح في سبيل الحق ,
وجهاد في سبيل الخير ,وانتصار لعلء كلمة اللّه ,أو استشهاد كذلك في سبيل اللّه . .ثم
الجنة والرضوان . .
هذه هي الحياة التي يدعى إليها المؤمنون باللّه( :يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا
دعاكم لما يحييكم) . . .وصدق اللّه .وصدق رسول اللّه . .
***********
غ ْيرُ ُأ ْولِي
س َتوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُمؤْ ِمنِينَ َ
شتان بين القاعدين والمجاهدين قال تعالى { :لّ يَ ْ
علَى
سهِمْ َ
ل اللّهُ ا ْلمُجَاهِدِينَ بَِأ ْموَاِلهِمْ َوأَنفُ ِ
سهِمْ َفضّ َ
ل اللّهِ بَِأ ْموَاِلهِمْ َوأَنفُ ِ
سبِي ِ
ض َررِ وَا ْلمُجَاهِدُونَ فِي َ
ال ّ
جرًا عَظِيمًا ()95
علَى الْقَاعِدِينَ أَ ْ
ل اللّهُ ا ْلمُجَاهِدِينَ َ
سنَى وَ َفضّ َ
الْقَاعِدِينَ َد َرجَةً َوكُلّ وَعَدَ اللّهُ الْحُ ْ
ن اللّهُ غَفُورًا رّحِيمًا ( )96سورة النساء
حمَةً َوكَا َ
َدرَجَاتٍ ّمنْهُ َو َمغْ ِف َرةً َورَ ْ
يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال
إن هذا النص القرآني كان يواجه حالة خاصة في المجتمع المسلم وما حوله ; وكان يعالج حالة
خاصة في هذا المجتمع من التراخي -من بعض عناصره -في النهوض بتكاليف الجهاد
بالموال والنفس .سواء كان المقصود أولئك الذين تخلفوا عن الهجرة احتفاظا بأموالهم ,إذ لم
يكن المشركون يسمحون لمهاجر أن يحمل معه شيئا من ماله ; أو توفيرا لعناء الهجرة وما فيها
من مخاطر ,إذ لم يكن المشركون يتركون المسلمين يهاجرون ,وكثيرا ما كانوا يحبسونهم
ويؤذونهم -أو يزيدون في إيذائهم بتعبير أدق -إذا عرفوا منهم نية الهجرة . .سواء كان
المقصود هم أولئك الذين تخلفوا عن الهجرة -وهو ما نرجحه -أو كان المقصود بعض
33
المسلمين في دار السلم ,الذين لم ينشطوا للجهاد بالموال والنفس -من غير المنافقين
المبطئين الذين ورد ذكرهم في درس سابق -أو كان المقصود هؤلء وهؤلء ممن لم ينشطوا
للجهاد بالموال والنفس في دار الحرب ودار السلم سواء .
إن هذا النص كان يواجه هذه الحالة الخاصة ; ولكن التعبير القرآني يقرر قاعدة عامة ; يطلقها
من قيود الزمان ,وملبسات البيئة ; ويجعلها هي القاعدة التي ينظر ال بها إلى المؤمنين في
كل زمان وفي كل مكان -قاعدة عدم الستواء بين القاعدين من المؤمنين عن الجهاد بالموال
والنفس -غير اولي الضرر الذين يقعدهم العجز عن الجهاد بالنفس ,او يقعدهم الفقر والعجز
عن الجهاد بالنفس والمال -عدم الستواء بين هؤلء القاعدين والخرين الذين يجاهدون
بأموالهم وأنفسهم . .قاعدة عامة على الطلق (ل يستوي القاعدون من المؤمنين -غير أولي
الضرر -والمجاهدون في سبيل ال بأموالهم وأنفسهم) . .
ول يتركها هكذا مبهمة ,بل يوضحها ويقررها ,ويبين طبيعة عدم الستواء بين الفريقين:
(فضل ال المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) . .
وهذه الدرجة يمثلها رسول ال صلى ال عليه وسلم في مقامهم في الجنة .
في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري ,أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :إن في الجنة
مائة درجة أعدها ال للمجاهدين في سبيله .وما بين كل درجتين كما بين السماء والرض . .
وقال العمش عن عمرو بن مرة ,عن أبى عبيدة ,عن عبدال بن مسعود قال:قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم ":من رمى بسهم فله أجره درجة " . .فقال رجل:يا رسول ال ,وما
الدرجة ? فقال:
"أما إنها ليست بعتبة أمك .ما بين الدرجتين مائة عام " .
وهذه المسافات التي يمثل بها رسول ال صلى ال عليه وسلم ,نحسب أننا اليوم أقدر على
تصورها ; بعد الذي عرفناه من بعض أبعاد الكون .حتى إن الضوء ليصل من نجم إلى كوكب
في مئات السنين الضوئية وقد كان الذين يسمعون رسول ال صلى ال عليه وسلم يصدقونه بما
يقول .ولكنا -كما قلت -ربما كنا أقدر -فوق اليمان -على تصور هذه البعاد بما عرفناه
من بعض أبعاد الكون العجيب !
ثم يعود السياق بعد تقرير هذا الفارق في المستوى بين القاعدين من المؤمنين -غير اولي
الضرر -والمجاهدين بأموالهم وأنفسهم ,فيقرر أن ال وعد جميعهم الحسنى:
34
(وكل وعد ال الحسنى) . .
فلليمان وزنه وقيمته على كل حال ; مع تفاضل أهله في الدرجات وفق تفاضلهم في النهوض
بتكاليف اليمان ; فيما يتعلق بالجهاد بالموال والنفس . .وهذا الستدراك هو الذي نفهم منه
أن هؤلء القاعدين ليسوا هم المنافقين المبطئين .إنما هم طائفة أخرى صالحة في الصف
المسلم ومخلصة ; ولكنها قصرت في هذا الجانب ; والقرآن يستحثها لتلفي التقصير ; والخير
مرجو فيها ,والمل قائم في أن تستجيب .
فإذا انتهى من هذا الستدراك عاد لتقرير القاعدة الولى ; مؤكدا لها ,متوسعا في عرضها ;
ممعنا في الترغيب فيما وراءها من أجر عظيم:
وفضل ال المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما .درجات منه ومغفرة ورحمة .وكان ال
غفورا رحيمًا .
وهذا التوكيد . .وهذه الوعود . .وهذا التمجيد للمجاهدين . .والتفضيل على القاعدين . .
والتلويح بكل ما تهفو له نفس المؤمن من درجات الجر العظيم .ومن مغفرة ال ورحمته
للذنوب والتقصير . .
هذا كله يشي بحقيقتين هامتين:
الحقيقة الولى:هي أن هذه النصوص كانت تواجه حالت قائمة في الجماعة المسلمة كما أسلفنا
وتعالجها .وهذا كفيل بأن يجعلنا أكثر إدراكا لطبيعة النفس البشرية ,ولطبيعة الجماعات
البشرية ,وأنها مهما بلغت في مجموعها من التفوق في اليمان والتربية فهي دائما في حاجة
إلى علج ما يطرأ عليها من الضعف والحرص والشح والتقصير في مواجهة التكاليف ,
وبخاصة تكاليف الجهاد بالموال والنفس ,مع خلوص النفس ل ,وفي سبيل ال .وظهور
هذه الخصائص البشرية -من الضعف والحرص والشح والتقصير -ل يدعو لليأس من النفس
أو الجماعة ,ول إلى نفض اليد منها ,وازدرائها ; طالما أن عناصر الخلص والجد والتعلق
بالصف والرغبة في التعامل مع ال موفورة فيها . .ولكن ليس معنى هذا هو إقرار النفس أو
الجماعة على ما بدا منها من الضعف والحرص والشح والتقصير ; والهتاف لها بالنبطاح في
السفح ,باعتبار أن هذا كله جزء من "واقعها" ! بل ل بد لها من الهتاف لتنهض من السفح
والحداء لتسير في المرتقى الصاعد ,إلى القمة السامقة .بكل ألوان الهتاف والحداء . .كما
نرى هنا في المنهج الرباني الحكيم .
35
والحقيقة الثانية:هي قيمة الجهاد بالموال والنفس في ميزان ال واعتبارات هذا الدين وأصالة
هذا العنصر في طبيعة هذه العقيدة وهذا النظام .لما يعلمه ال -سبحانه -من طبيعة الطريق
; وطبيعة البشر ; وطبيعة المعسكرات المعادية للسلم في كل حين .
إن "الجهاد" ليس ملبسة طارئة من ملبسات تلك الفترة .إنما هو ضرورة مصاحبة لركب هذه
الدعوة ! وليست المسألة -كما توهم بعض المخلصين -أن السلم نشأ في عصر
اللمبراطوريات ; فاندس في تصوراتأهله -اقتباسا مما حولهم -أنه ل بد لهم من قوة قاهرة
لحفظ التوازن !
هذه المقررات تشهد -على القل -بقلة ملبسة طبيعة السلم الصلية لنفوس هؤلء القائلين
بهذه التكهنات والظنون .
لو كان الجهاد ملبسة طارئة في حياة المة المسلمة ما استغرق كل هذه الفصول من صلب
كتاب ال ; في مثل هذا السلوب ! ولما استغرق كذلك كل هذه الفصول من سنة رسول ال
صلى ال عليه وسلم وفي مثل هذا السلوب . .
لو كان الجهاد ملبسة طارئة ما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم تلك الكلمة الشاملة لكل
مسلم إلى قيام الساعة ":من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق " .
ولئن كان صلى ال عليه وسلم رد في حالت فردية بعض المجاهدين ,لظروف عائلية لهم
خاصة ,كالذي جاء في الصحيح أن رجل قال للنبي صلى ال عليه وسلم أجاهد .قال ":لك
أبوان ? " قال:نعم .قال " ,ففيهما جاهد " . .لئن كان ذلك فإنما هي حالة فردية ل تنقض
القاعدة العامة ; وفرد واحد ل ينقض المجاهدين الكثيرين .ولعله صلى ال عليه وسلم على
عادته في معرفة كل ظروف جنوده فردا فردا ,كان يعلم من حال هذا الرجل وأبويه ,ما جعله
يوجهه هذا التوجيه . .
فل يقولن أحد -بسبب ذلك -إنما كان الجهاد ملبسة طارئة بسبب ظروف .وقد تغيرت هذه
الظروف !
وليس ذلك لن السلم يجب أن يشهر سيفه ويمشي به في الطريق يقطع به الروؤس ! ولكن
لن واقع حياة الناس وطبيعة طريق الدعوة تلزمه أن يمسك بهذا السيف ويأخذ حذره في كل
حين !
36
إن ال -سبحانه -يعلم أن هذا أمر تكرهه الملوك ! ويعلم أن ل بد لصحاب السلطان أن
يقاوموه .لنه طريق غير طريقهم ,ومنهج غير منهجهم .ليس بالمس فقط .ولكن اليوم
وغدا .وفي كل أرض ,وفي كل جيل !
وإن ال -سبحانه -يعلم أن الشر متبجح ,ول يمكن أن يكون منصفا .ول يمكن أن يدع
الخير ينمو -مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة ! -فإن مجرد نمو الخير يحمل
الخطورة على الشر .ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل .ول بد أن يجنح
الشر:إلى العدوان ; ول بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة !
هذه جبلة ! وليست ملبسة وقتية . . .
هذه فطرة ! وليست حالة طارئة . . .
ومن ثم ل بد من الجهاد . .لبد منه في كل صورة . .ول بد أن يبدأ في عالم الضمير .ثم
يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع والشهود .ول بد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح .
ول بد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة . .وإل كان المر انتحارا .أو
كان هزل ل يليق بالمؤمنين !
ول بد من بذل الموال والنفس .كما طلب ال من المؤمنين .وكما اشترى منهم أنفسهم
وأموالهم بأن لهم الجنة . .فأما أن يقدر لهم الغلب ; أو يقدر لهم الستشهاد ; فذلك شأنه -
سبحانه -وذلك قدره المصحوب بحكمته . .أما هم فلهم إحدى الحسنيين عند ربهم . .والناس
كلهم يموتون عندما يحين الجل . .والشهداء وحدهمهم الذين يستشهدون . .
هناك نقط ارتكاز أصيلة في هذه العقيدة ,وفي منهجها الواقعي ,وفي خط سيرها المرسوم ,
وفي طبيعة هذا الخط وحتمياته الفطرية ,التي ل علقة لها بتغير الظروف .
وهذه النقط ل يجوز أن تتميع في حس المؤمنين -تحت أي ظرف من الظروف .ومن هذه
النقط . .الجهاد . .الذي يتحدث عنه ال سبحانه هذا الحديث . .الجهاد في سبيل ال وحده .
وتحت رايته وحدها . .وهذا هو الجهاد الذي يسمى من يقتلون فيه "شهداء" ويتلقاهم المل
العلى بالتكريم . .
***************
ونحن نتربص إحدى الحسنيين قال تعالى في سورة التوبة :
37
ص ْبكَ ُمصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَ ْذنَا َأ ْم َرنَا مِن َقبْلُ َو َي َت َولّواْ وّهُمْ َفرِحُونَ (
سؤْهُمْ َوإِن ُت ِ
سنَةٌ تَ ُ
صبْكَ حَ َ
إِن ُت ِ
علَى اللّهِ َف ْل َي َت َوكّلِ ا ْل ُم ْؤ ِمنُونَ ( )51قُلْ هَلْ
لنَا وَ َ
)50قُل لّن ُيصِي َبنَا إِلّ مَا َك َتبَ اللّهُ َلنَا ُهوَ َموْ َ
س َن َييْنِ َونَحْنُ َن َت َربّصُ ِبكُمْ أَن ُيصِي َبكُ ُم اللّهُ ِبعَذَابٍ مّنْ عِن ِدهِ َأوْ بَِأيْدِينَا
َت َربّصُونَ ِبنَا إِلّ إِحْدَى الْحُ ْ
َف َت َر ّبصُواْ ِإنّا َم َعكُم ّم َت َر ّبصُونَ ()52
يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال
واللّه قد كتب للمؤمنين النصر ,ووعدهم به في النهاية ,فمهما يصبهم من شدة ,ومهما يلقوا
من ابتلء ,فهو إعداد للنصر الموعود ,ليناله المؤمنون عن بينة ,وبعد تمحيص ,وبوسائله
التي اقتضتها سنة اللّه ,نصرا عزيزا ل رخيصا ,وعزة تحميها نفوس عزيزة مستعدة لكل
ابتلء ,صابرة على كل تضحية .واللّه هو الناصر وهو المعين:
(وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون) . .
والعتقاد بقدر اللّه ,والتوكل الكامل على اللّه ,ل ينفيان اتخاذ العدة بما في الطوق .فذلك أمر
اللّه الصريح( :وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ). . .وما يتكل على اللّه حق التكال من ل
ينفذ أمر اللّه ,ومن ل يأخذ بالسباب ,ومن ليدرك سنة اللّه الجارية التي ل تحابي أحدا ,ول
تراعي خاطر إنسان !
على أن المؤمن أمره كله خير .سواء نال النصر أو نال الشهادة .والكافر أمره كله شر سواء
أصابه عذاب اللّه المباشر أو على أيدي المؤمنين:
(قل:هل تربصون بنا إل إحدى الحسنيين ,ونحن نتربص بكم أن يصيبكم اللّه بعذاب من عنده
أو بأيدينا .فتربصوا إنا معكم متربصون) . .
فماذا يتربص المنافقون بالمؤمنين ? إنها الحسنى على كل حال .النصر الذي تعلو به كلمة اللّه
,فهو جزاؤهم في هذه الرض .أو الشهادة في سبيل الحق عليا الدرجات عند اللّه .وماذا
يتربص المؤمنون بالمنافقين ? إنه عذاب اللّه يأخذهم كما أخذ من قبلهم من المكذبين ; أو ببطش
المؤمنين بهم كما وقع من قبل للمشركين ( . .فتربصوا إنا معكم متربصون) والعاقبة معروفة .
.والعاقبة معروفة للمؤمنين .
*****************
38
ظرُ مَا
ع ْينًا َينْ ُ
سيْسَةَ َ
ل اللّ ِه -صلى ال عليه وسلم -بُ َ
ففي مسلم عَنْ َأ َنسِ بْنِ مَاِلكٍ قَالَ َب َعثَ رَسُو ُ
ل اللّهِ -صلى ال عليه
غ ْيرُ رَسُو ِ
غ ْيرِى وَ َ
ص َنعَتْ عِيرُ َأبِى سُ ْفيَانَ َفجَاءَ َومَا فِى ا ْل َبيْتِ أَحَدٌ َ
َ
ل اللّ ِه -صلى
خرَجَ رَسُو ُ
س َت ْثنَى َب ْعضَ نِسَائِهِ قَالَ فَحَ ّدثَهُ الْحَدِيثَ قَالَ فَ َ
وسلم -قَالَ لَ أَ ْدرِى مَا ا ْ
جعَلَ رِجَالٌ
ضرًا َف ْل َي ْر َكبْ َم َعنَا » .فَ َ
ظ ْه ُرهُ حَا ِ
طِلبَةً َفمَنْ كَانَ َ
ال عليه وسلمَ -ف َت َكلّمَ فَقَالَ « إِنّ َلنَا َ
طلَقَ رَسُولُ
ضرًا » .فَانْ َ
ظ ْه ُرهُ حَا ِ
ع ْلوِ ا ْلمَدِينَةِ فَقَالَ « لَ إِلّ مَنْ كَانَ َ
ظ ْهرَا ِنهِمْ فِى ُ
ستَأْ ِذنُونَهُ فِى ُ
يَ ْ
ش ِركُونَ فَقَالَ
ش ِركِينَ ِإلَى بَ ْدرٍ وَجَاءَ ا ْلمُ ْ
سبَقُوا ا ْلمُ ْ
حتّى َ
اللّهِ -صلى ال عليه وسلمَ -وَأصْحَابُهُ َ
حتّى َأكُونَ َأنَا دُونَهُ » .فَ َدنَا
شىْءٍ َ
رَسُولُ اللّهِ -صلى ال عليه وسلم « -لَ يُقَ ّدمَنّ أَحَدٌ ِم ْنكُمْ ِإلَى َ
س َموَاتُ
ضهَا ال ّ
ع ْر ُ
جنّةٍ َ
ش ِركُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ -صلى ال عليه وسلم « -قُومُوا ِإلَى َ
ا ْلمُ ْ
س َموَاتُ
ع ْرضُهَا ال ّ
جنّةٌ َ
لنْصَا ِرىّ يَا رَسُولَ اللّهِ َ
حمَامِ ا َ
ع َم ْيرُ بْنُ الْ ُ
لرْضُ » .قَالَ يَقُولُ ُ
وَا َ
علَى
ح ِمُلكَ َ
ل اللّ ِه -صلى ال عليه وسلم « -مَا يَ ْ
لرْضُ قَالَ « َنعَمْ » .قَالَ بَخٍ بَخٍ .فَقَالَ رَسُو ُ
وَا َ
َق ْوِلكَ بَخٍ بَخٍ » .قَالَ لَ وَاللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ إِلّ رَجَا َءةَ أَنْ َأكُونَ مِنْ أَ ْهِلهَا .قَالَ « فَِإ ّنكَ مِنْ أَ ْهِلهَا
حتّى آكُلَ َت َمرَاتِى هَ ِذهِ ِإ ّنهَا
حيِيتُ َ
جعَلَ يَ ْأكُلُ ِم ْنهُنّ ثُمّ قَالَ َلئِنْ َأنَا َ
خرَجَ َت َمرَاتٍ مِنْ َق ْرنِهِ َف َ
» .فََأ ْ
حتّى ُقتِلَ.
طوِيلَةٌ -قَالَ َ -ف َرمَى ِبمَا كَانَ َمعَهُ مِنَ ال ّت ْمرِ .ثُمّ قَا َتَلهُمْ َ
حيَاةٌ َ
لَ َ
***************
والشهادة في سبيل ال أقرب الطرق وأسرعها إلى دخول الجنة قال تعالى
لرْضُ أُعِ ّدتْ ِل ْل ُمتّقِينَ} ()133
سمَاوَاتُ وَا َ
ضهَا ال ّ
ع ْر ُ
جنّةٍ َ
{ :وَسَارِعُواْ ِإلَى َمغْ ِف َرةٍ مّن ّر ّبكُمْ وَ َ
سورة آل عمران
سمَاء وَالَْأرْضِ أُعِ ّدتْ ِللّذِينَ آ َمنُوا بِاللّهِ
ضهَا َك َعرْضِ ال ّ
عرْ ُ
جنّةٍ َ
{ سَابِقُوا ِإلَى َمغْ ِف َرةٍ مّن ّر ّبكُمْ وَ َ
سلِهِ َذِلكَ َفضْلُ اللّهِ ُي ْؤتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْ َفضْلِ ا ْلعَظِيمِ} ( )21سورة الحديد
َورُ ُ
يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال
فليس السباق إلى إحراز اللهو واللعب والتفاخر والتكاثر بسباق يليق بمن شبوا عن الطوق ,
وتركوا عالم اللهو اللعب للطفال والصغار ! إنما السباق إلى ذلك الفق ,وإلى ذلك الهدف ,
وإلى ذلك الملك العريض( :جنة عرضها كعرض السماء والرض) . .
وربما كان بعضهم في الزمن الخالي -قبل أن تكشف بعض الحقائق عن سعة هذا الكون -
يميل إلى حمل مثل هذه الية على المجاز ,وكذلك حمل بعض الحاديث النبوية .كذلك الحديث
39
الذي أسلفنا عن أصحاب الغرف التي يتراءاها سكان الجنة كما يتراءون الكوكب الدري الغابر
في الفق من المشرق أو المغرب . .فأما اليوم ومراصد البشر الصغيرة تكشف عن البعاد
الكونية الهائلة التي ليس لها حدود ,فإن الحديث عن عرض الجنة ,والحديث عن تراءي
الغرف من بعيد ,يقع قطعا موقع الحقيقة القريبة البسيطة المشهودة ,ول يحتاج إلى حمله على
المجاز إطلقا ! فإن ما بين الرض والشمس مثل ل يبلغ أن يكون شيئا في أبعاد الكون يقاس !
وذلك الملك العريض في الجنة يبلغه كل من أراد ,ويسابق إليه كل من يشاء .
وعربونه:اليمان بال ورسله ( .ذلك فضل ال يؤتيه من يشاء) ( . .وال ذو الفضل العظيم) . .
وفضل ال غير محجوز ول محجور .فهو مباح متاح للراغبين والسابقين .وفي هذا فليتسابق
المتسابقون ,ل في رقعة الرض المحدودة الجل المحدودة الركان !
ول بد لصاحب العقيدة أن يتعامل مع هذا الوجود الكبير ; ول يحصر نفسه ونظره وتصوره
واهتمامه ومشاعره في عالم الرض الضيق الصغير . .ل بد له من هذا ليؤدي دوره اللئق
بصاحب العقيدة .هذا الدور الشاق الذي يصطدم بحقارات الناس وأطماعهم ,كما يصطدم
بضلل القلوب والتواء النفوس .ويعاني من مقاومة الباطل وتشبثه بموضعه من الرض ما ل
يصبر عليه إل من يتعامل مع وجود أكبر من هذه الحياة ,وأوسع من هذه الرض ,وأبقى من
ذلك الفناء . .
إن مقاييس هذه الرض وموازينها ل تمثل الحقيقة التي ينبغي أن تستقر في ضمير صاحب
العقيدة .وما تبلغ من تمثيل تلك الحقيقة إل بقدر ما يبلغ حجم الرض بالقياس إلى حجم الكون ;
وما يبلغ عمر الرض بالقياس إلى الزل والبد .والفارق هائل هائل ل تبلغ مقاييس الرض
كلها أن تحدده ول حتى أن تشير إليه !
ومن ثم يبقى صاحب العقيدة في أفق الحقيقة الكبيرة مستعليا على واقع الرض الصغير .مهما
تضخم هذا الواقع وامتد واستطال .يبقى يتعامل مع تلك الحقيقة الكبيرة الطليقة من قيود هذا
الواقع الصغير .ويتعامل مع الوجود الكبير الذي يتمثله في الزل والبد .وفي ملك الخرة
الواسع العريض .وفي القيم اليمانية الثابتة التي ل تهتز لخلل يقع في موازين الحياة الدنيا
الصغيرة الخادعة . .وتلك وظيفة اليمان في حياة أصحاب العقائد المختارين لتعديل قيم الحياة
وموازينها ,ل للتعامل بها والخضوع لمقتضياتها . . .
******************
40
لبد من التضحيات الجسام ليكون هؤلء منارات وضاءة للبشرية وإل كيف يرسل النبي صلى
ال عليه وسلم الرسول وحده ليبلغ رسالة ال وهو يعلم أنه قد يقتل في أية لحظة وقد حدث هذا
في حادثة بئر معونة وفي حادثة الرجيع وفي غزوة مؤتة ؟
ففي البخاري عَنْ َأ َنسٍ -رضى ال عنه أَنّ ال ّن ِبىّ -صلى ال عليه وسلمَ -أتَاهُ رِعْلٌ وَ َذ ْكوَانُ
ى -صلى ال عليه
علَى َق ْو ِمهِمْ فََأمَدّهُ ُم ال ّن ِب ّ
س َتمَدّوهُ َ
سَلمُوا وَا ْ
عمُوا َأ ّنهُمْ قَدْ أَ ْ
حيَانَ َفزَ َ
صيّةُ َو َبنُو لِ ْ
وَعُ َ
صلّونَ بِالّليْلِ
طبُونَ بِال ّنهَارِ َو ُي َ
سمّيهِمُ الْ ُقرّاءَ يَحْ ِ
ل ْنصَارِ قَالَ َأنَسٌ ُكنّا نُ َ
س ْبعِينَ مِنَ ا َ
وسلم -بِ َ
علَى رِعْلٍ وَ َذ ْكوَانَ
ش ْهرًا يَدْعُو َ
حتّى َبَلغُوا ِب ْئرَ َمعُونَةَ غَ َدرُوا ِبهِمْ وَ َق َتلُوهُمْ فَ َق َنتَ َ
طلَقُوا ِبهِمْ َ
فَانْ َ
عنّا َق ْو َمنَا بَِأنّا قَدْ لَقِينَا َر ّبنَا
حيَانَ .قَالَ َقتَا َدةُ وَحَ ّد َثنَا َأ َنسٌ َأ ّنهُمْ َقرَءُوا ِبهِمْ ُقرْآنًا أَلَ َبّلغُوا َ
َو َبنِى ِل ْ
عنّا َوَأرْضَانَا .ثُمّ رُفِعَ َذِلكَ َبعْدُ.
ضىَ َ
َف َر ِ
وفي مسند أحمد :
سَليْمٍ فِى
حرَاما خَالَهُ َأخُو أُمّ ُ
ل اللّ ِه -صلى ال عليه وسلمَ -لمّا َب َعثَ َ
-13539عَنْ َأ َنسٍ أَنّ رَسُو َ
ش ِركِينَ َي ْو َمئِذٍ عَا ِمرَ بْنَ الطّ َفيْلِ َوكَانَ ُهوَ َأتَى
س ْبعِينَ رَجُلً فَ ُق ِتلُوا َيوْمَ ِب ْئرِ َمعُونَةَ َوكَانَ َرئِيسُ ا ْلمُ ْ
َ
سهْلِ َو َيكُونُ لِى أَهْلُ
خصَالٍ َيكُونُ َلكَ أَهْلُ ال ّ
لثَ ِ
خ َترْ ِمنّى ثَ َ
ال ّن ِبىّ -صلى ال عليه وسلم -فَقَالَ ا ْ
طعِنَ فِى َب ْيتِ
غزُوكَ ِبغَطَفَانَ َأ ْلفِ أَشْ َقرَ َوَأ ْلفِ شَ ْقرَاءَ .قَالَ فَ ُ
خلِيفَةً مِنْ َبعْ ِدكَ َأوْ أَ ْ
ا ْل َوبَرِ َأوْ َأكُونُ َ
ا ْم َرأَةٍ مِنْ َبنِى فُلَنٍ فَقَالَ غُ ّدةٌ َكغُ ّدةِ ا ْل َبعِيرِ فِى َب ْيتِ ا ْم َرَأةٍ مِنْ َبنِى فُلَنٍ ا ْئتُونِى بِ َفرَسِى .فَُأ ِتىَ بِهِ
سَليْمٍ َورَجُلَنِ َمعَهُ رَجُلٌ مِنْ َبنِى ُأ َميّةَ َورَجُلٌ
حرَامٌ أَخُو أُمّ ُ
طلَقَ َ
ظ ْه ِرهِ فَانْ َ
علَى َ
َف َر ِكبَهُ َفمَاتَ وَ ُهوَ َ
عَل ْمتُمْ
حتّى آ ِت َيهُمْ َفإِنْ آ َمنُونِى َوإِل ُك ْنتُمْ َقرِيبا فَإِنْ َق َتلُونِى أَ ْ
عرَجُ فَقَالَ َلهُمْ كُونُوا َقرِيبا ِمنّى َ
أَ ْ
ل اللّهِ -صلى ال عليه وسلم-
حرَامٌ فَقَالَ َأ ُت ْؤ ِمنُونِى ُأ َبّل ْغكُمْ رِسَالَةَ رَسُو ِ
َأصْحَا َبكُمْ .قَالَ َفَأتَاهُمْ َ
ل اللّهُ
حتّى َأنْفَ َذهُ بِال ّرمْحِ قَا َ
ط َعنَهُ َ
خلْفِهِ فَ َ
جعَلَ يُحَ ّد ُثهُمْ َوَأ ْومَأُوا ِإلَى رَجُلٍ ِم ْنهُمْ مِنْ َ
ِإَل ْيكُمْ قَالُوا َنعَمْ .فَ َ
جبَلٍ .قَالَ َأ َنسٌ فَُأ ْنزِلَ
عرَجِ كَانَ فِى َر ْأسِ َ
غ ْيرَ الَ ْ
َأ ْك َبرُ ُف ْزتُ َو َربّ ا ْل َك ْعبَةِ .قَالَ ثُمّ َق َتلُوهُمْ ُكّلهُمْ َ
عنّا َوَأرْضَانَا .قَالَ فَدَعَا ال ّن ِبىّ
ضىَ َ
عَل ْينَا َوكَانَ ِممّا يُ ْق َرأُ َفنُسِخَ أَنْ َبّلغُوا َق ْو َمنَا َأنّا لَقِينَا َر ّبنَا َف َر ِ
َ
صيّةَ الّذِينَ
ع َ
حيَانَ وَ ُ
علَى رِعْلٍ وَ َذ ْكوَانَ َو َبنِى لِ ْ
صبَاحا َ
عَل ْيهِمْ َأ ْر َبعِينَ َ
-صلى ال عليه وسلمَ -
عصَوُا اللّهَ َورَسُولَهُ.
َ
****************
ويبقى مصداق حديث المصطفى صلى ال عليه وسلم عبر الزمان
41
س ِم ْعتُ ال ّن ِبىّ
عبْ ِد اللّهِ يَقُولُ َ
سمِعَ جَا ِبرَ بْنَ َ
خ َب َرنِى َأبُو ال ّز َب ْيرِ َأنّهُ َ
ج َريْجٍ قَالَ َأ ْ
ففي مسلم عَنِ ابْنِ ُ
علَى الْحَقّ ظَا ِهرِينَ ِإلَى َيوْمِ
-صلى ال عليه وسلم -يَقُولُ « لَ َتزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ ُأ ّمتِى يُقَا ِتلُونَ َ
ل صَلّ َلنَا.
الْ ِقيَامَةِ -قَالَ َ -ف َي ْنزِلُ عِيسَى ابْنُ َم ْريَ َم -صلى ال عليه وسلمَ -فيَقُولُ َأمِيرُهُمْ َتعَا َ
لمّةَ ».
علَى َبعْضٍ ُأ َمرَاءَُ .ت ْك ِرمَ َة اللّهِ هَ ِذهِ ا ُ
ضكُمْ َ
َفيَقُولُ لَ .إِنّ َب ْع َ
س ِم ْعتُ ُمعَا ِويَةَ
ع َم ْيرَ بْنَ هَا ِنئٍ حَ ّدثَهُ قَالَ َ
حمَنِ بْنِ َيزِيدَ بْنِ جَا ِبرٍ أَنّ ُ
عبْ ِد الرّ ْ
وفي مسند أحمد عَنْ َ
ل اللّ ِه -صلى ال عليه وسلم -يَقُولُ « لَ َتزَالُ
س ِم ْعتُ رَسُو َ
علَى هَذَا ا ْل ِم ْنبَرِ يَقُولُ َ
بْنَ َأبِى سُ ْفيَانَ َ
عزّ وَجَلّ
حتّى يَ ْأ ِتىَ َأ ْمرُ اللّهِ َ
ضرّهُمْ مَنْ خَ َذَلهُمْ َأوْ خَالَ َفهُمْ َ
طَائِفَةٌ مِنْ ُأ ّمتِى قَا ِئمَةً بَِأ ْم ِر اللّهِ لَ َي ُ
س ِم ْعتُ ُمعَاذَ
س ِكىّ فَقَالَ يَا َأمِيرَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ َ
سكْ َ
علَى النّاسِ » .فَقَامَ مَاِلكُ بْنُ يُخَا ِمرَ ال ّ
وَهُمْ ظَا ِهرُونَ َ
جبَلٍ
سمِعَ ُمعَاذَ بْنَ َ
ص ْوتَهُ هَذَا مَاِلكٌ َيزْعُمُ َأنّهُ َ
جبَلٍ يَقُولُ َهُمْ أَهْلُ الشّامِ .فَقَالَ ُمعَا ِويَةُ َورَفَ َع َ
بْنَ َ
يَقُولُ َهُمْ أَهْلُ الشّامِ.
وفيه :
خ َبرَهُمْ َأنّهُ َأتَى ال ّن ِبىّ -صلى ال عليه وسلم -فَقَالَ ِإنّى
سَلمَةَ بْنَ نُ َفيْلٍ أَ ْ
ج َب ْيرِ بْنِ نُ َف ْيرٍ أَنّ َ
عَنْ ُ
ى -صلى ال
ح ْربُ َأ ْوزَارَهَا ُق ْلتُ لَ ِقتَالَ .فَقَالَ لَهُ ال ّنبِ ّ
ض َعتِ الْ َ
خيْلَ َوَألْ َق ْيتُ السّلَحَ َو َو َ
س ِئ ْمتُ الْ َ
َ
علَى النّاسِ َيرْفَ ُع اللّهُ ُقلُوبَ
عليه وسلم « -النَ جَاءَ الْ ِقتَالُ لَ َتزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ ُأ ّمتِى ظَا ِهرِينَ َ
علَى َذِلكَ أَلَ إِنّ عُ ْقرَ دَارِ
عزّ وَجَلّ وَهُمْ َ
حتّى يَ ْأ ِتىَ َأ ْم ُر اللّهِ َ
أَ ْقوَامٍ َفيُقَا ِتلُو َنهُمْ َو َي ْرزُ ُقهُ ُم اللّهُ ِم ْنهُمْ َ
خ ْيرُ ِإلَى َيوْمِ الْ ِقيَامَةِ ».
خيْلُ َمعْقُودٌ فِى َنوَاصِيهَا الْ َ
ا ْل ُم ْؤمِنِينَ الشّامُ وَالْ َ
وفيه :
علَى الدّينِ
ل اللّهِ -صلى ال عليه وسلم « -لَ َتزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ ُأ ّمتِى َ
عَنْ َأبِى ُأمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُو ُ
حتّى يَ ْأ ِت َيهُمْ َأ ْم ُر اللّهِ
لوَاءَ َ
ضرّهُمْ مَنْ خَالَ َفهُمْ إِلّ مَا َأصَا َبهُمْ مِنْ ْ
ظَا ِهرِينَ ِلعَ ُدوّهِمْ قَا ِهرِينَ لَ َي ُ
ل اللّهِ َوَأيْنَ هُمْ قَالَ « ِب َب ْيتِ ا ْلمَقْدِسِ َوَأ ْكنَافِ َب ْيتِ ا ْلمَقْدِسِ ».
وَهُمْ كَ َذِلكَ » .قَالُوا يَا رَسُو َ
********************
ويجب أن يعلم المتقاعسون والمرجفون أن التربية ل تكون إل بالحداث الجسام فهي التي
تصقل الفرد والمجتمع أما الذين يقولون ل طاقة لنا اليوم بطالوت وجنوده فهؤلء مرضى
يحتاجون إلى تربية عالية
وليعلموا أنه ينطبق عليهم قول النبي صلى ال عليه وسلم ففي سنن أبي داود :
42
عَل ْيكُمْ َكمَا
لمَمُ أَنْ تَدَاعَى َ
شكُ ا ُ
ل اللّهِ -صلى ال عليه وسلم « -يُو ِ
عَنْ َث ْوبَانَ قَالَ قَالَ رَسُو ُ
ص َع ِتهَا » .فَقَالَ قَائِلٌ َومِنْ ِقلّةٍ َنحْنُ َي ْو َمئِذٍ قَالَ « بَلْ َأ ْنتُمْ َي ْو َمئِذٍ َكثِيرٌ َوَل ِك ّنكُمْ
ل َكلَةُ ِإلَى َق ْ
تَدَاعَى ا َ
ن اللّهُ فِى ُقلُو ِبكُمُ ا ْلوَهَنَ
ن صُدُورِ عَ ُد ّوكُمُ ا ْل َمهَابَةَ ِم ْنكُمْ َوَليَقْذِفَ ّ
سيْلِ َوَل َي ْنزِعَنّ اللّهُ مِ ْ
غثَاءٌ َك ُغثَاءِ ال ّ
ُ
حبّ ال ّد ْنيَا َو َكرَا ِهيَةُ ا ْل َم ْوتِ ».
» .فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللّهِ َومَا ا ْلوَهَنُ قَالَ « ُ
******************
فإذا كان المر كذلك فما الذي سيحدث ؟
لقد ذكرت في كتابي المطول (من المسئول عن اغتيال الشيخ أحمد ياسين ؟)
الجواب المفصل هناك
وهنا أقول :
بالنسبة لردود الفعل
أول على مستوى الحكام
ليس إل الشجب والستنكار أو السكوت عما يجري آو إشغال الناس بأمور أخرى أو أن هذه
العمال التي يقوم بها شارون وزمرته ضد المسيرة السلمية ( المزعومة )
وهم في حقيقة المر مسرورون جدا لما يفعله شارون لن النتفاضة قد أقضت مضاجعهم
وكشفت أوراقهم وتآمرهم على قضية فلسطين بل وعلى شعوبهم وعلى دين ال تعالى بل
وعلى النسانية جمعاء
فهم عندما استشهد الشيخ القعيد لم يجرؤوا على عمل اجتماع قمامة عربية في تونس وكل
منهم صار يكيل التهم لغيره ويبتعد عن الموضوع الساس
أتدرون لماذا لم يعقد مؤتمر القمامة ؟
لن أسيادهم قالوا لهم :ل تعقدوا المؤتمر (( وحتى لو عقد ل خير فيه فما هو إل عبارة عن
مورفين يخدرون به الشعوب المغفلة ))
وإل كشفنا أوراقكم وقلنا لشعوبكم أنتم الذين وقعتم على اغتيال هؤلء وباركتم ذلك لتبقى
كرسيكم سالمة من كل عثرة
فما أنتم إل أحجار على رقع الشطرنج نحرككم كما نريد
بل أنتم دمى يتلهى بها أطفالنا
وأنتم كرة يلعب بها الصبيان
43
نعم هم كذلك
بل سيلقون القبض على كل من يظهر التعاطف مع الشهداء الذين يسقطون كل يوم في فلسطين
وفي العراق وفي الشيشان وفي كشمير وفي أفغانستان على يد المجرمين المحليين والخارجين
وعلى مستوى الشعوب ربما تصحوا من سهادها وتقوم بالمظاهرات الصاخبة هنا وهناك ثم
تخبو وتنهي المسالة شجب وإنكار ثم سكوت وإقرار إل من رحم ربي
وأما على مستوى العالم فقوم ل يهمهم من يقتل في هذه الرض فهم كما قال ال تعالى { ثُمّ
ل ْنهَارُ
جرُ ِمنْهُ ا َ
س َوةً َوإِنّ مِنَ الْحِجَا َرةِ َلمَا َيتَفَ ّ
حجَا َرةِ َأوْ أَشَدّ قَ ْ
ستْ ُقلُو ُبكُم مّن َبعْدِ َذِلكَ َف ِهيَ كَالْ ِ
قَ َ
عمّا
شيَ ِة اللّهِ َومَا اللّهُ ِبغَافِلٍ َ
خرُجُ ِمنْهُ ا ْلمَاء َوإِنّ ِم ْنهَا َلمَا َي ْهبِطُ مِنْ خَ ْ
َوإِنّ ِم ْنهَا َلمَا يَشّقّقُ َفيَ ْ
َت ْع َملُونَ } ( )74سورة البقرة
وقوم يظهرون شيئا من العطف والتنديد وأن هذا مبالغة في القتل أو إسراف أو عنف غير لزم
ومنهم من يبارك للجلد ما فعل كأوروبا وروسيا والهند وأمريكا بل يقول مسؤول البيت في
البيض في الخارجية المريكية تعليقا على الحادث الرهيب إن هؤلء إرهابيون يستحقون القتل
بأي شكل كان
نعم إنهم إرهابيون بنظركم أيها الفجار فأمريكا تمثل فرعون العصر الذي اراد أن يقتل النبي
موسى عليه السلم لماذا ؟ لنه سيبدل دينهم الوثني ويفسد في الرض قال تعالى { وَقَالَ
ظ ِهرَ فِي الَْأرْضِ الْفَسَادَ}
عوْنُ َذرُونِي أَ ْقتُلْ مُوسَى َو ْليَدْعُ َربّهُ ِإنّي أَخَافُ أَن ُيبَدّلَ دِي َنكُمْ َأوْ أَن يُ ْ
ِفرْ َ
( )26سورة غافر
فل غرابة في ذلك أبدا لن ال تعالى قد كشف لنا حقيقة هؤلء
****************
إذا كان المر كذلك فما هو الحل ؟؟؟
قلت :الحل قد ذكره ال تعالى ورسوله صلى ال عليه وسلم وسار عليه أخيار هذه المة أل
وهو الجهاد في سبيل ال والشهادة في سبيله واليات والحاديث في هذا كثيرة جدا
وهذه خلصة لها
بسم ال الرحمن الرحيم
المقدمة
44
إن الحمدَ ل نحمدُه ونستعينه ونستغفره ،ونعوذُ باللـه من شرور أنفُسِنا ،ومن سيئات أعمالنا،
من يهده اللـه فل مضلّ له ،ومن يُضلل فل هادي له.
أما بعد وأشهدُ أن ل إله إل اللـه وحده لشريك له ،وأشهد أن محمدا عبدُه ورسُوله.
مساهمة مني في طريق الجهاد في سبيل ال لعلء كلمة الواحد الحد قمت بجمع هذا المؤلف
وهو من كتاب ال عز وجل ومن سنة نبيه صلى ال عليه وسلم وفيه التحريض والترغيب
للجهاد في سبيل ال وأسميته باب من أبواب الجنة لقول الرسول صلى ال عليه وسلم { من أنفق
زوجين في سبيل ال نودي في الجنة :يا عبد ال ! هذا خير ،فمن كان من أهل الصلة دعي
من باب الصلة ،ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ،ومن كان من أهل الصدقة
دعي من باب الصدقة ،ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان .قال أبو بكر الصديق
:يا رسول ال ! ما على أحد يدعى من تلك البواب من ضرورة ،فهل يدعى أحد من تلك
البواب كلها ؟ قال :نعم ،وأرجو أن تكون منهم } .أخرجه البخاري ومسلم
اسأل ال عز وجل أن يكون هذا العمل خالص لوجه الكريم وان يتقبل مني ومنكم وان يجعل
لهذا العمل القبول وينفع به المة انه ولى ذلك والقادر عليه
وصلى ال على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين
جمع وإعداد
أخوكم
أبو أنس الطائفي
قال تعالى :
حرّضِ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ عَسَى اللّهُ أَن َي ُكفّ بَ ْأسَ الّذِينَ كَ َفرُواْ
سكَ وَ َ
ل اللّهِ لَ ُت َكّلفُ إِلّ نَفْ َ
سبِي ِ
{ فَقَاتِلْ فِي َ
وَاللّهُ أَشَدّ َبأْسًا َوأَشَدّ تَنكِيلً }
يأمر تعالى عبده ورسوله محمدا صلى ال عليه وسلم بأن يباشر القتال بنفسه ومن نكل عنه فل
عليه منه ولهذا قال "ل تكلف إل نفسك" قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي حدثنا محمد بن عمرو بن
نبيح حدثنا حكام حدثنا الجراح الكندي عن أبي إسحاق قال :سألت البراء بن عازب عن الرجل
يلقي المائة من العدو فيقاتل فيكون ممن قال ال فيه "ول تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال :قد قال
ال تعالى لنبيه"فقاتل في سبيل ال ل تكلف إل نفسك وحرض المؤمنين" ورواه المام أحمد عن
سليمان بن داود عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق قال :قلت للبراء :الرجل يحمل على
45
المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة قال :ل إن ال بعث رسوله صلى ال عليه وسلم وقال
"فقاتل قي سبيل ال ل تكلف إل نفسك" إنما ذلك في النفقة .وكذا رواه ابن مردويه من طريق
أبي بكر بن عياش وعلي بن صالح عن أبي إسحاق عن البراء به ثم قال ابن مردويه :حدثنا
سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن النضر العسكري حدثنا مسلم بن عبدالرحمن الحرثي حدثنا
محمد بن حمير حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن البراء قال :لما نزلت على النبي صلى
ال عليه وسلم "فقاتل في سبيل ال ل تكلف إل نفسك وحرض المؤمنين" الية قال لصحابه "قد
أمرني ربي بالقتال فقاتلوا" حديث غريب وقوله "وحرض المؤمنين" أي على القتال ورغبهم فيه
وشجعهم عليه كما قال لهم صلى ال عليه وسلم ال عليه وسلم يوم بدر وهو يسوي الصفوف
"قوموا إلى جنة عرضها السموات والرض" وقد وردت أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك
فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "من آمن
بال ورسوله وأقام الصلة وآتى الزكاة وصام رمضان كان حقا على ال أن يدخله الجنة هاجر
في سبيل ال أو جلس في أرضه التي ولد فيها" قالوا :يا رسول ال أفل نبشر الناس بذلك؟ فقال:
"إن في الجنة مائة درجة أعدها ال للمجاهدين في سبيل ال بين كل درجتين كما بين السماء
والرض فإذا سألتم ال فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن
ومنه تفجر أنهار الجنة" وروى من حديث عبادة ومعاذ وأبي الدرداء نحو ذلك .وعن أبي سعيد
الخدري أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال" :يا أبا سعيد من رضي بال ربا وبالسلم دينا
وبمحمد صلى ال عليه وسلم رسول ونبي ا وجبت له الجنة" قال :فعجب لها أبو سعيد فقال:
أعدها علي يا رسول ال ففعل ثم قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "وأخرى يرفع ال العبد
بها مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والرض" قال :وما هى يا رسول
ال؟ قال" :الجهاد في سبيل ال" رواه مسلم .وقوله "عسى ال أن يكف بأس الذين كفروا" أي
بتحريضك إياهم على القتال تنبعث هممهم على مناجزة العداء ومدافعتهم عن حوزة السلم
وأهله ومقاومتهم ومصابرتهم .
وقوله تعالى وال أشد بأسا وأشد تنكيل أى هو قادر عليهم في الدنيا والخرة كما قال تعالى
"ذلك ولو يشاء ال لنتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض" الية.
ش ُعرُونَ }
حيَاء َوَلكِن لّ تَ ْ
{ وَلَ تَقُولُواْ ِلمَنْ يُ ْقتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ َأ ْموَاتٌ بَلْ أَ ْ
46
يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون كما جاء في صحيح مسلم "إن أرواح
الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت
العرش فاطلع عليهم ربك اطلعة فقال ماذا تبغون؟ فقالوا يا ربنا وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا
ما لم تعط أحدا من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا فلما رأوا أنهم ل يتركون من أن يسألوا قالوا
نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى -لما يرون من ثواب
الشهادة -فيقول الرب جل جلله "إنى كتبت أنهم إليها ل يرجعون" .وفي الحديث الذي رواه
المام أحمد عن المام الشافعي عن المام مالك عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك
عن أبيه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "نسمة المؤمن طائر تعلق فى شجر الجنة
حتى يرجعه ال إلى جسده يوم يبعثه" ففيه دللة لعموم المؤمنين أيضا وإن كان الشهداء قد
خصصوا بالذكر في القرآن تشريفا لهم وتكريما وتعظيما.
حيَاء عِندَ َر ّبهِمْ ُي ْرزَقُونَ }
ل اللّهِ َأ ْموَاتًا بَلْ أَ ْ
سبِي ِ
سبَنّ الّذِينَ ُق ِتلُواْ فِي َ
{ وَلَ تَحْ َ
يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار
القرار .قال محمد بن جرير :حدثنا محمد بن مرزوق حدثنا عمرو بن يونس عن عكرمة حدثنا
إسحق بن أبي طلحة حدثني أنس بن مالك في أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم الذين
أرسلهم نبي ال إلى أهل بئر معونه قال :ل أدري أربعين أو سبعين وعلى ذلك الماء عامر بن
الطفيل الجعفري فخرج أولئك النفر من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى أتوا غارا
مشرفا على الماء فقعدوا فيه ثم قال بعضهم لبعض أيكم يبلغ رسالة رسول ال صلى ال عليه
وسلم أهل هذا الماء فقال -أراه أبو ملحان النصاري ـ أنا أبلغ رسالة رسول ال صلى ال
عليه وسلم فخرج حتى أتى حول بيتهم فاجتثى أمام البيوت ثم قال يا أهل بئر معونة إني رسول
ال إليكم إني أشهد أن ل إله إل ال وأن محمدا عبده ورسوله فآمنوا بال ورسوله فخرج إليه
رجل من كسر البيت برمح فضربه في جنبه حتى خرج من الشق الخر فقال :ال أكبر فزت
ورب الكعبة فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم أجميعن عامر بن الطفيل وقال ابن
إسحق :حدثني أنس بن مالك أن ال أنزل فيهم قرآنا بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا
ورضينا عنه ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناها زمانا وأنزل ال تعالى "ول تحسبن الذين قتلوا
في سبيل ال أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون" وقد قال مسلم في صحيحه :حدثنا محمد بن
عبدال بن نمير حدثنا أبو معاوية حدثنا العمش عن عبدال بن مرة عن مسروق قال :إنا سألنا
47
عبدال عن هذه الية" .ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل ال أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"
فقال :أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال "أرواحهم في جوف طير
خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع
عليهم ربهم إطلعة فقال :هل تشتهون شيئا؟ فقالوا :أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة
حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا :يا رب
نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة
تركوا" وقد روي نحوه من حديث أنس وأبي سعيد " حديث آخر" قال المام أحمد حدثنا
عبدالصمد حدثنا حماد حدثنا ثابت عن أنس أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال "ما من نفس
تموت لها عند ال خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا إل الشهيد فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا
فيقتل مرة أخرى مما يرى من فضل الشهادة" تفرد به مسلم من طريق حماد " .حديث آخر" قال
المام أحمد :حدثنا علي بن عبدال المديني حدثنا سفيان بن محمد بن علي بن ربيعة السلمي عن
عبدال بن محمد بن عقيل عن جابر قال :قال لي رسول ال صلى ال عليه وسلم "أعلمت أن ال
أحيا أباك فقال له :تمن فقال له أردّ الدنيا فأقتل فيك مرة أخرى قال :إني قضيت أنهم إليها ل
يرجعون" تفرد به أحمد من هذا الوجه .وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن أبا جابر وهو
عبدال بن عمر وبن حرام النصاري رضي ال عنه قتل يوم أحد شهيدا .قال البخاري :وقال
أبو الوليد عن شعبة عن ابن المنكدر سمعت جابرا قال :لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب
عن وجهه فجعل أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ينهوني والنبي صلى ال عليه وسلم
لم ينه فقال النبي صلى ال عليه وسلم "ل تبكه -أو ما تبكيه -ما زالت الملئكة تظله بأجنحتها
حتى رفع" وقد أسنده هو ومسلم والنسائي من طرق عن شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر
قال :لما قتل أبي يوم أحد جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي وذكر تمامة بنحوه " حديث
آخر" قال المام أحمد :حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن أبي إسحق حدثنا إسماعيل بن أمية بن عمرو
بن سعيد عن أبي الزبير المكي عن ابن عباس قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "لما
أصيب إخوانكم يوم أحد جعل ال أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من
ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن
مقيلهم قالوا يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع ال بنا لئل يزهدوا في الجهاد ول ينكلوا عن الحرب
فقال ال عز وجل :أنا أبلغهم عنكم فأنزل ال هذه اليات "ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل ال
48
أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون" وما بعدها" .وهكذا رواه أحمد ورواه ابن جرير عن يونس
عن ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن إسحق به .ورواه أبو داود والحاكم في
مستدركه من حديث عبدال بن إدريس عن محمد بن إسحق به ورواه أبو داود والحاكم عن
إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي ال عنهما فذكره
وهذا أثبت .وكذا رواه سفيان الثوري عن سالم الفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -
وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحق الفزاري عن سفيان بن إسماعيل بن أبي خالد
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :نزلت هذه الية في حمزة وأصحابه ول تحسبن الذين
قتلوا في سبيل ال أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون" ثم قال :صحيح على شرط الشيخين ولم
يخرجاه وكذا قال قتادة والربيع والضحاك أنها نزلت في قتلى أحد " .حديث آخر" قال أبو بكر
بن مردويه :حدثنا عبدال بن جعفر حدثنا هارون بن سليمان أنبأنا علي بن عبدال المديني أنبأنا
موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه النصاري سمعت طلحة بن خراش بن
عبدالرحمن بن خراش بن الصمت النصاري قال :سمعت جابر بن عبدال قال :نظر إلي
رسول ال صلى ال عليه وسلم ذات يوم فقال "يا جابر مالي أراك مهتما؟" قلت يا رسول ال
استشهد أبي وترك دينا وعيال قال :فقال "أل أخبرك ما كلم ال أحد قط إل من وراء حجاب
وإنه كلم أباك كفاحا" قال علي :والكفاح المواجهة "قال سلني أعطك قال :أسألك أن أرد إلى
الدنيا فأقتل فيك ثانية فقال الرب عز وجل إنه قد سبق مني القول أنهم إليها ل يرجعون قال أي
رب فأبلغ من ورائي فأنزل ال "ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل ال أمواتا" الية .ثم رواه من
طريق أخرى عن محمد بن سليمان بن سليط النصاري عن أبيه عن جابر به نحوه وكذا رواه
البيهقي في دلئل النبوة من طريق علي بن المديني به وقد رواه البيهقي أيضا من حديث أبي
عبادة النصاري وهو عيسى بن عبدال إن شاء ال عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت:
قال النبي صلى ال عليه وسلم لجابر "يا جابر أل أبشرك" قال :بلى بشرك ال بالخير قال
"شعرت بأن ال أحيا أباك فقال تمن علي عبدي ما شت أعطكه قال :يا رب ما عبدتك حق
عبادتك أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك وأقتل فيك مرة أخرى قال إنه سلف
مني أنه إليها ل يرجع" " .حديث آخر" قال المام أحمد حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحق
حدثنا الحارث بن فضيل النصاري عن محمود بن لبيد عن ابن عباس قال :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم "الشهداء على بارق نهر بباب الجنة فيه قبة خضراء يخرج إليهم رزقهم
49
من الجنة بكرة وعشية" تفرد به أحمد وقد رواه ابن جريج عن أبي كريب حدثنا عبدالرحمن بن
سليمان وعبيدة عن محمد بن إسحق وبه وهو إسناد جيد وكأن الشهداء أقسام منهم من تسرح
أرواحهم في الجنة ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة وقد يحتمل أن يكون منتهى
سيرهم إلى هذا النهر فيجتمعون هنالك ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح وال أعلم -وقد
روينا في مسند المام أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا
فيها وتأكل من ثمارها وترى ما فيها من النضرة والسرور وتشاهد ما أعد ال لها من الكرامة
وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلثة من الئمة الربعة أصحاب المذاهب المتبعة
فإن المام أحمد رحمه ال رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه ال عن مالك بن أنس
الصبحي رحمه ال عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي ال عنه
قال :قال رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم "نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى
يرجعه ال إلى جسده يوم يبعثه" قوله "يعلق" أي يأكل وفي هذا الحديث "إن روح المؤمن تكون
على شكل طائر في الجنة" وأما أرواح الشهداء فكما تقدم في حواصل طير خضر فهي
كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها فنسأل ال الكريم المنان أن
يميتنا على اليمان.
{فرحين بما آتاهم ال من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أل خوف عليهم ول
هم يحزنون }
أي الشهداء الذين قتلوا في سبيل ال أحياء عند ربهم وهم فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة
ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل ال أنهم يقدمون عليهم وأنهم ل يخافون مما
أمامهم ول يحزنون على ما تركوه وراءهم نسأل ال الجنة وقال محمد بن إسحق "ويستبشرون"
أي ويسرون بلحوق من لحقهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم ليشركوهم فيما هم
فيه من ثواب ال الذي أعطاهم قال السدي يؤتى الشهيد بكتاب فيه يقدم عليك فلن يوم كذا وكذا
ويقدم عليك فلن يوم كذا وكذا فيسر بذلك كما يسر أهل الدنيا بغائبهم إذا قدم قال سعيد بن
جبير :لما دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من الكرامة للشهداء قالوا :يا ليت إخواننا الذين في الدنيا
يعلمون ما عرفناه من الكرامة فإذا شهدوا القتال باشروها بأنفسهم حتى يستشهدوا فيصيبوا ما
أصبنا من الخير فأخبر رسول ال صلى ال عليه وسلم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة وأخبرهم
أي ربهم أني قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم وما أنتم فيه فاستبشروا بذلك فذلك قوله
50
"ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم" الية وقد ثبت في الصحيحين عن أنس في قصة
أصحاب بئر معونة السبعين من النصار الذين قتلوا في غداة واحدة وقنت رسول ال صلى ال
عليه وسلم يدعو على الذين قتلوهم ويلعنهم قال أنس :ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع "أن
بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا".
سبِيلِ اللّهِ ِبَأ ْموَالِهِمْ
ض َررِ وَا ْلمُجَاهِدُونَ فِي َ
غ ْيرُ ُأ ْولِي ال ّ
س َتوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُمؤْ ِمنِينَ َ
{ لّ يَ ْ
سنَى
علَى الْقَاعِدِينَ َدرَجَةً َوكُلّ وَعَ َد اللّهُ الْحُ ْ
سهِمْ َ
سهِمْ َفضّلَ اللّهُ ا ْلمُجَاهِدِينَ بَِأ ْموَاِلهِمْ َوأَنفُ ِ
َوأَنفُ ِ
جرًا عَظِيمًا }
علَى الْقَاعِدِينَ أَ ْ
وَ َفضّلَ اللّهُ ا ْلمُجَاهِدِينَ َ
قال البخاري حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال :لما نزلت "ل
يستوي القاعدون من المؤمنين" دعا رسول ال صلى ال عليه وسلم زيدا فكتبها فجاء ابن أم
مكتوم فشكا ضرارته فأنزل ال غير أولى الضرر حدثنا محمد بن يوسف عن إسرائيل عن أبى
إسحاق عن البراء قال لما نزلت "ل يستوي القاعدون من المؤمنين" قال النبي صلى ال عليه
وسلم "ادع فلنا" فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتب فقال "اكتب "ل يستوى القاعدون من
المؤمنين والمجاهدون في سبيل ال " وخلف النبي صلى ال عليه وسلم ابن أم مكتوم فقال يا
رسول ال أنا ضرير فنزلت مكانها ل يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر
والمجاهدون في سبيل ال قال البخاري أيضا حدثنا إسماعيل بن عبدال حدثني إبراهيم بن سعد
عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب حدثني سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم
في المسجد قال فأقبلت حتى جلست إلى جنبه فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم أملى علي "ل يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل ال"
فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها علي قال يا رسول ال وال لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان
أعمى فأنزل ال على رسول ال صلى ال عليه وسلم وكان فخذه على فخذي فثقلت علي حتى
خفت أن ترضى فخذي ثم سري عنه فأنزل "ال غير أولى الضرر" تفرد به البخاري دون مسلم
وقد روي من وجه آخر عند المام أحمد عن زيد فقال حدثنا سليمان بن داود أنبأنا عبدالرحمن
عن أبي الزناد عن خارجة بن زيد قال :قال زيد بن ثابت :إني قاعد إلى جنب النبي صلى ال
عليه وسلم إذ أوحي إليه وغشيته السكينة قال فرفع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة قال
زيد فل وال ما وجدت شيئا قط أثقل من فخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم ثم سري عنه فقال
" اكتب يا زيد" فأخذت كتفا فقال "اكتب ل يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون إلى قوله
51
"أجرا عظيما" " فكتبت ذلك في كتف فقام حين سمعها ابن أم مكتوم وكان رجل أعمى فقال حين
سمع فضيلة المجاهد بن يا رسول ال وكيف بمن ل يستطيع الجهاد ومن هو أعمى وأشباه ذلك
قال زيد فوال ما قضى كلمه أوما هو إل أن قضي كلمه -غشيت النبي صلى ال عليه وسلم
السكينة فوقعت فخذه على فخذي فوجدت ممن ثقلها كما وجدت في المرة الولى ثم سري عنه
فقال " اقرأ " فقرأت عليه ل يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون" فقال النبي صلى ال
عليه وسلم "غير أولي الضرر" قال زيد فألحقتها فوال كأني أنظر إلى ملحقها عند صدع كان
في الكتف .ورواه أبو داود عن سعيد بن منصور عن عبدالرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن
خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه به نحوه .وقال عبدالرزاق أنبأنا معمر أنبأنا الزهري عن
قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت قال كنت أكتب لرسول ال صلى ال عليه وسلم فقال" :اكتب
ل يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل ال " .فجاء عبد ال ابن أم مكتوم فقال
يا رسول ال إني أحب الجهاد في سبيل ال ولكن بي من الزمانة ما قد ترى وذهب بصري قال
زيد فثقلت فخذ رسول ال صلى عليه وسلم على فخذي حتى خشيت أن ترضها ثم سري عنه ثم
قال "اكتب ل يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل ال " رواه
ابن أبي حاتم وابن جرير وقال عبدالرازق أخبرنا ابن جريج أخبرني عبدالكريم هو ابن مالك
الجريري أن مقسما مولى عبدال بن الحارث أخبره أن ابن عباس أخبره ل يستوي القاعدون
من المؤمنين عن بدر والخارجون إلى بدر انفرد به البخاري دون مسلم وقد رواه الترمذي من
طريق حجاج عن ابن جريج عن عبدالكريم عن مقسم عن ابن عباس قال ل يستوي القاعدون
من المؤمنين غير أولي الضرر عن بدر والخارجون إلى بدر .ولما نزلت غزوة بدر قال عبدال
بن جحش وابن أم مكتوم إنا أعميان يا رسول ال فهل لنا رخصة؟ فنزلت ل يستوي القاعدون
من المؤمنين غير أولي الضرر "وفضل ال المجاهدين على القاعدين درجة فهؤلء القاعدون
غير أولي الضرر وفضل ال المجاهد بن على القاعدين أجرا عظيما درجات منه" على القاعدين
من المؤمنين غير أولى الضرر" .هذا لفظ الترمذي ثم قال هذا حديث حسن غريب من هذا
الوجه فقوله ل يستوي القاعدون من المؤمنين كان مطلقا فلما نزل بوحي سريع "غير أولي
الضرر" صار ذلك مخرجا لذوي العذار المبيحة لترك الجهاد من العمى والعرج والمرضى
عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل ال بأموالهم وأنفسهم ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على
القاعدين قال ابن عباس" :غير أولي الضرر" وكذا ينبغي أن يكون كما ثبت في صحيح البخاري
52
من طريق زهير بن معاوية عن حميد عن أنس أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " إن
بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير ول قطعتم من واد إل وهم معكم فيه" قالوا وهم بالمدينة يا
رسول ال؟ قال "نعم حبسهم العذر" وهكذا رواه أحمد عن محمد بن عدي عن حميد عن أنس به
وعلقه البخاري مجزوما ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة عن حميد عن موسى بن أنس بن
مالك عن أبيه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير
ول أنفقتم من نفقة ول قطعتم من واد إل وهم معكم فيه" قالوا وكيف يا رسول ال يكونون معنا
فيه؟ قال" نعم حبسهم العذر " لفظ أبي داود وفي هذا المعنى قال الشاعر:
سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا يا راحلين إلى البيت العتيق لقد
ومن أقام على عذر فقد راحــا إنا أقمنا عـلى عـذر وعن قـــدر
وقوله "وكل وعد ال الحسنى" أي الجنة والجزاء الجزيل .وفيه دللة على أن الجهاد ليس
بفرض عين بل هو فرض .على الكفاية .قال تعالى "وفضل ال المجاهدين على القاعدين أجرا
عظيما" ثم أخبر سبحانه بما فضلهم به من الدرجات في غرف الجنان العاليات ومغفرة الذنوب
والزلت وأحوال الرحمة والبركات إحسانا منه وتكريما.
سهِمْ أَعْظَمُ َدرَجَةً عِن َد اللّهِ َوُأ ْوَل ِئكَ
ل اللّهِ بَِأ ْموَاِلهِمْ َوأَنفُ ِ
سبِي ِ
جرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي َ
{ الّذِينَ آ َمنُواْ وَهَا َ
هُمُ الْفَا ِئزُونَ }
قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس في تفسيره هذه الية قال :إن المشركين قالوا عمارة بيت
ال وقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل
أنهم أهله وعماره فذكر ال استكبارهم وإعراضهم فقال لهل الحرم من المشركين " قد كانت
آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين به سامرا تهجرون " يعني أنهم كانوا
يستكبرون بالحرم قال " به سامرا " كانوا يسمرون به ويهجرون القرآن والنبي صلى ال عليه
وسلم فخير ال اليمان والجهاد مع النبي صلى ال عليه وسلم على عمارة المشركين البيت
وقيامهم على السقاية ولم يكن ينفعهم عند ال مع الشرك به وإن كانوا يعمرون بيته ويحرمون
به .قال ال تعالى " ل يستوون عند ال وال ل يهدي القوم الظالمين " يعني الذين زعموا أنهم
أهل العمارة فسماهم ال ظالمين بشركهم فلم تغن عنهم العمارة شيئا .وقال علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس في تفسير هذه الية قال :قد نزلت في العباس بن عبد المطلب حين أسر ببدر
قال لئن كنتم سبقتمونا بالسلم والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام نسقي ونفك العاني
53
قال ال عز وجل " أجعلتم سقاية الحاج -إلى قوله -وال ل يهدي القوم الظالمين " يعني أن
ذلك كله كان في الشرك ول أقبل ما كان في الشرك وقال الضحاك بن مزاحم أقبل المسلمون
على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك فقال العباس أما وال لقد كنا
نعمر المسجد الحرام ونفك العاني ونحجب البيت ونسقي الحاج فأنزل ال " أجعلتم سقاية الحاج "
الية .وقال عبدالرزاق :أخبرنا ابن عيينة عن إسماعيل عن الشعبي قال :نزلت في علي
والعباس رضي ال عنهما بما تكلما في ذلك .وقال ابن جرير :حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب
أخبرني ابن لهيعة عن أبي صخر قال :سمعت محمد بن كعب القرظي يقول :افتخر طلحة بن
شيبة من بني عبد الدار وعباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب فقال طلحة أنا صاحب
البيت معي مفتاحه ولو أشاء بت فيه وقال العباس أنا صاحب السقاية والقائم عليها ولو أشاء بت
في المسجد فقال علي رضي ال عنه ما أدري ما تقولن لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل
الناس وأنا صاحب الجهاد فأنزل ال عز وجل " أجعلتم سقاية الحاج " الية كلها وهكذا قال
السدي إل أنه قال :افتخر علي والعباس وشيبة بن عثمان وذكر نحوه وقال عبدالرزاق :أخبرنا
معمر عن عمرو عن الحسن قال :نزلت في علي وعباس وشيبة تكلموا في ذلك فقال العباس ما
أراني إل أني تارك سقايتنا فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " أقيموا على سقايتكم فإن لكم
فيها خيرا " ورواه محمد بن ثور عن معمر عن الحسن فذكر نحوه وقد ورد في تفسير هذه الية
حديث مرفوع فلبد من ذكره هنا قال عبدالرزاق أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن
النعمان بن بشير رضي ال عنه أن رجل قال :ما أبالي أن ل أعمل عمل بعد السلم إل أن
أسقي الحاج .وقال آخر :ما أبالي أن ل أعمل عمل بعد السلم إل أن أعمر المسجد الحرام.
وقال آخر :الجهاد في سبيل ال أفضل مما قلتم .فزجرهم عمر رضي ال عنه .وقال :ل ترفعوا
أصواتكم عند منبر رسول ال صلى ال عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صلينا الجمعة
دخلنا على النبي صلى ال عليه وسلم فسألناه .فنزلت " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد
الحرام -إلى قوله -ل يستوون عند ال " " .طريق أخرى "قال الوليد بن مسلم :حدثتي معاوية
بن سلم عن جده أبي سلم السود عن النعمان بن بشير النصاري قال :كنت عند منبر رسول
ال صلى ال عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم :ما أبالي أن ل أعمل ل عمل بعد
السلم إل أن أسقي الحاج .وقال آخر :بل عمارة المسجد الحرام .وقال آخر :بل الجهاد في
سبيل ال خير مما قلتم فزجره عمر بن الخطاب رضي ال عنه وقال :ل ترفعوا أصواتكم عند
54
منبر رسول ال صلى ال عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على
رسول ال صلى ال عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه .قال ففعل فأنزل ال عز وجل "
أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام -إلى قوله -وال ل يهدي القوم الظالمين " ورواه
مسلم في صحيحه وأبو داود وابن جرير وهذا لفظه وابن مردويه وابن أبي حاتم في تفاسيرهم
وابن حبان في صحيحه.
خ ْيرٌ ّلكُمْ إِن كُنتُمْ َت ْعَلمُونَ}
ل اللّهِ َذِلكُمْ َ
سبِي ِ
سكُمْ فِي َ
{ انْ ِفرُواْ خِفَافًا َوثِقَالً وَجَاهِدُواْ بَِأ ْموَاِلكُمْ َوأَنفُ ِ
قال سفيان الثوري عن أبيه عن أبي الضحى مسلم بن صبيح :هذه الية " انفروا خفافا وثقال "
أول ما نزل من سورة براءة وقال معتمر بن سليمان عن أبيه قال :زعم حضرمي أنه ذكر له
أن ناسا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليا وكبيرا فيقول إنى ل آثم فأنزل ال " انفروا خفافا
وثقال " الية أمر ال تعالى بالنفير العام مع رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم عام غزوة
تبوك لقتال أعداء ال من الروم الكفرة من أهل الكتاب وحتم على المؤمنين في الخروج معه
على كل حال في المنشط والمكره والعسر واليسر فقال " انفروا خفافا وثقال " وقال علي بن زيد
عن أنس عن أبي طلحة :كهول وشبانا ما سمع ال عذر أحد ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل
وفي رواية قرأ أبو طلحة سورة براءة فأتى على هذه الية " انفروا خفافا وثقال وجاهدوا
بأموالكم وأنفسكم في سبيل ال " فقال :أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبانا جهزوني يا بني فقال
بنوه :يرحمك ال قد غزوت مع رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم حتى مات ومع أبي بكر
حتى مات ومع عمر حتى مات فنحن نغزو عنك فأبى فركب البحر فمات فلم يجدوا له جزيرة
يدفنوه فيها إل بعد تسعة أيام فلم يتغير فدفنوه فيها وهكذا روي عن ابن عباس وعكرمة وأبي
صالح والحسن البصري وسهيل بن عطية ومقاتل بن حيان والشعبي وزيد بن أسلم أنهم قالوا
في تفسير هذه الية " انفروا خفافا وثقال " كهول وشبانا .وكذا قال عكرمة والضحاك ومقاتل بن
حيان وغير واحد وقال مجاهد :شبانا وشيوخا وأغنياء ومساكين وكذا قال أبو صالح وغيره قال
الحكم بن عتيبة :مشاغيل وغير مشاغيل وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى " انفروا
خفافا وثقال " يقول انفروا نشاطا وغير نشاط وكذا قال قتادة وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد "
انفروا خفافا وثقال " قالوا :فإن فينا الثقيل وذو الحاجة والضيعة والشغل والمتيسر به أمره
فأنزل ال وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا " خفافا وثقال " أي على ما كان منهم .وقال الحسن
بن أبي الحسن البصري أيضا في العسر واليسر وهذا كله من مقتضيات العموم في الية وهذا
55
اختيار ابن جرير .وقال المام أبو عمرو الوزاعي :إذا كان النفير إلى دروب الروم نفر الناس
إليها خفافا وركبانا وإذا كان النفير إلى هذه السواحل نفروا إليها خفافا وثقال وركبانا ومشاة
وهذا تفصيل في المسألة وقد روي عن ابن عباس ومحمد بن كعب وعطاء الخراساني وغيرهم
أن هذه الية منسوخة بقوله تعالى " فلول نفر من كل فرقة منهم طائفة " وسيأتي الكلم على
ذلك إن شاء ال وقال السدي قوله " انفروا خفافا وثقال " يقول غنيا وفقيرا وقويا وضعيفا فجاءه
رجل يومئذ زعموا أنه المقداد وكان عظيما سمينا فشكى إليه وسأله أن يأذن له فأبى فنزلت
يومئذ " انفروا خفافا وثقال" فلما نزلت هذه الية اشتد على الناش فنسخها ال تعالى " ليس على
الضعفاء ول على المرضى ول على الذين ل يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا ل ورسوله "
وقال ابن جرير :حدثني يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا أيوب عن محمد قال :شهد أبو أيوب مع
رسول ال صلى ال عليه وسلم بدرا ثم لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إل عاما واحدا قال وكان
أبو أيوب يقول :قال ال تعالى " انفروا خفافا وثقال فل أجدني إل خفيفا أو ثقيل وقال ابن
جرير :حدثني سعيد بن عمر السكوني حدثنا بقية حدثنا جرير حدثني عبدالرحمن بن ميسرة
حدثني أبو راشد الحراني قال :وافيت المقدام بن السود فارس رسول ال صلى ال عليه وإله
وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص وقد فصل عنها من عظمه يريد الغزو
فقلت له قد أعذر ال إليك فقال أتت علينا سورة البعوث " انفروا خفافا وثقال " وقال ابن جرير:
حدثني حيان بن زيد الشرعي قال :نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان واليا على حمص قبل
الفسوس إلى الجراجمة فرأيت شيخا كبيرا هما قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على
راحلته فيمن أغار فأقبلت إليه فقلت يا عم لقد أعذر ال إليك قال :فرفع حاجبيه فقال يا بن أخي
استنفرنا ال خفافا وثقال أل إنه من يحبه ال يبتليه ثم يعيده ال فيبقيه وإنما يبتلي ال من عبادة
من شكر وصبر وذكر ولم يعبد إل ال عز وجل .ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله وبذل
المهج في مرضاته ومرضاة رسوله فقال " وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل ال ذلكم خير
لكم إن كنتم تعلمون " أي هذا خير لكم في الدنيا والخرة لنكم تغرمون في النفقة قليل فيغنمكم
ال أموال عدوكم في الدنيا مع ما يدخر لكم من الكرامة في الخرة كما قال النبي صلى ال عليه
وسلم " تكفل ال للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرده إلى منزله بما نال من أجر
أو غنيمة " ولهذا قال تعالى " كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير
لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم وال يعلم وأنتم ل تعلمون " ومن هذا القبيل ما رواه
56
المام أحمد :حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن أنس عن رسول ال صلى ال عليه وإله
وسلم قال لرجل " " أسلم "قال أجدني كارها قال أسلم ولو كنت كارها ".
علِيمٌ بِا ْل ُمتّقِينَ}
سهِمْ وَاللّهُ َ
خرِ أَن يُجَاهِدُواْ بَِأ ْموَاِلهِمْ َوأَنفُ ِ
ستَأْ ِذ ُنكَ الّذِينَ ُي ْؤ ِمنُونَ بِاللّهِ وَا ْل َيوْمِ ال ِ
{ لَ يَ ْ
يقول تعالى هل تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لحد منهم في القعود لتعلم الصادق منهم في
إظهار طاعتك من الكاذب فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزو وإن لم تأذن لهم فيه.
ولهذا أخبر تعالى أنه ل يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بال ورسوله فقال " ل يستأذنك
" أي في القعود عن الغزو " .الذين يؤمنون بال واليوم الخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم "
لنهم يرون الجهاد قربة ولما ندبهم إليه بادروا وامتثلوا ".
ل اللّهِ َفيَ ْق ُتلُونَ
سبِي ِ
جنّةَ يُقَا ِتلُونَ فِي َ
سهُمْ َوَأ ْموَاَلهُم بِأَنّ َلهُمُ ال َ
ش َترَى مِنَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ أَنفُ َ
ن اللّهَ ا ْ
{ إِ ّ
شرُواْ
س َتبْ ِ
ن اللّهِ فَا ْ
عَليْهِ حَقّا فِي ال ّتوْرَاةِ وَالِنجِيلِ وَالْ ُقرْآنِ َومَنْ َأوْفَى ِب َعهْ ِدهِ مِ َ
َويُ ْق َتلُونَ وَعْدًا َ
ِب َب ْي ِعكُمُ الّذِي بَا َي ْعتُم بِهِ وَ َذِلكَ ُهوَ الْ َف ْوزُ ا ْلعَظِيمُ }
يخبر تعالى أنه عاوض من عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة وهذا
من فضله وكرمه وإحسانه فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له.
ولهذا قال الحسن البصري وقتادة :بايعهم وال فأغلى ثمنهم .وقال شمر بن عطية ما من مسلم
إل وللّه عز وجل في عنقه بيعة وفي بها أو مات عليها ثم تل هذه الية .ولهذا يقال من حمل
في سبيل ال بايع ال أي قبل هذا العقد ووفى به .وقال محمد بن كعب القرظي وغيره قال
عبدال بن رواحة رضي ال عنه لرسول ال صلى ال عليه وسلم يعني ليلة العقبة اشترط لربك
ولنفسك ما شئت فقال " أشترط لربي أن تعبدوه ول تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني
مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " قالوا :فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال " الجنة " قالوا ربح البيع ل
نقيل ول نستقيل فنزلت " إن ال اشترى من المؤمنين أنفسهم " الية وقوله " يقاتلون في سبيل
ال فيقتلون ويقتلون " أي سواء قتلوا أو قتلوا أو اجتمع لهم هذا وهذا فقد وجبت لهم الجنة .ولهذا
جاء في الصحيحين " وتكفل ال لمن خرج في سبيله ل يخرجه إل جهاد في سبيلي وتصديق
برسلي بأن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائل ما نال من أجر أو
غنيمة " وقوله " وعدا عليه حقا في التوراة والنجيل والقرآن " تأكيد لهذا الوعد وإخبار بأنه قد
كتبه على نفسه الكريمة وأنزله على رسله في كتبه الكبار وهي التوراة المنزلة على موسى
والنجيل المنزل على عيسى والقرآن المنزل على محمد صلوات ال وسلمه عليهم أجمعين.
57
وقوله " ومن أوفى بعده من ال " فإنه ل يخلف الميعاد .هذا كقوله " ومن أصدق من ال حديثا "
ومن أصدق من ال قليل " ولهذا قال " فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم
" أي فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد ووفى بهذا العهد بالفوز العظيم والنعيم المقيم.
سبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آوَواْ ّو َنصَرُواْ ُأ ْوَل ِئكَ
سهِمْ فِي َ
جرُواْ َوجَاهَدُواْ بَِأ ْموَاِلهِمْ َوأَنفُ ِ
{ إِنّ الّذِينَ آ َمنُواْ وَهَا َ
جرُواْ َوإِنِ
حتّى ُيهَا ِ
شيْءٍ َ
ل َي ِتهِم مّن َ
جرُواْ مَا َلكُم مّن وَ َ
ضهُمْ َأ ْوِليَاء َبعْضٍ وَالّذِينَ آ َمنُواْ َولَمْ ُيهَا ِ
َب ْع ُ
علَى َقوْمٍ َب ْي َنكُمْ َو َب ْي َنهُم مّيثَاقٌ وَاللّهُ ِبمَا َت ْع َملُونَ َبصِيرٌ }
صرُ إِلّ َ
ستَنصَرُوكُمْ فِي الدّينِ َف َعَل ْيكُمُ النّ ْ
اْ
ذكر تعالى أصناف المؤمنين وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم وجاءوا لنصر
ال ورسوله وإقامة دينه وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك وإلى أنصار وهم المسلمون من أهل
المدينة إذ ذاك آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم وواسوهم في أموالهم ونصروا ال ورسوله
بالقتال معهم فهؤلء "بعضهم أولياء بعض" أي كل منهم أحق بالخر من كل وأحد ولهذا آخى
رسول ال صلى ال عليه وسلم بين المهاجرين والنصار كل اثنين أخوان فكانوا يتوارثون بذلك
إرثا مقدما على القرابة حتى نسخ ال تعالى ذلك بالمواريث .ثبت ذلك في صحيح البخاري عن
ابن عباس ورواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عنه وقال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير
واحد .قال المام أحمد :حدثنا وكيع عن شريك عن عاصم عن أبي وائل عن جرير وهو ابن
عبدال البجلي رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "المهاجرون والنصار
بعضهم أولياء بعض والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة"
تفرد به أحمد .وقال الحافظ أبو يعلى :حدثنا سفيان حدثنا عكرمة يعني ابن إبراهيم الزدي
حدثنا عاصم عن شقيق عن ابن مسعود قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول
"المهاجرون والنصار والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا
والخرة" هكذا رواه في مسند عبدال بن مسعود .وقد أثنى ال ورسوله على المهاجرين
والنصار في غير ما آية في كتابه فقال "والسابقون الولون من المهاجرين والنصار والذين
اتبعوهم بإحسان رضي ال عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها النهار" الية
وقال "لقد تاب ال على النبي والمهاجرين والنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة" الية وقال
تعالى "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضل من ال ورضوانا
وينصرون ال ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار واليمان من قبلهم يحبون من
هاجر إليهم ول يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم
58
خصاصة" الية وأحسن ما قيل في قوله "ول يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا" أي ل
يحسدونهم على فضل ما أعطاهم ال على هجرتهم فإن ظاهر اليات تقديم المهاجرين على
النصار وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء ل يختلفون في ذلك ولهذا قال المام أبو بكر أحمد
بن عمرو بن عبدالخالق البزار في مسنده :حدثنا محمد بن معمر حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا
حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن حذيفة قال :خيرني رسول ال صلى
ال عليه وسلم بين الهجرة والنصرة فاخترت الهجرة ثم قال ل نعرفه إل من هذا الوجه وقوله
تعالى "والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من وليتهم" قرأ حمزة وليتهم بالكسر والباقون بالفتح
وهما واحد كالدللة والدللة "من شيء حتى يهاجروا" هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين وهم
الذين آمنوا ولم يهاجروا بل أقاموا في بواديهم فهؤلء ليس لهم في المغانم نصيب ول في
خمسها إل ما حضروا فيه القتال .كما قال أحمد :حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد
عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن يزيد بن الخصيب السلمي رضي ال عنه قال :كان رسول
ال صلى ال عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى ال
وبمن معه من المسلمين خيرا وقال "اغزوا باسم ال في سبيل ال قاتلوا من كفر بال إذا لقيت
عدوكم من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلث خصال -أو خلل -فأيتهن ما أجابوك إليها
فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى السلم فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى
التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما
على المهاجرين فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم
حكم ال الذي يجري على المؤمنين ول يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إل أن يجاهدوا مع
المسلمين فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية .فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم فإن أبوا
فاستعن بال وقاتلهم" انفرد به مسلم وعنده زيادات أخر وقوله "وإن استنصركم في الدين فعليكم
النصر" الية يقول تعالى وإن استنصركم هؤلء العراب الذين لم يهاجروا في قتال ديني على
عدو لهم فانصروهم فإنه واجب عليكم نصرهم لنهم إخوانكم في الدين إل أن يستنصروكم على
قوم من الكفار بينكم وبينهم ميثاق أي مهادنة إلى مدة فل تخفروا ذمتكم ول تنقضوا أيمانكم مع
الذين عاهدتم وهذا مروي عن ابن عباس رضي ال عنه.
ل اللّهِ
سبِي ِ
سهِمْ فِي َ
لفَ رَسُولِ اللّهِ َو َكرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بَِأ ْموَاِلهِمْ َوأَنفُ ِ
خلّفُونَ ِبمَ ْقعَدِهِمْ خِ َ
{ َفرِحَ ا ْلمُ َ
حرّا ّلوْ كَانُوا يَفْ َقهُونَ }
ج َهنّمَ أَشَدّ َ
حرّ قُلْ نَارُ َ
وَقَالُواْ لَ تَن ِفرُواْ فِي الْ َ
59
يقول تعالى ذاما للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم في غزوة تبوك
وفرحوا بقعودهم بعد خروجه " وكرهوا أن يجاهدوا " معه " بأموالهم وأنفسهم في سبيل ال
وقالوا " أي بعضهم لبعض " ل تنفروا في الحر " وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في
شدة الحر عند طيب الظلل والثمار فلهذا قالوا " ل تنفروا في الحر " قال ال تعالى لرسوله
صلى ال عليه وسلم " قل " لهم " نار جهنم " التي تصيرون إليها بمخالفتكم " أشد حرا " مما
فررتم منه من الحر بل أشد حرا من النار كما قال المام مالك عن أبي الزناد عن العرج عن
أبي هريرة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " .نار بني آدم التي توقدونها جزء من
سبعين جزءا من نار جهنم " فقالوا يا رسول ال إن كانت لكافية فقال " فضلت عليها بتسعة
وستين جزءا " أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به وقال المام أحمد حدثنا سفيان عن
أبي الزناد عن العرج عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " إن ناركم هذه جزء
من سبعين جزءا من نار جهنم وضربت في البحر مرتين ولول ذلك ما جعل ال فيها منفعة
لحد " .وهذا أيضا إسناده صحيح وقد روى المام أبو عيسى الترمذي وابن ماجه عن ابن
عباس الدوري وعن يحيى بن أبي بكير عن شريك عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة
رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " أوقد ال على النار ألف سنة حتى
احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء
كالليل المظلم " ثم قال الترمذي ل أعلم أحدا رفعه غير يحيى .كذا قال وقد رواه الحافظ أبو بكر
بن مردويه عن إبراهيم بن محمد عن محمد بن الحسين بن مكرم عن عبيد ال بن سعيد عن
عمه عن شريك وهو ابن عبدال النخعي به وروى أيضا ابن مردويه من رواية مبارك بن
فضالة عن ثابت عن أنس قال تل رسول ال صلى ال عليه وسلم " نارا وقودها الناس
والحجارة " قال " أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت وألف عام حتى احمرت وألف عام حتى
اسودت فهي سوداء كالليل ل يضيء لهيبها " .وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث
تمام بن نجيح وقد اختلف فيه عن الحسن عن أنس رفعه " لو أن شرارة بالمشرق -أي من نار
جهنم -لوجد حرها من بالمغرب " .وروى الحافظ أبو يعلي عن إسحاق بن أبي إسرائيل عن
أبي عبيدة الحداد عن هشام بن حسان عن محمد بن شبيب عن جعفر بن أبي وحشية عن سعيد
بن جبير عن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " لو كان في هذا المسجد مائة
ألف أو يزيدون وفيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه لحترق المسجد ومن فيه "
60
غريب .وقال العمش عن أبي إسحاق عن النعمان بن بشير قال :قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لمن له نعلن وشراكان من نار جهنم يغلي منهما
دماغه كما يغلي المرجل ل يرى أن أحدا من أهل النار أشد عذابا منه وإنه أهونهم عذابا ".
أخرجاه في الصحيحين من حديث العمش وقال مسلم أيضا حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا
يحيى بن أبي كثير حدثنا زهير بن محمد عن سهيل بن أبي صالح عن النعمان بن أبي عياش
عن أبي سعيد الخدري أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " إن أدنى أهل النار عذابا يوم
القيامة ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه " وقال المام أحمد حدثنا يحيى عن
ابن عجلن سمعت أبي عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " إن أدنى أهل النار
عذابا رجل يجعل له نعلن يغلي منهما دماغه " وهذا إسناد جيد قوي رجاله على شرط مسلم
وال أعلم والحاديث والثار النبوية في هذا كثيرة وقال ال تعالى في كتابه العزيز " كل إنها
لظى نزاعة للشوى " وقال تعالى " يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم
والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب
الحريق " وقال تعالى " إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كما نضجت جلودهم بدلناهم
جلودا غيرها ليذوقوا العذاب " وقال تعالى في هذه الية الكريمة " قل نار جهنم أشد حرا لو
كانوا يفقهون " أي لو أنهم يفقهون ويفقهون لنفروا مع الرسول في سبيل ال في الحر ليتقوا به
من حر جهنم الذي هو أضعاف هذا ولكنهم كما قال الخر :كالمستجير من الرمضاء بالنار وقال
الخر:
خوفا من البارد والحار عمرك بالحمــية أفنيـته
من المعاصي حذر النــار كان أولى لك أن تتقـــي
ل اللّهِ
سبِي ِ
سهِمْ فِي َ
{ ِإ ّنمَا ا ْل ُم ْؤ ِمنُونَ الّذِينَ آ َمنُوا بِاللّهِ َورَسُولِهِ ثُمّ لَمْ َي ْرتَابُوا وَجَاهَدُوا بَِأ ْموَاِلهِمْ َوأَنفُ ِ
ُأ ْوَلئِكَ هُ ُم الصّادِقُونَ }
"إنما المؤمنون" أي إنما المؤمنون الكمل "الذين آمنوا بال ورسوله ثم لم يرتابوا" أي لم يشكوا
ول تزلزلوا بل ثبتوا على حال واحدة وهي التصديق المحض "وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في
سبيل ال" أي وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم في طاعة ال ورضوانه "أولئك هم الصادقون" أي
في قولهم إذا قالوا إنهم مؤمنون ل كبعض العراب الذين ليس لهم من اليمان إل الكلمة
الظاهرة وقال المام أحمد حدثنا يحيى بن غيلن حدثنا رشدين حدثنا عمرو بن الحارث عن أبي
61
السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي ال عنه قال إن النبي صلى ال عليه وسلم قال
"المؤمنون في الدنيا على ثلثة أجزاء :الذين آمنوا بال ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم
وأنفسهم في سبيل ال والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم والذي إذا أشرف على طمع
تركه ل عز وجل".
علَى تِجَا َرةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ َألِيمٍ * ُت ْؤ ِمنُونَ بِاللّهِ َورَسُولِهِ
{ يَا َأ ّيهَا الّذِينَ َآ َمنُوا هَلْ أَ ُدّلكُمْ َ
خ ْيرٌ ّلكُمْ إِن كُنتُمْ َت ْعَلمُونَ * َيغْ ِفرْ َلكُمْ ُذنُو َبكُمْ
سكُمْ َذِلكُمْ َ
ل اللّهِ بَِأ ْموَاِلكُمْ َوأَنفُ ِ
سبِي ِ
َوتُجَاهِدُونَ فِي َ
جنّاتِ عَدْنٍ َذِلكَ الْ َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ }
ط ّيبَةً فِي َ
ح ِتهَا الَْأ ْنهَارُ َومَسَاكِنَ َ
جرِي مِن تَ ْ
جنّاتٍ تَ ْ
خ ْلكُمْ َ
َويُدْ ِ
عن عبدال بن سلم أن الصحابة رضي ال عنهم أرادوا أن يسألوا رسول ال صلى ال عليه
وسلم عن أحب العمال إلى ال عز وجل ليفعلوه فأنزل ال تعالى هذه السورة ومن جملتها هذه
الية يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ثم فسر هذه التجارة
العظيمة التي ل تبور والتي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور.
فقال تعالى تؤمنون بال ورسوله وتجاهدون في سبيل ال بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن
كنتم تعلمون أي من تجارة الدنيا والكد لها والتصدي لها وحدها.
ثم قال تعالى يغفر لكم ذنوبكم أي إن فعلتم ما أمرتكم به ودللتكم عليه غفرت لكم الزلت
وأدخلتكم الجنات والمساكن الطيبات والدرجات العاليات ولهذا قال تعالى ويدخلكم جنات تجري
من تحتها النهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم
ثم قال تعالى وأخرى تحبونها أي وأزيدكم على ذلك زيادة تحبونها وهي نصر من ال وفتح
قريب أي إذا قاتلتم في سبيله ونصرتم دينه تكفل ال بنصركم قال ال تعالى " يا أيها الذين آمنوا
إن تنصروا ال ينصركم ويثبت أقدامكم " وقال تعالى " ولينصرن ال من ينصره إن ال لقوي
عزيز " وقوله تعالى " وفتح قريب " أي عاجل فهذه الزيادة هي خير الدنيا موصول بنعيم
الخرة لمن أطاع ال ورسوله ونصر ال ودينه ولهذا قال تعالى وبشر المؤمنين.
إخلص النية في الجهاد
عن عمر بن الخطاب وهو يخطب الناس فقال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول {
إنما العمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى ال وإلى رسوله فهجرته إلى
ال وإلى رسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه}
متفق عليه
62
عن أبي موسى قال سئل النبي صلى ال عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية
ويقاتل رياء فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم { من قاتل لتكون كلمة ال هي العليا فهو في
سبيل ال } البخاري ومسلم
عن أبي هريرة أن رجل قال يا رسول ال رجل يريد الجهاد في سبيل ال وهو يبتغي عرضا
من عرض الدنيا فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم { ل أجر له } فأعظم ذلك الناس وقالوا
للرجل عد لرسول ال صلى ال عليه وسلم فلعلك لم تفهمه فقال يا رسول ال رجل يريد الجهاد
في سبيل ال وهو يبتغي عرضا من عرض الدنيا فقال { ل أجر له } فقالوا للرجل عد لرسول
ال صلى ال عليه وسلم فقال له الثالثة فقال له { ل أجر له }حديث حسن رواه ابو داود
عن أبى هريرة رضى ال عنه قال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول { إن أول
الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها
قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به
فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ..الحديث }رواه مسلم
الترغيب في سؤال الشهادة في سبيل ال
عن سهل بن حنيف رضي ال عنه أن النبي صلى ال عليه وسلم قال { من سأل ال الشهادة
بصدق بلغه ال منازل الشهداء وإن مات على فراشه}رواه مسلم
وفي رواية { من جرح جرحا في سبيل ال جاء يوم القيامة ريحه ريح المسك ،ولونه لون
الزعفران ،عليه طابع الشهداء ،ومن سأل ال الشهادة مخلصا أعطاه ال أجر شهيد وإن مات
على فراشه }حسن رواه ابن حبان
عن أنس بن مالك قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم {من طلب الشهادة صادقا أعطيها
ولو لم تصبه}رواه مسلم
عن معاذ بن جبل حدثهم أنه سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول{ من قاتل في سبيل ال
فواق ناقة فقد وجبت له الجنة ومن سأل ال القتل من نفسه صادقا ثم مات أو قتل فإن له أجر
شهيد زاد ابن المصفى من هنا ومن جرح جرحا في سبيل ال أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم
القيامة كأغزر ما كانت لونها لون الزعفران وريحها ريح المسك ومن خرج به خراج في سبيل
ال فإن عليه طابع الشهداء } صحيح رواه أبو دواد .
الحث على العداد وفضل الرمي والشيب
63
عن عقبة بن عامر الجهني قال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو على المنبر يقول{ (
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) أل إن القوة الرمي أل إن القوة الرمي أل إن القوة الرمي}
رواه مسلم وغيره
عن سلمة بن الكوع قال :مر النبي على نفر من أسلم ينتضلون فقال النبي صلى ال عليه
وسلم {ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا وأنا مع بني فلن قال :فأمسك أحد الفريقين
بأيديهم فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ما لكم ل ترمون قالوا كيف نرمي وأنت معهم فقال
النبي صلى ال عليه وسلم وأنا معكم كلكم} أخرجه البخاري وأحمد
عن عمرو بن عبسة قال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول {من رمى العدو بسهم
فبلغ سهمه العدو أصاب أو أخطأ فعدل رقبة }صحيح رواه ابن ماجه
عن أبي نجيح السلمي قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { :من شاب شيبة في سبيل ال
كانت له نورا يوم القيامة ،ومن رمى بسهم كان له نورا يوم القيامة } ...صحيح أخرجه
البيهقي
عن أبي نجيح السلمي قال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول { من بلغ بسهم في
سبيل ال فهو له درجة في الجنة فبلغت يومئذ ستة عشر سهما قال وسمعت رسول ال صلى
ال عليه وسلم يقول من رمى بسهم في سبيل ال فهو عدل محرر } صحيح رواه النسائي
عن عقبة بن عامر رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم
{ من علم الرمي ثم تركه فليس منا}رواه مسلم
فضل الرباط في سبيل ال
عن سهل بن سعد الساعدي رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال { رباط
يوم في سبيل ال خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما
عليها والروحة يروحها العبد في سبيل ال أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها } البخارى
مسلم
عن سلمان رضي ال عنه قال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول { رباط يوم وليلة
خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه
وأمن الفتان } رواه مسلم
64
عن فضالة بن عبيد رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال { كل الميت يختم
على عمله إل المرابط فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتان القبر }صحيح رواه
أبو داود
عن عبد ال بن الزبير قال خطب عثمان بن عفان الناس فقال يا أيها الناس إني سمعت حديثا
من رسول ال صلى ال عليه وسلم لم يمنعني أن أحدثكم به إل الضن بكم وبصحابتكم
فليختر مختار لنفسه أو ليدع سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول {من رابط ليلة في
سبيل ال سبحانه كانت كألف ليلة صيامها وقيامها} حسن رواه ابن ماجه
عن عثمان بن عفان رضي ال عنه قال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول {رباط
يوم في سبيل ال خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل }حسن رواه النسائى
عن أبي هريرة رضى ال عنه قال سمعت رسول ال يقول
{ موقف ساعة في سبيل ال خير من قيام ليلة القدر عند الحجر السود } السلسله الصحيحة
عن أبي هريرة رضي ال عنه عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال {من مات مرابطا في
سبيل ال أجرى عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمل وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان
وبعثه ال يوم القيامة آمنا من الفزع }صحيح رواه ابن ماجه
عن أبي هريرة رضي ال عنه أن النبي صلى ال عليه وسلم قال {خير معايش الناس لهم رجل
ممسك بعنان فرسه في سبيل ال ويطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه إليها
يبتغي الموت أو القتل مظانه ورجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعاف أو بطن واد من
هذه الودية يقيم الصلة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ليس من الناس إل في
خير}روامسلم
فضل الحراسة في سبيل ال
عن ابن عباس رضي ال عنه قال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول { عينان ل
تمسهما النار عين بكت من خشية ال وعين باتت تحرس في سبيل الله } حسن رواه الترمذي
عن معاوية بن حيدة رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { ثلثة ل ترى
أعينهم النار يوم القيامة :عين بكت من خشية ال ،وعين حرست في سبيل ال ،وعين غضت
عن محارم ال }السلسلة الصحيحة
65
عن ابن عمر رضى ال عنهما ان النبي صلى ال عليه وسلم قال { أل أنبئكم بليلة أفضل من
ليلة القدر ؟ حارس الحرس في أرض خوف لعله أن ل يرجع إلى أهله }السلسلة الصحيحة
عن سهل ابن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم حنين فأطنبوا السير
حتى كانت عشية فحضرت الصلة عند رسول ال صلى ال عليه وسلم فجاء رجل فارس فقال
يا رسول ال إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا فإذا أنا بهوازن على بكرة آبائهم
بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين فتبسم رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال {تلك
غنيمة المسلمين غدا إن شاء ال} ثم قال من يحرسنا الليلة }قال أنس بن أبي مرثد الغنوي أنا يا
رسول ال قال فاركب فركب فرسا له فجاء إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال له رسول
ال صلى ال عليه وسلم {استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعله ول نغرن من قبلك الليلة }فلما
أصبحنا خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى مصله فركع ركعتين ثم {قال هل أحسستم
فارسكم} قالوا يا رسول ال ما أحسسناه فثوب بالصلة فجعل رسول ال صلى ال عليه وسلم
يصلي وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلته وسلم قال{ أبشروا فقد جاءكم فارسكم }
فجعلنا ننظر إلى خلل الشجر في الشعب فإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول ال صلى ال
عليه وسلم فسلم فقال إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول ال صلى
ال عليه وسلم فلما أصبحت اطلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا فقال له رسول ال صلى
ال عليه وسلم {هل نزلت الليلة} قال ل إل مصليا أو قاضيا حاجة فقال له رسول ال صلى ال
عليه وسلم {قد أوجبت فل عليك أن ل تعمل بعدها }صحيح رواه النسائى وابو داود
فضل النفقة والتجهيز
عن خريم بن فاتك رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { من أنفق نفقة في
سبيل ال كتبت له بسبع مائة ضعف}صحيح رواه الترمذي و النسائي
زيد بن خالد رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال { من جهز غازيا في
سبيل ال فقد غزا ومن خلف غازيا في سبيل ال بخير فقد غزا }البخاري مسلم وغيرهما
عن زيد بن خالد الجهني رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { من جهز
غازيا في سبيل ال كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الغازي شيئا }صحيح رواه
ابن ماجه
66
عن أبي أمامة رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { أفضل الصدقات ظل
فسطاط في سبيل ال ومنيحة خادم في سبيل ال أو طروقة فحل في سبيل ال }صحيح
رواه الترمذي
فضل الصوم في سبيل ال
عن أبي سعيد الخدري رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { ما من عبد
يصوم يوما في سبيل ال إل باعد ال بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا }البخاري ومسلم
عن أبي أمامة الباهلي رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال { من صام يوما
في سبيل ال جعل ال بينه وبين النار خندقا كما بين السماء والرض }حسن رواه الترمذي
عن عمر بن عبسه رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { :من صام يوما
في سبيل ال بعدت منه النار مسيرة مئة عام }حسن رواه الطبراني
فضل الغدوة والروحة في سبيل ال
عن أنس رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال { لغدوة في سبيل ال أو
روحة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم أو موضع يده في الجنة خير من الدنيا وما
فيها ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الرض لضاءت ما بينهما ولملت ما بينهما
ريحا ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها } رواه البخاري مسلم والترمذي وغيرهم
عن سهل بن سعد الساعدي رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال { رباط
يوم في سبيل ال خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما
عليها والروحة يروحها العبد في سبيل ال أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها }رواه
البخاري ومسلم
عن أبي أيوب النصاري رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { غدوة في
سبيل ال أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس وغربت }حديث صحيح رواه النسائي
عن أبي هريرة رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { تضمن ال لمن
خرج في سبيله ل يخرجه إل جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي فهو علي ضامن أن
أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائل ما نال من أجر أو غنيمة والذي نفس
محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل ال إل جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم لونه لون دم
وريحه مسك والذي نفس محمد بيده لول أن يشق على المسلمين ما قعدت خلف سرية
67
تغزو في سبيل ال أبدا ولكن ل أجد سعة فأحملهم ول يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا
عني والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل ال فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو
فأقتل }رواه مسلم
عن معاذ رضي ال عنه قال عهد إلينا رسول ال صلى ال عليه وسلم { في خمس من فعل
منهن كان ضامنا على ال من عاد مريضا أوخرج مع جنازة أو خرج غازيا في سبيل ال أو
دخل على إمام يريد بذلك تعزيره وتوقيره أو قعد في بيته فيسلم الناس منه ويسلم } حسن رواه
احمد وغيره
فضل الغبار في سبيل ال
عن أبي هريرة رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { ل يلج النار رجل
بكى من خشية ال حتى يعود اللبن في الضرع ول يجتمع غبار في سبيل ال ودخان جهنم }
صحيح رواه الترمذي
عن أبي هريرة رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال { ل يجتمع غبار في سبيل
ال عز وجل ودخان جهنم في منخري مسلم أبدا }صحيح رواه النسائي
عن أبي هريرة رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال { ل يجتمع غبار في سبيل
ال ودخان جهنم في وجه رجل أبدا ول يجتمع الشح واليمان في قلب عبد أبدا }صحيح رواه
النسائي
عبد الرحمن بن جبر رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال{ ما اغبرت قدما
عبد في سبيل ال فتمسه النار }رواه البخاري
عن مالك بن عبد ال الخثعمي رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { من
اغبرت قدماه في سبيل ال حرمه ال على النار }صحيح رواه احمد
عن أبي الدرداء رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { ل يجمع ال في
جوف رجل غبارا في سبيل ال ودخان جهنم ومن اغبرت قدماه في سبيل ال حرم ال سائر
جسده على النار }حسن رواه احمد
فضل الخوف في سبيل ال
68
عن عائشة رضي ال عنها قالت سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول { ما خالط قلب
امرئ مسلم رهج في سبيل ال إل حرم ال عليه النار }صحيح رواه احمد
عن أم مالك البهزية رضي ال عنها قالت ذكر رسول ال صلى ال عليه وسلم فتنة فقربها
قالت قلت يا رسول ال من خير الناس فيها قال { رجل في ماشيته يؤدي حقها ويعبد ربه ورجل
آخذ برأس فرسه يخيف العدو ويخيفونه } حسن رواه الترمذي
فضل الجهاد في سبيل ال
عن أبي هريرة رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم سئل أي العمل أفضل فقال
{ إيمان بال ورسوله قيل ثم ماذا قال الجهاد في سبيل ال قيل ثم ماذا قال حج مبرور }رواه
البخاري
عن أبي هريرة رضي ال عنه قال سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم أي العمال أفضل
قال{ إيمان بال قال ثم ماذا قال الجهاد في سبيل ال قال ثم ماذا قال حج مبرور }رواه مسلم
عن أبي سعيد رضي ال عنه قال قال رجل أي الناس أفضل يا رسول ال قال { مؤمن يجاهد
بنفسه وماله في سبيل ال قال ثم من قال ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه
ويدع الناس من شره }رواه البخاري ومسلم
عن أبي سعيد رضي ال عنه قال قيل يا رسول ال أي المؤمنين أفضل قال {مؤمن يجاهد في
سبيل ال بنفسه وماله قالوا ثم من قال مؤمن اعتزل في شعب من الشعاب أو الشعبة كفى
الناس شره }حسن رواه احمد
عن ابن عباس رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال { أل أخبركم بخير
الناس منزل} قلنا بلى يا رسول ال قال {رجل آخذ برأس فرسه في سبيل ال عز وجل حتى
يموت أو يقتل وأخبركم بالذي يليه قلنا نعم يا رسول ال قال رجل معتزل في شعب يقيم
الصلة ويؤتي الزكاة ويعتزل شرور الناس وأخبركم بشر الناس قلنا نعم يا رسول ال قال الذي
يسأل بال عز وجل ول يعطي به }صحيح رواه النسائي
عن أبي هريرة رضي ال عنه قال مر رجل من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم
بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته لطيبها فقال لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب
ولن أفعل حتى أستأذن رسول ال صلى ال عليه وسلم فذكر ذلك لرسول ال صلى ال عليه
وسلم فقال { ل تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل ال أفضل من صلته في بيته سبعين عاما أل
69
تحبون أن يغفر ال لكم ويدخلكم الجنة اغزو في سبيل ال من قاتل في سبيل ال فواق ناقة
وجبت له الجنة }حسن رواه الترمذي
عن أبي أمامة رضي ال عنه قال خرجنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم في سرية من
سراياه قال فمر رجل بغار فيه شيء من ماء قال فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما
كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى من الدنيا ثم قال لو أني أتيت نبي ال
صلى ال عليه وسلم فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت وإل لم أفعل فأتاه فقال يا نبي ال إني
مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا قال
فقال النبي صلى ال عليه وسلم { إني لم أبعث باليهودية ول بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية
السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل ال خير من الدنيا وما فيها ولمقام
أحدكم في الصف خير من صلته ستين سنة }
حسن رواه احمد
عن أبي هريرة رضي ال عنه قال قيل للنبي صلى ال عليه وسلم ما يعدل الجهاد في سبيل
ال عز وجل قال{ ل تستطيعونه } قال فأعادوا عليه مرتين أو ثلثا كل ذلك يقول { ل
تستطيعونه } وقال في الثالثة {مثل المجاهد في سبيل ال كمثل الصائم القائم القانت بآيات ال ل
يفتر من صيام ولصلة حتى يرجع المجاهد في سبيل ال تعالى }رواه مسلم
عن أبي هريرة رضي ال عنه قال جاء رجل إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال دلني
على عمل يعدل الجهاد قال { ل أجده قال هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك
فتقوم ول تفتر وتصوم ول تفطر قال ومن يستطيع ذلك } قال أبو هريرة إن فرس المجاهد
ليستن في طوله فيكتب له حسنات
رواه البخاري
عن أبي سعيد الخدري رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال{ يا أبا سعيد
من رضي بال ربا وبالسلم دينا وبمحمد نبيا وجبت له الجنة }فعجب لها أبو سعيد فقال
أعدها علي يا رسول ال ففعل ثم قال { وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل
درجتين كما بين السماء والرض قال وما هي يا رسول ال قال الجهاد في سبيل ال الجهاد في
سبيل ال }رواه مسلم والنسائي
70
عن أبي بكر بن أبي موسى الشعري قال سمعت أبي بحضرة العدو يقول قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم { إن أبواب الجنة تحت ظلل السيوف فقال رجل من القوم رث الهيئة
أأنت سمعت هذا من رسول ال صلى ال عليه وسلم يذكره قال نعم فرجع إلى أصحابه فقال
أقرأ عليكم السلم وكسر جفن سيفه فضرب به حتى قتل } رواه مسلم والترمذي
عن أنس بن مالك قال بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم بسيسة عينا ينظر ما صنعت
عير أبي سفيان فجاء وما في البيت أحد غيري وغير رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ل
أدري ما استثنى بعض نسائه قال فحدثه الحديث قال فخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم
فتكلم فقال { إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضرا فليركب معنا فجعل رجال يستأذنونه في
ظهرانهم في علو المدينة فقال ل إل من كان ظهره حاضرا فانطلق رسول ال صلى ال
عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر وجاء المشركون فقال رسول ال صلى
ال عليه وسلم ل يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه فدنا المشركون فقال رسول
ال صلى ال عليه وسلم قوموا إلى جنة عرضها السموات والرض قال يقول عمير بن
الحمام النصاري يا رسول ال جنة عرضها السموات والرض قال نعم قال بخ بخ فقال
رسول ال صلى ال عليه وسلم ما يحملك على قولك بخ بخ قال ل وال يا رسول ال إل
رجاءة أن أكون من أهلها قال فإنك من أهلها فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال
لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة قال فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم
حتى قتل }رواه مسلم
عن عبد ال بن حبشي الخثعمي رضي ال عنه أن النبي صلى ال عليه وسلم سئل أي العمال
أفضل قال
{ إيمان ل شك فيه وجهاد ل غلول فيه وحجة مبرورة قيل فأي الصلة أفضل قال طول
القنوت قيل فأي الصدقة أفضل قال جهد المقل قيل فأي الهجرة أفضل قال من هجر ما حرم
ال عز وجل قيل فأي الجهاد أفضل قال من جاهد المشركين بماله ونفسه قيل فأي القتل أشرف
قال من أهريق دمه وعقرجواده }صحيح رواه النسائي
عن معاذ بن أنس رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم أن امرأة أتته فقالت يا رسول
ال انطلق زوجي غازيا وكنت أقتدي بصلته إذا صلى وبفعله كله فأخبرني بعمل يبلغني عمله
حتى يرجع فقال لها { أتستطيعين أن تقومي ول تقعدي وتصومي ول تفطري وتذكري ال
71
تبارك وتعالى ول تفتري حتى يرجع قالت ما أطيق هذا يا رسول ال فقال والذي نفسي بيده لو
طوقتيه ما بلغت العشر من عمله حتى يرجع }حسن رواه احمد
عن النعمان بن بشير رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { مثل المجاهد
في سبيل ال كمثل الصائم نهاره والقائم ليله حتى يرجع متى يرجع }صحيح رواه أحمد
فضل الكلم في سبيل ال
عن معاذ بن جبل رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال { من قاتل في سبيل ال
من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة ومن جرح جرحا في سبيل ال أو نكب نكبة فإنها
تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها الزعفران وريحها كالمسك }
صحيح رواه الترمذي وغيره
عن أبي هريرة رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال { والذي نفسي بيده ل
يكلم أحد في سبيل ال وال أعلم بمن يكلم في سبيله إل جاء يوم القيامة واللون لون الدم
والريح ريح المسك }رواه البخاري
عن أبي هريرة رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال { كل كلم يكلمه المسلم في
سبيل ال يكون يوم القيامة كهيئتها إذ طعنت تفجر دما اللون لون الدم والعرف عرف المسك
}رواه البخاري
عن أبي أمامة رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال { ليس شيء أحب إلى ال
من قطرتين وأثرين قطرة من دموع في خشية ال وقطرة دم تهراق في سبيل ال وأما
الثران فأثر في سبيل ال وأثر في فريضة من فرائض ال }حسن رواه الترمذي
فضل من قتل كافر في سبيل ال
عن أبي هريرة رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال { ل يجتمع كافر وقاتله
في النار أبدا }رواه مسلم
عن أبي هريرة رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال { ل يجتمعان في النار
اجتماعا يضر أحدهما مسلم قتل كافرا ثم سدد المسلم أو قارب ول يجتمعان في جوف عبد
غبار في سبيل ال ودخان جهنم ول يجتمعان في قلب عبد اليمان والشح }حسن رواه احمد
72
عن أبي هريرة رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { ل يجتمعان في
النار أبدا اجتماعا يضر أحدهما قالوا من يا رسول ال قال مؤمن يقتله كافر ثم يسدد بعد
ذلك }حسن رواه احمد
فضل الشهادة في سبيل ال
أنس بن مالك رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال {ما أحد يدخل الجنة يحب أن
يرجع إلى الدنيا وله ما على الرض من شيء إل الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر
مرات لما يرى من الكرامة }رواه البخاري ومسلم والترمذي
عن أنس رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { يؤتى بالرجل من أهل الجنة
فيقول ال عز وجل يا ابن آدم كيف وجدت منزلك فيقول أي رب خير منزل فيقول سل
وتمن فيقول أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات لما يرى من فضل الشهادة
}صحيح رواه النسائي
عن أبي هريرة رضي ال عنه قال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول {والذي
نفسي بيده لول أن رجال يكرهون أن يتخلفوا بعدي ول أجد ما أحملهم ما تخلفت لوددت أني
أقتل في سبيل ال ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل }رواه البخاري
عن عبد ال بن عمرو بن العاص رضي ال عنهما أن رسول ال صلى ال عليه وسلم
قال { يغفر للشهيد كل ذنب إل الدين }رواه مسلم
عن أبي قتادة رضي ال عنه عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قام فيهم فذكر لهم أن
الجهاد في سبيل ال واليمان بال أفضل العمال فقام رجل فقال يا رسول ال أرأيت إن قتلت
في سبيل ال تكفر عني خطاياي فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم { نعم إن قتلت في
سبيل ال وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر} ثم قال رسول ال صلى ال عليه وسلم {
كيف قلت } قال أرأيت إن قتلت في سبيل ال أتكفر عني خطاياي فقال رسول ال صلى ال
عليه وسلم {نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إل الدين فإن جبريل عليه السلم
قال لي ذلك }رواه مسلم
عن ابن أبي عميرة رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال {ما من الناس نفس
مسلم يقبضها ال عز وجل تحب أن تعود إليكم وأن لها الدنيا وما فيها غير الشهيد }
73
و قال ابن أبي عميرة قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { لن أقتل في سبيل ال أحب إلي
من أن يكون لي المدر والوبر } صحيح رواه احمد
عن أنس رضي ال عنه قال غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال يا رسول ال
غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن ال أشهدني قتال المشركين ليرين ال ما أصنع فلما
كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلء يعني أصحابه
وأبرأ إليك مما صنع هؤلء يعني المشركين ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال يا سعد بن
معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد قال سعد فما استطعت يا رسول
ال ما صنع قال أنس فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم
ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إل أخته ببنانه قال أنس كنا نرى أو
نظن أن هذه الية نزلت فيه وفي أشباهه ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا ال عليه)
رواه البخاري
عن سمرة رضي ال عنه قال النبي صلى ال عليه وسلم { رأيت الليلة رجلين أتياني فصعدا بي
الشجرة فأدخلني دارا هي أحسن وأفضل لم أر قط أحسن منها قال أما هذه الدار فدار الشهداء
}رواه البخاري
عن جابر بن عبد ال رضي ال عنه يقول لما قتل عبد ال بن عمرو بن حرام يوم أحد
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم يا جابر أل أخبرك ما قال ال عز وجل لبيك قلت بلى
قال { ما كلم ال أحدا إل من وراء حجاب وكلم أباك كفاحا فقال يا عبدي تمن علي أعطك قال
يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية قال إنه سبق مني أنهم إليها ل يرجعون قال يا رب فأبلغ من
ورائي فأنزل ال عز وجل هذه الية ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل ال أمواتا بل أحياء عند
ربهم يرزقون }صحيح رواه الترمذي
عن ابن عباس رضي ال عنهما قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { رأيت جعفر بن أبي
طالب ملكا يطير في الجنة مع الملئكة بجناحين }حسن رواه الطبراني
عن عبد ال بن عمر رضي ال عنهما قال أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم في غزوة
مؤتة زيد بن حارثة فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم { إن قتل زيد فجعفر وإن قتل
جعفر فعبد ال بن رواحة قال عبد ال كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي
طالب فوجدناه في القتلى ووجدنا ما في جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية } رواه البخاري
74
عن جابر رضي ال عنه قال قالوا يا رسول ال أي الجهاد أفضل{ قال من عقر جواده
وأهريق دمه }صحيح رواه احمد
عن أبي هريرة رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { ما يجد الشهيد من
مس القتل إل كما يجد أحدكم من مس القرصة }صحيح رواه الترمذي وغيره
عن أبي الدرداء رضي ال عنه يقول قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { يشفع الشهيد في
سبعين من أهل بيته }حسن رواه ابوداود
عن عتبة بن عبد السلمي رضي ال عنه وكان من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم قال
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { القتل ثلثة رجل مؤمن قاتل بنفسه وماله في سبيل ال
حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل فذلك الشهيد المفتخر في خيمة ال تحت عرشه ل يفضله
النبيون إل بدرجة النبوة ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا جاهد بنفسه وماله
في سبيل ال حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل محيت ذنوبه وخطاياه إن السيف محاء الخطايا
وأدخل من أي أبواب الجنة شاء فإن لها ثمانية أبواب ولجهنم سبعة أبواب وبعضها أفضل من
بعض ورجل منافق جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل في سبيل ال حتى يقتل فإن ذلك
في النار السيف ل يمحو النفاق }حسن رواه احمد
عن نعيم بن همار رضي ال عنه أن رجل سأل النبي صلى ال عليه وسلم أي الشهداء أفضل
قال { الذين إن يلقوا في الصف يلفتون وجوههم حتى يقتلوا أولئك ينطلقون في الغرف العلى
من الجنة ويضحك إليهم ربهم وإذا ضحك ربك إلى عبد في الدنيا فل حساب عليه }صحيح رواه
احمد
عن أبي سعيد رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { أفضل الجهاد عند ال
يوم القيامة الذين يلقون في الصف الول فل يلفتون وجوههم حتى يقتلوا ،اولئك يتلبطون في
الغرف العلى من الجنة ينظر إليهم ربك ،إن ربك إذا ضحك إلى قوم فل حساب عليهم }صحيح
رواه الطبراني السلسلة الصحيحة
عن عبدال بن عمرو رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم {أول ثلة يدخلون
الجنة الفقراء المهاجرون الذين تتقى بهم المكاره ،إذا أمروا سمعوا وأطاعوا ،وإن كانت
للرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض له حتى يموت وهي في صدره ،وإن ال عز وجل
ليدعويوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول :أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي
75
وقوتلوا وأوذوا في سبيلي ،وجاهدوا في سبيلي ادخلوا الجنة ،فيدخلونها بغير حساب .وتأتي
الملئكة فيسجدون ،فيقولون :ربنا نحن نسبح بحمدك الليل والنهار ونقدس لك ،من هؤلء
الذين آثرتهم علينا ؟ فيقول الرب عز وجل :هؤلء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي ،وأوذوا في
سبيلي ،فتدخل عليهم الملئكة من كل باب { سلم عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار }}صحيح
رواه الصبهاني السلسلة الصحيحة
عن المقدام بن معدي كرب الكندي رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم {
إن للشهيد عند ال عز وجل قال الحكم ست خصال أن يغفر له في أول دفعة من دمه
ويرى قال الحكم ويرى مقعده من الجنة ويحلى حلة اليمان ويزوج من الحور العين
ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الكبر قال الحكم يوم الفزع الكبر ويوضع على
رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور
العين ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه }صحيح رواه احمد
عن المقدام بن معدي كرب رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { للشهيد
عند ال ست خصال يغفر له في أول دفعة ويرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر
ويأمن من الفزع الكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها
ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ويشفع في سبعين من أقاربه }صحيح رواه
الترمذي وابن ماجة
عن ابن عباس رضي ال عنهما قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { الشهداء على بارق
نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا }حسن رواه احمد
عن ابن عباس رضي ال عنهما قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { لما أصيب
إخوانكم بأحد جعل ال أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها
وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم
ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئل يزهدوا في الجهاد ول ينكلوا
عند الحرب فقال ال سبحانه أنا أبلغهم عنكم قال فأنزل ال { ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل
ال أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون }}حسن رواه أبو داود
76
عن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم أن رجل قال يا
رسول ال ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إل الشهيد قال { كفى ببارقة السيوف على
رأسه فتنة }صحيح رواه النسائي
عن أنس بن مالك رضي ال عنه أن أم الربيع بنت البراء وهي أم حارثة بن سراقة أتت
النبي صلى ال عليه وسلم فقالت يا نبي ال أل تحدثني عن حارثة وكان قتل يوم بدر
أصابه سهم غرب فإن كان في الجنة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء قال
{ يا أم حارثة إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس العلى }رواه البخاري
عن عبد ال بن مسعود رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { عجب ربنا
عز وجل من رجل غزا في سبيل ال فانهزم يعني أصحابه فعلم ما عليه فرجع حتى أهريق
دمه فيقول ال تعالى لملئكته انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي حتى
أهريق دمه }حسن رواه ابوداود
أنس بن مالك رضي ال عنه قال جاء ناس إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقالوا أن ابعث
معنا رجال يعلمونا القرآن والسنة فبعث إليهم سبعين رجل من النصار يقال لهم القراء فيهم
خالي حرام يقرءون القرآن ويتدارسون بالليل يتعلمون وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه
في المسجد ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لهل الصفة وللفقراء فبعثهم النبي صلى
ال عليه وسلم إليهم فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان فقالوا اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد
لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا قال وأتى رجل حراما خال أنس من خلفه فطعنه برمح حتى
أنفذه فقال حرام فزت ورب الكعبة فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم لصحابه { إن
إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا }رواه
البخاري ومسلم
سألنا عبد ال عن هذه الية عن مسروق قال
ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل ال أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون قال أما إنا قد سألنا
عن ذلك (أي رسول اله صلى ال عليه وسلم) فقال { أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل
معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلعة
فقال هل تشتهون شيئا قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ففعل ذلك بهم
77
ثلث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا يا رب نريد أن ترد أرواحنا في
أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا }رواه مسلم
عن أبي هريرة رضي ال عنه عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه سأل جبريل عن هذه
الية ( { :ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الرض إل من شاء ال ثم نفخ
فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون )من الذين لم يشأ ال ان يصعقهم ؟ قال ( هم الشهداء) }صحيح
رواه الحاكم
***********************************
أما من سنجاهد ؟؟؟
الجواب :
نجاهد الحكام أول واليهود والصليبيين والوثنيين وكل من يقف بطريق الدعوة السلمية كائنا
من كان فرد هيئة جماعة دولة
ج َهنّمُ َو ِبئْسَ ا ْل َمصِيرُ}
عَل ْيهِمْ َومَ ْأوَاهُمْ َ
غلُظْ َ
قال تعالى { :يَا َأ ّيهَا ال ّن ِبيّ جَاهِدِ ا ْلكُفّارَ وَا ْلمُنَافِقِينَ وَا ْ
( )73سورة التوبة
يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال
وفي سبيل حماية الجماعة المسلمة الولى كان المر لرسول ال صلى ال عليه وسلم بمجاهدة
أعدائها(:يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ,واغلظ عليهم ,ومأواهم جهنم وبئس المصير) .
وهي لفتة لها معناها وقيمتها بعدما تقدم من أمر المؤمنين بوقاية أنفسهم وأهليهم من النار .
وبالتوبة النصوح التي تكفر عنهم السيئات وتدخلهم الجنة تجري من تحتها النهار . .
لها معناها وقيمتها في ضرورة حماية المحضن الذي تتم فيه الوقاية من النار .فل تترك هذه
العناصر المفسدة الجائرة الظالمة ,تهاجم المعسكر السلمي من خارجه كما كان الكفار
يصنعون .أو تهاجمه من داخله كما كان المنافقون يفعلون .
وتجمع الية بين الكفار والمنافقين في المر بجهادهم والغلظة عليهم .لن كل من الفريقين
يؤدي دورا مماثل في تهديد المعسكر السلمي ,وتحطيمه أو تفتيته .فجهادهم هو الجهاد
الواقي من النار .وجزاؤهم هو الغلظة عليهم من رسول ال والمؤمنين في الدنيا .
(ومأواهم جهنم وبئس المصير) في الخرة !
***************
78
ش ِركِينَ
ى -صلى ال عليه وسلم -قَالَ « :جَاهِدُوا ا ْلمُ ْ
وفي سنن أبي داود عَنْ َأ َنسٍ أَنّ ال ّنبِ ّ
س َن ِتكُمْ ».
سكُمْ َوَألْ ِ
بَِأ ْموَاِلكُمْ َوَأنْفُ ِ
ش ِركِينَ
وفي سنن النسائي :عَنْ َأ َنسٍ عَنِ ال ّن ِبىّ -صلى ال عليه وسلم -قَالَ « جَاهِدُوا ا ْلمُ ْ
س َن ِتكُمْ ».
بَِأ ْموَاِلكُمْ َوَأيْدِيكُمْ َوَألْ ِ
ل اللّ ِه -صلى ال عليه وسلم -قَالَ « مَا مِنْ
سعُودٍ أَنّ رَسُو َ
عبْ ِد اللّهِ بْنِ مَ ْ
وفي صحيح مسلم عَنْ َ
س ّنتِهِ َويَ ْقتَدُونَ ِبَأ ْم ِرهِ
حوَا ِريّونَ َوأَصْحَابٌ َيأْخُذُونَ بِ ُ
َن ِبىّ َب َعثَهُ اللّهُ فِى ُأمّةٍ َق ْبلِى إِلّ كَانَ لَهُ مِنْ ُأ ّمتِهِ َ
خلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَ يَ ْف َعلُونَ َويَ ْف َعلُونَ مَا لَ ُي ْؤ َمرُونَ َفمَنْ جَاهَدَهُمْ ِبيَ ِدهِ
خُلفُ مِنْ َبعْدِهِمْ ُ
ثُمّ ِإ ّنهَا تَ ْ
َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َومَنْ جَاهَدَهُمْ ِبلِسَانِهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َومَنْ جَاهَدَهُمْ بِ َق ْلبِهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َوَليْسَ َورَاءَ َذِلكَ مِنَ
خرْدَلٍ ».
حبّةُ َ
الِيمَانِ َ
**********
وفي المحلى :
علَى قَ ْدرِ طَا َقتِهِ -
علَى كُلّ أَحَدٍ َ -
- 48مَسَْألَةٌ :وَالَْأ ْمرُ بِا ْل َم ْعرُوفِ وَال ّن ْهيُ عَنْ ا ْل ُم ْن َكرِ َف ْرضَانِ َ
ض َعفُ الْإِيمَانِ َل ْيسَ َورَاءَ َذِلكَ مِنْ
بِا ْليَدِ َ ,فمَنْ لَمْ يَقْ ِدرْ َف ِبلِسَانِهِ َ ,فمَنْ لَمْ يَقْ ِدرْ َفبِ َق ْلبِهِ ,وَ َذِلكَ َأ ْ
خ ْيرِ َويَ ْأ ُمرُونَ بِا ْل َم ْعرُوفِ
عزّ وَجَلّ َ { :و ْل َتكُنْ ِم ْنكُمْ ُأمّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْ َ
شيْءٌ .قَالَ َ
الْإِيمَانِ َ
َو َي ْن َهوْنَ عَنْ ا ْل ُم ْن َكرِ َوأُوَل ِئكَ هُمْ ا ْلمُ ْفلِحُونَ } وَقَالَ َتعَالَى َ { :وإِنْ طَائِ َفتَانِ مِنْ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ا ْق َت َتلُوا
حتّى تَفِيءَ إلَى َأ ْم ِر اللّهِ } .
خرَى فَقَا ِتلُوا اّلتِي َت ْبغِي َ
علَى الْأُ ْ
صلِحُوا َب ْي َن ُهمَا فَإِنْ َب َغتْ إحْدَا ُهمَا َ
فََأ ْ
حمَدُ
حمّدٍ ثنا أَ ْ
حمَدُ بْنُ ُم َ
عبْدُ ا ْلوَهّابِ بْنُ عِيسَى ثنا أَ ْ
حمَدُ بْنُ َفتْحٍ ثنا َ
سفَ ثنا أَ ْ
عبْ ُد اللّهِ بْنُ يُو ُ
حَ ّد َثنَا َ
ش ْيبَةَ ثنا
حمّدُ بْنُ ا ْل ُم َثنّى قَالَ ابْنُ َأبِي َ
ش ْيبَةَ َومُ َ
سلِمُ بْنُ الْحَجّاجِ ثنا َأبُو َب ْكرِ بْنُ َأبِي َ
عِليّ ثنا مُ ْ
بْنُ َ
ش ْعبَةُ
ش ْعبَةُ ,ثُمّ اتّفَقَ سُ ْفيَانُ وَ ُ
جعْ َفرٍ ثنا ُ
حمّدُ بْنُ َ
َوكِيعٌ عَنْ سُ ْفيَانَ ال ّث ْو ِريّ ,وَقَالَ ابْنُ ا ْل ُم َثنّى ثنا مُ َ
س ِم ْعتُ رَسُولَ
سعِيدٍ الْخُ ْد ِريّ َ :
شهَابٍ قَالَ :قَالَ َأبُو َ
سلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ ِ
ِ ,كلَا ُهمَا عَنْ َق ْيسِ بْنِ مُ ْ
ستَطِعْ َف ِبلِسَانِهِ ,
اللّهِ صلى ال عليه وسلم يَقُولُ { مَنْ َرأَى ِم ْنكُمْ ُم ْن َكرًا َف ْل ُي َغ ّي ْرهُ ِبيَ ِدهِ ,فَإِنْ لَمْ يَ ْ
ح َميْدٍ ثنا َيعْقُوبُ بْنُ
عبْدُ بْنُ ُ
سلِمٍ حَ ّد َثنَا َ
ض َعفُ الْإِيمَانِ } َ .وبِهِ إلَى مُ ْ
ستَطِعْ َفبِ َق ْلبِهِ ,وَ َذِلكَ َأ ْ
فَإِنْ لَمْ يَ ْ
ط ِميّ -عَنْ
ضيْلِ الْخِ ْ
سعْدٍ ثنا َأبِي عَنْ صَالِحِ بْنِ َكيْسَانَ عَنْ الْحَا ِرثِ ُهوَ ابْنُ الْ ُف َ
إ ْبرَاهِيمَ بْنِ َ
خ َرمَةَ عَنْ َأبِي رَافِعٍ ُهوَ
س َورِ بْنِ مَ ْ
حمَنِ بْنِ ا ْلمِ ْ
عبْدِ الرّ ْ
حكَمِ عَنْ َ
عبْدِ الْ َ
عبْ ِد اللّهِ بْنِ َ
جعْ َفرِ بْنِ َ
َ
سعُودٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى ال عليه
عبْ ِد اللّهِ بْنِ مَ ْ
ل اللّ ِه صلى ال عليه وسلم -عَنْ َ
َم ْولَى رَسُو ِ
حوَا ِريّونَ َوأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ
وسلم قَالَ { مَا مِنْ َن ِبيّ َب َعثَهُ اللّهُ فِي ُأمّةٍ َق ْبلِي إلّا كَانَ لَهُ مِنْ ُأ ّمتِهِ َ
79
خلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَ ْف َعلُونَ َ ,ويَ ْف َعلُونَ مَا لَا
خّلفَ مِنْ َبعْدِهِمْ ُ
س ّنتِهِ َويَ ْقتَدُونَ ِبَأ ْم ِرهِ ,ثُمّ إ ّنهَا تَ َ
بِ ُ
ُي ْؤ َمرُونَ َ ,فمَنْ جَاهَدَهُمْ ِبيَ ِدهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َ ,ومَنْ جَاهَدَهُمْ ِبلِسَانِهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َ ,ومَنْ جَاهَدَهُمْ بِ َق ْلبِهِ ,
سِلمِينَ
خ َتِلفْ أَحَدٌ مِنْ ا ْلمُ ْ
عِليّ :لَمْ يَ ْ
خرْدَلٍ } .قَالَ َ
حبّةُ َ
َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َ ,وَل ْيسَ َورَاءَ َذِلكَ مِنْ الْإِيمَانِ َ
ض ُهمَا َأوْ عَارَضَ
خ َتيْنِ َ ,فصَحّ أَنّ مَا عَا َر َ
غ ْيرُ َمنْسُو َ
ح َك َمتَانِ َ
فِي أَنّ الْآ َي َتيْنِ ا ْلمَ ْذكُو َر َتيْنِ مُ ْ
شكّ .
الْأَحَادِيثَ اّلتِي فِي َم ْعنَا ُهمَا ُهوَ ا ْل َمنْسُوخُ ِبلَا َ
سلِمٍ إنْ قَ َدرَ ِبيَ ِدهِ َف ِبيَ ِدهِ
علَى كُلّ مُ ْ
- 1776مَسَْألَةٌ :وَالَْأ ْمرُ بِا ْل َم ْعرُوفِ وَال ّن ْهيُ عَنْ ا ْل ُم ْن َكرِ َفرْضٌ َ
ض َعفُ الْإِيمَانِ ,فَإِنْ لَمْ يَ ْفعَلْ
َوإِنْ لَمْ يَقْ ِدرْ ِبيَ ِدهِ َف ِبلِسَانِهِ َوإِنْ لَمْ يَقْ ِدرْ ِبلِسَانِهِ َفبِ َق ْلبِهِ َولَا بُدّ ,وَ َذِلكَ َأ ْ
ض ْربَ َ ,أوْ ذَهَابَ ا ْلمَالِ َ ,ف ُهوَ عُ ْذرٌ ُيبِيحُ لَهُ أَنْ ُي َغ ّيرَ بِ َق ْلبِهِ
َفلَا إيمَانَ لَهُ َ .ومَنْ خَافَ الْ َقتْلَ َأوْ ال ّ
س ُكتَ عَنْ الَْأ ْمرِ بِا ْل َم ْعرُوفِ وَعَنْ ال ّن ْهيِ عَنْ ا ْل ُمنْ َكرِ فَقَطْ َ .ولَا ُيبِيحُ لَهُ َذِلكَ :ا ْل َعوْنُ ِبلِسَانٍ
فَقَطْ َويَ ْ
صلًا ,لِ َقوْلِ اللّهِ َتعَالَى َ { :وإِنْ طَائِ َفتَانِ مِنْ ا ْل ُمؤْ ِمنِينَ ا ْق َت َتلُوا
صوِيبِ ا ْل ُم ْن َكرِ أَ ْ
علَى َت ْ
َ ,أوْ ِبيَدٍ َ
حتّى تَفِيءَ إلَى َأ ْم ِر اللّهِ فَإِنْ
خرَى فَقَا ِتلُوا اّلتِي َت ْبغِي َ
علَى الْأُ ْ
صلِحُوا َب ْي َن ُهمَا فَإِنْ َب َغتْ إحْدَا ُهمَا َ
فََأ ْ
خ ْيرِ
عزّ وَجَلّ َ { :و ْل َتكُنْ ِم ْنكُمْ ُأمّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْ َ
صلِحُوا َب ْي َن ُهمَا بِا ْلعَدْلِ } .وَقَالَ َ
فَا َءتْ َفَأ ْ
سلِمٍ نا َأبُو َب ْكرِ
طرِيقِ مُ ْ
َويَ ْأ ُمرُونَ بِا ْل َم ْعرُوفِ َو َي ْن َهوْنَ عَنْ ا ْل ُم ْن َكرِ َوأُوَلئِكَ هُمْ ا ْلمُ ْفلِحُونَ } َ .ومِنْ َ
ش ْيبَةَ :نا َوكِيعٌ عَنْ
حمّدِ بْنِ ا ْل َعلَاءِ َأبُو ُك َر ْيبٍ قَالَ ابْنُ َأبِي َ
حمّدِ بْنِ ا ْل ُم َثنّى َ ,ومُ َ
ش ْيبَةَ ِ ,لمُ َ
بْنُ َأبِي َ
ش ْعبَةُ ,
ش ْعبَةُ ,ثُمّ اتّفَقَ سُ ْفيَانُ ,وَ ُ
جعْ َفرٍ نا ُ
حمّدُ بْنُ َ
حمّدُ بْنُ ا ْل ُمثَنّى :نا مُ َ
سُ ْفيَانَ ال ّث ْو ِريّ ,وَقَالَ مُ َ
عمَشُ
شهَابٍ ,وَقَالَ َأبُو ُك َر ْيبٍ :نا َأبُو ُمعَا ِويَةَ نا الْأَ ْ
سلَمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ ِ
ِكلَا ُهمَا عَنْ َق ْيسِ بْنِ مُ ْ
سعِيدٍ الْخُ ْد ِريّ ,
سمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ عَنْ َأبِيهِ ,ثُمّ اتّفَقَ طَارِقٌ َ ,ورَجَاءٌ ِ ,كلَا ُهمَا :عَنْ َأبِي َ
عَنْ إ ْ
س ِمعْت رَسُولَ اللّهِ صلى ال عليه وسلم يَقُولُ { " :مَنْ َرأَى ِم ْنكُمْ ُم ْن َكرًا َف ْل ُي َغ ّي ْرهُ ِبيَ ِدهِ َفإِنْ
قَالَ َ :
ع ْمرٌو
سلِمٍ نا َ
طرِيقِ مُ ْ
ستَطِعْ َفبِ َق ْلبِهِ وَ َذِلكَ َأضْ َعفُ الْإِيمَانِ } َ .ومِنْ َ
ستَطِعْ َف ِبلِسَانِهِ َفإِنْ لَمْ يَ ْ
لَمْ يَ ْ
ح َميْدٍ وَاللّفْظُ لَهُ ,قَالُوا ُكّلهُمْ :نا َيعْقُوبُ بْنُ إ ْبرَاهِيمَ بْنِ
عبْدُ بْنُ ُ
ضرِ ,وَ َ
النّاقِدُ َ ,وَأبُو َب ْكرِ بْنُ النّ ْ
ن صَالِحِ بْنِ َكيْسَانَ عَنْ الْحَا ِرثِ ُهوَ ابْنُ
ع ْوفٍ نا َأبِي عَ ْ
حمَنِ بْنِ َ
عبْ ِد الرّ ْ
سعْدِ بْنِ إ ْبرَاهِيمَ بْنِ َ
َ
س َورِ بْنِ
حمَنِ بْنِ ا ْلمِ ْ
عبْ ِد الرّ ْ
حكَمِ عَنْ َ
عبْ ِد اللّهِ بْنِ الْ َ
جعْ َفرِ بْنِ َ
ط ِميّ الَْأ ْنصَا ِريّ عَنْ َ
ضيْلِ الْخِ ْ
الْفُ َ
سعُودٍ حَ ّدثَهُ " أَنّ
عبْ َد اللّهِ بْنَ مَ ْ
ل اللّ ِه صلى ال عليه وسلم أَنّ َ
خ َرمَةَ عَنْ َأبِي رَافِعٍ َم ْولَى رَسُو ِ
مَ ْ
رَسُولَ اللّهِ صلى ال عليه وآله وسلم قَالَ { :مَا مِنْ َن ِبيّ َب َعثَهُ اللّهُ فِي ُأمّةٍ َق ْبلِي إلّا كَانَ لَهُ مِنْ
خلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا
س ّنتِهِ َويَ ْقتَدُونَ بَِأ ْم ِرهِ ثُمّ يَحْ ُدثُ مِنْ َبعْدِهِمْ ُ
حوَا ِريّونَ َوَأصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِ ُ
ُأ ّمتِهِ َ
يَ ْف َعلُونَ َويَ ْف َعلُونَ مَا لَا ُي ْؤ َمرُونَ َفمَنْ جَاهَدَهُمْ ِبيَ ِدهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َومَنْ جَاهَدَهُمْ ِبلِسَانِهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َومَنْ
80
سعِيدِ بْنِ َنبَاتٍ
حمّدُ بْنُ َ
خرْدَلٍ } .نا مُ َ
حبّةُ َ
جَاهَدَهُمْ بِ َق ْلبِهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َل ْيسَ َورَاءَ َذِلكَ مِنْ الْإِيمَانِ َ
حمّدُ
ش ِنيّ نا مُ َ
سلَامِ الْخُ َ
عبْدِ ال ّ
حمّدُ بْنُ َ
صبَغَ نا ُم َ
عبْدِ ا ْل َبصِيرِ نا قَاسِمُ بْنُ َأ ْ
عبْ ِد اللّهِ بْنِ َ
حمَدُ بْنُ َ
نا أَ ْ
عِليّ
ع َبيْ َدةَ عَنْ َ
سعْدِ بْنِ ُ
حمَنِ بْنُ َمهْ ِديّ نا سُ ْفيَانُ ال ّث ْو ِريّ عَنْ ُز َبيْدٍ ا ْليَا ِميّ عَنْ َ
عبْدُ الرّ ْ
ا ْل ُم َثنّى نا َ
صيَةِ اللّهِ } َومِنْ
شرٍ فِي َم ْع ِ
ي صلى ال عليه وآله وسلم قَالَ { :لَا طَاعَةَ ِلبَ َ
بْنِ َأبِي طَاِلبٍ عَنْ ال ّنبِ ّ
ع َمرَ
ع َمرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ ُ
ع َبيْدِ اللّهِ بْنِ ُ
سعِيدٍ الْقَطّانُ عَنْ ُ
حيَى بْنُ َ
طرِيقِ َأبِي دَاوُد نا مُسَدّدٌ نا َي ْ
َ
حبّ
سلِمِ فِيمَا أَ َ
علَى ا ْل َمرْءِ ا ْلمُ ْ
سمْعُ وَالطّاعَةُ َ
ل اللّ ِه صلى ال عليه وآله وسلم { :ال ّ
قَالَ :قَالَ رَسُو ُ
حيَى
سمْعَ َولَا طَاعَةَ } َ .وبِهِ إلَى َأبِي دَاوُد نا َي ْ
صيَةٍ َفلَا َ
صيَةٍ َفإِذَا ُأ ِمرَ ِب َم ْع ِ
َأوْ َك ِرهَ مَا لَمْ ُي ْؤ َمرْ ِب َمعْ ِ
شرِ بْنِ
ح َميْدُ بْنُ ِهلَالٍ عَنْ بِ ْ
سَل ْيمَانُ بْنُ ا ْل ُمغِي َرةِ نا ُ
عبْدِ ا ْلوَا ِرثِ نا ُ
صمَدِ بْنُ َ
عبْ ُد ال ّ
بْنُ َمعِينٍ نا َ
ل اللّ ِه صلى ال عليه وآله وسلم
عَاصِمٍ عَنْ عُ ْقبَةَ بْنِ مَاِلكٍ عَنْ َرجُلٍ مِنْ رَهْطِهِ قَالَ { َب َعثَ رَسُو ُ
ل اللّ ِه صلى ال عليه وآله
سيْفًا َفَلمّا َرجَعَ قَالَ َ :لوْ َرَأ ْيتَ مَا لَا َمنَا رَسُو ُ
جلًا ِم ْنهُمْ َ
حتُ رَ ُ
سلَ ْ
س ِريّةً فَ َ
َ
ج َعلُوا َمكَانَهُ مَنْ َي ْمضِي لَِأ ْمرِي } " .
جلًا َفلَمْ َيمْضِ لَِأ ْمرِي أَنْ تَ ْ
ج ْزتُمْ إذْ َب َع ْثتُ رَ ُ
وسلم قَالَ :أَعْ َ
سمّهِ -فَالصّحَابَةُ
حبٌ َ -وإِنْ لَمْ يُ َ
عنْ ُه صَا ِ
حبَةِ َ ,وَالّذِي ُر ِويَ َ
حمّدٍ :عُ ْقبَ ُة صَحِيحُ الصّ ْ
قَالَ َأبُو مُ َ
حمّدٌ
ل اللّهِ َتعَالَى { :مُ َ
ح َبتِهِ َف ُهوَ عَدْلٌ مَقْطُوعٌ ِبعَدَاَلتِهِ ,لِ َقوْ ِ
ت صِحّ ُة صُ ْ
ُكّلهُمْ عُدُولٌ ,فَإِذَا َث َب َت ْ
عِليّ ] َوكُلّ مَنْ َمعَهُ مِنْ
عِليّ [ :وَ ُهوَ َقوْلُ َ
علَى ا ْلكُفّارِ } .قَالَ َ
رَسُولُ اللّهِ َوَالّذِينَ َمعَهُ أَشِدّاءُ َ
ن الصّحَابَةِ َ ,و ُمعَا ِويَةَ َ ,وكُلّ مَنْ
طلْحَةَ ,وَال ّز َب ْيرِ َ ,وكُلّ مَنْ َم َعهُمْ مِ ْ
الصّحَابَةِ َوأُمّ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ وَ َ
جمِي ِعهِمْ َ -وكُلّ مَنْ قَامَ
ضيَ اللّهُ عَنْ َ
عِليّ َ -ر ِ
سيْنِ بْنِ َ
ن الصّحَابَةِ ,وَابْنِ ال ّزبَ ْيرِ ,وَالْحُ َ
َمعَهُ مِ ْ
خلَافُ
خبَارِ اّلتِي فِيهَا ِ
غ ْيرِهِمْ .وَهَذَا الَْأحَادِيثُ نَاسِخَةٌ ِللْأَ ْ
ن الصّحَابَةِ ,وَالتّا ِبعِينَ ,وَ َ
ح ّرةِ مِ ْ
فِي الْ َ
عَليْهِ الدّينُ َقبْلَ الَْأ ْمرِ بِالْ ِقتَالِ َ ,ولِأَنّ الَْأ ْمرَ بِا ْل َم ْعرُوفِ وَال ّن ْهيَ عَنْ
هَذَا ; لِأَنّ ِت ْلكَ ُموَافِقَةٌ ِلمَا كَانَ َ
شكّ َ . -وبِاَللّهِ َتعَالَى ال ّتوْفِيقُ .
خلَافِهِ ِبلَا َ
ا ْل ُم ْنكَرِ بَاقٍ مُ ْف َترَضٌ لَمْ ُينْسَخْ َ ,ف ُهوَ النّاسِخُ لِ ِ
وفي غذاء اللباب :
جلْدِ بِا ْليَدِ
ضعَفُهُ بِالْ َق ْلبِ ثُمّ لِسَانِهِ َوأَ ْقوَاهُ إ ْنكَارُ الْ َفتَى الْ َ
طَلبٌ :فِي َمرَا ِتبِ الِْإ ْنكَارِ َ :وَأ ْ
مَ ْ
ن اللّسَانِ وَا ْليَدِ فَإِنْ قِيلَ َأيّ َت ْغيِيرٍ
ضعَفُهُ ) َأيْ َأضْ َعفُ َمرَا ِتبِ الِْإ ْنكَارِ َيكُونُ ( بِالْ َق ْلبِ ) دُو َ
( َوَأ ْ
ش َتغِلَ بِ ِذ ْكرِ َم ْولَاهُ ,جَلّ
جوَابُ ا ْل ُمرَادُ أَنْ ُي ْن ِكرَ َذِلكَ َولَا َي ْرضَاهُ َ ,ويَ ْ
حصَلَ بِِإ ْنكَارِ الْ َق ْلبِ ؟ فَالْ َ
َ
ضلًا ِمنْهُ َوِإ ْنعَامًا ,فَقَالَ { َوَالّذِينَ لَا
ح اللّهُ َتعَالَى ا ْلعَا ِملِينَ بِ َذِلكَ تَ َف ّ
سلْطَانُهُ .وَقَدْ مَدَ َ
شَ ْأنُهُ َ ,و َتعَالَى ُ
شهَدُونَ الزّورَ َوإِذَا َمرّوا بِالّلغْوِ َمرّوا ِكرَامًا } فَإِذَا َك ِرهَ ا ْل ُم ْؤمِنُ ا ْل ُم ْنكَرَ َو َنوَى بِ َق ْلبِهِ َأنّهُ َلوْ قَ َدرَ
يَ ْ
عيْنِ َكرَاهَةِ مَا
علَى كُلّ ُم ْؤمِنٍ إيجَابُ َ
جبُ َ
علَى َت ْغيِي ِرهِ َل َغ ّي َرهُ كَانَ فِي ُق ّوةِ َت ْغيِي ِرهِ لَهُ َ ,فِإنّهُ يَ ِ
َ
81
ل عليه الصلة والسلم َكمَا فِي الْأَحَادِيثِ
حبّهُ َو َيرْضَاهُ .وَقَدْ قَا َ
حبّةُ مَا يُ ِ
َكرِهَهُ َم ْولَاهُ َومَ َ
عمَالُ بِال ّنيّاتِ } وَ { الدّينُ النّصِيحَةُ } ( ثُمّ ) َأرْقَى مِنْ الِْإ ْنكَارِ
صرِيحَةِ { إ ّنمَا الْأَ ْ
الصّحِيحَةِ ال ّ
سلّطَ
عَل ْيهِمْ َف َي ْت ُركُونَهُ َأوْ يُ َ
بِالْ َق ْلبِ فَقَطْ الِْإ ْنكَارُ بِ ( لِسَانِهِ ) َأيْ أَنْ ُي ْن ِكرَ ا ْل ُم ْنكَرَ ِبلِسَانِهِ ِبأَنْ َيصِيحَ َ
جلْدِ
عَل ْيهِمْ مَنْ ُي َغ ّي ُرهُ ( َوأَ ْقوَاهُ ) َأيْ أَ ْقوَى َمرَا ِتبِ الِْإ ْنكَارِ ( إ ْنكَارُ الْ َفتَى ) َأيْ الشّخْصِ ا ْلمُ ْؤمِنِ ( الْ َ
َ
جلِيدًا } َأيْ
ج َوفَ َ
ع َمرَ { كَانَ أَ ْ
جلِيدٌ .وَفِي حَدِيثِ ُ
ن اللّامِ َأيْ الْ َق ِويّ الشّدِيدِ َ ,ويُقَالُ لَهُ َ
سكُو ِ
) بِ ُ
ي صلى ال
ل ال ّن ِب ّ
َق ِويّا شَدِيدًا َ ,ف ُهوَ صِفَةٌ ِللْ َفتَى ( بِا ْليَدِ ) ُم َت َعلّقٌ بِِإ ْنكَارِ الْ َفتَى ,وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ َقوْ ِ
ستَطِعْ َفبِ َق ْلبِهِ ,
ستَطِعْ َف ِبلِسَانِهِ ,فَإِنْ لَمْ يَ ْ
عليه وسلم { مَنْ َرأَى ِم ْنكُمْ ُم ْن َكرًا َف ْل ُي َغ ّي ْرهُ ِبيَ ِدهِ ,فَإِنْ لَمْ يَ ْ
سلِمٌ َأ ْيضًا مِنْ حَدِيثِ
سعِيدٍ الْخُ ْد ِريّ َ .و َروَى مُ ْ
سلِمٌ مِنْ حَدِيثِ َأبِي َ
ض َعفُ الْإِيمَانِ } َروَاهُ مُ ْ
وَ َذِلكَ َأ ْ
ي صلى ال عليه وسلم قَالَ { مَا مِنْ َن ِبيّ َب َعثَ ُه اللّهُ َق ْبلِي إلّا
سعُودٍ رضي ال عنه عَنْ ال ّن ِب ّ
ابْنِ مَ ْ
خُلفُ مِنْ َبعْدِهِمْ
س ّنتِهِ َويَ ْقتَدُونَ ِبَأ ْم ِرهِ ,ثُمّ إ ّنهَا تَ ْ
حوَا ِريّونَ َوأَصْحَابٌ َيأْخُذُونَ بِ ُ
كَانَ لَهُ مِنْ ُأ ّمتِهِ َ
خلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَ ْف َعلُونَ َ ,ويَ ْف َعلُونَ مَا لَا يَقُولُونَ َ ,فمَنْ جَاهَدَهُمْ ِبيَ ِدهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َ ,ومَنْ
ُ
حبّةُ
جَاهَدَهُمْ ِبلِسَانِهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َ ,ومَنْ جَاهَدَهُمْ بِ َق ْلبِهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َ ,ل ْيسَ َورَاءَ َذِلكَ مِنْ الْإِيمَانِ َ
شكُ هَ ِذهِ
عَليْهِ َمرْفُوعًا { يُو ِ
ن اللّهِ َ
ضوَا ُ
ع َمرَ ِر ْ
ضعِيفٍ عَنْ ُ
سنَا ٍد َ
سمَاعِيِليّ بِإِ ْ
خرَجَ الْإِ ْ
خرْدَلٍ } َ .وأَ ْ
َ
جبُنَ ِبيَ ِدهِ َف ِبلِسَانِهِ وَ َق ْلبِهِ ,فَإِنْ
الُْأمّةُ أَنْ َت ْهَلكَ إلّا َثلَاثَةَ نَ َفرٍ ,رَجُلٌ َأ ْن َكرَ ِبيَ ِدهِ َو ِبلِسَانِهِ َوبِ َق ْلبِهِ َ ,فإِنْ َ
عَليْهِ
ضوَانُ اللّهِ َ
عِليّ ِر ْ
سنَادٍ ُمنْقَطِعٍ عَنْ َ
سمَاعِيلِيّ َأ ْيضًا بِإِ ْ
خرَجَ الْإِ ْ
جبُنَ ِبلِسَانِهِ َويَ ِدهِ َفبِ َق ْلبِهِ } َ .وأَ ْ
َ
ل اللّهِ
ستَطِيعُ ا ْل ُم ْؤمِنُ فِيهَا أَنْ ُي َغ ّيرَ ِبيَدٍ َولَا ِبلِسَانٍ ُ .قلْت يَا رَسُو َ
س َتكُونُ َبعْدِي ِفتَنٌ لَا يَ ْ
َمرْفُوعًا { َ
ش ْيئًا ؟ قَالَ لَا إلّا
ل اللّهِ وَهَلْ ُينْقِصُ َذِلكَ إيمَا َنهُمْ َ
َو َك ْيفَ َذِلكَ ؟ قَالَ ُي ْن ِكرُونَهُ بِ ُقلُو ِبهِمْ ُ .قلْت يَا رَسُو َ
سنَادٍ
ن الصّا ِمتِ بِإِ ْ
عبَا َدةَ بْ ِ
طبَرَا ِنيّ ِب َم ْعنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ُ
خرّجَهُ ال ّ
ن الصّفَا } وَ َ
طرُ مِ ْ
َكمَا ُينْقِصُ الْقَ ْ
سبِ الِْإ ْمكَانِ وَالْقُ ْد َرةِ
علَى وُجُوبِ إ ْنكَارِ ا ْل ُم ْن َكرِ بِحَ َ
حوُهَا َدّلتْ َ
خبَارُ َونَ ْ
ضعِيفٍ َمرْفُوعًا َ .فهَ ِذهِ الْأَ ْ
َ
علَى ذَهَابِ الْإِيمَانِ مِنْ َق ْلبِهِ ,
عَليْهِ َ ,وأَنّ الِْإ ْنكَارَ بِالْ َق ْلبِ لَا بُدّ ِمنْهُ َ ,فمَنْ لَمْ ُي ْن ِكرْ َق ْلبُهُ ا ْل ُمنْ َكرَ دَلّ َ
َ
جهَادُ
جهَادُ بَِأيْدِيكُمْ ,ثُمّ الْ ِ
جهَادِ الْ ِ
عَليْهِ مِنْ الْ ِ
عَليْهِ " إنّ َأوّلَ مَا ُت ْغَلبُونَ َ
ضوَانُ اللّهِ َ
عِليّ ِر ْ
وَقَدْ قَالَ َ
علَاهُ
جعَلَ أَ ْ
جهَادُ بِ ُقلُو ِبكُمْ َ ,فمَنْ لَمْ َي ْع ِرفْ َق ْلبُهُ ا ْل َم ْعرُوفَ َو ُي ْنكِرْ َق ْلبُهُ ا ْل ُم ْن َكرَ ُن ِكسَ فَ َ
س َن ِتكُمْ ,ثُمّ الْ ِ
بَِألْ ِ
جلًا يَقُولُ َهَلكَ مَنْ لَمْ يَ ْأ ُمرْ بِا ْل َم ْعرُوفِ َولَمْ َينْهَ عَنْ
سعُو ٍد رضي ال عنه رَ ُ
سمِعَ ابْنُ مَ ْ
أَسْ َفلَهُ .وَ َ
سعُودٍ َ :هَلكَ مَنْ لَمْ َي ْع ِرفْ بِ َق ْلبِهِ ا ْل َم ْعرُوفَ وَا ْل ُم ْن َكرَ .يُشِيرُ إلَى أَنّ َم ْعرِفَةَ
ا ْل ُم ْنكَرِ .فَقَالَ ابْنُ مَ ْ
ا ْل َم ْعرُوفِ وَا ْل ُم ْن َكرِ بِالْ َق ْلبِ َف ْرضٌ لَا يَسْقُطُ عَنْ أَحَدٍ َ ,فمَنْ لَمْ َي ْعرِفْهُ َهَلكَ َ .وَأمّا الِْإ ْنكَارُ بِاللّسَانِ
ن ال ّن ِبيّ صلى ال
عمِي َرةَ عَ ْ
سنَنِ َأبِي دَاوُد عَنْ ا ْل ُع ْرسِ بْنِ َ
سبِ الطّاقَةِ .وَفِي ُ
جبُ ِبحَ َ
وَا ْليَدِ فَِإ ّنمَا يَ ِ
82
ع ْنهَا ,
شهِدَهَا َف َكرِ َههَا َكمَنْ غَابَ َ
ع ِمَلتْ الْخَطِيئَةُ فِي الَْأرْضِ كَانَ مَنْ َ
عليه وسلم قَالَ { :إذَا ُ
شهِدَ الْخَطِيئَةَ
جبٍ َ :فمَنْ َ
شهِدَهَا } .قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَ َ
ض َيهَا كَانَ َكمَنْ َ
ع ْنهَا َف َر ِ
َومَنْ غَابَ َ
ض َيهَا
ع ْنهَا َف َر ِ
جزَ عَنْ إ ْنكَارِهَا ِبلِسَانِهِ َويَ ِدهِ َ ,ومَنْ غَابَ َ
عَشهَدْهَا إذَا َ
َف َكرِ َههَا بِ َق ْلبِهِ كَانَ َكمَنْ لَمْ يَ ْ
ح ّرمَاتِ
ن الرّضَا بِالْخَطَايَا مِنْ أَ ْقبَحِ ا ْلمُ َ
علَى إ ْنكَارِهَا َولَمْ ُي ْن ِكرْهَا ,لِأَ ّ
شهِدَهَا وَقَ َدرَ َ
كَانَ َكمَنْ َ
سلِمٍ لَا يَسْقُطُ عَنْ أَحَدٍ فِي حَالٍ مِنْ
علَى كُلّ مُ ْ
َويَفُوتُ بِهِ إ ْنكَارُ الْخَطِيئَةِ بِالْ َق ْلبِ وَ ُهوَ َمرَضٌ َ
عَليْهِ بِأَنّ َق ْوَلهُمْ إ ْنكَارُ ا ْل ُم ْن َكرِ َفرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ ا ْل َبعْضُ
ن اللّهِ َ
ضوَا ُ
حوَالِ .فََأ ْف َه َمنَا َكلَامُهُ ِر ْ
الْأَ ْ
حصُلُ َت ْغيِيرُ ا ْل ُمنْ َكرِ ِب ِهمَا
ن اللّ َذيْنِ يَ ْ
سلَ ْفنَا بِأَنّ ُمرَادَهُمْ الِْإ ْنكَارُ بِا ْليَدِ وَاللّسَا ِ
علَى مَا أَ ْ
سَقَطَ عَنْ ا ْلبَاقِي َ
سلِمٍ .وَهَ ِذهِ فَائِ َدةٌ َي ْن َبغِي التّفَطّنُ َلهَا .
علَى كُلّ مُ ْ
عيْنٍ َ
َأوْ بِأَحَدِ ِهمَا َ ,وَأمّا الِْإ ْنكَارُ بِالْ َق ْلبِ فَ َفرْضُ َ
ي صلى ال عليه وسلم قَالَ { مَنْ
خرَجَ ابْنُ َأبِي ال ّد ْنيَا عَنْ َأبِي ُه َر ْي َرةَ رضي ال عنه عَنْ ال ّنبِ ّ
َوأَ ْ
حضَرَهَا } وَهَذَا ِمثْلُ
ح ّبهَا َفكََأنّهُ َ
ع ْنهَا فَأَ َ
ع ْنهَا َ ,ومَنْ غَابَ َ
ضرَ َم ْعصِيَةً َف َكرِ َههَا َفكََأنّهُ غَابَ َ
ح َ
َ
سلِمٍ فِي كُلّ حَالٍ َ .فهَذَا
علَى كُلّ مُ ْ
الّذِي َق ْبلَهُ .قَالَ الْحَافِظُ َ :ف َت َبيّنَ ِبهَذَا أَنّ الِْإ ْنكَارَ بِالْ َق ْلبِ َف ْرضٌ َ
علَى كُلّ ا ْلعَالَمِ إ ْنكَارُ مَا
جبُ َ
عَليْهِ لَِأنّهُ يَ ِ
غبَارَ َ
صرِيحٌ ِمنْهُ ِبمَا َف ِه ْمنَاهُ مِنْ َكلَامِهِ ,وَ ُهوَ ظَا ِهرٌ لَا ُ
َ
سعِيدٍ الْخُ ْد ِريّ
حمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ َأبِي َ
سلْطَانُهُ َ .و َروَى الِْإمَامُ أَ ْ
جبّارَ جَلّ شَ ْأنُهُ َو َتعَالَى ُ
ُي ْغضِبُ الْ َ
ن اللّهَ َتعَالَى َليَسْأَلُ ا ْل َعبْدَ
ل اللّ ِه صلى ال عليه وسلم يَقُولُ { إ ّ
س ِمعْت رَسُو َ
رضي ال عنه قَالَ َ
جتَهُ قَالَ يَا َربّ
حّعبْدًا ُ
حتّى يَقُولَ مَا َم َنعَك إذْ َرَأيْت ا ْل ُم ْن َكرَ أَنْ ُت ْن ِك َرهُ َ .فإِذَا لَقّنَ اللّهُ َ
َيوْمَ الْ ِقيَامَةِ َ
ل اللّهُ مَا َم َنعَك أَنْ
ج ْوتُك وَ َفرَقْت النّاسَ } َ .وَأمّا مَا تَقَدّمَ مِنْ َق ْولِهِ صلى ال عليه وسلم { َفيَقُو ُ
رَ َ
خرّجَهُ ال ّت ْرمِ ِذيّ
شيَةُ النّاسِ َفيَقُولُ إيّايَ ُك ْنتَ أَحَقّ أَنْ تَخْشَى } َ .ومَا َ
تَقُولَ فِي كَذَا َوكَذَا َفيَقُولَ خَ ْ
عِلمَهُ }
جلًا َه ْيبَ ُة النّاسِ أَنْ يَقُولَ ِبحَقّ إذَا َ
سعِيدٍ َمرْفُوعًا { َألَا لَا َي ْم َنعَنّ رَ ُ
وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ َأبِي َ
حمَدُ َوزَادَ فِيهِ { فَِإنّهُ لَا يُ َق ّربُ
خرّجَهُ الِْإمَامُ أَ ْ
شيَاءَ َف ِه ْبنَا .وَ َ
سعِيدٍ وَقَالَ قَدْ َواَللّهِ َرَأ ْينَا أَ ْ
َو َبكَى َأبُو َ
علَى أَنّ ا ْلمَانِعَ لَهُ مِنْ
حمُولَاتٌ َ
مِنْ أَجَلٍ َولَا ُيبَاعِدُ مِنْ ِرزْقٍ أَنْ يُقَالَ بِحَقّ َأوْ يُ َذ ّكرَ ِبعَظِيمٍ } َفمَ ْ
عنْهُ :
ضيَ َ
سلَامِ رحمه ال َو َر ِ
شيْخُ الْإِ ْ
خ ْوفِ ا ْلمُسْقِطِ ِللِْإ ْنكَارِ .قَالَ َ
جرّدُ ا ْل َه ْيبَةِ دُونَ الْ َ
الِْإ ْنكَارِ مُ َ
ُمرَا ُدهُ صلى ال عليه وسلم فِي َق ْولِهِ َي ْعنِي فِي الْحَدِيثِ السّابِقِ { َليْسَ َورَاءَ َذِلكَ مِنْ الْإِيمَانِ ِمثْقَالُ
حتّى يَ ْف َعلَهُ ا ْل ُم ْؤمِنُ بَلْ الِْإ ْنكَارُ
خرْدَلٍ } َأنّهُ لَمْ َيبْقَ َبعْدَ هَذَا الِْإ ْنكَارِ مَا يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ َ
حبّةِ َ
َ
خرْدَلٍ ,
حبّةُ َ
خرُ حُدُودِ الْإِيمَانِ َ ,ل ْيسَ ُمرَا ُدهُ أَنّ مَنْ لَمْ ُي ْن ِكرْ لَمْ َيكُنْ َمعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ َ
بِالْ َق ْلبِ آ ِ
جبُ
طبَقَاتٍ َ ,فكُلّ ِم ْنهُمْ َفعَلَ الْإِيمَانَ الّذِي يَ ِ
جعَلَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ َثلَاثَ َ
َوِلهَذَا قَالَ َوَل ْيسَ َورَاءَ َذِلكَ ,فَ َ
ع ِتهِمْ مَعَ ُبلُوغِ
ستِطَا َ
سبِ ا ْ
جبِ بِحَ َ
ضلُونَ فِي الْإِيمَانِ ا ْلوَا ِ
علِمَ بِ َذِلكَ أَنّ النّاسَ َيتَفَا َ
عَليْهِ .قَالَ وَ ُ
َ
83
عبْ ِد اللّ ِه رضي ال عنه َ :ك ْيفَ الَْأ ْمرُ
الْخِطَابِ إَل ْيهِمْ .ا ْن َتهَى َكلَامُهُ .وَقَالَ ا ْل َمرّو ِذيّ ُ :قلْت لَِأبِي َ
بِا ْل َم ْعرُوفِ وَال ّن ْهيُ عَنْ ا ْل ُم ْنكَرِ ؟ قَالَ بِا ْليَدِ وَاللّسَانِ َوبِالْ َق ْلبِ وَ ُهوَ َأضْ َعفُ ُ .قلْت َ :ك ْيفَ بِا ْليَدِ ؟
ص ْبيَانِ ا ْل ُكتّابِ يَ ْق َت ِتلُونَ فَ َفرّقَ َب ْي َنهُمْ .وَقَالَ فِي
علَى ِ
عبْ ِد اللّهِ َمرّ َ
قَالَ يُ َفرّقُ َب ْي َنهُمْ َ .و َرَأيْت َأبَا َ
جوَازُ الِْإ ْنكَارِ
سلَاحِ .قَالَ الْقَاضِي :وَظَا ِهرُ هَذَا َ
س ْيفِ وَال ّ
ِروَايَةِ صَالِحٍ :ال ّت ْغيِيرُ بِا ْليَدِ َل ْيسَ بِال ّ
علَى مَنْ َت َركَ مَا َي ْل َزمُهُ ِف ْعلُهُ ِبلَا عُ ْذرٍ .زَادَ فِي ِنهَايَةِ
بِا ْليَدِ إذَا لَمْ يُفْضِ إلَى الْ َقتْلِ وَالْ ِقتَالِ َ ,و ُي ْن ِكرُ َ
طلُوبَ مَعَ قُ ْد َرتِهِ
علَى مَنْ َت َركَ الِْإ ْنكَارَ ا ْلمَ ْ
عَليْهِ َو ُي ْن ِكرُ َ
جبَ الِْإ ْنكَارُ َ
ا ْل ُم ْبتَ ِدئِينَ ِ :بلَا عُ ْذرٍ ظَا ِهرٍ وَ َ
غ ْيرِ
ض ْربُ بِا ْليَدِ وَالرّجْلِ وَ َ
ج ْو ِزيّ :ال ّ
سلْطَانٍ .وَقَالَ الِْإمَامُ ابْنُ الْ َ
س ْيفٌ إلّا مَعَ ُ
عَليْهِ َ .ولَا ُي ْن ِكرُ َ
َ
علَى قَ ْدرِ
ضرُو َرةِ وَالِا ْق ِتصَارِ َ
ط ال ّ
شرْ ِ
س ْيفٍ َيجُوزُ ِللْآحَادِ بِ َ
سلَاحٍ َأوْ َ
شهَارُ ِ
َذِلكَ ِممّا َل ْيسَ فِيهِ إ ْ
علَى الصّحِيحِ ِل َئلّا ُيؤَ ّديَ
سلْطَانِ َ
سلَاحَ َفلَا بُدّ مِنْ إذْنِ ال ّ
ش ِهرُونَ ال ّ
عوَانٍ يُ ْ
حتَاجَ إلَى أَ ْ
الْحَاجَةِ ,فَإِنْ ا ْ
إلَى الْ ِفتَنِ وَ َهيَجَانِ الْفَسَادِ وَا ْلمِحَنِ . .
وفي التاج المذهب :
علَمْ أَنّ الَْأ ْمرَ بِا ْل َم ْعرُوفِ وَالنّ ْهيَ
( َ ( ) 473فصْلٌ ) فِي الَْأ ْمرِ بِا ْل َم ْعرُوفِ وَال ّن ْهيِ عَنْ ا ْل ُم ْن َكرِ .ا ْ
شرْعًا ; لَِأ ّن ُهمَا مِنْ وَظَا ِئفِ الَْأ ْن ِبيَاءِ عليهم
شعَا ِئرِ الدّينِ َووُجُو ُبهَا َم ْعلُومٌ َ
عَنْ ا ْل ُم ْنكَرِ مِنْ أَعْظَمِ َ
عمِ َدةِ هَذَا الدّينِ وَال ّركْنَانِ ا ْل َكبِيرَانِ مِنْ َأ ْركَانِهِ َوكُلّ مَنْ قَامَ
السلم وَ ُهمَا ا ْل ِعمَادَانِ ا ْلعَظِيمَانِ مِنْ أَ ْ
عُلوّ ِه ّمتِهِ
جنَانِهِ َو َك ْث َرةِ إحْسَانِهِ وَ ُ
علَى ُق ّوةِ إيمَانِهِ َو َثبَاتِ َ
ج َعَل ُهمَا دِينَهُ فَ َذِلكَ دَالّ َ
ِب ِهمَا مِنْ ا ْل ُعَلمَاءِ وَ َ
سرِي َرتِهِ وَحُسْنِ سِي َرتِهِ َولَا َيتّسِعُ ِلمَا َورَدَ فِي ِهمَا مِنْ الْآيَاتِ الْ ُقرْآ ِنيّةِ وَالْأَحَادِيثِ ال ّن َبوِيّةِ إلّا
وَطِيبِ َ
خ ْيرِ َويَ ْأ ُمرُونَ بِا ْل َم ْعرُوفِ
ستَقِلّ َفمِنْ الَْأوّلِ قوله تعالى { َو ْل َتكُنْ ِم ْنكُمْ ُأمّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْ َ
ُم َؤّلفٌ مُ ْ
جتْ لِلنّاسِ َت ْأ ُمرُونَ
خرِ َ
خ ْيرَ ُأمّةٍ أُ ْ
َو َي ْن َهوْنَ عَنْ ا ْل ُم ْن َكرِ َوأُوَل ِئكَ هُمْ ا ْلمُ ْفلِحُونَ } وَقَالَ َتعَالَى { ُك ْنتُمْ َ
بِا ْل َم ْعرُوفِ َو َت ْن َهوْنَ عَنْ ا ْل ُم ْنكَرِ } وَقَالَ َتعَالَى { خُذْ ا ْلعَ ْفوَ َو ْأ ُمرْ بِا ْل ُع ْرفِ َوأَعْرِضْ عَنْ الْجَا ِهلِينَ }
علَى لِسَانِ دَاوُد وَعِيسَى ابْنِ َم ْريَمَ َذِلكَ ِبمَا
سرَائِيلَ َ
.وَقَالَ َتعَالَى { ُلعِنَ الّذِينَ كَ َفرُوا مِنْ َبنِي إ ْ
غ ْيرُ َذِلكَ مِنْ
عصَوْا َوكَانُوا َي ْعتَدُونَ كَانُوا لَا َي َتنَا َهوْنَ عَنْ ُم ْن َكرٍ َف َعلُوهُ َل ِب ْئسَ مَا كَانُوا يَ ْف َعلُونَ } وَ َ
َ
س ِمعْت رَسُولَ
ي رضي ال عنه قَالَ َ
سعِيدٍ الْخُ ْد ِر ّ
الْآيَاتِ َ ,ومِنْ الثّانِي أَحَادِيثُ " الَْأوّلُ " عَنْ َأبِي َ
ستَطِعْ
اللّهِ صلى ال عليه وآله وسلم يَقُولُ { " :مَنْ َرأَى ِم ْنكُمْ ُم ْن َكرًا َف ْل ُي َغ ّي ْرهُ ِبيَ ِدهِ َفإِنْ لَمْ يَ ْ
سعُودٍ
سلِمٌ ( .الثّانِي ) عَنْ َأبِي مَ ْ
ض َعفُ الْإِيمَانِ } " َروَاهُ مُ ْ
ستَطِعْ َفبِ َق ْلبِهِ وَ َذِلكَ أَ ْ
َف ِبلِسَانِهِ َفإِنْ لَمْ يَ ْ
رضي ال عنه أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى ال عليه وآله وسلم قَالَ { :مَا مِنْ َن ِبيّ َب َعثَهُ اللّهُ فِي ُأمّةٍ
خُلفُ مِنْ
س ّنتِهِ َويَ ْقتَدُونَ بَِأ ْم ِرهِ ثُمّ إ ّنهَا تَ ْ
حوَا ِريّونَ َوأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِ ُ
َق ْبلِي إلّا كَانَ لَهُ مِنْ ُأ ّمتِهِ َ
84
خلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَ ْف َعلُونَ َويَ ْف َعلُونَ مَا لَا ُي ْؤ َمرُونَ َفمَنْ جَاهَدَهُمْ ِبيَ ِدهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َومَنْ
َبعْدِهِمْ ُ
حبّةُ
جَاهَدَهُمْ ِبلِسَانِهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َومَنْ جَاهَدَهُمْ بِ َق ْلبِهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َل ْيسَ َورَاءَ َذِلكَ مِنْ الْإِيمَانِ َ
ن ال ّن ِبيّ صلى ال عليه
سلِمٌ َأ ْيضًا ( .الثّاِلثُ ) عَنْ حُ َذيْفَ َة رضي ال عنه عَ ْ
خرْدَلٍ } " َروَاهُ مُ ْ
َ
ن اللّهُ أَنْ
شكَ ّ
وآله وسلم " قَالَ { َوَالّذِي نَفْسِي ِبيَ ِدهِ َلتَ ْأ ُمرُنّ بِا ْل َم ْعرُوفِ َو َت ْن َهوْنَ عَنْ ا ْل ُم ْنكَرِ َأوْ َليُو ِ
ستَجَابُ َلكُمْ } " َروَا ُه ال ّت ْرمِ ِذيّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
عَل ْيكُمْ عِقَابًا ِمنْهُ ثُمّ تَدْعُونَهُ َفلَا يُ ْ
َي ْب َعثَ َ
وَالْأَحَادِيثُ فِي َذِلكَ َكثِي َرةٌ .
******************
لماذا يجب جهاد الحكام أول ؟
أقول :يجب جهادهم للسباب التالية :
.1محاربتهم شريعة ال في كل مكان
.2مطاردة الدعاة المخلصين وقتلهم وتعذيبهم أو تشريدهم في الرض
.3فرض مناهج الكفر والضلل على المسلمين
.4تحكيم شرائع الجاهلية
.5إقصاء منهج ال تعالى من الحياة
.6التلعب بدين ال
.7التآمر على المسلمين
.8تولي الكفار والفجار
.9نهب خيرات المسلمين
.10تسليم المسلمين للكفار
.11التخلي عن الجهاد في سبيل ال
.12حماية حدود دولة اليهود
.13منع أية مساعدة للمجاهدين ووصفهم بالرهابيين والمجرمين والشاذين
.14البطش والتنكيل بالشعوب والجيوش قوات المن ليس لحماية الحدود بل لحماية
العروش
وغير ذلك من أسباب لو وجد سبب واحد لوجب جهادهم فما ل يتم الواجب غل به فهو
واجب وقد عمل عماد الدين الزنكي ونور الدين محمود وصلح الدين اليوبي أكثر من
85
ستين سنة مجاهدين الدول المتآمرة التي كانت تحيط بفلسطين وعملت اتفاقيات من
الصليبيين
ولم يتوانوا عن جهادها بحجة أنهم مسلمون وموحدون بل ليسوا مسلمين ول موحدين حقيقة
فأقل وصف لهم منافقين وقد كان التتار والمغول مثلهم كذلك
قال شيخ السلم ابن تيمية :
قتال التتار ومن نحا نحوهم وسار بركبهم
- 6 - 777مَسَْألَةٌ :
علَى َبيَانِ الْحَقّ ا ْل ُمبِينِ ,
ن رضي ال عنهم أجمعين َ ,وأَعَا َنهُمْ َ
مَا تَقُولُ السّا َدةُ ا ْل ُعَلمَاءُ َأ ِئمّةُ الدّي ِ
غ َمرَاتِ الْجَا ِهلِينَ وَالزّا ِئغِينَ فِي َ :ه ُؤلَاءِ ال ّتتَارِ الّذِينَ يَقْ ُدمُونَ إلَى الشّامِ َم ّرةً َبعْدَ َم ّرةٍ وَقَدْ
شفِ َ
َوكَ ْ
عَليْهِ فِي َأوّلِ الَْأ ْمرِ َفهَلْ
علَى ا ْلكُ ْفرِ الّذِي كَانُوا َ
سلَامِ َولَمْ ُيبْقُوا َ
سبُوا إلَى الْإِ ْ
شهَا َد َتيْنِ ,وَا ْنتَ َ
َت َكّلمُوا بِال ّ
حكْمُ مَنْ كَانَ
علَى ِقتَاِلهِمْ َ ,ومَا مَذَا ِهبُ ا ْل ُعَلمَاءِ فِي َذِلكَ ؟ َومَا ُ
جبُ ِقتَاُلهُمْ أَمْ لَا ؟ َومَا الْحُجّةُ َ
يَ ِ
خرَجُوهُ َم َعهُمْ
حكْمُ مَنْ قَدْ أَ ْ
غ ْيرِهِمْ ؟ َومَا ُ
سِلمِينَ الُْأ َمرَاءِ وَ َ
س َكرِ ا ْلمُ ْ
َم َعهُمْ ِممّنْ يَ ِفرّ إَل ْيهِمْ مِنْ عَ ْ
سبِينَ إلَى ا ْل ِعلْمِ ,وَالْفِقْهِ ,وَالْفَ ْقرِ ,وَالّنصُوصِ
س َكرِهِمْ مِنْ ا ْل ُم ْنتَ ِ
حكْمُ مَنْ َيكُونُ مَعَ عَ ْ
ُم ْكرَهًا ؟ َومَا ُ
سِلمُونَ َو ِكلَا ُهمَا ظَالِمٌ َ ,فلَا
سِلمُونَ وَا ْلمُقَا ِتلُونَ َلهُمْ مُ ْ
حوِ َذِلكَ َ .ومَا يُقَالُ فِيمَنْ زَعَمَ َأ ّنهُمْ مُ ْ
َ ,ونَ ْ
جبُ
يُقَاتِلُ مَعَ أَحَدِ ِهمَا .وَفِي َقوْلِ مَنْ زَعَمَ َأ ّنهُمْ يُقَا َتلُونَ َكمَا تُقَاتَلُ ا ْل ُبغَاةُ ا ْل ُمتََأ ّولُونَ َ ,ومَا ا ْلوَا ِ
سِلمِينَ مِنْ أَهْلِ ا ْل ِعلْمِ وَالدّينِ َوأَهْلِ الْ ِقتَالِ َوأَهْلِ الَْأ ْموَالِ فِي َأ ْمرِهِمْ .أَ ْفتُونَا فِي
جمَاعَةِ ا ْلمُ ْ
علَى َ
َ
علَى َأ ْك َثرِهِمْ
سِلمِينَ ,بَلْ َ
علَى َكثِيرٍ مِنْ ا ْلمُ ْ
شكَلَ َ
ج ِوبَةٍ َمبْسُوطَةٍ شَا ِفيَةٍ ,فَإِنّ َأ ْمرَهُمْ قَدْ أَ ْ
َذِلكَ بِأَ ْ
حكْ ِم اللّهِ َتعَالَى َورَسُولِهِ صلى ال عليه وسلم فِي
حوَاِلهِمْ َ ,وتَا َرةً ِلعَدَمِ ا ْل ِعلْمِ بِ ُ
تَا َرةً ِلعَدَمِ ا ْل ِعلْمِ بَِأ ْ
س ُبنَا َو ِنعْمَ
شيْءٍ قَدِيرٌ وَ ُهوَ حَ ْ
علَى كُلّ َ
ح َمتِهِ إنّهُ َ
خ ْيرٍ بِقُ ْد َرتِهِ َورَ ْ
سرُ ِلكُلّ َ
ِم ْثِلهِمْ َ ,واَللّهُ ا ْل ُميَ ّ
سنّةِ رَسُولِهِ ,
ب اللّهِ ,وَ ُ
جبُ ِقتَالُ َه ُؤلَاءِ ِب ِكتَا ِ
حمْدُ ِللّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ َ ,نعَمْ يَ ِ
جوَابُ :الْ َ
ا ْل َوكِيلُ ؟ الْ َ
صلَيْنِ :أَحَدُ ُهمَا :ا ْل َم ْعرِفَةُ بِحَاِلهِمْ .وَالثّانِي َ :م ْعرِفَةُ
علَى َأ ْ
سِلمِينَ ,وَهَذَا َم ْب ِنيّ َ
وَاتّفَاقِ َأ ِئمّةِ ا ْلمُ ْ
شرْهُمْ َي ْعلَمُ َذِلكَ
شرَ الْ َقوْمَ ِب ِعلْمِ حَاِلهِمْ َ ,ومَنْ لَمْ ُيبَا ِ
حكْ ِم اللّهِ فِي ِم ْثِلهِمْ َ .فَأمّا الَْأوّلُ َ :فكُلّ مَنْ بَا َ
ُ
خبَا ِر الصّادِقِينَ َ ,ونَحْنُ نَ ْذ ُكرُ جُلّ ُأمُورِهِمْ َبعْدَ أَنْ ُن َبيّنَ الَْأصْلَ
خبَارِ ا ْل ُم َتوَا ِت َرةِ َ ,وأَ ْ
ِبمَا َبَلغَهُ مِنْ الْأَ ْ
شرِيعَةٍ
جتْ عَنْ َ
خرَ َ
سلَا ِميّةِ َفنَقُولُ :كُلّ طَائِفَةٍ َ
شرِيعَةِ الْإِ ْ
ختَصّ ِب َم ْعرِ َفتِهِ أَهْلُ ا ْل ِعلْمِ بِال ّ
خرَ الّذِي يَ ْ
الْآ َ
سِلمِينَ َ ,وإِنْ َت َكّل َمتْ
جبُ ِقتَاُلهَا بِاتّفَاقِ َأ ِئمّةِ ا ْلمُ ْ
سلَامِ الظّا ِه َرةِ ا ْل ُمتَوَا ِت َرةِ فَِإنّهُ يَ ِ
شرَائِعِ الْإِ ْ
مِنْ َ
صلّوا ,
حتّى ُي َ
جبَ ِقتَاُلهُمْ َ
خمْسِ َ ,و َ
صَلوَاتِ الْ َ
شهَا َد َتيْنِ وَا ْمتَ َنعُوا عَنْ ال ّ
شهَا َد َتيْنِ َ ,فإِذَا أَ َقرّوا بِال ّ
بِال ّ
86
ش ْهرِ
صيَامِ َ
ن ِ
حتّى ُيؤَدّوا ال ّزكَاةَ َ ,وكَ َذِلكَ إنْ ا ْم َت َنعُوا عَ ْ
جبَ ِقتَاُلهُمْ َ
ن ال ّزكَاةِ ,وَ َ
َوإِنْ ا ْم َت َنعُوا عَ ْ
سرِ ,
حشِ َ ,أ ْو ال ّزنَا َ ,أوْ ا ْل َميْ ِ
حرِيمِ الْ َفوَا ِ
َر َمضَانَ َ ,أوْ حَجّ ا ْل َب ْيتِ ا ْل َعتِيقِ َ ,وكَ َذِلكَ إنْ ا ْم َت َنعُوا عَنْ تَ ْ
حكْمِ فِي ال ّدمَاءِ ,
شرِيعَةِ َوكَ َذِلكَ إنْ ا ْم َت َنعُوا عَنْ الْ ُ
ح ّرمَاتِ ال ّ
غ ْيرِ َذِلكَ مِنْ ُم َ
خ ْمرِ َ ,أوْ َ
َأوْ الْ َ
سنّةِ َ ,وكَ َذِلكَ إنْ ا ْم َت َنعُوا عَنْ الَْأ ْمرِ
حكْمِ ا ْل ِكتَابِ وَال ّ
حوِهَا بِ ُ
عرَاضِ ,وَالَْأ ْبضَاعِ َ ,ونَ ْ
وَالَْأ ْموَالِ وَالْأَ ْ
ج ْزيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
سِلمُوا َو ُيؤَدّوا الْ ِ
جهَادِ ا ْلكُفّارِ إلَى أَنْ يُ ْ
بِا ْل َم ْعرُوفِ وَال ّن ْهيِ عَنْ ا ْل ُم ْنكَرِ ,وَ ِ
سَلفِ الُْأمّةِ َوَأ ِئ ّم ِتهَا ِمثْلُ :
سنّةِ ,وَا ّتبَاعِ َ
ظ َهرُوا ا ْلبِدَعَ ا ْلمُخَالِفَةَ ِل ْل ِكتَابِ وَال ّ
غرُونَ َ .وكَ َذِلكَ إنْ أَ ْ
صَا ِ
سمَاءِ اللّهِ َوصِفَاتِهِ َ ,أوْ ال ّتكْذِيبَ بِقَ َد ِرهِ
سمَا ِء اللّهِ وَآيَاتِهِ َ ,أوْ ال ّتكْذِيبَ بِأَ ْ
ظ ِهرُوا الِْإلْحَادَ فِي أَ ْ
أَنْ يُ ْ
طعْنَ فِي
خلَفَا ِء الرّاشِدِينَ َ ,أوْ ال ّ
عهْدِ الْ ُ
علَى َ
سِلمِينَ َ
جمَاعَةُ ا ْلمُ ْ
عَليْهِ َ
وَ َقضَائِهِ َأوْ ال ّتكْذِيبَ ِبمَا كَانَ َ
حتّى
سِلمِينَ َ
جرِينَ وَالَْأ ْنصَارِ َوَالّذِينَ ا ّت َبعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ َأوْ مُقَا َتلَةِ ا ْلمُ ْ
السّابِقِينَ الَْأ ّولِينَ مِنْ ا ْل ُمهَا ِ
ل اللّهُ َتعَالَى :
سلَامِ َوَأ ْمثَالِ هَ ِذهِ الُْأمُورِ قَا َ
شرِيعَةِ الْإِ ْ
خرُوجَ عَنْ َ
جبُ الْ ُ
ع ِتهِمْ اّلتِي تُو ِ
خلُوا فِي طَا َ
يَدْ ُ
حتّى لَا َتكُونَ ِف ْتنَةٌ َو َيكُونَ الدّينُ ُكلّهُ ِللّهِ } فَإِذَا كَانَ َب ْعضُ الدّينِ ِللّهِ َو َب ْعضُهُ ِل َغ ْيرِ اللّهِ
{ وَقَا ِتلُوهُمْ َ
حتّى َيكُونَ الدّينُ ُكلّهُ ِللّهِ .وَقَالَ َتعَالَى { :يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا اتّقُوا اللّهَ وَ َذرُوا مَا
جبَ الْ ِقتَالُ َ
وَ َ
ح ْربٍ مِنْ اللّهِ َورَسُولِهِ } وَهَ ِذهِ الْآيَةُ َن َزَلتْ
بَ ِقيَ مِنْ ال ّربَا إنْ ُك ْنتُمْ ُم ْؤ ِمنِينَ َ ,فإِنْ لَمْ تَ ْف َعلُوا فَأْ َذنُوا بِ َ
صّلوْا َوصَامُوا َ ,لكِنْ كَانُوا َي َتعَا َملُونَ بِال ّربَا َ ,فَأ ْنزَلَ اللّهُ
سَلمُوا َو َ
فِي أَهْلِ الطّا ِئفِ َ ,وكَانُوا قَدْ أَ ْ
ح ْربٍ مِنْ
ن ال ّربَا ,وَقَالَ { :فَإِنْ لَمْ تَ ْف َعلُوا فَأْ َذنُوا بِ َ
هَ ِذهِ الْآيَةَ َوَأ َمرَ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ فِيهَا ِب َت ْركِ مَا بَ ِقيَ مِ ْ
ح ّرمَاتِ
خرُ ا ْلمُ َ
ن صَحِيحٌ ,وَال ّربَا آ ِ
اللّهِ َورَسُولِهِ } وَقَدْ ُق ِرئَ { فَأُ ِذنُوا } وَ { آ َذنُوا } َو ِكلَا ا ْل َم ْع َن َييْ ِ
عنْهُ مُحَا ِربًا ِللّهِ َورَسُولِهِ
فِي الْ ُقرْآنِ ,وَ ُهوَ مَا يُوجَدُ ِب َترَاضِي ا ْل ُم َتعَا ِملِينَ ,فَإِذَا كَانَ مَنْ لَمْ َي ْنتَهِ َ
حرِيمًا .وَقَدْ
حرِيمًا َوأَعْظَمُ تَ ْ
سبَقُ تَ ْ
ح ّرمَاتِ اّلتِي ِهيَ أَ ْ
غ ْي ِرهِ مِنْ ا ْلمُ َ
َف َك ْيفَ ِبمَنْ لَمْ َي ْنتَهِ عَنْ َ
عنْدَ أَهْلِ ا ْلعِلْمِ
خوَارِجِ ,وَ ِهيَ ُم َتوَا ِت َرةٌ ِ
ي صلى ال عليه وسلم الْأَحَادِيثُ بِ ِقتَالِ الْ َ
ستَفَاضَ عَنْ ال ّن ِب ّ
اْ
سلِمٌ فِي
ش َرةِ َأوْجُهٍ ,وَقَدْ َروَاهَا مُ ْ
خوَارِجِ مِنْ عَ َ
حمَدُ :صَحّ الْحَدِيثُ فِي الْ َ
بِالْحَدِيثِ .قَالَ الِْإمَامُ أَ ْ
سهْلِ بْنِ
سعِيدٍ الْخُ ْد ِريّ ,وَ َ
عِليّ َ ,وَأبِي َ
صَحِيحِهِ َ ,و َروَى ا ْلبُخَا ِريّ ِم ْنهَا َثلَاثَةَ َأوْجُهٍ :حَدِيثَ َ
ل صلى ال عليه وسلم فِي صِ َف ِتهِمْ :
خرُ ُم َتعَدّ َدةٌ .وَقَدْ قَا َ
طرُقٌ أُ َ
سنَنِ ,وَا ْلمَسَانِيدِ ُ
ح َن ْيفٍ ,وَفِي ال ّ
ُ
صيَا ِمهِمْ ,وَ ِقرَا َءتَهُ مَعَ ِقرَا َء ِتهِمْ ,يَ ْقرَءُونَ
صيَامَهُ مَ َع ِ
صلَا ِتهِمْ َ ,و ِ
صلَاتَهُ مَ َع َ
{ يَحْ ِقرُ أَحَ ُدكُ ْم َ
ن ال ّر ِميّةِ َ ,أ ْي َنمَا لَقِي ُتمُوهُمْ
سهْمُ مِ ْ
سلَامِ َكمَا َي ْمرُقُ ال ّ
جرَهُمْ َ ,ي ْمرُقُونَ مِنْ الْإِ ْ
حنَا ِ
الْ ُقرْآنَ لَا يُجَا ِوزُ َ
عنْ َد اللّهِ ِلمَنْ َق َتَلهُمْ َيوْمَ الْ ِقيَامَةِ َ ,لئِنْ أَ ْد َركْتهمْ لَأَ ْق ُتَل ّنهُمْ َقتْلَ عَادٍ } .
جرًا ِ
فَا ْق ُتلُوهُمْ َ ,فإِنّ فِي َق ْتِلهِمْ أَ ْ
سَلفُ
علَى ِقتَاِلهِمْ َ
عِليّ بْنُ َأبِي طَاِلبٍ ِبمَنْ َمعَهُ مِنْ الصّحَابَةِ وَاتّفَقَ َ
وَ َه ُؤلَاءِ قَا َتَلهُمْ َأمِيرُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َ
87
ن الصّحَابَةَ
جمَلِ َوصِفّينَ ,فَإِ ّ
الُْأمّةِ َ ,وَأ ِئ ّم ُتهَا لَمْ َي َتنَازَعُوا فِي ِقتَاِلهِمْ َكمَا َتنَازَعُوا فِي الْ ِقتَالِ َيوْمَ الْ َ
عِليّ رضي ال عنه ,وَ َقوْمٌ قَا َتلُوا مَعَ مَنْ
صنَافٍ َ :قوْمٌ قَا َتلُوا مَعَ َ
كَانُوا فِي ِقتَالِ الْ ِف ْتنَةِ َثلَاثَةُ َأ ْ
خوَارِجُ َفلَمْ َيكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ
قَاتَلَ ,وَ َقوْمٌ َقعَدُوا عَنْ الْ ِقتَالِ لَمْ يُقَا ِتلُوا ا ْلوَاحِ َدةَ مِنْ الطّائِ َف َتيْنِ َ .وَأمّا الْ َ
سعِيدٍ أَنّ ال ّن ِبيّ
ن الصّحَابَةِ .وَفِي الصّحِيحِ :عَنْ َأبِي َ
مِنْ الصّحَابَةِ َولَا َنهَى عَنْ ِقتَاِلهِمْ أَحَدٌ مِ ْ
سِلمِينَ تَ ْق ُتُلهُمْ َأ ْولَى الطّائِ َف َتيْنِ
علَى حِينِ ُفرْقَةٍ مِنْ ا ْلمُ ْ
صلى ال عليه وسلم قَالَ َ { :ت ْمرُقُ مَارِقَةٌ َ
عِليّا
بِالْحَقّ } .وَفِي لَفْظٍ { :أَ ْدنَى الطّائِ َف َتيْنِ إلَى الْحَقّ } َ .ف ِبهَذَا الْحَدِيثِ الصّحِيحِ َث َبتَ أَنّ َ
سلَامِ
َوأَصْحَابَهُ كَانُوا أَ ْق َربَ إلَى الْحَقّ مِنْ ُمعَا ِويَةَ َوَأصْحَابِهِ َ ,وأَنّ ِت ْلكَ ا ْلمَارِقَةَ اّلتِي َمرَ َقتْ مِنْ الْإِ ْ
ي صلى ال عليه وسلم بِ ِقتَالِ هَ ِذهِ ا ْلمَارِقَةِ َ ,وَأكّدَ
حكْمَ إحْدَى الطّائِ َف َتيْنِ ,بَلْ َأ َمرَ ال ّن ِب ّ
ح ْك ُمهَا ُ
َل ْيسَ ُ
عنْهُ فِي
الَْأ ْمرَ بِ ِقتَاِلهَا َ ,ولَمْ يَ ْأ ُمرْ بِ ِقتَالِ إحْدَى الطّائِ َف َتيْنِ َ ,كمَا َأ َمرَ بِ ِقتَالِ هَ ِذهِ ,بَلْ قَدْ َث َبتَ َ
صلِحُ اللّهُ بِهِ َبيْنَ
س ُي ْ
سيّدٌ وَ َ
الصّحِيحِ :مِنْ حَدِيثِ َأبِي َب ْك َرةَ َأنّهُ قَالَ ِللْحَسَنِ { :إنّ ا ْبنِي هَذَا َ
صلَحَ اللّهُ بِهِ َبيْنَ الطّائِ َف َتيْنِ ,
عَليْهِ ِبمَا َأ ْ
سِلمِينَ } َ .فمَدَحَ الْحَسَنَ َوَأ ْثنَى َ
طَائِ َف َتيْنِ عَظِي َم َتيْنِ مِنْ ا ْلمُ ْ
ختَارَ الَْأصْلَ وَحَقَنَ ال ّدمَاءَ مَعَ ُنزُولِهِ عَنْ الَْأ ْمرِ َ ,فَلوْ كَانَ الْ ِقتَالُ
حِينَ َت َركَ الْ ِقتَالَ وَقَدْ بُويِعَ لَهُ وَا ْ
عنْهُ .
عَليْهِ ِب َت ْركِ مَا َأ َم َر اللّهُ بِهِ وَ ِفعْلِ مَا َنهَى اللّهُ َ
مَ ْأمُورًا بِهِ لَمْ َيمْدَحْ الْحَسَنَ َو ُي ْثنِي َ
عِليّ َيوْمَ
طرِيقَانِ ِ :م ْنهُمْ مَنْ َيرَى ِقتَالَ َ
ستَحِقّ الْ ِقتَالَ مِنْ أَهْلِ الْ ِق ْبلَةِ َ
وَا ْلعَُلمَاءُ َلهُمْ فِي ِقتَالِ مَنْ يَ ْ
جعَلُ ِقتَالَ َأبِي َب ْكرٍ
جمَلِ َ ,وصِفّينَ ُ ,كلّهُ مِنْ بَابِ ِقتَالِ أَهْلِ ا ْل َب ْغيِ َ ,وكَ َذِلكَ يَ ْ
حرُورَاءَ َ ,و َيوْمَ الْ َ
َ
سبِينَ إلَى الْ ِقبْلَةِ َ ,كمَا َذ َكرَ َذِلكَ مَنْ َذ َك َرهُ
ِلمَا ِنعِي ال ّزكَاةِ َ ,وكَ َذِلكَ ِقتَالُ سَا ِئرِ مَنْ قُوتِلَ مِنْ ا ْل ُم ْنتَ ِ
غ ْيرِهِمْ ,وَهُمْ ُمتّفِقُونَ
حمَدَ وَ َ
حنِيفَةَ ,وَالشّا ِف ِعيّ َ ,ومَنْ وَافَ َقهُمْ مِنْ َأصْحَابِ أَ ْ
مِنْ َأصْحَابِ َأبِي َ
ن الصّحَابَةَ َليْسُوا فُسّاقًا بَلْ هُمْ عُدُولٌ .فَقَالُوا :إنّ أَهْلَ ا ْل َب ْغيِ عُدُولٌ مَعَ ِقتَاِلهِمْ ,وَهُمْ
علَى أَ ّ
َ
غ ْي ِرهِ .فَذَ َهبُوا إلَى
ج َتهِدِينَ فِي الْ ُفرُوعِ ,وَخَالَ َفتْ فِي َذِلكَ طَائِفَةٌ كَابْنِ عَقِيلٍ وَ َ
طئُونَ خَطَأَ ا ْلمُ ْ
مُخْ ِ
ظرُوا إلَى مَنْ عَ ُد ّوهُ مِنْ أَهْلِ ا ْل َب ْغيِ فِي َز َم ِنهِمْ َ ,ف َرَأوْهُمْ فُسّاقًا َ ,ولَا
تَفْسِيقِ أَهْلِ ا ْل َب ْغيِ ,وَ َه ُؤلَاءِ نَ َ
ق الصّحَابَةَ َبعْضُ أَهْلِ الْأَ ْهوَاءِ مِنْ ا ْل ُم ْع َت ِزلَةِ
خلُونَ الصّحَابَةَ فِي َذِلكَ َ ,وِإ ّنمَا يُفَسّ ُ
َر ْيبَ َأ ّنهُمْ لَا يُدْ ِ
خوَارِجِ وَال ّروَافِضِ َوَل ْيسَ َذِلكَ مِنْ مَذْ َهبِ الَْأ ِئمّةِ
حوِهِمْ َ ,كمَا ُيكَ ّفرُهُمْ َبعْضُ أَهْلِ الْأَ ْهوَاءِ مِنْ الْ َ
َونَ ْ
جمَاعَةِ َ ,ولَا يَقُولُونَ :إنّ َأ ْموَاَلهُمْ َم ْعصُومَةٌ َكمَا كَا َنتْ َ ,ومَا كَانَ ثَا ِبتًا
سنّةِ وَالْ َ
وَالْفُ َقهَاءِ أَهْلِ ال ّ
ج ْمهُورَ ا ْل ُعَلمَاءِ يَقُولُونَ :
حتّى إنّ ُ
ضمَنْ َ ,
حبِهِ َ ,ومَا ُأ ْتِلفَ فِي حَالِ الْ ِقتَالِ لَمْ ُي ْ
ِب َع ْينِهِ رُدّ إلَى صَا ِ
ل اللّهِ صلى ال
ضمَنُ لَا َه ُؤلَاءِ َولَا َه ُؤلَاءِ َ .كمَا قَالَ الزّهْ ِريّ :وَ َق َعتْ الْ ِف ْتنَةُ َوَأصْحَابُ رَسُو ِ
لَا َي ْ
ج َمعُوا أَنّ كُلّ مَالٍ َأوْ دَمٍ ُأصِيبَ ِبتَ ْأوِيلِ الْ ُقرْآنِ فَِإنّهُ هَ َدرٌ ,وَهَلْ َيجُوزُ
عليه وسلم ُم َتوَا ِفرُونَ َ ,فأَ ْ
88
حمَدَ َيجُوزُ
ج َهيْنِ فِي مَذْ َهبِ أَ ْ
علَى وَ ْ
ضرُورَةٌ َ
ك َ
ح ْر ِبهِمْ إذَا لَمْ َيكُنْ إلَى َذِل َ
حهِمْ فِي َ
سلَا ِ
س َتعَانَ بِ ِ
أَنْ يُ ْ
سرِهِمْ وَا ّتبَاعِ مُ ْد ِبرِهِمْ
خ َتلَفُوا فِي َقتْلِ أُ َ
حنِيفَةَ ,وَا ْ
وَا ْل َمنْعُ َقوْلُ الشّا ِف ِعيّ وَالرّخْصَةُ َقوْلُ َأبِي َ
حنِيفَةَ َ ,و َم َنعَهُ الشّا ِف ِعيّ ,
ج ّوزَ َذِلكَ َأبُو َ
جئُونَ إَل ْيهَا ,فَ َ
حهِمْ إذَا كَانَ َلهُمْ ِفئَةٌ َيلْ َ
جرِي ِ
علَى َ
وَالتّذْفِيفِ َ
حمَدَ وَفِي مَذْ َهبِهِ وَجْهٌ َأنّهُ ُي ّتبَعُ مُ ْد ِبرُهُمْ مِنْ َأوّلِ الْ ِقتَالِ َ ,وَأمّا إذَا لَمْ
شهُورُ فِي مَذْ َهبِ أَ ْ
وَ ُهوَ ا ْلمَ ْ
غ ْي ُرهُ عَنْ َم ْروَانَ بْنِ
سعِيدٌ وَ َ
جرِيحٍ َ ,كمَا َروَاهُ َ
علَى َ
َيكُنْ َلهُمْ ِفئَةٌ َ ,فلَا يُ ْقتَلُ أَسِيرٌ َ ,ولَا يُذَ ّففُ َ
غلَقَ
جرِيحٍ َومَنْ أَ ْ
علَى َ
جمَلِ ,لَا يُ ْق َتلَنّ مُ ْد ِبرٌ َ ,ولَا يُ َذ ّففُ َ
ج صَارِخٌ َ ,ل َعلّهُ َيوْمَ الْ َ
خرَ َ
حكَمِ قَالَ َ :
الْ َ
طرِيقَةَ فَقَدْ َي َتوَهّمُ أَنّ َه ُؤلَاءِ ال ّتتَارَ
سَلكَ هَ ِذهِ ال ّ
سلَاحَ َف ُهوَ آمِنٌ َ .فمَنْ َ
بَابَهُ َف ُهوَ آمِنٌ َ ,ومَنْ َألْقَى ال ّ
حكْمِ
حكَامِ َ ,كمَا أَدْخَلَ مَنْ أُدْخِلَ فِي هَذَا الْ ُ
حكُمُ فِيهِمْ ِب ِمثْلِ هَ ِذهِ الْأَ ْ
مِنْ أَهْلِ ا ْل َب ْغيِ ا ْل ُمتََأ ّولِينَ َويَ ْ
س ُن َبيّنُ فَسَادَ هَذَا التّوَهّمِ إنْ شَاءَ اللّهُ َتعَالَى .
خوَارِجَ وَ َ
مَا ِنعِي ال ّزكَاةِ وَالْ َ
جمَلِ َوصِفّينَ ,
حوِهِمْ َ :ليْسَ كَ ِقتَالِ أَهْلِ الْ َ
خوَارِجِ َ ,ونَ ْ
وَالطّرِيقَةُ الثّا ِنيَةُ أَنّ ِقتَالَ مَا ِنعِي ال ّزكَاةِ ,وَالْ َ
سنّةِ
عتِقَادِ أَهْلِ ال ّ
ج ْمهُورِ الَْأ ِئمّةِ ا ْل ُمتَقَ ّدمِينَ وَ ُهوَ الّذِي يَ ْذ ُكرُونَهُ فِي ا ْ
وَهَذَا ُهوَ ا ْل َمنْصُوصُ عَنْ ُ
غ ْي ِرهِ ,
حمَدَ وَ َ
غ ْي ِرهِ َ ,ومَذْ َهبُ َأ ِئمّةِ الْحَدِيثِ كَأَ ْ
جمَاعَةِ ,وَ ُهوَ مَذْ َهبُ أَهْلِ ا ْلمَدِينَةِ َ :كمَاِلكٍ ,وَ َ
وَالْ َ
غنِيمَةَ
حتّى فِي الَْأ ْموَالِ فَإِنّ ِم ْنهُمْ مَنْ َأبَاحَ َ
غ ْيرِ َم ْوضِعٍ َ
علَى الْ َفرْقِ َبيْنَ هَذَا وَهَذَا فِي َ
وَقَدْ َنصّوا َ
سهْمٌ فِي َق ْريَةٍ
حرُورِيّةَ كَانَ َلهُمْ َ
حمَدُ فِي ِروَايَةِ َأبِي طَاِلبٍ فِي َ
خوَارِجِ .وَقَدْ َنصّ أَ ْ
َأ ْموَالِ الْ َ
خمْسَةٍ
علَى َ
خمُسُهُ َ
سِلمِينَ َ ,فيُقَسّمُ ُ
ضهُمْ َفيْءٌ ِل ْلمُ ْ
سِلمُونَ فََأ ْر ُ
سِلمِينَ فَ َق َتَلهُمْ ا ْلمُ ْ
خرَجُوا يُقَا ِتلُونَ ا ْلمُ ْ
فَ َ
سِلمِينَ َ ,ولَا يُقَسّمُ ِمثْلَ
علَى ا ْلمُ ْ
خرَاجَ َ
حمِلُ الَْأمِيرُ الْ َ
خمَاسِهِ ِللّذِينَ قَا َتلُوا يُقَسّمُ َب ْي َنهُمْ َ ,أوْ يَ ْ
َوَأ ْر َبعَةُ أَ ْ
غ ِن َمتْ
خ َواِرجِ إذَا ُ
حمَدُ الَْأرْضَ اّلتِي ِللْ َ
جعَلَ أَ ْ
سِلمِينَ َف َ
علَى ا ْلمُ ْ
ع ْن َوةً َ ,ووَقَفَهُ َ
سوَادَ َ
ع َمرُ ال ّ
مَا أَخَذَ ُ
صوَابُ ا ْلمَقْطُوعُ بِهِ ; فَإِنّ النّصّ
طرِيقَةُ ِهيَ ال ّ
ج ْملَةِ َفهَ ِذهِ ال ّ
غنِمَ مِنْ َأ ْموَالِ ا ْلكُفّارِ َ ,وبِالْ ُ
ِب َم ْن ِزلَةِ مَا ُ
ي رضي ال عنه تُ َفرّقُ َبيْنَ هَذَا وَهَذَا ,فَِإنّهُ قَاتَلَ
عِل ّ
جمَاعَ َفرّقَ َبيْنَ هَذَا وَهَذَا ,وَسِي َرةُ َ
وَالْإِ ْ
ن الصّحَابَةِ
خوَارِجَ ِبنَصّ رَسُولِ اللّهِ صلى ال عليه وسلم وَ َفرِحَ بِ َذِلكَ َ ,ولَمْ ُينَازِعْهُ فِيهِ َأحَدٌ مِ ْ
الْ َ
جمَلِ
ظ َهرَ ,وَقَالَ مِنْ أَهْلِ الْ َ
عَليْهِ مَا َ
ظ َهرَ ِمنْهُ مِنْ َكرَا َهتِهِ وَالذّمّ َ
َ ,وَأمّا الْ ِقتَالُ َيوْ َم صِفّينَ فَقَدْ َ
خوَارِجُ فَفِي
علَى َق ْتلَى الطّائِ َف َتيْنِ َ .وَأمّا الْ َ
صلّى َ
س ْيفُ َ ,و َ
ط ْهرُهُمْ ال ّ
عَل ْينَا ُ
خوَا ُننَا َب َغوْا َ
غ ْيرِهِمْ :إ ْ
وَ َ
ل اللّ ِه صلى ال عليه وسلم يَقُولُ :
س ِمعْت رَسُو َ
عِليّ بْنِ َأبِي طَاِلبٍ قَالَ َ :
حيْنِ :عَنْ َ
الصّحِي َ
خ ْيرِ َقوْلِ ا ْل َبرِيّةِ لَا
حلَامِ ,يَقُولُونَ مِنْ َ
سنَانِ ,سُ َفهَاءُ الْأَ ْ
خ ِر ال ّزمَانِ حِدَاثُ الْأَ ْ
خرُجُ َقوْمٌ فِي آ ِ
ستَ ْ
{ َ
ن ال ّر ِميّةِ َ ,فَأ ْي َنمَا لَقِي ُتمُوهُمْ
سهْمُ مِ ْ
جرَهُمْ َ ,ي ْمرُقُونَ مِنْ الدّينِ َكمَا َي ْمرُقُ ال ّ
حنَا ِ
يُجَا ِوزُ إيمَا ُنهُمْ َ
سلِمٍ :عَنْ َزيْدِ بْنِ وَ ْهبٍ
جرًا ِلمَنْ َق َتَلهُمْ َيوْمَ الْ ِقيَامَةِ } .وَفِي صَحِيحِ مُ ْ
فَا ْق ُتلُوهُمْ َ ,فإِنّ فِي َق ْتِلهِمْ أَ ْ
89
عِليّ َ :أ ّيهَا النّاسُ إنّي
خوَارِجِ فَقَالَ َ
عِليّ الّذِينَ سَارُوا إلَى الْ َ
ج ْيشِ الّذِي كَانُوا مَعَ َ
َأنّهُ كَانَ فِي الْ َ
خرُجُ َقوْمٌ مِنْ ُأ ّمتِي يَ ْقرَءُونَ الْ ُقرْآنَ َ ,ل ْيسَ
س ِمعْت رَسُولَ اللّهِ صلى ال عليه وسلم يَقُولُ { :يَ ْ
َ
شيْءٍ ,
صيَا ِمهِمْ بِ َ
صيَا ُمكُمْ إلّا ِ
شيْءٍ َ ,ولَا ِ
صلَا ِتهِمْ بِ َ
صلَا ُتكُمْ إلَى َ
شيْءٍ ; َولَا َ
ِقرَا َء ُتكُمْ إلَى ِقرَا َء ِتهِمْ بِ َ
سلَامِ
صلَا ُتهُمْ َترَا ِق َيهُمْ َ ,ي ْمرُقُونَ مِنْ الْإِ ْ
عَل ْيهِمْ ,لَا تُجَا ِو ُز َ
سبُونَ َأنّهُ َلهُمْ ,وَ ُهوَ َ
يَ ْقرَءُونَ الْ ُقرْآنَ يَحْ ِ
حمّدٍ َن ِب ّيهِمْ
علَى لِسَانِ مُ َ
ضيَ َلهُمْ َ
ج ْيشُ الّذِينَ ُيصِيبُو َنهُمْ مَا ُق ِ
سهْمُ مِنْ ال ّر ِميّةِ َلوْ َي ْعلَمُ الْ َ
َكمَا َي ْمرُقُ ال ّ
حَلمَةِ الثّ ْديِ
عضُ ِدهِ ِمثْلُ َ
علَى َ
عضُدٌ َل ْيسَ لَهُ ِذرَاعٌ َ
جلًا لَهُ َ
َل َن َكلُوا عَنْ ا ْل َعمَلِ ,وَآيَةُ َذِلكَ أَنّ فِيهِمْ رَ ُ
خلُفُو َنكُمْ فِي
ش َعرَاتٌ بِيضٌ قَالَ َ :فيَذْ َهبُونَ إلَى ُمعَا ِويَةَ َوأَهْلِ الشّامِ َو َي ْت ُركُونَ َه ُؤلَاءِ يَ ْ
عَليْهِ َ
َ ,
حرَامَ ,
َذرَا ِر ّيكُمْ َوَأ ْموَاِلكُمْ َ ,واَللّهِ إنّي لََأرْجُو أَنْ َيكُونُوا َه ُؤلَاءِ الْ َقوْمَ فَِإ ّنهُمْ قَدْ سَ َفكُوا الدّمَ الْ َ
عبْدُ
خوَارِجِ َي ْو َمئِذٍ َ
علَى الْ َ
علَى اسْ ِم اللّهِ } .قَالَ َ :فَلمّا ا ْلتَ َق ْينَا وَ َ
سرْحِ النّاسِ ,فَسِيرُوا َ
َوأَغَارُوا فِي َ
سيُو َفكُمْ مِنْ حُقُو ِقهَا ,فَِإنّي ُأنَاشِ ُدكُمْ َكمَا
سلّوا ُ
اللّهِ بْنُ وَ ْهبٍ َرئِيسًا فَقَالَ َلهُمْ َ :ألْقُوا ال ّرمَاحَ ,وَ ُ
حهِمْ
حرَهُ ْم النّاسُ ِب ِرمَا ِ
سيُوفَ ,وَسَ َ
سلّوا ال ّ
حهِمْ ,وَ َ
جعُوا َفوَحّشُوا ِب ِرمَا ِ
حرُورَاءَ َ ,فرَ َ
نَاشَدُوكُمْ َيوْمَ َ
عِليّ :
جلَانِ :فَقَالَ َ
علَى َبعْضٍ َ ,ومَا ُأصِيبَ مِنْ النّاسِ َي ْو َمئِذٍ إلّا رَ ُ
ضهُمْ َ
.قَالَ َ :وأَ ْقبَلَ َب ْع ُ
علَى
ضهُمْ َ
حتّى َأتَى نَاسًا قَدْ أَ ْقبَلَ َب ْع ُ
سيْفِهِ َ
علَى َ
ا ْل َتمَسُوا فِيهِ ا ْلمَخْدَعَ .فَا ْل َتمَسُوهُ َ ,فلَمْ َيجِدُوهُ فَقَامَ َ
خرُوهُمْ َفوَجَدُوهُ ِممّا َيلِي الَْأرْضَ َف َك ّبرَ ثُمّ قَالَ :صَدَقَ اللّهُ َ ,و َبلّغَ رَسُولُهُ .قَالَ :
َبعْضٍ .قَالَ :أَ ّ
س ِمعْت هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ
ن اللّهُ الّذِي لَا إلَهَ إلّا ُهوَ أَ َ
س ْلمَا ِنيّ فَقَالَ :يَا َأمِيرَ ا ْل ُم ْؤمِنِي َ
ع َبيْ َدةُ ال ّ
فَقَامَ إَليْهِ ُ
حِلفُ
حلَفَهُ َثلَاثًا وَ ُهوَ يَ ْ
ستَ ْ
حتّى ا ْ
رَسُولِ اللّهِ صلى ال عليه وسلم قَالَ :إي َواَللّهِ الّذِي لَا إلَهَ إلّا ُهوَ َ
علَى
خوَارِجِ َو َتضْلِيِلهِمْ َ ,وِإ ّنمَا َتنَازَعُوا فِي َتكْفِيرِهِمْ َ ,
علَى ذَمّ الْ َ
لَهُ َأ ْيضًا .فَإِنّ الُْأمّةَ ُمتّفِقُونَ َ
حمَدَ ,وَفِي مَذْ َهبِ الشّا ِف ِعيّ َأيْضًا ِنزَاعٌ فِي
شهُو َريْنِ مِنْ مَذْ َهبِ مَاِلكٍ َ ,وأَ ْ
علَى َق ْوَليْنِ مَ ْ
َتكْفِيرِهِمْ َ
طرِيقَةِ الْأُولَى :أَحَدُ ُهمَا َ :أ ّنهُمْ
علَى ال ّ
غ ْي ِرهِ َ
حمَدَ وَ َ
جهَانِ فِي مَذْ َهبِ أَ ْ
كُ ْفرِهِمْ َ ,وِلهَذَا كَانَ فِيهِمْ وَ ْ
ُبغَاةٌ .وَالثّانِي َ :أ ّنهُمْ كُفّارٌ كَا ْل ُم ْرتَدّينَ يَجُوزُ َق ْتُلهُمْ ا ْبتِدَاءً وَ َقتْلُ َأمِيرِهِمْ ,وَا ّتبَاعُ مُ ْد ِبرِهِمْ َومَنْ قُ ِدرَ
س ُتتِيبَ كَا ْل ُم ْرتَدّ ,فَإِنْ تَابَ َوِإلّا ُقتِلَ َ ,كمَا أَنّ مَذْ َهبَهُ فِي مَا ِنعِي ال ّزكَاةِ إذَا قَا َتلُوا الِْإمَامَ
عَليْهِ ِم ْنهُمْ اُ ْ
َ
ل الصّدّيقِ
علَى ِروَا َيتَيْنِ ,وَهَذَا ُكلّهُ ِممّا ُي َبيّنُ أَنّ ِقتَا َ
عَل ْيهَا ,هَلْ َيكْ ُفرُونَ مَعَ الْإِ ْقرَارِ ِبوُجُو ِبهَا َ
َ
غ ْي ِرهِ
عِليّ وَ َ
جمَلِ َ ,وصِفّينَ َ ,ف َكلَامُ َ
خوَارِجَ َل ْيسَ ِمثْلَ الْ ِقتَالِ َيوْمَ الْ َ
عِليّ الْ َ
ِلمَا ِنعِي ال ّزكَاةِ ,وَ ِقتَالَ َ
سلَامِ .وَهَذَا ُهوَ ا ْل َم ْنصُوصُ عَنْ
خوَارِجِ يَ ْقتَضِي َأ ّنهُمْ َليْسُوا كُفّارًا كَا ْل ُم ْرتَدّينَ عَنْ َأصْلِ الْإِ ْ
فِي الْ َ
جمَلِ َوصِفّينَ ,بَلْ ُهوَ َنوْعٌ ثَاِلثٌ
حكْمِ أَهْلِ الْ َ
ح ْك ُمهُمْ كَ ُ
غ ْي ِرهِ َ ,وَليْسُوا مَعَ َذِلكَ ُ
حمَدَ وَ َ
الَْأ ِئمّةِ كَأَ ْ
غ ْيرِ
صلَاةِ ,وَ َ
شهَا َد َتيْنِ ,وَال ّ
وَهَذَا َأصَحّ الْأَ ْقوَالِ ال ّثلَاثَةِ فِيهِمْ َ ,و ِممّنْ قَا َتَلهُمْ الصّحَابَةُ مَعَ إ ْقرَارِهِمْ ال ّ
90
ع َمرَ بْنَ الْخَطّابِ قَالَ لَِأبِي َب ْكرٍ :
حيْنِ :عَنْ َأبِي ُه َر ْي َرةَ أَنّ ُ
َذِلكَ مَا ِنعُوا الزّكَاةِ َ ,كمَا فِي الصّحِي َ
ل اللّ ِه صلى ال عليه وسلم ُ { :أ ِمرْت أَنْ
ل اللّهِ َ ,ك ْيفَ تُقَاتِلُ النّاسَ ,وَقَدْ قَالَ رَسُو ُ
خلِيفَةَ رَسُو ِ
يَا َ
صمُوا ِمنّي ِدمَاءَهُمْ
ع َ
شهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ َوَأنّي رَسُولُ اللّهِ ,فَإِذَا قَالُوهَا َ
حتّى يَ ْ
أُقَاتِلَ النّاسَ َ
ن ال ّزكَاةَ مِنْ حَ ّقهَا َ ,واَللّهِ
َوَأ ْموَاَلهُمْ ,إلّا بِحَ ّقهَا } .فَقَالَ لَهُ َأبُو َب ْكرٍ َ :ألَمْ يَقُلْ لَك { إلّا بِحَ ّقهَا } فَإِ ّ
علَى َم ْن ِعهَا قَالَ
عنَاقًا كَانُوا ُيؤَدّو َنهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صلى ال عليه وسلم لَقَا َتلْتهمْ َ
َلوْ َم َنعُونِي ِ
ح صَ ْدرَ َأبِي َب ْكرٍ ِللْ ِقتَالِ َف َعِلمْت َأنّهُ الْحَقّ .وَقَدْ اتّفَقَ
شرَ َ
ن اللّهَ قَدْ َ
ع َمرُ َ :فمَا ُهوَ إلّا أَنْ َرَأيْت أَ ّ
ُ
ش ْهرَ
خ ْمسَ َو َيصُومُونَ َ
صلّونَ الْ َ
علَى ِقتَالِ مَا ِنعِي ال ّزكَاةِ َوإِنْ كَانُوا ُي َ
الصّحَابَةُ وَالَْأ ِئمّةُ َبعْدَهُمْ َ
علَى َم ْن ِعهَا َ ,وإِنْ
ش ْبهَةٌ سَا ِئغَةٌ َ ,فِلهَذَا كَانُوا ُم ْرتَدّينَ وَهُمْ يُقَا ِتلُونَ َ
َر َمضَانَ وَ َه ُؤلَاءِ لَمْ َيكُنْ َلهُمْ ُ
ن اللّهَ َأ َمرَ َن ِبيّهُ بِأَخْ ِذ ال ّزكَاةِ بِ َق ْولِهِ :
ع ْنهُمْ َأ ّنهُمْ قَالُوا :إ ّ
ح ِكيَ َ
أَ َقرّوا بِا ْلوُجُوبِ َكمَا َأ َمرَ اللّهُ .وَقَدْ ُ
{ خُذْ مِنْ َأ ْموَاِلهِمْ صَدَقَةً } وَقَدْ تَسْقُطُ ِب َم ْوتِهِ َ .وكَ َذِلكَ { َأ َم َر ال ّن ِبيّ صلى ال عليه وسلم بِ ِقتَالِ
علِمَ أَنّ
حوَاِلهِمْ :فَقَدْ ُ
خرُ وَ ُهوَ َم ْعرِفَةُ أَ ْ
خ ْمرِ } َ .وَأمّا الَْأصْلُ الْآ َ
ش ْربِ الْ َ
الّذِينَ لَا َي ْن َتهُونَ عَنْ ُ
طوْا النّاسَ الَْأمَانَ
سعِينَ َ ,وأَعْ َ
سعَةٍ َوتِ ْ
علَى الشّامِ فِي ا ْل َم ّرةِ الْأُولَى عَامَ تِ ْ
َه ُؤلَاءِ الْ َقوْمَ جَارُوا َ
سِلمِينَ ,مَا يُقَالُ :إنّهُ مِائَةُ َأ ْلفٍ
سَلبُوا مِنْ َذرَا ِريّ ا ْلمُ ْ
علَى ا ْل ِم ْن َبرِ بِ ِدمَشْقَ َ ,ومَعَ هَذَا فَقَدْ َ
وَ َقرَءُوهُ َ
غ ْيرِ
حمْصَ ,وَدَا ِريّا ,وَ َ
حيّةِ َ ,ونَا ُبُلسَ ,وَ ِ
ل الصّالِ ِ
جبَ ِ
عَليْهِ ,وَ َف َعلُوا ِب َب ْيتِ ا ْلمَقْ ِدسِ َ ,وبِ َ
َ ,أوْ َيزِيدُ َ
سِلمِينَ َقرِيبًا مِنْ مِائَةِ َأ ْلفٍ
س َبوْا مِنْ ا ْلمُ ْ
حتّى يُقَالَ :إ ّنهُمْ َ
س ْبيِ مَا لَا َي ْعَلمُهُ إلّا اللّهُ َ
َذِلكَ مِنْ الْ َقتْلِ وَال ّ
غ ْيرِهَا :كَا ْلمَسْجِدِ الْأَ ْقصَى ,وَالُْأ َم ِويّ ,
سِلمِينَ فِي ا ْلمَسَاجِدِ وَ َ
خيَارِ نِسَاءِ ا ْلمُ ْ
جرُونَ ِب ِ
ج َعلُوا يَ ْف ُ
وَ َ
صلّونَ
ج ْمهُورَهُمْ لَا ُي َ
س َكرَ الْ َقوْمِ َف َرَأ ْينَا ُ
ج َعلُوا الْجَامِعَ الّذِي بِا ْلعُ َق ْيبَةِ َدكّا ,وَقَدْ شَاهَ ْدنَا عَ ْ
غ ْيرِهِ َ ,و َ
وَ َ
خ ّربُوا مِنْ
سِلمِينَ وَ َذرَا ِر ّيهِمْ ,وَ َ
س َكرِهِمْ ُمؤَ ّذنًا َولَا إمَامًا .وَقَدْ أَخَذُوا مِنْ َأ ْموَالِ ا ْلمُ ْ
َ ,ولَمْ َنرَ فِي عَ ْ
خلْقِ ,إمّا ِزنْدِيقٌ
شرّ الْ َ
ِديَارِهِمْ مَا لَا َي ْعَلمُهُ إلّا اللّهُ َولَمْ َيكُنْ َم َعهُمْ فِي َد ْوَل ِتهِمْ إلّا مَنْ كَانَ مِنْ َ
ج ْه ِميّةِ
شرّ أَهْلِ ا ْلبِدَعِ كَالرّا ِفضَةِ وَالْ َ
سلَامِ فِي ا ْلبَاطِنِ َ ,وِإمّا مَنْ ُهوَ مِنْ َ
ُمنَافِقٌ لَا َي ْعتَقِدُ دِينَ الْإِ ْ
جرُ النّاسِ َوأَفْسَ ُقهُمْ ,وَهُمْ فِي ِبلَادِهِمْ مَعَ َت َم ّك ِنهِمْ لَا َيحُجّونَ
حوِهِمْ َ .وِإمّا مَنْ ُهوَ أَ ْف َ
وَالِاتّحَا ِديّة َونَ ْ
عَل ْيهِمْ إقَا َم الصّلَاةِ َولَا إيتَاءَ
صلّي َو َيصُومُ َ ,فَل ْيسَ ا ْلغَاِلبُ َ
ا ْل َب ْيتَ ا ْل َعتِيقَ َ ,وإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ ُي َ
ج َعلُوهُ َوِليّا َلهُمْ َ ,وإِنْ كَانَ
ع ِتهِمْ َ
ج ْنكِيزْ خَانْ َ ,فمَنْ دَخَلَ فِي طَا َ
علَى ُم ْلكِ ِ
ال ّزكَاةِ ,وَهُمْ يُقَا ِتلُونَ َ
علَى
سِلمِينَ َولَا يُقَا ِتلُونَ َ
خيَارِ ا ْلمُ ْ
ج َعلُوهُ عَ ُدوّا َلهُمْ َ ,وإِنْ كَانَ مِنْ ِ
خرَجَ عَنْ َذِلكَ َ
كَا ِفرًا َومَنْ َ
سِلمِينَ ِم ْنهُمْ مِنْ َأكَا ِبرِ ُأ َمرَا ِئهِمْ
صغَارَ ,بَلْ غَايَةُ َكثِيرٍ مِنْ ا ْلمُ ْ
ج ْزيَةَ ,وَال ّ
ضعُونَ الْ ِ
سلَامِ َولَا َي َ
الْإِ ْ
ش ِركِينَ مِنْ ا ْل َيهُودِ وَالنّصَارَى َ .كمَا
ظمُونَهُ مِنْ ا ْلمُ ْ
عنْدَهُمْ َ ,كمَنْ ُيعَ ّ
سلِمُ ِ
َو ُو َزرَا ِئهِمْ أَنْ َيكُونَ ا ْلمُ ْ
91
سِلمِينَ َ ,و َيتَ َق ّربُ إَل ْيهِمْ بَِأنّا
طبُ رُسُلَ ا ْلمُ ْ
قَالَ َأ ْك َبرُ مُقَ ّدمِيهِمْ الّذِينَ قَ ِدمُوا إلَى الشّامِ ,وَ ُهوَ يُخَا ِ
ج ْنكِيزْ خَانْ َ ,فهَذَا غَايَةُ مَا
حمّدٌ ,وَ ِ
عنْ ِد اللّهِ :مُ َ
سِلمُونَ فَقَالَ :هَذَانِ آ َيتَانِ عَظِي َمتَانِ جَاءَا مِنْ ِ
مُ ْ
سيّدِ َولَدِ
عَليْهِ ,وَ َ
خلْقِ َ
ل اللّهِ َأ ْكرَمِ الْ َ
س ّويَ َبيْنَ رَسُو ِ
سِلمِينَ أَنْ يُ َ
َيتَ َق ّربُ بِهِ َأ ْك َبرُ مُقَ ّدمِيهِمْ إلَى ا ْلمُ ْ
ش ِركِينَ ,كُ ْفرًا وَفَسَادًا وَعُ ْدوَانًا مِنْ
ش ِركٍ مِنْ أَعْظَمِ ا ْلمُ ْ
سلِينَ َ ,و َبيْنَ َمِلكٍ كَا ِفرٍ مُ ْ
آدَمَ ,وَخَاتَمِ ا ْل ُمرْ َ
ج ْنكِيزْ خَانْ عَظِيمًا فَِإ ّنهُمْ
عتِقَادَ َه ُؤلَاءِ ال ّتتَارِ كَانَ فِي ِ
صرَ َوَأ ْمثَالِهِ .وَ َذِلكَ أَنّ ا ْ
ختِ َن ّ
ج ْنسِ بُ ْ
ِ
ح ّبَلتْ ُأمّهُ
ش ْمسَ َ
ج ْنسِ مَا َي ْعتَقِ ُدهُ ال ّنصَارَى فِي ا ْلمَسِيحِ َ ,ويَقُولُونَ :إنّ ال ّ
ن اللّهِ مِنْ ِ
َي ْعتَقِدُونَ َأنّهُ ابْ ُ
عنْدَ كُلّ
ح ِبَلتْ َ ,و َم ْعلُومٌ ِ
حتّى َ
خَلتْ فِيهَا َ
خ ْيمَةِ فَدَ َ
شمْسُ مِنْ ُك ّوةِ الْ َ
خ ْيمَةٍ َف َن َزَلتْ ال ّ
َ ,وَأ ّنهَا كَا َنتْ فِي َ
علَى َأنّهُ َولَدُ ِزنًا َ ,وأَنّ ُأمّهُ َز َنتْ َف َك َت َمتْ ِزنَاهَا َ ,وأَخْ َفتْ هَذَا
ذِي دِينٍ أَنّ هَذَا كَ ِذبٌ .وَهَذَا َدلِيلٌ َ
سنّهُ َلهُمْ ,
عنْ َد اللّهِ فِي َتعْظِيمِ مَا َ
ج َعلُونَهُ أَعْظَمَ رَسُولٍ ِ
ع ْنهَا َم َع ّر َة ال ّزنَا ,وَهُمْ مَعَ هَذَا يَ ْ
حتّى تَدْفَعَ َ
َ
علَى
ش ُكرُونَهُ َ
ج ْنكِيزْ خَانْ َ ,ويَ ْ
عنْدَهُمْ مِنْ ا ْلمَالِ هَذَا ِرزْقُ ِ
حتّى يَقُولُوا ِلمَا ِ
ظنّهِ ,وَ ُهوَ َ
شرَعَهُ بِ َ
وَ َ
سنّهُ َلهُمْ هَذَا ا ْلكَا ِفرُ ا ْل َملْعُونُ ا ْل ُمعَادِي ِللّهِ
حلّونَ َقتْلَ مَنْ عَادَى مَا َ
س َت ِ
ش ْر ِبهِمْ ,وَهُمْ يَ ْ
َأ ْكِلهِمْ وَ ُ
جعَلَ
سلَامِ أَنْ َي ْ
عبَا ِدهِ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ َ .فهَذَا َوَأ ْمثَالُهُ مِنْ مُقَ ّدمِيهِمْ كَانَ غَا َيتُهُ َبعْدَ الْإِ ْ
َولَِأ ْن ِبيَائِهِ َورَسُولِهِ وَ ِ
ض َررًا
ل َ
س ْيِلمَةَ ا ْلكَذّابَ " كَانَ أَقَ ّ
حمّدًا صلى ال عليه وسلم ِب َم ْن ِزلَةِ هَذَا ا ْل َم ْلعُونِ َ ,و َم ْعلُومٌ أَنّ " مُ َ
مُ َ
ستَحَلّ الصّحَابَةُ ِقتَالَهُ ,
حمّدٍ فِي الرّسَالَةِ َ ,و ِبهَذَا ا ْ
شرِيكُ مُ َ
سِلمِينَ مِنْ هَذَا ,وَادّعَى َأنّهُ َ
علَى ا ْلمُ ْ
َ
ج ْنكِيزْ خَانْ ,
حمّدًا كَ ِ
جعَلُ مُ َ
سلَامِ َي ْ
ظ ِهرُهُ مِنْ الْإِ ْ
وَ ِقتَالَ َأصْحَابِهِ ا ْل ُم ْرتَدّينَ َ ,ف َك ْيفَ ِبمَنْ كَانَ فِيمَا يُ ْ
شرِيعَةِ الْ ُقرْآنِ
سِلمِينَ ا ْل ُم ّت ِبعَةِ لِ َ
علَى ا ْلمُ ْ
ج ْنكِيزْ خَانْ " َ
ظمُونَ َأ ْمرَ " ِ
سلَامِ ُيعَ ّ
ظهَارِهِمْ ِللْإِ ْ
َوِإلّا َفهُمْ مَعَ إ ْ
سِلمِينَ بَلْ أَعْظَمَ .أُوَل ِئكَ
ج ْنكِيزْ خَانْ " َكمَا يُقَا ِتلُونَ ا ْلمُ ْ
سنّهُ " ِ
َولَا يُقَا ِتلُونَ أُوَلئِكَ ا ْل ُم ّت ِبعِينَ ِلمَا َ
ح ِملُونَ إَليْهِ الَْأ ْموَالَ َ ,ويُ ِقرّونَ لَهُ بِال ّنيَابَةِ َ ,ولَا يُخَالِفُونَ مَا
ا ْلكُفّارُ َيبْ ُذلُونَ لَهُ الطّاعَةَ وَالِانْ ِقيَادَ َ ,ويَ ْ
سِلمِينَ َو ُيعَادُو َنهُمْ
يَ ْأ ُمرُهُمْ بِهِ إلّا َكمَا ُيخَاِلفُ الْخَارِجُ عَنْ طَاعَةِ الِْإمَامِ ِللِْإمَامِ ,وَهُمْ يُحَا ِربُونَ ا ْلمُ ْ
ضعَهُ َلهُمْ َ ,ذِلكَ
سِلمِينَ الطّاعَةَ َلهُمْ َوبَذْلَ الَْأ ْموَالِ وَالدّخُولَ فِيمَا َو َ
طُلبُونَ مِنْ ا ْلمُ ْ
أَعْظَمَ ُمعَادَاةٍ َويَ ْ
حوِ ِهمَا .بَلْ ُهوَ أَعْظَمُ فَسَادًا فِي الَْأرْضِ
عوْنَ َأوْ ال ّن ْمرُودِ َونَ ْ
ش ِركُ ا ْلمُشَابِهُ لِ ِفرْ َ
ا ْل َملِكُ ا ْلكَا ِفرُ ا ْلمُ ْ
ض ِعفُ طَائِفَةً ِم ْنهُمْ
س َت ْ
ش َيعًا يَ ْ
جعَلَ أَ ْهَلهَا ِ
علَا فِي الَْأرْضِ وَ َ
عوْنَ َ
ل اللّهُ َتعَالَى { :إنّ ِفرْ َ
ِم ْن ُهمَا .قَا َ
ض ِعفُ
س َت ْ
علَا فِي الَْأرْضِ يَ ْ
حيِي نِسَاءَهُمْ إنّهُ كَانَ مِنْ ا ْلمُفْسِدِينَ } .وَهَذَا ا ْلكَا ِفرُ َ
ستَ ْ
يُ َذبّحُ َأ ْبنَاءَهُمْ َويَ ْ
ل الرّجَالِ ,
ش ِركِينَ بِ َقتْ ِ
سِلمِينَ ,وَا ْل َيهُودِ ,وَالنّصَارَى َومَنْ خَالَفَهُ مِنْ ا ْلمُ ْ
أَهْلَ ا ْل ِملَلِ ُكّلهُمْ مِنْ ا ْلمُ ْ
عمّا
حبّ الْفَسَادَ َ ,و َيرُدّ النّاسَ َ
ح ْرثَ ,وَالنّسْلَ َ ,واَللّهُ لَا يُ ِ
حرِيمِ َ ,ويَأْخُذُ الَْأ ْموَالَ َو ُي ْهِلكُ الْ َ
س ْبيِ الْ َ
وَ َ
شرِي َعتِهِ
س ّنتِهِ الْجَا ِهِليّةِ وَ َ
خلُوا فِيمَا ا ْبتَدَعَهُ مِنْ ُ
سلِينَ إلَى أَنْ يَدْ ُ
س ْلكِ الَْأ ْن ِبيَاءِ وَا ْلمُرْ َ
عَليْهِ مِنْ ِ
كَانُوا َ
92
سِلمِينَ َويُطِيعُو َنهُمْ
علَى دِينِ ا ْلمُ ْ
ظمُونَ دِينَ أُوَل ِئكَ ا ْلكُفّارِ َ
سلَامِ َو ُيعَ ّ
ا ْلكُ ْف ِريّةِ َ ,فهُمْ يَدّعُونَ دِينَ الْإِ ْ
جرَ َبيْنَ َأكَا ِبرِهِمْ
شَحكْمُ فِيمَا َ
َو ُيوَالُو َنهُمْ أَعْظَمَ ِب َكثِيرٍ مِنْ طَاعَةِ اللّهِ َورَسُولِهِ َ ,و ُموَالَاةِ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ وَالْ ُ
سلَامِ
ج َعلُونَ دِينَ الْإِ ْ
غ ْيرِهِمْ يَ ْ
حكْ ِم اللّهِ َورَسُولِهِ َ .وكَ َذِلكَ الَْأكَا ِبرُ مِنْ ُو َزرَا ِئهِمْ وَ َ
حكْمِ الْجَا ِهِليّةِ ,لَا بِ ُ
بِ ُ
سِلمِينَ ,ثُمّ
عنْدَ ا ْلمُ ْ
طرُقٌ إلَى اللّهِ ِب َم ْن ِزلَةِ ا ْلمَذَا ِهبِ الَْأ ْر َبعَةِ ِ
كَدِينِ ا ْل َيهُودِ وَال ّنصَارَى َوأَنّ هَ ِذهِ ُكّلهَا ُ
سِلمِينَ .وَهَذَا الْ َقوْلُ
ِم ْنهُمْ مَنْ ُيرَجّحُ دِينَ ا ْل َيهُودِ َأوْ دِينَ ال ّنصَارَى َ ,و ِم ْنهُمْ مَنْ ُيرَجّحُ دِينَ ا ْلمُ ْ
حوِهِمْ ,
ع ْو ِنيّةِ َونَ ْ
ج ْه ِميّةُ مِنْ الِاتّحَا ِديّةِ الْ ِفرْ َ
س ّيمَا الْ َ
عبّادِهِمْ ,لَا ِ
حتّى فِي فُ َقهَا ِئهِمْ وَ ُ
فَاشٍ غَاِلبٌ فِيهِمْ َ
علَى هَذَا َكثِيرٌ مِنْ
عَل ْيهِمْ الْ َفلْسَفَةُ وَهَذَا مَذْ َهبُ َكثِيرٍ مِنْ ا ْل ُمتَ َفلْسِفَةِ َأوْ َأ ْك َثرِهِمْ وَ َ
غَل َبتْ َ
فَِإنّهُ َ
خوَاصّ ا ْل ُعَلمَاءِ ِم ْنهُمْ
النّصَارَى َأوْ َأ ْك َثرُهُمْ َو َكثِيرٌ مِنْ ا ْل َيهُودِ َأ ْيضًا .بَلْ َلوْ قَالَ الْقَائِلُ :إنْ غَابَ َ
س ِمعْت مَا لَا َيتّسِعُ لَهُ هَذَا ا ْل َم ْوضِعُ ,
علَى هَذَا ا ْلمَذْ َهبِ َلمَا ُأ ْبعِدَ .وَقَدْ َرَأيْت مِنْ َذِلكَ وَ َ
وَا ْل ُعبّادُ َ
غ ْيرِ دِينِ
سوّغَ ا ّتبَاعَ َ
سِلمِينَ أَنّ مَنْ َ
جمِيعِ ا ْلمُ ْ
سِلمِينَ َوبِاتّفَاقِ َ
طرَارِ مِنْ دِينِ ا ْلمُ ْ
َو َم ْعلُومٌ بِالِاضْ ِ
حمّدٍ صلى ال عليه وسلم َف ُهوَ كَا ِفرٌ ,وَ ُهوَ َككُ ْفرِ مَنْ آمَنَ
شرِيعَةِ مُ َ
غ ْيرِ َ
شرِيعَةٍ َ
سلَامِ َأوْ ا ّتبَاعِ َ
الْإِ ْ
سلِهِ َو ُيرِيدُونَ
ِب َبعْضِ ا ْل ِكتَابِ َوكَ َفرَ ِب َبعْضِ ا ْل ِكتَابِ َ ,كمَا قَالَ َتعَالَى { :إنّ الّذِينَ َيكْ ُفرُونَ بِاَللّهِ َورُ ُ
سلِهِ َويَقُولُونَ ُن ْؤمِنُ ِب َبعْضٍ َو َنكْ ُفرُ ِب َبعْضٍ َو ُيرِيدُونَ أَنْ َيتّخِذُوا َبيْنَ َذِلكَ
ن اللّهِ َورُ ُ
أَنْ يُ َفرّقُوا َبيْ َ
خلُونَ فِي
عتَ ْدنَا ِل ْلكَا ِفرِينَ عَذَابًا ُمهِينًا } .وَا ْل َيهُودُ وَالنّصَارَى دَا ِ
سبِيلًا أُوَل ِئكَ هُمْ ا ْلكَا ِفرُونَ حَقّا َوأَ ْ
َ
سفَ مِنْ ا ْل َيهُودِ وَال ّنصَارَى
َذِلكَ َ ,وكَ َذِلكَ ا ْل ُمتَفَلْسِفَةُ ُي ْؤ ِمنُونَ ِب َبعْضٍ َو َيكْ ُفرُونَ ِب َب ْعضٍ َ ,ومَنْ تَ َفلْ َ
ج َهيْنِ .وَ َه ُؤلَاءِ َأ ْك َثرُ ُو َزرَا ِئهِمْ الّذِينَ َيصْ ُدرُونَ عَنْ َر ْأيِهِ غَا َيتُهُ أَنْ َيكُونَ مِنْ هَذَا
َيبْقَى كُ ْف ُرهُ مِنْ َو ْ
سفِ ,
سلَامِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ ا ْل َيهُو ِديّةِ وَالتّفَلْ ُ
سبَ إلَى الْإِ ْ
ض ْربِ َ ,فِإنّهُ كَانَ َيهُو ِديّا ُمتَ َفلْسِفًا ثُمّ ا ْنتَ َ
ال ّ
عنْدَهُمْ
عنْدَهُمْ مِنْ َذوِي الْأَ ْقلَامِ وَذَاكَ أَعْظَمُ مَنْ كَانَ ِ
ك الرّفْضَ َفهَذَا ُهوَ أَعْظَمُ مَنْ ِ
َوضَمّ إلَى َذِل َ
خلَةٌ
ج ْملَةِ َ :فمَا مِنْ نِفَاقٍ َو َزنْدَقَةٍ َوِإلْحَادٍ إلّا وَ ِهيَ دَا ِ
س ْيفِ َف ْل َي ْع َتبِرْ ا ْل ُم ْؤمِنُ ِبهَذَا َ .وبِالْ ُ
مِنْ َذوِي ال ّ
خلْقِ
خلْقِ َوأَ َقّلهِمْ َم ْعرِفَةً بِالدّينِ َوَأ ْبعَدِهِمْ عَنْ ا ّتبَاعِهِ َوأَعْظَمِ الْ َ
جهَلِ الْ َ
فِي ا ّتبَاعِ ال ّتتَارِ ; لَِأ ّنهُمْ مِنْ أَ ْ
سمُوا النّاسَ َأ ْر َبعَةَ أَقْسَامٍ يال ُربَاع وداشمند وطاط َ ,أيْ
ا ّتبَاعًا لِلظّنّ َومَا َت ْهوَى الَْأنْ ُفسُ .وَقَدْ قَ ّ
ن صَدِي َقهُمْ
س ّن ِتهِمْ ا ْلكُ ْف ِريّةِ كَا َ
ع ِتهِمْ الْجَا ِهِليّةِ وَ ُ
صَدِي ُقهُمْ وَعَ ُدوّهُمْ وَا ْلعَالِمُ وَا ْلعَا ّميّ َ ,فمَنْ دَخَلَ فِي طَا َ
علْمٍ
سبَ إلَى ِ
سلِهِ َوَأ ْوِليَائِهِ َ ,وكُلّ مَنْ ا ْنتَ َ
َ ,ومَنْ خَالَ َفهُمْ كَانَ عَ ُدوّهُمْ َ .وَلوْ كَانَ مِنْ َأ ْن ِبيَاءِ اللّهِ َورُ ُ
س ّم ْوهُ " داشمند " كَالْفَقِيهِ ,وَالزّاهِدِ ,وَالْقِسّيسِ ,وَالرّا ِهبِ ,وَ َدنَانِ ا ْل َيهُودِ ,وَا ْل ُمنَجّمِ ,
َأوْ دِينٍ َ
سبِ َ ,فيُ ْدرِجُونَ سَادِنَ الَْأصْنَامِ َفيُ ْدرِجُونَ فِي هَذَا مِنْ
طبِيبِ ,وَا ْلكَا ِتبِ ,وَالْحَا ِ
حرِ ,وَال ّ
وَالسّا ِ
ج َعلُونَ أَهْلَ ا ْل ِعلْمِ وَالْإِيمَانِ َنوْعًا
ش ِركِينَ َوأَهْلِ ا ْل ِكتَابِ َ ,وأَهْلِ ا ْلبِدَعِ مَا لَا َي ْعَلمُهُ إلّا اللّهُ َ ,ويَ ْ
ا ْلمُ ْ
93
حكّامُ
سيّ َوَأ ْمثَالِهِ ,هُمْ الْ ُ
ط ِنيّ َة ال ّزنَادِقَةَ ا ْل ُمنَافِقِينَ كَالطّو ِ
ج َعلُونَ الْ َقرَامِطَةَ ا ْل َملَاحِ َدةَ ا ْلبَا ِ
وَاحِدًا ,بَلْ يَ ْ
سِلمِينَ وَالْ َيهُودِ وَالنّصَارَى َ .وكَ َذِلكَ َوزِيرُهُمْ
علْمٍ َأوْ دِينٍ مِنْ ا ْلمُ ْ
سبَ إلَى ِ
جمِيعِ مَنْ ا ْنتَ َ
علَى َ
َ
سِلمِينَ كَالرّا ِفضَةِ وَا ْل َملَاحِ َدةِ
شرَارَ ا ْلمُ ْ
علَى هَ ِذهِ الَْأصْنَافِ َويُقَدّمُ ِ
حكُمُ َ
السّفِيهُ ا ْل ُملَقّبُ بِالرّشِيدِ َ ,ي ْ
حتّى َت َولّى َقضَاءَ الْ ُقضَاةِ مَنْ كَانَ أَ ْق َربَ إلَى ال ّزنْدَقَةِ
سِلمِينَ أَهْلِ ا ْل ِعلْمِ وَالْإِيمَانِ َ ,
خيَارِ ا ْلمُ ْ
علَى ِ
َ
ح ْيثُ َتكُونُ ُموَافِقَةً ِل ْلكُفّارِ وَا ْل ُمنَافِقِينَ مِنْ ا ْل َيهُودِ وَالْ َقرَامِطَةِ ,
وَالِْإلْحَادِ وَا ْلكُ ْفرِ بِاَللّهِ َورَسُولِهِ ,بِ َ
سلَامِ ِبمَا لَا بُدّ لَهُ
شرِيعَةِ الْإِ ْ
غ ْيرِهِ َو َيتَظَا َهرُ مِنْ َ
علَى مَا ُيرِيدُونَهُ أَعْظَمَ مِنْ َ
وَا ْلمَلَاحِ َدةِ ,وَالرّا ِفضَةِ َ
صنّفًا
ص ّنفَ ُم َ
خبِيثَ ا ْل ُملْحِدَ ا ْل ُمنَافِقَ َ
حتّى إنّ َوزِيرَهُمْ هَذَا الْ َ
سِلمِينَ َ
ِمنْهُ لِأَجْلِ مَنْ ُهنَاكَ مِنْ ا ْلمُ ْ
عَل ْيهِمْ َولَا
ضيَ بِدِينِ ا ْل َيهُودِ وَال ّنصَارَى َ ,وَأنّهُ لَا ُي ْن ِكرُ َ
ي صلى ال عليه وسلم َر ِ
ضمُونُهُ أَنّ ال ّن ِب ّ
َم ْ
خبِيثُ الْجَاهِلُ بِ َق ْولِهِ :
ستَدَلّ الْ َ
سلَامِ وَا ْ
يَ ُذمّونَ َ ,ولَا َي ْن َهوْنَ دِي َنهُمْ َ ,ولَا ُي ْؤ َمرُونَ بِالِا ْنتِقَالِ إلَى الْإِ ْ
عبَ ْدتُمْ َولَا َأ ْنتُمْ
عبُدُ َولَا َأنَا عَابِدٌ مَا َ
عبُدُ مَا َت ْعبُدُونَ َولَا َأ ْنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَ ْ
{ قُلْ يَا َأ ّيهَا ا ْلكَا ِفرُونَ لَا أَ ْ
عبُدُ َلكُمْ دِي ُنكُمْ َوِليَ دِينٌ } َ .وزَعَمَ أَنّ هَ ِذهِ الْآيَةَ تَ ْقتَضِي َأنّهُ َي ْرضَى دِي َنهُمْ ,وَقَالَ :
عَابِدُونَ مَا أَ ْ
جهْلٌ ِمنْهُ ,
س َببِ َذِلكَ ُأمُورٌ َ ,ومِنْ ا ْل َم ْعلُومِ أَنّ هَذَا َ
ج َرتْ بِ َ
ستْ َمنْسُوخَةً ,وَ َ
ح َكمَةٌ َليْ َ
وَهَ ِذهِ الْآيَةُ مُ ْ
ضيّا لَهُ َ ,وِإ ّنمَا
فَإِنّ َق ْولَهُ َلكُمْ دِي ُنكُمْ َوِليَ دِينٌ َل ْيسَ فِيهِ مَا يَ ْق َتضِي أَنْ َيكُونَ دِينُ ا ْلكُفّارِ حَقّا َولَا َم ْر ِ
ش ْركِ
ل صلى ال عليه وسلم فِي هَ ِذهِ السّو َرةِ إ ّنهَا َبرَا َءةٌ مِنْ ال ّ
علَى َت ْب ِرئَةٍ مِنْ دِي ِنهِمْ َ ,وِلهَذَا قَا َ
يَدُلّ َ
عمَلُ َوَأنَا
ع َمُلكُمْ َأ ْنتُمْ َبرِيئُونَ ِممّا أَ ْ
ع َملِي َوَلكُمْ َ
خرَى َ { :وإِنْ كَ ّذبُوك فَقُلْ لِي َ
َكمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُ ْ
عمَاُلكُمْ .وَقَدْ ا ّتبَعَ
عمَاُلنَا َوَلكُمْ أَ ْ
َبرِيءٌ ِممّا َت ْع َملُونَ } .فَ َق ْولُهُ َ { :لكُمْ دِي ُنكُمْ َوِليَ دِينٌ } كَ َق ْولِهِ َلنَا أَ ْ
عمَلُ َ ,وَأنَا َبرِيءٌ ِممّا َت ْع َملُونَ َ ,وَلوْ قُ ّدرَ أَنّ
ح ْيثُ قَالَ َ :أ ْنتُمْ َبرِيئُونَ ِممّا أَ ْ
جبِهِ َومُ ْقتَضَاهُ َ
َذِلكَ ِبمُو ِ
سلَامِ
طرَارِ مِنْ دِينِ الْإِ ْ
علِمَ بِالِاضْ ِ
فِي هَ ِذهِ السّو َرةِ مَا يَ ْق َتضِي َأ ّنهُمْ لَمْ ُي ْؤ َمرُوا ِب َت ْركِ دِي ِنهِمْ فَقَدْ ُ
ش ِركِينَ َوأَهْلِ ا ْل ِكتَابِ بِالْإِيمَانِ بِهِ َ ,وَأنّهُ جَاءَهُمْ
جمَاعِ الُْأمّةِ َأنّهُ َأ َمرَ ا ْلمُ ْ
بِالّنصُوصِ ا ْل ُمتَوَا ِت َرةِ َوبِإِ ْ
علَى
ظ َهرُوا الرّفْضَ َو َم َنعُوا أَنْ نَ ْذ ُكرَ َ
خلُدُونَ فِي النّارِ .وَقَدْ أَ ْ
خ َبرَ َأ ّنهُمْ كَا ِفرُونَ يَ ْ
علَى َذِلكَ َوأَ ْ
َ
شرَ الّذِينَ َتزْعُ ُم الرّافِضَةُ َأ ّنهُمْ
ع َوةَ ِللِا ْث َنيْ عَ َ
ظ َهرُوا الدّ ْ
عِليّا َوأَ ْ
خلَفَاءَ الرّاشِدِينَ ,وَ َذ َكرُوا َ
ا ْل َمنَا ِبرِ الْ ُ
خلَافَةَ َلهُمْ َ ,ولَا
ع ْثمَانَ :كُفّارٌ ,وَفُجّارٌ ,ظَاِلمُونَ لَا ِ
ع َمرَ ,وَ ُ
َأ ِئمّةٌ َم ْعصُومُونَ َوأَنّ َأبَا َب ْكرٍ ,وَ ُ
ِلمَنْ َبعْدَهُمْ .
عِليّ
ع ْثمَانَ ,وَ َ
خوَارِجَ غَا َي ُتهُمْ َتكْفِيرُ ُ
خوَارِجِ ا ْلمَارِقِينَ ,فَإِنّ الْ َ
شرّ مِنْ مَذْ َهبِ الْ َ
َومَذْ َهبُ الرّا ِفضَةِ َ
ج ْمهُورِ السّابِقِينَ الَْأ ّولِينَ َ ,وتَجْحَدُ
ع ْثمَانَ ,وَ ُ
ع َمرَ ,وَ ُ
,وَشِي َع ِت ِهمَا ,وَالرّا ِفضَةَ َتكْفِيرُ َأبِي َب ْكرٍ ,وَ ُ
خوَارِجُ ,وَفِيهِمْ مِنْ ا ْلكَ ِذبِ
ل اللّهِ صلى ال عليه وسلم أَعْظَمَ ِممّا جَحَدَ بِهِ الْ َ
سنّةِ رَسُو ِ
مِنْ ُ
94
سِلمِينَ مَا َل ْيسَ
علَى ا ْلمُ ْ
خوَارِجِ ,وَفِيهِمْ مِنْ ُمعَا َونَةِ ا ْلكُفّارِ َ
وَالِا ْف ِترَاءِ وَا ْل ُغُلوّ وَالِْإلْحَادِ مَا َليْسَ فِي الْ َ
سِلمِينَ وَالرّا ِفضَةُ هُمْ
حصُلُ بِ َد ْولَةِ ا ْلمُ ْ
حبّ ال ّتتَارَ وَ َد ْوَل َتهُمْ لَِأنّهُ يَ ْ
خوَارِجِ ,وَالرّا ِفضَةِ تُ ِ
مِنْ الْ َ
سبَابِ فِي
سِلمِينَ ,وَهُمْ كَانُوا مِنْ أَعْظَمِ الْأَ ْ
علَى ِقتَالِ ا ْلمُ ْ
ش ِركِينَ وَا ْل َيهُودِ وَال ّنصَارَى َ
ُمعَا ِونُونَ ِل ْلمُ ْ
خرَاسَانَ ,وَا ْل ِعرَاقِ ,وَالشّامِ َ ,وكَانَ مِنْ أَعْظَمِ
شرِقِ بِ ُ
سلَا ِمهِمْ إلَى َأرْضِ ا ْلمَ ْ
دُخُولِ ال ّتتَارِ َقبْلَ إ ْ
ضيّةُ ابْنِ ا ْل َعلْ َق ِميّ
حرِي ِمهِمْ ,وَ َق ِ
س ْبيِ َ
سِلمِينَ وَ َ
سلَامِ وَ َقتْلِ ا ْلمُ ْ
علَى أَخْذِهِمْ ِل ِبلَادِ الْإِ ْ
النّاسِ ُمعَا َونَةً َلهُمْ َ
عمُومُ النّاسِ َ .وكَ َذِلكَ
شهُو َرةٌ َي ْعرِ ُفهَا ُ
حَلبَ مَ ْ
حبِ َ
حَلبَ مَعَ صَا ِ
ض ّيتُهُمْ فِي َ
خلِيفَةِ وَ َق ِ
َوَأ ْمثَالِهِ مَعَ الْ َ
ن الرّا ِفضَةَ
خ ْب َرةِ أَ ّ
ع َرفَ أَهْلُ الْ ِ
سوَاحِلِ الشّامِ قَدْ َ
سِلمِينَ َو َبيْنَ ال ّنصَارَى بِ َ
حرُوبِ اّلتِي َبيْنَ ا ْلمُ ْ
فِي الْ ُ
علَى
عزّ َ
علَى أَخْذِ ا ْل ِبلَادِ َلمّا جَا َء ال ّتتَارُ وَ َ
سِلمِينَ َ ,وَأ ّنهُمْ عَا َونُوهُمْ َ
علَى ا ْلمُ ْ
َتكُونُ مَعَ النّصَارَى َ
ش ِركِينَ كَانَ َذِلكَ
سِلمُونَ ال ّنصَارَى وَا ْلمُ ْ
غَلبَ ا ْلمُ ْ
سوَاحِلِ َ ,وإِذَا َ
غ ْيرِهَا مِنْ ال ّ
عكّا وَ َ
الرّافِضَةِ َفتْحُ َ
عنْدَ
س ّرةً ِ
سِلمِينَ كَانَ َذِلكَ عِيدًا َ ,ومَ َ
ش ِركُونَ وَالنّصَارَى ا ْلمُ ْ
غَلبَ ا ْلمُ ْ
عنْ َد الرّا ِفضَةِ َ ,وإِذَا َ
غصّةً ِ
ُ
سمَاعِيِليّة َ ,وَأ ْمثَاِلهِمْ مِنْ
ص ْي ِريّةِ ,وَالْإِ ْ
ل ال ّزنْدَقَةِ وَالِْإلْحَادِ مِنْ الّن َ
الرّافِضَةِ ,وَدَخَلَ فِي الرّافِضَةِ أَهْ ُ
غ ْيرِ َذِلكَ ,وَالرّافِضَةُ
خرَاسَانَ ,وَا ْل ِعرَاقِ ,وَالشّامِ ,وَ َ
غ ْيرِهِمْ ِممّنْ كَانَ بِ ُ
ا ْل َملَاحِ َدةِ الْ َقرَامِطَةِ وَ َ
خوَارِجِ
علَى اللّهِ َورَسُولِهِ أَعْظَمُ ِممّا فِي الْ َ
ج ْه ِميّةٌ قَ َد ِريّةٌ ,وَفِيهِمْ مِنْ ا ْلكَ ِذبِ وَا ْلبِدَعِ وَالِا ْف ِترَاءِ َ
َ
ل اللّ ِه صلى ال عليه وسلم
عِليّ وَسَا ِئ ُر الصّحَابَةِ بَِأ ْمرِ رَسُو ِ
ا ْلمَارِقِينَ الّذِينَ قَا َتَلهُمْ َأمِيرُ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ َ
شرَائِعِ الدّينِ أَعْظَمُ ِممّا فِي مَا ِنعِي الزّكَاةِ الّذِينَ قَا َتَلهُمْ َأبُو َب ْك ٍر الصّدّيقُ
ن الرّ ّدةِ عَنْ َ
بَلْ فِيهِمْ مِ ْ
خوَارِجَ َق ْولُهُ َ { :فهُمْ يَ ْق ُتلُونَ أَهْلَ
ي صلى ال عليه وسلم الْ َ
وَالصّحَابَةُ َ ,ومِنْ أَعْظَمِ مَا ذَمّ بِهِ ال ّن ِب ّ
عِليّ
سعِيدٍ قَالَ َ { :ب َعثَ َ
حيْنِ :عَنْ َأبِي َ
خرِجَ فِي الصّحِي َ
سلَامِ َويَدَعُونَ أَهْلَ الْأَ ْديَانِ } َ .كمَا أُ ْ
الْإِ ْ
ض َبتْ ُق َر ْيشٌ
س َمهَا َبيْنَ َأ ْر َبعَةٍ َي ْعنِي مِنْ ُأ َمرَاءِ نَجْدٍ َف َغ ِ
ي صلى ال عليه وسلم بِذُ َه ْيبَةٍ فَقَ ّ
إلَى ال ّن ِب ّ
عنَا ,قَالَ :إ ّنمَا َأتََألّ ُفهُمْ َفأَ ْقبَلَ رَجُلٌ غَا ِئرُ ا ْل َع ْي َنيْنِ
صنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ َويَدَ ُ
وَالَْأنْصَارُ قَالُوا ُ :يعْطِي َ
حمّدُ اتّقِ اللّهِ ; فَقَالَ :مَنْ يُطِيعُ
حلُوقٌ ,فَقَالَ :يَا مُ َ
حيَةِ مَ ْ
ث اللّ ْ
جبِينِ َ ,ك ّ
ج َن َتيْنِ نَا ِتئُ الْ َ
ش ِرفُ ا ْلوَ ْ
مُ ْ
علَى أَهْلِ الَْأرْضِ َولَا تَ ْأ َمنُونِي فَسََألَهُ رَجُلٌ َق ْتلَهُ َف َم َنعَهُ َ ,فَلمّا َولّى قَالَ
صيْته َأيَ ْأ َم ُننِي اللّهُ َ
ع َ
اللّهَ إذَا َ
جرَهُمْ َي ْمرُقُونَ مِنْ
حنَا ِ
ضئِ هَذَا َأوْ فِي عَ ِقبِ هَذَا َق ْومًا يَ ْقرَءُونَ الْ ُقرْآنَ لَا يُجَا ِوزُ َ
ضئْ ِ
ن ِ
:إنّ مِ ْ
سلَامِ َ ,ويَدَعُونَ أَهْلَ الَْأ ْوثَانِ َ ,لئِنْ أَ ْد َركْتهمْ لَأَ ْق ُتلَنهُمْ
ن ال ّر ِميّةِ ,يَ ْق ُتلُونَ أَهْلَ الْإِ ْ
سهْمِ مِ ْ
الدّينِ ُمرُوقَ ال ّ
ل اللّهِ صلى ال
عنْدَ رَسُو ِ
سعِيدٍ قَالَ َ :ب ْي َنمَا نَحْنُ ِ
حيْنِ عَنْ { َأبِي َ
َقتْلَ عَادٍ } وَفِي لَفْظٍ فِي الصّحِي َ
ل اللّهِ
ص َرةِ ,وَ ُهوَ رَجُلٌ مِنْ َبنِي َتمِيمٍ .فَقَالَ :يَا رَسُو َ
خ َو ْي ِ
سمًا َأتَاهُ ذُو الْ ُ
عليه وسلم وَ ُهوَ يُقَسّمُ قَ ْ
ع َمرُ :يَا
سرْت إنْ لَمْ َأكُنْ أَعْدِلُ فَقَالَ ُ
خبْت َوخَ ِ
,اعْدِلْ .فَقَالَ َ :و ْيلَك َفمَنْ َيعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلْ قَدْ ِ
95
عنُقَهُ .فَقَالَ :دَعْهُ َفإِنّ لَهُ َأصْحَابًا يَحْ ِقرُ أَحَ ُدكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ
ض ِربُ ُ
رَسُولَ اللّهِ َ ,أتَأْذَنُ لِي فِيهِ فََأ ْ
صيَا ِمهِمْ يَ ْقرَءُونَ الْ ُقرْآنَ لَا يُجَا ِوزُ َترَا ِق َيهُمْ َ ,ي ْمرُقُونَ مِنْ الدّينِ َكمَا َي ْمرُقُ
صيَامَهُ مَ َع ِ
صلَا ِتهِمْ َو ِ
َ
شيْءٌ
ظرُ إلَى ِرصَافِهِ َفلَا يُوجَدُ فِيهِ َ
شيْءٌ ,ثُمّ َينْ ُ
صلِهِ َفلَا يُوجَدُ فِيهِ َ
ظرُ إلَى َن ْ
سهْمُ مِنْ الرّ ِميّةِ َ ,ينْ ُ
ال ّ
سبَقَ الْ َف ْرثَ
شيْءٌ قَدْ َ
ظرُ إلَى قُذَ ِذهِ َفلَا يُوجَدُ فِيهِ َ
شيْءٌ ثُمّ َينْ ُ
ضيّهِ َفلَا يُوجَدُ فِيهِ َ
ظرُ إلَى َن ِ
,ثُمّ َينْ ُ
علَى حِينِ
خرُجُونَ َ
ضعَةِ يَ ْ
عضُ َديْهِ ِمثْلُ ثَ ْديِ ا ْل َم ْرَأةِ َ ,أوْ ِمثْلُ ا ْلبَ ْ
سوَدُ إحْدَى َ
وَالدّمَ ,آ َي ُتهُمْ رَجُلٌ أَ ْ
س ِمعْت هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى ال
شهَدُ َأنّي َ
سعِيدٍ :فََأ ْ
ُفرْقَةٍ مِنْ النّاسِ } .قَالَ َأبُو َ
عِليّ بْنَ َأبِي طَاِلبٍ قَا َتَلهُمْ َوَأنَا َمعَهُ ,فََأ َمرَ
شهَدُ أَنّ َ
عِليّ بْنَ َأبِي طَاِلبٍ قَا َتَلهُمْ َ ,وأَ ْ
عليه وسلم أَنّ َ
ل اللّهِ صلى ال عليه وسلم الّذِي
علَى َن ْعتِ رَسُو ِ
ظرْت إَليْهِ َ
حتّى نَ َ
بِ َذِلكَ الرّجُلِ ,فَا ْل ُت ِمسَ فَُأ ِتيَ بِهِ َ
خوَارِجُ ا ْلمَارِقُونَ مِنْ أَعْظَمِ مَا َذ ّمهُمْ بِهِ ال ّن ِبيّ صلى ال عليه وسلم َأ ّنهُمْ يَ ْق ُتلُونَ
َن َعتَهُ َ ,ف َه ُؤلَاءِ الْ َ
خوَارِجُ مَعَ
ن النّاسِ وَالْ َ
علَى حِينِ ُفرْقَةٍ مِ ْ
خرُجُونَ َ
سلَامِ َويَدَعُونَ أَهْلَ الَْأ ْوثَانِ ,وَ َذ َكرَ َأ ّنهُمْ يَ ْ
أَهْلَ الْإِ ْ
علَى ِقتَالِ
سِلمِينَ ,وَالرّافِضَةُ ُيعَا ِونُونَ ا ْلكُفّارَ َ
علَى ِقتَالِ ا ْلمُ ْ
هَذَا لَمْ َيكُونُوا ُيعَا ِونُونَ ا ْلكُفّارَ َ
سِلمِينَ مَعَ ا ْلكُفّارِ َ ,فكَانُوا
حتّى قَا َتلُوا ا ْلمُ ْ
سلِمِينَ َ
سِلمِينَ َ ,فلَمْ َيكْ ِفهِمْ َأ ّنهُمْ لَا يُقَا ِتلُونَ ا ْلكُفّارَ مَعَ ا ْلمُ ْ
ا ْلمُ ْ
علَى وُجُوبِ ِقتَالِ
سِلمُونَ َ
جمَعَ ا ْلمُ ْ
أَعْظَمَ ُمرُوقًا عَنْ الدّينِ مِنْ أُوَل ِئكَ ا ْلمَارِقِينَ ِب َكثِيرٍ َكثِيرٍ .وَقَدْ أَ ْ
عِليّ رضي ال عنه ,
سِلمِينَ َ ,كمَا قَا َتَلهُمْ َ
جمَاعَةَ ا ْلمُ ْ
حوِهِمْ ,إذَا فَارَقُوا َ
خوَارِجِ وَال ّروَافِضِ َونَ ْ
الْ َ
شرِكِينَ مَا ُهوَ مِنْ
ج ْنكِيزْ خَانْ َمِلكَ ا ْلمُ ْ
ش ِركِينَ َكنَائِسًا وَ ِ
حكَامِ ا ْلمُ ْ
ضمّوا إلَى َذِلكَ مِنْ أَ ْ
َف َك ْيفَ إذَا َ
ح ْك ُمهُمْ وَفِيهِمْ مِنْ الرّدّةِ عَنْ
ح ْكمُهُ ُ
سلَامِ َ ,وكُلّ مَنْ قَ َفزَ إَل ْيهِمْ مِنْ ُأ َمرَاءَ فَ ُ
أَعْظَمِ ا ْل ُمضَا ّدةِ لِدِينِ الْإِ ْ
س ّموْا مَا ِنعِي ال ّزكَاةِ
سَلفُ قَدْ َ
سلَامِ َ .وإِذَا كَانَ ال ّ
شرَائِعِ الْإِ ْ
عنْهُ مِنْ َ
سلَامِ ,بِقَ ْدرِ مَا ا ْرتَدّ َ
شرَائِعِ الْإِ ْ
َ
ن صَارَ
سِلمِينَ َ ,ف َك ْيفَ ِممّ ْ
جمَاعَةَ ا ْلمُ ْ
صلّونَ َ ,ولَمْ َيكُونُوا يُقَا ِتلُونَ َ
ُم ْرتَدّينَ مَعَ َك ْو ِنهِمْ َيصُومُونَ َو ُي َ
س َت ْولَى َه ُؤلَاءِ ا ْلمُحَا ِربُونَ ِللّهِ
سِلمِينَ مَعَ َأنّهُ وَا ْل ِعيَاذُ بِاَللّهِ َلوْ ا ْ
مَعَ أَعْدَاءِ اللّهِ َورَسُولِهِ قَا ِتلًا ِل ْلمُ ْ
صرَ .فِي ِمثْلِ هَذَا
علَى َأرْضِ الشّامِ َومِ ْ
َورَسُولِهِ ا ْلمُحَادّونَ ِللّهِ َورَسُولِهِ ا ْل ُمعَادُونَ ِللّهِ َورَسُولِهِ َ ,
حوِ ِهمَا
صرَ َونَ ْ
شرَا ِئعِهِ َ .أمّا الطّائِفَةُ بِالشّامِ َو ِم ْ
سلَامِ وَ ُدرُوسِ َ
ا ْلوَ ْقتِ َلأَ ْفضَى َذِلكَ إلَى َزوَالِ دِينِ الْإِ ْ
ق النّاسِ دُخُولًا فِي الطّائِفَةِ ا ْل َمنْصُو َرةِ
سلَامِ ,وَهُمْ مِنْ أَحَ ّ
َفهُمْ فِي هَذَا ا ْلوَ ْقتِ ا ْلمُقَا ِتلُونَ عَنْ دِينِ الْإِ ْ
عنْهُ { :لَا َتزَالُ
ستَفِيضَةِ َ
ث الصّحِيحَةِ ا ْلمُ ْ
ي صلى ال عليه وسلم بِ َق ْولِهِ فِي الْأَحَادِي ِ
اّلتِي َذ َكرَهَا ال ّنبِ ّ
حتّى تَقُومَ السّاعَةُ } .
ضرّهُمْ مَنْ خَالَ َفهُمْ َولَا مَنْ خَ َذَلهُمْ َ
علَى الْحَقّ لَا َي ُ
طَائِفَةٌ مِنْ ُأ ّمتِي ظَا ِهرِينَ َ
ي صلى ال عليه وسلم َت َكلّمَ ِبهَذَا ا ْل َكلَامِ
سلِمٍ { :لَا َيزَالُ أَهْلُ ا ْل َغ ْربِ } .وَال ّنبِ ّ
وَفِي ِروَايَةٍ ِلمُ ْ
شرِيقَ وَال ّت ْغرِيبَ مِنْ
ن التّ ْ
ع ْنهَا ,فَإِ ّ
شرُقُ َ
شرْقُهُ مَا يَ ْ
ع ْنهَا ,وَ َ
ِبمَدِي َنتِهِ ال ّنبَ ِويّةِ َ ,ف َغ ْربُهُ مَا َي ْغ ُربُ َ
96
س َكنْ َد ِريّة مِنْ ا ْل َغ ْربِ
غ ْربٌ َ ,وِلهَذَا إذَا قَدِمَ الرّجُلُ إلَى الْإِ ْ
شرْقٌ وَ َ
س ِبيّةِ ,إذْ كُلّ َبلَدٍ لَهُ َ
الُْأمُورِ النّ ْ
سمّونَ أَهْلَ
سمّونَ أَهْلَ الشّامِ أَهْلَ ا ْل َغ ْربِ َ ,ويُ َ
شرْقِ َ ,وكَانَ أَهْلُ ا ْلمَدِينَةِ يُ َ
يَقُولُونَ :سَا َفرَ إلَى ال ّ
طبَا .
شرِقِ َفخَ َ
جلَانِ مِنْ أَهْلِ ا ْلمَ ْ
ع َمرَ قَالَ :قَدِمَ رَ ُ
شرْقِ َ ,كمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ ُ
نَجْدٍ وَا ْل ِعرَاقِ أَهَلَ ال ّ
ح ْنبَلٍ :أَهْلُ ا ْل َغ ْربِ هُمْ أَهْلُ الشّامِ َ .ي ْعنِي
حمَدُ بْنُ َ
وَفِي ِروَايَةٍ { :مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ } َ .وِلهَذَا قَالَ أَ ْ
شرْقِ َ ,وكُلّ
ع ْنهَا َف ُهوَ مِنْ ال ّ
شرُقُ َ
شرْقِ َ ,وكُلّ مَا يَ ْ
هُمْ أَهْلُ ا ْل َغ ْربِ َكمَا أَنّ نَجْدًا وَا ْل ِعرَاقِ َأوّلُ ال ّ
حيْنِ :أَنّ ُمعَاذَ بْنَ
غيْرِهَا َف ُهوَ دَاخِلٌ فِي ا ْل َغ ْربِ .وَفِي الصّحِي َ
صرَ وَ َ
مَا َي ْغ ُربُ عَنْ الشّامِ مِنْ ِم ْ
جبَلٍ قَالَ فِي الطّائِفَةِ ا ْل َم ْنصُو َرةِ ,وَهُمْ بِالشّامِ فَِإ ّنهَا َأصْلُ ا ْل َم ْغ ِربِ ,وَهُمْ َفتَحُوا سَا ِئرَ ا ْل َم ْغ ِربِ :
َ
ع ْنهَا
غ ْربُ ا ْلمَدِينَةِ ال ّنبَ ِويّةِ مَا يَ ْق ُربُ َ
غ ْيرِ َذِلكَ َ ,وإِذَا كَانَ َ
َك ِمصْرِ ,وَالْ َق ْي َروَانِ ,وَالَْأنْ َدلُسِ ,وَ َ
علَى
حوَهَا َ
حرّانَ وَالرّقّةَ وسمنصاط َونَ ْ
علَى مُسَا َمتَةِ ا ْلمَدِينَةِ ال ّن َب ِويّةِ َكمَا أَنّ َ
حوُهَا َ
فَال ّن ّي َرةُ َونَ ْ
ي صلى ال عليه وسلم ِلمَا
مُسَا َمتَةِ َمكّةَ َ ,فمَا َي ْغ ُربُ عَنْ ال ّنيّ َرةِ َف ُهوَ مِنْ ا ْل َغ ْربِ الّذِينَ وَعَدَهُ ْم ال ّن ِب ّ
خرَ فِي صِفَةِ الطّائِفَةِ ا ْل َم ْنصُو َرةِ َأ ّنهُمْ بَِأ ْكنَافِ ا ْل َب ْيتِ ا ْلمُقَدّسِ ,وَهَ ِذهِ
تَقَدّمَ .وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آ َ
حوَالَ ا ْلعَالَمِ فِي هَذَا ا ْلوَ ْقتِ َف َعلِمَ أَنّ هَ ِذهِ
الطّائِفَةُ ِهيَ اّلتِي ِبَأ ْكنَافِ ا ْل َب ْيتِ ا ْلمُقَ ّدسِ ا ْل َيوْمَ َومَنْ يَ ّد ّبرُ أَ ْ
غ ْر ِبهَا ,فَِإ ّنهُمْ هُمْ
شرْقِ الَْأرْضِ وَ َ
جهَادًا عَنْ َ
ع َملًا وَ ِ
ع ْلمًا وَ َ
سلَامِ ِ
طوَا ِئفِ بِدِينِ الْإِ ْ
الطّائِفَةَ ِهيَ أَ ْقوَمُ ال ّ
ش ِركِينَ َ ,وأَهْلِ ا ْل ِكتَابِ َ ,و َمغَازِيهِمْ مَ َع ال ّنصَارَى ,
ش ْوكَةِ ا ْلعَظِيمَةِ مِنْ ا ْلمُ ْ
الّذِينَ يُقَا ِتلُونَ أَهْلَ ال ّ
غ ْيرِهِمْ :
خلِينَ فِي الرّافِضَةِ وَ َ
ش ِركِينَ مِنْ ال ّت ْركِ َ ,ومَ َع ال ّزنَادِقَةِ ا ْل ُمنَافِقِينَ مِنْ الدّا ِ
َومَعَ ا ْلمُ ْ
سِلمِينَ
حوِهِمْ مِنْ الْ َقرَامِطَةِ َ ,م ْعرُوفَةٌ َم ْعلُومَةٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَا ْل ِعزّ الّذِي ِل ْلمُ ْ
سمَاعِيِليّةِ َ ,ونَ ْ
كَالْإِ ْ
علَى
س ّتمِائَةٍ دَخَلَ َ
سعِينَ وَ ِ
سنَةَ تِسْعٍ َوتِ ْ
ِبمَشَارِقِ الَْأرْضِ َو َمغَا ِر ِبهَا ُهوَ ِب ِعزّهِمْ َوِلهَذَا َلمّا ُه ِزمُوا َ
حكَايَاتُ فِي
سلَامِ مِنْ الذّلّ وَا ْلمُصِيبَةِ ِبمَشَارِقِ الَْأرْضِ َو َمغَا ِر ِبهَا مَا لَا َي ْعَلمُهُ إلّا اللّهُ ,وَالْ ِ
أَهْلِ الْإِ ْ
جزُونَ عَنْ
ضعَافٌ عَا ِ
سكّانَ ا ْل َيمَنِ فِي هَذَا ا ْلوَ ْقتِ ِ
ض َعهَا ,وَ َذِلكَ أَنّ ُ
َذِلكَ َكثِي َرةٌ َل ْيسَ هَذَا َم ْو ِ
سمْعِ
سلُوا بِال ّ
حتّى َذ َكرُوا َأ ّنهُمْ َأرْ َ
ض ّيعُونَ لَهُ ,وَهُمْ مُطِيعُونَ ِلمَنْ َمَلكَ هَ ِذهِ ا ْل ِبلَادَ َ
جهَادِ َأوْ ُم َ
الْ ِ
سكّانُ
جرَى َ .وَأمّا ُ
جرَى ِبهَا مِنْ الْ َقتْلِ مَا َ
حَلبَ َ
ش ِركِينَ َلمّا جَاءَ إلَى َ
وَالطّاعَةِ ِل َه ُؤلَاءِ َ ,و َمِلكُ ا ْلمُ ْ
ضلَالِ وَالْفُجُورِ مَا لَا
شرِيعَةِ ,وَفِيهِمْ مِنْ ا ْلبِدَعِ وَال ّ
الْحِجَازِ َفَأ ْك َثرُهُمْ َأوْ َكثِيرٌ ِم ْنهُمْ خَارِجُونَ عَنْ ال ّ
جزُونَ َ ,وِإ ّنمَا َتكُونُ َلهُمْ الْ ُق ّوةُ وَا ْل ِع ّزةُ
ضعَفُونَ عَا ِ
س َت ْ
َي ْعَلمُهُ إلّا اللّهُ َ ,وأَهْلُ الْإِيمَانِ وَالدّينِ فِيهِمْ مُ ْ
سلَامِ ِبهَ ِذهِ ا ْل ِبلَادِ َ ,فَلوْ َذّلتْ هَ ِذهِ الطّائِفَةُ وَا ْل ِعيَاذُ بِاَللّهِ َتعَالَى َلكَانَ
فِي هَذَا ا ْلوَ ْقتِ ِل َغ ْيرِ أَهْلِ الْإِ ْ
غَلبَ فِيهِ ْم الرّفْضُ َ ,و َمَلكَ َه ُؤلَاءِ ال ّتتَارُ ا ْلمُحَا ِربُونَ
س ّيمَا وَقَدْ َ
ا ْل ُم ْؤمِنُونَ بِالْحِجَازِ مِنْ أَذَلّ النّاسِ لَا ِ
عرَا ُبهَا غَاِلبُونَ
غَلبُوا لَفَسَدَ الْحِجَازُ بِا ْل ُكّليّةِ َ .وَأمّا ِبلَادُ إ ْفرِي ِقيّةَ فَأَ ْ
ِللّهِ َورَسُولِهِ الْآنَ َمرْفُوضُونَ َفَلوْ َ
97
ستِيلَاءِ
جهَادِ وَا ْل َغزْوِ َ .وَأمّا ا ْل َغ ْربُ الْأَ ْقصَى َفمَعَ ا ْ
س َتحِقّونَ ِللْ ِ
خلْقِ بَلْ هُمْ مُ ْ
شرّ الْ َ
عَل ْيهَا ,وَهُمْ مِنْ َ
َ
س َكرِهِمْ مِنْ ال ّنصَارَى
جهَادِ النّصَارَى الّذِينَ ُهنَاكَ بَلْ فِي عَ ْ
علَى َأ ْك َثرِ ِبلَادِهِمْ لَا يَقُومُونَ بِ ِ
الْإِ ْف ِرنْجِ َ
علَى هَ ِذهِ ا ْل ِبلَادِ َلكَانَ أَهْلُ ا ْل َم ْغ ِربِ َم َعهُمْ مِنْ
س َت ْولَى ال ّتتَارُ َ
خلْقٌ عَظِيمٌ َلوْ ا ْ
ص ْلبَانَ َ
ن ال ّ
ح ِملُو َ
الّذِينَ َي ْ
غ ْي ُرهُ
علَى أَهْلِ ا ْل َمغْ ِربِ َ ,فهَذَا وَ َ
ح ْزبًا َ
س ّيمَا وَال ّنصَارَى تَ ْدخُلُ مَعَ ال ّتتَارِ َف َيصِيرُونَ ِ
أَذَلّ النّاسِ لَا ِ
عزّ
عزّهُمْ ِ
سلَامِ ,وَ ِ
صرَ فِي هَذَا ا ْلوَ ْقتِ هُمْ َكتِيبَةُ الْإِ ْ
ِممّا ُي َبيّنُ أَنّ هَ ِذهِ ا ْل ِعصَابَةَ اّلتِي بِالشّامِ َومِ ْ
عزّ َولَا َكِلمَةٌ عَاِليَةٌ َ ,ولَا
سلَامِ ِ
عَل ْيهِمْ ال ّتتَارُ لَمْ َيبْقَ ِللْإِ ْ
س َت ْولَى َ
سلَامِ َ ,فَلوْ ا ْ
سلَامِ ,وَ ُذّلهُمْ ذُلّ الْإِ ْ
الْإِ ْ
ع ْنهُمْ إلَى ال ّتتَارِ كَانَ أَحَقّ بِالْ ِقتَالِ
عنْهُ َ ,فمَنْ قَ َفزَ َ
طَائِفَةٌ ظَا ِه َرةٌ عَاِليَةٌ يَخَا ُفهَا أَهْلُ الَْأرْضِ تُقَاتِلُ َ
غيْرُ ا ْل ُم ْك َرهِ .
مِنْ َكثِيرٍ مِنْ ال ّتتَارِ ,فَإِنّ ال ّتتَارَ فِيهِمْ ا ْل ُم ْك َرهُ وَ َ
صِليّ مِنْ وُجُوهٍ ُم َتعَدّ َدةٍ ِ :م ْنهَا :
سنّةُ بِأَنّ عُقُوبَةَ ا ْل ُم ْرتَدّ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ ا ْلكَا ِفرِ الَْأ ْ
ستَ َق ّرتْ ال ّ
وَقَدْ ا ْ
صِليّ .
خلَافِ ا ْلكَا ِفرِ الَْأ ْ
ج ْزيَةٌ َ ,ولَا ُتعْقَدُ لَهُ ِذمّةٌ بِ ِ
عَليْهِ ِ
أَنّ ا ْل ُمرْتَدّ يُ ْقتَلُ ِبكُلّ حَالٍ َ ,ولَا ُيضْ َربُ َ
صِليّ الّذِي َليْسَ ُهوَ مِنْ أَهْلِ
خلَافِ ا ْلكَا ِفرِ الَْأ ْ
جزًا عَنْ الْ ِقتَالِ بِ ِ
َو ِم ْنهَا :أَنّ ا ْل ُم ْرتَدّ يُ ْقتَلُ َوإِنْ كَانَ عَا ِ
ج ْمهُورِ
حمَدَ َ .وِلهَذَا كَانَ مَذْ َهبُ الْ ُ
حنِيفَة َ ,ومَاِلكٍ َ ,وأَ ْ
عنْدَ َأ ْك َثرِ ا ْلعَُلمَاءِ َكَأبِي َ
الْ ِقتَالِ فَِإنّهُ لَا يُ ْقتَلُ ِ
حمَدَ َ .و ِم ْنهَا أَنّ ا ْل ُمرْتَدّ لَا َي ِرثُ َ ,ولَا ُينَاكَحُ
أَنّ ا ْل ُمرْتَدّ يُ ْقتَلُ َكمَا ُهوَ مَذْ َهبُ مَاِلكٍ ,وَالشّا ِف ِعيّ َ ,وأَ ْ
ت الرّ ّدةُ عَنْ
حكَامِ َ ,وإِذَا كَا َن ْ
غ ْيرِ َذِلكَ مِنْ الْأَ ْ
صِليّ ,إلَى َ
خلَافِ ا ْلكَا ِفرِ الَْأ ْ
حتُهُ ,بِ ِ
َ ,ولَا ُت ْؤكَلُ َذبِي َ
صِليّ
خرُوجِ الْخَارِجِ الَْأ ْ
شرَا ِئعِهِ أَعْظَمُ مِنْ ُ
َأصْلِ الدّينِ أَعْظَمَ مِنْ ا ْلكُ ْفرِ ِبَأصْلِ الدّينِ ,فَالرّ ّدةُ عَنْ َ
حوَالَ ال ّتتَارِ َو َي ْعلَمُ أَنّ ا ْل ُم ْرتَدّينَ الّذِينَ فِيهِمْ مِنْ الْ ُفرْسِ
شرَا ِئعِهِ َ ,وِلهَذَا كَانَ كُلّ ُم ْؤمِنٍ َي ْع ِرفُ أَ ْ
عَنْ َ
شهَا َد َتيْنِ
حوِهِمْ ,وَهُمْ َبعْدَ أَنْ َت َكّلمُوا بِال ّ
صلِيّينَ مِنْ ال ّت ْركِ َونَ ْ
شرّ مِنْ ا ْلكُفّارِ الَْأ ْ
غ ْيرِهِمْ َ
وَا ْلعَ َربِ وَ َ
غ ْيرِهِمْ َ .و ِبهَذَا َي َت َبيّنُ
خ ْيرٌ مِنْ ا ْل ُم ْرتَدّينَ مِنْ الْ ُف ْرسِ وَا ْل َعرَبِ وَ َ
شرَائِعِ الدّينِ َ
مَعَ َت ْر ِكهِمْ ِل َكثِيرٍ مِنْ َ
سلِمَ
شرّ مِنْ ال ّت ْركِ الّذِينَ كَانُوا كُفّارًا ,فَإِنّ ا ْلمُ ْ
سلِمَ الَْأصْلِ ُهوَ َ
أَنّ مَنْ كَانَ َم َعهُمْ ِممّنْ كَانَ مُ ْ
شرَائِعِ ِمثْلُ :
س َوأَ حَالًا ِممّنْ لَمْ يَدْخُلْ َبعْدُ فِي ِت ْلكَ ال ّ
شرَا ِئعِهِ كَانَ أَ ْ
صلِيّ إذَا ا ْرتَدّ عَنْ َبعْضِ َ
الَْأ ْ
شرَائِعِ ُمتَفَ ّقهًا َ ,أوْ
مَا ِنعِي ال ّزكَاةِ َوَأ ْمثَاِلهِمْ ِممّنْ قَا َتَلهُمْ الصّدّيقُ َ .وإِنْ كَانَ ا ْل ُم ْرتَدّ عَنْ َبعْضِ ال ّ
خلُوا فِي ِت ْلكَ
ن ال ّت ْركِ الّذِينَ لَمْ يَدْ ُ
شرّ مِ ْ
غ ْيرَ َذِلكَ َف َه ُؤلَاءِ َ
جرًا َ ,أوْ كَا ِتبًا َ ,أوْ َ
ُم َتصَوّفًا َأوْ تَا ِ
علَى الدّينِ مَا لَا يَجِدُونَهُ
ض َررِ َه ُؤلَاءِ َ
ن َ
سِلمُونَ مِ ْ
سلَامِ َ ,وِلهَذَا يَجِدُ ا ْلمُ ْ
علَى الْإِ ْ
صرّوا َ
شرَائِعِ َوَأ َ
ال ّ
شرَا ِئعِهِ وَطَاعَ ِة اللّهِ َورَسُولِهِ أَعْظَمَ مِنْ انْ ِقيَادِ َه ُؤلَاءِ الّذِينَ
سلَامِ وَ َ
ضرَرِ أُوَل ِئكَ َ ,و َينْقَادُونَ ِللْإِ ْ
مِنْ َ
ا ْرتَدّوا عَنْ َبعْضِ الدّينِ َونَافَقُوا فِي َبعْضِهِ َ ,وإِنْ تَظَا َهرُوا بِالِا ْنتِسَابِ إلَى ا ْل ِعلْمِ وَالدّينِ ,وَغَايَةُ مَا
ج ْه ِميّا اتّحَا ِديّا
خيَارُهُمْ َيكُونُ َ
ضيّا ,وَ ِ
سمَاعِيِليّا َ ,أوْ رَا ِف ِ
ص ْي ِريّا َ ,أوْ إ ْ
يُوجَدُ مِنْ َه ُؤلَاءِ َيكُونُ ُملْحِدًا ُن َ
98
جرٌ
سلَامِ إلّا ُمنَافِقٌ َ ,أوْ ِزنْدِيقٌ َ ,أوْ فَاسِقٌ فَا ِ
ظ ِهرِينَ ِللْإِ ْ
طوْعًا مِنْ ا ْلمُ ْ
ح َوهُ ,فَِإنّهُ لَا َي ْنضَمّ إَل ْيهِمْ َ
َأوْ نَ ْ
جمِيعَهُ إذْ لَا
س َكرَ َ
عَل ْينَا أَنْ نُقَاتِلَ ا ْلعَ ْ
علَى ِن ّيتِهِ َ ,ونَحْنُ َ
خرَجُوهُ َم َعهُمْ ُم ْكرَهًا فَِإنّهُ ُي ْب َعثُ َ
َ ,ومَنْ أَ ْ
غ ْي ِرهِ .وَقَدْ َث َبتَ فِي الصّحِيحِ :عَنْ ال ّن ِبيّ صلى ال عليه وسلم َأنّهُ قَالَ :
َي َت َم ّيزُ ا ْل ُم ْك َرهُ مِنْ َ
سفَ ِبهِمْ فَقِيلَ :يَا رَسُولَ
ج ْيشٌ مِنْ النّاسِ َ ,ف َب ْي َنمَا هُمْ ِب َبيْدَاءَ مِنْ الَْأ ْرضِ إذْ خُ ِ
{ َي ْغزُو هَذَا ا ْل َبيْتَ َ
ي صلى ال
ن ال ّن ِب ّ
ستَفِيضٌ عَ ْ
علَى ِنيّا ِتهِمْ } .وَالْحَدِيثُ مُ ْ
اللّهِ ,إنّ فِيهِمْ ا ْل ُم ْكرَهَ .فَقَالَ ُ :ي ْب َعثُونَ َ
سَلمَةَ .فَفِي
خرَجَهُ َأ ْربَابُ الصّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ ,وَحَ ْفصَةَ َ ,وأُمّ َ
عليه وسلم مِنْ ُوجُوهٍ ُم َتعَدّ َدةٍ أَ ْ
ل اللّ ِه صلى ال عليه وسلم َ :يعُوذُ عَائِذٌ بِا ْل َب ْيتِ
سَلمَةَ قَاَلتْ { :قَالَ رَسُو ُ
سلِمٍ :عَنْ أُمّ َ
صَحِيحِ مُ ْ
ل اللّهِ َ ,ف َك ْيفَ ِبمَنْ كَانَ
سفَ ِبهِمْ فَ ُقلْت :يَا رَسُو َ
َف ُي ْب َعثُ إَليْهِ َب ْعثٌ فَإِذَا كَانُوا ِب َبيْدَاءَ مِنْ الَْأرْضِ خُ ِ
حيْنِ :عَنْ
علَى ِن ّيتِهِ } وَفِي الصّحِي َ
سفُ بِهِ َم َعهُمْ َوَل ِكنّهُ ُي ْب َعثُ َيوْمَ الْ ِقيَامَةِ َ
كَارِهًا .قَالَ ُ :يخْ َ
ص َنعْت
ع َبثَ رَسُولُ اللّهِ صلى ال عليه وسلم فِي َمنَامِهِ فَ ُق ْلنَا :يَا رَسُولَ اللّهِ َ ,
عَائِشَةَ قَاَلتْ َ { :
جبُ أَنّ نَاسًا مِنْ ُأ ّمتِي َي ُؤمّونَ هَذَا ا ْل َب ْيتَ ِبرَجُلٍ مِنْ
ش ْيئًا فِي َمنَامِك لَمْ َتكُنْ تَ ْف َعلُهُ .فَقَالَ :ا ْلعَ َ
َ
سفَ ِبهِمْ .فَ ُق ْلنَا :يَا رَسُولَ اللّهِ ,إنّ
حتّى إذَا كَانُوا بِا ْل َبيْدَاءِ خُ ِ
ُق َر ْيشٍ ,وَقَدْ لَجَأَ إلَى ا ْل َب ْيتِ َ
سبِيلِ َف َي ْهِلكُونَ َم ْهَلكًا
جنُونُ وَابْنُ ال ّ
صرُ وَا ْلمَ ْ
س َت ْن ِ
جمَعُ النّاسَ .قَالَ َ :نعَمْ ,فِيهِمْ ا ْلمُ ْ
طرِيقَ قَدْ يَ ْ
ال ّ
علَى ِنيّا ِتهِمْ } وَفِي لَفْظٍ ِل ْلبُخَا ِريّ :عَنْ
عزّ وَجَلّ َ
شتّى َ ,ي ْب َع ُثهُمْ اللّهُ َ
وَاحِدًا َو َيصْدُرُونَ َمصَا ِدرَ َ
ج ْيشٌ ا ْل َك ْعبَةِ فَإِذَا كَانُوا ِب َبيْدَاءَ مِنْ
ل اللّ ِه صلى ال عليه وسلم َ :ي ْغزُو َ
عَائِشَةَ قَاَلتْ { :قَالَ رَسُو ُ
خرِهِمْ ,وَفِيهِمْ
سفُ بَِأ ّوِلهِمْ وَآ ِ
ل اللّهِ ,يُخْ َ
خرِهِمْ .قَاَلتْ ُ :قلْت :يَا رَسُو َ
سفُ ِبَأ ّوِلهِمْ وَآ ِ
الَْأرْضِ يُخْ َ
علَى ِنيّا ِتهِمْ } .وَفِي صَحِيحِ
خرِهِمْ ثُمّ ُي ْب َعثُونَ َ
سفُ ِبَأ ّوِلهِمْ وَآ ِ
سوَا ُقهُمْ َومَنْ َل ْيسَ ِم ْنهُمْ .قَالَ :يُخْ َ
أَ ْ
س َيعُوذُ ِبهَذَا ا ْل َب ْيتِ َ -ي ْعنِي ا ْل َك ْعبَةَ
ل اللّهِ صلى ال عليه وسلم قَالَ َ :
سلِمٍ :عَنْ حَ ْفصَةَ { أَنّ رَسُو َ
مُ ْ
حتّى إذَا كَانُوا ِب َبيْدَاءَ مِنْ
ج ْيشٌ َي ْو َمئِذٍ َ
ستْ َلهُمْ َم َنعَةٌ َولَا عَدَدٌ َولَا عُ ّدةٌ ُ ,ي ْب َعثُ إَل ْيهِمْ َ
َ -قوْمٌ َليْ َ
عبْ ُد اللّهِ
سفُ بْنُ مَا َهكَ َ :وأَهْلُ الشّامِ َي ْو َمئِذٍ يَسِيرُونَ إلَى َمكّةَ فَقَالَ َ
سفَ ِبهِمْ } .قَالَ يُو ُ
الَْأرْضِ خُ ِ
ح ُرمَاتِهِ
ج ْيشَ الّذِي َأرَادَ أَنْ َي ْن َت ِهكَ ُ
جيْشِ َفاَللّهُ َتعَالَى أَ ْهَلكَ الْ َ
بْنُ صَ ْفوَانَ َ :أمَا َواَللّهِ مَا ُهوَ ِبهَذَا الْ َ
جبُ
علَى ِنيّا ِتهِمْ َ .ف َك ْيفَ يَ ِ
علَى ال ّت ْميِيزِ َب ْي َنهُمْ مَعَ َأنّهُ َي ْب َع ُثهُمْ َ
غ ْيرَ ا ْل ُم ْك َرهِ .مَعَ قُ ْد َرتِهِ َ
ا ْل ُم ْكرَهَ فِيهِمْ وَ َ
غيْ ِرهِ وَهُمْ لَا َي ْعَلمُونَ َذِلكَ بَلْ َلوْ ادّعَى مُدّعٍ َأنّهُ
علَى ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ا ْلمُجَاهِدِينَ أَنْ ُي َم ّيزُوا َبيْنَ ا ْل ُم ْك َرهِ وَ َ
َ
طلِبِ قَالَ لِل ّن ِبيّ
عبْدِ ا ْلمُ ّ
عوَاهُ َ .كمَا ُر ِويَ { أَنّ ا ْل َعبّاسَ بْنَ َ
جرّدِ دَ ْ
خرَجَ ُم ْكرَهًا لَمْ َينْ َفعْهُ َذِلكَ ِبمُ َ
َ
ل اللّهِ ,إنّي ُ ,كنْت ُم ْكرَهًا .فَقَالَ :
سلِمُونَ َيوْمَ بَ ْدرٍ :يَا رَسُو َ
س َرهُ ا ْلمُ ْ
صلى ال عليه وسلم َلمّا أَ َ
خيَارِ
سرِي َرتُك َفِإلَى اللّهِ } .بَلْ َلوْ كَانَ فِيهِمْ َقوْ ٌم صَالِحُونَ مِنْ ِ
عَل ْينَا َوَأمّا َ
َأمّا ظَا ِهرُك َفكَانَ َ
99
علَى أَنّ ا ْلكُفّارَ َلوْ َت َترّسُوا
النّاسِ َولَمْ ُي ْمكِنْ ِقتَاُلهُمْ إلّا بِ َقتْلِ َه ُؤلَاءِ لَ ُق ِتلُوا َأ ْيضًا فَإِنّ الَْأ ِئمّةَ ُمتّفِقُونَ َ
خفْ
سِلمِينَ إذَا لَمْ يُقَا ِتلُوا فَِإنّهُ يَجُوزُ أَنْ َن ْر ِم َيهُمْ َونَقْصِدَ ا ْلكُفّارَ َ ,وَلوْ لَمْ نَ َ
علَى ا ْلمُ ْ
سِلمِينَ وَخِيفَ َ
ِبمُ ْ
جهَادِ
سِلمِينَ َأ ْيضًا فِي أَحَدِ َق ْوَليْ ا ْل ُعلَمَاءِ َ .ومَنْ ُقتِلَ لِأَجْلِ الْ ِ
سِلمِينَ جَازَ وَ ِهيَ أُوَل ِئكَ ا ْلمُ ْ
علَى ا ْلمُ ْ
َ
علَى ِن ّيتِهِ َ ,ولَمْ َيكُنْ َق ْتلُهُ
شهِيدًا َ ,و ُب ِعثَ َ
ظلُومٌ كَانَ َ
الّذِي َأ َمرَ اللّهُ بِهِ َورَسُولُهُ ُهوَ فِي ا ْلبَاطِنِ مَ ْ
جبًا َوإِنْ ُقتِلَ مِنْ
جهَادُ وَا ِ
أَعْظَمَ فَسَادًا مِنْ َقتْلِ مَنْ يُ ْقتَلُ مِنْ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ا ْلمُجَاهِدِينَ َ ,وإِذَا كَانَ الْ ِ
جهَادِ َل ْيسَ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا ,
سِلمِينَ لِحَاجَةِ الْ ِ
سِلمِينَ مَا شَا َء اللّهُ فَقِيلَ مَنْ يُ ْقتَلُ فِي صَ ّفهِمْ مِنْ ا ْلمُ ْ
ا ْلمُ ْ
سيْفِهِ َوَليْسَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ َ ,وإِنْ
سرِ َ
ي صلى ال عليه وسلم ا ْل ُم ْك َرهَ فِي ِقتَالِ الْ ِف ْتنَةِ ِبكَ ْ
بَلْ قَدْ َأ َمرَ ال ّن ِب ّ
س َتكُونُ
ل اللّ ِه صلى ال عليه وسلم :إ ّنهَا َ
سلِمٍ عَنْ َأبِي َب ْك َرةَ { قَالَ رَسُو ُ
ُقتِلَ َ ,كمَا فِي صَحِيحِ مُ ْ
خ ْيرٌ مِنْ
خ ْيرٌ مِنْ ا ْلمَاشِي ,وَا ْلمَاشِي فِيهَا َ
ِفتَنٌ َألَا ثُمّ َتكُونُ ِفتَنٌ َألَا ثُمّ َتكُونُ ِفتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا َ
غنَمٌ َف ْل َيلْحَقْ
السّاعِي َ ,ألَا فَإِذَا َن َزلَتْ َأوْ وَ َق َعتْ َفمَنْ كَانَ لَهُ إبِلٌ َف ْل َيلْحَقْ بِِإ ِبلِهِ َ ,ومَنْ كَا َنتْ لَهُ َ
ل اللّهِ َ ,أ َرَأيْت مَنْ لَمْ
ِب َغ َنمِهِ َ ,ومَنْ كَا َنتْ لَهُ َأرْضٌ َف ْل َيلْحَقْ ِبَأرْضِهِ ,قَالَ :فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُو َ
جرٍ ,ثُمّ ِل َينْجُ إنْ
علَى حَ ّدهِ بِحَ َ
سيْفِهِ َفيَدُقّ َ
غنَمٌ َ ,ولَا َأرْضٌ قَالَ َ :ي ْعمِدُ إلَى َ
َيكُنْ لَهُ إبِلٌ َ ,ولَا َ
ل اللّهِ ,
ستَطَاعَ النّجَاةَ .الّلهُمّ هَلْ َبّلغْت ,الّلهُمّ هَلْ َبّلغْت الّلهُمّ هَلْ َبّلغْت .فَقَالَ رَجُلٌ :يَا رَسُو َ
اْ
سيْفِهِ َأوْ
ض ِر ُبنِي رَجُلٌ بِ َ
طلَقَ بِي إلَى إحْدَى الصّفّيْنِ َأوْ إحْدَى الْ ِف َئ َتيْنِ َف َي ْ
حتّى ُينْ َ
َأ َرَأيْت إنْ ُأ ْكرِهْت َ
ب النّارِ } .فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ َأنّهُ
س ْهمِهِ َفيَ ْق ُتَلنِي .قَالَ َ :يبُوءُ بِِإ ْثمِهِ َوِإ ْثمِك َ ,و َيكُونُ مِنْ َأصْحَا ِ
بِ َ
سلَاحِ الّذِي يُقَاتِلُ
ع ِتزَالِ َأوْ إ ْفسَادِ ال ّ
َنهَى عَنْ الْ ِقتَالِ فِي الْ ِف ْتنَةِ بَلْ َأ َمرَ ِبمَا َي َتعَ ّذرُ َمعَهُ الْ ِقتَالُ مِنْ الِا ْ
ظ ْلمًا كَانَ الْقَاتِلُ قَدْ بَاءَ بِِإ ْثمِهِ
غ ْي ُرهُ ثُمّ َبيّنَ أَنّ ا ْل ُم ْك َرهَ إذَا ُقتِلَ ُ
بِهِ .وَقَدْ َدخَلَ فِي َذِلكَ ا ْل ُم ْك َرهُ وَ َ
ظلُومِ { إنّي ُأرِيدُ أَنْ َتبُوءَ بِِإ ْثمِي َوِإ ْثمِك
َوِإثْمِ ا ْلمَ ْقتُولِ َكمَا قَالَ َتعَالَى فِي ِقصّةِ ا ْب َنيْ آدَمَ عَنْ ا ْلمَ ْ
علَى نَفْسِهِ
ل صَائِلٌ َ
جزَاءُ الظّاِلمِينَ } َو َم ْعلُومٌ أَنّ الِْإنْسَانَ إذَا صَا َ
َف َتكُونَ مِنْ َأصْحَابِ النّارِ وَ َذِلكَ َ
علَى َق ْوَليْنِ ُهمَا
عَليْهِ الدّفْعُ بِالْ ِقتَالِ َ
جبُ َ
جمَاعِ َوِإ ّنمَا َتنَازَعُوا هَلْ يَ ِ
سنّةِ وَالْإِ ْ
جَازَ لَهُ الدّفْعُ بِال ّ
صفّ .وَالثّا ِنيَةُ :يَجُوزُ لَهُ
ضرْ ال ّ
ح ُ
جبُ الدّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ َوَلوْ لَمْ يَ ْ
حمَدَ :إحْدَا ُهمَا َ :ي ِ
ِروَا َيتَانِ عَنْ أَ ْ
الدّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ َ .وَأمّا الِا ْبتِدَاءُ بِالْ ِقتَالِ فِي الْ ِف ْتنَةِ َفلَا يَجُوزُ ِبلَا َر ْيبٍ ,وَا ْلمَ ْقصُودُ َأنّهُ إذَا كَانَ
حتّى يُ ْقتَلَ
ص ِبرَ َ
سلَاحِهِ َ ,وأَنْ َي ْ
عَليْهِ إفْسَادُ ِ
علَى الْ ِقتَالِ فِي الْ ِف ْتنَةِ َل ْيسَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ ,بَلْ َ
ا ْل ُم ْكرَهُ َ
سلَامِ َ :كمَا ِنعِي
شرَائِعِ الْإِ ْ
سِلمِينَ مَعَ الطّائِفَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ َ
علَى ِقتَالِ ا ْلمُ ْ
ظلُومًا َف َك ْيفَ بِا ْل ُم ْك َرهِ َ
مَ ْ
حضُورِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ
علَى الْ ُ
عَليْهِ إذَا ُأ ْك ِرهَ َ
جبُ َ
حوِهِمْ َ ,فلَا َر ْيبَ أَنّ هَذَا يَ ِ
ال ّزكَاةِ ,وَا ْلمُ ْرتَدّينَ َ ,ونَ ْ
سلِمِينَ َ ,و َكمَا َلوْ َأ ْك َرهَ
حضُورِ صَ ّفهِمْ ِليُقَاتِلَ ا ْلمُ ْ
علَى ُ
سِلمُونَ َكمَا َلوْ َأ ْكرَهَهُ ا ْلكُفّارُ َ
َوإِنْ َق َتلَهُ ا ْلمُ ْ
100
سِلمِينَ َ ,وإِنْ َأ ْكرَهَهُ بِالْ َقتْلِ
سلِمٍ َمعْصُومٍ فَِإنّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ َق ْتلُهُ بِاتّفَاقِ ا ْلمُ ْ
علَى َقتْلِ مُ ْ
جلًا َ
رَجُلٌ رَ ُ
غ ْي َرهُ َفيَ ْق ُتلَهُ ِ ,ل َئلّا
ظلِمَ َ
فَِإنّهُ َل ْيسَ حِفْظُ نَفْسِهِ بِ َقتْلِ َذِلكَ ا ْل َمعْصُومِ َأ ْولَى مِنْ ا ْل َع ْكسِ َ ,فَل ْيسَ لَهُ أَنْ يَ ْ
حمَدَ َ ,ومَاِلكٍ ,
عنْدَ َأ ْك َثرِ ا ْل ُعَلمَاءِ :كَأَ ْ
جمِيعًا ِ
علَى ا ْل ُم ْك ِرهِ َ
يُ ْقتَلَ ُهوَ ,بَلْ إذَا َفعَلَ َذِلكَ كَانَ الْ َقوَدُ َ
حنِيفَةَ ,
علَى ا ْل ُم ْك ِرهِ فَقَطْ كَ َقوْلِ َ :أبِي َ
جبُ الْ َقوَدُ َ
خرِ َ :ي ِ
وَالشّا ِف ِعيّ ,فِي أَحَدِ َق ْوَليْهِ ,وَفِي الْآ َ
جبُ
سفَ :يُو ِ
شرِ َكمَا ُر ِويَ َذِلكَ عَنْ زُ َفرَ َ ,وَأبُو يُو ُ
علَى ا ْل ُم ْك َرهِ ا ْل ُمبَا ِ
حمّدٍ ,وَقِيلَ :الْ َقوَدُ َ
َومُ َ
ي صلى ال عليه
ن ال ّن ِب ّ
سلِمٌ فِي صَحِيحِهِ :عَ ْ
جبْهُ .وَقَدْ َروَى مُ ْ
ضمَانَ بِال ّديَةِ بَدَلَ الْ َقوَدِ َولَمْ يُو ِ
ال ّ
ظهُورِ الدّينِ َ ,وِلهَذَا
صلَحَةِ ُ
وسلم ِقصّةَ َأصْحَابِ الْأُخْدُودِ وَفِيهَا أَنّ ا ْل ُغلَامَ َأ َمرَ بِ َقتْلِ نَفْسِهِ لِأَجْلِ َم ْ
ظنّهِ َأ ّنهُمْ يَ ْق ُتلُونَهُ إذَا كَانَ
علَى َ
غَلبَ َ
صفّ ا ْلكُفّارِ َوإِنْ َ
سلِمُ فِي َ
ج ّوزَ الَْأ ِئمّةُ الَْأ ْر َبعَةُ أَنْ َي ْن َغمِسَ ا ْلمُ ْ
َ
ن الرّجُلُ
خرَ ,فَإِذَا كَا َ
طنَا الْ َقوْلَ فِي هَ ِذهِ ا ْلمَسَْألَةِ فِي َم ْوضِعٍ آ َ
سِلمِينَ .وَقَدْ بَسَ ْ
صلَحَةٌ ِل ْلمُ ْ
فِي َذِلكَ َم ْ
جهَادِ مَعَ أَنّ َق ْتلَهُ نَفْسَهُ أَعْظَمُ مِنْ َق ْتلِهِ ِل َغ ْيرِهِ كَانَ مَا
صلَحَةِ الْ ِ
يَ ْفعَلُ مَا َي ْعتَقِدُ َأنّهُ يُ ْقتَلُ بِهِ ِلأَجْلِ َم ْ
ض َررِ ا ْلعَ ُدوّ ا ْلمُفْسِدِ
حصُلُ إلّا بِ َذِلكَ وَدَفْ ِع َ
غ ْي ِرهِ لِأَجْلِ َمصْلَحَةِ الدّينِ اّلتِي لَا تَ ْ
يُ ْفضِي إلَى َقتْلِ َ
ن الصّائِلَ
علَى أَ ّ
جمَاعُ ُمتّفِ َقيْنِ َ
سنّةُ وَالْإِ ْ
لِلدّينِ وَال ّد ْنيَا ,الّذِي لَا َينْدَفِعُ إلّا بِ َذِلكَ َأ ْولَى َوإِذَا كَا َنتْ ال ّ
سلِمَ إذَا لَمْ َينْدَفِعْ صَ ْولُهُ إلّا بِالْ َقتْلِ ُقتِلَ َوإِنْ كَانَ ا ْلمَالُ الّذِي يَأْخُ ُذهُ قِيرَاطًا مِنْ دِينَارٍ َ ,كمَا قَالَ
ا ْلمُ ْ
شهِيدٌ َ ,ومَنْ ُقتِلَ دُونَ
ث الصّحِيحِ { :مَنْ ُقتِلَ دُونَ مَالِهِ َف ُهوَ َ
ال ّن ِبيّ صلى ال عليه وسلم فِي الْحَدِي ِ
شرَائِعِ
شهِيدٌ } َ .ف َك ْيفَ بِ ِقتَالِ َه ُؤلَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْ َ
ح َرمِهِ َف ُهوَ َ
شهِيدٌ َ ,ومَنْ ُقتِلَ دُونَ َ
َدمِهِ َف ُهوَ َ
ص ْوُلهُمْ َو َب ْغ ُيهُمْ أَقَلّ مَا فِيهِمْ َ ,فإِنّ ِقتَالَ ا ْل ُم ْعتَدِينَ الصّا ِئلِينَ
ن َ
سلَامِ ا ْلمُحَا ِربِينَ ِللّهِ َورَسُولِهِ الّذِي َ
الْإِ ْ
سهِمْ َ ,وَأمْوَاِلهِمْ ,
سِلمِينَ فِي َأنْفُ ِ
علَى ا ْلمُ ْ
جمَاعِ ,وَ َه ُؤلَاءِ ُم ْعتَدُونَ صَا ِئلُونَ َ
سنّةِ وَالْإِ ْ
ثَا ِبتٌ بِال ّ
شهِيدٌ َ ,ف َك ْيفَ
عَل ْيهَا َ ,ومَنْ ُقتِلَ دُو َنهَا َف ُهوَ َ
ل الصّائِلِ َ
ح َر ِمهِمْ ,وَدِي ِنهِمْ َ ,وكُلّ مِنْ هَ ِذهِ ُيبِيحُ ِقتَا َ
وَ ُ
شرّ ا ْل ُبغَاةِ ا ْل ُمتََأ ّولِينَ الظّاِلمِينَ َ ,لكِنْ مَنْ زَعَمَ َأ ّنهُمْ يُقَا َتلُونَ َكمَا
عَل ْيهَا ُكّلهَا وَهُمْ مِنْ َ
ِبمَنْ قَاتَلَ َ
ضلَالًا َبعِيدًا فَإِنّ أَقَلّ مَا فِي ا ْل ُبغَاةِ ا ْل ُمتََأ ّولِينَ أَنْ
ل َ
طأً َقبِيحًا وَضَ ّ
تُقَاتَلُ ا ْل ُبغَاةُ ا ْل ُمتََأ ّولُونَ فَقَدْ أَخْطَأَ خَ َ
ش ْبهَةً َب ّي َنهَا ,
سُلهُمْ ,فَإِنْ َذ َكرُوا ُ
خرَجُوا بِهِ َ .وِلهَذَا قَالُوا :إنّ الِْإمَامَ ُيرَا َ
َيكُونَ َلهُمْ َت ْأوِيلٌ سَائِغٌ َ
ش ْبهَةٍ ِل َه ُؤلَاءِ ا ْلمُحَا ِربِينَ ِللّهِ َورَسُولِهِ السّاعِينَ فِي الَْأرْضِ فَسَادًا ,
ظِلمَةً َأزَاَلهَا ,فََأيّ ُ
َوإِنْ َذ َكرُوا مَ ْ
ع َملًا مِنْ هَ ِذهِ
ع ْلمًا وَ َ
سلَامِ ِ
شرَائِعِ الدّينِ َولَا َر ْيبَ َأ ّنهُمْ لَا يَقُولُونَ َأ ّنهُمْ أَ ْقوَمُ بِدِينِ الْإِ ْ
وَالْخَارِجِينَ عَنْ َ
سلَامٍ ِم ْنهُمْ َ ,وَأ ْتبَعُ لَهُ ِم ْنهُمْ ,
علَ ُمهُمْ بِإِ ْ
سلَامَ َي ْعَلمُونَ أَنّ هَ ِذهِ الطّائِفَةَ أَ ْ
عوَاهُمْ الْإِ ْ
الطّائِفَةِ بَلْ ُهوَ مَعَ دَ ْ
سِلمِينَ بِالْ ِقتَالِ ,
سلِمٍ َوكَا ِفرٍ َي ْعلَمُ َذِلكَ وَهُمْ مَعَ َذِلكَ ُينْ ِذرُونَ ا ْلمُ ْ
سمَاءِ مِنْ مُ ْ
حتَ أَدِيمِ ال ّ
َوكُلّ مَنْ تَ ْ
حرِيمِ
س َبوْا غَاِلبَ َ
سِلمِينَ َك ْيفَ وَهُمْ قَدْ َ
حلّونَ ِبهَا ِقتَالَ ا ْلمُ ْ
ستَ ِ
ش ْبهَةٌ َب ّينَةٌ يَ ْ
فَا ْم َتنَعَ أَنْ َتكُونَ َلهُمْ ُ
101
ظمُونَ ا ْلبُ ْقعَةَ َويَ ْأخُذُونَ مَا فِيهَا مِنْ
حتّى إنّ النّاسَ قَدْ َرَأوْهُمْ ُيعَ ّ
الرّعِيّةِ الّذِينَ لَمْ يُقَا ِتلُوهُمْ ؟ َ
حرِيمَهُ
سبُونَ َ
عَليْهِ مِنْ ال ّثيَابِ َ ,ويَ ْ
سُلبُونَهُ مَا َ
ن الرّجُلَ َو َي َت َب ّركُونَ بِهِ َ ,ويَ ْ
ظمُو َ
الَْأ ْموَالِ َ ,و ُيعَ ّ
جرُهُمْ ,وَا ْل ُمتََأوّلُ تَ ْأوِيلًا دِي ِنيّا لَا
ظلَمُ النّاسِ َوأَفْ َ
َو ُيعَا ِقبُونَهُ بَِأ ْنوَاعِ ا ْلعُقُوبَاتِ اّلتِي لَا ُيعَا َقبُ ِبهَا إلّا أَ ْ
طوَعُ
ظمُونَ مَنْ ُيعَا ِقبُونَهُ فِي الدّينِ َ ,ويَقُولُونَ :إنّهُ أَ ْ
صيًا لِلدّينِ ,وَهُمْ ُيعَ ّ
ُيعَا ِقبُ إلّا مَنْ َيرَاهُ عَا ِ
ِللّهِ ِم ْنهُمْ ,فََأيّ َت ْأوِيلٍ بَ ِقيَ َلهُمْ ,ثُمّ َلوْ قُ ّدرَ َأ ّنهُمْ ُمتََأ ّولُونَ لَمْ َيكُنْ َت ْأوِيُلهُمْ سَا ِئغًا ,بَلْ تَ ْأوِيلُ
عوْا ا ّتبَاعَ الْ ُقرْآنِ َ ,وأَنّ مَا
خوَارِجُ فَِإ ّنهُمْ ادّ َ
خوَارِجِ َومَا ِنعِي ال ّزكَاةِ َأوْجَهُ مِنْ تَ ْأوِيِلهِمْ َ ,أمّا الْ َ
الْ َ
ن اللّهَ قَالَ ِل َن ِبيّهِ
سنّةِ لَا يَجُوزُ ا ْل َعمَلُ بِهِ َ .وَأمّا مَا ِنعُوا ال ّزكَاةِ فَقَدْ َذ َكرُوا َأ ّنهُمْ قَالُوا :إ ّ
خَالَفَهُ مِنْ ال ّ
عَل ْينَا أَنْ نَدْ َف َعهَا ِل َغ ْي ِرهِ َفلَمْ َيكُونُوا يَدْ َفعُو َنهَا
:خُذْ مِنْ َأ ْموَاِلهِ ْم صَدَقَةً وَهَذَا خِطَابٌ ِل َن ِبيّهِ فَقَطْ َفَليْسَ َ
ظ َر ِتهِمْ مَعَ
ظرَاتٌ َك ُمنَا َ
عبَا َدةٌ َوِل ْلعَُلمَاءِ َم َعهُمْ ُمنَا َ
علْمٌ وَ ِ
خوَارِجُ َلهُمْ ِ
خرِجُو َنهَا لَهُ ,وَالْ َ
لَِأبِي َب ْكرٍ َولَا يُ ْ
سِلمِينَ َ ,فَلوْ كَانُوا ُمتََأ ّولِينَ لَمْ َيكُنْ َلهُمْ
علَى ِقتَالِ ا ْلمُ ْ
ظرُونَ َ
ج ْه ِميّةِ َ ,وَأمّا َه ُؤلَاءِ َفلَا ُينَا َ
الرّافِضَةِ وَالْ َ
س ْبعَةِ
ضهُمْ بِأَنْ قَالَ َ :مِل ُكنَا ِمِلكٌ ابْنُ َمِلكٍ ابْنُ َمِلكٍ إلَى َ
ط َبنِي َب ْع ُ
تَ ْأوِيلٌ يَقُولُهُ ذُو عَقْلٍ ,وَقَدْ خَا َ
خرَ بِا ْلكَا ِفرِ ,بَلْ
أَجْدَادٍ َ ,و َمِل ُككُمْ ابْنُ َم ْولًى فَ ُقلْت :لَهُ :آبَاءُ َذِلكَ ا ْل َمِلكِ ُكّلهُمْ كُفّارٌ َ ,ولَا فَ ْ
ش ِركٍ َوَلوْ
خ ْيرٌ مِنْ مُ ْ
ل اللّهُ َتعَالَى { َوَل َعبْدٌ ُم ْؤمِنٌ َ
خ ْيرٌ مِنْ ا ْل َمِلكِ ا ْلكَا ِفرِ ,قَا َ
سلِمُ َ
ا ْل َم ْملُوكُ ا ْلمُ ْ
سلِمَ َوَلوْ
عَليْهِ أَنْ يُطِيعَ ا ْلمُ ْ
جبَ َ
سِلمًا وَ َ
جهُمْ َ ,و َم ْعلُومٌ أَنّ مَنْ كَانَ مُ ْ
ج َبكُمْ } َ .فهَ ِذهِ َوَأ ْمثَاُلهَا حُجَ ُ
أَعْ َ
ي صلى ال عليه وسلم َأنّهُ قَالَ :
عبْدًا َولَا يُطِيعُ ا ْلكَا ِفرَ .وَقَدْ َث َبتَ فِي الصّحِيحِ :عَنْ ال ّن ِب ّ
كَانَ َ
شيّ َكأَنّ َرأْسَهُ َزبِيبَةٌ مَا أَقَامَ فِيكُمْ ِكتَابَ اللّهِ } .وَدِينُ
حبَ ِ
عبْدٌ َ
عَل ْيكُمْ َ
س َمعُوا َوأَطِيعُوا َوإِنْ ُأ ّمرَ َ
{اْ
سلَامِ إ ّنمَا يُ َفضّلُ الِْإنْسَانَ بِإِيمَانِهِ َوتَ ْقوَاهُ لَا بِآبَائِهِ َ ,وَلوْ كَانُوا مِنْ َبنِي هَاشِمٍ أَهْلِ َب ْيتِ ال ّن ِبيّ
الْإِ ْ
عصَاهُ
ق النّارَ ِلمَنْ َ
خلَ َ
شيّا ,وَ َ
حبَ ِ
عبْدًا َ
جنّةَ ِلمَنْ أَطَاعَهُ َوإِنْ كَانَ َ
خلَقَ الْ َ
صلى ال عليه وسلم فَِإنّهُ َ
ج َع ْلنَاكُمْ
خلَ ْقنَاكُمْ مِنْ َذ َكرٍ َوُأ ْنثَى َو َ
شيّا .وَقَدْ قَالَ َتعَالَى { :يَا َأ ّيهَا النّاسُ إنّا َ
شرِيفًا ُقرَ ِ
َوَلوْ كَانَ َ
عنْهُ صلى ال عليه وسلم َأنّهُ قَالَ
سنَنِ َ
عنْدَ اللّهِ َأتْقَاكُمْ } وَفِي ال ّ
شعُوبًا وَ َقبَائِلَ ِل َتعَارَفُوا إنّ َأ ْك َر َمكُمْ ِ
ُ
علَى َأ ْبيَضَ َ ,ولَا لَِأ ْب َيضَ
سوَدَ َ
ع َربِيّ َ ,ولَا لِأَ ْ
علَى َ
ج ِميّ َ
ج ِميّ َ ,ولَا ِلعَ َ
علَى عَ َ
{ " :لَا َفضْلَ ِل َع َر ِبيّ َ
عنْهُ َأنّهُ قَالَ لِ َقبِيلَةٍ
حيْنِ َ :
سوَدَ إلّا بِالتّ ْقوَى ,النّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ ُترَابٍ } .وَفِي الصّحِي َ
علَى أَ ْ
َ
خ َبرَ ال ّن ِبيّ
َقرِيبَةٍ ِمنْهُ { :إنّ آلَ َأبِي ُفلَانٍ َليْسُوا بَِأ ْوِليَائِي إ ّنمَا َوِليّي اللّهُ َوصَالِحُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } َ .فأَ ْ
سبِ ,بَلْ بِالْإِيمَانِ وَالتّ ْقوَى ,فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي
ستْ بِالْ َقرَابَةِ وَالنّ َ
صلى ال عليه وسلم أَنّ ُموَالَاتَهُ َليْ َ
علَى أَنّ مَنْ كَانَ
سِلمُونَ َ
جمَعَ ا ْلمُ ْ
ش ِركِ ,وَقَدْ أَ ْ
ج ْنكِيزْ خَانْ ا ْلكَا ِفرِ ا ْلمُ ْ
َقرَابَةِ الرّسُولِ َف َك ْيفَ بِ َقرَابَةِ ِ
شيّا
حبَ ِ
سوَدَ َ
أَعْظَمَ إيمَانًا َوتَ ْقوًى كَانَ أَ ْفضَلَ ِممّنْ ُهوَ دُونَهُ فِي الْإِيمَانِ وَالتّ ْقوَى َ ,وإِنْ كَانَ الَْأوّلُ أَ ْ
102
سيّا .
عبّا ِ
عَل ِويّا َأوْ َ
وَالثّانِي َ
00000000000000000
خرُجُ ُم ْكرَهًا
جنَادٍ َي ْم َت ِنعُونَ عَنْ ِقتَالِ ال ّتتَارِ َ ,ويَقُولُونَ :إنّ فِيهِمْ مَنْ يَ ْ
- 7 - 778مَسَْألَةٌ :فِي أَ ْ
حمْدُ ِللّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ِ .قتَالُ ال ّتتَارِ الّذِينَ
جوَابُ :الْ َ
َم َعهُمْ َوإِذَا َه َربَ أَحَدُهُمْ هَلْ ُي ّتبَعُ أَمْ لَا ؟ الْ َ
حتّى لَا َتكُونَ
سنّةِ ,فَإِنّ اللّهَ يَقُولُ فِي الْ ُقرْآنِ { وَقَا ِتلُوهُمْ َ
جبٌ بِا ْل ِكتَابِ وَال ّ
قَ ِدمُوا إلَى ِبلَادِ الشّامِ وَا ِ
ِف ْتنَةٌ َو َيكُونَ الدّينُ ُكلّهُ ِللّهِ } وَالدّينُ ُهوَ الطّاعَةُ ,فَإِذَا كَانَ َبعْضُ الدّينِ ِللّهِ َو َبعْضُهُ ِل َغ ْي ِر اللّهِ
ل اللّهُ َتعَالَى { :يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا اتّقُوا اللّهَ
حتّى َيكُونَ الدّينُ ُكلّهُ ِللّهِ َ ,وِلهَذَا قَا َ
جبَ الْ ِقتَالُ َ
وَ َ
ح ْربٍ مِنْ اللّهِ َورَسُولِهِ } .وَهَ ِذهِ
وَ َذرُوا مَا بَ ِقيَ مِنْ ال ّربَا إنْ ُك ْنتُمْ ُم ْؤ ِمنِينَ َ ,فإِنْ لَمْ تَ ْف َعلُوا فَأْ َذنُوا بِ َ
صيَامَ َ ,لكِنْ ا ْم َت َنعُوا مِنْ
صلَاةَ وَال ّ
سلَامِ وَا ْل َت َزمُوا ال ّ
خلُوا فِي الْإِ ْ
الْآيَةُ َن َزَلتْ فِي أَهْلِ الطّا ِئفِ َلمّا دَ َ
ح ّرمَهُ
خرُ مَا َ
ن ال ّربَا ,وَال ّربَا ُهوَ آ ِ
َت ْركِ الرّبَا َف َبيّنَ اللّهُ َأ ّنهُمْ مُحَا ِربُونَ لَهُ َوِلرَسُولِهِ إذَا لَمْ َي ْن َتهُوا عَ ْ
جهَادُهُمْ ,
جبُ ِ
حبِهِ ,فَإِذَا كَانَ َه ُؤلَاءِ مُحَا ِربِينَ ِللّهِ َورَسُولِهِ يَ ِ
اللّهُ ,وَ ُهوَ مَالٌ ُيؤْخَذُ ِب ِرضَا صَا ِ
علَى أَنّ
سِلمِينَ َ
عَلمَاءُ ا ْلمُ ْ
سلَامِ َأوْ َأ ْك َثرَهَا كَال ّتتَارِ .وَقَدْ اتّفَقَ ُ
شرَائِعِ الْإِ ْ
َف َك ْيفَ ِبمَنْ َي ْت ُركُ َكثِيرًا مِنْ َ
جبُ ِقتَاُلهَا إذَا
سلَامِ الظّا ِه َرةِ ا ْل ُم َتوَا ِترَةِ ,فَِإنّهُ يَ ِ
جبَاتِ الْإِ ْ
الطّائِفَةَ ا ْل ُم ْم َتنِعَةَ إذَا ا ْم َت َن َعتْ عَنْ َبعْضِ وَا ِ
ش ْهرِ َر َمضَانَ َ ,أوْ حَجّ ا ْل َب ْيتِ
صيَامِ َ
ن الصّلَاةِ ,وَال ّزكَاةِ َ ,أ ْو ِ
شهَا َد َتيْنِ ,وَا ْم َتنَعُوا عَ ْ
َت َكّلمُوا بِال ّ
خ ْمرِ َ ,أوْ ِنكَاحِ
حشِ َ ,أوْ الْ َ
حرِيمِ الْ َفوَا ِ
سنّةِ َ ,أوْ عَنْ تَ ْ
حكْمِ َب ْي َنهُمْ بِا ْل ِكتَابِ وَال ّ
ا ْل َعتِيقِ َ ,أوْ عَنْ الْ ُ
جهَادِ
سرِ َ ,أوْ الْ ِ
حلَالِ النّفُوسِ وَالَْأ ْموَالِ ِب َغ ْيرِ حَقّ َ ,أ ْو ال ّربَا َ ,أوْ ا ْل َميْ ِ
ستِ ْ
َذوَاتِ ا ْلمَحَارِمِ َ ,أوْ عَنْ ا ْ
سلَامِ ,فَِإ ّنهُمْ يُقَا َتلُونَ
شرَائِعِ الْإِ ْ
حوِ َذِلكَ مِنْ َ
علَى أَهْلِ ا ْل ِكتَابِ َ ,ونَ ْ
ج ْزيَةَ َ
ض ْربِهِمْ الْ ِ
ِل ْلكُفّارِ َ ,أوْ عَنْ َ
ظرَ َأبَا َب ْكرٍ فِي مَا ِنعِي
ع َمرَ َلمّا نَا َ
حيْنِ :أَنّ ُ
حتّى َيكُونَ الدّينُ ُكلّهُ ِللّهِ .وَقَدْ َث َبتَ فِي الصّحِي َ
عَل ْيهَا َ
َ
ج َبهَا اللّهُ َورَسُولُهُ َ ,وإِنْ كَانَ قَدْ
ال ّزكَاةِ قَالَ لَهُ َأبُو َب ْكرٍ َ :ك ْيفَ لَا أُقَاتِلُ مَنْ َت َركَ الْحُقُوقَ اّلتِي َأوْ َ
عنَاقًا كَانُوا ُيؤَدّو َنهَا إلَى رَسُولِ
ن ال ّزكَاةَ مِنْ حَ ّقهَا َواَللّهِ َلوْ َم َنعُونِي َ
سلَمَ كَال ّزكَاةِ .وَقَالَ لَهُ :فَإِ ّ
أَ ْ
ح اللّهُ
شرَ َ
ع َمرُ َ ,فمَا ُهوَ إلّا أَنْ َرَأيْت قَدْ َ
علَى َم ْن ِعهَا ,قَالَ ُ
اللّهِ صلى ال عليه وسلم لَقَا َتلْتهمْ َ
ي صلى ال
غ ْيرِ وَجْهٍ أَنّ ال ّن ِب ّ
صَ ْدرَ َأبِي َب ْكرٍ ِللْ ِقتَالِ َف َعِلمْت َأنّهُ الْحَقّ .وَقَدْ َث َبتَ فِي الصّحِيحِ مِنْ َ
صيَا ِمهِمْ
صيَامَهُ مَعَ ِ
صلَا ِتهِمْ َو ِ
صلَاتَهُ مَ َع َ
خوَارِجَ وَقَالَ فِيهِمْ { " :يَحْ ِقرُ أَحَ ُدكُ ْم َ
عليه وسلم َذ َكرَ الْ َ
سهْمُ
سلَامِ َكمَا َي ْمرُقُ ال ّ
جرَهُمْ َ ,ي ْمرُقُونَ مِنْ الْإِ ْ
حنَا ِ
وَ ِقرَا َءتَهُ مَعَ ِقرَا َء ِتهِمْ ,يَ ْقرَءُونَ الْ ُقرْآنَ لَا يُجَا ِوزُ َ
عنْ َد اللّهِ ِلمَنْ َق َتَلهُمْ َيوْمَ الْ ِقيَامَةِ َلئِنْ
جرًا ِ
مِنْ ال ّر ِميّةِ َأ ْي َنمَا لَقِي ُتمُوهُمْ فَا ْق ُتلُوهُمْ ,فَإِنّ فِي َق ْتِلهِمْ أَ ْ
علَى ِقتَالِ َه ُؤلَاءِ َ ,وَأوّلُ مَنْ قَا َتَلهُمْ َأمِيرُ
سَلفُ وَالَْأ ِئمّةُ َ
أَ ْد َر ْك ُتهُمْ لََأ ْق ُتَل ّنهُمْ َقتْلَ عَادٍ } .وَقَدْ اتّفَقَ ال ّ
103
خلَافَةِ َبنِي
سِلمُونَ يُقَا ِتلُونَ فِي صَ ْدرِ ِ
عِليّ بْنُ َأبِي طَاِلبٍ رضي ال عنه َ ,ومَا زَالَ ا ْلمُ ْ
ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َ
ظَلمَةً َ ,وكَانَ الْحَجّاجُ َو ُنوّابُهُ ِممّنْ يُقَا ِتلُو َنهُمْ َ ,فكُلّ َأ ِئمّةِ
ُأ َميّةَ َو َبنِي ا ْل َعبّاسِ مَعَ الُْأ َمرَاءِ َوإِنْ كَانُوا َ
سلَامِ مِنْ مَا ِنعِي ال ّزكَاةِ
شرِيعَةِ الْإِ ْ
خرُوجًا عَنْ َ
شبَا ُههُمْ أَعْظَمُ ُ
سِلمِينَ يَ ْأ ُمرُونَ بِ ِقتَاِلهِمْ وَال ّتتَارُ َوأَ ْ
ا ْلمُ ْ
جهَلُ النّاسِ
شكّ فِي ِقتَاِلهِمْ َف ُهوَ أَ ْ
ك ال ّربَا َ ,فمَنْ َ
خوَارِجِ مِنْ أَهْلِ الطّا ِئفِ الّذِينَ ا ْم َت َنعُوا عَنْ َت ْر ِ
وَالْ َ
سِلمِينَ َ ,كمَا { قَالَ
جبَ ِقتَاُلهُمْ قُو ِتلُوا َوإِنْ كَانَ فِيهِمْ ا ْل ُم ْك َرهُ بِاتّفَاقِ ا ْلمُ ْ
ح ْيثُ وَ َ
سلَامِ ,وَ َ
بِدِينِ الْإِ ْ
ي صلى ال عليه وسلم
ل ال ّن ِب ّ
خرَجْت ُم ْكرَهًا ,فَقَا َ
ل اللّهِ ,إنّي َ
سرَ َيوْمَ بَ ْدرٍ :يَا رَسُو َ
ا ْل َعبّاسُ َلمّا أُ ِ
ج ْيشَ ا ْلكُفّارِ إذَا
علَى أَنّ َ
سرِي َرتُك فَِإلَى اللّهِ } .وَقَدْ اتّفَقَ ا ْل ُعَلمَاءُ َ
عَل ْينَا َوَأمّا َ
َ :أمّا ظَا ِهرُك َفكَانَ َ
ن الضّ َررُ إذَا لَمْ يُقَا َتلُوا َ ,وإِنْ
سِلمِي َ
علَى ا ْلمُ ْ
سِلمِينَ وَخِيفَ َ
سرَى ا ْلمُ ْ
عنْدَهُمْ مِنْ أَ ْ
َت َترّسُوا ِبمَنْ ِ
جوَازِ الْ ِقتَالِ
سِلمِينَ فَفِي َ
علَى ا ْلمُ ْ
خفْ َ
سِلمِينَ الّذِينَ َت َترّسُوا ِبهِمْ َ ,وإِنْ لَمْ يُ َ
أَ ْفضَى َذِلكَ إلَى َقتْلِ ا ْلمُ ْ
سِلمُونَ إذَا ُق ِتلُوا كَانُوا
شهُورَانِ ِل ْل ُعَلمَاءِ ,وَ َه ُؤلَاءِ ا ْلمُ ْ
سِلمِينَ َق ْولَانِ مَ ْ
ا ْلمُفْضِي إلَى َقتْلِ َه ُؤلَاءِ ا ْلمُ ْ
سِلمِينَ إذَا قَا َتلُوا ا ْلكُفّارَ َفمَنْ ُقتِلَ
شهِيدًا ,فَإِنّ ا ْلمُ ْ
جبُ لِأَجْلِ مَنْ يُ ْقتَلُ َ
جهَادُ ا ْلوَا ِ
شهَدَاءَ َولَا ُي ْت َركُ الْ ِ
ُ
سلَامِ كَانَ
صلَحَةِ الْإِ ْ
ستَحِقّ الْ َقتْلَ لِأَجْلِ َم ْ
شهِيدًا َ ,ومَنْ ُقتِلَ وَ ُهوَ فِي ا ْلبَاطِنِ لَا يَ ْ
سِلمِينَ َيكُونُ َ
مِنْ ا ْلمُ ْ
ي صلى ال عليه وسلم َأنّهُ قَالَ َ { " :ي ْغزُو هَذَا ا ْل َب ْيتَ
حيْنِ :عَنْ ال ّن ِب ّ
شهِيدًا .وَقَدْ َث َبتَ فِي الصّحِي َ
َ
ل اللّهِ ,وَفِيهِمْ
سفَ ِبهِمْ .فَقِيلَ :يَا رَسُو َ
ج ْيشٌ مِنْ النّاسِ َف َب ْي َنمَا هُمْ ِب َبيْدَاءَ مِنْ الَْأرْضِ إذْ خُ ِ
َ
ج ْيشِ الّذِي َي ْغزُو
علَى ِنيّا ِتهِمْ } .فَإِذَا كَانَ ا ْلعَذَابُ الّذِي ُي ْن ِزلُهُ اللّهُ بِالْ َ
ا ْل ُم ْكرَهُ فَقَالَ ُ :ي ْب َعثُونَ َ
سِلمِينَ ُي ْن ِزلُهُ بِا ْل ُم ْك َرهِ َ ,ف َك ْيفَ بِا ْلعَذَابِ الّذِي ُيعَ ّذ ُبهُمْ اللّهُ بِهِ َأوْ بَِأيْدِي ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ َكمَا قَالَ َتعَالَى
ا ْلمُ ْ
عنْ ِدهِ َأوْ
س َن َييْنِ َونَحْنُ َن َت َربّصُ ِبكُمْ أَنْ ُيصِي َبكُ ْم اللّهُ ِبعَذَابٍ مِنْ ِ
{ قُلْ هَلْ َت َر ّبصُونَ ِبنَا إلّا إحْدَى الْحُ ْ
علَى ال ّت ْميِيزِ فَإِذَا َق َت ْلنَاهُمْ بَِأ ْم ِر اللّهِ ُكنّا فِي َذِلكَ مَأْجُورِينَ
بَِأيْدِينَا } َ .ونَحْنُ لَا َن ْعلَمُ ا ْل ُم ْكرَهَ َولَا نَقْ ِدرُ َ
علَى ِن ّيتِهِ َيوْمَ
شرُ َ
ستَطِيعُ الِا ْم ِتنَاعَ َفِإنّهُ يُحْ َ
علَى ِنيّا ِتهِمْ َ ,فمَنْ كَانَ ُم ْكرَهًا لَا يَ ْ
َو َمعْذُورِينَ َوكَانُوا هُمْ َ
سِلمِينَ .
س َكرِ ا ْلمُ ْ
الْ ِقيَامَةِ ,فَإِذَا ُقتِلَ لِأَجْلِ ِقيَامِ الدّينِ لَمْ َيكُنْ َذِلكَ ِبأَعْظَمَ مِنْ َقتْلِ مَنْ يُ ْقتَلُ مِنْ عَ ْ
جعَلُ ِقتَاَلهُمْ ِب َم ْن ِزلَةِ ِقتَالِ ا ْل ُبغَاةِ ا ْل ُمتََأ ّولِينَ ,وَ َه ُؤلَاءِ إذَا
َوَأمّا إذَا َه َربَ أَحَدُهُمْ فَإِنّ مِنْ النّاسِ مَنْ يَ ْ
علَى
حهِمْ َ ,
جرِي ِ
علَى َ
جهَازُ َ
كَانَ َلهُمْ طَائِفَةٌ ُم ْم َت ِنعَةٌ َفهَلْ َيجُوزُ ا ّتبَاعُ مُ ْد ِبرِهِمْ وَ َقتْلُ أَسِيرِهِمْ وَالْإِ ْ
جمَلِ
عِليّ بْنِ َأبِي طَاِلبٍ نَادَى َيوْمَ الْ َ
شهُو َريْنِ ,فَقِيلَ :لَا يُ ْفعَلُ َذِلكَ ; لِأَنّ ُمنَا ِديَ َ
َق ْوَليْنِ ِل ْلعَُلمَاءِ مَ ْ
جمَلِ لَمْ
جرِيحٍ َ ,ولَا يُ ْقتَلُ أَسِيرٌ ,وَقِيلَ :بَلْ يُ ْفعَلُ َذِلكَ لَِأنّهُ َيوْمَ الْ َ
علَى َ
ج َهزُ َ
:لَا ُي ْتبَعُ مُ ْد ِبرٌ َ ,ولَا يُ ْ
َيكُنْ َلهُمْ طَائِفَةٌ ُم ْم َت ِنعَةٌ َوكَانَ ا ْلمَقْصُودُ مِنْ الْ ِقتَالِ دَ ْف َعهُمْ َ ,فَلمّا انْدَ َفعُوا لَمْ َيكُنْ إلَى َذِلكَ حَاجَةٌ
ج َعَلهُمْ
خلَافِ َذِلكَ َ ,فمَنْ َ
جمَلِ َوصِفّينَ كَانَ َأ ْمرُهُمْ بِ ِ
ِب َم ْن ِزلَةِ َدفْ ِع الصّائِلِ .وَقَدْ ُر ِويَ َأنّهُ َيوْمَ الْ َ
104
صوَابُ أَنّ َه ُؤلَاءِ َليْسُوا مِنْ ا ْل ُبغَاةِ ا ْل ُمتََأ ّولِينَ
جعَلَ فِيهِمْ هَ َذيْنِ الْ َق ْوَليْنِ .وَال ّ
ِب َم ْن ِزلَةِ ا ْل ُبغَاةِ ا ْل ُمتََأ ّولِينَ َ
خوَارِجِ ا ْلمَارِقِينَ َ ,ومَا ِنعِي الزّكَاةِ
ج ْنسِ الْ َ
صلًا َ ,وِإ ّنمَا هُمْ مِنْ ِ
,فَإِنّ َه ُؤلَاءِ َليْسَ َلهُمْ تَ ْأوِيلٌ سَائِغٌ َأ ْ
سلَامِ ,
شرَائِعِ الْإِ ْ
عنْهُ مِنْ َ
خرَجُوا َ
علَى مَا َ
حوِهِمْ ِممّنْ قُو ِتلُوا َ
ح َر ِميّةِ َ ,ونَ ْ
َ ,وأَهْلِ الطّا ِئفِ ,وَالْ َ
ج َعلُوا ِقتَالَ
صنّفِينَ فِي ِقتَالِ أَهْلِ ا ْل َبغْيِ َ
علَى َكثِيرٍ مِنْ النّاسِ مِنْ الْفُ َقهَاءِ ا ْلمُ َ
ش َتبَهَ َ
وَهَذَا َموْضِعٌ ا ْ
ص َرةِ ,وَ ِقتَالَهُ ِل ُمعَا ِويَةَ َوَأ ْتبَاعِهِ مِنْ ِقتَالِ أَهْلِ
عِليّ لِأَهْلِ ا ْلبَ ْ
خوَارِجِ ,وَ ِقتَالَ َ
مَا ِنعِي ال ّزكَاةِ ,وَ ِقتَالَ الْ َ
غلِطُوا
ن النّاسِ ,وَقَدْ َ
ا ْل َب ْغيِ وَ َذِلكَ ُكلّهُ مَ ْأمُورٌ بِهِ ,وَ َفرّعُوا مَسَائِلَ َذِلكَ تَ ْفرِيعَ مَنْ َيرَى َذِلكَ َبيْ َ
سنّةِ َ ,وأَهْلِ ا ْلمَدِينَ ِة ال ّن َب ِويّةِ ,كَالَْأ ْوزَاعِيّ ,وَال ّث ْو ِريّ ,
عَليْهِ َأ ِئمّةُ الْحَدِيثِ ,وَال ّ
ل الصّوَابُ مَا َ
بَ ْ
خ َواِرجِ ثَا ِبتٌ
عِليّ ِللْ َ
غيْرِهِمْ َ ,أنّهُ يُ َفرّقُ َبيْنَ هَذَا وَهَذَا ,فَ ِقتَالُ َ
ح ْنبَلٍ ,وَ َ
حمَدَ بْنِ َ
َومَاِلكٍ َ ,وأَ ْ
سِلمِينَ َ .وَأمّا الْ ِقتَالُ َيوْمَ صِفّينَ
ي صلى ال عليه وسلم بِاتّفَاقِ ا ْلمُ ْ
صرِيحَةِ عَنْ ال ّن ِب ّ
بِالّنصُوصِ ال ّ
حمّدِ
سعْدِ بْنِ َأبِي وَقّاصٍ َ ,ومُ َ
عنْهُ َأكَا ِب ُر الصّحَابَةِ ِمثْلُ َ
ل صَدّ َ
عَليْهِ الصّحَابَةُ ,بَ ْ
ح ِوهِ َفلَمْ َيتّفِقْ َ
َونَ ْ
عِليّ بْنِ َأبِي طَاِلبٍ
غ ْيرِهِمْ َ .ولَمْ َيكُنْ َبعْدَ َ
ع َمرَ ,وَ َ
عبْ ِد اللّهِ بْنِ ُ
سَلمَة َ ,وأُسَامَةَ بْنِ َزيْدٍ ,وَ َ
بْنِ مَ ْ
ث الصّحِيحَةُ عَنْ ال ّن ِبيّ صلى ال عليه وسلم
سعْدِ بْنِ َأبِي وَقّاصٍ ,وَالْأَحَادِي ُ
س َك َريْنِ ِمثْلُ َ
فِي ا ْلعَ ْ
عنْهُ فِي صَحِيحِ
صلَاحُ َبيْنَ َت ْي ِنكَ الطّائِ َف َتيْنِ ,لَا الِا ْق ِتتَالُ َب ْي َن ُهمَا َ .كمَا َث َبتَ َ
جبُ الِْإ ْ
تَ ْق َتضِي َأنّهُ كَانَ َي ِ
ح اللّهُ بِهِ َبيْنَ
صلِ ُ
سيُ ْ
سيّدٌ وَ َ
ج ْيشُ َمعَهُ فَقَالَ { :إنّ ا ْبنِي هَذَا َ
طبَ النّاسَ وَالْ َ
ا ْلبُخَا ِريّ َ :أنّهُ خَ َ
جعَلَ ال ّن ِبيّ
صلَحَ اللّهُ بِالْحَسَنِ َبيْنَ أَهْلِ ا ْلعِرَاقِ َوأَهْلِ الشّامِ } َف َ
طَائِ َف َتيْنِ عَظِي َم َتيْنِ مِنْ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ فََأ ْ
سلّمَ الَْأ ْمرَ
صلَاحَ بِهِ مِنْ َفضَائِلِ الْحَسَنِ ,مَعَ أَنّ الْحَسَنَ َنزَلَ عَنْ الَْأ ْمرِ وَ َ
صلى ال عليه وسلم الِْإ ْ
خلَافَةِ َو ُمصَالَحَةِ ُمعَا ِويَةَ لَمْ َيمْدَحْهُ ال ّنبِيّ
إلَى ُمعَا ِويَةَ َ ,فَلوْ كَانَ الْ ِقتَالُ ُهوَ ا ْلمَ ْأمُورُ بِهِ دُونَ َت ْركِ الْ ِ
علَى َت ْركِ الَْأ ْولَى
علَى َت ْركِ مَا ُأ ِمرَ بِهِ ,وَ ِفعْلِ مَا لَمْ ُي ْؤ َمرْ بِهِ َولَا مَ َدحَهُ َ
صلى ال عليه وسلم َ
حبّهُ اللّهُ َورَسُولُهُ لَا الْ ِقتَالُ .وَقَدْ َث َبتَ فِي
وَ ِفعْلِ الْأَ ْدنَى َ ,ف ُعلِمَ أَنّ الّذِي َف َعلَهُ الْحَسَنُ ُهوَ الّذِي كَانَ يُ ِ
علَى فَخِ َذيْهِ َويَقُولُ { :الّلهُمّ إنّي
ضعُهُ َوأُسَامَةَ َ
ي صلى ال عليه وسلم كَانَ َي َ
الصّحِيحِ :أَنّ ال ّن ِب ّ
ل اللّهِ صلى ال عليه وسلم َل ُهمَا
حبّةِ رَسُو ِ
ظ َهرَ َأ َثرُ َم َ
ح ّب ُهمَا } .وَقَدْ َ
حبّ مَنْ يُ ِ
ح ّب ُهمَا َوأَ ِ
ح ّبهُمْ فَأَ ِ
أُ ِ
ِب َكرَا َه ِتهِمَا الْ ِقتَالَ فِي الْ ِف ْتنَةِ ,فَإِنّ أُسَامَةَ ا ْم َتنَعَ عَنْ الْ ِقتَالِ مَعَ وَاحِ َدةٍ مِنْ الطّائِ َف َتيْنِ َ ,وكَ َذلِكَ الْحَسَنُ
علَى َأبِيهِ
عِليّ بَِأنّهُ لَا يُقَاتِلُ َوَلمّا صَارَ الَْأ ْمرُ إَليْهِ َفعَلَ مَا كَانَ يُشِيرُ بِهِ َ
علَى َ
كَانَ دَا ِئمًا يُشِيرُ َ
عنْ ُه صلى ال عليه وسلم فِي الصّحِيحِ َأنّهُ قَالَ َ { " :ت ْمرُقُ
رضي ال عنهم أجمعين .وَقَدْ َث َبتَ َ
خوَارِجُ
سِلمِينَ تَ ْق ُتُلهُمْ َأ ْولَى الطّائِ َف َتيْنِ بِالْحَقّ } َ .فهَ ِذهِ ا ْلمَارِقَةُ هُمْ الْ َ
علَى حِينِ ُفرْقَةٍ مِنْ ا ْلمُ ْ
مَارِقَةٌ َ
خوَارِجِ ,
عِليّ بْنُ َأبِي طَاِلبٍ ,وَهَذَا ُيصَدّقُهُ بَ ِقيّةُ الْأَحَادِيثِ اّلتِي فِيهَا الَْأ ْمرُ بِ ِقتَالِ الْ َ
,وَقَا َتَلهُمْ َ
105
عِليّ َأ ْولَى بِالْحَقّ مِنْ ُمعَا ِويَةَ
حبّ ُه اللّهُ َورَسُولُهُ َ .وأَنّ الّذِينَ قَا َتلُوهُمْ مَعَ َ
َو ُت َبيّنُ أَنّ َق ْتَلهُمْ ِممّا يُ ِ
ي صلى ال عليه وسلم بِالْ ِقتَالِ ِلوَاحِ َدةٍ مِنْ
َوأَصْحَابِهِ ,مَعَ َك ْو ِنهِمْ َأ ْولَى بِالْحَقّ َ ,فلَمْ يَ ْأ ُمرْ ال ّن ِب ّ
ي صلى ال عليه
ن ال ّن ِب ّ
صلَاحَ َب ْي َن ُهمَا .وَقَدْ َث َبتَ عَ ْ
خوَارِجِ ,بَلْ مَدَحَ الِْإ ْ
الطّائِ َف َتيْنِ َكمَا َأ َمرَ بِ ِقتَالِ الْ َ
ضعُهُ
ث الصّحِيحَةِ مَا َل ْيسَ هَذَا َم ْو ِ
وسلم مِنْ َكرَاهَةِ الْ ِقتَالِ فِي الْ ِفتَنِ وَالتّحْذِيرِ ِم ْنهَا مِنْ الَْأحَادِي ِ
خ ْيرٌ
خ ْيرٌ مِنْ ا ْلمَاشِي ,وَا ْلمَاشِي َ
خ ْيرٌ مِنْ الْقَائِمِ ,وَالْقَائِمُ فِيهَا َ
س َتكُونُ ِف ْتنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا َ
كَ َق ْولِهِ َ { :
طرِ
جبَالِ َو َموَاقِعَ الْقَ ْ
ش َعفَ الْ ِ
غنَمٌ َي ّتبِعُ ِبهَا َ
سلِمِ َ
خ ْيرُ مَالِ ا ْلمُ ْ
شكُ أَنْ َيكُونَ َ
مِنْ السّاعِي } وَقَالَ { يُو ِ
سِلمِينَ
طوَا ِئفِ ا ْلمُ ْ
سِلمِينَ وَ َ
حرُوبِ اّلتِي َتكُونُ َبيْنَ ُملُوكِ ا ْلمُ ْ
,يَ ِفرّ بِدِينِهِ مِنْ الْ ِفتَنِ } .فَالْ ِفتَنُ ِمثْلُ الْ ُ
جمَلِ َوصِفّينَ َوِإ ّنمَا
سلَامِ ِمثْلُ مَا كَانَ أَهْلُ الْ َ
شرَائِعِ الْإِ ْ
,مَعَ أَنّ كُلّ وَاحِ َدةٍ مِنْ الطّائِ َف َتيْنِ ُم ْل َت ِزمَةٌ لِ َ
خوَارِجِ َومَا ِنعِي ال ّزكَاةِ َوأَهْلِ الطّا ِئفِ الّذِينَ لَمْ َيكُونُوا
ع َرضَتْ َ .وَأمّا ِقتَالُ الْ َ
شبَهٍ َوُأمُورٍ َ
ا ْق َت َتلُوا لِ ُ
ي صلى ال عليه وسلم
ن ال ّن ِب ّ
شرَائِعِ الثّا ِبتَةِ عَ ْ
خلُوا فِي ال ّ
حتّى يَدْ ُ
ح ّرمُونَ الرّبَا َف َه ُؤلَاءِ يُقَا َتلُونَ َ
يُ َ
علَى
جهَازُ َ
وَ َه ُؤلَاءِ إذَا كَانَ َلهُمْ طَائِفَةٌ ُم ْم َت ِنعَةٌ َفلَا َر ْيبَ َأنّهُ يَجُوزُ َقتْلُ أَسِيرِهِمْ وَا ّتبَاعُ مُ ْد ِبرِهِمْ وَالْإِ ْ
سِلمِينَ أَنْ
علَى ا ْلمُ ْ
جبُ َ
عَليْهِ فَِإنّهُ َي ِ
علَى مَا هُمْ َ
حهِمْ َ ,فإِنّ َه ُؤلَاءِ إذَا كَانُوا مُقِيمِينَ ِب ِبلَادِهِمْ َ
جرِي ِ
َ
علَى دِينِ
حتّى َيكُونَ الدّينُ ُكلّهُ ِللّهِ ,فَإِنّ َه ُؤلَا ِء ال ّتتَارَ لَا يُقَا ِتلُونَ َ
يَ ْقصِدُوهُمْ فِي ِبلَادِهِمْ لِ ِقتَاِلهِمْ َ
عنْهُ َ .وإِنْ كَانَ
ع ِتهِمْ كَفّوا َ
ع ِتهِمْ َ ,فمَنْ َدخَلَ فِي طَا َ
خلُوا فِي طَا َ
حتّى يَدْ ُ
سلَامِ بَلْ يُقَا ِتلُونَ النّاسَ َ
الْإِ ْ
صرَا ِنيّا َأوْ َيهُو ِديّا َومَنْ لَمْ يَدْخُلْ كَانَ عَ ُدوّا َلهُمْ َوإِنْ كَانَ مِنْ الَْأ ْن ِبيَاءِ وَالصّالِحِينَ وَقَدْ
ش ِركًا َأوْ َن ْ
مُ ْ
سِلمِينَ مِنْ
علَى ا ْلمُ ْ
جبُ َ
عبَا َدهُ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ َ ,فيَ ِ
سِلمِينَ أَنْ يُقَا ِتلُوا أَعْدَا َءهُ ا ْلكُفّارَ َو ُيوَالُوا ِ
َأ َمرَ اللّهُ ا ْلمُ ْ
علَى ِقتَالِ ا ْلكُفّارِ َ ,وَل ْيسَ
جمِي ِعهِمْ أَنْ َيكُونُوا ُم َتعَا ِونِينَ َ
صرَ وَا ْل َيمَنِ وَا ْل َم ْغ ِربِ َ
جنْدِ الشّامِ َو ِم ْ
ُ
عَل ْيهِمْ أَنْ يُقَا ِتلُوا مَنْ
جبُ َ
جرّ ِد ال ّريَاسَةِ وَالْأَ ْهوَاءِ َف َه ُؤلَاءِ ال ّتتَارُ أَقَلّ مَا يَ ِ
ضهِمْ أَنْ يُقَاتِلَ َب ْعضًا ِبمُ َ
ِل َبعْ ِ
علَى ِقتَالِ
سِلمِينَ َ ,و َي َتعَا َونُونَ هُمْ وَهُمْ َ
َيلِيهِمْ مِنْ ا ْلكَا ِفرِينَ َ ,وأَنْ َيكُفّوا عَنْ ِقتَالِ مَنْ َيلِيهِمْ مِنْ ا ْلمُ ْ
غ ْيرُ ُم ْك َرهٍ إلّا فَاسِقٌ َ ,أوْ ُم ْبتَدِعٌ َ ,أوْ ِزنْدِيقٌ ,كَا ْل َملَاحِ َدةِ الْ َقرَامِطَةِ
ا ْلكُفّارِ َ .وَأ ْيضًا لَا يُقَاتِلُ َم َعهُمْ َ
حلُوِليّةِ َ ,و َم َعهُمْ ِممّنْ يُ َقلّدُونَهُ مِنْ
طلَةِ مِنْ النّفَاةِ الْ ُ
ج ْه ِميّةِ ا ْل ُمعَ ّ
سبّابَةِ َ ,وكَا ْل َ
ط ِنيّةِ َ ,وكَالرّافِضَةِ ال ّ
وَا ْلبَا ِ
سنُونَ بِهِ الظّنّ ,
جهّالٌ يُ َقلّدُونَ الّذِينَ يُحْ ِ
شرّ ِم ْنهُمْ ,فَإِنّ ال ّتتَارَ ُ
سبِينَ إلَى ا ْل ِعلْمِ وَالدّينِ مَنْ ُهوَ َ
ا ْل ُم ْنتَ ِ
ن اللّهِ
علَى اللّهِ َورَسُولِهِ َ ,و ُيبَ ّدلُونَ دِي َ
ضلَالِ الّذِي َيكْ ِذبُونَ بِهِ َ
غ ّيهِمْ َي ّت ِبعُونَهُ فِي ال ّ
وَهُمْ ِلضَلَاِلهِمْ وَ َ
عَلمُهُ مِنْ ُأمُورِهِمْ
حرّ َم اللّهُ َورَسُولُهُ َولَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ َ ,وَلوْ َوصَفْتُ مَا أَ ْ
ح ّرمُونَ مَا َ
َولَا يُ َ
حنِي ِفيّ
سلَامِ الْ َ
ظ َهرُوا دِينَ الْإِ ْ
ج َت ِمعَانِ َ ,وَلوْ أَ ْ
سلَامِ لَا يَ ْ
ج ْملَةِ َ :فمَذْ َه ُبهُمْ وَدِينُ الْإِ ْ
لَطَالَ الْخِطَابُ َ .وبِالْ ُ
ي صلى ال عليه وسلم
ن ال ّن ِب ّ
الّذِي ُب ِعثَ الرّسُولُ بِهِ لَا ْهتَ َدوْا َوأَطَاعُوا ِمثْلُ الطّائِفَةِ ا ْل َمنْصُو َرةِ .فَإِ ّ
106
ضرّهُمْ مَنْ خَالَ َفهُمْ َولَا
علَى الْحَقّ لَا َي ُ
عنْهُ َأنّهُ قَالَ { :لَا َيزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ ُأ ّمتِي ظَا ِهرِينَ َ
قَدْ َث َبتَ َ
عنْهُ فِي الصّحِيحِ َأنّهُ قَالَ { :لَا َيزَالُ أَهْلُ ا ْل َغ ْربِ
حتّى تَقُومَ السّاعَةُ } َ .و َث َبتَ َ
مَنْ خَ َذَلهُمْ َ
ي صلى ال عليه وسلم َت َكلّمَ ِبهَذَا
حوَهَا } .فَإِنّ ال ّن ِب ّ
ظَا ِهرِينَ َوَأوّلُ ا ْل َغ ْربِ مَا يُسَا ِمتُ ال ّنثْ َرةَ َونَ ْ
ع ْنهَا َف ُهوَ
شرّقَ َ
صرَ َومَا َ
غ ْربٌ كَالشّامِ َو ِم ْ
ع ْنهَا َف ُهوَ َ
ا ْل َكلَامِ وَ ُهوَ بِا ْلمَدِينَةِ ال ّن َب ِويّةِ َ ,فمَا َي ْغ ُربُ َ
سمّونَ أَهْلَ ا ْل ِعرَاقِ
سمّونَ أَهْلَ الشّامِ أَهْلَ ا ْل َم ْغ ِربِ َ ,ويُ َ
سَلفُ يُ َ
جزِي َرةِ وَا ْلعِرَاقِ َوكَانَ ال ّ
شرْقٌ كَالْ َ
َ
عيّةِ فِيهَا مَا ُهوَ مَ ْذكُورٌ فِي
شرْ ِ
ج ْملَةُ اّلتِي َذ َكرْتهَا فِيهَا مِنْ الْآثَارِ وَالْأَ ِدلّةِ ال ّ
شرِقِ .وَهَ ِذهِ الْ ُ
أَهْلَ ا ْلمَ ْ
علَمُ .
غ ْيرِ هَذَا ا ْل َموْضِعِ َ ,واَللّهُ أَ ْ
َ
****************
ويقول العلمة أبو بصير :
لماذا الجهادُ في سبيلِ الِ ..؟
إن الحمد ل نحمدُه ونستعينه ونستهديه ونستغفرُه ،ونعوذ بال من شرور أنفسنا ومن
سيئات أعمالنا ،من يهده الُ فل مُضلّ له ومن يُضلل فل هادي له .
وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له ،وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ،وأنه قد
جاهد في سبيل ال حق جهاده حتى أتاه اليقين ..صلى ال عليه وعلى آله وصحبه وسلّم .
وبعد :فإن كثيرا من الناس ـ على اختلف مقاصدهم ونواياهم ـ يتساءلون :لماذا خيار
الجهاد في سبيل ال ،وليس دونه ..؟!
والذين يسألون هذا السؤال هم أصناف ثلثة:
-1فريق منهم يطرح هذا السؤال استرشادا وطلبا للحق ليلتزموه ..وهؤلء ل حرج
عليهم إن شاء ال .
-2وفريق آخر يطرح هذا السؤال مشككا في جدوى هذا الطريق ..مظهرا نوع شفقة
على المسلمين وعلى حرماتهم ،على اعتبار أن هذا الطريق من لوازمه الوقوع في الفتنة،
وتعريض المسلمين لن تسفك دماؤهم وتُنتهك حرماتهم ..وكذلك تعريض الوطان للدمار
والخراب ..لذلك فهم ل يتورعون في أن يطرحوا نظرياتهم وبدائلهم ـ التي هي من عند
أهوائهم وأنفسهم ـ عن هذا الطريق ..كطرحهم لطريق النتخابات الديمقراطية وما يتفرع
عنها من فروع وتبعات ..وكطريق القتصار على الدعوة باللسان على مبدأ كفوا أيديكم
وأقيموا الصلة ،إلى أن يبعث ال بالفرج أو يظهر المام ..أو طريق القتصار على عنصر
107
التربية ..وغير ذلك من الطرق والطروحات التي تتبناها وتدعو لها بعض الجماعات السلمية
المعاصرة !
-3وفريق ثالث خبثت طويته ،وساء مقصده ..يطرحون هذا السؤال من قبيل الطعن
والستخفاف بمبدأ الجهاد ..وعلى أنه خيار غير متحضر ل يناسب زماننا المعاصر ..ويتمثل
هذا الفريق في موقف العلمانيين على اختلف مدارسهم ومذاهبهم الباطلة !!..
وهذا الفريق العلماني الكافر ـ بحكم الوسائل المتاحة له ـ قد ترك أثره الكبير على
تفكير ومعنويات كثير من المثقفين السلميين ..مما حدا بالخرين أن يقفوا موقف المدافع عن
مبدأ الجهاد في سبيل ال وبطريقة مشوهة وغير لئقة؛ وكأن الجهاد تهمة مشينة تحتاج إلى من
يدافع عنها ..أو يوجد لها المبررات والمسوغات !!
فهم تارة يطرحون مبدأ الجهاد ويحصرونه في معنى الدفاع عن الوطان ..والوطان
التي تُغزى تحديدا من عدو خارجي ..أما الوطان التي تُغزى من العداء الداخليين ـ الذين
يكونون في الغالب هم أشد عداوة للمة والوطان من العداء الخارجيين ،ومن مسيلمة الكذاب
ـ ل يجوز أن يُعمل بالجهاد مع هؤلء الصنف من العداء ..حيث توجد أيام الصدّيق
الطرق الديمقراطية المتحضرة المعروفة دوليا لفك مثل هذه النزاعات الداخلية !!..
وتارة يحصرونه في جهاد الكلمة أو النفس ..وتارة في التنقل بين المساجد والمبيت فيها
على طريقة إخواننا التبليغيين ..وتارة ..وتارة ..فتوسعت الهوة بين معاني هذا الدين العظيم
..وبين مستوى التزام كثير من الناس في زماننا كما أوحاه ال تعالى على عبده ونبيه محمد
المعاصر ..فانعكس ذلك على المة سلبا وذلً وهوانا ،وضياعا !!..
لجل ذلك كله نجد لزاما في أن نجيب على هذا السؤال بشيء من التفصيل والبيان :لماذا
الجهاد في سبيل ال ..؟؟
ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة ..مستلهما من ال تعالى وحده السداد
والعون والتوفيق .
فأقول :ل خيار للمة ـ إن أرادت أن تحيى ،وتسترد عافيتها ،وتستأنف حياتها
السلمية من جديد ـ إل خيار وطريق الجهاد في سبيل ال وفق ما أمر ال تعالى وشرع ..
رضي من رضي وسخط من سخط؛ وذلك لسباب عدة نذكر أهمها في النقاط التالية:
108
أولً :لن ال تعالى أمرنا بالجهاد ..فارتضاه لنا طريقا إلى العزة والنصر والتمكين ..
فهو قدر هذه المة ،ل فكاك لها منه ،أو التنكب عنه ..فليس للمؤمن ـ وهو يُسمى مؤمنا ـ
أن يرتضي لنفسه ولمته شيئا بخلف ما ارتضاه ال تعالى لعباده إل إذا آثر الكفر على
اليمان ،والخروج عن مسمى اليمان اسما وحكما .
والدلة على ذلك أكثر من أن تُحصر في هذا الموضع ،نذكر منها قوله تعالى :كتب
عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر
البقرة.216: لكم وال يعلم وأنتم ل تعلمون
أي فُرض ..وهو كقوله تعالى :كتب عليكم فقوله تعالى :كتب عليكم القتال
من حيث دللة الوجوب ..فكما أن الصيام فرض وكتب على المؤمنين كذلك القتال الصيام
والجهاد في سبيل ال فهو فرض وكتب على المؤمنين .
والمة عندما تستقبل المر بالقتال والجهاد كما تستقبل المر بالصيام ..وتستعد وتفرح
للول كما تستعد وتفرح للثاني ..فحينئذٍ استبشروا بالفتح وبنصر من ال قريب .
ومما يستغرب له ،ويشتد له العجب ..أن المة ل تقبل من أحد ـ أيا كان وصفه أو
بينما نراها ل تحرك كتب عليكم الصيام كانت مكانته ـ أن يجادلها في شرعية ووجوب
ساكنا ،ول تبدي اعتراضا عندما ينبري من ذوي النفوس المريضة المشبوهة من يشكك في
علما أن كل اليتين لهما نفس الدللة من حيث المر كتب عليكم القتال شرعية ووجوب
والوجوب ..؟!!
النفال.39: وقال تعالى :وقاتلوهم حتى ل تكون فتن ٌة ويكونَ الدينُ كله ل
وقال تعالى :إل تنفروا يُعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ول تضروه شيئا وال
التوبة.39: على كل شيء قدير
وقال تعالى :انفروا خفافا وثِقالً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل ال ذلكم خير لكم
التوبة.41: إن كنتم تعلمون
وقال تعالى :إن ال اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يُقاتلون في
سبيل ال فيقتُلون ويُقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من ال
التوبة.111: فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم
109
وهذا بيع قد تم ل يجوز لمؤمن ـ ما دام مؤمنا ـ أن يتخلف عنه وعن تبعاته ..وقوله
من صيغ العموم التي تفيد جميع المؤمنين من دون استثناء .. تعالى :اشترى من المؤمنين
فمن أراد أن يخرج عن عقده وما تم بيعه فهو بذلك يخرج عن كونه من المؤمنين الذين اشترى
ال منهم أنفسهم وأموالهم يَقتلون ويُقتَلون ..وهم رضوا بالبيع مقابل جنة عرضها السماوات
والرض .
وقال تعالى :قاتلوا الذين ل يؤمنون بال ول باليوم الخر ول يحرمون ما حرم الُ
ورسوله ول يدينون دين الحق من الذين أُوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون
التوبة.29:
وقال تعالى :وقاتلوا المشركين كافةً كما يُقاتلونكم كافة واعلموا أن ال مع المتقين
التوبة.36:
وغيرها كثير من اليات التي تفيد وجوب الجهاد ..وأنه المنهج الحق الذي ارتضاه ال
تعالى لعباده ل مناص لهم من تنكبه أو التفلت منه ومن تبعاته إل وهم مرتكبون الوزر والثم،
حاكمين على أنفسهم بالذل والهوان والضياع والعذاب !..
مئات الحاديث التي تحض على الجهاد ،وتأمر به ،وتلزم وفي الحديث فقد صح عنه
به
المة ..وتحذر من تركه أو الغفلة عنه إلى ما سواه من الطرق الخرى الملتوية ،نذكر منها
الطائفة التالية:
":أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ل إله إل ال وأن محمدا قال رسول ال
رسول ال ،ويقيموا الصلة ،ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إل
بحق السلم ،وحسابهم على ال " البخاري .
":بُعثت بين يدي الساعة بالسيف ،حتى يُعبد ال تعالى وحده ل شريك له ،وجعل وقال
رزقي تحت ظل رمحي ،وجُعل الذل والصغار على من خالف أمري "(.)1
":واعلموا أن الجنة تحت ظلل السيوف " البخاري. وقال
":من مات ولم يغزُ ،ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق " مسلم. وقال
":من لم يغز ،أو يجهز غازيا ،أو يخلف غازيا في أهله بخير ،أصابه ال وقال
بقارعة قبل يوم القيامة "(.)2
110
فالمؤمن ل يجوز له إل أن يكون واحدا من ثلث :إما أن يكون غازيا في سبيل ال،
وإما أن يخلف غازيا في أهله بالخير ،وإما أن يجهز غازيا في سبيل ال ..فإن لم يكن واحدا
من هؤلء فلينتظر قارعة تنزل بساحته ـ ل يعلم ماهيتها وحجمها إل ال ـ قبل يوم القيامة
!..
":رباط يوم في سبيل ال خير من ألف يومٍ فيما سواه من المنازل "(.)3 وقال
":الغدوة والروحة في سبيل ال أفضل من الدنيا وما فيها " متفق عليه. وقال
":من اغبرت قدماه في سبيل ال فهو حرام على النار "(.)4 وقال
قلت :كيف بمن يعلو الغبارُ وجهَه ..ويُلمس شغاف قلبه ..إنها الجنان والدرجات العل
وربّ الكعبة ؟!
":عليكم بالجهاد في سبيل ال تبارك وتعالى؛ فإنه باب من أبواب الجنة يُذهب وقال
ال به اله ّم والغمّ "(.)5
فقال رجل :يا رسول وعن سلمة بن نفيل الكندي ،قال :كنت جالسا عند رسول ال
ال ،أذال الناس الخيل ـ أي استخفوا بها وتركوها ـ ووضعوا السلح ،وقالوا :ل جهاد ،قد
بوجهه وقال ":كذبوا ،الن جاء القتال ،ول يزال وضعت الحرب أوزارها ! فأقبل رسول ال
ـــــــــــــــــ
( )1أخرجه أحمد وغيره ،صحيح الجامع.2831:
( )2صحيح سنن أبي داود )3( .2185 :صحيح سنن النسائي.2971:
( )4صحيح سنن النسائي )5( .2919 :أخرجه الحاكم وغيره ،السلسلة الصحيحة.1941:
من أمتي أمة يقاتلون على الحق ويُزيغ ال لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة،
وحتى يأتي وعد ال ،والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة "(.)1
":والذي نفس محمد بيده لول أن يشق على المسلمين ما قعدت خلف وقال رسول ال
سرية تغزو في سبيل ال أبدا ،ولكن ل أجد سعة فأحملهم ،ول يجدون سعة ويشق عليهم أن
يتخلفوا عني ،والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل ال فأُقتل ،ثم أغزو فأُقتل ،ثم
أغزو فأقتل " مسلم.
":ولن أُقتلَ في سبيل ال أحبّ إلي من أن يكون لي أهل الو َبرِ والم َدرِ "(.)2 وقال
111
في الحض على الجهاد هذا قليل من كثير مما ثبت عن سيد الخلق وإمام المجاهدين
في سبيل ال والترغيب به ..ولو طالَبنا المخالفون بأن نأتيهم بألف دليل ودليل من الكتاب
والسنة على مشروعية هذا الطريق المبارك لسهل علينا ـ بإذن ال ـ أن نأتيهم بما طلبوا ..
ولكن لو طالبناهم بدليل واحد ـ من الكتاب أو السنة ـ على مشروعية ما هم عليه من الطرق
والمناهج المنحرفة لعجزوا أن يأتونا بذلك ..ولرأيتهم يلوون أعناقهم ويلتجئون إلى المتشابهات
والعموميات وليس لهم فيها أدنى حجة أو دليل !..
ثم نقول لهؤلء المخالفين إن قدرتم على تحريف نص أو نصين عن ظاهرهما
ودللتهما ..فأنى لكم بتأويل وتحريف آلف النصوص الشرعية التي تحض وتأمر بالجهاد في
سبيل ال ..؟!!
كذلك كيف يليق بكم ـ وأنتم تُظهرون حرصكم على نصرة هذا الدين ـ أن تصرفوا
نظركم عن هذه النصوص على كثرتها ،وتجعلوها وراءكم ظهريا وكأنها لم تكن ،وال تعالى ـ
كتب بكبريائه وعظمته وأسمائه الحسنى وصفاته العل ـ يخاطبكم بها وكل المؤمنين ..
يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي ال بقوم يحبهم عليكم القتال ..
يا أيها الذين ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل ال ..
يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ..
يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار انفروا في سبيل ال اثاقلتم إلى الرض ..
..ألستم من الذين آمنوا الذين تعنيهم هذه اليات وغيرها ..ألستم من وليجدوا فيكم غِلظة ..
الذين آمنوا الذين يخاطبهم ال تعالى ..؟!!
ثانيا :لن في الجهاد حياة ..حياة حقيقية لمعاني العزة والكرامة ..حياة حقيقية لنسانية
وآدمية النسان ..حياة حقيقية لحرمات النسان من النتهاك أو أن تكون عرضة لطماع
ـــــــــــــــــــ
( )1صحيح سنن النسائي )2( .3333 :صحيح سنن النسائي.2955:
وأحقاد الوحوش الدمية الفاجرة !..
قال تعالى :يا أيها الذين آمنوا استجيبوا ل وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم ..
النفال .24:أي لما فيه سبب حياتكم الحقيقية ..حياة القلوب والبدان معا ..ومما دعانا إليه
الجهاد في سبيل ال . النبي
112
قال ابن الزبير :أي للحرب التي أعزكم ال وفي قوله تعالى :إذا دعاكم لما يحييكم
تعالى بها بعد الذل وقواكم بها بعد الضعف ،ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم ا -هـ.
وقال ابن إسحاق ،وابن قتيبة :هو الجهاد الذي يحيي دينَهم ويُعليهم ..ا -هـ.
البقرة .179:أي وقال تعالى :ولكم في القصاص حياة يا أُولي اللباب لعلكم تتقون
حياة حقيقية آمنة وسالمة من الجرام والعتداءات على حرمات وحقوق النسان ..والقصاص
جزئية تدخل في معنى الجهاد في سبيل ال .
النفال .39:والفتنة كل ما يُضاد الحياة وقال تعالى :وقاتلوهم حتى ل تكون فتنة ..
الحقيقية السوية الخالية من الفتن والخراب والفساد ..فإذا استؤصلت الفتنة من المجتمعات ..
تحققت الحياة الحقيقية التي ملؤها الخير والسلمة للجميع ..والفتنة ـ بخاصة إذا كانت ممتنعة
بقوة السلح ـ ل يمكن استئصالها إل بالجهاد والقتال كما أمر ال تعالى.
البقرة .216:وفي سورة وقال تعالى لما أمر بالجهاد والقتال :وهو خير لكم ..
التوبة .41:والخيرية هنا تشمل خيري الدنيا والخرة التوبة :ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون
..تشمل الحياة الحقيقية التي ينبغي أن يعيشها النسان ..وإن كانت هذه الحقيقة الساطعة ـ
بسبب من عند أنفسنا ـ ل نعلمها بادئ ذي بدء ،فإن ال تعالى يعلمها ،كما قال تعالى :وال
. يعلم وأنتم ل تعلمون
":مثل القائم على حدود ال والواقع وفي الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره ،قال
فيها كمثل قومٍ استهموا ـ أي اقترعوا ـ على سفينة ،فأصاب بعضهم أعلها وبعضهم أسفلها،
فكان الذي في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا :لو أنا خرقنا في نصيبنا
خرقا ولم نؤذِ مَن فوقنا ،فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ،وإن أخذوا على أيديهم نجوا
ونجوا جميعا " .أي إن أخذوا على أيدي أهل الباطل والفساد والشر بالجهاد والنكار ..نجوا،
ونجوا جميعا ،ونجت معهم البلد من الغرق والضياع ..من كل ما يدخل في معاني الهلك ..
وكل من ينجو من مطلق الهلك تحققت له ول بد الحياة الحقيقية في الدنيا والخرة .
وإذا كان في الجهاد حياة حقيقية فإن من لوازم تركه العذاب والحياة الضنك وتحقيق
الموت الحقيقي للبلد والعباد ..موت حقيقي لمعاني الحرية والعزة والكرامة !..
ما قيمة الجساد إذا كانت تدب على الرض ..وجميع الحرمات ومعاني إنسانية النسان
تنتهك وتُقتل ..؟!
113
طه .124:ومن الذكر قال تعالى :ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا
الجهاد في سبيل ال ..
التوبة .39:والعذاب هنا يشمل عذابي وقال تعالى :إل تنفروا يعذبكم عذابا أليما
الدنيا والخرة ..عذاب الدنيا لما يترتب على ترك الجهاد وتسليم العناق والحرمات لرحمة
الطواغيت ..وعذاب الخرة بسبب عصيان أمر ال تعالى بجهاد الطواغيت الظالمين .
":ما ترك قوم الجهادَ إل عمهم ال بالعذاب "(.)1 مصداق ذلك في السنة قوله
":إذا تبايعتم بالعينة ،وأخذتم أذناب البقر ،ورضيتم بالزرع ،وتركتم الجهاد سلط وقال
ال عليكم ذلً ل ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم "( .)2أي ترجعوا عما كان سببا في ِذلّكم ..
وهو ترك النشغال بما تقدم ذكره في الحديث عن الجهاد في سبيل ال ..فسمى ال تعالى
الجهاد بالدين ..فمن ترك الجهاد فقد ترك الدين ..ومن رجع إلى الجهاد رجع إلى الدين !
":من لم يغز ،أو يجهز غازيا ،أو يخلف غازيا في أهله بخير أصابه وقد تقدم قوله
ال بقارعة قبل يوم القيامة " .قارعة ..ال أعلم بحجمها ونوعها !..
":يوشك المم أن تداعى عليكم ـ أي تجتمع وتتكالب ـ كما تداعى الكلة إلى وقال
قصعتها ،فقال قائل :ومن قلة نحن يومئذٍ ؟ قال :بل أنتم يومئذٍ كثير ،ولكنكم غثاء كغثاء السيل،
ولينزعن ال من صدور عدوكم المهابة منكم ،وليقذفن في قلوبكم الوهن ،فقال :يا رسول ال وما
الوهن ؟ قال :حب الدنيا وكراهية الموت "(.)3
..فأي هوان وأي ذلّ تعيشه أمة السلم في هذا الزمان بسبب صدق رسول ال
تركها للجهاد( .. )4تأمل مصابها في بلد الشام وبخاصة منها فلسطين ..ثم تأمل مصابها في
البوسنة والهرسك ،وفي كوسوفو وكيف أن الناس ضربوا في الوديان والغابات يؤاثرون وحشية
ـــــــــــــــــــ
( )1أخرجه الطبراني ،السلسلة الصحيحة.2663:
( )2أخرجه أبو داود وغيره ،السلسلة الصحيحة.11:
( )3أخرجه أبو داود وغيره ،السلسلة الصحيحة.958:
( )4مع ضرورة الشارة إلى وجود الطائفة المنصورة المجاهدة التي يُحيي ال تعالى بها
فريضة الجهاد ..وهي طائفة موجودة على مدار الزمان ،ل يمكن أن يخلو زمان من وجودها
ومن أثر لها ..كما أفادت بذلك أحاديث نبوية عديدة ول الحمد ..وإني لرجو أن يكون
114
المجاهدون الموحدون في الشيشان وفي فلسطين من هذه الطائفة المنصورة إن شاء ال ..نسأل
ال تعالى لهم الثبات والنصر على العداء .
الوحوش المفترسة على وحشية الوحوش الدمية الصربية الصليبية ..ثم تأمل مصابها مؤخرا
في الشيشان ..انظر شرقا وغربا ..شمالً وجنوبا ..ما من قطر من أقطار الرض إل وتجد
فيه الشعوب تدفع ضريبة باهظة في دينها وفي معاشها ..في كل ما تملك من مالٍ وأرض
وعرض ..كل ذلك بسبب تخليها عن الجهاد في سبيل ال ..وإيثارها للدعة والراحة ،وركونها
لظاهر الحياة الدنيا !..
فإن قيل كيف يكون في الجهاد حياة ويترتب عليه ما يترتب من القتل والقتال وحصول
الجراحات وغير ذلك ..؟!
أقول :نعم ،رغم ما ذُكر فإن في الجهاد حياة وذلك من وجهين:
ألهما :من حيث تقليل نسبة الخسائر التي يمكن أن تصيب النفس والموال والحرمات ..
فإذا كان في الجهاد تقتل بعض النفس ،وتتحقق بعض الخسائر أو الجراحات ..فإن ضريبة
ترك الجهاد في سبيل ال ،والخلود إلى الرض ..هي أضعاف أضعاف ما يمكن أن يتحصل
بسبب الجهاد ..فيكون في الجهاد حياة للفارق بين ما يُعد ضريبة للجهاد وبين ما هو ضريبة
لترك الجهاد والركون إلى الرض وحب الدنيا ..وهو فارق ضخم جدا !
ولتوضيح الصورة أكثر نضرب المثال التالي :في حال آثرت الشعوب الجهاد يُقتل منها
مثلً عشرة أنفس ..وفي حال آثرت ترك الجهاد ..يُقتل منها مائة نفس ..فيكون في اختيارها
لطريق الجهاد حياة حقيقية لتسعين نفس ـ كان موتها محقق في حال ترك الجهاد ـ وهو
الفارق بين ضريبة وتبعات الجهاد وبين ضريبة ترك الجهاد ..وهذا مثال ضربناه لتقريب
الصورة إليك يمكنك القياس عليه عند الحديث عن الحرمات التي يمكن أن تنتهك في مواطن
الجهاد ..والحرمات التي تنتهك في مواطن الستسلم والركون إلى الرض وترك الجهاد (!)1
ــــــــــــــــــ
( )1لكي تعرف الفارق بين تكاليف الجهاد ..وتكاليف الركون إلى الدنيا وترك الجهاد تأمل ما
حصل في كلّ من البوسنة والهرسك والشيشان ..حيث في البوسنة والهرسك ـ بسبب ترك
الجهاد وانشغال الناس في البحث عن الثغور للفرار ـ قد انتهكت أعراض عشرات اللف من
115
النساء والفتيات المسلمات ..إضافة إلى مئات المقابر الجماعية للناس هناك حيث يُقبرون وهم
أحياء ..وهذا مرده كله يعود إلى تركهم للجهاد في سبيل ال ،وانشغالهم عنه بالدنيا !..
بينما ـ رغم وحشية الجيش الروسي وشدة فجوره وكفره وإجرامه ـ لم يحصل في
الشيشان شيء مما ذكر في البوسنة والهرسك ..بسبب أن إخواننا هناك ـ حفظهم ال من كل
سوء ـ قد آثروا طريق الجهاد في سبيل ال من أول الحداث وقبلها ..وقد بلغنا أن وحشا
روسيا ـ من قادة الجيش الروسي! ـ قد تجاسرت نفسه على العتداء على شرف فتاة مسلمة
شيشانية ثم قام بقتلها ..فكانت النتيجة أن اعتقل ⇦
أما ثانيا :ففي الجهاد حياة لمعانٍ ل تقل قيمة عن النفس والرواح ..حياة لمعاني
الحرية ،والعزة ،والكرامة ،والشرف ..ل طعم للحياة من دونها ..ول قيمة للجساد التي تدب
على الرض من دونها ..وهذه معانٍ ل تُستجدى من الخرين ..ول يمكن أن تحي من دون
الجهاد في سبيل ال !
فالجهاد حياة حقيقية من هذا الوجه ..فتفطن لذلك !
وهو ـ أي الجهاد ـ إضافة إلى جميع ما تقدم مؤداه إلى حياة الخلود والنعيم في الجنان
قبل يوم القيامة ،وبعد قيامها كما قال تعالى :ول تحسبن الذين قُتلوا في سبيل ال أمواتا بل
آل عمران.169: أحياءٌ عند ربهم يُرزقون .فرحين بما آتاهم ال من فضله
وقال تعالى :ول تقولوا لمن يُقتل في سبيل ال أموات بل أحياء ولكن ل تشعرون
البقرة.154:
ثالثا :لن الجهاد في سبيل ال هو الدعوة الصادقة والوسيلة الحقيقية لتحقيق السلم في
الرض ..وبيان ذلك أن ال تعالى فطر الخلق على سُنة ثابتة ماضية ـ ل يمكن لحدٍ مهما
أوتي من قوة أو نفوذ أن يلغيها أو يغيرها ـ ل تتغير ول تتبدل إلى يوم القيامة؛ وهي سنة
التدافع بين الحق وأهله من جهة وبين الباطل وأهله من جهة أخرى ..فالباطل ـ منذ أن وجد
ـ بكل تجمعاته وتكتلته يعمل جاهدا على استئصال الحق من الوجود وبسط نفوذه عليه،
وتحقيق السلم في الرض على طريقته الباطلة الظالمة ..وكذلك الحق بكل تجمعاته ل يألو
جهدا في تحجيم الباطل وكسر شوكته ..وفرض السلم في الرض على طريقته العادلة .
فلو قُدر للباطل أن يبسط نفوذه على بقعة من بقاع الرض فهل تراه قادر على تحقيق
السلم العادل فيها ..أو أن ينصف الحق وأهله من نفسه ..؟!
116
الجواب :ل ..لماذا ؟!
ذلك لسببين ،أولهما :ل يوجد للباطل قانون عادل ثابت يُلزم به أهله وأتباعه في السخط
ـــــــــــــــــــ
⇦ المجاهدون مقابل هذه المرأة ما يُقارب عشرة جنود ومقاتلين من الجيش الروسي ..ولما
أبى قادة الروس بتسليم المجرم الذي قام بالجرم المذكور للمجاهدين مقابل تسليمهم ما لدى
المجاهدين من أسرى ..قام المجاهدون ـ ثأرا لشرف وعرض تلك المرأة المسلمة ـ بقتل ما
لديهم من أسرى جنود الروس ..ولهم ذلك ..مما جعل طواغيت الروس أن يفكروا ألف مرة
قبل أن تتجاسر نفوسهم الخبيثة على العتداء على أعراض المسلمين ونسائهم ..ومرد ذلك كله
ـ كما تقدم ـ إلى إحياء فريضة الجهاد في سبيل ال في تلك الديار ..فتأمل الفارق الضخم
بين تكاليف الجهاد وبين تكاليف وتبعات ترك الجهاد !..
والرضى ..في القوة والضعف ..في السلم والحرب ..الذي يمنعهم من التمادي في ظلم العباد
والمخالفين ..مما يحملهم على أن يشرعوا لنفسهم وللخرين القوانين التي تلبي نزواتهم
وأهواءهم ،وأحقادهم ..والتي مؤداها إلى ظلم الخرين وهضم حقوقهم ووجودهم ..فهم ـ أي
أهل الباطل ـ ل يتورعون في أن يصدروا القوانين أو يغيروا بها ـ وقت يشاءون ـ لما يخدم
مصالحهم ومآربهم الخاصة وإن أدى ذلك إلى هضم وسحق الشعوب الخرى !..
ولو وجدوا في مرحلة من المراحل أن قوانينهم ـ التي هي من عند أنفسهم وأهوائهم ـ
ل تلبي رغباتهم ،وأطماعهم ،وأحقادهم ..فالحبار والرهبان من دهاقنة الساسة جاهزون لسن
القوانين التي ترقى إلى درجة تلبية الرغبات والطماع ..والتي سرعان ما تتحول قوانينهم
الجائرة إلى مستوى القانونية أو الشرعية الدولية التي يجب على الشعوب المقهورة المسلوبة
الحقوق أن تحتكم إليها وترضى بها وبتبعاتها ..والويل كل الويل لمن يخالفها أو يعترض
عليها(!!)1
فالباطل الذي ل يملك الميزان الثابت العادل ..ل يمكن ،بل ل يسمح للخرين أن
يتعاملوا معه بسلم أو بغير صدام ..وبالتالي فهو غير مؤهل بأن يحقق السلم العادل في
الوجود!
السبب الثاني :فقد تضافرت أدلة النصوص الشرعية وكذلك أدلة الواقع المعايش على أن
الباطل بكل تجمعاته ومذاهبه ل يمكن أن يرضى عن الحق وأهله ،أو أن تهدأ مطاردته
117
وملحقته لهم ..إل بأحد خيارين :إما أن يرتد الحق عن حقه ليدخل في دين ومذاهب الباطل ..
وإما خيار القتل والتشريد والستئصال من الوجود إن قدروا على ذلك !!..
البقرة.217: قال تعالى :ول يزالون يُقاتلوكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا
ـــــــــــــــــ
( )1لتعرف حقيقة ذلك تأمل القوانين الجائرة الصادرة عن المم المتحدة ،التي وراءها قوى
الستكبار العالمي أمريكا ومن دار في فلكها من دول الغرب الصليبي ..كيف تبيح للمغتصب
الظالم بأن يغتصب حقوق الخرين كما هو حاصل في فلسطين ..وفي الشيشان ..وفي
أفغانستان ..وفي العراق ..وفي كشمير وغيرها من البلدان والمصار ..كل ذلك يمرر بعد
أن تصدر القوانين ـ وما أسهل إصدارها على مصاصي الدماء من الحبار والرهبان ـ التي
تبيح هذا الغتصاب ..وهذه النتهاكات ..لتصبح فيما بعد هي الحق الذي ل يجوز التعقيب
عليه ..وخلفها من الحق هو الباطل الذي يُعد الهمس به من الرهاب !! ..
وتأمل كذلك كيف تُطالب دول النفاق والشقاق ..العراق وشعب العراق باللتزام الحرفي
بالقوانين الصادرة عن المم المتحدة ـ أو بالحرى أمريكا راعية الطغيان العالمي ـ التي أدت
إلى قتل مئات اللف من أطفال العراق جوعا ومرضا ..وكأن هذه القوانين الكافرة آيات
منزلة من السماء ل تجوز مخالفتها أو معارضتها ..بل اليات المنزلت في القرآن الكريم
يجرؤون على مخالفتها وردها ول يجرؤون على مخالفة تلك القوانين التي مصدرها مصاصي
الدماء من الطواغيت !! ..
يفيد الستمرار والمواصلة على القتال ما داموا قادرين وقوله تعال :ول يزالون ..
على ذلك ..والغرض من هذا القتال أن يردوا أهل الحق عن حقهم ودينهم ليدخلوهم في باطلهم
ودينهم !..
التوبة .8:أي إن وقال تعالى :كيف وإن يظهروا عليكم ل يرقبوا فيكم إلً ول ذمة
عل سلطانهم على أهل الحق ل يُراعون فيهم حرمة القرابة ،ول حرمة ما بينهم من العهود
والمواثيق ،ول يمنعهم عن سفك الدم الحرام أو انتهاك الحرمات شيء من ذلك ..ومن كان
كذلك ل يمكن أن يحقق السلم ،أو أن يكون مؤهلً لتحقيق السلم مع الخرين !..
118
البقرة.120: وقال تعالى :ولن ترضى عنك اليهود ول النصارى حتى تتبع ملتهم
فلن الواردة في الية الكريمة تفيد نفي الحاضر والمستقبل ..أي مهما حاول أهل الحق أن
يسترضوا اليهود والنصارى عنهم فلن يُفلحوا إل بشرط واحد :وهو اتباع ملتهم والدخول في
دينهم وباطلهم !..
والية تفيد كذلك أن رضى اليهود والنصارى عن المسلم مؤشر صريح على انحراف
المسلم عن جادة الحق والصواب إلى الباطل الذي هم عليه ..فحيثما يظهر رضى القوم عن
المسلم فعليه أن يتهم نفسه ،وأن يُراجع دينه !!
وقال تعالى :وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودنّ في ملتنا
يفيد الستغراق؛ أي جميع الذين كفروا على وقال الذين كفروا .. إبراهيم .13:فقوله تعالى
لنخرجنكم من أرضنا أو مدار الزمن وإلى يوم القيامة يقولون للرسل وأتباعهم المؤمنين
..ومن كان هذا وصفه وديدنه فأنى له أن يحقق السلم في الرض ؟!! لتعودن في ملتنا
ونحو ذلك قوله تعالى عن فتية أهل الكهف :إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو
الكهف .20:وغيرها كثير من اليات القرآنية الكريمة يُعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا
التي تفيد هذا المعنى ..
لما أخبر ورقة بن نوفل خبر ما وفي الحديث فقد أخرج البخاري وغيره أن النبي
رأى من الوحي ،قال له ورقة :هذا الناموس ـ أي جبريل عليه السلم ـ الذي نزل على
موسى ،يا ليتني فيها جذعا ـ أي شابا قوياُ ـ ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك ،فقال رسول
:أو مخرجي هم ؟! فقال :نعم ،لم يأتِ رجل بمثل ما جئت به إل عودي ،وإن يدركني ال
يومك أنصرك نصرا مؤزرا .
هذه أدلة النصوص الشرعية ..أما أدلة الواقع الملموس والمشاهد فحدث عنها ول
حرج؛ فما أكثر تلك الديار وأولئك الشعوب التي تنتهك حرماتهم صباح مساء بسبب أنهم لم
يدخلوا في
طاعة القوم أو في دينهم ..؟!
فانظر ماذا حصل ويحصل في فلسطين ..وماذا حصل في البوسنة والهرسك ..وفي
كوسوفو ..وماذا يحصل في هذه اليام في الشيشان ..وفي الفلبين ..وفي أندونيسيا ..وفي
119
الصين ..وفي كشمير ..وفي أفغانستان ..وفي العراق ..وفي السودان ..وفي أرتيريا ..
وفي لبنان ..وفي الصومال ..وغيرها كثير من البلدان !!..
ما يحصل في تلك الديار وغيرها من ممارسات وتصفيات وحصارات ،ومؤامرات ..
لهو أكبر دليل على أن القوم ل يُحسنون صنعة السلم ..إل سلم السياد مع العبيد ..العبيد
الذين ل يحق لهم ـ في قوانين السياد ـ إل أن يمتهنوا صنعة الركوع والسجود والطاعة
للسياد ولقوانين السياد !..
هذا هو سلم الباطل ..فسلمه غدر وحرب وق تل وقتال ..وهضم ون صب للحقوق والحريات
..ومن كان كذلك فهو غير مؤهل لرعاية عملية السلم ..ول لبسط وتحقيق السلم ..لنهم
هم أنفسهم يفقدون السلم ..وفاقد الشيء ل يمكن أن يعطيه للخرين !
إذا كان هذا هو سلم الباطل ..فهل الحق قادر على تحقيق السلم العادل ..وهل هو
قادر على إنصاف الخرين ـ ولو كانوا من أهل الباطل ـ من نفسه ..أو يحقق لهم المن
والسلم ..؟!
الجواب :نعم ..لماذا ؟
لن الحق يملك القانون العادل الثابت الذي يُعرفه ما له وما عليه ..القانون الذي يلتزمه
في السر والعلن ..في السخط والرضى ..في السلم والحرب ..وليس له أن يخرج قيد أنملة
عن هذا القانون إل إذا آثر أن يخرج عن كونه ووصفه بأنه الحق أو من أهل الحق !
هذا القانون هو " حكم ال تعالى " الذي ل يتغير ول يتبدل ،والذي ل يُحابي مخلوقا على
حساب مخلوق ..فكل الناس أمامه سواء ..الغالب والمغلوب ..الضعيف والقوي ..السيد
والوضيع ل فرق بينهم أمام حكم ال ..فلكل له وعليه ..وعلى الجميع أن يلتزموا بما لهم وما
عليهم ..بحسب ما يقضي ال تعالى في حكمه وشرعه!
وهذا من أكبر العوامل التي تعين على تحقيق السلم في الرض ..إذ أن الخرين
يعرفون قبل أن يدخلوا في السلم مع الحق وأهله ما لهم وما عليهم ..إنهم جميعا أمام قانون
واحد ل يمكن أن يتغير ول أن يتبدل بحسب الهواء والمصالح ..فهو ل يخضع لمزاج
السلطين أو الحكام ول لسياساتهم ..كما ل يجوز أن يخضع لرغبات ونزوات الشعوب
المنتصرة الغالبة ..كما هو الحال عند الباطل وأهله !!
120
فهم عندما يدخلون في سلم الحق لن يكونوا عبيدا للعبيد ..ول خاضعين لسلطة العبيد
كما هو الحال عندما ينتصر الباطل في موقعة من المواقع ..وإنما هم في حقيقة أمرهم داخلون
..وفي السلم العام الذي شرعه ال ..وفي العبودية العامة للخالق في الطاعة العامة ل
تعالى للعباد ..وهذه عبودية تشريف ل انتقاص فيها من قدر المخلوق أو العباد(!.. )1
من قوانين الحق التي يلتزم بها المسلمون حكاما ومحكومين قوله تعالى :يا أيها الذين
المائدة .1:وقوله تعالى :وأوفوا بعهد ال إذا عاهدتم ول تنقضوا آمنوا أوفوا بالعقود
النحل .91:وقوله تعالى :ول تشتروا بعهد ال ثمنا قليلً إنما عند ال اليمان بعد توكيدها
النحل .95:وقوله تعالى :وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولً هو خير لكم إن كنتم تعلمون
السراء .34:فهي نصوص تلحق ضمير وأخلق المؤمن أينما ذهب أو حل وأقام ..تمنعه
من أن يفكر ـ مجرد التفكير ـ في الغدر أو الخيانة أو نقض العهد مهما كانت تكاليف وتبعات
اللتزام بالعهد أو العقد الذي يعطيه المؤمن للخرين(!.. )2
ـــــــــــــــــــ
( )1العبادة نوعان :عباد شرعية دينية أو عبادة خاصة ..وهذه عبادة ل إكراه فيها إن أبى
النسان أن يدخل فيها ..وهو المراد من قوله تعالى :ل إكراه في الدين ..؛ أي ل إكراه
على الدخول في العبادة الشرعية الدينية ..وعبادة كونية قدرية أو عبادة عامة؛ وهي عبادة
..وهذه عبادة ل ..والنقياد العام لسلطة شرع ال الدخول في الطاعة العامة لحكم ال
مناص لحدٍ من العباد أن يتخلف عنها أو ل يدخل فيها ..فإن أبوا إل القتال قوتلوا عليها ..
أي حتى وهو المراد من قوله تعالى :وقاتلوهم حتى ل تكون فتنة ويكون الدين كله ل
تكون الطاعة والخضوع كله ل وحده ..وليس لسلطان ،أو شعب منتصر ..فإن أتوا بالعبادة
العامة والطاعة العامة لحكم ال تعالى وسلطانه ..فليدخلوا بعدها في العبادة الدينية الخاصة
التي يشاءون ..وحسابهم على ال !!
كان قد صالح نصارى الروم على ( )2مما يذكره لنا التاريخ :أن أبا عبيدة بن الجراح
مدينة دمشق ،وكان خالد بن الوليد لم يعلم بصلح وعهد أبي عبيدة مع نصارى الروم ..فافتتح
دمشق عنوة من جهة الباب الشرقي للمدينة ..ولما ذكر النصارى ذلك لعبيدة ر ّد إليهم المدينة
بكاملها ـ التي هي دمشق! ـ وفاء بالعهد وبالكلمة التي أعطاها لهم !..
121
تأمل ..أهكذا هم الصهاينة اليهود اليوم ـ ووراءهم أمريكا والغرب الصليبي ـ في
تعاملهم مع العقود والعهود التي يعطونها للخرين ..كم هي العقود والعهود التي يبرمونها اليوم
..وفي اليوم الثاني يغدرون بها لدنى مصلحة يمكن أن يفقدونها من وراء هذا العقد أو العهد
..فأنى لهؤلء أن يكونوا دعاة بحق للسلم أو أنهم كفأ لن يكونوا رعاة بحق لعملية السلم
..؟!!
ثم تأمل انسحاب الصهاينة اليهود الصوري من أراضٍ ل حق لهم فيها في فلسطين ..كيف
يكون بالشبر والفِتر ..وذلك كله بعد العهود الكثيرة الكاذبة والمتراكمة عليهم منذ عقود قد
أعطوها للخرين !!..
":فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ،وإن وقد تقدم معنا حديث السفينة ،وفيه قوله
أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا "؛ أي إن تركوا لهل الباطل الحرية في قيادة السفينة
والمجتمعات ،أو أن يفرضوا سلمهم الباطل كما يحلو لهم فقد هلكوا جميعا :الصالحين
والطالحين ..وغرقت بهم السفينة ،وهلكت البلد ! ..
وإن أخذوا على أيديهم ـ بالجهاد والقتال ـ ومنعوهم عن فسادهم وطغيانهم ،وفرضوا
سلمهم العادل ..نجوا جميعا ً:الصالحين والطالحين معا ..ونجت معهم السفينة والمجتمعات
من الغرق في أوحال الشرك والفساد ،والدمار ! ..
" نجوا ونجوا جميعا " الذي يفيد والذي يهمنا من ألفاظ الحديث في هذا الموضع قوله
حرص الحق على تحقيق النجاة والسلمة لهل الباطل كذلك ..وهذا مال يمكن أن نجده أو
نشعر به عند أهل الباطل نحو الحق وأهله !..
":من أمن رجلً على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل ،وإن كان المقتول كافرا "( وقال
":من قتل نفسا معاهدة بغير حلها ،حرم ال عليه الجنة أن يشم ريحها "(.)2 .)1وقال
هذه هي أخلق ال حق ال تي تُلزم كل م سلم ولو كان في أدغال إفريق يا أو الفلب ين ..ف هو
يكف يه بأن ي سمع بهذا الحد يث أو نحوه ليكون له رادعا وزاجرا يرد عه من أن ي مس أو ي صيب
الكافر الذمي أو المعاهد المؤمّن بأدنى أذى أو سوء !..
وبعد ،فإنه يحق لنا أن نسأل :أهكذا هم أهل الباطل ـ بكل تجمعاتهم ومذاهبهم ـ عندما
يتعاملون مع المسلمين وبخاصة إن ظهروا عليهم بنوع قوة أو سلطة ..؟!
122
الجواب :تجده في المجازر الجماعية بحق الشيوخ والطفال والنساء التي ارتكبت في
البوسنة والهرسك ..وفي الشيشان ..وفي أفغانستان من قبل ..تجده في المقابر الجماعية
للحياء ..تجده في حرق المسلمين وهم يتعبدون في مساجدهم كما حصل في مالوكو إندونسيا
..؟!!
تجد الجواب في البيوت المهدمة على أهلها وأصحابها البرياء في فلسطين ..؟!
راجع تاريخ فتوحات السلم كلها ..هل تعرف مرة أن السلم اضطر ـ فضلً عن
أن يجبر ـ أهل البلد بأن يخرجوا من ديارهم باللف أو المليين !!..
بينما نجد صهاينة اليهود لما غزوا فلسطين شردوا مليين المسلمين من أبناءها
وأسكنوهم في العراء وفي المخيمات ..ثم بعد ذلك قسّموا الناس بين نازح ولجئ ،ولكل منهما
درجة ؟!
ـــــــــــــــــ
( )1أخرجه النسائي ،وابن ماجة ،وأحمد ،السلسلة الصحيحة.440:
( )2صحيح سنن النسائي.4423:
كذلك لما غزت روسيا من قبل أفغانستان ..وكذلك لما غزت الشيشان ..وكذلك
الصرب لما غزوا البوسنة والهرسك ..أجبروا المسلمين من أهل البلد على الهجرة والخروج
من ديارهم وبيوتهم ..وذلك بعد أن ارتكبوا بحقهم المجازر التي ل يمكن أن يتصورها عقل
آدمي !!..
كل ذلك يحصل في زمن الديمقراطية ..وزمن النسانية ..ومحاربة العنصرية ..
وعلى مرأى ومسمع من جميع محافل الباطل ومؤسساته ودوله(.)1
كل ذلك يجعلنا نجزم ونؤكد بأن الباطل ل يمكن له أن يحقق السلم العادل في الوجود
لنه ل يملك الخصائص النفسية والخلقية التي تمكنه من ذلك ،بخلف الحق فإنه يملك جميع
مقومات وخصائص تحقيق السلم العادل في الرض كل الرض ..وبالتالي هو الذي يجب أن
يُرشح لقيادة ورعاية عملية السلم ،وعلى طريقته الخاصة به ..وليس على طريقة أحدٍ غيره.
ولما كان الباطل ل يسمح للحق أن يقود ويرعى عملية السلم ..أو يحقق السلم العادل
على طريقته الشرعية الربانية ..لزم على الحق وأهله أن يجاهدوا الباطل وأهله ويزيلوا من
أمامهم العقبات الكثيرة التي ينثرها الباطل في طريقهم والتي تحيل بينهم وبين تحقيق السلم !..
123
لذا فإن كل من يريد السلم بحق نقول له :أقرب طريق لتحقيق السلم العادل هو الجهاد
في سبيل ال ..وأي طريق آخر يُسلك غير طريق الجهاد فهو طريق ل يوصل للسلم ول
يمكن أن يحقق السلم ،وهو مضيعة للوقات والعمار من غير طائل ول فائدة ..وليس من
ورائه إل تأخير عملية السلم ..وإطالة أمد الحروب والظلم والشقاء والحرمان !..
فكل من يتنكب طريق الجهاد ـ بقصد أو غير قصد ـ فهو ل يعمل للسلم ..ول يريد
للسلم أن تقوم له قائمة ..وإنما يريد أن يطيل أمد الحروب والشقاء والظلم والحرمان ..يريد
أن يطيل عمر طغيان الباطل ..يريد أن يكرس سلم الباطل الذي هو ليس بسلم ..وإن زعم
ملء ــــــــــــــــــ
( )1فإن قيل ولكن يوجد في الدول الغربية المتحضرة قوانين تحارب العنصرية ..أقول :رغم
أن هذه الدول قد اهتدت لهذه القوانين مؤخرا وبعد سلسلة طويلة من النتهاكات لحقوق النسان
..إل أن هذه القوانين عبارة عن حبر على ورق ل سلطان لها في ضمائر الشعوب وأخلقهم
..لذا نرى هذه القوانين في وادٍ وأخلق وممارسات الناس في وادٍ آخر ،والدلة على ذلك أكثر
من أن تحصر في هذا الموضع ،كان آخرها ـ كما طالعتنا بذلك وكالت النباء ـ قتل طفل
في ألمانيا ..ذنبه وجرمه أن أباه مسلم من العراق ..علما أن أمه ألمانية الصل والمنشأ ..؟!!
ثم ما قيمة أن تُحارَب العنصرية على مستوى ممارسة الفراد في داخل المجتمع ..بينما
في المقابل هم يقرون ويباركون العنصرية الدولية التي تمارس بحق دول وشعوب من الدرجة
الثانية أو الثالثة كما يصنفونها هم ..كما هو حاصل في فلسطين وغيرها من البلدان ؟!!
شدقيه أنه من دعاة وأنصار السلم !!
وعليه فإن أقرب الناس للسلم ،وأصدقهم دعوة إلى السلم هم المجاهدون في سبيل ال
الذين يُقاتلون في سبيل ال ..وأكثر الناس بعدا وعداءً للسلم هم أكثرهم عداءً لمبدأ الجهاد في
سبيل ال !!..
رابعا :لن الغايات العامة للسلم ل يمكن أن تتحقق إل بالجهاد في سبيل ال .
فمن دواعي الشروع في طريق الجهاد كذلك أن الغايات العظمى الكليّة للسلم ل يمكن
أن تتحقق إل بالجهاد في سبيل ال .
ومن أجل وأعظم غايات السلم نشر التوحيد وبسط نفوذه ..واستئصال الشرك وتحجيم
نفوذه ..والعمل على أطر العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ..ومن جور الديان
124
إلى والشرك إلى عدل السلم والتوحيد ..وهذه مهمة جميع النبياء والرسل من لدن آدم
،كما قال تعالى :ولقد بعثنا في كل أمة رسولً أن اعبدوا ال واجتنبوا نبينا محمد
النحل.36: الطاغوت
وقد تقدمت الشارة إلى حرص الباطل الشديد على منع الحق من أن يبسط نفوذه أو
ينشر ما لديه من الخير والهداية ،وهو ل يتردد في زرع العقبات والشواك في طريقه ،التي
تعيق بين رسالته وهدفه وبين الناس ..وقد ذكرنا ـ فيما تقدم ـ الدلة على ذلك من النصوص
الشرعية ،وكذلك أدلة الواقع التي تثبت أن الباطل ل يهدأ له بال ول تقر له عين إل بعد أن يرد
الحق عن حقه أو يُزيله عن الوجود والحياة إن استطاع !..
وهذا واقع ظاهر ل خفاء فيه ..ل ينبغي أن نطيل الجدال حوله لنثبت صحته !..
الشاهد مما تقدم :أن السلم ل بد له من أن يؤدي رسالته ،وهو وجِد لذلك ..وأن
القائمين على نصرة هذا الدين الحنيف ل بد لهم من أن يعملوا جادين ومخلصين لنصرة هذا
الدين ونشر تعاليمه بين الناس كل الناس ،وليس لهم خيار غير ذلك ..وهذا من لوازمه إزالة
كل العقبات والشواك التي يفترشها الباطل في طريق الحق ..ومادة ذلك كله الجهاد في سبيل
ال .
فالباطل بكل جيوشه وتجمعاته ..ليس ذلك الخصم السهل البسيط المسكين ـ كما يصور
البعض ـ الذي يمكن أن تحسم معه المشاكل من خلل الوعظ أو مجرد الكلمة ـ على طريقة
المفتونين بالديمقراطية ـ بعيدا عن قوة السيف والحديد ..والذين يرون غير ذلك فهؤلء لم
يقرأوا القرآن بعد ..ولم يقرأوا التاريخ ول الواقع كذلك ..وهم على قلوبهم وأبصارهم غشاوة!
لجل ذلك نجد أن ال تعالى قد أنزل القرآن الكريم؛ وهو الحق المطلق ..وأنزل معه
الحديد فيه بأس شديد ليحمي به هذا الحق ..ويسهّل له رسالته في الوجود .
قال تعالى :لقد أرسلنا رُسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط
وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلمَ الُ من ينصرُه ورسلَه بالغيب إن ال قوي
الحديد.25: عزيز
فالحق ل بد له من حديد يحميه ويرد عنه سهام شياطين النس والجن ..فحق بل حديد
سهل المنال ..وسهل أن تنتهك حرماته ..وسهل أن يُمنع عن تحقيق أهدافه ورسالته ..وهو
عرضة للسخرية والستهانة من كل مارق أو كافر معاند !..
125
فالذي ل يرى الجهاد ..ول يدعو للجهاد ..ول يأمر بالجهاد ..فهو ـ بقصد أو غير
قصد ـ يُريد أن ينزل بالحق كل أنواع الذى المتقدمة الذكر أعله ..ول يريد للحق أن تقوم له
قائمة عز مشرفة !
تأمل عدد نسخ القرآن الكريم التي تطبع في العالم فهي تتجاوز مئات المليين ..بل ما
من بيت إل وفيه عدة نسخ من القرآن الكريم ..ولكن لما تخلى الناس عن الحديد وخلت بيوتهم
من الحديد ..ضعف أثر القرآن في الوجود !
من قوله :إن ال ليزع ـ أي ليردع وهذا الذي يريده الخليفة الثالث عثمان بن عفان
ـ بالسلطان مال يزع بالقرآن !
خلصة القول :أن القرآن والحديد رسالتان متوازيتان تسيران جنبا إلى جنب ..ل
مضاء لحداهما إل بالخرى ..وهما للحق كالجناحين للطائر ل يمكن له الطيران والعلو في
السماء إل بهما معا ..فإن أصيب في أحد جناحيه خرّ إلى الرض ووقع ..ول بد له من أن
يقع !
خامسا :ثم بعد كل ذلك لن الجهاد في سبيل ال عبادة عظيمة ..التفريط بها تفريط بباب
عظيم من أبواب الجنة ..تفريط بالدرجات العُل ..والخصال الفريدة ..التي ل يمكن أن تتأتى
للقاعدين من غير جهاد ..مهما أتوا من ضروب العبادات الخرى ..لندع نصوص الكتاب
والسنة تحدثنا عن كل ذلك:
قال تعال :ل يستوي القاعدون من المؤمنين غيرُ أُولي الضرر والمجاهدون في سبيل
ال بأموالهم وأنفسهم فضّل ال المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجةً وكلً وعدَ ال
النساء.95: الحسنى وفضل ال المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما
فقال :دلني على عمل يعدل الجهاد ،قال ":ل أجده ! ..هل جاء رجل إلى رسول ال
تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ول تفتر ،وتصوم ول تفطر ؟! " قال :ومن
يستطيع ذلك ؟!! [ البخاري ].
":مؤمن يجاهد في سبيل ال وقيل يا رسول ال أي الناس أفضل ؟ فقال رسول ال
بنفسه وماله ["..البخاري ].
":لغدوة في سبيل ال أو روحة خير من الدنيا وما فيها "[ البخاري ]. وقال
126
":لغدوة أو روحة في سبيل ال خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب وقال
":واعلموا أن الجنة تحت ظلل السيوف "[ البخاري ]. "[ البخاري ] .وقال
وقال ":رباط يوم في سبيل ال خير من الدنيا وما عليها [" ..البخاري ] .هذا رباط يومٍ
في سبيل ال ..فكيف بجهاد يومٍ في سبيل ال ..أو جهاد أيام ..أو جهاد أشهر ..أو جهاد
العمر ..ال أكبر ..إنها الجنان والدرجات ورب الكعبة !!
":تضمّن الُ لمن خرج في سبيله ل يُخرجه إل جهادا في سبيلي وإيمانا بي وقال
وتصديقا برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أُرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلً ما
نال من أجرٍ أو غنيمة ،والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل ال إل جاء يوم القيامة
كهيئته حين كُلم؛ لونه لون دمٍ وريحه مسك .والذي نفس محمد بيده لول أن يشق على المسلمين
ما قعدت خلف سرية تغزو في سبيل ال أبدا ،ولكن ل أجد سعة فأحملهم ول يجدون سعة،
ويشق عليهم أن يتخلفوا عني ،والذي نفس محمدٍ بيده لوددت أني أغزو في سبيل ال فأُقتل ثم
أغزو فأُقتل ،ثم أغزو فأُقتل "[ مسلم ].
قال :يا أبا سعيد من رضي بال ربا، وعن أبي سعيد الخدري أن رسول ال
وبالسلم دينا ،وبمحمدٍ نبيا وجبت له الجنة " فعجب لها أبو سعيد فقال :أعدها علي يا رسول
ال ،ففعل ثم قال ":وأُخرى يُرفع بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين
السماء والرض!" قال وما هي يا رسول ال ؟ قال ":الجهاد في سبيل ال ،الجهاد في سبيل ال
"[ مسلم ].
":أبواب الجنة تحت ظلل السيوف "[ مسلم ] .فهو ليس باب واحد بل هي وقال
أبواب كلها تحت ظلل السيوف والجهاد !..
قال النووي :قال العلماء معناه أن الجهاد وحضور معركة القتال طريق إلى الجنة وسبب
لدخولها ..ا -هـ.
":رباط يومٍ وليلة خير من صيام شهر وقيامه ،وإن مات جرى عليه عمله الذي وقال
كان يعمله ،وأجري عليه رزقه ،وأمن الفتان "[ مسلم ].
":كل ميت يُختم على عمله إل الذي مات مرابطا في سبيل ال فإنه يُنمى له وقال
عمله إلى يوم القيامة ،ويأمن فتنة القبر "(.)1
ــــــــــــــــــــ
127
( )1صحيح سنن الترمذي.1322 :
":من اغبرت قدماه في سبيل ال فهما حرام على النار "[ البخاري ]. وقال
":ل يجتمع غبار في سبيل ال ودخان جهنم "(.)1 وقال
ستّ خصال :يُغفر له في أول دُفعة ،ويُرى مقعده من الجنة،
":للشهيد عند ال ِ وقال
ويُجار من عذاب القبر ،ويأمن من الفزع الكبر ،ويُضع على رأسه تاجُ الوقار ،الياقوتة منها
خير من الدنيا وما فيها ،ويُزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ،ويُشفّع في سبعين من
أقاربه "( .)2فهي ليست خصلة واحدة بل ست خصال بعضها يفضل ويعلو بعض ..أكرم
وأعظم بها من خصال ،ل يُعطاها إل الشهيد !!..
":عليكم بالجهاد في سبيل ال تبارك وتعالى؛ فإنه باب من أبواب الجنة يُذهب وقال
ال به الهم والغم " .وقد تقدم .
":إن السيوف مفاتيح الجنة "(.)3 وقال
وقال ":أل أنبئكم بليلةٍ أفضل من ليلة القدر ؟! حارس الحرس في أرض خوف لعله أن
ل يرجع إلى أهله "( .)4وحارس الحرس هو الحارس الذي يحرس في الخطوط المامية
المتاخمة للعدو ..فيكون بذلك حارسا للحرس الذين يحرسون في الخطوط الخلفية من موقع
العدو ..وال تعالى أعلم .
ليدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزُخرفها وزينتها فيقول :أين عبادي ":إن ال وقال
الذين قاتلوا في سبيلي ،وجاهدوا في سبيلي ادخلوا الجنة ،فيدخلونها بغير حساب .وتأتي
الملئكة فيسجدون ،فيقولون :ربنا نحن نسبح بحمدك الليل والنهار ونقدس لك ،من هؤلء الذين
:هؤلء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي ،وأوذوا في سبيلي ،فتدخل آثرتهم علينا ؟ فيقول الرب
). سلم عليكم بما صبرتم فنعم عُقبى الدار (5 عليهم الملئكة من كل باب
هذا غيض من فيض مما ثبت في فضل الجهاد ..وما للمجاهدين من أجر ،ومثوبة،
وكرامة ل يؤتاها غيرهم ..وهو باعث عظيم على السير في هذا الطريق المبارك العظيم ل
يفرط به إل كل خائب خاسر !
وهو كذلك ـ أي الجهاد في سبيل ال ـ عبادة يظهر فيها مدى صدق حب العبد لربه
ــــــــــــــــــ
( )1صحيح سنن الترمذي )2( .1333 :صحيح سنن الترمذي.1358:
128
( )3أخرجه ابن أبي شيبة ،السلسلة الصحيحة.2672 :
( )4أخرجه الحاكم وغيره ،السلسلة الصحيحة.2811 :
( )5أخرجه الصفهاني في الترغيب والترهيب وغيره ،السلسلة الصحيحة.2556 :
..ومدى صدق انتمائه لهذا الدين ..فبالجهاد تُعرف الرجال ،وتُعرف حقيقة معادن الناس،
ومن منهم الصادق في زعمه لليمان ومن منهم الكاذب ..فالمؤمن الصادق في إيمانه وحبه
هو الذي يقتحم المخاطر ول يتردد في أن يرمي بنفسه في مواطن الجهاد والخوف في لربه
سبيل ال ..أما أصحاب القلوب المريضة بالنفاق وغيرهم هم الذين يبحثون عن العذار
والذرائع الكاذبة لكي يتخلفوا عن مواطن الجهاد في سبيل ال !..
قال تعالى :ل يستأذنك الذين يؤمنون بال واليوم الخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم
وال عليم بالمتقين .إنما يستأذنك الذين ل يؤمنون بال واليوم الخر وارتابت قلوبهم فهم في
التوبة.45-44: ريبهم يترددون
قال ابن تيمية في الفتاوى :28/438:فهذا إخبار من ال أن المؤمن ل يستأذن الرسول في
ترك الجهاد وإنما يستأذنه الذين ل يؤمنون ،فكيف بالتارك من غير استئذان ..؟! ا-هـ .
قلت :فكيف بمن يثبط المة عن الجهاد ،ويؤثم المجاهدين ويجرمهم لجهادهم ..؟!
كيف بمن يُعطل الجهاد كليا ،ويصد عنه المة لتأويلت باطلة فاسدة مبعثها الخور،
والجبن والرجاف ..؟!
كيف بمن يستبدل الجهاد في سبيل ال بالطرق الباطلة الشركية كالديمقراطية،
والنتخابات البرلمانية وغيرها ..ويحسنها ويفضلها عليه ..؟!
كيف بمن يكره الجهاد والمجاهدين ـ صفوة هذه المة ـ ويعاديهم ،ويحرض الناس
على أذاهم والنيل منهم ومن جهادهم ..حسدا من عند أنفسهم ؟!
ل شك أن هؤلء أولى بالنفاق من أولئك الذين يتركون الجهاد بعد استئذان !..
":من مات ولم يغز ،ولم يُحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق "[ مسلم ]. قال
هذا فيمن لم يحدث نفسه بالجهاد بصدق وإخلص ..فكيف بمن تقدم ذكرهم ،وذكرت
أوصافهم وخصالهم المشينة ..ل شك أنهم أولى بالنفاق وبشعب النفاق !
129
من علمات الولية والصطفاء المتابعة ..والجهاد في سبيل ال ..فمن أتى بالمتابعة
للشريعة والسنة من دون الجهاد في سبيل ال ل يكون وليا من أولياء ال ..ومن أتى بالجهاد
من دون المتابعة للشريعة والسنة ل يكون وليا من أولياء ال ..ولتحقيق الولية ل بد من
المتابعة والجهاد في سبيل ال معا.
قال ابن تيمية رحمه ال :قد جعل ال لهل محبته علمتين :اتباع الرسول ،والجهاد في
سبيل ال؛ وذلك لن الجهاد حقيقته الجتهاد في حصول ما يحبه ال من اليمان والعمل
الصالح ،وفي دفع ما يبغضه من الكفر والفسوق والعصيان ا -هـ.
عجبا لولئك الذين يريدون أن يربوا شباب المة بعيدا عن مواطن وساحات الجهاد ..
يربونهم في صالت التنظير المكيفة بعيدا عن واقع الحياة ،وآلم المة ..ثم هم يتوقعون بعد
ذلك أن يرتفع هؤلء الشباب إلى مستوى مسؤوليات ومبادئ هذا الدين العظيم ..أو أن يكونوا
يوما من اليام أكفاءً لتحمل مسؤولياتهم الضخمة نحو هذا الدين ..أو أن يكونوا من أولياء ال
الربانيين ؟!
هؤلء يحلمون ..أو أنهم لم يقرؤوا كلمات هذا الدين ..ولو قرؤوها فهم لم يقرؤوها
على مراد ال ورسوله !!..
أمة السلم أمة كتبَ الُ عليها أن تكون أمة جهاد وبذل وعطاء ..أمة ل تعرف الدعة
أو الميوعة أو الهزل أو الركون للدنيا والمتاع ..أمة ل تعرف إل الجد في جميع أمورها ..
لنها أمة رسالة ودين تتوقف عليها نجاة البشرية جمعاء!
لجل ذلك كله نقول ـ ما قلناه في أول هذا المقال ـ ل خيار للمة إل خيار الجهاد ..
ول عز لها إل بالجهاد ..ول نجاة لها إل بالجهاد ..ول طريق لها تسلكه إل طريق الجهاد ..
فهل أنتم موقنون ..فهل أنتم مؤمنون ؟؟!!
130
أبو بصير 19/1/2001م .
www.abubaseer.com
لماذا الجهادُ في سبيل ال ..؟
( الجزء الثاني )
بسم ال الرحمن الرحيم
الحمد ل ،والصلة والسلم على رسول ال ،وبعد.
من الحقائق التي يُسلم بها جميع أصحاب العقول والفطر السليمة أن ال تعالى هو خالق
الخلق ..وهو المالك الحقيقي لما خلق ..ل شريك له في الملك ول في الخلق.
سمَاوَاتِ وَالَْأرْضَ بِا ْلحَقّ َو َيوْمَ يَقُولُ كُنْ َف َيكُونُ َق ْولُهُ الْحَقّ
خلَقَ ال ّ
تعالى :وَ ُهوَ الّذِي َ
قال
خبِيرُ النعام.73:
حكِيمُ الْ َ
شهَا َدةِ وَ ُهوَ الْ َ
َولَهُ ا ْل ُملْكُ َيوْمَ ُينْفَخُ فِي الصّورِ عَالِمُ ا ْل َغ ْيبِ وَال ّ
خرَجَ بِهِ مِنَ
سمَاءِ مَاءً فََأ ْ
سمَاوَاتِ وَالَْأرْضَ َوَأ ْنزَلَ مِنَ ال ّ
خلَقَ ال ّ
وقال تعالى :اللّهُ الّذِي َ
خرَ َلكُمُ الَْأ ْنهَارَ إبراهيم.32:
حرِ بَِأ ْم ِرهِ وَسَ ّ
ج ِريَ فِي ا ْلبَ ْ
خرَ َلكُمُ الْ ُف ْلكَ ِلتَ ْ
ال ّث َمرَاتِ ِرزْقا َلكُمْ وَسَ ّ
طنِهِ َو ِم ْنهُمْ مَنْ َيمْشِي
علَى بَ ْ
خلَقَ كُلّ دَابّةٍ مِنْ مَاءٍ َف ِم ْنهُمْ مَنْ َيمْشِي َ
وقال تعالى :وَاللّهُ َ
شيْءٍ قَدِيرٌ النور:
علَى كُلّ َ
ق اللّهُ مَا يَشَاءُ إِنّ اللّهَ َ
خلُ ُ
علَى َأ ْربَعٍ يَ ْ
جَليْنِ َو ِم ْنهُمْ مَنْ َيمْشِي َ
علَى ِر ْ
َ
خلَقَ
تعالىَ :وَلئِنْ سََأ ْل َتهُمْ مَنْ َ
.45وهذا ل خلف فيه بين الشعوب وأهل الديانات كلها ،كما قال
ش ْمسَ وَالْ َق َمرَ َليَقُولُنّ اللّهُ فََأنّى ُيؤْ َفكُونَ العنكبوت .61:وإنما حصل
خرَ ال ّ
سمَاوَاتِ وَالَْأرْضَ وَسَ ّ
ال ّ
الخلف فيما بينهم حول المعبود المستحق للعبادة ،والطاعة ،والتأله ..فحصل بسبب ذلك
..وعُبد من دونه من ل يجوز أن يُعبد؛ لنه مخلوق ضعيف لم يخلق الخلف الشراك بال
خلَقُونَ
شيْئا وَهُمْ يُ ْ
خلُقُ َ
ش ِركُونَ مَا ل يَ ْ
تعالىَ :أيُ ْ
شيئا ..وليس بقادرٍ على أن يخلق شيئا ،كما قال
خلُقُ أَفَل تَ َذ ّكرُونَ النحل .17:ل يستوون مثلً
خلُقُ َكمَنْ ل يَ ْ
تعالى :أَ َفمَنْ َي ْ
العراف .191:وقال
!..
فال تعالى هو الخالق لهذا الكون وما فيه؛ وبالتالي فهو المعبود بحق ..ل شريك له ..
ك اللّهُ
خلْقُ وَالَْأ ْمرُ َتبَا َر َ
،كما قال تعالى :أَل لَهُ الْ َ وهو وحده له الحكم والمر دون أحدٍ سواه
َربّ ا ْلعَاَلمِينَ العراف .54:فمالك الملك الذي له الخلق ..هو الذي له المر وحده ..وهو
الذي يجب أن يُطاع في ما يأمر به وينهى عنه ..أما الذي ل يخلق وهو يُخلق ..ول يَملك
131
وهو يُملك ..ل يجوز أن يكون له شيء من المر ..كما ل يجوز أن يُطاع في شيء مما يأمر
به فيما ل يملكه ول يخلقه!
فالمر الناهي هو الخالق المالك ..أما الذي ل يخلق ول يملك ..فل أمر له ول نهي!
هنا مكمن الخلف والنزاع بين أهل الحق من أتباع النبياء والرسل ..وبين ما سواهم
وحده ..لتقع في من الشعوب والمم الضالة ..التي ضلت طريق التوحيد ..والعبودية ل
أوحال الشرك ..وعبودية المخلوق؛ الذي ل يملك لنفسه ضرا ول نفعا!
كل المم والشعوب الضالة ..على اختلف مذاهبهم ومشاربهم ..وأديانهم ..ومسمياتهم
..يشتركون في خصلة واحدة ،وتوحدهم خصلة واحدة؛ أل وهي عبادة المخلوق من دون ال
..وصرف الطاعة والتأله لهذا المخلوق من دون ال تعالى ..وإن اختلفوا فيما بينهم على
صورة وشكل واسم هذا المخلوق!
فهم وإن كانوا فرقا وشيعا شتى ..متنازعة ومختلفة فيما بينها ..إل أنهم عندما تكون
المعركة بين أهل الحق من أتباع النبياء والرسل ..وبين أهل الباطل من عبدة الوثان
والطواغيت ..تراهم جميعا صفا واحدا ضد الحق وأهله؛ لشتراكهم جميعا في خصلة واحدة؛
وهي عبادة المخلوق من دون الخالق ..بغض النظر عن صفة وشكل هذا المخلوق ..كما قال
ضهُمْ َأ ْوِليَاءُ َبعْضٍ المائدة.51:
تعالىَ :ب ْع ُ
..وعبادة الطاغوت! فالذي يوحدهم على الحق وأهله الشرك بال
ال تعالى يقول لعباده أنا المعبود المطاع ..لنني أنا الخالق المالك ..وحقي عليكم أن
خلَ ْقتُ الْجِنّ وَالْ ِأ ْنسَ ِإلّا ِل َي ْعبُدُونِ الذريات .56:وقال تعالى :
شيئاَ :ومَا َ
تعبدوني ل تُشركوا بي
حنَفَاءَ َويُقِيمُوا الصّلةَ َو ُي ْؤتُوا ال ّزكَاةَ وَ َذِلكَ دِينُ
خِلصِينَ لَهُ الدّينَ ُ
َومَا ُأ ِمرُوا ِإلّا ِل َي ْعبُدُوا اللّهَ مُ ْ
الْ َق ّيمَةِ البينة.5:
فيأتي الطاغوت المخلوق المملوك الضعيف الذي ل يملك لنفسه نفعا ول ضرا إل ما شاء
ال ـ على اختلف صوره ومسمياته ـ فيقول :ل ..بل أنا المعبود المطاع من دون ال ..ما
علمت لكم من إله ومشرع ترجعون إليه في جميع شؤون حياتكم غيري ..ويجيش من أجل ذلك
الجند والجيوش وكل من يدخل في حلفه وطاعته من دون ال!
ومن خصائص ال تعالى وصفاته أنه غيور ..يغار على حرماته وعلى حقه على
على الحرمات وعلى العباد ،كما في الحديث الصحيح ":ل أحد عباده ..فل أحد أغير منه
132
أغير من ال ،ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ،ول أحد أحب إليه العذر من ال،
من أجل ذلك أنزل الكتاب ،وأرسل الرسل ".
يبغض الظلم ويحرمه ..ولشيء يُغضبه ويُسخطه كظلم الشرك ..وظلم كما أنه
الطواغيت التي تستشرف خصائص اللهية وتُعبد من دون ال؛ لنه ظلم عظيم لحق ال تعالى
ن اللّهَ ل
ظلْمٌ عَظِيمٌ لقمان .13:وقال تعالى :إِ ّ
ش ْركَ لَ ُ
على عباده ..ولدمية النسان معا :إِنّ ال ّ
ش ِركْ بِاللّهِ فَقَدِ ا ْف َترَى ِإثْما عَظِيما النساء:
ش َركَ بِهِ َو َيغْ ِفرُ مَا دُونَ َذِلكَ ِلمَنْ يَشَاءُ َومَنْ يُ ْ
َيغْ ِفرُ أَنْ يُ ْ
.48
..ويُعلن على المل وبكل أي ظلمٍ يعلو ظلم الطاغوت الذي يجعل من نفسه ندا ل
وقاحة أنه الله المعبود ..وأنه الحكَم والمطاع لذاته ..الذي له حق التشريع والحظر والباحة
والحكم على الشياء من دون ال ..وما على الناس إل أن يدخلوا في طاعته وعبادته وحزبه
..؟! من دون ال
أي ظلم يعلو ظلم العبد وهو يقول لربه وخالقه ومالكه والمتفضل عليه بالنعم التي ل
تُحصى :أنت لست معبودي ..ول حق لك علي ..وإنما معبودي الذي له كامل الحق علي ذلك
الطاغوت من البشر أو الحجر أو البقر !!..
والتي أي ظلم يعلو ظلم العبد وهو يقول لخالقه ـ رغم اليات الباهرات الدالة عليه
ل تُحصى ـ :ل حجة لك علي ..وإنما الحجة الكاملة للطاغوت !!..
إن مقتضيات أسماء ال الحسنى وصفاته العليا ل تقبل هذا الظلم والزور ..والجحود ..
لجل ذلك شرع ال تعالى الجهاد !...
أمر عباده الموحدين الذين استجابوا لدعوة النبياء والرسل ..بأن يُجاهدوا المشركين
الذين ضلوا عن عبادته وتوحيده وعبدوا الطاغوت من دونه ..ليأطروهم إلى الحقّ أطرا ..
وليخرجوهم من ظلم الشرك وظلماته إلى عدل التوحيد ونوره ..ولهم مقابل ذلك رضوانه
تعالى والجنة ..أنعم به من ثمن!
سبِيلِ
جنّةَ يُقَا ِتلُونَ فِي َ
سهُمْ َوَأ ْموَاَلهُمْ بِأَنّ َلهُمُ الْ َ
ش َترَى مِنَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ َأنْفُ َ
ن اللّهَ ا ْ
تعالى :إِ ّ
قال
عَليْهِ حَقّا فِي ال ّت ْورَاةِ وَالِْإنْجِيلِ وَالْ ُقرْآنِ َومَنْ َأوْفَى ِب َعهْ ِدهِ مِنَ اللّهِ
اللّهِ َفيَ ْق ُتلُونَ َويُ ْق َتلُونَ وَعْدا َ
شرُوا ِب َب ْي ِعكُمُ الّذِي بَا َي ْعتُمْ بِهِ وَ َذِلكَ ُهوَ الْ َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ التوبة.111:
س َتبْ ِ
فَا ْ
133
أمر عباده الموحدين بأن يقصدوا المشركين ..ليخرجوهم ـ ولو بالسلسل ـ من
حظيرة الشرك والضياع ..ليأتوا بهم إلى حظيرة العبودية والتوحيد ..والخضوع ..ومن
السبيل الذي ينتهي بهم إلى النار وجحيمها إلى السبيل الذي ينتهي بهم إلى الجنة ونعيمها ..ولو
استدعى المر إلى الجهاد والقتال ..فإن الفتنة أشد من القتل والقتال.
علَى ا ْلبَاطِلِ َفيَ ْد َمغُهُ فَإِذَا ُهوَ زَاهِقٌ َوَلكُمُ ا ْل َويْلُ ِممّا َتصِفُونَ
تعالى :بَلْ نَقْ ِذفُ بِالْحَقّ َ
قال
النبياء .18:فمن الحقّ الذي يقذف ال تعالى به الباطل وأهله جندَ التوحيد وأهله.
أنه قال ":عجبت لقوامٍ يُساقون إلى الجنة في وفي الحديث فقد صح عن النبي
من قومٍ يُقادون إلى الجنة في السلسل ". السلسل وهم كارهون " .وفي رواية ":عجب ربنا
هذا المعنى هو الذي أراده الصحابي الجليل ربعي بن عامر عندما أجاب ملك بلد فارس
لما سأله عن العلة التي حملتهم على الجهاد والقتال ..وغزو فارس في عقر دارهم ،فقال له:
لقد ابتعثنا ال تعالى لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ،ومن جور الديان إلى
عدل السلم !..
ل توجد لنا غاية أخرى حملتنا على غزو بلدكم سوى هذه الغاية ..ول يوجد سبب آخر
حملنا على غزو بلدكم سوى ما أنتم عليه من ظلم الشرك ..وعبودية العبيد للعبيد ..وهذا هو
المعنى الحقيقي للجهاد في سبيل ال الذي أمرنا ال تعالى به.
ل حظوظ فيه للنفس ..ول أطماع ول مآرب أخرى ..سوى إخراج العباد من عبادة
العباد إلى عبادة رب العباد ..فإن تحقق ذلك ..تحقق السلم والمان ..وتصافت النفوس
وتآخت وتحابت في ال مهما كان بينها قبل ذلك من جراحات ودماء وثارات!
خوَا ُنكُمْ فِي الدّينِ َونُ َفصّلُ الْآياتِ
تعالى :فَإِنْ تَابُوا َوأَقَامُوا الصّلةَ وَآ َتوُا ال ّزكَاةَ فَإِ ْ
كما قال
لِ َقوْمٍ َي ْعَلمُونَ التوبة .11:فتنقلب العداوة مباشرة ـ إن تابوا وأقاموا الصلة ـ إلى أخوة متحابين
في ال والدين.
سنَةٌ فِي ِإ ْبرَاهِيمَ وَالّذِينَ َمعَهُ إِذْ قَالُوا لِ َق ْو ِمهِمْ ِإنّا ُبرَآءُ
س َوةٌ حَ َ
وقال تعالى :قَدْ كَا َنتْ َلكُمْ أُ ْ
حتّى ُت ْؤ ِمنُوا
ن اللّهِ كَ َف ْرنَا ِبكُمْ َوبَدَا َب ْي َننَا َو َب ْي َنكُمُ ا ْلعَدَا َوةُ وَا ْل َب ْغضَاءُ َأبَدا َ
ِم ْنكُمْ َو ِممّا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ
بِاللّهِ وَحْ َدهُ الممتحنة .4:فهذه العداوة مستمرة أبدا ـ عبر الزمان كلها وإلى أن تقوم الساعة ـ
بين أتباع النبياء والرسل وبين الطواغيت وأتباعهم ..إلى أن يعبدوا ال تعالى وحده ..فإن
134
آمنوا وعبدوا ال تعالى وحده وتبرؤوا مما هم فيه من الشرك ..ذهبت العداوة والبغضاء وحلت
محلهما المحبة والخاء!
،وكُسرت رُباعيته ،وشُج في رأسه ،وهُشمت وفي غزوة أحد لما جُرح وجه النبي
وهو يقول ":كيف يُفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا البيضة على رأسه ،وجعل الدم يسلت عنه
رباعيته ،وهو يدعوهم إلى ال "!
عَل ْيهِمْ َأوْ ُيعَ ّذ َبهُمْ َفِإ ّنهُمْ ظَاِلمُونَ آل
شيْءٌ َأوْ َيتُوبَ َ
إليهَ :ل ْيسَ َلكَ مِنَ الَْأ ْمرِ َ
فأنزل ال
عمران .128:أي أن المر كله ل تعالى ..أما أنت يا محمد فإنك عبد ال ورسوله ..فليس لك
من المر شيء ..فليس لك أنت ومن تبعك من المؤمنين سوى المضي لمري ..والصبر على
جهاد من عصاني وعبد غيري إلى أن يدخل في طاعتي وعبادتي ..فأنا ابتعثتك وجميع النبياء
عبُدُوا اللّهَ
والرسل من قبلك لجل ذلك ،كما قال تعالىَ :ولَقَدْ َب َع ْثنَا فِي كُلّ ُأمّةٍ رَسُولً أَنِ ا ْ
ج َت ِنبُوا الطّاغُوتَ النحل.36:
وَا ْ
سبِيلِ الطّاغُوتِ
ل اللّهِ وَالّذِينَ كَ َفرُوا يُقَا ِتلُونَ فِي َ
سبِي ِ
وقال تعالى :الّذِينَ آ َمنُوا يُقَا ِتلُونَ فِي َ
ضعِيفا النساء .76:الّذِينَ آ َمنُوا وَالّذِينَ كَ َفرُوا من
ن َ
شيْطَانِ كَا َ
شيْطَانِ إِنّ َكيْدَ ال ّ
فَقَا ِتلُوا َأ ْوِليَاءَ ال ّ
صيغ العموم؛ أي كل الذين آمنوا يقاتلون في سبيل ال ..ول يجوز لهم غير ذلك ..وكل الذين
كفروا بجميع طوائفهم ومللهم وعلى اختلف راياتهم ومسمياتهم ..ومواقعهم ..يُقاتلون في
سبيل الطاغوت ..فالقتال في سبيل الطاغوت سمة مشتركة بين جميع ملل الكفر والشرك.
هذا المعنى لغايات ومقاصد الجهاد في السلم ..يجب أن يعرفه العدو المحارب ..كما
يجب أن ل يسهو عنه المجاهد وهو في غمرات الغزو والجهاد في سبيل ال.
www.abubaseer.com
**********
135
:ويقول أبو قتادة
لماذا الجهاد لماذا الجهاد
[الكاتب؛ أبو قتادة الفلسطيني]
خلْقَةٍ وتكوين ،قال اللـه تعالى:
لقد كتب اللـه في الزل أن يخلقَ النسان خلقا سويّا في أحسن ِ
حمْلِ المانة،
{لقد خلقنا النسانَ في أحسنِ تقويم} ،فأبدعه أيّما إبداع ،ثمّ جعله مناطَ التكليف و َ
قال تعالى { :إنّا عرضنا المانة على السموات والرض والجبال فأبينَ أن يحملنها وأشفقنَ منها
وحملها النسان إنّه كان ظلوما جهولً} .وليس الظلم والجهل بسبب حملها ،ولكنّه بجهله في
قيمة هذه المانة ،وبظلمه لحقّها.
وأكرم اللـه هذا المخلوق بأن سخّر له كلّ شيءٍ خلقه من سموات وأرض ،قال تعالى { :ألم
تروا أنّ ال سخّر لكم ما في السموات والرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرةً وباطنة} وقال تعالى:
{وسخّر لكم ما في السموات والرض جميعا منه إن في ذلك ليات لقوم يتفكّرون} ،فقد خلق
اللـه كلّ شيء خدمةً للنسان ،وجعل الُ النسانَ له وحده من أجل عبادته ،قال تعالى{ :وما
ن والنسَ إلّ ليعبدون ،ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ،إنّ ال هو
خلقتُ الج ّ
ل اللـه
الرزّاق ذو القوّة المتين} ،وقد أخذ اللـه على النسان العهود والمواثيق أن ل يعبد إ ّ
تعالى ،قال ربّنا جلّ في عُله { :وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم وأشهدهم على
أنفسهم ألستُ بربّكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين ،أو تقولوا إنّما
أشرك آباؤنا من قبلُ وكنّا ذرّيةً من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} .
وروى المامان البخاري ومسلم عن أنس بن مالك عن النبيّ صلى ال عليه وسلم قال ( :يقالُ
للرجل من أهل النار يوم القيامة :أرأيت لو كان لك ما على الرض من شيء أكنتَ مفتديا به؟
قال فيقول :نعم .فيقول :قد أردّت منك أهون من ذلك ،قد أخذت عليك في ظهر آدم أن ل تشركَ
بي شيئا فأبيت إلّ أن تشرك بي .وقال ابن عبّاس رضي اللـه عنهما :إنّ اللـه تعالى أخذ
الميثاق من ظهر آدم عليه السلم بنعمان يوم عرفة ،فأخرج من صلبه كلّ ذريّة ذرأها فنثرها
بين يديه ثمّ كلّمهم قبلً ،قال تعالى { ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا} )[ .صحيح من قول ابن
عبّاس كما قال ابن كثير رحمه اللـه تعالى].
وقد قدّر اللـه تعالى أن ينقسم البشر في عبوديّتهم له إلى فريقين :فريقٍ أوفياء لهذه العبوديّة،
وفريقٍ آخر سينكرونها ويتنكّبون عن صراطها ،ولتذكير الناس بالميثاق أرسل اللـه الرسل
136
وأنزل الكتب ،قال تعالى{ :رسلً مبشّرين ومنذرين لئلّ يكون للناس على ال حجّة بعد الرسل
وكان ال عزيزا حكيما} .
وقال أبيّ بن كعب ،في تفسير آية الميثاق السابقة ( :يقول اللـه تعالى :فإنّي أشهد عليكم
السموات السبع والرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا،
إعلموا أنّه ل إله غيري ول ربّ غيري ول تشركوا بي شيئا ،وإنّي سأرسل إليكم رسلً
ليذكّروكم بعهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي .قالوا :نشهد إنّك ربّنا وإلهنا ،ل ربّ لنا غيرك،
ول إله لنا غيرك ،فأقرّوا له يومئذٍ بالطاعة ،ورفع أباهم آدم فنظر إليهم فرأى فيهم الغنيّ
والفقير وحسن الصورة ودون ذلك .فقال آدم :يا ربّ لو سوّيتَ بين عبادك .قال :إنّي أحببت أن
أُشكر ،ورأى فيهم النبياء مثل السرج ،عليهم النور) [ .رواه عبداللـه في مسند أبيه وصحّحه
الحاكم وهو كما قال] .
وقد جعل اللـه تعالى للطائع مستقرّا هي جنّته ،وللذين رفضوا مستقرّا هي النار ،قال تعالى:
{للذين استجابوا لربّهم الحسنى ،والذين لم يستجيبوا لو أنّ لهم ما في الرض جميعا ومثله معه
لفتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنّم وبئس المهاد} [الرعد.]18 :
ي صلى ال عليه وسلم ( :يقول ال تعالى
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك ،عن النب ّ
لهونِ أهل النار عذابا يوم القيامة :لو أنّ لك ما في الرض من شيء أكنت تفتدي به؟ فيقول:
نعم ،فيقول :أردّت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن ل تشرك بي شيئا فأبيت إلّ أن
تشرك بي ) .
قال تعالى{ :أفمن يعلم أنّما أُنزِل إليك من ربّك الحقّ كمن هو أعمى إنّما يتذكّر أولو اللباب،
الذين يوفون بعهد ال ول ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر ال به أن يوصل ويخشون
ربّهم ويخافون سوء الحساب ،والذين صبروا ابتغاء وجه ربّهم وأقاموا الصلة وأنفقوا ممّا
رزقناهم سرّا وعلنيةً ويدرأون بالحسنة السيّئة أولئك لهم عقبى الدار ،جنّات عدنٍ يدخلونها
ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرّياتهم والملئكة يدخلون عليهم من كلّ باب سلمٌ عليكم بما
صبرتم فنعم عقبى الدار ،والذين ينقضون عهد ال من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر ال به أن
يوصل ويفسدون في الرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} [الرعد.]25-19 :
وهكذا ستكون نهاية هذا النسان بقسميه.
مهمّـة النبــياء وأتــباعهم :
137
قال تعالى{ :شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم
وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ول تتفرّقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه} [الشورى:
.]13
فقد أمر اللـه النبياء بإقامة الدين وهو العمل به في أنفسهم وفي الناس ،ولذلك أمرهم بالدعوة
والتبيين والنذارة فقال سبحانه وتعالى{ :رسلً مبشّرين ومنذرين} [النساء ،]165 :فمهمّة النبياء
هداية الخلق وتعليمهم ما يحبّه ربّنا ويغضبه ،قال تعالى{ :إنّما أنت منذرٌ ولكلّ قوم هاد}
[الرعد.]7 :
وقال تعالى{ :إنّك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم} وهذه هداية الدعوة والدللة والرشاد ،وأنزل معهم
الكتب وعلمهم الحكمة ،قال تعالى{ :وإذ أخذ ال ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة} [آل
عمران.]81 :
وقذف اللـه في قلوب النبياء الرحمة على الخلق والرغبة الشديدة في هدايتهم كما قال تعالى:
{فلعلّك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} [الكهف ،]6 :وقد سمّى اللـه
نبيّه محمّدا بالرؤوف الرحيم ،قال تعالى{ :بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة.]128 :
وكان آخر النبياء هو نبيّنا محمّد صلى ال عليه وسلم ،وهو خاتمهم .قال تعالى{ :ما كان
محمّدٌ أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول ال وخاتم النبيّين} [الحزاب. ]40 :
وقال صلى ال عليه وسلم :مثلي ومثل النبياء كمثل رجلٍ بنى دارا فأكملها وأحسنها إلّ
موضع لبنة ،فجعل الناس يدخلونها يتعجّبون ويقولون :لول موضع اللبنة .رواه البخاري ،وزاد
مسلم :قال رسول اللـه :فأنا موضع اللبنة ،جئت فختمت النبياء.
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ( :نحن
الخرون ونحن السابقون يوم القيامة ،بيد أنّ كلّ أمّة أوتيت الكتاب من قبلنا وأوتيناه من
بعدهم ) .
وقد أُرسلَ محمّدٌ صلى ال عليه وسلم إلى جميع الخلق ،من أبيضٍ وأسودٍ وأحمر ،وإلى العرب
والعجم ،وإلى الوثنيين واليهود والنصارى ،قال تعالى{ :وما أرسلناك إلّ كافّة للناس بشيرا
ونذيرا} [سبأ ،]28 :وقال عليه الصلة والسلم ( :والذي نفس محمّد بيده ،ل يسمع بي أحد من
هذه المّة يهوديّ ول نصرانيّ ثمّ يموت ولم يؤمن بالذي أُرسِلتُ به إلّ كان من أهل النار ) .
138
[رواه مسلم] ،وقال صلى ال عليه وسلم ،فيه كذلك ( :وكان الرسول يبعث في قومه خاصّة
و ُبعِثتُ إلى الناس عامّة ) .
الطـــائفة المـــنصورة وظـــهور الـــدين :
وقد كتب اللـه تعالى لدينه الظهور والرفعة والغلبة بالحجّة والبيان وبالسيف والسنان ،قال
تعالى{ :هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون}
[الصفّ ،]9 :وقد جاء ( ابتلًء للناس ،قال :إنّي مبتليك ومُبتلٍ بك [رواه مسلم].
ومن أجل إقامة الدين وحصول الرفعة والغلبة أرسل اللـه مع نبيّه الكتاب والميزان والحديد.
سلَنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ،وأنزلنا
قال تعالى{ :لقد أرسلنا رُ ُ
سلَه بالغيب ،إن ال لقويّ عزيز}
صرُه ور ُ
الحديد فيه بأسٌ شديد ومنافع للناس وليعلم ال من ين ُ
[الحديد.]25 :
فكتابه يهدي إلى الحقّ ،والحديد يُقوّم من خرج عنه ،والناس ل يُصلِحُهم إلّ هذا ،ومتى ضعف
في الناس أحدُ المرين -الكتاب والحديد -حصل الفساد والخراب ،قاصلى ال عليه وسلم :
ُبعِثتُ بالسيف بين يدي الساعة حتّى يُعبَ َد اللـه وحده.
فكان هذا ميراثه في أمّته :الكتاب الهادي والسيف المانع المقوّم ،فكان الناس قسمين :علماء
وأهل جهاد ،وقد جمع اللـه هاتين الفضيلتين لخير الخلق بعد النبياء وهم الصحابة ،قال
تعالى{ :محمّد رسول ال والذين معه أشدّاء على الكفّار رحماءُ بينهم تراهم ركّعا سجّدا يبتغون
فضلً من ال ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ،ومثلهم في
النجيل كزرعٍ أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزرّاع ليغيظ بهم الكفّار}
[الفتح. ]29 :
وقال عليه الصلة والسلم :إنّ العلماء ورثة النبياء ،وإنّ النبياء لم يورثوا دينارا ول درهما
وإنّما ورثوا العلم ،فمن أخذه أخذ بحظٍ عظيم وافر [رواه الترمذيّ وهو حسن] .
فكما أمر اللـه تعالى نبيّه بالقتداء في النبياء كما قال تعالى {أولئك الذين هدى ال فبهداهم
اقتده} [النعام ]90 :فكذلك أمر اللـه أمّة محمّ ٍد صلى ال عليه وسلم أن تقتدي به ،فأسرع
الناسُ في التسابق في أخذ ميراثه وإقامته في أنفسهم وفي الناس.
فمن أقبل على دين اللـه يريده ويبتغيه علّموه وفقّهوه كما قال عليه الصلة والسلم :نضّر
اللـه امرءً سمع مقالتي فوعاها وأدّاها كما سمعها [رواه الترمذي وغيره] ،ومن أعرض عنه
139
قاتلوه حتّى يخضع لحكم اللـه تعالى ،كما قال تعالى{ :قاتلوا الذين ل يؤمنون بال ول باليوم
الخر ول يحرّمون ما حرّم ال ورسوله ول يدينون دين الحقّ من الذين أوتوا الكتاب حتّى
يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون} [التوبة.]29 :
وهكذا كان دور أتباع محمّد ،وهذا كان عملهم ،هداية الخلق إلى الحقّ وتقويم من أعرض
وتعدّى ،ل عمل لهم في حقيقة المر إلّ هذا ،فلمّا توفيّ رسول اللـه انتشر الصحابة في الفاق
فخرج جيش أسامة لقتال الروم ،وخرجت جموع الصحابة لقتال من ارتدّ من العرب عن
السلم ،ثمّ حملوا هذا الدين للتابعين ثمّ جيلً بعد جيل .قال عليه الصلة والسلم :يحمل هذا
خَلفٍ عُدولُه ،ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين [رواه
العلم من كلّ َ
جماعة من الصحابة وصحّحه المام أحمد وابن القيّم] ،فكان مداد العلماء ودماء الشهداء هما
أحبّ ما يتقرّب به إلى اللـه تعالى ،مداد العلماء لهداية الخلق وتعليمهم السنّة وكشف البدعة
ونشر الحقّ ،ودماء الشهداء من أجل نشر التنزيل وحفظ التأويل ،وكلّما أظهر الناس بدعة قام
لها العلماء حقّ القيام فأزالوا عنها زيفها ونفّروا الناس منها ،وكلما جهل الناس سنّة أظهروها
وعلّموها المّة ،وكلّما خرج عن هذه المّة من داخلها من يريد لها شرّا أو جاء من خارجها
ليستبيح بيضتها قاموا له بالسيف حتّى يكسروا له قرنه ويردّوه على عقبيه ويدخلوه حجره.
كذا فعل الصدّيق مع المرتدّين ،وكذا فعل عليّ بن أبي طالب مع الخوارج إذ أرسل لهم
عبداللـه بن عبّاس فناظرهم حتى ردّ أكثرهم ثمّ قاتلهم حتّى قتل منهم مقتلةً عظيمة ،وهكذا فعل
ق والهدى
عمر بن عبدالعزيز معهم ،وقد كتب اللـه تعالى بقاء طائفة منصورة قائمة بالح ّ
وحاملةً للسيف والسنان إلى قيام الساعة.
قال عليه الصلة والسلم :ل تزال طائفة من أمّتي يقاتلون على الحقّ ظاهرين إلى يوم القيامة.
قال :فينزل عيسى بن مريم عليه السلم ،فيقول إمامهم :تعالى صلّ لنا ،فيقول :ل ،إنّ بعضكم
على بعض أمراء تكرمة اللـه هذه المّة .رواه مسلم من حديث جابر بن عبداللـه ،وفيه عن
عقبة بن عامر قال :قال رسول اللـه :ل تزال عصابة من أمّتي يقاتلون على أمر اللـه
قاهرين لعدوّهم ،ل يضرّهم من خالفهم حتّى تأتي الساعة وهم على ذلك.
وهؤلء في كلّ وقت غرباء .وروى الترمذي في سننه وقال :حسن صحيح أنّ رسول ال صلى
ال عليه وسلم قال :إنّ الدين بدأ غريبا ،ويرجع غريبا ،فطوبى للغرباء ،الذين يصلحون ما أفسد
الناس من بعدي من سنّتي .وفي رواية أخرى عند غيره قال عنهم :الفرّارون بدينهم يجتمعون
140
إلى عيسى عليه السلم ،وفي رواية :ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر
ممّن يطيعهم.
ق والهدى ،ل يكتمون الناس شيئا كما قال تعالى{ :وإذ
فورّاث النبيّ صنفان :علماء دعاة إلى الح ّ
أخذ ال ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للناس ول تكتمونه} [آل عمران ،]187 :وقد أنذر من
علم علما أوجبه اللـه على الناس ثمّ كتمه بأن يلجمه يوم القيامة بلجام من نار كما في الحديث
الصحيح .
وصنفٌ آخر هم الذين يحمون هذا العلم ويقيمونه في الناس إذا ملكتهم الهواء وهم المجاهدون
في سبيل اللـه ،وخير المرين هو من جمع بين الفضلين ،وهذه هي صفة الطائفة المنصورة،
فهي طائفة علم وجهاد .قال عليه الصلة والسلم :ما من نبيّ بعثه اللـه في أمّة قبلي إلّ كان
له من أمّته حواريّون وأصحاب يأخذون بسنّته ويقتدون بأمره ،ثمّ إنها تخلف من بعدهم خلوف
يقولون ما ل يفعلون ،ويفعلون ما ل يؤمرون ،فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ،ومن جاهدهم
بلسانه فهو مؤمن ،ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن [رواه مسلم من حديث عبداللـه بن مسعود ].
وكان العلماء على الدوام هم حجّة اللـه على هذه المّة ،كما كان شأن المام أحمد رحمه اللـه
تعالى في فتنة خلق القرآن ،إذ وقف لهذه الفتنة التي كادت تعصف بالمّة وتخرجها إلى الشرك
والكفران موقف السد الذي يحمي ذمامه فنصره اللـه وأيّده ،وكما هو موقف علماء المالكيّة
من أتباع سحنون في فتنة الباطنيّة العبيدية حين قاتلوهم وكشفوا زندقتهم .قال الرعينيّ في
كتابه :أجمع علماء القيروان :أبو محمّد بن أبي زيد ،وأبو الحسن القابسيّ ،وأبو القاسم بن
شبلون ،وأبو علي بن خلدون وأبو محمد الطبيقي وأبو بكر بن عذرة :أنّ حال بني عبيد ،حال
المرتدّين والزنادقة ،فحال المرتدّين بما أظهروه من خلف الشريعة فل يورثون بالجماع،
وحال الزنادقة :بما أخفوه من التعطيل ،فيقتلون بالزندقة [ترتيب المدارك ،جـ .]7/247
وخرج العلماء لقتالهم .قال أبو الفرج ابن الجوزي :أقام جوهر (الصقلي نائب العبيديين في
مصر) القائد لبي تميم صاحب مصر أبا بكر النابلسي (المام القدوة) وقال له :بلغنا أنّك قلت:
إذا كان مع الرجل عشرة أسهم ،وجب أن يرمي في الروم سهما وفينا تسعة؟ قال :ما قُلت هذا،
بل قلت :إذا كان معه عشرة أسهم وجب أن يرميكم بتسعة وأن يرمي العاشر فيكم أيضا ،فإنّكم
غيّرتم الملّة ،وقتلتم الصالحين ،وادّعيتم نور اللهية ،فشهره ثمّ ضربه ثمّ أمر يهوديّا فسلخه
[أنظر سير أعلم النبلء.]7/148 ،
141
وقال الذهبيّ :وقد أجمع علماء المغرب على محاربة آل عبيد لما شهروه من الكفر الصراح
الذي ل حيلة فيه .وخطب المام أحمد بن أبي وليد الناس قائلً :جاهدوا من كفر باللـه وزعم
أنّه ربّ من دون ال ،وغيّر أحكام ال وسبّ نبيّه صلى ال عليه وسلم وأصحاب نبيّه ،فبكى
الناس بكاءً شديدا .وركب ربيع القطّان فرسا ملبسا ،وفي عنقه المصحف وحوله جمع كبير وهو
يتلو آيات جهاد الكفرة فاستشهد هو وخلق من الناس.
وهكذا كان شأن المام أحمد بن تيمية في بيانه للحق والهدى والسنة ،فكشف أهل البدع من
متكلّمين وفلسفة وصوفيّة ،وجلّى الحق الذي غشيته زبالت الهواء أحسن بيان وأجله ،ثمّ قام
مقام المجاهدين فقاتل التتار وحرّض الناس على قتالهم وحضّ ملوك السلم عليهم وخوّفهم إن
لم يقوموا بواجب الجهاد ضدّ التتار أنّه ومن معه من المسلمين سيبدلونهم ويختارون ملوكا
عليهم غيرهم ،ولما التبس على الناس أمر قتالهم وفي أيّ نوع من النواع يدخل قتالهم ،بيّن أنّ
قتالهم هو قتال من امتنع عن شرائع السلم ،فعاد الحقّ أبلجا وكشف اللـه الغمّة وهزم التتار
في معركة شقحب (مرج الصفر).
ثمّ ما كان من شأن الشيخ محمّد بن عبدالوهّاب رحمه اللـه تعالى حين دعا إلى التوحيد والسنّة
فعُودي ورُمي عن قوس واحدة...
وهكذا هي سلسلة الدعوة والجهاد ،حلقاتها تمتدّ من زمن إلى زمن ،ل تنقطع ول تتوقّف حتّى
يومنا هذا.
***
أخي المسلم:
إذا علمت هذا وتبيّن لك على وجه صحيح رأيت الواجب الملقى على عاتقك ،وبحثت عن هذه
الطائفة التي يمتدّ تاريخها من يومنا هذا إلى النبيّ ،وهي الطائفة التي تدعو الناس إلى التوحيد
والسنّة ،وتكشف للناس الشرك والبدعة ،وتقاتل في سبيل ذلك حتّى تقوم الساعة.
والن تسأل من نحن ولماذا الجهاد؟ لقد نشأنا فوجدنا علما مفقودا ،وأمّة جاهلة ،ومعاصي
متفشيّة ،وحقوقا مهدورة ،وأرضا مغصوبة ،وحكّاما مرتدّين .فما هو الواجب الملقى على عاتق
من علّمه اللـه وفقّهه؟
لقد قيّض اللـه في زماننا أمرا عظيما هو انتشار كتب السلف ،وقد مرّ وقت طويل كان الناس
إلّ قلّة قليلة ل يعرفون من كتب العقائد إلّ كتب أهل الكلم ،فل يعرفون إلّ العقائد النسفية
142
وشرح جوهرة التوحيد وأمثالهما ،ول يقرؤون الفقه إلّ من كتب المتون ول يعرفون إلّ التقليد،
ل كتب التربية الصوفية كالرسالة القشيرية واللمع للطوسي وإحياء
ول يعرفون كتب التربية إ ّ
علوم الدين للغزالي..
ثمّ برحمة من اللـه تعالى أن أقبل الناس على طباعة وتحقيق كتب السلف ،فطبعت مؤلّفات
ورسائل وفتاوى شيخ السلم ابن تيمية ،وطبعت كتب السنّة والتوحيد كالسنّة لعبداللـه بن
المام أحمد والسنّة لبن أبي عاصم والتوحيد لبن خزيمة والشريعة للجري ،ثمّ تتابع السيل
المبارك ،فأقبل الناس على دراسة هذه الكتب ثمّ بالبحث عن بقايا العلماء الذين هم همزة الوصل
للطائفة المنصورة الدائمة الباقية ،وبدؤوا يحاولون فهم واقعهم على ضوء فهم أئمّة هذه الطائفة
بدءا من أبي بكر الصدّيق إلى قول أيّ عالم أصاب الحقّ والهداية وارتبط بالكتاب والسنّة.
فكان ما خرجوا به أنّ المّة غيّرت وبدّلت وأصابها الجهل في كلّ جوانب هذا الدين ،وبسبب
ن بعضها لحق بالمشركين واتّبع دينهم،
جهلها وقعت في المعاصي والذنوب واقترفت البدع ،بل إ ّ
ثمّ نظروا فوجدوا أنّه قد استولى على أمرهم وقيادتهم حكّام باعوا دينهم للشيطان ودخلوا في
ل أغلقوه،
دين المشركين ،وسرقوا مقدّراتها من خيرات اللـه فيها ،ولم يجدوا طريقا للخير إ ّ
فعطّلوا المساجد ودور العلم ولحقوا العلماء والدعاة إلى اللـه ،ولم يجدوا طريقا للشرّ إلّ
سلكوه ،فنشروا دين الردّة وحسّنوا للناس الباطل والكفر من علمانية وديمقراطية وشيوعية
واشتراكية ،وأوجبوا على الناس المعاصي فأقاموا مصارف الربا وضيّقوا على الناس سبل
الحياة حتّى ل يدخلوا إلّ من بابه ،ونشروا الرذيلة مع الفقر حتّى ل يكون للشاب إلّ طريق
الخبث ،ثمّ لم يجدوا منفذا للشرّ إلّ وسهّلوه وقرّبوه للناس ،والمّة ترى السماء هي السماء
التي عهدتها في تاريخها وأمّا الحقائق فتخالف ذلك كلّه ،ثمّ وجد من حسّن هذا المر وأفرغ
وسعه من أجل إسباغ الشرعيّة عليه وساعدهم في هذا قلب السماء ،فالزندقة عندهم هي
الحرّية ،والدخول في دين الطاغوت ديمقراطيّة ،وموالة الكافرين سلما ووحدةً وطنيّة ،وأمّا
شرع اللـه ودينه فهو التخلّف والرجوع إلى الوراء إلى زمن البعير والسيف والرمح ،وسمّوا
زنا المرأة فنّا وحرّية اختيار ،وسمّوا بيع الوطان والديار سلما وحسن جوار.
هذا أبصره الشباب المقبل على ربّه ودينه ،فعلم من دينه ما علم ،فحمل كلمة الحقّ وقذفها في
صدور العداء والمناوئين وبدأ يدعو إلى اللـه ويكشف للناس حقيقة ما هم عليه والواجب
143
الملقى على عاتقهم ،وكان جماع ذلك كلّه في كلمتين :الدعوة إلى اللـه والجهاد في سبيل
اللـه.
الدعوة إلى اللـه :وفيها تعليم الناس ما جهلوه من التوحيد والسنّة ،وفيها المر بالمعروف
والنهي عن المنكر.
وأمّا الجهاد في سبيل اللـه تعالى ،فهو ض ّد المرتدّين قبل غيرهم ،لنّ رأس المال مقدّم على
الربح وتحقيق الزيادة ،أمّا الدليل على ردّة هؤلء الحكّام وردّة طوائفهم فهو بسبب تبديلهم
شريعة الرحمن وموالتهم لليهود والنصارى والشيوعيين ،ومعاداتهم المؤمنين والموحّدين وأتباع
الرسل ،ومن فعل هذه الفاعيل فهو بإجماع المّة المسلمة التي خلت أنّه كافر مرتدّ ،وإليك
الدليل ردّة من بدّل شريعة الرحمن وحكم بشريعة الشيطان ،يقول شيخ السلم ابن تيمية:
"والنسان متى حلّل الحرام المجمع عليه أو حرّم الحلل المجمع عليه أو بدّل الشرع المجمع
عليه كان كافرا باتّفاق الفقهاء" .
والعبودية تقوم على الطاعة وامتثال المر ،ول تصحّ عبوديّة دون امتثال أمر السيّد المر وهو
المعبود ،ولذلك فكلّ من اتّخذ من نفسه آمرا ناهيا حاكما على غيره من خلل التشريع والذي
معناه تسمية الشياء ووصفها بالحلّ والحرمة فقد جعل نفسه إلها مطاعا معبودا يُعبَد الدلّة من
القرآن والسنّة إنّ ممّا اتّفق عليه جميع النبياء والمرسلين هو الدعوة إلى توحيد اللـه في
العبادة والقصد والطلب ،قال تعالى{ :ولقد بعثنا في كلّ أمّة رسولً أن اعبدوا ال واجتنبوا
الطاغوت} [النحل ،]36 :وكان ممّا يدخل في عبادة اللـه تعالى ،بل هو قاعدة العبادة وأصلها،
حكَمُ وله الحُكم .قال تعالى{ :إنِ الحكمُ
هو إفراد اللـه تعالى في الطاعة والمتثال ،فاللـه هو ال َ
إلّ ل} [النعام .]57 :وقال تعالى{ :أل له الحكم} [النعام .]12 :وقال تعالى{ :أل له الخلق
والمر} [العراف .]54 :وقال تعالى{ :وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى ال} [الشورى:
.]10وقال تعالى{ :ول يشرك في حكمه أحدا} [الكهف .]26 :فهذه اليات تبيّن بوضوح وجلء
أنّ حقّ الحكم هو للـه وحده ،بل إنّ معنى الله هو المعبود ،والعبودية تقوم على الطاعة
وامتثال المر ،ول تصحّ عبوديّة دون امتثال أمر السيّد المر وهو المعبود.
ولذلك فكلّ من اتّخذ من نفسه آمرا ناهيا حاكما على غيره من خلل التشريع والذي معناه تسمية
الشياء ووصفها بالحلّ والحرمة فقد جعل نفسه إلها مطاعا معبودا يُعبَد ،قال تعالى{ :أم لهم
شركاءُ شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به ال} [الشورى .]21 :فقد سمّى اللـه المشرّع شريكا
144
وسمّى ما شرّع دينا ،وأصل كلمة الدين تعني الخضوع ،وهكذا حال المطيع لشرع غيره فإنّما
هو خاضع له ،وهو معنى الدين ،فهذه الية جامعة لهذا الباب وهو تسمية المشرّع إلها ،وتسمية
الشرع الذي شرعه دينا ،وتسمية الطائع له مشركا ،وقال تعالى{ :إتّخذوا أحبارهم ورهبانهم
ي صلى ال عليه وسلم ربوبيّتهم على أتباعهم
أربابا من دون ال} [التوبة ،]31 :وقد فسّر النب ّ
ي صلى ال عليه
بطاعة التباع لهم في ما أحلّوا وحرّموا ،فعن عديّ بن حاتم أنّه سمع النب ّ
وسلميقرأ هذه الية { :إتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون ال والمسيح ابن مريم وما
ُأمِروا إلّ ليعبدوا إلها واحدا ل إله إلّ هو سبحانه عمّا يشركون} [التوبة ،]31 :فقال :إنّا لسنا
نعبدهم ،فقال أليس يحرّمون ما أحلّ اللـه فتحرّمونه ،ويحلّون ما حرّم اللـه فتحلّونه؟ فقال:
بلى .فقال :فتلك عبادتهم[ .رواه الترمذيّ وحسّنه] .
وقد قرّر اللـه في كتابه كفرَ من حكم بغير كتابه ،فقال سبحانه{ :ومن لم يحكم بما أنزل ال
فأولئك هم الكافرون} [المائدة.]44 :
وسمّى اللـه من تحاكم الناس إليه من غير خضوع لحكام الكتاب والسنّة طاغوتا .قال تعالى:
{يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلّهم ضللً
بعيدا} [النساء ،]60 :وقال الشيخ المام محمد المين الشنقيطي في أضواء البيان :كلّ تحاكم إلى
غير شرع اللـه فهو تحاكم إلى الطاغوت [.]7/65
ومثل الية التي تقدّمت{ :أم لهم شركاء }...قوله تعالى{ :إنِ الحكم إلّ ل أمر أل تعبدوا إلّ إياه
ذلك الدين القيّم} [يوسف .]40 :فقد سمّى اللـه الحكم عبادة ،وسمّى ما يُحكم به دينا ،فمن حكّم
اللـه في كلّ أمر فقد عبده واتّخذ دينه دينا ،ومن حكّم الطاغوت في أيّ أمرٍ فقد عبده واتّخذ
حكمه دينا ،وقد سمّى اللـه تعالى شرع الطواغيت دينا ،كما سمّى شرعه دينا فقال تعالى عن
يوسف{ :كذلك كدنا ليوسف ،ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلّ أن يشاء ال} [يوسف،]76 :
فقد سمّى شرعَ الملك وحكمَه وملكَه دينا.
أقوال العلماء في حكم المبدّلين للشريعة:
وقد تكلّم علماؤنا في كفر هذه الديان والتشريعات الباطلة وحكموا على من شرعها وقام عليها
بالكفر والردّة:
قال ابن حزم رحمه اللـه تعالى :من حكم بحكم النجيل ممّا لم يأت بالنص عليه وحيٌ في
شريعة السلم فإنّه كافر مشرك خارج عن السلم [الحكام في أصول الحكام.]5/153 ،
145
وقال ابن تيمية رحمه اللـه تعالى :معلوم بالضطرار من دين المسلمين وباتّفاق جميع
المسلمين أنّ من سوّغ اتّباع غير دين السلم أو اتّباع شريعة غير شريعة محمّد ( فهو كافر
[مجموع الفتاوى .]28/524 ،ويقول كذلك :الشرع المنزّل من عند اللـه تعالى وهو الكتاب
والسنّة الذي بعث اللـه به رسوله فإنّ هذا الشرع ليس لحد من الخلق الخروج عنه ،ول
يخرج عنه إلّ كافر [ .مجموع الفتاوى .]11/262 ،ويقول :والنسان متى حلّل الحرام المجمع
عليه أو حرّم الحلل المجمع عليه أو بدّل الشرع المجمع عليه كان كافرا باتّفاق الفقهاء [مجموع
الفتاوى.]3/267 ،
ويقول ابن كثير رحمه اللـه تعالى :فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمّد بن عبداللـه
خاتم النبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر [البداية والنهاية.]13/119 ،
ويقول عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ :من تحاكم إلى غير كتاب اللـه وسنّة رسوله ( بعد
التعريف فهو كافر ،قال تعالى{ :ومن لم يحكم بما أنزل ال فأولئك هم الكافرون} ،وقال تعالى:
{أفغير اللـه يبغون[ }...الدرر السنّية .]8/241
وقال عبداللـه بن حميد :ومن أصدر تشريعا عامّا ملزما للناس يتعارض مع حكم اللـه فهذا
يخرج من الملّة كافرا [ .أهمّية الجهاد ،ص .]196
ويقول محمّد بن إبراهيم آل الشيخ :إنّ من الكفر الكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما
نزل به الروح المين على قلب محمّد صلى ال عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربيّ
مبين ،في الحكم به بين العالمين ،والرد إليه عند تنازع المتنازعين مناقضة ومعاندة لقول اللـه
عزّ وجلّ{ :فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى ال والرسول إن كنتم تؤمنون بال واليوم الخر،
ي صلى
ذلك خيرٌ وأحسن تأويلً} .وقد نفى اللـه سبحانه وتعالى اليمان عن من لم يحكّموا النب ّ
ال عليه وسلم فيما شجر بينهم نفيا مؤكّدا بتكرار أداة النفي وبالقسم ،قال تعالى{ :فل وربّك ل
يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ ل يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضيت ويسلّموا
تسليما} [رسالة تحكيم القوانين].
وقد ذكر فيها أنّ من أعظم أنواع الكفر الكبر في هذا الباب هو ما وقع فيه المرتدّون
المعاصرون ،فقال :الخامس :وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لحكامه
ومشاقّة للـه ولرسوله ،ومضاهاة بالمحاكم الشرعيّة إعدادا وإمدادا وإرصادا وتأصيلً وتفريعا
وتشكيلً وتنويعا وحكما وإلزاما ومراجع ومستندات ،فكما أنّ للمحاكم الشرعيّة مراجع
146
ومستندات مرجعها كلّها إلى كتاب اللـه وسنّة رسوله صلى ال عليه وسلم ،فلهذه المحاكم
مراجع هي :القانون الملفّق وشرائع شتّى ،وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي ،والقانون المريكي
والقانون البريطاني ،وغيرها من القوانين ،ومن مذاهب بعض البدعيّين المنتسبين إلى الشريعة
وغير ذلك ..فهذه المحاكم الن في كثير من أمصار السلم مهيّأة مكمّلة مفتوحة البواب،
والناس إليها أسراب إثر أسراب ،يحكم حكّامها بينهم بما يخالف حكم السنّة والكتاب من أحكام
ذلك القانون وتلزمهم وتقرّهم عليه ،وتحتّمه عليهم ،فأيّ كفر فوق هذا الكفر ،وأيّ مناقضة
للشهادة بأنّ محمّدا رسول اللـه بعد هذه المناقضة؟ .
وقال الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان :والعجب ممّن يحكّم غير تشريع اللـه ثمّ يدّعي السلم
كما قال تعالى{ :ألم ترَ إلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزِلَ من قبلك يريدون
أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد ُأمِروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلّهم ضللً بعيدا}،
وقال{ :ومن لم يحكم بما أنزل ال فأولئك هم الكافرون} ،وقال{ :أفغير ال أبتغي حكما وهو
الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزّل من ربّك بالحقّ فل
تكوننّ من الممترين} . ]3/441[ .
ويقول رحمه اللـه إنّ متّبعي أحكام المشرّعين غير ما شرعه اللـه أنّهم مشركون باللـه [
.]83-4/82
ويقول الشيخ أحمد شاكر رحمه اللـه تعالى :هذه القوانين التي فرضها على المسلمين أعداءُ
السلم السافرو العداوة هي في حقيقتها دينٌ آخر جعلوه دينا للمسلمين بدلً من دينهم النقيّ
السامي ،لنهم أوجبوا عليهم طاعتها ،وغرسوا في قلوبهم حبّها وتقديسها والعصبيّة لها ،حتّى لقد
حرَم المحكمة،
تجري على اللسنة والقلم كثيرا كلمات :تقديس القانون ،قدسيّة القضاءَ ،
صفَ بها الشريعة السلمية وآراء الفقهاء السلميين.
وأمثال ذلك من الكلمات التي يأبون أن تو َ
بل هم حينئذٍ يصفونها بكلمات الرجعيّة ،الجمود ،الكهنوت ،شريعة الغاب [عمدة التفسير،
.]3/214
ويقول :إنّ المر في هذه القوانين الوضعيّة واضح وضوح الشمس ،هي كفرٌ بواحٌ ل خفاء فيه
ول مداراة ،ول عذر لحد ممن ينتسب للسلم كائنا من كان في العمل بها أو الخضوع لها أو
إقرارها ،فليحذر امرؤٌ لنفسه ،وكلّ امرئ حسيب نفسه [السابق.]4/174،
147
ويقول الشيخ محمّد حامد الفقي :الذي يُستخلص من كلم السلف :أنّ الطاغوت كلّ ما صرف
العبد وصدّه عن عبادة اللـه وإخلص الدين والطاعة للـه ولرسوله ،سواء في ذلك الشيطان
من الجنّ الشياطين والنس والشجار والحجار وغيرها ،ويدخل في ذلك بل شكّ :الحكم
بالقوانين الجنبيّة عن السلم وشرائعه وغيرها من كلّ ما وضعه النسان ليحكم به في الدماء
والفروج والموال ،وليبطل بها شرائع اللـه ،من إقامة الحدود وتحريم الربا والزنا والخمر
ونحو ذلك ممّا أخذت هذه القوانين تحلّلها وتحميها بنفوذها ومنفّذيها ،والقوانين نفسها طواغيت،
وواضعوها ومروّجوها طواغيت [هامش فتح المجيد].
وهكذا علمنا أن الشرع الذي تُحكم به بلد المسلمين هو شرع طاغوتيّ وأنّ حكّامنا طواغيت
كفرة ،بل هم من أش ّد أنواع الكفّار وأغلظهم ،فإنّ هؤلء لم يحكموا بشريعة الشيطان فقط،
ولكنّهم صرّحوا بأنّ اللـه تعالى ليس له الحقّ في الحكم والتشريع ،فإنّه ما من دولة إلّ وقد
كتبت في دستورها :أنّ السيادة للشعب ،والسيادة في دينهم تعني معنى السيّد في دين اللـه
تعالى وهو معنى الله ،فإنّ السيادة عندهم هي سلطة مطلقة لها الحقّ في تقييم الشياء
والفعال ،أي هي سلطة التحليل والتحريم ،وهذا هو معنى الحاكم وهو معنى الله والمعبود كما
تقدّم.
وأمّا الدول التي تزعم أنّها لم تكتب قانوناُ أو دستورا وتزعم العمل بالكتاب والسنّة ،فيقال لهم:
ما أشدّ كذبكم وتدجيلكم ،فإنّ واقعكم هو واقع الدول التي كتبت دستورها وقانونها ،فشبهكم بهم
هو شبه الغراب بالغراب ،ثمّ زعمتم أنّكم لم تجعلوا السلطات بيد الشعب ،ولم تقولوا أنّ السيادة
لغير اللـه ،فها أنتم الن كوّنتم مجلس شورى تغييرا للسماء فقط وانضممتم بهذا المجلس إلى
اتّحاد المجالس الشركيّة البرلمانيّة كبقيّة إخوانكم ،ثمّ ها أنتم تدخلون في كلّ مؤسّسة كافرة
كالجامعة العربية وهيئة المم المتّحدة وغيرها ،ثمّ كذلك أنتم فرضتم من الدساتير والقوانين
ل اللـه تعالى ،وسمّيتم هذه بالنظم
الكافرة التي أبحتم بها ما حرّم اللـه وحرمتم بها ما أح ّ
-تغييرا للسماء مع اتّفاق الحقائق -فأبحتم الربا ،فها هي البنوك الربويّة مشرعة البواب ،فيقال
لكم بأيّ قانون تمّ الترخيص لهذا العمل ،بل إنّ هذه الدولة المزعومة هي الدولة الوحيدة في
العالم التي تمنع الترخيص لما يسمّى بالبنك السلمي.
وهكذا أيّها السائل الصادق رأيت أنّ دولنا محكومة بحكومات مرتدّة كافرة وبحكّام كفّار مرتدين
وأنّهم شرّعوا للناس دينا وأوجبوا على الناس الدخول فيه.
148
ثمّ إنّ هؤلء الحكّام قد والوا أعداء اللـه تعالى وعادوا أهل السلم :فما من حاكم من هؤلء
ل وتراه يقرّب المشركين ويوادّهم ويناصرهم ويدافع عنهم ،ول يسمح في بلده قطّ أن يشتم
إّ
هؤلء الكفّار أو أن يعلن أحد بغضهم ،وفرضوا في قوانينهم من العقوبات الشديدة لمن سبّ
هؤلء المشركين أو لعن دينهم .
وإنّ من صور الموالة والنصرة أنّهم عقدوا معهم من التحالفات العسكرية والمنية مما جعلهم
في دين واحد ومذهب واحد ،فإنّ أعظم درجات الموالة هي النصرة قال تعالى{ :يا أيّها الذين
آمنوا ل تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم إن ال
ل يهدي القوم الظالمين} [المائدة . ]51 :قال ابن جرير الطبري في تفسير الية :فإنّ من تولّهم
ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملّتهم ،فإنّه ل يتولّى متولٍ أحدا إلّ وهو به وبدينه
وما هو عليه راض ،وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه[
. ]6/277
وهكذا علمنا كفر هؤلء الحكّام من هذا الباب ،فهؤلء الحكّام مكّنوا للمشركين واليهود
والنصارى من بلد المسلمين ،ثمّ من صور الموالة التي وقع فيها هؤلء المرتدّون هو الدخول
في طاعة المشركين ،وذلك بالنقياد لهم واتّباع شريعتهم والنضمام إلى طوائفهم والتي هي
المؤسّسات التي تدين بدين الشيطان من مذاهب إنسانية كقولهم :ل فرق بين إنسان وآخر حسب
دينه ،فدعوا إلى المساواة بين المسلم والمشرك تحت دعوة المذهب النساني الذي نشره اليهود
في هؤلء البهائم واللـه تعالى قد قطع موالة المؤمن للمشرك وأوجب عليه بغضه وبغض
دينه ،قال تعالى{ :يا أيّها الذين آمنوا ل تتّخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبّوا الكفر على
اليمان ومن يتولّهم منكم فأولئك هم الظالمون} [التوبة ، ]23 :ففي هذه الية قطع اللـه علئق
الموالة بين المؤمن وبين أبيه وأخيه الكافر ،فكيف بالجنبيّ؟ وفيها من بيان ضلل وكفر ما
يُسمّى في بلدنا بأخوّة المواطنة المزعومة ،فإنّ دساتير وقوانين البلد التي حكّمها هؤلء
المرتدّون تنصّ على المساواة بين أهل البلد الواحد دون اعتبار دينه وعقيدته تحت دعوى
المواطنة المزعومة فهم يقولون :الدين للـه والوطن للجميع ،ومعناه أنّ قانون المواطنة ل يفرّق
بين الناس باعتبار الدين والعتقاد ،فالمسلم والكافر عندهم سواء واللـه جعل مَن والى كافرا
مثله في الحكم ،قال تعالى{ :والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} [النفال . ]73 :وإنّ مما أجمع
النبياء على تبليغه للناس هو البراءة من المشركين كما قال تعالى عن أبي النبياء إبراهيم عليه
149
السلم{ :قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برءاء منكم ومما
تعبدون من دون ال كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتّى تؤمنوا بال وحده}
[الممتحنة. ]4 :
ثمّ انظروا إلى هؤلء الملعين ماذا فعلوا بالمسلمين والدعاة إلى اللـه :لقد علّقوا لهم المشانق
وملؤوا بهم السجون وشرّدوهم في الرض ،فما من دولة من هذه الدول إلّ وقد اب ُتِليَ الدعاة إلى
اللـه تعالى فيها فسُجنوا وعُذّبوا و ُقتّلوا ،وما نقموا منهم إلّ أن يؤمنوا باللـه العزيز الحميد،
وأخرجوا الشباب من البلد لطهرهم كما قال تعالى على لسان قوم لوط{ :أخرِجُوهم من قريتكم
إنّهم أُناسٌ يتطهّرون} [العراف].
فهؤلء الحكّام خرجوا من دين اللـه تعالى من هذه البواب ومن غيرها ،وهذا من العلم
الضروري الذي يجب أن ل يجهله أحد من أهل السلم .
َت ِبعَاتِ تكفير الحكّام:
قال القاضي عياض :أجمع العلماء على أنّ المامة ل تنعقد لكافر وعلى أنّه لو طرأ عليه كفر
ينعزل.
قال :وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها...
وقد يسأل سائل :ما أهمّية هذا العلم ،وهل من الواجب أن ُيكَ ّفرَ المسلمُ هؤلء الحكّامَ الطواغيت؟
فالجواب :نعم ،فإنّه مما يجب أن يعلمه كلّ مسلم أن تكفير الكافرين الملحدين هو ركن من
أركان عقيدة المسلم ،وذلك لما يترتّب على هذا التكفير من الواجبات.
فإن سألت :ما هي هذه الواجبات؟
قلنا لك :إعلم أيّها الخ الحبيب أنّ البراءة من هؤلء الطواغيت هو فرض عينٍ على كلّ مسلم،
فقد تقدّم لك من الدلة على أنّ من ركنِ اليمان الركين والذي ل يصح إسلم المرء إلّ به هو
البراءة من هؤلء الطواغيت ووجوب معاداتهم وبغضهم وعدم محبّتهم ،وممّا قاله أئمّتنا :إنّ
تكفير الملحدين ضروريّة من ضروريّات الدين ،وإنّ من مقتضيات هذه البراءة هو بغضهم
وعدم محبّتهم وعدم الدخول في طاعتهم ،فل يجوز للمسلم أن يعاونهم أو أن يدخل في أيّ
مؤسّسة من مؤسّسات نصرتهم وتقويتهم كالجيش والمن والمخابرات ،ومن يدخل من المسلمين
في نصرتهم في هذه المؤسّسات فإنّه معرّض لقوله تعالى{ :ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم} وهذا
يعرّضه إلى ما أوجب اللـه على المؤمنين من معاداته ومقاتلته ،قال تعالى{ :الذين آمنوا
150
يُقاتلون في سبيل ال ،والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ،فقاتلوا أولياء الشيطان إنّ كيد
الشيطان كان ضعيفا} [النساء .]76 :وقال تعالى{ :ولن يجعل ال للكافرين على المؤمنين سبيلً}
[النساء ،]141 :وهذا حاكم كافر فيجب خلع وليته وعدم طاعته.
وجـــوب قـتـالـهـم :
ثمّ إعلم أنّ هذه البراءة توجب مقاتلة هؤلء الحكّام ،فإنّه إن كفر الحاكم وارتدّ عن شريعة
الرحمن فإنه يُقاتل حتّى يُزال ويُقام بدلً منه رجلٌ من أهل اليمان .وهذا هو الواجب الثاني.
فعن عبادة بن الصامت رضي ال عنه قال :دعانا رسول اللـه صلى ال عليه وسلم فبايعناه،
فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة
علينا ،وأن ل ننازع المر أهله ،قال :إلّ أن تروا كفرا بواحا عندكم من اللـه فيه برهان .
[متّفق عليه] .
قال النووي :قال القاضي عياض :أجمع العلماء على أنّ المامة ل تنعقد لكافر وعلى أنّه لو
طرأ عليه كفر ينعزل .قال :وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها ...قال القاضي :فلو
طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولية وسقطت طاعته ووجب على
المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك ،فإن لم يقع ذلك إلّ لطائفة وجب
عليهم القيام بخلع الكافر ول يجب في المبتدع إلّ إذا ظنّوا القدرة عليه فإنّ تحقّقوا العجز لم
يجب القيام فيها وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها ويفرّ بدينه [ .شرح النووي على مسلم،
.]12/229
وقال ابن حجر :قال ابن التين :وقد أجمعوا أنّه -أي الخليفة -إذا دعا إلى كفر أو بدعة أنّه يُقام
عليه .وقال ابن حجر :وملخّصه أنّه ينعزل بالكفر إجماعا ،فجيب على كلّ مسلم القيام في ذلك
[فتح الباري.]13/123 :
فأنت ترى إجماع العلماء على أنّه ل يجوز للمسلم أن يرضى بحكم الكافر عليه ،بل يجب أن
تكون العزّة للـه ولرسوله وللمؤمنين -كما قال تعالى -وإنّ خضوع المسلم للكافر وأحكامه هي
صور من صور الذلّة التي ل تنبغي للمؤمن.
ثمّ إعلم حفظك اللـه أنّ حكم المرتدّ في ديننا -كما هو شأن هؤلء الحكّام -أغلظُ وأشدّ من حكم
الكافر الصلي .قال ابن تيمية رحمه اللـه تعالى :وكفر الردّة أغلظ بالجماع من الكفر الصلي
[مجموع الفتاوى.]28/478 ،
151
وقال كذلك :وقد استقرّت السنّة بأنّ عقوبة المرتدّ أعظم من عقوبة الكافر الصلي من وجوه
متعدّدة ،منها أنّ المرتدّ يُقتل بكلّ حال ول يُضرب عليه جزية ،ول تُعقَد له ذمّة ،بخلف الكافر
الصلي الذي ليس هو من أهل القتال ،فإنّه ل يُقتل عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد،
ولهذا كان مذهب الجمهور أنّ المرتدّ يُقتل كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد ،ومنها أنّ
المرتدّ ل يرث ول يناكح ول تؤكل ذبيحته ،بخلف الكافر الصلي إلى غير ذلك من الحكام .
[مجموع الفتاوى.]28/534 ،
وقد أنكر المام أحمد عقد الذمّة للمرتدّ ،ففي جامع الخلل :قال الثرم :سمعت أبا عبداللـه
يُسأل عن الزنادقة تُؤخذ منهم الجزية؟ فأنكر ذلك ،وقال :ل بل تُضرب أعناقهم ،ما سمعنا بهذا
في السلم .ثمّ قال :سبحان اللـه؟! تُؤخذ الجزية من الزنادقة؟ منكرا لذلك جدّا ،قال الثرم:
وأظهر إنكار ذلك واستعظمه [ .فقرة .]1340
بل إنّهم رأوا في المرتدّ أن ل يُدفن :قال إسحق بن منصور :قلت لحمد :المرتدّ إذا قُتل ما
يُصنع بجيفته؟ قال :يُقال :يُترك حيث ضُرب عنقه كأنّما كان ذاك المكان قبره .يُعجبني هذا.
[السابق ،فقرة .]1301
وقال ابن تيمية :والصدّيق رضي ال عنه وسائر الصحابة بدؤوابجهاد المرتدّين قبل جهاد الكفّار
من أهل الكتاب ،فإنّ جهاد هؤلء حفظ لما فُتح من بلد المسلمين وأن يدخل فيه من أراد
الخروج عنه ،وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين ،وحفظ
رأس المال مقدّم على الربح [ .مجموع الفتاوى.]159-35/158 ،
فواجب كل مسلم أن يجاهد هؤلء حتّى يخلعهم ويزيلهم عن ولية المسلمين ،ويجب على
المسلمين جميعا أن ينشغلوا بإعداد أدوات الجهاد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلً من أجل إعادة
سلطان المسلمين إلى هذه الرض التي فتحها المسلمون بدمائهم ،فجاء هؤلء الحكّام الملعين
فغيّروا الملّة والدين وبدّلوا الشريعة وأعادوا سلطان المشركين إليها.
ثمّ إعلم أنّ هؤلء الحكّام مفسدون في الرض بسبب ما هم عليه من البغض لهذه المّة ،وبسبب
حكمهم بشريعة الشيطان واللـه قد أمر المؤمنين بجهاد المفسدين في الرض ،قال تعالى{ :إنّما
جزاء الذين يحاربون ال ورسوله ويسعون في الرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطّع
أيديهم وأرجلهم من خلف أو ينفَوا من الرض}[ .المائدة. ]33 :
152
وهؤلء الحكّام اجتمع فيهم ما تقدّم من محاربة للـه ولرسوله وذلك بالعراض عن شريعة
السلم وترك الخضوع لحكام الكتاب والسنّة والفساد في الرض ،فالواجب أن يقوم أهل
السلم عليهم كلّ قيام حتّى تط ّهرَ الرض منهم.
وهذا المر يجب أن يكون اليوم قبل الغد ،فإنّ كلّ يومٍ وكلّ لحظة تمرّ على أمّتنا وهم في سدّة
الحكم يزداد شرّهم وتبتعد المّة عن دين اللـه تعالى ،وذلك أنّهم ،مع طوائف ومؤسّسات الفساد
التي يديرونها ،يجذّرون الفساد في المجتمعات وينشطوا بكلّ قوّتهم لن يكون هو حياة الناس
وثقافتهم وغذاؤهم ،فليس الحكمة ما يزعم البعض بأنّ التأنّي خيرٌ من القدام في قتال هؤلء
المبدّلين والمرتدّين ،بل الصحيح إنّه كلّما تعجّل أهل السنة والدعوة والجهاد في إزالة هؤلء
المرتدّين كلّما أحسنوا لنفسهم وأحسنوا لمّتهم.
أل ترى أيّها الحبيب ماذا تصنع وزارات العلم من بثّ سموم الزندقة ،ومن نشر العهر
والرذيلة ،ومن تحسين الفجور والزنا ،ومن الدعوة إلى المذاهب الشركيّة الهدّامة من نفايات
العقول وزبالتها؟
ثمّ أل ترى ما تصنع وزارات العدل المزعوم من تحليلٍ للحرام وإباحة للفروج ومن تضييع
للحقوق وقلب المور رأسا على عقب ،فمن هو ذلك المرء الذي يطمئنّ إلى الوصول إلى حقّه
أو دفع الظلم عن نفسه عن طريق هذه المحاكم التي تقوم عليها وزارات العدل المزعوم؟
ثمّ أل ترى المؤسّسات المالية التي تديرها الدولة يقوم كلّ أمر من أمورها على الربا المحرّم،
فل يستطيع أحد أن يحفظ ماله إلّ في البنوك الربويّة ،ول يستطيع أن يقوم بتجارته إلّ عن
طريقها ،ثمّ هذه القروض التي يزعمونها لتحسين معيشة الناس فهي ل تكون إلّ عن طريق
الفائدة الربويّة؟
ول تنسَ أن تنظر وتتفكّر في نظم التأمين الجباري على ضروريّات الناس في هذه الحياة
كالسيّارة وغيرها.
ثمّ أل ترى وزارة التربية والتعليم ماذا صنعت في جيل الشباب الذي تخرّج من معاهدها
ومدارسها ،ماذا علّموه وثقّفوه وأيّ شيء من السلم اهتمّوا به لتربيته إياه وتعليمه؟
وها هي اليّام تزيد المر وضوحا وذلك بعد ما يسمّى بالسلم المزعوم مع إخوان القردة
والخنازير ،حيث أزالوا كلّ آية أو حديث أو خبر فيه بيان عداء المسلم لعداء الملّة والدين،
وكيف بدؤوا ببثّ ما يسمّى بالتطبيع والذي هو حقيقة تدمير لعقيدة الولء والبراء والتي ل يصحّ
153
إسلم المرء إل بها كما تقدّم .ثمّ انظر إلى بقيّة معاهد التعليم كالجامعات والمعاهد العليا ،وقارن
بينها وبين ما أمر اللـه تعالى ،ترى حقيقة هذه المؤسّسات والدوائر التي يفرضها هؤلء
ل وضوح وجلء.
الطواغيت وأعوانهم بك ّ
فهل بقي للمسلم عذرٌ في عدم القيام على هؤلء الحكّام وقتالهم ،واللـه تعالى يقول{ :وقاتلوهم
حتّى ل تكون فتنة ويكون الدين كلّه ل} [النفال .]39 :فهل الدين في بلدنا للـه ،أم أنّه في
أغلبه لغير اللـه ،وفيه القليل الذي يزعمون أخذه من الشريعة السلمية؟
فإذا كان بعض الدين للـه والخر لغيره وجب القتال والجهاد حتّى يكون الدين كلّه للـه
سبحانه وتعالى.
إنّنا نجاهد أيّها الخ الحبيب لنّ الجهاد هو الطريق الوحيد لعودة المّة إلى عزّتها ورفعتها،
وذلك كما قال صلى ال عليه وسلم :إذا تبايعتم بالعينة واتّبعتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع
وترتكم الجهاد في سبيل اللـه سلّط اللـه عليكم ذلً ل يرفعه حتّى تعودوا لدينكم ،والدين ها
هنا هو الجهاد كما هو ظاهر من سياق وسباق الحديث.
إنّنا نجاهد لنّ الجهاد هو الحياة كما قال تعالى{ :استجيبوا ل وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}
[النفال ،]24 :وفسّر العلماء الحياة هنا بالجهاد.
أمّا إذا قيل لك :اصبر ،فاعلم أنّ الصبر على الذلّ والخزي والعار ل يرضاه اللـه للمسلمين،
فإنّ اللـه تعالى يقول{ :ول العزّة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون ،]8 :وقال تعالى{ :ولن
يجعل ال للكافرين على المؤمنين سبيلً}.
وإذا قيل لك أنّ الجهاد فتنة ،فقل له ما قاله تعالى لمثاله{ :أل في الفتنة سقطوا وإنّ جهنّم
لمحيطة بالكافرين} [التوبة ،]49 :وكيف يكون الجهاد فتنة وبالجهاد تُزال كلّ فتنة كما قال
تعالى{ :وقاتلوهم حتّى ل تكون فتنة}.
وإذا قيل لك إنّ الجهاد فيه الموت ،فقل له :ما جاهدّت إلّ لموت ،فإنّ الموت في الجهاد شهادة
في سبيل اللـه وهذا الذي نطلب .قال تعالى{ :من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا ال عليه
فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلً} [الحزاب .]23 :وقال تعالى{ :ول
تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل ال أمواتا بل أحياءٌ عند ربّهم يرزقون} [آل عمران.]169 :
154
وإن قيل لك أنت في هذا الطريق وحدك وليس لك من معين ،والناس في شغل عنك بأموالهم
وأهليهم ،فقل لهم :هذا هو شأن أهل الحقّ في كلّ زمان ،أنّهم غرباء .واللـه تعالى يقول:
سكَ وحرّضِ المؤمنين} [النساء.]84 :
{فقاتل في سبيل ال ل تُكّلفُ إلّ نف َ
قال المام القرطبي في تفسيرها ( :هي أمرٌ للنبيّ بالعراض عن المنافقين وبالجدّ في القتال في
سبيل اللـه وإن لم يساعده أحد على ذلك ) [ .الجامع لحكام القرآن. ]5/293 ،
وهذه أيّها الخ المحبّ كلمات يسيرة للتعريف بهويّتنا وتجيبك سريعا على سؤالك :من نحن
وماذا نريد ولماذا الجهاد في سبيل اللـه.
فهلّ حملت معنا هذه المانة ولم تظلمها بعد أن علمتها؟! قال تعالى{ :وسارعوا إلى مغفرة من
ربّكم وجنّة عرضها السموات والرض أُعدّت للمتّقين} [آل عمران.]133 :
والحــــمــد ل رب الـعـــالـمــيــن
***********************
الرد على مرجئة العصر :
حول مــرجـئة الــعــصـر
الحمد ل رب العالمين والصلة والسلم على النبي المين وعلى آله وصحبه أجمعين.
من سمة أهل البدع قديما وحديثا التدليس والكذب ,والتلبيس والتزوير ,وخداع النفس بالماني
الكاذبة ,طمعا في استقرارها على باطلها ،وترويجا للباطل بين الناس ,خاصة جهلتهم وغمارهم,
وقد تتابعت الخبار يدفع بعضها بعضا في صور هذا التزوير من قبل أئمّة البدع القدماء ,وما
كان من خلفهم إلّ الوفاء القبيح لهذا الفعل القبيح ,هذا شأن أهل البدع قديما ,ولكن المر صار
زاد ضغثا على إبالة حين صارت جرأة أهل البدع على فعل القبيح أشدّ من أسلفهم ,فقد صار
أهل البدع في زماننا يكذبون ويُزوّرون لباطلهم ,مع شهرتهم بالسرقة والتدليس.
صدر في الونة الخيرة كتاب (تحذير المّة من تعليقات الحلبي على أقوال الئمّة) للدكتور
محمد أبو ارحيّم ,والكتاب يكشف مبتدع استمرأ السرقة والتّشبّع بما لم يعط ,حتى صار علما هو
وبعض إخوانه في هذا الفن ,كمثل سليم الهللي الذي كشف سرقته أحمد الكويتي في كتاب له
سمّاه (الكشف المثالي عن سرقات سليم الهللي) وهو كتاب مطبوع ,وفيه عشرات المثلة من
السطو الصريح والسرقة القبيحة لكلم الخرين ونسبتها للنفس زورا وبهتانا متشبعا بما لم يعط
وهو غيض من فيض .هذا الكتاب الذي ذكرنا أسمه (تحذير المّة) على ما فيه من بلوي
155
ومصائب من تسمية بعض شيوخ الرجاء أئمّة ,ومن تسمية من جعل نفسه خادما للطاغوت
إماما ,ومع إقرار كاتبه أنّه على منهج اشتراط الستحلل للتكفير في المكفّرات المُجمع عليه كما
هو مذهب غلة المرجئة الضّالة إلّ أنّ فيه ما ينبغي أنْ نكشفه للنّاس .فأول ما يتبادر إلى الذهن
بعد أن يرى مثل هذا الكتاب أن يقول :إنّ الخرق قد اتّسع على الرّاقع ,وصار الكذب أكثر من
أن يستر أو يؤول ,وصارت السرقة تقع في نور الشمس ,فما عاد هناك متّسع من الهروب أو
السكوت أو التأويل ,فبدأ الصراخ :أوقفوا هذه الجرائم أو كما قال جرير :بني حنيفة احكموا
سفهاءكم.
نعم ينبغي لعقلء هؤلء القوم -على ما فيهم من الخطأ على ال ورسوله صلى ال عليه وسلّم
في الفهم -ينبغي على عقلئهم أن يوقفوا سفاهة السفهاء ,وكذب الكذابين حتى لو كانوا على
مذهبهم وطريقتهم ,وهذا الكتاب (تحذير المّة من تعليقات الحلبي) فيما أعلم هو أول كتاب يقوله
هؤلء القوم بصوت عال .قبل مدة ليست بالطويلة أخرج علي الحلبي كتابا سمّاه بعنوان فاقع
(فتنة التكفير) وهو تفريغ لشريط اللباني في جواب وسؤال لحدهم ,والشكوك تدور حول هذا
النوع من السئلة إذ أنّ أغلب السائلين يرتبون السئلة على وجه يبدو للمجيب والسامع أنّها ل
تحتمل إلّ جوابا واحدا ,فيكون السؤال مقدمة لجواب معروف ,وعلى هذا جرت سنّة بدعة
المدخليين (أتباع ربيع المدخلي) في نشر بدعهم وضللتهم ,وللسف أنّ المر صار أكبر من
مجرّد السئلة والجوبة ضدّ المخالفين .بل زاد حتى صار عمالة للطاغوت ,فإنّ هؤلء القوم
يتقربون إلى ال (فيما يزعمون) بكشف أسماء المخالفين ممّن يرى تكفير النظمة الطاغوتية,
وقد صرّح بعضهم وهو قرين علي الحلبي واسمه مراد شكري أنّه سيبقى وفيا للنظام الطاغوتي
الردني ,وأنّه لن يتردد في كشف كل إنسان يعرف أنّه يقول بتكفير حاكم الردن ,وقد ألّف هذا
الكذّاب كتابا سيئا سمّاه (إحكام التقرير لحكام مسألة التكفير) ,مله وشحنه ببدعة أهل الرجاء
وبمذهبهم أنّه ل يوجد في الدنيا إلّ كفر التكذيب ,وقد ردّ عليه أحد طلبة العلم في كتاب سمّاه
(براءة أهل السنّة من اشتراط التكذيب للخروج من الملّة وبيان أنّ هذا قول المرجئة والجهمية),
واسم كاتبه أبوعبدالرحمن السبيعي.
وقد كشف فيه بدعة القول بهذا القصر لنواع التكفير ,فجزاه ال خير الجزاء .ومن عجيب أمر
هذا الرجل -مراد شكري -انشغاله بتأليف الكتب لثبات نسب هاشمية الطاغوت الردني,
فسبحان من وهب ومنع .قلت :اللباني في باب اليمان معروف قوله ,وقد تبيّن لذي عينين أنّه
156
مع التقائه مع السلف في اللفظ بقوله :إنّ اليمان قول وعمل ,لكن في التفسير لهذه الكلمة هو مع
أهل الرجاء ,بل وللمانة العلمية هو على مذهب غلة المرجئة ,فإنّ اللباني يشترط الستحلل
في التكفير في المكفرات الصريحة ,وقد طبق هذا المبدأ على مسألة :ساب الرسول صلى ال
عليه وسلّم ,حين رفض تكفير الساب حتى يتبين شرط الستحلل ,وهو قول من سمّاهم أئمّتنا
بغلة المرجئة ,أمّا أفراخ المرجئة فهم الذين لم يتوقفوا بتكفيره من أجل أي شرط باستثناء
(الكراه) ولكنّهم حملوا تكفيره على معنى التكذيب القلبي لنبوته ,وهذا ما ذكره المام أحمد بن
تيمية في كتابه (الصارم المسلول على شاتم الرسول) ,وهو أمر مشهور وصار بفضل ال تعالى
من أبجديات فهم طلبة العلم لموضوع اليمان ,وهو المر الذي ما زال اللباني وجماعته فقط,
فقد كشف الشيخ سفر الحوالي (فكّ ال أسره من سجون الطغاة المرتدين) ,أنّ هناك من بدأ يقول
هذا عندهم في الجزيرة كما في كتابه :ظاهرة الرجاء .كتاب الحلبي قذف في صدره عبارات
أشبه بطنين وقرع أهل الدعايات الكاذبة ,طمعا في الترويج ,وإرهابا لولئك المساكين الذين ما
زالوا يقتاتون على الشعارات والسماء دون المعاني ,ورضوا بالتقليد وآثروا الدّعة واتباع أئمّة
الوقت الذين حاطوا بكل شيء علما كما يظنون في أئمتهم .هكذا كتب الحلبي عنوان كتابه:
التحذير من فتنة التكفير بحوث علمية ,ونقول عقدية ,لعدد من علماء السلم ,محدثين ,وفقهاء,
ومفسرين ,تتضمّن جوابا علميا فريدا :للعلمة المحدّث الشيخ محمد ناصر اللباني وروجع عليه
نفسه ,مقرا لنشرها .وتحسب أنّ وراءه من المر العظيم والشأن الجليل ما يستحق النظر
والقراءة ,ولكن يا حسرتنا فليس كل بيضاء شحمة ,وإذا كان كتابا مثل هذا بكل هذا النحراف,
وكل هذا الفساد والفساد وهو بمثل هذا التقريظ والتعليق والمراجعة والهتمام فيا حسرة أمّة
محمد صلى ال عليه وسلّم ,ويا ضياعها وهوانها ,ويا عظيم مصيبتها .أمّا كذب هذا العنوان
بقول الجامع والمقدم والمعلّق :بحوث علمية ,ونقول عقدية .إلخ.
فوال ل ترى في هذا الزمان أكذب من هؤلء القوم ,ول أكثر تزويرا منهم ,ول أقلّ حياءً من
مثل هذا الذي صار علما على كلّ الرذائل .فحسبنا ال ونعم الوكيل.
وإذا سألت عن أي شيء يتكلم هذا (المكتوب) ,وأي تكفير يدفعه هذا (الكتيب) علمت أي جهود
تبذلها الدول الطاغوتية في نشر وترويج هذا الكتيب ,فالكتاب يدافع عن تكفير أئمّة الكفر
والطغيان في هذا العصر أعني حكام بلدنا الذين صار كفرهم اشهر من نار على علم .وكتاب
الحلبي هذا قام بالردّ عليه أخونا أبو محمد المقدسي في كتاب له سمّاه (تبصير العقلء بتلبيسات
157
أهل التجهّم والرجاء) ,يقول الشيخ المقدسي فكّ ال أسره في مقدمته :وهذه الفتوى التي نمقها
المقدّم لها وأخرجها كتابا ُقرّظ له بكلم علماء الدولة السعودية وسمّاها :التحذير من فتنة
التكفير ،وكان الولى أنْ يُعجم الحاء لتصير خاء ويُهمل الذال لتصير دالً.
هي في الحقيقة فتوى قديمة ,قد طنطن حولها جهمية زماننا طنطنة كثيرة وقد طبعوها قبل مدة,
ووُزعت مجانا بعنوان( :فتنة التكفير والحاكمية) قدّم لها وزادها تخليطا وتخبيطا :محمد بن عبد
ال الحسين وقد كشف الخ أبو محمد شيئا من كذب وتدليس علي الحلبي في كتابه هذا حيث
يقول :ومادمنا مع ابن حزم فيطيب لي أخي القارئ قبل أن أُغادر هذا الموضع أنْ أُعرّفك بمثال
من (أمانة)!!! الحلبي -وسيأتي مثله الكثير -لتعرف كيف تتعامل مع كتبه ونقولته .فقد نقل في
هامش صفحة 4من مقدمته عن ابن حزم قوله في تعريف الكفر( :الكفر صفة من جحد شيئا
افترض ال تعالى اليمان به بعد قيام الحجّة عليه ببلوغ الحق إليه ).وتأمّل كيف أغلق القوس
هنا ووضع نقطة بكل جرأة مع أنّ للكلم بقية مهمّة تنقض تلبيسات الحلبي وإرجائه وهو قول
عمِلَ عملً جاء
ابن حزم بعد ذلك مباشرة( :بقلبه دون لسانه أو بلسانه دون قلبه أو بهما معا أو َ
به النص بأنّه مخرج له بذلك عن اسم اليمان) انظر الحكام .1/45فالذي اجتزأه الحلبي من
كلم ابن حزم تجهّم محض ,لكنّه مع هذه الزيادة التي طواها الحلبي بأمانته!! وبترها بدقته!!
سنّة والجماعة الذي تضيق منه صدور أهل التجهّم والرجاء ولذلك فهم كما قال
هو قول أهل ال ّ
الحلبي صفحة ( :6يطوون هذه النقول ويكتمونها عن أتباعهم)!! ص 16بخط اليد .وقد كشف
الخ أبو محمد تدليس الحلبي في تحقيق المسألة كما هي على أرض الواقع تحت عنوان :خلط
مرجئة العصر بين ترك حكم ال وبين الحكم بمعناه التشريعي.
وقصد الخ أن يقول :إنّ الواقع الذي تعيشه المّة هو تحليل ما حرّم ال وتحريم ما أحلّ ال
وليس هو كما ذكر بعض الئمّة قديما من تقسيمهم الحاكم إلى قسمين كافر وغير كافر ,وذلك
بتركه الحكم بما أنزل ال تعالى.
ونقل قول ابن كثير رحمه ال رحمه ال تعالى( :فمن ترك التشريع المحكم المنزل على محمد
بن عبد ال خاتم النبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة فقد كفر ,فكيف بمن تحاكم إلى
الياسق وقدّمها عليها ,ل شكّ أنّ هذا يكفر بإجماع المسلمين)البداية والنهاية 13/119
158
وكتاب الخ أبي محمد يستحق النظّر والقراءة لما فيه من استيفاء الرد على هذا المدلس الجاهل
وهو لم يطبع بعد .وها أنا أكشف شيئا آخر كذب فيه المدلس على ابن القيم حين قال :قال
العلمة ابن القيم في مختصر "مختصر الصواعق المرسلة :"12/421فمن جحد شيئا جاء به
الرسول صلى ال عليه وسلّم بعد معرفته بأنّه جاء به ,فهو كافر في دقّ الدين وجلّه .وجعل
كلم ابن القيم هذا دليلً على اشتراط المام الجحود لكل كفر هو في ديننا ,وليس في كلمه
علِمَ طلبة العلم أنّ الجحود عند ابن القيم نوع من أنواع الكفر وليس هو الكفر
شيء من هذا ,فقد َ
الوحيد في العالم
ثم أنّ الجحود ليس هو من أعمال القلب فقط ,بل الجحود في القرآن الكريم لم يطلق إلّ على
قول اللسان مع تصديق القلب.قال تعالى( :وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ).النمل .14
وقال تعالى( :فإنهم ل يكذبونك ولكن الظالمين بآيات ال يجحدون) النعام .33
فال تعالى في كتابه جعل الجحود في هاتين اليتين من قول اللسان فقط مع استيقان القلب
فاحفظ هذا واهتمّ به .وكلم ابن القيم في موطنه هو للرد على من فرّق بين العلميات والعمليات
(مثل هذا المدلس الجاهل) ,وليرد على من جعل التكفير لجاحد الصول دوت الفروع :باعتبار
أنّ الصول عندهم هي العقائد والفروع هي العمليات .والن نعود إلى كتاب الدكتور محمد أبو
ارحيم إذ أنّ الكتاب فيه حسنات منها:
ـ كشف تزويرات عديدة في النقول وفي تفسير النصوص من قبل الحلبي.
ـ كشف قلة أدب الحلبي مع المحدث أحمد شاكر.
ـ الرد عن الستاذ محمد قطب وما افتراه عليه الحلبي.
ـ تحريف وتأويل كلم ابن تيمية وابن كثير ومحمد إبراهيم آل الشيخ.
ـ زيادات أشبه بزيادات المبتدعة (بل هي أختها) على كلم الئمّة.
ـ افتراءه على الئمّة في معنى تبديل الشريعة.
وها أنا أسوق لك بعض ما ذكره الدكتور أبو ارحيم في كتابه ,وما كشفه بنفسه من صنيع هذا
المدلس الجاهل :يقول أبو ارحيم :زعم الحلبي أنّ شيخ السلم قد بنى الحكم بالتكفير على ثلثة
أمور :المعرفة والعتقاد ثم الستحلل ,فمن وجدت فيه فقد كفر وإلّ فهو جاهل ,وقد استنبط
هذه المعرفة من قول شيخ السلم ,فقال :قال شيخ السلم ابن تيمية أيضا في كتابه العظيم
(منهاج السنّة :)5/131ول ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل ال على رسوله فهو
159
كافر ,فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلً من غير أتباع لما أنزل ال فهو كافر ثم
قال بعد كلم" :فإنّ كثيرا من الناس أسلموا ولكن مع هذا ل يحكمون إلّ بالعادات الجارية لهم
التي يأمر بها المطاعون ,فهؤلء إذا عرفوا أنه ل يجوز الحكم إل بما أنزل ال فلم يلتزموا ذلك,
بل استحلوا أن يحكموا بخلف ما أنزل ال فهم كفار ,وإلّ كانوا جهّالً" قال الحلبي معلقا:
وكلمه رحمه ال بيّن واضح في أنه بنى الحكم على المعرفة والعتقاد ثم الستحلل ,وأنّ عدم
وجود ذلك ل يلزم منه الكفر ,وإنما يكون فاعله جاهلً ل كافرا .قال أبو ارحيم في الهامش:
انظر التحذير 17-15ثم شرع أبو ارحيم في بيان ضلل وفساد ما قاله الحلبي وفي تقويله ابن
تيمية رحمه ال تعالى ما لم يقله وبيّن أن كلمة ابن تيمية في آخر كلمه" :وإل كانوا جهّالً" ل
تعود على المستحل وإنما تعود على الجملة الخيرة ,فإنّ العتقاد بعدم وجوب الحكم بما أنزل
ال على رسوله مع تيقنه أنه حكم ال كاف للحكم على معتقده بالكفر وإن لم يستحل الحكم بما
أنزل ال.ثم خلص إلى قوله" :إن القاعدة التي ابتدعها علي الحلبي من كلم شيخ السلم
المتقدم ,عاطلة باطلة ,ويجب طردها من سجل العلماء الثلثة ,إذ هم منها براء ,وكلم شيخ
السلم يشهد ببراءة نفسه منها ,لنّ من اعتقد عدم وجوب الحكم بما أنزل ال ,بل ولو حكم بما
أنزل ال من استحل الحكم بغير ما أنزل ال مع علمه كاف للدللة على كفره ولو اعتقد وجوب
الحكم بما أنزل ال ولنّ منتهى هذه البدعة (معرفة واعتقاد ثم استحلل= كفر وإلّ فل) إلغاء
للتكفير المشروع من سجل المسلمين وإذا لم يكن هذا إرجاءً فماذا يكون؟!! انتهى كلم الدكتور.
وقد ذكر أبو ارحيم أنّ الحلبي في مناقشته معه قد اعترف بخطأ هذا الفعل والتدليس ثم تراجع
في رسالة طبعها بعد ذلك ,وبعد مراجعة الشريط الذي هو أصل الكتاب تبيّن صحة ما ذكره
الدكتور أبو ارحيم.
ثم ذكر أبو ارحيم أخطأ الحلبي على الستاذ محمد قطب حفظه ال ,وقد كشف الدكتور تدليس
وكذب الحلبي بأجلى صورة ,ولول ضيق المقام لذكرتها كاملة ففيها البيان الشافي لحقيقة هذا
المدلس الجاهل .هذا وأكثر منها تجدها في كتاب من القطع الصغير عدد صفحاته الفعلية
78صفحة والكتاب شبه تفريغ لشريطي المناظرة التي تمت بين المؤلف (أبو ارحيم) وبين علي
الحلبي ,ولكن للشريط معاني أخرى ل توجد في الكتاب منها قول محمد شقرة (الحكم بين
الطرفين في المناظرة) :لو غيرك فعلها يا علي لقطعت يده.
160
أقول :وهل ل تقطع يد الحلبي في السرقة والتدليس لنه من أهل البيت ـوهو ممّن شهدوا
المواقع؟
إظهار المدورة الجاهلة لتحميل الكلم ما ل يحتمل من قبل الحلبي
لم يجد الحلبي ما يدافع به عن نفسه سوى قوله :إنّ الكتاب قرأه اللباني وقال :لقد تمتعت به
قلتُ :وهذا يثبت أن أذواق بعض الناس صارت الحكم الذي يرجع إليه أتباع هذا التيار لكن
الكتاب وقع في خطأ موضوعي وهو اعتقاده أن كلم الحلبي ل يعتقده اللباني ,وهذا خطأ ,فإنّ
كل ما قاله الحلبي هو موافق لما يقوله اللباني في أحاديثه ,ومحاولة (أبو ارحيم) نسبته خطأ
هذه العقائد إلى أشخاص دون بقية التباع والسلفية الجديدة خروج عن الموضوعية ,فإنّ هذا
التيار الجديد والذي يقوده اللباني وربيع المدخلي وتنصرهما تزويرات الحلبي ومن هو على
شاكلته هو منهج أصيل وليس خطأ عارض ,فإنّ اللباني يرى أنّه ل يوجد عمل (أي عمل)
مكفّر ومخرج من الملّة ,حتى ساب النبي صلى ال عليه وسلّم كما تقدم ,وإن تقريرات اللباني
في هذا الباب هي عين تقريرات مذهب المرجئة الغلة ,وأشرطته شاهدة على ذلك ,وللخ أبو
بصير (عبد المنعم أبو حليمة) رد رائع على شريط بعنوان (الكفر كفران) بحيث كشف فيه
خطأه في هذا الباب ,ومن فوائده أنه يكشف طريقة اللباني الظالمة في الحِجاج والمناظرة ,وأنه
يحل لنفسه ما يحرم على غيره ,ويستطيع الخ المنصف أن يعرف انحراف اللباني في مسمى
اليمان وحقيقته بعد أن يطّلع على فتاوى اللباني في العقائد التي قام على طبعها هذا المدلس
الجاهل -علي الحلبي .-ولذلك على الكاتب (أبو ارحيم) أن يخرج من هذا التيار وأن يُعلن
براءته منه ويرتقي في النسبة إلى الرجال الوائل ,وسيكتشف عمق ما عليه أصحاب هذا المنهج
من انحراف في باب اليمان .لكني أقول لعل (أبو ارحيم) يعيش نفس المرحلة التي كنّا فيها
ن المنهج صار في
يوما ,وهي محاولة الصلح من الداخل ,ولكن قد ثبت خطأ هذا الطريق ,إ ّ
كل عِرق ولم يعد لتقويم الشيوخ سبيل ,فلبد من البيان .وهذا المعنى عند (أبو ارحيم) هو الذي
جعله يكيل المدح لمحمد شقرة ويستشهد بكلمه وكلم اللباني في موضوع الحاكمية ,لكن (أبو
ارحيم) ماذا سيفعل إذا قرأ في مجلة الفرقان الكويتية (في عددها رقم 84السنة التاسعة صفحة
34تحت عنوان فتاوى منهجية) وفيها فتوى هيئة كبار علماء آل سعود في بدعية القول بتوحيد
الحاكمية ,هل سيخالفهم أم سيحني رأسه للعاصفة كما فعل غيره .على كل حال :أبو ارحيم هو
دكتور في الشريعة ويدّرسها في أحد جامعات الردن بهذه المخالفة للحلبي وبهذه الصراحة
161
سيجني ثمار عقوقه للحراس اليقظين على المنهج المبتدع ,وما ذكره في مقدمة كتابه أنّه سيُشهَر
به وس ُيتّهم بالخارجية هو بداية الطريق لتحرير العقل من هوى البدعة والسير في ركاب
الطواغيت.
*****************
وأما عساكر السلطان فيجوز قتلهم لنهم يساعدون الحاكم على الباطل ومن باب دفع الصائل
يقول العالم المجاهد أبو محمد المقدسي :
كشف شبهات المجادلين عن عساكر الشرك وأنصار القوانين
بسم ال الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الولى
الحمد ل والصلة والسلم على رسول ال ومن واله ..وبعد :
فهذه إحدى رسائل السجن كنت قد كتبتها في سجن سواقة في عام 1416هـ .لرد أشهر
شبهات المجادلين عن عساكر وأنصار القوانين .
وذلك بعد أن انتشرت دعوتنا –بفضل ال تعالى -في السجن وخارجه ،فقرت بذلك عيون
الموحدين ،وحرّت عيون الملحدين والمشركين .
فانبرى المجادلون دونهم المخذلون عن تكفيرهم وجهادهم من جماعات التجهم والرجاء ،
يطنطنون بأمثال هذه الشبهات ،ويسعون للصد بها عن دعوة التوحيد ،والترقيع لعساكر الشرك
والتنديد ة
فقمت بكتابة هذه الوراق بأسلوب سهل يناسب المقام لتيسير الرد عليهم وعلى شبهاتهم ،
ل بفضل ال تعالى ،
وتسهيله على إخواننا المبتدئين في هذه الدعوة المباركة ة وقد تحقق ذلك فع ً
حتى كان عوام الموحدين يفحمون في هذه البواب من كانوا يفاخرون بأنهم من خريجي كليات
الشريعة ونحوها وهذا مصداق قول شيخ السلم محمد عبد الوهاب في كتابه كشف الشبهات :
سُلهُم بِا ْل َب ّينَاتِ َفرِحُواْ ِبمَا
(وقد يكون لعداء التوحيد علوم كثيرة كما قال تعالى ( َفَلمّا جَا َء ْتهُمْ رُ ُ
س َت ْه ِزئُونَ) {83غافر} والواجب على المسلم أن يتعلم من
عِندَهُمْ مّنَ ا ْل ِعلْمِ وَحَاقَ ِبهِم مّا كَانُواْ بِهِ يَ ْ
دين ال ما يصير له سلحا يقابل به هؤلء الشياطين ،ومن ثم ل خوف ول حزن لن ( َكيْدَ
ضعِيفا ) { 76النساء}
ن َ
شيْطَانِ كَا َ
ال ّ
162
والعامي من الموحدين يغلب آلف من علماء المشركين كما قال تعالى ( َوإِنّ جُن َدنَا َلهُمُ ا ْلغَاِلبُونَ)
{173الصافات} فجند ال هم الغالبون بالحجة واللسان ،كما أنهم غالبون بالسيف والسنان)
أ.هـ مختصرا
وقد قام إخواننا في السجن آنذاك بنسخ هذه الوراق ونشرها بين السجناء على اختلف
قضاياهم ،كما قمنا بتسليم نسخ منها لكثير من الشرط والعساكر والضباط الذين كنا ندعوهم
إلى البراءة من شركيات قوانينهم وكفريات طواغيتهم ،فيلوذ كثير منهم بأمثال هذه الشبهات ..
ولم يكن في حساباتي حين كتبتها إخراجها للطباعة والنشر لوجود ما يغني عنها في كتاباتي
المفصلة في هذا الباب كـ (إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر) ونحوه ..خصوصا
وأن هذه الورقات كتبت على وجه الختصار واعتمادا على ما في الذهن والذاكرة ،لفقر السجن
وشحه في الصول المطلوبة ..ثم إني فوجئت بعد أن فرّج ال عنا ،بأنها قد نشرت عبر
(النترنت) وصورت وتداولها كثير من الشباب لختصارها وسهولتها ..رغم ما فيها من
أخطاء مطبعية وبعض السقط والنقص الظاهر في بعض المواضع ..وهو المر الذي دعاني
إلى مراجعة نسخة مطبوعة من طرف بعض الفاضل لصيانتها من السقط والخلل قدر
عَليْهِ َت َو ّك ْلتُ َوِإَليْهِ ُأنِيبُ) .
المستطاع وإعدادها للطبع َ ( ،ومَا َتوْفِيقِي إِلّ بِاللّهِ َ
ل المولى تبارك وتعالى أن ينفع بها ،وأن يثبتنا ويعيننا على نصرة دينه وحراسة شريعته،
سائ ً
وأن يستعملنا في الذب عن حرماته ..وأن يتقبل منا إنه هو السميع العليم .وصلى ال وسلم على
نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
صفر 1420هـ
المقدمة
الحمد ل ربّ العالمين والصلة والسلم على خاتم النبياء والمرسلين وبعد .
فهذه شبهات طالما سمعناها تتردد على ألسنة كثير من المجادلين عن جُند الطواغيت وعساكر
القوانين حتى بلغ المر أن تلقفها منهم أولئك العساكر المشركون الذين ل يعرفون من الدين إل
السم ول من معالمه إل الرسم وصاروا يجادلون بها الموحّدين ويُمارون بها المسلمين لتسويغ
شركهم وباطلهم ونصرتهم للطاغوت الذي أمر ال أول ما أمرهم أن يجتنبوه ويكفروا به .
ج َت ِنبُواْ الْطّاغُوتَ)) ,وقال سبحانه:
عبُدُواْ اللّهَ وَا ْ
قال تعالىَ (( :ولَقَدْ َب َع ْثنَا فِي كُلّ ُأمّةٍ رّسُولً أَنِ ا ْ
(( ُيرِيدُونَ أَن َيتَحَا َكمُواْ ِإلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ ُأ ِمرُواْ أَن َيكْ ُفرُواْ بِهِ)) .
163
غ ْيرَ الّذِي قِيلَ َلهُمْ) ,فبدلً من أن يكفروا به ,حرسوه وحموه ودافعوا
ظَلمُواْ َقوْلً َ
( َفبَدّلَ الّذِينَ َ
عنه وجادلوا دونه وصاروا له جندا محضرين وحراسا مخلصين ضحوا من أجله بمهجهم
وبذلوا في سبيله أوقاتهم وأعمارهم .
وعندما كنا ندعو كثيرا منهم إلى التوحيد والبراءة من الشرك والتنديد كانوا يجادلون بشبه
أوحاها إليهم شياطين الجن والنس لبسوا بها الحق بالباطل والنور بالظلم .
ضهُمْ ِإلَى َبعْضٍ
ل ْنسِ وَالْجِنّ يُوحِي َب ْع ُ
شيَاطِينَ ا ِ
ج َع ْلنَا ِلكُلّ ِن ِبيّ عَ ُدوّا َ
قال تعالىَ (( :وكَ َذِلكَ َ
صغَى ِإَليْهِ أَ ْفئِ َدةُ الّذِينَ لَ
غرُورا َوَلوْ شَاءَ َر ّبكَ مَا َف َعلُوهُ فَ َذرْهُمْ َومَا يَ ْف َترُونَ * َوِل َت ْ
خ ُرفَ الْ َقوْلِ ُ
زُ ْ
ض ْوهُ َوِليَ ْق َترِفُواْ مَا هُم مّ ْق َترِفُونَ)).
خ َرةِ َوِليَ ْر َ
ُي ْؤ ِمنُونَ بِال ِ
فبيّن ال سبحانه أنّ أفئدة الذين ل يُؤمنون بالخرة هي التي تصغي لمثل ذلك الزخرف وهي
التي ترتضي تلك الشبهات ليرقّعوا باطلهم ويستروا بها شركياتهم وليقترفوا ما هم مقترفون .
لَلكُمْ َي ْبغُو َنكُمُ
ضعُواْ خِ َ
لوْ َ
خبَالً و َ
خرَجُواْ فِيكُم مّا زَادُوكُمْ إِلّ َ
وقال سبحانه في آية أخرى ((َلوْ َ
علِيمٌ بِالظّاِلمِينَ))
سمّاعُونَ َلهُمْ وَاللّهُ َ
الْ ِف ْتنَةَ وَفِيكُمْ َ
فبيّن ال سبحانه أنّ في صفوف المسلمين من قد يستمع لتخذيل المنافقين ولشبهات المرجفين.
لجل ذلك كلّه أحببنا أن نردّ في هذه الورقات على أشهر شبهاتهم باختصار يُناسب المحل
والمكان والزمان بحيث يكون صالحا لن يُطالعه العساكر أنفسهم وكذلك المجادلين عنهم
وغيرهم من المتأثرين بتلكم الشبهات والتي حقيقتها كما يقول الشاعر:
حقا وكلّ كاسرٌ مكســـور شبه تهافت كالزجاج تخالها
عسى ال عز وجل أن يفتح بهذه الورقات آذانا صما وأعينا عميا وقلوبا غلفا إنه ولي ذلك
والقادر عليه ,وهو مولنا نعم المولى ونعم النصير .
سجـن سـواقـة
ربيــــــــع الول 1416
من هجرة المصطفى عليه الصلة والسلم
أبــو محمــد المقــدســي
وقد ناقشنا في هذه الورقات أشهر شبهاتهم وهي :
• عدم كفر الحكام كفر أكبر بل كفرا دون كفر
• أنهم يقولون ل إله إل ال
164
• أنّهم يُصلّون ويصومون
• من كفّر مسلما فقد كفر
• العــذر بالجــــهل
• الكراه والستضعاف والرزق والمصلحة
الشبهة الولى
عدم كفر الحكام كفرا أكبر بل كفرا دون كفر
قال المجادلون عن عساكر القوانين :نحن نخالفكم في الصل الذي تبنون عليه تكفير أنصار
هؤلء الحكام من مخابرات وعساكر وغيرهم إذ كفر هذه الحكومات عندنا كفر دون كفر كما
قال ابن عباس رضي ال عنه .
وبالتالي فكل فرع تبنونه على تكفير الحكام كفرا أكبر ل يستقيم عندنا .
فنقول :ليس من مسألة إلّ وللناس فيها خلف لكن ل يعني ذلك تمييعها وعدم معرفة الحق فيها,
إذ ليس كل خلف معتبر .
ل الضّلَلُ} وقال سبحانهَ { :وَلوْ كَانَ مِنْ عِندِ
والحق واحد ل يتعدد قال تعالىَ { :فمَاذَا َبعْدَ الْحَقّ إِ ّ
ختِلَفا َكثِيرا} .
غ ْيرِ اللّهِ َلوَجَدُواْ فِيهِ ا ْ
َ
ولذلك قال العلماء أن اختلف التنوع محتمل لنه اختلف في الفروع ناتج عن اختلف في
تصحيح حديث أو تضعيفه أو بسبب عدم بلوغه للفقيه ونحو ذلك.
أما اختلف التضاد خصوصا في أهم المهمات في الدين كالشرك والتوحيد واليمان والكفر فل
يجوز ول يحل لحد أن يرضى به أو يقره أو يتخذه ذريعة وعذرا لموالة المرتدين وأهل
الشراك أو نصرتهم أو مودّتهم بل لبد من البت في هذه المسائل التي تنبني عليها أوثق عرى
اليمان ،والوصول إلى الحق فيها لن ال جل ذكره لم يتركنا هملً ول خلقنا عبثا سبحانه
جعُونَ } وهو سبحانه لم يفرط في الكتاب من شيء
عبَثا َوَأ ّنكُمْ ِإَل ْينَا لَ ُترْ َ
خلَ ْقنَاكُمْ َ
س ْبتُمْ َأ ّنمَا َ
{أَفَحَ ِ
شيْءٍ } فليس من خير إل ودلنا ال عليه ورغبنا فيه وليس
طنَا فِي ال ِكتَابِ مِن َ
قال تعالى{ :مّا َفرّ ْ
حيّ عَن َب ّينَةٍ} .
حيَى مَنْ َ
من شر إل ونبّه ال عليه وحذّر منه {ّل َي ْهِلكَ مَنْ َهَلكَ عَن َب ّينَةٍ َويَ ْ
وهذا المر ـ أعني كفر هؤلء الحكام الطواغيت ـ هو عند من فقه دينه وعرف توحيده
أوضح من الشمس في رابعة النهار ولكن ليس من عجب أن يتشوش ضوء الشمس على من في
عينيه رمد.
165
ومرادنا هنا -إن شاء ال تعالى -معالجة ذلك الرمد وإزالة ذلك التشويش بمراهم التوحيد
وبإثمد من أدلة الوحيين (الكتاب والسنة) .
فنقول :اعلم أولً أن هؤلء الطواغيت ل يكفرون من باب واحد حتى يرد تكفيرهم بمثل هذه
الشبهة المتهافتة المبنية على القول المنسوب لبن عباس رضي ال عنه "كفر دون كفر" بل هم
يكفرون من أبواب عديدة شتى :
• منها :أن لشهادة التوحيد (ل إله إل ال) ركنان أصليان ل يغني أحدهما عن الخر .
بل ل بد لقبول هذه الشهادة وصحتها التيان بهما جميعا هما :النفي (ل إله) والثبات (إل ال)
أو كما بيّن ذلك ال تعالى ( الكفر بالطاغوت) و(اليمان بال) قال تعالىَ { :فمَنْ َيكْ ُفرْ بِالطّاغُوتِ
سكَ بِا ْل ُع ْر َوةِ ا ْل ُوثْقَى} فمن لم يجمع بين هذين الركنين فإنه لم يستمسك
س َتمْ َ
َو ْي ْؤمِن بِاللّهِ فَقَدِ ا ْ
بالعروة الوثقى ومن لم يستمسك بالعروة الوثقى فهو هالك مع الهالكين لنه ليس من جملة
الموحدين بل هو في عداد المشركين أو الكافرين
فهؤلء الحكام الذين اتخذوا مع ال أندادا مشرعين لو صدّقنا زعمهم بأنهم مؤمنون بال فإن
هذا ل يكفي للدخول في دائرة التوحيد إذ بقي الركن الخر الذي ذكره ال هنا قبل ركن
اليمان لهميته ،أل وهو (الكفر بالطاغوت) .
فإيمانهم بال دون كفر بالطاغوت هو مثل إيمان قريش بال دون أن يكفروا بطواغيتهم.
ومعلوم أن هذا اليمان لم ينفع قريشا ول عصم دماءهم أو أموالهم حتى ضمّوا إليه البراءة
والكفر بطواغيتهم أما قبل ذلك ،فإن إيمانهم المختلط الممزوج بالشرك الظاهر لم ينفعهم ل في
ش ِركُونَ }.
أحكام الدنيا ول في أحكام الخرة قال تعالى { َومَا ُي ْؤمِنُ َأ ْك َثرُهُمْ بِاللّهِ إِلّ وَهُمْ مّ ْ
ع َمُلكَ َوَل َتكُونَنّ مِنَ
حبَطَنّ َ
ش َر ْكتَ َليَ ْ
والشرك ناقض لليمان محبط للعمال قال تعالى َ( :لئِنْ أَ ْ
سرِينَ )
الْخَا ِ
ومعلوم أن هؤلء الحكام ل يكفرون بطواغيت الشرق والغرب ول يتبرؤون منهم بل هم بهم
ض الخصومة والنزاع وارتضوا أحكامهم الكفرية
مؤمنون تولّوهم وتحاكموا إليهم في ف ّ
وقوانينهم الدولية في ظل هيئة اللمم (المم) ومحكمتها الكفرية ( ).
وكذلك الطواغيت العربية وميثاقهم الشبيه بميثاق المم الملحدة الكافرة الدولي فهم لجميع أولئك
الطواغيت أحباب وأولياء وعبيد لم يجتنبوهم ولم يجتنبوا نصرتهم ومظاهرتهم على شركهم،
حتى يخرجوا من الشرك الذي قد ولجوا فيه ومن ثم يحكم لهم بالسلم
166
فإن كان أمر طواغيت العرب مشتبه على من في عينه رمد فإن أمر طواغيت الكفر الغربيين
والشرقيين من نصارى وبوذيين وشيوعيين وهندوس ونحوهم ل يخفى وال إل على العميان ،
ومع ذلك فهم لهم أخوة وأحباء لم يكفروا بهم بل تجمع بينهم روابط الخوة والصداقة والمودة
ويجمع بينهم ميثاق المم المتحدة!! الكفري ويحتكمون عند الخصومة إلى محكمتها الكفرية
التي مقرها في لهاي .
فهم ما حققوا ركن التوحيد الول والمهم (الكفر بالطاغوت) حتى يكونوا مسلمين هذا إذا سلمنا
جدلً أنهم قد جاءوا بالركن الخر (اليمان بال) فكيف إذا أضيف إلى ذلك أنهم هم أنفسهم
أيضا طواغيت يُعبدون من دون ال فيشرّعون للناس من الدين ما لم يأذن به ال ويدعون الناس
ويأطرونهم أطرا ويقصرونهم قصرا على متابعة تشريعاتهم الباطلة هذه كما سيأتي .
• ويكفرون أيضا من باب استهزائهم بدين ال تعالى وشرائعه .
وترخيصهم لكل مستهزئ به عبر الصحافة أو الذاعة أو التلفاز وغيرها من المؤسسات
العلمية الباحية الكافرة التي حموها وحرسوها بقوانينهم وعساكرهم .
س َت ْهزِءُونَ * لَ َت ْعتَ ِذرُواْ قَدْ كَ َف ْرتُمْ َبعْدَ
وقد قال ال تبارك وتعالى {قُلْ َأبِاللّهِ وَآيَاتِهِ َورَسُولِهِ كُنتُمْ تَ ْ
إِيمَا ِنكُمْ} .
وهذه اليات نزلت في أناس كانوا مسلمين يصلون ويصومون ويزكون وخرجوا في غزوة من
أعظم غزوات المسلمين ومع هذا كفّرهم ال عز وجل لما صدرت منهم كلمات استهزءوا فيها
بحفظة كتاب ال ,فكيف بأراذل الخلق الذين ل يرجون لدين ال وقارا وقد جعلوه ألعوبة وهزءا
لكل ساقط وساقطة واتخذوه وراءهم ظِهريا .
وأعظم من ذلك كله أن ينزلوه منزلة قوانينهم وتشريعاتهم الساقطة فيصوّتوا عليه ويتشاوروا في
أوامره ونواهيه مع العلمانيين والنصارى والملحدة فهل ثم أعظم استهزاء واستخفافا من هذا؟ .
• ويكفرون من باب توليهم للمشركين الغربيين والشرقيين ومظاهرتهم على الموحدين .
سواء بعقد اتفاقيات النصرة (المنية) التي يتبادلون من خللها المعلومات عن الموحدين الذين
يصِفونهم بالرهابيين والصوليين ،ويتم من خلل ذلك تسليم الموحدين والمجاهدين لعدائهم
من طواغيت البلدان الخرى .
وقد قال ال تعالى { َومَن َي َت َوّلهُمْ مّنكُمْ َفِإنّهُ ِم ْنهُمْ} .
167
ولجل ذلك قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نواقض السلم "الناقض الثامن مظاهرة
المشركين ومعاونتهم على الموحدين كفر".
وذكر حفيده الشيخ سليمان بن عبد ال في رسالته حكم موالة أهل الشراك عند قوله تعالى {َألَمْ
خرُجَنّ َم َعكُمْ
جتُمْ َلنَ ْ
خرِ ْ
خوَا ِنهِمُ الّذِينَ كَ َفرُواْ مِنْ أَهْلِ ا ْل ِكتَابِ َلئِنْ أُ ْ
َترَ ِإلَى الّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لِ ْ
شهَدُ ِإ ّنهُمْ َلكَا ِذبُونَ } إنّ هذه اليات نزلت
ص َر ّنكُمْ وَاللّهُ يَ ْ
وَلَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَدا َأبَدا َوإِن قُو ِت ْلتُمْ َلنَن ُ
في أناس كانوا يُظهرون السلم ويقبل منهم ذلك في الدنيا فيعامَلون معاملة المسلمين لن
المسلمين مأمورون بالخذ بالظاهر لكنهم لمّا عقدوا مع اليهود اتفاقية نصرة ضد الموحدين -
ومع أن ال يعلم أنهم باتفاقيتهم هذه كاذبون -فقد عقد بينهم وبين أهل الكتاب عقد الخوة
ووصفهم بأنهم إخوانهم وهذا تكفير لهم .وهذا معنى كلمه رحمه ال ة
فكيف بمن عقد اتفاقيات النصرة مع المشركين من عبيد القوانين الشرقيين والغربيين وحارب
الموحدين وسلّمهم إلى حكومات بلدهم فعلً ؟ ل شك أنه داخل في هذا الحكم من باب أولى.
•ويكفرون من باب ابتغائهم الديمقراطية دينا عوضا عن دين ال .
عنْدَ الِ الِسْلمُ} والسلم دين ال الحق الذي بُعث به محمد صلى ال
فقد قال تعالى { إِنّ الدّينَ ِ
عليه وسلم وأما الديمقراطية فهي دين اخترعه اليونان .
ل الضّلَلُ}
وهي دون شك ليست من دين ال فهي قطعا ليس من الحق { َفمَاذَا َبعْدَ الْحَقّ إِ ّ
وهؤلء القوم يُصرّحون ويُعلنون دوما مُختارين غير مُكرهين بل فخورين مسرورين بأن
الديمقراطية وليس السلم خيارهم الوحيد .
والديمقراطية مع السلم ل يجتمعان إذ ل يقبل ال إل السلم الخالص ،والسلم الذي هو دين
ال الخالص جعل التشريع والحكم ل وحده أما الديمقراطية فهي دين شركي كفري جعلت الحكم
والتشريع للشعب ل ل ،وال جلّ ذكره ل يقبل ول يرضى أن يجمع المرء بين الكفر وبين
السلم أو بين الشرك والتوحيد.
بل ل يُقبل السلم والتوحيد ول يصح إل إذا كفر المرء وتبرأ من كل دين غير دين ال
الخالص .
خ َرةِ هُمْ كَا ِفرُونَ * وَا ّت َب ْعتُ
قال تعالى عن يوسف {ِإنّي َت َر ْكتُ ِملّةَ َقوْمٍ لّ ُي ْؤ ِمنُونَ بِاللّهِ وَهُمْ بِال ِ
شيْءٍ} .
ش ِركَ بِاللّهِ مِن َ
ِملّةَ آبَائِـي ِإ ْبرَاهِيمَ َوإِسْحَاقَ َو َيعْقُوبَ مَا كَانَ َلنَا أَن نّ ْ
168
وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه مسلم "من قال ل إله إل
ال وكفر بما يُعبد من دون ال حرم ماله ودمه وحسابه على ال" .
وفي رواية عند مسلم أيضا "من وحّد ال ". . .الحديث .
وليست الديان فقط هي النصرانية واليهودية بل وأيضا الشيوعية والديمقراطية ونحوها من
الملل والمذاهب الرضية الكافرة فل بد من البراءة من جميع الملل والنّحل والمذاهب الباطلة
ليقبل ال دين السلم .
فكما أنه ل يجوز في دين ال أن يكون النسان مسلما نصرانيا أو مسلما يهوديا فكذلك ل
يرضى ال أن يكون المرء مسلما ديمقراطيا فالسلم دين ال والديمقراطية دين كفري .
سرِينَ} .
خ َرةِ مِنَ الْخَا ِ
غ ْيرَ الِسْلَمِ دِينا َفلَنْ يُ ْقبَلَ ِمنْهُ وَ ُهوَ فِي ال ِ
{ َومَن َي ْبتَغِ َ
هذا إذا جمعوا بين السلم والديمقراطية فكيف إذا تركوا السلم وأعرضوا عن تشريعه
وأحكامه وحدوده واختاروا الديمقراطية وحكمها وتشريعها.
•ويكفرون من باب مساواتهم لنفسهم ولربابهم المتفرقين مع ال الواحد القهار .
بل هم في دينهم الذي يدينون به أعظم عندهم من ال فأحكام ال تُعطّل ويُضرب بها عرض
الحائط ومن عارضها أو حادّها أو حاربها أو استهزأ بها فهو حبيبهم ووليّهم يحميه قانونهم
ويكفل له حرية العتقاد وحق الحياة مع أنه في دين ال مرتد.
أما من خالف قوانينهم أو طعن في دساتيرهم أو تعرّض لربابهم المتفرقين فهو المغضوب عليه
وهو المعذّب والمسجون والمفتون ومن مظاهر ذلك ـ وهي كثيرة :
إن سابّ ال والدين والرسول عندهم إن روجع ـ فإن المحكمة التي تحاكمه محكمة مدنية
وحكمه ل يتجاوز الشهر أو الشهرين بخلف سابّ آلهتهم المفتراة وأربابهم المتفرقين من الملك
أو وزرائه أو غيرهم من أوليائه فإنه يُحاكم في محكمة أمن الدولة وغالبا يصل حكمه إلى ثلث
سنوات .
فهم لم يساووا أنفسهم وأربابهم بال وحسب ،بل طغوا وعظّموها أكثر من تعظيـم ال ـ هـذا
إن كـان عندهم في الصل تعظيما ل ـ
ولقد كان شرك المشركين الوائل أنهم أحبوا أندادهم كحب ال أو ساووهم بال في التعظيم أو
حبّ
حبّو َنهُمْ كَ ُ
ن اللّهِ أَندَادا يُ ِ
التشريع أو الحكم أو العبادة قال تعالى { َومِنَ النّاسِ مَن َيتّخِذُ مِن دُو ِ
سوّيكُمْ ِب َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } .
اللّهِ} وقال تعالى {تَاللّهِ إِن ُكنّا لَفِي ضَلَلٍ ّمبِينٍ * إِذْ نُ َ
169
أما مشركوا زماننا فإنهم طغوا وبغوا فعظموا آلهتهم وأربابهم ورفعوهم فوق مقام ال ،تعالى ال
عما يقولون علوا كبيرا.
وهذا أمر ل يجادل فيه إنسان يعرف واقعهم وقوانينهم .
ت ويصدّق
وستعرف فيما يأتي أن الحاكم الحقيقي والمشرّع الصيل والرئيس عندهم الذي يب ّ
على القوانين هو ليس ال ودينه بل هو طاغوتهم وإلههم الذي يحبونه ويعظمونه أكثر من ال .
ويغضبون له ولدينه ولحكمه ويعاقبون ويسجنون ويثورون بما ل يفعلونه إذا انتهِك دين ال
سبّت شريعته والواقع المرير الذي نعيشه أكبر شاهد وبرهان على هذا .
وُ
•ويكفرون من باب التشريع مع ال عز وجل:
وهو شرك العصر الذي روّجوا له ودعوا الناس إليه بل شجعوهم على الدخول فيه والمشاركة
فيه وحببوه إليهم .
وشرّعوا في دساتيرهم قوانين مضادة لدين ال وتوحيده جعلت لهم الحق في التشريع مطلقا في
جميع البواب .
كمـا هـو نص المادة ( )26من الدستور الردني:
أ ـ السلطة التشريعية تناط بالملك وأعضاء مجلس المة.
ب ـ تمارس السلطة التشريعية صلحياتها وفقا لمواد الدستور .
شرَعُواْ َلهُمْ مّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللّهُ }
ش َركَاءُ َ
وقد قال تعالى منكرا على المشركين {أَمْ َلهُمْ ُ
خ ْيرٌ أَ ِم اللّهُ ا ْلوَاحِدُ الْ َقهّارُ } وقال سبحانه عن الطاعة في
وقال عز وجل {َأَأ ْربَابٌ ّمتّ َفرّقُونَ َ
ش ِركُونَ} .
ط ْع ُتمُوهُمْ ِإ ّنكُمْ َلمُ ْ
التشريع ولو في مسألة واحدة { َوإِنْ أَ َ
فكيف بممارسة السلطة التشريعية مُطلقا ويوضّح أنّهم قد أشركوا بال عز وجل في أبواب
التشريع شركا أكبرا بواحا.
إنّ دساتيرهم نصّت على أنّ (الشريعة السلمية مصدر رئيسي من مصادر التشريع) وهذا
يعني أنّهم ل يوحّدون ال في التشريع .بل للتشريع عندهم مصادر متعددة رئيسية وفرعية فما
الشريعة السلمية عندهم إل مصدر من تلكم المصادر أو بتعبير أوضح كفري( :إن اللهة
والرباب المشرعين عندهم كثيرة متعددة متفرقة منها الرئيسي ومنها الفرعي وما ال عندهم إل
إله من أولئك الرباب المتفرقين) تعالى ال عن إفكهم وعما يقولون علوا كبيرا .
170
ومن كان عنده معرفة وخبرة في قوانينهم سيعرف أن إلههم الرئيسي الذي ل يقر قانون ول
يصدّق أو ينفذ إل بتوقيعه هو في
الحقيقة طاغوتهم سواء كان ملكا أو أميرا أو رئيسا وأن تشريعات الله الواحد الحــد
عمِـل بها في بعـض البــواب ل تنـفُذ عندهم ول تأخذ
الــذي في السـمـاء إن ُ
صفتها القانونية إل برضى وإقرار وتصديق ربهم هذا الذي في الرض تعالى ال عما يفترون
علوّا كبيرا (.)2
واعلم أن كفرهم هذا أبشع من شرك كفار قريش الذين كانوا مثل هؤلء يعدّدون اللهة
والرباب ويشركونها مع ال في العبادة.
لكن كانت عبادة أولئك سجود وركوع ،وعبادة هؤلء طاعه في التشريع في كافة البواب وإنما
كان شرك هؤلء أبشع ,لن مشركي قريش كانوا يجعلون ال عز وجل أعظم آلهتهم وأعلها
وأجلّها ويزعمون أنهم ما يعبدون هذه اللهة إل لتقرّبهم إلى الله العظم الذي في السماء ,حتى
كانت تلبية بعضهم التي يهلون بها في الحج:
لـبّيك ل شـريك لـك لبـيك اللـهم لبّيك
تمـلـكـه ومـا ملـك إل شريكا هو لـك
أما مشركوا الدستور فإنهم وإن سلّموا بأن ال هو الرزّاق وهو محي الموتى وهو الذي ينزل
المطر من السماء وينبت الكل وهو يشفي ويهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو
يزوّجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما ،نعم هم يؤمنون بأنّ المر في ذلك كله له وليس
لملكهم أو أميرهم لكن التّشريع والمر والحكم النافذ عندهم فوق كل حكم وتشريع هو في
الحقيقة لمليكهم طاغوتهم أو إلههم الذي في الرض.
فهم في الشرك مثل كفار قريش إل أنهم زادوا على كفر أولئك أنهم يعظمون أمر وحكم وتشريع
آلهتهم وأربابهم المتفرقة في الرض أكثر من تعظيم ال وحكمه وتشريعه.
عمّا
فتباّ وسحقا سحقا لمن كان أشد كفرا من أبي جهل وأبي لهب {َأإِلَـهٌ مّ َع اللّهِ َتعَالَى اللّهُ َ
ش ِركُونَ}.
يُ ْ
واعلم أن أبواب شرك هؤلء القوم وكفرهم البواح عديدة وكثيرة
لو أخذنا في عدّها واستقصائها لطال بنا المقام فهم لم يتركوا نوعا من أنواع الكفر إل وقد ولغوا
فيه.
171
ولكن فيما ذُكر كفاية لمن أراد الهداية .
أما من ختم ال على قلبه فلو انتطحت الجبال بين يديه لما انتفع أو اهتدى.
والذي نُريد أن نُعرّف الموحد به هنا أن كفر القوم ل يتوقف على باب واحد حتى يُردّ بشبهة أو
بقولة.
فالقوم قد مُلئوا شركا وكفرا إلى مشاشتهم والمهمّ هنا في هذا الموضع أن تعرف أن باب
الشراك في التشريع ليس هو باب ترك الحكم بما أنزل ال لشهوة أو لهوى أحيانا والذي يتنزل
فيه القول المنسوب لبن عباس "كفر دون كفر" ول هو الباب الذي كان الخوارج يجادلون ابن
عباس وغيره من الصحابة فيه
إذ لم يكن في زمن ابن عباس والخوارج من حكام المسلمين من يدّعي لنفسه حق التشريع مع
ال ،ول كان فيهم من مارس التشريع ولو في مسألة واحدة إذ هذا عندهم كفرٌ بالجماع.
وابن عباس الذي يُنسب إليه قول "كفر دون كفر" هو نفسه راوي سبب نزول قوله تعالى في
طاعة المشركين ولو في قضية تشريعية واحدة ( ) {وإن أطعتموهم إنّكم لمشركون} .
فلو كان الذي يدندن حوله الخوارج هو الحكم بمعنى التشريع لما قال فيه ابن عباس "كفر دون
كفر" ومعاذ ال أن يقول فيه ذلك وهو حبر القرآن .
وإنما الذي كان ينتقده الخوارج هو بعض التجاوزات والجتهادات التي كانوا يرونها خاطئة.
حكَمين التي جرت في التحكيم بين جيش علي ومعاوية وما جرى فيها
ومن أمثلة ذلك قصة ال َ
ل اللّهُ
حكُم ِبمَا أَنزَ َ
حيث ثار الخوارج وقالوا حكّمتم الرجال واحتجّوا بعموم قوله تعالى { َومَن لّمْ يَ ْ
فَُأ ْولَـ ِئكَ هُمُ ا ْلكَا ِفرُونَ } وزعموا أن كل من عصى ال فقد حكم بغير ما أنزل ال وكفّروا
الحكمين ومن رضي بحكمهما وكفّروا معاوية وعلي رضي ال عنهما وكان ذلك أول
مخرجهم ،ولذلك سميت أول فرقهم بالمحكّمة ،فناظرهم الصحابة ومن أكثر من ناظرهم ابن
عباس ،وحاجّهم بأن ذلك من الصلح بين المسلمين وليس من الحكم بغير ما أنزل ال بمعناه
حكَما مّنْ
حكَما مّنْ أَ ْهلِهِ وَ َ
الكفري واستدل بقوله تعالى في الخصومة بين الزوجين {فَا ْب َعثُواْ َ
أَ ْهِلهَا} وأنه إن جاز تحكيم الرجال في الصلح بين الزوجين فمن باب أولى أنه يجوز لحقن دماء
أمة محمد صلى ال عليه وسلّم.
وناظرهم بغير ذلك من الدلة كما هو مبسوط في كتب التاريخ والفِرق ،وبيّن لهم أن هذا الباب
وإن حصلت فيه أخطاء أو تجاوزات فهو ليس من الكفر الذي يذهبون إليه وعلى هذا يُحمل ما
172
ينسب إليه من قول "كفر دون كفر" فرجع منهم خلق ،وأصر آخرون فقاتلهم علي والصحابة
وحصل معهم ما هو معلوم في كتب التاريخ .
فهل ما القوم فيه اليوم من التشريع مع ال واستبدال أحكام ال وابتغاء غير ال حكما ومشرعا
وغير السلم دينا ومنهجا.
هل هذا كله يا أولي اللباب من ذلك الباب الذي جرى بين الصحابة وأنكره الخوارج وجرت
فيه المناظرة حتى يصلح تنزيل ما قيل في ذلك الزمان عليه؟.
حكُم ِبمَا أَنزَلَ اللّهُ َفُأ ْولَـئِكَ هُمُ ا ْلكَا ِفرُونَ} عام يشمل
وعلى كل حال فقوله تعالى { َومَن لّمْ يَ ْ
الحكم بمعنى الجور (كفر دون كفر) والحكم بمعنى التشريع (كفر بواح) .
ولذلك فإن السلف كانوا إذا وردت الية وأراد المستدل بها المعنى الول (الجور) أوّلوها
وحملوها على الكفر الصغر ،وإن استدل بها على المعنى الثاني (التبديل والتشريع) أبقوها على
ظاهرها أي الكفر البواح الحقيقي .
مع أن الصل في اليات أنها تتناول الكفر الكبر البواح الذي مارسه اليهود حين اتّفقوا
واجتمعوا وتواطئوا على أحكام غير أحكام ال .
ولذلك قال البراء بن عازب رضي ال عنه كما في صحيح مسلم بعد أن ذكر قوله تعالى { َومَن
ل اللّهُ فَُأ ْولَـ ِئكَ هُمُ ا ْلكَا ِفرُونَ} و{الظّالمون} و{الفاسقون} قال "في الكفار كلها" .
حكُم ِبمَا أَنزَ َ
لّمْ يَ ْ
فلو أن الخوارج أوردوها في موضعها على من شرّع أو وقع في ما وقع به اليهود لما أنكر
عليهم السلف ولبقوا الكفر فيها على حقيقته ولما أوّلوها( ) .
لكنّ ذلك لم يكن موجودا في ذلك الزمان حتى يخوضـوا فيه ,ولو كان موجودا لما أوردوا
عليه مثل هذه الية الظنية الدللة التي تحمل المعنيين ،بل لوردوا نصوصا قطعية الدللة ل
شرَعُواْ َلهُمْ مّنَ الدّينِ مَا لَمْ
ش َركَاءُ َ
تحتمل إل المعنى التشريعي التبديلي كقوله تعالى {أَمْ َلهُمْ ُ
ط ْع ُتمُوهُمْ ِإ ّنكُمْ
شيَاطِينَ َليُوحُونَ ِإلَى َأ ْوِليَا ِئهِمْ ِليُجَا ِدلُوكُمْ َوإِنْ أَ َ
يَأْذَن بِ ِه اللّهُ} ,وقوله تعالى { َوإِنّ ال ّ
غ ْيرَ الِسْلَمِ دِينا َفلَنْ يُ ْقبَلَ
ش ِركُونَ } وقوله تعالى {أَ َفحُكمَ الجّا ِهِليّةِ َي ْبغُونَ } وقوله { َومَن َي ْبتَغِ َ
َلمُ ْ
ِمنْهُ} .
لكنّ شيئا من هذا لم يكن موجودا عند الخلفاء في زمن الخوارج وابن عباس ،ومن ثم فل يحل
إيراد ردّ الصحابة عليهم في ذلك المقام وتنزيله على شرك هذه الحكومات وكفرها البواح في
هذا الزمان.
173
ومن فعل ذلك فقد لبّس الحق بالباطل والنور بالظلم بل هو-ورب الكعبة -على خطر عظيم،
لن لزم ذلك أنّ ما كان ينتقده الخوارج على الصحابة والخلفاء الرّاشدين هو من جنس شرك
هؤلء الحكام الكافرين وفي هذا تكفير للصحابة أجمعين في هذا الزمان.
ول شك أنّ من كفّرهم فإنه هو الكافر ،لن الصحابة قد رضي ال عنهم ورضوا عنه بنص
القرآن.
ورميهم بشيء من شرك هؤلء الحكام وكفرهم تكذيب لصريح القرآن أو وصفٌ ل بأنه يرضى
عن القوم الكافرين ،وذلك كلّه كفر.
فليحذر امرئ على دينه من هذه المهالك وليتّق ال من رمي الصحابة بالكفر والشرك ترقيعا
للطواغيت.
الشبهة الثانية
أنهم يقولون ل إله إل ال :
قالوا :كيف تُكفّرون هؤلء العساكر أو أولئك المخابرات والمن الوقائي ونحوهم من أنصار
القوانين ,ومن ثم ل تُسلّمون عليهم وتعاملـونهم معاملة الكفار مع أنّهم يشهدون أن ل إله إل ال
.
وقد أنكر رسول ال صلى ال عليه وسلم على أُسامة حكمه بالكفر على الرجـل الذي تلفّـظ
بـ ل إله إل ال ومن ثَم قتله ,وقال له" :كيف قتلـته بعـد أن قال ل إلـه إل ال؟" .
ل اللّهِ َف َت َب ّينُواْ وَلَ تَقُولُواْ ِلمَنْ َألْقَى
سبِي ِ
ض َر ْبتُمْ فِي َ
وال جل ذكره يقول {يَاَأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُواْ إِذَا َ
حيَاةِ ال ّد ْنيَا َف ِعنْدَ اللّهِ َمغَانِمُ َكثِي َرةٌ كَذِلكَ ُك ْنتُمْ مّن َقبْلُ
عرَضَ الْ َ
ستَ ُم ْؤمِنا َت ْب َتغُونَ َ
ِإَل ْيكُمُ السّلَمَ لَ ْ
خبِيرا } .
ن اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْع َملُونَ َ
عَل ْيكُمْ َف َت َب ّينُواْ إِ ّ
ن اللّهُ َ
َفمَ ّ
وكذلك حديـث "من مات وهو يشهد أن ل إله إل ال دخل الجنة" .
وحديث "البطاقة" الذي فيه أنّ رجلً يأتي يوم القيامة بتسع وتسعين سجلّ من الذنوب حتى يظن
أنه هالك توزن هذه السجلت ببطاقة عليها ل إله إل ال فترجح البطاقة .
وكذلك الحديث المروي عن حذيفة مرفوعا قال" :يُسرى على كتاب ال في ليلة فل تبقى في
الرض منه آية وتبقى فئام من الناس ما يدرون ما صلة وما صدقة وما نُسُك يقولون هذه
الكلمة (ل إله إل ال) أدركنا آباءنا عليها فنحن نقـولها" قال صِـلَة ( )" :فما تنفعـهم ل إلـه
إل ال وهم ل يدرون ما صـلة وما صدقة وما نُسُك؟" قال حذيفة" :تنجيـهم من النـار".
174
ونحو ذلك من الحاديث ( ) .
والجواب من وجوه عدّة :
ح َكمَاتٌ هُنّ أُمّ ا ْل ِكتَابِ
عَل ْيكَ ا ْل ِكتَابَ ِمنْهُ آيَاتٌ مّ ْ
أولً :قد قال تعالى في كتابه { ُهوَ الّذِي أَنزَلَ َ
خرُ ُمتَشَا ِبهَاتٌ فََأمّا الّذِينَ في ُقلُو ِبهِمْ َزيْغٌ َف َي ّت ِبعُونَ مَا تَشَابَهَ ِمنْهُ ا ْب ِتغَاءَ الْ ِف ْتنَةِ وَا ْب ِتغَاءَ تَ ْأوِيلِهِ َومَا
َوأُ َ
ل اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي ا ْل ِعلْمِ يَقُولُونَ آ َمنّا بِهِ كُلّ مّنْ عِندِ َر ّبنَا َومَا يَ ّذ ّكرُ إِلّ ُأ ْولُواْ
َي ْعلَمُ تَ ْأوِيلَهُ إِ ّ
ل ْلبَابِ } .
اَ
فبيّن ال عزّ وجلّ بأنه ابتلى عباده بأن جعل في الشريعة التي أنزلها إليهم آيات محكمات
وقواعد راسيات وأوامر واضحات بيّنات عليها مدار الشريعة وإليها يُردّ المر عند النزاع
والخلف
وهناك أُخر متشابهات أو ظنّية الدللة تحتمل في الذهان أكثر من معنى ،وبيّن أنّ أهل الزّيغ
والضلل هم الذين يتّبعون المتشابه ويذرون المحكم ابتغاء تأويله عن مراد ال الذي أنزله عليه
للتلبيس وابتغاء الفتنة بين عباد ال .
أما طريقة طلّب الحق وأهل العلم الراسخين فيه،فهي أن يردّوا المتشابه الذي يشكل عليهم إلى
المحكم الذي هو أصل الكتاب وأمّه الذي عليه مدار التأويل وإليه يُردّ الخلف .
وقد بيّن الشاطبي في العتصام أن هذه القاعدة ليست خاصة في الكتاب الكريم وحده ،بل هي
مطردة في السنّة النبـوية والسـيرة المحمدية .
حيث أنّ هنــاك أحـاديث وحـوادث أعيان قيلت أو حصلت في مـناسـبات معيـنة إذا
أُخذت وحدها دون مبيّناتها كان ذلك من قبيل اتّباع المتشابه وترك المحكم .
وكذلك أخذ العام دون مخصّصه أو المطلق دون مقيّده ،أو التشبّث بنص من بين طائفة من
النصوص جميعها يتناول قضية واحدة وإهمال غيره مما هو مرتبط به ذلك كله من اتباع
المتشابه وترك المحكم وهو من التقوّل على ال بغير علم وتقويل الشرع ما لم يقل به.
إذ ل بد من اليمان بكلم ال ورسوله جميعا وأخذه كله والدخول في السلم كافة .
أما تتبّع ما يوافق الهوى فهي طريقة أهل الزيغ والضلل وهو سبب ضلل أكثر أهل الضللة .
فالخوارج ضلّوا لما أهملوا نصوص الوعد وركّزوا على نصوص الوعيد فأخذوا قوله تعالى
ج َهنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا َأبَدا } وهو نص عامّ يكون من المتشابه
ص اللّهَ َورَسُولَهُ َفإِنّ لَهُ نَارَ َ
{ َومَن َي ْع ِ
175
ش َركَ بِهِ َو َيغْ ِفرُ مَا
ن اللّهَ لَ َيغْ ِفرُ أَن يُ ْ
إن لم يُردّ إلى مقيّده ومبيّنه الذي أهملوه وهو قوله تعالى {إِ ّ
دُونَ َذِلكَ ِلمَن يَشَاءُ } .
وكذلك المرجئة تمسّكوا ببعض النصوص المتقدّمة التي تبشّر من قال ل إله إل ال بالجنة
فأرجأوا العمال وأهملوها واكتفوا في الحكم بالسلم ودخول الجنة بالكلمة وحدها دون تحقيق
مقتضياتها أو التزام لوازمها ،وإن كان ذلك مستطاعا مقدورا عليه.
مع أن العلماء قد بيّنوا كما روى البخاري في صحيحه عن وهب بن منبّه أن "ل إله إل ال
مفتاح الجنة لكن لكل مفتاح أسنان فمن جاء بمفتاح له أسنان فتح ومن جاء بمفتاح ليس له
أسنان لم يفتح" وأسنانها هي تحقيق شروطها واجتناب نواقضها .
إذ ل يشك عاقل عارف بحقيقة دين السلم أن المراد من ل إله إل ال هو معناها التي تتضمّنه
من نفي وإثبات ,أما أن يتلفّظ بها دون القصد إلى معناها أو دون تحقيق مقتضاها واجتناب
نواقضها فهذا ليس هو مطلوب ال عزّ وجلّ .
شهِدَ بِا ْلحَقّ وَهُمْ َي ْعَلمُونَ}
علَمْ َأنّهُ لَ ِإلَـهَ إِل اللّهُ } وقال سبحانه {إِلّ مَن َ
ولذلك قال سبحانه {فَا ْ
.
والحديث المذكور "من مات وهو يعلم أنّه ل إله إل ال دخل الجنة" دليل أيضا على أنّ معرفة
معنى هذه الكلمة المتضمن للتوحيد والبراءة من التنديد وقصده في الشهادة شرط لتحقيقها ولنيل
موعود ال عليها .
وقد بوّب له النووي في صحيح مسلم (باب من مات على التوحيد دخل الجنّة) .
فالمطلوب هو تحقيق التوحيد الذي تحويه هذه الكلمة وليس مجرد التلفّظ بها دون اجتناب
نواقضها والستسلم لحقوقها.
كما في حديث معاذ المروي في الصحيحين أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أوصاه وعلّمه
أسلوب الدعوة لمّا بعثه إلى اليمن فقال" :فليكن أوّل ما تدعوهم إليه ل إله إل ال" وفي رواية
إلى أن يوحّدوا ال" فدلّ ذلك على أنّ المراد حقيقة الكلمة ما تنفيه وما تثبته وليس فقط اللّفظ
المجرّد من ذلك .
وقد بيّنا لك معنى التوحيد في الوراق التي سبقت هذه والتي سمّيناها "هذان خصمان اختصموا
في ربهم" وعرفت أنه معنى (ل إله إل ال) و(العروة الوثقى) وأنّ له ركنين:
النفي والثبات .
176
أمّا النفي فهو (ل إله) وهو الكفر بالطاغوت ،وأمّا الثبات فهو (إل ال) وهو عبادة ال وحده,
كما بيّنه تعالى في تعريف العروة الوثقى حيث قال {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بال فقد
استمسك بالعروة الوثقى} .حيث جعل سبحانه شرط النجاة والستمساك بالعروة الوثقى أمرين ل
انفكاك لحدهما عن الخر (الكفر بالطاغوت) و(اليمان بال) ،ول يكفي (الكفر بالطاغوت)
وحده دون (اليمان بال) ،كما ل ينفع (اليمان بال) وحده دون (الكفر بالطاغوت) بل لبدّ من
الجمع بين المرين .
فما دام هؤلء العساكر أو غيرهم غير كافرين بالطاغوت بل هم حرّاسه وأنصاره وجنده
وأركانه وحفظته ،فهم ليسوا بمسلمين ول مؤمنين ول متمسّكين بالعروة الوثقى بل هم من
الهالكين إن ماتوا على شركهم ،وإن تلفّظوا بـ(ل إله إل ال) مئات بل آلف المرات.
وكما قلنا من قبل فإنّ أتْباع مُسيلَمة الكذّاب كانوا يقولون ل إله إل ال ويصلّون ويصومون
ويشهدون أنّ محمدا رسول ال لكن أشركوا معه رجلً بالرسالة فكفروا وحلّت دماءهم وأموالهم
ولم تنفعهم ل إله إل ال بمجرد أن أشركوا مع رسول ال صلى ال عليه وسلّم رجلً من
عشيرتهم في النبوة والرسالة.
فكيف بمن أشرك مع ال ملكا أو أميرا أو رئيسا أو عالما بالعبادة ..فصرف له أي نوع من
أنواع العبادة سواءً سجود أو ركوع أو تشريع كما هو حاصل في شرك هؤلء القوم؟! .
وتعريف هذا المر أعني الكفر بالطاغوت مع اليمان بال ما هو إل شرط من شروط عدّة لهذه
الكلمة العظيمة (ل إله إل ال) ولقد تكلّم العلماء في شروطها وذكروا الدلّة على ذلك ليعرف
المسلم إنّها ليست بكلمة تُلفظ باللسان وكفى فذكروا الشرط المتقدم:
1ـ العلم بمقتضاها نفيـا وإثبـاتا.
2ـ النقيــاد لحقـوقها.
وذكـروا أيضا:
3ـ الصدق المنـافي للكذب.
4ـ الخلص المنافي للشرك.
5ـ اليقين المنافي للشـك.
6ـ المحبة لهذه الكلمة ولما دّلت عليه.
7ـ القبول المنافي لردّ أي شيء من لوازمها.
177
وتفصيل ذلك مبسوط في مواضعه بأدلّته .
والمراد من ذكره هنا أن تعرف أنّ أمثال هذه الحاديث المذكورة في هذه الشبهة لها ما يُبيّنها
في النصوص الخرى من الكتاب والسنّة.
فحديث "من مات وهو يعلم أنّه ل إله إل ال دخل الجنّة" ل بدّ أن يفسّر ويُربط بقوله تعالى { َفمَنْ
سكَ بِا ْل ُع ْروَةِ ا ْل ُوثْقَى} ول بدّ أن يردّ إلى قوله تعالى {إِنّ
س َتمْ َ
َيكْ ُفرْ بِالطّاغُوتِ َو ْي ْؤمِن بِاللّهِ فَقَدِ ا ْ
ش َركَ بِهِ َو َيغْ ِفرُ مَا دُونَ َذِلكَ ِلمَن يَشَاءُ} .
اللّهَ لَ َيغْ ِفرُ أَن يُ ْ
فلو أنّ مشركا قال "ل إله إل ال" ألف مرّة وكان يعلم معناها لكنّه لم يترك شركه ول تبرّأ من
طاغوته الذي يعبد ه وينصره ،فإنه لم يستمسك بالعروة الوثقى ولن يغفر ال له ولن يدخل
جنّةَ }.
علَيهِ الْ َ
حرّ َم اللّهُ َ
ش ِركْ بِاللّهِ فَقَدْ َ
الجنة ،قال تعالىِ{ :إنّهُ مَن يُ ْ
وهكذا يجب أن يُضاف إلى ذلك كل حديث يتكلم في الموضوع نفسه لنحيط بالموضوع من كل
جوانبه ول نكون ممّن يتّبعون ما تشابه من النصوص فيُضم إليه حديث الصحيحين " :أشهد أن
ل إله إل ال وأنّني رسول ال ل يلقى الَ بهما عبدٌ غير شاكّ بهما إل دخل الجنة" .
ومثله حديث" :ما من أحد شهد أن ل إله إل ال وأني رسول ال صدقا من قلبه إل حرّم ال
عليه النّار" .
ونحو ذلك من الحاديث وبمثل هذه الطريقة يُفهم الدين ويُنال العلم ويُعرف مراد ال كما يحب
ويرضى ولذلك نقل النووي في شرح مسلم ()1/219عن بعض أهل العلم قولهم في تأويل هذه
الحاديث أنها " مجملة تحتاج إلى شرح ومعناه من قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها وهذا قول
الحسن البصري وقيل أن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة ومات على ذلك وهذا هو قول
البخاري " قال النووي":هذه التأويلت إنما هي إذا حملت الحاديث على ظاهرها وأما إذا ُنزّلت
منازلها فل يشكل تأويلها على ما بينه المحققون".
ومثل ذلك يقال في حديث "البطاقة" فالمراد ببطاقة (ل إله إل ال) كما عرفت هو تحقيق
التوحيد من اليمان بال والكفر بالطواغيت وعدم التيان بشيء من نواقضها .
ن اللّهَ لَ َيغْ ِفرُ أَن
فبِردّ هذا الحديث وفهمه على ضوء النصوص المحكمة كقوله تعالى { :إِ ّ
ش َركَ بِهِ َو َيغْ ِفرُ مَا دُونَ َذِلكَ ِلمَن يَشَاءُ } ،تعـرف أنّ السجلّت التسعة والتسعين هي قطعا
يُ ْ
ذنوب غير مكفّرة أو ذنوب دون الشـرك لن الشـرك الذي يناقض هذه البطاقة ل يغفره ال
أبدا كما في الية وصاحبه ل يدخل الجنة إن مات عليه ,ولو أنّ في هذه السجلت ناقض من
178
النواقض لما طاشت به البطاقة ولما نجا صاحبها لنها ساعتئذٍ ل تكون بطاقة التوحيد الصحيح
بل بطاقة كلمة ودعوى منقوضة تقال باللسان دون قصد معناها أو تحقيق لوازمها .
فلو أنّ في هذه السجلت عبادة غير ال أو التشريع مع ال أو نُصرة المشرّعين وتولّيهم أو سبّ
الدين أو حرب أوليائه َلمَا رجحت أو نفعت أو دخل صاحبها الجنّة إذ هذه كلها موانع وقواطع
تقطع وتمنع الفوز والنجاة ،لكن السجلت ذنوب دون الشرك .
وفي الحديث بيان أهمية وعظم كلمة التوحيد وبيان أنّ من حقّقها فأتى بها كما يحبّ ربّنا
ويرضى فإن التوحيد بعظمته يغمر جميع الذنوب والخطايا التي هي دون الشرك ويدمغها،
ويبين ذلك ويوضحه أيضا الحديث القدسي " :يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الرض خطايا ،ثم
لقيتني ل تشرك بي شيئا أتيتك بقرابها مغفرة" رواه الترمذي.
وكذلك حديث حذيفة المذكور "يُسرى على كتاب ال في ليلة فل تبقى منه في الرض آية " فهو
إن صحّ يُحمل على أنّ هؤلء الناس الذين ل يعرفون من الشرائع إل هذه الكلمة محققين لمعناها
غير مشركين بال لنّ ال ل يغفر أن يشرَك به.
أمّا تركهم الصلة والصدقة والنّسك فإن كانوا موحّدين فإنهم يعذرون بذلك لنّ هذه الشرائع ل
تُعرف إل بالحجة الرسالية .
وقد ذكر الحديث أن كتاب ال يُرفع في زمنهم فل تبقى منه في الرض آية .
حيَ ِإَليّ هَـذَا الْ ُقرْآنُ لُن ِذ َركُمْ بِهِ َومَن
وكتاب ال هو الحجّة التي علّق ال النّذارة بها ،فقال { َوأُو ِ
َبلَغَ} فمن بلغه القـرآن فقد قامت عليه الحجّة ومن لم يبلغه فإنه يُعذر بفـروع الشريعة لكنه ل
يُعـذر بتـرك أصل التوحيد واتّباع الشرك الصراح والتنديد .
لن هذا أمر قد أقام ال عليه حجته البالغة من أبواب شتى كما سيأتي بعد.
وحال هؤلء إن صحّ الحديث كحال زيد بن عمرو بن نفيل الذي كان قبل بعثة النبي صلى ال
عليه وسلّم حنيفا مسلما من غير أن يأتيه نبي فإنه حقّق التوحيد وكان على ملة إبراهيم كما في
صحيح البخاري وكان يقول كما في رواية ابن إسحاق" :اللهم لو أعلم أحب الوجوه إليك لعبدتك
به ،ولكني ل أعلمه" .
فمثل هذا يعذر بتفاصيل الشرائع التي ل تُعرف إل عن طريق الرسل فهو ل يدري كيف
الصلة أو الزكاة ولذلك يُعذر فيهما.
179
أمّا التوحيد فل ينجو إل بتحقيقه لنه حق ال على العبيد الذي بعث من أجله كافة رسله وأقام
عليه الحجج المتنوعة .
وهذا كله يُصار إليه إذا كانت لفظة "تنجيهم من النار" مرفوعة إلى النبي صلى ال عليه وسلّم.
لكنّ الصواب أنّها موقوفة مدرجة من قول حذيفة كما قرّره أهل العلم في الحديث .
بل قد ذهب بعض المحققين إلى أن الحديث برمّته ل يصحّ لن فيه "أبو معاوية خازم الضرير"
مدلّس وفي مروياته عن غير العمش ضعف وقد رواه هنا من غير طريق العمش وهو فوق
ذلك رأس من رؤوس الرجاء كما ذكر الحافظ بن حجر وغيره وهذا الحديث مما يتمسك
ويستدل به المرجئة .
وقد حذّر العلماء من قبول مرويات أهل البدع إن كانت مما ينصر بدعتهم(*) ،وهذا الحديث
مما يستنصر به أهل الرجاء ،فكيف إذا انضاف إلى ذلك الضعف والتدليس؟.
أما حديث أُسامة :فإنه في الكافر الذي يُسْلم للتّو ول يُظهر ناقض من نواقض السلم فمثل هذا
ل يحل قتله لنه دخل إلى العصمة فوجب الكف عنه حتى يأتي بناقض .
ولذلك بوّب له النووي في صحيح مسلم (باب تحريم قتل الكافر بعد قوله ل إله إل ال) ولكن
يجب أن يُعلم أنّ هناك فرق كبير بين (ابتداء العصمة و بين استمرارها) فالعصمة تبدأ للكافر
بمجرد تلفّظه بكلمة التوحيد ولكن استمرار تلك العصمة ل يكون إل بالتزام حقوق هذه الكلمة
وخلع واجتناب نواقضها .
فالكافر عندما يهمّ بالدخول للسلم يتلفّظ بكلمة التوحيد ومجرّد تلفّظه يعني استعداده لقبول
شرائع السلم واستسلمه لحقوقها وبراءته من نواقضها فإن لم يحقق ذلك لم تستمر العصمة
التي دخل إليها بالكلمة بل انقطعت .
فالحديث إذا لرجل أسلم للتّو ولم يُظهر شيئا من نواقض السلم .
وليس هو فيمن يزعم ويدعي السلم منذ دهر .وإذا نظرت في حاله وجدته حربا على السلم
وأهله سِلما للطاغوت وأوليائه وقوانينه وباطله فهذا لو قالها مئات بل ألوف المرات لم تكن
لتنفعه حتى ينخلع عن الكفر والشرك والطاغوت الذي يعبده ويتولّه ويحرسه .
لنّ هذا هو أهم معاني هذه الكلمة التي لم يحققها دهره كله.
180
ستَ ُم ْؤمِنا} ،فإنها نزلت كما في
ومثل ذلك قوله تعالى {وَلَ تَقُولُواْ ِلمَنْ َألْقَى ِإَل ْيكُمُ السّلَمَ لَ ْ
الحديث الذي يبيّن سبب نزولها في مجموعة من الصحابة مرّوا برجل معه غنيّمة فسلم عليهم
وأظهر السلم ولم يُظهر شيئا من نواقضه ومع هذا فعلوا معه كما فعل أسامة فقتلوه بحجة أنّه
قالها خوفا منهم وأخذوا غنمه .
فأنكر ال تعالى عليهم ذلك في القرآن إذِ الواجب فيمن أظهر لنا السلم أن نعامله بظاهره ما لم
يُظهر لنا خلف ذلك .
فإن تبيّن لنا بعد ذلك أنه يُظهر السلم ودين آخـر كفـري ولم يبـرأ منه ـ كالديمقـراطية
ـ مثلً ـ أو موالة القوانين الوضعية ـ لم نقبل منه حتى يبرأ من ذلك كله ويُخلص دينه ل
رب العالمين .
ولذلك قال سبحانه قبل ذلك وبعده {ف َت َب ّينُوا}.
الشبهة الثالثة
أنّهم يُصلّون ويصومون :
قالوا :كيف تكفرون عساكر القانون وأنصار الدستور وبعضهم يصلّي ويصوم ويحج ,وربما
ذكروا حديث مسلم الذي فيه ذكر أمراء الجور ،ومنه قول الصحابة :أفل نقاتلهم يا رسول ال؟
قال" :ل ,ما أقاموا فيكم الصلة" .
ومثل ذلك حديث ذي الخويصرة الذي تكلّم في قسمة النبي صلى ال عليه وسلم فقال خالد بن
الوليد :أل أقتله؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم" :أليس يصلّي؟ أما إني لم أؤمر بقتل المصلين"
وفي رواية "يتحدث الناس محمد يقتل أصحابه " .
الجواب نقول :لقد علمت أنّ دين ال الذي بعث ال به كافّة رسله هو التوحيد.
ول بد أن تعلم أنّ هذا التوحيد هو شرط رئيس من شروط قبول العمل والعبادة.
فالعمل ل يكون خالصا متقبلً إل بتحقيق هذا الشرط مع الشرط الخر الذي هو المتابعة ( أن
يكون العمل موافقا لما جاء به النبي صلى ال عليه وسلم) والشرط هو ما يلزم من عدمه عدم
العبادة وبطلنها .
ولذلك فقد ذكر ال عزّ وجلّ أعمالً كثيرة للكفار والمشركين لكنه بيّن سبحانه أنّه ل يتقبّلها بل
يجعلها هباءً منثورا لنّها فقدت شرط الخلص والتوحيد.
181
قال تعالى {والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا
ووجد الَ عنده فوفّاه حسابه} .
وفي الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى ال عليه وسلم عن ربه" :أنا أغنى الشركاء عن
الشرك من عمل عملً أشرك به معي غيري تركته وشركه" وهذا يستدلّ به العلماء على الشرك
الصغر فيدخل فيه الكبر من باب أولى.
فالشاهد من هذا كله أن التوحيد شرط في صحة الصلة وفي قبولها .
والدخول للسلم إنما يكون من باب التوحيد (ل إله إل ال) وليس من باب الصلة أو غيرها
من العبادات دون تحقيق للتوحيد ،وإنما يحكم أهل العلم للمصلي بالسلم لتضمن الصلة
للتوحيد ،ولن التوحيد شرط صحتها وقبولها .
فمن جاء بصلة أوصيام أو زكاة من غير أن يحقق التوحيد بركنيه (اليمان بال) و(الكفر
بالطاغوت) فإن أعماله جميعها باطلة وليس صلته فقط.
فمن صلى وهو مظهر للشرك غير مجتنب لعبادة الطواغيت ونصرتهم لم تقبل صلته ولم
تدخله في دائرة السلم ول أخرجته من دائرة الشراك.
سرِينَ }
ع َمُلكَ َوَل َتكُونَنّ مِنَ الْخَا ِ
حبَطَنّ َ
ش َر ْكتَ َليَ ْ
ومن أوضح الدلّة على ذلك قوله تعالى {َلئِنْ أَ ْ
ع ْنهُمْ مّا كَانُواْ َي ْع َملُونَ } 188النعام.
حبِطَ َ
ش َركُواْ لَ َ
وكذلك قوله تعالى { َوَلوْ أَ ْ
فاجتناب الشرك بال تعالى بترك عبادة الطواغيت وخلع متابعتهم على تشريعاتهم أعظم شروط
قبول العمل وهو أول فرض افترضه ال تعالى على عباده وأمرهم به وبدونه تحبط العمال.
وهؤلء العساكر بدلً من أن يستجيبوا لمر ال تعالى بالكفر بالطاغوت {وَقَدْ ُأ ِمرُواْ أَن َيكْ ُفرُواْ
بِهِ} وبدّلوا قولً غير الذي قيل لهم ,فحرسوه وحموه ونصروه واتّبعوه ونصروا تشريعاته
وقانونه الكفري.
ولذلك ل تقبل منهم صلة ول صيام ول غيره من العمال ما داموا لم يحققوا شرط قبولها.
أرأيت لو أنّ هذا العسكري أو ذلك الضابط أو الجاسوس أو المن الوقائي أو المخابرات أو
غيرهم صلّوا صلة من غير وضوء ،ترى صلة أحدهم مقبولة عند ال تعالى ؟ أم هي باطلة
مردودة على وجهه؟.
ن الصلة بغير
لعلك تقول هذا أمر ل يختلف فيه شخصان ول ينتطح فيه عنزان ل شك أ ّ
وضوء باطلة مردودة.
182
فتأمّل هذا الموضع يا عبد ال إذا كان ترك الطهارة مبطل للصلة لنه شرط في صحتها،
فكيـف بترك التوحيـد والكفر بالطواغيت الذي هو أعظم شروط قبول العمال؟.
ولذلك فهو الشرط والمر الذي أوجب ال على ابن آدم تعلمه والعمل به قبل تعلم الصلة
وشروطها والطهارة وشروطها ونواقضها.
وهو الشرط الذي فرض على الصحابة في مكة قبل فرض الصلة وغيرها ،ومعلوم أن
الصحابة ما عُذّبوا في مكّة ول ابتُلوا وهاجروا وأوذوا إل من أجله إذ لم يعذبهم قومهم ول
آذوهم لجل الصلة أو الزكاة أو غيرها من الطاعات والشرائع التي لم تكن قد فرضت ول
طولبوا بها بعد وإنما طولبوا أول ما طولبوا بتحقيق ذلك المر العظيم لن تلك العبادات ل تقبل
بدونه ولذلك لم يكن من أمر الرسول صلى ال عليه وسلم ول من طريقة دعوته هو وأصحابه
أن يبدأوا في دعوة المشركين بالصلة أو بالزكاة أو نحوها من الشرائع قبل دعوتهم لتحقيق
التوحيد واجتناب عبادة الطواغيت ،ل وال ما كانت هذه دعوتهم أبدا.
وتأمل حديث معاذ بن جبل في الصحيحين حين بعثه الرسول صلى ال عليه وسلم إلى اليمن
وعلّمه أسلوب الدعوة وطريقتها قال" :فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن ل إله إل ال" .
علِمهم أنّ ال قد افترض عليهم خمس
وفي رواية "إلى أن يوحدوا ال" "فإن هم أطاعوك لذلك فأ ْ
صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أنّ ال قد أوجب عليهم في أموالهم
صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ إلى فقرائهم . . .الحديث" .
فدعوة النسان إلى السلم ابتداءً ل تكون من الصلة بل من التوحيد.
ثم يؤمر إن حقق التوحيد بالصلة والزكاة وسائر الركان .
فمن حقّق التوحيد واعتصم بالعروة الوثقى نجى وقُبلت منه الصلة وسائر الركان ومن تمسّك
بشرائع وأركان السلم دون أن يتمسّك بالعروة الوثقى فهو من جملة الهالكين .
لن ال لم يضمن لشيء من عرى السلم اليمان أن ل تنفصم إل إذا انضمّت إليها وارتبطت
بها هذه العروة الوثقى التي ضمن سبحانه أن ل تنفصم قال تعالى {لَ ِإ ْكرَاهَ فِي الدّينِ قَد ّت َبيّنَ
سكَ بِا ْل ُع ْر َوةِ ا ْل ُوثْقَى لَ انفِصَامَ َلهَا
س َتمْ َ
الرّشْدُ مِنَ ا ْلغَيّ َفمَنْ َيكْ ُفرْ بِالطّاغُوتِ َو ْي ْؤمِن بِاللّهِ فَقَدِ ا ْ
علِيمٌ } 256البقرة.
سمِيعٌ َ
وَاللّهُ َ
لذك فإنّ كثيرا ممن نصبوا بالعبادة في الدنيا تردّ عبادتهم على وجوههم يوم القيامة ويكون
صبَةٌ } أي في العبادة ثم مصيرها:
شعَةٌ * عَا ِملَةٌ نّا ِ
مصيرهم النار ،قال تعالى {وُجُوهٌ َي ْو َمئِذٍ خَا ِ
183
{ َتصْلَى نَارا حَا ِميَةً } لن عبادتها وصلتها وتعبها ونصبها كان هبا ًء منثورا ،لنه بغير توحيد
وإخلص فإذا فهمت هذا وعلمت أنه قاعدة من قواعد دين المسلمين وأصل محكم من أصولهم
يُردّ إليه كل ما تشابه من النصوص فا ْفهَم على ضوئه بعد ذلك كل حديث يشكل عليك في هذه
البواب.
ومن ذلك حديث مسلم المتقدم في شأن المراء ونهي النبي صلى ال عليه وسلم عن قتالهم ما
أقاموا فينا الصلة فهو إشارة إلى إقامة الدين والتوحيد مع الصلة وليس المقصود إقامة الصلة
وحدها بغير توحيد!! بدليل أنّ المر بالقتال كما في الحاديث الخرى المبيّنة لهذا الحديث يذكر
أول ما يذكر فيها قبل الصلة والزكاة( :تحقيق التوحيد) كما في الحديث المتفق عليه "أُمرت أنْ
أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن ل إله إل ال وأنّ محمدا رسول ال ويقيموا الصلة ويؤتوا الزكاة
فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إل بحقّها وحسابهم على ال".
فتأمّل ذكر التوحيد وأنّ القتال ابتداءا عليه ،ومن ثم على حقوقه ولوازمه.
سبِيَلهُمْ} .
خلّواْ َ
لةَ وَآ َت ُو ْا ال ّزكَاةَ فَ َ
وهذا معنى قوله تعالى {فَإِن تَابُواْ َوأَقَامُو ْا الصّ َ
فإن تابوا :أي من الشرك والكفر وخلعوا عبادة غير ال وحقّقوا التوحيد ومن ثم أقاموا الصلة
وآتوا الزكاة فقد عُصمت دماؤهم وأموالهم إل بحقّها.
أما إقامة الصلة دون التوبة من الشرك ودون التوحيد أو إقامة الصلة مع نواقض ل إله إل ال
فل تغني من ال شيئا ،وكم من مصلّ في زمن رسول ال صلى ال عليه وسلم كفر وارتدّ بكلمة
.
من نواقض هذا التوحيد العظيم ومن أمثلة ذلك ما قدّمناه لك في النّفر الذين خرجوا مع رسول
ال صلى ال عليه وسلم مجاهدين في غزوة تبوك وهم من المصلّين ومع ذلك كفروا لمّا جاءوا
بناقض من نواقض التوحيد والسلم ،هو استهزائهم بحفظة كتاب ال قال تعالى {لَ َت ْعتَ ِذرُواْ قَدْ
كَ َف ْرتُمْ َبعْدَ إِيمَا ِنكُمْ} وكانوا يصلّون .
وعلى مثل هذا مضى علماء المسلمين ولذلك جعلوا في كتب الفقه بابا يسمى (باب حكم المرتدّ)
وعرّفوه بأنه المسلم الذي يرتدّ بقول أو عمل أو اعتقاد بعد إسلمه وربما يكون مصليا.
ولذلك أفتى شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال بكفر عبيد الياسق وهو دستور أو قانون التتار في
زمنه كما أفتى بكفر أنصارهم وعساكرهم مع أن فيهم من كان يصلّي ,وراجع المجلد 28من
فتاواه .
184
ومثل ذلك كله يقال في حديث ذي الخويصرة فقوله "أليس يصلي؟" أو "لعله أن يكون يصلي" .
فيه قاعدة الخذ بالظاهر والعلنية وترك السريرة إلى ال وأنّ ذلك الرجل كان يُظهر التوحيد
لن القاعدة التي عرفتها فيما تقدم تقرّر أنّه ل قبول للصلة وحدها دون التوحيد .فلو أنّ هذا
الرجل كان يعبد الطاغوت أو ينصره أو يقبل غير ال مشرعا وحكما ويُظهـر ذلك لماَ قبل منه
رسول ال صلى ال عليه وسلم السلم بالصلة وحدها ( ) .
فمن الفوائد المستفادة من هذا الحديث وأمثاله أننا نعصم دم ومال كل من بصلي إلى قبلتنا ونعده
من أهل القبلة المسلمين لتضمن الصلة للتوحيد ،ما لم يظهر منه ناقض أو قاطع من قواطع
السلم الظاهرة البينة ..
وأنصار القانون قد أظهروا تولي الشرك (القانون وأهله ) وظاهروهم على الموحدين ،وهذا
ناقض ظاهر من نواقض السلم فلم ينفعهم إظهارهم للصلة مع تلبسهم بتلك النواقض ولم يغن
ذلك عنهم شيئا .
الشبهة الرابعة
من كفّر مسلما فقد كفر:
قال المجادلون عن عساكر القوانين :إنّ التكفير أمر خطير لنّ رسول ال صلى ال عليه وسلّم
قد قال" :من كفّر مسلما فقد كفر" بل سمعنا بعض جهّالهم يقول :ل يجوز تكفير إل من وُلد
كافرا من أبوين كافرين.
الجواب نقول :ليس التكفير على إطلقه أمر خطير ومذموم.
ولكن تكفير المسلم بمجرّد الهوى وبمحض العصبية دون دليل شرعي هو المذموم والخطير .
وليس كل الكفر مذموم كما أنه ليس كل اليمان ممدوح .
فمن اليمان ما هو واجب كاليمان بال ومنه ما هو محرّم وشرك كاليمان بالطاغوت .
وكذلك الكفر منه ما هو واجب وممدوح كالكفر بالطاغوت ومنه ما هو مذموم كالكفر بال وآياته
ودينه .
وأيضا كما أن تكفير المسلم دون دليل شرعي أمر خطير ،فكذلك الحكم على المشرك أو الكافر
بالسلم وعصمة الدم وإدخاله بالتالي في الخوة السلمية والموالة اليمانية أمر خطير وفساد
كبير .
لرْضِ وَفَسَادٌ َكبِيرٌ}.
ضهُمْ َأ ْوِليَاءُ َبعْضٍ إِلّ تَ ْف َعلُوهُ َتكُنْ ِف ْتنَةٌ فِي ا َ
قال تعالى {وَالّذينَ كَ َفرُواْ َب ْع ُ
185
أمّا الحديث المذكور فلم يصح عن النبي صلى ال عليه وسلّم بهذا اللفظ أبدا فليس كل من كفّر
مسلما يكفر خصوصا إذا كان ذلك المسلم قد أتى "بما سمّاه ال ورسوله كفرا" .
ومفهوم هذا اللفظ أن المسلم ل يكفر أبدا وهذا منقوض بقوله تعالى عن أُناس كانوا يُظهرون
علَى أَ ْدبَارِهِمْ مّن َبعْدِ
السلم {لَ َت ْعتَ ِذرُواْ قَدْ كَ َف ْرتُمْ َبعْدَ إِيمَا ِنكُمْ} وقوله سبحانه {إِنّ الّذِينَ ا ْرتَدّواْ َ
سوّلَ َلهُمْ َوَأ ْملَى َلهُمْ} ،وقوله عزّ وجلّ {يَأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُواْ مَن َي ْرتَدّ
شيْطَانُ َ
مَا َت َبيّنَ َلهُمُ ا ْلهُدَى ال ّ
علَى ا ْلكَا ِفرِينَ
عزّةٍ َ
علَى ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ أَ ِ
حبّونَهُ أَ ِذلّةٍ َ
ح ّبهُمْ َويُ ِ
س ْوفَ يَ ْأتِي اللّهُ بِ َقوْمٍ يُ ِ
مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَ َ
علِيمٌ}
ل اللّهِ وَلَ يَخَافُونَ َل ْومَةَ لئِمٍ ذِلكَ َفضْلُ اللّهِ ُي ْؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ َ
سبِي ِ
يُجَاهِدُونَ فِي َ
ونحوها من اليات .
وإذا كان المسلم ل يكفر أو يرتدّ أبدا فما فائدة أحكام المرتدّ التي ُدوّنت في كتب الفقه السلمي.
ومنها قول النبي صلى ال عليه وسلّم "من بدّل دينه فاقتلوه" .
وإنّما لفظ الحديث في صحيح مسلم "من قال لخيه المسلم يا كافر فإن كان كذلك وإل حار عليه"
.
وقوله "فإن كان كذلك" دالّ على جواز التكفير للمسلم الذي يظهر فيه كفر وتنتفي في حقه موانع
التكفير أي إنْ كان كذلك فل حرج.
"وإل حار عليه" أي :رجع عليه تكفيره إن لم يكن من كفره قد كفر.
ولذلك فإن من كفّر مسلما ظهر منه شيء من الكفر فإنه ل يكفر حتى وإن كان حكمه لم يوافق
الصواب لقيام مانع من موانع التكفير لم يطّلع عليه بل إذا كان تكفيره له غضبا لدين ال
ومحارمه ،فإنه مأجور على ذلك كما حصل مع الفاروق رضي ال عنه عندما قال للنبي صلى
ال عليه وسلّم "دعني أضرب عنق هذا المنافق" يعني بذلك (حاطِب) .
ن النبي صلى ال عليه وسلّم بيّن أنّ حاطب لم يكفر إل أنّه لم يقل لعمر ـ لقد حار عليك
فمع أ ّ
الكفر لنّك كفّرت مسلما واستحللت دمه ومن كفّر مسلما فقد كفـر كما يزعم هؤلء!!
وقد أشار ابن القيم ـ رحمه ال تعالى ـ في زاد المعاد إلى هذا المعنى عند ذكره الفوائد
المستفادة من قصة حاطب بن أبي بلتعة في فتح مكة .
ف ُعلِم أنّ الذي يُذمّ ,وهو على أمر خطير إنما هو من كفّر مسلما لمحض الهوى والعصبية
والحزبية
186
ويجب أن يعرف الموحّد لمزيد من الفائدة أنّ هذا الحديث مُؤوّل عند العلماء على وجوه عدّة
أحدها :أنّه من وصف دين المسلمين والتوحيد بأنه كفر فقد كفر.
ووجه آخر :حملوه على من استهان واستهتر بتكفير المسلمين فإنّ ذلك قد يؤدّي به إلى الكفر
وغير ذلك من التّأويلت.
وقد ذكر النووي منها في شرح صحيح مسلم عدة أوجه.
وإنّما اضطروا إلى تأويله وفهمه على ضوء غيره من النصوص ،لن ظاهره معارض لصل
من أصول الدين المحكمة عند أهل السنّة والجماعة في أبواب الكفر واليمان وهو قوله تعالى
ش َركَ بِهِ َو َيغْ ِفرُ مَا دُونَ َذِلكَ ِلمَن يَشَاءُ} .
{إِنّ اللّهَ لَ َيغْ ِفرُ أَن يُ ْ
ول شك أنّ رمي المسلم بالكفر غضبا دنيويا أو للهوى مسبة له ،وذلك دون الشرك .
ولذلك اضطرّ من اضطرّ إلى تأويله ،برده إلى النصوص المحكمة الخرى ،وفهمه على
ضوئها.
ولو قلنا نحن الذين يحتج علينا خصومنا بمثل هذه الشبهة ،أنّ من كفّرنا أو كفّر غيرنا من
الموحدين المسلمين بغضا لهم ولتوحيدهم وبراءتهم من الطواغيت وسمّى دينهم دين الخوارج
نصرة لعداء التوحيد من الطواغيت ومظاهرة لقوانينهم وعساكرهم على الموحدين ،بأنّه هو
الكافر استدللً بهذا الحديث لكان ذلك حقّا ل مرية فيه ولما احتيج إلى تأويله لنّ ذلك كفر دون
شكّ.
أمّا قول ذلك الجاهل ل يكفر إل من ُولِدَ كافرا من أبوين كافرين فهو قول ساقط يدلّ على أنّ
قائله ل يعرف حقيقة دين السلم وتكلّف الردّ عليه مضيعة للوقت والجهد ومعناه أنّ المسلم ل
يكفر أبدا وهذا لم يقل به من المتقدّمين ل عالم ول جاهل .
ويكفي في كشف بطلنه ما تقدّم من كلم ال تعالى وكلم رسوله وكلم العلماء في باب أحكام
المرتد فإنّ فيه شفاء لمن في ناظريه عمىً.
الشبهة الخامسة
العــذر بالجــــهل:
قال المجادلون عن عساكر القوانين :إنّ هؤلء العساكر جهّال بحاجة إلى من يعلمهم ويدعوهم
ويبيّن لهم ,فهم ل يعرفون أنّ سادتهم طواغيت وانّ طاعتهم لهم في التّشريع عبادة وشرك .
وبالتالي فليس تولّيهم لهم وحراستهم للقانون كفر .
187
الجواب :ل خلف في أهمية واستحباب دعوة هؤلء العساكر وغيرهم وأنّ ذلك من أحسن
سِلمِينَ}
ل صَالِحا وَقَالَ ِإ ّننِي مِنَ ا ْلمُ ْ
عمِ َ
العمال قال تعالى { َومَنْ أَحْسَنُ َقوْلً ّممّن دَعَا ِإلَى اللّهِ وَ َ
.
لكن كُلّ مشرك بال في العبادة ( )8قبل الدعوة وأثناءها وبعدها ما داموا غير ملتزمين بالتوحيد
ول كافرين بالطواغيت فهم مشركون.
والقول بأهمية دعوتهم ل يغير من حكمهم ول يجعلهم موحدين أو يرفع مسمّى الشرك عنهم فال
سمَعَ كَلَمَ اللّهِ ثُمّ َأ ْبِلغْهُ مَ ْأ َمنَهُ
حتّى يَ ْ
ج ْرهُ َ
ستَجَا َركَ فَأَ ِ
ش ِركِينَ ا ْ
عزّ وجلّ يقول { َوإِنْ أَحَدٌ مّنَ ا ْلمُ ْ
ذِلكَ بَِأ ّنهُمْ َقوْمٌ لّ َي ْعَلمُونَ } .
فقد سمّاهم ال بالمشركين قبل أن يسمعوا كلم ال ووصفهم بذلك مع أنّهم ل يعلمون ( أي جهّال
).
وأمره لنبيه صلى ال عليه وسلّم بدعوتهم وإسماعهم وتبليـغهم الدعـوة لم يغيّـر من ذلك
الوصـف شيـئا ل قبل الدعوة ول أثنــاءها ول بعـدها ما دامـوا ملزمـين للشرك غير
ملتزمـين للتوحيـد .
وذلك لنّ الشرك الكبر المناقض للحنيفية السمحة وهو صرف شيء من العبادة الظاهرة لغير
ال عزّ وجلّ أمر ل يُعذر فاعله بالجهل أصلً فقد أقام ال عزّ وجلّ عليه حجته البالغة من
أبواب شتى ذكر العلماء منها:
-1الدلّة الكونية الظاهرة الدالة على وحدانية ال ،حيث يستدل بربوبيته على وحدانيته سبحانه
فالذي خلق ورزق وصوّر ودبّر هو وحده الذي يجب أن يُعبد ويشرّع ول يجوز شرعا وعقلً
ل ْمرُ}.
خلْقُ وَا َ
أن يُصرف شيء من ذلك لغيره سبحانه {أَلَ لَهُ الْ َ
-2ومنها أخذه سبحـانه الميثـاق على بني آدم في ذلك حيـث استخرجهم من ظهر أبيهم آدم
ستَ
سهِمْ َألَ ْ
علَى أَنفُ ِ
شهَدَهُمْ َ
ظهُورِهِمْ ُذ ّر ّي َتهُمْ َوأَ ْ
كالذر قال تعالى { َوإِذْ أَخَذَ َر ّبكَ مِن َبنِي آدَمَ مِن ُ
ش َركَ
شهِ ْدنَا أَن تَقُولُواْ َيوْمَ الْ ِقيَامَةِ ِإنّا ُكنّا عَنْ هَـذَا غَا ِفلِينَ * َأوْ تَقُولُواْ ِإ ّنمَا أَ ْ
ِب َر ّبكُمْ قَالُواْ َبلَى َ
طلُونَ } .فلم يعذرهم ال تعالى بدعوى
آبَا ُؤنَا مِن َقبْلُ َو ُكنّا ُذ ّريّةً مّن َبعْدِهِمْ أَ َف ُت ْهِل ُكنَا ِبمَا َفعَلَ ا ْل ُمبْ ِ
الغفلة والجهل وتقليد الباء في الشرك الظاهر المستبين ،بعد أن أخذ ميثاقهم على أن ل يتخذوا
ربا سواه.
188
-3ومنها فطرة ال التي فطر الناس عليها وغرسها في قلوب العباد على أنّ الخالق الرّازق هو
وحده المعبود المشرّع كما في الحديث الذي يرويه الشيخان أن رسول ال صلى ال عليه وسلّم
قال " :كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه" وفي رواية
(ويشركانه) وهي في صحيح مسلم وفي الحديث القدسي الذي يرويه مسلم أيضا "إني خلقت
عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم فحرّمت عليهم ما أحللت لهم".
-4وإضافة إلى ذلك أرسل سبحانه الرسل جميعهم من أجل هذه الغاية العظيمة {* َولَقَدْ َب َع ْثنَا
شرِينَ َومُن ِذرِينَ ِلئَلّ َيكُونَ
ج َت ِنبُواْ الْطّاغُوتَ} { ،رّسُلً ّمبَ ّ
عبُدُواْ اللّهَ وَا ْ
فِي كُلّ ُأمّةٍ رّسُولً أَنِ ا ْ
علَى اللّهِ حُجّةٌ َبعْدَ الرّسُلِ} فمن لم تصله رسالة نبي سمع بغيره.
لِلنّاسِ َ
إذ جميعهم وإن تنوّعت شرائعهم إلّ أنّ دعوتهم إلى تحقيق التوحيد وهدم الشرك والتنديد واحدة.
حتّى َن ْب َعثَ رَسُولً) وقد صدق ال وحده فبعث للناس كافة رسله
وقد قال تعالى ( َومَا ُكنّا ُمعَ ّذبِينَ َ
،وختمهم بمحمد صلى ال عليه وسلم أوضح به المحجة وأقام به الحجة ،وليس بعده ثم
رسول.
-5وأنزل سبحانه الكتب جميعها تدعوا إلى هذه الغاية العظيمة وختمها بكتاب ل يغسله الماء ل
يبلى ول يبيد فتكفّل بحفظه إلى يوم القيامة وعلّق النذارة ببلوغه في كثير من أبواب الدين.
حيَ ِإَليّ هَـذَا الْ ُقرْآنُ
فكيف بأعظم وأهم وأخطر باب من تلكم البواب (التوحيد) قال تعالى { َوأُو ِ
حتّى
ش ِركِينَ مُن َفكّينَ َ
لُن ِذ َركُمْ بِهِ َومَن َبلَغَ} وقال تعالى {لَمْ َيكُنِ الّذِينَ كَ َفرُواْ مِنْ أَهْلِ ا ْل ِكتَابِ وَا ْلمُ ْ
تَ ْأ ِت َيهُمُ ا ْل َب ّينَةُ} .
ط ّه َرةً } .
ن اللّهِ َي ْتلُو صُحُفا مّ َ
ثم عرّف البيّنة والحجّة سبحانه بقوله {رَسُولٌ مّ َ
فمن بلغه هذا القرآن العظيم فقد قامت عليه الحجّة والنذارة ،خصوصا في أوضح أبواب الدين
الذي بعث كافة الرسل من أجله.
أمّا أن يُراد بالحجة وقيامها أن يؤتى إلى كل واحد في مكانه فتقام عليه الحجة فهو ما أنكره ال
ستَن ِف َرةٌ *
ح ُمرٌ مّ ْ
تعالى في قوله تعالى عن المشركين { َفمَا َلهُمْ عَنِ التّ ْذكِ َرةِ ُم ْع ِرضِينَ * َكَأ ّنهُمْ ُ
ش َرةً } .
س َو َرةٍ * بَلْ ُيرِيدُ كُلّ ا ْمرِىءٍ ّم ْنهُمْ أَن ُي ْؤتَى صُحُفا ّمنَ ّ
َف ّرتْ مِن قَ ْ
ومعلوم من سيرة النبي صلى ال عليه وسلم أن شأنه في دعوة الطوائف الممتنعة ،أنه كان
يراسل رؤوس تلك الطوائف دون آحاد رعيتهم ،ولم يكن يشترط أو يأمر رسله وأمراءه
بوجوب تتبع آحاد الناس لقامة الحجة عليهم ،خصوصا في المحاربين .وأن الحال عند
189
شوّه في أرجاء المعمورة ليس كالحال في فجر الدعوة وأول
العلماء بعد انتشار السلم وف ُ
السلم أو مع حديث العهد بالسلم.
وهؤلء الطواغيت وأنصارهم من عساكر القانون يقتفون آثار من قبلهم من المشركين في
العراض عن القرآن المتضمن للتوحيد وإهماله وينفرون من سماع الحق كنفور وفرار الحمر
الوحشية من السد ،فهم مشركون جهال بجهل اكتسبوه بإعراضهم عن التذكرة المحفوظة
والحجة القائمة بين أيديهم ..
ل لجهل سببه عدم بلوغ الرسالة ،أو لجهل سببه العته أو الجنون أو الصغر أو نحو ذلك من
موانع الهلية ..أضف إلى ذلك أنهم محاربون ممتنعون عن شرائع السلم بشوكة ،ومعلوم أن
المحارب ل تجب إقامة الحجة عليه ةولذلك فرق العلماء في هذا الباب بين من كان قتاله قتال
دفع وبين من كان قتاله قتال طلب،ثم يأتي أولئك المجادلون عن هؤلء المحاربين لدين ال
وأوليائه ليرقّعوا باطلهم ,فيزعمون أنّ الحجّة غير مقامة عليهم ,ولزم هذا -مع مافيه من
حجّةُ ا ْلبَاِلغَةُ} وقد علمتَ أنها مقامة في أصل
جهل -مناقض ومعارض لقوله تعالى {قُلْ َفِللّهِ الْ ُ
التوحيد من وجوه وأبواب شتى.
ولذلك فقد قال النبي صلى ال عليه وسلّم لرجل سأله عن أبيه" :إن أبي وأباك في النار" رواه
مسلم مع أنّهم من القوم الذين قال ال فيهم {ِلتُن ِذرَ َقوْما مّا أُن ِذرَ آبَاؤُهُمْ َفهُمْ غَا ِفلُونَ} .
ن أصل التوحيد والتحذير من الشرك الكبر وعبادة غير ال تعالى ،قد أقام ال
وما ذلك إلّ ل ّ
عليها الحجة البالغة كما تقدّم من أبواب شتى وأرسل بها الرسل أجمعين .
ومع هذا يأتي بعض من ل يعرفون من الدين إلّ السم ول من معالمه إلّ الرسم يطالبون بإقامة
الحجة في باب الشرك الواضح المستبين والتوحيد الذي هو أحق حقوق ال على العبيد ،والذي
ُبعِث من أجله جميع الرسل وأُنزلت له كافة الكتب وتواترت عليه الحجج .
وربما أقاموا على ذلك شبها بآيات يضعونها في غير موضعها كقوله تعالى { َومَا ُكنّا ُمعَ ّذبِينَ
حتّى َن ْب َعثَ رَسُولً} يريدون :أنّه ل تكفير إلّ بعد إقامة الحجّة في كل باب حتى في الشرك
َ
الكبر الواضح المستبين.
وليس في هذه الية وجه دللة على قولهم الفاسد هذا فال جلّ ذكره لم يقل "وما كنّا مكفرين
حتى نبعث رسولً"! .
190
وإنّما قال {معذّبين} والمقصود بذلك عذاب الستئصال الدنيوي وهي كقوله تعالى { َومَا كَانَ َر ّبكَ
عَل ْيهِمْ آيَا ِتنَا} ,أو العذاب الخروي كما قال تعالى
حتّى َي ْب َعثَ فِي ُأ ّمهَا رَسُولً َي ْتلُو َ
ُم ْهِلكَ الْ ُقرَى َ
خ َز َن ُتهَا َألَمْ يَ ْأ ِتكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ َبلَى} .
{ ُكّلمَا ُألْ ِقيَ فِيهَا َفوْجٌ سََأَلهُمْ َ
أمّا التكفير خصوصا في الشرك الكبر وعبادة غير ال فليس هو المراد بذلك ،إذ الكافر إمّا أن
يكون كافرا معاندا كالمغضوب عليهم عرفوا الحق وكفروا به ،أو يكون كافرا جاهلً معرضا أو
مضلّلً كالضالّين الذي لبّس عليهم علماؤهم.
جهّال ضلّل وإنما أوردهم
وليس كل كافر يكون كفره عن علم وجحود للحق بل أكثر الكفار ُ
النار كفرهم بتقليد ساداتهم وكبرائهم وآبائهم ويحسبون أنّهم يُحسنون صنعا .
وباب الشرك الكبر الصريح قد أقام ال عليه حججه البالغة فل يُعذر الجاهل فيه لنّ جهله
والحالة كذلك إنما يكون إعراضا عن الدين وعن تعلم أهم ما خلق من أجله وليس جهل من لم
تقم عليه الحجّة .
وفي قصة زيد بن عمرو بن نُفيل عبرة فقد حقّق التوحيد دون أن يبعث رسول خاص بزمانه
وذلك قبل بعثة النبي صلى ال عليه وسلّم مباشرة فقد كان من القوم الذين قال ال تعالى فيهم
{ِلتُن ِذرَ َقوْما مّا َأتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن َق ْبِلكَ} ومع ذلك فقد كان زيد حنيفا على ملّة سيدنا إبراهيم
اهتدى إلى التوحيد بفطرته فكان يبرأ من طواغيت قومه ويجتنب عبادتها ونصرتها ،وكان ذلك
كافيا لنجاته ،فقد أخبر النبي صلى ال عليه وسلم أنه يبعث أمة وحده ،ورآه صلى ال عليه
وسلم ،وقد قُدّمت له سُفرة "مذبوحة على نصبهم" فأبى أن يأكلها وقال( :إني لست آكل مما
تذبحون على أنصابكم) وكان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول (:الشاة خلقها ال وأنزل لها من
السماء الماء ،وأنبت لها من الرض ثم أنتم تذبحونها على غير اسم ال ،إنكارا لذلك وإعظاما
له) رواه البخاري. .
فتأمّل كيف أنّ التوحيد مزروع في الفطرة وأنّ الشرك هو الطارئ الذي اخترعه الناس
وانحرفوا إليه .
فهذا رجل لم يأته نبي خاص بزمانه ،ومع هذا عرف التوحيد وحقّقه فنجا وعُذر بتفاصيل
الشريعة والعبادات التي ل تُعرف إلّ عن طريق الحجّة الرسالية فقد كان يقول كما في رواية
ابن إسحاق " :اللهم لو أعلم أحب الوجوه إليك لعبدتك به ،ولكني ل أعلمه ،ثم يسجد على
الرض براحته ".
191
فعُذر بترك الصلة والصيام ونحوه من الشرائع التي ل تُعرف إلّ عن طريق الرسل .
بينما لم يُعذر أهل زمانه ومنهم والديّ النبي صلى ال عليه وسلّم لنّهم لم يحقّقوا التوحيد
ويبرأوا من الشرك والكفر والتنديد مع أنّـهم لم يأتهم نذير كما أخبر تعالى.
فتدبّر هذا المعنى جيدا واعلم أنّ هذا الباب (باب العذر بالجهل) قد تكلّم فيه العلماء وخاض فيه
المتأخرون ول يفهمه حق الفهم إلّ من أحاط به من جوانبه أمّا من أخذ منه بنص واحد وبنى
عليه المسائل الكبار فقد جانب الصواب وأبعد النجعة.
واعلم بعد هذا كله أنّ كفر هؤلء الطواغيت وأنصارهم اليوم ليس هو من الجهل بمعنى عدم
علّقت به
بلوغ الحجّة الرسالية فقد ُبعِث خاتم الرسل وليس بعده ثَم رسول ,وكتاب ال الذي ُ
النذارة محفوظ ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه ،وهو بين أيديهم
ولكن أكثر الناس استحبوا الحياة الدنيا على الخرة فهم معرضون عن طلب الحق وعن اتباعه
فكفرهم كفر إعراض وليس بسبب عدم بلوغ الحجّة الرسالية .
ن اللّهِ} كانوا يجهلون أنّ الطاعة في
حبَارَهُمْ َورُ ْهبَا َنهُمْ َأ ْربَابا مّن دُو ِ
ثم اعلم أن الذين {اتّخَذُواْ أَ ْ
التشريع عبادة وشرك كما في حديث عُدي بن حاتم الصحيح بمجموع طرقه وفيه قوله "ما
عبدوهم" فما كانوا يعرفون أن الطاعة في التحليل والتحريم والتشريع عبادة ومع هذا كفروا
بصرف ذلك لغير ال وصاروا به متخذين أربابا من دون ال ولم يُعذروا بهذا الجهل.
لنّ المر منافٍ للفطرة التي فطر ال الناس عليها ,فالذي خلق ورزق وصوّر وبرأ هو الذي ل
يجوز أن يشرّع ويأمر ويحكم أحد سواه ،وقد بعث ال كافة رسله وأنزل جميع كتبه لجل
توحيد ال بالعبادة وإفراده بالحكم والتشريع واجتناب عبادة من سواه ،ثم المر بعد ذلك في
زماننا أوضح من ذلك فهذا الضابط أو ذلك الشرطي وذلك المخابرات أو المن الوقائي ،إذا ما
سألته عن دينه زعم أنّه السلم وأنّ كتابه القرآن ،وأنه يتلوه آناء الليل وأطراف النهار زيادة
في إقامة الحجة!! ثم هو مع ذلك يخذل السلم والقرآن ويحاكم ويسجن ويتجسّس على من
يسعى لتحكيمه ونصرته ويحارب كل من يدعوا إلى التوحيـد والـبراءة من الشرك والتنديد
وينصر في المقابل شرع الطاغوت وقانونه الوضعي ودستوره الشركي الذي ألغى أحكام
الشرع ويظاهر أولياءه من أعداء التوحيد ويتولهم ويُعينهم على أهل الحق .
فهل مناقضة هذا لدين ال تخفى على من زعم السلم ؟ وهل هي من الغامضات والمشكلت
الملتبسات حتى يقال "لم تقم عليهم الحجّة"؟.
192
إنّ المر وال أوضح من الشمس في رابعة النهار.
فها هنا صفّان وفريقان يختصمون :صف شرك وصف توحيد صف القانون الوضعي وصف
الشريعة المطهّرة وهؤلء القوم يختارون بمحض إرادتهم وبكامل عقلهم واختيارهم صف
الطاغوت إمّا حبّا له أو استحبابا للحياة الدنيا "الراتب والتقاعد" ونحوه على الخرة يقاتلون في
سبيله وينصرونه ويحاربون من ناوأه أو اجتنبه من أهل صف التوحيد{الّذِينَ آ َمنُواْ يُقَا ِتلُونَ فِي
سبِيلِ الطّاغُوتِ}.
ل اللّهِ وَالّذِينَ كَ َفرُواْ يُقَا ِتلُونَ فِي َ
سبِي ِ
َ
ولذلك سيقول هؤلء الجند يوم القيامة عندما يعاينون فوز أهل التوحيد وهزيمة وهلك أهل
ضعْفَيْنِ مِنَ ا ْلعَذَابِ
سبِيلْ * َر ّبنَا ا ِتهِمْ ِ
ضلّونَا ال ّ
ط ْعنَا سَا َد َتنَا َو ُك َبرَا َءنَا فََأ َ
الشرك والتنديد { َر ّبنَا ِإنّا أَ َ
وَا ْل َعنْهُمْ َلعْنا َكبِيرا } .
فتأمل قولهم {فأضلّونا السبيل} هل عُذروا به؟! .
سبُونَ َأ ّنهُم ّم ْهتَدُونَ}
صنْعا} { َويَحْ َ
ن ُ
سنُو َ
سبُونَ َأ ّنهُمْ يُحْ ِ
وقال عن كثير من الكفار بأنّهم كانوا {يَحْ َ
شيْءٍ} وكل ذلك لم ينفعهم لنّهم نقضوا أمرا بينا ظاهرا أقام ال عليه
علَى َ
سبُونَ َأ ّنهُمْ َ
و{ َويَحْ َ
حجّته البالغة وأرسل من أجله جميع رسله ولو كان خطأهم وانحرافهم حصل في أمر غامض
ملتبس وكان عندهم أصل السلم لكان حالهم فيه على غير هذا (.)9
والكلم في هذا الباب يطول وقد فصّل فيه أهل العلم ولنا فيه مُصنّف سمّيناه (الفرق المبين بين
العذر بالجهل والعراض عن الدين) يسّر ال طبعه لكن في هذا القدر في هذا المحل كفاية لمن
أراد الهداية.
الشبهة السادسة
الكراه والستضعاف والرزق والمصلحة
قــالوا :إنّ كثيرا من هؤلء العساكر ل يحبّون الطاغوت بل منهم من يكفر به يبرأ من
قانونه الوضعي وهم في قلوبهم يبغضون الطاغوت لكنّهم يعتذرون بالرزق والراتب وأنّه لم يبق
لبعضهم إل سنوات قليلة على التقاعد.
وربما ذكروا الستضعاف والكراه وبعضهم يرى أنّ في عمله هذا مصلحة للسلم وخدمة
للمسلمين .
193
والجواب :أن نقول إنّ الفرق بين أهل السنّة وغيرهم من أهل الزيغ والضلل :أنّ اليمان عند
أهل السنّة اعتقاد بالجنان وقول باللّسان وعمل بالجوارح والركان وليس هو فقط اعتقاد بالقلب
باطنا.
فالكفر بالطاغوت ل بد أن يكون ظاهرا وباطنا ولذلك كنّا مطَالبين في شريعتنا بالخذ بالظاهر
وعدم البحث عن الغيب الذي في القلوب والذي ل يعلمه إلّ ال .
فالمنافق إذا أبطن الكفر وبغض الشريعة لكنّه أظهر لنا اليمان بال والكفر بالطاغوت والتزام
شعائر السلم الظاهرة ولو كان ذلك عنده خوفا من سلطان السلم فإنّنا مطالَبون بمعاملته
بالظاهر ول دخل لنا بباطنه .
ولذلك فإنّه يُحسب على المسلمين ويُعصم دمه ومالـه وحسـابه في الخـرة على ال حيث
قال تعـالى {إِنّ ا ْل ُمنَافِقِينَ فِي ال ّد ْركِ الَسْفَلِ مِنَ النّارِ} والعكـس بالعكـس.
فكـذلك من زعــم أنّه مؤمن بال في باطنه كافر بالطاغوت في قلبه وكان ظاهره مخالفا
مناقضا لزعمه بأن صار من عساكر الشرك وأنصار الطاغوت يكثّر سوادهم وينصر ويحرس
قانونهم "الطاغوت الذي أمره ال أن يكفر به" ويتولهم ويظاهرهم على المسلمين فإنّنا نأخذه
ونحكم عليه بظاهره هذا .
لنّنا كما في الحديث "لم نؤمر أن نشقّ عن قلوب الناس ول عن صدورهم" .
ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي ال عنه كما في صحيح البخاري "إنّ ناسا كانوا يؤخذون
بالوحي في عهد رسول ال صلى ال عليه وسلّم فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس لنا من
سريرته شيء ال يحاسب سريرته ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدّقه وإنْ قال أنّ سريرته
حسنة" .
وفي حديث البخاري أيضا في قصة الجيش الذي يغزو الكعبة فيخسف ال بأوله وآخره مع أنّ
فيهم من ليس منهم والمجبور ونحوهم .
ففي ذلك دللة واضحة على هذا المر ،لنّ أ ّم المؤمنين حينما سألت رسول ال صلى ال عليه
وسلّم عن حكم هؤلء الذين خرجوا مكثرين لسواد ذلك الجيش وليس بنيّتهم قتال المؤمنين قال:
"يهلكون مهلكا واحدا ويُبعثون على نيّاتهم يوم القيامة" .
وفي هذا يقول شيخ السلم في الفتاوى( )28/537وهو يتكلم عن جيش عبيد الياسق "الدستور
التّتري" وفيهم من كان يصلّي ويزعم الكراه ونحوه .
194
قال" :فال تعالى قد أهلك الجيش الذي أراد أن ينتهك حرماته –المكره فيهم وغير المكره -مع
قدرته على التمييز بينهم ،مع أنه يبعثهم على نياتهم ،فكيف يجب على المؤمنين المجاهدين أن
يميزوا بين المكره وغيره وهم ل يعلمون ذلك ؟! " أ.هـ
أقول :وأنّى لنا ذلك؟ وكيف؟! وهل لنا إلّ أحكام الظاهر .
فهذا صفّ خرج محاربا لهل السلم مكثرا لسواد أهل الشرك والوثان فحكم من كان فيه
وأظهر تولّيه ونصرته في الدنيا حكمهم وليس لنا نحن بأحكام الخرة الن.
ويدل على ذلك معاملة رسول ال صلى ال عليه وسلّم للعباس حين أُسِر في صف الكفار ببدر
فزعم أنّه مسلم وأنه خرج مكرها فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلّم "أمّا سريرتك فإلى ال
وأمّا ظاهرك فلنا" .رواه المام أحمد وفيه راو لم يسم لكن أصل القصة في صحيح البخاري
وفيها َأ ْم ُرهُ صلى ال عليه وسلم له أن يفدي نفسه كالمشركين ،فعامله معاملة الصف الذي
خرج مكثّرا لسواده وهذا هو ما نفعله تماما مع عساكر الشرك وأنصار القانون .
أفل يسعنا ما وسع رسول ال صلى ال عليه وسلّم وهو أتقانا وأخوفنا ل وأورعنا في التكفير
والحكم على الناس وفي غير ذلك.
* أما دعوى الكراه فمردودة في مقامنا هذا .
لن الكراه على إظهار الكفر حدّ له العلماء حدودا ل تنطبق على هؤلء بحال ويمكن لطالب
الحق مراجعتها مفصّلة في غير هذا الموضع ( ) وفرّقوا تفريقا واضحا بين الكراه على
المعاصي وبين الكراه على الكفر أو الشرك أو نصرة المشركين ونحوه.
ومن تأمّل حال هؤلء القوم لم يجدهم مكرهين بحال بل هي أعمالهم ووظائفهم التي يفخرون بها
ويتقاضون عليها الرّتب والرواتب والجور .
وأي إكراه هذا الذي يُدفع لصاحبه أجرا وينال عليه المتيازات ويمكث فيه العشرة والعشرين
سنة نصيرا للشرك بزعمهم مكرها؟؟!
فإن تعذّروا بالستضعاف فقد تعذّر به قوم من قبلهم فما قُبل منهم وهم قوم أسلموا بمكة ولم
يفارقوا صف المشركين إلى صف أهل التوحيد فلما كان يوم بدر أخرجهم المشركون في مقدمة
الصفوف.
195
وتأمل كيف أنهم لم يخرجوا معهم متطوّعين ول دخلوا جيشهم راغبين يأخذون على ذلك الرتب
والرواتب كحال هؤلء ومع ذلك أنزل ال تعالى فيهم قرآنا يبّين أنّهم ليسوا بمعذوريـن في
سهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ؟} .
ذلك ول هم بمستضعفين فقال سبحانه {إِنّ الّذِينَ َتوَفّاهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ ظَاِلمِي َأنْفُ ِ
أي :في أي صف كنتم ؟ أفي صف التوحيد والشريعة ؟ أم في صف الشرك والتنديد والدستور
الوضعي والقانون الكفري ؟! .
والجواب الواضـح الصحيح أن يقولوا :كنا في صف المشركين ولكنهم لما عاينوا هلك أهل
هذا الصف ،حادوا عن هذا الجواب ،إلى التعذر بالستضعاف ،ظانين أن هذا ينفعهم في
البراءة من الشرك والمشركين.
فتأمل كيف يحاولون التبرؤ من صف الطاغوت وجيشه الذي هلكوا فيه منذ اللحظة الولى من
لحظات الدار الخرة لن هذا أهم أمرٍ فرّطوا فيه وأهملوه وهو المر الذي أوردهم المهالك .
ولكن هل ينفعهم ذلك وقد ماتوا في صفه ولم يفارقوه ويبرءوا منه في الدنيا؟! فتأمل كيف
لرْضِ } .
ضعَفِينَ فِي ا َ
س َت ْ
يجيبون على سؤال الملئكة{ :فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ ُكنّا مُ ْ
ص ْواْ بِهِ بَلْ هُمْ َقوْمٌ طَاغُونَ} وهكذا يجيبوننا
تلك حجتهم التي توارثوها عبر جيوش الكفر {َأ َتوَا َ
دوما عندما ندعوهم إلى التوحيد والبراءة من الشرك والتنديد .
وهكذا يجادل عنهم المجادلون عندما نبيّن حكمهم في دين ال وموقفهم من التوحيد يقولونُ { :كنّا
لرْضِ} الراتب ..والبيت ..والرزق ...فهل يُقبل منهم مثل هذا؟!
ضعَفِينَ فِي ا َ
س َت ْ
مُ ْ
سعَةً
ض اللّهِ وَا ِ
تأمل جواب الملئكة لهم وحذار من هذا الموقف وأصحابه {قَالْواْ َألَمْ َتكُنْ َأرْ ُ
ج َهنّمُ وَسَا َءتْ َمصِيرا} ألم تكن أبواب الرزق واسعة فتهجروا
جرُواْ فِيهَا فَُأ ْولَـ ِئكَ َم ْأوَاهُمْ َ
َف ُتهَا ِ
ذلك الصف الشركي إلى غيره؟ .
ومَنْ يرزق النمل والنحل والطير وسائر الدواب والمشركين والكفار،هل تراه يعجز عن أن
يرزق المتقين والبرار الذين يتطهّرون من صف الشرك ويفارقونه محبّة ونصرة للتوحيد
وأهله؟ تعالى ال علواّ كبيرا عما يصفون.
ج َهنّمُ وَسَا َءتْ َمصِيرا} مع أنّهم لم يخرجوا
وتأمل تهديد ال ووعيده لهم بقوله {فَُأ ْولَـ ِئكَ َم ْأوَاهُمْ َ
في ذلك الجيش متطوعين ول مختارين لكنهم قصّروا في الهجرة في بادئ المر فلمّا عزم
المر تورّطوا في الخروج في صف أعداء الموحدين .
196
ستَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَ َي ْهتَدُونَ
ن الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَا ْلوِلْدَانِ لَ يَ ْ
ضعَفِينَ مِ َ
س َت ْ
ثم قال تعالى {إِلّ ا ْلمُ ْ
ن اللّهُ عَ ُفوّا غَفُورا} فلم يعذر ال سبحانه وتعالى
ع ْنهُمْ َوكَا َ
سبِيلً * فَُأ ْولَـ ِئكَ عَسَى اللّهُ أَن َيعْ ُفوَ َ
َ
بعذر الستضعاف إل من ل يستطيع حيلة في الخروج والفرار إلى ال من صف الكفار كأن
يكون جريحا أو عاجزا أو مقيدا أو مأسورا أو ل يهتدي طريقة وسبيل الهجرة الفرار إلى
الصف المسلم كأن يكون امرأة أو صبيا أو شيخا أو ضعيفا .
ثم رغّب ال تعالى بالهجرة والفرار من هذه الصفوف المشركة ووعد أهلها بالرزق الوفير
الواسع فمن ترك شيئا ل عوّضه ال خيرا منه ,وذلك ليقطع كل حجج القوم الواهية فقال { َومَن
سبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الَرض مراغما كثيرا وسعة } كما قال في مقام اخر من مقامات
جرْ فِي َ
ُيهَا ِ
دعوته عباده المؤمنين الى البراءة من الشرك وأهله { :و إن خفتم عيلة فسوف يغنيكم ال من
فضله إن شاء إن ال عليم حكيم }.
* و آخرون رقّعوا واقعهم المنحرف بحجة المصلحة فزعموا أنّهم يخدمون الدين بوظائفهم هذه
المنتنة وواقع حال أكثرهم خدمة جيوبهم وكروشهم وقروشهم ليس إلّ.
ورحم ال سفيان الثوري يوم قال وهو يوصي بعض أصحابه ويحذرهم من مداهنة السلطين
والدخول عليهم ـ مع أنّ سلطينهم كانوا يحكّمون شرع ال إلّ أنّهم أظهـروا بعض المعاصي
فكيف بسلطيـن الكفر والشرك اليوم ؟ قال رحمه ال" :إياك والمراء أن تدنوا منهم
أوتخالطهم في شيء من الشياء ،وإياك أن تخدع ويقال لك لتشفع أو تدرأ عن مظلوم أو ترد
مظلمة فإنّ ذلك خديعة إبليس اتّخذها فجّار القرّاء سلّما. "...
أجل إنّها خديعة إبليس التي يسمّونها اليوم بمصلحة الدعوة يهدمون بها التوحيد أعظم مصلحة
في الوجود ويلبسون الحق بالباطل .
وقد صدق سيد قطب يوم وصفها بأنها أمست عند كثير من الدعاة مزلّة وصارت صنما يعبدونه
من دون ال.
ولشيخ السلم رحمه ال تعالى في ذلك فتوى سُئل فيها عن رجل من أهل السنّة سمع بمجموعة
من قطّاع الطرق الذين يجتمعون على قصد الكبائر وقطع الطريق والقتل وفعل الفواحش
والمنكرات ،وأنّه قصد إلى هدايتهم فلم يتمكّن من ذلك بزعمه ،إل بأن عمل لهم سماعا بدف
بغناء مغني غير فاحش حتى اهتدى منهم خلق ،وصار الذين كانوا ل يتورّعون عن الكبائر
يتورّعون عن الصغائر والشبهات فهل طريقة هذا الشيخ جائزة ومشروعة؟!
197
فبيّن رحمه ال تعالى ما ملخصه " ،أنّ هذه الطريقة مبتدعة وأنّ في طريقة الرسول الرحمانية
غنىً عن الطرق الشيطانية"
فإنّه حتى وإن كانت النتيجة ظاهرها حسن فإنّ الغاية عند أهل السلم ل تبرر الوسيلة،
فالنجاسة ل تزال بالنجاسة ول يتطهّر من البول بالبول.
وكما أنّ غاية الداعية عظيمة ومطهّرة فيجب أن تكون وسائله للبلوغ إلى هذه الغاية كذلك .
ومعلوم أن أعظم مصلحة في الوجود هي التوحيد وأن أعظم مفسدة في الوجود هي الشرك فكل
مصلحة تعارض تلك المصلحة فإنها مردودة وأي مفسدة أمام مفسدة الشرك فمغمورة .
فل يحل لحد يفهم عِظم التوحيد وخطر الشرك أن يصير مِعولً من معاول هدم التوحيد
وحارسا من حراس الشرك والتنديد ،بحجة جلب مصلحة أخرى مزعومة أو درأ مفاسد أخرى
مرجوحة أياّ كانت ،ول أن يجعل دينه كبش فداء ينحره على عتبات مصالح ودنيا الخرين,
والكلم في هذا الباب يطول وله موضعه المفصل ( )11ولكن اللّبيب تكفيه منه هنا الشارة وال
المستعان.
الخـــــاتـمــــــــــــــــــــــة
أخيرا وليس آخرا فقد سمعنا كثيرا ممن لم يعرفوا حقيقة هذا التوحيد يقولون :ماذا تستفيدون من
تكفير هؤلء العساكر أو أولئك المخابرات ونحوهم من أنصار الطواغيت؟!
فنقول أولً :مادام هذا هو حكم ال فليس مهماّ أن نعرف حكمته ،وإنما المهم عند عباد الرحمن
أن تنشرح له صدورهم وترضى به نفوسهم وتسلّم له تسليما
ثم نقول :إنّ فوائد ذلك ل يسع هذا المقام لحصرها ،ولو لم يكن فيها إلّ تحقيق التوحيد العملي
(ملّة إبراهيم) المتضمّن للبراءة من الشرك والمشركين لكفى .
سنَةٌ فِي ِإ ْبرَاهِيمَ وَالّذِينَ َمعَهُ إِذْ قَالُواْ لِ َق ْو ِمهِمْ ِإنّا ُبرَءاؤاْ ّم ْنكُمْ
س َوةٌ حَ َ
قال تعالى {قَدْ كَا َنتْ َلكُمْ أُ ْ
حتّى ُت ْؤ ِمنُواْ بِاللّهِ
َو ِممّا َت ْعبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ كَ َف ْرنَا ِبكُمْ َوبَدَا َب ْي َننَا َو َب ْي َنكُمُ ا ْلعَدَا َوةُ وَا ْل َب ْغضَاءُ َأبَدا َ
وَحْ َدهُ} فال يدعونا للقتداء والتّأسي بهذه القدوة الحسنة والملة العظيمة التي أهم أركانها البراءة
من الشرك والمشركين والكفر بهم ومعاداتهم فكيف يحقق هذا من ل يعرف الكافر من المسلم؟؟
عبُدُ مَا َت ْعبُدُونَ * وَلَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا
وممّن يتبرأ وكيف؟! قال تعالى {قُلْ يَأ ّيهَا ا ْلكَا ِفرُونَ * لَ أَ ْ
عبُدُ * َلكُمْ دِي ُنكُمْ َوِليَ دِينِ *}.
عبَدتّمْ * وَلَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَ ْ
عبُدُ * وَلَ َأنَا عَابِدٌ مّا َ
أَ ْ
وأيضا من الفوائد العظيمة تمييز الخبيث من الطيب واستبانة سبيل المجرمين .
198
ج ِرمِينَ} فمن لم يعرف الكفر من اليمان
سبِيلُ ا ْلمُ ْ
س َتبِينَ َ
قال تعالى { َوكَ َذِلكَ ن َفصّلُ اليَاتِ َوِلتَ ْ
والكافر من المسلم أنّى له أن يستبين سبيل المجرمين وأنّى له أن يميّز سبيل المؤمنين من سبيل
المجرمين؟ ليسلك من ثم سبيل المؤمنين ،ويجتنب سبيل المجرمين وكيف سيطبّق الحب في
ال للمؤمنين والبغض في ال للمشركين وذلك من أوثق عرى اليمان وفي تركه تخبّط عظيم
وفساد كبير .
لرْضِ وَفَسَادٌ َكبِيرٌ} .
ضهُمْ َأ ْوِليَاءُ َبعْضٍ إِلّ تَ ْف َعلُوهُ َتكُنْ ِف ْتنَةٌ فِي ا َ
قال تعالى {وَالّذينَ كَ َفرُواْ َب ْع ُ
وتظهر هذه الموالة وتلكم المعاداة بتحقيق آثارها ولوازمها عمليا فكيف يحققها من ل يميّز بين
الصفوف ؟! والواقع أعظم شاهد على هذا ،فإنك تجد من أهمل هذا المر واستخفّ به ل
يعرف من يحب ومن يبغض ومن يوالي ومن يعادي وتجده يخلط وربما يساوي في المعاملة
ج ِرمِينَ
سِلمِينَ كَا ْلمُ ْ
جعَلُ ا ْلمُ ْ
بين المسلمين والمجرمين مع أنّ ال تعالى أنكر ذلك فقال سبحانه {أَ َفنَ ْ
جعَلُ ا ْل ُمتّقِينَ كَالْفُجّارِ ؟} ()12
ح ُكمُونَ }؟ وقال تعالى {أَمْ َن ْ
* مَا َلكُمْ َك ْيفَ تَ ْ
وقد رتّب ال على ذلك أحكاما في عصمة الدم وفي الميراث والولء والنكاح والطعام (الذبح)
والمعاملة من سلم ومودّة وغير ذلك من الحقوق الواجبة للمسلم أو الخاصة به من دون سائر
الكفار.
ولذلك فإنك تجد فرقا واضحا بينّا بين سبيل الموحدين و طريقة تعاملهم مع الكفار والمشركين،
وبين سبيل غيرهم ممن ل يرفعون بهذا المر رأسا ويهملونه ،بل ينكرونه على أهل التوحيد و
يبدعونهم به ،بل منهم يكفّر أهل التوحيد لتجريدهم التوحيد ولبراءتهم من الشرك والتنديد ،ولذلك
اختلط الحابل بالنابل عندهم فبرءوا من الموحدين وأبغضوهم وعادوهم وأطالوا ألسنتهم بالطعن
فيهم وفي دعوتهم ،بينما ل يجد منهم أعداء ال إلّ كل مودّة وإدهان .
ومنهم من يشاركهم في مجالسهم ومهالكهم ول يفرّقون بين مصلحة التوحيد العظمى التي تُفرّق
بين المسلمين والمشركين وبين الوحدة الوطنية التي تؤالف وتجمع الكافرين على اختلف
توجّهاتهم وتخلط المتّقين بالفجّار .
ويغفلون أو يتغافلون عن وصف الملئكة للنبي صلى ال عليه وسلّم" :ومحمد فرْق بين الناس"
رواه البخاري .
وفي رواية" :فرّق بين الناس" .
199
ويُعرضون عن هدي الفرقان الذي فرّق بين أهل الشرك وأهل اليمان وإن كانوا أقرب نسبا
للنسان.
ومن الفوائد أيضا أنّ معرفة ذلك تحدّد طريق الدعوة الصحيحة التي يجب أن يسلكها المرء مع
القوم الذين هو بين ظهرانيهم .
فإنّ كونهم مسلمين يختلف عن كونهم مشركين وكونهم مشركين وثنيّين يختلف عن كونهم
مشركين كتابيّين وكونهم مرتدّين يختلف عن كونهم كافرين أصليّين.
ولذلك قال رسول ال صلى ال عليه وسلّم لمعاذ لمّا بعثه إلى اليمن كما في الحديث المروي في
الصحيحين" :إنّك تأتي قوما من أهل الكتـاب فليكن أول ما تدعـوهم إليـه شهـادة أن ل
إلـه إلّ ال ...ـ وفي رواية ـ "إلى أن يوحّدوا ال" فإن هم أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أنّ ال
قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ...الحديث".
فتأمل كيف عرّفه بحالهم وحكمهم ,ثم رتب على ذلك طريقة الدعوة والتعامل معهم وغير ذلك
من الفوائد التي ليس هذا مقام حصرها
وختاما فليتّق ال فينا وفي أنفسهم أولئك الجهال أو المفترين الذين يرموننا بتكفير الناس كلهم
بالعموم دون أن يسمعوا ما نقول ،أو يقرؤوا ما نكتب ،فإنهم معروضون على رب ل تخفى
عليه خافية وأقوالهم محصية في كتاب ل يغادر صغيرة ول كبيرة إلّ إحصاها وقد قال تعالى
ح َت َملُواْ ُب ْهتَانا َوِإثْما ّمبِينا} .
سبُواْ فَقَدِ ا ْ
{وَالّذِينَ ُيؤْذُونَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْل ُم ْؤ ِمنَاتِ ِب َغ ْيرِ مَا ا ْكتَ َ
وقال رسول ال صلى ال عليه وسلّم" :من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه ال رَدْغة الخبال
( ) حتى يأتي بالمخرج مما قال" .رواه أبو داود والطبراني وغيرهما.
حلّه ،ول
فها نحن نقولها صريحة واضحة بيّنة :إننا ل نُكفّر مسلما بذنب غير مكفّر ما لم يست ِ
نكفّر الناس كلهم بالعموم كما يرمينا بذلك أعداؤنا من الطواغيت ويبهتنا به خصومنا من
جماعات الرجاء وإنّما نكفّر من هدم التوحيد أو أعان على هدمه أو أتى بشيء من نواقضه أو
عادى أهله نصرة لعدائه من أهل الشرك والتنديد ومظاهرة لهم على الموحدين.
ن المرء
ونعرف أنّ للكفر شروطا وموانع ول نكفّر إلّ باستيفاء الشروط وانتفاء الموانع ونعلم أ ّ
قد يصدر منه قول الكفر أو عمله ،ول يكفر لقيام مانع من موانع التكفير.
وكل ما تكلمنا به في هذه الوراق وغيرها إنّما هو في كفر أعداء التوحيد وعساكر الشرك
والتنديد الذين مرقوا من الدين وحاربوا أهله ونصروا الدستور الشركي والقانون الوضعي .
200
وكفر هؤلء أوضح عندنا من الشمس في رابعة النهار بالدلّة الشرعية وليس بالهوى أو التقليد
أو الستحسان.
فنقول لخصومنا :اتّقوا ال {وَلَ َت ْلبِسُواْ الْحَقّ بِا ْلبَاطِلِ َو َت ْك ُتمُواْ الْحَقّ َوَأ ْنتُمْ َت ْعَلمُونَ } بيننا وبينكم
كتاب ال تعالى وسنة رسوله صلى ال عليه وسلّم ل نقبل حكما غير ذلك إيتونا منه بدليل
وبرهان ينقض ما قلناه وستجدوننا إن شاء ال تعالى أسعد الناس به وأول من يرجع إليه {قُلْ
هَاتُواْ ُبرْهَا َنكُمْ إِن ُك ْنتُمْ صَادِقِينَ}.
أمّا الشقشقات الفارغة والسفسطات الجوفاء والتهامات الباطلة التي ل يسنـدها دليل وبرهـان
شرعي ول تنبني على الكتـاب والسنة فإنها مـردودة على صاحبـها ومن لم يقبل بالدليل
الشرعي ويذعن له وينقاد فل خير فيه ول ينفع فيه تقصير أو تطويل الكلم .
قال تعالى { َف ِبَأيّ حَدِيثٍ َبعْ َد اللّهِ وَآيَاتِهِ ُي ْؤ ِمنُونَ}.
ورحم ال ابن القيّم إذ يقول في نونيّته عن الكتاب والسنة:
من لـم يكــن يكـفيــــه ذان
فل كفـاه ال شرّ حوادث الزمـان
من لـم يكــن يشــفيـــه ذان
فل شفـاه ال في قلب ول أبـــدان
من لـم يكــن يـغــنيـــه ذان
رماه رب العرش بالقلل والحرمان
إنّ الكلم مع الكبار وليس مع
تلــك الراذل سفـلـــة الحيـــوان
201
-إلى هؤلء جميعا نقول:
ل نعبد ما تعبدون ..لكم دينكم ولنا دين ..كفرنا بكم وبدساتيركم وبقوانينكم
وبتشريعاتكم التي تعبدونها من دون ال ..وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى ترجعوا
تسليما. إلى دين ال وتنقادوا لشرعه وحكمه وتسلموا
بسم ال الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد ل الذي ل يغفر أن يشرك به ،ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ،ومن يشرك بال فقد افترى
إثما عظيما ،ومن يشرك بال فقد ضلّ ضللً بعيداة
والصلة والسلم على سيد الموحدين ،المأمور في محكم التنزيل باتباع ملّة إبراهيم ،والقتداء
بدعوة المرسلين ،بتوحيد ربّ العالمين ،والبراءة من الشرك والمشركين ،وبعد ة
فإن من الحقائق التي ل يجادل فيها عاقل ،أنّ لكل زمان فتنته وشركياته التي تتفاوت بالعِظَم
انتشارا وخطورةة
فقد تنتشر في زمن من الزمنة أو في بلد من البلدان عبادة أوثان الحجر والشجر ،حتى تكون
هي فِتنة ذلك الزمان أو تلك البلد وشِركها العظيم ،مع وجود شركيات ومعاصي أقل انتشارا
وأدنى خطورة..
وقد ينتشر الشرك والخوض في أسماء ال تعالى وصفاته في زمن من الزمنة ،حتى يكون هو
فِتنة العصر العظيمة وطامته المبينة ،مع وجود فِتن ومنكرات ومصائب في المة هي أخف
خطرا ونكايةً وأقل انتشاراة
كما قد تنتشر عبادة القبور والضرحة والولياء ،حتى تكون شعارات ذلك الزمان أو تلك البلد
وطامته العظمى ،مع وجود غير ذلك من الشركيات والمعاصي القل خطورة وانتشارا ة
وهكذا.
وإنّ من رحمة ال تعالى بالمة أنْ يهيئ لها في كل زمان دعاة من عباده فطنا راشدين،
يُجددون لها أمر دينها ،ويحفظونه من تحريف المحرفين وطعن الطاعنين ،ويحاربون هذه الفتن،
ويقفون في وجه شركيات زمانهم ..يُحذرون النّاس منها ،ويأخذون بأيديهم إلى واحة التوحيد
وروض اليمانة
202
إذا عرفنا ذلك فإن مما ل يقره النقل ول العقل أن يتشاغل بعض المصلحين في أزمنتهم عن تلك
الفتن العظيمة ذات الخطر المستطير بغيرها مما هو أقل خطورة وأضعف انتشارا ،وأن يِميتوا
الكلم عن ذلك الخطر إماتةً ل حياة فيها ..بينما يُشعلون ويُضرمون المعارك الضارية بين
المسلمين أنفسهم في قضايا هي أقل خطورة بكثير من فتن العصر الداهمة ،بل هي في الحقيقة
تبع للفتن العظيمة ،وقد تزول بزوالهاة
وإنّ من الشرك والكفر الواضح المستبين في زماننا هذا ،تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به
الروح المين على خاتم النبياء والمرسلينة
بل إنه يكاد يكون أعظم أنواع الشرك التي يجب أن يتصدى لها العلماء والمصلحون في هذا
الزمان ،خاصة في هذه البلد التي نعمت بوصول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه
إليها ،فل تكاد ترى قبرا أو ضريحا تشدّ إليه الرحال ،أو شجرة أو حجرا يُعبد مع ال تعالى..
فل يعقل والحال كذلك ول يستساغ أبدا ما يفعله كثير من الدعاة من الدندنة ليل نهار على شرك
القبور والصنام وما حواليها ،بينما هم قد قبروا الكلم عن شرك العصر وفتنة هذا الزمان من
تحكيم قوانين الفرنجة ،فل يذكرون ذلك في محافلهم أو مجالسهم أو كتبهم إل قليلً قليلً.
حتى إن كثيرا من المسلمين ما عادوا يعرفون عن كتب التوحيد والعقيدة ورسائلها إل أنها كتب
تحارب القبوريين والمشعوذين ..أما الحكم والتشريع وما إلى ذلك فإن القضية عندهم فيها غبش
كبيرة
أضف إلى هذه المأساة أن حال كثير من دعاة هذا التوحيد الناقص المبتور لم يقف عند السكوت
عن بيان شرك العصر وعدم تحذير الناس من أوليائه وحسب ..بل إن كثيرا من هؤلء الدعاة
قد أمسوا جنودا للشرك وحُراسا للقانون وشرطة للدستور وحماة للطواغيت ..هم لهم جندٌ
محضرون ..ل يعرف أكثرهم البراءة إل من المتصوفة وشعوذاتهم ،والروافض وباطلهم ،وعُباد
القبور وشركياتهم ..وما إلى ذلك -وهذا حق -ولكنك إذا اقتربتَ من عبيد الياسق ،وقوانينهم،
وظَلمهم ،وظُلماتهم ومواقف هؤلء الدعاة وطرائقهم معهم ..فإنك سترى عجبا ..وليس الخبر
كالمعاينة ..يغدو الواحد من هؤلء يدرسُ ويُدرّس التوحيد ،بل ويحفظه ول يمنعه توحيده هذا،
من إظهار الولء لذناب الفرنجة وعبيد القانون ..وإنما كل الناس عنده إخوان يُصاحب أولياء
الوثان ،كما يصاحب عِباد الرحمن ،ويأنس بالمنقلب على عقبيه ،كما يأنس بالثابت على
اليمانة
203
يغدو يبيع دينه لجل وظيفة أو رتبة ،وعلى رأسه وفوق أكتافه شعار الطاغوت وشعار حكومة
الياسق ..ويقسم على الولء لعبيد القانون وعلى احترام قوانينهم الكفرية ..ينتسب إلى الحق
ويُوالي من خرج عنه وعق فماذا بقي من توحيده؟؟ .
يظــنون أن الدين لبيك في الفــــل وفعل صلة والسكوت عن المـــــل
وسالم وخالط من لـذا الدين قـد قــل وما الـدين إلّ الـحب والبـغـض والول
كــذاك الــبرا من كل غـــــاو وآثم
وإن تعجب لواقع هؤلء فعجبك أشد لمن ذهب يكفر الطواغيت وحكوماتهم من منطلقات
الحماس الجوف أو التقليد أو غيره ..ثم ل يؤثّر هذا المذهب والختيار في مناهجهم وطرائقهم
ودعواتهم ..بل الحال هو الحال والمداهنة كما هي والسير في ركاب الظالمين مستمر ..فماذا
استفادوا إذا من الدندنة والخلف في التكفير ..إذا كان التكفير ل يعدّل لهم طريقا أو يقوّم
منهجا ..ويا ليتهم لم يكفّروا الطواغيت ولكنهم على القل كَ َفرُوا بقوانينهم وعادوا باطلهم
وتبرؤوا من ظلماتهم وكَفّوا عن مداهنتهم..
فهذا زمان امتُحن فيه أهل اليمان وابتُلي فيه دعاة السلم بقَبض العلماء العاملين الذين يبلغون
رسالت ال ويخشونه ول يخشون أحدا إلّ ال ..ول يخافون في سبيله سبحانه لومة لئم أو
شماتة شامت أو عداوة عدو أو كيد كائد ..ويقودون المة بالكتاب والحديد ..ل بالكتاب وحده
ول بالحديد وحده ..كحال كثير من الدعوات ..بل كما يقول شيخ السلم ابن تيمية عند قوله
سَلنَا بِا ْل َب ّينَاتِ َوَأ ْن َز ْلنَا َم َعهُمْ ا ْل ِكتَابَ وَا ْلمِيزَانَ ِليَقُو َم النّاسُ بِالْقِسْطِ َوَأ ْن َز ْلنَا
س ْلنَا رُ ُ
تعالى{ :لَقَدْ َأرْ َ
ن اللّهَ َق ِويّ
سلَهُ بِا ْل َغ ْيبِ إِ ّ
الْحَدِيدَ فِيهِ بَ ْأسٌ شَدِيدٌ َو َمنَافِعُ لِلنّاسِ َوِل َي ْعلَ َم اللّهُ مَنْ َي ْنصُ ُرهُ َورُ ُ
عزِيزٌ}[الحديد .]25:قال ( :قوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر وكفى بربك هاديا
َ
ونصيرا)اهـ.
أين هم أولئك العلماء الذين يتقدمون الصفوف ويقودون المة ويتصدون للطغاة ..إن واقعنا اليوم
أليم جدا ..فإلى ال وحده نشكو وحشتنا وما حل بهذه المة من ذهاب العلماء العاملين ..وذهاب
الخوان وقلة النصار والعوان القائمين بتكاليف التوحيد حق القيام ..هم اليوم وال في الناس
كالشعرة البيضاء في الجلد السود ..أين العنقاء لتطلب؟ وأين السمندل ليجلب؟ لم يبق إلّ رسوم
قد درست ،وأعلم قد عفت عليها عواصف الهوى وطمستها محبة الدنيا وحظوظ النفس ..إلى
204
ال وحده نشكو هيمنة الضلل وغلبة الهوى وتوافر أسباب الفتن وانطماس أعلم السنن وإمارة
السفهاء وحكم الرويبضة وإنا ل وإنا إليه راجعون..
ولما رأى العبد الفقير إلى توفيق ربه ومغفرته ،كاتب هذه الكلمات والسطور حال المة هذه..
بين سكوت علمائها وجهل أبنائها وانحراف كثير من دعاتها عن منهاج النبوة ..وطغيان
سلطينها وكفر قوانينها وتكالب المم عليها من كل مكان ،رام أداء النصيحة التي بايع أصحاب
عليها تنبيها للمسلمين وبراءة من القوانين وعبيد القوانين ..عسى أن ينال بذلك محمد محمدا
معذرة رب العالمين ..يوم ل ينفع مال ول بنون إلّ من أتى ال بقلب سليم..
ولعلي أسن بكتابي هذا سنة حسنة للدعاة في إظهار الدّين وإعلنه بإبداء العداوة لهذه القوانين
الشركية ولمن نافح عنها وحكمها وحماها ووالها..وببيان وتفصيل النصح للمة بذكر قوانين
عبيد الياسق صراحة بأرقامها ،وتسفيهها وبيان حقارتها و َت َه ْل ُهِلهَا وتناقضها ونقصها وفسادها
وظلمها وجورها ..وأن تحكيمها ضياع للموال والحقوق وهدر للدماء والرواح والنفوس
وإماتة الدين والعقيدة وهتك للعراض وإفساد للنساب ..حتى تظهر وتتعرى حقيقة محبيها
وأوليائها علنية لكل واحد من المة ،وبيان الموقف تجاههم وحكم موالتهم أو التقرب إليهم أو
العمل في شرطتهم وجيشهم وحرسهم ومباحثهم وأمنهم أو في أية وظيفة تعينهم على باطلهم
وظلمهم أو فيها تطبيق قوانينهم أو نوع موالة أو احترام لها ولموادها ..وغير ذلك مما وفقنا
ال عز وجل للتنبيه عليه في هذه الورقات ..وله الحمد والمنة ..فإن فتنة كهذه ..وحالها ما
وصفنا من الخطورة والنتشار لبد أن يفصل النصح فيها للمة تفصيلً ..ويظهر الكلم حولها
علنية ل خفاء فيها ول تلبيس ول تمييع أو ترقيع أو تطييبا للخواطر أو حسابا لتخيلت
وتخذيلت الشياطين بدعوى تقديم مصالح الدعوات ودرء الفتنة والمفسدة عن الدعاة ..وما إلى
ذلك ..فأي مصلحة أعظم من إظهار دين ال َتعَالى وإعلن توحيده وإزهاق وفضح وتعرية
الباطل والشرك وكشف زيوفه؟؟ هل هناك مصلحة في دين السلم أعظم من " ل ِإلَهَ إِلّ
ال" ؟؟
أجيبونا وأفتونا يا أصحاب المصالح والستحسانات ..إنها أصل دعوة النبياء والمرسلين وقطب
رحاها والغاية من خلق الجن والنس أجمعين ،التي اختص بها المؤمنون وجحدها المشركون
وفيها وقع النزاع ولها شرع الجهاد وانقسم العباد ،وما بقية الدين إلّ فروع تندرج تحت هذا
205
الصل العظيم ..فأي مفسدة أعظم وأشنع من إخماد نور هذه الحقيقة وإخفائها والسكوت عن
تشويه الطغاة لها..
يا قوم إن هذا المر ليس فرعا من الفروع أو مستحبا من المستحبات أو مصلحة من المصالح
المرجوحة لنتركه تأليفا للمبتدئين أو إرضاء لسواد عيون النافرين ..إنه جزء أصيل من توحيد
ألوهية الخالق تباركت أسماؤه ..فسحقا لكل مصلحة تعارض وتعطل هذا الصل الصيل ،بل
سحقا للحياة كلها سحقا للجساد والرواح والباء والمهات والبناء والهل والخوان والموال
إن قامت عائقا في سبيل هذه الغاية العظيمة ..والمصلحة الجليلة..
ليّ شيء إذا تكون التضحيات ولجل ماذا
وإذا لم يضحّ المسلم بذلك كله لجل " ل ِإلَهَ إِلّ ال" فَ َ
يخالف وينازع ويحب ويبغض ويعادي ،وفي سبيل ماذا يقاتل ويقتل إذا؟؟ أي نقل بل أي عقل
يخالف هذا يا أولي النقول والعقول؟؟ ..إنه الصل الذي كان يُنشر الصالحون من أجله..
ويحملون على ألواح الخشب ويمشطون بأمشاط الحديد دون اللحم والعظم ،إنه الصل الذي من
وأصحابه ..إنه الصل الذي ل زالت من أجله تتدفق أجله عُذب وهاجر وقاتل نبينا محمد
شللت الدم عبر التاريخ السلمي ،ليس من عهد الصحابة وحسب بل قبل ذلك بكثير ..وعلى
مدار دعوات الرسل وأتباعهم من المصلحين..
وأمرنا باتباعها في محكم التنزيلَ ..ألَمْ ثم أليست هذه هي ملة أبينا إبراهيم التي أمر نبينا
والذين معه ويصدعوا بها على رؤوس المل في زمانهم ..كما أخبر َتعَالى يُعلنها إبراهيم
سنَةٌ فِي ِإ ْبرَاهِيمَ وَالّذِينَ َمعَهُ إِذْ قَالُوا لِ َق ْو ِمهِمْ ِإنّا ُبرَءاؤا ِم ْنكُمْ َو ِممّا
س َوةٌ حَ َ
عنهم{ :قَدْ كَا َنتْ َلكُمْ أُ ْ
حتّى ُت ْؤ ِمنُوا بِاللّهِ وَحْ َدهُ}
ن اللّهِ كَ َف ْرنَا ِبكُمْ َوبَدَا َب ْي َننَا َو َب ْي َنكُمْ ا ْلعَدَاوَةُ وَا ْل َب ْغضَاءُ َأبَدًا َ
َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ
[الممتحنة.]4 :
وتأمل تقديمه سبحانه {الْعَدَا َوةَ} على{ا ْل َبغْضَاء} لكونها أظهر ،وتأمل قوله َتعَالى { :بَدَا} أي ظهر
علَى الْحَقّ ..الحديث) نسأل ال َتعَالى
وبان ..ومثله قوله ( :ل َتزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ ُأ ّمتِي ظَا ِهرِينَ َ
أن يجعلنا منهم.
ونختم هذه المقدمة بكلم نفيس لحد أعلم الدعوة السلفية في نجد وهو الشيخ العلمة حمد بن
عتيق رحمه ال َتعَالى حيث يقول في كتابه القيم ( سبيل النجاة والفكاك من موالة المرتدين
وأهل الشراك) ( :إن كثيرا من الناس قد يظن أنه إذا قدر أن يتلفظ بالشهادتين وأن يصلي
الصلوات الخمس ،ول يرد عن المسجد فقد أظهر دينه وإن كان مع ذلك بين المشركين أو في
206
أماكن المرتدين ،وقد غلطوا أقبح الغلط .اعلم أن الكفر له أنواع وأقسام تتعدد بتعدد المكفرات
وكل طائفة من طوائف الكفر عندها نوع منه .ول يكون المسلم مظهرا لدينه حتى يخالف كل
طائفة بما اشتهر عندها ويصرح لها بعداوته ،والبراءة منه )..انتهى كلمه رحمه ال َتعَالى وهو
واضح جلي ..فل يكون إظهار الدين وإعلن ملة إبراهيم وسلوك دعوة النبياء والمرسلين في
مثل هذا البلد وهذا الواقع بمجرد الدندنة على شرك الحجار والشجار أو الضرحة والقبور أو
الصوفية والروافض وحسب ..بل لبد أن يكون في مقدمة ذلك كله الصدع بسفاهة القانون
والبراءة منه ومن عبيده وتـحذير المسلمين من السير في ركابهم وركاب حكوماتهم أو العمل
معهم في أي وظيفة تعينهم على إقرار واستمرار شركهم ومنكرهم وباطلهم العظيم هذا ..بل
السعي الحثيث في إبطال قوانينهم هذه ونقضها وهدمها ..وإعداد أبناء المسلمين منذ نعومة
أظفارهم على هذا التوحيد العملي والعتقادي ببغضها وبغض كل من حكم بها كائنا من كان..
كل ذلك من أجل إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ال وحده ..واستنقاذهم من أغلل
الشرك إلى عزة التوحيد ..والسعي إلى إعلء كلمة ال َتعَالى وإعزاز دينه وإعادة راية الجهاد
لنصرة المستضعفين ولتحرير أوطان المسلمين وإعادة الخلفة وتحكيم شرعه َتعَالى في
أرضه..
وما الرسالة التي بين يدي القارئ إلّ محاولة لسلوك هذا الطريق والدعوة إليه ولو بنزع دلو..
أو بكف رمل ..أو بشطر كلمة ..وسميتها:
( تنبيه البرية إلى وجوب الكفر بالدستور ومعاداة أوليائه والبراءة من القوانين الوضعية)
وإن شئت فسمها ( :كشف النقاب عن شريعة الغاب ).
والمرجو من الملك الوهاب حسن العقبى والمآب ..والقبول والخلص والثواب ..إنه ولي ذلك
والقادر عليه وصلى ال على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بسم ال الرحمن الرحيم
وهو حسبنا ونعم الوكيل
الحمد ل الذي يقذف بالحق على الباطل فإذا هو زاهق..
ل اللّهُ وَل َت ّتبِعْ أَ ْهوَاءَهُمْ وَاحْ َذرْهُمْ أَنْ يَ ْف ِتنُوكَ
حكُمْ َب ْي َنهُمْ ِبمَا أَنزَ َ
والحمد ل القائل لنبيه َ { :وأَنِ ا ْ
علَمْ َأ ّنمَا ُيرِي ُد اللّهُ أَنْ ُيصِيبَهُمْ ِب َبعْضِ ُذنُو ِبهِمْ َوإِنّ َكثِيرًا
ل اللّهُ ِإَل ْيكَ فَإِنْ َت َوّلوْا فَا ْ
عَنْ َبعْضِ مَا أَنزَ َ
207
ح ْكمًا لِ َقوْمٍ يُو ِقنُونَ}[المائدة-49 :
حكْمَ الْجَا ِهِليّةِ َي ْبغُونَ َومَنْ َأحْسَنُ مِنْ اللّهِ ُ
مِنْ النّاسِ لَفَاسِقُونَ أَ َف ُ
.]50
وبعد ..فهذه نصيحة نوجهها إلى إخواننا المسلمين عامة :عوامّهم ودعاتهم ..في زمان عزّ فيه
الناصحون ..وا ْل َت َبسَ فيه الحق مع الباطل ،وكتم فيه كثير من المنتسبين إلى العلم ما أمرهم ال
َتعَالى بأدائه وبيانه من ُم ِهمّات الدين وأصوله ..ل نريد من ورائها أجرا ،وأسوتنا في ذلك أنبياء
علَى َربّ
جرِي إِلّ َ
جرٍ إِنْ أَ ْ
عَليْهِ مِنْ أَ ْ
ال حين كانوا يقولون لقوامهمَ { :ومَا أَسَْأُلكُمْ َ
ا ْلعَاَلمِينَ}[الشعراء ،]109 :ول نريد إلّ الصلح ما استطعنا إلى ذلك سبيلً ..كما قال نبي ال
ط ْعتُ َومَا
ستَ َ
لصْلحَ مَا ا ْ
عنْهُ إِنْ ُأرِيدُ إِلّ ا ِ
شعيب لقومه َ { :ومَا ُأرِيدُ أَنْ أُخَالِ َفكُمْ ِإلَى مَا َأ ْنهَاكُمْ َ
عَليْهِ َت َو ّكلْتُ َوِإَليْهِ ُأنِيبُ} [ هود.]88 :
َتوْفِيقِي إِلّ بِاللّهِ َ
ونقدم بين يديها بهذه المقدمات المهمة ة
] 1 [
توحيد ال هو الغاية العظمى
ع َبثًا
خلَ ْقنَاكُمْ َ
س ْبتُمْ َأ ّنمَا َ
• اعلم يا عبد ال أن ال تبارك وتعالى لم يخلقك عبثا ،قال تعالى{ :أَفَحَ ِ
جعُونَ}[المؤمنون ،]115 :بل قد خلقك سبحانه لغاية هامة قد غفل عنها أكثر
َوَأ ّنكُمْ ِإَل ْينَا ل ُترْ َ
خلَ ْقتُ الْجِنّ وَالِنسَ إِلّ ِل َي ْعبُدُون}[الذاريات.]56 :
الناس ،قال تعالىَ { :ومَا َ
• وليست هذه الغاية ( عبادة ال فحسب) ،فإن كثيرا من الكفار يعبدون ال ويعبدون معه آلهة
أخرى ،كما كان يفعل مشركو قريش ..إنما الغاية( :عبادته وحده) ..لذا قال غير واحد من
المفسرين {إِلّ ِل َي ْعبُدُون} أي :يوحدون.
فالمطلوب إذن هو توحيد ال َتعَالى في العبادة بكل أنواعها ،ويدخل في ذلك الحكم والتشريع،
ول يتم ذلك ول يصح إلّ بالكفر والبراءة من كل معبود ومتبوع ومشرع سواه ..وهذا هو أصل
الدين ومن أهم معاني ( ل ِإلَهَ إِلّ ال) التي ل يصير المرء مسلما إلّ بها ..وهذه هي الغاية التي
عبُدُوا اللّهَ
بُعث من أجلها رسل ال أجمعون ،قال تعالىَ { :ولَقَدْ َب َع ْثنَا فِي كُلّ ُأمّةٍ رَسُولً أَنْ اُ ْ
ج َت ِنبُوا الطّاغُوتَ} [النحل ،]36:وهو المر الذي قد غفل عنه وجهله أكثر الناس قال تعالى:
وَا ْ
حكْمُ إِلّ ِللّهِ َأ َمرَ أَلّ َت ْعبُدُوا إِلّ ِإيّاهُ َذِلكَ الدّينُ الْ َقيّمُ َوَلكِنّ َأ ْك َث َر النّاسِ ل َي ْعَلمُونَ}[يوسف:
{إِنْ الْ ُ
.]40
] 2 [
208
التسليم لحكم الكتاب والسنة ونبذ ما سواهما
من أهم معاني التوحيد
• واعلم كذلك أن من أهم معاني الشطر الثاني من الشهادتين وهو "محمد رسول ال" :تحكيم
الرسول صلوات ال وسلمه عليه ،ويكون في زماننا بتحكيم دينه وسنته وأمره ونهيه ..فذلك
كله وحي من عند ال قال َتعَالى { :فَل َو َر ّبكَ ل ُي ْؤ ِمنُونَ} وهذا قَسَمٌ من ال َتعَالى بنفسه
جرَ َب ْي َنهُمْ}[النساء.]8 :
ح ّكمُوكَ فِيمَا شَ َ
حتّى يُ َ
العظيمة الجليلةَ { ..
من كتاب وسنة ،ل يكفي ذلك • ول يكفي تحكيم شريعة ال َتعَالى التي أُرسل بها محمد
وحده وحسب لصحة إسلم المرء وإيمانه بل لبد من انشراح الصدر لحكامها والرضى بها
ح َرجًا
سهِمْ َ
والنقياد والتسليم المطلق لها ،قال َتعَالى في آخر الية السابقة { :ثُمّ ل يَجِدُوا فِي أَنفُ ِ
سلِيمًا}.
سّلمُوا تَ ْ
ض ْيتَ َويُ َ
ِممّا َق َ
] 3 [
البراءة من كل شرع غير شرع ال
من أهم معاني ل ِإلَهَ إِلّ ال
وهذا يلزم منه أن يجدوا حرجا عظيما من أنفسهم في كل مشرع ومعبود غير ال َتعَالى ومن
كل شريعة غير دين ال َتعَالى ومن كل حكم غير حكم ال تعالى ،وأن ل يستسلموا له أو
يرضوا به أو يحترموه أو يقدموه أو يوقروه ،وإل كانوا مشركين.
يصنع مع بل الواجب عليهم أن يُؤخروه ويُسفّهوه و َيكْ ُفرُوا به ويتبرءوا منه .كما كان النبي
أصنام قومه وطواغيتهم.
• يقول شيخ السلم ابن تيمية ( :وهذا الدين هو دين السلم ،ل يقبل ال دينا غيره ،فالسلم
يتضمن الستسلم ل وحده ،فمن استسلم له ولغيره كان مشركا ،ومن لم يستسلم له كان
مستكبرا عن عبادته ،والمشرك والمستكبر عن عبادته كافران) اهـ .
• ويقول إمام الدعوة النجدية الشيخ محمد بن عبد الوهاب مُعلقا على ما رواه مسلم في
قال ( :مَنْ قَالَ ل ِإلَهَ إِلّ ال َوكَ َفرَ ِبمَا صحيحه عن أبي مالك الشجعي عن أبيه أن النبي
علَى اللّهِ)[ رواه مسلم في كتاب اليمان] قال( :وهذا
حرُمَ مَالُهُ وَ َدمُهُ وَحِسَابُهُ َ
ُي ْعبَدُ مِنْ دُونِ اللّهِ َ
من أعظم ما يبين معنى ل ِإلَهَ إِلّ ال فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للمال والدم .بل ول
209
معرفة معناها مع لفظها ،بل ول القرار بذلك ،بل ول كونه يدعو إلّ ال وحده حتى يضيف إلى
ذلك الكفر بما يعبد من دون ال .فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه )..اهـ .
] 4 [
توحيد ال فرض في جميع أنواع العبادة
ثم اعلم أن العبادة تشمل أمورا كثيرة وأقساما شتى قد جهلها كثير من الناس في زماننا هذا..
فيجب عليك معرفتها حتى تُوحد ال َتعَالى بها كلها فتكون مسلما مؤمنا موحدا ..فتنال موعوده
سبحانه بالمغفرة ودخول الجنة ،فهي ليست فقط الصلة والصوم والزكاة والحج كما يتوهم كثير
من الناس ..بل يدخل فيها َأيْضا النذر والطواف والذبح والدعاء والستعاذة والستغاثة
والستعانة فيما ل يقدر عليه إلّ ال َتعَالى كجلب الرزق ودفع الضر والمرض وغير ذلك ،فإن
ذلك كله من العبادة التي ل يجوز صرفها إلّ ل َتعَالى وحده ،وإذا صرف العبد شيئا من ذلك
لغير ال َتعَالى ومات عليه مات مشركا.
جنّةَ}[المائدة.]72 :وقال تعالى{ :إِنّ اللّهَ
عَليْهِ الْ َ
حرّ َم اللّهُ َ
ش ِركْ بِاللّهِ فَقَدْ َ
وقد قال تعالىِ{ :إنّهُ مَنْ يُ ْ
ش ِركْ بِاللّهِ فَقَدْ ا ْف َترَى ِإ ْثمًا
ش َركَ بِهِ َو َيغْ ِفرُ مَا دُونَ َذِلكَ ِلمَنْ يَشَاءُ َومَنْ يُ ْ
ل َيغْ ِفرُ أَنْ يُ ْ
ش َركَ بِهِ َو َيغْ ِفرُ مَا دُونَ َذِلكَ ِلمَنْ يَشَاءُ
عَظِيمًا}[النساء .]48:وقال سبحانه {إِنّ اللّهَ ل َيغْ ِفرُ أَنْ يُ ْ
ل ضَللً َبعِيدًا}[النساء.]116 :
ش ِركْ بِاللّهِ فَقَ ْد ضَ ّ
َومَنْ يُ ْ
] 5 [
الطاعة في التشريع من أقسام العبادة
والرضى بالقوانين شرك أكبر
واعلم أن من أهم أقسام العبادة التي ل يجوز صرفها لغير ال َتعَالى َأيْضا وإل كان النسان
مشركا ( :الطاعة في التحليل والتحريم والتشريع) فمن أطاع غير ال َتعَالى في ذلك أو أظهر
الرضى والتسليم بحكمه وتشريعه وقانونه ...وتابعه على ذلك ..فقد أشرك واتخذ ذلك المتبوع
شرَعُوا َلهُمْ مِنْ الدّينِ مَا لَمْ َيأْذَنْ بِ ِه اللّهُ}[الشورى.]21 :
ش َركَاءُ َ
ربّا ..قال تعالى{ :أَمْ َلهُمْ ُ
• جاء في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب قوله :باب (من أطاع العلماء والمراء
في تحريم ما أحل ال ،أو تحليل ما حرم ال فقد اتخذهم أربابا من دون ال) اهـ .وذكر فيه
ن اللّهِ}[التوبة:
حبَارَهُمْ َورُ ْهبَا َنهُمْ َأ ْربَابًا مِنْ دُو ِ
حديث عدي بن حاتم في قوله تعالى{ :اتّخَذُوا أَ ْ
.]31
210
ش ِركُونَ}[
ط ْع ُتمُوهُمْ ِإ ّنكُمْ َلمُ ْ
شيَاطِينَ َليُوحُونَ ِإلَى َأ ْولِيَا ِئهِمْ ِليُجَا ِدلُوكُمْ َوإِنْ أَ َ
• وقال َتعَالى َ { :وإِنّ ال ّ
النعام ،]121 :روى الحاكم وغيره بسند صحيح عن ابن عباس؛ أن أناسا كانوا يجادلون
المسلمين في مسألة الذبح وتحريم الميتة فيقولون( :تَ ْأ ُكلُونَ مَا َق َت ْلتُمْ وَلَ تَ ْأ ُكلُونَ ممّا َقتَلَ الُ)
ش ِركُونَ} وانظر كيف أكد سبحانه وتعالى
ط ْع ُتمُوهُمْ ِإ ّنكُمْ َلمُ ْ
يعنون :الميتة .فقال َتعَالى َ { :وإِنْ أَ َ
ذلك بأن المؤكدة..
يقول ابن كثير في تفسير هذه الية( :أي حيث عدلتم عن أمر ال لكم وشرعه إلى قول غيره
فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك)اهـ.
ويقول الشنقيطي في تفسيره ،عن هذه الية ( :فتوى سماوية من الخالق جل وعل صرّح فيها
بأن متبع تشريع الشيطان المخالف لتشريع الرحمن مشرك بال) .اهـ.
ح ْكمِهِ أَحَدًا}[الكهف.]26 :
ش ِركُ فِي ُ
• ويقول تعالى{ :وَل يُ ْ
يقول العلمة الشنقيطي ( :إن متبعي أحكام المشرّعين غير ما شرعه ال أنهم مشركون بال) ثم
سرد اليات المبينة لذلك إلى أن قال ( :وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية
الظهور :أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما
شرعه ال جل وعل على ألسنة رسله صلى ال عليهم وسلم ،إنه ل يشك في كفرهم وشركهم إلّ
من طمس ال بصيرته ،وأعماه عن نور الوحي مثلهم)اهـ .وقال في موضع آخر( :فالشراك
بال في حكمه كالشراك به في عبادتهة وفي قراءة ابن عامر من السبعة {ول تُشركْ في حُكمه
أحدا} بصيغة النهي) ويقول ( :لما كان التشريع وجميع الحكام شرعية كانت أو كونية قدرية،
من خصائص الربوبية ...كان كل من اتبع غير تشريع ال قد اتخذ ذلك المشرع ربا ،وأشركه
مع ال).اهـ .
] 6 [
شرطان للنجاة والتمسك بالعروة الوثقى
الكفر بكل الطواغيت واليمان بال وحده
وخلصة القول أن المطلوب من كل مسلم في كل زمان ومكان لكي يكون مسلما مُوحّدا أن
يحقق معنى ( ل ِإلَهَ إِلّ ال ) الحقيقي الذي غفل عنه أكثر الناس ،وهو ما حوته من شرطي
النفي والثبات ،وهما الكفر بكل طاغوت واليمان بال والستسلم له وحده .قال تعالىَ { :فمَنْ
سكَ بِا ْل ُع ْروَةِ ا ْل ُوثْقَى}[البقرة ]256:وتأمل كيف قدم سبحانه
س َتمْ َ
َيكْ ُفرْ بِالطّاغُوتِ َو ُي ْؤمِنْ بِاللّهِ فَقَدْ ا ْ
211
الكفر بالطاغوت ،كما قدم النفي في الشهادة ..وما ذلك إلّ تأكيدا لهمية هذه القضية
وخطورتها..
• قال العلمة الشنقيطي رحمه ال تعالى( :يُفهم منه -أي من الية السابقة -أن من لم يكفر
بالطاغوت لم يتمسك بالعروة الوثقى ومن لم يتمسك بها فهو متردّ مع الهالكين)اهـ .
فإذا علمت هذا ،فل تظنن الطاغوت ما هو إلّ أصناما من حجر فتُحجّر معنى واسعا ،بل
الطاغوت يشمل هذا وغيره ..فهو لغة مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد ،قال َتعَالى ِ{ :إنّا
ح َم ْلنَاكُمْ فِي الْجَا ِريَةِ}[الحاقة ]11 :فهو كل ما طغى عن حده الحقيقي فعُبد مع ال
طغَى ا ْلمَاءُ َ
َلمّا َ
َتعَالى بأي نوع من العبادة المشار إليها آنفا..
وعلى هذا فلكل زمان ومكان طواغيته المختلفة ول يصير المرء مسلما موحدا حتى يكفر بكل
طاغوت ،وخاصة طاغوت زمانه ومكانه ويتبرأ منه ومن عبادته ..فهناك من يعبد النار
كالمجوس فهي طاغوتهم التي ل يصيرون مسلمين وإن آمنوا بال َتعَالى حتى يكفروا بها..
وكذلك من يعبد الشمس أو القمر أو النجوم أو الكواكب فهي طواغيتهم التي ل يصح إسلمهم
إن أسلموا حتى يكفروا بها ويتبرءوا من عبادتها ..وكذا من يعبد الصنام كما كان حال كفار
قريش وغيرهم فهي طواغيتهم التي ل يصيرون مسلمين إلّ بالكفر بها وإن أقروا وآمنوا بال
خلَ َقهُمْ َليَقُولُنّ
ربهم وخالقم ورازقهم ومالكهم كما أخبر َتعَالى عن كفار قريشَ { :وَلئِنْ سََأ ْل َتهُمْ مَنْ َ
سمْعَ
لرْضِ َأمّنْ َي ْمِلكُ ال ّ
سمَاءِ وَا َ
اللّهُ}[الزخرف ]87 :وقال تعالى{ :قُلْ مَنْ َي ْرزُ ُقكُمْ مِنْ ال ّ
سيَقُولُونَ اللّهُ
ل ْمرَ فَ َ
حيّ َومَنْ يُ َد ّبرُ ا َ
خرِجُ ا ْل َم ّيتَ مِنْ الْ َ
حيّ مِنْ ا ْل َم ّيتِ َويُ ْ
خرِجُ الْ َ
لبْصَارَ َومَنْ يُ ْ
وَا َ
ولم تُعصم دماؤُهم ولم يصيروا مسلمين فَقُلْ أَفَل َتتّقُونَ}[يونس ]31 :ومع ذلك قاتلهم النبي
حتى كفروا بتلك الصنام وتبرؤوا من عبادتها ..وقد تقدم قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب
ن اللّهِة).
حول حديث أبي مالك الشجعي (مَنْ قَالَ ل ِإلَهَ إِلّ ال َوكَ َفرَ ِبمَا ُي ْعبَدُ مِنْ دُو ِ
• ويقول الشيخ العلمة حمد بن عتيق رحمه ال في كتابه (سبيل النجاة والفكاك من موالة
المرتدين وأهل الشراك)( :اعلم أن الكفر له أنواع وأقسام تتعدد بتعدد المكفرات وكل طائفة من
طوائف الكفر قد اشتهر عندها نوع منه ،ول يكون المسلم مظهرا لدينه حتى يخالف كل طائفة
بما اشتهر عندها ويصرح لها بعداوته ،والبراءة منه )...اهـ.
] 7 [
من أشنع طواغيت العصر الواجب الكفر بها
212
الدستور والقوانين الوضعية
إذا فهمت ما سبق ،فاعلم أن من أشنع طواغيت العصر في بلدنا هذا وفي كثير من بلدان
المسلمين هو هذا (الدستور وقوانينه الوضعية) التي خضع لها العباد وخنعت لها الرقاب..
وعبادتها تكون بإتباعها والتحاكم إليها والتسليم بتشريعاتها والرضى بها..
• يقول مجاهد( :الطاغوت الشيطان في صورة النسان يتحاكمون إليه وهو صاحب أمرهم).
• ويقول شيخ السلم ابن تيمية ( :الطاغوت :فعلوت من الطغيان ،والطغيان :مجاوزة الحد،
وهو الظلم والبغي ،فالمعبود من دون ال إذا لم يكن كارها لذلك :طاغوت ..إلى أن قال :ولهذا
سمي من تُحوكم إليه من حاكم بغير كتاب ال :طاغوت) اهـ
• ويقول العلمة ابن القيم( :الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع،
فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير ال ورسوله أو يعبدونه من دون ال ،أو يتبعونه على
غير بصيرة من ال) .اهـ.
فقد حكّم الطاغوت ويقول َأيْضا رحمه ال( :من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول
عمُونَ َأ ّنهُمْ آ َمنُوا
وتحاكم إليه) • ويقول ابن كثير في تفسير قوله َتعَالى َ{ :ألَمْ َترَ ِإلَى الّذِينَ َيزْ ُ
ِبمَا أُنزِلَ ِإَل ْيكَ َومَا أُنزِلَ مِنْ َق ْبِلكَ ُيرِيدُونَ أَنْ َيتَحَا َكمُوا ِإلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ ُأ ِمرُوا أَنْ َيكْ ُفرُوا بِهِ
ضّلهُمْ ضَللً َبعِيدًا}[النساء .]60 :قال رحمه ال بعد أن ساق أقوالً في معنى
شيْطَانُ أَنْ ُي ِ
َو ُيرِيدُ ال ّ
الطاغوت ( :والية أعم من ذلك كله فإنها ذامّة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما
سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا)اهـ.
فكل من تحوكم إليه غير شرع ال فهو طاغوت مخلوقا كان أو قانونا..
• ويقول العلمة الشنقيطي في أضواء البيان عن الية السابقة( :وكل تحاكم إلى غير شرع ال
فهو تحاكم إلى الطاغوت) اهـ .
• ويقول الشيخ سليمان بن سحمان في رسالة في الدرر السنية( :الطاغوت ثلثة أنواع:
طاغوت حكم وطاغوت عبادة وطاغوت طاعة ومتابعة)..اهـ .
• ويقول الشيخ عبد ال بن عبد الرحمن أبا بطين في معنى الطاغوت( :ويشمل َأيْضا كل من
نصبه الناس للحكم بينهم بأحكام الجاهلية المضادة لحكم ال ورسوله) اهـ .
إذا عرفت هذا ،فاعلم أنه لن يصح إسلمك وتوحيدك ولن تحقق معنى ( ل ِإلَهَ إِلّ ال) الحقيقي
ولن تجد سبيلك إلى الجنة حتى تكفر وتتبرأ من كل طاغوت ،وعلى رأس ذلك هذا الطاغوت
213
العصري الذي اتبعه وانقاد له أكثر الخلق وعبدوه عبادة تشريع ،فرضوا بأوامره ونواهيه
وتابعوه واجتمعوا معه على تشريعاته وتواطؤوا على قانونه وعظموه ووقّروه ونزّهوه وقدّسوه،
وأحبوا عبيده وبجّلوهم ووالوهم ،فالواجب عليك إن كنت تريد الجنة ،أن تكفر به وتُعاديه وتتبرأ
منه ومن عبيده وأوليائه وتُبغضهم و ُت َبغّضهم لولدك وأهلك وتعمل وتجاهد طول حياتك من
أجل هدمه وإبطاله وأن ل تستسلم أو ترضى أو ينشرح صدرك إلّ لحكم ال َتعَالى وشرعه
وحده ...وإل فالنار النار
] 8 [
ياسق طغاة العصر وياسق التتار
ولكي يتضح لك المر وتنجلي عنك كل شبهة ول يبقى في ذهنك مجال لتلبيس أهل الباطل
وعلماء الحكومات ممن ينافحون عن هذا الباطل وطغيانه ..فها نحن نكشف ونبين لك ونضع
بين يديك أمثلة مما يحويه هذا الطاغوت (نعني الدستور وقوانينه الوضعية) من كفر وشرك
وسفاهة وزندقة وإلحاد ،لتكون على بينة من أمرك ودينك فتحْذر وتُحذّر من هذا الشرك العظيم
(شرك العصر) الذي وقع فيه أكثر الناس في زماننا شعروا أو من حيث ل يشعرون..
وقبل ذلك لبد أن تعلم بأن شريعة ال َتعَالى قد كانت هي الحاكمة في بلد المسلمين ولقرون
عديدة ،ويومها كان المسلمون أعزّة كراما يُرهبون عدوّ ال وعدوهم ..إلى أن جاء هؤلء
السفهاء من حكام المسلمين الذين إذا قال لهم الناس والدعاة المخلصون حكّموا شرع ال َ { وإِذَا
ع ْنكَ صُدُودًا}[النساء:
ل اللّهُ َوِإلَى الرّسُولِ َرَأ ْيتَ ا ْل ُمنَافِقِينَ َيصُدّونَ َ
قِيلَ َلهُمْ َتعَاَلوْا ِإلَى مَا أَنزَ َ
.]61جاءوا -ل أبقاهم ال -في غفلة من المة وركون من أبنائها ..واستبدلوا الذي هو أدنى
بالذي هو خير ،فنبذوا الشريعة وأحلوا محلها القانون الوضعي الكافر .كما فعل أعداؤنا التتار
يوم استولوا على ممالك المسلمين ،حيث حكموا سياستهم الملكية المأخوذة عن ملكهم
حكْمَ الْجَا ِهِليّةِ َي ْبغُونَ} [المائدة]50 :
(سنكزخان) يقول الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى{ :أَفَ ُ
عن هذا الملك بأنه( :وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن
شرائع شتى :من اليهودية والنصرانية والملة السلمية وغيرها وفيها كثير من الحكام أخذها
من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونها على الحكم بكتاب ال وسنة
رسول ال ) .
214
ولو تأملت دستور هذا البلد وغيره من البلدان المنتسبة للسلم ولو تأملت قوانينهم الوضعية
لرأيتها كياسق التتار أو أشد خبثا..
فإن عبيدها قد عطلوا الشريعة السلمية في النفوس والدماء والفروج والموال وغير ذلك
وهجروا حدودها وأحكام قصاصها وشؤون السياسة والقتصاد والعلقات الدولية وغير ذلك..
وأخذوه كله من القانون الفرنسي النصراني تماما كياسق التتار فقد أخذ من النصارى ..وهؤلء
قنن لهم فقهاء القانون -كما يسمونهم -وغيرهم من عبيد القانون بأهوائهم ..وكذلك ياسق
التتار فقد كان من مصادره الرأي والهوى ..وأبقوا -ل أبقاهم ال -بعض القوانين المستقاة
من الشريعة السلمية مقتصرة على قضايا الرث والطلق والزواج والتي يسمونها أحوالً
شخصية ،أبقوها للتلبيس على الناس بأنهم لم يهجروا الشريعة كلياة تماما كما كان ياسق التتار
فلقد كان فيه َأيْضا أحكام من الملة السلميةة كما ذكر ابن كثير وغيرهة
فل فرق إذا بين هذا الدستور وقوانينه وبين ياسق التتار ،ولكن الفرق بين سكوت المة في
زماننا عن هذه القوانين وبين حالها مع ياسق التتار كبير ،فإنهم لم يهنأ لهم حال ولم يقر لهم
قرار مع ذلك الياسق وما فتئوا يعملون مع علمائهم ويجاهدون ويدعون إلى إبطاله وإزالته
وتبديله حتى نصرهم ال عز وجل ومكن لهم وأعزهم ..وبقيت شريعة ال هي الحاكمة
المهيمنة ،ورغم فترات الضعف والشتات التي انتابت المة ورغم تكالب العداء وتمكنهم من
التسلط على كثير من أجزائها كالباطنيين والصليبيين وغيرهم ..لم تبدل المة ول بدل حكامها
وسلطينها في بقية أجزاء بلد المسلمين شريعة ال الحاكمة ..إلى أن أُلغيت الخلفة السلمية
على أيدي اليهود وأذنابهم ..وجاء الستعمار الصليبي العصري ولم يخرج من ديار المسلمين
حوْا بدورهم الشريعة وأعادوا تحكيم ذلك الياسق
حتى مكّن لذنابه من سفهاء الحكام الذين ن ّ
التتري ولكن بلباس عصري براقة
وها هي بلد المسلمين أثقلتها قيود الطواغيت وسلسلهم وظلماتهم في ظل هذه القوانين وحل
فيها كل فساد ودخلها كل إلحاد ..وعرض للناس بسبب هذه القوانين ومفاسدها فساد في فطرهم
وظلمة في قلوبهم وكدر في أفهامهم ومحق في عقولهم وعمّتهم وغلبت عليهم فتنها حتى ربا
فيها الصغير وهرم عليها الكبير فلم يعد يراها أكثر الناس منكرا ..بل أمست عندهم البدع في
ظلها مقام السنن ،والهوى مقام الرشد ،والضلل مقام الهدى ،والمنكر مقام المعروف ،والجهل
مقام العلم ،والرياء مقام الخلص ،والباطل مقام الحق ،والكذب مقام الصدق ،والمداهنة مقام
215
النصيحة وقول الحق ..والربا مقام البيع ،والظلم مقام العدل ،والفجور مقام العفاف ..فصارت
الدولة والغلبة لهذه المور وأهلها هم المشار إليهم وكانت 0قبل ذلك لضدادها وأهلها هم
المشار إليهم ،وأصبح بطن الرض -وال -خيرا من ظهرها ،وقمم الجبال خير من السهول
ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس ،اقشعرت الرض وأظلمت السماء وظهر الفساد في
البر والبحر من ظلم الفجرة ،وذهبت البركات وقلّت الخيرات وتكدرت الحياة من فسق الظلمة،
وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من العمال الخبيثة والفعال الفظيعة وكثرة الفواحش وغلبة
المنكرات والقبائح وهذا وال منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه ،ومؤذن بليل بلد قد ا ْدَلهَمّ
ظلمه ،ما لم يقم دعاة الحق والمصلحون بالصدع بالحق وبيانه وما لم يقم جند التوحيد بتغيير
ذلك المنكر العظيم ،وإنقاذ الناس من عبودية الطواغيت وقوانينهمة وإخراجهم من الظلمات إلى
ظَلمُوا َأيّ مُن َقَلبٍ يَن َقِلبُونَ}[الشعراء.]227 :
س َيعْلَمُ الّذِينَ َ
النور ..وإل فإن العقبة وال كؤود{ ..وَ َ
عـن نـفوذ وليــة السلـطــان فانظـــر إلى القرآن معزولً لديهم
معزولً لديهم ليس ذا سلطـــــان وانظـر إلى قول الرسول كـــذاك
أيظن ذلك قطّ ذو عـرفــــــان وال مـا عـزلوه تـعظيما لـــه
لم يرفـعـوا رايــات جنكزخــان يا لـيـتهم إذ يحـكمون بـعزلــه
بين الخصوم ومـالـه من شــــان وانظر إليـه ليـس ينفــذ حكمـه
في الحكم والتشريع والسلطـــــان وانظر إليه لـيـس يقبـل قـولــه
لكنما المقبول حـكم (الكفــر) ل أحـكامه ل يستوي الحكــمـــان
بدمـائـهم ومدامـع الجفــــان يبكي عـلـيـه أهـلـه وجنـوده
وسـواه مـعــزول عن السلطــان عـهدوه قدما ليس يحكــم غـيره
هما لهم دون الورى حكمــــــان إن غاب نابت عنه أقــوال الرسول
في حكم جنكزخان ذي الطــــغيان فـأتاهـم ما لم يكن في ظـنـهم
(الفرنج والذناب مــن عـــربان) بجنود تعـطيل وكفــــران من
فعلوا بـأمتـه مــن العــــدوان فـعـلوا بـملتـه وسـنتـه كما
يــا أمــة الثــار والـقـرآن فـال يعـظم في ( الشريعة أجركم)
] 9 [
مثال من طواغيت العصر
216
هذا ،ولو أردنا أن نسوق ونتتبع دساتير وقوانين النظمة المنتسبة إلى السلم كلها ،ونذكر أمثلة
من كفرياتها ونستعرضها واحدا واحدا لطال بنا المقام دون فائدة تذكر ..وذلك لن دساتيرهم
-وقد اطلعت على أكثرها -منقولة عن بعضها البعض متفقة في غالبية قوانينها العفنة ل
تختلف إلّ بأرقام المواد وبترتيبها وبأشياء يسيرة تتبع نظام حكم البلد من ملكي أو جمهوري أو
نحوه ،وزيادات أخرى في بعض النظمة التي تحكم بنظام الحزب ل تعدو كونها زيادة في
الكفر...
من أجل ذلك اكتفينا بالتمثيل بدستور هذا البلد وقوانينه الوضعية كمثال من قوانين العصر
الخبيثة..
وكل مسلم في أي دولة أخرى يستطيع أن ينزل كلمنا هذا كله على قوانين بلده بمجرد أن يبدل
أرقام المواد التي أشرنا إليها هنا بأرقام مواد وقوانين بلده...
وجزى ال خيرا من قام بذلك ناصحا للمة مخلصا...
ياسق الكويت
والطاغوت الذي وقع الختيار عليه هو دستور الكويت وقوانينه ،تلك الدولة التي طالما التبس
أمرها على كثير من عميان البصائر ،فأخذوا يثنون على قوانينها وقضاتها وحكومتها وحكامها..
اخترناها لجل ذلك ليدخل غيرها في كلمنا -عند هؤلء الناس -من باب أولى..
وإليك الن بعض المثلة من طاغوت الكويت ..نقصد من ذكرها بيان زيف هذا الطاغوت
وسفاهته وحقارته وبطلنه وكفره ..وبيان أنه نابع من وحي الشياطين وأهواء البشر وأنه ل
يحكم بين الخلق بالعدل بل إن قوانينه وبنوده سبب في ظهور الفساد في البلد والعباد ومعول
وُضع لهدم ما بناه السلم من المقاصد والقواعد والشرائع ..ولهدر ما جاء الدين لحفظه
وصيانته من العراض والنساب والعقول والدماء والموال..
وسائر أنبياء ال ورسله صلوات ال وسلمه عليهم حينما وقدوتنا في هذه الطريق نبينا محمد
كانوا يبينون زيف وسفاهة وضلل طواغيت أقوامهم.
لنخلص من ذلك كله إلى دعوة قومنا وأمتنا للكفر بهذا الطاغوت العصري ،وبكل طاغوت يعبد
من دون ال َتعَالى عبادة تشريع أو غيرها ...والبراءة من أوليائه المصرّين على تحكيمه
وعبادته وتعبيد الناس له..
217
فنخرجهم بذلك من عبادة الطاغوت إلى عبادة ال وحده ..ومن جور وظلم القوانين وسدنتها..
إلى عدل ونور السلم{ ..وَاللّهُ ُمتِمّ نُو ِرهِ َوَلوْ َك ِرهَ ا ْلكَا ِفرُونَ}[الصف.]8 :
فَخُـذْها نِبـالً مِنْ حَـنيفٍ ُموَحّدٍ ُت َمزّقُ مِـنْ سُـوءِ العَقيدَةِ ما ُيرْدي
وعَن َوصْلِ هِنـ ٍد والرّباب وعن وَعْدِ مـ َنزّهـةً عن ذِكـرِ ليلَـى وقَدّهَا
اعلم قبل أن نشرع في تسفيه طاغوتهم أننا حينما نذكر (الطاغوت) أو (الياسق العصري) في
هـ 1382 هذه الورقات فإننا نعني بذلك دستورهم المكوّن من ( )183مادة والذي أُصدر عام
م وحُكم به العباد في هذه البلدة بأمر ومصادقة حاكم الكويت في ذلك الوقت (عبد 1962 الموافق
ال بن سالم الصباح) عليه من ال ما يستحق ،وأيضا ما أُلحق به من القوانين والترقيعات في
عهد المذكور والعهود التي تلته ،من ذلك قانون الجزاء وترقيعاته ،أعني ما يسمونه بالقوانين
المعدلة والمكملة ،وكذا القانون المدني المكوّن مما يقرب من ( )1100مادة ،والقانون التجاري
الذي يعتبرونه فرعا لقانونهم المدني ،وغير ذلك من قوانينهم الباطلة التي أحلوها محل (مجلة
الحكام العدلية) التي رغم ما ينتقد عليها فقد كانت تمثل البقية الباقية من أحكام الشريعة
السلمية وفقا للمذهب الحنفي وكان يحكم بها في أواخر الدولة العثمانيةة -ويعترف وزير
الدولة للشؤون القانونية والدارية سلمان بن دعيج الصباح كما في مقدمة قانونهم المدني ،بأن (
(1938 أحمد بن جابر الصباح) حاكم الكويت من عام ( )1921إلى ( )1950قد أصدر أمرا في عام
) بتطبيق (مجلة الحكام العدلية) ...ويبدو أن المر لم يدم طويلً حتى جاء خليفته (عبد ال بن
سالم) فأصدر (الياسق الكويتي) الدستور في عام ( )1962وكان عهد هذا المذكور هو عهد
القانون عندهم ،فقد صدرت فيه العديد من قوانينهم العفنة كقانون التجارة الصادر عام ()1961
وقانون الجزاء الصادر عام ( )1960وغيره ..ثم جاء العهد التالي فأضيفت كثير من القوانين
وغُيرت ورُقعت أخرى ..إلى أن جاءت سنة ( )1980في عهد الحاكم الحالي لتنسف البقية الباقية
من أحكام الشريعة المتمثلة بمجلة الحكام العدلية وليحل محلها قانونهم المدني الذي صدر
بمرسوم رقم ( )67بقصر السيف ..وكانت المادة الولى فيه تقول ( :يُلغى العمل بمجلة الحكام
العدلية ،ويستعاض عنها بالقانون المدني )...ووقع على هذا المرسوم كل من :أمير الكويت:
جابر بن أحمد ،ورئيس مجلس الوزراء :سعد بن عبد ال ،ورئيس الدولة للشؤون القانونية:
سلمان بن دعيج...
أعـــداء كل موحـد ربــــاني فاسـأل بهـم ذا خـبرة تلقــاهم
218
تــوبوا إلى الرحمن من تعطـيلكــم فالـرب يـقـبـل تـوبة الـندمـان
أو مـات (طـاغــوتا) فـفي النيران من تاب منكم فالجـنان مــصـيره
أمثلة كفرية من الدستور
] من الله المشرع في دستورهم ؟؟ إنه ليس ال وحده.. 1 [
وهذا هو الشرك ..فالشرك ليس رفض عبادة ال ..بل عبادة آلهة أخرى معه ..جاء في المادة (
)2من ياسقهم ( :الشريعة مصدر رئيسي للتشريع ) ،وهذا يعني ،كما هو واضح من السياق لكل
من يفقه العربية ومن مذكرتهم التفسيرية أيضا ،أن التشريع عندهم له مصادر عديدة أخرى غير
الشريعة..
وأن الشريعة ليست إل مصدرا تشريعيا رئيسيا ( أشرك ) معه مصادر أخرى رئيسة وفرعية..
وهكذا فإن هذه المادة ل تنص ول تعترف أبدا بشهادة أن ل إله إل ال ،بل معناها الحرفي
الشرعي هو ( :أشهد أن ال إله من اللهة الرئيسة ،وأشهد أن معه آلهة رئيسة وفرعية أخرى )
..وهذا شرك باللوهية وكفر بواح ظاهر بين واضح ل يخفى إل على من طمس ال بصيرته
وأعماه وجعله كالنعام بل أضل..
وقد بينا لك فيما تقدم ،أنّ من الشرك المستبين:
التحاكم إلى الطاغوت ،وأن الطاغوت يشمل كل تشريع سوى شرع ال تعالى.
فتعدد مصادر التشريع يعني تعدد الرباب واللهة المعبودة من دون ال تعالى ،قال تعالى:
{ ءأرباب متفرقون خيرٌ أمِ ال الواحدُ القهار( )39ما تعبدون من دونه إل أسماء سميتموها أنتم
وأباؤكم ما أنزل ال بها من سلطان إن الحكم إل ل أمر أل تعبدوا إل إياه ذلك الدين القيّم ولكنّ
أكثر الناس ل يعلمون } [ يوسف]39:40 :
وقال تعالى { :أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدّين ما لم يأذن به ال ولول كلمة الفصل لقُضي
بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم } [ الشورى]21 :
وقد علمت أن جعلهم الشريعة مصدرا من هذه المصادر التشريعية المختلفة ،يأخذون منها ما
يوافق أهواءهم ،ويتركون ما ترفضه عقولهم النخرة ،هو تماما كفعل التتار في ياسقهم .انظر
وصف ابن كثير للياسق التتري في المقدمة الثامنة ،وهو أيضا مشابهة ومتابعة لليهود الذين قال
ال تعالى فيهم { :أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إل
خزيٌ في الحياة الدنيا } وهل هناك أشد مما هم فيه اليوم من خزي وذل للشرق والغرب ،بل
219
ولليهود أنفسهم الذين كتب ال عليهم الذلة ..ثم قال تعالى { :ويوم القيامة ُيرَدّون إلى أشدّ العذاب
وما ال بغافل عما تعملون( )85أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالخرة فل يخفف عنهم العذاب
ول هم ينصرون } [ البقرة ]85،86
• وجاء في المذكرة التفسيرية لهذه المادة ،بعد أن ذكروا أن من فوائد هذه الصيغة الكفرية،
أنها ل تمنع المشرع من استحداث أحكام من مصادر أخرى غير الشريعة ،قالوا -فضّ ال
أفواههم -بالحرف الواحد ( :بل إن في النص ما يسمح مثلً بالخذ بالقوانين الجزائية الحديثة
مع وجود الحدود في الشريعة السلمية وكل ذلك ما كان ليستقيم لو قيل (الشريعة السلمية
المصدر الرئيسي للتشريع) إذ يوقع المشرع في حرج بالغ ) .قاتل ال هذا المشرع ..الذي جعل
من نفسه ندّا ل..
وأذكرك بالمقدمة الثانية والثالثة.
وانظر إلى قولهم (يوقع المشرع في حرج بالغ) وارجع لقوله َتعَالى في ذلك الموضع{ :فَل
ض ْيتَ
حرَجًا ِممّا َق َ
سهِمْ َ
جرَ َب ْي َنهُمْ ثُمّ ل َيجِدُوا فِي أَنفُ ِ
ح ّكمُوكَ فِيمَا شَ َ
حتّى ُي َ
َو َر ّبكَ ل ُي ْؤ ِمنُونَ َ
سلِيمًا}[النساء ]65 :وتأمل كلمة (حرجا) في الية وكيف أنها نكرة في سياق النفي
سّلمُوا تَ ْ
َويُ َ
فتشتمل كل أنواع الحرج كبيرا كان أم صغيرا فكلّه مضاد لليمان ..ومع ذلك فهؤلء السفهاء
يصفون التسليم المطلق للشريعة ،بأن فيه ( حرجا بالغا ) .فهل يجوز لموحد بعد هذا أن يحترم
ياسقهم هذا؟؟ أو يوالي عبيده أو يحبهم..؟؟ فليتعرف المسلمون على نوع الحكم الذي يحكمهم،
وما يحويه من زيغ وضلل وهم غافلون نائمون..
ثم قالوا في الموضع نفسه من المذكرة الكفرية ( :ومن ثم ل يمنع النص المذكور من الخذ
عاجلً أو آجلً ،بالحكام الشرعية كاملة وفي كل المور إذا رأى المشرع ذلك).
وها هنا مسألة خطيرة جدا ..فحتى لو فرضنا جدلً أنهم أرادوا تحكيم بعض نصوص الشريعة
في يوم من اليام فلن يكون ذلك استسلما أو انقيادا ل َتعَالى ورضا بحكمه ..وإنما لرأي
وإرادة وهوى طاغوتهم (المشرّع).
يقول العلمة أحمد شاكر في كتابه (كلمة حق) ( :ترى في بعض بلد المسلمين قوانين ضربت
عليها ،نقلت عن أوربة الوثنية الملحدة ،وهي قوانين تخالف السلم مخالفة جوهرية في كثير
من أصولها وفروعها ،بل إن في بعضها ما ينقض السلم ويهدمه ،وذلك أمر واضح بديهي ،ل
يخالف فيه إلّ من يغالط نفسه ،ويجهل دينه أو يعاديه من حيث ل يشعر ،وهي في كثير من
220
أحكامها َأيْضا توافق التشريع السلمي أو ل تنافيه على القل ،وإن العمل بها في بلد المسلمين
غير جائز ،حتى فيما وافق التشريع السلمي ،لن من وضعها حين وضعها لم ينظر إلى
موافقتها للسلم أو مخالفتها ،وإنما نظر إلى موافقتها لقوانين أوربة)...
ثم ذكر كلما للشافعي رحمه ال َتعَالى خلصته أن المجتهد إذا اجتهد عن علم وإحاطة بالدلة
وتحري للحق فأخطأ كان معذورا مأجورا ،أما من لم يتحرّ الدليل ،وتكلّف بل علم فإن إصابته
-وإن أصاب الحق -تكون غير محمودة ومن هذا يظهر لك بأن القوانين إن كان في بعضها ما
يوافق الشريعة فإنه باطل َأيْضا ل يُحمد ول يُمدح أبدا ،لنه لم يخرج من دائرة الشرك ،فما هو
إلّ انقياد لحكم الدستور واتباع لرأي مشرّعهم -الذي هو غير ال -ول يُمدح أو يُحمد أبدا إلّ
حين يكون ذلك استسلما وانقيادا لرب العباد وحده...
حكُمْ َب ْي َنهُمْ ِبمَا أَنزَلَ اللّهُ} [المائدة]49 :
وخلصة القول أنّ ال جل وعل قد قال في كتابهَ { :وأَنِ ا ْ
ولم يقل ..بمثل ما أنزل ال ..فتنبه لهذا وافهمه جيدا..
ومما سبق تظهر لك فضيحة من فضائح عبيد الياسق -وما أكثرها -وذلك أن المشرع الحقيقي
عندهم؛ هو ليس ال عز وجل ..وأن جعلهم الشريعة مصدرا من مصادر التشريع كذب وتمويه،
وبمعنى آخر :أن جعلهم ال أحد المشرّعين المعبودين ..وإن كان شركا لو صح -فإنه غير
صحيح -وهم كاذبون به ..ملبّسون مخادعون..
فمن هو مشرّعهم الحقيقي الذي يعبدونه إذن ؟؟
• الله المشرع عندهم ليس الخالق الباري جل وعل ..وإنما هو :ثالوث ( المير ومجلس
المة وفقا للدستور) .وهكذا فقد شابهوا أحبابهم وأولياءهم عبّاد الصليب في عقيدة التثليث
الشركية ..فأولئك عندهم ( الرب والبن وروح القدس) وهؤلء عندهم ( المير ومجلس المة
والدستور) .وإليك الدلة على هذا من ياسقهم نفسه :
جاء في المادة ( )51من الياسق الكويتي ( :السلطة التشريعية يتولها المير ومجلس المة وفقا
للدستور) .
وهذا َأيْضا كفر فوق كفر وشرك فوق شرك وظلم فوق ظلم كما قدمنا وفصلنا ...فل ينكر هذا
إلّ جاهل بدين السلم ..أو كافر ظالم يرضى أن يعبد مع ال آلهة أخرى باطلة زائفة..
وسيأتي عما قريب كلم العلمة الشنقيطي رحمه ال في صفات من يستحق وحده التشريع من
تفسيره القيم "أضواء البيان" ..ومن ذلك ما قاله رحمه ال -بعد أن ذكر قوله َتعَالى { :وَل تَدْعُ
221
جعُونَ}[القصص:
حكْمُ َوِإلَيْهِ ُترْ َ
جهَهُ لَهُ الْ ُ
شيْءٍ هَاِلكٌ إِلّ وَ ْ
خرَ ل ِإلَهَ إِلّ ُهوَ كُلّ َ
مَ َع اللّهِ ِإَلهًا آ َ
-]88قال ( :فهل في الكفرة الفجرة المشرّعين من يستحق أن يوصف بأنه الله الواحد؟؟ وأن
كل شيء هالك إلّ وجهه؟ وأن الخلئق يرجعون إليه؟ تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن يوصف
أخس خلقه بصفاته.
ش َركْ بِهِ
ي اللّهُ وَحْ َدهُ كَ َف ْرتُمْ َوإِنْ يُ ْ
عَومن اليات الدالة على ذلك قوله تعالىَ { :ذِلكُمْ بَِأنّهُ إِذَا دُ ِ
حكْمُ ِللّهِ ا ْل َعلِيّ ا ْل َكبِيرِ}[غافر.]12 :
ُت ْؤ ِمنُوا فَالْ ُ
فهل في الكفرة الفجرة المشرّعين للنظم الشيطانية من يستحق أن يوصف في أعظم كتاب
سماوي بأنه العلي القدير؟ سبحانك ربنا وتعاليت عن كل ما ل يليق بكمالك وجللك..
خ َرةِ
حمْدُ فِي الُولَى وَال ِ
ومن اليات الدالة على ذلك قوله تعالى{ :وَ ُه َو اللّهُ ل ِإلَهَ إِلّ ُهوَ لَهُ الْ َ
غ ْيرُ
س ْرمَدًا ِإلَى َيوْمِ الْ ِقيَامَةِ مَنْ ِإلَهٌ َ
عَل ْيكُ ُم الّليْلَ َ
ل اللّهُ َ
جعَ َ
جعُونَ ،قُلْ َأ َرأَ ْيتُمْ إِنْ َ
حكْمُ َوِإَليْهِ ُترْ َ
ولَهُ الْ ُ
س ْرمَدًا ِإلَى َيوْمِ الْ ِقيَامَةِ مَنْ
عَل ْيكُمُ ال ّنهَارَ َ
ل اللّهُ َ
جعَ َ
س َمعُونَ قُلْ َأ َرَأ ْيتُمْ إِنْ َ
اللّهِ َي ْأتِيكُمْ ِبضِيَاءٍ أَفَل تَ ْ
س ُكنُوا
جعَلَ َلكُ ْم الّليْلَ وَالنّهَارَ ِلتَ ْ
ح َمتِهِ َ
صرُونَ َومِنْ َر ْ
س ُكنُونَ فِيهِ أَفَل ُت ْب ِ
غ ْيرُ اللّهِ يَ ْأتِيكُمْ ِبَليْلٍ تَ ْ
ِإلَهٌ َ
ش ُكرُونَ}[القصص.]73-70 :
ضلِهِ َوَل َعّلكُمْ تَ ْ
فِيهِ َوِل َت ْب َتغُوا مِنْ َف ْ
فهل في مشرعي القوانين الوضعية من يستحق أن يوصف بأن له الحمد في الولى والخرة
وأنه هو الذي يصرف الليل والنهار مبينا بذلك كمال قدرته وعظمة إنعامه على خلقه؟؟ سبحان
خالق السماوات والرض ،جل وعل أن يكون له شريك في حكمه أو عبادته أو ملكهة) انتهى
كلمه رحمه ال.
فإن كان هذا المير ومجلس أمته يستحق أن يوصف بشيء من هذه الصفات -ولن يكون ذلك
أبدا -فليتول السلطة التشريعية وليقل أنا ربكم العلى ،وإذا علم علما جازما يقينا بأنه أخس
وأحقر وأتفه وأذل من أن يتصف بشيء من ذلكة فلينخلع من التشريع وليدعه وليرُجعه وليردّه
لمن هذه صفاته سبحانه وتعالى عما يشركونة
ليس له أن يشرع إن هو إل وحي يوحى وإذا كان صلوات ال وسلمه وإذا كان رسول ال
عليه يمنع عما هو أهون بكثير من التشريع وهو تسعير السلع كما صحّ في الحديث الذي رواه
عهْدِ رَسُولِ اللّهِ
علَى َ
س ْعرُ َ
أبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم عَنْ َأنَسِ قَالَ ( :غَل ال ّ
ط الرّازِقُ ِإنّي
س ّعرُ الْقَابِضُ ا ْلبَاسِ ُ
ن اللّهَ ُهوَ ا ْلمُ َ
س ّعرْ َلنَا فَقَالَ إِ ّ
س ْعرُ فَ َ
ل اللّهِ قَدْ غَل ال ّ
فَقَالُوا يَا رَسُو َ
ظَلمَةٍ فِي دَمٍ وَل مَالٍ).
طُل ُبنِي ِبمَ ْ
لرْجُو أَنْ َألْقَى َربّي َوَل ْيسَ أَحَدٌ يَ ْ
َ
222
وخوفه من التسعير ،ثم تأمل حال من ل يصح أن يقارنوا أو يقاسوا ل اللّهِ
فتأمل ورع رَسُو ِ
بنعله؛ من عبيد الياسق الذين لم يجعلوا من أنفسهم مسعرين فقط كما في قانون رقم ( )10لسنة
م في شأن تحديد أسعار بعض السلع مادة رقم ( )3و( )6وغيرها ،بل يقننون العقوبات 1979
لمن خالف تسعيرهم كما في المواد ( )13و( )15وغيرها من قانونهم هذا ،ليس هذا فقط ،بل
جعلوا من أنفسهم مشرعين وأربابا مع ال كما رأيت ..وسترى المزيدة فتبّا لهم وسحقا.
هذا ،ولقد عظموا مشرّعهم ومعبودهم أكثر من تعظيم قريش آلهتهاة .فقد حكموا كما في المادة
رقم ( )25من جرائم أمن الدولة بالسجن مدة خمس سنوات لكل من (عاب في ذات المير)
بأنه ( عاب آلهتنا وديننا) فتعسا لمن وقريش لم تصل إلى هذا الحد ،حينما وصفوا رسول ال
كان كفار قريش أقلّ منه ضلل.
شرَعُوا َلهُمْ مِنْ
ش َركَاءُ َ
وأخيرا فإن ال يبطل كل تشريع غير تشريعه فيقول مستنكرا {أَمْ َلهُمْ ُ
ضيَ َب ْي َنهُمْ َوإِنّ الظّاِلمِينَ َلهُمْ عَذَابٌ َألِي ٌم }[الشورى:
الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِ ِه اللّهُ َوَلوْل َكِلمَةُ الْفَصْلِ لَ ُق ِ
ش َركَاءُ} :أي ألهم؟ والهمزة للتقريع.
{ ،]21أَمْ َلهُمْ ُ
فال عز وجل يخص نفسه العظيمة بالتشريع ويبطل جميع الشركاء الذين أشركهم الناس معه
ويبطل تشريعاتهم وينكر على الناس اتباعها..
وياسق القوم يأبى ويعاند ويقول( :السلطة التشريعية يتولها المير ومجلس المة) ُ{ -أفّ َلكُمْ
ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ} -ل جرم أن من رضي بتشريعهم وقبله ولم يكفر به
َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ
ويتبرأ منه فقد اتخذ هذا الثالوث وثنا وإلها ،وجعله نِدّا ل تعالى..
ونذكّر هذين المشرعين ،أعني (المير ومجلس أمته) بمصير واحد من المشرعين الغابرين،
: وهو ( عمرو بن لحي) أول من شرع لقريش عبادة الوثان وتسييب السوائب ،قال النبي
صبَهُ فِي النّارِ) ،ولن ينفعك يومئذ يا عبد
جرّ ُق ْ
عيّ يَ ُ
خزَا ِ
حيّ الْ ُ
ع ْمرَو بْنَ عَا ِمرِ بْنِ لُ َ
( َرَأ ْيتُ َ
الياسق جيشٌ ول شرطةٌ ول (مباحث) ول سلطان ،ول المادة رقم ( )45من ياسق الكفر التي
تقول ( ذات المير مصونة ل تُمس) ول المادتان رقم ( )23و( )24من قوانين جرائم أمن الدولة
التي تقضي بإعدام كل من عرض حياة المير أو حريته للخطر أو اعتدى بالقوة على السلطات
التي يتولها ..ول غيرها من المواد ..فارجع إلى دين ال َتعَالى وشرعه واكفر وتبرأ من
ياسقك هذا قبل أن يأتيك يوم تقول فيه {يَا َل ْي َتنِي لَمْ أُوتَ ِكتَابِيه َولَمْ أَ ْدرِ مَا حِسَابِيه يَا َل ْي َتهَا كَا َنتْ
سلْطَانِيه}[الحاقة.]29-25 :
عنّي ُ
عنّي مَالِيه َهَلكَ َ
غنَى َ
ضيَةَ مَا أَ ْ
الْقَا ِ
223
] ما هو الدين الذي يحترمه ويدين به الدستور؟؟ وبالتالي كل من احترم 2 [
الدستورة إنه ليس السلم.
جاء في المادة رقم ( )6من الياسق الكويتي ( :نظام الحكم ديمقراطي) وعرّفوا هذا الدين الذي
هو (الديمقراطية) بقولهم في المادة نفسها( :السيادة فيه للمة مصدر السلطات جميعا).
ح ْكمُهُ ِإلَى اللّهِ}[الشورى .]10 :ويقول{ :فَإِنْ
شيْءٍ فَ ُ
خ َتلَ ْفتُمْ فِيهِ مِنْ َ
فال عز وجل يقولَ { :ومَا ا ْ
خ ْيرٌ َوأَحْسَنُ
خرِ َذِلكَ َ
شيْءٍ َفرُدّوهُ ِإلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِنْ كُنتُمْ ُت ْؤ ِمنُونَ بِاللّهِ وَا ْل َيوْمِ ال ِ
عتُمْ فِي َ
َتنَازَ ْ
حكْمُ إِلّ ِللّهِ}[يوسف.]40 :
تَ ْأوِيلً}[النساء .]59 :ويقول { :إِنْ الْ ُ
حكْمُ إِلّ للمة)ة (وهي مصدر السلطات جميعا)ً ،أي ما
والدستور يقول وعبيده يقولون( :إِنْ الْ ُ
قالت المة عنه( :حرام) فهو حرام ،وما قالت ( :حلل) فهو حلل ..هذا ما تقرره هذه
للناس المادة..وهو دين الدستور وهذا الدين ليس دين السلم الذي بعث ال به نبيه محمدا
غ ْيرَ الِسْلمِ دِينًا َفلَنْ يُ ْقبَلَ ِمنْهُ وَ ُهوَ فِي
كافة والذي ل يقبل ال دينا سواه ،قال تعالىَ { :ومَنْ َي ْبتَغِ َ
سرِينَ}[آل عمران ،]85 :وإنما هو (دين ديمقراط) الذي يُعرّفونه بالديمقراطية..
خ َرةِ مِنْ الْخَا ِ
ال ِ
وهو حكم الكثرية أي أن التشريع يكون بما يراه ويهواه أكثر الناس ،وال رب الناس يقول:
صتَ ِب ُم ْؤ ِمنِينَ}[يوسف ،]103 :ويقول سبحانه في أكثر من آية في كتابه
ح َر ْ
{ َومَا َأ ْك َثرُ النّاسِ َوَلوْ َ
ش ُكرُونَ}[ غافر،]61 :
{ َوَلكِنّ َأ ْك َثرَ النّاسِ ل َي ْعَلمُونَ}[الجاثية ،]26 :ويقولَ { :وَلكِنّ َأكْثرَ النّاسِ ل يَ ْ
ويقولَ { :ولَكِنّ َأ ْك َثرَ النّاسِ ل ُي ْؤ ِمنُونَ}[ غافر ،]59 :ويقولَ { :فَأبَى َأ ْك َثرُ النّاسِ إِلّ كُفُورًا}[
ش ِركُونَ}[ يوسف ،]106 :ويقول:
الفرقان ،]50 :ويقولَ { :ومَا ُي ْؤمِنُ َأ ْك َثرُهُمْ بِاللّهِ إِلّ وَهُمْ مُ ْ
{ َوَأ ْكثَرُهُمْ ِللْحَقّ كَارِهُونَ}[المؤمنون ،]70:ويقول{ :بَلْ َأ ْك َثرُهُمْ ل َيعْ ِقلُونَ}[العنكبوت ،]63 :ويقول:
ل اللّهِ إِنْ َي ّت ِبعُونَ إِلّ الظّنّ َوإِنْ هُمْ إِلّ
سبِي ِ
لرْضِ ُيضِلّوكَ عَنْ َ
{ َوإِنْ تُطِعْ َأ ْك َثرَ مَنْ فِي ا َ
خ ُرصُونَ}[ النعام.]116 :
يَ ْ
خلَقَ وَ ُه َو اللّطِيفُ
هذا قول ال رب الناس وحكمه العادل في أكثرهم وهو خالقهم {أَل َي ْعلَمُ مَنْ َ
خبِيرُ}[ الملك.]14 :
الْ َ
بالحكم بين المة بما أنزل إليه وحذره من اتباع أهوائها وآراءها فقال: • وال قد أمر نبيه
ل اللّهُ
حكُمْ َب ْي َنهُمْ ِبمَا أَنزَلَ اللّهُ وَل َت ّتبِعْ أَ ْهوَاءَهُمْ وَاحْ َذرْهُمْ أَنْ يَ ْف ِتنُوكَ عَنْ َب ْعضِ مَا أَنزَ َ
{ َوأَنِ ا ْ
ِإَل ْيكَ}[المائدة .]49 :
224
ومع ذلك فالياسق يقول ( :المة مصدر السلطان جميعا ).
ولحظ كلمة (بعض) التي حذر ال منها في الية ..وكلمة (جميعا) في ياسقهم الكفري..
فهل يوجد وقاحة أشنع من هذه الوقاحة؟ وهل بعد هذه المحادّة لشرع ال من محادّة؟ وهل فوق
هذا التعدي لحدود ال َتعَالى شيء؟؟.
ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ} [ النبياء .]67 :
{ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ
وأخيرا فإن ال عز وجل قد بين للمة بل للخلق الضعفاء المهازيل جميعا حدودهم ،وأعلمهم
خلْقُ
بأن الذي خلق ورزق وصوّر وفطر سبحانه ..هو وحده الذي يحكم ويشرع ويأمر {أَل لَهُ الْ َ
ك اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ} [العراف .]54 :
ل ْمرُ َتبَا َر َ
وَا َ
يقول الشنقيطي في أضواء البيان (( :)7/163اعلم أن ال جل وعل بين في آيات كثيرة ،صفات
من يستحق أن يكون الحكم له ،فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة ويقابلها مع صفات
البشر المشرّعين للقوانين الوضعية ،فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع ،سبحان ال
وتعالى عن ذلك ،فإن كانت ل تنطبق عليهم ولن يكون ،فليتبع تشريعهم وإن ظهر يقينا أنهم
أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك ،فليقف بهم عند حدهم ،ول يجاوز بهم إلى مقام الربوبية،
سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته أو حكمه أو ملكه ،فمن اليات القرآنية التي
ح ْكمُهُ ِإلَى
شيْءٍ فَ ُ
خ َتلَ ْفتُمْ فِيهِ مِنْ َ
أوضح بها َتعَالى صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا { َومَا ا ْ
عَليْهِ َت َو ّك ْلتُ َوِإَليْهِ ُأنِيبُ
اللّهِ}[الشورى ،]10 :ثم قال مبينا صفات من له الحكمَ { :ذِلكُمْ اللّهُ َربّي َ
ل ْنعَامِ َأ ْزوَاجًا يَ ْذ َر ُؤكُمْ فِيهِ َل ْيسَ
سكُمْ َأ ْزوَاجًا َومِنْ ا َ
جعَلَ َلكُمْ مِنْ َأنْفُ ِ
لرْضِ َ
سمَاوَاتِ وَا َ
طرُ ال ّ
فَا ِ
لرْضِ َيبْسُطُ ال ّرزْقَ ِلمَنْ يَشَاءُ َويَقْ ِدرُ ِإنّهُ
سمَاوَاتِ وَا َ
سمِيعُ ال َبصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ ال ّ
شيْءٌ وَ ُهوَ ال ّ
َك ِم ْثلِهِ َ
علِيمٌ}[الشورى.]12-10:
شيْءٍ َ
ِبكُلّ َ
فهل في الكفرة الفجرة المشرّعين للنظم الشيطانية ،من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي
تفوض إليه المور ،ويُتوكل عليه ،وأنه فاطر السماوات والرض أي خالقها على غير مثال
شيْءٌ وَ ُهوَ
سابق ،وأنه هو الذي خلق البشر أزواجا ،وخلق لهم أزواج النعام ..وأنه {َل ْيسَ َك ِم ْثلِهِ َ
لرْضِ} ،وأنه الذي { َيبْسُطُ الرّزْقَ ِلمَنْ يَشَاءُ
سمَاوَاتِ وَا َ
سمِيعُ البَصِيرُ} ،وأنه {لَهُ مَقَالِيدُ ال ّ
ال ّ
علِيمٌ}.
شيْءٍ َ
َويَقْ ِدرُ} أي يضيقه على من يشاء وهو { ِبكُلّ َ
فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يُشرّع ويُحلّل ويُحرّم ،ول تقبلوا تشريعا
من كافر خسيس حقير جاهل ).انتهى كلمه من تفسير سورة الشورى رحمه ال تعالى..
225
حتى غدوتم ضحكة الصبيان ال أكبر هتكت أستاركم
ح ْكمِهِ
ش ِركُ فِي ُ
فليس لحد كائنا من كان أن يشاركه سبحانه في حكمه ..قال تعالى{ :وَل يُ ْ
ح ْكمِهِ} [الرعد.]41:
حكُمُ ل ُمعَ ّقبَ لِ ُ
أَحَدًا}[الكهف .]26 :ول أن يعقب عليه ،قال سبحانه{ :وَاللّهُ يَ ْ
ول أن يختار ..فكما أن ليس لهم الخيرة في الخلق والقدر ..أي في إرادة ال الكونية .قال
ش ِركُونَ}
عمّا يُ ْ
ن اللّهِ َو َتعَالَى َ
سبْحَا َ
خ َي َرةُ ُ
ختَارُ مَا كَانَ َلهُمْ الْ ِ
خلُقُ مَا يَشَاءُ َويَ ْ
تعالىَ { :و َربّكَ يَ ْ
[القصص .]68:فكذلك ل تجوز ول تحل لهم الخيرة في المر والتشريع والحكم والقضاء..بل
الواجب على كل من يدعي ويزعم اليمان؛ أن يستسلم وينقاد مختارا لرادة ال الشرعية كما
ك اللّهُ
ل ْمرُ َتبَا َر َ
خلْقُ وَا َ
أنه منقاد ل محالة شاء أم أبى لرادة ال الكونية .قال سبحانه{ :أَل لَهُ الْ َ
َربّ ا ْلعَاَلمِينَ} [العراف .]54 :وقال جل وعزَ { :ومَا كَانَ ِل ُم ْؤمِنٍ وَل ُم ْؤ ِمنَةٍ إِذَا َقضَى اللّهُ
ل ضَللً
ص اللّهَ َورَسُولَهُ فَقَ ْد ضَ ّ
خ َي َرةُ مِنْ َأ ْمرِهِمْ َومَنْ َيعْ ِ
َورَسُولُهُ َأ ْمرًا أَنْ َيكُونَ َلهُمْ الْ ِ
ُمبِينًا}[الحزاب .]36 :هذا إن كانوا يزعمون اليمان ..وإل فلهم الخيار في ترك سبيل الجنة
وسلوك سبيل النار..
وبعد ..فليختر كل امرئ لنفسه :سبيل البرار أم سبيل الفجارة دين ال الخالص ..أم دين
ن الرّشْدُ مِنْ ال َغيّ َفمَنْ َيكْ ُفرْ بِالطّاغُوتِ َو ُي ْؤمِنْ بِاللّهِ فَقَدْ
الدستور؟ {ل ِإ ْكرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ َت َبيّ َ
سكَ بِا ْل ُع ْر َوةِ ا ْل ُوثْقَى} [البقرة .]256 :
س َتمْ َ
اْ
ويحترمون ويحمون الملل والنحل الباطلة كلها ،أما دين السلم ..فعليه السلم..
واعلم أن دين الديمقراطية الكفري هذا الذي يظهرون بالدعوة إليه؛ للضحك على المغفلين من
الناس ،ليس هو دين الدستور الوحيد ..بل إن هذا الطاغوت قد جمع كل ملة ودين ومذهب
وشريعة فكفلها وحملها وأطلق العنان والحرية لها .ولم يستثن من ذلك دين باطل ..فهو ل يطلق
العنان فقط لليهود وعباد الصليب أو يحمي كتبهم المحرفة وما تحويه من شرك وباطل ..بل
يحمي عبادة البقر والحجر والشجر وعبادة النيران والفئران ،وعبادة بوذا وغاندي وماوتسي..
بل يحمي السيك والهندوس والبهائيين والسماعليين والرافضة وغيرهم من أصحاب الملل
الباطلة والنحل الخبيثة..
وإليك الدلة على ذلك من ياسقهم نفسه:
جاء في المادة ( )35من ياسقهم ما نصه ( :حرية العتقاد مطلقة وتحمي المادة حرية القيام
بشرائع الديان طبقا للعادات المرعية على أن ل يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الداب).
226
وتأمل قولهم (الديان) بصيغة الجمع المعرف باللف واللم :أي كل الديان بل استثناء .ولم
يقيدوا ذلك بأن ل يُخل بالتوحيد مثل أو يخدش شرائع السلم ويضادها ،وإنما فقط أن ل
يخالف عاداتهم البالية ،وسوف ترى فيما يأتي أن العرف والعادة عندهم بعد القانون مقدم دوما
على شرع ال َتعَالى هذا إن ذكروا الشرع أصلً..وإل فالصل عندهم عدم اللتفات إليه ،كما
هو الحال هنا فإنهم لم يضعوا له اعتبارا أو وجودا.
ثم اشترطوا عدم الخلل بالنظام العام وهذا أهم ما يعنيهم ،ومعناه استقرار عروشهم ونفوذ
قوانينهم وأنظمتهم ،أما قولهم ( أو ينافي الداب) فإنها كلمة هلمية يستفيدون منها كيفما شاءوا
فلو وقف مسلم مثلً وبيّن للناس بطلن دين الصليب أو دين الروافض وذكر بعض دعاة
الضللة منهم ،وسفه أحلمهم وحذر الناس من باطلهمة لمكنهم بهذه العبارة أن ينالوا منه إن
شاءوا ما يشتهون ..وهكذا شأنهم في أكثر قوانين ياسقهم ..يستعملون الكلمات المطاطية التي
يديرونها بأهوائهم كما يشتهون ..ول يقيدونها بالدين لئل يقعوا في الحرج الذي ذكر ال َتعَالى
وجوده عند غير المؤمنين ،والذي صرحوا به وبكل وضوح فيما تقدم ..وفي الوقت نفسه تنطلي
قوانينهم هذه على السفهاء والمغفلين فتجد في المة من يقول بأنها ل تعارض الدين ول حدوده.
تبدو لهم ليسوا بأهل معــان والنـاس أكثرهم فأهل ظواهر
فهم القشور وبالقشور قوامهم واللب حظ خلصة النسـان
ومن أخطر وأكفر ما تحويه هذه المادة هو فتحهم لباب الردة بتبديل دين السلم لمن شاء متى
شاء دون أي عقاب ..بل في ظل حماية قانونهم الكافر الخبيث ،وذلك ما تضمنه قولهم في هذه
المادة ( حرية العتقاد مطلقة )..ولن تجد أبدا في قوانينهم هذه من أولها إلى آخرها عقوبة ولو
تافهة لمن بدل دينه ..بل هاهنا فتح لباب الردة ليخرج الناس منه أفواجا في ظل حماية الدولة
يقول ( :مَنْ بَدّلَ دِينَهُ فَا ْق ُتلُوهُ) .فرسول رب العالمين يقول (ا ْق ُتلُوهُ)، وقوانينها مع أن النبي
وياسق الكفر يقول( :له الحرية المطلقة)،
ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ}.
{ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ
فلو أن أي منتسب للسلم ارتد وأصبح يهوديا أو نصرانيا أو سيكيا أو عابدا للبقر لما وجد من
قانونهم الكفري هذا إلّ الحماية والتأييد والحرية ..وليس لحد كائنا من كان أن يقيم عليه حدّ ال
َتعَالى بالقتل ،وإن قام بذلك أحدُ ،قتِل وأُخِذ بالكافر ..فالناس عندهم سواء مسلمهم ومجرمهم في
سلِمٌ ِبكَا ِفرٍ) .
يقول( :ل يُ ْقتَلُ مُ ْ كل شيء مع أن النبي
227
فالشريعة تحدد وتنظم وتحفظ دين ال وهم يريدونها عوجا وغوغائية ..وإليك ما يدل على ذلك
أيضا:
جاء في مادة ( )29من ياسقهم الشركي ( :الناس متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات
العامة ل تمييز في ذلك بسبب الجنس أو الصل أو اللغة أو الدين).
خبِيثِ} [المائدة:
ج َبكَ َك ْث َرةُ الْ َ
طيّبُ َوَلوْ أَعْ َ
خبِيثُ وَال ّ
س َتوِي الْ َ
ال الخالق البارئ يقول{ :قُلْ ل يَ ْ
ظُلمَاتُ وَل النّورُ وَل الظّلّ وَل
عمَى وَا ْل َبصِيرُ وَل ال ّ
س َتوِي الَ ْ
.]100ويقول سبحانه َ { :ومَا يَ ْ
سمِعٍ مَنْ فِي الْ ُقبُورِ}
سمِعُ مَنْ يَشَاءُ َومَا َأ ْنتَ ِبمُ ْ
ن اللّهَ يُ ْ
ل ْموَاتُ إِ ّ
حيَاءُ وَل ا َ
س َتوِي الَ ْ
حرُورُ َومَا يَ ْ
الْ َ
جنّةِ} [الحشر .]20 :
س َتوِي َأصْحَابُ النّارِ َوَأصْحَابُ الْ َ
[فاطر .]22-19 :ويقول سبحانه { :ل يَ ْ
س َتوُونَ} [السجدة:
ال يحكم بهذا بعدله ورحمته ويقول{ :أَ َفمَنْ كَانَ ُم ْؤ ِمنًا َكمَنْ كَانَ فَاسِقًا ل يَ ْ
.]18وياسق الكفر وعبيده يقولون( :الناس متساوونة)
ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ}
{ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ
جعَلُ
وهذا حكم سوء ،حكم الجاهلية الذي أنكره ال َتعَالى على المشركين فقال تعالى{ :أَ َفنَ ْ
ح ُكمُونَ} [القلم .]36-35 :وعبيد الياسق ضاهوا أولئك
ج ِرمِينَ مَا َلكُمْ َك ْيفَ تَ ْ
سِلمِينَ كَا ْلمُ ْ
ا ْلمُ ْ
الجاهلين في حكمهم هذا ،وشابهوهم كما شابهوا النصارى في عقيدة التثليث ،ومن قبل شابهوا
اليهود في أخذهم ببعض الكتاب ونبذهم بعضه وشابهوا التتار في مصادر ياسقهم ،قد جمعوا كل
شر وباطل..
ثم يقول ال في السورة نفسها منكرا على المشركين ذلك الحكم العوج{ :أَمْ َلكُمْ ِكتَابٌ فِيهِ
خ ّيرُونَ} [القلم .]38-37 :ويُجيب عبيد الياسق( :نعم ،عندنا كتاب
تَ ْدرُسُونَ إِنّ َلكُمْ فِيهِ َلمَا تَ َ
ندرسه ونُدرسه في جامعاتنا ومدارسنا ونبجّله ونقدسه ونحترمه ونحميه ونعاقب من تهجم عليه
أو كفر به ..نعم ،ونحكم به بجنب ما نشتهي ونتخير ،إنه الدستور الذي شرع لنا أن ل فرق بين
الناس في الحقوق والواجبات بسبب الدين).
ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ}
{ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ
وكانت النعل لها جاهزة إن عادت العقرب عدنا لها
] ما هو قرآنهم الذي يعظمونه ويقدسونه ويرجعون كل شيء إلى حدوده؟؟ هل هو كتاب 3 [
ال تعالى ؟؟ كلّ ،بل الدستور..
جاء في المادة السابقة رقم ( )5أن تشريع أميرهم يكون (وفقا للدستور).
228
وجاء في المادة ( )53أيضا( :السلطة القضائية تتولها المحاكم باسم المير في حدود الدستور).
وهكذا لو تصفحت قوانينهم النتنة ونظرت في موادها ،لوجدت هذه العبارات تتكرر دوما
وبكثرة - :في حدود القانون -وفقا للقانون -وفقا لقواعد القانون -بموجب القانون -بناء
على القانون -طبقا للقانون -يُعيّن القانون -يقضي القانون -ما ينص عليه القانون -
الحوال التي يقرها القانون ة -وفقا للدستور -بموجب الدستور -في حدود الدستور.
فهم يرجعون كل تشريعاتهم وكل أمور حياتهم لياسقهم هذا ويعظمونه ويقدسونه لدرجة أن كل
من تولى منصبا خبيثا في حكومتهم كأمير أو نائب أمير أو رئيس مجلس الوزراء أو عضوية
مجلس المة أو الوزارة فإنه لبد له أن يقسم على احترام كتابهم النتن هذا.
ولجل ذلك سموا هذا القسم باليمين الدستوريةة ونسميها نحن باليمين الشركية الطاغوتية ..فهم
يقسمون على احترام هذا الياسق ..ويعظمونه ويقضون ويحكمون ويشرعون كما قررته هاتان
المادتان وفقا لحدود الدستور.
وهكذا فل اعتبار عندهم بكتاب ال تعالى ،ول وجود لحدوده في محاكمهم وقضائهم وتشريعاتهم
بل يضربون بها عرض الحائط ويتعدونها وقد قال تعالىِ { :تلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَل َت ْعتَدُوهَا َومَنْ َي َتعَدّ
حُدُو َد اللّهِ فَُأ ْوَل ِئكَ هُمْ الظّاِلمُونَ} [البقرة .]229 :ويقول سبحانه َ { :و ِت ْلكَ حُدُو ُد اللّهِ َومَنْ َي َتعَدّ
ظلَمَ نَفْسَهُ} [الطلق .]1 :ويقول عز وجلَ { :ومَنْ َيعْصِ اللّهَ َورَسُولَهُ َو َي َتعَدّ
حُدُو َد اللّهِ فَقَدْ َ
خلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا َولَهُ عَذَابٌ ُمهِينٌ} [النساء .]14 :ومع ذلك فإن عبيد الياسق يتعدون
حُدُو َدهُ يُدْ ِ
حدود ال ويقولون( :في حدود الدستور).
ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ}؟..
{ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ
جزء يسير جملة الكفـران يا أمة قد صار من كفرانها
من ربه أمسى على اليمان وال ما يرضى بهذا خائف
خـــــلصة مــــا ســـبق
يتلخص لدينا مما سبق من فضائح عبيد القانون ،أن دستورهم هذا قائم على الكفر والشرك
والزندقة واللحاد ومحاربة ال ورسوله ودينه..
• فهم ل يعترفون بال عز وجل ول بتشريعه ..بل الكلمة الولى والخيرة ترجع إلى رأي
وهوى مشرّعهم ..ويظهرون ويعلنون -كما رأيت -ويجاهرون بتحرجهم البالغ من الستسلم
لشرع ال وحكمه وحده..
229
• ل يقيمون وزنا لملة التوحيد ودين السلم ..فهم يحترمون ويحمون جميع أديان الكفر
والشرك والوثنية وكل الملل الخبيثة التي تُضاد التوحيد وتنافيه وتحاربه ،ويحمون طقوسها
الشركية ويدافعون عن كتبها وعقائدها الكفرية ..ويساوون أهل السلم بأهل الوثان والجرام..
ويفتحون باب الردة على مصراعيه ..بل ويعاقبون كل من حاول إغلقه ودرء الناس عنه..
• السلطان الحقيقي عندهم ليس ل َتعَالى كما أمر سبحانه وأوجب ،وإنما للمة بفجّارها
وكفّارها وزناتها ولصوصها وأفّاكيها ،وهي صاحبة السلطات جميعاة ويمثل أولئك الحـثالت
وغيرهم( :مجلس المة والمير وفقا للدستور) .وهذا ثالوثهم الذي يقدسون ويعبدون..
• وكتابهم الذي يعظمونه ويقدسونه ويجلونه ويحكمونه ويقدمونه على كتاب ال هو (الدستور)
وقوانينه ..أما القرآن فليس له اعتبار ول تقدير ول سلطان ول تحكيم ..ول يأخذون منه حين
يأخذون للتلبيس على العباد ،إلّ ما كان موافقا لهوائهم وشهواتهم( ..متمشيا مع مصالح البلد
-الفاسدة -وواقعها -النتن).
من بعد هذا القول ذي البـطـلن فانظر إلى السلم كيف بقاؤه
لتهدمت منـه قــوى الركـان وال لول ال حافـظ دينــه
عافاك من (قانون) ذي بهتـــان فاحمـد إلهـك أيها السني إذ
ناقضة لصل طـهارة اليـمـان (قانونـهم) أحداث هذا العصر
تلك الريح من روحٍ ومن ريحــان (قانونهـم) ريـح المقاعـد أين
أمثلة كفرية من قوانينهم الخرى
يقول أحد الخبراء القانونين معترفا بتناقض وتخبط القانون ( :لو أنك طلبت من عشرة خبراء
قانونيين أن يعرّفوا القانون ،فعليك الستعداد لسماع أحد عشر تعريفا) أهـ
قبل أن نشرع بسرد أمثلة كفرية من قوانينهم الخرى ،أعني المدني والتجاري والجزاء
وترقيعاتها ..ننبه على أمر هام فنقول-:
اعلم أن علماء الصول المسلمين إذا تكلّموا في الحكام ،ذكروا الحكم والحاكم والمحكوم فيه:
الذي هو فعل المكلف -والمحكوم عليه ،أي المكلف نفسه.
والحكم عندهم ( :خطاب ال تعالى المتعلق بأفعال المكلفين طلبا أو وضعا )
والطلب يشمل :الواجب ( أو الفرض ) والمحرّم ( أو المحظور ) والمستحب والمكروه والمباح
( أو الجائز).
230
والوضع يشمل :الصحة والبطلن ( أو الفساد )..
والحاكم :هو ال تباركت أسماؤه كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود وغيره أن
حكَم وإليه الحُكم ).
رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ( :إن ال هو ال َ
وقد عرفت مما تقدم تفصيلة أن الحُكم عند عبيد الياسق هو ( :خطاب أميرهم ومجلس أمته وفقا
لحدود وأهواء وثنهم الدستور ).
والحاكم عندهم :هو ثالوث ( المير ومجلس أمته والدستور ).
وهذا أمر قد قدمنا الدلئل عليه من دستورهم فل حاجة إلى العادة والتكرار ..ولكن المر
الخطير الذي نريد التنبيه عليه هنا ..أنهم قد صبغوا ووصفوا أحكامهم أيضا ،بخطاب ال تعالى
للعباد في الحكام الشرعية من تكليف ووضع.
والمقلب لقوانينهم النتنة يجدهم يستفتحون المئات من موادهم بقولهم - :يحرم أو يحظر-
ويجب أو يفرض القانون ..يجوز أو ل يجوز -أو يباح -يصحّ -أو يقع باطلً ..وهكذا ..
بوقاحة سافرة مكشوفة رغم أن ال تعالى يقول { :ول تَقولوا لما تَصفُ ألس َن ُتكُم الكذبَ هذا حللٌ
وهذا حرامٌ لتفتروا على ال الكذبَ إنّ الذينَ يفترونَ على ال الكذبَ ل يُفلحونَ ،متَاعٌ َقلِيلٌ َوَلهُمْ
عَذَابٌ َألِيمٌ} [النحل .]117 :
ثم اعلم أن من فضل ال َتعَالى ومنّه ،أن جعل شريعته سبحانه كلها قائمة على درء المفاسد عن
العباد وجلب المصالح لهم ..وحدّ علماء السلم الضروريات التي جاءت شريعة السلم لدرء
المفاسد عنها بستة أمور عليها قيام حياة الناس واستقامة مصالحهم ،وإذا فقدت اختل نظام
حياتهم وعمت فيها الفوضى والفساد ..وهي:
()1الدين ( )2النفس ( )3العقل ( )4العرض ( )5المال ( )6النسب.
إذا علمت هذا ..بقي أن تعلم أن قوانينهم هذه تعمل جهارا نهارا على هدم وهدر وهتك وتضييع
هذه المور الضرورية وغيرها مما جاءت الشريعة لحفظه ودرء المفاسد عنه..
وإليك الدلة على ذلك من قوانينهم النتنة نفسها حتى تتعرف إلى حقارة وتفاهة التشريع الذي
يحكم به عبيد الياسق :
أول :عدوان قوانينهم على دين السلم واستخفافها بملة التوحيد وحمايتها للشرك والمشركين.
دين السلم أو ( التوحيد ) من أهم الضرورات التي جاءت الشريعة للمحافظة عليها ودرء
المفاسد عنها ،والحاديث في التحذير من الشرك بأنواعه المختلفة أكثر من أن يتسع لها هذا
231
حتّى ل َتكُونَ ِف ْتنَةٌ َو َيكُونَ الدّينُ ُكلّهُ
المقام الضيق ..وقدمنا فيما مضى قوله تعالى{ :وَقَا ِتلُوهُمْ َ
( :مَنْ بَدّلَ دِينَهُ فَا ْق ُتلُوهُ) . ِللّهِ} [النفال .]39 :وقول النبي
أما موقف قوانين عبيد الياسق من هذه الضرورة الخطيرة ..فقد تقدم بيان ذلك في المثال الثاني
من كفريات دستورهم بما يُغني عن إعادته ،وملخصه أن القوم ل يقيمون اعتبارا لدين السلم
في قوانينهم ..فلو قلّبت قوانينهم كلها من أولها إلى آخرها لما وجدت مادة واحدة أو نصف مادة
أو سطرا أو كلمة تحرم أو تمنع أو حتى تقول بكراهة الرتداد عن دين السلم أو تنص على
عقوبة ولو هزيلة لذلكة فتلك عندهم حرية ،وليست بجريمة مطلقا.
( كان الدين مصدرا لكل 11 جاء في كتاب (الوسيط في شرح القانون الجزائي الكويتي) ص
أنواع السلوك فيما مضى ،ولم يشذ التنظيم التشريعي عن ذلك ،فكان العدوان على المقدسات
الدينية ،معاقبا جزائيا ،كما كان التظاهر بعدم التمسك بالشعائر المقدسة جرما يلحق مقترفه)
إلى أن قالوا في الصفحة نفسها( :وجاءت شرعة حقوق النسان التي أعلنتها المم المتحدة عام
تؤكد حرية العبادة وحرية التعبير عن الرأي ،وقد أقرت الدول العربية هذه الشرعة، 1948
وأعلنت قبولها بمبادئها ،وهذا التطور في الراء انتهى إلى قصر رسالة القانون الجزائي على
معالجة الجريمة والمجرمين دون تجاوزها إلى قضايا أخرى تتجاوز أهدافه ولذلك فإنه ل
يتعرض للجرائم الدينية إل إذا تسببت في إحداث اضطراب في المن ،أو جرحت مشاعر
الكثرية الدينية )..إلى قوله ( :ل توجد نصوص قانونية تعاقب على عدم القيام بالشعائر
الدينية ..الخ) .والتعليق على هذه الزندقة المكشوفة يحتاج إلى مصنف وحده ..والمقصود منه
أن يعرف الموحد؛ أنّ الردة عن الدين بأي صورة ،مغلظة كانت أم غير مغلظة ،ليست بجريمة
عندهم ول حتى جنحة ،ول عقوبة عليها ،بل هي حرية تحميها وتكفلها قوانينهم..
علَم أي دولة أخرى من دول الولياء من مكانه ،يعتبر جنحة
علَمهم أو َ
بينما مجرد تنـزيل َ
دينارا. 225 تستوجب السجن ثلث سنوات وغرامة مالية قدرها
ومجرد جرح كلب مملوك للغير أو قرد أو خنزير يكفي لسجن النسان بسببه سنتين ويعاقب
روبية. 2000 بغرامة قدرها
علَمهم النتن ولجرح حيوان
وهذا يدلك على سفاهة قوانينهم هذه وخستها ،فهي تعاقب لنزال َ
وإن كان مأمورا بقتله في دين ال تعالى ،أما إقصاء الشريعة وإنزالها عن دفة الحكم وفصلها
عن الدنيا ،وقتل الدين وإماتة العقيدة وهدمها فل عقوبة عليه ألبتّة ..بل إن في مواد قوانينهم ما
232
يحمي المرتدين والمشركين على اختلف مللهم ونحلهم بل والوثنيين كعباد بوذا وغيرهم ،وقد
قدمنا أن من الدلة الواضحة على أنهم ل يقيمون أي اعتبار لدين السلم حمايتهم لكل العقائد
والديان الباطلة وحماية طقوسها الشركية وكتبها الباطلة التي هي حرب على توحيد ال َتعَالى
وطعن صريح في عقائد السلم النقية ،فيحمون السيكي وإفكه ،والبوذي وباطله ،وعباد البقر
وشركياتهم ،وكل ملة ونحلة خبيثة .وهذا كله مضاد لدين ال وتوحيده الذي يقتضي ويوجب
البراءة من كل ملة باطلةة
وتقدمت المادة ( )35من ياسقهم والتي نصت على أن (حرية العتقاد مطلقة) فل بأس في ياسقهم
أن يرتد المسلم عن دينه فيصبح يهوديا أو نصرانيا أو وثنيا أو علمانيا أو شيوعيا ..فهذه حرية
شخصية يكفلها قانونهم النتن ،والواقع البائس أكبر شاهد على ذلك ..
إذا فقوانينهم حرب على التوحيد وهدر وتضييع لدين السلم وحماية للشرك وأهله..
ل تفسدوه (بياسق ) الشيطان يا قومنا ال في إسلمكم
ثانيا :تضييع قوانينهم للنفوس والدماء وتهوينها من شأن الجريمة والمجرمين
عصمت الشريعة السلمية دم المسلم فل يحل دمه إلّ بأمور محدودة منصوص عليها في
سلِمٍ إِلّ
الكتاب والسنّة ..ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما( :ل يَحِلّ دَمُ ا ْم ِرئٍ مُ ْ
جمَاعَةِ).
س 1وَالتّا ِركُ لِدِينِهِ ا ْلمُفَارِقُ ِللْ َ
ب الزّانِي وَالنّ ْفسُ بِالنّفْ ِ
بِإِحْدَى ثَلثٍ ال ّث ّي ُ
• والثيب الزاني :هو المتزوج إذا زنا ،وسيأتي فيما بعد بيان هذا وذكر قوانينهم التي تشجع
على الزنا والدعارة والفواحش ،وأن شريعة ال َتعَالى تأمر بقتل الثيب إذا زنى وقوانينهم تحميه
وتقول :ل يقتلة
سلِمٌ ِبكَا ِفرٍ) كما تقدم من حديث النبي
• والمقصود بالنفس نفس المؤمن الموحد (ول يُ ْقتَلُ مُ ْ
وهذا بالطبع مردود غير معتبر في قوانينهم التي تساوي بين المسلمين والمجرمين خلفا
لشريعة ال العادلة التي ل تقتل المسلم الموحد بالكافر النجس ومع ذلك فإذا وُجدت دولة السلم
فإن أهل العهد وأهل الذمة تُعصم دماؤهم ،ليس السيك وعبدة البقر وبوذا وغيرهم من عبدة
الوثان ،وكذا الروافض وأمثالهم فهؤلء ليسوا أهل ذمة وإنما المقصود بهم أهل الكتاب ومن
سن الصحابة بهم سنتهم ،ول يعني عصم دمائهم أن يقتل المسلم بالكافر وإنما يعني إثم القاتل
سلِمِ )
صفُ ِديَةِ ا ْلمُ ْ
عند ال تعالى وتغريمه الدية ،وديتهم نصف دية المسلم لحديث ( ِديَةُ المعاهد ِن ْ
رواه المام أحمد وغيره وهو حديث حسن ،إل أن يكون قتل عمد فتضاعف الدية بدل القود كما
233
في مسند المام أحمد والدارقطني وغيرهما وهو صحيح من قضاء عثمان بن عفان ،ول
يساوون بالمسلمين كما في ياسق الكفر ،وهذا كله إذا كانوا يدفعون الجزية عن يد وهم
صاغرون ول يعلنون أو يجاهرون بطقوس دينهم أو يظهرون صلبانهم أو كتبهم وشركياتهم..
ول يترفّعون على المسلمين أو حتى يساوون أنفسهم أو يتشبهون بهم وقد قال الفاروق لبي
موسى حينما كان واليا واتخذ كاتبا نصرانيا( :ل تؤمّنوهم وقد خوّنهم ال ،ول تقرّبوهم وقد
أبعدهم ال ول تعزّوهم وقد أذلّهم ال) رواه البيهقي وهو صحيحة
هذا في حكم الفاروق وأمثاله من أولياء الرحمن أما في حكم أولياء ياسق الشيطان فهم أعزة
مُقدّمون مُبجّلون مع أنهم يسومون المسلمين أشد العذاب في كل مكان ..ويستضعفونهم
ويستهزؤون بدين السلم ويطعنون بنبيه ويعلنون شركياتهم ويجاهرون بهاة
• والتارك لدينه :هو المرتد ،وقد تقدم بأنهم فتحوا باب الردة على مصراعيه وحرسوا ذلك
وحموه بقوانينهم الكافرة ،ول تخفى حال بلد المسلمين اليوم على كل بصير فإن أنواع الردة
وأشكالها المختلفة في ظل هذه القوانين النتنة قد ملت كل مكان ..سواء بترك شعائر السلم
وتعطيلها كليا أو بترك الصلة وجحدها أو بانتشار نواقض ( ل ِإلَهَ إِلّ ال) المختلفة من
الستهزاء والطعن في الدين وأوامره وغير ذلك مما هو مشتهر ومعروف ..ول يلقى ذلك كله
من هذه القوانين وعبيدها إلّ الحماية والحراسة والتأييد..
ويلتحق بقتل المرتد قتل الساحر فقد ثبت الدليل على قتله من السنة لنه كافر ..وهذا غير
موجود في قوانينهم طبعا لن السحر أصبح فنّا من الفنون العصرية ..أما الرقى القرآنية
والعلجات النبوية الشرعية فهي عندهم شعوذات يطاردها قانونهم ويمنعها.
ويلتحق بذلك الفساد في الرض وقطع الطريق وشق عصا المسلمين وأمثاله كما في الية ()33
من سورة المائدة التي تسمى بآية الحرابة ..وهذا بالطبع ل تعرفه قوانين عبيد الياسق إلّ إذا
كان في سبيل حماية عروشهم وأمن كروشهم ،فحينئذ تخرج وتنطلق فتاوى سدنتهم من كل
منافق عليم اللسان يدندنون بهذه الية ليصبغوا جرائم الطغاة في حق كل من خرج على قوانينهم
الباطلة صبغة شرعية ولو كان ذلك الخارج من أتقى أهل الرض وأصلحهم ..فإنه يُسمى
بخروجه على كفريات عبيد الياسق مفسدا في الرض باغيا خارجيا إلى غير ذلك من ألقابهم
التي يج َترّونها دوما وينعتون بها أهل الدين والصلح ،أما من خرج على الدين وأخرجه من
واقع الحكم والحياة وأفسد عقائد الناس وشريعتهم وحياتهم وأحكامهم وأموالهم وأعراضهم
234
بقوانينه الفاسدة ..فإن هذه الية ل تتناوله أبدا عند علماء السوء هؤلء ،وكذا قوانينهم ل شأن
لها بذلك؛ ول تعاقب عليه ،لنها كما قدمنا مقصورة على معالجة كل ما يشتهون إلّ الجرائم في
حق الدين ..وهذا ما قررته شرعة حقوق النسان التي أعلنتها المم المتحدة وهي سيدتهم
المبجّلة فكيف يحيدون عن قراراتها؟؟.
ومن ذلك قتل اللوطي سواء كان محصنا أو غير محصن ،كما في حديث ابن عباس أن النبي
عمَلَ َقوْمِ لُوطٍ فَا ْق ُتلُوا الْفَاعِلَ وَا ْلمَ ْفعُولَ بِهِ)
قال( :مَنْ وَجَ ْد ُتمُوهُ َي ْعمَلُ َ
أما في شرع عبيد الياسق فليس للوطي قتل أبدا بل عقوبته الحبس مدة ل تتجاوز سبع سنوات..
وهذا يعني أنها قد تنحدر وتتدنى إلى أقل من ذلك بكثير تبعا لهوى القاضي (وشطارة المحامي
وقوة الواسطة).
هذا إذا واقع رجل رجلً آخر بلغ الحادية والعشرين كما في المادة ( )193من قانون الجزاء ،أما
إذا كان دون الثامنة عشرة ولو بأيام ،فلهما مطلق الحرية في اللواطة وغيرها كما ستعرفه مما
سيأتي من قانون الحداثة لتزداد بصيرة من نتانة قوانينهم وقذارتها ،وأنها تشجع على اللواطة
والزنا والخنا.
عَل ْيكُمْ
وكذلك النفس بالنفس في شرع ال ..أي قتل المسلم عمدا كما في قوله تعالىُ { :ك ِتبَ َ
سلْطَانًا}
ج َع ْلنَا ِل َوِليّهِ ُ
ظلُومًا فَقَدْ َ
الْقِصَاصُ فِي الْ َق ْتلَى} [البقرة .]178 :وقوله تعالىَ { :ومَنْ ُقتِلَ مَ ْ
[السراء .]33:فقاتل النفس المسلمة يقتل في شرع ال.
أما في شرع عبيد الياسق فالمر مختلف ،والقوم عندهم استدراكات كثيرة على الَ ،تعَالى ال
عما يفتريه الظالمون علوا كبيرا ،ومن ذلك:
المرأة إذا ارتكبت جريمة قتل وكانت حاملً ثم وضعت طفلها حيا فإنها ل تقتل في شرعهم
أبدا ..انظر مادة رقم ( )59من قانون الجزاء ومادة ( )318من قانون الجراءات والمحاكمات
ومادة ( )49من قانون تنظيم السجون ..ومعلوم في شرع ال َتعَالى أن المرأة إذا ارتكبت ما
يوجب القتل وكانت حاملً ل تعفى من القتل بل تُقتل بعد أن تضع ما في بطنها وترضعه
وتفطمه كما في حديث الغامدية التي زنت وحملت من الزنا..
فال عز وجل يوجب قتلها ..وعبيد الياسق يوجبون وقف تنفيذ العدام فانظر إلى الوقاحة
والمحادة..
235
كذلك الشاب البالغ العاقل في شرع ال إذا قتل ،فإنه ل يقتل عندهم ،ما دام لم يتم الثامنة عشرة
من عمره ولو بأيام كما في المادة رقم ( )14من قانون الحداث -:
( أ -إذا ارتكب الحدث الذي أكمل الخامسة عشرة ولم يكمل الثامنة عشر من العمر جناية
عقوبتها العدام أو الحبس المؤبد حكم القاضي عليه بالحبس مدة ل تزيد على عشر سنوات).
وحتى الرجل الكبير الذي تعدى الثامنة عشرة من عمره إذا قتل عمدا ل يعاقب بالعدام على
كل حال ،بل للقاضي أن يستبدل ذلك الحبس المؤبد كما في المادة ( )149من قانون الجزاء ول
يعاقب عندهم بالعدام جزما إلّ إذا اقترن القتل العمد بسبق الصرار والترصد كما في المادة (
.)150
بل لعبيد الياسق ومحاكمهم أن يستبدلوا عقوبة العدام بالسجن المؤقت أيضا ،متى شاءوا كما
في المادة ( )83المرقعة من قانون الجزاء التي تنص على أنه ( يجوز للمحكمة إذا رأت أن
المتهم جدير بالرأفة بالنظر إلى الظروف التي ارتكب فيها الجريمة ،أو بالنظر إلى ماضيه أو
أخلقه أو سنه ،وأن تستبدل بعقوبة العدام عقوبة الحبس المؤبد أو المؤقت الذي ل تقل مدته
عن عشر سنوات) ..ثم قالوا للتهويل من شأن مادتهم الفاسدة هذه ( :ول يجوز أن تقل عقوبة
الحبس المؤقت عن ثلث الحد القصى للجريمة) ثم عادوا فخرموها ليبقى معهم مجال للعب
والعبث فقالوا ( :كل ذلك ما لم ينص القانون على حد أدنى آخر) وبالطبع فإن قانونهم ينص
على تهوينات وتمييعات كثيرة ل تحصى سنعدد كثيرا منها فيما يأتي لتعرف أن القضية في
شريعة الغاب ( حاميها حراميها) ومواد وبنود تخبط بعضها بعضا (وأنت وحظك وواسطتك يا
ولد).
بل إن المادة رقم (( )160المعدلة) المرقعة من قانون الجراءات والمحاكمات تتيح لكثير من
المجرمين الهرب والفرار من عقوبة العدام بسهولة جدا فهي تنص على أنه ( :إذا كانت
الجريمة معاقبا عليها بالحبس مدة تزيد على سبع سنوات أو بعقوبة أشد من ذلك واشترك في
ارتكابها أكثر من شخص واحد .وكان التحقيق في حاجة إلى أدلة كافية ضدهم أو ضد بعضهم
فللمحكمة أن تمنح عفوا لي شخص يظن أن له علقة بالجريمة ولو كان متهما بارتكابها على
شرط أن يدلي بمعلومات تكفي للقبض على المتهمين الخرين وأن يقدم كل ما لديه من أدلة
تساعد في إدانتهم ويعتبر المتهم في هذه الحالة شاهدا ،ولكن ل يحلف اليمين .ويجوز أن يبقى
محبوسا على ذمة القضية ويصبح العفو نافذا ملزما إذا قام المتهم بتنفيذ هذه الشروط بحسن نية
236
وساعد المحكمة في التحقيق مساعدة جدية ويصدر الحكم بعدم قبول الدعوى ضده بناء على
العفو)ة
فبإمكان أي مجرم شارك في قتل البرياء أن ينجو من عقوبة العدام أو المؤبد بأن يبادر
ويسارع في التبليغ عن شركائهة وهذا فتح باب عظيم لزهاق أرواح البرياء والستخفاف بها..
في ظل حماية هذه المادة من قانونهم النتنة
أليست هذه شرعة غاب..؟؟ إي وربي إنها العبث والسفاهة والفوضىة
ليس ذلك وحسب بل لميرهم أن يسقط الحكم تماما ويأمر بالعفو الشامل عن القاتل قتلً عمدا
وإن كان قتله عن سبق الصرار والترصد كما في المادة ( )217من قانون الجراءات
والمحاكمات الجزائية( :كل حكم بالعدام ل يجوز تنفيذه إلّ بعد مصادقة المير عليه ،ويوضع
المحكوم عليه في السجن إلى أن يُصدر المير قراره بالمصادقة أو تخفيف العقوبة أو العفو).
بل قد نصوا على ذلك في دستورهم الكفري فقالوا في المادة ( )75منه ( :للمير أن يعفو
بمرسوم عن عقوبات الجرائم أو أن يخففها).
وكذا مادة ( )60من قانون الجزاء ( :ل يجوز تنفيذ عقوبة العدام إلّ بعد تصديق المير،
ويحق له من تلقاء نفسه العفو عن هذه العقوبة أو استبدال غيرها بها).
أليس هذا قمة في العبث بأرواح الناس وحقوقهم ودمائهم؟ ..ثم ليتفكر العاق ،ما مصدر هذا
القانون وأمثاله؟ هل هو الكتاب والسنة يا ترى؟؟
أو عبده المبعوث بالبرهـــان هـذا كتاب ال أنّى قال ذا
لهم عـلى اليـمان والحسان أو صحبه من بعده أو تابع
ل وال إنما مصدره كناسة الهواء وزبالة الراء وقذارة الشهوات ..أليس من مصادر تشريعهم
الرأي والهوى؟ ..فلبد إذن أن تطوع وتشكل القوانين تبعا لمصالحهم وكما يشتهون ويحبون..
وأين هذا كله من شرع اللطيف الخبير الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه؟ ..فسحقا
سحقا لمن عطّله واستبدل به هذه القاذورات سحقا له وبعداة وعلى هذا فإذا كان القاتل من آل
الصباح مثلً ،أو كانت لديه معرفة وعلقة طاغوتية بالمير فلهذا المير أن يقرر العفو الشامل
عن أخيه المجرم الثيم ولو كان المقتول أتقى أهل الرض جميعا فل قيمة لذلك عندهم ول
الذي قال له النبي: حبّ رسول ال
اعتبار ..وأنّى هذا المير وأمثاله من نعل أسامة بن زيد ِ
237
ط ْعتُ
سرَ َقتْ لَقَ َ
حمّدٍ َ
طمَةَ ِب ْنتَ مُ َ
(َأتَشْفَعُ فِي حَدّ مِنْ حُدُو ِد اللّهِ؟) ..إلى قوله( :وَايْ ُم اللّهِ َلوْ أَنّ فَا ِ
يَدَهَا) .
وإذا علمت أن شريعة ال َتعَالى لم تُحل دم المسلم إلّ بأمور معدودة منصوص عليها ،بقي أن
تعلم أن عبيد الياسق قد استحلوا قتله في أبواب شتى ،تبعا لهوائهم ومصالح عروشهم فمن
ذلك:
-مادة ( )1من الجرائم المتعلقة بأمن الدولة( :يعاقب بالعدام :أ -كل من ارتكب فعلً يؤدي
إلى المساس باستقلل البلد أو وحدتها أو سلمة أراضيها .ب -كل كويتي رفع السلح على
الكويت ..الخ).
وهذا كما أسلفنا من القوانين المطاطية التي يستفيد منها عبيد الياسق لحماية عروشهم وقوانينهم
وسلطانهم كيف شاؤوا ومتى شاؤوا تبعا لهوائهم..
-ومثل ذلك تماما المادة ( )23من القانون نفسه( :يعاقب بالعدام كل من اعتدى على حياة
المير أو على سلمته أو على حريته أو تعمد تعريض حياته أو حريته للخطر ،ويحكم بذات
العقوبة إذا كان الفعل قد وقع على ولي العهد).
-وكذلك المادة ( ( : )24يعاقب بالعدام كل من اعتدى بالقوة على السلطات التي يتولها
المير ،سواء كان ذلك بحرمانه من كل هذه السلطات أو من بعضها أو كان بعزله أو إجباره
على التنازل ويعاقب بنفس العقوبة كل من استعمل القوة لقلب نظام الحكم القائم في البلد).
-أضف إلى ذلك من أمثلة أهوائهم مادة ( ( )31ل جريمة إذا وقع الفعل أثناء مباراة رياضيةة
الخ) تأمل السفاهة !.ومادة ( ( :)37ل جريمة إذا وقع الفعل من موظف عام أثناء مباشرته
اختصاصه ،استعمالً لسلطة يقررها القانون ،أو تنفيذا لمر يوجب عليه القانون طاعته ،بشرط
أن يلتزم حدود السلطة أو المر) فينكّلون طبقا لهذه المادة وأمثالها بكل مخالف لسلطتهم
وشركياتهم وباطلهم في حدود ما يوجب ياسقهم الذي ل يقيم وزنا لحرمات ال ،ول يرقب في
مؤمن إلً ول ذمة.
وهكذا ترى أن قوانينهم هذه ليست إلّ عبثا واستهتارا واستخفافا بنفوس المسلمين ودمائهم ،وفي
الوقت نفسه هي حماية لدماء ونفوس المجرمين والمشركين والمرتدين كما تقدم يقلبونها
بأهوائهم وشهواتهم كيفما شاؤوا.
ثالثا :استهتار قوانينهم واستخفافها بالعقول
238
العقل َأيْضا من الضروريات التي جاءت الشريعة لحفظها لذا فقد حرم ال كل شراب مسكر،
عمَلِ
جسٌ مِنْ َ
لزْلمُ رِ ْ
سرُ وَالَنصَابُ وَا َ
خ ْمرُ وَالْ َميْ ِ
قال تعالى{ :يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا ِإ ّنمَا الْ َ
خ ْمرِ
شيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ َب ْي َنكُمْ ا ْلعَدَا َوةَ وَا ْل َبغْضَاءَ فِي الْ َ
ج َت ِنبُوهُ َل َعّلكُمْ تُ ْفلِحُونَ ِإ ّنمَا ُيرِيدُ ال ّ
شيْطَانِ فَا ْ
ال ّ
ن الصّلةِ َفهَلْ َأ ْنتُمْ مُن َتهُونَ} [المائدة .]91-90 :وأوجب النبي
وَا ْل َميْسِرِ َو َيصُ ّدكُمْ عَنْ ِذ ْكرِ اللّهِ وَعَ ْ
الحد على شارب الخمر درءا للمفسدة عن العقل ،وكان شاربها يضرب بالجريد والنعال زيادة
في الزجر والتنفير عنها..
أما في شرع عبيد الياسق فالخمر ليست محرمة ول مانع من تعاطيها لمن شاء متى شاء ولكن
الشرط الوحيد عندهم فقط أل يكون ذلك في مكان عام ،وحتى من تعاطاها في مكان عام ولو
شهد عليه ألف إنسان فإن دين ياسقهم ل يوجب عليه حدا ول ضربا ،وإنما عقوبة هزيلة تافهة
تُـهوّن من شأن هذه الكبيرة وتشجّع عليها..
جاء في المادة ( )206مكرر( :يعاقب بالحبس مدة ل تزيد على ستة شهور وبغرامة ل تجاوز
خمسين دينارا أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من تعاطى في مكان عام أو في مكان يستطيع فيه
رؤيته من كان في مكان عام أو في ناد خاص خمرا أو شرابا مسكرا )..والمقلب لجرائدهم
يجد فيها عشرات بل مئات من جرائم السكر التي يحكم فيها بوقف تنفيذ هذا القانون النتنة
رغم هزالته وتفاهته ،فيُحكم على المجاهر بالسكر بسجن لمدة شهر أو شهرين أو ثلثة غالبا مع
وقف التنفيذ ،أي أنه ل يسجن فعليا بل ذلك مجرد تهديد ..وأحيانا إذا حكم عليه بالسجن خرج
بكفالة قدرها خمسون دينارا ،أي أنه إذا عاد إلى المجاهرة بالسكر أخذت منه الخمسون دينارا
فقط ،كما هو واضح في القانون حيث قالوا ( :أو بإحدى هاتين العقوبتين) فل تتعجب بعد أن
عرفت هذا إذا ما رأيت أو سمعت خبرا مفاده (أصدرت محكمة الجنح حكمها بحبس المتهم
حسين ثلثة أشهر مع الشغل وكفالة خمسين دينارا ليقاف التنفيذ بتهمة السكر البين ،وإقلقه
راحة عمته فاطمة بسبب تناوله الخمر ،ودخوله منزلها وإيقاظها من نومهاةالخ).
وغير ذلك كثير ل نريد تسويد هذه الصفحات به وإنما نقصد التمثل..وكل ذلك كي يسهلوا
تعاطي الخمر وهي مقدمات لباحتها مطلقا كما هو حال كثير من دول الجوار الطاغوتية
الخرى.
بل يصرحون وبوقاحة في قوانينهم بتسمية الخمر بالمشروبات الروحية تهوينا لها ومتابعة
لوليائهم الغربيين كما في قانون المرور .انظر على سبيل المثال مادة ( )38ومادة ( ..)44وهذا
239
حين أخبر عن أناس يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها ..كما في مصداق قول رسول ال
الحديث الذي رواه ابن ماجة عن عبادة ابن الصامت.
وهذا يدلك على استهتار القوم واستخفافهم بعقول البشر التي جعلتها الشريعة من الضروريات
التي يجب حفظها وحمايتها.حتى بلغ بهم المر أن يعظموا شأن الحيوان وإن كان حيوانا حقيرا
كالخنزير مثلً أكثر من عقول الخلق..
حيث تقدم أن من جرح أيّ (حيوان مملوك) هكذا جاء في المادة ( )254من قانون الجزاء بصيغة
العموم ولم تستثن أي نوع من الحيوانات خنزيرا أو غيره ،المهم أن يكون مملوكا ولو لكافر
محارب أو مشرك فإنهم لم يحددوا أيضا ..فالعقوبة عندهم السجن سنتين فأقل وغرامة ألفي
روبية ..بينما للحفاظ على العقل وضعوا عقوبة ل تزيد عن ستة أشهر فجرح كلب لسيكي أو
خنزير لصليبي أهم في شريعة وقوانين عبيد الياسق من العقل الذي امتن ال َتعَالى به على
النسان..
ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ }
{ ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ
علَم
علَم روسيا الشيوعية أو أمريكا الصليبية ،إنزاله فقط ليس تقطيعه أو إهانته ،أو َ
كذلك إنزال َ
أي دولة خبيثة تحارب السلم والمسلمين ،المهم عندهم أل تكون معادية لنظمتهم فهذا عندهم
جريمة أعظم من جريمة العتداء على الشرع والعقل لذا فإن ياسقهم النتن كما في المادة ()33
من قانون جرائم أمن الدولة يقضي على من فعل ذلك بالسجن ثلث سنوات وغرامة مالية
قدرها ( )225دينارا ..كما تقدم .فالحمد ل على نعمة السلم ونعمة العقل التي حرم منها
أصحاب هذه التشريعات المتهافتة الساقطة.
رابعا :تلعب قوانينهم وعبثها بالعراض
العرض َأيْضا من الضرورات التي جاءت الشريعة لحفظها وحمايتها ،فنهى سبحانه عن كل ما
ضكُمْ َبعْضًا}[الحجرات .]12 :
يمس عرض المسلم من أذى .من ذلك قوله تعالى{ :وَل َي ْغ َتبْ َب ْع ُ
للْقَابِ} [الحجرات .]11 :وأحاديث النبي
سكُمْ وَل َتنَا َبزُوا بِا َ
وقوله عز وجل{ :وَل َتلْمزُوا أَنفُ َ
في ذلك كثيرة ..ولجل ذلك حرّم ال القذف وجعله من الموبقات وأوجب سبحانه على من رمى
صنَاتِ ثُمّ لَمْ يَ ْأتُوا بَِأ ْر َبعَةِ
ح َ
مسلما بفرية حدّ القذف ثمانين جلدة ،قال تعالى{ :وَالّذِينَ َي ْرمُونَ ا ْلمُ ْ
شهَا َدةً َأبَدًا َوُأ ْوَل ِئكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ إِلّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ
جلْ َدةً وَل تَ ْق َبلُوا َلهُمْ َ
جلِدُوهُمْ َثمَانِينَ َ
شهَدَاءَ فَا ْ
ُ
ن اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور .]5-4 :
صلَحُوا فَإِ ّ
َبعْدِ َذِلكَ َوأَ ْ
240
فتوجب شريعة ال َتعَالى القاذف طبقا لهذه الية إذا لم يقم البينة على صحة ما قال ،ثلثة
أحكام:
أحدها :أن يجلد ثمانين جلدة.
والثاني :أن ترد شهادته أبدا.
والثالث :أن تنتفي عدالته فيصير فاسقا.
خ َرةِ
صنَاتِ ا ْلغَافِلتِ ا ْل ُمؤْ ِمنَاتِ ُل ِعنُوا فِي ال ّد ْنيَا وَال ِ
ح َ
وقال َتعَالى في حقه{ :إِنّ الّذِينَ َي ْرمُونَ ا ْلمُ ْ
َوَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور .]23 :هذا في دين ال تعالى.
أما في دين عبيد الياسق ،فإن المر مختلف لنهم ل َي ْعتَدّون أصلً بأحكام الشريعة ل قرآنها
،ل في القذف ول في غيره ،لذا فإن عقوبة القذف عندهم قد ل تتعدى السجن ول سنّة نبيها
شهرا واحدا أو الغرامة التي ل تتجاوز مائة روبية ،طبقا لمادة ( )212من قانون الجزاء وقد
تزيد عن ذلك قليلً بشرط أن ل تتعدى السنتين ،أو الغرامة التي ل تتجاوز ألفي روبية ،وهي
أشد عقوبة عندهم للقذف كما في المادة ( )209والتي نصها( :كل من أسند لشخص ،في مكان
عام أو على مسمع أو مرأى من شخص آخر غير المجني عليه ،واقعة تستوجب عقاب من
تنسب إليه أو تؤذي سمعته ،يعاقب بالحبس مدة ل تجاوز سنتين وبغرامة ل تجاوز ألفي روبية
أو بإحدى هاتين العقوبتين.
فال عز وجل يأمر في شريعة السلم بجلد القاذف ثمانين جلدة ،وردّ شهادته وإسقاط عدالته..
وعبيد الياسق يقولون :ل ..السجن أو الغرامة فقط ،هذا إذا لم يحكموا بوقف التنفيذ ..أو
يستعملوا المواد التي تعطي المير حق العفو في أي جريمة كما تقدم أو غير ذلك مما يجعل
أعراض الناس ألعوبة لكل خسيسة
واعلم أن المر ل يقف عند هذا الحد بل القوم قد شرعوا في دينهم قوانين تفتح الباب على
مصراعيه لكل نذل وحقير ليطعن في أعراض من شاء من المسلمين كيف شاء ومتى شاءة
وانظر على سبيل المثال المادة ( )213من قانون الجزاء (( :ل جريمة إذا وقعت الفعال
المنصوص عليها في المواد السابقة -أي مواد القذف والسب -في الحوال التية - :إذا
صدرت القوال أو العبارات المنشورة من موظف أو غير موظف تنفيذا لحكم القانون أو
استعمالً لختصاص أو لحق يقرره )) ،وذكروا أحوالً أخرى ..ثم قالوا (( - :وفي الحوال
المتقدمة الذكر ،يستوي أن تكون القوال أو العبارات صحيحة أو غير صحيحة ،ويستوي أن
241
يكون من صدرت منه يعتقد صحتها أو ل يعتقد ذلك ،ويستوي أن يكون النشر قد تم بحسن نية
أو بسوء نية)) .وهاك بعض صفات هذه القوال والعبارات التي جوزوها لموظف أو غير
موظف تنفيذا لحكم القانون أو استعمال لختصاص منحة له القانون ،كما جاءت في مادتيهم (
:)210( )209فمن ذلك ( :وصف الشخص بواقعة تستوجب عقابا ،أو تؤذي سمعته ،أو سب
يخدش شرفه).
أليس هذا تسهيلً وفتحا لباب الطعن في العراض في ظل حماية قانونهم؟؟ .وفي ظل (الحقوق
والختصاصات التي يقررها) لوليائه وعبيده وسدنته ..على حد تعبيرهم..؟؟
بقي أن تعلم أخيرا أن نصوص موادهم هذه المتعلقة بالقذف نصوص مطاطية هلمية عامة
كباقي قوانينهم ..فيستطيعون عن طريق تسيّب هذه المواد وعمومها أن يدخلوا فيها وتحت
محتواها كل باطل وهوى وزور يشتهونه ،فيستطيعون على سبيل المثال أن يصدوا الناس عن
النهي عن المنكر ،كالتحذير من منكرات الممثلين الساقطين والساقطات الحياء منهم والموات
ومن أفلمهم ومسرحياتهم الفاجرة التي يشيعون فيها الفاحشة بين المسلمين ..فباستطاعة عبيد
الياسق بواسطة هذه القوانين وعباراتها الهلمية أن يزجوا بكل مخلص حذّر الناس من هذه
المنكرات بالسجن سنتين مع الغرامة المالية ..وهكذا ،بأمثال قولهم في المادة (( )209أو تؤذي
سمعته) فإن هذه العبارة ليس لها حدود ول قيود عندهم ،خصوصا وقد قالوا (يستوي أن تكون
القوال أو العبارات صحيحة أو غير صحيحة ..إلخ ) ،فيدخل في ذلك إنكار المنكر على أهله
ولو كان شركا صراحا ..أضف إلى ذلك أن قانونهم هذا يصلح للذب عن كل زنديق وملحد
وينفع لحماية كل كافر ومشرك دون تفريق بين بوذي أو هندوسي أو سيكي أو رافضي ،فقولهم
في مواد القذف المشار إلى أرقامها آنفا ( كل من أسند لشخص) يؤدي ولبد إلى هذه النتيجة
الوخيمة ..أعني حماية الشرك وأهله..
وواقع مجتمعاتهم النكد من أكبر الدلة على ما نقول ..فإن صور الدعاة المخلصين من المؤمنين
تشوه ويطعن فيها ليل نهار .فتارة يظهرونهم في تمثيلياتهم الفاجرة بصور معتوهين يلحقون
النساء في كل مكان ل همّ لهم إلّ فروجهم ..وتارة يصورون ذلك في صحافتهم النتنة بصور
(كاريكاتيرية) خسيسة مع كؤوس الخمر والنساء .بل قد بلغ الطعن إلى خاتم النبياء والمرسلين
فتصفه كثير من كتب ومجلت أوليائهم من النصارى الغربيين وغيرهم بأنه ( زير نساء) وغير
ذلك مما لم يقله حتى مشركو قريش ،ول يحرك هذا عند عبيد الياسق ممن يدعون السلم
242
واليمان ساكنا ..بل على العكس تماما فدلئل الولء والود والصداقة والتعاون مع أولئك الكفرة
الفجرة أكثر من أن تحصى ..بل تجدهم يستغلون أمثال هذه القوانين في الدفاع عن أولئك
الصدقاء الكفرة الفجرة وعن فسادهم وباطلهم وعن دولهم وأعلمهم كما تقدم.
وهكذا ترى أن قوانينهم هذه ليست إلّ حماية لكل ساقط وحصانة لكل حقير وديوث وخسيس،
وهدر لعراض المسلمين والمؤمنين الصادقين الطاهرين ،واستخفاف بها ..
خامسا :قوانينهم هدر للحقوق وأكل لموال الناس بالباطل وحماية للربا واللصوصية
( المال) من الضرورات التي أمر ال َتعَالى في شريعة السلم بحفظها ..فمنع ال سبحانه أخذه
بغير حق شرعي ،قال تعالى{ :يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا ل تَ ْأ ُكلُوا َأ ْموَاَلكُمْ َب ْي َنكُمْ بِا ْلبَاطِلِ إِلّ أَنْ َتكُونَ
تِجَا َرةً عَنْ َترَاضٍ ِم ْنكُمْ} [النساء .]29 :وحرّم سبحانه لجل ذلك وأبطل كثيرا من البيوع الفاسدة
كما حرّم الربا والسرقة وأوجب على السارق حد السرقة وهو قطع اليد ،قال تعالى{ :وَالسّارِقُ
ن اللّهِ} [المائدة .]38 :وجعل سبحانه في أموال
سبَا َنكَالً مِ ْ
جزَاءً ِبمَا كَ َ
طعُوا َأيْ ِد َي ُهمَا َ
وَالسّارِقَةُ فَاقْ َ
الغنياء حقا لزما واجبا يؤدى للفقراء ..أما دين عبيد الياسق فالمر مختلف ..وباب أكل أموال
الناس بالباطل مفتوح على مصراعيه:
-سواء بأكل حقوق الفقراء التي فرضها ال لهم في أموال الغنياء وذلك بتعطيلهم لفريضة 1
الزكاة ،وجعلها حرية شخصية .مما سهل عليهم وعلى أوليائهم من الغنياء أكل تلك الحقوق بل
رقيب أو عتيب ..وفي المقابل تكديس المليين بل المليارات التي يأكلونها ويختلسونها من
خيرات المسلمين في بنوك الغرب الربوية ..ليستثمرها أولياؤهم من اليهود والنصارى في
تعمير بلدهم وتخريب بلد المسلمين ..ومعلوم أن تعطيل هذه الفريضة العظيمة ،كان سببا
.. للمرتدين بعد وفاة النبي رئيسيا في قتال أبي بكر
-وسواء بجعل الغرامة عقوبة قانونية معمولً بها في مختلف المجالت والقوانين ،وهذا 2
يتكرر كثيرا في قوانينهم وانظر على سبيل المثال ل الحصر قوانينهم الجزائية لتجد الغالبية
العظمى من موادها تحكم بالسجن وبالغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين ..وقد تقدم من ذلك
الكثير من المثلة ..وهذا من أكل أموال الناس بالباطل ولشك..
سلِمٍ
( :مَنِ ا ْقتَطَعَ حَقّ ا ْم ِرئٍ مُ ْ وشريعة ال َتعَالى قد جعلت للمال حرمة فقال رسول ال
جنّةَ َوإِنْ كَانَ َقضِـيـبًا مِنْ َأرَاكٍ) .واليات
عَليْهِ الْ َ
حرّمَ َ
ب اللّهُ لَهُ النّارَ وَ َ
ج َ
ِب َيمِينِهِ فَقَدْ َأوْ َ
والحاديث في هذا كثيرة ..هذا في شريعة ال العادلة الصادقة..
243
أما في شرع عبيد الياسق فالغرامة عقوبة من العقوبات الرئيسة الهامة التي تكاد تكون ملزمة
لكل نص من نصوص قوانينهم ..سواء على صورة غرامة كما في قوانين الجزاء وغيرها أو
على صورة مخالفات كما في قانون المرور أو في لوائح البلدية وقوانينها أو على صورة
مكوس وضرائب كما في القانون التجاري وغيره ،وتتعدد الصور والتسميات والنتيجة واحدة،
وهي أكل أموال الناس بالباطل..
واعلم أن المر عند عبيد الياسق في باب الموال ل يقف عند الغرامة والمخالفة والمكس بل قد
فتحوا لنفسهم الباب على مصراعيه لكل أموال الناس بالباطل وذلك طبقا للمادة ()237
المرقّعة - .هم يقولون المعدّلة -من قانون الجراءات والمحاكمات الجزائية والتي وردت في
باب :تنفيذ الحكم بالغرامة والحكم بالمصادرة ،وتنص على أنه( :إذا حكم بمصادرة شيء منوط
أصبح ملكا للدولة ،يجوز للمحكمة أو للنائب العام أن يأمر بإتلف الشياء المصادرة ،أو بيعها
بالمزاد أو بالممارسة ،أو بتسليمها إلى إحدى الجهات الحكومية للنتفاع بها في حدود القوانين،
ويكون إتلفها واجبا إذا نص عليه في الحكم).
-أضف إلى تلك البواب أبواب التأمين المختلفة التي أباحوها دون أي ضابط أو حد ،وانظر 3
على سبيل المثال ل الحصر المواد ( )5و( )145من القانون التجاري ..ففي المادة ( )5جعلوا
التأمين بمختلف أنواعه عملً تجاريا مباحا (تعد أعمالً تجارية ،العمال المتعلقة بالمور التية،
بقطع النظر عن صفة القائم بها أو نيته:
معاملت البنوك ()1
الحساب الجارية ()2
التأمين بأنواعه المختلفةة) ()3
وغير هذه المادة كثير.
ولقد خصصوا في قانونهم المدني للتأمين بمختلف أنواعه التي نص على تحريمها أهل العلم،
فصلً كاملً مبيحا بل موجبا في كثير من الحوال للتأمين ويتكون من [ ]36مادة تبدأ من المادة
رقم ( )773فليراجعه من شاء التفصيل..
-كذلك أبواب الميراث والدية ونحوها ،فعبيد الياسق قد أكلوا بقوانينهم هذه حقوق الموحدين 4
وأعطوها لقربائهم من المرتدين والزنادقة والملحدة ،فقد تقدم أن قوانينهم ل تقيم وزنا لدين
السلم وملة التوحيد ،فل عقوبة فيها للمرتد ،فالردة والزندقة واللحاد حرية شخصية ،حيث
244
نص دستورهم كما تقدم في قانونهم كما في المادة ( )29المتقدمة من الدستور َأيْضا ول فرق
عندهم في الحقوق والواجبات بسبب الدين ،ل فرق بين المسلم الموحد والمشرك الملحد ول
يؤثر عندهم في الميراث أو الحقوق المالية الخرى كالدية أو غيرها كون النسان شيوعيا أو
بعثيا أو زنديقا أو ملحدا أو علمانيا أو من عبيد الياسق أو متبعا أو مواليا لغير ذلك من ملل
الكفر ومذاهبه المنتشرة بكثرة في هذا الزمان فليس في قوانينهم -ول حتى في تلك التي
يزعمون موافقتها للشريعة مما يسمونه (الحوال الشخصية) -ليس فيها ما يحول بين هذا
المرتد وبين ميراث أبيه المسلم بل يعطى من حقوق الموحدين ويعان على أكل أموال الورثة
سلِمَ ) وعبيد
يقول ( :ل َي ِرثُ ا ْلكَا ِفرُ ا ْلمُ ْ المسلمين في ظل حماية قوانينهم الكافرة ..فالنبي
الياسق ل يقيمون وزنا لكلم ال ول لكلم رسولهة ويقولون :ل فرق بين الناس في الحقوق
والواجبات بسبب الدينة
ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ }
{ ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ
-وكذلك الربا الصريح بأوضح أبوابه وأشنعها ،فإنه مشروع جائز حلل مباح في شريعة 5
245
-1معاملت البنوك ..هكذا مطلقا.
كل هذه المواد وغيرها تصرح تصريحا بجواز التعامل بالربا وبشرعية مؤسساته وتمتعها
بحماية الدولة وقوانينها وحكومتها وشرطتها..
حرّ َم ال ّربَا) فإذا
ويجاهرون بكلمة (يجوز) بكل وقاحة مع أن ال َتعَالى يقول في محكم تنزيله( :وَ َ
لم تكن هذه محادة ل ولدينه فما هي المحادة إذن يا سدنة الياسق؟ إنها وال المحاربة ل
ولرسوله ولشرعه صراحة ،ولكن أكثر الناس نائمون غافلون ..وما لجرح بميت إيلم ..وقد
قال َتعَالى في سورة البقرة -بعد أن حرم الربا وأمر عباده بالنتهاء عن التعامل به إن كانوا
ن اللّهِ َورَسُولِهِ} [البقرة .]279 :
ح ْربٍ مِ ْ
مؤمنين حقا -قال{ :فَإِنْ لَمْ تَ ْف َعلُوا فَأْ َذنُوا بِ َ
وانظر على سبيل المثال ل الحصر في مجاهرتهم وإعلنهم بهذه المحادّة ،المادة ( )111من
قانونهم التجاري بند (( :)1يجوز للعاقدين أن يتفقا على سعر آخر للفائدة على أن ل يزيد السعر
على السعار المعلنة من البنك المركزي والتي يقوم بتحديدها مجلس إدارة البنك بعد موافقة
وزير المالية ةالخ)
وكذا المادة ( )297جاء في البند الثاني ( :في الحسابات الجارية لدى البنوك يجوز احتساب فائدة
على الفوائد أثناء بقاء الحساب مفتوحاة الخ).
وكذلك المادة (( : )483يجوز لمن وفى بكمبيالة أن يطالب ضامنيه بما يلي :أ . .. -ب -فوائد
ما وفاه محسوبة من يوم الوفاء بالسعر القانوني .)… •7
والربا في دين عبيد الياسق حق للدائن غير متعلق بالضرر أو غيره مما قد يستغله في الترقيع
والتلبيس بعض سدنة القانون ..جاء في المادة ( ( :)112ل يشترط لستحقاق فوائد التأخير
قانونية كانت أو اتفاقية أن يثبت الدائن أن ضررا لحق من هذا التأخير).
ولم يكتف عبيد الياسق بوقاحة قولهم (يجوز) ول بجعلهم الربا حقّا للدائن ،بل جاهروا بجعله
واجبا لزما في شرعهم ..كما في المادة (( :)110إذا كان محل اللتزام التجاري مبلغا من النقود
وكان معلوم المقدار وقت نشوء اللتزام ،وتأخر المدين في الوفاء به كان ملزما أن يدفع للدائن
على سبيل التعويض عن التأخير فوائد قانونية قدرها سبعة في المائة).
فعبيد الياسق يُلزمون ويوجبون على المدين المتأخر بالوفاء ربا قدره ... •7ول يعبأون
س َرةٍ َوأَنْ
ظ َرةٌ ِإلَى َميْ َ
س َرةٍ َفنَ ِ
بتحريم ال تبارك وتعالى له ول بقوله سبحانهَ { :وإِنْ كَانَ ذُو عُ ْ
ِ ( :درْهَمٌ ِربًا خ ْيرٌ َلكُمْ إِنْ ُك ْنتُمْ َت ْعَلمُونَ} [البقرة ،]280 :ول َي ْك َت ِرثُون بقول النبي
َتصَدّقُوا َ
246
ستّةٍ َوثَلثِينَ َز ْنيَةً) أو قوله ( :الربا ثلثة وسبعون بابا أيسرها
يَ ْأ ُكلُ ُه الرّجُلُ وَ ُهوَ َي ْعلَمُ أَشَدّ مِنْ ِ
مثل أن ينكح الرّجُلُ أمه )...الحديث .بل يجعلون من الربا المحرم رغم كلم ال َتعَالى هذا فيه
منه وتعظيمه من ورغم توعّده سبحانه لمن أصرّ عليه بالحرب ورغم تحذير النبي
خطورته ..يجعله هؤلء السفهاء الملحدة حقا وواجبا قانونيا لزما ..أي أنهم لم يكتفوا في
محادتهم ل ودينه بتحليل وتجويز وإباحة ما حرّمه سبحانه وحسب ..بل جعلوا الحرام واجبا
لزما على العباد..
ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ }.
{ ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ
-وكذلك المر بالنسبة للسرقة عند لصوص الياسق ..فقد جاء في المادة ( )219من قانون 6
الجزاء (باب الجرائم الواقعة على المال) ( :يعاقب على السرقة بالحبس مدة ل تجاوز سنتين
وبغرامة ل تجاوز ألفي روبية أو بإحدى هاتين العقوبتين إلّ إذا نص القانون على غير ذلك).
وهكذا في المواد ( )224( ،)222( ،)221من نفس القانون فإن عقوبة السرقة عندهم السجن مددا
متفاوتة قد تزيد على السنتين والثلث أو أكثر قليلً في بعض الحوال المذكورة ضمن هذه
المواد مع الغرامة المالية أو بإحدى العقوبتين ..وذلك يعني أن عقوبة السرقة عند عبيد الياسق
تكون في كثير من الحوال مجرد غرامة مالية هزيلة تافهة .
هذا هو تشريع عبيد الياسق في جريمة السرقة..
ول اعتبار عندهم بما شرعه رب العالمين في كتابه ،إنما العتبار والتقديم عندهم لما نص عليه
القانون كما في المادة السابقة وغيرها.
سبَا
جزَاءً ِبمَا كَ َ
طعُوا َأيْ ِد َي ُهمَا َ
فال عز وجل يأمر في محكم كتابه ويقولَ{ :السّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْ َ
حكِيمٌ} [المائدة .]38 :
عزِيزٌ َ
ن اللّهِ وَاللّهُ َ
َنكَالً مِ ْ
وعبيد الياسق يقولون :ل ،ل يوجد عندنا نكال ول قطع..
طعُوا َأيْ ِد َي ُهمَا} ،وهم يقولون :ل قطع ،وإنما سجن أو غرامة فقط..
ال تباركت أسماؤه يقول{:فَاقْ َ
وربما تكون عقوبة السجن ل تتعدى الشهر القليلة فقط ،وكذلك الغرامة فإنها تتناقص تبعا لحجم
الواسطة وهوى ومزاج القاضي لن موادهم تنص دوما على (السجن مدة ل تزيد على كذا أو
بالغرامة التي ل تزيد على كذا وكذا )..فهي دائما ل تزيد عن حدها الذي حدوه لها ولكنها تقل
وتتناقص وتتضاءل إلى ما يشتهون ..وهذا هو حال قوانينهم الهلمية ..وضعوه حين وضعوها
ليبقى لهم فيها دوما وأبدا مجال للتلعب والعبث..
247
وهكذا ،فقد أسقطوا وألغوا بأحكامهم وموادهم هذه حدا من حدود ال َتعَالى كما قد فعلوا من قبل
بحد القذف وشرب الخمر والردة وحدود القصاص وغيرها ،عطلوه ونبذوه وألقوه وراءهم
ظهريا وجعلوا مكانه وبدلً عنه عقوبات هزيلة حقيرة تجرّئ كل خبيث ولص مارق على
حرمات المسلمين ..وتهون عليه السرقة وأكل أموال الناس بالباطل..
أضف إلى ذلك كله ما قدمنا من صلحيات مختلفة ومواد كثيرة شرعوها تهون من هذه الجريمة
وغيرها..
-سواء الحق الذي جعلوه لميرهم وهو العفو الشامل عن أية جريمة كما في المادة ( )75من
دستورهم وقد تقدمت..
حبّ الرسول
ونذّكر هنا فقط تذكيرا بحديث المرأة المخزومية ومحاولة أسامة بن زيد ِ
لذلك غضبا شديدا ،وقال مستنكراَ( :أتَشْفَعُ فِي حَدّ مِنْ الشفاعة لها ..وكيف غضب النبي
حُدُو ِد اللّه؟؟) وقد تقدمت الشارة إليه ونكرر هنا ونؤكد سؤالنا الذي سألناه من قبل( :هل هذا
المير يستحق أن يقارن بنعل أسامة بن زيد الذي كان يمس ذات التراب الذي مشى عليه رسول
،والذي تغبر مرارا في سبيل ال تعالى ..ليكون له الحق الذي لم يكن لسامة نفسه في ال
العفو أو الشفاعة في حدود ال ؟؟
ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ}؟؟
{ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ
يقول شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال تعالى( :ول يجوز بعد ثبوت الحد بالبينة عليه أو
بالقرار تأخيره ،ل بحبس ول مال يفتدى به ول غيره ،بل تقطع يده في الوقات المعظمة
وغيرها ،فإن إقامة الحدود رحمة من ال بعبادة)..اهـ .
بقي أن تعلم أن عبيد الياسق لم يكتفوا بتعطيل حدود ال َتعَالى في السرقة وغيرهاة بل عطّلوا
وتلعبوا حتى في قوانينهم وعقوباتهم الهزيلة هذه التي استبدلوها بالحدود ،وذلك عن طريق
كثير من القوانين المسهلة والمهونة التي ذكرنا بعضها فيما تقدم ،كقانون الحداث الذي نص
على أن الحكام ل تطبق على الشاب البالغ العاقل ما دام لم يتعدّ الثامنة عشرة من عمره ولو
بأيام قلئل.
ونضيف هنا مادة أخرى من موادهم المسهلة (ال ُمَليّنة) وهي المادة رقم ( )87من قانون الجزاء
والتي تنص على جواز الفراج عن كل محكوم عنه بالحبس قضى ثلثة أرباع المدة المحكوم
عليهة).
248
فارجع إليها بتفاصيلها في قانون الجزاء ..بند ( الفراج تحت شرط).
-والمادة رقم ( )81من القانون نفسه تحت بند (تخفيف العقوبة وتشديدها) ونصها( :إذا اتهم
شخص بجريمة تستوجب الحكم بالحبس جاز للمحكمة إذا رأت من أخلقه أو ماضيه أو سنه أو
الظروف التي ارتكب فيها جريمته أو تفاهة هذه الجريمة ما يبعث على العتقاد بأنه لن يعود
إلى الجرام أن تقرر المتناع عن النطق بالعقابة الخ).
-والمادة رقم ( )82من القانون نفسه والتي تنص على أنه يجوز للمحكمة إذا قضت بحبس
المتهم مدة ل تجاوز سنتين أو بالغرامة ،أن تأمر بوقف تنفيذ الحكم ،إذا تبين من أخلق المتهم
أو ماضية أو سنه أو الظروف التي ارتكبت فيها الجريمة ما يحمل على العتقاد بأنه لن يعود
إلى الجرام ..الخ).
ول يخفى على البصير كم تفتح لهم هذه المواد من أبواب التلعب والتمييع خصوصا إذا كان
من يُقدّر أخلق المتهم وماضيه وظروف الجريمة؛ ممن ل خلق لهم ول أخلق.
-أضف إلى ذلك مادة حفظ التحقيق وهي المادة رقم ( )103المرقعة من قانون الجراءات
والمحاكمات الجزائية ،وكذا المادة ( )104المرقعة أيضا ،والتي تنص على أن (للنائب العام أن
يُصدر قرارا بحفظ التحقيق نهائيا ولو كانت هناك جريمة وكانت الدلة كافية ،إذا وجد أن في
تفاهة الجريمة أو ظروفها ما يبرر هذا التصرف) وتأمل كلمة (تفاهة الجريمة) واربطها
باستخفافهم بحرمات ال ،وبواقع حياتهم النجس ،لتتعرف على النتائج الوخيمة التي يمكن أن
يستفيدونها منها..
وكذا المادة ( )4من قانون الجزاء ونصها (تسقط الدعوى الجزائية في الجنايات بمضي عشر
سنوات من يوم وقوع الجنايةة الخ).
وكذلك المادة رقم ( )15من القانون نفسه تحت باب (سريان القانون من حيث المكان ومن حيث
الزمان ) والتي تنص على أنه( :إذا صدر بعد ارتكاب الفعل أو قبل أن يحكم فيه نهائيا ،قانون
أصلح للمتهم وجب تطبيق هذا القانون دون غيره ومع ذلك إذا صدر بعد الحكم النهائي قانون
يجعل الفعل غير معاقب عليه إطلقا وجب تطبيق هذا القانون واعتبار الحكم كأن لم يكن).
وغير ذلك من تلعبهم وعبثهم في دين ودماء وأموال وأعراض العباد والبلد..
فهذه الترقيعات والتسهيلت والتهوينات إذا أضفتها كلها إلى هزالة أحكامهم وعقوباتهم التي
جعلوها بدل حدود ال تعالى ،أضفت إليها ما تقدم من أبواب أكل أموال الناس بالباطل كإباحتهم
249
بل إيجابهم للربا والمكوس والغرامات وغير ذلك ..علمت حال شريعتهم الفاسدة هذه ،وأنها
شريعة ل تحفظ مالً أو حقا أو غيره ..بل تهدر وتضيّع كل ذلك نسأل ال تبارك وتعالى أن
يعجل في محوها وزوالها ويريح عباده منها ومن أوليائها وظلماتهم.
سادسا :قوانينهم تفتح أبواب الزنا على مصراعيها وتحمي الفجار والعاهرات
والنسب َأيْضا كما قدمنا من المور الضرورية التي جاءت الشريعة لحفظها ..فأوجب ال َتعَالى
طلّقَاتُ
العدّة على النساء عند المفارقة بطلق أو موت حفاظا على النساب ،قال تعالى{ :وَا ْلمُ َ
سهِنّ ثَلثَةَ ُقرُوءٍ}[البقرة .]228 :وقال عز وجل{ :وَالّذِينَ ُي َتوَ ّفوْنَ ِم ْنكُمْ َويَ َذرُونَ
َي َت َربّصْنَ بِأَنفُ ِ
شرًا}[البقرة .]234 :وحرم ال عز وجل الزنا فقال:
ش ُهرٍ وَعَ ْ
سهِنّ َأ ْر َبعَةَ أَ ْ
َأ ْزوَاجًا َي َت َربّصْنَ بِأَنفُ ِ
سبِيلً} [السراء .]32 :وأجب فيه الحد الرادع فقال
{وَل تَ ْق َربُوا ال ّزنَى ِإنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ َ
ن اللّهِ
جلْ َدةٍ وَل تَ ْأخُ ْذكُمْ ِب ِهمَا َرأْفَةٌ فِي دِي ِ
جلِدُوا كُلّ وَاحِدٍ ِم ْن ُهمَا مِائَةَ َ
سبحانه{ :الزّا ِنيَةُ وَالزّانِي فَا ْ
شهَدْ عَذَا َبهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ} [النور .]2 :هذا بالنسبة
خرِ َو ْليَ ْ
إِنْ كُنتُمْ ُت ْؤ ِمنُونَ بِاللّهِ وَا ْل َيوْمِ ال ِ
سلِمٍ
لغير المحصن أما المحصن فحدّه القتل كما تقدم في الحديث الصحيح ( :ل يَحِلّ دَمُ ا ْم ِرئٍ مُ ْ
ب الزّانِي )..ويقتل رجما كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن
إِلّ بِإِحْدَى ثَلثٍ ال ّث ّي ُ
ل اللّهِ ِإنّي
وَ ُهوَ فِي ا ْلمَسْجِدِ َفنَادَاهُ فَقَالَ :يَا رَسُو َ ل اللّهِ
قالَ( :أتَى رَجُلٌ رَسُو َ أبي هريرة
شهَادَاتٍ دَعَاهُ ال ّنبِيّ
علَى نَفْسِهِ َأ ْربَعَ َ
شهِدَ َ
عَليْهِ َأ ْربَعَ َمرّاتٍ َفَلمّا َ
حتّى رَدّدَ َ
عنْهُ َ
عرَضَ َ
َز َن ْيتُ .فَأَ ْ
" :اذْ َهبُوا بِهِ ل ال ّن ِبيّ
ص ْنتَ؟" قَالََ :نعَمْ ،فَقَا َ
ح َ
جنُونٌ؟" قَالَ :ل ،قَالََ " :فهَلْ أَ ْ
فَقَالََ" :أ ِبكَ ُ
جمُوهُ") .هذا حكم شريعة ال الطاهرة الطيبة أما عند عبيد الياسق فهذا رجعية ووحشية
فَارْ ُ
وليس له وجود في قوانينهم ول اعتبار ..بل شرعوا في ذلك قوانين نجسة تضيّع النساب وتفتح
أبواب الفجور والدعارةة وتشجع على الزناةوإليك الدلة على ذلك:
( )1وقبل أن نشرع في بيان بعض قوانينهم الكثيرة التي تسهل الدعارة والفجور وتحمي الزنا
والعاهرات ..نلفت النتباه هنا إلى باب خطير من أبواب فساد النكحة وضياع النساب سببه ما
تقدم تفصيله من فتحهم لباب الردة ،فقد تكرر قريبا ذكر قوانينهم التي تنص على أن (حرية
العتقاد مطلقة وأن الناس متساوون مسلمهم وكافرهم ل فرق بينهم في الحقوق والواجبات
بسبب الدين) ولذلك فإنّ قوانينهم الفاسدة ل تمنع ول تحظر أبدا زواج المسلمة الموحدة الطاهرة
من الكافر أو المرتد الوالغ في أي باب من أبواب الردة المنتشرة في ظل حكوماتهم وقوانينهم
هذه ..ول تحظر قوانينهم كذلك أو ترفع ولية أبيها عليها إذا كان مرتدا أو مشركا ،وحتى لو
250
رفضت المسلمة ولية أبيها المرتد ،فإنها لن تجد أميرا للمؤمنين أو إماما للمسلمين ليقال إن
السلطان وليها في تلك الحال ،فالسلطان في هذا الزمان هو الحاكم بغير ما أنزل الرحمن ،المتبع
لياسق الشيطانة فتأمل هذا الباب فإنه يزيدك ثقة بأنهم كذّابون دجّالون حين يدّعون تحكيم بعض
شرائع السلم في الباب الذي سموه ( بالحوال الشخصية) ،لن هذه الحكام إضافة إلى كونها
إيمانا ببعض الكتاب وكفرا ببعض ..فإنها محكومة منقادة لنصوص قوانينهم يهيمن عليها
دستورهم وهوى مشرّعهم وهكذا ..فإذا ارتد زوج المسلمة الموحدة وأمسى شيوعيا أو علمانيا
أو بعثيا أو عبدا من عبيد الياسق أو زنديقا ليس له من دين السلم إلّ أن اسمه عبد ال أو
محمد أو عبد الرحمن ،فليس في قوانينهم كلها من أولها إلى آخرها ما يفرق في شرعهم النتن
بين هذا النجس وبين الموحدّة الطاهرة ..بل تبقى عنده يستحل نكاحها ويُنجب منها أولدا رغم
أنها حرُمت عليه في شرع ال تعالى..
حلّونَ َلهُنّ}[الممتحنة:
جعُوهُنّ ِإلَى ا ْلكُفّارِ ل هُنّ حِلّ َلهُمْ وَل هُمْ يَ ِ
فال عز وجل يقول{ :فَل َترْ ِ
،]10وعبيد الياسق يقولون :ل بل هنّ حلل للمرتدين والمشركين والملحدة ،إذ ل فرق في
قوانينهم بين الناس في الحقوق والواجبات بسبب الدين..
ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ }؟..
{ ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ
ونرجع إلى قوانينهم الخرى..
( )2جاء في قانون الجزاء المادة رقم ( ( )194كل من واقع امرأة بلغت الحادية والعشرين
برضاها ،ولم تكن محرما منه ،وضبط متلبسا بالجريمة ،يعاقب بالحبس مدة ل تجاوز ثلث
سنوات ول تقل عن ستة أشهر ويحكم بالعقوبة نفسها على المرأة التي رضيت بهذا الفعل) .
هذا هو حكم عبيد الياسق في زنا غير المحصن ل جلد ول غيره وإنما ستة أشهر من السجن أو
أكثر بقليل ،ولكن لن تزيد في حال من الحوال عن الثلث سنوات ..هذا إذا لم تتدخل مواد
التخفيف والتهوين الخرى كتوقف التنفيذ أو حفظ التحقيق أو قضاء ثلثي المدة أو العفو الشامل
الصادر من الميرة مما يسهل ويهون الطريق لهذه الجريمة على كل وغد زنيم..
وتأمل قولهم (ضبط متلبسا بالجريمة) هكذا دون تفصيل أو بيان ،أو ضابط لكيفية التلبس أو عدد
الشهود أو غيره ..فيثبت عندهم الزنا طبقا لعموم هذا القانون وغيره بشهادة فاسق أو فاسقين
قذفا بريئا به..
251
وإنما نذكر هذه التفريعات ليزداد المسلم بصيرة بقوانينهم المهلهلة التي ل ضابط لها ول
ميزان ..وأين هذه الكناسات والزبالت من شريعة اللطيف الخبير الصادقة في الخبار العادلة
في الحكام التي قيدت حد الزنا بإحدى ثلث :البينة وهي أربعة شهود عدول ،أو العتراف
الجازم ،أو الحمل؟ .
( )3أما زنا المحصن في دين عبيد الياسق ،فإنه ل يختلف كثيرا عن زنا غير المحصن ،فهم ل
يعترفون في دينهم بالرجم ول يعرفونه..
جاء في المادة ( ( : )195كل شخص متزوج رجلً كان أو امرأة اتصل جنسيا بغير زوجه ،وهو
راض بذلك ،وضبط متلبسا بالجريمة يعاقب بالحبس مدة ل تجاوز خمس سنوات وبغرامة ل
تجاوز خمسة آلف روبية أو بإحدى هاتين العقوبتين).
وتأمل قولهم (ل تجاوز خمس سنوات) فإنه يعني أن العقوبة قد تكون أقل بكثير من ذلك حتى
تساوي عقوبة الزاني غير المحصن أو تقل عنها ،خاصة وأنهم في غير المحصن قد حدّوا أخف
عقوبة بستة أشهر ،أما هنا فلم يقيدوا حدّا أدنى..
بل إن قولهم (أو بإحدى هاتين العقوبتين) يجعل زنى المحصن أهون بكثير من زنى غير
المحصن فقد تكون العقوبة هنا غرامة تافهة لم يضعوا لها في قانونهم هذا حدّا أدنى ،فيدفع
الفاجر دريهمات لينطلق مرة ثانية إلى فجورهة وبالطبع فإن ذلك كله يرجع إلى هوى القاضي
والواسطة وقوتها وشطارة المحامي وما إلى ذلك..
ول داعي أن نكرر ما قلناه قبل عن هلهلة قولهم (وضبط متلبسا) وعدم انضباطه ،وإمكان
إستغلل ذلك لقذف المؤمنين الطهار وتلويث سمعتهم وعرضهم ..
( )4ويجب أن يعلم المسلم أن العراض والنساب عند عبيد الياسق أحقر وأتفه من ذلك بكثير..
فإن المادة ( )197تسقط العقوبة تماما عن الزاني (أو الزانية) المحصن بشرط تنازل الزوج
الديوث ورضاه واستمرار الزوجية ،ونصها( :يجوز للزوج المجني عليه في جريمة الزنا أن
يمنع إقامة الدعوى الجزائية على الزوج الزاني ،رجلً كان أو امرأة ،وعلى شريكه في الزنا،
بشرط أن يقبل المعاشرة الزوجية كما كانت ،ولهذا الزوج أن يوقف تنفيذ الحكم النهائي،
برضائه باستمرار الحياة الزوجية ،وإذا منع الزوج المجني عليه إقامة الدعوى الجزائية أو
أوقف سير الجراءات أو أوقف الحكم النهائي لم تسر أحكام المادة (( .))194أي أنهم يعطّلون
252
عقوبتهم الهزيلة المتقدمة الذكر لسواد عين الزوج الديوث ،وكيف ل يعطلونها وقد عطّلوا حدود
الشريعة قبلها..
فهذه المادة فتح لباب الدياثة والدعارة والفجور على مصراعيه ،ولقد استغلها أهل الفجور
استغللً قذرا يتناسب مع قذارتها -ول شك بأن في مقدمتهم كثيرا من عبيد القانون -بحيث
يأتي الواحد منهم بأربع عاهرات من الشرق أو من الغرب على أنهن زوجات له ،ويستخرج
لهن عقود زواج رسمية ،ثم يفتح لهن بيتا للدعارة والفجور ،يفتك بشباب المة ويُسهّل لهم سبل
الغي تسهيلً ،ليدمر بقايا إيمانهم وأخلقهم ولدفعهم إلى جهنم دفعا ،وإذا ما ُبلّغ عنه أو قبض
عليه فإن حصنه الحصين ودرعه المتين وحاميه الخؤون هو وعاهراته وفجّاره ،هذه المادة
النتنة الخبيثة من دين عبيد الياسق ،فإنها تنص على أنه ل دعوى جزائية في هذه الحالة بل
توقف جميع إجراءات قانونهم ويوقف تنفيذ أي حكم من أحكامهم الهزيلة نهائيا ،بمجرد رضا
ذلك (القوّاد) باستمرار حياته الزوجية سواء الحقيقية أو المزيفة ،وهو راضٍ بالطبع منذ البداية
وحتى النهاية .
وهكذا يعلم كل مسلم علم اليقين أن شريعة عبيد الياسق ل تقيم للعراض ول للنساب وزنا ،بل
هي في الحقيقة قتل للشرف والغيرة والرجولة والمروءة ،وهي قبل ذلك كله إماتة للدين وحدوده
وهتك لحرماته ..فإلى متى النوم يا قوم؟؟
ويؤكد المحتوى النتن للمادة السابقة ويباركه َأيْضا ما حوته المادة ( )109من قانون الجراءات
والمحاكمات الجزائية والتي تنص على أنه ( :ل يجوز رفع الدعوى الجزائية إلّ بناء على
شكوى المجني عليه في الجرائم التية:
أولً :جرائم السب والقذف وإفشاء السرار.
ثانيا :جريمة الزنا (وهذا محل الشاهد).
ثالثاُ :جرائم خطف الناثة الخ (وهو تبع لما قبله).
وكذا المادة ( )110التي تليها مباشرة( :لمن صدر منه الذن أو الشكوى حق العدول عن ذلك
ويعتبر العدول عفوا خاصا عن المتهم وتسري عليه أحكامه).
ومثل ذلك قولهم في المادة ( )39من قانون الجزاء( :ل يعد الفعل جريمة إذا رضي المجني عليه
بارتكابه .وكان وقت ارتكاب الفعل بالغا من العمر ثماني عشرة سنة غير واقع تحت إكراه
253
مادي أو معنوي ،عالما بالظروف التي يرتكب فيها الفعل وبالسباب التي من أجلها يرتكب،
ويشترط أن يكون الرضا سابقا على ارتكاب الفعل ومعاصرا له).
وبهذا تعرف أن أصل قوانينهم قائم على تراضي المجرمين ،فإن تراضوا على الزنا بزوجاتهم
أو غيرهن أو على القذف أو الخطف أو الفجور أو غير ذلك ،فل عقوبة أبدا ..فهل يشك بعد
هذا من عنده أدنى مسكة من عقل في سفاهة وحقارة قوانينهم ؟؟ وأنها تشريعات غابة نام
أسودها فتواثبت صغار الثعالب ،وأنها هتك للعراض وضياع للنساب والحرمات ..خاصة
وأن الغالبية العظمى من جرائم الزنا في هذه المجتمعات السنة تحصل برضى جميع الطراف
ومباركتهم.
فالعقوبة في جريمة الزنا عند عبيد الياسق حق من حقوق الزوج ،لذى سموه (المجني عليه)
كما في هذه المادة وغيرها ،وكما في المادة ( )197المتقدمة ،فهو الذي يقررها أو يرفعها ..وهذا
قمة في الفوضى القضائية ،وفتح لباب الفجور كما قدمنا..
أما في شريعة اللطيف الخبير التي تعمل على تطهير المجتمعات وتحضيرها وتنظيفها ،فإن
ذلك حد من حدود ال َتعَالى إذا بلغ الحاكم وثبت على المحكوم ،فليس لحد رفعه كائنا من كان
ل زوج ول أب ول محرم ول أمير ول غيره ..ومن هذا تعلم أن دين ال غير دين عبيد
الياسق ،وأن حدود ال هي العليا وعقوبات وقوانين عبيد الدستور هي السفلى ،وأن شرع ال
بريء من هذه الفوضى وذلك التخبط الذي يحويه شرع عبيد القانون ..وأنّ لهم دينهم ولنا دين..
ومنه تعرف َأيْضا أن اليهود غضب ال عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير ،لم يبلغوا
من الحقارة عندما غيّروا أحكام ال وحدوده في الزنا مبلغ أذنابهم من عبيد الياسق العصري،
فيوم أن عطل اليهود حد الرجم ،لم يلغوا عقوبة الزنا كليا برضى الزوج ليسهلوا الفجور والبغاء
كما فعل هؤلء ،بل استبدلوا حد الرجم بالجلد والتحميم ،وطبقوه على الشريف والوضيع ،فكانوا
غيَر على أعراضهم من عبيد الياسق ..روى المام أحمد ومسلم في صحيحه عَنِ
مع كفرهم أ ْ
فَقَالََ " :هكَذَا َتجِدُونَ حَدّ جلُودًا فَدَعَاهُمْ
ح ّممًا مَ ْ
ِب َيهُو ِديّ مُ َ علَى ال ّنبِيّ
ا ْل َبرَاءِ بْنِ عَا ِزبٍ قَالَ ُمرّ َ
عَلمَا ِئهِمْ فَقَالََ " :أنْشُ ُدكَ بِاللّهِ الّذِي َأ ْنزَلَ ال ّت ْورَاةَ
الزّانِي فِي ِكتَا ِبكُمْ؟" قَالُواَ :نعَمْ ،فَدَعَا رَجُلً مِنْ ُ
خ ِب ْركَ
علَى مُوسَى أَ َهكَذَا تَجِدُونَ حَ ّد الزّانِي فِي ِكتَا ِبكُمْ؟" قَالَ :ل َوَلوْل َأ ّنكَ نَشَ ْد َتنِي ِبهَذَا لَمْ أُ ْ
َ
عَليْهِ
ضعِيفَ أَ َق ْمنَا َ
شرِيفَ َت َر ْكنَاهُ َوإِذَا أَخَ ْذنَا ال ّ
شرَا ِفنَا َف ُكنّا إِذَا أَخَ ْذنَا ال ّ
نَجِ ُد ُه الرّجْمَ َوَل ِكنّهُ َك ُثرَ فِي أَ ْ
جلْدَ َمكَانَ
حمِيمَ وَالْ َ
ج َع ْلنَا التّ ْ
شرِيفِ وَالْ َوضِيعِ فَ َ
علَى ال ّ
شيْءٍ نُقِيمُهُ َ
علَى َ
ج َتمِعْ َ
الْحَدّ ُق ْلنَا َتعَاَلوْا َف ْلنَ ْ
254
عزّ
ل اللّهُ َ
حيَا َأ ْم َركَ إِذْ َأمَاتُوهُ فََأ َمرَ بِهِ َفرُجِمَ فََأ ْنزَ َ
ل اللّهِ ( :الّلهُمّ ِإنّي َأوّلُ مَنْ أَ ْ
الرّجْمِ فَقَالَ رَسُو ُ
ح ُز ْنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ا ْلكُ ْفرِ } ِإلَى َق ْولِهِ { إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ}
وَجَلّ {يَا َأ ّيهَا الرّسُولُ ل َي ْ
ل اللّهُ
جلْدِ فَخُذُوهُ َوإِنْ أَ ْفتَاكُمْ بِالرّجْمِ فَاحْ َذرُوا فََأ ْنزَ َ
حمِيمِ وَالْ َ
فَإِنْ َأ َم َركُمْ بِالتّ ْ حمّدًا
يَقُولُ :ا ْئتُوا مُ َ
حكُمْ ِبمَا َأ ْنزَلَ اللّهُ فَأُوَل ِئكَ هُمُ
ل اللّهُ فَأُوَل ِئكَ هُمُ ا ْلكَا ِفرُونَ } { َومَنْ لَمْ يَ ْ
حكُمْ ِبمَا َأ ْنزَ َ
َتعَالى { َومَنْ لَمْ َي ْ
حكُمْ ِبمَا َأ ْنزَلَ اللّهُ فَأُوَل ِئكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } فِي ا ْلكُفّارِ ُكّلهَا).
الظّاِلمُونَ } { َومَنْ لَمْ يَ ْ
فتأمل نزول هذه اليات العظيمات فيمن بدل حكم الرجم فقط ،فكيف بمن استبدل حدود ال
وأحكامه كلها جملة وتفصيلً ،والشاهد من هذا كما قلنا أن تعلم أن اليهود على ضللهم لم يبلغوا
في استهتارهم بالعراض مبلغ عبيد الياسق وقوانينهم القذرة هذه..
أضف إلى ذلك كله ما قدمناه وأشرنا إليه من قبل من قوانين التخفيفات والتهوينات التي تفتح
الباب أكثر من مصراعيه لكل فاجر حقير ..سواء الحكم بوقف التنفيذ أو حفظ التحقيق أو قضاء
ثلثي العقوبة أو صلحية العفو التام والشامل عن أي جريمة والذي جعلوه حقا من حقوق
أميرهم .وكذا قوانين من سموهم بالحداث رغم بلوغهم مثل ذلك أيضا ،وغير ذلك من
قوانينهم الخرى المميعة والمبطلة حتى لعقوباتهم الهزيلة ..وقد كررنا هذا مرارا..
ويناسب هنا أن نضيف ونذكر البند (ب) من مادة رقم ( )14من قانون الحداث والذي ينص
على أنه (إذا ارتكب الحدث جريمة عقوبتها الحبس المؤقت حكم القاضي عليه بالحبس مدة ل
تجاوز نصف الحد القصى المقرر قانونيا) وكذلك المر بالنسبة للغرامة كما في البند (ج) من
المادة نفسها ،وهكذا تعرف مدى استخفاف عبيد الياسق بأعراض الناس وكيف يفتحون لمن
سموهم أحداثاُ وهم في الحقيقة مكلفون بالغون ،جميع أبواب الفساد والفساد واللعب بالعراض
فليس وراءهم من حكم مانع ول حد رادع ،بل هي قوانين هزيلة ،كل مادة فيها تنسف وتبطل
وتخنق وتلعب بما قبلها من المواد ،فلعنة ال على الظالمين.
وأستدرك هنا فأقول :بل إن في قانون من سموهم بالحداث ما يحكم بالبراءة على الزاني البالغ
الذي عدوه حدثا لن عمره لم يكمل الثامنة عشرة ولو بأسبوع واحد ..وأعني بذلك المادة ()16
ونصها( :يجوز لقاضي الحداث فيما عدا الجرائم التي عقوبتها العدام أو الحبس المؤبد -بدلً
من توقيع العقوبات المنصوص عليها في المادة ( )14أن يتخذ في شأن الحدث التدابير
المنصوص عليها في الفقرات (ج ،د ،هـ) من المادة السادسة من هذا القانون).
255
وماذا في الفقرات ( ج ،د ،هـ )،يا ترى؟ هل فيها حد ال تعالى؟ بالطبع ل ،لن عبيد الياسق
أبعد الناس عن ذلك فليس في هذه الفقرات إلّ العبث والستخفاف بأعراض الناس ..وإليكها:
ج -الختبار القضائي.
د -اليداع في مؤسسة لرعاية الحداث.
هـ -اليداع في مأوى علجي..
وهكذا سقطت عقوبة الزنا التي شرعوها رغم هزالتها ،وأصبح مباحا في دين عبيد الياسق لكل
شاب لم يكمل الثامنة عشرة ولو بيوم أو يومين طبقا لقانونهم..
وهكذا فلكل وغد خسيس أن يتمتع بعد بلوغه بهتك أعراض بناتكم يا من رضيتم بهذه القوانين،
لمدة قد تصل إلى أربع سنوات في ظل حماية هذه القوانين فهي له ولمثاله من محبي هذه
القوانين وواضعيها ومطبقيها درع متين وحصن حصين..وإباحيّة ،وحرية جنسية كما يسمونها..
بل إن في المادة ( )21والمادة ( )20من قانون (الدعارة) أعني الحداث ما يفسح المجال ويسهله،
لكل من رغب بفتح بيوت للدعارة والزنا وتخير من سموهم بالحداث للعمل فيها ،حيث نصت
المادة ( )21بأنه (يعاقب بنفس العقوبة المنصوص عليها في المادة السابقة -وهي الحبس مدة ل
تزيد على ثلثة أشهر ،من عرّض حدثا للنحراف بأن أعدّه للقيام بعمل من العمال المنصوص
عليها في الفقرة (ج) من المادة الولى من هذا القانون ..الخ).
وإليك ما جاء في الفقرة (ج) من المادة الولى من هذا القانون ،لتتعرف على المزيد من فضائح
ومخازي عبيد الياسق( :ج) يعتبر الحدث معرضا للنحراف إذا وجد في أي من الحالت التية:
-فذكر عدة حالت منها: -
-إذا قام بأعمال تتصل بالدعارة والفجور أو القمار أو المخدرات أو المسكرات أو نحوها أو قام
بخدمة من يقومون بها.
وهكذا فإن لكل فاجر حقير أن يعد أفواجا من الحداث فتيانا وفتيات ،من غير البالغين ،أو من
البالغين منهم والبالغات ممن هم دون الثامنة عشرة للدعارة والفجور ولن يعاقب إن طاله عقاب،
إلّ بمدة ل تزيد على الثلثة أشهر وهذا يعني أنها قد تكون شهرا أو أقل ،يقضيها في الراحة
والستجمام مع أحبابه من حماة الدياثة وحراس الزنا ،أعني جند القوانين ،ولن تزيد أبدا في
حال من الحوال عن ثلثة شهور ،هذا إن لم تحمه المرَقّعات وال ُم َهوّنات وال ُم َميّعات من
قوانينهم التي كررناها مرارا.
256
وفي المادة ( )200من قانون الجزاء( :كل من حرض ذكرا أو أنثى على ارتكاب أفعال الفجور
والدعارة أو ساعده على ذلك بأية طريقة كانت ،يعاقب بالحبس مدة ل تجاوز سنة واحدة،
وبغرامة ل تجاوز ألف روبية أو بإحدى هاتين العقوبتين).
فهذا في غير من سموهم بالحداث ..وهذه المادة تعني أن من فتح بيتا للدعارة ولم يكن يعرف
المادة ( )197التي تسهل له ذلك وتساعده عليه كما قدمنا ..فل ينبغي له أن يجزع ،وليس عليه
أن يخاف أو يفزع .لن هذه المادة هي ملذه وحصنه الحصين الذي يحميه ويعينه على تجارته
الرخيصة ..فإنه بموجبها قد ل يسجن إلّ أشهرا يسيرة لن تجاوز السنة .بل قد ل يحكم عليه
بالسجن ألبتة ..ويكتفى بالغرامة المالية الهزيلة ،هذا إن لم تبرئه قوانين التمييع والتهوين،
ليخرج مرة أخرى ويواصل مزاولته لمهنة الفجور والبغاء وتجارة رقيق العراض المباحة في
دين عبيد الياسق.
وبقية المادة ( )200تنص على أن العقوبة فيما إذا كانت سن المجني عليه تقل عن الثامنة عشرة
ل تتجاوز سنتين حبسا وغرامة ل تجاوز اللفي روبية أو إحدى هاتين العقوبتين.
وهذا يناقض على هزالته َأيْضا المادة ( )21من قانون الحداث السالفة الذكر السافلة القدر
والتي تقضي على من أعد حدثا للقيام بأعمال الدعارة والفجور بالحبس ثلثة أشهر فقط ..وهذا
هو حال قوانين عبيد الياسق ..يناقض بعضها بعضا ،ويعارض آخرها أولها وهو حال وقدر
البشر الناقصين الضعفاء ..فكيف بأرذالهم وسقطتهم وسفهائهم من عبيد القانون وأذناب
الطواغيت ..الذين هم كالنعام بل أضل ..ينسون في قانون الحداث ما قرروه في قانون
الجزاء ،ويبطلون في قانونهم التجاري ما قننوه في المدني ،كما تقدم بعض من ذلك في الربا
وغيره ،اليوم يقننون وغدا يرقعون ويبدلون ..وصدق ال العلي العظيم إذ يقول عن شرعه
غ ْيرِ اللّهِ
عنْدِ َ
وحكمه الموصوف بالصدق والعدل ،المنعوت بالكمال والجلل { َوَلوْ كَانَ مِنْ ِ
ختِلفًا َكثِيرًا} [النساء ،]82 :ومع ذلك فها هم ينافحون عن قوانينهم هذه ويعظمونها
َلوَجَدُوا فِيهِ ا ْ
ويبجلونها ويقسمون على احترامها ..رغم حقارتها وسقوطها وتفاهتها..
ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ}؟؟.
{ ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ
وعلى كل حال فهم المستفيدون أولً وأخيرا من هذه التناقضات ،فالقوانين إذا كانت يُعارض
ويُهوّن ويُرقع ويُميع بعضها بعضا ،فإن هذا يعطي عبيد الياسق مجالت كثيرة من التلعب
بالعراض وغيرها..
257
وأضرب لك على هذا مثالً واضحا من أمثلة كثيرة ،يزيد يقينك بصحة ما نقول( ،نشرت جريدة
قصة امرأة متزوجة تدعى (سعاد) تبلغ من العمر حسب 27/5/1988 السياسة الصادرة يوم الجمعة
وثائقها الرسمية ( )16سنة فقط ،أي أنها تعتبر في قوانينهم حدثا -تهيم على وجهها طلبا للفجور
فيتلقاها أربعة من الفجار وتمكث معهم من ثلثة إلى أربعة أيام يتناوبون عليها الزنا ..فتحكم
المحكمة ببراءة الربعة رغم ثبوت الزنا عليهم ورغم أن الزوج لم يتنازل ورفض استمرار
الحياة الديوثيةة)
إذن أين قوانينكم يا عبيد الياسق ..يا من تدعون الفضيلة وتتظاهرون بالغضب إذا ما وصفناكم
بالفجار والقوادين ،أو وصفنا قوانينكم بالدياثة؟؟.
إن المادة ( )197هنا ليس لها عمل لن الزوج رفض استمرار الحياة الزوجية فأين عقوبة الزناة
يا فقهاء!! القانون؟؟
سهّلة ،الحكم هنا ببراءة هؤلء الفجار الربعة لن الزنا
قالوا :ل ،هناك قوانين أخرى ُمَليّنة ومُ َ
كان عن تراض (دون حيلة أو إكراه) وليس على جسد الفاجرة أية آثار ضرب أو اعتداء كما
جاء في الجريدة المذكورة..
عفوا لقد نسيت أن الزنا في شرعهم حلل إذا كان بتراضٍ من الفجار والفاجرات ،لكن أين
قوانينكم الخرى يا مجرمون؟ أليست هذه العاهرة تعتبر في قوانينكم من الحداث؟ أين عقوباتهم
المهولة -التي تضحكون فيها على المساكين لمن استغل حدثا لعمال الدعارة؟ أين عقوبات
الزنا بالحداث وغيرها؟؟
قالوا ( :ل " ،يُبا" أنتم ما تفهمون بالقانون ،عندنا " طال عمرك" قوانين ثانية تجعل للطبيب
ش ْغلَة
الشرعي حق تقدير عمر المتهم "واحنا يبا مو على كل حال نعترف بالوثائق الرسمية"" ،ال ّ
يُبا عالمزاج إذا بغينا نعترف اعترفنا ،وإذا ما بغينا كِشتنا فيها ،على حسب المتهم وواسطته)..
قالت الجريدة المذكورة ( :وجاء في حيثيات الدفاع أن الدفاع احتج بتقرير من الطبيب الشرعي
يقدر عمر المذكورة ب ( )21سنة لن شكلها يوحي بذلك !!) .ولم يعترفوا بوثائقهم الرسمية
رغم أنهم لو اشتهوا ذلك وأرادوه لجعلوها وثائق مقدسة ،وحججا دامغة ،ل يأتيها الباطل من
بين يديها ول من خلفها ..وهكذا خرج الزناة الربعة كغيرهم ،براءة ..ولم تُقم عليهم بالطبع
حدود ال ،ول نالتهم حتى عقوبات الياسق المهترئة الهزيلة ،لينطلقوا من جديد يعيثون في
الرض والعرض فسادا ..وبحماس أشد هذه المرة ..فقد عرفوا أن ل حسيب عليهم في ظل هذه
258
القوانين ول رقيب ..فالرقيب والعريف والضابط والنقيب وسادتهم مشغولون بمثل شغلهم
وأخبارهم يعرفها كل من يعرفهم جيدا ،وأنا على يقين بأنه لن يماري في ذلك أحد خصوصا
هم ،وفي قرارة أنفسهم..
أضف إلى ذلك أن هؤلء الزناة ما عادوا يرهبون تلك القوانين ،فقد جربوها واطمأنوا إلى
هزالة عقوباتها وعرفوا مخارجها الكثيرة ومداخلها ..فهم فرحون مستبشرون آمنون في ظللها
المنتنة ..ول يفرح بقوانين الياسق هذه وال إلّ كل ديوث ..بل ل يفرح بها ورب الكعبة ويحبها
إلّ مشرك أو كافر قد برئ من السلم وبرئ السلم منه.
ولقد فتحت المادة ( )202من القانون نفسه الباب على مصراعيه لموظفي الدعارة فنصت على
أن (كل من يعتمد في حياته رجلً كان أو امرأة ،بصفة كلية أو جزئية على ما يكسبه شخص
من ممارسة الفجور والدعارة وذلك بتأثيره فيه أو بسيطرته عليه أو بإغرائه على ممارسة
الفجور وسواء أكان يحصل على ماله برضائه ..الخ) وذكروا العقوبة التي ل تتجاوز سنتين أو
الغرامة التي ل تجاوز ألفي روبية ..وقولهم ( :ل تجاوز كذا وكذا) واضح كما قدمنا مرارا بأن
العقوبة قد تتدنى كثيرا تبعا لشطارة المحامي والقوانين المميعة ..فتأمل هذا لتزداد معرفة بحقارة
دين الياسق ..وكذا المادة ( )203فإنها ل تختلف كثيرا عن أختها الغير شرعية السابقة :ونصها:
(كل شخص أنشأ أو أدار محلً للفجور والدعارة يعاقب بالسجن مدة ل تزيد على ثلث سنوات
وبغرامة ل تجاوز ثلثة آلف روبية أو بإحدى العقوبتين).
ويجدر بنا التنبيه إلى أن هذه العقوبة رغم هزالتها ورغم تقييدهم لها (بكلبشة) ( :ل تزيد)
المتكررة دوما في قوانينهم ..فإنك ل تكاد تسمع بتطبيقها في واقعهم القذر هذا رغم نتانته
المكشوفة للبعيد والقريب ورغم وضوح الفجور والبغاء والدعارة في شوارعه لكل أحد ،حتى
إن فجار الخليج والجزيرة يشدون الرحال إلى أسواق الكويت وشققها وقحابِها ليل نهار،
يستعيدون بذلك ذكريات (الرميلة) وأمثالها من مناطق الفجور المشهورة في هذا البلد حتى أننا
سمعنا أحد فجار الجزيرة يقول لفاجر من فجار الكويت( :أعطونا "السالمية" ونعطكم "مكة")..
فلعنة ال على الظالمين .وعلى كل حال فيمكن تعليل تعطيلهم لهذه العقوبة وعدم اشتهارها في
جرائدهم بأمرين:
259
الول :أن شبكات الدعارة المنتشرة هنا ،تعمل بالغالب تحت حماية ورعاية المل من عبيد
الياسق أنفسهم ،ومن شيوخ وضباط ومسؤولين كبار ،فمن سيوقع هذه العقوبات إذا كان
( حاميها حراميها)؟؟.
والثاني :حصنهم الحصين أعني المادة ( )197التي يلجأ إليها كل ديوث وقح فيستغلونها لفتح
بيوت الدعارة تحت ظل رضى الزوج وقبوله باستمرار الحياة الزوجية مع زوجاته العاهرات..
كما قدمنا ،وبذلك لن تطولهم ل هذه العقوبات ول غيرها رغم تفاهتها ..ناهيك عن المواد
المكبلة والمهونة الكثيرة.
والمادة ( )200المتقدمة في بيوت الدعارة والفجور ،إنما هي في بيت الدعارة الذي يقوم بتراضي
العاملين فيه والعاملت أما إذا كان ذلك بالجبر والتهديد والكراه فإن المر ل يختلف عند عبيد
الياسق كثيرا ..كما في المادة ( )201من قانون الجزاء والتي نصت على أن ( كل من حمل
ذكرا أو أنثى على ارتكاب الفجور والدعارة عن طريق الكراه أو التهديد أو الحيلة يعاقب
بالحبس مدة ل تجاوز خمس سنوات وبغرامة ل تجاوز خمسة آلف روبية أو بإحدى هاتين
العقوبتين)..الخ.
وهكذا فإن لكل فاجر خسيس أن يقوم بإكراه من يشاء من النساء على أعمال البغاء والفجور
متى شاء وكيف شاء ..وعليه أن ل يفزع أو يجزع لن قوانينهم كما في هذه المادة لن تحكم
عليه إلّ بفترة من الراحة ،يقضيها في السجن قد ل تتجاوز أشهرا يسيرة ولن تزيد بحال من
الحوال عن الخمس سنوات بينما لها أن تقل تبعا لهوى القاضي وشطارة المحامي ومعرفته
بقوانينهم المسهلة ال ُمَليّنة ..بل بالمكان طبقا لمنطوق هذه المادة أن يلغى عقوبة السجن تماما،
ويعاقب بالغرامة فقط والتي يجوز عندهم أن تتدنى كثيرا ،المهم أنها لن تزيد في حال من
الحوال عن الخمسة آلف روبية !! ويرجع نقصانها والتنزيلت والخصميات عليها كذلك إلى
شطارة المحامي ومعرفته بالقوانين المميعة ،واستغلله لها ،وقوة علقته ومعرفته بأقطاب
المحكمة هذا كله إن سلمت القضية من عفو أميرهم أو وقف التنفيذ أو حفظ التحقيق أو غير ذلك
..
فهنيئا للزناة وهنيئا للفجرة بهذه القوانين هنيئا لهم بدين عبيد الياسق وشريعتهم التي تحمي
النزوات الساقطة وتحفظ الشهوات الرخيصة..
260
ليس ذلك وحسب ..فالسقوط الذي تهوي به قوانين عبيد الياسق في مهاوي العهر والدياثة
والفجور ل يقف عند حد..
فالمادة ( )204من قانون الجزاء تضع هؤلء الفجار في مصاف البطال الذين يعملون على تقدم
المة ورفعة المجتمع ،وإليك نصها:
( كل من حرّض علنا في مكان عام على ممارسة الفجور والدعارة يعاقب بالحبس مدة ل
تجاوز سنتين وبغرامة ل تجاوز ألفي روبية أو بإحدى هاتين العقوبتين ،ويحكم بالعقوبات
السابقة على كل من طبع أو وزع أو عرض صورا أو رسوما أو نماذج أو أي شيء آخر يخل
بالحياء .ول جريمة إذا صدرت القوال أو نشرت الكتابة أو الرسوم أو الصور على نحو
يعترف به العلم أو الفن وذلك بنية المساهمة في التقدم العلمي أو الفني).
فبال عليك يا من تدين بدين السلم ،هل رأيت أنتن وأخس وأقذر من هذه القوانين التي يبجلها
ويحكم بها عبيد الياسق ويعبّدون الناس لها..؟؟
انظر إلى هؤلء المفسدين كيف يفتحون أبواب الفساد والفجور بقوانين حقيرة رخيصة تجعل
الفن في مصاف العلم ،والفنانين العاهرين منهم والعاهرات في مصاف العلماء ..وأي علم هذا
الذي تخادعون الناس به وتتمسحون فيه ،إنكم لم تأخذوا من أوليائكم من نصارى الغرب إلّ
العهر والفجور ،وعلى رأس ذلك كله وثنيتهم العصرية وثنية القانون ،وأخذتم منهم َأيْضا أراذل
الخلق ،فنّكم الرخيص هذا الذي تبيحون لجله -كما في هذه المادة ( -التحريض علنا في مكان
عام على ممارسة الفجور والدعارة) وهذا هو تماما ما يفعل دوما في أفلمكم ومسرحياتكم
ورواياتكم وقصصكم ومهرجاناتكم وحفلتكم وهلكاتكم الساقطة ،مما يقرر ياسقكم حكمه بقوله:
(ل جريمة)
ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ}؟؟
{ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ
( )5وحقارة عبيد الياسق وسفاهتهم واستخفافهم بالعراض والنساب ل تتوقف عند هذا الحد بل
تتعداه إلى الستخفاف حتى بزنا المحارم والعياذ بال.
كما في المادة ( )189من قانون الجزاء( :من واقع أنثى محرم منه وهو عالم بذلك بغير إكراه أو
تهديد أو حيلة وكانت تبلغ الحادية والعشرين يعاقب بالحبس مدة ل تجاوز خمس عشرة سنة).
والمادة (( : )190كل أنثى أتمت الحادية والعشرين من عمرها وقبلت أن يواقعها محرم منها
وهي تعلم صلتها به تعاقب بالحبس مدة ل تجاوز عشر سنوات).
261
والمادة ( ( :)192كل من هتك عرض صبي أو صبية لم يتم كل منهما الحادية والعشرين من
عمره بغير إكراه أو تهديد أو حيلة يعاقب بالحبس مدة ل تجاوز عشر سنوات فإذا كان الجاني
من أصول المجني عليه أو من المتولي تربيته ..الخ كانت العقوبة بالحبس مدة ل تجاوز خمس
عشرة سنة)..
وقد نبهنا فيما تقدم مرارا أن قولهم (ل تجاوز) من حيلهم القانونية التي قد تنزل بالعقوبات
الكبيرة -التي يضحكون بها على ضعاف العقول -فتجعلها أحكاما تافهة صغيرة هزيلة كما
هو الحال هنا.
وإذا تذكرنا قوانين التمييع والتخفيف وغيرها مما ينتفعون به وينفعون أولياءهم في تهوين
وتصغير كل عقوبة حقيرة هزيلة خسيسة يتوهمها الجاني عظيمة كبيرة ..عرفنا واقع قوانينهم
الفاسدة أكثر وأكثر ،وبهذا تزداد يقينا بأن النعام أعقل وأغير بفطرتها التي فطرها ال عليها،
من عبيد الياسق العصري الذين انحرفوا عن فطرة ال َتعَالى وشرعه ودينه ،ويسعون لصد
العباد وتحريفهم عنها ..نقل الحافظ ابن حجر في الفتح ( )7/161عن أبي عبيدة معمر بن المثنى
في (كتاب الخيل) له من طريق الوزاعي ( أن مهرا أُن ِزيَ على أمّه فامتنع فأدخلت في بيت
عمَدَ إلى ذكره فقطعه بأسنانه من أصله)
وجللت بكساء وأُنزيَ عليها فنزى فلما شم ريح أمه َ
اهـ.
فمن أغير على المحارم بعد هذا ،عبيد الياسق العصري -بعقوباتهم الساقطة السالفة السافلة -
أم النعام؟؟
وهكذا فمما تقدم كله يعلم المسلم علم اليقين أن شريعة عبيد الياسق ودينهم وقانونهم ما هي إلّ
شريعة عهر ودين فجور وقوانين دياثة ..وأنها إفساد وهتك وضياع للفطر والعراض
والنساب ..وحماية للفجار والزناة والعاهرات.
خــــــــــلصـــة مـا ســــــــــــــــبق
يتلخص لدينا مما سبق من فضائح القانون الوضعي وعبيد الياسق الكفري أن قوانينهم هذه قائمة
على الشرك بال َتعَالى بتشريع ما لم يأذن به سبحانه ..وأنها تعمل على هدم وإبطال جميع
الضروريات التي جاءت شريعة ال َتعَالى لحفظها وحمايتها.
• فقوانينهم هدم لدين السلم وملة التوحيد فهي ألغت حد الردة ،وفتحت بتشريعاتها أبواب
الكفر على مصراعيها ،بل تحمي المرتدين وتوالي الشرك والمشركين على اختلف صورهم،
262
وتحمي معتقداتهم الباطلة وتبيح لهم الجهر بها ،وبالتالي الدعوة إليها ونشرها .وليس هذا لليهود
والنصارى وحسب ،بل لكل ملة ونحلة خبيثة كما تقدم ،وواقعهم النجس ،وموالتهم الواضحة
وعلقات المودة والصداقة والمحبة والعمالة التي تربطهم بأعداء ال الشرقيين منهم والغربيين،
من أظهر المور على انقيادهم واستسلمهم وتطبيقهم لتشريعاتهم وقوانينهم العفنة في هذا الباب؛
وفي الوقت نفسه فإن قوانينهم حرب على المؤمنين الموحدين الكافرين بهم وبأوليائهم
وبطواغيتهم العصرية هذه ..فهي كما تقدم حرب على التوحيد الحق ومعول هدم لركانه وأيدٍ
بنّاءة للشرك والوثنية ،وأنّى لهذه القوانين أن تقر دعوة الحق أو ترضى بتوحيد ينقضها ويبطلها
ويبغض أولياءها ويعاديهم ..فيا ليت قومي يفقهون ويعقلون وينتبهون..
• وقوانينهم كذلك تتلعب بالنفوس والدماء ،فبينما هي تحمي أرواح المشركين والمرتدين
وتجعل ( الحرب الهجومية محرمة) وهذا واقعهم شاهد بتطبيقهم لهذه القوانين واستسلمهم لها،
فليس من عدو للسلم والمسلمين إلّ وهو ولي حميم لهم ،ول من مغتصب أثيم لبلد المسلمين
إلّ وهم أخلؤه وأحبابه وحرس على حدوده ،وفي مقابل ذلك فإنها تهدر وتبدد أرواح ودماء
الموحدين فتجيز قتل المسلم بالكافر ،وتقتل وتستحل دم كل من نصر التوحيد وحارب أو سعى
لهدم نظم الشرك القانونية وغيرها.
-كما أنها تحمي كل من أمر ال َتعَالى ورسوله بقتله من مرتد أو زنديق أو زان ثيب أو
لوطي أو غير ذلك مما تقدم ذكره ،وليس بخاف حال كثير من الكفرة الزنادقة المتسمين بأسماء
إسلمية ممن يطعنون في صحافتهم ليل نهار بشرائع السلم ويستهزؤون بأوامر ال ونواهيه..
فهل هناك نص قانوني يعاقبهم على هذا..؟ أم أن في نصوص القانون اللعين ما يحميهم ويكفل
حرياتهم ويحرم دماءهم ويعصمها بل يبيح دم من استحلها..؟ ثم أليس صاحب القانون هو الذي
يمنحهم التراخيص ويدعم صحافتهم بالعطايا المالية الضخمة ..ويبارك أعمالهم؟؟
-كما أنها وبقوانين مرقعة كثيرة تقدم ذكرها ،تهوّن من قتل النفس المحرمة بغير الحق وتجعل
أرواح الناس عموما -وأعداء ياسقهم بشكل خاص -ألعوبة للمجرمين والمجرمات.
• وقوانينهم كذلك تستخف بعقول الخلق فتبيح الخمر وتعطل حدود ال َتعَالى فيها ،وتسمح
بتعاطيها شريطة أن ل يكون ذلك في مكان عام وحتى لو كان في مكان عام فحدّ ال مضروب
به عرض الحائط ،قد استبدلوه بعقوبات هزيلة باطلة أخذوها من أوليائهم الكفرة الغربيين الذين
ل يحرمون ما حرم ال ورسوله ول يدينون دين الحق..
263
• وكذلك العراض فقد رأيت بأم عينيك أن قوانينهم حصن حصين لكل نذل خسيس وعتل
زنيم تحمي أعراض الديوثين والقوادين والفنانين من الفساق والفجار والكفار ..وتجعل أعراض
المسلمين المؤمنين ألعوبة في أيديهم فتبيح لعبيدها وموظفيها إطلق كل قذف وطعن شنيع في
عرض من شاؤوا ،فإن ذلك جائز عندهم مباح ما دام (تنفيذا لحكم القانون أو استعمالً
لختصاص وحق يقرره) كما نصت قوانينهم.
• وكذلك الموال فإن قوانينهم تضييع وهدر وأكل لحقوق الخلق وأموالهم ،فإضافة إلى أكل
حقوق الفقراء بتعطيل فريضة الزكاة ،فإن فيها الباحة الصريحة للربا بأبشع صوره وأبوابه..
هذا غير الصور الخرى الكثيرة عندهم في أكل أموال الناس بالباطل سواء عن طريق أبواب
المخالفات والغرامات المختلفة أو التأمين الجباري والجمارك والمكوس وغير ذلك ..وفي
المقابل فإن قوانينهم تحمي الكفرة المشركين وتؤويهم وتسوّدهم وتنفق عليهم الموال الطائلة
وتسلطهم على أموال المسلمين ،ول تعترف طبعا بشيء يقال له (الجزية) بل هي تحمي أموال
الكفار وتعصمها على اختلف مللهم ونحلهم وأحوالهم ..أضف إلى ذلك كله ،تشريعهم في
قوانينهم هذه لعقوبات ساقطة هزيلة في أبواب السرقة استبدلوها بحد ال العظيم الذي عطلوه
حماية لكل لص أثيم وتهوينا لشأن هذه الجريمة واستخفافا بأموال الناس وحقوقهم..
• كما أن قوانينهم فوق ذلك كله تفتح أبواب الزنا والفجور فتلغي حد الزنا -المحصن وغير
المحصن -وتسهل للزنا والفجور والغتصاب والبغاء بعقوبات ساقطة وقوانين مرقعة تحمي
الفجار والعاهرات وتسهل تجارة رقيق العراض والفروج وتفتح المجال للساقطين والساقطات
والممثلين والممثلت العاهرين منهم والعاهرات لممارسة فجورهم والدعوة إليه بوسائل شتى ..
بل ويسخر عبيد الياسق لهم لجل ذلك أجهزة إعلمهم من صحافة وإذاعة وتلفاز وغيره ..ول
جريمة في ذلك ول عقاب ما دام الفجور قد صدر ( :على نحو يعترف به العلم !! أو الفن !! )
كما تقدم من قوانينهم نفسها.
-أضف إلى ذلك ما تكرر كثيرا من قوانينهم المرقعة والمهونة أو المعطلة الموقفة لعقوباتهم
على تفاهتها وسقوطها ..مما فتح أبواب الجريمة والفجور والفساد على مصراعيها..
-أضف إلى هذا ما كررناه مرارا من تناقض قوانينهم وتصادم بعض موادها بالبعض الخر
وتهلهلها وتخلل العبث والهواء فيها..
264
-وكذا ضلل وزور ما سموه بقانون الحداث الذي فتح للشباب دون الثامنة عشرة ولو بأسبوع
أبواب ومجالت الجريمة وسهلها على اختلف ألوانها من سرقة وقتل وزنا ولواطة وخطف
واغتصاب وغيره ،كل ذلك في ظل حماية قانونهم هذا وتهويناته الساقطة التي أشرنا إليها في
مواضع مختلفة فيما تقدم..
-وكذلك العفو الشامل والكامل في أي وقت عن أية جريمة ،والذي قرروه وأعطوه ومنحوه
لطاغوتهم المير ،وغير ذلك كثير..
دانــوا مـن (القـانون والهـذيان) إنّــا أبينـا أن نـديـن بمـا بـــه
يـكفي الرسـول ومـحكم الفرقـان إنــا عـزلنـاها ولم نـعمـل بهــا
كفاه ال شـــرّ حوادث الزمـان من لم يكـن يكـفـيـه ذان فـــل
شفــــاه ال في قلب ول أبـدان من لم يكـن يشـفيـه ذان فــــل
رب العـرش بالعـدام والحــرمان من لم يكــن يغـنـيه ذان رمـــاه
هـداه ال سـبل الحـق واليمــان من لم يكن يـهديه ذان فــــــل
تـلك الراذل سـفـلـة الحيـوان إن الكــلم مــع الكـبار وليس مع
جـيف الـوجود وأخـبث النـتان أوساخ هــذا الخـلـق بـل أنـتـانه
ولـدى المعـطل هـن غير حسـان هـذي حـسان عرائـس زفـت لكم
من غـير بـواب ول اسـتـئـذان والعلـم يدخل قـلـب كـل موفـق
ل تـشـقـنا اللهم بالحـرمــان* ويرده المحروم مـن خــذلنــــه
وتحاكـمـت لليـاسق الشيــطاني) يا فـرقـة نـفـت (الشريعة جمـلـة
ف لـكـم حـتى يكــل لسـاني
أ ّ ف لــكـم
ف لـكـم أفّ لـكم أ ّ
أ ّ
وبعد ..فهذا غيض من فيض
هذا غيض من فيض باطل عبيد الياسق العصري ..وهو شيء قليل من ضللت دينهم النتن
وسفاهة شريعتهم العفنة..
وكل من يعرف قوانينهم يعلم علم اليقين أن ما سقناه من سفاهاتهم وضللتهم في الصفحات
الماضية إنما هو شيء يسير من ذلك سقناه على سبيل البيان والمثال ل على سبيل الحصر
والجمال ..خاصة وأن قوانينهم تتبدل وتترقع دوما تبعا لتبدل أهوائهم وأهواء أوليائهم الغربيين
والشرقيين..
265
وإل فلو كان المقصود تتبع جميع ما تحويه قوانينهم من باطل وزيغ وإلحاد ،لكانت رسالتنا هذه
أضعاف أضعاف ما هي عليه الن ولضعنا من الجهد والوقت ما ل طائل تحته ..واللبيب تغنيه
الشارة عن العبارة..
هذان خصمان اختصموا في ربهم..
وإن من أهم اليقينيات التي يجب أن يخرج بها المسلم من ذلك كله أن شريعة ال َتعَالى هي غير
شريعة عبيد الياسق وأن دين عبيد الياسق هو غير دين السلم ،وأن ملتهم هي غير ملة إبراهيم
وأتباعه وأن سبيلهم ل شك من السبل المعوجة وهي غير السبيل التي كان يدعو إليها النبي
على بصيرة ،وهي غير صراط ال المستقيم الذي أمرنا باتباعه بل هي من طرق المغضوب
عليهم والضالين وأذنابهم ..ومن أهواء الذين ل يعلمون ..وهكذا فإن طريق عباد الرحمن هي
غير طريق عبيد الياسق ..وهما طريقان مختلفان مفترقان ل يجتمعان ول يلتقيان أبدا إلّ أن
تتخلى إحدى الطائفتين عن طريقها وتبرأ منه كلية وتتبع الطريق الخرى ..فتأمل..
اعـــــتـــــــــــــــــــذار
واســـــــــــــــــتغفار
وإن المتأمل لما حواه دين عبيد الياسق من زيغ وضلل ،ليستحيي أن يخوض في مقارنة بينه
وبين دين السلم وشرع الملك الديان ..وأين بشر مهازيل ضعاف تقلبهم الهواء والشهوات من
لطيف خبير بيده المر كله ..وأين المخلوق من الخالق جل وعل ،أستغفرك ربي وأتوب إليك..
ولكن لم يكن من بد أن نبين للناس حكم ال َتعَالى حينما كنا نذكر قوانين عبيد الياسق ..وليس
ذلك دفاعا عن حكم ال َتعَالى وشرعه فكلمة ال هي العليا دوما والظاهرة أبدا والمنصورة
سرمدا ..وإنما فعلنا ذلك لنبين ونكشف لكثير من المخدوعين سفاهة دين عبيد الياسق وتفاهة
شريعتهم ونقصانها وزيغها وضللها ،فبذكر أحكام ال َتعَالى وأوامره المكرمة المرفوعة
المطهرة يتم ويكمل هذا المقصود ،ويظهر غاية الظهور لكل أحد ..فبذكر الكمال ،تتعرى
وتعظم فضيحة النقصان..
درن الدنيا وأمراضها يوما بأجربه وإل ،فمن ذا يقيس نقي الجلد من
وبذلك يظهر أن عبيد الياسق بعدولهم عن شريعة السلم الصادقة العادلة المطهرة وإقبالهم على
قوانين عباد الصليب وغيرهم من أهل الهواء الباطلة المضللة ،أن مثلهم كمثل الجعل الذي
يدهده الخرأة بأنفه ..فهو يتأذى من رائحة المسك والورد الفواح ،ويحيى بالعذرة والغائط في
266
المستراح ..فسحقا وتعسا لمثال هذه العقول التي ل تشترى ول بالبقول ..سحقا ومحقا لهن
اللهم محقا.
وال قد مسخت على البدان تبّا لهاتيك العـقول فإنــهـا
الثار والخـبار والـقرآن تبّا لمن أضحى يقدمها عــلى
يقول العلمة أحمد شاكر( :من البيّن البديهي الذي ل يستطيع أن يخالف فيه مسلم أن القرآن
والسنة أسمى سموّا ،وأعلى علوّا ،من الدستور ومن كل القوانين ،وأن المسلم ل يكون مسلما إلّ
إذا أطاع ال ورسوله ،وقدّم ما حكما به على كل حكم وكل قانون )..اهـ .
وبعد هذا كله..
لنا أن نطرح هذه السئلة على كل مسلم عرف الشرك من التوحيد ،بعد أن بان ما يحويه
دستورهم وقوانينهم الخرى من شرك وكفر بواح..
-هل يجوز لمسلم يعرف معنى ل ِإلَهَ إِلّ ال ويؤمن بها أن يقسم على احترام هذا (الطاغوت)
الدستور؟ والولء له ولقوانينه وعبيده؟؟؟
-وإذا كان ذلك ل يجوز ..فهل هو محرم من المحرمات؟ أم معول من معاول الشرك والوثنية
في جنب توحيد فاعله..؟
-وهل تجوز حماية هذه القوانين وحراستها والدفاع عنها وجعل من وافقها حميما واليا ومن
خالفها وكفر بها عدوا باغيا؟؟ وما حكم من يفعل ذلك بل إكراه ؟؟
-وما حكم من يموت في سبيل حمايتها والدفاع عنها؟؟
-وهل يجوز التحاكم إليها أومدحها أوتسميتها بالعدالة؟؟
-وهل يجوز وصفها بالنزاهة وتربية النشء والذراري على حبها وإجللها..؟؟؟
-وما حكم من يعمل في تدريس ذلك وتعليمه ؟؟
هذه أسئلة وأسئلة كثيرة غيرها ل أظنها عادت تخفى على القارئ بعد ما تقدم من بيان ..وهاك
مزيدا من البيان..
جـاءت عـن المبعوث بالـفرقان وانـصر كـتاب ال والسنن التي
ضرب المجاهد فـوق كل بنــان واضرب بسيف الوحي كل معطل
متجرد ل غير جــبــــان واحمـل بعزم الصدق حملة مخلص
فإن أصبت فـفي رضـا الرحمن واثبت بصبرك تحـت ألوية الهدى
267
ثبـتت سلحك ثم صح بجنــان واجعل كـتاب ال والسنن الـتي
أو من يسـابق يبد في الميــدان من ذا يـبارز فليقدم نـفـسـه
مـن قـلة النصـار والعـوان واصدع بما قال الرسول ول تخف
وال كــاف عبـده بلـسـان فال نـاصـر دينه وكـتـابـه
فـقـتالهم بالكذب والـبهـتان ل تخـش من كيد العدو ومكرهم
متحيرا فـلـيـنظر الـفـئـتان شتان بين العسكرين فمن يكـن
واصبر فـنـصـر ال ربـك دان واثبت وقاتل تحت رايات الهـدى
ل در مقتل الـفـرســــان واذكر مقاتلهم لفرسان الهــدى
وارجمهم بثواقب الـشهـبــان وادرأ بلفظ النص في نحر العـدى
وذبـابه أتخاف مـــن ذبـان ل تخش كثرتهم فهم همج الـورى
فاثـبت فصيحتهم كمثـل دخان وإذا تكاثرت الخصوم وصيّحـوا
يهـوي إلى قعر الحضيـض الداني يرقى إلى الوج الرفـيع وبـعده
فـزعا لحـمـلـتهم ول بجـبان وإذا همو حملوا عليك فل تـكن
هـذا بمـحمود لدى واثبـت ول تحمل بل جند فمـا
الشجعـان
وافـت عساكرها مع السلطـان فإذا رأيـت عصابة السلم قـد
بالعـاجز الـواني ول الفـزعان فهناك فاخترق الصفوف ول تكن
فالـعز تحـت مقاتـل القـران واقـصد إلى القـران ل أطرافها
ــمال ل بكتائب الشـجـعان هذا وإن قتال حزب ال بالعــ
أنى وأعــداهم بل حسبــان وال مـا فـتـحوا البلد بكثرة
نفـس وذا محـذور كـل جبان وشجاعة الفرسان نفس الزهد في
أن سوف ينصر عبده وال أخـبر وهــو أصدق قائل
بأمـــان
أو يعمل الحسنى يفز بجنـــان من يعمل السوءى سيجزى مثلها
وصى وبعد لسائر هـذي وصـيـة ناصح ولنفسه
الخـــوان*
268
المخـرج مـن الــفـتـنة
من أين نبدأ ؟ وكيف السبيل ؟؟
فلعلك تسأل بعدها وتقول ..ما الحل؟؟ وكيف السبيل؟؟؟
إن الظلمات متشابكة ،وهذه الحكومة عندها جيوشها وشرطتها ومخابراتها وأمنها وأجهزتها،
والناس كلهم أو أغلبهم لها خاضعون ومعها سائرون ولباطلها متابعون ،وفي طريقها
يركضون ..وما عساني أن أقدم وأنا وحدي لهذا الدين؟ وما عساني أن أعمل مقابل هذا الباطل
العظيم ؟؟؟
فها نحن نوضح لك السبيل ونضع بين يديك معالم الطريق ،طريق النبياء وسبيل النصر
والنجاة وسلوك الصراط المستقيم ،نبينه لك بكل صراحة ووضوح وبل لبس أو غموض فليست
هذه خطبة حماسية كخطب كثير من الوعاظ تلهب مشاعرك على الطغاة وقوانينهم ثم تتركك
بعد ذلك تبرد وتموت حسرة وكمدا دون أن تعطيك الحل أو الطريق..
ح اللّهِ إِلّ الْ َقوْمُ الكَا ِفرُونَ} [يوسف .]87 :
{ ل َييْأسُ مِنْ َروْ ِ
دع عنك أولً اليأس والقنوط ،وكن على يقين بنصر ال َتعَالى للمؤمنين ،قال تعالىَ { :وكَانَ حَقّا
صرُ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ}[الروم .]47 :ول تلتفت إلى كثرة الهالكين وقلة السالكين ،فما بالكثرة
عَل ْينَا َن ْ
َ
ن اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّا ِبرِينَ}
غَل َبتْ ِفئَةً َكثِي َرةً بِإِذْ ِ
ينتصر المؤمنون ،قال تعالى{ :كَمْ مِنْ ِفئَةٍ َقلِيلَةٍ َ
ح َرصْتَ ِب ُم ْؤ ِمنِينَ} [يوسف .]103 :
[البقرة.]249:وقال تعالىَ { :ومَا َأ ْك َثرُ النّاسِ َوَلوْ َ
ثم اعلم أن من أعظم أنواع النصر والفوز أن تبرأ من الشرك وتحقق التوحيد فتنجو بنفسك
وأهلك من نار وقودها الناس والحجارة ،وتفوز بجنة عرضها السماوات والرض أعدت
جنّةَ فَقَدْ فَازَ}[آل عمران .]185 :
حزِحَ عَنْ النّارِ َوأُدْخِلَ الْ َ
للمتقينَ { ..فمَنْ زُ ْ
كما في البخاري وغيره أنّ من النبياء من يأتي يوم القيامة وليس معه إلّ وقد أخبرنا النبي
الرجل والرجلن ومنهم من يأتي وليس معه أحد ..رغم دعوته وصبره وجهاده ..فهل خسر أو
جنّةِ هُمْ الْفَا ِئزُونَ} [الحشر:
ندم أو تحسر..؟؟ كيف وهو من أصحاب الجنة؟؟ {َأصْحَابُ الْ َ
.]20وكيف يندم وقد أعلى كلمة التوحيد وسط قومه وأمته؟؟ تأمل هذا جيدا فإنه مهم..
ثم اعلم يا عبد ال يا من آمنت بدين ال وشهدت بأن ل معبود ول مشرع بحق إلّ ال ،وأقررت
بأن ل حكم إلّ ل ..وتعمل جاهدا للفوز بالجنة والنجاة من النيران أنك على ضعفك وقلة حيلتك
269
تملك أن تقدم لدينك الكثير ..ولست مختارا في ذلك ول متطوعا ..بل هي واجبات ،كل يجب
عليه منها ،كل بحسب استطاعته ومقدرته..
وإذا تقرر هذا فانتبه جيدا إلى ما أوجب ال عليك تجاه هذا الطاغوت وعبيده وأوليائه..
خصوصا بعدما رأيت بأم عينيك ما يحويه من كفر وباطل وإلحاد ،وظهرت لك الحجة بينة
واضحة ،فما عدت تجهل حاله أو يخفى عليك ضلله..
الكفر بالدستور والبراءة من القوانين شطر التوحيد
يجب عليك قبل كل شيء الكفر بهذا الطاغوت ( الدستور وقوانينه) وبغضه ومعاداته والبراءة
منه وعدم الرضى والستسلم إلّ لحكم ال وحده وذلك كي تحقق معنى ل ِإلَهَ إِلّ ال .قال
سمِيعٌ
سكَ بِا ْل ُع ْروَةِ ا ْل ُوثْقَى ل ان ِفصَامَ َلهَا وَاللّهُ َ
س َتمْ َ
تعالىَ { :فمَنْ َيكْ ُفرْ بِالطّاغُوتِ َو ُي ْؤمِنْ بِاللّهِ فَقَدْ ا ْ
ظُلمَاتِ ِإلَى النّورِ}[البقرة.]257-256 :
جهُمْ مِنْ ال ّ
خرِ ُ
علِيمٌ ،اللّهُ َوِليّ الّذِينَ آ َمنُوا يُ ْ
َ
وقال َتعَالى عن الحنيف إبراهيم {قَالَ أَ َف َرَأ ْيتُمْ مَا ُك ْنتُمْ َت ْعبُدُونَ َأ ْنتُمْ وَآبَا ُؤكُمْ الَقْ َدمُونَ فَِإ ّنهُمْ عَ ُدوّ
لِي إِلّ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ} [الشعراء .]77-75 :وقال سبحانه عن الخليل أيضا{ :قَالَ يَا َقوْمِ ِإنّي َبرِيءٌ
لبِيهِ وَ َق ْومِهِ ِإ ّننِي َبرَاءٌ ِممّا َت ْعبُدُونَ
ش ِركُونَ}[النعام .]78 :وقال عز وجلَ { :وإِذْ قَالَ ِإ ْبرَاهِيمُ َ
ِممّا تُ ْ
س َيهْدِينِي} [الزخرف .]27-26 :وقد أمرنا ال سبحانه وأمر نبينا محمدا
ط َرنِي فَِإنّهُ َ
إِلّ الّذِي فَ َ
ش ِركِينَ}
حنِيفًا َومَا كَانَ مِنْ ا ْلمُ ْ
بإتباع ملة إبراهيم هذه فقال{ :قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَا ّت ِبعُوا ِملّةَ ِإ ْبرَاهِيمَ َ
[آل عمران .]95 :فأخذ بها صلوات ال وسلمه عليه بقوة واتبعها أحسن اتباع ،وكان يبايع
ش ْيئًا َوتُقِي َم الصّلةَ َو ُت ْؤ ِتيَ ال ّزكَاةَ
ش ِركُ بِهِ َ
علَى أَنْ َت ْعبُدَ اللّهَ ل تُ ْ
أصحابه عليها فيقولُ( :أبَا ِي ُعكَ َ
ش ِركِ) ومحل الشاهد منه أوله وآخره.
سلِمَ َو َت ْب َرأَ مِنَ ا ْلمُ ْ
َو َتنْصَحَ ا ْلمُ ْ
البراءة من أولياء الدستور ومعاداتهم من لوازم [ة ل ِإلَهَ إِلّ ال ] ومقتضياتها
وكما يجب عليك أن تبرأ من هذا الطاغوت( الدستور وقوانينه) ،فعليك كذلك أن تتبرأ من كل
من دافع عنه ونافح عن قوانينه وأصر على تحكيمه وتعبيد العباد له وتبغضهم وتعادي حزبهم
حتى يتبرؤوا من طاغوتهم هذا ويكفروا به ،ويرجعوا إلى حكم ال َتعَالى وحده وينقادوا لشرعه
ول يجدوا في أنفسهم حرجا من تحكيمه ويسلموا تسليما ..فإن أوثق عرى اليمان الموالة في
هو خليل ال والمعاداة في ال والحب في ال والبغض في ال وأسوتك في ذلك وأسوة نبيك
سنَةٌ فِي
س َوةٌ حَ َ
الرحمن والذين كانوا معه وعلى دعوته وطريقته ..قال تعالى{ :قَدْ كَا َنتْ َلكُمْ أُ ْ
270
ن اللّهِ كَ َف ْرنَا ِبكُمْ َوبَدَا َب ْي َننَا
ِإ ْبرَاهِيمَ وَالّذِينَ َمعَهُ إِذْ قَالُوا لِ َق ْو ِمهِمْ ِإنّا ُبرَآءُ ِم ْنكُمْ َو ِممّا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ
حتّى ُت ْؤ ِمنُوا بِاللّهِ وَحْ َدهُ} [الممتحنة.]4 :
َو َب ْي َنكُمْ ا ْلعَدَا َوةُ وَا ْل َبغْضَاءُ َأبَدًا َ
يقول الشيخ حمد بن عتيق رحمه ال َتعَالى في كتابه ( سبيل النجاة والفكاك) عن قوله َتعَالى {ِإنّا
ُبرَآءُ ِم ْنكُمْ َو ِممّا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ}..
( وها هنا نكتة بديعة وهي أن ال َتعَالى قدم البراءة من المشركين على البراءة من الوثان
المعبودة من دون ال لن الول أهم من الثاني فإنه إن تبرأ من الوثان ولم يتبرأ ممن عبدها ل
يكون آتيا بالواجب عليه ،وأما إذا تبرأ من المشركين فإن هذا يستلزم البراءة من معبوداتهم،
ن اللّهِ ..الية} [مريم.]48 :فقدم اعتزالهم على اعتزال
ع َت ِزُلكُمْ َومَا تَدْعُونَ مِنْ دُو ِ
وهذا كقوله { َوأَ ْ
ع َت َزَلهُمْ َومَا َي ْعبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ[ }..مريم.]49 :فعليك بهذه النكتة
معبوداتهم ،وكذا قوله { َفَلمّا ا ْ
فإنها تفتح لك بابا إلى عداوة أعداء ال ،فكم من إنسان ل يقع منه الشرك ولكنه ل يعادي أهله
فل يكون مسلما بذلك إذ ترك دين جميع المرسلين) اهـ.
وقد بين ال سبحانه وتعالى لنا آثار إهمال هذا الركن الوثيق والمر العظيم فقال عز وجل{ :إِلّ
لرْضِ وَفَسَادٌ َكبِيرٌ}[النفال{ .]73 :إِلّ تَ ْف َعلُوهُ} أي موالة أهل اليمان
تَ ْف َعلُوهُ َتكُنْ ِف ْتنَةٌ فِي ا َ
ومعاداة أهل الشرك المصرين على باطلهم بأن واليتموهم كلهم أو عاديتموهم كلهم أو واليتم أهل
لرْضِ وَفَسَادٌ َكبِيرٌ} فإنه يحصل من الشر جراء ذلك
الشرك وعاديتم أهل اليمان { َتكُنْ ِف ْتنَةٌ فِي ا َ
ما ل ينحصر من اختلط الحق بالباطل وأهل اليمان بأهل الشرك ،وتعطيل كثير من مقاصد
الشرع والدين وغير ذلك من قواعد الدين التي تفوت إذا لم يجرّد الولء للمؤمنين وحدهم.
يقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن عن هذه الية نقلً عن بعض أهل العلم(..
الفتنة في الرض الشرك والفساد الكبير اختلط المسلم بالكافر والمطيع بالعاصي ،فعند ذلك
يختل نظام السلم وتضمحل حقيقة التوحيد ،ويحصل من الشر ما ال به عليم ،فل يستقيم
السلم ويقوم قائم المر بالمعروف والنهي عن المنكر ويرتفع علم الجهاد إلّ بالحب في ال
والبغض في ال وموالة أوليائه ومعاداة أعدائه واليات الدالة على ذلك أكثر من أن تحصر)
اهـ
فوال ثم وال إن من لم يتبرأ من الباطل وأهله اليوم في هذه الدنيا فسيتبرأ منهم يوم القيامة،
وسيتمنى العودة إلى الدنيا لجل ذلك ..ولكن هيهات هيهات ولت حين مناص ..قال تعالى:
ط ْعنَا
ط ْعنَا الرّسُولَ وَقَالُوا َر ّبنَا ِإنّا أَ َ
ط ْعنَا اللّهَ َوأَ َ
{ َيوْمَ تُ َقّلبُ وُجُو ُههُمْ فِي النّارِ يَقُولُونَ يَا َل ْي َتنَا أَ َ
271
ضعْ َفيْنِ مِنْ ا ْلعَذَابِ وَا ْل َع ْنهُمْ َل ْعنًا َكبِيرًا}[الحزاب-66 :
سبِيلَ َر ّبنَا آ ِتهِ ْم ِ
سَا َد َتنَا َو ُك َبرَا َءنَا َفَأضَلّونَا ال ّ
سبَابُ
ط َعتْ ِبهِمْ الَ ْ
.]68وقال تعالى{ :إِذْ َت َب ّرأَ الّذِينَ ا ّت ِبعُوا مِنْ الّذِينَ ا ّت َبعُوا َو َرَأوْا ا ْلعَذَابَ َوتَقَ ّ
سرَاتٍ
عمَاَلهُمْ حَ َ
وَقَالَ الّذِينَ ا ّت َبعُوا َلوْ أَنّ َلنَا َك ّرةً َف َن َت َب ّرأَ ِم ْنهُمْ َكمَا َت َبرّءُوا ِمنّا كَ َذِلكَ ُيرِيهِ ْم اللّهُ أَ ْ
عَل ْيهِمْ َومَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النّارِ}[البقرة.]167-166 :
َ
فعلى كل من ينتسب إلى عباد الرحمن أن يجمع بين البراءة من عبيد الياسق والبراءة من
أصنامهم وطواغيتهم القانونية ومن شريعتهم النتنة ودينهم النجس..
وهذه هي ملة إبراهيم ودعوة النبياء والمرسلين ..إخلص العبادة ل وحده بكل ما تحويه كلمة
العبادة من معان ،والبراءة من الشرك وأهله على اختلف ألوان الشرك وأنواعه.
الدعوة إلى ذلك والجهاد من أجله والصبر والثبات هو طريق المرسلين
وأعلى مراتب هذه الملة وذروة سنامها؛ أن تسعى وتعمل وتجاهد لتغيير هذا الطاغوت وهدمه
وإخراج العباد من ظلماته إلى نور شريعة ال تعالى..
وأول مراحل هذه الطريق وأهمها أن تصدع ببيان سفهه للناس وفضح زيفه وعواره وأن تجتهد
في تحذيرهم منه ودعوتهم إلى الكفر به والبراءة من أوليائه ،فهذا هو دين التوحيد وهذه هي
دعوة النبياء ..وتعلنها مدوية في وجه عبيد الياسق ..كفرنا بكم وبطاغوتكم ودستوركم
وقوانينكم الكفرية ،وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى ترجعوا إلى دين ال وتنقادوا إلى
حكمه وتشريعه وحده وتسلموا تسليما..
ط َرنِي
هكذا كما قال إبراهيم ومن معه لقومهم ،وتقول َأيْضا {ِإ ّننِي َبرَاءٌ ِممّا َت ْعبُدُونَ إِلّ الّذِي فَ َ
س َيهْدِينِي} [الزخرف ..]27 :وتقولَ{ :لكُمْ دِي ُنكُمْ َوِليَ دِينِ}..
فَِإنّهُ َ
( :سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى ول يغرنك تخذيل المخذلين فقد قال
إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) .فل قربة أفضل عند ال من القيام بجهاد الشرك وأهله وبيان
سفاهة الطواغيت وتعريتها للخاص والعام على اختلف أنواعها..
أفيقوم دين ال الذي أنزل من السماء إلّ بالطعن على أعدائه وكشف زيوف شركهم ،وتحذير
الناس من كفرهم؟؟ وكيف يظهر الحق إن لم يخذل الباطل؟؟
في ال واخشاه تفز بأمـــان فاصدع بأمر ال ل تخش الورى
ل في هواك ونخوة الشيطــان واهـجر ولو كل الورى في ذاته
272
سوّيكُمْ
واستمع مقالة من خاف المخلوق في جنب دين ال {..تَاللّهِ إِنْ ُكنّا لَفِي ضَللٍ ُمبِينٍ إِذْ نُ َ
حمِيمٍ َفَلوْ أَنّ َلنَا َك ّرةً
ج ِرمُونَ َفمَا َلنَا مِنْ شَا ِفعِينَ وَل صَدِيقٍ َ
ضّلنَا إِلّ ا ْلمُ ْ
ِب َربّ ا ْلعَاَلمِينَ َومَا َأ َ
َف َنكُونَ مِنْ ا ْل ُمؤْ ِمنِينَ} [الشعراء ..]102-97 :وارجع إلى آية الممتحنة المذكورة ،وتأمل قوله
َتعَالى { :إِذْ قَالُوا لِ َق ْو ِمهِمْ} وقوله {بَدَا} ..يقول الشيح حمد بن عتيق رحمه ال تعالى"( :بدا" أي
ظهر وبان ،وتأمل تقديم العداوة على البغضاء ،لن الولى أهم من الثانية ،فإن النسان قد
يبغض المشركين ول يعاديهم ،فل يكون آتيا بالواجب عليه حتى تحصل منه العداوة والبغضاء،
ولبد َأيْضا من أن تكون العداوة والبغضاء باديتين ظاهرتين بينتين ،واعلم أنه وإن كانت
البغضاء متعلقة بالقلب فإنها ل تنفع حتى تظهر آثارها وتتبين علماتها ،ول تكون كذلك حتى
تقترن بالعداوة والمقاطعة فحينئذ تكون العداوة والبغضاء ظاهرتين) اهـ.
فعلى كل من أراد أن يسلك طريق النبياء أن يقوم بذلك ويدعو الناس إليه ..فهذا من أعظم
الجهاد في هذا الزمان وأتباعه هم أتباع الرسل حقا وهم الغرباء حقا وهم الطائفة الظاهرة حقا..
فل تنشغل عن الركب بأمور مرجوحة أو بدنيا فانية فتفوتك القافلة فتكون من الخالفين..
ليســلم يقرع بعدها سن نادم فتلك حروب من يغب عن غمارها
ثم لتصبر على الذى والبتلء فإنها سنة ال َتعَالى التي يميز بها الخبيث من الطيب قال تعالى:
سبَ النّاسُ أَنْ ُي ْت َركُوا أَنْ يَقُولُوا آ َمنّا وَهُمْ ل يُ ْف َتنُونَ َولَقَدْ َف َتنّا الّذِينَ مِنْ َق ْبِلهِمْ َفَل َي ْعَلمَنّ اللّهُ
حِ{الم ،أَ َ
صرِ
الّذِينَ صَدَقُوا َوَل َي ْعَلمَنّ ا ْلكَا ِذبِينَ} [العنكبوت ..]3-1 :وخلصة المر في قوله تعالى{ :وَا ْل َع ْ
ص ْبرِ}.
صوْا بِال ّ
ع ِملُوا الصّالِحَاتِ َو َتوَاصَوْا بِالْحَقّ َو َتوَا َ
سرٍ إِلّ الّذِينَ آ َمنُوا وَ َ
إِنّ الِنسَانَ لَفِي خُ ْ
من عجز عن الصدع والدعوة والجهاد فلن يعجز عن تربية نفسه وأهله على هذا المنهاج
فإن لم تقدر على هذه المرتبة العظيمة -أعني إعلن هذا التوحيد وإظهاره ودعوة الناس
إليه -..فالتغيير والنكار على درجات ،ومن عجز عن درجة لم تسقط عنه التي هي دونها..
ستَطِعْ َفبِ َق ْلبِهِ
ستَطِعْ َف ِبلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَ ْ
وفي الحديث( :مَنْ َرأَى ِم ْنكُمْ ُم ْن َكرًا َف ْل ُي َغ ّي ْرهُ ِبيَ ِدهِ فَإِنْ لَمْ يَ ْ
ض َعفُ الِيمَانِ ) .
وَ َذِلكَ َأ ْ
فإن لم تقدر على التغيير وإعلن البراءة منهم وإظهار الكفر من قوانينهم ودعوة الناس إلى ذلك
فعليك على أقل الحوال ..أن تكفر بهذا الطاغوت بنفسك وتتبرأ من أهله وأوليائه لتحقق التوحيد
الذي هو حق ال على العبيد ،و ُت َعلّم أولدك الكفر به وبغضه ،وتعلمهم الولء ل ولرسوله
ولشرع ال وحكمه وللمؤمنين والبراء من كل من حكّم هذا الطاغوت وتغرس في نفوسهم
273
بغضه ..وبغض كل من يدافع عنه ويحميه ويعبد الناس له من حكومة أو أمير أو رئيس أو ملك
أو جيش أو غيره ولو كان من أقرب المقربين إليهم ..وترضعهم ذلك من نعومة أظافرهم حتى
يشبوا على التوحيد الحق وعلى عقيدة ل ِإلَهَ إِلّ ال الواضحة التي أضاعها أكثر الخلق في هذا
الزمان.
عَل ْيهَا مَل ِئكَةٌ
سكُمْ َوأَ ْهلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَا َرةُ َ
قال تعالى{ :يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا قُوا أَنفُ َ
ُ ( :كّلكُمْ رَاعٍ غِلظٌ شِدَادٌ ل َي ْعصُونَ اللّهَ مَا َأ َمرَهُمْ َويَ ْف َعلُونَ مَا ُي ْؤ َمرُونَ}[التحريم .]6 :وقال
ع ّيتِهِ ) .
سئُولٌ عَنْ رَ ِ
ع ّيتِهِ )..الحديث ،وفيه (..وَالرّجُلُ رَاعٍ فِي أَ ْهلِهِ وَ ُهوَ مَ ْ
سئُولٌ عَنْ رَ ِ
َو ُكّلكُمْ مَ ْ
حرّمَ اللّهُ
ع ّيتِهِ إِلّ َ
عيّةً َيمُوتُ َيوْمَ َيمُوتُ وَ ُهوَ غَاشّ ِلرَ ِ
س َترْعِي ِه اللّهُ رَ ِ
عبْدٍ يَ ْ
( :مَا مِنْ َ وقال
جنّةَ) .وقد استرعاك ال فيهم واستخلفك عليهم فاحذر أن تلقاه غدا خائنا وفي دينه مداهنا
عَليْهِ الْ َ
َ
ولمانته مضيعا ..فالمر جد خطير ،وليس كما يحسبه ويظنه ويصوره كثير من المتهاونين..
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه ال تعالى( :واذكروا لهم أن الواجب على الرجل أن
يعلم عياله وأهل بيته الحب في ال والبغض في ال والموالة في ال والمعاداة فيه ،مثل تعليم
ل بصحة الصلة ول صحة لسلمه َأيْضا إلّ
الوضوء والصلة لنه ل صحة لسلم المرء إ ّ
بصحة المولة والمعاداة في ال) اهـ.
الحذر من وسائل إعلم عبيد الياسق ومدارسهم
ومن ذلك أن تجنب أبناءك كل وسائل الفساد والفساد التي يستغلها عبيد الياسق العصري في
تربية ذراري المسلمين على حب طاغوتهم هذا وعلى الولء له ولمن حكّمه وحماه ..كالتلفزيون
وغيرها من وسائل إعلمهم الكافرة من جريدة ومجلة فاجرة وغيره..
واحذر كل الحذر من أن تعمل أو تساهم في شيء من هذه المجالت الفاسدة التي هي في
الحقيقة من أدوات الطاغوت وأبواقه فتكون على شفا هلكة..
واحرص كل الحرص أن تجنبهم مدارس الطواغيت ومناهجها المسمومة التي تمتلئ بمدح
ياسقهم وأوليائه وعبيده كما تربي الجيال على الولء له ولعبيده وتحببهم بجيوشهم وشرطتهم
وتشجعهم على المشاركة فيها..
بــغـض شــعـاراتهـم وأعــلمـهـم
وكذا تحية العلم ..تلك الخرقة التي يعظمونها أكثر من كتاب ال وشرعه والتي ترمز إلى حكم
ونظام عبيد الياسق العصري ،فليس العلم إلّ علمة وشعار لهم ،ومن أحبه وعلقه ونشره أو
274
اتخذه شعارا ،فإن هذا كله علمة على أنه منقاد موال في الظاهر لهذا النظام الحاكم بياسق
إبليس المعرض عن شريعة الرحمن فإياك أن تكون كذلك فتصبح أضل من سائمة النعام ..بل
الواجب الشرعي عليك أن تبغض هذا العلم و ُت َبغّضه لولدك وذريتك وتُنشّئهم على البراءة منه
ومن الحكم الذي يرمز إليه ،ومن الطاغوت الذي هو علمة عليه وعلى نظامه ..وليس هذا وال
فرعا من الفروع يستهان به ..بل هو كما عرفت من لوازم التوحيد ومعاني ل ِإلَهَ إِلّ ال التي
هي كفر بكل طاغوت وتوحيد ل عز وجل..
هذا هو أقل ما يجب عليك في نفسك وأهلك إذا لم تقدر على المرتبة الولى التي هي ملة
الذي يقول فيه: إبراهيم ودعوة النبياء والمرسلين ،وتذكّر في مرتبتك هذه ،حديث رسول ال
جتْ
ن النّاسِ قَدْ َمرِ َ
حثَالَةٌ مِ َ
غ ْر َبلَةً َتبْقَى ُ
شكُ أَنْ َي ْأ ِتيَ ُي َغ ْربَلُ النّاسُ فِيهِ َ
( َك ْيفَ ِبكُمْ ِب َزمَانٍ يُو ِ
ل اللّهِ قَالَ
ش ّبكَ َبيْنَ َأصَا ِبعِه)ِ فَقَالُوا َو َك ْيفَ ِبنَا يَا رَسُو َ
خ َتلَفُوا َفكَانُوا َهكَذَا (وَ َ
عهُودُهُمْ َوَأمَانَا ُتهُمْ وَا ْ
ُ
ص ِتكُمْ َوتَ َذرُونَ َأ ْم َر عوامكم ) .
علَى َأ ْمرِ خَا ّ
تَأْخُذُونَ مَا َت ْعرِفُونَ َوتَ َذرُونَ مَا ُت ْن ِكرُونَ َوتُ ْق ِبلُونَ َ
الفرار إلى ال من كل وظيفة فاسدة فيها إعانة لعبيد الياسق على ظلمهم أو إقرار أو نصرة
لقوانينهم.
ثم اعلم هدانا ال وإياك إلى صراطه المستقيم أن البراءة من هؤلء المشركين والبراءة من
ياسقهم الكفري ..ما دمت مقيما بين ظهرانيهم ولم تتهيأ للهجرة إلى بلد يعمل فيها بشرع ال ؛
تستلزم منك أن تهجر وتعتزل كل وظيفة أو عمل يقر باطلهم أو يُعينهم على تطبيق قوانينهم أو
ينصرهم عليها ،فذلك كله من المتابعة والموافقة والموالة لهم ولقوانينهم الباطلة التي علمت بأن
الكفر بها والبراءة منها وبغضها وبغض أوليائها واجب من واجبات التوحيد ولزم من لوازم
ظَلمُوا
( ل ِإلَهَ إِلّ ال) التي ل يصح إسلم امرئ إلّ بها .قال تعالى{ :وَل َت ْر َكنُوا ِإلَى الّذِينَ َ
صرُونَ} [هود.]113 :
ن اللّهِ مِنْ َأ ْوِليَاءَ ثُمّ ل تُن َ
سكُمْ النّارُ َومَا َلكُمْ مِنْ دُو ِ
َف َتمَ ّ
في أمراء لشك أنهم أقل شرا من هؤلء ،وباطلهم أهون بكثير ،وقوله وسيأتي حديث النبي
فيهَ ( ..وَلكِنْ مَنْ َرضِيَ َوتَابَعَ .)..
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم ال
ش ْيئًا َقلِيلً} [السراء..]74 :
تعالى ،عند قوله تعالىَ { :وَلوْل أَنْ َث ّب ْتنَاكَ لَقَدْ كِ ْدتَ َت ْركَنُ ِإَل ْيهِمْ َ
(فانظر ما ذكره المفسرون؛ حتى أدخل بعضهم لياقة الدواة وبري القلم في الركون وذلك لن
ذنب الشرك أعظم ذنب عصي ال به على اختلف رتبه فكيف إذا انضاف إليه ما هو أفحش
275
من الستهزاء بآيات ال وعزل أحكامه وأوامره وتسمية ما ضادّه وخالفه بالعدالة وال يعلم
ورسوله والمؤمنون أنها الكفر والجهل والضللة ومن له أدنى أنفةٍ وفي قلبه نصيب من الحياة
يغار ل ولرسوله وكتابه ودينه ،ويشتد نكيره وبراءته في كل محفل وكل مجلس ،وهذا من
الجهاد الذي ل يحصل جهاد العدو إلّ به ،فاغتنم إظهار دين ال والمذاكرة به وذم ما خالفه
والبراءة منه ومن أهله ،وتأمل الوسائل المفضية إلى هذه المفسدة الكبرى وتأمل نصوص
الشارع في قطع الوسائل والذرائع وأكثر الناس ولو تبرأ من هذا ومن أهله فهو جند لمن تولهم
وأنس بهم وأقام بحماهم وال المستعان) اهـ .
وإياك ثم إياك أن تتعذر بالرزق وخشية الفقر ،أو تردد مقالة المتخاذلين المخلدين إلى الرض (
أنا عبد مأمور) ..بل أنت عبد الرزاق ذي القوة المتين الذي قال وقوله الحق { َومَنْ َيتّقِ اللّهَ
شيْطَانُ َيعِ ُدكُمْ
سبُ} [ الطلق .]3-2 :وقال سبحانه{ :ال ّ
حتَ ِ
ح ْيثُ ل يَ ْ
خرَجًا َو َي ْرزُقْهُ مِنْ َ
جعَلْ لَهُ مَ ْ
يَ ْ
علِيمٌ} [ البقرة .]268 :وقال
الْفَ ْقرَ َويَ ْأ ُم ُركُمْ بِالْ َفحْشَاءِ وَاللّهُ َيعِ ُدكُمْ َمغْ ِف َرةً ِمنْهُ وَ َفضْلً وَاللّهُ وَاسِعٌ َ
ضلِهِ إِنْ شَاءَ} [ التوبة .]28 :وقال
س ْوفَ ُي ْغنِيكُ ْم اللّهُ مِنْ َف ْ
ع ْيلَةً فَ َ
سبحانه لمن أطاعهَ { :وإِنْ خِ ْفتُمْ َ
سعَةً} [ النساء.]100 :
غمًا َكثِيرًا وَ َ
لرْضِ ُمرَا َ
ل اللّهِ يَجِدْ فِي ا َ
سبِي ِ
جرْ فِي َ
عز وجلَ { :ومَنْ ُيهَا ِ
فبادر بالهجرة الواجبة على كل مسلم في كل زمان ومكان ،واهجر كل ما يغضب ويُسخط
مولك الذي خلقك ورباك.
ومن هذه الوظائف والعمال التي يجب عليك أن تهجرها وتجتنبها ول ترتضيها لهلك وأبنائك:
العمل في جيش عبيد الياسق العصري وشرطتهم وعساكرهم وكذا الحرس الوطني
والميري والملكي وما شاكله .
فإن من المعلوم أن حماة الظلم وحراسه لبد وأن يكونوا من الظالمين إذ لولهم لما قام الظلم
ولما دام.
وإذا كانت هذه القوانين -كما بان لك بوضوح -هي في الحقيقة حرب على دين ال َتعَالى
وتوحيده وحدوده وحرماته ،وحرب على أولياء ال الموحدين الذين يعادونها ويتبرؤون منها
ومن أهلها ..فل شك ول ريب أن جيشها وحرسها وحماتها الذين يعملون على تثبيتها سيكونون
في مقدمة المحاربين ل ولدينه ..إذ هم حماة القانون الكافر وأوتاده وحراس أوليائه وعبيده
ولولهم لما قامت القوانين ولما قام أولياؤها ولما داموا إذ هم الشوكة التي يمتنع بها عبيد
الياسق ،وبها ينفذون أحكام ياسقهم.
276
وهل يجوز بعد ما ظهر لك ما في هذه القوانين من الشرك الصراح والكفر البواح ،وبعد أن
ظهر لك أنها حرب على السلم والمسلمين هل يجوز حمايتها وإعانة أوليائها على تطبيقها
وإبقائها؟؟؟
يقول الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم ال تعالى( :وقد ورد الوعيد
الشديد فيمن أعان ولو بشطر كلمة في قتل مسلم ،فكيف العانة على حرب السلم
والمسلمين؟؟) اهـ .
ومن المعلوم َأيْضا أن ال عز وجل أهلك فرعون ..أهلك معه جنوده الذين وصفهم بالوتاد
جنُو ِدهِ
عوْنُ بِ ُ
المثبتين له ولحكمه كما في قوله { وفرعون ذي الوتاد} ،فقال تعالى{ :فََأ ْت َب َعهُمْ ِفرْ َ
ظرْ
جنُو َدهُ َف َنبَ ْذنَاهُمْ فِي ا ْليَمّ فَان ُ
ش َيهُمْ} [ طه.]87 :وقال تعالى{ :فَأَخَ ْذنَاهُ َو ُ
ش َيهُمْ مِنْ ا ْليَمّ مَا غَ ِ
َفغَ ِ
جنُودَ ُهمَا
عوْنَ وَهَامَانَ وَ ُ
َك ْيفَ كَانَ عَا ِقبَةُ الظّاِلمِينَ} [القصص .]40 :وقال َتعَالى أيضا{ :إِنّ ِفرْ َ
فيمن هم أهون طئِينَ} [القصص .]8:بل قد جاءت الحاديث الصحيحة عن النبي
كَانُوا خَا ِ
كثيرا من فرعون ،كأمراء الجور الذين كانوا يحكمون بشرع ال َتعَالى بل والفتوحات في
زمانهم تمل الرض شرقا وغربا ..ولكن كان عندهم شيء من الظلم والجور ،ول يصح بحال
من الحوال أن يقارنوا بعبيد الياسق العصري الذين نبذوا حكم ال وعطّلوا شرائعه ،ومع ذلك
فقد جاءت الحاديث تنهى عن العمل عندهم بهذه الوظائف وأمثالها مما فيه إعانة على الظلم..
فهي تتنزل في عبيد الياسق العصري وأمثالهم من باب أولى ..ومن هذه الحاديث:
( :ليأتين عليكم أمراء عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي ال عنهما قال :قال رسول ال
سفهاء يقربون شرار الناس ويؤخرون الصلة عن مواقيتها فمن أدرك ذلك منهم فل يكونن
عريفا ول شرطيا ول جابيا ول خازنا) .
لم يأمرهم بالخروج عليهم فهم لم فهؤلء المراء مسلمون لم يظهروا كفرا بواحا بدليل أنه
يعطلوا أحكام ال َتعَالى ول استبدلوا بها تشريعات الكفار الساقطة ،ول جعلوا من أنفسهم شركاء
بيانا ل ،شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به ال ..وأعظم جرائمهم التي ذكرها النبي
لنحرافهم وتنفيرا من العمل عندهم بتلك الوظائف؛ كونهم يقربون شرار الناس ويؤخرون
الصلة عن وقتها ،فقد كانوا يصلون هم أو عمّالهم بالناس كما في حديث أبي ذر مرفوعا( :إنه
ل الصّلةَ ِلوَ ْق ِتهَا ثم ائتهم ،فإن كانوا قد
ن الصّلةَ عَنْ مواقيتها أل فصَ ّ
خرُو َ
سيكون ُأ َمرَاءُ ُيؤَ ّ
ت صَل َتكَ ،وإل صليت َم َعهُمْ فكانت تلك نَا ِفلَةً) .
ح َر ْز َ
صلوا كنت قَدْ أَ ْ
277
أما عبيد الياسق العصري ،فدعنا من الخوض في صلتهم وزكاتهم وصيامهم ،فهم ل يصلون
بالخلق ..ولن نضيع وقتنا في صلتهم أخروها أم تركوها بالكلية ..إذ قد أخروا شريعة ال
َتعَالى كلها ونحّوا حدودها عن الحكم واستبدلوها بطاغوتهم الذي بان لك خبثه وباطله وكفره..
فهل يجوز لمسلم موحد كافر بهذا الطاغوت أن يكون حارسا له حاميا لباطله فيعمل في شرطة
أو جيش عبيده وأوليائه؟؟ وكيف له أن يقسم عند تخرجه من (كلية الشرطة) أو غيرها من
كلياتهم العسكرية بأن يكون مخلصا للمير أو الملك (الذي يتولى السلطة التشريعية وفقا
للدستور) وأن يحترم جميع قوانين البلد ..التي علمت أن الواجب على كل مسلم أن يكفر بها
ويبغضها ويتبرأ منها ومن أوليائها ليحقق التوحيد الذي هو حق ال على العبيد؟؟؟
ل بل هو الشرك بالمعبود عدوانا هذا ضلل مبين واضح أبدا
نعم وال إنه الشرك بالمعبود عدوانا ،فإن هذه الوظائف إذا كانت محرمة أو مكروهة في أزمنة
هيمنة الشريعة وحدودها بسبب جور بعض الئمة وظلمهم ،فإن أصحابها في أزمنة قوانين
الكفر -ورب الكعبة -على خطر عظيم وهاوية سحيقة.
وأنا أنقل لكل طالب علم طرفا من مقالت بعض أئمتنا العلم وحكمهم فيمن دافع عن الشرك
وأهله أو انضم إلى صفوفه وجعل من نفسه جنديا يقاتل دون الكفر والطاغوت..
سئل شيخ السلم رحمه ال تعالى عن المعاونة للظلمة أو لعداء ال تعالى..فبين أن حكمه حكم
المباشر وأنه يستوي المعاون والمباشر عند جمهور الئمة ،كأبي حنيفة ومالك وأحمد ،فمن كان
معاونا كان حكمه حكمهم - ..مجموع الفتاوى .3/11
وعدّ رحمه ال تعالى من قفز من المسلمين إلى معسكر عبيد الياسق التتري وصار في جيوشهم
مرتدا ،وقال ص (( :)535/28فإنه ل ينضم إليهم طوعا من المظهرين للسلم إل منافق أو
زنديق أو فاسق فاجر) اهـ.
ويقول أيضا في الجزء نفسه ص ( ( : )530ولكل من قفز إليهم من أمراء العسكر وغير المراء
فحكمه حكمهم ،وفيهم من الردة عن شرائع السلم بقدر ما ارتد عنه من شرائع السلم ،وإذا
كان السلف قد سموا مانعي الزكاة مرتدين مع كونهم يصومون ويصلون ولم يكونوا يقاتلون
جماعة المسلمين ،فكيف بمن صار مع أعداء ال ورسوله قاتلً للمسلمين؟؟) اهـ.
وكذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب فقد عد من نواقض السلم ( مظاهرة المشركين ومعاونتهم
على المسلمين) اهـ.
278
ويقول رحمه ال تعالى في مجموع الرسائل الشخصية( :وكذلك نكفر من حسّن الشرك للناس،
وأقام الشبهة الباطلة على إباحته ،وكذلك من قام بسيفه دون مشاهد الشرك ،وقاتل بسيفه دونها
وأنكر وقاتل من يسعى في إزالتها) اهـ ص (.)60
قلت :ما أشبه الليلة بالبارحة مع تلون صور الشرك ومشاهدها..
ويقول أحد أحفاده وهو الشيخ عبد ال بن عبد اللطيف في رسالة له في الدرر السنية عن بعض
الدول الخاضعة لبريطانيا (وكل من استطاع لهم ودخل في طاعتهم وأظهر موالتهم فقد حارب
ال ورسوله وارتد عن دين السلم )..اهـ (ص )11من جزء الجهاد.
ويقول (ص )7من الكتاب نفسه( :حتى آل المر بأكثر الخلق إلى عدم النفرة من أهل ملل الكفر
وعدم جهادهم وانتقل الحال حتى دخلوا في طاعتهم واطمأنوا إليهم وطلبوا صلح دنياهم بذهاب
دينهم وتركوا أوامر القرآن ونواهيه ،وهم يدرسونه آناء الليل والنهار وهذا لشك أنه من أعظم
أنواع الردة والنحياز إلى ملة غير السلم )..اهـ.
سكَنَ َمعَهُ
ش ِركَ وَ َ
ويقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ معلقا على حديث (مَنْ جَامَعَ ا ْلمُ ْ
فَِإنّهُ ِم ْثلُهُ) [رواه أبو داود والحاكم وغيرهما عن سمرة] ( :ل يقال إنه بمجرد المجامعة
والمساكنة يكون كافرا بل المراد أن من عجز عن الخروج من بين ظهراني المشركين
وأخرجوه معهم كرها فحكمه حكمهم في القتل وأخذ المال ل في الكفر ،وأما إن خرج معهم
لقتال المسلمين طوعا واختيار وأعانهم ببدنه وماله فلشك أن حكمه حكمهم في الكفر )..اهـ.
من مجموعة الرسائل والمسائل ( .)2/135ويدل على تفصيل الشيخ هذا معاملة المسلمين للظالمي
أنفسهم الذين خرجوا فقط يكثرون سواد المشركين في بدر دون قتال ،وكذا من زعم الكراه مع
قدرته على المفارقة والفرار ،فهؤلء يعاملون معاملة الكفار من أسر وقتل وقتال ويوكل أمر
أعيانهم في الخرة إلى ال ..بخلف من حارب التوحيد وأهله ونصر الشرك والمشركين وقاتل
دونهم ،فإن أمره في الشريعة واضح بين..
وقد تقدم عن الشيخ حمد بن عتيق والشيخ سليمان حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنهما صنفا
كتاب ( سبيل النجاة والفكاك )..وكتاب ( الدلئل) في تكفير عساكر مصر التابعين للدولة
التركية ومن آزرها وناصرها ..فتنبه فإن المر وال جد خطير.
هذا وإن فساد هذه الوظائف وأمثالها وال بين واضح لكل من له عينان ،ل ينبغي أن يجادل فيه
عاقل ،أليس الشرطة وأمثالهم هم شوكة وحماة هذه النظمة الفاسدة؟؟ وبالتالي حماة الطغاة
279
وقوانينهم الكافرة الظالمة؟ أليسوا هم -كما يسمونهم -العين الساهرة على القانون الوضعي؟
المانعون من مخالفته والخروج عن بنوده الباطلة؟ أليسوا هم حماة البنوك والربا وتشريعاته ؟
أليس هم حماة الفساد والرذيلة ووسائلها من إذاعة وتلفاز وسينما وفيديو؟ أليسوا هم قطاع
الطرق ولصوص المخالفات وآكلوا السحت والباطل من كد وتعب الشعوب؟ أليسوا هم أعوان
الظلمة؟ بل هم الظلمة أنفسهم الذين يطاردون ويسجنون ويحققون ويقيدون ويعذبون
و(يسفّرون)..؟؟ إلى غير ذلك مما ل يحصى ول يعد من باطلهم وظلماتهم..
(:سيكون أمراء تعرفون وتنكرون ،فمن نابذهم نجا ومن اعتزلهم سلم ومن خالطهم وقد قال
هلك) .فإياك أن تكون مع الهالكين..؟؟
عَل ْيكُمْ َأ ِئمّةٌ َت ْعرِفُونَ َو ُت ْن ِكرُونَ َفمَنْ َأ ْن َكرَ فَقَدْ َبرِيءَ َومَنْ َك ِرهَ فَقَدْ
س َيكُونُ َ
وفي حديث آخر (ِإنّهُ َ
ضيَ َوتَابَعَ ) .فإياك أن تكون من المتابعين المشايعين ..إياك ..إياك . ..
سلِمَ َوَلكِنْ مَنْ َر ِ
َ
شرْطِ َو َبيْعَ
ستّا ِإمْا َرةَ السّ َفهَاءِ َو َك ْث َرةَ ال ّ
أمته فقال( :يَقُولُ بَا ِدرُوا بالعمال ِ وقد حذر النبي
حكْمِ )..الحديث ..وعدّ أمورا ،رواه المام أحمد والطبراني وغيرهما عن عابس الغفاري
الْ ُ
رضي ال َتعَالى عنه وفي رواية (بَا ِدرُوا بِا ْل َموْتِ) بدل (بَا ِدرُوا بالعمال) وعابس كان يرى أن
هذه الستة قد حدثت في زمانه ..لجل ذلك تمنى الموت فأنكر عليه ذلك ،فحدث بهذا الحديث
كما في أصل هذه الرواية..
يعدّ كثرة الشرط -في زمن أئمة يحكمون شرع ال ضمن أمور وفتن يتخوفها فإذا كان النبي
على أمته ..فكيف يكون حال هؤلء الشرط مع عبيد الياسق العصري الذين هدموا التوحيد
وأقاموا وحموا ونشروا بقوانينهم الشرك والتنديد ،ول أشك طرفة عين بأن حالهم هو ما رواه
ب اللّهِ
غضَ ِ
أنه قال( :سيكون في آخر الزمان شرطة َيغْدُونَ فِي َ أبو أمامة عن رسول ال
ط اللّهِ ) رواه المام أحمد والحاكم والطبراني في الوسط والكبير وزاد
َو َيرُوحُونَ فِي سَخَ ِ
(فإياك أن تكون من بطانتهم).
يقول ( :إن وفي رواية لبي هريرة في مسند أحمد وصحيح مسلم قال :سمعت رسول ال
طال بك مدة أوشكت أن ترى قوما يغدون في سخط ال ويروحون في لعنته ،في أيديهم مثل
أذناب البقر ).
قال ( :صنفنان من أهل النار لم أرهما وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أيضا أن رسول
بعد ،قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ،ونساء كاسيات عاريات ..الحديث).
280
وإذا كان أولئك الشرط في القرون الخالية يضربون الناس بتلك السياط علنية ..فإن عبيد
الياسق وشرطتهم أشد خبثا ،فهم يتجنبون أمثال ذلك أمام الناس ويكتبون بالخط العريض
( الشرطة في خدمة الشعب) والصواب أنهم في خدمة الطاغوت ،ويوقعون في ظلمات الزنازين
بأعداء ياسقهم وبعيدا عن أعين الناس ألوانا من العذاب والنكال بالسياط وغيرها مما يتفننون فيه
ولم يكن يعرفه أصحاب تلك السياط القديمة ..أعاذنا ال وإخواننا المسلمين من سبيلهم وطريقهم
وأعمالهم..
فإياك أن تكون من جند ياسق إبليس الذين يقول ال تعالى في أمثالهم { :فكبكبوا فيها هم
والغاوون وجنود إبليس أجمعون } ،والذين يقول فيهم سبحانه { :جند ما هنالك مهزوم من
الحزاب }[ ص. ]11:
ولكن احرص أن تكون من جند التوحيد وعساكر اليمان الذين قال تعالى عنهم { :وإنّ جندنا
لهم الغالبون }.
العمل في أمن الدولة ،أو مباحث عبيد الياسق وجواسيسهم ومخابراتهم
ويلتحق ول شك في الجيش والشرطة؛ العمل في المباحث أو المخابرات وجواسيس عبيد الياسق
العصري ..الذين يتجسسون على أهل اليمان ،ويرفعون أخبارهم إلى أوليائهم من عبدة الياسق،
بل قد جاءت الحاديث تنهى عن مثل هذه الوظيفة الخبيثة حتى عند أئمة وأمراء الهدى ..
ع ْثمَانَ
فروى البخاري وغيره عَنْ َهمّامٍ قَالَُ :كنّا مَعَ حُ َذيْفَةَ فَقِيلَ لَهُ :إِنّ َرجُلً َيرْفَعُ الْحَدِيثَ ِإلَى ُ
جنّةَ َقتّاتٌ ) .والقتات كما في فتح الباري -هو
يَقُولُ( :ل يَدْخُلُ الْ َ س ِم ْعتُ ال ّن ِبيّ
فَقَالَ لَهُ حُ َذيْفَةُ َ
الذي يتسمع من حيث ل يعلم به ثم ينقل ما سمعه.
حتّى
جلُوسًا مَعَ حُ َذيْفَةَ فِي ا ْلمَسْجِدِ فَجَاءَ رَجُلٌ َ
وفي صحيح مسلم عَنْ َهمّامِ بْنِ الْحَا ِرثِ قَالَُ :كنّا ُ
س ِمعَهُ ..فذكر
شيَاءَ فَقَالَ حُ َذيْفَةُ ِإرَا َدةَ أَنْ يُ ْ
سلْطَانِ أَ ْ
جَلسَ ِإَل ْينَا فَقِيلَ لِحُ َذيْفَةَ :إِنّ هَذَا َيرْفَعُ ِإلَى ال ّ
َ
الحديث..
وهذا في زمن عثمان فداه أبي وأمي ..فكيف الحكم والحال فيمن يعمل في مثل هذه الوظيفة عند
عبيد الياسق ومشركي القانون..؟؟ وما هو حكمه ..؟ ل شك أن حكمه ما رواه البخاري وغيره
عن سلمة بن الكوع قال :أتى النبي صلى ال عليه وسلم عينٌ من المشركين -وهو في سفر-
فجلس عند أصحابه يتحدث ،ثم انفتل ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم :اطلبوه واقتلوه ،فنفله
سلبه).
281
وكل وظيفة فيها رقابة على المسلمين ورفع لمورهم إلى عبيد الياسق.
واعلم أن حديث حذيفة هذا يعم كثيرا من الوظائف التي فيها إعانة على الظلم ورفع أمور
المؤمنين والمصلين إلى أولياء الياسق وعبيده ..كالرقابة على كثير من المؤسسات والهيئات
والتي من شأنها أن تعين على المظالم أو أكل حقوق الناس وأموالهم ..وقد روى المام أحمد
ج َرةَ :
قَالَ ِل َك ْعبِ بْنِ عُ ْ عبْ ِد اللّهِ أنه
والترمذي والنسائي وغيرهم بإسناد صحيح عَنْ جَا ِبرِ بْنِ َ
أَعَا َذكَ اللّهُ مِنْ ِإمَا َرةِ السّ َفهَاءِ ،قَالَ َومَا ِإمَا َرةُ السّ َفهَاءِ؟ قَالَُ :أ َمرَاءُ َيكُونُونَ َبعْدِي ل يَ ْقتَدُونَ
ستُ
ظ ْل ِمهِمْ فَأُوَل ِئكَ َليْسُوا ِمنّي َولَ ْ
علَى ُ
ن صَدّ َقهُمْ ِبكَ ِذ ِبهِمْ َوأَعَا َنهُمْ َ
س ّنتِي َفمَ ْ
س َتنّونَ بِ ُ
ِبهَ ْديِي وَل يَ ْ
ظ ْل ِمهِمْ فَأُوَل ِئكَ ِمنّي َوَأنَا
علَى ُ
ح ْوضِي َومَنْ لَمْ ُيصَدّ ْقهُمْ ِبكَ ِذ ِبهِمْ َولَمْ ُي ِع ْنهُمْ َ
عَليّ َ
ِم ْنهُمْ وَل َيرِدُوا َ
ح ْوضِي.) ..
عَليّ َ
س َيرِدُوا َ
ِم ْنهُمْ وَ َ
هذا في من مضي ....فكيف عند عبيد الياسق وشركياتهم؟؟
فكل امرئ أدرى بحاله وبعمله الذي يقوم به ،وما فيه وما عليه ..وكل امرئ حجيج نفسه
وحسيبها ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره..
العرافة وكل ما يدخل تحت مسمّاها
وكذا كل ما يدخل تحت لفظة ( العريف) المتقدمة في حديث أبي هريرة وأبي سعيد الذي فيه
(فل يكونن عريفا ول شرطيا ول جابيا ول خازنا) وهو كما في النهاية لبن الثير ()3/218
والفتح لبن حجر (( ..)13/168القيم بأمور الجماعة أو الطائفة من الناس يلي أمورهم ويعرف
المير منه أحوالهم وأمورهم) فيدخل إذا في مسمى العريف كثير مما يتوله الناس من وظائف
يحذر من ومناصب كالمختار والمحافظ وأعضاء المجالس البلدية ..ونحوها .وقد كان النبي
أمثال هذه الوظيفة في أزمنة الخير والهدى فقد روى الطيالسي بسند حسن عن أبي هريرة أن
قال( :العرافة أولها ملمة وآخرها ندامة والعذاب يوم القيامة) وانظر ما رواه المام النبي
أحمد ( )5/166وابن سعد وابن حبان عن أبي ذر حين حضرته الوفاة أنه قال لمن حضره:
عرِيفًا َأوْ َبرِيدًا )..وقد أورد ابن القيم الخبر
(فََأنْشُ ُدكُ ُم اللّهَ أَنْ ل ُيكَ ّف َننِي رَجُلٌ ِم ْنكُمْ كَانَ َأمِيرًا َأوْ َ
كاملً في الزاد (. )3/535
.فكيف يكون الحال يا أولي اللباب في زمن عبيد الياسق وشركياتهم ..فالحذر الحذر خاصة
بعدما ثبت النهي الصحيح عنها..
282
وجباية الموال والمخالفات والغرامات والمكوس والجمارك وخزنها والعمل في المؤسسات
الربوية.
وفي الحديث َأيْضا النهي عن العمل جابيا أو خازنا وعن كل وظيفة فيها إعانة على الظلم وأكل
أموال الناس بالباطل.
ورحم ال عطاء بن أبي رباح يوم أن سأله سائل في زمان الخلفة والفتوحات فقال :إن لي أخا
يأخذ بقلمه ،وإنما يحسب ما يدخل ويخرج ،وله عيال ولو ترك ذلك لحتاج وأدان ؟ فقال :مَن
الرأس ؟ قلت :خالد بن عبد ال القسري ،قال :أما تقرأ ما قال العبد الصالح{ :رب بما أنعمت
علي فلنْ أكونَ ظهيرا للمجرمين} فل يعينهم أخوك فإن ال يعينه قال عطاء :فل يحل لحد أن
يعين ظالما ول يكتب له ول يصحبه ،وأنه إن فعل شيئا من ذلك فقد صار معينا للظالمين) اهـ.
فمن باب أولى عبيد الياسق العصري خاصة وأن قوانينهم هذه فيها استحلل الربا وفرض
عقوبات مالية في كثير من المجالت التي ما أنزل ال بها من سلطان ..والمقلب لقوانين الجزاء
وغيرها يجد في كل باب تقريبا عقوبة مالية إضافة للعقوبة الخرى ،هذا غير مخالفات البلدية
والمحال التجارية وضرائب الجمارك وغير ذلك من الرسوم الباطلة التي يأكلون بها أموال
الناس ظلما وعدوانا ،وهذا باب واسع تدخل فيه كثير من الوظائف التي فيها جبي للمخالفات
والمكوس ،كالعمل في كثير من أقسام البلدية والجمارك و الجوازات والقامات وغيرها من
أعمال المظالم وأشباهها..
( :ل يَ ْقتَطِعُ وقد جاء في حديث أبي أمامة الحارثي في سنن ابن ماجة أنه سمع رسول ال
جبَ لَ ُه النّارَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْ َقوْمِ يَا
جنّةَ َوَأوْ َ
عَليْهِ الْ َ
حرّ َم اللّهُ َ
سلِمٍ ِب َيمِينِهِ إِلّ َ
رَجُلٌ حَقّ ا ْم ِرئٍ مُ ْ
سوَاكًا مِنْ َأرَاكٍ) .وفي الحديث الخر ( :من أكل
ش ْيئًا يَسِيرًا قَالَ َوإِنْ كَانَ ِ
رَسُولَ اللّهِ َوإِنْ كَانَ َ
سلِمٍ ثوبا فإن ال يكسوه
سلِمٍ أكلة فإن ال يطعمه مثلها من جهنم ،ومن اكتسى برجل مُ ْ
برجل مُ ْ
مثله من جهنم )..الحديث.
ويدخل في ذلك حتما العمل في البنوك والمؤسسات الربوية الخبيثة سواء الحكومية منها أو
غيرها مما ترخصه قوانينهم ويحرسه حماة قوانينهم..
العمل بريدا أو سفيرا أو رسولً عند عبيد الياسق
فهذه وظائف ل يجادل عاقل عارف بواقع عبيد الياسق في كونها من أعظم وسائل التعاون على
الثم والعدوان ..فذلك أمر جلي واضح كوضوح الشمس في رابعة النهار ..وقد قال تعالى:
283
لثْمِ وَا ْلعُ ْدوَانِ} [ المائدة .]2 :و قال تعالى{ :وَل
علَى ا ِ
علَى ا ْل ِبرّ وَالتّ ْقوَى وَل َتعَا َونُوا َ
{ َو َتعَا َونُوا َ
سكُمْ النّارُ} [هود .]113 :قال المفسرون :الركون هو الميل اليسير.
ظَلمُوا َف َتمَ ّ
َت ْر َكنُوا ِإلَى الّذِينَ َ
وقال سفيان الثوري :من لق لهم دواة أو برى لهم أو ناولهم قرطاسا فقد دخل في ذلك ..وتقدم
كلم الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ في الركون َأيْضا فارجع إليه وتأمله فإنه
ظلْمٍ لَمْ َيزَلْ فِي سَخَطِ اللّهِ
علَى ُ
ظلْمٍ َأوْ ُيعِينُ َ
خصُومَةٍ بِ ُ
علَى ُ
مهم .وفي الحديث ( :مَنْ أَعَانَ َ
حتّى َي ْنزِعَ) .
َ
والبعد عن مثل هذه الوظائف له أصل عند السلف الصالح في زمن الخلفة والفتوح فكيف في
زمن عبيد الياسق العصري؟ وقد تقدم من ذلك كلم أبي ذر المتقدم حين حضرته الوفاة ،فأمر
الحاضرين أل يكفنه رجل منهم عمل (أميرا أو عريفا أو بريدا).
وللحديث المتقدم عن أبي هريرة مرفوعا في النهي عن بعض الوظائف عند أمراء الجور شاهد
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (( ..)2/383كيف أنت يا مهدي إذا موقوف على ابن مسعود
ظهر بخياركم واستعمل عليكم أحداثكم وصليت الصلة لغير وقتها؟ قال قلت :ل أدري ،قال:
(ل تكن جابيا ول عريفا ول شرطيا ول بريدا وصل الصلة لوقتها).
والعمل في النيابة والمحاماة والقضاء والمحاكم
ويدخل كذلك في الوظائف الباطلة التي يجب على المسلم الموحد أن يطهر نفسه وأهله من
رجسها ،كل وظيفة فيها نوع تحاكم إلى قوانينهم كالمحاماة والقضاء وأمثالها .وقد صح عن
جنّةِ قاض َقضَى بالهوى فِي النّارِ
ضيَانِ فِي النّارِ وَقَاضٍ فِي الْ َ
أنه قال( :الْ ُقضَاةُ ثَلثَةٌ قَا ِ النبي
جنّةِ ) .
وَقَاضٍ قضى بغير علم َف ُهوَ فِي النّارِ وَقَاضٍ َقضَى بِالْحَقّ َف ُهوَ فِي الْ َ
ثلثة: فالقضاة إذن كما قسمهم النبي
• قاض يقضي بالهوى ..وكل ما خالف شرع ال فهو الهوى والجهل والجور.
• وَقَاضٍ يقضي بغير علم ..وليس العلم المقصود هنا طبعا علم الحقوق والقانون ،فل نعمة
ول كرامة لمثل هذه العلوم النتنة ..بل العلم الذي يجب أن يقضي به القاضي هو علم الكتاب
والسنة وما سوى ذلك وسواس الشياطين..
• وَقَاضٍ يقضي بِا ْلحَقّ ..والحق هو ما جاء في الكتاب والسنة ل غير ،وأين كتاب ال وسنة
في محاكمهم وقوانينهم؟ ،إنه كما علمت مما تقدم معزول معطل ليس له سلطان ،بل رسوله
284
السلطان كله والحق عندهم لما نطق به ياسقهم كما تقدم في المادة ( )53من دستورهم وغيرها..
ل الضلل) و شرع الطاغوت.
وإذا كان الحق معزولً معطلً في محاكمهم ( فماذا بعد الحق إ ّ
وكيف يحل لقضاة يزعمون السلم والتوحيد واليمان {أَنْ َيتَحَا َكمُوا ِإلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ ُأ ِمرُوا
أَنْ َيكْ ُفرُوا بِهِ}؟؟[النساء .]60 :بل كيف يحل ذلك لكل من انتسب إلى دين التوحيد؟؟؟
تبّا لكل وظيفة أو شيء من متاع الدنيا يخدش جناب التوحيد ،وسحقا لكل عقل تخيرها وقدمها
على ( ل ِإلَهَ إِلّ ال) والعقيدة والدين.
ورحم ال الشيخ سليمان بن سحمان إذ يقول في رسالة له في بيان معنى الطاغوت بعد أن بين
أن الموت وذهاب الحياة كلها أهون من الشرك والكفر مستدلً بقوله تعالى{ :وَالْ ِف ْتنَةُ َأ ْك َبرُ مِنْ
الْ َقتْلِ}{ ..وَالْ ِف ْتنَةُ أَشَدّ مِنْ الْ َقتْلِ} ،قال( :فلو ذهبت دنياك كلها لما جاز لك المحاكمة إلى
الطاغوت لجلها ولو اضطرّك وخيّرك بين أن تحاكم إلى الطاغوت أو تبذل دنياك لوجب عليك
البذل ولم يجز لك المحاكمة إلى الطاغوت)اهـ الدرر السنية ص ( )285من حكم المرتد.
ويقول المودودي رحمه ال َتعَالى في كتابه الحكومة السلمية ( :إن احتكامنا للمحاكم -التي
وضع الطاغوت -لتقضي وتفصل في أمورنا ومشاكلنا أمر ينافي اليمان ويناقضه ..إنما
يقضي اليمان بال وكتابه أن يرفض النسان التسليم بشرعية هذه المحاكم لن اليمان بال
والكفر بالطاغوت أمران متلزمان في القرآن .وطاعة ال والطاغوت في آن واحد هو النفاق
بعينه) اهـ.
ورحم ال السلف الذين كانوا يفرون من أمثال هذه الوظائف في أزمنة الشريعة والخلفة
والفتوحات ..وكانوا يقولون ( :من ولي القضاء فقد ذبح نفسه بغير سكين) .
فيا لهف نفسي لو اطلعوا على كثير ممن يستميتون على هذه الوظائف من أهل زماننا الهادمين
لدينهم الناحرين للتوحيد على مذابح الياسق والشرك والتنديد ..ماذا كانوا يقولون؟ أما آن لهؤلء
أن يرعووا عن ضللهم..؟ أو يستحيوا على القل من النتساب والتمسح بطريقة أولئك السلف
العلم الماجد.
وأختم هذا بكلم العلمة أحمد شاكر رحمه ال تعالى في( حاشية عمدة التفسير )(:)4/174قال
وهو يتكلم عن الياسق العصري( :أفيجوز إذن -مع هذا -لحد من المسلمين أن يعتنق هذا
الدين الجديد -أعني التشريع الجديد -أوَيجوز لبٍ أن يرسل أبناءه لتعلم هذا واعتناقه واعتقاده
والعمل به عالما كان الب أو جاهلً؟؟ .
285
أوَ يجوز لرجل مسلم أن يلي القضاء في ظل هذا ( الياسق العصري) وأن يعمل به ويعرض
ل ويؤمن بأن
عن شريعته البينة؟؟ ما أظن أن رجلً مسلما يعرف دينه ويؤمن به جملة وتفصي ً
هذا القرآن أنزله ال على رسوله كتابا محكما ،ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه ،وبأن
الذي جاء به واجبة قطعية الوجوب في كل حال ،ما أظنه يستطيع طاعته وطاعة الرسول
إلّ أن يجزم غير متردد ول متأول بأن ولية القضاء في هذه الحال باطلة بطلنا أصليا ل
يلحقه التصحيح ول الجازة؟) اهـ.
ومن باب أولى تولي منصب الوزارة وعضوية مجالس المة والبرلمانات
فهذه الوظائف ل شك أنها تدخل في العرافة التي جاء التحذير منها في الحاديث في زمن
الخلفة والفتوحات ..فهي في أزمنة عبيد الياسق تعتبر إضافة إلى ذلك أركانا لدول وأنظمة
الطواغيت وأسسا لياسقها.
فوزير الوقاف مثلً ل شك أنه مجرم سند للمجرمين ،يكمم أفواه الخطباء ويكبل المساجد ويخدم
الكنائس ،فهو عبد لمخططات دولته العلمانية ،ينفذ سياسة التلبيس ول يخرج أو يحيد عن
ياسقها ،وكيف يحيد عنه وهو لم يتولّ منصبه إلّ بعدما أقسم اليمين الدستورية كما في المادة (
)126من ياسقهم ( الدستور) فقال ( :أقسم بال العظيم أن أكون مخلصا للوطن وللمير وأن
أحترم الدستور وقوانين الدولة )..إلى آخر قسمهم الشركي.
فهو إذن ليس مجرد موظف عادي ..بل ركن من أركان الدولة وقطب من أقطابها ..وإن كان
هناك من هو شر منه وأطغى ..كوزير الدولة للشؤون القانونية والدارية مثل أو وزير الداخلية
وكذا الخارجية أو وزير المالية الربوية أو وزير قلة التربية ..وهكذا فل شك أن هذه المناصب
درجات متفاوتة في الزندقة واللحاد والكفر ،وتتنوع مهامهم في نصرة الشرك وأهله ،وحرب
التوحيد وأهله ،وقد تكون صريحة عند بعضهم ،خفيّة عند آخرين ،ولكنهم جميعا متعاونون على
نحر التوحيد وصيانة الشرك والتنديد ،بإرساء قواعد الياسق وحفظ قوانينه واحترامها ..وهذا
واضح بين معلوم من أهداف وأسس الوزارة ومجلس الوزراء ل يجادل فيه إلّ جاهل ،ولذا
تسمى الوزارة عندهم بالسلطة التنفيذية ،انظر دستورهم وتأمل مواد فرع ( الوزارة) ابتداء من
المادة ( )123التي تنص على التي (يهيمن مجلس الوزراء على مصالح الدولة ،ويرسم السياسة
العامة للحكومة ويتابع تنفيذها )..إلى غيرها.
286
وكذا عضوية البرلمانات فإنها ل تقل جرما عن الوزارة مهما حاول أن يرقع لها المرقعون بل
هي أشد خطرا وأعظم جرما فتلك (سلطة تنفيذية) وهذه يسمونها (تشريعية) فحقيقة نواب
البرلمانات التشريعيّة أنهم طواغيت قد اتخذهم من أنابهم عن نفسه في التشريع ،أربابا
مشرعين..
وقد قال تعالى {:ءأرباب متفرقون خير أم ال الواحد القهار} ،وقال عن أمثالهم {:اتخذوا
أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون ال..}..
ول مانع أن نذكر َأيْضا أنها عرافة ..وقد تقدم النهي عنها عند أئمة الجور فكيف بغيرهم ممن
هم أظلم وأطغى؟؟ ..وكيف إذا عرفت أن هذا نوع خطير جدا من أنواع العرافة ..فالعريف مثلً
يمثل طائفة من الناس أما عضو مجلس المة فهو ( يمثل المة بأسرها) كما نصت المادة ()108
من دستورهم ..وقبل أن يتولى العضو مهامه لبد من قسمهم الشركي ذاته على احترام الشرك
والطاغوت ( الياسق والقانون) والخلص ( لدار الكفر والمير المشرع) ..انظر مادة ( )91من
دستورهم ..ويمنحون على ذلك مكافآت معلومة نص عليها دستورهم كما في المادة ()119
والخلصة ..أن المشاركين في هذه البرلمانات طواغيت صغار ،أشركوا أنفسهم مع ال َتعَالى
في التشريع يشرعون ويقننون ويقررون ،مع مشرّعهم الول الذي بيده التشريع كله في البلد،
كما في المادة ( )101من دستورهم (لعضو مجلس المة حق اقتراح القوانين) والمادة ( ( )79ل
يصدر قانون إلّ إذا أقره مجلس المة وصدّق عليه المير.)..
وقد عرفت أن هذا هو الشرك بعينه ..فإياك إياك..
موقفنا من عوام الناس المتابعين للدولة والمشاركين في هذه الوظائف
قد ظهر لك فيما تقدم أن في وظائف الحكومات تفصيل مهم لبد من معرفته والتنبيه عليه.
فمن هذه الوظائف ما قد يكون معصية أو كبيرة ل تخرج بصاحبها من دائرة السلم ،ومنها ما
قد يتعدى بالنسان إلى الشرك والكفر.
-فالوظيفة التي فيها قسم على احترام ياسق الكفر والسهر على حراسة القوانين الوضعيّة أو
حمايتها مثلً ،ليست كوظيفة ( الجابي) وأمثالها..
-وكذلك الوظيفة التي فيها مولة عبيد الياسق وأوليائهم ،ومظاهرتهم على الموحدين المنابذين
لطاغوتهم (الياسق) ليست كوظيفة (الخازن) وأمثالها -.وكذا الوظيفة التي فيها تحاكم إلى
287
الطاغوت أو وصف لحكامه بالنزاهة والعدالة ،وال يعلم أنها الكفر والشرك والضللة ..أو
التشريع وسن القوانين ..ليست كوظيفة ربوية تخلو من الستحلل ..وهكذا..
وأهل هذه الوظائف والِغون بالشرك والثم والحرام كل بحسب حاله ،ول شك أن فيهم المشرك
المعاند والفاسق الفاجر والجاهل المتأول ..ومنهم من قد يعذر بجهله لخفاء بعض المور
والتباسها ..ومنهم من ل يعذر لظهورها واشتهارها..
لذا فالتفصيل لبد منه ..وطالب العلم يعرف ويفرق بين قولنا هذا شرك أو كفر ،وبين قول:
فلن مشرك أو كافر.
ونحن عندما كتبنا هذه الوراق لم يكن همّنا ومقصودنا النشغال والخوض والتوسع في العيان
كفرهم وإسلمهم ..وإنما مقصودنا فيها النصح للمسلمين وتحذيرهم من شرك العصر ،وتنبيههم
إلى ذرائعه ووسائله وأبوابه ،وتنفيرهم من كل وظيفة أو منزلق يخدش جناب التوحيد،
وإخراجهم من فتن هذا الزمان وظلمات عبيد الياسق إلى نور التوحيد ومنهاج الدعوة القويم
وطريقها المستقيم.
فلينشغل الدعاة بذلك ،وليخلصوا العمل على إنقاذ المة وتعليم الناس ونصحهم وإرشادهم بكل
صراحة ووضوح .فالمة في أمس الحاجة إلى ذلك..
-والحكمة والموعظة الحسنة والصبر واجب وخلق عظيم من أخلق الدعوة إلى ال تعالى.
-واللين والرحمة مطلوبة لتأليف القلوب وإصلحها.
-وكذا الهجران للمصرين على الباطل والعراض عنهم وترك مآكلتهم ومجالستهم و ترك
كلمهم والسلم عليهم كل ذلك مشروع مقرر في محله.
-وكذا الغلظة والشدة والقول البليغ كل في محله ومقامه ،ورحم ال من قال:
إل بعبسة مالك الغضبان ل تلق مبتدعا ول متزندقا
وكذا البراءة من المصرين على شركياتهم وبغضهم ومعاداتهم والكفر بشركهم ،وتكفيرهم إن
توفرت الشروط وانتفت الموانع.
ولنا في نبينا صلوات ال وسلمه عليه أحسن قدوة وتفاصيل ذلك موجودة في دعوة النبي
وأكملها.
قاعدة في وظائف الحكومات
288
وأخيرا ..ولكي ل يرمينا علماء الحكومات وعبيد الياسق وسدنته أننا قد حرّمنا جميع الوظائف
والصناعات ودعونا إلى البطالة ..وما إلى ذلك ..نورد ما نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري
( كتاب الجارة):
(كره أهل العلم ذلك -أي العمل عند أهل الشرك إل لضرورة بشرطين :أحدهما :أن يكون
عمله فيما يحل للمسلم فعله ،والخر :أن ل يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين)اهـ.
وأضاف غيره شرطا ثالثاُ :أن ل يكون في العمل إذلل للمسلم...
فيستفاد من ذلك أن الولى للمسلم الموحد البعد عن وظائف حكومات عبيد الياسق عموما ..فإن
كان ولبد ،فالضابط في ذلك أن ل يكون في الوظيفة إعانة على ظلم أو باطل أو معصية أو
حماية قوانينهم أو القسم ،على احترامها والتحاكم إليها وأمثاله فإن له شأنا آخر كما قدمنا ..وكل
امرئ حجيج نفسه ..وال المستعان..
أل تـكونوا لهل الظلم أعـوانـا يـا أيـها الناس إن ال يـأمركم
ول تكونوا لمن عاداه إخـــوانا يا قـوم ل تنصروا من ليس ينصره
مهمــا أرادوا ويلقى ال عصيانا يلقى العدا طاعة منكم ومـسكنة
ل تملكون لـه ردا إذا حــانـا إني أخـاف عليكـم حادثا جللً
وفي الطريق مخذلون ومرجفون
وبعد أن عرفت ضرورة معاداة عبيد الياسق العصري ،ولزوم البراءة منهم ومن ياسقهم
الشركي ما داموا مصرين على تحكيمه ،حتى يرجعوا إلى شرع ال العظيم وحكمه العادل
الواضحة في النهي عن الركون إلى من هم ويكفروا بذلك الياسق ..ورأيت أحاديث النبي
أهون منهم شرا بكثير ،والتحذير من إعانتهم على ظلمهم أو المشاركة في كثير من وظائفهم
الباطلة..
بعد هذا كله ،إياك ثم إياك أن تعرض عن تلك الحاديث النبوية وتهملها لقول فلن أو علن ،أو
تغتر بما يوحيه الشيطان ويقذفه في قلوب كثير من ضعفاء اليمان من إرجافات المصالح
وأمره واسلك طريق دعوته ول والضرورات وغيرها من التلبيسات ،بل تـثبت بهدي نبيك
تهتم لقلة السالكين أو بكثرة الهالكين..
أما الحتجاج بالضرورات والكراه على موالة عبيد الياسق وإعانتهم على باطلهم أو شركياتهم
أو مدح ما يعبدونه أو حمايته ..فل يجوز استباحة شيء من ذلك بمجرد التهديد بالطرد من
289
الوظيفة أو التضييق في الرزق أو الخراج من البلد ،والحرمان من بعض حظوظ الدنيا ..فإن
ال هو الرزاق ذو القوة المتين وللمسلم في هذه المواقف قدوة بأنبياء ال تعالى ..وهذا شعيب
عليه السلم يخيره قومه بين العودة إلى دينهم أو الخروج من قريتهم هو ومن معه من
المؤمنين ،فل يقدم على توحيده شيئا مما يتعذر به أكثر الناس ،بل يجيبهم بكل وضوحَ {:أ َوَلوْ
علَى اللّهِ كَ ِذبًا إِنْ عُ ْدنَا فِي ِمّل ِتكُمْ َبعْدَ إِذْ نَجّانَا اللّهُ ِم ْنهَا َومَا َيكُونُ َلنَا أَنْ
ُكنّا كَارِهِينَ قَدْ ا ْف َت َر ْينَا َ
علَى اللّهِ َت َو ّك ْلنَا َر ّبنَا ا ْفتَحْ َب ْي َننَا َو َبيْنَ
ع ْلمًا َ
شيْءٍ ِ
َنعُودَ فِيهَا إلّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ َر ّبنَا وَسِعَ َر ّبنَا كُلّ َ
خ ْيرُ الْفَاتِحِينَ}.
َق ْو ِمنَا بِالْحَقّ َوَأ ْنتَ َ
سبَ النّاسُ أَنْ ُي ْت َركُوا أَنْ يَقُولُوا آ َمنّا وَهُمْ
وليتذكروا قول ال َتعَالى في أوائل العنكبوت{ :الم َأحَ ِ
سبَ الّذِينَ
ن صَدَقُوا َوَل َي ْعَلمَنّ ا ْلكَا ِذبِينَ أَمْ حَ ِ
ل يُ ْف َتنُونَ َولَقَدْ َف َتنّا الّذِينَ مِنْ َق ْبِلهِمْ َفَل َي ْعَلمَنّ اللّهُ الّذِي َ
لتٍ وَ ُهوَ
ل اللّهِ َ
ح ُكمُونَ مَنْ كَانَ َيرْجُو لِقَا َء اللّهِ فَإِنّ أَجَ َ
سبِقُونَا سَاءَ مَا يَ ْ
س ّيئَاتِ أَنْ يَ ْ
َي ْع َملُونَ ال ّ
ن اللّهَ َل َغ ِنيّ عَنْ ا ْلعَاَلمِينَ} [العنكبوتَ {..]6-1 :ومِنْ
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ َومَنْ جَاهَدَ فَِإ ّنمَا ُيجَاهِدُ ِلنَفْسِهِ إِ ّ
ال ّ
جعَلَ ِف ْتنَ َة النّاسِ َكعَذَابِ اللّهِ}[العنكبوت.]9 :
النّاسِ مَنْ يَقُولُ آ َمنّا بِاللّهِ فَإِذَا أُو ِذيَ فِي اللّهِ َ
يقول الشيخ حمد بن عتيق ( :لم يجعل ال الدنيا عذرا لمن اعتذر بها .قال ال تعالى{ :قُلْ إِنْ
شوْنَ كَسَادَهَا
خَجكُمْ وَعَشِي َر ُتكُمْ َوَأمْوَالٌ ا ْق َترَ ْف ُتمُوهَا َوتِجَا َرةٌ تَ ْ
خوَا ُنكُمْ َوَأزْوَا ُ
كَانَ آبَا ُؤكُمْ َوَأ ْبنَا ُؤكُمْ َوإِ ْ
ي اللّهُ بَِأ ْم ِرهِ
حتّى يَ ْأ ِت َ
سبِيلِهِ َف َت َر ّبصُوا َ
جهَادٍ فِي َ
ن اللّهِ َورَسُولِهِ وَ ِ
حبّ ِإَل ْيكُمْ مِ ْ
َومَسَاكِنُ َت ْرضَ ْو َنهَا أَ َ
خ َرةِ َنزِدْ لَهُ فِي
ح ْرثَ ال ِ
وَاللّهُ ل َيهْدِي الْ َقوْمَ الْفَاسِقِينَ}[براءة .]24 :وقال تعالى{ :مَنْ كَانَ ُيرِيدُ َ
خ َرةِ مِنْ َنصِيبٍ}[الشورى.]20 :وقال
ح ْرثَ ال ّد ْنيَا نُؤتِهِ ِم ْنهَا َومَا لَهُ فِي ال ِ
ح ْرثِهِ َومَنْ كَانَ ُيرِيدُ َ
َ
ج َهنّمَ َيصْلهَا مَ ْذمُومًا
ج َع ْلنَا لَهُ َ
ج ْلنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ ِلمَنْ ُنرِيدُ ثُمّ َ
جلَةَ عَ ّ
تعالى{ :مَنْ كَانَ ُيرِيدُ ا ْلعَا ِ
شكُورًا}[السراء:
س ْع ُيهُمْ مَ ْ
س ْع َيهَا وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَُأ ْوَل ِئكَ كَانَ َ
سعَى َلهَا َ
خ َرةَ وَ َ
مَدْحُورًا َومَنْ َأرَادَ ال ِ
فيما يرويه عن ربه" :ول يحملنكم الشيطان باستبطاء الرزق أن تطلبوه .]19-18وقال النبي
بمعاصي ال" .
ولما نهى ال سبحانه عن حمل المشركين إلى بيته ،وعلم من خلقه العتذار بالحاجة قال:
ضلِهِ إِنْ شَاءَ } فلم يعذر بالفقر والحاجة إلى ما في
س ْوفَ ُي ْغنِيكُمْ اللّهُ مِنْ َف ْ
ع ْيلَةً فَ َ
{َ ..وإِنْ خِ ْفتُمْ َ
أيديهم وأخبر أنه الرزاق ذو القوة المتين)اهـ .
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ( :وقد عُرف من آية سورة براءة أن قصد
أحد الغراض الدنيوية ليس بعذر شرعي بل فاعله فاسق ل يهديه ال كما هو نص الية،
290
والفسوق إذا أطلق ولم يقترن بغيره فأمره شديد ووعيده أشد وعيد ،وأي خير يبقى مع مشاهدة
تلك المنكرات والسكوت عليها وإظهار الطاعة والنقياد لوامر من هذا دينه وتلك نحلته
والتقرب إليهم بالبشاشة)..اهـ.
وفوق العباد رب يعلم سبحانه خفايا نفوسهم وما يعلنون ويعلم الصادق من الكاذب والمكره
الحقيقي من غيره..
وقد تكلم العلماء في الكراه وحدوا له حدودا يجهلها أو يتجاهلها كثير من المتهاونين المحتجين
بالكراه في زماننا..
ذكر الحافظ بعضها في الفتح ..من ذلك:
-أن يكون المكرِه ( بكسر الراء) قادرا على إيقاع ما يهدد به ،والمكرَه (بالفتح) عاجزا عن
الدفع أو الفرار.
-أن يكون ما هدد به فوريا ،أو يغلب على ظنه ويترجح عنده أنه إذا امتنع أوقع به ذلك.
-أن ل يظهر من المأمور ما يدل على تماديه ،كأن يعمل زيادة على ما يمكن أن يزول البلء
به عنه.
ومعلوم أن الضرورات تقدر بقدرها ..وأن الميسور ل يسقط بالمعسور ،وكل إنسان أخبر
وأعرف بنفسه وصدق ضرورته من زورها ..تماما كمعرفته بنجاسته وطهارته ..وكفى بنفسه
اليوم عليه حسيبا وبربك عليك رقيبا..
ومعلوم أن الكراه على إظهار الكفر أو موالة الكفار أو التحاكم إلى الطاغوت ليس كالكراه
الذي أنزلت بسببه آيات الكراه ..والذي يحتج كثير من على سائر المعاصي ..وأن عمارا
ما قال إلّ بعدما ذاق من أصناف الضرب والعذاب ،وأوذي المتهاونين دوما بفعله ..لم يقل
في ال أذى شديدا ،فكسرت ضلوعه وقتل أبواه وغير ذلك مما يجب على المحتج بقصته أن
يتذكره ويستحضره إن كان منصفا..
ورحم ال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إذ يخاطب بعض أهل
زمانه ممن هم على شاكلة ،فيقول( :رضي ال عن عمار تبرأ من المشركين وسبهم وسب
دينهم ومعبوداتهم فلذلك تصدوا له ولهله بالعداوة الشديدة ،وما ثم قرية ول قبيلة على السلم،
فجعلوا يضربونه أشد الضرب ويعذبونه أشد العذاب وحبسوه في بئر ميمون ،وقتلوا أباه وأمه
إذا مر بهم يقول( :صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة) ومع هذا وغيره لم يقع وكان النبي
291
منه إلّ القول دون الفعل .وأنتم سارعتم بل إكراه وقلتم وفعلتم تقربا إليهم واختيارا من غير أن
يكون منهم طلب لما فعلتموه ،فما طلبوا منكم ذلك ول امتنعتم ،ول أكرهتم عليه فأين أنتم من
عمّار فهو وأنتم في طرفي نقيض ،شعرا..
شتان بين مشرق ومغرب)اهـ سارت مشرقة وسرت مغربا
( :فهذه ثم قال ص ( )124من الكتاب نفسه بعدما ذكر بعض مواقف الثبات لصحاب النبي
وما لقوا من المشركين من شدة الذى ،فأين هذا من حال هؤلء حال أصحاب رسول ال
المفتونين الذين سارعوا إلى الباطل وأوضعوا فيه وأقبلوا وأدبروا وتوددوا وداهنوا وركنوا
س ِئلُوا الْ ِف ْتنَةَ
عَل ْيهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمّ ُ
خَلتْ َ
وعظّموا ومدحوا؟ فكان أشبه بما قال ال تعالىَ { :وَلوْ دُ ِ
ل َتوْهَا َومَا َتَل ّبثُوا ِبهَا إِلّ يَسِيرًا} [الحزاب .]14 :نسأل ال الثبات على السلم) انتهى كلمه
رحمه ال تعالى ،وكأنه يتكلم في زماننا..
ولعل قائلً ممن ل يشعرون بمصاب السلم وما حل به من فتن وضللت القوانين وعبيدها
يقول :قد هوّلت المر .فأقول :بل المر وال أهول وأكبر مما حسبتم وأعظم مما سمعتم
عنْ َد اللّهِ عَظِيمٌ} ومن عرف قدر التوحيد وعظمته عند ال تعالى ،وخطر
سبُونَهُ َه ّينًا وَ ُهوَ ِ
{ َوتَحْ َ
الشرك وعظم مفسدته وكثرة أبوابه وذرائعه وكثرة المتساقطين الهالكين فيه في زماننا هذا،
وكان في قلبه حياة وغيرة وغضب ل ولحرماته وشرعه ،عرف خطورة وعظم المصيبة التي
حلت وتحل في السلم والمسلمين ،ولكن أكثر من ترى والعياذ بال قد ماتت قلوبهم وأشرِبت
هذا الباطل واعتادته واستمرأته فاستهونته واستصغرته ..وأصبح عند كثير منهم كذباب وقف
على أنفه فقال له بيده هكذا ..فغالب من نراهم اليوم يحتجون بالضرورات والكراه ،لم يُحبسوا
ولم يوثقوا ولم يضربوا ولم يعذبوا ول نالهم عشر معشار ما نال عمّار ،وتراهم مع هذا
مهطعين إلى كل هاوية وطامة مما يهدم أصول الدين ويقوضها ،ظانين أن مجرد الخوف على
فوات بعض قشور الدنيا ومتاعها من وظيفة أو منصب أو سكن أو وطن يبيح لهم نحر التوحيد
وذبح العقيدة..
هذا وقد فرق أهل العلم في كلمهم كثيرا بين الكراه الحقيقي الذي قدّمنا لك بعض شروطه،
وبين الخوف المجرد ،فها هو إمام أهل السنة والجماعة رحمه ال َتعَالى بعد المحنة ،لما دخل
ط َمئِنّ بِالِيمَانِ} فقلب أحمد
عليه يحيى بن معين محتجا بالكراه وتل عليه{ :إِلّ مَنْ ُأ ْك ِرهَ وَ َق ْلبُهُ مُ ْ
292
وجهه إلى الجهة الخرى ،فما زال ابن معين يعتذر ويقول " :حديث عمار بن ياسر" ..فلما
خرج من عنده ،قال أحمد" :يحتج بحديث عمّار ،وحديث عمّار يقول :مررت بهم وهم يسبونك،
نهيتهم فضربوني ،وأنتم قيل " نريد أن نضربكم" فقال يحيى.. :وال ما رأيت تحت أديم السماء
أفقه في دين ال منك) اهـ.
ولشيخ السلم كلم مثل هذا ونقولت عن المام أحمد حوله نقل بعضها العلمة ابن عتيق في
كتابه ( سبيل النجاة والفكاك من موالة المرتدين وأهل الشراك) تأمل كلمهم في هذا ص ()62
وما بعدها فإنه مهم ،وكذا الشيخ سليمان بن عبد ال بن محمد بن عبد الوهاب في رسالته ( حكم
موالة أهل الشراك) فقد أفاض في الكلم فيه ،وكلم جده المام محمد بن عبد الوهاب في كتبه
في التفريق بين الكراه الحقيقي والخوف المجرد أكثر وأكثر .خذ على سبيل المثال أشهر متونه
التي يحفظها الصبيان وهي رسالة (نواقض اّلسلم) فقد قال بعدما عدد النواقض ( ول فرق في
جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إل المكره )..فتأمل التفريق فإنه مهم.
أضف إلى هذا أن أهل العلم يذكرون دائما في أبواب الكراه أن الخذ بالعزيمة والثبات على
دين ال خير وأبقى ..ومواقف السلف من الصحابة ،وسير الئمة وأخبارهم أشهر وأكثر من أن
ختَارَ
يحصرها هذا المقام الضيق ..وانظر على سبيل المثال صحيح البخاري بَاب (مَنِ ا ْ
علَى ا ْلكُ ْفرِ)..
ض ْربَ وَالْ َقتْلَ وَالْ َهوَانَ َ
ال ّ
ويقول الحافظ ابن كثير( :والفضل أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله)اهـ .ذلك
لنه لبد لهذا الدين من رجال يضحون من أجله ويصدقون مع ال َتعَالى فيبيعون الرخيص
بالغالي والفاني بالباقي ..وها هم أتباع الرسل نشروا بالمناشير وذاقوا ألوان العذاب فما ردهم
ذلك عن دينهم وعقيدتهم وملّتهم شيئا وهذه هي سنة النبيين ودعوة المرسلين ..ويخبر النبي
بذلك أصحابه ويخبرنا تثبيتا وتعليما فيقول( :قَدْ كَانَ مَنْ َق ْبَلكُمْ ُيؤْخَ ُذ الرّجُلُ َفيُحْ َفرُ لَهُ فِي
جعَلُ ِنصْ َفيْنِ َو ُيمْشَطُ ِبَأمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا
علَى َرأْسِهِ َفيُ ْ
جعَلُ فِيهَا َفيُجَاءُ بِا ْل ِمنْشَارِ َفيُوضَعُ َ
لرْضِ َفيُ ْ
اَ
ظمِهِ َفمَا َيصُ ّدهُ َذِلكَ عَنْ دِينِهِ ..الحديث) .رواه البخاري وغيره من حديث خباب،
حمِهِ وَعَ ْ
دُونَ لَ ْ
وهكذا كان صلوات ال وسلمه عليه يذكر أصحابه ويثبتهم بأخبار أهل الثبات ويحثهم عليها
ذكره بالرخصة ومغفرة ال لمن أكره وقلبه دوما حتى إذا وقع أحدهم بما وقع فيه عمّار
مطمئن باليمان ،وليس كحال كثير من دعاة هذا الزمان يدندنون بنصوص الرخص والكراه
والضرورات طوال حياتهم فمتى يظهرون دين ال؟؟
293
فالثبات الثبات ..فما هي وال إلّ أيام قلئل تمضي سراعا كيفما كانت ..وبعد أن تمضي ،فكأنه
ما تعب من تعب ول عذّب من عذّب ول تنعّم من تنعّم ..ثم يرجع هؤلء وهؤلء إلى ربهم
ليجزى الذين أساؤوا بما عملوا ،ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى..
أما مصلحة الدعوة فقد أمست في زماننا منزلقا خطيرا ،انزلق فيه كثير من الدعاة الذين أفسدوا
دينهم وتوحيدهم بكثير من المداهنات والتنازلت والهلكات ..ثم يحتجون بعد ذلك بشبه..
حقا وكل كاسر مكسور شبهٍ تهافت كالزجاج تخالها
ثلث عشرة سنة في مكة بين الصنام ،ول يخفى فساد احتجاجهم ومن أشهرها مكوث النبي
هذا وبطلنه لكل من كان لديه أدنى بصيرة في دينه ودعوة نبيه ،وذلك أنهم يلجون بحجتهم
هذه في كثير من الموبقات التي هي في أعينهم أدق من الشعر ،كالنضمام إلى جيش عبيد
الياسق وشرطتهم ومجالسهم الشركية التشريعية ..وما إلى ذلك مما قدمناه وفصلناه من الوظائف
الشركية أو العمال المحرمة.
ما أنزل ال بالشراك سلطانا هذه حجج وال واهية
والسؤال الذي يفرض نفسه عليهم بإلحاح ..هو ما وجه الدللة في تلك الفترة المكية على هذا
الباطل كله؟؟؟
في تلك الفترة تلكم الصنام أو أقسم على احترامها والخلص لها،والولء هل مدح النبي
لعبيدها ؟
شيئا من ذلك -كما تفعلون -ليكون استدللكم بمكوثه بينها وجيها؟؟ أم أصل دعوته هل فعل
كلها كان قائما على الكفر بتلك الصنام وتسفيهها وبيان زيفها والبراءة منها علنية -الذي هو
الشطر الول من ( ل ِإلَهَ إِلّ ال) ..بل والبراءة ممن أصرّ على عبادتها وسدانتها ..وإعلن
؟؟؟ -نترك الجواب لصحاب ذلك وبيانه وإظهاره رغم استضعافه واستضعاف أتباعه
الحتجاج..
وربما احتج بعضهم بغير هذه الحجة من حوادث العيان التي ل يجوز أن يخدش بها هذا
الصل الصيل من أصول الدين ..خاصة عند من فقه ملّة إبراهيم ودعوة النبياء والمرسلين
التي قوام عمودها وقطب رحاها توحيد ال َتعَالى وموالة أوليائه والبراءة من الشرك
والمشركين.
294
فهل يُضحي بهذا الصل الصيل الذي هو معنى ل ِإلَهَ إِلّ ال في سبيل تلك المصالح الجزئية
المزعومة؟؟ ل يقول بذلك إلّ جاهل زائغ ضال..
وتفاصيل ذلك تطول وإنما نريد هنا الختصار ..وخلصة المر أن نقول :هل يعقل أن يُخرج
الدعاة الناس من الشرك باختلف صوره عن طريق السكوت عن الشرك أو الولوغ فيه أو
موالته و موالة أهله .أو أن يُصلحوا الفساد بإفساد ،ل يعقل ذلك أبدا..
تماما كما أنه ل يعقل أن تزال النجاسة بنجاسة أخرى ..أو أن يتطهر من البول بالبول.
وربما احتجوا بقاعدة درء المفاسد ،فهل هناك يا أولي اللباب أعظم من مفسدة الشرك إنها
أعظم مفسدة في الوجود..؟؟
(فالحذر الحذر أيها العاقلون والتوبة التوبة أيها الغافلون ،فإن الفتنة حصلت في أصل الدين ل
في فروعه ول في الدنيا ،فيجب أن تكون العشيرة والزواج والموال والتجارة والمساكن وقاية
للدين وفداء عنه ،ول يجعل الدين فداء عنها ووقاية لها..
جكُمْ وَعَشِي َر ُتكُمْ َوَأ ْموَالٌ ا ْق َترَ ْف ُتمُوهَا
خوَا ُنكُمْ َوَأ ْزوَا ُ
قال تعالى{ :قُلْ إِنْ كَانَ آبَا ُؤكُمْ َوَأ ْبنَا ُؤكُمْ َوإِ ْ
سبِيلِهِ
جهَادٍ فِي َ
ن اللّهِ َورَسُولِهِ وَ ِ
حبّ ِإَل ْيكُمْ مِ ْ
ضوْ َنهَا أَ َ
شوْنَ كَسَادَهَا َومَسَاكِنُ َت ْر َ
َوتِجَا َرةٌ تَخْ َ
ي اللّهُ بَِأ ْم ِرهِ وَاللّهُ ل َيهْدِي الْ َقوْمَ الْفَاسِقِينَ}[براءة.]24 :
حتّى يَ ْأ ِت َ
َف َت َر ّبصُوا َ
فتفطن لها وتأملها فإن ال أوجب أن يكون ال ورسوله والجهاد في سبيله أحب من تلك الثمانية
كلها ،فضلً عن واحدة منها أو أكثر ،أو شيء دونها مما هو أحق فليكن الدين عندك أغلى
الشياء وأعلها)اهـ .
وعلى الموحد أن ل ينحرف عن الطريق أو يستوحش أو يفتر عن المسير لقلة السالكين وكثرة
المخالفين ول يقل( :أين ذهب الناس وما بالهم زهدوا بهذه الطريق فإن لي بهم أسوة)؟؟ فإن هذا
من أسباب هلك أكثر الخلق وسقوطهم ..ولينج بنفسه وأهله ،وليشح بدينه وعقيدته ،وليكن كما
قال بعض الصحابة في البلء( :إن عرض بلء فقدم مالك دون نفسك ،فإن تجاوز البلء فقدم
نفسك دون دينك فإن المحروم من حرم دينه وإن المسلوب من سلب دينه) .
وليعلم أن أهل الحق أقل الناس فيما مضى ،وهم أقل الناس فيما بقي ولسيما في هذه الزمنة
المتأخرة التي ازداد الحق فيها غرابة ..والموحد البصير ل يستوحش من قلة الرفيق إذا استشعر
قلبه معية ال تعالى ،وتذكر السالكين لهذه الطريق من الرعيل الول الذين أنعم ال عليهم من
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ..وقبل ذلك فالحق ل يعرف
295
بالرجال ..وإنما يعرف الرجال بالحق ..وهو ضالة المؤمن ومبتغاه ..فشمّروا وبادروا ،وال
ولي المتقين.
إلـى إخــواننا الـــــدعـاة
{َألَمْ َيأْنِ ِللّذِينَ آ َمنُوا أَنْ تَخْشَعَ ُقلُو ُبهُمْ لِ ِذ ْكرِ اللّهِ َومَا َنزَلَ مِنْ الْحَقّ وَل َيكُونُوا كَالّذِينَ أُوتُوا
ستْ ُقلُو ُبهُمْ َو َكثِيرٌ ِم ْنهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد.]16 :
لمَدُ فَقَ َ
عَل ْيهِمْ ا َ
ا ْل ِكتَابَ مِنْ َقبْلُ فَطَالَ َ
إننا غرباء في هذا الزمان ..ونعرف جيدا أننا نخالف بطريقتنا هذه أهل الرض قاطبة..
ونعرف كذلك أننا نخالف بهذا ما يحبه ويرجوه ويستسهله كثير من إخواننا الدعاة إلى ال عز
وجل ،الذين تجمعنا وإياهم كلمة التوحيد..
فأما رضى أهل الرض ،فإننا ل نحرص عليه ول نطلبه أو نطمع فيه ،لننا نؤمن بقول ربّنا:
صتَ ِب ُم ْؤ ِمنِينَ} [يوسف.]103 :
ح َر ْ
{ َومَا َأ ْك َثرُ النّاسِ َوَلوْ َ
وأما إخواننا الدعاة ..فكم وددنا وال وحرصنا دوما أن نجتمع معهم ،ونلتقي وإياهم على جادّة
واحدة ،وما زلنا نحرص على ذلك وندعو إليه ..ولكن على سبيل المؤمنين وطريق الولين..
وعلى صراط ال المستقيم ..ل كما تتمنى النفوس وتهوى ..وإننا وال لنتمنى أن نجد أو يجد لنا
إخواننا عذرا في ترك هذا السبيل أو النحراف عنه ..لنلتقي معهم على ما تشتهي أنفسهم
ويحبون..
ولكن هيهات هيهات ..أين هذا وقد عرفنا دعوة النبياء والمرسلين ..وملة أبينا إبراهيم ..وسبيل
المؤمنين الولين؟؟؟
فأين نفر من ال إن انحرفنا عن هذه المحجة البيضاء والملة العصماء..
وكيف يجوز لنا ذلك ونحن نردد دوما أمر ربنا لقدوتنا ورسولنا الكريم صلوات ال وسلمه
ط َغوْا ِإنّهُ ِبمَا َت ْع َملُونَ َبصِيرٌ وَل َت ْر َكنُوا ِإلَى الّذِينَ
ستَقِمْ َكمَا ُأ ِم ْرتَ َومَنْ تَابَ َم َعكَ وَل تَ ْ
عليه{ :فَا ْ
صرُونَ} [هود.]113-112 :
سكُمْ النّارُ َومَا َلكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ َأ ْوِليَاءَ ثُمّ ل تُن َ
ظَلمُوا َف َتمَ ّ
َ
الخـــــــــــــــــــــــاتمة
ختاما نقول:
296
جبْ
ج ْركُمْ مِنْ عَذَابٍ َألِيمٍ َومَنْ ل يُ ِ
{يَا َق ْو َمنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللّهِ وَآ ِمنُوا بِهِ َيغْ ِفرْ َلكُمْ مِنْ ُذنُو ِبكُمْ َويُ ِ
لرْضِ َوَليْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوِليَاءُ ُأ ْوَل ِئكَ فِي ضَللٍ ُمبِينٍ} [الحقاف:
جزٍ فِي ا َ
دَاعِي اللّهِ َفَل ْيسَ ِب ُمعْ ِ
.]32-31
حزَابِ ِمثْلَ َد ْأبِ َقوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ َو َثمُودَ وَالّذِينَ مِنْ َبعْدِهِمْ
عَل ْيكُمْ ِمثْلَ َيوْمِ الَ ْ
{يَا َقوْمِ ِإنّي أَخَافُ َ
ن اللّهِ
عَل ْيكُمْ َيوْمَ ال ّتنَادِ َيوْمَ ُت َولّونَ مُ ْد ِبرِينَ مَا َلكُمْ مِ ْ
ظ ْلمًا ِل ْل ِعبَادِ َويَا َقوْمِ ِإنّي أَخَافُ َ
َومَا اللّهُ ُيرِيدُ ُ
ل اللّهُ َفمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر.]33-30 :
ضلِ ْ
مِنْ عَاصِمٍ َومَنْ ُي ْ
ن اللّهَ َبصِيرٌ بِا ْل ِعبَادِ} [غافر.]44 :
ستَ ْذ ُكرُونَ مَا أَقُولُ َلكُمْ َوأُ َفوّضُ َأ ْمرِي ِإلَى اللّهِ إِ ّ
{فَ َ
ل ْلبَابِ} [إبراهيم.]52 :
{هَذَا بَلغٌ لِلنّاسِ َوِليُن َذرُوا بِهِ َوِل َي ْعَلمُوا َأ ّنمَا ُهوَ ِإلَهٌ وَاحِدٌ َوِليَ ّذ ّكرَ ُأ ْولُوا ا َ
جعُونَ} [القصص.]88 :
حكْمُ َوِإَليْهِ ُترْ َ
جهَهُ لَهُ الْ ُ
شيْءٍ هَاِلكٌ إِلّ َو ْ
{ل ِإلَهَ إِلّ ُهوَ كُلّ َ
نداء إلى علماء المة والدعاة المخلصين
يقول العلمة أحمد شاكر في حاشيته على عمدة التفاسير ( :إن المر في هذه القوانين الوضعية
واضح وضوح الشمس هو كفر بواح ل خفاء فيه ول مداورة ول عذر لحد ممن ينتسبون
للسلم -كائنا من كان -في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها ،فليحذر امرؤ نفسه وكل
امرئ حسيب نفسه.
أل فليصدع العلماء بالحق غير هيابين ،وليبلغوا ما أمروا بتبليغه غير موانين ول مقصرين)
اهـ.
أل فليجتهد العلماء والدعاة في تحذير الناس من الوثنية الحديثة وشرك العصر الذي شاع في
بلد المسلمين تقليدا لوربة الوثنية وليحاربوها كما حارب سلفنا الصالح الوثنية القديمة والشرك
القديم ،وليسعوا لرفع ما ضرب على المسلمين من ذلّ وما لقيت شريعتهم من إهانة بوضع هذه
القوانين الباطلة الخبيثة ..يقول تعالى{ :إِنّ الّذِينَ َي ْك ُتمُونَ مَا أَن َز ْلنَا مِنْ ا ْل َب ّينَاتِ وَا ْلهُدَى مِنْ َبعْدِ مَا
صلَحُوا َو َب ّينُوا فَُأ ْوَل ِئكَ
عنُونَ إِلّ الّذِينَ تَابُوا َوَأ ْ
َب ّينّاهُ لِلنّاسِ فِي ا ْل ِكتَابِ ُأ ْولَ ِئكَ َي ْل َع ُنهُمْ اللّهُ َو َي ْل َع ُنهُمْ اللّ ِ
( :أَل ل َي ْم َنعَنّ أَحَ َدكُمْ رَ ْهبَةُ النّاسِ عَل ْيهِمْ َوَأنَا ال ّتوّابُ الرّحِيمُ} [البقرة .]160-159 :وقال
َأتُوبُ َ
شهِ َدهُ فَِإنّهُ ل يُ َق ّربُ مِنْ أَجَلٍ وَل ُيبَاعِدُ مِنْ ِرزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقّ َأوْ يُ َذ ّكرَ
أَنْ يَقُولَ بِحَقّ إِذَا رَآهُ َأوْ َ
ل اللّهَ َوكَفَى
شوْنَ أَحَدًا إِ ّ
ش ْونَهُ وَل يَخْ َ
ت اللّهِ َويَخْ َ
ِبعَظِيمٍ) .ويقول تعالى{ :الّذِينَ ُي َبّلغُونَ رِسَال ِ
بِاللّهِ حَسِيبًا} [الحزاب.]39 :
قد طال نومـكـمو إلى ذا الن يا مـعـشر العـلماء هبوا هـبّة
297
ل َتعَالى كلمة اليـمـــان يا معشر العـلماء قــوموا قومة
مـتـجـرد ل غـير جـبان يا مـعشر العـلماء عزمة صادق
للناس في السلم والحســان يا معشر العلماء كونـوا قـدوة
للناس فادعوهـم إلى الـقرآن يا معـشر العلم أنتم حــجـة
من حـجة الجهال كـل زمان يا مـعشر العلماء إن سكوتـكم
وتعاونوا في الحق ل العــدوان يا معشر العلماء ل تتـخـاذلوا
ودعوا التنافس في الحطام الفاني وتجردوا ل من أهـــوائكـم
متعاضدين شـريـعة الرحـمن وتعاقدوا وتعاهدوا أن تنصـروا
نـصر الكتاب وسنة اليـمـان كونوا بحيث يكون نصب عيونكم
وال يخذل ناصر الـشـيـطان فاللـه يـنصر من يقوم بنـصره
ومن لم يقدر على ذلك ووجد في نفسه ضعفا وخيفة فليصمت ،وليدع القافلة تسير ،ول يشارك
علماء السوء بالصد عن سبيل ال والتلبيس والرجاف والتخذيل..
نجس السريرة طيب الكلمات فالصمت أفضل من كلم مداهن
يرضي ويعجب كل طاغ عات عرف الحقيقة ثم حـاد إلى الذي
المنـافقــــــــــــــــون كثــــــــــــير
سيقول عنا عبيد الياسق العصري وسدنته ومناصروه :إننا جامدون وأننا رجعيون ،وما إلى ذلك
من القاويل ،أل فليقولوا ما شاؤوا فما عبئنا يوما ما بما يقولون ..فقد قلنا ما يجب أن نقول..
وإذا أرضينا ربّنا فل نبالي..
أقام الحي أم (غضب المير) إذا رضي (الله) فل أبالي
وسيقولون وسيقول أولياؤهم وسدنة ياسقهم من الئمة المضلين بأننا خوارج وتكفيريون وغير
ذلك ..كعادتهم ..لتنفير الناس عن الحق والنور ،فنحن نبرأ إلى ال من معتقد الخوارج ومن كل
معتقد يخالف عقيدة أهل السنة والجماعة.
فليقولوا ما شاءوا أن يقولوه ..فالشمس تشرق رغم أنف الرمد ،وأسلوب إلصاق التهم للتنفير
عن دعوة الحق ..أسلوب قديم رخيص يقتدي هؤلء فيه بأساتذتهم وشيوخهم الغابرين ..فقديما
لرْضِ
ظ ِهرَ فِي ا َ
قال فرعون عن موسى يوم جاء بالبيناتِ{ :إنّي أَخَافُ أَنْ ُيبَدّلَ دِي َنكُمْ َأوْ أَنْ يُ ْ
.فقالوا: الْفَسَادَ} [غافر .]26 :وقيل غير ذلك في أنبياء ال تعالى ..من أولهم إلى خاتمهم
298
ساحر وكاهن ومجنون ..وهذا أسلوب هابط ساقط كنبح الكلب ،ما عاد ينطلي أو يخفى على
الخلق..
ما ضر أهل الهدى من سب أو شانا ما ضر أفق السما نبح الكلب كذا
وأنت ترى أيها الخ الكريم بأن كلمنا في هذه الورقات لم يخرج عن آية محكمة أو حديث
صحيح أو قول صحابي أو تابع أو إمام من أئمة الدين وغيرهم من العلماء المخلصين ..فمن
رمانا بشيء من هذا فإنما يرمي به قرآن ربه وسنة نبيه والصحابة وعلماء المة المخلصين..
ونحن على كل حال عندما كتبنا هذه الوراق لم نكن ننتظر من أكثر الناس تأييدا أو ثناءً ،بل
نخطّها ونحن نتوقع الذى والعداوة والطعن والتشهير والكذب والبهتان في النفس والهل
والعرض ،وهذا كله ل شيء في سبيل ال َتعَالى وشريعته وفي جنب رضوان ال َتعَالى
: ومغفرته إن حصلت ..وحسبي هنا أن أتمثل بقول حسان
(لدين) محمد منهم وجاء فإن أبي ووالدتي وعرضي
وبعد هذا كله ..فنحن نعلم أن كلمنا هذا ل يرضي الحكومات ول أولياءها وعبيدها ..ونعلم بأن
لديها من وسائل المكر والكيد ما ل يعلمه إلّ ال ..ولكننا نعلم ونوقن قبل هذا بأن ال ربنا
ن اللّهَ ِبمَا َي ْع َملُونَ ُمحِيطٌ}
ش ْيئًا إِ ّ
ض ّركُمْ َكيْدُهُمْ َ
ص ِبرُوا َو َتتّقُوا ل َي ُ
ومولنا وناصرنا يقولَ { :وإِنْ َت ْ
[آل عمران.]120:
ويقول سبحانه وتعالى في سورة المجادلة بعدما أخبر بأن حزب الشيطان هم الخاسرون{ :إِنّ
عزِيزٌ}
ن اللّهَ َق ِويّ َ
سلِي إِ ّ
غِلبَنّ َأنَا َورُ ُ
الّذِينَ ُيحَادّونَ اللّهَ َورَسُولَهُ ُأ ْوَل ِئكَ فِي الَ َذلّينَ َك َتبَ اللّهُ لَ ْ
[المجادلة.]2021:
ضلِلْ اللّهُ َفمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر.]36 :
خوّفُو َنكَ بِالّذِينَ مِنْ دُونِهِ َومَنْ ُي ْ
ويقول سبحانهَ { :ويُ َ
ح ُكمُونَ} [العنكبوت.]4:
سبِقُونَا سَاءَ مَا يَ ْ
س ّيئَاتِ أَنْ يَ ْ
سبَ الّذِينَ َي ْع َملُونَ ال ّ
ويقول تعالى{ :أَمْ حَ ِ
شوْهُمْ َفزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا
ج َمعُوا َلكُمْ فَاخْ َ
ويقول سبحانه{ :الّذِينَ قَالَ َلهُمْ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ َ
ن اللّهِ وَاللّهُ
سهُمْ سُوءٌ وَا ّت َبعُوا ِرضْوَا َ
ن اللّهِ وَ َفضْلٍ لَمْ َيمْسَ ْ
س ُبنَا اللّهُ َو ِنعْمَ ا ْل َوكِيلُ فَانْ َقَلبُوا ِب ِن ْعمَةٍ مِ ْ
حَ ْ
خ ّوفُ َأ ْوِليَا َءهُ فَل تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ ُك ْنتُمْ ُم ْؤ ِمنِينَ}
شيْطَانُ يُ َ
ذُو َفضْلٍ عَظِيمٍ ِإ ّنمَا َذِلكُمْ ال ّ
[آلعمران .]175-173:ولنا قدوة في هود إذ قال لقومه بثبات كثبات الجبال أو أشد وهم القوم
الجبارون الذين كانوا أشد من هؤلء قوة فكانوا يبطشون ويتخذون المصانع لعلهم يخلدون{ :قَالَ
ظرُونِ ِإنّي
جمِيعًا ثُمّ ل ُتنْ ِ
ش ِركُونَ مِنْ دُونِهِ َفكِيدُونِي َ
شهَدُوا َأنّي َبرِيءٌ ِممّا تُ ْ
شهِدُ اللّهَ وَا ْ
ِإنّي أُ ْ
299
ستَقِيمٍ فَإِنْ
صرَاطٍ مُ ْ
علَى ِ
ص َي ِتهَا إِنّ َربّي َ
علَى اللّهِ َربّي َو َر ّبكُمْ مَا مِنْ دَابّةٍ إِلّ ُهوَ آخِذٌ ِبنَا ِ
َت َو ّك ْلتُ َ
ش ْيئًا إِنّ َربّي
ضرّونَهُ َ
غ ْي َركُمْ وَل َت ُ
خِلفُ َربّي َق ْومًا َ
ستَ ْ
سلْتُ بِهِ ِإَل ْيكُمْ َويَ ْ
َت َوّلوْا فَقَدْ َأ ْبَل ْغتُكُمْ مَا ُأرْ ِ
شيْءٍ حَفِيظٌ} [ هود.]57-54 :
علَى كُلّ َ
َ
فها نحن نقولها لعبيد الياسق وحكوماتهم ونصدع بها ونقذفها في وجوههم :كفرنا بكم
وبدساتيركم وبقوانينكم الكفرية ،وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى ترجعوا إلى شرع
ال َتعَالى وحده وتنقادوا له وتسلموا تسليما.
ونقول لكل من اغتر منهم وتعالى بقوته الهزيلة الفانية التافهة ،بأن ال أعلى وأجل وأنه هو
الجبار ذو القوة المتين وأنه مولى المؤمنين ونصيرهم وأن جنده هم الغالبون {،ذلك بأنّ ال
ن اللّهَ
مولى الذين أمنوا وأن الكافرين ل مولى لهم} قال تعالى{ :إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنْ الّذِينَ آ َمنُوا إِ ّ
خوّانٍ كَفُورٍ} [الحج .]38 :ويقول تعالى{ :قَدْ َم َكرَ الّذِينَ مِنْ َق ْبِلهِمْ َفَأتَى اللّهُ ُب ْنيَا َنهُمْ
حبّ كُلّ َ
ل يُ ِ
ش ُعرُونَ} [ النحل.]26 :
ح ْيثُ ل يَ ْ
عَل ْيهِمْ السّ ْقفُ مِنْ َفوْ ِقهِمْ َوَأتَاهُمْ ا ْلعَذَابُ مِنْ َ
خرّ َ
مِنَ الْ َقوَاعِدِ َف َ
ونقول لهم أيضا :إن كان كبر عليكم كلمنا هذا فطبلوا وزمروا كما تشاؤون ..وانتفشوا
بجيوشكم كما تشتهون ..ثم ل يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلينا ول تنظرونا ..إنا توكلنا
على ال ربنا وربكم ..فلستم إلّ عبيدا من عبيده آخذ بنواصيكم متحكم بأقداركم وأقواتكم
وأعماركم ..فأين تذهبون{ ..بَلغٌ َفهَلْ ُي ْهَلكُ إِلّ الْ َقوْمُ الْفَاسِقُونَ} [ الحقاف{ .]35 :أَفََأمِنَ الّذِينَ
ش ُعرُونَ َأوْ يَأْخُذَهُمْ فِي
ح ْيثُ ل يَ ْ
لرْضَ َأوْ َي ْأ ِت َيهُمْ ا ْلعَذَابُ مِنْ َ
ف اللّهُ ِبهِمْ ا َ
س َ
س ّيئَاتِ أَنْ يَخْ ِ
َم َكرُوا ال ّ
جزِينَ} [ النحل .]36 -35 :ولنا قدوة بالحنيف إبراهيم حينما حاجه قومه فقال:
تَ َقّل ِبهِمْ َفمَا هُمْ ِب ُمعْ ِ
ش ْيئًا وَسِعَ َربّي
ش ِركُونَ بِهِ إِلّ أَنْ يَشَاءَ َربّي َ
{قَالَ َأتُحَاجّونِي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَل أَخَافُ مَا تُ ْ
ش َر ْكتُمْ بِاللّهِ مَا لَمْ ُي َنزّلْ
ش َر ْكتُمْ وَل تَخَافُونَ َأ ّنكُمْ أَ ْ
ع ْلمًا أَفَل َتتَ َذ ّكرُونَ َو َك ْيفَ أَخَافُ مَا أَ ْ
شيْءٍ ِ
كُلّ َ
لمْنِ إِنْ كُنتُمْ َت ْعَلمُونَ} [ النعام .]81 -80 :ويأتي الجواب
سلْطَانًا فََأيّ الْ َفرِيقَيْنِ أَحَقّ بِا َ
عَل ْيكُمْ ُ
بِهِ َ
لمْنُ وَهُمْ ُم ْهتَدُونَ}
ظلْمٍ ُأ ْوَل ِئكَ َلهُمْ ا َ
حاسما واضحا جليا{ :الّذِينَ آ َمنُوا َولَمْ َي ْلبِسُوا إِيمَا َنهُمْ بِ ُ
[ النعام.]82 :
حزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَ َدنَا اللّهُ َورَسُولُهُ
َ { :وَلمّا َرأَى ا ْل ُم ْؤ ِمنُونَ الَ ْ وقدوة أخرى بأصحاب النبي
ل صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ
سلِيمًا مِنْ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ِرجَا ٌ
َوصَدَقَ اللّهُ َورَسُولُهُ َومَا زَادَهُمْ إِلّ إِيمَانًا َوتَ ْ
ظرُ َومَا بَ ّدلُوا َتبْدِيلً} [الحزاب.]23-22 :
حبَهُ َو ِم ْنهُمْ مَنْ َي ْنتَ ِ
عَليْهِ َف ِم ْنهُمْ مَنْ َقضَى َن ْ
َ
300
اللهم اجعلنا منهم ..اللهم اجعلنا منهم ..اللهم اجعلنا منهم ..اللهم تقبل منا ،واكتبه لنا براءة من
الشرك في صحائف أعمالنا ..خالصا لوجهك يا عفو يا كريم..
خ ْيرُ الْفَاتِحِينَ} [ العراف.]89 :
علَى اللّهِ َت َو ّك ْلنَا َر ّبنَا ا ْفتَحْ َب ْي َننَا َو َبيْنَ َق ْو ِمنَا بِالْحَقّ َوَأ ْنتَ َ
{َ
اللهم إنا نُشهدك ونُشهد ملئكتك ونُشهد جميع خلقك أننا برآء من شرك القانون برآء من أهله
ومن كل شرك ..اللهم فاشهد ..اللهم فاشهد..
وكتب /أبو محمّد المقدسي
النصف من شهر شعبان سنة ألف وأربعمائة وثمان من هجرة خير النام عليه أفضل الصلة
والسلم.
الفهرست
2 براءة
3 مقدمة
العظمى 11 توحيد ال هو الغاية
12 التسليم لحكم الكتاب والسنة ونبذ ما سواهما من أهم معاني التوحيد
13 البراءة من كل شرع غير شرع ال من أهم معاني ل ِإلَهَ إِلّ ال
14 توحيد ال فرض في جميع أنواع العبادة
15 الطاعة في التشريع من أقسام العبادة والرضى بالقوانين شرك أكبر
17 شرطان للنجاة والتمسك بالعروة الوثقى الكفر بكل الطواغيت واليمان بال وحده
19 من أشنع طواغيت العصر الواجب الكفر بها الدستور والقوانين الوضعية
21 ياسق طغاة العصر وياسق التتار
25 مثال من طواغيت العصر
25 ياسق الكويت
35 ما هو الدين الذي يحترمه ويدين به الدستور؟؟ إنه ليس السلم
38 ويحترمون ويحمون الملل والنحل الباطلة كلها أما دين السلم ..فعليه السلم..
42 ما هو قرآنهم الذي يعظمونه ويقدسونه ويرجعون كل شيء إلى حدوده؟؟
45 خلصة ما سبق
49 أول :عدوان قوانينهم على دين السلم وحمايتها للشرك والمشركين
301
51 ثانيا :تضييع قوانينهم للنفوس والدماء وتهوينها من شأن الجريمة والمجرمين
59 ثالثا :استهثار قوانينهم واستخفافها بالعقول
61 رابعا :تلعب قوانينهم وعبثها بالعراض
65 خامسا :قوانينهم هدر للحقوق وأكل لموال الناس بالباطل وحماية للربا واللصوصية
78 سادسا :قوانينهم تفتح أبواب الزنا على مصراعيها وتحمي الفجار والعاهرات
93 خلصة ما سبق
فيض 97 وبعد ..فهذا غيض من
ربهم97 .. هذان خصمان اختصموا في
98 اعتذار واستغفار
99 وبعد هذا كله..
101 المخرج من الفتنة
101 من أين نبدأ ؟ وكيف السبيل ؟؟
التوحيد 102 الكفر بالدستور والبراءة من القوانين شطر
103 [ة ل ِإلَهَ إِلّ ال ]
105 الدعوة إلى ذلك والجهاد من أجله والصبر والثبات هو طريق المرسلين
من عجز عن الصدع والدعوة والجهاد فلن يعجز عن تربية نفسه وأهله على هذا المنهاج
107
108 الحذر من وسائل إعلم عبيد الياسق ومدارسهم
109 بغض شعاراتهم وأعلمهم
114 العمل في جيش عبيد الياسق العصري وشرطتهم وعساكرهم وكذا الحرس الوطني
121 وكل وظيفة فيها رقابة على المسلمين ورفع لمورهم إلى عبيد الياسق.
122 العرافة وكل ما يدخل تحت مسماها
وجباية الموال والمخالفات والغرامات والمكوس والجمارك والعمل في المؤسسات الربوية
122
124 العمل بريدا أو سفيرا أو رسولً عند عبيد الياسق
124 والعمل في النيابة والمحاماة والقضاء والمحاكم
127 ومن باب أولى تولي منصب الوزارة وعضوية مجالس المة والبرلمانات
302
130 [ ]...والمشاركين في هذه الوظائف
الحكومات 132 قاعدة في وظائف
133 وفي الطريق مخذولون ومرجفون
141 إلى إخواننا الدعاة
الخاتمة 142
303
وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له ،وأشهد أن محمدًا رسول ال صلى ال عليه وعلى
آله وصحبه أجمعين ،وبعد :
فهذه هي الطبعة الثانية من رسالتي حول حكم تغيير المنكر باليد لحاد الرعية والتي نشرت
طبعتها الولى منذ ما يزيد على سبع سنين .
ولكتابة هذه الرسالة قصة أرى من المناسب إثباتها في هذا المقام ؛ فلعل معرفة ظروف كتابة
الرسالة تعين على حُسن تفهّم ما ورد فيها .
فمنذ حوالي عشر سنين بدأت أجهزة العلم في مصر تُشغَل بما أطلقت عليه حوادث العنف
والعتداء على بعض المواطنين التي تحدث في بعض مناطق صعيد مصر وخصوصًا في
الجامعات ،وفي الحقيقة فإن ذلك لم يكن إل تشويها متعمدا لقيام بعض أبناء الحركة السلمية
بواجب المر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقد كان القيام بهذا الواجب امتدادًا لعودة صادقة للسلم ظهرت قبل ذلك بعدة سنوات وكان من
أهم مظاهرها تلك الحركة التي نشأت في جامعات مصر تحت اسم (( الجماعة السلمية )) .
ثم إن تلك الحوادث لم تكن إل جانبا واحدا من جوانب عدة تشمل الدعوة إلى ال
ونشر العقيدة السلفية الصحيحة وتربية الشباب تربية إسلمية تعتمد على العلم الشرعي وتزكية
النفس بأنواع الطاعات والعبادات ،بل وتشمل أيضا العمل الجتماعي الخيري ؛ كمساعدة
الفقراء والمحتاجين ،والقيام بجهود الوساطة للصلح بين العائلت التي تقوم بينها المعارك
والحروب بسبب انتشار عادة الخذ بالثأر المعروفة في صعيد مصر .
وكان العلم الخبيث -ول يزال -يركز على جانب واحد من تلك الجوانب ويظهره على
غير حقيقته وهو جانب المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وهو حتى في هذا الجانب كان
يهمل عشرات الحالت التي يتم فيها تغيير المنكر بيسر وسهولة عن طريق اقتناع القائمين به
بخطأ ما هم عليه بينما يتم التركيز على تلك الحالت القليلة التي تدعو فيها الحاجة إلى شيء
من الشدة والقوة ويسميها تطرفا وإرهابا واعتداءً على حريات الخرين .
وفي تلك الفترة وما بعدها كان النظام الحاكم في مصر يجرب أنواعا من وسائل مواجهة
الحركة السلمية للقضاء عليها ،فإلى جانب الملحقات المنية التي لم تنقطع في وقت من
الوقات( )1كانت تلك الحملت العلمية التي أشرنا إلى شيء منها ،وكان من أخطر الوسائل
304
التي استخدمها النظام العلماني استمالة طائفة من المشايخ والمنتسبين للعلم الشرعي ليبرروا
للنظام باطله ويكونوا عونا له في حرب دعاة الحق الصادقين .
وكان على رأس هؤلء الشيخ /سيد طنطاوي مفتي الجمهورية* و د /محمد علي محجوب
وزير الوقاف ،فقد توليا كبر هذا المر ،وأخذا يجوبان مدن مصر من أجل تنفيذ الغاية
أن عقدت بعض المناظرات بين مشايخ السلطان وبين الدعاة السابقة .وكان من فضل ال
. وطلبة العلم اتضح بها الحق لدى كثير من الناس بحمد ال
وكان من قدر العبد الفقير -كاتب هذه السطور -أن شارك في مناظرة كان طرفها
الخر المفتي ووزير الوقاف وعُقدت في مدينة أسيوط ( كان ذلك في أوائل العام 1408هـ )
وقد وفقنا ال فيها لبيان بعض القضايا الشرعية التي كان من أهمها القضية التي نحن بصددها :
قضية تغيير المنكر باليد لحاد الرعية ،وقد ذكرنا في ذلك بعض الدلة الشرعية وأقوال
العلماء الدالة على الجماع على أن تغيير المنكر باليد ليس قاصرا على الحكام ،أما المفتي
والوزير -وهما حامل لواء الدعوة إلى أن تغيير المنكر باليد ل يجوز لغير الحكام -فقد كانت
أدلتهما في تلك المناظرة بعض التحكمات العقلية في مقابل النصوص الشرعية من مثل القول
بأن تغيير المنكر باليد من ِقبَل غير الحكام يؤدي إلى الفوضى ،أو التمسك بعمومات ليست في
محل النزاع كالقول بأن السلم دين الرفق والسماحة وأن الدعوة ل بد أن تكون بالموعظة
الحسنة ،وأخيرا قال المفتي إنه المفتي الرسمي للدولة بما يعني أن فتواه ل بد أن تكون ملزمة
للجميع ،وهذا قول مردود ؛ فإنه ليس لحد -كائنا من كان -أن يلزمنا بما يخالف كتاب ال
،ثم إننا نقول:إن كنت ترى أن إلزامك لنا مبني على أنك مُعين من قبل رئيس وسنة رسوله
الدولة ،فإنه عندنا حاكم ساقط الشرعية ،ل ولية له على المسلمين(. )2
وفي تلك الفترة كثُر اللغط حول هذه القضية ،وصار كل من هب ودب يتكلم فيها ،وصار أمرا
عاديا أن تتناقل وسائل العلم الحكومية كل يوم تقريبا تصريحات للمفتي ووزير الوقاف حول
هذا الموضوع ،ووصل المر بوزير الوقاف إلى أن قال حول المناظرة التي أشرت إليها إنه
حين ذهب إلى أسيوط وجد سبع جماعات يكفر بعضها بعضا ،وإنه قد تقدم طالب جامعي
صغير ليناظره هو والمفتي.
والحق أن هذا لم يكن إل محض كذب وافتراء(. )3
305
في تلك الجواء رأيت الحاجة داعية إلى كتابة هذه الرسالة التي بَيـَنتُ فيها -بحمد ال تعالى
-ما أراه صوابا في هذه المسألة ،مؤيدا بالدلة الشرعية من كتاب ال وسنة رسوله ثم بأقوال
أهل العلم من سلف هذه المة ومن سار على دربهم واقتفى أثرهم .
ولعله من تمام القول في ذلك أن أذكر أنه عُقد فيما بعد ( في جمادى الثانية 1409هـ ) مؤتمر
في الجامع الزهر تحدث فيه كل من الشيخ /متولي الشعراوي والشيخ /محمد الغزالي والشيخ
/الطيب النجار ،وفي نهاية المؤتمر ألقى الشيخ الشعراوي بيانا قالت الصحف يومها إنه قد
وقّع عليه كل من الشيخ الشعراوي والشيخ الغزالي والدكتور يوسف القرضاوي .وقد كان ذلك
البيان -مع السف الشديد -حلقة في سلسلة الحرب التي شنها النظام العلماني في مصر ضد
الحركة السلمية ،ويكفي أن نقرأ من هذا البيان الفقرة التي تقول ... (( :ونحن نعتقد في
إيمان المسئولين في مصر ،وأنهم ل يردون على ال حكما ول ينكرون للسلم مبدأ ،وأنهم
يعملون على أن تبلغ الدعوة السلمية مداها تحقيقا وتطبيقا ))(. )4
وهذا قول ل يحتاج إلى رد ،وكل منصف متابع للحوال في مصر يعلم بطلنه.ومما جاء في
هذا البيان أيضًا ... (( :بل الثابت في كل العصور أن الذي يقوم بتنفيذ الحدود وتغيير المنكر
باليد هم أولياء المور وحدهم ))(،)4وهذا قول إن صح في مسألة تنفيذ الحدود ،فإنه ل يصح
في مسألة تغيير المنكر كما يجده القارئ الكريم مفصلً في هذه الرسالة .
ولست الن في معرض الرد المفصل على هذا البيان،وإنما أشرت إليه لتعلقه بموضوع هذه
الرسالة ،ولكونه قد اُستغل من قِبل زبانية التعذيب في التنكيل بشباب السلم ،فإني أذكر أن
بعض أولئك الزبانية كان يقول لمن يعذبهم بعد صدور هذا البيان (( :أتدرون بم وصفكم الشيخ
الغزالي في المؤتمر ؟ إنه قال إنكم بُله ،أما الشيخ الشعراوي فقد قال إنكم خوارج ؛ أي أننا
نسجنكم ونعذبكم ونقتلكم بفتوى العلماء)) ،فهل يعي هؤلء العلماء خطورة ما أقدموا عليه ؟!
ومن عجيب تصاريف القدر أن العلماء الثلثة الذين نُسب إليهم توقيع البيان قد تعرضوا بعد
ذلك لهجوم حاد من قِبل زكي بدر -وزير داخلية النظام المصري في ذلك الوقت -حيث
أمطر كلً منهم بوابل مما كانت تسميه صحافة المعارضة وقتها بقاموس الشتائم البدري ؛ وهو
طائفة من البذاءات أُنزه هذا الكتاب عن إثبات شيء منها فيه ،فهل يصدق فيهم القول بأن [:من
أعان ظالما سلطه ال عليه ]( )5؟
306
وبعد :فقد كانت تلك إشارة سريعة إلى ظروف كتابة هذه الدراسة منذ ما يزيد على سبع
سنين ،وكنت بين الحين والخر أعيد النظر في مادتها ،فأحذف شيئًا وأضيف شيئًا وأختصر
شيئًا وأبسط شيئًا حتى بدت بهذه الصورة التي بين يديك -أخي القارئ -ثم شعرت بعد إلحاح
من بعض إخواني في ال بأهمية إعادة طبعها بصورة جيدة ،خصوصا وقد وجدت بعض من
كتبوا عن الحركة السلمية في مصر قد أشاروا إليها باعتبارها معبرة عن رأي فصيل مهم من
فصائل تلك الحركة(.)6
وأخيرا فهذا جهدي المتواضع أقدمه للقراء الكرام فما كان فيه من صواب فمن ال وما كان فيه
من خطأ فمني ومن الشيطان وال ورسوله بريئان منه ،وأنا راجع عن كل قول يخالف الكتاب
والسنة في حياتي وبعد مماتي ،وآخر دعوانا أن الحمد ل رب العالمين .
وكتب عبد الخر حماد الغنيمي
محرم 1416هـ 21 في يوم الثنين الموافق
1995 يونيو 19
توطئــة
إن الحمد ل نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بال من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ،من
يهده ال فل مضل له ،ومن يضلل فل هادي له ،وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له
..وبعد : وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله
فإن السلم -وهو دين ال الحق -قد جاء بكل ما فيه مصلحة ومنفعة محققة للناس في دنياهم
وآخرتهم ،ونهى عن كل ما فيه مفسدة ومضرة محققة لدنيا الخلق وآخرتهم .
لذا فالسلم في حقيقته هو أمر بكل معروف ونهي عن كل منكر،وإن خيرية هذه المة مترتبة
خ ْيرَ ُأمّةٍ
{ :كُنتُمْ َ على كونها آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر بعد إيمانها بال كما قال
جتْ لِلنّاسِ تَ ْأ ُمرُونَ بِال َم ْعرُوفِ َو َت ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُن َكرِ َو ُت ْؤ ِمنُونَ بِالِ }(آل عمران )110 :
خرِ َ
أُ ْ
جعل من أخص خصائص المجتمع المسلم المر بالمعروف والنهي عن المنكر مع وإن ال
لرْضِ أَقَامُواْ الصّلةَ وَءَا َت ُواْ ال ّزكَاةَ َوَأ َمرُواْ
إقامة الصلة وإيتاء الزكاة (:الّذِينَ إِن ّم ّكنّاهُمْ فيِ اْ َ
لمُورِ) (.الحج )41:
بِالم ْعرُوفِ َو َن َهوْا عَنِ ال ُم ْن َكرِ َولِ عَا ِقبَةُ ا ُ
307
وما استحق بنو إسرائيل اللعنة إل لتركهم لهذا المر العظيم { ُلعِنَ الّذِينَ كَ َفرُواْ مِنْ بَني
عصَواْ ّوكَانُوا َي ْعتَدُونَ ،كَانُواْ لَ َي َتنَا َهوْنَ
علَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ َم ْريَمَ ؛ َذِلكَ ِبمَا َ
سرَاءِيلَ َ
إِ ْ
عَنْ مّن َكرٍ َف َعلُوهُ َل ِب ْئسَ مَا كَانُواْ يَ ْف َعلُونَ } (.المائدة )79-78:
من رأى منكرا أن يغيره : وقد أمر رسولنا
[ من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ،فإن لم يستطع فبلسانه ،فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف
اليمان ](، )7ولقد صدق الغزالي -رحمه ال -حين قال عن المر بالمعروف والنهي عن
المنكر إنه (( القطب العظم في الدين ،وهو المهم الذي ابتعث ال له النبيين أجمعين )) (.)8
وقد كثر اللغط في هذه اليام حول هذا الموضوع ،وأُثيرت حوله الشبهات وأُعلنت حروب
شعواء على شباب السلم الذين يحاولون -ما وسعهم الجهد -أن يأتمروا بأمر ال ورسوله
فيغيروا ما استطاعوا من هذه المنكرات الفاشية التي صار مجتمعنا يموج بها ليل نهار .
ولما لم يستطع هؤلء أن يشككوا في مشروعية المر بالمعروف والنهي عن المنكر في السلم
؛ لجأوا إلى طريق أخرى وهي أن يدّعوا أن تغيير المنكر باليد إنما هو من خصائص الحكام ،
وليس لمن دونهم من الناس الحق في ذلك .وهم يعلمون جيدا أن حكام هذه اليام ل يقومون
بهذا المر ،بل الواضح أنهم يفعلون ضد ذلك تماما ؛ فهم يشجعون المنكرات والفواحش
ويحمونها ويحاربون دعاة الحق وينكلون بهم ،فلم يكن هناك بد من تسطير هذه الصفحات نبين
فيها الحق بمشيئة ال تعالى حتى يعلمه طلب الحق من المسلمين .إن الحق الذي نعتقده وندين
به :أن المر بالمعروف والنهي عن المنكر هو واجب المة جمعاء ،وأن لحاد الرعية من
المسلمين تغيير المنكر بأيديهم وليس فقط بألسنتهم وقلوبهم ،وذلك بضوابط نذكرها في
موضعها إن شاء ال تعالى .
وفي الصفحات التالية تجد عرضا لدلتنا في ذلك مؤيدة بأقوال العلماء الثبات في هذا
الموضوع .
وال أسأل أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم
وأن ينفع به المسلمين ...آمين
عبد الخر حماد
شعبان 1408هـ 4 أسيوط في
مارس 1988م 22
308
أولً :من القرآن الكريم
خ ْيرِ َويَ ْأ ُمرُونَ بِال َم ْعرُوفِ َو َي ْن َهوْنَ عَنِ اْلمُن َكرِ
َ { :و ْل َتكُنْ مّنكُمْ ُأمّةٌ يَدْعُونَ إِلى ال َ يقول ال
َوُأ ْولَ ِئكَ هُمُ المُ ْفلِحُونَ } ( آل عمران )104:
قال المام فهذه الية الكريمة نص قاطع في وجوب المر بالمعروف والنهي عن المنكر .
خ ْيرَ ُأمّةٍ
ُ { :ك ْنتُمْ َ القاضي أبو بكر بن العربي (( :في هذه الية والتي بعدها وهي قوله
جتْ لِلنّاسِ } دليل على أن المر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية ))(. )1
خرِ َ
أُ ْ
وقال الجصاص (( :قد حوت هذه الية معنيين أحدهما :وجوب المر بالمعروف والنهي عن
المنكر ،والخر :أنه فرض على الكفاية ...لقوله تعالى :
{ َو ْل َتكُنْ مّنكُمْ ُأمّةٌ } ..وحقيقته تقتضي البعض دون البعض ،فدل على أنه فرض على الكفاية
إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين ))(. )2
وقال الحافظ ابن كثير (( :والمقصود من هذه الية أن تكون فرقة من هذه المة متصدية لهذا
الشأن ،وإن كان ذلك واجبا علىكل فرد من المة بحسبه ،كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي
[ :من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ،فإن لم يستطع سعيد الخدري( )3قال :قال رسول ال
فبلسانه ،فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف اليمان ] ))(.)4
قلت :قول ابن كثير -رحمه ال (( : -وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من المة بحسبه ))
معناه بحسب قدرته ،ويدل على ذلك استشهاده بحديث أبي سعيد الذي جعل مناط المر بالتغيير
هو الستطاعة .
جتْ لِلنّاسِ تَ ْأ ُمرُونَ
خرِ َ
خ ْيرَ ُأمّةٍ أُ ْ
وفي معنى هذه الية آيات أُخر منها قوله تعالى :كُنتُمْ َ
في نعت المؤمنين الذين باعوا بِال َم ْعرُوفِ َو َت ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُنكَرِ ( } ...آل عمران )110:وقوله
ن الرّا ِكعُونَ السّاجِدُونَ ال ِمرُونَ
أنفسهم وأموالهم ل ْ { :اّلتَا ِئبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السّائِحُو َ
ش ِر ال ُم ْؤ ِمنِينَ } (التوبة )112:
بِال َم ْعرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ المُن َكرِ وَالحَافِظُونَ لحُدُودِ الِ َوبَ ّ
قال الجصاص بعد أن ذكر طائفة من هذه اليات الكريمة (( :فهذه الي ونظائرها مقتضية
ليجاب المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وهي على منازل أولها تغييره باليد -إذا أمكن
-فإن لم يمكن وكان في نفسه خائفا على نفسه إذا أنكر بيده فعليه إنكاره بلسانه ،فإن تعذر ذلك
لما وصفنا فعليه إنكاره بقلبه ))( )5أ.هـ .
309
والمقصود من ذلك أنه قد َث َبتَ بهذه اليات وغيرها وجوب المر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأنه فرض على الكفاية ،وهذا الحكم شامل لكل مراتب التغيير ،ول نعلم دليلً واحدا يخص
الحكام بمرتبة من هذه المراتب ،فمن ادعى شيئا من ذلك فعليه الدليل .
ثانيًا :من السنة النبوية الشريفة
الحديث الول :
عن طارق بن شهاب قال :
(( أول من بدأ الخطبة يوم العيد قبل الصلة مروان فقام إليه رجل فقال :الصلة قبل الخطبة .
يقول فقال :قد ترك ما هنالك فقال أبو سعيد :أما هذا فقد قضى ما عليه ،سمعت رسول ال
[ :من رأى منكرا فليغيره بيده ،فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف
اليمان] )) (. )6
وقد دل هذا الحديث على أن لحاد الرعية تغيير المنكر بأيديهم من وجوه :
الوجه الول :
[ مَنْ ] وهي من صيغ العموم ،وذلك يعني أن الخطاب موجه إلى كل فرد من المة قوله
وليس إلى طائفة معينة منهم ،وعلى من ادعى تخصيص طائفة معينة بشيء مما ورد في هذا
الحديث أن يأتينا بالمخصص وأنى له ذلك ؟
أما ما زعمه أحدهم من أنه لم يثبت أن أحدا من القرون الثلثة الولى قد فعل ذلك من غير
الولة( )7فإنه منقوض بما سننقله فيما بعد من فعل الصحابة واستمرار عمل السلف على أن
لحاد الرعية أن يغيروا بأيديهم دون إذن من الولة.
الوجه الثاني :
وهو الحاكم ،والمخاطَبون بذلك هم الرعية فلو كان [ منكم ] والقائل هو النبي قوله
الذي يغير بيده هو الحاكم وحده فكيف خوطب الرعية بذلك ؟!
الوجه الثالث :
[ فإن لم يستطع ] وذلك يقتضي أن المخاطب بالمر الول هو عينه المخاطب بالمر قوله
الثاني وهو عينه المخاطب بالمر الثالث ؛ فهو شخص واحد إن لم يستطع أن يُغير بيده فله أن
ينتقل إلى البدل وهو التغيير باللسان فإن لم يستطع فله النتقال إلى البدل وهو التغيير بالقلب .
310
وشبيه بهذا المعنى ما جاء في حديث الرجل الذي واقع امرأته في نهار رمضان حيث قال له
: النبي
[ هل تجد رقبة تعتقها ؟ قال :ل ،قال :فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال :ل ،
قال :فهل تجد إطعام ستين مسكينا ؟ قال :ل )8(] ...الحديث .
غير مستطيع للمر الول وهو العتق انتقل به فالشخص شخص واحد ،ولما وجده الرسول
إلى المر الثاني وهو الصيام ،فلما وجده غير مستطيع لهذا أيضا انتقل به إلى المر الثالث
وهو الطعام .وهكذا نقول هنا وال أعلم
الوجه الرابع :
[ فإن لم يستطع ] أيضا فلو كان التغيير باليد قاصرا على الحاكم لما كان لقوله [ فإن قوله
لم يستطع ] معنى لن الصل في الحاكم أنه مستطيع التغيير باليد على كل حال .
الحديث الثاني :
قال : روى مسلم في صحيحه عن عبد ال بن مسعود أن رسول ال
[ ما من نبي بعثه ال في أمة قبلي إل كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته
ويقتدون بأمره ،ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف ،يقولون ما ل يفعلون ،ويفعلون ما ل
يؤمرون ،فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ،ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ،ومن جاهدهم بقلبه
فهو مؤمن ،وليس وراء ذلك من اليمان حبة خردل](. )9
وفي هذا الحديث أيضا العموم في قوله [ فمن جاهدهم ] فهذا خطاب عام ل مخصص له
،بل إنه نص في أن للرعية أن يغيروا منكرات المراء بأيديهم ؛ فقد قال ابن رجب الحنبلي
بعد أن ذكر الحديث السابق :
(( جهاد المراء باليد أن يزيل بيده ما فعلوه من المنكرات مثل أن يريق خمورهم ،أو
يكسر آلت اللهو التي لهم ،أو نحو ذلك ،أو يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كان له قدرة
الحديث الثالث : على ذلك وكل ذلك جائز ))(.)10
قال [ :ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ ومن عن أم سلمة أن رسول ال
أنكر سلم ولكن من رضى وتابع ،قالوا :أفل نقاتلهم ،قال :ل ما صلوا ] ،وفي رواية [ إنه
يُستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمنكره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضى
وتابع ،قالوا :يا رسول ال أل نقاتلهم ؟ قال :ل ماصلوا](. )11
311
فهذا الحديث يوضح أنه في حالة وجود أمراء تقع منهم المخالفات لشرع ال فإن سلمة المسلم
في دينه تتحقق بالنكار عليهم ،والنكار هنا عام يدخل فيه التغيير باليد واللسان والقلب .
وإليك ما قاله المام النووي في شرح هذا الحديث لتعلم أننا لم نأت ببدع من القول ،قال
-رحمه ال (( : -فأما رواية من روى [ فمن كره فقد برئ ] فظاهرةٌ ومعناه من كره ذلك
المنكر فقد برئ من إثمه وعقوبته وهذا في حق من ل يستطيع إنكاره بيده ول لسانه فليكرهه
بقلبه وليبرأ ،وأما من روى [ فمن عرف فقد برئ ] فمعناه -وال أعلم -فمن عرف المنكر ولم
يشتبه عليه فقد صارت له طريق إلى البراءة من إثمه وعقوبته ،بأن يغير بيده وبلسانه ،فإن
عجز فليكرهه بقلبه )) (.)12
فيتبين من ذلك أن الرجل المسلم له أن يغير منكرات المراء بيده أو لسانه فإن عجز فبقلبه وإن
كان المنكر عليه هو المير فهل يسوغ مع ذلك أن يُقال :إنه ل تغيير باليد إل للمراء
والحكام ؟!
الحديث الرابع :
وتقع فيه عن عكرمة قال حدثنا ابن عباس [ :أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي
فينهاها فل تنتهي ويزجرها فل تنزجر ،قال :فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي
وتشتمه ،فأخذ المغول فوضعه في بطنها ،واتكأ عليها فقتلها ...فلما أصبح ُذكِر ذلك لرسول
فجمع الناس فقال :أنشد رجلً فعل ما فعل لي عليه حق إل قام ،فقام العمى يتخطى ال
،فقال :يا رسول ال أنا صاحبها كانت تشتمك الناس وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي
وتقع فيك فأنهاها فل تنتهي وأزجرها فل تنزجر ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت
بي رفيقة فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك،فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت
:أل اشهدوا أن دمها هدر](.)13 عليها حتى قتلتها ،فقال النبي
فهذا الحديث يدل على أن هذا الرجل وجد منكرا وحاول أن يغيره باللسان والوعظ والنصح فلم
تنته صاحبته ،فما كان منه إل أن غير بيده وكان التغيير باليد هنا هو استعمال السيف ؛ لن
أقرّه علِمَ النبي
فلما َ منكر هذه المرأة ل يزول بأقل من هذا فقتلها دون إذن من الرسول
على ذلك .
الحديث الخامس :
312
وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت [ :أن يهودية كانت تشتم النبي روى الشعبي عن علي
دمها ](. )14 فأبطل رسول ال
قال ابن تيمية :
). (15 هذا الحديث نص في جواز قتلها لجل شتم النبي
فأقره النبي على ذلك ونحن نرى أن هذا من قلت :فهذا الرجل قتل المرأة دون إذن من النبي
باب تغيير المنكر باليد كما ذكرنا في القصة السابقة .
الحديث السادس :
: حتى أتينا الكعبة فقال لي رسول ال عن علي رضي ال عنه قال [ :انطلقت أنا والنبي
اجلس وصعد على منكبي فذهبت لنهض به فرأى مني
وقال :اصعد على منكبي ،قال :فصعدت على منكبه ،قال ضعفًا ،فنزل وجلس نبي ال
:فنهض بي ،قال :فإنه يخيل إليّ أني لو شئت نلت أفق السماء حتى صعدت على البيت وعليه
تمثال صُفر أو نحاس ،فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه حتى إذا
:اقذف به فقذفت به فتكسر كما تتكسر القوارير ثم نزلت استمكنت منه ،قال رسول ال
نستبق حتى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحدٌ من الناس ](. )16 فانطلقنا أنا ورسول ال
المنكر بيده قبل الهجرة ،ومعلوم أنه لم يكن يومئذ حاكما قلت :هذا الحديث نص في تغييره
ول كانت قد قامت دولة السلم بعد .
وقال المام الطبري تعليقا على هذا الحديث (( :والذي فيه من ذلك الدللة على صحة قول من
قال :ل بأس على الرجل المسلم إذا رأى بعض ما يتخذه أهل الكفر وأهل الفسوق والفجور من
الشياء التي يُعصى ال بها مما ليصلح لغير معصية ال وهو بهيئته ،وذلك مثل الطنابير
والعيدان والمزامير ،أن يغيره عن هيئته المكروهة التي يعصى ال به وهو بها إلى خلفها من
الهيئات التي يزول عنه معها المعنى المكروه ))(. )17
ثالثًا :الجماع
-1قال المام النووي -في شرح مسلم (( -قال العلماء ول يختص المر بالمعروف والنهي
عن المنكر بأصحاب الوليات بل ذلك جائز لحاد المسلمين ،قال إمام الحرمين :والدليل عليه
إجماع المسلمين ،فإن غير الولة في الصدر الول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون بالمعروف
313
وينهون عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بالمر بالمعروف
والنهي عن المنكر من غير ولية ))(. )18
وهذا كلم عام في المر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل درجاته لم يخصص إمام الحرمين
نوعا منها .
-2قال القرطبي عند تفسير قوله تعالى { :إِنّ الّذِينَ َيكْ ُفرُونَ بِآيَاتِ الِ َويَ ْق ُتلُونَ اّل َن ِبيِينَ ِب َغ ْيرِ
حَقٍ ( } ...آل عمران : )21:
(( أجمع المسلمون فيما ذكره ابن عبد البر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه ،
وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إل اللوم الذي ل يتعدى إلى الذى فإن ذلك ل يجب أن يمنعه من
تغييره فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه ليس عليه أكثر من ذلك ))(.)19
فهذا الجماع الصحيح يدل على وجوب تغيير المنكر على كل من قدر عليه سواء كان حاكما أو
محكوما .
رابعًا :فعل الصحابة
يخرج يوم الفطر والضحى إلى قال [ :كان رسول ال -1عن أبي سعيد الخدري
المصلى ،فأول شيء يبدأ به الصلة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس -والناس جلوس على
صفوفهم -فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم ،فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه أو يأمر بشيء أمر
به ثم ينصرف .قال أبو سعيد :فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان -وهو أمير
المدينة -في أضحى أو فطر ،فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت ،فإذا مروان
يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذتُ بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلة فقلت له :غيرتم
وال ،قال :أبا سعيد قد ذهب ما تعلم ،فقلت :ما أعلم وال خير مما ل أعلم ،فقال :إن الناس
لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلة فجعلتها قبل الصلة](.)20
قد باشر التغيير بيده فجبذ بثوب مروان ،وهو المير يومئذٍ . فها هو أبو سعيد الخدري
قال المام النووي في شرح هذا الحديث (( :وفيه المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وإن
كان المنكر عليه واليا ،وفيه أن النكار عليه يكون باليد لمن أمكنه ول يجزئ عن اليد اللسان
مع إمكان اليد ))(.)21أ.هـ .
-وهو أمير المؤمنين -بالشام فأتاه -2وعن سويد بن غفلة قال [ :كنا مع عمر بن الخطاب
نبطي مضروب مشجج مستعدي ،فغضب غضباشديدا ،فقال لصهيب :انظر من صاحب هذا ؟
314
فانطلق صهيب فإذا هو عوف بن مالك الشجعي ...قال :يا أمير المؤمنين رأيته يسوق بامرأة
مسلمة فنخس الحمار ليصرعها ،فلم تُصرع ثم دفعها فخرت عن الحمار ،ثم تغشاها فَ َفعْلتُ ما
...فقالت ترى ،قال :ائتني بالمرأة لتُصدقك ،فأتى عوف المرأة ،فذكر الذي قال له عمر
المرأة :وال لذهبن معه إلى أمير المؤمنين ....قال أبوها وزوجها :نحن نُبلّغ عنك أمير
المؤمنين ،فأَتيا فصدّقا عوف بن مالك بما قال ،قال :فقال عمر لليهودي :وال ما على هذا
عاهدناكم ،فأمر به فصُلبَ ...قال سويد بن غفلة :وإنه لول مصلوب رأيته ](. )22
فهذا عوف بن مالك -وهو صحابي جليل -رأى منكرا فغيره بيده ،ولم يكن المنكر ليندفع إل
وعرف بالضرب ،فضرب عوف بن مالك صاحب المنكر ،فشج رأسه فلما بلغ ذلك عمر
حقيقة المر ،ما عنّفَهُ بل أقام حُكم ال في هذا الذمي وهو أن يُقتل .
-3ورأى ابن عمر فسطاطًا على قبر عبد الرحمن فقال [ :انزعه يا غلم ؛ فإنما يظله عمله ](
. )23
وهذا تغيير باليد وقع من غير حاكم كما ترى .
خامسًا :فعل التابعين
-1عن إبراهيم قال [ :كان أصحاب عبد ال يستقبلون الجواري معهن الدفوف في
الطرق فيخرقونها ](. )24
[ -2وعن أبي حصين أن رجلً كسر طنبورًا لرجل ،فخاصمه إلى شُريح فلم يضمنه
شيئًا ](. )25
وعدم تضمين القاضي شريح لهذا الرجل يدل على أنه يجوز له كسر هذا الطنبور .
سادسا :أقوال العلماء في هذه المسألة
والن -أخي القارئ -نسوق لك طائفة من أقوال العلماء في هذه المسألة ليتبين لك أن
قولنا هو قول أئمة الهدى من أهل العلم .
( )1من أقوال الحنفية :
قال المام أبو بكر الجصاص (( :المر بالمعروف والنهي عن المنكر لهما حالن :حال
يمكن فيها تغيير المنكر وإزالته ،ففرض على من أمكنه إزالة ذلك بيده أن يزيله ؛ وإزالته باليد
تكون على وجوه منها :أل يمكن إزالته إل بالسيف وأن يأتي على نفس فاعل المنكر ،فعليه أن
315
يفعل ذلك كمن رأي رجلً قصده أو قصد غيره بقتله أو بأخذ ماله ،أو قصد الزنا بامرأة أو
نحو ذلك ،وعلم أنه ل ينتهي إن أنكره بالقول أو قاتله بما دون السلح ،فعليه أن يقتله لقول
[ :من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده ] فإذا لم يمكنه تغييره بيده إل بقتل المقيم على هذا
المنكر فعليه أن يقتله فرضا عليه))( .)26أ.هـ .
( )2من أقوال المالكية :
-1قال المام أبو بكر بن العربي عند تفسير قوله تعالى َ { :و ْلتَكُنْ مّنكُمْ ُأمّةٌ يَدْعُونَ إِلى
خ ْيرِ َويَ ْأ ُمرُونَ بِال َم ْعرُوفِ َو َي ْن َهوْنَ عَنِ اْلمُن َكرِ } (آل عمران : )104 :
ال َ
أنه قال [ :من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم (( ثبت عن النبي
بدأ في يستطع فبقلبه وذلك أضعف اليمان ] .وفي هذا الحديث من غريب الفقه أن النبي
البيان بالخير في الفعل وهو تغيير المنكر باليد وإنما يبدأ باللسان والبيان فإن لم يكن فباليد ،
يعني أن يحول بين المنكر وبين متعاطيه ؛ بنزعه عنه وبجذبه منه ،فإن لم يقدر إل بمقاتلة
وسلح فليتركه وذلك إنما هو إلى السلطان؛ لن شهر السلح بين الناس قد يكون مخرجا إلى
الفتنة وآيلً إلى فساد أكثر من المر بالمعروف والنهي عن المنكر إل أن يقوى المنكر ،مثل
أن يرى عدوا يقتل عدوا فينزعه عنه ول يستطيع أل يدفعه ويتحقق أنه لو تركه قتله ،وهو
قادر على نزعه ول يسلمه بحال وليخرج السلح ))(. )27
ويلحظ هنا قول المام أبو بكر بن العربي (( :فإن لم يقدر إل بمقاتلة وسلح فليتركه
وذلك إنما هو إلى السلطان )) ومعنى ذلك أن ما قبل ذلك من تغيير باليد من غير سلح ليس
محتاجا إلى السلطان ،ومع ذلك فقد استثنى الشيخ حالة يجوز فيها للحاد استعمال السلح وهي
أن يقوى المنكر كأن يرى رجلً يقتل آخر ويتحقق أنه لو تركه قتله فهنا يجوز له إشهار السلح
في تغيير هذا المنكر.
-2نقل النووي في شرح حديث [ :من رأى منكم منكرا ] قولً للقاضي عياض يقول فيه
(( :هذا الحديث أصل في صفة التغيير فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولً
كان أو فعلً ،فيكسر آلت الباطل أو يريق المسكر بنفسه أو يأمر من يفعله وينزع الغصوب
ويردها إلى أصحابها بنفسه أو بأمره. )28( ))...
316
وكلم القاضي عياض هنا يبين صفة التغيير أيّا كان المغير حاكما أو محكوما فله أن يكسر
آلت الباطل أو يريق المسكر أو ينزع المغصوب ويرده إلى أصحابه ،فلم يفرق في ذلك بين
الوالي والرعية .
-3وقال المام القرطبي في تفسير قوله تعالى { :إِنّ الّذِينَ َيكْ ُفرُونَ بِآيَاتِ ال َويَ ْق ُتلُونَ
اّل َن ِبيِينَ ِب َغ ْيرِ حَقٍ ( }....آل عمران (( : )21 :ولو رأى زيد عمرا وقد قصد مال بكر فيجب
عليه أن يدفعه ،إذا لم يكن صاحب المال قادرا عليه ول راضيا به))(.)29
فانظر كيف عبر بقوله (زيد) وذلك يفيد أنه أي فرد ول يشترط أن يكون الحاكم ،هذا وقد مر
بنا من قبل عند ذكر الجماع ما نقله القرطبي -رحمه ال -من ذكر الجماع على أن تغيير
المنكر واجب على كل من قدر عليه باليد فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه.
-4قال المام أبو بكر الطرطوشي (( :فانظروا يرحمكم ال أينما وجدتم سدرة أو شجرة
يقصدها الناس ويعظمون من شأنها ،ويرجون البرء والشفاء من قِبلها ،وينوطون بها المسامير
والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها ))(. )30
وهذا من المام الطرطوشي خطاب للمسلمين جميعا ،ومن ادعى التخصيص
فعليه الدليل .
( )3من أقوال الشافعية :
-1قال المام النووي (( :قال إمام الحرمين -رحمه ال : -ويسوغ لحاد الرعية أن
يصد مرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته العمل إلى نصب قتال وشهر سلح ،
فإن انتهى المر إلى ذلك ،ربط المر بالسلطان))(.)31
-2وقال إمام الحرمين -الجويني -أيضا في غياث المم عند الحديث عن خلو
الزمان عن المام أو الخليفة (( :أما ما يسوغ استقلل الناس فيه بأنفسهم لكن الدب يقتضي
جمَع وجر العساكر إلى الجهاد
فيه مطالعة ذوي المر ومراجعة مرموق العصر كعقد ال ُ
واستيفاء القصاص في النفس والطرف فيتوله الناس عند خلو الدهر ،ولو سعى عند شغور
الزمان طوائف من ذوي النجدة والبأس في نفض الطرق عن السعاة في الرض بالفساد فهم من
أهم أبواب المر بالمعروف والنهي عن المنكر )) (. )32
ومن هذا النص يتبين لنا أن الجويني -رحمه ال -يرى أن ما يسوغ لحاد
الرعية أن يقوموا به من غير إذن السلطان -وإن كان الدب يقتضي مراجعته في ذلك ، -فإن
317
الناس يقومون به إذا خل الزمان عن إمام .وذكر من أمثلة ذلك عقد الجمع وجر العساكر إلى
الجهاد واستيفاء القصاص في النفس والطرف .
وأنه لو سعى طوائف من ذوي النجدة في حال غياب المام بنفض الطرق عن
السعاة في الرض بالفساد فإن ذلك من أهم أبواب المر بالمعروف والنهي عن المنكر .ويدل
هذا الجزء الخير من كلم الجويني على أن القيام بتغيير المنكر وتطهير الرض من الساعين
فيها بالفساد جائز لحاد الرعية سواء في حال وجود المام أو حال غيابه -وال أعلم-
-3قال الغزالي في الحياء بعد كلم له في عدم وجوب استئذان المام في التغيير:
(( ...وكذلك كسر الملهي وإراقة الخمور فإنه تعاطي ما يعرف كونه حقا من غير اجتهاد فلم
يفتقر إلى المام ،وأما جمع العوان وشهر السلحة فذلك قد يجر إلى فتنة عامة ففيه نظر
سيأتي . )33()) ...
وقال عند ذكره لدرجات الحسبة :
الدرجة السابعة (( :مباشرة الضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه شهر سلح وذلك
جائز للحاد بشرط الضرورة والقتصار على قدر الحاجة في الدفع ،فإذا اندفع المنكر فينبغي
أن يكف )) (. )34
وقال(( :الدرجة الثامنة :أن ل يقدر عليه بنفسه ويحتاج فيه إلى أعوان يشهرون السلح وربما
يستمد الفاسق أيضًا بأعوانه ،ويؤدي ذلك إلى أن يتقابل الصفان ،ويتقاتل فهذا قد ظهر
الختلف في احتياجه إلى إذن المام،فقال قائلون :ل يستقل آحاد الرعية بذلك لنه يؤدي إلى
تحريك الفتن وهيجان الفساد وخراب البلد ،وقال آخرون :ل يحتاج إلى الذن -وهو القيس
-لنه إذا جاز للحاد المر بالمعروف وأوائل درجاته تجر إلى ثوان والثواني إلى ثوالث وقد
ينتهي ل محالة إلى التضارب ،والتضارب يدعو إلى التعاون فل ينبغي أن يبالي بلوازم المر
بالمعروف ومنتهاه تجنيد الجنود في رضا ال ودفع معاصيه ،ونحن نجوز للحاد من الغزاة أن
يجتمعوا ويقاتلوا من أرادوا من فرق الكفار قمعا لهل الكفر فكذلك قمع أهل الفساد جائز؛لن
الكافر ل بأس بقتله ،والمسلم إن قتل فهو شهيد ،فكذلك الفاسق المناضل عن فسقه ل بأس
بقتله،والمحتسب المحق إن قتل مظلوما فهو شهيد وعلى الجملة فانتهاء المر إلى هذا من
النوادر في الحسبة فل يغير به قانون القياس )) ()35أ.هـ.
ويتضح من هذا العرض لكلم الغزالي ..أن تغيير المنكر باليد له درجات :
318
الولى :إزالة المنكر من غير تعرض لفاعله ،وهي الدرجة الخامسة في ترتيب الغزالي
لدرجات الحسبة ،فهذه كما رأينا في كلمه جائزة للحاد ول تفتقر إلى إذن المام .
الثانية :وهي مباشرة الضرب باليد والرجل ؛ أي ضرب فاعل المنكر ما لم يصل المر إلى
شهر السلح ،وهي الدرجة السابعة في ترتيب الغزالي ،فهذه أيضًا جائزة بشرط الضرورة
والقتصار على قدر الحاجة
الثالثة :وهي شهر السلح وجمع العوان وهي الدرجة الثامنة في ترتيب الغزالي ،وهذه
الدرجة هي التي وقع فيها الخلف بين العلماء فمنهم من أجازها لحاد الرعية ومنهم من
قصرها على الحكام وقد رجح الغزالي جوازها لحاد الرعية كما رأينا .
قال الشيخ محمد أحمد الراشد في كتاب المنطلق تعقيبًا علىكلم الغزالي السابق :
(( وهذا نص يكتب بماء الذهب وعلى الدعاة أن يحفظوه عن ظهر قلب )) (.)36
فتمسك أخي بهذا الكلم الجيد ول يغرنك قول متفلسفة العصر الذين يهاجمون صاحبه فيرمونه
بأن كلمه هذا لم يستند فيه إلى آية واحدة أو حديث واحد ولو ضعيف أو عمل من أعمال
الصحابة أو التابعين(. )37
-4وقد تكلم ابن القيم في الطرق الحكمية عن تكسير آلت اللهو والصور ،وهل يضمن من
يكسر شيئًا من ذلك ؟ فقال(( :وقال أصحاب الشافعي يضمن ما بينه وبين الحد المبطل
للصورة،وما دون ذلك فغير مضمون لنه مستحق الزالة )) (.)38
وذلك يعني أن الرجل إذا أتلف الجزء المحرم فل شيء عليه ،فإن تعدى ذلك إلى إتلف ما
ليس بمحرم فإنه يضمن بقيمة ذلك .
-5قال المام النووي -في شرح حديث أبي سعيد الذي في باب صلة العيدين(( :-وفيه المر
بالمعروف والنهي عن المنكر ،وإن كان المنكر عليه واليًا،وفيه أن النكار عليه يكون باليد لمن
أمكنه ول يجزئ عن اليد اللسان مع إمكان اليد))(.)39
وقال في رياض الصالحين عند ذكره لحديث أم سلمة [ :إنه يستعمل عليكم
أمراء ...إلخ ] قال (( :معناه من كره بقلبه ولم يستطع إنكارا بيد ول لسان فقد برئ من الثم
وأدى وظيفته ،ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية ،ومن رضي بفعلهم وتابعهم
فهو العاصي )) (. )40
وقد مر بنا من قبل في باب الدلة من السُنة ما ذكره النووي في شرح مسلم
319
تعليقًا على هذا الحديث .
وقال في كتاب الربعين النووية (( :وأعلى ثمرة اليمان في باب النهي عن المنكر ؛
أن ينهي بيده وإن قتل شهيدًا ،قال ال تعالى { :يَا بُنيّ أَقِمْ الصّلةَ َو ْأ ُمرْ بِال َم َعرُوفِ وَانْهَ عَنِ
))(. )41 17 علَى مَا َأصَا َبكَ } لقمان :
ص ِبرْ َ
المُنكَرِ وَا ْ
قال ابن دقيق العيد (( :قالوا ول يختص المر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب -6
الولية ،بل ذلك ثابت لحاد المسلمين )) (.)42أ.هـ.
ويلحظ في ذلك أنه أثبت المر بالمعروف والنهي عن المنكر لحاد المسلمين ولم يستثن
من درجاته شيئا فدل ذلك على أن جميع الدرجات ثابتة لحاد المسلمين بما فيها اليد ،وال أعلم
.
( )4من أقوال الحنابلة :
-1قال ابن القيم (( :وقال إسحق بن إبراهيم سئل أحمد عن الرجل يرى الطنبور أو طبلً
مغطى أيكسره ؟ قال إذا تبين أنه طنبور أو طبل كسره .وقال أيضًا سألت أبا عبد ال عن
الرجل يكسر الطنبور أو الطبل عليه في ذلك شيء ؟ قال يكسر هذا كله وليس يلزمه شيئ ))(
. )43
وقال ابن القيم أيضا (( :وقال المروذي :سألت أبا عبد ال عن كسر الطنبور الصغير يكون
مع الصبي ؟ قال :يُكسر أيضا ،قلت َ :أ ُمرّ في السوق فأرى الطنبور يباع أكسره ؟ قال :ما
أراك تقوى .إن قويت -أي فافعل -قلت :أ دعى لغسل الميت فأسمع صوت الطبل ،قال :إن
))(. )44 قدرت على كسره ،وإل فاخرج
وقال ابن القيم أيضًا في نفس الكتاب (( :وقال المروذي :قلت لبي عبد ال :دُفع إليّ
إبريق فضة لبيعه ،ترى أن أكسره أو أبيعه كما هو ؟ قال :اكسره .وقال :قيل لبي عبد ال
:إن رجلً دعا قوما فجيء بطست فضة وابريق فضة ،فكسره فأعجب أبا عبد ال كسره ،
وقال :بعثني أبو عبد ال إلى رجل بشيء فدخلت عليه ،فأتى بمكحلة رأسها مفضض
فقطعتها ،فأعجبه ذلك وتبسم .قال ابن القيم :ووجه ذلك أن الصناعة محرمة فل قيمة لها ،
ول حرمة وأيضا فتعطيل هذه الهيئة مطلوب فهو بذلك محسن وما على المحسنين من سبيل ))
(.)45
320
-2قال المام ابن قدامة -رحمه ال -عند حديثه عن الوليمة وما يفعله من دُعي إليها فوجد فيها
معصية (( :فإن رأى نقوشا وصور شجر ونحوها فل بأس بذلك لن تلك نقوش ،فهي كالعلم
في الثوب ،وإن كانت فيه صور حيوان في موضع يوطأ أو يتكأ عليها ،كالتي في البسط
والوسائد جاز أيضا ،وإن كانت على الستور والحيطان وما ل يوطأ وأمكنه حطها أو قطع
رؤوسها فعل وجلس ،وإن لم يكن ذلك انصرف ولم يجلس ،وعلى هذا أكثر أهل العلم )) (
.)46
-3وقال ابن القيم عند حديثه عن النصاب (( :وقد كان بدمشق كثير من هذه النصاب فيسر
كسرها على يد شيخ السلم وحزب ال الموحدين)) (.)47 ال
-4قال ابن كثير (( :وفي بكرة يوم الجمعة المذكور دار الشيخ تقي الدين بن تيمية -رحمه
ال -وأصحابه على الخمارات والحانات فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف وأراقوا الخمور
وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش ففرح الناس بذلك )) (.)48
-5وقال ابن القيم عند حديثه عن طائفة يغنون في المساجد (( :ومن أعظم المنكرات تمكينهم
من إقامة هذا الشعار الملعون هو وأهله في المسجد القصى عشية عرفة ويقيمونه أيضًا في
مسجد الخيف أيام منى وقد أخرجناهم منه بالضرب والنفي
مرارًا ،ورأيتهم يقيمونه بالمسجد الحرام نفسه والناس في الطواف ،فاستدعيت حزب ال
وفرقنا شملهم )) (.)49
فمن هذا يتبين أن شيخ السلم ابن تيمية وتلميذه كانوا يباشرون التغيير بأيديهم ؛ لعلمهم أنه
ليس هناك من دليل على اختصاص ذلك بالولة .
-6قال ابن رجب الحنبلي (( :جهاد المراء باليد أن يزيل بيده ما فعلوه من المنكرات ؛ مثل
أن يريق خمورهم أو يكسر آلت اللهو التي لهم أو نحو ذلك ،أو يبطل بيده ما أمروا به من
الظلم إن كان له قدرة على ذلك وكل ذلك جائز ))(.)50
( )5من أقوال الظاهرية وغير المتمذهبين من العلماء :
-1قال المام ابن حزم في المحلى في ( أحكام المامة ) (( مسألة :والمر بالمعروف والنهي
عن المنكر فرض على كل مسلم إن قدر بيده فبيده ،وإن لم يقدر بيده فبلسانه ،وإن لم يقدر
بلسانه فبقلبه ول بد ،وذلك أضعف اليمان فإن لم يفعل فل إيمان له ،ومن خاف القتل أو
الضرب أو ذهاب المال فهو عذر يبيح له أن يغير بقلبه فقط ويسكت عن المر بالمعروف وعن
321
النهي عن المنكر فقط ،ول يبيح له ذلك العون بلسان أو بيد على تصويب المنكر أصلً )) (
.)51
-2قال المام الشوكاني في السيل الجرار (( :كل مسلم يجب عليه إذا رأى منكرا أن يغيره
،وظهور بيده ،فإن لم يستطع فبلسانه ،فإن لم يستطع فبقلبه ،كما صح ذلك عن رسول ال
أو لجماع كون الشيء منكرا يحصل بكونه مخالفا لكتاب ال سبحانه أو لسنة رسوله
المسلمين ،ثم إذا كان قادرا على تغييره بيده كان ذلك فرضا عليه ولو بالمقاتلة ،وهو إن قُتل
فهو شهيد ،وإن قتل فاعل المنكر فبالحق والشرع قتله ،ولكنه يقدم الموعظة بالقول اللين ،فإن
لم يؤثر ذلك جاء بالقول الخشن ،فإن لم يؤثر ذلك انتقل إلى التغيير باليد ثم المقاتلة إن لم يمكن
التغيير إل بها ،فإذا كان غير قادر على النكار باليد أنكر باللسان فقط وذلك فرض ،فإن لم
يستطع النكار باللسان أنكر بالقلب وهذا يقدر عليه كل أحد وهو أضعف اليمان كما أخبر
). ))(52 الصادق المصدوق
( )6من أقوال العلماء المعاصرين :
-1قال الستاذ عبد القادر عودة (( :إذا شوهد الجاني ،وهو يرتكب الجناية كان لي شخص
أن يمنعه بالقوة عن ارتكاب الجريمة ،وأن يستعمل القوة اللزمة لمنعه سواء كانت الجريمة
اعتداء على حقوق الفراد ؛ كالسرقة ،أو اعتداء على حقوق الجماعة ؛ كشرب الخمر والزنا ،
وهذا ما يسمى بحق الدفاع الشرعي العام) ()53أ.هـ.
-2سُئل الدكتور /عمر عبد الرحمن :هل يجوز استخدام القوة في تغيير المنكر للفراد ؛
كتحطيم سيارة عمدا أو كسر آلة موسيقية أو العتداء على مخمور مثلً ؟
[ :من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده ] ... فأجاب :نعم يجوز ذلك بل قد يجب ،أولً :لقوله
ومَنْ تفيد العموم ؛ فيجوز بل يجب على آحاد الرعية وأفرادها أن يغيروا المنكر بأيديهم ول
يتوقف ذلك على إذن أصحاب السلطة ...إلى أن قال وكيف يستأذن من ولي المر إذا كان هو
قد جعل المنكر معروفا ؛ فأحل الربا والزنا والخمر والمسارح والمراقص ووقف رجال الشرطة
يحرسون هذه الماكن ويجعلون لها حماية ؟ فهل يستأذن ولي المر في النهي عن المنكر الذي
رعاه وحماه ،واعتنى به أشد العتناء وجعله من موارد الدولة وترويج السياحة ؟ )) (.)54
322
-3قال الشيخ عبد ال ناصح علوان بعد كلم له في موضوع المر بالمعروف والنهي عن
فيما رواه مسلم [ :من رأى منكم منكرا المنكر ((:وأما ما يحتج به البعض من حديث النبي
فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف اليمان ] إن المر
بالمعروف باليد على المراء ،وباللسان على العلماء وبالقلب على عوام الناس ،فهذا الحتجاج
[ :من رأى منكم ] هو لفظ ل ينهض على دليل ول يستند على حجة لن لفظ [ مَن] في قوله
يدل على العموم ،ويشمل كل من استطاع تغيير المنكر باليد أو اللسان أو النكار بالقلب سواء
أكان المنكِر من المراء أو العلماء أو عامة الناس إذا فقهوا الخطر الذي يترتب عليه تفشي
المنكر ،وذلك للعموم الذي يدل عليه الحديث الذي سبق ،ولعموم كلمة ( أمة ) الواردة في
خ ْيرِ َويَ ْأ ُمرُونَ بِال َم ْعرُوفِ َو َي ْن َهوْنَ عَنِ اْلمُن َكرِ َوُأ ْوَل ِئكَ
َ { :و ْل َتكُنْ مّنكُمْ ُأمّةٌ يَدْعُونَ إِلى ال َ قوله
هُمُ المُ ْفلِحُونَ } فإن كلمة أمة تشمل المة بأسرها على اختلف طبقاتها ومستوايتها سواء أكانوا
حكاما أم علماء أم عامة ،وإل فكيف يتأتى للمة أن تكون واقفة بالمرصاد للذين يتآمرون عل
دينها وأخلقها ،ويعبثون بعقائدها ومقدساتها ويعيثون في الرض ظلما وفسادًا ،ويريدون أن
يطفئوا نور ال بأفواههم ؟ كيف يتأتى لهم الوقوف إذا لم تتضافر المة بأسرها على مقاومة
المنكر ،وتقف صفًا واحدًا أمام العابثين والظالمين ؟ ))(. )55
وبعــد :
فهذه أقوال العلماء من فقهاء المذاهب الربعة وغيرهم ،تبين بوضوح وجلء جواز تغيير
المنكر باليد لحاد الرعية ،وإنما وقع الخلف فيما لو وصل التغيير باليد إلى جمع العوان
وشهر السلح ،ففيهم من أجاز التغيير عند ذلك أيضا كالغزالي -رحمه ال -ومنهم من منع
التغيير حينئذٍ كالمام الجويني .
وفي مثل هذا الخلف يمكننا -وال أعلم -أن نجمع بين الرأيين ؛ وذلك بالنظر إلى جسامة
المنكر وخطورته ،فإذا كان المنكر من الجسامة بحيث يترتب على بقائه مفسدة أكبر من تلك
التي تتوقع من تغييره عن طريق شهر السلح وجمع العوان ،فل بأس حينئذٍ من اللجوء إلى
هذه الوسيلة في التغيير ،أما إن كان المنكر أهون من ذلك ،فل يلجأ حينئ ٍذ إلى تلك الوسيلة ،
وهذا يدخل في باب قياس المصالح والمفاسد الذي سنتكلم عنه في فصل الضوابط -بمشيئة ال
تعالى. -
323
وأيضا فالقارئ الكريم لو راجع ما نقلناه عن المام ابن العربي فسيجد شيئا كهذا الذي
ذكرناه ،وال أعلم .
الفصل الثاني
ضوابط التغيير باليد
عد أن تحدثنا عن جواز التغيير باليد لحاد الرعية ،لبد أن نعلم أن هناك شروطا لذلك ،وقد
استنبط العلماء هذه الشروط من نظراتهم في النصوص الشرعية وفي المقاصد العامة للشريعة ،
ونحن نبين في هذا الفصل أهم هذه الشروط وهي :
أولً :أن يكون المنكر موجودا في الحال :
فل تغيير باليد لمنكر لم يقع بعد ول لمنكر قد وقع وانتهى ،وفي ذلك يقول أبو حامد الغزالي :
(( المعصية لها ثلثة أحوال :إحداها :أن تكون متصرمة فالعقوبة على ما تصرم منها حد ،
أو تعزير وهو إلى الولة ل إلى الحاد ،والثانية :أن تكون المعصية راهنة وصاحبها مباشر
لها ؛ كلبسه الحرير وإمساكه العود والخمر ،فإبطال هذه المعصية واجب بكل ما يمكن ما لم
تؤد إلى معصية أفحش منها أو مثلها ،وذلك يثبت لحاد الرعية ،الثالثة :أن يكون المنكر
متوقعا كالذي يستعد بكنس المجلس وتزيينه وجمع الرياحين لشرب الخمر وبعد لم يحضر
الخمر ،فهذا مشكوك فيه ،إذ ربما يعوق عنه عائق فل يثبت للحاد سلطنة على العازم على
الشرب إل بطريق الوعظ والنصح ،فأما التعنيف والضرب فل يجوز للحاد ول للسلطان إل
إذا كانت تلك المعصية علمت منه بالعادة المستمرة ))(. )1
ثانيا :أن يكون المنكر ظاهرا من غير تجسس :
ج َت ِنبُواْ
وذلك لعموم النصوص الناهية عن التجسس كقوله تعالى { :يَا َأ ّيهَا الّذِينَ ءَا َمنُواْ اْ ْ
وفي الحديث : َكثِيرا مّنَ الظّنّ إِنّ َبعْضَ الظّنّ ِإثْمٌ وَل تجَسّسُوا( }...الحجرات )12 :
[ إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ول تجسسوا ول تحسسوا ول تباغضوا وكونوا إخوانا ](
، )2وعن زيد بن وهب قال [ :أُتي ابن مسعود فقيل :هذا فلن تقطر لحيته خمرا ،فقال عبد
ال :إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به ]( ، )3إلى غير ذلك من الدلة
القاضية بحرمة التجسس على المسلمين ول يستثنى من ذلك إل حالة الضرورة ؛ كأن يتعين
البحث والتجسس طريقا لنقاذ نفس من الهلك ،قال النووي في شرح مسلم (( :وقال أقضى
القضاة الماوردي :ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات فإن غلب على الظن
324
استسرار قوم بها لمارة وآثار ظهرت ،فذلك ضربان :أحدهما أن يكون ذلك في انتهاك حرمة
يفوت استدراكها مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلً خل برجل ليقتله أو بامرأة ليزني بها ،
فيجوز له في مثل هذا الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذرا من فوات ما ل
يستدرك ،وكذا لو عرف غير المحتسب من المتطوعة جاز لهم القدام على الكشف والنكار ،
والضرب الثاني:ما قصر عن هذه الرتبة فل يجوز التجسس عليه ول كشف الستار عنه ))(.)4
ثالثا :أن يلتزم الدرجات الشرعية التي ذكرها العلماء في التغيير :
فقد ذكر الغزالي -في الحياء (( : -أن درجات التغيير تبدأ بالتعريف ؛ أي تعريف
الفاعل للمنكر أن هذا منكر ،ثم الوعظ اللين ثم السب والتعنيف بالقول ثم التغييرباليد ؛ ككسر
الملهي وإراقة الخمر ثم التهديد والتخويف ثم مباشرة الضرب باليد والرجل ثم جمع العوان
وشهر السلح ))(. )5
وهذه الدرجات يمكن تقسيمها -كما يقول الستاذ جلل الدين العمري -إلى نوعين :
أحدهما الصلح بالوعظ ،والخر الصلح بالقوة على هذا الترتيب( )6والصل في ذلك ما
ورد في أمر الجهاد من البدء بالدعوة قبل القتال وكذا قوله تعالى َ { :وإِن طَائِ َفتَانِ مِنَ ال ُم ْؤ ِمنِينَ
خرَى فَقَا ِتلُواْ ا ْلتِي َت ْبغِي ( } ....الحجرات )9 :
علَى الُ ْ
صلِحُواْ َب ْي َن ُهمَا فَإِنْ َب َغتْ إِحْدَا ُهمَا َ
اْ ْق َت َتلُواْ َفَأ ْ
،فأمر بالصلح قبل القتال .
قال القرطبي (( :فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله ،وإن لم يمكنه إل
{: بالعقوبة أو القتل فليفعل ،فإن زال المنكر بدون القتل لم يجز القتل ،وهذا ُتلُقي من قوله
حتّى تَفِيءَ إِلىَ َأ ْمرِ الِ } ))(. )7
فَقَا ِتلُواْ ا ْلتِي َت ْبغِي َ
وقال ابن العربي (( :وإنما يبدأ باللسان والبيان ،فإن لم يكن فباليد ))(. )8
وقال الشوكاني (( :ولكنه يقدم الموعظة بالقول اللين ،فإن لم يؤثر ذلك جاء بالقول
الخشن ،فإن لم يؤثر ذلك انتقل إلى التغيير باليد ،ثم المقاتلة إن لم يمكن التغيير إل بها ))(. )9
لكن إن علم أنه ل ينتهي عن منكره بمجرد القول ،جاز له البدء بالدرجة العلى ،وقد
قال الجصاص فيمن قصد رجلً بالقتل ،أو قصد امرأة بالزنى ونحو ذلك ... (( :وعلم أنه ل
ينتهي إن أنكره بالقول ،أو قاتله بما دون السلح ،فعليه أن يقتله ...وإن غلب في ظنه أنه إن
أنكره بالدفع بيده أو بالقول امتنع عليه ولم يمكنه بعد ذلك دفعه عنه ،ولم يمكنه إزالة هذا
: المنكر إل بأن يقدم عليه بالقتل ،من غير إنذار منه له ،فعليه أن يقتله ...وقول النبي
325
[ من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ] يوجِب ذلك أيضا ؛ لنه قد أمر بتغييره على أي وجه أمكن
ذلك ،فإذا لم يمكنه تغييره إل بالقتل ،فعليه قتله حتى يزيله ،وكذلك قلنا في أصحاب
الضرائب والمكوس التي يأخذونها من أمتعة الناس أن دماءهم مباحة ،وواجب على المسلمين
قتلهم ،ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار منه ،ول التقدم إليهم
بالقول ؛ لنه معلوم من حالهم أنهم غير قابلين إذا كانوا مقدمين على ذلك مع العلم بحظره ،
ومتى أنذرهم من يريد النكار عليهم امتنعوا منه حتى ل يمكن تغيير ما هم عليه من المنكر ))(
. )10
رابعا :أن يقتصر على القدر المحتاج إليه :
فإذا أمكن أن يغير المنكر بيده دون التعرض لفاعله ،فليس له أن يباشر الضرب على
فاعل المنكر ،وإن احتاج إلى ضربه :فإن كان المنكر يندفع بضربه بيده فليس له رفع العصا
في وجهه ،وقد قال الغزالي -رحمه ال (( -وهو أل يأخذ بلحيته في الخراج ول برجله إذا
قدر على جره بيده ،فإن زيادة الذى فيه مستغنى عنه ،وأن ل يمزق ثوب الحرير بل يحل
دروزه فقط ))(. )11
وقال الجصاص (( :وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بيده ودفعه عنه بغير سلح انتهى عنه ،
لم يجز له القدام على قتله ))(. )12
وقد مر بنا ما نقله ابن القيم في الطرق الحكمية عن الشافعية في أن المغير إذا اتلف ما زاد عن
الحد المبطل للصورة ،فإنه يُضمن بقيمة ذلك ،وإنما كان المر كذلك لنه مأمور بإزالة المنكر
فقط ،ومتى قدر على إزالة المنكر بغير إيذاء فاعله لم يكن له إيذاؤه ،ومتى أمكن إزالة المنكر
بأذى قليل ،لم يجز الذى الكثير -وال أعلم-
خامسا :أن ل يؤدي تغيير المنكر إلى منكر أكبر منه :
(( فإن المر والنهي وإن كان متضمنا وقد أوضح شيخ السلم ابن تيمية هذه القضية فقال :
لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة ،فينظر في المعارض له ،فإن كان الذي يفوت من المصالح أو
يحصل من المفاسد أكثر ،لم يكن مأمورا به ،بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من
مصلحته ))(. )13
لعبد ال بن أُبي ويضرب ابن تيمية لذلك مثالً فيقول (( :ومن هذا الباب إقرار النبي
وأمثاله من أئمة النفاق والفجور ،لما لهم من أعوان ،فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة
326
إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم ،وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدا يقتل
أصحابه ))(. )14
ويقول المام ابن القيم -رحمه ال (( : -إنكار المنكر أربع درجات :الولى أن يزول
ويخلفه ضده ،الثانية أن يقل وإن لم يزل بجملته ،الثالثة أن يخلفه ما
هو مثله ،الرابعة أن يخلفه ما هو شر منه ،فالدرجتان الوليان مشروعتان ،والثالثة موضع
اجتهاد ،والرابعة محرمة ))(. )15
ثم نقل عن شيخ السلم ابن تيمية قوله (( :مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار
بقوم منهم يشربون الخمر ،فأنكر عليهم من كان معي ،فأنكرت عليه وقلت له :إنما حرم ال
الخمر لنها تصد عن ذكر ال وعن الصلة ،وهؤلء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي
الذرية وأخذ الموال فدعهم ))(. )16
هذا ونحب أن نؤكد على قضية مهمة وهي أن قياس المصالح والمفاسد يجب أن يكون بمقياس
الشرع ،ل بمقياس العقول والهواء ،وفي ذلك يقول ابن تيمية :
(( لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ،فمتى قدر النسان على اتباع
النصوص لم يعدل عنها ،وإل اجتهد رأيه لمعرفة الشباه والنظائر ))(. )17
سادسا :أن ل ينكر العامي إل في المور الجلية الظاهرة التي ل تحتاج إلى اجتهاد :
وفي ذلك يقول النووي -رحمه ال (( : -إنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى
عنه ،وذلك يختلف باختلف الشيء ،فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة ؛
كالصلة والصيام والزنى والخمر ونحوها ،فكل المسلمين علماء بها ،وإن كان من دقائق
الفعال والقوال ،ومما يتعلق بالجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ،ول لهم إنكاره ،بل ذلك
للعلماء ))(. )18
وإنما اشترط ذلك لن الجاهل قد يوقعه جهله في المر بالمنكر والنهي عن المعروف
وهو ل يدري ،كما أنّا قد قدمنا أنه يلزمه تقديم الدعوة والبيان ،وأنّى له أن يدعو وأن يبين
علَى َبصِي َرةٍ } (يوسف )108 :
سبِيلِي أَدْعُواْ إِلىَ الِ َ
يقول { :قُلْ هَ ِذهِ َ وهو جاهل ،وال
فمن أين له بالبصيرة في دقائق العلم وهو عاميّ جاهل .
وبعد :
327
فهذه أهم الضوابط التي يجب مراعاتها عند التغيير باليد ،ولعلك تلحظ فيها أخي القارئ أنها
كلها تقريبا ليست خاصة بآحاد الرعية ،بل إنها مما ينبغي على الحكام والعلماء أيضا
مراعاته ،وكذلك فإن منها ما ليس بقاصر على درجة التغيير باليد ،لكنه قد يُطلب أيضا عند
التغيير باللسان ،ولكننا ذكرناها كضوابط للتغيير باليد لحاد الرعية بالذات ،لعظم الحاجة إليها
في هذه الحالة أكثر من غيرها ،وال أعلم .
الفصل الثالث
شبهات وتساؤلت
328
َقبْله تسقط التبعة عن الذين آمنوا وينال الضالون جزاءهم من ال حين يرجع هؤلء وهؤلء
إليه))(. )3
ظَلمُواْ مِنكُم خَاصَةً }
يقول { :وَاتّقُواْ فِتنَةً لّ ُتصِيبَنّ الّذِينَ َ ومما يوضح ذلك أن ال
(النفال )25 :فمن ترك النكار -مع قدرته عليه -دخل في الوعيد وقد يصيبه من الفتنة ما
يصيب الذين فعلوا المنكر ،ولذلك يسمي الشيخ محمد أحمد الراشد هؤلء بالبرار الهالكين()4
ويقول (( :أيها الزهاد العابدون :أمامكم خطر القانون الرباني الرهيب إن تخارستم ،ل
يغرنكم زهدكم ول صلتكم ،انطقوا بالحق وانهوا عن المنكر ،وإل فهو الهلك ))(. )5
-2شبهة إثارة الفوضى :
يقول البعض :إن ترك الفراد يغيرون المنكر بأيديهم سيؤدي إلى الفتن والفوضى .وردًا
على ذلك نقول :إن كنتم تقصدون أن تغيير المنكر باليد إذا قام به آحاد الرعية فإن ذلك سيؤدي
ول بد إلى الفتن والفوضى ،فهذا منكم تحكم عقلي في مواجهة نصوص صريحة من السُنة
وأفعال الصحابة وأقوال العلماء على اختلف مذاهبهم ،وليس يحق لحد أن يقول برأيه قولً
بأنه يأمر بما يثير الفوضى كما بيناه من قبل ،وكأنهم بهذا يتهمون النبي مخالفا لما قاله
والفتن .
وأما إن كنتم تقصدون أن ذلك المر ربما يؤدي إلى الفتن ،فنحن قد بينا من قبل أن من
شروط تغيير المنكر باليد أن ل يؤدي إلى منكر أكبر منه ،ونقلنا كلم ابن تيمية في قياس
المصالح والمفاسد بحيث لم تبق لهؤلء المعاندين حجة يتكلمون بها،ويحسن أن نسوق لهؤلء
كلمًا للمام أبي بكر الجصاص يقول فيه :
(( لم يدفع أحد من علماء المة وفقهائها سلفهم وخلفهم وجوب ذلك إل قوم من الحشو
وجهال أصحاب الحديث ،فإنهم أنكروا قتال الفئة الباغية ،والمر بالمعروف والنهي عن
المنكر بالسلح ،وسموا المر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة إذا احتيج فيه إلى حمل
حتّى تَفِيءَ
{ فَقَا ِتلُواْ ا ْلتِي َت ْبغِي َ السلح وقتال الفئة الباغية مع ما قد سمعوا فيه من قول ال
إِلىَ َأ ْمرِ الِ } وما يقتضيه اللفظ من وجوب قتالها بالسيف وغيره ،وزعموا مع ذلك أن
السلطان ل ينكر عليه الظلم والجور وقتل النفس التي حرم ال ،وإنما ينكر على غير السلطان
بالقول أو باليد بغير سلح ،فصاروا شرًا على المة من أعدائها المخالفين لها ؛ لنهم اقعدوا
الناس عن قتال الفئة الباغية ،وعن النكار على السلطان الظلم والجور حتى أدى ذلك إلى
329
المجوس وأعداء السلم حتى ذهبت الثغور وشاع الظلم وخربت تغلب الفجار بل
الدين والدنيا ،وظهرت الزندقة والغلو ،ومذاهب الثنوية والخرمية البلد وذهب
والمزدكية والذي
جلب ذلك كله عليهم ترك المر بالمعروف والنهي عن المنكر والنكار على السلطان الجائر ))
(. )6
أقول :هكذا يقول الجصاص في عصره ،فكيف لو رأى عصرنا وما حل بنا من
النكبات نتيجة البعد عن المر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ثم إنني أسجل هنا تعجبي الشديد من أن وزارة الوقاف المصرية توزع على أئمة
المساجد كتيبًا بعنوان :منهج السلم في تغيير المنكر ،ردد فيه كاتبوه هذه الشبهة ولم يأتوا
على قولهم هذا بدليل واحد من الكتاب أو السنة أو الجماع ،أو حتى قول أحد أهل العلم من
سلف هذه المة .
والعجب من ذلك أنهم ينقلون لتأييد قولهم هذا كلمًا من سلسلة :السلم دين العقل في
مواجهة الفكر المتطرف ،وهي السلسلة التي استنكرها الزهر نفسه وطالب بمصادرتها .
وبعد ...
فإن الفوضى الحقيقية ليست في تغيير المنكر ،ولكنها في تركه يتفشى ويزداد وفي
محاربة القائمين على تغييره بدعوى الفوضى والفساد .
-3كيف يبدأ بالوعظ مع أن الحديث بدأ بالتغيير باليد :
[ :من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن قد يتساءل البعض عن كيفية الجمع بين قوله
لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ] ...وبين ما نقلناه من أنه يبدأ بلسانه قبل يده ؟ فالمفهوم
وجوابا على ذلك نقول :قد مر بنا قول بن من الحديث أنه يبدأ باليد ثم اللسان ثم القلب
بدأ في البيان بالخير في العربي -رحمه ال -من غريب الفقه في هذا الحديث أن رسول ال
الفعل وهو تغيير المنكر باليد.
والذي يظهر لي -وال أعلم -أن الحديث قد بين مراتب التغيير ل مراحله ،فأعلى
المراتب التغيير باليد وأوسطها التغيير باللسان وآخرها التغيير بالقلب .
أما المراحل فتبدأ بالتغيير بالقلب ثم اللسان ثم اليد ؛ فرجلٌ يستطيع أن يصل إلى أعلى
مرتبة فهو يبدأ بكراهية المنكر بقلبه ثم ينصح بلسانه ثم يغير بيده ،ورجلٌ ل يستطيع التغيير
330
باليد فهو ينكر بقلبه ثم ينصح بلسانه ويقف عند ذلك ،وثالث ل يستطيع حتى أن يغير بلسانه
فهو يكتفي بالمرحلة الولى فينكر بقلبه ويعتزل المنكر وال أعلم .
-4قضية استئذان الحاكم :
يثير البعض قضية استئذان الحاكم في التغيير ،بمعنى أنهم يقولون :نعم لحاد الرعية أن
يغيروا ولكن ل بد من إذن الحاكم في ذلك .
والحق أن النصوص التي أوردناها كما أنها تدل على أن التغيير باليد ليس خاصا بالحكام
فإنها أيضا تدل على عدم اشتراط استئذانه في التغيير ،وهذا الشرط تحكمٌ ل دليل عليه ،فهو
شرط باطل ول شك ،يقول الغزالي -رحمه ال: -
(( هذا الشتراط فاسد ؛ فإن اليات والخبار التي أوردناها تدل على أن كل من رأى
منكرا فسكت عليه عصى ،إذ يجب نهيه أينما رآه وكيفما رآه على العموم فالتخصيص بشرط
التفويض من المام تحكم ل أصل له ))(. )7
وقال (( :بل أفضل الدرجات كلمة حق عند سلطان جائر( ، )8كما ورد في الحديث
فإذا جاز الحكم على المام على مراغمته فكيف يحتاج إلى إذنه ؟ ))(. )9
وقال ((:واستمرار عادات السلف على الحسبة على الولة قاطع بإجماعهم على
الستغناء عن التفويض ،بل كل من أمر بمعروف ،فإن كان الوالي راضيا فذاك وإن كان
ساخطا له فسخطه له منكر يجب النكار عليه ،فكيف يُحتاج إلى إذنه في النكار عليه ؟ ))(
.)10
-5شبهة اللقاء باليد إلى التهلكة :
{ :ولَ تُلقُواْ بِأَيدِيكُم ِإلَى التّهلُكةِ } (البقرة )195 :ويقولون يستدل بعض الناس بقوله
إن تغيير المنكر باليد في هذه اليام يؤدي إلى إيذاء من يقومون به ؛ من سجنهم واعتقالهم من
جانب الحكومات الجائرة ،وعليه فإن تغيير المنكر يعتبر إلقاء باليد إلى التهلكة .
: وهذه شبهة قد كفانا الرد عليها الصحابي الجليل أبو أيوب النصاري
[ فعن أسلم أبي عمران التجيبي قال :كنا بمدينة الروم .فحمل رجل من المسلمين على صف
الروم حتى دخل فيهم ،فصاح الناس وقالوا :سبحان ال يلقي بيديه إلى التهلكة ،فقام أبو أيوب
فقال :يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الية هذا التأويل ،وإنما أنزلت هذه الية فينا معشر
:إن النصار لما أعز ال السلم ،وكثر ناصروه ،فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول ال
331
أموالنا قد ضاعت ،وإن ال قد أعز السلم وكثر ناصروه ،فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما
يرد علينا ما قلنا { :وأَنفِقُواْ في سَبيلِ ال ولَ تُلقُواْ بِأَيدِيكُمْ ضاع منها ،فأنزل ال على نبيه
ِإلَى التّهلُكةِ } فكانت التهلكة القامة على الموال وإصلحها و َت ْركَنا الغزو ](. )11
فقد ظهر من هذا البيان أن اللقاء باليد إلى التهلكة هو ترك النفاق وترك العمل لدين ال
وإيثار الهل و الموال على طاعة ال والجهاد في سبيله ؛ أي عكس ما يفهم هؤلء .وإذا
قد قال [ :سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ،ورجل قام إلى إمام جائر فأمره كان الرسول
ونهاه فقتله ]( . )12فجعل الذي يموت بسبب كلمة حق يقولها عند سلطان جائر شهيدا ،بل هو
إلقاء باليد إلى التهلكة ؟! سيد الشهداء ،فكيف تعتبرون الذى في سبيل ال
{ :إِنّ الّذِينَ َيكْ ُفرُونَ بِآيَاتِ الِ َويَ ْق ُتلُونَ وقال المام أبو بكر بن العربي عند تفسير قوله
ْالّن ِبيِينَ ِب َغ ْيرِ حَقّ َويَ ْق ُتلُونَ الّذِينَ َي ْأ ُمرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ } (آل عمران (( : )21 :قال بعض
علمائنا هذه الية دليل على المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وإن أدى إلى قتل المر به
)) ...إلى أن قال -رحمه ال (( : -فإن خاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل ،فإن
رجا زواله جاز عند أكثر العلماء
القتحام عند هذا الغرر ،وإن لم يرج زواله فأي فائدة فيه ؟ والذي عندي أن النية إذا خلصت
فليقتحم كيفما كان ول يبالي ))(. )13
فها هو المام ابن العربي يرى أنه حتى لو غلب على ظنك وقوع الذى لك مع عدم
ول تُبالِ بشيء . رجاء زوال المنكر ،فاهجم واخلص النية ل
-6شبهة تنافي التغيير باليد مع الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة :
لموسى وهارون { :فَقُولَ لَهُ َقوْلً ّل ّينًا ّل َعلّهُ َيتَ َذ ّكرُ َأوْ يخْشَى } يستدل البعض بقول ال
(طه )44 :وقوله { :وَلَ تُجَا ِدلُواْ أَهْلَ ا ْل ِكتَابِ إِلَ بِالّتي ِهيَ أَحْسَنُ } (العنكبوت )46 :وقوله
سنَةِ وَجَادِلهُمْ بِا ْلتِي ِهيَ أَحْسَنُ } (النحل )125 :
ح ْكمَةِ وَال َموْعِظَةِ اْلحَ َ
سبِيلِ َر ّبكَ بِالْ ِ
{ :اْدْعُ إِلىَ َ
ويقولون إن هذه اليات تدل على الرفق واللين وإن استعمال القوة في تغيير المنكر ينافي ذلك .
وجوابا على ذلك نقول :
{ :فَقُولَ لَهُ َقوْلً ّل ّينًا : } ...فإن هؤلء لم يفرقوا بين مقام الدعوة باللسان -1أما قوله
ومقام المر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد ؛ فالدعوة باللسان سابقة -كما بينا من قبل-
لستخدام القوة ،فإن اندفع المنكر بمجرد الوعظ والنصح فل يصح استخدام القوة ،وإل وجب
332
استخدام القوة ،ولو كان ما فهمه هؤلء صحيحا لما جاز قتال الكفار أبدا ؛ لن الية التي
استدلوا بها هي في الحديث عن فرعون وهو كافر ،فطرد قولهم أننا ل نزال نقول للكفار قولً
بل كان لينا ل شدة فيه حتى لو بقوا على كفرهم وأصروا عليه ،وما هكذا كان هدي النبي
يدعو باللسان ،فمن استجاب فبها ونعمت ،وإل فالسيف يؤدب الطغاة ،قال ابن تيمية -رحمه
ال (( : -فَقوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر وكفى بربك هاديا ونصيرا ))(. )14
وقال الشنقيطي (( :واعلم أن الدعوة إلى ال بطريقين :طريق لين وطريق قسوة ،أما
طريق اللين فهي الدعوة إلى ال بالحكمة والموعظة الحسنة وإيضاح الدلة في أحسن أسلوب
وألطفه ،فإن نجحت هذه الطريق فبها ونعمت وهو المطلوب ،وإن لم تنجح تعينت طريق
القسوة بالسيف حتى يعبد ال وحده ،وتقام حدوده وتمتثل أوامره وتجتنب نواهيه ،وإلى هذا
سَلنَا بِا ْل َب ّينَاتِ َوأَنزَ ْلنَا َم َعهُمُ ا ْل ِكتَابَ وَالمِيزَانَ ِليَقُومَ ا ْلنّاسُ بِالْقِسْطِ
س ْلنَا رُ ُ
{ :لَقَدْ َأرْ َ الشارة بقوله
))(.)15 35 َوَأ ْنزَ ْلنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَ ْأسٌ شَدِيدٌ } الحديد :
وقال الستاذ سيد قطب -رحمه ال (( : -ل بد من جهد بالحسنى حين يكون الضالون
أفرادا ضالين يحتاجون إلى الرشاد والنارة ،وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس
هي التي تصدهم عن الهدى وتعطل دين ال أن يوجد ،وتعوق شريعة ال أن تقوم ))(. )16
{ :وَلَ ُتجَا ِدلُواْ أَهْلَ ا ْل ِكتَابِ إِلَ بِالّتي ِهيَ أَحْسَنُ } : -2وأما قوله
ظَلمُواْ
فنحن نرد على فهمهم له بأنهم قد أغفلوا بقية الية وهي قوله تعالى { :إِلَ الّذِينَ َ
مِنهُمْ } فمن ظلم فإنه ل يجادل بالتي هي أحسن ،بل له شأن آخر .هذا وقد قال فريق من
العلماء إن هذه الية منسوخة بآيات القتال ،كما ذكر أبو بكر بن العربي عند تفسيرها وذهب
هو -رحمه ال -إلى أنها ليست منسوخة قال:
بُعث باللسان يُقاتل به في ال ،ثم أمره ال بالسيف (( وإنما هي مخصوصة ؛ لن النبي
واللسان حتى قامت الحجة على الخلق ل ،وتبين العناد وبلغت القدرة غايتها عشرة أعوام
متصلة ،فمن قدر عليه قتل ومن امتنع بقي الجدال في حقه ))( )17ويزيد المعنى وضوحًا ما
ذكره القاضي أبو بكر بن العربي من أقوال العلماء في المقصود بالذين ظلموا حيث قال :
(( فيه أربعة أقوال :الول أهل الحرب ،الثاني مانعو الجزية ،الثالث من بقي على المعاندة
333
بعد ظهور الحجة ،الرابع الذين ظلموا في جدالهم بأن خلطوا في إبطالهم وهذه القوال كلها
صحيحة مرادة ))(.)18
وبعد ...
فقد تبين أن الجدال بالتي هي أحسن إنما هو لغير هذه الصناف الربعة وأشباهها ،فمن
ل يجدي معهم الجدال الحسن فينصحون بغيره،كما قال شوقي:
ذرعا وإن تلقه بالشر ينحسم والشر إن تلقه بالخير ضقت به
سنَةِ } فإن كان المفهوم
ح ْكمَةِ وَال َموْعِظَةِ اْلحَ َ
سبِيلِ َر ّبكَ بِالْ ِ
-3وأما قوله تعالى { :اْدْعُ إِلىَ َ
منها أن الدعوة ل بد أن تكون باللين والرفق ،فقد بينا أننا نُقِر بهذا ول يمكن أن نجحده ،ولكن
الكلم فيما لو لم يج ِد النصح والرشاد ،كيف يكون العمل ؟ وبينا لك من قبل بالدلة والبراهين
ما يجب أن نقوم به إذا لم يجدِ النصح والرشاد بما ل نرى داعيًا لعادته وتكراره .
ومن ناحية أخرى فإننا نريد أن نوضح أن الناس يفهمون من معنى الحكمة أنها مجرد
اللين والرفق ،مع أنها أعم من ذلك وأشمل ،فإن الحكمة كما يقول القرطبي (( :مصدر من
الحكام وهو التقان في قول أو فعل ...وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه ))(. )19
وقال ابن القيم -رحمه ال -في تعريف الحكمة (( :فعل ما ينبغي على الوجه الذي
ينبغي في الوقت الذي ينبغي ))( )20ومعنى هذا أنها الشِدة حينما يتطلب المر الشدة ،واللين
حينما يتطلب المر اللين .
فهل رأيت معنى الحكمة ؟ وأنها اتباع الشرع المبين في كتاب ال وسنة رسوله ،وأن
ندور مع الشرع الحنيف حيث دار ،فل نقحم أهواءنا في ذلك فنجعلها حَكما على كتاب ال
وسنة رسوله بحجة الحكمة المزعومة وما أصدق القائل :
ووضع الندى في موضع السيف بالعل * مضر كوضع السيف في موضع الندى
وكلمة أخيرة نود أن نقولها في هذا الموضوع وهي أنه من الخطورة بمكان أن نأخذ
ببعض الجوانب من المفاهيم السلمية ونضخمها ونبرز شأنها ونغفل جوانب لها أهميتها أيضًا
هو نبي الرحمة ونبي الملحمة( .فالسلم كما هو دين الرفق هو أيضًا دين القوة ،والرسول
، )21فهو نبي الرحمة حين يكون المطلوب هو الرحمة ،وهو المقاتل حين يحتاج المر للقتال
واستخدام القوة .
334
وحينما يكون المر متعلقا بالفساد والبغي في الرض ،فإن عين الرحمة هي استعمال
يقول في شأن الزاني والزانية : القوة لستئصال هذا الفساد ،وال
{ وَلَ تَأْخُ ْذكُمْ ِب ِهمَا َرأْفَةٌ فيِ دِينَ الِ إِن كُنتُمْ ُت ْؤ ِمنُونَ بِالِ وَا ْليَوْمِ الخِر }(النور )2 :
أليست هذه الية دليلً على أن الرأفة وإن كانت مطلوبة في موضع فإنها مرفوضة في
موضع آخر ؟ ولكل مقام مقال -كما يقولون -أل فليتق ال أقوام يبترون النصوص السلمية
من أصولها ويفهمونها على ضوء ما يرضي أهل الباطل وليتقوا يومًا يرجعون فيه إلى ال
على الصغير والكبير ول ينفعهم حينئذٍ هؤلء الذين كانوا يرضونهم في الدنيا . فيحاسبهم
-7كلم للقرطبي ُفهِمَ على غير وجهه :
يثير البعض كلمًا للقرطبي -رحمه ال -قال فيه (( :قال العلماء المر بالمعروف باليد
على المراء وباللسان على العلماء وبالقلب على الضعفاء يعني عوام الناس ))( )22ويستدلون
به على أنه ل يجوز لحاد الرعية تغيير المنكر باليد ،ونحن نقول لهم :
أولً :إنكم لم تفهموا ما نقله القرطبي -رحمه ال -حق الفهم لنه استعمل حرف الجر (على)
ونحن نستعمل حرف (اللم) بمعنى أنه يقصد أن الذين عليهم وجوبا عينيا تغيير المنكر بأيديهم
هم المراء أما العامة فليس عليهم من الوجوب مثل ما على الحكام ،وكون الواجب على العامة
هو التغيير بالقلب ل يعني عدم جواز التغيير باليد واللسان ،ونحن لم نقل أكثر من أن الفرد من
الرعية له جوازا تغيير المنكر بيده ،وإنما يتعين ذلك عليه في حالت خاصة
مثل أن يرى رجلً يزني بامرأة ول يراه أحد غيره ،ويكون قادرا على التغيير باليد فها هنا
يتعين عليه التغيير .
ثانيا :إن هذا الفهم الذي فهمتموه مخالف لكلم للقرطبي قبل هذا القول بقليل يقول فيه :
(( أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبد البر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه وأنه
إذا لم يلحقه بتغييره إل اللوم الذي ل يتعدى إلى الذى فإن ذلك ل يجب أن يمنعه من تغييره ،
فإن لم يقدر فبلسانه ،فإن لم يقدر فبقلبه ،ليس عليه أكثر من ذلك ))( . )23فقد جعل التغيير
بكل الوسائل واجبا على الحاكم وغيره لكنه شرط لذلك القدرة .
ثالثـا :إن هذا الفهم مخالف لكلم للقرطبي لحق بهذا الكلم يقول فيه (( :ولو رأى زيد
عمرا وقد قصد مال بكر فيجب عليه أن يدفعه عنه إذا لم يكن صاحب المال قادرا عليه ول
راضيا به ))(. )24
335
رابعا :إننا لو أخذنا بما فهموه من ظاهر كلم القرطبي -رحمه ال -لما جاز للعامة من غير
العلماء أن يغيروا المنكر بألسنتهم أيضًا ،ول يكون لهم إل النكار بالقلب ،وهذا الفهم ل يمكن
[:الدين النصيحة ،قلنا لمن ؟ قال :ل ولكتابه ولرسوله ، قبوله لمخالفته الصريحة لقوله
ولئمة المسلمين وعامتهم ](.)25
فهذا الحديث يدل فيما يدل على أن العامة يقومون بنصح الئمة المراء ،
وماذا يكون نصحهم إن لم يكن أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر باللسان .
[ :سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى وإن هذا الفهم مخالف لقوله
إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ](. )26
فانظر إليه قال (ورجل) فدل ذلك على أنه أي رجل من عامة المسلمين ،والمقصود
أنهم لو قالوا بهذا الفهم الظاهر لكلم القرطبي من أن التغيير باليد للحكام فقط ،للزمهم بقية ما
في النص من أن التغيير باللسان للعلماء فقط وما أظن أحدًا عنده أدنى بصيرة بالنصوص
الشرعية يقول بعد ما سبق من البيان إن العامة ليس لهم النكار باللسان .
وعلى ذلك فالمعنى الصحيح لقول القرطبي هو أن تغيير المنكر باليد أوجب على الحكام
من غيرهم ،وأن التغيير باللسان أوجب على العلماء من غيرهم ،وأما التغيير بالقلب فيستوي
فيه الجميع وال أعلم .
خامسا :إنه لو فرض أن القرطبي -رحمه ال -ذهب إلى هذا الفهم الذي فهموه لكان لنا أن
نخالفه -رحمه ال -ول نأخذ بقوله حيث كان هو مخالفا للحاديث الصحيحة وعمل الصحابة
والجماع الذي نقله هو بنفسه -كما مرّ بنا ،-على أننا استطعنا -بحمد ال -التوفيق بين كلمه
وكلم غيره من العلماء فاستقام المر والحمد ل .
-8شبهة الضرر الواقع على الغير :
يثير البعض قضية الضرر الواقع على الغير من جراء القيام بتغيير المنكر ،فيقولون :
إن المسلم إذا قام بتغيير المنكر فإن أهله وأقاربه سيتعرضون للذى من جانب أهل الباطل ،فل
يجوز التغيير بناءً على ذلك .
ونحن نقول لهؤلء :نعم قد ذكر بعض العلماء أنه إن أدى تغييرك المنكر إلى الضرار
بغيرك من المسلمين ،فإنه يحرم عليك التغيير وفي ذلك يقول الغزالي -رحمه ال (( : -فإن
كان يتعدى الذى من حسبته إلى أقاربه وجيرانه فليتركها ،فإن إيذاء المسلمين محذور ،كما
336
أن السكوت على المنكر محذور ،نعم إن كان ل ينالهم أذى في مال أو نفس ولكن ينالهم الذى
بالشتم والسب ،فهذا فيه نظر ويختلف المر فيه بدرجات المنكر في تفاحشها ودرجات الكلم
المحذور في نكايته في القلب وقدحه في العرض ))(. )27
والمتأمل في الكلم السابق يجد مبناه على قياس المصالح والمفاسد ،بمعنى أنه إذا وقع
أذى على الغير فإن ذلك مفسدة تمنع التغيير ،والنظر الدقيق يقتضي -وال أعلم -أن نوازن
بين هذا الذى وبين ذلك المنكر ،فقد نجد من المنكرات العامة ما ينبغي أن يتحمل لتغييره
الذى الذي قد يقع على الغير ،وذلك لخطورة ذلك المنكر ،ولهذا فإنه لو تترس العدو بطائفة
من المسلمين فقد اتفق الفقهاء على أنه متى ما لم يمكن دفع الضرر عن المسلمين إل بما يفضي
إلى قتل أولئك المتترس بهم جاز ذلك كما بين ذلك شيخ السلم ابن تيمية(. )28
وقد وجدت تقرير هذا الذي ذكرناه عند السيوطي -رحمه ال -في الشباه والنظائر حيث
قال عند حديثه عن فروض الكفايات (( :ومنها المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،ول
يختص بأرباب الوليات ول بالعدل ول بالحر ول بالبالغ ول يسقط بظن أنه ل يفيد أو علم ذلك
عادة ،ما لم يخف على نفسه أو ماله أو على غيره مفسدة أعظم من ضرر المنكر الواقع ))()29
.
فقد اشترط -رحمه ال -لسقوط التغيير أن يكون الضرر المتوقع وقوعه على نفسه أو ماله أو
غيره أعظم من ضرر المنكر المراد تغييره ،وهذا -وال أعلم -هو الصواب ،أل ترى لو أن
رجلً قصد رجلً ليقتله ولم يمكن دفع ذلك إل بما يؤدي إلى قطع طرف شخص ثالث،أيصح أن
يقال إنه يجب ترك الول يقتل الثاني حتى ل تقطع طرف الثالث ؟ ل شك أن الجابة أن هذا ل
يصح وأنه يُتحمل قطع طرف إنسان مسلم في سبيل حفظ حياة مسلم آخر .وال أعلم
ومن ناحية أخرى فإن افتراض أن كل تغيير باليد سيؤدي إلى إلحاق الضرر بالغير هو
افتراض غير صحيح بالمرة وهذه نقطة تتعلق بالواقع ،ومن مارس هذه المور وتعرض
لليذاء في سبيل ال هو أقدر من غيره على معرفة هل يلحق التغيير ضررًا بالغير أم ل ،
فأولى بهؤلء المعترضين أن يسألوا أهل الخبرة في ذلك ،فهم أدرى بما يتوقع حدوثه من
ضرر..
-9شبهة الفتئات على الحاكم في إقامة الحدود :
337
يقول البعض :إن من يقوم بتغيير المنكر بيده إنما يقوم بالفتئات على حق الحاكم ،إذ
أن الحاكم هو الذي يناط به مهمة إقامة الحدود .
وجوابا على ذلك القول نقول :قد فرق أهل العلم بين تغيير المنكر وإقامة الحدود وممن
فرق بينهما الغزالي -رحمه ال -حيث قال (( :ليس إلى آحاد الرعية إل الدفع وهو إعدام
المنكر ،فما زاد على قدر العدام فهو إما عقوبة على جريمة سابقة أو زجر عن لحق ،وذلك
إلى الولة ل إلى الرعية ))(. )30
ومن ذلك نفهم أنه يفرق بين إزالة المنكر وبين العقوبة عليه فالولى تجوز لحاد الرعية
والثانية من خصائص الحكام .
إن من أغراض إقامة الحد في السلم تأديب الجاني على ما اقترفت يداه وزجره عن أن
يعود إلى ذلك مرة أخرى ،وكذلك زجر غيره عن اقتراف هذا الثم ولجل ذلك فقد أنيطت
هذه المهمة بالحاكم .
أما عملية التغيير فهي مجرد إزالة للمنكر أو دفع له،وهذه يقوم بها الحاكم وغيره ،ومن
قرأ ما سبق أن أوضحناه من الدلة على ذلك ل يحتاج معه إلى زيادة بيان وال أعلم(. )31
-10شبهة المنكر الكبر والمنكر الصغر :
يقول البعض إنه ل يجوز النشغال بتغيير المنكر الصغر قبل تغيير المنكر الكبر وهو
عدم الحكم بما أنزل ال ،وإن هذا النشغال بالمنكر الصغر يعرقل الجهود المبذولة من أجل
إزالة المنكر الكبر ،ويقول بعضهم إننا في عصر استضعاف يشبه العصر المكي ،وليس لنا
لم ينشغل بتكسير الصنام إل بعد فتح مكة أن نقوم بتغيير المنكرات بأيدينا ،لن الرسول
حين أصبحت مكة دار إسلم .
وجوابا على ذلك نقول :إن كلمكم هذا ل دليل عليه من كتاب أو سنة أو إجماع ،
وإليكم البيان :
-1أما قولكم ل يجوز تغيير المنكر الصغر قبل تغيير المنكر الكبر فجوابه من وجوه:
{ :فَاتّقُوا الَ مَا استَطَعتُم } (التغابن )16 : الوجه الول :يقول ال
ومعنى الية أن النسان عليه أن يتقي ال قدر استطاعته أي أنه إن استطاع أن يغير المنكر
الصغر ،ولم يستطع تغيير الكبر فليغير الصغر لن ذلك هو الذي في قدرته واستطاعته .
338
[ :إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ] ( )32وما قيل في الوجه الثاني :يقول النبي
الية السابقة يقال في هذا الحديث ،ولذا فقد تقرر عند العلماء أن الميسور ل يسقط بالمعسور(
)33فمتى قدر على بعض المأمور به وجب فعله ول يسقط البعض لعدم القدرة على الكل .
الوجه الثالث :أن هذا الفهم الذي ذكرناه هو الموافق لقول أهل العلم ،فقد ذكر الخلل أن
المام أحمد -رحمه ال -سئل عن رجل له جار يعمل بالمنكر ل يقوى على أن ينكر عليه ،
وضعيف يعمل بالمنكر أيضا يقوى علي هذا الضعيف ،أينكر عليه ؟ قال :نعم ينكر على هذا
الذي يقوى أن ينكر عليه(. )34
هذا وقد عنون الخلّل لهذه الفتوى بعنوان ( باب الرجل يرى المنكر الغليظ فل يقدر أن ينهى
عنه ،ويرى منكرا صغيرا يقدر أن ينهى عنه .كيف العمل ؟ ) .
هو المنكر الكبر ؛ لن الوجه الرابع :أنه لو صح استدللكم بهذا لكان الذي أخره النبي
تحطيم الصنام هو تحطيم لعقيدة الشرك ،وهل هناك منكر أكبر من الشرك ؟ .
الوجه الخامس :ليس صحيحا أن النشغال بتغيير المنكر الصغر يعرقل العمل لتغيير
المنكر الكبر ،وكيف يكون ذلك وأصحاب المنكر الكبر وهم الحكام العلمانيون يعمدون إلى
تلك المنكرات الصغيرة في تثبيت أركان حكمهم ،فكل تغيير لمنكر يفت في عضد هذا النظام
وقد يفقده ركنًا من أركانه -وال أعلم-
لم يحطم الصنام -2أما قولكم إننا في عصر استضعاف يشبه العصر المكي ،وإن الرسول
إل بعد التمكين فجوابه من وجوه :
فالدين قد كمل والنعمة قد تمت وقد كان الوجه الول :أننا مطالبون بآخر أمر النبي
هو الدين إلى يوم الدين في العهد المكي أحكام نسخت في العهد المدني ،فما مات عليه النبي
بدعوى أننا في حال يشبه العصر المكي ،وإل ،وليس لحد أن يعطل حكما ثبت عن النبي
لصح أن يقول البعض ل نزكي ول نصوم لن الزكاة والصيام إنما شرعا في العهد المدني .
الوجه الثاني :أنه ل يصح القول بأن المة جميعها صارت في عصر استضعاف بمعنى
يقول [ ل تزال طائفة من أن ل يكون فيها من يقوى على تغيير المنكر باليد ،لن رسولنا
أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ](. )35
339
وفي حديث جابر بن سمرة [ :لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى
تقوم الساعة ]( ، )36وفي حديث عقبة بن عامر [ :ل تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر
ال قاهرين لعدوهم ل يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك ]( ، )37فقد أخبر
أنه ل تزال طائفة من أمته تقاتل في سبيل ال ،وأن ذلك ل ينقطع في أمته حتى آخر الزمان
.
قال النووي في شرح مسلم ( (( : )13/67ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع
المؤمنين منهم شجعان مقاتلون ،ومنهم فقهاء ومنهم محدثون ،ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف
وناهون عن المنكر ،ومنهم أهل أنواع أخرى من أهل الخير ...وفي هذا الحديث معجزة
إلى الن ول يزال حتى ظاهرة ؛ فإن هذا الوصف ما زال بحمد ال تعالى من زمن النبي
يأتي أمر ال المذكور في الحديث )) أ.هـ.
والمقصود أن هذه الطائفة المقاتلة هي طائفة آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر
واستمرار وجودها في المة ينسف فكرة عصر الستضعاف من أساسها ،فلم يبق إل أن يقال
إن الستضعاف قد يشمل مكانًا دون آخر ،وهذا حق ومقتضاه أن ينظر أهل كل بلد في حالهم
وقدرتهم ،فقد يكون عند قوم من القدرة ما ليس عند آخرين فيجب على القادر ما ل يجب على
غير القادر ،وحينئذٍ فليس لغير القادر أن ينكر على غيره ممن قدر على إقامة أمر ال فقام به .
قال ابن أبي العز في مقدمة شرح الطحاوية (( :وإن كان العبد عاجزا عن معرفة بعض
بل حسبه أن يسقط عنه اللوم ذلك ،أو العمل به فل ينهى عما عجز عنه مما جاء به الرسول
لعجزه ،لكن عليه أن يفرح بقيام غيره به ويرضى بذلك ويود أن يكون قائما به ))(. )38
لم يكسر الصنام في العهد المكي ليس على الوجه الثالث :أن ما يقال من أن النبي
قد كسر صنما على الكعبة بمكة قبل الهجرة(، )39 إطلقه ،فقد أثبتنا من قبل أن الرسول
والصحيح أنه لم يكسر الصنام جملة إل بعد الفتح ،ليس لنه لم يكن يجوز له ذلك بل لعدم
قدرته عليه ،فإنه لما قدر على تكسير صنم واحد كسره ولما قدر على تكسير كل أصنام الكعبة
يوم الفتح فعل ذلك .
ما يدل على أن التغيير بالقوة كان معروفا الوجه الرابع :أنه قد ثبت من فعل الصحابة
[ :لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي في البيت قبل عصر التمكين ؛ فمن ذلك قول ابن مسعود
حتى أسلم عمر ،فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا نصلي ](. )40
340
والظاهر أن هذه المقاتلة كانت باليد ل بالسيف ،ولكنها على كل حال نوع من التغيير
ليمكن المسلمين من الصلة في البيت ،وواضح أن ذلك كان بمكة قبل باليد فعله عمر
الهجرة .
قد حطم أصنام قومه وهو وحيد مستضعف ،وهذا استدلل الوجه الخامس :أن إبراهيم
صحيح سواء أقلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يخالف شرعنا ،أو قلنا إنه ليس شرعا لنا
بل أقول إننا مطالبون إل إذا وافق شرعنا فإنه موافق -بحمد ال -لما صح عن رسول ال
حيث قال تعالى : بالقتداء بإبراهيم
سنَةٌ في ِإ ْبرَاهِيمَ وَالّذِين َمعَهُ } (الممتحنة )4 :ولم يذكر لنا القرآن رسولً
س َوةٌ حَ َ
{ قَدْ كَا َنتْ َلكُمْ أُ ْ
،بل إن المام ابن حزم يرى أن وإبراهيم للقتداء به على وجه التعيين إل رسولنا محمدا
حيث يقول : شريعة إبراهيم هي شريعة محمد
فهي شريعتنا هذه بعينها ،ولسنا نقول إن إبراهيم بعث إلى الناس كافة (( وأما شريعة إبراهيم
بها إبراهيم إلى الناس كافة بالشريعة التي بعث ال ،وإنما نقول إن ال تعالى بعث محمدا
ُبعِث بها إلى قومه خاصة دون سائر أهل عصره ،وإنما لزمتنا ملة إبراهيم لن محمدًا
ُبعِث بها قال تعالى : إلينا ،ل لن إبراهيم
حنِيفًا } (النحل )123 :وقال تعالى :
ح ْينَا ِإَل ْيكَ أَنِ ْا ّتبِعْ ِملّةَ ِإ ْبرَاهِيمَ َ
{ ثُمّ َأوْ َ
شرِكِينَ } (البقرة )41()) )135 :
حنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ اْلمُ ْ
{ بَلْ ِملّةَ ِإ ْبرَاهِيمَ َ
-11شرط القدرة
فإن قال قائل فأين شرط القدرة فإنكم لم تذكروه فيما ذكرتم من الشروط ؟ وقد نُقل عن
بعض أهل العلم من المعاصرين أنه ل يجوز القدام على تغيير المنكر إل بتوافر شرط القدرة .
قلنا :معنى القدرة :أن يعلم المغير أن في قدرته أن يغير المنكر ،والقدرة بهذا المعنى
شرط في الوجوب وليست شرطا في الصحة ولذلك لم نذكرها فيما ذكرنا من الضوابط .
في حديث أبي سعيد : والدليل على أن القدرة شرط في وجوب تغيير المنكر قوله
[ ...فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه )42(] ...فقوله فإن لم يستطع دليل على أن
مناط الوجوب القدرة فمن فقد القدرة سقط عنه الوجوب .
وأما الدلة على أن القدرة ليست شرطا في صحة التغيير فكثيرة منها :
[ :سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ،ورجل قام إلى إمام جائر -1قوله
341
فأمره ونهاه فقتله ](. )43
فل شك أن هذا الرجل لم تبلغ قدرته أن يغير منكر ذلك الحاكم الجائر،ومع ذلك أنكر
. سيد الشهداء مع حمزة عليه فكان من نتيجة ذلك أن قُتل في سبيل ال ،فعده النبي
على رأس نفر من أصحابه -2ومنها ما جاء في قصة عاصم بن ثابت لما بعثه رسول ال
إلى عضل والقارة ،فخرج عليهم قرابة مائة رام ،فأحاطوا بهم فقالوا :لكم العهد والميثاق إن
نزلتم إلينا أن ل نقتل منكم رجلً ،فقال عاصم :أما أنا فل أنزل في ذمة كافر ، ...فقاتلوهم
حتى قتلوا عاصما في سبعة نفر بالنبل . )44(...
قال الشوكاني تعليقا على هذا الحديث :
(( يجوز لمن ل طاقة له بالعدو أن يمتنع من السر وأن يستأسر ))(. )45
-3ومنها ما ورد في قصة عمرو بن الجموح الذي (( كان رجلً أعرج شديد العرج وكان له
المشاهد ،فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه بنون أربعة مثل السد يشهدون مع رسول ال
فقال :إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا قد عذرك ،فأتى رسول ال وقالوا له :إن ال
الوجه والخروج معك فيه ،فوال إني لرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة ،فقال رسول ال
:أما أنت فقد عذرك ال فل جهاد عليك ،وقال لبنيه :ما عليكم أل تمنعوه لعل ال أن
يرزقه الشهادة فخرج معه فقتل يوم أحد ))(. )46
فقال :يا رسول ال أرأيت إن وعن أبي قتادة قال (( :أتى عمرو بن الجموح إلى رسول ال
قاتلت في سبيل ال حتى أقتل أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة -وكانت رجله عرجاء-
:نعم ،فقتلوه يوم أحد هو وابن أخيه ومولى لهم ،فمر عليه رسول ال فقال له رسول ال
فقال :كأني انظر إليه يمشي برجله هذه صحيحة في الجنة ،فأمر رسول ال بهما وبمولهما
فجعلوا في قبر واحد))()47
أذن له في القتال مع كونه أعرج والعرج والشاهد من قصة عمرو بن الجموح أن الرسول
معذور بنص القرآن الكريم فهو ل يجب عليه الجهاد ،لكنه لما جاهد قبل منه فدل ذلك على أن
القدرة شرط في الوجوب ل الصحة .
وإنما ذكرت هذين الدليلين الخيرين -أي قصة عاصم بن ثابت وقصة عمرو بن الجموح -مع
أنهما واردان في شأن الجهاد ،لن حكم الجهاد هنا يعم المر بالمعروف النهي عن المنكر إذ
هما جنس واحد ،وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر في الكافي أن (( العمري العابد سأل مالك بن
342
وحكم بغيرها فقال أنس فقال :يا أبا عبد ال أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام ال
مالك :المر في ذلك إلى الكثرة والقلة ،وقال أبو عمر :جواب مالك هذا وإن كان في
جهاد غير المشركين ،فإنه يشمل المشركين ويجمع المر بالمعروف والنهي عن
المنكر،كأنه يقول من علم أنه إذا بارز العدو قتلوه ولم ينل منهم شيئًا جاز له
النصراف عنهم إلى فئة من المسلمين بما يحاوله فيه ،وقول مالك هذا يشبه
عندي ما رواه سفيان بن عيينة عن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس قال :من فر من
رجلين فقد فر ،ومن فر من ثلثة فلم يفر( )48يعني في القتال قال سفيان فحدثت به ابن شبرمة
فقال :هكذا المر بالمعروف والنهي عن المنكر ))(. )49
فقد ظهر من كلم أبي عمر بن عبد البر في توضيح المقصود من كلم مالك
وكذا من كلم ابن شبرمة الذي نقله سفيان بن عيينة أن حكم الجهاد هنا يشمل المر بالمعروف
والنهي عن المنكر .
وتأمل قوله (( :جاز له النصراف )) ...فإنه لم يقل وجب عليه النصراف مما
يدل على أن غاية ما في المر أنه يسقط عنه الوجوب بينما يبقى جواز التغيير ،
لن من جاز له النصراف جاز له البقاء بل قد يستحب البقاء إذا كان في ذلك
مصلحة ؛ ككسر جاه الفاسق برؤية أهل الحق وهم يندفعون غير مبالين بالذى
وإن كان المنكر ل يزول بفعلهم .
-4وما دام المر كذلك فإنه يصح لنا الستدلل هنا بما ذكره العلماء من جواز اندفاع الرجل
الواحد في صفوف الكفار وإن علم أنه يقتل ،فمن ذلك ما ذكر المام الدمياطي حيث عقد في
كتابه مشارع الشواق إلى مصارع العشاق في فضائل الجهاد بابا جعل عنوانه ( فضل انغماس
الرجل الشجيع أو الجماعة القليلة في العدد الكثير رغبة في الشهادة ونكاية في العدو ) وقد أورد
فيه جملة من الدلة منها حديث سلمة بن الكوع ،وفيه من قول سلمة (( :فما برحت مكاني
يتخللون الشجر ،قال :فإذا أولهم الخرم السدي على إثره حتى رأيت فوارس رسول ال
أبو قتادة النصاري ،...قال فأخذت بعنان الخرم ،قال :فولوا مدبرين ،قلت :يا أخرم
وأصحابه ،قال :يا سلمة إن كنت تؤمن بال احذرهم ل يقتطعوك حتى يلحق رسول ال
واليوم الخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق فل تحل بيني وبين الشهادة ،قال :فخليته))...
[:كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة]()50 الحديث،وفيه من قوله
343
قال الدمياطي (( :وفي هذا الحديث الصحيح الثابت أدل دليل على جواز حمل الواحد على
الجمع الكثير من العدو وحده وإن غلب على ظنه أنه يقتل إذا كان مخلصًا في طلب الشهادة كما
ذلك عليه ولم ينه الصحابة عن مثل فعله ،بل في ولم يعب النبي فعل الخرم السدي
مدح أبا قتادة وسلمة على فعلهما الحديث دليل على استحباب هذا الفعل وفضله ،فإن النبي
كما تقدم مع أن كلً منهما قد حمل على العدو وحده ولم يتأن إلى أن يلحق به المسلمون ))(.)51
وقال المام النووي في شرح قصة عمير بن الحمام (( لما رمى التمرات ثم
قاتل حتى قتل ))( )52قال (( :فيه جواز النغماس في الكفار والتعرض للشهادة وهو
جائز ل كراهة فيه عند جماهير العلماء ))(. )53
ومن هذا يعلم أن اندفاع الرجل المسلم مضحيا بنفسه في سبيل ال جائز في
الجهاد وفي الحسبة وإن علم أنه يقتل وإن علم أن المنكر ل يزول ما دام في ذلك مصلحة
شرعية ككسر قلوب الكفار والفساق بما يرونه من قوة المسلمين وجرأتهم أو تقوية المسلمين
الخرين وحملهم على التضحية كذلك .
قال القرطبي (( :قال محمد بن الحسن :لو حمل رجل واحد على ألف رجل من
المشركين وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو ،فإن لم يكن
كذلك فهو مكروه لنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين فإن كان قصده تجرئة
المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فل يبعد جوازه ،ولن فيه منفعة للمسلمين على
بعض الوجوه وإن كان قصده إرهاب العدو ليعلم صلبة المسلمين في الدين ،فل يبعد جوازه
وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت النفس لعزاز دين ال وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي
سهُمْ } إلى غيرها من آيات
ش َترَى مِنَ المُ ْؤ ِمنِينَ َأنْفُ َ
به المؤمنين في قوله { :إِنّ الَ اْ ْ مدح ال
المدح التي مدح ال بها من بذل نفسه وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم المر بالمعروف والنهي
عن المنكر ))(. )54
وقال القاضي أبو بكر بن العربي (( :فإن خاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل فإن
رجا زواله جاز عند أكثر العلماء القتحام عند هذا الغرر وإن لم يرج زواله فأي فائدة فيه ،
والذي عندي أن النية إذا خلصت فليقتحم كيفما كان ول يبالي ))(. )55
وبهذا يعلم صحة ما ذكرناه من أن تغرير المسلم بنفسه في سبيل ال جائز في الجهاد
والحسبة ،وإن علم أنه يقتل ،وإن علم أن المنكر ل يزول ما دام في ذلك مصلحة شرعية
344
ككسر قلوب الكفار والفساق بما يرونه من شجاعة المسلمين أو تقوية المسلمين وحثهم على
التضحية في سبيل ال .لكن تبقى معنا نقطة ل بد من إيضاحها وهي حالة ما إذا كان الشخص
يعلم أنه ل يقوى على تغيير المنكر ،وأنه يعرض نفسه للهلك دون أي منفعة للمسلمين وهي
الحالة التي أشار المام محمد بن الحسن إلى كراهتها فيما نقله عنه القرطبي كما مرّ قريبا .
وقال الغزالي ... (( :ولكن لو علم أنه ل نكاية لهجومه على الكفار ؛ كالعمى يطرح
نفسه على الصف أو العاجز فذلك حرام ،داخل تحت عموم آية التهلكة وإنما جاز له القدام إذا
علم أنه يقاتل إلى أن يقتل ،أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جراءته واعتقادهم في
سائر المسلمين قلة المبالة وحبهم للشهادة في سبيل ال ،فتنكسر بذلك شوكتهم ،فكذلك يجوز
للمحتسب بل يستحب له أن يعرّض نفسه للضرب أو القتل إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر
أو في كسره جاه الفاسق أو في تقوية قلوب أهل الدين ،وأما إن رأى فاسقا متغلبا وعنده سيف
وبيده قدح وعلم أنه لو أنكر عليه لشرب القدح وضرب رقبته ،فهذا مما ل أرى للحسبة فيه
وجها وهو عين الهلك ))(. )56
ول شك أن المنع من التغيير هنا مبني على أن التغرير بالنفس ل يقابله أي منفعة
للمسلمين ،أما ما كان فيه نفع للمسلمين ولو بمجرد تجرئة قلوب أهل اليمان فإن جواز التغيير
،بل استحبابه هو الصل الذي ينبغي أل ينازع فيه .
ول شك أيضا في أنه ل بد من معرفة جيدة بالواقع للحكم على مثل هذه المور ،وهل
فيها منفعة للمسلمين أم ل ؟ ول يصح لمن ل خبرة له بواقع بلد معين أن يحكم بأنه ل منفعة
ترجى من القدام على التغيير ،والصحيح أن يترك تقدير ذلك لهل ذلك البلد ،وخصوصا من
يقومون بأمر الحسبة فيه من أهل العلم والنظر الشرعي .
الفصل الرابع
أصل القضية
ل بد أن أشير هنا إلى أن ما سقناه في الفصول السابقة من أدلة على جواز تغيير المنكر
باليد لحاد الرعية ،ومن ردود على شبهات المخالفين ،إنما كان تنزل إلى منطق قوم من
حملة العلم الشرعي صدّرهم النظام العلماني ليوهموا الناس أن الخلف في هذه القضية إنما هو
خلف شرعي حول من له سلطة تغيير المنكر باليد ،وليتم إغضاء الطرف عن أصل القضية
وُلبّها ؛ وهو وجود سلطة حاكمة تُنحّي شريعة ال عن الحكم بين الناس ،وبالتالي تُل ِبسُ كثيرًا
345
من المنكرات ثوب الشرعية القانونية ،و ُيعَدّ من حاول تغيرها خارجًا عن القانون مستحِقًا
لقصى العقوبات .
إن مشايخ النظم العلمانية ومن لفّ لفهم في هذه القضية قد أخطؤوا خطأين كبيرين:
الخطأ الول :عندما تبنوا رأيا مخالفا للدلة الشرعية من الكتاب والسنة وإجماع المة الذي
انعقد -كما أسلفنا -على جواز تغيير المنكر باليد لحاد الرعية .
والخطأ الثاني :عندما ألبسوا هذا الخلف ثوبا ل يليق به ؛ فجعلوه خلفا بين رعية مسلمة
وسلطة مسلمة تحكم بالشرع ،حول أحقية أي منهما بتغيير المنكر باليد !! وهذا غير صحيح
،بل تحتكم إلى أهواء البشر وعقولهم،والمر فالسلطة الحاكمة ل تحتكم أصلً إلى شرع ال
عندنا واضح وضوح الشمس ،فمن ترك شريعة ال واحتكم إلى غيرها فقد وقع في الكفر الكبر
حتّى
{ :فَلَ َو َر ِبكَ لَ يُؤ ِمنُونَ َ المخرج من الملة ،وعلى من يماري في ذلك أن يتدبر قول ال
سلِيمًا } (النساء :
سِلمُوا تَ ْ
حرَجًا ِممّا َقضَيتَ ويُ َ
سهِمْ َ
جرَ َب ْي َنهُم ثُمّ لَ يَجِدُوا في أَنفُ ِ
ح ّكمُوكَ فِيمَا شَ َ
يُ َ
. )65
اليمان عمن لم يقول الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه ال -حول هذه الية (( :وقد نفى ال
فيما شجر بينهم نفيا مؤكدا بتكراره أداة النفي والقسم ))(. )1 حكّموا النبي
يُ َ
ول عبرة بإبقاء بعض أحكام الزواج والطلق ونحوهما مستمدة من أحكام الشريعة ،فإن
شرَعَ للناس ولو حكما واحدا ،فقد نازع ال صفة التشريع وهي من أخص صفاته سبحانه .
من َ
ولذا فإن المام ابن كثير قد حكم بكفر من تحاكم إلى الياسا التي وضعها جينكيز خان
لتباعه مع أن فيها ما هو مأخوذ من شريعة السلم ،وذلك حيث يقول -رحمه ال -في تفسير
حكْما لّ َقوْمٍ يُو ِقنُونَ } (المائدة : )50 :
حكْمَ الْجا ِهلِية َي ْبغُونَ َومَنْ أَحْسَنُ مِنَ الِ ُ
قوله تعالى { :أَفَ ُ
(( ينكر تعالى على من خرج عن حكم ال المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر ،
وعَدَلَ إلى ما سواه من الراء والهواء والصطلحات ، ...وكما يحكم به التتار من السياسات
الملكية المأخوذة من ملكهم جينكيز خان الذي وضع لهم الياسا ؛ وهو عبارة عن كتاب مجموع
من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة السلمية وغيرها ،وفيها
كثير من الحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعًا ُمتّبعا يُقدمونه على
،فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الحكم بكتاب ال وسنة رسوله
ال ورسوله فل يُحكّم سواه في قليل ول كثير ))(. )2
346
بل إن ابن كثير -رحمه ال -قد نقل الجماع على كفر من تحاكم إلى الياسا حيث قال في
البداية والنهاية (( :فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد ال خاتم النبياء ،
وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر ،فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه ؟! من
فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين ))(. )3
ويعقب الشيخ أحمد شاكر -رحمه ال -في عمدة التفسير على كلم ابن كثير السبق
فيقول عن تلك القوانين الوضعية التي تسود بلد المسلمين اليوم (( :إن المر في هذه القوانين
الوضعية واضح وضوح الشمس ؛ هي كفر بواح ل خفاء فيه ول مداورة ،ول عذر لحد ممن
ينتسب للسلم -كائنا من كان -في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها ))(. )4
ويقول -رحمه الَ (( : -أوَ يجوز لرجل مسلم أن يليَ القضاء في ظل هذا (الياسق
العصري) وأن يعمل به و ُي ْعرِضَ عن شريعته البيّنة ؟ ما أظن أن رجلً مسلما يعرف دينه
ويؤمن به جملةً وتفصيلً ، ...ما أظنه يستطيع إل أن يجزم غير متردد ول متأول بأن ولية
القضاء في هذه الحال باطلة بطلنا أصليا ،ل يلحقه التصحيح ول الجازة ))(. )5
شرَعَ للناس
حكْم تولي القضاء في ظل هذه القوانين الوضعية ،فكيف بمن َ
فإذا كان هذا ُ
تلك القوانين وأمرهم باتباعها ،وكانت شرعية وليته مستمدة منها ؟! إن المر حينئذٍ يكون
وحمل الناس على التحاكم إلى أكثر جلءً ووضوحا في أن كل حاكم نحّى شريعة ال
غيرها ،فوليته باطلة بطلنا أصليا أشد من بطلن ولية القضاء في ظل القوانين الوضعية ،
وال أعلم .
وإذا كان المر بهذه المثابة ،تبينت لنا خطورة الثاني من الخطأين اللذين أشرنا إليهما
في صدر هذا الحديث ،وأنه أشد بكثير من الخطأ الول ؛ ذلك أنهم بهذا الخطأ الثاني قد أضفوا
، صفة الشرعية على نُظُمٍ ساقطة الشرعية لكونها قد وضعت للناس شريعة غير شريعة ال
وحملتهم على التحاكم إليها واحترامها والرضى بها ،وتلك مسألة -كما رأينا -في صلب العقيدة
،وليست مجرد خلف فقهي قد يَهون أمره .
إن ما نريد أن نؤكده هنا هو أنه بافتراض أننا نعيش في ظل نظام إسلمي يحتكم إلى شرع
فإنه يجوز لحاد الرعية أن يغيروا المنكر بأيديهم ،على ما بيناه من قبل ،فكيف إذا ال
ابتلينا بنظام هو -في حد ذاته -منكر يجب تغييره ؟!
إن المر سيكون -حينئذٍ -غنيّا عن أي بيان ...
347
وأخيرا
وأخيرا نقول هذه كلمتنا نسطرها لمن يريد معرفة الحق في هذا المر ،والحقيقة أن
المخالفين في هذه المسألة قسمان من الناس :
الول :صحافيون علمانيون ،و ُكتّاب مأجورون ،وهؤلء ل شأن لهم بالنصوص
الشرعية ،بل دليلهم تلقوه من فتات موائد الغرب .
الثاني :قسم ينتسبون إلى العلم الشرعي ،يقولون جهلً أو تلبيسا على الناس بما
قاله أهل القسم الول من رمي الشباب المسلمين الذين يحاولون أن يغيروا
المنكر بأيديهم بالتطرف والتعصب واستعمال العنف ،إلى آخر هذه المبتدعات
وحديثنا في الصفحات الماضية إنما كان لهل هذا القسم الثاني ؛ فهم الذين نجد بيننا
وبينهم أرضية مشتركة ؛ وهي العتماد على النصوص والدلة وإن جهلوا أو ضلوا كما أسلفنا
.
أما الولون فإن لهم شأنا آخر وحوارهم ل يبدأ من هذه النقطة ،بل قد يبدأ بما هو قبل
ذلك ،هل هم مقتنعون أصلً بالسلم دينا أم ل ؟ وهل هم مستعدون للتحاكم في هذه النقطة
؟ وأمثال ،أم هم يقدمون أهواءهم على شرع ال وسنة رسوله وغيرها إلى كتاب ال
ل ْمرِ فَ ْا ّت ِب ْعهَا وَلَ َت ّتبِعْ
شرِيعَةٍ مِنَ ا َ
علَى َ
ج َع ْلنَاكَ َ
{ :ثُمّ َ هؤلء نتبع معهم ما قاله تعالى لنبيه
أَ ْهوَاءَ ْالّذِينَ لَ َي ْعَلمُونَ (الجاثية )18 :
وصلى ال وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
ملحق م هم
شيخ الزهر يجيز تغيير المنكر باليد لغير الحاكم !!
شرَ
في حديث مع الدكتور محمد سيد طنطاوي مفتي مصر السابق وشيخ الزهر الحالي نُ ِ
بمجلة أكتوبر ،قام الشيخ بحملة شعواء على القائلين بتغيير المنكر باليد لغير الحكام ،ثم قال :
(( وقد يقال :طب إذا كان الحاكم ظالما أو مرتشيا أو كذا أو كذا ،حتى لو كان كذلك ،نسلك
الطرق الخرى التي نأخذ بها حقوقنا ،نشكو هذا الحاكم ونثور عليه ،ونأتي بحاكم آخر )) ...
(. )1
348
ونحن نتساءل :ما معنى أن يثور الرعية على الحاكم الظالم ويأتوا بغيره ؟ أليس معناه
أن الفراد غيروا المنكر بأيديهم ؟ والمنكر هنا هو الحاكم الظالم الفاسق المرتشي ،فأزالوه
وأتوا بغيره ،فإن لم تكن هذه الثورة تغييرا باليد والقوة ،فلست أدري ماذا تكون ؟!
ثبت بأهم المراجع
الحكام في أصول الحكام ،للمام ابن حزم -ط منشورات دار الفاق الجديدة - -1
بيروت -الطبعة الولى 1400هـ 1980 /م .
أحكام القرآن ،لبي بكر بن العربي ،تحقيق علي محمد البجاوي -ط دار إحياء -2
التراث العربي -بيروت -بدون تاريخ .
أحكام القرآن ،لبي بكر الجصاص -ط دار الكتاب العربي -بيروت -بدون تاريخ . -3
إحياء علوم الدين تصنيف المام أبي حامد الغزالي -ط دار المعرفة -بيروت -بدون -4
تاريخ
أخبار المدينة النبوية ،تأليف أبي زيد عمر بن شبة -ط دار العليان -بريدة -بدون -5
تاريخ.
الربعون حديثًا النبوية مع شرحها ،للمام النووي -ط الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة -6
-الطبعة الولى 1412هـ 1992 /م .
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل ،للشيخ ناصر الدين اللباني -ط المكتب -7
السلمي -بيروت -الطبعة الثانية 1405هـ 1985 /م .
الشباه والنظائر في قواعد فروع فقه الشافعية ،تأليف المام جلل الدين السيوطي -ط -8
مصطفى البابي الحلبي وأولده بمصر -الطبعة الخيرة 1378هـ 1959 /م .
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ،تأليف محمد المين الشنقيطي -ط مكتبة ابن -9
تيمية -القاهرة 1413هـ .
-10إعلم الموقعين عن رب العالمين ،للعلمة شمس الدين بن قيم الجوزية ،تحقيق عبد
الرحمن الوكيل -ط مكتبة ابن تيمية -القاهرة -بدون تاريخ .
إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ،للمام ابن قيم الجوزية ،تحقيق محمد حامد الفقي - -11
ط دار المعرفة -بيروت -بدون تاريخ .
349
-12المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،لبي بكر الخلل ،تحقيق عبد القادر أحمد عطا -
ط دار العتصام -بدون تاريخ .
-13الموال ،لبي عبيد القاسم بن سلم ،تحقيق محمد خليل هراس -ط مكتبة الكليات
الزهرية -القاهرة الطبعة الولى 1388هـ 1968 /م .
-14إيضاح القواعد الفقهية لطلب المدرسة الصولتية ،تأليف الشيخ عبد ال بن سعيد
اللحجي الحضرمي -ط مطابع الحرمين بجدة ،الطبعة الثالثة 1410هـ .
-15البحر الزخار المعروف بمسند البزار ،تحقيق د/محفوظ الرحمن زيدان -ط مؤسسة
علوم القرآن -بيروت ومكتبة العلوم والحكم بالمدينة -الطبعة الولى 1409هـ 1988 /م .
-16البداية والنهاية ،تأليف الحافظ ابن كثير الدمشقي -ط دار الريان للتراث -الطبعة
الولى 1408هـ 1988 /م .
-17تاريخ بغداد ،للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي -ط دار الكتاب العربي
-بيروت -بدون تاريخ .
-18التاريخ الكبير ،للمام البخاري -ط جمعية دار المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن -
الطبعة الولى 1361هـ .
-19تربية الولد في السلم ،للشيخ عبد ال ناصح علوان -ط دار السلم -حلب
وبيروت -الطبعة الثالثة 1401هـ .
-20التشريع الجنائي السلمي مقارنا بالقانون الوضعي ،تأليف :عبد القادر عودة -ط
مؤسسة الرسالة -الطبعة السادسة 1405هـ 1985 /م .
-21تفسير القرآن العظيم ،للحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير -ط دار الفكر -بيروت
1401هـ 1981 /م .
-22تقريب التهذيب ،للحافظ ابن حجر العسقلني ،تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف -ط
دار المعرفة -بيروت -الطبعة الثانية 1395هـ 1975 /م .
-23تهذيب الثار وتفصيل الثابت عن رسول ال من الخبار ،لبي جعفر بن جرير الطبري
،تحقيق محمود محمد شاكر -ط جامعة المام محمد بن سعود -بدون تاريخ .
-24تهذيب التهذيب ،للحافظ ابن حجر العسقلني -ط إحياء دار التراث العربي ومؤسسة
التاريخ العربي -بيروت -الطبعة الثانية 1413هـ 1993 /م .
350
-25الجامع الصحيح ،للمام البخاري مع شرحه فتح الباري للمام ابن حجر العسقلني
بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي -المطبعة السلفية -القاهرة -الطبعة الثانية 1400هـ .
-26جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم ،تأليف زين الدين أبي
الفرج ابن رجب الحنبلي -توزيع الرئاسة العامة لدارات البحوث والفتاء والدعوة -الرياض
بدون تاريخ .
-27الجامع لحكام القرآن ،لبي عبد ال محمد بن أحمد النصاري القرطبي -ط دار
الكتاب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة 1387 -هـ 1967 /م ( مصورة عن طبعة دار الكتب )
.
-28الحوادث والبدع ،للمام أبي بكر الطرطوشي ،تحقيق عبد المجيد التركي -ط دار
الغرب السلمي -الطبعة الولى 1410هـ 1990 /م .
-29رياض الصالحين من أحاديث سيد المرسلين ،للمام النووي ،تحقيق الشيخ ناصر الدين
اللباني -المكتب السلمي -بيروت -الطبعة الثالثة 1406هـ 1986 /م .
-30زاد المعاد في هدي خير العباد ،للمام أبي عبد ال شمس الدين بن القيم -ط دار
الكتب العلمية -بيروت -بدون تاريخ .
-31سنن ابن ماجه ،للمام أبي عبد ال محمد بن يزيد بن ماجه القزويني ،تحقيق محمد
فؤاد عبد الباقي -ط دار إحياءالكتب العربية 1372هـ .
-32سنن أبي داود ،للمام أبي داود سليمان بن الشعث السجستاني ،تحقيق عزت عبيد
الدعاس وعادل السيد -ط دار الحديث -بيروت -الطبعة الولى من 1388هـ وحتى 1394هـ
-33سنن الترمذي ،لبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي ،تحقيق الشيخ أحمد شاكر ومحمد
فؤاد عبد الباقي وكمال يوسف الحوت -ط دار الكتب العلمية -بيروت 1408هـ .
-34سنن النسائي ،للمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي بشرح السيوطي ،
وحاشية السندي -ط دار الفكر -بيروت -الطبعة الولى 1348هـ 1930 /م .
-35السيل الجرار المتدفق على حدائق الزهار ،للمام الشوكاني ،تحقيق محمود إبراهيم
أبو زيد -ط دار الكتب العلمية -بيروت 1405هـ .
-36شرح الربعين حديثًا النووية ،لبن دقيق العيد -ط مكتبة التراث السلمي -القاهرة
-بدون تاريخ .
351
-37الصارم المسلول على شاتم الرسول ،لشيخ السلم تقي الدين أبو العباس بن تيمية ،
تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد -ط دار الكتب العلمية -بيروت 1398هـ 1978 /م .
-38صحيح مسلم ،للمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري ،بتحقيق وترقيم محمد فؤاد
عبد الباقي -ط المكتبة السلمية للطبع والنشر والتوزيع -استانبول 1374هـ 1955 /م .
-39صحيح مسلم بشرح المام النووي -ط دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع -بدون
تاريخ .
-40الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ،للمام ابن قيم الجوزية ،تحقيق محمد حامد
الفقي -ط دار الكتب العلمية -بيروت -بدون تاريخ .
-41عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير ،اختصار وتحقيق أحمد محمد شاكر -ط دار
المعارف بمصر 1377هـ 1957 /م .
-42غياث المم في التياث الظلم ،لمام الحرمين أبي المعالي الجويني ،تحقيق ودراسة
د/مصطفى حلمي ود/فؤاد عبد المنعم أحمد -ط دار الدعوة بالسكندرية -بدون تاريخ .
-43في ظلل القرآن ،بقلم سيد قطب -ط دار الشروق -بيروت والقاهرة -الطبعة
الشرعية الثانية عشرة 1406هـ 1986 /م .
-44الكافي في فقه أهل المدينة المالكي ،لبي عمر بن عبد البر -ط مكتبة الرياض الحديثة
1400هـ 1980 /م .
-45مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ،للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي -ط دار
الكتاب العربي -بيروت -الطبعة الثالثة 1412هـ 1991 /م .
-46مجموع فتاوى شيخ السلم ابن تيمية ،جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم النجدي -ط
دار عالم الكتب -الرياض 1412هـ 1991 /م .
-47المحلى ،تصنيف المام أبي محمد علي بن حزم ،تحقيق أحمد محمد شاكر -ط مكتبة
دار التراث -القاهرة -بدون تاريخ .
-48المستدرك على الصحيحين ،لبي عبد ال الحاكم النيسابوري -ط دار المعرفة -
بيروت -بدون تاريخ .
-49المسند للمام أحمد بن حنبل -ط المطبعة الميمنية بمصر 1313هـ .
352
-50المسند للمام أحمد بن حنبل ،شرح وتعليق أحمد محمد شاكر -ط دار المعارف بمصر
من 1365هـ حتى 1374هـ .
-51المغني ،للمام ابن قدامة -ط دار الفكر -بيروت -الطبعة الولى 1404هـ 1984 /م
.
-52ميزان العتدال في نقد الرجال ،للمام شمس الدين الذهبي ،تحقيق علي محمد البجاوي
-ط دار الفكر -بدون تاريخ .
-53نيل الوطار شرح منتقى الخبار ،للمام محمد بن علي الشوكاني -ط دار القلم -
بيروت -بدون تاريخ
الصفحة الموضوع
5 مقدمة الطبعة الثانية ..................................................................
11 توطئة ( مقدمة الطبعة الولى ) ....................................................
الفصل الول :
13 الدلة القاطعة على أن تغيير المنكر باليد ليس قاصرًا على الحكام ..........
15 أولً :من القرآن الكريم ............................................................
17 ثانيا :من السنة النبوية ..............................................................
ثالثا :الجماع .........................................................................
25
27 رابعا :فعل الصحابة .................................................................
خامسا :فعل التابعين ................................................................
29
31 سادسا :أقوال العلماء في هذه المسألة ............................................
31 - 1من أقوال الحنفية .....................................................
31 - 2من أقوال المالكية .....................................................
33 - 3من أقوال الشافعية ....................................................
37 - 4من أقوال الحنابلة .....................................................
39 -5من أقوال الظاهرية وغير المتمذهبين ...............................
40 -6من أقوال العلماء المعاصرين ........................................
353
الفصل الثاني
45 ضوابط التغيير باليد ...................................................................
الفصل الثالث :
53 شبهات وتساؤلت .................................................................
الفصل الرابع :
81 أصل القضية ..........................................................................
وأخيرا ..................................................................................
85
ملحق هام :
86 مفتي الجمهورية يجيز تغيير المنكر باليد لغير الحاكم !! ......................
ثبت بأهم المراجع ....................................................................
87
91 المحتويات .....................................................
( )1وإنما قلت (( :لم تنقطع في وقت من الوقات )) لن البعض يظنون أن النظمة العلمانية
الحاكمة في بلد المسلمين ل تتعرض للسلميين إل إذا سلكوا مسلك القوة أو ما يسمى
باستخدام
العنف ،والحق أن هؤلء الذين يسوسون الناس بغير شرع ال ل ينفكون عن ملحقة
الدعاة
الصادقين الذين يدعون إلى الحق وتحكيم شرع ال ،ولكن تلك الملحقات تتغير كما وكيفا
وقوةً
وضعفا حسب الحوال والظروف .
* شيخ الزهر الحالي
( )2انظر الفصل الرابع من هذه الرسالة :أصل القضية .
()3ي أعتذر للقارئ الكريم عن استعمال هذه الكلمات القاسية ،ولو أني وجدت وصفا لما قاله
الوزير غير ذلك لوصفته به .ولمن يشك في وقوع الكذب من هذا الرجل وأمثاله أسوق ما
نشرته جريدة الهرام في 7/7/1990م على لسانه إذ قال إنه التقى بالشيخ /عبد العزيز بن باز
354
وإن الشيخ أفتى بأن فوائد البنوك حلل ،وقال الوزير (( :إن معي فتوى مختومه بخاتمه )) .
هذا ما نشرته جريدة الهرام ،فلما
اطلع الشيخ على ذلك أصدر بيانًا جاء فيه ... (( :فقد اطلعت على ما نشرته صحيفة
الهرام=
=الصادرة في 18/2/1411هـ الموافق 7/7/1990م نقلً عن معالي وزير الوقاف المصري بأنني
أفتيت بجواز التعامل مع البنوك بالفوائد من أجل الضرورة .أ.هـ المقصود ،ومن أجل
إيضاح الحق
للقراء وغيرهم أُعلن أن هذا النقل ل صحة له ،وقد صدرت عني فتاوى كثيرة نُشرت في
الصحف
المحلية وغيرها بتحريم الفوائد البنكية المعروفة ؛ لن الدلة الشرعية من الكتاب والسنة قد
دلت على
ذلك ،وحسبنا ال ونعم الوكيل )) .راجع كتاب ( الرد على كتاب مفتي مصر حول
معاملت
. 128 البنوك ) للدكتور /علي السالوس صـ
أقول :فإن كان الرجل قد تجرأ على الكذب على الشيخ /عبد العزيز وهو من هو علما
ومكانة ،
فكيف بمن دونه ،فإنا ل وإنا إليه راجعون .
( )4جريدة الخبار عدد .2/1/1989
( )5أخرجه ابن عساكر من حديث ابن مسعود مرفوعًا كما في تفسير ابن كثير ( )2/177وقال
الحافظ
ابن كثير (( :وهذا حديث غريب )) قلت :فيه أبو سعيد الحسن بن علي العدوي قال عنه
ابن عدي
في الكامل ( : )2/750يضع الحديث ويسرق الحديث ويلزقه على قوم آخرين ويحدّث عن قوم
ل
يعرفون وهو متهم فيهم أن ال لم يخلقهم )) .
والحديث أورده السخاوي في المقاصد الحسنة ( )1063وقال (( :وابن زكريا هو العدوي متهم
355
بالوضع فهو آفته )) أ.هـ .
) وقال (( :في إسناده متهم بالوضع )) وجزم 211 وأورده الشوكاني في الفوائد المجموعة (ص
الشيخ اللباني بوضعه في الضعيفة (. )1937
ولم أورده هنا على أنه حديث يُحتج به ،وإنما أوردته على أنه قول يصدق في كثير من الحيان
.
قال السخاوي (( :وبالجملة فمعناه صحيح ،وفي التنزيل { :كتب عليه أنه من توله فأنه
يضله
ويهديه إلى عذاب السعير } )) أ.هـ ( من المقاصد الحسنة ص. )398 :
( )6انظر على سبيل المثال كتاب السلم السياسى في مصر من حركة الصلح إلى جماعات
العنف
ط :مركز الدراسات السياسية والستراتيجية بجريدة الهرام 163 لهالة مصطفى (ص:
1992م ) .
( )7صحيح مسلم :كتاب اليمان ( باب كون المر بالمعروف والنهي عن المنكر من
اليمان ) .وسيأتي تمام تخريجه قريبًا إن شاء ال تعالى .
( )8إحياء علوم الدين (. )2/306
( )6مسلم ( )49وأبو داود ( )4340 ،1140والترمذي ( )2172وابن ماجه ()4013 ،1275
والنسائي ( )112-8/111وأحمد (. )3/54
( )7هو الستاذ حمزة دعبس في مقال بجريدة النور المصرية عدد ( )20في رجب 1408هـ .
356
( )1671وأحمد ( )2/241من حديث أبي هريرة .
( )9صحيح مسلم ( )50كتاب اليمان باب (كون المر بالمعروف والنهي عن المنكر من اليمان
).
). ص282: ( )10جامع العلوم والحكم ( شرح حديث من رأى منكم منكرًا ...
( )11أخرجه مسلم ( )1854وأبو داود ( )4760والترمذي ( )2265وأحمد (. )6/302،305،321
( )12شرح صحيح مسلم (. )12/243
( )13أخرجه أبو داود ( )4361والنسائي ( )108-7/107والحاكم ( )4/354وصححه ،وقال ابن
( :ورواته ثقات ) . 223 حجر في بلوغ المرام ص:
( )14رواه أبو داود ( )4362وقال ابن تيمية في (الصارم المسلول) هذا الحديث جيد وذكر أن
الشعبي
رأى عليًا وروى عنه (راجع تفصيل ذلك في الصارم المسلول على شاتم الرسول ص :
. )61
. 62 ( )15الصارم المسلول ص :
357
(، )3/376كما أنه ل ينطبق عليه ما ذكره الحافظ من تعريف المجهول في مقدمة التقريب ()1/5
فقد ذكر أن المجهول هو (( من لم يرو عنه غير واحد ولم يوثق )) وأبو مريم الثقفي قد روى
عنه اثنان ،فقد قال البخاري في التاريخ الكبير ( ((: )4/1/151روى عنه نعيم وعبد الملك ابنا
حكيم))،وقد وثقه النسائي كما أسلفنا .
أما قول الذهبي ( :والمتن منكر) فإنه لم يبين وجه نكارته ول نرى في المتن ما يخالف شيئا
من القرآن والسنة ،وعليه فدعوى النكارة دعوى عارية عن الدليل فيما نعلم وعلى من يدعي
ذلك أن يأتي بالدليل وإلى أن يأتي الدليل فإننا نقول بصحة الحديث سندا ومتنا -وال أعلم .
( )17تهذيب الثار مسند علي (. )4/239
( )22أخرجه البيهقي ( )9/201وأبو عبيد في كتاب الموال ( )485والحديث حسنه الشيخ اللباني
في إرواء الغليل (. )5/119
فتح) وقد ذكر الحافظ (3/264 ( )23علقه البخاري في كتاب الجنائز ( باب الجريدة على القبر )
في الفتح أن ابن سعد أخرجه موصولً .والفسطاط بيت من الشّعر وقد يطلق على غير
الشّعر .
( )24أخرجه ابن جرير في تهذيب الثار ( )4/240من طريق ابن بشار قال :حدثنا يحيى بن
سعيد
عن سفيان عن منصور عن ابراهيم قال :فذكره .
قلت :وهذا إسناد مسلسل بالثقات رجال الصحيحين :
والتهذيب )5/47ويحيى 2/147 فابن بشار هو محمد بن بشار العبدي ثقة (انظر التقريب
بن
358
والتهذيب )6/138وسفيان هو الثوري 2/348 سعيد هو القطان الثقة المام (انظر التقريب
والتهذيب )2/353ومنصور هو ابن المعتمر السلمي ثقة ثبت 1/311 المام (انظر التقريب
والتهذيب )5/544وابراهيم هو ابن يزيد النخعي الفقيه الثقة (انظر 2/276 (انظر التقريب
والتهذيب )1/115والثر أخرجه ابن جرير في نفس الموضع من طريق 1/46 التقريب
ابن
بشار قال :حدثنا عبد الرحمن ،قال :حدثنا سفيان به .وهذه الطريق أيضًا في غاية
الصحة
والتهذيب . )3/424 1/499 فعبد الرحمن هو ابن مهدي الحافظ المام العلم (التقريب
وقوله
. (أصحاب عبد ال) يعني عبد ال بن مسعود
(5/145 ( )25أخرجه البخاري تعليقا في كتاب المظالم باب :هل تكسر الدنان التي فيها الخمر
فتح)
ووصله ابن أبي شيبة ( )7/312رقم ( )3575من طريق وكيع (هو ابن الجراح) عن سفيان
(هو الثوري) عن أبي حصين (هو عثمان بن عاصم السدي الكوفي) وهذا إسناد صحيح
رجاله
. )4/82 ، 2/353 ، التهذيب 6/81 ثقات رجال الكتب الستة (انظر تهذيب
وأخرجه ابن جرير في تهذيب الثار ( )4/241من طريق ابن بشار قال :حدثنا يحيى
وعبد
الرحمن قال :حدثنا سفيان عن أبي حصين فذكره ،وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال
الستة
(انظر تخريج الثر السابق ) .
( ( )26أحكام القرآن ) للجصاص (. )2/31
( )27أحكام القرآن لبن العربي (. )1/293
( )28شرح صحيح مسلم (. )2/25
( )29تفسير القرطبي (. )4/49
. 105 ( )30الحوادث والبدع ص :
359
( )31شرح صحيح مسلم ( )2/25والعجيب أن لجنة كان قد ألفها شيخ الزهر للرد على شهادة
( الشيخ/صلح أبوإسماعيل ) فيما سمي بقضية الجهاد 1981م أوردت هذا النقل للجويني ،
وزعمت أنه يقصد أن التغيير باليد ل يكون إل للحكام ،وأما من عداهم فلهم التغيير بالقول
فقط .وفهمهم هذا عجيب ومخالف لقول الجويني ( :ما لم ينته العمل إلى نصب قتال وشهر
سلح ) لن معنى قوله ( :ما لم ينته العمل إلى نصب قتال ) ...أن كل ما قبل ذلك جائز
ومنه التغيير باليد من غير سلح ؛ كإراقة الخمور وكسر الملهي ونحو ذلك ،بل إنه رحمه
ال
ذكر في تتمة الكلم الذي نقله عن النووي آنفا أن لهل الحل والعقد التواطؤ على خلع والي
الوقت إذا جار وظهر ظلمه ،ولو بشهر السلحة ونصب الحروب (.المصدر السابق نفس
الجزء الصفحة ) .
. 279 ( )32غياث المم في التياث الظلم ص :
( )33إحياء علوم الدين (. )2/315
( )34المصدر السابق (. )2/332
( )35إحياء علوم الدين (. )2/333
. 152 ( )36المنطلق ص :
هـ . 1408 رجب 20 ( )37الحمزة دعبس في مقال له بجريدة النور المصرية عدد
. 272 (( )38الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ) ص :
( )39شرح صحيح مسلم (. )6/178
. 116 ( )40رياض الصالحين ص :
360
. 272 ( )44المصدر السابق ص :
. 275 ، 274 ( )45المصدر السابق ص :
( )46المغني لبن قدامة (. )8/111
( )47إغاثة اللهفان (. )1/212
هـ . 1408 رجب 13 ( )54جريدة النور المصرية عدد
361
( )8أحكام القرآن لبن العربي (. )1/293
( )9السيل الجرار (. )4/586
( )10أحكام القرآن للجصاص (. )1/31،32
( )11الحياء (. )2/331
( )12أحكام القرآن للجصاص (. )2/31
( )13رسالة الحسبة المطبوعة ضمن مجموع الفتاوى (. )28/129
( )14المصدر السابق (. )28/131
( )15إعلم الموقعين (. )3/7
( )16المصدر السابق (. )3/7،8
( )17رسالة الحسبة المطبوعة ضمن مجموع الفتاوى (. )28/129
( )18شرح مسلم (. )2/23
( )1أخرجه أبو داود ( )4338والترمذي ( )2168،3057وقال :حسن صحيح وابن ماجه()4005
وأحمد( )1/2،5،7،9وصححه اللباني في السلسلة الصحيحة(. )1546
( )2مجموع الفتاوى (. )14/480
. )993 ، (2/992 ( )3الظلل
. 75 ( )4انظر المنطلق ص :
. 84 ( )5المصدر السابق ص :
( )6أحكام القرآن (. )2/34
( )7الحياء (. )2/315
)506 ،من حديث أبي سعيد الخدري ، (4/505 ( )8أخرجه بهذا اللفظ أحمد ( )3/19والحاكم
وأخرجه أبو داود ( )4344والترمذي ( )2174وابن ماجه ( )4011وأحمد ( )3/61بلفظ ( :كلمة
عدل) وقال الترمذي حسن غريب من هذا الوجه ،وفي الباب عن أبي أمامة وطارق ابن شهاب
وغيرهما ،والحديث مخرج في السلسلة الصحيحة لللباني (. )491
( )9الحياء (. )2/315
( )10المصدر السابق (. )2/315
362
( )11أخرجه أبو داود ( )2512والترمذي ( )2972وقال حسن غريب صحيح ،والحاكم (، )2/275
وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي .
( )12أخرجه الحاكم ( )3/195من حديث جابر بن عبد ال ،وقال صحيح السناد وهو مخرج في
السلسلة الصحيحة لللباني (. )374
. )267 ، (1/266 ( )13أحكام القرآن لبن العربي
( )14مجموع الفتاوى (. )20/393
( )15أضواء البيان (. )2/156
( )16الظلل (. )2/993
( )17أحكام القرآن (. )3/1487
( )18المصدر السابق (. )3/1488
( )19تفسير القرطبي (. )3/330
( )20مدارج السالكين (. )2/479
( )21انظر زاد المعاد (. )1/20
( )22تفسير القرطبي (. )4/49
( )23تفسير القرطبي (. )4/48
( )24المصدر السابق (. )4/49
( )25أخرجه مسلم ( )55وأبو داود ( )4944والنسائي ( )157-7/156من حديث تميم الداري ،
وأخرجه الترمذي ( )1926والنسائي ( )7/157من حديث أبي هريرة ،والحديث علقه
البخاري في صحيحه كتاب اليمان باب قول النبي صلى ال عليه وسلم الدين النصيحة
فتح) ونقل (1/166
363
( )31ما ذكرناه من أن إقامة الحدود من اختصاص الحكام إنما هو في حالة أن يكون الحكام
قائمين بذلك ،أما إذا قصر الحكام في إقامة الحدود فإنه يجوز للجماعة المحتسبة من آحاد
الرعية أن تقوم بذلك بعد قياس المصالح والمفاسد لن هذا المر واجب على المة وينوب عنها
الحاكم في ذلك فإن قصر الحاكم رجع المر للمة ،قال شيخ السلم ابن تيميه في مجموع
(( : )176 /وكذلك المير إذا كان مضيعا للحدود أو عاجزا عنها ،لم يجب (34 الفتاوى
تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه والصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه فمتى
أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين ،ومتى لم تقم إل بعدد ومن غير سلطان أقيمت إن لم
يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها ،فإنها من باب المر بالمعروف والنهي عن المنكر
.))...وقال الشوكاني في السيل الجرار ( )4/311تعليقا على قول صاحب المتن ((:تجب إقامتها
في غير المسجد على المام وواليه إن وقع سببها في زمن ومكان يليه )) ،قال الشوكاني :
(( هذا مبني على أن الحدود إلى الئمة وأنه ل يقيمها غيرهم على من وجبت عليه وليس على
هذا أثارة من علم ...ول شك أن المام ومن يلي من جهته هم أولى من غيرهم كما قدمنا ،
وأما أنه [ل] يقيمها إل الئمة وأنها ساقطة إذا وقعت في غير زمن إمام أو في غير مكان يليه
فباطل ،وإسقاط لما أوجبه ال من الحدود في كتابه ،والسلم موجود والكتاب والسنة
موجودان ،وأهل العلم والصلح موجودون فكيف تهمل حدود الشرع بمجرد عدم وجود واحد
من المسلمين ؟ )) أ.هـ.
وقد كان شيخ السلم ابن تيمية يعزر ويقيم الحدود (راجع في ذلك البداية والنهاية (. )14/12،20
( )32أخرجه البخاري( )7288ومسلم ( )1337وابن ماجه ( )2والنسائي( )5/110من حديث أبي
هريرة .
. 91 ( )33انظر ايضاح القواعد الفقهية لعبد ال بن سعيد اللحجي ص:
. 93 ( )34المر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلل ص:
- (6780 )1923 ،وأحمد ( )3/384( ، )3/345وابن حبان (156 ( )35أخرجه بهذا اللفظ مسلم
إحسان) وابن الجارود في المنتقى ( )1031من حديث جابر بن عبد ال .
( )36أخرجه مسلم (. )1922
( )37أخرجه مسلم (. )1924
. 16 ( )38شرح الطحاوية ص :
364
( )39انظر الدلة من السنة النبوية :الحديث السادس
( )40أخرجه بهذا اللفظ ابن سعد في الطبقات الكبرى ( )3/270وابن أبي شبة في أخبار المدينة
النبوية ( )2/226كلهما من طريق محمد بن عبيد ،قال :أخبرنا اسماعيل بن أبي خالد عن قيس
بن أبي حازم قال :سمعت عبد ال بن مسعود يقول فذكره .
قلت :وهذا إسناد في غاية الصحة فإن محمد بن عبيد هو ابن أبي أمية وهو ثقة من رجال
الستة كما في تهذيب التهذيب ( )6/210وكذا إسماعيل بن أبي خالد وقيس بن أبي حازم (انظر
.)4/561 ، 1/185 تهذيب التهذيب
( )41الحكام في أصول الحكام (. )5/182
. 21 ( )42سبق تخريجه ص :
. 63: ( )43سبق تخريجه ص
( )44أخرجه البخاري ( )3045وأبو داود ( )2660وأحمد ( )2/294من حديث أبي هريرة .
( )45نيل الوطار (. )7/255
( )46سيرة ابن هشام ( )3/96قال ابن اسحاق وحدثني أبي اسحاق بن يسار عن أشياخ من بني
سلمة :فذكره ،قال اللباني (( :وهذا سند حسن إن كان الشياخ من الصحابة ،وإل فهو
،ط: 282 مرسل ،وبعضه في المسند ...وسنده صحيح )) أ.هـ .من تخريج فقه السيرة ص :
. 1976 دار الكتب الحديثة سنة
( )47أخرجه أحمد ( )5/299وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ( )9/315ورجاله رجال الصحيح غير
يحيى بن النضر النصاري وهو ثقة .
( )48أخرجه البيهقي ( )9/76وقد صححه اللباني في إرواء الغليل ( )1206وأخرجه الطبراني
مرفوعًا ( )1151من حديث ابن عباس ،وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ( : )5/328ورجاله
ثقات.
( )49الكافي في فقه أهل المدينة المالكي لبي عمر بن عبد البر (.)1/463
. )53 - (4/52 ( )50أخرجه مسلم ( )1807وأحمد
. 539 ( )51مشارع الشواق ص :
( )52أخرجه مسلم ( )1901من حديث أنس بن مالك.
( )53شرح مسلم للنووي (. )13/46
365
( )54الجامع لحكام القرآن (. )2/364
. )267 - (1/266 ( )55أحكام القرآن
. )320 - (2/319 ( )56إحياء علوم الدين
( )1رسالة تحكيم القوانين ص .1 :
( )2تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير (. )2/68
( )3البداية والنهاية لبن كثير (. )13/128
( )4عمدة التفسير (. )4/172
( )5المصدر السابق نفس الموضع .
( )1مجلة أكتوبر عدد أول مايو 1988م ،ومعروف أن المفتي هو حامل لواء الدعوة إلى أن
تغيير المنكر باليد ل يجوز لغير الحكام ،ومع ذلك فقد أنطقه ال بما ترى .
*********************
وقد جاءتني رسالة البارحة فقرأتها في ساعة متأخرة من الليل وكانت دموعي تتساقط دون
إرادة مني لن وجدت فيها بعضا مما يدور في نفسي وكنت مقررا الرد عليها لتأييد ما ورد
فيها والثناء عليها وهي للدكتور محمد عباس
فهذه هي كما وردت
مرارة الندم مهم جدا
التغيير لن يبدأ إل بتغيير الحكام..
وهم لن يسلموا إل بالقوة..
لماذا تخافين الموت يا أمة؟!
بقلم د محمد عباس
www.mohmadabbas.net
mohamadabbas@gawab.com
ما أشد مرارة الندم الذي يعتريني عندما أكتشف في نهايات العمر أنني لم أختر الختيار
الصحيح ..و أنه كان علىّ أن أستشهد مع الشهيد العظيم سيد قطب ..فإن كان المر قد فاتني
عام 1966فقد كان يمكنني أن أنال شرفه مرة أخرى مع الشهيد العظيم الشيخ أحمد ياسين عام
..2004
366
ما أشد مرارة الندم حين أدرك أنه وقد فاتني هذا وذاك فإنني لم أتشرف بالجهاد مع شيخنا
العظيم أسامة بن لدن و أيمن الظواهري ورفاقهما ولو لمسح عن أقدامهم غبارا عفرها وهم
يجاهدون في سبيل ال..
***
طوال السابيع الخيرة أحاول أن أكتب فيسحقني أن كل ما كتبته طوال عمري ل يساوى
رصاصة يطلقها مجاهد لتمزق قلب شيطان أمريكي أو إسرائيلي نجس . .بل إنها ل تساوي
مجرد حجر يقذفه طفل فلسطيني..
وعندما استشهد حبيبي وسيدي الشيخ أحمد ياسين ..حاولت أن أكتب عنه..
كان كساكن قصر..
ليس مجرد ساكن..
بل ملك حقيقي..
ليس كالدعار والطفال والدمى الذين فرضوهم علينا وسموهم ملوكا ورؤساء و أمراء..
ملك حقيقي ليس كمثل ملك وقصر منيف ليس كمثله قصر..
وعندما فكرت أن أكتب بدت كلماتي كمتسول أشعث أغبر معفر الوجه ممزق الثياب حافي
القدمين ..وبدا منظر ذلك المتسول وهو يحوم حول القصر مستهجنا ومريبا..
صرخت في المتسول:
ابتعد يا صعلوك عن قصور الملوك ..ابتعد ..فلو أنك أطلقت ذات يوم رصاصة أو -
قذفت بحجر لكان ذلك أجدى من كل ما كتبت ولكان جواز مرورك ..ولسمح لك بالدخول
للتهنئة ل للعزاء..
وعجزت عن الكتابة..
وجاءتني رسالة ابني الفلسطيني..
هل قلت ابني؟؟!!..
يا لوقاحة الصعلوك..
هل أجرؤ على أن أطلق على أي فلسطيني كلمة " ابني"؟!..
لكنه هو الذي ناداني في رسالته بــ":أبي"..
هل كان علىّ أن أصارحه أنني ل أملك الشرف الذي يبيح لي أن أقبل نداءه لي بيا أبي؟!!
367
هل كان علىّ أن أصارحه بأنني أبو الفشل والعجز والحباط واليأس والمواقف الخاطئة
والنخداع والقصور ،العجز ل عن أن أكون شهيدا كالشهيد أحمد ياسين أو الشهيد سيد قطب..
ول عن أن أكون مجاهدا في جيش المجاهد العظيم أسامة بن لدن رضي ال عنه ..بل العجز
عن أن أطلق رصاصة أو أن أقذف حجرا ..ولو أنني فعلت فربما حق لي أن أكون أبا لذلك
الفلسطيني الغالي الذي كتب في رسالته:
رسالة من فلسطين الذبيحة
السيد الكريم والدكتور الفاضل والب الغالي /
السلم عليكم ورحمة ال وبركاته
سيدي الدكتور سامحني أبي الغالي على تكرار مراسلتي لك ,لكن يشهد ال أنني ل أفعل ذلك
إل ثقة وحبا فيك ولك
ول ألجأ إلي ذلك إل عندما تضيق بي الدنيا وتظلم أمام ناظري
سيدي الدكتور الفاضل /الن وقد حدث ما كنا نتوقعه – في رسالتي الخيرة إليك ،-نعم فقد
قتل الشيخ الياسين أملنا بعد ال جل في عله في هذه الدنيا ،الن وقد أصبحنا كاليتام على
موائد اللئام ،الن وقد شعرنا أننا نجتث من الرض ،والن ونحن نبكي شيخنا دما وألما
وحسرا ت ،ول نبكي عليه لنه قد فاز بإذن ال ،ومات ميتة ول أروع ،ميتة من ل يتمنى
مثلها فهو لم يعرف بعد معنى هذه الحياة ولم يحسن البيع ل عز وجل .
نبكي يا دكتور على أنفسنا التي أصبحنا بعده كالقطيع في ليلة ظلماء بل حادي ول دليل ،
نبكي على أمتنا التي أسلمت رقبتها للجزار وتخلت عن دورها تجاه هذه القضية وتركت فلسطين
وأهلها وأخيارها نهبا لخس وأحقر الملل .
سيدي الدكتور /ذهب الشيخ الشهيد إلى عالمه وهنيئا له الفردوس العلى فقد كانت نعم الخاتمة
ونشهد له على ذلك
ولكن سيدي دماء الشيخ وأشلءه وبقايا كرسيه وقطع وشاحه المتناثرة تستصرخنا وتستنهضنا
وهي دين في رقابنا ورقاب هذه المة نعم دين وأي دين
فما هو طعم الحياة بعد هذا الرجل
نحن هنا في فلسطين تلمذة ومحبين وأنصار لهذا الشيخ قد قطعنا على أنفسنا عهدا وأقسمنا
على بقايا أشلءه قسما تهتز منه الجبال بأن بكل قطعة من جسده تناثرت وبكل شظية طارت
368
من كرسيه وبكل شقفة تطايرت من وشاحه ،سيكون بإذن ال نارا وحمما ولهيبا فوق رؤوس
بني يهود
ولكن سيدي ...الشيخ الشهيد هو ليس رمزا لنا فحسب بل هو لكل المة ولذلك ما على المة
أن تفعل الن ؟ هال ستبتلع الهانة والتحدي وتسكت أم ستقول كلمتها في هذا المصاب الجلل ،
وترد اعتبارها وهذا الذي نتمناه ،فإن لم يحركها هذا الزلل فيا ترى ما الذي سيحركها ؟
وخاصة سيدي أن أحد اليهود المجرمين اليوم قال :لم يبق أمامنا الن سوى إزالة المسجد
القصى ،وترى إن حدث ذلك والمة في سباتها -رغم أن إراقة دم المسلم كما حدث اليوم
أعظم حرمة عند ال من ذلك -فما هو مبرر وجودها.؟؟؟؟
سيدي ...نعلم أن ليس اليهود وحدهم من ولغ في دماء الشيخ وصحبه بل إن هناك من ساعدهم
وأشار عليهم وبارك نيتهم من أطراف محلية وأطراف مجاورة ترى في الشيخ وفكره وحركته
خطرا على كراسيها وعلى أطماعها وعلى مصالحها وهم ل يخفون على أحد ،ولذلك هم
شركاء في هذه الجريمة ،وهؤلء سيتكفل بهم رب العالمين ولن يمهلهم طويل فدماء العلماء
والولياء مسمومة وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
سيدي الدكتور ..قال اليهود إن تصفية الشيخ ياسين هو بداية القضاء على السلم في فلسطين
وستتبعها خطوات أخرى بمنتهى التبجح والعنجهية ) لهم حق في ذلك فممن سيخشون؟؟ )،
ولكن سيدي خاب فألهم فوال الذي ل إله غيره إن شهادة هذا الشيخ وبهذا الشكل وفي هذا
المكان قد أحيت البعث السلمي من جديد ليس في هذه الديار بل في العالم السلمي أجمع فهذا
الرجل كما كانت حياته بعثا للدعوة في هذه الديار فشهادته ستكون إن شاء ال بعثا للسلم في
كل المعمورة .
هذه رسالتي ول داعي لكثرة الكلم فالن جاء دور العمل ،ول حول ول قوة إل بال العلي
العظيم
سيدي أطلت عليك ..ولكن سامحني ففي القلب ل زال الكثير الكثير ول أريد أن أزعجك وأتمنى
أن تكون قد وصلت الرسالة
وفي الختام اسأل ال لك طول العمر والسلمة من كل مكروه وأن يحسن خاتمتك
وجزاك ال عنا خير الجزاء
والسلم عليكم ورحمة ال وبركاته
369
ابنكم ()...
***
وكنت أقرأ الرسالة و أصرخ في نفسي:
ابتعد يا صعلوك عن قصور الملوك ..فهذا الفتى المجاهد لم يترك لك أي فضل أو -
مزيد من العقل والحكمة والتحليل فماذا يمكن أن تقول بعده..
وكنت أبكي و أنتحب..
وليس البكاء والنحيب شيئا يشرفني ذكره ..بل وال يا قراء يخجلني..
هل كان يعزيني قبل ذلك أن أشبه بكائي – وبكاءكم يا قراء -ببكاء النساء..؟؟!!..
نساء فلسطين سلبوا منا هذا العزاء..
كففن عن البكاء ورحن يستشهدن في سبيل ال وبقينا نحن ل رجال نجاهد ول نساء يستشهدن
ول أطفال يقذفون بالحجار ..بقينا نزعم أننا كتاب ونملك الجرأة والوقاحة ما يبيح لنا أن نحلل
و أن نوزع نصائحنا..
ومع رسالة الفلسطيني الغالي الذي ل أجرؤ على التشرف بأبوته كنت أطالع الصور الذي
تناقلتها وكالت النباء للشهيد أحمد ياسين..
لم يبق منه إل وجهه..
الوجه فقط..
كم من حكامنا الدعار الن يحتفلون بمن يدلك لهم أجسادهم أو يصبغ لهم شعورهم ..لكنهم ل
وجه لهم..
ل وجه لهم...
ل وجه لهم...
وفي هذه اللحظة تماما ..هل يستقل ذلك الملك الفاجر طائرته الخاصة إلى قصره على تلك
الربوة الشهيرة في مدينة القمار لس فيجاس ..ذلك القصر الذي اشتراه بمليين الدولرات..
ليذهب إليه سرا يلعب القمار كل آن و آن..
يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــاه..
370
كم كان يمكن للشهيد العظيم أن يفعل لو توفرت بعض أموال القمار والقصور لينفقها على
الجهاد في سبيل ال..
كنت أراقب الصور..
صور الشهيد العظيم الذي لم يبق منه إل وجهه..
وانشققت إلى نصفين..
نصف يكاد يقتله الفرح بتلك الخاتمة العظيمة التي يستحقها الشهيد إن شاء ال..
ونصف يقتله اللم ..ألم العجز والقهر وعار الصمت على حكامنا والعجز عن إزالتهم..
نصف يتشظى من الفخر..
ونصف يتشظى من القهر..
أحسست أنني أتفتت ..و أنني ل أطيق مواصلة الحياة دقيقة واحدة أخرى..
هتفت :
-
يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــا رب..
لكن سيخا من الحديد المحمي اخترق قلبي و أنا أقرأ الخبر التالي..
كان الخبر ينعي الكاتب المجاهد العظيم محمد قطب ..شقيق الشهيد سيد قطب ..و أعظم من
دافع عن الهوية السلمية في العقود الخيرة كلها..
تضاعف ما بي..
كنت أظن أنني بلغت الحد القصى الذي ل مزيد عليه للم لكنني وجدته يتضاعف ..ووجدتني
أنهار و أتلشى و أنا أهتف:
أيضــــــــــــــــــــــا.. -
لكنني سرعان ما أدركت كيف يعزيني ربي فقد كان الخبر التالي ينفي شائعة موت محمد قطب.
***
لست أدري لماذا لم أتوقع استشهاد الشيخ أحمد ياسين رغم أنني أكتشف الن أن الرجل كان
هو الذي يطارد الستشهاد ويبحث عنه ويتعقبه طيلة عمره ..ومنذ سجنه الول في سجون عبد
الناصر حتى استشهاده ..
371
كان قلبي الواجف يرتجف رعبا على حبيبي وسيدي ومولي المجاهد أسامة بن لدن رضي ال
عنه..
وكانت الرسالة من قارئ أردني تقول:
مولي الدكتور محمد
السلم عليكم ورحمة ال وبركاته:
أرجوك أن تجيب على رسالتي بأية طريقة تشاء ،أسألك بال العلي العظيم أن تجيب.
هل صحيح أن أسامة بن لدن قد أعتقل؟ تورد وكالت النباء خبر اعتقاله وتنفي أمريكا
وعملئها ،وأخشى ما أخشاه بأن ما يقال بأن بوش يؤجل إعلن خبر اعتقال سيدنا أسامه لحين
اقتراب موعد النتخابات الرئاسية المريكية هو كلم صحيح ...أسألك بال يا دكتور محمد أن
تطمئنني وأن تقول لي بأن ذلك ليس صحيحا ،ل أعلم لماذا أتوجه بسؤالي هذا إليك ،لربما لم
أعد من أصدقه وأستطيع أن أصل إليه سواك ،لربما لم أعد بمن أثق بقدرته وبقربه من ال
سواك ،لربما تستطيع أن تجيب على سؤالي بحدس المرهف وإيمانك القوي....قل لي بال عليك
بأن ال لن يخذل أسامة ولن يسلمه إلى أعداءٍ يذيقونه الهوان ،قل لي بال عليك بأن ال سيتكرم
عليه بالشهادة بدلً من ذلك.
أعلم بأنني أجدف في كلماتي هذه ،وأعلم بأنك بشر لم يطلعك ال على الغيب ،ولكن ل ملجأ لي
سواك ،لم أستطع النوم البارحة من هذا الخبر المقلق.
عادل -الردن
وكتبت إليه:
أخي عادل
السلم عليكم ورحمة ال وبركاته..
أبكتني رسالتك ..وقبل أن تستبد بك الظنون فإن الشيخ أسامة رضى ال عنه بخير إن شاء ال..
وليس المر أمر أمنيات فقط بل اتصلت بمن لهم باع في التحليل والمعلومات فأكدوا لي ذلك،
كما أكدوا لي أن أمريكا تسرب هذه الخبار كي تدفع بطلنا الغالي للتحرك فتكتشفه.
وعلى الرغم من هذا يا أخي..
هل الشيخ أسامة فوق الرسل؟؟
أفإن مات أو قتل ..أو حتى أسر انقلبتم على أعقابكم..
372
أنا يا أخي في ال مثلك..
ولست أدعي شجاعة أو تجلدا..
أدعو ال أن يتقبله شهيدا..
لكن ..إذا شاء ال -ل قدر ال -أن يؤسر..
أعترف لك أنني سأبكيه حتى الموت..
لكن لن يهتز يقيني بال أبدا..
جزاك ال خيرا ..وطمأنني و إياك ..ونصر السلم والمؤمنين وحفظ من نحسبه خير خلقه
على ظهر الرض الن :الشيخ أسامة.
والسلم عليكم ورحمة ال وبركاته
وكتب هو مرة أخرى:
بسم ال الرحمن الرحيم
سيدي الدكتور محمد عباس..
السلم عليكم ورحمة ال وبركاته ،وبعد..
طمأنك ال في الدنيا والخرة كما طمأنتني عن حبيبنا أسامة بن لدن ،أنا أثق بما تقول يا
دكتور ،أثق بقدرتك على التحليل وببصيرتك وإيمانك ،وكان جوابك الكريم أثرا ل يمكن وصفه،
كنت بحاجة إلى كلمات مثل كلماتك الحكيمة تطفئ لهيب القلق الذي انتابني منذ سماعي لشائعة
اعتقال سيدنا أسامه.
سيدي ،ل تحسب للحظة بأننا نحن شباب المسلمين نرى في سيدنا أسامه كائنا فوق البشر أو
فوق الرسل ،حاشا ل ،نعلم بأنه بشر يموت .ولكن محبتنا له وخوفنا عليه تخرجنا عن طورنا
أحيانا ل بل وأقسم بال العظيم تجعلنا نتمنى له الموت ،ولكم أتمنى أن أصحو ذات صباح
لسمع بأنه قتل أو مات حتى موته طبيعية ،أتمنى ذلك حتى أتخلص من هاجس يلزمني ليلً
نهارا بأنهم قد يستطيعون أسره ومسّ شعيرات لحيته الكريمة ...ولقد لزمني هذا الهاجس
بالخص منذ رؤيتي لصدام حسين أسيرا مهانا .وأرجو أن ل تظن بأنني أقارن بينهما ،فشتان.
لكن أسامة ليس صدام ،ورجال أسامة ليسوا طلب حياة وأعضاء في حزب البعث ،هذا ما يقرّ
القلب ،لذا فإنهم لن يمكنوا منه أعداء ال بإذنه الواحد الحد ،ولن تغريهم كنوز الدنيا وجوائز
بوش الصليبية...
373
سيدي الدكتور محمد ،أرجو المعذرة على مراسلتي إياك شخصيا ،أعلم بأنني أثقل عليك وأنت
صاحب الهموم الكبيرة .لقد أفرحني ردك على رسالتي فرحا شخصيا ،وفي نفس اللحظات أنّبتُ
نفسي على تكبيدك مشاق الرد ،فأنت صاحب رسالة كبيرة لذا فإن من حقك علينا نحن أبناءك
أن ل نشغلك .أدام ال عليك الصحة يا سيدي ،وأبقاك ذخرا لمحبيك وما أكثرهم ،وشكرا على
مكرمتك الكبيرة في الرد على رسالتي ،شرف ل أستحقه وال العظيم.
والسلم عليكم ورحمة ال وبركاته
***
لم يكن استشهاد الشيخ أحمد ياسين هو ما يقلقنا إذن..
بل كان قلقنا على حبيبنا الغالي في أفغانستان..
ثم بعدها الخبار عن محاصرة البطل المجاهد أيمن الظواهري في مناطق القبائل في وزيرستان
بباكستان ..وكنت أصرخ في الشعب الباكستاني أل يخنع كما خنعنا ..و أل يحسن الظن في
حاكم خائن يخدعه حتى يتمكن منه ثم يسلمه إلى أعدائه ..فل يدرك الشعب المخدوع المسكين
حقيقة ما حدث له إل بعد أن يكتمل حصاره وتنسد طرق الخلص أمامه..
كنت أصرخ في الشعب الباكستاني :ل تقع في خطيئتنا..
ل تنتظر ..تول أمرك قبل أن يوردك الخائن موارد التهلكة والبوار ..وقبل أن تخسر الدنيا
والخرة..
ل تنتظر يا شعب باكستان ..فإن أسامة بن لدن و أيمن الظواهري هم وديعة ال عندكم شرفكم
بها فل تضيعوها ..فإنكم إن تضيعوها تضيعوا في الوقت نفسه كل شرفكم وكل تاريخكم وتظل
اللعنة تحيق بكم أبد الدهر كما تحيق بمن سلم سبط الرسول الكريم عليه صلوات ال وسلمه
المام الحسين رضي ال عنه..
ل تنتظر..
و أنت أيها الجيش :ما تنتظر؟..
وهل يليق بالجيش أن يواصل حماية الخائن الذي ستترتب على أفعاله ضياع الدنيا والخرة
والوطن والدولة والمة ..والجيش أيضا..
وكان الحصار يضيق في وزيرستان فيضيق قفص صدري على قلبي..
و أحسست بغصة في القلب ل في الحلق..
374
كيف وقعت في هذا الخطأ الفادح ..كيف لم أكتب عن هذا البطل العظيم أيمن الظواهري لقول
له أنه – حتى إن ضيعه الناس – فلن يضيعه ال أبدا ..كيف لم أكتب لقول له كم يحظى بين
أمته السلمية بالتأييد والعزاز والكبار والحب ..
كيف..
منذ عامين اتصلت ببعض أسرته الكريمة ..وكنت أريد أن أكتب عنه كتابا ل مقال ..وبدأت
أعد عدتي و أجمع مادتي ولكن تهاطل الكوارث وتعاقب المصائب ل يترك لنا أي فرجة من
الوقت..
***
وفي هذه الحداث فقد اتخذ علماء الدين في الباكستان موقفا عظيما هائل لطالما دعوت فقهاءنا
لتخاذ موقف مثله منذ أعوام طويلة..
إن الشريعة ثابتة والفقه متغير..
و إجراءات المن في الظروف العادية غيرها في الظروف الستثنائية وكذلك يختلف فقه السلم
عن فقه الحرب ويختلف أيضا الفقه الذي يمارس في الدولة المسلمة عن الفقه الذي يطبق في
الدولة الكافرة بل ويختلف كل ذلك عن الفقه في دوله يحكمها حاكم أو نخبة منافقة تبطن الكفر
وتظهر السلم.
في إجراءات المن ل يخاف من " الفيش والتشبيه" إل المجرمين..
وفي الطب ل يخاف من اختبارات المراض السارية إل الزناة..
وفي ظروف كظروف دولنا ل يخاف من تطبيق أحكام اليمان والكفر إل الكفرة..
من هنا كان الموقف المبدع لعلماء الباكستان عندما أفتوا بأن جنود الجيش الباكستاني الذين
يموتون في المعارك ليسوا مسلمين ول يصلى عليهم ول يدفنون في مقابر المسلمين..
لقد حسمت هذه الفتوى المعركة ..حتى أن أسر الجنود المقتولين رفضوا استلم جثثهم..
ماذا لو أن علماءنا فعلوا هذا منذ زمن..
ماذا لو حكموا بنفس الحكم على من يمارس التعذيب والتزوير ..ول أقصد أي تعذيب و أي
تزوير بل أقصد ذلك الذي تفعله حكومات تود أن تكون كلمة الشيطان هي العليا ..ولست أقصد
حتى التزوير والتعذيب رغبة في السلطة ..بل أقصد ذلك الذي يكون هدفه الساسي تنحية
السلم و إبادة المسلمين..
375
نعم ..
لشد ما أود أن يتصدى علماؤنا للفتوى في أمور جوهرية في وقت خطر..
أنا أعلم أن الكفر حكم فقهي ل رأي عقلي..
والرأي العقلي ينبئني أن كل حاكم حارب ال ورسوله فهو كافر ..وأن كل نخبة رفضت
الحتكام للسلم فهي كافرة ..و أن أي تصد للمسلمين لنهم مسلمون هو كفر مخرج من
الملة..
و إن مقصدا من أهم مقاصد الفقه الحفاظ على الدين ..فكيف أعطي لعداء الدين رخصة فقهية
تتيح لهم هدم الدين.
من هنا كان انبهاري و إعجابي بفتوى علماء باكستان ..و أنتظر من الشعب الباكستاني أن
يعمل بمقتضيات هذا الحكم ..فليس منطقيا أن يكون الجندي الذي يحارب المسلمين كافرا ويكون
من أصدر له المر مسلما!!..
نعم فتوى الفقهاء كان يمكن لها أن تنقذنا من مزالق هائلة وقعنا فيها..
وكان ما كان..
***
و تعاقبت الحداث لتصل بنا إلى ما نحن فيه..
ورحت أعض بنان الندم عندما اكتشف في نهايات العمر أنني لم أختر الختيار الصحيح بالجهاد
أو الستشهاد..
نعم..
ما أشد مرارة الندم..
وندمي على الثانية أشد من ندمي على الولى ..ذلك أنني أدرك أن الشهادة ليست ابتلء بل
اصطفاء ..
يقول الدكتور صلح الخالدي[ :]1إن المعنى القريب ،الذي يتبادر إلى بعض الذهان ،لكلمة
"الشهيد هو من يموت في سبيل ال ولكن للشهيد معنى أشمل من هذا انه شهيد وشاهد!.
ثم يستشهد بما قاله الشهيد سيد قطب في تفسير الظلل ( رحم ال قائله ولعن قاتله) لية:
"ويتخذ منكم شهداء"( آل عمران :)140
376
" إن الشهداء لمختارون ،يختارهم ال من بين المجاهدين ،ويتخذهم لنفسه -سبحانه -فما هي
رزية إذن ول خسارة ،أن يستشهد في سبيل ال من يستشهد ،إنما هو اختيار وانتقاء ،وتكريم
واختصاص." ..
إذ تتضمن كلمة "الشهيد ،معنى "الشاهد" ..فالشهداء إذن ،يتخذهم ال ،ويستشهدهم على هذا
الحق الذي ،بعث به للناس ،يستشهدهم فيؤدون الشهادة .يؤدونها أداء ل شبهه فيه ،ول مطعن
عليه ،ول جدال حوله ،يؤدونها بجهادهم حتى الموت ،في سبيل إحقاق هذا الحق ،وتقريره في
دنيا الناس " .
يقول الشهيد العظيم سيد قطب كاتب الظلل ( أعز ال القائل ولعن القاتل ) في تفسير قولة
تعالى :
"ول تقولوا لمن يقتل في سبيل ال أموات ،بل أحياء ولكن ل تشعرون (البقرة :" )154
هؤلء الذين يقتلون في سبيل ال ليسوا أمواتا ..انهم أحياء ،فل يجوز أن يقال عنهم أموات .ل
يجوز أن يعتبروا أمواتا في الحس والشعور ،ول أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان .انهم
أحياء بشهادة ال سبحانه .فهم ل بد أحياء .انهم قتلوا في ظاهر المر ،وحسبما ترى العين،
ولكن حقيقة الموت وحقيقة الحياة ل تقررهما هذه النظرة السطحية الظاهرة ..إن سمة الحياة
الولى هي الفاعلية والنمو والمتداد ،وسمة الموت الولى هي السلبية والخمود والنقطاع..
وهؤلء الذين يقتلون في سبيل ال ،فاعليتهم في نصرة الحق الذي قتلوا من أجله ،فاعلية مؤثرة.
والفكرة التي من أجلها قتلوا ،ترتوي بدمائهم وتمتد ،وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى
ويمتد ،فهم ما يزالون عنصرا فعال دافعا مؤثرا ،في تكييف الحياة وتوجيهها ،وهذه هي صفة
الحياة الولى .فهم أحياء أول بهذا العتبار الواقعي في دنيا الناس.
***
أجل ..ما أشد مرارة الندم أنني لم أكن مجاهدا في جنين أو في الفالوجة..
وانتبهوا يا ناس..
الجيوش ل تحارب دفاعا عن المة..
المدن والمخيمات تفعل..
المدججون بالسلح ل يقاتلون..
المدنيون العزل يفعلون..
377
فليخسئوا إذن..
حكامنا ليسوا حكاما ودولنا ليست دول..
وكل فاجر منهم ليس سوى مأمور سجن لصالح أمريكا و إسرائيل..
نعم..
المدن والمخيمات والعزل يحاربون والجيوش المدججة بالسلح والحكام الفجار ل يفعلون شيئا
إل تقييد هذه الجماهير العزلء كي ل تقاتل..
ووصلنا إلى المعادلة المذهلة الفاجعة :كلما ازدادت قوة الحاكم والجيش كلما ازداد ضعف
المة ..ذلك أن الجيش ليس جيش مجاهدين ول حتى مقاتلين بل جيش جلدين وسجانين..
جيش ل يحارب العدو بل يقيد المة..
أخزاكم ال..
***
ليس فخرا للغرب أن يثخننا بالجراح إذ يستعمل آلته العسكرية الجبارة ضد المدنيين..
ما هي المهارة في أن تسحق دبابة طفل..
ما هي الجسارة أن تطلق الفانتوم 16صاروخا على بيت فتهدمه على قاطنيه..
ما هو العجاز في أن يحاصر جيشا عرمرما مدينة صغيرة فيمنع عنها الماء والطعام.
بل إنني أزعم أن أي بلد يستطيع هزيمة أمريكا لو استطاع أن يفعل بحكام الوليات المريكية
الخمسين ما فعلته أمريكا بحكامنا الخمسة والخمسين..
و أعني لو أن أخس و أحط و أضعف حكومة على وجه الرض وعبر التاريخ ( ل أقصد
حكومة الكويت رغم أن حكومة في التاريخ لم تجلب على أمتها ودينها من العار والدمار ما
جلبته هذه الحكومة على أمتها ودينها) تستطيع هزيمة أمريكا لو زرعت فيها خمسين خائن :
خائن لكل ولية.
وليس في المر أي شجاعة أو مهارة.
و إنما وحشية وخسة لم توجد بهذا القدر أبدا عند أي أمة في التاريخ غير المة المريكية..
المة كلها خسيسة ..الجمهوريون والديموقراطيون وما بين هذا وذاك..
أمة بل أخلق ول ضمير وليست الحكومات الحيوانية المتوحشة إل تعبيرا عن أمة من
الحيوانات المتوحشة..
378
أعود إلى كتابي" :بغداد عروس عروبتكم" و أعيد مطالعة كيف تعامل المريكان المجرمون مع
الشعب العراقي:
يقول الطيار المريكي ريتشارد وايت عن الغارات الجوية على العراق أنها كانت تكاد تشبه
إضاءة المصباح في المطبخ ليل فتنطلق الصراصير مسرعة فتقتلها..
ة" أظهر شريط فيديو متطور التقط ليل (ة) المجندين العراقيين سيئي الحظ والنار تطلق عليهم
في الظلم ،وبعضهم قد تمزق بفعل قنابل المدفعية ة"
وكتب جون بالزار من صحيفة لوس أنجيلوس تايمز يقول أن العراقيين كانوا " :مثل قطيع من
الغنم أُخرج من حظيرته ،كانوا مصعوقين ومرتعبين ،استيقظوا فزعين فارين من خنادق النار،
كانوا يُذبحون واحدا بعد الخر على أيدي مهاجمين ل يستطيعون رؤيتهم أو فهمهم .ومزقت
بعضهم انفجارات قذائف مدفعية عيار ثلثين ملم .وسقط جندي وتلوى على الرض وحاول
النهوض ،ولكن انفجارا آخر مزقه إربا " ..
ولم يكن العراقيون يشبهون قطيعا من الغنم لن أي شعب في العالم يتعرض لما تعرض له
الشعب العراقي من هجوم قوات شيطانية بل عقل ول أخلق ول ضمير لم يكن ليبدي قدرا
أعلى من الشجاعة والتجلد..
نواصل الرجوع إلى ما حدث عام ..91ولنتصور ما أضافته التكنولوجيا المريكية منذ ذلك
الوقت.
الطيار المريكي المجرم رون بالك يفخر " :عندما عدت جلست على جناح الطائرة ورحت
أضحك ،ربما كنت أسخر من نفسي ،أتسلل إلى هناك و أضرب هنا و أضرب هناك ،اقترب
رجل منى وربت كل منا على ظهر الخر ة ثم قال :يا إلهي ،ظننت أننا قصفنا مزرعة ،بدا و
كأن أحدا قد فتح بوابة حظيرة الخراف" أما القرصان الضابط براين ووكر فقد كان يتطلع إلى
المزيد من نفس النوع من القتل " :ل يوجد ما يمكن أن يُخرجهم من أماكنهم مثل الباتشى(
طائرة هجومية) ،سيكون المر مثل صيد البط" ة
" أحدث العرض الشامل للسلحة المتطورة مجزرة جماعية لعدو ل حول له ول قوةة(ة)
استعملت الجيوش المريكية والبريطانية قاذفة صواريخ من طراز ( ) MLRSوكل عربة من
هذا النوع تستطيع إطلق اثني عشر صاروخا لمسافة تزيد على عشرين ميل ،ويطلق كل
صاروخ من هذا النوع ثمانية آلف قنبلة مضادة للفرادة(ة) في المراحل الخيرة من الحرب
379
أطلق الجيش المريكي عشرة آلف قذيفة ( ) MLRSفي حين أطلقت القوات البريطانية
2500قذيفة أخرىة"
" ة قنابل روك آي العنقودية تحتوى الواحدة منها على 247قنبلة يدوية ضد الفراد تنفجر إلى
ألفى شظية عالية السرعة كالموسى تمزق الشخاصة"
هذه القنابل العنقودية هي التي يقصفون بها المدنيين في الفلوجة الن..
ولنواصل:
ة " لقد عنيت السلطات المريكية عناية شديدة لخفاء حجم المجزرة (ة) ولقي انسحابان عراقيان
كبيران من الكويت – كان من الصعب إخفاؤهما بسبب حجمهما -بعض الهتمام في العلم
الغربي ،ولكن حتى هنا أُخفى نطاق المجزرة عموما عن الشعوب الغربية :عُرضت في
التليفزيون أرتال كبيرة من العجلت المدمرة والمحترقة واختفت آلف الجثث العراقية على نحو
غامض ة"
" بدأت هذه المرحلة من المذبحة عندما رصدت الطائرات المريكية أرتال من الرجال اليائسين
في طوابير من العجلت العسكرية والمدنية متجهة صوب العراق ،كان العراقيون وقتها
يلتزمون بمطالب المم المتحدة بالنسحاب من الكويت ،غير أن هذا النسحاب الواضح لم
ينقذهم ،وتعاقبت الطائرات المريكية على شن الغارات فكانت المذبحة كاملة ،هوجم العراقيون
الهاربون ،و أسرهم الكويتيون ،بل رحمة بالقنابل العنقودية التي تقطع اللحم البشرى قطعا
صغيرة (ة) كانت المجزرة جهنمية واستمرت ساعات عدة ة(ة) وتناثرت الجثث والشلء
المقطعة في كل مكان ،وتحجر بعض الجثث في العجلت ،واحترق بعضها الخر ،ولم يتبق من
الوجوه سوى السنان ة" ة
علق ضابط الستخبارات العسكرية المقدم بوب نجنت أنه لم يشاهد مثل هذه المجزرة حتى في
فيتنام ..
ووردت تقارير بأن قوات التحالف استعملت البلدوزورات لدفن اللف من قتلى العدو في
الخنادق أثناء تقدمها ة" قُتل جنود عراقيون كثيرون بدفنهم أحياء".
العقيد المريكي لون ماغارت يقدر أن القوة التابعة له قتلت 650عراقيا..
***
380
والن أتوقف عن الرجوع إلى التاريخ ليس لؤكد أن العراق سينتصر في نهاية المطاف بل
لؤكد أنه انتصر بالفعل ..ونزع عن أعتى قوة في التاريخ كل ما كان يستر عورتها..
نعم..
ذلك أن الحمق المطاع ،الغبي المجرم الطائش المجنون جورج بوش ،قد تصرف على نحو
فريد في التاريخ ،وهو لسطحيته وغبائه لم يدرك أثر جهازه العلمي الهائل في خداع العالم.
وقد يكون هذا المجرم أقوي من هتلر ونابليون ..ومن المؤكد أنه أكثر إجراما منهما ..لكن
المؤكد أيضا أنهما كانا يتميزان بعبقرية ولو كانت شيطانية أما هو فمجرد بلياتشو غبي أحمق
فضح بلده و أمته وشعبه عبر التاريخ..
نعم كان الكثيرون من الفلسفة والمفكرين في كافة أرجاء العالم يدركون حقيقة الوحش
المريكي وخسته وحيوانيته وتوحشه ..وكان المفكرون المسلمون على وجه خاص يدركون
ذلك ( ..للشهيد العظيم سيد قطب رؤى مذهلة في ذلك أرجو أن أتناولها بالتعليق في مقال
آخر)..
لكن ما هي نسبة هؤلء و أولئك للعالم..؟ ..واحد في المليون؟ ..واحد في اللف؟؟ ..تظل
النسبة الهائلة مخدوعة في الوهم المريكي ..ولقد كان هذا الوهم والضلل سر جاذبية الحلم
المريكي كله ..وكان جهد النخبة المريكية إخفاء حقيقة التوحش والزيف في الحلم الشيطاني..
وظل المر كذلك حتى جاء جورج الغبي ل يعدو الوصف الذي وصف به أسامة بن منقذ
أجداده منذ ألف عام :بغل قوي عديم الروح والخلق والنخوة ،جاء ومعه مجموعة من
الخنازير المتوحشة ،جاءوا بحماقة لم تتكرر في التاريخ ،إنهم يعلمون أنهم لصوص ،و أنهم
مجرمون ،و أنهم كاذبون ،يعلمون ذلك ،وظنوا أن العالم كله يعلم ما يعلمونه ..فخلعوا ورقة
التوت ..كانوا كالمجنون الذي رأي عورته فظن الناس جميعا يرونها فخرج إلى الشارع
عاريا..
ولول مرة في التاريخ يكشف الغرب الصليبي للدنيا كلها مدى الحقارة والخسة التي يتمتع بها..
و أظنها أول مرة في التاريخ تنظر البشرية كلها إلى أمة بهذا الزدراء الكلي ..فليس في
الحضارة المريكية أي شئ يغري ..أما العلم والتكنولوجيا فليست حكرا عليهم..
و أظنها المرة الولى في التاريخ الذي تتعلم فيه الدنيا دروسا مباشرة عبر الفضائيات أن هذه
أمة مجرمة ل تعرف إل لغة القوة و أنها لن ترعوي إل إذا قُصفت واشنطن ونيويورك بالقنابل
381
النووية كما قَصفت هيروشيما وناجازاكي ..وإل بعد أن تصطاد الطائرات الحربية الحديثة
المدنيين المريكيين العزل في هيوستون ولوس أنجيلوس و أن تهدم ناطحات السحاب عليهم
كما فعلت الطائرات المريكية في إخوتنا في العراق..
نعم..
يدرك العالم الن أن الطبيعة الوحشية ل ترجع إلى نوع المعركة أو نوع الشعب الذي يهاجمه
المريكيون بل يعود إلى السفالة المريكية الجرامية المتوحشة ..و أنها يجب أن تجابه
بالعقاب ..ليس على ما ترتكبه أو سترتكبه بل على ما ارتكبته فعل كذلك..
حماقة المجنون المريكي أن العالم كله سيتعلم هذا الدرس..
نحن كعرب قد تعلمناه فعل..
لكن العالم كله يتعلمه الن..
ومن المؤكد أن المعارك القادمة سيدور بعضها على القل على الرض المريكية ..وستكون
أي قوة موازية أو مواجهة حريصة على أن تقطع الذراع الطويلة لسلح الطيران المريكي..
وأن يكون لديها من وسائل الدمار ما يهلك الشعب المريكي على أرضه..
سوف يُضرب المدنيون منهم كما ضربوا المدنيين في شتى أنحاء العالم..
وسوف يُمثل بجثث قتلهم كما مثلوا بشهداء العالم السلمي..
المجرم المجنون عرّى بلده..
هل تريدون عريا أكثر من أن يقف الجنرال المريكي الحقير ليعلن على شاشة التلفاز وقف
إطلق النار وفي نفس الوقت وعلى ذات الشاشة صور الطائرات تقصف المدنيين العزل..
نعم أخس أمة في التاريخ..
ومن بين مائتي مليون أمريكي لم يخرج ليحتج إل بضع مئات..
لم تخرج المظاهرات الحاشدة لتهتف :نحن المريكيون شعب همجي متوحش وعلينا أن نتعلم
التحضر واحترام حقوق النسان..
ول خرج المفكرون ليؤكدوا أن كل حكوماتهم لم تكن سوي عصابات من المجرمين
واللصوص.
***
طال المقال..
382
وثمة الكثير لم أقله بعد..
لكنني أوجزه على أمل إكماله في مقالت تالية..
لقد كففت عن سباب الحكام و أوجه الن إدانتي كلها للمة..
ولم أتوقف عن إدانة الحكام لنهم أبرياء ..بل أتوقف لن كل قواميس الدنيا لم تعد كافية لوصف
خستهم ونذالتهم وعهرهم وجبنهم ..بل إنني عندما أصفهم بهذه الصفات أظلم الصفات ..
لنناعندما نكتفي بها نكون كمن يكتفي بصفع من يستحق العدام..
وما عادت الدانة تجدي ولن يترتب عليها أي استجابة..
هل يتخيل القارئ أن نذهب إلى سموه قائلين:
سموك داعر وشاذ وخائن وقد حولت إمارتك إلى معسكر للعداء ودمرت المة.. -
وما أن نقول له ذلك حتى يبادر بالعتذار والعتزال..
وهل يتخيل القارئ أن نذهب إلى جللته قائلين:
جللتك عميل قديم لنجليز ثم للمريكان ..جللتك وغد ومقزز وخائن.. -
فيبادر جللته بالتخلي عن العرش..
هل يتخيل القارئ أن نذهب إلى فخامته قائلين:
فخامتك جاسوس قديم وقد ضبطتك الحكومة البلغارية تتجسس عليها لحساب المخابرات -
المريكية عندما كنت مبتعثا إليها ..و أنت عندما أفسدت اجتماع الجامعة كنت تفعل ذلك ولء
لسيادك ..أيها الجاسوس الحقير؟!..
أو أن نذهب إلى سيادته قائلين:
-يا أخس حاكم حكم بلدنا ..كفاك فقد دمرت المة ..كفاك فقد نهبت أنت و أسرتك المة..
فيبادر سيادته بالكتفاء..
ل بد أن نغير..
لكنه تغيير في عكس التجاه الذي يفرضه علينا الطواغيت..
في عكسه على طول الخط..
تغيير يحيى الجهاد ول يجرمه بل يجرم من يجرمه..
تغيير يدفع تلك الجيوش الذليلة الرابضة على قلوب أمتها إلى المبادرة بمواجهة أمريكا و
إسرائيل وقتالها..
383
تغيير يحيي الولء والبراء..
تغيير يعيد للسلم سيادته وسؤدده..
تغيير يحتكم للقرآن والسنة
تغيير يردع الداعرات وينفي الشواذ ل تغييرا يدفعهم إلى مقاعد التحكم والسيطرة والسلطة..
تغيير يحاكم اللصوص والخونة وليس البطال والمجاهدين..
تغيير يعيد إلى المة كرامتها التي أهدرها الحكام الخونة..
تغيير ل يبدأ إل بتغييرهم..
لعنهم ال..
***
المة أمام أزمة تهدد وجودها..
حكامها خونتها..
وعليها أن تغيرهم..
وهم لن يتغيروا بغير القوة..
وعلى المة أن تبتكر الوسائل التي تمكنها من هذه القوة..
فلماذا ل نبادر..
لقد مات مليون عراقي في حرب لم يكن لها أن تقوم..
ومات مليون آخر في حرب ظالمة فرضت عليها..
لماذا ل نبذل أرواح مليون آخر لنواجه الطاغوت وننتصر عليه..
لماذا ل نكون مستعدين في مصر لن نقدم مليون أو مليوني شهيد..
لماذا ل يقدم أهل الجزيرة مليون شهيد..
أم حسبتم أن تقولوا آمنا وأنتم ل تفتنون..
***
كلمة أخيرة أوجهها إلى شعبنا في الجزيرة العربية..
هل حقا تقلع الطائرات التي تضرب أبطال الفلوجة من المطارات في أرض الجزيرة؟؟..
إنني أعرض عليكم هذه الرسالة التي وصلتني من المرصد العلمي..
بسم ال الرحمن الرحيم
384
وبه نستعين
والصلة والسلم على رسوله المين
(( فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى ال فتوكلوا إن كنتم مؤمنين))
إلى إخواننا الموحدين في جزيرة العرب من قاعدة الجهاد وباقي الخوة العاملين فيها
السلم عليكم ورحمة ال تعالى وبركاته وبعد
فهذا نداء إخوانكم من مجاهدي الفلوجة ( مقبرة المريكان ) إليكم فقد ورد إلى أسماعنا إن
طائرات الف 16التي تقصف الفلوجة حاليا بالقنابل العنقودية تنطلق من جزيرة رسول ال
صلى ال عليه وسلم.
فإنّا نستنصركم أن تهبوا لدك المطارات التي تنطلق منها هذه الطائرات التي أهلكت الحرث
والنسل ولم تفرق بين مسجد وبيت وصغير وكبير ووال ما هالنا سكوت أمم الكفر على هذا
القصف الهمجي الوحشي فالكفر ملة واحدة .
ول هالنا سكوت حكومات الردة في بلد العرب فهؤلء أولياء أولئك .
ول حتى هالنا سكوت عوام الناس من أهل السلم فهم في سبات وسيبقون كذلك إلى إن يشاء
ال .
ولكن هالنا وآلمنا سكوت إخواننا في الدين والعقيدة في باقي بلد المسلمين وفي الجزيرة
والكويت خاصة .
فال ال يا موحدين بأهل الفلوجة ..
فانهم قد استنصروكم وقد وجبت عليكم النصرة..
اللهم إنّا استنصرنا إخواننا ،اللهم فاشهد..
مجاهدي الفلوجة
19/2/1425هـ الموافق 9/4/2004م
حاشية 1
الفلوجة البطلة..
ما يحدث في الفلوجة مذهل ومبهر..
لكم ال يا أبطال السلم و أسوده ولعن ال حكاما و أحزابا وكتابا يمنعونكم و إخوتكم من
الجهاد منذ عقود وعقود.
385
المدنيين العزل في الفلوجة يتفاوضون مع أمريكا ويسخرون منها ويقاتلونها في نفس الوقت
بطريقة لم يفعلها التحاد السوفيتي وروسيا والصين..
أحد الصدقاء استخفته النشوة فقال – بعد أن دعا لهم بالنصر: -
-لم يبق إل سقوط حكومتين عربيتين أو ثلث وتدمير سلحها وتسريح جيوشها كي نحقق
النتصار الكامل على أمريكا!!..
***
حاشية 2
مباحث أمن الشيطان
هل تصدقون يا ناس أن ضابطا من مباحث الشيطان في مصر يلقي القبض على شباب علق
بعض الملصقات تنديدا باغتيال الشهيد أحمد يا سين ..جمعهم وروعهم وعذبهم وداس على
رؤوسهم بحذائه..
كلب من كلب النار..
وهو أسوأ حتى من جنود أمريكا و إسرائيل ..فالخيرة تبيع آخرتها بدنياها ..أما هو فإنه يبيع
آخرته ودنياه بدنيا غيره.
***
حاشية 3
مجدي حسين
أغلب الظن أن مجدي حسين سوف يسجن في السابيع القادمة..
ل يهم القضية ول تهم التهمة ول تهم الجراءات..
لقد أصيب ضمير القضاء الشامخ المستشار يحيى الرفاعي بأزمة قلبية وهو يشاهد كيف ينتهك
القانون في التعامل مع مجدي حسين..
و أصيب بأزمة أخرى وهو يري كم تمكنت السلطة من الحاطة بأعلى درجات التقاضي..
راجعوا يا قراء مقالتي عن المستشار يحيى الرفاعي ومجدي حسين..
http://www.mohamadabbas.net/Ma2al/22Karsa.htm
http://www.mohamadabbas.net/Ma2al/397dthGlal.htm
http://www.mohamadabbas.net/Ma2al/50AdelHussen.htm
أما أصل الحكاية فتعود إلى زمن بعيد بعيد..
386
ولكي تفهموا يا قراء فإن عليكم أن تنظروا باستمرار في اتجاهين ..ولكي تفهموا كيف تسير
المور في بلدنا انظروا ما ذا تفعل أمريكا بحكوماتنا..
تمكنت أمريكا من أن تزرع داخل حكوماتنا جواسيس لها تحولوا بمرور الوقت إلى الغلبية
الحاكمة فعل وتحول الوطنيون إلى أقلية نادرة تكاد ل تذكر..
وعلى نفس المنوال تمكنت أجهزة المن من أن تزرع داخل المؤسسات الصحافية عملء لها
يتسترون بالصحافة ..راحوا يتكاثرون حتى أصبحوا الغلبية الحقيقية المؤثرة في كل صحيفة
بل وفي أحيان كثيرة استولوا على كل المناصب الرئيسية فيها..
( ولمجرد ضرب المثال فإن واحدا من هؤلء كان هو الذي شن حملة شعواء ضد أحد الشيوخ
في السابيع الخيرة باسم الخلق والدين ،ولقد أقسم عالم من علماء الزهر الشريف على
إحدى الفضائيات أن هذا الصحافي ل يعرف عدد ركعات صلة الظهر ،ترقى هذا الصحافي
من طالب إلى رئيس تحرير على ساعدي امرأة كانت أجهزة المن قد أعدتها لتكون محظية
لرئيس عربي – ما يزال في السلطة -وكانت الحكاية مشهورة حتى أن المرأة أصبحت تنسب
إلى ذلك الرئيس -ووصلت هذه إلى أرقى المناصب الصحفية وعلى شرفها صعد صاحبنا
ذاك ..وفي الشهور الخيرة اصطدم صاحبنا ذاك بمستشار سابق على شاكلته ..واستدرجه
المستشار عن طريق امرأة سوء إلى بيت سوء ..وفي ذلك البيت فوجئ برجلين يغتصبانه..
والقضية أمام الجهزة المختصة ..ليس بتهمة الغتصاب ..بل بتهمة الغتصاب دون إرادته..
فالرجل شاذ ..وهذا الشاذ هو الذي هاجم الشيخ)!!..
في مثل آخر ..رئيس تحرير أنشأ صحيفة وافقت عليها أجهزة المن في سرعة البرق ..وبعد
أسابيع تم القبض على شقيقه الذي يعمل معه في نفس الصحيفة متلبسا بالرشوة والبتزاز
لحساب الصحيفة)..
ولم تكن الشعب في بداية عصرها تمثل شذوذا عن القاعدة – بل إن المثلين السابقين بالذات
يخصان من عملوا ذات يوم بها .. -واستمر المر على هذا المنوال حتى جاء عادل حسين
رحمه ال ،فحاول تطهيرها وبذل في ذلك جهدا جبارا كلل بنجاح جزئي ..ثم جاء مجدي حسين
ليسير على نفس المنوال ..ثم أتت قضية الوليمة لتفرز معادلت أخرى ترتب عليها تطهير
الصحيفة من جل عملء المباحث ..ولم يكن المر يشكل خطورة بالنسبة لهذه الجهزة طالما
كانت الصحيفة معطلة..
387
ومضت اليام والسابيع والشهور والسلطة تتحدى عشرات الحكام القضائية بعودة الشعب
للصدور حتى استنفدت كل حيلها وبدا في الفق اقتراب صدور حكم نهائي بعودة الشعب إلى
الصدور..
وهنا كان على أجهزة المن أن تستدرك المر ،هذه الجهزة التي لم تتوقع أن تصمد صحيفة
الشعب الليكترونية كل هذه السنوات تحت الحصار ،بل وتتجاوز الصمود لتصبح واحدة من
أهم المواقع على الشبكة الليكترونية ،يتابعها المليين في شتى أرجاء العالم ،للدرجة التي
أزعجت أجهزة المن فحاولت إعاقة استقبالها في مصر.
كان على هذه الجهزة أن تحاول إعادة عملئها إلى الصحيفة ..ولم يكن ذلك ممكنا في وجود
مجدي حسين ..لذلك فمن المحتم حبسه ..بغض النظر عن القانون والمحاكم والنيابة والقضاء.
***
حاشية 4
قناة الجزيرة ..ومباحث أمن الدولة..
من المؤكد أن قناة الجزيرة تستحق التحية على تغطيتها لحداث العراق في اليام الخيرة ..
لكن هذا موضوع آخر..
أما موضوعنا الن فقد حدث ظهر اليوم :الجمعة حين فوجئت بمراسل قناة الجزيرة يجري
مقابلة مع الستاذ الدكتور مجدي قرقر داخل الجامع الزهر ..فاستبدت بي الدهشة..
فالستاذ مجدي حسين والدكتور مجدي قرقر وكوكبة من الشباب السلمي حولهم يقومون منذ
ثلثة أعوام بقيادة مظاهرة كل أسبوع داخل صحن الجامع الزهر بعد صلة الجمعة من كل
أسبوع ..وهذه المظاهرة تمثل قلب مصر الحقيقي وعقلها وضميرها ..ومع ذلك تجاهلتها كل
الفضائيات مع سبق الصرار والترصد ..وظننت أن المر يخضع للسهو والهمال والنسيان
إلى أن أدركت أنه متعمد مع سبق الصرار والترصد ..إذ يكفي أن يذهب أي وجه غير
لسلمي لتطارده تلك الفضائيات وتسجل له وتظل تعيد التسجيل أياما ..بل لحظت أن الكاميرا
تتعمد البتعاد عن الوجوه السلمية ما استطاعت..
من هنا كان ذهولي ،وقلت لنفسي أن حمية الحماسة قد انتقلت من مقر الجزيرة الرئيسي في
قطر إلى مكتبها في القاهرة .لكنني سرعان ما تراجعت ،ففي نشرات الخبار التالية ،كانت نفس
المشاهد والحوارات تتكرر ،إل الحوار مع الدكتور مجدي قرقر فقد تم حذفه.
388
قلت لنفسي أن إذاعة الحوار كان خطأ فادحا ربما تورط فيه مذيع حديث ل يفهم قانون أمن
الدولة.
وربما يندهش القارئ من العلقة بين قناة فضائية غير مصرية و أمن الدولة في مصر..
وقبل أن أوضح الحكاية أذكركم بقصف مكاتب الجزيرة في أفغانستان والعراق ،وبقتل مراسل
ومصور العربية في بغداد ،ولم يكن القتل عن خطأ في التقدير ،بل كان كامل التعمد ،وكان
رسالة لمن لم يسمع ولم يع :إما أن تذيعوا ما نريدكم أن تذيعوه بل زيادة أو فالموت مصيركم.
مباحث أمن الدولة في مصر أكثر رقة وتحضرا من خنازير المريكان ..فهي ل تقتل ..ولكنها
تمارس طريقة شديدة الدهاء ..وكيف ل ..ومؤسسها الول هو اللورد كرومر ..ثم المخابرات
المريكية عن طريق صلح دسوقي الذي تدرب في الـ ( ..CIAليكون مفتاح اللغز في حادث
المنشية ..فهو وليس محمود عبد اللطيف الذي أطلق الرصاص تجاه عبد الناصر)..
أقول تمارس المباحث خطة شديدة الدهاء ..إذ أنه من شروط افتتاح مكتب محلي لي فضائية
أو صحيفة عربية الحصول على موافقة المباحث..
والحكاية كما سمعتها من شاهد عيان أن المباحث لم ترفض أبد أي طلب لي فضائية أو
صحيفة ..بل تبلغ الريحية بهم في بعض الحيان أن تغمض عينها عن العمل دون ترخيص
بإذن شفوي منها ..لكن هذا الذن الشفوي سرعان ما يسحب عندما يتمرد مندوب تلك الفضائية
على قوانين السمع والطاعة ونشر ما تريد المباحث وحجب سواه.
أما بالنسبة للحصول على ترخيص دائم فإن المباحث ل ترفض أبدا ..وتتذرع طول الوقت بأنها
ما زالت تبحث الطلب حتى لو استمر المر أعواما ..ويظل المر كذلك إلى أن تفهم القناة أو
الصحيفة حقيقة المر فتبحث عن صحافي من أتباعهم ..أو على القل إذا ما كانت الفضائية أو
الصحيفة قوية فهم يسمحون برئيس للمكتب ليس من العملء المباشرين لكنهم يلغمون له المكتب
بعملئهم ..للدرجة التي جعلت مذيعا كبيرا بأحد أهم الفضائيات العربية يكاد يصاب بالنهيار
العصبي عندما حاول لمدة ساعتين أن يتصل بي – بناء على موعد سابق -من مكتب
الفضائية في القاهرة ..فعجز تماما ..وفي اليوم التالي اتصل بي من خارج مصر ليقول معتذرا
في أسف عظيم..
هذا المر ل يمكن أن يحدث في أي بلد في الدنيا ..لكنه يحدث في مصر ..لقد رفض -
عمال الستوديو بإصرار توصيلي بك..
389
وبهذه الطريقة تستطيع المباحث أن تسيطر سيطرة شبه كاملة على نشر ما تشاء ومنع ما
تشاء ..إل في حالت استثنائية نادرة ..منها ظهور الدكتور مجدي قرقر على شاشة الجزيرة
..
إل أن علينا أن نعترف أن هذا العوار ينطبق على المكاتب المحلية دون المحطة الرئيسية..
والدليل على ذلك أن المحطة الرئيسية أذاعت الكثير من المقابلت مع قياديين إسلميين بارزين
وهو المر الذي ل يحدث عادة في الفرع.
***
حاشية 5
ثورة النعال
بالمناسبة..
أين كلب العرب من كتاب ومفكرين ..أولئك الذين لم يكفوا عن التباكي على القتلى المدنيين
المريكيين في 11سبتمبر..
أين هذه الكلب..
أين هم من كتاب ووزراء وحكام ومفكرين وقادة..
إنني أدعو من حولهم – مادمنا قد عجزنا عن أي ثورة أخرى – أن ينشئوا حزبا أو أن يبتكروا
ثورة جديدة اسمها ثورة النعال ( لم تعتبر أمريكا حتى الن النعال من أسلحة الدمار الشامل كما
أن استعمالها غير خاضع لقوانين الرهاب) ..ليقوم أعضاء هذا الحزب أو هذه الثورة بضرب
كل مروجي الحلم المريكي بالنعال ..أيا كانت مراكزهم..
---------------------------------------------------------
-----------------------
" - 1سيد قطب :الشهيد الحي" بقلم صلح عبد الفتاح الخالدي -الناشر :مكتبة القصى –
عمان الردن
*************
جزاك ال عنها ألف خير
*************
390
إن نصر ال تعالى آت ل محالة
شهَادُ
حيَاةِ ال ّد ْنيَا َو َيوْمَ يَقُومُ الْأَ ْ
سَلنَا وَالّذِينَ آ َمنُوا فِي الْ َ
صرُ رُ ُ
قال تعالى في سورة غافر :إِ نّا َلنَن ُ
(َ )51يوْمَ لَا يَنفَعُ الظّاِلمِينَ َمعْ ِذ َر ُتهُمْ َوَلهُمُ الّل ْعنَةُ َوَلهُمْ سُوءُ الدّارِ ()52
وقال تعالى في سورة الصافات :
سلِينَ (ِ )171إ ّنهُمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ (َ )172وإِنّ جُن َدنَا َلهُمُ ا ْلغَاِلبُونَ
سبَ َقتْ َكِل َم ُتنَا ِل ِعبَا ِدنَا ا ْل ُمرْ َ
َولَقَدْ َ
جلُونَ (
س َتعْ ِ
صرُونَ ( )175أَ َف ِبعَذَا ِبنَا يَ ْ
س ْوفَ ُي ْب ِ
صرْهُمْ فَ َ
حتّى حِينٍ (َ )174وَأ ْب ِ
ع ْنهُمْ َ
(َ )173ف َتوَلّ َ
صرْ
حتّى حِينٍ (َ )178وَأ ْب ِ
ع ْنهُمْ َ
صبَاحُ ا ْلمُنذَرِينَ (َ )177و َتوَلّ َ
ح ِتهِمْ فَسَاء َ
)176فَإِذَا َنزَلَ بِسَا َ
سلِينَ (
علَى ا ْل ُمرْ َ
سلَامٌ َ
عمّا َيصِفُونَ ( )180وَ َ
سبْحَانَ َر ّبكَ َربّ ا ْل ِع ّزةِ َ
صرُونَ (ُ )179
س ْوفَ ُي ْب ِ
فَ َ
حمْدُ ِللّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ()181
)181وَالْ َ
391
فليس لصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها .وأول ما يطلبه منهم اليمان أن يفنوا
فيها ويختفوا هم ويبرزوها !
والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم ,قريبة الرؤية لعينهم .
ولكن صور النصر شتى وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة . .إبراهيم
عليه السلم وهو يلقى في النار فل يرجع عن عقيدته ول عن الدعوة إليها . .أكان في موقف
نصر أم في موقف هزيمة ? ما من شك -في منطق العقيدة -أنه كان في قمة النصر وهو
يلقى في النار .كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار .هذه صورة وتلك صورة .
وهما في الظاهر بعيد من بعيد .فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب ! . .والحسين -
رضوان ال عليه -وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب ,المفجعة من جانب ?
أكانت هذه نصرا أم هزيمة ? في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة .فأما في
الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصرا .فما من شهيد في الرض تهتز له الجوانح
بالحب والعطف ,وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان ال عليه .يستوي
في هذا المتشيعون وغير المتشيعين .من المسلمين .وكثير من غير المسلمين !
وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام ,كما نصرها
باستشهاده .وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ,ويحفز اللوف إلى العمال
الكبيرة ,بخطبة مثل خطبته الخيرة التي يكتبها بدمه ,فتبقى حافزا محركا للبناء والحفاد .
وربما كانت حافزا محركا لخطى التاريخ كله مدى أجيال . .
ما النصر ? وما الهزيمة ? إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور .
ومن القيم .قبل أن نسأل:أين وعد ال لرسله وللمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا !
على أن هناك حالت كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة .ذلك حين تتصل هذه
الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة .لقد انتصر محمد صلى ال عليه وسلم في حياته .
لن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الرض .فهذه العقيدة ل يتم
تمامها إل بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعا .من القلب المفرد إلى الدولة
الحاكمة .فشاء ال أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته ,ليحقق هذه العقيدة في صورتها
الكاملة ,ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعة تاريخية محددة مشهودة .ومن ثم اتصلت صورة
392
النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة ,واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية .وفق
تقدير ال وترتيبه .
وهنالك اعتبار آخر تحسن مراعاته كذلك .إن وعد ال قائم لرسله وللذين آمنوا .ول بد أن
توجد حقيقة اليمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها .وحقيقة اليمان كثيرا ما يتجوز
الناس فيها .وهي ل توجد إل حين يخلو القلب من الشرك في كل صوره وأشكاله .وإن هنالك
لشكالً من الشرك خفية ; ل يخلص منها القلب إل حين يتجه ل وحده ,ويتوكل عليه وحده ,
ويطمئن إلى قضاء ال فيه ,وقدره عليه ,ويحس أن ال وحده هو الذي يصرفه فل خيرة له إل
ما اختار ال .ويتلقى هذا بالطمأنينة والثقة والرضى والقبول .وحين يصل إلى هذه الدرجة
فلن يقدم بين يدي ال ,ولن يقترح عليه صورة معينة من صور النصر أو صور الخير .
فسيكل هذا كله ل .ويلتزم .ويتلقى كل ما يصيبه على أنه الخير . .وذلك معنى من معاني
النصر . .النصر على الذات والشهوات .وهو النصر الداخلي الذي ل يتم نصر خارجي
بدونه بحال من الحوال .
(إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الشهاد .يوم ل ينفع الظالمين
معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار) .
وقد رأينا في المشهد السابق كيف ل تنفع الظالمين معذرتهم .وكيف باءوا باللعنة وبسوء الدار
.فأما صورة من صور النصر في قصة موسى فهو ذاك:
(ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لولي اللباب) . .
وكان هذا نموذجا من من نماذج نصر ال .إيتاء الكتاب والهدى .ووراثة الكتاب والهدى .
وهذا النموذج الذي ضربه ال مثلً في قصة موسى ,يكشف لنا رقعة فسيحة ,نرى فيها صورة
خاصة من صور النصر تشير إلى التجاه .
وهنا يجيء اليقاع الخير في هذا المقطع ,توجيها لرسول ال صلى ال عليه وسلم ومن كانوا
معه من المؤمنين في مكة في موقف الشدة والمعاناة .ولكل من يأتي بعدهم من أمته ,
ويواجهون مثل الموقف الذي كانوا فيه:
(فاصبر .إن وعد ال حق .واستغفر لذنبك ,وسبح بحمد ربك ,بالعشي والبكار) . .
اليقاع الخير . .الدعوة إلى الصبر . .الصبر على التكذيب .والصبر على الذى .والصبر
على نفخة الباطل وانتشائه بالغلبة والسلطان في فترة من الزمان .والصبر على طباع الناس
393
وأخلقهم وتصرفاتهم من هنا ومن هناك .والصبر على النفس وميولها وقلقها وتطلعها ورغبتها
في النصر القريب وما يتعلق به من رغائب وآمال .والصبر على أشياء كثيرة في الطريق قد
تجيء من جانب الصدقاء قبل أن تجيء من جانب العداء !
(فاصبر .إن وعد ال حق) . .مهما يطل المد ,ومهما تتعقد المور ,ومهما تتقلب السباب .
إنه وعد من يملك التحقيق ,ومن وعد لنه أراد .
وفي الطريق ,خذ زاد الطريق:
(واستغفر لذنبك ,وسبح بحمد ربك بالعشي والبكار) . .
هذا هو الزاد ,في طريق الصبر الطويل الشاق .استغفار للذنب ,وتسبيح بحمد الرب .
والستغفار المصحوب بالتسبيح وشيك أن يجاب ,وهو في ذاته تربية للنفس وإعداد .وتطهير
للقلب وزكاة .وهذه هي صورة النصر التي تتم في القلب ,فتعقبها الصورة الخرى في واقع
الحياة .
واختيار العشي والبكار .إما كناية عن الوقت كله -فهذان طرفاه -وإما لنهما آنان يصفو
فيهما القلب ,ويتسع المجال للتدبر والسياحة مع ذكر ال .
هذا هو المنهج الذي اختاره ال لتوفير عدة الطريق إلى النصر وتهيئة الزاد .ول بد لكل
معركة من عدة ومن زاد . .
ويقول :
والوعد واقع وكلمة ال قائمة .ولقد استقرت جذور العقيدة في الرض ; وقام بناء اليمان ,
على الرغم من جميع العوائق ,وعلى الرغم من تكذيب المكذبين ,وعلى الرغم من التنكيل
بالدعاة والمتبعين .ولقد ذهبت عقائد المشركين والكفار .وذهبت سطوتهم ودولتهم ; وبقيت
العقائد التي جاء بها الرسل .تسيطر على قلوب الناس وعقولهم ,وتكيف تصوراتهم وأفهامهم .
وما تزال على الرغم من كل شيء هي أظهر وأبقى ما يسيطر على البشر في أنحاء الرض .
وكل المحاولت التي بذلت لمحو العقائد اللهية التي جاء بها الرسل ,وتغليب أية فكرة أو فلسفة
أخرى قد باءت بالفشل .باءت بالفشل حتى في الرض التي نبعث منها .وحقت كلمة ال
لعباده المرسلين .إنهم لهم المنصورون وإن جنده لهم الغالبون .
هذه بصفة عامة .وهي ظاهرة ملحوظة .في جميع بقاع الرض .في جميع العصور .
394
وهي كذلك متحققة في كل دعوة ل .يخلص فيها الجند ,ويتجرد لها الدعاة .إنها غالبة
منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق ,وقامت في طريقها العراقيل .ومهما رصد لها
الباطل من قوى الحديد والنار ,وقوى الدعاية والفتراء ,وقوى الحرب والمقاومة ,وإن هي
إل معارك تختلف نتائجها .ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده ال لرسله .والذي ل يخلف ولو
قامت قوى الرض كلها في طريقه .الوعد بالنصر والغلبة والتمكين .
هذا الوعد سنة من سنن ال الكونية .سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها
المنتظمة ; وكما يتعاقب الليل والنهار في الرض على مدار الزمان ; وكما تنبثق الحياة في
الرض الميتة ينزل عليها الماء . .ولكنها مرهونة بتقدير ال ,يحققها حين يشاء .ولقد تبطىء
آثارها الظاهرة بالقياس إلى أعمار البشر المحدودة .ولكنها ل تخلف أبدا ول تتخلف وقد تتحقق
في صورة ل يدركها البشر لنهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة ,ول يدركون
تحقق السنة في صورة جديدة إل بعد حين !
ولقد يريد البشر صورة معينة من صور النصر والغلبة لجند ال وأتباع رسله .ويريد ال
صورة أخرى أكمل وأبقى .فيكون ما يريده ال .ولو تكلف الجند من المشقة وطول المد أكثر
مما كانوا ينتظرون . .ولقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر أن تكون لهم عير قريش وأراد ال
أن تفوتهم القافلة الرابحة الهينة ; وأن يقابلوا النفير وأن يقاتلوا الطائفة ذات الشوكة .وكان ما
أراده ال هو الخير لهم وللسلم .وكان هو النصر الذي أراده ال لرسوله وجنده ودعوته على
مدى اليام .
ولقد يهزم جنود ال في معركة من المعارك ,وتدور عليهم الدائرة ,ويقسو عليهم البتلء ; لن
ال يعدهم للنصر في معركة أكبر .ولن ال يهيىء الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ
ثماره في مجال أوسع ,وفي خط أطول ,وفي أثر أدوم .
لقد سبقت كلمة ال ,ومضت إرادته بوعده ,وثبتت سنته ل تتخلف ول تحيد:
(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) .
وعند إعلن هذا الوعد القاطع ,وهذه الكلمة السابقة ,يأمر ال رسوله صلى ال عليه وسلم أن
يتولى عنهم ,ويدعهم لوعد ال وكلمته ,ويترقب ليبصرهم وقد حقت عليهم الكلمة ,ويدعهم
ليبصروا ويروا رأى العين كيف تكون:
395
(فتول عنهم حتى حين .وأبصرهم فسوف يبصرون .أفبعذابنا يستعجلون ? فإذا نزل بساحتهم
فساء صباح المنذرين .وتول عنهم حتى حين .وأبصر فسوف يبصرون) . .
فتول عنهم ,وأعرض ول تحفلهم ; ودعهم لليوم الذي تراهم فيه ويرون هم ما ينتهي إليه وعد
ال فيك وفيهم .وإذا كانوا يستعجلون بعذابنا ,فياويلهم يوم ينزل بهم .فإنه إذا نزل بساحة قوم
صبحهم بما يسوء ,وقد قدم له النذير ويكرر المر بالعراض عنهم والهمال لشأنهم والتهديد
الملفوف في ذلك المر المخيف(:وتول عنهم حتى حين) . .كما يكرر الشارة إلى هول ما
سيكون(:وأبصر فسوف يبصرون) . .ويدعه مجملً يوحي بالهول المرهوب
396
إن الستخلف في الرض قدرة على العمارة والصلح ,ل على الهدم والفساد .وقدرة على
تحقيق العدل والطمأنينة ,ل على الظلم والقهر .وقدرة على الرتفاع بالنفس البشرية والنظام
البشري ,ل على النحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان !
وهذا الستخلف هو الذي وعده ال الذين آمنوا وعملوا الصالحات . .وعدهم ال أن يستخلفهم
في الرض -كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم -ليحققوا النهج الذي أراده ال ; ويقرروا
العدل الذي أراده ال ; ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها ال .
.فأما الذين يملكون فيفسدون في الرض ,وينشرون فيها البغي والجور ,وينحدرون بها إلى
مدارج الحيوان . .فهؤلء ليسوا مستخلفين في الرض .إنما هم مبتلون بما هم فيه ,أو مبتلى
بهم غيرهم ,ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها ال .
آية هذا الفهم لحقيقة الستخلف قوله تعالى بعده( :وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) . .
وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب ,كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها .فقد وعدهم
ال إذن أن يستخلفهم في الرض ,وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على
الرض .ودينهم يأمر بالصلح ,ويأمر بالعدل ,ويأمر بالستعلء على شهوات الرض .
ويأمر بعمارة هذه الرض ,والنتفاع بكل ما أودعها ال من ثروة ,ومن رصيد ,ومن طاقة ,
مع التوجه بكل نشاط فيها إلى ال .
(وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) . .ولقد كانوا خائفين ,ل يأمنون ,ول يضعون سلحهم أبدا
حتى بعد هجرة الرسول صلى ال عليه وسلم إلى قاعدة السلم الولى بالمدينة .
قال الربيع بن أنس عن أبي العالية في هذه الية:كان النبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه بمكة
نحوا من عشر سنين يدعون إلى ال وحده ,وإلى عبادته وحده بل شريك له ,سرا وهم خائفون
ل يؤمرون بالقتال ; حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة ,فقدموها ,فأمرهم ال بالقتال ,فكانوا
بها خائفين ,يمسون في السلح ويصبحون في السلح ; فصبروا على ذلك ما شاء ال .ثم إن
رجل من الصحابة قال:يا رسول ال أبد الدهر نحن خائفون هكذا ? أما يأتي علينا يوم نأمن فيه
ونضع عنا السلح ? فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم عليه وسلم " -لن تصبروا إل يسيرا
حتى يجلس الرجل منكم في المل العظيم ليست فيه حديدة " .وأنزل ال هذه الية ,فأظهر ال
نبيه على جزيرة العرب ,فأمنوا ووضعوا السلح .ثم إن ال قبض نبيه صلى ال عليه وسلم
397
فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان .حتى وقعوا فيما وقعوا فيه ,فأدخل ال
عليهم الخوف ; فاتخذوا الحجزة والشرط ,وغيروا فغير بهم . .
(ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) . .الخارجون على شرط ال .ووعد ال .وعهد ال
..
لقد تحقق وعد ال مرة .وظل متحققا وواقعا ما قام المسلمون على شرط ال( :يعبدونني ل
يشركون بي شيئا) . .ل من اللهة ول من الشهوات .ويؤمنون -من اليمان -ويعملون
صالحا .ووعد ال مذخور
لكل من يقوم على الشرط من هذه المة إلى يوم القيامة .إنما يبطى ء النصر والستخلف
والتمكين والمن .لتخلف شرط ال في جانب من جوانبه الفسيحة ; أو في تكليف من تكاليفه
الضخمة ; حتى إذا انتفعت المة بالبلء ,وجازت البتلء ,وخافت فطلبت المن ,وذلت
فطلبت العزة ,وتخلفت فطلبت الستخلف . .كل ذلك بوسائله التي أرادها ال ,وبشروطه
التي قررها ال . .تحقق وعد ال الذي ل يتخلف ,ول تقف في طريقه قوة من قوى الرض
جميعا .
**************
الرض لعباد ال الصالحين الذين يرونها بدمهم :
قال تعالى في سورة النبياء :
عبَا ِديَ الصّالِحُونَ ( )105إِنّ فِي هَذَا
َولَقَدْ َك َت ْبنَا فِي ال ّزبُورِ مِن َبعْدِ ال ّذ ْكرِ أَنّ الَْأرْضَ َي ِر ُثهَا ِ
حمَةً ّل ْلعَاَلمِينَ ()107
س ْلنَاكَ ِإلّا رَ ْ
َل َبلَاغًا لّ َقوْمٍ عَابِدِينَ (َ )106ومَا َأرْ َ
398
ولقد وضع ال للبشر منهجا كامل متكامل للعمل على وفقه في هذه الرض .منهجا يقوم على
اليمان والعمل الصالح .وفي الرسالة الخيرة للبشر فصل هذا المنهج ,وشرع له القوانين التي
تقيمه وتحرسه ; وتكفل التناسق والتوازن بين خطواته .
في هذا المنهج ليست عمارة الرض واستغلل ثرواتها والنتفاع بطاقاتها هو وحده المقصود .
ولكن المقصود هو هذا مع العناية بضمير النسان ,ليبلغ النسان كماله المقدر له في هذه الحياة
.فل ينتكس حيوانا في وسط الحضارة المادية الزاهرة ; ول يهبط إلى الدرك بإنسانيته وهو
يرتفع إلى الوج في استغلل موارد الثروة الظاهرة والمخبوءة .
وفي الطريق لبلوغ ذلك التوازن والتناسق تشيل كفة وترجح كفة .وقد يغلب على الرض
جبارون وظلمة وطغاة .وقد يغلب عليها همج ومتبربرون وغزاة .وقد يغلب عليها كفار فجار
يحسنون استغلل قوى الرض وطاقاتها استغلل ماديا . .ولكن هذه ليست سوى تجارب
الطريق .والوراثة الخيرة هي للعباد الصالحين ,الذين يجمعون بين اليمان والعمل الصالح .
فل يفترق في كيانهم هذان العنصران ول في حياتهم .
وحيثما اجتمع إيمان القلب ونشاط العمل في أمة فهي الوارثة للرض في أية فترة من فترات
التاريخ .ولكن حين يفترق هذان العنصران فالميزان يتأرجح .وقد تقع الغلبة للخذين بالوسائل
المادية حين يهمل الخذ بها من يتظاهرون باليمان ,وحين تفرغ قلوب المؤمنين من اليمان
الصحيح الدافع إلى العمل الصالح ,وإلى عمارة الرض ,والقيام بتكاليف الخلفة التي وكلها
ال إلى هذا النسان .
وما على أصحاب اليمان إل أن يحققوا مدلول إيمانهم ,وهو العمل الصالح ,والنهوض بتبعات
الخلفة ليتحقق وعد ال ,وتجري سنته( :أن الرض يرثها عبادي الصالحون) . .فالمؤمنون
العاملون هم العباد الصالحون . .
***************
نصر ال قريب
قال تعالى في سورة البقرة :
ضرّاء َو ُز ْل ِزلُواْ
س ْتهُمُ ا ْلبَأْسَاء وَال ّ
خَل ْواْ مِن َق ْبِلكُم مّ ّ
جنّةَ َوَلمّا يَ ْأ ِتكُم ّمثَلُ الّذِينَ َ
خلُواْ الْ َ
س ْبتُمْ أَن تَدْ ُ
أَمْ حَ ِ
ص َر اللّهِ َقرِيبٌ ()214
صرُ اللّهِ أَل إِنّ َن ْ
ل الرّسُولُ وَالّذِينَ آ َمنُواْ َمعَهُ َمتَى َن ْ
حتّى يَقُو َ
َ
يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال :
399
هكذا خاطب ال الجماعة المسلمة الولى ,وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها ,
وإلى سنته -سبحانه -في تربية عباده المختارين ,الذين يكل إليهم رايته ,وينوط بهم أمانته
في الرض ومنهجه وشريعته .وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم . .
وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة . .إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه .من
الرسول الموصول بال ,والمؤمنين الذين آمنوا بال .إن سؤالهم( :متى نصر ال ?) ليصور
مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة .ولن تكون إل محنة فوق الوصف ,تلقي
ظللها على مثل هاتيك القلوب ,فتبعث منها ذلك السؤال المكروب( :متى نصر ال ?) . .
وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة . .عندئذ تتم كلمة ال ,ويجيء النصر من
ال:
(أل إن نصر ال قريب) . .
إنه مدخر لمن يستحقونه .ولن يستحقه إل الذين يثبتون حتى النهاية .الذين يثبتون على البأساء
والضراء .الذين يصمدون للزلزلة .الذين ل يحنون رؤوسهم للعاصفة .الذين يستيقنون أن ل
نصر إل نصر ال ,وعندما يشاء ال .وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها ,فهم يتطلعون فحسب
إلى (نصر ال) ,ل إلى أي حل آخر ,ول إلى أي نصر ل يجيء من عند ال .ول نصر إل
من عند ال .
بهذا يدخل المؤمنون الجنة ,مستحقين لها ,جديرين بها ,بعد الجهاد والمتحان ,والصبر
والثبات ,والتجرد ل وحده ,والشعور به وحده ,وإغفال كل ما سواه وكل من سواه .
إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة ,ويرفعها على ذواتها ,ويطهرها في بوتقة اللم ,
فيصفو عنصرها ويضيء ,ويهب العقيدة عمقا وقوة وحيوية ,فتتلل حتى في أعين أعدائها
وخصومها .وعندئذ يدخلون في دين ال أفواجا كما وقع ,وكما يقع في كل قضية حق ,يلقي
أصحابها ما يلقون في أول الطريق ,حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم
وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين . .
على أنه -حتى إذا لم يقع هذا -يقع ما هو أعظم منه في حقيقته .يقع أن ترتفع أرواح
أصحاب الدعوة على كل قوى الرض وشرورها وفتنتها ,وأن تنطلق من إسار الحرص على
الدعة والراحة ,والحرص على الحياة نفسها في النهاية . .وهذا النطلق كسب للبشرية كلها ,
400
وكسب للرواح التي تصل إليه عن طريق الستعلء .كسب يرجح جميع اللم وجميع البأساء
والضراء التي يعانيها المؤمنون ,والمؤتمنون على راية ال وأمانته ودينه وشريعته .
وهذا النطلق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف . .وهذا هو الطريق . .
هذا هو الطريق كما يصفه ال للجماعة المسلمة الولى ,وللجماعة المسلمة في كل جيل .
هذا هو الطريق:إيمان وجهاد . .ومحنة وابتلء .وصبر وثبات . .وتوجه إلى ال وحده .ثم
يجيء النصر .ثم يجيء النعيم . .
***************
الجهاد حتمية كونية وسنة مطردة ل بد منها
قال تعالى في سورة البقرة :
ش ْيئًا
حبّواْ َ
خ ْيرٌ ّلكُمْ وَعَسَى أَن تُ ِ
ش ْيئًا وَ ُهوَ َ
عَل ْيكُمُ الْ ِقتَالُ وَ ُهوَ ُك ْرهٌ ّلكُمْ وَعَسَى أَن َت ْكرَهُواْ َ
ُك ِتبَ َ
شرّ ّلكُمْ وَاللّهُ َي ْعلَمُ َوأَنتُمْ لَ َت ْعَلمُونَ ()216
وَ ُهوَ َ
يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال :
إن القتال في سبيل ال فريضة شاقة .ولكنها فريضة واجبة الداء .واجبة الداء لن فيها خيرا
كثيرا للفرد المسلم ,وللجماعة المسلمة ,وللبشرية كلها .وللحق والخير والصلح .
والسلم يحسب حساب الفطرة ; فل ينكر مشقة هذه الفريضة ,ول يهون من أمرها .ول ينكر
على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها وثقلها .فالسلم ل يماري في الفطرة ,ول
يصادمها ,ول يحرم عليها المشاعر الفطرية التي ليس إلى إنكارها من سبيل . .ولكنه يعالج
المر من جانب آخر ,ويسلط عليه نورا جديدا إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير
كريه المذاق ; ولكن وراءه حكمة تهون مشقته ,وتسيغ مرارته ,وتحقق به خيرا مخبوءا قد ل
يراه النظر النساني القصير . .عندئذ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها على المر ;
ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها .نافذة تهب منها ريح رخية عندما تحيط
الكروب بالنفس وتشق عليها المور . .إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيرا .ووراء
المحبوب شرا .إن العليم بالغايات البعيدة ,المطلع على العواقب المستورة ,هو الذي يعلم
وحده .حيث ل يعلم الناس شيئا من الحقيقة .
وعندما تنسم تلك النسمة الرخية على النفس البشرية تهون المشقة ,وتتفتح منافذ الرجاء ,
ويستروح القلب في الهاجرة ,ويجنح إلى الطاعة والداء في يقين وفي رضاء .
401
هكذا يواجه السلم الفطرة ,ل منكرا عليها ما يطوف من المشاعر الطبيعية ,ول مريدا لها
على المر الصعب بمجرد التكليف .ولكن مربيا لها على الطاعة ,ومفسحا لها في الرجاء .
لتبذل الذي هو أدنى في سبيل الذي هو خير ; ولترتفع على ذاتها متطوعة ل مجبرة ,ولتحس
بالعطف اللهي الذي يعرف مواضع ضعفها ,ويعترف بمشقة ما كتب عليها ,ويعذرها ويقدرها
; ويحدو لها بالتسامي والتطلع والرجاء .
وهكذا يربي السلم الفطرة ,فل تمل التكليف ,ول تجزع عند الصدمة الولى ,ول تخور عند
المشقة البادية ,ول تخجل وتتهاوى عند انكشاف ضعفها أمام الشدة .ولكن تثبت وهي تعلم أن
ال يعذرها ويمدها بعونه ويقويها .وتصمم على المضي في وجه المحنة ,فقد يكمن فيها الخير
بعد الضر ,واليسر بعد العسر ,والراحة الكبرى بعد الضنى والعناء .ول تتهالك على ما تحب
وتلتذ .فقد تكون الحسرة كامنة وراء المتعة ! وقد يكون المكروه مختبئا خلف المحبوب .وقد
يكون الهلك متربصا وراء المطمع البراق .
إنه منهج في التربية عجيب .منهج عميق بسيط .منهج يعرف طريقه إلى مسارب النفس
النسانية وحناياها ودروبها الكثيرة .بالحق وبالصدق .ل باليحاء الكاذب ,والتمويه الخادع .
.فهو حق أن تكره النفس النسانية القاصرة الضعيفة أمرا ويكون فيه الخير كل الخير .وهو
حق كذلك أن تحب النفس أمرا وتتهالك عليه .وفيه الشر كل الشر .وهو الحق كل الحق أن
ال يعلم والناس ل يعلمون ! وماذا يعلم الناس من أمر العواقب ? وماذا يعلم الناس مما وراء
الستر المسدل ? وماذا يعلم الناس من الحقائق التي ل تخضع للهوى والجهل والقصور ?!
إن هذه اللمسة الربانية للقلب البشري لتفتح أمامه عالما آخر غير العالم المحدود الذي تبصره
عيناه .وتبرز أمامه عوامل أخرى تعمل في صميم الكون ,وتقلب المور ,وترتب العواقب
على غير ما كان يظنه ويتمناه .وإنها لتتركه حين يستجيب لها طيعا في يد القدر ,يعمل
ويرجو ويطمع ويخاف ,ولكن يرد المر كله لليد الحكيمة والعلم الشامل ,وهو راض قرير . .
إنه الدخول في السلم من بابه الواسع . .فما تستشعر النفس حقيقة السلم إل حين تستيقن أن
الخيرة فيما اختاره ال .وأن الخير في طاعة ال دون محاولة منها أن تجرب ربها وأن تطلب
منه البرهان ! إن الذعان الواثق والرجاء الهاديء والسعي المطمئن . .هي أبواب السلم الذي
يدعو ال عباده الذين آمنوا ليدخلوا فيه كافة . .وهو يقودهم إليه بهذا المنهج العجيب العميق
402
البسيط .في يسر وفي هوادة وفي رخاء .يقودهم بهذا المنهج إلى السلم حتى وهو يكلفهم
فريضة القتال .فالسلم الحقيقي هو سلم الروح والضمير حتى في ساحة القتال .
وإن هذا اليحاء الذي يحمله ذلك النص القرآني ,ل يقف عند حد القتال ,فالقتال ليس إل مثل
لما تكرهه النفس ,ويكون من ورائه الخير . .إن هذا اليحاء ينطلق في حياة المؤمن كلها .
ويلقي ظلله على أحداث الحياة جميعها . .إن النسان ل يدري أين يكون الخير وأين يكون
الشر . .لقد كان المؤمنون الذين خرجوا يوم بدر يطلبون عير قريش وتجارتها ,ويرجون أن
تكون الفئة التي وعدهم ال إياها هي فئة العير والتجارة .ل فئة الحامية المقاتلة من قريش .
ولكن ال جعل القافلة تفلت ,ولقاهم المقاتلة من قريش ! وكان النصر الذي دوى في الجزيرة
العربية ورفع راية السلم .فأين تكون القافلة من هذا الخير الضخم الذي أراده ال للمسلمين !
وأين يكون اختيار المسلمين لنفسهم من اختيار ال لهم ? وال يعلم والناس ل يعلمون !
ولقد نسي فتى موسى ما كانا قد أعداه لطعامهما -وهو الحوت -فتسرب في البحر عند
الصخرة ( .فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا .قال:أرأيت إذ أوينا
إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ,وما أنسانيه إل الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر
عجبا . .قال:ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا .فوجدا عبدا من عبادنا . . ). . .
وكان هذا هو الذي خرج له موسى .ولو لم يقع حادث الحوت ما ارتدا .ولفاتهما ما خرجا
لجله في الرحلة كلها !
وكل إنسان -في تجاربه الخاصة -يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان
من ورائهاالخير العميم .ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم .وكم من مطلوب كاد
النسان يذهب نفسه حسرات على فوته ; ثم تبين له بعد فترة أنه كان إنقاذا من ال أن فوت
عليه هذا المطلوب في حينه .وكم من محنة تجرعها النسان لهثا يكاد يتقطع لفظاعتها .ثم
ينظر بعد فترة فإذا هي تنشيء له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل .
إن النسان ل يعلم .وال وحده يعلم .فماذا على النسان لو يستسلم
إن هذا هو المنهج التربوي الذي يأخذ القرآن به النفس البشرية .لتؤمن وتسلم وتستلم في أمر
الغيب المخبوء ,بعد أن تعمل ما تستطيع في محيط السعي المكشوف . .
*****************
العاقبة للمتقين
403
لرْضَ ِللّهِ يُو ِر ُثهَا مَن يَشَاء مِنْ
ص ِبرُواْ إِنّ ا َ
س َتعِينُوا بِاللّهِ وَا ْ
قال تعالى { :قَالَ مُوسَى لِ َق ْومِهِ ا ْ
عبَا ِدهِ وَا ْلعَا ِقبَةُ ِل ْل ُمتّقِينَ} ( )128سورة العراف
ِ
ص ِبرْ إِنّ ا ْلعَا ِقبَةَ
{ ِت ْلكَ مِنْ أَنبَاء ا ْل َغيْبِ نُوحِيهَا ِإَل ْيكَ مَا كُنتَ َت ْعَل ُمهَا أَنتَ وَلَ َق ْو ُمكَ مِن َقبْلِ هَذَا فَا ْ
ِل ْل ُمتّقِينَ} ( )49سورة هود
عُلوّا فِي الَْأرْضِ َولَا َفسَادًا وَا ْلعَا ِقبَةُ ِل ْل ُمتّقِينَ } ()83
ج َعُلهَا ِللّذِينَ لَا ُيرِيدُونَ ُ
خ َرةُ نَ ْ
{ ِت ْلكَ الدّارُ الْآ ِ
سورة القصص
يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال :
إنه المتفرد بالعلو ,المتفرد بالعظمة .وما يتطاول أحد من العبيد إلى هذا المقام إل ويرده ال
إلى الخفض والهون ; وإلى العذاب في الخرة والهوان .وهو يقول( :تلك الدار الخرة نجعلها
للذين ل يريدون علوا في الرض ول فسادا) . .ويقول عن فرعون في معرض الهلك :إنه
كان عاليا .
ويعلو النسان ما يعلو ,ويعظم النسان ما يعظم ,فل يتجاوز مقام العبودية ل العلي العظيم .
وعندما تستقر هذه الحقيقة في نفس النسان ,فإنها تثوب به إلى مقام العبودية وتطامن من
كبريائه وطغيانه ; وترده إلى مخافة ال ومهابته ; وإلى الشعور بجلله وعظمته ; وإلى الدب
في حقه والتحرج من الستكبار على عباده .فهي اعتقاد وتصور .وهي كذلك عمل وسلوك .
تلك الخرة التي تحدث عنها الذين أوتوا العلم .العلم الحق الذي يقوم الشياء قيمتها الحقيقية .
تلك الدار الخرة العالية الرتبة البعيدة الفاق .تلك الدار الخرة (نجعلها للذين ل يريدون علوا
في الرض ول فسادا) . .فل يقوم في نفوسهم خاطر الستعلء بأنفسهم لنفسهم ; ول يهجس
في قلوبهم العتزاز بذواتهم والعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها .إنما يتوارى شعورهم
بأنفسهم ليملها الشعور بال ,ومنهجه في الحياة .أولئك الذين ل يقيمون لهذه الرض وأشيائها
وأعراضها وقيمها وموازينها حسابا .ول يبغون فيها كذلك فسادا .أولئك هم الذين جعل ال لهم
الدار الخرة .تلك الدار العالية السامية .
(والعاقبة للمتقين) الذين يخشون ال ويراقبونه ويتحرجون من غضبه ويبتغون رضاه
****************
هلك الكفار ل محالة
قال تعالى في سورة آل عمران :
404
ش ْيئًا َوأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ النّارِ ()10
ن اللّهِ َ
ع ْنهُمْ َأ ْموَاُلهُمْ وَلَ َأوْلَدُهُم مّ َ
إِنّ الّذِينَ كَ َفرُواْ لَن ُت ْغ ِنيَ َ
عوْنَ وَالّذِينَ مِن َق ْبِلهِمْ كَ ّذبُواْ بِآيَا ِتنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِ ُذنُو ِبهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ ا ْلعِقَابِ ( )11قُل
كَ َد ْأبِ آلِ ِفرْ َ
ج َهنّمَ َو ِب ْئسَ ا ْل ِمهَادُ ( )12قَدْ كَانَ َلكُمْ آيَةٌ فِي ِف َئ َتيْنِ ا ْلتَ َقتَا ِفئَةٌ
شرُونَ ِإلَى َ
س ُت ْغَلبُونَ َوتُحْ َ
ّللّذِينَ كَ َفرُواْ َ
ص ِرهِ مَن يَشَاء إِنّ فِي
خرَى كَا ِف َرةٌ َي َر ْو َنهُم ّم ْثَل ْيهِمْ َر ْأيَ ا ْل َعيْنِ وَاللّهُ ُي َؤيّدُ ِبنَ ْ
ل اللّهِ َوأُ ْ
سبِي ِ
تُقَاتِلُ فِي َ
ل ْبصَارِ ()13
َذِلكَ َل ِع ْبرَةً لُّأ ْولِي ا َ
يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال :
إن هذه اليات واردة في صدد خطاب بني إسرائيل ,وتهديدهم بمصير الكفار قبلهم وبعدهم .
وفيها لفتة لطيفة عميقة الدللة كذلك . .فهو يذكرهم فيها بمصير آل فرعون . .وكان ال
سبحانه قد أهلك آل فرعون وأنجى بني إسرائيل .ولكن هذا ل يمنحهم حقا خاصا إذا هم ضلوا
وكفروا ,ول يعصمهم أن يوصموا بالكفر إذا هم انحرفوا ,وأن ينالوا جزاء الكافرين في الدنيا
والخرة كما نال آل فرعون الذين انجاهم ال منهم !
كذلك يذكرهم مصارع قريش في بدر -وهم كفار -ليقول لهم:إن سنة ال ل تتخلف .وإنه ل
يعصمهم عاصم من أن يحق عليهم ما حق على قريش .فالعلة هي الكفر .وليس لحد على ال
دالة ,ول له شفاعة إل باليمان الصحيح !
(إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ول أولدهم من ال شيئا ,وأولئك هم وقود النار) . .
والموال والولد مظنة حماية ووقاية ; ولكنهما ل يغنيان شيئا في ذلك اليوم الذي ل ريب فيه
,لنه ل إخلف لميعاد ال .وهم فيه( :وقود النار) . .بهذا التعبير الذي يسلبهم كل خصائص
"النسان" ومميزاته ,ويصورهم في صورة الحطب والخشب وسائر (وقود النار) . .
ل بل إن الموال والولد ,ومعهما الجاه والسلطان ,ل تغني شيا في الدنيا:
(كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا ,فأخذهم ال بذنوبهم ,وال شديد العقاب) . .
وهو مثل مضى في التاريخ مكرورا ,وقصة ال في هذا الكتاب تفصيل:وهو يمثل سنة ال في
المكذبين بآياته ,يجريها حيث يشاء .فل أمان إذن ول ضمان لمكذب بآيات ال .
وإذن فالذين كفروا وكذبوا بدعوة محمد صلى ال عليه وسلم وآيات الكتاب الذي نزله عليه
بالحق ,معرضون لهذا المصير في الدنيا والخرة سواء . .ومن ثم يلقن الرسول صلى ال
عليه وسلم أن ينذرهم هذا المصير في الدارين ,وأن يضرب لهم المثل بيوم بدر القريب ,
فلعلهم نسوا مثل فرعون والذين من قبله في التكذيب والخذ الشديد:
405
(قل للذين كفروا:ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد .قد كان لكم آية في فئتين
التقتا:فئة تقاتل في سبيل ال وأخرى كافرة ,يرونهم مثليهم رأي العين .وال يؤيد بنصره من
يشاء .إن في ذلك لعبرة لولي البصار) . .
وقوله تعالى( :يرونهم مثليهم رأي العين) يحتمل تفسيرين:فإما أن يكون ضمير(يرون) راجعا
إلى الكفار ,وضمير(هم) راجعا إلى المسلمين ,ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا
يرون المسلمين القليلين(مثليهم) . .وكان هذا من تدبير ال حيث خيل للمشركين أن المسلمين
كثرة وهم قلة ,فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم .
وإما أن يكون العكس ,ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين(مثليهم) هم -في
حين أن المشركين كانوا ثلثة أمثالهم -ومع هذا ثبتوا وانتصروا .
والمهم هو رجع النصر إلى تأييد ال وتدبيره . .وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد .كما أن
فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فل يرهبونهم . .وكان الموقف -كما ذكرنا في
التمهيد للسورة -يقتضي هذا وذاك . .وكان القرآن يعمل هنا وهناك . .
وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة .وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة . .إن وعد ال
بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج ال ,قائم في كل لحظة .ووعد ال بنصر
الفئة المؤمنة -ولو قل عددها -قائم كذلك في كل لحظة .وتوقف النصر على تأييد ال الذي
يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ ,وسنة ماضية لم تتوقف .
وليس على الفئة المؤمنة إل أن تطمئن إلى هذه الحقيقة ; وتثق في ذلك الوعد ; وتأخذ للمر
عدته التي في طوقها كاملة ; وتصبر حتى يأذن ال ; ول تستعجل ول تقنط إذا طال عليها المد
المغيب في علم ال ,المدبر بحكمته ,المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة .
(إن في ذلك لعبرة لولي البصار) .
**********
وقال تعالى في سورة آل عمران :لَ َي ُغ ّر ّنكَ تَ َقّلبُ الّذِينَ كَ َفرُواْ فِي ا ْلبِلَدِ (َ )196متَاعٌ َقلِيلٌ ثُمّ
ل ْنهَارُ
ح ِتهَا ا َ
جرِي مِن تَ ْ
جنّاتٌ تَ ْ
ج َهنّمُ َو ِب ْئسَ ا ْل ِمهَادُ (َ )197لكِنِ الّذِينَ اتّ َق ْواْ َر ّبهُمْ َلهُمْ َ
مَ ْأوَاهُمْ َ
ل ْبرَارِ ()198
خ ْيرٌ لّ َ
خَالِدِينَ فِيهَا ُنزُلً مّنْ عِندِ اللّهِ َومَا عِندَ اللّهِ َ
يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال :
406
وتقلب الذين كفروا في البلد ,مظهر من مظاهر النعمة والوجدان ,ومن مظاهر المكانة
والسلطان ,وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء ل محالة .يحيك منه شيء في قلوب
المؤمنين ; وهم يعانون الشظف والحرمان ,ويعانون الذى والجهد ,ويعانون المطاردة أو
الجهاد . .وكلها مشقات وأهوال ,بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون ! . .ويحيك منه
شيء في قلوب الجماهير الغافلة ,وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء ,والباطل وأهله في
منجاة ,بل في مسلة ! ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم ; فيزيدهم ضلل
وبطرا ولجاجا في الشر والفساد .
هنا تأتي هذه اللمسة:
(ل يغرنك تقلب الذين كفروا في البلد .متاع قليل .ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) .
متاع قليل . .ينتهي ويذهب . .أما المأوى الدائم الخالد ,فهو جهنم . .وبئس المهاد !
وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات .وخلود .وتكريم من ال:
(جنات تجري من تحتها النهار) ( . .خالدين فيها) ( . .نزل من عند ال) ( . .وما عند ال
خير للبرار) . .
وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة ,وهذا النصيب في كفة ,أن ما عند ال خير للبرار
.وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان .
وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لنفسهم أولو اللباب !
إن ال -سبحانه -في موضع التربية ,وفي مجال إقرار القيم الساسية في التصور السلمي
ل يعد المؤمنين هنا بالنصر ,ول يعدهم بقهر العداء ,ول يعدهم بالتمكين في الرض ,ول
يعدهم شيئا من الشياء في هذه الحياة . .مما يعدهم به في مواضع أخرى ,ومما يكتبه على
نفسه لوليائه في صراعهم مع أعدائه .
إنه يعدهم هنا شيئا واحدا .هو (ما عند ال) .فهذا هو الصل في هذه الدعوة .وهذه هي نقطة
النطلق في هذه العقيدة:التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية ,ومن كل مطمع -حتى
رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة ال وقهر أعداء ال -حتى هذه الرغبة يريد ال
أن يتجرد منها المؤمنون ,ويكلوا أمرها إليه ,وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو
كانت ل تخصها !
407
هذه العقيدة:عطاء ووفاء وأداء . .فقط .وبل مقابل من أعراض هذه الرض ,وبل مقابل
كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلء . .ثم انتظار كل شيء هناك !
ثم يقع النصر ,ويقع التمكين ,ويقع الستعلء . .ولكن هذا ليس داخل في البيعة .ليس جزءا
من الصفقة .ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا .وليس فيها إل الداء والوفاء والعطاء . .
والبتلء . .
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة ; وعلى هذا كان البيع والشراء .ولم يمنح ال
المسلمين النصر والتمكين والستعلء ; ولم يسلمهم مقاليد الرض وقيادة البشرية ,إل حين
تجردوا هذا التجرد ,ووفوا هذا الوفاء:
قال محمد بن كعب القرظي وغيره:قال عبد ال بن رواحة -رضي ال عنه -لرسول ال
صلى ال عليه وسلم يعني ليلة العقبة [ ونقباء الوس والخزرج يبايعونه صلى ال عليه وسلم
على الهجرة إليهم ]:اشترط لربك ولنفسك ما شئت .فقال ":أشترط لربي أن تعبدوه ول تشركوا
به شيئا .وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " .قال:فما لنا إذا فعلنا
ذلك ? قال ":الجنة " . .قالوا:ربح البيع .ول نقيل ول نستقيل . .هكذا " . .الجنة " . .والجنة
فقط ! لم يقل . .النصر والعز والوحدة .والقوة .والتمكين .والقيادة .والمال .والرخاء -
مما منحهم ال وأجراه على أيديهم -فذلك كله خارج عن الصفقة !
وهكذا . .ربح البيع ول نقيل ول نستقيل . .لقد أخذوها صفقة بين متبايعين ; أنهي أمرها ,
وأمضي عقدها .ولم تعد هناك مساومة حولها !
وهكذا ربى ال الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الرض ,وزمام القيادة ,وسلمها
المانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها ,وكل رغباتها ,وكل شهواتها ,حتى ما
يختص منها بالدعوة التي تحملها ,والمنهج الذي تحققه ,والعقيدة التي تموت من أجلها .فما
يصلح لحمل هذه المانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه ,أو بقيت فيه بقية لم تدخل في
السلم كافة
***************
ح ْيثُ لَ َي ْعَلمُونَ ()182
جهُم مّنْ َ
ستَ ْدرِ ُ
سنَ ْ
وقال تعالى في سورة العراف :وَالّذِينَ كَ ّذبُواْ بِآيَا ِتنَا َ
َوُأ ْملِي َلهُمْ إِنّ َكيْدِي َمتِينٌ ()183
يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال :
408
وهذه هي القوة التي ل يحسبون حسابها وهم يشنون هذه المعركة الضارية ضد هذا الدين وضد
المة المستمسكة به الملتقية عليه المتجمعة على آصرته . .هذه هي القوة التي يغفلها المكذبون
بآيات ال . .إنهم ل يتصورون أبدا أنه استدراج ال لهم من حيث ل يعلمون .ول يحسبون أنه
إملء ال لهم إلى حين . .فهم ل يؤمنون بأن كيد ال متين ! . .إنهم يتولى بعضهم بعضا
ويرون قوة أوليائهم ظاهرة في الرض فينسون القوة الكبرى ! . .
إنها سنة ال مع المكذبين . .
يرخى لهم العنان ,ويملى لهم في العصيان والطغيان ,استدراجا لهم في طريق الهلكة ,
وإمعانا في الكيد لهم والتدبير .ومن الذي يكيد ? إنه الجبار ذو القوة المتين ! ولكنهم غافلون !
والعاقبة للمتقين .الذين يهدون بالحق وبه يعدلون . .
***************
عَل ْيهِمْ
سيُنفِقُو َنهَا ثُمّ َتكُونُ َ
ل اللّهِ فَ َ
سبِي ِ
وقال تعالى { :إِنّ الّذِينَ كَ َفرُواْ يُنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ ِل َيصُدّواْ عَن َ
شرُونَ} ( )36سورة النفال
ج َهنّمَ يُحْ َ
س َرةً ثُمّ ُي ْغَلبُونَ وَالّذِينَ كَ َفرُواْ ِإلَى َ
حَ ْ
يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال :
والكفار ينفقون أموالهم ليتعاونوا على الصد عن سبيل ال . .هكذا فعلوا يوم بدر ,على نحو ما
ذكرنا في سياق الحديث عن الموقعة من كتب السيرة . .وهكذا ظلوا بعد بدر يستعدون للوقعة
التالية .وال ينذرهم بالخيبة فيما يبغون وبالحسرة على ما ينفقون ,ويعدهم الهزيمة في الدنيا
وعذاب جهنم في الخرة:
(إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل ال .فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ; ثم
يغلبون ; والذين كفروا إلى جهنم يحشرون .ليميز ال الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه
على بعض ,فيركمه جميعا ,فيجعله في جهنم ,أولئك هم الخاسرون) . .
روى محمد بن إسحاق عن الزهري وغيره قالوا:لما أصيبت قريش يوم بدر ,ورجع فلهم -أي
جيشهم المهزوم -إلى مكة ; ورجع أبو سفيان بِعيره ,مشى عبدال بن ربيعة ,وعكرمة بن
أبي جهل ,وصفوان بن أمية ,في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر ,
فكلموا أبا سفيان بن حرب ,ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة ,فقالوا:يا معشر
قريش ,إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم ! فأعينونا بهذا المال على حربه ,لعلنا أن ندرك منه
409
ثأرا بمن أصيب منا .ففعلوا .فقال:ففيهم -كما ذكر ابن عباس -أنزل ال عز وجل( :إن
الذين كفروا ينفقون أموالهم . ). . .
وليس هذا الذي حدث قبل بدر وبعدها إل نموذجا من السلوب التقليدي لعداء هذا الدين . .
إنهم ينفقون أموالهم ,ويبذلون جهودهم ,ويستنفدون كيدهم ,في الصد عن سبيل ال ,وفي
إقامة العقبات في وجه هذا الدين .وفي حرب العصبة المسلمة في كل أرض وفي كل حين . .
إن المعركة لن تكف .وأعداء هذا الدين لن يدعوه في راحة .ولن يتركوا أولياء هذا الدين في
أمن .وسبيل هذا الدين هو أن يتحرك ليهاجم الجاهلية ,وسبيل أوليائه أن يتحركوا لتحطيم قدرة
الجاهلية على العدوان ; ثم لعلء راية ال حتى ل يجرؤ عليها الطاغوت .
وال -سبحانه -ينذر الكفار الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل ال بأنها ستعود عليهم
بالحسرة . .إنهم سينفقونها لتضيع في النهاية ,وليغلبوا هم وينتصر الحق في هذه الدنيا .
وسيحشرون في الخرة إلى جهنم ,فتتم الحسرة الكبرى . .ذلك . .
(ليميز ال الخبيث من الطيب ,ويجعل الخبيث بعضه على بعض ,فيركمه جميعا ; فيجعله في
جهنم أولئك هم الخاسرون) . .
فكيف ?
إن هذا المال الذي ينفق يؤلب الباطل ويملي له في العدوان ; فيقابله الحق بالكفاح والجهاد ;
وبالحركة للقضاء على قدرة الباطل على الحركة . .وفي هذا الحتكاك المرير ,تنكشف
الطباع ,ويتميز الحق من الباطل ,كما يتميز أهل الحق من أهل الباطل -حتى بين الصفوف
التي تقف ابتداء تحت راية الحق قبل التجربة والبتلء ! -ويظهر الصامدون الصابرون
المثابرون الذين يستحقون نصر ال ,لنهم أهل لحمل أماناته ,والقيام عليها ,وعدم التفريط
فيها تحت ضغط الفتنة والمحنة . .عند ذلك يجمع ال الخبيث على الخبيث ,فيلقي به في جهنم
. .وتلك غاية الخسران . .
والتعبير القرآني يجسم الخبيث حتى لكأنه جِرم ذو حجم ,وكأنما هو كومة من القذار ,يقذف
بها في النار ,دون اهتمام ول اعتبار !
(فيركمه جميعا فيجعله في جهنم) . .
وهذا التجسيم يمنح المدلول وقعا أعمق في الحس . .وتلك طريقة القرآن الكريم في التعبير
والتأثير . .
410
**************
وهذه قطوف من الكتاب القيم لبي قتادة الجهاد والجتهاد :
وفي كتاب الجهاد والجتهاد :
السر والحبس والبتلء
(مذاهب في التغيير)
هل السجن مرحلة ضرورية للداعي؟ وهل هي مرتبة ممدوحة ،الداخل فيها خير من غيره
بدخول هذه المرحلة؟.
سبَ النّاسُ أَنْ
مما ل شك فيه أن طريق الدعوة محفوف بالمخاطر والبتلءات ،قال تعالى{ :أَحَ ِ
ن اللّهُ الّذِينَ صَدَقُوا َوَل َي ْعَلمَنّ
ُي ْت َركُوا أَنْ يَقُولُوا آ َمنّا وَهُمْ ل يُ ْف َتنُونَ َولَقَدْ َف َتنّا الّذِينَ مِنْ َق ْبِلهِمْ َفَل َي ْعَلمَ ّ
ا ْلكَا ِذبِينَ} العنكبوت .ذلك لن الداعي يأتي للناس بالجديد من المر ،ويدعوهم لترك عوائدهم
وإيلفهم ،بل ويسفه ما هم عليه من نهج وطريق ،وهذا أمر كبير على الناس ،لنه يطعن في
مسلماتهم وعظائم عقائدهم ،ولهذا فإن الداعي يجابه بقوة وعنف ،وبسبب هذا البتلء تتميز
الصفوف ،ويفيء الناس إلى مقاماتهم الحقيقية دون لبس أو تزوير ،فالبتلء يعرف مقامات
ص َبرُوا َوكَانُوا بِآيَا ِتنَا
ج َع ْلنَا ِم ْنهُمْ َأ ِئمّةً َيهْدُونَ بَِأ ْم ِرنَا َلمّا َ
الناس ،والبقاء للصابر ،قال تعالى{ :وَ َ
يُو ِقنُونَ}السجدة .قال ابن تيمية -رحمه ال -في تفسيرها :بالصبر واليقين تنال المامة.ا.هـ.
فالصبر يمنع التهور ،واليقين يمنع اليأس والقنوط ،فالداعي له قوتان تحصنانه من الخطأ ،قوة
تدفعه وهي اليقين ،وقوة تريثه وهي الصبر ،يقين على الموعود القادم ،وصبر على البلء
الواقع ،والبلء والمتحان ظاهرة في كل الدعوات ،و هي تكتنف المتمردين ،سواء كان تمردهم
بحق أم بباطل ،فليس النبياء أو أتباع النبياء هم فقط من لقي العنت في سبيل دعوته ،بل كل
من أتى للناس بجديد ،ولكن ما يميز أهل الحق من غيرهم في هذا الباب هو أن تعب النبياء
ل اللّهِ وَل
سبِي ِ
خ َمصَةٌ فِي َ
صبٌ وَل مَ ْ
ظمَأٌ وَل َن َ
وأتباعهم هو في سبيل ال { َذِلكَ بَِأ ّنهُمْ ل ُيصِي ُبهُمْ َ
ل صَالِحٌ} ،وأما غيرهم
عمَ ٌ
طئًا َيغِيظُ ا ْلكُفّارَ وَل َينَالُونَ مِنْ عَ ُدوّ َنيْل إِلّ ُك ِتبَ َلهُمْ بِهِ َ
طئُونَ َموْ ِ
يَ َ
فتعبهم وبال عليهم كما قال تعالى{ :عاملة ناصبة تصلى نارا حامية} ،وكما قال تعالى{ :إن
الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل ال فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون،
والذين كفروا إلى جهنم يحشرون}النفال ،فالبتلء ظاهرة في مسيرة الدعوات لن وجود
العداء من مظاهر نصرة ال لوليائه ،قال تعالى{ :وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين النس
411
والجن}النعام ،ومظهر من مظاهر اسم ال تعالى :المنتقم .واختلف الناس سنة كونية ،وكذلك
تدافعهم ليتحقق لكل واحد أهدافه التي يسعى إليها ،والمعادلة بين الطرفين بحصول النصر
والهزيمة مبسوطة في القرآن ،وما من أمر إلهي إل وهو عامل من عو امل النصر ،وما من
مخالفة للشريعة إل عامل من عوامل الهزيمة.
والسجن إحدى مظاهر البتلء ،وصورة من صور العذاب التي يهدد بما كل طرف الخر ،كما
قال فرعون مهددا موسى عليه السلم{ :لئن اتخذت إلها غيري لجعلنك من المسجونين}
الشعراء .وقد كان إحدى اختيارات قريش في عذابها لرسول ال صلى ال عليه وسلم{ :وإذ
يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك}النفال .لن السجن صورة من صور
العذاب النفسي والبدني ،فهو تقييد لرادة النسان ،ومانع له من ممارسة مدنيته وإنسانيته ،ثم هو
بالنسبة للداعي أشق وأتعب لنه يفصل بين الداعي والمحيط الذي يحتاجه لدعوته ،فعمل الداعي
هو النور في الناس ،وتعليمهم الخير ،وكسب أتباع لدعوته ،وترقية لفراد دعوته في الطريق،
فالسجن حرمان من هذا كله ،إذ أنه يعزل الداعي عن محيطه ليمنعه من التأثير والكسب.
وفي هذه الغربة المعاصرة حيث بدأ الدعاة يدعون إلى ال ،وتمت سنة المدافعة بين فريق الحق
وفريق الباطل ،ومل الطاغوت السجون بالدعاة ،وتكررت صور البتلء وإلى الن ،كانت
التجربة الولى أن دخلت مجموعات السجون ،فماذا صنع فيهم السجن؟.
كان السحن وعاء تشكل لونه بلون الداخل فيه ،فبعضهم انتكس ووقع ،وهؤلء على الغلب قلة
ل يؤبه بها ،ولكن الغلب خرج من السحن وهو يحمل ذكريات اللم والعذاب ،وخرج ليكتب
للناس مذكرات كربلئية مليئة بالبكاء والنواح حاول كل واصف فيها أن يستدر عواطف القراء
نحوه ،وأن يكسب شفقتهم عليه ،وقد وجد أدب داخل المكتبة السلمية يمثل هذا النوع من
الفنون ،من البكاء والنواح الكربلئي ،وكان القصد من هذا هو تعليق النياشين (الوسمة) على
الصدور بأن هذا قد عذب وضرب ،ولم يخرج من الن من هذا الصف المبتلى دراسة أو
دراسات تكون زادا للجيل القادم من هذه التجربة ،فالسجن بلء :إما أن يكسر ،أو يعصر ،أو
يثمر فيخرج صاحبه منه منقى من كل الشوائب ،شوائب الفكار ،وشوائب النفس ،فتترقى
مدارك المرء ،وتنصقل نفسه في تطورها وتربيتها ،فالممتحن ل يمدح إل بمقدار استفادة المرء
منه ،ل من حيث هو في نفسه ممدوحا مرغوبا ،فقد ينتكس المرء فيه ،وقد يخرج منه كما دخل
جهل وعماء وسوء خلق ،وقد يرتقي فيه ،وكل هذا بحسب المرء ونظره إلى ما تمر به الحياة
412
من مظاهر وظواهر ،فليس السجن مرتبة مدحية ،ول هو بالذي يطلبه المرء ليكون الفضل بين
أقاربه ،ولكن ينظر إلى مقدار اكتساب المر ء من هذه التجربة.
السجن ( أو المدرسة اليوسفية )
عند أنصار فلسفة مذهب ابن آدم الول
جرى بعض الباحثين على تسمية السجن بالمدرسة اليوسفية -نسبة يوسف عليه السلم -
والحق أن القرآن لم يحك لنا شيئا عن أهمية السجن ليوسف عليه السلم ،ولم يذكر لنا شيئا عن
أثر هذه المدرسة -إن كانت مدرسة -على يوسف عليه السلم ،بل الذي اهتم به القرآن هو:
- 1أن يوسف عليه السلم اشتغل بالدعوة إلى ال في السجن ،ولم يشغله السجن عن هذه
المهمة ،بل كان يستغل أصغر المور ليوجه أنظار أهل السجن معه إلى تأليه ال وتوحيده ،قال
خ ْيرٌ أَ ْم اللّهُ ا ْلوَاحِدُ
ح َبيِ السّجْنِ َأَأ ْربَابٌ ُمتَ َفرّقُونَ َ
تعالى على لسان يوسف عليه السلم{ :يَا صَا ِ
سلْطَانٍ إِنْ
س ّم ْي ُتمُوهَا َأ ْنتُمْ وَآبَا ُؤكُمْ مَا أَنزَلَ اللّهُ ِبهَا مِنْ ُ
سمَاءً َ
الْ َقهّارُ مَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلّ أَ ْ
حكْمُ إِلّ ِللّهِ َأ َمرَ ألّ َت ْعبُدُوا إِلّ ِإيّاهُ َذِلكَ الدّينُ الْ َقيّمُ َوَلكِنّ َأ ْك َث َر النّاسِ ل َي ْعَلمُونَ}يوسف.
الْ ُ
- 2محاولة يوسف عليه السلم الخروج المبكر من السحن وذلك حين قال لصاحبه{ :وَقَالَ
شيْطَانُ ِذ ْكرَ َربّهِ َفَل ِبثَ فِي السّجْنِ ِبضْعَ
عنْدَ َر ّبكَ فَأَنسَاهُ ال ّ
ِللّذِي ظَنّ َأنّهُ نَاجٍ ِم ْن ُهمَا ا ْذ ُك ْرنِي ِ
سنِينَ}يوسف.
ِ
- 3حمده ل تعالى أن أخرجه من السجن ،قال تعالى على لسان يوسف عليه السلم{ :وَقَدْ
جنِي مِنْ السّجْنِ}يوسف.
خرَ َ
أَحْسَنَ بِي إِذْ أَ ْ
- 4قبوله دخول السجن -إن كان ل بد منه -على تبديل المواقف وتغيير المبادئ {قَالَ َربّ
حبّ ِإَليّ ِممّا يَدْعُو َننِي ِإَليْهِ}.
السّجْنُ أَ َ
وهذه المور وغيرها ليس فيها شيء يتعلق بأن يكون السجن مدرسة ،يتخرج المرء منها شهادة
يتميز بها المرء عن غيره ،ولكن مما ل شك فيه أن من دخل هذا المتحان فصبر فهو خير من
غيره ممن دخله ولم يصبر.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن نذكر هنا أن هناك مدرسة حديثة معاصرة ،مقطوعة النسب ،ل
تلتقي في شيء مع منهج خير القرون ،هذه المدرسة تدعو إلى غريب القول ،وعمدة هذا القول
يقوم على فلسفة تبرير البتلء كطريق على المرء أن ل يسعى للخروج منه بنفسه ،أو يدافعه
413
ويعاديه ،وكان أول قطر هذه المدرسة كتاب يسمى "مذهب ابن آدم الول" للسوري جودت
سعيد ،وهو يعد نفسه من مدرسة مالك بن نبي ،ثم تتابع القطر فكان من عمد هذا المذهب كتاب
آخر اسمه "ظاهرة المحنة" لخالص جلبي .تقول هذه المدرسة :إن سبب سقوط الحركة السلمية
وعدم تقدمها إلى مواقع جديدة نحو أهدافها هو تبني الحركة للعنف ضد خصومها وانتهاجها
العمل السري ،فتبني الحركة للعنف والسرية أعطى لخصومها المبرر أن تضربها وتقضي
عليها ،والطريقة المثلى للخروج من هذا المأزق هي التالي:
- 1أن تبتعد الحركة السلمية عن نفسية الصدام ضد خصومها وأن تتعامل معهم كما تعامل
ابن آدم الول مع أخيه حين قال لهَ { :لئِنْ بَسَطتَ ِإَليّ يَ َدكَ ِلتَ ْق ُتَلنِي مَا َأنَا ِببَاسِطٍ يَدِي ِإَليْكَ لَ ْق ُتَلكَ
ب النّارِ} .وتطور
ف اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ِإنّي ُأرِيدُ أَنْ َتبُوءَ بِِإ ْثمِي َوِإ ْث ِمكَ َف َتكُونَ مِنْ َأصْحَا ِ
ِإنّي أَخَا ُ
الحتجاج لهذا المذهب حتى وصل إلى الحتجاج بطريقة غاندي ضد خصومة النجليز.
- 2على الحركة السلمية أن تجعل من السجن سبيل إلى حالة جماعية بها يتم التثقيف
والتربية ومن خلله يتم مد الفكرة إلى الخرين.
تنتهي هذه النظرية بالخلصة التالية :أن الخصم سيمارس العقاب تلو العقاب ولن يجابه إل
بالسلبية في الرد ،وبالصفح الجميل ،وبعد أن يدرك الخصم أنك لن ترد عليه ستثور في نفسه
عقدة الندم ويلقى السلح ويولي منهزما ،وحينئذ سيقع النصر الموعود...
إن من غرائب القوال في هذا الزمان ،وهو من الحادثات التي نبتت ول يعرف لها سلف في
التاريخ -سلف مؤمن أو كافر -مذهب غريب ،يدعو للعجب من القول ،يدعو إلى نبذ العنف
ووسائله وأهمها السرية ،والعنف والمقصود به الجهاد والقتال .يقول هذا التيار:
إن سبب انتكاسة الحركة السلمية ،وعدم حصولها على أهدافها أو القتراب منها ،هو تبني
الحركات السلمية للعنف ،فحيث تبنت الحركة العنف فإنها أعطت الخصوم المبرر لضربها
والجهاز عليها ،فلو أن الجماعات السلمية واجهت عنف الدولة بالصبر وكف اليدي،
واحتملت الذى ،فإن الدولة بعد ممارستها العذاب تلو العذاب على المسلمين ستصاب بعقدة
الندم ،وبعدها ستلقي السلح جانبا ،وبعدها سيكون وصول السلم إلى الحكم سهل ميسورا!.
قال جودت سعيد( :وهو إمام هذا المذهب المعاصر وصاحب كتاب "مذهب ابن آدم الول":
أ -أؤكد أن ل نمارس العنف بجميع أشكاله ،ونتقبل العنف الذي يصدر من الخرين بصدور
مفتوحة ،وأن نجعلهم يملون من ممارسة العنف بصبرنا على تحمله ،وعدم مقابلة العنف بأي
414
عنف ،وإنما نقابل العنف بقوله تعالى{ :ل تطعه واسجد واقترب} ،وبقوله تعالى { :كفوا أيديكم
وأقيموا الصلة} وبقوله تعالى { :لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لقتلك إني
أخاف ال رب العالمين} ،بهذا نقابل العالم .ا.هـ)1( .
ب -ينبغي فورا أن نقلص ونتخلص نهائيا من الجيش والسلح ،وخاصة الســلحة
المتــطورة .ا.هـ)2( .
ج -الجيش والسلح عقبة في سبيل تحرير المم.
- 2يجب على الحركة السلمية تبني السلم ،وأفضل صور السلم هو الديمقراطية الغربية،
يقول جودت سعيد :نحن ينبغي أن ل نرفض الديمقراطية ،وإنما ينبغي أن نزيدها فعالية ،وذلك
بنشر المعرفة والعلم ،لن الديمقراطية إن لم يكن وراءها علم ومعرفة في فستعجز عن حل
المشكلت .ا.هـ)3( .
وعلينا أن نقبل بالديمقراطية حتى لو أدت إلى إزالة الحكم السلمي إن وجد .يقول جودت
سعيد :الذي أريد أن أذكر به هنا هو ماذا سيفعل المسلمون في المستقبل إذا بدأوا يخسرون
المارة بالديمقراطية؟ هذا ينبغي أن يكون في البال ماذا سنفعل؟ ،هل نقبل ترك الحكم
بالديمقراطية؟ أم نصير مثل الذي يعمله الن السكارى بالكراسي؟ ...ويواصل قائل :ينبغي أن
نصبر ونتذكر قوله تعالى { :ولنصبرن على ما آذيتمونا} ...الخ )4( .
- 3ترك أي إشارة أو كلمة فيها عداوة لعداء الدين .يقول جودت سعيد :أن نكون شهداء ل
وقوامين بالقسط مع الذين يسيئون إلينا وعلينا أن ندرب أنفسنا أن نكون كذلك ،ونتواصى بذلك،
ونتواصى بالصبر عليه ،حتى أننا لسنا في حاجة أن نطلق لفظ العدو عليهم وإنما اختلفنا في
التفسير ،وال تعالى علمنا أن نقول { :وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلل مبين}ا.هـ)5( .
- 4على الحركة السلمية أن تقبل التحدي وذلك بالذهاب إلى السجون والرضا بذلك وعدم
العتراض عليه:
أ -انظر كتاب ظاهرة المحنة لتلميذ جودت سعيد وهو الدكتور خالص جلبي كنجو.
ب -يقول جودت سعيد :إذا أخذ واحد من المسجد لنه علم الناس في المسجد ،فلنمل مكانه
ونقبل التحدي ،ونقبل السجن .ا.هـ)6( .
ويقول كذلك :ل نضرب ،ل نهرب ،ل نطالب بالفراج عن المسجونين ،بل نطالب أن يأخذونا
نحن أيضا إلى السحن.ا.هـ)7( .
415
- 5عدم الهتمام أو الستدلل بالكتاب والسنة وإنما العقل ،يقول جودت سعيد :إنني لم أعد
ترهبني قعقعة الكلمات :الروح ،النفس ،أو ال ،أو الرسول ،أو قال فلن وفلن (وهي حسب
السياق ،قبل هذه الجملة يعني قال ال ،قال الرسول) نريد أن نتحدث ماذا يحدث لنا ،وكيف
يحصل الفهم؟ وكيف نعرف ما فهمناه أننا فهمناه ،وكيف يحدث الفهم؟ وكيف انتقلت إلى هذه
الفكار؟ دعونا من الحديث عن السماء ،ولنبحث في الرض ،لنعد إلى النسان المولود على
الفطرة.ا.هـ)8( .
ويقول :إن الذي سيعلمنا ليس القرآن ،وإنما نفس حوادث الكون والتاريخ هي التي
ستعلمنا.ا.هـ)9( .
ويقول :فالمرجع ليس الكتاب وإنما العودة إلى الحدث أو الشيء.ا.هـ)10( .
ويقول :إن صخرة ما أدل على نفسها من كلم يقال عنها حتى لو كان كلم ال.ا.هـ)11( .
ويصف أوامر ال بالقتال بأنها خرافية ،يقول :نسأل ال أن يثبتكم ،وأن ل يفلت الزمام من
أيديكم ،وأن ل تستسلموا للوامر الخرافية (أي أوامر العنف حسب تعبيره) ا.هـ)12( .
وفي لقاء مع خالص جلبي لحد الخوة قال له :أنا أسجد للعقل.ا.هـ.
وكلم جودت سعيد في معرض المر الشرعي ،وليس الخلق الكوني فانتبه.
هذه خلصة أفكار هذه المدرسة ،مدرسة كف اليدي والرضا بالصبر -من كتاب "مذهب ابن
آدم الول" ..إلى كتاب "ظاهرة المحنة".-
أما الرد عليهم :فإن أول ما يقفز لذهن المسلم السني أمام هذا الغثاء هو القصة التالية :ذكر
الذهبي في "ميزان العتدال" أنه ذكر لعمرو بن عبيد (من أئمة المعتزلة) حديثا يخالف هواه،
رواه العمش عن زيد بن وهب عن عبد ال بن مسعود عن النبي صلى ال عليه وسلم ،فقال
عمرو :لو سمعت العمش يقول هذا لكذبته ،ولو سمعته من زيد بن وهب لما صدقته ،ولو
سمعت ابن مسعود يقوله لما قبلته ،ولو سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول هذا
لرددته ،ولو سمعت ال عز وجل يقول هذا لقلت :ليس على هذا أخذت ميثاقنا.ا.هـ .فهؤلء
القوم ل ندري من أين نبدأ معهم ،فهم كما قال جودت سعيد" :ل ترهبهم الكلمات حتى لو كانت
كلمات ال" ،وهم ل يكنون أي احترام لكلم السلف ،بل قد صرح أنه قد اكتشف شيئا لم يعرفه
الصحابة رضي ال عنهم ،يقول جودت سعيد :إن المسلمين سواء في زمن أبي ذر أو الن لم
يفهموا هذا جيدا.ا.هـ)13( .
416
وعامة احتجاج هذه الطائفة بما فعل غاندي )14( .ومما فعل الخميني )15( ،وبما فعل عبد
السلم ياسين إمام جماعة العدل والحسان المغربية ،لن هذا هو الحدث أو الشيء الذي ينبغي
أن يعد مرجعا وليس المرجع هو القرآن كما يقول جودت سعيد ،إذن فهؤلء القوم ل يرجى لهم
عودة لن البدعة قد استحكمت فيهم كما يستحكم داء الكلب بصاحبه ،وصدق رسول ال صلى
ال عليه وسلم حين قال(( :ل يرجعون إلى السلم حتى يرتد السهم إلى فوقه)) )16( .فل
يعود البدعي عن بدعته ،وإن عاد فل بد من علوق بعض الشيء فيه ول يخرج منها إل بنوع
خاص من العلم ،وال الهادي إلى سبيل الرشاد.
وهؤلء القوم يتذكر المرء معهم قوله تعالى { :قل هل ننبئكم بالخسرين أعمال ،الذين ضل
سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} ،هذا هو اعتقادنا في أئمتهم ،وليعلم
الناس أن العقل الذي يزعمونه هو عين الهوى ،ولذلك فإن أمثالهم سماهم أهل السنة قديما
بأصحاب الهواء ،وإن زعموا أنهم أهل العقل والمنطق ،لن مدار أمرهم على رغبات النفوس
والتشهي ،وليس على اتباع الحق ،وإل فما معنى قولهم :أنا لم تعد ترهبني الكلمات ..ال أو
الرسول أو قال فلن أو قال فلن؟.
( - )1سلسلة فانظروا (عدد 43ص - )2وهي رسالة موجهة إلى الشباب المسلم في الجزائر.
( - )2المصدر السابق (ص .)3
( - )3السابق (ص .)2
( - )4السابق (ص .)3
( - )5السابق (ص .)8
( - )6السابق (ص .)4
( - )7السابق (ص .)5
( - )8سلسلة نشرة فانظروا (عدد 40ص .)43
( - )9السابق (ص .)7
( - )10السابق ص 7
( - )11السابق (ص .)7
( - )12فانظروا ( 43ص .) 9
( - )13فانظروا (عدد 43ص .)5
417
( - )14مقدمة الطبعة الثانية لكتاب ظاهرة المحنة.
( - )15ظاهرة المحنة ،وسلسلة فانظروا عدد .43
( - )16انظر فتح الباري (ج )12/295وما بعدها.
مذهب ابن آدم الول:
العقل والنقل بصورة معاصرة
ما الفرق بين قول أهل الهواء قديما أن العقل هو اليقيني والنص هو الظني ،وقول جودت
سعيد :فالمرجع ليس الكتاب وإنما نفس حوادث الكون والتاريخ .بل قوله أشد افتراء وكذبا.
إذا كان اعتقادنا في هؤلء أنه لم يبق منهم مفصل إل دخله الهوى ،فنرجو أن يكون حديثنا مع
من بقي فيه بعض الخير ،أو بعض خوف من كلمات ال تعالى ،وسنأتي على عمد احتجاجاتهم
الشرعية بدءا من قوله تعالى { :لئن بسطت إلى يدك }...الخ الية ،لنرى كيف هي في شرع
ال ودينه؟.
من حجج هذا التيار البدعي استدللهم بقوله تعالى على لسان ابن آدمَ{ :لئِنْ بَسَطتَ ِإَليّ يَ َدكَ
ف اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ِإنّي ُأرِيدُ أَنْ َتبُوءَ بِِإ ْثمِي
ِلتَ ْق ُتَلنِي مَا َأنَا ِببَاسِطٍ يَدِي ِإَل ْيكَ لَ ْق ُتَلكَ ِإنّي أَخَا ُ
جزَاءُ الظّاِلمِينَ} المائدة ( .)69 - 68واحتجوا بهذه الية
َوِإ ْث ِمكَ َف َتكُونَ مِنْ َأصْحَابِ النّارِ وَ َذِلكَ َ
على أن مذهب الفطرة في النسان السوي هو عدم صد من أراد إيذاءه بل كف اليد عنه ،مما
سيدفع الخصم المعتدي إلى ترك السلح جانبا والحتكام إلى العقل ،ثم إثارة كوامن الخير التي
ستدفعه إلى الندم وعدم البطش بخصومه ،وهذا كله سيجعل العاقبة للحق والصواب ،وهو
السلم كما يعتقد هذا التتار ،هذا هو خلصة ما يريده كتاب جودت سعيد "مذهب ابن آدم
الول" وكتاب "ظاهرة المحنة" لخالص جلبي .ويزعم هذا التيار أنه عقلني في هذا المبدأ إلى
مشاشه ،وأنه يحتكم في صواب هذا المنهج ليس إلى التفسير البياني (اللغوي ) للقرآن ،ولكن
إلى الفطرة أو إلى التاريخ والواقع ،وأن العقل ومقتضياته تلزم الجميع بصواب هذا المنهج وأن
خلفه جهل وخرافة ،ومرض عصبي ،يدفع المرء ليفكر للحتكام إلى السلح والقوة في فض
الخصوما ت بين أصحاب المذاهب الفكرية ،سواء القابض على السلطة أو غيره من الخصوم
المقهورين.
الرد على احتجاجهم بهذه اليات القرآنية له عدة طرق ،وكلها تتدافع بنفس القوة والتدليل ،ولكن
الغريب في هذا التيار أصوله التي يتعامل بها مع الوحيين ،فالمة قد أجمعت أن الحكم الشرعي
418
مأخذه الكتاب والسنة ،وأن هذا المصدر نزل باللغة العربية ،فأصول تفسير هذا المصدر وقواعد
فهمه تعود إلى قواعد وأصول هذه اللغة ،وليس هناك من قواعد يحتكم إليها في ذلك سوى
قواعد البيان العربي ،إل ما أحدثه أبو حامد الغزالي من إدخال قواعد علم المنطق إلى أصول
الستنباط ،وقد عاب العلماء عليه ،وشنعوا القول على صنيعه هذا ،وكان أشدهم نكارة المام أبو
عمرو بن الصلح الشافعي رحمه ال تعالى ،وأما قبل ذلك فإن المة مجمعة على تنزيل الكتاب
والسنة على أصول البيان العربي ،قال المام الشافي -رحمه ال تعالى -في كتابه العظيم
"الرسالة" :البيان اسم جامع لمعان متشعبة الفروع ،فأقل ما في تلك المعاني المجتمعة المتشعبة
أنها بيان لمن خوطب بها ممن نزل القرآن بلسانه ،متقاربة الستواء عنده ،وإن كان بعضــها
أشـد تأكيد بيان من بعض ،ومختلفة عند من يجهل لسان العرب.ا.هـ)1( .
ثم شرع المام الشافعي رحمه ال في تفصيل أنواع البيان في الوحي ،وقسمها إلى أقسام:
- 1ما أبانه لهم نصا ول يحتاج لغيره.
- 2ما أحكم فرضه بكتابه (وأحكم هنا بمعنى أجمل أصله ) وبينت السنة تفصيله -أي هيئته
.-
- 3ما أتت به السنة وبينته ولم يأت به في الكتاب نص محكم.
- 4ما فرض ال على خلقه الجتهاد في طلبه ،وابتلى طاعتهم في الجتهاد.
ثم شرع في تفصيل هذه النواع واحدة واحدة ،واستخلص منها أدلة الحكم الشرعي وهي الكتاب
والسنة والجماع والقياس.
وهذا القسم الرابع من أقسام البيان هو الذي تنكره الظاهرية ،ومن جهلهم به حكموا أن مستويات
البيان في الدللة واحدة ل فرق بينها ،أي بين ما يعلم نصا وما يعلم اجتهادا ،واختلف الناس
في توسيع دائرة السنة وتقنين الشروط في الخذ بها هي التي تفرق الناس بين أثريين وآرائيين،
فكلما وضعت ضوابط أكثر على السنة كلما قل الخذ بها ،وبهذا تتسع دائرة الرأي ،وكلما
أكثرنا الخذ بالسنة تقلصت دائرة الرأي ،وقاعدة الشريعة تقوم على التباع وتقليل الرأي
والجتهاد.
نعود إلى ما سمي بقواعد البيان التي سميت بعد ذلك بأصول الفقه ،كون أصول البيان وقواعده
هي نفسها قواعد استنباط الحكم الشرعي ،فكلما زاد الرجل معرفة في البيان وقواعده كلما ازداد
معرفة بمراد الوحي ،قال المام الشافعي :لنه ل يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل
419
سعة لسان العرب ،وكثرة وجوهه ،وجماع معانيه وتفرقها ،ومن علمه انتفت الشبه التي دخلت
على من جهل لسانها.ا.هـ )2( .فمن جهل لغة العرب ثم فسر الوحي على أي جهة كان
وبأي قواعد أخرى فقد أخطأ وإن أصاب ،قال الشافعي :ومن تكلف ما جهل ولم تثبته معرفته
كانت موافقته للصواب إن وافقه من حيث ل يعرفه غير محمودة وال أعلم ،وكان لخطأه غير
معذور إذا ما نطق فيما ل يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب منه.ا.هـ)3( .
هذه القواعد التي قالها الشافعي لم يخالف فيها أحد من أهل الملة قبل يومنا هذا إل ما تقوله
الباطنية ،وهي التي تجعل الرابط بين اللفظ والمعنى ليس هو الوضع اللغوي ،وإن قواعد
استنباط الحكم الشرعي من اللفظ ليست هي قواعد البيان ،بل هي عندهم راجعة إلى سلطة
أخرى غير سلطة البيان ،مثل قواعد شيوخهم ،وهؤلء ل خلف بين أهل الملة في كفرهم
وزندقتهم ،حتى المعتزلة ل يفترقون عن أهل السنة في هذه القاعدة ،وهو وجوب إرجاع تفسير
النصوص إلى قواعد البيان العربي ،يقول الجاحظ وهو معتزلي :للعرب أمثال واشتقاقات وأبنية
وموضع كلم يدل عندهم على معانيهم وإرادتهم ،ولتلك اللفاظ مواضع أخرى ،ولها حينئذ
دللت أخرى ،فمن لم يعرفها جهل تأويل الكتاب والسنة والشاهد والمثل.ا.هـ )4( .فهو
يجعل البيان العربي أساس وقاعدة تفسير ولكنه بصفته معتزليا شط في فتح باب ،أو لنقل وسع
بابا كان ضيقا ،وهو أن الصل في اللفاظ الحقيقة ول يصار إلى غيرها إل على استحالة حملها
على الحقيقة ووجود القرينة وهو الذي سماه المتأخرون المجاز -فإنه قال :ولتلك اللفاظ
مواضع أخرى ولها حينئذ دللت أخرى...الخ قوله .ولكن لم يختلف معنا المعتزلة في أساس
سلطة البيان ،فيقول الزمخشري :وما يميز به -أي إنسان -من سائر الحيوان من البيان هو
المنطق -أي الكلم الفصيح المعرب عما في الضمير.ا.هـ)5( .
أما اكتشافنا لهل البدع فعن طريق معرفتنا مغايرتهم في فهمهم للنص عن قواعد البيان
فاكتشافنا لهم يتم بإرجاع أنفسنا وأنفسهم لما فهمته العرب ،وعامة ضلل أهل البدع يكون بسبب
جهلهم بقواعد اللغة العربية ،ولهذا قال الحسن رضي ال عنه عن المبتدعة :من العجمة أوتوا.
وقال عمرو بن العلء -من أئمة أهل السنة -لعمرو بن عبيد -إمام المعتزلة في عصره -
لما ناظره في مسألة خلود أهل الكبائر في النار ،واحتج ابن عبيد أن هذا وعد ،وال ل يخلف
وعده ،يشير إلى ما في القرآن من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب بالنار والخلود ،قال له
ابن العلء :من العجمة أوتيت ،هذا وعيد ل وعد ،وأنشد قول الشاعر:
420
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي وإني وإن أوعدته أوواعدته
وقال بعض الئمة فيما نقل البخاري وغيره :إن من سعادة العجمي أو العرابي إذا أسلما أن
يوفقا لصاحب سنة ،وإنه من شقاوتهما أن يمتحنا وييسرا لصاحب بدعة.ا.هـ )6( .فالبدعي
أساسه الول هو ترك الصول العربية ،ثم أساسه الثاني :ترك المحكم إلى المتشابه ،وهذا الثاني
في الحقيقة عائد إلى الول ،لن من أصول البيان رد الفروع إلى الصول ،واتفاق البيان وعدم
اختلفه إذا صدر من حكيم .روى المام البخاري في صحيحه في كتاب التفسير أن عائشة
عَل ْيكَ
رضي ال عنها قالت(( :تل رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه اليةُ { :هوَ الّذِي َأ ْنزَلَ َ
خرُ ُمتَشَا ِبهَاتٌ فََأمّا الّذِينَ فِي ُقلُو ِبهِمْ َزيْغٌ َف َي ّت ِبعُونَ مَا
ح َكمَاتٌ هُنّ أُمّ ا ْل ِكتَابِ َوأُ َ
ا ْل ِكتَابَ ِمنْهُ آيَاتٌ مُ ْ
ل اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ يَقُولُونَ آ َمنّا
تَشَابَهَ ِمنْهُ ا ْب ِتغَاءَ الْ ِف ْتنَةِ وَا ْب ِتغَاءَ تَ ْأوِيلِهِ َومَا َي ْعلَمُ تَ ْأوِيلَهُ إِ ّ
ل ْلبَابِ} ،قالت :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم:
عنْدِ َر ّبنَا َومَا يَ ّذ ّكرُ إلّ ُأ ْولُوا ا َ
بِهِ كُلّ مِنْ ِ
((فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأؤلئك الذين سماهم ال فاحذروهم )))7( .
والمتشابه هاهنا ليس ما يذكر في كتب الصول ،ولكن شيء تختلف درجته في عدم دللته على
المراد في نفسه ،فمنه ما يحتمل أكثر من معنى ،ومنه مما ل يعلم حقيقته -ل تفسيره -إل ال
وليس هذا موطن تفصيل ذلك .لكن أهل البدع يتركون ما ل يفهم منه إل مراد المتكلم إلى ما
يحتمل عدة معاني (حيث وضع ابتلء للناس وهو ما تنكره الظاهرية) ،ولكن هذا المتشابه لم
يترك للناس من غير بيان فل بد من رده إما إلى المحكم أو إلى خاصه ،فيأتي أهل البدع إلى
هذا المتردد إلى معنيين أو أكثر فيصرفه إلى ما يريده هواه ،فأولئك هم طالبوا الفتنة ،والواقعون
فيها.
مدرسة كف اليدي أتت بالعجيب من القول:
- 1أسندت حق تفسير الكتاب والسنة للواقع والتاريخ (وهو الحكم القدري) ولم ترجع حق
التأويل إلى اللسان العربي ،بل احتقرت اللسان العربي كما تقدم من كلم جودت سعيد ،وهذا
الذي قالته هذه المدرسة باطنية جديدة ،فلو قال طبيب كافر إن بعض الخمر قد ثبت أنه يشفي
بعض السقام ،وثبت هذا بحكم التجربة والواقع ،وسيرورة التاريخ لوجب علينا أن نجيز القليل
من الخمر ول نلتفت لما فهم أهل البيان من كلم رب العالمين.
- 2يؤدي هذا المر في هذه المدرسة إلى تفسير النصوص تفسيرا جديدا ،ويجعل لللفاظ
العربية التي تكلم ال بما في القرآن معان جديدة لم يعرفها الوائل ،مما يلتقي هذا المر مع أهل
421
الحداثة الجدد -أو الزنادقة الجدد .-وهذا التجديد ستفرضه اكتشافات الناس للواقع والتاريخ
كما يزعم هذا التيار...
اليات المخبرة عن ابني آدم ووضعها في شرعة السلم لها جانبان من النظر ،جانب يلتقي
معها ،وجانب يفترق عنها ،أما ذكر الجانب المتفق معها فمعلوم اضطرارا وروده ،ولكن قد
يسأل سائل :ما فائدة أن يذكر القرآن الكريم جانبا من هذه القصة والحدث ول يريد من المة
المسلمة أن تتبعه وتقتدي به؟ وبعيدا عن قول أئمتنا السابقين أن شرع غيرنا ليس شرعا لنا ،أو
قول بعضهم إن شرع من قبلنا شرع لنا ،والخلف الدائر حول هذا المصدر ،فإن هذه اليات
فيها التأكيد العظيم على أن شريعة السلم التي أتى بها محمد صلى ال عليه وسلم هي أكمل
الشرائع ،وأحق الشرائع اتباعا ((فوال لو كان موسى حيا لما وسعه إل اتباعي)) كما قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم ،أما جانب التفاق فهو:
-1إن خطاب ابن آدم الصالح لخيه الخر ،هو خطاب علِمَ الخ من أخيه أن تخويفه بال قد
يردعه ويرده ،وإل فلو علم أن نفس الخ غير متهيبة لخطاب التخويف من ال لما خاطبه به،
ولكان هذا الخطاب عبثا ل قيمة له ،ثم تبين أن هذا الخطاب لم يجد نفعا ،ولما تبين أن هذا
الخطاب لم يجد نفعا كان ل بد من تغيير التشريع ليوافق الحق ،وهو عدم التمادي في الظلم ،أو
السترسال في تحقيق أهواء النفوس بقتل الخصوم ،وهذا هو جانب الفتراق كما سيأتي لحقا،
إذا فمقالة الرجل الخر" :اتق ال" لن تفعل مفعولها إل في نفس ترهب ال وتخافه ،وهذا من
جنس قول مريم عليها السلم للملك الذي جاءها بالروح عيسى عليه السلم{ :قالت إني أعوذ
بالرحمن منك إن كنت تقيا} ،فالستعاذة بالرحمن لن يخفرها التقي وهي استعاذة بكلمات ال
الكونية لما خفي عن النسان من الجن وغيره وهذه تمنع البر والفاجر ،واستعاذة بكلماته
الشرعية لما يراه النسان ويحسه ،فحين يقول المرء أعوذ بكلمات ال التامات من شر ما خلق
فإن المقصود بها الكلمات الكونية وليست التشريعية ،فلو قال رجل مسلم لكافر :أعوذ بال منك،
وأراد الكافر قتله فإن هذه الكلمات لن تنفعه ،أما إذا قالها لمسلم فإنها تنفعه ،كما نفعت كلمات
المرأة التي لقنت أن تقول لرسول ال صلى ال عليه وسلم :أعوذ بال منك ،فقال لها رسول ال
صلى ال عليه وسلم(( :لقد عذت بعظيم ،الحقي بأهلك)) ،فإنها نفعت مع من يعلم أن خفر ذمة
ال تعالى جريمة ومعصية توجب العذاب ،فمريم عليها السلم قيدت نفع كلماتها -أعوذ بال
منك بكون السامع تقيا ،أما إن كان فاجرا فإنه سيخفر ذمة ال تعالى.
422
نعود إلى خطاب ابن آدم لخيه{ :إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} ،هذا تهديد لمن يعلم قيمة
الثم ويؤمن أن وراء هذا الثم عقابا ،وهو الرادع في قلب المؤمن ،أما الكافر والعاصي الجاهل
الناسي فلن تردعه هذه الكلمات.
فالمؤمن هو الذي يخاطب بكلمات ال الشرعية لنها عظيمة القيمة في قلبه ،وأما غيره فليس له
إل كلمات ال الكونية.
المؤمن يقال له :اتق ال ،وعليك أن تخاف اليوم الخر فيتذكر كما قال تعالى{ :إن الذين اتقوا
إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} ،وأما الكافر فهو الذي {إذا قيل له اتق
ال أخذته العزة بالثم} ،فيتمادى في غيه وعصيانه.
المؤمن تردعه كلمات ال ،والكافر تردعه اللطمة وإن لم تنفع فالركلة ،فإن لم تنفع فالرهاب
{ترهبون به عدو ال وعدوكم} فإن لم ينفع فقوله تعالى{ :واقتلوهم حيث ثقفتموهم} ولن يردعهم
حتّى ُيثْخِنَ فِي
سرَى َ
إل أن تخضب الرض بدمائهم { مَا كَانَ ِل َن ِبيّ أَنْ َيكُونَ لَهُ أَ ْ
لرْضِ...فشرد بهم من خلفهم} .وإعمال كلمات ال التشريعية بالتخويف للكافر هزل بآيات ال
اَ
تعالى ،وإعمال كلمات ال الكونية مع من يرتدع بالكلمات التشريعية ظلم وتجاوز للحد ،ولكل له
مكانه.
مدرسة الصبر وكف اليدي تريد منا أن نقول للنصيريين وهم في ذروة حماسهم وسكرتهم:
اتقوا ال!! ،فهل جربت هذه المدرسة ماذا يقول المرتدون في بلدنا وهم يعذبون الشباب المسلم
فتخرج كلمات الستغاثة من الشباب قائل :أنا لئذ بال أو ملتجئ إليه ،فماذا كان ردهم؟ :ألم
يخبرنا أولئك أنهم ردوا عليهم قائلين :لو حضر ال إلى هنا لسجناه معكم( .أستغفر ال وأتوب
إليه).
لو أن المرتد دخل بيتك ليزني بأهلك فهل تمنعه من فعلته الشنيعة بقولك :اتق ال؟! ،إني أريد
أن تبوء بإثمي وإثمك ولمن زنيت بأهلي لن أحقد عليك ولن أسميك عدوا ،إني أخاف ال رب
العالمين؟!.
بل سأذهب معكم إلى بعد آخر ،لو أن المشركين من اليهود قالوا لرسول ال صلى ال عليه
وسلم بعد هزيمة بني قريظة ،فحكم فيهم سعد بن معاذ رضي ال عنه أن يقتل رجالهم ،فلو أن
يهوديا؟ قال لرسول ال صلى ال عليه وسلم ليكف يده عن قتلهم :يا محمد اتق ال فينا!! فماذا
423
سيكون جواب رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ سيقول له :أنا بأمر ال الذي أتقيه أقتلكم ،ولول
تقوى ال ما حكمت فيكم هذا الحكم.
هذا أبو بكر الصديق -رضي ال عنه -يقول له الناس عند توليته عمر بن الخطاب من بعده:
أستخلفت على الناس عمر ،وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه فكيف إذا خل بهم ،وأنت
لق ربك فسائلك عن رعيتك ،فقال أبو بكر :أبال تفرقني (تخوفني)؟ .إذا لقيت ال ربي فسألني
قلت :استخلفت على أهلك خير أهلك.ا.هـ)8( .
واليهودي يعتقد أنه بقتله المميين يرضي ربه ،وكذا النصيري والدرزي ،وكل ملة تتعبد إلهها
بخصومتها للخرين.
ولو ذهبنا نستعرض التاريخ النساني والسلمي عن حالة واحدة تؤيد اتجاه هذا الفريق لما
وجدنا ،بل إن الية ضدهم ،فإن تخويف ابن آدم لخيه لم يمنعه من قتله ،والعرب تفهم هذا،
فإنها قالت :القتل أنفى للقتل ،وال تعالى قال { :ولكم في القصاص حياة} ولكن القوم :قال ال،
قال الرسول ،كلمات لم تعد تخيفهم ،فليأتوا لنا بحالة واحدة درست دراسة علمية تؤيد سبيلهم.
-2إن مما قاله ابن آدم الصالح لخيه :إني أخاف ال رب العالمين ،فالمانع له عن بسط يده
لخيه حتى في رد عدوانه عليه هو خوفه من ال تعالى ،فهو يتعامل مع شرع مأمور به ،وهو
أنه لو بسط أخوه يده له بالقتل فعليه أن ل يبسط له يده لقتله ،امتثال لمر ال تعالى ،فهل مسلم
اليوم يستطيع أن يقول ذلك ،وهو مأمور بقوله تعالى{ :وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم
على سواء} فأمر ال تعالى المسلم أن يقاتل من بينه وبينهم عهد لمجرد ظهور بوادر الخيانة،
فكيف من لم تكن بينه وبين المسلمين عهود ومواثيق؟!!.
ألم يقل سبحانه وتعالى{ :إل تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم} فجعل كف اليد
وترك القتال سببا موجبا لعذاب ال تعالى ،فأين هذا من ذاك؟! .
ألم يأمر النبي صلى ال عليه وسلم الرجل أن يفقأ عين الناظر إليه في بيته دون إذنه؟ ،وقال :
((إنما جعل الستئذان من أجل البصر)) ،فهل انقلبت صورة الحجر التي تفقأ عين الظالم إلى
ورود في نفسية هذا التيار في هذا الزمان؟!.
أليس هذا هو عين تأويل البعض لقوله صلى ال عليه وسلم(( :احثوا في وجه المداحين
التراب)) ،فكان من تأويل بعض فقهاء السلطين لهذا الحديث أن الذهب من التراب ،والسلطين
يطبقون أمر ال تعالى ،فمن مدحهم حثوا في وجهه الذهب امتثال لمر النبي صلى ال عليه
424
وسلم ،فصار التراب ذهبا! ،وصار فقء العين يعني أن تعلق على ياقته الوردة حتى تخجل عينه
فيغلقها ،فهذا هو عين الفقء!!.
هكذا تنقلب الوامر الشرعية إلى تأويلت جديدة تشابه تأويلت الباطنية.
آيات ابن آدم تصور لنا الحقيقة التالية:
رجلن قد اختلفا :رجل يخاف ال فترده الكلمة والموعظة ،ورجل ل يخاف ال فوعظ وخوف
بال تعالى فلم يرتدع ،فل بد من ردعه ورده حتى ل يتمادى في غيه وظلمه ،إذن ل بد من
شيء آخر غير كلمات ال التشريعية ،وهي كلمات التكوينية ،فتطور التشريع ليوافق الحق
المطلق ،وهو ما جاء به رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وهذا جانب الفتراق.
قصة ابني آدم عليه السلم ككل القصص القرآني فيها من العبر والعظات التي تؤكد حكمة
الرب سبحانه وتعالى ،وتؤكد الحق المطلق الذي جاء به رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وقد
قلنا إن في قصة آدم جانبا يفترق عن شريعة السلم ،وهو جانب كف اليد عن المعتدي إذا
أرادك بسوء وظلم ،وقد نستطيع القول إن هذا الجانب كذلك ل يفترق عن شريعة السلم ،وهو
كف اليد عن المسلمين حتى لو أرادوك بظلم وشر ،وأن تكن كما قال صلى ال عليه وسلم( :كن
عبد ال المقتول ول تكن عبد ال القاتل) ،وهذا قطعا وجزما هو مع المسلمين من بني عقيدتك
ودينك ،فالحديث الول يذكر في زمن الفتن الواقعة بين المسلمين ،وكذلك الحديث الثاني ،أما مع
غير المسلمين فل بد من استحضار قوله صلى ال عليه وسلم(( :ل يجتمع كافر وقاتله في
النار)) وهو حديث فيه الترغيب في قتل الكافر ،فكلما قتل المسلم من الكافرين كلما باعد ال بينه
وبين جهنم ،وقد كان الصحابة رضي ال عنهم يتنافسون في قتل أعداء ال تعالى كما في قصة
ابني عفراء مع أبي جهل ،فهما جانبان يحضران في نفس المسلم في الوقت ذاته {أعزة على
الكافرين} {أذلة على المؤمنين} لكن لو قلنا أن شريعة ابن آدم الول كانت تمنع بسط اليد إلى
أي أحد كائنا من كان فما هو وجه ذكرها في القرآن؟ ولماذا تذكر بعض الجوانب في قصص
النبياء في القرآن الكريم مما ل تلتقي مع شريعة السلم؟ فما هي الحكمة في ذلك؟.
إن المقارنة بين الشريعتين شريعة الوائل وشريعة محمد صلى ال عليه وسلم -مهمة من
مهمات القرآن الكريم ،لن فيها من ال تعالى على عباده في أمة محمد صلى ال عليه وسلم
بأنه لم يشرع لهم إل الفضل ،ولم يعطهم إل خير ما عنده سبحانه وتعالى في عله ،فالوائل
استؤمنوا على كتبهم فخانوها وبدلوها ،فدل هذا التبديل والتحريف أن الناس لن يكونوا أوفياء
425
لكتبهم ،فمن ال تعالى على هذه المة بأن نزع منها حق الحفاظ على الكتاب وألزم الرب جل
في عله نفسه بأن يحفظه {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وكان الوائل يقتلون أنبياءهم،
فعصم ال نبي هذه المة من أعدائه { وال يعصمك من الناس} ومسيرة النبياء مع أقوامهم دلت
على أن كل نبي أتى إنما أعطاه ال سبحانه وتعالى ما ظهر لمن قبله أنه محتاج إليه ،ولو تفرغ
بعض طلبة العلم ليرى تطور منهج النبياء في الدعوة لرأى العجب العجاب ،ومع أن هذا
التطور شرعي ورباني ،أي أنه وضع إلهي ،ولكن مع توقيفه إل أن ال سبحانه وتعالى يعلم
عباده فوائد ما فرض عليهم من تطور جديد من خلل تجربة النبي السابق ،لتظهر حكمة ال
تعالى في التشريع الجديد ،وليشعر النبي وأتباعه أن هذا الفارق كان له ما يبرره من حكمة ال
تعالى ،وهذا كله من رحمة ال تعالى بعباده.
لقد كان سبحانه قادرا {ل يسأل عما يفعل} أن يقيم هذه الحياة في أسس وجودها القائمة على
الصراع بين إرادة ال سبحانه وتعالى وبين إرادة الشيطان ،إرادة ال تعالى التي تقدم للناس
الحق ،وتجزي على الخير الجور المضاعفة ،وبين إرادة الشيطان التي تقدم للناس الباطل،
وتجزي أتباعها يوم القيامة {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا} وقوله لهم { :وما كان لي
عليكم من سلطان إل أن دعوتكم فاستجبتم لي فل تلوموني ولوموا أنفسكم} وغيرها من عبارات
البراءة والبعاد ،لقد كان ال قادرا أن يقيم هذه الحياة على هذا الصراع من غير المقدمة التي
تمت في السماء والتي تبرر هذا الصراع على النسان ،لكن ال سبحانه وتعالى حكيم ورحيم
بعباده ،فإنه قدم لهم هذا الصراع مع مقدمة كونية حقيقية لتكون أدعى لقبولهم وأرجى
لستجابتهم ،فسبحانه في عله يدعوهم إلى الحق بكل الصور التي تدفعهم للقبول والرضا ،إذ
سبحانه ل يشرع لعباده من أمر إل ويقطع لهم من الحقائق الكونية التي تثبت لنفوس البشر
التواقة للمعرفة أن ما قاله وشرعه موافق لما خلقه وأبدعه { ،سنريهم آياتنا في الفاق وفي
أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ} وهذا قد حدث مع حركة النبياء وسيرتهم مع أقوامهم ،فما من
نبيّ إلّ وقد أغنى النّبيّ القادم بعده بتجربة يتواصل معها القادم ليعطي ثمرة أن يكون أكثر
ونتيجة أعظم ،ولذلك فليس من الغريب أكثر النبياء أتباعا هم آخر النبياء ،موسى وعيسى
ومحمّد عليهم الصّلة والسّلم ،وعدد أتباعهم كثرة على التّوالي ،وأكثرهم تابعا هو محمّد صلى
ال عليه وسلم ،فها هو رسول ال صلى ال عليه وسلم يدعو إلى ال تعالى كما دعا نوح عليه
السّلم مدّة ثلثة عشر سنة في مكّة فلم يستجب له إلّ القليل كما قال عن نوح { وما آمن معه
426
إلّ قليل} .ومحمّد عليه السّلم في دعوته على منهج نوح لم يستجب له إلّ القليل ،فشرع لهم
طريقا آخر في الدّعوة وهو اجتماع كلمة الحقّ مع القوّة والسّيف ،فبهذه الطّريق دخل النّاس في
دين ال تعالى أفواجا ،هكذا ينبغي أن نفهم قصص النبياء في القرآن ،وهي صورة المقارنة بين
طريقة الوائل وطريقة محمّد صلى ال عليه وسلم ليعلّم أتباعه أنّهم هم القوى طريقا والسلم
منهجا ،فل يحيدون عنه لنّهم يرون نتائج الطّرائق الولى ونتائج طريقة المتأخّر ،وللتّدليل على
هذا الذي قدّمتُ أذكر هذا المر وهو أنّ لوطا عليه السّلم في صراعه مع قومه تمنّى أن يكون
معه شيء آخر في دعوته إلى ال غير الكلمة الحسنة في مجابهته لقومه الكافرين ،قال لوط
عليه السّلم{ :لو أنّ لي بكم قوّة أو آوي إلى ركن شديد} هذه العبارة التي قالها لوط تحمل معها
الدّعاء والرّجاء ،إذ يتمنّى أن تكون معه قوّة لتساعده في الدّعوة لنّه اكتشف أنّه ل بدّ أن يكون
مع الكلمة قوّة يقاتل بها وركن شديد يؤوى إليه ،فهذه تجربة نبويّة ل بدّ أن يستثمرها النّبيّ
اللحق وذلك بتشريع ربّانيّ .فكان الذي بعده ل بدّ له من ركن شديد يأوي إليه ،قال صلى ال
عليه وسلم بعد أن قرأ اليات السّابقة { لو أنّ لي بكم قوّة أو آوي إلى ركن شديد} قال(( :رحمة
ال على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد -يعني ال عزّ وجل -فما بعث ال بعده من نبيّ
إلّ في ثروة من قومه)) ،فدلّ هذا على تطوّر مسيرة النبياء في دعوتهم إلى ال بطريقة سننيّة،
فإذا جاء تشريع جديد فهو بيّن الضّرورة ،واضح السّبب.
لماذا ذكرت قصّة ابني آدم في القرآن الكريم؟:
لقد ظهر من قصّة ابني آدم أنّ النّفوس البشريّة ل ترتدع بالكلمة ،ولنقل إن الكثير منها ل ترتدع
بالكلمة وهو الصل في النّفوس ،وأنّه ل بدّ أن يشارك الكلمة الحسنة التي تقنع العقل بالصّواب
عصا تردع النّفس الرّاغبة في الشّر ،لنّ النسان قد يقتنع بالحقّ ويعلمه ويدركه ،ولكن يمنعه
من اتّباعه هوى النّفس وشهواتها ،فل بدّ من علج القسمين :الفكر والنّفس ،فالفكر يعالج
بالموعظة والذّكرى والمجادلة ،والنّفس ترتدع بالعصا والسّيف ،والرّهبة من العقاب ،وهذا هو
الصّواب في التّربية كما أمر صلى ال عليه وسلم راعي البيت أن يعلّق العصا في بيته ليراها
أهله تخويفا لهم من ارتكاب المخالفات ،وتجربة ابن آدم الوّل كشفت لنا هذا المر ،فهذا أخ
شقيق (وجود العاطفة النّسبيّة الصّلبيّة) تدفعه نفسه إلى قتل أخيه رغبة في الشّهوة النّفسيّة،
فيعظه أخوه {إنّي أخاف ال} ويخوّفه العقاب {فتكون من أصحاب النّار} ،ولكنّ هذه الشّهوة
أعمته عن العاطفة الخويّة ،وعن الموعظة العقليّة وعن رؤية العقاب الجل ،فقتله {فطوّعت له
427
نفسه قتل أخيه فقتله} ثمّ ذهب بعد ذلك نادما {فأصبح من النّادمين} ،لكنّ المعصية قد وقعت
وقتل ابن آدم الصّالح .فهل تشريع ابن آدم الوّل نفع في منع وقوع المعصية؟ أبدا لم ينفع .إذن
ل بدّ من تشريع يمنع من وقوع المعصية.
كلمات ال التّشريعيّة ،والعاطفة الجبّليّة موانع ولكنّها ليست كافية ،فجاء التّشريع الخير ،الخاتم
ق المطلق بردع العاصي عن معصيته {وإمّا تخافنّ من قوم خيانةً فانبذ
لكلّ تشريع وفيه الح ّ
إليهم على سواء} و{فشرّد بهم من خلفهم} و{فاضربوا فوق العناق واضربوا منهم كلّ بنان} و
{وما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الرض} و{ول تأخذكم بهما رأفة في دين ال}
و{واغلظ عليهم} و{وليجدوا فيكم غلظة} و"قد حكمت فيهم بحكم ال من فوق سبع سماوات")9( ،
حتّى وصل المر أن ترتعد فرائص العداء بمجرّد سماع اسم المسلمين ،وهذا تفسير قوله
صلى ال عليه وسلم(( :نصرت بالرّعب)) ،لنّ المسلمين هم قوم يتقرّبون إلى ال بذبح أعداء
ال ،فالذّبح سجيّتهم ،وبه يكون العالم سالما من المعاصي والذّنوب إلّ فيما قدّر ال سبحانه
وتعالى.
فشريعة محمّد صلى ال عليه وسلم هي التي تمنع وقوع المعاصي واستفحالها:
-رجل سرق تقطع يده ،فصاحب شهوة السّرقة سيتحسّس يده ألف مرّة قبل أن يمدّ يده إلى
دراهم غيره..
-رجل يزني يرجم أو يجلد ،فصاحب الشّهوة ستموت شهوة الجنس عنده بمجرّد تذكّره حرّ
الحجارة أو ألم السّياط أو ذهاب سمعته بين النّاس..
-رجل يريد أن يرتدّ سيجفّ حلقه خوفا قبل أن يستطرد ذهنه مع هذا الهاجس الشّيطانيّ.
أمّا شريعة ابن آدم الوّل فقتلته ،فأيهما أهدى سبيل(( ..أمتهوكون أنتم ،وال لو كان موسى حيّا
ما وسعه إلّ اتّباعي)) ،فاتّباع سبيل ابن آدم الوّل في مطلق كفّ اليد عن الكافرين وأعداء
ك وضلل.
الدّين ..ته ّو ٌ
( - )1ص .21
( - )2ص 50فقرة .169
( - )3ص .52
( - )4كتاب الحيوان ( 4ص .)289
( - )5الكشاف ( 4ص .)442
428
( - )6الرسائل والمسائل النجدية (ج 2ص .)11 ،10
( - )7صحيح البخاري (ج ،5ص .)166
( - )8الطبري.
( - )9وذلك في حكم سعد بن معاذ في بني قريظة في قتل رجالهم.
العنف والسرية ومذهب كف اليدي:
هل صحيح أنّ سبب انتكاسة الحركة السلميّة بمجملها في الوصول إلى أهدافها هو تبنّيها منهج
العنف واعتماد الس ّريّة وسيلة في الحركة والعمل؟.
هذا ما يحاول خصوم المنهج إثباته وتقريره ،وهم لهم طرق عدّة في إثبات هذه المقولة.
هؤلء الخصوم تتفاوت درجاتهم في فهمهم للمنهج الصّداميّ ،فبعضهم يرى أنّه بمجرّد تبنّي
ي يصبح المنهج صداميا
الحركة السلميّة للعمل السّياسيّ أو كما يسمّيه بعضهم الكفاح السّياس ّ
يعطي المبرّر للطّواغيت بضرب الحركة ،وبعضهم مثل جماعة التّبليغ يرى أنّ مجرّد الحديث
في السّياسة طريق مهلك للعمل السلميّ ،لنّنا بذلك ندقّ نواقيس الخطر التي يتخوّف منها
الطّغاة ،ومن أعجب ما نرى ممّن ينتمي للسلم أن نرى بعض المشايخ وخاصّة ممّن ينتمي
لل ّتيّار السّلفي ويتدثّر بشعاره يعلن ويجعل وليّ المر في مرتبة ل يجوز أن يتحدّث عنها أحد
بنقد أو تقويم ،ولكن هل صحيح أنّ سبب ضرب الطّغاة للحركة السلميّة تبنّيها العنف ؟.
إنّ طرح القرآن الكريم لعمليّة الصّراع بين الحقّ والباطل كطريق حتميّ في هذا السّبيل يجعلنا
نثق أنّ البلء لبدّ أن يقع على أيّ وجه من الوجوه ،وأنّ الحقد الذي يكنّه الطّغاة لهل التّوحيد
قضيّة ل مفرّ منها ول مهرب ،لنّ الباطل بذاته يكره الحقّ ويحقد عليه ول يحتاج لمبرّر آخر
لضربه وسحقه ،فهذه علقة جدليّة حتميّة ل مفرّ منها في لقاء الحقّ والباطل وفي تضاربهما.
ثمّ تعالوا إلى أرض الواقع لنرى أيّ نوع من العنف تبنّت الحركة السلميّة حتّى كان ضربها
عملً ل مفرّ منه من قبل الطّغاة ؟.
إنّ جماعة "الخوان المسلمين" هي التّجربة التي يحاول من خللها أصحاب مدرسة كفّ اليدي
العتماد عليها في تقرير مبدأ أنّ استخدام العنف سبب شقاء العمل السلميّ ،هذا على الرّغم
من أنّ هذه المدرسة ل تفتأ المرّة تلو المرّة ،بمناسبة وغير مناسبة العلن أنّ بينها وبين منهج
العنف عداء مستحكم أصيل ،بل وتذهب أكثر من ذلك ،وذلك بإعلنها أنّها لن تخرم موادّ
الدّستور والقانون في أيّ عمل من أعمالها أو تصرّف من تصرّفاتها ،وهي قد قبلت بكّليّتها
429
نتائج العمل الدّيمقراطيّ ،حتّى أنّ رجلً من رجـالهم في برلمان الكويت يعلن بعد فوز
الحكومة في إحدى قوانين الردّة والكفر فيقول هذا البرلمانيّ :لقد قبلنا بالدّيمقراطيّة كحكمٍ فعلينا
أن نرضى بنتائجها .لكن هل الضّربة التي تلقّتها جماعة الخوان المسلمين من عبد النّاصر هي
بسبب تبنّي الجماعة لمنهج العنف ؟.
الجواب بكلّ وضوح :ل وألف ل ،فإنّ الجماعة منذ مؤسّسها ومرشدها الشّيخ حسن البنّا إلى أن
ضربت زمن الرّجل الثّاني في قيادتها وهو المحامي الهضيبي لم تخرم العمل السّلميّ قِيد -
بكسر القاف ل بفتحها -أنملة ،فقد كان الشّيخ البنّا واضحا في عدم تبنّيه العمل الصّداميّ ضدّ
الحكومة المصريّة بقيادة ملوكها الكفرة ،فهو الذي أمر جماعته أن تخرج لستقبال فاروق بعد
عودته من إحدى أسفاره ،وأمرها في هذا الستقبال أن تهتف له لتأييده وبرّر ذلك بقوله :إنّ
على العالم أن يعرف أنّ الشّعب المصريّ يحبّ مليكه ،ومعلوم أنّ الستاذ حسن الهضيبي هو
الذي أمر بحلّ الجهاز الخاصّ ،وهو الجهاز العسكريّ الذي كان حسن البنّا قد أنشأه من أجل
قتال النجليز ،وهنا ل بدّ من وقفة وهو أنّ كلمة الجهاد التي ترفعها جماعة الخوان المسلمين
على معنىً واحد ،ومفهوم قاصر ،وهو جهاد الجنبيّ :أي أن يجاهد المصريّون النجليز،
ويجاهد الفلسطينيّون اليهود ،ويجاهد الفغان الرّوس ،أمّا جهاد الكافر العربيّ أو المرت ّد العربي
فهذا ل يدور بخلدهم ،فهو ليس له وجود في أذهانهم بسبب عدم وجود المقدّمات الشّرعيّة لهذا
النّوع من القتال وهو فهم التّوحيد على أساس فهم الصّحابة رضي ال ع نهم ،فالقائد الذي ل
يفتأ يوزّع الرّحمات والدّعوات بدخول الجنان للطّواغيت أمثـال عبد النّاصر والسّادات
وغيرهما وأقصد الستاذ عمر التّلمساني ،ل يمكن أن يكون على بصيرة واضحة لفهم التّوحيد
الذي بعث به الرّسل ،فجماعة الخوان المسلمين التي ُتتّهم أنّها أفرزت الفكر الجهادي ،أو كما
يزعم تيّار الضّلل والبدعة ،تيّار مدرسة ربيع المدخلي وفريد المالكي وقد انض ّم إليهم أخيرا في
تلك الزّفّة "جمعيّة إحياء التّراث السلميّ" عن طريق مجلّتهم الضّالّة "الفرقان" ،هذا ال ّتيّار
المتدثّر بلحاء السّلفيّة كذبا وزورا يتّهم جماعة الخوان المسلمين أنّها مصدر الفكر السّلفيّ
الجهاديّ ،فإنّها هي التي أوصلت الشّباب المسلم إلى تكفير الحكّام ،نقول إنّ جماعة الخوان
المسلمين بريئة من هذه التّهمة ،لنّ الجماعة بكلّ أدبيّاتها لم تدْعُ إلى شيء من ذلك البتّة،
فسيبقى السّؤال إذا قائما ،لماذا ضربت جماعة الخوان المسلمين؟ هل لتبنّيها العنف مع الحكّام؟
وأعود وأقول إنّ مفهوم العنف والصّداميّة مختلفة درجته عند تيّار كفّ اليدي ،فهو متفاوت بين
430
الستاذ محمّد سرور مثلً وبين جماعة التّبليغ ،فالستاذ سرور عند جماعة التّبليغ مثلً هو
ي المنهج ،وطريقه مهلكة لنّه بسلوكه لطريق العمل السّياسيّ عن طريق البيان والتّبليغ
صدام ّ
يعطي المبرّر للدّولة لضربه وتصفيته ،بل إنّ الستاذ سرور بما هو عليه من سلوك طريق
السّلمة ونبذ القتال ،ونبزٍ لجماعات الجهاد في العالم السلميّ بأقبح الوصاف متّهم من التيّار
المذكور -تيّار السّلفيّة المزعومة -بأنّه من الخوارج ،وهذا قاله أحد أعمدة هذا التيّار وهو
الشّيخ عبد ال السّبت ،وهكذا تدور الدّائرة ..سرور يتّهم جماعات الجهاد بالخارجيّة ،وسرور
متّهم من جماعة السّلفيين المزعومة بأنّه خارجيّ ،بل إنّ الشّيخ عبد الرّحمن عبد الخالق متّهم
عند البعض بأنّه يحمل فكر الخوارج ،وهو يدعى ضال فقط لنّه أجاز للسّلفيين في الكويت أن
يتكتّلوا وينتظموا ويمارسوا العمل السّياسي ،وهكذا تصبح السّاحة هي ساحة شعارات جوفاء ل
يعقل النّاقل لها وكذلك النّاطق شيئا من مفهومها ومدلولها .إنّ مجرّد وجود جماعة تدعو إلى ال
تعالى ،وتدلّ النّاس على الخير ،وتنشر في النّاس الفضيلة جماعة لن تكون مقبولة من قبل
الطّواغيت ،ولن ترضى عنها حكومات الردّة في عالمنا المليء بالشّياطين ،إنّ حكّامنا ل
يحتملون وجود الطهار بين أظهرهم ،وهذه نفسيّة المرتدّ ،لنّها مشتقّة من نفسيّة الشّيطان الذي
ن لهم صراطك المستقيم} ،فهؤلء يجب عليهم أن يقضوا على الخير ،سواء تبنى هذا
قال{ :لقعد ّ
الخير العنف أم لم يتبنّاه ،وهو يجب عليه أن يتبنّاه ليحمي نفسه أوّلً وليدمّر معاقل الشّياطين
التي تمنع وصول الخير إلى النّاس.
في بلدة كانت تسمّى إسلميّة ،رئيسها خرّيج الجامع الزهر بالشّهادة العالميّة في علم الصول،
انتخبه النّاس يوما لنّه رجل متديّن ،هذا الحاكم المرتدّ (عالم أصول) يمنع في بلده أن يتحدّث
المشايخ في المساجد عن حرمة الخمر ،ويمنعهم أن يتحدّثوا عن الحجاب ،ومن خالف فمصيره
السّجن والتّعذيب ،وهو يسهّل الدّعارة بدرجة عالية حتّى أني سألت أحد الصّالحين في تلك البلدة
عن سبب عزوف المتديّنين من الزّواج من بني جلدتهم ،فأجابني شاكيا إنّه من الصّعب جدّا أن
تجد في بلدتنا عذراء.
هذا الحاكم يلحق النّاس بسبب طهرهم وعفافهم.
وفي النّهاية..
إن حملت السّلح ستقتل..
وإن ركعت ستقتل..
431
إذا احملت السّلح ومت عزيزا ،وربّما تنادى في العالي :فلن شهيــد.
جوهر الخلف بين مدرسة الجهاد والسلم بقليل من التّمعّن والنّظر يتبيّن للفاحص أنّ الخلف
بين مدرسة كفّ اليدي والصّبر وترك العنف والعمل الصّداميّ ،وبين المدرسة الجهاديّة السّلفيّة
ليس خلفا على باب من أبواب الفقه ،وليس الخلف حول مسألة فقهيّة ،يسع النّاس الخلف
فيها ،بل الخلف حول منهج ومنهج ،بل يصل الخلف إلى مستوى طبيعة الفهم للسلم
وجوهره ،حيث تنظر بعض التيّارات المذكورة إلى السلم من بُعد إنسانيّ يعظّم فيها النسان
إلى درجة التأليه ،وهذا يفرز صورة تعطي للعقل النسانيّ حقّ إلغاء النّص تحت دعاوى
أصوليّة كثيرة ،مثل مدرسة "الغائيّة" أو مدرسة "المصلحة" التي ينسبونها كذبا وزورا للمام أبي
إسحاق الشّاطبيّ ،وأمّا المدرسة الجهاديّة فهي تتعامل مع القضيّة من بُعد واحد ،وهو بعد
العبوديّة لربّ العالمين ،وبه تلغى الهواء التي تسمّى زورا بالعقل والمنطق.
أعمدة المدرسة المذكورة التي مثّل صورتها الوضح جودت سعيد وتلمذته ،تبيّن لنا فساد ما
قالوا في فهمهم للقصص القرآني ،وقبل ذلك فساد منهجهم في التّعامل مع الوحي ،والمنهج
الصوليّ التّحليليّ للنّص ،الذي أوصله إلى درجة الدّعوة إلى إلغاء قدسيّة النّص ،وكذلك في
فهمهم للسّنن القدريّة التي تتبجّح المدرسة أنّها رائدة هذا الباب وذلك أنّهم زعموا أنّهم أصحاب
دعوة إلى الدّراسات السننيّة في المجتمع والنّفس ،ول أدري إلى أيّ درجة من الفهم الثّاقب
وصلوا في تحليلهم لحركة الخميني ،التي زعموا في أبحاثهم أنّ حركته ومنهجه في رمي
الورود ضدّ ال ّدبّابات ،وإلقاء البتسامات ضدّ فوّهات البنادق هي التي ضمنت النّجاح لحركته
س ّريّة "السّافاك" ،وجيشه الذي كان يحضّر كخطّ أوّل ضدّ الغزو الرّوسيّ
ضدّ الشّاه وشرطته ال ّ
من قبل الدارة الغربيّة! هل هذه النّتيجة التي خرجوا بها هي ممّا يستحقّ أن يدخل في باب
البحث العلميّ ؟ أو لنَقُل في مرتبة الكلم الذي يُستحقّ أن يحترم؟.
هل صحيح أنّ غاندي (أستاذ المدرسة الوّل) بحركته السلميّة السلبيّة المزعومة هي التي
ضمنت له النّجاح ضدّ اللة النجليزيّة في الهند ؟! فأوصلته إلى تحقيق أهدافه وذلك حين
أصيب الجنديّ النجليزيّ بعقدة النّدم فألقى السّلح جانبا وترك الهند وشأنها؟! أصحيح أنّ هذه
هي الدّراسات السننيّة الواعية التي تتعامل مع الحدث باحترام وتقدير؟!.
ل أدري وال أمام هذا الغثاء ما أقول؟ وأنا لست هنا بصدد دراسة حركة الخمينيّ لنّي أعتقد
وإلى الن أنّ حركته في التّغيير كانت كجبل الثّلج الطّافي على الماء ،إذ يمثّل الجانب المخفيّ
432
منه أكثر بكثير من الجانب الطّافي ،وحركة الخميني ول شكّ أصابت الكثير من الرّؤوس
المفكّرة ،والقيادات الحركيّة بالصّدمة ،إذ ظنّوها هي النّموذج الصلح في التّغيير ،فبعض
الحركات خرجت بنتيجة اعتماد نظريّة حركة الجماهير ،وأنّ الشّعوب هي الرقم الصّعب ،وهي
القادرة على خوض المعركة ،وتحقيق النّتائج ،ولو أردنا أن نردّ على هذه النّتيجة بصورة مقابلة
لها تنقضها لرأينا أنّ تجربة النقاذ في الجزائر مثّلت الجانب السّلبيّ لهذه النّظريّة ،وأنّ
ن العمل النّخبويّ الطّليعيّ هو
الجماهير كعدد ل تشكّل الرقم الصّعب في التّغيير ،فلو قال قائل أ ّ
القادر على تحصيل النتائج لحتجّ بآلف التّجارب النقلبيّة في العالم القديم والحديث ،فليس
بمثل هذه البعاد الفكريّة السّاذجة تناقش حركة التّغيير النقلبية ،لنّ أعظم الباحثين والعاملين
في هذه المسألة سيقول لك :إنّ أعظم النّاس إدراكا لطبيعة عدوّه وحقيقته ،ولطبيعة واقعه لن
ن النّبيّ محمّد صلى ال عليه وسلم لم
يستطيع أن يجزم بنتائج الحركة الثّوريّة النقلبية ،بل إ ّ
يكن يدري ما يفعل به ،ولول الوحي اللهيّ المبشّر بحصـول الظّفر لما كان لبشر -أيّ بشر
-أن يخبرنا جزما بنتيجة حركة التغيير وسبب ذلك أنّ حركة التغيير الثوريّ النقلبيّ هي من
أشقّ ما يقع في الوجود من تفاعلت ،وعناصر هذا التفاعل تشمل عناصر الوجود بأكمله ،ثمّ إنّ
من عناصر هذا التّفاعل النسان ،وهو ليس بعنصر جامد خالي الرادة ،فإلى أيّ درجة
سيضمن القائد هذا الرقم المتغيّر ،والجماهير على مدار التّاريخ ضعيفة الدراك ،يسيطر عليها
عقليّة وغريزة القطيع ،فبلمسة ذكيّة تصبح الهتافات في اتّجاه معاكس إذا فقد اللعب بعض
بريقه أو إذا دخل عامل جديد على هذا التّفاعل الواقع.
حركة الخميني حركة معقّدة ،دخلت فيها الكثير من العناصر ،المعلوم منها والمجهول ،الصيل
فيها والدّخيل ،فكيف لعقلي الصّغير ،ولنفسيّتي التي تحلّل الشياء تآمريّا أن أقبل القول أنّ
الخميني بإخلصه -مع كفره -قبلت منه فرنسا أن يركب من مطاراتها وينطلق كمخلّص
لمجتمعه من نير العبوديّة للغرب ،من غير أن يقدّم الخمينيّ شيئا من إخلصه لشعبه مقابل هذا
الصّنيع الفرنسي ،بل الدوليّ.
نرجوكم :قليلً من احترام العقل يا أصحاب العبوديّة للعقل والمنطق ،لنّه ليس من العقل ول
من المنطق أن يقول لي جودت سعيد ومدرسته أنّه بمجرّد أن أمر الخمينيّ الشّعب اليرانيّ أن
سرّ الذي لم تكتشفه
يواجه جيش الشّاه بالورود والقبلت حصلت المعجزة ووقع النّصر وتحقّق ال ّ
الحركات السلميّة!!.
433
ويقال كذلك بمثل هذا القول في استشهادهم بحركة غاندي ضدّ الحتلل النجليزيّ للهند ،ويقال
هنا على الخصوص :لماذا ألغت هذه المدرسة ما كان ظاهرا كنور الشّمس ضياءً ووضوحا،
وهو أنّ غاندي صنيعة إنجليزيّة أوجدوها لتحقيق الهدف بسلب المسلمين حقّ قيادة الهند
ورئاستها ،إذ من المعلوم أنّ حركة الجهاد في الهند كانت على أشدّها بقيادة العلماء المسلمين
من مدرسة "ديويند" ومشايخ أهل الحديث ،فإنّه قد علم القاصي والدّاني أنّه لم يُطلق طلقة واحدة
ضدّ النجليز في الهند إلّ من قبل المسلمين ،فحركة التّحرّر من الستعمار كان المسلمون
وقودها ودثارها ،وأدرك الستعمار النجليزيّ أنّه ل بدّ من ترك الهند ،ول بدّ من وجود بديل
وراءه يحقّق له أهدافه ،وهي صورة تكرّرت في كلّ البلد ،فل ب ّد من صنع الصّنم ،فكان
غاندي ،حيث طبّلت له صحافة الغرب وأظهرته بصورة القدّيس المخلص؛ رجل وطنيّ يلبس
من قطن بلده ،ويلتحف بلباس القدّيسين والزّهّاد ،والطمّ من ذلك هي عنـزته ،هذا الحيوان
السرّ ،الذي يصرّ غاندي على اصطحابها في كلّ أسفاره حتّى وهو في أوروبّا إذ أنّه يصرّ أن
ل يشرب إلّ من لبن عنـز بلده ،وهي مهزلة تقتلك من القهر ،لما فيها من احتقار للعقل،
والدهى من ذلك أنّ النّاس يهلّلون -طبقا لعقليّة القطيع -ويعظّمون هذا القدّيس القادم من رحم
الغيب "غاندي" ،لكن دعوني -بصفتي رجلٍ قرّر أن ل يلغي عقله -أن يسأل بعض السئلة،
وهي أسئلة بريئة شهد ال:
- 1هل كانت عنـزة غاندي تأكل أم أنّها ل تأكل؟.
- 2هل كانت عنـزة غاندي تبرّز وتتغوّط أم أنّها من أصحاب السرّ؟.
- 3هل كانت العنـزة تدفع أجرة الطّائرة في سفرها من الهند إلى أوروبّا أم ل؟.
ول أدري هل فهمت السئلة أم أنّها أسئلة صبيان كما يريد أن يجعلنا جودت سعيد ومدرسته؟.
مذهب ابن آدم الول والتصوف الفكري
إنّ ملحقة أهل البدع وكشف سترهم هو منهج أهل الحقّ ،وخاصّة إذا صار البدعيّ داعيا إلى
بدعته ،مزيّنا لها أمام النّاظرين ،إنّ الخلف الحاصل بين جماعات الجهاد السّلفيّة وبين غيرهم
من جماعات العمل السلميّ الخرى خلف منهجيّ ،وليس خلفا فرعيّا ،ومدار الخلف حول
الصّواب في فهم السّلف لتوحيديّ الشّرع والقدر ،ثمّ حول المنهج الصولي في فهم النّصّ
وتحليله ،والذين يريدون أن يهوّنوا من شأن هذا الخلف جديرون بأن يخرجوا من زمرة الفقهاء
434
لواقع المناهج المطروحة على السّاحة ،ومن زمرة أهل البصيرة لمناهج السّلف في التّوحيد
والصول.
لعلّنا أطلقنا القليل من النّفَس في مناقشة مدرسة مذهب ابن آدم الوّل كما يسمّون أنفسهم ،وسبب
ذلك هو أنّ هذا المذهب تستقي منه أغلب جماعات نبذ العنف والعمل الصّدامي ،فبعضهم يستقي
منه حتّى التّضلّع ،وبعضهم يأخذ منه لمّة أو لمّات ،بحسب ما يلئمه من الهوى والستحسان،
وقد رأينا كيف تقلب هذه الجماعات حقائق الوجود ،وتقريرات الفطرة ،وكان من أبرز ما دعت
إليه من هذا الباطل ما قاله جودت سعيد ،وكذا تلميذه خالص جلبي من أنّنا علينا أن ل نرهب
السّجن ،ول نعاديه ،ول نطالب بإخراج المساجين من إخواننا ،بل علينا أن نطالب بأن يذهبوا
بنا نحن كذلك إلى السّجن ،وقولهم هذا واضح تمام الوضوح في مخالفته لفطرة النسان السويّ،
فإنّ النسان السّويّ يكره القيد ول يشتهيه ،بل يحاول جاهدا أن يخرج منه إن وقع فيه ،ولكن
حيث أثّر قيح الفكر الصّوفيّ في كلّ جوانب الحياة ،فغاير بين الحقائق ،فشتم الصّواب وعابه،
ومدح الخطأ وشجّع عليه ،وهذا الذي قالوه ينسجم تمام النسجام مع نتائج الفكر الصّوفيّ ،فنحن
نعلم ما يمدح التّلميذ به شيوخهم هذه اليّام ،حيث يقولون مثلً :إنّ شيخنا -حفظه ال -ل
يقرأ الصّحف ول يسمع الرّاديو ول ينظر إلى التّلفزيون ..و ،...ف شيخنا مشغول طوال وقته
بين كتب الوائل!!.
وهذا الذي قالوه يعيب الشّيخ ويحقره أكثر ممّا يمدحه ،وقد وجد كذلك من يمدح العزوبيّة في
العلماء ،لنّ انشغالهم في العلم منعهم من الزّواج ،أو أنّهم كما قالوا آثروا العلم على الزّواج،
ول ندري كيف يُمدح المرء بأن يجاهد نفسه ليغيّر فطرته وبشريّته؟! فهل يقوى؟! الجواب:
بالنفي ..بل نجزم أنّه يضيع الوقات الكثيرة من تفكيره بهذه الفطرة التي فطر عليها أكثر من
انشغاله في بيته وزوجه إذا كان محصنا (هذا إن كان سويّا) ،ويكفيه مدحا أنّ الشّارع أطلق
على المتزوّج لفظ المحصن.
وهكذا بفضل الفكر الصّوفيّ تنقلب الحقائق ،ومن أراد المزيد فعليه بكتب طبقات الولياء ليرى
العجب العجاب أمثال كتاب" :جامع كرامات الولياء" ليوسف النّبهاني ،و"الطبقات الكبرى"
للكبريت الحمر الشّعراني وأمثالها.
فها هو جودت سعيد وتلميذه ومدرسته يريدون من المّة ومن الئمّة ومن الدّعاة إلى ال أن
يذهبوا إلى السّجن باختيارهم ،فهل قولهم هذا ممّا يستحقّ أن يناقش من وجهة نظر شرعيّة ،أم
435
أنّ الولى بنا أن نناقشه من باب دخوله في أقوال المكلّفين أو المعذورين؟! أظنّ الثّانية هي
الولى مع مثل هذه القوال ،لكن ما يجب أن نقوله ونذكّر به هؤلء النّوكى بحقيقة السّجون في
العالم المرتدّ ،وهل يجوز للمسلم وقد علم حقيقتها أن يقول مثل قولهم ،مع التّذكير مرّة أخرى أنّ
رسالة جودت سعيد التي قال فيها هذا القول رسالة موجّهة للشّباب المسلم في الجزائر إبّان حمى
الدّعوة إلى إحياء الدّولة السلميّة.
إنّ السّجن في العالم المعاصر وخاصّة في بلد الردّة لم يعـد حبسا فقط ،حيث يوضع المرء
في جبّ يمنعه من ممارسة بشريّته في الحياة وحركتها؛ فيمنع من أهله وبيته وعمله ،بل
صارت السّجون آلما ل تقوى لها النّفس البشريّة بحال ،وعلينا على الدّوام أن نتذكّر صنائع
المرتدّين مع المسلمين في كلّ وقت وحين ،لتبقى قلوبنا ونفوسنا مليئة بالبغض لهم ،وعدم
التّفكير البتّة بالعفو عنهم أو مسامحتهم ،وإن أقلّ ما يحكم فيهم إذا ظفر المسلم بهم هو حكم سعد
بن معاذ -رضي ال عنه -في حلفائه من بني قريظة ،حيث حكم أن تقتل مقاتلتهم ،وكلّ من
بلغ منهم الحلم ،وتسبى نساؤهم ،وتغنم أموالهم ،وهو حكم ال تعالى من فوق سبع سماوات ،إن
ما نراه من ضعف ذاكرة قادة الحركات السلميّة مع خصوم السلم جدّ مؤلم ،ول يتلءم مع
طبيعة المعركة بيننا وبين هؤلء المرتدّين.
السلم بين منهجين :الجهاد وابن آدم الول
كان ممّا قالته هذه المدرسة ،ودعت النّاس إليه ترك أيّ إشارة أو كلمة فيها عداوة لعداء الدّين،
حيث يقول جودت سعيد :أن نكون شهداء ل وقوّامين بالقسط مع الذين يسيئون إلينا ،وعلينا أن
ندرّب أنفسنا أن نكون كذلك ،ونتواصى بذلك ،ونتواصى بالصّبر عليه ،حتّى أنّنا لسنا في حاجة
أن نطلق لفظ العدوّ عليهم ،وإنّما اختلفنا في التّفسير ،وال تعالى علّمنا أن نقول { :وإنّا أو إيّاكم
لعلى هدىً أو في ضلل مبين}.ا.هـ .هذا الذي قاله جودت سعيد تمارسه الكثير من الحركات
ن النّصارى إخوانهم ،كما
المنتسبة للسلم ،فالخوان المسلمون ما زالوا يردّدون صباح مساء أ ّ
ورد في بيان لهم تحت عنوان" :بيان للنّاس" ،وما مؤتمرات الحوار بين الديان إلّ صورة مثلى
لمثل هذا النحراف الخطير ،وهؤلء القوم يمارسون هذه الخلق التي يزعمونها حسنة ،ولكنّها
سيّئة لهذه الفعال القبيحة ،وهذه المقولة
على حساب السلم ،فالسلم هو الذي يجني الثّمار ال ّ
وغيرها من المقولت تؤكّد ما قلنا مرارا من أنّ هؤلء القوم يفقدون الفهم الصّحيح للبّ هذا
الدين وجوهره ،وحكمته التي إن لم يفقهها المرء فقد الرّشد كلّه ،واضطربت رؤاه وتصوّراته،
436
وجوهر الدّين قائم على العبوديّة لربّ العباد ،وأنّ النسان عبد لهذا الله الحقّ ،فليس له من
قول يراه ،ول مذهب ينتحله سوى ما أراده ال تعالى له ،فهو ل يقدّم قولً على قول ال سبحانه
وتعالى ،ول يؤثر رابطة على رابطة عبوديّته لربّ العالمين ،فإذا أخطأ المرء هذه القضية أخطأ
الدّين كلّه ،وتظهر حينئذٍ المفارقة بين منهج عبودية ال ومنهج متّبع الهوى والرأي الذّاتي.
من فهم الولى وآمن بها ،واعتقدها على ما هي عليه فإنّه يحارب الخلق ويعاديهم ،أو يحبّهم
ويواليهم بمقدار قربهم من ال تعالى أو بعدهم عنه ،فهو يحارب من حارب ال ،ويعادي من
كفر بال{ ..قاتلوا الذين ل يؤمنون بال ول باليوم الخر} .وقوله صلى ال عليه وسلم(( :وقاتلوا
من كفر بال)) .فعلّة حركته العدائيّة نحو مجموعة من الخلق هي عداؤهم ل تعالى ،ولو كانت
هذه المجموعة من أكثر النّاس إحسانا له وعطفا عليه كأن يكون والده أو والدته ،فإنّ المسلم ل
ف العداء
ترتجّف يده قط وهو يذبح والده أو أخاه أو ابنه إن وقف هؤلء مع صفّ الكفر ،أي ص ّ
ل تعالى ،وهو كذلك يحبّ من أحبّ ال تعالى ،ويدافع عنه ،وسيؤثره على نفسه وإن كان من
ن المرء ل يسأل عن موقف ظهر منه
قوم ل يعرفهم أو يعرفونه ،إذا فهمت هذه النّكتة فإ ّ
التّناقض بين إحسان قوم له وبين سعيه الجادّ في قتالهم وقتلهم ،فعلّة حرب المسلم للنّاس جميعا
هو كفرهم بال تعالى ،لنّهم يسبّون ال سيد المؤمنين ،وحيث سبّ سيّد العبد ،فإنّ على العبد أن
ينتقم لسيّده لنّه ل يرضى لسيّده وحبيبه أن يتطاول عليه أحد ،أو أن يتّهمه أحد بما ليس فيه،
كأن يقول :إن سيّده وحبيبه وإلهه ثالث ثلثة ،أو أ نّ فيه بعض صفات النّقص كادّعاء الشّريك
له ،أو اتّهامه بعدم قـدسيّة حكمته في شرعه وقدره ،أمّا إذا كان الرّجل من الصّنف الثّاني،
وهو من عامل النّاس على أساس معاملتهم معه فإنّه شاء أم أبى سيكون قد سيّدَ ذاته ،وألّه هواه،
وهو ل يلتفت إلى جانب رضى ال تعالى عن الخلق أو غضبه عليه ،وهذا هو مظهر تأليه
النسان لذاته أو لغيره من البشر ،وهذه النّقطة هي التي أوجدت الفقه السّيء في أمّتنا نحو
الجهاد والقتال ،فالجهاد في ديننا في سبيل ال تعالى ،أي أنه متعلّق برضى ال وغضبه ،فنحن
نقاتل من أغضب ال ولو أحسن إلينا أو ادّعى الحسان ،ونحن نكفّ عمّن رضي ال عنه ،ولو
أساء إلينا كلّ الساءة ،وهذا يظهر بوضوح في مسألة الخروج على الحاكم الكافر ،فإنّه بمجرّد
أن يكفر الحاكم ،يجب الخروج عليه ،وبذل النّفوس رخيصة في سبيل ذلك ،بغضّ النّظر عن
كون الحاكم خرج عن السلم في نفسه ،ولم يتعدّ كفره إلى غيره أم خرج من السلم وتعـدّى
كفره إلى غيره ،فعلّة الخروج هي الكفر بال تعالى ،الذي أمرنا بهذا المر ،هو الذي أمرنا أن
437
نصبر على جور الئمّة إذا وقع على الرّعيّة كقوله صلى ال عليه وسلم(( :وأطع أميرك وإن
جلد ظهرك وأخذ مالك)) ،وعلى أساس هذا ا لمر ادّعى قوم عدم وجود جهاد الطّلب ،وقصروا
الجهاد على جهاد الدّفع ،وهذا الذي قالوه لم يقله أحد من الوائل كما قدّمنا عند مناقشتنا لمحمّد
سعيد رمضان البوطي ،وهذا هو الذي دفع أقواما إلى إنكار حدّ الردّة ،حيث زعموا أنّ الردّة
التي يقاتل النّاس عليها هي الخروج المسلّح ضدّ الدّولة ،وليس هو الكفر بال تعالى ،وجعلوا
يخبطون في الظّلمات بتأويلت فاسدة مثل قولهم :إنّ قتال أبي بكر الصدّيق رضي ال عنه
للمرتـدّين لخروجهم عن الدّولة وحكم أبي بكر ،أي قتال سياسيّ حسب تقسيمهم ،وليس هو
قتال من أجل حقّ ال تعالى ،فأنت ترى العلّة في الخلف ليست فرعيّة في فهم النّصوص على
غير محلّها ،ولكن في فهمهم لحكمة الدّين وحقيقته ،فهو خلف بين منهج ومنهج ،والخلف
بينهما أشد من خلف أهل الحديث والمعتزلة ،لنّ أغلب ما قاله المعتزلة قاله هؤلء وأشدّ منه
كذلك ،وموقف هذا ال ّتيّار من منهج أهل الحديث معروف ،سطّر في كتب أصحابه.
هذه المدرسة التي تضلّعت بالرأي الفاسد ،والصول البدعيّة اضطرت لتوافق منهجها أن تقول
بترك عداوة أعداء الملّة والدّين ،وكلم جودت سعيد المتقدّم هو في حقّ الفرانكفونيين العلمانيين
في الجزائر وليس مع جماعة من أهل السنّة والجماعة .حتّى أننا لسنا في حاجة أن نطلق لفظ
العدو عليهم ،وإنّما اختلفنا في التّفسير ،وهذا الذي قاله ل ندري أقاله لحظة جذبة عرفانيّة أم
صحو وإفـاقة؟ فما هو الشّيء الذي اختلفنا في تفسيره ؟ أهي آيات ال تعـالى التّشريعيّة التي
اختلفنا حولها؟ إذ أنّ العلمانيين في ذهنية هذا المفكّر قوم أخطأوا في تفسير القرآن الكريم
وأنزلوا آياته على غير محلّها ؟.
ثمّ هل قضيّة إظهار عداوتنا لعداء ال خاضعة للرّأي أم هي من أسس توحيد المسلم؟ .إنّ ال
سبحانه وتعالى بعث محمّدا صلى ال عليه وسلم لهدم الوثان وتجريد الطّواغيت من قداستها
الزّائفة وهذا ل يقع إلّ بعيب اللهة الباطلة ،فقد كان منهجه صلى ال عليه وسلم في دعوته إلى
ال بيان ضلل ما عليه البشر من عبادة غير ال تعالى ،فقد عاب آلهتهم ،وسبّ آباءهم ،وسخر
من أوثانهم ،لنّه ل يتمّ التّوحيد الحقّ إلّ بالبراءة من الطّواغيت وعبّادهم كما قال إبراهيم عليه
السّلم لقومه{ :إنّا برءاء منكم وممّا تعبدون من دون ال كفرنا بكم ،وبدا بيننا وبينكم العداوة
والبغضاء أبدا حتّى تؤمنوا بال وحده} .وهذا الذي قاله أبو النبياء عليه الصّلة والسّلم قاله في
ي الرّحمة والملحمة ،فأمـر البراءة من
زمن الستضعاف ،وقلّة النّاصرين ،وهو الذي فعله نب ّ
438
ن إبراهيم عليه السّلم قال { :وبدا بيننا
الكافرين وعبادتهم ليس ممّا يدخل في باب المصلحة ،فإ ّ
وبينكم العداوة والبغضاء} ،فقدّم العداوة وهي أمر ظاهر بيّن غير ظنّي على البغضاء وهي أمر
قلبيّ خفيّ ،ثمّ ليعلم المسلم أن قوله للعلمانيين :إنّنا اختلفنا معكم في التّفسير ،هو تصويب
لعبادتهم ودينهم ،وهو افتراض وجود الصّواب عندهم ،وهذا أمر ل يقوله مسلم ،فإنّ المسلم
الموحّد يجزم بكفر ما عليه العلمانيّون ،وهكذا يظهر الخلف مرّة أخرى بين منهج العبوديّة
لربّ الرباب ،وبين منهج تأليه البشر وأهوائهم ،فإذا علّق المسلم بغضه للكافرين بكونهم أعداء
ل فلن يرضى إلّ بأن يرمي الحقيقة في وجوههم ،ول تدخل المصالح في هذا الباب البتّة ،وأمّا
إذا اتّبع المنهج الخر فإنه سيبقى جاهدا لرضاء خصوم الحقّ وأعداء الدّين.
وههنا نصيحة لطلّب الحقّ وناشديه أن ل يلتفتوا إلى أقوال المعاصرين ول ينتبهوا لها إلّ بعد
عرضها على منهج الوائل ،فإنّ حقيقة الدّين في التّباع وترك البتـداع ،وهذا أصل من
أصوله التي ل يقوم إلّ بها ،وحيث ظنّ المرء أنّه قادر بذكائه أن يبتدع دينا جديدا فهو على
خطر عظيم ،وإن زعم انتسابه إلى السلم ،فعليك أخي المسلم بمنهج الوائل فالخير كلّه في
اتّباع من سلف.
موجبات وجود جماعات الجهاد في العالم (: )3
من موجبات وجود جماعات الجهاد في العالم كون الجهاد هو السبيل الجلى والقوى في تجلية
حقائق الرجال وقدراتهم ،فبه تتمحّص النفوس ،فتظهر على حقيقتهـا ،فيقدّم حينئذ من يقدّمه
الجهاد ،ويؤخّر من يؤخّره الجهاد.
إنّ أمراض الحركات السلمية كثيرة جدا ،وإن ّ من أعظم أمراضِها التي تعاني منها وصول
أنصاف الرجال أو أرباعهم أو أعشارهم إلى القيادة بسهولة ويسر ،فبعض الجماعات تقدّم
الكثر ثراءً ومالً ،وبعضها يقدّم الكثر مرتبةً في الوظيفة أو العشيرة ،وبعضها يقدّم البلغ
خطابا وبيانا ،وهذه ليست من ميّزات القيادة في شيء ،بل إنّ تقديم هذه الوصاف لعلّةِ هذه
الوصاف يجني على الحركة ويقضي عليها ،وهذا هو الواقع والحاصل في الحركاتِ السلميّة
فإنّ مما يلحظه الناظر لبعض الحركات السلميّة التقليديّة أنّه كلما ارتفع الرّجل في السلّم
القيادي داخل الجماعة كلّما سَفُلَ تديّنه ،وقلّت صلته بحقائق هذا الدّين ،وصار أقرب إلى الفسق
منه إلى اليمان ،فأنت تنظر إلى جماعة من الجماعات التي ملت الدنيا شهرة وصيتا ثمّ تحاول
أن ترى شيئا يميّز القيادة في علمها أو دينها أو قدرتها الداريّة فل ترى إلّ مسوخا من الرّجال،
439
إذا تكلّم أتى بالمصائب ،وإذا قرر أودى بالجماعة إلى المهالك ،ولسنا بحاجة إلى التّذكير أنّ
مراقبا لهذه الجماعة في بلدٍ من البلد ُمنِع من اللقاءات الصحفيّة بعد لقاء -مصيبة -مع إحدى
الصّحف حيث ظهر أنّه ل يصلح إلّ وراء بسْطة ( طاولة) من بسطات بائعي البَندورة ،وإذا
حوججت الجماعة لماذا هذا ؟ ،قالوا لنا :هذا قائد رمز فقط ،وليس بيده شيءٌ من حقائق الدارة
والقيادة ،ول أدري كيف تقبل الجماعات السلميّة بمثل هذه اللعيب (أن تسمي رجلً من
الرجال رمزا)؟ ،وكيف يقبل هذا الرجل إن كان رجلً أن يكون رمزا؟!.
في بلد من بلد الردّة سمّيت قيادةٌ من قياداتِ الجماعة السلميّة المذكورة بـ "الشّركة" أي أنّ
مجلس الشورى سمّي بشركة فلن (قائد الجماعة) :لنّ قيادة الجماعة كلّها من أسرة هذا القائد،
ق للقواعد أن تسمّي
فهذا من بلده ،وهذا زوج ابنته ،وهذا نسيبه وهذا شريكه ،وهذا صاحبه ،فح ّ
قيادة الجماعة بشركة هذا المراقب العام لهذه الجماعة في هذا البلد .الجماعات المعاصرة:
الختراق والتراص
حين تصبح الجماعة مهمّتها توصيل الرجال (رجالها) إلى البرلمان ،فمن المقدّم حينئذٍ في هذه
الجماعة؟:
- 1لنّها تحاول جاهدة لكسب أصوات العشائريين ،ورجال القبائل فإنّها ستتغاضى عن الكثير
من المواصفات والميّزات في الرجال مقابل أن تبحث عن رجل تدفع له عشيرته أصواتها،
فحينئذٍ المقدّم هو رجل عشائريّ.
- 2ولنّها بحاجة إلى المال من أجل الدعاية النتخابية فإنّها ستقدّم الرجل الكثر مالً،
وستتغاضى عن الكثير من الصفات الشّرعيّة للعدالة حتى تستفيد من قدراته الماليّة.
هذه الخروق وغيرها تجعل وصول الوصوليين والنتهازيين والنّفعيين والعملء إلى القيادة
ل وميسورا ،وقد كان ،وهذا حال الكثير من التنظيمات والتّكتّلت والتّجمّعات السلميّة،
سه ً
حتّى المراكز السلميّة لو نظرنا إلى القائمين عليها لرأيناهم على الحال الذي تقدّم وصفه.
وحتّى ل أبتعد في ذكر المطلقات فسأمرّ على بعض الحوادث التي تبيّن حال قيادات العمل
السلمي ،وهي في الحقيقة أسئلة موجّهة إلى هذه الحركات لتجيب عليها ،وهي أسئلة عليهم أن
ينظّفوا أنفسهم من َتبِعاتها قبل أن يتطاولوا بأنفسهم كالدّخان في اتّهام الخرين ،وادّعاء العلميّة
والموضوعيّة ،أو ادّعاء تصفيّة الصّف من المنافقين والمخابرات:
440
أ ) هناك رجل مصريّ ،هرب من مصر إلى بلد الشّام واسم هذا الشّخص نجيب جويفل ،ظهر
بعد ذلك أنّه رجلٌ مخابراتيّ من الدرجة الولى ،هذا الشّخص كان له مهمّة تغيير القيادة في
بلد الشّام -الردن وسوريّا ولبنان -وقد نجح ،فقد أزال الشّيخ أبي قورة من الردن عن
منصب المراقب العام ،وعيّن غيره في ليلة ليلء ولم يُعرف إلى الن س ّر التّغيير ،وحدث كذلك
في سورية ولبنان? ..الرجاء كشف سرّ نجيب جويفل.
ب ) حين يعترف القائد المنظّر ،شيخ المشايخ أنّه جلس مع ضبّاط مخابرات من أجل دعمه
لنشر كتابه "وجاء دور المجوس" الذي نشره بغير اسمه ،أجاز لنفسه أن يتعاون مع الدّولة
السّعوديّة ضدّ الشّيعة الرّوافض ،فماذا يسمّى هذا الفعل.
نعم إنّ تصفية الصّف المسلم مهمّةٌ عظيمة ،ولكن من الجهل الفاضح ،والعلميّة المفقودة تبني
القول :إنّ جماعات العنف المسلّح ،والجهاد القتالي هي الكثر عرضة للختراق ،فليس هناك
من مقدّمات موضوعيّة لهذا الحكم القطعيّ ،ثمّ أليس القول إنّ جماعة من الجماعات حين تجعل
القيادة تؤول مباشرة إلى الكبر سنّا مثلً ،هي جماعة تؤول قيادتها إلى غير مقدّمات شرعيّة
ل الصّفوف ولكن لو رأينا النّتيجة التّالية لتبينت لنا مقاصد
معتبرة ،ثمّ لقد كان هناك اختراق لك ّ
الختراق عند كلّ جماعة لنعرف قيمة كلّ جماعة على حدة?.
اختراق الجماعات الخرى يؤدي بهؤلء العملء إلى القيادة والسّيادة والرّياسة. •
اختراق جماعات التوحيد والجهاد يؤدّي إلى الموت والقتل. •
البتلء والمتحان
لو أراد باحث منصف أن يرى خصيصة تميز بها الصادقون في هذه المة ،وشارة جمعت
العلماء الفذاذ لرأى بكل وضوح أن هذه الخصيصة والميزة هي البتلء ،وهذا مصداق حديث
رسول ال صلى ال عليه وسلم(( :أشد الناس بلء النبياء ،ثم المثل فالمثل)) ..و((يبتلى
الرجل على قدر دينه)) ،ولكن ما يلحظه المرء كذلك بوضوح أن وصول القيادة في هذا
الزمان ،واعتلء منصة الزعامة (أعني في الحركات السلمية) هو طريق ل يمر أبدا عن
طريق البتلء والمتحان ،بل يمر عبر طريق ل يعبر بحق عن صدق الرجل وانتمائه لهذا
الدين.
وعلى ضوء هذا يجوز لنا أن نسأل بعض السئلة البريئة مع بعض المقدمات الضرورية:
441
- 1الذين يطالبون المة باحترام العلماء لكونهم ورثة علم السلف ،ولكونهم رفعوا راية السلف،
لو قلنا لهم التالي :لماذا كان ينتهي أمر السلف دوما بالسجن أو القتل أو النفي مع أنهم يعيشون
في ظل دولة إسلمية؟ ،ولماذا زعماء وزاعموا وراثة السلف ينتهي بهم المر في دولة مرتدة
كافرة أن يكونوا وزراء ومقربين عند قادة هذه الدول؟ هل انقلبت السنة الكونية في حقهم؟ أم أن
الجواب يكشف عوار ممثلي راية السلف المزعومة؟.
-2الذين يريدون أن يصفوا الصف المسلم من المنافقين والوصوليين ديدنهم الحديث عن كشف
ما هو مكشوف ،وفضح ما هو مفضوح ،أي ما فضحه الخصوم لنتهاء مهمته ،فلماذا ل
يمارسون فنونهم العبقرية في كشف ما لم يكشفه الخصوم ،وفضح ما لم يفضحه أهله؟
- 3إن إطلق الشائعات الصبيانية في حق الخصوم يتقنه كل جاهل وموتور ،لنه سلح
تستجيب له المم الغبية الجاهلة ،وهو ل يملك قوة دفع كما يملك قوة إثبات ،فإذا قيل عن أحد
أنه مخترق فهو ل يستطيع دفع التهمة ،ولكنها قمة أدعى للقبول في زمن العجائب والصغائر.
لماذا حين تطلق الشائعات ل يذكر معها الرهان الذي أمر ال عز وجل بإقامته عند كل
دعوى؟!.
أمام هذا الواقع المرير ،وهو واقع يفرز ول شك السلبيات أكثر مما يفرز اليجابيات ،لن المُلك
فيه للشيطان وحاشيته ،وهو يدفع بضللته بقوة نحو المجتمعات ،أمام هذا الواقع ما هو السبيل
القوم لفراز الثقات ،ومعرفة حقائق الرجال دون لبس وتزوير ،كذلك دون هروب من الحقيقة
نحو الرمل للختفاء؟.
إن الجواب على هذه السئلة يدعونا أن نرجع إلى النموذج المحتذى في تعريفنا بمنهجهم في
معرفة الرجال وأحوالهم وقيمتهم.
لقد كان في الصحابة رضي ال عنهم علماء ،وكان فيهم العرابي البوال على عقبيه (كما قال
الذهبي) .لقد كان في الصحابة رضي ال عنهم الثرياء ،وكان فيهم من يقع في صلته لشدة
فاقته وفقره.
لقد كان في الصحابة رضي ال عنهم الشاعر البليغ ،وكان فيهم العيي.
لقد كان في الصحابة رضي ال عنهم الصانع الخبير ،وكان فيهم من يخسر في كل تجارة
يمارسها.
القيادة :العلماء والجهاد
442
لقد كانت صور الصّحابة تتنوّع وتختلف في قدراتهم ونماذجهم ولكن كان هناك شيء واحد
يجمعهم جميعا بل استثناء ،ورابط يحوزهم بل شذوذ ،هذا الرّابط هو الجهاد في سبيل ال
تعالى.
ل العلم التي علّمها رسول ال صلى ال عليه وسلم -سواء كانت في
بل إنّنا نرى أنّ أغلب مسائ ِ
التّجارة أو بقيّة الحكام -إنّما تعلّمها الصّحابة رضي ال عنهم وهم في حال الجهاد في سبيل
ال تعالى.
وأنا ل أستطيع أن أُكثر المثلة ،أو أستوعب بعضها في ذكر النّماذج التي تشهد لهذه القاعدة ،أو
لهاتين القاعدتين ،لكنّي أدعو طلبة العلم وغيرهم إلى فتح وقراءة صحيح البخاري مثلً (وهو
أفضل نموذج لما أقول) ،ويقرؤوه بتمعّن وتدبّر ،ويحاول كلّ واحد أن يجمع سبب الحديث
الوارد ،بمعنى أن يذكر الزّمن الذي قيل فيه الحديث ،وأين قيل ،وسوف يرى أنّ أغلب مسائل
الفقه في عموم الحياة كانت تقالُ في الجهاد في سبيل ال تعالى ،وهاك بعض المثلة:
قوله صلى ال عليه وسلم لجابر رضي ال عنه في ترغيبه أن يتزوّج البكر(( :هلّ بكرا •
تلعبك وتلعبها)) ،قالها صلى ال عليه وسلم خلل قفلةٍ من غزوة.
فقه التّيمّم من الجنابة أُخذ من حادثةٍ في غزوة. •
حكم زواج المتعة ،كان كلّه في الغزو من تحليل وتحريم مؤبّد. •
جواز شركة البدان أُخذ من حديث يتعلّق بجواز الشّركة بين المجاهدين في الغنيمة. •
والمثلة أكثر من أن تحصى ،وهي تدلّ دللةً واضحةً أنّ عمل المّـة التي ينبغي أن تعمل به
-وكلّ عمل آخر هو تبع له -الجهاد في سبيل ال تعالى.
ولمّا كان عمل المّة بمجموعها -إلّ من استثناه الشّارع الحكيم سبحانه وتعالى -هو الجهاد
في سبيل ال ،فكان المقدّم فيها هو أتقنهم لهذا العمل ،وأكثرهم قدرةً على خوضِ غماره ،فكان
المُقدّم هو المجاهد في سبيل ال تعالى ،وهكذا كان حال قادة المّة من خلفاء وأمراء ،فل يوجد
خليفةٌ في تاريخنا الطّويل إلّ وكان مقاتلً مجاهدا ،وفي أعلى مرتبةٍ من مراتبِ هذا العمل
العظيم.
هارون الرّشيد ،هذه الشّخصيّة العظيمة ،والتي ملها الكذّابون أخبارا مزيّفة عن بذخه ولهوه
وقصفه ،لو علموا حقيقته ،لخجلوا من أنفسهم أشدّ الخجل ،ولكنّهم في الحقيقة ل يخجلون.
443
هارون الرّشيد كان يغزو عاما ويحجّ عاما ،وكان ينام على حصانِ جهاده حتّى تقوّست رجله
من كثرة ركوبه عليه ،ومات وهو في غزوة "الصّائف" جهة المشرق ،وهو يجاهد في سبيل ال
تعالى .لو قال قائل :لكنّه كان كثير المال ،عنده الجواهر بالطنان ،والذّهب بالرطال ،والمال ل
ُيعَدّ بين يديه .قلنا له :صدقْت وهكذا كانت المّة ،غنيّة مثلهُ ،فلم يكن غنيّا وأمّته ل تجد لقمة
الخبز ،كما هو حال الظّلمة والمتكبّرين ،ثمّ قلنا لهم كذلك ،هذا كلّه من فضل ال تم بالجهاد في
سبيل ال ،حيث أورثه ال تعالى بالجهاد ديار الظالمين ،لقوله صلى ال عليه وسلم(( :جعل
رزقي تحت ظلّ رمحي)).
نقول هذا الكلم ردّا على من يحاول أن يبحث عن القيادة الصّحيحة الحقّة للتّجمّعات السلميّة،
وكذا التّنظيمات والتّكتّلت ،فلن نستطيع شئنا أو أبينا أن نفرز قيادة حقيقيّة إلّ في الظّرف
الصّحيح لهذا الفراز ،هذا الظّرف هو الجهاد في سبيل ال .حين يبرز قائد تلتقي حوله الجماعة
في ظروف الشّدائد والهوال ،والمصابَرة والمكابَدة ،وهي ظروف قاسيةٌ ،تكشف المعادن على
حقيقتها ،حينئذٍ يكون معدن القائد خالٍ من الشّوائب والكدَر ،فهُو قائدٌ حقيقيّ يستحقّ هذا
المنصب ،بل المنصبُ يتشرّف به ويفخر ،لكن في زمن الدّعة والخمول ،وفي زمن المهانة
والرّذيلة ،وظروف الخسّة والعار ،يأتي لنا شيخٌ معمّم جلّ ما يملك هو إتقانه صنع الكلمة
الحماسيّة ،أو المنمّقة ،فيأسرُ ألباب السّامعين ،فيسارعُ الغثاء إلى تسييده وتأميره ،فهل هذا هو
طلُع علينا رجل ملك البريق الدّعائيّ،
الطّريق الحقيقيّ في اكتشاف القيادة الصّائبة؟ أو حين يَ ْ
سواء بقدرته على إنشاء مجلة أو نشرة أو جريدة ،بها واستطاع أن يشرف على الناس،
فيعرفونه كاتبا مرموقا ،أو سياسيا خبيرا ،فهل هذا هو الطريق الصائب للقيادة الحقيقية؟.
هذه أمثلة وعليك أن تقيس عليها ،لتعلم أن القيادة الحقيقيةَ إنما تُعلم بالجهاد في سبيل ال تعالى،
في زمن الصّعاب والشدائد.
القيادة في القرآن:
عرض القرآن الكريم لنا نموذجا رائعا لستخلص الشّهد من بين ركام الخلط ،وكان هذا
العرض والتصوير مثل حيّا وحقيقيا في تعليم المّة كيف يخلص هذا الخلوص ،وكيف تتميز
الصّفوف ،وكيف تعرف مقاديرُ الرّجال ،وهذا الحدَث التاريخيّ كما عرضه القرآن العظيم فيه
ن الكثير
ي الواضحُ على الطّرق المُبتدعة في إعداد الكوادِر ،أو صنعِ الكفاءات ،إذ أ ّ
الردّ الجل ّ
من أصحاب الفكار الهجينة المعاصرة يطرحون طريقة بدعيّة أو طرقا بدعيّة في المة ،وهم
444
في دعواتهم هذه التي سيتبيّن لنا أمرها وحقيقتها إنما هم يفرغون الشباب المسلم من الطاقات
البداعية الحقيقيّة.
يحاول أصحاب التربية المزعومة أن يوجدوا الدلّة على طريقتهم في صنع المّة ،ورجال
المّة ،وتراهم يصرخون في كل وادٍ أنّ المّة والشّباب المسلم بحاجة إلى تربيةٍ وإعدادٍ قبل أن
يوضع في معترك البلء والمتحان ،ولعلّ أبرز أدلّة هذا التيار البدعي هو احتجـاجهم بحادِث
طالوت عليه السلم ،وها نحن نعرض هذا الحادث كما صوره القرآن ليتبيّن بجلء أبلج أن هذا
عمْدةٌ من عُمد حركات الجهاد ،ودليلٌ من أدلّتها أنّ حركة
الحدث عليهم ل لهم ،وهو في الحقيقة ُ
الجهاد هي التي تربي المّة وتُبرز القيادات ،وتعرّفنا بمقادير الرجال.
في سورة البقرة حديث مطوّل عن بني إسرائيل ،وكان من كلم ال تعالى في هذه السّورة عن
بني إسرائيل بعد موسى عليه السّلم [البقرة من آية { :]252-246ألم تر إلى المل من بني
إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيّ لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل ال} وفي الية كما نرى
أنّ الذين طلبوا الملك هم "المل" ،والمل في القرآن وصف ل ترتاح له النّفس ،فبمجرّد ذِكر
المل وإطلق هذه الصّفة على قوم تتوجّس خيفة ،وترتقب أوصاف شؤم وقبح (راجع كلمة المل
في القرآن الكريم) ،وليس من عادة المل أن يطلبوا خيرا ،وإن طلبوه فهو لمر خبّئ في
أنفسهم ،وأنا هنا ل أدري لماذا فرّق الملُ بين النبيّ والملك المقاتل ،وسنّة ال جاريةٌ في النبياء
سواء كانوا من بني إسرائيل أو من غيرهم أنّ النّبيّ في أتباعه هو الحاكم والقائد والقاضي،
وكان هذا المر في بني إسرائيل أوضحَ وأجْلى ،والحديثُ النّبويّ يشهد لذلك لقوله صلى ال
عليه وسلم(( :كانت بنو إسرائيل تسوسهم النبياء)) فهل هذا الطّلب المشروط في المل مقدّمة
لنعرف أنّ الذين طلبوه هم "مل" ،ل يخرجون عن هذا الوصف وإن تزيّنوا بغيره ،هذا أمرٌ
يحتاج إلى بحثٍ ونظر وإن كان هذا هو الذي تطمئنّ إليه النّفس في هذا الوقت ،بل إنّ هذه
السّرعة في كشف حقيقتهم في ختام الية تنبئك عن هذا الذي قلناه ،قال ال تعالى{ :فلمّا كتب
عليهم القتال تولّوا إلّ قليلً منهم وال عليم بالظالمين}.
ثمّ جاءت اليات تكشف لنا هذا الجمال وكيف تمّ فرض القتال وكيف سار الحدَث واستقرّ على
حاله.
{وقال لهم نبيّهم إنّ ال قد بعث لكم طالوت ملكا قـالوا أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحقّ
بالملك منه ولم يؤت سعة من المال}.
445
هذا الكلم الربّانيّ يؤكّد لنا أنّ البتلء كان للمل ،المل الممتلئ مالً ..المل طلبوا ملكا .ولمّا
كان ال عليما بالظّالمين ،فهو قد علم سبحانه أنّ هؤلء القوم يطلبون ملكا فقط ،ل ملكا مقاتلً،
عمْدة الحقّ لديهم في إقرار الملك وقبوله هو أن يكون ممّن له سعة من المال ولو حاولنا
وُ
تصوّر النّفسيّة الحقيقيّة للمل ،ومحاولتهم الزّائفة والذّكية في ستر مبرّر القتال لتّضح لنا
الشيء الكثير ،فهم طلبوا أوّلً{ :ملكا نقـاتل في سبيل ال} ،ولمّا حاججهم النبي وذكّرهم
بعورات نفوسهم{ ..قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألّ تقاتلوا} فكان جوابهم على قوله هذا
مؤكدا لما قال :وهو أنّ ما علمْت من أنفسنا حبّه والشّغف به هو سبب طلبنا للقتال {قالوا وما لنا
أل نقاتل في سبيل ال وقد أُخرِجنا من ديارنا وأبناءنا}.
إنّه حديث المل ،وهو حديث لكشف المل ،وهذه المقدّمة تدلّك على ما سيأتي وراءها من أحداث
تكشِف المل على حقيقتهم.
{فلما فصل طالوت بالجنود} هذه الية تحمل في طيّاتها معنى تخلّف المل ،وفيها إشارة إلى أن
المل قد سقط في أيديهم فمنهم من لحق بالركب فسار جنديا ،ومنهم من تخلف ليبقى تحت
وصف المـل ،فحيث ذهبَت حقيقتهم عن الموقع -الفصل -ذهب وصفهم ،فمن ُفصِل به
فخرج معهم سار تحت وصف جديد هو "الجنود"..
فصل طالوت {بالجنود} ،وطالوت عيّن َملِكا بقرارٍ ل دخل للجنود ول للمل فيه ،بل ببعثٍ إلهي
{إنّ ال قد بعثَ لكم طالوت ملكا} مبرّر البعث {بسطَةً في العلمِ والجسم} ،القوّة والمانة .جاء
امتحانٌ تشريعيّ ل دخل للبشر فيه وهو قول طالوت { :إن ال مبتليكم بنهرٍ فمن شرب منه
فليس منّي ومن لم يطعمه فإنّه منّي إلّ من اغترف غرفةً بيده} فهذا أمرٌ تشريعي من وضعٍ
إلهي ،وليس استحسانا بشريّا لشروط يضعها أصحاب التّصفية المزعومة ،والتربية المدّعاة،
فكيف يجوز للناس أن يشترطوا شروطا للجهاد ما أنزل بها من سلطان؟ وما هي الدلة على
هذه الشّروط البدعية؟ فهذا شيخٌ يريد من المّة أن ل تجاهد حتى يصبح قيام الليل ديْدنها بل
تخلّف أحد منها ،وهذا شيخٌ ل يُجيز الجهاد للمّة حتى تحفظ الربعين النوويّة ،وهذا شيخٌ
يشترط للجهاد أن تصبح المّة منظّرةً في السياسة وفهم اللعيب الدولية ،وهذا شيخٌ يوجب
على المّة قبل الجهاد أن تنبذ المذهبيّة وإل سيكون جهادها في سبيل المذاهب الربعة وهذا..
وهذا ،..شروطٌ ما أنزل ال بها من سلطان ،ثم هنا نقطة يدور البحث عليها ،وهي :هل طالوت
عليه السّلم اشترط شروطا قبل إعلن الجهاد؟ أم أنّ شروطه على جنوده كانت بعد الفصل
446
بالجنود؟ وهذه نقطة مهمّة لنّ الحدث يدلّنا على أنّ ابتلء القائد لمعرفة حقيقة جنوده واختبارهم
في قدراتهم ،وفي مدى تحمّلهم للصّعاب والثقال كانت في مسيرة الجهاد ،ومن خلل حركته
مع جنوده ،ل كما يريد مشايخنا في هذا الزّمان ،وهو أن يمتحنهم وهم على فُرشِهم الوثيرة،
فشتّان بين إخلص ونقاءٍ حقيقيّ يخرج من وسط الملمّات والمحن ،وبين إخلص مز ّيفٍ يخرج
ي وإدراك فتصبغ عليه
من امتحانات الولء للقيادة ،وابتلءات تسليم الرّأس كالببّغاء دون وع ٍ
القيادة لباس القُرب والنّجاح.
إنّ معرفة طالوت لحقيقة جنوده كانت من خلل مسيرته وحركته للجهاد في سبيل ال تعالى،
وهذا الذي نقوله وندعوا النّاس إليه بفضل ال تعالى ورحمته ،ونحـمدُ ال تعالى أن عافانا من
أمراض الخرين وتصوّراتهم العليلة.
ثمّ خلص من خلص إلى المواجهة ضدّ جالوت وجنوده بعد محنة النّهر والشّرب منه ،ثمّ محنة
الكثرة والقوّة الماديّة ،ولم يذكر لنا القرآن الكريم أنّ محنة الكثرة العدديّة أسقَطَت بعض القوم،
بل إنّ الوصف المدْحيّ لهم كان قبل ابتلئهم برؤية كثرة عدوّهم ،حيث قال ال تعالى بعد حادثة
النّهر { :فلمّا جاوزه هو والذين آمنوا معه} ،ف َوصْف اليمان هنا وصفٌ مدحيّ ،لكنّ اليمان
مراتب متفاوتة وليس على درجة واحدة.
قال تعالى { :فهزموهم بإذن ال ،وقتل داود جالوت وآتاه ال المُـلك والحِكـمة وعلّمه ممّا
يشاء}.
ي بنصر المؤمنين ووقع الوعد اللهيّ { كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً
حصل المقدور الله ّ
بإذن ال وال مع الصّابرين} ،ومن حدَث المعركة ،ومن وسط ملمّاتها ،ومن حركة الجهاد
عرف النّاس داودَ عليه السّلم ،ونحن المسلمين نعتقد أنّ النّبوّة اختيار واصطفاء ،وقد عاب
السّلف رحمهم ال على المام ابن حبان البستي صاحب الصّحيح ،حين قال" :إنّما النّبوّة العلم
والعمل" ،حيث لمحوا فيها إلغاء الختيار والصطفاء اللهي ،ولكنّنا نجزم أنّ المام ابن حبان لم
يرد هذا ،وأنا أقدّم هذا حتّى ل يخرجَ علينا زاعمٌ بأنّ معنى ما نقول هو إلغاء الختيار ،ولكنّا
عرفنا من خلل اليات أنّ داود عليه السّلم برز بعد { وقتل داود جالوت} .فجمع ال تعالى
لداود ما تفرّق قبل الحدث بين النّبوّة والملك { وآتاه ال الملك والحكمة} .نعم! عندما قتل الجنديّ
داود الكافرَ جالوت كانت مقدّمة الختيار.
447
{قتل} فاجتباه ال تعالى ،فهل عقل مشايخنا هذا :قتل ،قتل ،قتل...؟ فليت مشايخنا يعيدون لنا
تفسير وتجليَة كلمة "قتل" .قال صلى ال عليه وسلم(( :ل يجتمع كافر وقاتله في النّار)) رواه
مسلم.
ومن أجل أن تفهم أمّة محمّد صلى ال عليه وسلم كلمة "قتل" ،وأنّها منهجٌ ربّانيّ سليمٌ سديد،
أتبَع ال سبحانه وتعالى الحدث كلماتٍ عظيمة جليلة شريفة {ولول دفع ال النّاس بعضهم ببعضٍ
لفسدت الرض} فلو لم يقتل داود جالوت لبقيَ جالوت وجنوده يصولون ويجولون ،ويُهلكون
حرث النّاس ونسلهم ،ولكن لمّا منّ ال تعالى على المة بتعليمها قتل الطواغيت ،كان عليهم أن
يشكروه ،لنّه سبحانه وتعالى ذو فضل على العالمين ،كما قال سبحانه في خاتمة الية{ :ولول
دفع ال النّاسَ بعضهم ببعضٍ لفسدتِ الرضُ ولكنّ ال ذو فضلٍ على العالمين} .نعم ،ولكنّ ال
ذو فضلٍ على العالمين ،فمنهم من يشكرُ فضله ويرضاه ،ومنهم من يرفضهُ ويأباه ،ويذهبُ
يتخبّط في الظّلمات باحثا عن كلمة أخرى غير قوله {فهزموهم}{ ..وقتل}..
{تلك آيات الِ نتلوها عليك بالحق وإنّك لمن المرسلين}.
القيادة :الجهاد بداية ونهاية
هذه القصّة التاريخيّة ومن حديث القرآنِ الشّيق عنها كشفت لنا أن الجهاد هو بداية المر وهو
نهايته ،وهو منهج ال تعالى في ابتلء الناس ،لتكتَشِف المة حقيقتها.
وفي النهاية نخلص إلى النتائج التالية:
- 1المل يناورون ،والجهاد يكشفُ حقيقتهم ،وليس بغير الجهاد تُكشف حقيقة المل ،المل
الممتلئ فلسفةً ومناورة ،والمل الممتلئ تبجّحا وتيها.
-2طالوت يعرف حقيقةَ جنو ِدهِ خلل مسيرته وحركته للجهاد في سبيل ال تعالى ،وليس بعيدا
عن أرض المعركة والحركة ونحوها.
-3اليمان ل يتنافى مع بعض ما يعتري النفس من خوفٍ ووجل ،وليس هذا الخوف والوجل
مبررا لترك إعلن الجهاد في سبيل ال تعالى.
-4قيادة داود عليه السلم برزت من وسط المعركة ،ومن خللها ،وبعد برهان حقيقي أنه من
عنده القدرة على إصابة الرأس -جالوت -فهو يستحق أن يكون الرأس.
ن العلم الشرعي شرْطٌ من شروط القيادة الجهاديّة ،لن الجهاد حركةٌ مضبوطة بضوابط
-5إ ّ
الشّرع وأوامر الله جل في عله.
448
-6إنّ شعيرة الجهاد فضل إلهي ،ومنّة ربانية ،ويجب على المة أن تقبل فضل ال ومنّته،
ومن أعرض عنها فهو الخاسر المغبون.
إنّ من أشدّ القضايا معاناة لدى الحركة السلميّة هي عدم وجود القائد المناسب ،والرمز
الصّحيح للتيّار والحركة ،وعلى الرّغم من وجود المدّة الزّمنيّة المناسبة لفرازه إل أن الخطوات
ما زالت متعثّرة وفاشلة ،ونحن نرى الشّباب المسلم من أشدّ النّاس احتراما لمسئوليْه وقيادته
مازال بعيدا عن القيادة ،غير مختلط بها ،حتّى إذا عايشها وخالطها اهتزّت لديه الثّقة ،وسقط
الحترام ،وبدأت صيحاته تتعالى في بيان أخطاء مشايخه وقيادته ،وهذا يؤكّد أنّ إفراز القيادة
بالطّرق التي اتّبعَتها هذه الحركات هي طرقٌ فاسدة وخاطئة ،ومن أجل الحفاظ على صورة
الشّيخ المحترم ،والقائد المقبول يحاول بعضهم إحياء الطّريقة الصّوفيّة في التّعامل مع الشّيوخ،
لكنّها تكون مغلفة بغلف العمليّة أو السّلفيّة ،أو التّبريرات الداريّة التي اشتقّت من نظم جاهليّة
ل تمتّ إلى السلم بصلة ،فالمحاولت المتكرّرة في إضفاء صفةِ القداسة على القيادة لم تعد
تدوم طويلً أمام اختبارات القرب والتّعامل بين القواعد والقادة ،ومن صمد منهم أمام هذه
الضّغوط القسريّة من القادة ،بغضّ الطرف عن النّظر إلى أنوار الشّيوخ والقادة فإنّه سيخرج
صورة شوهاء من رجلٍ باع عقله وإرادته لمثل هؤلء القوم ،وحينئذٍ فإنّ الحركة تصبح
مجموعةً من البواق التي تسير وراء ناعقٍ واحدٍ فقط ،هذه الصّورة هي أقـرب ما نرى في
الواقع من تركيبة الجماعات السلميّة.
القيادة والقاعدة ( التلميذ والشيخ )
المشكلة الواضحة هي كيف توفّق الجماعة المسلّحة المهتدية في إيجـاد الحترام بين أفرادها
على العموم وبين قواعدها والقيادة على الخصوص ،وبين وجود المدى القصى من القدرة على
احترام العقل الذّاتي والرادة المستقلّة؟ وقد يظهر لبعض قاصري النّظر استحالة وجود هذه
التّركيبة ،واعتقادُ الستحالةِ مردّه إلى عدم فهم أحد طرفي المعادلة ،فقد يُدخِل البعض صورا أو
ممارساتٍ خاطئة إلى مفهوم الحترام والتّقدير ،وبالتّالي يجعل من أضداد الحترام عدم وجود
هذه الممارسات والسّلوكيّات.
عندما يناقش التّلميذ شيخه في مسألةٍ من المسائل ،ويراجِعه فيها إلى أقصى درجات المراجعة
بل المناظرة ،فهل هذا الفعل يضادّ الحترام والتّقدير ؟.
449
هل مراجعةُ بلل رضي ال عنه المتكرّرة والصّلبة لعمر بن الخطّاب رضي ال عنه في مسألةِ
الختلف حول الرض المفتوحةِ ،هل يُعمل فيها بالخراج كما هو رأي عمر ،أم تُقسّم على
الفاتحين كما جرت السنّة وأصرّ على تطبيقها بلل ،هل هذه المراجعة فيها ما ينبئ عن فقدان
درجة (أيّ درجة) من درجات الحترام بين شخص القائد وأتباعه؟.
هل استنكار سعد بن عبادة رضي ال عنه لمّا فهم من وجوب إحضار أربعة شهـود حال
رؤيته لزنى الزّوجة ،وحلفه اليمان المغلّظة أنّه لو رأى ذلك ليضربنّ ما بين رجليها هو ممّا ل
يدخل تحت باب احترام الرعيّة للقيادة؟.
ثمّ تعالوا أيّها القادة لنحاسبَكم ،وأنتم ملتم الدّنيا صياحا بوجوب محاكمةِ ومحاسبةِ المتسبّبين
بمصائب المّة وهزائمها؟.
تعالوا أيّها القادة لنحاسبكم عن أحداثِ حماة ،ومن هو المتسبّب بهذا الكمّ من المصائبِ والبليا؟
ألم تدعوا الليالي الطّوال أن يخلّصكم ال تعالى من عدنان عقـلة ،لنّه بدأ يسير في الفاق
داعيا إلى كشف المجرمين والمنافقين والوصوليين والنّفعيين والجبَناء وقادة الفنادق ،وسماسرة
المال وقطّاع الطريقِ إلى ال؟.
لماذا احمرّت أنوفكم -غضبا ظالما -ضدّ كتاب "التّجربة السّوريّة" لمؤلّفه عمر عبد الحكيم مع
أنّه لم يُظهر من الحقائق إلّ بمقدار رأس البرة ،وإلّ فالحقائق ينبغي أن تؤدّي بكم إلى المشانق
لو كان هناك قاعدة تَفهَم دين ال تعالى ،وتتعامل مع المورِ بشرعيّةٍ وموضوعيّة.
ف النّاس حقيقة ما
ثمّ لماذا ل يفتح ملفّ حزب النّهضة بقيادة راشد الغنّوشي بطريقة علنيّةٍ ليعرِ َ
جرى في تونس فتوضع النّقاط فوق الحروف ،فيعرف القائد المزيّف من القائد اللعوب ،لماذا
تلصق هذه الصّور الزّائفة ضمن لوحة السلم العظيم ،بل لماذا كتب علينا أن ل نرى إلّ قائدا
ورمزا مزيّفا عاجزا عن قيادة دجاجة ل قيادة أمّة؟.
إنّ الحترام والتقدير للقيادة الواعية أم ٌر تفرضه القيادةُ بنفسها ،وذلك من خلل مسيرتها
المظفّرة نحو أهداف الجماعة وانتصاراتها.
المام أحمد ابن حنبل -رحمه ال تعالى -لم يخطب الخطب الرنّانة ،ول أصدر البيانات
المطوّلة طالبا من النّاس احترامه وتقديره ،بل موقفه وصلبته في الحق ،وتفانيهِ في سبيل السنّة
ودين ال تعالى هو الذي جعله للناس إماما وفرض اسمه على أهل السنّة والجماعة.
450
شيخ السلم ابن تيمية -رحمه ال تعالى -بفعاله وجهاده جعل خصومه قبل تلميذه ومحبّيه
يُ ِقرّون له بالفضل والرّفعة ،لنّهم رأوا رجل المواقف ،ل أبواق كل ٍم وصراخ.
المّة والقاعدة والتباع يحترمون علماءهم وقادَتهم عندما تفرضُ القيادةُ نفسها بمواقفها وفعالها
ونزاهتها.
إنّني أعلم أقواما (من الشباب المتحمس) كان يرجو نظرة من بعض السماء الرنّانة من القادة
المفكرين ،وكان يعتبر مجرّد الجلوسِ في محاضرةٍ لهذا الشيخ أو القائد أو المفـكّر هي من أشدّ
القُربات إلى ال تعالى ،ولكنّه بعد تجربةٍ ُم ّرةٍ كشفت هذا الغثاء على حقيقته صار يعتقد أنّ قتل
هؤلء القادةِ من أفضَلِ القُربات إلى ال تعالى.
لماذا هذا ؟.
ق صراخ ،حتى إذا جاء
السبب واضحٌ جليّ ،لن الواقع كشف أن هؤلء القادة تُجّار كلمٍ ،وأبوا ُ
َدوْر النّزال والتّجربة تعرّت حقائقهم ،وكُشِف أمرهم.
ق الموازين في هذا الباب ،فإنّه كذلك الفرقان
وإذا كان الجهاد يعرّ فنا بالرّجال ،إذ هو من أد ّ
الذي يقسّم النّاس إلى أقسامها الحقيقيّة ،فبه تتميّز الصّفـوف ،فيتبيّن فسطاط اليمان ،كما يتبيّن
فسطاط الكفر والنّفاق ،فيؤوب النّاس إلى منازلهم التي يرتضونها لنفسهم ،ومعلوم أنّ الفتن
والبتلءات تكشف النّاس ،وتخرج مخبوء نجواهم ،إذ صدق من قال" :إنّ الحرب حصاد
المنافقين" ،وبها كذلك يتّخذ ال الشّهداء ،والشّهادة باب جليلٌ ل يفتحه ال تعالى إلّ لوليائه
المقرّبين.
الجهاد :مراتب الولية والقرب والنفاق والبعد
من قرأ السّيرة النّبويّة قراءة متفحّصة ،يرى فيها هذا الذي قلناه ،إذ أنّه ما من معركةٍ خاضها
ل وأظهرت رجالً في مرتبة الولية والقرب ،كما وأظهرت
رسول ال صلى ال عليه وسلم إ ّ
رجالً في مقام النّفاق والخِزي ،فالجهاد هو الذي يكشف حقائق المخادعين والمتخاذلين ،لنّ بذل
ل المرتبط بهذا الدين ارتباطا حقيقيّا ،ومن
النّفوس هيّنة في سبيل هذا الدين ل يقوى عليه إ ّ
تمثّلت له الدّار الخرة بين عينيه ،يراقبها أنّى توجّه أو قال أو فعل ،كما مدح ال تعالى
الصّادقين من عباده بقوله{ :إنّا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدّار} وهي في سورة ص ،ذلك بعد
أن تكلّم ال تعالى عن داود وسليمان وأيّوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصّلة والسّلم،
وذكر سبحانه وتعالى ِمنَنه عليهم ،جعل سبحانه وتعالى علّة هذه ال ِمنَن ،وسبب إغداقها أنّهم
451
أخلصوا أنفسهم للخرة ،حبّا وعملً ،قال مالك بن دينار" :نزعنا من قلوبهم حبّ الدّنيا وذكرها
وأخلصناهم بحبّ الخرة وذكرها" ،إذ أنّ هذا الدّين ل يرفع ال به إلّ من آمن به حقّ اليمان،
وصبر على ما يلقاه من الفتن والهوال ،ثمّ تيقّن على موعود ال تعالى وأنّه آت ل ريب فيه،
كما قال تعالى{ :وجعلنا منهم أئمّة يهدون بأ مرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} .قال ابن
تيميّة -رحمه ال تعالى -تفسيرا لهذه الية" :بالصّبر واليقين تنال المامة".
ففي غزوة الحزاب حيث جمع النّاس حشودهم ،وتكاتفوا يدا واحدةً على بلدة صغيرة هي طيبة
مدينة رسول ال صلى ال عليه وسلم ومهاجره ،واضطربت النّفوس ،وزُلزِلت ،ورأى النّاس
الموت بأمّ أعينهم [اليات من 27-9من سورة الحزاب] .قال ال تعالى{ :يا أيها الذين آمنوا
اذكروا نعمة ال عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان ال بما
تعملون بصيرا} الحزاب .9
أمّا الجنود فهم الملئكة ،ولم تقاتل الملئكة يومئذٍ ،وإنّما عذّب ال الكافرين بالرّيح ،ففي
الصّحيحين عن ابن عبّاس رضي ال عنهما عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه قال(( :نصرت
بالصّبا ،وأهلكت عاد بالدبور)) .وأمّا تفاصيل حركة رياح الصّبا فقد روى ابن أبي حاتم بسند
صحيح عن ابن عباس رضي ال عنهما أنّه قال" :قالت الجنوب (أي ريح الجنوب) للشّمال (أي
ريح الشّمال) ليلة الحزاب :انطلقي ننصر رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقالت الشّمال :إنّ
الحرة ل تسري بالليل ،وكانت الرّيح التي أرسلت عليهم الصّبا".
ثمّ فصّل ال تعالى أمر المعركة وما جرى فيها ،فقال جلّ وتعالى{ :إذ جاءوكم من فوقكم ومن
أسفل منكم وإذ زاغت البصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون بال الظّنونا} الحزاب .10
إنّها الفتنة ،إنّه البتلء والتّمحيص ،حيث تظهر القلوب ما بها لشدّة الضّغط عليها{ ،زاغت
البصار} :أي تحرّكت عن مكانها لشدّة الخوف والرّعب ،و{بلغت القلوب الحناجر} :وكذا زالت
القلوب عن مكانها لشدّة خفقانها واضطرابها ،فالعيون تتحرّك بحركة القلوب ،إذ العين لم تعد
ترى بوضوح وجلء ،والقلب لم يعد يفكّر بسلمة وثبات ،وهذا كلّه بسبب شدّة الخوف ،وهو
خوف لم يسلم منه أحد ،فقد حدّث حذيفة بخبر أصحاب رسول ال ? في هذا الشّأن شيئا عجيبا،
قال فتىً من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمـان رضي ال عنه :يا أبا عبد ال رأيتم رسول ال
صلى ال عليه وسلم وصحبتموه؟ .قال حذيفة :نعم يا ابن أخي .قال :كيف كنتم تصنعون؟ .قال:
وال لقد كنّا نجهد .أي نتعب بصحبته تعبا شديدا ،وذلك أنّه صلى ال عليه وسلم كان صاحب
452
همّة عالية ،وعمل دءوب ،ونفس ل تكلّ ،وكان أصحابه رضي ال عنهم لمحبّتهم له يحاولون
اللحاق به ،والتّشبّه بفعاله ،فكانت محاولتهم هذه تصيبهم بالتّعب والجهد ،وكذا القائد الحقيقيّ ل
يرضى من رجاله الدّون ،ول يقبل في رعيّته إلّ فعال الرّجال ووَثباتهم ،وأمّا أولئك القوم الذين
يصنعون من أتباعهم أبواقا لهم ،ومقلّدين لحضرتهم ،فلن ينفعوهم شيئا في يوم كريهةٍ وسدادِ
ثغرٍ ،ولقول حذيفة رضي ال عنه معنىً آخر ،وهو أنّه كلّما َوضُح الحقّ وكان قويّا جليّا كلّما
كان الباطل كذلك جَلدا واضحا جليّا ،ولم يكن الحقّ جليّا واضحا قويّا في يوم من اليّام كما كان
في عهد محمّد صلى ال عليه وسلم ،وكذا كان الكفر في عهده سافرا عن وجهه القبيح ،فكان
هذا يُلحق بأصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم الجهد والتّعب ،فقال حذيفة" :يا ابن أخي
وال لقد رأيتني ليلة الحزاب مع رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال(( :من يقوم فيذهب إلى
هؤلء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله ال الجنة)) ،فما قام منا رجل ،ثم صلّى رسول ال صلى ال
عليه وسلم هونا من الليل ،ثمّ التفت إلينا ،فقال مثله ،فسكت القوم ،وما قام منّا رجل ،ثم صلّى
رسول ال صلى ال عليه وسلم هونا من الليل ،ثم التفت إلينا ،فقال(( :هل من رجل يقوم فينظر
ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة)) ،فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة
البرد".
{وتظنون بال الظنونا} :فالمنافقون ظنّوا بربّهم شرّا ،وبالسلم بهتانا ،إذ أنّهم قالوا{ :ما وعدنا
ال ورسوله إل غرورا} ،يقولون" :يعدنا محمد فتح قصور الشام وفارس وأحدنا ل يستطيع أن
يجاوز رحله ،هذا وال غرور" ،وها هم اليوم يقولون :كيف لنا مع ضعفنا وقلة حيلتنا ،وهواننا
على الناس أن نعيد دولة السلم؟ وكيف لنا ونحن ل نستطيع أن نعبد ال تعالى آمنين أن ينقلب
حالنا إلى حالٍ تخشانا فيه قوى الكفر والشّرك في مشرق الرض ومغاربها ؟ .لكنّنا نقول :إنّها
الوعود اللهية ،إن أخطَأتْنا نحن فهي واقعة ل شك فيمن ثبت على الطريق ،وواصل المسير،
ل على صواب
ولم تُضعفه اليّام والشّهور ،بل ازداد ثباتا ويقينا ،وما شدة الصعوبات إل دلي ٌ
الطريق ،وإذا كان طريق الجهاد وهو طريق الدّم والخطفِ والسجن ،فإنّه كذلك طريق العزّة
خ ْزيُ
طرُق الخرى هي طرُق السّهولة والمناصب ،فإن نهايتها الذلّة وال ِ
والنّجاح ،وإذا كانت ال ّ
والشّنار .وطائفة منهم قالت :يا أهل يثرب ل مقام لكم على السلم فارجعوا ،أو ل مقام لكم في
القتال فهزيمَتكم محقّقة ،فارجعوا إلى منازلكم ،وبدأوا يستأذنون رسول ال صلى ال عليه وسلم
في الهروب وترك المواجهة يقولون{ :إن بيوتنا عورة} أي مكشوفةُ الجانب ،ل نستطيع منعَ
453
الدّاخل إليها ،فكذّبهم ال تعالى قائل { :وما هي بعورة إن يريدون إلّ فرارا} ،وهكذا النّفوس
المريضة ،والقلوب الخاوية من اليمان ،تبحث لها عن الحجج الواهيةِ الضعيفة لترك المواجهة،
ولعل هؤلء يبحثون عن الحجج الصولية في إسقاط فريضة الجهاد تحت دعوى المصلحة
الموهوم ِة الزائفة ،ولكنّ حقيقةَ الحال أنهم ل يريدون الجهاد ،ويخشون نتائجه ،قال تعالى{ :ولو
سئِلوا ال ِفتْنة لتَوها وما تلبّثوا بها إل يسيرا ولقد كانوا عاهدوا ال
دُخِلت عليهم من أقطارها ثمّ ُ
من قبلُ ل يولّون الدبار وكان عهد ال مسئول قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو
القتل وإذا ل تمتّعون إل قليل قل من ذا الذي يعصمكم من ال إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم
رحمة ول يجدون لهم من دون ال وليّا ول نصيرا}.
إن هؤلء القوم ل يقيمون للفضائل شأنا ول لدين ال رأسا ،همّهم بطونهم ،وشُغلهم أهواءهم،
ودليل ذلك أنه لو دخَلت جيوشُ الحزاب عليهم في المدينة ،ثم طلبت منهم الجيوش أن يُشركوا
بال تعالى ما احتبسوا ،ول تلكّؤوا ،بل لقبلوا على الكفر بال طيّبة بالشرك قلوبهم ،فهم يدورون
مع من مُلك المنصب والمال ،ويراقبون حَركته ،حتى يبرمجوا أنفسهم على اتّجاهه ،ليس لهم
اختيار إلّ اختيارُ الحاكم ،إن أسلم الحاكمُ أسلَمنا ،وإن كفَر الحاكمُ ك َفرْنا ،ول يُقبِلون على
السلم إل بالوعود الممتلئةِ ذهبا وكنوزا ،ومناصبَ وتشريفاتٍ ،ولهذا قالوا قولتهم{ :ما وعدنا
ال ورسوله إل غرورا} ،فهم اعتنقوا السلم لوعوده الدنيوية ،أليس هذا يعلّمنا أن ل نفرش
الورود والرياحين للناس في دعوتهم للسلم ؟ ثم أليس هذا خطأ تلك الجماعات التي قالت
للناس :انتخبونا ،وسنطعمكم السّمن والعسل ،وسنبني لكم المساكن الفاخرة ،وسنسهّل لكم
حيَاتكم ،فلمّا أصابهم بعضُ اللواء ،فإذا هم أمام شاشاتِ التّلفزيون يتبرّأون من
معايشكم و َ
طرِيق الواحد تلو الخر ،أل ما أتعسَ العبد الذي يُريد أن
السلم وأهله ،ويتساقطون على ال ّ
يشتري بإسلمه منصبا وجاها ،وصدق رسول ال صلى ال عليه وسلم حين قال(( :ما ذئبان
جائعان أرسل في غنم بأفسد من حرص الرّجل على المال والشّرف لدينه)).
يا قوم! أين عهودكم؟ أين بيعتكم مع ال؟ ألم تقسموا من قبل أن ل تولّوا يوم الزحف ،بل تثبتوا
ثبات الصادقين؟!.
القدوة والسوة في الجهاد:
اعلموا أنّ الجهاد ل يقرّب أجلً ،فلو كنتم في بيوتكم لبرز الموت إليكم ،ففرارُكم لن ينفعَكم،
ومتاعُ الدّنيا قليلٌ زائل ،والذين يظنّون أنّه بالجهاد قد توحّش الخصم ،أو ازدادت شروره،
454
وكثْرةُ قتْله للموحّدين والضّعفاء هو جدّ واهم ،لنّه سواء حملتم السّلح وقاتلتم على دينكم
وأعراضكم ،أو أنّكم تركتم السلح وأعلنتم صباح مساء أنّكم ض ّد العُنف والقتال ،فلن يغيّر هذا
من الحقيقة شيئا ،وهذه الحقيقة تتجدّد كلّ يوم ،فها هي جماعة الخوان المسلمين تساقُ في
مصر إلى السجون ،وترمي بنفسها تحت أقدام الكفرةِ المرتدّين وترجو نظرةَ رِضى من قبل
وزير الداخلية المصري أن يسمح لها بلقائه ،لتشرح له حقيقتها ،بل إنها لترجو منهم أن يسمح
لوسيط بينهم أن يدخل عليه ويشرح له أنّ جماعة الخوان جماعة سلميّة ،ل تنتهج العنف ،بل
تتبرّأ منه صباح مساء ،ونحن نقول :حسبنا ال ونعم الوكيل ،وإنّنا وال لنشعر بالخِزي من هذا
الموقف ،فهل وصلت المهانة والذّلة بهذه الجماعة إلى هذا الدّرك السفل ؟ ،إنّه لشتّان بين
موقف جماعات التّوحيد والجهاد وجماعة الخوان المسلمين!! الدّكتور أيمن الظّواهري مع
ضعفه وعجزه ،يلقي الكلمات كالحمم وكأنّها طلقاتُ مِدفع محمرّ الجَوا نب نحو الرّئيس المرتدّ
وحكومته ،وتَحمِل كلماته المَل أنّ فتح مصر ل بدّ منه ،وأنّه قريب ،مع أنّ الجميع يعلم إلى أيّ
درجة هو ضعيف عاجز ،لكنّها آيات ال ما زالت تتجلّى في هذا العصر { :ولمّا رأى المؤمنون
الحزاب قالوا هذا ما وعدنا ال ورسوله وصدق ال ورسـوله وما زادهم إلّ إيمانا وتسليما}،
نحسبه كذلك ول نزكّي على ال أحدا.
إنّ الرّجال مواقف ،فانظر يا عبد ال أين موقفُك ،وإنّ اليمان ليستعلي بذاته حتّى لو كان حبيس
السّجن ،أو طريحَ الفراش ،أو فقير الجَيب ،أو مطاردَ الحال.
إنّه ليستعلي في السّجن بخلوته ،ومع القتل بشهادته ،ومع النّفي بسياحته ،ذلك هو اليمان ،وإنّ
النّفاق مخذول مع منصبه وشاراته وأمواله وحشمه ،لنّه النّفاق!! {قد يعلم ال المعوّقين منكم
والقائلين لخوانهم هلم إلينا ول يأتون البأس إلّ قليلً أشحّة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم
ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنةٍ حدادٍ،
أشحّة على الخير ،أولئك لم يؤمنوا فأحبط أعمالهم ،وكان ذلك على ال يسيرا}.
ضرّاء ،معوّقون ومعوّقون ،فإذا أتوا إلى مواطن النّزال أتوا
أرأيت أخي :هم ،هم ،في البأساء وال ّ
قليلً ،من أجل الرّياء والسّمعة ،حتى يرجع الواحد منهم إلى بلدته ويخطب آلف الخطب،
سرّاء إيذاء ورميٌ بسوءِ
ويجمع آلف الدّنانير ،في الحرب ينصحون بترك المعركة ،وفي ال ّ
القوال من كلّ جانب ،عيونهم مفتّحةٌ ،مجهريّة البصر في النّظر إلى الخطاء والسّقطَات حتّى
يسيروا فيها شرقا وغربا ،لكنّها كلّةٌ ت ِعبَة عن رؤية الخير وإبصاره ،جيوبهم منتفخة ،كريمة
455
على نفسها وعيالها ،يبني الواحدُ منهم كأنّه مخلّد ،ويجمع المال باستكثار يظهر عليه ،حتّى
صار الواحدُ منهم يعَدّ من أثرياء بلده ،وصارت أموالهم محـطّ تن ّدرٍ من قبل العداء
ت الملوك وشيكاتُ الهدايا بمليين
والخصوم ،بنوكُهم تسجّل في بلد الـ "واق واق" ،تأتيهم هبا ُ
الرّيالت ،من أجل فتاوى رخيصة وخطب قبيحة.
لقد تكلّم ال بهذه اليات والكلمات ،وهي كأنّها صورة كونيّة للحدث ،كلمات ال تنقلنا نقلت
سريعة ،وكذا حدث الحزاب ،اختلطت فيه صورة المشركين {جاءتكم جنود}{ ..جاءوكم من
فوقكم} ،وصورة مشاعر النّاس جميعا بصورة خاطفة{ :وتظنّون بال الظّنونا} ،ولم يتكلّم ال عن
مشاعر الكافرين شيئا ،بل يكفي أن يقول عنهم أنّهم جنود ،جنود فقط ،فلم يتكلّم شيئا إلّ عن
حركتهم الظّاهرة{ :إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم} .ثمّ شرع القرآن في وصف
ي المؤمنون وزُلزِلوا زِلزالً شديدا} ،لفتة
المؤمنين ،حيث انتظرنا وصفا مُسهبا{ :هنالك ابتُل َ
سريعة ،كلمات مفعمة بالبيان ،وتحتاج إلى ما وراءها ،ولكنّ سرعة المعركة تقتضي سرعة
الوصف ،وفجأة تنتقل إلى المنافقين ،كلمات ال إلى المنافقين ،وتتحدّث ،وكأنّهم في معزلٍ عن
ض المعركة ،مشاعرهم خاصّة ،وأقوالهم خاصّة ،جسْمٌ غريب ،يتوقّف عندهم حديث المعركة
أر ِ
ليحكي لنا أصولهم السّابقة ،ومعالمهم قبل الحدث ،وكيف يعالجون الحداث بتعليقاتهم
ن المعركة ما جاءت إلّ لهذا المر،
وتحليلتهم ،ويفضح الحديث علّة حركاتهم وسكناتهم ،وكأ ّ
وهو فضح المنافقين وكشْف عوراتهم.
ووسط ذلك كلّه ،فجأة يلقي الرّب جلّ في عله علينا هذا التقرير والحكام قائلً { :لقد كان لكم
في رسول ال أسوة حسنة لمن كان يرجوا ال واليوم الخر وذكر ال كثيرا} ،21وعلى الرّغم
من أنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم أسوة المؤمنين في المور كلّها ،وعلى الرّغم أنّ هذه
الية حجّة في وجوب اتّباع النّبيّ صلى ال عليه وسلم ،إلّ أنّ علينا أن نتوقّف أمام سِياقها،
وسِباقها ،فقد قرّر ال هذه السوة من خلل حديثه عن المعركة ،وتفاعلت النّاس حولها ،نعم
أسوة لنا بلباسه ،وأسوة لنا بصلته ،وأسوة لنا بمأكله ،وأسوة لنا بشأنه كلّه ،لكنّ الحديث عن
السوة انطلق من وسط فتنة الحزاب ،وغبا ِر المعارك ،وصلبة القرارات ،فأين المتحدّثون عن
السوة بحبّه لبياض الثّياب ،وكثرة التّطيّب ،وذراع الذّبيحة .. ،و!.
ليعلموا أنّ حديث القرآن عن القدوة والتّساء كان من خلل حديثه عن غزوة الحزاب.
إنّه ابن عبد المطّلب إنّه النّبيّ ل كذب
456
وبعد أن قرّر ال تعالى حُكم السوة والقُدوة ،وأنها لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،فحيث أنه
صبر فعليكم أن تصبروا ،وتقاتلوا ،فل ينبغي لكم أن تتركوه وحده في مواطن القتال والنـزال،
بل ل يجوز لكم أن تستأذنوه في ترك القتال كما قال ال تعالى { :لو كان عرَضا قريبا وسفرا
قاصدا لتّبعوك ولكن بعُدَت عليهم الشقة ،وسيحلفون بال لو استطعنا لخرجنا معكم ،يهلكون
أنفسهم وال يعلم إنهم لكاذبون عفا ال عنك لِمَ أذنت لهم حتّى يتبيّن لكَ الذين صدَقوا وتعلَم
الكاذبين ل يستأذِنك الذين يؤمنون بال واليوم الخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم وال عليم
بالمتقين إنّما يستأذنُك الذين ل يؤمنون بال واليومِ الخر وارتابت قلوبُهم فهم في َريْبهم
يتردّدُون} التوبة .ذلك لنّ الستئذان هو هروب من نصرة دين ال تعالى ،وخذلٌ له ،ول ينبغي
للمسلم أن يخذل دين ال تعالى ،أو َيتَـوانى عن نصرته ،وإنّه من البيان الضّروري أن تكون
صبْر على القتال ودوام الرتباط به عملً وفِكرا ،ودعوةً،
الُسوة في هذا الباب أعني باب ال ّ
وتحريضا ،وردّا على شبه المثبّطين والمخذّلين ،أو المعوّقين له بإسقاط أحكامه في أي عصر
من العصور.
إن القيام بهذا المر أسوة برسول ال صلى ال عليه وسلم ل يقوى عليه إل المتعلّق بالخرة،
جرِها أن يُصيبه ،ولعذابِها أن يخطِأَه ،والذّاكرُ لربّه تقويةً لقلبه ،وتطمينا له من أن
الرّاجي ل ْ
يهتزّ أو يرتجف كما قال ال تعالى { :يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاذكروا ال كثيرا لعلّكم
تفلحون} النفال ،لن الُسوة في هذا الباب تكاليفها شاقّة عالية ،يرى المرءُ آثارها بأمّ عي َنيْه،
ويعيشُ هذه التكاليفَ لحظةً بلحظة ،فهو مع ّذبٌ من طواغيت الرض ،أو مطاردٌ غَريب ،أو
صرٌ مَحْبوس ،أو مهدّدٌ يرْقب الموتَ في كلّ آن ،ومثل هذا الحال لن يصبِر عليه إل من قام
محا َ
به من أجل الخرة ،واستعان على هذا الصبر بذكر ال تعالى ،وبهذا يتحقق التوافق بين ذكر
السوة وبين ذكر وصف القائم بها ،وذلك بخلف المتأسّي به في غير هذا الباب ،إذ أنّه قد
تجتمع رغبة النّفس وشهوتُها مع السوة في أبواب أخرى كثيرة معلومة لدى القاصي والدّاني،
لنّ السوة في هذا الباب ل تكلّف كثيرا ،ول تصابر النّفس نفسها عليها ،بل تقوم عليها راغبةً
فرحةً ،ل تخاف شيئا لترجو غيره ،ول تضطرب فتحتاج إلى الطمئنان.
{ولمّا رأى المؤمنون الحزابَ قالوا هذا ما وعدنا ال ورسوله وصدق ال ورسوله ،وما زادهم
إل إيمانا وتسليما من المؤمنين رجالٌ صدَقوا ما عاهدوا ال عليه فمنهم من قضى نحْبهُ ومنهم
من ينتظر وما بدّلوا تبديل}.
457
البتلء والوعد بين المنافقين والكافرين
بعد أن وصف ال تعالى المنافقين وأحوالهم ،وذكر حركة الكافرين من اللتفاف حول المدينة،
ي المؤمنون وزُلزلوا
وبعد أن وصف ال تعالى عِظَم الزّلزلة على قلوب المؤمنين {هنالك ابتُل َ
زِلزالً شديدا} أخبرنا ال تعالى عن الصحابة رضي ال عنهم ،وماذا كان تفسيرهم لحدث
الحزاب وكيف كان فقههم له{ ،هذا ما وعدنا ال ورسوله} ،إنّ جمع الحزاب هو وعدٌ ال
ورسوله? ،وانظر أخي في ال تعالى إلى أدب الصحابة رضي ال عنهم حين سمّوا البتلء
وعدا ،مع أن لفظ الوعد يحمِل البِشارة وليس النّذارة ،والحزاب نِذَارةٌ ،فكيف سمّوا البتلء
وعدا ؟!.
إنّ تسميةَ البتلء وعدا من تمام الفقه والفهم ،لن وعود ال تعالى بحصول الخير ،وقدوم
البِشارات ل تتمّ إلّ بعد البتلء والتّمحيص ،فحيث رأى المؤمن البتلء قادما إليه ،فهو رابطٌ
له ول شك بما سيأتي بعده ،وهو وقوع الوعد ،لكن بعد اتّخاد الموْقف الصّحيح ،وفي كلمهم
رضي ال عنهم موقِفُهم من الحدث ،فحيث قالوا :إن هذا البتلء هو وعد ل تعالى ،فهو موقف
منهم أنّهم سيصبرون عليه ،ويعالجونه وفق أحكـامِ ال تعالى ،ذلك ليخرجَ من البتلء إلى
الوعد ،وإل فإن البتلء سيكون مقدّمة الوعيد ل الوعد.
فهم رضي ال عنهم نظروا إلى نتيجة البتلء وخلصته ،وذلك من خلل موقفهم من الحدث،
فالفتنة يسقط بها المرء ،فتكون عذابا على صاحبها كما قال المنافقون { :وإذ يقول المنافقون
والذين في قلوبهم مرضٌ ما وعدنا ال ورسوله إل غرورا} فهؤلء محجوبون بحجاب الهوى
ن الوعودَ اللهية تقدم على أطباق الذّهب
والشّهوة ،وكذلك بحجاب البلدة والجهل ،حيث ظنّوا أ ّ
والفضّة ،بل امتحان وابتـلء ،وبدون تمحيص واختبار ،فحيث وقع البلء زاغت قلوبُهم عن
الحقّ ،وخرجت منهم كلمات الشرّ والسّوء ،وأمّا المؤمنون فقد تذكّروا قوله تعالى{ :أم حسبتم أن
تدخلوا الجنّة ولمّا يأتِكم َمثَلُ الذين خَلوْا من قبلكم مسّتهمُ البأسا ُء والضرّاءُ وزُلزِلوا حتّى يقولَ
ن نصر ال قريب} البقرة .فالوعود ل تأتي بل
الرّسول والذين آمنوا معه متى نصر ال أل إ ّ
مقابل ،بل ل بدّ من أن تأتي لمن يستحقّها {وصدق ال ورسوله وما زادهم إل إيمانا وتسليما}
وأنت أخي المسلم ترى أن ال فرّق في كلمه المجيد العظيم وصف المؤمنين حيث قال سابقا:
{هناك ابتُلي المؤمنون وزُلزِلوا} ،ثمّ وصفَ المنافقين ثمّ عاد سبحانه وتعالى إلى ذكر المؤمنين،
ق للمؤمنين ووصف لحقٍ لهم
وأظنّ أنّ حكمة هذا -وهو ذكر وصف المنافقين بين وصفٍ ساب ٍ
458
-إنّما هو تبيينٌ لحال المنافقين وأنّ وجودهم بين المؤمنين هو الذي اقتضى ذكرهم بين وصفين
ن الوصف السّابق { زُلزِلوا} كان بين وصفين وهو وصف
للمؤمنين ،وهناك نكتة أخرى وهي أ ّ
حركة الكافرين {إذ جاءوكم} ووصف المنافقين ،فالزّلزلةُ الحاصل ُة للمؤمنين هي بسبب هذين
العدوّين:
الكافرين وقدومهم.. •
والمنافقين وخذلنهم وأراجيفهم.. •
فالبتلء قد وقع بين سندانٍ ومطرقة ،سندان المنافقين ومطرقةُ الكافرين ،وهذا من أشدّ البلء
وأعظمه ،وكما سيتبيّن لنا أنّ الكافرين قد ذهبوا وبقيت فتنة المنافقين بين أظ ُه ِر المسلمين ،فما
أشدّ هؤلء القوم على أهل اليمان!! وما أقسى ما تعاني الجماعة المسلمة منهم!! بل {هم العدوّ
فاحذرهم قا َتلَهم ال أنّى يؤفكون} .وحديث القرآن عن النّفاق والمنافقين طويل مسهب ،ولكنّ
معاناة المؤمنين من هذا المَرض لم تكن إلّ في حال الجهاد والقتال ،إذ أنّ النّفاق ل يُطِلّ برأسه،
ول يجد لكلماته قبولّ وصدى إلّ عند وقوع البتلء والمحن ،فحين تضطرب النّفوس ،وتبلغ
القلوبُ الحناجرَ يكون لراجيف النّفاق موطنٌ ونوع قبول ...والنّفاق في القرآن على وصفين
ومثلين.
أصناف أهل النفاق :المثل والواقع
المثل الوّل{ :مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ،فلمّا أضاءت ما حوله ذهب ال بنورهم وتركَهم في
ظلماتٍ ل يبصرون ،صمّ بكمٌ عميٌ فهم ل يرجعون}..
المثل الثّاني{ :أو كصيّب من السّماء فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ يجعلونَ أصابعهم في آذانهم منَ
طفُ أبصارهم كلّما أضاء لهم مشوا
الصّواعقِ حذ َر الموْت وال محيط بالكافرين يكادُ البرقُ يخ َ
فيه ،وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء ال لذهب بسمعهم وأبصارهم إنّ ال على كلّ شيء قدير}..
والمثلن القرآنيّان لحالتين واقعيّتين:
فالمثل الوّل لنوع المنافق الذي لم يُسلم أبدا ،ولم يدخل اليمانُ قلبَه قطّ ،بل بمجـرّد قدوم الحقّ
عليه أنكره وأعرض عنه ،فهذا مستقرّ قلبه على الكُفر ،لكنّه أسلمَ ظاهِرا خوف السّيفِ أو رجاءَ
الصفر (الذّهب).
والمثل الثّاني لنوع آخر من النّفاق ،وهو النّفاق المتقلّب ،تأتي على قلبه الـواردات اليمانيّةُ
فيبصرها ويهتدي بها ،فيسلم قلبه كما أسلم ظاهره { ،كلّما أضاء لهم مشوا فيه} ولكنّه ل يقيم
459
على اليمان ،فإذا أتت عليه وارداتُ الشّبه الباطلة ،أو شهوات الهوى والنّفس ،فإنّه يتنكّر لهذا
النّور ،فيُظلم قلبه {وإذا أظلم عليهم قاموا} ،فقلبُه متردّد بين اليمان والكفر ،ل يَ ِقرّ له قرار،
وال عليم بما يختم لهم ،فإذا جاءه الموت وهو في حال نوره وإسلمه مات مسلما ،وإن أتاه
الموت حالَ كفره ونفاقه مات كافرا منافقا ،وليس لنا إلّ الحكم بالظّاهر وقرائن الحال الغالِبة،
فالبتلءات والمِحن تكشف النّوعين ،والقسم الثّاني تكون له فتنةً وابتلءً ،فإمّا يزداد بها نورا
وإيمانا ،وإمّا ينتكس بها ويخـلد إلى الكفر والنّفاق ،وهذا سرّ قوله تعالى{ :وإذ يقول المنافقون
ل غرورا} فهما قسمان :منافقون وفي قلوبهم
والذين في قلوبهم مرضٌ ما وعدنا ال ورسوله إ ّ
مرض ،وهذا كذلك سبب تعليق الحكم عليهم على المشيئة كما سيأتي في قوله تعالى{ :ويعذّب
ال المنافقين إن شاء أو يتوبُ عليهم} .وهذا الكشف ومعرفة الحقائق -أي حقائق النّاس -لم
تُعرف إلّ بالجهاد في سبيل ال تعالى.
{من المؤمنين رجالٌ صدَقوا ما عاهدوا ال عليه ،فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما
بدّلوا تبديلً ،ليجزي ال الصّادقين بصدقهم ،ويعذّب المنافقين إن شاء أو يتوبَ عليهم إنّ ال كان
غفورا رحيما ،وردّ ال الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا ،وكـفى ال المؤمنين القتال ،وكان
ال قويّا عزيزا ،وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرّعب
فريقا تقتلون وتأسِرون فريقا ،وأو َرثَكم أرضهم وديارَهم وأموالَهم وأرضـا لم تطأوها ،وكان
ال على كلّ شيءٍ قديرا} الحزاب .27-23
ق الغزوات على رسول
ثمّ انجلت المعركةُ وأسفرت نتائجها واضحة بيّنة ،وهي غزوة من أش ّ
ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه ،وفيها فقط قال صلى ال عليه وسلم(( :يا أيّها النّاس ،ل
تتمنّوا لقاء العدوّ ،وسلوا ال العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا ،واعلموا أنّ الجنّة تحت ظلل
السّيوف)) .ثمّ قال(( :اللهمّ منـزل الكتاب ،ومجري السّحاب ،وهازم الحزاب ،اهزمهم
وانصرنا عليهم)) متّفق عليه .فهي المعركة الوحيدة التي طلب فيها رسول ال صلى ال عليه
ج الصّحابة رضي ال عنهم لملقاة
وسلم من أصحابه عدم تمنّي لقاء العدوّ ،وإلّ فإنّ خرو َ
العـدوّ أكثر من أن يحصى ،بل إنّ بعدها (أي بعد الحزاب) قال صلى ال عليه وسلم(( :الن
نغزوهم ول يغزوننا ،نحن نسير إليهم)) البخاري .ولذلك ل يحتجّ بهذا الحديث على عدم جواز
تمنّي لقاء العدوّ مطلقا ،إنّما هو ظرف خاصّ ،في حالة شديدةٍ ،كان اللقاء يكلّف البادة الشّاملة
لكلّ الجماعة المؤمنة ،ولكن إذا لقيتُموهم فاصبروا.
460
انجلت المعركة عن شهداء قضوا نحبهم ،وأفضَوا إلى خالقهم ،أحب ال لقاءهم فاتخذهم شهداء،
واتخاذ الشهداء من مقاصد الجهاد كما ذكر ال ذلك في غزوة أحد {وتلك اليّام نداوِلها بين
النّاس وليعلَمَ الُ الذين آمنوا ويتّخذ مِنكم شهداء وال ل يحب الظّالمين} ،فالموت في سبيل ال
من مقاصد حركةِ الجهاد ،وقد روى البخاري أنّ هذه الية نزلت في أنس بن النضر رضي ال
عنه ،كما قال أنس بن مالك رضي ال عنه ،وقد ذكر العلماء أنّه قد يكون للية الواحدةِ عدّة
مناسبات ،وأنّها نزلت عدة مرات ،فسياق الية في الحديث عن الحزاب ،فل يمتنع أن تنـزل
هذه الية بعد أحد مرة ،وفي الحزاب مرةً أخرى.
أصناف أهل اليمان:
أهل اليمان قسمان
شهداءٌ إلى ربّهم ،وأحياءٌ أمناءٌ على العهد؛ ينتظرون النّصر أو الشّهادة ،كلهما قد صدق ربّه،
فجزاؤهـم عند ربهم ،ليس عند أحدٍ من الخلق ،وانجلت المعركة عن منافقين يتردّدون بين
اليمان والكفر ،فإما أن يـقيموا على الكُفر أو يموتوا عليه فلهم العذاب ،وإمّا أن يغلب النور
على قلوبهم بعد أن رأوا من آيات ال البيّنـات من نصرِ نبيه ،وتأيي ِد الريح له ،فيغفرَ ال لهم،
ويُلحِقهم ب َر ْكبِ السلم واليمان ،وبجماعة الهُدى والنّور.
{ ورد الذين كفروا بغيظهم} :ع ّذبَهم ال بالرّيح ،والرّيحُ جُنديّ من جنود ال تعالى ،وروى
المام مسلم في صحيحه عن جابر رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قدم من
سفر ،فلما كان قرب المدينة هاجت ريحٌ شديدة ،تكاد أن تدفن الراكب ،فقال رسول ال صلى ال
عليه وسلم(( :بعثَت هذه الرّيح لموت منافق)) ،فلما قدِم المدينة فإذا منافق عظيم من المنافقين قد
مات { .وكفى ال المؤمنين القتال وكان ال قويا عزيزا} :فلم يُضرب في غزوة الحزاب
بسيف ،ولم يُرم فيها بسهم ،إنما هي الريح -ريح الصّبا .-
وكان من زيادة ال تعالى وفضله عذابُ بني قريظة ،وغنيمةُ المسلمين لرضهم وأموالهم ،ففي
صحيح البخاري عن عائشة رضي ال عنها قالت" :لما رجع النبي صلى ال عليه وسلم من
الخندق ووضع السلح واغتسل ،أتاه جبريل عليه السلم فقال :قد وضعت السلح! وال ما
وضعناه ،فاخرج إليهم .قال(( :فإلى أين؟)) قال :هاهنا ،وأشار إلى قريظة ،فخرج النبي صلى
ال عليه وسلم إليهم".
461
وفي رواية أخرى في غير الصحيح أنّ جبريل عليه السلم قال :يا رسول ال انهض إلى بني
قريظة .فقال (أي النبي صلى ال عليه وسلم)(( :إن في أصحابي جهدا)) .قال :انهض إليهم
فلضعضعنهم .قال :فأدبر جبريل ،ومن معه من الملئكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم
من النصار .ا.هـ.
ففتح ال عليهم بني قريظة ،إذ لم يبق منهم رجل بالغ إل و ُقتِل ،وس ِبيَت نسائهم ،وغ ِنمَت
أَموالهم{ ،وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها} ،قال أهل العلم في قوله تعالى:
{وأرضا لم تطئوها}" :أن هذه بُشرى لرسول ال صلى ال عليه وسلم ولصحابته بفتح أراض
أخرى غير بني قريظة ،قال بعضهم هي خيبر ،وقال بعضهم مكة ،وقال آخرون :فارس
والروم ،وقال عكرمة :هي كل أرض تفتح إلى يوم القيامة".
نعم بالجهاد ورِث المسلمون كنوز الرض وملكوها؛ كنوزا َت ِعبَ عليها أصحابها حين جَمعوها
جنَانِ
وتعِبوا في جنْيها ،وأضاعوا من أجلها الوقات والعمار والزمـان ،وأرضا جعلوها من ِ
الرض ،حدائقَ غنّاء ،وأشجارا باسقةً عالية ،وأرضا زاهيةً حيةً ،كلّ هذا ورث ُه المسلمون عندما
كانوا أهل الجهاد وأصحابه ،أما الن فيا حسرتاه على ما أصابَنا بسبب ترك الجهاد والرّكون
إلى الرض :دفعنا الجزية ،وورث الكفر أرضَنا وديارَنا.
في فلسطين ،أرض من جنان الدّنيـا ،بيّارات (بساتين) البرتقال والليمون ،أخذَها إخوان ال ِقرَدة
سمْن والعسل،
والخنازير ،و َورِثوها من أصحابها بسهولةٍ ويُسر ،بلدُنا التي كانت تسمّى بلد ال ّ
هاهم أبناؤها يرتمون على أرصفة الذلّ والخزيِ في أوروبا بحثا عن لقمةِ الخبز ،وخيراتُ
أرضِنا من معادنَ وبترول وذهب هاهو الكفر يتنعّم به كل نعيم ،ويخوض فيه إلى أُذُنيه ،والفقر
شرَفها من أجلِ قوتها ،فيا ال ما أشدّ عذاب
يضرب بجذوره في ديارنا ،عائلت تبيع عرْضها و َ
من ترك الجهادَ وأخلَدَ إلى الرض!.
أيها المسلمون ل بديل عن النار ،ول بديل عن السّلح ،ول بديل عن الدّم..
أيها المسلمون الجهاد ..الجهاد ..جهادٌ من أجلِ ديننا الذي ضيّعه المرتدّون ،وتلعّبوا به وجعلوه
أهونَ موجود.
جهادٌ من أجلِ أعراضنا التي انتهكها الفقر والبؤس والجوع ،وتلعّب بها الطّواغيت كحكايات
الليل.
جهاد من أجلِ صرخاتِ السارى والمعتقلين.
462
جهاد من أجل أرض السلم وديار السلم ،الديار التي طهرت بدماء الصحابة والولياء
والصالحين فصارت مأوى الغربان والبوم وصهيل خيل مسيلمة.
لقد صمّت الذان بفحيح الفاعي ونعيق الغربان وصهيل خيل مسيلمة..
فمن يُسرج خيل الجهاد ؟.
ومتى يَطْرب الشّجر والحجر ،ويتغنّى الوجود بنداء:
يا خيل ال اركبي؟.
موازين الرجال وحقائق الوجود:
تحت شمس الجهاد اللهبة ظهرت حقائق الوجود ،والنسان من هذا الوجود ،فتعرّى النسان،
وآب كل ص ْنفٍ إلى قسيمه ،فعرف الناس أنفسهم ،وعرف الناس إخوانهم وأعداءهم ،ولم يكن
ليظهر هذا كله إل بسبب شمس الجهاد ونورها الكاشف.
غزوةُ الحزاب كما عرضها أشرف الكـلم وأعله -القرآن الكريم -كشَفَت الجزيرة
العربية ،وكشَفَت مجتمع المدينة النبوية ،فليس هناك من رطوبةٍ خبيثة مخبّأة ،وليس هناك من
أماكن مظلمةٍ تضرب الغربان فيها بأجنحتها ،و ُتغَمغِم البوم بنعيقها ،وليس هناك مقادير للرجال
قد شغلها غيرُ أصحابها ،ل ،بل عدّلت غزوة الحزاب الموازين ،موازين الرجال ،وموازين
القوى.
أمّا موازين الرجال ففي قوله سبحانه وتعالى{ :من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا ال عليه
فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلً} ،وفي قوله سبحانه وتعالى{ :ويستأذن
فريقٌ منهم النّبي ويقولون إنّ بيوتنا عورة} ،وفي قوله{ :وإذ يقولُ المنافقون والذين في قلوبهم
مرضٌ ما وعَدَنا الُ ورسولهُ إلّ غرورا}.
موازين الرجال وحقائق الوجود :سعد بن معاذ نموذجا:
فكان من القسم الول شهيدٌ ووفيّ ،منهم سعد بن معاذ رضي ال عنه ،وهو من سعود الخير
(سعد بن عبادة ،سعد بن الربيع) من أنصار النبي صلى ال عليه وسلم ،وكان سيدا من سادات
خبَره في
الوس ،رفعه ال فوق ما كان عليه من رفعةٍ في قومهِ ،ورفع ال تعالى به السلم ،و َ
غزوةِ الحزاب خبرٌ يملُ الجوانحَ إعجابا وحبّا ،فيها الصورة المثلى لرجل التّوحيد والجهاد،
ففيها أصابه سهمٌ في أكحله من رمية رجلٍ مُشرك اسمه ابن العرقة ،وقيل غير ذلك ،ولما رماه
قال" :خذها وأنا ابن العرقة" ،فقال سعد " :عرّق ال وجهك في النّار" ،فذُهِب به إلى داخل
463
المدينة ليمرّض ،وكان من دعائه بعدما أصيب" :اللهم ل تمتني حتى تُ ِقرّ عينيّ في بني قريظة"،
وبنو قريظة هم من ثلثة قبائل يهوديةٍ في المدينة وهم:
بنو النّضير ،ومن زعمائهم كعب بن الشرف.
بنو قينقاع .وهؤلء قد سبق طردهم من المدينة بسبب نقضهم العهود والمواثيق التي أنشأها
معهم رسول ال صلى ال عليه وسلم عند قدومه إلى المدينة.
بنو قريظة ،وكانوا حلفاء سعد بن معاذ ومواليه في الجاهليّة ،وبعد انتهاء الغزوة وانصراف
الحزاب ،فرغ رسول ال صلى ال عليه وسلم لهم بعدما حرّضه جبريل عليه السلم كما تقدم،
جهَدَهُم فيه الحصار جهدا شديدا ،ففي صباح الخامس
وبعد حصارٍ دام خمسٍ وعشرين ليلةٍَ ،
والعشرين ،وبعد مداولت ومشاورات بين القرظيين ،وبعد أن قذفَ ال في قلوبِهم الرّعب قبِلوا
أن ينـزلوا على حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فتواثب الوس ،فقالوا" :يا رسول ال
موالينا دون الخزرج ،وقد فعلتَ في موالي الخزرج بالمس ما قد علمت" ،وقد كان الرسول
صلى ال عليه وسلم حاصر بني قينقاع ،وكانوا حلفاء الخزرج ،فسأله إياهم عبد ال بن أبي ابن
سلول فوجّههم له (أي أعتقهم) ،فلما كّلمَه الوس قال رسول ال صلى ال عليه وسلم(( :أل
ترضـون يا معشر الوس أن يحكم فيهم رجلٌ منكم)) ،قالوا :بلى ،قال(( :فذاك إلى سعد بن
معاذ)) ،فأتاه قومه إلى الصّفّة التي كان يمرّضُ بها بجانب المسجد النبوي ،فحملوه إلى الرسول
صلى ال عليه وسلم وجعلوا يقولون له" :يا أبا عمرو (أي سعد) أحسن في مواليك ،فإنّ رسول
ال إنّما ولّك لتُحسن فيهم" ،فلما أكثروا عليه قال" :قد آن لسعد أن ل تأخذه في ال لومة لئم"،
فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الشهل ،فنعى لهم رجال بني قريظة قبل
أن يصل إليهم سعدٌ بن معاذ -رضي ال عنه -عن كلمته التي سمع منه ،فلمّا انتهى إلى
رسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمين ،قال رسول ال صلى ال عليه وسلم(( :قوموا إلى
سيدكم)) ،فقاموا إليه ،فقالوا يا أبا عمرو" :إنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم ،قد ولّك مواليك
لتحكم فيهم" ،فوقف سعد بين اليهود والمسلمين ،فنظر إلى اليهود وقال" :عليكم بذلك عهد ال
وميثاقه أنّ الحكم فيما حكمت" .قالوا :نعم ،ثمّ قال وهو معرض عن رسول ال صلى ال عليه
وسلم إجللً له" :وعلى من ههنا" ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم(( :نعم)) ،قال سعد:
"فإنّي أحكم فيهم بأن تقتّل الرّجال ،وتقسّم الموال ،وتسبى الذّراري والنّساء" ،فقال رسول ال
صلى ال عليه وسلم لسعد(( :لقد حكمت فيهم بحكم ال من فوق سبع سماوات)) .ثمّ خرج
464
رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى سوقِ المدينة ،فخندق بها خنادق ،ثمّ جيء بالقرظيين،
ي صلى ال عليه وسلم
فض َربَ أعناقهم ،وكان عددهم بين السبعمائ ٍة والثّمانمائة ،وكان سيّاف النّب ّ
ي رضي ال عنهم جميعا ،وقد كان الصّحابة رضي ال عنهم يفرّقون بين
الزّبير ،وإن غاب فعل ّ
الرّجال وال طفال بظهور اللحية والشّارب ،وإلّ بظهور العانة ،فمن ظهر شاربه أو لحيتُه أو
عانَته فهو رجلٌ يُقتل ،وإلّ فهو سبْي ومالٌ مغنوم .أمّا سعد بن معاذ رضي ال عنه فقد دعا بعد
ب إليّ أن أقاتل أو أجاهد من قوم ك ّذبُوا رسولَك.
ذلك بقوله" :اللهمّ إنّك علمت أنّه لم يكن قومٌ أح ّ
اللهمّ إن كنتَ أبقيْت من حرب قريشٍ على رسولكَ شيئا فأبقني لها ،وإن كنتَ قد قطعتَ الحربَ
بينه وبينهم فاقبضني إليك" ،فانفجر جرحه حتى أنهاه ،فرحل إلى ربّه راضيا مرضيّا.
إنّ هذه الشّخصيّة الصّحابيّة العظيمة تُظهر لنا أركان الصّورة المحبوبة ل تعالى{ :من المؤمنين
ل صَدَقُوا ما عاهدوا ال عليه فمِنهم من قضى نحبه} ،وسع ٌد رضي ال عنه كان ممّن قضى
رجا ٌ
نحبه.
صورةٌ مشرقةٌ بعطائها وقتَ المِحن والخطوب ،تأتي إلى الموت وهي ترتجز:
ل بأس بالموت إذا حان الجل لبث قليلً يشهد الهيجا حمـل
صورةٌ لرجلٍ ل تأخذهُ في ال لومةُ لئم ،ل يعرفُ إلّ محبّة الِ ومحبّة رسوله صلى ال عليه
وسلم والمؤمنين ،وشائجُ القربى بينه وبين النّاسِ مقطوعةٌ إلّ ما وصلها ال وأمر بوصلها ،لم
ُيرِد رضي ال عنه أن يتشبّه برجلٍ منافقٍ ،استغـلّ وجوده في الصّف المسلمِ لتمريرِ شبكةِ
علقاتٍ قائم ٍة على أصولٍ جاهليّةٍ فاسدة ،أو يبني علقةً على حساب السل ِم والمسلمين ،وفي
هذه الصورة المعروضةِ تظهر لنا أنّ الشّخصيّة الصّحابيّة قد بلغت من الرّقيّ ال ِفكْري والنّفسيّ
ي صلى ال عليه
إلى درجةِ ما يحبّ ال تعالى وما يرضيه قبل أن تسمع الخبر اللهيّ ،فالنّب ّ
وسلم شهد لحُكمِه أنّه هو حكم ال تعالى ،وقد كان رضي ال عنه في منطقةِ الختيار الجائز
للطّرفين ،ولكنّه لمّا وصل إلى درجة ال ُقرْب من عبوديّته لسيّده -جلّ في عله -صار يع ِرفُ ما
يريدُه سيّده ،وما هذا إلّ بسبب الطّاعات وكثرة القرب كما قال ال تعالى{ :والذين جاهدوا فينا
لنهدينّهم سبلنا} ،وكما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم في الحديث القدسيّ(( :وما يزال
عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه ،فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به ،وبصره الذي
يُبصر به ،ويده التي يَبطش بها ،ور جلَه التي يمشي بها ،ولئن سألني لعطينّه ،ولئن استعاذني
لعيذنّه)) ،ثمّ انظر إلى دعائه الخير ،والذي يكشِف فيه سبب رغ َبتِه في زيادَة العُمر إن كانت
465
ثمّ فائدة ،وما هي هذه العلة التي من أجلها يطلب طولَ العُمر :إنّها مقاتلة المشركين" :اللهم إن
كنت أبقيتَ من حربِ قريشٍ شيئا فأبقني لها" .إنّ الحياة ليست بطول السّنين ول بكثرة اليّام،
ن الفراش ،ولكن إن كان ثمّة رغبة في الحياة فهي بسبب الجهاد،
وليس جمالها برغَد الطّعام ولي ِ
ي صلى ال عليه وسلم ،فهنـاك قولٌ لعمرَ بن الخطّاب رضي
وهذه نفسيّة أغلب أصحاب النّب ّ
ال عنه شبيه بقول سعد ،وكـذا لخالد بن الوليد ،ولبي بكر رضي ال عنهم جميعا ،وكلّها
تشهَدُ أنّ الجهاد صار هاجس النّفـس ،ومنتهى الطّلب ،وغاية ال ُمنَى ،وإن كان ال تعالى قد
كتب الجهاد وهو كُرهٌ للبشر كما قال في كتابه -جلّ في عله ُ { :-ك ِتبَ عليكُمُ القِتال وهو كره
ش َهوَاتِها حتّى صار الجهاد شهوتها
ن تلك النّفوس ما زالت تترقّى وتتعالى على َ
لكم} ،فإ ّ
ورغبتها:
يبارك على أوصال شلوٍ ممزّع وذاك في ذات الله وإن يشأ
إنّ هناك فارقا كبيرا بين جيل كان يطلب الذن للقتال ،وإذا سمع شرّا با َدرَ بمعالجته بالسّيف:
ل يلتمسُ المعاذيرَ والحُجَج الهزيلة لسقاط الجهاد أو تعويقه أو تأجيله.
"أفل ننابذهم؟" ،وبين جي ٍ
شتّان بين هذين الجيلين؟.
لقد كان لحكم سعدٍ بن معاذ رضي ال عنه -هذا الحكم الرائع -على بني قريظةَ موجباتٌ
ومقدّمات عقليّة ونفسيّة ،وهذه العقليّة والنفسيّة قد شكّلها مبدأ الجهاد أوّلً ،ثم مسيرةُ الجهادِ ثانيا،
وخاصّة حدثُ الحزاب ،إنّه ل يُمكن أن يَصدُر هذا الحكم بل مقدّمات موضوعيةٍ حقيقيةٍ:
ج وصلتٌ هي من أقوى الصلت بين الناس يومَ ذاك ،ومن أجلها
رجلٌ بينه وبين قومٍ وشائ ٌ
يبذلون الرواح والموال والطّاقات ،فالحليف كان ينصر حليفه حتى لو أدت هذه النّصرة إلى
المهالك ،ثمّ هذه الوشائجُ والصّلت بإنشاء الحلف لم تكن تنشأ من فراغٍ نفسي ،بل من وجود
ف يص ِدرُ
ظ ْر ٍ
محبّةٍ وعلقةٍ خاصّة بين المتحالفين ،وها هنا الوس وبني قريظة ،ثمّ وفي َ
الحليف حكم الموت على حليفه" :حكمي فيهم بأن تقتل الرجال ،وتقسّم الموال ،وتسبى الذراري
والنساء" ،وهذا الحكم ليس موجبه الخلف القبلي ودليل ذلك أن الوس جعلوا يطوفون به
يرجونه بأن يُعتقهم ويطلق سراحهم ،فما هي هذه الموجِبات التي جَعلته ينطق هذا الحكم الرائع
العادل؟.
قلنا إنّ هذه الموجبات منشؤها الجهاد ،وحركة الجهاد ومسيرة الجهاد .فالجهاد بصفته مبدأً
وعقيدةً أنشأ في نفس المسلم الصّحابيّ بغضا للكفر وأهله ،إذ أنّ المرءَ ل يندفع بقوّة كافية للقَتل
466
والقِتال إلّ بعد أن تمتلئ نفسه بالبغض والكره لخصمه ،وقد بغّض القرآن الكريم الكفر
والكافرين لتباعه ورجاله ،ودفعهم بكلّ ترغيبٍ إلى مصا َدرَة حياة الخصوم{ ..أل تقاتلون قوما
نكثوا أيمانهم}{ ..قاتلوهم يعذّبهمُ ال بأيديكم}{ ..فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}{ ..واقعدوا
لهم كل مرصد} ،ولول مبدأ الجهاد وعقيدة الجهاد لما أمكن أن تصل النّفس المسلمةُ إلى درجة
البراءة المطلوبة ضدّ المشركين ،فمبدأ البراء من المشركين يعبّأُ ثمّ ينفّذ من خلل الجهاد في
سبيـل ال ..ثمّ بسبب الجهاد اكتشف الرجل النّقِيّ الطّاهر الوفيّ خبث الشّريك والحَليف ،وأنه
س اليهودية أن تَظ َهرَ على حقيقتها إل بهذا الظّرف
ل يستحقّ حِلفه لنّه خائنٌ ،وما كان للنّف ِ
المُلتهب وهو غزوة الحزاب ،إذ أنّ الفتنة تكشف الصادق في كلماته ،والكاذبَ في دعواه ،فكان
الجهادُ في غزوةِ الحزاب كاشفا للحقائقِ النّفْسيةِ لهذا الحليف الخبيث ،وكم هي مؤلمةٌ أن
يكتشفَ الطّاهر الصّادِقُ كَذِب وتزييف المدّعي!! إنّها لمؤلمة حقا أن يكتشف سعدٌ بن معاذ أنّ
حلفائه كذَبةٌ َفجَرة ين ُقضُون العهودَ والمواثيق بل حساب أو وَخْزةِ ضمير ،وعلى هذا فسيكون
عقاب هذا الرجل شديدا على من خَدَعَهُ .وهكذا كان حكم سعد بن معاذ رضي ال عنه .إنّ
الجهاد بصفته مبدأً وعقيدةً أنشأ عقيدةَ البراءِ من المشركين ،وبالتالي دفع الصحابة لقتل أعداء
ث العدوّ ،وبالتّالي ذ َه َبتْ كلّ
ال ،وإنّ الجهاد بصفته حركةً وسلوكا كشَف للصحابة مِقدار خب ِ
أعذار المعوّقين بأن هناك مجالً طيّبا في نفوس أعداء ال يمكن أن تستغل في الدّعوة إلى ال.
ولقد رأيت لبعض المعتوهين ممّن ينتسبون للفكر السلمي!! معالجةً غريبة لحكم سعد رضي
ال عنه ،حيث ذهب هذا المعتوه إلى القول" :إن النبي صلى ال عليه وسلم لم يحكم على اليهود
هذا الحكم لنّه يناقض مبدأ الـرّحمة والحسان الذي بُعث به ،ولذلك ترك الحكم لسعد بن معاذ،
حكْما لسعد ل لرسول ال صلى ال عليه وسلم"!! ،ولكن أين ذهب هـذا المعتوه من قول
ليكون ُ
رسول ال صلى ال عليه وسلم لحكم سعد(( :لقد حكمت فيهم بحكم ال فوق سبعة أرقعة)).
مات سعد..
فما الذي حدث عند موته؟ وماذا حدث في جنازته؟.
عندما مات اهتزّ له عرشُ الرحمن حزنا عليه أن ل تصعد إليه العمال الصالحة من سعد..
واهتز له فرحا بقدوم الروح واستقرارها معلقة بالقناديل الخضر المعلقة فيه..
أما في جنازته فقد مشى رسول ال صلى ال عليه وسلم على رؤوس أصابعه لكثرة ما كان من
الملئكة في المشيّعين!.
467
فهكذا رجال الجهاد يحيون ،وهكذا يموتون..
غزوة الحزاب وموازين القوى في الجزيرة العربية
في غزوة الحزاب تغيّرت موازين القوى في الجزيرة العربيّة ،لنّ روح الجهاد وحركة الجهاد
سرَت روحُ الجهاد وحركته ،في قومٍ أذلّء
تُعيد ترتيب الوضـاع حسب مفهومٍ إيمانيّ ،فإذا َ
محتقرين ،فبالجهاد تنقلب الذّلة إلى عزّة ،والحتقار إلى احترام وتقدير ،ول يمكن وجود أمّة من
ل وروح الجهاد تسري في جميع أوصالها.
المم فيها النّجاح والعزّة إ ّ
والن كيف غيّرت غزوة الحزاب موازين القوى في الجزيرة العربيّة؟.
الشوكة من النكاية إلى التمكين:
ابتداءً علينا أن نعلم أنّ النّصر الكبير الضّخم مجموعة من سلسلة انتصارات صغيرة ،ول يمكن
أن يقع شيء في مجال النّصر والهزيمة بصورة طفرةً مفاجئة تباغت المنتصر أو المهزوم ،إذ
الطّفرة التي ل مقدّمة لها ل وجود لها إلّ في عقول مشايخنا وقادتنا فقط ،فإنّهم يحملون في كلّ
ما يقولون ويرتّبون لضربة يحضّر لها تحضيرا تامّا وكاملً ،بعيدا عن أعين الخصوم وبهذه
الضّربة المفاجئة المباغتة نقضي فيها على الخصوم ،وبها نتجنّب الكثير من الدّماء التي تراق،
والرواح التي تزهق ،ومشايخنا يدندنون على هذه الفكرة كثيرا ،وعلى ضوئها يتراجعون عن
الصّراع تحت شعارات التّربية والعداد ،وهذه الفكرة تجد صدىً وقبولً في النّفوس ،لنّها
جميلة جدّا ،ورائعة جدا ،وورديّة جدّا ،وهي مع ذلك كلّه هشّة جدا جدا ،أمّا أنّها جميلة وورديّة،
فكيف ل تكون كذلك وهي تقدّم للسلميين النّصر والعزّة والسّؤدد على طبق من ورد ؟ ثمّ
كيف ل تكون ورديّة وهي من صنع أوهام الحالمين ،والحلم عندما يختلط في ذهن المرء مع
الحقيقة فإنّه ل يناقش مناقشة العقلء ،والذكياء.
إنّنا نحلم بترتيب رفيعٍ جدّا لشوكةِ التّمكين دون المرور بشوْكة النّكاية ،وهي الشّوكة التي يقع
فيها{ :إن تكونوا تألمون فإنّهم يألمون كما تألمون} ،ويقع فيها{ :يقاتلون في سبيل ال فيَقتُلون
ويقتَلون} ،وهذا مع عدم إمكانيّة حدوثه فإنّه يفرز ول شكّ فِقها أعوجا ،وأحكاما فاسدة ،وما هذا
الفقه الذي نسمعه من مشايخنا من جواز التّعدّديّة السّياسيّة ،وجواز التّداول على السّلطة ،وعدم
جواز الجهاد الهجومي ،وجواز تولّي الكفّار المناصب السّياسيّة والعسكريّة والقضائيّة في الدّولة
السلميّة إلّ بسبب هذا الحلم الفاسد الناشئ عن تُخمةٍ مردّها خلط الفكار غير المتجـانسة،
وتفسير هذا :أنّ واقعنا بسبب عوامِل البناء الشّيطانيّ فيه قد امتلت جوانبه بالشّرور ،وأصابت
468
المل السلمي بالحباط ،فحين يأتي الشّيخ ليعالج هذا الواقع بهذه التّركيبة بأحكام فقهيّة ،فإنّ
هذه المعالجة وعلى ضوء هذا الواقع ستجعله يتنازل عن كثير من (تشديدات السّلف كما
يسمّيها) ،إلى ميوعات الخلف (اعتدالهم كما يسميها) ،وهذا لنّه تمّ له التّمكين دون تحضير
أرضية التّمكين بما يناسبها ،وهذا التّحضير ل يقع إلّ من خلل شوكة النّكاية ،لنّنا حين نصل
إلى التّمكين مرورا بالنّكاية ،نكون بفضل ال تعالى قد نظّفنا الطّريق من كلّ أوساخها
وقاذوراتها( ،ليس كلّ الوساخ والقاذورات ،بل رؤوسها إن شاء ال تعالى) بشوكة النّكاية
المتكرّرة ،يترقّى الحقّ في نفوسنا ويتجذّر ،وتذهب زهومة الفكار الفاسدة ،ويتجذّر بُغضُنا
للباطل وبُغضُ الباطل لنا ،وبشوكة النّكاية نقطف الرّؤوس التي حان قطافها ،فلسنا على استعداد
(بتاتا) لنقاش سفسطائي تفوح منه رائحة الهوى والشّرك ،ولسنا على استعداد (أبدا) لحوار يبتسم
خصومنا لنا فيه فنظنّ فيهم خيرا ،فيدفعنا هذا الظّنّ إلى تقسيماتٍ ما أنزل ال بها من سلطان،
ولسنا على استعداد (ونحن نمارس شوكة النّكاية) إلى التّحالفات الشّركيّة الباطلة .خلل شوكة
النكاية يتّخذ ال منّا شهداء ،فترتفع أرصدة الجماعة المجاهدة في خانة الصّدق وحبّ ال ،وحبّ
الرّسول صلى ال عليه وسلم ،والبراءة من المشركين.
خلل شوكة النّكاية نتعلّم كيف ل نخاف من الدّم ،وكيف نُتقن الذّبح ،وكيف نُتقِن اقتحام
الحصون المنيعة.
من خلل شوكة النّكاية نتعلّم الصّبر على فقدان الحباب ،ونتربّى على بذل الرواح في سبيل
هذا الدّين.
ومن خلل شوكة النّكاية نتصفّى ونتربّى ،ومن خللها نجهّز لمن بقي منّا حقائبَ الدّخول على
الوزارات!! ،فإذا وصلنا إلى التّمكين من خلل شوكة النّكاية لن نضطرّ إلى إعلن الحرب على
جيراننا ،لنّنا سنكون في حالة حربٍ حقيقيّةٍ ل قيمة فيها للعلن.
إذا وصلنا إلى التّمكين من خلل شوكة النّكاية لن نكون مضطرّين إلى احترام آراء التّعدّديّة
السّياسية ول الحزاب الخرى لنّه ل وجود لها ،لقد واريناها التّراب قبل قليل ،أو رميناها في
قليب بدر.
وإذا وصلنا إلى التّمكين من خلل شوكة النّكاية المتكرّرة لن يكون قائدنا جبانا ول خائنا ول
عميلً ،لنّ القائد الجبان والخائن والعميل هو التي لنا من الظّلم ،لم نَخبُره ولم يَخبُرنا ،أي
أتانا من وراء مكتب وثيرٍ ل من وهج المعركة.
469
والوصول إلى التّمكين من خلل شوكة النّكاية المتكرّرة لن يجعل همّنا إرضا َء النّاس بتأمين
السّكن والخبز والعمل لهم ،ولسنا محتاجين إلى أخذ رضاهم فيمن يحكم أو بما يحكم ؟،
سيحكمهم أميرنا شاءوا أم أبَوا ،وسنحكمهم بالسلم ومن رفع رأسه قطعناه ،لنّ التّمكين وصل
إلينا بفضل ال وحده ،فليس لنا أن نهتمّ إل برضـاه وحده ،نفعل ما يأمُر وإن غضب النّاس،
ع ِريّ ،وأطعمنا
وننتهي عمّا نهى ،وإلهنا هو إلهنا وحبيبنا ،نصرنا وحده من ضعف ،وآوانا من ُ
من فقر ،أخذنا سلحنا من يد عدوّنا ،لم نعقد الصّفقات مع الشّرق والغرب مقابل تنازلت
مبدئية ،ولم نصل إلى التّمكين بقرار في بيت أبيض أو أسود ،بل بعبوديّتنا ل وحده ،وببراءتنا
من كلّ طواغيت الرض.
الحزاب وانكسار شوكة قريش ( تحول الصراع ):
عودة إلى غزوة الحزاب :لقد كان لقريش مكانة خاصّة في الجزيرة العربيّة ،وكانت العربُ
ترقب نتيج َة الصّراع بين النّبيّ صلى ال عليه وسلم وقريش ،وذلك كما روى البخاريّ عن
عمرو ابن سلمة رضي ال عنه أنّه قال" :وكانت العرب تلوم (أي تتحيّن وتتربّص) بإسلمهم
الفتح (أي فتح مكّة) ،فيقولون اتركوه وقومه فإن ظهر عليهم (أي انتصر) فهو نبيّ صادق" ،بل
إنّ بعض العرب جعل لسلمه موعدا ،كما قال ذو الجوشن الضّبابيّ لرسول ال صلى ال عليه
وسلم بعدما دعاه إلى السلم ،فوقّت ذو جوشن موعدا لسلمه وهو هزيمة قريش حيث قال:
"إن تغلب على الكعبة وتقطنها" [انظر مجمع الزوائد .]6/162وعلى هذا فلو رأينا معارك النّبيّ
صلى ال عليه وسلم مع قريش لرأيناه سجالً وذلك كما وصفها أبو سفيان قبل إسلمه لهرقل:
"يغلبنا يوما ونغلبه يوما" ،وقبل الحزاب كانت بدر الكبرى التي سمّـاها ال تعالى {يوم
ي الغزوات
الفرقان} ،بالرّغم من أنّها لم تكن حربا عالميّةً ،وليست تعدل بحجمها العسكر ّ
السلميّةَ الكبرى كاليرموك والقادسيّة وغيرهما ،وهي كذلك معركة لم تقض على قريش قضاء
مبرما ،بل خرجت قريش بعدها بسنة لغزوة أحد ،وتمّ لهم الغلبة العسكريّة في أحد ،ولكن عظمة
هذه الغزوة التي سمّاها ال فرقانا وهي التي لم تحضّر لها قريش طويلً ،ولم يخرج رسول ال
صلى ال عليه وسلم من أجلها ،بل تمّت من غير ميعاد ،لنّ بها قد وضع حجر الساس للفتح
الكبر ،فهي لبنة من لبنات بناء النّصر ،وهكذا فكلّ معركة تلتها كانت تصبّ في خانة الفتح
الكبر "فتح مكّة" وكان فتح مكّة لبنة ومحطّة للخروج من الجزيرة ،وهكذا ،..وبعد بدر كانت
أحد ،وما تمّ فيها من استشهاد سبعين صحابيّا ،وخسران الجماعة المسلمة بعض قياداتها ،وهكذا
470
توالى السجال ،بئر معـونة وما حصل فيها من البلء الشّديد في السّنة الرّابعة للهجرة ،حيث
قُتل نفر من خيرة المدرّسين والمعلّمين والفقهاء رضي ال عنهم ،فالحرب تأخذُ وتُعطي ،نصرٌ
وابتلء ،حتّى وصلت ال ّذرْوة في هذا السّجال إلى غزوة الحزاب ،حيث قرّرت قريش أن
تضرب ضربتها النّهائيّة ،وتُنهي سلسلة الصّراع لصالحها .ولو أردنا أن نوازن بين البلء على
قريش والبل ِء على الصّحابة والمسلمين في مجموع الصّراع لظهر أنّ البلء كان أشدّ وأعظمَ
على المسلمين ،إذ كانت قريش تتعامل مع محيطٍ في الجملة معها سوى بعضِ القبائل الكارهة
طيّبة محاصرة من اليهود ومن العراب ومن قريش ،وفي الدّاخل
لها كخزاعة ،ولكنّ المدينة ال ّ
من المنافقين ،فالمعوّقات على الصّفّ المسلم وفي داخله كانت أشدّ وأعظم من وجوده في عسكر
قريش.
ي صلى ال عليه وسلم كما قلنا كانت العرب ترقبه وتنتظر نتيجته،
هذا الصّراع بين قريش والنّب ّ
ي صلى ال عليه وسلم يحاول جاهدا أن يحيّد قريش في صراعه مع الشّرك في
وقد كان النّب ّ
الجزيرة العربيّة ،لنّها ليست بالكتلة الهيّنة ،ول المعادِلة له في الصّراع وظهر هذا في قوله كما
روى البخاري(( :إنّ قريشا نهكتهم الحرب وأضرّت بهم ،فإن شاءوا ماددتهم مُدّة ويخلّوا بيني
وبين الناس ،فإن أظهرُ فإن شاءوا أن يدخلوا في ما دخل فيه الناس فعلوا ،وإل فقد جمّوا (أي
استراحوا) وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لقاتلنّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ،ولينفذنّ
ال أمره)) وهذا قاله عندما توجه إلى مكّة للعمرة ونزوله في الحديبية صلى ال عليه وسلم،
ولكن يأبى ال تعالى إل أن ينصر دينه وذلك بتصعيد الصّراع بين قريش وبين النبي صلى ال
عليه وسلم ،فكانت قريش تضع نفسها في كل مرة أمام مدّ السلم ،فتَغلِب وتُغلَب ،حتى جاءت
غزوة الحزاب وهي الوعد اللهي المبشّر كما سمّاها الصحاب الكرام رضي ال عنهم وحدَث
ما حدَث من نزول الملئكة وإرسال الصّبا.
بعد غزوة الحزاب قال صلى ال عليه وسلم(( :الن نغزوهم ول يغزونا ،نحن نسير إليهم))،
بعدما انقلبت الموازين ،وقد قدّر صلى ال عليه وسلم بما آتاه ال من الهـدى والرّشد أنّ قريشا
استجمعت كلّ قوّتها في غزوة الحزاب ،ولم يبْق في جعبتها سهما إل ورمته ،ول سيفا إل
وض َربَته ،فلم َيبْق لها شيءٌ من القوى ما يمكن أن يجعلها تقوم بمعارك جديدة خارج أرضها
لذلك قال صلى ال عليه وسلم قولته وهو سائر للعمرة كما تقدم(( :إن قريشا نهكتهم الحرب
وأضرّت بهم)) وقد رأينا بعد غزوة الحزاب أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لم يقم بغزو
471
قريش ،بل خرج إلى مكة معتمرا ل يريد حربا ،بل كما روى البخاري(( :إنا لم نجىء لقتالِ
أحدٍ ،ولكن جئنا معتمرين)) ،وسبب هذا المر هو أنّ النبي صلى ال عليه وسلم أراد أن يُحرجَ
قريشا أمام العرب ،حتّى يُفقدها شرعيّتها في حماية البيت الحرام ،وهذا أمر ضـروري لنه
مقدّمة ضروريّة لضعاف حلفِ قريش وتفتيته ،ثمّ لعطاء المبرر لدى القبائل المنتظرة بأن
قريشا ليست بالذي يحقّ له أن يكون حاميا للبيت ،فإن العرب لم تكن لتتصور أن يُمنَع قومٌ -
أي قومٍ -من القدوم إلى بيت ال الحرام ،فكيف إذا كان القوم هم المسلمون ،حيث أحرموا
ع ِريَت أمام العرب بتصرّفها القَبيح،
وساقوا الهدي ،وبهذا سقطت هيبةُ قريشٍ الدّينيّة ،إذ أنها َ
حيثُ مَنعت رسول ال صلى ال عليه وسلم من العمرة .وبمرورنا السريع على هذا الصّراع -
ن الصّراع كان خاضعا للسّنن اللهيّة ،ولم يتجاوزها في أيّ مرحلة
دراسة وبحثا -يظهر لنا أ ّ
من المراحل ،صراعٌ سننيّ ل طَفرة فيه ول مفاجأة ،ول يوجد فيه تلك الخَبطات الحالِمة
بالضّرب المفاجئ للخصم ،حيث نصل إلى سيادة بلدٍ مهما صغر من خلل إعداد س ّريّ شديدٍ
(ودرجة السرّية تصل إلى عدم العمل ،لنّ قمّة السّرية المطلقة تعني بكلّ جلء أن ل تعمل)،
وكأنّنا مع هذا النّوع من التّفكير نتعامل مع قومٍ من أهلِ القمر ،يعِدّون أنفسهم هناك فوق مستوى
مراقبةِ القما ِر الصناعيّة وبعيدا عن ضربات الخصوم وهجماتهم!!!!.
ل وضوحٍ
معركتُنا مع المرتدّين هي معركةٌ قد فرغنا من أصولها الشّرعيّة ،حيث تبيّن لنا بك ّ
حكْمَ ال تعالى في الحكّام وطوائفهم ،وأمّا من بقي من النّاس يرتكس في جهله لعدم فهم التّوحيد،
ُ
أو لعدم عِلمه بنواقضه ،فل نملك له إلّ الدّعاء ،أمّا من فهم حكم ال في هؤلء أنّهم كفّار
مرتدّون ،وأنّه يجب قتالهم فقد خرج من دائرة الجهل إذا تمّ هذا ،فعلى الجميع حينئذٍ أن يُريحنا
من آرائه الرّائعة الورديّة ،إنّ الدّور الن بعد الفراغ من معرفةِ حُكم ال تعالى فيه أن نسمع
لخبراء ومستشارين وقادة من نوع جديد ،قطعا ليسوا هم خرّيجي الجامعات الشّرعيّة ،والذين
دَفعَتهم علماتهم الضّعيفة مكرهين لدراسة الشّريعة والفِقه ،وقطعا ليسوا هم المفكّرين الذين
يريدون أن يُجبرونا أن نعترف أنّهم مجدّدون لعصرهم ،مع أنّهم ل يملكون إلّ الجهل والغباء،
قَطْعا ويقينا ليسوا هؤلء ممّن ابتُلينا بهم في العمل السلمي ،إنّما هم أهل الخبرة والمعرفة في
العسكريّة والقتال والحرب:
مرّت فتراتٌ متقطّعة من أعمال الجهاد واقعة يتقمّصها غير أصحابها ،ويتاجرُ بها غيرُ أبنائها،
وسبب ذلك عائدٌ إلى عواملَ منها :رضا الجماهير المسلمة عن هذا الجهاد ،ومن أجل الرّفعة
472
والظّهور على أكتاف المجاهدين ،فتسارع هذه التّنظيمات الطّفيليّة إلى تقمّص دور البطولة،
وإظهار نفسها في موقع الرّيادة في هذا الجهاد ،فترتفع الرصدة العلميّة ،وبالتّالي ترتفع
الرصدة الماليّة ،وحينئ ٍذ يصبح الجهاد في مأزق حقيقيّ ،حيث يضرب المجاهدون ضربا شرسا
وذلك ليصبحوا تحت وطأة هؤلء اللصوص وقطّاع الطّريق إلى ال تعالى ،فتظهر المراض
ي والمموّل الخبيث
العجيبة ،وتتكشّف النّفوس الخبيثة ،ويقع الفِصام النّكد بين المجاهد الحقيق ّ
(لص بغداد) ،وأمثلة هذا كثيرة الوقوع وعديدة فمِن أفغانستان إلى فلسطين إلى البوسنة
والهرسك إلى سوريا ..إلى ..إلى ،..ومن هذه العوامل كذلك :إرضاء القواعد التّحتيّة المتململة،
فالنسان المسلم الفطري السويّ تتوق نفسه فطريّا إلى الجهاد ،وإلى المشاركة في مواطن
العبوديّة ل ضدّ الكفر بجميع صنوفه وأشكاله ،فمن أجل تفريغ هذا المِرجل من بخاره الغاضب،
فل بدّ من بعض المنفّسات للتّفريغ الذّكيّ الخبيث ،فتسارع الجماعة إلى تبنّي أعمال جهاديّة
لتقنع القيادة قواعدها أنّها لم تغيّر الطّريق ،أو لتعريف قواعِدها أنّ هناك فرقا بين ما هو معلن
من أجل الغطاء السّياسي ،وبين ما هو مخفيّ حقيقيّ.
الجهاد السلفي بين السني والبدعي
هناك جماعاتٌ طفيليّة ووصوليّة في هذا الباب معروفة لدى القاصي والدّاني ،وهي تملك في
خطابها نوعين من المضمون ،نوع يتعاملُ مع الفكار والمفاهيم بكثير من الشّرعيّة والصوليّة،
ونوع يتعامل مع الواقع بكثير من الميكافيليّة والثعلبية.
ل ولكنّها ل تفتأ بل ل تتوانى في تأييد
فجماعةٌ ترى عدم شرعيّة النتخـابات الشّركيّة مث ً
جماعات العمل البرلمانيّ ،خاصّة إذا أخذت هذه الجماعات خطوات متقدّمة في الحضور
العلميّ ،والوجود الجماهيريّ الشّعبيّ.
هذه نقطة على الجماعات السّلفيّة المجاهدة أن تحسمها منذ البداية ،عليها أن تحسمها وجودا
وكونا وذلك بقطع اليدي والرجل التي تحاول التّسلّق طفيليّا على أسوار الجهاد السّلفيّ
الواضح ،وعليها أن تحسمه فكريّا وذلك ببيان الفـوارق الشّرعيّة بين هذه الجماعات الطّفيليّة
وبين المجاهدين الموحّدين.
ي الواضح هناك قضايا ل يمكن أن يتحمّلها الطّفيليّ الوصوليّ ،وإنّه وإن
نعم في الجهاد السّلف ّ
حاول اللتفاف الخبيث حينا من الدّهر ،فإنّه ل يستطيع أن يواصل بالشّوط إلى نهايته .في
473
الجهاد السّلفيّ ميّزات وخصائص عن عموم الجهاد في المفهوم العرفيّ لدى عوامّ النّاس ومن
هؤلء العوامّ قادة الحركات البدعيّة ،وقادة الحركات الطّفيليّة الوصوليّة ،ومن أهمّ هذه الفوارق:
صفة الجهاد وطبيعته ونوعه :حركات الجهاد السّلفيّ تقاتل في بلد الردّة تحت راية واضحة،
وكذلك تصف العدوّ وصفا واضحا ،فهي تصف هذه الطّوائف المعادية أنّها طوائفَ ر ّدةٍ وكفر،
لنّها اجتمعت بقوّة وشوكة على أمرٍ مكفّر ،أجمعت على كفره ملّة السلم ،فنوع قتال هؤلء
الخصوم ،وجنس هذا القتال ،أنّه قتال المرتدّين ،وهذا القتالُ له أحكامه الخاصّة التي تجتمع
وتفترق عن قتال الكفّا ِر الصليين ،وحين تقاتل هذه الطّوائف السّلفيّة المجاهدة تحت هذه الرّاية،
فإنّها ل تفرّق في هذا القتال بين مرتدّ "دكتاتور" متسلّط ،وبين مرتدّ "ديمقراطيّ" سِلميّ.
فهذا فارق مهم في التّفريق بين جهاد الموحّدين السلفيين وبين جهاد المبتدعين الضالين ،فليس
مجرّد رفع راية الجهاد كافٍ لدخال المرء في طائفة التّوحيد والجهاد ،وهذا المر يوجب على
الشباب السّلفي المجاهد أن يتوثّق لدينه وأن يتبيّن راية جماعته ،ول يجوزُ له أن يقاتل تحت
راية عمية ل يدري أين تسير به ،ففي يوم تسمّيه البطل المجاهد ،وبعد حين تقذفه بأقبح
الوصاف وأشنعها.
وهذا الفارق الذي ذكرنـاه يعود إلى قضيّة رئيسيّة ،بل هي أمّ القضايا في دين ال تعالى ،هذه
القضية هي فهم المرء للتوحيد ،وفهمه لمنهج السّلف في اليمان ،فإن معرفة المرء للتوحيد
وتبيينه له بشكل واضح جليّ يمنعه من النزلق في متاهات الجاهلية المظلمة ،ويردعه من
التنازل عن حق ال تعالى ،فإنه يجوز للمرء أن يتنازل عن حقّه ،وهذا من باب الفضل ،ولكن
ل يجوز أن يتنازل عن حقّ ال تعالى ،فالجماعة الموحدة المجاهدة تعفو عمّن ظلمها من
المسلمين ،وتتجاوز عن حقوقها ،ول توالي على أساس قرب الناس منها ،ول تعادي على أساس
بعد الناس عنها ،بل هي توالي النّاس على أساس محبّتهم ل ،ومحبّة ال لهم ،وتعادي على
قواعد الملّة المحمّدية في البراء من أعداء ال تعالى ،وهذا المر من أ شدّ المور وضوحا في
دين ال تعالى ،وعند أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم.
فقد نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الخروج على الحاكم إذا ظلم رعيته(( :أطع أميرك
وإن جلد ظهرك وأخذ مالك)) ،فحقّ النسان المسلم يتنازل عنه مقابل مقاصد الوحدة وجمع
الشمل ،ودرءً للفرقة وذهاب الريح ،وقد أوجبت الشريعة الخروج على الحاكم إذا كفر بال ((إل
أن تروا كفرا بواحا)).
474
هذا هو دين ال تعالى ،فعلّة القتال فيه عدم إيمان المشركين بال ،واجتماعهم بقوّة وشوكة على
هذا المر {قاتِلوا الذين ل يؤمنون بال ول باليوم الخر ول يحرّمون ما حرّم ال ورسوله ول
يَدينون دين الحقّ من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون}.
ي الواضح تكتَشِف الفارق ،وهو أهمّ هذه الفوارق ،بين جهاد الموحد السلفي وبين
بهذا المر الجل ّ
المبتدع الوصولي.
وهذا المر -وهو عدم تبيّن الناس لحقيقة الجمـاعات المقاتلة -يُحسَم من خلل إعلن
جماعات الجهاد السلفيّ براءتها من جماعات البِدعة ،ويوجب عليها أن ت َؤصّل نظرتها من خلل
الرّؤى السلفيّة لواقع الجماعة البِدعيّة ،وعليها أن تعلن ذلك ول تُخفيه ،وليس هناك من مصالح
شرعيّة تمنع إعلن الفارق بيننا وبينهم.
بقي أمرٌ يتعلق بهذه النقطة ،وهو وجود أقوام تسَربلوا بأثواب مُستعارة من السّلفية أو بشاراتٍ
خادعةٍ ل حقيقة لها مثل أهل السنة والجماعة ،وهؤلء القوام قد يخفى أمرهم على المسلم
العاديّ غير المتبصّر بحقّ هؤلء المبتدعة ،وبقليل من البحث ونور والبصيرة سيكتشف النّاس
أنّ عقول هؤلء القوم ما زالت تعمل خارج الطار السّلفي ،وأنها خرجت من البدعة مع
بدعتها ،ولكنّ غلبةَ المّية على أ ّمتِنا منَعت الكثير من البشر من اكتشافهم.
حركة التجديد المجاهدة السلفيّة ل تتعامل مع النّاس إلّ من خلل أصولهم وقواعدهم ،وعلى
ضوء هذه القواعد والصول تحكم على المجتمعات ،والتّنظيمات ،وبالتالي على الشخاص.
والمنهج هو السّائق للنسان في سلوكه وحركته ،وهو الذي يحدد أحكامه وعقليّته ،ومعرفة
القواعد والصول للموضوع -شخصا أو فكرا -ل تعرف من خلل فكرة أو خاطرة ،بل ل
بدّ من الستقراء ،وهو يقع من الخاصّ إلى العام ،فيبدأ النسان الباحث في مراقبة المفردات ثمّ
الرتفاع بها حتى تشكّل قاعدة كليّة تخضع لها مفردات المقدّمة وهي حركة النسان وأحكامه.
فيتشكّل الحكم العام من خلل أفراد أحاديّة في الحكم والسّلوك ،وبعد ثبوت القاعدة ،وهو وصف
الفكرة والشّخص ،ثم لو طلب من الحاكم الدّليل فإنّه يسارع إلى إيجاد هذه القاعدة ليبسطها أمام
السّائل بثقة ويقين.
وعلى ضوء هذه المقدّمة فإن الشّعارات الكاذبة ،واللقاب النّابتة ،تفقد قيمتها عند أهل الوعي
والدراك ،وأصحاب العلم والبصيرة ،لكن تأثيرها يبقى على العـوام والسوقة ،وغمار البشر
475
من أهل التقليد والبلهة ،فهؤلء القوم يستطيع الخبثاء أن يسوقوهم إلى ما يريدون من خلل
الشّعارات الجميلة المرضية ،ويصدّوهم عما يريدون من خلل اللقاب النابتة القبيحة.
وحين يقبل المرء أن يكون أتباعه من هذا الصنف من البشر -أهل التّقليد والبلهة -فهو
رجل نخاسة تهمّه الرقام والجسوم ،ل المبادئ والعقائد والفكار ،وهو رجل في ميزان الفكر
والعقل والدّين ل يساوي ذرّة أو نقير.
قد يجاهد البدعيّ ،وقد ينصر ال الدين بالرّجل الفاجر كما أخبرنا رسول ال صلى ال عليه
حمْلُ السّلح هو الفارق بين البدعي والسّني ،ولكن الفارق هو المنهج ،وبالتالي
وسلم ،فليس َ
علينا أن نفهم آلية الفهم عند الرّجل عندما حمل السلح ،وما هي دوافعه ؟ ،وما هي مبرّراته
عندما حمل السّلح مقاتلً مجاهدا ؟ .فعلينا أن ل نـدفن رؤوسنا في الجهل ،ونعمى عن رؤية
الحقيقة عندما يأتينا رجلٌ أو تنظيم ويحرّضنا على حمل السلح ،بل علينا أن نتوثّق من منهجه،
ق والهدى.
ومن فهمه لحقيقة الجهاد ،وفهمه لتوحيد ال ،ولليمان عند أهل الح ّ
جماعات الجهاد السلفية :الشمول والتكامل
نحن الن نعيش فوق قنطرةٍ ،أمامها الكثير من المفاوز والقفار ،وخلفها الكثير من الفوائد
والعبر ،وبين يديها كتاب ال تعالى ،وسنة النبي صلى ال عليه وسلم ،فكيف علينا أن نطرح
أنفسنا؟ ،وإذا طرحنا أنفسنا بصفتنا حركات جهاديّة سلفيّة ،فما هي حقول وميادين عملنا ؟ هل
هي طوائف الردّة الممتنعة من قتالنا لهم فقط؟ أم أنّنا أمام أكوام من التراث المختلط ،وواجبنا
كذلك أن نحرّر إرادة المة من عوائق الشرك والجهل؟.
وعلى معنى آخر :هل طرح جماعات الجهاد السلفيّة لمواضيعها على صيغة شمولية أم في
جزئية من الجزئيات؟.
الجواب ول شك :إن الواجب علينا أن نعالج الدّين كله ،نجدّده ،وأن نعيد بهجته وضياءه على
صورته الولى وهو جديد أوّل مرة ،وهذا يوجب علينا كذلك أن ل نغترّ بالجزئيات والفرعيّات،
بل علينا أن نفهم آليّة فهم هذه الجزئيّات ،وما هي أصولها ،وما هو المنهج المتّبع حتى وصلت
هذه الجزئيات والفرعيات.
إن موافقة بعض الطوائف لنا في مسألة من المسائل ل يعني أبدا أن هذه الجماعة منّا ،ونحن
منها ،وأنّ لها ما لنا ،وعليها ما علينا .بل إنّ الجماعة التي هي نحن ،وهي منّا ،ونحن منها إنما
هو بالنّظر إلى منهجها ،وآلية فهمها لدين ال تعالى.
476
لقد مرّت على أمّتنا أطوارٌ كان قادة القتال والجهاد فيها هم أئمّةٌ فيهم جذورٌ بدعية شديدة ،وقد
مدحَتهم كتب الرّجال وما زال أثرهم الحسن يتردد على الشفاه واللسن ،ولكن علينا أل نغضّ
الطّرف عن الجانب البدعي فيهم ،وبراءتنا منه ،وعدائنا له حتى نحفظ للحقائق وجودها ،ولئل
تضيع خلل حمّى التشجيع والتأييد لهذه الطوائف.
والمثال يوضح المقال:
عندما نشأت الزّندقة العجَميّة في المجتمعات السلمية ،وأطلّت برأسها الخبيث ،وبدأت تكشف
عن نفسها دون خوف أو وجل ،رأينا أن أقوى الرّدود على هذه الزندقة كانت صادرةً من جهاتٍ
مسلمة بدعيّة ،وكان لردودهم في ذلك الطور أبلغ الثر في إزالة آثار هذه الفكار اللحادية.
عندما كتب ابن الراوندي الزنديق الملحد ،كتب ودعا إلى عدم الثقة بالشريعة ،وذهب (لعنه ال)
لضرب دين ال بعضه ببعض ،حينئذٍ قام له رجل بدعي هو أبو علي الجبائي المعتزلي ففضح
أمره ،وكشف جهله ،وردّ كيده إلى نحـره ،مدح الناس هذا الصنيع لبي علي الجبائي
المعتزلي ،لكن لم ينسوا بدعته ،بل شنّوا الغارات الشّديدة عليه وعلى بدعته ،فكان أمره وأمر
العتزال إلى زوال.
لو افترضنا جدلً أن الرّوافض الثنى عشرية وقفوا وقفةً ما ،وكان ق َدرُ هذه الوقفة في خندق
الحق والصواب ،فهل يجوز لنا لهذا الموقف أن ننسى من هم الروافض؟ وأنّ دينهم ل يلتقي مع
دين السلم في شيء؟ ،الجواب :ل ،بل علينا أن نبقى نحن حيث نحن في تمسّكنا بالحقّ
والسّنة ،وعلينا أن ل نزيل الفوارق الحقيقيّة بين أهل السنّة والجماعة والرّوافض ،بحيث نزعم
أو نفتري أنّه ل فرق بين السنّي والرّافضيّ.
لقد فرح الصّحابة رضي ال عنهم ،وكانوا يتمنّون أن ينتصر أهل الرّوم (أصحاب الكتاب) على
أهل فارس (أهل الوثان) ،وليس من جامع بين المسلمين الصّحابة ومن بعدهم وبين الرّوم
النّصارى المشركين إلّ السم الذي ل حقيقة له سوى النتساب -أهل الكتاب .-لكن هل أجاز
هذا التّمنّي لهم أو لغيرهم من المسلمين أن يقاتلوا تحت راية النّصارى جند أهل الكتاب؟ .أبدا
بل إنّ دخول المسلمين تحت رايتهم تُخرجهم من السلم ،وتخلع نسبتهم إلى السلم.
هذه قضايا يجب أن نعيها ،وأن نهتمّ بها ،لئلّ نُزيل الحواجز الشّرعيّة التي أمر ال تعالى
بإقامتها بين النّاس في جميع مستوياتهم القريبة والبعيدة عن السلم.
477
فإذا فهمنا هذا تمامَ الفهم حينها نخرج من المأزق ،أو الزّاوية التي يحاول بعض العقلنيين (أهل
الهواء) أن يضعونا فيها فيجبرونا بين خيارين ،أحلهما كفر.
ل يستطيع المرء إلّ أن يعترف أن المعركة ضدّ السلم شرسة وقاسية ،وأن كلّ مبدأ وشخص
خارج دائرة السلم محارب لهذا الدّين ،ومنذ مبعث النّبي صلى ال عليه وسلم والقضاء على
هذا الدّين هاجس الشّيطان وجُنده وذلك كما قال تعالى{ :ول يزالون يُقاتلونكم حتّى يردّوكم عن
دينكم إن استطاعوا} ،ولكن كذلك من الفهم الصّحيح لطبيعة هذه المعركة أن نعتقد ونعترف أنّه
ما كانت هذه الخصومة من قبل الصّفوف المتراصّة خارج دائرة السلم أن تؤتي أكلها ،وتُثمر
مجهوداتها إلّ بسبب حصول الضّعف والهزيمةِ في داخل المنضوين تحت دائرة السلم ورايته.
لقد كانت جهودٌ تقوم بها طوائفٌ من المنتسبين للسلم ،وهذه الجهود تصنع الرضيّة الصّالحة
لغرس ثمار الشرّ القادمة من الخارج ،وتمهّد لقبول الغزو الخارجيّ.
الجهاد والبتلء :القيادة والقاعدة
ترقيق العبارة وسلوك سبيل السّلمة معناه في لغة الدّعوة والبيان في هذا الزّمان ترك ما هو
ق لترضى عنك طوائف الشرّ من كفرةٍ ومشركين ومبتدعةٍ وغيرهم.
حّ
وقد يظن الجاهل المتلعّب أنّ سلوك سبيل كلمة الحق معناه البحث عن الهلكة ونسي أن العلقة
بين كلمة الحق وبين البلء علقةُ تلزُم ل انفكاك بينهما.
وعلى كل حال نبارك لهم طرائقهم التي ستؤمّن لهم المن والدعة ،ولكننا رضينا هذا الطريق
فسنسلُكه حتى النهاية.
سنبقى نفرح ونعلن َفرَحَنا لكلّ عملٍ جهاديّ فيه قتل الكافرين وتعذيبهم ،وسننشُر هذا الفرح
وسنبقى الصوت النشاز بين كل الصوات الشيطانية السّاكتة أو الناعقة.
سنبقى نفرح ونُعلِن َفرَحنا لكل عملٍ استشهادي فيه دمار مَعقِلٍ من معاقل الطاغوت أو لكل عمل
رائع فيه صد طاغوتٍ وجندلته ،وسنقتدي بهدْي القرآن في لَعنِ المشركين والكافرين ونردّدُ من
غير خوفٍ ول وجل {تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات
لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد}.
ل عصرٍ وسنلعن دولته وجُنده وأهله وامرأته حمّالة الحطب.
سنلعن أبا لهبٍ في ك ّ
قولوا ما شئتم ،سمّوا هذا ما شئتم ،واختاروا من معاجمكم الجديدة في قلب الحقائق ما أحببتم.
478
هل يسعنا أن نرمي رسالة الشيخ عمر عبد الرحمن في أدراج المهملت مخافة اتّهامنا بأننا
أنصار المتطرفين والرهابيين؟ .فوال لو فعلنا ذلك لخِفنا أن يخسف ال بنا ويضرب قلوبنا
ويختم عليها.
هل يسعُنا أن نفعل كما فعل أهل السّياسة الشيطانية من جماعة الضلل ،وجماعات الخِزي
والعار في التسابق على استنكار كلّ عمل جهاديّ ،وكأنه مفروض عليهم أن يموتوا وهم على
بغض الخير؟.
أيّ كلمة صادقة هذه إن لم تكن هذه الكلمة في هذا الزمان تؤدّي بك إلى السّجن أو النفي أو عدم
المن؟.
إن البحث عن كلمة صادقةٍ كل الصـدق ،واضحةٍ كل الوضوح قريب ٍة إلى قلوب المؤمنين
يرضى عنها ساكنو السـماء وأولياءُ ال في الرض ثمّ تكون بغيرِ ثمنٍ تدفعه هي كلمةٌ ل
يُمكن أن تكون صادِقة ول يمكن أن تكون حقا من كل وجه.
أيّ دين هذا وأي حقّ هذا الذي نحمله ،وأيّ كلم هذا الذي ننشره ونبتغي منه حركة المّة
وإصلح شأنها وخروجها من حمأة الذلّ والعار ثم نحن نجمجم فيه ونجمله ليرضى عنه أشباه
النعام ممن ل عقـل لهم ول نظر صحيح {إن هم إلّ كالنعام بل هم أضل} .إنّ كلمـات الحق
حمَم حقّ كلّما رأوها كلّما ازدادوا لها بغضا
ليست برسِيما تفرَح له البقر إن رأته ،بل هي ِ
وازدادوا عنها بُعدا ما دامت قلوبهم ل تؤمن بال وبمحمد صلى ال عليه وسلم.
العلم السلمي والدعوة إلى ال ليست امرأة نزيّنها للخُطّاب من كلّ جِنس ليشمّ منها ما
يرضيه ويحبه.
نعم نحن نحبّ الخير للناس ،ومن محبّتنا الخير لهم أن نقول لهم الخير والحقّ وإن كان ُمرّا
على أنفسهم ،فإن أقبلوا عليه أقبلوا على الحق كما هو في نفسه من غير تزيينٍ باطلٍ ،ول
تزويرٍ دجليّ.
لو أنّ بدعيّا جاءَك وسألك عن حكـم ال في بدعته ،فما الواجب عليك لتهديه إلى الحق؟ .عندما
جاء الرجل إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال له :أين أبي؟ بم أجابه رسول ال صلى ال
عليه وسلم وهو إمام الحِكمةِ وسيّد الكلمة الحسنة ،هل قال غير كلمة الحق التي أصابت منه
ألما؟ .قال له(( :هو في النار)).
479
ماذا سنقول للمشركين حين يسألونا عن موتاهم وعن عقائدهم وعن مذاهبهم؟ هل نقول لهم -
إن استحسنوا الديمقراطية -أنّ في ديننا الديمقراطية ليرضوا عناّ وعن ديننا؟ أو نقول إن
السلم فيه الكثير من الديمقراطية ليحبوا السلم ويرغبوا فيه؟.
يا قوم مالكم كيف تحكمون؟ أي كتبٍ هذه التي تقرؤونها فتهديكم إلى هذا الش ّر المبير وال َمهْلَكة
العظيمة؟؟.
يا قوم هما طريقان :طريق يؤدي إلى البتلء ،وطريق ترضى به عنك الغيار ،أما الول فهو
طريقُ الحقّ وأما الثاني فهو طريقُ الباطل وإن تسمّى بكل السماء الجميلة الكاذبة الخادعة.
ب أن يرضى عنّا مشايخ السلطان ،ول طلّب السلمة ول أبواق
نحن ل نحبّ ول نرغَ ُ
الدعايات ،ول مؤسّسات الكذب والدّجل ،ووال إنّنا نخاف أن نسمع أنّ أحدا من هؤلء مَدَح ما
نقول أو أُعجِب بما نقول.
نحن نقولها بكل صراحة :نحن نحبّ أن يَبغضنا أعداء ال ،ونحن نحبّ أن يبغضنا أهل البدع،
لن بُغضهم زاد الطّريق كما قال ابن حزم رحمه ال تعالى :لكل شيءٍ فائدةٌ ولقد انتفعت بمحك
أهل الجهل منفعةً عظيمة ،وهي أنه توقّـد طبعي ،واحتدم خاطري ،وحمى فكري ،وتهيّج
نشاطي ،فكان ذلك سببا إلى تواليف عظيمةِ النفع ،ولول استثارتهم ساكِني ،واقتداحهم كامني ما
انبع ْثتُ لتلك التّواليف( .مداواة النّفوس ص ،)48فلول وجودهم ما عرفنا للحقّ طعما ،وصدق
عمر رضي ال عنه حين تمثل قائلً :ذكّرتَني الطّعن وكنت ناسيا .هكذا هو الحقّ ،وهكذا غربته
في كلّ زمانٍ ،وأنا أعجب لولئك القوم الذين يضعون على أع ُينِهم عصاباتٍ غليظةٍ تمنعهم من
رؤية الشرّ الذي سرى في المّة ،وأقول مرّات ومرّات لعلّهم فسدت أمزجتهم فصاروا يرون
الباطل حقّا ،والحلو مرّا ،وتغيّرت معالم الشياء وأسماؤها وهكذا يكون صاحب الفطرة المتغيّرة
والقلب المنكوس ،فإنّه ل يعرف معروفا ول يُنكر منكرا ،وحين يصل المرء إلى هذه المرتبة لن
تملك له شيئا ،وال الهادي والموفّق.
نعم بعض الحبّة يُشفقون علينا ولكنّها شَفَقةُ ابن هرمة وهو يمدح الحكم بن عبد المطّلب بن عبد
ال بن المطّلب بن حنطب حين قال:
أمسي عليك من المنون شفيقا ل عيب فيك يُعـاب إلّ أنّني
ولكن من رحمة ال بنا أنّ هذه المنون لن تُبقي أحدا فالقاتل م ّيتٌ كما المقتول ،وعند ال تجتمع
الخصوم فلِمَ الحُزن والشّكوى وإنّما بين المتقدّم والمتأخّر لحظات ثمّ نزور المقابر.
480
التربية الجهادية
العلقة بين فكر الشّخص ومعتقده وبين نفسيّته علقة حميمة وقويّة ولو بالغنا لقلنا إنّها علقة
تلزم ولكنّها قطعا غير مطلقةٍ فقد يقع التّخلّف لوجود بعض العوارض والتي تشكّل هيكلَ
ي والعلميّ والعاطفيّ وغيرها من أفرادِ إنسـانيّته ،وبالتّالي فإنّ عمليّة
النسان العمَليّ والنّفس ّ
رفع مستوى نفسيّة المرء إلى مستوى معيّن ل بدّ أن يسبقها أو يكون معها رفع المستوى العلميّ
سواء بتصحيح الفكار والمعتقدات أو بتنشيطها وتذكيرها إن أصابها النّسيان والغفلة ،فهذه
العمليّة المزدوجة هي التي يصحّ أن يُطلق عليها عمليّة التّربية ،فالتّربية ليست صياغة لطرفٍ
في النسان دون طرفٍ آخر ،فإن وقعت فإنّ الحركة لن تدوم في الوصول إلى مبتغاها.
فمثلً لو أنّك اتّبعت مع جماعة من الشخاص أسلوب "التّوريط" -وهو لفظٌ ل أدري مدى
صحّته لكن يُطلق من ِقبَل أصحابه على طريقة معيّنة في الممارسة ،ويعني أن يقوم مجموعة
من النّاس بصنع جوّ من البيئة المعيّنة رغم أنف مجموعة أخرى من أجل إجبارهم على الدّخول
طتْ هذه
في اختيار وحيد تريده المجموعة المورّطة للمجموعة المورّطة -فإنّه وإن تورّ َ
الجماعة فإنّها لن تداوم على الفعل إلى نهايته وإلى آخر الشّوط وبالتّالي لن يتحقّق المراد من
هذا التّوريط.
لقد حاول الشيخ مروان حديد رحمه ال تعالى أن يورّط الخوان المسلمين في الجهاد في
سوريا ،لنّه حاول جاهدا أن يُقنِعهم بالجهاد فكانوا يأبَون عليه ويرفضون رأيه فقرّر توريط
طرَدَنا الخوان المسلمون من الباب سنرجع لهم
الخوان المسلمين في الجهاد وأطلق كلمته" :لو َ
من النافذة" ،ولذلك قام هو ومجموعةٌ معه بأحداث جهادية ف َرضَت معركةً بين النظام النصيري
البعثي الكافر وبين المسلمين عموما وعلى رأسهم الخوان المسلمين في سوريا ،وبالفعل ُورّطَ
الخوان المسلمون في المعركة ودخلوا فيها من باب -مكره أخاك ل بطل -بل لقد واصل
عدنان عقلة هذا السلوب وسار عليه حيث أطلق على مجموعته "الطليعة المقاتلة للخوان
المسلمين" ولختيـار هذا السم أسباب كثيرة منها محاولته توريط الخوان المسلمين في هذه
المعركة .فكان ماذا بعد ذلك؟!.
ارتفعت أصوات الجهاد من قبل القواعد وهذه استجابة فطريةٌ صحيحة للجهاد في سبيل ال
تعالى ،لن العوام بفطرهم الصحيحة هم مادّة الجهاد على الدوام ولكنّهم يحتاجون إلى من يُحسِنُ
إعطاءهم الدين الصحيح ل أن يسلك بهم سبل أهل البدعة ،وهذه نقطة مهمة وضرورية ? أعني
481
قاعدة اعتبار العوام أصحاب الفطر السليمة هم مادة الجهاد في سبيل ال تعالى ? وهذه بفضل
ال تعالى هي إحدى الفوارق بين جماعات الجهاد السلفية وبين جماعات التكفير ،فإننا نعتبر أن
الصل في أمتنا هو السلم ما لم يأت الرّجل بمكفّر صريحٍ مك َتمِل الشّروط وانتفت عنه
الموانع ،ولكن جماعات الغل ّو والتكفير وكذا جماعات التوقّف والتبيّن على غير هذا الهديِ السنّي
فإنهم يعتبرون أن الصل في أمتنا الكفر أو عدم اعتبارهم شيئا والتـوقّف في حكمهم حتى
يتبين -ولذلك هم يعتبرونهم مادّة للدّعوة إلى أصل الدين -أي من أجل إسلمهم ،وأما جماعات
الجهاد السلفية فإنها تعتبرهم مسلمون وهم مادّة التعليم ومادّة الجهاد في سبيل ال ،وهذا بخلف
سلّكوا وأقصد بلفظ التسليك هنا من مورست عليه طريقةٌ مبتدعةٌ صرفتهُ عن فطرته
الذين ُ
السليمة ،فالنسان المسلم العامّي تستجيب فطرته استجابةً فورية للعمال الصالحة ،فبمجرّد أن
يسمع هيعة للجهاد فإنه إن لم يستجب لها عملً فإنه يفرح لها وتطرب نفسه لخبَرها فيدعو ال
تعالى أن يوفّق أصحابها لهذا العمل ،وهذا رآه من عايشه في كلّ عملٍ جهاديّ فإن النساء في
خدورهنّ وكذا العجائز يلهجن بالدعاء للمجاهدين ،خلفا للمُسلكين سواء كانوا من الخوان
المسلمين أو من السلفيّة المزعومة أو من أصحاب الطّرق والمذاهب البدعية من أتباع جماعات
الفكر العرفاني الصوفي المعاصر المتطور ،فإنهم بسبب فساد فِطَرهم ومرض أفكارهم
يستنكرون هذه العمال ،ولكنهم قد يضطرون للمسايرة حينا أو السّكوت حينا مخافة سبّهم
وشتمهم ،ولكنّهم يؤخّرون قَيح أفكارهم إلى فرصةٍ سانحةٍ لفتنة تقع أو مشكلةٍ تهب برياحها على
الجهاد.
إن استجابة القواعد البعيدة عن القيادة والتي ما زالت تردّد الشّعارات الولى "والجهاد في سبيل
ال طريقنا" ،وشعار "والموت في سبيل ال أسمى أمانينا" ،وهذه الشعارات معروضة بحقّ من
أجل القواعد ل من أجل القيادة ،فكانت هذه الستجابة وسيلة ضغط لقبول القيادة للدّخول في
(الورطة) ،ف ُورّطَت القيادة مع عدم اقتناعها ،وقد وقع ما يرجو أصحاب نظريّة التوريط ،ولكن
كان ماذا بعد ذلك؟!!.
الشّيوخ هم الذين يقودون المعركة وهم أصحاب القَرار (وأقصد بالشيوخ ليسوا كبار السن ،ولكن
أقصد القيادة) وهم الذين شرعوا فيها بها على َمضَض ،فهل سيسيرون بها إلى نهاية مبتغاها ؟.
الجواب :ل وألف ل ،بل إنّهم سيكونون من أولئك القوم ? بل هم منهم ? الذين ينتظرون
الفرصة السّانحة لشتم المُورّطين (بكسر الراء) وجلد القواعد التي أجبرتهم على هذا الطريق،
482
و ُفرَصُ هؤلء كثيرة في الجهاد ،فإن الجهاد فيه من الفتن والبتلءات ما ل توجد في غيره من
العمال ،فبمجرّد حدوث فرص ٍة لهزيمةٍ في معركةٍ حتى يبدأ الجلد وإظهار مكنون النفوس.
إذا فالذين يظنّون أنه بمقدورهم أن يورّطوا القواعد التحتية لجماعات البدعة والهوى وكذا قادتهم
في الجهاد في سبيل ال تعالى واهمون ولن يحققوا النتائج المرجوّة من الجهـاد ،فل بدّ من
التمايز عن طريق إظهار مغا َي َرتِك للطّرق المطروحة ،وأن توجب على المستجيب لنداء الجهاد
أن ينخلع من تنظيمه السابق ويعلن فهمه لسبب هذا النخلع ول يكون هذا السبب أبدا ول
يُرضَى منه أن يقول أن الفارق بينك وبين تنظيمه السابق أنك تجـاهد وهو ل يجاهد بل ل بدّ
من تأصيل المسألة على أساس الفهم الجديد والصل الصّحيح ،وهي قواع ُد وأسسُ ومنطلقاتُ
جماعات الجهاد السلفية.
نعم هذا أمر ل يُخاف منه -وأعني لحوق أفراد عديدة من جماعات البدعة معك بالجهاد في
وقت الفتنة والبتلء -فإنّ هذه القواعد ل تلتحق بك لصعوبة هذه القنطرة ،ولكن يُخاف حين
يكون للجهاد الصّوتُ العالي والمدّ الشّعبيّ الواسع ،فإنّ مشايخ هذه التّنظيمات قد يسمحون
لفرادهم بالجهاد وقد يسكتون عنهم فحينئذٍ يكون هذا المحذور الذي نتكلّمُ عنه فل بدّ مِن شرط
التّمايز الذي تكلّمنا عنه ،أمّا بقاء الرتباط التّنظيمي مع تلك الجماعات المسلّكة سبل الباطل ،أو
الرتبـاط المشيخي مع مشايخ الرجاء والتهوّك فإنّ ثبات هؤلء إلى نهاية الطّريق أمرٌ في
غاية الصّعوبة وصعب الوقوع ،فإن وَقَعَ فإنّما يقع لفراد قلئل ثمّ تعود الجموع إلى تنظيماتها
السّابقة أو إلى مشايخها ليمارسوا عمليّة الجلد ويُقال لهم :ها قد جرّبتم ...،ها قد َورّطتمونا
بحماسكم ..فماذا ن َفعَكم؟! وحينها تصبح هذه الجموع أصواتا وأبواقا لولئك المشايخ،
وسيمارسون على المّة التّبجّح والتّرفّع والستذة بأنّهم أصحاب تجربة ..فل يجوز لحدٍ أن
يزايد عليهم.
تلميذ السّلفيّة المزعومة الذين قدِموا إلى أفغانستان ...بماذا رجعوا؟! وماذا يقولون؟! هل
انتفعوا بالجهاد -دع عنك الجر الخرويّ -هل أفهمهم شيئا؟؟ هل غيّر من مستوى أفهامهم
وعرّفهم سنّة ال في التّغيير والتّبديل؟؟ .الجواب :ل وألف ل بل زادتهم انتكاسة ،وظنّوا أنّهم
ملكوا ناصية التّجربة فهم يتكلّمون من منطلق التّجربة التي خاضوها (روح الستاذية الكاذبة).
إذن فالذين يعتمدون على طريقة التّوريط أو دفع الخرين بأيّ طريقة من الطّرق غير طريقة
القتناع إلى عملٍ من العمال إنّما يبعدون في المذهب ويتعاملون مع القضيّة بغير الطّريقة
483
السننيّة في إظهار العمل وإيجاده ،ل بدّ من القتناع وهذا طريقه إلى الدّماغ وإلى الفكر عن
طريق المجادلة بالحسنى وعرض الدلّة وتكرار ذلك مع اعتماد عامل الزّمن حتّى يحصل قبولً
للفكرة والدّعوة ،ول بدّ من وجود الدّافع لتحقيق هذه القناعات وذلك عن طريق إيجاد
المحرّضات الكافيةِ لثارة النّفس البشريّة لتحقيق هذا العمل عن طريق الوعظ والتّذكرة وربط
نفسيّة المرء بمحبّة تحقيق رضاء ال سبحانه وتعالى وتحصيل الدّار الخرة ،فإذا حصل
الطمئنان النّفسيّ لهذا العمل تحرّكت النّفس نحوه برغبةٍ صادقةٍ فل َيرُدّ عنانها عن ذلك إلّ
الذي فطرها ،وهي بحاجة إلى التّذكير مرّة بعد مرّة { -وذكّر فإنّ الذّكرى تنفع المؤمنين} -
ي والنّفسيّ .بهذا يحصل
وذلك عن طريق استثارة القناعات بوضعها في جوّ التّأثير العاطف ّ
التّمايز عن الخرين وبه فقط يتمّ السّير نحو الهدف المطلوب وفي باب الجهاد هذه هي الطّريقة
السننيّة لتحقيقه وليست المسألة مسألة عواطف شباب جيّاشة سرعان ما تنتكس تحت ظروفٍ
جديدةٍ وأحداث متغيّرةٍ ،فالقائلون بأنّ الجهاد تهوّر واندفاع وحماسة شباب ل خِبرةَ لهم في الحياة
واهمون ،نعم يكون كذلك حين يكون الجهاد دافعه الحماس الفِطريّ غير المؤصّل ،وتمّت
الستجابة له دون الفهم له على الوجه المطلوب فإنّ هذه الحماسة سرعان ما تزول إمّا لوقوع
البلء أو تخلّف النّصر أو كثرة المعوّقات في طريق الجهاد.
سسٍ علميّة واضحةٍ وعندها القدرة على كشف ودحض
هذه القناعات العقليّة والمبنيّة على أُ ُ
تلبيس الخصوم وأخطائهم مع نفسيّة محرّضة هي التي تصنع التّمايز في الشّخص المجاهد طول
حياته وتؤمّن له عدم النتكاس بالعودة إلى الجلّدين من قادة تنظيمات بدعيّة أو مشيخات
معوّقة.
إذن فالتّمايز شرطٌ لتحقيق الجهاد السنّي ،ويقع التّمايز بتحقيق حقيقته المتقدّمة عن طريق التّنظيم
المتميّز والذي يعلن افتراقه عن الخرين واختلفه عنهم من جهة الشّعار المخـالف فل يلتبس
لدى الفراد تداخل الصّورتين بين هذا التّنظيم وبين غيره من التّنظيمات ،وعن طريق تعميم
الفهم لدى الفراد كذلك بمخالفة الخرين للشّرع والعقل ودخولهم في دائرة الرّأي والهوى أو
طرُق الخرين من جهة أصوليّة عميقة فل
البدعة الممقوتة ،وهذا يتمّ عن طريق كشف وتعرية ُ
يكون الرّجل معك في التّنظيم وهو يرقب إشارات المشايخ وفتاويهم من خارج السّرب ،فإنّ هذا
النّوع من الشّباب خطيرٌ جِدّا ومُذ ِهبٌ للقوّة والرّيح لدى أيّ تنظيم من التّنظيمات في أيّ ظرف
من الظّروف.
484
ن العمل الصّحيح ل بدّ أن ينشأ عن قناعةٍ علميّة
إذا فهمنا هذا واستبان لنا حقيقة هذه المقالة بأ ّ
وبمحرّضٍ نفسيّ صحيح (التّمايز) يتبيّن لنا عمق الخطأ في قول من يقول بإمكانيّة استخدام
قواعد التّنظيمات البدعيّة ما ّدةً للجهاد في سبيل ال تعالى مع بقائهم في تنظيماتهم تحت دعوى
طرِهم واختلفهم عن قادتهم ،أي التّفريق بين القواعد والشّيوخ ،أو بين الشّباب الصّالح
سلمة فِ َ
والقيادة الزمنى ،وهذا يُظهر كذلك خطأ من يقول إنّ المشكلة في عدم الجهاد هي مشكلة القادة
ن القضيّة ليست
الزمنى والمشايخ الئمّة وأمّا القواعد فهي صـالحةٌ للجهاد وهذا خطأ كبير ل ّ
قضيّة حماسٍ وعدمَ حماس ،أو تأجّج عواطف وسكون أخرى ،بل المشكلة الولى والخيرة في
التركيبة العقليّة والعِلميّة في الفرد بغضّ النّظر عن كونه قائدا أو مَقُودا ،شابّا أم كهلً أم شيخا،
فتحليل عدم جهاد جماعةٍ مثل الخوان المسلمين بسبب القادة مثلً أو عدم جهاد السّلفيّة
المزعومة بسبب مشايخهم وكذا أصحاب الصّوفيّة ،خطأٌ محض فهؤلء في هذا الجهاد -
وأقصد جهاد المرتدّين -ليسوا مقتنعين به قناعةً علميّةً في أصل القضيّة ،فإنْ حدث جهادٌ من
بعضهم حينا فإنّما هو من دافع توريط الصّغار للكبار ،أو دفع ال ّتيّار أي ما يسمّى بغريزة
ي والتّنظيمي.
القطيع ،وهؤلء سُرعان ما يؤوبون إلى مواقعهم وتبدأ عمليّة الجلد المشيخ ّ
نعم يُمكن للفراد والقواعد أن يخرجوا من أسر قادتهم ومشايخهم ،لكن بعد أن يتمكّنـوا علميّا
من اكتشاف تهافت البناء العلميّ عند مشايخهم وقادتهم فيخرجوا عليهم وعنهم وحينها يتميّز
الشّخص ويُمكن إلحاقه بالتّنظيم المميّز ،أمّا إن جاء من باب التوريط وتحت غثائيّة غريزة
القطيع ودفْعِ التيّار فارقب في كلّ لحظة سكونٍ ثورته وعودته إلى قواعده سالما محضّرا نفسه
للوقوف أمام قائده وشيخه ليعترف له أنّه اكتشف صواب ما يقوله وخطأ أولئك (المتسرّعين
والمتهوّرين).
هذه نصيحة أسجّلها هنا ،وهي أمانة أضعها في أعناق تنظيمات الجهاد السنّي السّلفيّ لئلّ
يكتشفوا بعد حين أنّ ما معهم مِن رجال إنّما هم شِبهُ المجاهدين (والشّبه هو صنم من نحاس
تدخل فيه الرّيح فيصفر فيظنّ الجاهل أنّه شخص حقيقيّ) وليسوا مجاهدين حقيقة.
السّيرة النّبويّة ومسيرة التّاريخ السلمي حديقةٌ خصبة للدّراسة والعتبار ،وفيها من العظات ما
تجعل المرء المسلم الذي ينشد التّغيير في غنى عن أن يكون منبهرا بكلّ ما كتبه وخطّه الغيار
بتجاربهم وأحداثهم ،وقد كان الوائل من آباء هذه المّة حريصين كلّ الحرص على تلوة
ج ْعلِها جزءً من تركيبة الطّفل العقليّة والنّفسيّة لنّ
السّيرة على مسامع البناء وتحفيظهم إيّاها و َ
485
السّيرة النّبويّة تصنع العقليّة السّديدة في فهم سنن الحياة ،فالتّاريخ هو جريان سنّة ال تعالى،
والتّاريخ المتعلّق بالسّيرة النّبويّة فهي التّوافق الشّامل في مسيرة المرء في هذه الحياة من خلل
عدمِ تجاوزه لشرع ال تعالى وأمره ،فالقارئ والدّارس -المؤمن بهذا الدّين -للسّيرة النّبويّة ل
يجِد أبدا شيئا من التّعارض في مسيرته إلى مقاصده سواء كانت هذه المقاصد حياتيّه بحتة أم
جزء من صراع مع الغيار أو من أجل تحقيق بعض المصالح بين تمسّك المرء بشرع ال
تعالى وانقياده لحكمه واستغنائه عن اقتراف أيّ معصية من المعاصي ،وهذا بخلف المرء الذي
يُكثر من قراءة كتب التّجارب التي ل تمتّ إلى السلم بصلة فإنّها تقدّم في نفس المتضلّع بها
الحاجة الشّديدة إلى بعض المعاصي خلل حركته التغييريّة وأنّ من الصّعب إقامة حركة
تغييريّة ناجحةٍ دون تجاوز ضوابط الشّريعة.
الفارق بين الثائر والمجاهد
في القرن الخير قامت كثير من التّجا ُربِ النسانيّة لتحقيق أهدافٍ بإسقاط نظامٍ وقيام آخر وكان
أئمّة هذا الفن في هذا العصر هم اليساريّون ،وهي الحركات التي يكثر البعض تسميتها حركات
التّحرير!! وهو اسم ل يوافق معناه حقيقـة هذه الحركات ،هذه الحركات القتالية حققت أهدافها
مثل حركة ماوتسي تونغ في الصين ،وهو الرجل الذي يسمّيه الكثير من الباحثين بأنّه خير من
كتب في حروب العصابات وهذا النوع من الحركات ،وكذلك ثورة البلشفة في روسيا ضد
القياصرة وثورات أمريكا الجنوبية كثورة كاسترو وصديقه جيفارا ،هذه التجارب قام أصحابها
بكتابة هذه التجارب وتُرجمت للغة السلم (اللغة العربية) وكان فيمن قرأها شبابٌ مسلمون،
وهي تجارب حقّقت على أرض الواقع أهدافها وهذا مدعاةٌ للقارئ أن يقتنع بالكثير من نظريّاتها
وقواعدها ،والنسان أسير قراءاته شاء أم أبى ،فإنّ الكِتاب يصنع عقلية قارئه ويصبغها
بصبغته ،لنه ينقله إلى البيئة التي يريدها الكاتب والكتاب ،فخلل هذه القراءات الكثيرة لهذه
الكتب اصطبغت عقليّة القارئ بنفسيّة الكاتب ،وهذه الحركات كما خطّت في كتبها لم يكن لها
من قواعد وأُسُسَ أخلقيةٍ تحكم هذه الحركات أو توجب على السائر فيها أيّ قيو َد وروابط،
بمعنى أن هذه الحركات ليس لها أبعادٌ أخلقية ،وهي عندي شبيهة بكتب فنّ الطّبخ المنتشرة في
ن واضعيها ل يحكمهم سوى حصول الطّبخ والمذاق الطّيب ،فترى في بعض
السواق ،فإ ّ
الطبخات وجوب وضع القليل من النبيذ ،أو قليلٍ من الخَمر وهكذا ،فهذه ال ُكتُب كتِلك حيث
وضع أصحابها نظريّاتٍ ومبادئ فيها التصور الذاتي من التحسين والتقبيح ليّ فعل من
486
الفعال ،وفي داخلها الكثير من العمال التي ل ت ُمتّ إلى مبادئ الحق والدّين بصلة ،فيأتي
المسلم المتديّن إلى قراءة هذه الكتب مع نفسيةِ الحترام النساني المجرّد لهذا الكاتب كونه
الخبير العليم المجرّب لهذا الفنّ ،فيقرأها بنهم مع الكثير من التسليم والنقياد فيرجع عنها بعد
ذلك إلى حالته السلمية من أجل أن يراجع الكثير مما قرأه مع مبادئ السلم الذي يؤمن به،
فينشأ الشدّ والجذب بين ما احترمه من قواعد في هذا الباب وبين ما يؤمن به من مبادئ هذا
الدين ،أي صراعٌ بين ما يحترمه ول يؤمن به وبين ما يؤمن به بفطرته ،وهذه واحدة في الشر.
بعد ذلك يقع هذا المتضلع بهذه القراءات في حالة أخرى ،وقد يقع فيها ابتداءا وهي أن هذا
القارئ له بعض القراءات الشرعية اليسيرة ،سواء كانت نبذ قليلة في أصول الفقه أو فقرات
مجملة عامة في السيرة النبوية فيحاول حينها جاهدا إمرار هذه المفاهيم الوافدة من خلل هذه
النبذ أو الفقرات ،فهو يحفظ مثلً أن السياسة الشرعية مبنية على المصلحة ،وأن المصلحة علّة
الحكام وغيرها من القواعد التي ل يجوز للمسلم أن يشتق منها حُكما ،لن القواعد الشرعية
والصولية لم توضع من أجل استنباط الحكام بل وُجدت من أجل ضبط الحكام ،فيذهب هذا
المتضلع بهذه الكتب إلى تمرير هذه القواعد الجديدة تحت عمومات القواعد الشرعية ،ويُلبسها
ثوبا شرعيا وصبغة ظاهرية للون السلم ،مع أن جوهرها أن لينين قالها ،وجيفارا نطق بها،
ولكن ل يُمكن تمريرها على أهل السلم إل بإلباسها اللّون السلمي بمحاولة (نتش) أي انتقاء
بعض الحداث السلمية سواء كانت في السيرة النبوية أو التاريخ السلمي ودفعها في طيّات
الحديث لتصبح الفكرة إسلمية الصنع والدليل ،ودَور السلم فيها هو التزيين والتحوير.
وهذا الفعل قريب بل هو عين فعل الفقيه الذي يستحسن رأيا ما ،ويكون منشؤه هوى الفقيه
ورأيه ولكن يذهب إلى كتب الفقه من أجل أن يبحث عن فقيه ولو كان شاذا ليقول عن نفسه أنه
متّبع لغيره وليس مبتدع.
هذا النوع من (المتضلعـين بهذه الكتب) لهم لونٌ خاصّ ورأي خاصّ في طريقة أهل الفقه
والثر في التعامل مع المور ،ومن هذا الرأي :أنهم يعتبرون أن أصحاب الفقه والثر
متحجّرون متكلّسون ل يفهمون الحياة وسُننها ،ويصبغون على أنفسهم ما شاؤوا من ألوان
التعظيم والتبجيل فهم المتفتحون ،وهم أصحاب الفكر المستنير ،وهم أئمة فنّ الحركة ،وهم أئمّة
فن الممكن ..إلى غير ذلك من اللقاب ،وهم حين يقـولون عن أنفسهم أنهم أهل الخبرة في
الحركة والحياة ل يَنسون أن يقولوا عن أنفسهم أنّ عندهم من فهم الشريعة ومقاصدها ما يكفيهم
487
لقيادة السلم في معترك الحياة ودروبها ،وأما غيرهم من أهل الفقه والثر فهم ل يصلحون إل
في التكايا والمساجد حيث يخلع المرء عقله هناك وقصر المر على ذلك ،وينسون أن ما كان
شرعيا ودليله الكتاب والسنة ل يمكن البداع الذاتي فيه حتى يقرأ الكتاب والسنة والثر ،وما
كان عقليا فمداره على الرأي وليس هناك من عقل يزعم صاحبه أنه أعقل من غيره إل ونوزع
في هذا وعورض من قبل البشر جميعا فإن كان لهم عقولٌ فلبقيّة الناس عقول ،وحين قسم ال
تعالى الموال بين الناس لم ترض الناس القسمة لن ابن آدم ل يشبع من المال ،وحين قسمت
العقول رضي كل امرئ بعقله وظنّه أفضل العقول ،نعم ،لصاحب التجربة حِكمة يفوق بها
غيره ،ولغير المجرب سبل كثيرة لرأب هذا النقص وإتمامه ،ذكرها أئمّتنا ،ل يعرفها هذا النوع
من (المتضلعين).
هذه الثنائية المتعارضة بين أن تكون فقيها أوحركيا!! ل تنشأ في عقل المسلم الذي تضلع كثيرا
ودرس كثيرا وفهم كثيرا لكبر حركةٍ انقلبية في التاريخ النساني كله أقصد سيرة النبي صلى
ال عليه وسلم لنّه ل يوجد أبدا داخل هذه السيرة التعارض بين ما هو شرعي وما هو حركي،
فليس هناك شيءٌ اسمه فقه الحكام وشيء غيره اسمه فقه الحركة ،بل هما شيءٌ واحد ،وليس
هناك في داخل هذه السّيرة حاجة إلى تأويلٍ فاسد باستيراد ما هو حرامٍ لتمريره في حركة
الجماعات في سعيها للتغيير تحت باب المصلحة أو السياسة الشّرعية (على مفهوم مغايرتها لفقه
الشريعة والحكام) بل في هذه السّيرة البيان الشّافي واليقين التام في حصول الجماعات
السلمية على أهدافها من غير الدخول في سبيل المجرمين ،وأن التعارض بين الشرعي
وتحقيق الهداف هو تعارض موهوم ،وكذا التعارض الموهوم بين مصلحة الجماعات وبين فقه
الحكام المأخوذ من (الورق الصفر) حسب زعمهم.
نعم إن فقه الحكام هو فقه ضوابط وتقييد الحركة لكنّه ليس فكرا ول فقها تعويقيّا ول مثبّطا بل
هو من رحمة ال بهذه المة ليصـالها إلى أهدافها بأقرب الطرق وأيسرها ،والخروج عن فقه
الحكام إلى فقهٍ مزعوم يسمونه فقه الحركة أو ما أطلَق عليه بعضهم فقه السّيرة (فقه الموازنات
والتقلّبات الذاتية) هو الذي يمنع الجماعة المسلمة من الوصول إلى أهدافها ويُشغلها بذنوبها كما
قال ال تعالى{ :إنما استزلّهم الشيطان ببعض ما كسبوا} فما من معصيةٍ من المعاصي وإن
لبست ثوب التأويل الشرعي إل وهي مثبّطٌ ومعوّق للجماعة المسلمة في الوصول إلى الهداف
الشرعية وذلك بحصول البلء الرباني والعذاب اللهي.
488
في السيرة النبوية والهتداء بها تعميقٌ لعلقة المسلم بشقّ الشهادة الثاني محمد رسول ال صلى
ال عليه وسلم فهو إن عمل عملً أو سار مسيرا فإنّه يشعر بعمق الرتباط بينه وبين النبي
صلى ال عليه وسلم ،فهو سائرٌ على الخطى المحمدية ويحس بها في كلّ خطوة يخطوها ،وهذا
بخلف (المتضلع) بهدي الغيار والسير على مناهجهم ،فإنّ باطنه مشغولٌ بشخوصهم الوثنية
المقيتة ،وهذا رأيناه في عالم الواقع بين شخص يحاول أن يلبس ويتحرك ويجيل نظره مقتديا
بـجيمس بوند فهو حريص على مشابهة اللفتة للّفتة والهيئة للهيئة ،وبين شخص لم ينشغل
باطنه إلّ بالشّخوص المهتدين -مَن ذكرهم ال في كتابه -ومن قرأ عنهم في السّيرة النّبويّة.
إصلح الباطن واليمان بالغيب
ن صلح وإعمار الباطن يكون بالقتداء بشخص النّبيّ صلى ال عليه وسلم وهديه وشخوص
إّ
الصّحابة كعُمر وخالد وأبي عبيدة والقعقاع رضي ال عنهم وهو يضاد إعمار الباطن بهدي
جيفارا وماوتسي تونغ ولينين وغيرهم من شخوص الوثنيّة والضّلل ،إعمَار الباطن بهدي
المهتدين يكون بالتّضلّع ل بانتقاء السيرة النّبويّة وفِقه الئمّة ،وإعمار الباطن (بل خرابه) بهدي
الوثنيين يكون بالتّضلّع بسيرتهم وحركتهم.
في السّيرة النّبويّة علقة مع عالم الغيب ،حركة ومسيرة ل تخرِمُ شيئا من سنّة ال تعالى
الكونيّة ،بل هي في إطارها ،ولكنّ من سنن ال الكونيّة علقةُ الشّهادة بالغيب ،ومن سنّته
حصول الرّعب لدى العداء ،ومن سنّته حصول أثر الدّعاء ،ومن سنّته أن ينصر المؤمنين به
ضعَفائهم ،هذه السّنن الكونيّة سننٌ تعادل شطر عالم الشّهادة وسنن الحياة الظّاهرة ل ينتبه
بسبب ُ
ي صلى ال عليه وسلم وسيرته ،أمّا المتنكب فهذه أمور ل يقيم لها
ل المتضلّع بسنّة النّب ّ
لها إ ّ
وزنا ول يرفع لها رأسا.
سبابة الدّعاء المرتفعة إلى السّماء تعادل سيفا ورمحا مُشرَعا ،بكاء الثّكالى وصراخ المظلومين
هي سهام الليل التي يشتّت ال بها العداء والكفّار.
إنّ أعظم البشر وأشجعهم وأشدّهم بأسا صلى ال عليه وسلم كان في بدر يناجي ربّه ،لنّ هذه
المناجاة من أعظم السنن التي يستغلّها أهل السلم في القضاء على العداء والكفّار.
كان أهل السلم إذا سمعوا أهل الحصن أو البلدة يسبّون النّبيّ صلى ال عليه وسلم استبشروا
بسرعة حصول النّصر على هذه القرية والبلدة كما ذكر ابن تيمية في "الصّارم المسلول" ،هذه
المعاني الحقيقيّة ،وهذه السباب الكونيّة في ميزان القوى بين أهل السلم وبين أعدائهم ل
489
يهتدي لها ول يحسب لها حسابا إلّ المتضلّع بسنّة النّبي صلى ال عليه وسلم وسيرته ،أمّا ذاك
الرّجل المتضلّع بسيرة الوثنيين والجاهلين فإنّه يستعيض عن سهام الليل أكف الدّعاء بمعاصي
يمرّرها تأويلً لها من باب المصلحة الموهومة والسّياسة الشّرعيّة التي ل ضابط لها ول زمام
يقيّدها في ذهنه وعقله.
فما من معصية يحتاج لها أهل السلم في معركتهم مع أعداء ال تعالى إلّ بسبب غفلتهم عن
طاعةٍ وشرعٍ علّمهم ال إياه فنسوه ولم يهتدوا له ،فذهبوا يستعيضون عن السنّة بالبدعة ،وعن
الطاعة بالمعصية ،وعن عالم الغيب ورجاله برجال الكفر والبدعة.
فعالم الغيب الذي فيه الستر اللهي والنّصر اللهي والتأييد اللهي هو عالمٌ يشترك مع عالم
الشهادة في سنن ال تعالى في الجهاد والتغيير والنصر والفلح.
تحقيق التوحيد غاية المجاهد
في السيرة النبوة الهداف قبل الوسائل ،ولمّا كانت أهداف السلم لها تعلّق بعالم الغيب أي
برضى ال تعالى كانت تقديرات المور تختلف تمام الختلف مع تقديرات وأهداف أصحاب
الـكتابات العسكرية للحركات الثورية في العالم.
أهل السلم هدفهم العظم ومرادهم الكمل تحقيق التوحيد في الرض ،فكل ما يقترب من شأن
هذا الهدف إبطالً أو تأجيلً أو تبديلً فإنه مردودٌ بغضّ النظر عن بقية المصالح التي نظن أننا
سنحصّلها بعد ذلك.
ولذلك فكلّ مساومة حول هذا الهدف لتحقيق بعض المصالح مساوم ٌة مرفوضة ،وكل محاولةٍ
لتأجيل البحث في هذا المقصد ل وجود له في سيرة النبي صلى ال عليه وسلم وسنته ،لكنّ هذه
المساومة وهذا التأجيل لهما الوجود الكبر فيمن يرى المر سياسةً مطلق ًة ومصـالح فضفاضة
لنه سمع أن جمع النصار (مطلقا) هو إحدى مبادئ تحقيق الهداف وحرب النصار.
إن الوصول إلى القبور مع المحافظة على هذا المبدأ الصيل خير من الوصول إلى المساومة
حوله وتأجيل البحث فيه ،فإقامة الدولة السلمية لخدمة التوحيد ومن أجله ولصيانته وللحفاظ
عليه ،وليس العكس ،فالسلم ليس وسيلة لهدف ،وإرضاء ال تعالى ليس وسيلة لهدف ،بل كل
وسائل البشر من أجل تحقيق السلم في أنفسنا ،ونيل رضاء ال تعالى في الدنيا والخرة.
فالتأجيل والمساومة تكون في غير التوحيد وصيانته ،أما التأجيل والتأويل فيما يخص التوحيد
وأهله فهو شأن المتضلعين بكتب (سبيل المجرمين).
490
الطريقة الشرعية لقامة الدولة طريقة كونية
بناء دولة السلم حكم شرعي بمعنى أنّه واجب شرعي دليله أمر ال تعالى في كتابه وفي سنّة
النبيّ صلى ال عليه وسلم ،ولمّا أسقطت دولة الخلفة وانفرط عقد المّة وبدت في الفق معالم
عقديّة فاسدة تتسارع في اقتناص الدول المنفرطة من دولة الخلفة ،فقد دخلت الحزاب
الشيوعيّة إلى بلدنا سنة 1917م أي في السنة ذاتها التي انتصر فيها لينين ضدّ خصومه وبنى
الدولة الشيوعية الولى في روسيا ،وبعدها بدأت الحزاب اليمينيّة واليساريّة على مختلف
ألوانها من حمراء وبيضاء وزرقاء ،من بعثيّة وقوميّة وعلمانيّة وغير ذلك ،وكان من جملة هذه
الحزاب المتصارعة لحصول الغلبة على هذه الدولة الحزاب والتنظيمات السلميّة ،وكان في
هذه الحزاب الكثير من العمومات التي لم تحدّد ،وكانت هذه العمومات سببا لعدم اهتداء الكثير
منها إلى الوقوف الموقف الشرعي الصحيح مع الحداث المتسارعة .وكان من جملة هذه
المعلومات المعوّقة من تحصيل الغلبة الختلف حول الطريقة المثلى في إقامة الدولة السلميّة،
وكان السؤال :ما هو الطريق الشرعي لحياء دولة السلم؟ وقد أخذ هذا السؤال شوطا بعيدا
من الوقت والجهد للوصول إلى الجواب الصحيح ،أو لتحديد معالمه.
وللسف (وأقولها حسيرا) ما زال بعض الناس يظنّ أن هذه الطريقة تحتاج إلى مزيد من
الكشف والدراسة ،أي أنه مازال الكثير من أهل الدين يجمع الناس ليحدّثهم عن الطريقة المُثلى
في إسقاط الطواغيت ،أو الطريقة المثلى لحياء دولة الخلفة.
في الوقت الذي كانت فيه الحزاب وخصوصا اليساريّة تشدّ الخطى وتسعى بتقدّم ناجح نحو
أهدافها في بناء دولهم ومجتمعاتهم كان المسلمون في تنظيماتهم يتناظرون فيما بينهم على
الطريقة النبويّة في إقامة دولة السلم ،وهو أمر مشين معيب.
لقد كان أهل السلم يملكون الرصيد الكبر لتحصيل الغلبة في امتلك الدولة ،ولكن بكلّ سهولة
ك الرصيد إلى مُهاجر مُطارد ل يملك
ويسر تحوّل مَن ل يملك الرّصيد إلى حاكمِ دولةٍ ومن يمل ُ
مترَ أرض يموت فيه.
لقد بنى النّاس دولهم وأقاموا لها الساسات وال ُعمُد ووثّقوا أركانها وجنُوا خيراتها وربّوا المّة
على ما يريدون ،وكسبوا مواقع متقدّمة ،وما زال أهل السلم يتناظرون ويتشاجرون حول
الطّريقة المثلى لقامة الدّولة السلميّة؟!! .وكلّ المتناظرين يزعمون أنّ دليلهم فيما يقولون من
إقامة الدّولة السلميّة مشتقّة من الطّريقة النّبويّة (زعموا).
491
وإنّي بفضل ال تعالى منذ أن بدأت أحترم عقلي وأحترم ما وهبني ال تعالى من ِنعَمٍ أيقنت أنّ
الطّريقة المثلى لقامة دولة السلم هي عين الطّريقة المثلى في إقامة أيّ دولة من الدّول.
فالطّريقة الشّرعيّة هي عينها الطّريقة الكونيّة ،فإذا ثبت من جهة النّقل الصّحيح فإنّه يوافق
ي الصّريح ،وإذا ثبت شيء من جهة العقل الصّريح فإنّه ل بدّ أن يوافق النّقل الصّحيح،
الكون ّ
ولكنّ الحكم الشّرعيّ ل يؤخذ من الكونيّ بل يؤخذ من النّقليّ ،فالحلل والحرام والجائز
والمستحبّ والمكروه ل يث ُبتُ واحدٌ منها إلّ بالكتاب والسنّة.
ل الصّريح ،ول يُمكن أن يُجمع العقلء
وبالتّالي ل يمكن أن يثبت نقلٌ صحيحٌ على خلف العق ِ
ي صريح وهو مخالف لشرع ال ودينه ،فمصدر الكون هو مصدر الشّرع {أل له
على كون ّ
الخلق والمر} بل إنّ من معاني الحقّ (وهو اسم يطلق على الشّرعي) ثابت لكونه موافقٌ لق َدرِ
ال تعالى وخلقه (الفطرة).
هذا الذي أقـوله ل بدّ أن يجتمع مع ما قُلته سابقا ليستقيم المعنى في نفوس إخواني القرّاء.
وقد علم كلّ من عاشرني وعرفني عن قرب أنّي من أشدّ النّاس (بفضل ال تعالى) تنبيها على
أولئك الذين يخرِمون السنن الكونيّة والقدَريّة بحجّة وجود قواعد خاصّة لنا (أي أهل السلم)
تُخالف السنن الكونيّة والقدريّة التي يجريها ال تعالى على البشر جميعا ،وبالتّالي فإنّ مِن الخطأ
الشّنيع أن يظن ظان أنّ السّيرة النّبويّة لها نظام خاصّ وقواعد مستقلّة خارج نظام وقواعد
وسنن التّغيير السّننيّ في البشر جميعا ،فهذا الزّعم هو الذي يجعل أولئك القوم يقرأون السّيرة
من أجل البركة فقط من غير نظرٍ إلى أنّها هي الطّريقة الكونيّة والشّرعيّة الوحيدة لقامة دولة
السلم ،وهذا فيه ر ّد على أولئك الذين يجعلون الطّريقة النّبويّة طريقة خاصّة ل يعرفها إلّ أهل
السلم في إقامة الدّولة ،وكفى بواقع أولئك دليلً على خطأ ما وقعوا فيه من الوهم والظّن الذي
حسبوه علما ويقينا.
ل أشكّ أنّ كثيرا من النّاس لن يقبلوا كلمي حتّى أمله وأحشُوه بكلم ابن تيمية رحمه ال
تعالى ،مثل هؤلء القوم لست حريصا على إقناعهم بصواب ما قلته.
الشّيخ ناصر الدّين اللباني له طريقةٌ خاصّة في إقامة الدّولة السلمية يسمّيها ويلقّبها بالطّريقة
النّبويّة ،ويُطلق عليها شعار التّصفية والتّربية.
حزب التّحرير له طريقةٌ خاصّةٌ في إقامة الدّولة السلميّة يوجب على النّاس سلوكها ويسمّيها
الطّريقة النّبويّة.
492
وكذا الخوان المسلمون (إحسانا للظّنّ بهم) وغيرهم الكثير ،وأنا أسأل هؤلء جميعا سؤالً
واحدا أقدّم له بمقدّمات مُجمع عليها (!! أو أظنّ ذلك):
أوّلً :المسلم المهتدي معه توفيق ال تعالى وبالتّالي هو أقرب إلى تحصيل أهدافه من الكفّار.
ثانيا :من أسماء الشّرع عندنا :الهداية ،ومعناها البصيرة في إدراك المطلوب ،فبالتّالي ما هو
شرعيّ أقرب إلى غيره في الوصول إلى الهدف ف ُم ْم َتثِل الطّريقة الشّرعيّة أقـرب من العاصي
في إدراك المراد.
هاتان مقدّمتان (الهداية الشّرعيّة والهداية التّوفيقيّة) توجبان علينا سؤالً هو:
إذا كان المر كذلك فلماذا وصل الكافر إلى هدفه وجنى المسلم ضدّ مراده؟ لماذا بنى البعثيّون
دولتين وشيوخ السلم لم يجدوا مأوى لهم؟ .مع أنّ كلّ أدوات المعركة كانت بين أيدي
المسلمين ومشايخهم كما قدّمنا وكان القليل منها بيدِ أعدائهم (خلفا لواقعنا الن).
أليس هذا السؤال يوجب عليّ وعلى كلّ عاقلٍ (لم يؤجّر عقله لغيره) أن يعتقد أنّ ما قاله
المشايخ عن الطريقة النبويّة في إقامة الدولة السلميّة خطأ على الطريقة النبويّة ،وليس خطأ
من الطريقة النبويّة؟.
لكن للسف وُجد عندنا من قال أنّ هذا الطريق هو طريق البتلء ،ومعناها عنده أنّ الشارع
أعطانا طريقةً غير صحيحةٍ من أجل أن يوصلنا إلى ضدّ أهدافنا وأهدافِهِ ابتلءً لنا .فهذا هو
معنى البتلء عندهم:
أن تسلك الطريق التي أمرك بها الشارع فتصل إلى ضدّ أهدافك ابتلءً لك (وحسبنا ال ونعم
الوكيل).
هل بين ما قُلتُه هنا وبين ما قلتُه سابقا خلف؟! بمعنى أني قلتُ أنّ الطريقة الكونيّة التي يسلكها
عقلء البشر في بناء دَولتهم هي عينها الطريقة النبويّة في إقامة الدولة السلميّة ،لنّ الدّولة
شيءٌ وجوديّ كونيّ واسمها يُطلق على شيء واحد عند البشر جميعا ولكن المضاف إلى هذه
الدولة هي الحكام وال ِقيَم التي تحكم بها هذه الدولة ،فهذه دولة إسلميّة لنها تحكم بالسلم
و ِق َيمُها مستمدّة من السلم ،وهذه دولة شيوعيّة لنها تحكم بالقيم الشيوعية ،وهذه دولة بعثية
لنها تحكم بقيم حزب البعث ،ولكن اسم الدولة مشترك بينها جميعا وهو يُطلق على شيءٍ
وجودي واحد ،والشيء الوجودي (السنة القدريّة) شيء جامع للبشر جميعا بغضّ النظر عن
دينه وقيمه.
493
سنن قيام الدول
ثمّ إني ثربت هناك ورهّبت من أولئك القوم الذين يتضلّعون من كتب الغيار في بنائهم
لمعارفهم في طريقة التغيير وبناء الدّول.
في الجواب على هذا أقول:
أوّلً :إني وإن اعتقدت أن الطريقة النّبوية هي عينها الطريقة الكونيّة في إقامة الدّول إلّ أنّ
الخطاب الشرعي ل يَثبُت إلّ بدليلٍ شرعي ،فهو كقولِ من قال إن النقل الصحيح ل يخالف
العقل الصريح ،وقد أطلقه خيار الئمّة في باب صفات ال تعالى ،إل أنّ صفات ال تعالى ل
تثبت إلّ بالشّرع الصّحيح مع أنها ل تخالف العقل الصّريح.
ثانيا :إنّ مهمّة إقامة الدولة السلميّة تتطلّب إعمار الباطن بمثالٍ سابقٍ خللَ حركته وقيامه
وقعوده ،وهذا المثال يجب أن يكون عبدا صالحا ،فالواجب ض ْربُ المثلة بالشّخوص المهتدين،
وأنا أعتقد أنّ ما من حقّ يحتاجه المرء في هذه الدنيا إلّ وفي الكتاب والسنة ما يغنيه فيه ،فلماذا
إبعاد النجعة (وإبعاد النجعة معناه أنّ طالب الماء حين يستطيع أن يأخذ الماء من مكان قريب
فيذهب إلى المورد البعيد يكون قد شقّ على نفسه وأبعد في الطلب من غير ما ضرورة).
ثالثا :في كلمي السابق تنبيه مهم على نوعيّةٍ من الدارسين لكتب الغيار امتلوا منها وتضلّعوا
عمُدُ معارفهم منها ،ولم يكن التاريخ السلمي عموما والسيرة النبويّة
حتّى الثمالة فكانت ُ
خصوصا عندهم إلّ غِطاءً وصبغةً ظاهرة لهذه المعارف ،فقد تراهم يأخذون المعارف من
الغيار ولكنهم يُأسلمونها بعد ذلك حسب نظريّة المعهد العالمي للفكر السلمي في مشروعه
(إسلميّة المعرفة) ،فهذا الصّنف من الدارسين يقع في أخطاءٍ ل بدّ من التنبيه عليها.
ونحن في هذا الباب أمام صنفين من الناس:
الصنف الول :غنوصي عرفاني (ومعناهما واحد وتعنيان من ينكر وجوب الدلئل والمقدمات
من أجل الحصول على نتيجةٍ سواءً في المعرفة أو في القَدَر ،فهو يُنكر الدليل ويوجب عليك
أخذ النتيجة من غير مقدّمة ،فإن كانت النّتيجة في القدر (الكونيات) كان جبريا وزعم بأنّ عالم
الشهادة مربوطة أحداثه بعالم الغيب (زعم) بالكليّة ول قيمة للسنن ،وإن كانت النتيجة معرفية
كان باطنيّا وزعم أنّ اللهام والكشف والذوق دليله).
فهذا الغنوصي العرفاني يقرأ السيرة النبوية قراءة صوفية ل صلة لها بعالم الشهادة والسنن.
494
والصنف الثاني :انتقائي تجزيئي ومعارفه الساسية من الغيار ،ودور السيرة عنده التدليس ل
التأسيس ،وهذا ما عنيته آنفا.
أمّا إسقاط الكلم السابق على أحد من إخ َوتِنا أومعارفنا تحديدا فهو ظنّ لم يُصب صاحبُه فيه،
فالمناقشة كانت لظاهرة وليست لفرد من الفراد {ولكل وجهة هو مولّيها فاستبقوا الخيرات}.
أثر الخلط بين الكونيات والشرعيات
المعارف الكونيّة (معارف الخلق والتّكوين) معارف مشاعة وليست خاصّة لهل السلم ،وهي
كذلك ليست محصورة ول محجورة على أصحاب المعارف الشّرعيّة (العلوم الدّينيّة) ،بل قد
غلب على هذه العلوم والمعارف الكونيّة غير أهل السلم منذ القدم ،وقد شكى على الدّوام أهل
العلم والذّكاء مِن ترك هذه العلوم لغير أهل السلم.
فقد شكى المام الشّافعيّ رحمه ال تعالى من إعراض أهل السلم عن أهمّ علمين على مدار
طبّ وعلم الحساب ،فإنّه ل قوام لحياة البشر في
التّاريخ النساني بعد علوم الدّين ،وهما علم ال ّ
دنياهم إلّ بهذين العلمين (علم البدان ،وعلم الحساب) قال حرملة :كان الشّافعيّ يتلهّف على ما
ضيّع المسلمون من الطّب ،ويقول :ضيّعوا ثلث العلم ،ووكلوه إلى اليهود والنّصارى[ .سير
أعلم النّبلء ،]10/58وقال :من نظر في الحساب جزل رأيه [ .المصدر السّابق ،]10/41وقد
انتشر في بلد المسلمين الهتمام الشّديد بعلوم الذّهن وظهر العراض عن علوم اليد ،وهو
ميراثٌ أساء كثيرا إلى البناء العلميّ للعقول في تاريخ أهل السلم المتأخّرين ،وقد أصبغ
المتكلّمون وخاصّة الشاعرة على هذه المفاهيم صبغة شرعيّة ولعلّ من أعجب ما وقعوا فيه
النّظر إلى العلوم الكونيّة والكلم عليها بطريقة الكلم على المعارف الخرى حيث استعملوا
فيها المنطق الرسطيّ وقواعده التي سمّاها بالكليّات ،وهي موازين ل تصلح لهذه المعارف،
ن المعارف الكونيّة ل تحصّل إلّ بطريق الحسّ والعقل ،فالحسّ لتحصيل المعارف الجزئيّة
فإ ّ
لهذه السّنن ،والعقل لتعميم هذه المعارف لتحصّل منها القواعد(،وهو المنهج التجريبي) فاستخدام
الحس فقط دون اعتبار العقل للتّعميم عن طريق العتبار والقياس ل ينشئ قاعدة ،واستخدام
العقل في عموماته دون الحساب والتّجربة تنشئ أوهاما أغلبها ل يوجد لها وقائع وحقائق كونيّة،
ولذلك كان المتكلّمون (وعلى رأسهم الشاعرة) من أفسد النّاس نظرا إلى العلوم الكونيّة ،ومن
أفسد ما قالوه ما سمّوه قاعدة الجوهر والعرض ،وهي قاعدة جعلوها من أصل الدّين وبنوا
495
بعض العلوم الدّينيّة على أساسها ،وهي في أساس بنائها ل وجود لها إلّ في أذهانهم الرسطيّة
الكليلة ،وشرح هذه القاعدة يطول أمره وهي باختصار تقول:
-1أنّ الشياء كلّها تتكوّن من جواهر متعدّدة.
-2والجواهر هي أصغر شيء في المادّة ،ول شيء أصغر منها.
-3الجواهر حقيقة واحدة تتعدّد وليس بينها اختلف في جميع الشياء.
-4العلقة بين الجواهر في تشكيل المادّة هي علقة تجاور فقط وليست علقة تفاعل.
وقد س ّميَت هذه القاعدة مؤخّرا بقاعدة ال ّذرّة ،وعلى أساس هذه القاعدة التي أدخلت في أصول
الدّين بنى المتكلّمون (وعلى رأسهم الشاعرة) قاعدة التّحسين والتّقبيح وهي قولهم :إنّ التّحسين
والتّقبيح شرعيّان ،فالشياء التي حرّمها ال هي في حقيقتها كالشياء التي أحلّها ال وإنّما
التّحليل والتّحريم ابتلء من ال لعباده من غير علّة سابقة.
فلمّا اقتنع المتكلّمون أنّ الشياء في حقيقتها شيء واحد ،أخذوا يقولون :ما ضرورة البحث إذا؟!
ما أهميّة التّجربة في إدراك حقائق الشياء وهي في جوهرها شيء واحدٌ؟ فالحديد في حقيقته
عين النّحاس وهما عين الذّهب والفضّة ،وإنّما الختلف في العراض (المظاهر الخارجيّة
كاللون والوزن وغيرهما) ،وهذه القاعدة هي التي جعلت بعض المجاذيب (من المتكلّمين)
يسعون بشقّ النفس باحثين عن أكسير الكيمياء ،وهذا يعني أنّنا كما استطعنا استخراج روح
الورد والزّهر ،ثم وضعنا شيئا قليلً منه في بركة ماء فتحوّل الماء إلى رائحة الزّهر المُستخرَج
منه الرّوح ،ولمّا كانت حقائق الشياء واحدة فلماذا ل نستخرج روح الذّهب فنضعه على بقيّة
المعادن فتتحوّل بسبب روح الذّهب إلى ذهب.
هذه العقليّة في تفسير الكونيّات التقت في عدم أهمّية البحث والنّظر وعدم أهميّة العمل في
حصول النّتيجة كنهاية مع النّظرة الجبريّة ،فكمُلت المصيبة عند أهل السلم بالعراض عن
البحث والدّراسة والتّجربة ،ثمّ جاءت الصّوفيّة فاستغلّت ذلك كلّه وجعلت الكسل شعار الزّهّاد،
وجعلت تحطيم الرادة نهاية التّعبّد والتألّه ،وجعلت المجاذيب والمجانين هم البهاليل (والبهلول
كلمة مدح تعني الرّجل الشّجاع الحكيم الكريم ولكنّها أطلقت من قبل الصّوفيّة على مجاذيبهم
فانقلب معناها في أذهان النّاس إلى معنىً قبيح وهو المجنون).
496
ن أضلّ النّاس كلما في الكونيّات هم أهل الكلم ،وهم قادة المّة منذ القرن الخامس
ومن هنا فإ ّ
الهجريّ ،فكان خلل هذه العصور رجال الكونيّات وأئمّتها هم النّصارى واليهود والفلسفة
والزّنادقة.
أمّا لماذا الفلسفة كابن سينا والرّازي والفارابي والخوارزمي فهذا له شرحٌ طويلٌ ل يتّسع له
هذا المقام.
ولكن ،هل العلوم الكونيّة من اليمان؟ بمعنى هل المسلم البصير بأمور الخلق وسننه أكثر إيمانا
من غيره ،كما أنّ المسلم البصير بأمور الشّرع والدّين أكثر إيمانا من غيره؟.
ن الوعود اللهيّة التي
الجواب بكلّ اطمئنان ويقين :نعم ،وعندما يكون الجواب نعم فإنه يعني أ ّ
قالها ال تعالى في كتابه وقالها رسول ال صلى ال عليه وسلم في السنّة النّبويّة ل تقع إلّ
بوجود النّوع من اليمان المتعلّق بالمور الشّرعيّة والدّينيّة.
وتفسير ذلك ،أو دليل ذلك ،قوله صلى ال عليه وسلم(( :المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى ال من
المؤمن الضّعيف ،وفي كلّ خير)).
فإيمان المؤمن القويّ أقوى -لنّه أحبّ إلى ال تعالى -من إيمان المؤمن الضّعيف ،والقوّة
والضّعف تعلّقهما في الكونيّ والخلقيّ ل في الدّينيّ والشّرعيّ ،وتفسير هذا ،أنّ اليمان قول
وعمل ،والعمل ل يقع إلّ بقوّة وإرادة ،والقوّة هنا في هذا التّقسيم قاصرة فقـط على ما هو
كونيّ ،ول ينبغي أن يقال هنا قوّة محبّة ال ومحبّة الخرة ،فإن هذا النّوع من القوى داخلة في
الرادة وهي الشّقّ الثّاني المطلوب لتحقيق العمل ،فالقوّة هنا تقع على ما هو كونيّ فقط.
إذا يجب علينا أن نعلم أنّ البصر والعلم بما هو كونيّ شرطٌ لتحقيق كمال اليمان الواجب
سنّة.
لتحقيق الوعود اللهيّة في الكتاب وال ّ
كما أنّ البصر والعلم بما هو شرعيّ شرطٌ لتحقيق كمال اليمان الواجب لتحقيق الوعود اللهيّة
في الكتاب والسنّة سواء بسواء.
ولهذا النّوع من العلوم (علم الكونيّ) طرقٌ للفهم ،وقواعد للتّلقّي وأصول للتّأصيل والعمل ،كما
أنّ للعلم الشّرعيّ طرقٌ للفهم وقواعد للتّلقّي وأصول للتّأصيل والعمل.
ومن أهم هذه القواعد وأرسخها وأوضحها وأبرزها أنّ النّبوّة والنبياء لم يرسلهم ال تعالى بهذه
العلوم ،بل هذه العلوم داخلة في قوله صلى ال عليه وسلم(( :أنتم أعلم بأمور دنياكم)).
497
نعم ،ما قاله صلى ال عليه وسلم من هذه المور والعلوم والسّنن حقّ وصدق ويجب التّسليم به
واعتقاد صدقه وحقّه مثل قوله صلى ال عليه وسلم عن الذّباب(( :إنّ في إحدى جناحيه داء
ن الداء ينـزل في الليل)) ،أو مثل ما أرشد إليه من
وفي الخرى دواء)) ،أو مثل قوله(( :أ ّ
بعض أمور الطّب كقوله عن الحبّة السوداء(( :أنها شفاء من كل داء إلّ السام -الموت، ))-
وكقوله عن ماء الكماة أنها(( :شفاء للعين)) ،فهذه أمور حق وصِدق ويجب اليمان بها والتسليم
بها ول يُلتفت إلى قول من قال إن رسول ال صلى ال عليه وسلم قالها من قبيل نفسه وتجربته
كما وقع لشاه ولي ال الدهلوي في "حجة ال البالغة" ومن تابعه ،بل هي من أمور الوحي الذي
منّ ال تعالى على أمّة محمد صلى ال عليه وسلم بها رحمة بهم واليمان بها واجب والتعريض
بها ردّا وقدحا من ضعف اليمان وربّما يكون نفاقا عياذا بال تعالى.
ومن أوضح هذه القواعد في التّعامل مع الكونيّ أنها عرضة للتبديل والتغيير ،وهي داخلة في
مجال البحث والكتشاف والخذ والردّ.
والبدعة في المور الشرعيّة الدّينيّة ول تطلق البدعة على ما اكتشفه الناس وحسّنوه في المور
الكونيّة ،وهذه أمور يأخذها المرء المسلم ول يتحرّج في ذلك ،فالناس كانوا يتنقلون على أرجلهم
وعلى الدواب من حمير وبغـال وخيول ،وقد استطاع النسان أن يكشف أنظمة وسننا كونية
جعلت الوصول إلى أهدافه أيسر بكثير مما كان عليه في القديم ،وهذا باب الحديث عن أمثلتهِ
واسع جدا.
إذن :الثابت الذي يجب امتثاله وعدم تطـويره أو إدخال الرأي والهوى فيه هو الشرعي ،أما
المتحوّل فممّا له تعلقٌ بالكونيات.
فالرجل الذي يقول بتطـوير الشّريعة هو رجلٌ زنديق في دين ال تعالى لنّه يريد أن يلغي
الشّريعة ،حتّى لو كان هذا التطوير باسم التأويل الجديد ،فإن التأويل الحق هو إصابة مراد
المتكلم ،وأحقّ الناس بإصابة مراد ال ومراد رسول ال صلى ال عليه وسلم هم الصحابة
رضي ال عنهم ،فالدّين والشرع هو ما فهموه ،وما لم يكن عندهم دينا فل يجوز أن يكون فيمن
بعدهم دينا "اتّبعوا ول تبتدعوا فقد كُفيتم" ،أمّا من أراد أن يجعل الثّبات فيما هو كوني فهو أضلّ
من حمار أهله ،فإني أعجب من أقوام يزعمون أنّ استعمال الكهرباء والدوات الصناعيّة
الجديدة من البدعة ،وإني أعجب أن يكون لهم رؤوس كرؤوس البشر ،ولكن ل في خلقه
شؤون.
498
ومن هذه القواعد والصول في التعامل مع الكوني أنّها إنسانيّة التلقّي ،فحيثما وُجِدت فيجب
على أهل السلم أن يسارعوا في الخذ بها ول يُعرضوا عنها بحجّة أن مكتشفها أو صانعها
غيرُ مسلم وهذا داخل في ضالّة المؤمن من الحكمة فحيثما وجدها فهو أحق بها .أل ترون أن
رسول ال ? نهى عن الغِيلة فلمّا رأى أهل فارس والروم يفعلونها ول تضر أبناءهم نسخ نهيه
وأجاز فعلها (والغِيلة أن تحمل المرأة وهي تُرضع ابنها حيث كانوا يظنّون أنّ هذا يؤثّر على
الطفل ويخرجه ضعيف البدن).
المر بالمعروف والنهي عن المنكر:
التغيير كونا وشرعا
في باب التّغيير (تغيير المنكر) ومنه الجهاد في سبيل ال تعالى ،يكون الجهاد حكما شرعيّا
وواجبا عينيّا في حالتٍ معروفة عند أهل العلم ،فإنّه ل يجوز تغييره ول تبديله بحجج الرأي
والهوى والستحسان ،إذ لو كان هناك أفضل منه وخير لعلمّنا الشارع إيّاه وهدانا إليه وفعله
الصحابة رضي ال عنهم ،فالجهاد في سبيل ال تعالى ومقاتلة المشركين حكم شرعي وواجب
عينيّ في حالت وواجب كفائي في حالت أخرى.
فإذا قال الشارع الحكيم إن الحاكم إذا ارتدّ يجب قتاله فهذا حكم ل يدخل فيه التبديل والتغيير.
نعم هو حكم ككلّ الحكام الشرعيّة منوطٌ بالستطاعة والقدرة ،بل قد أمر الشارع بتكوين القوّة
والستطاعة وهما من باب العداد ،ولكن ل يجوز أن نبحث عن بدائل ووسائل للغاء هذا
الحكم وتطويره ،كما فعل البعض حيث سمّى الدخول في النتخابات جهادا في سبيل ال تعالى،
وجعل هذه العملية بديلً عن الجهاد في سبيل ال تعالى ،وأدخل هذا المر في باب الوسائل التي
تجيز للمسلم الختيار بينها (نعوذ بال من الخذلن).
إذن يجب الجهاد ،فمن لم يستطع الجهاد بسبب ضعف العداد أو عدمه ،فيجب العداد فإن لم
يستطع العداد فيجب عليه العتزال ((فاعتزل تلك الفرق كلّها)).
والجهاد ليس وسيلةً بل هو عبادة ،أي أن الجهاد في سبيل ال تعالى والقتال عبادةٌ من العبادات
وهو أمر شرعي ل يدخل فيه التحويل ول التطوير ول التغيير ،وما لم يكن عند الصحابة دينا
فل يجوز أن يسمى اليوم دينا.
وما هو متحول في هذا الباب وسائل القتال وأساليبه وخططه وطرقه ،فمن الجهل الذي ل جهل
فوقه ،ومن الغباء الذي ل غباء فوقه ومن أسباب دمار أهل السلم وطوائفهم أن يوجب أحدهم
499
على أهل مصر مثلً أن يحكموا أهل مصر بالسلم بفتح جديد بنفس الطّريقة التي فتحها عمرو
بن العاص رضي ال عنه ،ويرون من الخطأ والبدعة استعمال طرق وأساليب للحرب والقتال
(ولو تعلّمناها من غير أهل السلم) في إقرار حكم ال تعالى على هذا البلد.
ولو ل أني قرأت شيئا من هذا عن بعضهم لما ظننت أنّ أحدا من البشر (بله أهل السلم) يفكّر
بمثل هذا التّفكير ويقول مثل هذا القول الخطير.
صرُ الخذ في أساليب الحرب وطرقها وعلومها على أهل السلم
ومن فهم من كلمي أنّي أَق ُ
فقد فهِم كلمي على نحوٍ خطأ ول شكّ .لكنّي أعتقد أنّ السّيرة النّبويّة غنيّة غناءً ل مثيل له في
إدراك سنن التّغيير وقواعد التّعامل مع الحداث.
السّيرة النّبويّة فيها الحرب الصّداميّة الشّاملة (مثل بدرٍ وأحد).
السّيرة النّبويّة فيها الغتيال وتصفية الرّؤوس (قتل كعب بن الشرف وغيره).
السّيرة النبويّة فيها العقود والمعاهدات (مثل صلح الحديبية وعقد الرسول عليه السلم المان
لليهود أول هجرته).
السّيرة النّبويّة فيها النقلب والتّغيير الرّأسيّ الشّامل (حادثة فيروز الدّيلمي رضي ال عنه مع
السود العنسيّ في اليمن).
السيرة النبوية فيها جهاد الدفع كما في غزوة أحد وغزوة الخندق ،السيرة النبوية فيها جهاد
الطلب كفتح مكة وغزوة حنين بل أن مؤتة وتبوك وغيرهما قد اجتمع فيها الدفع والطلب
والتشريد..
السّيرة النبويّة فيها نظام {وشرّد بهم من خلفهم}( .مثل ما وقع في غزوة حمراء السد ومعركة
مؤتة وغزوة تبوك).
وهكذا فهي تجربة غنيّة تمل نفس المسلم وتغني باطنه وتعمره بوجود المثال الصّالح لغلب
أحداث الحروب وطرقها ،ولكنّ كتب السّيرة النّبويّة صارت كتبا للتّبرّك ل كتبا للعلوم والمعرفة
فحسبنا ال ونعم الوكيل.
ن هذه العلوم ممّا ينبغي أن
فعلوم الحرب وطرقها ووسائلها علومٌ إنسانيّة مشاعة ،شئنا أم أبينا فإ ّ
نبكي على أهل السلم لعراضهم عنها وهي علوم تنشأ بالتّجربة والطّلع وحدة العقل
الرّاغب في هذه العلوم ،وتؤخذ من مظانّها التي يعرفها أهل البحث والنّظر.
500
وقد يقوى لها الفاسق ويضعف عنها التّقيّ وحينئذٍ سنشكو كما شكى عمر بن الخطّاب رضي ال
عنه حين قال :اللهم إنّي أعوذ بك من عجز التّقيّ وجلد الفاجر.
وأنا لست من أهل هذا الفنّ ول من أصحاب علومه المفاريد حتّى أنصح وأقوّم الكتب الرّائعة
في هذا الباب ،وأقصد ما عمله أهل السـلم في اكتشاف علوم الحرب وقواعدها من خلل
السّيرة النّبويّة ،ولكنّي رأيت عامّة من كتب في هذا الباب إنّما تأسّست معارفه وعلومه في فنّ
الحرب من الدّراسة خارج السّيرة ،فلمّـا قرأ السّيرة نعى على النّاس وخاصّة أهل السلم
إعراضهم عن هذا النّبع العظيم ،ومن هؤلء الممدوحين في هذا الباب محمود شيت خطّاب في
أغلب كتبه ،وكذلك ما كتبه العسكريّ الباكستانيّ عن خالد بن الوليد ،وما كتبه تنويها بهذا المر
منير شفيق في كتابه "في نظريّات التّغيير" وإن كانت سيّئات الكتاب أكثر بكثير جدّا من حسناته
وإنّما أشرت إلى تنويهه لقيمة السّيرة النبويّة في هذه العلوم ،والرّجل له كتاب عندما كان
شيوعيّا ماويّا في فنّ الحرب((أقول :وما كتبه العلمة بسام العسلي أعمق ما كتب في هذا
العصر وخاصة في قادة الفتح السلمي والقادة المراء والخلفاء وكذلك في كتابه الضخم فن
الحرب السلمي )) وما كتبه الخ عمر عبد الحكيم في القسم الثّاني من كتابه "الثّورة السلميّة
الجهاديّة في سوريا" والذي حرص فيه أن ينبّه إلى أهميّة هذا البحث وليس فقط ما اقتصر
البعض عليه من قـراءة السّياق التّاريخيّ لمأساة جماعات البدعة على الجهاد في سوريّا الشّام،
وما ذكـر فيه من قواعد اختصّ بهـا دون غيرها من الكتب ا لمتقدّمة في البناء المنهجيّ
لجماعات الجهاد المعاصرة فعلوم الكونيّات تؤخذ من أصحابها المتفقّهين فيها ول تؤخذ من غير
أهلها ،فإذا وقعت الموازنة بين الفاسق أو الكافر العالم لهذه العلوم وبين المسلم الصّالح الجاهل
في هذه العلوم فإنّ واجب التّرجيح يكون مائلً إلى أصحاب هذه العلوم من غير تردّد.
نعم :أمانيّنا أن يجتمع البيان والدّين مع القوّة والفنون الما ّديّة ،ولكنّها أماني أظنّ أنّنا فقدناها
قديما في أهل السلم ،ول حاجة لذكر ما ذكره ابن تيمية رحمه ال تعالى من حصول هذا
الفتراق في زمانه ،ولكن وما ذلك على ال بعزيز.
س والتّجربة والعقل ،ومن رام دليل هذه العلوم في
وممّا يجب أن يُعلم أنّ هذه العلوم دليلها الح ّ
سنّة من غير العمـومات فهو جاهل ل يفهم دين
كلّ أحداثها وقواعدها وأصولها من الكتاب وال ّ
ال تعالى ،نعم هي داخلة في عمومات الشّريعة التي تُبيح لنا تعلّم هذه العلوم من غير طريق
النّبوّة (الوحي) كالسّير في الرض والنّظر والبحث و((أنتم أعلم بأمور دنياكم)).
501
فمثل هؤلء الطّالبين لدلّة ما هو كونيّ ممّا هو شرعيّ يذكّروننا بقصّة ذكرها ابن حزم في
بعض كتبه وأظنّ أنّه "طوق الحمامة" ،تقول القصّة :إنّ رجلً مغفّلً من أهل الحديث ركب
ل نصرانيّا يحمل زجاجات خمر ،فتقدّم منه المحدّث المغفّل وسأله عمّا هو
سفينة فرأى رج ً
داخل الزّجاجات .فقال :هذه زجاجات خمر.
فقال المحدّث :ما دينك؟ .قال الرّجل :نصرانيّ .قال المحدّث :ممّن اشتريتها؟ .قال الرّجل :من
يهوديّ.
فأهوى المحدّث بيده على قارورة منها فشـربها ،فتعجّب النّصرانيّ وقال له :أقول لك هي خمر
وتشربها؟!!.
فردّ المغفّل :يا هذا يأتيني الحديث عن فلن وفلن (وذكر أسماء جماعة من كبار أهل الحديث)
فأردّه ،أفآخذ بقول نصرانيّ عن يهوديّ؟!.
ما يهمّنا كون المحدّث شرب الخمر وبالتّالي سيَسكر ولن تنفعه مهارته المزعومة ،ول احتياطه
المقلوب ،ول منطِقُه المعكوس ،وهذا من فساد المتنطّعين في ظنّهم أنّ إتقان علمٍ من العلوم
وقاعدة من القواعد لقضيّة من القضايا كافية للفتوى والجواب على أيّ مسألة في الدّين والدّنيا،
طبّ ،وخبير الكمبيوتر يتحدّث ويُفتي في علم
فمصلّح السيّارات يُفتي في إصلح البدان وال ّ
الحديث ،وللسف فإن هذا كلّه ل نراه إلّ عند أهل السلم لنّنا ما زلنا نفكّر بمنطق أرسطو
الذي علّمنا الكليّات الجامعة لكلّ العلوم سواء كانت المعارف كونيّة أو من العلوم الشّرعيّة.
أليس من المعيب حقّا أن يُفتي شيخٌ في علم الحديث لرجل يعيش في البوسنة زمن الحرب أن ل
يقاتل حتّى يصل الصّربيّ باب بيته ؟!!.
ثمّ أليس من المَعيب أن يظنّ مف ّكرٌ أو بصير في علمٍ من العلوم الكونيّة أنّ قواعده الكليّة وروح
السلم العامّ ترشده إلى إدراك الحكم الشّرعيّ في أيّ مسألة من المسائل ،حتىّ تصحيح
الحاديث وتضعيفها يدخل في باب روح السلم وقواعده الكليّة ؟!!.
نعم :ديننا ليس فيه كهنوت ،وليس فيه فاتيكان ،وليس فيه بابا ،ولكن أليس في ديننا شيء يسمّى
طلب العلم ؟!!.
أم أنّ الجوهر واحد والختلف في العراض فقط ؟!!.
الفصل الول
مفاهيم ومصطلحات
502
"المقصد الشرعي من وضع الشريعة ،إخـراج المكلف من داعية هواه ،حتى يكون عبدا ل
اختيارا كما هو عبدٌ ل اضطرارا"
الشاطبي
ما هي السّلفية ؟ !
السّلفية على مدار التّاريخ السلمي تتمثّل بأمرين:
أولهما :منهج علمي في التّعامل مع الصلين (الكتاب والسنة) حيث تقوم على اعتمادهما فقط
ونبذ ما سواهما في الصّدور عنهما بالحكم المراد للحركة والحياة.
ثانيهما :حركة حياة وسلوك طريق في تطبيق هذا المنهج.
فالسّلفيّة هي ذلك المنهج الّذي اختطّه الوائل من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم علما
وعملً ،هكذا هي السّلفية وهكذا ينبغي أن تكون ،ومن رحمة ال تعالى بهذا المنهج العلميّ
العمليّ أن أقام له رجالً تعاملوا معه بأسمى حالت الكمال حتّى صاروا هم المنهج ،والمنهج
هم ،فحينئذٍ ارتبط اسم المنهج بشخوصهم وتقيّد بهم فأطلق اسم المنهج عليهم بكونهم السلف
الّذين سبقوا الكلّ في تطبيق المنهج قدْرا وزمانا.
فالتّابعون تعاملوا مع أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم على أنهم( :منهج وسلف) ،ومن
بَعدَهم تعامل مع التّابعين على أنهم( :منهج وسلف) ،وهكذا ،ولمّا كثرت البدع في نهاية القرن
الثّاني وبداية القرن الثّالث ،وخاصّةً بدع أهل الكلم ،في تقديم منهج بدعيّ جديد في التّعامل مع
الصلين ،واختلطت المور ،نشط أهل السنّة في تمييز المنهج عن غيره ،وكذلك في كشف
رجال المنهج السّلفي عن غيرهم من أصحاب المناهج الخلَفيّة الخرى ،وصار بعض أهل العلم
هم أصحاب المنهج ،ولهم ينسب ،وصاروا هم المقياس في ردّ الخرين لهم ،وقد ذكر المام
الكرجي -رحمه ال تعالى -هؤلء الرّجال في كتاب سمّاه" :تنقيح الفصول في الصول عن
الئمّة الثنى عشر الفحول" ،وهؤلء الئمة هم :مالك والشّافعي وسفيان الثّوري وعبد ال بن
المبارك ،والليث بن سعد واسحق بن راهويه وأحمد بن حنبل وسفيان بن عيينة والوزاعي
ومحمّد بن إسماعيل البخاريّ وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان)1( .
هؤلء العلماء ليسوا هم فقط ،ولكن غيرهم يرجع إليهم في توضيح هذا المنهج القويم .وبعد هذا
نخلص إلى النّتائج التّاليــة:
503
- 1تحت كلّ شعار زيوف ونقد -وكذلك السّلفية -ففيها الزّيف وفيها الحق ،ولذلك ينبغي
التّعامل مع الحقائق ل مع الشّعارات ،مع أهميّة الشّعار وضرورته.
- 2السّلفية منهج علميّ عمليّ ،أئمّته هم أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم وغيرهم تبع
لهم ،فلهم وحدهم حقّ التّقويم والرشد.
- 3علينا أن ندرك خطأ وانحراف من قرن السّلفية بشخص ل يؤمن عليه الفتنة في فهمه
للحركة والحياة ،وكذلك علينا أن ندرك ضلل وبدعية من جعلها تنظيما وحزبا وتجمعا ،وأشدّ
من هؤلء ضللً وانحرافا هو جعل السّلفية علقة بين أفراد ،فهذا سلفيّ لنّه معروف لهذه
الجهة ،أو تتلمذ على يديها ،وهذا غير سلفيّ لنّه غير معروف لديها ،أو لم يسلّم لهذه الجهة
رقبته لتقوده كالدّابّة ،ثمّ علينا أن ندرك خطأ وانحراف من جعل السّلفية مذهبا فقهيا ،يوالي
ويعادي عليه.
إن منهج السّحرة هو تزييف الحقائق وتمويهها على النّاس ،والسّحرة في كلّ زمان إما أن
يغيّروا صورة الشياء في البصار عن طريق التّخْييل الشيطاني ،وإما أن يغيروا حقائقها في
الذهان عن طريق السّحر البيانيّ ،وقد حذّر النّبيّ صلى ال عليه وسلم من هاتين الطّائفتين أشدّ
التحـذير ،ونبّه المّة إلى خطرهما وعظيم أمرهما ،وقد علم أهل السنّة أن أعظم السّحرة على
مدار التّاريخ النساني هو الدّجال ،الّذي سيخرج آخر الزّمان بما معه من شعوذات ومخاريق
يفتن بها النّاس عن توحيد ال سبحانه وتعالى ،وقد جاءت الحاديث الكثيرة الّتي تكشف
للمؤمنين أمره فل يغترّوا به ،ول يلتبس عليهم حاله ،وفي حديث لرسول الرحمة والملحمة
صلى ال عليه وسلم يجمع فيه التحذير من هاتين الفرقتين :سحرة التّخييل وسحرة البيان :فقد
ذكر المام أحمد رحمه ال في مسنده حديثا فيه التّحذير من أمر الدّجال ،وذكر فيه قول النّبي
صلى ال عليه وسلم(( :غير الدجال أخوف على أمّتي من الدّجال ،الئمة المضلّون)))2( .
في هذا الحديث إرشاد نبويّ إلى وجوب كشف الئمّة المضلّين ،كما كشف رسول ال صلى ال
عليه وسلم أمر الدّجال بجامع فتنتهما.
وإذا كان الدّجال أعظم فتنة تقع في الدّنيا كما جاء في بعض الحاديث ،فإن هذا الحديث يبيّن أن
الئمّة المضلّين أشد فتنة وأكثر سوءا وأعظم إفسادا .فمن هم الئمة المضلّون؟.
المام :هو المرء المتبوع ،سواء كان هذا المتبوع في أمر علميّ أو أمر عمليّ ،قال تعالى:
{وأطيعوا ال وأطيعوا الرّسول وأولي المر منكم} النساء ،وقد ذكر ابن كثير -رحمه ال تعالى
504
-تفسير العلماء بقوله :أولي المر وخلفه في تعيينهم هل هم العلماء أم المراء؟ ثمّ خلص إلى
القول أنّها عامّة في كلّ من العلماء والمراء.
فالئمّة المضلّون هم المراء الضّالّون والعلماء الضالّون ،وهاتان الفرقتان ربط رسول ال
بصلحهما صلح النّاس وبفسادهما فساد النّاس ،وهما كما قال ابن المبارك رحمه ال تعالى:
وأحبار سـوء ورهبانـها ل الملوك
وهل أفسد الدين إ ّ
فساد المراء :روى المام البخاري في صحيحه أنّ امرأة من أحمس سألت أبا بكر الصدّيق
فقالت :ما بقاؤنا على هذا المر الصالح -أي السلم -الذي جاء ال به بعد الجاهليّة؟ قال:
بقاؤكم عليه ما استقـامت بكم أئمّتكم .قالت :وما الئمّة؟ .قال :أمَا كان لقومك رؤوس وأشراف
يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت :بلى .قال :فهم أولئك النّاس.
فصلح المراء بقيامهم على أمر السلم ،وتطبيقهم شريعة الرحمن ،ونشرهم العدل في
الحكام ،وفسادهم بتركهم دين ال تعالى ،وبعدم إقامته في النّاس ،وقد علّق أبو بكر رضي ال
تعالى عنه فساد النّاس بفساد الئمة .ما استقامت بكم أئمّتكم .قال الحـافظ بن حجر -رحمه ال
-في "فتح الباري" في شرحه لهذا الحديث :لنّ النّاس على دين ملوكهم ،فمن حاد من الئمّة
عن الحال مال وأمال .ا .هـ.
ومن أجل أهمية المراء وقيمتهم في الحياة فإنّ الشّارع الحكيم أمر المسلمين وحثّهـم على
مراقبتهم من أجل تقويم اعوجاجهم ،ولو أدّى هذا إلى حصول الضّرر على النّاصح المقوّم ،قال
صلى ال عليه وسلم(( :أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر)) )3( ،وهذا كلّه في الحاكم
المسلم ،أما الحاكم الكافر فقد وجب على المسلمين خلعه وإزالته ،قال القاضي عياض :فلو طرأ
عليه -أي المير -كفر وتغيير للشّرع أو بدعة خرج عن حكم الولية وسقطت طاعته،
ووجب على المسلمين القيام عيه وخلعه .ا .هـ.
فساد العلماء :روى الشيخان عن عبد ال بن عمرو بن العاص رضي ال عنه مرفوعا أنّ
رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إن ال تعالى ل يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد،
لكن يقبض العلم بقبض العلماء حتّى إذا لم يبق عالما اتخذ النّاس رؤساء جهّالً ،فسئلوا فأفتوا
بغير علم ،فضلّوا وأضلّوا ".
ق والصواب ،وإرشادهم للهدي الصّحيح ،وتحذيرهم من
فصلح العلماء في تعليم النّاس الح ّ
الحكام والتّصورات الفاسدة ،وفسادهم بالفتوى الجاهلة ،والهدي الباطل ،والقول الفاسد ،فإذا
505
أفتى العالم بالهوى والجهل فإن قوله يفسد النّاس ويضلّهم كما قال صلى ال عليه وسلم في
الحديث السّابق (فضلّوا وأضلّوا).
وقد فرّغ كثير من أهل الذّكر نفسه لذكر نماذج من الئمّة الصّالحين ،وكيف كان لفعالهم
وأقوالهم الثر الطّيب ،والخير الذي يصيب العباد والبلد ،ونماذج العلماء الذين وقفوا أمام حيف
الئمّة المراء وظلمهم وفسادهم ،وكذلك نماذج المراء الصّالحين الّذين سطروا بفعالهم دفاتر
الخير والنصر على مدار التاريخ السلمي ،ولكن كل هذا لم يخل من ذكر نماذج من الجهة
المقابلة ،جهة أمراء الضلل ،وعلماء الضلل ،وسأذكر أركان علماء الضّلل الّذين وقفوا أمام
الحقّ ،وحاولوا مزايلته ،أو أنهم حاولوا استغلل عمائمهم من أجل نشر الرذيلة الفكرية بين
النّاس ،وهي أركان تعين الشّاب المسلم الن وغدا في كشف هؤلء القوم ،وهذه الركان الّتي
سأسوقها هي الركان الّتي حذّر منها أهل السنّة والجماعة في أقوالهم ومصنّفاتهم ،ولم أزد
سوى أني جمعتها على هذه الصورة:
( - )1انظر "درء تعارض العقل والنّقل" لبن تيمية (ج .)98-2/95
( - )2سنده صحيح.
( - )3رواه أحمد بسند صحيح عن أبي أمامة.
مـن هـم علماء الضلل؟
- 1الـصوفية:
قال المام الشّافعي :ما تصوّف رجـل عاقـل أول النّهار وأتت عليه صـلة العصر إلّ وهو
مجنـون .ا .هـ)1( .
والصّوفية فرقة ضالّة منحرفة ،تلبست بمسوح السلم ،وادعت العمل بالشريعة ،وهي في
حقيقتها وجوهرها قائمة على أصول شركية منحرفة ،ولم تعرف هذه الفرقة بعقائدها ول
بعباداتها في الصّدر الول الممدوح من قبل رسول ال صلى ال عليه وسلم بقوله(( :خير النّاس
قرني ،))...وهي في كلّ زمان تتلوّن بأثواب جديدة ،ولعلّ أكثر الفرق انحرافا في هذا الزّمان
فرقة الحبشية ،وهم أتباع الضّال عبد ال الحبشي المقيم في لبنان ،ومن أعظم انحرافاتهم بعد
كونهم صوفية كلمية موالتهم للطّواغيت ،قال عدنان الطرابلسي ،وهو نائب في مجلس الشّرك
(ال ّنوّاب) اللبناني .وهو ممثّل الحبشيّة في البرلمان ،والفرقة لها جمعية هناك تسمّى جمعيّة
المشاريع الخيرية .يقول هذا الضّال المخرّف :إننا لسنا من الصولية السّلبية!! هذه الصولية
506
المزعومة المراد منها الكرسيّ والزّعامة والتّخريب ،ل لهذه الصولية الّتي تكفر حكّام العرب
المسلمين لمجرّد أنّهم حكموا بالقانون من غير أن يعتقدوا أن القانون خير من القـرآن ،ل لهذه
الصولية الّتي تقتل العسكري أو رجل الدّولة ،لمجرّد أنّه ينفذ حكم القانون .انتهى كلمه
الضّال.
وهذه الفرقة الخبيثة بدأت تغزو كثيرا عقول الشّباب المغترب في أوروبّا وأمريكا وأستراليا ،مع
ما لهذه الفرقة من أثر سيّء في لبنان حيث كانوا هم اليد القذرة الّتي تنفّذ سياسة الدّولة الخبيثة
الكافرة سوريا ،ولذلك فإنّي أنصح الخوة في كلّ مكان أن يحذروا هذه الفرقة ويحذّروا منها
الشّباب لئل يقع في حبالهم ،وهذه الفرقة لها طريقة خبيثة في جذب الشّباب إليها ،فهي أوّل ما
تبدأ معهم في تكفير الئمّة العلم كابن خزيمة والجرّي وعبد ال بن أحمد بن حنبل
والبربهاري وابن تيمية وابن القيّم ومحمّد بن عبد الوهاب وسيّد قطب وغيرهم من أئمّة الهدى
والدّين.
وكثير من الفضلء العلماء يقع في الوهم والخطأ حين يقسّم الصّوفيّة إلى قسمين أو أقسام ،فيظنّ
أن هناك صوفية سنّية وصوفيّة مبتدعة .ولعلّ هذا التقسيم جاءهم من عدم دراستهم المتعمّقة
للصّوفية كما هي عند أصحابها ،لن الصّوفيّة أنفسهم يرفضون هذا التّقسيم ،ويتعاملون مع
الجميع على أنّهم طائفة واحدة ل طوائف على اختلف مشاربهم ومشايخهم وطرقهم .وبدراسة
متأنّية نستطيع أن نجزم أن الصّوفيّة هي تلك التّربة النّجسة الّتي نمت فيها ومنها الكثير من
أفكار الضلل والنحراف كالشّيعة الرّوافض ،وأهل الكلم الزّنادقة وغيرهما .وقد يقع بعض
ن الصّوفي هو ذلك الرجل الذي ينتسب إلى صوفيّة،
أهل الخير كذلك في خطأ آخر حين يظنّ أ ّ
ن الصّوفية تعدّت كونها ابتداعا في العبادات والنّسك ،إلى
أو مشيخة صوفية ،وهذا حق ،لك ّ
كونها طريقة حياة ومنهج تفكير ،وأسلوب عمل .ولذلك قد يقع بعض من يكثر حديثه عن بدع
الصّوفية وانحرافاتهم في منهـج التّفكير الصّوفي في فهمه للحركة والحياة.
الصّوفية طريقة منحرفة ،أفرزت في حياة المسلم طريقة حياة ،ومنهج حركة ،علوة على أنها
دين يحمل عقيدة تصورية مبناها على وحدة الوجود ،وطريقة عبادة ،فيها من بدع الخلوة
والجوع والسّهر ،وإنّ كثيرا من الفضلء تأثّروا بالمنهج الصّوفي في التّغيير والحركة ،ولعلّ
أوضح عبارة أطلقت في هذا الزّمان عبّرت عن هذا المنهج الصّوفيّ هي الكلمة الّتي صارت
شعارا لبعض التّجمعات والتّنظيمات السلمية ،هذه العبارة هي" :أقيموا دولة السلم في
507
قلوبكم ،تقم لكم على أرضكم" .وكذلك مثل هذه الدعوة أصحاب دعوة التصفية والتربية،
بالمفهوم التّربوي الّذي يطرحه أتباع هذه الشّعارات ،وقد استساغ بعضهم أن يسمّي بعض
الجماعات أو الشّخصيات بأنّه سلفيّ العقيدة ،إخوانيّ الطريقة ،وهو لفظ شاع وانتشر للدّللة
على بعضهم بأنّه لم يتلبّس بالسّلفية الشّاملة ،فإنّنا نستطيع بكلّ جرأة أن نسمي أصحاب هذا
الشّعار" :أقيموا ...تقم "...وهم أصحاب التّغيير عن طريق التصفية والتّربية أنّهم :سلفيّة العقيدة،
صوفيّة المنهج.
هذا مع تنبيهنا الضّروري على أنّ هذه الثّنائية المتناقضة ل وجود لها على أرض الواقع ،إذ ل
يمكن للرّجل أن يكون سلفيّا في عقيدته كما يزعمون وإخوانيّا في طريقته ومنهجه ،كما أنّه ل
يمكن كذلك أن يكون سلفيا في عقيدته وصوفيّا في طريقته ومنهجه ،والسبب الّذي يدعو هؤلء
القوم إلى هذا التقسيم الخرافيّ ،هو أنهم لم يفهموا من السّلفية إل شيئا جزئيا في البناء الشّامل
للمنهج السّلفيّ ،مثل ظنّهم أن السّلفي هو من يعتقد بمنهج السماء والصّفات اللهية على طريقة
الوائل من أئمّتنا ،فظنّهم هذا يدعوهم أن يقولوا عن فلن أنّه سلفيّ في عقيدته (عقيدة السماء
والصّفات) وإخوانيّ الطّريقة والمنهج ،مع أن السّلفيّ لم يكن يوما من اليام شعاره الّذي يتميّز
به عن غيره موضوع عقيدة السماء والصّفات فقط ،بل السّلفي هو ذلك الشّخص الّذي يحمل
المنهج الشّامل في عقيدة التّوحيد بشقّيها :توحيد الشّرع وتوحيد القدر ،ويحمل المنهج الشّامل في
توحيد التّباع ،كما بسط هذا في مواطن عديدة من كلم الئمة الهداة كشيخ السلم ابن تيمية
رحمه ال تعالى وغيره .لكن ل بأس من استعمال طريقة هؤلء المحرّفة في هذا التّقسيم
الثّنائي :سلفيّ العقيدة ،صوفي المنهج ،حين ل يكون أمامنا إل أن نسلك الصّعب من الفكار مع
هذا الغثاء الذي يمل الفضاء ممّن تغرّهم الشّعارات ،وتستهويهم لعبة اللفاظ والعبارات.
( - )1ذكره ابن الجوزي في صفة الصّفوة وفي تلبيس إبليس.
صوفيّة أقيموا دولة السلم في قلوبكم تقم لكم على أرضكم
الصّوفيّة في تاريخها مع المسلمين بنت نفسها على بعض الركان المنحرفة من العقائد الزّائغة
التي انتسبت للسلم زورا وبهتانا ،وأهمّ هذه الركان المنحرفة الّتي استغلّتها الصّوفية عقيدة
الرجاء ،وهي مناقضة لتوحيد الشّرع ،وعقيدة الجبر وهي مناقضة لتوحيد القدر ،وخلصة
ي تصوّر
عقيدة الرجاء المنحرفة أنّها تقدّم إسلما بل تكاليف ،وتجعل مناط التّكليف اليمان ّ
القلب واعتقاده ،وأمّا أعمال الجوارح فليست إل مظهرا ل قيمة له في عالم الحقائق ،فهي عقيدة
508
تدفع صاحبها دوما إلى النتكاسة نحو الدّاخل (القلب) دون الهتمام بحركة الجوارح ،ولمّا كان
لبد من أن تقدّم هذه العقيدة تفسيرا لحركة الحياة وما نراه من الرتباط السنني الظاهر فإنها
لجأت إلى عقيدة الجبر ،وهي تفسير حركة الحياة تفسيرا غيبيّا خرافيّا ل وجود له في الحقيقة،
وتجعل وقوع القدار مربوطا بالباطل الرجائي ،ول قيمة للظاهر من أعمال الجوارح ،وقد علم
المسلم المبتدئ أن حركة القلوب ليست هي المؤثّر في حركة الحياة ،بل المؤثّر هو حركة
الجوارح ،مع علمه الكيد أن حركة الجوارح ل تقع إل بحركة القلب (إرادات الباطن) ،وحين
نفسّر هذه الكلمات المثال نقول:
إذا أراد النسان -أيّ إنسان -أن يبني بيتا ،فإن البيت ل يُبنى إلّ بحركة الجوارح ،بكلّ ما
يطلب هذا البيت من أركان وشروط وتحسينات ،مع أن هذا النسان ل يمكن أن يبني البيت إل
إذا أراد ذلك ،والرادة هي حركة القلب ،لكن ل يصح أن يقول قائل :إن الّذي يبني البيت هي
الرادة ،بل الصّحيح أن الرادة هي التي تنشئ العمل ،الذي هو حركة الجوارح وبالعمل يُبنى
البيت ،وكلّها من حركة النسان :من إرادة قلبية وعمل الجوارح ،فالنسان يريدها في قلبه،
ويعملها بجوارحه ،وليس هو مكلّف بإرادة القلب ليقوم غيره بعمل الجوارح.
ولنعد الن إلى العبارة المصيبة :أقيموا دولة السلم في قلوبكم.
هذا الشّقّ من العبارة يبيّن لنا أن المكلّف بإقامة دولة السلم هو القلب (النتكاس نحو الداخل)،
مع أن الواجب أن نقيم دولة السلم بجوارحنا ،أي عن طريق حركة الجوارح الّتي تؤثّر في
حركة الحياة ،أي أن نقيمها في الخارج ،وكان لنا أن نحسن الظنّ بهذه العبارة البدعيّة الضّالّة،
لو لم يأت الشّقّ الثّاني جازما لنا أن ل نحمل معناها إل على هذا المعنى البدعيّ الضّال ،فلو
قال القائل :أقيموا الدولة في قلوبكم (بإرادتكم الجازمة) لتقيموها (بجوارحكم العاملة) في
أرضكم ،لقلنا له صدقت ،ولما عَدَت أن تكون هذه الكلمة مفسّرة لحركة الحياة القدرية ،ولن
تكون بحال من الحوال شعارا لمنهج شرعه صاحبه لينصح به أتباعه بسلوكه واتّباعه.
لكن الشق الثاني حدد لنا المراد بما تقدم من الفهم المنحرف ،لنّه قال :تقُم على أرضكم .ولو
سألناه من سيقيمها لنا على الرض؟ فلن يكون الجواب أبدا نحن ،لننا نحن مكلّفون فقط بأن
نّقيمها في قلوبنا ،بل الجواب المجزوم بقوله هو :ال .وهذا الجواب مع ضلله الشّرعي
ومخالفته لمر ال ،إل أنه للسف يستهوي بعض النّاس حين يظنّ أن في ذلك تعظيما لشأن ال
تعالى ،وما درى أنّه استخفاف بتوحيد ال سبحانه وتعالى ،وهو جواب جبريّ يناقض توحيد
509
القدر وأوصل إليها كما تقدّم :الضلل في توحيد الشّرع حين جعل حركة الجوارح ليست هي
المطلوبة في الشّريعة .بل المكلّف بذلك هو القلب وهو قول مذهب أهل الرجاء الضّال..
فالعبارة كما هي عند أصحابها :أقيموا دولة السلم في قلوبكم (إرجاء بدعي) تقم لكم على
أرضكم (جبر بدعيّ).
والن أين هذا من دين الصّوفية؟.
شعار الصّوفية الذي يسعى الصّوفي الملتزم لتحقيقه ،هو خروجه من إنسانيته ،بتحرره من
الرادة ،ومن أهم الشّعارات لديهم :أريد أن ل أريد ..وعامّة مجاهداتهم الباطلة تسعى إلى هذا
المقام ،وهو تحرره من الطّباع النسيّة ،وهي الّتي يحلو لهم ،ولبعض من تأثّر بهم أن يسمّيها
بالبهيمية :ومن أمثلتها :حبّ النّساء ،شهوة التّملّك والقتناء ،حاجة المأكل والمشرب والملبس،
فطرة الجتماع والمدنيّة والعمران ،وهي أمور بشرية فطرية ل يمكن للنسان أن ينخلع منها،
ي الدائم إلى التّحرر منها أوصله إلى الجنون ،وهو الّذي
ول أن تذهب عنه ،لكن سعي الصوف ّ
لحظه المام الشّافعي قديما فيهم حين قال :لم يتصوّف رجل عاقل قط واتت عليه صلة العصر
إلّ وهو مجنون ،فالصّوفي يسعى إلى تحرره من الرادة البشرية فيه ،ولما دخلت الصّوفية إلى
السلم حاولت أن تجد لها الدّليل السلمي لبدعتها هذه ،لتستخدمه في نشر أفكارها وشعارها،
فكان مذهب الجبر هو خير معين على ذلك ،وخاصة حين صار الجبريّة ،وهم الشاعرة ،أئمّة
المسلمين في عصور التّخلّف والنحطاط ،والشاعرة يقولون بمذهب الكسب ،وهو يعني احترام
وجود إرادة قلبية للنسان ل تأثير لها ول قيمة لوجودها ،أي إرادة غير مؤثّرة.
صوفية دعاة التّصفية والتّربية:
ي الصّوفي سلفي
دعاة التّصفية والتّربية ،صوفية المنهج والطّريقة ،وللطّرافة فإن هذا السّلف ّ
مزعوم يلتقي مع الصّوفي في نقاط عمل كثيرة تجمع بين منهجيهما ،ومن هذه النّقاط:
- 1الصّوفيّ شعاره :السّياسة تياسة (نسبة للتّيس وهو لفظ يطلق للدّللة على الغباء) ،والسّلفي
المزعوم شعاره :من السّياسة ترك السّياسة (قالها السّلفي في بعض أشرطته) ،فكلهما يحرّم
السّياسة على أتباعه ،ويجعلها رجسا من عمل الشّيطان.
- 2الصّوفيّ شعاره :كلمنا إمّا فوق السّماء ،وإما تحت الرض ،ويعني بها أنّ حديث
الصوفي ل ينبغي أن يكون إلّ في أمور الغيب (فوق السّماء :كالملئكة والعرش) وتحت
الرض (القبور والموات) ،وهو يدل على أنّه ل ينبغي للصّوفي أن يتحدّث في شؤون الحياء
510
لنّها تشتّت الهمّة ،وتفرّق القلب ،وتحبّب الحياة الدّنيا ،والسّلفي المزعوم شعاره ودينه محاربة
الموات من أصحاب القبور ،وأتباع البدع المنسيّة الغائبة.
- 3شعار السّلفي المزعوم المعاصر :دع ما لقيصر لقيصر وما ل ل (قالها محمد شقرة ،وهو
سلفي مزعوم في كتابه "هي السّلفية") ،والصوفي هو الّذي نشر في أمّتنا مقولة :قيصر ظلّ ال
في الرض ،من أهان سلطان ال أهانه ال.
التّصوّر الصّحيح لمفهوم التّصفية والتّربية عند أهله وأصحابه ،في حقيقته صورة جديدة
للصّوفية في مفهومها للتّربية ،وقبل أن نستعرض هذا المفهوم الخاطئ ،علينا أن نتكلّم عن
مفهوم التّربية في الطّرح السننيّ المهتدي ،كما هو مفهوم من الكتاب والسنّة ،ثمّ بعد ذلك نرى
قرب الفهم الجديد لهذا المفهوم السننيّ المهتدي .التّربية في الكتاب والسنّة:
قال تعالى{ :هو الذي بعث في المّيين رسولً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب
والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلل مبين} الجمعة .فهذه اليات ومثلها الّتي في البقرة ()129
وآل عمران ( ،)164تدلّ على أن عنوان البعثة النّبوية تحقيق التّزكية في نفوس أتباع الشّريعة
المهديّة ،والتزكية هي التطهير ،وهي البراءة من النّقائص واجتناب الرّذائل ،ومجمل شريعة
مجموعة في الية السّابقة وهي: محمد
- 1تلوة الحقّ على النّاس /البلغ.
- 2التّزكية /التطهير /التربية.
- 3تعليم الكتاب والسنّة /الفقه.
وقد علم الطالب المبتدئ في ديننا الحقّ أن السلم هو استماع الحقّ ،ومعرفته والعمل به ،أي:
استماع -علم -عمل .وهي نفسها المذكورة في الية تلوة وتعليم وعمل .وقيام العلم في
النسان دون العمل مذموم في الكتاب والسّنة ،كذلك قيام العمل دون العلم مذموم في الكتاب
والسنّة ،وأدلة ذلك مبسوطة في كتب العلم.
فما هي التّزكية إذا؟.
إنّها ممارسة المر.
ومعنى ذلك أن المتبع لهدي السلم هو مَن تربّى وتزكّى بامتثاله لمر ال تعالى ،ومثاله أنّ من
أراد تربية نفسه وتزكيتها فعليه أن يطبق أمر ال تعالى ،ومعلوم أن كلّ أمر له أثر تربوي
511
خاصّ به ،فللصّلة أثر تربويّ ل يحدثه الصّيام ،كما للصّيام أثر تربوي ل تحدثه الصّلة،
وللزّكاة أثر تربويّ ل يحدثه الصيام ول الصّلة ،وهكذا.
فالتّربية تقع من النسان حين يمتثل أمر ال تعالى ويطبّقه في نفسه.
ما هو المفهوم البدعيّ للتّربية؟
التّربية في أذهان بعضهم مرحلة تسبق تطبيق المر .فالمرء يحتاج إلى فترة سابقة حتّى يصل
إلى مرحلة ما (أختلف عليها) فيصبح بعد ذلك مربّيا ليستحقّ بعد ذلك الدّخول في المر اللهي
وتطبيقه.
وسئل بعض هؤلء القوم عن الدّرجة التي يمكن لنا أن نسمّي عندها المسلم :مربّيا؟ .فأجاب :لقد
شغلني هذا السؤال كثيرا ،وتساءلت مرارا :ما هي الحالة الّتي ينبغي أن نسعى إليها ونتوقّف
عندها حتّى نَشْرع بالجهاد القتاليّ ،فهُديت إليه .قال هذا السّلفي المزعوم (وهو "عدنان
عرعور") :هو أن نصل إلى درجة ذلك الصّحابيّ الّذي قدم زوجته للخر عن طيب نفس.ا.هـ.
وهو يشير إلى هذه الحادثة المذكورة في صحيح البخاريّ بين المهاجر والنصاري رضي ال
عنهما !! .فهؤلء كما ترون يطرحون التّربية كمرحلة تسبق تطبيق المر اللهي ،والحقّ الذي
قدّمناه؛ أن التّربية هي تطبيق المر اللهيّ نفسه.
ونلحظ على هذه الطريقة من التّفكير النّقاط التّالية:
- 1أن هذا الخطاب المتقدّم يقرّ به على الجمال أصحاب التّربية المعاصرة ،فإنّهم يقولون إنّ
مرحلة التّربية تتمّ عن طريق العمال الصّالحة من صلة وصوم وذكر وقيام وأعمال صالحة
أخرى ،لكنّهم حين يكون المر متعلّق بالجهاد من اجل إقامة الحق اللهيّ في الرض ،فإنّهم
ينتكسون ويقولون إن على المسلمين أن يتربوا قبل أن يجاهدوا ،والسّؤال الموجّه إليهم :لو قال
لكم قائل :على المسلمين أن يتربّوا قبل أن يصلّوا ،أو عليهم أن يتربّوا قبل أن يصوموا ،فماذا
سيكون الجواب ؟ قطعا سيقول السّامع :إنّ هذا الكلم يهرف به صاحبه ول يعقل ما يقول ،لنّ
الصّلة هي نفسها تربية ،وكذلك الصّيام ،وكذلك الزّكاة ،وجميع العمال الصّالحة ،فلماذا يختلف
المر حين يكون الحديث عن الجهاد؟.
أليس الجهاد أعظم مسالك التّربية؟.
وهل الجهاد إل مرحلة من مراحل إعداد المرء المؤمن لدخول الجنان يوم لقاء ال تعالى؟.
أليس في الجهاد فتنة للنّفوس لتتخلّص من حبّ الدّنيا ومن النانيّة؟.
512
أليس في الجهاد تحصيل لعظم درجات التّوكّل واليقين على موعود ال تعالى؟.
وعلى هذا فالتّربية بتطبيق المر اللهي بالجهاد وليست هي مرحلة تسبق الجهاد في سبيل ال
تعالى.
وقد يقتنص بعضهم حادثة أو حوادث من ممارسات المجاهدين غير المنضبطة ليتّخذها ذريعة
إلى قوله ،فإنّه قد يقع بعض المجاهدين في بعض الخطاء الشّرعية ،وهذا أمر يقع في كلّ
التّجمّعات (حتى التّجمّع من أجل صلة الجماعة) ،فيسارع هؤلء إلى تضخيم الحدث ،وتسويقه
بين النّاس ،وإشاعته عن المجاهدين حتّى ينفر النّاس منهم ،وليدلّلوا بهذا الحدث أو الحوادث
على صواب رأيهم أن المّة لم تبلغ بعدُ المرحلة الّتي ينبغي أن تجاهد عندها.
والجواب على هذه التّصوّرات الّتي يقع بها هؤلء من وجوه ،أهمّها:
أولً :من المعلوم في علوم أهل السنّة أنه قد يجمع الرّجل الواحد إيمانا وضللً ،صلحا وفسادا
في آن واحد ،لنّ اليمان عندنا يتجزّأ ،وعلى هذا فقد يجتمع في الرّجل المسلم المجاهد بعض
ل أطوار البشرية وفي كلّ تجمّعاتها .فما هو السّبيل الحقّ
الصّفات المذمومة ،وهذا واقع في ك ّ
في معالجة هذه الحالة؟.
أهل النحراف من أصحاب مفهوم التّربية العصريّة يطـرحون السلوب التّالي :ينبغي على
الشّخص أن يترك الجهاد (الخير) حتى يتخلّص من الشّر.
وعلى قاعدتهم هذه ،فإنّ من جمع ضللً وصلحا فالواجب عليه أن يترك الصّلح فيه حتى
يذهب الباطل فيه؟!! ،وهو قول يردّه العاقل حين تصوّره له.
وأمّا الحكم الشّرعي في هذه الواقعة :فهو تثبيت الحقّ لديه ودعمه وتجذيره ،مع محاولة تقويمه
وإرشاده بالقلع عن الباطل الذي لديه.
ثانيا :لو أردنا أن نقتنص السيّئات في هذه التّجمعات التي تزعم التّربية المعاصرة أو نعدّه عليهم
لملت الكراريس والدّفاتر ،وحينئذٍ فسيّئاتهم تكون مضاعفة لنّهم يزعمون التّربية بخلف
غيرهم.
ثالثا :قال الرسول صلى ال عليه وسلم(( :كلّ ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوّابون))،
وعصمة الفراد والتجمّعات من الخطاء لن تكون في هذه الدّنيا.
513
التّربية ليست مرحلة زمنيّة ثمّ تنتهي ،بل هي تزكية للنّفس حتّى الممات ،ول تتوقّف عند حدّ
معيّن كما هي في الدّين الصّوفي ،فهؤلء حين يتصوّرون إقامة السلم عن طريق تربية
النّفس التي تسبق هذه القامة مخالفون لبجديّات هذا الدّين العظيم.
أين هذا من دين الصّوفيّة؟.
قال الصوفي في تفسير قوله تعالى{ :واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين} ،قال :اليقين هو المعرفة
ن الصّوفي يسمّى سالكا مادام لم يصل إلى درجة اليقين ،وهي عنده تعني الوصول
وعلى هذا فإ ّ
للحظة الكشف والجذبة ،كما هو عند السّلفي المزعوم :الوصول إلى درجة أن يقدّم المسلم
زوجته لخيه المسلم ،وحين يصبح الصّوفيّ واصلً فإنّه حينئذً يكون معرّضا للجذبات اللهية
(وهي في الحقيقة شيطانية) ،بل وحينها تسقط عنه التّكاليف اللهية ،لنّ النسان أمُر بها حتى
يصل درجة اليقين ،وأمّا بعدها فل.
فالصّوفي ل بدّ أن يسلك حتّى يصل ،والسّلفي المزعوم يتربّى حتّى يصل ،ونحن على العتبات
ننتظر.
بعضهم كالدّكتور صلح الصّاوي طوّر مفهوم التّربية الفاسد هذا فطبّقه على جانب التّحضير
لحصول الغلبة والظّفر ،فقال إنّه ل يجوز للجماعة المسلمة أن تشرع بقتال الطّوائف الحاكمة في
بلدنا حتى تستكمل أدوات الغلبة والظّفر ،وذهب بعضهم بعيدا حين قال :علينا أن ل نجاهد
حتّى نجهّز كلّ شيء حتّى نصل إلى درجة تحضير الوزراء بحقائبهم على أبواب الوزارات
سمِعت قريبا من هذه العبارات من بعض
(وينسب هذا القول لمحمد سرور زين العابدين وقد ُ
القريبين منه).
وجزما هؤلء يفكّرون بعقليّة أهل القمر ،وليس بعقلية النّاس والبشر ،وسيؤدي بهم قولهم هذا
(الممتنع وجوده قدرا) إلى اليأس من العمل الجهادي وحصوله ،وبالتّالي إلى شتم العنب (كما
حصل للثّعلب حين عجز عن الوصول إلى العنب لعلوّه عن قدرته فذهب يشتمه).
أهــل الرأي -الرآئيـون
على الرّغم من أنّ هذا الوصف يطلق بتوسّع في كثير من الكتب على كل من اشتغل بالفقه،
وأُثر عنه الفتوى (حتّى أن ابن قتيـبة في كتابه المعارف ذكر المام مالك رحمه ال تعالى من
أهل الرّأي) ،إل أننا نقصد بأهل الرّأي هنا :من آثر عقله على نصّ رسول ال ،فاستحسن
قولً أو مذهبا والنصّ بين يديه على خلفه.
514
اعلم أخي في ال أن الكتاب والسنّة (بنصوصهما) تستوعب الزّمان والمكان ،فل يوجد واقعة أو
حادثة إلّ وفي النّصوص المعصومة ما يكشف لك أمرها بعينها وذاتها ،فإنّ ال تعالى لم يبق
للنّاس شيئا يحتاجونه إل وكشفه لهم ،وبيّن لهم أمره ،علمه من علمه ،وجهله من جهله .فالكتاب
والسنّة هما دليل الحقّ دون سواهما ،وقد يظنّ البعض أن هذا القول نفي للجماع والقياس،
وليس المر كذلك ،فكيف ذلك؟.
أمّا بالنّسبة للجماع :فإن القول الحقيق بالقبول أنّ الجماع يقسم إلى قسمين:
أ -إجماع قطعي :وهو ما يسمّى بالمعلوم من الدّين بالضرورة ،وقد ضرب المام الشافعي في
رسالته المثلة عليه ،وهذا ل يجوز لمسلم مخالفته ،وهو الّذي قيل فيه :مخالفته كفر ،وهذا
إجماع ل يقع إلّ بنص ،إذ ل يقع هذا الجماع إل وله أدلّة في الكتاب والسنّة ،إلّ ما ذكره
المام الشّافعي عن مسألة القراض (المضاربة) والصّحيح أنّها داخلة في عموم النّصوص
المحكمة المبيحة أمر المشاركة والتّجارة.
ب -إجماع ظنّي :وهو قول الفقيه :ل أعلم فيه خلفا ،وهو إجماع استقرائيّ ،وقد رفض المام
أحمد بن حنبل إطلق اسم الجماع عليه وهو المقصود بقوله :من ادّعى الجماع فقد كذب ،لعلّ
الناس اختلفوا .ا .هـ.
وهذا إجماع متوهّم ،وأغلبه منقوض ،إن لم يكن كلّه .بل قد يكون المشهور خلفه ،إذن فأمر
الجماع الحقيقي ل يقوم إلّ على دليل ،فعاد المر إلى الصل.
أمّا بالنّسبة للقياس :فالمشتهر عند الناّس أمور عدّة خاطئة ،وهي:
أولً :قولهم إن القياس دليل شرعي ،وهذا خطأ ،والصّحيح أنّ القياس المصيب يكشف لك الحكم
الشّرعي الّذي غاب (بنصه) .والنّصّ يغيب عن الفقيه لسببين:
- 1لعدم معرفته له ابتداءً ،كما غاب عن كثير من الصّحابة بعض الحكام الشّرعية
بنصوصها ،وأمثلة ذلك كثيرة.
- 2لعدم معرفة المجتـهد دللة النّص ،مع أنّه بين يديه ،وذلك لسببين :إمّا لمور تعود إلى
نفس النّص ،إذ أنّ دللة النّصوص الشّرعية على الحكام ليست على مرتبة واحدة ،بل مراتب
متعددة ،أو لسبب يعود إلى نفس المجتهد ،ككلل ذهنه ،أو ضعفه في البحث والتّنقيب ،لضعف
بعض أدوات الجتهاد لديه.
ثانيا :أن القياس يتم به اللزام ،وهذا خطأ ،والصّحيح أنّه ل إلزام بالقياس.
515
إذا تبيّن لك هذا علمت أنّ القياس ل يذهب إليه لعدم وجود النّصّ في الحقيقة ،ولكن لعدم معرفة
المجتهد لهذا الدّليل (النّص).
وعلى هذا فإنّ القائل من أهل الصول :إنّ الشّريعة -بنصوصها -ل تفي عشر الحوادث
والوقائع هو قول واهم مخطئ ،دفعه له عدم توسّعه في الطلع على كتب الحديث ،ومعرفتها
معرفة صحيحة.
لماذا يُردّ النّص من قبل (الرائي)؟
أسباب العراض عن النّص من قبل المفكّر أو الفقيه عديدة (ونحن هنا نتكلّم عن السلميين)
أهمها:
- 1ظنّ المفكّر أو الفقيه أنّ النّص يخالف العقل ،أو بعبارة بعض الفقهاء :هذا نصّ على
خلف القياس ،وبعبارة أهل الكلم :تعارض العقل مع النّقل.
وقائلوا هذه العبارات يقعون في هذه الخطاء الفاحشة لعدّة أسباب منها:
أن هؤلء المفكّرين قد يغلب على ظنّهم صواب بعض القواعد العقلية الوافدة ،ويجعلونها يقينيّة،
فيلتفتون إلى النّصّ الشّرعي فيرونه مخالفا ،فينشأ لديهم هذا التصوّر الفاسد.
ومن أسباب هذه الخطاء كذلك :عدم قدرة هؤلء المفكّرين على التّمييز بين النّصّ الثابت
والنّص الضّعيف ،فيصبّون جام غضبهم على النّص الضعيف ،وبه يتّهمون النّص بمخالفة العقل
أو القياس.
- 2ظنّ المفكّر أو الفقيه تحقيق المصلحة بعيدا عن النّص:
وهؤلء لمّا رأوا مجموع النّصوص داعية إلى اعتبار المقاصد والمآلت ،ظنّوا أن تحقيق
المآلت هي إصدار الحكم الشّرعي ،ونكتفي هنا بإيراد المقصود الصحيح لقوله صلى ال عليه
وسلم(( :ل ضرر ول ضرار)).
اعلم أخي في ال أنّه ل يوجد حكم شرعي ثبت في الكتاب والسّنة إل وهو بذاته يحقّق المصلحة
للعباد في الحال والمآل ،ثم اعلم أن المصـالح تتعارض فل بدّ من تقـديم القوى على
ن المصلحة ل يمكن
الضعف ،ولهذا ل يمكن معرفته عند تفاوت العقول إلّ بالنّص ،ثمّ اعلم أ ّ
تحقّق حدوثها ومآلها إلّ بالوعد المحمول داخل النّص.
هذه المور وغيرها الكثير ترشدك :أنّ العصمـة للنّص وهي القادرة على معرفة الضّرر
والضّرار ،والعقل تتفاوت مراتبه وتقديراته فالحالة عليه إحالة على غير ثابت.
516
- 3ظنّ المفكّر أو الفقيه عدم كفاية الثّبوت في ذات النّص كقول بعضهم :حديث الحاد ل يفيد
ظنّي على هذه الصّور المعروضة
ي وال ّ
العلم ،وهذا قول أهل الكلم .والتّفـريق بين القطع ّ
حادثة ل تعرف عند الوائل ،وهي من إفرازات أهل الرّأي والكلم.
ص المعصوم كافية عند أهل
هذه السباب الظّاهرة (العقلية) التي يطرحها صاحب الرّأي لردّ الن ّ
السنّة والجماعة لعتبار الرّجل متأولً مع أنّه مخطئ ول شكّ.
لكن ماذا عن المور الباطنية؟ التي تدفع المفكّر أو الفقيه لردّ النّص المعصوم؟.
هناك أسباب نفسية عدّة تدفع المفكّر لهذا المسلك البدعي أهمّها:
ن العبوديّة ل تعالى تعني تجرّد العبد من جميع أهوائه،
أ -عدم الخلوص من أهواء النّفوس ،ل ّ
وأعظم الهواء في هذا الباب هو أن يعتبر النسان أنّ له قولً ورأيا ،وأنّه صاحب شخصيّة
معتبرة ،ينسب لها القول ،ويشار إليها بالعتبار والتقدير.
ب -محاولة تليين السلم وليّه ليوافق رغبة النسان وهـواه ،أو ليوافق الواقع ،وهذا نراه في
أغلب آرائيّة زماننا ،فإنّهم لهزيمتهم النّفسيّة أمام استعلء الكفر واستكباره في هذا الزّمان
يعمدون إلى ليّ أعناق النّصوص لتوافق رغبات النّاس وأهوائهم ،والشّيخ المصري محمّد
الغزالي خير دليل على ذلك ،وخاصّة كتابه "السنّة النّبويّة بين أهل الفقه وأهل الحديث" ،فقد
ي صلى
رأينا هذا الزهري يشرح لقرّائه عجزه عن تقديم الحكم الشّرعي المستمدّ من قول النّب ّ
ال عليه وسلم(( :ل يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة)).
فهو يقول :كيف نستطيع أن نقدّم السلم ومنه هذا الحديث لهل بريطانيا مثلً وقد استطاعوا
أن يحقّقوا بعض مطامحهم ،برئاسة "مارجريت تاتشر" ؟!.
فالنّتيجة عند هذا الشّيخ وأمثاله هي أن نضع أيدينا على هذا الحديث خجلً منه (كما فعلت يهود
بآيات الرّجم مع رسول ال صلى ال عليه وسلم) وذلك من أجل أصحاب العيون الزرق من
النجليز وغيرهم.
إن هذه النهزامية في تقديم السلم الحقّ كما أراده ال لنا ،سبب رئيسي تدفع هؤلء القوم إلى
العراض عن بعض النّصوص النّبوية ،ودفع النّصوص له طرق كثيرة عند هؤلء الرائيين.
- 4عظم التكاليف الشّرعيّة ،وكونها فتنة للنّاس ،وعدم تحمل المرء على ترك عوائده ،فرغباته
النّفسية تدفعه إلى البحث عن المخرج من هذه التّكاليف.
517
ومن أمثلته تلك الصّورة المعروضة للجهاد من أجل تحقيق الحقّ اللهيّ في الرض ،وما فيه
من سوء للنّفوس المريضة ،وما فيه من امتحان وفتنة للنّاس ،فلو عرض لهذه النّفس مخرج
آخر مع توهّمه أنّ فيه تحقيقا لرغبات النّفس وأهوائها فإنّها تطير إلى هذا البديل الرّغيد.
اعلم أنّ هناك التفافا يحصل من هؤلء الرائيين حول كثير من حقائق أهل العلم المتقدّمين،
ومن أهمّ هذه الحقائق التي يتمّ اللتفاف حولها في هذا الزّمان الحقيقة التّالية:
من المعلوم أن إصدار حكم شرعي ما لواقعة ما ،ل ينبغي أن يتمّ إلّ باستكمال شروط وأدوات
علمية تؤهل المرء لخوض مثل هذا المعترك ،وهذه الشّروط التي اصطلح سلفنا الصالح على
ن عصور النحطاط المتأخّرة قد أفرزت بعض القوال الهزيلة
تسميتها :بشروط الجتهاد ،ومع أ ّ
في موضوع الجتهاد ،مثل قول بعض أهل العلم :بإغلق باب الجتهاد ،وأنّه ل يجوز بعد
القرن الرّابع لحدٍ أن يقول قولً من اجتهاده ،بل ل بدّ أن ينسب نفسه إلى إمام سابق ،كأن يقول
عن نفسه أنّه حنفيّ أو شافعيّ أو مالكي أو حنبليّ ومن أجل هذه البدعة المبيرة صار بعضهم
يشدد في شروط الجتهاد ،ويضع عوائق في طريق أهل العلم ليمنعهم من إطلق قدراتهم
لتحصيل الحكم الشّرعيّ من مظانّه ،ولن كلّ فعل يؤدي إلى فعل مضادّ يعاكسه ،فإنّ النتيجة
القدرية لهذا القول الخاطئ هو ما حصل في بداية هذا القرن ،وذلك عندما انطلق النّاس يبحثون
في أنفسهم عن سبب انحطاطهم وتأخّرهم وهزيمتهم أمام أعدائهم ،فكان ممّا اكتشفوه مبكّرا هذا
الموضوع ،فسارع النّاس بالنداء لتحرير العقل المسلم من أغلل التخلّف -ومنها إغلق باب
الجتهاد -فتعالت الصّيحات في كلّ مكان تدعو إلى فتح هذا الباب ،والولوج فيه بقوّة ،وبدأ
النّاس يمارسون اختيار الحكام الشّرعية بأنفسهم من مصادرها ،وحاول فريق آخر أن يحافظ
على مكتسبات عصر النحطاط وذلك بأن يمنع هذا الحادث الجديد ،تحت دعوى أنّ اللمذهبية
قنطرة إلى اللدينية ،لنهم رأوا أنّ الدّعوة إلى فتح باب الجتهاد قد وافقت زمن انفلت النّاس
من أحكام الشّريعة ،وانتشار الباحية الفكرية وهي التي تسمّى عند أئمّتنا القدماء بالزّندقة،
وكذلك الباحيّة السّلوكية مثل دعوات تحرّر المرأة ،وميوعة الشّباب وتحرّرهم من أحكام
الشّريعة.
ولكنّ هذه المواقف المضادّة من (المحافظين) كانت الضعف صوتا ودليلً ولم تفلح شيئا أمام
السّيل الهادر المنطلق من عقاله نحو النفلت من التّقليد والمذهبيّة .ووجد بعض النّاس رغباتهم
متحققة في هذه الدّعوة ،فاستغلّوها بإخراجها عن طريقها الصّحيح وأخذوا بها إلى آفاق ومواقع
518
كانت محرّمة حتّى في أزهى عصور الزدهار والتحرر من التقليد ،فبدأوا يمارسون الجتهاد
على الثّوابت واليقينيّات المستقرّة في دين ال تعالى ،وكلّ هذا تحت دعوى الجتهاد.
هؤلء القوم هم أئمّة أهل الضّلل في هذا العصر ،وهم يريدون أن يقلبوا صورة هذا الدين من
الصّورة التي استقرّت عليها الشّريعة ،إلى صورة أخرى تلئم واقعهم ،وهو واقع بئيس ومنحط
بل شكّ ،بل واقع مهزوم ول يفرز إل آراء الهزيمة ،ويحاول بكلّ جهده إصباغ الشّرعيّة على
هذه الهزيمة.
الفصل الثاني
الفقيه والسلطان والجتهاد
"إن كان المرء العالم في كفاف من العيش ،من وجه مرضي ،فليحمد ال عز وجل ،وليقنع به،
وليعمل لدار القرار ،ول يسره الكثار من أحجار وخرق يتركها عما قريب ،أو تتركه" ابن حزم
المجتهد والمفكر
من أجل استتمام المر على صورته الكاملة انطلق هؤلء المنهزمون تحت شعارات عدة ،وإلى
مواقع عدة لخدمة هذا النحراف :من هذه الشعارات التي استخدموها شعار (الفكر السلمي)
و(المفكر السلمي) هذا الشعار بدأ استخدامه كبديل عن صورة "المجتهد" في اصطلح أئمتنا.
مصطلح المجتهد يحمل في ذهن المسلم مجموعة من الشروط التي ل يقبل أن يتنازل عنها
بسهولة ،مع أننا نعترف أن كثيرا من هذه الشروط ليست صحيحة ،لكن هذه الصورة على
العموم ل تسمح للمدعي أن يلج إلى هذا المصطلح ويتلبس به بسهولة ،ومما استغله أصحاب
هذا الشعار ،أن الفقه السلمي باعتباره مصطلحا ،صار قاصرا في موضوعه على مجموعة
من البحاث ل يتعداها ،مثل العبادات والمعاملت ،وهكذا فإنهم اقتصروا في اجتهاداتهم على
هذه المور ،فالفقيه السلمي في هذا العصر هو الذي يتكلم في شئون فقه الصلة ،وفقه
الصوم ،وفقه الزكاة ،وفقه الحج ،وأحكام الدماء والطهارة وما جرى على هذا المنوال ،وأما
المفكر السلمي فهو الذي يبحث فيما ل يدخل في اختصاص الفقيه السلمي (حسب قسمة
عقلية النحطاط المتأخرة) .ومن هذه المور التي ولج فيها المفكر السلمي بقوة :مسائل
السياسة الشرعية ،فهو يتكلم عن الديمقراطية في السلم ،والشتراكية في السلم ،والعدالة
الجتماعية في السلم ،ونظام الحكم في السلم...الخ هذه القائمة الطويلة ،وهذا المفكر بهذه
اللعبة الغريبة سمح لنفسه أن يجتهد في أعظم مسائل الدين والفقه ،ولكن تحت دعوى أنه مفكر
519
إسلمي ،وليس فقيها أو مجتهدا ،مع أنه في الواقع فقيه ومجتهد (ولكن ليس كل مجتهد مصيبا)
وباستخدامه كلمة المفكر أسقطت عنه الكثير من المسدلت والعوائق التي ستقع لو أطلق على
نفسه وصف الفقيه أو المجتهد ،وحتى تتضح لك الصورة أكثر خذ هذا المثال :الشيخ المجتهد
الفقيه راشد الغنوشي ( ،أظن أنك لن تستسيغ هذه الوصاف لهذا الرجل ،لكنها الحقيقة على كل
حال) ،ويقابله في الصورة الخرى :المفكر السلمي عبد العزيز بن باز (أظن أنك لن تستسيغ
هذا الوصف كذلك ،لكنها الحقيقة على كل حال).
والسؤال :لماذا لم تستسغ هذه الوصاف؟ ،وما هو الشيء الجتهادي الذي يخوض فيه الول
ومحرم على الخر؟ .وما هو الشيء الجتهادي الذي يخوض فيه الثاني ومحرم على الول؟.
راشد الغنوشي :فقيه ومجتهد ول شك ،وهو يصول ويجول في أكثر مسائل الدين والعبادات
تعقيدا( ،ويغوص) حتى أذنيه في مسائل فقهية كان كبار الئمة يتورعون عن القتراب منها.
ولكن كيف استطاع تمرير أفكاره؟ وكيف استطاع إسقاط المسائلة عنه؟ .إنه برفعه شعار:
المفكر السلمي .فهو ل يتكلم في مسائل الصلة والصوم والزكاة ،ولكنه يتكلم في الفكر
السلمي.
إن رفع شعار (الفكر السلمي) على هذه الصورة ،وهذا المنوال لعبة ضللية -قصد أصحابها
أو لم يقصدوا -وهم به سمحوا لهذا الدين أن يصبح ألعوبة بيد الصبية ،يلغون فيه كما
يشاءون ،وإل فمن الذي سمح لفهمي هويدي أن يتكلم في عظائم الشريعة ،ويقول فيها ما يحلو
له ويسقط أحكام أهل الذمة من كتب الفقه؟.
ومن الذي سمح لمحمد عمارة أن يتكلم في عقائد المسلمين فيصلح منها البالي كعقائد المعتزلة
ويرمي في المزبلة الحق والصواب؟.
ومن الذي سمح لحسن الترابي أن يجدد في أصول الفقه ،ويجعل البرلمان السلمي صورة
الجماع التي لها الحق في نسخ الشريعة؟.
ومن الذي سمح لجودت سعيد أن يجعل مذهب ابن آدم الول يلغي دين محمد بن عبد ال صلى
ال عليه وسلم ،ثم يتجرأ بعد ذلك بأن يجعل الحكم القدري (الواقع ) هو الذي يفسر النصوص
في الشريعة وليس البيان العربي؟.
ومن الذي سمح لخالص جلبي أن يجعل مذهب غاندي أحب وأسلم من دين محمد بن عبد ال
صلى ال عليه وسلم.
520
من الذي سمح لهذا الغثاء -من المفكرين -أن يقودوا الحركة السلمية ويصدروا الحكام
فيها.
أي فكر هذا؟ .وما هي شروطه؟.
وما هي ضوابط الحكم عليه؟!.
أجيبونا يا أهل الرأي والفكر.
التحالف بين الفقيه (المتخلف) والمفكر (المتحرر)
لما بدأ الشباب المسلم يتساءل عن هذا الكم الهائل من المفكرين ،وما هو السلطان الذي ملكوه
ليتكلموا في دين ال كما يشاءون؟ وهل يحق لهؤلء المفكرين أن يقودوا الحركة السلمية
ويتهادوا بها بين خطر الحياة ودروبها؟ ولكن هذه السئلة وللسف قد بدأت بعد أن تشرب
الناس من الشباب المسلم أفكار هؤلء القوم ،واصطبغت عقليتهم بالصبغة التي يتحدث بها
المفكر ،وهي صيغ أقل ما يقال عنها أنها ل تتحدث كما تتحدث الشخوص المهتدية في القرآن
الكريم ،حيث فقد هذا التيار عبارات الشرع المحكمة ،وتغيرت موازين الحكم والقضاء في رحم
هذه العبارات ،فبدل أن يتحدث الناس (الشباب المسلم) عن الجهاد ،بدأوا يتكلمون عن الثورة،
والكفاح السياسي ،وبدل أن يلقوا على الناس عبارات :العبودية والعبادة صاروا يتحدثون عن
الواجب الوطني ،والحس القومي ،والضرورة الجتماعية ،وبدل أن يستخدموا دوافع محبة ال،
والخوف من ال ،ورجاء الدار الخرة ،صار الحديث عن :مكتسبات الحركة ،والمن
الجتماعي ،والمن الغذائي ،ووحدة التراب ،القومي ،وبدل أن يتحدثوا عن حق ال المفقود
بتطبيق شرعه وحدوده صار حديثهم عن الحرية الجتماعية ،والعدل الجتماعي ،والظلم،
والدكتاتورية.
فهذه العبارات تبين فقدان القتداء بحركة الهداة والدعاة كما شرحها القرآن الكريم.
اقرأ هذا النموذج" :إن الحركة السلمية ليست حركة فئة معينة من الشعب ،إنها ضمير المة
المتحرك وأعماقها الثائرة ،ومن ثم فهي ترفض مقولة الصراع الطبقي ،وتعتبر أن السلم،
والسلم وحده قادر على إزالة كل ألوان المظالم والستغلل داخل المجتمع ،ولكن في مجتمع
ل يطبق السلم حقيقة ،تتولد الفوارق الطبقية والحركة عندئذ تجد نفسها في صف الفقراء
والمضطهدين كما كان النبي عليه السلم يفعل إذ يرفض الغنياء الجلوس مع الفقراء فينحاز
إلى الفقراء بأمر من ال {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه
521
ول تعد عيناك عنهم تريد الحياة الدنيا} ولقد استطاعت الحركة السلمية المعاصرة أن تحرر
إلى حد ما السلم من الطبقة الحاكمة" .انتهت العبارة عن كتاب مقالت لراشد الغنوشي
التونسي ،ومثلها :وما كان للمام الخميني أن تلتحم القوى الشعبية في إيران وتسلمه قيادتها
وتجن حتى الموت ...وما كان له أن يطوي كل أحزاب المعارضة ورجال الدين فيدفعها مرة
أمامه ويجرها أخرى لو لم تجسد حركته أمل الجماهير العريضة في التحرر والعدالة والعزة
والستقلل ،وكذلك المودودي فقد رسم للشعب الباكستاني خطة الحرية والعزة والستقلل،
فاستجابت له المة.ا.هـ.
هذا الخطاب المصاغ له مشكاة لن تكون أبدا من مشكاة القرآن والسنة ،حتى اليات القرآنية
التي يستشهد بها ،ل تعود إلى المناط الذي سيقت من أجله ،فالية التي استشهد بها النموذج
المتقدم لم ترد أبدا لبيان انحياز النبي صلى ال عليه وسلم إلى صف الفقراء ضد الغنياء ،بل
انحياز النبي صلى ال عليه وسلم لصف { الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}.
فتكرار هذا النوع من الخطاب أفقد العبارات القرآنية والنبوية نضارتها وحضورها في نفسية
الشاب المسلم المعاصر ،فأين عبارات :اليمان ،والتوحيد ،والكفر ،والردة ،والجهاد ،والشيطان،
والخير ،والشر ،والفسق ،والذكر ،والنابة ،والخبات ،والحب ،والولء ،والبراء ،وغيرها من
العبارات التي تحمل في داخلها المفاهيم السلمية كما تعامل معها السلف.
أصبح الشباب المسلم بعيدا كل البعد بسبب هؤلء المفكرين (الرائيين) عن هدي الكتاب والسنة،
وقد اكتشف بعضهم فقدان هذا الخطاب الرائي أثره على قطاع من الشباب ،إذ بدأ الشباب
ينفلت من حركة المفكرين المنحرفة ،وصار يتوجه إلى ما يسمى بالكتب الصفراء ،وأسباب هذا
الكتشاف ،وعوامل تنميته له جوانب كثيرة ليس هذا مجال ذكرها ،لكني أستطيع أن أقول إن
أثر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ثم كتب الشهيد سيد قطب كان لها الثر القوي في هذا
الكتشاف وإحياء الخطاب الشرعي الصحيح الملئم للحق القرآني.
هذا الكتشاف والتوجه الجديد بدأ يهز العروش النخرة من سلطان الرائيين فكان لبد من
معالجة هذا التوجه بما يناسبه ،فتوجهت بسرعة حركات الرأي الضللية إلى أصحاب إل
العمائم القديمة ،لتقنين هذه الفكار التي صدرت من الرائيين في صورة فقهية ،تناسب التوجه
الجديد ،فبدا أصحاب العمائم (الفقهاء) يفتشون في بطون الكتب الفقهية ليساندوا هؤلء الرائيين
بأقوال الفقهاء القدماء:
522
المفكر ينفي حد الردة ،يأتي الفقيه ليقول له إن حد الردة كان سياسة وليس تشريعا دائما ،وإن
شئت فاقرأ كتاب "الفروق" للمام القرافي المالكي لترى الفرق بين فعل النبي صلى ال عليه
وسلم كمشرع وفعله كقائد دولة وسياسي.
المفكر ينفي وجود أهل الذمة ،وإن وجدت فهي تسمية ل تبعة عليها ،فأهل الذمة لهم الحق في
تولي السلطات ،والمسلم يقتل بالكافر ،فيسارع الفقيه إلى أقوال الفقهاء لتنجده.
المفكر ينفي الجهاد الهجومي (جهاد الطلب) فيسارع الفقيه إلى التدليل على رأي المفكر .وهكذا
اكتشفنا بقدرة قادر ،أن ما يقوله هذا الغثاء من المفكرين الرائيين لم يكن بدعا من القول ،ولكن
هناك من أئمتنا من قال به ،حتى أن من فقهائنا القدماء من قال :بجواز الغناء ،وجواز تولي
المرأة القضاء والمامة ،بل وأعظم من ذلك ،فلماذا العتب؟.
نعم لماذا العتب؟ وجاز للعقلء حينئذ أن يقولوا :إذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب.
اقرأ هذا التحالف" :ولقد راجت أنشطة (الفكر السلمي) في الونة الخيرة ،رواجا كاد أن
يحلها محل (العلوم السلمية) ،تنبهت إلى هذه المشكلة ووقفت عندها طويل ،عندما قال لي
الخ الستاذ جودت سعيد ذات يوم وكنا نتحدث عن الجهاد والعنف وحرية الفكر .في تواضع
وصراحة نادرتين :إنني مقتنع فكريا بما أقول ،ولكني مفتقر إلى دعم قناعتي بالمؤيدات الفقهية
التي يجب العتماد عليها .إن هذا الكلم بالضافة إلى ما يشع فيه من روح التواضع والصدق
مع ال ،يلفت النظر إلى مشكلة كبرى في حياتنا السلمية اليوم ،هي باختصار مشكلة إحلل
الفكر السلمي محل العلم بحقائق السلم ،والتزود من أحكامنا الفقهية ،ومنذ ذلك اليوم أجمعت
العزم على إخراج كتاب يتضمن بيان حقيقة الجهاد السلمي وأنواعه ،وأهدافه وضوابطه ،من
خلل عرض الحكام الفقهية المتفق عليها "...الخ .اهـ.
هذه العبارات الجميلة -وليس كل جميل نافع -مع ما فيها من توزيع عبارات المدح
الممجوجة :بروح التواضع والصدق مع ال ،تواضع وصراحة نادرتين ،وكقوله عن جودت
سعيد في مقام آخر من الكتاب أنه صاحب :صدق كبير وتحرق على الحق ...،عبارات خزفية
رقيقة يطلقها بوق كبير يتقن فن الصخب اسمه البوطي كقوله" :كبرى اليقينيات الكونية"(،وانتبه
إلى كلمة" :كبرى" فإنها ضرورية) وكقوله" :أبحاث في القمة" (وانتبه إلى كلمة" :في القمة" فإنها
ضرورية) ،هذا الرجل هو الشيخ الفقيه المجدد المام الحجة ،خاتمة المحققين ،بقية السلف هو
"محمد سعيد رمضان البوطي" ،قال العبارات السابقة في كتابه الفريد الذي -لم يعتمد فيه على
523
رؤية فكرية ..وإنما وضعت الموازين الفقهية التي ل مجال لرفضها ،حكما عدل يهدي إلى
الحق ،وينهي جدل الفكار الذاتية المتعارضة -الكتاب الذي ختمه بقوله :إنى أعيش -ول
الحمد -في وضع يجعلني أشد نفسي إلى الحكم الذي تؤيده دلئل الشرع والتقت عليه كلمة أئمة
المسلمين.ا.هـ .وقال قبلها في الكتاب :لقد آن لنا أن نستيقن بأن انتصارنا على هؤلء
الغاصبين والمتحكمين بحقوقنا وديارنا رهن بعودة صادقة منا إلى السلم ،عقيدة وخلقا
وسلوكا ،وقد أعلن ذلك الرئيس صراحة ،مع الدلئل والمؤيدات لفريق من الصحفيين
المريكيين .انتهى البداع.
جودت سعيد يفكر ومقتنع بما يفكر ،ويستنجد لدعم فكره بالفقيه (صاحب اللفة) :محمد سيد
رمضان البوطي فيلبي الفقيه (آية ال على خلقه) ،ويستشهد بالدلة القاطعة من كلم الرئيس
المؤمن ،أمين المة في هذا الزمان -وهي أوصاف من البوطي -للرئيس حافظ السد.
يا ال :طف الكيل ،وبلغ السيل الزبى ،وإذا لم تستح فاصنع ما شئت (إلهي ل تحرمنا من
الحياء).
لعلي نسيت أن أخبركم اسم الكتاب ،إنه" :الجهاد في السلم ،كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟،
والضمير يعود في "نفهمه" و"نمارسه" إلى الحكومة السورية بقيادة حافظ السد.
هناك وصفة طبية مضحكة لعلها تنفعك وقت الضجر هي كتاب محمد الغزالي المصري" :السنة
النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" ،فهي تغني على مزمار المفكرين في المعهد العالي للفكر
السلمي.
الفقيه والسلطان
سدنة الحكام المرتدين وكهنتهم :أصحاب العمائم النخرة ،والوجوه القبيحة ،والفتاوى المدفوعة
الثمن ،مثلهم {كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث}.
يحاول بعض السذج من المنتسبين للعلم والدين أن يستخدم بعض الحاديث والثار السلفية ،في
التنفير من القتراب من السلطين وذلك بإنزالها على الواقع المعاصر ،وهذا خطا قبيح فج ،فإن
الواقعتين بينهما من الختلف ما ل يمكن حمل الواحدة على الخرى ،فالسلطين الذين تكلم
الئمة الوائل عنهم ،وحذروا من القتراب منهم ،هم أول وقبل كل شيء مسلمون ،خلطوا عمل
صالحا وآخر غير ذلك ،لكنهم كانوا على الدوام بيضة السلم وحماته ،ودرعه الذي دفعت به
524
عوائد الحياة ومحن الزمن ،وطوارق العداء ،وكانوا على الدوام خاضعين لحكام الملة،
وقواعد الشريعة ،ولم يألوا جهدا في إصابة الحق وتحريه.
فأين حكامنا من هؤلء؟ !.
حكام هذا الزمن خرجوا من السلم من جميع أبوابه ،فهم معرضون عن دين ال رادون
لحكامه مستهزئون بالدين وشرائعه وأهله ،موالون لكل ملة سوى ملة السلم ،فأي عمى هذا
الذي أطبق على أعين الناس حتى جعلهم ل يكتشفون ردة حكامهم؟ فهل نستطيع أن نقول أن
امتناع جمع من (السدنة) المنتسبين للعلم والفقه من تكفير هؤلء الحكام بسبب شبه علمية؟.
إن الشبه العلمية التي يستحق أن تختلف حولها النظار والعقول ،هي تلك الشبه الخفية الدقيقة،
أما تلك التي يصطدم بها العشى ،بل العمى لعظمها وكبرها ،فل تستحق أن تسمى شبها.
إن السبب الحقيقي لموقف هؤلء (السدنة) في الحقيقة شهوات النفوس .إنها شهوة المال
والمنصب ،وخوف ذهاب السم من سلم الوظائف الحكومية .نعم إنها تنافس البلوغ لتحقيق
الشهوات.
نستطيع أن نقول إن الطاغوت المعاصر قد استطاع بسط ألوهيته الباطلة على الرض بعدة عمد
وأركان ،ومن هذه الركان :صك الورق النقدي ،ووثائق إثبات الشخصية ومنها وشقة السفر
(جواز السفر) ،والشهادات الدراسية.
هذه أهم مقومات الطاغوت المعاصر وبها استطاع أن يفرض سلطانه على الناس ويربط مجرى
الحياة به ومن خلله ،فهو يستطيع أن يمنع ويعطي ،وبإرادة واحدة منه يجعل الورقة المهينة
التي ل قيمة لها ول وزن ورقة نقد تحنى لها الرقاب وتذل لها النفوس وتكتسب قدرة خارقة
لتحصيل المال والطعام والمسكن والملبس ورغد الحياة ،وبها يصبح ربا مزيفا ،يمن على هذا
ويمنع هذا.
ومثلها كذلك وثائق إثبات الشخصية فمن خللها يستطيع أن ينفي النسان من الحياة ،ويجعله له
أثرا بعد عين ل وجود له ،ومن خللها يستطيع أن يثبت نسبك لتلك البلد أو يسلبها منك ،وبها
تستطيع أن تتنقل بين البلد ،ومثلها الشهادة المدرسية (ولشرح هذه الركان مواطن أخرى).
وفي سابقة غريبة لم تعهد في أمة من المم السابقة ربط الطاغوت المعاصر به حق اللقب
العلمي ،فهو يستطيع أن يجعل فلنا عالما ،صيته يمل الدنيا وعالم الناس ،أو يغيبه في ظلمات
الحياة ،ل حس له ول خبر ،فأنت أخي المسلم لو سئلت عن أسماء علماء بلد ما فإنه سيتبادر
525
إلى ذهنك فورا تلك السماء اللمعة ببريق تزيين إعلم الطاغوت لها ،فهذا عالم من تلك البلد
تعرفه أنت لن الطاغوت أرادك أن تعرفه ،فهو الذي جعله عضوا في هيئة كبار العلماء ،وهو
الذي أطلق عليه لقب مفتي البلد ،وهو الذي جعله وزيرا للوقاف ،وهو الذي جعله قاضي
القضاة ،وهو الذي عينه إماما للمسلمين ،وهو ..وهو ..إنه صناعة الطاغوت.
كان على الدوام شيخ الزهر في مصر يتم انتخابه من قبل هيئة علماء تجتمع وتتداول فيما بينها
عن أحق الناس بلقب شيخ الزهر ،ليوسد هذا المنصب العلمي إليه ،أما الن فشيخ الزهر يعين
من قبل الطاغوت ،فبجرة قلم ،وبنفخة طاغوتية غير مباركة يصبح المسخ الصغير شيخا
للزهر ،تصدر عنه الفتاوى العلمية ،والبحاث الفقهية المميزة ،ويتدافع ركب الجهل من الناس
ليستقوا من معين علمه الذي ل ينضب ،وكل ذلك لم يقع إل لن الطاغوت سلّك له طريق اللقب
العلمي .ولن الطاغوت لن يقبل من أتباعه إل الخضوع والذعان ،والتأليه له ،ولن يدخل في
حاشيته إل كل ساحر يزين له ملكه ،ويدفع عنه عاديات الزمن( ،وهذا شرط صحة ل تنازل
عنه) فإن اللقب العلمي سيكون قاصرا على من تتحقق فيه هذه الشروط.
فصار الناس ل يرون عالما إل وهو سائر في ركب الطاغوت ،ورجل من رجالته ،وسقطت
من أعين الشباب المسلم قيمة العلم والعلماء ،فصار جل هم الشباب شتم العلماء والتنفير منهم.
والحق أن هؤلء -كل من دخل في ركب الطاغوت -ل يستحق أن ينسب إلى العلم ،وأهل
العلم على الحقيقة هم من قاموا بحق العلم عليهم ،وتبرءوا من اللهة الباطلة ،وعضوا على
الحق وإن كان مرا .وهؤلء -للسف الشديد -ل يعرفون إل من قبل من فتش عنهم ،وبحث
عنهم أشد البحث ،وهم كثر بفضل ال تعالى ،ولكن الطاغوت المعاصر سترهم عن أعين الناس،
وغيبهم عن لقب العلم واسمه ،فالواجب على الشباب المسلم ،أن يقتصر في طلبه للعلم ،وفي
سؤاله عن أمور دينه على هؤلء العلماء الصادقين ،المغيبين عن حياة البشر.
لقد جعل كل طاغوت حوله مجموعة من السدنة الفقهاء ،يستخدمهم في تمرير كفره ،وتزيين
حكمه ،ويستغرب المرء حين يرى أن الجمع هو الجمع ،والسدنة هم السدنة.
وهكذا فإن كل طاغوت له حاشية وسدنة ،من المنتسبين إلى العلم يتخذهم كما يتخذ أحذيته،
ويجمعهم في مؤتمر سنوي ،حيث يقدم لهم ،بعض الحترام والتقدير ،ويبارك جمعهم الخبيث
بخطبة عصماء ،يزينها ببعض اليات والحاديث ،وبشيء من التعالم الغث يشرح لعلمائنا
الفاضل بعض أصول الدعوة السلمية ،وطرق نشر السلم وتحسينه للناس ،فيحضهم على
526
الحكمة في الدعوة إلى ال ويرغبهم في مسايرة ركب الحضارة ،ويشرح لهم ما فتح الشيطان
عليه ،وهم خشب مسندة ،يبتسمون كالبلهاء ويهزون رؤوسهم ،ويطلقون بين الفينة والخرى
عبارات العجاب ،أو يشتد بهم الوجد فيصفقون طربا وتيها ،وكأنهم أمام الخليفة الراشد أو
مهدي آخر الزمان.
ولكن الطاغوت ل ينسى أن يشير بعصى التهديد كما أشار من قبل ،بجزرة الترغيب ،لن هذا
من أصول تربية القرود.
اقرأ هذا النموذج" :إن مما يشغل بالنا وبال كل مسلم غيور على إسلمه ،حريص على صفائه
وإيمانه ،هو ما بدأ ينتشر في بعض الوساط من انحراف عن مبادئ ديننا الحنيف ،منحرفين
بذلك عن الطريق القويم الذي لعوج فيه ...وإن إدراكنا العميق ووعينا الكامل بخطر الغزو
الفكري الهادف إلى المس بقيمنا الروحية ،وكياننا الخلقي القائم على مبادئ السلم ،وتعاليمه
الرشيدة ،ليزيد من شعورنا بعبء المسئولية الملقاة على عاتقنا كأمير المؤمنين ،وحامي حمى
الملة والدين ،في هذا البلد المين".ا.هـ .هذا جزء من رسالة الحسن الثاني إلى المؤتمر السابع
لرابطة علماء المغرب.
وفي خطاب له .بمناسبة تأسيس المجلس العلمي العلى ،والمجالس العلمية القليمية يحذرهم من
التدخل في السياسة قائل" :ليست دروسا للسياسة ،حينما أقول السياسة ،أقول السياسة اليومية...
إياكم والدخول فيما ل يعنيكم ،فيما إذا ارتفع سعر الوقود أو سعر الدخان" ا.هـ.
وفي خطاب آخر له أمام جمع السدنة" :ل نغلق أندية ،ول نغلق مسابح ،ول نرجع إلى الوراء
أبدا ،أنا أتكلم فيما يخص العبادات ،المعاملت ،والسيرات ل تهمكم ،ل تهمكم السيرة في
الزقة ،والعربدة في الطريق ،وغير الحشمة في الطريق".ا.هـ.
هذا الكلم يقال أمام السدنة ،فل يوجد قائم ل بحجة يثبت للشباب أن فيهم من يستحق أن يسمى
"عالما" .وإذا تكلمنا عنهم قالوا عنا" :هؤلء قوم ل يحترمون العلماء ،أو شباب متهور" .نعم
نحن ل نحترم السدنة ،بل نتقرب إلى ال بكشفهم.
روى المام أحمد بسند حسن عن عبادة بن الصامت قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم" :
ليس منا من لم يجل كبيرنا ،ويرحم صغيرنا ،ويعرف لعالمنا حقه " .فقد أمر النبي صلى ال
عليه وسلم بتقدير العلماء واحترامهم ،وعدم منعهم حقهم من التوقير ،والستر ودفع الذى عنهم،
وكان علماء المسلمين على الدوام حماة الدين ،وحفظة نصوصه ومفاهيمه ،دفع ال بهم
527
المحاولت المتكررة لتزوير معالمه ،وطمس هديه ،وهؤلء العلماء لم يدخروا وسعا في القيام
بحق ال عليهم ،وحق العلم كذلك ،وحتى ل نبتعد كثيرا في إصدار العمومات التي ما عادت
تشفي غليل ،ول تطب عليل ،فإنا سنسير معك أخي في ال في اكتشاف معالم الهدى الحقة،
وصفات العلم والعالم في كلم ال تعالى وفي سنة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وفي كلم
السلف الصالح ،لن أدعياء العلم قد كثروا ،وتغيرت موازين الناس في الحكم والقضاء ،وصار
إطلق لفظ العالم ألعوبة ل ضابط له ،وكذلك سلب صفة العالم من أهله ومستحقيه ،وقبل أن
نبين صفة أهل العلم والعلماء فإنا سنمر على مزالق أهل الجهل وموازينهم في هذا الباب ،وهي
مزالق قلما خل منها فئة من الناس إل من رحم ال تعالى ،فمن أشهر هذه الموازين الخاطئة في
تقييم الناس والحكم عليهم بالعلم والفقه:
أول :إن مما طم وعم أن أغلب الناس -إل من رحم ال تعالى -لم يعد يميز بين الخطيب
المفوه ،صاحب الصوت الجهوري ،وبين العالم ،ولن الناس على الغلب ل يترددون إلى
مساجدنا إل يوم الجمعة ،وأيام الدعوة إلى الندوات التي تسمى بالندوات الفكرية ،ولنهم كذلك
ما عادت تشغلهم أحكام الدين وشرائعه بمقدار انشغالهم بسماع التحليلت السياسية ،أو الخبار
والحكايات ،وصار فرحهم يشتد ،وغبطتهم تظهر بمقدار ما يرون ويسمعون من صوت عال،
أو شتم لفلن وعلن ،وهذا جر على الناس خراب أمزجتهم ورداءة أحكامهم على الشياء
والفعال ،فأعرض الناس عن الدراسات الهادئة ،والبحاث العلمية ،والتقريرات الشرعية،
وأقبلوا على هؤلء القوم الذين يتقنون فن الصخب الهادر ،والصوات المرتفعة ،وأعرضوا
عمن يحملهم على العمل ويحضهم على الشريعة ،وييبن أحكام الدين والفقه.
وعلى هذا صار أهل المنابر قسمان:
- 1أصحاب الطحن بل طحين ،والكلم الكثير بل علم ول فقه ،بل هو بدل أن يدفع الناس إلى
الكتاب والسنة ،وبدل أن يزين خطبته بالعلم الحق -الكتاب والسنة -صار جريدة جديدة تسمى
(جريدة المنبر) ،فقبل أن يصعد المنبر يختار هذا الخطيب لنفسه خبرا صحفيا ويعلق عليه،
وتروج تجارته ،وتنفق بضاعته حين تنزل بالمسلمين نازلة ،أو يكتشف مؤامرة وهمية سربت
إليه ،فحينئذ هذا أسبوع الفرح لنه وجد لنفسه مادة دسمة لخطبته ،وبها يستطيع أن يشد الذان
إليه ،ومنها ينطلق إلى عالم النجومية والشهرة ،هؤلء على الجملة من أكثر الناس حذرا في
528
إطلق الحكام الشرعية المحددة ،بل كلمهم دائما في العمومات ،التي ل يستطيع الناس بها أن
يلزموهم بموقف يؤخذ عليهم ،فهؤلء القوم هم أهل العلم عند بعضهم.
- 2لما رأى بعض طلبة العلم فساد أمزجة الناس بسبب القسم الول من الخطباء ،ثم إعراض
الناس عن الفقه والعلم ،ورأوا أن الحديث في المنابر صار على صورة جريدة أسبوعية ،هالهم
هذا المر ودفعهم إلى موقف مضاد ،ومختلف مع الول في كل شيء ،هذا الموقف هو :عدم
الكلم إل فيما يخص الفرد المسلم ،أي :فيما يجهل من أحكام الدين والفقه العامة ،فهو يأبى أن
يتحدث إل في بر الوالدين ،وآداب الزيارة الشرعية ،أو أحكام العقيقة وبدعة صوم النصف من
شعبان ،وقد يتقدم قليل فيحدث الناس عن الوائل وفتوحات الباء ،وزمن العزة ،وهكذا.
ولم يعد المسلم العادي إل ألعوبة بين هذا وهذا ،وعامة الخطباء يتجنبون البحث والكلم في
الحكام الشرعية التي تلزم المسلم بموقف محدد من أحداث معاصرة عم بلؤها الصغير
والكبير ،وربي عليها المسلمون حتى صارت جزءا من حياتهم ،فمن القليل النادر أن تجد
الخطيب الذي يقدم للناس الحكام الشرعية التي تلزمهم بموقف محدد من نوازل الحياة العامة،
أو التي تدفعهم إلى حركة شرعية منضبطة ،فأين الحديث عن حكم المبدلين لشرع ال؟ وأين
الحديث عن وجوب جهادهم قبل جهاد الكفار الصليين؟ وأين الحديث عن عدم جواز الدخول
في وظائف طائفة الردة كالدخول في البرلمانات أو الشرطة؟.
نعم يوجد ممن مل الدنيا جعجعة بوجوب تحكيم السلم ،أنه هو الحل ،نعم يوجد اللف من
هؤلء ،لكنا كنا نتمنى أل يتكلم هؤلء المخادعون لنهم تحدثوا عن وجوب تحكيم الشريعة،
وصرخوا بملء أفواههم بذلك أمام الناس ،لكنهم دخلوا في وزارات الحكم بغير ما أنزل ال من
باب آخر ،وقالوا للناس عن وجوب الشورى وتحدثوا عنها حتى بحت أصواتهم ،لكنهم صاروا
عمدا في المجالس الشركية ،فاهتزت هذه المفاهيم في أذهان الناس وعقولهم ،وإل فكيف نستطيع
أن نقنع المسلم العامي أن الحكم بغير ما أنزل ال وأن استبدال شريعة الرحمن بشريعة كفرية
هو كفر بال العظيم ،وموالة أهلها كفر وردة ،وهم يرون الذي يتحدثون أمام الناس ويثيرون
عواطفهم لتأييدهم هم الذين يظهرون في التلفزيون ويتحدثون أمام هؤلء الحكام وبطانتهم
بالدب والتوقير ،ويقولون لهم :نحن معكم في كل كلمة قلتموها.
على المنابر تعريض وقدح وذم وفي الخلف تأييد ونصر وموالة.
529
هذه الصور وأمثالها أسقطت من حس الناس قيمة هؤلء الخطباء ،واهتزت الثقة بهم مع أن
الطامة الكبرى وهي الهم :ضياع مفاهيم السلم وأحكامه الواضحة من أذهان الناس وعقولهم.
لكن علينا أن ل ننسى أن قوما من الخطباء ما زالوا يعيشون خارج واقعهم ويفكرون بالمعارك
الفائتة ،ويتصورون أنفسهم في زمن محنة خلق القرآن ،أو في زمن الخصومة بين الشاعرة
والحنابلة ،فهذا خطيب من خطباء المسجد المكي وقت أزمة الخليج حين سلط ال حبيب الكويت
على أهل الكويت ،وجاءت قوات الصليب لترد قوات المرتدين ،وانقسم الناس بطريقة غثائية
إلى مواقف ما أنزل ال بها من سلطان ،وكان أهل الشام على الجملة ،وخاصة غثاء أهل
الردن وفلسطين ،قد شايعوا صدام وحلموا به أنه المنقذ وشبهوه بصلح الدين ،ودارت بهم
سماديرهم حتى رأوا صورته في القمر ،وصارت المساجد بخطبائها موقد فتنة ،ومصدر شر،
وكان في الجهة المقابلة لهم أهل الخليج والجزيرة ،حين حلفوا برأس بوش تأليها له وتقديسا،
وأعلن الشيخ المام أبو بكر الجزائري قائل" :جزى ال أمريكا خيرا" ،وصار المريكي
والنجليزي الكافر أحب إليهم من بني جلدتهم المسلم في تلك الفتنة العمياء ،يقوم خطيب المسجد
المكي ليفسر للناس واقع المعركة فيقول" :ماذا ينقم علينا أهل الشام ،أينقمون علينا أننا أهل
توحيد؟ وأننا أصحاب العقيدة الصحيحة؟" .ا.هـ .فأهل الشام ومعهم أهل العراق في ذهن
الخطيب المام ،هم أهل البدع ،ل نهم صوفية أشاعرة ،وأهل الجزيرة موحدون حنابلة ،ولذلك
لم يقم صدام بغزو الكويت ول التحضير لغزو الجزيرة إل للقضاء على المذهب الوهابي!!
ونشر الطرق الصوفية والعقيدة الشعرية!.
ثانيا :وإن من الموازين الخاطئة في مدح البعض ،وإطلق اسم العلماء وصفة العلم عليهم ،ظن
الجاهل أنه بمقدار تفرغ المرء عن أخبار الحياة ،وبعده عن أحداثها ،وتوحده ،وعزلته ،وانشغاله
ببطون الكتب .يعيش معها وبها؛ يكون العالم عالما حقا ،وإماما يقتدى به ،فالمرء يأخذه العجب
حين يرى أحدهم يسوق عن شيخه ،أو إمامه أو محبوبه ،على جهة المدح والتعظيم أن شيخنا -
بفضل ال تعالى -بعيد كل البعد عن الدنيا ،فهو -رضي ال عنه -ل يجد الوقت لسماع
أخبار الحياة ،و لم تدخل الجريدة يوما بيته ،بل هو -حفظه ال ورعاه -ل يقتني جهاز مذياع،
بل جل وقته في طلب العلم ،وفي تعليم طلبة العلم.
ثم يأخذه العجب ويشتد به الوجد فيسوق لك الخبار تلو الخبار في إعراض شيخه عن معرفة
ما يدور حوله ،فشيخنا -حفظه ال تعالى ،-إذا حاول بعضهم أن يذكر شيئا من أمور السياسة،
530
وأخبار السياسيين ،تجهم ،وتغير وجهه ،وتكلم معه بكلم بليغ ،وذكر هذا (البق ) أن طالب
العلم عليه أن يصرف كل وقته للعلم ،فهو يستشهد دوما بمقولة السلف" :إذا أعطى الرجل كل
وقته للعلم ،أعطاه العلم بعضه".
وهكذا تدور هذه الكلمات على ألسنتهم ،ويظنون أنهم بهذا قدموا صورة جميلة عن شيخهم ،وهم
في الحقيقة لم يزيدوا سوى أن عرفوا الناس :أن شيخهم هذا هو من أجهل خلق ال ،وأن شيخهم
هذا يجب أن يحجر عليه فل يسأل ،ول يستفتى ،لن من شرط المفتي أن يكون بصيرا بحال
أهل زمنه ،عالما بمداخل الحياة وسبلها ،وإل فما هو هذا العلم الذي أنزله ال على رسوله صلى
ال عليه وسلم؟ ولم جاء العلم؟.
أجاء العلم ليكون حبيس السراديب؟.
أم ليتمتع به بعضهم في خلواته؟.
ومن غرائب هؤلء الشيوخ وعجائبهم وكذلك من غرائب تلمذتهم أنهم إذا سئلوا عن المور
العظيمة في الحياة لم يتورعوا أبدا عن الخوض فيها بألسنتهم الطويلة ،وتكلموا فيها وهم ل
يدرون شيئا ،وخاضوا فيها وهم من أبعد الناس عنها فهما ومعرفة.
الخلط بين السياسي والمجاهد والفقيه
على ضوء هذا التفكير المنحط ،وهذا السلوك الجاهل ،ظهرت في عالم المسلمين ثنائيات لم تكن
معروفة لدى الوائل ،وقد حاول بعضهم بشيء من التعالم الغث أن يجعل هذا من وضع
الختصاص المعاصر الذي ل بد منه ،مع أن هذا الختصاص إذا وقع فقد كل طرف ما حمل
من خصوصيات.
هذه الثنائيات هي:
أول :التفريق بين السياسي والفقيه :فالسياسي عند الناس هو البصير بأمور الحياة ،القادر على
تفسير أحداثها ،وهو من يستشار ويسأل عن تفسير الكونيات والوقائع ،وهو كذلك من له حق
قيادة الحياة ورعاية شؤونها ،وهذا من خلل ما أعطي من قدرات سياسية ،وأما الفقيه فهو
حبيس الكتاب ول يسأل إل فيما يخص الغيب ،فالسياسي له عالم الشهادة ،والفقيه له عالم الغيب،
وهذه ثنائية باطلة لم تكن معروفة لدى الوائل ،بل إن كلمة الفقه ل تقع إل إذا اجتمع أمران:
- 1إدراك الحياة على ما هي عليه ،ومعرفة أحداثها ،وهذا من أعظم الفقه ،فإن ال تعالى قال:
{وتلك المثال نضربها للناس وما يعقلها إل العالمون} العنكبوت ،فالعالم هو من فسر المور
531
على طريقة سننية لها تمام الوضوح في عالم الشهادة ،ول تغيب عنه الخرة ،فهو الجامع
بينهما.
وإن من طامات مشايخنا في كلمهم على وقائع حياتنا أنهم يعتمدون على مبدأ الكشف الصوفي،
ول ينسون أن يفتح ال عليهم بالفهم في تفسير الحداث ،وهذا كله باطل من القول وزورا فإن
معرفة المرء للحدث ل تقع على وجهها الصحيح إل إذا درسه دراسة عقلية سننية ،ونظهر إليه
كما هو في عالم الشهادة ،فحينئذ ينطق إلى المر الخر وهو:
- 2معرفة حكم ال في هذه الواقعة ،أي يأتي بعد ذلك الحكم الشرعي ،ول يمكن لحد أن
يطلق حكما شرعيا صحيحا إل إذا فهم الواقع فهما صحيحا ،فالخلق أول ،ثم الشرع ،قال تعالى:
{أل له الخلق والمر تبارك ال رب العالمين} العراف .وبعد أن يدرك تطابق الخلق والمر
لبد أن تصدر منه كلمات التسبيح والتعظيم والتقديس ،فيزداد يقينا بحكمة الخالق ،وتترسخ
مبادئه في حكمة الشريعة .حينئذ تخرج منه {تبارك ال رب العالمين}.
فلو أننا قلنا إن السياسي هو من أدرك المر الول فقط (عالم الشهادة) وغاب عنه المر الثاني
(معرفة حكم ال فيه) فإن هذا لن يكون سياسيا مسلما ،وستنطلق رؤاه في التعامل مع المور
على مبدأ المنفعة التي ليس لها ضابط سوى النظر إلى الفردية الذاتية ،أو الشهوة التي يعود
مآلها إلى فساد الحياة ،وإذا قلنا إن الفقيه هو من أدرك الحكم الشرعي دون معرفته بوقائع الحياة
على ما هي عليه فسيكون علمه هذا حبيس ذهنه وعقله ،وليس له من أمر الحياة شيء ،حينئذ
سيقتصر دوره على الوعظ الكنسي الذي يحتاجه الناس يوما في السبوع لتخرج منهم زفرات
الضيق ارتقابا بانتهاء غثائية الشيخ.
وعلى هذا فإن الفقيه لن يكون فقيها في ديننا ول يسمى فقيها وعالما إل إذا كان سياسيا بكل ما
تحمل هذه الكلمة من معنى ووقع على النفوس ،وعلى الشباب المسلم أن يسقط من حسه ومن
احترامه من يقول :إن من السياسة ترك السياسة ،لنه حين يكون كذلك ،أي حين ل يكون
سياسيا لن يكون فقيها بل يكون شيخ جهل وتجهيل ،وعلى مثل هؤلء الشيوخ الجهلة يعتمد
الطاغوت في إمرار باطله على الناس ،وفي إصباغ الشرعية على نفسه ،فشيوخنا كمخدرات
البيوت ،يلقون على أنفسهم الحجاب ،ويرفع حجابهم عندما يبدأ مسرح الدجل أمام الطاغوت،
ليقرأ عليهم نصوص الحكمة ليدلل لهم على أنه الوفي للسلم وأهله ،وإل ففسروا لنا ماذا
نسمى هذا القطيع البهيمي الذي يتحلق حول الطاغوت وقد زين الرؤوس بعمائم خربة ،ولم ينس
532
أن يطلق شعرات الخديعة على لحيته (ولعله نسى أن يحلقها في ذلك اليوم لضطرابه) ،ثم
يخرج من عنده وهو يمدح ويثني ويقسم اليمان المغلظة على أن حاكمنا هو ولي المر
الشرعي الذي يجب طاعته.
أهكذا يصنع الفقه بأهله؟.
أم هكذا يكون العلماء؟.
أم أن الفقيه كل الفقه هو عمر بن الخطاب حين يقول" :لست بالخب ول الخب يخدعني" ،وكذلك
صاحبه حذيفة حين يقول" :كان أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم يسألون عن الخير
وكنت أساله عن الشر مخافة أن يدركني".
من هو الفقيه والعالم في ديننا؟.
أهذه النماذج الجاهلة التي تعيش في عصرنا أم أولئك الذين سادوا الدنيا وحكموا الوجود؟.
إن هؤلء الجهلة الذين ل يدرون عن الحياة وما يدور فيها ،ول يسمعون تصريحات قادتهم أمام
العداء ،ول يعرفون شيئا عما يقال عن حركة دولهم وإلى أين تسير ،هؤلء من العار على
أهل ديننا بمكان ،وإنه مما يخجل منه أن يكونوا هم العلماء ،ولو رضينا أن نطلق عليهم وصف
العلم والفقه لكان هذا شتما وقذفا لديننا ،لننا علمنا الناس أن عالم هذا الدين ،وفقيه هذه الشريعة
جاهل بالحياة ،غبي بالزمن ،ومن أجل ذلك لن نشتم هؤلء القوم ونخرجهم من زمرة العلماء،
خير وألف خير من أن نصبغ في أذهان الناس صورة قذرة عن الفقيه المسلم.
ثانيا :التفريق بين المقاتل والفقيه :كنت أعجب زمنا طويل ،لماذا يلبس هؤلء الشيوخ هذا الزي
الكهنوتي ،طربوش على الرأس (ثقيل نوعا ما) ،طيلسان (رداء فضفاض) ،له أكمام تتسع لقطة
أبي هريرة رضي ال عنه كما يزعمون ،لكني أدركت الن شيئا من سر هذا اللباس المقرف،
ولعل من أسباب ذلك أن ينطبع في أذهان الناس وقبل ذلك في أذهان أصحاب هذا اللباس أنهم ل
يصلحون لشيء سوى الكلم.
فدور مشايخنا محصور فقط في الكلمة ،ومن المستهجن الغريب أن يكون الشيخ قائدا عسكريا،
أو مقاتل شديدا ،فهذا محمد الغزالي يعلن بكل صراحة غريبة :أنه ل يطيق رؤية دم دجاجة
وهي تذبح ،لكنه قطعا يفرح هو وإخوانه المشايخ في رؤية الدجاج على مائدة الطعام.
هذه الصورة المنكوسة للشيوخ جعلت الشباب يتساءلون :لماذا خل تاريخنا من العلماء المقاتلين؟
وشبابنا على الجملة يحترمون شيخ السلم "ابن تيمية" -رحمه ال تعالى -لنهم رأوا فيه
533
صورة العالم الفقيه المقاتل ،وظنوا أنه ل يوجد له مثال وشبيه ،وهذا خطأ فإن من القليل النادر
أن تجد عالما من علمائنا الوائل إل وهو مقاتل من الدرجة الولى ،بل إن بعضهم كان في
مرتبة القيادة العسكرية ،مثل أسد بن الفرات ،وإن الكثير من أئمة الحديث قد صنفوا كتبهم،
وعقدوا مجالس التحديث في الربطة القتالية ،على ثغور المسلمين.
ومثل هذه الثنائيات الباطلة ،التفريق بين الداري والفقيه ،والقائد والفقيه ،وغير ذلك مما أعطت
صورة غثائية عن الفقيه المسلم.
الجتهاد والتقليد:
لقد حرصت الشريعة على لسان مبلغها الول رسول ال صلى ال عليه وسلم على التحذير
الشديد الواضح من الوقوع في المثال الخطأ عن صورة الشريعة والدين ،ذلك لن الناس بحاجة
دوما في فهمهم لفكرة ما ،أو لموضوع معين أن يتمثل هذا الموضوع ،وأن تشخص هذه الفكرة
بصورة عملية أمامهم ،ليشدهم هذا المثال وهذا التشخيص إلى التطبيق العملي ،وليقرب لذهانهم
حقيقة هذه الفكرة ،فإن الناس وإن اختلفت عقولهم في تفسير شيء عرض عن طريق البيان،
وتعددت نظراتهم في تحديد المراد منه لتساع معاني البيان الواحد ،إل أنهم لن يخطئوا في
تفسير هذا البيان حين يتمثل أمامهم بصورة عملية واقعية ،ولذلك كانت السنة بتفصيلتها البيانية
والعملية في شخص النبي صلى ال عليه وسلم وفي حياة الصحابة كواقع عملي قرر من قبل
النبي صلى ال عليه وسلم كانت قاضية على الكتاب البياني المجرد كما قال الكثير من أئمة
العلم والدين.
ولما كانت الصورة عادة تقل في وضوحها عن الحقيقة ،والمقتدي ل يبلغ درجة المقتدى به إذا
كانت صورة القتداء تتم فقط عن طريق السوة العملية دون الرجوع المرة تلو المرة إلى
الحقيقة كما عرضت في أول مرة ،فإنه ول بد أن يتم التشويه والتحوير في كل مرحلة من
مراحل تطبيق الفكرة ،وهذا واقع مع أي فكرة وأي مثال ،والتاريخ السلمي مع السلم كان
نموذجا حيا لهذا المثال ،مع أن السلم حذر من هذا الخط البياني النازل على مدار التاريخ
النساني ،إل أن هذه المة لم تخرم -للسف -هذه السنة ،على الرغم أنها سنة سيئة ول شك.
ولنقل أنها لم تخرمها بضابطين:
أولهما :إلى الن ،فالبشائر النبوية تعلمنا أن هذا الخط النازل في تطبيق المثال سيعود إلى
الصعود في آخر الزمان" ،ثم تكون خلفة على منهاج النبوة" .لكن هذا المثال .وللسف مرة
534
أخرى .لن يكون إل بمثابة الفاقة الخيرة والنهائية لهذا الوجود ،وهي بمقدار إفاقة من كان في
النزع الخير.
ثانيهما :أن هذا النزول في مجموع الفكرة ومجموع المة ،وإل فإن التوقف في النزول حينا أو
الصعود حينا يكون مرة في جزئية الفكرة أو جزئية المة.
والسلم حذر من هذه السنة ،وهى اتخاذ السوة عن طريق المثال بعد غياب الحقيقة أو ما
قاربها في القرون الولى ،وشدد على العودة دوما إلى الحقيقة البيانية مع حقيقة التطبيق الولى،
واعتبر أي نزول في المثال انحراف عن جادة الصواب ،وابتعاد عن الحقيقة.
ومن هذه التحذيرات الواضحة وهي كثيرة قوله صلى ال عليه وسلم:
(( - 1خير الناس قرني ،ثم الذين يلونهم ،ثم الذين يلونهم ،ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم
يمينه ،ويمينه شهادته)) .وفي رواية" :خير الناس قرني ،ثم الثاني ،ثم الثالث ،ثم يجيء قوم ل
خير فيهم" .وهذا الحديث وإن كان بصيغة الخبر ،إل أنه يحمل في طياته أمرا توجيهيا
وتحذيريا ،توجيهيا للمسلم بمن يقتدي ،وتحذيريا للمسلم ممن يتقي.
والحديث نموذج للتحذير الذي قدمناه وهو أنه بعد القرن الثالث (الجيل الثالث) ،ينبغي على
المسلم أن تتوقف لديه صورة المتثال والقتداء عن طريق السوة العملية ،لنها لن تكون
واضحة في شرح الفكرة ول هي واضحة في تمثلها ،والخذ بهذه الصور الحادثة تعطي عن
الفكرة صورة ناقصة أو مشوهة فحينئذ ل بد من العودة إلى الصل وهو يساوي البيان مضافا
إلى النموذج الول.
" - 2عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ،عضوا عليها بالنواجذ ،وإياكم
ومحدثات المور فإن كل محدثة بدعة ،وكل بدعة ضللة" .وبعيدا عن خلف السلف .عليهم
رحمة ال .في قيمة قول الصحابي إل أن السنة التشريعية بإجماع أهل الملة قاصرة على النبي
صلى ال عليه وسلم ل يشركه فيها أحد ،أما السنة التي يقتدى بها فمما ل شك فيه أن النموذج
القدوة للسنة التشريعية هم الخلفاء الراشدون ،وهو نموذج قاصر عليهم وعلى المسلم أن ل
يتعداه في تمثيل البيان عن طريق قدوة ومثال مهما بلغت درجة هذا الخر ،وفي الحديث إشارة
إلى الحوادث المهلكة في إنزال مرتبة القدوة حين قال" :وإياكم ومحدثات المور" ،فالصورة
العملية صورة حادثة ،ول شك أنها بمجموعها ستحوي بعض التشويه والنقص ،فمن أراد الفوز
فليرجع إلى :البيان مضافا إلى النموذج الول.
535
وهناك بعض العوارض في أذهان بعضهم تقدح في هذا المر ،وتسمح بجعل المرتبة المتأخرة
نموذجا للقدوة ،وقبل أن نتكلم على الدلة الموضوعية التي يسوقها هؤلء القوم ،أعلم أن بواعث
هؤلء البعض في إنزال مرتبة النموذج بواعث نفسية ،وأهم هذه البواعث فقدان روح التمرد،
والرغبة في التقليد المريح الذي يسقط عن المسلم الكسول الخامل تبعة المساءلة الخروية،
وتبعة ثمن التضحية في مخالفة عوائد الناس وإيلفهم .وهؤلء وإن رفضوا مقولة العوام" :قلدها
لعالم فتخرج سالم" .إل أنهم في الحقيقة يعيشونها شعورا حاضرا ل يغيب عن أذهانهم ،وهؤلء
أبعد الناس عن الدخول في زمرة التجديد والحياء ،أو الولوج إلى شعار تصفية الحق من دخن
العقول والهواء.
والن ما هي أدلة هؤلء القوم؟:
أدلة هؤلء القوم تقسم إلى قسمين ،قسم فرضته عوائد العلماء كما يزعمون ،وقسم نصي
يسترشد به في دعم الفكرة ،وليس في تأصيلها.
القسم الول :جامع لجراميز أدلتهم وهو قولهم :إن العلماء على الدوام رفضوا اسم العلم أن
يلتصق بفرد أو جماعة أخذت علمها من مصدر البيان مباشرة ،بل ل بد من أفواه العلماء،
والجلوس على الركب أمامهم ،وهذا يدل على أن تواصل العلم عن طريق الرجال ،مشافهة ،ول
شيء في ذلك.
وقولهم هذا ل يعدو أن يكون حيدة عن موضوع البحث ،لن هذا القول هو في البداية حجة
تراثية ،والخصومة حولها وعليها ،والختلف يدور حول حجية التراث والتاريخ ،والمر الخر
هو أن هذا الذي قيل وجد في السنة ما ينقضه ويبدده ،خاصة حين يصبح ويصير لكل طائفة
رجال ،تتخذهم الطائفة قدوة وأئمة ،وتزعم أن مجرى الهدى على محياهم ،ومنبع النور من
أفواههم ،فل بد من قطع علئق الفتن بالعودة إلى الصل وهو :البيان مضافا إلى النموذج
الول.
والسنة التي مدحت العودة إلى الورق دون النظر إلى الشخوص والمثل هي القاطعة لحجة هذا
الفريق ،هذه السنة هي قوله صلى ال عليه وسلم لصحابه يوما(( :أي الخلق أعجب إليكم
إيمانا؟ .قالوا :الملئكة ،قال :وكيف ل يؤمنون وهم عند ربهم؟ .قالوا :النبياء ،قال :وكيف ل
يؤمنون وهم يأتيهم الوحي؟ .قالوا :نحن ،فقال :وكيف ل تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ .قالوا :فمن
يا رسول ال؟ .قال :قوم يأتون من بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بها)).
536
وفي بعض ألفاظه(( :بل قوم من بعدكم ،يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به ،ويعملون بما فيه،
أولئك أعظم منكم أجرأ)).
وفي لفظ آخر(( :يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه ،فهؤلء أفضل أهل اليمان إيمانا))( .
)1
فالحديث بوضوحه يمدح أخذ العلم عن طريق الورق المعلق ،بل جعل هؤلء القوم هم أعظم
الناس أجرا ،وأفضل أهل اليمان إيمانا ،وهذا يدل على أن العصمة عند اختلف الزمان،
وسقوط النماذج الفاسدة الحاملة لسم العلم والعلماء زورا وبهتانا ،هو العودة إلى الورق ،ولن
يضر هؤلء (المتمردين ) قول فلن وعلن ،ورأي زيد وعمرو فإنه ل يعدل أحد عن الطرق
الشرعية إلى البدعية إل لجهل أو عجز أو غرض فاسد كما قال ابن تيمية ،وهذا الطريق ،وهو
أخذ العلم عن طريق الورق المعلق -وهو طريق شرعي -هو الذي يمنع زلة العالم من أن
تقفز إلى ذهن التابع فتستقر تحت اسم العصمة والدين.
والقصد من الوسائل دوما تحقيق المقاصد ،والنشغال بالوسائل دون النظر إلى المقاصد هو
سبيل أهل العي والضعف ،والصل في ذلك كله ،ومقصد الطلب تحصيل الحق أبلجا كما هو،
فحرص الوائل على حفظ هذا الصل دفعهم لوضع شروط حول هذا الحال والمر ،وما دروا
بمصيبتنا مع جهلة هذا الزمان فكان ل بد من البيان.
وإن مما يحتج به أهل التقليد في العصور المتأخرة لئمتهم المتأخرين قوله صلى ال عليه
وسلم " :لكل قرن سابق " وله لفظ آخر " :لكل قرن من أمتي سابقون " وهو حديث صحيح رواه
أبو نعيم في الحلية ،الول من حديث أنس رضي ال عنه ،والثاني من حديث ابن عمر رضي
ال عنهما .وهذه الحاديث وغيرها التي تدل على بقاء الخير ودوامه في أمة محمد صلى ال
عليه وسلم ،وأن ال تعالى تكفل بحفظ هذا الدين ،وأنه ستبقى طوائف من أهل الحق وفية له ،ل
تعني أبدا إل البشارة بذلك ،وأما أمر القتداء بالهدي واتباع النموذج القدوة فليست لي مرتبة
من مراتب هذه المة إل للمرتبة الولى والجيل الول ،ودوام النظر إلى ذلك النموذج الصادق
الصالح يمنع من الوقوع والعثار ،وهو يمنع من الزلل ،وما تلك الصور الحادثة وإن كانت
رفيعة عالية إل صور قاصرة ل تمثل الصورة بتمامها وحقيقتها ،ولعل من أسباب هذا العثار
عدم اجتماع الخير في جيل كما اجتمع في الجيل الول ،وها أنذا أضرب لكم المثلة ليتضح
البيان:
537
درج بعض أهل العلم الوائل على تأليف كتب تجمع في طياتها سير أئمة أعلم ،فبعضها جعل
الخيط الجامع لهؤلء هو الصلح والتقوى ،وبعضهم جعل الخيط :هو الجهاد والشجاعة والقتال،
وبعضهم جعله الفقه والرأي ،وبعضهم جعله الحديث والرواية ،وهكذا تنوعت التقاسيم في هذه
السير في عرض النماذج القدوة في العصور المتأخرة .وكان بعض (الرواة) يبالغ في ذكر
صفات هؤلء العلم حتى يخرج بهم عن حد العتدال البشري ،فلو قرأ المتأخر في كتب
طبقات الصفياء والولياء .كما في كتاب المام أبي نعيم الصفهاني" :حلية الولياء وطبقات
الصفياء" .نموذجا من هؤلء الولياء لرأى فيها العجب العجاب ،فهذا ولي من الولياء إذا دخل
بيته فذكر ال تعالى سبحت معه جدران بيته ،وآنية المطبخ في بيته ،وسبح معه فراشه حتى
يسمعها كل من حضر ،وهذا ولي آخر يرى بأم عينيه ذنوبه وهي تتساقط مع قطر ماء
الوضوء ،وهذا ولي آخر يتورع عن أكل ما حضر في السوق ،ويرفض أن يشتري منه ويأبى
الكل إل من القفار والخلء ،وهذا ولي لم يتزوج ،وآخر ل ينام ،وولي ل يضحك ،وغيره ل
ينظر إلى السماء وغيرها من الصور الحادثة التي ل تعبر أبدا عن حقيقة هذا الذين ول عن
واقعه الصحيح ،وقارئ هذه النماذج يصاب بخيالت وأوهام تستقر في ذهنه عن النموذج
(الولي) مما يجعله :إما دائم السعي للوصول إلى هذه المراتب ،ولن يصل ،وإما في يأس من
بلوغ هذه المرتبة ،والنتيجة هي القعود وترك العمل.
وطامة أخرى يصاب بها المتأخر :وهي أن كثيرا من هذه النماذج (من طبقات الولياء) يراها
ممدوحة معظمة في جانب الولية والصلح في كتب بعضهم ،فإذا اطلع على كتب أخرى .ناقدة
ممحصة .رأى فيها أخبارا تزري هذا الولي ،وتقذفه بأشد أنواع الحماقات والغفلة ،فلو قرأنا
مثل عن أبي يزيد البسطامي (طيفور بن عيسى) فهو الولي في باب الولية حتى أنه يسمى
بسلطان العارفين ،وهو يجاهد نفسه على الدوام حتى أنه قال عملت في المجاهدة ثلثين سنة.
الحلية ( .)10/36ثم في موطن آخر تقرأ عنه أنه من زنادقة الصوفية فهو يقول :سبحاني" ،و"ما
في الجبة إل ال" ،ما النار؟! لستندن إليها غدا وأقول اجعلني فداء لهلها وإل بلعتها ،ما
الجنة؟! لعبة صبيان ،ومراد أهل الدنيا .ما المحدثون؟! إن خاطبهم رجل عن رجل فقد خاطبنا
القلب عن الرب.ا.هـ .ميزان العتدال للذهبي ( ،)2/246فهذا كلم زنديق ل كلم عارف ول
ولي.
538
وهكذا على هذا المنوال جرى كل قوم في مدح رجالهم وتعظيمهم ،فأهل الحديث والرواة
يبالغون في تعظيم أئمتهم فيسوقون عنهم الخبار التي ل تعقل ،مثلما ذكر بعضهم عن المام
البخاري رحمهم ال تعالى في قصة قلب الحاديث عليه في بغداد .قال الخطيب البغدادي" :فإنهم
اجتمعوا (أهل الحديث في بغداد) وعمدوا إلى مائة حديث .فقلبوا متونها وأسانيدها ،وجعلوا متن
هذا لسناد آخر ،وإسناد هذا لمتن لخر ودفعوها إلى عشرة أنفس .تقول الرواية :فلما قرأها رد
كل حديث إلى إسناده ،وكل إسناد إلى متنه ،ولم يرج عليه موضع واحد مما قلبوه وركبوه،
فعظم عندهم جدا ،وعرفوا منزلته في هذا الشأن" .وهي قصة ل تصح ،ونبه إلى عدم صحتها
المام الذهبي رحمه ال تعالى.
وكذلك من مبالغات أهل الحديث في رجالهم قولهم عن الرجل( :كل حديث ل يعرفه فلن فليس
بحديث) .وهذه العبارة كثر ترديدها في مدح بعض المحدثين ،وهذا ل يقع أبدا ،فإن المام
الشافعي رحمه ال تعالى نبه في كتابه العظيم "الرسالة" إلى خطأ هذا القول ،وقال ص :139
"والعلم به (أي لسان العرب) عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه ...ل نعلم رجل جمع
السنن فلم يذهب منها عليه شيء".
وصار نموذج المحدث المتفرغ للحديث هو النموذج المقتدى ،فهو رحال ل تشغله شاغلة ،وليس
له من هم إل الرواية وجمع السانيد ،فهذا المام أبو بكر ( الخطيب البغدادى) عليه رحمة ال
تعالى ،كان حريصا على علم الحديث ،وكان يمشي في الطريق وفي يده جزء يطالعه)2( .
وهو نهم مشروع بل محبوب عند ال تعالى ،ولول هذه الهمة العالية ما وصل إلينا دين ال
تعالى ،ولكن السؤال :هل أبو بكر الخطيب البغدادي هو نموذج المسلم في كل زمان؟ وهل إذا
وقعت بالمسلمين المصائب والرزايا ووجب على المسلمين جميعهم واجب ،لم يكن لهم أن
يخرجوا عن مثال الخطيب رحمه ال تعالى؟.
وهل علينا أن نصنع كما صنع أبو حامد الغزالي وقت الحروب الصليبية ،عندما اعتزل في بيت
المقدس السنين الطوال وهو متفرغ لذكر اسم ال المفرد للوصول إلى لحظة العرفان والجذبه،
والمسلمون يذوقون أقصى البليا على يد الصليبيين الكفرة؟!.
وكذلك عندما يقرأ المرء هذه السير يستقر في ذهنه صورة مشوهة وقاصرة ،ول تكشف لك
سير الحياة الصحيحة للبشر في حركتهم ومعيشتهم لنها تقتصر في أخبارها على ما تريد من
شخصية المترجم له ،فالعابد ل تساق لك من أخباره إل العبادة فلو سألت مثل :كيف كان يأكل
539
هذا الرجل؟ وهل تزوج؟ وهل كان يعاشر زوجته وأبناءه؟ وهل كان يتاجر؟ وهل ماكس في
سعر بضاعته؟ وهل خاصم أحدا؟ وهي أمور ل يمكن أن تخلو منهما بشرية إنسان كائنا من
كان ،وهي ل تذكر في سير هؤلء الئمة لنها ليست بشيء ،ول قيمة لذكرها .ولكننا لو عدنا
إلى النموذج الول وهم أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وإلى التراجم الحقيقية لهم
وليست تراجم المتأخرين التي غلب عليها المبالغة والتهويل ،لرأينا الصورة الحقيقية لحركة
النسان ،وهي الصورة الحقيقية لمثال السلم الصحيح.
وقد سيقت أخبارهم -رضي ال عنهم -وأخبار إمامهم رسول ال صلى ال عليه وسلم مع ما
فيها من بشرية حقيقية ،ومثال جامعا لنها دين ،وهي تشريع لكل زمان ومكان ،فحينئذ ل ترى
التهويلت التي ل مكان لها في حياة البشر ،فليس هناك الصحابي الذي ل يضحك أبدا ،وليس
هناك الصحابي الذي ل يخاصم أحدا أبدا ،وليس هناك الصحابي المعتزل حياة الناس وحركتهم،
وليس هناك (مدينة الموت) التي ل يوجد فيها صخب السواق وخصومة الباعة ومنازعة
الحقوق ،بل ترى الحياة بكل صخبها وكل حركتها ،وترى بشرية النسان بما فيها من نوازع
ورغبات وشهوات .فلو قرأت صحيح المام البخاري وصحيح مسلم لرأيت الحياة الحقيقية
والنموذج الحقيقي الواضح للنسان النموذجي ،وللسلم عندما يطبق.
حينها ترى عبادة العباد بصورة صحيحة وترى جهاد المجاهدين بصورة صحيحة ،فأنت حين
ترى المسجد وما فيه من عبادة الصحابة ،ترى فيها بشرا يضحكون ويتسامرون ويختصمون،
بل ويتضاربون بالنعال.
وأنت حين ترى المجاهدين ترى شجاعة القوم ببشرية حقيقية ،فهم يتألمون حين يصابون،
ويصرخ أحدهم من اللم ،وهم ربما هرب المقاتل منهم فهو يصارع نفسا بشرية قد تغلبه وقد
يغلبها ،ثم هم يغنمون فيختصمون على الغنيمة وتعلو أصواتهم ،وهم يبيعون ويشترون
ويختصمون ويحتاجون إلى من يحكم لهم ،وقد تخرج من فم أحدهم الكلمات (كلمات البشر حين
الخصومة) ،وقد يتنازعون حتى يحلف الواحد منهم أن ل يكلم صاحبه ،بل ربما مات أحدهم
وهو مخاصم لخيه.
وأنت ترى الزوج في بيته في حركة حقيقية ،فهذا يشتهي زوجته وهي قائمة تصلي ،وهذا
يضرب زوجته ،وهذا يداعب أولده ،وهم مع ذلك كله أولياء ال تعالى .إنه النموذج الحقيقي
للسلم الصحيح والبشرية الحقيقية ،هم أولياء ال حقا ،والنخالة في غيرهم.
540
( - )1انظر "الباعث الحثيث" بتعليق أحمد شاكر ،هامش ص .125
( - )2انظر المنتظم لبن الجوزي (.)8/267
السلفية والتقليد
لما كان التقليد شرا من كل وجه ،ويكفي أنه يعطل أعظم نعمة ل على عباده ،وهي إطفاء نور
العقل الذي يتميز به النسان عن غيره ،فإن سبيل الشيطان في تحجيم دور الحق في نفوس
أتباعه ،ثم إماتته ،عن طريق الخمول والكسل اللذان استعاذ رسول ال صلى ال عليه وسلم
منهما ،والدعوة السلفية في أصلها إحياء للقواعد التي أحيت في المة روح البحث ،وفجرت في
نفوس المة عوامل البناء والنظر المبدع ،وهكذا ينبغي أن تكون ،ويجب على أصحابها
المحافظة عليها من عوامل الدخن والتشويه ،فالدعوة السلفية هي إحياء المنهج العلمي وتجريده
من الشوائب الفاسدة ،والعوامل الدخيلة ،وهي كذلك تحطيم لغلل الرادة المعوقة لستقلل
النسان في البحث والنظر ،فتجريد المنهج العلمي ،يحمي المرء من الظن الفاسد ،والوهم
الكاذب ،وتحرير الرادة يمنع المرء من الوقوع في الهوى ،والهوى في أهل التقليد هو الكسل
المن ،وهو الذي يدفعهم إلى ربط عقولهم بدعة واطمئنان في أيدي غيرهم دون تمحيص
ومجاهدة ،وقد جع ال تعالى الظن والهوى في آية ،وجعلهما مقابل الحق الذي بعث به رسول
ال صلى ال عليه وسلم قال ال تعالى{ :إن يتبعون إل الظن وما تهوى النفس ،ولقد جاءهم من
ربهم الهدى}.
وقد بدأت الدعوة السلفية بكل قوة بتحطيم أوهام الظن ،ومعوقات الهوى في بداية أمرها ،فنشأت
بوادر التحقيق العلمي قريبا من النص المعصوم ،وبعيدا عن الراء والجتهادات الواهمة،
وشنت الغارة تلو الغارة على معاقل التقليد والعصبية والمذهبية وبدأت عملية إحياء المنهج
العلمي على صورة تطبيقات لمسائل أغلبها قد بحثت عند المتقدمين ،كتحقيق الصلة النبوية
الصحيحة ،وكذلك حقيقة الحج ومسائله ،والزكاة ومسائلها ،والجنائز وما يتعلق بها ،وبدأ المرء
يقرأ حديث رسول ال صلى ال عليه وسلم ومنه مباشرة يتعامل في أخذ الحكم الشرعي ،وكان
مما دافع به بعض مشايخ السلفية هذه الجتهادات ،حين اتهم خصوم السلفية من المذهبيين
والمتعصبين أن على هؤلء المجتهدين الجدد (السلفيين) أن يبحثوا في المسائل الجديدة الحادثة،
ويجتهدوا في إعطاء الحكام للنوازل ،ل أن يتعبوا أذهانهم ،ويصرفوا جهودهم للمسائل التي
أشبعت بحثا .كان جواب السلفيين على هذه النتقادات يقول :إننا نتمرن في الجتهاد والبحث
541
العلمي في هذه المسائل الولى والتي من خللها نترقى في الوصول إلى عظائم المسائل ودقائق
الحكام.
وهذا جواب منطقي صحيح ،وهو اعتراف أن هذه العمال تطبيقات مرحلية وليست النهاية ول
منتهى الطلب.
وقد شن السلفيون غاراتهم الموفقة على الكتب المذهبية ،وأسقطوا عصمتها حين كشفوا للناس
أن هذه الكتب ل تملك الدليل المعصوم وهي في أغلبها آراء وأقوال رجال ،ل يملكون العصمة
في أنفسهم ،بل هم عرضة للصواب والخطأ ،فأعرض طالب العلم عن كتب الراء والفقه
المجرد عن الدليل ،وبدأوا يوجهون قلوبهم وعقولهم إلى كتب النصوص ،أو إلى كتب الفقه
المشبعة بالدليل ،وبدأت صور من المعارك نحو اكتساب الهداف من الطراف المتناقضة في
هذه المسائل وغيرها ،وبدأ الشباب المجتهد يقيم المعارك في المساجد والجلسات واللقاءات
لتحقيق المنهج السلفي الصحيح ،حتى تحقق له الكثير من المكاسب ،وغنم الكثير من الهداف،
وهي مكاسب تحققت عن طريق المناقشات الحامية في المساجد حتى كاد المر يصل إلى ما ل
يحمد عقباه من رفع الصوات والتقاذف بالتهم والرمي بالجهل وعدم احترام العلماء ،وكذلك
تحققت كتب حوت أبحاثا علمية مجردة إل من الحاديث ،أو الجتهادات المصاحبة للدليل.
وفي النهاية أوجد هذا التيار الجديد القديم مكانا ووجودا وبدأت علمات الزهو والغرور تستقر
في عقله ونفسه ،فبدأت النتكاسة في نهاية الدور الول لهذا الوليد الحي .فما الذي حدث لهذا
التيار الجديد؟.
أراد هذا الوليد أن يربط المسلم بالنص من خلل طرحه لمسائل يومية ملحة عليه ويتعامل معها
دوما ،فهناك صفة صلة الرسول صلى ال عليه وسلم كأنك تراها ،وهناك أحكام الجنائز،
وهناك أحكام الحج ،وهناك أحكام المولود ،وهناك ..وهناك ..وهي كتب أرادت إحياء النص
ليتعامل معه المسلم مباشرة ،وما إن أقبل الشباب المسلم عليها بلهف وشوق ،ولعوامل قدرية
سننية كان البعض من المشاركين في هذه الكتب يجني بعض المغانم المادية ،وللقاعدة المتبعة
في اتهام الخصوم (تغيير شكل من أجل الكل) فإن الفكرة ما لبثت أن ماتت في مهدها ،فظهرت
الكتب المذهبية الجديدة ،والعصبية المتطورة فكتاب صفة صلة الرسول صلى ال عليه وسلم
صار مختصر صفة صلة الرسول صلى ال عليه وسلم.
542
و قد يتوهم سلفي أن المختصر إنما هو القتصار على ذكر النص الحديثي فقط ،وبدون زيادة،
أي من غير ذكر الجتهادات الخاصة والرؤى الذاتية ولكن خاب ظنهم ،فقد كان المختصر هو
إزالة النص المعصوم والبقاء على متن هو خلصة رؤى ذاتية واجتهادات خاصة ،ولما سأل
سائل لم فعلتم هذا؟ كان الجواب :من أجل أن ل نشغل العوام بما ل يعنيهم ،ولتقريب الفقه إلى
غمار الناس ،ومن أراد معرفة الدليل فليرجع إلى أم الكتاب وأصله.
وهكذا صنعت الكتب الخرى كأحكام الجنائز وغيرها .وعادت السلفية مذهبية وتقليدا.
وهذه الحجج التي قيلت هي هي بعينها حجج أهل التقليد الوائل ،فالمام السلفي محمد بن
إدريس الشافعي حين ألف كتابه القيم "الم" وهو كتاب فقهي جامع للنص واجتهادات المام من
تصحيح حديث ومن استنباط مسألة ،وهو إمام عظيم كان ينهى أتباعه عن التقليد ،وبدأ تلميذه
يعلقون على كتابه ويزيدون وينقصون ،وبعد طورين أو ثلتة من وفاة المام نشط بعض أتباعه
بتقريب فقه الشافعي للعوام ،فما كان منهم إل أن اجتهدوا فاختصروا الكتب بأن أبقوا على
نصوص المام ،وأزالوا الدلة وقالوا للناس ما قاله أتباع المذهب الجديد ،وعلى ضوء هذا
تشكل مذهب الشافعي ،وهو من هو في نهي الناس عن التقليد ،ولو استشير في زمانه أن يكتبوا
رأيه بل دليل لستشاط غضبا ،ولبين لهم ضلل فعلهم وصنيعهم ،ومثل مذهب الشافعي تشكلت
كثير من المذاهب الفقهية الخرى من حنفي ومالكي وحنبلي إلى غير ذلك ،وهم على كل حال
تشكلت مذاهبهم بالصورة المقيتة بعد وفاتهم ،وجزما بعد وفاة تلمذتهم المباشرين لهم ،ولكن
مذهبيتنا المعاصرة تشكلت في عصر أئمتنا ومشايخنا(( .قلت :هذا الكلم فيه نظر كبير وعدم
فهم لسباب الختصار والشرح))
ولما سقطت صورة التقديس الباطلة من نفوس الشباب نحو الئمة وغرست في نفوسهم مقولة:
أنهم بشر ،يخطئون ويصيبون ،فصار من المر المعتاد ،والمشاهد المألوفة أن تجد طالبا مبتدئا
أتقن مسألة علمية وبحثها بحثا مقبول أن يكتشف خطأ أبي حنيفة أو غيره من الئمة ،فيعلن بكل
صراحة أن مذهب الحنفية أخطأ في هذه المسألة ،وهي صورة ل تنكر إن قامت على سوق
صحيحة ،ولكن مذهبيتنا الجديدة صنعت قداسة جديدة لئمة محدثين ،وصار من الجرم الذي ل
يغفر ،والذنب الذي ل يتاب منه أن تقترب من حمى الشيخ ،أو أن ترد عليه.
وقد جاهدت السلفية الولى أن تعمم الفقه خارج دائرة المذاهب الربعة فصار من العلم وسماته
أن يذكر المرء رأي ابن حزم الظاهري أو رأي أهل الحديث كالبخاري ومسلم ،ولكن عباقرتنا
543
الجدد يأبون علينا أن نخرج عن لفظ الربعة ،فل رأي يقبل ول قول يحترم إل إذا خرج من
تحت عمائم الشيوخ "السلفيين" وعددهم أربعة ،قد يتفقون على اثنين أو ثلثة ثم يختلفون في
الباقي .هذا ما كان من أمر الظن والتقليد ،أما تحرير الرادة فلها مجال آخر.
دعوى تطوير الخطاب الديني بين العلمانيين والرائيين:
بنظرة يسيرة ندرك أن أمتنا فيها أمراض ذهنية وأمراض نفسية ،والعلقة بينهما علقة تضامنية
ومطردة ،كل مرض يدفع المرض الخر للرتقاء والتنمية ،النفس تمد العقل بالهوى ،والعقل
يبرر هذا الهوى على صورة أفكار تحمل سمة العلم والبحث ،ومنشؤهما :الظن والهوى {إن
يتبعون إل الظن وما تهوى النفس ،ولقد جاءهم من ربهم الهدى} ،وجذور المراض النفسية
هي نفسها جذور المراض الفكرية ،لكن الغريب أن سبب هذه المراض هو الدعوى أن المة
بحاجة لمناهج جديدة وطرق جديدة لصد الخصوم الخارجيين .وتحت دعوى تطوير الخطاب يتم
تطوير المضمون (أي حرف المضمون) ،فيتجدد الدين أي يصبح شيئا جديدا ل يعرفه الوائل.
كيف نشأت دعوى تطوير الخطاب الديني؟:
نحن أمام تجربة سبقت في تمرير مفاهيم بدعية ضللية ،وقد قاومتها المة أحسن مقاومة ولكنها
استطاعت لسباب قد نأتي على ذكرها يوما أن تقتحم السور وتستقر في داخله كممثلة وداعية
للسلم الصافي.
مضمون الدين مرتبط بطريقة الخطاب ارتباطا حتميا ،وما من محاولة يقوم بها أهل الهواء
لتطوير الخطاب إل ويكون القصد (ويقع بالفعل) حرف الدين عن مفاهيمه الصحيحة ،وما من
محاولة لحرف الدين عن مفاهيمه الصحيحة إل ويضطر أصحاب هذا النحراف إلى استخدام
ألفاظ جديدة وبنى للخطاب الديني ،وخلل مسيرة التحريف يرفع أصحاب الهواء راية التقدمية
والعقلنية وينبزون خصومهم بألقاب الرجعية والحشوية والتزمت.
وعلى الرغم من أن أهل الهواء في هذا الباب تتفاوت مراتبهم وتتباين درجاتهم إل أن أغلبهم
يريد أن ينشئ فقها جديدا ،وتسيير بدعة جديدة بين المسلمين.
مراتبهم تتفاوت من نبز الخصوم (والخصوم هنا هم أهل الحديث والثر) بالعقلية الفقهية ،إلى
درجة تسميتهم بالرثوذكسية السلمية.
544
أصحاب الهواء هؤلء ليسوا بدعة نابتة في يومنا هذا ،بل لهم امتداد زمني منذ ( )1200سنة
هجرية مضت ودعوى البداع هي دعوى خبيثة ل جذور لها ،بل هي قائمة على الكذب
والتضليل.
فالمعتزلة يسمون أهل الحديث بالحشوية ،وقصدهم من ذلك أن أهل الحديث ل يعملون عقولهم
في النص ،بل دورهم التقليد والتباع وهو دور العوام وضعاف العقول من الناس .وسموهم
كذلك غثاء وغثراء (أي سفلة الناس) .وكذا قلد المعتزلة المتكلمون من أشاعرة وماتريدية .أما
هم فذهبوا يتقنعون بأردية اللقاب الرنانة كأهل العدل والتوحيد ،وأهل الحكمة والنظر ،وأبصر
الناس بمقاصد الشريعة ،ومآلت المور.
أما تفاوتهم الذي تكلمنا عنه فهو واقع ول شك في عصرنا هذا ،ولكنهم كلهم مجمعون على
تحطيم الذهنية الفقهية في التعامل مع المور ،ويأنفون من البحاث الصولية التي تنهج الطرق
السلفية في البحث والنظر.
إن العقلية الفقهية هي التي تحمي المرء من النزلق في الهواء الردية تحت دعوى حرية
البحث وتجديد الخطاب الديني ،أو تحت دعوى وجود اختلف وجهات النظر الفكرية.
وقبل أن أضرب المثلة على هذه الطريقة الخبيثة فإن علينا أن نتذكر أن هؤلء القوم يزعمون
أن قيامهم بهذا المطلب -وهو تجديد الخطاب وبالتالي تجديد المضمون -إنما هو لحرصهم
الشديد على إعطاء السلم قوة وآلية جديدة لتستطيع الوقوف أمام المد التغريبي العاتي .لقد
سمح المبتدعة الوائل لنفسهم هذا البتداع وهذا التطور المزعوم تحت دعوى موافقة الشريعة
للحكمة اليونانية ،حتى ل ينشأ في عقول العوام اهتزاز من صلحية الشريعة وصواب مقولتها.
التفاوت يمتد من العلمانية المائعة (وهو اصطلح يطلقه العلمانيون الملحدون والذين يرفضون
التبرير للعلمانية من خلل مرجعية مقدسة مثل القرآن والسنة ،وإنما مرجعية العلمانية عندهم
هو النسان مستقل ،والمقصود عندهم بالعلمانية المائعة الذين يبررون للعلمانية ويحتجون لها
بالكتاب والسنة والتراث) وهذا الساس يدخل في قيده كم طائل من المثقفين والمفكرين (كما
يحلو للناس أن يسموهم) وعلى رأسهم:
- 1حسن حنفي :ومشروعه التراث والتجديد ،وانظر كتابه "من العقيدة إلى الثورة".
- 2محمد عابد الجابري :ومشروعه نقد العقل العربي ويقصد العقل السلمي.
- 3محمد أركون :ومشروعه نقد العقل السلمي.
545
وغيرهم الكثير.
قلنا إن التفاوت كذلك يمتد من العلمانية (المائعة!) إلى الرائية من مفكري السلم وبعض
فقهائه المتميعين أمثال:
- 1راشد الغنوشي.
- 2حسن الترابي.
- 3محمد الغزالي وغيرهم الكثير.
بل يصل هذا الثر إلى بعض المنتسبين إلى مسميات السلفية والجهادية وغيرها ،فقد نشأ في
هذه المسميات من يقدح ويستهزئ بالعقلية الفقهية ،والمنهجية السلفية في البحث العلمي
والتحليل.
وقد يكون من المشاريع الهامة جدا في هذا الظرف نصب المجانيق وتجهيز الجيوش لغزو
هؤلء المبتدعة ودك حصونهم ،وكشف مآلت أفكارهم وضللها ،من أجل إعادتها إلى جحورها
مهزومة خاسئة كما فعل أسلفنا.
صحيح أن هؤلء فقدوا أسباب النصر ومن أهمها عدم توفيقهم لخطاب الفطرة كما هي طريقة
القرآن الكريم والسنة النبوية والسلف الصالح فبقي خطابهم نخبويا أكاديميا ل ينزل إلى مستوى
حركة الشعوب والتأثير على النسان إل أن خطورته تكمن في آثاره التي ستبقى عالقة في
أذهان بعض قادة الحركات السلمية مما يجعل المرحلة القادمة تتهيأ لنصر هؤلء المتكلمين
الجدد .وذلك كما انتصر المتكلمون القدماء في كسب الساحة إلى صالحهم.
لقد فشل المعتزلة فشل ذريعا ،وخرجوا من المعركة مع أهل السنة بخفي حنين حتى أن تراثهم
لم يبق منه إل شيء يلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد ،ولم يبق من كلماتهم وأفكارهم إل التي
حفظت كتب المقالت والفرق ،ولكن أفكار المعتزلة وطروحاتهم ومناهجهم تطورت مع جماعة
من المبتدعة ،إذ تشربوا منها بعض نفثاتها وأصابوا من أفكارها كما أصابت الفكار منهم فنشأ
ما يسمى بالمتكلمين من الكلبية والشاعرة والماتريدية ،وبقليل من الجهد والتحالف مع الفكر
الصوفي الغنوصي استطاع هؤلء المتكلمون أن يحكموا سيطرتهم على النتاج السلمي
والساحة السياسية والمنهجية في العالم السلمي.
وبصورة أوضح نقول صحيح أن عمرو بن عبيد والجهم بن صفوان والغزال وأبا هاشم الجبائي
وأبا علي الجبائي وغيرهم من مشايخ المعتزلة لم يتقلدوا قيادة المة ،ولكن مهدوا الطريق،
546
وسهلوا المهمة لمن جاء بعدهم من أفراخ المعتزلة ،حتى صار هؤلء المخانيث (أي أفراخ
المعتزلة من أشاعرة وماتريدية) هم قادة الفقه والفهم في تاريخ أمتنا ،وبالتالي لنا أن نطلق
صرخة التحذير مع عدم خوفنا من تقلد العلمانيين المائعين لقيادة الشباب المسلم والتيارات
السلمية في البلد ،ولكن صرخة التحذير من تولي أفراخهم ومخانيثهم لهذه القيادة في الزمن
الحاضر والمستقبل(( .الكلم عن الشعرية والماتريدية فيه شيء من الشطط والغلو ))
إننا نرى بعض أثار هذه الفكار بدأ يغزو وبقوة وبطء الشباب المسلم ،وبدأت مظاهره على
صورة احتقار الخطاب الفقهي الصارم :هذا حلل ،وهذا حرام ،إلى دعوى جديدة وهي احترام
وجهات النظر ،والسماح بالتفكير إلى أبعد الحدود وفي المقدسات.
دعوى حضارية الخطاب العلماني الرائي وتخلف الخطاب السلفي الثري
لقد بدأ بعض الشباب ينبز العقلية الفقهية والخطاب السلفي بالتخلف ،وأنه خطاب غير حضاري،
ول يلئم هذا العصر ول يوافقه .لكن علينا أن نتذكر نقطة مهمة ومهمة جدا وهي أن الخطاب
الفقهي هو الذي يحفظ لهذا الدين جوهره لنه يحمل في ثناياه -بل في كل ثنية فيه -وكل لفظ
فيه حقيقة هذا الدين ،وأن هذا الدين هو خطاب الرب لعبيده ،وأن القصد من هذا الخطاب هو
تحقيق الدين في العبد ،بأن يصبح متدينا تدينا إسلميا ،وإن أقل ما يصنع هذا الخطاب البدعي
المنحرف رجل مفكرا تفكيرا إسلميا ،ويظهر هذا واضحا بين شخصيتين ومثلين ،فلو نظرت
إلى صورة نموذجية لهؤلء المبتدعة الجدد لرأيت أن مجرد الحديث عن اللتزام العلمي
بالسلم داخل في حديث النكتة والطرافة ،وإن رجل من رجالت الفكر السلمي كالعقاد مثل
كان يعقد ندوته السبوعية وقت صلة الجمعة ،وهو مثال عليك أن تضربه بعشرة هذه اليام
لتعلم مقدار التزام هؤلء المفكرين بالسلم وتشريعاته.
الخطاب الحضاري المزعوم القصد منه إفراغ السلم من حقيقته وجوهره وأنه دين جاء للناس
ليمتثلوا أمره ،ويخضعوا له ،الخطاب الحضاري المزعوم يصنع شخوصا تؤمن بالسلم
الحضاري على صورة أفكار ممتعة نتداولها في سهراتنا وندواتنا وأحاديثنا.
لقد بدأت بذرة الخبث تطل برأسها من احتقار الحديث عن الفقه وأحكامه ،وعن المجال الذي يهم
النسان الفطري وهو العمل ،إلى الحديث عما ل فائدة فيه سوى كونه متعة مشروعة إذا كان
بعد العمل.
547
إن أئمتنا كانوا يكرهون من الحديث ما ل يتبعه عمل ،وقد ألف المام الخطيب البغدادي كتابا
سماه "اقتضاء العلم العمل" .وقد كره السلف الكلم في الخطرات والوساوس ،حتى أن المام
أحمد بدع الحارث المحاسبي لكتابته هذا النوع من العلوم لنه ل عمل تحته ،وهو إشغال الناس
بشيء ل فائدة فيه ،أو لنقل فائدته أقل من غيره.
العقلية الفقهية ،والمنهج السلفي يحفظ لنا استقللنا ،ويعرفنا بأقرب طريق ماذا يريد ال منا ،وإن
معرفتنا لمراد ال من أجل العمل هو مقصد خلقنا.
دعاة التجديد والتحرر المعاصرين يجمعهم قيد واحد ،وينتظمهم سلك جامع هو دعوتهم إلى
تجديد أصول الفقه ،لنه بتغير أصول الفقه ستخرج نتائج مختلفة عما خرج به الوائل من
أحكام وأوامر فهموها من الكتاب والسنة ،وقبل أن أخوض باختصار في جذور هذه البدع فإني
أنبه إلى نقطة مهمة وهي أن كتب الصول الحديثة ،والتي كتبت من قبل المعاصرين ل نستطيع
أن نعدها كتب أصول كما هو إطلق الوائل ،فكتب الصول هذه عبارة عن مصطلح أصول
الفقه ،أي شارحة لمصطلحات أصول الفقه ،فهي تعرفنا بأدلة الحكام الجمالية سواء كان
المتفق عليها كالكتاب والسنة والجماع والقياس ،أو المختلف عليها كقول الصحابي والستحسان
والعرف وغيرها ،ثم هي تعرف القارئ بمراتب الحكام من واجب ومستحب ومباح ومكروه
وحرام ،وهكذا هي تشرح فقط مصطلحات هذا الفن العظيم ،ول تعالج آلية عمل هذه الصول
في استخراج الحكم الشرعي ،بمعنى أن هذه الكتب ل تنشئ أصوليا ،وبالتالي ل تنشئ لقارئها
ذهنية وعقلية قادرة على استنباط الحكم الشرعي أو الترجيح بين الدلة (أي الملكة الصولية)،
فكتب الصول هذه هي كتب مصطلح فن أصول الفقه فقط ،وهي بهذا على خلف الكتب
الحديثية القديمة في أصول الفقه وعلى رأسها كتاب المام الشافعي "الرسالة".
أصول الفقه السلفية مأخوذة من منبعين اثنين:
أولهما :اللسان العربي وأساليبه.
ثانيهما :العلقة بين المخاطِب (بكسر الطاء) والمخاطَب (بفتح الطاء).
ولنضرب على ذلك مثال:
لو جاز للناس أن يختلفوا في دللة المر في أصل اللغة العربية ،وهل يفيد الوجوب (كما هو
رأي الجمهور) أو يفيد غير ذلك أم أنه ل يفيد إل مجرد الطلب ،قلت :لو جاز للناس أن يختلفوا
في أصل الوضع اللغوي لصيغة المر هذا الختلف لما جاز لهم أن يختلفوا على دللة المر
548
في الكتاب والسنة ،وسبب ذلك أن العلقة في هذا الخطاب بين المر والمأمور هي علقة
العبودية -سيد يأمر وعبد يطيع -وهذه العلقة توجب على الدارس أن يحمل صيغة المر
على الوجوب وعلى الفور كذلك ،فلو طلب صديق من صديقه -علقة متكافئة -شيئا واستخدم
صيغة المر فإنها ل تحمل في طياتها دللة الوجوب ،لنها لم تقع على صفة الستعلء ،والمر
في الكتاب والسنة وكذا النهي إنما يقعان على وجه الستعلء -سيد يأمر وعبد يطيع .-
ولما كان القرآن والسنة لغتهما عربية فالمرجع في الفهم هو العربية وأساليبها ،ولما كان -
هؤلء المبتدعة قد تنشقوا وتضلعوا في غير بيئة العرب ،ونشأت دراستهم في معاهد غربية،
فإنهم ظنوا أن هذه الطرق الجديدة في التحليل والتفكيك -كما يسمونها -هي القدر على
معرفة مراد ال في كتابه ومراد رسوله صلى ال عليه وسلم في سنته ،وتكون قواعد هذه اللية
والعقلية والملكة ل تستند إلى القواعد العربية ،فيشنوا غاراتهم على أصول الفقه لوجوب تجديده
-أي تغييره .-
دعاة التجديد وتهافت الخطاب
حسن الترابى دعا أول ما دعا إلى تجديد أصول الفقه وخرج بنتائج مرعبة تطمس قواعد
الشريعة وتلغي ثوابتها ،وقال فيما قال :الجماع عند الصوليين هو اجتماع أمة محمد صلى ال
عليه وسلم على حكم شرعي ..وقال :الشرط الذي وضعه الصوليون بأن الجماع هو إجماع
المجتهدين شرط باطل لن الشريعة جعلت الطاعة ل تعالى ولرسوله صلى ال عليه وسلم
ولولي المر ،فأولي المر هم العلماء والحكام ،ومحاولة جعل طبقة تسمى العلماء في المجتمع
السلمي محاولة خبيثة (هكذا يقول) القصد منها تعطيل المة عن ممارسة حقها ،ثم سلبهم
بالتالي هذا الحق وإعطائه للعلماء ،والعلماء قد قننوا هذا السلب في كتب الصول (هكذا يفتري
على الئمة العلم) .قال :وهذا الجماع عند بعض الصوليين (وهو الصواب في رأيه) أقوى
من الكتاب والسنة ،أي المة لو اجتمعت على شيء وهو بخلف ما علم من الكتاب والسنة
فالصواب ما اجتمعت عليه المة للثر ((ل تجتمع أمتي على ضللة)) .ثم يقول :ولما كان
صعبا وصعبا جدا معرفة آراء الناس جميعا ،فالطريقة المقترحة لمعرفة هذا الجماع هو أن
يختار كل تجمع نائبا لهم ووكيل يمثلهم ،فإذا اتفق هؤلء النواب والوكلء على أمر فهو حكم
ال تعالى ،لنه حكم الجماع ،أ ي البرلمان السلمي هو الذي يقرر لنا الجماع ،فلو قال لنا
البرلمان المنتخب حكما من الحكام فهو حكم ال المراد ولو كان يخالف الكتاب والسنة.ا.هـ.
549
أرأيتم هذا التجديد إلى أي شيء وصل؟! ،لقد وصل إلى الكفر ،نعم الكفر بال حيث أجاز للناس
أن يشرعوا على خلف الكتاب والسنة صراحة ،لقد حذر المام الشافعي من ترك الناس أصول
العرب ،أي أصول الفقه واتخاذهم المنطق دينا وسبيل قال رحمه ال تعالى :ما جهل الناس ،ول
اختلفوا إل لتركهم لسان العرب ،وميلهم إلى لسان أرسطوطاليس.ا.هـ)1( .
قد يقول قائل :أنت تفتري على حسن الترابي باتهامه تبديل الشريعة وتغييرها ،فأقول لهذا القائل
اقرأ معي هذا النص جيدا" :تراثنا الثقافي المتميز أيضا مما ينبغي أن نحفظ أصالته -وأن نبني
عليه -تفاعل مع الخرين ،وتجديدا له وتجاوزا له في بعض حين")2( .
نعم :وتجاوزا له في بعض حين ،وهذا الحين غير مقيد ،ول ضابط له بكونه قليل أو كثيرا ،فما
كان قليل عند الخرين هو كثير عند البعض الخر.
ماذا تقول العلمانية المائعة؟:
محمد أركون هو أكثر هذه الزمرة أدبا ،وهو يعلن في كل كلمة أنه ل يتجاوز الكتاب والسنة
ولكنه يقدم آلية وملكة تعلمها من المعاهد الغربية ،وبهذه اللية سيجعل الفكر السلمي يخرج
من قمقمه الصدئ ومن أرثوذكسيته -كما يقول -إلى رحاب العالمية.
شرح محمد أركون شيما عن مشروعه في كتابه "أين هو الفكر السلمي المعاصر" (ناشره دار
الساقي) يقول في المقدمة الحزينة له حيث يشرح فيها نفسه :ولذا لم أزل منذ ما يزيد على
ثلثين سنة أدعو إلى إحياء الموقف الفكري الديناميكي المتفتح لهؤلء المفكرين القدماء وألح في
الوقت نفسه على ضرورة التخلي عن مبادئهم ومقدماتهم ومناهجهم وإشكالياتهم ونظرتهم إلى
العالم والتاريخ والمجتمع والنسان لن ذلك كله داخل في الفضاء المعرفي الخاص بالقرون
الوسطى عند المسلمين كما عند المسيحيين واليهود وسائر الثقافات المعروفة في العالم .انتهى
من المقدمة ،ومراده أن يصل إلى النتيحة التالية وهي :المعارف التي وصل إليها أسلفنا من
قبل هي إسقاطات فكرية متخلفة كما هي في مناهجهم المتخلفة ،وإذا أردنا أن نصل إلى معارف
جديدة فل بد أن نفهم هذه التعاليم من وجهة نظر تاريخية وليست مطلقة ،وعلى هذا فإن الذين
يحاولون أن يجبرونا على الفهم القديم (كما يزعم) هم في الحقيقة أرثوذكسية طارئة
وحادثة.ا.هـ .واعلم أخي القارئ أن هذه الورقات تقصر عن ذكر المصطلحات الجديدة التي لم
يعرفها الوائل ،وهي مصطلحات لعلم الصول الجديد الذي يزعمه هؤلء ،وسأذكر لك بعضها
550
كأفراد دون شرح :الم خيال ،المعرفة القصصية ،المعرفة التاريخية ،المعرفة العلمية ،المعرفة
الفلسفية ،السوسيولوجية ،النثريولوجية ،البنيوية ،التفكيكية وهكذا..
عليك أخي المسلم القارئ أل تتهم نفسك بالجهل لعدم علمك بهذه المصطلحات فهم (أهل البدع
المكفرة) ،يعترفون بعدم فهمهم لها ،فمترجم الكتاب هاشم صالح (دكتوراه فلسفة من جامعة
فرنسية) اعترف في مقدمته العتراف التالي :أنه لم يستطع أن يفهم هذه المصطلحات إل بعد (
)10سنوات وبعضها بعد ( )3سنوات من الدراسة في المعاهد الفرنسية حتى استطاع أن
يتصور معناها كما أراد مستعملوها ،وكم أتمنى لخواني أن يقرأوا هذه العترافات ليدركوا
مقدار معاناة هؤلء العلمانيين في محاولتهم المرهقة لفهم أصول التحليل والفهم عند
المستشرقين من أجل ماذا؟ من أجل فهم كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم {أل ساء ما
يزرون}...
إن الدعاء بأن البيئة من زمان ومكان هي التي جعلت فقهاءنا العلم يخرجون لنا بهذه النتائج
العلمية محاولة خبيثة القصد منها إلغاء هذا الفقه وتطويره ليلئم هذا العصر ،أي بمعنى أوضح
لنجعل السلم يلئم الواقع ويساير المجتمعات ل أن نحاول جاهدين مجاهدين لتغيير ترتيب
الواقع والمجتمعات لتوافق السلم وتلئمه.
الشيخ الغزالي عندما يرد على الحكم الشرعي الذي يقوله جهور العلماء بتحريم الغناء فإنه ل
يعالج هذه المسألة بطريقة أصولية حديثية ،ولكن يذهب إلى أن تحريم الغناء هو فقه أنتجه الفقه
البدوي (البيئة البدوية) ،وهو بهذا الترجيح والتعليل يمارس التاريخية (وتعني منهجا يتعامل مع
الحكام من خلل كونها أتت في ظرف تلئمه ول تصلح لكل زمن ،وهي بخلف قواعد
الشريعة وأنها صالحة لكل زمان ومكان) ويعلل الفقه بها ،مع أن الشيخ في هذا الباب ومن
وجهة نظر إنسانية بحتة قد أخطأ خطأ شنيعا ،بل كان دوره كالببغاء يردد الكلم دون فهم ،لن
تفاعل النسان بالغناء وأدواته ل تختلف بين بيئة وبيئة ،فما من إنسان إل ويهتز للغناء وأدواته
(وليس كل تفاعل واهتزاز مباح) بل إن الدواب تطرب للغناء وأدواته ،والبدو فهموا هذا المر
قبل مدينة وحضارة الشيخ الغزالي المعمم ،لكن هكذا تظهر بوادر تغيير أصول الفقه.
كما أن كثيرا من البحاثة (تجاوزا) جعلوا النتائج التي وصل إليها الستاذ سيد قطب وليدة معاناة
شخصية أسقطها على كتاب ال تعالى ،فخرجت معه نتائج تلئم القهر الذي عاشه وعاناه ،أي
أن سيد قطب تعامل مع تفسير القرآن بأصول خاصة وليس مع قواعد مطلقة فوق الزمان
551
والمكان ،وهم بهذا يريدون القول أن تفسير القرآن هو تفاعل خاص وذاتي وغير ملزم ،لكن
السؤال :متى يكون هذا التفسير ملزما وكيف يثبت خطؤه؟.
الجواب معروف عند أهل السنة والجماعة ،وهو أن القرآن يفسر بالقرآن وهو أفضل التفاسير،
ويفسر بالسنة ول يتعداها إذا وجدت ثم بأقوال الصحابة ثم باللغة العربية.
فعلى هؤلء أن يثبتوا خطا القول ل بإلغاء القواعد ولكن بالتعامل مع هذه القواعد ،لكن هؤلء
لهم قواعد وأصول ل تمت إلى اللغة العربية بصلة ،ول إلى قواعد السلف برابطة.
إن هؤلء المبتدعة يريدون جعل كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم نهبا لكل أحد،
يتكلم فيه كما يشاء وبقواعده الخاصة ،ويفتي كما يريد ،ويرجح من القوال ما يشتهي ،ويدفع
من الراء ما يكره.
ألم تسمعوا برجل اسمه جهاد الخازن صحفي ونصراني -صار مجتهدا من مجتهدي السلم
ويرجح ويعدل ويضعف؟.
ألم تسمعوا باليهود والنصارى الذين صار لهم الحق أن يقولوا للمسلمين ما هو الصحيح من
السلم وما هو الخطأ؟.
نعم هذه هي نتائج هذا البداع المبتدع.
( - )1أورده بدر الدين بن جماعة في تذكرته .انظر كثيرا من هذه النصوص في "صون
المنطق والكلم عن فن المنطق والكلم" للسيوطي.
( - )2وثيقة حسن الترابي إلى المؤتمر الشعبي العربي السلمي.
مناهج الرائيين في فقه الخطاب
الرائيون المنهزمون أمام حضارة الشيطان الحادثة ،الراغبون بليّ الشريعة وتغيير أحكامها
لتوافق هذه الحضارة ،لهم طرق وأساليب في تحرير أفكارهم وفقههم الغريب ،وهؤلء القوم
يستقر في قلب أحدهم الحكم ويشتهيه ثم بعد ذلك يتوجه شطر كتب الفقه ليبحث له عن قول
يوافق رأيه ،وهؤلء القوم ترى في أحكامهم وأبحاثهم أنه ليس لهم ضابط يضبطهم ،ول قاعدة
يتعاملون معها ،ولو أراد المرء أن يستخرج أصول فقههم من الفروع التي يتبنونها ويعتنقونها
لخرج بالعجب العجاب ،وليت أحد الباحثين -وأتمنى أن أفرغ لهذا -يقوم باستخراج الصول
من الفروع -على طريقة الحناف -من كتاب راشد غنوشي "الحريات العامة في الدولة
السلمية" وكتاب "الجهاد في السلم كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟" لمحمد سعيد رمضان
552
البوطي ،وكذا فهمي هويدي والغزالي والقرضاوي والخوان المسلمين على الجملة ،وإني
لجزم أنه سيخرج بنتائج مذهلة ،وبقواعد أصولية ما قالها أحد من قبل ،وإن كان أكثرها يقوم
على قاعدة التلفيق والحيل ،لكن بنظرة سريعة نستطيع اكتشاف بعض قواعدهم وأصولهم
العجيبة ،وها أنا أمر على واحدة منها.
يكثر الرائيون المنهزمون الحتجاج بالعمومات ،وخاصة القواعد الفقهية للتدليل على أحكامهم
المتبناة والعجيبة جدا ،وحتى لو أتى أحدهم بقول لم يأت له فيه سلف فإن قاعدة "ل يُنكر تغير
الحكام بتغير الزمان" سعة لهم ليقولوا تحتها ما يشاءون وما يستحسنون وما يشتهون!! ،وإن
كان ثم حركة أو فقه جديد توافق هوى القائد أو الرئيس أو الحزب والتنظيم ،فإن باب المصلحة
مخلوع البواب ،مهدم الجدران يتسع لكل حكم ،وقاعدة" :حيثما كانت المصلحة فثم شرع ال"
فيها السعة أن ننسب لشرع ال ما نريد ،والحقيقة أن الخلف بين هؤلء القوم -الرائيون
المنهزمون -وبين العلمانيين خلف لفظي فقط ،فما من واقعة وطامة ومصيبة تفعلها الحزاب
العلمانية إل وهذه الحزاب والشخصيات والمفكرون الرائيون قد أتوا بها وفعلوها ،وقبل ذلك
نسبوها لشرع ال تعالى ،أي ازدادوا ظلما على ظلم وهو التقول على ال تعالى {ويقولون على
ال ما ل يعلمون} والفارق بين الطرفين هو إسناد هذا الحكم ،فالعلماني منسجم مع نفسه عند
نسبته الحكم لمصدره ،حيث يقول :هذا حكم اقتضته المصلحة النسانية ،والنسان مصدر
الحكام ،فهو حكم صحيح .وأما هذا المنتسب للسلم فيدخل السلم في وسط معادلة ،ولكنها
تبقى ثابتة (أي المعادلة بطرفيها) المقدمة والنتيجة ،ولكن يقول :وحيث ثبت هذا فالسلم يقر
ذلك ويقول به ،فأعطى هذا الحكم غطاء شرعيا ،ولذلك أنت ترى أن الفجوة الفكرية والعلمية ثم
النفسية بين هذين الطرفين صارت ضيقة بل هي قد تلشت ،فالترابي والغنوشي والبوطي
والخوان المسلمون وغيرهم .والكثير صارت برامجهم متحدة مع خصوم السلم العلمانيين،
وصارت تجمعهم المؤتمرات والشعارات والبرامج والتحالفات ،ولقد كانت بعض المؤتمرات
صدمة هائلة لدى هؤلء العلمانيين حيث صاروا يسمعون أن الخلف بينهم وبين السلميين
خلف مفتعل أوجدته القوى الجنبية لضرب الوحدة الوطنية والمصلحة العليا للوطن ،نعم:
فعندما حضر جورج حبش ونايف حواتمة وكثير من قادة الكفر في المؤتمر القومي الشعبي
السلمي صُدموا من خطاب حسن الترابي ،حيث تطوع بإضفاء صفة الوطنية والقومية
والنضال عليهم ،وضيّق الفارق بين السلميين وبينهم.
553
ولعل الظاهرة الخيرة في ترشيح محفوظ النحناح على منصب الرئاسة الجزائرية كشف للناس
عدم وجود الفارق بين سعدي ونحناح وزروال وبوكروح ،كلهم يتكلم بنفس التطلعات والحكام
التي يريد نشرها ،والعمل على تحقيقها والفارق الوحيد بين نحناح وبين البقية هو استخدام
النحناح لغة السلم في جذب الجمهور ،وتركيبه اللحية على ذقنه ،فالبرامج واحدة والحكام
واحدة ،فقط النحناح ل ينسى أن يزين خطابه بشيء من النفس السلمي ،ولكن ل فرق
جوهري ،وعلى ضوء هذا فإنه يحق للعلمانيين (الصليبيين) اتهام السلميين بالوصولية،
واستخدام السلم لمقاصد شخصية ولمآرب ذاتية ،لن العلماني ل يرى عند السلمي!! قيما
جديدة يطرحها ،ول مفاهيم محددة تفترق عن الخرين يدعو إليها.
القواعد الفقهية والحديث النبوي ( الكلي والجزئي)
ما هي القواعد الفقهية؟ وهل يجوز الحتجاج بها في الستدلل؟.
على الجملة هؤلء ل يقيمون شأنا للحديث النبوي ،ومن السهل رده وعدم الخذ به :فهذا حديث
آحاد ،وهذا على خلف العقل ،وهذا اختلف حوله العلماء ،وهذا قد ضعفه بعض الناس ،وهذا
فيه إشكال ،وهذا راويه ليس فقيها ،وهكذا ...وصدق فيهم من قال :إياكم وأصحاب الرأي فإنهم
أعداء السنن ،أعيتهم الحاديث أن يحفظوها ،فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا)1( .
أما القواعد الفقهية فهي ليست كلية :أي ل يدخل فيها جميع أجزائها وأفرادها بل هي أغلبية كما
قال صاحب الفروق المام القرافي ( )1/36أي ل يدخل في القاعدة جميع أفرادها من الفروع،
ولهذا فحفظ القواعد الفقهية ل يغني المرء من النظر إلى الدليل الخاص ،بل الواجب عليه النظر
في الدليل الخاص في المسألة ،ولذلك كثيرا ما يقول السيوطي في الشباه والنظائر عند ذكر
القواعد :والترجيح مختلف في الفروع ،ولهذا أنشأ القرافي كتابه الفروق ،إذ قد تدخل بعض
الفروع في قاعدة ولكنها تفترق عنها لوجود بعض المؤثرات الخرى لتجاذب العلل والمؤثرات
على الفرع الواحد ،ولذلك اتفقوا على عدم الحتجاج بالقواعد الفقهية على الفروع ،يقول ابن
نجيم :إنه ل يجوز الفتوى بما تقتضيه القواعد والضوابط ،لنها ليست كلية بل أغلبية)2( .
وجاء في شرح مجلة الحكام :فحكام الشرع ما لم يقفوا على نقل صريح ،ل يحكمون بمجرد
الستناد إلى واحدة من هذه القواعد )3( .ولذلك نبه الشاطبي (المظلوم بنسبة قاعدة المصالح
له) إلى عدم جواز الحتجاج بالمصالح على الحكام ،قال الشاطبي :إذا ثبت في الشريعة قاعدة
كلية في هذه الثلثة أو في آحادها (أي الضروريات والحاجيات والتحسينيات) فلبد من
554
المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي ،وذلك بالجزئيات )4( .ولذلك يستدل للحكم من
مصادره وهي الكتاب والسنة والقياس ،وليس من مصادره من القواعد الفقهية ،والقواعد الفقهية
أخذت من الجزئيات وليس العكس ،فالصل هو الدليل الخاص ،فل ينبغي للناتج المكمل
(القواعد الفقهية) أن تعود على الدليل (الجزئي) بالبطال.
( - )1وهو منسوب لعمر رضي ال عنه ،انظر السنة لللكائي رقم .201
( - )2القواعد الفقهية للندوي ص .292
( - )3المرجع السابق ص .294
( - )4الموافقات .2/6
قاعدة المصالح
لو رجع الناس إلى ما قاله الشاطبي جملة دون تخير بالهوى لرأوا أن ما يقوله الزاعمون من
نظرية المصالح البشرية محض هراء نفسي ل دليل عليها من دين أو عقل ،وازن بين كلم أهل
الهواء وبين قول الشاطبي :المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار عادة ،كما أن المضار
محفوفة ببعض المنافع :كما نقول :إن النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة للحياء ،بحيث إذا دار
المر بين إحيائها وإتلف المال عليها ،أو إتلفها وإحياء المال كان إحياؤها أولى فإن عارض
إحياؤها إماتة الدين ،كان إحياء الدين أولى ،وإن أدى إلى إماتتها ،كما جاء في جهاد الكفار،
وقتل المرتد وغير ذلك)1( .
فالمقاصد التي يتكلم عنها الشاطبي هي مقاصد ومصالح الشريعة المبنية على النظر الخروي
كما قال في عدة مواطن ومنها قوله :المصالح المتجلية شرعا ،والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر
من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الخرى ،ل من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية
أو درء مفاسدها العادية)2( .
وكذلك قوله :إن المصالح هي بنظر الشارع ل بنظر المكلف ،أي أن حكم ال تعالى في الجزئي
(الدليل الخاص ) هو الذي يحقق المصلحة ،وإن فاتت بعض المصالح لدى النظر القاصر)3( .
ومن قوله كذلك :إن الكلي ل يقدح بالجزئي .أي أن المصلحة ل تلغي الحكم الخاص بالمسألة،
وإن بدا للناظر التعارض ،لنه ما من مسألة إل ويتجاذب فيها عدة قواعد ،فالشارع يلحقها
بالشبه ،ول يعرف الشبه إل بالدليل النقلي ل العقلي ،ويغلف ذلك كله أن من مقاصد التشريع
ومن مصلحة الشريعة هو حصول البتلء .قال الشاطبي :الشارع إنما قصد بوضع الشريعة
555
إخراج المكلف عن اتباع هواه حتى يكون عبدا ل )4( .فأين هذا الذي يقوله المام الشاطبي
رحمه ال تعالى من قول أهل الهواء الذين جعلوا الشريعة ألعوبة بيد الناس يستصلحون منها
ما يشاءون ،ويردون منها ما يريدون.
وكلمي هنا ل يعني رد القواعد وعدم اعتبارها عند الترجيح والنظر ،ول إلغاء المصلحة
الشرعية ،ولكن القصد من ذلك هو أنه لبد من اعتماد الدلة الشرعية في الحتجاج وليس
مجرد التشهي والهوى ،ففرق كبير بين من نظر إلى مقاصد الشريعة من جهة أنها تسعى
لتحقيق الخرة وأن المقاصد الخروية هي الغاية وبين من نظر إلى الحكام على اعتبار دنيوي
فقط .انظر قول جودت سعيد في إلغائه هذه القاعدة في التعامل مع الشريعة والناس ،يقول:
"الكفر ليس ذنبا دنيويا ،الكفر ذنب أخروي ،ال يحاسبه ،الكافر له حق أن يعيش ،والملحد له
الحق أن يعيش محترما ،وإن استطاع الملحد أن يقنع الناس بإلحاده ل حرج عليه لكنه ل يفرض
رأيه بالقوة ،ويجب أن نزيل التنابز بالكفر )5( .وهو قول حسن الترابي في إسقاط حد الردة،
وهو قول راشد الغنوشي ،وهو قول محمد سعيد رمضان البوطي في نفيه الجهاد الهجومي،
وهو قول الخوان المسلمين في رسالتهم القبيحة المسماة "هذا بيان للناس" عندما نفوا العنف
تحت أي اسم كان ،حتى لو كان باسم السلم (وهي كلمة مكفرة).
وهذا القول الذي قالوه إنما كان استجابة لضغط العلمانيين ومحاولتهم للتوفيق بين السلم
ومذهبهم النساني ،فإن العلمانيين يتهمون الحركات السلمية بأنها تمارس سكرتريا القيامة ( ،
)6أي أنهم يطبقون إرادة ال في البشر ،وهذا المعنى حق فإن السلم هو أمر ال للمسلمين
بأن يطبقوا أحكام ال على الناس ،فمن أحبه ال أحبوه ووالوه وأحسنوا إليه ،ومن أبغضه ال
أبغضوه وعادوه ،نعم ينبغي على المسلمين أن يمارسوا سكرتيريا القيامة -ولكن الحمد ل في
ديننا الغناء عن هذا الغثاء وهذه اللقاب -فهذه منطلقات القوم في تحديد هوية هذا الدين وهي
المصلحة الدنيوية وعدم النظر إلى مصلحة الدين والخرة والذي هو أولى من جميع
الضرورات والمصالح بإجماع أهل الملة كما قال الشاطبي رحمه ال ،فمصلحة الدين مقدمة
على أي مصلحة ،وضرورة الدين أرجح من كل ضرورة ،ولذلك ل قيمة لحظ النسان أمام
أحكام الشريعة)7( .
وقد يسأل سائل :وبعد هذا الذي قلته ،هل تخصص المصلحة الحكم الشرعي؟.
قلت :بعد فهم المصلحة فهما صحيحا فإنها تخصص الحكم الشرعي في موضوعين:
556
أولهما :ما قال ابن القيم :ما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة )8( .وشرح هذه
القاعدة له مقام آخر.
ثانيهما :ما قال الشاطبي :المقاصد الشرعية ضربان أصلية وتابعية ،فالصلية ل يراعى فيها
حق المكلف ،وأما التابعية فيراعى فيها حق المكلف )9( .وهي لها مقام آخر.
( - )1الموافقات .2/92
(.2/27-28 - )2
( - )3المرجع السابق.
( - )4المرجع السابق ص .153
( - )5النزعة المادية في العالم السلمي ص 170لعادل التل.
( - )6العنف الصولي ص .233
( - )7انظر الموافقات .2/176
( - )8انظر إعلم الموقعين 2/142وزاد المعاد 3/88وروضة المحبين ص .93
( - )9الموافقات /2ص 176وما بعدها.
قاعدة كل مجتهد مصيب
من القواعد العجيبة التي يستخدمها الرائيون للتلعب بالشريعة والقول عليها ما ليس فيها
رضوخا لضغط العلمانيين قاعدة" :كل مجتهد مصيب" وعدم حسم القضايا التي دخلت على دين
ال تعالى من قبل المتكلمين ،مما جعل للعلمانيين سبيل للتلعب بدين ال تعالى ،ووجود ثغرات
لهم لنفي أصلها ورد حقيقتها.
مما يعلمه كل دارس لهذه الشريعة -أصول وفروعا -أن الزمن قد أخذ حظه منها ،وأن
الكثير من المحاولت للدخول في تأويلها نجحت وأثمرت ،بل واستقرت في داخلها ،إلى درجة
التمثيل والستحقاق ،أي صارت هذه التأويلت في نظر الناس هي الحقيقة الوحيدة لهذه
الشريعة ،مع غياب المفهوم الول الذي فهمه الصحابة رضي ال عنهم منها ،وهو المفهوم
الصحيح لهذا التنزيل الحق ((خير الناس قرني)) وقد قامت خلل هذا الزمن محاولت جهادية
مضنية لتحقيق التأويل الحقيقي لهذا الدين ،ونفي هذا التزوير ،وقد آتت ثمارها لكنها موضعية،
أي بقي المد القوى للتأويل الفاسد الدخيل ،فكانت محاولة ابن تيمية رحمه ال تعالى ثم تلميذه
557
ثم تلميذهم ،ثم محاولة محمد بن عبد الوهاب وما أثمرت في العالم السلمي ،لكن كما قلنا بقي
التجديد موضعيا محصورا.
الخليط الذي قاله بعض القادة الوائل -صوفية سلفية -وما هو جار مجراها فتح باب التلفيق
وعدم حسم القضايا ،وبالتالي باب التميع والجمع بين المتناقضات في الشخصية الواحدة ،سواء
كانت هذه الشخصية حقيقية أم اعتبارية ،تبدأ النظرية بأن كل المعروض حق ،وهو فقه
إسلمي ،أي جائز الخذ به ،وليس هذا القول بأولى من الخر قبول أو ردا ،وبالتالي علينا
التخير بما يلئم واقعنا وحياتنا ،أو بما يقدر أن يعيننا في مناظرتتا وحجاجنا لخصوم السلم،
وأنا هنا ل أتكلم فقط عن الفروع ولكن القضية الولى والبرز في هذا الموضوع هي القاعدة
التي يعتمد عليها هؤلء الرائيون وهي أن الشريعة كانت لينة في استجابتها للتغيير بسبب
دخول علل جديدة على حياة الناس وأفكارهم.
الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه "السلفية مرحلة زمنية مباركة ل مذهب إسلمي"
في استجابته للخصومة بينه وبين السلفيين اضطر البوطي أن يبرر بدعة العقيدة على يد
الوائل ،وأن يجعل البدع التي قاتلها السلف ونفروا الناس منها ما هي إل الحقيقة الولى عند
الصحابة ،وإنما تطورت استجابة للواقع ولرد الشبه التي أحدثها المولدون (المسلمون الجدد)،
أي أن مذهب الخلف هو مذهب السلف (ل يزيد ول ينقص) ولكن تطور ليوافق الواقع المعيش.
ومع أن البوطي يستدل بالكوني المتغير والمتطور (والصحيح المكتشف والمستثمر) على
الشرعي (وهذا منتهى الفجاجة والجهالة) إل أنه في النهاية يفتح هذا الباب (مع إخوانه) على
جواز تطور الشريعة لتوافق الظروف الجديدة.
الرائية جسر العلمانية( :أوجه التشابه)
لقد مدح هؤلء الرائيون منهج البدعة التي حذر منها رسول ال صلى ال عليه وسلم حين قال:
((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ،عضوا عليها بالنواجذ ،وإياكم
ومحدثات المور ،فإن كل محدثة بدعة ،وكل بدعة ضللة)) )1( ،فجاء هؤلء ليقولوا أن ما
فعله الوائل من بدعة هو منتهى الحق ،لنهم استجابوا لظروف حياتهم ،ثم ذهبوا يبررون
الفارق بين علم السلف وعلم الخلف ل على أساس ما فعله الخلف -أنه سبب انحطاط المة
وذهاب قوتها وعزها -ولكن على أساس مدح المبتدعة بأنهم قدموا السلم الجديد للوضع
الجديد.
558
هذه القاعدة التي يقولها هؤلء القوم هي عين القاعدة التي يحتج بها العلمانيون على طريقتهم
المبتدعة والجديدة في دراسة الشريعة ،صحيح أن الكثير من النتائج مختلفة عند الفريقين لكن
القواعد بين الفريقين قواعد مشتركة.
لو قرأ المرء كتاب عزيز العظمة "العلمانية من منظور مختلف" وهو من أوقح العلمانيين في
طرح ما يريد كما في كتابه المذكور ،لرأى أن موقفه من تبني العلمانية خارج -رغم أنفه -
من رؤيته لتطور السلم وتغييره (استجابة للسلطة ل كما يعتقد البوطي) ،وقوله هذا نفس
مخرج محمد أركون حين برر لنفسه ابتداع أصول فقه جديد لفهم النص ،وهو نفس قول
ومخرج نصر حامد أبو زيد )2( ،وهي القاعدة التي ذكرها البوطي في كتابه "السلفية".
القاعدة واحدة وهي أن الوائل أولوا النص ،وداروا به ،وحاوروه ،واستجابوا في تفسيره
للفكار الجديدة الوافدة ،وهؤلء الوائل لم يخرجوا من دائرة السلم ،ولم يعنفهم أحد ،بل عدهم
الناس أئمة وقادة ،وعلماء ،ومجددين ،فلماذا يحرم علينا هذا الفعل ،ولماذا ل نطور النص
بقواعد جديدة ،ونفهمه بآلية حديثة؟.
هذه هي القضية وهي إحدى مشتركات العلمانية مع الرائية الحديثة أو هي إحدى ثغرات
الرائية للبناء العلماني.
المثلة على هذا المشترك كثيرة ،ولعل القارئ الباحث ل يعجز عن رؤية الكم الهالل من
المداحين لئمة التغيير والتبديل في التاريخ السلمي حيث تصبغ عليهم عبارات هائلة من
المدح والتعظيم ،وتطلق عليهم أوصاف العقلنية والتجديد ،وأنهم كانوا القدر على فهم السلم
وتطويره ليوافق ويحاكي الثقافات الوافدة.
هل يعجز المرء أن يرى قصور المدح الشامخة على شخصية مثل الفارابي والكندي وابن سينا،
وجمهور الفلسفة المشائين في العصور السلمية السالفة؟.
هل يفوت المرء رؤية الشادة العجيبة بكل من حاول أن يذلل الشريعة للوافد الجديد من الثقافات
الوضعية كابن رشد الحفيد كما في كتابه "فصل المقال"؟
الواضح من كل هذا أنهم يريدون أن يجعلوا الشريعة مجال للحوار الفاتح أبوابها لتخرج لنا
أحكاما جديدة تناقض ما عرفه الوائل.
لقد وقف السلف الصالح موقفا صلبا أمام الغير ،وحذروا منه أشد التحذير ،حذروا من موضوعه
وحذروا من أسلوبه ،لنهم أيقنوا أنه ما من خير إل في هذا الدين بمصدريه الكتاب والسنة،
559
وليس هناك من معرفة -مما تسمى معرفة إنسانية حسب تعبيراتهم -إل في هذا الدين الكفاية
لها ،لكنها قد ل تجد لها رجال ،وإنه لمنتهى الشقاء السماح للعقل المسلم أن يفتح بابه للغير طلبا
للهدى والرشد ،ولقد حذر الرسول صلى ال عليه وسلم من ذلك حين غضب من عمر رضي
ال عنه وقد رأى في يده ورقات من التوراة وقال(( :أمتهوكون أنتم؟ ،وال لو كان موسى حيا
ما وسعه إل اتباعي)) ،ولم يكن إعراض السلف عن هذه العلوم تخلفا ول رجعية ،ول من
قصور في الفهم ،ولكن لشدة عقلهم وإدراكهم أن شرها أكثر من خيرها ،ولو كان فيها الصلح
والهدى لنفعت أصحابها ،ولذلك فإن هذا الذي يسميه البوطي والغنوشي وطارق البشري ومحمد
عمارة وفلول الهزيمة ،وجماعة التصفيق :تقدما وحضارة؛ إنما هو منتهى الهزيمة ،وقمة
النحدار والرجعية.
إن علم الكلم الذي مدحه هؤلء ،وإن الفلسفة السلمية المزعومة هي التي عطلت العقل المسلم
عن البداع ،وفرغت نفسيته من كل احتمالت النهوض والتقدم.
نعم لقد أوجد علماء الكلم وكذا الفلسفة المشائين الرضية الفكرية للنحلل الديني والذي أفرز
آثاره التشريعية والجتماعية والسياسية وبالتالي الهزيمة العسكرية ،وإذ القتصار على الوحيين
-الكتاب والسنة -في صياغة النسان المسلم هي التي توجد في كل عصر شخصية المسلم
الصحابي المتجددة في كل وقت وحين ،والتي تملك القدرة على صياغة الحياة على أسس
جديدة ،ول ترى احتمال الترقيع والتلفيق ،والذي يسميه بعضهم استلهاما (كما سماه طه جابر
العلواني في كتابه "الزمة الفكرية المعاصرة") ،لن هذا التلفيق مبدؤه الشعور بالنقص من كمال
(النظام المعرفي ) المعطى من الكتاب والسنة ،وإنه لن يصيبنا الخجل من تمسكنا بكمال
مصدرنا واقتصارنا عليه حتى لو أطلق هؤلء الخصوم على هذا التمسك تخلفا أو انتحارا.
لقد وضع الستاذ سيد قطب يده على مفتاح شخصية الصحابي الول وهداه ال إلى إدراك سرها
كما ذكر ذلك في كتابه "معالم في الطريق" ،فصل "جيل قرآني فريد".
يجب علينا أن ندرك أن كثيرا من مجالت البداع الممدوحة من قبل هذه التيارات هي قمة
البدعة والنحطاط والذم ،فليس من إبداع السلم العمارة السلمية ،إذ أن هذه العمارة والتي
يفتخر بها هؤلء الرائيون هي قمة النحطاط والرذيلة ،فهذا الذي يأتي ليمدح لنا مثل قصر
الحمراء ليدلل على إبداع العقل المسلم وحضارته هو في الحقيقة يقدم الدليل على أن عصور
النحطاط أو بدايتها هي قمة البداع لهذا الدين الرباني ،فليس من السلم هذا البذخ وهذا البناء
560
الباذخ ،وليس من السلم ما يسمى بالفنون السلمية مثل فن الموسيقى ،وفن العمارة الباذخة
والتطاول فيها ،وغيرها من الفنون المذهبة لحقيقة وجود المسلم على هذه الرض ،وبالتالي
مقصد وجود النسان كذلك.
نعم سيعودون علينا بزمزمة الوائل مدعين أن هذا مذهب الحشوية وهو مذهب العوام وهو
طريقة الوعظ والرشاد ،وكما يسمونها طريقة الحكمة والموعظة (كما سماها الفلسفة) وأما هم
فهم أهل البرهان والمنطق والنظر الثاقب (كما يسميها الفلسفة كذلك).
( - )1حديث حسن من حديث العرباص بن سارية رض ال عنه.
( - )2انظر مقدمة كتابه "مفهوم النص".
دعوى تطوير الشريعة ( من التأويل إلى التلوين)
نعود إلى ما بدأنا به من الشارة إلى دور الرائيين من فتح باب تطور الشريعة حين سموا
البدع الحادثة من متصوفة ومتكلمين وفلسفة أنها فعل مجيد رائع ممدوح ،وذلك حين أرادوا أن
يبرروا تأويل الشريعة وتغيير مفاهيمها لتساير الوقت والزمن ،فجاء العلمانيون وبنوا على هذه
المقدمة النتيجة التي يسعون إليها حين توجهوا إلى التراث (كما يسمونه) ليدرسوه حسب
معطيات هذا العصر ونتائج مكتشفاته من علوم اجتماعية ولسانية وإنسانية ليخرجوا بنتائجهم
التي أوقفوا أنفسهم عليها يبدونها حينا ويرطنون بها حينا آخر.
إن هذه الشريعة هي دين ال تعالى أنزلها للبشر ليحققوا العبودية له ،بتصديق خبرها وامتثال
أمرها وإن أعظم الناس فهما لها ،وإدراكا لمرادها هم أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم،
وإن كل خير في اتباعهم وكل شر في مخالفتهم وتنكب طريقهم.
علينا أن ل نبقى نردد أن ما يمدحونه من ثورات المعتزلة الفكرية -وتجديدية الفلسفة -
كالكندي والفارابي وابن سينا وإشراقية الصوفية وهي ثورات على السلم ،وليست منه ول
تلتقي معه ل في الجوهر ول في السلوب.
قال اليافعي في "نشر المحاسن الغالية في فضل المشايخ الصوفية أصحاب المقامات العالية" :لما
سعي بالصوفية إلى بعض الخلفاء ،أمر بضرب رقابهم فأما الجنيد فتستر بالفقه[ .ص .]422
قال الشافعي -رحمه ال :-حكمي في أهل الكلم أن يضربوا بالجريد ،ويحملوا على البل
ويطاف بهم في العشائر والقبائل وينادى عليهم :هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على
الكلم )1( .ظاهرة اختراق الوضع البشري وخيالتهم للوحي الرباني ممتدة منذ القدم ،وقد
561
نجحت مع الديان الولى ،ولم يكن السلم خارج هذه الدائرة ،فإنه منذ بدايته بدأت هذه
المحاولت ،وترتيب ظاهرة الختراق يبدأ بالرفض والتنفير ،حيث يكتشف الوائل أصل النحلة
الوافدة ،وآليتها ،وأبعادها الشركية والوثنية ،وبالتالي يعلن العلماء للمسلمين أن هذه النحلة وهذا
الدين هو دين شركي وثني فل يجوز للمسلم أن يقترب منه أو يدور حوله ،بل الواجب أن يفر
وينفر منه ،وفي المرحلة التالية يبدأ البعض بالنظر إلى الجوانب التي تتفق هذه النحلة في بعض
آليتها وأعمالها مع السلم ،فيبدأ بكشف جوانب اللقاء ،ويفخم الحاديث والثار التي تشير إلى
رياضات الطريقة وأعمالها وفرائضها حتى إذا وجد لهذه النحلة الجديدة القبول عن طريق
العرض الجزئي لها ومدحه وتقريره ،يصبح التعاطي معها جزءا من السلم والنتساب إليها ل
يغض أو يخدش في النتساب إلى السلم ،ولنا على ذلك مثلن هما :نحلة التصوف ونحلة
الفلسفة.
( - )1صون المنطق والكلم للسيوطي.
الختراق ( تلوين الشريعة قديما)
المثل الول هو التصوف :ثبت أن التصوف عندما دخل على المسلمين أعلنوا استنكارهم
ورفضهم له ،وأدركوا الصوفية على حقيقتها وأنها دين جديد ،وبالتالي تعاملوا معهم على أنهم
كفار ،فأفتوا بقتلهم ردة وزندقة ،لن المذهب الجديد والنحلة الوافدة تظهر في بداية أمرها
بصورتها الحقيقية وتعرض نفسها بوجهها السافر ،والصوفية دون تقية هي مذهب ونحلة كفرية،
عقيدتها وحدة الوجود (أي ل فارق بين الخالق والمخلوق) ،ولها رياضات (طريقة) لتحقيق هذه
العقيدة تقوم على :السهر والجوع والخلوة ،ولها بعض المنشطات الخرى كالذكر مثل ،فبعد أن
تواجه من قبل المسلمين بالرفض والتكفير ،تبدأ المحاولت التالية على صورة تكييف المذهب
والنحلة على وجه يوافق السلم ،وذلك بعرض بعض الموافقات بين السلم والمذهب
(كالصوفية مثل) ،فالجنيد تستر بالفقه ،وعملية تضخيم جوانب اللقاء هذه الرياضات الصوفية
من خلل الحاديث النبوية الصحيحة والضعيفة ،فيبدأ الكلم عن الخلوة تحت باب الزهد ،ويبدأ
الكلم عن السهر تحت باب قيام الليل ،والكلم عن الجوع تحت باب الصيام ،وبالتالي تسلم
الصوفية (حسب تعبيراتهم) أو يتصوف السلم ،والجهل هو أرضية هذا الزرع والنتاج،
وبالتقادم مع عاملي التكرار والزمن تستقر الصوفية داخل السلم وتصبح جزءا منه ،وتصبح
562
من واجبات المسلم الدينية أن يصبح صوفيا ،والخارج عنها خارج عن السلم ،فيصبح
للصوفية فقه جديد ،وكتب خاصة ،وطرق ومشايخ ومؤسسات ،ولم تعجز الصوفية من التقاط
بعض الذكياء إليها ليقوموا بالمهمات الصعبة وعلى رأسها صياغة السلم من خلل الدين
الصوفي ،كما قام بكثير من هذا العبء أبو حامد الغزالي كما في كتابه "إحياء علوم الدين"،
حيث مزج الفقه والتوحيد والخلق السلمية بالتصوف حتى صار شيئا واحدا ،والنتيجة الويل
كل الويل لمن حاول أن يقول للناس الحقيقة ،والشأن كل الشأن لمن يقول:
كذا أبو القاسم هداة المـة ومالك وسائـر الئمـة
كذا حكى القوم بلفظ يفهم ()1 فواجب تقليد حبر منهم
فصار تقليد أبي القاسم واجبا من واجبات الدين.
المثل الثاني هو الفلسفة :والفلسفة صناعة بشرية عمادها نبذ الوحي ،وهي وافد لها عقيدة خاصة
ورياضة خاصة (أي دين مستقل) ،وقد عانت الفلسفة وإفرازاتها الفكرية الكثير عندما جاءت
إلى الصف السلمي ،وحكم العلماء الفذاذ عليها بالكفر والزندقة ،وكانوا يلحقونها بسيف
الشرع والسلم ،وقد قتل الكثير من رجالها بفتاوى أهل الدين والحق ،لكنها تستكن حينا ثم
تبرز على الطريقة التي شرحناها مع الصوفية ،فتسلم الفلسفة أو يتفلسف السلم ،وتصاغ
الفلسفة بطريقة إسلمية ،ويصبح علم الكلم ،والذي يعد من أبرز إفرازاتها في المجتمع
السلمي هو راية السلم ،ورأسه ،وعقيدته ،حتى قيل :والعجب ممن يقول :ليس في القرآن
علم الكلم )2( ،وبالتالي تصبح الفلسفة مسلمة ،أي تسلم الفلسفة ،وينتهي المر إلى :أن
الحكمة (أي الفلسفة) هي صاحبة الشريعة والخت الرضيعة ،فالذية ممن ينسب إليها هي شر
الذية ،مع ما يقع بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة ،وهما المصطحبتان بالطبع،
المتحابتان بالجوهر والغريزة)3( .
ولسنا الن في معرض نقاش الثار الشنيعة السيئة لهذا الختراق ،فإن شرح آثار الصوفية
المجرمة على العقل المسلم وعلى المجتمع السلمي تحتاج إلى مجلدات ،وكذا الفلسفة
وإفرازاتها فإن هذه المذاهب الوافدة قد دمرت المة السلمية ،وما هذه الثمار السيئة التي
نعيشها إل صورة مصغرة من آثار هذه الوافدات الخبيثة.
لماذا أذكر بهذا؟ وما هو فائدة هذا التنبيه؟ ليس الحديث عن الصوفية والفلسفة باعتبارهما مثلين
لهذا الختراق إل مدخل لهذه الختراقات التي نراها في هذا العصر الذي نعيشه ،مع أن التذكير
563
بهذه الختراقات مهم جدا لننا مازلنا نعيش آثار هذه الفكار القديمة ،فما زالت الصوفية تعمل
فينا وفي عقليتنا وفي اختياراتنا ،وكذا المنطق وعلم الكلم والفلسفة ،ولكن ما يهمني هنا هو أن
نتمثل القديم لنعرف حقيقة ما يجري حولنا من اختراقات شركية ،ومحاولت تدمير عن طريق
الوافدات الجديدة ولنتذكر أن مبدأ الختراق يقوم على التفريق بين معتقد المذهب وبين وسيلته،
فالصوفية عقيدة وطريقة وكذا الفلسفة ،وحين يريد أصحاب هذه المذاهب إدخال هذه الوافدات
على السلم فإنهم يفرقون بين الطريقة والعقيدة وهذا منتهى التدليس والتقية.
أهل الختراق يشعرون المسلمين دائما بحاجة السلم إلى الطريقة لعطائه الفاعلية والحركة،
هكذا صنعت الصوفية وهكذا صنعت الفلسفة وهكذا تم اختراق السلم ومفاهيمه.
( - )1جوهرة التوحيد.
( - )2من كلم أبي القاسم القشيري.
(" - )3فصل المقال" لبن رشد الحفيد.
الختراق (تلوين الشريعة حديثا)
جاءت الشتراكية بارتباطها العقدي وطريقتها القتصادية وزورت لباسها على المسلمين بهذا
التفريق ( أي التفريق بين العقيدة والطريقة ) ،ومع أنها في بداية المر ككل المذاهب والنحل
الوافدة طرحت نفسها بصورتها الحقيقية وبأبعادها الشاملة فلما سل عليها حكم التكفير والزندقة
عادت لتتخفى بهذا التفريق المذكور ،فانطلت الحيلة وصار السلم اشتراكيا أو بالمصطلح الذي
ذكرناه :أسلمت الشتراكية ،وبالتالي أصبح السلم :الطريقة =صوفية ،الحكمة = فلسفية،
القتصاد = اشتراكية.
ثم جاءت الديمقراطية ،وكانت عند أصحابها دينا إنسانيا لها بعدها العقدي (اليديولوجي) ولها
بعدها السياسي الليبرالي ،وكما قال الوائل عن الصوفية الولى وعن الفلسفة الولى أنها كفر
وزندقة ،وسلت عليها سيوف العلم والجهاد ،حيث قالوا عنها أنها دين جديد له كل خصائص
الدين ،وأنها طريقة وعقيدة ،عادت وتخفت وخرجت لنا بالثوب الجديد ،وهو التفريق بين
الديمقراطية كدين وبين الديمقراطية كوسيلة (طريقة) ،مع أن ارتباط الحقيقة (العقيدة) بالطريقة
(الوسيلة) هو ارتباط حتمي وعضوي ،والتفريق بينهما هو تزوير للحقيقة والواقع ،لكنهم بعد
هذا التفريق صيروا السلم ديمقراطيا أو بالتعبير السابق :أسلمت الديمقراطية.
هل يمكن تصور عدم تأثر العقيدة مع تغير الطريقة؟.
564
الجواب ابتداء :ل وألف ل ،فإن هذه الطريقة هي طريقة خداعية لتمرير القضية خطوة خطوة،
وهكذا مذهب إبليس وطريقته -خطوات الشيطان -فعندما يرفض الناس المذهب جملة واحدة
فل مانع من إعطائه لهم جرعات متفرقة بدءا بالخف وانتهاء بالشد.
نعم استقرت الصوفية في السلم ،وصارت هي السلم ،والسلم هو الصوفية ،وليس من
حرج أن نكرر مرة أخرى -أسلمة الصوفية أو تصوف السلم -ولكن هل استقرت الصوفية
في السلم كطريقة فقط ،أم أنها بعد ذلك حملت الناس من الطريقة إلى العقيدة؟ لقد استعملت
الصوفية التقية في موضوع العقيدة ،وبقيت تظهرها بعد أن يبلغ المرء منتهى الستسلم ،ولذلك
ليس مستغربا أن يأتي لنا شيخ محدث مثل ليجعل عقيدة السلم هي وحدة الوجود ،انظر كلم
الغماري في شرحه حديث ((من عادى لي وليا)) ورده على المام الذهبي -والشيخ من
المعاصرين ،-هذا غيض من فيض ،لقد سيطرت الصوفية بعقيدتها مع طريقتها على عقائد
جملة من الناس تحت اسم السلم والهتداء بالكتاب والسنة.
وكذا فعلت الحكمة الفلسفية ،أدخلت المنطق إلى طريقة التفكر والنظر ،واستقـر المنطـق في
كتب العقائـد )1( ،واستقر بعد ذلك في أصول الفقه )2( ،وبعد أن تم لها هذا لم تجبن في
عرض عقيدتها بعد أن صار لسمها الحترام والتقدير ،فانتهى المر أن العقيدة الفلسفية هي
نفس العقيدة السلمية)3( .
والن جاءت الديمقراطية :المشايخ يطرحونها باعتبارها طريقة حكم ،ووسيلة سياسة ،ويفرقون
بينها وبين عقيدتها (العلمانية) ،ويقولون إن الديمقراطية هي لب السلم وجوهره ،حتى أن
الشيخ المعمم يوسف قرضاوي لم يخجل من القول إن السلم يستوعب الديمقراطية بكل
تجلياتها.
ولكن ،هل هؤلء في الحقيقة ل يعتقدون عقيدة الديمقراطية؟ الجواب يظهر من تصريحاتهم
وبياناتهم وأنهم صاروا يعتقدون العقيدة النسانية التي تعطي النسان استقللية حياته في هذه
الدنيا عن الغيب والخرة.
صار السلم إنسانيا أي لم يعد السلم الذي عرفه الصحابة رضي ال عنهم ،والذي جعل هذه
الدنيا محطة للخرة ،وأن النسان عبد ال ،بل صارت الدنيا هي غاية المنى وعلى ضوء
أحكامها ومصالحها يستنبط الناس الحكام والتشريعات دون النظر إلى المقصد ا لخروي.
565
وكما حارب الناس قديما من حارب الصوفية ،وكما حارب الناس قديما من حارب المنطق وعلم
الكلم فها هو التاريخ يتجدد على هذا النسق مع الديمقراطية ،إذ صار المسلم المتنور والمفكر
الذكي الواعي والمستنير هو المفكر الديمقراطي ،وحتى الذين يعرفون منشأ السلوب (الطريقة)
الديمقراطية ،ويعرفون منبتها وعقيدتها فإنهم يفرقون بين العقيدة والطريقة ،وهذا عندهم منتهى
الصولية ،أي أننا أمام نوعين من المسلمين :مسلم يؤمن بالديمقراطية وجميع تجلياتها ،ومسلم
يؤمن بالطريقة ويكفر بالعقيدة ،لكنا نقول كما قال سلفنا :كلهما كفر وردة وحكمنا فيهم أنهم
زنادقة.
قال الشافعي ومالك رحمهما ال :علماء الكلم زنادقة.
قاعدة التفريق بين الطريقة والعقيدة ( الدين وسيلة أم غاية..؟!):
من أساليب أهل البدع الرائيين التفريق بين الطريقة والعقيدة ،فهم يمررون المذهب الجديد
والنحلة الوافدة تحت باب إضفاء الفاعلية والحركة على هذا الدين ،وذلك بأخذ الطريقة من
المذهب والنحلة الوافدة ،كما رأينا هذا واضحا مع الصوفي والفلسفة سابقا ،وهذا هو الواقع مع
الديمقراطية ،فإنهم لسلمة الديمقراطية أو لتحريف السلم في البداية فرقوا بين العقيدة
الديمقراطية وبين أسلوبها ،فهم يزعمون أنهم أخذوا الديمقراطية بآليتها وحركتها وتنظيمها
وأسلوبها ورفضوها عقيدة (وأيدلوجية) ،وهذا التفريق مرحلي عند البعض ،وإل فإن الكثير
صار ديمقراطيا باعتقاده ،أي أنه ذهب يفسر السلم من خلل أصل النحلة الديمقراطية
وعقيدتها ،فصار السلم إنساني الوضع ،دنيوي الحكام ،ل علقة له بالخرة ،ول قيمة
لضرورة الدين والرضى اللهي ،وهذا قد بسطناه قليل فيما سبق عند ذكرنا لمفهوم المصلحة
الشرعية والمصلحة في عرف الرائيين.
وإن من أخطر هذه المظاهر لهذا الختراق هو الحديث عن السلم باعتباره دينا نافعا ل بحقيقة
أنه الدين الوحيد الصحيح ،وشرح المسألة كما يلي:
مبدأ العلقة بين المسلم وبين السلم هي التعبد ،وأنه ما خضع لهذا الدين إل لكونه صادرا ممن
له حق المر والنهي ،فلو أمر ال تعالى عباده بما فيه ضررهم وعذابهم فعلى العباد أن يطيعوه
ويمتثلوا أمره كما أمر ال تعالى عبده وخليله إبراهيم عليه السلم أن يذبح ابنه إسماعيل عليه
السلم ،-وأساس ذلك تصديقهم خبر النبي صلى ال عليه وسلم أنه صادر من ال تعالى ولو لم
تحتمله عقولهم ،نعم كان من رحمة ال تعالى بعباده أنه ما من أمر أمرهم إياه إل وفيه تحقيق
566
لمنفعتهم في الدنيا والخرة ،وما من خبر أعلمهم إياه إل وفي عقولهم القدرة على فهمه وإدراك
معناه ،وهذا هو لب دين السلم ومعناه وجوهره ،وأما المبتدعة الجدد والرائيون والحداثيون
فلهم تصور آخر مع هذه الحقيقة وسأسوق قصتين بهما أستطيع إيصال هذا الفارق لخواني:
القصة الولى :من المعلوم أن الشيوعية ل تؤمن بالديان السماوية ،وتنفي عالم الغيب بكل ما
فيه ،ومن هذا الغيب ال سبحانه وتعالى ،وقد حاربت الشيوعية الديان كلها ،ولها تعامل خاص
مع السلم وأهله ،فالشيوعيون يكنون حقدا وعداء خاصا للسلم ول نريد أن نأتي على شرح
أسباب هذا الخصوص ،أقول :ومع أن الشيوعية تنكر الديان ،لكن هذا لم يمنع ستالين من أن
يفتح الكنائس ويستدعي القساوسة ليدخلهم إلى جبهات القتال ،ويفتح لهم أماكن الجتماعات
ليواجهوا الرعايا وذلك خلل الحرب العالمية الثانية ،وعندما اجتاح هتلر روسيا ،وسبب ذلك أن
ستالين رأى في الدين عامل مهما لتحقيق النجاحات والنتصارات ضد هتلر واللمان والنازيين،
فهو ل يعتقد بالديان ولكن رأى أنه يمكن استغلل الدين في هذه المرحلة لدفع الناس للمقاومة
والجنود للحرب ،ولهذا أمر بالكنائس أن تضرب النواقيس ،وللقساوسة أن يأخذوا دورهم في
التحريض والمقاومة ،فأنت ترى أن ستالين لم يكن يهمه صحة الدين أو عدم صحته وصواب
الدين أو عدم صوابه ،بل رأى في الدين عامل نافعا لهذه المرحلة.
القصة الثانية :الجنرال باتون المريكي ،أحد القادة في الحرب العالمية الثانية كان بحاجة في
إحدى معاركه إلى يوم صحو لتحقيق بعض النجازات العسكرية ضد اللمان ،فاستدعى رجل
الدين النصراني المرافق للجيش ،وطلب منه أن يكتب له صيغة صلة ليسأل فيها ربه لتحقيق
يوم صحو ،وبالفعل كتب له صيغة الصلة وقدر ال أن يكون اليوم الذي طلبه صحوا ،وبعد
المعركة استدعى الجنرال باتون القس العسكري وقلده وساما خاصا لحسن علقة القس مع ربه
كما قال الجنرال.
القصة حقيقية وتظهر لنا أن الدين بالنسبة لهذا النوع من البشر هو لتحقيق مقصد دنيوي ،به
تحصل المنفعة ،وهي صورة تتكرر في استخدام الدين باعتباره يحقق مصلحة ل باعتباره دينا
حقا ،يحقق العبودية لرب العباد ،كما استخدم الجيش المصري شعار "ال أكبر" في معركة
أكتوبر ضد اليهود ،وكما تضع الكثير من المؤسسات العلمية والجتماعية بعض الشعارات
الدينية ،سواء كانت إسلمية من آيات قرآنية أو أحاديث نبوية ،أو غير إسلمية.
567
فالدين إذا عند هؤلء هو أحد العوامل التي تستخدم لتحقيق الهدف الدنيوي ،ل أن الدين بنفسه
هو الهدف ،وهو شبيه برفع الدولة السعودية شعار ل إله إل ال محمد رسول ال ،ورفع صدام
البعثي شعار "ال أكبر" ،وغيرها من المثلة ،فالدين عندهم وسيلة ل غاية لتحقيق العبودية لرب
العباد التي هي غاية الغايات بالنسبة للمسلم الصادق ،ولذلك مصلحة الدين تقدم على أي
مصلحة ،وضرورة الدين ل تعادلها ضرورة ،فالنفوس تموت من أجل الدين ،والموال تنفق
لرفعة الدين ،وكل المصالح تنهار في سبيل تحقيق إقامة الدين وإعلئه.
( - )1انظر شرح المقاصد.
( - )2انظر "المستصفى" للغزالي.
( - )3انظر "تهافت التهافت" لبن رشد.
قراءة في التحالف الرائي العلماني
كيف نقرأ هذا التوجه في لهم الدين عند الرائيين المبتدعة؟.
في اللقاءات التي تقع بين هؤلء المبتدعة وبين القوميين والوطنيين ،وكذلك في مؤتمرات
الديان ،نرى أن القضية تجاوزت ،بل لم تعد تجد الهتمام في عقول المبتدعة في أمر دعوة
الخصوم إلى السلم ،وبيان حق ال تعالى على العبيد {يعبدونني ل يشركون بي شيئا}{ ،قل يا
أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن ل نعبد إل ال }...بل صارت هذه اللقاءات
تعقد للتفاق على ضرورة استخدام كل طرف لقواه الفاعلة لتحقيق أهداف مشتركة ،مثل
الوقوف أمام اللحاد ،أو تحقيق الوحدة الوطنية ،أو تعميق مبادئ الديمقراطية والحرية أو
الوقوف ضد الطغيان الجنبي وإليك المثلة:
في بيروت من تاريخ ( 12-10تشرين الول /أكتوبر سنة )1994تم عقد المؤتمر القومي
السلمي ،وبتمثيل من الجانبين القومي والسلمي كونت مجموعة من الشيخ غير المعمم راشد
الغنوشي والدكتور خير الدين حسيب ،والدكتور أحمد صدقي الدجاني ،ومن عصام نعمان
(ممثل عن الدكتور حسن الترابي) ،قدم السلميون )1( ،قلت قدم المبتدعة ورقة عمل
بتكليف من اللجنة المذكورة ،وكان ممثلو التيار السلمي هم :فهمي هويدي ،محمد سليم العوا،
محمد عمارة ،يوسف القرضاوي ،وقالوا الكثير من الضللت في ورقتهم وما يهمنا هنا هو
البنود والتوصيات ا لتالية:
568
( - 8حسب تسلسل الورقة المقدمة) ولن التحديات على درجة من الخطورة غير مسبوقة في
تاريخنا المعاصر ،والنهيارات في الجبهات العربية تتوالى بسرعة مخيفة ،فإن التيار السلمي
ل يرى أي جدوى من إنفاق الوقات التي تخصص لهذه اللقاءات في مناقشة الماضي ،أو
محاولت كل تيار لتبرئة ساحته مما يرميه البعض به من تهم ،وإنما الذي نراه مجديا ومؤثرا
هو أن يتطلع المفكرون والقياديون المجتمعون إلى الحاضر والمستقبل ،يحاولون في الحاضر
مقاومة الستسلم الرسمي لمحاولت الستتباع والضعاف وقهر الرادة الوطنية ،ويحاولون في
المستقبل صنع ا لوسائل الكفيلة بتغير الواقع المر باستعادة السيادة الوطنية واستقلل القرار
العربي وفرض الحق على الناكبين عنه والرافضين له.
قلت :ل يوجد في هذه النقطة ول في كل الورقة إشارة إلى صراع السلم باعتباره دين ال
تعالى مع أديان الشيطان ومذاهبه ،ول قضية التوحيد مع الشرك ،ول يوجد إشارة ولو خفيفة
إلى أساس الخصومة {ول يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}.
- 13ويفتح هذا اللقاء أبواب التفاهم الستراتيجي بين التيارين القومي والسلمي حول القضايا
التي يجب حسمها في سبيل صياغة مشروع للنهضة العربية في مواجهة محاولت ترسيخ
الستذلل والستتباع للصهيونية والغرب.
قلت :التيار القومي مدعو إلى المشاركة في صياغة مشروع النهضة العربية وهو التيار الذي
صنع الكثير من المصائب السياسية والقتصادية والفكرية ،وما الحزب القومي السوري
وأعمدته عنا ببعيد ،فإن أغلب العلمانيين الحاقدين على السلم من نتاج هذا الحزب وهذا
التيار ،فهل يقال بعد هذا أن القوميين الكفرة مدعوون لصياغة مشروع النهضة للمة المحمدية،
سبحانك هذا كفر صريح.
- 14وأولى هذه القضايا هي قضية المرجعية السلمية العامة لهذه المة ،فالتيار السلمي
يرى أن هذه المرجعية ل تكون إل للسلم ،وأن عوامل القوى الخرى للعتزاز القومي
بالتاريخ وبالنضال والبطال وبالمواقف يجب أن تكون إضافة مقدرة إلى رصيد المرجعية
السلمية ول يجوز أن تكون تحت أي ظرف خصما من هذا الرصيد أو عبئا عليه.
قلت :أرأيت أخي المسلم ما هو مفهوم السلم عند هؤلء المبتدعة؟ إنه إسلم التاريخ،
والنتساب الحضاري ،ل إسلم الستسلم لرب العباد ،واعلم أن هذا الذي يقولون هو عين ما
569
يقوله البعثيون والقوميون عن السلم وهو نفس قول ميشيل عفلق النصراني البعثي عن
السلم ،ولهذا ل تعجب من التحالفات التي تقوم بين هؤلء المبتدعة وبين المرتدين.
- 15والنتقال من القاعدة الديمقراطية إلى الواقع العملي يبين أن السلم هو الطاقة القدر
على تحريك الجماهير نحو موقع حضاري متقدم ،وهو القوة الدافعة لنضال مستمر يخرج بالمة
من نكبتها الحالية إلى الموقع الحضاري المناسب.
قلت :إذا كان هذا هو السلم الذي يدعو إليه المبتدعة الرائيون ،السلم النافع ل السلم
الصحيح الوحيد.
وبودي لو ذكرت شيئا من ورقة القوميين ،ولكن ضيق المساحة يمنعني من هذا ،ولكن البيان
الختامي كان بمثابة تحقيق لما قلناه وهو أن السلم كان مستخدما نافعا لقضايا الشعوب بعيدا
عن تدينهم ،وبعيدا عن عبوديتهم لرب العباد ،فاستخدم السلم لقضية تجميع الطاقات لمواجهة
التحديات الراهنة ورد الهجمة الحضارية الغربية بإنشاء نموذج حضاري متميز بالعروبة
والسلم.
وهكذا يصبح السلم دينا نافعا لتحقيق أهداف الحزاب والتنظيمات ،وليس هو الدين الصحيح،
والحق الوحيد ،وما عداه كفر وضلل.
{قل يا أيها الكافرون ،ل أعبد ما تعبدون ،ول أنتم عابدون ما أعبد ،ول أنا عابد ما عبدتم ،ول
أنتم عابدون ما أعبد ،لكم دينكم ولي دين}{ ،ومن يبتغ غير السلم دينا فلن يقبل منه وهو في
الخرة من الخاسرين}{ ،ودوا لو تدهن فيدهنون}{ ،وما أمروا إل ليعبدوا ال مخلصين له الدين
حنفاء ،ويقيموا الصلة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}{ ،إن الدين عند ال السلم} هذه اليات
القرآنية وغيرها من آيات شاهدة على ذلك ،أن الدين الذي يعتقده هؤلء المبتدعة في واد وهم
في واد آخر { ،متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون}.
( - )1حسب تعبيرات العلمانية الصلبة ،يعنون بما السلميين الصوليين ،وإذا كان راشد
والترابي من الصوليين فقد هزلت وبان هزالها حتى سامها كل مفلس.
الختراق والتاريخ ( تأسيس التلبيس)
ظاهرة سرقة الشعار والدعوة تتكرر على مر الزمان والعصور ،حيث يبدأ صاحب الدعوة
على عقيدة ما ومنهج مميز قد يكون مكتمل في ذهنه وقد يكون عائما مسطحا ،فيتجمع حوله
570
النصار والمؤيدون ،كل منهم دخلها لمقصد خاص له وبفهم خاص كذلك ،فيتلقفها رجل مميز
في قدراته وعقليته فيستطيع بهذه القدرات والمميزات أن يجير الدعوة إلى حسابه وفكرته ،فيبقى
الشعار على الوضع الول حديديا مصمتا جامدا -ويتغير المحتوى والمضمون ،حتى إذا شاع
هذا الشعار مع المضمون الجديد صار أمر المصلحين عسيرا متعبا في رد الناس إلى المر
الول.
هذه الظاهرة حدثت في دين ال تعالى الذي أنزله على عيسى عليه السلم ،فعيسى عليه السلم
دعا إلى التوحيد ،وإلى إفراد ال تعالى بالعبادة ،وأخبر عن صفات ال تعالى وأنه ليس كمثله
شيء ،وأن العرش وما دونه مخلوقات ل تعالى ،وال مستغن عن العرش وعن عبيده ،وحذر
العباد من الشرك والكفر ،فحذرهم من عبادة الصور والتماثيل ،وحذرهم من اتخاذهم الناس
أربابا من دون ال تعالى ،كل هذا كان واضحا وضوح الشمس في دعوة عيسى عليه السلم
لبني إسرائيل ،فلم يكن في دعوة عيسى عليه السلم ما يحتمل التأويل ،في هذا الجانب ،لن هذا
الجانب هو أس الدعوة وعمادها ،فلذلك ل بد أن يكون صريحا واضحا ،فتبعه أصحاب له هم
خيرة الناس يوم ذاك ،واصطفى منهم خواصا صاروا حواريين وأصفياء له ،ثم رفع عيسى
عليه السلم إلى السماء ،وشبه على اليهود فصلبوا غيره ،كل هذا كان واضحا في ذهن وعقلية
الصفياء ،فكيف انحرفت الدعوة وتغير مضمونها بعد ذلك؟.
بعد أن رفع عيسى عليه السلم إلى السماء نشط أتباعه بالدعوة إلى دين ال تعالى ،وكلما
ازدادت الدعوة نشاطا وقوة كلما ازداد غضب الشر عليها ،فازداد اضطهاد اليهود لها ،وازداد
عذابهم لتباعها ،وكان هناك رجل قد تميز في بيت المقدس (حسب الروايات) في عذابه وبغضه
لهذه الدعوة ،كان هذا الرجل يهوديا يسمى شاؤول ،وقد استطاع أن يستخرج فرمانا من الحاكم
الروماني في بيت المقدس لقتل جماعة من أتباع عيسى عليه السلم في دمشق ،حمل شاؤول
الفرمان ووجه وجهه سائرا إلى دمشق ،تقول الرواية :إنه دخل دمشق مؤمنا بدعوة المسيح عليه
السلم ،وادعى أنه رأى رؤيا في الطريق تدعوه إلى اتباع دين عيسى عليه السلم ،كان خوف
الحواريين منه شديدا ،فتخوفوا منه ابتداء لكنه استطاع أن يكسب ثقتهم بعد مدة قصيرة من
الزمن ،ونشط معهم بالدعوة إلى الدين الجديد ،كان أكثر الحواريين صداقة معه هو برنابا رضي
ال عنه ،حيث تصاحبا في كثير من أسفارهما ورحلتهما إلى القرى والمدن للدعوة إلى الدين
السلمي الذي أتى به عيسى عليه السلم ،وفي رحلة طويلة لهما قصدا إلى شمال الدنيا وصل
571
الثنان إلى أنطاكية وهناك انفصل ،حيث وجه برنابا وجهته إلى جزائر البحر ،وواصل شاؤول
(الذي غير اسمه بعدما ادعى السلم وسمى نفسه بولس) مسيرته إلى بلد الرومان حيث استقر
المقام به في عاصمة بلد الرومان ومقر المبراطورية روما ،وهناك بدأ التحريف والتزوير.
ما إن وصل إلى روما واستقر به المقام حتى بدأ يدعو إلى دين السلم الذي أتى به عيسى
عليه السلم بمحتوى جديد ومضمون مختلف ،فادعى هناك في روما أن عيسى تميز عن البشر،
وأنه ليس بشرا بل هو ابن ال ،وأن الرب (أباه) قد صلبه من أجل أن يخلص البشر من
خطاياهم ،فبهذا تم فداء البشر وانعتاقهم من ذنوبهم ومعاصيهم ،وبدأ يكسب النصار والمؤيدين
للدين تحت الشعار الول ولكن بمضمون جديد ،وفحوى متغيرة ،يقال لهم من أنتم؟ .يقولون:
أتباع المسيح .ما دينكم؟ .فيجيبون بأجوبة الشرك واعتقاد الكفر.
كثر التباع وانتشر الخبر حتى وصل إلى الحواريين ،كان أكثرهم صدمة بهذا الحدث هو
سمعان الصفا رضي ال عنه هو بطرس( ،وبطرس تعني الصخرة التي يقام عليها الدين) ،حمل
بطرس نفسه ماشيا من بيت المقدس إلى روما يمشي حينا ويعان حينا بدابة حتى وصل إلى
روما ليعلن للتباع هناك ضلل هذا الدين وكذبه بنسبته إلى عيسى عليه السلم ،تقول الروايات
أن مشقة بطرس وصلت خلل مسيرته أنه تعرض للموت جوعا وعطشا مرات كثيرة ،وأن
رجليه نزفتا مرات كثيرة ،لكن إخلصه في بيان كذب بولس (شاؤول) دفعه لمواصلة الطريق
إلى روما ،عندما وصل روما بدأ يعلن ضلل وكذب شاؤول ،فاستعدى أتباع شاؤول عليه
الدولة هناك فقبضت عليه بعد أسبوع واحد من وصوله روما وحكموا عليه بالقتل فقتل ،وواصل
شاؤول دعوته في روما إلى الشرك والكفر تحت دعوى وشعار دين عيسى عليه السلم.
تقول الروايات أن برنابا أرسل مجموعة رسائل إلى التباع الجدد في روما يحذرهم من
انحرافهم وشركهم كلها لم تنفع ،واستغلها شاؤول استغلل سيئا ،بل إن قتل الرومان لبطرس قد
استغله شاؤول في استدرار العطف والشفقة عليه وعلى أتباعه حيث نسبوا بطرس لمذهبهم
ودينهم وأنه قتل شهيدا من قبل الطغاة الرومانيين.
وهكذا بقي الشعار والعنوان والنسبة إلى عيسى عليه السلم وانحرف المضمون وتبدل
المحتوى ،واستمر الصراع بين الموحدين في الشرق وبين الوثنيين في روما قائما حول -من
أحق بهذا الدين الجديد -واستمر على هذه الحالة سنين طويلة ،حتى استطاع الوثنيون المثلثون
كسب إمبراطور روماني إلى صفهم هو قسطنطين (والتي يسميه النصارى بقسطنطين الكبير أو
572
القديس قسطنطين مع أنه لم يدخل في دينهم قط ،فبعض الروايات تقول أنه تعمد نصرانيا على
فراش الموت وبعضها ينفي هذا التعميد كلية) حيث أعانوه في تحقيق انفراده بالسلطة ضد
خصومه ،فحفظ لهم هذا الجميل وبدأ يدعم مذهبهم واتجاههم ،وكذلك استطاعوا التاثير على أمه
هيلنة حيث استمالوا قلبها إلى الدين الوثني الجديد ،فاستغلوا السلطة الحاكمة في القضاء على
خصومهم من الموحدين ،تنصرت الدولة الرومانية على الطريقة الوثنية وبدأ تنكيلها وقتلها
للموحدين في الشرق مما اضطر أصحاب التوحيد إلى الهرب إلى الجبال والقفار بعيدا عن
بطش الدولة الرومانية ،وبقي قلة منهم على طريق التوحيد حتى جاءهم السلم ودخل إلى
بلدهم فدخلوا فيه وأسلموا ،وهكذا سرق الشعار ،وتحولت الدعوة بفعل رجل واحد غير الملة
والدين ،واستغل أتباعه السياسة والحكم فعاونتهم في القضاء على خصومهم وإبعادهم من
الطريق ،وها هو الدين المنسوب لعيسى عليه السلم يمل أتباعه فجاج الرض وليس فيهم
موحد ل تعالى.
كاد هذا المر يحدث مع دين ال تعالى الذي أنزله على محمد صلى ال عليه وسلم ،وما حادثة
الردة التي كانت في آخر حياة النبي صلى ال عليه وسلم ثم انتشرت بعد وفاته إل مثال لمحاولة
الختراق ،ولول أن ال تكفل بحفظ دينه ،وأن ال أقام لهذا الدين هذا الصنف الرائع من
الرجال ،كأمثال أبي بكر الصديق رضي ال عنه وبقية المؤمنين لصار دين ال تعالى أثرا بعد
عين ،ولصار إسلم التوحيد ،إسلما آخر بمحتوى جديد ،فيه اليمان بمسيلمة وسجاح.
وتكرر هذا الحدث مع الصديق الثاني أحمد بن حنبل رحمه ال تعالى في محنة خلق القرآن،
حيث تقلد القضاء أئمة العتزال( ،وخطبوا على المنابر ودخل الخليفة في دينهم ومذهبهم)،
فضيق على الموحدين ،فقتل منهم من قتل ،وهرب منهم من هرب ،وأجاب بعضهم تقية ،ولم
يصمد في المحنة إل أحمد رحمه ال تعالى ،حيث حفظ ال به هذا الدين وهذه المة من
النحراف والردة.
عصمة المة
من الممتنع ردة جميع المة أو انحرافها وتغييرها تحت اسم السلم ،فقد تكفل ال تعالى ببقاء
جماعة على الحق ل يحيدون ول يضطربون .قال صلى ال عليه وسلم(( :يحمل هذا العلم من
كل خلف عدولهم ينفون عنه تحريف المغالين ،وانتحال المبطلين ،وتأويل الجاهلين)) ،وقال فيهم
المام أحمد رحمه ال تعالى في خطبة كتابه في "الرد على الجهمية" :الحمد ل الذي جعل في
573
كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى هدى ،ويصبرون منهم على
الذى ،ويبصرون بنور ال أهل العمى ،فكم من قتيل لبليس قد أحيوه ،ومن ضال جاهل قد
هدوه ،فما أحسن أثرهم على الناس ،وأقبح أثر الناس عليهم.ا.هـ .أما أن تنحرف جماعة وترتد
وهي ترفع شعار السلم وتنتسب لمحمد صلى ال عليه وسلم فهذا قد وقع منه الشيء الكثير:
فالسماعيلية والقرامطة لهم دين عجيب غريب ،ليس فيه شيء مما يصح انتسابه للكتاب والسنة
ومع ذلك فإنهم ينتسبون للسلم ولمة محمد صلى ال عليه وسلم.
وها هم اليزيديون عبدة الشيطان ينتسبون للسلم ولمة محمد صلى ال عليه وسلم ومع ذلك
يعبدون الشيطان ويدينون له بالطاعة والولء.
وهاهم القائلون بوحدة الوجود (ل فرق بين الخالق والمخلوق) ينتسبون للسلم ولمحمد صلى
ال عليه وسلم.
وها هم أهل البدع يرفعون شعار أهل السنة والجماعة كعبدة القبور ،والقائلين بالجبر والتأويل
والتجهم.
وأنت لو أنعمت النظر في الطريقة التي حصل فيها هذا التزييف وهذه السرقة لوجدت أن أغلبها
يتم بالطريقة التي قدمناها مع شاؤول في تزييفه لدين ال تعالى (انحراف رجل داعية ثم تدخل
السياسة في نصرته).
مسالك التزييف والتحريف
اعلم (حفظك ال) أن هناك مزالق ومسهلت يتخذها هؤلء المزيفون في تمرير بدعتهم أو
كفرهم أسوقها لك على عجل:
- 1أهم هذه المزالق الشيطانية التي يتخذها هؤلء المزيفون هو الزهد وادعاء الفقر والمسكنة،
فأنت لو قرأت مبتدأ جميع الدعوات البدعية في التاريخ السلمي لوجدت أن الطريق الول في
بناء التباع هو اتباع الزهد والذلة ،فهذا حمدان قرمط (مؤسس القرامطة) ،وهذا ميمون القداح
(مؤسس دولة العبيديين) ،وهذا حسن الصباح (مؤسس قلعة الحشاشين في قلعة ألموت) ،وهذا
مؤسس الدين اليزيدي عبدة الشيطان وغيرهم كلهم بدأوا بإظهار الزهد والمسكنة.
574
- 2حسن السمت ،وهذا الذي يسميه البعض بنور الوجه ،فالمغفلون من البشر تغرهم وضاءة
الوجه وحسن السمت ،ول يناقشون الحقائق ،وأنت لو سألت الكثير من أتباع الطرق الصوفية
عن دليل صدق طرقهم لجابك :بأن شيخنا حفظه ال له وجه مشرق نير.
- 3القدرة الخطابية والتمكن من البلغة ،وكذا يلحق بها التمكن من المحاورة أو كما سماها
بعضهم بإتقانه :من أين تؤكل الكتف.
- 4النتساب لشرف المنبت والصل ،كالنتساب لل البيت عليهم السلم مثل.
وهذه التي ذكرناها قد يستخدمها المحق ويستخدمها المبطل ،وهي ليست أدلة إثبات الحق ممن
دليله في داخله ،فعلى داعي الحق أن ل يفوتها لن الكثير من الناس تغرهم المظاهر والرسوم،
ول يعيرون الدراسة والفهم أدنى قيمة كما قال صلى ال عليه وسلم(( :الناس كالبل المائة ل
تجد فيها راحلة)) ،وكما قال علي رضي ال عنه" :وأكثرهم همج رعاع يتبعون كل ناعق"،
ولذلك هذه المزالق تستحق أن تسمى "مزالق المغفلين".
تحريف المعنى وتزييف اللفظ (السلفية /الجهاد)
ما قدمته من أمر قصدت منه الوصول إلى انحراف اسم عزيز علينا ،له وقع حبيب على
نفوسنا ،وما زلنا نتنازعه مع قوم صرفوه عن حقيقته ،وألبسوه ثياب الزور والبهتان ،هذا السم
هو "السلفية".
عندما تصل الحركة الجهادية إلى درجة من الوضوح في العلقة مع الخرين فهذا أكبر دليل
على أنها على الحق ،مع أن الدليل الول والكبر من ذلك كله هو أنها تنطق من الحق المطلق،
أي الكتاب والسنة على فهم الصحابة رضي ال عنهم ،هذه العلقة التي كشفت الواقع على
حقيقته ،فعرت المرتدين وكشفت سوآتهم ،وصاروا أمام الناس من غير محسنات باطلة ودعاوى
فارغة ،وعرت الحركات السلمية المبتدعة التي زورت السلم وشوهت وجهه الجميل ،وبدأ
ضعاف النفوس بالسقوط وأعياهم طول المسير ،وحطمت الشعارات الجوفاء واللقاب الرنانة،
وصدعت بالحق غير آبهة بالسفن التي تحرق ،أو المصالح الموهومة التي تفوت من غير
رجعة ،أليس هذا الواقع الذي تصنعه الحركات الجهادية في نفوس الناس هو أكبر دليل على
أنها تمثل في هذا الزمان عصا موسى عليه السلم والتي أكلت ما أفرزه السحرة والمشعوذون.
575
لقد قال ابن عباس رضي ال عنهما :وال ما أظن على ظهر الرض اليوم أحدا أحب إلى
الشيطان هلكا مني .فقيل :كيف؟ .فقال :وال إنه ليحدث البدعة في مشرق أو مغرب فيحملها
الرجل إلي فإذا انتهت إلي قمعتها فترد عليه )1( .وهكذا هي وال حركات الجهاد السلفية في
العالم ،تكشف للناس الحقائق ،وتبين نفوس الناس ومستويات عقولهم.
الناس راكدون راقدون ،والطرق مبهمة ،والسماء غائمة ،وهناك شخوص اتخذهم الناس صوى
ودللت ،يرقبون ندى فجر يرطب جفاف حلوقهم ،لكنهم أيقنوا بعد مدة أنهم في سراب ،وأن
كل ما يعيشونه مزور ،باطل ،يتخفى بالقنعة لكنها لم تعد مقنّعة ،فيأتي البشير النذير ،رجل
يحمل في قلبه التوحيد ،وفي يده بندقية أو قنبلة فيفجرها في وسط هذا الركود ،فيفيق الناس من
أحلمهم الخادعة ،وأوهامهم الوادعة ،فيدوك الناس ويضطربون أما الفطري فيحمد ال ويدعو
ال أن يبارك في هذا الصنيع إذ رأى فيه صورة نفسيته وفطرته السليمة ،ولكن هناك قوم بنوا
قصورهم على الواقع السن ،ورفعوها عللي شاهقات ،فخافوا عليها من الزوال ،أو جزعوا من
أن يروا الناس يكشفون أن هذه القصور إنما هي من ورق ل تصمد أمام العاديات ،ول يدفع به
حر أو زمهرير.
راية الجهاد ومقصده تحكم على صوابه وخطاه ،وقد رفعت راية الجهاد كثيرا ولكنها لم تكن
سوى تحريض عاطفي لتحقيق مقاصد باطلة وتنفيذ مآرب غير إسلمية .وما فترة قبل الستقلل
(الوثني) إل دليل حقيقي على هذه المقولة ،فالوطنيون والقوميون على اختلف ألوانهم العقدية
استغلوا هذا السم الجميل ،والراية الرائعة "الجهاد" لتحقيق الوصول إلى أهدافهم عن طريق
سوق الناس إلى التضحية والفداء والرغبة في الشهادة ،حتى إذا تم لهم المراد قلبوا ظهر المجن
للسلم وأهله وبانت الحقائق أن هذه الدعاوى لم تكن سوى قناع زائف يتستر خلفها أعداء ال
وأعداء رسوله صلى ال عليه وسلم.
( - )1السنة لللكائي ح .12
القتال والجهاد :الوسائل والمقاصد
لماذا نقاتل؟ وتحت أي راية نقاتل؟ :هذان سؤالن ل بد أن يستعرضها المرء قبل أن يحمل
البندقية ويقدم روحه في هذا المضمار وهذا السبيل.
الراية أول:
576
الراية هي الغاية والحديث النبوي الشريف يجعلهما شيئا واحدا :ففي مسند المام أحمد بن محمد
بن حنبل رحمه ال تعالى من حديث عوف بن مالك الشجعي قال :قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم(( :هدنة تكون بينكم وبين بني الصفر ،فيسيرون إليكم على ثمانين غاية .قلت :وما
الغاية؟ .قال :الراية ،تحت كل غاية اثنا عشر ألفا ،وفسطاط المسلمين يومئذ في أرض يقال لها
دمشق)) .وفي رواية له من حديث أبي الدرداء بلفظ :فيسيرون بثمانين بندا .وعنده وعند غيره
بلفظ :فيأتونكم تحت ثمانين راية ،تحت كل راية اثنا عشر ألفا ،وهو عند البخاري من حديث
عوف بن مالك بلفظ :فيأتونكم تحت ثمانين غاية ،كل غاية اثنا عشر ألفا.
قال ابن حجر في "فتح الباري" ( :)2/3176غاية أي راية ،وسميت بذلك لنها غاية المتبع إذا
وقفت وقف.
فانظر (حفظك ال من كل شر وسوء) إلى مقاصد القتال وأنه مربوط بالراية التي تقاتل تحتها،
وكيف أن الراية تحدد المقصد لن السائر تحتها سيقف حيث وقفت ،ويمتثل أمر ورودها
وصدورها ل يتعداها ول يخالفها في أمر من المور ،ومن هنا فإننا نستطيع أن نحكم على
الراية بمعرفة الغاية ،وكذلك نعرف الغاية بمعرفتنا للراية ،لن الراية الظاهرة هي مظهر
المقصد الخفي ،والغاية المعلنة باللفظ والتصريح هي التي تحدد لنا الراية التي يقاتل المرء
تحتها.
ومعلوم أن الجهاد في سبيل ال قد يكون لمقصد واحد من مقاصد الشريعة ،وقد يكون مطلقا
لنشر السلم وتحكيم الشريعة ،فقد يجاهد المرء مدافعا عن عرضه ،وقد يجاهد مدافعا عن
ماله ،أو عن نفسه ،أو لفك أسير مسلم أو ذمي (على قول بعض أهل العلم) وكل ذلك داخل
تحت المقاصد الشرعية الصحيحة التي تدخل هذا الفعل في مسمى الجهاد في سبيل ال تعالى.
أما القتال تحت الرايات الكافرة أو البدعية بدعة مكفرة ،أو في وقت الهرج الذي ل يدري المرء
على ماذا يقاتل ،أو لي شيء يقتل فهذا ل يدخل في باب الجهاد في سبيل ال تعالى ،قال صلى
ال عليه وسلم(( :من قتل تحت راية عمية ،يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية ،فقتلته
جاهلية)) )1( .أي إن مات تحت هذه الراية فقد مات جاهليا ،والعمية من العمى وهي الغواية
والضلل كالقتال في العصبية والهواء ،وحكى بعضهم فيها ضم العين "عمية" ،وسئل أحمد بن
حنبل -رحمه ال -عمن قتل في عمية؟ .قال :المر العمى للعصبية ل تستبين ما وجهه .قال
577
أبو إسحاق :إنما معنى هذا في تحارب القوم وقتل بعضهم بعضا .يقول :من قتل فيها كان هالكا.
قال أبو زيد :العمية :الدعوة العمياء فقتيلها في النار .وقيل :العمية :الفتنة ،وقيل الضللة)2( .
فالراية العمية إذا على معنيين:
المعنى الول :الراية التي ل وضوح فيها فهي غير بينة ول واضحة ،وإنما انساق المرء فيها
كالدابة ل يدري فيما يتقاتل الناس عليه ،ول على أي شأن يتقاتلون ،ولذلك هي راية لم يستبن
المرء أمرها ،ولم يتحقق من أهدافها.
المعنى الثاني :الراية البينة الضللة ،التي ل تقاتل على السلم ولكنها تنتصر لمعاني الجاهلية،
كالتعصب للقبلية أو العصبة أو الوجهة دون هدي من كتاب أو سنة ،ويلتحق بهذه الراية الرايات
البدعية لنها رايات غواية وضلل ليس عليها نور الهدي النبوي ،ول الحق مسفر بوجهه علينا.
فمن قتل تحت هاتين الرايتين فهو على سبيل هلكة وفي النار ،والحديث إنما هو تحذير للمسلمين
أن ل يقاتلوا إل من أجل إسلمهم ودينهم ،وأن ل يفرطوا بأرواحهم في سبيل الهوى والشهوة
والحزبية والعشائرية والقطرية ،وليس في الحديث بيان حال من قاتل تحت راية كفرية شركية
فإن من قاتل تحت راية الشرك مشرك ،ومن قاتل تحت راية الكفر كافر ،ول ينفعه احتجاجه
بصلح قلبه ونيته ودليل ذلك قوله تعالى{ :إن الذين توفاهم الملئكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما
كنتم قالوا كنا مستضعفين في الرض ،قالوا ألم تكن أرض ال واسعة فتهاجروا فيها فأولئك
مأواهم جهنم وساءت مصيرا إل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ل يستطيعون حيلة
ول يهتدون سبيل} النساء ،وفي تفسيرها عن ابن عباس رضي ال عنهما :أن ناسا مسلمين
كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على النبي صلى ال عليه وسلم (أي يوم بدر)
فيأتي السهم يرمى به يصيب أحدهم فيقتله ،أو يضرب فيقتل فأنزل ال {إن الذين توفاهم
الملئكة}...
ولعكرمة :فقتلوا ببدر كفارا ورجعوا عن السلم )3( .وقد عامل الصحابة رضي ال عنهم
أسرى هؤلء كما عاملوا بقية الكفار ،فقد أخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس رضي ال
عنهما أن النبي صلى ال عليه وسلم قال(( :يا عباس افد نفسك وابن أخويك عقيل بن أبي طالب
ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن عمرو فإنك ذو مال .قال (أي العباس) :إني كنت مسلما
ولكن القوم استكرهوني ،قال صلى ال عليه وسلم :ال أعلم بما تقول ،إن كنت كما تقول حقا إن
ال يجزيك ،ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا)))4( .
578
وقد نص العلماء على هذا الذي قلناه ،فقد قال ابن حزم الظاهري رحمه ال تعالى :ولو أن كافرا
مجاهرا غلب على دار من دور السلم ،وأقر المسلمين بها على حالهم إل أنه هو المالك لها
المنفرد بنفسه في ضبطها وهو معلن بدين غير السلم لكفر بالبقاء معه كل من عاونه وأقام
معه وإن ادعى أنه مسلم)5( .
واعلم أن ابن حزم في قولته هذه قد جعل شرط التكفير لمثال هؤلء الذين يقاتلون تحت راية
الكفر هو علمهم بكفر الحاكم الذي يقاتلون تحت رايته .حيث قال "كافرا مجاهرا" فمن ستر كفره
ولم يعلم أمره فهو معذور إل أن يكون قادرا على تبين حاله ولكن لم يفعل ،فهو داخل في قتال
الراية العمية ،لنها راية غير واضحة كما تقدم.
حال من قاتل تحت راية خيار الشعب والمسيرة النتخابية الشركية:
اعلم أن راية الديمقراطية راية كفرية شركية ،وقد علم القاصي والداني أن السلم والديمقراطية
دينان مختلفان ،فأما السلم فهو حكم ال لعباده ،والديمقراطية حكم البشر بعضهم لبعض ،واعلم
أن محاولة البعض مساواة السلم بالديمقراطية هي محاولة الزنادقة الذين يريدون أن يبدلوا
دين ال تعالى موافقة لهواء البشر ،فإنه وإن التقت الديمقراطية والسلم في حق اختيار المة
لحكامها ،فإن السلم يكفر من خير الناس في أحكامهم ،إذ يجب على الناس أن يحكموا
بالسلم وأن يكون الئمة مسلمين ،أما الديمقراطية فهي تجعل للناس حق اختيار أحكامهم
وتشريعاتهم ،وهذا هو لب الديمقراطية وجوهرها وحقيقتها ،فمن جعل السلم كالديمقراطية
فحاله حال من سوى بين السلم واليهودية بجامع أن كل منهما يعترفان بنبوة موسى عليه
السلم ،ويقران بوجوب خضوع الناس لسياسة النبياء وامتثالهم لمر النبي المرسل ،وشتان بين
السلم واليهودية {أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون}.
إذا تبين لنا هذا فإن من قاتل تحت هذه الراية فإنه كافر مشرك ويقاتل مقاتلة المشركين (بعد
إقامة الحجة الرسالية عليه).
وقد يقول قائل :إن هؤلء القوم المعنيون يريدون أن يقاتلوا لعادة الناس إلى البرلمان من أجل
أن يحكموا بالشريعة ،إذا تبين بالواقع أن حكم السلم هو المقصود.
فنقول :إن تطبيق حكم ما عن طريق البرلمان ومجلس النواب ل يدخله في مسمى الحكم
الشرعي وإن التقى معه في الصورة ،وقد قدمنا هذا سابقا ،حيث تبين لكل من عقل وفهم دين
ال تعالى أن الحكم ل يسمى شرعا إسلميا وإن كانت صورته تلتقي مع الحكم الشرعي حتى
579
يطبقه المرء بتوصيفه الشرعي ،وهو كونه حكما صادرا عن ال تعالى ،والحكم الصادر عن
البرلمان الشركي هو حكم شركي وإن كان ظاهره يلتقي مع الحكم الشرعي ،فالن قد تبين أن
هؤلء القوم يقاتلون من أجل حكم الشعب ل من أجل حكم ال تعالى ،هذا هو حال من قاتل
الجنبي ليحكم الوطني الكافر ،فهو يقاتل من أجل راية الوطنية ل من أجل حكم السلم الذي
أمر ال تعالى بالقتال من أجله كما قال صلى ال عليه وسلم(( :اغزوا باسم ال ،وقاتلوا من كفر
بال)) ولقوله صلى ال عليه وسلم(( :من قاتل لتكون كلمة ال هي العليا فهو في سبيل ال
تعالى)).
فجماعة يمثلها رجل لنه اختير من قبل الشعب ،وجماعة ترى أن الصراع في بلدها هو صراع
للعودة إلى المسار النتخابي الذي أوصل بعض رجالهم إلى قبة البرلمان ،فهل تسمى هذه
الجماعة بأنها جماعة إسلمية مجاهدة؟ أم أنها جماعة بدعية وبدعتها مكفرة ومخرجة من
الملة؟ .اللهم إنها جماعة تقاتل مقاتلة الكفار والممتنعين عن الشريعة.
وهنا تنبيه مهم وهو أن الطوائف المقاتلة ل تعامل معاملة أفرادها الجهلة أو حسني النية ،بل
تعامل معاملة الراية والقيادة كما تقدم سابقا إذ ل يقدر عليها إل بالقتال ،واعلم حفظك ال أن
قول من قال :إننا نقاتل من أجل إعادة رجالنا إلى البرلمان هو إسقاط وإهمال لكثير من اليات
كقوله تعالى{ :وقاتلوهم حتى ل تكون فتنة ويكون الدين ل} ،والدولة الديمقراطية لن يكون فيها
الدين كله ل ،بل إنها ابتداء تقوم على إلغاء حق ال تعالى في التشريع والحكم والقضاء ،فباسم
الشعب ل باسم ال تصدر الحكام وتطبق في القضاء والمحاكم.
( - )1رواه مسلم من حديث جندب بن عبد ال البجلي رضي ال عنه.
( - )2انتهى "باب الياء فصل العين".
( - )3الطبري.
( - )4والحديث في المسند ( )1/353من حديث ابن إسحاق إل أن فيه رجل مبهما ما بين ابن
إسحاق وعكرمة والحديث له شواهد وأصله في صحيح البخاري (كتاب المغازي) بغير هذه
الزيادة .انظر شرح أحمد شاكر على المسند (.)2/3310
( - )5المحلى .11/200
سبيل أهل السنة والجماعة :نقد التزييف
580
أذكر نفسي وإخواني بأن الفتن كاشفة للرجال ،كما قال الرجل لسعيد بن المسيب رحمه ال
تعالى :يا سعيد في الفتنة يتبين لك من يعبد ال ممن يعبد الطاغوت )1( .وقوله هذا حق فإنهم
في الوسع يرفعون شارة السلم ورايته ،وكلهم يزعم أنه وليه وصاحبه ،ولكن بعد المتحان
والختبار يعرف الناس حقائق أنفسهم وعقائدهم .فهؤلء المتمسكون بشعار جبهتهم وحزبهم،
هذا الحزب الذي لم يعلم قادته وأفراده قط التوحيد الصافي ،فبعضهم صار وزيرا في دولة
الردة ،وبعضهم نهق بعداء المجاهدين ،وبعضهم ارتمى في أحضان الشرق أو الغرب ،فأي
توحيد علمهم حزبهم هذا وتجعهم هذا .ثم يأتي بعد ذلك من يأتي متبجحا قائل :إن راية هذا
الحزب والتجمع هي راية أهل السنة والجماعة" ،فل أدري عن أي سنة وجماعة يتكلمون!!.
واعلم وفقك ال لرشد أمرك أن هذه المسألة جد خطيرة ،وليست هي بكثرة الناعقين
والمرجفين ،ول بكثرة العمائم المدورة ،والشهادات العالية المزركشة بل هي بالدليل والبرهان،
ثم عليك أن ل تطمع كثيرا بهداية أهل الهواء والبدع ،فإن البدع قد دخلت في كل مفاصلهم
وشربتها قلوبهم حتى الثمالة ،ثم اتفقوا وتمالؤوا على الكذب والبهتان فالصدق منهم كعنقاء
مغرب غرابة وقد صدق أبو بكر مسلم الزاهد ذكر يوما المخالفين وأهل البدع فقال" :قليل
التقوى يهزم العساكر والجيوش" .وصدق الشاعر حين قال:
فـحيلتي فيه قليلة من كان يخلق ما يقول
فاهرب من هؤلء المبتدعة ،ول ترخي لهم سمعك لئل يمرضوا قلبك ،قال ابن عباس رضي ال
عنهما" :ل تجالسوا أصحاب الهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلب" ،وأي مرض أعظم من أن
يذهبوا بك إلى دين يضاد دين محمد صلى ال عليه وسلم من كل وجه (أعني دين الديمقراطية)
فإياك وتسللهم في قلبك.
عن حبيب بن أبي حبيب قال :شهدت خالد بن عبد ال القسري بواسط في يوم أضحى وقال:
ارجعوا فضحوا تقبل ال منكم ،فإني مضح بالجعد بن درهم ،زعم أن ال لم يتخذ إبراهيم خليل
ولم يكلم موسى تكليما ،تعالى ال علوا كبيرا عما يقول الجعد بن درهم ،ثم نزل فذبحه)2( .
وقد مدح الئمة العلم فعل القسري عند ذبحه الجعد ،قال ابن القيم في نونيته:
أحــد يكون خليله النفسان وكذاك قالوا ماله من خلقـه
ذا الوصف يدخل عابد الوثان وخليله المحتاج عندهــم وفي
في أسر قبضته ذليل عـــاني الكـل مفتقر إليه لــذاته
581
لد القسري يوم ذبائح القربـان ولجل ذا ضحى بجعد خــا
كل ول موسى الكليم الـداني إذ قال إبراهيم ليس خليـله
ل درك مـن أخـي قربــان شكر الضحية كل صاحب سنة
شرح البيات :هذه البيات في أوائل نونية ابن القيم في العقيدة ( )3حيث بدأ ابن القيم يعدد
خصال الجهمية المعطلة ( )4ويقصد بالمعطلة :أنهم يعطون صفات ال تعالى وينفونها
ويزعمون أن ال ذات مجردة ،وهم وإن كانوا متأولين إل أن نهاية قولهم هو القول بتعطيل
الخالق ،إذ ل يتصور العقل ذاتا من في غير صفات إل لمن ل حياة له ،أو نهاية أمره هو القول
بوحدة الوجود ،وهو أن ال هو كل موجود ،وقد ورث الشاعرة هذه العقيدة (التعطيل) ،مع أنهم
ينسبون هذه الصفات إلى ال تعالى إل أنهم يجردونها عن حقيقتها بتأويلها فينسبون ل صفة
المحبة ولكنهم يفسرونها أنها إرادة الخير من ال للنسان .فابن القيم يقول عن الجهمية أنهم نفوا
عن ال تعالى صفة الخلة وهي صفة جاءت في الحديث(( :لو كنت متخذا من الرض خليل
لتخذت أبا بكر خليل ،ولكني خليل ال)) ،والخلة هي أعلى مراتب المحبة لنها ل تقال إل إذا
تخلل الحبيب كل القلب ،كما قال الشاعر:
وبذا سمي الخليل خليل تخللت مسلك الروح مني
ولهذا سمي إبراهيم عليه السلم خليل ال تعالى.
فالجهمية نفت صفة الخلة وجعلوا الخلة هي حاجة المرء لربه ،فرد عليهم ابن القيم أن هذه
الصفة ل يتميز المسلم بها عن الكافر لن جميع الخلق (مؤمنهم وكافرهم) محتاجون إلى ال
تعالى ،وجميع الخلق في قبضته وأسره.
وبسبب نفيهم صفة الخلة عن ال تعالى وقولهم بتعطيل صفات ال تعالى كالكلم وكذا علوه على
خلقه استحقوا القتل ،وقد قتل القسري الجعد بن درهم لقوله بهذه العقيدة الفاسدة.
وقد مدح العلماء (أهل السنة) صنيع خالد القسري هذا وكذا مدحه ابن القيم بقوله" :ل درك من
أخي قربان".
لقد احتاج الشباب المسلم المجاهد قفزة نفسية هائلة حتى استقرت في أذهانهم مصطلحات
السلف ،وصاروا يستعملونها دون حرج ودون شعور بالنقص ،نعم كانت الدائرة التي يتوقف
عند حدودها الشباب في المناقشة حول القرب من الصواب ،فمن أصوبنا؟ ومن أقربنا إلى
الحقيقة؟ وهذا بسبب التربية البدعية التي نشأوا عليها والتي تجعل كل قول ينتسب إلى السلم
582
قول إسلميا ،وأنه يجب اعتباره واحترامه وتقديره ،واختلط في أذهانهم عدم الفرق بين المسائل
الجتهادية والمسائل الخلفية فلم يعودوا يفرقون بينهما ،فكل مسألة اختلف أهل السلم حولها
هي مسألة يصح فيها اعتبار القوال وعدم العيب فيها على المخالف حتى صرنا نسمع بوجود
مصطلحات غريبة عن الفقه الذي كتبه علماؤنا مثل مصطلح الثوابت ومصطلح المتغيرات ،ولم
يعد الشباب الذين ربوا تربية بدعية في بعض التنظيمات يعرف الحد الفاصل بين ما هو ثابت
وما هو متغير ،لنه قد سمع من قادته ومشايخه أنه ل فرق بين أهل السنة والشيعة في القواعد
والصول فربنا واحد ورسولنا واحد وقبلتنا واحدة وفقط (هذه هي الثوابت عندهم وغيرها من
المتغيرات) ،إلى هذا الحد وصل تجريد السلم عن حقائقه وتعريته من أصوله وقواعده،
وتفريغه من مضمونه ،ولهذا وجب على كل الدعاة إلى ال أن يقرأوا كتب السلف الصالح وأن
يتربوا عليها لن هذه الكتب هي التي تصنع المزاج السني زيادة على المنهج السني ،فإن المزاج
السني يحتاج إلى طرق ومهمات تربوية لعادة صياغته وبنائه وإصلحه من الدمار الذي
أصابه ،والتشويه الذي لحق به.
هناك كتب سلفية ل ينبغي للمرء المسلم السني المجاهد أن تغيب عن ناظريه ،بل يجب عليه أن
يعود لها المرة تلو المرة حتى يستقيم منهجه ويصح مزاجه ،ومن هذه الكتب العظيمة:
- 1كتاب "السنة" للمام أحمد ال بن أحمد بن حنبل.
- 2كتاب "الرد على بشر المريسي" للمام الدارمي.
- 3كتاب "الرد على الجهمية" للمام البخاري.
- 4كتاب "البانة الكبرى" لبن بطة العكبري.
- 5كتاب "الشريعة" للجري.
- 6كتاب "التوحيد" لبن خزيمة.
ففي هذه الكتب وما نسج على منوالها تستطيع أن تدرك الفارق العظيم بين ما نحن فيه من
أخطاء وعيوب وبين ما كان عليه السلف من نصاعة ووضوح.
في هذه الكتب المزاج السلفي الصريح بهجران المبتدعة وتنفير الناس منهم وتحذيرهم من
القتراب منهم.
هذه الكتب تعينك على فهم ضللة المفكرين الرائيين حيث أنهم يرومون هدم السلم من
قواعده وتدمير أركانه حيث جعلوا شعار السلم من حق كل أحد قال أنا مسلم.
583
هذه الكتب تصنع مزاجا حقيقيا لقيمة السنة وعظمتها ومحبة أهلها ،وتصنع مزاجا حقيقيا ببغض
المبتدعة والبدعة ،وتدفعك بقوة إلى قول كلمة الحق دون مواربة أو تقية.
(" - )1البانة الكبرى" لبن بطة .2/769
( - )2رواه البخاري في الرد على الجهمية (ح رقم )3وفي "التاريخ الكبير" () 1/1/14
الدارمي والجري في "الشريعة".
( - )3سميت بذلك لن قافيتها نون.
( - )4أتباع جهم بن صفوان الخزري وقيل الترمذي ثم قتل زندقة لقواله هذه.
تهافت المبتدعة (السلف والخلف)
المحدثون المعاصرون يريدون منك حامل لقاعدة الحق النسبي :أي أن الحق الذي تحمله من
فهم السلف الصالح لدين ال هو حق نسبي ل مطلق ،فعليك أن تعترف لغيرك بالوجود ،ولغيرك
بأنه يملك رؤية عليك أن تحترمها وتقدرها فإن خلفك مع المبتدعة ل يفسد للود قضية ،وأننا
علينا أن نتعاون على ما اتفقنا عليه (حتى مع الشيعة الروافض) ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا
فيه (حتى لو اختلفنا حول هل شيء هو إسلم واجب أم هو كفر غليظ الديمقراطية والدخول في
العمل البرلماني).
وها أنا قد سقت لك مقدمة من تعامل السلف مع المبتدعة ،حيث مدح أهل السنة والدين قتل خالد
القسري الجعد بن درهم ،ولو حدثت الحادثة في هذه اليام لتصايح الرائيون بأن هؤلء (أهل
السنة) يقتلون مخالفيهم ول يحتملون وجود الرأي الخر ،هؤلء منغلقون ومتحجرون
ومتخلفون!! .هذه عبارات الرائيين.
وأنا أذكرك بأن ما قاله الجعد بن درهم أهون ألف مرة مما يقوله مبتدعة هذا الزمان ،أل ليت
مبتدعة هذا الزمان كشجاعة الجعد بن درهم ،وليتهم قائلون للحق أمام الطواغيت كالجهم بن
صفوان.
إن معايير السلف قد ضاقت في عقولنا إلى درجة هائلة ،ولو أننا تعاملنا مع موازينهم في
الرجال والحركات لكان ما يقوله هؤلء المبتدعة في هذا الزمان عند الوائل زندقة:
فلو أن رجل قال أمام المام أحمد بن حنبل -رحمه ال تعالى :-إن حديث الذبابة ل آخذ به
لن محمدا صلى ال عليه وسلم ليس متخصصا في الكيمياء ،فماذا سيحكم عليه المام أحمد
رحمه ال تعالى؟!! ،بل لو عرض هذا القول على عمر بن الخطاب رضي ال عنه فماذا سيرد
584
عليه ،هل سيرد عليه بأن يقول :هذا قولك وأنا أخالفك ،وخلف الرأي ل يفسد للود قضية ،أهذا
هو دين ال الذي انتصر به السلف أم هو دين الزنادقة.
ولو أن رجل قال أمام المام البخاري رحمه ال :إننا لن نحكم بالسلم حتى يقبل الناس هذا
الحكم ،فلو اختار الناس اللحاد لجاز لهم أن يحكموا به ،فهذا الرجل أيصنفه المام البخاري مع
الجعد بن درهم أم مع ابن الراوندي؟.
يا قوم قليل من تقدير ال تعالى ،وقليل من احترام فهم الصحابة لدين ال تعالى.
هذه القفزة النفسية الرائعة بتسمية المبتدعة بأسمائهم احتاجت إلى جهد شاق من القراءة المتتابعة
لكتب السلف ،ثم احتاجت إلى بصر واع للواقع الذي يعيشه الناس وإلى معرفة واقع القوم الذين
يزورون دين ال تعالى باسم السلم والدين.
قال أبو عبد ال (أحمد بن حنبل) :ما أبالي صليت خلف الجهمي والرافضي أم صليت خلف
اليهود والنصارى ،ول يسلم عليهم ،ول يُعادُون ول يناكحون ول يشهدون ول تؤكل ذبائحهم.
قال عبد الرحمن بن مهدي :هما ملتان (دينان يفترقان عن دين السلم) الجهمية والرافضة( .
قوله :ل يعادون :ل يزارون في مرضهم ،وقوله ل يشهدون :أي جنائزهم. )1
كان شأن سلفنا الصالح رضي ال عنهم عظيم ،مع أهل البدع ،ول يرون شيئا أضر على دين
السلم منهم ،والقارئ المتمعن لكتب السلف ل يرى هذه الهنات النفسية التي وقع فيها الخلف
من الخوان المسلمين وحزب التحرير ،ول يرى فيها التنازلت المقيتة التي وقع فيها
المتأخرون من أصحاب التجمعات البدعية ،والسلف من أهل الحديث والسنة لم يكن عندهم هم
التجميع والتكثير على حساب المنهج بل كان المنهج قبل كل شيء ،والتوحيد بجلئه ووضوحه
هو أساس المحبة والولء ،والبدعة والشرك هما مناط البغض والعداء والبراء ،لكن لما هانت
السنة على الناس ،وصار الحديث عند أصحاب الفهم الحضاري للسلم عن الجنة والنار
والغيب والخرة والثواب والعقاب هو حديث السذج من الناس ،ضاعت معالم الدين واندرست
آثاره ،وبدأت المصطلحات الجديدة تغشى السلم وشعاره المجرد فصار هناك السلم
الحضاري ،والسلم الديمقراطي ،والسلم الليبرالي ،وصار مقدم القوم هو من يحسن لوك
اللفاظ المفخمة ،ويتقعر في حديثه متجنبا السنة وآثارها ،فتضخمت الرؤوس بالفكار ،واللسن
أصابها داء السرطان فطالت مرضا ،وقل العمل ،وضعفت عبودية الناس لربهم ،وقل الشوق
إلى الخرة ،حينئذ ضرب ال قلوب الناس بالشبه والهو اء ،فالعبقري الذي ل يفري فريه هو
585
من يحسن رد السنة بالهوى ،ومن يقدم الجنة للناس بل تكاليف ،هذا حال أهل الرأي الذين
جعلوا الوحي حضارة والنص الغيبي فكرا ،فتأنس السلم على أيديهم ،إذ صار السلم هو
مصلحة الرجل والجماعة لتحقيق شهواتهم في الدنيا ،وكل تكليف ومشقة تلحق الناس في عمل
من العمال ردوه بحجة الضرورة ورفع الحرج ،فتوسع الناس في التأويل وحفظ الرخص
ومزالق العلماء وأخطائهم.
وقوم آخرون زعموا التمسك بالسنة وبفهم السلف الصالح ،وأخرجوا الناس من تقليد الوائل
ولكنهم لم يبرأوا من جرثومة التقليد فأخرجوا الناس من تقليد الشافعي إلى تقليد ابن باز ومن
تقليد مالك إلى تقليد ابن عثيمين ومن تقليد أحمد إلى تقليد اللباني ،تحاور الرجل منهم الساعة
والساعتين وتلقي بوجهه الدليل تلو الدليل فل يجد في قلبه من الشر إل أن يقول لك :ولكن
اللباني يقول بغير ذلك!! ،ولكن ابن باز لم يقل هذا!! ،هل قال بهذا ابن عثيمين وابن باز
واللباني؟ ،من قال بهذا؟ ،ولو قلت له قال الئمة العظام لعارض هذا القول في نفسه ما يقول
هؤلء الذين اتخذهم آلهة من دون ال ،ل يقول إل ما يقولون ،ول يدين إل بمذهبهم ،وكأنهم
أنبياء هذا الزمان ،وكان من مقت ال تعالى لهؤلء القوم أن مسخ ال قلوبهم وعقولهم حيث
جعلوا المامة (وهي أعلى المراتب وأشرفها في هذه الدنيا) من حق من مسخ ال قلبه وأتى
المكفرات العظيمة ،فانتسابهم للسلف لم يعلمهم التوحيد الذي يوجب عليهم البراءة من كل
طواغيت الرض ،وإني لعلم عالما (سلفيا!!) اسمه يطرز على كتب الحديث تحقيقا وتخريجا
ومع ذلك هو في حزب علماني من أهل بلده ،ول يرى الحرج في ذلك فأي قوم هؤلء؟! وأي
سنة صحيحة ينتسبون إليها؟!!.
هذا حال المتدينين في هذا الزمان ،وأهل السنة والحديث كالملح في الطعام؟ غرباء بين أهل
السلم ،ولول أن ال برحمته يرطب قلوبهم بالخلص وذكر الخرة لضاقت بهم الحياة
وانفطرت قلوبهم حزنا وغما.
إن حدثوا الناس بالسنة والعمل قال أهل النفاق :هؤلء أهل القشور.
وإن حدثوا الناس بكفر الحاكمين بغير ما أنزل ال وطوائفهم قال أهل النفاق :هؤلء خوارج.
وإن حدثوا الناس بالجهاد في سبيل ال ضد المرتدين قال أهل النفاق :هؤلء متسرعون ل
يفقهون السياسة.
586
وإن حدثوا الناس بكفر الديمقراطية وكفر العمل البرلماني التشريعي قال أهل النفاق :هؤلء
غلة.
وإن حدثوا الناس بوجوب تجريد التباع ونبذ الغيار قالوا :هؤلء متكلسون.
فأي نصر يرجونه من ال ؟!! وأي تأييد إلهي سيقع عليهم؟!!.
لقد جاءت الفرص الكثيرة والكبيرة جدا لتحقيق أماني المسلمين بوجود دولة لهم ترعاهم،
وبيضة تمنعهم وتحميهم ،وملذا يؤوبون إليه ،ولكن خيب ال ظنونهم ،وضاعت هذه الفرص
من أيديهم لنهم ل يستحقونها ،ولعلم ال تعالى أنهم أدنى من أن يقع عليهم المن اللهي بالفوز
والظفر .وإني لعتقد أن ال قد خبأ هذا الخير -دولة السلم -لمن يستحقه من أهل التوحيد
والسنة والجهاد .وإن جاز لنا أن نحمد هؤلء القوم على عدم توفيقهم لحمدناهم ،ولكن ل يحمد
المرء على جهله ،فإنهم لو وفقوا لدولة لهم يحكمونها لساموا أهل السنة والحديث والجهاد سوء
العذاب.
فلو أن الخوان المسلمين حكموا دولة من الدول ،ثم جاء الخميني بدولته الرافضية اللعينة فماذا
سيصنع هؤلء المبتدعة؟.
لقد علمنا صنيعهم ،ورأيناهم وهم يتراكضون عليه يؤممونه ويسيدونه ويوسدونه ،حتى قال
قائلهم وهو يخطب في جمع من الغثاء بعد أن عاد من إيران الرافضية وتنعم بالسلم على اليد
"المباركة" ،يد المام الشيعي آية ال الخميني ،قال :لقد رأيت في وجهه صورة عمر بن الخطاب
رضي ال عنه ،فلو أن مثل هؤلء القوم حكموا بلد المسلمين فماذا ستكون النتيجة؟ ،النتيجة
أنهم سيسلمون رقابنا إلى إمامهم الكبر وسيدهم العظم الخميني فيفعل بأهل السنة العاجيب،
كما صنع أستاذه وسيده ابن العلقمي نصير الدين الطوسي في أهل بغداد عندما فتح بغداد
لهولكو فاستباح دماء الناس وأعراضهم حتى قتل أكثر من مليون شخص.
(" - )1خلق أفعال العباد" للمام البخاري .54 ،53
قدر الموحدين
إني أعتقد أن الفضل اللهي بدولة السلم الناصعة ،القائمة على التوحيد الصافي والتباع
المجرد ل لن يصيب -إن شاء ال تعالى -إل أهله ،ولكن بشرط (وشرط أكيد) أن ل
يضعفوا ،ول يتنازلوا عن شيء من السنة والدين مقابل مصالح موهومة ،أو من أجل هم
التجميع والتكثير ،أو بسبب طول الطريق وكثرة المعوقات.
587
نعم يا أهل التوحيد والجهاد لقد ضاقت بكم السبل وقل الناصر وكثر الخصوم فل تغفلوا عن
باب ال المفتوح لكم في كل حين ،وهو أوسع البواب وأرحمها وأرحبها.
نعم يا أهل الحق لم نصل بعد إلى أن ننشر بالمناشير ،ولم نصل إلى أن نقول بل نصرخ :متى
نصر ال؟!!.
نعم يا أهل التوحيد والجهاد أئمتنا يسجنون ويقتلون ويقتنصون لكنها ضريبة الطريق ،وحتمية
السنن.
نعم يا أهل التوحيد والجهاد عمر عبد الرحمن يسجن ويقيد ،وأصحاب العمائم النخرة يلهون
ويلعبون ويتحدثون أمام الطواغيت عن فضائلهم التي لم تكتشفها الشعوب إلى ا لن.
نعم يا أهل التوحيد والجهاد لقد رماكم الناس عن قوس واحدة ،وتكالبت عليكم قوى الشرق
والغرب ،وتبرأ منكم أهل البدعة والفرقة والشقاق ،لكنها إرهاصات النصر إن شاء ال تعالى.
فإياكم والوهن والتبديل والتغيير ،وإياكم ثم إياكم أن يأتيكم الموت وقد بدلتم وغيرتم.
أليس من سننية النصر أن يفترق الناس إلى فريقين ،وينقسم الناس إلى معسكرين :معسكر إيمان
ل نفاق فيه ومعسكر كفر ل إيمان فيه؟ فكيف يحصل هذا بدون محنة وبلء وعذاب ومشقة؟
لكن اعلموا أن أهل البدعة والضللة وإن ملكوا الموال والمناصب ،وإن سارت بأسمائهم
الركبان ،وإن فتحت لهم السدود والحدود فإن ذل المعصية والبدعة مضروب على جباههم،
معلق على صدورهم ،فها هو الطاغوت يتلعب بهم ،ويلهو الشيطان لهم ،ويدحرجهم كما تدحرج
الكرة ،فكفى بذلك لك عبرة ،فإياك أن تمر بك اليات دون نظر وعبرة{ :إن في خلق السماوات
والرض واختلف الليل والنهار ليات لولي اللباب الذين يذكرون ال قياما وقعودا وعلى
جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والرض ،ربنا ما خلقت هذا باطل سبحانك فقنا عذاب
النار}.
واحذروا من زمزمة القراء ،وكثرة المتشدقين ،قال صلى ال عليه وسلم(( :أكثر منافقي أمتي
قراؤها)) ،وعليك بالسنة والثر والرجوع إلى فهم السلف ومنهجهم فهم أعلم الناس بدين ال
تعالى.
معوقات الدعوة :المثالية والواقعية
588
إن من بين المعوقات التي تمنع الكثير من طيبي القلوب وحسني النية من متابعة تأييدهم
ومشاركتهم للعمال المؤثرة في حياة البشر هو أنهم يعيشون حالة من التسامي مع الفكار
والمبادئ ،ويشعرون بجمالها وهي تحاور على الورق أو تناقش في الندوات والجلسات الممتعة،
لكنها حين تخرج من حيز القول والعتقاد إلى عالم التطبيق والحقيقة فإنهم يصابون بالصدمة
النفسية إذ لم يكونوا يربطون بين جمال الفكار المجردة وبين صورتها الواقعية والعملية،
وهؤلء على الدوام يخسرون التأثير وكذلك يكثرون اللوم والتقريع.
حين يأتي شيخ ويتحدث عن حكمة وعظمة التشريع في حد الزاني المحصن ،وأن الرجل أو
المرأة يشدان إلى ثيابهما ويوضعان في وسط الناس ،وتحضر لهما الحجارة فيقوم الناس برمي
الزاني والزانية بهذه الحجارة حتى يتم موتهما ،هذا المنظر بكل انفعالته الواقعية ،وبكل ما
يحمل من مدلولت وتأثيرات على النفس ،إذ عليك أن تتصور صراخ المحدودين ونزيف
الدماء ،وصياح الناس ،وتفاوت النفوس في رؤيتها لهذا الحدث ،فهذا محب للمرجوم فهو يبكي
على حالته ،وقد تضطرب نفسه فيصاب بما يصيب أمثاله إن كان من ضعاف النفوس في موقفه
أمام هذه الحداث فقد يشهق شهقة ،وقد يرتفع عويله وصراخه فيقع منه الهذيان ،وقد يجتمع
أطفال الزانية أو أولد الزاني فيبكون فقيدهم ،مثل هذه الصور قد ل يستطيع الشيخ الذي يتحدث
عن عظمة التشريع وحكمته أن يواصل النظر إلى الحدث حتى نهايته ،وقد ل يطيق رؤية الدم
وهو يخرج كالنافورة من رأس المرجومة فيصاب بالغثيان أو يخر صريع الغيبوبة ،فهناك فارق
كبير بين جمال الفكار وبين واقعيتها.
حين يتحدث الناس عن الجهاد في سبيل ال تعالى ،فهذه كلمة جميلة وجميلة جدا -الجهاد في
سبيل ال تعالى -ولكن واقع الجهاد ليس جميل كله في كل أحداثه ،فالجهاد ليس هو هذه
الخطب الرنانة ،وليس هو تلك الكلمات الجميلة ،وليس كله غنائم وسبايا ،وليس كله نصر
مؤزر ،وليس كله خطب نارية ،بل فيه موت الحبيب ،وفيه جرح الصديق ،وفيه تطاير الشلء
وفقد المال ،وفقد المعين ،وبمعنى آخر فيه جانب من المشقة ،بل المشقة العظيمة ،ثم فيه اختلط
الجنود وحصول الخصومات بين الناس ،فهذا ضرب هذا ،وهذا خاصم هذا ،وهذا شط على
هذا ،فهو حركة بشرية ،وفيه أخطاء واجتهادات ،وتأويلت بعضها يستساغ وبعضها ليس كذلك،
فهناك حد فاصل بين جمال الفكرة وسموها وبين واقعيتها.
589
لو أخذنا تصور الناس وخيالهم لواقع الدولة السلمية ،لوجدنا أنها أقرب ما تكون في أذهانهم
إلى عالم الحلم ،عالم مليء بالصور الجميلة ،والفراشات الطائرة ،واللوان الزاهية ،والسماء
تنزل غيثها على الدوام ،والضرع مليء في كل حين ،والعداء يخافون جانبنا لما يعلمون من
نزول الملئكة معنا في القتال ،فهم يتصورون دولة السلم التي ل فقير فيها ،ول مريض فيها
وكل من طلب شيئا فهو بين يديه ،ولكن لو نظرنا لدولة النبي صلى ال عليه وسلم لما وجدنا
هذه الجنة ،بل لوجدنا أن معاناة الصحابة رضي ال عنهم في دولة السلم في المدينة أشد من
معاناتهم وهم في مكة.
فهل حصل للصحابة رضي ال عنهم في مكة ما حصل لهم في غزوة الخندق {إذ جاؤوكم من
فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت البصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بال الظنونا هنالك
ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزال شديدا} في دولة السلم زاغت البصار وبلغت القلوب
الحناجر ،وابتلء كالزلزال بل هو الزلزال نفسه.
قارن بين هذه الصورة وبين الصورة التي يحاول رسمها مشايخ هذا الزمان لدولة السلم ،فهم
يعدون الناس بالدولة التي ل خوف فيها ول مشقة ،بيت لكل إنسان ،طعام لكل بطن ،والناس
يدخلون في السلم لمجرد رؤيتهم لنا ولدولتنا ،وعلى هذا فالناس يأتون إلينا (إلى جماعتنا) لن
في أذهانهم أننا الحزب الذي سيؤمن لهم من النعيم الدنيوي أكثر مما تؤمنه الحزاب الخرى.
لكن لو قلت لكم :إن ثلثة من الخلفاء الراشدين ماتوا قتل ،وعلى يد أناس لم يحتاجوا لكثير من
التخطيط لقتلهم:
-فعمر بن الخطاب رضي ال عنه قتله عدو ال أبو لؤلؤة المجوسي وهو قائم في صلة
الفجر ،بين يدي شيوخ المسلمين وعلمائهم وقادتهم ورؤسائهم.
-عثمان بن عفان رضي ال تعالى عنه انطلق الهوجاء وسيطروا على المدينة حتى دخلوا وهو
يقرأ القرآن على الخليفة الصائم رضي ال عنه وذبحوه في بيته وهو يقرأ القرآن.
-علي بن أبي طالب رضي ال تعالى عنه ،قتل في وسط المسجد وهو قائم يدعو الناس إلى
صلة الفجر ،وبين طائفة ،يأتيه ابن ملجم الخارجي فيضرب هامته بالسيف بتصرف فردي
وباتفاق مع آخرين على قتل معاوية وابن العاص ،وهذا عصر الخلفة الراشدة وما أدراك ما
بعده ولذلك علينا أن نقول :إن الذين يتصورون عالم السلم العملي (حركة المرء المسلم في
الحياة) هو عالم ل يمت إلى عالم البشر ،وهو خارج عن حركة الحياة برمتها هؤلء واهمون،
590
ويعيشون توهمات وخيالت فبمجرد اصطدامهم بالصورة الحقيقية لهذه الحياة ستجدهم ينقلبون
على أنفسهم ،يعلنون اعتزالهم وعدم قدرتهم على تحمل هذه الحياة.
إن العيش مع الكتب وبين الكتب ،ومع الفكار والقلم والورق ليس هو السلم إنما السلم هو
حركة الحياة ،حركة البشر (النسان) بما فيه من صواب وخطأ ،فالصواب يقوى ويدعم،
والخطأ يقوم ويصلح ،فعالم السلم العملي فيه الصواب وفيه الظلم ،فيه الصدق وفيه الكذب،
وكل له مقامه في السلم.
السلم يعترف بوجود الخطأ كونا ،ول يلغيه في الخلق والوجود ولذلك أنزل ال تعالى الحدود
وأنزل العقوبات ،وأنزل الحكام ،والخطاب الرباني في ذلك كله للمجتمع المسلم الموحد المجاهد
وليس هو خطاب لغير المسلمين.
على الرغم أن عصر الفتنة بين علي رضي ال عنه وخصومه (عائشة ومعاوية رضي ال
عنهما) هو عصر نكل فيه أصحابه إلى ال تعالى ،ول نقول فيه إل ما جاءنا عن رسول ال
صلى ال عليه وسلم من أحكامه كقوله صلى ال عليه وسلم لعمار( :تقتلك الفئة الباغية) وغيره
من الحاديث ،لكن لو حاولنا استطلع ورؤية الواقع عن قرب (وهو عصر مبكر وقريب من
القرون الخيرة بل هو منها) لرأينا هول ،ولرأينا من المور التي تشيب لهولها الطفال ،انظر:
- 1الخوارج (أربعة آلف رجل مقاتل قرروا قتال علي رضي ال عنه وثلثة آلف في الكوفة
قرروا عدم قتاله ول القتال معه) طلب منهم علي رضي ال عنه أن (نمضي إلى قتال عدونا
وعدوكم معاوية) ،لكنهم يرفضون حتى يعلن اعترافه بالكفر والتوبة عنه ،فيقيم لهم علي رضي
ال عنه ملحمة في النهروان بعد قتلهم عبد ال بن خـباب بن الرت وزوجته الحامل ،فقتلهم
ولم ينج منهم سـوى ( )400رجل جريح.
- 2معركة الجمل في الخريبة قرب البصرة (حسب رواية عمر بن شبة) وهي معركة بين
مسلمين بل بين القبائل نفسها (مضر ضد مضر وربيعة ضد ربيعة ويمن ضد يمن ) إخوان في
الدين والمنهج والنسب ،وقتل فيها طلحة والزبير (المبشرين بالجنة).
- 3معركة صفين بين على ومعاوية رضي ال عنهما ،معركة حصل فيها مجزرة مع أن
بعض الناس حرضوا على الصلح وقالوا" :من لثغور الشام بعد أهل الشام؟ من لثغور العراق
بعد هلك أهل العراق ،من للذراري والنساء ،أل تذكرون الرحام؟" وبعيدا عن ضعف
الروايات التي ذكرت الهول في القتلى لكن بل شك أن القتل كان عظيما.
591
" - 4ردة بعض النصارى بعد إسلمهم حتى قالوا :وال لديننا الذي خرجنا منه خير من دين
هؤلء الذين هم عليه ،ما ينهاهم دينهم عن سفك الدماء وإخافة السبيل وأخذ الموال( .الطبري)
وقاتلهم علي على الردة.
ثم بعد ذلك كله عام الجماعة ،ثم حرب عبد ال بن الزبير ،ثم ...ثم...
فهذا جانب من حركة النسان (أي النسان) ل ينبغي أن ينسى أو توضع عليه اليدي لنفهم
الناس أن حياة المسلم كلها قيام ليل ،وصيام نهار ،وعفو متكرر ،وعطاء متكرر ،وخير دائم
حتى اصطبغت صورة الولي في خيال النسان المسلم على هيئة الغاز المثالي ،الذي ل وجود
له)1( .
الولي هو إنسان ..وهو ..بشر.
المجاهد هو إنسان ..وهو ..بشر.
أما تصوير صورة السلم العملي وعالم السلم والمسلمين على صورة أفلم الكرتون أو عالم
الجن والملئكة فهي صورة تهين السلم أكثر مما ترفعه.
إننا نقول هذا لولئك القوم الذين يعطلون عظائم المور ويوقفونها لمجرد بعض المور
الصغيرة ،فحساسيتهم أمام الخطاء تجعلهم يضعون العصبة على عيونهم لحجبها عن رؤية
الخير والنعمة والفضل اللهي.
إن الجهاد في سبيل ال تعالى حركة بشرية ،وحركة من أجل السلطان والملك ،ففيه تتداخل كل
انفعالت النسان ،ومن دعا للسيف أو حرض على السيف ،فل ينتظر أن يناقشه الناس
ويحاربوه بالخطب الرنانة والورق الصقيل ،بل عليه أن يحضر نفسه ليذوق حر السيف ،هذه
هي سنة ال تعالى ،وللذكر فإن الخلفاء الثلثة (الشهداء) ما ماتوا بيد الكفار بل ماتوا بيد
مسلمين (فسقة ،مبتدعين ) فأبو لؤلؤة الفارسي ليس من أهل الشرك (ومحاولة إثبات مجوسيته
دونها خرط القتاد وإن نسب إليها) وأبو ملجم من الخوارج (و لم يكفر أوائلهم إنما الخلف فيمن
أتى بعدهم) ،والثائرون على عثمان (بعض قادتهم صار من قادة جيش علي رضي ال عنه).
ولذلك من وضع رجله ويده في هذا السبيل ،سبيل إعادة سلطان ال تعالى على الرض بالجهاد
في سبيل ال تعالى ،ووقف نفسه للتحريض ضد الطواغيت ،وإزالة عروشهم ،ودك طغيانهم،
فهذا رجل نهايته معلومة ،وإن لم يحضر نفسه لذلك فهو رجل مستريح (أي ل عقل له) فهذا
طريق نهايته إما برد العدل أو حر السيف.
592
نعم يسعك أن تنشئ مجلة أو نشرة لتكون حزبا معارضا ،وحزبا ترقيعيا تطلب الصلح
وتنتظر الفرج بإخراج المساجين ،أو موت ملك ليأتي غيره فربما يكون خيرا منه ،فحينئذ أمرك
سهل وهين ،فأنت رجل سياسة وكلمة ،وملفك عندهم ل يعدو أن تكون معارضا محترما ،أي
تحترم حدود المعارضة السياسية.
أما وقد قلت :الجهاد والقتال ،فما عليك إل أن ترتقب ،فلست أنت بخير من أسلفك الخيار،
ولست أنت بخير من أقرانك ،فليس عبد ال عزام عنك ببعيد ،وليس الشيخ عمر عبد الرحمن
عنك ببعيد ،وليس الشيخ أبو طلل القاسمي عنك ببعيد ،وليس الشيخ أنور شعبان عنك ببعيد،
وليس أبو عبد ال أحمد عنك ببعيد ،وليس سفر الحوالي وسلمان العودة عنك ببعيد وليس...
القائمة طويلة يا عبد ال ويكفيك هذا.
فهذا أمر تشيب له الولدان ،وليس له إل الرجال ،ففكر كثيرا قبل أن تخوض ،وإياك أن تقول:
لقد ورطوني ،فما ورطك أحد ،فنحن لم نضمن لك حصول الوزارة والمنصب ،ولم نضمن لك
ملئكة تجاهد معك ل يخطئون ،ولم نضمن لك مسدسا ينزل من السماء يعرف المؤمن من
الكافر والسني من البدعي ،ولم نضمن لك نبيا قائدا يوحى إليه ،فقد نقول لك اليوم قول ونرجع
عنه غدا ،ونقول لك :هذا ما رأينا ،وما شهدنا إل بما علمنا وما كنا للغيب حافظين ،فإن أردت
(الغاز المثالي) اصعد إلى القمر ،فإن أعجزك فالكثير من الناس قد سلكوا سبيل السلمة وجلسوا
كالعصافير مع أبنائهم في أعشاشهم ،يأكلون ويشربون ويرقبون الحياة من وراء زجاج بيوتهم،
هذا في وقت المدافع ،فإذا سكنت سيخرجون علينا بمواعظهم العظيمة ليقولوا لنا :لقد قلنا ...وقد
توقعنا ...وقد أنذرنا ...وقد ..وقد ...ألسنة طويلة نسأل ال تعالى قطعها.
{سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير}.
إن الكثير من المقعدين يتقنون نقد لعبي كرة القدم ،ولكنهم أصحاب أصوات عالية في قيادة
المعركة على كرسي النظارة ،وهم يعرقون ويتصببون عرقا وتبح أصواتهم لكنهم ليس لهم من
اللعب إل الوصف.
( - )1انظر "المتهاجرون" ،أي من مات من الصحابة والتابعين وهو مهاجر لصاحبه حتى مات
في المعارف لبن قتيبة ص .550
الجهاد والجتهاد بين الظن واليقين
593
قال صلى ال عليه وسلم(( :إنكم تختصمون لدي ولعل بعضكم ألحن بحجته من غيره فمن
قضيت له بشيء من حق أخيه فل يأخذه إنما أقطع له قطعة من النار)).
اعلم يا عبد ال أن مبنى أعمال البشر وأفعالهم قائمة على الظن وغلبته ،وليست على اليقين
والقطع ،لن أعمالهم قائمة على الجتهاد ،والجتهاد كما هو معروف في كتب الصول ل يفيد
إل الظن ،وقد تعبدنا ال تعالى بالجتهاد -كما قال الشافعي -مع أنه غير مأمون الخطأ ،ومن
معوقات الطريق عند حسني النية وطيبي القلب أنهم يتركون العمال مخافة الخطأ ،وهذا منتهى
السلبية والعجز ،فها أنت ترى رسول ال صلى ال عليه وسلم في الحديث المتقدم بين احتمال
وقوع الخطأ لعارض من العوارض ،ولكن هذا لم يمنعه من القضاء وفض الخصومات بحسب
الظاهر والجتهاد ،بل إنه صلى ال عليه وسلم اجتهد في أمور ثم ثبت أنها على خلف
الصواب كما اجتهد في أسارى بدر من المشركين ثم نزل العتاب اللهي {لول كتاب من ال
سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} (النفال) ،فقال صلى ال عليه وسلم(( :لو عذبنا في هذا
المر ما نجا غيرك يا عمر)) )1( ،والجهاد عمل من أعمال النسان المسلم ،فهو يقارب
ويسدد ويبغي وجه ال تعالى ،ويجتهد بحسب وسعه في إصابة الحق ،فإن أصاب فله أجران
وإن أخطأ فله أجر ،لن التكليف ل يقع إل بالظن الغالب كما قال أهل الصول ،وقد نقل عن
الشافعي رحمه ال تعالى قوله :في كل واقعة ظاهر وإحاطة ،ونحن ما كلفنا بالحاطة)2( .
فمن هذا الذي يستطيع أن يحيط بالمر من جميع جوانبه؟!! ويعلم أصله وفصله ومآله؟!! ولذلك
يكفي المسلم أن يعمل بالظاهر ،والظاهر يتوصل إليه بالنظر في المارة ،والمارة قد يدخلها
العطب والتشويش أو التعظيم والتحسين (ألحن بحجته) ،ولكن هذا (القيد) المحتمل ل يمنع
العامل من العمل وإل لبطلت الشريعة وتعطلت الحدود ،وترك الناس دينهم وأعمالهم.
ثم اعلم أن الكثير من الحكام الشرعية مبنية على غلبة الظن ل على اليقين ،لن مبناها على
السنة ،وثبوت السنة يتم باطمئنان المسلم لثبوت هذا الحديث عن طريق صدق راويه وضبطه،
وهي أمور نسبية ل قطعية ،فثبت أن فروع الشريعة ثبتت بغلبة الظن ،وتصحيح المسلم عمله
يكون بغلبة الظن ،وقد عاب أهل العلم طلب اليقين في موطن الظن ،واعتبروا أن هذا الفعل من
أسباب هلك الدين وفرط عقد الشريعة ،وترك مهمات المور ،قال الجويني في الغياثي ،وهو
يتكلم في باب "المامة" و"السياسة" :معظم مسائل المامة عرية من مسالك القطع ،خلية عن
مدارك اليقين )3( .ويقول :كل ما لم يصادف فيه إجماعا اعتقدناه واقعة من أحكام الشرع،
594
عرضناه على مسالك الظنون وعرضناه على سائر الوقائع ،وليست المامة من قواعد العقائد
(أي التي تتطلب اليقين) بل هي ولية عامة ،وعبارة معظم القول في الولة والوليات العامة
والخاصة مظنونة في محل التوخي والتحري .فقرة 72ونفسها في فقرة ،221حيث يقول:
"والذي يجب العتناء به تمييز المقطوع به عن المظنون ،ومستند القطع الجماع ،فما اتفق ذلك
فيه تعين في التباع ،وما لم يصادف فيه إجماعا عرضناه على مسالك النظر ،وأعملنا فيه
طرف المقاييس وأدرنا فيه سبل الجتهاد" ،بل إن الجويني يعتبر أن الفقه هو التدرب على مآخذ
الظنون وإدارتها حتى يتبين لك الترجيح .يقول" :أهم المطالب في الفقه التدرب على مآخذ
الظنون في مجال الحكام ،وهذا هو الذي يسمى فقه النفس ،وهو أنفس صفات علماء الشريعة"،
والجويني يعلق سلك المة وتجنبها منهج القتصاد بذلك :والسبب الظاهر في ذلك ،أن معظم
الخائضين في هذا الفن يبغون مسلك القطع في مجال الظن ،ويخرجون عقدهم باتباع الهوى،
ويتهاوون بالغلو على موارد الردى ،ويمرحون في تعاليل النفوس والمنى )4( .نعم وال إن
هؤلء القوم يمرحون في تعاليل النفوس والمنى.
( - )1الطبري في تفسيره وهو في صحيح مسلم رحمه ال تعالى.
( - )2المحصول .6/34
( - )3فقرة .96
( - )4فقرة .69
أصناف المكلفين :سلوك العامل والخامل
لقد مارس بعض المسلمين عمليات جهادية ،وسبل دعوية ،وحيث لم تكتمل أسباب النجاح لعجز
أو كسل فتقدم منهم من تقدم إلى ربه ،وراح إليه وهو مجاهد شهيد ،وأصيب من أصيب فخرج
منها ناقص العضو إذ قدم بعض أجزائه إلى الخرة ،وبعضهم خرج وهو شاكر لربه أن وفقه
لعمل الخيرات وصرف الوقت في الخير والجهاد ،وبعضهم خرج يضرب كفا بكف وهو يبكي
على سنين عمره التي ضيعها ولم تثمر النتيجة التي حلم بها ومل بها جوانحه ،وخرج بنفس
مبتورة تشك في كل شيء ،وتشك في كل طريق ،وساعده في الوصول لهذه النفس المبتورة
دعاة الرجاف وأعلم الهزيمة والخذلن حيث استقر في ذهنه قولهم ،وانطبعت في قلبه شبههم:
هاهي تجربتكم الجهادية في مكان كذا وكذا ،وهاهي نتائجها ،فانظروا إليها ،أما تعلمتم؟ أما
595
اتعظتم؟!! ،فيقع في التردد والحيرة والشك وحينئذ يكون كما قال الجويني" :ويمرحون في تعاليل
النفوس والمنى" ،أي أنه يقف جامدا بل حركة ول نشاط يعلل نفسه ويمنيها بأن يقع فيها القطع
اليقين على شيء أو عمل أو حركة يجزم بنتيجتها ،ول يأمن ضياعها أو تغيرها ،هؤلء نراهم
ل يثقون إل بأنفسهم ،ويربطون خير المة بقيادتهم ،فإن سبقهم في غيرهم إلى عمل أو حركة
ذهبوا يرفعون راية التشكيك ،ويحرضون قلع التخذيل ويصيحون :رويدكم فما هذا الذي ترونه
إل كسابقته وقد جربنا هذه الحركات وهذه العمال فلم تعد تخدعنا ،وقد جربنا وجربنا ،وإني
لحس في هذه النفوس النفاق من وجهين:
الوجه الول :أنهم ل يرون الخير إل في أنفسهم ،ول يثقون إل بذواتهم ،إذ امتلت أنفسهم
برؤية الذات وتعظيمها وهذا منتهى النفاق.
والوجه الثاني :أنك تحس في أنفسهم تمنى وقوع الشر الذي توقعوه ،ويرغبون من كل جوانحهم
أن ل يقع الخير الذي تمناه غيرهم ،فهم يرجون الشر للمة لتصح توقعاتهم وما أساؤوا فيه
الظن.
وهناك قسم آخر من البشر ،يكيل بمكيالين ،ويزن بميزانين :ميزان ما يقوم به ويؤيده ،وميزان
ما يقوم به غيره أو يؤيده غيره( ،والتأييد جانب نفسي أكثر منه شرعي مبني على دليل) :إن
كان ما يقوم به ويؤيده فهو ل يحس إل بالجوانب الحسنة ،ول يرى إل الجمال وعينه عن
الخطاء معطوبة وكليلة ،فهو يحسن كل ما يقع ويسبغ الشرعية على كل حدث ،ويناور ليثبت
مراده ،وإن كان الخر فهو على العكس تماما :تشكيك دائم ونقد دائم ،وعيوب ظاهرة :وعين
الرضى عن كل عيب كليلة...
والجانب الصحيح أن يكون الرجل منصفا في الحب ومنصفا في البغضاء :أحبب حبيبك هونا
ما ،عسى أن يكون بغيضك يوما ما ،وابغض بغيضك هونا ما ،عسى أن يكون حبيبك يوما ما.
لقد قاتل الناس مع الفغان وأحسنوا فيهم الظن إلى أبعد حد ،فوقع بعض الخير وتخلف بعضه
فماذا كان؟.
لقد قاتل بعضهم مع عزت بيجوفيتش في البوسنة ،حيث جالسوه فرأوا فيه المسلم التقي ،وظنوا
فيه من الخير إلى أبعد حد ،فهل كان أمرهم مبنيا على الظن أم على اليقين؟ فوقع بعض الخير
وتخلف أكثره فماذا كان؟.
596
لقد جاهد من جاهد ،واجتهد من اجتهد ،وهاجر من هاجر ،وابتلي من ابتلي ،وتعلم من تعلم،
واستشهد من استشهد ،فهل هذا مما يوسف عليه أم أن هذه هي الحياة التي ينبغي أن يعيشها أهل
السلم؟.
ثم اعلموا حفظكم ال أن حصول تمام ومنتهى النصر ل يقع دفعة واحدة ،وإن النصر النهائي
هو محصلة نهائية لحركة حياة جهادية كاملة ،فيها النصر ،وفيها الهزيمة ،فهل فتح مكة كان
بين ليلة وضحاها؟ أم أنه وقع بعد سنين من المعاناة :نصر في بدر ،وهزيمة في أحد ،فتن وآلم
وملحم في الخندق ،مناورات عسكرية ودعوية في الحديبية ،ثم وقع الفضل اللهي بفتح مكة،
لكنه بعد مقدمات كثيرة ،فهل الوصول إلى القمة يتم بقفزة واحدة كما يفكر أهل التصوف
الفكري المعاصر من أصحاب نظرية العصا السحرية :ضربة واحدة فإذا نحن في بلد السلم
وبلد العزة والهجرة ،مالكم كيف تحكمون؟!!.
المسلم ل يعلم الغيب لكن إن قدر لبعضنا أن يعيش ويرى الثمرة النهائية وهي تسقط على
أصحاب الفضل اللهي سيدرك أنه ما من حركة قام بها أهل التوحيد والجهاد إل وكانت لبنة في
البناء النهائي{ :ولو كنت أعلم الغيب لستكثرت من الخير وما مسني السوء}.
لم يكن أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم يدركون أن صلح الحديبية فتح من ال ،وهو
مقدمة فتح الفتوح مع وجود رسول ال صلى ال عليه وسلم معهم ،ومع أنه هو الذي عقد العقد،
وأنشأ الصلح ،إل أن نفوسهم لم تكن تحتمل هذه الواقعة ،ولكن سبق علم ال علمهم ،وكان ما
أراده ال لهم.
نحن على الطريق نسدد ونقارب :نعمل ونصبر ونبقى في مواقعنا ل نتزحزح عنها حتى يأتينا
أمر ال ولن نعتذر عن عمل بنيناه على الجتهاد ،ورجونا خيره ،وحصول ثمرته الكلية ،فإن
وقع ما أملنا فهذا فضل ال وحده ،وإن كانت الخرى :فيا ال يا صمد ،يا عالم السر وأخفى ويا
من بيده ملكوت السماوات والرض ،أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تقبضني إليك،
فل أرى ول أسمع ضحكات التشفي والغرور.
فلسفة العجز قديما وحديثا
كثيرة هي المرات التي يتخلف الناس فيها عن الحق بسبب الهوى وشدة تكاليف الثبات على
الطريق ،ولكن قليل هي الحالت التي يعترف فيها هذا المتخلف بهذا السبب ،فإن المتخلفين لبد
597
لهم من ستر هذا الهوى وهذا الضعف بصور من التبريرات التي يحاولون بها إقناع الناس أن
تخلفهم له من السباب المقنعة والموضوعية ،فأول ما يفعلونه أنهم يذهبون إلى الحق لشتمه
وتزوير حقيقته ،أو لتعظيم بعض الجوانب السلبية على الحقيقة الظاهرة ،والقرآن الكريم كشف
لنا هذه الساليب خير كشف ،وعراها لنا لنكون على بصيرة ونور من هذه المكائد النفسية،
وليعلمنا أن محاولتهم هذه مكشوفة غير مستورة ،وأنها وإن تقنعت بقناع حاجب ،فهو في
الحقيقة قناع زائف يشف ما تحته ،ويبين ماوراءه لمن تمعن فيه ولم تغره الصور الظاهرة.
في قوله تعالى عن المنافقين في أول سورة نقرؤها فيها ذكرهم{ :وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن
الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء أل إنهم هم السفهاء ولكن ل يعلمون}.
هذه الية عظيمة في كشف النفاق والمنافقين ،وطريقتهم في التنفير من الحق ،وهي كلما سمعتها
أو قرأتها تمثل لي أولئك القوم الذين مروا على مدار التاريخ السلمي وإلى يومنا هذا في
ادعاء الفهم الثاقب ،والعقل السديد ،والدراك العظيم للقضايا التي تطرح أو تعالج ،وهم مع هذه
الدعوى ينبزون الثريين والسلفيين بضيق الفق ،وقلة المعرفة ،وسذاجة الفهم ،وبسبب هذا
ينفرون عن الحق بسبب سهولته ،ويتعاظمون نفاقا عن الحق بسبب أنه حق عملي له تأثيره على
الواقع.
في التاريخ وجد الفلسفة الذين يحللون الخبر ول يصنعونه ،ويدرسون التاريخ وهم خارج
حركته ،ولهذا قلما ما نجد فيلسوفا استطاع أن يكون قائدا عسكريا ،أو إداريا ناجحا أو سياسيا
خبيرا ،حتى صار في عرف الدارسين قولهم :الفيلسوف ل يصلح للسياسة ،وكذا ل يصلح
للقيادة فنشأت ثنائية الفيلسوف والقائد ،والفيلسوف والداري ،والفيلسوف والسياسي.
والسبب كما هو واضح أن الفيلسوف يعيش أوهام عقله ،ويحلق بأجنحة الفكر فوق السحاب ،ول
يتقن السير على طريقة البشر فوق الرض.
هذه ثنائية توجد في عالم البشر والناس ،وكم شكى القادة العسكريون وكذا السياسيون من أوهام
الفلسفة والمفكرين.
في العالم السلمي تاريخا وحاضرا:
القرآن سماهم منافقين وقال لهم( :آمنوا كما آمن الناس} ،وانظر إلى قوله تعالى( :الناس) ،هو
اليمان على صورة واحدة وحقيقة واحدة يعيها الناس جميعا بفطرهم على حقيقة واحدة دون
تفاوت في أصلها ،يا قوم آمنوا كما آمن الناس ،فهذا هو الذي أرتضيه منكم ،وهذا هو أمري
598
لكم ،فل تغالوا ،ول تتقعروا ،ول تتعمقوا تعمقا ممقوتا ،آمنوا كما آمن بلل ،وكما آمن ياسر،
وكما آمن البدوي والحضري ،فإن سألتم ما اليمان وما تعريفه وما حده ،قال لكم ابتداء :هو
شيء تعرفونه في أنفسكم فلماذا تسترونه ،وهو شيء يلفح قلوبكم بحرارته فلماذا ل تعترفون
به؟.
وأنت أمام هذا تتذكر أمر ال تعالى لليهود( :إن ال يأمركم أن تذبحوا بقرة}.
فالمؤمن ل يتقعر ،ول يداري ليستر الحقيقة ،ول ينشغل بالحد عن المحدود ،أي باللفظ عن
الحقيقة ،ول بالسم عن المسمى ،بل هو يفهم من القول أن يتحرك ليذبح بقرة ،أما كون لفظ
الذبح له معنى خاص ووقع خاص وله شواهد في لغة الشعراء ،فهذا ل يفكر فيه ابتداء ،بل
يستقر في قلبه إرادة الحركة لتحقيق الفعل :أن يذبح بقرة .هكذا يتلقى المؤمن أمر ال تعالى،
يتلقاه ليعمل به ،فإذا عمل به شعر بحلوة اليمان في قلبه ،وازداد ألق العلم في نفسه ،وفتح ال
عليه المعارف التي تؤيد صلته بال تعالى.
أما اليهود ،من أهل السفسطة والجهالة ،فكان وقع المر عليهم على صورة أخرى:
هذا أمر جميل ،لكن ل بد أن نوقعه على طريقة ل تتلءم مع ما يفهمه (الناس) ،فالساذجون هم
فقط من يفهم البقرة أنها البقرة ،فهل كل بقرة تصلح لن تقدم لتنفيذ أمر ال ،فتعالوا إذن نسأل
عن البقرة؟.
كان شان اليهود يوم ذاك أنهم يعيشون وبين يديهم نبي يوحى إليه ،فصاروا يراوغون
ويحاورون حول صفة البقرة ،لكن لنتخيل أمر أولئك اليهود في زمن ل يوجد فيه نبي.
قيل لهم{ :إن ال يأمركم أن تذبحوا بقرة} ،فماذا سيقول أصحاب السفسطة (أو السفهاء كما
سماهم القرآن) :قطعا سيجلسون أمام هذا المر محرفين ومؤولين لحقيقته لصرفه عن كونه
دافعا لهم للعمل والمتثال،كلما ابتعد ولكن المرء عن الحقيقة الولى التي تستقر في ذهنه ل بد
أن يزداد رهقا وتعبا ،فلما زاد اليهود في السؤال ازداد ضيق المر عليهم {فذبحوها وما كادوا
يفعلون}.
قيل لهم :آمنوا كما آمن الناس ..قالوا :أنؤمن كما آمن السفهاء.
هي كما ترى أخي في ال تقع على معنيين:
الول :أنهم رفضوا اتباع الحق بسبب أن أهل الضعف والفقر والمسكنة قد سبقوهم إليه ،فأنفت
نفوسهم الخبيثة أن يساووا بينها وبين أولئك القوم الذين أكرمهم ال تعالى بنور اليمان وبرد
599
اليقين ،فرفضوا اليمان وتنكبوا عنه ،وقد صدر منهم ما يدل على كبرهم هذا ،وذلك أنهم طلبوا
من رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يجعل لهم يوما خاصا ،أو مجلسا منفردا يحدثهم فيه عن
السلم واليمان ،فلما هم ومال لهذا القول طمعا في هدايتهم قال ال تعالى له{ :واصبر نفسك
مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ول تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا
ول تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا وقل الحق من ربكم فمن شاء
فليؤمن ومن شاء فليكفر} ،وهكذا سلب ال من الناس القدرة على أن يجعلوا للحق قيمة من عند
أنفسهم ،بل الحق قوته تكمن في نفسه لنه من ال تعالى {وقل الحق من ربكم} فالحق ل تزداد
قوته بإقبالكم ،ول تضعف قوته بإدباركم ،الحق تكمن القوة فيه بسبب أنه من ال تعالى ،وأنتم
الذين تنتفعون به وليس هو الذي ينتفع بكم.
الثاني :أنهم استكثروا على أنفسهم أن يفهموا الحقيقة على صورتها الولى دون تأويل يبطل
حقيقته ،فراحوا يشتمون الفهم الول والذي يعيه الناس جميعا بحجة أنه فهم ساذج ،وطريقة ل
تليق بعقولهم العظيمة كما يزعمون ،فلما انشغلوا بالتأويل المتعمق والتقعر الفاسد فاتهم نور
اليمان الذي ل يستقر في القلب ول يشعر به إل بعد القرار والتصديق ،وحينئذ بدأ الشيطان
يأخذهم إلى شبهات العقول فأفسد عليهم عقولهم.
فالمعنى الول يدخل فيه أهل المناصب والموال ممن يأنفون عن الحق بسبب اتباع عوام الناس
له فهم أهل الشهوة ،والمعنى الثاني يدخل فيه أهل السفسطة ودعاة التعمق والتفكر فهم أهل
الشبهة ،وهم داخلون في التقرير الول{ :ومن الناس من يقول آمنا بال وباليوم الخر وما هم
بمؤمنين يخادعون ال والذين آمنوا وما يخدعون إل أنفسهم وما يشعرون}.
هكذا هي القضية :قضية أقوام أعيتهم العمال ،وأرهقهم التباع ،فراحوا يزعمون العلو في
الدنيا مادة ومعنى ،ولكن ليتذكر أولئك أن عامة أهل الجنة هم الفقراء.
وليتذكر أولئك أن عقول غيرهم أكبر من عقولهم ،ولكن ل يصنع التاريخ إل العاملون ،فاللهم
اجعلنا منهم.
كم هو عظيم هذا السلم ،وكم هو يحتاج لرجال عظماء يرفعون شأنه في هذه الدنيا!.
حينما يستقر في نفس رجل مؤمن أن عليه أن يبذل نفسه وروحه في سبيل هذا الدين ،فإن عليه
واجب النظر الصحيح والتفكير الصائب أن سنن ال تعالى ل تحابي أحدا ول تختلف بسبب
نفسيته الجميلة {ليس بأمانيكم ول أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به} فالسنن اللهية
600
حاكمة على البشر جميعا مؤمنهم وكافرهم وما أعظم ابن تيمية رحمه ال تعالى حين قال" :إن
ال لينصر الدولة الكافرة العادلة ويديمها ويهزم الدولة المسلمة الظالمة ويزيلها" ،وهذا من تمام
فقه الرجل ،فإن العدل هو قوام الملك ،وبهذا نعلم أن السنن ستعمل عملها بإجراء ال تعالى لها
رغم أنف البشر جميعا قال تعالى{ :إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من ال
ما ل يرجون} فالمسلم يألم ويقع عليه ما يقع على الناس من جريان السنن اللهية ول تتخلف
عنه بحجة أن نيته طيبة ومقصده حسن وغايته جليلة ،وهذا داخل في شروط العمل الصالح (أي
متابعة السنة وعدم معارضتها) فإن من شروط العمل الصالح أن يكون موافقا لسنة النبي صلى
ال عليه وسلم التشريعية ،وما السنن التشريعية إل موافقة للسنن اللهية الكونية ،فما من سنة
أتى بها رسول ال صلى ال عليه وسلم إل وهي تعالج سنن هذه الحياة وتحقق للمرء إرادته
الصالحة ونيته الطيبة ،فبهذا يحقق الوعد اللهي لتحقيق المصالح في الدنيا وتحصيل الجر
الخروي يوم القيامة ،فهو سعيد في دنياه وسعيد في أخراه ،ولكن ل يظنن أحد أن سعادة الدنيا
تتم بتحقيق كثرة المال والعرض والمنصب ،فهذه ليست بشيء في إرادة الرجل المسلم ،فإن
إرادته معلقة بنيل الشهادة ،وهكذا يتقلب المرء في سنة ال بمتابعة سنة النبي صلى ال عليه
وسلم.
عوامل التمكين :الرادة والدارة مع العلم والقدرة
لقد كتب من كتب من الوائل في إبراز عامل الشجاعة وحب الدار الخرة في تحقيق النصر
وقلما رأينا من كتب في إبراز عامل الفهم والتعامل مع السنن اللهية والقيادة الواعية في تحقيق
النصر ،ومن هنا فالمعركة إدارة وليست طلقات فقط وتحسم المعركة ،ولكنها طلقات تسير
ضمن قانون سنني دقيق تجمع معها إدارة شاملة وحنكة راقية ووعيا رفيعا وهداية ربانية ودعاء
مظلومين والتجاء الصالحين لسيدهم في السحار كل هذه أجنحة مهمة لتحقيق الموعود اللهي.
إني على ضعفي وقلة حيلتي وقلة إدراكي فإني أقول إننا مازلنا في القاع ،ولم نخرج بعد من
الفهم الغنوصي للسنن والحياة ،وبيننا وبين الفهم عن ال تعالى وعن رسوله صلى ال عليه
وسلم أميال وأميال ،ولما نفهم فهما صحيحا لكي تتحرك إرادتنا بعلم صحيح (للشرعي والكوني)
ورغبة في الدار الخرة ونملك ما أمر ال تعالى به من القوة حينها ستفتح علينا خزائن ال
متفجرة بتحقيق الوعود والمبشرات.
601
لسنا على استعداد أن نتوقف ويكفينا أن نذهب إلى الخدود كما ذهب أصحاب الخدود وعلينا
أن نحضر أنفسنا لذلك ،فالطريق ما زالت بعيدة عن التمكين في الرض ،ولكن لنجعل الطريق
إلى السماء بحصول الشهادة (وهي طريق جد قصيرة) خطوة ندفع بها إسلمنا إلى المام لتأتي
الجيال القادمة فترى طريقا معبدا ،ومعالم واضحة ،فتأخذ بها لتحقيق التمكين في الرض.
مقاصد الشارع ومقاصد المكلف من التمكين:
من المهمات العظمى لهذا الدين إخراج المرء من دواعي هواه إلى دواعي تحقيق العبودية لرب
العالمين ،ومن صور هذه المهمة أن النسان بطبعه تقصر نظرته إلى الواقع الضيق الذي يعيش
فيه ،ويكون همه أن تفرج عليه بمقدار هذا الواقع والهم الضيق ،ويظن أن منتهى الطلب وغاية
المنى هو تحرره من ضيقه الني وحفرته الصغيرة ،وهذا هو هم نفسه وغاية هواه ،ولما يخرج
المرء من هم نفسه وغاية هواه إلى مقصد الرب من نفسه وغاية الله من ذاته فإنه وإن كان
النسان المسلم في لحظة من اللحظات يعيش هذا الهوان وهذا الضيق فإنه متطلع إلى غايات
عظمى ومقامات جليلة وهي مقاصد الرب التي تتلءم مع قوته وعظمته ،مع أن غايات النسان
الضعيف تتلءم مع ضعفه وعجزه.
فالمسلم في سجن من السجون ،وهو يذوق أصناف العذاب ويلقي أشد الهوان ،فإن مقصده ،بل
أعلى مطالبه أن يخرج من هذا السجن ويعفى من هذا العذاب ،ويظن أن ذلك هو غاية ما يمكن
أن تبلغ رحمة ال تعالى به ،ولكن من سمات هذا الدين ومن مقاصده أن يرفع نظره ،ويعلي
درجته غايته أن يقود العالم ،ويحكم الدنيا وتخضع له الرض ،ويكون ذلك أمله وهو في هذه
الحالة من الهوان ،فهو يتعامل مع قوي عظيم قادر على كل شيء ،ول ينظر فقط إلى حالته
وقوته هو.
عندما كان الصحابة رضي ال عنهم يأتون إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وهم في أشد
حالت العذاب والفتنة وهم في مكة ،ويشكون له هوانهم على الناس ،وألم العذاب وضيق الحياة،
فهم في هذه الحالة وهم في شدة من أمرهم ،وضيق بدني ونفسي كان رسول ال صلى ال عليه
وسلم يرفع أعينهم وهممهم إلى غايات ل يحلم بها النسان في هذا الموطن ،ول يتفكر بها،
فالموشك على الموت من الجوع ل يرجو أطايب الطعام ول أجوده ول أرفعه وأعله ولكنه
يحلم بقطعة خبز ،فهذا منتهى أمله وغاية مطلبه ،ولكن المؤمن يتعامل مع ال تعالى ،فهو مدعو
602
ليرفع همته ،ولذلك كان جواب النبي صلى ال عليه وسلم لصحابه رضي ال عنهم وهم في
مكة وهم يشكون شدة العذاب فوق ما يحلمون ويرجون(( :وال لتسيرن الظعينة من صنعاء إلى
حضرموت ل تخشى إل ال والذئب على غنمها ولكنكم تستعجلون)) ،ويقول لهم في موطن
آخر(( :وال لتفتحن كسرى وقيصر ولتنفقن أموالهما في سبيل ال)) ،كما وقع من قوله صلى
ال عليه وسلم في غزوة الخندق ،فالصحابة رضي ال عنهم مشغولون بالحفاظ على أنفسهم لئل
تهلك وعلى أعراضهم لئل تسبى وتنتهك ومع ذلك فإن رسول ال صلى ال عليه وسلم يبشرهم
بفتح فارس كسرى وروم قيصر.
وهذا أمر فيه المتحان للنفوس والعقول فإن من في دينه شك وريبة سيقول{ :غر هؤلء دينهم}،
لنه حينئذ ينظر إلى قوته ويتعامل مع هذا الدين من خلل نفسه ل من خلل واضعه رب العزة
والجلل ،وأما المؤمن فهو الموقن بموعود ال تعالى ويرقبه أيقع عليه أم أن الشهادة ستكون
أقرب إليه من الوعد اللهي؟.
ثم هذا فيه هدف آخر وهو دفع المؤمن ليغير واقعه ويسعى لصلحه وتدمير الباطل فيه،
فالمؤمن يحمل نفسية المهاجم دائما حتى وهو ضعيف عاجز ،ول يجتمع هوان نظرة المؤمن مع
هوان واقعه ،ول يرضى لليأس أن يصيب قلبه ونفسه ،بل هو مستعل باليمان دائما وأبدا في
أي حال كان وعلى أي موطن من درجات الدنيا كان مستقره ،فإذا علم أن مهمته ل تعدو
الخروج من مأزقه والنفكاك من عذابه ،بل مهمته تتجاوز ذلك بأن يهاجم الباطل ،ويصارعه
ويحاربه حتى وهو صريع ضعيف ،فبهذا يكون حامل دائما نفسية المسلم العزيز بربه والواثق
بنصر ال تعالى وصواب دينه ،انظر إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يسير داعيا إلى
ال تعالى في مكة ،فهو مستضعف معذب ،وقريش تريه ألوان العذاب فهي تضع على ظهره
فرث الجزور وهو ساجد في ظل الكعبة ،ويبقى كذلك حتى تأتيه فاطمة رضي ال عنها فتزيل
عنه القاذورات وقريش تضحك بملء فيها ،ومع ذلك كله فهو يوزع عليهم النذر ،ويبشر
بالعذاب ،ويعدد عليهم ماذا سيصنع بهم ،فهو الذي قال لهم يوما وقد أساءوا الجابة له إساءة
بالغة(( :لقد جئتكم بالذبح)) ،فيرد أبو الحكم مرتعدا على هذه النذارة :يا محمد ما كنت جهول
قبل اليوم ،فيجيبه رسول ال صلى ال عل يه وسلم(( :بل أنت الجهول)) ،ومن يومها فأبو
الحكم هو أبو جهل ،وهو الذي قال لرجل من قريش وقد مر رسول ال صلى ال عليه وسلم
وهو يمرن مهرا من خيوله ،فيقول لرسول ال صلى ال عليه وسلم :على هذا سأقتلك يا محمد،
603
فيجيبه رسول ال صلى ال عليه وسلم(( :بل أنا قاتلك إن شاء ال)) ،فيكون هو الرجل الوحيد
الذي يقتله الرسول صلى ال عليه وسلم بيده الشريفة رحمة منه لنه القائل(( :أشد الناس عذابا
من قتل نبيا أو قتله نبي)).
ولهذا المر هدف آخر وهو هدف تربوي وهو أن المؤمن الصالح ل يضع خططا قصيرة
المد ،ول يقصر نظره على ما هو أمامه فهو ل يتعامل مع الخطوة التالية فقط ،ولكن يضع
خططه للف الخطوات القادمة ،فهمّ الخطوة الولى كيف يخرج من واقعه ،ولكن الخطوة
التالية هي كيف يغير واقعه ،وبعدها كيف ينتقل إلى غيرها ،فهو ممتلئ النفس بالمهمات العظمى
ول يقف عند حد ،ول ينتهي عند نقطة قاصرة بل ينتقل من عمل إلى عمل ،ومن خطوة إلى
خطوة ،وكلها في ذات الله سبحانه وتعالى ،قال تعالى { :فإذا فرغت فانصب وإلى ربك
فارغب} فحيث انتهى من مهمة نصب نفسه في مهمة أخرى.
ثم لهذا الداعي هدف آخر وهو امتلء النفس بأمر ال تعالى والنظر إلى مطالبه وأوامره
ومقاصد هذا الدين ،وليس النظر القاصر إلى نفسه وهواه ومطالبه هو فقط ،فإن مهمة هذا الدين
أن يبسط سلطانه على الرض كل الرض ،فمن امتلت نفسه بذلك افترق عن الخرين بل
شك ،وإذا أردت أن تنظر إلى الفارق المهم بين الجيل الذي ربي على هذه الوعود العظيمة وهو
حكم الرض كل الرض وبين الجيل الذي في ذهنه أن يكون غاية مناه أن يتوسع الضيق عليه
قليل هو هذا الذي تراه من الفقه العوج المرذول والذي يخرج من أفواه هؤلء المشايخ
السحرة ،أو من قبل الحركات المهترئة ،فإن عامة الجماعات وكذا المشايخ الذين يقرأون الواقع
كثيرا ،ينشغلون بتعداد أسلحة أمريكا وجنود أمريكا ،وأسلحة إسرائيل وجنود إسرائيل ،وجنود
الشرق والغرب فإن انشغالهم هذا دون القراءة المتعمقة أو المعادلة لقراءة وعود النبي صلى ال
عليه وسلم وبشاراته وقوة ال وقدرته هذه القراءة أوقعت في نفوسهم اليأس والخذلن والرهبة
إلى درجة الرتعاش وبالتالي خرج منهم فقه الهزيمة والخنوع ،أو آراء التبرير والتسويغ لهذا
الواقع فهم يعرفون قوة القنبلة الذرية ،ويعرفون قوة الصواريخ العابرة للقارات ،وقوة الطائرات
السرع من الصوت ،ولكن أنى لهم أن يعرفوا قدرة ال تعالى ،أو يعرفوا عظمة ال تعالى ،أو
يعرفوا قوة وقدرة جنود ال تعالى؟!!.
أنى لهؤلء أن يعرفوا أن ملكا من ملئكة ال تعالى قادر على جعل الرض ومن فيها نسيا
منسيا؟!!.
604
أنى لهؤلء أن يقرأوا وصف ملك من ملئكة ال ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة خسمائة
عام؟!.
أنى لهؤلء أن يقرأوا بشارات النبي صلى ال عليه وسلم أن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل
والنهار؟!!.
أنى لهؤلء أن يقرأوا وعود النبي صلى ال عليه وسلم بأن جند ال سيفتحون روما ويعلقون
سيوفهم على شجر قسطنطينية؟!!.
أنى لهؤلء أن يعرفوا شيئا عن جندي ضعيف من جنود ال تعالى لو سلطه على قواهم لصارت
أثرا بعد عين؟!!.
دعوى استعجال النصر في مواجهة الطواغيت
ساد في أوساط بعض المفكرين السلميين (!!) وبعض الجماعات السلمية(!!) دعوى غريبة
الشأن ،لم تدرس بعناية من الوجهة الشرعية ،ولم تكن هذه الدعوى قد خرجت إلى عقلية المسلم
من خلل دراسة موضوعية شاملة ،هذه الدعوى هي الزعم أن العدو (المرتدين) قد استجرنا
إلى معركة خاسرة ،فهو الذي دفعنا إليها وقد اختار لها التوقيت والدوات ليحسمها متى يريد
وكيفما يريد ،وبالتالي علينا أن ل نستدرج إلى المعركة حسب توقيته ،وكذا علينا أن نملك من
الصبر العالي حتى نتحمل عنف السلطة نحونا مانعين من حصول المواجهة في الوقت الذي
يريده هو ول نريده نحن.
والفكرة ول شك جميلة في أبعادها الذهنية ،فإن من يملك التوقيت المناسب للمعركة هو الذي
يستطيع أن يجعل في جرينه إحدى عوامل النصر وهزيمة الخصم ،ولكن هل هذه الفكرة مبنية
على أسس صحيحة؟ وهل سبب انتكاسة الحركة السلمية (!!) في الوصول إلى أهدافها أنها لم
تملك ساعة الصفر في هذه المعركة؟ ،وهل صحيح أن ما حصل من مصادمات سواء كانت
جهادية أم غير جهادية بين الحركات (!!) وبين السلطات المرتدة هي التي جعلت هذه الوساط
المفكرة والحركية تخرج هذه النتيجة؟.
ابتداء أقول أنه لم يحدث قط أن استدرج الطاغوت أي حركة إلى أي مواجهة في وقت أحبه هو
أو رضيه هو ،ولم تكن هناك ثم معركة بين الجماعات (!!) وبين الطاغوت كان سبب انهزام
الحركات فيها هو خطأ التوقيت في البدء والعمل ،بل إن الطاغوت في أي معركة نشأت بينه
605
وبين هذه الحركات كان يعاني فيها المرين ،ويصرخ بملء فيه استنجادا ورعبا ،ولكن لن
النتيجة كانت في صالحه في النهاية فإنه استطاع أن يبث خبثه وحقده على المة ،فيفجر ويعربد
ويستغل فورة فوزه في تعميق جذور الجاهلية ومحاولة إضعاف جانب السلم في الدولة
والمة ،نعم النتيجة كانت مرعبة بالنسبة للسلم بسبب هزيمة هذه الحركات ،ولكن لم يكن
سبب الهزيمة هو اختيار الطاغوت لهذه المعركة في هذا الظرف.
نحن أمام تجارب متعددة في الصدام بين السلم ممثل بحركات سواء منها البدعية أو السنية
لكننا نستطيع أن نجمل هذه الحركات ضمن سياقين:
الول :السياق السياسي وهي الحركات التي لم تتبن الجهاد كحل شرعي وحيد لهدم الطاغوت
واقتلعه ،وهذا اللون فيه الكثير من الطياف بدءا بالخوان المسلمين المبتدعة إلى حزب
التحرير ،ومن الجماعات الصلحية كجماعة التبليغ وإلى تيار القاعدة الصلبة والدعاة السلفيين
المزعومين وغيرهم.
السياق الثاني :وهي الحركات القتالية والتي حكمت أمرها أن هذا الطاغوت له حل وحيد في
شرع ال تعالى وهو القتال ،وهذا اللون كذلك فيه أطياف متعددة بدعية وسنية.
والتجارب التي يحتج بما أصحاب هذه النظرة يأخذون حالة أو حالت من الولى وحالة أو
حالت من الثانية.
أما الحتجاج بالسياق السياسي فهو احتجاج باطل ،لن هذه الجماعات ليس في عقليتها ول
برنامجها مجابهة الطاغوت ول محاربته ،وليس في خطط إعدادهم لكوادرهم ثم إرادة لتعليمهم
أصناف السلح وإتقان القتال .فهو احتجاج باطل من أصله.
أما الحركات الثانية فالحق أن هذه الجماعات هي التي بدأت وشرعت ،وليس الطاغوت هو
الذي استفزها واستدرجها ،أما بالنظر إلى الفهم الشرعي لهذه الدعوى فإني قبل أن أعرض ما
أفهم من دين ال تعالى في تطبيق الحكم الشرعي في هؤلء المرتدين فإني مضطر أن أبين
عائقا جديدا استقر في أذهان آرائية هذا الزمان منعهم من الفهم عن ال تعالى والفهم على
رسوله صلى ال عليه وسلم.
أهل التحريف والتحليل السياسي:
نظرية العمالة والمؤامرة نموذجا
606
على مدار التاريخ السلمي كان الشيطان يصب في عقلية التيارات المنحرفة بعض البدع
والحوادث فيجعلها قواعد وأصول في تلقيهم للحكم الشرعي ،فلو أخذنا مثل الصوفية فإن بعض
أئمتهم -الغزالي -في كتاب له لتربية النفس وصقلها صوفيا وعرفانيا نبه المبتدئ في الطلب
إلى عدم قراءته للقرآن الكريم وجعل سبب هذا التحذير أن قراءة القرآن تشتت اجتماع النفس،
ول بد للطالب من جع همته والتركيز على أمر واحد لحظة الخلوة ،وقارئ القرآن الكريم
تتشتت همته فإذا قرأ سورة البقرة مثل فإنه يقرأ اليات الولى وفيها ذكر المؤمنين ،ثم ذكر
الكافرين ثم ذكر المنافقين ،ثم ذكر آدم وقصته ثم ذكر بني إسرائيل ،فهذه القراءة لهذه
المتعددات تشتت الهمة وتوزع الفكر وهذا يفسد السالك الصوفي ،فانظر إلى هذه المعوقات
الشيطانية التي استقرت كقواعد في أذهان أصحاب هذا المذهب في التنفير من القراءة لكتاب ال
تعالى وهي معوقات ذوقية.
بعض أهل الرأي ومتعصبو المذاهب منع من العمل بالحديث حتى يعرضه على إمام مذهبه ،أو
على أقوال مذهبه ،فإن أخذ به إمامه أخذ به وإن رده إمامه رده هو.
أهل الكلم جعلوا ضابط الخذ بالقرآن والسنة عرضها على العقل ،فإن قبلها كان بها وإن
أنكرها ردت أو أولت.
والقائمة طويلة ،وللشيطان فنون في صد الناس عن تطبيق الحكم الشرعي.
أما في زماننا هذا فللشيطان مع صبية الفقه ومفكري السلم ممن لم يتضلعوا بالسنة النبوية ولم
يقرأوها ولم يتشبعوا بها طريقة أخرى ،فإنه استدرجهم لرفض الحكم الشرعي من باب جديد
وهو باب يعادل الذوق الصوفي والعقل الفلسفي والنظر البدعي في رد الحكم الشرعي ،هذا
الباب هو التحليل السياسي.
هذه اللعبة الجديدة يمارسها أدعياء الفقه ،وصبية الفكر في اتهام أي عمل يقوم به المجاهدون أنه
داخل ضمن اللعبة الدولية ،وهو خادم لحدى قطبي النزاع في أي منطقة من العالم ،فإنه ما من
شك لن عالمنا (السلمي!!) منطقة نزاع بين أقطاب دولية ،وكل دولة تحاول أن تهيمن على
جزء منه ،وهناك صراع دولي على الفوز بأكبر كمية من هذه الدول الضائعة بين أقدام
اللعبين الكبار(!!).
607
وبالتالي فإن أي معركة يقوم بها المجاهدون ،ومن خلل تحليل سياسي إبليسي ،يستطيع هذا
المأفون السياسي(!!) أن يجعل جهاد المجاهدين في مصلحة قطب من أقطاب هذا الصراع
الدولي.
وقد سبق للناس جميعا أن سمعوا تحليل أصحاب الهواء -خدمة لعداء ال تعالى -للجهاد
في أفغانستان حيث جعلوا الجهاد هناك خدمة لمريكا ،فبالتالي فإن عبد ال عزام في عقلية
هؤلء المأفونين خادم لمريكا ،وبعضهم يرقق العبارة ليحدث لها القبول فيجعله مغفل نافعا -
والحديث عن المغفل النافع طويل -بل إن بعض ضلل هذا التيار صار يعلق الحكام الشرعية
على مناطات يفتريها المحلل السياسي ،وبالتالي فعبد ال عزام عميل أمريكي ،والعميل كافر،
فعبد ال عزام كافر ،وقد كان بعض أصحاب هذه اللعبة الشيطانية يقولها بملء فيه ،وبعضهم
يقف بها إلى بعض الحدود ،ولكن بعضهم توقف عن ذلك عند مقتل الشيخ عبد ال عزام ،ولكنك
لن تعدم وجود محلل سياسيا آخر يزعم أن أسياده هم الذين قتلوه بعد أن انتهت مهمته.
التحليل السياسي يستطيع أن يفسر لك أي حركة ربانية في هذه الدنيا ضمن مساقات دولية معينة
ل دور للسلم فيها ،ول لمصلحة السلم فيها ذرة.
لهل الهوى الرائية ضروب من التفنن المنطقي في صرف حكم ال من إيقاعه على وجهه
الصحيح ،فمرة يدخل عليهم من باب الذوق النفسي فيجعلونه حاكما على الشريعة ،وهذا منتشر
بين كثير من الناس حين يجابهون الحكم الشرعي بعدم اطمئنانهم له ،فيقول لك أحدهم :أنا ل
أطمئن لهذا الحكم .أو قول بعضهم :إن نفسي ل ترتاح لهذا الرأي .وليت القائل قد تضلع
بالسنة ،وتشربها حتى ملت عليه جوانحه ومشاشه ،بل هو رجل لم يمر على السنة إل لماما،
وأخذ منها حديثا أو حديثين ،ولم يقرأ القرآن قراءة درس وفهم ،بل هذّا سريعا ،فكيف لمثل هذا
الرجل أن يكون رأيه قريبا من السنة ،أو يكون مزاجه قريبا من الحق؟!! ،وللذكر فإن من جعل
ذوقه حاكما على الشريعة يحسن ويقبح من جهة نفسه وهواه كافر زنديق ،فليحذر المرء من هذا
الباب فإنه من باب القول على ال تعالى بل علم ،وهو أعلى مرتبته من الشرك كما قال تعالى:
{قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بال
ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على ال ما ل تعلمون} (العراف) فانظر حفظك ال تعالى
إلى ذكر مراتب المعصية وكيف رتب ال درجاتها حيث جعل أعلى المعاصي القول على ال
608
بل علم نعوذ با ل من الخذلن .ولشيخ السلم رحمه ال تعالى كلم نفيس في بداية كتابه
الستقامة فارجع إليه فإنه مهم.
قلنا سابقا إن من صوارف الشيطان الظنية في إبعاد الناس عن الحكم الشرعي هذه اليام ما
يسمى بالتحليل السياسي ،وهو باب غريب وللناس فيه مذاهب وطرق تحار فيها حينا وتعجب
منها حينا ،وقبل أن أبين معارضة هذا الظني لقواعد الصول فإني سأمر مرورا سريعا لتحديد
بدايات هذا المأخذ الشيطاني في محاولة لكشف مصدره.
أعتقد أن أوائل وأسياد هذا المذهب في بلدنا هم اليساريون ،فهم الذين فتحوا هذا الباب ليخدموا
به مذهبهم وطريقتهم ،فهم في سبيل إقامة الثورات ضد الحكومات (اليمينية) أو الحكومات
(الرجعية) كما يقولون ،جعلوا يرددون صباح مساء ،وفي كل موطن أن حكوماتنا حكومات
عميلة للغرب ،وخاصة لمريكا الجديدة وبريطانيا القديمة ،وبريطانيا ومن معها من الدول
الستعمارية التاريخية ثم من لحق بها من العالم الجديد كأمريكا لها حضور سيء قبيح في
أذهاننا ،وهذا الحضور سببه تلك الثار السيئة والتي ل تزال شاهدة على هذا السوء إلى يومنا
هذا ،مثل هذا التفرق والحدود التي اصطنعتها في بلدنا ،ثم النهب السيء لخيرات بلدنا ،ثم
تاريخها مع فلسطين واليهود ،فالعقل المسلم مليء ول شك بهذا الواقع السيء من تاريخ الغرب
في بلدنا ،فبمجرد أن يلوح الخطيب بارتباط جماعة أو فرد بالغرب يكون كافيا بأن يسقط من
أعين الناس واحترامهم.
فإذا أردت تدمير عدو لك ما عليك إل أن تصفه بالعمالة ابتداء وبالتالي صارت هذه الكلمة تقال
جزافا ،فما أن يقوم انقلب في بلدنا حتى يبرر النقلبيون ذلك بأنهم وطنيون ،وأن سلفهم
عملء للستعمار ،وكفى بذلك مبررا.
هذه البداية الصغيرة تطورت في تفسير أحداث الكون حتى صار مشهودا بين الناس المثل
القائل :لو رأيت السمك يقتل في البحر ففكر بالنجليز .ومع قليل من التهويل صار المسلم كلما
قرع له بالشنان فكر باليدي العميلة المدبرة لحداث الكون وأحداث الحياة ،فليس هناك ثم
صغيرة أو كبيرة فوق هذه الرض وفي داخل البحر إل وللدول الكبرى فيها يد ،وصار المجتهد
الجهبذ هو من يبعد لك النجعة في تحليل الخبر وتفسيره ضمن هذا السياق في فهم هذه الحداث،
وهناك بعض الكتب ساهمت في صنع هذه العقلية بغض النظر عن صواب بعض أحداثها
وتحليلها أم ل ،مثل كتاب "حكومة العالم الخفية" وكتاب "أحجار على رقعة الشطرنج" ومثلها
609
كتاب "بروتوكولت حكماء صهيون" وكتاب "لعبة المم" وغيرها من الكتب ،فإن هذه الكتب
أوحت لقارئها (المؤمن بما فيها) أن أحداث الكون بصغيرها وكبيرها محاطة ومرسومة من قبل
عالم خفي! ،بعضهم أطلق عليه الماسونية وبعضهم قال هي حكومة أندية الروتاري وغيرها،
وعقلية المسلم المتخلفة رأت في نفسها التطور للخروج من تحليل الحداث على قاعدة الجن
والشياطين إلى عالم المؤامرة والحكومات الخفية ،فبدل أن تكون صوفية متخلفة تحلل المور
على أنها من فعل الجن والشياطين وهذا تخلف ،فالعلمية هي تسمية هذا العالم بالحكومة الخفية.
ول يفهم من كلمي أني أنفي عالم الجن والشياطين وأن لهما صلة بواقعنا ،أو يفهم من كلمي
أي أنفي مبدأ وجود العداء المخططين ضد السلم وأهله ،فأنا بفضل ال تعالى مازلت في
مكاني لم أبرح عليه عاكفا.
أي أني أعتقد بوجود عالم الشياطين في الجن والنس ،وأعتقد قوله تعالى{ :يوحي بعضهم إلى
بعض زخرف القول غرورا} ولكني ل أعتقد أن محمد علي كلي كان ينتصر لنه كان يستعين
بجن مسلم يقاتل معه ضد جون فريزر الذي كان يستعين بجن كافر يلكم معه.
المهم أن المناط الوحيد الذي صار يعلق الناس أحداث الحياة عليه هو العمالة وتخطيط الحكومة
الخفية ،والرتباط بإحدى أقطاب الصراع في العالم ،وكان أئمة هذا الشأن من الجماعات
السلمية هم حزب التحرير ،فإنه ما فتئ يردد للناس من خلل نشراته أن الصراع بين أمريكا
وبريطانيا على أشده في اقتسام العالم العربي ،ولم يخرج رئيس ملعون أو حاكم مرتد أو رئيس
قبيلة أو قائد تنظيم من هذه المعادلة الجديدة ،وما من معركة تقوم ول انقلب يحدث إل ضمن
هذا السياق والتحليل ،فهذا بلد محكوم لمريكا والنقلب قام من أجل عمالة بريطانيا ،وهذا بلد
عميل لبريطانيا وما النقلب إل من أجل عمالة أمريكا ،وهكذا ما من حدث إل ضمن هذه
المعادلة ،ل يخرج عنها شيء البتة ،وانتشر هذا التحليل حتى عند صغار الناس وصار الوعي
الكامل والفهم الثاقب البرهنة على أن هذا الحدث ضمن معادلة دولية ،وعمالة خفية .وللذكر فإن
هذا النوع من التحليل ل يرى للمعسكر الشتراكي (يوم أن كان معسكرا) وجودا في المنطقة.
وقد استخدم بعضهم نفس السلوب ضد حزب التحرير فاتهمه بأنه عميل بريطاني ،فانقلب
السحر على الساحر ،وصدق من قال:
فلما اشتد ساعده رماني أعلمه الرماية كل يوم
610
وفي المقابل هناك قوم يحللون المر على جهة الحكومة اليهودية :هنا يهود ،وهناك يهود ،فهذا
بلد صنعه اليهود ،وهذا حزب وراءه اليهود ،فاليهود هم قادة الحداث كلها في هذا الكون.
وقد قابلت أقواما يحللون كل شيء على مناط الشيوعية ،فكل من حارب الدول الديمقراطية
واليمينية شيوعي -علم أم لم يعلم -فهو يرى أن الشيخ سلمان العودة وسفر الحوالي صنيعة
شيوعيةلنهما يحاربان الدولة التي ما زالت أقدامها راسخة في محاربة المد الشيوعي ،وهذا
تيار موجود في الردن وله رجاله وله مذهبه ،بل إنه يرى أن كل من تكلم على الحكام وكشف
شرهم وحرض المة على الخروج عليهم صنيعة يهودية -علم أم لم يعلم -ويحللون أحداث
الكون على هذا النسق وهذه المعادلة ،وهكذا تتغير التفسيرات ولكنها تبقى ضمن إطار واحد
ونوع واحد وهو التفسير التآمري للحداث.
أما ما يهمنا فهو خطورة هذه الطريقة في فهم أحداث الكون والحياة ،وبالتالي ما يتعلق بها من
أحكام شرعية.
لو نظرنا إلى أدلة هؤلء المحللين لرأينا هشاشة أدلتهم وعدم قبولها إل للطفال والصبية،
فبعضهم يجعل فلنا عميل بمجرد أنه رآه مشتريا مجلة فيها صورة لحاكم من الحكام ،وبعضهم
يجعل فلنا عميل لنه رآه اشترى حذاء من صنع الدولة المعنية ،وهكذا ،..فلما كانت هذه
الدلة ل تقبل ول تصلح ،كانت العمالة عندنا تعني الولء والنصرة وبالتالي فمن كان عميل
لدولة كافرة هو كافر مثلها ،وحكمه في دين ال تعالى هو القتل ،وهذا هو حكم الجاسوس عند
جمهور العلماء ،كان إطلق لفظ العمالة والجاسوسية على رجل أو حركة خطير جدا ل يصلح
معه اللعب والفهلوة ،نعم عليك بالحذر والكيس والفطنة ولكن عليك أن ل تكفر الناس بالظنة،
فالمر خطير.
هذه مسألة أولى تتعلق بأولئك القوم الذين يضربون بالرمل ويدعون علم السياسة فيستسهلون
القول بأن فلنا أو تلك الحركة عميلة للطواغيت ،فليعلموا أن معنى حكمهم هذا هو تكفير هذا
الفرد وهذه الطائفة وتجويز قتله وقتاله لي أحد من المسلمين ..هذه واحدة.
أما الثانية :فهي ما قدمنا من إبطال أي عمل جهادي ضد طاغوت من الطواغيت..
611
من قرأ سيرة الصحابة رضي عنهم في حروبهم وجهادهم رأى بكل وضوح أن جهادهم
للمرتدين وخاصة قتال بني حنيفة أتباع مسيلمة كان من أشق الحروب وأتعبها عليهم فقد جهدوا
فيها جهدا عظيما ،وقال أهل السيرة أن عدد من قتل من المسلمين يقارب اللف ،وعدد قتلى بني
حنيفة ( )10آلف نفس ،وكان عدد كبير من القتلى من حملة القرآن ،وكانت هذه المقتلة سببا
في إقبال الصديق رضي ال عنه على جمع القرآن ،ثم من نظر في مسيرة التاريخ السلمي
رأى أن حروب المسلمين لطوائف الزندقة كانت من أشد البلء على المسلمين ،أشد من قتالهم
للكفار الصليين ،ولو تمعنا في سبب هذا الخصوص في قتال المرتدين لرأينا أن المر يرجع
إلى سببين اثنين ،وبفهمهما تدرك جماعات التوحيد والجهاد أن ما هم عليه ل يقوى له إل
الرجال ول يقوم به إل من أخلص وجهه ل سبحانه وتعالى ،هذان السببان هما:
- 1إن حكم قتال المرتدين أشد من حكم قتال الكفار الصليين:
قال الغزالي في "فضائح الباطنية" (ص :)95والقول الوجيز فيه أنه يسلك بهم (أي الزنادقة
الباطنية) مسلك المرتدين في النظر في الدم والمال والنكاح ونفوذ القضية وقضاء العبادات ،أما
الرواح فل يسلك بهم مسلك الكافر الصلي ،إذ يتخير المام في الكافر الصلي بين أربع
خصال :بين المن والفداء والسترقاق والقتل ،ول يتخير في حق المرتد ،بل ل سبيل إلى
استرقاقهم ول إلى قبول الجزية منهم ول إلى المن والفداء ،وإنما الواجب قتلهم وتطهر وجه
الرض منهم ،هذا حكم الذي يحكم بكفرهم من الباطنية ،وليس يختص جواز قتلهم ول وجوبه
بحالة قتالهم ،بل نغتالهم ونسفك دماءهم ،فإنهم مهما اشتغلوا بالقتال جاز قتلهم.ا.هـ.
فالمرتد أحكامه في القتال أشد من الكافر الصلي .وكذلك ل يجوز مصالحة ومهادنة وعقد
المان للمرتدين ،ويجوز مصالحة ومهادنة وموادعة الكفار الصليين - :قال الشافعي :إذا
ضعف المسلمون عن قتال المشركين ،أو طائفة منهم لبعد دارهم ،أو كثرة عدوهم أو خلة
بالمسلمين (أي اضطراب أمور المسلمين) ،أو بمن يليهم منهم جاز لهم الكف عنهم ،ومهادنتهم
على غير شيء يأخذونه من المشركين ،وإن أعطاهم المشركون شيئا قل أو كثر كان لهم أخذه.
()1
وجاء في "السير الكبير" وشرحه للشيباني بشرح السرخسي :وان لم يكن بالمسلمين قوة عليهم
فل بأس بالموادعة ،لن الموادعة خير للمسلمين في هذا الحال ،وقد قال ال عز وجل{ :وإن
جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على ال} )2( .وقال ابن قدامة :وتجوز مهادنتهم على غير
612
مال ،لن النبي صلى ال عليه وسلم هادنهم يوم الحديبية على غير مال يأخذه منهم فإنها إذا
جازت على غير مال فعلى مال أولى)3( .
هذا في أحكام الكفار الصليين فإنه يجوز للمام وللمسلمين موادعتهم ومصالحتهم وبسط أحكام
الموادعة وموجباتها مفصلة في كتب الئمة ،ويجب الوفاء لهم بهذا ،ول يجوز الغدر ول الخيانة
إل أن ينقضوا العهد والمواثيق .أما المرتدون فل يجوز موادعتهم ول مصالحتهم ،قال أبو الليث
السمرقندي في "تحفة الفقهاء" ( : )4إن أخذ الجزية وعقد الذمة مشروع في حق جميع الكفار
إل مشركي العرب ،والمرتدين ،فإنه ل يقبل منهم الجزية ،كما لم يشرع فيهم السترقاق)5( .
قال كاساني عند شرحه لما تقدم :بأنه ل يقبل من المرتد إل السلم أو السيف لقول ال تعالى:
{تقاتلوهم أو يسلمون} قيل إن الية نزلت في أهل الردة من بني حنيفة ولن العقد في حق المرتد
ل يقع وسيلة إلى السلم لن الظاهر أنه ل ينتقل عن دين السلم بعدما عرف محاسنه
وشرائعه المحمودة في العقول إل لسوء اختيار وشؤم طبع فيقع اليأس عن فلحه فل يكون عقد
ذمة)6( .
قال القرطبي :قال الوزاعي :تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذب ،وكذلك
مذهب مالك ،فإنه رأى أن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد ،عربيا ،أو عجميا،
تغلبيا أو قرشيا كائنا من كان إل المرتد)7( .
قال ابن تيمية :وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الصلي من وجوه
متعددة ،منها أن المرتد يقتل بكل حال ،ول يضرب عليه جزية ،ول تعقد له ذمة ،بخلف الكافر
الصلي ،ومنها أن المرتد يقتل وإن كان عاجزا عن القتال ،بخلف الكافر الصلي الذي ليس
هو من أهل القتال ،فإنه ل يقتل عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد ،ومنها أن المرتد ل
يرث ول يناكح ول تؤكل ذبيحته ،بخلف الكافر الصلي إلى غير ذلك من الحكام)8( .
وعلى هذا فأحكام قتال المرتدين أشد من أحكام قتال الكفار الصليين ،ولما علمنا أن حكام بلدنا
مرتدون فل يجوز مصالحة أحد منهم أو مسالمته أو مهادنته تحت دعوى المصلحة ،أي أنه ل
يجوز لجماعات الجهاد أن تداهن أحدا من هؤلء المرتدين أو تسالمه أو تتعاون معه في قتالها
لطائفة الكفر في بلدها.
كان المسلمون الوائل يخرجون للجهاد وقد حضروا أنفسهم وجهزوا أمورهم وهم في أرضهم
وبلدهم آمنون.
613
أما اليوم انظر إلى واقع الجماعات المجاهدة فإنها جاءت إلى واقع مقفل ل منفذ لهم فيه ،وقد
ترقت الدول العلمانية الكافرة اليوم في الحالة المنية الرقي الشديد ما لم يكن بمثل هذه الصورة
المتينة في يوم من اليام ،وليس للجماعات المجاهدة أرض ينطلقون منها ،ومع ذلك فهم
يواصلون الطريق بكل آلمها وجروحها فلو أصابتهم مصيبة في لقاء ومعركة من المعارك
فليس لهم أرض يفيئون إليها ،ول فئة ينحازون إليها ،فيا ال ما أعظم هذا النوع من الجهاد وما
أشقه!!.
نعم إن جهاد المرتدين اليوم جهاد شاق وفيه من البلء والعنت ما ال به عليم ،والرجل المجاهد
ملحق من بيت إلى بيت ،وأهله تحت سطوة الطاغوت وقوته ،أي أنه مكشوف نصفه ،بل
أغلبه ،فهذا جهاد خاص ولذلك له أجر خاص كما أخبرنا النبي صلى ال عليه وسلم أن أجر
المتمسك بدينه في مثل هذه الزمان أجر خمسين من الوائل ،لن المجاهدين اليوم ل يجدون
على الحق أعوانا وكان الوائل يجدون على الحق أعوانا.
انظر اليوم كم يعاني الخ من أجل أن يصل إلى أرض الجهاد ،وكم يبذل من الجهد والفكر،
وكم يلقي من العذاب والمشقة من أجل أن يصل إلى أرض ليجاهد فيها ،وتفكر في هذه القيود
المنية التي يخترقها الشباب المسلم الموحد حتى يطبق فريضة وعبادة القتال في سبيل ال تعالى
ضد المرتدين؟.
هل مر على المسلمين مثل هذه الحالة من قبل؟.
الجواب القديم :بالقطع أننا لم نعهد قبل هذه الحالة في تاريخنا.
انظر اجتماع العالم أجمع -كفارا ومرتدين -من أجل تطويق الجهاد والمجاهدين ،وهم ل
ظهر يحميهم ول دولة ترعاهم ،ول إعلم يوصل صوتهم ،فهل مر على المسلمين على مدار
التاريخ مثل هذه الحالة؟ .الجواب :بالقطع هو النفي.
- 2وأما السبب الثاني فهو موافقة المر القدري للمر الشرعي المتقدم وأعني أنه لما جعل
الشارع الحكيم سبحانه وتعالى حكم المرتد أشد من حكم الكافر الصلي إنما هو لن المرتد في
نفسه وحاله يستحق هذا الحكم وهو ملئم له وقد أشار الكاساني رحمه ال في كلمه المتقدم إلى
هذا المعنى ،وهو أن المرتد لم يقع منه هذا الكفر إل بسبب انحطاط نفسه وخبثها وعظيم شرها،
فإن من أسلم وعرف حقيقة هذا الدين وعظمته وأثره على النفس والحياة ثم انقلب عنه بغضا
614
وكرها لما أنزل ال تعالى فإن هذا الشخص يستحق هذا الحكم في حقه ،وهو ل يستحق هذه
الحياة ،فليس له أن ينعم بخيراتها ول يأكل من ثمارها.
ولما كان بغض المرتدين لهذا الدين وكذلك بغضهم لهله شديدا كان قتالهم للمسلمين شديدا،
بخلف الكفار الصليين فإن الكثير منهم ل يعرف لماذا يقاتل ول علم يقاتل ،بل يساق إلى
الحرب سوقا ،ولذلك بعد أن تضع الحرب أوزارها فان كثيرا منهم يدخل في دين ال تعالى،
وهذا حال الدول والممالك والقطار التي فتحها المسلمون الوائل رحمهم ال تعالى ،فإن تلك
البلد دخل أصحابها في دين ال تعالى أفواجا.
وقد أشار الشيخ أبو الحسن الندوي( رحمه ال ) في كتابه "ردة ول أبا بكر لها" إلى حقيقة نفسية
هؤلء المرتدين ،وأنها أعتى نفسية مرت على وجه التاريخ ،بل هي اقتبست معالمها من نفسية
الشيطان ذلك أنه لما رأى نفسه قد حكم ال تعالى عليه الخلود في جهنم فإنه طلب من ال تعالى
أن يمهله إلى نهاية الدنيا حتى يفتن كثيرا من الناس فيذهب بهم معه إلى جهنم ،فإنه نقم على
الناس طهرهم وعفافهم وإيمانهم ،وكذا المرتد فإنه ينقم على الناس إسلمهم ،وأذكر أن الشيخ أبا
الحسن قد ذكر في كتابه نفسية هذا المرتد وحلل هذا النوع من الناس وأنه يرى نفسه قد ضعف
أمام الشهوة ،إما شهوة المال أو شهوة المنصب أو شهوة النساء فيرى نفسه حقيرا ذليل وهو
يرى أمامه شابا مسلما قد ترفع عن هذه الشهوات وضربها بقدمه واستمسك بدينه فينقم عليه هذه
الفضيلة ويستصغر نفسه أمامه فبدل أن يؤوب إلى رشده ويهتدي إلى رحمة ال فإنه لنفسه
الخبيثة يحقد على هذا الشاب لنه يذكره بضعفه وعجزه ،فيكون له كالمرآة ،ولذلك عندما تسمع
أو تقرأ هذه القصص الحقيقية من تعذيب المرتدين للمسلمين تكاد لهولها أن تدخل في عالم
الخيال والخرافات ،لن هذا النوع من البشر ليس له مثيل في الظلم والكفر والعدوان.
إذن قتال هذا النوع من البشر قتال خاص في شدته وهوله وعظمته ،وهو يقاتل إلى آخر رمق
وإلى آخر نفس ،وإني لعجب من أصحاب النظر الصوفي الجديد حين يأملون الهداية لهؤلء
المرتدين ،إن هؤلء القوم جد واهمون ول يعرفون حقيقة حكامهم.
( - )1الم .4/186
(.5/1689 - )2
( - )3المغني .10/519
( - )4وهو متن كتاب "بدائع الصنائع للكاساني".
615
(.3/207 - )5
(.7/111 - )6
( - )7الجامع لحكام القرآن .8/110
( - )8مجموع الفتاوى .28/532
محك النظر وميزان العمل :الحسنة والسيئة
إعادة ترتيب الموازين المائلة في العقول في الحكم على الشياء والفعال هي إحدى مهمات
النبياء المرسلين عليهم الصلة والسلم ،فالنظر القاصر الضعيف ،والعين التي ل ترى إل هذا
العالم فقط وما فيه من حركة ظاهرة ل بد أن تحكم على الشياء والفعال حكما قاصرا ضعيفا،
فإذا أقام الناس أحكامهم وموازينهم على ما سماه ال تعالى ظنا وهوى فإن الحياة ستختل
وتضطرب ،والفطرة وإن كانت في أصل خلقتها سليمة معافاة وفيها الصلحية أن تصيب الحق
أو أن تتعرف عليه حين تهدى إليه إل أن هذه الفطرة قابلة للتبدل والتغير بعد معافستها هذه
الحياة (( -فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )) -والهوى له قوة دافعة لتحقيق الشرور،
والظن والجهل وسوء التأويل يبرر لهذا الهوى أفعاله وحركته ،ول يتم وقوع هوى فاسد إل
بشبهة فاسدة ولذلك جمعهما ال تعالى في آية واحدة حين قال{ :إن يتبعون إل الظن وما تهوى
النفس} وجعل سبحانه وتعالى مقابل هذين المرين :الهدى ،فقال{ :ولقد جاءهم من ربهم
الهدى} فالهدى يمنع الهوى ،والهدى يمنع الظن.
إن الميزان المختل ل يقوم إل على عمادين اثنتين هما :الهوى والظن ..فالهوى هو الشهوة
الجامحة التي ل رابط لها ول زمام ،وهي ل يمكن لها أن تنطلق من عقالها وتسرح في وديان
الضللة والغواية إل بعماد يدعمها ويبرر لها أفعالها أل وهو الظن وهو ضد العلم ،فدور الظن
الفاسد تبرير حركة الهوى وإعطائه المقدمات المزعومة من الموضوعية الكاذبة المفتراة ،وإذا
وقعت الشهوة المحرمة دون ظن يبرر لها فعلها فإنها قريبا ما تتوب وترجع عن غيها
ومعصيتها ،ولكن إذا وقعت الشهوة المحرمة (الهوى) وكان معها الظن الفاسد والجهل المؤول
فإنها ستكون حلقة ثابتة في الشر وهي كذلك تملك القوة في الدفع نحو الشرك والكفر.
إذا ل بد من التأويل الفاسد لتستقر المعصية ثباتا ودواما ،وكلما كان التأويل (الظن والشبهة)
مقنعا بقناع جميل براق ،أي بقناع العقلنية والموضوعية كلما كان أدعى للقبول وأسلم للنفوس.
616
هذه واحدة.
أما الثانية فهي أن حركة النسان ل تقع إل بإرادة وهذه الرادة تتكون من قوتين اثنتين هما:
قوة العلم وقوة الدافع ،فحاجه المرء إلى شيء من الشياء قوة لدفعه لتحقيق هذه الحاجة ،وهذه
الحاجة استقرت النفس على معرفتها معرفة حقيقية قوية ،ففساد المرء (أي فساد عمله ) إما أن
يقع من جهة العلم ،وإما أن يقع من جهة الدافع .وصلح العلم يوجد صلح الدافع وقد يفترقا
كما هو شأن المبتدعة الذين يريدون تحقيق الرضى اللهي ودخول جنته بعلم باطل فاسد (أي
بالجهل) كما قال تعالى{ :هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا
حامية} فهذه نفس عاملة لكنها ل تبلغ هدفها لنها تعمل بجهل كما هو شأن رهبان النصارى
وعباد الصوفية وأمثالهم ،وقد يقع العلم الصحيح مع الدافع الباطل كما هو شأن علماء السوء
ممن يعوقون الحق ويأكلون به أموال الناس بالباطل كأحبار اليهود من المم السابقة ومن سار
على دربهم من علماء المسلمين ممن يبيعون دينهم من أجل أعراض الدنيا الفانية.
فركنا الضللة هما الجهل والهوى ،فل يمكن أن تستقر المعصية (الهوى) في الرض إل بتبرير
صاحب الجهل لصاحب الهوى .وليس الجهل هنا عدم العلم فقط ولكن الجهل ههنا هو ما يتعلق
بالعلم من فساد ،فأي فساد لحق بالعلم انقلب العلم إلى جهل سواء لحق الفساد من جهة ترك
العمل أو من جهة اتباع الهوى أو من جهة التأويل الفاسد أو من جهة معرفة الحق والحيدة عنه
فكل هذا وغيره يقلب العلم الصحيح إلى جهل وظن.
إذا عرفنا هذا علمنا لماذا يحرص أصحاب الهواء من السلطين والحكام دائما على اصطحاب
أصحاب العمائم ،ولماذا ينفقون عليهم الذهب ويوسعون لهم في المجالس ..السبب هو أن
معصية الحاكم وأهواءه ل يمكن لها أن تدوم وتستقر إل بوجود هذا الجاهل (العارف).
فالحكام والسلطين رؤوسهم فارغة من الفهم ،وألسنتهم كلة عيية في تزوير حقائقهم للناس ،فهم
محتاجون دوما إلى رجل ذرب اللسان ،ويمتلك القدرة على الخروج والدخول وإقناع الناس
بمراد صاحب الهوى ،بمعنى آخر ل بد من وجود الساحر ،القادر على قلب حقائق الشياء في
أعين الناظرين.
والمسألة ليست مع الحكام والسلطين فقط ولكن هذا أمر عام في كل معصية يريدها إبليس أن
تستقر على وجه الرض ،وأن يجعل لها قوائما وأرجل وجذورا وسيقانا.
((أخوف من الدجال على أمتي :الئمة المضلون)) هكذا نطق رسول ال صلى ال عليه وسلم.
617
أسباب الهزيمة وعوامل النصر :الطاعة والمعصية
المعصية من غير ستار يسترها عارية مفضوحة ،نتنة الرائحة ،خبيثة المنظر ينفر منها كل أحد
ول يستسيغها أحد ،لكنها حين تحف بالشبهة وتأتي إليك وهي تنطق كلمات ال فإنها تتزين
للناظرين ،وهذا هو مكمن قوتها وسر قبولها ولذلك صدق من قال :كم يخيفني الشيطان حين
يأتيني ذاكرا اسم ال.
العلم الصحيح القائم على الحق المطلق (الكتاب والسنة) ،وترك التقليد ،ونبذ التعصب ،ومتابعة
السنة ،والهتداء بمن ماتوا على خير ،وترك التعلق بالغرائب والشذوذات ،كل هذه محصنات
للمسلم من أن تمرر عليه ألعيب أهل الباطل من السدنة الكاذبين ،وعلماء اللسان والسلطان،
وخطباء الفتنة.
قال تعالى{ :إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد
عفى ال عنهم إن ال غفور رحيم}(آل عمران).
هذه الية من سورة آل عمران في عرضها لذكر المصاب الجلل في غزوة أحد ،وهذه الية
جامعة لكل معوقات النصر وموانع وقوعه :وإنما هي الذنوب.
{إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} وبعيدا عما قاله أهل التفسير رحمهم ال تعالى حيث
أكثروا فيها القول فإنما أقوالهم تعود إلى أمر واحد ،وهو أن الشيطان ل يكون له على المسلم
سبيل في تحقيق مراده منه حتى يعطي المسلم الحجة لها.
{استزلهم الشيطان} :أي أوقعهم في الزلل ،والزلل هنا الهزيمة وعدم الثبات في المعركة ،أي هو
تعطيل النصر وعدم تحقيقه.
{ببعض ما كسبوا} :لقد كان للشيطان عليهم سبيل بأن حقق فيهم الهزيمة بسبب أعمالهم
وذنوبهم .فهكذا هي سنة ال الجارية في المسلمين ،وهي سنة ل تتخلف ول تتعطل وهي أن
الهزائم ل تقع إل بسبب أعمال يصيبها المسلم فتبعد عنه النصر وتقرب إليه الهزيمة.
وهنا ل بد من أمر نذكره وهو أن هذه المعاصي (أسباب الهزيمة) ل بد أن يكون لها من ارتباط
سنني مع الهزيمة .أي أنها ليست مطلق المعاصي والذنوب لكنها المعاصي التي لها علقة
بالحرب والقتال مثل :ترك التدريب ،والعراض عن الجماعة ،وعصيان المير ،وترك الخذ
618
بالسنة القدرية كعدم تعيين صاحب المر المفيد في بابه ،وهذا ل يعني التقليل من شأن الذنوب
الخرى لكن تأثيرها على نتيجة المعركة تأثير غير مباشر بخلف الذنوب التي لها علقة
مباشرة بعملية الجهاد والقتال ،ولذلك من إبعاد النجعة حين نبحث عن أسباب الهزيمة في معركة
من المعارك وموقع من المواقع أن نذهب فنعدد معصية عدم صلة الرحم ،أو معصية أكل مال
اليتيم كأسباب لحصول الهزيمة ونترك السباب المباشرة لحصول الهزيمة ،فل بد أن ننتبه إلى
العلقة القدرية بين السبب والمسبب ،بين العمل والنتيجة ،بين الذنب والهزيمة.
قال تعالى{ :إن فرعون عل في الرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم
ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين} (القصص).
في هذه الية من سورة القصص يبين ال سبحانه وتعالى أسلوب الطاغوت في فرض ألوهيته
على الخلق ،وكيف حصل له العلو والفساد ،والعلو في القرآن مقارن للفساد :قال تعالى:
{وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا} (السراء).
قال تعالى { :عل في الرض وجعل أهلها شيعا) فأول أمر فعله لستتباب حكمه وإفساده هو
تفريق الناس فجعلهم شيعا.
واللفظ القرآني (جعل أهلها شيعا) فيه من الدللت العميقة والتي تحتاج إلى كشف وبيان :فقول
ال تعالى( :شيعا) دل على أن فرعون لم يستخدم كثيرا من القهر في تحزيبهم وتشتيتهم
وتفرقهم ،بل استخدم شيئا من المكر والدهاء في إثارة عوامل التفرق الكامنة في نفوسهم،
فالتشيع هو التناصر على شيء ،فشيعة الرجل أتباعه وأنصاره ،هذا التشيع حصل بإثارة كوامن
ذاتية في النفوس ،فيها القبول الذاتي بحصول التشيع أي التباع والنصار ،فصارت كل فرقة
تتبع وتناصر شيئا فيه الدافع الذاتي من المحسن الخارجي ،وإل فلو كان فقط القهر الخارجي هو
الذي صنع الفرقة لما جاء لفظ (شيعا) ولجاء لفظ غيره .ولكنهم صاروا شيعا بعامل ذاتي فيه
القبول الذاتي والرضوخ النفسي لهذا المحرض الخارجي وهو فساد فرعون.
وقد ذكر ال تعالى عقب هذا قوله { :يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم}
وهنا لم يذكر ال تعالى شأن الذين اتخذهم فرعون ليمارسوا القهر والذبح والسبي ،فحيث اتخذ
طائفة للستضعاف فإنه ول بد اتخذ طائفة أخرى للستكبار والستعلء.
والحديث هنا في ذكر القرآن لقصة موسى عليه السلم مع بن إسرائيل ،ولكن الحديث القرآني
عنه في جعل الناس شيعا جاء عاما { إن فرعون عل في الرض وجعل أهلها شيعا}.
619
هكذا هي سنة الطاغوت في استتباب ملكه وتجذير شره في الناس :أن يكون الناس شيعا ،التفرق
والتنازع والتعدد.
والقران ل يذم التفرق على أساس الحق حيث يتعدد الناس إلى فرق بحسب أديانهم ،بل هذا هو
الواجب في دعوة النبياء ،فإن النبي صلى ال عليه وسلم فرق بين الناس ،فالمؤمنون ينزعون
أنفسهم من بين الكافرين ويتفرقون عنهم ويتشيعون دونهم على حقهم ،وأهل السنة ينزعون
أنفسهم من بين أهل البدع ويتشيعون دونهم على السنة ،وهذا من أسباب تحقيق الرفعة لهم
والعزة لدينهم ولسنة النبي صلى ال عليه وسلم.
أما الذنب الذي ل يجبر في هذه الدنيا فهو التشيع على الباطل ،والتحزب على غير الحق،
والتفرق على أسس الجاهلية ،فهذا الذي يجعل لزلل الشيطان فيهم موضعا.
وكذلك من الذنب الذي تعجل به العقوبة وتحصل به الهزيمة الجتماع على غير الحق،
واللتفاف على الباطل.
التحالفات المقيتة (هزيمة)
إن من أعظم ما نراه واقعا ومحققا الهزيمة للمسلمين في كل موقع هو التحالفات على أسس
الوطنية المقيتة.
لقد كان لهذا الباب دور شر على أمتنا في عدم تحقيق مقاصد الشريعة بل وقوع الضد وهو
تحقيق مصالح أعداء ال تعالى .فما من تجربة وقعت فيها التحالفات على غير الهدى والحق إل
وكانت هذه التحالفات السبب الماحق لكل المكاسب التي يحاول أهل السلم تحقيقها.
لقد أعمل فينا فرعون عمله حين قسم المسلمين إلى طوائف وشيع حسب بلداننا وقرانا واستجبنا
له بفعل الجاهلية التي أعملت فينا عملها .فتفرقت أوصالنا على أسس الجاهلية المقيتة فسهل
على الشيطان أن يبث فينا شره.
وهذا وقع أشد منه وقوعا بين المسلمين وأوضح معلما .أي تفرق المسلمين شيعا على أساس
الباطل (الجاهلية) واجتماعهم على أساس باطل (الجاهلية).
هذه الوطنية المقيتة متى يعلو أهل السلم عن خبثها ونتنها؟ :جماعات مسلمة تتحد مع
جماعات كافرة على أساس الوطنية ،وتعرض عن أخواتها لنها ليست من بلدها ووطنها ،فكيف
يتحقق النصر حينئذ؟!!.
620
كيف نخطو إلى أهدافنا والشيطان يعمل فينا عمله ولم نستطع أن نتجاوز ما استمرأنا عليه من
نتن الجتماع على القبيلة الواحدة والبلد الواحد والدولة الواحدة؟!!.
نحن ل نذيع سرا حين نقول إن هذا المرض ما زال يعمل عمله بين المسلمين وهو موجود بكل
ثقله ووطأته بين الفرق والجماعات.
لقد أعطانا ال تعالى عمقا جغرافيا نستطيع أن نستخدمه باتباع سبيل المؤمنين لتحقيق أهداف
السلم العظيمة ،ولكننا قلبنا هذه النعمة نقمة وحولنا بقبول ذاتي ورضوخ نفسي عوامل النصر
إلى سبب الهزيمة ،ثم والعجب من ذلك كله صرنا نتمتع بلعق هذه الدماء النازفة منا دمارا
وتفتيتا ،وأقصد بهذا التمتع هو ما نراه بين الشباب المسلم من استكبار وغرور في تعداده لمناقب
أهل بلده ،وظلمه وحيفه وهو يعدد مثالب وأخطاء بلد غيره.
أتمنى أن يكتشف كل أهل بلدة أخطاءهم ومثالبهم وسوءاتهم مثل قدرتهم على اكتشاف سيئات
وأخطاء الخرين!!.
إن الجرح في الكف ،بل إن الجرح تحول إلى مرض سار في البدن كله ،فإن لم نتداركه باتباع
الشرع الحنيف هلكنا واستزلنا الشيطان بقبولنا أن نكون شيعا.
إيثار الحق على الخلق (نصر)
اعلم يا عبد ال أن هذا الدين ل يعطى ثماره في الخلق حتى يثقوا به تمام الثقة ،وتمتلئ قلوبهم
به ،ويستغنوا به عمن سواه ،لن صاحب هذا المر هو ال سبحانه وتعالى ،وال جل وعل
كامل قدوس ل يعتريه النقص والضعف {ل تأخذه سنة ول نوم} ،فلما كان صاحب هذا المر
كامل ل يحتاج إلى غيره ،علومه كاملة ،وعطاياه كاملة ،فإن تخلف شيء من العطاء إنما هو
لضعف في الخلق ،وعدم استحقاقهم لكامل العطاء والمنح.
واعلم حفظك ال وهداك أن هذا الحق ليس بحاجة إلى رضا أحد من البشر ،ول يجوز للمسلم
الواثق بكمال هذا الدين أن يطلب من الغيار أعداء هذا الدين الرضا والقبول على هذا الدين،
فإنه إن فعل ذلك دل على أنه مهزوم في نفسه ،ل يثق الثقة الكاملة بهذا الدين .وهذه هي حقيقة
الهزيمة ،لن الهزيمة ليست خسارة أرض وبلدان ،ول ضياع أولد وخلن ،ول ذهاب أموال
وأعراض وعمران ،بل الهزيمة تخلي المسلم عن دينه ،وإصابته في نفسيته من جهة ثقته بهذا
الدين ،ولذلك سيبقى السؤال قائما للتفريق بين إعلمين ودعوتين :هل علينا أن نسعى لقناع
الغيار بوجودنا وحقنا في إثبات مواقفنا؟ وهل سيكون دور إعلمنا وكلماتنا ودعوتنا أن نقنع
621
الغيار (من كفرة ومبتدعة وضلل) بأنفسنا؟ فلعلنا ننال منهم نظرة رضا أو كلمة إعجاب،
وقبول الوجود.
هل هذا هو دور العلم والنشرات والدوريات؟ أن نرتق الكلمات ،ونخفي شيئا ونظهر شيئا،
فنضع أيدينا على آيات ساطعة ،وكلمات مضيئة حتى يرضى عنا الغيار.
أم أن هذه القضايا ل تهمنا ،بل همنا أن نظهر دين ال تعالى كما هو في نفسه من غير تقية ول
مناورة ول جمجمة؟.
على أي حساب وضعنا هذه المقارنة فسيكون خيار أهل الثقة بهذا الدين هو خيار الذين باعوا
أنفسهم ل وارتقبوا في كل لحظة التخطف من الرض ،واللحوق بالصادقين من هذه المة،
هناك فرق بين التاجر مع ال والتاجر مع المال والدينار ،وهناك فرق بين الحكمة المزعومة
المكذوبة وبين الحكمة التي تحمل في طياتها أول ما تحمل كلمة الحق لن الحق هو الحكمة،
والحكمة هي الحق .هي قاعدة يعرفها أهل السلم{ ،ولن ترضى عنك اليهود ول النصارى
حتى تتبع ملتهم} .أليست هذه آية محكمة وهي قاعدة في حصول الصراع بين الحق والباطل،
وأن هذا الصراع سيبقى قائما مادمت مفارقا لباطلهم ،ولن يسكتوا عنك حتى تكون مثلهم.
إن خوف حصول البلء معناه ترك سبيل ال ،وإن سلوك سبيل ال معناه وقوع البلء ،أما أن
تسلك سبيل ال ثم تطلب حصول المان والرضا والستقرار فهذا لعمري في القياس عجيب.
إن قاعدة التبرير بعد التقصير يتقنها كل الناس .وهذا القرآن الكريم مليء بحجج المنافقين
وبحجج تاركي الحق ،لكنها وإن تقنعت بقناع الحكمة والتروي والتبصر ،فإنها مكشوفة عند
أصحابها وعند أهل البصيرة وقبل ذلك عند علم الغيوب.
بل البلء كل البلء ومعاناة المة من صنوف العذاب والهوان والذل والضعف المبين ،إنما
يكون بالعراض عن هذا الدين وترك الجهاد {إل تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما
غيركم ول تضروه شيئا وال على كل شيء قدير} واعلم أن البلء سنة كونية شرعية وهو واقع
بالعبد ل محالة ،فاختر لنفسك يا عبد ال أقوم السبيلين وأهدى الطريقين ،واصبر على البلء كي
تؤجر فبلء في طاعة ال وفي سبيله وابتغاء مرضاته خير من بلء في معصية ال وإخلدا إلى
الحياة الدنيا الفانية السريعة الزوال .وحياة في عز طاعة ال تفضي إلى رضوانه ونعيمه خير
من حياة في الذلة والشقاء تفضي بالعبد إلى سخط ال وعقوبته {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم
ثم ل يكونوا أمثالكم}.
622
واعلم أن سعادة المسلم في الدنيا والخرة إنما تكون بابتغاء مرضاة ال وباتباع هدي رسوله :
{من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما
كانوا يعملون}.
وتأمل عبد ال قول الحق جل وعل ،ثم كن على يقين وثقة من موعود ال {وعد ال الذين آمنوا
منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم
الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني ل يشروكون بي شيئا ومن كفر بعد
ذلك فأولئك هم الفاسقون} النور.
وآخر دعوانا أن الحمد ل رب العالمين وصلى ال على نبيه وعلى آله وصحبه.
***************************
أخوكم
أبو حمزة الشامي
الحد في 28صفر 1425هـ الموافق 18/4/2004
623