You are on page 1of 623

‫رسالة مطولة حول استشهاد عبد العزيز‬

‫الرنتيسي‬
‫رحمه الله‬

‫بقلم‬
‫الشهاب الثاقب‬

‫حقوق الطبع لكل مسلم‬

‫‪1‬‬
‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫ل الّلهُمّ مَاِلكَ‬
‫الحمد لك يا رب وحدك ل شريك لك أنت الذي تقول على لسان المؤمنين { قُ ِ‬
‫خ ْيرُ‬
‫ا ْل ُملْكِ ُت ْؤتِي ا ْل ُم ْلكَ مَن تَشَاء َوتَنزِعُ ا ْل ُملْكَ ِممّن تَشَاء َو ُت ِعزّ مَن تَشَاء َوتُذِلّ مَن تَشَاء ِبيَ ِدكَ الْ َ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ} (‪ )26‬سورة آل عمران‬
‫عَلىَ كُلّ َ‬
‫ِإ ّنكَ َ‬
‫جعُونَ} (‪ )83‬سورة يــس‬
‫شيْءٍ َوِإَليْهِ ُترْ َ‬
‫سبْحَانَ الّذِي ِبيَ ِدهِ َمَلكُوتُ كُلّ َ‬
‫وأنت الذي تقول { فَ ُ‬
‫لرْضُ إِلّ مَا شَاء َر ّبكَ إِنّ َر ّبكَ َفعّالٌ ّلمَا‬
‫سمَاوَاتُ وَا َ‬
‫وأنت الذي تقول { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَا َمتِ ال ّ‬
‫ُيرِيدُ } (‪ )107‬سورة هود‬
‫نعم نقر ونعترف أنه ل يجري شيء في هذا الكون إل بقدر وحكمة علمها من علمها وجهلها‬
‫من جهلها‬
‫شيْءٍ مّنَ‬
‫اللهم إنا نسلم بقضائك كله عرفنا الحكمة أم لم نعرف فأنت الذي تقول { َوَل َن ْبُلوَ ّنكُمْ بِ َ‬
‫ش ِر الصّا ِبرِينَ (‪ )155‬الّذِينَ إِذَا‬
‫ل َموَالِ وَالن ُفسِ وَال ّثمَرَاتِ َوبَ ّ‬
‫الْخَوفْ وَالْجُوعِ َونَقْصٍ مّنَ ا َ‬
‫حمَةٌ‬
‫صلَوَاتٌ مّن ّر ّبهِمْ َورَ ْ‬
‫عَل ْيهِمْ َ‬
‫َأصَا َب ْتهُم ّمصِيبَةٌ قَالُواْ ِإنّا ِللّهِ َوِإنّا ِإَليْهِ رَاجِعونَ (‪ )156‬أُوَل ِئكَ َ‬
‫َوأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُم ْهتَدُونَ} (‪ )157‬سورة البقرة‬
‫اللهم إنا نحتسب عندك فقيدنا الغالي الدكتور عبد العزيز الرنتيسي‬
‫الذي طالما تمنى الشهادة في سبيلك منذ زمان بعيد‬
‫وكأنه قد شعر بدنو أجله ولذلك لم يكن هو رئيس الحركة بعد استشهاد الشيخ أحمد ياسين‬
‫وقد حاول اليهود اللئام اغتياله مرات عديدة ونجاه ال تعالى من كيدهم‬
‫ولكن هذه المرة يصيبون هدفهم ويبطشون به بعد أن بطشوا بالشيخ أحمد ياسين (( عليهما‬
‫شآبيب الرحمة والرضوان )) ولم يمض على استشهاد الشيخ أحمد ثلثة أسابيع‬
‫***************‬

‫‪2‬‬
‫ماذا أقول ؟‬
‫وقد كنت أتابع الحداث عن كثب وكنت أتابع ما يجري في الفلوجة بشيء من السى‬
‫والفرحة السى على وضعنا المزري المخزي الذي يدل على أننا فقدنا كل شيء ولم يبق لنا‬
‫مطمع في أي شيء‬
‫والفرحة بما أبداه أهلنا فيها من الصمود والبسالة وبما قدموه من تضحيات جسام‬
‫وقد قلت إن هؤلء هم أشبه بأهل جنين الصامدة‬
‫فهذا يدل على أن هذه المة لن تموت إنها حية حية حية إلى قيام الساعة‬
‫عبَا ِدنَا َف ِم ْنهُمْ ظَالِمٌ ّلنَفْسِهِ َو ِم ْنهُم مّ ْق َتصِدٌ‬
‫يقول ال تعالى { ثُمّ َأ ْو َر ْثنَا ا ْل ِكتَابَ الّذِينَ اصْطَفَ ْينَا مِنْ ِ‬
‫ن اللّهِ َذِلكَ ُهوَ الْ َفضْلُ ا ْل َكبِيرُ} (‪ )32‬سورة فاطر‬
‫خ ْيرَاتِ بِإِذْ ِ‬
‫َو ِم ْنهُمْ سَابِقٌ بِالْ َ‬
‫يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال ‪:‬‬
‫هذا هو الكتاب في ذاته ‪ .‬وقد أورثه ال لهذه المة المسلمة ‪ ,‬اصطفاها لهذه الوراثة ‪ ,‬كما يقول‬
‫هنا في كتابه‪:‬‬
‫(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) ‪. .‬‬
‫وهي كلمات جديرة بأن توحي لهذه المة بكرامتها على ال ; كما توحي إليها بضخامة التبعة‬
‫الناشئة عن هذا الصطفاء وعن تلك الوراثة ‪ .‬وهي تبعة ضخمة ذات تكاليف ‪ ,‬فهل تسمع المة‬
‫المصطفاة وتستجيب ?‬
‫إن ال سبحانه قد أكرم هذه المة بالصطفاء للوراثة ; ثم أكرمها بفضله في الجزاء حتى لمن‬
‫أساء‪:‬‬
‫(فمنهم ظالم لنفسه ‪ .‬ومنهم مقتصد ‪ .‬ومنهم سابق بالخيرات بإذن ال) ‪. .‬‬
‫فالفريق الول ‪ -‬ولعله ذكر أولً لنه الكثر عددا ‪( -‬ظالم لنفسه) تربى سيئاته في العمل على‬
‫حسناته ‪ .‬والفريق الثاني وسط(مقتصد) تتعادل سيئاته وحسناته ‪ .‬والفريق الثالث (سابق‬
‫بالخيرات بإذن ال) ‪ ,‬تربى حسناته على سيئاته ‪ . .‬ولكن فضل ال شمل الثلثة جميعا ‪ .‬فكلهم‬
‫انتهى إلى الجنة وإلى النعيم الموصوف في اليات التالية ‪ .‬على تفاوت في الدرجات ‪.‬‬
‫ول ندخل هنا في تفصيل أكثر مما أراد القرآن عرضه في هذا الموضع من كرامة هذه المة‬
‫باصطفائها ‪ ,‬وكرم ال سبحانه في جزائها ‪ .‬فهذا هو الظل الذي تلقيه النصوص هنا ‪ ,‬وهي‬

‫‪3‬‬
‫النهاية التي تنتهي إليها هذه المة جيمعا ‪ -‬بفضل ال ‪ -‬ونطوي ما قد يسبق هذه النهاية من‬
‫جزاء مقدر في علم ال ‪.‬‬
‫نطوي هذا الجزاء المبدئي لنخلص إلى ما قدره ال لهذه المة بصنوفها الثلثة من حسن‬
‫الجزاء‪:‬‬
‫(ذلك هو الفضل الكبير ‪ .‬جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم‬
‫فيها حرير ‪ .‬وقالوا‪:‬الحمد ل الذي أذهب عنا الحزن ‪ .‬إن ربنا لغفور شكور ‪ .‬الذي أحلّنا دار‬
‫المقامة من فضله ل يمسنا فيها نصب ول يمسنا فيها لغوب) ‪. .‬‬
‫إن المشهد يتكشف عن نعيم مادي ملموس ‪ ,‬ونعيم نفسي محسوس ‪ .‬فهم (يحلون فيها من أساور‬
‫من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير) ‪ . .‬وذلك بعض المتاع ذي المظهر المادي ‪ ,‬الذي يلبي‬
‫بعض رغائب النفوس ‪ .‬وبجانبه ذلك الرضا وذلك المن وذلك الطمئنان‪( :‬وقالوا الحمد ل‬
‫الذي أذهب عنا الحزن) ‪ . .‬والدنيا بما فيها من‬
‫قلق على المصير ‪ ,‬ومعاناة للمور تعد حزنا بالقياس إلى هذا النعيم المقيم ‪ .‬والقلق يوم الحشر‬
‫على المصير مصدر حزن كبير ‪( .‬إن ربنا لغفور شكور) ‪ . .‬غفر لنا وشكر لنا أعمالنا بما‬
‫جازانا عليها ‪( .‬الذي أحلّنا دار المقامة) ‪ . .‬للقامة والستقرار (من فضله) فما لنا عليه من‬
‫حق ‪ ,‬إنما هو الفضل يعطيه من يشاء ‪( .‬ل يمسنا فيها نصب ول يمسنا فيها لغوب) ‪ . .‬بل‬
‫يجتمع لنا فيها النعيم والراحة والطمئنان ‪.‬‬
‫فالجو كله يسر وراحة ونعيم ‪ .‬واللفاظ مختارة لتتسق بجرسها وإيقاعها مع هذا الجو الحاني‬
‫الرحيم ‪ .‬حتى "الحزن" ل يتكأ عليه بالسكون الجازم ‪ .‬بل يقال "الحزَن" بالتسهيل والتخفيف ‪.‬‬
‫والجنة (دار المقامة) ‪ .‬والنصب واللغوب ل يمسانهم مجرد مساس ‪ .‬واليقاع الموسيقي للتعبير‬
‫كله هادىء ناعم رتيب ‪.‬‬
‫******************‬
‫ولكن لماذا يجري ما يجري علينا من نكبات ؟‬
‫س ْتهُمُ ا ْلبَأْسَاء‬
‫خَل ْواْ مِن َق ْبِلكُم مّ ّ‬
‫جنّةَ َوَلمّا يَ ْأ ِتكُم ّمثَلُ الّذِينَ َ‬
‫خلُواْ الْ َ‬
‫س ْبتُمْ أَن تَدْ ُ‬
‫يقول ال تعالى { أَمْ حَ ِ‬
‫ص ُر اللّهِ أَل إِنّ َنصْ َر اللّهِ َقرِيبٌ}‬
‫ل الرّسُولُ وَالّذِينَ آ َمنُواْ َمعَهُ َمتَى َن ْ‬
‫حتّى يَقُو َ‬
‫ضرّاء َو ُز ْلزِلُواْ َ‬
‫وَال ّ‬
‫(‪ )214‬سورة البقرة‬
‫يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال ‪:‬‬

‫‪4‬‬
‫هكذا خاطب ال الجماعة المسلمة الولى ‪ ,‬وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها ‪,‬‬
‫وإلى سنته ‪ -‬سبحانه ‪ -‬في تربية عباده المختارين ‪ ,‬الذين يكل إليهم رايته ‪ ,‬وينوط بهم أمانته‬
‫في الرض ومنهجه وشريعته ‪ .‬وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم ‪. .‬‬
‫وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة ‪ . .‬إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه ‪ .‬من‬
‫الرسول الموصول بال ‪ ,‬والمؤمنين الذين آمنوا بال ‪ .‬إن سؤالهم‪( :‬متى نصر ال ?) ليصور‬
‫مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة ‪ .‬ولن تكون إل محنة فوق الوصف ‪ ,‬تلقي‬
‫ظللها على مثل هاتيك القلوب ‪ ,‬فتبعث منها ذلك السؤال المكروب‪( :‬متى نصر ال ?) ‪. .‬‬
‫وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة ‪ . .‬عندئذ تتم كلمة ال ‪ ,‬ويجيء النصر من‬
‫ال‪:‬‬
‫(أل إن نصر ال قريب) ‪. .‬‬
‫إنه مدخر لمن يستحقونه ‪ .‬ولن يستحقه إل الذين يثبتون حتى النهاية ‪ .‬الذين يثبتون على البأساء‬
‫والضراء ‪ .‬الذين يصمدون للزلزلة ‪ .‬الذين ل يحنون رؤوسهم للعاصفة ‪ .‬الذين يستيقنون أن ل‬
‫نصر إل نصر ال ‪ ,‬وعندما يشاء ال ‪ .‬وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها ‪ ,‬فهم يتطلعون فحسب‬
‫إلى (نصر ال) ‪ ,‬ل إلى أي حل آخر ‪ ,‬ول إلى أي نصر ل يجيء من عند ال ‪ .‬ول نصر إل‬
‫من عند ال ‪.‬‬
‫بهذا يدخل المؤمنون الجنة ‪ ,‬مستحقين لها ‪ ,‬جديرين بها ‪ ,‬بعد الجهاد والمتحان ‪ ,‬والصبر‬
‫والثبات ‪ ,‬والتجرد ل وحده ‪ ,‬والشعور به وحده ‪ ,‬وإغفال كل ما سواه وكل من سواه ‪.‬‬
‫إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة ‪ ,‬ويرفعها على ذواتها ‪ ,‬ويطهرها في بوتقة اللم ‪,‬‬
‫فيصفو عنصرها ويضيء ‪ ,‬ويهب العقيدة عمقا وقوة وحيوية ‪ ,‬فتتلل حتى في أعين أعدائها‬
‫وخصومها ‪ .‬وعندئذ يدخلون في دين ال أفواجا كما وقع ‪ ,‬وكما يقع في كل قضية حق ‪ ,‬يلقي‬
‫أصحابها ما يلقون في أول الطريق ‪ ,‬حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم‬
‫وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين ‪. .‬‬
‫على أنه ‪ -‬حتى إذا لم يقع هذا ‪ -‬يقع ما هو أعظم منه في حقيقته ‪ .‬يقع أن ترتفع أرواح‬
‫أصحاب الدعوة على كل قوى الرض وشرورها وفتنتها ‪ ,‬وأن تنطلق من إسار الحرص على‬
‫الدعة والراحة ‪ ,‬والحرص على الحياة نفسها في النهاية ‪ . .‬وهذا النطلق كسب للبشرية كلها ‪,‬‬

‫‪5‬‬
‫وكسب للرواح التي تصل إليه عن طريق الستعلء ‪ .‬كسب يرجح جميع اللم وجميع البأساء‬
‫والضراء التي يعانيها المؤمنون ‪ ,‬والمؤتمنون على راية ال وأمانته ودينه وشريعته ‪.‬‬
‫وهذا النطلق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف ‪ . .‬وهذا هو الطريق ‪. .‬‬
‫هذا هو الطريق كما يصفه ال للجماعة المسلمة الولى ‪ ,‬وللجماعة المسلمة في كل جيل ‪.‬‬
‫هذا هو الطريق‪:‬إيمان وجهاد ‪ . .‬ومحنة وابتلء ‪ .‬وصبر وثبات ‪ . .‬وتوجه إلى ال وحده ‪ .‬ثم‬
‫يجيء النصر ‪ .‬ثم يجيء النعيم ‪. .‬‬
‫**************‬
‫ح َزنُوا َوأَنتُمُ‬
‫ويقول تعالى ‪ { :‬هَـذَا َبيَانٌ لّلنّاسِ وَهُدًى َو َموْعِظَةٌ ّل ْل ُمتّقِينَ (‪ )138‬وَلَ َت ِهنُوا وَلَ تَ ْ‬
‫سكُمْ َقرْحٌ فَقَدْ َمسّ الْ َقوْمَ َقرْحٌ ّم ْثلُهُ َو ِت ْلكَ اليّامُ نُدَا ِوُلهَا‬
‫عَلوْنَ إِن كُنتُم ّم ْؤ ِمنِينَ (‪ )139‬إِن َيمْسَ ْ‬
‫الَ ْ‬
‫حبّ الظّاِلمِينَ (‪َ )140‬وِل ُيمَحّصَ‬
‫شهَدَاء وَاللّهُ لَ يُ ِ‬
‫َبيْنَ النّاسِ َوِل َي ْعلَ َم اللّهُ الّذِينَ آ َمنُواْ َو َيتّخِذَ مِنكُمْ ُ‬
‫جنّةَ َوَلمّا َي ْعلَ ِم اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُواْ‬
‫خلُواْ الْ َ‬
‫س ْبتُمْ أَن تَدْ ُ‬
‫اللّهُ الّذِينَ آ َمنُواْ َو َيمْحَقَ ا ْلكَا ِفرِينَ (‪ )141‬أَمْ حَ ِ‬
‫مِنكُمْ َو َي ْعلَمَ الصّا ِبرِينَ (‪َ )142‬ولَقَدْ كُنتُمْ َت َم ّنوْنَ ا ْل َم ْوتَ مِن َقبْلِ أَن َتلْ َق ْوهُ فَقَدْ َرَأ ْي ُتمُوهُ َوأَنتُمْ‬
‫علَى‬
‫خَلتْ مِن َق ْبلِ ِه الرّسُلُ أَفَإِن مّاتَ َأوْ ُقتِلَ ان َقَلبْتُمْ َ‬
‫حمّدٌ إِلّ رَسُولٌ قَدْ َ‬
‫ظرُونَ (‪َ )143‬ومَا مُ َ‬
‫تَن ُ‬
‫جزِي اللّهُ الشّا ِكرِينَ (‪َ )144‬ومَا كَانَ‬
‫سيَ ْ‬
‫ش ْيئًا وَ َ‬
‫ض ّر اللّهَ َ‬
‫عَلىَ عَ ِق َبيْهِ َفلَن َي ُ‬
‫أَعْقَا ِبكُمْ َومَن يَن َقِلبْ َ‬
‫خ َرةِ‬
‫ِلنَ ْفسٍ أَنْ َتمُوتَ إِلّ بِإِذْنِ ال ِكتَابًا ّمؤَجّلً َومَن ُيرِدْ َثوَابَ ال ّد ْنيَا ُن ْؤتِهِ ِم ْنهَا َومَن ُيرِدْ َثوَابَ ال ِ‬
‫جزِي الشّا ِكرِينَ (‪َ )145‬وكََأيّن مّن ّن ِبيّ قَاتَلَ َمعَهُ ِر ّبيّونَ َكثِيرٌ َفمَا وَ َهنُواْ ِلمَا‬
‫سنَ ْ‬
‫ُن ْؤتِهِ ِم ْنهَا وَ َ‬
‫ب الصّا ِبرِينَ (‪َ )146‬ومَا كَانَ َق ْوَلهُمْ إِلّ‬
‫ح ّ‬
‫س َتكَانُواْ وَاللّهُ يُ ِ‬
‫ضعُفُواْ َومَا ا ْ‬
‫ل اللّهِ َومَا َ‬
‫سبِي ِ‬
‫َأصَا َبهُمْ فِي َ‬
‫علَى الْ َقوْمِ ا ْلكَا ِفرِينَ (‬
‫ص ْرنَا َ‬
‫سرَا َفنَا فِي َأ ْم ِرنَا َو َث ّبتْ أَقْدَا َمنَا وان ُ‬
‫أَن قَالُواْ ر ّبنَا اغْ ِفرْ َلنَا ُذنُو َبنَا َوإِ ْ‬
‫سنِينَ (‪ } )148‬سورة آل‬
‫حبّ ا ْلمُحْ ِ‬
‫خ َرةِ وَاللّهُ يُ ِ‬
‫‪ )147‬فَآتَاهُمُ اللّهُ َثوَابَ ال ّد ْنيَا وَحُسْنَ َثوَابِ ال ِ‬
‫عمران‬
‫يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال ‪:‬‬
‫ل تهنوا ‪ -‬من الوهن والضعف ‪ -‬ول تحزنوا ‪ -‬لما أصابكم ولما فاتكم ‪ -‬وأنتم العلون ‪. .‬‬
‫عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون ل وحده ‪ ,‬وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه !‬
‫ومنهجكم أعلى ‪ .‬فأنتم تسيرون على منهج من صنع ال ‪ ,‬وهم يسيرون على منهج من صنع‬
‫خلق ال ! ودوركم أعلى ‪ .‬فأنتم الوصياء على هذه البشرية كلها ‪ ,‬الهداة لهذه البشرية كلها ‪,‬‬
‫وهم شاردون عن النهج ‪ ,‬ضالون عن الطريق ‪ .‬ومكانكم في الرض أعلى ‪ ,‬فلكم وراثة‬

‫‪6‬‬
‫الرض التي وعدكم ال بها ‪ ,‬وهم إلى الفناء والنسيان صائرون ‪ . .‬فإن كنتم مؤمنين حقا فأنتم‬
‫العلون ‪ .‬وإن كنتم مؤمنين حقا فل تهنوا ول تحزنوا ‪ .‬فإنما هي سنة ال أن تصابوا وتصيبوا‬
‫‪ ,‬على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والبتلء والتمحيص‪:‬‬
‫(إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ‪ .‬وتلك اليام نداولها بين الناس ‪ .‬وليعلم ال الذين‬
‫آمنوا ‪ ,‬ويتخذ منكم شهداء ‪ .‬وال ل يحب الظالمين ‪ .‬وليمحص ال الذين آمنوا ويمحق‬
‫الكافرين) ‪. .‬‬
‫وذكر القرح الذي أصابهم وأصاب المكذبين قرح مثله ‪ ,‬قد يكون إشارة إلى غزوة بدر ‪ .‬وقد‬
‫مس القرح فيها المشركين وسلم المسلمون ‪ .‬وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد ‪ .‬وقد انتصر فيها‬
‫المسلمون في أول المر ‪ .‬حتى هزم المشركون وقتل منهم سبعون ‪ ,‬وتابعهم المسلمون‬
‫يضربون أقفيتهم حتى لقد سقط علم المشركين في ثنايا المعركة فلم يتقدم إليه منهم أحد ‪ .‬حتى‬
‫رفعته لهم امرأة فلثوا بها وتجمعوا عليها ‪ . .‬ثم كانت الدولة للمشركين ‪ ,‬حينما خرج الرماة‬
‫على أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم واختلفوا فيما بينهم ‪ .‬فأصاب المسلمين ما أصابهم في‬
‫نهاية المعركة ‪ .‬جزاء وفاقا لهذا الختلف وذلك الخروج ‪ ,‬وتحقيقا لسنة من سنن ال التي ل‬
‫تتخلف ‪ ,‬إذ كان اختلف الرماة وخروجهم ناشئين من الطمع في الغنيمة ‪ .‬وال قد كتب النصر‬
‫في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله ‪ ,‬ل ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد‬
‫‪ .‬وتحقيقا كذلك لسنة أخرى من سنن ال في الرض ‪ ,‬وهي مداولة اليام بين الناس ‪ -‬وفقا لما‬
‫يبدو من عمل الناس ونيتهم ‪ -‬فتكون لهؤلء يوما ولولئك يوما ‪ .‬ومن ثم يتبين المؤمنون‬
‫ويتبين المنافقون ‪ .‬كما تتكشف الخطاء ‪ .‬وينجلي الغبش ‪.‬‬
‫(إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ‪ .‬وتلك اليام نداولها بين الناس ‪ . .‬وليعلم ال الذين‬
‫آمنوا) ‪. .‬‬
‫إن الشدة بعد الرخاء ‪ ,‬والرخاء بعد الشدة ‪ ,‬هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس ‪ ,‬وطبائع‬
‫القلوب ‪ ,‬ودرجة الغبش فيها والصفاء ‪ ,‬ودرجة الهلع فيها والصبر ‪ ,‬ودرجة الثقة فيها بال أو‬
‫القنوط ‪ ,‬ودرجة الستسلم فيها لقدر ال أو البرم به والجموح !‬
‫عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن‪:‬مؤمنين ومنافقين ‪ ,‬ويظهر هؤلء وهؤلء على حقيقتهم ‪,‬‬
‫وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم ‪ .‬ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ‬
‫من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده ‪ ,‬وهم مختلطون مبهمون !‬

‫‪7‬‬
‫وال سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين ‪ .‬وال سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور ‪ .‬ولكن‬
‫الحداث ومداولة اليام بين الناس تكشف المخبوء ‪ ,‬وتجعله واقعا في حياة الناس ‪ ,‬وتحول‬
‫اليمان إلى عمل ظاهر ‪ ,‬وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر ‪ ,‬ومن ثم يتعلق به الحساب‬
‫والجزاء ‪ .‬فال سبحانه ل يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه‬
‫منهم ‪.‬‬
‫ومداولة اليام ‪ ,‬وتعاقب الشدة والرخاء ‪ ,‬محك ل يخطىء ‪ ,‬وميزان ل يظلم ‪ .‬والرخاء في هذا‬
‫كالشدة ‪ .‬وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك ‪ ,‬ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل ‪ .‬والنفس‬
‫المؤمنة هي التي تصبر للضراء ول تستخفها السراء ‪ ,‬وتتجه إلى ال في الحالين ‪ ,‬وتوقن أن ما‬
‫أصابها من الخير والشر فبإذن ال ‪.‬‬
‫وقد كان ال يربي هذه الجماعة ‪ -‬وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية ‪ -‬فرباها بهذا‬
‫البتلء بالشدة بعد البتلء بالرخاء ‪ ,‬والبتلء بالهزيمة المريرة بعد البتلء بالنصر العجيب ‪-‬‬
‫وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن ال الجارية في النصر والهزيمة ‪ .‬لتتعلم‬
‫هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة ‪ .‬ولتزيد طاعة ل ‪ ,‬وتوكل عليه ‪ ,‬والتصاقا بركنه ‪.‬‬
‫ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين ‪.‬‬
‫ويمضي السياق يكشف للمة المسلمة عن جوانب من حكمة ال فيما وقع من أحداث المعركة ‪,‬‬
‫وفيما وراء مداولة اليام بين الناس ‪ ,‬وفيما بعد تمييز الصفوف ‪ ,‬وعلم ال للمؤمنين‪:‬‬
‫(ويتخذ منكم شهداء) ‪. .‬‬
‫وهو تعبير عجيب عن معنى عميق ‪ -‬إن الشهداء لمختارون ‪ .‬يختارهم ال من بين المجاهدين ‪,‬‬
‫ويتخذهم لنفسه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬فما هي رزية إذن ول خسارة أن يستشهد في سبيل ال من يستشهد‬
‫‪ .‬إنما هو اختيار وانتقاء ‪ ,‬وتكريم واختصاص ‪ . .‬إن هؤلء هم الذين اختصهم ال ورزقهم‬
‫الشهادة ‪ ,‬ليستخلصهم لنفسه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬ويخصهم بقربه ‪.‬‬
‫ثم هم شهداء يتخذهم ال ‪ ,‬ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس ‪ .‬يستشهدهم فيؤدون‬
‫الشهادة ‪ .‬يؤدونها أداء ل شبهة فيه ‪ ,‬ول مطعن عليه ‪ ,‬ول جدال حوله ‪ .‬يؤدونها بجهادهم حتى‬
‫الموت في سبيل إحقاق هذا الحق ‪ ,‬وتقريره في دنيا الناس ‪ .‬يطلب ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬منهم أداء‬
‫هذه الشهادة ‪ ,‬على أن ما جاءهم من عنده الحق ; وعلى أنهم آمنوا به ‪ ,‬وتجردوا له ‪ ,‬وأعزوه‬
‫حتى أرخصوا كل شيء دونه ; وعلى أن حياة الناس ل تصلح ول تستقيم إل بهذا الحق ; وعلى‬

‫‪8‬‬
‫أنهم هم استيقنوا هذا ‪ ,‬فلم يألوا جهدا في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس ‪ ,‬وإقرار هذا الحق‬
‫في عالمهم وتحقيق منهج ال في حكم الناس ‪ . .‬يستشهدهم ال على هذا كله فيشهدون ‪ .‬وتكون‬
‫شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت ‪ .‬وهي شهادة ل تقبل الجدال والمحال !‬
‫وكل من ينطق بالشهادتين‪:‬شهادة أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال ‪ .‬ل يقال له أنه شهد ‪,‬‬
‫إل أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها ‪ .‬ومدلولها هو أل يتخذ إل ال إلها ‪ .‬ومن ثم ل‬
‫يتلقى الشريعة إل منال ‪ .‬فأخص خصائص اللوهية التشريع للعباد ; وأخص خصائص العبودية‬
‫التلقي من ال ‪ . .‬ومدلولها كذلك أل يتلقى من ال إل عن محمد بما أنه رسول ال ‪ .‬ول يعتمد‬
‫مصدرا آخر للتلقي إل هذا المصدر ‪. .‬‬
‫ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح اللوهية ل وحده في الرض ‪ ,‬كما بلغها محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم فيصبح المنهج الذي أراده ال للناس ‪ ,‬والذي بلغه عنه محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم هو المنهج السائد والغالب والمطاع ‪ ,‬وهو النظام الذي يصرف حياة الناس كلها بل‬
‫استثاء ‪.‬‬
‫فإذا اقتضى هذا المر أن يموت في سبيله ‪ ,‬فهو إذن شهيد ‪ .‬أي شاهد طلب ال إليه أداء هذه‬
‫الشهادة فأداها ‪ .‬واتخذه ال شهيدا ‪ . .‬ورزقه هذا المقام ‪.‬‬
‫هذا فقه ذلك التعبير العجيب‪:‬‬
‫(ويتخذ منكم شهداء ‪. . ). .‬‬
‫وهو مدلول شهادة أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال ‪ ,‬ومقتضاه ‪ . .‬ل ما انتهى إليه مدلول‬
‫هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع !‬
‫(وال ل يحب الظالمين) ‪. .‬‬
‫والظلم كثيرا ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك ‪ .‬بوصفه أظلم الظلم وأقبحه ‪ .‬وفي القرآن‪:‬‬
‫(إن الشرك لظلم عظيم) ‪ . .‬وفي الصحيحين عن ابن مسعود‪:‬أنه قال‪:‬قلت‪:‬يا رسول ال ‪ .‬أي‬
‫الذنب أعظم ? قال‪ ":‬أن تجعل ل ندا وهو خلقك ‪. . " . . .‬‬
‫وقد أشار السياق من قبل إلى سنة ال في المكذبين ; فالن يقرر أن ال ل يحب الظالمين ‪ .‬فهو‬
‫توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين ل يحبهم ال ‪ .‬والتعبير بأن‬
‫ال ل يحب الظالمين ‪ ,‬يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين ‪ .‬وهذه الثارة في‬
‫معرض الحديث عن الجهاد والستشهاد ‪ ,‬لها مناسبتها الحاضرة ‪ .‬فالمؤمن إنما يبذل نفسه في‬

‫‪9‬‬
‫مكافحة ما يكرهه ال ومن يكرهه ‪ .‬وهذا هو مقام الستشهاد ‪ ,‬وفي هذا تكون الشهادة ; ومن‬
‫هؤلء يتخذ ال الشهداء ‪. .‬‬
‫ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الحداث ‪ ,‬في تربية المة المسلمة‬
‫وتمحيصها وإعدادها لدورها العلى ‪ ,‬ولتكون أداة من أدوات قدره في محق الكافرين ‪ ,‬وستارا‬
‫لقدرته في هلك المكذبين‪:‬‬
‫(وليمحص ال الذين آمنوا ويمحق الكافرين) ‪. .‬‬
‫والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز ‪ .‬التمحيص عملية تتم في داخل النفس ‪ ,‬وفي مكنون‬
‫الضمير ‪ . .‬إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية ‪ ,‬وتسليط الضوء على هذه المكنونات ‪.‬‬
‫تمهيدا لخراج الدخل والدغل والوشاب ‪ ,‬وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق ‪ ,‬بل غبش‬
‫ول ضباب ‪. .‬‬
‫وكثيرا ما يجهل النسان نفسه ‪ ,‬ومخابئها ودروبها ومنحنياتها ‪ .‬وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها‬
‫وقوتها ‪ ,‬وحقيقة ما استكن فيها من رواسب ‪ ,‬ل تظهر إل بمثير !‬
‫وفي هذا التمحيص الذي يتوله ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬بمداولة اليام بين الناس بين الشدة والرخاء ‪,‬‬
‫يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير‪:‬محك الحداث والتجارب‬
‫والمواقف العملية الواقعية ‪.‬‬
‫ولقد يظن النسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلص من الشح والحرص ‪ . .‬ثم إذا‬
‫هو يكشف ‪ -‬على ضوء التجربة العملية ‪ ,‬وفي مواجهة الحداث الواقعية ‪ -‬إن في نفسه عقابيل‬
‫لم تمحص ‪ .‬وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط ! ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه ‪,‬‬
‫ليعاود المحاولة في سبكها من جديد ‪ ,‬على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة ‪,‬‬
‫وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة !‬
‫وال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية ‪ ,‬وكان يريد بها أمرا في هذه‬
‫الرض ‪ .‬فمحصها هذا التمحيص ‪ ,‬الذي تكشفت عنه الحداث في أحد ‪ ,‬لترتفع إلى مستوى‬
‫الدور المقدر لها ‪ ,‬وليتحقق على يديها قدر ال الذي ناطه بها‪:‬‬
‫(ويمحق الكافرين) ‪. .‬‬
‫تحقيقا لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق ‪ ,‬وخلص من الشوائب بالتمحيص ‪. .‬‬

‫‪10‬‬
‫وفي سؤال استنكاري يصحح القرآن تصورات المسلمين عن سنة ال في الدعوات ‪ ,‬وفي‬
‫النصر والهزيمة ‪ ,‬وفي العمل والجزاء ‪ .‬ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره ‪ ,‬وزاده‬
‫الصبر على مشاق الطريق ‪ ,‬وليس زاده التمني والماني الطائرة التي ل تثبت على المعاناة‬
‫والتمحيص‪:‬‬
‫(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ‪ ,‬ولما يعلم ال الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ‪ .‬ولقد كنتم‬
‫تمنون الموت من قبل أن تلقوه ‪ .‬فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) ‪. .‬‬
‫إن صيغة السؤال الستنكارية يقصد بها إلى التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور‪:‬تصور أنه يكفي‬
‫النسان أن يقولها كلمة باللسان‪:‬أسلمت وأنا على استعداد للموت ‪ .‬فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي‬
‫تكاليف اليمان ‪ ,‬وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان !‬
‫إنما هي التجربة الواقعية ‪ ,‬والمتحان العملي ‪ .‬وإنما هو الجهاد وملقاة البلء ‪ ,‬ثم الصبر على‬
‫تكاليف الجهاد ‪ ,‬وعلى معاناة البلء ‪.‬‬
‫وفي النص القرآني لفتة ذات مغزى‪:‬‬
‫(ولما يعلم ال الذين جاهدوا منكم) ‪( . .‬ويعلم الصابرين) ‪. .‬‬
‫فل يكفي أن يجاهد المؤمنون ‪ .‬إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضا ‪ .‬التكاليف‬
‫المستمرة المتنوعة التي ل تقف عند الجهاد في الميدان ‪ .‬فربما كان الجهاد في الميدان أخف‬
‫تكاليف هذه الدعوة التي يطلب لها الصبر ‪ ,‬ويختبر بها اليمان ‪ .‬إنما هنالك المعاناة اليومية‬
‫التي ل تنتهي‪:‬معاناة الستقامة على أفق اليمان ‪ .‬والستقرار على مقتضياته في الشعور‬
‫والسلوك ‪ ,‬والصبر في أثناء ذلك على الضعف النساني‪:‬في النفس وفي الغير ‪ ,‬ممن يتعامل‬
‫معهم المؤمن في حياته اليومية ‪ .‬والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو‬
‫كالمنتصر ! والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات ‪ .‬والصبر على وسوسة‬
‫الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال ‪ . .‬والصبر على أشياء كثيرة ليس‬
‫الجهاد في الميدان إل واحدا منها ‪ ,‬في الطريق المحفوف بالمكاره ‪ .‬طريق الجنة التي ل تنال‬
‫بالماني وبكلمات اللسان !‬
‫(ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه ‪ .‬فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) ‪. .‬‬
‫وهكذا يقفهم السياق وجها لوجه مرة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة ‪ ,‬وقد كانوا‬
‫من قبل يتمنون لقاءه ‪ .‬ليوازنوا في حسهم بين وزن الكلمة يقولها اللسان ‪ ,‬ووزن الحقيقة‬

‫‪11‬‬
‫يواجهها في العيان ‪ .‬فيعلمهم بهذا أن يحسبوا حسابا لكل كلمة تطلقها السنتهم ‪ ,‬ويزنوا حقيقة‬
‫رصيدها الواقعي في نفوسهم ‪ ,‬على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم ! وبذلك‬
‫يقدرون قيمة الكلمة ‪ ,‬وقيمة المنية ‪ ,‬وقيمة الوعد ‪ ,‬في ضوء الواقع الثقيل ! ثم يعلمهم أن‬
‫ليست الكلمات الطائرة ‪ ,‬والماني المرفرفة هي التي تبلغهم الجنة ‪ ,‬إنما هو تحقيق الكلمة ‪,‬‬
‫وتجسيم المنية ‪ ,‬والجهاد الحقيقي ‪ ,‬والصبر على المعاناة ‪ .‬حتى يعلم ال منهم ذلك كله واقعا‬
‫كائنا في دنيا الناس !‬
‫ولقد كان ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬قادرا على أن يمنح النصر لنبيه ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة‬
‫الولى ‪ ,‬وبل كد من المؤمنين ول عناء ‪ .‬وكان قادرا أن ينزل الملئكة تقاتل معهم ‪ -‬أو‬
‫بدونهم ‪ -‬وتدمر على المشركين ‪ ,‬كما دمرت على عاد وثمود وقوم لوط ‪. .‬‬
‫ولكن المسألة ليست هي النصر ‪ . .‬إنما هي تربية الجماعة المسلمة ‪ ,‬التي تعد لتتسلم قيادة‬
‫البشرية ‪ . .‬البشرية بكل ضعفها ونقصها ; وبكل شهواتها ونزواتها ; وبكل جاهليتها وانحرافها‬
‫‪ . .‬وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعدادا عاليا من القادة ‪ .‬وأول ما تقتضيه صلبة في الخلق ‪,‬‬
‫وثبات على الحق ‪ ,‬وصبر على المعاناة ‪ ,‬ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس‬
‫البشرية ‪ ,‬وخبرة بمواطن الزلل ودواعي النحراف ‪ ,‬ووسائل العلج ‪ . .‬ثم صبر على الرخاء‬
‫كالصبر على الشدة ‪ .‬وصبر على الشدة بعد الرخاء ‪ .‬وطعمها يومئذ لذع مرير ! ‪. .‬‬
‫وهذه التربية هي التي يأخذ ال بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة ‪ ,‬ليعدها‬
‫بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق ‪ ,‬الذي ينوطه بها في هذه الرض ‪ .‬وقد شاء ‪ -‬سبحانه‬
‫‪ -‬أن يجعل هذا الدور من نصيب "النسان" الذي استخلفه في هذا الملك العريض !‬
‫وقدر ال في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه ‪ ,‬بشتى السباب والوسائل ‪,‬‬
‫وشتى الملبسات والوقائع ‪ . .‬يمضي أحيانا عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة ‪,‬‬
‫فتستبشر ‪ ,‬وترتفع ثقتها بنفسها ‪ -‬في ظل العون اللهي ‪ -‬وتجرب لذة النصر ‪ ,‬وتصبر على‬
‫نشوته ‪ ,‬وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلء ‪ ,‬وعلى التزام التواضع والشكر‬
‫ل ‪ . .‬ويمضي أحيانا عن طريق الهزيمة والكرب والشدة ‪ .‬فتلجأ إلى ال ‪ ,‬وتعرف حقيقة قوتها‬
‫الذاتية ‪ ,‬وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج ال ‪ .‬وتجرب مرارة الهزيمة ; وتستعلي‬
‫مع ذلك على الباطل ‪ ,‬بما عندها من الحق المجرد ; وتعرف مواضع نقصها وضعفها ‪ ,‬ومداخل‬

‫‪12‬‬
‫شهواتها ‪ ,‬ومزالق أقدامها ; فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة ‪ . .‬وتخرج من‬
‫النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد ‪ . .‬ويمضي قدر ال وفق سنته ل يتخلف ول يحيد ‪. .‬‬
‫وقد كان هذا كله طرفا من رصيد معركة أحد ; الذي يحشده السياق القرآني للجماعة المسملة ‪-‬‬
‫على نحو ما نرى في هذه اليات ‪ -‬وهو رصيد مدخر لكل جماعة مسلمة ولكل جيل من أجيال‬
‫المسلمين ‪.‬‬
‫ثم يمضي السياق في تقرير حقائق التصور السلمي الكبيرة ; وفي تربية الجماعة المسلمة بهذه‬
‫الحقائق ; متخذا من أحداث المعركة محورا لتقرير تلك الحقائق ; ووسيلة لتربية الجماعة‬
‫المسلمة بها على طريقة المنهج القرآني الفريد‪:‬‬
‫(وما محمد إل رسول قد خلت من قبله الرسل ‪ .‬أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ? ومن‬
‫ينقلب على عقبيه فلن يضر ال شيئا ; وسيجزي ال الشاكرين ‪ .‬وما كان لنفس أن تموت إل‬
‫بإذن ال كتابا مؤجل ; ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ‪ ,‬ومن يرد ثواب الخرة نؤته منها ;‬
‫وسنجزي الشاكرين ‪ .‬وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ‪ ,‬فما وهنوا لما أصابهم في سبيل‬
‫ال ‪ ,‬وما ضعفوا وما استكانوا ‪ ,‬وال يحب الصابرين ‪ .‬وما كان قولهم إل أن قالوا‪:‬ربنا اغفر‬
‫لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ‪ ,‬وثبت أقدامنا ‪ ,‬وانصرنا على القوم الكافرين ‪ .‬فآتاهم ال ثواب‬
‫الدنيا وحسن ثواب الخرة ‪ ,‬وال يحب المحسنين) ‪. .‬‬
‫إن الية الولى في هذه الفقرة تشير إلى واقعة معينة ‪ ,‬حدثت في غزوة أحد ‪ .‬ذلك حين انكشف‬
‫ظهر المسلمين بعد أن ترك الرماة أماكنهم من الجبل ‪ ,‬فركبه المشركون ‪ ,‬وأوقعوا بالمسلمين ‪,‬‬
‫وكسرت رباعية الرسول صلى ال عليه وسلم وشج وجهه ‪ ,‬ونزفت جراحه ; وحين اختلطت‬
‫المور ‪ ,‬وتفرق المسلمون ‪ ,‬ل يدري أحدهم مكان الخر ‪ . .‬حينئذ نادى مناد‪:‬إن محمدا قد قتل‬
‫‪ . .‬وكان لهذه الصيحة وقعها الشديد على المسلمين ‪ .‬فانقلب الكثيرون منهم عائدين إلى المدينة‬
‫‪ ,‬مصعدين في الجبل منهزمين ‪ ,‬تاركين المعركة يائسين ‪ . .‬لول أن ثبت رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم في تلك القلة من الرجال ; وجعل ينادي المسلمين وهم منقلبون ‪ ,‬حتى فاءوا إليه ‪,‬‬
‫وثبت ال قلوبهم ‪ ,‬وأنزل عليهم النعاس امنة منه وطمأنينة ‪ . .‬كما سيجيء ‪. .‬‬
‫فهذه الحادثة التي أذهلتهم هذا الذهول ‪ ,‬يتخذها القرآن هنا مادة للتوجيه ‪ ,‬ومناسبة لتقرير حقائق‬
‫التصور السلمي ; ويجعلها محورا لشارات موحية في حقيقة الموت وحقيقة الحياة ‪ ,‬وفي‬
‫تاريخ اليمان ومواكب المؤمنين‪:‬‬

‫‪13‬‬
‫(وما محمد إل رسول قد خلت من قبله الرسل ‪ .‬أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ? ومن‬
‫ينقلب على عقبيه فلن يضر ال شيئا ‪ .‬وسيجزي ال الشاكرين) ‪. .‬‬
‫إن محمدا ليس إل رسول ‪ .‬سبقته الرسل ‪ .‬وقد مات الرسل ‪ .‬ومحمد سيموت كما مات الرسل‬
‫قبله ‪ . .‬هذه حقيقة أولية بسيطة ‪ .‬فما بالكم غفلتم عنها حينما واجهتكم في المعركة ?‬
‫إن محمدا رسول من عند ال ‪ ,‬جاء ليبلغ كلمة ال ‪ .‬وال باق ل يموت ‪ ,‬وكلمته باقية ل تموت‬
‫‪ . .‬وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو‬
‫قتل ‪ . .‬وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول ‪ .‬وما ينبغي للمؤمنين أن‬
‫يغفلوا عن هذه الحقيقة الولية البسيطة !‬
‫إن البشر إلى فناء ‪ ,‬والعقيدة إلى بقاء ‪ ,‬ومنهج ال للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه‬
‫ويؤدونه إلى الناس ‪ ,‬من الرسل والدعاة على مدار التاريخ ‪ . .‬والمسلم الذي يحب رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في‬
‫تاريخها كله نظيرا ‪ .‬الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة ‪ .‬وقد رأينا أبا دجانة‬
‫يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ول يتحرك ! ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه‬
‫ويستشهدون واحدا إثر واحد ‪ . .‬وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك‬
‫الحب العجيب بكل كيانهم ‪ ,‬وبكل مشاعرهم ‪ ,‬حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ . .‬هذا المسلم الذي يحب محمدا ذلك الحب ‪ ,‬مطلوب منه أن يفرق بين شخص‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده ‪ ,‬باقية ممتدة موصولة‬
‫بال الذي ل يموت ‪.‬‬
‫إن الدعوة أقدم من الداعية‪:‬‬
‫(وما محمد إل رسول قد خلت من قبله الرسل) ‪. .‬‬
‫قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن ‪ ,‬العميقة في منابت‬
‫التاريخ ‪ ,‬المبتدئة مع البشرية ‪ ,‬تحدو لها بالهدى والسلم من مطالع الطريق ‪.‬‬
‫وهي أكبر من الداعية ‪ ,‬وأبقى من الداعية ‪ .‬فدعاتها يجيئون ويذهبون ‪ ,‬وتبقى هي على الجيال‬
‫والقرون ‪ ,‬ويبقى اتباعها موصولين بمصدرها الول ‪ ,‬الذي أرسل بها الرسل ‪ ,‬وهو باق ‪-‬‬
‫سبحانه ‪ -‬يتوجه إليه المؤمنون ‪ . .‬وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه ‪ ,‬ويرتد عن هدى‬
‫ال ‪ .‬وال حي ل يموت‪:‬‬

‫‪14‬‬
‫ومن ثم هذا الستنكار ‪ ,‬وهذا التهديد ‪ ,‬وهذا البيان المنير‪:‬‬
‫(أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ? ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر ال شيئا ‪ .‬وسيجزي‬
‫ال الشاكرين) ‪. .‬‬
‫وفي التعبير تصوير حي للرتداد‪( :‬انقلبتم على أعقابكم) ‪( . .‬ومن ينقلب على عقبيه) ‪ .‬فهذه‬
‫الحركة الحسية في النقلب تجسم معنى الرتداد عن هذه العقيدة ‪ ,‬كأنه منظر مشهود ‪.‬‬
‫والمقصود أصل ليس حركة الرتداد الحسية بالهزيمة في المعركة ‪ ,‬ولكن حركة الرتداد‬
‫النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف‪:‬إن محمدا قد قتل ‪ ,‬فأحس بعض المسلمين أن ل‬
‫جدوى إذن من قتال المشركين ‪ ,‬وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين ‪ ,‬وانتهى أمر الجهاد‬
‫للمشركين ! فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا ‪ ,‬فيصورها حركة ارتداد على العقاب ‪,‬‬
‫كارتدادهم في المعركة على العقاب ! وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس ‪ -‬رضي ال‬
‫عنه ‪ -‬فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم ‪ ,‬وقالوا له‪:‬إن محمدا قد مات‪ ":‬فما تصنعون‬
‫بالحياة من بعده ? فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم " ‪.‬‬
‫(ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر ال شيئا) ‪. .‬‬
‫فإنما هو الخاسر ‪ ,‬الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق ‪ . .‬وانقلبه لن يضر ال شيئا ‪ .‬فال غني‬
‫عن الناس وعن إيمانهم ‪ .‬ولكنه ‪ -‬رحمة منه بالعباد ‪ -‬شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم ‪,‬‬
‫ولخيرهم هم ‪ .‬وما يتنكبه متنكب حتى يلقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن‬
‫حوله ‪ .‬وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق ‪ ,‬وتعوج المور كلها ‪ ,‬ويذوق الناس وبال‬
‫أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة ‪ ,‬وتستقيم في ظله النفوس ‪ ,‬وتجد‬
‫الفطرة في ظله السلم مع ذاتها ‪ ,‬والسلم مع الكون الذي تعيش فيه ‪.‬‬
‫(وسيجزي ال الشاكرين) ‪. .‬‬
‫الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها ال لعباده في إعطائهم هذا المنهج ‪ ,‬فيشكرونها باتباع‬
‫المنهج ‪ ,‬ويشكرونها بالثناء على ال ‪ ,‬ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيبا على‬
‫شكرهم ‪ ,‬ثم يسعدون بجزاء ال لهم في الخرة ‪ ,‬وهو أكبر وأبقى ‪. .‬‬
‫وكأنما أراد ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬بهذه الحادثة ‪ ,‬وبهذه الية ‪ ,‬أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد‬
‫بشخص النبي صلى ال عليه وسلم وهو حي بينهم ‪ .‬وأن يصلهم مباشرة بالنبع ‪ .‬النبع الذي لم‬

‫‪15‬‬
‫يفجره محمد صلى ال عليه وسلم ولكن جاء فقط ليومىء إليه ‪ ,‬ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق‬
‫‪ ,‬كما أومأ إليه من قبله من الرسل ‪ ,‬ودعوا القافلة إلى الرتواء منه !‬
‫وكأنما أراد ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬أن يأخذ بأيديهم ‪ ,‬فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى ‪ .‬العروة التي لم‬
‫يعقدها محمد صلى ال عليه وسلم إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر ‪ ,‬ثم يدعهم عليها ويمضي وهم‬
‫بها مستمسكون !‬
‫وكأنما أراد ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬أن يجعل ارتباط المسلمين بالسلم مباشرة ‪ ,‬وأن يجعل عهدهم مع‬
‫ال مباشرة ‪ ,‬وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام ال بل وسيط ‪ .‬حتى يستشعروا تبعتهم‬
‫المباشرة ‪ ,‬التي ل يخليهم منها أن يموت الرسول صلى ال عليه وسلم أو يقتل ‪ ,‬فهم إنما بايعوا‬
‫ال ‪ .‬وهم أمام ال مسؤولون !‬
‫وكأنما كان ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يعد الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى ‪ -‬حين تقع ‪ -‬وهو‬
‫‪ -‬سبحانه ‪ -‬يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم ‪ .‬فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب ‪,‬‬
‫وأن يصلهم به هو ‪ ,‬وبدعوته الباقية ‪ ,‬قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول ولقد أصيبوا ‪ -‬حين‬
‫وقعت بالفعل ‪ -‬بالدهش والذهول ‪ .‬حتى لقد وقف عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬شاهرا سيفه ‪ ,‬يهدد‬
‫به من يقول‪:‬إن محمدا قد مات !‬
‫ولم يثبت إل أبو بكر ‪ ,‬الموصول القلب بصاحبه ‪ ,‬وبقدر ال فيه ‪ ,‬التصال المباشر الوثيق ‪.‬‬
‫وكانت هذه الية ‪ -‬حين ذكرها وذكر بها المدهوشين الذاهلين ‪ -‬هي النداء اللهي المسموع ‪,‬‬
‫فإذا هم يثوبون ويرجعون !‬
‫ثم يلمس السياق القرآني مكمن الخوف من الموت في النفس البشرية ‪ ,‬لمسة موحية ‪ ,‬تطرد ذلك‬
‫الخوف ‪ ,‬عن طريق بيان الحقيقة الثابتة في شأن الموت وشأن الحياة ‪ ,‬وما بعد الحياة والموت‬
‫من حكمة ل وتدبير ‪ ,‬ومن ابتلء للعباد وجزاء‪:‬‬
‫(وما كان لنفس أن تموت إل بإذن ال كتابا مؤجل ‪ .‬ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ; ومن يرد‬
‫ثواب الخرة نؤته منها ‪ .‬وسنجزي الشاكرين) ‪. .‬‬
‫إن لكل نفس كتابا مؤجل إلى أجل مرسوم ‪ .‬ولن تموت نفس حتى تستوفي هذا الجل المرسوم‬
‫‪ .‬فالخوف والهلع ‪ ,‬والحرص والتخلف ‪ ,‬ل تطيل أجل ‪ .‬والشجاعة والثبات والقدام والوفاء ل‬
‫تقصر عمرا ‪ .‬فل كان الجبن ‪ ,‬ول نامت أعين الجبناء ‪ .‬والجل المكتوب ل ينقص منه يوم‬
‫ول يزيد !‬

‫‪16‬‬
‫بذلك تستقر حقيقة الجل في النفس ‪ ,‬فتترك الشتغال به ‪ ,‬ول تجعله في الحساب ‪ ,‬وهي تفكر‬
‫في الداء والوفاء باللتزامات والتكاليف اليمانية ‪ .‬وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص ‪,‬‬
‫كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع ‪ .‬وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته ‪,‬‬
‫في صبر وطمأنينة ‪ ,‬وتوكل على ال الذي يملك الجال وحده ‪.‬‬
‫ثم ينتقل بالنفس خطوة وراء هذه القضية التي حسم فيها القول ‪ . .‬فإنه إذا كان العمر مكتوبا ‪,‬‬
‫والجل مرسوما ‪ . .‬فلتنظر نفس ما قدمت لغد ; ولتنظر نفس ماذا تريد ‪ . .‬أتريد أن تقعد عن‬
‫تكاليف اليمان ‪ ,‬وأن تحصر همها كله في هذه الرض ‪ ,‬وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها ? أم‬
‫تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى ‪ ,‬وإلى اهتمامات أرفع ‪ ,‬وإلى حياة أكبر من هذه الحياة ? ‪ . .‬مع‬
‫تساوي هذا الهم وذاك فيما يختص بالعمر والحياة ?!‬
‫(ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ‪ .‬ومن يرد ثواب الخرة نؤته منها) ‪.‬‬
‫وشتان بين حياة وحياة ! وشتان بين اهتمام واهتمام ! ‪ -‬مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر‬
‫والجل ‪ -‬والذي يعيش لهذه الرض وحدها ‪ ,‬ويريد ثواب الدنيا وحدها ‪ . .‬إنما يحيا حياة‬
‫الديدان والدواب والنعام ! ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب ‪ .‬والذي يتطلع إلى‬
‫الفق الخر ‪ . .‬إنما يحيا حياة "النسان" الذي كرمه ال واستخلفه وأفرده بهذا المكان ثم يموت‬
‫في موعده المضروب بأجله المكتوب ‪( . .‬وما كان لنفس أن تموت إل بإذن ال كتابا مؤجل) ‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫(وسنجزي الشاكرين) ‪. .‬‬
‫الذين يدركون نعمة التكريم اللهي للنسان ‪ ,‬فيرتفعون عن مدارج الحيوان ; ويشكرون ال‬
‫على تلك النعمة ‪ ,‬فينهضون بتبعات اليمان ‪. .‬‬
‫وهكذا يقرر القرآن حقيقة الموت والحياة ‪ ,‬وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الحياء ‪ ,‬وفق ما‬
‫يريدونه لنفسهم ‪ ,‬من اهتمام قريب كاهتمام الدود ‪ ,‬أو اهتمام بعيد كاهتمام النسان ! وبذلك‬
‫ينقل النفس من النشغال بالخوف من الموت والجزع من التكاليف ‪ -‬وهي ل تملك شيئا في‬
‫شأن الموت والحياة ‪ -‬إلى النشغال بما هو أنفع للنفس ‪ ,‬في الحقل الذي تملكه ‪ ,‬وتملك فيه‬
‫الختيار ‪ .‬فتختار الدنيا أو تختار الخرة ‪ .‬وتنال من جزاء ال ما تختار !‬
‫ثم يضرب ال للمسلمين المثل من إخوانهم المؤمنين قبلهم ‪ .‬من موكب اليمان اللحب الممتد‬
‫على طول الطريق ‪ ,‬الضارب في جذور الزمان ‪ . .‬من أولئك الذين صدقوا في إيمانهم ‪,‬‬

‫‪17‬‬
‫وقاتلوا مع أنبيائهم ‪ ,‬فلم يجزعوا عند البتلء ; وتأدبوا ‪ -‬وهم مقدمون على الموت ‪ -‬بالدب‬
‫اليماني في هذا المقام ‪ . .‬مقام الجهاد ‪ . .‬فلم يزيدوا على أن يستغفروا ربهم ; وأن يجسموا‬
‫أخطاءهم فيروها "إسرافا" في أمرهم ‪ .‬وأن يطلبوا من ربهم الثبات والنصر على الكفار ‪. .‬‬
‫وبذلك نالوا ثواب الدارين ‪ ,‬جزاء إحسانهم في أدب الدعاء ‪ ,‬وإحسانهم في موقف الجهاد ‪.‬‬
‫وكانوا مثل يضربه ال للمسلمين‪:‬‬
‫(وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ‪ ,‬فما وهنوا لما أصابهم في سبيل ال ‪ ,‬وما ضعفوا وما‬
‫استكانوا ‪ .‬وال يحب الصابرين ‪ .‬وما كان قولهم إل أن قالوا‪:‬ربنا اغفر لنا ذنوبنا ‪ ,‬وإسرافنا في‬
‫أمرنا ; وثبت أقدامنا ; وانصرنا على القوم الكافرين ‪ .‬فآتاهم ال ثواب الدنيا وحسن ثواب‬
‫الخرة ‪ .‬وال يحب المحسنين) ‪. .‬‬
‫لقد كانت الهزيمة في "أحد" ‪ ,‬هي أول هزيمة تصدم المسلمين ‪ ,‬الذين نصرهم ال ببدر وهم‬
‫ضعاف قليل ; فكأنما وقر في نفوسهم أن النصر في كل موقعة هو السنة الكونية ‪ .‬فلما أن‬
‫صدمتهم أحد ‪ ,‬فوجئوا بالبتلء كأنهم ل ينتظرونه !‬
‫ولعله لهذا طال الحديث حول هذه الواقعة في القرآن الكريم ‪ .‬واستطرد السياق يأخذ المسلمين‬
‫بالتأسية تارة ‪ ,‬وبالستنكار تارة ‪ ,‬وبالتقرير تارة ‪ ,‬وبالمثل تارة ‪ ,‬تربية لنفوسهم ‪ ,‬وتصحيحا‬
‫لتصورهم ‪ ,‬وإعدادا لهم ‪ .‬فالطريق أمامهم طويل ‪ ,‬والتجارب أمامهم شاقة ‪ ,‬والتكاليف عليهم‬
‫باهظة ‪ ,‬والمر الذي يندبون له عظيم ‪.‬‬
‫والمثل الذي يضربه لهم هنا مثل عام ‪ ,‬ل يحدد فيه نبيا ‪ ,‬ول يحدد فيه قوما ‪ .‬إنما يربطهم‬
‫بموكب اليمان ; ويعلمهم أدب المؤمنين ; ويصور لهم البتلء كأنه المر المطرد في كل دعوة‬
‫وفي كل دين ; ويربطهم بأسلفهم من اتباع النبياء ; ليقرر في حسهم قرابة المؤمنين للمؤمنين‬
‫; ويقر في أخلدهم أن أمر العقيدة كله واحد ‪ .‬وإنهم كتيبة في الجيش اليماني الكبير‪:‬‬
‫(وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ‪ .‬فما وهنوا لما أصابهم في سبيل ال وما ضعفوا وما‬
‫استكانوا) ‪. .‬‬
‫‪ . .‬وكم من نبي قاتلت معه جماعات كثيرة ‪ .‬فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من البلء والكرب‬
‫والشدة والجراح ‪ .‬وما ضعفت قواهم عن الستمرار في الكفاح ‪ ,‬وما استسلموا للجزع ول‬
‫للعداء ‪ . .‬فهذا هو شأن المؤمنين ‪ ,‬المنافحين عن عقيدة ودين ‪. .‬‬
‫(وال يحب الصابرين) ‪. .‬‬

‫‪18‬‬
‫الذين ل تضعف نفوسهم ‪ ,‬ول تتضعضع قواهم ‪ ,‬ول تلين عزائمهم ‪ ,‬ول يستكينون أو‬
‫يستسلمون ‪ . .‬والتعبير بالحب من ال للصابرين ‪ .‬له وقعه ‪ .‬وله إيحاؤه ‪ .‬فهو الحب الذي يأسو‬
‫الجراح ‪ ,‬ويمسح على القرح ‪ ,‬ويعوض ويربو عن الضر والقرح والكفاح المرير !‬
‫وإلى هنا كان السياق قد رسم الصورة الظاهرة لهؤلء المؤمنين في موقفهم من الشدة والبتلء‬
‫‪ .‬فهو يمضي بعدها ليرسم الصورة الباطنة لنفوسهم ومشاعرهم ‪ .‬صورة الدب في حق ال ‪,‬‬
‫وهم يواجهون الهول الذي يذهل النفوس ‪ ,‬ويقيدها بالخطر الراهق ل تتعداه ‪ .‬ولكنه ل يذهل‬
‫نفوس المؤمنين عن التوجه إلى ال ‪ . .‬ل لتطلب النصر أول ما تطلب ‪ -‬وهو ما يتبادر عادة‬
‫إلى النفوس ‪ -‬ولكن لتطلب العفو والمغفرة ‪ ,‬ولتعترف بالذنب والخطيئة ‪ ,‬قبل أن تطلب الثبات‬
‫والنصر على العداء‪:‬‬
‫(وما كان قولهم إل أن قالوا‪:‬ربنا اغفر لنا ذنوبنا ‪ ,‬وإسرافنا في أمرنا ‪ ,‬وثبت أقدامنا ‪,‬‬
‫وانصرنا على القوم الكافرين) ‪. .‬‬
‫إنهم لم يطلبوا نعمة ول ثراء ‪ .‬بل لم يطلبوا ثوابا ول جزاء ‪ . .‬لم يطلبوا ثواب الدنيا ول ثواب‬
‫الخرة ‪ .‬لقد كانوا أكثر أدبا مع ال ‪ ,‬وهم يتوجهون إليه ‪ ,‬بينما هم يقاتلون في سبيله ‪ .‬فلم‬
‫يطلبوا منه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬إل غفران الذنوب ‪ ,‬وتثبيت القدام ‪ . .‬والنصر على الكفار ‪ .‬فحتى‬
‫النصر ل يطلبونه لنفسهم إنما يطلبونه هزيمة للكفر وعقوبة للكفار ‪ . .‬إنه الدب اللئق‬
‫بالمؤمنين في حق ال الكريم ‪.‬‬
‫وهؤلء الذين لم يطلبوا لنفسهم شيئا ‪ ,‬أعطاهم ال من عنده كل شيء ‪ .‬أعطاهم من عنده كل‬
‫ما يتمناه طلب الدنيا وزيادة ‪ .‬وأعطاهم كذلك كل ما يتمناه طلب الخرة ويرجونه‪:‬‬
‫(فآتاهم ال ثواب الدنيا ‪ ,‬وحسن ثواب الخرة) ‪. .‬‬
‫وشهد لهم ‪ -‬سبحانه ‪ -‬بالحسان ‪ .‬فقد أحسنوا الدب وأحسنوا الجهاد ‪ ,‬وأعلن حبه لهم ‪ .‬وهو‬
‫أكبر من النعمة وأكبر من الثواب‪:‬‬
‫(وال يحب المحسنين) ‪. .‬‬
‫وهكذا تنتهي هذه الفقرة في الستعراض ; وقد تضمنت تلك الحقائق الكبيرة في التصور‬
‫السلمي ‪ .‬وقد أدت هذا الدور في تربية الجماعة المسلمة ‪ .‬وقد ادخرت هذا الرصيد للمة‬
‫المسلمة في كل جيل ‪. .‬‬
‫***********‬

‫‪19‬‬
‫بعد هذا أقول ‪ :‬كلنا سنموت شئنا أم أبينا‬
‫جعُونَ} (‪ )35‬سورة‬
‫خ ْيرِ ِف ْتنَةً َوِإَل ْينَا ُترْ َ‬
‫شرّ وَالْ َ‬
‫قال تعالى ‪ { :‬كُلّ نَ ْفسٍ ذَائِقَةُ ا ْل َموْتِ َو َن ْبلُوكُم بِال ّ‬
‫النبياء‬
‫حزِحَ عَنِ النّارِ‬
‫وقال تعالى ‪{ :‬كُلّ نَ ْفسٍ ذَآئِقَةُ ا ْل َم ْوتِ َوِإ ّنمَا ُتوَ ّفوْنَ أُجُو َركُمْ َيوْمَ الْ ِقيَامَةِ َفمَن زُ ْ‬
‫سكُمْ‬
‫حيَاةُ ال ّد ْنيَا إِلّ َمتَاعُ ا ْل ُغرُورِ (‪َ )185‬ل ُت ْبَلوُنّ فِي َأ ْموَاِلكُمْ َوأَنفُ ِ‬
‫جنّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْ َ‬
‫َوأُدْخِلَ الْ َ‬
‫ص ِبرُواْ َو َتتّقُواْ‬
‫ش َركُواْ أَذًى َكثِيرا َوإِن َت ْ‬
‫س َمعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْل ِكتَابَ مِن َق ْبِلكُمْ َومِنَ الّذِينَ أَ ْ‬
‫َوَلتَ ْ‬
‫لمُورِ (‪ )186‬سورة آل عمران‬
‫عزْمِ ا ُ‬
‫فَإِنّ َذِلكَ مِنْ َ‬
‫يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال ‪:‬‬
‫وفي هذا الدرس استعراض لبعض أفاعيل يهود وأقاويلها ‪ .‬يبدو فيه سوء الدب مع ال ‪-‬‬
‫سبحانه ‪ -‬بعد سوء الفعل مع المسلمين ‪ .‬وهم يبخلون بالوفاء بتعهداتهم المالية للرسول صلى‬
‫ال عليه وسلم ثم يزيدون فيقولون‪( :‬إن ال فقير ونحن أغنياء) !‬
‫ويبدو فيه التعلل الواهي ‪ ,‬الذي يدفعون به دعوة السلم الموجهة إليهم ; وكذب هذا التعلل ‪,‬‬
‫ومخالفته لواقعهم التاريخي المعروف ‪ .‬هذا الوقاع الذي ينضح بمخالفتهم لعهد ال معهم ‪,‬‬
‫وبكتمانهم لما أمرهم ال ببيانه من الحق ‪ ,‬ونبذه وراء ظهورهم ‪ ,‬وشرائهم به ثمنا قليل ‪.‬‬
‫وبقتلهم أنبياءهم بغير حق ‪ ,‬وقد جاءوهم بالخوارق التي طلبوها ‪ ,‬وجاءوهم بالبينات فرفضوها‬
‫‪.‬‬
‫وهذا الكشف المخجل لفاعيل اليهود مع أنبيائهم ‪ ,‬وأقاويلهم على ربهم ‪ ,‬كان هو المر الذي‬
‫يقتضيه سوء موقفهم من الجماعة المسلمة ‪ ,‬وتأثير كيدهم ودسهم وإيذائهم ‪ -‬هم والمشركون ‪-‬‬
‫للمسلمين ‪ .‬كما كانت تقتضيه تربية ال للجماعة المسلمة تربية واعية ; تبصرهم بما حولهم ‪,‬‬
‫وبمن حولهم ; وتعرفهم طبيعة الرض التي يعملون فيها ‪ ,‬وطبيعة العقبات والفخاخ المنصوبة‬
‫لهم ‪ ,‬وطبيعة اللم والتضحيات المرصودة لهم في الطريق ‪ . .‬وقد كان الكيد اليهودي للجماعة‬
‫المسلمة في المدينة أقسى وأخطر من عداوة المشركين لهم في مكة ‪ .‬ولعله ما يزال أخطر ما‬
‫يرصد للجماعات المسلمة في كل مكان ‪ ,‬على مدار التاريخ ‪. .‬‬
‫ومن ثم نجد التوجيهات الربانية تتولى على المسلمين في ثنايا الستعراض المثير ‪ . .‬نجد‬
‫توجيههم إلى حقيقة القيم الباقية والقيم الزائلة ‪ .‬فالحياة في هذه الرض محدودة بأجل ‪ .‬وكل‬
‫نفس ذائقة الموت على كل حال ‪ .‬إنما الجزاء هناك ‪ ,‬والكسب والخسارة هناك ‪( .‬فمن زحزح‬

‫‪20‬‬
‫عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ‪ .‬وما الحياة الدنيا إل متاع الغرور) ‪ . .‬وهم مبتلون في أموالهم‬
‫وأنفسهم ‪ ,‬والذى سينالهم من أعدائهم المشركين وأهل الكتاب ‪ .‬فلعاصم لهم إل الصبر‬
‫والتقوى ‪ ,‬والمضي مع المنهج ‪ ,‬الذي يزحزحهم عن النار !‬
‫وهذا التوجيه اللهي للجماعة المسلمة في المدينة ما يزال هو هو ‪ ,‬قائما اليوم وغدا ‪ ,‬يبصر كل‬
‫جماعة مسلمة تعتزم سلوك الطريق ‪ ,‬لعادة نشأة السلم ولستئناف حياة إسلمية في ظل ال‬
‫‪ . .‬يبصرها بطبيعة أعدائها ‪ -‬وهم هم مشركين وملحدين وأهل كتاب ‪ -‬الصهيونية العالمية‬
‫والصليبية العالمية والشيوعية ! ‪ -‬ويبصرها بطبيعة العقبات والفخاخ المرصودة في طريقها ‪,‬‬
‫وبطبيعة اللم والتضحيات والذى والبتلء ‪ .‬ويعلق قلوبها وأبصارها بما هنالك ‪ .‬بما عند ال‬
‫‪ .‬ويهون عليها الذى والموت والفتنة في النفس والمال ‪ .‬ويناديها ‪ -‬كما نادى الجماعة المسلمة‬
‫الولى ‪( :-‬كل نفس ذائقة الموت ‪ ,‬وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ‪ .‬فمن زحزح عن النار‬
‫وأدخل الجنة فقد فاز ‪ .‬وما الحياة الدنيا إل متاع الغرور ‪ .‬لتبلون في أموالكم وأنفسكم ;‬
‫ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ‪ .‬وإن تصبروا وتتقوا‬
‫فإن ذلك من عزم المور) ‪. .‬‬
‫والقرآن هو القرآن ‪ .‬كتاب هذه المة الخالد ‪ .‬ودستورها الشامل ‪ .‬وحاديها الهادي ‪ .‬وقائدها‬
‫المين ‪.‬‬
‫وأعداؤها هم أعداؤها ‪ . .‬والطريق هو الطريق ‪. .‬‬
‫ويقول ‪:‬‬
‫إنه ل بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس‪:‬حقيقة أن الحياة في هذه الرض موقوتة ‪ ,‬محدودة‬
‫بأجل ; ثم تأتي نهايتها حتما ‪ . .‬يموت الصالحون يموت الطالحون ‪ .‬يموت المجاهدون ويموت‬
‫القاعدون ‪ .‬يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد ‪ .‬يموت الشجعان الذين يأبون‬
‫الضيم ‪ ,‬ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن ‪ . .‬يموت ذوو الهتمامات الكبيرة‬
‫والهداف العالية ‪ ,‬ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص ‪.‬‬
‫الكل يموت ‪( . .‬كل نفس ذائقة الموت) ‪ . .‬كل نفس تذوق هذه الجرعة ‪ ,‬وتفارق هذه الحياة ‪. .‬‬
‫ل فارق بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة من هذه الكأس الدائرة على الجميع ‪ .‬إنما الفارق‬
‫في شيء آخر ‪ .‬الفارق في قيمة أخرى ‪ .‬الفارق في المصير الخير‪:‬‬

‫‪21‬‬
‫(وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ‪ .‬فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) ‪ . .‬هذه هي‬
‫القيمة التي يكون فيها الفتراق ‪ .‬وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلن عن فلن ‪ .‬القيمة‬
‫الباقية التي تستحق السعي والكد ‪ .‬والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب‪:‬‬
‫(فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) ‪. .‬‬
‫ولفظ "زحزح" بذاته يصور معناه بجرسه ‪ ,‬ويرسم هيئته ‪ ,‬ويلقي ظله ! وكأنما للنار جاذبية تشد‬
‫إليها من يقترب منها ‪ ,‬ويدخل في مجالها ! فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليل قليل ليخلصه‬
‫من جاذبيتها المنهومة ! فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها ‪ ,‬ويستنقذ من جاذبيتها ‪ ,‬ويدخل الجنة‬
‫‪ . .‬فقد فاز ‪. .‬‬
‫صورة قوية ‪ .‬بل مشهد حي ‪ .‬فيه حركة وشد وجذب ! وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته ‪.‬‬
‫فللنار جاذبية ! أليست للمعصية جاذبية ? أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها زحزحة‬
‫عن جاذبية المعصية ? بلى ! وهذه هي زحزحتها عن النار ! أليس النسان ‪ -‬حتى مع‬
‫المحاولة واليقظة الدائمة ‪ -‬يظل أبدا مقصرا في العمل ‪ . .‬إل أن يدركه فضل ال ? بلى !‬
‫وهذه هي الزحزحة عن النار ; حين يدرك النسان فضل ال ‪ ,‬فيزحزحه عن النار ! (وما‬
‫الحياة الدنيا إل متاع الغرور) ‪. .‬‬
‫إنها متاع ‪ .‬ولكنه ليس متاع الحقيقة ‪ ,‬ول متاع الصحو واليقظة ‪ . .‬إنها متاع الغرور ‪ .‬المتاع‬
‫الذي يخدع النسان فيحسبه متاعا ‪ .‬أو المتاع الذي ينشىء الغرور والخداع ! فأما المتاع الحق‬
‫‪ .‬المتاع الذي يستحق الجهد في تحصيله ‪ . .‬فهو ذاك ‪ . .‬هو الفوز بالجنة بعد الزحزحة عن‬
‫النار ‪.‬‬
‫وعندما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في النفس ‪ .‬عندما تكون النفس قد أخرجت من حسابها‬
‫حكاية الحرص على الحياة ‪ -‬إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال ‪ -‬وأخرجت من حسابها‬
‫حكاية متاع الغرور الزائل ‪ . .‬عندئذ يحدث ال المؤمنين عما ينتظرهم من بلء في الموال‬
‫والنفس ‪ .‬وقد استعدت نفوسهم للبلء‪:‬‬
‫(لتبلون في أموالكم وأنفسكم ‪ ,‬ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى‬
‫كثيرا ‪ .‬وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم المور) ‪. .‬‬
‫إنها سنة العقائد والدعوات ‪ .‬ل بد من بلء ‪ ,‬ول بد من أذى في الموال والنفس ‪ ,‬ول بد من‬
‫صبر ومقاومة واعتزام ‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫إنه الطريق إلى الجنة ‪ .‬وقد حفت الجنة بالمكاره ‪ .‬بينما حفت النار بالشهوات ‪.‬‬
‫ثم إنه هو الطريق الذي ل طريق غيره ‪ ,‬لنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة ‪ ,‬وتنهض‬
‫بتكاليفها ‪ .‬طريق التربية لهذه الجماعة ; وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والحتمال ‪ .‬وهو‬
‫طريق المزاولة العملية للتكاليف ; والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة ‪.‬‬
‫ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودا ‪ .‬فهؤلء هم الذين يصلحون لحملها إذن‬
‫والصبر عليها ‪ .‬فهم عليها مؤتمنون ‪.‬‬
‫وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو ‪ ,‬بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلء ‪ ,‬وبقدر ما‬
‫يضحون في سبيلها من عزيز وغال ‪ .‬فل يفرطوا فيها بعد ذلك ‪ ,‬مهما تكن الحوال ‪.‬‬
‫وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة ‪ .‬فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة ‪ ,‬وتنميها‬
‫وتجمعها وتوجهها ‪ .‬والدعوة الجديدة في حاجة إلى استثارة هذه القوى لتتأصل جذورها وتتعمق‬
‫; وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة ‪. .‬‬
‫وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم ; وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة‬
‫عملية واقعية ‪ .‬ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها ‪ .‬وحقيقة الجماعات والمجتمعات ‪ .‬وهم‬
‫يرون كيف تصطرع مبادىء دعوتهم ‪ ,‬مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس ‪ .‬ويعرفون‬
‫مداخل الشيطان إلى هذه النفوس ‪ ,‬ومزالق الطريق ‪ ,‬ومسارب الضلل !‬
‫ثم ‪ . .‬لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه ل بد فيها من خير ‪ ,‬ول بد فيها من سر ‪,‬‬
‫يجعل أصحابها يلقون في سبيلها ما يلقون وهم صامدون ‪ . .‬فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها‬
‫إليها ‪ . .‬أفواجا ‪ . .‬في نهاية المطاف !‬
‫إنها سنة الدعوات ‪ .‬وما يصبر على ما فيها من مشقة ; ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على‬
‫تقوى ال ‪ ,‬فل يشط فيعتدي وهو يرد العتداء ; ول ييأس من رحمة ال ويقطع أمله في نصره‬
‫وهو يعاني الشدائد ‪ . .‬ما يصبر على ذلك كله إل أولو العزم القوياء‪:‬‬
‫(وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم المور) ‪. .‬‬
‫وهكذا علمت الجماعة المسلمة في المدينة ما ينتظرها من تضحيات وآلم ‪ .‬وما ينتظرها من‬
‫أذى وبلء في النفس والموال ‪ .‬من أهل الكتاب من حولها ‪ .‬ومن المشركين أعدائها ‪. .‬‬
‫ولكنها سارت في الطريق ‪ .‬لم تتخاذل ‪ ,‬ولم تتراجع ‪ ,‬ولم تنكص على أعقابها ‪ . .‬لقد كانت‬
‫تستيقن أن كل نفس ذائقة الموت ‪ .‬وأن توفية الجور يوم القيامة ‪ .‬وأنه من زحزح عن النار‬

‫‪23‬‬
‫وأدخل الجنة فقد فاز ‪ .‬وأن الحياة الدنيا ما هي إل متاع الغرور ‪ . .‬على هذه الرض الصلبة‬
‫المكشوفة كانت تقف ; وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو ‪ . .‬والرض الصلبة‬
‫المكشوفة باقية لصحاب هذه الدعوة في كل زمان ‪ .‬والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل‬
‫إنسان ‪ .‬وأعداء هذه الدعوة هم أعداؤها ‪ ,‬تتوالى القرون والجيال ; وهم ماضون في الكيد لها‬
‫من وراء القرون والجيال ‪ . .‬والقرآن هو القرآن ‪. .‬‬
‫وتختلف وسائل البتلء والفتنة باختلف الزمان ; وتختلف وسائل الدعاية ضد الجماعة المسلمة‬
‫‪ ,‬ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وأغراضها ‪ . .‬ولكن‬
‫القاعدة واحدة‪( :‬لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن‬
‫الذين أشركوا أذى كثيرا) !‬
‫ولقد حفلت السورة بصور من مكايد أهل الكتاب والمشركين ; وصور من دعايتهم للبلبلة‬
‫والتشكيك ‪ .‬أحيانا في أصول الدعوة وحقيقتها ‪ ,‬وأحيانا في أصحابها وقيادتها ‪ .‬وهذه الصور‬
‫تتجدد مع الزمان ‪ .‬وتتنوع بابتداع وسائل الدعاية الجديدة ‪ ,‬وتوجه كلها إلى السلم في أصوله‬
‫العتقادية ‪ ,‬وإلى الجماعة المسلمة والقيادة السلمية ‪ .‬فل تخرج على هذه القاعدة التي كشف‬
‫ال عنها للجماعة المسلمة الولى ‪ ,‬وهو يكشف لها عن طبيعة الطريق ‪ ,‬وطبيعة العداء‬
‫الراصدين لها في الطريق ‪. .‬‬
‫ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيدا للجماعة المسلمة كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة ‪ ,‬وأن‬
‫تحاول تحقيق منهج ال في الرض ; فتجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة ‪ ,‬ووسائل الدعاية‬
‫الحديثة ‪ ,‬لتشويه أهدافها ‪ ,‬وتمزيق أوصالها ‪ . .‬يبقى هذا التوجيه القرآني حاضرا يجلو‬
‫لبصارها طبيعة هذه الدعوة ‪ ,‬وطبيعة طريقها ‪ .‬وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق ‪.‬‬
‫ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد ال ذاك ; فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالذى ‪,‬‬
‫وحين تعوي حولها بالدعاية ‪ ,‬وحين يصيبها البتلء والفتنة ‪ . .‬أنها سائرة في الطريق ‪ ,‬وأنها‬
‫ترى معالم الطريق !‬
‫ومن ثم تستبشر بالبتلء والذى والفتنة والدعاء الباطل عليها وإسماعها ما يكره وما يؤذي ‪.‬‬
‫‪ .‬تستبشر بهذا كله ‪ ,‬لنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها ال لها من قبل ‪.‬‬
‫وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق ‪ .‬ويبطل عندها الكيد والبلبلة ويصغر عندها‬

‫‪24‬‬
‫البتلء والذى ; وتمضي في طريقها الموعود ‪ ,‬إلى المل المنشود ‪ . .‬في صبر وفي تقوى ‪.‬‬
‫‪ .‬وفي عزم أكيد ‪. .‬‬
‫**************‬
‫وأما الشهيد عبد العزيز (( عليه الرحمة والرضوان )) فما أحسبه إل مثل صاحب ياسين بل‬
‫ربما كان خيرا منه الذي قال ال عنه‬
‫سلِينَ (‪ )20‬ا ّت ِبعُوا مَن لّ يَسَْأُلكُمْ‬
‫سعَى قَالَ يَا َقوْمِ ا ّت ِبعُوا ا ْل ُمرْ َ‬
‫{ وَجَاء مِنْ أَ ْقصَى ا ْلمَدِينَةِ رَجُلٌ يَ ْ‬
‫جعُونَ (‪َ )22‬أَأتّخِذُ مِن دُونِهِ آِلهَةً‬
‫ط َرنِي َوِإَليْهِ ُترْ َ‬
‫عبُدُ الّذِي فَ َ‬
‫جرًا وَهُم ّم ْهتَدُونَ (‪َ )21‬ومَا لِي لَ أَ ْ‬
‫أَ ْ‬
‫ش ْيئًا وَلَ يُنقِذُونِ (‪ِ )23‬إنّي إِذًا لّفِي ضَلَلٍ ّمبِينٍ (‬
‫ع ُتهُمْ َ‬
‫عنّي شَفَا َ‬
‫ضرّ لّ ُتغْنِ َ‬
‫حمَن ِب ُ‬
‫إِن ُيرِدْنِ الرّ ْ‬
‫جنّةَ قَالَ يَا َل ْيتَ َق ْومِي َي ْعَلمُونَ (‪ِ )26‬بمَا غَ َفرَ‬
‫س َمعُونِ (‪ )25‬قِيلَ ادْخُلِ الْ َ‬
‫‪ِ )24‬إنّي آمَنتُ ِب َر ّبكُمْ فَا ْ‬
‫سمَاء َومَا ُكنّا‬
‫علَى َق ْومِهِ مِن َبعْ ِدهِ مِنْ جُندٍ مّنَ ال ّ‬
‫ج َعَلنِي مِنَ ا ْل ُم ْك َرمِينَ (‪َ )27‬ومَا أَن َز ْلنَا َ‬
‫لِي َربّي َو َ‬
‫علَى ا ْل ِعبَادِ مَا يَ ْأتِيهِم‬
‫س َرةً َ‬
‫صيْحَةً وَاحِ َدةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (‪ )29‬يَا حَ ْ‬
‫ل َ‬
‫مُن ِزلِينَ (‪ )28‬إِن كَا َنتْ إِ ّ‬
‫س َت ْه ِزئُون (‪َ )30‬ألَمْ َي َروْا كَمْ أَ ْهَل ْكنَا َق ْبَلهُم مّنْ الْ ُقرُونِ َأ ّنهُمْ ِإَل ْيهِمْ لَ‬
‫مّن رّسُولٍ إِلّ كَانُوا بِهِ يَ ْ‬
‫ضرُونَ (‪ )32‬سورة يس‬
‫ح َ‬
‫جمِيعٌ لّ َد ْينَا مُ ْ‬
‫جعُونَ (‪َ )31‬وإِن كُلّ ّلمّا َ‬
‫َيرْ ِ‬
‫يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال ‪:‬‬
‫ويوحي سياق القصة بعد ذلك أنهم لم يمهلوه أن قتلوه ‪ .‬وإن كان ل يذكر شيئا من هذا صراحة‬
‫‪ .‬إنما يسدل الستار على الدنيا وما فيها ‪ ,‬وعلى القوم وما هم فيه ; ويرفعه لنرى هذا الشهيد‬
‫الذي جهر بكلمة الحق ‪ ,‬متبعا صوت الفطرة ‪ ,‬وقذف بها في وجوه من يملكون التهديد والتنكيل‬
‫‪ .‬نراه في العالم الخر ‪ .‬ونطلع على ما ادخر ال له من كرامة ‪ .‬تليق بمقام المؤمن الشجاع‬
‫المخلص الشهيد‪:‬‬
‫(قيل‪:‬ادخل الجنة ‪ .‬قال‪:‬يا ليت قومي يعلمون ‪ .‬بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) ‪. .‬‬
‫وتتصل الحياة الدنيا بالحياة الخرة ‪ .‬ونرى الموت نقلة من عالم الفناء إلى عالم البقاء ‪ .‬وخطوة‬
‫يخلص بها المؤمن من ضيق الرض إلى سعة الجنة ‪ .‬ومن تطاول الباطل إلى طمأنينة الحق ‪.‬‬
‫ومن تهديد البغي إلى سلم النعيم ‪ .‬ومن ظلمات الجاهلية إلى نور اليقين ‪.‬‬
‫ونرى الرجل المؤمن ‪ .‬وقد اطلع على ما آتاه ال في الجنة من المغفرة والكرامة ‪ ,‬يذكر قومه‬
‫طيب القلب رضي النفس ‪ ,‬يتمنى لو يراه قومه ويرون ما آتاه ربه من الرضى والكرامة ‪,‬‬
‫ليعرفوا الحق ‪ ,‬معرفة اليقين ‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫****************‬
‫وما أحسبه إل مثل أنس بن النضر رضي ال عنه ففي البخاري عَنْ َأ َنسٍ ‪ -‬رضى ال عنه ‪-‬‬
‫شهَ َدنِى اللّهُ‬
‫ى ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪َ -‬لئِنْ أَ ْ‬
‫غ ْبتُ عَنْ َأوّلِ ِقتَالِ ال ّنبِ ّ‬
‫عمّهُ غَابَ عَنْ بَ ْدرٍ فَقَالَ ِ‬
‫أَنّ َ‬
‫مَعَ ال ّن ِبىّ ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪َ -‬ل َي َريَنّ اللّهُ مَا أُجِدّ‪َ .‬فلَ ِقىَ َيوْمَ أُحُدٍ َف ُهزِ َم النّاسُ فَقَالَ الّلهُمّ ِإنّى‬
‫سيْفِهِ‬
‫ش ِركُونَ‪َ .‬فتَقَدّمَ بِ َ‬
‫سِلمِينَ ‪َ -‬وَأ ْبرَأُ ِإَل ْيكَ ِممّا جَاءَ بِهِ ا ْلمُ ْ‬
‫صنَعَ َهؤُلَءِ ‪َ -‬ي ْعنِى ا ْلمُ ْ‬
‫عتَ ِذرُ ِإَل ْيكَ ِممّا َ‬
‫أَ ْ‬
‫حتّى‬
‫ع ِرفَ َ‬
‫جنّةِ دُونَ أُحُدٍ‪َ .‬ف َمضَى فَ ُقتِلَ َفمَا ُ‬
‫سعْدُ ِإنّى أَجِدُ رِيحَ الْ َ‬
‫سعْدَ بْنَ ُمعَاذٍ فَقَالَ َأيْنَ يَا َ‬
‫َفلَ ِقىَ َ‬
‫سهْمٍ‪.‬‬
‫ض ْربَةٍ َو َر ْميَةٍ بِ َ‬
‫ط ْعنَةٍ َو َ‬
‫ختُهُ بِشَامَةٍ َأوْ ِب َبنَانِهِ َوبِهِ ِبضْعٌ َو َثمَانُونَ مِنْ َ‬
‫عرَ َفتْهُ أُ ْ‬
‫َ‬
‫ضرَ بْنَ َأ َنسٍ عَمّ َأنَسِ بْنِ مَاِلكٍ غَابَ عَنْ‬
‫عنْهُ ‪ :‬أَنّ النّ ْ‬
‫ى اللّهُ َ‬
‫ضَ‬‫وفي سنن البيهقي ‪ :‬عَنْ َأ َنسٍ َر ِ‬
‫ش ِركِينَ‬
‫غ ْبتُ عَنْ َأوّلِ ِقتَالِ قَا َتلَهُ رَسُولُ اللّهِ ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬ا ْلمُ ْ‬
‫ِقتَالِ بَ ْدرٍ َفَلمّا قَدِمَ قَالَ ‪ِ :‬‬
‫سِلمُونَ فَقَالَ ‪ :‬الّلهُمّ ِإنّى‬
‫شفَ ا ْلمُ ْ‬
‫صنَعُ‪َ .‬فَلمّا كَانَ َيوْمُ أُحُدٍ ا ْنكَ َ‬
‫شهَ َدنِى اللّهُ ِقتَالً َل َي َريَنّ اللّهُ مَا َأ ْ‬
‫َلئِنِ أَ ْ‬
‫سِلمِينَ ثُمّ‬
‫صنَعَ َهؤُلَءِ َي ْعنِى ا ْلمُ ْ‬
‫عتَذَرُ ِإَل ْيكَ ِممّا َ‬
‫ش ِركِينَ َوأَ ْ‬
‫َأ ْب َرأُ ِإَل ْيكَ ِممّا جَاءَ بِهِ َهؤُلَءِ َي ْعنِى ا ْلمُ ْ‬
‫جنّةِ دُونَ أُحُدٍ‬
‫لجِدُ رِيحَ الْ َ‬
‫سعْدُ وَالّذِى نَفْسِى ِبيَ ِدهِ ِإنّى َ‬
‫سعْدُ بْنُ ُمعَاذٍ فَقَالَ ‪َ :‬أىْ َ‬
‫سيْفِهِ َفلَ ِقيَهُ َ‬
‫مَشَى بِ َ‬
‫صنَعَ َفوَجَ ْدنَاهُ َبيْنَ الْ َق ْتلَى َوبِهِ ِبضْعٌ‬
‫ط ْعتُ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا َ‬
‫ستَ َ‬
‫سعْدٌ ‪َ :‬فمَا ا ْ‬
‫جنّةِ‪ .‬قَالَ َ‬
‫وَاهًا ِلرِيحِ الْ َ‬
‫ختُهُ‬
‫عرَ َفتْهُ أُ ْ‬
‫حتّى َ‬
‫سهْمٍ وَقَدْ َم ّثلُوا بِهِ َ‬
‫ط ْعنَةٍ ِب ُرمْحٍ َو َر ْميَةٍ بِ َ‬
‫س ْيفٍ وَ َ‬
‫ض ْربَةٍ بِ َ‬
‫ن َ‬
‫جرَاحَةً مِ ْ‬
‫َو َثمَانُونَ ِ‬
‫عَليْهِ)‬
‫ل صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ َ‬
‫ِب َبنَانِهِ‪ .‬قَالَ َأنَسٌ ‪ُ :‬كنّا نَقُولُ ُأ ْن ِزلَتْ هَ ِذهِ اليَةُ (مِنَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ رِجَا ٌ‬
‫خرَجَهُ ا ْلبُخَا ِرىّ فِى الصّحِيحِ مِنْ‬
‫صوَابُ َأ َنسُ بْنُ ال ّنضْرِ‪ .‬أَ ْ‬
‫فِيهِ وَفِى َأصْحَابِهِ‪ .‬كَذَا فِى ِكتَابِى وَال ّ‬
‫عنْهُ‪.‬‬
‫ى اللّهُ َ‬
‫ضَ‬‫سلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ثَا ِبتٍ عَنْ َأ َنسٍ َر ِ‬
‫خرَجَهُ مُ ْ‬
‫ح َميْدٍ َوأَ ْ‬
‫َأوْجُهٍ عَنْ ُ‬
‫***************‬
‫ل صَدَقُوا مَا‬
‫وما أحسبه إل ممن قال ال تعالى فيهم في سورة الحزاب ‪ :‬مِنَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ رِجَا ٌ‬
‫ي اللّهُ‬
‫ج ِز َ‬
‫ظرُ َومَا بَ ّدلُوا َتبْدِيلًا (‪ِ )23‬ليَ ْ‬
‫حبَهُ َو ِم ْنهُم مّن يَنتَ ِ‬
‫عَليْهِ َف ِم ْنهُم مّن َقضَى نَ ْ‬
‫عَاهَدُوا اللّهَ َ‬
‫ن اللّهَ كَانَ غَفُورًا رّحِيمًا (‪)24‬‬
‫عَل ْيهِمْ إِ ّ‬
‫الصّادِقِينَ ِبصِدْ ِقهِمْ َو ُيعَ ّذبَ ا ْل ُمنَافِقِينَ إِن شَاء َأوْ َيتُوبَ َ‬
‫يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال ‪:‬‬
‫لقد كانوا ناسا من البشر ‪ ,‬ل يملكون أن يتخلصوا من مشاعر البشر ‪ ,‬وضعف البشر ‪ .‬وليس‬
‫مطلوبا منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري ; ول أن يخرجوا من إطار هذا الجنس ;‬
‫ويفقدوا خصائصه ومميزاته ‪ .‬فلهذا خلقهم ال ‪ .‬خلقهم ليبقوا بشرا ‪ ,‬ول يتحولوا جنسا آخر ‪ .‬ل‬
‫ملئكة ول شياطين ‪ ,‬ول بهيمة ول حجرا ‪ . .‬كانوا ناسا من البشر يفزعون ‪ ,‬ويضيقون بالشدة‬

‫‪26‬‬
‫‪ ,‬ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة ‪ .‬ولكنهم كانوا ‪ -‬مع هذا ‪ -‬مرتبطين بالعروة الوثقى‬
‫التي تشدهم إلى ال ; و تمنعهم من السقوط ; وتجدد فيهم المل ‪ ,‬وتحرسهم من القنوط ‪. .‬‬
‫وكانوا بهذا وذاك نموذجا فريدا في تاريخ البشرية لم يعرف له نظير ‪.‬‬
‫وعلينا أن ندرك هذا لندرك ذلك النموذج الفريد في تاريخ العصور ‪ .‬علينا أن ندرك أنهم كانوا‬
‫بشرا ‪ ,‬لم يتخلوا عن طبيعة البشر ‪ ,‬بما فيها من قوة و ضعف ‪ .‬وأن منشأ امتيازهم أنهم بلغوا‬
‫في بشريتهم هذه أعلى قمة مهيأة لبني النسان ‪ ,‬في الحتفاظ بخصائص البشر في الرض مع‬
‫الستمساك بعروة السماء ‪.‬‬
‫وحين نرانا ضعفنا مرة ‪ ,‬أو زلزلنا مرة ‪ ,‬أو فزعنا مرة ‪ ,‬أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة‬
‫والضيق ‪ . .‬فعلينا أل نيأس من أنفسنا ‪ ,‬وأل نهلع ونحسب أننا هلكنا ; أو أننا لم نعد نصلح‬
‫لشيء عظيم أبدا ! ولكن علينا في الوقت ذاته أل نقف إلى جوار ضعفنا لنه من فطرتنا‬
‫البشرية ! ونصر عليه لنه يقع لمن هم خير منا ! هنالك العروة الوثقى ‪ .‬عروة السماء ‪ .‬وعلينا‬
‫أن نستمسك بها لننهض من الكبوة ‪ ,‬ونسترد الثقة والطمأنينة ‪ ,‬ونتخذ من الزلزال بشيرا بالنصر‬
‫‪ .‬فنثبت ونستقر ‪ ,‬ونقوى ونطمئن ‪ ,‬ونسير في الطريق ‪. .‬‬
‫وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر السلم ‪ .‬النموذج الذي يذكر عنه‬
‫القرآن الكريم مواقفه الماضية وحسن بلئه وجهاده ‪ ,‬وثباته على عهده مع ال ‪ ,‬فمنهم من لقيه ‪,‬‬
‫ومنهم من ينتظر أن يلقاه‪:‬‬
‫(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا ال عليه ‪ .‬فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ‪ .‬وما‬
‫بدلوا تبديل) ‪. .‬‬
‫هذا في مقابل ذلك النموذج الكريه ‪ .‬نموذج الذين عاهدوا ال من قبل ل يولون الدبار ‪ .‬ثم ولم‬
‫يوفوا بعهد ال‪( :‬وكان عهد ال مسؤول) ‪. .‬‬
‫***************‬
‫كثير من الناس يلومون حماس على موقفها فيقولون بلسان الحال والمقال ‪ :‬نحن اليوم ضعفاء‬
‫فكيف نقابل أعتى قوة في العالم ؟ والنتيجة هي البادة ل محالة وإهلك الحرث والنسل في‬
‫عالم ل يؤمن إل بالقوة !!!!!‬
‫والجواب على هذه الشبهة يسير ‪:‬‬

‫‪27‬‬
‫فال تعالى أمرنا بالجهاد في سبيله مهما كنا قلة فليس النصر للكثرة دائما قال تعالى في سورة‬
‫البقرة ‪:‬‬
‫ط َعمْهُ‬
‫ش ِربَ ِمنْهُ َفَل ْيسَ ِمنّي َومَن لّمْ يَ ْ‬
‫ن اللّهَ ُم ْب َتلِيكُم ِب َن َهرٍ َفمَن َ‬
‫جنُودِ قَالَ إِ ّ‬
‫َفَلمّا َفصَلَ طَالُوتُ بِا ْل ُ‬
‫ش ِربُواْ ِمنْهُ إِلّ َقلِيلً ّم ْنهُمْ َفَلمّا جَا َو َزهُ ُهوَ وَالّذِينَ آ َمنُواْ َمعَهُ‬
‫غرْفَةً ِبيَ ِدهِ فَ َ‬
‫غ َت َرفَ ُ‬
‫فَِإنّهُ ِمنّي إِلّ مَنِ ا ْ‬
‫غَل َبتْ‬
‫ظنّونَ َأ ّنهُم مّلَقُو اللّهِ كَم مّن ِفئَةٍ َقلِيلَةٍ َ‬
‫قَالُواْ لَ طَاقَةَ َلنَا ا ْل َيوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنو ِدهِ قَالَ الّذِينَ يَ ُ‬
‫جنُو ِدهِ قَالُواْ َر ّبنَا أَ ْفرِغْ‬
‫ن اللّهِ وَاللّهُ مَ َع الصّا ِبرِينَ (‪َ )249‬وَلمّا َب َرزُواْ لِجَالُوتَ وَ ُ‬
‫ِفئَةً َكثِي َرةً بِإِذْ ِ‬
‫ن اللّهِ وَ َقتَلَ دَاوُودُ‬
‫علَى الْ َقوْمِ ا ْلكَا ِفرِينَ (‪َ )250‬ف َه َزمُوهُم بِإِذْ ِ‬
‫صرْنَا َ‬
‫ص ْبرًا َو َث ّبتْ أَقْدَا َمنَا وَان ُ‬
‫عَل ْينَا َ‬
‫َ‬
‫ضهُمْ ِب َبعْضٍ لّفَسَ َدتِ‬
‫عّلمَهُ ِممّا يَشَاء َوَلوْلَ دَفْ ُع اللّ ِه النّاسَ َب ْع َ‬
‫ح ْكمَةَ وَ َ‬
‫جَالُوتَ وَآتَا ُه اللّهُ ا ْل ُم ْلكَ وَالْ ِ‬
‫عَل ْيكَ بِالْحَقّ َوِإ ّنكَ َلمِنَ‬
‫ت اللّهِ َن ْتلُوهَا َ‬
‫علَى ا ْلعَاَلمِينَ (‪ِ )251‬ت ْلكَ آيَا ُ‬
‫ن اللّهَ ذُو َفضْلٍ َ‬
‫لرْضُ َولَـكِ ّ‬
‫اَ‬
‫سلِينَ (‪)252‬‬
‫ا ْل ُمرْ َ‬
‫والمؤمنون والمجاهدون في سبيل ال كانوا قلة عبر العصور السلمية كلها‬
‫وكذلك فإنها بيعة مع ال قال تعالى في سورة التوبة ‪:‬‬
‫ل اللّهِ َفيَ ْق ُتلُونَ‬
‫سبِي ِ‬
‫جنّةَ يُقَا ِتلُونَ فِي َ‬
‫سهُمْ َوَأ ْموَاَلهُم بِأَنّ َلهُمُ ال َ‬
‫ش َترَى مِنَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ أَنفُ َ‬
‫ن اللّهَ ا ْ‬
‫إِ ّ‬
‫شرُواْ‬
‫س َتبْ ِ‬
‫ن اللّهِ فَا ْ‬
‫عَليْهِ حَقّا فِي ال ّتوْرَاةِ وَالِنجِيلِ وَالْ ُقرْآنِ َومَنْ َأوْفَى ِب َعهْ ِدهِ مِ َ‬
‫َويُ ْق َتلُونَ وَعْدًا َ‬
‫ِب َب ْي ِعكُمُ الّذِي بَا َي ْعتُم بِهِ وَ َذِلكَ ُهوَ الْ َف ْوزُ ا ْلعَظِيمُ (‪)111‬‬
‫والبيعة ل بد لها من ثمن ويجب أن يكون باهظا‬
‫يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال ‪:‬‬
‫إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن ‪ . .‬كل مؤمن على الطلق منذ كانت‬
‫الرسل ومنذ كان دين اللّه ‪ . .‬إنها السنة الجارية التي ل تستقيم هذه الحياة بدونها ول تصلح‬
‫الحياة بتركها‪( :‬ولول دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الرض) ‪( . .‬ولول دفع اللّه الناس‬
‫بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اللّه كثيرا) ‪. .‬‬
‫إن الحق ل بد أن ينطلق في طريقه ‪ .‬ول بد أن يقف له الباطل في الطريق ! ‪ . .‬بل ل بد أن‬
‫يأخذ عليه الطريق ‪ . .‬إن دين اللّه ل بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى‬
‫العبودية للّه وحده ‪ .‬ول بد أن يقف له الطاغوت في الطريق ‪ . .‬بل ل بد أن يقطع عليه‬
‫الطريق ‪ . .‬ول بد لدين ال أن ينطلق في "الرض" كلها لتحرير "النسان" كله ‪ .‬ول بد للحق‬
‫أن يمضي في طريقه ول ينثني عنه ليدع للباطل طريقا ! ‪ . .‬وما دام في "الرض" كفر ‪ .‬وما‬

‫‪28‬‬
‫دام في "الرض" باطل ‪ .‬وما دامت في "الرض" عبودية لغير اللّه تذل كرامة "النسان" فالجهاد‬
‫في سبيل اللّه ماض ‪ ,‬والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء ‪ .‬وإل فليس باليمان‪:‬و " من‬
‫مات ولم يغز ‪ ,‬ولم يحدث نفسه بغزو ‪ ,‬مات على شعبة من النفاق " ‪ [ . . .‬رواه المام أحمد ‪,‬‬
‫وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي ] ‪.‬‬
‫(فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ‪ ,‬وذلك هو الفوز العظيم) ‪.‬‬
‫استبشروا بإخلص أنفسكم وأموالكم للّه ‪ ,‬وأخذ الجنة عوضا وثمنا ‪ ,‬كما وعد اللّه ‪ . .‬وما الذي‬
‫فات ? ما الذي فات المؤمن الذي يسلم للّه نفسه وماله ويستعيض الجنة ? واللّه ما فاته شيء ‪.‬‬
‫فالنفس إلى موت ‪ ,‬والمال إلى فوت ‪ .‬سواء أنفقهما صاحبهما في سبيل اللّه أم في سبيل سواه !‬
‫والجنة كسب ‪ .‬كسب بل مقابل في حقيقة المر ول بضاعة ! فالمقابل زائل في هذا الطريق أو‬
‫ذاك !‬
‫ودع عنك رفعة النسان وهو يعيش للّه ‪ .‬ينتصر ‪ -‬إذا انتصر ‪ -‬لعلء كلمته ‪ ,‬وتقرير دينه ‪,‬‬
‫وتحرير عباده من العبودية المذلة لسواه ‪ .‬ويستشهد ‪ -‬إذا استشهد ‪ -‬في سبيله ‪ ,‬ليؤدي لدينه‬
‫شهادة بأنه خير عنده من الحياة ‪ .‬ويستشعر في كل حركة وفي كل خطوة ‪ -‬أنه أقوى من قيود‬
‫الرض وأنه أرفع من ثقلة الرض ‪ ,‬واليمان ينتصر فيه على اللم ‪ ,‬والعقيدة تنتصر فيه على‬
‫الحياة ‪.‬‬
‫إن هذا وحده كسب ‪ .‬كسب بتحقيق إنسانية النسان التي ل تتأكد كما تتأكد بانطلقه من أوهاق‬
‫الضرورة ; وانتصار اليمان فيه على اللم ‪ ,‬وانتصار العقيدة فيه على الحياة ‪ . .‬فإذا أضيفت‬
‫إلى ذلك كله ‪ . .‬الجنة ‪ . .‬فهو بيع يدعو إلى الستبشار ; وهو فوز ل ريب فيه ول جدال‪:‬‬
‫(فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ‪ ,‬وذلك هو الفوز العظيم) ‪.‬‬
‫ثم نقف وقفة قصيرة أمام قوله تعالى في هذه الية‪:‬‬
‫(وعدا عليه حقا في التوراة والنجيل والقرآن) ‪. .‬‬
‫فوعد اللّه للمجاهدين في سبيله في القرآن معروف مشهور مؤكد مكرور ‪ . .‬وهو ل يدع مجال‬
‫للشك في إصالة عنصر الجهاد في سبيل اللّه في طبيعة هذا المنهج الرباني ; باعتباره الوسيلة‬
‫المكافئة للواقع البشري ‪ -‬ل في زمان بعينه ول في مكان بعينه ‪ -‬ما دام أن الجاهلية ل تتمثل‬
‫في نظرية تقابل بنظرية ولكنها تتمثل في تجمع عضوي حركي ‪ ,‬يحمي نفسه بالقوة المادية ;‬
‫ويقاوم دين اللّه وكل تجمع إسلمي على أساسه بالقوة المادية كذلك ; ويحول دون الناس‬

‫‪29‬‬
‫والستماع لعلن السلم العام بألوهية اللّه وحده للعباد ‪ ,‬وتحرير "النسان" في "الرض" من‬
‫العبودية للعباد ‪ .‬كما يحول دونهم ودون النضمام العضوي إلى التجمع السلمي المتحرر من‬
‫عبادة الطاغوت بعبوديته ل وحده دون العباد ‪ . .‬ومن ثم يتحتم على السلم في انطلقه في‬
‫"الرض" لتحقيق إعلنه العام بتحرير "النسان" أن يصطدم بالقوة المادية التي تحمي التجمعات‬
‫الجاهلية ; والتي تحاول بدورها ‪ -‬في حتمية ل فكاك منها ‪ -‬أن تسحق حركة البعث السلمي‬
‫وتخفت إعلنه التحريري ‪ ,‬لستبقاء العباد في رق العبودية للعباد !‬
‫فأما وعد اللّه للمجاهدين في التوراة والنجيل ‪ .‬فهو الذي يحتاج إلى شيء من البيان ‪. .‬‬
‫إن التوراة والنجيل اللذين في أيدي اليهود والنصارى اليوم ل يمكن القول بأنهما هما اللذان‬
‫أنزلهما اللّه على نبيه موسى وعلى نبيه عيسى عليهما السلم ! وحتى اليهود والنصارى أنفسهم‬
‫ل يجادلون في أن النسخة الصلية لهذين الكتابين ل وجود لها ; وأن ما بين أيديهم قد كتب بعد‬
‫فترة طويلة ضاعت فيها معظم أصول الكتابين ; ولم يبق إل ما وعته ذاكرة بعد ذاكرة ‪ . .‬وهو‬
‫قليل ‪ . .‬أضيف إليه الكثير !‬
‫ومع ذلك فما تزال في كتب العهد القديم إشارات إلى الجهاد ‪ ,‬والتحريض لليهود على قتال‬
‫أعدائهم الوثنيين ‪ ,‬لنصر إلههم وديانته وعبادته ! وإن كانت التحريفات قد شوهت تصورهم للّه‬
‫‪ -‬سبحانه ‪ -‬وتصورهم للجهاد في سبيله ‪.‬‬
‫فأما في الناجيل التي بين أيدي النصارى اليوم فل ذكر ول إشارة إلى جهاد ‪ . .‬ولكننا في‬
‫حاجة شديدة إلى تعديل المفهومات السائدة عن طبيعة النصرانية ; فهذه المفهومات إنما جاءت‬
‫من هذه الناجيل التي ل أصل لها ‪ -‬بشهادة الباحثين النصارى أنفسهم ! ‪ -‬وقبل ذلك بشهادة‬
‫اللّه سبحانه كما وردت في كتابه المحفوظ الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه ‪.‬‬
‫واللّه سبحانه يقول في كتابه المحفوظ‪:‬إن وعده بالجنة لمن يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون‬
‫; ثابت في التوراة والنجيل والقرآن ‪ . .‬فهذا إذن هو القول الفصل الذي ليس بعده لقائل مقال !‬
‫إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن ‪ .‬كل مؤمن على الطلق ‪ .‬منذ كانت‬
‫الرسل ‪ ,‬ومنذ كان دين اللّه ‪. .‬‬
‫ولكن الجهاد في سبيل اللّه ليس مجرد اندفاعة إلى القتال ; إنما هو قمة تقوم على قاعدة من‬
‫اليمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلق وأعمال ‪ .‬والمؤمنون الذين عقد اللّه معهم البيعة ‪,‬‬
‫والذين تتمثل فيهم حقيقة اليمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة‪:‬‬

‫‪30‬‬
‫(التائبون ‪ .‬العابدون ‪ .‬الحامدون ‪ .‬السائحون ‪ .‬الراكعون الساجدون ‪ .‬المرون بالمعروف‬
‫والناهون عن المنكر ‪ .‬والحافظون لحدود ال) ‪. .‬‬
‫(التائبون) ‪ . .‬مما أسلفوا ‪ ,‬العائدون إلى اللّه مستغفرين ‪ .‬والتوبة شعور بالندم على ما مضى ‪,‬‬
‫وتوجه إلى اللّه فيما بقي ‪ ,‬وكف عن الذنب ‪ ,‬وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل كما يحققها‬
‫بالترك ‪ .‬فهي طهارة وزكاة وتوجه وصلح ‪.‬‬
‫(العابدون) ‪ . .‬المتوجهون إلى اللّه وحده بالعبادة وبالعبودية ‪ ,‬إقرارا بالربوبية ‪ . .‬صفة هذه‬
‫ثابتة في نفوسهم تترجمها الشعائر ‪ ,‬كما يترجمها التوجه إلى ال وحده بكل عمل وبكل قول‬
‫وبكل طاعة وبكل اتباع ‪ .‬فهي إقرار باللوهية والربوبية للّه في صورة عملية واقعية ‪.‬‬
‫(الحامدون) ‪ . .‬الذين تنطوي قلوبهم على العتراف للمنعم بالنعمة ; وتلهج ألسنتهم بحمد اللّه‬
‫في السراء والضراء ‪ .‬في السراء للشكر على ظاهر النعمة ‪ ,‬وفي الضراء للشعور بما في‬
‫البتلء من الرحمة ‪ .‬وليس الحمد هو الحمد في السراء وحدها ‪ ,‬ولكنه الحمد في الضراء حين‬
‫يدرك القلب المؤمن أن اللّه الرحيم العادل ما كان ليبتلي المؤمن إل لخير يعلمه ‪ ,‬مهما خفي‬
‫على العباد إدراكه ‪.‬‬
‫(السائحون) ‪ . .‬وتختلف الروايات فيهم ‪ .‬فمنها ما يقول‪:‬إنهم المهاجرون ‪ .‬ومنها ما يقول‪:‬إنهم‬
‫المجاهدون ‪ .‬ومنها ما يقول‪:‬إنهم المتنقلون في طلب العلم ‪ .‬ومنهم من يقول‪:‬إنهم الصائمون ‪. .‬‬
‫ونحن نميل إلى اعتبارهم المتفكرين في خلق اللّه وسننه ‪ ,‬ممن قيل في أمثالهم في موضع آخر‪:‬‬
‫(إن في خلق السماوات والرض ‪ .‬واختلف الليل والنهار ليات لولي اللباب ‪ ,‬الذين يذكرون‬
‫اللّه قياما وقعودا وعلى جنوبهم ‪ ,‬ويتفكرون في خلق السماوات والرض‪:‬ربنا ما خلقت هذا‬
‫باطلً سبحانك ! ‪ . . ). . .‬فهذه الصفة أليق هنا بالجو بعد التوبة والعبادة والحمد ‪ .‬فمع التوبة‬
‫والعبادة والحمد يكون التدبر في ملكوت اللّه على هذا النحو الذي ينتهي بالنابة إلى اللّه ‪,‬‬
‫وإدراك حكمته في خلقه ‪ ,‬وإدراك الحق الذي يقوم عليه الخلق ‪ .‬ل للكتفاء بهذا الدراك وإنفاق‬
‫العمر في مجرد التأمل والعتبار ‪ .‬ولكن لبناء الحياة وعمرانها بعد ذلك على أساس هذا‬
‫الدراك ‪. .‬‬
‫(الراكعون الساجدون) ‪ . .‬الذين يقيمون الصلة ويقومون بالصلة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم‬
‫; وكأن الركوع والسجود طابع مميز بين الناس لهم ‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫(المرون بالمعروف والناهون عن المنكر) ‪ . .‬وحين يقوم المجتمع المسلم الذي تحكمه شريعة‬
‫اللّه ‪ ,‬فيدين للّه وحده ول يدين لسواه ‪ ,‬يكون المر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل هذا‬
‫المجتمع ; ويتناول ما يقع فيه من أخطاء وانحرافات عن منهج اللّه وشرعه ‪ . .‬ولكن حين ل‬
‫يكون في الرض مجتمع مسلم ; وذلك حين ل يكون في الرض مجتمع الحاكمية فيه للّه وحده‬
‫‪ ,‬وشريعة اللّه وحدها هي الحاكمة فيه ‪ ,‬فإن المر بالمعروف يجب أن يتجه أولً إلى المر‬
‫بالمعروف الكبر ‪ ,‬وهو تقرير ألوهية اللّه وحده سبحانه وتحقيق قيام المجتمع المسلم ‪ .‬والنهي‬
‫عن المنكر يجب أن يتجه أولً إلى النهي عن المنكر الكبر ‪ .‬وهو حكم الطاغوت وتعبيد الناس‬
‫لغير اللّه عن طريق حكمهم بغير شريعة اللّه ‪ . .‬والذين آمنوا بمحمد ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪-‬‬
‫هاجروا وجاهدوا ابتداء لقامة الدولة المسلمة الحاكمة بشريعة اللّه ‪ ,‬وإقامة المجتمع المسلم‬
‫المحكوم بهذه الشريعة ‪ .‬فلما تم لهم ذلك كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في‬
‫الفروع المتعلقة بالطاعات والمعاصي ‪ .‬ولم ينفقوا قط جهدهم ‪ ,‬قبل قيام الدولة المسلمة‬
‫والمجتمع المسلم في شيء من هذه التفريعات التي ل تنشأ إل بعد قيام الصل الصيل ! ومفهوم‬
‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر ل بد أن يدرك وفق مقتضى الواقع ‪ .‬فل يبدأ بالمعروف‬
‫الفرعي والمنكر الفرعي قبل النتهاء من المعروف الكبر والمنكر الكبر ‪ ,‬كما وقع أول مرة‬
‫عند نشأة المجتمع المسلم !‬
‫(والحافظون لحدود اللّه) ‪ . .‬وهو القيام على حدود اللّه لتنفيذها في النفس وفي الناس ‪ .‬ومقاومة‬
‫من يضيعها أو يعتدي عليها ‪ . .‬ولكن هذه كالمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ,‬ل يقام عليها‬
‫إل في مجتمع مسلم ‪ .‬ول مجتمع مسلم إل المجتمع الذي تحكمه شريعة اللّه وحدها في أمره كله‬
‫; وإل الذي يفرد اللّه سبحانه باللوهية والربوبية والحاكمية والتشريع ; ويرفض حكم الطاغوت‬
‫المتمثل في كل شرع لم يأذن به اللّه ‪ . .‬والجهد كله يجب أن ينفق ابتداء لقامة هذا المجتمع ‪.‬‬
‫ومتى قام كان هناك مكان للحافظين لحدود اللّه فيه ‪ . .‬كما وقع كذلك أول مرة عند نشأة‬
‫المجتمع المسلم !‬
‫هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد اللّه معها بيعته ‪ .‬وهذه هي صفاتها ومميزاتها‪:‬توبة ترد العبد‬
‫إلى اللّه ‪ ,‬وتكفه عن الذنب ‪ ,‬وتدفعه إلى العمل الصالح ‪ .‬وعبادة تصله باللّه وتجعل اللّه معبوده‬
‫وغايته ووجهته ‪ .‬وحمد للّه على السراء والضراء نتيجة الستسلم الكامل للّه والثقة المطلقة‬
‫برحمته وعدله ‪ .‬وسياحة في ملكوت اللّه مع آيات اللّه الناطقة في الكون الدالة على الحكمة‬

‫‪32‬‬
‫والحق في تصميم الخلق ‪ .‬وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلح الذات إلى إصلح‬
‫العباد والحياة ‪ .‬وحفظ لحدود اللّه يرد عنها العادين والمضيعين ‪ ,‬ويصونها من التهجم والنتهاك‬
‫‪..‬‬
‫هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها اللّه على الجنة ‪ ,‬واشترى منها النفس والموال ‪ ,‬لتمضي‬
‫مع سنة اللّه الجارية منذ كان دين اللّه ورسله ورسالته ‪ .‬قتال في سبيل اللّه لعلء كلمة اللّه ;‬
‫وقتل لعداء اللّه الذين يحادون ال ; أو استشهاد في المعركة التي ل تفتر بين الحق والباطل ‪,‬‬
‫وبين السلم والجاهلية ‪ ,‬وبين الشريعة والطاغوت ‪ ,‬وبين الهدى والضلل ‪.‬‬
‫وليست الحياة لهوا ولعبا ‪ .‬وليست الحياة أكلً كما تأكل النعام ومتاعا ‪ .‬وليست الحياة سلمة‬
‫ذليلة ‪ ,‬وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة ‪ . .‬إنما الحياة هي هذه‪:‬كفاح في سبيل الحق ‪,‬‬
‫وجهاد في سبيل الخير ‪ ,‬وانتصار لعلء كلمة اللّه ‪ ,‬أو استشهاد كذلك في سبيل اللّه ‪ . .‬ثم‬
‫الجنة والرضوان ‪. .‬‬
‫هذه هي الحياة التي يدعى إليها المؤمنون باللّه‪( :‬يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا‬
‫دعاكم لما يحييكم) ‪ . . .‬وصدق اللّه ‪ .‬وصدق رسول اللّه ‪. .‬‬
‫***********‬
‫غ ْيرُ ُأ ْولِي‬
‫س َتوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُمؤْ ِمنِينَ َ‬
‫شتان بين القاعدين والمجاهدين قال تعالى ‪ { :‬لّ يَ ْ‬
‫علَى‬
‫سهِمْ َ‬
‫ل اللّهُ ا ْلمُجَاهِدِينَ بَِأ ْموَاِلهِمْ َوأَنفُ ِ‬
‫سهِمْ َفضّ َ‬
‫ل اللّهِ بَِأ ْموَاِلهِمْ َوأَنفُ ِ‬
‫سبِي ِ‬
‫ض َررِ وَا ْلمُجَاهِدُونَ فِي َ‬
‫ال ّ‬
‫جرًا عَظِيمًا (‪)95‬‬
‫علَى الْقَاعِدِينَ أَ ْ‬
‫ل اللّهُ ا ْلمُجَاهِدِينَ َ‬
‫سنَى وَ َفضّ َ‬
‫الْقَاعِدِينَ َد َرجَةً َوكُلّ وَعَدَ اللّهُ الْحُ ْ‬
‫ن اللّهُ غَفُورًا رّحِيمًا (‪ )96‬سورة النساء‬
‫حمَةً َوكَا َ‬
‫َدرَجَاتٍ ّمنْهُ َو َمغْ ِف َرةً َورَ ْ‬
‫يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال‬
‫إن هذا النص القرآني كان يواجه حالة خاصة في المجتمع المسلم وما حوله ; وكان يعالج حالة‬
‫خاصة في هذا المجتمع من التراخي ‪ -‬من بعض عناصره ‪ -‬في النهوض بتكاليف الجهاد‬
‫بالموال والنفس ‪ .‬سواء كان المقصود أولئك الذين تخلفوا عن الهجرة احتفاظا بأموالهم ‪ ,‬إذ لم‬
‫يكن المشركون يسمحون لمهاجر أن يحمل معه شيئا من ماله ; أو توفيرا لعناء الهجرة وما فيها‬
‫من مخاطر ‪ ,‬إذ لم يكن المشركون يتركون المسلمين يهاجرون ‪ ,‬وكثيرا ما كانوا يحبسونهم‬
‫ويؤذونهم ‪ -‬أو يزيدون في إيذائهم بتعبير أدق ‪ -‬إذا عرفوا منهم نية الهجرة ‪ . .‬سواء كان‬
‫المقصود هم أولئك الذين تخلفوا عن الهجرة ‪ -‬وهو ما نرجحه ‪ -‬أو كان المقصود بعض‬

‫‪33‬‬
‫المسلمين في دار السلم ‪ ,‬الذين لم ينشطوا للجهاد بالموال والنفس ‪ -‬من غير المنافقين‬
‫المبطئين الذين ورد ذكرهم في درس سابق ‪ -‬أو كان المقصود هؤلء وهؤلء ممن لم ينشطوا‬
‫للجهاد بالموال والنفس في دار الحرب ودار السلم سواء ‪.‬‬
‫إن هذا النص كان يواجه هذه الحالة الخاصة ; ولكن التعبير القرآني يقرر قاعدة عامة ; يطلقها‬
‫من قيود الزمان ‪ ,‬وملبسات البيئة ; ويجعلها هي القاعدة التي ينظر ال بها إلى المؤمنين في‬
‫كل زمان وفي كل مكان ‪ -‬قاعدة عدم الستواء بين القاعدين من المؤمنين عن الجهاد بالموال‬
‫والنفس ‪ -‬غير اولي الضرر الذين يقعدهم العجز عن الجهاد بالنفس ‪ ,‬او يقعدهم الفقر والعجز‬
‫عن الجهاد بالنفس والمال ‪ -‬عدم الستواء بين هؤلء القاعدين والخرين الذين يجاهدون‬
‫بأموالهم وأنفسهم ‪ . .‬قاعدة عامة على الطلق (ل يستوي القاعدون من المؤمنين ‪ -‬غير أولي‬
‫الضرر ‪ -‬والمجاهدون في سبيل ال بأموالهم وأنفسهم) ‪. .‬‬
‫ول يتركها هكذا مبهمة ‪ ,‬بل يوضحها ويقررها ‪ ,‬ويبين طبيعة عدم الستواء بين الفريقين‪:‬‬
‫(فضل ال المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) ‪. .‬‬
‫وهذه الدرجة يمثلها رسول ال صلى ال عليه وسلم في مقامهم في الجنة ‪.‬‬
‫في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري ‪ ,‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ :‬إن في الجنة‬
‫مائة درجة أعدها ال للمجاهدين في سبيله ‪ .‬وما بين كل درجتين كما بين السماء والرض ‪. .‬‬
‫وقال العمش عن عمرو بن مرة ‪ ,‬عن أبى عبيدة ‪ ,‬عن عبدال بن مسعود قال‪:‬قال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ":‬من رمى بسهم فله أجره درجة " ‪ . .‬فقال رجل‪:‬يا رسول ال ‪ ,‬وما‬
‫الدرجة ? فقال‪:‬‬
‫"أما إنها ليست بعتبة أمك ‪ .‬ما بين الدرجتين مائة عام " ‪.‬‬
‫وهذه المسافات التي يمثل بها رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ,‬نحسب أننا اليوم أقدر على‬
‫تصورها ; بعد الذي عرفناه من بعض أبعاد الكون ‪ .‬حتى إن الضوء ليصل من نجم إلى كوكب‬
‫في مئات السنين الضوئية وقد كان الذين يسمعون رسول ال صلى ال عليه وسلم يصدقونه بما‬
‫يقول ‪ .‬ولكنا ‪ -‬كما قلت ‪ -‬ربما كنا أقدر ‪ -‬فوق اليمان ‪ -‬على تصور هذه البعاد بما عرفناه‬
‫من بعض أبعاد الكون العجيب !‬
‫ثم يعود السياق بعد تقرير هذا الفارق في المستوى بين القاعدين من المؤمنين ‪ -‬غير اولي‬
‫الضرر ‪ -‬والمجاهدين بأموالهم وأنفسهم ‪ ,‬فيقرر أن ال وعد جميعهم الحسنى‪:‬‬

‫‪34‬‬
‫(وكل وعد ال الحسنى) ‪. .‬‬
‫فلليمان وزنه وقيمته على كل حال ; مع تفاضل أهله في الدرجات وفق تفاضلهم في النهوض‬
‫بتكاليف اليمان ; فيما يتعلق بالجهاد بالموال والنفس ‪ . .‬وهذا الستدراك هو الذي نفهم منه‬
‫أن هؤلء القاعدين ليسوا هم المنافقين المبطئين ‪ .‬إنما هم طائفة أخرى صالحة في الصف‬
‫المسلم ومخلصة ; ولكنها قصرت في هذا الجانب ; والقرآن يستحثها لتلفي التقصير ; والخير‬
‫مرجو فيها ‪ ,‬والمل قائم في أن تستجيب ‪.‬‬
‫فإذا انتهى من هذا الستدراك عاد لتقرير القاعدة الولى ; مؤكدا لها ‪ ,‬متوسعا في عرضها ;‬
‫ممعنا في الترغيب فيما وراءها من أجر عظيم‪:‬‬
‫وفضل ال المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ‪ .‬درجات منه ومغفرة ورحمة ‪ .‬وكان ال‬
‫غفورا رحيمًا ‪.‬‬
‫وهذا التوكيد ‪ . .‬وهذه الوعود ‪ . .‬وهذا التمجيد للمجاهدين ‪ . .‬والتفضيل على القاعدين ‪. .‬‬
‫والتلويح بكل ما تهفو له نفس المؤمن من درجات الجر العظيم ‪ .‬ومن مغفرة ال ورحمته‬
‫للذنوب والتقصير ‪. .‬‬
‫هذا كله يشي بحقيقتين هامتين‪:‬‬
‫الحقيقة الولى‪:‬هي أن هذه النصوص كانت تواجه حالت قائمة في الجماعة المسلمة كما أسلفنا‬
‫وتعالجها ‪ .‬وهذا كفيل بأن يجعلنا أكثر إدراكا لطبيعة النفس البشرية ‪ ,‬ولطبيعة الجماعات‬
‫البشرية ‪ ,‬وأنها مهما بلغت في مجموعها من التفوق في اليمان والتربية فهي دائما في حاجة‬
‫إلى علج ما يطرأ عليها من الضعف والحرص والشح والتقصير في مواجهة التكاليف ‪,‬‬
‫وبخاصة تكاليف الجهاد بالموال والنفس ‪ ,‬مع خلوص النفس ل ‪ ,‬وفي سبيل ال ‪ .‬وظهور‬
‫هذه الخصائص البشرية ‪ -‬من الضعف والحرص والشح والتقصير ‪ -‬ل يدعو لليأس من النفس‬
‫أو الجماعة ‪ ,‬ول إلى نفض اليد منها ‪ ,‬وازدرائها ; طالما أن عناصر الخلص والجد والتعلق‬
‫بالصف والرغبة في التعامل مع ال موفورة فيها ‪ . .‬ولكن ليس معنى هذا هو إقرار النفس أو‬
‫الجماعة على ما بدا منها من الضعف والحرص والشح والتقصير ; والهتاف لها بالنبطاح في‬
‫السفح ‪ ,‬باعتبار أن هذا كله جزء من "واقعها" ! بل ل بد لها من الهتاف لتنهض من السفح‬
‫والحداء لتسير في المرتقى الصاعد ‪ ,‬إلى القمة السامقة ‪ .‬بكل ألوان الهتاف والحداء ‪ . .‬كما‬
‫نرى هنا في المنهج الرباني الحكيم ‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫والحقيقة الثانية‪:‬هي قيمة الجهاد بالموال والنفس في ميزان ال واعتبارات هذا الدين وأصالة‬
‫هذا العنصر في طبيعة هذه العقيدة وهذا النظام ‪ .‬لما يعلمه ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬من طبيعة الطريق‬
‫; وطبيعة البشر ; وطبيعة المعسكرات المعادية للسلم في كل حين ‪.‬‬
‫إن "الجهاد" ليس ملبسة طارئة من ملبسات تلك الفترة ‪ .‬إنما هو ضرورة مصاحبة لركب هذه‬
‫الدعوة ! وليست المسألة ‪ -‬كما توهم بعض المخلصين ‪ -‬أن السلم نشأ في عصر‬
‫اللمبراطوريات ; فاندس في تصوراتأهله ‪ -‬اقتباسا مما حولهم ‪ -‬أنه ل بد لهم من قوة قاهرة‬
‫لحفظ التوازن !‬
‫هذه المقررات تشهد ‪ -‬على القل ‪ -‬بقلة ملبسة طبيعة السلم الصلية لنفوس هؤلء القائلين‬
‫بهذه التكهنات والظنون ‪.‬‬
‫لو كان الجهاد ملبسة طارئة في حياة المة المسلمة ما استغرق كل هذه الفصول من صلب‬
‫كتاب ال ; في مثل هذا السلوب ! ولما استغرق كذلك كل هذه الفصول من سنة رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم وفي مثل هذا السلوب ‪. .‬‬
‫لو كان الجهاد ملبسة طارئة ما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم تلك الكلمة الشاملة لكل‬
‫مسلم إلى قيام الساعة‪ ":‬من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق " ‪.‬‬
‫ولئن كان صلى ال عليه وسلم رد في حالت فردية بعض المجاهدين ‪ ,‬لظروف عائلية لهم‬
‫خاصة ‪ ,‬كالذي جاء في الصحيح أن رجل قال للنبي صلى ال عليه وسلم أجاهد ‪ .‬قال‪ ":‬لك‬
‫أبوان ? " قال‪:‬نعم ‪ .‬قال ‪ " ,‬ففيهما جاهد " ‪ . .‬لئن كان ذلك فإنما هي حالة فردية ل تنقض‬
‫القاعدة العامة ; وفرد واحد ل ينقض المجاهدين الكثيرين ‪ .‬ولعله صلى ال عليه وسلم على‬
‫عادته في معرفة كل ظروف جنوده فردا فردا ‪ ,‬كان يعلم من حال هذا الرجل وأبويه ‪ ,‬ما جعله‬
‫يوجهه هذا التوجيه ‪. .‬‬
‫فل يقولن أحد ‪ -‬بسبب ذلك ‪ -‬إنما كان الجهاد ملبسة طارئة بسبب ظروف ‪ .‬وقد تغيرت هذه‬
‫الظروف !‬
‫وليس ذلك لن السلم يجب أن يشهر سيفه ويمشي به في الطريق يقطع به الروؤس ! ولكن‬
‫لن واقع حياة الناس وطبيعة طريق الدعوة تلزمه أن يمسك بهذا السيف ويأخذ حذره في كل‬
‫حين !‬

‫‪36‬‬
‫إن ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يعلم أن هذا أمر تكرهه الملوك ! ويعلم أن ل بد لصحاب السلطان أن‬
‫يقاوموه ‪ .‬لنه طريق غير طريقهم ‪ ,‬ومنهج غير منهجهم ‪ .‬ليس بالمس فقط ‪ .‬ولكن اليوم‬
‫وغدا ‪ .‬وفي كل أرض ‪ ,‬وفي كل جيل !‬
‫وإن ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يعلم أن الشر متبجح ‪ ,‬ول يمكن أن يكون منصفا ‪ .‬ول يمكن أن يدع‬
‫الخير ينمو ‪ -‬مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة ! ‪ -‬فإن مجرد نمو الخير يحمل‬
‫الخطورة على الشر ‪ .‬ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل ‪ .‬ول بد أن يجنح‬
‫الشر‪:‬إلى العدوان ; ول بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة !‬
‫هذه جبلة ! وليست ملبسة وقتية ‪. . .‬‬
‫هذه فطرة ! وليست حالة طارئة ‪. . .‬‬
‫ومن ثم ل بد من الجهاد ‪ . .‬لبد منه في كل صورة ‪ . .‬ول بد أن يبدأ في عالم الضمير ‪ .‬ثم‬
‫يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع والشهود ‪ .‬ول بد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح ‪.‬‬
‫ول بد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة ‪ . .‬وإل كان المر انتحارا ‪ .‬أو‬
‫كان هزل ل يليق بالمؤمنين !‬
‫ول بد من بذل الموال والنفس ‪ .‬كما طلب ال من المؤمنين ‪ .‬وكما اشترى منهم أنفسهم‬
‫وأموالهم بأن لهم الجنة ‪ . .‬فأما أن يقدر لهم الغلب ; أو يقدر لهم الستشهاد ; فذلك شأنه ‪-‬‬
‫سبحانه ‪ -‬وذلك قدره المصحوب بحكمته ‪ . .‬أما هم فلهم إحدى الحسنيين عند ربهم ‪ . .‬والناس‬
‫كلهم يموتون عندما يحين الجل ‪ . .‬والشهداء وحدهمهم الذين يستشهدون ‪. .‬‬
‫هناك نقط ارتكاز أصيلة في هذه العقيدة ‪ ,‬وفي منهجها الواقعي ‪ ,‬وفي خط سيرها المرسوم ‪,‬‬
‫وفي طبيعة هذا الخط وحتمياته الفطرية ‪ ,‬التي ل علقة لها بتغير الظروف ‪.‬‬
‫وهذه النقط ل يجوز أن تتميع في حس المؤمنين ‪ -‬تحت أي ظرف من الظروف ‪ .‬ومن هذه‬
‫النقط ‪ . .‬الجهاد ‪ . .‬الذي يتحدث عنه ال سبحانه هذا الحديث ‪ . .‬الجهاد في سبيل ال وحده ‪.‬‬
‫وتحت رايته وحدها ‪ . .‬وهذا هو الجهاد الذي يسمى من يقتلون فيه "شهداء" ويتلقاهم المل‬
‫العلى بالتكريم ‪. .‬‬
‫***************‬
‫ونحن نتربص إحدى الحسنيين قال تعالى في سورة التوبة ‪:‬‬

‫‪37‬‬
‫ص ْبكَ ُمصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَ ْذنَا َأ ْم َرنَا مِن َقبْلُ َو َي َت َولّواْ وّهُمْ َفرِحُونَ (‬
‫سؤْهُمْ َوإِن ُت ِ‬
‫سنَةٌ تَ ُ‬
‫صبْكَ حَ َ‬
‫إِن ُت ِ‬
‫علَى اللّهِ َف ْل َي َت َوكّلِ ا ْل ُم ْؤ ِمنُونَ (‪ )51‬قُلْ هَلْ‬
‫لنَا وَ َ‬
‫‪ )50‬قُل لّن ُيصِي َبنَا إِلّ مَا َك َتبَ اللّهُ َلنَا ُهوَ َموْ َ‬
‫س َن َييْنِ َونَحْنُ َن َت َربّصُ ِبكُمْ أَن ُيصِي َبكُ ُم اللّهُ ِبعَذَابٍ مّنْ عِن ِدهِ َأوْ بَِأيْدِينَا‬
‫َت َربّصُونَ ِبنَا إِلّ إِحْدَى الْحُ ْ‬
‫َف َت َر ّبصُواْ ِإنّا َم َعكُم ّم َت َر ّبصُونَ (‪)52‬‬
‫يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال‬
‫واللّه قد كتب للمؤمنين النصر ‪ ,‬ووعدهم به في النهاية ‪ ,‬فمهما يصبهم من شدة ‪ ,‬ومهما يلقوا‬
‫من ابتلء ‪ ,‬فهو إعداد للنصر الموعود ‪ ,‬ليناله المؤمنون عن بينة ‪ ,‬وبعد تمحيص ‪ ,‬وبوسائله‬
‫التي اقتضتها سنة اللّه ‪ ,‬نصرا عزيزا ل رخيصا ‪ ,‬وعزة تحميها نفوس عزيزة مستعدة لكل‬
‫ابتلء ‪ ,‬صابرة على كل تضحية ‪ .‬واللّه هو الناصر وهو المعين‪:‬‬
‫(وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون) ‪. .‬‬
‫والعتقاد بقدر اللّه ‪ ,‬والتوكل الكامل على اللّه ‪ ,‬ل ينفيان اتخاذ العدة بما في الطوق ‪ .‬فذلك أمر‬
‫اللّه الصريح‪( :‬وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ‪ ). . .‬وما يتكل على اللّه حق التكال من ل‬
‫ينفذ أمر اللّه ‪ ,‬ومن ل يأخذ بالسباب ‪ ,‬ومن ليدرك سنة اللّه الجارية التي ل تحابي أحدا ‪ ,‬ول‬
‫تراعي خاطر إنسان !‬
‫على أن المؤمن أمره كله خير ‪ .‬سواء نال النصر أو نال الشهادة ‪ .‬والكافر أمره كله شر سواء‬
‫أصابه عذاب اللّه المباشر أو على أيدي المؤمنين‪:‬‬
‫(قل‪:‬هل تربصون بنا إل إحدى الحسنيين ‪ ,‬ونحن نتربص بكم أن يصيبكم اللّه بعذاب من عنده‬
‫أو بأيدينا ‪ .‬فتربصوا إنا معكم متربصون) ‪. .‬‬
‫فماذا يتربص المنافقون بالمؤمنين ? إنها الحسنى على كل حال ‪ .‬النصر الذي تعلو به كلمة اللّه‬
‫‪ ,‬فهو جزاؤهم في هذه الرض ‪ .‬أو الشهادة في سبيل الحق عليا الدرجات عند اللّه ‪ .‬وماذا‬
‫يتربص المؤمنون بالمنافقين ? إنه عذاب اللّه يأخذهم كما أخذ من قبلهم من المكذبين ; أو ببطش‬
‫المؤمنين بهم كما وقع من قبل للمشركين ‪( . .‬فتربصوا إنا معكم متربصون) والعاقبة معروفة ‪.‬‬
‫‪ .‬والعاقبة معروفة للمؤمنين ‪.‬‬
‫*****************‬

‫ونحن إذا قتلنا فإلى جنة عرضها السموات والرض‬

‫‪38‬‬
‫ظرُ مَا‬
‫ع ْينًا َينْ ُ‬
‫سيْسَةَ َ‬
‫ل اللّ ِه ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬بُ َ‬
‫ففي مسلم عَنْ َأ َنسِ بْنِ مَاِلكٍ قَالَ َب َعثَ رَسُو ُ‬
‫ل اللّهِ ‪-‬صلى ال عليه‬
‫غ ْيرُ رَسُو ِ‬
‫غ ْيرِى وَ َ‬
‫ص َنعَتْ عِيرُ َأبِى سُ ْفيَانَ َفجَاءَ َومَا فِى ا ْل َبيْتِ أَحَدٌ َ‬
‫َ‬
‫ل اللّ ِه ‪-‬صلى‬
‫خرَجَ رَسُو ُ‬
‫س َت ْثنَى َب ْعضَ نِسَائِهِ قَالَ فَحَ ّدثَهُ الْحَدِيثَ قَالَ فَ َ‬
‫وسلم‪ -‬قَالَ لَ أَ ْدرِى مَا ا ْ‬
‫جعَلَ رِجَالٌ‬
‫ضرًا َف ْل َي ْر َكبْ َم َعنَا »‪ .‬فَ َ‬
‫ظ ْه ُرهُ حَا ِ‬
‫طِلبَةً َفمَنْ كَانَ َ‬
‫ال عليه وسلم‪َ -‬ف َت َكلّمَ فَقَالَ « إِنّ َلنَا َ‬
‫طلَقَ رَسُولُ‬
‫ضرًا »‪ .‬فَانْ َ‬
‫ظ ْه ُرهُ حَا ِ‬
‫ع ْلوِ ا ْلمَدِينَةِ فَقَالَ « لَ إِلّ مَنْ كَانَ َ‬
‫ظ ْهرَا ِنهِمْ فِى ُ‬
‫ستَأْ ِذنُونَهُ فِى ُ‬
‫يَ ْ‬
‫ش ِركُونَ فَقَالَ‬
‫ش ِركِينَ ِإلَى بَ ْدرٍ وَجَاءَ ا ْلمُ ْ‬
‫سبَقُوا ا ْلمُ ْ‬
‫حتّى َ‬
‫اللّهِ ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪َ -‬وَأصْحَابُهُ َ‬
‫حتّى َأكُونَ َأنَا دُونَهُ »‪ .‬فَ َدنَا‬
‫شىْءٍ َ‬
‫رَسُولُ اللّهِ ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ « -‬لَ يُقَ ّدمَنّ أَحَدٌ ِم ْنكُمْ ِإلَى َ‬
‫س َموَاتُ‬
‫ضهَا ال ّ‬
‫ع ْر ُ‬
‫جنّةٍ َ‬
‫ش ِركُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ « -‬قُومُوا ِإلَى َ‬
‫ا ْلمُ ْ‬
‫س َموَاتُ‬
‫ع ْرضُهَا ال ّ‬
‫جنّةٌ َ‬
‫لنْصَا ِرىّ يَا رَسُولَ اللّهِ َ‬
‫حمَامِ ا َ‬
‫ع َم ْيرُ بْنُ الْ ُ‬
‫لرْضُ »‪ .‬قَالَ يَقُولُ ُ‬
‫وَا َ‬
‫علَى‬
‫ح ِمُلكَ َ‬
‫ل اللّ ِه ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ « -‬مَا يَ ْ‬
‫لرْضُ قَالَ « َنعَمْ »‪ .‬قَالَ بَخٍ بَخٍ‪ .‬فَقَالَ رَسُو ُ‬
‫وَا َ‬
‫َق ْوِلكَ بَخٍ بَخٍ »‪ .‬قَالَ لَ وَاللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ إِلّ رَجَا َءةَ أَنْ َأكُونَ مِنْ أَ ْهِلهَا‪ .‬قَالَ « فَِإ ّنكَ مِنْ أَ ْهِلهَا‬
‫حتّى آكُلَ َت َمرَاتِى هَ ِذهِ ِإ ّنهَا‬
‫حيِيتُ َ‬
‫جعَلَ يَ ْأكُلُ ِم ْنهُنّ ثُمّ قَالَ َلئِنْ َأنَا َ‬
‫خرَجَ َت َمرَاتٍ مِنْ َق ْرنِهِ َف َ‬
‫»‪ .‬فََأ ْ‬
‫حتّى ُقتِلَ‪.‬‬
‫طوِيلَةٌ ‪ -‬قَالَ ‪َ -‬ف َرمَى ِبمَا كَانَ َمعَهُ مِنَ ال ّت ْمرِ‪ .‬ثُمّ قَا َتَلهُمْ َ‬
‫حيَاةٌ َ‬
‫لَ َ‬

‫***************‬
‫والشهادة في سبيل ال أقرب الطرق وأسرعها إلى دخول الجنة قال تعالى‬
‫لرْضُ أُعِ ّدتْ ِل ْل ُمتّقِينَ} (‪)133‬‬
‫سمَاوَاتُ وَا َ‬
‫ضهَا ال ّ‬
‫ع ْر ُ‬
‫جنّةٍ َ‬
‫‪ { :‬وَسَارِعُواْ ِإلَى َمغْ ِف َرةٍ مّن ّر ّبكُمْ وَ َ‬
‫سورة آل عمران‬
‫سمَاء وَالَْأرْضِ أُعِ ّدتْ ِللّذِينَ آ َمنُوا بِاللّهِ‬
‫ضهَا َك َعرْضِ ال ّ‬
‫عرْ ُ‬
‫جنّةٍ َ‬
‫{ سَابِقُوا ِإلَى َمغْ ِف َرةٍ مّن ّر ّبكُمْ وَ َ‬
‫سلِهِ َذِلكَ َفضْلُ اللّهِ ُي ْؤتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْ َفضْلِ ا ْلعَظِيمِ} (‪ )21‬سورة الحديد‬
‫َورُ ُ‬
‫يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال‬
‫فليس السباق إلى إحراز اللهو واللعب والتفاخر والتكاثر بسباق يليق بمن شبوا عن الطوق ‪,‬‬
‫وتركوا عالم اللهو اللعب للطفال والصغار ! إنما السباق إلى ذلك الفق ‪ ,‬وإلى ذلك الهدف ‪,‬‬
‫وإلى ذلك الملك العريض‪( :‬جنة عرضها كعرض السماء والرض) ‪. .‬‬
‫وربما كان بعضهم في الزمن الخالي ‪ -‬قبل أن تكشف بعض الحقائق عن سعة هذا الكون ‪-‬‬
‫يميل إلى حمل مثل هذه الية على المجاز ‪ ,‬وكذلك حمل بعض الحاديث النبوية ‪ .‬كذلك الحديث‬

‫‪39‬‬
‫الذي أسلفنا عن أصحاب الغرف التي يتراءاها سكان الجنة كما يتراءون الكوكب الدري الغابر‬
‫في الفق من المشرق أو المغرب ‪ . .‬فأما اليوم ومراصد البشر الصغيرة تكشف عن البعاد‬
‫الكونية الهائلة التي ليس لها حدود ‪ ,‬فإن الحديث عن عرض الجنة ‪ ,‬والحديث عن تراءي‬
‫الغرف من بعيد ‪ ,‬يقع قطعا موقع الحقيقة القريبة البسيطة المشهودة ‪ ,‬ول يحتاج إلى حمله على‬
‫المجاز إطلقا ! فإن ما بين الرض والشمس مثل ل يبلغ أن يكون شيئا في أبعاد الكون يقاس !‬
‫وذلك الملك العريض في الجنة يبلغه كل من أراد ‪ ,‬ويسابق إليه كل من يشاء ‪.‬‬
‫وعربونه‪:‬اليمان بال ورسله ‪( .‬ذلك فضل ال يؤتيه من يشاء) ‪( . .‬وال ذو الفضل العظيم) ‪. .‬‬
‫وفضل ال غير محجوز ول محجور ‪ .‬فهو مباح متاح للراغبين والسابقين ‪ .‬وفي هذا فليتسابق‬
‫المتسابقون ‪ ,‬ل في رقعة الرض المحدودة الجل المحدودة الركان !‬
‫ول بد لصاحب العقيدة أن يتعامل مع هذا الوجود الكبير ; ول يحصر نفسه ونظره وتصوره‬
‫واهتمامه ومشاعره في عالم الرض الضيق الصغير ‪ . .‬ل بد له من هذا ليؤدي دوره اللئق‬
‫بصاحب العقيدة ‪ .‬هذا الدور الشاق الذي يصطدم بحقارات الناس وأطماعهم ‪ ,‬كما يصطدم‬
‫بضلل القلوب والتواء النفوس ‪ .‬ويعاني من مقاومة الباطل وتشبثه بموضعه من الرض ما ل‬
‫يصبر عليه إل من يتعامل مع وجود أكبر من هذه الحياة ‪ ,‬وأوسع من هذه الرض ‪ ,‬وأبقى من‬
‫ذلك الفناء ‪. .‬‬
‫إن مقاييس هذه الرض وموازينها ل تمثل الحقيقة التي ينبغي أن تستقر في ضمير صاحب‬
‫العقيدة ‪ .‬وما تبلغ من تمثيل تلك الحقيقة إل بقدر ما يبلغ حجم الرض بالقياس إلى حجم الكون ;‬
‫وما يبلغ عمر الرض بالقياس إلى الزل والبد ‪ .‬والفارق هائل هائل ل تبلغ مقاييس الرض‬
‫كلها أن تحدده ول حتى أن تشير إليه !‬
‫ومن ثم يبقى صاحب العقيدة في أفق الحقيقة الكبيرة مستعليا على واقع الرض الصغير ‪ .‬مهما‬
‫تضخم هذا الواقع وامتد واستطال ‪ .‬يبقى يتعامل مع تلك الحقيقة الكبيرة الطليقة من قيود هذا‬
‫الواقع الصغير ‪ .‬ويتعامل مع الوجود الكبير الذي يتمثله في الزل والبد ‪ .‬وفي ملك الخرة‬
‫الواسع العريض ‪ .‬وفي القيم اليمانية الثابتة التي ل تهتز لخلل يقع في موازين الحياة الدنيا‬
‫الصغيرة الخادعة ‪ . .‬وتلك وظيفة اليمان في حياة أصحاب العقائد المختارين لتعديل قيم الحياة‬
‫وموازينها ‪ ,‬ل للتعامل بها والخضوع لمقتضياتها ‪. . .‬‬
‫******************‬

‫‪40‬‬
‫لبد من التضحيات الجسام ليكون هؤلء منارات وضاءة للبشرية وإل كيف يرسل النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم الرسول وحده ليبلغ رسالة ال وهو يعلم أنه قد يقتل في أية لحظة وقد حدث هذا‬
‫في حادثة بئر معونة وفي حادثة الرجيع وفي غزوة مؤتة ؟‬
‫ففي البخاري عَنْ َأ َنسٍ ‪ -‬رضى ال عنه أَنّ ال ّن ِبىّ ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪َ -‬أتَاهُ رِعْلٌ وَ َذ ْكوَانُ‬
‫ى ‪-‬صلى ال عليه‬
‫علَى َق ْو ِمهِمْ فََأمَدّهُ ُم ال ّن ِب ّ‬
‫س َتمَدّوهُ َ‬
‫سَلمُوا وَا ْ‬
‫عمُوا َأ ّنهُمْ قَدْ أَ ْ‬
‫حيَانَ َفزَ َ‬
‫صيّةُ َو َبنُو لِ ْ‬
‫وَعُ َ‬
‫صلّونَ بِالّليْلِ‬
‫طبُونَ بِال ّنهَارِ َو ُي َ‬
‫سمّيهِمُ الْ ُقرّاءَ يَحْ ِ‬
‫ل ْنصَارِ قَالَ َأنَسٌ ُكنّا نُ َ‬
‫س ْبعِينَ مِنَ ا َ‬
‫وسلم‪ -‬بِ َ‬
‫علَى رِعْلٍ وَ َذ ْكوَانَ‬
‫ش ْهرًا يَدْعُو َ‬
‫حتّى َبَلغُوا ِب ْئرَ َمعُونَةَ غَ َدرُوا ِبهِمْ وَ َق َتلُوهُمْ فَ َق َنتَ َ‬
‫طلَقُوا ِبهِمْ َ‬
‫فَانْ َ‬
‫عنّا َق ْو َمنَا بَِأنّا قَدْ لَقِينَا َر ّبنَا‬
‫حيَانَ‪ .‬قَالَ َقتَا َدةُ وَحَ ّد َثنَا َأ َنسٌ َأ ّنهُمْ َقرَءُوا ِبهِمْ ُقرْآنًا أَلَ َبّلغُوا َ‬
‫َو َبنِى ِل ْ‬
‫عنّا َوَأرْضَانَا‪ .‬ثُمّ رُفِعَ َذِلكَ َبعْدُ‪.‬‬
‫ضىَ َ‬
‫َف َر ِ‬
‫وفي مسند أحمد ‪:‬‬
‫سَليْمٍ فِى‬
‫حرَاما خَالَهُ َأخُو أُمّ ُ‬
‫ل اللّ ِه ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪َ -‬لمّا َب َعثَ َ‬
‫‪ -13539‬عَنْ َأ َنسٍ أَنّ رَسُو َ‬
‫ش ِركِينَ َي ْو َمئِذٍ عَا ِمرَ بْنَ الطّ َفيْلِ َوكَانَ ُهوَ َأتَى‬
‫س ْبعِينَ رَجُلً فَ ُق ِتلُوا َيوْمَ ِب ْئرِ َمعُونَةَ َوكَانَ َرئِيسُ ا ْلمُ ْ‬
‫َ‬
‫سهْلِ َو َيكُونُ لِى أَهْلُ‬
‫خصَالٍ َيكُونُ َلكَ أَهْلُ ال ّ‬
‫لثَ ِ‬
‫خ َترْ ِمنّى ثَ َ‬
‫ال ّن ِبىّ ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬فَقَالَ ا ْ‬
‫طعِنَ فِى َب ْيتِ‬
‫غزُوكَ ِبغَطَفَانَ َأ ْلفِ أَشْ َقرَ َوَأ ْلفِ شَ ْقرَاءَ‪ .‬قَالَ فَ ُ‬
‫خلِيفَةً مِنْ َبعْ ِدكَ َأوْ أَ ْ‬
‫ا ْل َوبَرِ َأوْ َأكُونُ َ‬
‫ا ْم َرأَةٍ مِنْ َبنِى فُلَنٍ فَقَالَ غُ ّدةٌ َكغُ ّدةِ ا ْل َبعِيرِ فِى َب ْيتِ ا ْم َرَأةٍ مِنْ َبنِى فُلَنٍ ا ْئتُونِى بِ َفرَسِى‪ .‬فَُأ ِتىَ بِهِ‬
‫سَليْمٍ َورَجُلَنِ َمعَهُ رَجُلٌ مِنْ َبنِى ُأ َميّةَ َورَجُلٌ‬
‫حرَامٌ أَخُو أُمّ ُ‬
‫طلَقَ َ‬
‫ظ ْه ِرهِ فَانْ َ‬
‫علَى َ‬
‫َف َر ِكبَهُ َفمَاتَ وَ ُهوَ َ‬
‫عَل ْمتُمْ‬
‫حتّى آ ِت َيهُمْ َفإِنْ آ َمنُونِى َوإِل ُك ْنتُمْ َقرِيبا فَإِنْ َق َتلُونِى أَ ْ‬
‫عرَجُ فَقَالَ َلهُمْ كُونُوا َقرِيبا ِمنّى َ‬
‫أَ ْ‬
‫ل اللّهِ ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪-‬‬
‫حرَامٌ فَقَالَ َأ ُت ْؤ ِمنُونِى ُأ َبّل ْغكُمْ رِسَالَةَ رَسُو ِ‬
‫َأصْحَا َبكُمْ‪ .‬قَالَ َفَأتَاهُمْ َ‬
‫ل اللّهُ‬
‫حتّى َأنْفَ َذهُ بِال ّرمْحِ قَا َ‬
‫ط َعنَهُ َ‬
‫خلْفِهِ فَ َ‬
‫جعَلَ يُحَ ّد ُثهُمْ َوَأ ْومَأُوا ِإلَى رَجُلٍ ِم ْنهُمْ مِنْ َ‬
‫ِإَل ْيكُمْ قَالُوا َنعَمْ‪ .‬فَ َ‬
‫جبَلٍ‪ .‬قَالَ َأ َنسٌ فَُأ ْنزِلَ‬
‫عرَجِ كَانَ فِى َر ْأسِ َ‬
‫غ ْيرَ الَ ْ‬
‫َأ ْك َبرُ ُف ْزتُ َو َربّ ا ْل َك ْعبَةِ‪ .‬قَالَ ثُمّ َق َتلُوهُمْ ُكّلهُمْ َ‬
‫عنّا َوَأرْضَانَا‪ .‬قَالَ فَدَعَا ال ّن ِبىّ‬
‫ضىَ َ‬
‫عَل ْينَا َوكَانَ ِممّا يُ ْق َرأُ َفنُسِخَ أَنْ َبّلغُوا َق ْو َمنَا َأنّا لَقِينَا َر ّبنَا َف َر ِ‬
‫َ‬
‫صيّةَ الّذِينَ‬
‫ع َ‬
‫حيَانَ وَ ُ‬
‫علَى رِعْلٍ وَ َذ ْكوَانَ َو َبنِى لِ ْ‬
‫صبَاحا َ‬
‫عَل ْيهِمْ َأ ْر َبعِينَ َ‬
‫‪-‬صلى ال عليه وسلم‪َ -‬‬
‫عصَوُا اللّهَ َورَسُولَهُ‪.‬‬
‫َ‬
‫****************‬
‫ويبقى مصداق حديث المصطفى صلى ال عليه وسلم عبر الزمان‬

‫‪41‬‬
‫س ِم ْعتُ ال ّن ِبىّ‬
‫عبْ ِد اللّهِ يَقُولُ َ‬
‫سمِعَ جَا ِبرَ بْنَ َ‬
‫خ َب َرنِى َأبُو ال ّز َب ْيرِ َأنّهُ َ‬
‫ج َريْجٍ قَالَ َأ ْ‬
‫ففي مسلم عَنِ ابْنِ ُ‬
‫علَى الْحَقّ ظَا ِهرِينَ ِإلَى َيوْمِ‬
‫‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬يَقُولُ « لَ َتزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ ُأ ّمتِى يُقَا ِتلُونَ َ‬
‫ل صَلّ َلنَا‪.‬‬
‫الْ ِقيَامَةِ ‪ -‬قَالَ ‪َ -‬ف َي ْنزِلُ عِيسَى ابْنُ َم ْريَ َم ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪َ -‬فيَقُولُ َأمِيرُهُمْ َتعَا َ‬
‫لمّةَ »‪.‬‬
‫علَى َبعْضٍ ُأ َمرَاءُ‪َ .‬ت ْك ِرمَ َة اللّهِ هَ ِذهِ ا ُ‬
‫ضكُمْ َ‬
‫َفيَقُولُ لَ‪ .‬إِنّ َب ْع َ‬
‫س ِم ْعتُ ُمعَا ِويَةَ‬
‫ع َم ْيرَ بْنَ هَا ِنئٍ حَ ّدثَهُ قَالَ َ‬
‫حمَنِ بْنِ َيزِيدَ بْنِ جَا ِبرٍ أَنّ ُ‬
‫عبْ ِد الرّ ْ‬
‫وفي مسند أحمد عَنْ َ‬
‫ل اللّ ِه ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬يَقُولُ « لَ َتزَالُ‬
‫س ِم ْعتُ رَسُو َ‬
‫علَى هَذَا ا ْل ِم ْنبَرِ يَقُولُ َ‬
‫بْنَ َأبِى سُ ْفيَانَ َ‬
‫عزّ وَجَلّ‬
‫حتّى يَ ْأ ِتىَ َأ ْمرُ اللّهِ َ‬
‫ضرّهُمْ مَنْ خَ َذَلهُمْ َأوْ خَالَ َفهُمْ َ‬
‫طَائِفَةٌ مِنْ ُأ ّمتِى قَا ِئمَةً بَِأ ْم ِر اللّهِ لَ َي ُ‬
‫س ِم ْعتُ ُمعَاذَ‬
‫س ِكىّ فَقَالَ يَا َأمِيرَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ َ‬
‫سكْ َ‬
‫علَى النّاسِ »‪ .‬فَقَامَ مَاِلكُ بْنُ يُخَا ِمرَ ال ّ‬
‫وَهُمْ ظَا ِهرُونَ َ‬
‫جبَلٍ‬
‫سمِعَ ُمعَاذَ بْنَ َ‬
‫ص ْوتَهُ هَذَا مَاِلكٌ َيزْعُمُ َأنّهُ َ‬
‫جبَلٍ يَقُولُ َهُمْ أَهْلُ الشّامِ‪ .‬فَقَالَ ُمعَا ِويَةُ َورَفَ َع َ‬
‫بْنَ َ‬
‫يَقُولُ َهُمْ أَهْلُ الشّامِ‪.‬‬
‫وفيه ‪:‬‬
‫خ َبرَهُمْ َأنّهُ َأتَى ال ّن ِبىّ ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬فَقَالَ ِإنّى‬
‫سَلمَةَ بْنَ نُ َفيْلٍ أَ ْ‬
‫ج َب ْيرِ بْنِ نُ َف ْيرٍ أَنّ َ‬
‫عَنْ ُ‬
‫ى ‪-‬صلى ال‬
‫ح ْربُ َأ ْوزَارَهَا ُق ْلتُ لَ ِقتَالَ‪ .‬فَقَالَ لَهُ ال ّنبِ ّ‬
‫ض َعتِ الْ َ‬
‫خيْلَ َوَألْ َق ْيتُ السّلَحَ َو َو َ‬
‫س ِئ ْمتُ الْ َ‬
‫َ‬
‫علَى النّاسِ َيرْفَ ُع اللّهُ ُقلُوبَ‬
‫عليه وسلم‪ « -‬النَ جَاءَ الْ ِقتَالُ لَ َتزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ ُأ ّمتِى ظَا ِهرِينَ َ‬
‫علَى َذِلكَ أَلَ إِنّ عُ ْقرَ دَارِ‬
‫عزّ وَجَلّ وَهُمْ َ‬
‫حتّى يَ ْأ ِتىَ َأ ْم ُر اللّهِ َ‬
‫أَ ْقوَامٍ َفيُقَا ِتلُو َنهُمْ َو َي ْرزُ ُقهُ ُم اللّهُ ِم ْنهُمْ َ‬
‫خ ْيرُ ِإلَى َيوْمِ الْ ِقيَامَةِ »‪.‬‬
‫خيْلُ َمعْقُودٌ فِى َنوَاصِيهَا الْ َ‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ الشّامُ وَالْ َ‬
‫وفيه ‪:‬‬
‫علَى الدّينِ‬
‫ل اللّهِ ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ « -‬لَ َتزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ ُأ ّمتِى َ‬
‫عَنْ َأبِى ُأمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُو ُ‬
‫حتّى يَ ْأ ِت َيهُمْ َأ ْم ُر اللّهِ‬
‫لوَاءَ َ‬
‫ضرّهُمْ مَنْ خَالَ َفهُمْ إِلّ مَا َأصَا َبهُمْ مِنْ ْ‬
‫ظَا ِهرِينَ ِلعَ ُدوّهِمْ قَا ِهرِينَ لَ َي ُ‬
‫ل اللّهِ َوَأيْنَ هُمْ قَالَ « ِب َب ْيتِ ا ْلمَقْدِسِ َوَأ ْكنَافِ َب ْيتِ ا ْلمَقْدِسِ »‪.‬‬
‫وَهُمْ كَ َذِلكَ »‪ .‬قَالُوا يَا رَسُو َ‬
‫********************‬
‫ويجب أن يعلم المتقاعسون والمرجفون أن التربية ل تكون إل بالحداث الجسام فهي التي‬
‫تصقل الفرد والمجتمع أما الذين يقولون ل طاقة لنا اليوم بطالوت وجنوده فهؤلء مرضى‬
‫يحتاجون إلى تربية عالية‬
‫وليعلموا أنه ينطبق عليهم قول النبي صلى ال عليه وسلم ففي سنن أبي داود ‪:‬‬

‫‪42‬‬
‫عَل ْيكُمْ َكمَا‬
‫لمَمُ أَنْ تَدَاعَى َ‬
‫شكُ ا ُ‬
‫ل اللّهِ ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ « -‬يُو ِ‬
‫عَنْ َث ْوبَانَ قَالَ قَالَ رَسُو ُ‬
‫ص َع ِتهَا »‪ .‬فَقَالَ قَائِلٌ َومِنْ ِقلّةٍ َنحْنُ َي ْو َمئِذٍ قَالَ « بَلْ َأ ْنتُمْ َي ْو َمئِذٍ َكثِيرٌ َوَل ِك ّنكُمْ‬
‫ل َكلَةُ ِإلَى َق ْ‬
‫تَدَاعَى ا َ‬
‫ن اللّهُ فِى ُقلُو ِبكُمُ ا ْلوَهَنَ‬
‫ن صُدُورِ عَ ُد ّوكُمُ ا ْل َمهَابَةَ ِم ْنكُمْ َوَليَقْذِفَ ّ‬
‫سيْلِ َوَل َي ْنزِعَنّ اللّهُ مِ ْ‬
‫غثَاءٌ َك ُغثَاءِ ال ّ‬
‫ُ‬
‫حبّ ال ّد ْنيَا َو َكرَا ِهيَةُ ا ْل َم ْوتِ »‪.‬‬
‫»‪ .‬فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللّهِ َومَا ا ْلوَهَنُ قَالَ « ُ‬
‫******************‬
‫فإذا كان المر كذلك فما الذي سيحدث ؟‬
‫لقد ذكرت في كتابي المطول (من المسئول عن اغتيال الشيخ أحمد ياسين ؟)‬
‫الجواب المفصل هناك‬
‫وهنا أقول ‪:‬‬
‫بالنسبة لردود الفعل‬
‫أول على مستوى الحكام‬
‫ليس إل الشجب والستنكار أو السكوت عما يجري آو إشغال الناس بأمور أخرى أو أن هذه‬
‫العمال التي يقوم بها شارون وزمرته ضد المسيرة السلمية ( المزعومة )‬
‫وهم في حقيقة المر مسرورون جدا لما يفعله شارون لن النتفاضة قد أقضت مضاجعهم‬
‫وكشفت أوراقهم وتآمرهم على قضية فلسطين بل وعلى شعوبهم وعلى دين ال تعالى بل‬
‫وعلى النسانية جمعاء‬
‫فهم عندما استشهد الشيخ القعيد لم يجرؤوا على عمل اجتماع قمامة عربية في تونس وكل‬
‫منهم صار يكيل التهم لغيره ويبتعد عن الموضوع الساس‬
‫أتدرون لماذا لم يعقد مؤتمر القمامة ؟‬
‫لن أسيادهم قالوا لهم ‪ :‬ل تعقدوا المؤتمر (( وحتى لو عقد ل خير فيه فما هو إل عبارة عن‬
‫مورفين يخدرون به الشعوب المغفلة ))‬
‫وإل كشفنا أوراقكم وقلنا لشعوبكم أنتم الذين وقعتم على اغتيال هؤلء وباركتم ذلك لتبقى‬
‫كرسيكم سالمة من كل عثرة‬
‫فما أنتم إل أحجار على رقع الشطرنج نحرككم كما نريد‬
‫بل أنتم دمى يتلهى بها أطفالنا‬
‫وأنتم كرة يلعب بها الصبيان‬

‫‪43‬‬
‫نعم هم كذلك‬
‫بل سيلقون القبض على كل من يظهر التعاطف مع الشهداء الذين يسقطون كل يوم في فلسطين‬
‫وفي العراق وفي الشيشان وفي كشمير وفي أفغانستان على يد المجرمين المحليين والخارجين‬
‫وعلى مستوى الشعوب ربما تصحوا من سهادها وتقوم بالمظاهرات الصاخبة هنا وهناك ثم‬
‫تخبو وتنهي المسالة شجب وإنكار ثم سكوت وإقرار إل من رحم ربي‬
‫وأما على مستوى العالم فقوم ل يهمهم من يقتل في هذه الرض فهم كما قال ال تعالى { ثُمّ‬
‫ل ْنهَارُ‬
‫جرُ ِمنْهُ ا َ‬
‫س َوةً َوإِنّ مِنَ الْحِجَا َرةِ َلمَا َيتَفَ ّ‬
‫حجَا َرةِ َأوْ أَشَدّ قَ ْ‬
‫ستْ ُقلُو ُبكُم مّن َبعْدِ َذِلكَ َف ِهيَ كَالْ ِ‬
‫قَ َ‬
‫عمّا‬
‫شيَ ِة اللّهِ َومَا اللّهُ ِبغَافِلٍ َ‬
‫خرُجُ ِمنْهُ ا ْلمَاء َوإِنّ ِم ْنهَا َلمَا َي ْهبِطُ مِنْ خَ ْ‬
‫َوإِنّ ِم ْنهَا َلمَا يَشّقّقُ َفيَ ْ‬
‫َت ْع َملُونَ } (‪ )74‬سورة البقرة‬
‫وقوم يظهرون شيئا من العطف والتنديد وأن هذا مبالغة في القتل أو إسراف أو عنف غير لزم‬
‫ومنهم من يبارك للجلد ما فعل كأوروبا وروسيا والهند وأمريكا بل يقول مسؤول البيت في‬
‫البيض في الخارجية المريكية تعليقا على الحادث الرهيب إن هؤلء إرهابيون يستحقون القتل‬
‫بأي شكل كان‬
‫نعم إنهم إرهابيون بنظركم أيها الفجار فأمريكا تمثل فرعون العصر الذي اراد أن يقتل النبي‬
‫موسى عليه السلم لماذا ؟ لنه سيبدل دينهم الوثني ويفسد في الرض قال تعالى { وَقَالَ‬
‫ظ ِهرَ فِي الَْأرْضِ الْفَسَادَ}‬
‫عوْنُ َذرُونِي أَ ْقتُلْ مُوسَى َو ْليَدْعُ َربّهُ ِإنّي أَخَافُ أَن ُيبَدّلَ دِي َنكُمْ َأوْ أَن يُ ْ‬
‫ِفرْ َ‬
‫(‪ )26‬سورة غافر‬
‫فل غرابة في ذلك أبدا لن ال تعالى قد كشف لنا حقيقة هؤلء‬
‫****************‬
‫إذا كان المر كذلك فما هو الحل ؟؟؟‬
‫قلت ‪ :‬الحل قد ذكره ال تعالى ورسوله صلى ال عليه وسلم وسار عليه أخيار هذه المة أل‬
‫وهو الجهاد في سبيل ال والشهادة في سبيله واليات والحاديث في هذا كثيرة جدا‬
‫وهذه خلصة لها‬
‫بسم ال الرحمن الرحيم‬
‫المقدمة‬

‫‪44‬‬
‫إن الحمدَ ل نحمدُه ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذُ باللـه من شرور أنفُسِنا‪ ،‬ومن سيئات أعمالنا‪،‬‬
‫من يهده اللـه فل مضلّ له‪ ،‬ومن يُضلل فل هادي له‪.‬‬
‫أما بعد‬ ‫وأشهدُ أن ل إله إل اللـه وحده لشريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدا عبدُه ورسُوله‪.‬‬
‫مساهمة مني في طريق الجهاد في سبيل ال لعلء كلمة الواحد الحد قمت بجمع هذا المؤلف‬
‫وهو من كتاب ال عز وجل ومن سنة نبيه صلى ال عليه وسلم وفيه التحريض والترغيب‬
‫للجهاد في سبيل ال وأسميته باب من أبواب الجنة لقول الرسول صلى ال عليه وسلم { من أنفق‬
‫زوجين في سبيل ال نودي في الجنة ‪ :‬يا عبد ال ! هذا خير ‪ ،‬فمن كان من أهل الصلة دعي‬
‫من باب الصلة ‪ ،‬ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ‪ ،‬ومن كان من أهل الصدقة‬
‫دعي من باب الصدقة ‪ ،‬ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ‪ .‬قال أبو بكر الصديق‬
‫‪ :‬يا رسول ال ! ما على أحد يدعى من تلك البواب من ضرورة ‪ ،‬فهل يدعى أحد من تلك‬
‫البواب كلها ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬وأرجو أن تكون منهم } ‪ .‬أخرجه البخاري ومسلم‬
‫اسأل ال عز وجل أن يكون هذا العمل خالص لوجه الكريم وان يتقبل مني ومنكم وان يجعل‬
‫لهذا العمل القبول وينفع به المة انه ولى ذلك والقادر عليه‬
‫وصلى ال على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين‬
‫جمع وإعداد‬
‫أخوكم‬
‫أبو أنس الطائفي‬
‫قال تعالى ‪:‬‬
‫حرّضِ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ عَسَى اللّهُ أَن َي ُكفّ بَ ْأسَ الّذِينَ كَ َفرُواْ‬
‫سكَ وَ َ‬
‫ل اللّهِ لَ ُت َكّلفُ إِلّ نَفْ َ‬
‫سبِي ِ‬
‫{ فَقَاتِلْ فِي َ‬
‫وَاللّهُ أَشَدّ َبأْسًا َوأَشَدّ تَنكِيلً }‬
‫يأمر تعالى عبده ورسوله محمدا صلى ال عليه وسلم بأن يباشر القتال بنفسه ومن نكل عنه فل‬
‫عليه منه ولهذا قال "ل تكلف إل نفسك" قال ابن أبي حاتم‪ :‬حدثنا أبي حدثنا محمد بن عمرو بن‬
‫نبيح حدثنا حكام حدثنا الجراح الكندي عن أبي إسحاق قال‪ :‬سألت البراء بن عازب عن الرجل‬
‫يلقي المائة من العدو فيقاتل فيكون ممن قال ال فيه "ول تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال‪ :‬قد قال‬
‫ال تعالى لنبيه"فقاتل في سبيل ال ل تكلف إل نفسك وحرض المؤمنين" ورواه المام أحمد عن‬
‫سليمان بن داود عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق قال‪ :‬قلت للبراء‪ :‬الرجل يحمل على‬

‫‪45‬‬
‫المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة قال‪ :‬ل إن ال بعث رسوله صلى ال عليه وسلم وقال‬
‫"فقاتل قي سبيل ال ل تكلف إل نفسك" إنما ذلك في النفقة‪ .‬وكذا رواه ابن مردويه من طريق‬
‫أبي بكر بن عياش وعلي بن صالح عن أبي إسحاق عن البراء به ثم قال ابن مردويه‪ :‬حدثنا‬
‫سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن النضر العسكري حدثنا مسلم بن عبدالرحمن الحرثي حدثنا‬
‫محمد بن حمير حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن البراء قال‪ :‬لما نزلت على النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم "فقاتل في سبيل ال ل تكلف إل نفسك وحرض المؤمنين" الية قال لصحابه "قد‬
‫أمرني ربي بالقتال فقاتلوا" حديث غريب وقوله "وحرض المؤمنين" أي على القتال ورغبهم فيه‬
‫وشجعهم عليه كما قال لهم صلى ال عليه وسلم ال عليه وسلم يوم بدر وهو يسوي الصفوف‬
‫"قوموا إلى جنة عرضها السموات والرض" وقد وردت أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك‬
‫فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "من آمن‬
‫بال ورسوله وأقام الصلة وآتى الزكاة وصام رمضان كان حقا على ال أن يدخله الجنة هاجر‬
‫في سبيل ال أو جلس في أرضه التي ولد فيها" قالوا‪ :‬يا رسول ال أفل نبشر الناس بذلك؟ فقال‪:‬‬
‫"إن في الجنة مائة درجة أعدها ال للمجاهدين في سبيل ال بين كل درجتين كما بين السماء‬
‫والرض فإذا سألتم ال فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن‬
‫ومنه تفجر أنهار الجنة" وروى من حديث عبادة ومعاذ وأبي الدرداء نحو ذلك‪ .‬وعن أبي سعيد‬
‫الخدري أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬يا أبا سعيد من رضي بال ربا وبالسلم دينا‬
‫وبمحمد صلى ال عليه وسلم رسول ونبي ا وجبت له الجنة" قال‪ :‬فعجب لها أبو سعيد فقال‪:‬‬
‫أعدها علي يا رسول ال ففعل ثم قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "وأخرى يرفع ال العبد‬
‫بها مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والرض" قال‪ :‬وما هى يا رسول‬
‫ال؟ قال‪" :‬الجهاد في سبيل ال" رواه مسلم‪ .‬وقوله "عسى ال أن يكف بأس الذين كفروا" أي‬
‫بتحريضك إياهم على القتال تنبعث هممهم على مناجزة العداء ومدافعتهم عن حوزة السلم‬
‫وأهله ومقاومتهم ومصابرتهم ‪.‬‬
‫وقوله تعالى وال أشد بأسا وأشد تنكيل أى هو قادر عليهم في الدنيا والخرة كما قال تعالى‬
‫"ذلك ولو يشاء ال لنتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض" الية‪.‬‬
‫ش ُعرُونَ }‬
‫حيَاء َوَلكِن لّ تَ ْ‬
‫{ وَلَ تَقُولُواْ ِلمَنْ يُ ْقتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ َأ ْموَاتٌ بَلْ أَ ْ‬

‫‪46‬‬
‫يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون كما جاء في صحيح مسلم "إن أرواح‬
‫الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت‬
‫العرش فاطلع عليهم ربك اطلعة فقال ماذا تبغون؟ فقالوا يا ربنا وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا‬
‫ما لم تعط أحدا من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا فلما رأوا أنهم ل يتركون من أن يسألوا قالوا‬
‫نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى ‪ -‬لما يرون من ثواب‬
‫الشهادة ‪ -‬فيقول الرب جل جلله "إنى كتبت أنهم إليها ل يرجعون"‪ .‬وفي الحديث الذي رواه‬
‫المام أحمد عن المام الشافعي عن المام مالك عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك‬
‫عن أبيه قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "نسمة المؤمن طائر تعلق فى شجر الجنة‬
‫حتى يرجعه ال إلى جسده يوم يبعثه" ففيه دللة لعموم المؤمنين أيضا وإن كان الشهداء قد‬
‫خصصوا بالذكر في القرآن تشريفا لهم وتكريما وتعظيما‪.‬‬
‫حيَاء عِندَ َر ّبهِمْ ُي ْرزَقُونَ }‬
‫ل اللّهِ َأ ْموَاتًا بَلْ أَ ْ‬
‫سبِي ِ‬
‫سبَنّ الّذِينَ ُق ِتلُواْ فِي َ‬
‫{ وَلَ تَحْ َ‬
‫يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار‬
‫القرار‪ .‬قال محمد بن جرير‪ :‬حدثنا محمد بن مرزوق حدثنا عمرو بن يونس عن عكرمة حدثنا‬
‫إسحق بن أبي طلحة حدثني أنس بن مالك في أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم الذين‬
‫أرسلهم نبي ال إلى أهل بئر معونه قال‪ :‬ل أدري أربعين أو سبعين وعلى ذلك الماء عامر بن‬
‫الطفيل الجعفري فخرج أولئك النفر من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى أتوا غارا‬
‫مشرفا على الماء فقعدوا فيه ثم قال بعضهم لبعض أيكم يبلغ رسالة رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم أهل هذا الماء فقال ‪ -‬أراه أبو ملحان النصاري ـ أنا أبلغ رسالة رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم فخرج حتى أتى حول بيتهم فاجتثى أمام البيوت ثم قال يا أهل بئر معونة إني رسول‬
‫ال إليكم إني أشهد أن ل إله إل ال وأن محمدا عبده ورسوله فآمنوا بال ورسوله فخرج إليه‬
‫رجل من كسر البيت برمح فضربه في جنبه حتى خرج من الشق الخر فقال‪ :‬ال أكبر فزت‬
‫ورب الكعبة فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم أجميعن عامر بن الطفيل وقال ابن‬
‫إسحق‪ :‬حدثني أنس بن مالك أن ال أنزل فيهم قرآنا بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا‬
‫ورضينا عنه ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناها زمانا وأنزل ال تعالى "ول تحسبن الذين قتلوا‬
‫في سبيل ال أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون" وقد قال مسلم في صحيحه‪ :‬حدثنا محمد بن‬
‫عبدال بن نمير حدثنا أبو معاوية حدثنا العمش عن عبدال بن مرة عن مسروق قال‪ :‬إنا سألنا‬

‫‪47‬‬
‫عبدال عن هذه الية‪" .‬ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل ال أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"‬
‫فقال‪ :‬أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال "أرواحهم في جوف طير‬
‫خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع‬
‫عليهم ربهم إطلعة فقال‪ :‬هل تشتهون شيئا؟ فقالوا‪ :‬أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة‬
‫حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا‪ :‬يا رب‬
‫نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة‬
‫تركوا" وقد روي نحوه من حديث أنس وأبي سعيد " حديث آخر" قال المام أحمد حدثنا‬
‫عبدالصمد حدثنا حماد حدثنا ثابت عن أنس أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال "ما من نفس‬
‫تموت لها عند ال خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا إل الشهيد فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا‬
‫فيقتل مرة أخرى مما يرى من فضل الشهادة" تفرد به مسلم من طريق حماد‪ " .‬حديث آخر" قال‬
‫المام أحمد‪ :‬حدثنا علي بن عبدال المديني حدثنا سفيان بن محمد بن علي بن ربيعة السلمي عن‬
‫عبدال بن محمد بن عقيل عن جابر قال‪ :‬قال لي رسول ال صلى ال عليه وسلم "أعلمت أن ال‬
‫أحيا أباك فقال له‪ :‬تمن فقال له أردّ الدنيا فأقتل فيك مرة أخرى قال‪ :‬إني قضيت أنهم إليها ل‬
‫يرجعون" تفرد به أحمد من هذا الوجه‪ .‬وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن أبا جابر وهو‬
‫عبدال بن عمر وبن حرام النصاري رضي ال عنه قتل يوم أحد شهيدا‪ .‬قال البخاري‪ :‬وقال‬
‫أبو الوليد عن شعبة عن ابن المنكدر سمعت جابرا قال‪ :‬لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب‬
‫عن وجهه فجعل أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ينهوني والنبي صلى ال عليه وسلم‬
‫لم ينه فقال النبي صلى ال عليه وسلم "ل تبكه‪ -‬أو ما تبكيه ‪ -‬ما زالت الملئكة تظله بأجنحتها‬
‫حتى رفع" وقد أسنده هو ومسلم والنسائي من طرق عن شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر‬
‫قال‪ :‬لما قتل أبي يوم أحد جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي وذكر تمامة بنحوه " حديث‬
‫آخر" قال المام أحمد‪ :‬حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن أبي إسحق حدثنا إسماعيل بن أمية بن عمرو‬
‫بن سعيد عن أبي الزبير المكي عن ابن عباس قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "لما‬
‫أصيب إخوانكم يوم أحد جعل ال أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من‬
‫ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن‬
‫مقيلهم قالوا يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع ال بنا لئل يزهدوا في الجهاد ول ينكلوا عن الحرب‬
‫فقال ال عز وجل‪ :‬أنا أبلغهم عنكم فأنزل ال هذه اليات "ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل ال‬

‫‪48‬‬
‫أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون" وما بعدها"‪ .‬وهكذا رواه أحمد ورواه ابن جرير عن يونس‬
‫عن ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن إسحق به‪ .‬ورواه أبو داود والحاكم في‬
‫مستدركه من حديث عبدال بن إدريس عن محمد بن إسحق به ورواه أبو داود والحاكم عن‬
‫إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي ال عنهما فذكره‬
‫وهذا أثبت‪ .‬وكذا رواه سفيان الثوري عن سالم الفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ‪-‬‬
‫وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحق الفزاري عن سفيان بن إسماعيل بن أبي خالد‬
‫عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‪ :‬نزلت هذه الية في حمزة وأصحابه ول تحسبن الذين‬
‫قتلوا في سبيل ال أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون" ثم قال‪ :‬صحيح على شرط الشيخين ولم‬
‫يخرجاه وكذا قال قتادة والربيع والضحاك أنها نزلت في قتلى أحد‪ " .‬حديث آخر" قال أبو بكر‬
‫بن مردويه‪ :‬حدثنا عبدال بن جعفر حدثنا هارون بن سليمان أنبأنا علي بن عبدال المديني أنبأنا‬
‫موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه النصاري سمعت طلحة بن خراش بن‬
‫عبدالرحمن بن خراش بن الصمت النصاري قال‪ :‬سمعت جابر بن عبدال قال‪ :‬نظر إلي‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ذات يوم فقال "يا جابر مالي أراك مهتما؟" قلت يا رسول ال‬
‫استشهد أبي وترك دينا وعيال قال‪ :‬فقال "أل أخبرك ما كلم ال أحد قط إل من وراء حجاب‬
‫وإنه كلم أباك كفاحا" قال علي‪ :‬والكفاح المواجهة "قال سلني أعطك قال‪ :‬أسألك أن أرد إلى‬
‫الدنيا فأقتل فيك ثانية فقال الرب عز وجل إنه قد سبق مني القول أنهم إليها ل يرجعون قال أي‬
‫رب فأبلغ من ورائي فأنزل ال "ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل ال أمواتا" الية‪ .‬ثم رواه من‬
‫طريق أخرى عن محمد بن سليمان بن سليط النصاري عن أبيه عن جابر به نحوه وكذا رواه‬
‫البيهقي في دلئل النبوة من طريق علي بن المديني به وقد رواه البيهقي أيضا من حديث أبي‬
‫عبادة النصاري وهو عيسى بن عبدال إن شاء ال عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت‪:‬‬
‫قال النبي صلى ال عليه وسلم لجابر "يا جابر أل أبشرك" قال‪ :‬بلى بشرك ال بالخير قال‬
‫"شعرت بأن ال أحيا أباك فقال تمن علي عبدي ما شت أعطكه قال‪ :‬يا رب ما عبدتك حق‬
‫عبادتك أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك وأقتل فيك مرة أخرى قال إنه سلف‬
‫مني أنه إليها ل يرجع"‪ " .‬حديث آخر" قال المام أحمد حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحق‬
‫حدثنا الحارث بن فضيل النصاري عن محمود بن لبيد عن ابن عباس قال‪ :‬قال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم "الشهداء على بارق نهر بباب الجنة فيه قبة خضراء يخرج إليهم رزقهم‬

‫‪49‬‬
‫من الجنة بكرة وعشية" تفرد به أحمد وقد رواه ابن جريج عن أبي كريب حدثنا عبدالرحمن بن‬
‫سليمان وعبيدة عن محمد بن إسحق وبه وهو إسناد جيد وكأن الشهداء أقسام منهم من تسرح‬
‫أرواحهم في الجنة ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة وقد يحتمل أن يكون منتهى‬
‫سيرهم إلى هذا النهر فيجتمعون هنالك ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح وال أعلم ‪ -‬وقد‬
‫روينا في مسند المام أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا‬
‫فيها وتأكل من ثمارها وترى ما فيها من النضرة والسرور وتشاهد ما أعد ال لها من الكرامة‬
‫وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلثة من الئمة الربعة أصحاب المذاهب المتبعة‬
‫فإن المام أحمد رحمه ال رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه ال عن مالك بن أنس‬
‫الصبحي رحمه ال عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي ال عنه‬
‫قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم "نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى‬
‫يرجعه ال إلى جسده يوم يبعثه" قوله "يعلق" أي يأكل وفي هذا الحديث "إن روح المؤمن تكون‬
‫على شكل طائر في الجنة" وأما أرواح الشهداء فكما تقدم في حواصل طير خضر فهي‬
‫كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها فنسأل ال الكريم المنان أن‬
‫يميتنا على اليمان‪.‬‬
‫{فرحين بما آتاهم ال من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أل خوف عليهم ول‬
‫هم يحزنون }‬
‫أي الشهداء الذين قتلوا في سبيل ال أحياء عند ربهم وهم فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة‬
‫ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل ال أنهم يقدمون عليهم وأنهم ل يخافون مما‬
‫أمامهم ول يحزنون على ما تركوه وراءهم نسأل ال الجنة وقال محمد بن إسحق "ويستبشرون"‬
‫أي ويسرون بلحوق من لحقهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم ليشركوهم فيما هم‬
‫فيه من ثواب ال الذي أعطاهم قال السدي يؤتى الشهيد بكتاب فيه يقدم عليك فلن يوم كذا وكذا‬
‫ويقدم عليك فلن يوم كذا وكذا فيسر بذلك كما يسر أهل الدنيا بغائبهم إذا قدم قال سعيد بن‬
‫جبير‪ :‬لما دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من الكرامة للشهداء قالوا‪ :‬يا ليت إخواننا الذين في الدنيا‬
‫يعلمون ما عرفناه من الكرامة فإذا شهدوا القتال باشروها بأنفسهم حتى يستشهدوا فيصيبوا ما‬
‫أصبنا من الخير فأخبر رسول ال صلى ال عليه وسلم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة وأخبرهم‬
‫أي ربهم أني قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم وما أنتم فيه فاستبشروا بذلك فذلك قوله‬

‫‪50‬‬
‫"ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم" الية وقد ثبت في الصحيحين عن أنس في قصة‬
‫أصحاب بئر معونة السبعين من النصار الذين قتلوا في غداة واحدة وقنت رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم يدعو على الذين قتلوهم ويلعنهم قال أنس‪ :‬ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع "أن‬
‫بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا"‪.‬‬
‫سبِيلِ اللّهِ ِبَأ ْموَالِهِمْ‬
‫ض َررِ وَا ْلمُجَاهِدُونَ فِي َ‬
‫غ ْيرُ ُأ ْولِي ال ّ‬
‫س َتوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ ا ْل ُمؤْ ِمنِينَ َ‬
‫{ لّ يَ ْ‬
‫سنَى‬
‫علَى الْقَاعِدِينَ َدرَجَةً َوكُلّ وَعَ َد اللّهُ الْحُ ْ‬
‫سهِمْ َ‬
‫سهِمْ َفضّلَ اللّهُ ا ْلمُجَاهِدِينَ بَِأ ْموَاِلهِمْ َوأَنفُ ِ‬
‫َوأَنفُ ِ‬
‫جرًا عَظِيمًا }‬
‫علَى الْقَاعِدِينَ أَ ْ‬
‫وَ َفضّلَ اللّهُ ا ْلمُجَاهِدِينَ َ‬
‫قال البخاري حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال‪ :‬لما نزلت "ل‬
‫يستوي القاعدون من المؤمنين" دعا رسول ال صلى ال عليه وسلم زيدا فكتبها فجاء ابن أم‬
‫مكتوم فشكا ضرارته فأنزل ال غير أولى الضرر حدثنا محمد بن يوسف عن إسرائيل عن أبى‬
‫إسحاق عن البراء قال لما نزلت "ل يستوي القاعدون من المؤمنين" قال النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم "ادع فلنا" فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتب فقال "اكتب "ل يستوى القاعدون من‬
‫المؤمنين والمجاهدون في سبيل ال " وخلف النبي صلى ال عليه وسلم ابن أم مكتوم فقال يا‬
‫رسول ال أنا ضرير فنزلت مكانها ل يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر‬
‫والمجاهدون في سبيل ال قال البخاري أيضا حدثنا إسماعيل بن عبدال حدثني إبراهيم بن سعد‬
‫عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب حدثني سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم‬
‫في المسجد قال فأقبلت حتى جلست إلى جنبه فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم أملى علي "ل يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل ال"‬
‫فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها علي قال يا رسول ال وال لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان‬
‫أعمى فأنزل ال على رسول ال صلى ال عليه وسلم وكان فخذه على فخذي فثقلت علي حتى‬
‫خفت أن ترضى فخذي ثم سري عنه فأنزل "ال غير أولى الضرر" تفرد به البخاري دون مسلم‬
‫وقد روي من وجه آخر عند المام أحمد عن زيد فقال حدثنا سليمان بن داود أنبأنا عبدالرحمن‬
‫عن أبي الزناد عن خارجة بن زيد قال‪ :‬قال زيد بن ثابت‪ :‬إني قاعد إلى جنب النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم إذ أوحي إليه وغشيته السكينة قال فرفع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة قال‬
‫زيد فل وال ما وجدت شيئا قط أثقل من فخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم ثم سري عنه فقال‬
‫" اكتب يا زيد" فأخذت كتفا فقال "اكتب ل يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون إلى قوله‬

‫‪51‬‬
‫"أجرا عظيما" " فكتبت ذلك في كتف فقام حين سمعها ابن أم مكتوم وكان رجل أعمى فقال حين‬
‫سمع فضيلة المجاهد بن يا رسول ال وكيف بمن ل يستطيع الجهاد ومن هو أعمى وأشباه ذلك‬
‫قال زيد فوال ما قضى كلمه أوما هو إل أن قضي كلمه ‪ -‬غشيت النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫السكينة فوقعت فخذه على فخذي فوجدت ممن ثقلها كما وجدت في المرة الولى ثم سري عنه‬
‫فقال " اقرأ " فقرأت عليه ل يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون" فقال النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم "غير أولي الضرر" قال زيد فألحقتها فوال كأني أنظر إلى ملحقها عند صدع كان‬
‫في الكتف‪ .‬ورواه أبو داود عن سعيد بن منصور عن عبدالرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن‬
‫خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه به نحوه‪ .‬وقال عبدالرزاق أنبأنا معمر أنبأنا الزهري عن‬
‫قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت قال كنت أكتب لرسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪" :‬اكتب‬
‫ل يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل ال "‪ .‬فجاء عبد ال ابن أم مكتوم فقال‬
‫يا رسول ال إني أحب الجهاد في سبيل ال ولكن بي من الزمانة ما قد ترى وذهب بصري قال‬
‫زيد فثقلت فخذ رسول ال صلى عليه وسلم على فخذي حتى خشيت أن ترضها ثم سري عنه ثم‬
‫قال "اكتب ل يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل ال " رواه‬
‫ابن أبي حاتم وابن جرير وقال عبدالرازق أخبرنا ابن جريج أخبرني عبدالكريم هو ابن مالك‬
‫الجريري أن مقسما مولى عبدال بن الحارث أخبره أن ابن عباس أخبره ل يستوي القاعدون‬
‫من المؤمنين عن بدر والخارجون إلى بدر انفرد به البخاري دون مسلم وقد رواه الترمذي من‬
‫طريق حجاج عن ابن جريج عن عبدالكريم عن مقسم عن ابن عباس قال ل يستوي القاعدون‬
‫من المؤمنين غير أولي الضرر عن بدر والخارجون إلى بدر‪ .‬ولما نزلت غزوة بدر قال عبدال‬
‫بن جحش وابن أم مكتوم إنا أعميان يا رسول ال فهل لنا رخصة؟ فنزلت ل يستوي القاعدون‬
‫من المؤمنين غير أولي الضرر "وفضل ال المجاهدين على القاعدين درجة فهؤلء القاعدون‬
‫غير أولي الضرر وفضل ال المجاهد بن على القاعدين أجرا عظيما درجات منه" على القاعدين‬
‫من المؤمنين غير أولى الضرر"‪ .‬هذا لفظ الترمذي ثم قال هذا حديث حسن غريب من هذا‬
‫الوجه فقوله ل يستوي القاعدون من المؤمنين كان مطلقا فلما نزل بوحي سريع "غير أولي‬
‫الضرر" صار ذلك مخرجا لذوي العذار المبيحة لترك الجهاد من العمى والعرج والمرضى‬
‫عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل ال بأموالهم وأنفسهم ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على‬
‫القاعدين قال ابن عباس‪" :‬غير أولي الضرر" وكذا ينبغي أن يكون كما ثبت في صحيح البخاري‬

‫‪52‬‬
‫من طريق زهير بن معاوية عن حميد عن أنس أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " إن‬
‫بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير ول قطعتم من واد إل وهم معكم فيه" قالوا وهم بالمدينة يا‬
‫رسول ال؟ قال "نعم حبسهم العذر" وهكذا رواه أحمد عن محمد بن عدي عن حميد عن أنس به‬
‫وعلقه البخاري مجزوما ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة عن حميد عن موسى بن أنس بن‬
‫مالك عن أبيه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير‬
‫ول أنفقتم من نفقة ول قطعتم من واد إل وهم معكم فيه" قالوا وكيف يا رسول ال يكونون معنا‬
‫فيه؟ قال" نعم حبسهم العذر " لفظ أبي داود وفي هذا المعنى قال الشاعر‪:‬‬
‫سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا‬ ‫يا راحلين إلى البيت العتيق لقد‬
‫ومن أقام على عذر فقد راحــا‬ ‫إنا أقمنا عـلى عـذر وعن قـــدر‬
‫وقوله "وكل وعد ال الحسنى" أي الجنة والجزاء الجزيل‪ .‬وفيه دللة على أن الجهاد ليس‬
‫بفرض عين بل هو فرض‪ .‬على الكفاية‪ .‬قال تعالى "وفضل ال المجاهدين على القاعدين أجرا‬
‫عظيما" ثم أخبر سبحانه بما فضلهم به من الدرجات في غرف الجنان العاليات ومغفرة الذنوب‬
‫والزلت وأحوال الرحمة والبركات إحسانا منه وتكريما‪.‬‬
‫سهِمْ أَعْظَمُ َدرَجَةً عِن َد اللّهِ َوُأ ْوَل ِئكَ‬
‫ل اللّهِ بَِأ ْموَاِلهِمْ َوأَنفُ ِ‬
‫سبِي ِ‬
‫جرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي َ‬
‫{ الّذِينَ آ َمنُواْ وَهَا َ‬
‫هُمُ الْفَا ِئزُونَ }‬
‫قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس في تفسيره هذه الية قال‪ :‬إن المشركين قالوا عمارة بيت‬
‫ال وقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل‬
‫أنهم أهله وعماره فذكر ال استكبارهم وإعراضهم فقال لهل الحرم من المشركين " قد كانت‬
‫آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين به سامرا تهجرون " يعني أنهم كانوا‬
‫يستكبرون بالحرم قال " به سامرا " كانوا يسمرون به ويهجرون القرآن والنبي صلى ال عليه‬
‫وسلم فخير ال اليمان والجهاد مع النبي صلى ال عليه وسلم على عمارة المشركين البيت‬
‫وقيامهم على السقاية ولم يكن ينفعهم عند ال مع الشرك به وإن كانوا يعمرون بيته ويحرمون‬
‫به‪ .‬قال ال تعالى " ل يستوون عند ال وال ل يهدي القوم الظالمين " يعني الذين زعموا أنهم‬
‫أهل العمارة فسماهم ال ظالمين بشركهم فلم تغن عنهم العمارة شيئا‪ .‬وقال علي بن أبي طلحة‬
‫عن ابن عباس في تفسير هذه الية قال‪ :‬قد نزلت في العباس بن عبد المطلب حين أسر ببدر‬
‫قال لئن كنتم سبقتمونا بالسلم والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام نسقي ونفك العاني‬

‫‪53‬‬
‫قال ال عز وجل " أجعلتم سقاية الحاج ‪ -‬إلى قوله ‪ -‬وال ل يهدي القوم الظالمين " يعني أن‬
‫ذلك كله كان في الشرك ول أقبل ما كان في الشرك وقال الضحاك بن مزاحم أقبل المسلمون‬
‫على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك فقال العباس أما وال لقد كنا‬
‫نعمر المسجد الحرام ونفك العاني ونحجب البيت ونسقي الحاج فأنزل ال " أجعلتم سقاية الحاج "‬
‫الية‪ .‬وقال عبدالرزاق‪ :‬أخبرنا ابن عيينة عن إسماعيل عن الشعبي قال‪ :‬نزلت في علي‬
‫والعباس رضي ال عنهما بما تكلما في ذلك‪ .‬وقال ابن جرير‪ :‬حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب‬
‫أخبرني ابن لهيعة عن أبي صخر قال‪ :‬سمعت محمد بن كعب القرظي يقول‪ :‬افتخر طلحة بن‬
‫شيبة من بني عبد الدار وعباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب فقال طلحة أنا صاحب‬
‫البيت معي مفتاحه ولو أشاء بت فيه وقال العباس أنا صاحب السقاية والقائم عليها ولو أشاء بت‬
‫في المسجد فقال علي رضي ال عنه ما أدري ما تقولن لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل‬
‫الناس وأنا صاحب الجهاد فأنزل ال عز وجل " أجعلتم سقاية الحاج " الية كلها وهكذا قال‬
‫السدي إل أنه قال‪ :‬افتخر علي والعباس وشيبة بن عثمان وذكر نحوه وقال عبدالرزاق‪ :‬أخبرنا‬
‫معمر عن عمرو عن الحسن قال‪ :‬نزلت في علي وعباس وشيبة تكلموا في ذلك فقال العباس ما‬
‫أراني إل أني تارك سقايتنا فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " أقيموا على سقايتكم فإن لكم‬
‫فيها خيرا " ورواه محمد بن ثور عن معمر عن الحسن فذكر نحوه وقد ورد في تفسير هذه الية‬
‫حديث مرفوع فلبد من ذكره هنا قال عبدالرزاق أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن‬
‫النعمان بن بشير رضي ال عنه أن رجل قال‪ :‬ما أبالي أن ل أعمل عمل بعد السلم إل أن‬
‫أسقي الحاج‪ .‬وقال آخر‪ :‬ما أبالي أن ل أعمل عمل بعد السلم إل أن أعمر المسجد الحرام‪.‬‬
‫وقال آخر‪ :‬الجهاد في سبيل ال أفضل مما قلتم‪ .‬فزجرهم عمر رضي ال عنه‪ .‬وقال‪ :‬ل ترفعوا‬
‫أصواتكم عند منبر رسول ال صلى ال عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صلينا الجمعة‬
‫دخلنا على النبي صلى ال عليه وسلم فسألناه‪ .‬فنزلت " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد‬
‫الحرام ‪ -‬إلى قوله ‪-‬ل يستوون عند ال "‪ " .‬طريق أخرى "قال الوليد بن مسلم‪ :‬حدثتي معاوية‬
‫بن سلم عن جده أبي سلم السود عن النعمان بن بشير النصاري قال‪ :‬كنت عند منبر رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم‪ :‬ما أبالي أن ل أعمل ل عمل بعد‬
‫السلم إل أن أسقي الحاج‪ .‬وقال آخر‪ :‬بل عمارة المسجد الحرام‪ .‬وقال آخر‪ :‬بل الجهاد في‬
‫سبيل ال خير مما قلتم فزجره عمر بن الخطاب رضي ال عنه وقال‪ :‬ل ترفعوا أصواتكم عند‬

‫‪54‬‬
‫منبر رسول ال صلى ال عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه‪ .‬قال ففعل فأنزل ال عز وجل "‬
‫أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ‪ -‬إلى قوله ‪ -‬وال ل يهدي القوم الظالمين " ورواه‬
‫مسلم في صحيحه وأبو داود وابن جرير وهذا لفظه وابن مردويه وابن أبي حاتم في تفاسيرهم‬
‫وابن حبان في صحيحه‪.‬‬
‫خ ْيرٌ ّلكُمْ إِن كُنتُمْ َت ْعَلمُونَ}‬
‫ل اللّهِ َذِلكُمْ َ‬
‫سبِي ِ‬
‫سكُمْ فِي َ‬
‫{ انْ ِفرُواْ خِفَافًا َوثِقَالً وَجَاهِدُواْ بَِأ ْموَاِلكُمْ َوأَنفُ ِ‬
‫قال سفيان الثوري عن أبيه عن أبي الضحى مسلم بن صبيح‪ :‬هذه الية " انفروا خفافا وثقال "‬
‫أول ما نزل من سورة براءة وقال معتمر بن سليمان عن أبيه قال‪ :‬زعم حضرمي أنه ذكر له‬
‫أن ناسا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليا وكبيرا فيقول إنى ل آثم فأنزل ال " انفروا خفافا‬
‫وثقال " الية أمر ال تعالى بالنفير العام مع رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم عام غزوة‬
‫تبوك لقتال أعداء ال من الروم الكفرة من أهل الكتاب وحتم على المؤمنين في الخروج معه‬
‫على كل حال في المنشط والمكره والعسر واليسر فقال " انفروا خفافا وثقال " وقال علي بن زيد‬
‫عن أنس عن أبي طلحة‪ :‬كهول وشبانا ما سمع ال عذر أحد ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل‬
‫وفي رواية قرأ أبو طلحة سورة براءة فأتى على هذه الية " انفروا خفافا وثقال وجاهدوا‬
‫بأموالكم وأنفسكم في سبيل ال " فقال‪ :‬أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبانا جهزوني يا بني فقال‬
‫بنوه‪ :‬يرحمك ال قد غزوت مع رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم حتى مات ومع أبي بكر‬
‫حتى مات ومع عمر حتى مات فنحن نغزو عنك فأبى فركب البحر فمات فلم يجدوا له جزيرة‬
‫يدفنوه فيها إل بعد تسعة أيام فلم يتغير فدفنوه فيها وهكذا روي عن ابن عباس وعكرمة وأبي‬
‫صالح والحسن البصري وسهيل بن عطية ومقاتل بن حيان والشعبي وزيد بن أسلم أنهم قالوا‬
‫في تفسير هذه الية " انفروا خفافا وثقال " كهول وشبانا‪ .‬وكذا قال عكرمة والضحاك ومقاتل بن‬
‫حيان وغير واحد وقال مجاهد‪ :‬شبانا وشيوخا وأغنياء ومساكين وكذا قال أبو صالح وغيره قال‬
‫الحكم بن عتيبة‪ :‬مشاغيل وغير مشاغيل وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى " انفروا‬
‫خفافا وثقال " يقول انفروا نشاطا وغير نشاط وكذا قال قتادة وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد "‬
‫انفروا خفافا وثقال " قالوا‪ :‬فإن فينا الثقيل وذو الحاجة والضيعة والشغل والمتيسر به أمره‬
‫فأنزل ال وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا " خفافا وثقال " أي على ما كان منهم‪ .‬وقال الحسن‬
‫بن أبي الحسن البصري أيضا في العسر واليسر وهذا كله من مقتضيات العموم في الية وهذا‬

‫‪55‬‬
‫اختيار ابن جرير‪ .‬وقال المام أبو عمرو الوزاعي‪ :‬إذا كان النفير إلى دروب الروم نفر الناس‬
‫إليها خفافا وركبانا وإذا كان النفير إلى هذه السواحل نفروا إليها خفافا وثقال وركبانا ومشاة‬
‫وهذا تفصيل في المسألة وقد روي عن ابن عباس ومحمد بن كعب وعطاء الخراساني وغيرهم‬
‫أن هذه الية منسوخة بقوله تعالى " فلول نفر من كل فرقة منهم طائفة " وسيأتي الكلم على‬
‫ذلك إن شاء ال وقال السدي قوله " انفروا خفافا وثقال " يقول غنيا وفقيرا وقويا وضعيفا فجاءه‬
‫رجل يومئذ زعموا أنه المقداد وكان عظيما سمينا فشكى إليه وسأله أن يأذن له فأبى فنزلت‬
‫يومئذ " انفروا خفافا وثقال" فلما نزلت هذه الية اشتد على الناش فنسخها ال تعالى " ليس على‬
‫الضعفاء ول على المرضى ول على الذين ل يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا ل ورسوله "‬
‫وقال ابن جرير‪ :‬حدثني يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا أيوب عن محمد قال‪ :‬شهد أبو أيوب مع‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم بدرا ثم لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إل عاما واحدا قال وكان‬
‫أبو أيوب يقول‪ :‬قال ال تعالى " انفروا خفافا وثقال فل أجدني إل خفيفا أو ثقيل وقال ابن‬
‫جرير‪ :‬حدثني سعيد بن عمر السكوني حدثنا بقية حدثنا جرير حدثني عبدالرحمن بن ميسرة‬
‫حدثني أبو راشد الحراني قال‪ :‬وافيت المقدام بن السود فارس رسول ال صلى ال عليه وإله‬
‫وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص وقد فصل عنها من عظمه يريد الغزو‬
‫فقلت له قد أعذر ال إليك فقال أتت علينا سورة البعوث " انفروا خفافا وثقال " وقال ابن جرير‪:‬‬
‫حدثني حيان بن زيد الشرعي قال‪ :‬نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان واليا على حمص قبل‬
‫الفسوس إلى الجراجمة فرأيت شيخا كبيرا هما قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على‬
‫راحلته فيمن أغار فأقبلت إليه فقلت يا عم لقد أعذر ال إليك قال‪ :‬فرفع حاجبيه فقال يا بن أخي‬
‫استنفرنا ال خفافا وثقال أل إنه من يحبه ال يبتليه ثم يعيده ال فيبقيه وإنما يبتلي ال من عبادة‬
‫من شكر وصبر وذكر ولم يعبد إل ال عز وجل‪ .‬ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله وبذل‬
‫المهج في مرضاته ومرضاة رسوله فقال " وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل ال ذلكم خير‬
‫لكم إن كنتم تعلمون " أي هذا خير لكم في الدنيا والخرة لنكم تغرمون في النفقة قليل فيغنمكم‬
‫ال أموال عدوكم في الدنيا مع ما يدخر لكم من الكرامة في الخرة كما قال النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم " تكفل ال للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرده إلى منزله بما نال من أجر‬
‫أو غنيمة " ولهذا قال تعالى " كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير‬
‫لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم وال يعلم وأنتم ل تعلمون " ومن هذا القبيل ما رواه‬

‫‪56‬‬
‫المام أحمد‪ :‬حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن أنس عن رسول ال صلى ال عليه وإله‬
‫وسلم قال لرجل " " أسلم "قال أجدني كارها قال أسلم ولو كنت كارها "‪.‬‬
‫علِيمٌ بِا ْل ُمتّقِينَ}‬
‫سهِمْ وَاللّهُ َ‬
‫خرِ أَن يُجَاهِدُواْ بَِأ ْموَاِلهِمْ َوأَنفُ ِ‬
‫ستَأْ ِذ ُنكَ الّذِينَ ُي ْؤ ِمنُونَ بِاللّهِ وَا ْل َيوْمِ ال ِ‬
‫{ لَ يَ ْ‬
‫يقول تعالى هل تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لحد منهم في القعود لتعلم الصادق منهم في‬
‫إظهار طاعتك من الكاذب فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزو وإن لم تأذن لهم فيه‪.‬‬
‫ولهذا أخبر تعالى أنه ل يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بال ورسوله فقال " ل يستأذنك‬
‫" أي في القعود عن الغزو "‪ .‬الذين يؤمنون بال واليوم الخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم "‬
‫لنهم يرون الجهاد قربة ولما ندبهم إليه بادروا وامتثلوا "‪.‬‬
‫ل اللّهِ َفيَ ْق ُتلُونَ‬
‫سبِي ِ‬
‫جنّةَ يُقَا ِتلُونَ فِي َ‬
‫سهُمْ َوَأ ْموَاَلهُم بِأَنّ َلهُمُ ال َ‬
‫ش َترَى مِنَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ أَنفُ َ‬
‫ن اللّهَ ا ْ‬
‫{ إِ ّ‬
‫شرُواْ‬
‫س َتبْ ِ‬
‫ن اللّهِ فَا ْ‬
‫عَليْهِ حَقّا فِي ال ّتوْرَاةِ وَالِنجِيلِ وَالْ ُقرْآنِ َومَنْ َأوْفَى ِب َعهْ ِدهِ مِ َ‬
‫َويُ ْق َتلُونَ وَعْدًا َ‬
‫ِب َب ْي ِعكُمُ الّذِي بَا َي ْعتُم بِهِ وَ َذِلكَ ُهوَ الْ َف ْوزُ ا ْلعَظِيمُ }‬
‫يخبر تعالى أنه عاوض من عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة وهذا‬
‫من فضله وكرمه وإحسانه فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له‪.‬‬
‫ولهذا قال الحسن البصري وقتادة‪ :‬بايعهم وال فأغلى ثمنهم‪ .‬وقال شمر بن عطية ما من مسلم‬
‫إل وللّه عز وجل في عنقه بيعة وفي بها أو مات عليها ثم تل هذه الية‪ .‬ولهذا يقال من حمل‬
‫في سبيل ال بايع ال أي قبل هذا العقد ووفى به‪ .‬وقال محمد بن كعب القرظي وغيره قال‬
‫عبدال بن رواحة رضي ال عنه لرسول ال صلى ال عليه وسلم يعني ليلة العقبة اشترط لربك‬
‫ولنفسك ما شئت فقال " أشترط لربي أن تعبدوه ول تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني‬
‫مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " قالوا‪ :‬فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال " الجنة " قالوا ربح البيع ل‬
‫نقيل ول نستقيل فنزلت " إن ال اشترى من المؤمنين أنفسهم " الية وقوله " يقاتلون في سبيل‬
‫ال فيقتلون ويقتلون " أي سواء قتلوا أو قتلوا أو اجتمع لهم هذا وهذا فقد وجبت لهم الجنة‪ .‬ولهذا‬
‫جاء في الصحيحين " وتكفل ال لمن خرج في سبيله ل يخرجه إل جهاد في سبيلي وتصديق‬
‫برسلي بأن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائل ما نال من أجر أو‬
‫غنيمة " وقوله " وعدا عليه حقا في التوراة والنجيل والقرآن " تأكيد لهذا الوعد وإخبار بأنه قد‬
‫كتبه على نفسه الكريمة وأنزله على رسله في كتبه الكبار وهي التوراة المنزلة على موسى‬
‫والنجيل المنزل على عيسى والقرآن المنزل على محمد صلوات ال وسلمه عليهم أجمعين‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫وقوله " ومن أوفى بعده من ال " فإنه ل يخلف الميعاد‪ .‬هذا كقوله " ومن أصدق من ال حديثا "‬
‫ومن أصدق من ال قليل " ولهذا قال " فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم‬
‫" أي فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد ووفى بهذا العهد بالفوز العظيم والنعيم المقيم‪.‬‬
‫سبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آوَواْ ّو َنصَرُواْ ُأ ْوَل ِئكَ‬
‫سهِمْ فِي َ‬
‫جرُواْ َوجَاهَدُواْ بَِأ ْموَاِلهِمْ َوأَنفُ ِ‬
‫{ إِنّ الّذِينَ آ َمنُواْ وَهَا َ‬
‫جرُواْ َوإِنِ‬
‫حتّى ُيهَا ِ‬
‫شيْءٍ َ‬
‫ل َي ِتهِم مّن َ‬
‫جرُواْ مَا َلكُم مّن وَ َ‬
‫ضهُمْ َأ ْوِليَاء َبعْضٍ وَالّذِينَ آ َمنُواْ َولَمْ ُيهَا ِ‬
‫َب ْع ُ‬
‫علَى َقوْمٍ َب ْي َنكُمْ َو َب ْي َنهُم مّيثَاقٌ وَاللّهُ ِبمَا َت ْع َملُونَ َبصِيرٌ }‬
‫صرُ إِلّ َ‬
‫ستَنصَرُوكُمْ فِي الدّينِ َف َعَل ْيكُمُ النّ ْ‬
‫اْ‬
‫ذكر تعالى أصناف المؤمنين وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم وجاءوا لنصر‬
‫ال ورسوله وإقامة دينه وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك وإلى أنصار وهم المسلمون من أهل‬
‫المدينة إذ ذاك آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم وواسوهم في أموالهم ونصروا ال ورسوله‬
‫بالقتال معهم فهؤلء "بعضهم أولياء بعض" أي كل منهم أحق بالخر من كل وأحد ولهذا آخى‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم بين المهاجرين والنصار كل اثنين أخوان فكانوا يتوارثون بذلك‬
‫إرثا مقدما على القرابة حتى نسخ ال تعالى ذلك بالمواريث‪ .‬ثبت ذلك في صحيح البخاري عن‬
‫ابن عباس ورواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عنه وقال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير‬
‫واحد‪ .‬قال المام أحمد‪ :‬حدثنا وكيع عن شريك عن عاصم عن أبي وائل عن جرير وهو ابن‬
‫عبدال البجلي رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "المهاجرون والنصار‬
‫بعضهم أولياء بعض والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة"‬
‫تفرد به أحمد‪ .‬وقال الحافظ أبو يعلى‪ :‬حدثنا سفيان حدثنا عكرمة يعني ابن إبراهيم الزدي‬
‫حدثنا عاصم عن شقيق عن ابن مسعود قال‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‬
‫"المهاجرون والنصار والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا‬
‫والخرة" هكذا رواه في مسند عبدال بن مسعود‪ .‬وقد أثنى ال ورسوله على المهاجرين‬
‫والنصار في غير ما آية في كتابه فقال "والسابقون الولون من المهاجرين والنصار والذين‬
‫اتبعوهم بإحسان رضي ال عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها النهار" الية‬
‫وقال "لقد تاب ال على النبي والمهاجرين والنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة" الية وقال‬
‫تعالى "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضل من ال ورضوانا‬
‫وينصرون ال ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار واليمان من قبلهم يحبون من‬
‫هاجر إليهم ول يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم‬

‫‪58‬‬
‫خصاصة" الية وأحسن ما قيل في قوله "ول يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا" أي ل‬
‫يحسدونهم على فضل ما أعطاهم ال على هجرتهم فإن ظاهر اليات تقديم المهاجرين على‬
‫النصار وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء ل يختلفون في ذلك ولهذا قال المام أبو بكر أحمد‬
‫بن عمرو بن عبدالخالق البزار في مسنده‪ :‬حدثنا محمد بن معمر حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا‬
‫حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن حذيفة قال‪ :‬خيرني رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم بين الهجرة والنصرة فاخترت الهجرة ثم قال ل نعرفه إل من هذا الوجه وقوله‬
‫تعالى "والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من وليتهم" قرأ حمزة وليتهم بالكسر والباقون بالفتح‬
‫وهما واحد كالدللة والدللة "من شيء حتى يهاجروا" هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين وهم‬
‫الذين آمنوا ولم يهاجروا بل أقاموا في بواديهم فهؤلء ليس لهم في المغانم نصيب ول في‬
‫خمسها إل ما حضروا فيه القتال‪ .‬كما قال أحمد‪ :‬حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد‬
‫عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن يزيد بن الخصيب السلمي رضي ال عنه قال‪ :‬كان رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى ال‬
‫وبمن معه من المسلمين خيرا وقال "اغزوا باسم ال في سبيل ال قاتلوا من كفر بال إذا لقيت‬
‫عدوكم من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلث خصال ‪ -‬أو خلل ‪ -‬فأيتهن ما أجابوك إليها‬
‫فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى السلم فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى‬
‫التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما‬
‫على المهاجرين فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم‬
‫حكم ال الذي يجري على المؤمنين ول يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إل أن يجاهدوا مع‬
‫المسلمين فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية‪ .‬فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم فإن أبوا‬
‫فاستعن بال وقاتلهم" انفرد به مسلم وعنده زيادات أخر وقوله "وإن استنصركم في الدين فعليكم‬
‫النصر" الية يقول تعالى وإن استنصركم هؤلء العراب الذين لم يهاجروا في قتال ديني على‬
‫عدو لهم فانصروهم فإنه واجب عليكم نصرهم لنهم إخوانكم في الدين إل أن يستنصروكم على‬
‫قوم من الكفار بينكم وبينهم ميثاق أي مهادنة إلى مدة فل تخفروا ذمتكم ول تنقضوا أيمانكم مع‬
‫الذين عاهدتم وهذا مروي عن ابن عباس رضي ال عنه‪.‬‬
‫ل اللّهِ‬
‫سبِي ِ‬
‫سهِمْ فِي َ‬
‫لفَ رَسُولِ اللّهِ َو َكرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بَِأ ْموَاِلهِمْ َوأَنفُ ِ‬
‫خلّفُونَ ِبمَ ْقعَدِهِمْ خِ َ‬
‫{ َفرِحَ ا ْلمُ َ‬
‫حرّا ّلوْ كَانُوا يَفْ َقهُونَ }‬
‫ج َهنّمَ أَشَدّ َ‬
‫حرّ قُلْ نَارُ َ‬
‫وَقَالُواْ لَ تَن ِفرُواْ فِي الْ َ‬

‫‪59‬‬
‫يقول تعالى ذاما للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم في غزوة تبوك‬
‫وفرحوا بقعودهم بعد خروجه " وكرهوا أن يجاهدوا " معه " بأموالهم وأنفسهم في سبيل ال‬
‫وقالوا " أي بعضهم لبعض " ل تنفروا في الحر " وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في‬
‫شدة الحر عند طيب الظلل والثمار فلهذا قالوا " ل تنفروا في الحر " قال ال تعالى لرسوله‬
‫صلى ال عليه وسلم " قل " لهم " نار جهنم " التي تصيرون إليها بمخالفتكم " أشد حرا " مما‬
‫فررتم منه من الحر بل أشد حرا من النار كما قال المام مالك عن أبي الزناد عن العرج عن‬
‫أبي هريرة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ " .‬نار بني آدم التي توقدونها جزء من‬
‫سبعين جزءا من نار جهنم " فقالوا يا رسول ال إن كانت لكافية فقال " فضلت عليها بتسعة‬
‫وستين جزءا " أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به وقال المام أحمد حدثنا سفيان عن‬
‫أبي الزناد عن العرج عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " إن ناركم هذه جزء‬
‫من سبعين جزءا من نار جهنم وضربت في البحر مرتين ولول ذلك ما جعل ال فيها منفعة‬
‫لحد "‪ .‬وهذا أيضا إسناده صحيح وقد روى المام أبو عيسى الترمذي وابن ماجه عن ابن‬
‫عباس الدوري وعن يحيى بن أبي بكير عن شريك عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة‬
‫رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " أوقد ال على النار ألف سنة حتى‬
‫احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء‬
‫كالليل المظلم " ثم قال الترمذي ل أعلم أحدا رفعه غير يحيى‪ .‬كذا قال وقد رواه الحافظ أبو بكر‬
‫بن مردويه عن إبراهيم بن محمد عن محمد بن الحسين بن مكرم عن عبيد ال بن سعيد عن‬
‫عمه عن شريك وهو ابن عبدال النخعي به وروى أيضا ابن مردويه من رواية مبارك بن‬
‫فضالة عن ثابت عن أنس قال تل رسول ال صلى ال عليه وسلم " نارا وقودها الناس‬
‫والحجارة " قال " أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت وألف عام حتى احمرت وألف عام حتى‬
‫اسودت فهي سوداء كالليل ل يضيء لهيبها "‪ .‬وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث‬
‫تمام بن نجيح وقد اختلف فيه عن الحسن عن أنس رفعه " لو أن شرارة بالمشرق ‪ -‬أي من نار‬
‫جهنم ‪ -‬لوجد حرها من بالمغرب "‪ .‬وروى الحافظ أبو يعلي عن إسحاق بن أبي إسرائيل عن‬
‫أبي عبيدة الحداد عن هشام بن حسان عن محمد بن شبيب عن جعفر بن أبي وحشية عن سعيد‬
‫بن جبير عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " لو كان في هذا المسجد مائة‬
‫ألف أو يزيدون وفيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه لحترق المسجد ومن فيه "‬

‫‪60‬‬
‫غريب‪ .‬وقال العمش عن أبي إسحاق عن النعمان بن بشير قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم " إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لمن له نعلن وشراكان من نار جهنم يغلي منهما‬
‫دماغه كما يغلي المرجل ل يرى أن أحدا من أهل النار أشد عذابا منه وإنه أهونهم عذابا "‪.‬‬
‫أخرجاه في الصحيحين من حديث العمش وقال مسلم أيضا حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا‬
‫يحيى بن أبي كثير حدثنا زهير بن محمد عن سهيل بن أبي صالح عن النعمان بن أبي عياش‬
‫عن أبي سعيد الخدري أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " إن أدنى أهل النار عذابا يوم‬
‫القيامة ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه " وقال المام أحمد حدثنا يحيى عن‬
‫ابن عجلن سمعت أبي عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " إن أدنى أهل النار‬
‫عذابا رجل يجعل له نعلن يغلي منهما دماغه " وهذا إسناد جيد قوي رجاله على شرط مسلم‬
‫وال أعلم والحاديث والثار النبوية في هذا كثيرة وقال ال تعالى في كتابه العزيز " كل إنها‬
‫لظى نزاعة للشوى " وقال تعالى " يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم‬
‫والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب‬
‫الحريق " وقال تعالى " إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كما نضجت جلودهم بدلناهم‬
‫جلودا غيرها ليذوقوا العذاب " وقال تعالى في هذه الية الكريمة " قل نار جهنم أشد حرا لو‬
‫كانوا يفقهون " أي لو أنهم يفقهون ويفقهون لنفروا مع الرسول في سبيل ال في الحر ليتقوا به‬
‫من حر جهنم الذي هو أضعاف هذا ولكنهم كما قال الخر‪ :‬كالمستجير من الرمضاء بالنار وقال‬
‫الخر‪:‬‬
‫خوفا من البارد والحار‬ ‫عمرك بالحمــية أفنيـته‬
‫من المعاصي حذر النــار‬ ‫كان أولى لك أن تتقـــي‬
‫ل اللّهِ‬
‫سبِي ِ‬
‫سهِمْ فِي َ‬
‫{ ِإ ّنمَا ا ْل ُم ْؤ ِمنُونَ الّذِينَ آ َمنُوا بِاللّهِ َورَسُولِهِ ثُمّ لَمْ َي ْرتَابُوا وَجَاهَدُوا بَِأ ْموَاِلهِمْ َوأَنفُ ِ‬
‫ُأ ْوَلئِكَ هُ ُم الصّادِقُونَ }‬
‫"إنما المؤمنون" أي إنما المؤمنون الكمل "الذين آمنوا بال ورسوله ثم لم يرتابوا" أي لم يشكوا‬
‫ول تزلزلوا بل ثبتوا على حال واحدة وهي التصديق المحض "وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في‬
‫سبيل ال" أي وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم في طاعة ال ورضوانه "أولئك هم الصادقون" أي‬
‫في قولهم إذا قالوا إنهم مؤمنون ل كبعض العراب الذين ليس لهم من اليمان إل الكلمة‬
‫الظاهرة وقال المام أحمد حدثنا يحيى بن غيلن حدثنا رشدين حدثنا عمرو بن الحارث عن أبي‬

‫‪61‬‬
‫السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي ال عنه قال إن النبي صلى ال عليه وسلم قال‬
‫"المؤمنون في الدنيا على ثلثة أجزاء‪ :‬الذين آمنوا بال ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم‬
‫وأنفسهم في سبيل ال والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم والذي إذا أشرف على طمع‬
‫تركه ل عز وجل"‪.‬‬
‫علَى تِجَا َرةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ َألِيمٍ * ُت ْؤ ِمنُونَ بِاللّهِ َورَسُولِهِ‬
‫{ يَا َأ ّيهَا الّذِينَ َآ َمنُوا هَلْ أَ ُدّلكُمْ َ‬
‫خ ْيرٌ ّلكُمْ إِن كُنتُمْ َت ْعَلمُونَ * َيغْ ِفرْ َلكُمْ ُذنُو َبكُمْ‬
‫سكُمْ َذِلكُمْ َ‬
‫ل اللّهِ بَِأ ْموَاِلكُمْ َوأَنفُ ِ‬
‫سبِي ِ‬
‫َوتُجَاهِدُونَ فِي َ‬
‫جنّاتِ عَدْنٍ َذِلكَ الْ َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ }‬
‫ط ّيبَةً فِي َ‬
‫ح ِتهَا الَْأ ْنهَارُ َومَسَاكِنَ َ‬
‫جرِي مِن تَ ْ‬
‫جنّاتٍ تَ ْ‬
‫خ ْلكُمْ َ‬
‫َويُدْ ِ‬
‫عن عبدال بن سلم أن الصحابة رضي ال عنهم أرادوا أن يسألوا رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم عن أحب العمال إلى ال عز وجل ليفعلوه فأنزل ال تعالى هذه السورة ومن جملتها هذه‬
‫الية يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ثم فسر هذه التجارة‬
‫العظيمة التي ل تبور والتي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور‪.‬‬
‫فقال تعالى تؤمنون بال ورسوله وتجاهدون في سبيل ال بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن‬
‫كنتم تعلمون أي من تجارة الدنيا والكد لها والتصدي لها وحدها‪.‬‬
‫ثم قال تعالى يغفر لكم ذنوبكم أي إن فعلتم ما أمرتكم به ودللتكم عليه غفرت لكم الزلت‬
‫وأدخلتكم الجنات والمساكن الطيبات والدرجات العاليات ولهذا قال تعالى ويدخلكم جنات تجري‬
‫من تحتها النهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم‬
‫ثم قال تعالى وأخرى تحبونها أي وأزيدكم على ذلك زيادة تحبونها وهي نصر من ال وفتح‬
‫قريب أي إذا قاتلتم في سبيله ونصرتم دينه تكفل ال بنصركم قال ال تعالى " يا أيها الذين آمنوا‬
‫إن تنصروا ال ينصركم ويثبت أقدامكم " وقال تعالى " ولينصرن ال من ينصره إن ال لقوي‬
‫عزيز " وقوله تعالى " وفتح قريب " أي عاجل فهذه الزيادة هي خير الدنيا موصول بنعيم‬
‫الخرة لمن أطاع ال ورسوله ونصر ال ودينه ولهذا قال تعالى وبشر المؤمنين‪.‬‬
‫إخلص النية في الجهاد‬
‫عن عمر بن الخطاب وهو يخطب الناس فقال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول {‬
‫إنما العمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى ال وإلى رسوله فهجرته إلى‬
‫ال وإلى رسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه}‬
‫متفق عليه‬

‫‪62‬‬
‫عن أبي موسى قال سئل النبي صلى ال عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية‬
‫ويقاتل رياء فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم { من قاتل لتكون كلمة ال هي العليا فهو في‬
‫سبيل ال } البخاري ومسلم‬
‫عن أبي هريرة أن رجل قال يا رسول ال رجل يريد الجهاد في سبيل ال وهو يبتغي عرضا‬
‫من عرض الدنيا فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم { ل أجر له } فأعظم ذلك الناس وقالوا‬
‫للرجل عد لرسول ال صلى ال عليه وسلم فلعلك لم تفهمه فقال يا رسول ال رجل يريد الجهاد‬
‫في سبيل ال وهو يبتغي عرضا من عرض الدنيا فقال { ل أجر له } فقالوا للرجل عد لرسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم فقال له الثالثة فقال له { ل أجر له }حديث حسن رواه ابو داود‬
‫عن أبى هريرة رضى ال عنه قال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول { إن أول‬
‫الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها‬
‫قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به‬
‫فسحب على وجهه حتى ألقي في النار‪ ..‬الحديث }رواه مسلم‬
‫الترغيب في سؤال الشهادة في سبيل ال‬
‫عن سهل بن حنيف رضي ال عنه أن النبي صلى ال عليه وسلم قال { من سأل ال الشهادة‬
‫بصدق بلغه ال منازل الشهداء وإن مات على فراشه}رواه مسلم‬
‫وفي رواية { من جرح جرحا في سبيل ال جاء يوم القيامة ريحه ريح المسك ‪ ،‬ولونه لون‬
‫الزعفران ‪ ،‬عليه طابع الشهداء ‪ ،‬ومن سأل ال الشهادة مخلصا أعطاه ال أجر شهيد وإن مات‬
‫على فراشه }حسن رواه ابن حبان‬
‫عن أنس بن مالك قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم {من طلب الشهادة صادقا أعطيها‬
‫ولو لم تصبه}رواه مسلم‬
‫عن معاذ بن جبل حدثهم أنه سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول{ من قاتل في سبيل ال‬
‫فواق ناقة فقد وجبت له الجنة ومن سأل ال القتل من نفسه صادقا ثم مات أو قتل فإن له أجر‬
‫شهيد زاد ابن المصفى من هنا ومن جرح جرحا في سبيل ال أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم‬
‫القيامة كأغزر ما كانت لونها لون الزعفران وريحها ريح المسك ومن خرج به خراج في سبيل‬
‫ال فإن عليه طابع الشهداء } صحيح رواه أبو دواد ‪.‬‬
‫الحث على العداد وفضل الرمي والشيب‬

‫‪63‬‬
‫عن عقبة بن عامر الجهني قال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو على المنبر يقول{ (‬
‫وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) أل إن القوة الرمي أل إن القوة الرمي أل إن القوة الرمي}‬
‫رواه مسلم وغيره‬
‫عن سلمة بن الكوع قال ‪ :‬مر النبي على نفر من أسلم ينتضلون فقال النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم {ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا وأنا مع بني فلن قال ‪ :‬فأمسك أحد الفريقين‬
‫بأيديهم فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ما لكم ل ترمون قالوا كيف نرمي وأنت معهم فقال‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم وأنا معكم كلكم} أخرجه البخاري وأحمد‬
‫عن عمرو بن عبسة قال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول {من رمى العدو بسهم‬
‫فبلغ سهمه العدو أصاب أو أخطأ فعدل رقبة }صحيح رواه ابن ماجه‬
‫عن أبي نجيح السلمي قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ { :‬من شاب شيبة في سبيل ال‬
‫كانت له نورا يوم القيامة ‪ ،‬ومن رمى بسهم كان له نورا يوم القيامة ‪} ...‬صحيح أخرجه‬
‫البيهقي‬
‫عن أبي نجيح السلمي قال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول { من بلغ بسهم في‬
‫سبيل ال فهو له درجة في الجنة فبلغت يومئذ ستة عشر سهما قال وسمعت رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم يقول من رمى بسهم في سبيل ال فهو عدل محرر } صحيح رواه النسائي‬
‫عن عقبة بن عامر رضي ال عنه قال ‪:‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫{ من علم الرمي ثم تركه فليس منا}رواه مسلم‬
‫فضل الرباط في سبيل ال‬
‫عن سهل بن سعد الساعدي رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال { رباط‬
‫يوم في سبيل ال خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما‬
‫عليها والروحة يروحها العبد في سبيل ال أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها } البخارى‬
‫مسلم‬
‫عن سلمان رضي ال عنه قال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول { رباط يوم وليلة‬
‫خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه‬
‫وأمن الفتان } رواه مسلم‬

‫‪64‬‬
‫عن فضالة بن عبيد رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال { كل الميت يختم‬
‫على عمله إل المرابط فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتان القبر }صحيح رواه‬
‫أبو داود‬
‫عن عبد ال بن الزبير قال خطب عثمان بن عفان الناس فقال يا أيها الناس إني سمعت حديثا‬
‫من رسول ال صلى ال عليه وسلم لم يمنعني أن أحدثكم به إل الضن بكم وبصحابتكم‬
‫فليختر مختار لنفسه أو ليدع سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول {من رابط ليلة في‬
‫سبيل ال سبحانه كانت كألف ليلة صيامها وقيامها} حسن رواه ابن ماجه‬
‫عن عثمان بن عفان رضي ال عنه قال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول {رباط‬
‫يوم في سبيل ال خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل }حسن رواه النسائى‬
‫عن أبي هريرة رضى ال عنه قال سمعت رسول ال يقول‬
‫{ موقف ساعة في سبيل ال خير من قيام ليلة القدر عند الحجر السود } السلسله الصحيحة‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال {من مات مرابطا في‬
‫سبيل ال أجرى عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمل وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان‬
‫وبعثه ال يوم القيامة آمنا من الفزع }صحيح رواه ابن ماجه‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه أن النبي صلى ال عليه وسلم قال {خير معايش الناس لهم رجل‬
‫ممسك بعنان فرسه في سبيل ال ويطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه إليها‬
‫يبتغي الموت أو القتل مظانه ورجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعاف أو بطن واد من‬
‫هذه الودية يقيم الصلة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ليس من الناس إل في‬
‫خير}روامسلم‬
‫فضل الحراسة في سبيل ال‬
‫عن ابن عباس رضي ال عنه قال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول { عينان ل‬
‫تمسهما النار عين بكت من خشية ال وعين باتت تحرس في سبيل الله } حسن رواه الترمذي‬
‫عن معاوية بن حيدة رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { ثلثة ل ترى‬
‫أعينهم النار يوم القيامة ‪ :‬عين بكت من خشية ال ‪ ،‬وعين حرست في سبيل ال ‪ ،‬وعين غضت‬
‫عن محارم ال }السلسلة الصحيحة‬

‫‪65‬‬
‫عن ابن عمر رضى ال عنهما ان النبي صلى ال عليه وسلم قال { أل أنبئكم بليلة أفضل من‬
‫ليلة القدر ؟ حارس الحرس في أرض خوف لعله أن ل يرجع إلى أهله }السلسلة الصحيحة‬
‫عن سهل ابن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم حنين فأطنبوا السير‬
‫حتى كانت عشية فحضرت الصلة عند رسول ال صلى ال عليه وسلم فجاء رجل فارس فقال‬
‫يا رسول ال إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا فإذا أنا بهوازن على بكرة آبائهم‬
‫بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين فتبسم رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال {تلك‬
‫غنيمة المسلمين غدا إن شاء ال} ثم قال من يحرسنا الليلة }قال أنس بن أبي مرثد الغنوي أنا يا‬
‫رسول ال قال فاركب فركب فرسا له فجاء إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال له رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم {استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعله ول نغرن من قبلك الليلة }فلما‬
‫أصبحنا خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى مصله فركع ركعتين ثم {قال هل أحسستم‬
‫فارسكم} قالوا يا رسول ال ما أحسسناه فثوب بالصلة فجعل رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫يصلي وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلته وسلم قال{ أبشروا فقد جاءكم فارسكم }‬
‫فجعلنا ننظر إلى خلل الشجر في الشعب فإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم فسلم فقال إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم فلما أصبحت اطلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا فقال له رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم {هل نزلت الليلة} قال ل إل مصليا أو قاضيا حاجة فقال له رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم {قد أوجبت فل عليك أن ل تعمل بعدها }صحيح رواه النسائى وابو داود‬
‫فضل النفقة والتجهيز‬
‫عن خريم بن فاتك رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { من أنفق نفقة في‬
‫سبيل ال كتبت له بسبع مائة ضعف}صحيح رواه الترمذي و النسائي‬
‫زيد بن خالد رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال { من جهز غازيا في‬
‫سبيل ال فقد غزا ومن خلف غازيا في سبيل ال بخير فقد غزا }البخاري مسلم وغيرهما‬
‫عن زيد بن خالد الجهني رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { من جهز‬
‫غازيا في سبيل ال كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الغازي شيئا }صحيح رواه‬
‫ابن ماجه‬

‫‪66‬‬
‫عن أبي أمامة رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { أفضل الصدقات ظل‬
‫فسطاط في سبيل ال ومنيحة خادم في سبيل ال أو طروقة فحل في سبيل ال }صحيح‬
‫رواه الترمذي‬
‫فضل الصوم في سبيل ال‬
‫عن أبي سعيد الخدري رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { ما من عبد‬
‫يصوم يوما في سبيل ال إل باعد ال بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا }البخاري ومسلم‬
‫عن أبي أمامة الباهلي رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال { من صام يوما‬
‫في سبيل ال جعل ال بينه وبين النار خندقا كما بين السماء والرض }حسن رواه الترمذي‬
‫عن عمر بن عبسه رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ { :‬من صام يوما‬
‫في سبيل ال بعدت منه النار مسيرة مئة عام }حسن رواه الطبراني‬
‫فضل الغدوة والروحة في سبيل ال‬
‫عن أنس رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال { لغدوة في سبيل ال أو‬
‫روحة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم أو موضع يده في الجنة خير من الدنيا وما‬
‫فيها ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الرض لضاءت ما بينهما ولملت ما بينهما‬
‫ريحا ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها } رواه البخاري مسلم والترمذي وغيرهم‬
‫عن سهل بن سعد الساعدي رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال { رباط‬
‫يوم في سبيل ال خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما‬
‫عليها والروحة يروحها العبد في سبيل ال أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها }رواه‬
‫البخاري ومسلم‬
‫عن أبي أيوب النصاري رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { غدوة في‬
‫سبيل ال أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس وغربت }حديث صحيح رواه النسائي‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { تضمن ال لمن‬
‫خرج في سبيله ل يخرجه إل جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي فهو علي ضامن أن‬
‫أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائل ما نال من أجر أو غنيمة والذي نفس‬
‫محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل ال إل جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم لونه لون دم‬
‫وريحه مسك والذي نفس محمد بيده لول أن يشق على المسلمين ما قعدت خلف سرية‬

‫‪67‬‬
‫تغزو في سبيل ال أبدا ولكن ل أجد سعة فأحملهم ول يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا‬
‫عني والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل ال فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو‬
‫فأقتل }رواه مسلم‬
‫عن معاذ رضي ال عنه قال عهد إلينا رسول ال صلى ال عليه وسلم { في خمس من فعل‬
‫منهن كان ضامنا على ال من عاد مريضا أوخرج مع جنازة أو خرج غازيا في سبيل ال أو‬
‫دخل على إمام يريد بذلك تعزيره وتوقيره أو قعد في بيته فيسلم الناس منه ويسلم } حسن رواه‬
‫احمد وغيره‬
‫فضل الغبار في سبيل ال‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { ل يلج النار رجل‬
‫بكى من خشية ال حتى يعود اللبن في الضرع ول يجتمع غبار في سبيل ال ودخان جهنم }‬
‫صحيح رواه الترمذي‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال { ل يجتمع غبار في سبيل‬
‫ال عز وجل ودخان جهنم في منخري مسلم أبدا }صحيح رواه النسائي‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال { ل يجتمع غبار في سبيل‬
‫ال ودخان جهنم في وجه رجل أبدا ول يجتمع الشح واليمان في قلب عبد أبدا }صحيح رواه‬
‫النسائي‬
‫عبد الرحمن بن جبر رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال{ ما اغبرت قدما‬
‫عبد في سبيل ال فتمسه النار }رواه البخاري‬
‫عن مالك بن عبد ال الخثعمي رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { من‬
‫اغبرت قدماه في سبيل ال حرمه ال على النار }صحيح رواه احمد‬
‫عن أبي الدرداء رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { ل يجمع ال في‬
‫جوف رجل غبارا في سبيل ال ودخان جهنم ومن اغبرت قدماه في سبيل ال حرم ال سائر‬
‫جسده على النار }حسن رواه احمد‬
‫فضل الخوف في سبيل ال‬

‫‪68‬‬
‫عن عائشة رضي ال عنها قالت سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول { ما خالط قلب‬
‫امرئ مسلم رهج في سبيل ال إل حرم ال عليه النار }صحيح رواه احمد‬
‫عن أم مالك البهزية رضي ال عنها قالت ذكر رسول ال صلى ال عليه وسلم فتنة فقربها‬
‫قالت قلت يا رسول ال من خير الناس فيها قال { رجل في ماشيته يؤدي حقها ويعبد ربه ورجل‬
‫آخذ برأس فرسه يخيف العدو ويخيفونه } حسن رواه الترمذي‬
‫فضل الجهاد في سبيل ال‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم سئل أي العمل أفضل فقال‬
‫{ إيمان بال ورسوله قيل ثم ماذا قال الجهاد في سبيل ال قيل ثم ماذا قال حج مبرور }رواه‬
‫البخاري‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه قال سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم أي العمال أفضل‬
‫قال{ إيمان بال قال ثم ماذا قال الجهاد في سبيل ال قال ثم ماذا قال حج مبرور }رواه مسلم‬
‫عن أبي سعيد رضي ال عنه قال قال رجل أي الناس أفضل يا رسول ال قال { مؤمن يجاهد‬
‫بنفسه وماله في سبيل ال قال ثم من قال ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه‬
‫ويدع الناس من شره }رواه البخاري ومسلم‬
‫عن أبي سعيد رضي ال عنه قال قيل يا رسول ال أي المؤمنين أفضل قال {مؤمن يجاهد في‬
‫سبيل ال بنفسه وماله قالوا ثم من قال مؤمن اعتزل في شعب من الشعاب أو الشعبة كفى‬
‫الناس شره }حسن رواه احمد‬
‫عن ابن عباس رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال { أل أخبركم بخير‬
‫الناس منزل} قلنا بلى يا رسول ال قال {رجل آخذ برأس فرسه في سبيل ال عز وجل حتى‬
‫يموت أو يقتل وأخبركم بالذي يليه قلنا نعم يا رسول ال قال رجل معتزل في شعب يقيم‬
‫الصلة ويؤتي الزكاة ويعتزل شرور الناس وأخبركم بشر الناس قلنا نعم يا رسول ال قال الذي‬
‫يسأل بال عز وجل ول يعطي به }صحيح رواه النسائي‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه قال مر رجل من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته لطيبها فقال لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب‬
‫ولن أفعل حتى أستأذن رسول ال صلى ال عليه وسلم فذكر ذلك لرسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم فقال { ل تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل ال أفضل من صلته في بيته سبعين عاما أل‬

‫‪69‬‬
‫تحبون أن يغفر ال لكم ويدخلكم الجنة اغزو في سبيل ال من قاتل في سبيل ال فواق ناقة‬
‫وجبت له الجنة }حسن رواه الترمذي‬
‫عن أبي أمامة رضي ال عنه قال خرجنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم في سرية من‬
‫سراياه قال فمر رجل بغار فيه شيء من ماء قال فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما‬
‫كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى من الدنيا ثم قال لو أني أتيت نبي ال‬
‫صلى ال عليه وسلم فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت وإل لم أفعل فأتاه فقال يا نبي ال إني‬
‫مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا قال‬
‫فقال النبي صلى ال عليه وسلم { إني لم أبعث باليهودية ول بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية‬
‫السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل ال خير من الدنيا وما فيها ولمقام‬
‫أحدكم في الصف خير من صلته ستين سنة }‬
‫حسن رواه احمد‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه قال قيل للنبي صلى ال عليه وسلم ما يعدل الجهاد في سبيل‬
‫ال عز وجل قال{ ل تستطيعونه } قال فأعادوا عليه مرتين أو ثلثا كل ذلك يقول { ل‬
‫تستطيعونه } وقال في الثالثة {مثل المجاهد في سبيل ال كمثل الصائم القائم القانت بآيات ال ل‬
‫يفتر من صيام ولصلة حتى يرجع المجاهد في سبيل ال تعالى }رواه مسلم‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه قال جاء رجل إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال دلني‬
‫على عمل يعدل الجهاد قال { ل أجده قال هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك‬
‫فتقوم ول تفتر وتصوم ول تفطر قال ومن يستطيع ذلك } قال أبو هريرة إن فرس المجاهد‬
‫ليستن في طوله فيكتب له حسنات‬
‫رواه البخاري‬
‫عن أبي سعيد الخدري رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال{ يا أبا سعيد‬
‫من رضي بال ربا وبالسلم دينا وبمحمد نبيا وجبت له الجنة }فعجب لها أبو سعيد فقال‬
‫أعدها علي يا رسول ال ففعل ثم قال { وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل‬
‫درجتين كما بين السماء والرض قال وما هي يا رسول ال قال الجهاد في سبيل ال الجهاد في‬
‫سبيل ال }رواه مسلم والنسائي‬

‫‪70‬‬
‫عن أبي بكر بن أبي موسى الشعري قال سمعت أبي بحضرة العدو يقول قال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم { إن أبواب الجنة تحت ظلل السيوف فقال رجل من القوم رث الهيئة‬
‫أأنت سمعت هذا من رسول ال صلى ال عليه وسلم يذكره قال نعم فرجع إلى أصحابه فقال‬
‫أقرأ عليكم السلم وكسر جفن سيفه فضرب به حتى قتل } رواه مسلم والترمذي‬
‫عن أنس بن مالك قال بعث رسول ال صلى ال عليه وسلم بسيسة عينا ينظر ما صنعت‬
‫عير أبي سفيان فجاء وما في البيت أحد غيري وغير رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ل‬
‫أدري ما استثنى بعض نسائه قال فحدثه الحديث قال فخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫فتكلم فقال { إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضرا فليركب معنا فجعل رجال يستأذنونه في‬
‫ظهرانهم في علو المدينة فقال ل إل من كان ظهره حاضرا فانطلق رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر وجاء المشركون فقال رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ل يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه فدنا المشركون فقال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم قوموا إلى جنة عرضها السموات والرض قال يقول عمير بن‬
‫الحمام النصاري يا رسول ال جنة عرضها السموات والرض قال نعم قال بخ بخ فقال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ما يحملك على قولك بخ بخ قال ل وال يا رسول ال إل‬
‫رجاءة أن أكون من أهلها قال فإنك من أهلها فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال‬
‫لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة قال فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم‬
‫حتى قتل }رواه مسلم‬
‫عن عبد ال بن حبشي الخثعمي رضي ال عنه أن النبي صلى ال عليه وسلم سئل أي العمال‬
‫أفضل قال‬
‫{ إيمان ل شك فيه وجهاد ل غلول فيه وحجة مبرورة قيل فأي الصلة أفضل قال طول‬
‫القنوت قيل فأي الصدقة أفضل قال جهد المقل قيل فأي الهجرة أفضل قال من هجر ما حرم‬
‫ال عز وجل قيل فأي الجهاد أفضل قال من جاهد المشركين بماله ونفسه قيل فأي القتل أشرف‬
‫قال من أهريق دمه وعقرجواده }صحيح رواه النسائي‬
‫عن معاذ بن أنس رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم أن امرأة أتته فقالت يا رسول‬
‫ال انطلق زوجي غازيا وكنت أقتدي بصلته إذا صلى وبفعله كله فأخبرني بعمل يبلغني عمله‬
‫حتى يرجع فقال لها { أتستطيعين أن تقومي ول تقعدي وتصومي ول تفطري وتذكري ال‬

‫‪71‬‬
‫تبارك وتعالى ول تفتري حتى يرجع قالت ما أطيق هذا يا رسول ال فقال والذي نفسي بيده لو‬
‫طوقتيه ما بلغت العشر من عمله حتى يرجع }حسن رواه احمد‬
‫عن النعمان بن بشير رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { مثل المجاهد‬
‫في سبيل ال كمثل الصائم نهاره والقائم ليله حتى يرجع متى يرجع }صحيح رواه أحمد‬
‫فضل الكلم في سبيل ال‬
‫عن معاذ بن جبل رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال { من قاتل في سبيل ال‬
‫من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة ومن جرح جرحا في سبيل ال أو نكب نكبة فإنها‬
‫تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها الزعفران وريحها كالمسك }‬
‫صحيح رواه الترمذي وغيره‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال { والذي نفسي بيده ل‬
‫يكلم أحد في سبيل ال وال أعلم بمن يكلم في سبيله إل جاء يوم القيامة واللون لون الدم‬
‫والريح ريح المسك }رواه البخاري‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال { كل كلم يكلمه المسلم في‬
‫سبيل ال يكون يوم القيامة كهيئتها إذ طعنت تفجر دما اللون لون الدم والعرف عرف المسك‬
‫}رواه البخاري‬
‫عن أبي أمامة رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال { ليس شيء أحب إلى ال‬
‫من قطرتين وأثرين قطرة من دموع في خشية ال وقطرة دم تهراق في سبيل ال وأما‬
‫الثران فأثر في سبيل ال وأثر في فريضة من فرائض ال }حسن رواه الترمذي‬
‫فضل من قتل كافر في سبيل ال‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال { ل يجتمع كافر وقاتله‬
‫في النار أبدا }رواه مسلم‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال { ل يجتمعان في النار‬
‫اجتماعا يضر أحدهما مسلم قتل كافرا ثم سدد المسلم أو قارب ول يجتمعان في جوف عبد‬
‫غبار في سبيل ال ودخان جهنم ول يجتمعان في قلب عبد اليمان والشح }حسن رواه احمد‬

‫‪72‬‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { ل يجتمعان في‬
‫النار أبدا اجتماعا يضر أحدهما قالوا من يا رسول ال قال مؤمن يقتله كافر ثم يسدد بعد‬
‫ذلك }حسن رواه احمد‬
‫فضل الشهادة في سبيل ال‬
‫أنس بن مالك رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال {ما أحد يدخل الجنة يحب أن‬
‫يرجع إلى الدنيا وله ما على الرض من شيء إل الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر‬
‫مرات لما يرى من الكرامة }رواه البخاري ومسلم والترمذي‬
‫عن أنس رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { يؤتى بالرجل من أهل الجنة‬
‫فيقول ال عز وجل يا ابن آدم كيف وجدت منزلك فيقول أي رب خير منزل فيقول سل‬
‫وتمن فيقول أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات لما يرى من فضل الشهادة‬
‫}صحيح رواه النسائي‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه قال سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول {والذي‬
‫نفسي بيده لول أن رجال يكرهون أن يتخلفوا بعدي ول أجد ما أحملهم ما تخلفت لوددت أني‬
‫أقتل في سبيل ال ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل }رواه البخاري‬
‫عن عبد ال بن عمرو بن العاص رضي ال عنهما أن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫قال { يغفر للشهيد كل ذنب إل الدين }رواه مسلم‬
‫عن أبي قتادة رضي ال عنه عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قام فيهم فذكر لهم أن‬
‫الجهاد في سبيل ال واليمان بال أفضل العمال فقام رجل فقال يا رسول ال أرأيت إن قتلت‬
‫في سبيل ال تكفر عني خطاياي فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم { نعم إن قتلت في‬
‫سبيل ال وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر} ثم قال رسول ال صلى ال عليه وسلم {‬
‫كيف قلت } قال أرأيت إن قتلت في سبيل ال أتكفر عني خطاياي فقال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم {نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إل الدين فإن جبريل عليه السلم‬
‫قال لي ذلك }رواه مسلم‬
‫عن ابن أبي عميرة رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال {ما من الناس نفس‬
‫مسلم يقبضها ال عز وجل تحب أن تعود إليكم وأن لها الدنيا وما فيها غير الشهيد }‬

‫‪73‬‬
‫و قال ابن أبي عميرة قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { لن أقتل في سبيل ال أحب إلي‬
‫من أن يكون لي المدر والوبر } صحيح رواه احمد‬
‫عن أنس رضي ال عنه قال غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال يا رسول ال‬
‫غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن ال أشهدني قتال المشركين ليرين ال ما أصنع فلما‬
‫كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلء يعني أصحابه‬
‫وأبرأ إليك مما صنع هؤلء يعني المشركين ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال يا سعد بن‬
‫معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد قال سعد فما استطعت يا رسول‬
‫ال ما صنع قال أنس فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم‬
‫ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إل أخته ببنانه قال أنس كنا نرى أو‬
‫نظن أن هذه الية نزلت فيه وفي أشباهه ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا ال عليه)‬
‫رواه البخاري‬
‫عن سمرة رضي ال عنه قال النبي صلى ال عليه وسلم { رأيت الليلة رجلين أتياني فصعدا بي‬
‫الشجرة فأدخلني دارا هي أحسن وأفضل لم أر قط أحسن منها قال أما هذه الدار فدار الشهداء‬
‫}رواه البخاري‬
‫عن جابر بن عبد ال رضي ال عنه يقول لما قتل عبد ال بن عمرو بن حرام يوم أحد‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم يا جابر أل أخبرك ما قال ال عز وجل لبيك قلت بلى‬
‫قال { ما كلم ال أحدا إل من وراء حجاب وكلم أباك كفاحا فقال يا عبدي تمن علي أعطك قال‬
‫يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية قال إنه سبق مني أنهم إليها ل يرجعون قال يا رب فأبلغ من‬
‫ورائي فأنزل ال عز وجل هذه الية ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل ال أمواتا بل أحياء عند‬
‫ربهم يرزقون }صحيح رواه الترمذي‬
‫عن ابن عباس رضي ال عنهما قال ‪:‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { رأيت جعفر بن أبي‬
‫طالب ملكا يطير في الجنة مع الملئكة بجناحين }حسن رواه الطبراني‬
‫عن عبد ال بن عمر رضي ال عنهما قال أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم في غزوة‬
‫مؤتة زيد بن حارثة فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم { إن قتل زيد فجعفر وإن قتل‬
‫جعفر فعبد ال بن رواحة قال عبد ال كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي‬
‫طالب فوجدناه في القتلى ووجدنا ما في جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية } رواه البخاري‬

‫‪74‬‬
‫عن جابر رضي ال عنه قال قالوا يا رسول ال أي الجهاد أفضل{ قال من عقر جواده‬
‫وأهريق دمه }صحيح رواه احمد‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { ما يجد الشهيد من‬
‫مس القتل إل كما يجد أحدكم من مس القرصة }صحيح رواه الترمذي وغيره‬
‫عن أبي الدرداء رضي ال عنه يقول قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { يشفع الشهيد في‬
‫سبعين من أهل بيته }حسن رواه ابوداود‬
‫عن عتبة بن عبد السلمي رضي ال عنه وكان من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم قال‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { القتل ثلثة رجل مؤمن قاتل بنفسه وماله في سبيل ال‬
‫حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل فذلك الشهيد المفتخر في خيمة ال تحت عرشه ل يفضله‬
‫النبيون إل بدرجة النبوة ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا جاهد بنفسه وماله‬
‫في سبيل ال حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل محيت ذنوبه وخطاياه إن السيف محاء الخطايا‬
‫وأدخل من أي أبواب الجنة شاء فإن لها ثمانية أبواب ولجهنم سبعة أبواب وبعضها أفضل من‬
‫بعض ورجل منافق جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل في سبيل ال حتى يقتل فإن ذلك‬
‫في النار السيف ل يمحو النفاق }حسن رواه احمد‬
‫عن نعيم بن همار رضي ال عنه أن رجل سأل النبي صلى ال عليه وسلم أي الشهداء أفضل‬
‫قال { الذين إن يلقوا في الصف يلفتون وجوههم حتى يقتلوا أولئك ينطلقون في الغرف العلى‬
‫من الجنة ويضحك إليهم ربهم وإذا ضحك ربك إلى عبد في الدنيا فل حساب عليه }صحيح رواه‬
‫احمد‬
‫عن أبي سعيد رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { أفضل الجهاد عند ال‬
‫يوم القيامة الذين يلقون في الصف الول فل يلفتون وجوههم حتى يقتلوا ‪ ،‬اولئك يتلبطون في‬
‫الغرف العلى من الجنة ينظر إليهم ربك ‪ ،‬إن ربك إذا ضحك إلى قوم فل حساب عليهم }صحيح‬
‫رواه الطبراني السلسلة الصحيحة‬
‫عن عبدال بن عمرو رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم {أول ثلة يدخلون‬
‫الجنة الفقراء المهاجرون الذين تتقى بهم المكاره ‪ ،‬إذا أمروا سمعوا وأطاعوا ‪ ،‬وإن كانت‬
‫للرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض له حتى يموت وهي في صدره ‪ ،‬وإن ال عز وجل‬
‫ليدعويوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول ‪ :‬أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي‬

‫‪75‬‬
‫وقوتلوا وأوذوا في سبيلي ‪ ،‬وجاهدوا في سبيلي ادخلوا الجنة ‪ ،‬فيدخلونها بغير حساب ‪ .‬وتأتي‬
‫الملئكة فيسجدون ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬ربنا نحن نسبح بحمدك الليل والنهار ونقدس لك ‪ ،‬من هؤلء‬
‫الذين آثرتهم علينا ؟ فيقول الرب عز وجل ‪ :‬هؤلء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي ‪ ،‬وأوذوا في‬
‫سبيلي ‪ ،‬فتدخل عليهم الملئكة من كل باب { سلم عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار }}صحيح‬
‫رواه الصبهاني السلسلة الصحيحة‬
‫عن المقدام بن معدي كرب الكندي رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم {‬
‫إن للشهيد عند ال عز وجل قال الحكم ست خصال أن يغفر له في أول دفعة من دمه‬
‫ويرى قال الحكم ويرى مقعده من الجنة ويحلى حلة اليمان ويزوج من الحور العين‬
‫ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الكبر قال الحكم يوم الفزع الكبر ويوضع على‬
‫رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور‬
‫العين ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه }صحيح رواه احمد‬
‫عن المقدام بن معدي كرب رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { للشهيد‬
‫عند ال ست خصال يغفر له في أول دفعة ويرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر‬
‫ويأمن من الفزع الكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها‬
‫ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ويشفع في سبعين من أقاربه }صحيح رواه‬
‫الترمذي وابن ماجة‬
‫عن ابن عباس رضي ال عنهما قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { الشهداء على بارق‬
‫نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا }حسن رواه احمد‬
‫عن ابن عباس رضي ال عنهما قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { لما أصيب‬
‫إخوانكم بأحد جعل ال أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها‬
‫وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم‬
‫ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئل يزهدوا في الجهاد ول ينكلوا‬
‫عند الحرب فقال ال سبحانه أنا أبلغهم عنكم قال فأنزل ال { ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل‬
‫ال أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون }}حسن رواه أبو داود‬

‫‪76‬‬
‫عن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم أن رجل قال يا‬
‫رسول ال ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إل الشهيد قال { كفى ببارقة السيوف على‬
‫رأسه فتنة }صحيح رواه النسائي‬
‫عن أنس بن مالك رضي ال عنه أن أم الربيع بنت البراء وهي أم حارثة بن سراقة أتت‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم فقالت يا نبي ال أل تحدثني عن حارثة وكان قتل يوم بدر‬
‫أصابه سهم غرب فإن كان في الجنة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء قال‬
‫{ يا أم حارثة إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس العلى }رواه البخاري‬
‫عن عبد ال بن مسعود رضي ال عنه قال قال رسول ال صلى ال عليه وسلم { عجب ربنا‬
‫عز وجل من رجل غزا في سبيل ال فانهزم يعني أصحابه فعلم ما عليه فرجع حتى أهريق‬
‫دمه فيقول ال تعالى لملئكته انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي حتى‬
‫أهريق دمه }حسن رواه ابوداود‬
‫أنس بن مالك رضي ال عنه قال جاء ناس إلى النبي صلى ال عليه وسلم فقالوا أن ابعث‬
‫معنا رجال يعلمونا القرآن والسنة فبعث إليهم سبعين رجل من النصار يقال لهم القراء فيهم‬
‫خالي حرام يقرءون القرآن ويتدارسون بالليل يتعلمون وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه‬
‫في المسجد ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لهل الصفة وللفقراء فبعثهم النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم إليهم فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان فقالوا اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد‬
‫لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا قال وأتى رجل حراما خال أنس من خلفه فطعنه برمح حتى‬
‫أنفذه فقال حرام فزت ورب الكعبة فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم لصحابه { إن‬
‫إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا }رواه‬
‫البخاري ومسلم‬
‫سألنا عبد ال عن هذه الية عن مسروق قال‬
‫ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل ال أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون قال أما إنا قد سألنا‬
‫عن ذلك (أي رسول اله صلى ال عليه وسلم) فقال { أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل‬
‫معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلعة‬
‫فقال هل تشتهون شيئا قالوا أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ففعل ذلك بهم‬

‫‪77‬‬
‫ثلث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا يا رب نريد أن ترد أرواحنا في‬
‫أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا }رواه مسلم‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه سأل جبريل عن هذه‬
‫الية ‪ ( { :‬ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الرض إل من شاء ال ثم نفخ‬
‫فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون )من الذين لم يشأ ال ان يصعقهم ؟ قال ( هم الشهداء) }صحيح‬
‫رواه الحاكم‬
‫***********************************‬
‫أما من سنجاهد ؟؟؟‬
‫الجواب ‪:‬‬
‫نجاهد الحكام أول واليهود والصليبيين والوثنيين وكل من يقف بطريق الدعوة السلمية كائنا‬
‫من كان فرد هيئة جماعة دولة‬
‫ج َهنّمُ َو ِبئْسَ ا ْل َمصِيرُ}‬
‫عَل ْيهِمْ َومَ ْأوَاهُمْ َ‬
‫غلُظْ َ‬
‫قال تعالى ‪ { :‬يَا َأ ّيهَا ال ّن ِبيّ جَاهِدِ ا ْلكُفّارَ وَا ْلمُنَافِقِينَ وَا ْ‬
‫(‪ )73‬سورة التوبة‬
‫يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال‬
‫وفي سبيل حماية الجماعة المسلمة الولى كان المر لرسول ال صلى ال عليه وسلم بمجاهدة‬
‫أعدائها‪(:‬يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ‪ ,‬واغلظ عليهم ‪ ,‬ومأواهم جهنم وبئس المصير) ‪.‬‬
‫وهي لفتة لها معناها وقيمتها بعدما تقدم من أمر المؤمنين بوقاية أنفسهم وأهليهم من النار ‪.‬‬
‫وبالتوبة النصوح التي تكفر عنهم السيئات وتدخلهم الجنة تجري من تحتها النهار ‪. .‬‬
‫لها معناها وقيمتها في ضرورة حماية المحضن الذي تتم فيه الوقاية من النار ‪ .‬فل تترك هذه‬
‫العناصر المفسدة الجائرة الظالمة ‪ ,‬تهاجم المعسكر السلمي من خارجه كما كان الكفار‬
‫يصنعون ‪ .‬أو تهاجمه من داخله كما كان المنافقون يفعلون ‪.‬‬
‫وتجمع الية بين الكفار والمنافقين في المر بجهادهم والغلظة عليهم ‪ .‬لن كل من الفريقين‬
‫يؤدي دورا مماثل في تهديد المعسكر السلمي ‪ ,‬وتحطيمه أو تفتيته ‪ .‬فجهادهم هو الجهاد‬
‫الواقي من النار ‪ .‬وجزاؤهم هو الغلظة عليهم من رسول ال والمؤمنين في الدنيا ‪.‬‬
‫(ومأواهم جهنم وبئس المصير) في الخرة !‬
‫***************‬

‫‪78‬‬
‫ش ِركِينَ‬
‫ى ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬قَالَ ‪ « :‬جَاهِدُوا ا ْلمُ ْ‬
‫وفي سنن أبي داود عَنْ َأ َنسٍ أَنّ ال ّنبِ ّ‬
‫س َن ِتكُمْ »‪.‬‬
‫سكُمْ َوَألْ ِ‬
‫بَِأ ْموَاِلكُمْ َوَأنْفُ ِ‬
‫ش ِركِينَ‬
‫وفي سنن النسائي ‪ :‬عَنْ َأ َنسٍ عَنِ ال ّن ِبىّ ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬قَالَ « جَاهِدُوا ا ْلمُ ْ‬
‫س َن ِتكُمْ »‪.‬‬
‫بَِأ ْموَاِلكُمْ َوَأيْدِيكُمْ َوَألْ ِ‬
‫ل اللّ ِه ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬قَالَ « مَا مِنْ‬
‫سعُودٍ أَنّ رَسُو َ‬
‫عبْ ِد اللّهِ بْنِ مَ ْ‬
‫وفي صحيح مسلم عَنْ َ‬
‫س ّنتِهِ َويَ ْقتَدُونَ ِبَأ ْم ِرهِ‬
‫حوَا ِريّونَ َوأَصْحَابٌ َيأْخُذُونَ بِ ُ‬
‫َن ِبىّ َب َعثَهُ اللّهُ فِى ُأمّةٍ َق ْبلِى إِلّ كَانَ لَهُ مِنْ ُأ ّمتِهِ َ‬
‫خلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَ يَ ْف َعلُونَ َويَ ْف َعلُونَ مَا لَ ُي ْؤ َمرُونَ َفمَنْ جَاهَدَهُمْ ِبيَ ِدهِ‬
‫خُلفُ مِنْ َبعْدِهِمْ ُ‬
‫ثُمّ ِإ ّنهَا تَ ْ‬
‫َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َومَنْ جَاهَدَهُمْ ِبلِسَانِهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َومَنْ جَاهَدَهُمْ بِ َق ْلبِهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َوَليْسَ َورَاءَ َذِلكَ مِنَ‬
‫خرْدَلٍ »‪.‬‬
‫حبّةُ َ‬
‫الِيمَانِ َ‬
‫**********‬
‫وفي المحلى ‪:‬‬
‫علَى قَ ْدرِ طَا َقتِهِ ‪-‬‬
‫علَى كُلّ أَحَدٍ ‪َ -‬‬
‫‪ - 48‬مَسَْألَةٌ ‪ :‬وَالَْأ ْمرُ بِا ْل َم ْعرُوفِ وَال ّن ْهيُ عَنْ ا ْل ُم ْن َكرِ َف ْرضَانِ َ‬
‫ض َعفُ الْإِيمَانِ َل ْيسَ َورَاءَ َذِلكَ مِنْ‬
‫بِا ْليَدِ ‪َ ,‬فمَنْ لَمْ يَقْ ِدرْ َف ِبلِسَانِهِ ‪َ ,‬فمَنْ لَمْ يَقْ ِدرْ َفبِ َق ْلبِهِ ‪ ,‬وَ َذِلكَ َأ ْ‬
‫خ ْيرِ َويَ ْأ ُمرُونَ بِا ْل َم ْعرُوفِ‬
‫عزّ وَجَلّ ‪َ { :‬و ْل َتكُنْ ِم ْنكُمْ ُأمّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْ َ‬
‫شيْءٌ ‪ .‬قَالَ َ‬
‫الْإِيمَانِ َ‬
‫َو َي ْن َهوْنَ عَنْ ا ْل ُم ْن َكرِ َوأُوَل ِئكَ هُمْ ا ْلمُ ْفلِحُونَ } وَقَالَ َتعَالَى ‪َ { :‬وإِنْ طَائِ َفتَانِ مِنْ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ا ْق َت َتلُوا‬
‫حتّى تَفِيءَ إلَى َأ ْم ِر اللّهِ } ‪.‬‬
‫خرَى فَقَا ِتلُوا اّلتِي َت ْبغِي َ‬
‫علَى الْأُ ْ‬
‫صلِحُوا َب ْي َن ُهمَا فَإِنْ َب َغتْ إحْدَا ُهمَا َ‬
‫فََأ ْ‬
‫حمَدُ‬
‫حمّدٍ ثنا أَ ْ‬
‫حمَدُ بْنُ ُم َ‬
‫عبْدُ ا ْلوَهّابِ بْنُ عِيسَى ثنا أَ ْ‬
‫حمَدُ بْنُ َفتْحٍ ثنا َ‬
‫سفَ ثنا أَ ْ‬
‫عبْ ُد اللّهِ بْنُ يُو ُ‬
‫حَ ّد َثنَا َ‬
‫ش ْيبَةَ ثنا‬
‫حمّدُ بْنُ ا ْل ُم َثنّى قَالَ ابْنُ َأبِي َ‬
‫ش ْيبَةَ َومُ َ‬
‫سلِمُ بْنُ الْحَجّاجِ ثنا َأبُو َب ْكرِ بْنُ َأبِي َ‬
‫عِليّ ثنا مُ ْ‬
‫بْنُ َ‬
‫ش ْعبَةُ‬
‫ش ْعبَةُ ‪ ,‬ثُمّ اتّفَقَ سُ ْفيَانُ وَ ُ‬
‫جعْ َفرٍ ثنا ُ‬
‫حمّدُ بْنُ َ‬
‫َوكِيعٌ عَنْ سُ ْفيَانَ ال ّث ْو ِريّ ‪ ,‬وَقَالَ ابْنُ ا ْل ُم َثنّى ثنا مُ َ‬
‫س ِم ْعتُ رَسُولَ‬
‫سعِيدٍ الْخُ ْد ِريّ ‪َ :‬‬
‫شهَابٍ قَالَ ‪ :‬قَالَ َأبُو َ‬
‫سلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ ِ‬
‫‪ِ ,‬كلَا ُهمَا عَنْ َق ْيسِ بْنِ مُ ْ‬
‫ستَطِعْ َف ِبلِسَانِهِ ‪,‬‬
‫اللّهِ صلى ال عليه وسلم يَقُولُ { مَنْ َرأَى ِم ْنكُمْ ُم ْن َكرًا َف ْل ُي َغ ّي ْرهُ ِبيَ ِدهِ ‪ ,‬فَإِنْ لَمْ يَ ْ‬
‫ح َميْدٍ ثنا َيعْقُوبُ بْنُ‬
‫عبْدُ بْنُ ُ‬
‫سلِمٍ حَ ّد َثنَا َ‬
‫ض َعفُ الْإِيمَانِ } ‪َ .‬وبِهِ إلَى مُ ْ‬
‫ستَطِعْ َفبِ َق ْلبِهِ ‪ ,‬وَ َذِلكَ َأ ْ‬
‫فَإِنْ لَمْ يَ ْ‬
‫ط ِميّ ‪ -‬عَنْ‬
‫ضيْلِ الْخِ ْ‬
‫سعْدٍ ثنا َأبِي عَنْ صَالِحِ بْنِ َكيْسَانَ عَنْ الْحَا ِرثِ ُهوَ ابْنُ الْ ُف َ‬
‫إ ْبرَاهِيمَ بْنِ َ‬
‫خ َرمَةَ عَنْ َأبِي رَافِعٍ ُهوَ‬
‫س َورِ بْنِ مَ ْ‬
‫حمَنِ بْنِ ا ْلمِ ْ‬
‫عبْدِ الرّ ْ‬
‫حكَمِ عَنْ َ‬
‫عبْدِ الْ َ‬
‫عبْ ِد اللّهِ بْنِ َ‬
‫جعْ َفرِ بْنِ َ‬
‫َ‬
‫سعُودٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى ال عليه‬
‫عبْ ِد اللّهِ بْنِ مَ ْ‬
‫ل اللّ ِه صلى ال عليه وسلم ‪ -‬عَنْ َ‬
‫َم ْولَى رَسُو ِ‬
‫حوَا ِريّونَ َوأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ‬
‫وسلم قَالَ { مَا مِنْ َن ِبيّ َب َعثَهُ اللّهُ فِي ُأمّةٍ َق ْبلِي إلّا كَانَ لَهُ مِنْ ُأ ّمتِهِ َ‬

‫‪79‬‬
‫خلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَ ْف َعلُونَ ‪َ ,‬ويَ ْف َعلُونَ مَا لَا‬
‫خّلفَ مِنْ َبعْدِهِمْ ُ‬
‫س ّنتِهِ َويَ ْقتَدُونَ ِبَأ ْم ِرهِ ‪ ,‬ثُمّ إ ّنهَا تَ َ‬
‫بِ ُ‬
‫ُي ْؤ َمرُونَ ‪َ ,‬فمَنْ جَاهَدَهُمْ ِبيَ ِدهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ ‪َ ,‬ومَنْ جَاهَدَهُمْ ِبلِسَانِهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ ‪َ ,‬ومَنْ جَاهَدَهُمْ بِ َق ْلبِهِ ‪,‬‬
‫سِلمِينَ‬
‫خ َتِلفْ أَحَدٌ مِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫عِليّ ‪ :‬لَمْ يَ ْ‬
‫خرْدَلٍ } ‪ .‬قَالَ َ‬
‫حبّةُ َ‬
‫َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ ‪َ ,‬وَل ْيسَ َورَاءَ َذِلكَ مِنْ الْإِيمَانِ َ‬
‫ض ُهمَا َأوْ عَارَضَ‬
‫خ َتيْنِ ‪َ ,‬فصَحّ أَنّ مَا عَا َر َ‬
‫غ ْيرُ َمنْسُو َ‬
‫ح َك َمتَانِ َ‬
‫فِي أَنّ الْآ َي َتيْنِ ا ْلمَ ْذكُو َر َتيْنِ مُ ْ‬
‫شكّ ‪.‬‬
‫الْأَحَادِيثَ اّلتِي فِي َم ْعنَا ُهمَا ُهوَ ا ْل َمنْسُوخُ ِبلَا َ‬
‫سلِمٍ إنْ قَ َدرَ ِبيَ ِدهِ َف ِبيَ ِدهِ‬
‫علَى كُلّ مُ ْ‬
‫‪ - 1776‬مَسَْألَةٌ ‪ :‬وَالَْأ ْمرُ بِا ْل َم ْعرُوفِ وَال ّن ْهيُ عَنْ ا ْل ُم ْن َكرِ َفرْضٌ َ‬
‫ض َعفُ الْإِيمَانِ ‪ ,‬فَإِنْ لَمْ يَ ْفعَلْ‬
‫َوإِنْ لَمْ يَقْ ِدرْ ِبيَ ِدهِ َف ِبلِسَانِهِ َوإِنْ لَمْ يَقْ ِدرْ ِبلِسَانِهِ َفبِ َق ْلبِهِ َولَا بُدّ ‪ ,‬وَ َذِلكَ َأ ْ‬
‫ض ْربَ ‪َ ,‬أوْ ذَهَابَ ا ْلمَالِ ‪َ ,‬ف ُهوَ عُ ْذرٌ ُيبِيحُ لَهُ أَنْ ُي َغ ّيرَ بِ َق ْلبِهِ‬
‫َفلَا إيمَانَ لَهُ ‪َ .‬ومَنْ خَافَ الْ َقتْلَ َأوْ ال ّ‬
‫س ُكتَ عَنْ الَْأ ْمرِ بِا ْل َم ْعرُوفِ وَعَنْ ال ّن ْهيِ عَنْ ا ْل ُمنْ َكرِ فَقَطْ ‪َ .‬ولَا ُيبِيحُ لَهُ َذِلكَ ‪ :‬ا ْل َعوْنُ ِبلِسَانٍ‬
‫فَقَطْ َويَ ْ‬
‫صلًا ‪ ,‬لِ َقوْلِ اللّهِ َتعَالَى ‪َ { :‬وإِنْ طَائِ َفتَانِ مِنْ ا ْل ُمؤْ ِمنِينَ ا ْق َت َتلُوا‬
‫صوِيبِ ا ْل ُم ْن َكرِ أَ ْ‬
‫علَى َت ْ‬
‫‪َ ,‬أوْ ِبيَدٍ َ‬
‫حتّى تَفِيءَ إلَى َأ ْم ِر اللّهِ فَإِنْ‬
‫خرَى فَقَا ِتلُوا اّلتِي َت ْبغِي َ‬
‫علَى الْأُ ْ‬
‫صلِحُوا َب ْي َن ُهمَا فَإِنْ َب َغتْ إحْدَا ُهمَا َ‬
‫فََأ ْ‬
‫خ ْيرِ‬
‫عزّ وَجَلّ ‪َ { :‬و ْل َتكُنْ ِم ْنكُمْ ُأمّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْ َ‬
‫صلِحُوا َب ْي َن ُهمَا بِا ْلعَدْلِ } ‪ .‬وَقَالَ َ‬
‫فَا َءتْ َفَأ ْ‬
‫سلِمٍ نا َأبُو َب ْكرِ‬
‫طرِيقِ مُ ْ‬
‫َويَ ْأ ُمرُونَ بِا ْل َم ْعرُوفِ َو َي ْن َهوْنَ عَنْ ا ْل ُم ْن َكرِ َوأُوَلئِكَ هُمْ ا ْلمُ ْفلِحُونَ } ‪َ .‬ومِنْ َ‬
‫ش ْيبَةَ ‪ :‬نا َوكِيعٌ عَنْ‬
‫حمّدِ بْنِ ا ْل َعلَاءِ َأبُو ُك َر ْيبٍ قَالَ ابْنُ َأبِي َ‬
‫حمّدِ بْنِ ا ْل ُم َثنّى ‪َ ,‬ومُ َ‬
‫ش ْيبَةَ ‪ِ ,‬لمُ َ‬
‫بْنُ َأبِي َ‬
‫ش ْعبَةُ ‪,‬‬
‫ش ْعبَةُ ‪ ,‬ثُمّ اتّفَقَ سُ ْفيَانُ ‪ ,‬وَ ُ‬
‫جعْ َفرٍ نا ُ‬
‫حمّدُ بْنُ َ‬
‫حمّدُ بْنُ ا ْل ُمثَنّى ‪ :‬نا مُ َ‬
‫سُ ْفيَانَ ال ّث ْو ِريّ ‪ ,‬وَقَالَ مُ َ‬
‫عمَشُ‬
‫شهَابٍ ‪ ,‬وَقَالَ َأبُو ُك َر ْيبٍ ‪ :‬نا َأبُو ُمعَا ِويَةَ نا الْأَ ْ‬
‫سلَمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ ِ‬
‫ِكلَا ُهمَا عَنْ َق ْيسِ بْنِ مُ ْ‬
‫سعِيدٍ الْخُ ْد ِريّ ‪,‬‬
‫سمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ عَنْ َأبِيهِ ‪ ,‬ثُمّ اتّفَقَ طَارِقٌ ‪َ ,‬ورَجَاءٌ ‪ِ ,‬كلَا ُهمَا ‪ :‬عَنْ َأبِي َ‬
‫عَنْ إ ْ‬
‫س ِمعْت رَسُولَ اللّهِ صلى ال عليه وسلم يَقُولُ ‪ { " :‬مَنْ َرأَى ِم ْنكُمْ ُم ْن َكرًا َف ْل ُي َغ ّي ْرهُ ِبيَ ِدهِ َفإِنْ‬
‫قَالَ ‪َ :‬‬
‫ع ْمرٌو‬
‫سلِمٍ نا َ‬
‫طرِيقِ مُ ْ‬
‫ستَطِعْ َفبِ َق ْلبِهِ وَ َذِلكَ َأضْ َعفُ الْإِيمَانِ } ‪َ .‬ومِنْ َ‬
‫ستَطِعْ َف ِبلِسَانِهِ َفإِنْ لَمْ يَ ْ‬
‫لَمْ يَ ْ‬
‫ح َميْدٍ وَاللّفْظُ لَهُ ‪ ,‬قَالُوا ُكّلهُمْ ‪ :‬نا َيعْقُوبُ بْنُ إ ْبرَاهِيمَ بْنِ‬
‫عبْدُ بْنُ ُ‬
‫ضرِ ‪ ,‬وَ َ‬
‫النّاقِدُ ‪َ ,‬وَأبُو َب ْكرِ بْنُ النّ ْ‬
‫ن صَالِحِ بْنِ َكيْسَانَ عَنْ الْحَا ِرثِ ُهوَ ابْنُ‬
‫ع ْوفٍ نا َأبِي عَ ْ‬
‫حمَنِ بْنِ َ‬
‫عبْ ِد الرّ ْ‬
‫سعْدِ بْنِ إ ْبرَاهِيمَ بْنِ َ‬
‫َ‬
‫س َورِ بْنِ‬
‫حمَنِ بْنِ ا ْلمِ ْ‬
‫عبْ ِد الرّ ْ‬
‫حكَمِ عَنْ َ‬
‫عبْ ِد اللّهِ بْنِ الْ َ‬
‫جعْ َفرِ بْنِ َ‬
‫ط ِميّ الَْأ ْنصَا ِريّ عَنْ َ‬
‫ضيْلِ الْخِ ْ‬
‫الْفُ َ‬
‫سعُودٍ حَ ّدثَهُ " أَنّ‬
‫عبْ َد اللّهِ بْنَ مَ ْ‬
‫ل اللّ ِه صلى ال عليه وسلم أَنّ َ‬
‫خ َرمَةَ عَنْ َأبِي رَافِعٍ َم ْولَى رَسُو ِ‬
‫مَ ْ‬
‫رَسُولَ اللّهِ صلى ال عليه وآله وسلم قَالَ ‪ { :‬مَا مِنْ َن ِبيّ َب َعثَهُ اللّهُ فِي ُأمّةٍ َق ْبلِي إلّا كَانَ لَهُ مِنْ‬
‫خلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا‬
‫س ّنتِهِ َويَ ْقتَدُونَ بَِأ ْم ِرهِ ثُمّ يَحْ ُدثُ مِنْ َبعْدِهِمْ ُ‬
‫حوَا ِريّونَ َوَأصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِ ُ‬
‫ُأ ّمتِهِ َ‬
‫يَ ْف َعلُونَ َويَ ْف َعلُونَ مَا لَا ُي ْؤ َمرُونَ َفمَنْ جَاهَدَهُمْ ِبيَ ِدهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َومَنْ جَاهَدَهُمْ ِبلِسَانِهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َومَنْ‬

‫‪80‬‬
‫سعِيدِ بْنِ َنبَاتٍ‬
‫حمّدُ بْنُ َ‬
‫خرْدَلٍ } ‪ .‬نا مُ َ‬
‫حبّةُ َ‬
‫جَاهَدَهُمْ بِ َق ْلبِهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َل ْيسَ َورَاءَ َذِلكَ مِنْ الْإِيمَانِ َ‬
‫حمّدُ‬
‫ش ِنيّ نا مُ َ‬
‫سلَامِ الْخُ َ‬
‫عبْدِ ال ّ‬
‫حمّدُ بْنُ َ‬
‫صبَغَ نا ُم َ‬
‫عبْدِ ا ْل َبصِيرِ نا قَاسِمُ بْنُ َأ ْ‬
‫عبْ ِد اللّهِ بْنِ َ‬
‫حمَدُ بْنُ َ‬
‫نا أَ ْ‬
‫عِليّ‬
‫ع َبيْ َدةَ عَنْ َ‬
‫سعْدِ بْنِ ُ‬
‫حمَنِ بْنُ َمهْ ِديّ نا سُ ْفيَانُ ال ّث ْو ِريّ عَنْ ُز َبيْدٍ ا ْليَا ِميّ عَنْ َ‬
‫عبْدُ الرّ ْ‬
‫ا ْل ُم َثنّى نا َ‬
‫صيَةِ اللّهِ } َومِنْ‬
‫شرٍ فِي َم ْع ِ‬
‫ي صلى ال عليه وآله وسلم قَالَ ‪ { :‬لَا طَاعَةَ ِلبَ َ‬
‫بْنِ َأبِي طَاِلبٍ عَنْ ال ّنبِ ّ‬
‫ع َمرَ‬
‫ع َمرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ ُ‬
‫ع َبيْدِ اللّهِ بْنِ ُ‬
‫سعِيدٍ الْقَطّانُ عَنْ ُ‬
‫حيَى بْنُ َ‬
‫طرِيقِ َأبِي دَاوُد نا مُسَدّدٌ نا َي ْ‬
‫َ‬
‫حبّ‬
‫سلِمِ فِيمَا أَ َ‬
‫علَى ا ْل َمرْءِ ا ْلمُ ْ‬
‫سمْعُ وَالطّاعَةُ َ‬
‫ل اللّ ِه صلى ال عليه وآله وسلم ‪ { :‬ال ّ‬
‫قَالَ ‪ :‬قَالَ رَسُو ُ‬
‫حيَى‬
‫سمْعَ َولَا طَاعَةَ } ‪َ .‬وبِهِ إلَى َأبِي دَاوُد نا َي ْ‬
‫صيَةٍ َفلَا َ‬
‫صيَةٍ َفإِذَا ُأ ِمرَ ِب َم ْع ِ‬
‫َأوْ َك ِرهَ مَا لَمْ ُي ْؤ َمرْ ِب َمعْ ِ‬
‫شرِ بْنِ‬
‫ح َميْدُ بْنُ ِهلَالٍ عَنْ بِ ْ‬
‫سَل ْيمَانُ بْنُ ا ْل ُمغِي َرةِ نا ُ‬
‫عبْدِ ا ْلوَا ِرثِ نا ُ‬
‫صمَدِ بْنُ َ‬
‫عبْ ُد ال ّ‬
‫بْنُ َمعِينٍ نا َ‬
‫ل اللّ ِه صلى ال عليه وآله وسلم‬
‫عَاصِمٍ عَنْ عُ ْقبَةَ بْنِ مَاِلكٍ عَنْ َرجُلٍ مِنْ رَهْطِهِ قَالَ { َب َعثَ رَسُو ُ‬
‫ل اللّ ِه صلى ال عليه وآله‬
‫سيْفًا َفَلمّا َرجَعَ قَالَ ‪َ :‬لوْ َرَأ ْيتَ مَا لَا َمنَا رَسُو ُ‬
‫جلًا ِم ْنهُمْ َ‬
‫حتُ رَ ُ‬
‫سلَ ْ‬
‫س ِريّةً فَ َ‬
‫َ‬
‫ج َعلُوا َمكَانَهُ مَنْ َي ْمضِي لَِأ ْمرِي } " ‪.‬‬
‫جلًا َفلَمْ َيمْضِ لَِأ ْمرِي أَنْ تَ ْ‬
‫ج ْزتُمْ إذْ َب َع ْثتُ رَ ُ‬
‫وسلم قَالَ ‪ :‬أَعْ َ‬
‫سمّهِ ‪ -‬فَالصّحَابَةُ‬
‫حبٌ ‪َ -‬وإِنْ لَمْ يُ َ‬
‫عنْ ُه صَا ِ‬
‫حبَةِ ‪َ ,‬وَالّذِي ُر ِويَ َ‬
‫حمّدٍ ‪ :‬عُ ْقبَ ُة صَحِيحُ الصّ ْ‬
‫قَالَ َأبُو مُ َ‬
‫حمّدٌ‬
‫ل اللّهِ َتعَالَى ‪ { :‬مُ َ‬
‫ح َبتِهِ َف ُهوَ عَدْلٌ مَقْطُوعٌ ِبعَدَاَلتِهِ ‪ ,‬لِ َقوْ ِ‬
‫ت صِحّ ُة صُ ْ‬
‫ُكّلهُمْ عُدُولٌ ‪ ,‬فَإِذَا َث َب َت ْ‬
‫عِليّ ] َوكُلّ مَنْ َمعَهُ مِنْ‬
‫عِليّ ‪ [ :‬وَ ُهوَ َقوْلُ َ‬
‫علَى ا ْلكُفّارِ } ‪ .‬قَالَ َ‬
‫رَسُولُ اللّهِ َوَالّذِينَ َمعَهُ أَشِدّاءُ َ‬
‫ن الصّحَابَةِ ‪َ ,‬و ُمعَا ِويَةَ ‪َ ,‬وكُلّ مَنْ‬
‫طلْحَةَ ‪ ,‬وَال ّز َب ْيرِ ‪َ ,‬وكُلّ مَنْ َم َعهُمْ مِ ْ‬
‫الصّحَابَةِ َوأُمّ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ وَ َ‬
‫جمِي ِعهِمْ ‪َ -‬وكُلّ مَنْ قَامَ‬
‫ضيَ اللّهُ عَنْ َ‬
‫عِليّ ‪َ -‬ر ِ‬
‫سيْنِ بْنِ َ‬
‫ن الصّحَابَةِ ‪ ,‬وَابْنِ ال ّزبَ ْيرِ ‪ ,‬وَالْحُ َ‬
‫َمعَهُ مِ ْ‬
‫خلَافُ‬
‫خبَارِ اّلتِي فِيهَا ِ‬
‫غ ْيرِهِمْ ‪ .‬وَهَذَا الَْأحَادِيثُ نَاسِخَةٌ ِللْأَ ْ‬
‫ن الصّحَابَةِ ‪ ,‬وَالتّا ِبعِينَ ‪ ,‬وَ َ‬
‫ح ّرةِ مِ ْ‬
‫فِي الْ َ‬
‫عَليْهِ الدّينُ َقبْلَ الَْأ ْمرِ بِالْ ِقتَالِ ‪َ ,‬ولِأَنّ الَْأ ْمرَ بِا ْل َم ْعرُوفِ وَال ّن ْهيَ عَنْ‬
‫هَذَا ; لِأَنّ ِت ْلكَ ُموَافِقَةٌ ِلمَا كَانَ َ‬
‫شكّ ‪َ . -‬وبِاَللّهِ َتعَالَى ال ّتوْفِيقُ ‪.‬‬
‫خلَافِهِ ِبلَا َ‬
‫ا ْل ُم ْنكَرِ بَاقٍ مُ ْف َترَضٌ لَمْ ُينْسَخْ ‪َ ,‬ف ُهوَ النّاسِخُ لِ ِ‬
‫وفي غذاء اللباب ‪:‬‬
‫جلْدِ بِا ْليَدِ‬
‫ضعَفُهُ بِالْ َق ْلبِ ثُمّ لِسَانِهِ َوأَ ْقوَاهُ إ ْنكَارُ الْ َفتَى الْ َ‬
‫طَلبٌ ‪ :‬فِي َمرَا ِتبِ الِْإ ْنكَارِ ‪َ :‬وَأ ْ‬
‫مَ ْ‬
‫ن اللّسَانِ وَا ْليَدِ فَإِنْ قِيلَ َأيّ َت ْغيِيرٍ‬
‫ضعَفُهُ ) َأيْ َأضْ َعفُ َمرَا ِتبِ الِْإ ْنكَارِ َيكُونُ ( بِالْ َق ْلبِ ) دُو َ‬
‫( َوَأ ْ‬
‫ش َتغِلَ بِ ِذ ْكرِ َم ْولَاهُ ‪ ,‬جَلّ‬
‫جوَابُ ا ْل ُمرَادُ أَنْ ُي ْن ِكرَ َذِلكَ َولَا َي ْرضَاهُ ‪َ ,‬ويَ ْ‬
‫حصَلَ بِِإ ْنكَارِ الْ َق ْلبِ ؟ فَالْ َ‬
‫َ‬
‫ضلًا ِمنْهُ َوِإ ْنعَامًا ‪ ,‬فَقَالَ { َوَالّذِينَ لَا‬
‫ح اللّهُ َتعَالَى ا ْلعَا ِملِينَ بِ َذِلكَ تَ َف ّ‬
‫سلْطَانُهُ ‪ .‬وَقَدْ مَدَ َ‬
‫شَ ْأنُهُ ‪َ ,‬و َتعَالَى ُ‬
‫شهَدُونَ الزّورَ َوإِذَا َمرّوا بِالّلغْوِ َمرّوا ِكرَامًا } فَإِذَا َك ِرهَ ا ْل ُم ْؤمِنُ ا ْل ُم ْنكَرَ َو َنوَى بِ َق ْلبِهِ َأنّهُ َلوْ قَ َدرَ‬
‫يَ ْ‬
‫عيْنِ َكرَاهَةِ مَا‬
‫علَى كُلّ ُم ْؤمِنٍ إيجَابُ َ‬
‫جبُ َ‬
‫علَى َت ْغيِي ِرهِ َل َغ ّي َرهُ كَانَ فِي ُق ّوةِ َت ْغيِي ِرهِ لَهُ ‪َ ,‬فِإنّهُ يَ ِ‬
‫َ‬

‫‪81‬‬
‫ل عليه الصلة والسلم َكمَا فِي الْأَحَادِيثِ‬
‫حبّهُ َو َيرْضَاهُ ‪ .‬وَقَدْ قَا َ‬
‫حبّةُ مَا يُ ِ‬
‫َكرِهَهُ َم ْولَاهُ َومَ َ‬
‫عمَالُ بِال ّنيّاتِ } وَ { الدّينُ النّصِيحَةُ } ( ثُمّ ) َأرْقَى مِنْ الِْإ ْنكَارِ‬
‫صرِيحَةِ { إ ّنمَا الْأَ ْ‬
‫الصّحِيحَةِ ال ّ‬
‫سلّطَ‬
‫عَل ْيهِمْ َف َي ْت ُركُونَهُ َأوْ يُ َ‬
‫بِالْ َق ْلبِ فَقَطْ الِْإ ْنكَارُ بِ ( لِسَانِهِ ) َأيْ أَنْ ُي ْن ِكرَ ا ْل ُم ْنكَرَ ِبلِسَانِهِ ِبأَنْ َيصِيحَ َ‬
‫جلْدِ‬
‫عَل ْيهِمْ مَنْ ُي َغ ّي ُرهُ ( َوأَ ْقوَاهُ ) َأيْ أَ ْقوَى َمرَا ِتبِ الِْإ ْنكَارِ ( إ ْنكَارُ الْ َفتَى ) َأيْ الشّخْصِ ا ْلمُ ْؤمِنِ ( الْ َ‬
‫َ‬
‫جلِيدًا } َأيْ‬
‫ج َوفَ َ‬
‫ع َمرَ { كَانَ أَ ْ‬
‫جلِيدٌ ‪ .‬وَفِي حَدِيثِ ُ‬
‫ن اللّامِ َأيْ الْ َق ِويّ الشّدِيدِ ‪َ ,‬ويُقَالُ لَهُ َ‬
‫سكُو ِ‬
‫) بِ ُ‬
‫ي صلى ال‬
‫ل ال ّن ِب ّ‬
‫َق ِويّا شَدِيدًا ‪َ ,‬ف ُهوَ صِفَةٌ ِللْ َفتَى ( بِا ْليَدِ ) ُم َت َعلّقٌ بِِإ ْنكَارِ الْ َفتَى ‪ ,‬وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ َقوْ ِ‬
‫ستَطِعْ َفبِ َق ْلبِهِ ‪,‬‬
‫ستَطِعْ َف ِبلِسَانِهِ ‪ ,‬فَإِنْ لَمْ يَ ْ‬
‫عليه وسلم { مَنْ َرأَى ِم ْنكُمْ ُم ْن َكرًا َف ْل ُي َغ ّي ْرهُ ِبيَ ِدهِ ‪ ,‬فَإِنْ لَمْ يَ ْ‬
‫سلِمٌ َأ ْيضًا مِنْ حَدِيثِ‬
‫سعِيدٍ الْخُ ْد ِريّ ‪َ .‬و َروَى مُ ْ‬
‫سلِمٌ مِنْ حَدِيثِ َأبِي َ‬
‫ض َعفُ الْإِيمَانِ } َروَاهُ مُ ْ‬
‫وَ َذِلكَ َأ ْ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قَالَ { مَا مِنْ َن ِبيّ َب َعثَ ُه اللّهُ َق ْبلِي إلّا‬
‫سعُودٍ رضي ال عنه عَنْ ال ّن ِب ّ‬
‫ابْنِ مَ ْ‬
‫خُلفُ مِنْ َبعْدِهِمْ‬
‫س ّنتِهِ َويَ ْقتَدُونَ ِبَأ ْم ِرهِ ‪ ,‬ثُمّ إ ّنهَا تَ ْ‬
‫حوَا ِريّونَ َوأَصْحَابٌ َيأْخُذُونَ بِ ُ‬
‫كَانَ لَهُ مِنْ ُأ ّمتِهِ َ‬
‫خلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَ ْف َعلُونَ ‪َ ,‬ويَ ْف َعلُونَ مَا لَا يَقُولُونَ ‪َ ,‬فمَنْ جَاهَدَهُمْ ِبيَ ِدهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ ‪َ ,‬ومَنْ‬
‫ُ‬
‫حبّةُ‬
‫جَاهَدَهُمْ ِبلِسَانِهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ ‪َ ,‬ومَنْ جَاهَدَهُمْ بِ َق ْلبِهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ ‪َ ,‬ل ْيسَ َورَاءَ َذِلكَ مِنْ الْإِيمَانِ َ‬
‫شكُ هَ ِذهِ‬
‫عَليْهِ َمرْفُوعًا { يُو ِ‬
‫ن اللّهِ َ‬
‫ضوَا ُ‬
‫ع َمرَ ِر ْ‬
‫ضعِيفٍ عَنْ ُ‬
‫سنَا ٍد َ‬
‫سمَاعِيِليّ بِإِ ْ‬
‫خرَجَ الْإِ ْ‬
‫خرْدَلٍ } ‪َ .‬وأَ ْ‬
‫َ‬
‫جبُنَ ِبيَ ِدهِ َف ِبلِسَانِهِ وَ َق ْلبِهِ ‪ ,‬فَإِنْ‬
‫الُْأمّةُ أَنْ َت ْهَلكَ إلّا َثلَاثَةَ نَ َفرٍ ‪ ,‬رَجُلٌ َأ ْن َكرَ ِبيَ ِدهِ َو ِبلِسَانِهِ َوبِ َق ْلبِهِ ‪َ ,‬فإِنْ َ‬
‫عَليْهِ‬
‫ضوَانُ اللّهِ َ‬
‫عِليّ ِر ْ‬
‫سنَادٍ ُمنْقَطِعٍ عَنْ َ‬
‫سمَاعِيلِيّ َأ ْيضًا بِإِ ْ‬
‫خرَجَ الْإِ ْ‬
‫جبُنَ ِبلِسَانِهِ َويَ ِدهِ َفبِ َق ْلبِهِ } ‪َ .‬وأَ ْ‬
‫َ‬
‫ل اللّهِ‬
‫ستَطِيعُ ا ْل ُم ْؤمِنُ فِيهَا أَنْ ُي َغ ّيرَ ِبيَدٍ َولَا ِبلِسَانٍ ‪ُ .‬قلْت يَا رَسُو َ‬
‫س َتكُونُ َبعْدِي ِفتَنٌ لَا يَ ْ‬
‫َمرْفُوعًا { َ‬
‫ش ْيئًا ؟ قَالَ لَا إلّا‬
‫ل اللّهِ وَهَلْ ُينْقِصُ َذِلكَ إيمَا َنهُمْ َ‬
‫َو َك ْيفَ َذِلكَ ؟ قَالَ ُي ْن ِكرُونَهُ بِ ُقلُو ِبهِمْ ‪ُ .‬قلْت يَا رَسُو َ‬
‫سنَادٍ‬
‫ن الصّا ِمتِ بِإِ ْ‬
‫عبَا َدةَ بْ ِ‬
‫طبَرَا ِنيّ ِب َم ْعنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ُ‬
‫خرّجَهُ ال ّ‬
‫ن الصّفَا } وَ َ‬
‫طرُ مِ ْ‬
‫َكمَا ُينْقِصُ الْقَ ْ‬
‫سبِ الِْإ ْمكَانِ وَالْقُ ْد َرةِ‬
‫علَى وُجُوبِ إ ْنكَارِ ا ْل ُم ْن َكرِ بِحَ َ‬
‫حوُهَا َدّلتْ َ‬
‫خبَارُ َونَ ْ‬
‫ضعِيفٍ َمرْفُوعًا ‪َ .‬فهَ ِذهِ الْأَ ْ‬
‫َ‬
‫علَى ذَهَابِ الْإِيمَانِ مِنْ َق ْلبِهِ ‪,‬‬
‫عَليْهِ ‪َ ,‬وأَنّ الِْإ ْنكَارَ بِالْ َق ْلبِ لَا بُدّ ِمنْهُ ‪َ ,‬فمَنْ لَمْ ُي ْن ِكرْ َق ْلبُهُ ا ْل ُمنْ َكرَ دَلّ َ‬
‫َ‬
‫جهَادُ‬
‫جهَادُ بَِأيْدِيكُمْ ‪ ,‬ثُمّ الْ ِ‬
‫جهَادِ الْ ِ‬
‫عَليْهِ مِنْ الْ ِ‬
‫عَليْهِ " إنّ َأوّلَ مَا ُت ْغَلبُونَ َ‬
‫ضوَانُ اللّهِ َ‬
‫عِليّ ِر ْ‬
‫وَقَدْ قَالَ َ‬
‫علَاهُ‬
‫جعَلَ أَ ْ‬
‫جهَادُ بِ ُقلُو ِبكُمْ ‪َ ,‬فمَنْ لَمْ َي ْع ِرفْ َق ْلبُهُ ا ْل َم ْعرُوفَ َو ُي ْنكِرْ َق ْلبُهُ ا ْل ُم ْن َكرَ ُن ِكسَ فَ َ‬
‫س َن ِتكُمْ ‪ ,‬ثُمّ الْ ِ‬
‫بَِألْ ِ‬
‫جلًا يَقُولُ َهَلكَ مَنْ لَمْ يَ ْأ ُمرْ بِا ْل َم ْعرُوفِ َولَمْ َينْهَ عَنْ‬
‫سعُو ٍد رضي ال عنه رَ ُ‬
‫سمِعَ ابْنُ مَ ْ‬
‫أَسْ َفلَهُ ‪ .‬وَ َ‬
‫سعُودٍ ‪َ :‬هَلكَ مَنْ لَمْ َي ْع ِرفْ بِ َق ْلبِهِ ا ْل َم ْعرُوفَ وَا ْل ُم ْن َكرَ ‪ .‬يُشِيرُ إلَى أَنّ َم ْعرِفَةَ‬
‫ا ْل ُم ْنكَرِ ‪ .‬فَقَالَ ابْنُ مَ ْ‬
‫ا ْل َم ْعرُوفِ وَا ْل ُم ْن َكرِ بِالْ َق ْلبِ َف ْرضٌ لَا يَسْقُطُ عَنْ أَحَدٍ ‪َ ,‬فمَنْ لَمْ َي ْعرِفْهُ َهَلكَ ‪َ .‬وَأمّا الِْإ ْنكَارُ بِاللّسَانِ‬
‫ن ال ّن ِبيّ صلى ال‬
‫عمِي َرةَ عَ ْ‬
‫سنَنِ َأبِي دَاوُد عَنْ ا ْل ُع ْرسِ بْنِ َ‬
‫سبِ الطّاقَةِ ‪ .‬وَفِي ُ‬
‫جبُ ِبحَ َ‬
‫وَا ْليَدِ فَِإ ّنمَا يَ ِ‬

‫‪82‬‬
‫ع ْنهَا ‪,‬‬
‫شهِدَهَا َف َكرِ َههَا َكمَنْ غَابَ َ‬
‫ع ِمَلتْ الْخَطِيئَةُ فِي الَْأرْضِ كَانَ مَنْ َ‬
‫عليه وسلم قَالَ ‪ { :‬إذَا ُ‬
‫شهِدَ الْخَطِيئَةَ‬
‫جبٍ ‪َ :‬فمَنْ َ‬
‫شهِدَهَا } ‪ .‬قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَ َ‬
‫ض َيهَا كَانَ َكمَنْ َ‬
‫ع ْنهَا َف َر ِ‬
‫َومَنْ غَابَ َ‬
‫ض َيهَا‬
‫ع ْنهَا َف َر ِ‬
‫جزَ عَنْ إ ْنكَارِهَا ِبلِسَانِهِ َويَ ِدهِ ‪َ ,‬ومَنْ غَابَ َ‬
‫عَ‬‫شهَدْهَا إذَا َ‬
‫َف َكرِ َههَا بِ َق ْلبِهِ كَانَ َكمَنْ لَمْ يَ ْ‬
‫ح ّرمَاتِ‬
‫ن الرّضَا بِالْخَطَايَا مِنْ أَ ْقبَحِ ا ْلمُ َ‬
‫علَى إ ْنكَارِهَا َولَمْ ُي ْن ِكرْهَا ‪ ,‬لِأَ ّ‬
‫شهِدَهَا وَقَ َدرَ َ‬
‫كَانَ َكمَنْ َ‬
‫سلِمٍ لَا يَسْقُطُ عَنْ أَحَدٍ فِي حَالٍ مِنْ‬
‫علَى كُلّ مُ ْ‬
‫َويَفُوتُ بِهِ إ ْنكَارُ الْخَطِيئَةِ بِالْ َق ْلبِ وَ ُهوَ َمرَضٌ َ‬
‫عَليْهِ بِأَنّ َق ْوَلهُمْ إ ْنكَارُ ا ْل ُم ْن َكرِ َفرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ ا ْل َبعْضُ‬
‫ن اللّهِ َ‬
‫ضوَا ُ‬
‫حوَالِ ‪ .‬فََأ ْف َه َمنَا َكلَامُهُ ِر ْ‬
‫الْأَ ْ‬
‫حصُلُ َت ْغيِيرُ ا ْل ُمنْ َكرِ ِب ِهمَا‬
‫ن اللّ َذيْنِ يَ ْ‬
‫سلَ ْفنَا بِأَنّ ُمرَادَهُمْ الِْإ ْنكَارُ بِا ْليَدِ وَاللّسَا ِ‬
‫علَى مَا أَ ْ‬
‫سَقَطَ عَنْ ا ْلبَاقِي َ‬
‫سلِمٍ ‪ .‬وَهَ ِذهِ فَائِ َدةٌ َي ْن َبغِي التّفَطّنُ َلهَا ‪.‬‬
‫علَى كُلّ مُ ْ‬
‫عيْنٍ َ‬
‫َأوْ بِأَحَدِ ِهمَا ‪َ ,‬وَأمّا الِْإ ْنكَارُ بِالْ َق ْلبِ فَ َفرْضُ َ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قَالَ { مَنْ‬
‫خرَجَ ابْنُ َأبِي ال ّد ْنيَا عَنْ َأبِي ُه َر ْي َرةَ رضي ال عنه عَنْ ال ّنبِ ّ‬
‫َوأَ ْ‬
‫حضَرَهَا } وَهَذَا ِمثْلُ‬
‫ح ّبهَا َفكََأنّهُ َ‬
‫ع ْنهَا فَأَ َ‬
‫ع ْنهَا ‪َ ,‬ومَنْ غَابَ َ‬
‫ضرَ َم ْعصِيَةً َف َكرِ َههَا َفكََأنّهُ غَابَ َ‬
‫ح َ‬
‫َ‬
‫سلِمٍ فِي كُلّ حَالٍ ‪َ .‬فهَذَا‬
‫علَى كُلّ مُ ْ‬
‫الّذِي َق ْبلَهُ ‪ .‬قَالَ الْحَافِظُ ‪َ :‬ف َت َبيّنَ ِبهَذَا أَنّ الِْإ ْنكَارَ بِالْ َق ْلبِ َف ْرضٌ َ‬
‫علَى كُلّ ا ْلعَالَمِ إ ْنكَارُ مَا‬
‫جبُ َ‬
‫عَليْهِ لَِأنّهُ يَ ِ‬
‫غبَارَ َ‬
‫صرِيحٌ ِمنْهُ ِبمَا َف ِه ْمنَاهُ مِنْ َكلَامِهِ ‪ ,‬وَ ُهوَ ظَا ِهرٌ لَا ُ‬
‫َ‬
‫سعِيدٍ الْخُ ْد ِريّ‬
‫حمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ َأبِي َ‬
‫سلْطَانُهُ ‪َ .‬و َروَى الِْإمَامُ أَ ْ‬
‫جبّارَ جَلّ شَ ْأنُهُ َو َتعَالَى ُ‬
‫ُي ْغضِبُ الْ َ‬
‫ن اللّهَ َتعَالَى َليَسْأَلُ ا ْل َعبْدَ‬
‫ل اللّ ِه صلى ال عليه وسلم يَقُولُ { إ ّ‬
‫س ِمعْت رَسُو َ‬
‫رضي ال عنه قَالَ َ‬
‫جتَهُ قَالَ يَا َربّ‬
‫حّ‬‫عبْدًا ُ‬
‫حتّى يَقُولَ مَا َم َنعَك إذْ َرَأيْت ا ْل ُم ْن َكرَ أَنْ ُت ْن ِك َرهُ ‪َ .‬فإِذَا لَقّنَ اللّهُ َ‬
‫َيوْمَ الْ ِقيَامَةِ َ‬
‫ل اللّهُ مَا َم َنعَك أَنْ‬
‫ج ْوتُك وَ َفرَقْت النّاسَ } ‪َ .‬وَأمّا مَا تَقَدّمَ مِنْ َق ْولِهِ صلى ال عليه وسلم { َفيَقُو ُ‬
‫رَ َ‬
‫خرّجَهُ ال ّت ْرمِ ِذيّ‬
‫شيَةُ النّاسِ َفيَقُولُ إيّايَ ُك ْنتَ أَحَقّ أَنْ تَخْشَى } ‪َ .‬ومَا َ‬
‫تَقُولَ فِي كَذَا َوكَذَا َفيَقُولَ خَ ْ‬
‫عِلمَهُ }‬
‫جلًا َه ْيبَ ُة النّاسِ أَنْ يَقُولَ ِبحَقّ إذَا َ‬
‫سعِيدٍ َمرْفُوعًا { َألَا لَا َي ْم َنعَنّ رَ ُ‬
‫وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ َأبِي َ‬
‫حمَدُ َوزَادَ فِيهِ { فَِإنّهُ لَا يُ َق ّربُ‬
‫خرّجَهُ الِْإمَامُ أَ ْ‬
‫شيَاءَ َف ِه ْبنَا ‪ .‬وَ َ‬
‫سعِيدٍ وَقَالَ قَدْ َواَللّهِ َرَأ ْينَا أَ ْ‬
‫َو َبكَى َأبُو َ‬
‫علَى أَنّ ا ْلمَانِعَ لَهُ مِنْ‬
‫حمُولَاتٌ َ‬
‫مِنْ أَجَلٍ َولَا ُيبَاعِدُ مِنْ ِرزْقٍ أَنْ يُقَالَ بِحَقّ َأوْ يُ َذ ّكرَ ِبعَظِيمٍ } َفمَ ْ‬
‫عنْهُ ‪:‬‬
‫ضيَ َ‬
‫سلَامِ رحمه ال َو َر ِ‬
‫شيْخُ الْإِ ْ‬
‫خ ْوفِ ا ْلمُسْقِطِ ِللِْإ ْنكَارِ ‪ .‬قَالَ َ‬
‫جرّدُ ا ْل َه ْيبَةِ دُونَ الْ َ‬
‫الِْإ ْنكَارِ مُ َ‬
‫ُمرَا ُدهُ صلى ال عليه وسلم فِي َق ْولِهِ َي ْعنِي فِي الْحَدِيثِ السّابِقِ { َليْسَ َورَاءَ َذِلكَ مِنْ الْإِيمَانِ ِمثْقَالُ‬
‫حتّى يَ ْف َعلَهُ ا ْل ُم ْؤمِنُ بَلْ الِْإ ْنكَارُ‬
‫خرْدَلٍ } َأنّهُ لَمْ َيبْقَ َبعْدَ هَذَا الِْإ ْنكَارِ مَا يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ َ‬
‫حبّةِ َ‬
‫َ‬
‫خرْدَلٍ ‪,‬‬
‫حبّةُ َ‬
‫خرُ حُدُودِ الْإِيمَانِ ‪َ ,‬ل ْيسَ ُمرَا ُدهُ أَنّ مَنْ لَمْ ُي ْن ِكرْ لَمْ َيكُنْ َمعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ َ‬
‫بِالْ َق ْلبِ آ ِ‬
‫جبُ‬
‫طبَقَاتٍ ‪َ ,‬فكُلّ ِم ْنهُمْ َفعَلَ الْإِيمَانَ الّذِي يَ ِ‬
‫جعَلَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ َثلَاثَ َ‬
‫َوِلهَذَا قَالَ َوَل ْيسَ َورَاءَ َذِلكَ ‪ ,‬فَ َ‬
‫ع ِتهِمْ مَعَ ُبلُوغِ‬
‫ستِطَا َ‬
‫سبِ ا ْ‬
‫جبِ بِحَ َ‬
‫ضلُونَ فِي الْإِيمَانِ ا ْلوَا ِ‬
‫علِمَ بِ َذِلكَ أَنّ النّاسَ َيتَفَا َ‬
‫عَليْهِ ‪ .‬قَالَ وَ ُ‬
‫َ‬

‫‪83‬‬
‫عبْ ِد اللّ ِه رضي ال عنه ‪َ :‬ك ْيفَ الَْأ ْمرُ‬
‫الْخِطَابِ إَل ْيهِمْ ‪ .‬ا ْن َتهَى َكلَامُهُ ‪ .‬وَقَالَ ا ْل َمرّو ِذيّ ‪ُ :‬قلْت لَِأبِي َ‬
‫بِا ْل َم ْعرُوفِ وَال ّن ْهيُ عَنْ ا ْل ُم ْنكَرِ ؟ قَالَ بِا ْليَدِ وَاللّسَانِ َوبِالْ َق ْلبِ وَ ُهوَ َأضْ َعفُ ‪ُ .‬قلْت ‪َ :‬ك ْيفَ بِا ْليَدِ ؟‬
‫ص ْبيَانِ ا ْل ُكتّابِ يَ ْق َت ِتلُونَ فَ َفرّقَ َب ْي َنهُمْ ‪ .‬وَقَالَ فِي‬
‫علَى ِ‬
‫عبْ ِد اللّهِ َمرّ َ‬
‫قَالَ يُ َفرّقُ َب ْي َنهُمْ ‪َ .‬و َرَأيْت َأبَا َ‬
‫جوَازُ الِْإ ْنكَارِ‬
‫سلَاحِ ‪ .‬قَالَ الْقَاضِي ‪ :‬وَظَا ِهرُ هَذَا َ‬
‫س ْيفِ وَال ّ‬
‫ِروَايَةِ صَالِحٍ ‪ :‬ال ّت ْغيِيرُ بِا ْليَدِ َل ْيسَ بِال ّ‬
‫علَى مَنْ َت َركَ مَا َي ْل َزمُهُ ِف ْعلُهُ ِبلَا عُ ْذرٍ ‪ .‬زَادَ فِي ِنهَايَةِ‬
‫بِا ْليَدِ إذَا لَمْ يُفْضِ إلَى الْ َقتْلِ وَالْ ِقتَالِ ‪َ ,‬و ُي ْن ِكرُ َ‬
‫طلُوبَ مَعَ قُ ْد َرتِهِ‬
‫علَى مَنْ َت َركَ الِْإ ْنكَارَ ا ْلمَ ْ‬
‫عَليْهِ َو ُي ْن ِكرُ َ‬
‫جبَ الِْإ ْنكَارُ َ‬
‫ا ْل ُم ْبتَ ِدئِينَ ‪ِ :‬بلَا عُ ْذرٍ ظَا ِهرٍ وَ َ‬
‫غ ْيرِ‬
‫ض ْربُ بِا ْليَدِ وَالرّجْلِ وَ َ‬
‫ج ْو ِزيّ ‪ :‬ال ّ‬
‫سلْطَانٍ ‪ .‬وَقَالَ الِْإمَامُ ابْنُ الْ َ‬
‫س ْيفٌ إلّا مَعَ ُ‬
‫عَليْهِ ‪َ .‬ولَا ُي ْن ِكرُ َ‬
‫َ‬
‫علَى قَ ْدرِ‬
‫ضرُو َرةِ وَالِا ْق ِتصَارِ َ‬
‫ط ال ّ‬
‫شرْ ِ‬
‫س ْيفٍ َيجُوزُ ِللْآحَادِ بِ َ‬
‫سلَاحٍ َأوْ َ‬
‫شهَارُ ِ‬
‫َذِلكَ ِممّا َل ْيسَ فِيهِ إ ْ‬
‫علَى الصّحِيحِ ِل َئلّا ُيؤَ ّديَ‬
‫سلْطَانِ َ‬
‫سلَاحَ َفلَا بُدّ مِنْ إذْنِ ال ّ‬
‫ش ِهرُونَ ال ّ‬
‫عوَانٍ يُ ْ‬
‫حتَاجَ إلَى أَ ْ‬
‫الْحَاجَةِ ‪ ,‬فَإِنْ ا ْ‬
‫إلَى الْ ِفتَنِ وَ َهيَجَانِ الْفَسَادِ وَا ْلمِحَنِ ‪. .‬‬
‫وفي التاج المذهب ‪:‬‬
‫علَمْ أَنّ الَْأ ْمرَ بِا ْل َم ْعرُوفِ وَالنّ ْهيَ‬
‫( ‪َ ( ) 473‬فصْلٌ ) فِي الَْأ ْمرِ بِا ْل َم ْعرُوفِ وَال ّن ْهيِ عَنْ ا ْل ُم ْن َكرِ ‪ .‬ا ْ‬
‫شرْعًا ; لَِأ ّن ُهمَا مِنْ وَظَا ِئفِ الَْأ ْن ِبيَاءِ عليهم‬
‫شعَا ِئرِ الدّينِ َووُجُو ُبهَا َم ْعلُومٌ َ‬
‫عَنْ ا ْل ُم ْنكَرِ مِنْ أَعْظَمِ َ‬
‫عمِ َدةِ هَذَا الدّينِ وَال ّركْنَانِ ا ْل َكبِيرَانِ مِنْ َأ ْركَانِهِ َوكُلّ مَنْ قَامَ‬
‫السلم وَ ُهمَا ا ْل ِعمَادَانِ ا ْلعَظِيمَانِ مِنْ أَ ْ‬
‫عُلوّ ِه ّمتِهِ‬
‫جنَانِهِ َو َك ْث َرةِ إحْسَانِهِ وَ ُ‬
‫علَى ُق ّوةِ إيمَانِهِ َو َثبَاتِ َ‬
‫ج َعَل ُهمَا دِينَهُ فَ َذِلكَ دَالّ َ‬
‫ِب ِهمَا مِنْ ا ْل ُعَلمَاءِ وَ َ‬
‫سرِي َرتِهِ وَحُسْنِ سِي َرتِهِ َولَا َيتّسِعُ ِلمَا َورَدَ فِي ِهمَا مِنْ الْآيَاتِ الْ ُقرْآ ِنيّةِ وَالْأَحَادِيثِ ال ّن َبوِيّةِ إلّا‬
‫وَطِيبِ َ‬
‫خ ْيرِ َويَ ْأ ُمرُونَ بِا ْل َم ْعرُوفِ‬
‫ستَقِلّ َفمِنْ الَْأوّلِ قوله تعالى { َو ْل َتكُنْ ِم ْنكُمْ ُأمّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْ َ‬
‫ُم َؤّلفٌ مُ ْ‬
‫جتْ لِلنّاسِ َت ْأ ُمرُونَ‬
‫خرِ َ‬
‫خ ْيرَ ُأمّةٍ أُ ْ‬
‫َو َي ْن َهوْنَ عَنْ ا ْل ُم ْن َكرِ َوأُوَل ِئكَ هُمْ ا ْلمُ ْفلِحُونَ } وَقَالَ َتعَالَى { ُك ْنتُمْ َ‬
‫بِا ْل َم ْعرُوفِ َو َت ْن َهوْنَ عَنْ ا ْل ُم ْنكَرِ } وَقَالَ َتعَالَى { خُذْ ا ْلعَ ْفوَ َو ْأ ُمرْ بِا ْل ُع ْرفِ َوأَعْرِضْ عَنْ الْجَا ِهلِينَ }‬
‫علَى لِسَانِ دَاوُد وَعِيسَى ابْنِ َم ْريَمَ َذِلكَ ِبمَا‬
‫سرَائِيلَ َ‬
‫‪ .‬وَقَالَ َتعَالَى { ُلعِنَ الّذِينَ كَ َفرُوا مِنْ َبنِي إ ْ‬
‫غ ْيرُ َذِلكَ مِنْ‬
‫عصَوْا َوكَانُوا َي ْعتَدُونَ كَانُوا لَا َي َتنَا َهوْنَ عَنْ ُم ْن َكرٍ َف َعلُوهُ َل ِب ْئسَ مَا كَانُوا يَ ْف َعلُونَ } وَ َ‬
‫َ‬
‫س ِمعْت رَسُولَ‬
‫ي رضي ال عنه قَالَ َ‬
‫سعِيدٍ الْخُ ْد ِر ّ‬
‫الْآيَاتِ ‪َ ,‬ومِنْ الثّانِي أَحَادِيثُ " الَْأوّلُ " عَنْ َأبِي َ‬
‫ستَطِعْ‬
‫اللّهِ صلى ال عليه وآله وسلم يَقُولُ ‪ { " :‬مَنْ َرأَى ِم ْنكُمْ ُم ْن َكرًا َف ْل ُي َغ ّي ْرهُ ِبيَ ِدهِ َفإِنْ لَمْ يَ ْ‬
‫سعُودٍ‬
‫سلِمٌ ‪ ( .‬الثّانِي ) عَنْ َأبِي مَ ْ‬
‫ض َعفُ الْإِيمَانِ } " َروَاهُ مُ ْ‬
‫ستَطِعْ َفبِ َق ْلبِهِ وَ َذِلكَ أَ ْ‬
‫َف ِبلِسَانِهِ َفإِنْ لَمْ يَ ْ‬
‫رضي ال عنه أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى ال عليه وآله وسلم قَالَ ‪ { :‬مَا مِنْ َن ِبيّ َب َعثَهُ اللّهُ فِي ُأمّةٍ‬
‫خُلفُ مِنْ‬
‫س ّنتِهِ َويَ ْقتَدُونَ بَِأ ْم ِرهِ ثُمّ إ ّنهَا تَ ْ‬
‫حوَا ِريّونَ َوأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِ ُ‬
‫َق ْبلِي إلّا كَانَ لَهُ مِنْ ُأ ّمتِهِ َ‬

‫‪84‬‬
‫خلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَ ْف َعلُونَ َويَ ْف َعلُونَ مَا لَا ُي ْؤ َمرُونَ َفمَنْ جَاهَدَهُمْ ِبيَ ِدهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َومَنْ‬
‫َبعْدِهِمْ ُ‬
‫حبّةُ‬
‫جَاهَدَهُمْ ِبلِسَانِهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َومَنْ جَاهَدَهُمْ بِ َق ْلبِهِ َف ُهوَ ُم ْؤمِنٌ َل ْيسَ َورَاءَ َذِلكَ مِنْ الْإِيمَانِ َ‬
‫ن ال ّن ِبيّ صلى ال عليه‬
‫سلِمٌ َأ ْيضًا ‪ ( .‬الثّاِلثُ ) عَنْ حُ َذيْفَ َة رضي ال عنه عَ ْ‬
‫خرْدَلٍ } " َروَاهُ مُ ْ‬
‫َ‬
‫ن اللّهُ أَنْ‬
‫شكَ ّ‬
‫وآله وسلم " قَالَ { َوَالّذِي نَفْسِي ِبيَ ِدهِ َلتَ ْأ ُمرُنّ بِا ْل َم ْعرُوفِ َو َت ْن َهوْنَ عَنْ ا ْل ُم ْنكَرِ َأوْ َليُو ِ‬
‫ستَجَابُ َلكُمْ } " َروَا ُه ال ّت ْرمِ ِذيّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ ‪.‬‬
‫عَل ْيكُمْ عِقَابًا ِمنْهُ ثُمّ تَدْعُونَهُ َفلَا يُ ْ‬
‫َي ْب َعثَ َ‬
‫وَالْأَحَادِيثُ فِي َذِلكَ َكثِي َرةٌ ‪.‬‬
‫******************‬
‫لماذا يجب جهاد الحكام أول ؟‬
‫أقول ‪ :‬يجب جهادهم للسباب التالية ‪:‬‬
‫‪.1‬محاربتهم شريعة ال في كل مكان‬
‫‪.2‬مطاردة الدعاة المخلصين وقتلهم وتعذيبهم أو تشريدهم في الرض‬
‫‪.3‬فرض مناهج الكفر والضلل على المسلمين‬
‫‪.4‬تحكيم شرائع الجاهلية‬
‫‪.5‬إقصاء منهج ال تعالى من الحياة‬
‫‪.6‬التلعب بدين ال‬
‫‪ .7‬التآمر على المسلمين‬
‫‪ .8‬تولي الكفار والفجار‬
‫‪.9‬نهب خيرات المسلمين‬
‫‪ .10‬تسليم المسلمين للكفار‬
‫‪.11‬التخلي عن الجهاد في سبيل ال‬
‫‪ .12‬حماية حدود دولة اليهود‬
‫‪.13‬منع أية مساعدة للمجاهدين ووصفهم بالرهابيين والمجرمين والشاذين‬
‫‪ .14‬البطش والتنكيل بالشعوب والجيوش قوات المن ليس لحماية الحدود بل لحماية‬
‫العروش‬
‫وغير ذلك من أسباب لو وجد سبب واحد لوجب جهادهم فما ل يتم الواجب غل به فهو‬
‫واجب وقد عمل عماد الدين الزنكي ونور الدين محمود وصلح الدين اليوبي أكثر من‬

‫‪85‬‬
‫ستين سنة مجاهدين الدول المتآمرة التي كانت تحيط بفلسطين وعملت اتفاقيات من‬
‫الصليبيين‬
‫ولم يتوانوا عن جهادها بحجة أنهم مسلمون وموحدون بل ليسوا مسلمين ول موحدين حقيقة‬
‫فأقل وصف لهم منافقين وقد كان التتار والمغول مثلهم كذلك‬
‫قال شيخ السلم ابن تيمية ‪:‬‬
‫قتال التتار ومن نحا نحوهم وسار بركبهم‬
‫‪ - 6 - 777‬مَسَْألَةٌ ‪:‬‬
‫علَى َبيَانِ الْحَقّ ا ْل ُمبِينِ ‪,‬‬
‫ن رضي ال عنهم أجمعين ‪َ ,‬وأَعَا َنهُمْ َ‬
‫مَا تَقُولُ السّا َدةُ ا ْل ُعَلمَاءُ َأ ِئمّةُ الدّي ِ‬
‫غ َمرَاتِ الْجَا ِهلِينَ وَالزّا ِئغِينَ فِي ‪َ :‬ه ُؤلَاءِ ال ّتتَارِ الّذِينَ يَقْ ُدمُونَ إلَى الشّامِ َم ّرةً َبعْدَ َم ّرةٍ وَقَدْ‬
‫شفِ َ‬
‫َوكَ ْ‬
‫عَليْهِ فِي َأوّلِ الَْأ ْمرِ َفهَلْ‬
‫علَى ا ْلكُ ْفرِ الّذِي كَانُوا َ‬
‫سلَامِ َولَمْ ُيبْقُوا َ‬
‫سبُوا إلَى الْإِ ْ‬
‫شهَا َد َتيْنِ ‪ ,‬وَا ْنتَ َ‬
‫َت َكّلمُوا بِال ّ‬
‫حكْمُ مَنْ كَانَ‬
‫علَى ِقتَاِلهِمْ ‪َ ,‬ومَا مَذَا ِهبُ ا ْل ُعَلمَاءِ فِي َذِلكَ ؟ َومَا ُ‬
‫جبُ ِقتَاُلهُمْ أَمْ لَا ؟ َومَا الْحُجّةُ َ‬
‫يَ ِ‬
‫خرَجُوهُ َم َعهُمْ‬
‫حكْمُ مَنْ قَدْ أَ ْ‬
‫غ ْيرِهِمْ ؟ َومَا ُ‬
‫سِلمِينَ الُْأ َمرَاءِ وَ َ‬
‫س َكرِ ا ْلمُ ْ‬
‫َم َعهُمْ ِممّنْ يَ ِفرّ إَل ْيهِمْ مِنْ عَ ْ‬
‫سبِينَ إلَى ا ْل ِعلْمِ ‪ ,‬وَالْفِقْهِ ‪ ,‬وَالْفَ ْقرِ ‪ ,‬وَالّنصُوصِ‬
‫س َكرِهِمْ مِنْ ا ْل ُم ْنتَ ِ‬
‫حكْمُ مَنْ َيكُونُ مَعَ عَ ْ‬
‫ُم ْكرَهًا ؟ َومَا ُ‬
‫سِلمُونَ َو ِكلَا ُهمَا ظَالِمٌ ‪َ ,‬فلَا‬
‫سِلمُونَ وَا ْلمُقَا ِتلُونَ َلهُمْ مُ ْ‬
‫حوِ َذِلكَ ‪َ .‬ومَا يُقَالُ فِيمَنْ زَعَمَ َأ ّنهُمْ مُ ْ‬
‫‪َ ,‬ونَ ْ‬
‫جبُ‬
‫يُقَاتِلُ مَعَ أَحَدِ ِهمَا ‪ .‬وَفِي َقوْلِ مَنْ زَعَمَ َأ ّنهُمْ يُقَا َتلُونَ َكمَا تُقَاتَلُ ا ْل ُبغَاةُ ا ْل ُمتََأ ّولُونَ ‪َ ,‬ومَا ا ْلوَا ِ‬
‫سِلمِينَ مِنْ أَهْلِ ا ْل ِعلْمِ وَالدّينِ َوأَهْلِ الْ ِقتَالِ َوأَهْلِ الَْأ ْموَالِ فِي َأ ْمرِهِمْ ‪ .‬أَ ْفتُونَا فِي‬
‫جمَاعَةِ ا ْلمُ ْ‬
‫علَى َ‬
‫َ‬
‫علَى َأ ْك َثرِهِمْ‬
‫سِلمِينَ ‪ ,‬بَلْ َ‬
‫علَى َكثِيرٍ مِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫شكَلَ َ‬
‫ج ِوبَةٍ َمبْسُوطَةٍ شَا ِفيَةٍ ‪ ,‬فَإِنّ َأ ْمرَهُمْ قَدْ أَ ْ‬
‫َذِلكَ بِأَ ْ‬
‫حكْ ِم اللّهِ َتعَالَى َورَسُولِهِ صلى ال عليه وسلم فِي‬
‫حوَاِلهِمْ ‪َ ,‬وتَا َرةً ِلعَدَمِ ا ْل ِعلْمِ بِ ُ‬
‫تَا َرةً ِلعَدَمِ ا ْل ِعلْمِ بَِأ ْ‬
‫س ُبنَا َو ِنعْمَ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ وَ ُهوَ حَ ْ‬
‫علَى كُلّ َ‬
‫ح َمتِهِ إنّهُ َ‬
‫خ ْيرٍ بِقُ ْد َرتِهِ َورَ ْ‬
‫سرُ ِلكُلّ َ‬
‫ِم ْثِلهِمْ ‪َ ,‬واَللّهُ ا ْل ُميَ ّ‬
‫سنّةِ رَسُولِهِ ‪,‬‬
‫ب اللّهِ ‪ ,‬وَ ُ‬
‫جبُ ِقتَالُ َه ُؤلَاءِ ِب ِكتَا ِ‬
‫حمْدُ ِللّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ‪َ ,‬نعَمْ يَ ِ‬
‫جوَابُ ‪ :‬الْ َ‬
‫ا ْل َوكِيلُ ؟ الْ َ‬
‫صلَيْنِ ‪ :‬أَحَدُ ُهمَا ‪ :‬ا ْل َم ْعرِفَةُ بِحَاِلهِمْ ‪ .‬وَالثّانِي ‪َ :‬م ْعرِفَةُ‬
‫علَى َأ ْ‬
‫سِلمِينَ ‪ ,‬وَهَذَا َم ْب ِنيّ َ‬
‫وَاتّفَاقِ َأ ِئمّةِ ا ْلمُ ْ‬
‫شرْهُمْ َي ْعلَمُ َذِلكَ‬
‫شرَ الْ َقوْمَ ِب ِعلْمِ حَاِلهِمْ ‪َ ,‬ومَنْ لَمْ ُيبَا ِ‬
‫حكْ ِم اللّهِ فِي ِم ْثِلهِمْ ‪َ .‬فَأمّا الَْأوّلُ ‪َ :‬فكُلّ مَنْ بَا َ‬
‫ُ‬
‫خبَا ِر الصّادِقِينَ ‪َ ,‬ونَحْنُ نَ ْذ ُكرُ جُلّ ُأمُورِهِمْ َبعْدَ أَنْ ُن َبيّنَ الَْأصْلَ‬
‫خبَارِ ا ْل ُم َتوَا ِت َرةِ ‪َ ,‬وأَ ْ‬
‫ِبمَا َبَلغَهُ مِنْ الْأَ ْ‬
‫شرِيعَةٍ‬
‫جتْ عَنْ َ‬
‫خرَ َ‬
‫سلَا ِميّةِ َفنَقُولُ ‪ :‬كُلّ طَائِفَةٍ َ‬
‫شرِيعَةِ الْإِ ْ‬
‫ختَصّ ِب َم ْعرِ َفتِهِ أَهْلُ ا ْل ِعلْمِ بِال ّ‬
‫خرَ الّذِي يَ ْ‬
‫الْآ َ‬
‫سِلمِينَ ‪َ ,‬وإِنْ َت َكّل َمتْ‬
‫جبُ ِقتَاُلهَا بِاتّفَاقِ َأ ِئمّةِ ا ْلمُ ْ‬
‫سلَامِ الظّا ِه َرةِ ا ْل ُمتَوَا ِت َرةِ فَِإنّهُ يَ ِ‬
‫شرَائِعِ الْإِ ْ‬
‫مِنْ َ‬
‫صلّوا ‪,‬‬
‫حتّى ُي َ‬
‫جبَ ِقتَاُلهُمْ َ‬
‫خمْسِ ‪َ ,‬و َ‬
‫صَلوَاتِ الْ َ‬
‫شهَا َد َتيْنِ وَا ْمتَ َنعُوا عَنْ ال ّ‬
‫شهَا َد َتيْنِ ‪َ ,‬فإِذَا أَ َقرّوا بِال ّ‬
‫بِال ّ‬

‫‪86‬‬
‫ش ْهرِ‬
‫صيَامِ َ‬
‫ن ِ‬
‫حتّى ُيؤَدّوا ال ّزكَاةَ ‪َ ,‬وكَ َذِلكَ إنْ ا ْم َت َنعُوا عَ ْ‬
‫جبَ ِقتَاُلهُمْ َ‬
‫ن ال ّزكَاةِ ‪ ,‬وَ َ‬
‫َوإِنْ ا ْم َت َنعُوا عَ ْ‬
‫سرِ ‪,‬‬
‫حشِ ‪َ ,‬أ ْو ال ّزنَا ‪َ ,‬أوْ ا ْل َميْ ِ‬
‫حرِيمِ الْ َفوَا ِ‬
‫َر َمضَانَ ‪َ ,‬أوْ حَجّ ا ْل َب ْيتِ ا ْل َعتِيقِ ‪َ ,‬وكَ َذِلكَ إنْ ا ْم َت َنعُوا عَنْ تَ ْ‬
‫حكْمِ فِي ال ّدمَاءِ ‪,‬‬
‫شرِيعَةِ َوكَ َذِلكَ إنْ ا ْم َت َنعُوا عَنْ الْ ُ‬
‫ح ّرمَاتِ ال ّ‬
‫غ ْيرِ َذِلكَ مِنْ ُم َ‬
‫خ ْمرِ ‪َ ,‬أوْ َ‬
‫َأوْ الْ َ‬
‫سنّةِ ‪َ ,‬وكَ َذِلكَ إنْ ا ْم َت َنعُوا عَنْ الَْأ ْمرِ‬
‫حكْمِ ا ْل ِكتَابِ وَال ّ‬
‫حوِهَا بِ ُ‬
‫عرَاضِ ‪ ,‬وَالَْأ ْبضَاعِ ‪َ ,‬ونَ ْ‬
‫وَالَْأ ْموَالِ وَالْأَ ْ‬
‫ج ْزيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ‬
‫سِلمُوا َو ُيؤَدّوا الْ ِ‬
‫جهَادِ ا ْلكُفّارِ إلَى أَنْ يُ ْ‬
‫بِا ْل َم ْعرُوفِ وَال ّن ْهيِ عَنْ ا ْل ُم ْنكَرِ ‪ ,‬وَ ِ‬
‫سَلفِ الُْأمّةِ َوَأ ِئ ّم ِتهَا ِمثْلُ ‪:‬‬
‫سنّةِ ‪ ,‬وَا ّتبَاعِ َ‬
‫ظ َهرُوا ا ْلبِدَعَ ا ْلمُخَالِفَةَ ِل ْل ِكتَابِ وَال ّ‬
‫غرُونَ ‪َ .‬وكَ َذِلكَ إنْ أَ ْ‬
‫صَا ِ‬
‫سمَاءِ اللّهِ َوصِفَاتِهِ ‪َ ,‬أوْ ال ّتكْذِيبَ بِقَ َد ِرهِ‬
‫سمَا ِء اللّهِ وَآيَاتِهِ ‪َ ,‬أوْ ال ّتكْذِيبَ بِأَ ْ‬
‫ظ ِهرُوا الِْإلْحَادَ فِي أَ ْ‬
‫أَنْ يُ ْ‬
‫طعْنَ فِي‬
‫خلَفَا ِء الرّاشِدِينَ ‪َ ,‬أوْ ال ّ‬
‫عهْدِ الْ ُ‬
‫علَى َ‬
‫سِلمِينَ َ‬
‫جمَاعَةُ ا ْلمُ ْ‬
‫عَليْهِ َ‬
‫وَ َقضَائِهِ َأوْ ال ّتكْذِيبَ ِبمَا كَانَ َ‬
‫حتّى‬
‫سِلمِينَ َ‬
‫جرِينَ وَالَْأ ْنصَارِ َوَالّذِينَ ا ّت َبعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ َأوْ مُقَا َتلَةِ ا ْلمُ ْ‬
‫السّابِقِينَ الَْأ ّولِينَ مِنْ ا ْل ُمهَا ِ‬
‫ل اللّهُ َتعَالَى ‪:‬‬
‫سلَامِ َوَأ ْمثَالِ هَ ِذهِ الُْأمُورِ قَا َ‬
‫شرِيعَةِ الْإِ ْ‬
‫خرُوجَ عَنْ َ‬
‫جبُ الْ ُ‬
‫ع ِتهِمْ اّلتِي تُو ِ‬
‫خلُوا فِي طَا َ‬
‫يَدْ ُ‬
‫حتّى لَا َتكُونَ ِف ْتنَةٌ َو َيكُونَ الدّينُ ُكلّهُ ِللّهِ } فَإِذَا كَانَ َب ْعضُ الدّينِ ِللّهِ َو َب ْعضُهُ ِل َغ ْيرِ اللّهِ‬
‫{ وَقَا ِتلُوهُمْ َ‬
‫حتّى َيكُونَ الدّينُ ُكلّهُ ِللّهِ ‪ .‬وَقَالَ َتعَالَى ‪ { :‬يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا اتّقُوا اللّهَ وَ َذرُوا مَا‬
‫جبَ الْ ِقتَالُ َ‬
‫وَ َ‬
‫ح ْربٍ مِنْ اللّهِ َورَسُولِهِ } وَهَ ِذهِ الْآيَةُ َن َزَلتْ‬
‫بَ ِقيَ مِنْ ال ّربَا إنْ ُك ْنتُمْ ُم ْؤ ِمنِينَ ‪َ ,‬فإِنْ لَمْ تَ ْف َعلُوا فَأْ َذنُوا بِ َ‬
‫صّلوْا َوصَامُوا ‪َ ,‬لكِنْ كَانُوا َي َتعَا َملُونَ بِال ّربَا ‪َ ,‬فَأ ْنزَلَ اللّهُ‬
‫سَلمُوا َو َ‬
‫فِي أَهْلِ الطّا ِئفِ ‪َ ,‬وكَانُوا قَدْ أَ ْ‬
‫ح ْربٍ مِنْ‬
‫ن ال ّربَا ‪ ,‬وَقَالَ ‪ { :‬فَإِنْ لَمْ تَ ْف َعلُوا فَأْ َذنُوا بِ َ‬
‫هَ ِذهِ الْآيَةَ َوَأ َمرَ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ فِيهَا ِب َت ْركِ مَا بَ ِقيَ مِ ْ‬
‫ح ّرمَاتِ‬
‫خرُ ا ْلمُ َ‬
‫ن صَحِيحٌ ‪ ,‬وَال ّربَا آ ِ‬
‫اللّهِ َورَسُولِهِ } وَقَدْ ُق ِرئَ { فَأُ ِذنُوا } وَ { آ َذنُوا } َو ِكلَا ا ْل َم ْع َن َييْ ِ‬
‫عنْهُ مُحَا ِربًا ِللّهِ َورَسُولِهِ‬
‫فِي الْ ُقرْآنِ ‪ ,‬وَ ُهوَ مَا يُوجَدُ ِب َترَاضِي ا ْل ُم َتعَا ِملِينَ ‪ ,‬فَإِذَا كَانَ مَنْ لَمْ َي ْنتَهِ َ‬
‫حرِيمًا ‪ .‬وَقَدْ‬
‫حرِيمًا َوأَعْظَمُ تَ ْ‬
‫سبَقُ تَ ْ‬
‫ح ّرمَاتِ اّلتِي ِهيَ أَ ْ‬
‫غ ْي ِرهِ مِنْ ا ْلمُ َ‬
‫َف َك ْيفَ ِبمَنْ لَمْ َي ْنتَهِ عَنْ َ‬
‫عنْدَ أَهْلِ ا ْلعِلْمِ‬
‫خوَارِجِ ‪ ,‬وَ ِهيَ ُم َتوَا ِت َرةٌ ِ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم الْأَحَادِيثُ بِ ِقتَالِ الْ َ‬
‫ستَفَاضَ عَنْ ال ّن ِب ّ‬
‫اْ‬
‫سلِمٌ فِي‬
‫ش َرةِ َأوْجُهٍ ‪ ,‬وَقَدْ َروَاهَا مُ ْ‬
‫خوَارِجِ مِنْ عَ َ‬
‫حمَدُ ‪ :‬صَحّ الْحَدِيثُ فِي الْ َ‬
‫بِالْحَدِيثِ ‪ .‬قَالَ الِْإمَامُ أَ ْ‬
‫سهْلِ بْنِ‬
‫سعِيدٍ الْخُ ْد ِريّ ‪ ,‬وَ َ‬
‫عِليّ ‪َ ,‬وَأبِي َ‬
‫صَحِيحِهِ ‪َ ,‬و َروَى ا ْلبُخَا ِريّ ِم ْنهَا َثلَاثَةَ َأوْجُهٍ ‪ :‬حَدِيثَ َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم فِي صِ َف ِتهِمْ ‪:‬‬
‫خرُ ُم َتعَدّ َدةٌ ‪ .‬وَقَدْ قَا َ‬
‫طرُقٌ أُ َ‬
‫سنَنِ ‪ ,‬وَا ْلمَسَانِيدِ ُ‬
‫ح َن ْيفٍ ‪ ,‬وَفِي ال ّ‬
‫ُ‬
‫صيَا ِمهِمْ ‪ ,‬وَ ِقرَا َءتَهُ مَعَ ِقرَا َء ِتهِمْ ‪ ,‬يَ ْقرَءُونَ‬
‫صيَامَهُ مَ َع ِ‬
‫صلَا ِتهِمْ ‪َ ,‬و ِ‬
‫صلَاتَهُ مَ َع َ‬
‫{ يَحْ ِقرُ أَحَ ُدكُ ْم َ‬
‫ن ال ّر ِميّةِ ‪َ ,‬أ ْي َنمَا لَقِي ُتمُوهُمْ‬
‫سهْمُ مِ ْ‬
‫سلَامِ َكمَا َي ْمرُقُ ال ّ‬
‫جرَهُمْ ‪َ ,‬ي ْمرُقُونَ مِنْ الْإِ ْ‬
‫حنَا ِ‬
‫الْ ُقرْآنَ لَا يُجَا ِوزُ َ‬
‫عنْ َد اللّهِ ِلمَنْ َق َتَلهُمْ َيوْمَ الْ ِقيَامَةِ ‪َ ,‬لئِنْ أَ ْد َركْتهمْ لَأَ ْق ُتَل ّنهُمْ َقتْلَ عَادٍ } ‪.‬‬
‫جرًا ِ‬
‫فَا ْق ُتلُوهُمْ ‪َ ,‬فإِنّ فِي َق ْتِلهِمْ أَ ْ‬
‫سَلفُ‬
‫علَى ِقتَاِلهِمْ َ‬
‫عِليّ بْنُ َأبِي طَاِلبٍ ِبمَنْ َمعَهُ مِنْ الصّحَابَةِ وَاتّفَقَ َ‬
‫وَ َه ُؤلَاءِ قَا َتَلهُمْ َأمِيرُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َ‬

‫‪87‬‬
‫ن الصّحَابَةَ‬
‫جمَلِ َوصِفّينَ ‪ ,‬فَإِ ّ‬
‫الُْأمّةِ ‪َ ,‬وَأ ِئ ّم ُتهَا لَمْ َي َتنَازَعُوا فِي ِقتَاِلهِمْ َكمَا َتنَازَعُوا فِي الْ ِقتَالِ َيوْمَ الْ َ‬
‫عِليّ رضي ال عنه ‪ ,‬وَ َقوْمٌ قَا َتلُوا مَعَ مَنْ‬
‫صنَافٍ ‪َ :‬قوْمٌ قَا َتلُوا مَعَ َ‬
‫كَانُوا فِي ِقتَالِ الْ ِف ْتنَةِ َثلَاثَةُ َأ ْ‬
‫خوَارِجُ َفلَمْ َيكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ‬
‫قَاتَلَ ‪ ,‬وَ َقوْمٌ َقعَدُوا عَنْ الْ ِقتَالِ لَمْ يُقَا ِتلُوا ا ْلوَاحِ َدةَ مِنْ الطّائِ َف َتيْنِ ‪َ .‬وَأمّا الْ َ‬
‫سعِيدٍ أَنّ ال ّن ِبيّ‬
‫ن الصّحَابَةِ ‪ .‬وَفِي الصّحِيحِ ‪ :‬عَنْ َأبِي َ‬
‫مِنْ الصّحَابَةِ َولَا َنهَى عَنْ ِقتَاِلهِمْ أَحَدٌ مِ ْ‬
‫سِلمِينَ تَ ْق ُتُلهُمْ َأ ْولَى الطّائِ َف َتيْنِ‬
‫علَى حِينِ ُفرْقَةٍ مِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫صلى ال عليه وسلم قَالَ ‪َ { :‬ت ْمرُقُ مَارِقَةٌ َ‬
‫عِليّا‬
‫بِالْحَقّ } ‪ .‬وَفِي لَفْظٍ ‪ { :‬أَ ْدنَى الطّائِ َف َتيْنِ إلَى الْحَقّ } ‪َ .‬ف ِبهَذَا الْحَدِيثِ الصّحِيحِ َث َبتَ أَنّ َ‬
‫سلَامِ‬
‫َوأَصْحَابَهُ كَانُوا أَ ْق َربَ إلَى الْحَقّ مِنْ ُمعَا ِويَةَ َوَأصْحَابِهِ ‪َ ,‬وأَنّ ِت ْلكَ ا ْلمَارِقَةَ اّلتِي َمرَ َقتْ مِنْ الْإِ ْ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم بِ ِقتَالِ هَ ِذهِ ا ْلمَارِقَةِ ‪َ ,‬وَأكّدَ‬
‫حكْمَ إحْدَى الطّائِ َف َتيْنِ ‪ ,‬بَلْ َأ َمرَ ال ّن ِب ّ‬
‫ح ْك ُمهَا ُ‬
‫َل ْيسَ ُ‬
‫عنْهُ فِي‬
‫الَْأ ْمرَ بِ ِقتَاِلهَا ‪َ ,‬ولَمْ يَ ْأ ُمرْ بِ ِقتَالِ إحْدَى الطّائِ َف َتيْنِ ‪َ ,‬كمَا َأ َمرَ بِ ِقتَالِ هَ ِذهِ ‪ ,‬بَلْ قَدْ َث َبتَ َ‬
‫صلِحُ اللّهُ بِهِ َبيْنَ‬
‫س ُي ْ‬
‫سيّدٌ وَ َ‬
‫الصّحِيحِ ‪ :‬مِنْ حَدِيثِ َأبِي َب ْك َرةَ َأنّهُ قَالَ ِللْحَسَنِ ‪ { :‬إنّ ا ْبنِي هَذَا َ‬
‫صلَحَ اللّهُ بِهِ َبيْنَ الطّائِ َف َتيْنِ ‪,‬‬
‫عَليْهِ ِبمَا َأ ْ‬
‫سِلمِينَ } ‪َ .‬فمَدَحَ الْحَسَنَ َوَأ ْثنَى َ‬
‫طَائِ َف َتيْنِ عَظِي َم َتيْنِ مِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫ختَارَ الَْأصْلَ وَحَقَنَ ال ّدمَاءَ مَعَ ُنزُولِهِ عَنْ الَْأ ْمرِ ‪َ ,‬فَلوْ كَانَ الْ ِقتَالُ‬
‫حِينَ َت َركَ الْ ِقتَالَ وَقَدْ بُويِعَ لَهُ وَا ْ‬
‫عنْهُ ‪.‬‬
‫عَليْهِ ِب َت ْركِ مَا َأ َم َر اللّهُ بِهِ وَ ِفعْلِ مَا َنهَى اللّهُ َ‬
‫مَ ْأمُورًا بِهِ لَمْ َيمْدَحْ الْحَسَنَ َو ُي ْثنِي َ‬
‫عِليّ َيوْمَ‬
‫طرِيقَانِ ‪ِ :‬م ْنهُمْ مَنْ َيرَى ِقتَالَ َ‬
‫ستَحِقّ الْ ِقتَالَ مِنْ أَهْلِ الْ ِق ْبلَةِ َ‬
‫وَا ْلعَُلمَاءُ َلهُمْ فِي ِقتَالِ مَنْ يَ ْ‬
‫جعَلُ ِقتَالَ َأبِي َب ْكرٍ‬
‫جمَلِ ‪َ ,‬وصِفّينَ ‪ُ ,‬كلّهُ مِنْ بَابِ ِقتَالِ أَهْلِ ا ْل َب ْغيِ ‪َ ,‬وكَ َذِلكَ يَ ْ‬
‫حرُورَاءَ ‪َ ,‬و َيوْمَ الْ َ‬
‫َ‬
‫سبِينَ إلَى الْ ِقبْلَةِ ‪َ ,‬كمَا َذ َكرَ َذِلكَ مَنْ َذ َك َرهُ‬
‫ِلمَا ِنعِي ال ّزكَاةِ ‪َ ,‬وكَ َذِلكَ ِقتَالُ سَا ِئرِ مَنْ قُوتِلَ مِنْ ا ْل ُم ْنتَ ِ‬
‫غ ْيرِهِمْ ‪ ,‬وَهُمْ ُمتّفِقُونَ‬
‫حمَدَ وَ َ‬
‫حنِيفَةَ ‪ ,‬وَالشّا ِف ِعيّ ‪َ ,‬ومَنْ وَافَ َقهُمْ مِنْ َأصْحَابِ أَ ْ‬
‫مِنْ َأصْحَابِ َأبِي َ‬
‫ن الصّحَابَةَ َليْسُوا فُسّاقًا بَلْ هُمْ عُدُولٌ ‪ .‬فَقَالُوا ‪ :‬إنّ أَهْلَ ا ْل َب ْغيِ عُدُولٌ مَعَ ِقتَاِلهِمْ ‪ ,‬وَهُمْ‬
‫علَى أَ ّ‬
‫َ‬
‫غ ْي ِرهِ ‪ .‬فَذَ َهبُوا إلَى‬
‫ج َتهِدِينَ فِي الْ ُفرُوعِ ‪ ,‬وَخَالَ َفتْ فِي َذِلكَ طَائِفَةٌ كَابْنِ عَقِيلٍ وَ َ‬
‫طئُونَ خَطَأَ ا ْلمُ ْ‬
‫مُخْ ِ‬
‫ظرُوا إلَى مَنْ عَ ُد ّوهُ مِنْ أَهْلِ ا ْل َب ْغيِ فِي َز َم ِنهِمْ ‪َ ,‬ف َرَأوْهُمْ فُسّاقًا ‪َ ,‬ولَا‬
‫تَفْسِيقِ أَهْلِ ا ْل َب ْغيِ ‪ ,‬وَ َه ُؤلَاءِ نَ َ‬
‫ق الصّحَابَةَ َبعْضُ أَهْلِ الْأَ ْهوَاءِ مِنْ ا ْل ُم ْع َت ِزلَةِ‬
‫خلُونَ الصّحَابَةَ فِي َذِلكَ ‪َ ,‬وِإ ّنمَا يُفَسّ ُ‬
‫َر ْيبَ َأ ّنهُمْ لَا يُدْ ِ‬
‫خوَارِجِ وَال ّروَافِضِ َوَل ْيسَ َذِلكَ مِنْ مَذْ َهبِ الَْأ ِئمّةِ‬
‫حوِهِمْ ‪َ ,‬كمَا ُيكَ ّفرُهُمْ َبعْضُ أَهْلِ الْأَ ْهوَاءِ مِنْ الْ َ‬
‫َونَ ْ‬
‫جمَاعَةِ ‪َ ,‬ولَا يَقُولُونَ ‪ :‬إنّ َأ ْموَاَلهُمْ َم ْعصُومَةٌ َكمَا كَا َنتْ ‪َ ,‬ومَا كَانَ ثَا ِبتًا‬
‫سنّةِ وَالْ َ‬
‫وَالْفُ َقهَاءِ أَهْلِ ال ّ‬
‫ج ْمهُورَ ا ْل ُعَلمَاءِ يَقُولُونَ ‪:‬‬
‫حتّى إنّ ُ‬
‫ضمَنْ ‪َ ,‬‬
‫حبِهِ ‪َ ,‬ومَا ُأ ْتِلفَ فِي حَالِ الْ ِقتَالِ لَمْ ُي ْ‬
‫ِب َع ْينِهِ رُدّ إلَى صَا ِ‬
‫ل اللّهِ صلى ال‬
‫ضمَنُ لَا َه ُؤلَاءِ َولَا َه ُؤلَاءِ ‪َ .‬كمَا قَالَ الزّهْ ِريّ ‪ :‬وَ َق َعتْ الْ ِف ْتنَةُ َوَأصْحَابُ رَسُو ِ‬
‫لَا َي ْ‬
‫ج َمعُوا أَنّ كُلّ مَالٍ َأوْ دَمٍ ُأصِيبَ ِبتَ ْأوِيلِ الْ ُقرْآنِ فَِإنّهُ هَ َدرٌ ‪ ,‬وَهَلْ َيجُوزُ‬
‫عليه وسلم ُم َتوَا ِفرُونَ ‪َ ,‬فأَ ْ‬

‫‪88‬‬
‫حمَدَ َيجُوزُ‬
‫ج َهيْنِ فِي مَذْ َهبِ أَ ْ‬
‫علَى وَ ْ‬
‫ضرُورَةٌ َ‬
‫ك َ‬
‫ح ْر ِبهِمْ إذَا لَمْ َيكُنْ إلَى َذِل َ‬
‫حهِمْ فِي َ‬
‫سلَا ِ‬
‫س َتعَانَ بِ ِ‬
‫أَنْ يُ ْ‬
‫سرِهِمْ وَا ّتبَاعِ مُ ْد ِبرِهِمْ‬
‫خ َتلَفُوا فِي َقتْلِ أُ َ‬
‫حنِيفَةَ ‪ ,‬وَا ْ‬
‫وَا ْل َمنْعُ َقوْلُ الشّا ِف ِعيّ وَالرّخْصَةُ َقوْلُ َأبِي َ‬
‫حنِيفَةَ ‪َ ,‬و َم َنعَهُ الشّا ِف ِعيّ ‪,‬‬
‫ج ّوزَ َذِلكَ َأبُو َ‬
‫جئُونَ إَل ْيهَا ‪ ,‬فَ َ‬
‫حهِمْ إذَا كَانَ َلهُمْ ِفئَةٌ َيلْ َ‬
‫جرِي ِ‬
‫علَى َ‬
‫وَالتّذْفِيفِ َ‬
‫حمَدَ وَفِي مَذْ َهبِهِ وَجْهٌ َأنّهُ ُي ّتبَعُ مُ ْد ِبرُهُمْ مِنْ َأوّلِ الْ ِقتَالِ ‪َ ,‬وَأمّا إذَا لَمْ‬
‫شهُورُ فِي مَذْ َهبِ أَ ْ‬
‫وَ ُهوَ ا ْلمَ ْ‬
‫غ ْي ُرهُ عَنْ َم ْروَانَ بْنِ‬
‫سعِيدٌ وَ َ‬
‫جرِيحٍ ‪َ ,‬كمَا َروَاهُ َ‬
‫علَى َ‬
‫َيكُنْ َلهُمْ ِفئَةٌ ‪َ ,‬فلَا يُ ْقتَلُ أَسِيرٌ ‪َ ,‬ولَا يُذَ ّففُ َ‬
‫غلَقَ‬
‫جرِيحٍ َومَنْ أَ ْ‬
‫علَى َ‬
‫جمَلِ ‪ ,‬لَا يُ ْق َتلَنّ مُ ْد ِبرٌ ‪َ ,‬ولَا يُ َذ ّففُ َ‬
‫ج صَارِخٌ ‪َ ,‬ل َعلّهُ َيوْمَ الْ َ‬
‫خرَ َ‬
‫حكَمِ قَالَ ‪َ :‬‬
‫الْ َ‬
‫طرِيقَةَ فَقَدْ َي َتوَهّمُ أَنّ َه ُؤلَاءِ ال ّتتَارَ‬
‫سَلكَ هَ ِذهِ ال ّ‬
‫سلَاحَ َف ُهوَ آمِنٌ ‪َ .‬فمَنْ َ‬
‫بَابَهُ َف ُهوَ آمِنٌ ‪َ ,‬ومَنْ َألْقَى ال ّ‬
‫حكْمِ‬
‫حكَامِ ‪َ ,‬كمَا أَدْخَلَ مَنْ أُدْخِلَ فِي هَذَا الْ ُ‬
‫حكُمُ فِيهِمْ ِب ِمثْلِ هَ ِذهِ الْأَ ْ‬
‫مِنْ أَهْلِ ا ْل َب ْغيِ ا ْل ُمتََأ ّولِينَ َويَ ْ‬
‫س ُن َبيّنُ فَسَادَ هَذَا التّوَهّمِ إنْ شَاءَ اللّهُ َتعَالَى ‪.‬‬
‫خوَارِجَ وَ َ‬
‫مَا ِنعِي ال ّزكَاةِ وَالْ َ‬
‫جمَلِ َوصِفّينَ ‪,‬‬
‫حوِهِمْ ‪َ :‬ليْسَ كَ ِقتَالِ أَهْلِ الْ َ‬
‫خوَارِجِ ‪َ ,‬ونَ ْ‬
‫وَالطّرِيقَةُ الثّا ِنيَةُ أَنّ ِقتَالَ مَا ِنعِي ال ّزكَاةِ ‪ ,‬وَالْ َ‬
‫سنّةِ‬
‫عتِقَادِ أَهْلِ ال ّ‬
‫ج ْمهُورِ الَْأ ِئمّةِ ا ْل ُمتَقَ ّدمِينَ وَ ُهوَ الّذِي يَ ْذ ُكرُونَهُ فِي ا ْ‬
‫وَهَذَا ُهوَ ا ْل َمنْصُوصُ عَنْ ُ‬
‫غ ْي ِرهِ ‪,‬‬
‫حمَدَ وَ َ‬
‫غ ْي ِرهِ ‪َ ,‬ومَذْ َهبُ َأ ِئمّةِ الْحَدِيثِ كَأَ ْ‬
‫جمَاعَةِ ‪ ,‬وَ ُهوَ مَذْ َهبُ أَهْلِ ا ْلمَدِينَةِ ‪َ :‬كمَاِلكٍ ‪ ,‬وَ َ‬
‫وَالْ َ‬
‫غنِيمَةَ‬
‫حتّى فِي الَْأ ْموَالِ فَإِنّ ِم ْنهُمْ مَنْ َأبَاحَ َ‬
‫غ ْيرِ َم ْوضِعٍ َ‬
‫علَى الْ َفرْقِ َبيْنَ هَذَا وَهَذَا فِي َ‬
‫وَقَدْ َنصّوا َ‬
‫سهْمٌ فِي َق ْريَةٍ‬
‫حرُورِيّةَ كَانَ َلهُمْ َ‬
‫حمَدُ فِي ِروَايَةِ َأبِي طَاِلبٍ فِي َ‬
‫خوَارِجِ ‪ .‬وَقَدْ َنصّ أَ ْ‬
‫َأ ْموَالِ الْ َ‬
‫خمْسَةٍ‬
‫علَى َ‬
‫خمُسُهُ َ‬
‫سِلمِينَ ‪َ ,‬فيُقَسّمُ ُ‬
‫ضهُمْ َفيْءٌ ِل ْلمُ ْ‬
‫سِلمُونَ فََأ ْر ُ‬
‫سِلمِينَ فَ َق َتَلهُمْ ا ْلمُ ْ‬
‫خرَجُوا يُقَا ِتلُونَ ا ْلمُ ْ‬
‫فَ َ‬
‫سِلمِينَ ‪َ ,‬ولَا يُقَسّمُ ِمثْلَ‬
‫علَى ا ْلمُ ْ‬
‫خرَاجَ َ‬
‫حمِلُ الَْأمِيرُ الْ َ‬
‫خمَاسِهِ ِللّذِينَ قَا َتلُوا يُقَسّمُ َب ْي َنهُمْ ‪َ ,‬أوْ يَ ْ‬
‫َوَأ ْر َبعَةُ أَ ْ‬
‫غ ِن َمتْ‬
‫خ َواِرجِ إذَا ُ‬
‫حمَدُ الَْأرْضَ اّلتِي ِللْ َ‬
‫جعَلَ أَ ْ‬
‫سِلمِينَ َف َ‬
‫علَى ا ْلمُ ْ‬
‫ع ْن َوةً ‪َ ,‬ووَقَفَهُ َ‬
‫سوَادَ َ‬
‫ع َمرُ ال ّ‬
‫مَا أَخَذَ ُ‬
‫صوَابُ ا ْلمَقْطُوعُ بِهِ ; فَإِنّ النّصّ‬
‫طرِيقَةُ ِهيَ ال ّ‬
‫ج ْملَةِ َفهَ ِذهِ ال ّ‬
‫غنِمَ مِنْ َأ ْموَالِ ا ْلكُفّارِ ‪َ ,‬وبِالْ ُ‬
‫ِب َم ْن ِزلَةِ مَا ُ‬
‫ي رضي ال عنه تُ َفرّقُ َبيْنَ هَذَا وَهَذَا ‪ ,‬فَِإنّهُ قَاتَلَ‬
‫عِل ّ‬
‫جمَاعَ َفرّقَ َبيْنَ هَذَا وَهَذَا ‪ ,‬وَسِي َرةُ َ‬
‫وَالْإِ ْ‬
‫ن الصّحَابَةِ‬
‫خوَارِجَ ِبنَصّ رَسُولِ اللّهِ صلى ال عليه وسلم وَ َفرِحَ بِ َذِلكَ ‪َ ,‬ولَمْ ُينَازِعْهُ فِيهِ َأحَدٌ مِ ْ‬
‫الْ َ‬
‫جمَلِ‬
‫ظ َهرَ ‪ ,‬وَقَالَ مِنْ أَهْلِ الْ َ‬
‫عَليْهِ مَا َ‬
‫ظ َهرَ ِمنْهُ مِنْ َكرَا َهتِهِ وَالذّمّ َ‬
‫‪َ ,‬وَأمّا الْ ِقتَالُ َيوْ َم صِفّينَ فَقَدْ َ‬
‫خوَارِجُ فَفِي‬
‫علَى َق ْتلَى الطّائِ َف َتيْنِ ‪َ .‬وَأمّا الْ َ‬
‫صلّى َ‬
‫س ْيفُ ‪َ ,‬و َ‬
‫ط ْهرُهُمْ ال ّ‬
‫عَل ْينَا ُ‬
‫خوَا ُننَا َب َغوْا َ‬
‫غ ْيرِهِمْ ‪ :‬إ ْ‬
‫وَ َ‬
‫ل اللّ ِه صلى ال عليه وسلم يَقُولُ ‪:‬‬
‫س ِمعْت رَسُو َ‬
‫عِليّ بْنِ َأبِي طَاِلبٍ قَالَ ‪َ :‬‬
‫حيْنِ ‪ :‬عَنْ َ‬
‫الصّحِي َ‬
‫خ ْيرِ َقوْلِ ا ْل َبرِيّةِ لَا‬
‫حلَامِ ‪ ,‬يَقُولُونَ مِنْ َ‬
‫سنَانِ ‪ ,‬سُ َفهَاءُ الْأَ ْ‬
‫خ ِر ال ّزمَانِ حِدَاثُ الْأَ ْ‬
‫خرُجُ َقوْمٌ فِي آ ِ‬
‫ستَ ْ‬
‫{ َ‬
‫ن ال ّر ِميّةِ ‪َ ,‬فَأ ْي َنمَا لَقِي ُتمُوهُمْ‬
‫سهْمُ مِ ْ‬
‫جرَهُمْ ‪َ ,‬ي ْمرُقُونَ مِنْ الدّينِ َكمَا َي ْمرُقُ ال ّ‬
‫حنَا ِ‬
‫يُجَا ِوزُ إيمَا ُنهُمْ َ‬
‫سلِمٍ ‪ :‬عَنْ َزيْدِ بْنِ وَ ْهبٍ‬
‫جرًا ِلمَنْ َق َتَلهُمْ َيوْمَ الْ ِقيَامَةِ } ‪ .‬وَفِي صَحِيحِ مُ ْ‬
‫فَا ْق ُتلُوهُمْ ‪َ ,‬فإِنّ فِي َق ْتِلهِمْ أَ ْ‬

‫‪89‬‬
‫عِليّ ‪َ :‬أ ّيهَا النّاسُ إنّي‬
‫خوَارِجِ فَقَالَ َ‬
‫عِليّ الّذِينَ سَارُوا إلَى الْ َ‬
‫ج ْيشِ الّذِي كَانُوا مَعَ َ‬
‫َأنّهُ كَانَ فِي الْ َ‬
‫خرُجُ َقوْمٌ مِنْ ُأ ّمتِي يَ ْقرَءُونَ الْ ُقرْآنَ ‪َ ,‬ل ْيسَ‬
‫س ِمعْت رَسُولَ اللّهِ صلى ال عليه وسلم يَقُولُ ‪ { :‬يَ ْ‬
‫َ‬
‫شيْءٍ ‪,‬‬
‫صيَا ِمهِمْ بِ َ‬
‫صيَا ُمكُمْ إلّا ِ‬
‫شيْءٍ ‪َ ,‬ولَا ِ‬
‫صلَا ِتهِمْ بِ َ‬
‫صلَا ُتكُمْ إلَى َ‬
‫شيْءٍ ; َولَا َ‬
‫ِقرَا َء ُتكُمْ إلَى ِقرَا َء ِتهِمْ بِ َ‬
‫سلَامِ‬
‫صلَا ُتهُمْ َترَا ِق َيهُمْ ‪َ ,‬ي ْمرُقُونَ مِنْ الْإِ ْ‬
‫عَل ْيهِمْ ‪ ,‬لَا تُجَا ِو ُز َ‬
‫سبُونَ َأنّهُ َلهُمْ ‪ ,‬وَ ُهوَ َ‬
‫يَ ْقرَءُونَ الْ ُقرْآنَ يَحْ ِ‬
‫حمّدٍ َن ِب ّيهِمْ‬
‫علَى لِسَانِ مُ َ‬
‫ضيَ َلهُمْ َ‬
‫ج ْيشُ الّذِينَ ُيصِيبُو َنهُمْ مَا ُق ِ‬
‫سهْمُ مِنْ ال ّر ِميّةِ َلوْ َي ْعلَمُ الْ َ‬
‫َكمَا َي ْمرُقُ ال ّ‬
‫حَلمَةِ الثّ ْديِ‬
‫عضُ ِدهِ ِمثْلُ َ‬
‫علَى َ‬
‫عضُدٌ َل ْيسَ لَهُ ِذرَاعٌ َ‬
‫جلًا لَهُ َ‬
‫َل َن َكلُوا عَنْ ا ْل َعمَلِ ‪ ,‬وَآيَةُ َذِلكَ أَنّ فِيهِمْ رَ ُ‬
‫خلُفُو َنكُمْ فِي‬
‫ش َعرَاتٌ بِيضٌ قَالَ ‪َ :‬فيَذْ َهبُونَ إلَى ُمعَا ِويَةَ َوأَهْلِ الشّامِ َو َي ْت ُركُونَ َه ُؤلَاءِ يَ ْ‬
‫عَليْهِ َ‬
‫‪َ ,‬‬
‫حرَامَ ‪,‬‬
‫َذرَا ِر ّيكُمْ َوَأ ْموَاِلكُمْ ‪َ ,‬واَللّهِ إنّي لََأرْجُو أَنْ َيكُونُوا َه ُؤلَاءِ الْ َقوْمَ فَِإ ّنهُمْ قَدْ سَ َفكُوا الدّمَ الْ َ‬
‫عبْدُ‬
‫خوَارِجِ َي ْو َمئِذٍ َ‬
‫علَى الْ َ‬
‫علَى اسْ ِم اللّهِ } ‪ .‬قَالَ ‪َ :‬فَلمّا ا ْلتَ َق ْينَا وَ َ‬
‫سرْحِ النّاسِ ‪ ,‬فَسِيرُوا َ‬
‫َوأَغَارُوا فِي َ‬
‫سيُو َفكُمْ مِنْ حُقُو ِقهَا ‪ ,‬فَِإنّي ُأنَاشِ ُدكُمْ َكمَا‬
‫سلّوا ُ‬
‫اللّهِ بْنُ وَ ْهبٍ َرئِيسًا فَقَالَ َلهُمْ ‪َ :‬ألْقُوا ال ّرمَاحَ ‪ ,‬وَ ُ‬
‫حهِمْ‬
‫حرَهُ ْم النّاسُ ِب ِرمَا ِ‬
‫سيُوفَ ‪ ,‬وَسَ َ‬
‫سلّوا ال ّ‬
‫حهِمْ ‪ ,‬وَ َ‬
‫جعُوا َفوَحّشُوا ِب ِرمَا ِ‬
‫حرُورَاءَ ‪َ ,‬فرَ َ‬
‫نَاشَدُوكُمْ َيوْمَ َ‬
‫عِليّ ‪:‬‬
‫جلَانِ ‪ :‬فَقَالَ َ‬
‫علَى َبعْضٍ ‪َ ,‬ومَا ُأصِيبَ مِنْ النّاسِ َي ْو َمئِذٍ إلّا رَ ُ‬
‫ضهُمْ َ‬
‫‪ .‬قَالَ ‪َ :‬وأَ ْقبَلَ َب ْع ُ‬
‫علَى‬
‫ضهُمْ َ‬
‫حتّى َأتَى نَاسًا قَدْ أَ ْقبَلَ َب ْع ُ‬
‫سيْفِهِ َ‬
‫علَى َ‬
‫ا ْل َتمَسُوا فِيهِ ا ْلمَخْدَعَ ‪ .‬فَا ْل َتمَسُوهُ ‪َ ,‬فلَمْ َيجِدُوهُ فَقَامَ َ‬
‫خرُوهُمْ َفوَجَدُوهُ ِممّا َيلِي الَْأرْضَ َف َك ّبرَ ثُمّ قَالَ ‪ :‬صَدَقَ اللّهُ ‪َ ,‬و َبلّغَ رَسُولُهُ ‪ .‬قَالَ ‪:‬‬
‫َبعْضٍ ‪ .‬قَالَ ‪ :‬أَ ّ‬
‫س ِمعْت هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ‬
‫ن اللّهُ الّذِي لَا إلَهَ إلّا ُهوَ أَ َ‬
‫س ْلمَا ِنيّ فَقَالَ ‪ :‬يَا َأمِيرَ ا ْل ُم ْؤمِنِي َ‬
‫ع َبيْ َدةُ ال ّ‬
‫فَقَامَ إَليْهِ ُ‬
‫حِلفُ‬
‫حلَفَهُ َثلَاثًا وَ ُهوَ يَ ْ‬
‫ستَ ْ‬
‫حتّى ا ْ‬
‫رَسُولِ اللّهِ صلى ال عليه وسلم قَالَ ‪ :‬إي َواَللّهِ الّذِي لَا إلَهَ إلّا ُهوَ َ‬
‫علَى‬
‫خوَارِجِ َو َتضْلِيِلهِمْ ‪َ ,‬وِإ ّنمَا َتنَازَعُوا فِي َتكْفِيرِهِمْ ‪َ ,‬‬
‫علَى ذَمّ الْ َ‬
‫لَهُ َأ ْيضًا ‪ .‬فَإِنّ الُْأمّةَ ُمتّفِقُونَ َ‬
‫حمَدَ ‪ ,‬وَفِي مَذْ َهبِ الشّا ِف ِعيّ َأيْضًا ِنزَاعٌ فِي‬
‫شهُو َريْنِ مِنْ مَذْ َهبِ مَاِلكٍ ‪َ ,‬وأَ ْ‬
‫علَى َق ْوَليْنِ مَ ْ‬
‫َتكْفِيرِهِمْ َ‬
‫طرِيقَةِ الْأُولَى ‪ :‬أَحَدُ ُهمَا ‪َ :‬أ ّنهُمْ‬
‫علَى ال ّ‬
‫غ ْي ِرهِ َ‬
‫حمَدَ وَ َ‬
‫جهَانِ فِي مَذْ َهبِ أَ ْ‬
‫كُ ْفرِهِمْ ‪َ ,‬وِلهَذَا كَانَ فِيهِمْ وَ ْ‬
‫ُبغَاةٌ ‪ .‬وَالثّانِي ‪َ :‬أ ّنهُمْ كُفّارٌ كَا ْل ُم ْرتَدّينَ يَجُوزُ َق ْتُلهُمْ ا ْبتِدَاءً وَ َقتْلُ َأمِيرِهِمْ ‪ ,‬وَا ّتبَاعُ مُ ْد ِبرِهِمْ َومَنْ قُ ِدرَ‬
‫س ُتتِيبَ كَا ْل ُم ْرتَدّ ‪ ,‬فَإِنْ تَابَ َوِإلّا ُقتِلَ ‪َ ,‬كمَا أَنّ مَذْ َهبَهُ فِي مَا ِنعِي ال ّزكَاةِ إذَا قَا َتلُوا الِْإمَامَ‬
‫عَليْهِ ِم ْنهُمْ اُ ْ‬
‫َ‬
‫ل الصّدّيقِ‬
‫علَى ِروَا َيتَيْنِ ‪ ,‬وَهَذَا ُكلّهُ ِممّا ُي َبيّنُ أَنّ ِقتَا َ‬
‫عَل ْيهَا ‪ ,‬هَلْ َيكْ ُفرُونَ مَعَ الْإِ ْقرَارِ ِبوُجُو ِبهَا َ‬
‫َ‬
‫غ ْي ِرهِ‬
‫عِليّ وَ َ‬
‫جمَلِ ‪َ ,‬وصِفّينَ ‪َ ,‬ف َكلَامُ َ‬
‫خوَارِجَ َل ْيسَ ِمثْلَ الْ ِقتَالِ َيوْمَ الْ َ‬
‫عِليّ الْ َ‬
‫ِلمَا ِنعِي ال ّزكَاةِ ‪ ,‬وَ ِقتَالَ َ‬
‫سلَامِ ‪ .‬وَهَذَا ُهوَ ا ْل َم ْنصُوصُ عَنْ‬
‫خوَارِجِ يَ ْقتَضِي َأ ّنهُمْ َليْسُوا كُفّارًا كَا ْل ُم ْرتَدّينَ عَنْ َأصْلِ الْإِ ْ‬
‫فِي الْ َ‬
‫جمَلِ َوصِفّينَ ‪ ,‬بَلْ ُهوَ َنوْعٌ ثَاِلثٌ‬
‫حكْمِ أَهْلِ الْ َ‬
‫ح ْك ُمهُمْ كَ ُ‬
‫غ ْي ِرهِ ‪َ ,‬وَليْسُوا مَعَ َذِلكَ ُ‬
‫حمَدَ وَ َ‬
‫الَْأ ِئمّةِ كَأَ ْ‬
‫غ ْيرِ‬
‫صلَاةِ ‪ ,‬وَ َ‬
‫شهَا َد َتيْنِ ‪ ,‬وَال ّ‬
‫وَهَذَا َأصَحّ الْأَ ْقوَالِ ال ّثلَاثَةِ فِيهِمْ ‪َ ,‬و ِممّنْ قَا َتَلهُمْ الصّحَابَةُ مَعَ إ ْقرَارِهِمْ ال ّ‬

‫‪90‬‬
‫ع َمرَ بْنَ الْخَطّابِ قَالَ لَِأبِي َب ْكرٍ ‪:‬‬
‫حيْنِ ‪ :‬عَنْ َأبِي ُه َر ْي َرةَ أَنّ ُ‬
‫َذِلكَ مَا ِنعُوا الزّكَاةِ ‪َ ,‬كمَا فِي الصّحِي َ‬
‫ل اللّ ِه صلى ال عليه وسلم ‪ُ { :‬أ ِمرْت أَنْ‬
‫ل اللّهِ ‪َ ,‬ك ْيفَ تُقَاتِلُ النّاسَ ‪ ,‬وَقَدْ قَالَ رَسُو ُ‬
‫خلِيفَةَ رَسُو ِ‬
‫يَا َ‬
‫صمُوا ِمنّي ِدمَاءَهُمْ‬
‫ع َ‬
‫شهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ َوَأنّي رَسُولُ اللّهِ ‪ ,‬فَإِذَا قَالُوهَا َ‬
‫حتّى يَ ْ‬
‫أُقَاتِلَ النّاسَ َ‬
‫ن ال ّزكَاةَ مِنْ حَ ّقهَا ‪َ ,‬واَللّهِ‬
‫َوَأ ْموَاَلهُمْ ‪ ,‬إلّا بِحَ ّقهَا ‪ } .‬فَقَالَ لَهُ َأبُو َب ْكرٍ ‪َ :‬ألَمْ يَقُلْ لَك { إلّا بِحَ ّقهَا } فَإِ ّ‬
‫علَى َم ْن ِعهَا قَالَ‬
‫عنَاقًا كَانُوا ُيؤَدّو َنهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صلى ال عليه وسلم لَقَا َتلْتهمْ َ‬
‫َلوْ َم َنعُونِي ِ‬
‫ح صَ ْدرَ َأبِي َب ْكرٍ ِللْ ِقتَالِ َف َعِلمْت َأنّهُ الْحَقّ ‪ .‬وَقَدْ اتّفَقَ‬
‫شرَ َ‬
‫ن اللّهَ قَدْ َ‬
‫ع َمرُ ‪َ :‬فمَا ُهوَ إلّا أَنْ َرَأيْت أَ ّ‬
‫ُ‬
‫ش ْهرَ‬
‫خ ْمسَ َو َيصُومُونَ َ‬
‫صلّونَ الْ َ‬
‫علَى ِقتَالِ مَا ِنعِي ال ّزكَاةِ َوإِنْ كَانُوا ُي َ‬
‫الصّحَابَةُ وَالَْأ ِئمّةُ َبعْدَهُمْ َ‬
‫علَى َم ْن ِعهَا ‪َ ,‬وإِنْ‬
‫ش ْبهَةٌ سَا ِئغَةٌ ‪َ ,‬فِلهَذَا كَانُوا ُم ْرتَدّينَ وَهُمْ يُقَا ِتلُونَ َ‬
‫َر َمضَانَ وَ َه ُؤلَاءِ لَمْ َيكُنْ َلهُمْ ُ‬
‫ن اللّهَ َأ َمرَ َن ِبيّهُ بِأَخْ ِذ ال ّزكَاةِ بِ َق ْولِهِ ‪:‬‬
‫ع ْنهُمْ َأ ّنهُمْ قَالُوا ‪ :‬إ ّ‬
‫ح ِكيَ َ‬
‫أَ َقرّوا بِا ْلوُجُوبِ َكمَا َأ َمرَ اللّهُ ‪ .‬وَقَدْ ُ‬
‫{ خُذْ مِنْ َأ ْموَاِلهِمْ صَدَقَةً } وَقَدْ تَسْقُطُ ِب َم ْوتِهِ ‪َ .‬وكَ َذِلكَ { َأ َم َر ال ّن ِبيّ صلى ال عليه وسلم بِ ِقتَالِ‬
‫علِمَ أَنّ‬
‫حوَاِلهِمْ ‪ :‬فَقَدْ ُ‬
‫خرُ وَ ُهوَ َم ْعرِفَةُ أَ ْ‬
‫خ ْمرِ } ‪َ .‬وَأمّا الَْأصْلُ الْآ َ‬
‫ش ْربِ الْ َ‬
‫الّذِينَ لَا َي ْن َتهُونَ عَنْ ُ‬
‫طوْا النّاسَ الَْأمَانَ‬
‫سعِينَ ‪َ ,‬وأَعْ َ‬
‫سعَةٍ َوتِ ْ‬
‫علَى الشّامِ فِي ا ْل َم ّرةِ الْأُولَى عَامَ تِ ْ‬
‫َه ُؤلَاءِ الْ َقوْمَ جَارُوا َ‬
‫سِلمِينَ ‪ ,‬مَا يُقَالُ ‪ :‬إنّهُ مِائَةُ َأ ْلفٍ‬
‫سَلبُوا مِنْ َذرَا ِريّ ا ْلمُ ْ‬
‫علَى ا ْل ِم ْن َبرِ بِ ِدمَشْقَ ‪َ ,‬ومَعَ هَذَا فَقَدْ َ‬
‫وَ َقرَءُوهُ َ‬
‫غ ْيرِ‬
‫حمْصَ ‪ ,‬وَدَا ِريّا ‪ ,‬وَ َ‬
‫حيّةِ ‪َ ,‬ونَا ُبُلسَ ‪ ,‬وَ ِ‬
‫ل الصّالِ ِ‬
‫جبَ ِ‬
‫عَليْهِ ‪ ,‬وَ َف َعلُوا ِب َب ْيتِ ا ْلمَقْ ِدسِ ‪َ ,‬وبِ َ‬
‫‪َ ,‬أوْ َيزِيدُ َ‬
‫سِلمِينَ َقرِيبًا مِنْ مِائَةِ َأ ْلفٍ‬
‫س َبوْا مِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫حتّى يُقَالَ ‪ :‬إ ّنهُمْ َ‬
‫س ْبيِ مَا لَا َي ْعَلمُهُ إلّا اللّهُ َ‬
‫َذِلكَ مِنْ الْ َقتْلِ وَال ّ‬
‫غ ْيرِهَا ‪ :‬كَا ْلمَسْجِدِ الْأَ ْقصَى ‪ ,‬وَالُْأ َم ِويّ ‪,‬‬
‫سِلمِينَ فِي ا ْلمَسَاجِدِ وَ َ‬
‫خيَارِ نِسَاءِ ا ْلمُ ْ‬
‫جرُونَ ِب ِ‬
‫ج َعلُوا يَ ْف ُ‬
‫وَ َ‬
‫صلّونَ‬
‫ج ْمهُورَهُمْ لَا ُي َ‬
‫س َكرَ الْ َقوْمِ َف َرَأ ْينَا ُ‬
‫ج َعلُوا الْجَامِعَ الّذِي بِا ْلعُ َق ْيبَةِ َدكّا ‪ ,‬وَقَدْ شَاهَ ْدنَا عَ ْ‬
‫غ ْيرِهِ ‪َ ,‬و َ‬
‫وَ َ‬
‫خ ّربُوا مِنْ‬
‫سِلمِينَ وَ َذرَا ِر ّيهِمْ ‪ ,‬وَ َ‬
‫س َكرِهِمْ ُمؤَ ّذنًا َولَا إمَامًا ‪ .‬وَقَدْ أَخَذُوا مِنْ َأ ْموَالِ ا ْلمُ ْ‬
‫‪َ ,‬ولَمْ َنرَ فِي عَ ْ‬
‫خلْقِ ‪ ,‬إمّا ِزنْدِيقٌ‬
‫شرّ الْ َ‬
‫ِديَارِهِمْ مَا لَا َي ْعَلمُهُ إلّا اللّهُ َولَمْ َيكُنْ َم َعهُمْ فِي َد ْوَل ِتهِمْ إلّا مَنْ كَانَ مِنْ َ‬
‫ج ْه ِميّةِ‬
‫شرّ أَهْلِ ا ْلبِدَعِ كَالرّا ِفضَةِ وَالْ َ‬
‫سلَامِ فِي ا ْلبَاطِنِ ‪َ ,‬وِإمّا مَنْ ُهوَ مِنْ َ‬
‫ُمنَافِقٌ لَا َي ْعتَقِدُ دِينَ الْإِ ْ‬
‫جرُ النّاسِ َوأَفْسَ ُقهُمْ ‪ ,‬وَهُمْ فِي ِبلَادِهِمْ مَعَ َت َم ّك ِنهِمْ لَا َيحُجّونَ‬
‫حوِهِمْ ‪َ .‬وِإمّا مَنْ ُهوَ أَ ْف َ‬
‫وَالِاتّحَا ِديّة َونَ ْ‬
‫عَل ْيهِمْ إقَا َم الصّلَاةِ َولَا إيتَاءَ‬
‫صلّي َو َيصُومُ ‪َ ,‬فَل ْيسَ ا ْلغَاِلبُ َ‬
‫ا ْل َب ْيتَ ا ْل َعتِيقَ ‪َ ,‬وإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ ُي َ‬
‫ج َعلُوهُ َوِليّا َلهُمْ ‪َ ,‬وإِنْ كَانَ‬
‫ع ِتهِمْ َ‬
‫ج ْنكِيزْ خَانْ ‪َ ,‬فمَنْ دَخَلَ فِي طَا َ‬
‫علَى ُم ْلكِ ِ‬
‫ال ّزكَاةِ ‪ ,‬وَهُمْ يُقَا ِتلُونَ َ‬
‫علَى‬
‫سِلمِينَ َولَا يُقَا ِتلُونَ َ‬
‫خيَارِ ا ْلمُ ْ‬
‫ج َعلُوهُ عَ ُدوّا َلهُمْ ‪َ ,‬وإِنْ كَانَ مِنْ ِ‬
‫خرَجَ عَنْ َذِلكَ َ‬
‫كَا ِفرًا َومَنْ َ‬
‫سِلمِينَ ِم ْنهُمْ مِنْ َأكَا ِبرِ ُأ َمرَا ِئهِمْ‬
‫صغَارَ ‪ ,‬بَلْ غَايَةُ َكثِيرٍ مِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫ج ْزيَةَ ‪ ,‬وَال ّ‬
‫ضعُونَ الْ ِ‬
‫سلَامِ َولَا َي َ‬
‫الْإِ ْ‬
‫ش ِركِينَ مِنْ ا ْل َيهُودِ وَالنّصَارَى ‪َ .‬كمَا‬
‫ظمُونَهُ مِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫عنْدَهُمْ ‪َ ,‬كمَنْ ُيعَ ّ‬
‫سلِمُ ِ‬
‫َو ُو َزرَا ِئهِمْ أَنْ َيكُونَ ا ْلمُ ْ‬

‫‪91‬‬
‫سِلمِينَ ‪َ ,‬و َيتَ َق ّربُ إَل ْيهِمْ بَِأنّا‬
‫طبُ رُسُلَ ا ْلمُ ْ‬
‫قَالَ َأ ْك َبرُ مُقَ ّدمِيهِمْ الّذِينَ قَ ِدمُوا إلَى الشّامِ ‪ ,‬وَ ُهوَ يُخَا ِ‬
‫ج ْنكِيزْ خَانْ ‪َ ,‬فهَذَا غَايَةُ مَا‬
‫حمّدٌ ‪ ,‬وَ ِ‬
‫عنْ ِد اللّهِ ‪ :‬مُ َ‬
‫سِلمُونَ فَقَالَ ‪ :‬هَذَانِ آ َيتَانِ عَظِي َمتَانِ جَاءَا مِنْ ِ‬
‫مُ ْ‬
‫سيّدِ َولَدِ‬
‫عَليْهِ ‪ ,‬وَ َ‬
‫خلْقِ َ‬
‫ل اللّهِ َأ ْكرَمِ الْ َ‬
‫س ّويَ َبيْنَ رَسُو ِ‬
‫سِلمِينَ أَنْ يُ َ‬
‫َيتَ َق ّربُ بِهِ َأ ْك َبرُ مُقَ ّدمِيهِمْ إلَى ا ْلمُ ْ‬
‫ش ِركِينَ ‪ ,‬كُ ْفرًا وَفَسَادًا وَعُ ْدوَانًا مِنْ‬
‫ش ِركٍ مِنْ أَعْظَمِ ا ْلمُ ْ‬
‫سلِينَ ‪َ ,‬و َبيْنَ َمِلكٍ كَا ِفرٍ مُ ْ‬
‫آدَمَ ‪ ,‬وَخَاتَمِ ا ْل ُمرْ َ‬
‫ج ْنكِيزْ خَانْ عَظِيمًا فَِإ ّنهُمْ‬
‫عتِقَادَ َه ُؤلَاءِ ال ّتتَارِ كَانَ فِي ِ‬
‫صرَ َوَأ ْمثَالِهِ ‪ .‬وَ َذِلكَ أَنّ ا ْ‬
‫ختِ َن ّ‬
‫ج ْنسِ بُ ْ‬
‫ِ‬
‫ح ّبَلتْ ُأمّهُ‬
‫ش ْمسَ َ‬
‫ج ْنسِ مَا َي ْعتَقِ ُدهُ ال ّنصَارَى فِي ا ْلمَسِيحِ ‪َ ,‬ويَقُولُونَ ‪ :‬إنّ ال ّ‬
‫ن اللّهِ مِنْ ِ‬
‫َي ْعتَقِدُونَ َأنّهُ ابْ ُ‬
‫عنْدَ كُلّ‬
‫ح ِبَلتْ ‪َ ,‬و َم ْعلُومٌ ِ‬
‫حتّى َ‬
‫خَلتْ فِيهَا َ‬
‫خ ْيمَةِ فَدَ َ‬
‫شمْسُ مِنْ ُك ّوةِ الْ َ‬
‫خ ْيمَةٍ َف َن َزَلتْ ال ّ‬
‫‪َ ,‬وَأ ّنهَا كَا َنتْ فِي َ‬
‫علَى َأنّهُ َولَدُ ِزنًا ‪َ ,‬وأَنّ ُأمّهُ َز َنتْ َف َك َت َمتْ ِزنَاهَا ‪َ ,‬وأَخْ َفتْ هَذَا‬
‫ذِي دِينٍ أَنّ هَذَا كَ ِذبٌ ‪ .‬وَهَذَا َدلِيلٌ َ‬
‫سنّهُ َلهُمْ ‪,‬‬
‫عنْ َد اللّهِ فِي َتعْظِيمِ مَا َ‬
‫ج َعلُونَهُ أَعْظَمَ رَسُولٍ ِ‬
‫ع ْنهَا َم َع ّر َة ال ّزنَا ‪ ,‬وَهُمْ مَعَ هَذَا يَ ْ‬
‫حتّى تَدْفَعَ َ‬
‫َ‬
‫علَى‬
‫ش ُكرُونَهُ َ‬
‫ج ْنكِيزْ خَانْ ‪َ ,‬ويَ ْ‬
‫عنْدَهُمْ مِنْ ا ْلمَالِ هَذَا ِرزْقُ ِ‬
‫حتّى يَقُولُوا ِلمَا ِ‬
‫ظنّهِ ‪ ,‬وَ ُهوَ َ‬
‫شرَعَهُ بِ َ‬
‫وَ َ‬
‫سنّهُ َلهُمْ هَذَا ا ْلكَا ِفرُ ا ْل َملْعُونُ ا ْل ُمعَادِي ِللّهِ‬
‫حلّونَ َقتْلَ مَنْ عَادَى مَا َ‬
‫س َت ِ‬
‫ش ْر ِبهِمْ ‪ ,‬وَهُمْ يَ ْ‬
‫َأ ْكِلهِمْ وَ ُ‬
‫جعَلَ‬
‫سلَامِ أَنْ َي ْ‬
‫عبَا ِدهِ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ‪َ .‬فهَذَا َوَأ ْمثَالُهُ مِنْ مُقَ ّدمِيهِمْ كَانَ غَا َيتُهُ َبعْدَ الْإِ ْ‬
‫َولَِأ ْن ِبيَائِهِ َورَسُولِهِ وَ ِ‬
‫ض َررًا‬
‫ل َ‬
‫س ْيِلمَةَ ا ْلكَذّابَ " كَانَ أَقَ ّ‬
‫حمّدًا صلى ال عليه وسلم ِب َم ْن ِزلَةِ هَذَا ا ْل َم ْلعُونِ ‪َ ,‬و َم ْعلُومٌ أَنّ " مُ َ‬
‫مُ َ‬
‫ستَحَلّ الصّحَابَةُ ِقتَالَهُ ‪,‬‬
‫حمّدٍ فِي الرّسَالَةِ ‪َ ,‬و ِبهَذَا ا ْ‬
‫شرِيكُ مُ َ‬
‫سِلمِينَ مِنْ هَذَا ‪ ,‬وَادّعَى َأنّهُ َ‬
‫علَى ا ْلمُ ْ‬
‫َ‬
‫ج ْنكِيزْ خَانْ ‪,‬‬
‫حمّدًا كَ ِ‬
‫جعَلُ مُ َ‬
‫سلَامِ َي ْ‬
‫ظ ِهرُهُ مِنْ الْإِ ْ‬
‫وَ ِقتَالَ َأصْحَابِهِ ا ْل ُم ْرتَدّينَ ‪َ ,‬ف َك ْيفَ ِبمَنْ كَانَ فِيمَا يُ ْ‬
‫شرِيعَةِ الْ ُقرْآنِ‬
‫سِلمِينَ ا ْل ُم ّت ِبعَةِ لِ َ‬
‫علَى ا ْلمُ ْ‬
‫ج ْنكِيزْ خَانْ " َ‬
‫ظمُونَ َأ ْمرَ " ِ‬
‫سلَامِ ُيعَ ّ‬
‫ظهَارِهِمْ ِللْإِ ْ‬
‫َوِإلّا َفهُمْ مَعَ إ ْ‬
‫سِلمِينَ بَلْ أَعْظَمَ ‪ .‬أُوَل ِئكَ‬
‫ج ْنكِيزْ خَانْ " َكمَا يُقَا ِتلُونَ ا ْلمُ ْ‬
‫سنّهُ " ِ‬
‫َولَا يُقَا ِتلُونَ أُوَلئِكَ ا ْل ُم ّت ِبعِينَ ِلمَا َ‬
‫ح ِملُونَ إَليْهِ الَْأ ْموَالَ ‪َ ,‬ويُ ِقرّونَ لَهُ بِال ّنيَابَةِ ‪َ ,‬ولَا يُخَالِفُونَ مَا‬
‫ا ْلكُفّارُ َيبْ ُذلُونَ لَهُ الطّاعَةَ وَالِانْ ِقيَادَ ‪َ ,‬ويَ ْ‬
‫سِلمِينَ َو ُيعَادُو َنهُمْ‬
‫يَ ْأ ُمرُهُمْ بِهِ إلّا َكمَا ُيخَاِلفُ الْخَارِجُ عَنْ طَاعَةِ الِْإمَامِ ِللِْإمَامِ ‪ ,‬وَهُمْ يُحَا ِربُونَ ا ْلمُ ْ‬
‫ضعَهُ َلهُمْ ‪َ ,‬ذِلكَ‬
‫سِلمِينَ الطّاعَةَ َلهُمْ َوبَذْلَ الَْأ ْموَالِ وَالدّخُولَ فِيمَا َو َ‬
‫طُلبُونَ مِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫أَعْظَمَ ُمعَادَاةٍ َويَ ْ‬
‫حوِ ِهمَا ‪ .‬بَلْ ُهوَ أَعْظَمُ فَسَادًا فِي الَْأرْضِ‬
‫عوْنَ َأوْ ال ّن ْمرُودِ َونَ ْ‬
‫ش ِركُ ا ْلمُشَابِهُ لِ ِفرْ َ‬
‫ا ْل َملِكُ ا ْلكَا ِفرُ ا ْلمُ ْ‬
‫ض ِعفُ طَائِفَةً ِم ْنهُمْ‬
‫س َت ْ‬
‫ش َيعًا يَ ْ‬
‫جعَلَ أَ ْهَلهَا ِ‬
‫علَا فِي الَْأرْضِ وَ َ‬
‫عوْنَ َ‬
‫ل اللّهُ َتعَالَى ‪ { :‬إنّ ِفرْ َ‬
‫ِم ْن ُهمَا ‪ .‬قَا َ‬
‫ض ِعفُ‬
‫س َت ْ‬
‫علَا فِي الَْأرْضِ يَ ْ‬
‫حيِي نِسَاءَهُمْ إنّهُ كَانَ مِنْ ا ْلمُفْسِدِينَ } ‪ .‬وَهَذَا ا ْلكَا ِفرُ َ‬
‫ستَ ْ‬
‫يُ َذبّحُ َأ ْبنَاءَهُمْ َويَ ْ‬
‫ل الرّجَالِ ‪,‬‬
‫ش ِركِينَ بِ َقتْ ِ‬
‫سِلمِينَ ‪ ,‬وَا ْل َيهُودِ ‪ ,‬وَالنّصَارَى َومَنْ خَالَفَهُ مِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫أَهْلَ ا ْل ِملَلِ ُكّلهُمْ مِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫عمّا‬
‫حبّ الْفَسَادَ ‪َ ,‬و َيرُدّ النّاسَ َ‬
‫ح ْرثَ ‪ ,‬وَالنّسْلَ ‪َ ,‬واَللّهُ لَا يُ ِ‬
‫حرِيمِ ‪َ ,‬ويَأْخُذُ الَْأ ْموَالَ َو ُي ْهِلكُ الْ َ‬
‫س ْبيِ الْ َ‬
‫وَ َ‬
‫شرِي َعتِهِ‬
‫س ّنتِهِ الْجَا ِهِليّةِ وَ َ‬
‫خلُوا فِيمَا ا ْبتَدَعَهُ مِنْ ُ‬
‫سلِينَ إلَى أَنْ يَدْ ُ‬
‫س ْلكِ الَْأ ْن ِبيَاءِ وَا ْلمُرْ َ‬
‫عَليْهِ مِنْ ِ‬
‫كَانُوا َ‬

‫‪92‬‬
‫سِلمِينَ َويُطِيعُو َنهُمْ‬
‫علَى دِينِ ا ْلمُ ْ‬
‫ظمُونَ دِينَ أُوَل ِئكَ ا ْلكُفّارِ َ‬
‫سلَامِ َو ُيعَ ّ‬
‫ا ْلكُ ْف ِريّةِ ‪َ ,‬فهُمْ يَدّعُونَ دِينَ الْإِ ْ‬
‫جرَ َبيْنَ َأكَا ِبرِهِمْ‬
‫شَ‬‫حكْمُ فِيمَا َ‬
‫َو ُيوَالُو َنهُمْ أَعْظَمَ ِب َكثِيرٍ مِنْ طَاعَةِ اللّهِ َورَسُولِهِ ‪َ ,‬و ُموَالَاةِ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ وَالْ ُ‬
‫سلَامِ‬
‫ج َعلُونَ دِينَ الْإِ ْ‬
‫غ ْيرِهِمْ يَ ْ‬
‫حكْ ِم اللّهِ َورَسُولِهِ ‪َ .‬وكَ َذِلكَ الَْأكَا ِبرُ مِنْ ُو َزرَا ِئهِمْ وَ َ‬
‫حكْمِ الْجَا ِهِليّةِ ‪ ,‬لَا بِ ُ‬
‫بِ ُ‬
‫سِلمِينَ ‪ ,‬ثُمّ‬
‫عنْدَ ا ْلمُ ْ‬
‫طرُقٌ إلَى اللّهِ ِب َم ْن ِزلَةِ ا ْلمَذَا ِهبِ الَْأ ْر َبعَةِ ِ‬
‫كَدِينِ ا ْل َيهُودِ وَال ّنصَارَى َوأَنّ هَ ِذهِ ُكّلهَا ُ‬
‫سِلمِينَ ‪ .‬وَهَذَا الْ َقوْلُ‬
‫ِم ْنهُمْ مَنْ ُيرَجّحُ دِينَ ا ْل َيهُودِ َأوْ دِينَ ال ّنصَارَى ‪َ ,‬و ِم ْنهُمْ مَنْ ُيرَجّحُ دِينَ ا ْلمُ ْ‬
‫حوِهِمْ ‪,‬‬
‫ع ْو ِنيّةِ َونَ ْ‬
‫ج ْه ِميّةُ مِنْ الِاتّحَا ِديّةِ الْ ِفرْ َ‬
‫س ّيمَا الْ َ‬
‫عبّادِهِمْ ‪ ,‬لَا ِ‬
‫حتّى فِي فُ َقهَا ِئهِمْ وَ ُ‬
‫فَاشٍ غَاِلبٌ فِيهِمْ َ‬
‫علَى هَذَا َكثِيرٌ مِنْ‬
‫عَل ْيهِمْ الْ َفلْسَفَةُ وَهَذَا مَذْ َهبُ َكثِيرٍ مِنْ ا ْل ُمتَ َفلْسِفَةِ َأوْ َأ ْك َثرِهِمْ وَ َ‬
‫غَل َبتْ َ‬
‫فَِإنّهُ َ‬
‫خوَاصّ ا ْل ُعَلمَاءِ ِم ْنهُمْ‬
‫النّصَارَى َأوْ َأ ْك َثرُهُمْ َو َكثِيرٌ مِنْ ا ْل َيهُودِ َأ ْيضًا ‪ .‬بَلْ َلوْ قَالَ الْقَائِلُ ‪ :‬إنْ غَابَ َ‬
‫س ِمعْت مَا لَا َيتّسِعُ لَهُ هَذَا ا ْل َم ْوضِعُ ‪,‬‬
‫علَى هَذَا ا ْلمَذْ َهبِ َلمَا ُأ ْبعِدَ ‪ .‬وَقَدْ َرَأيْت مِنْ َذِلكَ وَ َ‬
‫وَا ْل ُعبّادُ َ‬
‫غ ْيرِ دِينِ‬
‫سوّغَ ا ّتبَاعَ َ‬
‫سِلمِينَ أَنّ مَنْ َ‬
‫جمِيعِ ا ْلمُ ْ‬
‫سِلمِينَ َوبِاتّفَاقِ َ‬
‫طرَارِ مِنْ دِينِ ا ْلمُ ْ‬
‫َو َم ْعلُومٌ بِالِاضْ ِ‬
‫حمّدٍ صلى ال عليه وسلم َف ُهوَ كَا ِفرٌ ‪ ,‬وَ ُهوَ َككُ ْفرِ مَنْ آمَنَ‬
‫شرِيعَةِ مُ َ‬
‫غ ْيرِ َ‬
‫شرِيعَةٍ َ‬
‫سلَامِ َأوْ ا ّتبَاعِ َ‬
‫الْإِ ْ‬
‫سلِهِ َو ُيرِيدُونَ‬
‫ِب َبعْضِ ا ْل ِكتَابِ َوكَ َفرَ ِب َبعْضِ ا ْل ِكتَابِ ‪َ ,‬كمَا قَالَ َتعَالَى ‪ { :‬إنّ الّذِينَ َيكْ ُفرُونَ بِاَللّهِ َورُ ُ‬
‫سلِهِ َويَقُولُونَ ُن ْؤمِنُ ِب َبعْضٍ َو َنكْ ُفرُ ِب َبعْضٍ َو ُيرِيدُونَ أَنْ َيتّخِذُوا َبيْنَ َذِلكَ‬
‫ن اللّهِ َورُ ُ‬
‫أَنْ يُ َفرّقُوا َبيْ َ‬
‫خلُونَ فِي‬
‫عتَ ْدنَا ِل ْلكَا ِفرِينَ عَذَابًا ُمهِينًا } ‪ .‬وَا ْل َيهُودُ وَالنّصَارَى دَا ِ‬
‫سبِيلًا أُوَل ِئكَ هُمْ ا ْلكَا ِفرُونَ حَقّا َوأَ ْ‬
‫َ‬
‫سفَ مِنْ ا ْل َيهُودِ وَال ّنصَارَى‬
‫َذِلكَ ‪َ ,‬وكَ َذِلكَ ا ْل ُمتَفَلْسِفَةُ ُي ْؤ ِمنُونَ ِب َبعْضٍ َو َيكْ ُفرُونَ ِب َب ْعضٍ ‪َ ,‬ومَنْ تَ َفلْ َ‬
‫ج َهيْنِ ‪ .‬وَ َه ُؤلَاءِ َأ ْك َثرُ ُو َزرَا ِئهِمْ الّذِينَ َيصْ ُدرُونَ عَنْ َر ْأيِهِ غَا َيتُهُ أَنْ َيكُونَ مِنْ هَذَا‬
‫َيبْقَى كُ ْف ُرهُ مِنْ َو ْ‬
‫سفِ ‪,‬‬
‫سلَامِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ ا ْل َيهُو ِديّةِ وَالتّفَلْ ُ‬
‫سبَ إلَى الْإِ ْ‬
‫ض ْربِ ‪َ ,‬فِإنّهُ كَانَ َيهُو ِديّا ُمتَ َفلْسِفًا ثُمّ ا ْنتَ َ‬
‫ال ّ‬
‫عنْدَهُمْ‬
‫عنْدَهُمْ مِنْ َذوِي الْأَ ْقلَامِ وَذَاكَ أَعْظَمُ مَنْ كَانَ ِ‬
‫ك الرّفْضَ َفهَذَا ُهوَ أَعْظَمُ مَنْ ِ‬
‫َوضَمّ إلَى َذِل َ‬
‫خلَةٌ‬
‫ج ْملَةِ ‪َ :‬فمَا مِنْ نِفَاقٍ َو َزنْدَقَةٍ َوِإلْحَادٍ إلّا وَ ِهيَ دَا ِ‬
‫س ْيفِ َف ْل َي ْع َتبِرْ ا ْل ُم ْؤمِنُ ِبهَذَا ‪َ .‬وبِالْ ُ‬
‫مِنْ َذوِي ال ّ‬
‫خلْقِ‬
‫خلْقِ َوأَ َقّلهِمْ َم ْعرِفَةً بِالدّينِ َوَأ ْبعَدِهِمْ عَنْ ا ّتبَاعِهِ َوأَعْظَمِ الْ َ‬
‫جهَلِ الْ َ‬
‫فِي ا ّتبَاعِ ال ّتتَارِ ; لَِأ ّنهُمْ مِنْ أَ ْ‬
‫سمُوا النّاسَ َأ ْر َبعَةَ أَقْسَامٍ يال ُربَاع وداشمند وطاط ‪َ ,‬أيْ‬
‫ا ّتبَاعًا لِلظّنّ َومَا َت ْهوَى الَْأنْ ُفسُ ‪ .‬وَقَدْ قَ ّ‬
‫ن صَدِي َقهُمْ‬
‫س ّن ِتهِمْ ا ْلكُ ْف ِريّةِ كَا َ‬
‫ع ِتهِمْ الْجَا ِهِليّةِ وَ ُ‬
‫صَدِي ُقهُمْ وَعَ ُدوّهُمْ وَا ْلعَالِمُ وَا ْلعَا ّميّ ‪َ ,‬فمَنْ دَخَلَ فِي طَا َ‬
‫علْمٍ‬
‫سبَ إلَى ِ‬
‫سلِهِ َوَأ ْوِليَائِهِ ‪َ ,‬وكُلّ مَنْ ا ْنتَ َ‬
‫‪َ ,‬ومَنْ خَالَ َفهُمْ كَانَ عَ ُدوّهُمْ ‪َ .‬وَلوْ كَانَ مِنْ َأ ْن ِبيَاءِ اللّهِ َورُ ُ‬
‫س ّم ْوهُ " داشمند " كَالْفَقِيهِ ‪ ,‬وَالزّاهِدِ ‪ ,‬وَالْقِسّيسِ ‪ ,‬وَالرّا ِهبِ ‪ ,‬وَ َدنَانِ ا ْل َيهُودِ ‪ ,‬وَا ْل ُمنَجّمِ ‪,‬‬
‫َأوْ دِينٍ َ‬
‫سبِ ‪َ ,‬فيُ ْدرِجُونَ سَادِنَ الَْأصْنَامِ َفيُ ْدرِجُونَ فِي هَذَا مِنْ‬
‫طبِيبِ ‪ ,‬وَا ْلكَا ِتبِ ‪ ,‬وَالْحَا ِ‬
‫حرِ ‪ ,‬وَال ّ‬
‫وَالسّا ِ‬
‫ج َعلُونَ أَهْلَ ا ْل ِعلْمِ وَالْإِيمَانِ َنوْعًا‬
‫ش ِركِينَ َوأَهْلِ ا ْل ِكتَابِ ‪َ ,‬وأَهْلِ ا ْلبِدَعِ مَا لَا َي ْعَلمُهُ إلّا اللّهُ ‪َ ,‬ويَ ْ‬
‫ا ْلمُ ْ‬

‫‪93‬‬
‫حكّامُ‬
‫سيّ َوَأ ْمثَالِهِ ‪ ,‬هُمْ الْ ُ‬
‫ط ِنيّ َة ال ّزنَادِقَةَ ا ْل ُمنَافِقِينَ كَالطّو ِ‬
‫ج َعلُونَ الْ َقرَامِطَةَ ا ْل َملَاحِ َدةَ ا ْلبَا ِ‬
‫وَاحِدًا ‪ ,‬بَلْ يَ ْ‬
‫سِلمِينَ وَالْ َيهُودِ وَالنّصَارَى ‪َ .‬وكَ َذِلكَ َوزِيرُهُمْ‬
‫علْمٍ َأوْ دِينٍ مِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫سبَ إلَى ِ‬
‫جمِيعِ مَنْ ا ْنتَ َ‬
‫علَى َ‬
‫َ‬
‫سِلمِينَ كَالرّا ِفضَةِ وَا ْل َملَاحِ َدةِ‬
‫شرَارَ ا ْلمُ ْ‬
‫علَى هَ ِذهِ الَْأصْنَافِ َويُقَدّمُ ِ‬
‫حكُمُ َ‬
‫السّفِيهُ ا ْل ُملَقّبُ بِالرّشِيدِ ‪َ ,‬ي ْ‬
‫حتّى َت َولّى َقضَاءَ الْ ُقضَاةِ مَنْ كَانَ أَ ْق َربَ إلَى ال ّزنْدَقَةِ‬
‫سِلمِينَ أَهْلِ ا ْل ِعلْمِ وَالْإِيمَانِ ‪َ ,‬‬
‫خيَارِ ا ْلمُ ْ‬
‫علَى ِ‬
‫َ‬
‫ح ْيثُ َتكُونُ ُموَافِقَةً ِل ْلكُفّارِ وَا ْل ُمنَافِقِينَ مِنْ ا ْل َيهُودِ وَالْ َقرَامِطَةِ ‪,‬‬
‫وَالِْإلْحَادِ وَا ْلكُ ْفرِ بِاَللّهِ َورَسُولِهِ ‪ ,‬بِ َ‬
‫سلَامِ ِبمَا لَا بُدّ لَهُ‬
‫شرِيعَةِ الْإِ ْ‬
‫غ ْيرِهِ َو َيتَظَا َهرُ مِنْ َ‬
‫علَى مَا ُيرِيدُونَهُ أَعْظَمَ مِنْ َ‬
‫وَا ْلمَلَاحِ َدةِ ‪ ,‬وَالرّا ِفضَةِ َ‬
‫صنّفًا‬
‫ص ّنفَ ُم َ‬
‫خبِيثَ ا ْل ُملْحِدَ ا ْل ُمنَافِقَ َ‬
‫حتّى إنّ َوزِيرَهُمْ هَذَا الْ َ‬
‫سِلمِينَ َ‬
‫ِمنْهُ لِأَجْلِ مَنْ ُهنَاكَ مِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫عَل ْيهِمْ َولَا‬
‫ضيَ بِدِينِ ا ْل َيهُودِ وَال ّنصَارَى ‪َ ,‬وَأنّهُ لَا ُي ْن ِكرُ َ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم َر ِ‬
‫ضمُونُهُ أَنّ ال ّن ِب ّ‬
‫َم ْ‬
‫خبِيثُ الْجَاهِلُ بِ َق ْولِهِ ‪:‬‬
‫ستَدَلّ الْ َ‬
‫سلَامِ وَا ْ‬
‫يَ ُذمّونَ ‪َ ,‬ولَا َي ْن َهوْنَ دِي َنهُمْ ‪َ ,‬ولَا ُي ْؤ َمرُونَ بِالِا ْنتِقَالِ إلَى الْإِ ْ‬
‫عبَ ْدتُمْ َولَا َأ ْنتُمْ‬
‫عبُدُ َولَا َأنَا عَابِدٌ مَا َ‬
‫عبُدُ مَا َت ْعبُدُونَ َولَا َأ ْنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَ ْ‬
‫{ قُلْ يَا َأ ّيهَا ا ْلكَا ِفرُونَ لَا أَ ْ‬
‫عبُدُ َلكُمْ دِي ُنكُمْ َوِليَ دِينٌ } ‪َ .‬وزَعَمَ أَنّ هَ ِذهِ الْآيَةَ تَ ْقتَضِي َأنّهُ َي ْرضَى دِي َنهُمْ ‪ ,‬وَقَالَ ‪:‬‬
‫عَابِدُونَ مَا أَ ْ‬
‫جهْلٌ ِمنْهُ ‪,‬‬
‫س َببِ َذِلكَ ُأمُورٌ ‪َ ,‬ومِنْ ا ْل َم ْعلُومِ أَنّ هَذَا َ‬
‫ج َرتْ بِ َ‬
‫ستْ َمنْسُوخَةً ‪ ,‬وَ َ‬
‫ح َكمَةٌ َليْ َ‬
‫وَهَ ِذهِ الْآيَةُ مُ ْ‬
‫ضيّا لَهُ ‪َ ,‬وِإ ّنمَا‬
‫فَإِنّ َق ْولَهُ َلكُمْ دِي ُنكُمْ َوِليَ دِينٌ َل ْيسَ فِيهِ مَا يَ ْق َتضِي أَنْ َيكُونَ دِينُ ا ْلكُفّارِ حَقّا َولَا َم ْر ِ‬
‫ش ْركِ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم فِي هَ ِذهِ السّو َرةِ إ ّنهَا َبرَا َءةٌ مِنْ ال ّ‬
‫علَى َت ْب ِرئَةٍ مِنْ دِي ِنهِمْ ‪َ ,‬وِلهَذَا قَا َ‬
‫يَدُلّ َ‬
‫عمَلُ َوَأنَا‬
‫ع َمُلكُمْ َأ ْنتُمْ َبرِيئُونَ ِممّا أَ ْ‬
‫ع َملِي َوَلكُمْ َ‬
‫خرَى ‪َ { :‬وإِنْ كَ ّذبُوك فَقُلْ لِي َ‬
‫َكمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُ ْ‬
‫عمَاُلكُمْ ‪ .‬وَقَدْ ا ّتبَعَ‬
‫عمَاُلنَا َوَلكُمْ أَ ْ‬
‫َبرِيءٌ ِممّا َت ْع َملُونَ } ‪ .‬فَ َق ْولُهُ ‪َ { :‬لكُمْ دِي ُنكُمْ َوِليَ دِينٌ } كَ َق ْولِهِ َلنَا أَ ْ‬
‫عمَلُ ‪َ ,‬وَأنَا َبرِيءٌ ِممّا َت ْع َملُونَ ‪َ ,‬وَلوْ قُ ّدرَ أَنّ‬
‫ح ْيثُ قَالَ ‪َ :‬أ ْنتُمْ َبرِيئُونَ ِممّا أَ ْ‬
‫جبِهِ َومُ ْقتَضَاهُ َ‬
‫َذِلكَ ِبمُو ِ‬
‫سلَامِ‬
‫طرَارِ مِنْ دِينِ الْإِ ْ‬
‫علِمَ بِالِاضْ ِ‬
‫فِي هَ ِذهِ السّو َرةِ مَا يَ ْق َتضِي َأ ّنهُمْ لَمْ ُي ْؤ َمرُوا ِب َت ْركِ دِي ِنهِمْ فَقَدْ ُ‬
‫ش ِركِينَ َوأَهْلِ ا ْل ِكتَابِ بِالْإِيمَانِ بِهِ ‪َ ,‬وَأنّهُ جَاءَهُمْ‬
‫جمَاعِ الُْأمّةِ َأنّهُ َأ َمرَ ا ْلمُ ْ‬
‫بِالّنصُوصِ ا ْل ُمتَوَا ِت َرةِ َوبِإِ ْ‬
‫علَى‬
‫ظ َهرُوا الرّفْضَ َو َم َنعُوا أَنْ نَ ْذ ُكرَ َ‬
‫خلُدُونَ فِي النّارِ ‪ .‬وَقَدْ أَ ْ‬
‫خ َبرَ َأ ّنهُمْ كَا ِفرُونَ يَ ْ‬
‫علَى َذِلكَ َوأَ ْ‬
‫َ‬
‫شرَ الّذِينَ َتزْعُ ُم الرّافِضَةُ َأ ّنهُمْ‬
‫ع َوةَ ِللِا ْث َنيْ عَ َ‬
‫ظ َهرُوا الدّ ْ‬
‫عِليّا َوأَ ْ‬
‫خلَفَاءَ الرّاشِدِينَ ‪ ,‬وَ َذ َكرُوا َ‬
‫ا ْل َمنَا ِبرِ الْ ُ‬
‫خلَافَةَ َلهُمْ ‪َ ,‬ولَا‬
‫ع ْثمَانَ ‪ :‬كُفّارٌ ‪ ,‬وَفُجّارٌ ‪ ,‬ظَاِلمُونَ لَا ِ‬
‫ع َمرَ ‪ ,‬وَ ُ‬
‫َأ ِئمّةٌ َم ْعصُومُونَ َوأَنّ َأبَا َب ْكرٍ ‪ ,‬وَ ُ‬
‫ِلمَنْ َبعْدَهُمْ ‪.‬‬
‫عِليّ‬
‫ع ْثمَانَ ‪ ,‬وَ َ‬
‫خوَارِجَ غَا َي ُتهُمْ َتكْفِيرُ ُ‬
‫خوَارِجِ ا ْلمَارِقِينَ ‪ ,‬فَإِنّ الْ َ‬
‫شرّ مِنْ مَذْ َهبِ الْ َ‬
‫َومَذْ َهبُ الرّا ِفضَةِ َ‬
‫ج ْمهُورِ السّابِقِينَ الَْأ ّولِينَ ‪َ ,‬وتَجْحَدُ‬
‫ع ْثمَانَ ‪ ,‬وَ ُ‬
‫ع َمرَ ‪ ,‬وَ ُ‬
‫‪ ,‬وَشِي َع ِت ِهمَا ‪ ,‬وَالرّا ِفضَةَ َتكْفِيرُ َأبِي َب ْكرٍ ‪ ,‬وَ ُ‬
‫خوَارِجُ ‪ ,‬وَفِيهِمْ مِنْ ا ْلكَ ِذبِ‬
‫ل اللّهِ صلى ال عليه وسلم أَعْظَمَ ِممّا جَحَدَ بِهِ الْ َ‬
‫سنّةِ رَسُو ِ‬
‫مِنْ ُ‬

‫‪94‬‬
‫سِلمِينَ مَا َل ْيسَ‬
‫علَى ا ْلمُ ْ‬
‫خوَارِجِ ‪ ,‬وَفِيهِمْ مِنْ ُمعَا َونَةِ ا ْلكُفّارِ َ‬
‫وَالِا ْف ِترَاءِ وَا ْل ُغُلوّ وَالِْإلْحَادِ مَا َليْسَ فِي الْ َ‬
‫سِلمِينَ وَالرّا ِفضَةُ هُمْ‬
‫حصُلُ بِ َد ْولَةِ ا ْلمُ ْ‬
‫حبّ ال ّتتَارَ وَ َد ْوَل َتهُمْ لَِأنّهُ يَ ْ‬
‫خوَارِجِ ‪ ,‬وَالرّا ِفضَةِ تُ ِ‬
‫مِنْ الْ َ‬
‫سبَابِ فِي‬
‫سِلمِينَ ‪ ,‬وَهُمْ كَانُوا مِنْ أَعْظَمِ الْأَ ْ‬
‫علَى ِقتَالِ ا ْلمُ ْ‬
‫ش ِركِينَ وَا ْل َيهُودِ وَال ّنصَارَى َ‬
‫ُمعَا ِونُونَ ِل ْلمُ ْ‬
‫خرَاسَانَ ‪ ,‬وَا ْل ِعرَاقِ ‪ ,‬وَالشّامِ ‪َ ,‬وكَانَ مِنْ أَعْظَمِ‬
‫شرِقِ بِ ُ‬
‫سلَا ِمهِمْ إلَى َأرْضِ ا ْلمَ ْ‬
‫دُخُولِ ال ّتتَارِ َقبْلَ إ ْ‬
‫ضيّةُ ابْنِ ا ْل َعلْ َق ِميّ‬
‫حرِي ِمهِمْ ‪ ,‬وَ َق ِ‬
‫س ْبيِ َ‬
‫سِلمِينَ وَ َ‬
‫سلَامِ وَ َقتْلِ ا ْلمُ ْ‬
‫علَى أَخْذِهِمْ ِل ِبلَادِ الْإِ ْ‬
‫النّاسِ ُمعَا َونَةً َلهُمْ َ‬
‫عمُومُ النّاسِ ‪َ .‬وكَ َذِلكَ‬
‫شهُو َرةٌ َي ْعرِ ُفهَا ُ‬
‫حَلبَ مَ ْ‬
‫حبِ َ‬
‫حَلبَ مَعَ صَا ِ‬
‫ض ّيتُهُمْ فِي َ‬
‫خلِيفَةِ وَ َق ِ‬
‫َوَأ ْمثَالِهِ مَعَ الْ َ‬
‫ن الرّا ِفضَةَ‬
‫خ ْب َرةِ أَ ّ‬
‫ع َرفَ أَهْلُ الْ ِ‬
‫سوَاحِلِ الشّامِ قَدْ َ‬
‫سِلمِينَ َو َبيْنَ ال ّنصَارَى بِ َ‬
‫حرُوبِ اّلتِي َبيْنَ ا ْلمُ ْ‬
‫فِي الْ ُ‬
‫علَى‬
‫عزّ َ‬
‫علَى أَخْذِ ا ْل ِبلَادِ َلمّا جَا َء ال ّتتَارُ وَ َ‬
‫سِلمِينَ ‪َ ,‬وَأ ّنهُمْ عَا َونُوهُمْ َ‬
‫علَى ا ْلمُ ْ‬
‫َتكُونُ مَعَ النّصَارَى َ‬
‫ش ِركِينَ كَانَ َذِلكَ‬
‫سِلمُونَ ال ّنصَارَى وَا ْلمُ ْ‬
‫غَلبَ ا ْلمُ ْ‬
‫سوَاحِلِ ‪َ ,‬وإِذَا َ‬
‫غ ْيرِهَا مِنْ ال ّ‬
‫عكّا وَ َ‬
‫الرّافِضَةِ َفتْحُ َ‬
‫عنْدَ‬
‫س ّرةً ِ‬
‫سِلمِينَ كَانَ َذِلكَ عِيدًا ‪َ ,‬ومَ َ‬
‫ش ِركُونَ وَالنّصَارَى ا ْلمُ ْ‬
‫غَلبَ ا ْلمُ ْ‬
‫عنْ َد الرّا ِفضَةِ ‪َ ,‬وإِذَا َ‬
‫غصّةً ِ‬
‫ُ‬
‫سمَاعِيِليّة ‪َ ,‬وَأ ْمثَاِلهِمْ مِنْ‬
‫ص ْي ِريّةِ ‪ ,‬وَالْإِ ْ‬
‫ل ال ّزنْدَقَةِ وَالِْإلْحَادِ مِنْ الّن َ‬
‫الرّافِضَةِ ‪ ,‬وَدَخَلَ فِي الرّافِضَةِ أَهْ ُ‬
‫غ ْيرِ َذِلكَ ‪ ,‬وَالرّافِضَةُ‬
‫خرَاسَانَ ‪ ,‬وَا ْل ِعرَاقِ ‪ ,‬وَالشّامِ ‪ ,‬وَ َ‬
‫غ ْيرِهِمْ ِممّنْ كَانَ بِ ُ‬
‫ا ْل َملَاحِ َدةِ الْ َقرَامِطَةِ وَ َ‬
‫خوَارِجِ‬
‫علَى اللّهِ َورَسُولِهِ أَعْظَمُ ِممّا فِي الْ َ‬
‫ج ْه ِميّةٌ قَ َد ِريّةٌ ‪ ,‬وَفِيهِمْ مِنْ ا ْلكَ ِذبِ وَا ْلبِدَعِ وَالِا ْف ِترَاءِ َ‬
‫َ‬
‫ل اللّ ِه صلى ال عليه وسلم‬
‫عِليّ وَسَا ِئ ُر الصّحَابَةِ بَِأ ْمرِ رَسُو ِ‬
‫ا ْلمَارِقِينَ الّذِينَ قَا َتَلهُمْ َأمِيرُ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ َ‬
‫شرَائِعِ الدّينِ أَعْظَمُ ِممّا فِي مَا ِنعِي الزّكَاةِ الّذِينَ قَا َتَلهُمْ َأبُو َب ْك ٍر الصّدّيقُ‬
‫ن الرّ ّدةِ عَنْ َ‬
‫بَلْ فِيهِمْ مِ ْ‬
‫خوَارِجَ َق ْولُهُ ‪َ { :‬فهُمْ يَ ْق ُتلُونَ أَهْلَ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم الْ َ‬
‫وَالصّحَابَةُ ‪َ ,‬ومِنْ أَعْظَمِ مَا ذَمّ بِهِ ال ّن ِب ّ‬
‫عِليّ‬
‫سعِيدٍ قَالَ ‪َ { :‬ب َعثَ َ‬
‫حيْنِ ‪ :‬عَنْ َأبِي َ‬
‫خرِجَ فِي الصّحِي َ‬
‫سلَامِ َويَدَعُونَ أَهْلَ الْأَ ْديَانِ } ‪َ .‬كمَا أُ ْ‬
‫الْإِ ْ‬
‫ض َبتْ ُق َر ْيشٌ‬
‫س َمهَا َبيْنَ َأ ْر َبعَةٍ َي ْعنِي مِنْ ُأ َمرَاءِ نَجْدٍ َف َغ ِ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم بِذُ َه ْيبَةٍ فَقَ ّ‬
‫إلَى ال ّن ِب ّ‬
‫عنَا ‪ ,‬قَالَ ‪ :‬إ ّنمَا َأتََألّ ُفهُمْ َفأَ ْقبَلَ رَجُلٌ غَا ِئرُ ا ْل َع ْي َنيْنِ‬
‫صنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ َويَدَ ُ‬
‫وَالَْأنْصَارُ قَالُوا ‪ُ :‬يعْطِي َ‬
‫حمّدُ اتّقِ اللّهِ ; فَقَالَ ‪ :‬مَنْ يُطِيعُ‬
‫حلُوقٌ ‪ ,‬فَقَالَ ‪ :‬يَا مُ َ‬
‫حيَةِ مَ ْ‬
‫ث اللّ ْ‬
‫جبِينِ ‪َ ,‬ك ّ‬
‫ج َن َتيْنِ نَا ِتئُ الْ َ‬
‫ش ِرفُ ا ْلوَ ْ‬
‫مُ ْ‬
‫علَى أَهْلِ الَْأرْضِ َولَا تَ ْأ َمنُونِي فَسََألَهُ رَجُلٌ َق ْتلَهُ َف َم َنعَهُ ‪َ ,‬فَلمّا َولّى قَالَ‬
‫صيْته َأيَ ْأ َم ُننِي اللّهُ َ‬
‫ع َ‬
‫اللّهَ إذَا َ‬
‫جرَهُمْ َي ْمرُقُونَ مِنْ‬
‫حنَا ِ‬
‫ضئِ هَذَا َأوْ فِي عَ ِقبِ هَذَا َق ْومًا يَ ْقرَءُونَ الْ ُقرْآنَ لَا يُجَا ِوزُ َ‬
‫ضئْ ِ‬
‫ن ِ‬
‫‪ :‬إنّ مِ ْ‬
‫سلَامِ ‪َ ,‬ويَدَعُونَ أَهْلَ الَْأ ْوثَانِ ‪َ ,‬لئِنْ أَ ْد َركْتهمْ لَأَ ْق ُتلَنهُمْ‬
‫ن ال ّر ِميّةِ ‪ ,‬يَ ْق ُتلُونَ أَهْلَ الْإِ ْ‬
‫سهْمِ مِ ْ‬
‫الدّينِ ُمرُوقَ ال ّ‬
‫ل اللّهِ صلى ال‬
‫عنْدَ رَسُو ِ‬
‫سعِيدٍ قَالَ ‪َ :‬ب ْي َنمَا نَحْنُ ِ‬
‫حيْنِ عَنْ { َأبِي َ‬
‫َقتْلَ عَادٍ } وَفِي لَفْظٍ فِي الصّحِي َ‬
‫ل اللّهِ‬
‫ص َرةِ ‪ ,‬وَ ُهوَ رَجُلٌ مِنْ َبنِي َتمِيمٍ ‪ .‬فَقَالَ ‪ :‬يَا رَسُو َ‬
‫خ َو ْي ِ‬
‫سمًا َأتَاهُ ذُو الْ ُ‬
‫عليه وسلم وَ ُهوَ يُقَسّمُ قَ ْ‬
‫ع َمرُ ‪ :‬يَا‬
‫سرْت إنْ لَمْ َأكُنْ أَعْدِلُ فَقَالَ ُ‬
‫خبْت َوخَ ِ‬
‫‪ ,‬اعْدِلْ ‪ .‬فَقَالَ ‪َ :‬و ْيلَك َفمَنْ َيعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلْ قَدْ ِ‬

‫‪95‬‬
‫عنُقَهُ ‪ .‬فَقَالَ ‪ :‬دَعْهُ َفإِنّ لَهُ َأصْحَابًا يَحْ ِقرُ أَحَ ُدكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ‬
‫ض ِربُ ُ‬
‫رَسُولَ اللّهِ ‪َ ,‬أتَأْذَنُ لِي فِيهِ فََأ ْ‬
‫صيَا ِمهِمْ يَ ْقرَءُونَ الْ ُقرْآنَ لَا يُجَا ِوزُ َترَا ِق َيهُمْ ‪َ ,‬ي ْمرُقُونَ مِنْ الدّينِ َكمَا َي ْمرُقُ‬
‫صيَامَهُ مَ َع ِ‬
‫صلَا ِتهِمْ َو ِ‬
‫َ‬
‫شيْءٌ‬
‫ظرُ إلَى ِرصَافِهِ َفلَا يُوجَدُ فِيهِ َ‬
‫شيْءٌ ‪ ,‬ثُمّ َينْ ُ‬
‫صلِهِ َفلَا يُوجَدُ فِيهِ َ‬
‫ظرُ إلَى َن ْ‬
‫سهْمُ مِنْ الرّ ِميّةِ ‪َ ,‬ينْ ُ‬
‫ال ّ‬
‫سبَقَ الْ َف ْرثَ‬
‫شيْءٌ قَدْ َ‬
‫ظرُ إلَى قُذَ ِذهِ َفلَا يُوجَدُ فِيهِ َ‬
‫شيْءٌ ثُمّ َينْ ُ‬
‫ضيّهِ َفلَا يُوجَدُ فِيهِ َ‬
‫ظرُ إلَى َن ِ‬
‫‪ ,‬ثُمّ َينْ ُ‬
‫علَى حِينِ‬
‫خرُجُونَ َ‬
‫ضعَةِ يَ ْ‬
‫عضُ َديْهِ ِمثْلُ ثَ ْديِ ا ْل َم ْرَأةِ ‪َ ,‬أوْ ِمثْلُ ا ْلبَ ْ‬
‫سوَدُ إحْدَى َ‬
‫وَالدّمَ ‪ ,‬آ َي ُتهُمْ رَجُلٌ أَ ْ‬
‫س ِمعْت هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى ال‬
‫شهَدُ َأنّي َ‬
‫سعِيدٍ ‪ :‬فََأ ْ‬
‫ُفرْقَةٍ مِنْ النّاسِ } ‪ .‬قَالَ َأبُو َ‬
‫عِليّ بْنَ َأبِي طَاِلبٍ قَا َتَلهُمْ َوَأنَا َمعَهُ ‪ ,‬فََأ َمرَ‬
‫شهَدُ أَنّ َ‬
‫عِليّ بْنَ َأبِي طَاِلبٍ قَا َتَلهُمْ ‪َ ,‬وأَ ْ‬
‫عليه وسلم أَنّ َ‬
‫ل اللّهِ صلى ال عليه وسلم الّذِي‬
‫علَى َن ْعتِ رَسُو ِ‬
‫ظرْت إَليْهِ َ‬
‫حتّى نَ َ‬
‫بِ َذِلكَ الرّجُلِ ‪ ,‬فَا ْل ُت ِمسَ فَُأ ِتيَ بِهِ َ‬
‫خوَارِجُ ا ْلمَارِقُونَ مِنْ أَعْظَمِ مَا َذ ّمهُمْ بِهِ ال ّن ِبيّ صلى ال عليه وسلم َأ ّنهُمْ يَ ْق ُتلُونَ‬
‫َن َعتَهُ ‪َ ,‬ف َه ُؤلَاءِ الْ َ‬
‫خوَارِجُ مَعَ‬
‫ن النّاسِ وَالْ َ‬
‫علَى حِينِ ُفرْقَةٍ مِ ْ‬
‫خرُجُونَ َ‬
‫سلَامِ َويَدَعُونَ أَهْلَ الَْأ ْوثَانِ ‪ ,‬وَ َذ َكرَ َأ ّنهُمْ يَ ْ‬
‫أَهْلَ الْإِ ْ‬
‫علَى ِقتَالِ‬
‫سِلمِينَ ‪ ,‬وَالرّافِضَةُ ُيعَا ِونُونَ ا ْلكُفّارَ َ‬
‫علَى ِقتَالِ ا ْلمُ ْ‬
‫هَذَا لَمْ َيكُونُوا ُيعَا ِونُونَ ا ْلكُفّارَ َ‬
‫سِلمِينَ مَعَ ا ْلكُفّارِ ‪َ ,‬فكَانُوا‬
‫حتّى قَا َتلُوا ا ْلمُ ْ‬
‫سلِمِينَ َ‬
‫سِلمِينَ ‪َ ,‬فلَمْ َيكْ ِفهِمْ َأ ّنهُمْ لَا يُقَا ِتلُونَ ا ْلكُفّارَ مَعَ ا ْلمُ ْ‬
‫ا ْلمُ ْ‬
‫علَى وُجُوبِ ِقتَالِ‬
‫سِلمُونَ َ‬
‫جمَعَ ا ْلمُ ْ‬
‫أَعْظَمَ ُمرُوقًا عَنْ الدّينِ مِنْ أُوَل ِئكَ ا ْلمَارِقِينَ ِب َكثِيرٍ َكثِيرٍ ‪ .‬وَقَدْ أَ ْ‬
‫عِليّ رضي ال عنه ‪,‬‬
‫سِلمِينَ ‪َ ,‬كمَا قَا َتَلهُمْ َ‬
‫جمَاعَةَ ا ْلمُ ْ‬
‫حوِهِمْ ‪ ,‬إذَا فَارَقُوا َ‬
‫خوَارِجِ وَال ّروَافِضِ َونَ ْ‬
‫الْ َ‬
‫شرِكِينَ مَا ُهوَ مِنْ‬
‫ج ْنكِيزْ خَانْ َمِلكَ ا ْلمُ ْ‬
‫ش ِركِينَ َكنَائِسًا وَ ِ‬
‫حكَامِ ا ْلمُ ْ‬
‫ضمّوا إلَى َذِلكَ مِنْ أَ ْ‬
‫َف َك ْيفَ إذَا َ‬
‫ح ْك ُمهُمْ وَفِيهِمْ مِنْ الرّدّةِ عَنْ‬
‫ح ْكمُهُ ُ‬
‫سلَامِ ‪َ ,‬وكُلّ مَنْ قَ َفزَ إَل ْيهِمْ مِنْ ُأ َمرَاءَ فَ ُ‬
‫أَعْظَمِ ا ْل ُمضَا ّدةِ لِدِينِ الْإِ ْ‬
‫س ّموْا مَا ِنعِي ال ّزكَاةِ‬
‫سَلفُ قَدْ َ‬
‫سلَامِ ‪َ .‬وإِذَا كَانَ ال ّ‬
‫شرَائِعِ الْإِ ْ‬
‫عنْهُ مِنْ َ‬
‫سلَامِ ‪ ,‬بِقَ ْدرِ مَا ا ْرتَدّ َ‬
‫شرَائِعِ الْإِ ْ‬
‫َ‬
‫ن صَارَ‬
‫سِلمِينَ ‪َ ,‬ف َك ْيفَ ِممّ ْ‬
‫جمَاعَةَ ا ْلمُ ْ‬
‫صلّونَ ‪َ ,‬ولَمْ َيكُونُوا يُقَا ِتلُونَ َ‬
‫ُم ْرتَدّينَ مَعَ َك ْو ِنهِمْ َيصُومُونَ َو ُي َ‬
‫س َت ْولَى َه ُؤلَاءِ ا ْلمُحَا ِربُونَ ِللّهِ‬
‫سِلمِينَ مَعَ َأنّهُ وَا ْل ِعيَاذُ بِاَللّهِ َلوْ ا ْ‬
‫مَعَ أَعْدَاءِ اللّهِ َورَسُولِهِ قَا ِتلًا ِل ْلمُ ْ‬
‫صرَ ‪ .‬فِي ِمثْلِ هَذَا‬
‫علَى َأرْضِ الشّامِ َومِ ْ‬
‫َورَسُولِهِ ا ْلمُحَادّونَ ِللّهِ َورَسُولِهِ ا ْل ُمعَادُونَ ِللّهِ َورَسُولِهِ ‪َ ,‬‬
‫حوِ ِهمَا‬
‫صرَ َونَ ْ‬
‫شرَا ِئعِهِ ‪َ .‬أمّا الطّائِفَةُ بِالشّامِ َو ِم ْ‬
‫سلَامِ وَ ُدرُوسِ َ‬
‫ا ْلوَ ْقتِ َلأَ ْفضَى َذِلكَ إلَى َزوَالِ دِينِ الْإِ ْ‬
‫ق النّاسِ دُخُولًا فِي الطّائِفَةِ ا ْل َمنْصُو َرةِ‬
‫سلَامِ ‪ ,‬وَهُمْ مِنْ أَحَ ّ‬
‫َفهُمْ فِي هَذَا ا ْلوَ ْقتِ ا ْلمُقَا ِتلُونَ عَنْ دِينِ الْإِ ْ‬
‫عنْهُ ‪ { :‬لَا َتزَالُ‬
‫ستَفِيضَةِ َ‬
‫ث الصّحِيحَةِ ا ْلمُ ْ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم بِ َق ْولِهِ فِي الْأَحَادِي ِ‬
‫اّلتِي َذ َكرَهَا ال ّنبِ ّ‬
‫حتّى تَقُومَ السّاعَةُ } ‪.‬‬
‫ضرّهُمْ مَنْ خَالَ َفهُمْ َولَا مَنْ خَ َذَلهُمْ َ‬
‫علَى الْحَقّ لَا َي ُ‬
‫طَائِفَةٌ مِنْ ُأ ّمتِي ظَا ِهرِينَ َ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم َت َكلّمَ ِبهَذَا ا ْل َكلَامِ‬
‫سلِمٍ ‪ { :‬لَا َيزَالُ أَهْلُ ا ْل َغ ْربِ } ‪ .‬وَال ّنبِ ّ‬
‫وَفِي ِروَايَةٍ ِلمُ ْ‬
‫شرِيقَ وَال ّت ْغرِيبَ مِنْ‬
‫ن التّ ْ‬
‫ع ْنهَا ‪ ,‬فَإِ ّ‬
‫شرُقُ َ‬
‫شرْقُهُ مَا يَ ْ‬
‫ع ْنهَا ‪ ,‬وَ َ‬
‫ِبمَدِي َنتِهِ ال ّنبَ ِويّةِ ‪َ ,‬ف َغ ْربُهُ مَا َي ْغ ُربُ َ‬

‫‪96‬‬
‫س َكنْ َد ِريّة مِنْ ا ْل َغ ْربِ‬
‫غ ْربٌ ‪َ ,‬وِلهَذَا إذَا قَدِمَ الرّجُلُ إلَى الْإِ ْ‬
‫شرْقٌ وَ َ‬
‫س ِبيّةِ ‪ ,‬إذْ كُلّ َبلَدٍ لَهُ َ‬
‫الُْأمُورِ النّ ْ‬
‫سمّونَ أَهْلَ‬
‫سمّونَ أَهْلَ الشّامِ أَهْلَ ا ْل َغ ْربِ ‪َ ,‬ويُ َ‬
‫شرْقِ ‪َ ,‬وكَانَ أَهْلُ ا ْلمَدِينَةِ يُ َ‬
‫يَقُولُونَ ‪ :‬سَا َفرَ إلَى ال ّ‬
‫طبَا ‪.‬‬
‫شرِقِ َفخَ َ‬
‫جلَانِ مِنْ أَهْلِ ا ْلمَ ْ‬
‫ع َمرَ قَالَ ‪ :‬قَدِمَ رَ ُ‬
‫شرْقِ ‪َ ,‬كمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ ُ‬
‫نَجْدٍ وَا ْل ِعرَاقِ أَهَلَ ال ّ‬
‫ح ْنبَلٍ ‪ :‬أَهْلُ ا ْل َغ ْربِ هُمْ أَهْلُ الشّامِ ‪َ .‬ي ْعنِي‬
‫حمَدُ بْنُ َ‬
‫وَفِي ِروَايَةٍ ‪ { :‬مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ } ‪َ .‬وِلهَذَا قَالَ أَ ْ‬
‫شرْقِ ‪َ ,‬وكُلّ‬
‫ع ْنهَا َف ُهوَ مِنْ ال ّ‬
‫شرُقُ َ‬
‫شرْقِ ‪َ ,‬وكُلّ مَا يَ ْ‬
‫هُمْ أَهْلُ ا ْل َغ ْربِ َكمَا أَنّ نَجْدًا وَا ْل ِعرَاقِ َأوّلُ ال ّ‬
‫حيْنِ ‪ :‬أَنّ ُمعَاذَ بْنَ‬
‫غيْرِهَا َف ُهوَ دَاخِلٌ فِي ا ْل َغ ْربِ ‪ .‬وَفِي الصّحِي َ‬
‫صرَ وَ َ‬
‫مَا َي ْغ ُربُ عَنْ الشّامِ مِنْ ِم ْ‬
‫جبَلٍ قَالَ فِي الطّائِفَةِ ا ْل َم ْنصُو َرةِ ‪ ,‬وَهُمْ بِالشّامِ فَِإ ّنهَا َأصْلُ ا ْل َم ْغ ِربِ ‪ ,‬وَهُمْ َفتَحُوا سَا ِئرَ ا ْل َم ْغ ِربِ ‪:‬‬
‫َ‬
‫ع ْنهَا‬
‫غ ْربُ ا ْلمَدِينَةِ ال ّنبَ ِويّةِ مَا يَ ْق ُربُ َ‬
‫غ ْيرِ َذِلكَ ‪َ ,‬وإِذَا كَانَ َ‬
‫َك ِمصْرِ ‪ ,‬وَالْ َق ْي َروَانِ ‪ ,‬وَالَْأنْ َدلُسِ ‪ ,‬وَ َ‬
‫علَى‬
‫حوَهَا َ‬
‫حرّانَ وَالرّقّةَ وسمنصاط َونَ ْ‬
‫علَى مُسَا َمتَةِ ا ْلمَدِينَةِ ال ّن َب ِويّةِ َكمَا أَنّ َ‬
‫حوُهَا َ‬
‫فَال ّن ّي َرةُ َونَ ْ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ِلمَا‬
‫مُسَا َمتَةِ َمكّةَ ‪َ ,‬فمَا َي ْغ ُربُ عَنْ ال ّنيّ َرةِ َف ُهوَ مِنْ ا ْل َغ ْربِ الّذِينَ وَعَدَهُ ْم ال ّن ِب ّ‬
‫خرَ فِي صِفَةِ الطّائِفَةِ ا ْل َم ْنصُو َرةِ َأ ّنهُمْ بَِأ ْكنَافِ ا ْل َب ْيتِ ا ْلمُقَدّسِ ‪ ,‬وَهَ ِذهِ‬
‫تَقَدّمَ ‪ .‬وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آ َ‬
‫حوَالَ ا ْلعَالَمِ فِي هَذَا ا ْلوَ ْقتِ َف َعلِمَ أَنّ هَ ِذهِ‬
‫الطّائِفَةُ ِهيَ اّلتِي ِبَأ ْكنَافِ ا ْل َب ْيتِ ا ْلمُقَ ّدسِ ا ْل َيوْمَ َومَنْ يَ ّد ّبرُ أَ ْ‬
‫غ ْر ِبهَا ‪ ,‬فَِإ ّنهُمْ هُمْ‬
‫شرْقِ الَْأرْضِ وَ َ‬
‫جهَادًا عَنْ َ‬
‫ع َملًا وَ ِ‬
‫ع ْلمًا وَ َ‬
‫سلَامِ ِ‬
‫طوَا ِئفِ بِدِينِ الْإِ ْ‬
‫الطّائِفَةَ ِهيَ أَ ْقوَمُ ال ّ‬
‫ش ِركِينَ ‪َ ,‬وأَهْلِ ا ْل ِكتَابِ ‪َ ,‬و َمغَازِيهِمْ مَ َع ال ّنصَارَى ‪,‬‬
‫ش ْوكَةِ ا ْلعَظِيمَةِ مِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫الّذِينَ يُقَا ِتلُونَ أَهْلَ ال ّ‬
‫غ ْيرِهِمْ ‪:‬‬
‫خلِينَ فِي الرّافِضَةِ وَ َ‬
‫ش ِركِينَ مِنْ ال ّت ْركِ ‪َ ,‬ومَ َع ال ّزنَادِقَةِ ا ْل ُمنَافِقِينَ مِنْ الدّا ِ‬
‫َومَعَ ا ْلمُ ْ‬
‫سِلمِينَ‬
‫حوِهِمْ مِنْ الْ َقرَامِطَةِ ‪َ ,‬م ْعرُوفَةٌ َم ْعلُومَةٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَا ْل ِعزّ الّذِي ِل ْلمُ ْ‬
‫سمَاعِيِليّةِ ‪َ ,‬ونَ ْ‬
‫كَالْإِ ْ‬
‫علَى‬
‫س ّتمِائَةٍ دَخَلَ َ‬
‫سعِينَ وَ ِ‬
‫سنَةَ تِسْعٍ َوتِ ْ‬
‫ِبمَشَارِقِ الَْأرْضِ َو َمغَا ِر ِبهَا ُهوَ ِب ِعزّهِمْ َوِلهَذَا َلمّا ُه ِزمُوا َ‬
‫حكَايَاتُ فِي‬
‫سلَامِ مِنْ الذّلّ وَا ْلمُصِيبَةِ ِبمَشَارِقِ الَْأرْضِ َو َمغَا ِر ِبهَا مَا لَا َي ْعَلمُهُ إلّا اللّهُ ‪ ,‬وَالْ ِ‬
‫أَهْلِ الْإِ ْ‬
‫جزُونَ عَنْ‬
‫ضعَافٌ عَا ِ‬
‫سكّانَ ا ْل َيمَنِ فِي هَذَا ا ْلوَ ْقتِ ِ‬
‫ض َعهَا ‪ ,‬وَ َذِلكَ أَنّ ُ‬
‫َذِلكَ َكثِي َرةٌ َل ْيسَ هَذَا َم ْو ِ‬
‫سمْعِ‬
‫سلُوا بِال ّ‬
‫حتّى َذ َكرُوا َأ ّنهُمْ َأرْ َ‬
‫ض ّيعُونَ لَهُ ‪ ,‬وَهُمْ مُطِيعُونَ ِلمَنْ َمَلكَ هَ ِذهِ ا ْل ِبلَادَ َ‬
‫جهَادِ َأوْ ُم َ‬
‫الْ ِ‬
‫سكّانُ‬
‫جرَى ‪َ .‬وَأمّا ُ‬
‫جرَى ِبهَا مِنْ الْ َقتْلِ مَا َ‬
‫حَلبَ َ‬
‫ش ِركِينَ َلمّا جَاءَ إلَى َ‬
‫وَالطّاعَةِ ِل َه ُؤلَاءِ ‪َ ,‬و َمِلكُ ا ْلمُ ْ‬
‫ضلَالِ وَالْفُجُورِ مَا لَا‬
‫شرِيعَةِ ‪ ,‬وَفِيهِمْ مِنْ ا ْلبِدَعِ وَال ّ‬
‫الْحِجَازِ َفَأ ْك َثرُهُمْ َأوْ َكثِيرٌ ِم ْنهُمْ خَارِجُونَ عَنْ ال ّ‬
‫جزُونَ ‪َ ,‬وِإ ّنمَا َتكُونُ َلهُمْ الْ ُق ّوةُ وَا ْل ِع ّزةُ‬
‫ضعَفُونَ عَا ِ‬
‫س َت ْ‬
‫َي ْعَلمُهُ إلّا اللّهُ ‪َ ,‬وأَهْلُ الْإِيمَانِ وَالدّينِ فِيهِمْ مُ ْ‬
‫سلَامِ ِبهَ ِذهِ ا ْل ِبلَادِ ‪َ ,‬فَلوْ َذّلتْ هَ ِذهِ الطّائِفَةُ وَا ْل ِعيَاذُ بِاَللّهِ َتعَالَى َلكَانَ‬
‫فِي هَذَا ا ْلوَ ْقتِ ِل َغ ْيرِ أَهْلِ الْإِ ْ‬
‫غَلبَ فِيهِ ْم الرّفْضُ ‪َ ,‬و َمَلكَ َه ُؤلَاءِ ال ّتتَارُ ا ْلمُحَا ِربُونَ‬
‫س ّيمَا وَقَدْ َ‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنُونَ بِالْحِجَازِ مِنْ أَذَلّ النّاسِ لَا ِ‬
‫عرَا ُبهَا غَاِلبُونَ‬
‫غَلبُوا لَفَسَدَ الْحِجَازُ بِا ْل ُكّليّةِ ‪َ .‬وَأمّا ِبلَادُ إ ْفرِي ِقيّةَ فَأَ ْ‬
‫ِللّهِ َورَسُولِهِ الْآنَ َمرْفُوضُونَ َفَلوْ َ‬

‫‪97‬‬
‫ستِيلَاءِ‬
‫جهَادِ وَا ْل َغزْوِ ‪َ .‬وَأمّا ا ْل َغ ْربُ الْأَ ْقصَى َفمَعَ ا ْ‬
‫س َتحِقّونَ ِللْ ِ‬
‫خلْقِ بَلْ هُمْ مُ ْ‬
‫شرّ الْ َ‬
‫عَل ْيهَا ‪ ,‬وَهُمْ مِنْ َ‬
‫َ‬
‫س َكرِهِمْ مِنْ ال ّنصَارَى‬
‫جهَادِ النّصَارَى الّذِينَ ُهنَاكَ بَلْ فِي عَ ْ‬
‫علَى َأ ْك َثرِ ِبلَادِهِمْ لَا يَقُومُونَ بِ ِ‬
‫الْإِ ْف ِرنْجِ َ‬
‫علَى هَ ِذهِ ا ْل ِبلَادِ َلكَانَ أَهْلُ ا ْل َم ْغ ِربِ َم َعهُمْ مِنْ‬
‫س َت ْولَى ال ّتتَارُ َ‬
‫خلْقٌ عَظِيمٌ َلوْ ا ْ‬
‫ص ْلبَانَ َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ح ِملُو َ‬
‫الّذِينَ َي ْ‬
‫غ ْي ُرهُ‬
‫علَى أَهْلِ ا ْل َمغْ ِربِ ‪َ ,‬فهَذَا وَ َ‬
‫ح ْزبًا َ‬
‫س ّيمَا وَال ّنصَارَى تَ ْدخُلُ مَعَ ال ّتتَارِ َف َيصِيرُونَ ِ‬
‫أَذَلّ النّاسِ لَا ِ‬
‫عزّ‬
‫عزّهُمْ ِ‬
‫سلَامِ ‪ ,‬وَ ِ‬
‫صرَ فِي هَذَا ا ْلوَ ْقتِ هُمْ َكتِيبَةُ الْإِ ْ‬
‫ِممّا ُي َبيّنُ أَنّ هَ ِذهِ ا ْل ِعصَابَةَ اّلتِي بِالشّامِ َومِ ْ‬
‫عزّ َولَا َكِلمَةٌ عَاِليَةٌ ‪َ ,‬ولَا‬
‫سلَامِ ِ‬
‫عَل ْيهِمْ ال ّتتَارُ لَمْ َيبْقَ ِللْإِ ْ‬
‫س َت ْولَى َ‬
‫سلَامِ ‪َ ,‬فَلوْ ا ْ‬
‫سلَامِ ‪ ,‬وَ ُذّلهُمْ ذُلّ الْإِ ْ‬
‫الْإِ ْ‬
‫ع ْنهُمْ إلَى ال ّتتَارِ كَانَ أَحَقّ بِالْ ِقتَالِ‬
‫عنْهُ ‪َ ,‬فمَنْ قَ َفزَ َ‬
‫طَائِفَةٌ ظَا ِه َرةٌ عَاِليَةٌ يَخَا ُفهَا أَهْلُ الَْأرْضِ تُقَاتِلُ َ‬
‫غيْرُ ا ْل ُم ْك َرهِ ‪.‬‬
‫مِنْ َكثِيرٍ مِنْ ال ّتتَارِ ‪ ,‬فَإِنّ ال ّتتَارَ فِيهِمْ ا ْل ُم ْك َرهُ وَ َ‬
‫صِليّ مِنْ وُجُوهٍ ُم َتعَدّ َدةٍ ‪ِ :‬م ْنهَا ‪:‬‬
‫سنّةُ بِأَنّ عُقُوبَةَ ا ْل ُم ْرتَدّ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ ا ْلكَا ِفرِ الَْأ ْ‬
‫ستَ َق ّرتْ ال ّ‬
‫وَقَدْ ا ْ‬
‫صِليّ ‪.‬‬
‫خلَافِ ا ْلكَا ِفرِ الَْأ ْ‬
‫ج ْزيَةٌ ‪َ ,‬ولَا ُتعْقَدُ لَهُ ِذمّةٌ بِ ِ‬
‫عَليْهِ ِ‬
‫أَنّ ا ْل ُمرْتَدّ يُ ْقتَلُ ِبكُلّ حَالٍ ‪َ ,‬ولَا ُيضْ َربُ َ‬
‫صِليّ الّذِي َليْسَ ُهوَ مِنْ أَهْلِ‬
‫خلَافِ ا ْلكَا ِفرِ الَْأ ْ‬
‫جزًا عَنْ الْ ِقتَالِ بِ ِ‬
‫َو ِم ْنهَا ‪ :‬أَنّ ا ْل ُم ْرتَدّ يُ ْقتَلُ َوإِنْ كَانَ عَا ِ‬
‫ج ْمهُورِ‬
‫حمَدَ ‪َ .‬وِلهَذَا كَانَ مَذْ َهبُ الْ ُ‬
‫حنِيفَة ‪َ ,‬ومَاِلكٍ ‪َ ,‬وأَ ْ‬
‫عنْدَ َأ ْك َثرِ ا ْلعَُلمَاءِ َكَأبِي َ‬
‫الْ ِقتَالِ فَِإنّهُ لَا يُ ْقتَلُ ِ‬
‫حمَدَ ‪َ .‬و ِم ْنهَا أَنّ ا ْل ُمرْتَدّ لَا َي ِرثُ ‪َ ,‬ولَا ُينَاكَحُ‬
‫أَنّ ا ْل ُمرْتَدّ يُ ْقتَلُ َكمَا ُهوَ مَذْ َهبُ مَاِلكٍ ‪ ,‬وَالشّا ِف ِعيّ ‪َ ,‬وأَ ْ‬
‫ت الرّ ّدةُ عَنْ‬
‫حكَامِ ‪َ ,‬وإِذَا كَا َن ْ‬
‫غ ْيرِ َذِلكَ مِنْ الْأَ ْ‬
‫صِليّ ‪ ,‬إلَى َ‬
‫خلَافِ ا ْلكَا ِفرِ الَْأ ْ‬
‫حتُهُ ‪ ,‬بِ ِ‬
‫‪َ ,‬ولَا ُت ْؤكَلُ َذبِي َ‬
‫صِليّ‬
‫خرُوجِ الْخَارِجِ الَْأ ْ‬
‫شرَا ِئعِهِ أَعْظَمُ مِنْ ُ‬
‫َأصْلِ الدّينِ أَعْظَمَ مِنْ ا ْلكُ ْفرِ ِبَأصْلِ الدّينِ ‪ ,‬فَالرّ ّدةُ عَنْ َ‬
‫حوَالَ ال ّتتَارِ َو َي ْعلَمُ أَنّ ا ْل ُم ْرتَدّينَ الّذِينَ فِيهِمْ مِنْ الْ ُفرْسِ‬
‫شرَا ِئعِهِ ‪َ ,‬وِلهَذَا كَانَ كُلّ ُم ْؤمِنٍ َي ْع ِرفُ أَ ْ‬
‫عَنْ َ‬
‫شهَا َد َتيْنِ‬
‫حوِهِمْ ‪ ,‬وَهُمْ َبعْدَ أَنْ َت َكّلمُوا بِال ّ‬
‫صلِيّينَ مِنْ ال ّت ْركِ َونَ ْ‬
‫شرّ مِنْ ا ْلكُفّارِ الَْأ ْ‬
‫غ ْيرِهِمْ َ‬
‫وَا ْلعَ َربِ وَ َ‬
‫غ ْيرِهِمْ ‪َ .‬و ِبهَذَا َي َت َبيّنُ‬
‫خ ْيرٌ مِنْ ا ْل ُم ْرتَدّينَ مِنْ الْ ُف ْرسِ وَا ْل َعرَبِ وَ َ‬
‫شرَائِعِ الدّينِ َ‬
‫مَعَ َت ْر ِكهِمْ ِل َكثِيرٍ مِنْ َ‬
‫سلِمَ‬
‫شرّ مِنْ ال ّت ْركِ الّذِينَ كَانُوا كُفّارًا ‪ ,‬فَإِنّ ا ْلمُ ْ‬
‫سلِمَ الَْأصْلِ ُهوَ َ‬
‫أَنّ مَنْ كَانَ َم َعهُمْ ِممّنْ كَانَ مُ ْ‬
‫شرَائِعِ ِمثْلُ ‪:‬‬
‫س َوأَ حَالًا ِممّنْ لَمْ يَدْخُلْ َبعْدُ فِي ِت ْلكَ ال ّ‬
‫شرَا ِئعِهِ كَانَ أَ ْ‬
‫صلِيّ إذَا ا ْرتَدّ عَنْ َبعْضِ َ‬
‫الَْأ ْ‬
‫شرَائِعِ ُمتَفَ ّقهًا ‪َ ,‬أوْ‬
‫مَا ِنعِي ال ّزكَاةِ َوَأ ْمثَاِلهِمْ ِممّنْ قَا َتَلهُمْ الصّدّيقُ ‪َ .‬وإِنْ كَانَ ا ْل ُم ْرتَدّ عَنْ َبعْضِ ال ّ‬
‫خلُوا فِي ِت ْلكَ‬
‫ن ال ّت ْركِ الّذِينَ لَمْ يَدْ ُ‬
‫شرّ مِ ْ‬
‫غ ْيرَ َذِلكَ َف َه ُؤلَاءِ َ‬
‫جرًا ‪َ ,‬أوْ كَا ِتبًا ‪َ ,‬أوْ َ‬
‫ُم َتصَوّفًا َأوْ تَا ِ‬
‫علَى الدّينِ مَا لَا يَجِدُونَهُ‬
‫ض َررِ َه ُؤلَاءِ َ‬
‫ن َ‬
‫سِلمُونَ مِ ْ‬
‫سلَامِ ‪َ ,‬وِلهَذَا يَجِدُ ا ْلمُ ْ‬
‫علَى الْإِ ْ‬
‫صرّوا َ‬
‫شرَائِعِ َوَأ َ‬
‫ال ّ‬
‫شرَا ِئعِهِ وَطَاعَ ِة اللّهِ َورَسُولِهِ أَعْظَمَ مِنْ انْ ِقيَادِ َه ُؤلَاءِ الّذِينَ‬
‫سلَامِ وَ َ‬
‫ضرَرِ أُوَل ِئكَ ‪َ ,‬و َينْقَادُونَ ِللْإِ ْ‬
‫مِنْ َ‬
‫ا ْرتَدّوا عَنْ َبعْضِ الدّينِ َونَافَقُوا فِي َبعْضِهِ ‪َ ,‬وإِنْ تَظَا َهرُوا بِالِا ْنتِسَابِ إلَى ا ْل ِعلْمِ وَالدّينِ ‪ ,‬وَغَايَةُ مَا‬
‫ج ْه ِميّا اتّحَا ِديّا‬
‫خيَارُهُمْ َيكُونُ َ‬
‫ضيّا ‪ ,‬وَ ِ‬
‫سمَاعِيِليّا ‪َ ,‬أوْ رَا ِف ِ‬
‫ص ْي ِريّا ‪َ ,‬أوْ إ ْ‬
‫يُوجَدُ مِنْ َه ُؤلَاءِ َيكُونُ ُملْحِدًا ُن َ‬

‫‪98‬‬
‫جرٌ‬
‫سلَامِ إلّا ُمنَافِقٌ ‪َ ,‬أوْ ِزنْدِيقٌ ‪َ ,‬أوْ فَاسِقٌ فَا ِ‬
‫ظ ِهرِينَ ِللْإِ ْ‬
‫طوْعًا مِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫ح َوهُ ‪ ,‬فَِإنّهُ لَا َي ْنضَمّ إَل ْيهِمْ َ‬
‫َأوْ نَ ْ‬
‫جمِيعَهُ إذْ لَا‬
‫س َكرَ َ‬
‫عَل ْينَا أَنْ نُقَاتِلَ ا ْلعَ ْ‬
‫علَى ِن ّيتِهِ ‪َ ,‬ونَحْنُ َ‬
‫خرَجُوهُ َم َعهُمْ ُم ْكرَهًا فَِإنّهُ ُي ْب َعثُ َ‬
‫‪َ ,‬ومَنْ أَ ْ‬
‫غ ْي ِرهِ ‪ .‬وَقَدْ َث َبتَ فِي الصّحِيحِ ‪ :‬عَنْ ال ّن ِبيّ صلى ال عليه وسلم َأنّهُ قَالَ ‪:‬‬
‫َي َت َم ّيزُ ا ْل ُم ْك َرهُ مِنْ َ‬
‫سفَ ِبهِمْ فَقِيلَ ‪ :‬يَا رَسُولَ‬
‫ج ْيشٌ مِنْ النّاسِ ‪َ ,‬ف َب ْي َنمَا هُمْ ِب َبيْدَاءَ مِنْ الَْأ ْرضِ إذْ خُ ِ‬
‫{ َي ْغزُو هَذَا ا ْل َبيْتَ َ‬
‫ي صلى ال‬
‫ن ال ّن ِب ّ‬
‫ستَفِيضٌ عَ ْ‬
‫علَى ِنيّا ِتهِمْ } ‪ .‬وَالْحَدِيثُ مُ ْ‬
‫اللّهِ ‪ ,‬إنّ فِيهِمْ ا ْل ُم ْكرَهَ ‪ .‬فَقَالَ ‪ُ :‬ي ْب َعثُونَ َ‬
‫سَلمَةَ ‪ .‬فَفِي‬
‫خرَجَهُ َأ ْربَابُ الصّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ ‪ ,‬وَحَ ْفصَةَ ‪َ ,‬وأُمّ َ‬
‫عليه وسلم مِنْ ُوجُوهٍ ُم َتعَدّ َدةٍ أَ ْ‬
‫ل اللّ ِه صلى ال عليه وسلم ‪َ :‬يعُوذُ عَائِذٌ بِا ْل َب ْيتِ‬
‫سَلمَةَ قَاَلتْ ‪ { :‬قَالَ رَسُو ُ‬
‫سلِمٍ ‪ :‬عَنْ أُمّ َ‬
‫صَحِيحِ مُ ْ‬
‫ل اللّهِ ‪َ ,‬ف َك ْيفَ ِبمَنْ كَانَ‬
‫سفَ ِبهِمْ فَ ُقلْت ‪ :‬يَا رَسُو َ‬
‫َف ُي ْب َعثُ إَليْهِ َب ْعثٌ فَإِذَا كَانُوا ِب َبيْدَاءَ مِنْ الَْأرْضِ خُ ِ‬
‫حيْنِ ‪ :‬عَنْ‬
‫علَى ِن ّيتِهِ } وَفِي الصّحِي َ‬
‫سفُ بِهِ َم َعهُمْ َوَل ِكنّهُ ُي ْب َعثُ َيوْمَ الْ ِقيَامَةِ َ‬
‫كَارِهًا ‪ .‬قَالَ ‪ُ :‬يخْ َ‬
‫ص َنعْت‬
‫ع َبثَ رَسُولُ اللّهِ صلى ال عليه وسلم فِي َمنَامِهِ فَ ُق ْلنَا ‪ :‬يَا رَسُولَ اللّهِ ‪َ ,‬‬
‫عَائِشَةَ قَاَلتْ ‪َ { :‬‬
‫جبُ أَنّ نَاسًا مِنْ ُأ ّمتِي َي ُؤمّونَ هَذَا ا ْل َب ْيتَ ِبرَجُلٍ مِنْ‬
‫ش ْيئًا فِي َمنَامِك لَمْ َتكُنْ تَ ْف َعلُهُ ‪ .‬فَقَالَ ‪ :‬ا ْلعَ َ‬
‫َ‬
‫سفَ ِبهِمْ ‪ .‬فَ ُق ْلنَا ‪ :‬يَا رَسُولَ اللّهِ ‪ ,‬إنّ‬
‫حتّى إذَا كَانُوا بِا ْل َبيْدَاءِ خُ ِ‬
‫ُق َر ْيشٍ ‪ ,‬وَقَدْ لَجَأَ إلَى ا ْل َب ْيتِ َ‬
‫سبِيلِ َف َي ْهِلكُونَ َم ْهَلكًا‬
‫جنُونُ وَابْنُ ال ّ‬
‫صرُ وَا ْلمَ ْ‬
‫س َت ْن ِ‬
‫جمَعُ النّاسَ ‪ .‬قَالَ ‪َ :‬نعَمْ ‪ ,‬فِيهِمْ ا ْلمُ ْ‬
‫طرِيقَ قَدْ يَ ْ‬
‫ال ّ‬
‫علَى ِنيّا ِتهِمْ } وَفِي لَفْظٍ ِل ْلبُخَا ِريّ ‪ :‬عَنْ‬
‫عزّ وَجَلّ َ‬
‫شتّى ‪َ ,‬ي ْب َع ُثهُمْ اللّهُ َ‬
‫وَاحِدًا َو َيصْدُرُونَ َمصَا ِدرَ َ‬
‫ج ْيشٌ ا ْل َك ْعبَةِ فَإِذَا كَانُوا ِب َبيْدَاءَ مِنْ‬
‫ل اللّ ِه صلى ال عليه وسلم ‪َ :‬ي ْغزُو َ‬
‫عَائِشَةَ قَاَلتْ ‪ { :‬قَالَ رَسُو ُ‬
‫خرِهِمْ ‪ ,‬وَفِيهِمْ‬
‫سفُ بَِأ ّوِلهِمْ وَآ ِ‬
‫ل اللّهِ ‪ ,‬يُخْ َ‬
‫خرِهِمْ ‪ .‬قَاَلتْ ‪ُ :‬قلْت ‪ :‬يَا رَسُو َ‬
‫سفُ ِبَأ ّوِلهِمْ وَآ ِ‬
‫الَْأرْضِ يُخْ َ‬
‫علَى ِنيّا ِتهِمْ } ‪ .‬وَفِي صَحِيحِ‬
‫خرِهِمْ ثُمّ ُي ْب َعثُونَ َ‬
‫سفُ ِبَأ ّوِلهِمْ وَآ ِ‬
‫سوَا ُقهُمْ َومَنْ َل ْيسَ ِم ْنهُمْ ‪ .‬قَالَ ‪ :‬يُخْ َ‬
‫أَ ْ‬
‫س َيعُوذُ ِبهَذَا ا ْل َب ْيتِ ‪َ -‬ي ْعنِي ا ْل َك ْعبَةَ‬
‫ل اللّهِ صلى ال عليه وسلم قَالَ ‪َ :‬‬
‫سلِمٍ ‪ :‬عَنْ حَ ْفصَةَ { أَنّ رَسُو َ‬
‫مُ ْ‬
‫حتّى إذَا كَانُوا ِب َبيْدَاءَ مِنْ‬
‫ج ْيشٌ َي ْو َمئِذٍ َ‬
‫ستْ َلهُمْ َم َنعَةٌ َولَا عَدَدٌ َولَا عُ ّدةٌ ‪ُ ,‬ي ْب َعثُ إَل ْيهِمْ َ‬
‫‪َ -‬قوْمٌ َليْ َ‬
‫عبْ ُد اللّهِ‬
‫سفُ بْنُ مَا َهكَ ‪َ :‬وأَهْلُ الشّامِ َي ْو َمئِذٍ يَسِيرُونَ إلَى َمكّةَ فَقَالَ َ‬
‫سفَ ِبهِمْ } ‪ .‬قَالَ يُو ُ‬
‫الَْأرْضِ خُ ِ‬
‫ح ُرمَاتِهِ‬
‫ج ْيشَ الّذِي َأرَادَ أَنْ َي ْن َت ِهكَ ُ‬
‫جيْشِ َفاَللّهُ َتعَالَى أَ ْهَلكَ الْ َ‬
‫بْنُ صَ ْفوَانَ ‪َ :‬أمَا َواَللّهِ مَا ُهوَ ِبهَذَا الْ َ‬
‫جبُ‬
‫علَى ِنيّا ِتهِمْ ‪َ .‬ف َك ْيفَ يَ ِ‬
‫علَى ال ّت ْميِيزِ َب ْي َنهُمْ مَعَ َأنّهُ َي ْب َع ُثهُمْ َ‬
‫غ ْيرَ ا ْل ُم ْك َرهِ ‪ .‬مَعَ قُ ْد َرتِهِ َ‬
‫ا ْل ُم ْكرَهَ فِيهِمْ وَ َ‬
‫غيْ ِرهِ وَهُمْ لَا َي ْعَلمُونَ َذِلكَ بَلْ َلوْ ادّعَى مُدّعٍ َأنّهُ‬
‫علَى ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ا ْلمُجَاهِدِينَ أَنْ ُي َم ّيزُوا َبيْنَ ا ْل ُم ْك َرهِ وَ َ‬
‫َ‬
‫طلِبِ قَالَ لِل ّن ِبيّ‬
‫عبْدِ ا ْلمُ ّ‬
‫عوَاهُ ‪َ .‬كمَا ُر ِويَ { أَنّ ا ْل َعبّاسَ بْنَ َ‬
‫جرّدِ دَ ْ‬
‫خرَجَ ُم ْكرَهًا لَمْ َينْ َفعْهُ َذِلكَ ِبمُ َ‬
‫َ‬
‫ل اللّهِ ‪ ,‬إنّي ‪ُ ,‬كنْت ُم ْكرَهًا ‪ .‬فَقَالَ ‪:‬‬
‫سلِمُونَ َيوْمَ بَ ْدرٍ ‪ :‬يَا رَسُو َ‬
‫س َرهُ ا ْلمُ ْ‬
‫صلى ال عليه وسلم َلمّا أَ َ‬
‫خيَارِ‬
‫سرِي َرتُك َفِإلَى اللّهِ } ‪ .‬بَلْ َلوْ كَانَ فِيهِمْ َقوْ ٌم صَالِحُونَ مِنْ ِ‬
‫عَل ْينَا َوَأمّا َ‬
‫َأمّا ظَا ِهرُك َفكَانَ َ‬

‫‪99‬‬
‫علَى أَنّ ا ْلكُفّارَ َلوْ َت َترّسُوا‬
‫النّاسِ َولَمْ ُي ْمكِنْ ِقتَاُلهُمْ إلّا بِ َقتْلِ َه ُؤلَاءِ لَ ُق ِتلُوا َأ ْيضًا فَإِنّ الَْأ ِئمّةَ ُمتّفِقُونَ َ‬
‫خفْ‬
‫سِلمِينَ إذَا لَمْ يُقَا ِتلُوا فَِإنّهُ يَجُوزُ أَنْ َن ْر ِم َيهُمْ َونَقْصِدَ ا ْلكُفّارَ ‪َ ,‬وَلوْ لَمْ نَ َ‬
‫علَى ا ْلمُ ْ‬
‫سِلمِينَ وَخِيفَ َ‬
‫ِبمُ ْ‬
‫جهَادِ‬
‫سِلمِينَ َأ ْيضًا فِي أَحَدِ َق ْوَليْ ا ْل ُعلَمَاءِ ‪َ .‬ومَنْ ُقتِلَ لِأَجْلِ الْ ِ‬
‫سِلمِينَ جَازَ وَ ِهيَ أُوَل ِئكَ ا ْلمُ ْ‬
‫علَى ا ْلمُ ْ‬
‫َ‬
‫علَى ِن ّيتِهِ ‪َ ,‬ولَمْ َيكُنْ َق ْتلُهُ‬
‫شهِيدًا ‪َ ,‬و ُب ِعثَ َ‬
‫ظلُومٌ كَانَ َ‬
‫الّذِي َأ َمرَ اللّهُ بِهِ َورَسُولُهُ ُهوَ فِي ا ْلبَاطِنِ مَ ْ‬
‫جبًا َوإِنْ ُقتِلَ مِنْ‬
‫جهَادُ وَا ِ‬
‫أَعْظَمَ فَسَادًا مِنْ َقتْلِ مَنْ يُ ْقتَلُ مِنْ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ا ْلمُجَاهِدِينَ ‪َ ,‬وإِذَا كَانَ الْ ِ‬
‫جهَادِ َل ْيسَ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا ‪,‬‬
‫سِلمِينَ لِحَاجَةِ الْ ِ‬
‫سِلمِينَ مَا شَا َء اللّهُ فَقِيلَ مَنْ يُ ْقتَلُ فِي صَ ّفهِمْ مِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫ا ْلمُ ْ‬
‫سيْفِهِ َوَليْسَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ ‪َ ,‬وإِنْ‬
‫سرِ َ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ا ْل ُم ْك َرهَ فِي ِقتَالِ الْ ِف ْتنَةِ ِبكَ ْ‬
‫بَلْ قَدْ َأ َمرَ ال ّن ِب ّ‬
‫س َتكُونُ‬
‫ل اللّ ِه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إ ّنهَا َ‬
‫سلِمٍ عَنْ َأبِي َب ْك َرةَ { قَالَ رَسُو ُ‬
‫ُقتِلَ ‪َ ,‬كمَا فِي صَحِيحِ مُ ْ‬
‫خ ْيرٌ مِنْ‬
‫خ ْيرٌ مِنْ ا ْلمَاشِي ‪ ,‬وَا ْلمَاشِي فِيهَا َ‬
‫ِفتَنٌ َألَا ثُمّ َتكُونُ ِفتَنٌ َألَا ثُمّ َتكُونُ ِفتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا َ‬
‫غنَمٌ َف ْل َيلْحَقْ‬
‫السّاعِي ‪َ ,‬ألَا فَإِذَا َن َزلَتْ َأوْ وَ َق َعتْ َفمَنْ كَانَ لَهُ إبِلٌ َف ْل َيلْحَقْ بِِإ ِبلِهِ ‪َ ,‬ومَنْ كَا َنتْ لَهُ َ‬
‫ل اللّهِ ‪َ ,‬أ َرَأيْت مَنْ لَمْ‬
‫ِب َغ َنمِهِ ‪َ ,‬ومَنْ كَا َنتْ لَهُ َأرْضٌ َف ْل َيلْحَقْ ِبَأرْضِهِ ‪ ,‬قَالَ ‪ :‬فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُو َ‬
‫جرٍ ‪ ,‬ثُمّ ِل َينْجُ إنْ‬
‫علَى حَ ّدهِ بِحَ َ‬
‫سيْفِهِ َفيَدُقّ َ‬
‫غنَمٌ ‪َ ,‬ولَا َأرْضٌ قَالَ ‪َ :‬ي ْعمِدُ إلَى َ‬
‫َيكُنْ لَهُ إبِلٌ ‪َ ,‬ولَا َ‬
‫ل اللّهِ ‪,‬‬
‫ستَطَاعَ النّجَاةَ ‪ .‬الّلهُمّ هَلْ َبّلغْت ‪ ,‬الّلهُمّ هَلْ َبّلغْت الّلهُمّ هَلْ َبّلغْت ‪ .‬فَقَالَ رَجُلٌ ‪ :‬يَا رَسُو َ‬
‫اْ‬
‫سيْفِهِ َأوْ‬
‫ض ِر ُبنِي رَجُلٌ بِ َ‬
‫طلَقَ بِي إلَى إحْدَى الصّفّيْنِ َأوْ إحْدَى الْ ِف َئ َتيْنِ َف َي ْ‬
‫حتّى ُينْ َ‬
‫َأ َرَأيْت إنْ ُأ ْكرِهْت َ‬
‫ب النّارِ } ‪ .‬فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ َأنّهُ‬
‫س ْهمِهِ َفيَ ْق ُتَلنِي ‪ .‬قَالَ ‪َ :‬يبُوءُ بِِإ ْثمِهِ َوِإ ْثمِك ‪َ ,‬و َيكُونُ مِنْ َأصْحَا ِ‬
‫بِ َ‬
‫سلَاحِ الّذِي يُقَاتِلُ‬
‫ع ِتزَالِ َأوْ إ ْفسَادِ ال ّ‬
‫َنهَى عَنْ الْ ِقتَالِ فِي الْ ِف ْتنَةِ بَلْ َأ َمرَ ِبمَا َي َتعَ ّذرُ َمعَهُ الْ ِقتَالُ مِنْ الِا ْ‬
‫ظ ْلمًا كَانَ الْقَاتِلُ قَدْ بَاءَ بِِإ ْثمِهِ‬
‫غ ْي ُرهُ ثُمّ َبيّنَ أَنّ ا ْل ُم ْك َرهَ إذَا ُقتِلَ ُ‬
‫بِهِ ‪ .‬وَقَدْ َدخَلَ فِي َذِلكَ ا ْل ُم ْك َرهُ وَ َ‬
‫ظلُومِ { إنّي ُأرِيدُ أَنْ َتبُوءَ بِِإ ْثمِي َوِإ ْثمِك‬
‫َوِإثْمِ ا ْلمَ ْقتُولِ َكمَا قَالَ َتعَالَى فِي ِقصّةِ ا ْب َنيْ آدَمَ عَنْ ا ْلمَ ْ‬
‫علَى نَفْسِهِ‬
‫ل صَائِلٌ َ‬
‫جزَاءُ الظّاِلمِينَ } َو َم ْعلُومٌ أَنّ الِْإنْسَانَ إذَا صَا َ‬
‫َف َتكُونَ مِنْ َأصْحَابِ النّارِ وَ َذِلكَ َ‬
‫علَى َق ْوَليْنِ ُهمَا‬
‫عَليْهِ الدّفْعُ بِالْ ِقتَالِ َ‬
‫جبُ َ‬
‫جمَاعِ َوِإ ّنمَا َتنَازَعُوا هَلْ يَ ِ‬
‫سنّةِ وَالْإِ ْ‬
‫جَازَ لَهُ الدّفْعُ بِال ّ‬
‫صفّ ‪ .‬وَالثّا ِنيَةُ ‪ :‬يَجُوزُ لَهُ‬
‫ضرْ ال ّ‬
‫ح ُ‬
‫جبُ الدّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ َوَلوْ لَمْ يَ ْ‬
‫حمَدَ ‪ :‬إحْدَا ُهمَا ‪َ :‬ي ِ‬
‫ِروَا َيتَانِ عَنْ أَ ْ‬
‫الدّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ ‪َ .‬وَأمّا الِا ْبتِدَاءُ بِالْ ِقتَالِ فِي الْ ِف ْتنَةِ َفلَا يَجُوزُ ِبلَا َر ْيبٍ ‪ ,‬وَا ْلمَ ْقصُودُ َأنّهُ إذَا كَانَ‬
‫حتّى يُ ْقتَلَ‬
‫ص ِبرَ َ‬
‫سلَاحِهِ ‪َ ,‬وأَنْ َي ْ‬
‫عَليْهِ إفْسَادُ ِ‬
‫علَى الْ ِقتَالِ فِي الْ ِف ْتنَةِ َل ْيسَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ ‪ ,‬بَلْ َ‬
‫ا ْل ُم ْكرَهُ َ‬
‫سلَامِ ‪َ :‬كمَا ِنعِي‬
‫شرَائِعِ الْإِ ْ‬
‫سِلمِينَ مَعَ الطّائِفَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ َ‬
‫علَى ِقتَالِ ا ْلمُ ْ‬
‫ظلُومًا َف َك ْيفَ بِا ْل ُم ْك َرهِ َ‬
‫مَ ْ‬
‫حضُورِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ‬
‫علَى الْ ُ‬
‫عَليْهِ إذَا ُأ ْك ِرهَ َ‬
‫جبُ َ‬
‫حوِهِمْ ‪َ ,‬فلَا َر ْيبَ أَنّ هَذَا يَ ِ‬
‫ال ّزكَاةِ ‪ ,‬وَا ْلمُ ْرتَدّينَ ‪َ ,‬ونَ ْ‬
‫سلِمِينَ ‪َ ,‬و َكمَا َلوْ َأ ْك َرهَ‬
‫حضُورِ صَ ّفهِمْ ِليُقَاتِلَ ا ْلمُ ْ‬
‫علَى ُ‬
‫سِلمُونَ َكمَا َلوْ َأ ْكرَهَهُ ا ْلكُفّارُ َ‬
‫َوإِنْ َق َتلَهُ ا ْلمُ ْ‬

‫‪100‬‬
‫سِلمِينَ ‪َ ,‬وإِنْ َأ ْكرَهَهُ بِالْ َقتْلِ‬
‫سلِمٍ َمعْصُومٍ فَِإنّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ َق ْتلُهُ بِاتّفَاقِ ا ْلمُ ْ‬
‫علَى َقتْلِ مُ ْ‬
‫جلًا َ‬
‫رَجُلٌ رَ ُ‬
‫غ ْي َرهُ َفيَ ْق ُتلَهُ ‪ِ ,‬ل َئلّا‬
‫ظلِمَ َ‬
‫فَِإنّهُ َل ْيسَ حِفْظُ نَفْسِهِ بِ َقتْلِ َذِلكَ ا ْل َمعْصُومِ َأ ْولَى مِنْ ا ْل َع ْكسِ ‪َ ,‬فَل ْيسَ لَهُ أَنْ يَ ْ‬
‫حمَدَ ‪َ ,‬ومَاِلكٍ ‪,‬‬
‫عنْدَ َأ ْك َثرِ ا ْل ُعَلمَاءِ ‪ :‬كَأَ ْ‬
‫جمِيعًا ِ‬
‫علَى ا ْل ُم ْك ِرهِ َ‬
‫يُ ْقتَلَ ُهوَ ‪ ,‬بَلْ إذَا َفعَلَ َذِلكَ كَانَ الْ َقوَدُ َ‬
‫حنِيفَةَ ‪,‬‬
‫علَى ا ْل ُم ْك ِرهِ فَقَطْ كَ َقوْلِ ‪َ :‬أبِي َ‬
‫جبُ الْ َقوَدُ َ‬
‫خرِ ‪َ :‬ي ِ‬
‫وَالشّا ِف ِعيّ ‪ ,‬فِي أَحَدِ َق ْوَليْهِ ‪ ,‬وَفِي الْآ َ‬
‫جبُ‬
‫سفَ ‪ :‬يُو ِ‬
‫شرِ َكمَا ُر ِويَ َذِلكَ عَنْ زُ َفرَ ‪َ ,‬وَأبُو يُو ُ‬
‫علَى ا ْل ُم ْك َرهِ ا ْل ُمبَا ِ‬
‫حمّدٍ ‪ ,‬وَقِيلَ ‪ :‬الْ َقوَدُ َ‬
‫َومُ َ‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫ن ال ّن ِب ّ‬
‫سلِمٌ فِي صَحِيحِهِ ‪ :‬عَ ْ‬
‫جبْهُ ‪ .‬وَقَدْ َروَى مُ ْ‬
‫ضمَانَ بِال ّديَةِ بَدَلَ الْ َقوَدِ َولَمْ يُو ِ‬
‫ال ّ‬
‫ظهُورِ الدّينِ ‪َ ,‬وِلهَذَا‬
‫صلَحَةِ ُ‬
‫وسلم ِقصّةَ َأصْحَابِ الْأُخْدُودِ وَفِيهَا أَنّ ا ْل ُغلَامَ َأ َمرَ بِ َقتْلِ نَفْسِهِ لِأَجْلِ َم ْ‬
‫ظنّهِ َأ ّنهُمْ يَ ْق ُتلُونَهُ إذَا كَانَ‬
‫علَى َ‬
‫غَلبَ َ‬
‫صفّ ا ْلكُفّارِ َوإِنْ َ‬
‫سلِمُ فِي َ‬
‫ج ّوزَ الَْأ ِئمّةُ الَْأ ْر َبعَةُ أَنْ َي ْن َغمِسَ ا ْلمُ ْ‬
‫َ‬
‫ن الرّجُلُ‬
‫خرَ ‪ ,‬فَإِذَا كَا َ‬
‫طنَا الْ َقوْلَ فِي هَ ِذهِ ا ْلمَسَْألَةِ فِي َم ْوضِعٍ آ َ‬
‫سِلمِينَ ‪ .‬وَقَدْ بَسَ ْ‬
‫صلَحَةٌ ِل ْلمُ ْ‬
‫فِي َذِلكَ َم ْ‬
‫جهَادِ مَعَ أَنّ َق ْتلَهُ نَفْسَهُ أَعْظَمُ مِنْ َق ْتلِهِ ِل َغ ْيرِهِ كَانَ مَا‬
‫صلَحَةِ الْ ِ‬
‫يَ ْفعَلُ مَا َي ْعتَقِدُ َأنّهُ يُ ْقتَلُ بِهِ ِلأَجْلِ َم ْ‬
‫ض َررِ ا ْلعَ ُدوّ ا ْلمُفْسِدِ‬
‫حصُلُ إلّا بِ َذِلكَ وَدَفْ ِع َ‬
‫غ ْي ِرهِ لِأَجْلِ َمصْلَحَةِ الدّينِ اّلتِي لَا تَ ْ‬
‫يُ ْفضِي إلَى َقتْلِ َ‬
‫ن الصّائِلَ‬
‫علَى أَ ّ‬
‫جمَاعُ ُمتّفِ َقيْنِ َ‬
‫سنّةُ وَالْإِ ْ‬
‫لِلدّينِ وَال ّد ْنيَا ‪ ,‬الّذِي لَا َينْدَفِعُ إلّا بِ َذِلكَ َأ ْولَى َوإِذَا كَا َنتْ ال ّ‬
‫سلِمَ إذَا لَمْ َينْدَفِعْ صَ ْولُهُ إلّا بِالْ َقتْلِ ُقتِلَ َوإِنْ كَانَ ا ْلمَالُ الّذِي يَأْخُ ُذهُ قِيرَاطًا مِنْ دِينَارٍ ‪َ ,‬كمَا قَالَ‬
‫ا ْلمُ ْ‬
‫شهِيدٌ ‪َ ,‬ومَنْ ُقتِلَ دُونَ‬
‫ث الصّحِيحِ ‪ { :‬مَنْ ُقتِلَ دُونَ مَالِهِ َف ُهوَ َ‬
‫ال ّن ِبيّ صلى ال عليه وسلم فِي الْحَدِي ِ‬
‫شرَائِعِ‬
‫شهِيدٌ } ‪َ .‬ف َك ْيفَ بِ ِقتَالِ َه ُؤلَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْ َ‬
‫ح َرمِهِ َف ُهوَ َ‬
‫شهِيدٌ ‪َ ,‬ومَنْ ُقتِلَ دُونَ َ‬
‫َدمِهِ َف ُهوَ َ‬
‫ص ْوُلهُمْ َو َب ْغ ُيهُمْ أَقَلّ مَا فِيهِمْ ‪َ ,‬فإِنّ ِقتَالَ ا ْل ُم ْعتَدِينَ الصّا ِئلِينَ‬
‫ن َ‬
‫سلَامِ ا ْلمُحَا ِربِينَ ِللّهِ َورَسُولِهِ الّذِي َ‬
‫الْإِ ْ‬
‫سهِمْ ‪َ ,‬وَأمْوَاِلهِمْ ‪,‬‬
‫سِلمِينَ فِي َأنْفُ ِ‬
‫علَى ا ْلمُ ْ‬
‫جمَاعِ ‪ ,‬وَ َه ُؤلَاءِ ُم ْعتَدُونَ صَا ِئلُونَ َ‬
‫سنّةِ وَالْإِ ْ‬
‫ثَا ِبتٌ بِال ّ‬
‫شهِيدٌ ‪َ ,‬ف َك ْيفَ‬
‫عَل ْيهَا ‪َ ,‬ومَنْ ُقتِلَ دُو َنهَا َف ُهوَ َ‬
‫ل الصّائِلِ َ‬
‫ح َر ِمهِمْ ‪ ,‬وَدِي ِنهِمْ ‪َ ,‬وكُلّ مِنْ هَ ِذهِ ُيبِيحُ ِقتَا َ‬
‫وَ ُ‬
‫شرّ ا ْل ُبغَاةِ ا ْل ُمتََأ ّولِينَ الظّاِلمِينَ ‪َ ,‬لكِنْ مَنْ زَعَمَ َأ ّنهُمْ يُقَا َتلُونَ َكمَا‬
‫عَل ْيهَا ُكّلهَا وَهُمْ مِنْ َ‬
‫ِبمَنْ قَاتَلَ َ‬
‫ضلَالًا َبعِيدًا فَإِنّ أَقَلّ مَا فِي ا ْل ُبغَاةِ ا ْل ُمتََأ ّولِينَ أَنْ‬
‫ل َ‬
‫طأً َقبِيحًا وَضَ ّ‬
‫تُقَاتَلُ ا ْل ُبغَاةُ ا ْل ُمتََأ ّولُونَ فَقَدْ أَخْطَأَ خَ َ‬
‫ش ْبهَةً َب ّي َنهَا ‪,‬‬
‫سُلهُمْ ‪ ,‬فَإِنْ َذ َكرُوا ُ‬
‫خرَجُوا بِهِ ‪َ .‬وِلهَذَا قَالُوا ‪ :‬إنّ الِْإمَامَ ُيرَا َ‬
‫َيكُونَ َلهُمْ َت ْأوِيلٌ سَائِغٌ َ‬
‫ش ْبهَةٍ ِل َه ُؤلَاءِ ا ْلمُحَا ِربِينَ ِللّهِ َورَسُولِهِ السّاعِينَ فِي الَْأرْضِ فَسَادًا ‪,‬‬
‫ظِلمَةً َأزَاَلهَا ‪ ,‬فََأيّ ُ‬
‫َوإِنْ َذ َكرُوا مَ ْ‬
‫ع َملًا مِنْ هَ ِذهِ‬
‫ع ْلمًا وَ َ‬
‫سلَامِ ِ‬
‫شرَائِعِ الدّينِ َولَا َر ْيبَ َأ ّنهُمْ لَا يَقُولُونَ َأ ّنهُمْ أَ ْقوَمُ بِدِينِ الْإِ ْ‬
‫وَالْخَارِجِينَ عَنْ َ‬
‫سلَامٍ ِم ْنهُمْ ‪َ ,‬وَأ ْتبَعُ لَهُ ِم ْنهُمْ ‪,‬‬
‫علَ ُمهُمْ بِإِ ْ‬
‫سلَامَ َي ْعَلمُونَ أَنّ هَ ِذهِ الطّائِفَةَ أَ ْ‬
‫عوَاهُمْ الْإِ ْ‬
‫الطّائِفَةِ بَلْ ُهوَ مَعَ دَ ْ‬
‫سِلمِينَ بِالْ ِقتَالِ ‪,‬‬
‫سلِمٍ َوكَا ِفرٍ َي ْعلَمُ َذِلكَ وَهُمْ مَعَ َذِلكَ ُينْ ِذرُونَ ا ْلمُ ْ‬
‫سمَاءِ مِنْ مُ ْ‬
‫حتَ أَدِيمِ ال ّ‬
‫َوكُلّ مَنْ تَ ْ‬
‫حرِيمِ‬
‫س َبوْا غَاِلبَ َ‬
‫سِلمِينَ َك ْيفَ وَهُمْ قَدْ َ‬
‫حلّونَ ِبهَا ِقتَالَ ا ْلمُ ْ‬
‫ستَ ِ‬
‫ش ْبهَةٌ َب ّينَةٌ يَ ْ‬
‫فَا ْم َتنَعَ أَنْ َتكُونَ َلهُمْ ُ‬

‫‪101‬‬
‫ظمُونَ ا ْلبُ ْقعَةَ َويَ ْأخُذُونَ مَا فِيهَا مِنْ‬
‫حتّى إنّ النّاسَ قَدْ َرَأوْهُمْ ُيعَ ّ‬
‫الرّعِيّةِ الّذِينَ لَمْ يُقَا ِتلُوهُمْ ؟ َ‬
‫حرِيمَهُ‬
‫سبُونَ َ‬
‫عَليْهِ مِنْ ال ّثيَابِ ‪َ ,‬ويَ ْ‬
‫سُلبُونَهُ مَا َ‬
‫ن الرّجُلَ َو َي َت َب ّركُونَ بِهِ ‪َ ,‬ويَ ْ‬
‫ظمُو َ‬
‫الَْأ ْموَالِ ‪َ ,‬و ُيعَ ّ‬
‫جرُهُمْ ‪ ,‬وَا ْل ُمتََأوّلُ تَ ْأوِيلًا دِي ِنيّا لَا‬
‫ظلَمُ النّاسِ َوأَفْ َ‬
‫َو ُيعَا ِقبُونَهُ بَِأ ْنوَاعِ ا ْلعُقُوبَاتِ اّلتِي لَا ُيعَا َقبُ ِبهَا إلّا أَ ْ‬
‫طوَعُ‬
‫ظمُونَ مَنْ ُيعَا ِقبُونَهُ فِي الدّينِ ‪َ ,‬ويَقُولُونَ ‪ :‬إنّهُ أَ ْ‬
‫صيًا لِلدّينِ ‪ ,‬وَهُمْ ُيعَ ّ‬
‫ُيعَا ِقبُ إلّا مَنْ َيرَاهُ عَا ِ‬
‫ِللّهِ ِم ْنهُمْ ‪ ,‬فََأيّ َت ْأوِيلٍ بَ ِقيَ َلهُمْ ‪ ,‬ثُمّ َلوْ قُ ّدرَ َأ ّنهُمْ ُمتََأ ّولُونَ لَمْ َيكُنْ َت ْأوِيُلهُمْ سَا ِئغًا ‪ ,‬بَلْ تَ ْأوِيلُ‬
‫عوْا ا ّتبَاعَ الْ ُقرْآنِ ‪َ ,‬وأَنّ مَا‬
‫خوَارِجُ فَِإ ّنهُمْ ادّ َ‬
‫خوَارِجِ َومَا ِنعِي ال ّزكَاةِ َأوْجَهُ مِنْ تَ ْأوِيِلهِمْ ‪َ ,‬أمّا الْ َ‬
‫الْ َ‬
‫ن اللّهَ قَالَ ِل َن ِبيّهِ‬
‫سنّةِ لَا يَجُوزُ ا ْل َعمَلُ بِهِ ‪َ .‬وَأمّا مَا ِنعُوا ال ّزكَاةِ فَقَدْ َذ َكرُوا َأ ّنهُمْ قَالُوا ‪ :‬إ ّ‬
‫خَالَفَهُ مِنْ ال ّ‬
‫عَل ْينَا أَنْ نَدْ َف َعهَا ِل َغ ْي ِرهِ َفلَمْ َيكُونُوا يَدْ َفعُو َنهَا‬
‫‪ :‬خُذْ مِنْ َأ ْموَاِلهِ ْم صَدَقَةً وَهَذَا خِطَابٌ ِل َن ِبيّهِ فَقَطْ َفَليْسَ َ‬
‫ظ َر ِتهِمْ مَعَ‬
‫ظرَاتٌ َك ُمنَا َ‬
‫عبَا َدةٌ َوِل ْلعَُلمَاءِ َم َعهُمْ ُمنَا َ‬
‫علْمٌ وَ ِ‬
‫خوَارِجُ َلهُمْ ِ‬
‫خرِجُو َنهَا لَهُ ‪ ,‬وَالْ َ‬
‫لَِأبِي َب ْكرٍ َولَا يُ ْ‬
‫سِلمِينَ ‪َ ,‬فَلوْ كَانُوا ُمتََأ ّولِينَ لَمْ َيكُنْ َلهُمْ‬
‫علَى ِقتَالِ ا ْلمُ ْ‬
‫ظرُونَ َ‬
‫ج ْه ِميّةِ ‪َ ,‬وَأمّا َه ُؤلَاءِ َفلَا ُينَا َ‬
‫الرّافِضَةِ وَالْ َ‬
‫س ْبعَةِ‬
‫ضهُمْ بِأَنْ قَالَ ‪َ :‬مِل ُكنَا ِمِلكٌ ابْنُ َمِلكٍ ابْنُ َمِلكٍ إلَى َ‬
‫ط َبنِي َب ْع ُ‬
‫تَ ْأوِيلٌ يَقُولُهُ ذُو عَقْلٍ ‪ ,‬وَقَدْ خَا َ‬
‫خرَ بِا ْلكَا ِفرِ ‪ ,‬بَلْ‬
‫أَجْدَادٍ ‪َ ,‬و َمِل ُككُمْ ابْنُ َم ْولًى فَ ُقلْت ‪ :‬لَهُ ‪ :‬آبَاءُ َذِلكَ ا ْل َمِلكِ ُكّلهُمْ كُفّارٌ ‪َ ,‬ولَا فَ ْ‬
‫ش ِركٍ َوَلوْ‬
‫خ ْيرٌ مِنْ مُ ْ‬
‫ل اللّهُ َتعَالَى { َوَل َعبْدٌ ُم ْؤمِنٌ َ‬
‫خ ْيرٌ مِنْ ا ْل َمِلكِ ا ْلكَا ِفرِ ‪ ,‬قَا َ‬
‫سلِمُ َ‬
‫ا ْل َم ْملُوكُ ا ْلمُ ْ‬
‫سلِمَ َوَلوْ‬
‫عَليْهِ أَنْ يُطِيعَ ا ْلمُ ْ‬
‫جبَ َ‬
‫سِلمًا وَ َ‬
‫جهُمْ ‪َ ,‬و َم ْعلُومٌ أَنّ مَنْ كَانَ مُ ْ‬
‫ج َبكُمْ } ‪َ .‬فهَ ِذهِ َوَأ ْمثَاُلهَا حُجَ ُ‬
‫أَعْ َ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم َأنّهُ قَالَ ‪:‬‬
‫عبْدًا َولَا يُطِيعُ ا ْلكَا ِفرَ ‪ .‬وَقَدْ َث َبتَ فِي الصّحِيحِ ‪ :‬عَنْ ال ّن ِب ّ‬
‫كَانَ َ‬
‫شيّ َكأَنّ َرأْسَهُ َزبِيبَةٌ مَا أَقَامَ فِيكُمْ ِكتَابَ اللّهِ } ‪ .‬وَدِينُ‬
‫حبَ ِ‬
‫عبْدٌ َ‬
‫عَل ْيكُمْ َ‬
‫س َمعُوا َوأَطِيعُوا َوإِنْ ُأ ّمرَ َ‬
‫{اْ‬
‫سلَامِ إ ّنمَا يُ َفضّلُ الِْإنْسَانَ بِإِيمَانِهِ َوتَ ْقوَاهُ لَا بِآبَائِهِ ‪َ ,‬وَلوْ كَانُوا مِنْ َبنِي هَاشِمٍ أَهْلِ َب ْيتِ ال ّن ِبيّ‬
‫الْإِ ْ‬
‫عصَاهُ‬
‫ق النّارَ ِلمَنْ َ‬
‫خلَ َ‬
‫شيّا ‪ ,‬وَ َ‬
‫حبَ ِ‬
‫عبْدًا َ‬
‫جنّةَ ِلمَنْ أَطَاعَهُ َوإِنْ كَانَ َ‬
‫خلَقَ الْ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم فَِإنّهُ َ‬
‫ج َع ْلنَاكُمْ‬
‫خلَ ْقنَاكُمْ مِنْ َذ َكرٍ َوُأ ْنثَى َو َ‬
‫شيّا ‪ .‬وَقَدْ قَالَ َتعَالَى ‪ { :‬يَا َأ ّيهَا النّاسُ إنّا َ‬
‫شرِيفًا ُقرَ ِ‬
‫َوَلوْ كَانَ َ‬
‫عنْهُ صلى ال عليه وسلم َأنّهُ قَالَ‬
‫سنَنِ َ‬
‫عنْدَ اللّهِ َأتْقَاكُمْ } وَفِي ال ّ‬
‫شعُوبًا وَ َقبَائِلَ ِل َتعَارَفُوا إنّ َأ ْك َر َمكُمْ ِ‬
‫ُ‬
‫علَى َأ ْبيَضَ ‪َ ,‬ولَا لَِأ ْب َيضَ‬
‫سوَدَ َ‬
‫ع َربِيّ ‪َ ,‬ولَا لِأَ ْ‬
‫علَى َ‬
‫ج ِميّ َ‬
‫ج ِميّ ‪َ ,‬ولَا ِلعَ َ‬
‫علَى عَ َ‬
‫‪ { " :‬لَا َفضْلَ ِل َع َر ِبيّ َ‬
‫عنْهُ َأنّهُ قَالَ لِ َقبِيلَةٍ‬
‫حيْنِ ‪َ :‬‬
‫سوَدَ إلّا بِالتّ ْقوَى ‪ ,‬النّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ ُترَابٍ } ‪ .‬وَفِي الصّحِي َ‬
‫علَى أَ ْ‬
‫َ‬
‫خ َبرَ ال ّن ِبيّ‬
‫َقرِيبَةٍ ِمنْهُ ‪ { :‬إنّ آلَ َأبِي ُفلَانٍ َليْسُوا بَِأ ْوِليَائِي إ ّنمَا َوِليّي اللّهُ َوصَالِحُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ } ‪َ .‬فأَ ْ‬
‫سبِ ‪ ,‬بَلْ بِالْإِيمَانِ وَالتّ ْقوَى ‪ ,‬فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي‬
‫ستْ بِالْ َقرَابَةِ وَالنّ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم أَنّ ُموَالَاتَهُ َليْ َ‬
‫علَى أَنّ مَنْ كَانَ‬
‫سِلمُونَ َ‬
‫جمَعَ ا ْلمُ ْ‬
‫ش ِركِ ‪ ,‬وَقَدْ أَ ْ‬
‫ج ْنكِيزْ خَانْ ا ْلكَا ِفرِ ا ْلمُ ْ‬
‫َقرَابَةِ الرّسُولِ َف َك ْيفَ بِ َقرَابَةِ ِ‬
‫شيّا‬
‫حبَ ِ‬
‫سوَدَ َ‬
‫أَعْظَمَ إيمَانًا َوتَ ْقوًى كَانَ أَ ْفضَلَ ِممّنْ ُهوَ دُونَهُ فِي الْإِيمَانِ وَالتّ ْقوَى ‪َ ,‬وإِنْ كَانَ الَْأوّلُ أَ ْ‬

‫‪102‬‬
‫سيّا ‪.‬‬
‫عبّا ِ‬
‫عَل ِويّا َأوْ َ‬
‫وَالثّانِي َ‬
‫‪00000000000000000‬‬
‫خرُجُ ُم ْكرَهًا‬
‫جنَادٍ َي ْم َت ِنعُونَ عَنْ ِقتَالِ ال ّتتَارِ ‪َ ,‬ويَقُولُونَ ‪ :‬إنّ فِيهِمْ مَنْ يَ ْ‬
‫‪ - 7 - 778‬مَسَْألَةٌ ‪ :‬فِي أَ ْ‬
‫حمْدُ ِللّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ‪ِ .‬قتَالُ ال ّتتَارِ الّذِينَ‬
‫جوَابُ ‪ :‬الْ َ‬
‫َم َعهُمْ َوإِذَا َه َربَ أَحَدُهُمْ هَلْ ُي ّتبَعُ أَمْ لَا ؟ الْ َ‬
‫حتّى لَا َتكُونَ‬
‫سنّةِ ‪ ,‬فَإِنّ اللّهَ يَقُولُ فِي الْ ُقرْآنِ { وَقَا ِتلُوهُمْ َ‬
‫جبٌ بِا ْل ِكتَابِ وَال ّ‬
‫قَ ِدمُوا إلَى ِبلَادِ الشّامِ وَا ِ‬
‫ِف ْتنَةٌ َو َيكُونَ الدّينُ ُكلّهُ ِللّهِ } وَالدّينُ ُهوَ الطّاعَةُ ‪ ,‬فَإِذَا كَانَ َبعْضُ الدّينِ ِللّهِ َو َبعْضُهُ ِل َغ ْي ِر اللّهِ‬
‫ل اللّهُ َتعَالَى ‪ { :‬يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا اتّقُوا اللّهَ‬
‫حتّى َيكُونَ الدّينُ ُكلّهُ ِللّهِ ‪َ ,‬وِلهَذَا قَا َ‬
‫جبَ الْ ِقتَالُ َ‬
‫وَ َ‬
‫ح ْربٍ مِنْ اللّهِ َورَسُولِهِ } ‪ .‬وَهَ ِذهِ‬
‫وَ َذرُوا مَا بَ ِقيَ مِنْ ال ّربَا إنْ ُك ْنتُمْ ُم ْؤ ِمنِينَ ‪َ ,‬فإِنْ لَمْ تَ ْف َعلُوا فَأْ َذنُوا بِ َ‬
‫صيَامَ ‪َ ,‬لكِنْ ا ْم َت َنعُوا مِنْ‬
‫صلَاةَ وَال ّ‬
‫سلَامِ وَا ْل َت َزمُوا ال ّ‬
‫خلُوا فِي الْإِ ْ‬
‫الْآيَةُ َن َزَلتْ فِي أَهْلِ الطّا ِئفِ َلمّا دَ َ‬
‫ح ّرمَهُ‬
‫خرُ مَا َ‬
‫ن ال ّربَا ‪ ,‬وَال ّربَا ُهوَ آ ِ‬
‫َت ْركِ الرّبَا َف َبيّنَ اللّهُ َأ ّنهُمْ مُحَا ِربُونَ لَهُ َوِلرَسُولِهِ إذَا لَمْ َي ْن َتهُوا عَ ْ‬
‫جهَادُهُمْ ‪,‬‬
‫جبُ ِ‬
‫حبِهِ ‪ ,‬فَإِذَا كَانَ َه ُؤلَاءِ مُحَا ِربِينَ ِللّهِ َورَسُولِهِ يَ ِ‬
‫اللّهُ ‪ ,‬وَ ُهوَ مَالٌ ُيؤْخَذُ ِب ِرضَا صَا ِ‬
‫علَى أَنّ‬
‫سِلمِينَ َ‬
‫عَلمَاءُ ا ْلمُ ْ‬
‫سلَامِ َأوْ َأ ْك َثرَهَا كَال ّتتَارِ ‪ .‬وَقَدْ اتّفَقَ ُ‬
‫شرَائِعِ الْإِ ْ‬
‫َف َك ْيفَ ِبمَنْ َي ْت ُركُ َكثِيرًا مِنْ َ‬
‫جبُ ِقتَاُلهَا إذَا‬
‫سلَامِ الظّا ِه َرةِ ا ْل ُم َتوَا ِترَةِ ‪ ,‬فَِإنّهُ يَ ِ‬
‫جبَاتِ الْإِ ْ‬
‫الطّائِفَةَ ا ْل ُم ْم َتنِعَةَ إذَا ا ْم َت َن َعتْ عَنْ َبعْضِ وَا ِ‬
‫ش ْهرِ َر َمضَانَ ‪َ ,‬أوْ حَجّ ا ْل َب ْيتِ‬
‫صيَامِ َ‬
‫ن الصّلَاةِ ‪ ,‬وَال ّزكَاةِ ‪َ ,‬أ ْو ِ‬
‫شهَا َد َتيْنِ ‪ ,‬وَا ْم َتنَعُوا عَ ْ‬
‫َت َكّلمُوا بِال ّ‬
‫خ ْمرِ ‪َ ,‬أوْ ِنكَاحِ‬
‫حشِ ‪َ ,‬أوْ الْ َ‬
‫حرِيمِ الْ َفوَا ِ‬
‫سنّةِ ‪َ ,‬أوْ عَنْ تَ ْ‬
‫حكْمِ َب ْي َنهُمْ بِا ْل ِكتَابِ وَال ّ‬
‫ا ْل َعتِيقِ ‪َ ,‬أوْ عَنْ الْ ُ‬
‫جهَادِ‬
‫سرِ ‪َ ,‬أوْ الْ ِ‬
‫حلَالِ النّفُوسِ وَالَْأ ْموَالِ ِب َغ ْيرِ حَقّ ‪َ ,‬أ ْو ال ّربَا ‪َ ,‬أوْ ا ْل َميْ ِ‬
‫ستِ ْ‬
‫َذوَاتِ ا ْلمَحَارِمِ ‪َ ,‬أوْ عَنْ ا ْ‬
‫سلَامِ ‪ ,‬فَِإ ّنهُمْ يُقَا َتلُونَ‬
‫شرَائِعِ الْإِ ْ‬
‫حوِ َذِلكَ مِنْ َ‬
‫علَى أَهْلِ ا ْل ِكتَابِ ‪َ ,‬ونَ ْ‬
‫ج ْزيَةَ َ‬
‫ض ْربِهِمْ الْ ِ‬
‫ِل ْلكُفّارِ ‪َ ,‬أوْ عَنْ َ‬
‫ظرَ َأبَا َب ْكرٍ فِي مَا ِنعِي‬
‫ع َمرَ َلمّا نَا َ‬
‫حيْنِ ‪ :‬أَنّ ُ‬
‫حتّى َيكُونَ الدّينُ ُكلّهُ ِللّهِ ‪ .‬وَقَدْ َث َبتَ فِي الصّحِي َ‬
‫عَل ْيهَا َ‬
‫َ‬
‫ج َبهَا اللّهُ َورَسُولُهُ ‪َ ,‬وإِنْ كَانَ قَدْ‬
‫ال ّزكَاةِ قَالَ لَهُ َأبُو َب ْكرٍ ‪َ :‬ك ْيفَ لَا أُقَاتِلُ مَنْ َت َركَ الْحُقُوقَ اّلتِي َأوْ َ‬
‫عنَاقًا كَانُوا ُيؤَدّو َنهَا إلَى رَسُولِ‬
‫ن ال ّزكَاةَ مِنْ حَ ّقهَا َواَللّهِ َلوْ َم َنعُونِي َ‬
‫سلَمَ كَال ّزكَاةِ ‪ .‬وَقَالَ لَهُ ‪ :‬فَإِ ّ‬
‫أَ ْ‬
‫ح اللّهُ‬
‫شرَ َ‬
‫ع َمرُ ‪َ ,‬فمَا ُهوَ إلّا أَنْ َرَأيْت قَدْ َ‬
‫علَى َم ْن ِعهَا ‪ ,‬قَالَ ُ‬
‫اللّهِ صلى ال عليه وسلم لَقَا َتلْتهمْ َ‬
‫ي صلى ال‬
‫غ ْيرِ وَجْهٍ أَنّ ال ّن ِب ّ‬
‫صَ ْدرَ َأبِي َب ْكرٍ ِللْ ِقتَالِ َف َعِلمْت َأنّهُ الْحَقّ ‪ .‬وَقَدْ َث َبتَ فِي الصّحِيحِ مِنْ َ‬
‫صيَا ِمهِمْ‬
‫صيَامَهُ مَعَ ِ‬
‫صلَا ِتهِمْ َو ِ‬
‫صلَاتَهُ مَ َع َ‬
‫خوَارِجَ وَقَالَ فِيهِمْ ‪ { " :‬يَحْ ِقرُ أَحَ ُدكُ ْم َ‬
‫عليه وسلم َذ َكرَ الْ َ‬
‫سهْمُ‬
‫سلَامِ َكمَا َي ْمرُقُ ال ّ‬
‫جرَهُمْ ‪َ ,‬ي ْمرُقُونَ مِنْ الْإِ ْ‬
‫حنَا ِ‬
‫وَ ِقرَا َءتَهُ مَعَ ِقرَا َء ِتهِمْ ‪ ,‬يَ ْقرَءُونَ الْ ُقرْآنَ لَا يُجَا ِوزُ َ‬
‫عنْ َد اللّهِ ِلمَنْ َق َتَلهُمْ َيوْمَ الْ ِقيَامَةِ َلئِنْ‬
‫جرًا ِ‬
‫مِنْ ال ّر ِميّةِ َأ ْي َنمَا لَقِي ُتمُوهُمْ فَا ْق ُتلُوهُمْ ‪ ,‬فَإِنّ فِي َق ْتِلهِمْ أَ ْ‬
‫علَى ِقتَالِ َه ُؤلَاءِ ‪َ ,‬وَأوّلُ مَنْ قَا َتَلهُمْ َأمِيرُ‬
‫سَلفُ وَالَْأ ِئمّةُ َ‬
‫أَ ْد َر ْك ُتهُمْ لََأ ْق ُتَل ّنهُمْ َقتْلَ عَادٍ } ‪ .‬وَقَدْ اتّفَقَ ال ّ‬

‫‪103‬‬
‫خلَافَةِ َبنِي‬
‫سِلمُونَ يُقَا ِتلُونَ فِي صَ ْدرِ ِ‬
‫عِليّ بْنُ َأبِي طَاِلبٍ رضي ال عنه ‪َ ,‬ومَا زَالَ ا ْلمُ ْ‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َ‬
‫ظَلمَةً ‪َ ,‬وكَانَ الْحَجّاجُ َو ُنوّابُهُ ِممّنْ يُقَا ِتلُو َنهُمْ ‪َ ,‬فكُلّ َأ ِئمّةِ‬
‫ُأ َميّةَ َو َبنِي ا ْل َعبّاسِ مَعَ الُْأ َمرَاءِ َوإِنْ كَانُوا َ‬
‫سلَامِ مِنْ مَا ِنعِي ال ّزكَاةِ‬
‫شرِيعَةِ الْإِ ْ‬
‫خرُوجًا عَنْ َ‬
‫شبَا ُههُمْ أَعْظَمُ ُ‬
‫سِلمِينَ يَ ْأ ُمرُونَ بِ ِقتَاِلهِمْ وَال ّتتَارُ َوأَ ْ‬
‫ا ْلمُ ْ‬
‫جهَلُ النّاسِ‬
‫شكّ فِي ِقتَاِلهِمْ َف ُهوَ أَ ْ‬
‫ك ال ّربَا ‪َ ,‬فمَنْ َ‬
‫خوَارِجِ مِنْ أَهْلِ الطّا ِئفِ الّذِينَ ا ْم َت َنعُوا عَنْ َت ْر ِ‬
‫وَالْ َ‬
‫سِلمِينَ ‪َ ,‬كمَا { قَالَ‬
‫جبَ ِقتَاُلهُمْ قُو ِتلُوا َوإِنْ كَانَ فِيهِمْ ا ْل ُم ْك َرهُ بِاتّفَاقِ ا ْلمُ ْ‬
‫ح ْيثُ وَ َ‬
‫سلَامِ ‪ ,‬وَ َ‬
‫بِدِينِ الْإِ ْ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‬
‫ل ال ّن ِب ّ‬
‫خرَجْت ُم ْكرَهًا ‪ ,‬فَقَا َ‬
‫ل اللّهِ ‪ ,‬إنّي َ‬
‫سرَ َيوْمَ بَ ْدرٍ ‪ :‬يَا رَسُو َ‬
‫ا ْل َعبّاسُ َلمّا أُ ِ‬
‫ج ْيشَ ا ْلكُفّارِ إذَا‬
‫علَى أَنّ َ‬
‫سرِي َرتُك فَِإلَى اللّهِ } ‪ .‬وَقَدْ اتّفَقَ ا ْل ُعَلمَاءُ َ‬
‫عَل ْينَا َوَأمّا َ‬
‫‪َ :‬أمّا ظَا ِهرُك َفكَانَ َ‬
‫ن الضّ َررُ إذَا لَمْ يُقَا َتلُوا ‪َ ,‬وإِنْ‬
‫سِلمِي َ‬
‫علَى ا ْلمُ ْ‬
‫سِلمِينَ وَخِيفَ َ‬
‫سرَى ا ْلمُ ْ‬
‫عنْدَهُمْ مِنْ أَ ْ‬
‫َت َترّسُوا ِبمَنْ ِ‬
‫جوَازِ الْ ِقتَالِ‬
‫سِلمِينَ فَفِي َ‬
‫علَى ا ْلمُ ْ‬
‫خفْ َ‬
‫سِلمِينَ الّذِينَ َت َترّسُوا ِبهِمْ ‪َ ,‬وإِنْ لَمْ يُ َ‬
‫أَ ْفضَى َذِلكَ إلَى َقتْلِ ا ْلمُ ْ‬
‫سِلمُونَ إذَا ُق ِتلُوا كَانُوا‬
‫شهُورَانِ ِل ْل ُعَلمَاءِ ‪ ,‬وَ َه ُؤلَاءِ ا ْلمُ ْ‬
‫سِلمِينَ َق ْولَانِ مَ ْ‬
‫ا ْلمُفْضِي إلَى َقتْلِ َه ُؤلَاءِ ا ْلمُ ْ‬
‫سِلمِينَ إذَا قَا َتلُوا ا ْلكُفّارَ َفمَنْ ُقتِلَ‬
‫شهِيدًا ‪ ,‬فَإِنّ ا ْلمُ ْ‬
‫جبُ لِأَجْلِ مَنْ يُ ْقتَلُ َ‬
‫جهَادُ ا ْلوَا ِ‬
‫شهَدَاءَ َولَا ُي ْت َركُ الْ ِ‬
‫ُ‬
‫سلَامِ كَانَ‬
‫صلَحَةِ الْإِ ْ‬
‫ستَحِقّ الْ َقتْلَ لِأَجْلِ َم ْ‬
‫شهِيدًا ‪َ ,‬ومَنْ ُقتِلَ وَ ُهوَ فِي ا ْلبَاطِنِ لَا يَ ْ‬
‫سِلمِينَ َيكُونُ َ‬
‫مِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم َأنّهُ قَالَ ‪َ { " :‬ي ْغزُو هَذَا ا ْل َب ْيتَ‬
‫حيْنِ ‪ :‬عَنْ ال ّن ِب ّ‬
‫شهِيدًا ‪ .‬وَقَدْ َث َبتَ فِي الصّحِي َ‬
‫َ‬
‫ل اللّهِ ‪ ,‬وَفِيهِمْ‬
‫سفَ ِبهِمْ ‪ .‬فَقِيلَ ‪ :‬يَا رَسُو َ‬
‫ج ْيشٌ مِنْ النّاسِ َف َب ْي َنمَا هُمْ ِب َبيْدَاءَ مِنْ الَْأرْضِ إذْ خُ ِ‬
‫َ‬
‫ج ْيشِ الّذِي َي ْغزُو‬
‫علَى ِنيّا ِتهِمْ } ‪ .‬فَإِذَا كَانَ ا ْلعَذَابُ الّذِي ُي ْن ِزلُهُ اللّهُ بِالْ َ‬
‫ا ْل ُم ْكرَهُ فَقَالَ ‪ُ :‬ي ْب َعثُونَ َ‬
‫سِلمِينَ ُي ْن ِزلُهُ بِا ْل ُم ْك َرهِ ‪َ ,‬ف َك ْيفَ بِا ْلعَذَابِ الّذِي ُيعَ ّذ ُبهُمْ اللّهُ بِهِ َأوْ بَِأيْدِي ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ َكمَا قَالَ َتعَالَى‬
‫ا ْلمُ ْ‬
‫عنْ ِدهِ َأوْ‬
‫س َن َييْنِ َونَحْنُ َن َت َربّصُ ِبكُمْ أَنْ ُيصِي َبكُ ْم اللّهُ ِبعَذَابٍ مِنْ ِ‬
‫{ قُلْ هَلْ َت َر ّبصُونَ ِبنَا إلّا إحْدَى الْحُ ْ‬
‫علَى ال ّت ْميِيزِ فَإِذَا َق َت ْلنَاهُمْ بَِأ ْم ِر اللّهِ ُكنّا فِي َذِلكَ مَأْجُورِينَ‬
‫بَِأيْدِينَا } ‪َ .‬ونَحْنُ لَا َن ْعلَمُ ا ْل ُم ْكرَهَ َولَا نَقْ ِدرُ َ‬
‫علَى ِن ّيتِهِ َيوْمَ‬
‫شرُ َ‬
‫ستَطِيعُ الِا ْم ِتنَاعَ َفِإنّهُ يُحْ َ‬
‫علَى ِنيّا ِتهِمْ ‪َ ,‬فمَنْ كَانَ ُم ْكرَهًا لَا يَ ْ‬
‫َو َمعْذُورِينَ َوكَانُوا هُمْ َ‬
‫سِلمِينَ ‪.‬‬
‫س َكرِ ا ْلمُ ْ‬
‫الْ ِقيَامَةِ ‪ ,‬فَإِذَا ُقتِلَ لِأَجْلِ ِقيَامِ الدّينِ لَمْ َيكُنْ َذِلكَ ِبأَعْظَمَ مِنْ َقتْلِ مَنْ يُ ْقتَلُ مِنْ عَ ْ‬
‫جعَلُ ِقتَاَلهُمْ ِب َم ْن ِزلَةِ ِقتَالِ ا ْل ُبغَاةِ ا ْل ُمتََأ ّولِينَ ‪ ,‬وَ َه ُؤلَاءِ إذَا‬
‫َوَأمّا إذَا َه َربَ أَحَدُهُمْ فَإِنّ مِنْ النّاسِ مَنْ يَ ْ‬
‫علَى‬
‫حهِمْ ‪َ ,‬‬
‫جرِي ِ‬
‫علَى َ‬
‫جهَازُ َ‬
‫كَانَ َلهُمْ طَائِفَةٌ ُم ْم َت ِنعَةٌ َفهَلْ َيجُوزُ ا ّتبَاعُ مُ ْد ِبرِهِمْ وَ َقتْلُ أَسِيرِهِمْ وَالْإِ ْ‬
‫جمَلِ‬
‫عِليّ بْنِ َأبِي طَاِلبٍ نَادَى َيوْمَ الْ َ‬
‫شهُو َريْنِ ‪ ,‬فَقِيلَ ‪ :‬لَا يُ ْفعَلُ َذِلكَ ; لِأَنّ ُمنَا ِديَ َ‬
‫َق ْوَليْنِ ِل ْلعَُلمَاءِ مَ ْ‬
‫جمَلِ لَمْ‬
‫جرِيحٍ ‪َ ,‬ولَا يُ ْقتَلُ أَسِيرٌ ‪ ,‬وَقِيلَ ‪ :‬بَلْ يُ ْفعَلُ َذِلكَ لَِأنّهُ َيوْمَ الْ َ‬
‫علَى َ‬
‫ج َهزُ َ‬
‫‪ :‬لَا ُي ْتبَعُ مُ ْد ِبرٌ ‪َ ,‬ولَا يُ ْ‬
‫َيكُنْ َلهُمْ طَائِفَةٌ ُم ْم َت ِنعَةٌ َوكَانَ ا ْلمَقْصُودُ مِنْ الْ ِقتَالِ دَ ْف َعهُمْ ‪َ ,‬فَلمّا انْدَ َفعُوا لَمْ َيكُنْ إلَى َذِلكَ حَاجَةٌ‬
‫ج َعَلهُمْ‬
‫خلَافِ َذِلكَ ‪َ ,‬فمَنْ َ‬
‫جمَلِ َوصِفّينَ كَانَ َأ ْمرُهُمْ بِ ِ‬
‫ِب َم ْن ِزلَةِ َدفْ ِع الصّائِلِ ‪ .‬وَقَدْ ُر ِويَ َأنّهُ َيوْمَ الْ َ‬

‫‪104‬‬
‫صوَابُ أَنّ َه ُؤلَاءِ َليْسُوا مِنْ ا ْل ُبغَاةِ ا ْل ُمتََأ ّولِينَ‬
‫جعَلَ فِيهِمْ هَ َذيْنِ الْ َق ْوَليْنِ ‪ .‬وَال ّ‬
‫ِب َم ْن ِزلَةِ ا ْل ُبغَاةِ ا ْل ُمتََأ ّولِينَ َ‬
‫خوَارِجِ ا ْلمَارِقِينَ ‪َ ,‬ومَا ِنعِي الزّكَاةِ‬
‫ج ْنسِ الْ َ‬
‫صلًا ‪َ ,‬وِإ ّنمَا هُمْ مِنْ ِ‬
‫‪ ,‬فَإِنّ َه ُؤلَاءِ َليْسَ َلهُمْ تَ ْأوِيلٌ سَائِغٌ َأ ْ‬
‫سلَامِ ‪,‬‬
‫شرَائِعِ الْإِ ْ‬
‫عنْهُ مِنْ َ‬
‫خرَجُوا َ‬
‫علَى مَا َ‬
‫حوِهِمْ ِممّنْ قُو ِتلُوا َ‬
‫ح َر ِميّةِ ‪َ ,‬ونَ ْ‬
‫‪َ ,‬وأَهْلِ الطّا ِئفِ ‪ ,‬وَالْ َ‬
‫ج َعلُوا ِقتَالَ‬
‫صنّفِينَ فِي ِقتَالِ أَهْلِ ا ْل َبغْيِ َ‬
‫علَى َكثِيرٍ مِنْ النّاسِ مِنْ الْفُ َقهَاءِ ا ْلمُ َ‬
‫ش َتبَهَ َ‬
‫وَهَذَا َموْضِعٌ ا ْ‬
‫ص َرةِ ‪ ,‬وَ ِقتَالَهُ ِل ُمعَا ِويَةَ َوَأ ْتبَاعِهِ مِنْ ِقتَالِ أَهْلِ‬
‫عِليّ لِأَهْلِ ا ْلبَ ْ‬
‫خوَارِجِ ‪ ,‬وَ ِقتَالَ َ‬
‫مَا ِنعِي ال ّزكَاةِ ‪ ,‬وَ ِقتَالَ الْ َ‬
‫غلِطُوا‬
‫ن النّاسِ ‪ ,‬وَقَدْ َ‬
‫ا ْل َب ْغيِ وَ َذِلكَ ُكلّهُ مَ ْأمُورٌ بِهِ ‪ ,‬وَ َفرّعُوا مَسَائِلَ َذِلكَ تَ ْفرِيعَ مَنْ َيرَى َذِلكَ َبيْ َ‬
‫سنّةِ ‪َ ,‬وأَهْلِ ا ْلمَدِينَ ِة ال ّن َب ِويّةِ ‪ ,‬كَالَْأ ْوزَاعِيّ ‪ ,‬وَال ّث ْو ِريّ ‪,‬‬
‫عَليْهِ َأ ِئمّةُ الْحَدِيثِ ‪ ,‬وَال ّ‬
‫ل الصّوَابُ مَا َ‬
‫بَ ْ‬
‫خ َواِرجِ ثَا ِبتٌ‬
‫عِليّ ِللْ َ‬
‫غيْرِهِمْ ‪َ ,‬أنّهُ يُ َفرّقُ َبيْنَ هَذَا وَهَذَا ‪ ,‬فَ ِقتَالُ َ‬
‫ح ْنبَلٍ ‪ ,‬وَ َ‬
‫حمَدَ بْنِ َ‬
‫َومَاِلكٍ ‪َ ,‬وأَ ْ‬
‫سِلمِينَ ‪َ .‬وَأمّا الْ ِقتَالُ َيوْمَ صِفّينَ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم بِاتّفَاقِ ا ْلمُ ْ‬
‫صرِيحَةِ عَنْ ال ّن ِب ّ‬
‫بِالّنصُوصِ ال ّ‬
‫حمّدِ‬
‫سعْدِ بْنِ َأبِي وَقّاصٍ ‪َ ,‬ومُ َ‬
‫عنْهُ َأكَا ِب ُر الصّحَابَةِ ِمثْلُ َ‬
‫ل صَدّ َ‬
‫عَليْهِ الصّحَابَةُ ‪ ,‬بَ ْ‬
‫ح ِوهِ َفلَمْ َيتّفِقْ َ‬
‫َونَ ْ‬
‫عِليّ بْنِ َأبِي طَاِلبٍ‬
‫غ ْيرِهِمْ ‪َ .‬ولَمْ َيكُنْ َبعْدَ َ‬
‫ع َمرَ ‪ ,‬وَ َ‬
‫عبْ ِد اللّهِ بْنِ ُ‬
‫سَلمَة ‪َ ,‬وأُسَامَةَ بْنِ َزيْدٍ ‪ ,‬وَ َ‬
‫بْنِ مَ ْ‬
‫ث الصّحِيحَةُ عَنْ ال ّن ِبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫سعْدِ بْنِ َأبِي وَقّاصٍ ‪ ,‬وَالْأَحَادِي ُ‬
‫س َك َريْنِ ِمثْلُ َ‬
‫فِي ا ْلعَ ْ‬
‫عنْهُ فِي صَحِيحِ‬
‫صلَاحُ َبيْنَ َت ْي ِنكَ الطّائِ َف َتيْنِ ‪ ,‬لَا الِا ْق ِتتَالُ َب ْي َن ُهمَا ‪َ .‬كمَا َث َبتَ َ‬
‫جبُ الِْإ ْ‬
‫تَ ْق َتضِي َأنّهُ كَانَ َي ِ‬
‫ح اللّهُ بِهِ َبيْنَ‬
‫صلِ ُ‬
‫سيُ ْ‬
‫سيّدٌ وَ َ‬
‫ج ْيشُ َمعَهُ فَقَالَ ‪ { :‬إنّ ا ْبنِي هَذَا َ‬
‫طبَ النّاسَ وَالْ َ‬
‫ا ْلبُخَا ِريّ ‪َ :‬أنّهُ خَ َ‬
‫جعَلَ ال ّن ِبيّ‬
‫صلَحَ اللّهُ بِالْحَسَنِ َبيْنَ أَهْلِ ا ْلعِرَاقِ َوأَهْلِ الشّامِ } َف َ‬
‫طَائِ َف َتيْنِ عَظِي َم َتيْنِ مِنْ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ فََأ ْ‬
‫سلّمَ الَْأ ْمرَ‬
‫صلَاحَ بِهِ مِنْ َفضَائِلِ الْحَسَنِ ‪ ,‬مَعَ أَنّ الْحَسَنَ َنزَلَ عَنْ الَْأ ْمرِ وَ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم الِْإ ْ‬
‫خلَافَةِ َو ُمصَالَحَةِ ُمعَا ِويَةَ لَمْ َيمْدَحْهُ ال ّنبِيّ‬
‫إلَى ُمعَا ِويَةَ ‪َ ,‬فَلوْ كَانَ الْ ِقتَالُ ُهوَ ا ْلمَ ْأمُورُ بِهِ دُونَ َت ْركِ الْ ِ‬
‫علَى َت ْركِ الَْأ ْولَى‬
‫علَى َت ْركِ مَا ُأ ِمرَ بِهِ ‪ ,‬وَ ِفعْلِ مَا لَمْ ُي ْؤ َمرْ بِهِ َولَا مَ َدحَهُ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم َ‬
‫حبّهُ اللّهُ َورَسُولُهُ لَا الْ ِقتَالُ ‪ .‬وَقَدْ َث َبتَ فِي‬
‫وَ ِفعْلِ الْأَ ْدنَى ‪َ ,‬ف ُعلِمَ أَنّ الّذِي َف َعلَهُ الْحَسَنُ ُهوَ الّذِي كَانَ يُ ِ‬
‫علَى فَخِ َذيْهِ َويَقُولُ ‪ { :‬الّلهُمّ إنّي‬
‫ضعُهُ َوأُسَامَةَ َ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم كَانَ َي َ‬
‫الصّحِيحِ ‪ :‬أَنّ ال ّن ِب ّ‬
‫ل اللّهِ صلى ال عليه وسلم َل ُهمَا‬
‫حبّةِ رَسُو ِ‬
‫ظ َهرَ َأ َثرُ َم َ‬
‫ح ّب ُهمَا } ‪ .‬وَقَدْ َ‬
‫حبّ مَنْ يُ ِ‬
‫ح ّب ُهمَا َوأَ ِ‬
‫ح ّبهُمْ فَأَ ِ‬
‫أُ ِ‬
‫ِب َكرَا َه ِتهِمَا الْ ِقتَالَ فِي الْ ِف ْتنَةِ ‪ ,‬فَإِنّ أُسَامَةَ ا ْم َتنَعَ عَنْ الْ ِقتَالِ مَعَ وَاحِ َدةٍ مِنْ الطّائِ َف َتيْنِ ‪َ ,‬وكَ َذلِكَ الْحَسَنُ‬
‫علَى َأبِيهِ‬
‫عِليّ بَِأنّهُ لَا يُقَاتِلُ َوَلمّا صَارَ الَْأ ْمرُ إَليْهِ َفعَلَ مَا كَانَ يُشِيرُ بِهِ َ‬
‫علَى َ‬
‫كَانَ دَا ِئمًا يُشِيرُ َ‬
‫عنْ ُه صلى ال عليه وسلم فِي الصّحِيحِ َأنّهُ قَالَ ‪َ { " :‬ت ْمرُقُ‬
‫رضي ال عنهم أجمعين ‪ .‬وَقَدْ َث َبتَ َ‬
‫خوَارِجُ‬
‫سِلمِينَ تَ ْق ُتُلهُمْ َأ ْولَى الطّائِ َف َتيْنِ بِالْحَقّ } ‪َ .‬فهَ ِذهِ ا ْلمَارِقَةُ هُمْ الْ َ‬
‫علَى حِينِ ُفرْقَةٍ مِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫مَارِقَةٌ َ‬
‫خوَارِجِ ‪,‬‬
‫عِليّ بْنُ َأبِي طَاِلبٍ ‪ ,‬وَهَذَا ُيصَدّقُهُ بَ ِقيّةُ الْأَحَادِيثِ اّلتِي فِيهَا الَْأ ْمرُ بِ ِقتَالِ الْ َ‬
‫‪ ,‬وَقَا َتَلهُمْ َ‬

‫‪105‬‬
‫عِليّ َأ ْولَى بِالْحَقّ مِنْ ُمعَا ِويَةَ‬
‫حبّ ُه اللّهُ َورَسُولُهُ ‪َ .‬وأَنّ الّذِينَ قَا َتلُوهُمْ مَعَ َ‬
‫َو ُت َبيّنُ أَنّ َق ْتَلهُمْ ِممّا يُ ِ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم بِالْ ِقتَالِ ِلوَاحِ َدةٍ مِنْ‬
‫َوأَصْحَابِهِ ‪ ,‬مَعَ َك ْو ِنهِمْ َأ ْولَى بِالْحَقّ ‪َ ,‬فلَمْ يَ ْأ ُمرْ ال ّن ِب ّ‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫ن ال ّن ِب ّ‬
‫صلَاحَ َب ْي َن ُهمَا ‪ .‬وَقَدْ َث َبتَ عَ ْ‬
‫خوَارِجِ ‪ ,‬بَلْ مَدَحَ الِْإ ْ‬
‫الطّائِ َف َتيْنِ َكمَا َأ َمرَ بِ ِقتَالِ الْ َ‬
‫ضعُهُ‬
‫ث الصّحِيحَةِ مَا َل ْيسَ هَذَا َم ْو ِ‬
‫وسلم مِنْ َكرَاهَةِ الْ ِقتَالِ فِي الْ ِفتَنِ وَالتّحْذِيرِ ِم ْنهَا مِنْ الَْأحَادِي ِ‬
‫خ ْيرٌ‬
‫خ ْيرٌ مِنْ ا ْلمَاشِي ‪ ,‬وَا ْلمَاشِي َ‬
‫خ ْيرٌ مِنْ الْقَائِمِ ‪ ,‬وَالْقَائِمُ فِيهَا َ‬
‫س َتكُونُ ِف ْتنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا َ‬
‫كَ َق ْولِهِ ‪َ { :‬‬
‫طرِ‬
‫جبَالِ َو َموَاقِعَ الْقَ ْ‬
‫ش َعفَ الْ ِ‬
‫غنَمٌ َي ّتبِعُ ِبهَا َ‬
‫سلِمِ َ‬
‫خ ْيرُ مَالِ ا ْلمُ ْ‬
‫شكُ أَنْ َيكُونَ َ‬
‫مِنْ السّاعِي } وَقَالَ { يُو ِ‬
‫سِلمِينَ‬
‫طوَا ِئفِ ا ْلمُ ْ‬
‫سِلمِينَ وَ َ‬
‫حرُوبِ اّلتِي َتكُونُ َبيْنَ ُملُوكِ ا ْلمُ ْ‬
‫‪ ,‬يَ ِفرّ بِدِينِهِ مِنْ الْ ِفتَنِ } ‪ .‬فَالْ ِفتَنُ ِمثْلُ الْ ُ‬
‫جمَلِ َوصِفّينَ َوِإ ّنمَا‬
‫سلَامِ ِمثْلُ مَا كَانَ أَهْلُ الْ َ‬
‫شرَائِعِ الْإِ ْ‬
‫‪ ,‬مَعَ أَنّ كُلّ وَاحِ َدةٍ مِنْ الطّائِ َف َتيْنِ ُم ْل َت ِزمَةٌ لِ َ‬
‫خوَارِجِ َومَا ِنعِي ال ّزكَاةِ َوأَهْلِ الطّا ِئفِ الّذِينَ لَمْ َيكُونُوا‬
‫ع َرضَتْ ‪َ .‬وَأمّا ِقتَالُ الْ َ‬
‫شبَهٍ َوُأمُورٍ َ‬
‫ا ْق َت َتلُوا لِ ُ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‬
‫ن ال ّن ِب ّ‬
‫شرَائِعِ الثّا ِبتَةِ عَ ْ‬
‫خلُوا فِي ال ّ‬
‫حتّى يَدْ ُ‬
‫ح ّرمُونَ الرّبَا َف َه ُؤلَاءِ يُقَا َتلُونَ َ‬
‫يُ َ‬
‫علَى‬
‫جهَازُ َ‬
‫وَ َه ُؤلَاءِ إذَا كَانَ َلهُمْ طَائِفَةٌ ُم ْم َت ِنعَةٌ َفلَا َر ْيبَ َأنّهُ يَجُوزُ َقتْلُ أَسِيرِهِمْ وَا ّتبَاعُ مُ ْد ِبرِهِمْ وَالْإِ ْ‬
‫سِلمِينَ أَنْ‬
‫علَى ا ْلمُ ْ‬
‫جبُ َ‬
‫عَليْهِ فَِإنّهُ َي ِ‬
‫علَى مَا هُمْ َ‬
‫حهِمْ ‪َ ,‬فإِنّ َه ُؤلَاءِ إذَا كَانُوا مُقِيمِينَ ِب ِبلَادِهِمْ َ‬
‫جرِي ِ‬
‫َ‬
‫علَى دِينِ‬
‫حتّى َيكُونَ الدّينُ ُكلّهُ ِللّهِ ‪ ,‬فَإِنّ َه ُؤلَا ِء ال ّتتَارَ لَا يُقَا ِتلُونَ َ‬
‫يَ ْقصِدُوهُمْ فِي ِبلَادِهِمْ لِ ِقتَاِلهِمْ َ‬
‫عنْهُ ‪َ .‬وإِنْ كَانَ‬
‫ع ِتهِمْ كَفّوا َ‬
‫ع ِتهِمْ ‪َ ,‬فمَنْ َدخَلَ فِي طَا َ‬
‫خلُوا فِي طَا َ‬
‫حتّى يَدْ ُ‬
‫سلَامِ بَلْ يُقَا ِتلُونَ النّاسَ َ‬
‫الْإِ ْ‬
‫صرَا ِنيّا َأوْ َيهُو ِديّا َومَنْ لَمْ يَدْخُلْ كَانَ عَ ُدوّا َلهُمْ َوإِنْ كَانَ مِنْ الَْأ ْن ِبيَاءِ وَالصّالِحِينَ وَقَدْ‬
‫ش ِركًا َأوْ َن ْ‬
‫مُ ْ‬
‫سِلمِينَ مِنْ‬
‫علَى ا ْلمُ ْ‬
‫جبُ َ‬
‫عبَا َدهُ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ‪َ ,‬فيَ ِ‬
‫سِلمِينَ أَنْ يُقَا ِتلُوا أَعْدَا َءهُ ا ْلكُفّارَ َو ُيوَالُوا ِ‬
‫َأ َمرَ اللّهُ ا ْلمُ ْ‬
‫علَى ِقتَالِ ا ْلكُفّارِ ‪َ ,‬وَل ْيسَ‬
‫جمِي ِعهِمْ أَنْ َيكُونُوا ُم َتعَا ِونِينَ َ‬
‫صرَ وَا ْل َيمَنِ وَا ْل َم ْغ ِربِ َ‬
‫جنْدِ الشّامِ َو ِم ْ‬
‫ُ‬
‫عَل ْيهِمْ أَنْ يُقَا ِتلُوا مَنْ‬
‫جبُ َ‬
‫جرّ ِد ال ّريَاسَةِ وَالْأَ ْهوَاءِ َف َه ُؤلَاءِ ال ّتتَارُ أَقَلّ مَا يَ ِ‬
‫ضهِمْ أَنْ يُقَاتِلَ َب ْعضًا ِبمُ َ‬
‫ِل َبعْ ِ‬
‫علَى ِقتَالِ‬
‫سِلمِينَ ‪َ ,‬و َي َتعَا َونُونَ هُمْ وَهُمْ َ‬
‫َيلِيهِمْ مِنْ ا ْلكَا ِفرِينَ ‪َ ,‬وأَنْ َيكُفّوا عَنْ ِقتَالِ مَنْ َيلِيهِمْ مِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫غ ْيرُ ُم ْك َرهٍ إلّا فَاسِقٌ ‪َ ,‬أوْ ُم ْبتَدِعٌ ‪َ ,‬أوْ ِزنْدِيقٌ ‪ ,‬كَا ْل َملَاحِ َدةِ الْ َقرَامِطَةِ‬
‫ا ْلكُفّارِ ‪َ .‬وَأ ْيضًا لَا يُقَاتِلُ َم َعهُمْ َ‬
‫حلُوِليّةِ ‪َ ,‬و َم َعهُمْ ِممّنْ يُ َقلّدُونَهُ مِنْ‬
‫طلَةِ مِنْ النّفَاةِ الْ ُ‬
‫ج ْه ِميّةِ ا ْل ُمعَ ّ‬
‫سبّابَةِ ‪َ ,‬وكَا ْل َ‬
‫ط ِنيّةِ ‪َ ,‬وكَالرّافِضَةِ ال ّ‬
‫وَا ْلبَا ِ‬
‫سنُونَ بِهِ الظّنّ ‪,‬‬
‫جهّالٌ يُ َقلّدُونَ الّذِينَ يُحْ ِ‬
‫شرّ ِم ْنهُمْ ‪ ,‬فَإِنّ ال ّتتَارَ ُ‬
‫سبِينَ إلَى ا ْل ِعلْمِ وَالدّينِ مَنْ ُهوَ َ‬
‫ا ْل ُم ْنتَ ِ‬
‫ن اللّهِ‬
‫علَى اللّهِ َورَسُولِهِ ‪َ ,‬و ُيبَ ّدلُونَ دِي َ‬
‫ضلَالِ الّذِي َيكْ ِذبُونَ بِهِ َ‬
‫غ ّيهِمْ َي ّت ِبعُونَهُ فِي ال ّ‬
‫وَهُمْ ِلضَلَاِلهِمْ وَ َ‬
‫عَلمُهُ مِنْ ُأمُورِهِمْ‬
‫حرّ َم اللّهُ َورَسُولُهُ َولَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ ‪َ ,‬وَلوْ َوصَفْتُ مَا أَ ْ‬
‫ح ّرمُونَ مَا َ‬
‫َولَا يُ َ‬
‫حنِي ِفيّ‬
‫سلَامِ الْ َ‬
‫ظ َهرُوا دِينَ الْإِ ْ‬
‫ج َت ِمعَانِ ‪َ ,‬وَلوْ أَ ْ‬
‫سلَامِ لَا يَ ْ‬
‫ج ْملَةِ ‪َ :‬فمَذْ َه ُبهُمْ وَدِينُ الْإِ ْ‬
‫لَطَالَ الْخِطَابُ ‪َ .‬وبِالْ ُ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‬
‫ن ال ّن ِب ّ‬
‫الّذِي ُب ِعثَ الرّسُولُ بِهِ لَا ْهتَ َدوْا َوأَطَاعُوا ِمثْلُ الطّائِفَةِ ا ْل َمنْصُو َرةِ ‪ .‬فَإِ ّ‬

‫‪106‬‬
‫ضرّهُمْ مَنْ خَالَ َفهُمْ َولَا‬
‫علَى الْحَقّ لَا َي ُ‬
‫عنْهُ َأنّهُ قَالَ ‪ { :‬لَا َيزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ ُأ ّمتِي ظَا ِهرِينَ َ‬
‫قَدْ َث َبتَ َ‬
‫عنْهُ فِي الصّحِيحِ َأنّهُ قَالَ ‪ { :‬لَا َيزَالُ أَهْلُ ا ْل َغ ْربِ‬
‫حتّى تَقُومَ السّاعَةُ } ‪َ .‬و َث َبتَ َ‬
‫مَنْ خَ َذَلهُمْ َ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم َت َكلّمَ ِبهَذَا‬
‫حوَهَا } ‪ .‬فَإِنّ ال ّن ِب ّ‬
‫ظَا ِهرِينَ َوَأوّلُ ا ْل َغ ْربِ مَا يُسَا ِمتُ ال ّنثْ َرةَ َونَ ْ‬
‫ع ْنهَا َف ُهوَ‬
‫شرّقَ َ‬
‫صرَ َومَا َ‬
‫غ ْربٌ كَالشّامِ َو ِم ْ‬
‫ع ْنهَا َف ُهوَ َ‬
‫ا ْل َكلَامِ وَ ُهوَ بِا ْلمَدِينَةِ ال ّن َب ِويّةِ ‪َ ,‬فمَا َي ْغ ُربُ َ‬
‫سمّونَ أَهْلَ ا ْل ِعرَاقِ‬
‫سمّونَ أَهْلَ الشّامِ أَهْلَ ا ْل َم ْغ ِربِ ‪َ ,‬ويُ َ‬
‫سَلفُ يُ َ‬
‫جزِي َرةِ وَا ْلعِرَاقِ َوكَانَ ال ّ‬
‫شرْقٌ كَالْ َ‬
‫َ‬
‫عيّةِ فِيهَا مَا ُهوَ مَ ْذكُورٌ فِي‬
‫شرْ ِ‬
‫ج ْملَةُ اّلتِي َذ َكرْتهَا فِيهَا مِنْ الْآثَارِ وَالْأَ ِدلّةِ ال ّ‬
‫شرِقِ ‪ .‬وَهَ ِذهِ الْ ُ‬
‫أَهْلَ ا ْلمَ ْ‬
‫علَمُ ‪.‬‬
‫غ ْيرِ هَذَا ا ْل َموْضِعِ ‪َ ,‬واَللّهُ أَ ْ‬
‫َ‬
‫****************‬
‫ويقول العلمة أبو بصير ‪:‬‬
‫لماذا الجهادُ في سبيلِ الِ ‪..‬؟‬
‫إن الحمد ل نحمدُه ونستعينه ونستهديه ونستغفرُه‪ ،‬ونعوذ بال من شرور أنفسنا ومن‬
‫سيئات أعمالنا‪ ،‬من يهده الُ فل مُضلّ له ومن يُضلل فل هادي له ‪.‬‬
‫وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدا عبده ورسوله‪ ،‬وأنه قد‬
‫جاهد في سبيل ال حق جهاده حتى أتاه اليقين ‪ ..‬صلى ال عليه وعلى آله وصحبه وسلّم ‪.‬‬
‫وبعد‪ :‬فإن كثيرا من الناس ـ على اختلف مقاصدهم ونواياهم ـ يتساءلون‪ :‬لماذا خيار‬
‫الجهاد في سبيل ال‪ ،‬وليس دونه ‪..‬؟!‬
‫والذين يسألون هذا السؤال هم أصناف ثلثة‪:‬‬
‫‪ -1‬فريق منهم يطرح هذا السؤال استرشادا وطلبا للحق ليلتزموه ‪ ..‬وهؤلء ل حرج‬
‫عليهم إن شاء ال ‪.‬‬
‫‪ -2‬وفريق آخر يطرح هذا السؤال مشككا في جدوى هذا الطريق ‪ ..‬مظهرا نوع شفقة‬
‫على المسلمين وعلى حرماتهم‪ ،‬على اعتبار أن هذا الطريق من لوازمه الوقوع في الفتنة‪،‬‬
‫وتعريض المسلمين لن تسفك دماؤهم وتُنتهك حرماتهم ‪ ..‬وكذلك تعريض الوطان للدمار‬
‫والخراب ‪ ..‬لذلك فهم ل يتورعون في أن يطرحوا نظرياتهم وبدائلهم ـ التي هي من عند‬
‫أهوائهم وأنفسهم ـ عن هذا الطريق ‪ ..‬كطرحهم لطريق النتخابات الديمقراطية وما يتفرع‬
‫عنها من فروع وتبعات ‪ ..‬وكطريق القتصار على الدعوة باللسان على مبدأ كفوا أيديكم‬
‫وأقيموا الصلة‪ ،‬إلى أن يبعث ال بالفرج أو يظهر المام ‪ ..‬أو طريق القتصار على عنصر‬

‫‪107‬‬
‫التربية ‪ ..‬وغير ذلك من الطرق والطروحات التي تتبناها وتدعو لها بعض الجماعات السلمية‬
‫المعاصرة !‬
‫‪ -3‬وفريق ثالث خبثت طويته‪ ،‬وساء مقصده ‪ ..‬يطرحون هذا السؤال من قبيل الطعن‬
‫والستخفاف بمبدأ الجهاد ‪ ..‬وعلى أنه خيار غير متحضر ل يناسب زماننا المعاصر ‪ ..‬ويتمثل‬
‫هذا الفريق في موقف العلمانيين على اختلف مدارسهم ومذاهبهم الباطلة ‪!!..‬‬
‫وهذا الفريق العلماني الكافر ـ بحكم الوسائل المتاحة له ـ قد ترك أثره الكبير على‬
‫تفكير ومعنويات كثير من المثقفين السلميين ‪ ..‬مما حدا بالخرين أن يقفوا موقف المدافع عن‬
‫مبدأ الجهاد في سبيل ال وبطريقة مشوهة وغير لئقة؛ وكأن الجهاد تهمة مشينة تحتاج إلى من‬
‫يدافع عنها ‪ ..‬أو يوجد لها المبررات والمسوغات !!‬
‫فهم تارة يطرحون مبدأ الجهاد ويحصرونه في معنى الدفاع عن الوطان ‪ ..‬والوطان‬
‫التي تُغزى تحديدا من عدو خارجي ‪ ..‬أما الوطان التي تُغزى من العداء الداخليين ـ الذين‬
‫يكونون في الغالب هم أشد عداوة للمة والوطان من العداء الخارجيين‪ ،‬ومن مسيلمة الكذاب‬
‫ـ ل يجوز أن يُعمل بالجهاد مع هؤلء الصنف من العداء ‪ ..‬حيث توجد‬ ‫أيام الصدّيق‬
‫الطرق الديمقراطية المتحضرة المعروفة دوليا لفك مثل هذه النزاعات الداخلية ‪!!..‬‬
‫وتارة يحصرونه في جهاد الكلمة أو النفس ‪ ..‬وتارة في التنقل بين المساجد والمبيت فيها‬
‫على طريقة إخواننا التبليغيين ‪ ..‬وتارة ‪ ..‬وتارة ‪ ..‬فتوسعت الهوة بين معاني هذا الدين العظيم‬
‫‪ ..‬وبين مستوى التزام كثير من الناس في زماننا‬ ‫كما أوحاه ال تعالى على عبده ونبيه محمد‬
‫المعاصر ‪ ..‬فانعكس ذلك على المة سلبا وذلً وهوانا‪ ،‬وضياعا ‪!!..‬‬
‫لجل ذلك كله نجد لزاما في أن نجيب على هذا السؤال بشيء من التفصيل والبيان‪ :‬لماذا‬
‫الجهاد في سبيل ال ‪..‬؟؟‬
‫ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة ‪ ..‬مستلهما من ال تعالى وحده السداد‬
‫والعون والتوفيق ‪.‬‬
‫فأقول‪ :‬ل خيار للمة ـ إن أرادت أن تحيى‪ ،‬وتسترد عافيتها‪ ،‬وتستأنف حياتها‬
‫السلمية من جديد ـ إل خيار وطريق الجهاد في سبيل ال وفق ما أمر ال تعالى وشرع ‪..‬‬
‫رضي من رضي وسخط من سخط؛ وذلك لسباب عدة نذكر أهمها في النقاط التالية‪:‬‬

‫‪108‬‬
‫أولً‪ :‬لن ال تعالى أمرنا بالجهاد ‪ ..‬فارتضاه لنا طريقا إلى العزة والنصر والتمكين ‪..‬‬
‫فهو قدر هذه المة‪ ،‬ل فكاك لها منه‪ ،‬أو التنكب عنه ‪ ..‬فليس للمؤمن ـ وهو يُسمى مؤمنا ـ‬
‫أن يرتضي لنفسه ولمته شيئا بخلف ما ارتضاه ال تعالى لعباده إل إذا آثر الكفر على‬
‫اليمان‪ ،‬والخروج عن مسمى اليمان اسما وحكما ‪.‬‬
‫والدلة على ذلك أكثر من أن تُحصر في هذا الموضع‪ ،‬نذكر منها قوله تعالى‪ :‬كتب‬
‫عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر‬
‫البقرة‪.216:‬‬ ‫لكم وال يعلم وأنتم ل تعلمون‬
‫أي فُرض ‪ ..‬وهو كقوله تعالى‪ :‬كتب عليكم‬ ‫فقوله تعالى‪ :‬كتب عليكم القتال‬
‫من حيث دللة الوجوب ‪ ..‬فكما أن الصيام فرض وكتب على المؤمنين كذلك القتال‬ ‫الصيام‬
‫والجهاد في سبيل ال فهو فرض وكتب على المؤمنين ‪.‬‬
‫والمة عندما تستقبل المر بالقتال والجهاد كما تستقبل المر بالصيام ‪ ..‬وتستعد وتفرح‬
‫للول كما تستعد وتفرح للثاني ‪ ..‬فحينئذٍ استبشروا بالفتح وبنصر من ال قريب ‪.‬‬
‫ومما يستغرب له‪ ،‬ويشتد له العجب ‪ ..‬أن المة ل تقبل من أحد ـ أيا كان وصفه أو‬
‫بينما نراها ل تحرك‬ ‫كتب عليكم الصيام‬ ‫كانت مكانته ـ أن يجادلها في شرعية ووجوب‬
‫ساكنا‪ ،‬ول تبدي اعتراضا عندما ينبري من ذوي النفوس المريضة المشبوهة من يشكك في‬
‫علما أن كل اليتين لهما نفس الدللة من حيث المر‬ ‫كتب عليكم القتال‬ ‫شرعية ووجوب‬
‫والوجوب ‪ ..‬؟!!‬
‫النفال‪.39:‬‬ ‫وقال تعالى‪ :‬وقاتلوهم حتى ل تكون فتن ٌة ويكونَ الدينُ كله ل‬
‫وقال تعالى‪ :‬إل تنفروا يُعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ول تضروه شيئا وال‬
‫التوبة‪.39:‬‬ ‫على كل شيء قدير‬
‫وقال تعالى‪ :‬انفروا خفافا وثِقالً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل ال ذلكم خير لكم‬
‫التوبة‪.41:‬‬ ‫إن كنتم تعلمون‬
‫وقال تعالى‪ :‬إن ال اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يُقاتلون في‬
‫سبيل ال فيقتُلون ويُقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من ال‬
‫التوبة‪.111:‬‬ ‫فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم‬

‫‪109‬‬
‫وهذا بيع قد تم ل يجوز لمؤمن ـ ما دام مؤمنا ـ أن يتخلف عنه وعن تبعاته ‪ ..‬وقوله‬
‫من صيغ العموم التي تفيد جميع المؤمنين من دون استثناء ‪..‬‬ ‫تعالى‪ :‬اشترى من المؤمنين‬
‫فمن أراد أن يخرج عن عقده وما تم بيعه فهو بذلك يخرج عن كونه من المؤمنين الذين اشترى‬
‫ال منهم أنفسهم وأموالهم يَقتلون ويُقتَلون ‪ ..‬وهم رضوا بالبيع مقابل جنة عرضها السماوات‬
‫والرض ‪.‬‬
‫وقال تعالى‪ :‬قاتلوا الذين ل يؤمنون بال ول باليوم الخر ول يحرمون ما حرم الُ‬
‫ورسوله ول يدينون دين الحق من الذين أُوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون‬
‫التوبة‪.29:‬‬
‫وقال تعالى‪ :‬وقاتلوا المشركين كافةً كما يُقاتلونكم كافة واعلموا أن ال مع المتقين‬
‫التوبة‪.36:‬‬
‫وغيرها كثير من اليات التي تفيد وجوب الجهاد ‪ ..‬وأنه المنهج الحق الذي ارتضاه ال‬
‫تعالى لعباده ل مناص لهم من تنكبه أو التفلت منه ومن تبعاته إل وهم مرتكبون الوزر والثم‪،‬‬
‫حاكمين على أنفسهم بالذل والهوان والضياع والعذاب ‪!..‬‬
‫مئات الحاديث التي تحض على الجهاد‪ ،‬وتأمر به‪ ،‬وتلزم‬ ‫وفي الحديث فقد صح عنه‬
‫به‬
‫المة ‪ ..‬وتحذر من تركه أو الغفلة عنه إلى ما سواه من الطرق الخرى الملتوية‪ ،‬نذكر منها‬
‫الطائفة التالية‪:‬‬
‫‪ ":‬أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ل إله إل ال وأن محمدا‬ ‫قال رسول ال‬
‫رسول ال‪ ،‬ويقيموا الصلة‪ ،‬ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إل‬
‫بحق السلم‪ ،‬وحسابهم على ال " البخاري ‪.‬‬
‫‪ ":‬بُعثت بين يدي الساعة بالسيف‪ ،‬حتى يُعبد ال تعالى وحده ل شريك له‪ ،‬وجعل‬ ‫وقال‬
‫رزقي تحت ظل رمحي‪ ،‬وجُعل الذل والصغار على من خالف أمري "(‪.)1‬‬
‫‪ ":‬واعلموا أن الجنة تحت ظلل السيوف " البخاري‪.‬‬ ‫وقال‬
‫‪ ":‬من مات ولم يغزُ‪ ،‬ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق " مسلم‪.‬‬ ‫وقال‬
‫‪ ":‬من لم يغز‪ ،‬أو يجهز غازيا‪ ،‬أو يخلف غازيا في أهله بخير‪ ،‬أصابه ال‬ ‫وقال‬
‫بقارعة قبل يوم القيامة "(‪.)2‬‬

‫‪110‬‬
‫فالمؤمن ل يجوز له إل أن يكون واحدا من ثلث‪ :‬إما أن يكون غازيا في سبيل ال‪،‬‬
‫وإما أن يخلف غازيا في أهله بالخير‪ ،‬وإما أن يجهز غازيا في سبيل ال ‪ ..‬فإن لم يكن واحدا‬
‫من هؤلء فلينتظر قارعة تنزل بساحته ـ ل يعلم ماهيتها وحجمها إل ال ـ قبل يوم القيامة‬
‫‪!..‬‬
‫‪ ":‬رباط يوم في سبيل ال خير من ألف يومٍ فيما سواه من المنازل "(‪.)3‬‬ ‫وقال‬
‫‪ ":‬الغدوة والروحة في سبيل ال أفضل من الدنيا وما فيها " متفق عليه‪.‬‬ ‫وقال‬
‫‪ ":‬من اغبرت قدماه في سبيل ال فهو حرام على النار "(‪.)4‬‬ ‫وقال‬
‫قلت‪ :‬كيف بمن يعلو الغبارُ وجهَه ‪ ..‬ويُلمس شغاف قلبه ‪ ..‬إنها الجنان والدرجات العل‬
‫وربّ الكعبة ؟!‬
‫‪ ":‬عليكم بالجهاد في سبيل ال تبارك وتعالى؛ فإنه باب من أبواب الجنة يُذهب‬ ‫وقال‬
‫ال به اله ّم والغمّ "(‪.)5‬‬
‫فقال رجل‪ :‬يا رسول‬ ‫وعن سلمة بن نفيل الكندي‪ ،‬قال‪ :‬كنت جالسا عند رسول ال‬
‫ال‪ ،‬أذال الناس الخيل ـ أي استخفوا بها وتركوها ـ ووضعوا السلح‪ ،‬وقالوا‪ :‬ل جهاد‪ ،‬قد‬
‫بوجهه وقال‪ ":‬كذبوا‪ ،‬الن جاء القتال‪ ،‬ول يزال‬ ‫وضعت الحرب أوزارها ! فأقبل رسول ال‬
‫ـــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬أخرجه أحمد وغيره‪ ،‬صحيح الجامع‪.2831:‬‬
‫(‪ )2‬صحيح سنن أبي داود‪ )3( .2185 :‬صحيح سنن النسائي‪.2971:‬‬
‫(‪ )4‬صحيح سنن النسائي‪ )5( .2919 :‬أخرجه الحاكم وغيره‪ ،‬السلسلة الصحيحة‪.1941:‬‬
‫من أمتي أمة يقاتلون على الحق ويُزيغ ال لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة‪،‬‬
‫وحتى يأتي وعد ال‪ ،‬والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة "(‪.)1‬‬
‫‪ ":‬والذي نفس محمد بيده لول أن يشق على المسلمين ما قعدت خلف‬ ‫وقال رسول ال‬
‫سرية تغزو في سبيل ال أبدا‪ ،‬ولكن ل أجد سعة فأحملهم‪ ،‬ول يجدون سعة ويشق عليهم أن‬
‫يتخلفوا عني‪ ،‬والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل ال فأُقتل‪ ،‬ثم أغزو فأُقتل‪ ،‬ثم‬
‫أغزو فأقتل " مسلم‪.‬‬
‫‪ ":‬ولن أُقتلَ في سبيل ال أحبّ إلي من أن يكون لي أهل الو َبرِ والم َدرِ "(‪.)2‬‬ ‫وقال‬

‫‪111‬‬
‫في الحض على الجهاد‬ ‫هذا قليل من كثير مما ثبت عن سيد الخلق وإمام المجاهدين‬
‫في سبيل ال والترغيب به ‪ ..‬ولو طالَبنا المخالفون بأن نأتيهم بألف دليل ودليل من الكتاب‬
‫والسنة على مشروعية هذا الطريق المبارك لسهل علينا ـ بإذن ال ـ أن نأتيهم بما طلبوا ‪..‬‬
‫ولكن لو طالبناهم بدليل واحد ـ من الكتاب أو السنة ـ على مشروعية ما هم عليه من الطرق‬
‫والمناهج المنحرفة لعجزوا أن يأتونا بذلك ‪ ..‬ولرأيتهم يلوون أعناقهم ويلتجئون إلى المتشابهات‬
‫والعموميات وليس لهم فيها أدنى حجة أو دليل ‪!..‬‬
‫ثم نقول لهؤلء المخالفين إن قدرتم على تحريف نص أو نصين عن ظاهرهما‬
‫ودللتهما‪ ..‬فأنى لكم بتأويل وتحريف آلف النصوص الشرعية التي تحض وتأمر بالجهاد في‬
‫سبيل ال ‪..‬؟!!‬
‫كذلك كيف يليق بكم ـ وأنتم تُظهرون حرصكم على نصرة هذا الدين ـ أن تصرفوا‬
‫نظركم عن هذه النصوص على كثرتها‪ ،‬وتجعلوها وراءكم ظهريا وكأنها لم تكن‪ ،‬وال تعالى ـ‬
‫كتب‬ ‫بكبريائه وعظمته وأسمائه الحسنى وصفاته العل ـ يخاطبكم بها وكل المؤمنين ‪..‬‬
‫يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي ال بقوم يحبهم‬ ‫عليكم القتال ‪..‬‬
‫يا أيها الذين‬ ‫ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل ال ‪..‬‬
‫يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم‬ ‫آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ‪..‬‬
‫يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار‬ ‫انفروا في سبيل ال اثاقلتم إلى الرض ‪..‬‬
‫‪ ..‬ألستم من الذين آمنوا الذين تعنيهم هذه اليات وغيرها ‪ ..‬ألستم من‬ ‫وليجدوا فيكم غِلظة ‪..‬‬
‫الذين آمنوا الذين يخاطبهم ال تعالى ‪..‬؟!!‬
‫ثانيا‪ :‬لن في الجهاد حياة ‪ ..‬حياة حقيقية لمعاني العزة والكرامة ‪ ..‬حياة حقيقية لنسانية‬
‫وآدمية النسان ‪ ..‬حياة حقيقية لحرمات النسان من النتهاك أو أن تكون عرضة لطماع‬
‫ـــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬صحيح سنن النسائي‪ )2( .3333 :‬صحيح سنن النسائي‪.2955:‬‬
‫وأحقاد الوحوش الدمية الفاجرة ‪!..‬‬
‫قال تعالى‪ :‬يا أيها الذين آمنوا استجيبوا ل وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم ‪..‬‬
‫النفال‪ .24:‬أي لما فيه سبب حياتكم الحقيقية ‪ ..‬حياة القلوب والبدان معا ‪ ..‬ومما دعانا إليه‬
‫الجهاد في سبيل ال ‪.‬‬ ‫النبي‬

‫‪112‬‬
‫قال ابن الزبير‪ :‬أي للحرب التي أعزكم ال‬ ‫وفي قوله تعالى‪ :‬إذا دعاكم لما يحييكم‬
‫تعالى بها بعد الذل وقواكم بها بعد الضعف‪ ،‬ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم ا‪ -‬هـ‪.‬‬
‫وقال ابن إسحاق‪ ،‬وابن قتيبة‪ :‬هو الجهاد الذي يحيي دينَهم ويُعليهم ‪ ..‬ا‪ -‬هـ‪.‬‬
‫البقرة‪ .179:‬أي‬ ‫وقال تعالى‪ :‬ولكم في القصاص حياة يا أُولي اللباب لعلكم تتقون‬
‫حياة حقيقية آمنة وسالمة من الجرام والعتداءات على حرمات وحقوق النسان ‪ ..‬والقصاص‬
‫جزئية تدخل في معنى الجهاد في سبيل ال ‪.‬‬
‫النفال‪ .39:‬والفتنة كل ما يُضاد الحياة‬ ‫وقال تعالى‪ :‬وقاتلوهم حتى ل تكون فتنة ‪..‬‬
‫الحقيقية السوية الخالية من الفتن والخراب والفساد ‪ ..‬فإذا استؤصلت الفتنة من المجتمعات ‪..‬‬
‫تحققت الحياة الحقيقية التي ملؤها الخير والسلمة للجميع ‪ ..‬والفتنة ـ بخاصة إذا كانت ممتنعة‬
‫بقوة السلح ـ ل يمكن استئصالها إل بالجهاد والقتال كما أمر ال تعالى‪.‬‬
‫البقرة‪ .216:‬وفي سورة‬ ‫وقال تعالى لما أمر بالجهاد والقتال‪ :‬وهو خير لكم ‪..‬‬
‫التوبة‪ .41:‬والخيرية هنا تشمل خيري الدنيا والخرة‬ ‫التوبة‪ :‬ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون‬
‫‪ ..‬تشمل الحياة الحقيقية التي ينبغي أن يعيشها النسان ‪ ..‬وإن كانت هذه الحقيقة الساطعة ـ‬
‫بسبب من عند أنفسنا ـ ل نعلمها بادئ ذي بدء‪ ،‬فإن ال تعالى يعلمها‪ ،‬كما قال تعالى‪ :‬وال‬
‫‪.‬‬ ‫يعلم وأنتم ل تعلمون‬
‫‪ ":‬مثل القائم على حدود ال والواقع‬ ‫وفي الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره‪ ،‬قال‬
‫فيها كمثل قومٍ استهموا ـ أي اقترعوا ـ على سفينة‪ ،‬فأصاب بعضهم أعلها وبعضهم أسفلها‪،‬‬
‫فكان الذي في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا‪ :‬لو أنا خرقنا في نصيبنا‬
‫خرقا ولم نؤذِ مَن فوقنا‪ ،‬فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا‪ ،‬وإن أخذوا على أيديهم نجوا‬
‫ونجوا جميعا "‪ .‬أي إن أخذوا على أيدي أهل الباطل والفساد والشر بالجهاد والنكار ‪ ..‬نجوا‪،‬‬
‫ونجوا جميعا‪ ،‬ونجت معهم البلد من الغرق والضياع ‪ ..‬من كل ما يدخل في معاني الهلك ‪..‬‬
‫وكل من ينجو من مطلق الهلك تحققت له ول بد الحياة الحقيقية في الدنيا والخرة ‪.‬‬
‫وإذا كان في الجهاد حياة حقيقية فإن من لوازم تركه العذاب والحياة الضنك وتحقيق‬
‫الموت الحقيقي للبلد والعباد ‪ ..‬موت حقيقي لمعاني الحرية والعزة والكرامة ‪!..‬‬
‫ما قيمة الجساد إذا كانت تدب على الرض ‪ ..‬وجميع الحرمات ومعاني إنسانية النسان‬
‫تنتهك وتُقتل ‪..‬؟!‬

‫‪113‬‬
‫طه‪ .124:‬ومن الذكر‬ ‫قال تعالى‪ :‬ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا‬
‫الجهاد في سبيل ال ‪..‬‬
‫التوبة‪ .39:‬والعذاب هنا يشمل عذابي‬ ‫وقال تعالى‪ :‬إل تنفروا يعذبكم عذابا أليما‬
‫الدنيا والخرة ‪ ..‬عذاب الدنيا لما يترتب على ترك الجهاد وتسليم العناق والحرمات لرحمة‬
‫الطواغيت ‪ ..‬وعذاب الخرة بسبب عصيان أمر ال تعالى بجهاد الطواغيت الظالمين ‪.‬‬
‫‪ ":‬ما ترك قوم الجهادَ إل عمهم ال بالعذاب "(‪.)1‬‬ ‫مصداق ذلك في السنة قوله‬
‫‪ ":‬إذا تبايعتم بالعينة‪ ،‬وأخذتم أذناب البقر‪ ،‬ورضيتم بالزرع‪ ،‬وتركتم الجهاد سلط‬ ‫وقال‬
‫ال عليكم ذلً ل ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم "(‪ .)2‬أي ترجعوا عما كان سببا في ِذلّكم ‪..‬‬
‫وهو ترك النشغال بما تقدم ذكره في الحديث عن الجهاد في سبيل ال ‪ ..‬فسمى ال تعالى‬
‫الجهاد بالدين ‪ ..‬فمن ترك الجهاد فقد ترك الدين ‪ ..‬ومن رجع إلى الجهاد رجع إلى الدين !‬
‫‪ ":‬من لم يغز‪ ،‬أو يجهز غازيا‪ ،‬أو يخلف غازيا في أهله بخير أصابه‬ ‫وقد تقدم قوله‬
‫ال بقارعة قبل يوم القيامة "‪ .‬قارعة ‪ ..‬ال أعلم بحجمها ونوعها ‪!..‬‬
‫‪ ":‬يوشك المم أن تداعى عليكم ـ أي تجتمع وتتكالب ـ كما تداعى الكلة إلى‬ ‫وقال‬
‫قصعتها‪ ،‬فقال قائل‪ :‬ومن قلة نحن يومئذٍ ؟ قال‪ :‬بل أنتم يومئذٍ كثير‪ ،‬ولكنكم غثاء كغثاء السيل‪،‬‬
‫ولينزعن ال من صدور عدوكم المهابة منكم‪ ،‬وليقذفن في قلوبكم الوهن‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال وما‬
‫الوهن ؟ قال‪ :‬حب الدنيا وكراهية الموت "(‪.)3‬‬
‫‪ ..‬فأي هوان وأي ذلّ تعيشه أمة السلم في هذا الزمان بسبب‬ ‫صدق رسول ال‬
‫تركها للجهاد(‪ .. )4‬تأمل مصابها في بلد الشام وبخاصة منها فلسطين ‪ ..‬ثم تأمل مصابها في‬
‫البوسنة والهرسك‪ ،‬وفي كوسوفو وكيف أن الناس ضربوا في الوديان والغابات يؤاثرون وحشية‬
‫ـــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬أخرجه الطبراني‪ ،‬السلسلة الصحيحة‪.2663:‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه أبو داود وغيره‪ ،‬السلسلة الصحيحة‪.11:‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه أبو داود وغيره‪ ،‬السلسلة الصحيحة‪.958:‬‬
‫(‪ )4‬مع ضرورة الشارة إلى وجود الطائفة المنصورة المجاهدة التي يُحيي ال تعالى بها‬
‫فريضة الجهاد ‪ ..‬وهي طائفة موجودة على مدار الزمان‪ ،‬ل يمكن أن يخلو زمان من وجودها‬
‫ومن أثر لها ‪ ..‬كما أفادت بذلك أحاديث نبوية عديدة ول الحمد ‪ ..‬وإني لرجو أن يكون‬

‫‪114‬‬
‫المجاهدون الموحدون في الشيشان وفي فلسطين من هذه الطائفة المنصورة إن شاء ال ‪ ..‬نسأل‬
‫ال تعالى لهم الثبات والنصر على العداء ‪.‬‬
‫الوحوش المفترسة على وحشية الوحوش الدمية الصربية الصليبية ‪ ..‬ثم تأمل مصابها مؤخرا‬
‫في الشيشان ‪ ..‬انظر شرقا وغربا ‪ ..‬شمالً وجنوبا ‪..‬ما من قطر من أقطار الرض إل وتجد‬
‫فيه الشعوب تدفع ضريبة باهظة في دينها وفي معاشها ‪ ..‬في كل ما تملك من مالٍ وأرض‬
‫وعرض ‪ ..‬كل ذلك بسبب تخليها عن الجهاد في سبيل ال ‪ ..‬وإيثارها للدعة والراحة‪ ،‬وركونها‬
‫لظاهر الحياة الدنيا ‪!..‬‬
‫فإن قيل كيف يكون في الجهاد حياة ويترتب عليه ما يترتب من القتل والقتال وحصول‬
‫الجراحات وغير ذلك ‪..‬؟!‬
‫أقول‪ :‬نعم‪ ،‬رغم ما ذُكر فإن في الجهاد حياة وذلك من وجهين‪:‬‬
‫ألهما‪ :‬من حيث تقليل نسبة الخسائر التي يمكن أن تصيب النفس والموال والحرمات ‪..‬‬
‫فإذا كان في الجهاد تقتل بعض النفس‪ ،‬وتتحقق بعض الخسائر أو الجراحات ‪ ..‬فإن ضريبة‬
‫ترك الجهاد في سبيل ال‪ ،‬والخلود إلى الرض ‪ ..‬هي أضعاف أضعاف ما يمكن أن يتحصل‬
‫بسبب الجهاد ‪ ..‬فيكون في الجهاد حياة للفارق بين ما يُعد ضريبة للجهاد وبين ما هو ضريبة‬
‫لترك الجهاد والركون إلى الرض وحب الدنيا ‪ ..‬وهو فارق ضخم جدا !‬
‫ولتوضيح الصورة أكثر نضرب المثال التالي‪ :‬في حال آثرت الشعوب الجهاد يُقتل منها‬
‫مثلً عشرة أنفس ‪ ..‬وفي حال آثرت ترك الجهاد ‪ ..‬يُقتل منها مائة نفس ‪ ..‬فيكون في اختيارها‬
‫لطريق الجهاد حياة حقيقية لتسعين نفس ـ كان موتها محقق في حال ترك الجهاد ـ وهو‬
‫الفارق بين ضريبة وتبعات الجهاد وبين ضريبة ترك الجهاد ‪ ..‬وهذا مثال ضربناه لتقريب‬
‫الصورة إليك يمكنك القياس عليه عند الحديث عن الحرمات التي يمكن أن تنتهك في مواطن‬
‫الجهاد ‪ ..‬والحرمات التي تنتهك في مواطن الستسلم والركون إلى الرض وترك الجهاد (‪!)1‬‬
‫ــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬لكي تعرف الفارق بين تكاليف الجهاد ‪ ..‬وتكاليف الركون إلى الدنيا وترك الجهاد تأمل ما‬
‫حصل في كلّ من البوسنة والهرسك والشيشان ‪ ..‬حيث في البوسنة والهرسك ـ بسبب ترك‬
‫الجهاد وانشغال الناس في البحث عن الثغور للفرار ـ قد انتهكت أعراض عشرات اللف من‬

‫‪115‬‬
‫النساء والفتيات المسلمات ‪ ..‬إضافة إلى مئات المقابر الجماعية للناس هناك حيث يُقبرون وهم‬
‫أحياء ‪ ..‬وهذا مرده كله يعود إلى تركهم للجهاد في سبيل ال‪ ،‬وانشغالهم عنه بالدنيا ‪!..‬‬
‫بينما ـ رغم وحشية الجيش الروسي وشدة فجوره وكفره وإجرامه ـ لم يحصل في‬
‫الشيشان شيء مما ذكر في البوسنة والهرسك ‪ ..‬بسبب أن إخواننا هناك ـ حفظهم ال من كل‬
‫سوء ـ قد آثروا طريق الجهاد في سبيل ال من أول الحداث وقبلها ‪ ..‬وقد بلغنا أن وحشا‬
‫روسيا ـ من قادة الجيش الروسي! ـ قد تجاسرت نفسه على العتداء على شرف فتاة مسلمة‬
‫شيشانية ثم قام بقتلها ‪ ..‬فكانت النتيجة أن اعتقل ⇦‬
‫أما ثانيا‪ :‬ففي الجهاد حياة لمعانٍ ل تقل قيمة عن النفس والرواح ‪ ..‬حياة لمعاني‬
‫الحرية‪ ،‬والعزة‪ ،‬والكرامة‪ ،‬والشرف ‪ ..‬ل طعم للحياة من دونها ‪ ..‬ول قيمة للجساد التي تدب‬
‫على الرض من دونها ‪ ..‬وهذه معانٍ ل تُستجدى من الخرين ‪ ..‬ول يمكن أن تحي من دون‬
‫الجهاد في سبيل ال !‬
‫فالجهاد حياة حقيقية من هذا الوجه ‪ ..‬فتفطن لذلك !‬
‫وهو ـ أي الجهاد ـ إضافة إلى جميع ما تقدم مؤداه إلى حياة الخلود والنعيم في الجنان‬
‫قبل يوم القيامة‪ ،‬وبعد قيامها كما قال تعالى‪ :‬ول تحسبن الذين قُتلوا في سبيل ال أمواتا بل‬
‫آل عمران‪.169:‬‬ ‫أحياءٌ عند ربهم يُرزقون ‪ .‬فرحين بما آتاهم ال من فضله‬
‫وقال تعالى‪ :‬ول تقولوا لمن يُقتل في سبيل ال أموات بل أحياء ولكن ل تشعرون‬
‫البقرة‪.154:‬‬
‫ثالثا‪ :‬لن الجهاد في سبيل ال هو الدعوة الصادقة والوسيلة الحقيقية لتحقيق السلم في‬
‫الرض ‪ ..‬وبيان ذلك أن ال تعالى فطر الخلق على سُنة ثابتة ماضية ـ ل يمكن لحدٍ مهما‬
‫أوتي من قوة أو نفوذ أن يلغيها أو يغيرها ـ ل تتغير ول تتبدل إلى يوم القيامة؛ وهي سنة‬
‫التدافع بين الحق وأهله من جهة وبين الباطل وأهله من جهة أخرى ‪ ..‬فالباطل ـ منذ أن وجد‬
‫ـ بكل تجمعاته وتكتلته يعمل جاهدا على استئصال الحق من الوجود وبسط نفوذه عليه‪،‬‬
‫وتحقيق السلم في الرض على طريقته الباطلة الظالمة ‪ ..‬وكذلك الحق بكل تجمعاته ل يألو‬
‫جهدا في تحجيم الباطل وكسر شوكته ‪ ..‬وفرض السلم في الرض على طريقته العادلة ‪.‬‬
‫فلو قُدر للباطل أن يبسط نفوذه على بقعة من بقاع الرض فهل تراه قادر على تحقيق‬
‫السلم العادل فيها ‪ ..‬أو أن ينصف الحق وأهله من نفسه ‪..‬؟!‬

‫‪116‬‬
‫الجواب‪ :‬ل ‪ ..‬لماذا ؟!‬
‫ذلك لسببين‪ ،‬أولهما‪ :‬ل يوجد للباطل قانون عادل ثابت يُلزم به أهله وأتباعه في السخط‬
‫ـــــــــــــــــــ‬
‫⇦ المجاهدون مقابل هذه المرأة ما يُقارب عشرة جنود ومقاتلين من الجيش الروسي ‪ ..‬ولما‬
‫أبى قادة الروس بتسليم المجرم الذي قام بالجرم المذكور للمجاهدين مقابل تسليمهم ما لدى‬
‫المجاهدين من أسرى ‪ ..‬قام المجاهدون ـ ثأرا لشرف وعرض تلك المرأة المسلمة ـ بقتل ما‬
‫لديهم من أسرى جنود الروس ‪ ..‬ولهم ذلك ‪ ..‬مما جعل طواغيت الروس أن يفكروا ألف مرة‬
‫قبل أن تتجاسر نفوسهم الخبيثة على العتداء على أعراض المسلمين ونسائهم ‪ ..‬ومرد ذلك كله‬
‫ـ كما تقدم ـ إلى إحياء فريضة الجهاد في سبيل ال في تلك الديار ‪ ..‬فتأمل الفارق الضخم‬
‫بين تكاليف الجهاد وبين تكاليف وتبعات ترك الجهاد ‪!..‬‬
‫والرضى ‪ ..‬في القوة والضعف ‪ ..‬في السلم والحرب ‪ ..‬الذي يمنعهم من التمادي في ظلم العباد‬
‫والمخالفين ‪ ..‬مما يحملهم على أن يشرعوا لنفسهم وللخرين القوانين التي تلبي نزواتهم‬
‫وأهواءهم‪ ،‬وأحقادهم ‪ ..‬والتي مؤداها إلى ظلم الخرين وهضم حقوقهم ووجودهم ‪ ..‬فهم ـ أي‬
‫أهل الباطل ـ ل يتورعون في أن يصدروا القوانين أو يغيروا بها ـ وقت يشاءون ـ لما يخدم‬
‫مصالحهم ومآربهم الخاصة وإن أدى ذلك إلى هضم وسحق الشعوب الخرى ‪!..‬‬
‫ولو وجدوا في مرحلة من المراحل أن قوانينهم ـ التي هي من عند أنفسهم وأهوائهم ـ‬
‫ل تلبي رغباتهم‪ ،‬وأطماعهم‪ ،‬وأحقادهم ‪ ..‬فالحبار والرهبان من دهاقنة الساسة جاهزون لسن‬
‫القوانين التي ترقى إلى درجة تلبية الرغبات والطماع ‪ ..‬والتي سرعان ما تتحول قوانينهم‬
‫الجائرة إلى مستوى القانونية أو الشرعية الدولية التي يجب على الشعوب المقهورة المسلوبة‬
‫الحقوق أن تحتكم إليها وترضى بها وبتبعاتها ‪ ..‬والويل كل الويل لمن يخالفها أو يعترض‬
‫عليها(‪!!)1‬‬
‫فالباطل الذي ل يملك الميزان الثابت العادل ‪ ..‬ل يمكن‪ ،‬بل ل يسمح للخرين أن‬
‫يتعاملوا معه بسلم أو بغير صدام ‪ ..‬وبالتالي فهو غير مؤهل بأن يحقق السلم العادل في‬
‫الوجود!‬
‫السبب الثاني‪ :‬فقد تضافرت أدلة النصوص الشرعية وكذلك أدلة الواقع المعايش على أن‬
‫الباطل بكل تجمعاته ومذاهبه ل يمكن أن يرضى عن الحق وأهله‪ ،‬أو أن تهدأ مطاردته‬

‫‪117‬‬
‫وملحقته لهم ‪ ..‬إل بأحد خيارين‪ :‬إما أن يرتد الحق عن حقه ليدخل في دين ومذاهب الباطل ‪..‬‬
‫وإما خيار القتل والتشريد والستئصال من الوجود إن قدروا على ذلك ‪!!..‬‬
‫البقرة‪.217:‬‬ ‫قال تعالى‪ :‬ول يزالون يُقاتلوكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا‬
‫ـــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬لتعرف حقيقة ذلك تأمل القوانين الجائرة الصادرة عن المم المتحدة‪ ،‬التي وراءها قوى‬
‫الستكبار العالمي أمريكا ومن دار في فلكها من دول الغرب الصليبي ‪ ..‬كيف تبيح للمغتصب‬
‫الظالم بأن يغتصب حقوق الخرين كما هو حاصل في فلسطين ‪ ..‬وفي الشيشان ‪ ..‬وفي‬
‫أفغانستان ‪ ..‬وفي العراق ‪ ..‬وفي كشمير وغيرها من البلدان والمصار ‪ ..‬كل ذلك يمرر بعد‬
‫أن تصدر القوانين ـ وما أسهل إصدارها على مصاصي الدماء من الحبار والرهبان ـ التي‬
‫تبيح هذا الغتصاب ‪ ..‬وهذه النتهاكات ‪ ..‬لتصبح فيما بعد هي الحق الذي ل يجوز التعقيب‬
‫عليه ‪ ..‬وخلفها من الحق هو الباطل الذي يُعد الهمس به من الرهاب ‪!! ..‬‬
‫وتأمل كذلك كيف تُطالب دول النفاق والشقاق ‪ ..‬العراق وشعب العراق باللتزام الحرفي‬
‫بالقوانين الصادرة عن المم المتحدة ـ أو بالحرى أمريكا راعية الطغيان العالمي ـ التي أدت‬
‫إلى قتل مئات اللف من أطفال العراق جوعا ومرضا ‪ ..‬وكأن هذه القوانين الكافرة آيات‬
‫منزلة من السماء ل تجوز مخالفتها أو معارضتها ‪ ..‬بل اليات المنزلت في القرآن الكريم‬
‫يجرؤون على مخالفتها وردها ول يجرؤون على مخالفة تلك القوانين التي مصدرها مصاصي‬
‫الدماء من الطواغيت ‪!! ..‬‬

‫يفيد الستمرار والمواصلة على القتال ما داموا قادرين‬ ‫وقوله تعال‪ :‬ول يزالون ‪..‬‬
‫على ذلك ‪ ..‬والغرض من هذا القتال أن يردوا أهل الحق عن حقهم ودينهم ليدخلوهم في باطلهم‬
‫ودينهم ‪!..‬‬
‫التوبة‪ .8:‬أي إن‬ ‫وقال تعالى‪ :‬كيف وإن يظهروا عليكم ل يرقبوا فيكم إلً ول ذمة‬
‫عل سلطانهم على أهل الحق ل يُراعون فيهم حرمة القرابة‪ ،‬ول حرمة ما بينهم من العهود‬
‫والمواثيق‪ ،‬ول يمنعهم عن سفك الدم الحرام أو انتهاك الحرمات شيء من ذلك ‪ ..‬ومن كان‬
‫كذلك ل يمكن أن يحقق السلم‪ ،‬أو أن يكون مؤهلً لتحقيق السلم مع الخرين ‪!..‬‬

‫‪118‬‬
‫البقرة‪.120:‬‬ ‫وقال تعالى‪ :‬ولن ترضى عنك اليهود ول النصارى حتى تتبع ملتهم‬
‫فلن الواردة في الية الكريمة تفيد نفي الحاضر والمستقبل ‪ ..‬أي مهما حاول أهل الحق أن‬
‫يسترضوا اليهود والنصارى عنهم فلن يُفلحوا إل بشرط واحد‪ :‬وهو اتباع ملتهم والدخول في‬
‫دينهم وباطلهم ‪!..‬‬
‫والية تفيد كذلك أن رضى اليهود والنصارى عن المسلم مؤشر صريح على انحراف‬
‫المسلم عن جادة الحق والصواب إلى الباطل الذي هم عليه ‪ ..‬فحيثما يظهر رضى القوم عن‬
‫المسلم فعليه أن يتهم نفسه‪ ،‬وأن يُراجع دينه !!‬
‫وقال تعالى‪ :‬وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودنّ في ملتنا‬
‫يفيد الستغراق؛ أي جميع الذين كفروا على‬ ‫وقال الذين كفروا ‪..‬‬ ‫إبراهيم‪ .13:‬فقوله تعالى‬
‫لنخرجنكم من أرضنا أو‬ ‫مدار الزمن وإلى يوم القيامة يقولون للرسل وأتباعهم المؤمنين‬
‫‪ ..‬ومن كان هذا وصفه وديدنه فأنى له أن يحقق السلم في الرض ؟!!‬ ‫لتعودن في ملتنا‬
‫ونحو ذلك قوله تعالى عن فتية أهل الكهف‪ :‬إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو‬
‫الكهف‪ .20:‬وغيرها كثير من اليات القرآنية الكريمة‬ ‫يُعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا‬
‫التي تفيد هذا المعنى ‪..‬‬
‫لما أخبر ورقة بن نوفل خبر ما‬ ‫وفي الحديث فقد أخرج البخاري وغيره أن النبي‬
‫رأى من الوحي‪ ،‬قال له ورقة‪ :‬هذا الناموس ـ أي جبريل عليه السلم ـ الذي نزل على‬
‫موسى‪ ،‬يا ليتني فيها جذعا ـ أي شابا قوياُ ـ ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك‪ ،‬فقال رسول‬
‫‪ :‬أو مخرجي هم ؟! فقال‪ :‬نعم‪ ،‬لم يأتِ رجل بمثل ما جئت به إل عودي‪ ،‬وإن يدركني‬ ‫ال‬
‫يومك أنصرك نصرا مؤزرا ‪.‬‬
‫هذه أدلة النصوص الشرعية ‪ ..‬أما أدلة الواقع الملموس والمشاهد فحدث عنها ول‬
‫حرج؛ فما أكثر تلك الديار وأولئك الشعوب التي تنتهك حرماتهم صباح مساء بسبب أنهم لم‬
‫يدخلوا في‬
‫طاعة القوم أو في دينهم ‪..‬؟!‬
‫فانظر ماذا حصل ويحصل في فلسطين ‪ ..‬وماذا حصل في البوسنة والهرسك ‪ ..‬وفي‬
‫كوسوفو ‪ ..‬وماذا يحصل في هذه اليام في الشيشان ‪ ..‬وفي الفلبين ‪ ..‬وفي أندونيسيا ‪ ..‬وفي‬

‫‪119‬‬
‫الصين ‪ ..‬وفي كشمير ‪ ..‬وفي أفغانستان ‪ ..‬وفي العراق ‪ ..‬وفي السودان ‪ ..‬وفي أرتيريا ‪..‬‬
‫وفي لبنان ‪ ..‬وفي الصومال ‪ ..‬وغيرها كثير من البلدان ‪!!..‬‬
‫ما يحصل في تلك الديار وغيرها من ممارسات وتصفيات وحصارات‪ ،‬ومؤامرات ‪..‬‬
‫لهو أكبر دليل على أن القوم ل يُحسنون صنعة السلم ‪ ..‬إل سلم السياد مع العبيد ‪ ..‬العبيد‬
‫الذين ل يحق لهم ـ في قوانين السياد ـ إل أن يمتهنوا صنعة الركوع والسجود والطاعة‬
‫للسياد ولقوانين السياد ‪!..‬‬
‫هذا هو سلم الباطل ‪ ..‬فسلمه غدر وحرب وق تل وقتال ‪ ..‬وهضم ون صب للحقوق والحريات‬
‫‪ ..‬ومن كان كذلك فهو غير مؤهل لرعاية عملية السلم ‪ ..‬ول لبسط وتحقيق السلم ‪ ..‬لنهم‬
‫هم أنفسهم يفقدون السلم ‪ ..‬وفاقد الشيء ل يمكن أن يعطيه للخرين !‬
‫إذا كان هذا هو سلم الباطل ‪ ..‬فهل الحق قادر على تحقيق السلم العادل ‪ ..‬وهل هو‬
‫قادر على إنصاف الخرين ـ ولو كانوا من أهل الباطل ـ من نفسه ‪ ..‬أو يحقق لهم المن‬
‫والسلم ‪..‬؟!‬
‫الجواب‪ :‬نعم ‪ ..‬لماذا ؟‬
‫لن الحق يملك القانون العادل الثابت الذي يُعرفه ما له وما عليه ‪ ..‬القانون الذي يلتزمه‬
‫في السر والعلن ‪ ..‬في السخط والرضى ‪ ..‬في السلم والحرب ‪ ..‬وليس له أن يخرج قيد أنملة‬
‫عن هذا القانون إل إذا آثر أن يخرج عن كونه ووصفه بأنه الحق أو من أهل الحق !‬
‫هذا القانون هو " حكم ال تعالى " الذي ل يتغير ول يتبدل‪ ،‬والذي ل يُحابي مخلوقا على‬
‫حساب مخلوق ‪ ..‬فكل الناس أمامه سواء ‪ ..‬الغالب والمغلوب ‪ ..‬الضعيف والقوي ‪ ..‬السيد‬
‫والوضيع ل فرق بينهم أمام حكم ال ‪ ..‬فلكل له وعليه ‪ ..‬وعلى الجميع أن يلتزموا بما لهم وما‬
‫عليهم ‪ ..‬بحسب ما يقضي ال تعالى في حكمه وشرعه!‬
‫وهذا من أكبر العوامل التي تعين على تحقيق السلم في الرض ‪ ..‬إذ أن الخرين‬
‫يعرفون قبل أن يدخلوا في السلم مع الحق وأهله ما لهم وما عليهم ‪ ..‬إنهم جميعا أمام قانون‬
‫واحد ل يمكن أن يتغير ول أن يتبدل بحسب الهواء والمصالح ‪ ..‬فهو ل يخضع لمزاج‬
‫السلطين أو الحكام ول لسياساتهم ‪ ..‬كما ل يجوز أن يخضع لرغبات ونزوات الشعوب‬
‫المنتصرة الغالبة ‪ ..‬كما هو الحال عند الباطل وأهله !!‬

‫‪120‬‬
‫فهم عندما يدخلون في سلم الحق لن يكونوا عبيدا للعبيد ‪ ..‬ول خاضعين لسلطة العبيد‬
‫كما هو الحال عندما ينتصر الباطل في موقعة من المواقع ‪ ..‬وإنما هم في حقيقة أمرهم داخلون‬
‫‪ ..‬وفي السلم العام الذي شرعه ال‬ ‫‪ ..‬وفي العبودية العامة للخالق‬ ‫في الطاعة العامة ل‬
‫تعالى للعباد ‪ ..‬وهذه عبودية تشريف ل انتقاص فيها من قدر المخلوق أو العباد(‪!.. )1‬‬
‫من قوانين الحق التي يلتزم بها المسلمون حكاما ومحكومين قوله تعالى‪ :‬يا أيها الذين‬
‫المائدة‪ .1:‬وقوله تعالى‪ :‬وأوفوا بعهد ال إذا عاهدتم ول تنقضوا‬ ‫آمنوا أوفوا بالعقود‬
‫النحل‪ .91:‬وقوله تعالى‪ :‬ول تشتروا بعهد ال ثمنا قليلً إنما عند ال‬ ‫اليمان بعد توكيدها‬
‫النحل‪ .95:‬وقوله تعالى‪ :‬وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولً‬ ‫هو خير لكم إن كنتم تعلمون‬
‫السراء‪ .34:‬فهي نصوص تلحق ضمير وأخلق المؤمن أينما ذهب أو حل وأقام ‪ ..‬تمنعه‬
‫من أن يفكر ـ مجرد التفكير ـ في الغدر أو الخيانة أو نقض العهد مهما كانت تكاليف وتبعات‬
‫اللتزام بالعهد أو العقد الذي يعطيه المؤمن للخرين(‪!.. )2‬‬
‫ـــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬العبادة نوعان‪ :‬عباد شرعية دينية أو عبادة خاصة ‪ ..‬وهذه عبادة ل إكراه فيها إن أبى‬
‫النسان أن يدخل فيها ‪ ..‬وهو المراد من قوله تعالى‪ :‬ل إكراه في الدين ‪ ..‬؛ أي ل إكراه‬
‫على الدخول في العبادة الشرعية الدينية ‪ ..‬وعبادة كونية قدرية أو عبادة عامة؛ وهي عبادة‬
‫‪ ..‬وهذه عبادة ل‬ ‫‪ ..‬والنقياد العام لسلطة شرع ال‬ ‫الدخول في الطاعة العامة لحكم ال‬
‫مناص لحدٍ من العباد أن يتخلف عنها أو ل يدخل فيها ‪ ..‬فإن أبوا إل القتال قوتلوا عليها ‪..‬‬
‫أي حتى‬ ‫وهو المراد من قوله تعالى‪ :‬وقاتلوهم حتى ل تكون فتنة ويكون الدين كله ل‬
‫تكون الطاعة والخضوع كله ل وحده ‪ ..‬وليس لسلطان‪ ،‬أو شعب منتصر ‪ ..‬فإن أتوا بالعبادة‬
‫العامة والطاعة العامة لحكم ال تعالى وسلطانه ‪ ..‬فليدخلوا بعدها في العبادة الدينية الخاصة‬
‫التي يشاءون ‪ ..‬وحسابهم على ال !!‬
‫كان قد صالح نصارى الروم على‬ ‫(‪ )2‬مما يذكره لنا التاريخ‪ :‬أن أبا عبيدة بن الجراح‬
‫مدينة دمشق‪ ،‬وكان خالد بن الوليد لم يعلم بصلح وعهد أبي عبيدة مع نصارى الروم ‪ ..‬فافتتح‬
‫دمشق عنوة من جهة الباب الشرقي للمدينة ‪ ..‬ولما ذكر النصارى ذلك لعبيدة ر ّد إليهم المدينة‬
‫بكاملها ـ التي هي دمشق! ـ وفاء بالعهد وبالكلمة التي أعطاها لهم ‪!..‬‬

‫‪121‬‬
‫تأمل ‪ ..‬أهكذا هم الصهاينة اليهود اليوم ـ ووراءهم أمريكا والغرب الصليبي ـ في‬
‫تعاملهم مع العقود والعهود التي يعطونها للخرين ‪ ..‬كم هي العقود والعهود التي يبرمونها اليوم‬
‫‪ ..‬وفي اليوم الثاني يغدرون بها لدنى مصلحة يمكن أن يفقدونها من وراء هذا العقد أو العهد‬
‫‪ ..‬فأنى لهؤلء أن يكونوا دعاة بحق للسلم أو أنهم كفأ لن يكونوا رعاة بحق لعملية السلم‬
‫‪ ..‬؟!!‬
‫ثم تأمل انسحاب الصهاينة اليهود الصوري من أراضٍ ل حق لهم فيها في فلسطين ‪ ..‬كيف‬
‫يكون بالشبر والفِتر ‪ ..‬وذلك كله بعد العهود الكثيرة الكاذبة والمتراكمة عليهم منذ عقود قد‬
‫أعطوها للخرين ‪!!..‬‬

‫‪ ":‬فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا‪ ،‬وإن‬ ‫وقد تقدم معنا حديث السفينة‪ ،‬وفيه قوله‬
‫أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا "؛ أي إن تركوا لهل الباطل الحرية في قيادة السفينة‬
‫والمجتمعات‪ ،‬أو أن يفرضوا سلمهم الباطل كما يحلو لهم فقد هلكوا جميعا‪ :‬الصالحين‬
‫والطالحين ‪ ..‬وغرقت بهم السفينة‪ ،‬وهلكت البلد ‪! ..‬‬
‫وإن أخذوا على أيديهم ـ بالجهاد والقتال ـ ومنعوهم عن فسادهم وطغيانهم‪ ،‬وفرضوا‬
‫سلمهم العادل ‪ ..‬نجوا جميعا‪ ً:‬الصالحين والطالحين معا ‪ ..‬ونجت معهم السفينة والمجتمعات‬
‫من الغرق في أوحال الشرك والفساد‪ ،‬والدمار ‪! ..‬‬
‫" نجوا ونجوا جميعا " الذي يفيد‬ ‫والذي يهمنا من ألفاظ الحديث في هذا الموضع قوله‬
‫حرص الحق على تحقيق النجاة والسلمة لهل الباطل كذلك ‪ ..‬وهذا مال يمكن أن نجده أو‬
‫نشعر به عند أهل الباطل نحو الحق وأهله ‪!..‬‬
‫‪ ":‬من أمن رجلً على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل‪ ،‬وإن كان المقتول كافرا "(‬ ‫وقال‬
‫‪ ":‬من قتل نفسا معاهدة بغير حلها‪ ،‬حرم ال عليه الجنة أن يشم ريحها "(‪.)2‬‬ ‫‪ .)1‬وقال‬
‫هذه هي أخلق ال حق ال تي تُلزم كل م سلم ولو كان في أدغال إفريق يا أو الفلب ين ‪ ..‬ف هو‬
‫يكف يه بأن ي سمع بهذا الحد يث أو نحوه ليكون له رادعا وزاجرا يرد عه من أن ي مس أو ي صيب‬
‫الكافر الذمي أو المعاهد المؤمّن بأدنى أذى أو سوء ‪!..‬‬
‫وبعد‪ ،‬فإنه يحق لنا أن نسأل‪ :‬أهكذا هم أهل الباطل ـ بكل تجمعاتهم ومذاهبهم ـ عندما‬
‫يتعاملون مع المسلمين وبخاصة إن ظهروا عليهم بنوع قوة أو سلطة ‪ ..‬؟!‬

‫‪122‬‬
‫الجواب‪ :‬تجده في المجازر الجماعية بحق الشيوخ والطفال والنساء التي ارتكبت في‬
‫البوسنة والهرسك ‪ ..‬وفي الشيشان ‪ ..‬وفي أفغانستان من قبل ‪ ..‬تجده في المقابر الجماعية‬
‫للحياء ‪ ..‬تجده في حرق المسلمين وهم يتعبدون في مساجدهم كما حصل في مالوكو إندونسيا‬
‫‪ ..‬؟!!‬
‫تجد الجواب في البيوت المهدمة على أهلها وأصحابها البرياء في فلسطين ‪..‬؟!‬
‫راجع تاريخ فتوحات السلم كلها ‪ ..‬هل تعرف مرة أن السلم اضطر ـ فضلً عن‬
‫أن يجبر ـ أهل البلد بأن يخرجوا من ديارهم باللف أو المليين ‪!!..‬‬
‫بينما نجد صهاينة اليهود لما غزوا فلسطين شردوا مليين المسلمين من أبناءها‬
‫وأسكنوهم في العراء وفي المخيمات ‪ ..‬ثم بعد ذلك قسّموا الناس بين نازح ولجئ‪ ،‬ولكل منهما‬
‫درجة ؟!‬
‫ـــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬أخرجه النسائي‪ ،‬وابن ماجة‪ ،‬وأحمد‪ ،‬السلسلة الصحيحة‪.440:‬‬
‫(‪ )2‬صحيح سنن النسائي‪.4423:‬‬
‫كذلك لما غزت روسيا من قبل أفغانستان ‪ ..‬وكذلك لما غزت الشيشان ‪ ..‬وكذلك‬
‫الصرب لما غزوا البوسنة والهرسك ‪ ..‬أجبروا المسلمين من أهل البلد على الهجرة والخروج‬
‫من ديارهم وبيوتهم ‪ ..‬وذلك بعد أن ارتكبوا بحقهم المجازر التي ل يمكن أن يتصورها عقل‬
‫آدمي ‪!!..‬‬
‫كل ذلك يحصل في زمن الديمقراطية ‪ ..‬وزمن النسانية ‪ ..‬ومحاربة العنصرية ‪..‬‬
‫وعلى مرأى ومسمع من جميع محافل الباطل ومؤسساته ودوله(‪.)1‬‬
‫كل ذلك يجعلنا نجزم ونؤكد بأن الباطل ل يمكن له أن يحقق السلم العادل في الوجود‬
‫لنه ل يملك الخصائص النفسية والخلقية التي تمكنه من ذلك‪ ،‬بخلف الحق فإنه يملك جميع‬
‫مقومات وخصائص تحقيق السلم العادل في الرض كل الرض ‪ ..‬وبالتالي هو الذي يجب أن‬
‫يُرشح لقيادة ورعاية عملية السلم‪ ،‬وعلى طريقته الخاصة به ‪ ..‬وليس على طريقة أحدٍ غيره‪.‬‬
‫ولما كان الباطل ل يسمح للحق أن يقود ويرعى عملية السلم ‪ ..‬أو يحقق السلم العادل‬
‫على طريقته الشرعية الربانية ‪ ..‬لزم على الحق وأهله أن يجاهدوا الباطل وأهله ويزيلوا من‬
‫أمامهم العقبات الكثيرة التي ينثرها الباطل في طريقهم والتي تحيل بينهم وبين تحقيق السلم ‪!..‬‬

‫‪123‬‬
‫لذا فإن كل من يريد السلم بحق نقول له‪ :‬أقرب طريق لتحقيق السلم العادل هو الجهاد‬
‫في سبيل ال ‪ ..‬وأي طريق آخر يُسلك غير طريق الجهاد فهو طريق ل يوصل للسلم ول‬
‫يمكن أن يحقق السلم‪ ،‬وهو مضيعة للوقات والعمار من غير طائل ول فائدة ‪ ..‬وليس من‬
‫ورائه إل تأخير عملية السلم ‪ ..‬وإطالة أمد الحروب والظلم والشقاء والحرمان ‪!..‬‬
‫فكل من يتنكب طريق الجهاد ـ بقصد أو غير قصد ـ فهو ل يعمل للسلم ‪ ..‬ول يريد‬
‫للسلم أن تقوم له قائمة ‪ ..‬وإنما يريد أن يطيل أمد الحروب والشقاء والظلم والحرمان ‪ ..‬يريد‬
‫أن يطيل عمر طغيان الباطل ‪ ..‬يريد أن يكرس سلم الباطل الذي هو ليس بسلم ‪ ..‬وإن زعم‬
‫ملء ــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬فإن قيل ولكن يوجد في الدول الغربية المتحضرة قوانين تحارب العنصرية ‪ ..‬أقول‪ :‬رغم‬
‫أن هذه الدول قد اهتدت لهذه القوانين مؤخرا وبعد سلسلة طويلة من النتهاكات لحقوق النسان‬
‫‪ ..‬إل أن هذه القوانين عبارة عن حبر على ورق ل سلطان لها في ضمائر الشعوب وأخلقهم‬
‫‪ ..‬لذا نرى هذه القوانين في وادٍ وأخلق وممارسات الناس في وادٍ آخر‪ ،‬والدلة على ذلك أكثر‬
‫من أن تحصر في هذا الموضع‪ ،‬كان آخرها ـ كما طالعتنا بذلك وكالت النباء ـ قتل طفل‬
‫في ألمانيا ‪ ..‬ذنبه وجرمه أن أباه مسلم من العراق ‪ ..‬علما أن أمه ألمانية الصل والمنشأ ‪..‬؟!!‬
‫ثم ما قيمة أن تُحارَب العنصرية على مستوى ممارسة الفراد في داخل المجتمع ‪ ..‬بينما‬
‫في المقابل هم يقرون ويباركون العنصرية الدولية التي تمارس بحق دول وشعوب من الدرجة‬
‫الثانية أو الثالثة كما يصنفونها هم ‪ ..‬كما هو حاصل في فلسطين وغيرها من البلدان ؟!!‬
‫شدقيه أنه من دعاة وأنصار السلم !!‬
‫وعليه فإن أقرب الناس للسلم‪ ،‬وأصدقهم دعوة إلى السلم هم المجاهدون في سبيل ال‬
‫الذين يُقاتلون في سبيل ال ‪ ..‬وأكثر الناس بعدا وعداءً للسلم هم أكثرهم عداءً لمبدأ الجهاد في‬
‫سبيل ال ‪!!..‬‬
‫رابعا‪ :‬لن الغايات العامة للسلم ل يمكن أن تتحقق إل بالجهاد في سبيل ال ‪.‬‬
‫فمن دواعي الشروع في طريق الجهاد كذلك أن الغايات العظمى الكليّة للسلم ل يمكن‬
‫أن تتحقق إل بالجهاد في سبيل ال ‪.‬‬
‫ومن أجل وأعظم غايات السلم نشر التوحيد وبسط نفوذه ‪ ..‬واستئصال الشرك وتحجيم‬
‫نفوذه ‪ ..‬والعمل على أطر العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ‪ ..‬ومن جور الديان‬

‫‪124‬‬
‫إلى‬ ‫والشرك إلى عدل السلم والتوحيد ‪ ..‬وهذه مهمة جميع النبياء والرسل من لدن آدم‬
‫‪ ،‬كما قال تعالى‪ :‬ولقد بعثنا في كل أمة رسولً أن اعبدوا ال واجتنبوا‬ ‫نبينا محمد‬
‫النحل‪.36:‬‬ ‫الطاغوت‬
‫وقد تقدمت الشارة إلى حرص الباطل الشديد على منع الحق من أن يبسط نفوذه أو‬
‫ينشر ما لديه من الخير والهداية‪ ،‬وهو ل يتردد في زرع العقبات والشواك في طريقه‪ ،‬التي‬
‫تعيق بين رسالته وهدفه وبين الناس ‪ ..‬وقد ذكرنا ـ فيما تقدم ـ الدلة على ذلك من النصوص‬
‫الشرعية‪ ،‬وكذلك أدلة الواقع التي تثبت أن الباطل ل يهدأ له بال ول تقر له عين إل بعد أن يرد‬
‫الحق عن حقه أو يُزيله عن الوجود والحياة إن استطاع ‪!..‬‬
‫وهذا واقع ظاهر ل خفاء فيه ‪ ..‬ل ينبغي أن نطيل الجدال حوله لنثبت صحته ‪!..‬‬
‫الشاهد مما تقدم‪ :‬أن السلم ل بد له من أن يؤدي رسالته‪ ،‬وهو وجِد لذلك ‪ ..‬وأن‬
‫القائمين على نصرة هذا الدين الحنيف ل بد لهم من أن يعملوا جادين ومخلصين لنصرة هذا‬
‫الدين ونشر تعاليمه بين الناس كل الناس‪ ،‬وليس لهم خيار غير ذلك ‪ ..‬وهذا من لوازمه إزالة‬
‫كل العقبات والشواك التي يفترشها الباطل في طريق الحق ‪ ..‬ومادة ذلك كله الجهاد في سبيل‬
‫ال ‪.‬‬
‫فالباطل بكل جيوشه وتجمعاته ‪ ..‬ليس ذلك الخصم السهل البسيط المسكين ـ كما يصور‬
‫البعض ـ الذي يمكن أن تحسم معه المشاكل من خلل الوعظ أو مجرد الكلمة ـ على طريقة‬
‫المفتونين بالديمقراطية ـ بعيدا عن قوة السيف والحديد ‪ ..‬والذين يرون غير ذلك فهؤلء لم‬
‫يقرأوا القرآن بعد ‪ ..‬ولم يقرأوا التاريخ ول الواقع كذلك ‪ ..‬وهم على قلوبهم وأبصارهم غشاوة!‬
‫لجل ذلك نجد أن ال تعالى قد أنزل القرآن الكريم؛ وهو الحق المطلق ‪ ..‬وأنزل معه‬
‫الحديد فيه بأس شديد ليحمي به هذا الحق ‪ ..‬ويسهّل له رسالته في الوجود ‪.‬‬
‫قال تعالى‪ :‬لقد أرسلنا رُسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط‬
‫وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلمَ الُ من ينصرُه ورسلَه بالغيب إن ال قوي‬
‫الحديد‪.25:‬‬ ‫عزيز‬
‫فالحق ل بد له من حديد يحميه ويرد عنه سهام شياطين النس والجن ‪ ..‬فحق بل حديد‬
‫سهل المنال ‪ ..‬وسهل أن تنتهك حرماته ‪ ..‬وسهل أن يُمنع عن تحقيق أهدافه ورسالته ‪ ..‬وهو‬
‫عرضة للسخرية والستهانة من كل مارق أو كافر معاند ‪!..‬‬

‫‪125‬‬
‫فالذي ل يرى الجهاد ‪ ..‬ول يدعو للجهاد ‪ ..‬ول يأمر بالجهاد ‪ ..‬فهو ـ بقصد أو غير‬
‫قصد ـ يُريد أن ينزل بالحق كل أنواع الذى المتقدمة الذكر أعله ‪ ..‬ول يريد للحق أن تقوم له‬
‫قائمة عز مشرفة !‬
‫تأمل عدد نسخ القرآن الكريم التي تطبع في العالم فهي تتجاوز مئات المليين ‪ ..‬بل ما‬
‫من بيت إل وفيه عدة نسخ من القرآن الكريم ‪ ..‬ولكن لما تخلى الناس عن الحديد وخلت بيوتهم‬
‫من الحديد ‪ ..‬ضعف أثر القرآن في الوجود !‬
‫من قوله‪ :‬إن ال ليزع ـ أي ليردع‬ ‫وهذا الذي يريده الخليفة الثالث عثمان بن عفان‬
‫ـ بالسلطان مال يزع بالقرآن !‬
‫خلصة القول‪ :‬أن القرآن والحديد رسالتان متوازيتان تسيران جنبا إلى جنب ‪ ..‬ل‬
‫مضاء لحداهما إل بالخرى ‪ ..‬وهما للحق كالجناحين للطائر ل يمكن له الطيران والعلو في‬
‫السماء إل بهما معا ‪ ..‬فإن أصيب في أحد جناحيه خرّ إلى الرض ووقع ‪ ..‬ول بد له من أن‬
‫يقع !‬
‫خامسا‪ :‬ثم بعد كل ذلك لن الجهاد في سبيل ال عبادة عظيمة ‪ ..‬التفريط بها تفريط بباب‬
‫عظيم من أبواب الجنة ‪ ..‬تفريط بالدرجات العُل ‪ ..‬والخصال الفريدة ‪ ..‬التي ل يمكن أن تتأتى‬
‫للقاعدين من غير جهاد ‪ ..‬مهما أتوا من ضروب العبادات الخرى ‪ ..‬لندع نصوص الكتاب‬
‫والسنة تحدثنا عن كل ذلك‪:‬‬
‫قال تعال‪ :‬ل يستوي القاعدون من المؤمنين غيرُ أُولي الضرر والمجاهدون في سبيل‬
‫ال بأموالهم وأنفسهم فضّل ال المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجةً وكلً وعدَ ال‬
‫النساء‪.95:‬‬ ‫الحسنى وفضل ال المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما‬
‫فقال‪ :‬دلني على عمل يعدل الجهاد‪ ،‬قال‪ ":‬ل أجده ! ‪ ..‬هل‬ ‫جاء رجل إلى رسول ال‬
‫تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ول تفتر‪ ،‬وتصوم ول تفطر ؟! " قال‪ :‬ومن‬
‫يستطيع ذلك ؟!! [ البخاري ]‪.‬‬
‫‪ ":‬مؤمن يجاهد في سبيل ال‬ ‫وقيل يا رسول ال أي الناس أفضل ؟ فقال رسول ال‬
‫بنفسه وماله ‪ ["..‬البخاري ]‪.‬‬
‫‪ ":‬لغدوة في سبيل ال أو روحة خير من الدنيا وما فيها "[ البخاري ]‪.‬‬ ‫وقال‬

‫‪126‬‬
‫‪ ":‬لغدوة أو روحة في سبيل ال خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب‬ ‫وقال‬
‫‪ ":‬واعلموا أن الجنة تحت ظلل السيوف "[ البخاري ]‪.‬‬ ‫"[ البخاري ]‪ .‬وقال‬
‫وقال‪ ":‬رباط يوم في سبيل ال خير من الدنيا وما عليها ‪ [" ..‬البخاري ]‪ .‬هذا رباط يومٍ‬
‫في سبيل ال ‪ ..‬فكيف بجهاد يومٍ في سبيل ال ‪ ..‬أو جهاد أيام ‪ ..‬أو جهاد أشهر ‪ ..‬أو جهاد‬
‫العمر ‪ ..‬ال أكبر ‪ ..‬إنها الجنان والدرجات ورب الكعبة !!‬
‫‪ ":‬تضمّن الُ لمن خرج في سبيله ل يُخرجه إل جهادا في سبيلي وإيمانا بي‬ ‫وقال‬
‫وتصديقا برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أُرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلً ما‬
‫نال من أجرٍ أو غنيمة‪ ،‬والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل ال إل جاء يوم القيامة‬
‫كهيئته حين كُلم؛ لونه لون دمٍ وريحه مسك ‪ .‬والذي نفس محمد بيده لول أن يشق على المسلمين‬
‫ما قعدت خلف سرية تغزو في سبيل ال أبدا‪ ،‬ولكن ل أجد سعة فأحملهم ول يجدون سعة‪،‬‬
‫ويشق عليهم أن يتخلفوا عني‪ ،‬والذي نفس محمدٍ بيده لوددت أني أغزو في سبيل ال فأُقتل ثم‬
‫أغزو فأُقتل‪ ،‬ثم أغزو فأُقتل "[ مسلم ]‪.‬‬
‫قال‪ :‬يا أبا سعيد من رضي بال ربا‪،‬‬ ‫وعن أبي سعيد الخدري أن رسول ال‬
‫وبالسلم دينا‪ ،‬وبمحمدٍ نبيا وجبت له الجنة " فعجب لها أبو سعيد فقال‪ :‬أعدها علي يا رسول‬
‫ال‪ ،‬ففعل ثم قال‪ ":‬وأُخرى يُرفع بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين‬
‫السماء والرض!" قال وما هي يا رسول ال ؟ قال‪ ":‬الجهاد في سبيل ال‪ ،‬الجهاد في سبيل ال‬
‫"[ مسلم ]‪.‬‬
‫‪ ":‬أبواب الجنة تحت ظلل السيوف "[ مسلم ]‪ .‬فهو ليس باب واحد بل هي‬ ‫وقال‬
‫أبواب كلها تحت ظلل السيوف والجهاد ‪!..‬‬
‫قال النووي‪ :‬قال العلماء معناه أن الجهاد وحضور معركة القتال طريق إلى الجنة وسبب‬
‫لدخولها ‪ ..‬ا‪ -‬هـ‪.‬‬
‫‪ ":‬رباط يومٍ وليلة خير من صيام شهر وقيامه‪ ،‬وإن مات جرى عليه عمله الذي‬ ‫وقال‬
‫كان يعمله‪ ،‬وأجري عليه رزقه‪ ،‬وأمن الفتان "[ مسلم ]‪.‬‬
‫‪ ":‬كل ميت يُختم على عمله إل الذي مات مرابطا في سبيل ال فإنه يُنمى له‬ ‫وقال‬
‫عمله إلى يوم القيامة‪ ،‬ويأمن فتنة القبر "(‪.)1‬‬
‫ــــــــــــــــــــ‬

‫‪127‬‬
‫(‪ )1‬صحيح سنن الترمذي‪.1322 :‬‬
‫‪ ":‬من اغبرت قدماه في سبيل ال فهما حرام على النار "[ البخاري ]‪.‬‬ ‫وقال‬
‫‪ ":‬ل يجتمع غبار في سبيل ال ودخان جهنم "(‪.)1‬‬ ‫وقال‬
‫ستّ خصال‪ :‬يُغفر له في أول دُفعة‪ ،‬ويُرى مقعده من الجنة‪،‬‬
‫‪ ":‬للشهيد عند ال ِ‬ ‫وقال‬
‫ويُجار من عذاب القبر‪ ،‬ويأمن من الفزع الكبر‪ ،‬ويُضع على رأسه تاجُ الوقار‪ ،‬الياقوتة منها‬
‫خير من الدنيا وما فيها‪ ،‬ويُزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين‪ ،‬ويُشفّع في سبعين من‬
‫أقاربه "(‪ .)2‬فهي ليست خصلة واحدة بل ست خصال بعضها يفضل ويعلو بعض ‪ ..‬أكرم‬
‫وأعظم بها من خصال‪ ،‬ل يُعطاها إل الشهيد ‪!!..‬‬
‫‪ ":‬عليكم بالجهاد في سبيل ال تبارك وتعالى؛ فإنه باب من أبواب الجنة يُذهب‬ ‫وقال‬
‫ال به الهم والغم "‪ .‬وقد تقدم ‪.‬‬
‫‪ ":‬إن السيوف مفاتيح الجنة "(‪.)3‬‬ ‫وقال‬
‫وقال ‪ ":‬أل أنبئكم بليلةٍ أفضل من ليلة القدر ؟! حارس الحرس في أرض خوف لعله أن‬
‫ل يرجع إلى أهله "(‪ .)4‬وحارس الحرس هو الحارس الذي يحرس في الخطوط المامية‬
‫المتاخمة للعدو ‪ ..‬فيكون بذلك حارسا للحرس الذين يحرسون في الخطوط الخلفية من موقع‬
‫العدو ‪ ..‬وال تعالى أعلم ‪.‬‬
‫ليدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزُخرفها وزينتها فيقول‪ :‬أين عبادي‬ ‫‪ ":‬إن ال‬ ‫وقال‬
‫الذين قاتلوا في سبيلي‪ ،‬وجاهدوا في سبيلي ادخلوا الجنة‪ ،‬فيدخلونها بغير حساب ‪ .‬وتأتي‬
‫الملئكة فيسجدون‪ ،‬فيقولون‪ :‬ربنا نحن نسبح بحمدك الليل والنهار ونقدس لك‪ ،‬من هؤلء الذين‬
‫‪ :‬هؤلء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي‪ ،‬وأوذوا في سبيلي‪ ،‬فتدخل‬ ‫آثرتهم علينا ؟ فيقول الرب‬
‫)‪.‬‬ ‫سلم عليكم بما صبرتم فنعم عُقبى الدار ‪(5‬‬ ‫عليهم الملئكة من كل باب‬
‫هذا غيض من فيض مما ثبت في فضل الجهاد ‪ ..‬وما للمجاهدين من أجر‪ ،‬ومثوبة‪،‬‬
‫وكرامة ل يؤتاها غيرهم ‪ ..‬وهو باعث عظيم على السير في هذا الطريق المبارك العظيم ل‬
‫يفرط به إل كل خائب خاسر !‬
‫وهو كذلك ـ أي الجهاد في سبيل ال ـ عبادة يظهر فيها مدى صدق حب العبد لربه‬
‫ــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬صحيح سنن الترمذي‪ )2( .1333 :‬صحيح سنن الترمذي‪.1358:‬‬

‫‪128‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه ابن أبي شيبة‪ ،‬السلسلة الصحيحة‪.2672 :‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه الحاكم وغيره‪ ،‬السلسلة الصحيحة‪.2811 :‬‬
‫(‪ )5‬أخرجه الصفهاني في الترغيب والترهيب وغيره‪ ،‬السلسلة الصحيحة‪.2556 :‬‬

‫‪ ..‬ومدى صدق انتمائه لهذا الدين ‪ ..‬فبالجهاد تُعرف الرجال‪ ،‬وتُعرف حقيقة معادن الناس‪،‬‬
‫ومن منهم الصادق في زعمه لليمان ومن منهم الكاذب ‪ ..‬فالمؤمن الصادق في إيمانه وحبه‬
‫هو الذي يقتحم المخاطر ول يتردد في أن يرمي بنفسه في مواطن الجهاد والخوف في‬ ‫لربه‬
‫سبيل ال ‪ ..‬أما أصحاب القلوب المريضة بالنفاق وغيرهم هم الذين يبحثون عن العذار‬
‫والذرائع الكاذبة لكي يتخلفوا عن مواطن الجهاد في سبيل ال ‪!..‬‬
‫قال تعالى‪ :‬ل يستأذنك الذين يؤمنون بال واليوم الخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم‬
‫وال عليم بالمتقين ‪ .‬إنما يستأذنك الذين ل يؤمنون بال واليوم الخر وارتابت قلوبهم فهم في‬
‫التوبة‪.45-44:‬‬ ‫ريبهم يترددون‬
‫قال ابن تيمية في الفتاوى‪ :28/438:‬فهذا إخبار من ال أن المؤمن ل يستأذن الرسول في‬
‫ترك الجهاد وإنما يستأذنه الذين ل يؤمنون‪ ،‬فكيف بالتارك من غير استئذان ‪..‬؟! ا‪-‬هـ ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف بمن يثبط المة عن الجهاد‪ ،‬ويؤثم المجاهدين ويجرمهم لجهادهم ‪..‬؟!‬
‫كيف بمن يُعطل الجهاد كليا‪ ،‬ويصد عنه المة لتأويلت باطلة فاسدة مبعثها الخور‪،‬‬
‫والجبن والرجاف ‪..‬؟!‬
‫كيف بمن يستبدل الجهاد في سبيل ال بالطرق الباطلة الشركية كالديمقراطية‪،‬‬
‫والنتخابات البرلمانية وغيرها ‪ ..‬ويحسنها ويفضلها عليه ‪..‬؟!‬
‫كيف بمن يكره الجهاد والمجاهدين ـ صفوة هذه المة ـ ويعاديهم‪ ،‬ويحرض الناس‬
‫على أذاهم والنيل منهم ومن جهادهم ‪ ..‬حسدا من عند أنفسهم ؟!‬
‫ل شك أن هؤلء أولى بالنفاق من أولئك الذين يتركون الجهاد بعد استئذان ‪!..‬‬
‫‪ ":‬من مات ولم يغز‪ ،‬ولم يُحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق "[ مسلم ]‪.‬‬ ‫قال‬
‫هذا فيمن لم يحدث نفسه بالجهاد بصدق وإخلص ‪ ..‬فكيف بمن تقدم ذكرهم‪ ،‬وذكرت‬
‫أوصافهم وخصالهم المشينة ‪ ..‬ل شك أنهم أولى بالنفاق وبشعب النفاق !‬

‫‪129‬‬
‫من علمات الولية والصطفاء المتابعة ‪ ..‬والجهاد في سبيل ال ‪ ..‬فمن أتى بالمتابعة‬
‫للشريعة والسنة من دون الجهاد في سبيل ال ل يكون وليا من أولياء ال ‪ ..‬ومن أتى بالجهاد‬
‫من دون المتابعة للشريعة والسنة ل يكون وليا من أولياء ال ‪ ..‬ولتحقيق الولية ل بد من‬
‫المتابعة والجهاد في سبيل ال معا‪.‬‬
‫قال ابن تيمية رحمه ال‪ :‬قد جعل ال لهل محبته علمتين‪ :‬اتباع الرسول‪ ،‬والجهاد في‬
‫سبيل ال؛ وذلك لن الجهاد حقيقته الجتهاد في حصول ما يحبه ال من اليمان والعمل‬
‫الصالح‪ ،‬وفي دفع ما يبغضه من الكفر والفسوق والعصيان ا‪ -‬هـ‪.‬‬
‫عجبا لولئك الذين يريدون أن يربوا شباب المة بعيدا عن مواطن وساحات الجهاد ‪..‬‬
‫يربونهم في صالت التنظير المكيفة بعيدا عن واقع الحياة‪ ،‬وآلم المة ‪ ..‬ثم هم يتوقعون بعد‬
‫ذلك أن يرتفع هؤلء الشباب إلى مستوى مسؤوليات ومبادئ هذا الدين العظيم ‪ ..‬أو أن يكونوا‬
‫يوما من اليام أكفاءً لتحمل مسؤولياتهم الضخمة نحو هذا الدين ‪ ..‬أو أن يكونوا من أولياء ال‬
‫الربانيين ؟!‬
‫هؤلء يحلمون ‪ ..‬أو أنهم لم يقرؤوا كلمات هذا الدين ‪ ..‬ولو قرؤوها فهم لم يقرؤوها‬
‫على مراد ال ورسوله ‪!!..‬‬
‫أمة السلم أمة كتبَ الُ عليها أن تكون أمة جهاد وبذل وعطاء ‪ ..‬أمة ل تعرف الدعة‬
‫أو الميوعة أو الهزل أو الركون للدنيا والمتاع ‪ ..‬أمة ل تعرف إل الجد في جميع أمورها ‪..‬‬
‫لنها أمة رسالة ودين تتوقف عليها نجاة البشرية جمعاء!‬
‫لجل ذلك كله نقول ـ ما قلناه في أول هذا المقال ـ ل خيار للمة إل خيار الجهاد ‪..‬‬
‫ول عز لها إل بالجهاد ‪ ..‬ول نجاة لها إل بالجهاد ‪ ..‬ول طريق لها تسلكه إل طريق الجهاد ‪..‬‬
‫فهل أنتم موقنون ‪ ..‬فهل أنتم مؤمنون ؟؟!!‬

‫اللهم إني قد بلغت ‪ ..‬اللهم فاشهد ‪.‬‬


‫وآخر دعوانا أن الحمد ل رب العالمين ‪.‬‬
‫وصلى ال على سيدنا وقائدنا ونبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه وسلّم‪.‬‬

‫عبد المنعم مصطفى حليمة‬ ‫‪24/10/1421‬هـ ‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫أبو بصير‬ ‫‪ 19/1/2001‬م ‪.‬‬
‫‪www.abubaseer.com‬‬
‫لماذا الجهادُ في سبيل ال ‪..‬؟‬
‫( الجزء الثاني )‬
‫بسم ال الرحمن الرحيم‬
‫الحمد ل‪ ،‬والصلة والسلم على رسول ال‪ ،‬وبعد‪.‬‬
‫من الحقائق التي يُسلم بها جميع أصحاب العقول والفطر السليمة أن ال تعالى هو خالق‬
‫الخلق ‪ ..‬وهو المالك الحقيقي لما خلق ‪ ..‬ل شريك له في الملك ول في الخلق‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَْأرْضَ بِا ْلحَقّ َو َيوْمَ يَقُولُ كُنْ َف َيكُونُ َق ْولُهُ الْحَقّ‬
‫خلَقَ ال ّ‬
‫تعالى‪ :‬وَ ُهوَ الّذِي َ‬
‫‪‬‬ ‫قال‬
‫خبِيرُ ‪‬النعام‪.73:‬‬
‫حكِيمُ الْ َ‬
‫شهَا َدةِ وَ ُهوَ الْ َ‬
‫َولَهُ ا ْل ُملْكُ َيوْمَ ُينْفَخُ فِي الصّورِ عَالِمُ ا ْل َغ ْيبِ وَال ّ‬
‫خرَجَ بِهِ مِنَ‬
‫سمَاءِ مَاءً فََأ ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَْأرْضَ َوَأ ْنزَلَ مِنَ ال ّ‬
‫خلَقَ ال ّ‬
‫وقال تعالى‪ :‬اللّهُ الّذِي َ‬
‫خرَ َلكُمُ الَْأ ْنهَارَ ‪‬إبراهيم‪.32:‬‬
‫حرِ بَِأ ْم ِرهِ وَسَ ّ‬
‫ج ِريَ فِي ا ْلبَ ْ‬
‫خرَ َلكُمُ الْ ُف ْلكَ ِلتَ ْ‬
‫ال ّث َمرَاتِ ِرزْقا َلكُمْ وَسَ ّ‬
‫طنِهِ َو ِم ْنهُمْ مَنْ َيمْشِي‬
‫علَى بَ ْ‬
‫خلَقَ كُلّ دَابّةٍ مِنْ مَاءٍ َف ِم ْنهُمْ مَنْ َيمْشِي َ‬
‫وقال تعالى‪ :‬وَاللّهُ َ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ ‪‬النور‪:‬‬
‫علَى كُلّ َ‬
‫ق اللّهُ مَا يَشَاءُ إِنّ اللّهَ َ‬
‫خلُ ُ‬
‫علَى َأ ْربَعٍ يَ ْ‬
‫جَليْنِ َو ِم ْنهُمْ مَنْ َيمْشِي َ‬
‫علَى ِر ْ‬
‫َ‬
‫خلَقَ‬
‫تعالى‪َ :‬وَلئِنْ سََأ ْل َتهُمْ مَنْ َ‬
‫‪‬‬ ‫‪ .45‬وهذا ل خلف فيه بين الشعوب وأهل الديانات كلها‪ ،‬كما قال‬
‫ش ْمسَ وَالْ َق َمرَ َليَقُولُنّ اللّهُ فََأنّى ُيؤْ َفكُونَ ‪‬العنكبوت‪ .61:‬وإنما حصل‬
‫خرَ ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَْأرْضَ وَسَ ّ‬
‫ال ّ‬
‫الخلف فيما بينهم حول المعبود المستحق للعبادة‪ ،‬والطاعة‪ ،‬والتأله ‪ ..‬فحصل بسبب ذلك‬
‫‪ ..‬وعُبد من دونه من ل يجوز أن يُعبد؛ لنه مخلوق ضعيف لم يخلق‬ ‫الخلف الشراك بال‬
‫خلَقُونَ‬
‫شيْئا وَهُمْ يُ ْ‬
‫خلُقُ َ‬
‫ش ِركُونَ مَا ل يَ ْ‬
‫تعالى‪َ :‬أيُ ْ‬
‫‪‬‬ ‫شيئا ‪ ..‬وليس بقادرٍ على أن يخلق شيئا‪ ،‬كما قال‬
‫خلُقُ أَفَل تَ َذ ّكرُونَ ‪‬النحل‪ .17:‬ل يستوون مثلً‬
‫خلُقُ َكمَنْ ل يَ ْ‬
‫تعالى‪ :‬أَ َفمَنْ َي ْ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬العراف‪ .191:‬وقال‬
‫‪!..‬‬
‫فال تعالى هو الخالق لهذا الكون وما فيه؛ وبالتالي فهو المعبود بحق ‪ ..‬ل شريك له ‪..‬‬
‫ك اللّهُ‬
‫خلْقُ وَالَْأ ْمرُ َتبَا َر َ‬
‫‪ ،‬كما قال تعالى‪ :‬أَل لَهُ الْ َ‬ ‫وهو وحده له الحكم والمر دون أحدٍ سواه‬
‫َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ‪‬العراف‪ .54:‬فمالك الملك الذي له الخلق ‪ ..‬هو الذي له المر وحده ‪ ..‬وهو‬
‫الذي يجب أن يُطاع في ما يأمر به وينهى عنه ‪ ..‬أما الذي ل يخلق وهو يُخلق ‪ ..‬ول يَملك‬

‫‪131‬‬
‫وهو يُملك ‪ ..‬ل يجوز أن يكون له شيء من المر ‪ ..‬كما ل يجوز أن يُطاع في شيء مما يأمر‬
‫به فيما ل يملكه ول يخلقه!‬
‫فالمر الناهي هو الخالق المالك ‪ ..‬أما الذي ل يخلق ول يملك ‪ ..‬فل أمر له ول نهي!‬
‫هنا مكمن الخلف والنزاع بين أهل الحق من أتباع النبياء والرسل ‪ ..‬وبين ما سواهم‬
‫وحده ‪ ..‬لتقع في‬ ‫من الشعوب والمم الضالة ‪ ..‬التي ضلت طريق التوحيد ‪ ..‬والعبودية ل‬
‫أوحال الشرك ‪ ..‬وعبودية المخلوق؛ الذي ل يملك لنفسه ضرا ول نفعا!‬
‫كل المم والشعوب الضالة ‪ ..‬على اختلف مذاهبهم ومشاربهم ‪ ..‬وأديانهم ‪ ..‬ومسمياتهم‬
‫‪ ..‬يشتركون في خصلة واحدة‪ ،‬وتوحدهم خصلة واحدة؛ أل وهي عبادة المخلوق من دون ال‬
‫‪ ..‬وصرف الطاعة والتأله لهذا المخلوق من دون ال تعالى ‪ ..‬وإن اختلفوا فيما بينهم على‬
‫صورة وشكل واسم هذا المخلوق!‬
‫فهم وإن كانوا فرقا وشيعا شتى ‪ ..‬متنازعة ومختلفة فيما بينها ‪ ..‬إل أنهم عندما تكون‬
‫المعركة بين أهل الحق من أتباع النبياء والرسل ‪ ..‬وبين أهل الباطل من عبدة الوثان‬
‫والطواغيت ‪ ..‬تراهم جميعا صفا واحدا ضد الحق وأهله؛ لشتراكهم جميعا في خصلة واحدة؛‬
‫وهي عبادة المخلوق من دون الخالق ‪ ..‬بغض النظر عن صفة وشكل هذا المخلوق ‪ ..‬كما قال‬
‫ضهُمْ َأ ْوِليَاءُ َبعْضٍ ‪‬المائدة‪.51:‬‬
‫تعالى‪َ :‬ب ْع ُ‬
‫‪‬‬
‫‪ ..‬وعبادة الطاغوت!‬ ‫فالذي يوحدهم على الحق وأهله الشرك بال‬
‫ال تعالى يقول لعباده أنا المعبود المطاع ‪ ..‬لنني أنا الخالق المالك ‪ ..‬وحقي عليكم أن‬
‫خلَ ْقتُ الْجِنّ وَالْ ِأ ْنسَ ِإلّا ِل َي ْعبُدُونِ ‪‬الذريات‪ .56:‬وقال تعالى‪ :‬‬
‫شيئا‪َ :‬ومَا َ‬
‫‪‬‬ ‫تعبدوني ل تُشركوا بي‬
‫حنَفَاءَ َويُقِيمُوا الصّلةَ َو ُي ْؤتُوا ال ّزكَاةَ وَ َذِلكَ دِينُ‬
‫خِلصِينَ لَهُ الدّينَ ُ‬
‫َومَا ُأ ِمرُوا ِإلّا ِل َي ْعبُدُوا اللّهَ مُ ْ‬
‫الْ َق ّيمَةِ ‪‬البينة‪.5:‬‬
‫فيأتي الطاغوت المخلوق المملوك الضعيف الذي ل يملك لنفسه نفعا ول ضرا إل ما شاء‬
‫ال ـ على اختلف صوره ومسمياته ـ فيقول‪ :‬ل ‪ ..‬بل أنا المعبود المطاع من دون ال ‪ ..‬ما‬
‫علمت لكم من إله ومشرع ترجعون إليه في جميع شؤون حياتكم غيري ‪ ..‬ويجيش من أجل ذلك‬
‫الجند والجيوش وكل من يدخل في حلفه وطاعته من دون ال!‬
‫ومن خصائص ال تعالى وصفاته أنه غيور ‪ ..‬يغار على حرماته وعلى حقه على‬
‫على الحرمات وعلى العباد‪ ،‬كما في الحديث الصحيح‪ ":‬ل أحد‬ ‫عباده ‪ ..‬فل أحد أغير منه‬

‫‪132‬‬
‫أغير من ال‪ ،‬ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن‪ ،‬ول أحد أحب إليه العذر من ال‪،‬‬
‫من أجل ذلك أنزل الكتاب‪ ،‬وأرسل الرسل "‪.‬‬
‫يبغض الظلم ويحرمه ‪ ..‬ولشيء يُغضبه ويُسخطه كظلم الشرك ‪ ..‬وظلم‬ ‫كما أنه‬
‫الطواغيت التي تستشرف خصائص اللهية وتُعبد من دون ال؛ لنه ظلم عظيم لحق ال تعالى‬
‫ن اللّهَ ل‬
‫ظلْمٌ عَظِيمٌ ‪‬لقمان‪ .13:‬وقال تعالى‪ :‬إِ ّ‬
‫ش ْركَ لَ ُ‬
‫على عباده ‪ ..‬ولدمية النسان معا‪ :‬إِنّ ال ّ‬
‫ش ِركْ بِاللّهِ فَقَدِ ا ْف َترَى ِإثْما عَظِيما ‪‬النساء‪:‬‬
‫ش َركَ بِهِ َو َيغْ ِفرُ مَا دُونَ َذِلكَ ِلمَنْ يَشَاءُ َومَنْ يُ ْ‬
‫َيغْ ِفرُ أَنْ يُ ْ‬
‫‪.48‬‬
‫‪ ..‬ويُعلن على المل وبكل‬ ‫أي ظلمٍ يعلو ظلم الطاغوت الذي يجعل من نفسه ندا ل‬
‫وقاحة أنه الله المعبود ‪ ..‬وأنه الحكَم والمطاع لذاته ‪ ..‬الذي له حق التشريع والحظر والباحة‬
‫والحكم على الشياء من دون ال ‪ ..‬وما على الناس إل أن يدخلوا في طاعته وعبادته وحزبه‬
‫‪..‬؟!‬ ‫من دون ال‬
‫أي ظلم يعلو ظلم العبد وهو يقول لربه وخالقه ومالكه والمتفضل عليه بالنعم التي ل‬
‫تُحصى‪ :‬أنت لست معبودي ‪ ..‬ول حق لك علي ‪ ..‬وإنما معبودي الذي له كامل الحق علي ذلك‬
‫الطاغوت من البشر أو الحجر أو البقر ‪!!..‬‬
‫والتي‬ ‫أي ظلم يعلو ظلم العبد وهو يقول لخالقه ـ رغم اليات الباهرات الدالة عليه‬
‫ل تُحصى ـ‪ :‬ل حجة لك علي ‪ ..‬وإنما الحجة الكاملة للطاغوت ‪!!..‬‬
‫إن مقتضيات أسماء ال الحسنى وصفاته العليا ل تقبل هذا الظلم والزور ‪ ..‬والجحود ‪..‬‬
‫لجل ذلك شرع ال تعالى الجهاد ‪!...‬‬
‫أمر عباده الموحدين الذين استجابوا لدعوة النبياء والرسل ‪ ..‬بأن يُجاهدوا المشركين‬
‫الذين ضلوا عن عبادته وتوحيده وعبدوا الطاغوت من دونه ‪ ..‬ليأطروهم إلى الحقّ أطرا ‪..‬‬
‫وليخرجوهم من ظلم الشرك وظلماته إلى عدل التوحيد ونوره ‪ ..‬ولهم مقابل ذلك رضوانه‬
‫تعالى والجنة ‪ ..‬أنعم به من ثمن!‬
‫سبِيلِ‬
‫جنّةَ يُقَا ِتلُونَ فِي َ‬
‫سهُمْ َوَأ ْموَاَلهُمْ بِأَنّ َلهُمُ الْ َ‬
‫ش َترَى مِنَ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ َأنْفُ َ‬
‫ن اللّهَ ا ْ‬
‫تعالى‪ :‬إِ ّ‬
‫‪‬‬ ‫قال‬
‫عَليْهِ حَقّا فِي ال ّت ْورَاةِ وَالِْإنْجِيلِ وَالْ ُقرْآنِ َومَنْ َأوْفَى ِب َعهْ ِدهِ مِنَ اللّهِ‬
‫اللّهِ َفيَ ْق ُتلُونَ َويُ ْق َتلُونَ وَعْدا َ‬
‫شرُوا ِب َب ْي ِعكُمُ الّذِي بَا َي ْعتُمْ بِهِ وَ َذِلكَ ُهوَ الْ َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ ‪‬التوبة‪.111:‬‬
‫س َتبْ ِ‬
‫فَا ْ‬

‫‪133‬‬
‫أمر عباده الموحدين بأن يقصدوا المشركين ‪ ..‬ليخرجوهم ـ ولو بالسلسل ـ من‬
‫حظيرة الشرك والضياع ‪ ..‬ليأتوا بهم إلى حظيرة العبودية والتوحيد ‪ ..‬والخضوع ‪ ..‬ومن‬
‫السبيل الذي ينتهي بهم إلى النار وجحيمها إلى السبيل الذي ينتهي بهم إلى الجنة ونعيمها ‪ ..‬ولو‬
‫استدعى المر إلى الجهاد والقتال ‪ ..‬فإن الفتنة أشد من القتل والقتال‪.‬‬
‫علَى ا ْلبَاطِلِ َفيَ ْد َمغُهُ فَإِذَا ُهوَ زَاهِقٌ َوَلكُمُ ا ْل َويْلُ ِممّا َتصِفُونَ ‪‬‬
‫تعالى‪ :‬بَلْ نَقْ ِذفُ بِالْحَقّ َ‬
‫‪‬‬ ‫قال‬
‫النبياء‪ .18:‬فمن الحقّ الذي يقذف ال تعالى به الباطل وأهله جندَ التوحيد وأهله‪.‬‬
‫أنه قال‪ ":‬عجبت لقوامٍ يُساقون إلى الجنة في‬ ‫وفي الحديث فقد صح عن النبي‬
‫من قومٍ يُقادون إلى الجنة في السلسل "‪.‬‬ ‫السلسل وهم كارهون "‪ .‬وفي رواية‪ ":‬عجب ربنا‬
‫هذا المعنى هو الذي أراده الصحابي الجليل ربعي بن عامر عندما أجاب ملك بلد فارس‬
‫لما سأله عن العلة التي حملتهم على الجهاد والقتال ‪ ..‬وغزو فارس في عقر دارهم‪ ،‬فقال له‪:‬‬
‫لقد ابتعثنا ال تعالى لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد‪ ،‬ومن جور الديان إلى‬
‫عدل السلم ‪!..‬‬
‫ل توجد لنا غاية أخرى حملتنا على غزو بلدكم سوى هذه الغاية ‪ ..‬ول يوجد سبب آخر‬
‫حملنا على غزو بلدكم سوى ما أنتم عليه من ظلم الشرك ‪ ..‬وعبودية العبيد للعبيد ‪ ..‬وهذا هو‬
‫المعنى الحقيقي للجهاد في سبيل ال الذي أمرنا ال تعالى به‪.‬‬
‫ل حظوظ فيه للنفس ‪ ..‬ول أطماع ول مآرب أخرى ‪ ..‬سوى إخراج العباد من عبادة‬
‫العباد إلى عبادة رب العباد ‪ ..‬فإن تحقق ذلك ‪ ..‬تحقق السلم والمان ‪ ..‬وتصافت النفوس‬
‫وتآخت وتحابت في ال مهما كان بينها قبل ذلك من جراحات ودماء وثارات!‬
‫خوَا ُنكُمْ فِي الدّينِ َونُ َفصّلُ الْآياتِ‬
‫تعالى‪ :‬فَإِنْ تَابُوا َوأَقَامُوا الصّلةَ وَآ َتوُا ال ّزكَاةَ فَإِ ْ‬
‫‪‬‬ ‫كما قال‬
‫لِ َقوْمٍ َي ْعَلمُونَ ‪‬التوبة‪ .11:‬فتنقلب العداوة مباشرة ـ إن تابوا وأقاموا الصلة ـ إلى أخوة متحابين‬
‫في ال والدين‪.‬‬
‫سنَةٌ فِي ِإ ْبرَاهِيمَ وَالّذِينَ َمعَهُ إِذْ قَالُوا لِ َق ْو ِمهِمْ ِإنّا ُبرَآءُ‬
‫س َوةٌ حَ َ‬
‫وقال تعالى‪ :‬قَدْ كَا َنتْ َلكُمْ أُ ْ‬
‫حتّى ُت ْؤ ِمنُوا‬
‫ن اللّهِ كَ َف ْرنَا ِبكُمْ َوبَدَا َب ْي َننَا َو َب ْي َنكُمُ ا ْلعَدَا َوةُ وَا ْل َب ْغضَاءُ َأبَدا َ‬
‫ِم ْنكُمْ َو ِممّا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ‬
‫بِاللّهِ وَحْ َدهُ ‪‬الممتحنة‪ .4:‬فهذه العداوة مستمرة أبدا ـ عبر الزمان كلها وإلى أن تقوم الساعة ـ‬
‫بين أتباع النبياء والرسل وبين الطواغيت وأتباعهم ‪ ..‬إلى أن يعبدوا ال تعالى وحده ‪ ..‬فإن‬

‫‪134‬‬
‫آمنوا وعبدوا ال تعالى وحده وتبرؤوا مما هم فيه من الشرك ‪ ..‬ذهبت العداوة والبغضاء وحلت‬
‫محلهما المحبة والخاء!‬
‫‪ ،‬وكُسرت رُباعيته‪ ،‬وشُج في رأسه‪ ،‬وهُشمت‬ ‫وفي غزوة أحد لما جُرح وجه النبي‬
‫وهو يقول‪ ":‬كيف يُفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا‬ ‫البيضة على رأسه‪ ،‬وجعل الدم يسلت عنه‬
‫رباعيته‪ ،‬وهو يدعوهم إلى ال "!‬
‫عَل ْيهِمْ َأوْ ُيعَ ّذ َبهُمْ َفِإ ّنهُمْ ظَاِلمُونَ ‪‬آل‬
‫شيْءٌ َأوْ َيتُوبَ َ‬
‫إليه‪َ :‬ل ْيسَ َلكَ مِنَ الَْأ ْمرِ َ‬
‫‪‬‬ ‫فأنزل ال‬
‫عمران‪ .128:‬أي أن المر كله ل تعالى ‪ ..‬أما أنت يا محمد فإنك عبد ال ورسوله ‪ ..‬فليس لك‬
‫من المر شيء ‪ ..‬فليس لك أنت ومن تبعك من المؤمنين سوى المضي لمري ‪ ..‬والصبر على‬
‫جهاد من عصاني وعبد غيري إلى أن يدخل في طاعتي وعبادتي ‪ ..‬فأنا ابتعثتك وجميع النبياء‬
‫عبُدُوا اللّهَ‬
‫والرسل من قبلك لجل ذلك‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬ولَقَدْ َب َع ْثنَا فِي كُلّ ُأمّةٍ رَسُولً أَنِ ا ْ‬
‫ج َت ِنبُوا الطّاغُوتَ ‪‬النحل‪.36:‬‬
‫وَا ْ‬
‫سبِيلِ الطّاغُوتِ‬
‫ل اللّهِ وَالّذِينَ كَ َفرُوا يُقَا ِتلُونَ فِي َ‬
‫سبِي ِ‬
‫وقال تعالى‪ :‬الّذِينَ آ َمنُوا يُقَا ِتلُونَ فِي َ‬
‫ضعِيفا ‪‬النساء‪  .76:‬الّذِينَ آ َمنُوا ‪  ‬وَالّذِينَ كَ َفرُوا ‪ ‬من‬
‫ن َ‬
‫شيْطَانِ كَا َ‬
‫شيْطَانِ إِنّ َكيْدَ ال ّ‬
‫فَقَا ِتلُوا َأ ْوِليَاءَ ال ّ‬
‫صيغ العموم؛ أي كل الذين آمنوا يقاتلون في سبيل ال ‪ ..‬ول يجوز لهم غير ذلك ‪ ..‬وكل الذين‬
‫كفروا بجميع طوائفهم ومللهم وعلى اختلف راياتهم ومسمياتهم ‪ ..‬ومواقعهم ‪ ..‬يُقاتلون في‬
‫سبيل الطاغوت ‪ ..‬فالقتال في سبيل الطاغوت سمة مشتركة بين جميع ملل الكفر والشرك‪.‬‬
‫هذا المعنى لغايات ومقاصد الجهاد في السلم ‪ ..‬يجب أن يعرفه العدو المحارب ‪ ..‬كما‬
‫يجب أن ل يسهو عنه المجاهد وهو في غمرات الغزو والجهاد في سبيل ال‪.‬‬

‫وآخر دعوانا أن الحمد ل رب العالمين‪.‬‬

‫عبد المنعم مصطفى حليمة‬ ‫‪ 4/11/1423‬هـ‪.‬‬


‫أبو بصير‬ ‫‪ 6/1/2003‬م‪.‬‬

‫‪www.abubaseer.com‬‬

‫**********‬

‫‪135‬‬
‫‪ :‬ويقول أبو قتادة‬
‫لماذا الجهاد لماذا الجهاد‬
‫[الكاتب؛ أبو قتادة الفلسطيني]‬
‫خلْقَةٍ وتكوين‪ ،‬قال اللـه تعالى‪:‬‬
‫لقد كتب اللـه في الزل أن يخلقَ النسان خلقا سويّا في أحسن ِ‬
‫حمْلِ المانة‪،‬‬
‫{لقد خلقنا النسانَ في أحسنِ تقويم}‪ ،‬فأبدعه أيّما إبداع‪ ،‬ثمّ جعله مناطَ التكليف و َ‬
‫قال تعالى‪ { :‬إنّا عرضنا المانة على السموات والرض والجبال فأبينَ أن يحملنها وأشفقنَ منها‬
‫وحملها النسان إنّه كان ظلوما جهولً} ‪ .‬وليس الظلم والجهل بسبب حملها‪ ،‬ولكنّه بجهله في‬
‫قيمة هذه المانة‪ ،‬وبظلمه لحقّها‪.‬‬
‫وأكرم اللـه هذا المخلوق بأن سخّر له كلّ شيءٍ خلقه من سموات وأرض‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬ألم‬
‫تروا أنّ ال سخّر لكم ما في السموات والرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرةً وباطنة} وقال تعالى‪:‬‬
‫{وسخّر لكم ما في السموات والرض جميعا منه إن في ذلك ليات لقوم يتفكّرون}‪ ،‬فقد خلق‬
‫اللـه كلّ شيء خدمةً للنسان‪ ،‬وجعل الُ النسانَ له وحده من أجل عبادته‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وما‬
‫ن والنسَ إلّ ليعبدون‪ ،‬ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون‪ ،‬إنّ ال هو‬
‫خلقتُ الج ّ‬
‫ل اللـه‬
‫الرزّاق ذو القوّة المتين}‪ ،‬وقد أخذ اللـه على النسان العهود والمواثيق أن ل يعبد إ ّ‬
‫تعالى‪ ،‬قال ربّنا جلّ في عُله‪ { :‬وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم وأشهدهم على‬
‫أنفسهم ألستُ بربّكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين‪ ،‬أو تقولوا إنّما‬
‫أشرك آباؤنا من قبلُ وكنّا ذرّيةً من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} ‪.‬‬
‫وروى المامان البخاري ومسلم عن أنس بن مالك عن النبيّ صلى ال عليه وسلم قال‪ ( :‬يقالُ‬
‫للرجل من أهل النار يوم القيامة‪ :‬أرأيت لو كان لك ما على الرض من شيء أكنتَ مفتديا به؟‬
‫قال فيقول‪ :‬نعم‪ .‬فيقول‪ :‬قد أردّت منك أهون من ذلك‪ ،‬قد أخذت عليك في ظهر آدم أن ل تشركَ‬
‫بي شيئا فأبيت إلّ أن تشرك بي‪ .‬وقال ابن عبّاس رضي اللـه عنهما‪ :‬إنّ اللـه تعالى أخذ‬
‫الميثاق من ظهر آدم عليه السلم بنعمان يوم عرفة‪ ،‬فأخرج من صلبه كلّ ذريّة ذرأها فنثرها‬
‫بين يديه ثمّ كلّمهم قبلً ‪ ،‬قال تعالى { ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا} )‪[ .‬صحيح من قول ابن‬
‫عبّاس كما قال ابن كثير رحمه اللـه تعالى]‪.‬‬
‫وقد قدّر اللـه تعالى أن ينقسم البشر في عبوديّتهم له إلى فريقين‪ :‬فريقٍ أوفياء لهذه العبوديّة‪،‬‬
‫وفريقٍ آخر سينكرونها ويتنكّبون عن صراطها‪ ،‬ولتذكير الناس بالميثاق أرسل اللـه الرسل‬

‫‪136‬‬
‫وأنزل الكتب‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬رسلً مبشّرين ومنذرين لئلّ يكون للناس على ال حجّة بعد الرسل‬
‫وكان ال عزيزا حكيما} ‪.‬‬
‫وقال أبيّ بن كعب ‪ ،‬في تفسير آية الميثاق السابقة ‪ ( :‬يقول اللـه تعالى‪ :‬فإنّي أشهد عليكم‬
‫السموات السبع والرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا‪،‬‬
‫إعلموا أنّه ل إله غيري ول ربّ غيري ول تشركوا بي شيئا‪ ،‬وإنّي سأرسل إليكم رسلً‬
‫ليذكّروكم بعهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي‪ .‬قالوا‪ :‬نشهد إنّك ربّنا وإلهنا‪ ،‬ل ربّ لنا غيرك‪،‬‬
‫ول إله لنا غيرك‪ ،‬فأقرّوا له يومئذٍ بالطاعة‪ ،‬ورفع أباهم آدم فنظر إليهم فرأى فيهم الغنيّ‬
‫والفقير وحسن الصورة ودون ذلك‪ .‬فقال آدم‪ :‬يا ربّ لو سوّيتَ بين عبادك‪ .‬قال‪ :‬إنّي أحببت أن‬
‫أُشكر‪ ،‬ورأى فيهم النبياء مثل السرج‪ ،‬عليهم النور) ‪[ .‬رواه عبداللـه في مسند أبيه وصحّحه‬
‫الحاكم وهو كما قال] ‪.‬‬
‫وقد جعل اللـه تعالى للطائع مستقرّا هي جنّته‪ ،‬وللذين رفضوا مستقرّا هي النار‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫{للذين استجابوا لربّهم الحسنى‪ ،‬والذين لم يستجيبوا لو أنّ لهم ما في الرض جميعا ومثله معه‬
‫لفتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنّم وبئس المهاد} [الرعد‪.]18 :‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ ( :‬يقول ال تعالى‬
‫وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك‪ ،‬عن النب ّ‬
‫لهونِ أهل النار عذابا يوم القيامة‪ :‬لو أنّ لك ما في الرض من شيء أكنت تفتدي به؟ فيقول‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬فيقول‪ :‬أردّت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن ل تشرك بي شيئا فأبيت إلّ أن‬
‫تشرك بي ) ‪.‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬أفمن يعلم أنّما أُنزِل إليك من ربّك الحقّ كمن هو أعمى إنّما يتذكّر أولو اللباب‪،‬‬
‫الذين يوفون بعهد ال ول ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر ال به أن يوصل ويخشون‬
‫ربّهم ويخافون سوء الحساب‪ ،‬والذين صبروا ابتغاء وجه ربّهم وأقاموا الصلة وأنفقوا ممّا‬
‫رزقناهم سرّا وعلنيةً ويدرأون بالحسنة السيّئة أولئك لهم عقبى الدار‪ ،‬جنّات عدنٍ يدخلونها‬
‫ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرّياتهم والملئكة يدخلون عليهم من كلّ باب سلمٌ عليكم بما‬
‫صبرتم فنعم عقبى الدار‪ ،‬والذين ينقضون عهد ال من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر ال به أن‬
‫يوصل ويفسدون في الرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} [الرعد‪.]25-19 :‬‬
‫وهكذا ستكون نهاية هذا النسان بقسميه‪.‬‬
‫مهمّـة النبــياء وأتــباعهم ‪:‬‬

‫‪137‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم‬
‫وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ول تتفرّقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه} [الشورى‪:‬‬
‫‪.]13‬‬
‫فقد أمر اللـه النبياء بإقامة الدين وهو العمل به في أنفسهم وفي الناس‪ ،‬ولذلك أمرهم بالدعوة‬
‫والتبيين والنذارة فقال سبحانه وتعالى‪{ :‬رسلً مبشّرين ومنذرين} [النساء‪ ،]165 :‬فمهمّة النبياء‬
‫هداية الخلق وتعليمهم ما يحبّه ربّنا ويغضبه ‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬إنّما أنت منذرٌ ولكلّ قوم هاد}‬
‫[الرعد‪.]7 :‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬إنّك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم} وهذه هداية الدعوة والدللة والرشاد‪ ،‬وأنزل معهم‬
‫الكتب وعلمهم الحكمة‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وإذ أخذ ال ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة} [آل‬
‫عمران‪.]81 :‬‬
‫وقذف اللـه في قلوب النبياء الرحمة على الخلق والرغبة الشديدة في هدايتهم كما قال تعالى‪:‬‬
‫{فلعلّك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} [الكهف‪ ،]6 :‬وقد سمّى اللـه‬
‫نبيّه محمّدا بالرؤوف الرحيم‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة‪.]128 :‬‬
‫وكان آخر النبياء هو نبيّنا محمّد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وهو خاتمهم‪ .‬قال تعالى‪{ :‬ما كان‬
‫محمّدٌ أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول ال وخاتم النبيّين} [الحزاب‪. ]40 :‬‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬مثلي ومثل النبياء كمثل رجلٍ بنى دارا فأكملها وأحسنها إلّ‬
‫موضع لبنة‪ ،‬فجعل الناس يدخلونها يتعجّبون ويقولون‪ :‬لول موضع اللبنة‪ .‬رواه البخاري‪ ،‬وزاد‬
‫مسلم‪ :‬قال رسول اللـه ‪ :‬فأنا موضع اللبنة‪ ،‬جئت فختمت النبياء‪.‬‬
‫وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ( :‬نحن‬
‫الخرون ونحن السابقون يوم القيامة‪ ،‬بيد أنّ كلّ أمّة أوتيت الكتاب من قبلنا وأوتيناه من‬
‫بعدهم ) ‪.‬‬
‫وقد أُرسلَ محمّدٌ صلى ال عليه وسلم إلى جميع الخلق‪ ،‬من أبيضٍ وأسودٍ وأحمر‪ ،‬وإلى العرب‬
‫والعجم‪ ،‬وإلى الوثنيين واليهود والنصارى ‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وما أرسلناك إلّ كافّة للناس بشيرا‬
‫ونذيرا} [سبأ‪ ،]28 :‬وقال عليه الصلة والسلم‪ ( :‬والذي نفس محمّد بيده‪ ،‬ل يسمع بي أحد من‬
‫هذه المّة يهوديّ ول نصرانيّ ثمّ يموت ولم يؤمن بالذي أُرسِلتُ به إلّ كان من أهل النار ) ‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫[رواه مسلم]‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فيه كذلك‪ ( :‬وكان الرسول يبعث في قومه خاصّة‬
‫و ُبعِثتُ إلى الناس عامّة ) ‪.‬‬
‫الطـــائفة المـــنصورة وظـــهور الـــدين ‪:‬‬
‫وقد كتب اللـه تعالى لدينه الظهور والرفعة والغلبة بالحجّة والبيان وبالسيف والسنان‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪{ :‬هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون}‬
‫[الصفّ‪ ،]9 :‬وقد جاء ( ابتلًء للناس‪ ،‬قال ‪ :‬إنّي مبتليك ومُبتلٍ بك [رواه مسلم]‪.‬‬
‫ومن أجل إقامة الدين وحصول الرفعة والغلبة أرسل اللـه مع نبيّه الكتاب والميزان والحديد‪.‬‬
‫سلَنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط‪ ،‬وأنزلنا‬
‫قال تعالى‪{ :‬لقد أرسلنا رُ ُ‬
‫سلَه بالغيب‪ ،‬إن ال لقويّ عزيز}‬
‫صرُه ور ُ‬
‫الحديد فيه بأسٌ شديد ومنافع للناس وليعلم ال من ين ُ‬
‫[الحديد‪.]25 :‬‬
‫فكتابه يهدي إلى الحقّ‪ ،‬والحديد يُقوّم من خرج عنه‪ ،‬والناس ل يُصلِحُهم إلّ هذا‪ ،‬ومتى ضعف‬
‫في الناس أحدُ المرين ‪-‬الكتاب والحديد‪ -‬حصل الفساد والخراب‪ ،‬قاصلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫ُبعِثتُ بالسيف بين يدي الساعة حتّى يُعبَ َد اللـه وحده‪.‬‬
‫فكان هذا ميراثه في أمّته‪ :‬الكتاب الهادي والسيف المانع المقوّم‪ ،‬فكان الناس قسمين‪ :‬علماء‬
‫وأهل جهاد‪ ،‬وقد جمع اللـه هاتين الفضيلتين لخير الخلق بعد النبياء وهم الصحابة ‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪{ :‬محمّد رسول ال والذين معه أشدّاء على الكفّار رحماءُ بينهم تراهم ركّعا سجّدا يبتغون‬
‫فضلً من ال ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة‪ ،‬ومثلهم في‬
‫النجيل كزرعٍ أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزرّاع ليغيظ بهم الكفّار}‬
‫[الفتح‪. ]29 :‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ :‬إنّ العلماء ورثة النبياء‪ ،‬وإنّ النبياء لم يورثوا دينارا ول درهما‬
‫وإنّما ورثوا العلم‪ ،‬فمن أخذه أخذ بحظٍ عظيم وافر [رواه الترمذيّ وهو حسن] ‪.‬‬
‫فكما أمر اللـه تعالى نبيّه بالقتداء في النبياء كما قال تعالى {أولئك الذين هدى ال فبهداهم‬
‫اقتده} [النعام‪ ]90 :‬فكذلك أمر اللـه أمّة محمّ ٍد صلى ال عليه وسلم أن تقتدي به‪ ،‬فأسرع‬
‫الناسُ في التسابق في أخذ ميراثه وإقامته في أنفسهم وفي الناس‪.‬‬
‫فمن أقبل على دين اللـه يريده ويبتغيه علّموه وفقّهوه كما قال عليه الصلة والسلم ‪ :‬نضّر‬
‫اللـه امرءً سمع مقالتي فوعاها وأدّاها كما سمعها [رواه الترمذي وغيره]‪ ،‬ومن أعرض عنه‬

‫‪139‬‬
‫قاتلوه حتّى يخضع لحكم اللـه تعالى ‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬قاتلوا الذين ل يؤمنون بال ول باليوم‬
‫الخر ول يحرّمون ما حرّم ال ورسوله ول يدينون دين الحقّ من الذين أوتوا الكتاب حتّى‬
‫يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون} [التوبة‪.]29 :‬‬
‫وهكذا كان دور أتباع محمّد ‪ ،‬وهذا كان عملهم‪ ،‬هداية الخلق إلى الحقّ وتقويم من أعرض‬
‫وتعدّى‪ ،‬ل عمل لهم في حقيقة المر إلّ هذا‪ ،‬فلمّا توفيّ رسول اللـه انتشر الصحابة في الفاق‬
‫فخرج جيش أسامة لقتال الروم‪ ،‬وخرجت جموع الصحابة لقتال من ارتدّ من العرب عن‬
‫السلم‪ ،‬ثمّ حملوا هذا الدين للتابعين ثمّ جيلً بعد جيل‪ .‬قال عليه الصلة والسلم ‪ :‬يحمل هذا‬
‫خَلفٍ عُدولُه‪ ،‬ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين [رواه‬
‫العلم من كلّ َ‬
‫جماعة من الصحابة وصحّحه المام أحمد وابن القيّم]‪ ،‬فكان مداد العلماء ودماء الشهداء هما‬
‫أحبّ ما يتقرّب به إلى اللـه تعالى‪ ،‬مداد العلماء لهداية الخلق وتعليمهم السنّة وكشف البدعة‬
‫ونشر الحقّ‪ ،‬ودماء الشهداء من أجل نشر التنزيل وحفظ التأويل‪ ،‬وكلّما أظهر الناس بدعة قام‬
‫لها العلماء حقّ القيام فأزالوا عنها زيفها ونفّروا الناس منها‪ ،‬وكلما جهل الناس سنّة أظهروها‬
‫وعلّموها المّة‪ ،‬وكلّما خرج عن هذه المّة من داخلها من يريد لها شرّا أو جاء من خارجها‬
‫ليستبيح بيضتها قاموا له بالسيف حتّى يكسروا له قرنه ويردّوه على عقبيه ويدخلوه حجره‪.‬‬
‫كذا فعل الصدّيق مع المرتدّين‪ ،‬وكذا فعل عليّ بن أبي طالب مع الخوارج إذ أرسل لهم‬
‫عبداللـه بن عبّاس فناظرهم حتى ردّ أكثرهم ثمّ قاتلهم حتّى قتل منهم مقتلةً عظيمة‪ ،‬وهكذا فعل‬
‫ق والهدى‬
‫عمر بن عبدالعزيز معهم‪ ،‬وقد كتب اللـه تعالى بقاء طائفة منصورة قائمة بالح ّ‬
‫وحاملةً للسيف والسنان إلى قيام الساعة‪.‬‬
‫قال عليه الصلة والسلم ‪ :‬ل تزال طائفة من أمّتي يقاتلون على الحقّ ظاهرين إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فينزل عيسى بن مريم عليه السلم‪ ،‬فيقول إمامهم‪ :‬تعالى صلّ لنا‪ ،‬فيقول‪ :‬ل‪ ،‬إنّ بعضكم‬
‫على بعض أمراء تكرمة اللـه هذه المّة‪ .‬رواه مسلم من حديث جابر بن عبداللـه ‪ ،‬وفيه عن‬
‫عقبة بن عامر قال‪ :‬قال رسول اللـه ‪ :‬ل تزال عصابة من أمّتي يقاتلون على أمر اللـه‬
‫قاهرين لعدوّهم‪ ،‬ل يضرّهم من خالفهم حتّى تأتي الساعة وهم على ذلك‪.‬‬
‫وهؤلء في كلّ وقت غرباء‪ .‬وروى الترمذي في سننه وقال‪ :‬حسن صحيح أنّ رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم قال‪ :‬إنّ الدين بدأ غريبا‪ ،‬ويرجع غريبا‪ ،‬فطوبى للغرباء‪ ،‬الذين يصلحون ما أفسد‬
‫الناس من بعدي من سنّتي‪ .‬وفي رواية أخرى عند غيره قال عنهم‪ :‬الفرّارون بدينهم يجتمعون‬

‫‪140‬‬
‫إلى عيسى عليه السلم‪ ،‬وفي رواية‪ :‬ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر‬
‫ممّن يطيعهم‪.‬‬
‫ق والهدى‪ ،‬ل يكتمون الناس شيئا كما قال تعالى‪{ :‬وإذ‬
‫فورّاث النبيّ صنفان‪ :‬علماء دعاة إلى الح ّ‬
‫أخذ ال ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للناس ول تكتمونه} [آل عمران‪ ،]187 :‬وقد أنذر من‬
‫علم علما أوجبه اللـه على الناس ثمّ كتمه بأن يلجمه يوم القيامة بلجام من نار كما في الحديث‬
‫الصحيح ‪.‬‬
‫وصنفٌ آخر هم الذين يحمون هذا العلم ويقيمونه في الناس إذا ملكتهم الهواء وهم المجاهدون‬
‫في سبيل اللـه‪ ،‬وخير المرين هو من جمع بين الفضلين‪ ،‬وهذه هي صفة الطائفة المنصورة‪،‬‬
‫فهي طائفة علم وجهاد‪ .‬قال عليه الصلة والسلم ‪ :‬ما من نبيّ بعثه اللـه في أمّة قبلي إلّ كان‬
‫له من أمّته حواريّون وأصحاب يأخذون بسنّته ويقتدون بأمره‪ ،‬ثمّ إنها تخلف من بعدهم خلوف‬
‫يقولون ما ل يفعلون‪ ،‬ويفعلون ما ل يؤمرون‪ ،‬فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن‪ ،‬ومن جاهدهم‬
‫بلسانه فهو مؤمن‪ ،‬ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن [رواه مسلم من حديث عبداللـه بن مسعود ]‪.‬‬
‫وكان العلماء على الدوام هم حجّة اللـه على هذه المّة‪ ،‬كما كان شأن المام أحمد رحمه اللـه‬
‫تعالى في فتنة خلق القرآن‪ ،‬إذ وقف لهذه الفتنة التي كادت تعصف بالمّة وتخرجها إلى الشرك‬
‫والكفران موقف السد الذي يحمي ذمامه فنصره اللـه وأيّده‪ ،‬وكما هو موقف علماء المالكيّة‬
‫من أتباع سحنون في فتنة الباطنيّة العبيدية حين قاتلوهم وكشفوا زندقتهم‪ .‬قال الرعينيّ في‬
‫كتابه‪ :‬أجمع علماء القيروان‪ :‬أبو محمّد بن أبي زيد‪ ،‬وأبو الحسن القابسيّ‪ ،‬وأبو القاسم بن‬
‫شبلون‪ ،‬وأبو علي بن خلدون وأبو محمد الطبيقي وأبو بكر بن عذرة‪ :‬أنّ حال بني عبيد‪ ،‬حال‬
‫المرتدّين والزنادقة‪ ،‬فحال المرتدّين بما أظهروه من خلف الشريعة فل يورثون بالجماع‪،‬‬
‫وحال الزنادقة‪ :‬بما أخفوه من التعطيل‪ ،‬فيقتلون بالزندقة [ترتيب المدارك‪ ،‬جـ ‪.]7/247‬‬
‫وخرج العلماء لقتالهم‪ .‬قال أبو الفرج ابن الجوزي‪ :‬أقام جوهر (الصقلي نائب العبيديين في‬
‫مصر) القائد لبي تميم صاحب مصر أبا بكر النابلسي (المام القدوة) وقال له‪ :‬بلغنا أنّك قلت‪:‬‬
‫إذا كان مع الرجل عشرة أسهم‪ ،‬وجب أن يرمي في الروم سهما وفينا تسعة؟ قال‪ :‬ما قُلت هذا‪،‬‬
‫بل قلت‪ :‬إذا كان معه عشرة أسهم وجب أن يرميكم بتسعة وأن يرمي العاشر فيكم أيضا‪ ،‬فإنّكم‬
‫غيّرتم الملّة‪ ،‬وقتلتم الصالحين‪ ،‬وادّعيتم نور اللهية‪ ،‬فشهره ثمّ ضربه ثمّ أمر يهوديّا فسلخه‬
‫[أنظر سير أعلم النبلء‪.]7/148 ،‬‬

‫‪141‬‬
‫وقال الذهبيّ‪ :‬وقد أجمع علماء المغرب على محاربة آل عبيد لما شهروه من الكفر الصراح‬
‫الذي ل حيلة فيه‪ .‬وخطب المام أحمد بن أبي وليد الناس قائلً ‪ :‬جاهدوا من كفر باللـه وزعم‬
‫أنّه ربّ من دون ال‪ ،‬وغيّر أحكام ال وسبّ نبيّه صلى ال عليه وسلم وأصحاب نبيّه‪ ،‬فبكى‬
‫الناس بكاءً شديدا‪ .‬وركب ربيع القطّان فرسا ملبسا‪ ،‬وفي عنقه المصحف وحوله جمع كبير وهو‬
‫يتلو آيات جهاد الكفرة فاستشهد هو وخلق من الناس‪.‬‬
‫وهكذا كان شأن المام أحمد بن تيمية في بيانه للحق والهدى والسنة‪ ،‬فكشف أهل البدع من‬
‫متكلّمين وفلسفة وصوفيّة‪ ،‬وجلّى الحق الذي غشيته زبالت الهواء أحسن بيان وأجله‪ ،‬ثمّ قام‬
‫مقام المجاهدين فقاتل التتار وحرّض الناس على قتالهم وحضّ ملوك السلم عليهم وخوّفهم إن‬
‫لم يقوموا بواجب الجهاد ضدّ التتار أنّه ومن معه من المسلمين سيبدلونهم ويختارون ملوكا‬
‫عليهم غيرهم‪ ،‬ولما التبس على الناس أمر قتالهم وفي أيّ نوع من النواع يدخل قتالهم‪ ،‬بيّن أنّ‬
‫قتالهم هو قتال من امتنع عن شرائع السلم‪ ،‬فعاد الحقّ أبلجا وكشف اللـه الغمّة وهزم التتار‬
‫في معركة شقحب (مرج الصفر)‪.‬‬
‫ثمّ ما كان من شأن الشيخ محمّد بن عبدالوهّاب رحمه اللـه تعالى حين دعا إلى التوحيد والسنّة‬
‫فعُودي ورُمي عن قوس واحدة‪...‬‬
‫وهكذا هي سلسلة الدعوة والجهاد‪ ،‬حلقاتها تمتدّ من زمن إلى زمن‪ ،‬ل تنقطع ول تتوقّف حتّى‬
‫يومنا هذا‪.‬‬
‫***‬
‫أخي المسلم‪:‬‬
‫إذا علمت هذا وتبيّن لك على وجه صحيح رأيت الواجب الملقى على عاتقك‪ ،‬وبحثت عن هذه‬
‫الطائفة التي يمتدّ تاريخها من يومنا هذا إلى النبيّ ‪ ،‬وهي الطائفة التي تدعو الناس إلى التوحيد‬
‫والسنّة‪ ،‬وتكشف للناس الشرك والبدعة‪ ،‬وتقاتل في سبيل ذلك حتّى تقوم الساعة‪.‬‬
‫والن تسأل من نحن ولماذا الجهاد؟ لقد نشأنا فوجدنا علما مفقودا‪ ،‬وأمّة جاهلة‪ ،‬ومعاصي‬
‫متفشيّة‪ ،‬وحقوقا مهدورة‪ ،‬وأرضا مغصوبة‪ ،‬وحكّاما مرتدّين‪ .‬فما هو الواجب الملقى على عاتق‬
‫من علّمه اللـه وفقّهه؟‬
‫لقد قيّض اللـه في زماننا أمرا عظيما هو انتشار كتب السلف‪ ،‬وقد مرّ وقت طويل كان الناس‬
‫إلّ قلّة قليلة ل يعرفون من كتب العقائد إلّ كتب أهل الكلم‪ ،‬فل يعرفون إلّ العقائد النسفية‬

‫‪142‬‬
‫وشرح جوهرة التوحيد وأمثالهما‪ ،‬ول يقرؤون الفقه إلّ من كتب المتون ول يعرفون إلّ التقليد‪،‬‬
‫ل كتب التربية الصوفية كالرسالة القشيرية واللمع للطوسي وإحياء‬
‫ول يعرفون كتب التربية إ ّ‬
‫علوم الدين للغزالي‪..‬‬
‫ثمّ برحمة من اللـه تعالى أن أقبل الناس على طباعة وتحقيق كتب السلف‪ ،‬فطبعت مؤلّفات‬
‫ورسائل وفتاوى شيخ السلم ابن تيمية‪ ،‬وطبعت كتب السنّة والتوحيد كالسنّة لعبداللـه بن‬
‫المام أحمد والسنّة لبن أبي عاصم والتوحيد لبن خزيمة والشريعة للجري‪ ،‬ثمّ تتابع السيل‬
‫المبارك‪ ،‬فأقبل الناس على دراسة هذه الكتب ثمّ بالبحث عن بقايا العلماء الذين هم همزة الوصل‬
‫للطائفة المنصورة الدائمة الباقية‪ ،‬وبدؤوا يحاولون فهم واقعهم على ضوء فهم أئمّة هذه الطائفة‬
‫بدءا من أبي بكر الصدّيق إلى قول أيّ عالم أصاب الحقّ والهداية وارتبط بالكتاب والسنّة‪.‬‬
‫فكان ما خرجوا به أنّ المّة غيّرت وبدّلت وأصابها الجهل في كلّ جوانب هذا الدين‪ ،‬وبسبب‬
‫ن بعضها لحق بالمشركين واتّبع دينهم‪،‬‬
‫جهلها وقعت في المعاصي والذنوب واقترفت البدع‪ ،‬بل إ ّ‬
‫ثمّ نظروا فوجدوا أنّه قد استولى على أمرهم وقيادتهم حكّام باعوا دينهم للشيطان ودخلوا في‬
‫ل أغلقوه‪،‬‬
‫دين المشركين‪ ،‬وسرقوا مقدّراتها من خيرات اللـه فيها‪ ،‬ولم يجدوا طريقا للخير إ ّ‬
‫فعطّلوا المساجد ودور العلم ولحقوا العلماء والدعاة إلى اللـه‪ ،‬ولم يجدوا طريقا للشرّ إلّ‬
‫سلكوه‪ ،‬فنشروا دين الردّة وحسّنوا للناس الباطل والكفر من علمانية وديمقراطية وشيوعية‬
‫واشتراكية‪ ،‬وأوجبوا على الناس المعاصي فأقاموا مصارف الربا وضيّقوا على الناس سبل‬
‫الحياة حتّى ل يدخلوا إلّ من بابه‪ ،‬ونشروا الرذيلة مع الفقر حتّى ل يكون للشاب إلّ طريق‬
‫الخبث‪ ،‬ثمّ لم يجدوا منفذا للشرّ إلّ وسهّلوه وقرّبوه للناس‪ ،‬والمّة ترى السماء هي السماء‬
‫التي عهدتها في تاريخها وأمّا الحقائق فتخالف ذلك كلّه‪ ،‬ثمّ وجد من حسّن هذا المر وأفرغ‬
‫وسعه من أجل إسباغ الشرعيّة عليه وساعدهم في هذا قلب السماء‪ ،‬فالزندقة عندهم هي‬
‫الحرّية‪ ،‬والدخول في دين الطاغوت ديمقراطيّة‪ ،‬وموالة الكافرين سلما ووحدةً وطنيّة‪ ،‬وأمّا‬
‫شرع اللـه ودينه فهو التخلّف والرجوع إلى الوراء إلى زمن البعير والسيف والرمح‪ ،‬وسمّوا‬
‫زنا المرأة فنّا وحرّية اختيار‪ ،‬وسمّوا بيع الوطان والديار سلما وحسن جوار‪.‬‬
‫هذا أبصره الشباب المقبل على ربّه ودينه‪ ،‬فعلم من دينه ما علم‪ ،‬فحمل كلمة الحقّ وقذفها في‬
‫صدور العداء والمناوئين وبدأ يدعو إلى اللـه ويكشف للناس حقيقة ما هم عليه والواجب‬

‫‪143‬‬
‫الملقى على عاتقهم‪ ،‬وكان جماع ذلك كلّه في كلمتين‪ :‬الدعوة إلى اللـه والجهاد في سبيل‬
‫اللـه‪.‬‬
‫الدعوة إلى اللـه‪ :‬وفيها تعليم الناس ما جهلوه من التوحيد والسنّة‪ ،‬وفيها المر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫وأمّا الجهاد في سبيل اللـه تعالى‪ ،‬فهو ض ّد المرتدّين قبل غيرهم‪ ،‬لنّ رأس المال مقدّم على‬
‫الربح وتحقيق الزيادة‪ ،‬أمّا الدليل على ردّة هؤلء الحكّام وردّة طوائفهم فهو بسبب تبديلهم‬
‫شريعة الرحمن وموالتهم لليهود والنصارى والشيوعيين‪ ،‬ومعاداتهم المؤمنين والموحّدين وأتباع‬
‫الرسل‪ ،‬ومن فعل هذه الفاعيل فهو بإجماع المّة المسلمة التي خلت أنّه كافر مرتدّ‪ ،‬وإليك‬
‫الدليل ردّة من بدّل شريعة الرحمن وحكم بشريعة الشيطان ‪ ،‬يقول شيخ السلم ابن تيمية‪:‬‬
‫"والنسان متى حلّل الحرام المجمع عليه أو حرّم الحلل المجمع عليه أو بدّل الشرع المجمع‬
‫عليه كان كافرا باتّفاق الفقهاء" ‪.‬‬
‫والعبودية تقوم على الطاعة وامتثال المر‪ ،‬ول تصحّ عبوديّة دون امتثال أمر السيّد المر وهو‬
‫المعبود‪ ،‬ولذلك فكلّ من اتّخذ من نفسه آمرا ناهيا حاكما على غيره من خلل التشريع والذي‬
‫معناه تسمية الشياء ووصفها بالحلّ والحرمة فقد جعل نفسه إلها مطاعا معبودا يُعبَد الدلّة من‬
‫القرآن والسنّة إنّ ممّا اتّفق عليه جميع النبياء والمرسلين هو الدعوة إلى توحيد اللـه في‬
‫العبادة والقصد والطلب‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ولقد بعثنا في كلّ أمّة رسولً أن اعبدوا ال واجتنبوا‬
‫الطاغوت} [النحل‪ ،]36 :‬وكان ممّا يدخل في عبادة اللـه تعالى‪ ،‬بل هو قاعدة العبادة وأصلها‪،‬‬
‫حكَمُ وله الحُكم‪ .‬قال تعالى‪{ :‬إنِ الحكمُ‬
‫هو إفراد اللـه تعالى في الطاعة والمتثال‪ ،‬فاللـه هو ال َ‬
‫إلّ ل} [النعام‪ .]57 :‬وقال تعالى‪{ :‬أل له الحكم} [النعام‪ .]12 :‬وقال تعالى‪{ :‬أل له الخلق‬
‫والمر} [العراف‪ .]54 :‬وقال تعالى‪{ :‬وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى ال} [الشورى‪:‬‬
‫‪ .]10‬وقال تعالى‪{ :‬ول يشرك في حكمه أحدا} [الكهف‪ .]26 :‬فهذه اليات تبيّن بوضوح وجلء‬
‫أنّ حقّ الحكم هو للـه وحده‪ ،‬بل إنّ معنى الله هو المعبود‪ ،‬والعبودية تقوم على الطاعة‬
‫وامتثال المر‪ ،‬ول تصحّ عبوديّة دون امتثال أمر السيّد المر وهو المعبود‪.‬‬
‫ولذلك فكلّ من اتّخذ من نفسه آمرا ناهيا حاكما على غيره من خلل التشريع والذي معناه تسمية‬
‫الشياء ووصفها بالحلّ والحرمة فقد جعل نفسه إلها مطاعا معبودا يُعبَد‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬أم لهم‬
‫شركاءُ شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به ال} [الشورى‪ .]21 :‬فقد سمّى اللـه المشرّع شريكا‬

‫‪144‬‬
‫وسمّى ما شرّع دينا‪ ،‬وأصل كلمة الدين تعني الخضوع‪ ،‬وهكذا حال المطيع لشرع غيره فإنّما‬
‫هو خاضع له‪ ،‬وهو معنى الدين‪ ،‬فهذه الية جامعة لهذا الباب وهو تسمية المشرّع إلها‪ ،‬وتسمية‬
‫الشرع الذي شرعه دينا‪ ،‬وتسمية الطائع له مشركا‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬إتّخذوا أحبارهم ورهبانهم‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ربوبيّتهم على أتباعهم‬
‫أربابا من دون ال} [التوبة‪ ،]31 :‬وقد فسّر النب ّ‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫بطاعة التباع لهم في ما أحلّوا وحرّموا‪ ،‬فعن عديّ بن حاتم أنّه سمع النب ّ‬
‫وسلميقرأ هذه الية‪ { :‬إتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون ال والمسيح ابن مريم وما‬
‫ُأمِروا إلّ ليعبدوا إلها واحدا ل إله إلّ هو سبحانه عمّا يشركون} [التوبة‪ ،]31 :‬فقال‪ :‬إنّا لسنا‬
‫نعبدهم‪ ،‬فقال أليس يحرّمون ما أحلّ اللـه فتحرّمونه‪ ،‬ويحلّون ما حرّم اللـه فتحلّونه؟ فقال‪:‬‬
‫بلى‪ .‬فقال‪ :‬فتلك عبادتهم‪[ .‬رواه الترمذيّ وحسّنه] ‪.‬‬
‫وقد قرّر اللـه في كتابه كفرَ من حكم بغير كتابه‪ ،‬فقال سبحانه‪{ :‬ومن لم يحكم بما أنزل ال‬
‫فأولئك هم الكافرون} [المائدة‪.]44 :‬‬
‫وسمّى اللـه من تحاكم الناس إليه من غير خضوع لحكام الكتاب والسنّة طاغوتا‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫{يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلّهم ضللً‬
‫بعيدا} [النساء‪ ،]60 :‬وقال الشيخ المام محمد المين الشنقيطي في أضواء البيان‪ :‬كلّ تحاكم إلى‬
‫غير شرع اللـه فهو تحاكم إلى الطاغوت [‪.]7/65‬‬
‫ومثل الية التي تقدّمت‪{ :‬أم لهم شركاء‪ }...‬قوله تعالى‪{ :‬إنِ الحكم إلّ ل أمر أل تعبدوا إلّ إياه‬
‫ذلك الدين القيّم} [يوسف‪ .]40 :‬فقد سمّى اللـه الحكم عبادة‪ ،‬وسمّى ما يُحكم به دينا‪ ،‬فمن حكّم‬
‫اللـه في كلّ أمر فقد عبده واتّخذ دينه دينا‪ ،‬ومن حكّم الطاغوت في أيّ أمرٍ فقد عبده واتّخذ‬
‫حكمه دينا‪ ،‬وقد سمّى اللـه تعالى شرع الطواغيت دينا‪ ،‬كما سمّى شرعه دينا فقال تعالى عن‬
‫يوسف‪{ :‬كذلك كدنا ليوسف‪ ،‬ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلّ أن يشاء ال} [يوسف‪،]76 :‬‬
‫فقد سمّى شرعَ الملك وحكمَه وملكَه دينا‪.‬‬
‫أقوال العلماء في حكم المبدّلين للشريعة‪:‬‬
‫وقد تكلّم علماؤنا في كفر هذه الديان والتشريعات الباطلة وحكموا على من شرعها وقام عليها‬
‫بالكفر والردّة‪:‬‬
‫قال ابن حزم رحمه اللـه تعالى‪ :‬من حكم بحكم النجيل ممّا لم يأت بالنص عليه وحيٌ في‬
‫شريعة السلم فإنّه كافر مشرك خارج عن السلم [الحكام في أصول الحكام‪.]5/153 ،‬‬

‫‪145‬‬
‫وقال ابن تيمية رحمه اللـه تعالى‪ :‬معلوم بالضطرار من دين المسلمين وباتّفاق جميع‬
‫المسلمين أنّ من سوّغ اتّباع غير دين السلم أو اتّباع شريعة غير شريعة محمّد ( فهو كافر‬
‫[مجموع الفتاوى‪ .]28/524 ،‬ويقول كذلك‪ :‬الشرع المنزّل من عند اللـه تعالى وهو الكتاب‬
‫والسنّة الذي بعث اللـه به رسوله فإنّ هذا الشرع ليس لحد من الخلق الخروج عنه‪ ،‬ول‬
‫يخرج عنه إلّ كافر ‪[ .‬مجموع الفتاوى‪ .]11/262 ،‬ويقول‪ :‬والنسان متى حلّل الحرام المجمع‬
‫عليه أو حرّم الحلل المجمع عليه أو بدّل الشرع المجمع عليه كان كافرا باتّفاق الفقهاء [مجموع‬
‫الفتاوى‪.]3/267 ،‬‬
‫ويقول ابن كثير رحمه اللـه تعالى‪ :‬فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمّد بن عبداللـه‬
‫خاتم النبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر [البداية والنهاية‪.]13/119 ،‬‬
‫ويقول عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ‪ :‬من تحاكم إلى غير كتاب اللـه وسنّة رسوله ( بعد‬
‫التعريف فهو كافر‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ومن لم يحكم بما أنزل ال فأولئك هم الكافرون}‪ ،‬وقال تعالى‪:‬‬
‫{أفغير اللـه يبغون‪[ }...‬الدرر السنّية ‪.]8/241‬‬
‫وقال عبداللـه بن حميد‪ :‬ومن أصدر تشريعا عامّا ملزما للناس يتعارض مع حكم اللـه فهذا‬
‫يخرج من الملّة كافرا ‪[ .‬أهمّية الجهاد‪ ،‬ص ‪.]196‬‬
‫ويقول محمّد بن إبراهيم آل الشيخ‪ :‬إنّ من الكفر الكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما‬
‫نزل به الروح المين على قلب محمّد صلى ال عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربيّ‬
‫مبين‪ ،‬في الحكم به بين العالمين‪ ،‬والرد إليه عند تنازع المتنازعين مناقضة ومعاندة لقول اللـه‬
‫عزّ وجلّ‪{ :‬فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى ال والرسول إن كنتم تؤمنون بال واليوم الخر‪،‬‬
‫ي صلى‬
‫ذلك خيرٌ وأحسن تأويلً} ‪ .‬وقد نفى اللـه سبحانه وتعالى اليمان عن من لم يحكّموا النب ّ‬
‫ال عليه وسلم فيما شجر بينهم نفيا مؤكّدا بتكرار أداة النفي وبالقسم‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬فل وربّك ل‬
‫يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ ل يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضيت ويسلّموا‬
‫تسليما} [رسالة تحكيم القوانين]‪.‬‬
‫وقد ذكر فيها أنّ من أعظم أنواع الكفر الكبر في هذا الباب هو ما وقع فيه المرتدّون‬
‫المعاصرون‪ ،‬فقال‪ :‬الخامس‪ :‬وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لحكامه‬
‫ومشاقّة للـه ولرسوله‪ ،‬ومضاهاة بالمحاكم الشرعيّة إعدادا وإمدادا وإرصادا وتأصيلً وتفريعا‬
‫وتشكيلً وتنويعا وحكما وإلزاما ومراجع ومستندات‪ ،‬فكما أنّ للمحاكم الشرعيّة مراجع‬

‫‪146‬‬
‫ومستندات مرجعها كلّها إلى كتاب اللـه وسنّة رسوله صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فلهذه المحاكم‬
‫مراجع هي‪ :‬القانون الملفّق وشرائع شتّى‪ ،‬وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي‪ ،‬والقانون المريكي‬
‫والقانون البريطاني‪ ،‬وغيرها من القوانين‪ ،‬ومن مذاهب بعض البدعيّين المنتسبين إلى الشريعة‬
‫وغير ذلك‪ ..‬فهذه المحاكم الن في كثير من أمصار السلم مهيّأة مكمّلة مفتوحة البواب‪،‬‬
‫والناس إليها أسراب إثر أسراب‪ ،‬يحكم حكّامها بينهم بما يخالف حكم السنّة والكتاب من أحكام‬
‫ذلك القانون وتلزمهم وتقرّهم عليه‪ ،‬وتحتّمه عليهم‪ ،‬فأيّ كفر فوق هذا الكفر‪ ،‬وأيّ مناقضة‬
‫للشهادة بأنّ محمّدا رسول اللـه بعد هذه المناقضة؟ ‪.‬‬
‫وقال الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان‪ :‬والعجب ممّن يحكّم غير تشريع اللـه ثمّ يدّعي السلم‬
‫كما قال تعالى‪{ :‬ألم ترَ إلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزِلَ من قبلك يريدون‬
‫أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد ُأمِروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلّهم ضللً بعيدا}‪،‬‬
‫وقال‪{ :‬ومن لم يحكم بما أنزل ال فأولئك هم الكافرون}‪ ،‬وقال‪{ :‬أفغير ال أبتغي حكما وهو‬
‫الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزّل من ربّك بالحقّ فل‬
‫تكوننّ من الممترين} ‪. ]3/441[ .‬‬
‫ويقول رحمه اللـه إنّ متّبعي أحكام المشرّعين غير ما شرعه اللـه أنّهم مشركون باللـه [‬
‫‪.]83-4/82‬‬
‫ويقول الشيخ أحمد شاكر رحمه اللـه تعالى‪ :‬هذه القوانين التي فرضها على المسلمين أعداءُ‬
‫السلم السافرو العداوة هي في حقيقتها دينٌ آخر جعلوه دينا للمسلمين بدلً من دينهم النقيّ‬
‫السامي‪ ،‬لنهم أوجبوا عليهم طاعتها‪ ،‬وغرسوا في قلوبهم حبّها وتقديسها والعصبيّة لها‪ ،‬حتّى لقد‬
‫حرَم المحكمة‪،‬‬
‫تجري على اللسنة والقلم كثيرا كلمات‪ :‬تقديس القانون‪ ،‬قدسيّة القضاء‪َ ،‬‬
‫صفَ بها الشريعة السلمية وآراء الفقهاء السلميين‪.‬‬
‫وأمثال ذلك من الكلمات التي يأبون أن تو َ‬
‫بل هم حينئذٍ يصفونها بكلمات الرجعيّة‪ ،‬الجمود‪ ،‬الكهنوت‪ ،‬شريعة الغاب [عمدة التفسير‪،‬‬
‫‪.]3/214‬‬
‫ويقول‪ :‬إنّ المر في هذه القوانين الوضعيّة واضح وضوح الشمس‪ ،‬هي كفرٌ بواحٌ ل خفاء فيه‬
‫ول مداراة‪ ،‬ول عذر لحد ممن ينتسب للسلم كائنا من كان في العمل بها أو الخضوع لها أو‬
‫إقرارها‪ ،‬فليحذر امرؤٌ لنفسه‪ ،‬وكلّ امرئ حسيب نفسه [السابق‪.]4/174،‬‬

‫‪147‬‬
‫ويقول الشيخ محمّد حامد الفقي‪ :‬الذي يُستخلص من كلم السلف ‪ :‬أنّ الطاغوت كلّ ما صرف‬
‫العبد وصدّه عن عبادة اللـه وإخلص الدين والطاعة للـه ولرسوله‪ ،‬سواء في ذلك الشيطان‬
‫من الجنّ الشياطين والنس والشجار والحجار وغيرها‪ ،‬ويدخل في ذلك بل شكّ‪ :‬الحكم‬
‫بالقوانين الجنبيّة عن السلم وشرائعه وغيرها من كلّ ما وضعه النسان ليحكم به في الدماء‬
‫والفروج والموال‪ ،‬وليبطل بها شرائع اللـه‪ ،‬من إقامة الحدود وتحريم الربا والزنا والخمر‬
‫ونحو ذلك ممّا أخذت هذه القوانين تحلّلها وتحميها بنفوذها ومنفّذيها‪ ،‬والقوانين نفسها طواغيت‪،‬‬
‫وواضعوها ومروّجوها طواغيت [هامش فتح المجيد]‪.‬‬
‫وهكذا علمنا أن الشرع الذي تُحكم به بلد المسلمين هو شرع طاغوتيّ وأنّ حكّامنا طواغيت‬
‫كفرة‪ ،‬بل هم من أش ّد أنواع الكفّار وأغلظهم‪ ،‬فإنّ هؤلء لم يحكموا بشريعة الشيطان فقط‪،‬‬
‫ولكنّهم صرّحوا بأنّ اللـه تعالى ليس له الحقّ في الحكم والتشريع‪ ،‬فإنّه ما من دولة إلّ وقد‬
‫كتبت في دستورها‪ :‬أنّ السيادة للشعب‪ ،‬والسيادة في دينهم تعني معنى السيّد في دين اللـه‬
‫تعالى وهو معنى الله‪ ،‬فإنّ السيادة عندهم هي سلطة مطلقة لها الحقّ في تقييم الشياء‬
‫والفعال‪ ،‬أي هي سلطة التحليل والتحريم‪ ،‬وهذا هو معنى الحاكم وهو معنى الله والمعبود كما‬
‫تقدّم‪.‬‬
‫وأمّا الدول التي تزعم أنّها لم تكتب قانوناُ أو دستورا وتزعم العمل بالكتاب والسنّة‪ ،‬فيقال لهم‪:‬‬
‫ما أشدّ كذبكم وتدجيلكم‪ ،‬فإنّ واقعكم هو واقع الدول التي كتبت دستورها وقانونها‪ ،‬فشبهكم بهم‬
‫هو شبه الغراب بالغراب‪ ،‬ثمّ زعمتم أنّكم لم تجعلوا السلطات بيد الشعب‪ ،‬ولم تقولوا أنّ السيادة‬
‫لغير اللـه‪ ،‬فها أنتم الن كوّنتم مجلس شورى تغييرا للسماء فقط وانضممتم بهذا المجلس إلى‬
‫اتّحاد المجالس الشركيّة البرلمانيّة كبقيّة إخوانكم‪ ،‬ثمّ ها أنتم تدخلون في كلّ مؤسّسة كافرة‬
‫كالجامعة العربية وهيئة المم المتّحدة وغيرها‪ ،‬ثمّ كذلك أنتم فرضتم من الدساتير والقوانين‬
‫ل اللـه تعالى‪ ،‬وسمّيتم هذه بالنظم‬
‫الكافرة التي أبحتم بها ما حرّم اللـه وحرمتم بها ما أح ّ‬
‫‪-‬تغييرا للسماء مع اتّفاق الحقائق‪ -‬فأبحتم الربا‪ ،‬فها هي البنوك الربويّة مشرعة البواب‪ ،‬فيقال‬
‫لكم بأيّ قانون تمّ الترخيص لهذا العمل‪ ،‬بل إنّ هذه الدولة المزعومة هي الدولة الوحيدة في‬
‫العالم التي تمنع الترخيص لما يسمّى بالبنك السلمي‪.‬‬
‫وهكذا أيّها السائل الصادق رأيت أنّ دولنا محكومة بحكومات مرتدّة كافرة وبحكّام كفّار مرتدين‬
‫وأنّهم شرّعوا للناس دينا وأوجبوا على الناس الدخول فيه‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫ثمّ إنّ هؤلء الحكّام قد والوا أعداء اللـه تعالى وعادوا أهل السلم‪ :‬فما من حاكم من هؤلء‬
‫ل وتراه يقرّب المشركين ويوادّهم ويناصرهم ويدافع عنهم‪ ،‬ول يسمح في بلده قطّ أن يشتم‬
‫إّ‬
‫هؤلء الكفّار أو أن يعلن أحد بغضهم‪ ،‬وفرضوا في قوانينهم من العقوبات الشديدة لمن سبّ‬
‫هؤلء المشركين أو لعن دينهم ‪.‬‬
‫وإنّ من صور الموالة والنصرة أنّهم عقدوا معهم من التحالفات العسكرية والمنية مما جعلهم‬
‫في دين واحد ومذهب واحد‪ ،‬فإنّ أعظم درجات الموالة هي النصرة قال تعالى‪{ :‬يا أيّها الذين‬
‫آمنوا ل تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم إن ال‬
‫ل يهدي القوم الظالمين} [المائدة‪ . ]51 :‬قال ابن جرير الطبري في تفسير الية‪ :‬فإنّ من تولّهم‬
‫ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملّتهم‪ ،‬فإنّه ل يتولّى متولٍ أحدا إلّ وهو به وبدينه‬
‫وما هو عليه راض‪ ،‬وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه[‬
‫‪. ]6/277‬‬
‫وهكذا علمنا كفر هؤلء الحكّام من هذا الباب‪ ،‬فهؤلء الحكّام مكّنوا للمشركين واليهود‬
‫والنصارى من بلد المسلمين‪ ،‬ثمّ من صور الموالة التي وقع فيها هؤلء المرتدّون هو الدخول‬
‫في طاعة المشركين‪ ،‬وذلك بالنقياد لهم واتّباع شريعتهم والنضمام إلى طوائفهم والتي هي‬
‫المؤسّسات التي تدين بدين الشيطان من مذاهب إنسانية كقولهم‪ :‬ل فرق بين إنسان وآخر حسب‬
‫دينه‪ ،‬فدعوا إلى المساواة بين المسلم والمشرك تحت دعوة المذهب النساني الذي نشره اليهود‬
‫في هؤلء البهائم واللـه تعالى قد قطع موالة المؤمن للمشرك وأوجب عليه بغضه وبغض‬
‫دينه‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬يا أيّها الذين آمنوا ل تتّخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبّوا الكفر على‬
‫اليمان ومن يتولّهم منكم فأولئك هم الظالمون} [التوبة‪ ، ]23 :‬ففي هذه الية قطع اللـه علئق‬
‫الموالة بين المؤمن وبين أبيه وأخيه الكافر‪ ،‬فكيف بالجنبيّ؟ وفيها من بيان ضلل وكفر ما‬
‫يُسمّى في بلدنا بأخوّة المواطنة المزعومة‪ ،‬فإنّ دساتير وقوانين البلد التي حكّمها هؤلء‬
‫المرتدّون تنصّ على المساواة بين أهل البلد الواحد دون اعتبار دينه وعقيدته تحت دعوى‬
‫المواطنة المزعومة فهم يقولون‪ :‬الدين للـه والوطن للجميع‪ ،‬ومعناه أنّ قانون المواطنة ل يفرّق‬
‫بين الناس باعتبار الدين والعتقاد‪ ،‬فالمسلم والكافر عندهم سواء واللـه جعل مَن والى كافرا‬
‫مثله في الحكم‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} [النفال‪ . ]73 :‬وإنّ مما أجمع‬
‫النبياء على تبليغه للناس هو البراءة من المشركين كما قال تعالى عن أبي النبياء إبراهيم عليه‬

‫‪149‬‬
‫السلم‪{ :‬قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برءاء منكم ومما‬
‫تعبدون من دون ال كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتّى تؤمنوا بال وحده}‬
‫[الممتحنة‪. ]4 :‬‬
‫ثمّ انظروا إلى هؤلء الملعين ماذا فعلوا بالمسلمين والدعاة إلى اللـه‪ :‬لقد علّقوا لهم المشانق‬
‫وملؤوا بهم السجون وشرّدوهم في الرض‪ ،‬فما من دولة من هذه الدول إلّ وقد اب ُتِليَ الدعاة إلى‬
‫اللـه تعالى فيها فسُجنوا وعُذّبوا و ُقتّلوا‪ ،‬وما نقموا منهم إلّ أن يؤمنوا باللـه العزيز الحميد‪،‬‬
‫وأخرجوا الشباب من البلد لطهرهم كما قال تعالى على لسان قوم لوط‪{ :‬أخرِجُوهم من قريتكم‬
‫إنّهم أُناسٌ يتطهّرون} [العراف]‪.‬‬
‫فهؤلء الحكّام خرجوا من دين اللـه تعالى من هذه البواب ومن غيرها‪ ،‬وهذا من العلم‬
‫الضروري الذي يجب أن ل يجهله أحد من أهل السلم ‪.‬‬
‫َت ِبعَاتِ تكفير الحكّام‪:‬‬
‫قال القاضي عياض‪ :‬أجمع العلماء على أنّ المامة ل تنعقد لكافر وعلى أنّه لو طرأ عليه كفر‬
‫ينعزل‪.‬‬
‫قال‪ :‬وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها‪...‬‬
‫وقد يسأل سائل‪ :‬ما أهمّية هذا العلم‪ ،‬وهل من الواجب أن ُيكَ ّفرَ المسلمُ هؤلء الحكّامَ الطواغيت؟‬
‫فالجواب‪ :‬نعم‪ ،‬فإنّه مما يجب أن يعلمه كلّ مسلم أن تكفير الكافرين الملحدين هو ركن من‬
‫أركان عقيدة المسلم‪ ،‬وذلك لما يترتّب على هذا التكفير من الواجبات‪.‬‬
‫فإن سألت‪ :‬ما هي هذه الواجبات؟‬
‫قلنا لك‪ :‬إعلم أيّها الخ الحبيب أنّ البراءة من هؤلء الطواغيت هو فرض عينٍ على كلّ مسلم‪،‬‬
‫فقد تقدّم لك من الدلة على أنّ من ركنِ اليمان الركين والذي ل يصح إسلم المرء إلّ به هو‬
‫البراءة من هؤلء الطواغيت ووجوب معاداتهم وبغضهم وعدم محبّتهم‪ ،‬وممّا قاله أئمّتنا‪ :‬إنّ‬
‫تكفير الملحدين ضروريّة من ضروريّات الدين‪ ،‬وإنّ من مقتضيات هذه البراءة هو بغضهم‬
‫وعدم محبّتهم وعدم الدخول في طاعتهم‪ ،‬فل يجوز للمسلم أن يعاونهم أو أن يدخل في أيّ‬
‫مؤسّسة من مؤسّسات نصرتهم وتقويتهم كالجيش والمن والمخابرات‪ ،‬ومن يدخل من المسلمين‬
‫في نصرتهم في هذه المؤسّسات فإنّه معرّض لقوله تعالى‪{ :‬ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم} وهذا‬
‫يعرّضه إلى ما أوجب اللـه على المؤمنين من معاداته ومقاتلته‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬الذين آمنوا‬

‫‪150‬‬
‫يُقاتلون في سبيل ال‪ ،‬والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت‪ ،‬فقاتلوا أولياء الشيطان إنّ كيد‬
‫الشيطان كان ضعيفا} [النساء‪ .]76 :‬وقال تعالى‪{ :‬ولن يجعل ال للكافرين على المؤمنين سبيلً}‬
‫[النساء‪ ،]141 :‬وهذا حاكم كافر فيجب خلع وليته وعدم طاعته‪.‬‬
‫وجـــوب قـتـالـهـم ‪:‬‬
‫ثمّ إعلم أنّ هذه البراءة توجب مقاتلة هؤلء الحكّام‪ ،‬فإنّه إن كفر الحاكم وارتدّ عن شريعة‬
‫الرحمن فإنه يُقاتل حتّى يُزال ويُقام بدلً منه رجلٌ من أهل اليمان‪ .‬وهذا هو الواجب الثاني‪.‬‬
‫فعن عبادة بن الصامت رضي ال عنه قال‪ :‬دعانا رسول اللـه صلى ال عليه وسلم فبايعناه‪،‬‬
‫فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة‬
‫علينا‪ ،‬وأن ل ننازع المر أهله‪ ،‬قال‪ :‬إلّ أن تروا كفرا بواحا عندكم من اللـه فيه برهان ‪.‬‬
‫[متّفق عليه] ‪.‬‬
‫قال النووي‪ :‬قال القاضي عياض‪ :‬أجمع العلماء على أنّ المامة ل تنعقد لكافر وعلى أنّه لو‬
‫طرأ عليه كفر ينعزل‪ .‬قال‪ :‬وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها‪ ...‬قال القاضي‪ :‬فلو‬
‫طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولية وسقطت طاعته ووجب على‬
‫المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك‪ ،‬فإن لم يقع ذلك إلّ لطائفة وجب‬
‫عليهم القيام بخلع الكافر ول يجب في المبتدع إلّ إذا ظنّوا القدرة عليه فإنّ تحقّقوا العجز لم‬
‫يجب القيام فيها وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها ويفرّ بدينه ‪[ .‬شرح النووي على مسلم‪،‬‬
‫‪.]12/229‬‬
‫وقال ابن حجر‪ :‬قال ابن التين‪ :‬وقد أجمعوا أنّه ‪-‬أي الخليفة‪ -‬إذا دعا إلى كفر أو بدعة أنّه يُقام‬
‫عليه ‪ .‬وقال ابن حجر‪ :‬وملخّصه أنّه ينعزل بالكفر إجماعا‪ ،‬فجيب على كلّ مسلم القيام في ذلك‬
‫[فتح الباري‪.]13/123 :‬‬
‫فأنت ترى إجماع العلماء على أنّه ل يجوز للمسلم أن يرضى بحكم الكافر عليه‪ ،‬بل يجب أن‬
‫تكون العزّة للـه ولرسوله وللمؤمنين ‪-‬كما قال تعالى‪ -‬وإنّ خضوع المسلم للكافر وأحكامه هي‬
‫صور من صور الذلّة التي ل تنبغي للمؤمن‪.‬‬
‫ثمّ إعلم حفظك اللـه أنّ حكم المرتدّ في ديننا ‪-‬كما هو شأن هؤلء الحكّام‪ -‬أغلظُ وأشدّ من حكم‬
‫الكافر الصلي‪ .‬قال ابن تيمية رحمه اللـه تعالى‪ :‬وكفر الردّة أغلظ بالجماع من الكفر الصلي‬
‫[مجموع الفتاوى‪.]28/478 ،‬‬

‫‪151‬‬
‫وقال كذلك‪ :‬وقد استقرّت السنّة بأنّ عقوبة المرتدّ أعظم من عقوبة الكافر الصلي من وجوه‬
‫متعدّدة‪ ،‬منها أنّ المرتدّ يُقتل بكلّ حال ول يُضرب عليه جزية‪ ،‬ول تُعقَد له ذمّة‪ ،‬بخلف الكافر‬
‫الصلي الذي ليس هو من أهل القتال‪ ،‬فإنّه ل يُقتل عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد‪،‬‬
‫ولهذا كان مذهب الجمهور أنّ المرتدّ يُقتل كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد‪ ،‬ومنها أنّ‬
‫المرتدّ ل يرث ول يناكح ول تؤكل ذبيحته‪ ،‬بخلف الكافر الصلي إلى غير ذلك من الحكام ‪.‬‬
‫[مجموع الفتاوى‪.]28/534 ،‬‬
‫وقد أنكر المام أحمد عقد الذمّة للمرتدّ‪ ،‬ففي جامع الخلل‪ :‬قال الثرم‪ :‬سمعت أبا عبداللـه‬
‫يُسأل عن الزنادقة تُؤخذ منهم الجزية؟ فأنكر ذلك‪ ،‬وقال‪ :‬ل بل تُضرب أعناقهم‪ ،‬ما سمعنا بهذا‬
‫في السلم‪ .‬ثمّ قال‪ :‬سبحان اللـه؟! تُؤخذ الجزية من الزنادقة؟ منكرا لذلك جدّا‪ ،‬قال الثرم‪:‬‬
‫وأظهر إنكار ذلك واستعظمه ‪[ .‬فقرة ‪.]1340‬‬
‫بل إنّهم رأوا في المرتدّ أن ل يُدفن‪ :‬قال إسحق بن منصور‪ :‬قلت لحمد‪ :‬المرتدّ إذا قُتل ما‬
‫يُصنع بجيفته؟ قال‪ :‬يُقال‪ :‬يُترك حيث ضُرب عنقه كأنّما كان ذاك المكان قبره‪ .‬يُعجبني هذا‪.‬‬
‫[السابق‪ ،‬فقرة ‪.]1301‬‬
‫وقال ابن تيمية‪ :‬والصدّيق رضي ال عنه وسائر الصحابة بدؤوابجهاد المرتدّين قبل جهاد الكفّار‬
‫من أهل الكتاب‪ ،‬فإنّ جهاد هؤلء حفظ لما فُتح من بلد المسلمين وأن يدخل فيه من أراد‬
‫الخروج عنه‪ ،‬وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين‪ ،‬وحفظ‬
‫رأس المال مقدّم على الربح ‪[ .‬مجموع الفتاوى‪.]159-35/158 ،‬‬
‫فواجب كل مسلم أن يجاهد هؤلء حتّى يخلعهم ويزيلهم عن ولية المسلمين‪ ،‬ويجب على‬
‫المسلمين جميعا أن ينشغلوا بإعداد أدوات الجهاد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلً من أجل إعادة‬
‫سلطان المسلمين إلى هذه الرض التي فتحها المسلمون بدمائهم‪ ،‬فجاء هؤلء الحكّام الملعين‬
‫فغيّروا الملّة والدين وبدّلوا الشريعة وأعادوا سلطان المشركين إليها‪.‬‬
‫ثمّ إعلم أنّ هؤلء الحكّام مفسدون في الرض بسبب ما هم عليه من البغض لهذه المّة‪ ،‬وبسبب‬
‫حكمهم بشريعة الشيطان واللـه قد أمر المؤمنين بجهاد المفسدين في الرض‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬إنّما‬
‫جزاء الذين يحاربون ال ورسوله ويسعون في الرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطّع‬
‫أيديهم وأرجلهم من خلف أو ينفَوا من الرض}‪[ .‬المائدة‪. ]33 :‬‬

‫‪152‬‬
‫وهؤلء الحكّام اجتمع فيهم ما تقدّم من محاربة للـه ولرسوله وذلك بالعراض عن شريعة‬
‫السلم وترك الخضوع لحكام الكتاب والسنّة والفساد في الرض‪ ،‬فالواجب أن يقوم أهل‬
‫السلم عليهم كلّ قيام حتّى تط ّهرَ الرض منهم‪.‬‬
‫وهذا المر يجب أن يكون اليوم قبل الغد‪ ،‬فإنّ كلّ يومٍ وكلّ لحظة تمرّ على أمّتنا وهم في سدّة‬
‫الحكم يزداد شرّهم وتبتعد المّة عن دين اللـه تعالى‪ ،‬وذلك أنّهم‪ ،‬مع طوائف ومؤسّسات الفساد‬
‫التي يديرونها‪ ،‬يجذّرون الفساد في المجتمعات وينشطوا بكلّ قوّتهم لن يكون هو حياة الناس‬
‫وثقافتهم وغذاؤهم‪ ،‬فليس الحكمة ما يزعم البعض بأنّ التأنّي خيرٌ من القدام في قتال هؤلء‬
‫المبدّلين والمرتدّين‪ ،‬بل الصحيح إنّه كلّما تعجّل أهل السنة والدعوة والجهاد في إزالة هؤلء‬
‫المرتدّين كلّما أحسنوا لنفسهم وأحسنوا لمّتهم‪.‬‬
‫أل ترى أيّها الحبيب ماذا تصنع وزارات العلم من بثّ سموم الزندقة‪ ،‬ومن نشر العهر‬
‫والرذيلة‪ ،‬ومن تحسين الفجور والزنا‪ ،‬ومن الدعوة إلى المذاهب الشركيّة الهدّامة من نفايات‬
‫العقول وزبالتها؟‬
‫ثمّ أل ترى ما تصنع وزارات العدل المزعوم من تحليلٍ للحرام وإباحة للفروج ومن تضييع‬
‫للحقوق وقلب المور رأسا على عقب‪ ،‬فمن هو ذلك المرء الذي يطمئنّ إلى الوصول إلى حقّه‬
‫أو دفع الظلم عن نفسه عن طريق هذه المحاكم التي تقوم عليها وزارات العدل المزعوم؟‬
‫ثمّ أل ترى المؤسّسات المالية التي تديرها الدولة يقوم كلّ أمر من أمورها على الربا المحرّم‪،‬‬
‫فل يستطيع أحد أن يحفظ ماله إلّ في البنوك الربويّة‪ ،‬ول يستطيع أن يقوم بتجارته إلّ عن‬
‫طريقها‪ ،‬ثمّ هذه القروض التي يزعمونها لتحسين معيشة الناس فهي ل تكون إلّ عن طريق‬
‫الفائدة الربويّة؟‬
‫ول تنسَ أن تنظر وتتفكّر في نظم التأمين الجباري على ضروريّات الناس في هذه الحياة‬
‫كالسيّارة وغيرها‪.‬‬
‫ثمّ أل ترى وزارة التربية والتعليم ماذا صنعت في جيل الشباب الذي تخرّج من معاهدها‬
‫ومدارسها‪ ،‬ماذا علّموه وثقّفوه وأيّ شيء من السلم اهتمّوا به لتربيته إياه وتعليمه؟‬
‫وها هي اليّام تزيد المر وضوحا وذلك بعد ما يسمّى بالسلم المزعوم مع إخوان القردة‬
‫والخنازير‪ ،‬حيث أزالوا كلّ آية أو حديث أو خبر فيه بيان عداء المسلم لعداء الملّة والدين‪،‬‬
‫وكيف بدؤوا ببثّ ما يسمّى بالتطبيع والذي هو حقيقة تدمير لعقيدة الولء والبراء والتي ل يصحّ‬

‫‪153‬‬
‫إسلم المرء إل بها كما تقدّم‪ .‬ثمّ انظر إلى بقيّة معاهد التعليم كالجامعات والمعاهد العليا‪ ،‬وقارن‬
‫بينها وبين ما أمر اللـه تعالى‪ ،‬ترى حقيقة هذه المؤسّسات والدوائر التي يفرضها هؤلء‬
‫ل وضوح وجلء‪.‬‬
‫الطواغيت وأعوانهم بك ّ‬
‫فهل بقي للمسلم عذرٌ في عدم القيام على هؤلء الحكّام وقتالهم‪ ،‬واللـه تعالى يقول‪{ :‬وقاتلوهم‬
‫حتّى ل تكون فتنة ويكون الدين كلّه ل} [النفال‪ .]39 :‬فهل الدين في بلدنا للـه‪ ،‬أم أنّه في‬
‫أغلبه لغير اللـه‪ ،‬وفيه القليل الذي يزعمون أخذه من الشريعة السلمية؟‬
‫فإذا كان بعض الدين للـه والخر لغيره وجب القتال والجهاد حتّى يكون الدين كلّه للـه‬
‫سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫إنّنا نجاهد أيّها الخ الحبيب لنّ الجهاد هو الطريق الوحيد لعودة المّة إلى عزّتها ورفعتها‪،‬‬
‫وذلك كما قال صلى ال عليه وسلم‪ :‬إذا تبايعتم بالعينة واتّبعتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع‬
‫وترتكم الجهاد في سبيل اللـه سلّط اللـه عليكم ذلً ل يرفعه حتّى تعودوا لدينكم ‪ ،‬والدين ها‬
‫هنا هو الجهاد كما هو ظاهر من سياق وسباق الحديث‪.‬‬
‫إنّنا نجاهد لنّ الجهاد هو الحياة كما قال تعالى‪{ :‬استجيبوا ل وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}‬
‫[النفال‪ ،]24 :‬وفسّر العلماء الحياة هنا بالجهاد‪.‬‬
‫أمّا إذا قيل لك‪ :‬اصبر‪ ،‬فاعلم أنّ الصبر على الذلّ والخزي والعار ل يرضاه اللـه للمسلمين‪،‬‬
‫فإنّ اللـه تعالى يقول‪{ :‬ول العزّة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون‪ ،]8 :‬وقال تعالى‪{ :‬ولن‬
‫يجعل ال للكافرين على المؤمنين سبيلً}‪.‬‬
‫وإذا قيل لك أنّ الجهاد فتنة‪ ،‬فقل له ما قاله تعالى لمثاله‪{ :‬أل في الفتنة سقطوا وإنّ جهنّم‬
‫لمحيطة بالكافرين} [التوبة‪ ،]49 :‬وكيف يكون الجهاد فتنة وبالجهاد تُزال كلّ فتنة كما قال‬
‫تعالى‪{ :‬وقاتلوهم حتّى ل تكون فتنة}‪.‬‬
‫وإذا قيل لك إنّ الجهاد فيه الموت‪ ،‬فقل له‪ :‬ما جاهدّت إلّ لموت‪ ،‬فإنّ الموت في الجهاد شهادة‬
‫في سبيل اللـه وهذا الذي نطلب‪ .‬قال تعالى‪{ :‬من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا ال عليه‬
‫فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلً} [الحزاب‪ .]23 :‬وقال تعالى‪{ :‬ول‬
‫تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل ال أمواتا بل أحياءٌ عند ربّهم يرزقون} [آل عمران‪.]169 :‬‬

‫‪154‬‬
‫وإن قيل لك أنت في هذا الطريق وحدك وليس لك من معين‪ ،‬والناس في شغل عنك بأموالهم‬
‫وأهليهم‪ ،‬فقل لهم‪ :‬هذا هو شأن أهل الحقّ في كلّ زمان‪ ،‬أنّهم غرباء‪ .‬واللـه تعالى يقول‪:‬‬
‫سكَ وحرّضِ المؤمنين} [النساء‪.]84 :‬‬
‫{فقاتل في سبيل ال ل تُكّلفُ إلّ نف َ‬
‫قال المام القرطبي في تفسيرها‪ ( :‬هي أمرٌ للنبيّ بالعراض عن المنافقين وبالجدّ في القتال في‬
‫سبيل اللـه وإن لم يساعده أحد على ذلك ) ‪[ .‬الجامع لحكام القرآن‪. ]5/293 ،‬‬
‫وهذه أيّها الخ المحبّ كلمات يسيرة للتعريف بهويّتنا وتجيبك سريعا على سؤالك‪ :‬من نحن‬
‫وماذا نريد ولماذا الجهاد في سبيل اللـه‪.‬‬
‫فهلّ حملت معنا هذه المانة ولم تظلمها بعد أن علمتها؟! قال تعالى‪{ :‬وسارعوا إلى مغفرة من‬
‫ربّكم وجنّة عرضها السموات والرض أُعدّت للمتّقين} [آل عمران‪.]133 :‬‬
‫والحــــمــد ل رب الـعـــالـمــيــن‬
‫***********************‬
‫الرد على مرجئة العصر ‪:‬‬
‫حول مــرجـئة الــعــصـر‬
‫الحمد ل رب العالمين والصلة والسلم على النبي المين وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫من سمة أهل البدع قديما وحديثا التدليس والكذب‪ ,‬والتلبيس والتزوير‪ ,‬وخداع النفس بالماني‬
‫الكاذبة‪ ,‬طمعا في استقرارها على باطلها‪ ،‬وترويجا للباطل بين الناس‪ ,‬خاصة جهلتهم وغمارهم‪,‬‬
‫وقد تتابعت الخبار يدفع بعضها بعضا في صور هذا التزوير من قبل أئمّة البدع القدماء‪ ,‬وما‬
‫كان من خلفهم إلّ الوفاء القبيح لهذا الفعل القبيح‪ ,‬هذا شأن أهل البدع قديما‪ ,‬ولكن المر صار‬
‫زاد ضغثا على إبالة حين صارت جرأة أهل البدع على فعل القبيح أشدّ من أسلفهم‪ ,‬فقد صار‬
‫أهل البدع في زماننا يكذبون ويُزوّرون لباطلهم‪ ,‬مع شهرتهم بالسرقة والتدليس‪.‬‬
‫صدر في الونة الخيرة كتاب (تحذير المّة من تعليقات الحلبي على أقوال الئمّة) للدكتور‬
‫محمد أبو ارحيّم‪ ,‬والكتاب يكشف مبتدع استمرأ السرقة والتّشبّع بما لم يعط‪ ,‬حتى صار علما هو‬
‫وبعض إخوانه في هذا الفن‪ ,‬كمثل سليم الهللي الذي كشف سرقته أحمد الكويتي في كتاب له‬
‫سمّاه (الكشف المثالي عن سرقات سليم الهللي) وهو كتاب مطبوع‪ ,‬وفيه عشرات المثلة من‬
‫السطو الصريح والسرقة القبيحة لكلم الخرين ونسبتها للنفس زورا وبهتانا متشبعا بما لم يعط‬
‫وهو غيض من فيض‪ .‬هذا الكتاب الذي ذكرنا أسمه (تحذير المّة) على ما فيه من بلوي‬

‫‪155‬‬
‫ومصائب من تسمية بعض شيوخ الرجاء أئمّة‪ ,‬ومن تسمية من جعل نفسه خادما للطاغوت‬
‫إماما‪ ,‬ومع إقرار كاتبه أنّه على منهج اشتراط الستحلل للتكفير في المكفّرات المُجمع عليه كما‬
‫هو مذهب غلة المرجئة الضّالة إلّ أنّ فيه ما ينبغي أنْ نكشفه للنّاس‪ .‬فأول ما يتبادر إلى الذهن‬
‫بعد أن يرى مثل هذا الكتاب أن يقول‪ :‬إنّ الخرق قد اتّسع على الرّاقع‪ ,‬وصار الكذب أكثر من‬
‫أن يستر أو يؤول‪ ,‬وصارت السرقة تقع في نور الشمس‪ ,‬فما عاد هناك متّسع من الهروب أو‬
‫السكوت أو التأويل‪ ,‬فبدأ الصراخ‪ :‬أوقفوا هذه الجرائم أو كما قال جرير‪ :‬بني حنيفة احكموا‬
‫سفهاءكم‪.‬‬
‫نعم ينبغي لعقلء هؤلء القوم ‪-‬على ما فيهم من الخطأ على ال ورسوله صلى ال عليه وسلّم‬
‫في الفهم‪ -‬ينبغي على عقلئهم أن يوقفوا سفاهة السفهاء‪ ,‬وكذب الكذابين حتى لو كانوا على‬
‫مذهبهم وطريقتهم‪ ,‬وهذا الكتاب (تحذير المّة من تعليقات الحلبي) فيما أعلم هو أول كتاب يقوله‬
‫هؤلء القوم بصوت عال‪ .‬قبل مدة ليست بالطويلة أخرج علي الحلبي كتابا سمّاه بعنوان فاقع‬
‫(فتنة التكفير) وهو تفريغ لشريط اللباني في جواب وسؤال لحدهم‪ ,‬والشكوك تدور حول هذا‬
‫النوع من السئلة إذ أنّ أغلب السائلين يرتبون السئلة على وجه يبدو للمجيب والسامع أنّها ل‬
‫تحتمل إلّ جوابا واحدا‪ ,‬فيكون السؤال مقدمة لجواب معروف‪ ,‬وعلى هذا جرت سنّة بدعة‬
‫المدخليين (أتباع ربيع المدخلي) في نشر بدعهم وضللتهم‪ ,‬وللسف أنّ المر صار أكبر من‬
‫مجرّد السئلة والجوبة ضدّ المخالفين‪ .‬بل زاد حتى صار عمالة للطاغوت‪ ,‬فإنّ هؤلء القوم‬
‫يتقربون إلى ال (فيما يزعمون) بكشف أسماء المخالفين ممّن يرى تكفير النظمة الطاغوتية‪,‬‬
‫وقد صرّح بعضهم وهو قرين علي الحلبي واسمه مراد شكري أنّه سيبقى وفيا للنظام الطاغوتي‬
‫الردني‪ ,‬وأنّه لن يتردد في كشف كل إنسان يعرف أنّه يقول بتكفير حاكم الردن‪ ,‬وقد ألّف هذا‬
‫الكذّاب كتابا سيئا سمّاه (إحكام التقرير لحكام مسألة التكفير)‪ ,‬مله وشحنه ببدعة أهل الرجاء‬
‫وبمذهبهم أنّه ل يوجد في الدنيا إلّ كفر التكذيب‪ ,‬وقد ردّ عليه أحد طلبة العلم في كتاب سمّاه‬
‫(براءة أهل السنّة من اشتراط التكذيب للخروج من الملّة وبيان أنّ هذا قول المرجئة والجهمية)‪,‬‬
‫واسم كاتبه أبوعبدالرحمن السبيعي‪.‬‬
‫وقد كشف فيه بدعة القول بهذا القصر لنواع التكفير‪ ,‬فجزاه ال خير الجزاء‪ .‬ومن عجيب أمر‬
‫هذا الرجل ‪-‬مراد شكري‪ -‬انشغاله بتأليف الكتب لثبات نسب هاشمية الطاغوت الردني‪,‬‬
‫فسبحان من وهب ومنع‪ .‬قلت‪ :‬اللباني في باب اليمان معروف قوله‪ ,‬وقد تبيّن لذي عينين أنّه‬

‫‪156‬‬
‫مع التقائه مع السلف في اللفظ بقوله‪ :‬إنّ اليمان قول وعمل‪ ,‬لكن في التفسير لهذه الكلمة هو مع‬
‫أهل الرجاء‪ ,‬بل وللمانة العلمية هو على مذهب غلة المرجئة‪ ,‬فإنّ اللباني يشترط الستحلل‬
‫في التكفير في المكفرات الصريحة‪ ,‬وقد طبق هذا المبدأ على مسألة‪ :‬ساب الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلّم‪ ,‬حين رفض تكفير الساب حتى يتبين شرط الستحلل‪ ,‬وهو قول من سمّاهم أئمّتنا‬
‫بغلة المرجئة‪ ,‬أمّا أفراخ المرجئة فهم الذين لم يتوقفوا بتكفيره من أجل أي شرط باستثناء‬
‫(الكراه) ولكنّهم حملوا تكفيره على معنى التكذيب القلبي لنبوته‪ ,‬وهذا ما ذكره المام أحمد بن‬
‫تيمية في كتابه (الصارم المسلول على شاتم الرسول)‪ ,‬وهو أمر مشهور وصار بفضل ال تعالى‬
‫من أبجديات فهم طلبة العلم لموضوع اليمان‪ ,‬وهو المر الذي ما زال اللباني وجماعته فقط‪,‬‬
‫فقد كشف الشيخ سفر الحوالي (فكّ ال أسره من سجون الطغاة المرتدين)‪ ,‬أنّ هناك من بدأ يقول‬
‫هذا عندهم في الجزيرة كما في كتابه‪ :‬ظاهرة الرجاء‪ .‬كتاب الحلبي قذف في صدره عبارات‬
‫أشبه بطنين وقرع أهل الدعايات الكاذبة‪ ,‬طمعا في الترويج‪ ,‬وإرهابا لولئك المساكين الذين ما‬
‫زالوا يقتاتون على الشعارات والسماء دون المعاني‪ ,‬ورضوا بالتقليد وآثروا الدّعة واتباع أئمّة‬
‫الوقت الذين حاطوا بكل شيء علما كما يظنون في أئمتهم‪ .‬هكذا كتب الحلبي عنوان كتابه‪:‬‬
‫التحذير من فتنة التكفير بحوث علمية‪ ,‬ونقول عقدية‪ ,‬لعدد من علماء السلم‪ ,‬محدثين‪ ,‬وفقهاء‪,‬‬
‫ومفسرين‪ ,‬تتضمّن جوابا علميا فريدا‪ :‬للعلمة المحدّث الشيخ محمد ناصر اللباني وروجع عليه‬
‫نفسه‪ ,‬مقرا لنشرها‪ .‬وتحسب أنّ وراءه من المر العظيم والشأن الجليل ما يستحق النظر‬
‫والقراءة‪ ,‬ولكن يا حسرتنا فليس كل بيضاء شحمة‪ ,‬وإذا كان كتابا مثل هذا بكل هذا النحراف‪,‬‬
‫وكل هذا الفساد والفساد وهو بمثل هذا التقريظ والتعليق والمراجعة والهتمام فيا حسرة أمّة‬
‫محمد صلى ال عليه وسلّم‪ ,‬ويا ضياعها وهوانها‪ ,‬ويا عظيم مصيبتها‪ .‬أمّا كذب هذا العنوان‬
‫بقول الجامع والمقدم والمعلّق‪ :‬بحوث علمية‪ ,‬ونقول عقدية‪ .‬إلخ‪.‬‬
‫فوال ل ترى في هذا الزمان أكذب من هؤلء القوم‪ ,‬ول أكثر تزويرا منهم‪ ,‬ول أقلّ حياءً من‬
‫مثل هذا الذي صار علما على كلّ الرذائل‪ .‬فحسبنا ال ونعم الوكيل‪.‬‬
‫وإذا سألت عن أي شيء يتكلم هذا (المكتوب)‪ ,‬وأي تكفير يدفعه هذا (الكتيب) علمت أي جهود‬
‫تبذلها الدول الطاغوتية في نشر وترويج هذا الكتيب‪ ,‬فالكتاب يدافع عن تكفير أئمّة الكفر‬
‫والطغيان في هذا العصر أعني حكام بلدنا الذين صار كفرهم اشهر من نار على علم‪ .‬وكتاب‬
‫الحلبي هذا قام بالردّ عليه أخونا أبو محمد المقدسي في كتاب له سمّاه (تبصير العقلء بتلبيسات‬

‫‪157‬‬
‫أهل التجهّم والرجاء)‪ ,‬يقول الشيخ المقدسي فكّ ال أسره في مقدمته‪ :‬وهذه الفتوى التي نمقها‬
‫المقدّم لها وأخرجها كتابا ُقرّظ له بكلم علماء الدولة السعودية وسمّاها‪ :‬التحذير من فتنة‬
‫التكفير‪ ،‬وكان الولى أنْ يُعجم الحاء لتصير خاء ويُهمل الذال لتصير دالً‪.‬‬
‫هي في الحقيقة فتوى قديمة‪ ,‬قد طنطن حولها جهمية زماننا طنطنة كثيرة وقد طبعوها قبل مدة‪,‬‬
‫ووُزعت مجانا بعنوان‪( :‬فتنة التكفير والحاكمية) قدّم لها وزادها تخليطا وتخبيطا‪ :‬محمد بن عبد‬
‫ال الحسين وقد كشف الخ أبو محمد شيئا من كذب وتدليس علي الحلبي في كتابه هذا حيث‬
‫يقول‪ :‬ومادمنا مع ابن حزم فيطيب لي أخي القارئ قبل أن أُغادر هذا الموضع أنْ أُعرّفك بمثال‬
‫من (أمانة)!!! الحلبي ‪-‬وسيأتي مثله الكثير‪ -‬لتعرف كيف تتعامل مع كتبه ونقولته‪ .‬فقد نقل في‬
‫هامش صفحة ‪ 4‬من مقدمته عن ابن حزم قوله في تعريف الكفر‪( :‬الكفر صفة من جحد شيئا‬
‫افترض ال تعالى اليمان به بعد قيام الحجّة عليه ببلوغ الحق إليه‪ ).‬وتأمّل كيف أغلق القوس‬
‫هنا ووضع نقطة بكل جرأة مع أنّ للكلم بقية مهمّة تنقض تلبيسات الحلبي وإرجائه وهو قول‬
‫عمِلَ عملً جاء‬
‫ابن حزم بعد ذلك مباشرة‪( :‬بقلبه دون لسانه أو بلسانه دون قلبه أو بهما معا أو َ‬
‫به النص بأنّه مخرج له بذلك عن اسم اليمان) انظر الحكام ‪ .1/45‬فالذي اجتزأه الحلبي من‬
‫كلم ابن حزم تجهّم محض‪ ,‬لكنّه مع هذه الزيادة التي طواها الحلبي بأمانته!! وبترها بدقته!!‬
‫سنّة والجماعة الذي تضيق منه صدور أهل التجهّم والرجاء ولذلك فهم كما قال‬
‫هو قول أهل ال ّ‬
‫الحلبي صفحة ‪( :6‬يطوون هذه النقول ويكتمونها عن أتباعهم)!! ص ‪ 16‬بخط اليد‪ .‬وقد كشف‬
‫الخ أبو محمد تدليس الحلبي في تحقيق المسألة كما هي على أرض الواقع تحت عنوان‪ :‬خلط‬
‫مرجئة العصر بين ترك حكم ال وبين الحكم بمعناه التشريعي‪.‬‬
‫وقصد الخ أن يقول‪ :‬إنّ الواقع الذي تعيشه المّة هو تحليل ما حرّم ال وتحريم ما أحلّ ال‬
‫وليس هو كما ذكر بعض الئمّة قديما من تقسيمهم الحاكم إلى قسمين كافر وغير كافر‪ ,‬وذلك‬
‫بتركه الحكم بما أنزل ال تعالى‪.‬‬
‫ونقل قول ابن كثير رحمه ال رحمه ال تعالى‪( :‬فمن ترك التشريع المحكم المنزل على محمد‬
‫بن عبد ال خاتم النبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة فقد كفر‪ ,‬فكيف بمن تحاكم إلى‬
‫الياسق وقدّمها عليها‪ ,‬ل شكّ أنّ هذا يكفر بإجماع المسلمين)البداية والنهاية ‪13/119‬‬

‫‪158‬‬
‫وكتاب الخ أبي محمد يستحق النظّر والقراءة لما فيه من استيفاء الرد على هذا المدلس الجاهل‬
‫وهو لم يطبع بعد‪ .‬وها أنا أكشف شيئا آخر كذب فيه المدلس على ابن القيم حين قال ‪ :‬قال‬
‫العلمة ابن القيم في مختصر "مختصر الصواعق المرسلة ‪ :"12/421‬فمن جحد شيئا جاء به‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلّم بعد معرفته بأنّه جاء به‪ ,‬فهو كافر في دقّ الدين وجلّه‪ .‬وجعل‬
‫كلم ابن القيم هذا دليلً على اشتراط المام الجحود لكل كفر هو في ديننا‪ ,‬وليس في كلمه‬
‫علِمَ طلبة العلم أنّ الجحود عند ابن القيم نوع من أنواع الكفر وليس هو الكفر‬
‫شيء من هذا‪ ,‬فقد َ‬
‫الوحيد في العالم‬
‫ثم أنّ الجحود ليس هو من أعمال القلب فقط‪ ,‬بل الجحود في القرآن الكريم لم يطلق إلّ على‬
‫قول اللسان مع تصديق القلب‪.‬قال تعالى‪( :‬وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم‪ ).‬النمل ‪.14‬‬
‫وقال تعالى‪( :‬فإنهم ل يكذبونك ولكن الظالمين بآيات ال يجحدون) النعام ‪.33‬‬
‫فال تعالى في كتابه جعل الجحود في هاتين اليتين من قول اللسان فقط مع استيقان القلب‬
‫فاحفظ هذا واهتمّ به‪ .‬وكلم ابن القيم في موطنه هو للرد على من فرّق بين العلميات والعمليات‬
‫(مثل هذا المدلس الجاهل)‪ ,‬وليرد على من جعل التكفير لجاحد الصول دوت الفروع‪ :‬باعتبار‬
‫أنّ الصول عندهم هي العقائد والفروع هي العمليات‪ .‬والن نعود إلى كتاب الدكتور محمد أبو‬
‫ارحيم إذ أنّ الكتاب فيه حسنات منها‪:‬‬
‫ـ كشف تزويرات عديدة في النقول وفي تفسير النصوص من قبل الحلبي‪.‬‬
‫ـ كشف قلة أدب الحلبي مع المحدث أحمد شاكر‪.‬‬
‫ـ الرد عن الستاذ محمد قطب وما افتراه عليه الحلبي‪.‬‬
‫ـ تحريف وتأويل كلم ابن تيمية وابن كثير ومحمد إبراهيم آل الشيخ‪.‬‬
‫ـ زيادات أشبه بزيادات المبتدعة (بل هي أختها) على كلم الئمّة‪.‬‬
‫ـ افتراءه على الئمّة في معنى تبديل الشريعة‪.‬‬
‫وها أنا أسوق لك بعض ما ذكره الدكتور أبو ارحيم في كتابه‪ ,‬وما كشفه بنفسه من صنيع هذا‬
‫المدلس الجاهل‪ :‬يقول أبو ارحيم‪ :‬زعم الحلبي أنّ شيخ السلم قد بنى الحكم بالتكفير على ثلثة‬
‫أمور‪ :‬المعرفة والعتقاد ثم الستحلل‪ ,‬فمن وجدت فيه فقد كفر وإلّ فهو جاهل‪ ,‬وقد استنبط‬
‫هذه المعرفة من قول شيخ السلم‪ ,‬فقال‪ :‬قال شيخ السلم ابن تيمية أيضا في كتابه العظيم‬
‫(منهاج السنّة ‪ :)5/131‬ول ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل ال على رسوله فهو‬

‫‪159‬‬
‫كافر‪ ,‬فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلً من غير أتباع لما أنزل ال فهو كافر ثم‬
‫قال بعد كلم‪" :‬فإنّ كثيرا من الناس أسلموا ولكن مع هذا ل يحكمون إلّ بالعادات الجارية لهم‬
‫التي يأمر بها المطاعون‪ ,‬فهؤلء إذا عرفوا أنه ل يجوز الحكم إل بما أنزل ال فلم يلتزموا ذلك‪,‬‬
‫بل استحلوا أن يحكموا بخلف ما أنزل ال فهم كفار‪ ,‬وإلّ كانوا جهّالً" قال الحلبي معلقا‪:‬‬
‫وكلمه رحمه ال بيّن واضح في أنه بنى الحكم على المعرفة والعتقاد ثم الستحلل‪ ,‬وأنّ عدم‬
‫وجود ذلك ل يلزم منه الكفر‪ ,‬وإنما يكون فاعله جاهلً ل كافرا‪ .‬قال أبو ارحيم في الهامش‪:‬‬
‫انظر التحذير ‪ 17-15‬ثم شرع أبو ارحيم في بيان ضلل وفساد ما قاله الحلبي وفي تقويله ابن‬
‫تيمية رحمه ال تعالى ما لم يقله وبيّن أن كلمة ابن تيمية في آخر كلمه‪" :‬وإل كانوا جهّالً" ل‬
‫تعود على المستحل وإنما تعود على الجملة الخيرة‪ ,‬فإنّ العتقاد بعدم وجوب الحكم بما أنزل‬
‫ال على رسوله مع تيقنه أنه حكم ال كاف للحكم على معتقده بالكفر وإن لم يستحل الحكم بما‬
‫أنزل ال‪.‬ثم خلص إلى قوله‪" :‬إن القاعدة التي ابتدعها علي الحلبي من كلم شيخ السلم‬
‫المتقدم‪ ,‬عاطلة باطلة‪ ,‬ويجب طردها من سجل العلماء الثلثة‪ ,‬إذ هم منها براء‪ ,‬وكلم شيخ‬
‫السلم يشهد ببراءة نفسه منها‪ ,‬لنّ من اعتقد عدم وجوب الحكم بما أنزل ال‪ ,‬بل ولو حكم بما‬
‫أنزل ال من استحل الحكم بغير ما أنزل ال مع علمه كاف للدللة على كفره ولو اعتقد وجوب‬
‫الحكم بما أنزل ال ولنّ منتهى هذه البدعة (معرفة واعتقاد ثم استحلل= كفر وإلّ فل) إلغاء‬
‫للتكفير المشروع من سجل المسلمين وإذا لم يكن هذا إرجاءً فماذا يكون؟!! انتهى كلم الدكتور‪.‬‬
‫وقد ذكر أبو ارحيم أنّ الحلبي في مناقشته معه قد اعترف بخطأ هذا الفعل والتدليس ثم تراجع‬
‫في رسالة طبعها بعد ذلك‪ ,‬وبعد مراجعة الشريط الذي هو أصل الكتاب تبيّن صحة ما ذكره‬
‫الدكتور أبو ارحيم‪.‬‬
‫ثم ذكر أبو ارحيم أخطأ الحلبي على الستاذ محمد قطب حفظه ال‪ ,‬وقد كشف الدكتور تدليس‬
‫وكذب الحلبي بأجلى صورة‪ ,‬ولول ضيق المقام لذكرتها كاملة ففيها البيان الشافي لحقيقة هذا‬
‫المدلس الجاهل‪ .‬هذا وأكثر منها تجدها في كتاب من القطع الصغير عدد صفحاته الفعلية‬
‫‪78‬صفحة والكتاب شبه تفريغ لشريطي المناظرة التي تمت بين المؤلف (أبو ارحيم) وبين علي‬
‫الحلبي‪ ,‬ولكن للشريط معاني أخرى ل توجد في الكتاب منها قول محمد شقرة (الحكم بين‬
‫الطرفين في المناظرة)‪ :‬لو غيرك فعلها يا علي لقطعت يده‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫أقول‪ :‬وهل ل تقطع يد الحلبي في السرقة والتدليس لنه من أهل البيت ـوهو ممّن شهدوا‬
‫المواقع؟‬
‫إظهار المدورة الجاهلة لتحميل الكلم ما ل يحتمل من قبل الحلبي‬
‫لم يجد الحلبي ما يدافع به عن نفسه سوى قوله‪ :‬إنّ الكتاب قرأه اللباني وقال‪ :‬لقد تمتعت به‬
‫قلتُ‪ :‬وهذا يثبت أن أذواق بعض الناس صارت الحكم الذي يرجع إليه أتباع هذا التيار لكن‬
‫الكتاب وقع في خطأ موضوعي وهو اعتقاده أن كلم الحلبي ل يعتقده اللباني‪ ,‬وهذا خطأ‪ ,‬فإنّ‬
‫كل ما قاله الحلبي هو موافق لما يقوله اللباني في أحاديثه‪ ,‬ومحاولة (أبو ارحيم) نسبته خطأ‬
‫هذه العقائد إلى أشخاص دون بقية التباع والسلفية الجديدة خروج عن الموضوعية‪ ,‬فإنّ هذا‬
‫التيار الجديد والذي يقوده اللباني وربيع المدخلي وتنصرهما تزويرات الحلبي ومن هو على‬
‫شاكلته هو منهج أصيل وليس خطأ عارض‪ ,‬فإنّ اللباني يرى أنّه ل يوجد عمل (أي عمل)‬
‫مكفّر ومخرج من الملّة‪ ,‬حتى ساب النبي صلى ال عليه وسلّم كما تقدم‪ ,‬وإن تقريرات اللباني‬
‫في هذا الباب هي عين تقريرات مذهب المرجئة الغلة‪ ,‬وأشرطته شاهدة على ذلك‪ ,‬وللخ أبو‬
‫بصير (عبد المنعم أبو حليمة) رد رائع على شريط بعنوان (الكفر كفران) بحيث كشف فيه‬
‫خطأه في هذا الباب‪ ,‬ومن فوائده أنه يكشف طريقة اللباني الظالمة في الحِجاج والمناظرة‪ ,‬وأنه‬
‫يحل لنفسه ما يحرم على غيره‪ ,‬ويستطيع الخ المنصف أن يعرف انحراف اللباني في مسمى‬
‫اليمان وحقيقته بعد أن يطّلع على فتاوى اللباني في العقائد التي قام على طبعها هذا المدلس‬
‫الجاهل ‪-‬علي الحلبي‪ .-‬ولذلك على الكاتب (أبو ارحيم) أن يخرج من هذا التيار وأن يُعلن‬
‫براءته منه ويرتقي في النسبة إلى الرجال الوائل‪ ,‬وسيكتشف عمق ما عليه أصحاب هذا المنهج‬
‫من انحراف في باب اليمان‪ .‬لكني أقول لعل (أبو ارحيم) يعيش نفس المرحلة التي كنّا فيها‬
‫ن المنهج صار في‬
‫يوما‪ ,‬وهي محاولة الصلح من الداخل‪ ,‬ولكن قد ثبت خطأ هذا الطريق‪ ,‬إ ّ‬
‫كل عِرق ولم يعد لتقويم الشيوخ سبيل‪ ,‬فلبد من البيان‪ .‬وهذا المعنى عند (أبو ارحيم) هو الذي‬
‫جعله يكيل المدح لمحمد شقرة ويستشهد بكلمه وكلم اللباني في موضوع الحاكمية‪ ,‬لكن (أبو‬
‫ارحيم) ماذا سيفعل إذا قرأ في مجلة الفرقان الكويتية (في عددها رقم ‪ 84‬السنة التاسعة صفحة‬
‫‪ 34‬تحت عنوان فتاوى منهجية) وفيها فتوى هيئة كبار علماء آل سعود في بدعية القول بتوحيد‬
‫الحاكمية‪ ,‬هل سيخالفهم أم سيحني رأسه للعاصفة كما فعل غيره‪ .‬على كل حال‪ :‬أبو ارحيم هو‬
‫دكتور في الشريعة ويدّرسها في أحد جامعات الردن بهذه المخالفة للحلبي وبهذه الصراحة‬

‫‪161‬‬
‫سيجني ثمار عقوقه للحراس اليقظين على المنهج المبتدع‪ ,‬وما ذكره في مقدمة كتابه أنّه سيُشهَر‬
‫به وس ُيتّهم بالخارجية هو بداية الطريق لتحرير العقل من هوى البدعة والسير في ركاب‬
‫الطواغيت‪.‬‬
‫*****************‬

‫وأما عساكر السلطان فيجوز قتلهم لنهم يساعدون الحاكم على الباطل ومن باب دفع الصائل‬
‫يقول العالم المجاهد أبو محمد المقدسي ‪:‬‬
‫كشف شبهات المجادلين عن عساكر الشرك وأنصار القوانين‬
‫بسم ال الرحمن الرحيم‬
‫مقدمة الطبعة الولى‬
‫الحمد ل والصلة والسلم على رسول ال ومن واله ‪ ..‬وبعد ‪:‬‬
‫فهذه إحدى رسائل السجن كنت قد كتبتها في سجن سواقة في عام ‪1416‬هـ ‪ .‬لرد أشهر‬
‫شبهات المجادلين عن عساكر وأنصار القوانين ‪.‬‬
‫وذلك بعد أن انتشرت دعوتنا –بفضل ال تعالى‪ -‬في السجن وخارجه ‪ ،‬فقرت بذلك عيون‬
‫الموحدين ‪ ،‬وحرّت عيون الملحدين والمشركين ‪.‬‬
‫فانبرى المجادلون دونهم المخذلون عن تكفيرهم وجهادهم من جماعات التجهم والرجاء ‪،‬‬
‫يطنطنون بأمثال هذه الشبهات ‪ ،‬ويسعون للصد بها عن دعوة التوحيد ‪ ،‬والترقيع لعساكر الشرك‬
‫والتنديد ة‬
‫فقمت بكتابة هذه الوراق بأسلوب سهل يناسب المقام لتيسير الرد عليهم وعلى شبهاتهم ‪،‬‬
‫ل بفضل ال تعالى ‪،‬‬
‫وتسهيله على إخواننا المبتدئين في هذه الدعوة المباركة ة وقد تحقق ذلك فع ً‬
‫حتى كان عوام الموحدين يفحمون في هذه البواب من كانوا يفاخرون بأنهم من خريجي كليات‬
‫الشريعة ونحوها وهذا مصداق قول شيخ السلم محمد عبد الوهاب في كتابه كشف الشبهات ‪:‬‬
‫سُلهُم بِا ْل َب ّينَاتِ َفرِحُواْ ِبمَا‬
‫(وقد يكون لعداء التوحيد علوم كثيرة كما قال تعالى ( َفَلمّا جَا َء ْتهُمْ رُ ُ‬
‫س َت ْه ِزئُونَ) {‪83‬غافر} والواجب على المسلم أن يتعلم من‬
‫عِندَهُمْ مّنَ ا ْل ِعلْمِ وَحَاقَ ِبهِم مّا كَانُواْ بِهِ يَ ْ‬
‫دين ال ما يصير له سلحا يقابل به هؤلء الشياطين‪ ،‬ومن ثم ل خوف ول حزن لن ( َكيْدَ‬
‫ضعِيفا ) {‪ 76‬النساء}‬
‫ن َ‬
‫شيْطَانِ كَا َ‬
‫ال ّ‬

‫‪162‬‬
‫والعامي من الموحدين يغلب آلف من علماء المشركين كما قال تعالى ( َوإِنّ جُن َدنَا َلهُمُ ا ْلغَاِلبُونَ)‬
‫{‪173‬الصافات} فجند ال هم الغالبون بالحجة واللسان ‪ ،‬كما أنهم غالبون بالسيف والسنان)‬
‫أ‪.‬هـ مختصرا‬
‫وقد قام إخواننا في السجن آنذاك بنسخ هذه الوراق ونشرها بين السجناء على اختلف‬
‫قضاياهم ‪ ،‬كما قمنا بتسليم نسخ منها لكثير من الشرط والعساكر والضباط الذين كنا ندعوهم‬
‫إلى البراءة من شركيات قوانينهم وكفريات طواغيتهم ‪ ،‬فيلوذ كثير منهم بأمثال هذه الشبهات ‪..‬‬
‫ولم يكن في حساباتي حين كتبتها إخراجها للطباعة والنشر لوجود ما يغني عنها في كتاباتي‬
‫المفصلة في هذا الباب كـ (إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر) ونحوه ‪..‬خصوصا‬
‫وأن هذه الورقات كتبت على وجه الختصار واعتمادا على ما في الذهن والذاكرة ‪ ،‬لفقر السجن‬
‫وشحه في الصول المطلوبة ‪..‬ثم إني فوجئت بعد أن فرّج ال عنا ‪ ،‬بأنها قد نشرت عبر‬
‫(النترنت) وصورت وتداولها كثير من الشباب لختصارها وسهولتها ‪ ..‬رغم ما فيها من‬
‫أخطاء مطبعية وبعض السقط والنقص الظاهر في بعض المواضع‪ ..‬وهو المر الذي دعاني‬
‫إلى مراجعة نسخة مطبوعة من طرف بعض الفاضل لصيانتها من السقط والخلل قدر‬
‫عَليْهِ َت َو ّك ْلتُ َوِإَليْهِ ُأنِيبُ) ‪.‬‬
‫المستطاع وإعدادها للطبع ‪َ ( ،‬ومَا َتوْفِيقِي إِلّ بِاللّهِ َ‬
‫ل المولى تبارك وتعالى أن ينفع بها ‪ ،‬وأن يثبتنا ويعيننا على نصرة دينه وحراسة شريعته‪،‬‬
‫سائ ً‬
‫وأن يستعملنا في الذب عن حرماته ‪..‬وأن يتقبل منا إنه هو السميع العليم ‪.‬وصلى ال وسلم على‬
‫نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ‪.‬‬
‫صفر ‪1420‬هـ‬
‫المقدمة‬
‫الحمد ل ربّ العالمين والصلة والسلم على خاتم النبياء والمرسلين وبعد ‪.‬‬
‫فهذه شبهات طالما سمعناها تتردد على ألسنة كثير من المجادلين عن جُند الطواغيت وعساكر‬
‫القوانين حتى بلغ المر أن تلقفها منهم أولئك العساكر المشركون الذين ل يعرفون من الدين إل‬
‫السم ول من معالمه إل الرسم وصاروا يجادلون بها الموحّدين ويُمارون بها المسلمين لتسويغ‬
‫شركهم وباطلهم ونصرتهم للطاغوت الذي أمر ال أول ما أمرهم أن يجتنبوه ويكفروا به ‪.‬‬
‫ج َت ِنبُواْ الْطّاغُوتَ)) ‪ ,‬وقال سبحانه‪:‬‬
‫عبُدُواْ اللّهَ وَا ْ‬
‫قال تعالى‪َ (( :‬ولَقَدْ َب َع ْثنَا فِي كُلّ ُأمّةٍ رّسُولً أَنِ ا ْ‬
‫(( ُيرِيدُونَ أَن َيتَحَا َكمُواْ ِإلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ ُأ ِمرُواْ أَن َيكْ ُفرُواْ بِهِ)) ‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫غ ْيرَ الّذِي قِيلَ َلهُمْ) ‪ ,‬فبدلً من أن يكفروا به ‪ ,‬حرسوه وحموه ودافعوا‬
‫ظَلمُواْ َقوْلً َ‬
‫( َفبَدّلَ الّذِينَ َ‬
‫عنه وجادلوا دونه وصاروا له جندا محضرين وحراسا مخلصين ضحوا من أجله بمهجهم‬
‫وبذلوا في سبيله أوقاتهم وأعمارهم ‪.‬‬
‫وعندما كنا ندعو كثيرا منهم إلى التوحيد والبراءة من الشرك والتنديد كانوا يجادلون بشبه‬
‫أوحاها إليهم شياطين الجن والنس لبسوا بها الحق بالباطل والنور بالظلم ‪.‬‬
‫ضهُمْ ِإلَى َبعْضٍ‬
‫ل ْنسِ وَالْجِنّ يُوحِي َب ْع ُ‬
‫شيَاطِينَ ا ِ‬
‫ج َع ْلنَا ِلكُلّ ِن ِبيّ عَ ُدوّا َ‬
‫قال تعالى‪َ (( :‬وكَ َذِلكَ َ‬
‫صغَى ِإَليْهِ أَ ْفئِ َدةُ الّذِينَ لَ‬
‫غرُورا َوَلوْ شَاءَ َر ّبكَ مَا َف َعلُوهُ فَ َذرْهُمْ َومَا يَ ْف َترُونَ * َوِل َت ْ‬
‫خ ُرفَ الْ َقوْلِ ُ‬
‫زُ ْ‬
‫ض ْوهُ َوِليَ ْق َترِفُواْ مَا هُم مّ ْق َترِفُونَ))‪.‬‬
‫خ َرةِ َوِليَ ْر َ‬
‫ُي ْؤ ِمنُونَ بِال ِ‬
‫فبيّن ال سبحانه أنّ أفئدة الذين ل يُؤمنون بالخرة هي التي تصغي لمثل ذلك الزخرف وهي‬
‫التي ترتضي تلك الشبهات ليرقّعوا باطلهم ويستروا بها شركياتهم وليقترفوا ما هم مقترفون ‪.‬‬
‫لَلكُمْ َي ْبغُو َنكُمُ‬
‫ضعُواْ خِ َ‬
‫لوْ َ‬
‫خبَالً و َ‬
‫خرَجُواْ فِيكُم مّا زَادُوكُمْ إِلّ َ‬
‫وقال سبحانه في آية أخرى ((َلوْ َ‬
‫علِيمٌ بِالظّاِلمِينَ))‬
‫سمّاعُونَ َلهُمْ وَاللّهُ َ‬
‫الْ ِف ْتنَةَ وَفِيكُمْ َ‬
‫فبيّن ال سبحانه أنّ في صفوف المسلمين من قد يستمع لتخذيل المنافقين ولشبهات المرجفين‪.‬‬
‫لجل ذلك كلّه أحببنا أن نردّ في هذه الورقات على أشهر شبهاتهم باختصار يُناسب المحل‬
‫والمكان والزمان بحيث يكون صالحا لن يُطالعه العساكر أنفسهم وكذلك المجادلين عنهم‬
‫وغيرهم من المتأثرين بتلكم الشبهات والتي حقيقتها كما يقول الشاعر‪:‬‬
‫حقا وكلّ كاسرٌ مكســـور‬ ‫شبه تهافت كالزجاج تخالها‬
‫عسى ال عز وجل أن يفتح بهذه الورقات آذانا صما وأعينا عميا وقلوبا غلفا إنه ولي ذلك‬
‫والقادر عليه ‪ ,‬وهو مولنا نعم المولى ونعم النصير ‪.‬‬
‫سجـن سـواقـة‬
‫ربيــــــــع الول ‪1416‬‬
‫من هجرة المصطفى عليه الصلة والسلم‬
‫أبــو محمــد المقــدســي‬
‫وقد ناقشنا في هذه الورقات أشهر شبهاتهم وهي ‪:‬‬
‫• عدم كفر الحكام كفر أكبر بل كفرا دون كفر‬
‫• أنهم يقولون ل إله إل ال‬

‫‪164‬‬
‫• أنّهم يُصلّون ويصومون‬
‫• من كفّر مسلما فقد كفر‬
‫• العــذر بالجــــهل‬
‫• الكراه والستضعاف والرزق والمصلحة‬
‫الشبهة الولى‬
‫عدم كفر الحكام كفرا أكبر بل كفرا دون كفر‬
‫قال المجادلون عن عساكر القوانين ‪ :‬نحن نخالفكم في الصل الذي تبنون عليه تكفير أنصار‬
‫هؤلء الحكام من مخابرات وعساكر وغيرهم إذ كفر هذه الحكومات عندنا كفر دون كفر كما‬
‫قال ابن عباس رضي ال عنه ‪.‬‬
‫وبالتالي فكل فرع تبنونه على تكفير الحكام كفرا أكبر ل يستقيم عندنا ‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬ليس من مسألة إلّ وللناس فيها خلف لكن ل يعني ذلك تمييعها وعدم معرفة الحق فيها‪,‬‬
‫إذ ليس كل خلف معتبر ‪.‬‬
‫ل الضّلَلُ} وقال سبحانه‪َ { :‬وَلوْ كَانَ مِنْ عِندِ‬
‫والحق واحد ل يتعدد قال تعالى‪َ { :‬فمَاذَا َبعْدَ الْحَقّ إِ ّ‬
‫ختِلَفا َكثِيرا} ‪.‬‬
‫غ ْيرِ اللّهِ َلوَجَدُواْ فِيهِ ا ْ‬
‫َ‬
‫ولذلك قال العلماء أن اختلف التنوع محتمل لنه اختلف في الفروع ناتج عن اختلف في‬
‫تصحيح حديث أو تضعيفه أو بسبب عدم بلوغه للفقيه ونحو ذلك‪.‬‬
‫أما اختلف التضاد خصوصا في أهم المهمات في الدين كالشرك والتوحيد واليمان والكفر فل‬
‫يجوز ول يحل لحد أن يرضى به أو يقره أو يتخذه ذريعة وعذرا لموالة المرتدين وأهل‬
‫الشراك أو نصرتهم أو مودّتهم بل لبد من البت في هذه المسائل التي تنبني عليها أوثق عرى‬
‫اليمان ‪ ،‬والوصول إلى الحق فيها لن ال جل ذكره لم يتركنا هملً ول خلقنا عبثا سبحانه‬
‫جعُونَ } وهو سبحانه لم يفرط في الكتاب من شيء‬
‫عبَثا َوَأ ّنكُمْ ِإَل ْينَا لَ ُترْ َ‬
‫خلَ ْقنَاكُمْ َ‬
‫س ْبتُمْ َأ ّنمَا َ‬
‫{أَفَحَ ِ‬
‫شيْءٍ } فليس من خير إل ودلنا ال عليه ورغبنا فيه وليس‬
‫طنَا فِي ال ِكتَابِ مِن َ‬
‫قال تعالى‪{ :‬مّا َفرّ ْ‬
‫حيّ عَن َب ّينَةٍ} ‪.‬‬
‫حيَى مَنْ َ‬
‫من شر إل ونبّه ال عليه وحذّر منه {ّل َي ْهِلكَ مَنْ َهَلكَ عَن َب ّينَةٍ َويَ ْ‬
‫وهذا المر ـ أعني كفر هؤلء الحكام الطواغيت ـ هو عند من فقه دينه وعرف توحيده‬
‫أوضح من الشمس في رابعة النهار ولكن ليس من عجب أن يتشوش ضوء الشمس على من في‬
‫عينيه رمد‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫ومرادنا هنا ‪ -‬إن شاء ال تعالى ‪ -‬معالجة ذلك الرمد وإزالة ذلك التشويش بمراهم التوحيد‬
‫وبإثمد من أدلة الوحيين (الكتاب والسنة) ‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬اعلم أولً أن هؤلء الطواغيت ل يكفرون من باب واحد حتى يرد تكفيرهم بمثل هذه‬
‫الشبهة المتهافتة المبنية على القول المنسوب لبن عباس رضي ال عنه "كفر دون كفر" بل هم‬
‫يكفرون من أبواب عديدة شتى ‪:‬‬
‫• منها‪ :‬أن لشهادة التوحيد (ل إله إل ال) ركنان أصليان ل يغني أحدهما عن الخر ‪.‬‬
‫بل ل بد لقبول هذه الشهادة وصحتها التيان بهما جميعا هما‪ :‬النفي (ل إله) والثبات (إل ال)‬
‫أو كما بيّن ذلك ال تعالى ( الكفر بالطاغوت) و(اليمان بال) قال تعالى‪َ { :‬فمَنْ َيكْ ُفرْ بِالطّاغُوتِ‬
‫سكَ بِا ْل ُع ْر َوةِ ا ْل ُوثْقَى} فمن لم يجمع بين هذين الركنين فإنه لم يستمسك‬
‫س َتمْ َ‬
‫َو ْي ْؤمِن بِاللّهِ فَقَدِ ا ْ‬
‫بالعروة الوثقى ومن لم يستمسك بالعروة الوثقى فهو هالك مع الهالكين لنه ليس من جملة‬
‫الموحدين بل هو في عداد المشركين أو الكافرين‬
‫فهؤلء الحكام الذين اتخذوا مع ال أندادا مشرعين لو صدّقنا زعمهم بأنهم مؤمنون بال فإن‬
‫هذا ل يكفي للدخول في دائرة التوحيد إذ بقي الركن الخر الذي ذكره ال هنا قبل ركن‬
‫اليمان لهميته ‪ ،‬أل وهو (الكفر بالطاغوت) ‪.‬‬
‫فإيمانهم بال دون كفر بالطاغوت هو مثل إيمان قريش بال دون أن يكفروا بطواغيتهم‪.‬‬
‫ومعلوم أن هذا اليمان لم ينفع قريشا ول عصم دماءهم أو أموالهم حتى ضمّوا إليه البراءة‬
‫والكفر بطواغيتهم أما قبل ذلك ‪ ،‬فإن إيمانهم المختلط الممزوج بالشرك الظاهر لم ينفعهم ل في‬
‫ش ِركُونَ }‪.‬‬
‫أحكام الدنيا ول في أحكام الخرة قال تعالى { َومَا ُي ْؤمِنُ َأ ْك َثرُهُمْ بِاللّهِ إِلّ وَهُمْ مّ ْ‬
‫ع َمُلكَ َوَل َتكُونَنّ مِنَ‬
‫حبَطَنّ َ‬
‫ش َر ْكتَ َليَ ْ‬
‫والشرك ناقض لليمان محبط للعمال قال تعالى ‪َ( :‬لئِنْ أَ ْ‬
‫سرِينَ )‬
‫الْخَا ِ‬
‫ومعلوم أن هؤلء الحكام ل يكفرون بطواغيت الشرق والغرب ول يتبرؤون منهم بل هم بهم‬
‫ض الخصومة والنزاع وارتضوا أحكامهم الكفرية‬
‫مؤمنون تولّوهم وتحاكموا إليهم في ف ّ‬
‫وقوانينهم الدولية في ظل هيئة اللمم (المم) ومحكمتها الكفرية ( )‪.‬‬
‫وكذلك الطواغيت العربية وميثاقهم الشبيه بميثاق المم الملحدة الكافرة الدولي فهم لجميع أولئك‬
‫الطواغيت أحباب وأولياء وعبيد لم يجتنبوهم ولم يجتنبوا نصرتهم ومظاهرتهم على شركهم‪،‬‬
‫حتى يخرجوا من الشرك الذي قد ولجوا فيه ومن ثم يحكم لهم بالسلم‬

‫‪166‬‬
‫فإن كان أمر طواغيت العرب مشتبه على من في عينه رمد فإن أمر طواغيت الكفر الغربيين‬
‫والشرقيين من نصارى وبوذيين وشيوعيين وهندوس ونحوهم ل يخفى وال إل على العميان ‪،‬‬
‫ومع ذلك فهم لهم أخوة وأحباء لم يكفروا بهم بل تجمع بينهم روابط الخوة والصداقة والمودة‬
‫ويجمع بينهم ميثاق المم المتحدة!! الكفري ويحتكمون عند الخصومة إلى محكمتها الكفرية‬
‫التي مقرها في لهاي ‪.‬‬
‫فهم ما حققوا ركن التوحيد الول والمهم (الكفر بالطاغوت) حتى يكونوا مسلمين هذا إذا سلمنا‬
‫جدلً أنهم قد جاءوا بالركن الخر (اليمان بال) فكيف إذا أضيف إلى ذلك أنهم هم أنفسهم‬
‫أيضا طواغيت يُعبدون من دون ال فيشرّعون للناس من الدين ما لم يأذن به ال ويدعون الناس‬
‫ويأطرونهم أطرا ويقصرونهم قصرا على متابعة تشريعاتهم الباطلة هذه كما سيأتي ‪.‬‬
‫• ويكفرون أيضا من باب استهزائهم بدين ال تعالى وشرائعه ‪.‬‬
‫وترخيصهم لكل مستهزئ به عبر الصحافة أو الذاعة أو التلفاز وغيرها من المؤسسات‬
‫العلمية الباحية الكافرة التي حموها وحرسوها بقوانينهم وعساكرهم ‪.‬‬
‫س َت ْهزِءُونَ * لَ َت ْعتَ ِذرُواْ قَدْ كَ َف ْرتُمْ َبعْدَ‬
‫وقد قال ال تبارك وتعالى {قُلْ َأبِاللّهِ وَآيَاتِهِ َورَسُولِهِ كُنتُمْ تَ ْ‬
‫إِيمَا ِنكُمْ} ‪.‬‬
‫وهذه اليات نزلت في أناس كانوا مسلمين يصلون ويصومون ويزكون وخرجوا في غزوة من‬
‫أعظم غزوات المسلمين ومع هذا كفّرهم ال عز وجل لما صدرت منهم كلمات استهزءوا فيها‬
‫بحفظة كتاب ال‪ ,‬فكيف بأراذل الخلق الذين ل يرجون لدين ال وقارا وقد جعلوه ألعوبة وهزءا‬
‫لكل ساقط وساقطة واتخذوه وراءهم ظِهريا ‪.‬‬
‫وأعظم من ذلك كله أن ينزلوه منزلة قوانينهم وتشريعاتهم الساقطة فيصوّتوا عليه ويتشاوروا في‬
‫أوامره ونواهيه مع العلمانيين والنصارى والملحدة فهل ثم أعظم استهزاء واستخفافا من هذا؟ ‪.‬‬
‫• ويكفرون من باب توليهم للمشركين الغربيين والشرقيين ومظاهرتهم على الموحدين ‪.‬‬
‫سواء بعقد اتفاقيات النصرة (المنية) التي يتبادلون من خللها المعلومات عن الموحدين الذين‬
‫يصِفونهم بالرهابيين والصوليين‪ ،‬ويتم من خلل ذلك تسليم الموحدين والمجاهدين لعدائهم‬
‫من طواغيت البلدان الخرى ‪.‬‬
‫وقد قال ال تعالى { َومَن َي َت َوّلهُمْ مّنكُمْ َفِإنّهُ ِم ْنهُمْ} ‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫ولجل ذلك قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نواقض السلم "الناقض الثامن مظاهرة‬
‫المشركين ومعاونتهم على الموحدين كفر"‪.‬‬
‫وذكر حفيده الشيخ سليمان بن عبد ال في رسالته حكم موالة أهل الشراك عند قوله تعالى {َألَمْ‬
‫خرُجَنّ َم َعكُمْ‬
‫جتُمْ َلنَ ْ‬
‫خرِ ْ‬
‫خوَا ِنهِمُ الّذِينَ كَ َفرُواْ مِنْ أَهْلِ ا ْل ِكتَابِ َلئِنْ أُ ْ‬
‫َترَ ِإلَى الّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لِ ْ‬
‫شهَدُ ِإ ّنهُمْ َلكَا ِذبُونَ } إنّ هذه اليات نزلت‬
‫ص َر ّنكُمْ وَاللّهُ يَ ْ‬
‫وَلَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَدا َأبَدا َوإِن قُو ِت ْلتُمْ َلنَن ُ‬
‫في أناس كانوا يُظهرون السلم ويقبل منهم ذلك في الدنيا فيعامَلون معاملة المسلمين لن‬
‫المسلمين مأمورون بالخذ بالظاهر لكنهم لمّا عقدوا مع اليهود اتفاقية نصرة ضد الموحدين ‪-‬‬
‫ومع أن ال يعلم أنهم باتفاقيتهم هذه كاذبون‪ -‬فقد عقد بينهم وبين أهل الكتاب عقد الخوة‬
‫ووصفهم بأنهم إخوانهم وهذا تكفير لهم ‪ .‬وهذا معنى كلمه رحمه ال ة‬
‫فكيف بمن عقد اتفاقيات النصرة مع المشركين من عبيد القوانين الشرقيين والغربيين وحارب‬
‫الموحدين وسلّمهم إلى حكومات بلدهم فعلً ؟ ل شك أنه داخل في هذا الحكم من باب أولى‪.‬‬
‫•ويكفرون من باب ابتغائهم الديمقراطية دينا عوضا عن دين ال ‪.‬‬
‫عنْدَ الِ الِسْلمُ} والسلم دين ال الحق الذي بُعث به محمد صلى ال‬
‫فقد قال تعالى { إِنّ الدّينَ ِ‬
‫عليه وسلم وأما الديمقراطية فهي دين اخترعه اليونان ‪.‬‬
‫ل الضّلَلُ}‬
‫وهي دون شك ليست من دين ال فهي قطعا ليس من الحق { َفمَاذَا َبعْدَ الْحَقّ إِ ّ‬
‫وهؤلء القوم يُصرّحون ويُعلنون دوما مُختارين غير مُكرهين بل فخورين مسرورين بأن‬
‫الديمقراطية وليس السلم خيارهم الوحيد ‪.‬‬
‫والديمقراطية مع السلم ل يجتمعان إذ ل يقبل ال إل السلم الخالص‪ ،‬والسلم الذي هو دين‬
‫ال الخالص جعل التشريع والحكم ل وحده أما الديمقراطية فهي دين شركي كفري جعلت الحكم‬
‫والتشريع للشعب ل ل ‪ ،‬وال جلّ ذكره ل يقبل ول يرضى أن يجمع المرء بين الكفر وبين‬
‫السلم أو بين الشرك والتوحيد‪.‬‬
‫بل ل يُقبل السلم والتوحيد ول يصح إل إذا كفر المرء وتبرأ من كل دين غير دين ال‬
‫الخالص ‪.‬‬
‫خ َرةِ هُمْ كَا ِفرُونَ * وَا ّت َب ْعتُ‬
‫قال تعالى عن يوسف {ِإنّي َت َر ْكتُ ِملّةَ َقوْمٍ لّ ُي ْؤ ِمنُونَ بِاللّهِ وَهُمْ بِال ِ‬
‫شيْءٍ} ‪.‬‬
‫ش ِركَ بِاللّهِ مِن َ‬
‫ِملّةَ آبَائِـي ِإ ْبرَاهِيمَ َوإِسْحَاقَ َو َيعْقُوبَ مَا كَانَ َلنَا أَن نّ ْ‬

‫‪168‬‬
‫وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه مسلم "من قال ل إله إل‬
‫ال وكفر بما يُعبد من دون ال حرم ماله ودمه وحسابه على ال" ‪.‬‬
‫وفي رواية عند مسلم أيضا "من وحّد ال ‪ ". . .‬الحديث ‪.‬‬
‫وليست الديان فقط هي النصرانية واليهودية بل وأيضا الشيوعية والديمقراطية ونحوها من‬
‫الملل والمذاهب الرضية الكافرة فل بد من البراءة من جميع الملل والنّحل والمذاهب الباطلة‬
‫ليقبل ال دين السلم ‪.‬‬
‫فكما أنه ل يجوز في دين ال أن يكون النسان مسلما نصرانيا أو مسلما يهوديا فكذلك ل‬
‫يرضى ال أن يكون المرء مسلما ديمقراطيا فالسلم دين ال والديمقراطية دين كفري ‪.‬‬
‫سرِينَ} ‪.‬‬
‫خ َرةِ مِنَ الْخَا ِ‬
‫غ ْيرَ الِسْلَمِ دِينا َفلَنْ يُ ْقبَلَ ِمنْهُ وَ ُهوَ فِي ال ِ‬
‫{ َومَن َي ْبتَغِ َ‬
‫هذا إذا جمعوا بين السلم والديمقراطية فكيف إذا تركوا السلم وأعرضوا عن تشريعه‬
‫وأحكامه وحدوده واختاروا الديمقراطية وحكمها وتشريعها‪.‬‬
‫•ويكفرون من باب مساواتهم لنفسهم ولربابهم المتفرقين مع ال الواحد القهار ‪.‬‬
‫بل هم في دينهم الذي يدينون به أعظم عندهم من ال فأحكام ال تُعطّل ويُضرب بها عرض‬
‫الحائط ومن عارضها أو حادّها أو حاربها أو استهزأ بها فهو حبيبهم ووليّهم يحميه قانونهم‬
‫ويكفل له حرية العتقاد وحق الحياة مع أنه في دين ال مرتد‪.‬‬
‫أما من خالف قوانينهم أو طعن في دساتيرهم أو تعرّض لربابهم المتفرقين فهو المغضوب عليه‬
‫وهو المعذّب والمسجون والمفتون ومن مظاهر ذلك ـ وهي كثيرة ‪:‬‬
‫إن سابّ ال والدين والرسول عندهم إن روجع ـ فإن المحكمة التي تحاكمه محكمة مدنية‬
‫وحكمه ل يتجاوز الشهر أو الشهرين بخلف سابّ آلهتهم المفتراة وأربابهم المتفرقين من الملك‬
‫أو وزرائه أو غيرهم من أوليائه فإنه يُحاكم في محكمة أمن الدولة وغالبا يصل حكمه إلى ثلث‬
‫سنوات ‪.‬‬
‫فهم لم يساووا أنفسهم وأربابهم بال وحسب‪ ،‬بل طغوا وعظّموها أكثر من تعظيـم ال ـ هـذا‬
‫إن كـان عندهم في الصل تعظيما ل ـ‬
‫ولقد كان شرك المشركين الوائل أنهم أحبوا أندادهم كحب ال أو ساووهم بال في التعظيم أو‬
‫حبّ‬
‫حبّو َنهُمْ كَ ُ‬
‫ن اللّهِ أَندَادا يُ ِ‬
‫التشريع أو الحكم أو العبادة قال تعالى { َومِنَ النّاسِ مَن َيتّخِذُ مِن دُو ِ‬
‫سوّيكُمْ ِب َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } ‪.‬‬
‫اللّهِ} وقال تعالى {تَاللّهِ إِن ُكنّا لَفِي ضَلَلٍ ّمبِينٍ * إِذْ نُ َ‬

‫‪169‬‬
‫أما مشركوا زماننا فإنهم طغوا وبغوا فعظموا آلهتهم وأربابهم ورفعوهم فوق مقام ال‪ ،‬تعالى ال‬
‫عما يقولون علوا كبيرا‪.‬‬
‫وهذا أمر ل يجادل فيه إنسان يعرف واقعهم وقوانينهم ‪.‬‬
‫ت ويصدّق‬
‫وستعرف فيما يأتي أن الحاكم الحقيقي والمشرّع الصيل والرئيس عندهم الذي يب ّ‬
‫على القوانين هو ليس ال ودينه بل هو طاغوتهم وإلههم الذي يحبونه ويعظمونه أكثر من ال ‪.‬‬
‫ويغضبون له ولدينه ولحكمه ويعاقبون ويسجنون ويثورون بما ل يفعلونه إذا انتهِك دين ال‬
‫سبّت شريعته والواقع المرير الذي نعيشه أكبر شاهد وبرهان على هذا ‪.‬‬
‫وُ‬
‫•ويكفرون من باب التشريع مع ال عز وجل‪:‬‬
‫وهو شرك العصر الذي روّجوا له ودعوا الناس إليه بل شجعوهم على الدخول فيه والمشاركة‬
‫فيه وحببوه إليهم ‪.‬‬
‫وشرّعوا في دساتيرهم قوانين مضادة لدين ال وتوحيده جعلت لهم الحق في التشريع مطلقا في‬
‫جميع البواب ‪.‬‬
‫كمـا هـو نص المادة (‪ )26‬من الدستور الردني‪:‬‬
‫أ ـ السلطة التشريعية تناط بالملك وأعضاء مجلس المة‪.‬‬
‫ب ـ تمارس السلطة التشريعية صلحياتها وفقا لمواد الدستور ‪.‬‬
‫شرَعُواْ َلهُمْ مّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللّهُ }‬
‫ش َركَاءُ َ‬
‫وقد قال تعالى منكرا على المشركين {أَمْ َلهُمْ ُ‬
‫خ ْيرٌ أَ ِم اللّهُ ا ْلوَاحِدُ الْ َقهّارُ } وقال سبحانه عن الطاعة في‬
‫وقال عز وجل {َأَأ ْربَابٌ ّمتّ َفرّقُونَ َ‬
‫ش ِركُونَ} ‪.‬‬
‫ط ْع ُتمُوهُمْ ِإ ّنكُمْ َلمُ ْ‬
‫التشريع ولو في مسألة واحدة { َوإِنْ أَ َ‬
‫فكيف بممارسة السلطة التشريعية مُطلقا ويوضّح أنّهم قد أشركوا بال عز وجل في أبواب‬
‫التشريع شركا أكبرا بواحا‪.‬‬
‫إنّ دساتيرهم نصّت على أنّ (الشريعة السلمية مصدر رئيسي من مصادر التشريع) وهذا‬
‫يعني أنّهم ل يوحّدون ال في التشريع ‪ .‬بل للتشريع عندهم مصادر متعددة رئيسية وفرعية فما‬
‫الشريعة السلمية عندهم إل مصدر من تلكم المصادر أو بتعبير أوضح كفري‪( :‬إن اللهة‬
‫والرباب المشرعين عندهم كثيرة متعددة متفرقة منها الرئيسي ومنها الفرعي وما ال عندهم إل‬
‫إله من أولئك الرباب المتفرقين) تعالى ال عن إفكهم وعما يقولون علوا كبيرا ‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫ومن كان عنده معرفة وخبرة في قوانينهم سيعرف أن إلههم الرئيسي الذي ل يقر قانون ول‬
‫يصدّق أو ينفذ إل بتوقيعه هو في‬
‫الحقيقة طاغوتهم سواء كان ملكا أو أميرا أو رئيسا وأن تشريعات الله الواحد الحــد‬
‫عمِـل بها في بعـض البــواب ل تنـفُذ عندهم ول تأخذ‬
‫الــذي في السـمـاء إن ُ‬
‫صفتها القانونية إل برضى وإقرار وتصديق ربهم هذا الذي في الرض تعالى ال عما يفترون‬
‫علوّا كبيرا (‪.)2‬‬
‫واعلم أن كفرهم هذا أبشع من شرك كفار قريش الذين كانوا مثل هؤلء يعدّدون اللهة‬
‫والرباب ويشركونها مع ال في العبادة‪.‬‬
‫لكن كانت عبادة أولئك سجود وركوع‪ ،‬وعبادة هؤلء طاعه في التشريع في كافة البواب وإنما‬
‫كان شرك هؤلء أبشع‪ ,‬لن مشركي قريش كانوا يجعلون ال عز وجل أعظم آلهتهم وأعلها‬
‫وأجلّها ويزعمون أنهم ما يعبدون هذه اللهة إل لتقرّبهم إلى الله العظم الذي في السماء‪ ,‬حتى‬
‫كانت تلبية بعضهم التي يهلون بها في الحج‪:‬‬
‫لـبّيك ل شـريك لـك‬ ‫لبـيك اللـهم لبّيك‬
‫تمـلـكـه ومـا ملـك‬ ‫إل شريكا هو لـك‬
‫أما مشركوا الدستور فإنهم وإن سلّموا بأن ال هو الرزّاق وهو محي الموتى وهو الذي ينزل‬
‫المطر من السماء وينبت الكل وهو يشفي ويهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو‬
‫يزوّجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما ‪،‬نعم هم يؤمنون بأنّ المر في ذلك كله له وليس‬
‫لملكهم أو أميرهم لكن التّشريع والمر والحكم النافذ عندهم فوق كل حكم وتشريع هو في‬
‫الحقيقة لمليكهم طاغوتهم أو إلههم الذي في الرض‪.‬‬
‫فهم في الشرك مثل كفار قريش إل أنهم زادوا على كفر أولئك أنهم يعظمون أمر وحكم وتشريع‬
‫آلهتهم وأربابهم المتفرقة في الرض أكثر من تعظيم ال وحكمه وتشريعه‪.‬‬
‫عمّا‬
‫فتباّ وسحقا سحقا لمن كان أشد كفرا من أبي جهل وأبي لهب {َأإِلَـهٌ مّ َع اللّهِ َتعَالَى اللّهُ َ‬
‫ش ِركُونَ}‪.‬‬
‫يُ ْ‬
‫واعلم أن أبواب شرك هؤلء القوم وكفرهم البواح عديدة وكثيرة‬
‫لو أخذنا في عدّها واستقصائها لطال بنا المقام فهم لم يتركوا نوعا من أنواع الكفر إل وقد ولغوا‬
‫فيه‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫ولكن فيما ذُكر كفاية لمن أراد الهداية ‪.‬‬
‫أما من ختم ال على قلبه فلو انتطحت الجبال بين يديه لما انتفع أو اهتدى‪.‬‬
‫والذي نُريد أن نُعرّف الموحد به هنا أن كفر القوم ل يتوقف على باب واحد حتى يُردّ بشبهة أو‬
‫بقولة‪.‬‬
‫فالقوم قد مُلئوا شركا وكفرا إلى مشاشتهم والمهمّ هنا في هذا الموضع أن تعرف أن باب‬
‫الشراك في التشريع ليس هو باب ترك الحكم بما أنزل ال لشهوة أو لهوى أحيانا والذي يتنزل‬
‫فيه القول المنسوب لبن عباس "كفر دون كفر" ول هو الباب الذي كان الخوارج يجادلون ابن‬
‫عباس وغيره من الصحابة فيه‬
‫إذ لم يكن في زمن ابن عباس والخوارج من حكام المسلمين من يدّعي لنفسه حق التشريع مع‬
‫ال‪ ،‬ول كان فيهم من مارس التشريع ولو في مسألة واحدة إذ هذا عندهم كفرٌ بالجماع‪.‬‬
‫وابن عباس الذي يُنسب إليه قول "كفر دون كفر" هو نفسه راوي سبب نزول قوله تعالى في‬
‫طاعة المشركين ولو في قضية تشريعية واحدة ( ) {وإن أطعتموهم إنّكم لمشركون} ‪.‬‬
‫فلو كان الذي يدندن حوله الخوارج هو الحكم بمعنى التشريع لما قال فيه ابن عباس "كفر دون‬
‫كفر" ومعاذ ال أن يقول فيه ذلك وهو حبر القرآن ‪.‬‬
‫وإنما الذي كان ينتقده الخوارج هو بعض التجاوزات والجتهادات التي كانوا يرونها خاطئة‪.‬‬
‫حكَمين التي جرت في التحكيم بين جيش علي ومعاوية وما جرى فيها‬
‫ومن أمثلة ذلك قصة ال َ‬
‫ل اللّهُ‬
‫حكُم ِبمَا أَنزَ َ‬
‫حيث ثار الخوارج وقالوا حكّمتم الرجال واحتجّوا بعموم قوله تعالى { َومَن لّمْ يَ ْ‬
‫فَُأ ْولَـ ِئكَ هُمُ ا ْلكَا ِفرُونَ } وزعموا أن كل من عصى ال فقد حكم بغير ما أنزل ال وكفّروا‬
‫الحكمين ومن رضي بحكمهما وكفّروا معاوية وعلي رضي ال عنهما وكان ذلك أول‬
‫مخرجهم ‪ ،‬ولذلك سميت أول فرقهم بالمحكّمة‪ ،‬فناظرهم الصحابة ومن أكثر من ناظرهم ابن‬
‫عباس‪ ،‬وحاجّهم بأن ذلك من الصلح بين المسلمين وليس من الحكم بغير ما أنزل ال بمعناه‬
‫حكَما مّنْ‬
‫حكَما مّنْ أَ ْهلِهِ وَ َ‬
‫الكفري واستدل بقوله تعالى في الخصومة بين الزوجين {فَا ْب َعثُواْ َ‬
‫أَ ْهِلهَا} وأنه إن جاز تحكيم الرجال في الصلح بين الزوجين فمن باب أولى أنه يجوز لحقن دماء‬
‫أمة محمد صلى ال عليه وسلّم‪.‬‬
‫وناظرهم بغير ذلك من الدلة كما هو مبسوط في كتب التاريخ والفِرق ‪،‬وبيّن لهم أن هذا الباب‬
‫وإن حصلت فيه أخطاء أو تجاوزات فهو ليس من الكفر الذي يذهبون إليه وعلى هذا يُحمل ما‬

‫‪172‬‬
‫ينسب إليه من قول "كفر دون كفر" فرجع منهم خلق‪ ،‬وأصر آخرون فقاتلهم علي والصحابة‬
‫وحصل معهم ما هو معلوم في كتب التاريخ ‪.‬‬
‫فهل ما القوم فيه اليوم من التشريع مع ال واستبدال أحكام ال وابتغاء غير ال حكما ومشرعا‬
‫وغير السلم دينا ومنهجا‪.‬‬
‫هل هذا كله يا أولي اللباب من ذلك الباب الذي جرى بين الصحابة وأنكره الخوارج وجرت‬
‫فيه المناظرة حتى يصلح تنزيل ما قيل في ذلك الزمان عليه؟‪.‬‬
‫حكُم ِبمَا أَنزَلَ اللّهُ َفُأ ْولَـئِكَ هُمُ ا ْلكَا ِفرُونَ} عام يشمل‬
‫وعلى كل حال فقوله تعالى { َومَن لّمْ يَ ْ‬
‫الحكم بمعنى الجور (كفر دون كفر) والحكم بمعنى التشريع (كفر بواح) ‪.‬‬
‫ولذلك فإن السلف كانوا إذا وردت الية وأراد المستدل بها المعنى الول (الجور) أوّلوها‬
‫وحملوها على الكفر الصغر‪ ،‬وإن استدل بها على المعنى الثاني (التبديل والتشريع) أبقوها على‬
‫ظاهرها أي الكفر البواح الحقيقي ‪.‬‬
‫مع أن الصل في اليات أنها تتناول الكفر الكبر البواح الذي مارسه اليهود حين اتّفقوا‬
‫واجتمعوا وتواطئوا على أحكام غير أحكام ال ‪.‬‬
‫ولذلك قال البراء بن عازب رضي ال عنه كما في صحيح مسلم بعد أن ذكر قوله تعالى { َومَن‬
‫ل اللّهُ فَُأ ْولَـ ِئكَ هُمُ ا ْلكَا ِفرُونَ} و{الظّالمون} و{الفاسقون} قال "في الكفار كلها" ‪.‬‬
‫حكُم ِبمَا أَنزَ َ‬
‫لّمْ يَ ْ‬
‫فلو أن الخوارج أوردوها في موضعها على من شرّع أو وقع في ما وقع به اليهود لما أنكر‬
‫عليهم السلف ولبقوا الكفر فيها على حقيقته ولما أوّلوها( ) ‪.‬‬
‫لكنّ ذلك لم يكن موجودا في ذلك الزمان حتى يخوضـوا فيه‪ ,‬ولو كان موجودا لما أوردوا‬
‫عليه مثل هذه الية الظنية الدللة التي تحمل المعنيين‪ ،‬بل لوردوا نصوصا قطعية الدللة ل‬
‫شرَعُواْ َلهُمْ مّنَ الدّينِ مَا لَمْ‬
‫ش َركَاءُ َ‬
‫تحتمل إل المعنى التشريعي التبديلي كقوله تعالى {أَمْ َلهُمْ ُ‬
‫ط ْع ُتمُوهُمْ ِإ ّنكُمْ‬
‫شيَاطِينَ َليُوحُونَ ِإلَى َأ ْوِليَا ِئهِمْ ِليُجَا ِدلُوكُمْ َوإِنْ أَ َ‬
‫يَأْذَن بِ ِه اللّهُ} ‪ ,‬وقوله تعالى { َوإِنّ ال ّ‬
‫غ ْيرَ الِسْلَمِ دِينا َفلَنْ يُ ْقبَلَ‬
‫ش ِركُونَ } وقوله تعالى {أَ َفحُكمَ الجّا ِهِليّةِ َي ْبغُونَ } وقوله { َومَن َي ْبتَغِ َ‬
‫َلمُ ْ‬
‫ِمنْهُ} ‪.‬‬
‫لكنّ شيئا من هذا لم يكن موجودا عند الخلفاء في زمن الخوارج وابن عباس‪ ،‬ومن ثم فل يحل‬
‫إيراد ردّ الصحابة عليهم في ذلك المقام وتنزيله على شرك هذه الحكومات وكفرها البواح في‬
‫هذا الزمان‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫ومن فعل ذلك فقد لبّس الحق بالباطل والنور بالظلم بل هو‪-‬ورب الكعبة‪ -‬على خطر عظيم‪،‬‬
‫لن لزم ذلك أنّ ما كان ينتقده الخوارج على الصحابة والخلفاء الرّاشدين هو من جنس شرك‬
‫هؤلء الحكام الكافرين وفي هذا تكفير للصحابة أجمعين في هذا الزمان‪.‬‬
‫ول شك أنّ من كفّرهم فإنه هو الكافر‪ ،‬لن الصحابة قد رضي ال عنهم ورضوا عنه بنص‬
‫القرآن‪.‬‬
‫ورميهم بشيء من شرك هؤلء الحكام وكفرهم تكذيب لصريح القرآن أو وصفٌ ل بأنه يرضى‬
‫عن القوم الكافرين‪ ،‬وذلك كلّه كفر‪.‬‬
‫فليحذر امرئ على دينه من هذه المهالك وليتّق ال من رمي الصحابة بالكفر والشرك ترقيعا‬
‫للطواغيت‪.‬‬
‫الشبهة الثانية‬
‫أنهم يقولون ل إله إل ال ‪:‬‬
‫قالوا ‪ :‬كيف تُكفّرون هؤلء العساكر أو أولئك المخابرات والمن الوقائي ونحوهم من أنصار‬
‫القوانين‪ ,‬ومن ثم ل تُسلّمون عليهم وتعاملـونهم معاملة الكفار مع أنّهم يشهدون أن ل إله إل ال‬
‫‪.‬‬
‫وقد أنكر رسول ال صلى ال عليه وسلم على أُسامة حكمه بالكفر على الرجـل الذي تلفّـظ‬
‫بـ ل إله إل ال ومن ثَم قتله‪ ,‬وقال له‪" :‬كيف قتلـته بعـد أن قال ل إلـه إل ال؟" ‪.‬‬
‫ل اللّهِ َف َت َب ّينُواْ وَلَ تَقُولُواْ ِلمَنْ َألْقَى‬
‫سبِي ِ‬
‫ض َر ْبتُمْ فِي َ‬
‫وال جل ذكره يقول {يَاَأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُواْ إِذَا َ‬
‫حيَاةِ ال ّد ْنيَا َف ِعنْدَ اللّهِ َمغَانِمُ َكثِي َرةٌ كَذِلكَ ُك ْنتُمْ مّن َقبْلُ‬
‫عرَضَ الْ َ‬
‫ستَ ُم ْؤمِنا َت ْب َتغُونَ َ‬
‫ِإَل ْيكُمُ السّلَمَ لَ ْ‬
‫خبِيرا } ‪.‬‬
‫ن اللّهَ كَانَ ِبمَا َت ْع َملُونَ َ‬
‫عَل ْيكُمْ َف َت َب ّينُواْ إِ ّ‬
‫ن اللّهُ َ‬
‫َفمَ ّ‬
‫وكذلك حديـث "من مات وهو يشهد أن ل إله إل ال دخل الجنة" ‪.‬‬
‫وحديث "البطاقة" الذي فيه أنّ رجلً يأتي يوم القيامة بتسع وتسعين سجلّ من الذنوب حتى يظن‬
‫أنه هالك توزن هذه السجلت ببطاقة عليها ل إله إل ال فترجح البطاقة ‪.‬‬
‫وكذلك الحديث المروي عن حذيفة مرفوعا قال‪" :‬يُسرى على كتاب ال في ليلة فل تبقى في‬
‫الرض منه آية وتبقى فئام من الناس ما يدرون ما صلة وما صدقة وما نُسُك يقولون هذه‬
‫الكلمة (ل إله إل ال) أدركنا آباءنا عليها فنحن نقـولها" قال صِـلَة ( )‪" :‬فما تنفعـهم ل إلـه‬
‫إل ال وهم ل يدرون ما صـلة وما صدقة وما نُسُك؟" قال حذيفة‪" :‬تنجيـهم من النـار"‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫ونحو ذلك من الحاديث ( ) ‪.‬‬
‫والجواب من وجوه عدّة ‪:‬‬
‫ح َكمَاتٌ هُنّ أُمّ ا ْل ِكتَابِ‬
‫عَل ْيكَ ا ْل ِكتَابَ ِمنْهُ آيَاتٌ مّ ْ‬
‫أولً ‪ :‬قد قال تعالى في كتابه { ُهوَ الّذِي أَنزَلَ َ‬
‫خرُ ُمتَشَا ِبهَاتٌ فََأمّا الّذِينَ في ُقلُو ِبهِمْ َزيْغٌ َف َي ّت ِبعُونَ مَا تَشَابَهَ ِمنْهُ ا ْب ِتغَاءَ الْ ِف ْتنَةِ وَا ْب ِتغَاءَ تَ ْأوِيلِهِ َومَا‬
‫َوأُ َ‬
‫ل اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي ا ْل ِعلْمِ يَقُولُونَ آ َمنّا بِهِ كُلّ مّنْ عِندِ َر ّبنَا َومَا يَ ّذ ّكرُ إِلّ ُأ ْولُواْ‬
‫َي ْعلَمُ تَ ْأوِيلَهُ إِ ّ‬
‫ل ْلبَابِ } ‪.‬‬
‫اَ‬
‫فبيّن ال عزّ وجلّ بأنه ابتلى عباده بأن جعل في الشريعة التي أنزلها إليهم آيات محكمات‬
‫وقواعد راسيات وأوامر واضحات بيّنات عليها مدار الشريعة وإليها يُردّ المر عند النزاع‬
‫والخلف‬
‫وهناك أُخر متشابهات أو ظنّية الدللة تحتمل في الذهان أكثر من معنى‪ ،‬وبيّن أنّ أهل الزّيغ‬
‫والضلل هم الذين يتّبعون المتشابه ويذرون المحكم ابتغاء تأويله عن مراد ال الذي أنزله عليه‬
‫للتلبيس وابتغاء الفتنة بين عباد ال ‪.‬‬
‫أما طريقة طلّب الحق وأهل العلم الراسخين فيه‪،‬فهي أن يردّوا المتشابه الذي يشكل عليهم إلى‬
‫المحكم الذي هو أصل الكتاب وأمّه الذي عليه مدار التأويل وإليه يُردّ الخلف ‪.‬‬
‫وقد بيّن الشاطبي في العتصام أن هذه القاعدة ليست خاصة في الكتاب الكريم وحده‪ ،‬بل هي‬
‫مطردة في السنّة النبـوية والسـيرة المحمدية ‪.‬‬
‫حيث أنّ هنــاك أحـاديث وحـوادث أعيان قيلت أو حصلت في مـناسـبات معيـنة إذا‬
‫أُخذت وحدها دون مبيّناتها كان ذلك من قبيل اتّباع المتشابه وترك المحكم ‪.‬‬
‫وكذلك أخذ العام دون مخصّصه أو المطلق دون مقيّده ‪ ،‬أو التشبّث بنص من بين طائفة من‬
‫النصوص جميعها يتناول قضية واحدة وإهمال غيره مما هو مرتبط به ذلك كله من اتباع‬
‫المتشابه وترك المحكم وهو من التقوّل على ال بغير علم وتقويل الشرع ما لم يقل به‪.‬‬
‫إذ ل بد من اليمان بكلم ال ورسوله جميعا وأخذه كله والدخول في السلم كافة ‪.‬‬
‫أما تتبّع ما يوافق الهوى فهي طريقة أهل الزيغ والضلل وهو سبب ضلل أكثر أهل الضللة ‪.‬‬
‫فالخوارج ضلّوا لما أهملوا نصوص الوعد وركّزوا على نصوص الوعيد فأخذوا قوله تعالى‬
‫ج َهنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا َأبَدا } وهو نص عامّ يكون من المتشابه‬
‫ص اللّهَ َورَسُولَهُ َفإِنّ لَهُ نَارَ َ‬
‫{ َومَن َي ْع ِ‬

‫‪175‬‬
‫ش َركَ بِهِ َو َيغْ ِفرُ مَا‬
‫ن اللّهَ لَ َيغْ ِفرُ أَن يُ ْ‬
‫إن لم يُردّ إلى مقيّده ومبيّنه الذي أهملوه وهو قوله تعالى {إِ ّ‬
‫دُونَ َذِلكَ ِلمَن يَشَاءُ } ‪.‬‬
‫وكذلك المرجئة تمسّكوا ببعض النصوص المتقدّمة التي تبشّر من قال ل إله إل ال بالجنة‬
‫فأرجأوا العمال وأهملوها واكتفوا في الحكم بالسلم ودخول الجنة بالكلمة وحدها دون تحقيق‬
‫مقتضياتها أو التزام لوازمها ‪ ،‬وإن كان ذلك مستطاعا مقدورا عليه‪.‬‬
‫مع أن العلماء قد بيّنوا كما روى البخاري في صحيحه عن وهب بن منبّه أن "ل إله إل ال‬
‫مفتاح الجنة لكن لكل مفتاح أسنان فمن جاء بمفتاح له أسنان فتح ومن جاء بمفتاح ليس له‬
‫أسنان لم يفتح" وأسنانها هي تحقيق شروطها واجتناب نواقضها ‪.‬‬
‫إذ ل يشك عاقل عارف بحقيقة دين السلم أن المراد من ل إله إل ال هو معناها التي تتضمّنه‬
‫من نفي وإثبات‪ ,‬أما أن يتلفّظ بها دون القصد إلى معناها أو دون تحقيق مقتضاها واجتناب‬
‫نواقضها فهذا ليس هو مطلوب ال عزّ وجلّ ‪.‬‬
‫شهِدَ بِا ْلحَقّ وَهُمْ َي ْعَلمُونَ}‬
‫علَمْ َأنّهُ لَ ِإلَـهَ إِل اللّهُ } وقال سبحانه {إِلّ مَن َ‬
‫ولذلك قال سبحانه {فَا ْ‬
‫‪.‬‬
‫والحديث المذكور "من مات وهو يعلم أنّه ل إله إل ال دخل الجنة" دليل أيضا على أنّ معرفة‬
‫معنى هذه الكلمة المتضمن للتوحيد والبراءة من التنديد وقصده في الشهادة شرط لتحقيقها ولنيل‬
‫موعود ال عليها ‪.‬‬
‫وقد بوّب له النووي في صحيح مسلم (باب من مات على التوحيد دخل الجنّة) ‪.‬‬
‫فالمطلوب هو تحقيق التوحيد الذي تحويه هذه الكلمة وليس مجرد التلفّظ بها دون اجتناب‬
‫نواقضها والستسلم لحقوقها‪.‬‬
‫كما في حديث معاذ المروي في الصحيحين أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أوصاه وعلّمه‬
‫أسلوب الدعوة لمّا بعثه إلى اليمن فقال‪" :‬فليكن أوّل ما تدعوهم إليه ل إله إل ال" وفي رواية‬
‫إلى أن يوحّدوا ال" فدلّ ذلك على أنّ المراد حقيقة الكلمة ما تنفيه وما تثبته وليس فقط اللّفظ‬
‫المجرّد من ذلك ‪.‬‬
‫وقد بيّنا لك معنى التوحيد في الوراق التي سبقت هذه والتي سمّيناها "هذان خصمان اختصموا‬
‫في ربهم" وعرفت أنه معنى (ل إله إل ال) و(العروة الوثقى) وأنّ له ركنين‪:‬‬
‫النفي والثبات ‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫أمّا النفي فهو (ل إله) وهو الكفر بالطاغوت‪ ،‬وأمّا الثبات فهو (إل ال) وهو عبادة ال وحده‪,‬‬
‫كما بيّنه تعالى في تعريف العروة الوثقى حيث قال {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بال فقد‬
‫استمسك بالعروة الوثقى} ‪.‬حيث جعل سبحانه شرط النجاة والستمساك بالعروة الوثقى أمرين ل‬
‫انفكاك لحدهما عن الخر (الكفر بالطاغوت) و(اليمان بال)‪ ،‬ول يكفي (الكفر بالطاغوت)‬
‫وحده دون (اليمان بال)‪ ،‬كما ل ينفع (اليمان بال) وحده دون (الكفر بالطاغوت) بل لبدّ من‬
‫الجمع بين المرين ‪.‬‬
‫فما دام هؤلء العساكر أو غيرهم غير كافرين بالطاغوت بل هم حرّاسه وأنصاره وجنده‬
‫وأركانه وحفظته ‪،‬فهم ليسوا بمسلمين ول مؤمنين ول متمسّكين بالعروة الوثقى بل هم من‬
‫الهالكين إن ماتوا على شركهم‪ ،‬وإن تلفّظوا بـ(ل إله إل ال) مئات بل آلف المرات‪.‬‬
‫وكما قلنا من قبل فإنّ أتْباع مُسيلَمة الكذّاب كانوا يقولون ل إله إل ال ويصلّون ويصومون‬
‫ويشهدون أنّ محمدا رسول ال لكن أشركوا معه رجلً بالرسالة فكفروا وحلّت دماءهم وأموالهم‬
‫ولم تنفعهم ل إله إل ال بمجرد أن أشركوا مع رسول ال صلى ال عليه وسلّم رجلً من‬
‫عشيرتهم في النبوة والرسالة‪.‬‬
‫فكيف بمن أشرك مع ال ملكا أو أميرا أو رئيسا أو عالما بالعبادة‪ ..‬فصرف له أي نوع من‬
‫أنواع العبادة سواءً سجود أو ركوع أو تشريع كما هو حاصل في شرك هؤلء القوم؟! ‪.‬‬
‫وتعريف هذا المر أعني الكفر بالطاغوت مع اليمان بال ما هو إل شرط من شروط عدّة لهذه‬
‫الكلمة العظيمة (ل إله إل ال) ولقد تكلّم العلماء في شروطها وذكروا الدلّة على ذلك ليعرف‬
‫المسلم إنّها ليست بكلمة تُلفظ باللسان وكفى فذكروا الشرط المتقدم‪:‬‬
‫‪1‬ـ العلم بمقتضاها نفيـا وإثبـاتا‪.‬‬
‫‪2‬ـ النقيــاد لحقـوقها‪.‬‬
‫وذكـروا أيضا‪:‬‬
‫‪3‬ـ الصدق المنـافي للكذب‪.‬‬
‫‪4‬ـ الخلص المنافي للشرك‪.‬‬
‫‪5‬ـ اليقين المنافي للشـك‪.‬‬
‫‪6‬ـ المحبة لهذه الكلمة ولما دّلت عليه‪.‬‬
‫‪7‬ـ القبول المنافي لردّ أي شيء من لوازمها‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫وتفصيل ذلك مبسوط في مواضعه بأدلّته ‪.‬‬
‫والمراد من ذكره هنا أن تعرف أنّ أمثال هذه الحاديث المذكورة في هذه الشبهة لها ما يُبيّنها‬
‫في النصوص الخرى من الكتاب والسنّة‪.‬‬
‫فحديث "من مات وهو يعلم أنّه ل إله إل ال دخل الجنّة" ل بدّ أن يفسّر ويُربط بقوله تعالى { َفمَنْ‬
‫سكَ بِا ْل ُع ْروَةِ ا ْل ُوثْقَى} ول بدّ أن يردّ إلى قوله تعالى {إِنّ‬
‫س َتمْ َ‬
‫َيكْ ُفرْ بِالطّاغُوتِ َو ْي ْؤمِن بِاللّهِ فَقَدِ ا ْ‬
‫ش َركَ بِهِ َو َيغْ ِفرُ مَا دُونَ َذِلكَ ِلمَن يَشَاءُ} ‪.‬‬
‫اللّهَ لَ َيغْ ِفرُ أَن يُ ْ‬
‫فلو أنّ مشركا قال "ل إله إل ال" ألف مرّة وكان يعلم معناها لكنّه لم يترك شركه ول تبرّأ من‬
‫طاغوته الذي يعبد ه وينصره ‪ ،‬فإنه لم يستمسك بالعروة الوثقى ولن يغفر ال له ولن يدخل‬
‫جنّةَ }‪.‬‬
‫علَيهِ الْ َ‬
‫حرّ َم اللّهُ َ‬
‫ش ِركْ بِاللّهِ فَقَدْ َ‬
‫الجنة‪ ،‬قال تعالى‪ِ{ :‬إنّهُ مَن يُ ْ‬
‫وهكذا يجب أن يُضاف إلى ذلك كل حديث يتكلم في الموضوع نفسه لنحيط بالموضوع من كل‬
‫جوانبه ول نكون ممّن يتّبعون ما تشابه من النصوص فيُضم إليه حديث الصحيحين‪ " :‬أشهد أن‬
‫ل إله إل ال وأنّني رسول ال ل يلقى الَ بهما عبدٌ غير شاكّ بهما إل دخل الجنة" ‪.‬‬
‫ومثله حديث‪" :‬ما من أحد شهد أن ل إله إل ال وأني رسول ال صدقا من قلبه إل حرّم ال‬
‫عليه النّار" ‪.‬‬
‫ونحو ذلك من الحاديث وبمثل هذه الطريقة يُفهم الدين ويُنال العلم ويُعرف مراد ال كما يحب‬
‫ويرضى ولذلك نقل النووي في شرح مسلم (‪)1/219‬عن بعض أهل العلم قولهم في تأويل هذه‬
‫الحاديث أنها " مجملة تحتاج إلى شرح ومعناه من قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها وهذا قول‬
‫الحسن البصري وقيل أن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة ومات على ذلك وهذا هو قول‬
‫البخاري " قال النووي‪":‬هذه التأويلت إنما هي إذا حملت الحاديث على ظاهرها وأما إذا ُنزّلت‬
‫منازلها فل يشكل تأويلها على ما بينه المحققون"‪.‬‬
‫ومثل ذلك يقال في حديث "البطاقة" فالمراد ببطاقة (ل إله إل ال) كما عرفت هو تحقيق‬
‫التوحيد من اليمان بال والكفر بالطواغيت وعدم التيان بشيء من نواقضها ‪.‬‬
‫ن اللّهَ لَ َيغْ ِفرُ أَن‬
‫فبِردّ هذا الحديث وفهمه على ضوء النصوص المحكمة كقوله تعالى ‪{ :‬إِ ّ‬
‫ش َركَ بِهِ َو َيغْ ِفرُ مَا دُونَ َذِلكَ ِلمَن يَشَاءُ }‪ ،‬تعـرف أنّ السجلّت التسعة والتسعين هي قطعا‬
‫يُ ْ‬
‫ذنوب غير مكفّرة أو ذنوب دون الشـرك لن الشـرك الذي يناقض هذه البطاقة ل يغفره ال‬
‫أبدا كما في الية وصاحبه ل يدخل الجنة إن مات عليه‪ ,‬ولو أنّ في هذه السجلت ناقض من‬

‫‪178‬‬
‫النواقض لما طاشت به البطاقة ولما نجا صاحبها لنها ساعتئذٍ ل تكون بطاقة التوحيد الصحيح‬
‫بل بطاقة كلمة ودعوى منقوضة تقال باللسان دون قصد معناها أو تحقيق لوازمها ‪.‬‬
‫فلو أنّ في هذه السجلت عبادة غير ال أو التشريع مع ال أو نُصرة المشرّعين وتولّيهم أو سبّ‬
‫الدين أو حرب أوليائه َلمَا رجحت أو نفعت أو دخل صاحبها الجنّة إذ هذه كلها موانع وقواطع‬
‫تقطع وتمنع الفوز والنجاة‪ ،‬لكن السجلت ذنوب دون الشرك ‪.‬‬
‫وفي الحديث بيان أهمية وعظم كلمة التوحيد وبيان أنّ من حقّقها فأتى بها كما يحبّ ربّنا‬
‫ويرضى فإن التوحيد بعظمته يغمر جميع الذنوب والخطايا التي هي دون الشرك ويدمغها‪،‬‬
‫ويبين ذلك ويوضحه أيضا الحديث القدسي ‪" :‬يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الرض خطايا ‪ ،‬ثم‬
‫لقيتني ل تشرك بي شيئا أتيتك بقرابها مغفرة" رواه الترمذي‪.‬‬
‫وكذلك حديث حذيفة المذكور "يُسرى على كتاب ال في ليلة فل تبقى منه في الرض آية " فهو‬
‫إن صحّ يُحمل على أنّ هؤلء الناس الذين ل يعرفون من الشرائع إل هذه الكلمة محققين لمعناها‬
‫غير مشركين بال لنّ ال ل يغفر أن يشرَك به‪.‬‬
‫أمّا تركهم الصلة والصدقة والنّسك فإن كانوا موحّدين فإنهم يعذرون بذلك لنّ هذه الشرائع ل‬
‫تُعرف إل بالحجة الرسالية ‪.‬‬
‫وقد ذكر الحديث أن كتاب ال يُرفع في زمنهم فل تبقى منه في الرض آية ‪.‬‬
‫حيَ ِإَليّ هَـذَا الْ ُقرْآنُ لُن ِذ َركُمْ بِهِ َومَن‬
‫وكتاب ال هو الحجّة التي علّق ال النّذارة بها‪ ،‬فقال { َوأُو ِ‬
‫َبلَغَ} فمن بلغه القـرآن فقد قامت عليه الحجّة ومن لم يبلغه فإنه يُعذر بفـروع الشريعة لكنه ل‬
‫يُعـذر بتـرك أصل التوحيد واتّباع الشرك الصراح والتنديد ‪.‬‬
‫لن هذا أمر قد أقام ال عليه حجته البالغة من أبواب شتى كما سيأتي بعد‪.‬‬
‫وحال هؤلء إن صحّ الحديث كحال زيد بن عمرو بن نفيل الذي كان قبل بعثة النبي صلى ال‬
‫عليه وسلّم حنيفا مسلما من غير أن يأتيه نبي فإنه حقّق التوحيد وكان على ملة إبراهيم كما في‬
‫صحيح البخاري وكان يقول كما في رواية ابن إسحاق‪" :‬اللهم لو أعلم أحب الوجوه إليك لعبدتك‬
‫به‪ ،‬ولكني ل أعلمه" ‪.‬‬
‫فمثل هذا يعذر بتفاصيل الشرائع التي ل تُعرف إل عن طريق الرسل فهو ل يدري كيف‬
‫الصلة أو الزكاة ولذلك يُعذر فيهما‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫أمّا التوحيد فل ينجو إل بتحقيقه لنه حق ال على العبيد الذي بعث من أجله كافة رسله وأقام‬
‫عليه الحجج المتنوعة ‪.‬‬
‫وهذا كله يُصار إليه إذا كانت لفظة "تنجيهم من النار" مرفوعة إلى النبي صلى ال عليه وسلّم‪.‬‬
‫لكنّ الصواب أنّها موقوفة مدرجة من قول حذيفة كما قرّره أهل العلم في الحديث ‪.‬‬
‫بل قد ذهب بعض المحققين إلى أن الحديث برمّته ل يصحّ لن فيه "أبو معاوية خازم الضرير"‬
‫مدلّس وفي مروياته عن غير العمش ضعف وقد رواه هنا من غير طريق العمش وهو فوق‬
‫ذلك رأس من رؤوس الرجاء كما ذكر الحافظ بن حجر وغيره وهذا الحديث مما يتمسك‬
‫ويستدل به المرجئة ‪.‬‬

‫وقد حذّر العلماء من قبول مرويات أهل البدع إن كانت مما ينصر بدعتهم(*)‪ ،‬وهذا الحديث‬
‫مما يستنصر به أهل الرجاء ‪ ،‬فكيف إذا انضاف إلى ذلك الضعف والتدليس؟‪.‬‬
‫أما حديث أُسامة‪ :‬فإنه في الكافر الذي يُسْلم للتّو ول يُظهر ناقض من نواقض السلم فمثل هذا‬
‫ل يحل قتله لنه دخل إلى العصمة فوجب الكف عنه حتى يأتي بناقض ‪.‬‬
‫ولذلك بوّب له النووي في صحيح مسلم (باب تحريم قتل الكافر بعد قوله ل إله إل ال) ولكن‬
‫يجب أن يُعلم أنّ هناك فرق كبير بين (ابتداء العصمة و بين استمرارها) فالعصمة تبدأ للكافر‬
‫بمجرد تلفّظه بكلمة التوحيد ولكن استمرار تلك العصمة ل يكون إل بالتزام حقوق هذه الكلمة‬
‫وخلع واجتناب نواقضها ‪.‬‬
‫فالكافر عندما يهمّ بالدخول للسلم يتلفّظ بكلمة التوحيد ومجرّد تلفّظه يعني استعداده لقبول‬
‫شرائع السلم واستسلمه لحقوقها وبراءته من نواقضها فإن لم يحقق ذلك لم تستمر العصمة‬
‫التي دخل إليها بالكلمة بل انقطعت ‪.‬‬
‫فالحديث إذا لرجل أسلم للتّو ولم يُظهر شيئا من نواقض السلم ‪.‬‬
‫وليس هو فيمن يزعم ويدعي السلم منذ دهر‪ .‬وإذا نظرت في حاله وجدته حربا على السلم‬
‫وأهله سِلما للطاغوت وأوليائه وقوانينه وباطله فهذا لو قالها مئات بل ألوف المرات لم تكن‬
‫لتنفعه حتى ينخلع عن الكفر والشرك والطاغوت الذي يعبده ويتولّه ويحرسه ‪.‬‬
‫لنّ هذا هو أهم معاني هذه الكلمة التي لم يحققها دهره كله‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫ستَ ُم ْؤمِنا} ‪ ،‬فإنها نزلت كما في‬
‫ومثل ذلك قوله تعالى {وَلَ تَقُولُواْ ِلمَنْ َألْقَى ِإَل ْيكُمُ السّلَمَ لَ ْ‬
‫الحديث الذي يبيّن سبب نزولها في مجموعة من الصحابة مرّوا برجل معه غنيّمة فسلم عليهم‬
‫وأظهر السلم ولم يُظهر شيئا من نواقضه ومع هذا فعلوا معه كما فعل أسامة فقتلوه بحجة أنّه‬
‫قالها خوفا منهم وأخذوا غنمه ‪.‬‬
‫فأنكر ال تعالى عليهم ذلك في القرآن إذِ الواجب فيمن أظهر لنا السلم أن نعامله بظاهره ما لم‬
‫يُظهر لنا خلف ذلك ‪.‬‬
‫فإن تبيّن لنا بعد ذلك أنه يُظهر السلم ودين آخـر كفـري ولم يبـرأ منه ـ كالديمقـراطية‬
‫ـ مثلً ـ أو موالة القوانين الوضعية ـ لم نقبل منه حتى يبرأ من ذلك كله ويُخلص دينه ل‬
‫رب العالمين ‪.‬‬
‫ولذلك قال سبحانه قبل ذلك وبعده {ف َت َب ّينُوا}‪.‬‬
‫الشبهة الثالثة‬
‫أنّهم يُصلّون ويصومون ‪:‬‬
‫قالوا ‪ :‬كيف تكفرون عساكر القانون وأنصار الدستور وبعضهم يصلّي ويصوم ويحج‪ ,‬وربما‬
‫ذكروا حديث مسلم الذي فيه ذكر أمراء الجور‪ ،‬ومنه قول الصحابة‪ :‬أفل نقاتلهم يا رسول ال؟‬
‫قال‪" :‬ل‪ ,‬ما أقاموا فيكم الصلة" ‪.‬‬
‫ومثل ذلك حديث ذي الخويصرة الذي تكلّم في قسمة النبي صلى ال عليه وسلم فقال خالد بن‬
‫الوليد‪ :‬أل أقتله؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬أليس يصلّي؟ أما إني لم أؤمر بقتل المصلين"‬
‫وفي رواية "يتحدث الناس محمد يقتل أصحابه " ‪.‬‬
‫الجواب نقول ‪ :‬لقد علمت أنّ دين ال الذي بعث ال به كافّة رسله هو التوحيد‪.‬‬
‫ول بد أن تعلم أنّ هذا التوحيد هو شرط رئيس من شروط قبول العمل والعبادة‪.‬‬
‫فالعمل ل يكون خالصا متقبلً إل بتحقيق هذا الشرط مع الشرط الخر الذي هو المتابعة ( أن‬
‫يكون العمل موافقا لما جاء به النبي صلى ال عليه وسلم) والشرط هو ما يلزم من عدمه عدم‬
‫العبادة وبطلنها ‪.‬‬
‫ولذلك فقد ذكر ال عزّ وجلّ أعمالً كثيرة للكفار والمشركين لكنه بيّن سبحانه أنّه ل يتقبّلها بل‬
‫يجعلها هباءً منثورا لنّها فقدت شرط الخلص والتوحيد‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫قال تعالى {والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا‬
‫ووجد الَ عنده فوفّاه حسابه} ‪.‬‬
‫وفي الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى ال عليه وسلم عن ربه‪" :‬أنا أغنى الشركاء عن‬
‫الشرك من عمل عملً أشرك به معي غيري تركته وشركه" وهذا يستدلّ به العلماء على الشرك‬
‫الصغر فيدخل فيه الكبر من باب أولى‪.‬‬
‫فالشاهد من هذا كله أن التوحيد شرط في صحة الصلة وفي قبولها ‪.‬‬
‫والدخول للسلم إنما يكون من باب التوحيد (ل إله إل ال) وليس من باب الصلة أو غيرها‬
‫من العبادات دون تحقيق للتوحيد‪ ،‬وإنما يحكم أهل العلم للمصلي بالسلم لتضمن الصلة‬
‫للتوحيد ‪ ،‬ولن التوحيد شرط صحتها وقبولها ‪.‬‬
‫فمن جاء بصلة أوصيام أو زكاة من غير أن يحقق التوحيد بركنيه (اليمان بال) و(الكفر‬
‫بالطاغوت) فإن أعماله جميعها باطلة وليس صلته فقط‪.‬‬
‫فمن صلى وهو مظهر للشرك غير مجتنب لعبادة الطواغيت ونصرتهم لم تقبل صلته ولم‬
‫تدخله في دائرة السلم ول أخرجته من دائرة الشراك‪.‬‬
‫سرِينَ }‬
‫ع َمُلكَ َوَل َتكُونَنّ مِنَ الْخَا ِ‬
‫حبَطَنّ َ‬
‫ش َر ْكتَ َليَ ْ‬
‫ومن أوضح الدلّة على ذلك قوله تعالى {َلئِنْ أَ ْ‬
‫ع ْنهُمْ مّا كَانُواْ َي ْع َملُونَ } ‪ 188‬النعام‪.‬‬
‫حبِطَ َ‬
‫ش َركُواْ لَ َ‬
‫وكذلك قوله تعالى { َوَلوْ أَ ْ‬
‫فاجتناب الشرك بال تعالى بترك عبادة الطواغيت وخلع متابعتهم على تشريعاتهم أعظم شروط‬
‫قبول العمل وهو أول فرض افترضه ال تعالى على عباده وأمرهم به وبدونه تحبط العمال‪.‬‬
‫وهؤلء العساكر بدلً من أن يستجيبوا لمر ال تعالى بالكفر بالطاغوت {وَقَدْ ُأ ِمرُواْ أَن َيكْ ُفرُواْ‬
‫بِهِ} وبدّلوا قولً غير الذي قيل لهم‪ ,‬فحرسوه وحموه ونصروه واتّبعوه ونصروا تشريعاته‬
‫وقانونه الكفري‪.‬‬
‫ولذلك ل تقبل منهم صلة ول صيام ول غيره من العمال ما داموا لم يحققوا شرط قبولها‪.‬‬
‫أرأيت لو أنّ هذا العسكري أو ذلك الضابط أو الجاسوس أو المن الوقائي أو المخابرات أو‬
‫غيرهم صلّوا صلة من غير وضوء‪ ،‬ترى صلة أحدهم مقبولة عند ال تعالى ؟ أم هي باطلة‬
‫مردودة على وجهه؟‪.‬‬
‫ن الصلة بغير‬
‫لعلك تقول هذا أمر ل يختلف فيه شخصان ول ينتطح فيه عنزان ل شك أ ّ‬
‫وضوء باطلة مردودة‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫فتأمّل هذا الموضع يا عبد ال إذا كان ترك الطهارة مبطل للصلة لنه شرط في صحتها‪،‬‬
‫فكيـف بترك التوحيـد والكفر بالطواغيت الذي هو أعظم شروط قبول العمال؟‪.‬‬
‫ولذلك فهو الشرط والمر الذي أوجب ال على ابن آدم تعلمه والعمل به قبل تعلم الصلة‬
‫وشروطها والطهارة وشروطها ونواقضها‪.‬‬
‫وهو الشرط الذي فرض على الصحابة في مكة قبل فرض الصلة وغيرها ‪ ،‬ومعلوم أن‬
‫الصحابة ما عُذّبوا في مكّة ول ابتُلوا وهاجروا وأوذوا إل من أجله إذ لم يعذبهم قومهم ول‬
‫آذوهم لجل الصلة أو الزكاة أو غيرها من الطاعات والشرائع التي لم تكن قد فرضت ول‬
‫طولبوا بها بعد وإنما طولبوا أول ما طولبوا بتحقيق ذلك المر العظيم لن تلك العبادات ل تقبل‬
‫بدونه ولذلك لم يكن من أمر الرسول صلى ال عليه وسلم ول من طريقة دعوته هو وأصحابه‬
‫أن يبدأوا في دعوة المشركين بالصلة أو بالزكاة أو نحوها من الشرائع قبل دعوتهم لتحقيق‬
‫التوحيد واجتناب عبادة الطواغيت ‪ ،‬ل وال ما كانت هذه دعوتهم أبدا‪.‬‬
‫وتأمل حديث معاذ بن جبل في الصحيحين حين بعثه الرسول صلى ال عليه وسلم إلى اليمن‬
‫وعلّمه أسلوب الدعوة وطريقتها قال‪" :‬فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن ل إله إل ال" ‪.‬‬
‫علِمهم أنّ ال قد افترض عليهم خمس‬
‫وفي رواية "إلى أن يوحدوا ال" "فإن هم أطاعوك لذلك فأ ْ‬
‫صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أنّ ال قد أوجب عليهم في أموالهم‬
‫صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ إلى فقرائهم‪ . . .‬الحديث" ‪.‬‬
‫فدعوة النسان إلى السلم ابتداءً ل تكون من الصلة بل من التوحيد‪.‬‬
‫ثم يؤمر إن حقق التوحيد بالصلة والزكاة وسائر الركان ‪.‬‬
‫فمن حقّق التوحيد واعتصم بالعروة الوثقى نجى وقُبلت منه الصلة وسائر الركان ومن تمسّك‬
‫بشرائع وأركان السلم دون أن يتمسّك بالعروة الوثقى فهو من جملة الهالكين ‪.‬‬
‫لن ال لم يضمن لشيء من عرى السلم اليمان أن ل تنفصم إل إذا انضمّت إليها وارتبطت‬
‫بها هذه العروة الوثقى التي ضمن سبحانه أن ل تنفصم قال تعالى {لَ ِإ ْكرَاهَ فِي الدّينِ قَد ّت َبيّنَ‬
‫سكَ بِا ْل ُع ْر َوةِ ا ْل ُوثْقَى لَ انفِصَامَ َلهَا‬
‫س َتمْ َ‬
‫الرّشْدُ مِنَ ا ْلغَيّ َفمَنْ َيكْ ُفرْ بِالطّاغُوتِ َو ْي ْؤمِن بِاللّهِ فَقَدِ ا ْ‬
‫علِيمٌ }‪ 256‬البقرة‪.‬‬
‫سمِيعٌ َ‬
‫وَاللّهُ َ‬
‫لذك فإنّ كثيرا ممن نصبوا بالعبادة في الدنيا تردّ عبادتهم على وجوههم يوم القيامة ويكون‬
‫صبَةٌ } أي في العبادة ثم مصيرها‪:‬‬
‫شعَةٌ * عَا ِملَةٌ نّا ِ‬
‫مصيرهم النار‪ ،‬قال تعالى {وُجُوهٌ َي ْو َمئِذٍ خَا ِ‬

‫‪183‬‬
‫{ َتصْلَى نَارا حَا ِميَةً } لن عبادتها وصلتها وتعبها ونصبها كان هبا ًء منثورا‪ ،‬لنه بغير توحيد‬
‫وإخلص فإذا فهمت هذا وعلمت أنه قاعدة من قواعد دين المسلمين وأصل محكم من أصولهم‬
‫يُردّ إليه كل ما تشابه من النصوص فا ْفهَم على ضوئه بعد ذلك كل حديث يشكل عليك في هذه‬
‫البواب‪.‬‬
‫ومن ذلك حديث مسلم المتقدم في شأن المراء ونهي النبي صلى ال عليه وسلم عن قتالهم ما‬
‫أقاموا فينا الصلة فهو إشارة إلى إقامة الدين والتوحيد مع الصلة وليس المقصود إقامة الصلة‬
‫وحدها بغير توحيد!! بدليل أنّ المر بالقتال كما في الحاديث الخرى المبيّنة لهذا الحديث يذكر‬
‫أول ما يذكر فيها قبل الصلة والزكاة‪( :‬تحقيق التوحيد) كما في الحديث المتفق عليه "أُمرت أنْ‬
‫أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن ل إله إل ال وأنّ محمدا رسول ال ويقيموا الصلة ويؤتوا الزكاة‬
‫فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إل بحقّها وحسابهم على ال"‪.‬‬
‫فتأمّل ذكر التوحيد وأنّ القتال ابتداءا عليه‪ ،‬ومن ثم على حقوقه ولوازمه‪.‬‬
‫سبِيَلهُمْ} ‪.‬‬
‫خلّواْ َ‬
‫لةَ وَآ َت ُو ْا ال ّزكَاةَ فَ َ‬
‫وهذا معنى قوله تعالى {فَإِن تَابُواْ َوأَقَامُو ْا الصّ َ‬
‫فإن تابوا‪ :‬أي من الشرك والكفر وخلعوا عبادة غير ال وحقّقوا التوحيد ومن ثم أقاموا الصلة‬
‫وآتوا الزكاة فقد عُصمت دماؤهم وأموالهم إل بحقّها‪.‬‬
‫أما إقامة الصلة دون التوبة من الشرك ودون التوحيد أو إقامة الصلة مع نواقض ل إله إل ال‬
‫فل تغني من ال شيئا‪ ،‬وكم من مصلّ في زمن رسول ال صلى ال عليه وسلم كفر وارتدّ بكلمة‬
‫‪.‬‬
‫من نواقض هذا التوحيد العظيم ومن أمثلة ذلك ما قدّمناه لك في النّفر الذين خرجوا مع رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم مجاهدين في غزوة تبوك وهم من المصلّين ومع ذلك كفروا لمّا جاءوا‬
‫بناقض من نواقض التوحيد والسلم‪ ،‬هو استهزائهم بحفظة كتاب ال قال تعالى {لَ َت ْعتَ ِذرُواْ قَدْ‬
‫كَ َف ْرتُمْ َبعْدَ إِيمَا ِنكُمْ} وكانوا يصلّون ‪.‬‬
‫وعلى مثل هذا مضى علماء المسلمين ولذلك جعلوا في كتب الفقه بابا يسمى (باب حكم المرتدّ)‬
‫وعرّفوه بأنه المسلم الذي يرتدّ بقول أو عمل أو اعتقاد بعد إسلمه وربما يكون مصليا‪.‬‬
‫ولذلك أفتى شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال بكفر عبيد الياسق وهو دستور أو قانون التتار في‬
‫زمنه كما أفتى بكفر أنصارهم وعساكرهم مع أن فيهم من كان يصلّي‪ ,‬وراجع المجلد ‪ 28‬من‬
‫فتاواه ‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫ومثل ذلك كله يقال في حديث ذي الخويصرة فقوله "أليس يصلي؟" أو "لعله أن يكون يصلي" ‪.‬‬
‫فيه قاعدة الخذ بالظاهر والعلنية وترك السريرة إلى ال وأنّ ذلك الرجل كان يُظهر التوحيد‬
‫لن القاعدة التي عرفتها فيما تقدم تقرّر أنّه ل قبول للصلة وحدها دون التوحيد ‪ .‬فلو أنّ هذا‬
‫الرجل كان يعبد الطاغوت أو ينصره أو يقبل غير ال مشرعا وحكما ويُظهـر ذلك لماَ قبل منه‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم السلم بالصلة وحدها ( ) ‪.‬‬
‫فمن الفوائد المستفادة من هذا الحديث وأمثاله أننا نعصم دم ومال كل من بصلي إلى قبلتنا ونعده‬
‫من أهل القبلة المسلمين لتضمن الصلة للتوحيد ‪ ،‬ما لم يظهر منه ناقض أو قاطع من قواطع‬
‫السلم الظاهرة البينة ‪..‬‬
‫وأنصار القانون قد أظهروا تولي الشرك (القانون وأهله ) وظاهروهم على الموحدين ‪ ،‬وهذا‬
‫ناقض ظاهر من نواقض السلم فلم ينفعهم إظهارهم للصلة مع تلبسهم بتلك النواقض ولم يغن‬
‫ذلك عنهم شيئا ‪.‬‬
‫الشبهة الرابعة‬
‫من كفّر مسلما فقد كفر‪:‬‬
‫قال المجادلون عن عساكر القوانين ‪ :‬إنّ التكفير أمر خطير لنّ رسول ال صلى ال عليه وسلّم‬
‫قد قال‪" :‬من كفّر مسلما فقد كفر" بل سمعنا بعض جهّالهم يقول‪ :‬ل يجوز تكفير إل من وُلد‬
‫كافرا من أبوين كافرين‪.‬‬
‫الجواب نقول ‪ :‬ليس التكفير على إطلقه أمر خطير ومذموم‪.‬‬
‫ولكن تكفير المسلم بمجرّد الهوى وبمحض العصبية دون دليل شرعي هو المذموم والخطير ‪.‬‬
‫وليس كل الكفر مذموم كما أنه ليس كل اليمان ممدوح ‪.‬‬
‫فمن اليمان ما هو واجب كاليمان بال ومنه ما هو محرّم وشرك كاليمان بالطاغوت ‪.‬‬
‫وكذلك الكفر منه ما هو واجب وممدوح كالكفر بالطاغوت ومنه ما هو مذموم كالكفر بال وآياته‬
‫ودينه ‪.‬‬
‫وأيضا كما أن تكفير المسلم دون دليل شرعي أمر خطير‪ ،‬فكذلك الحكم على المشرك أو الكافر‬
‫بالسلم وعصمة الدم وإدخاله بالتالي في الخوة السلمية والموالة اليمانية أمر خطير وفساد‬
‫كبير ‪.‬‬
‫لرْضِ وَفَسَادٌ َكبِيرٌ}‪.‬‬
‫ضهُمْ َأ ْوِليَاءُ َبعْضٍ إِلّ تَ ْف َعلُوهُ َتكُنْ ِف ْتنَةٌ فِي ا َ‬
‫قال تعالى {وَالّذينَ كَ َفرُواْ َب ْع ُ‬

‫‪185‬‬
‫أمّا الحديث المذكور فلم يصح عن النبي صلى ال عليه وسلّم بهذا اللفظ أبدا فليس كل من كفّر‬
‫مسلما يكفر خصوصا إذا كان ذلك المسلم قد أتى "بما سمّاه ال ورسوله كفرا" ‪.‬‬
‫ومفهوم هذا اللفظ أن المسلم ل يكفر أبدا وهذا منقوض بقوله تعالى عن أُناس كانوا يُظهرون‬
‫علَى أَ ْدبَارِهِمْ مّن َبعْدِ‬
‫السلم {لَ َت ْعتَ ِذرُواْ قَدْ كَ َف ْرتُمْ َبعْدَ إِيمَا ِنكُمْ} وقوله سبحانه {إِنّ الّذِينَ ا ْرتَدّواْ َ‬
‫سوّلَ َلهُمْ َوَأ ْملَى َلهُمْ} ‪ ،‬وقوله عزّ وجلّ {يَأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُواْ مَن َي ْرتَدّ‬
‫شيْطَانُ َ‬
‫مَا َت َبيّنَ َلهُمُ ا ْلهُدَى ال ّ‬
‫علَى ا ْلكَا ِفرِينَ‬
‫عزّةٍ َ‬
‫علَى ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ أَ ِ‬
‫حبّونَهُ أَ ِذلّةٍ َ‬
‫ح ّبهُمْ َويُ ِ‬
‫س ْوفَ يَ ْأتِي اللّهُ بِ َقوْمٍ يُ ِ‬
‫مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَ َ‬
‫علِيمٌ}‬
‫ل اللّهِ وَلَ يَخَافُونَ َل ْومَةَ لئِمٍ ذِلكَ َفضْلُ اللّهِ ُي ْؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ َ‬
‫سبِي ِ‬
‫يُجَاهِدُونَ فِي َ‬
‫ونحوها من اليات ‪.‬‬
‫وإذا كان المسلم ل يكفر أو يرتدّ أبدا فما فائدة أحكام المرتدّ التي ُدوّنت في كتب الفقه السلمي‪.‬‬
‫ومنها قول النبي صلى ال عليه وسلّم "من بدّل دينه فاقتلوه" ‪.‬‬
‫وإنّما لفظ الحديث في صحيح مسلم "من قال لخيه المسلم يا كافر فإن كان كذلك وإل حار عليه"‬
‫‪.‬‬
‫وقوله "فإن كان كذلك" دالّ على جواز التكفير للمسلم الذي يظهر فيه كفر وتنتفي في حقه موانع‬
‫التكفير أي إنْ كان كذلك فل حرج‪.‬‬
‫"وإل حار عليه" أي‪ :‬رجع عليه تكفيره إن لم يكن من كفره قد كفر‪.‬‬
‫ولذلك فإن من كفّر مسلما ظهر منه شيء من الكفر فإنه ل يكفر حتى وإن كان حكمه لم يوافق‬
‫الصواب لقيام مانع من موانع التكفير لم يطّلع عليه بل إذا كان تكفيره له غضبا لدين ال‬
‫ومحارمه ‪ ،‬فإنه مأجور على ذلك كما حصل مع الفاروق رضي ال عنه عندما قال للنبي صلى‬
‫ال عليه وسلّم "دعني أضرب عنق هذا المنافق" يعني بذلك (حاطِب) ‪.‬‬
‫ن النبي صلى ال عليه وسلّم بيّن أنّ حاطب لم يكفر إل أنّه لم يقل لعمر ـ لقد حار عليك‬
‫فمع أ ّ‬
‫الكفر لنّك كفّرت مسلما واستحللت دمه ومن كفّر مسلما فقد كفـر كما يزعم هؤلء‍!!‬
‫وقد أشار ابن القيم ـ رحمه ال تعالى ـ في زاد المعاد إلى هذا المعنى عند ذكره الفوائد‬
‫المستفادة من قصة حاطب بن أبي بلتعة في فتح مكة ‪.‬‬
‫ف ُعلِم أنّ الذي يُذمّ‪ ,‬وهو على أمر خطير إنما هو من كفّر مسلما لمحض الهوى والعصبية‬
‫والحزبية‬

‫‪186‬‬
‫ويجب أن يعرف الموحّد لمزيد من الفائدة أنّ هذا الحديث مُؤوّل عند العلماء على وجوه عدّة‬
‫أحدها‪ :‬أنّه من وصف دين المسلمين والتوحيد بأنه كفر فقد كفر‪.‬‬
‫ووجه آخر‪ :‬حملوه على من استهان واستهتر بتكفير المسلمين فإنّ ذلك قد يؤدّي به إلى الكفر‬
‫وغير ذلك من التّأويلت‪.‬‬
‫وقد ذكر النووي منها في شرح صحيح مسلم عدة أوجه‪.‬‬
‫وإنّما اضطروا إلى تأويله وفهمه على ضوء غيره من النصوص‪ ،‬لن ظاهره معارض لصل‬
‫من أصول الدين المحكمة عند أهل السنّة والجماعة في أبواب الكفر واليمان وهو قوله تعالى‬
‫ش َركَ بِهِ َو َيغْ ِفرُ مَا دُونَ َذِلكَ ِلمَن يَشَاءُ} ‪.‬‬
‫{إِنّ اللّهَ لَ َيغْ ِفرُ أَن يُ ْ‬
‫ول شك أنّ رمي المسلم بالكفر غضبا دنيويا أو للهوى مسبة له‪ ،‬وذلك دون الشرك ‪.‬‬
‫ولذلك اضطرّ من اضطرّ إلى تأويله‪ ،‬برده إلى النصوص المحكمة الخرى ‪ ،‬وفهمه على‬
‫ضوئها‪.‬‬
‫ولو قلنا نحن الذين يحتج علينا خصومنا بمثل هذه الشبهة‪ ،‬أنّ من كفّرنا أو كفّر غيرنا من‬
‫الموحدين المسلمين بغضا لهم ولتوحيدهم وبراءتهم من الطواغيت وسمّى دينهم دين الخوارج‬
‫نصرة لعداء التوحيد من الطواغيت ومظاهرة لقوانينهم وعساكرهم على الموحدين‪ ،‬بأنّه هو‬
‫الكافر استدللً بهذا الحديث لكان ذلك حقّا ل مرية فيه ولما احتيج إلى تأويله لنّ ذلك كفر دون‬
‫شكّ‪.‬‬
‫أمّا قول ذلك الجاهل ل يكفر إل من ُولِدَ كافرا من أبوين كافرين فهو قول ساقط يدلّ على أنّ‬
‫قائله ل يعرف حقيقة دين السلم وتكلّف الردّ عليه مضيعة للوقت والجهد ومعناه أنّ المسلم ل‬
‫يكفر أبدا وهذا لم يقل به من المتقدّمين ل عالم ول جاهل ‪.‬‬
‫ويكفي في كشف بطلنه ما تقدّم من كلم ال تعالى وكلم رسوله وكلم العلماء في باب أحكام‬
‫المرتد فإنّ فيه شفاء لمن في ناظريه عمىً‪.‬‬
‫الشبهة الخامسة‬
‫العــذر بالجــــهل‪:‬‬
‫قال المجادلون عن عساكر القوانين‪ :‬إنّ هؤلء العساكر جهّال بحاجة إلى من يعلمهم ويدعوهم‬
‫ويبيّن لهم‪ ,‬فهم ل يعرفون أنّ سادتهم طواغيت وانّ طاعتهم لهم في التّشريع عبادة وشرك ‪.‬‬
‫وبالتالي فليس تولّيهم لهم وحراستهم للقانون كفر ‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫الجواب ‪ :‬ل خلف في أهمية واستحباب دعوة هؤلء العساكر وغيرهم وأنّ ذلك من أحسن‬
‫سِلمِينَ}‬
‫ل صَالِحا وَقَالَ ِإ ّننِي مِنَ ا ْلمُ ْ‬
‫عمِ َ‬
‫العمال قال تعالى { َومَنْ أَحْسَنُ َقوْلً ّممّن دَعَا ِإلَى اللّهِ وَ َ‬
‫‪.‬‬
‫لكن كُلّ مشرك بال في العبادة (‪ )8‬قبل الدعوة وأثناءها وبعدها ما داموا غير ملتزمين بالتوحيد‬
‫ول كافرين بالطواغيت فهم مشركون‪.‬‬
‫والقول بأهمية دعوتهم ل يغير من حكمهم ول يجعلهم موحدين أو يرفع مسمّى الشرك عنهم فال‬
‫سمَعَ كَلَمَ اللّهِ ثُمّ َأ ْبِلغْهُ مَ ْأ َمنَهُ‬
‫حتّى يَ ْ‬
‫ج ْرهُ َ‬
‫ستَجَا َركَ فَأَ ِ‬
‫ش ِركِينَ ا ْ‬
‫عزّ وجلّ يقول { َوإِنْ أَحَدٌ مّنَ ا ْلمُ ْ‬
‫ذِلكَ بَِأ ّنهُمْ َقوْمٌ لّ َي ْعَلمُونَ } ‪.‬‬
‫فقد سمّاهم ال بالمشركين قبل أن يسمعوا كلم ال ووصفهم بذلك مع أنّهم ل يعلمون ( أي جهّال‬
‫)‪.‬‬
‫وأمره لنبيه صلى ال عليه وسلّم بدعوتهم وإسماعهم وتبليـغهم الدعـوة لم يغيّـر من ذلك‬
‫الوصـف شيـئا ل قبل الدعوة ول أثنــاءها ول بعـدها ما دامـوا ملزمـين للشرك غير‬
‫ملتزمـين للتوحيـد ‪.‬‬
‫وذلك لنّ الشرك الكبر المناقض للحنيفية السمحة وهو صرف شيء من العبادة الظاهرة لغير‬
‫ال عزّ وجلّ أمر ل يُعذر فاعله بالجهل أصلً فقد أقام ال عزّ وجلّ عليه حجته البالغة من‬
‫أبواب شتى ذكر العلماء منها‪:‬‬
‫‪ -1‬الدلّة الكونية الظاهرة الدالة على وحدانية ال‪ ،‬حيث يستدل بربوبيته على وحدانيته سبحانه‬
‫فالذي خلق ورزق وصوّر ودبّر هو وحده الذي يجب أن يُعبد ويشرّع ول يجوز شرعا وعقلً‬
‫ل ْمرُ}‪.‬‬
‫خلْقُ وَا َ‬
‫أن يُصرف شيء من ذلك لغيره سبحانه {أَلَ لَهُ الْ َ‬
‫‪ -2‬ومنها أخذه سبحـانه الميثـاق على بني آدم في ذلك حيـث استخرجهم من ظهر أبيهم آدم‬
‫ستَ‬
‫سهِمْ َألَ ْ‬
‫علَى أَنفُ ِ‬
‫شهَدَهُمْ َ‬
‫ظهُورِهِمْ ُذ ّر ّي َتهُمْ َوأَ ْ‬
‫كالذر قال تعالى { َوإِذْ أَخَذَ َر ّبكَ مِن َبنِي آدَمَ مِن ُ‬
‫ش َركَ‬
‫شهِ ْدنَا أَن تَقُولُواْ َيوْمَ الْ ِقيَامَةِ ِإنّا ُكنّا عَنْ هَـذَا غَا ِفلِينَ * َأوْ تَقُولُواْ ِإ ّنمَا أَ ْ‬
‫ِب َر ّبكُمْ قَالُواْ َبلَى َ‬
‫طلُونَ }‪ .‬فلم يعذرهم ال تعالى بدعوى‬
‫آبَا ُؤنَا مِن َقبْلُ َو ُكنّا ُذ ّريّةً مّن َبعْدِهِمْ أَ َف ُت ْهِل ُكنَا ِبمَا َفعَلَ ا ْل ُمبْ ِ‬
‫الغفلة والجهل وتقليد الباء في الشرك الظاهر المستبين ‪ ،‬بعد أن أخذ ميثاقهم على أن ل يتخذوا‬
‫ربا سواه‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫‪ -3‬ومنها فطرة ال التي فطر الناس عليها وغرسها في قلوب العباد على أنّ الخالق الرّازق هو‬
‫وحده المعبود المشرّع كما في الحديث الذي يرويه الشيخان أن رسول ال صلى ال عليه وسلّم‬
‫قال ‪" :‬كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه" وفي رواية‬
‫(ويشركانه) وهي في صحيح مسلم وفي الحديث القدسي الذي يرويه مسلم أيضا "إني خلقت‬
‫عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم فحرّمت عليهم ما أحللت لهم"‪.‬‬
‫‪ -4‬وإضافة إلى ذلك أرسل سبحانه الرسل جميعهم من أجل هذه الغاية العظيمة {* َولَقَدْ َب َع ْثنَا‬
‫شرِينَ َومُن ِذرِينَ ِلئَلّ َيكُونَ‬
‫ج َت ِنبُواْ الْطّاغُوتَ} ‪{ ،‬رّسُلً ّمبَ ّ‬
‫عبُدُواْ اللّهَ وَا ْ‬
‫فِي كُلّ ُأمّةٍ رّسُولً أَنِ ا ْ‬
‫علَى اللّهِ حُجّةٌ َبعْدَ الرّسُلِ} فمن لم تصله رسالة نبي سمع بغيره‪.‬‬
‫لِلنّاسِ َ‬
‫إذ جميعهم وإن تنوّعت شرائعهم إلّ أنّ دعوتهم إلى تحقيق التوحيد وهدم الشرك والتنديد واحدة‪.‬‬
‫حتّى َن ْب َعثَ رَسُولً) وقد صدق ال وحده فبعث للناس كافة رسله‬
‫وقد قال تعالى ( َومَا ُكنّا ُمعَ ّذبِينَ َ‬
‫‪ ،‬وختمهم بمحمد صلى ال عليه وسلم أوضح به المحجة وأقام به الحجة ‪ ،‬وليس بعده ثم‬
‫رسول‪.‬‬
‫‪ -5‬وأنزل سبحانه الكتب جميعها تدعوا إلى هذه الغاية العظيمة وختمها بكتاب ل يغسله الماء ل‬
‫يبلى ول يبيد فتكفّل بحفظه إلى يوم القيامة وعلّق النذارة ببلوغه في كثير من أبواب الدين‪.‬‬
‫حيَ ِإَليّ هَـذَا الْ ُقرْآنُ‬
‫فكيف بأعظم وأهم وأخطر باب من تلكم البواب (التوحيد) قال تعالى { َوأُو ِ‬
‫حتّى‬
‫ش ِركِينَ مُن َفكّينَ َ‬
‫لُن ِذ َركُمْ بِهِ َومَن َبلَغَ} وقال تعالى {لَمْ َيكُنِ الّذِينَ كَ َفرُواْ مِنْ أَهْلِ ا ْل ِكتَابِ وَا ْلمُ ْ‬
‫تَ ْأ ِت َيهُمُ ا ْل َب ّينَةُ} ‪.‬‬
‫ط ّه َرةً } ‪.‬‬
‫ن اللّهِ َي ْتلُو صُحُفا مّ َ‬
‫ثم عرّف البيّنة والحجّة سبحانه بقوله {رَسُولٌ مّ َ‬
‫فمن بلغه هذا القرآن العظيم فقد قامت عليه الحجّة والنذارة ‪ ،‬خصوصا في أوضح أبواب الدين‬
‫الذي بعث كافة الرسل من أجله‪.‬‬
‫أمّا أن يُراد بالحجة وقيامها أن يؤتى إلى كل واحد في مكانه فتقام عليه الحجة فهو ما أنكره ال‬
‫ستَن ِف َرةٌ *‬
‫ح ُمرٌ مّ ْ‬
‫تعالى في قوله تعالى عن المشركين { َفمَا َلهُمْ عَنِ التّ ْذكِ َرةِ ُم ْع ِرضِينَ * َكَأ ّنهُمْ ُ‬
‫ش َرةً } ‪.‬‬
‫س َو َرةٍ * بَلْ ُيرِيدُ كُلّ ا ْمرِىءٍ ّم ْنهُمْ أَن ُي ْؤتَى صُحُفا ّمنَ ّ‬
‫َف ّرتْ مِن قَ ْ‬
‫ومعلوم من سيرة النبي صلى ال عليه وسلم أن شأنه في دعوة الطوائف الممتنعة‪ ،‬أنه كان‬
‫يراسل رؤوس تلك الطوائف دون آحاد رعيتهم ‪ ،‬ولم يكن يشترط أو يأمر رسله وأمراءه‬
‫بوجوب تتبع آحاد الناس لقامة الحجة عليهم ‪ ،‬خصوصا في المحاربين ‪.‬وأن الحال عند‬

‫‪189‬‬
‫شوّه في أرجاء المعمورة ليس كالحال في فجر الدعوة وأول‬
‫العلماء بعد انتشار السلم وف ُ‬
‫السلم أو مع حديث العهد بالسلم‪.‬‬
‫وهؤلء الطواغيت وأنصارهم من عساكر القانون يقتفون آثار من قبلهم من المشركين في‬
‫العراض عن القرآن المتضمن للتوحيد وإهماله وينفرون من سماع الحق كنفور وفرار الحمر‬
‫الوحشية من السد‪ ،‬فهم مشركون جهال بجهل اكتسبوه بإعراضهم عن التذكرة المحفوظة‬
‫والحجة القائمة بين أيديهم ‪..‬‬
‫ل لجهل سببه عدم بلوغ الرسالة ‪ ،‬أو لجهل سببه العته أو الجنون أو الصغر أو نحو ذلك من‬
‫موانع الهلية ‪..‬أضف إلى ذلك أنهم محاربون ممتنعون عن شرائع السلم بشوكة ‪ ،‬ومعلوم أن‬
‫المحارب ل تجب إقامة الحجة عليه ةولذلك فرق العلماء في هذا الباب بين من كان قتاله قتال‬
‫دفع وبين من كان قتاله قتال طلب‪،‬ثم يأتي أولئك المجادلون عن هؤلء المحاربين لدين ال‬
‫وأوليائه ليرقّعوا باطلهم‪ ,‬فيزعمون أنّ الحجّة غير مقامة عليهم‪ ,‬ولزم هذا ‪-‬مع مافيه من‬
‫حجّةُ ا ْلبَاِلغَةُ} وقد علمتَ أنها مقامة في أصل‬
‫جهل‪ -‬مناقض ومعارض لقوله تعالى {قُلْ َفِللّهِ الْ ُ‬
‫التوحيد من وجوه وأبواب شتى‪.‬‬
‫ولذلك فقد قال النبي صلى ال عليه وسلّم لرجل سأله عن أبيه‪" :‬إن أبي وأباك في النار" رواه‬
‫مسلم مع أنّهم من القوم الذين قال ال فيهم {ِلتُن ِذرَ َقوْما مّا أُن ِذرَ آبَاؤُهُمْ َفهُمْ غَا ِفلُونَ} ‪.‬‬
‫ن أصل التوحيد والتحذير من الشرك الكبر وعبادة غير ال تعالى‪ ،‬قد أقام ال‬
‫وما ذلك إلّ ل ّ‬
‫عليها الحجة البالغة كما تقدّم من أبواب شتى وأرسل بها الرسل أجمعين ‪.‬‬
‫ومع هذا يأتي بعض من ل يعرفون من الدين إلّ السم ول من معالمه إلّ الرسم يطالبون بإقامة‬
‫الحجة في باب الشرك الواضح المستبين والتوحيد الذي هو أحق حقوق ال على العبيد ‪ ،‬والذي‬
‫ُبعِث من أجله جميع الرسل وأُنزلت له كافة الكتب وتواترت عليه الحجج ‪.‬‬
‫وربما أقاموا على ذلك شبها بآيات يضعونها في غير موضعها كقوله تعالى { َومَا ُكنّا ُمعَ ّذبِينَ‬
‫حتّى َن ْب َعثَ رَسُولً} يريدون‪ :‬أنّه ل تكفير إلّ بعد إقامة الحجّة في كل باب حتى في الشرك‬
‫َ‬
‫الكبر الواضح المستبين‪.‬‬
‫وليس في هذه الية وجه دللة على قولهم الفاسد هذا فال جلّ ذكره لم يقل "وما كنّا مكفرين‬
‫حتى نبعث رسولً"! ‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫وإنّما قال {معذّبين} والمقصود بذلك عذاب الستئصال الدنيوي وهي كقوله تعالى { َومَا كَانَ َر ّبكَ‬
‫عَل ْيهِمْ آيَا ِتنَا} ‪ ,‬أو العذاب الخروي كما قال تعالى‬
‫حتّى َي ْب َعثَ فِي ُأ ّمهَا رَسُولً َي ْتلُو َ‬
‫ُم ْهِلكَ الْ ُقرَى َ‬
‫خ َز َن ُتهَا َألَمْ يَ ْأ ِتكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ َبلَى} ‪.‬‬
‫{ ُكّلمَا ُألْ ِقيَ فِيهَا َفوْجٌ سََأَلهُمْ َ‬
‫أمّا التكفير خصوصا في الشرك الكبر وعبادة غير ال فليس هو المراد بذلك‪ ،‬إذ الكافر إمّا أن‬
‫يكون كافرا معاندا كالمغضوب عليهم عرفوا الحق وكفروا به‪ ،‬أو يكون كافرا جاهلً معرضا أو‬
‫مضلّلً كالضالّين الذي لبّس عليهم علماؤهم‪.‬‬
‫جهّال ضلّل وإنما أوردهم‬
‫وليس كل كافر يكون كفره عن علم وجحود للحق بل أكثر الكفار ُ‬
‫النار كفرهم بتقليد ساداتهم وكبرائهم وآبائهم ويحسبون أنّهم يُحسنون صنعا ‪.‬‬
‫وباب الشرك الكبر الصريح قد أقام ال عليه حججه البالغة فل يُعذر الجاهل فيه لنّ جهله‬
‫والحالة كذلك إنما يكون إعراضا عن الدين وعن تعلم أهم ما خلق من أجله وليس جهل من لم‬
‫تقم عليه الحجّة ‪.‬‬
‫وفي قصة زيد بن عمرو بن نُفيل عبرة فقد حقّق التوحيد دون أن يبعث رسول خاص بزمانه‬
‫وذلك قبل بعثة النبي صلى ال عليه وسلّم مباشرة فقد كان من القوم الذين قال ال تعالى فيهم‬
‫{ِلتُن ِذرَ َقوْما مّا َأتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن َق ْبِلكَ} ومع ذلك فقد كان زيد حنيفا على ملّة سيدنا إبراهيم‬
‫اهتدى إلى التوحيد بفطرته فكان يبرأ من طواغيت قومه ويجتنب عبادتها ونصرتها‪ ،‬وكان ذلك‬
‫كافيا لنجاته‪ ،‬فقد أخبر النبي صلى ال عليه وسلم أنه يبعث أمة وحده‪ ،‬ورآه صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬وقد قُدّمت له سُفرة "مذبوحة على نصبهم" فأبى أن يأكلها وقال‪( :‬إني لست آكل مما‬
‫تذبحون على أنصابكم) وكان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول ‪ (:‬الشاة خلقها ال وأنزل لها من‬
‫السماء الماء‪ ،‬وأنبت لها من الرض ثم أنتم تذبحونها على غير اسم ال ‪ ،‬إنكارا لذلك وإعظاما‬
‫له) رواه البخاري‪. .‬‬
‫فتأمّل كيف أنّ التوحيد مزروع في الفطرة وأنّ الشرك هو الطارئ الذي اخترعه الناس‬
‫وانحرفوا إليه ‪.‬‬
‫فهذا رجل لم يأته نبي خاص بزمانه‪ ،‬ومع هذا عرف التوحيد وحقّقه فنجا وعُذر بتفاصيل‬
‫الشريعة والعبادات التي ل تُعرف إلّ عن طريق الحجّة الرسالية فقد كان يقول كما في رواية‬
‫ابن إسحاق‪ " :‬اللهم لو أعلم أحب الوجوه إليك لعبدتك به ‪ ،‬ولكني ل أعلمه ‪ ،‬ثم يسجد على‬
‫الرض براحته "‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫فعُذر بترك الصلة والصيام ونحوه من الشرائع التي ل تُعرف إلّ عن طريق الرسل ‪.‬‬
‫بينما لم يُعذر أهل زمانه ومنهم والديّ النبي صلى ال عليه وسلّم لنّهم لم يحقّقوا التوحيد‬
‫ويبرأوا من الشرك والكفر والتنديد مع أنّـهم لم يأتهم نذير كما أخبر تعالى‪.‬‬
‫فتدبّر هذا المعنى جيدا واعلم أنّ هذا الباب (باب العذر بالجهل) قد تكلّم فيه العلماء وخاض فيه‬
‫المتأخرون ول يفهمه حق الفهم إلّ من أحاط به من جوانبه أمّا من أخذ منه بنص واحد وبنى‬
‫عليه المسائل الكبار فقد جانب الصواب وأبعد النجعة‪.‬‬
‫واعلم بعد هذا كله أنّ كفر هؤلء الطواغيت وأنصارهم اليوم ليس هو من الجهل بمعنى عدم‬
‫علّقت به‬
‫بلوغ الحجّة الرسالية فقد ُبعِث خاتم الرسل وليس بعده ثَم رسول‪ ,‬وكتاب ال الذي ُ‬
‫النذارة محفوظ ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه ‪ ،‬وهو بين أيديهم‬
‫ولكن أكثر الناس استحبوا الحياة الدنيا على الخرة فهم معرضون عن طلب الحق وعن اتباعه‬
‫فكفرهم كفر إعراض وليس بسبب عدم بلوغ الحجّة الرسالية ‪.‬‬
‫ن اللّهِ} كانوا يجهلون أنّ الطاعة في‬
‫حبَارَهُمْ َورُ ْهبَا َنهُمْ َأ ْربَابا مّن دُو ِ‬
‫ثم اعلم أن الذين {اتّخَذُواْ أَ ْ‬
‫التشريع عبادة وشرك كما في حديث عُدي بن حاتم الصحيح بمجموع طرقه وفيه قوله "ما‬
‫عبدوهم" فما كانوا يعرفون أن الطاعة في التحليل والتحريم والتشريع عبادة ومع هذا كفروا‬
‫بصرف ذلك لغير ال وصاروا به متخذين أربابا من دون ال ولم يُعذروا بهذا الجهل‪.‬‬
‫لنّ المر منافٍ للفطرة التي فطر ال الناس عليها‪ ,‬فالذي خلق ورزق وصوّر وبرأ هو الذي ل‬
‫يجوز أن يشرّع ويأمر ويحكم أحد سواه ‪ ،‬وقد بعث ال كافة رسله وأنزل جميع كتبه لجل‬
‫توحيد ال بالعبادة وإفراده بالحكم والتشريع واجتناب عبادة من سواه ‪ ،‬ثم المر بعد ذلك في‬
‫زماننا أوضح من ذلك فهذا الضابط أو ذلك الشرطي وذلك المخابرات أو المن الوقائي‪ ،‬إذا ما‬
‫سألته عن دينه زعم أنّه السلم وأنّ كتابه القرآن‪ ،‬وأنه يتلوه آناء الليل وأطراف النهار زيادة‬
‫في إقامة الحجة!! ثم هو مع ذلك يخذل السلم والقرآن ويحاكم ويسجن ويتجسّس على من‬
‫يسعى لتحكيمه ونصرته ويحارب كل من يدعوا إلى التوحيـد والـبراءة من الشرك والتنديد‬
‫وينصر في المقابل شرع الطاغوت وقانونه الوضعي ودستوره الشركي الذي ألغى أحكام‬
‫الشرع ويظاهر أولياءه من أعداء التوحيد ويتولهم ويُعينهم على أهل الحق ‪.‬‬
‫فهل مناقضة هذا لدين ال تخفى على من زعم السلم ؟ وهل هي من الغامضات والمشكلت‬
‫الملتبسات حتى يقال "لم تقم عليهم الحجّة"؟‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫إنّ المر وال أوضح من الشمس في رابعة النهار‪.‬‬
‫فها هنا صفّان وفريقان يختصمون‪ :‬صف شرك وصف توحيد صف القانون الوضعي وصف‬
‫الشريعة المطهّرة وهؤلء القوم يختارون بمحض إرادتهم وبكامل عقلهم واختيارهم صف‬
‫الطاغوت إمّا حبّا له أو استحبابا للحياة الدنيا "الراتب والتقاعد" ونحوه على الخرة يقاتلون في‬
‫سبيله وينصرونه ويحاربون من ناوأه أو اجتنبه من أهل صف التوحيد{الّذِينَ آ َمنُواْ يُقَا ِتلُونَ فِي‬
‫سبِيلِ الطّاغُوتِ}‪.‬‬
‫ل اللّهِ وَالّذِينَ كَ َفرُواْ يُقَا ِتلُونَ فِي َ‬
‫سبِي ِ‬
‫َ‬
‫ولذلك سيقول هؤلء الجند يوم القيامة عندما يعاينون فوز أهل التوحيد وهزيمة وهلك أهل‬
‫ضعْفَيْنِ مِنَ ا ْلعَذَابِ‬
‫سبِيلْ * َر ّبنَا ا ِتهِمْ ِ‬
‫ضلّونَا ال ّ‬
‫ط ْعنَا سَا َد َتنَا َو ُك َبرَا َءنَا فََأ َ‬
‫الشرك والتنديد { َر ّبنَا ِإنّا أَ َ‬
‫وَا ْل َعنْهُمْ َلعْنا َكبِيرا } ‪.‬‬
‫فتأمل قولهم {فأضلّونا السبيل} هل عُذروا به؟! ‪.‬‬
‫سبُونَ َأ ّنهُم ّم ْهتَدُونَ}‬
‫صنْعا} { َويَحْ َ‬
‫ن ُ‬
‫سنُو َ‬
‫سبُونَ َأ ّنهُمْ يُحْ ِ‬
‫وقال عن كثير من الكفار بأنّهم كانوا {يَحْ َ‬
‫شيْءٍ} وكل ذلك لم ينفعهم لنّهم نقضوا أمرا بينا ظاهرا أقام ال عليه‬
‫علَى َ‬
‫سبُونَ َأ ّنهُمْ َ‬
‫و{ َويَحْ َ‬
‫حجّته البالغة وأرسل من أجله جميع رسله ولو كان خطأهم وانحرافهم حصل في أمر غامض‬
‫ملتبس وكان عندهم أصل السلم لكان حالهم فيه على غير هذا (‪.)9‬‬
‫والكلم في هذا الباب يطول وقد فصّل فيه أهل العلم ولنا فيه مُصنّف سمّيناه (الفرق المبين بين‬
‫العذر بالجهل والعراض عن الدين) يسّر ال طبعه لكن في هذا القدر في هذا المحل كفاية لمن‬
‫أراد الهداية‪.‬‬
‫الشبهة السادسة‬
‫الكراه والستضعاف والرزق والمصلحة‬
‫قــالوا ‪ :‬إنّ كثيرا من هؤلء العساكر ل يحبّون الطاغوت بل منهم من يكفر به يبرأ من‬
‫قانونه الوضعي وهم في قلوبهم يبغضون الطاغوت لكنّهم يعتذرون بالرزق والراتب وأنّه لم يبق‬
‫لبعضهم إل سنوات قليلة على التقاعد‪.‬‬
‫وربما ذكروا الستضعاف والكراه وبعضهم يرى أنّ في عمله هذا مصلحة للسلم وخدمة‬
‫للمسلمين ‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫والجواب ‪ :‬أن نقول إنّ الفرق بين أهل السنّة وغيرهم من أهل الزيغ والضلل‪ :‬أنّ اليمان عند‬
‫أهل السنّة اعتقاد بالجنان وقول باللّسان وعمل بالجوارح والركان وليس هو فقط اعتقاد بالقلب‬
‫باطنا‪.‬‬
‫فالكفر بالطاغوت ل بد أن يكون ظاهرا وباطنا ولذلك كنّا مطَالبين في شريعتنا بالخذ بالظاهر‬
‫وعدم البحث عن الغيب الذي في القلوب والذي ل يعلمه إلّ ال ‪.‬‬
‫فالمنافق إذا أبطن الكفر وبغض الشريعة لكنّه أظهر لنا اليمان بال والكفر بالطاغوت والتزام‬
‫شعائر السلم الظاهرة ولو كان ذلك عنده خوفا من سلطان السلم فإنّنا مطالَبون بمعاملته‬
‫بالظاهر ول دخل لنا بباطنه ‪.‬‬
‫ولذلك فإنّه يُحسب على المسلمين ويُعصم دمه ومالـه وحسـابه في الخـرة على ال حيث‬
‫قال تعـالى {إِنّ ا ْل ُمنَافِقِينَ فِي ال ّد ْركِ الَسْفَلِ مِنَ النّارِ} والعكـس بالعكـس‪.‬‬
‫فكـذلك من زعــم أنّه مؤمن بال في باطنه كافر بالطاغوت في قلبه وكان ظاهره مخالفا‬
‫مناقضا لزعمه بأن صار من عساكر الشرك وأنصار الطاغوت يكثّر سوادهم وينصر ويحرس‬
‫قانونهم "الطاغوت الذي أمره ال أن يكفر به" ويتولهم ويظاهرهم على المسلمين فإنّنا نأخذه‬
‫ونحكم عليه بظاهره هذا ‪.‬‬
‫لنّنا كما في الحديث "لم نؤمر أن نشقّ عن قلوب الناس ول عن صدورهم" ‪.‬‬
‫ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي ال عنه كما في صحيح البخاري "إنّ ناسا كانوا يؤخذون‬
‫بالوحي في عهد رسول ال صلى ال عليه وسلّم فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس لنا من‬
‫سريرته شيء ال يحاسب سريرته ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدّقه وإنْ قال أنّ سريرته‬
‫حسنة" ‪.‬‬
‫وفي حديث البخاري أيضا في قصة الجيش الذي يغزو الكعبة فيخسف ال بأوله وآخره مع أنّ‬
‫فيهم من ليس منهم والمجبور ونحوهم ‪.‬‬
‫ففي ذلك دللة واضحة على هذا المر‪ ،‬لنّ أ ّم المؤمنين حينما سألت رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلّم عن حكم هؤلء الذين خرجوا مكثرين لسواد ذلك الجيش وليس بنيّتهم قتال المؤمنين قال‪:‬‬
‫"يهلكون مهلكا واحدا ويُبعثون على نيّاتهم يوم القيامة" ‪.‬‬
‫وفي هذا يقول شيخ السلم في الفتاوى(‪ )28/537‬وهو يتكلم عن جيش عبيد الياسق "الدستور‬
‫التّتري" وفيهم من كان يصلّي ويزعم الكراه ونحوه ‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫قال‪" :‬فال تعالى قد أهلك الجيش الذي أراد أن ينتهك حرماته –المكره فيهم وغير المكره‪ -‬مع‬
‫قدرته على التمييز بينهم ‪ ،‬مع أنه يبعثهم على نياتهم ‪ ،‬فكيف يجب على المؤمنين المجاهدين أن‬
‫يميزوا بين المكره وغيره وهم ل يعلمون ذلك ؟! " أ‪.‬هـ‬
‫أقول‪ :‬وأنّى لنا ذلك؟ وكيف؟! وهل لنا إلّ أحكام الظاهر ‪.‬‬
‫فهذا صفّ خرج محاربا لهل السلم مكثرا لسواد أهل الشرك والوثان فحكم من كان فيه‬
‫وأظهر تولّيه ونصرته في الدنيا حكمهم وليس لنا نحن بأحكام الخرة الن‪.‬‬
‫ويدل على ذلك معاملة رسول ال صلى ال عليه وسلّم للعباس حين أُسِر في صف الكفار ببدر‬
‫فزعم أنّه مسلم وأنه خرج مكرها فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلّم "أمّا سريرتك فإلى ال‬
‫وأمّا ظاهرك فلنا" ‪.‬رواه المام أحمد وفيه راو لم يسم لكن أصل القصة في صحيح البخاري‬
‫وفيها َأ ْم ُرهُ صلى ال عليه وسلم له أن يفدي نفسه كالمشركين ‪ ،‬فعامله معاملة الصف الذي‬
‫خرج مكثّرا لسواده وهذا هو ما نفعله تماما مع عساكر الشرك وأنصار القانون ‪.‬‬
‫أفل يسعنا ما وسع رسول ال صلى ال عليه وسلّم وهو أتقانا وأخوفنا ل وأورعنا في التكفير‬
‫والحكم على الناس وفي غير ذلك‪.‬‬
‫* أما دعوى الكراه فمردودة في مقامنا هذا ‪.‬‬
‫لن الكراه على إظهار الكفر حدّ له العلماء حدودا ل تنطبق على هؤلء بحال ويمكن لطالب‬
‫الحق مراجعتها مفصّلة في غير هذا الموضع ( ) وفرّقوا تفريقا واضحا بين الكراه على‬
‫المعاصي وبين الكراه على الكفر أو الشرك أو نصرة المشركين ونحوه‪.‬‬
‫ومن تأمّل حال هؤلء القوم لم يجدهم مكرهين بحال بل هي أعمالهم ووظائفهم التي يفخرون بها‬
‫ويتقاضون عليها الرّتب والرواتب والجور ‪.‬‬
‫وأي إكراه هذا الذي يُدفع لصاحبه أجرا وينال عليه المتيازات ويمكث فيه العشرة والعشرين‬
‫سنة نصيرا للشرك بزعمهم مكرها؟؟!‬
‫فإن تعذّروا بالستضعاف فقد تعذّر به قوم من قبلهم فما قُبل منهم وهم قوم أسلموا بمكة ولم‬
‫يفارقوا صف المشركين إلى صف أهل التوحيد فلما كان يوم بدر أخرجهم المشركون في مقدمة‬
‫الصفوف‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫وتأمل كيف أنهم لم يخرجوا معهم متطوّعين ول دخلوا جيشهم راغبين يأخذون على ذلك الرتب‬
‫والرواتب كحال هؤلء ومع ذلك أنزل ال تعالى فيهم قرآنا يبّين أنّهم ليسوا بمعذوريـن في‬
‫سهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ؟} ‪.‬‬
‫ذلك ول هم بمستضعفين فقال سبحانه {إِنّ الّذِينَ َتوَفّاهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ ظَاِلمِي َأنْفُ ِ‬
‫أي‪ :‬في أي صف كنتم ؟ أفي صف التوحيد والشريعة ؟ أم في صف الشرك والتنديد والدستور‬
‫الوضعي والقانون الكفري ؟! ‪.‬‬
‫والجواب الواضـح الصحيح أن يقولوا‪ :‬كنا في صف المشركين ولكنهم لما عاينوا هلك أهل‬
‫هذا الصف ‪ ،‬حادوا عن هذا الجواب ‪ ،‬إلى التعذر بالستضعاف ‪ ،‬ظانين أن هذا ينفعهم في‬
‫البراءة من الشرك والمشركين‪.‬‬
‫فتأمل كيف يحاولون التبرؤ من صف الطاغوت وجيشه الذي هلكوا فيه منذ اللحظة الولى من‬
‫لحظات الدار الخرة لن هذا أهم أمرٍ فرّطوا فيه وأهملوه وهو المر الذي أوردهم المهالك ‪.‬‬
‫ولكن هل ينفعهم ذلك وقد ماتوا في صفه ولم يفارقوه ويبرءوا منه في الدنيا؟! فتأمل كيف‬
‫لرْضِ } ‪.‬‬
‫ضعَفِينَ فِي ا َ‬
‫س َت ْ‬
‫يجيبون على سؤال الملئكة‪{ :‬فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ ُكنّا مُ ْ‬
‫ص ْواْ بِهِ بَلْ هُمْ َقوْمٌ طَاغُونَ} وهكذا يجيبوننا‬
‫تلك حجتهم التي توارثوها عبر جيوش الكفر {َأ َتوَا َ‬
‫دوما عندما ندعوهم إلى التوحيد والبراءة من الشرك والتنديد ‪.‬‬
‫وهكذا يجادل عنهم المجادلون عندما نبيّن حكمهم في دين ال وموقفهم من التوحيد يقولون‪ُ { :‬كنّا‬
‫لرْضِ} الراتب‪ ..‬والبيت‪ ..‬والرزق‪ ...‬فهل يُقبل منهم مثل هذا؟!‬
‫ضعَفِينَ فِي ا َ‬
‫س َت ْ‬
‫مُ ْ‬
‫سعَةً‬
‫ض اللّهِ وَا ِ‬
‫تأمل جواب الملئكة لهم وحذار من هذا الموقف وأصحابه {قَالْواْ َألَمْ َتكُنْ َأرْ ُ‬
‫ج َهنّمُ وَسَا َءتْ َمصِيرا} ألم تكن أبواب الرزق واسعة فتهجروا‬
‫جرُواْ فِيهَا فَُأ ْولَـ ِئكَ َم ْأوَاهُمْ َ‬
‫َف ُتهَا ِ‬
‫ذلك الصف الشركي إلى غيره؟ ‪.‬‬
‫ومَنْ يرزق النمل والنحل والطير وسائر الدواب والمشركين والكفار‪،‬هل تراه يعجز عن أن‬
‫يرزق المتقين والبرار الذين يتطهّرون من صف الشرك ويفارقونه محبّة ونصرة للتوحيد‬
‫وأهله؟ تعالى ال علواّ كبيرا عما يصفون‪.‬‬
‫ج َهنّمُ وَسَا َءتْ َمصِيرا} مع أنّهم لم يخرجوا‬
‫وتأمل تهديد ال ووعيده لهم بقوله {فَُأ ْولَـ ِئكَ َم ْأوَاهُمْ َ‬
‫في ذلك الجيش متطوعين ول مختارين لكنهم قصّروا في الهجرة في بادئ المر فلمّا عزم‬
‫المر تورّطوا في الخروج في صف أعداء الموحدين ‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫ستَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَ َي ْهتَدُونَ‬
‫ن الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَا ْلوِلْدَانِ لَ يَ ْ‬
‫ضعَفِينَ مِ َ‬
‫س َت ْ‬
‫ثم قال تعالى {إِلّ ا ْلمُ ْ‬
‫ن اللّهُ عَ ُفوّا غَفُورا} فلم يعذر ال سبحانه وتعالى‬
‫ع ْنهُمْ َوكَا َ‬
‫سبِيلً * فَُأ ْولَـ ِئكَ عَسَى اللّهُ أَن َيعْ ُفوَ َ‬
‫َ‬
‫بعذر الستضعاف إل من ل يستطيع حيلة في الخروج والفرار إلى ال من صف الكفار كأن‬
‫يكون جريحا أو عاجزا أو مقيدا أو مأسورا أو ل يهتدي طريقة وسبيل الهجرة الفرار إلى‬
‫الصف المسلم كأن يكون امرأة أو صبيا أو شيخا أو ضعيفا ‪.‬‬
‫ثم رغّب ال تعالى بالهجرة والفرار من هذه الصفوف المشركة ووعد أهلها بالرزق الوفير‬
‫الواسع فمن ترك شيئا ل عوّضه ال خيرا منه‪ ,‬وذلك ليقطع كل حجج القوم الواهية فقال { َومَن‬
‫سبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الَرض مراغما كثيرا وسعة } كما قال في مقام اخر من مقامات‬
‫جرْ فِي َ‬
‫ُيهَا ِ‬
‫دعوته عباده المؤمنين الى البراءة من الشرك وأهله‪ { :‬و إن خفتم عيلة فسوف يغنيكم ال من‬
‫فضله إن شاء إن ال عليم حكيم }‪.‬‬
‫* و آخرون رقّعوا واقعهم المنحرف بحجة المصلحة فزعموا أنّهم يخدمون الدين بوظائفهم هذه‬
‫المنتنة وواقع حال أكثرهم خدمة جيوبهم وكروشهم وقروشهم ليس إلّ‪.‬‬
‫ورحم ال سفيان الثوري يوم قال وهو يوصي بعض أصحابه ويحذرهم من مداهنة السلطين‬
‫والدخول عليهم ـ مع أنّ سلطينهم كانوا يحكّمون شرع ال إلّ أنّهم أظهـروا بعض المعاصي‬
‫فكيف بسلطيـن الكفر والشرك اليوم ؟ قال رحمه ال‪" :‬إياك والمراء أن تدنوا منهم‬
‫أوتخالطهم في شيء من الشياء ‪ ،‬وإياك أن تخدع ويقال لك لتشفع أو تدرأ عن مظلوم أو ترد‬
‫مظلمة فإنّ ذلك خديعة إبليس اتّخذها فجّار القرّاء سلّما‪. "...‬‬
‫أجل إنّها خديعة إبليس التي يسمّونها اليوم بمصلحة الدعوة يهدمون بها التوحيد أعظم مصلحة‬
‫في الوجود ويلبسون الحق بالباطل ‪.‬‬
‫وقد صدق سيد قطب يوم وصفها بأنها أمست عند كثير من الدعاة مزلّة وصارت صنما يعبدونه‬
‫من دون ال‪.‬‬
‫ولشيخ السلم رحمه ال تعالى في ذلك فتوى سُئل فيها عن رجل من أهل السنّة سمع بمجموعة‬
‫من قطّاع الطرق الذين يجتمعون على قصد الكبائر وقطع الطريق والقتل وفعل الفواحش‬
‫والمنكرات‪ ،‬وأنّه قصد إلى هدايتهم فلم يتمكّن من ذلك بزعمه ‪ ،‬إل بأن عمل لهم سماعا بدف‬
‫بغناء مغني غير فاحش حتى اهتدى منهم خلق ‪ ،‬وصار الذين كانوا ل يتورّعون عن الكبائر‬
‫يتورّعون عن الصغائر والشبهات فهل طريقة هذا الشيخ جائزة ومشروعة؟!‬

‫‪197‬‬
‫فبيّن رحمه ال تعالى ما ملخصه ‪ " ،‬أنّ هذه الطريقة مبتدعة وأنّ في طريقة الرسول الرحمانية‬
‫غنىً عن الطرق الشيطانية"‬
‫فإنّه حتى وإن كانت النتيجة ظاهرها حسن فإنّ الغاية عند أهل السلم ل تبرر الوسيلة‪،‬‬
‫فالنجاسة ل تزال بالنجاسة ول يتطهّر من البول بالبول‪.‬‬
‫وكما أنّ غاية الداعية عظيمة ومطهّرة فيجب أن تكون وسائله للبلوغ إلى هذه الغاية كذلك ‪.‬‬
‫ومعلوم أن أعظم مصلحة في الوجود هي التوحيد وأن أعظم مفسدة في الوجود هي الشرك فكل‬
‫مصلحة تعارض تلك المصلحة فإنها مردودة وأي مفسدة أمام مفسدة الشرك فمغمورة ‪.‬‬
‫فل يحل لحد يفهم عِظم التوحيد وخطر الشرك أن يصير مِعولً من معاول هدم التوحيد‬
‫وحارسا من حراس الشرك والتنديد‪ ،‬بحجة جلب مصلحة أخرى مزعومة أو درأ مفاسد أخرى‬
‫مرجوحة أياّ كانت ‪ ،‬ول أن يجعل دينه كبش فداء ينحره على عتبات مصالح ودنيا الخرين‪,‬‬
‫والكلم في هذا الباب يطول وله موضعه المفصل (‪ )11‬ولكن اللّبيب تكفيه منه هنا الشارة وال‬
‫المستعان‪.‬‬
‫الخـــــاتـمــــــــــــــــــــــة‬
‫أخيرا وليس آخرا فقد سمعنا كثيرا ممن لم يعرفوا حقيقة هذا التوحيد يقولون‪ :‬ماذا تستفيدون من‬
‫تكفير هؤلء العساكر أو أولئك المخابرات ونحوهم من أنصار الطواغيت؟!‬
‫فنقول أولً ‪ :‬مادام هذا هو حكم ال فليس مهماّ أن نعرف حكمته‪ ،‬وإنما المهم عند عباد الرحمن‬
‫أن تنشرح له صدورهم وترضى به نفوسهم وتسلّم له تسليما‬
‫ثم نقول ‪ :‬إنّ فوائد ذلك ل يسع هذا المقام لحصرها‪ ،‬ولو لم يكن فيها إلّ تحقيق التوحيد العملي‬
‫(ملّة إبراهيم) المتضمّن للبراءة من الشرك والمشركين لكفى ‪.‬‬
‫سنَةٌ فِي ِإ ْبرَاهِيمَ وَالّذِينَ َمعَهُ إِذْ قَالُواْ لِ َق ْو ِمهِمْ ِإنّا ُبرَءاؤاْ ّم ْنكُمْ‬
‫س َوةٌ حَ َ‬
‫قال تعالى {قَدْ كَا َنتْ َلكُمْ أُ ْ‬
‫حتّى ُت ْؤ ِمنُواْ بِاللّهِ‬
‫َو ِممّا َت ْعبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ كَ َف ْرنَا ِبكُمْ َوبَدَا َب ْي َننَا َو َب ْي َنكُمُ ا ْلعَدَا َوةُ وَا ْل َب ْغضَاءُ َأبَدا َ‬
‫وَحْ َدهُ} فال يدعونا للقتداء والتّأسي بهذه القدوة الحسنة والملة العظيمة التي أهم أركانها البراءة‬
‫من الشرك والمشركين والكفر بهم ومعاداتهم فكيف يحقق هذا من ل يعرف الكافر من المسلم؟؟‬
‫عبُدُ مَا َت ْعبُدُونَ * وَلَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا‬
‫وممّن يتبرأ وكيف؟! قال تعالى {قُلْ يَأ ّيهَا ا ْلكَا ِفرُونَ * لَ أَ ْ‬
‫عبُدُ * َلكُمْ دِي ُنكُمْ َوِليَ دِينِ *}‪.‬‬
‫عبَدتّمْ * وَلَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَ ْ‬
‫عبُدُ * وَلَ َأنَا عَابِدٌ مّا َ‬
‫أَ ْ‬
‫وأيضا من الفوائد العظيمة تمييز الخبيث من الطيب واستبانة سبيل المجرمين ‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫ج ِرمِينَ} فمن لم يعرف الكفر من اليمان‬
‫سبِيلُ ا ْلمُ ْ‬
‫س َتبِينَ َ‬
‫قال تعالى { َوكَ َذِلكَ ن َفصّلُ اليَاتِ َوِلتَ ْ‬
‫والكافر من المسلم أنّى له أن يستبين سبيل المجرمين وأنّى له أن يميّز سبيل المؤمنين من سبيل‬
‫المجرمين؟ ليسلك من ثم سبيل المؤمنين ‪ ،‬ويجتنب سبيل المجرمين وكيف سيطبّق الحب في‬
‫ال للمؤمنين والبغض في ال للمشركين وذلك من أوثق عرى اليمان وفي تركه تخبّط عظيم‬
‫وفساد كبير ‪.‬‬
‫لرْضِ وَفَسَادٌ َكبِيرٌ} ‪.‬‬
‫ضهُمْ َأ ْوِليَاءُ َبعْضٍ إِلّ تَ ْف َعلُوهُ َتكُنْ ِف ْتنَةٌ فِي ا َ‬
‫قال تعالى {وَالّذينَ كَ َفرُواْ َب ْع ُ‬
‫وتظهر هذه الموالة وتلكم المعاداة بتحقيق آثارها ولوازمها عمليا فكيف يحققها من ل يميّز بين‬
‫الصفوف ؟! والواقع أعظم شاهد على هذا‪ ،‬فإنك تجد من أهمل هذا المر واستخفّ به ل‬
‫يعرف من يحب ومن يبغض ومن يوالي ومن يعادي وتجده يخلط وربما يساوي في المعاملة‬
‫ج ِرمِينَ‬
‫سِلمِينَ كَا ْلمُ ْ‬
‫جعَلُ ا ْلمُ ْ‬
‫بين المسلمين والمجرمين مع أنّ ال تعالى أنكر ذلك فقال سبحانه {أَ َفنَ ْ‬
‫جعَلُ ا ْل ُمتّقِينَ كَالْفُجّارِ ؟} (‪)12‬‬
‫ح ُكمُونَ }؟ وقال تعالى {أَمْ َن ْ‬
‫* مَا َلكُمْ َك ْيفَ تَ ْ‬
‫وقد رتّب ال على ذلك أحكاما في عصمة الدم وفي الميراث والولء والنكاح والطعام (الذبح)‬
‫والمعاملة من سلم ومودّة وغير ذلك من الحقوق الواجبة للمسلم أو الخاصة به من دون سائر‬
‫الكفار‪.‬‬
‫ولذلك فإنك تجد فرقا واضحا بينّا بين سبيل الموحدين و طريقة تعاملهم مع الكفار والمشركين‪،‬‬
‫وبين سبيل غيرهم ممن ل يرفعون بهذا المر رأسا ويهملونه‪ ،‬بل ينكرونه على أهل التوحيد و‬
‫يبدعونهم به‪ ،‬بل منهم يكفّر أهل التوحيد لتجريدهم التوحيد ولبراءتهم من الشرك والتنديد‪ ،‬ولذلك‬
‫اختلط الحابل بالنابل عندهم فبرءوا من الموحدين وأبغضوهم وعادوهم وأطالوا ألسنتهم بالطعن‬
‫فيهم وفي دعوتهم‪ ،‬بينما ل يجد منهم أعداء ال إلّ كل مودّة وإدهان ‪.‬‬
‫ومنهم من يشاركهم في مجالسهم ومهالكهم ول يفرّقون بين مصلحة التوحيد العظمى التي تُفرّق‬
‫بين المسلمين والمشركين وبين الوحدة الوطنية التي تؤالف وتجمع الكافرين على اختلف‬
‫توجّهاتهم وتخلط المتّقين بالفجّار ‪.‬‬
‫ويغفلون أو يتغافلون عن وصف الملئكة للنبي صلى ال عليه وسلّم‪" :‬ومحمد فرْق بين الناس"‬
‫رواه البخاري ‪.‬‬
‫وفي رواية‪" :‬فرّق بين الناس" ‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫ويُعرضون عن هدي الفرقان الذي فرّق بين أهل الشرك وأهل اليمان وإن كانوا أقرب نسبا‬
‫للنسان‪.‬‬
‫ومن الفوائد أيضا أنّ معرفة ذلك تحدّد طريق الدعوة الصحيحة التي يجب أن يسلكها المرء مع‬
‫القوم الذين هو بين ظهرانيهم ‪.‬‬
‫فإنّ كونهم مسلمين يختلف عن كونهم مشركين وكونهم مشركين وثنيّين يختلف عن كونهم‬
‫مشركين كتابيّين وكونهم مرتدّين يختلف عن كونهم كافرين أصليّين‪.‬‬
‫ولذلك قال رسول ال صلى ال عليه وسلّم لمعاذ لمّا بعثه إلى اليمن كما في الحديث المروي في‬
‫الصحيحين‪" :‬إنّك تأتي قوما من أهل الكتـاب فليكن أول ما تدعـوهم إليـه شهـادة أن ل‬
‫إلـه إلّ ال‪ ...‬ـ وفي رواية ـ "إلى أن يوحّدوا ال" فإن هم أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أنّ ال‬
‫قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة‪ ...‬الحديث"‪.‬‬
‫فتأمل كيف عرّفه بحالهم وحكمهم‪ ,‬ثم رتب على ذلك طريقة الدعوة والتعامل معهم وغير ذلك‬
‫من الفوائد التي ليس هذا مقام حصرها‬
‫وختاما فليتّق ال فينا وفي أنفسهم أولئك الجهال أو المفترين الذين يرموننا بتكفير الناس كلهم‬
‫بالعموم دون أن يسمعوا ما نقول‪ ،‬أو يقرؤوا ما نكتب‪ ،‬فإنهم معروضون على رب ل تخفى‬
‫عليه خافية وأقوالهم محصية في كتاب ل يغادر صغيرة ول كبيرة إلّ إحصاها وقد قال تعالى‬
‫ح َت َملُواْ ُب ْهتَانا َوِإثْما ّمبِينا} ‪.‬‬
‫سبُواْ فَقَدِ ا ْ‬
‫{وَالّذِينَ ُيؤْذُونَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْل ُم ْؤ ِمنَاتِ ِب َغ ْيرِ مَا ا ْكتَ َ‬
‫وقال رسول ال صلى ال عليه وسلّم‪" :‬من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه ال رَدْغة الخبال‬
‫( ) حتى يأتي بالمخرج مما قال"‪ .‬رواه أبو داود والطبراني وغيرهما‪.‬‬
‫حلّه ‪ ،‬ول‬
‫فها نحن نقولها صريحة واضحة بيّنة ‪ :‬إننا ل نُكفّر مسلما بذنب غير مكفّر ما لم يست ِ‬
‫نكفّر الناس كلهم بالعموم كما يرمينا بذلك أعداؤنا من الطواغيت ويبهتنا به خصومنا من‬
‫جماعات الرجاء وإنّما نكفّر من هدم التوحيد أو أعان على هدمه أو أتى بشيء من نواقضه أو‬
‫عادى أهله نصرة لعدائه من أهل الشرك والتنديد ومظاهرة لهم على الموحدين‪.‬‬
‫ن المرء‬
‫ونعرف أنّ للكفر شروطا وموانع ول نكفّر إلّ باستيفاء الشروط وانتفاء الموانع ونعلم أ ّ‬
‫قد يصدر منه قول الكفر أو عمله‪ ،‬ول يكفر لقيام مانع من موانع التكفير‪.‬‬
‫وكل ما تكلمنا به في هذه الوراق وغيرها إنّما هو في كفر أعداء التوحيد وعساكر الشرك‬
‫والتنديد الذين مرقوا من الدين وحاربوا أهله ونصروا الدستور الشركي والقانون الوضعي ‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫وكفر هؤلء أوضح عندنا من الشمس في رابعة النهار بالدلّة الشرعية وليس بالهوى أو التقليد‬
‫أو الستحسان‪.‬‬
‫فنقول لخصومنا ‪ :‬اتّقوا ال {وَلَ َت ْلبِسُواْ الْحَقّ بِا ْلبَاطِلِ َو َت ْك ُتمُواْ الْحَقّ َوَأ ْنتُمْ َت ْعَلمُونَ } بيننا وبينكم‬
‫كتاب ال تعالى وسنة رسوله صلى ال عليه وسلّم ل نقبل حكما غير ذلك إيتونا منه بدليل‬
‫وبرهان ينقض ما قلناه وستجدوننا إن شاء ال تعالى أسعد الناس به وأول من يرجع إليه {قُلْ‬
‫هَاتُواْ ُبرْهَا َنكُمْ إِن ُك ْنتُمْ صَادِقِينَ}‪.‬‬
‫أمّا الشقشقات الفارغة والسفسطات الجوفاء والتهامات الباطلة التي ل يسنـدها دليل وبرهـان‬
‫شرعي ول تنبني على الكتـاب والسنة فإنها مـردودة على صاحبـها ومن لم يقبل بالدليل‬
‫الشرعي ويذعن له وينقاد فل خير فيه ول ينفع فيه تقصير أو تطويل الكلم ‪.‬‬
‫قال تعالى { َف ِبَأيّ حَدِيثٍ َبعْ َد اللّهِ وَآيَاتِهِ ُي ْؤ ِمنُونَ}‪.‬‬
‫ورحم ال ابن القيّم إذ يقول في نونيّته عن الكتاب والسنة‪:‬‬
‫من لـم يكــن يكـفيــــه ذان‬
‫فل كفـاه ال شرّ حوادث الزمـان‬
‫من لـم يكــن يشــفيـــه ذان‬
‫فل شفـاه ال في قلب ول أبـــدان‬
‫من لـم يكــن يـغــنيـــه ذان‬
‫رماه رب العرش بالقلل والحرمان‬
‫إنّ الكلم مع الكبار وليس مع‬
‫تلــك الراذل سفـلـــة الحيـــوان‬

‫وصلى ال وسلّم على نبيّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين‬


‫***********************‬
‫كشف النقاب عن شريعة الغاب‬
‫لبي محمد عاصم المقدسي‬
‫‪ -‬إلى عبيد الياسق العصري وحكوماتهم وأوليائهم وأنصارهم‪..‬‬
‫‪ -‬إلى سدنتهم وأذنابهم من الئمة المضلين‪..‬‬

‫‪201‬‬
‫‪ -‬إلى هؤلء جميعا نقول‪:‬‬
‫ل نعبد ما تعبدون‪ ..‬لكم دينكم ولنا دين‪ ..‬كفرنا بكم وبدساتيركم وبقوانينكم‬
‫وبتشريعاتكم التي تعبدونها من دون ال‪ ..‬وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى ترجعوا‬
‫تسليما‪.‬‬ ‫إلى دين ال وتنقادوا لشرعه وحكمه وتسلموا‬
‫بسم ال الرحمن الرحيم‬
‫مقدمة‬
‫الحمد ل الذي ل يغفر أن يشرك به‪ ،‬ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‪ ،‬ومن يشرك بال فقد افترى‬
‫إثما عظيما‪ ،‬ومن يشرك بال فقد ضلّ ضللً بعيداة‬
‫والصلة والسلم على سيد الموحدين‪ ،‬المأمور في محكم التنزيل باتباع ملّة إبراهيم‪ ،‬والقتداء‬
‫بدعوة المرسلين‪ ،‬بتوحيد ربّ العالمين‪ ،‬والبراءة من الشرك والمشركين‪ ،‬وبعد ة‬
‫فإن من الحقائق التي ل يجادل فيها عاقل‪ ،‬أنّ لكل زمان فتنته وشركياته التي تتفاوت بالعِظَم‬
‫انتشارا وخطورةة‬
‫فقد تنتشر في زمن من الزمنة أو في بلد من البلدان عبادة أوثان الحجر والشجر‪ ،‬حتى تكون‬
‫هي فِتنة ذلك الزمان أو تلك البلد وشِركها العظيم‪ ،‬مع وجود شركيات ومعاصي أقل انتشارا‬
‫وأدنى خطورة‪..‬‬
‫وقد ينتشر الشرك والخوض في أسماء ال تعالى وصفاته في زمن من الزمنة‪ ،‬حتى يكون هو‬
‫فِتنة العصر العظيمة وطامته المبينة ‪ ،‬مع وجود فِتن ومنكرات ومصائب في المة هي أخف‬
‫خطرا ونكايةً وأقل انتشاراة‬
‫كما قد تنتشر عبادة القبور والضرحة والولياء‪ ،‬حتى تكون شعارات ذلك الزمان أو تلك البلد‬
‫وطامته العظمى‪ ،‬مع وجود غير ذلك من الشركيات والمعاصي القل خطورة وانتشارا ة‬
‫وهكذا‪.‬‬
‫وإنّ من رحمة ال تعالى بالمة أنْ يهيئ لها في كل زمان دعاة من عباده فطنا راشدين‪،‬‬
‫يُجددون لها أمر دينها‪ ،‬ويحفظونه من تحريف المحرفين وطعن الطاعنين‪ ،‬ويحاربون هذه الفتن‪،‬‬
‫ويقفون في وجه شركيات زمانهم‪ ..‬يُحذرون النّاس منها‪ ،‬ويأخذون بأيديهم إلى واحة التوحيد‬
‫وروض اليمانة‬

‫‪202‬‬
‫إذا عرفنا ذلك فإن مما ل يقره النقل ول العقل أن يتشاغل بعض المصلحين في أزمنتهم عن تلك‬
‫الفتن العظيمة ذات الخطر المستطير بغيرها مما هو أقل خطورة وأضعف انتشارا‪ ،‬وأن يِميتوا‬
‫الكلم عن ذلك الخطر إماتةً ل حياة فيها‪ ..‬بينما يُشعلون ويُضرمون المعارك الضارية بين‬
‫المسلمين أنفسهم في قضايا هي أقل خطورة بكثير من فتن العصر الداهمة‪ ،‬بل هي في الحقيقة‬
‫تبع للفتن العظيمة‪ ،‬وقد تزول بزوالهاة‬
‫وإنّ من الشرك والكفر الواضح المستبين في زماننا هذا‪ ،‬تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به‬
‫الروح المين على خاتم النبياء والمرسلينة‬
‫بل إنه يكاد يكون أعظم أنواع الشرك التي يجب أن يتصدى لها العلماء والمصلحون في هذا‬
‫الزمان‪ ،‬خاصة في هذه البلد التي نعمت بوصول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه‬
‫إليها‪ ،‬فل تكاد ترى قبرا أو ضريحا تشدّ إليه الرحال‪ ،‬أو شجرة أو حجرا يُعبد مع ال تعالى‪..‬‬
‫فل يعقل والحال كذلك ول يستساغ أبدا ما يفعله كثير من الدعاة من الدندنة ليل نهار على شرك‬
‫القبور والصنام وما حواليها‪ ،‬بينما هم قد قبروا الكلم عن شرك العصر وفتنة هذا الزمان من‬
‫تحكيم قوانين الفرنجة‪ ،‬فل يذكرون ذلك في محافلهم أو مجالسهم أو كتبهم إل قليلً قليلً‪.‬‬
‫حتى إن كثيرا من المسلمين ما عادوا يعرفون عن كتب التوحيد والعقيدة ورسائلها إل أنها كتب‬
‫تحارب القبوريين والمشعوذين‪ ..‬أما الحكم والتشريع وما إلى ذلك فإن القضية عندهم فيها غبش‬
‫كبيرة‬
‫أضف إلى هذه المأساة أن حال كثير من دعاة هذا التوحيد الناقص المبتور لم يقف عند السكوت‬
‫عن بيان شرك العصر وعدم تحذير الناس من أوليائه وحسب‪ ..‬بل إن كثيرا من هؤلء الدعاة‬
‫قد أمسوا جنودا للشرك وحُراسا للقانون وشرطة للدستور وحماة للطواغيت‪ ..‬هم لهم جندٌ‬
‫محضرون‪ ..‬ل يعرف أكثرهم البراءة إل من المتصوفة وشعوذاتهم‪ ،‬والروافض وباطلهم‪ ،‬وعُباد‬
‫القبور وشركياتهم‪ ..‬وما إلى ذلك ‪ -‬وهذا حق ‪ -‬ولكنك إذا اقتربتَ من عبيد الياسق‪ ،‬وقوانينهم‪،‬‬
‫وظَلمهم‪ ،‬وظُلماتهم ومواقف هؤلء الدعاة وطرائقهم معهم‪ ..‬فإنك سترى عجبا‪ ..‬وليس الخبر‬
‫كالمعاينة‪ ..‬يغدو الواحد من هؤلء يدرسُ ويُدرّس التوحيد‪ ،‬بل ويحفظه ول يمنعه توحيده هذا‪،‬‬
‫من إظهار الولء لذناب الفرنجة وعبيد القانون‪ ..‬وإنما كل الناس عنده إخوان يُصاحب أولياء‬
‫الوثان‪ ،‬كما يصاحب عِباد الرحمن‪ ،‬ويأنس بالمنقلب على عقبيه‪ ،‬كما يأنس بالثابت على‬
‫اليمانة‬

‫‪203‬‬
‫يغدو يبيع دينه لجل وظيفة أو رتبة‪ ،‬وعلى رأسه وفوق أكتافه شعار الطاغوت وشعار حكومة‬
‫الياسق‪ ..‬ويقسم على الولء لعبيد القانون وعلى احترام قوانينهم الكفرية‪ ..‬ينتسب إلى الحق‬
‫ويُوالي من خرج عنه وعق فماذا بقي من توحيده؟؟ ‪.‬‬
‫يظــنون أن الدين لبيك في الفــــل وفعل صلة والسكوت عن المـــــل‬
‫وسالم وخالط من لـذا الدين قـد قــل وما الـدين إلّ الـحب والبـغـض والول‬
‫كــذاك الــبرا من كل غـــــاو وآثم‬
‫وإن تعجب لواقع هؤلء فعجبك أشد لمن ذهب يكفر الطواغيت وحكوماتهم من منطلقات‬
‫الحماس الجوف أو التقليد أو غيره‪ ..‬ثم ل يؤثّر هذا المذهب والختيار في مناهجهم وطرائقهم‬
‫ودعواتهم‪ ..‬بل الحال هو الحال والمداهنة كما هي والسير في ركاب الظالمين مستمر‪ ..‬فماذا‬
‫استفادوا إذا من الدندنة والخلف في التكفير‪ ..‬إذا كان التكفير ل يعدّل لهم طريقا أو يقوّم‬
‫منهجا‪ ..‬ويا ليتهم لم يكفّروا الطواغيت ولكنهم على القل كَ َفرُوا بقوانينهم وعادوا باطلهم‬
‫وتبرؤوا من ظلماتهم وكَفّوا عن مداهنتهم‪..‬‬
‫فهذا زمان امتُحن فيه أهل اليمان وابتُلي فيه دعاة السلم بقَبض العلماء العاملين الذين يبلغون‬
‫رسالت ال ويخشونه ول يخشون أحدا إلّ ال‪ ..‬ول يخافون في سبيله سبحانه لومة لئم أو‬
‫شماتة شامت أو عداوة عدو أو كيد كائد‪ ..‬ويقودون المة بالكتاب والحديد‪ ..‬ل بالكتاب وحده‬
‫ول بالحديد وحده‪ ..‬كحال كثير من الدعوات‪ ..‬بل كما يقول شيخ السلم ابن تيمية عند قوله‬
‫سَلنَا بِا ْل َب ّينَاتِ َوَأ ْن َز ْلنَا َم َعهُمْ ا ْل ِكتَابَ وَا ْلمِيزَانَ ِليَقُو َم النّاسُ بِالْقِسْطِ َوَأ ْن َز ْلنَا‬
‫س ْلنَا رُ ُ‬
‫تعالى‪{ :‬لَقَدْ َأرْ َ‬
‫ن اللّهَ َق ِويّ‬
‫سلَهُ بِا ْل َغ ْيبِ إِ ّ‬
‫الْحَدِيدَ فِيهِ بَ ْأسٌ شَدِيدٌ َو َمنَافِعُ لِلنّاسِ َوِل َي ْعلَ َم اللّهُ مَنْ َي ْنصُ ُرهُ َورُ ُ‬
‫عزِيزٌ}[الحديد‪ .]25:‬قال‪ ( :‬قوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر وكفى بربك هاديا‬
‫َ‬
‫ونصيرا)اهـ‪.‬‬
‫أين هم أولئك العلماء الذين يتقدمون الصفوف ويقودون المة ويتصدون للطغاة‪ ..‬إن واقعنا اليوم‬
‫أليم جدا‪ ..‬فإلى ال وحده نشكو وحشتنا وما حل بهذه المة من ذهاب العلماء العاملين‪ ..‬وذهاب‬
‫الخوان وقلة النصار والعوان القائمين بتكاليف التوحيد حق القيام‪ ..‬هم اليوم وال في الناس‬
‫كالشعرة البيضاء في الجلد السود‪ ..‬أين العنقاء لتطلب؟ وأين السمندل ليجلب؟ لم يبق إلّ رسوم‬
‫قد درست‪ ،‬وأعلم قد عفت عليها عواصف الهوى وطمستها محبة الدنيا وحظوظ النفس‪ ..‬إلى‬

‫‪204‬‬
‫ال وحده نشكو هيمنة الضلل وغلبة الهوى وتوافر أسباب الفتن وانطماس أعلم السنن وإمارة‬
‫السفهاء وحكم الرويبضة وإنا ل وإنا إليه راجعون‪..‬‬
‫ولما رأى العبد الفقير إلى توفيق ربه ومغفرته‪ ،‬كاتب هذه الكلمات والسطور حال المة هذه‪..‬‬
‫بين سكوت علمائها وجهل أبنائها وانحراف كثير من دعاتها عن منهاج النبوة‪ ..‬وطغيان‬
‫سلطينها وكفر قوانينها وتكالب المم عليها من كل مكان‪ ،‬رام أداء النصيحة التي بايع أصحاب‬
‫عليها تنبيها للمسلمين وبراءة من القوانين وعبيد القوانين‪ ..‬عسى أن ينال بذلك‬ ‫محمد محمدا‬
‫معذرة رب العالمين‪ ..‬يوم ل ينفع مال ول بنون إلّ من أتى ال بقلب سليم‪..‬‬
‫ولعلي أسن بكتابي هذا سنة حسنة للدعاة في إظهار الدّين وإعلنه بإبداء العداوة لهذه القوانين‬
‫الشركية ولمن نافح عنها وحكمها وحماها ووالها‪..‬وببيان وتفصيل النصح للمة بذكر قوانين‬
‫عبيد الياسق صراحة بأرقامها‪ ،‬وتسفيهها وبيان حقارتها و َت َه ْل ُهِلهَا وتناقضها ونقصها وفسادها‬
‫وظلمها وجورها‪ ..‬وأن تحكيمها ضياع للموال والحقوق وهدر للدماء والرواح والنفوس‬
‫وإماتة الدين والعقيدة وهتك للعراض وإفساد للنساب‪ ..‬حتى تظهر وتتعرى حقيقة محبيها‬
‫وأوليائها علنية لكل واحد من المة‪ ،‬وبيان الموقف تجاههم وحكم موالتهم أو التقرب إليهم أو‬
‫العمل في شرطتهم وجيشهم وحرسهم ومباحثهم وأمنهم أو في أية وظيفة تعينهم على باطلهم‬
‫وظلمهم أو فيها تطبيق قوانينهم أو نوع موالة أو احترام لها ولموادها‪ ..‬وغير ذلك مما وفقنا‬
‫ال عز وجل للتنبيه عليه في هذه الورقات‪ ..‬وله الحمد والمنة‪ ..‬فإن فتنة كهذه‪ ..‬وحالها ما‬
‫وصفنا من الخطورة والنتشار لبد أن يفصل النصح فيها للمة تفصيلً‪ ..‬ويظهر الكلم حولها‬
‫علنية ل خفاء فيها ول تلبيس ول تمييع أو ترقيع أو تطييبا للخواطر أو حسابا لتخيلت‬
‫وتخذيلت الشياطين بدعوى تقديم مصالح الدعوات ودرء الفتنة والمفسدة عن الدعاة‪ ..‬وما إلى‬
‫ذلك‪ ..‬فأي مصلحة أعظم من إظهار دين ال َتعَالى وإعلن توحيده وإزهاق وفضح وتعرية‬
‫الباطل والشرك وكشف زيوفه؟؟ هل هناك مصلحة في دين السلم أعظم من " ل ِإلَهَ إِلّ‬
‫ال" ؟؟‬
‫أجيبونا وأفتونا يا أصحاب المصالح والستحسانات‪ ..‬إنها أصل دعوة النبياء والمرسلين وقطب‬
‫رحاها والغاية من خلق الجن والنس أجمعين‪ ،‬التي اختص بها المؤمنون وجحدها المشركون‬
‫وفيها وقع النزاع ولها شرع الجهاد وانقسم العباد‪ ،‬وما بقية الدين إلّ فروع تندرج تحت هذا‬

‫‪205‬‬
‫الصل العظيم‪ ..‬فأي مفسدة أعظم وأشنع من إخماد نور هذه الحقيقة وإخفائها والسكوت عن‬
‫تشويه الطغاة لها‪..‬‬
‫يا قوم إن هذا المر ليس فرعا من الفروع أو مستحبا من المستحبات أو مصلحة من المصالح‬
‫المرجوحة لنتركه تأليفا للمبتدئين أو إرضاء لسواد عيون النافرين‪ ..‬إنه جزء أصيل من توحيد‬
‫ألوهية الخالق تباركت أسماؤه‪ ..‬فسحقا لكل مصلحة تعارض وتعطل هذا الصل الصيل‪ ،‬بل‬
‫سحقا للحياة كلها سحقا للجساد والرواح والباء والمهات والبناء والهل والخوان والموال‬
‫إن قامت عائقا في سبيل هذه الغاية العظيمة‪ ..‬والمصلحة الجليلة‪..‬‬
‫ليّ شيء إذا تكون التضحيات ولجل ماذا‬
‫وإذا لم يضحّ المسلم بذلك كله لجل " ل ِإلَهَ إِلّ ال" فَ َ‬
‫يخالف وينازع ويحب ويبغض ويعادي‪ ،‬وفي سبيل ماذا يقاتل ويقتل إذا؟؟ أي نقل بل أي عقل‬
‫يخالف هذا يا أولي النقول والعقول؟؟‪ ..‬إنه الصل الذي كان يُنشر الصالحون من أجله‪..‬‬
‫ويحملون على ألواح الخشب ويمشطون بأمشاط الحديد دون اللحم والعظم‪ ،‬إنه الصل الذي من‬
‫وأصحابه‪ ..‬إنه الصل الذي ل زالت من أجله تتدفق‬ ‫أجله عُذب وهاجر وقاتل نبينا محمد‬
‫شللت الدم عبر التاريخ السلمي‪ ،‬ليس من عهد الصحابة وحسب بل قبل ذلك بكثير‪ ..‬وعلى‬
‫مدار دعوات الرسل وأتباعهم من المصلحين‪..‬‬
‫وأمرنا باتباعها في محكم التنزيل‪َ ..‬ألَمْ‬ ‫ثم أليست هذه هي ملة أبينا إبراهيم التي أمر نبينا‬
‫والذين معه ويصدعوا بها على رؤوس المل في زمانهم‪ ..‬كما أخبر َتعَالى‬ ‫يُعلنها إبراهيم‬
‫سنَةٌ فِي ِإ ْبرَاهِيمَ وَالّذِينَ َمعَهُ إِذْ قَالُوا لِ َق ْو ِمهِمْ ِإنّا ُبرَءاؤا ِم ْنكُمْ َو ِممّا‬
‫س َوةٌ حَ َ‬
‫عنهم‪{ :‬قَدْ كَا َنتْ َلكُمْ أُ ْ‬
‫حتّى ُت ْؤ ِمنُوا بِاللّهِ وَحْ َدهُ}‬
‫ن اللّهِ كَ َف ْرنَا ِبكُمْ َوبَدَا َب ْي َننَا َو َب ْي َنكُمْ ا ْلعَدَاوَةُ وَا ْل َب ْغضَاءُ َأبَدًا َ‬
‫َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ‬
‫[الممتحنة‪.]4 :‬‬
‫وتأمل تقديمه سبحانه {الْعَدَا َوةَ} على{ا ْل َبغْضَاء} لكونها أظهر‪ ،‬وتأمل قوله َتعَالى ‪{ :‬بَدَا} أي ظهر‬
‫علَى الْحَقّ‪ ..‬الحديث) نسأل ال َتعَالى‬
‫وبان‪ ..‬ومثله قوله ‪( :‬ل َتزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ ُأ ّمتِي ظَا ِهرِينَ َ‬
‫أن يجعلنا منهم‪.‬‬
‫ونختم هذه المقدمة بكلم نفيس لحد أعلم الدعوة السلفية في نجد وهو الشيخ العلمة حمد بن‬
‫عتيق رحمه ال َتعَالى حيث يقول في كتابه القيم ( سبيل النجاة والفكاك من موالة المرتدين‬
‫وأهل الشراك) ‪( :‬إن كثيرا من الناس قد يظن أنه إذا قدر أن يتلفظ بالشهادتين وأن يصلي‬
‫الصلوات الخمس‪ ،‬ول يرد عن المسجد فقد أظهر دينه وإن كان مع ذلك بين المشركين أو في‬

‫‪206‬‬
‫أماكن المرتدين‪ ،‬وقد غلطوا أقبح الغلط‪ .‬اعلم أن الكفر له أنواع وأقسام تتعدد بتعدد المكفرات‬
‫وكل طائفة من طوائف الكفر عندها نوع منه‪ .‬ول يكون المسلم مظهرا لدينه حتى يخالف كل‬
‫طائفة بما اشتهر عندها ويصرح لها بعداوته‪ ،‬والبراءة منه‪ )..‬انتهى كلمه رحمه ال َتعَالى وهو‬
‫واضح جلي‪ ..‬فل يكون إظهار الدين وإعلن ملة إبراهيم وسلوك دعوة النبياء والمرسلين في‬
‫مثل هذا البلد وهذا الواقع بمجرد الدندنة على شرك الحجار والشجار أو الضرحة والقبور أو‬
‫الصوفية والروافض وحسب‪ ..‬بل لبد أن يكون في مقدمة ذلك كله الصدع بسفاهة القانون‬
‫والبراءة منه ومن عبيده وتـحذير المسلمين من السير في ركابهم وركاب حكوماتهم أو العمل‬
‫معهم في أي وظيفة تعينهم على إقرار واستمرار شركهم ومنكرهم وباطلهم العظيم هذا ‪ ..‬بل‬
‫السعي الحثيث في إبطال قوانينهم هذه ونقضها وهدمها‪ ..‬وإعداد أبناء المسلمين منذ نعومة‬
‫أظفارهم على هذا التوحيد العملي والعتقادي ببغضها وبغض كل من حكم بها كائنا من كان‪..‬‬
‫كل ذلك من أجل إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ال وحده‪ ..‬واستنقاذهم من أغلل‬
‫الشرك إلى عزة التوحيد‪ ..‬والسعي إلى إعلء كلمة ال َتعَالى وإعزاز دينه وإعادة راية الجهاد‬
‫لنصرة المستضعفين ولتحرير أوطان المسلمين وإعادة الخلفة وتحكيم شرعه َتعَالى في‬
‫أرضه‪..‬‬
‫وما الرسالة التي بين يدي القارئ إلّ محاولة لسلوك هذا الطريق والدعوة إليه ولو بنزع دلو‪..‬‬
‫أو بكف رمل‪ ..‬أو بشطر كلمة‪ ..‬وسميتها‪:‬‬
‫( تنبيه البرية إلى وجوب الكفر بالدستور ومعاداة أوليائه والبراءة من القوانين الوضعية)‬
‫وإن شئت فسمها‪ ( :‬كشف النقاب عن شريعة الغاب )‪.‬‬
‫والمرجو من الملك الوهاب حسن العقبى والمآب‪ ..‬والقبول والخلص والثواب‪ ..‬إنه ولي ذلك‬
‫والقادر عليه وصلى ال على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‪.‬‬
‫بسم ال الرحمن الرحيم‬
‫وهو حسبنا ونعم الوكيل‬
‫الحمد ل الذي يقذف بالحق على الباطل فإذا هو زاهق‪..‬‬
‫ل اللّهُ وَل َت ّتبِعْ أَ ْهوَاءَهُمْ وَاحْ َذرْهُمْ أَنْ يَ ْف ِتنُوكَ‬
‫حكُمْ َب ْي َنهُمْ ِبمَا أَنزَ َ‬
‫والحمد ل القائل لنبيه ‪َ { :‬وأَنِ ا ْ‬
‫علَمْ َأ ّنمَا ُيرِي ُد اللّهُ أَنْ ُيصِيبَهُمْ ِب َبعْضِ ُذنُو ِبهِمْ َوإِنّ َكثِيرًا‬
‫ل اللّهُ ِإَل ْيكَ فَإِنْ َت َوّلوْا فَا ْ‬
‫عَنْ َبعْضِ مَا أَنزَ َ‬

‫‪207‬‬
‫ح ْكمًا لِ َقوْمٍ يُو ِقنُونَ}[المائدة‪-49 :‬‬
‫حكْمَ الْجَا ِهِليّةِ َي ْبغُونَ َومَنْ َأحْسَنُ مِنْ اللّهِ ُ‬
‫مِنْ النّاسِ لَفَاسِقُونَ أَ َف ُ‬
‫‪.]50‬‬
‫وبعد‪ ..‬فهذه نصيحة نوجهها إلى إخواننا المسلمين عامة‪ :‬عوامّهم ودعاتهم‪ ..‬في زمان عزّ فيه‬
‫الناصحون‪ ..‬وا ْل َت َبسَ فيه الحق مع الباطل‪ ،‬وكتم فيه كثير من المنتسبين إلى العلم ما أمرهم ال‬
‫َتعَالى بأدائه وبيانه من ُم ِهمّات الدين وأصوله‪ ..‬ل نريد من ورائها أجرا‪ ،‬وأسوتنا في ذلك أنبياء‬
‫علَى َربّ‬
‫جرِي إِلّ َ‬
‫جرٍ إِنْ أَ ْ‬
‫عَليْهِ مِنْ أَ ْ‬
‫ال حين كانوا يقولون لقوامهم‪َ { :‬ومَا أَسَْأُلكُمْ َ‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ}[الشعراء‪ ،]109 :‬ول نريد إلّ الصلح ما استطعنا إلى ذلك سبيلً‪ ..‬كما قال نبي ال‬
‫ط ْعتُ َومَا‬
‫ستَ َ‬
‫لصْلحَ مَا ا ْ‬
‫عنْهُ إِنْ ُأرِيدُ إِلّ ا ِ‬
‫شعيب لقومه ‪َ { :‬ومَا ُأرِيدُ أَنْ أُخَالِ َفكُمْ ِإلَى مَا َأ ْنهَاكُمْ َ‬
‫عَليْهِ َت َو ّكلْتُ َوِإَليْهِ ُأنِيبُ} [ هود‪.]88 :‬‬
‫َتوْفِيقِي إِلّ بِاللّهِ َ‬
‫ونقدم بين يديها بهذه المقدمات المهمة ة‬
‫]‬ ‫‪1‬‬ ‫[‬
‫توحيد ال هو الغاية العظمى‬
‫ع َبثًا‬
‫خلَ ْقنَاكُمْ َ‬
‫س ْبتُمْ َأ ّنمَا َ‬
‫• اعلم يا عبد ال أن ال تبارك وتعالى لم يخلقك عبثا‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬أَفَحَ ِ‬
‫جعُونَ}[المؤمنون‪ ،]115 :‬بل قد خلقك سبحانه لغاية هامة قد غفل عنها أكثر‬
‫َوَأ ّنكُمْ ِإَل ْينَا ل ُترْ َ‬
‫خلَ ْقتُ الْجِنّ وَالِنسَ إِلّ ِل َي ْعبُدُون}[الذاريات‪.]56 :‬‬
‫الناس‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬ومَا َ‬
‫• وليست هذه الغاية ( عبادة ال فحسب)‪ ،‬فإن كثيرا من الكفار يعبدون ال ويعبدون معه آلهة‬
‫أخرى‪ ،‬كما كان يفعل مشركو قريش‪ ..‬إنما الغاية‪( :‬عبادته وحده)‪ ..‬لذا قال غير واحد من‬
‫المفسرين {إِلّ ِل َي ْعبُدُون} أي‪ :‬يوحدون‪.‬‬
‫فالمطلوب إذن هو توحيد ال َتعَالى في العبادة بكل أنواعها‪ ،‬ويدخل في ذلك الحكم والتشريع‪،‬‬
‫ول يتم ذلك ول يصح إلّ بالكفر والبراءة من كل معبود ومتبوع ومشرع سواه‪ ..‬وهذا هو أصل‬
‫الدين ومن أهم معاني ( ل ِإلَهَ إِلّ ال) التي ل يصير المرء مسلما إلّ بها‪ ..‬وهذه هي الغاية التي‬
‫عبُدُوا اللّهَ‬
‫بُعث من أجلها رسل ال أجمعون‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬ولَقَدْ َب َع ْثنَا فِي كُلّ ُأمّةٍ رَسُولً أَنْ اُ ْ‬
‫ج َت ِنبُوا الطّاغُوتَ} [النحل‪ ،]36:‬وهو المر الذي قد غفل عنه وجهله أكثر الناس قال تعالى‪:‬‬
‫وَا ْ‬
‫حكْمُ إِلّ ِللّهِ َأ َمرَ أَلّ َت ْعبُدُوا إِلّ ِإيّاهُ َذِلكَ الدّينُ الْ َقيّمُ َوَلكِنّ َأ ْك َث َر النّاسِ ل َي ْعَلمُونَ}[يوسف‪:‬‬
‫{إِنْ الْ ُ‬
‫‪.]40‬‬
‫]‬ ‫‪2‬‬ ‫[‬

‫‪208‬‬
‫التسليم لحكم الكتاب والسنة ونبذ ما سواهما‬
‫من أهم معاني التوحيد‬
‫• واعلم كذلك أن من أهم معاني الشطر الثاني من الشهادتين وهو "محمد رسول ال" ‪ :‬تحكيم‬
‫الرسول صلوات ال وسلمه عليه‪ ،‬ويكون في زماننا بتحكيم دينه وسنته وأمره ونهيه‪ ..‬فذلك‬
‫كله وحي من عند ال قال َتعَالى ‪{ :‬فَل َو َر ّبكَ ل ُي ْؤ ِمنُونَ} وهذا قَسَمٌ من ال َتعَالى بنفسه‬
‫جرَ َب ْي َنهُمْ}[النساء‪.]8 :‬‬
‫ح ّكمُوكَ فِيمَا شَ َ‬
‫حتّى يُ َ‬
‫العظيمة الجليلة‪َ { ..‬‬
‫من كتاب وسنة‪ ،‬ل يكفي ذلك‬ ‫• ول يكفي تحكيم شريعة ال َتعَالى التي أُرسل بها محمد‬
‫وحده وحسب لصحة إسلم المرء وإيمانه بل لبد من انشراح الصدر لحكامها والرضى بها‬
‫ح َرجًا‬
‫سهِمْ َ‬
‫والنقياد والتسليم المطلق لها‪ ،‬قال َتعَالى في آخر الية السابقة ‪{ :‬ثُمّ ل يَجِدُوا فِي أَنفُ ِ‬
‫سلِيمًا}‪.‬‬
‫سّلمُوا تَ ْ‬
‫ض ْيتَ َويُ َ‬
‫ِممّا َق َ‬
‫]‬ ‫‪3‬‬ ‫[‬
‫البراءة من كل شرع غير شرع ال‬
‫من أهم معاني ل ِإلَهَ إِلّ ال‬
‫وهذا يلزم منه أن يجدوا حرجا عظيما من أنفسهم في كل مشرع ومعبود غير ال َتعَالى ومن‬
‫كل شريعة غير دين ال َتعَالى ومن كل حكم غير حكم ال تعالى‪ ،‬وأن ل يستسلموا له أو‬
‫يرضوا به أو يحترموه أو يقدموه أو يوقروه‪ ،‬وإل كانوا مشركين‪.‬‬
‫يصنع مع‬ ‫بل الواجب عليهم أن يُؤخروه ويُسفّهوه و َيكْ ُفرُوا به ويتبرءوا منه‪ .‬كما كان النبي‬
‫أصنام قومه وطواغيتهم‪.‬‬
‫• يقول شيخ السلم ابن تيمية ‪( :‬وهذا الدين هو دين السلم‪ ،‬ل يقبل ال دينا غيره‪ ،‬فالسلم‬
‫يتضمن الستسلم ل وحده‪ ،‬فمن استسلم له ولغيره كان مشركا‪ ،‬ومن لم يستسلم له كان‬
‫مستكبرا عن عبادته‪ ،‬والمشرك والمستكبر عن عبادته كافران) اهـ ‪.‬‬
‫• ويقول إمام الدعوة النجدية الشيخ محمد بن عبد الوهاب مُعلقا على ما رواه مسلم في‬
‫قال ‪( :‬مَنْ قَالَ ل ِإلَهَ إِلّ ال َوكَ َفرَ ِبمَا‬ ‫صحيحه عن أبي مالك الشجعي عن أبيه أن النبي‬
‫علَى اللّهِ)[ رواه مسلم في كتاب اليمان] قال‪( :‬وهذا‬
‫حرُمَ مَالُهُ وَ َدمُهُ وَحِسَابُهُ َ‬
‫ُي ْعبَدُ مِنْ دُونِ اللّهِ َ‬
‫من أعظم ما يبين معنى ل ِإلَهَ إِلّ ال فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للمال والدم‪ .‬بل ول‬

‫‪209‬‬
‫معرفة معناها مع لفظها‪ ،‬بل ول القرار بذلك‪ ،‬بل ول كونه يدعو إلّ ال وحده حتى يضيف إلى‬
‫ذلك الكفر بما يعبد من دون ال‪ .‬فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه‪ )..‬اهـ ‪.‬‬
‫]‬ ‫‪4‬‬ ‫[‬
‫توحيد ال فرض في جميع أنواع العبادة‬
‫ثم اعلم أن العبادة تشمل أمورا كثيرة وأقساما شتى قد جهلها كثير من الناس في زماننا هذا‪..‬‬
‫فيجب عليك معرفتها حتى تُوحد ال َتعَالى بها كلها فتكون مسلما مؤمنا موحدا‪ ..‬فتنال موعوده‬
‫سبحانه بالمغفرة ودخول الجنة‪ ،‬فهي ليست فقط الصلة والصوم والزكاة والحج كما يتوهم كثير‬
‫من الناس‪ ..‬بل يدخل فيها َأيْضا النذر والطواف والذبح والدعاء والستعاذة والستغاثة‬
‫والستعانة فيما ل يقدر عليه إلّ ال َتعَالى كجلب الرزق ودفع الضر والمرض وغير ذلك‪ ،‬فإن‬
‫ذلك كله من العبادة التي ل يجوز صرفها إلّ ل َتعَالى وحده‪ ،‬وإذا صرف العبد شيئا من ذلك‬
‫لغير ال َتعَالى ومات عليه مات مشركا‪.‬‬
‫جنّةَ}[المائدة‪.]72 :‬وقال تعالى‪{ :‬إِنّ اللّهَ‬
‫عَليْهِ الْ َ‬
‫حرّ َم اللّهُ َ‬
‫ش ِركْ بِاللّهِ فَقَدْ َ‬
‫وقد قال تعالى‪ِ{ :‬إنّهُ مَنْ يُ ْ‬
‫ش ِركْ بِاللّهِ فَقَدْ ا ْف َترَى ِإ ْثمًا‬
‫ش َركَ بِهِ َو َيغْ ِفرُ مَا دُونَ َذِلكَ ِلمَنْ يَشَاءُ َومَنْ يُ ْ‬
‫ل َيغْ ِفرُ أَنْ يُ ْ‬
‫ش َركَ بِهِ َو َيغْ ِفرُ مَا دُونَ َذِلكَ ِلمَنْ يَشَاءُ‬
‫عَظِيمًا}[النساء‪ .]48:‬وقال سبحانه {إِنّ اللّهَ ل َيغْ ِفرُ أَنْ يُ ْ‬
‫ل ضَللً َبعِيدًا}[النساء‪.]116 :‬‬
‫ش ِركْ بِاللّهِ فَقَ ْد ضَ ّ‬
‫َومَنْ يُ ْ‬
‫]‬ ‫‪5‬‬ ‫[‬
‫الطاعة في التشريع من أقسام العبادة‬
‫والرضى بالقوانين شرك أكبر‬
‫واعلم أن من أهم أقسام العبادة التي ل يجوز صرفها لغير ال َتعَالى َأيْضا وإل كان النسان‬
‫مشركا ‪ ( :‬الطاعة في التحليل والتحريم والتشريع) فمن أطاع غير ال َتعَالى في ذلك أو أظهر‬
‫الرضى والتسليم بحكمه وتشريعه وقانونه‪ ...‬وتابعه على ذلك‪ ..‬فقد أشرك واتخذ ذلك المتبوع‬
‫شرَعُوا َلهُمْ مِنْ الدّينِ مَا لَمْ َيأْذَنْ بِ ِه اللّهُ}[الشورى‪.]21 :‬‬
‫ش َركَاءُ َ‬
‫ربّا‪ ..‬قال تعالى‪{ :‬أَمْ َلهُمْ ُ‬
‫• جاء في كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب قوله‪ :‬باب (من أطاع العلماء والمراء‬
‫في تحريم ما أحل ال‪ ،‬أو تحليل ما حرم ال فقد اتخذهم أربابا من دون ال) اهـ‪ .‬وذكر فيه‬
‫ن اللّهِ}[التوبة‪:‬‬
‫حبَارَهُمْ َورُ ْهبَا َنهُمْ َأ ْربَابًا مِنْ دُو ِ‬
‫حديث عدي بن حاتم في قوله تعالى‪{ :‬اتّخَذُوا أَ ْ‬
‫‪.]31‬‬

‫‪210‬‬
‫ش ِركُونَ}[‬
‫ط ْع ُتمُوهُمْ ِإ ّنكُمْ َلمُ ْ‬
‫شيَاطِينَ َليُوحُونَ ِإلَى َأ ْولِيَا ِئهِمْ ِليُجَا ِدلُوكُمْ َوإِنْ أَ َ‬
‫• وقال َتعَالى ‪َ { :‬وإِنّ ال ّ‬
‫النعام‪ ،]121 :‬روى الحاكم وغيره بسند صحيح عن ابن عباس؛ أن أناسا كانوا يجادلون‬
‫المسلمين في مسألة الذبح وتحريم الميتة فيقولون‪( :‬تَ ْأ ُكلُونَ مَا َق َت ْلتُمْ وَلَ تَ ْأ ُكلُونَ ممّا َقتَلَ الُ)‬
‫ش ِركُونَ} وانظر كيف أكد سبحانه وتعالى‬
‫ط ْع ُتمُوهُمْ ِإ ّنكُمْ َلمُ ْ‬
‫يعنون‪ :‬الميتة‪ .‬فقال َتعَالى ‪َ { :‬وإِنْ أَ َ‬
‫ذلك بأن المؤكدة‪..‬‬
‫يقول ابن كثير في تفسير هذه الية‪( :‬أي حيث عدلتم عن أمر ال لكم وشرعه إلى قول غيره‬
‫فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك)اهـ‪.‬‬
‫ويقول الشنقيطي في تفسيره‪ ،‬عن هذه الية‪ ( :‬فتوى سماوية من الخالق جل وعل صرّح فيها‬
‫بأن متبع تشريع الشيطان المخالف لتشريع الرحمن مشرك بال)‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ح ْكمِهِ أَحَدًا}[الكهف‪.]26 :‬‬
‫ش ِركُ فِي ُ‬
‫• ويقول تعالى‪{ :‬وَل يُ ْ‬
‫يقول العلمة الشنقيطي ‪( :‬إن متبعي أحكام المشرّعين غير ما شرعه ال أنهم مشركون بال) ثم‬
‫سرد اليات المبينة لذلك إلى أن قال ‪( :‬وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية‬
‫الظهور ‪ :‬أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما‬
‫شرعه ال جل وعل على ألسنة رسله صلى ال عليهم وسلم‪ ،‬إنه ل يشك في كفرهم وشركهم إلّ‬
‫من طمس ال بصيرته‪ ،‬وأعماه عن نور الوحي مثلهم)اهـ ‪ .‬وقال في موضع آخر‪( :‬فالشراك‬
‫بال في حكمه كالشراك به في عبادتهة وفي قراءة ابن عامر من السبعة {ول تُشركْ في حُكمه‬
‫أحدا} بصيغة النهي) ويقول ‪( :‬لما كان التشريع وجميع الحكام شرعية كانت أو كونية قدرية‪،‬‬
‫من خصائص الربوبية ‪ ...‬كان كل من اتبع غير تشريع ال قد اتخذ ذلك المشرع ربا‪ ،‬وأشركه‬
‫مع ال‪).‬اهـ ‪.‬‬
‫]‬ ‫‪6‬‬ ‫[‬
‫شرطان للنجاة والتمسك بالعروة الوثقى‬
‫الكفر بكل الطواغيت واليمان بال وحده‬
‫وخلصة القول أن المطلوب من كل مسلم في كل زمان ومكان لكي يكون مسلما مُوحّدا أن‬
‫يحقق معنى ( ل ِإلَهَ إِلّ ال ) الحقيقي الذي غفل عنه أكثر الناس‪ ،‬وهو ما حوته من شرطي‬
‫النفي والثبات‪ ،‬وهما الكفر بكل طاغوت واليمان بال والستسلم له وحده‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬فمَنْ‬
‫سكَ بِا ْل ُع ْروَةِ ا ْل ُوثْقَى}[البقرة‪ ]256:‬وتأمل كيف قدم سبحانه‬
‫س َتمْ َ‬
‫َيكْ ُفرْ بِالطّاغُوتِ َو ُي ْؤمِنْ بِاللّهِ فَقَدْ ا ْ‬

‫‪211‬‬
‫الكفر بالطاغوت‪ ،‬كما قدم النفي في الشهادة‪ ..‬وما ذلك إلّ تأكيدا لهمية هذه القضية‬
‫وخطورتها‪..‬‬
‫• قال العلمة الشنقيطي رحمه ال تعالى‪( :‬يُفهم منه ‪ -‬أي من الية السابقة ‪ -‬أن من لم يكفر‬
‫بالطاغوت لم يتمسك بالعروة الوثقى ومن لم يتمسك بها فهو متردّ مع الهالكين)اهـ ‪.‬‬
‫فإذا علمت هذا‪ ،‬فل تظنن الطاغوت ما هو إلّ أصناما من حجر فتُحجّر معنى واسعا‪ ،‬بل‬
‫الطاغوت يشمل هذا وغيره‪ ..‬فهو لغة مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد‪ ،‬قال َتعَالى ‪ِ{ :‬إنّا‬
‫ح َم ْلنَاكُمْ فِي الْجَا ِريَةِ}[الحاقة‪ ]11 :‬فهو كل ما طغى عن حده الحقيقي فعُبد مع ال‬
‫طغَى ا ْلمَاءُ َ‬
‫َلمّا َ‬
‫َتعَالى بأي نوع من العبادة المشار إليها آنفا‪..‬‬
‫وعلى هذا فلكل زمان ومكان طواغيته المختلفة ول يصير المرء مسلما موحدا حتى يكفر بكل‬
‫طاغوت‪ ،‬وخاصة طاغوت زمانه ومكانه ويتبرأ منه ومن عبادته‪ ..‬فهناك من يعبد النار‬
‫كالمجوس فهي طاغوتهم التي ل يصيرون مسلمين وإن آمنوا بال َتعَالى حتى يكفروا بها‪..‬‬
‫وكذلك من يعبد الشمس أو القمر أو النجوم أو الكواكب فهي طواغيتهم التي ل يصح إسلمهم‬
‫إن أسلموا حتى يكفروا بها ويتبرءوا من عبادتها‪ ..‬وكذا من يعبد الصنام كما كان حال كفار‬
‫قريش وغيرهم فهي طواغيتهم التي ل يصيرون مسلمين إلّ بالكفر بها وإن أقروا وآمنوا بال‬
‫خلَ َقهُمْ َليَقُولُنّ‬
‫ربهم وخالقم ورازقهم ومالكهم كما أخبر َتعَالى عن كفار قريش‪َ { :‬وَلئِنْ سََأ ْل َتهُمْ مَنْ َ‬
‫سمْعَ‬
‫لرْضِ َأمّنْ َي ْمِلكُ ال ّ‬
‫سمَاءِ وَا َ‬
‫اللّهُ}[الزخرف‪ ]87 :‬وقال تعالى‪{ :‬قُلْ مَنْ َي ْرزُ ُقكُمْ مِنْ ال ّ‬
‫سيَقُولُونَ اللّهُ‬
‫ل ْمرَ فَ َ‬
‫حيّ َومَنْ يُ َد ّبرُ ا َ‬
‫خرِجُ ا ْل َم ّيتَ مِنْ الْ َ‬
‫حيّ مِنْ ا ْل َم ّيتِ َويُ ْ‬
‫خرِجُ الْ َ‬
‫لبْصَارَ َومَنْ يُ ْ‬
‫وَا َ‬
‫ولم تُعصم دماؤُهم ولم يصيروا مسلمين‬ ‫فَقُلْ أَفَل َتتّقُونَ}[يونس‪ ]31 :‬ومع ذلك قاتلهم النبي‬
‫حتى كفروا بتلك الصنام وتبرؤوا من عبادتها‪ ..‬وقد تقدم قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬
‫ن اللّهِة)‪.‬‬
‫حول حديث أبي مالك الشجعي (مَنْ قَالَ ل ِإلَهَ إِلّ ال َوكَ َفرَ ِبمَا ُي ْعبَدُ مِنْ دُو ِ‬
‫• ويقول الشيخ العلمة حمد بن عتيق رحمه ال في كتابه (سبيل النجاة والفكاك من موالة‬
‫المرتدين وأهل الشراك)‪( :‬اعلم أن الكفر له أنواع وأقسام تتعدد بتعدد المكفرات وكل طائفة من‬
‫طوائف الكفر قد اشتهر عندها نوع منه‪ ،‬ول يكون المسلم مظهرا لدينه حتى يخالف كل طائفة‬
‫بما اشتهر عندها ويصرح لها بعداوته‪ ،‬والبراءة منه‪ )...‬اهـ‪.‬‬
‫]‬ ‫‪7‬‬ ‫[‬
‫من أشنع طواغيت العصر الواجب الكفر بها‬

‫‪212‬‬
‫الدستور والقوانين الوضعية‬
‫إذا فهمت ما سبق‪ ،‬فاعلم أن من أشنع طواغيت العصر في بلدنا هذا وفي كثير من بلدان‬
‫المسلمين هو هذا (الدستور وقوانينه الوضعية) التي خضع لها العباد وخنعت لها الرقاب‪..‬‬
‫وعبادتها تكون بإتباعها والتحاكم إليها والتسليم بتشريعاتها والرضى بها‪..‬‬
‫• يقول مجاهد‪( :‬الطاغوت الشيطان في صورة النسان يتحاكمون إليه وهو صاحب أمرهم)‪.‬‬
‫• ويقول شيخ السلم ابن تيمية ‪( :‬الطاغوت‪ :‬فعلوت من الطغيان‪ ،‬والطغيان‪ :‬مجاوزة الحد‪،‬‬
‫وهو الظلم والبغي‪ ،‬فالمعبود من دون ال إذا لم يكن كارها لذلك ‪ :‬طاغوت‪ ..‬إلى أن قال‪ :‬ولهذا‬
‫سمي من تُحوكم إليه من حاكم بغير كتاب ال‪ :‬طاغوت) اهـ‬
‫• ويقول العلمة ابن القيم‪( :‬الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع‪،‬‬
‫فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير ال ورسوله أو يعبدونه من دون ال‪ ،‬أو يتبعونه على‬
‫غير بصيرة من ال)‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫فقد حكّم الطاغوت‬ ‫ويقول َأيْضا رحمه ال‪( :‬من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول‬
‫عمُونَ َأ ّنهُمْ آ َمنُوا‬
‫وتحاكم إليه) • ويقول ابن كثير في تفسير قوله َتعَالى ‪َ{ :‬ألَمْ َترَ ِإلَى الّذِينَ َيزْ ُ‬
‫ِبمَا أُنزِلَ ِإَل ْيكَ َومَا أُنزِلَ مِنْ َق ْبِلكَ ُيرِيدُونَ أَنْ َيتَحَا َكمُوا ِإلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ ُأ ِمرُوا أَنْ َيكْ ُفرُوا بِهِ‬
‫ضّلهُمْ ضَللً َبعِيدًا}[النساء‪ .]60 :‬قال رحمه ال بعد أن ساق أقوالً في معنى‬
‫شيْطَانُ أَنْ ُي ِ‬
‫َو ُيرِيدُ ال ّ‬
‫الطاغوت ‪( :‬والية أعم من ذلك كله فإنها ذامّة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما‬
‫سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا)اهـ‪.‬‬
‫فكل من تحوكم إليه غير شرع ال فهو طاغوت مخلوقا كان أو قانونا‪..‬‬
‫• ويقول العلمة الشنقيطي في أضواء البيان عن الية السابقة‪( :‬وكل تحاكم إلى غير شرع ال‬
‫فهو تحاكم إلى الطاغوت) اهـ ‪.‬‬
‫• ويقول الشيخ سليمان بن سحمان في رسالة في الدرر السنية‪( :‬الطاغوت ثلثة أنواع‪:‬‬
‫طاغوت حكم وطاغوت عبادة وطاغوت طاعة ومتابعة‪)..‬اهـ ‪.‬‬
‫• ويقول الشيخ عبد ال بن عبد الرحمن أبا بطين في معنى الطاغوت‪( :‬ويشمل َأيْضا كل من‬
‫نصبه الناس للحكم بينهم بأحكام الجاهلية المضادة لحكم ال ورسوله) اهـ ‪.‬‬
‫إذا عرفت هذا‪ ،‬فاعلم أنه لن يصح إسلمك وتوحيدك ولن تحقق معنى ( ل ِإلَهَ إِلّ ال) الحقيقي‬
‫ولن تجد سبيلك إلى الجنة حتى تكفر وتتبرأ من كل طاغوت‪ ،‬وعلى رأس ذلك هذا الطاغوت‬

‫‪213‬‬
‫العصري الذي اتبعه وانقاد له أكثر الخلق وعبدوه عبادة تشريع‪ ،‬فرضوا بأوامره ونواهيه‬
‫وتابعوه واجتمعوا معه على تشريعاته وتواطؤوا على قانونه وعظموه ووقّروه ونزّهوه وقدّسوه‪،‬‬
‫وأحبوا عبيده وبجّلوهم ووالوهم‪ ،‬فالواجب عليك إن كنت تريد الجنة‪ ،‬أن تكفر به وتُعاديه وتتبرأ‬
‫منه ومن عبيده وأوليائه وتُبغضهم و ُت َبغّضهم لولدك وأهلك وتعمل وتجاهد طول حياتك من‬
‫أجل هدمه وإبطاله وأن ل تستسلم أو ترضى أو ينشرح صدرك إلّ لحكم ال َتعَالى وشرعه‬
‫وحده‪ ...‬وإل فالنار النار‪‬‬
‫]‬ ‫‪8‬‬ ‫[‬
‫ياسق طغاة العصر وياسق التتار‬
‫ولكي يتضح لك المر وتنجلي عنك كل شبهة ول يبقى في ذهنك مجال لتلبيس أهل الباطل‬
‫وعلماء الحكومات ممن ينافحون عن هذا الباطل وطغيانه‪ ..‬فها نحن نكشف ونبين لك ونضع‬
‫بين يديك أمثلة مما يحويه هذا الطاغوت (نعني الدستور وقوانينه الوضعية) من كفر وشرك‬
‫وسفاهة وزندقة وإلحاد‪ ،‬لتكون على بينة من أمرك ودينك فتحْذر وتُحذّر من هذا الشرك العظيم‬
‫(شرك العصر) الذي وقع فيه أكثر الناس في زماننا شعروا أو من حيث ل يشعرون‪..‬‬
‫وقبل ذلك لبد أن تعلم بأن شريعة ال َتعَالى قد كانت هي الحاكمة في بلد المسلمين ولقرون‬
‫عديدة‪ ،‬ويومها كان المسلمون أعزّة كراما يُرهبون عدوّ ال وعدوهم‪ ..‬إلى أن جاء هؤلء‬
‫السفهاء من حكام المسلمين الذين إذا قال لهم الناس والدعاة المخلصون حكّموا شرع ال ‪َ { ‬وإِذَا‬
‫ع ْنكَ صُدُودًا}[النساء‪:‬‬
‫ل اللّهُ َوِإلَى الرّسُولِ َرَأ ْيتَ ا ْل ُمنَافِقِينَ َيصُدّونَ َ‬
‫قِيلَ َلهُمْ َتعَاَلوْا ِإلَى مَا أَنزَ َ‬
‫‪.]61‬جاءوا ‪ -‬ل أبقاهم ال ‪ -‬في غفلة من المة وركون من أبنائها ‪ ..‬واستبدلوا الذي هو أدنى‬
‫بالذي هو خير‪ ،‬فنبذوا الشريعة وأحلوا محلها القانون الوضعي الكافر‪ .‬كما فعل أعداؤنا التتار‬
‫يوم استولوا على ممالك المسلمين‪ ،‬حيث حكموا سياستهم الملكية المأخوذة عن ملكهم‬
‫حكْمَ الْجَا ِهِليّةِ َي ْبغُونَ} [المائدة‪]50 :‬‬
‫(سنكزخان) يقول الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى‪{ :‬أَفَ ُ‬
‫عن هذا الملك بأنه‪( :‬وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن‬
‫شرائع شتى‪ :‬من اليهودية والنصرانية والملة السلمية وغيرها وفيها كثير من الحكام أخذها‬
‫من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونها على الحكم بكتاب ال وسنة‬
‫رسول ال ) ‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫ولو تأملت دستور هذا البلد وغيره من البلدان المنتسبة للسلم ولو تأملت قوانينهم الوضعية‬
‫لرأيتها كياسق التتار أو أشد خبثا‪..‬‬
‫فإن عبيدها قد عطلوا الشريعة السلمية في النفوس والدماء والفروج والموال وغير ذلك‬
‫وهجروا حدودها وأحكام قصاصها وشؤون السياسة والقتصاد والعلقات الدولية وغير ذلك‪..‬‬
‫وأخذوه كله من القانون الفرنسي النصراني تماما كياسق التتار فقد أخذ من النصارى‪ ..‬وهؤلء‬
‫قنن لهم فقهاء القانون ‪ -‬كما يسمونهم ‪ -‬وغيرهم من عبيد القانون بأهوائهم‪ ..‬وكذلك ياسق‬
‫التتار فقد كان من مصادره الرأي والهوى‪ ..‬وأبقوا ‪ -‬ل أبقاهم ال ‪ -‬بعض القوانين المستقاة‬
‫من الشريعة السلمية مقتصرة على قضايا الرث والطلق والزواج والتي يسمونها أحوالً‬
‫شخصية‪ ،‬أبقوها للتلبيس على الناس بأنهم لم يهجروا الشريعة كلياة تماما كما كان ياسق التتار‬
‫فلقد كان فيه َأيْضا أحكام من الملة السلميةة كما ذكر ابن كثير وغيرهة‬
‫فل فرق إذا بين هذا الدستور وقوانينه وبين ياسق التتار‪ ،‬ولكن الفرق بين سكوت المة في‬
‫زماننا عن هذه القوانين وبين حالها مع ياسق التتار كبير‪ ،‬فإنهم لم يهنأ لهم حال ولم يقر لهم‬
‫قرار مع ذلك الياسق وما فتئوا يعملون مع علمائهم ويجاهدون ويدعون إلى إبطاله وإزالته‬
‫وتبديله حتى نصرهم ال عز وجل ومكن لهم وأعزهم‪ ..‬وبقيت شريعة ال هي الحاكمة‬
‫المهيمنة‪ ،‬ورغم فترات الضعف والشتات التي انتابت المة ورغم تكالب العداء وتمكنهم من‬
‫التسلط على كثير من أجزائها كالباطنيين والصليبيين وغيرهم‪ ..‬لم تبدل المة ول بدل حكامها‬
‫وسلطينها في بقية أجزاء بلد المسلمين شريعة ال الحاكمة‪ ..‬إلى أن أُلغيت الخلفة السلمية‬
‫على أيدي اليهود وأذنابهم ‪ ..‬وجاء الستعمار الصليبي العصري ولم يخرج من ديار المسلمين‬
‫حوْا بدورهم الشريعة وأعادوا تحكيم ذلك الياسق‬
‫حتى مكّن لذنابه من سفهاء الحكام الذين ن ّ‬
‫التتري ولكن بلباس عصري براقة‬
‫وها هي بلد المسلمين أثقلتها قيود الطواغيت وسلسلهم وظلماتهم في ظل هذه القوانين وحل‬
‫فيها كل فساد ودخلها كل إلحاد‪ ..‬وعرض للناس بسبب هذه القوانين ومفاسدها فساد في فطرهم‬
‫وظلمة في قلوبهم وكدر في أفهامهم ومحق في عقولهم وعمّتهم وغلبت عليهم فتنها حتى ربا‬
‫فيها الصغير وهرم عليها الكبير فلم يعد يراها أكثر الناس منكرا‪ ..‬بل أمست عندهم البدع في‬
‫ظلها مقام السنن‪ ،‬والهوى مقام الرشد‪ ،‬والضلل مقام الهدى‪ ،‬والمنكر مقام المعروف‪ ،‬والجهل‬
‫مقام العلم‪ ،‬والرياء مقام الخلص‪ ،‬والباطل مقام الحق‪ ،‬والكذب مقام الصدق‪ ،‬والمداهنة مقام‬

‫‪215‬‬
‫النصيحة وقول الحق ‪ ..‬والربا مقام البيع‪ ،‬والظلم مقام العدل‪ ،‬والفجور مقام العفاف‪ ..‬فصارت‬
‫الدولة والغلبة لهذه المور وأهلها هم المشار إليهم وكانت ‪ 0‬قبل ذلك لضدادها وأهلها هم‬
‫المشار إليهم‪ ،‬وأصبح بطن الرض ‪ -‬وال ‪ -‬خيرا من ظهرها‪ ،‬وقمم الجبال خير من السهول‬
‫ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس‪ ،‬اقشعرت الرض وأظلمت السماء وظهر الفساد في‬
‫البر والبحر من ظلم الفجرة‪ ،‬وذهبت البركات وقلّت الخيرات وتكدرت الحياة من فسق الظلمة‪،‬‬
‫وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من العمال الخبيثة والفعال الفظيعة وكثرة الفواحش وغلبة‬
‫المنكرات والقبائح وهذا وال منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه‪ ،‬ومؤذن بليل بلد قد ا ْدَلهَمّ‬
‫ظلمه‪ ،‬ما لم يقم دعاة الحق والمصلحون بالصدع بالحق وبيانه وما لم يقم جند التوحيد بتغيير‬
‫ذلك المنكر العظيم‪ ،‬وإنقاذ الناس من عبودية الطواغيت وقوانينهمة وإخراجهم من الظلمات إلى‬
‫ظَلمُوا َأيّ مُن َقَلبٍ يَن َقِلبُونَ}[الشعراء‪.]227 :‬‬
‫س َيعْلَمُ الّذِينَ َ‬
‫النور‪ ..‬وإل فإن العقبة وال كؤود‪{ ..‬وَ َ‬
‫عـن نـفوذ وليــة السلـطــان‬ ‫فانظـــر إلى القرآن معزولً لديهم‬
‫معزولً لديهم ليس ذا سلطـــــان‬ ‫وانظـر إلى قول الرسول كـــذاك‬
‫أيظن ذلك قطّ ذو عـرفــــــان‬ ‫وال مـا عـزلوه تـعظيما لـــه‬
‫لم يرفـعـوا رايــات جنكزخــان‬ ‫يا لـيـتهم إذ يحـكمون بـعزلــه‬
‫بين الخصوم ومـالـه من شــــان‬ ‫وانظر إليـه ليـس ينفــذ حكمـه‬
‫في الحكم والتشريع والسلطـــــان‬ ‫وانظر إليه لـيـس يقبـل قـولــه‬
‫لكنما المقبول حـكم (الكفــر) ل أحـكامه ل يستوي الحكــمـــان‬
‫بدمـائـهم ومدامـع الجفــــان‬ ‫يبكي عـلـيـه أهـلـه وجنـوده‬
‫وسـواه مـعــزول عن السلطــان‬ ‫عـهدوه قدما ليس يحكــم غـيره‬
‫هما لهم دون الورى حكمــــــان‬ ‫إن غاب نابت عنه أقــوال الرسول‬
‫في حكم جنكزخان ذي الطــــغيان‬ ‫فـأتاهـم ما لم يكن في ظـنـهم‬
‫(الفرنج والذناب مــن عـــربان)‬ ‫بجنود تعـطيل وكفــــران من‬
‫فعلوا بـأمتـه مــن العــــدوان‬ ‫فـعـلوا بـملتـه وسـنتـه كما‬
‫يــا أمــة الثــار والـقـرآن‬ ‫فـال يعـظم في ( الشريعة أجركم)‬
‫]‬ ‫‪9‬‬ ‫[‬
‫مثال من طواغيت العصر‬

‫‪216‬‬
‫هذا‪ ،‬ولو أردنا أن نسوق ونتتبع دساتير وقوانين النظمة المنتسبة إلى السلم كلها‪ ،‬ونذكر أمثلة‬
‫من كفرياتها ونستعرضها واحدا واحدا لطال بنا المقام دون فائدة تذكر‪ ..‬وذلك لن دساتيرهم‬
‫‪-‬وقد اطلعت على أكثرها ‪ -‬منقولة عن بعضها البعض متفقة في غالبية قوانينها العفنة ل‬
‫تختلف إلّ بأرقام المواد وبترتيبها وبأشياء يسيرة تتبع نظام حكم البلد من ملكي أو جمهوري أو‬
‫نحوه‪ ،‬وزيادات أخرى في بعض النظمة التي تحكم بنظام الحزب ل تعدو كونها زيادة في‬
‫الكفر‪...‬‬
‫من أجل ذلك اكتفينا بالتمثيل بدستور هذا البلد وقوانينه الوضعية كمثال من قوانين العصر‬
‫الخبيثة‪..‬‬
‫وكل مسلم في أي دولة أخرى يستطيع أن ينزل كلمنا هذا كله على قوانين بلده بمجرد أن يبدل‬
‫أرقام المواد التي أشرنا إليها هنا بأرقام مواد وقوانين بلده‪...‬‬
‫وجزى ال خيرا من قام بذلك ناصحا للمة مخلصا‪...‬‬
‫ياسق الكويت‬
‫والطاغوت الذي وقع الختيار عليه هو دستور الكويت وقوانينه‪ ،‬تلك الدولة التي طالما التبس‬
‫أمرها على كثير من عميان البصائر‪ ،‬فأخذوا يثنون على قوانينها وقضاتها وحكومتها وحكامها‪..‬‬
‫اخترناها لجل ذلك ليدخل غيرها في كلمنا ‪ -‬عند هؤلء الناس ‪ -‬من باب أولى‪..‬‬
‫وإليك الن بعض المثلة من طاغوت الكويت‪ ..‬نقصد من ذكرها بيان زيف هذا الطاغوت‬
‫وسفاهته وحقارته وبطلنه وكفره‪ ..‬وبيان أنه نابع من وحي الشياطين وأهواء البشر وأنه ل‬
‫يحكم بين الخلق بالعدل بل إن قوانينه وبنوده سبب في ظهور الفساد في البلد والعباد ومعول‬
‫وُضع لهدم ما بناه السلم من المقاصد والقواعد والشرائع ‪ ..‬ولهدر ما جاء الدين لحفظه‬
‫وصيانته من العراض والنساب والعقول والدماء والموال‪..‬‬
‫وسائر أنبياء ال ورسله صلوات ال وسلمه عليهم حينما‬ ‫وقدوتنا في هذه الطريق نبينا محمد‬
‫كانوا يبينون زيف وسفاهة وضلل طواغيت أقوامهم‪.‬‬
‫لنخلص من ذلك كله إلى دعوة قومنا وأمتنا للكفر بهذا الطاغوت العصري‪ ،‬وبكل طاغوت يعبد‬
‫من دون ال َتعَالى عبادة تشريع أو غيرها‪ ...‬والبراءة من أوليائه المصرّين على تحكيمه‬
‫وعبادته وتعبيد الناس له‪..‬‬

‫‪217‬‬
‫فنخرجهم بذلك من عبادة الطاغوت إلى عبادة ال وحده‪ ..‬ومن جور وظلم القوانين وسدنتها‪..‬‬
‫إلى عدل ونور السلم‪{ ..‬وَاللّهُ ُمتِمّ نُو ِرهِ َوَلوْ َك ِرهَ ا ْلكَا ِفرُونَ}[الصف‪.]8 :‬‬
‫فَخُـذْها نِبـالً مِنْ حَـنيفٍ ُموَحّدٍ ُت َمزّقُ مِـنْ سُـوءِ العَقيدَةِ ما ُيرْدي‬
‫وعَن َوصْلِ هِنـ ٍد والرّباب وعن وَعْدِ‬ ‫مـ َنزّهـةً عن ذِكـرِ ليلَـى وقَدّهَا‬
‫اعلم قبل أن نشرع في تسفيه طاغوتهم أننا حينما نذكر (الطاغوت) أو (الياسق العصري) في‬
‫هـ‬ ‫‪1382‬‬ ‫هذه الورقات فإننا نعني بذلك دستورهم المكوّن من (‪ )183‬مادة والذي أُصدر عام‬
‫م وحُكم به العباد في هذه البلدة بأمر ومصادقة حاكم الكويت في ذلك الوقت (عبد‬ ‫‪1962‬‬ ‫الموافق‬
‫ال بن سالم الصباح) عليه من ال ما يستحق‪ ،‬وأيضا ما أُلحق به من القوانين والترقيعات في‬
‫عهد المذكور والعهود التي تلته‪ ،‬من ذلك قانون الجزاء وترقيعاته‪ ،‬أعني ما يسمونه بالقوانين‬
‫المعدلة والمكملة‪ ،‬وكذا القانون المدني المكوّن مما يقرب من (‪ )1100‬مادة‪ ،‬والقانون التجاري‬
‫الذي يعتبرونه فرعا لقانونهم المدني‪ ،‬وغير ذلك من قوانينهم الباطلة التي أحلوها محل (مجلة‬
‫الحكام العدلية) التي رغم ما ينتقد عليها فقد كانت تمثل البقية الباقية من أحكام الشريعة‬
‫السلمية وفقا للمذهب الحنفي وكان يحكم بها في أواخر الدولة العثمانيةة ‪ -‬ويعترف وزير‬
‫الدولة للشؤون القانونية والدارية سلمان بن دعيج الصباح كما في مقدمة قانونهم المدني‪ ،‬بأن (‬
‫(‪1938‬‬ ‫أحمد بن جابر الصباح) حاكم الكويت من عام (‪ )1921‬إلى (‪ )1950‬قد أصدر أمرا في عام‬
‫) بتطبيق (مجلة الحكام العدلية)‪ ...‬ويبدو أن المر لم يدم طويلً حتى جاء خليفته (عبد ال بن‬
‫سالم) فأصدر (الياسق الكويتي) الدستور في عام (‪ )1962‬وكان عهد هذا المذكور هو عهد‬
‫القانون عندهم‪ ،‬فقد صدرت فيه العديد من قوانينهم العفنة كقانون التجارة الصادر عام (‪)1961‬‬
‫وقانون الجزاء الصادر عام (‪ )1960‬وغيره‪ ..‬ثم جاء العهد التالي فأضيفت كثير من القوانين‬
‫وغُيرت ورُقعت أخرى‪ ..‬إلى أن جاءت سنة (‪ )1980‬في عهد الحاكم الحالي لتنسف البقية الباقية‬
‫من أحكام الشريعة المتمثلة بمجلة الحكام العدلية وليحل محلها قانونهم المدني الذي صدر‬
‫بمرسوم رقم (‪ )67‬بقصر السيف‪ ..‬وكانت المادة الولى فيه تقول‪ ( :‬يُلغى العمل بمجلة الحكام‬
‫العدلية‪ ،‬ويستعاض عنها بالقانون المدني‪ )...‬ووقع على هذا المرسوم كل من ‪ :‬أمير الكويت‪:‬‬
‫جابر بن أحمد‪ ،‬ورئيس مجلس الوزراء‪ :‬سعد بن عبد ال‪ ،‬ورئيس الدولة للشؤون القانونية‪:‬‬
‫سلمان بن دعيج‪...‬‬
‫أعـــداء كل موحـد ربــــاني‬ ‫فاسـأل بهـم ذا خـبرة تلقــاهم‬

‫‪218‬‬
‫تــوبوا إلى الرحمن من تعطـيلكــم فالـرب يـقـبـل تـوبة الـندمـان‬
‫أو مـات (طـاغــوتا) فـفي النيران‬ ‫من تاب منكم فالجـنان مــصـيره‬
‫أمثلة كفرية من الدستور‬
‫] من الله المشرع في دستورهم ؟؟ إنه ليس ال وحده‪..‬‬ ‫‪1‬‬ ‫[‬
‫وهذا هو الشرك‪ ..‬فالشرك ليس رفض عبادة ال‪ ..‬بل عبادة آلهة أخرى معه‪ ..‬جاء في المادة (‬
‫‪ )2‬من ياسقهم‪ ( :‬الشريعة مصدر رئيسي للتشريع )‪ ،‬وهذا يعني‪ ،‬كما هو واضح من السياق لكل‬
‫من يفقه العربية ومن مذكرتهم التفسيرية أيضا‪ ،‬أن التشريع عندهم له مصادر عديدة أخرى غير‬
‫الشريعة‪..‬‬
‫وأن الشريعة ليست إل مصدرا تشريعيا رئيسيا ( أشرك ) معه مصادر أخرى رئيسة وفرعية‪..‬‬
‫وهكذا فإن هذه المادة ل تنص ول تعترف أبدا بشهادة أن ل إله إل ال‪ ،‬بل معناها الحرفي‬
‫الشرعي هو‪ ( :‬أشهد أن ال إله من اللهة الرئيسة‪ ،‬وأشهد أن معه آلهة رئيسة وفرعية أخرى )‬
‫‪ ..‬وهذا شرك باللوهية وكفر بواح ظاهر بين واضح ل يخفى إل على من طمس ال بصيرته‬
‫وأعماه وجعله كالنعام بل أضل‪..‬‬
‫وقد بينا لك فيما تقدم‪ ،‬أنّ من الشرك المستبين‪:‬‬
‫التحاكم إلى الطاغوت‪ ،‬وأن الطاغوت يشمل كل تشريع سوى شرع ال تعالى‪.‬‬
‫فتعدد مصادر التشريع يعني تعدد الرباب واللهة المعبودة من دون ال تعالى‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫{ ءأرباب متفرقون خيرٌ أمِ ال الواحدُ القهار(‪ )39‬ما تعبدون من دونه إل أسماء سميتموها أنتم‬
‫وأباؤكم ما أنزل ال بها من سلطان إن الحكم إل ل أمر أل تعبدوا إل إياه ذلك الدين القيّم ولكنّ‬
‫أكثر الناس ل يعلمون } [ يوسف‪]39:40 :‬‬
‫وقال تعالى‪ { :‬أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدّين ما لم يأذن به ال ولول كلمة الفصل لقُضي‬
‫بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم } [ الشورى‪]21 :‬‬
‫وقد علمت أن جعلهم الشريعة مصدرا من هذه المصادر التشريعية المختلفة‪ ،‬يأخذون منها ما‬
‫يوافق أهواءهم‪ ،‬ويتركون ما ترفضه عقولهم النخرة‪ ،‬هو تماما كفعل التتار في ياسقهم‪ .‬انظر‬
‫وصف ابن كثير للياسق التتري في المقدمة الثامنة‪ ،‬وهو أيضا مشابهة ومتابعة لليهود الذين قال‬
‫ال تعالى فيهم‪ { :‬أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إل‬
‫خزيٌ في الحياة الدنيا } وهل هناك أشد مما هم فيه اليوم من خزي وذل للشرق والغرب‪ ،‬بل‬

‫‪219‬‬
‫ولليهود أنفسهم الذين كتب ال عليهم الذلة‪ ..‬ثم قال تعالى‪ { :‬ويوم القيامة ُيرَدّون إلى أشدّ العذاب‬
‫وما ال بغافل عما تعملون(‪ )85‬أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالخرة فل يخفف عنهم العذاب‬
‫ول هم ينصرون } [ البقرة ‪]85،86‬‬
‫• وجاء في المذكرة التفسيرية لهذه المادة‪ ،‬بعد أن ذكروا أن من فوائد هذه الصيغة الكفرية‪،‬‬
‫أنها ل تمنع المشرع من استحداث أحكام من مصادر أخرى غير الشريعة‪ ،‬قالوا ‪ -‬فضّ ال‬
‫أفواههم ‪ -‬بالحرف الواحد‪ ( :‬بل إن في النص ما يسمح مثلً بالخذ بالقوانين الجزائية الحديثة‬
‫مع وجود الحدود في الشريعة السلمية وكل ذلك ما كان ليستقيم لو قيل (الشريعة السلمية‬
‫المصدر الرئيسي للتشريع) إذ يوقع المشرع في حرج بالغ )‪ .‬قاتل ال هذا المشرع‪ ..‬الذي جعل‬
‫من نفسه ندّا ل‪..‬‬
‫وأذكرك بالمقدمة الثانية والثالثة‪.‬‬
‫وانظر إلى قولهم (يوقع المشرع في حرج بالغ) وارجع لقوله َتعَالى في ذلك الموضع‪{ :‬فَل‬
‫ض ْيتَ‬
‫حرَجًا ِممّا َق َ‬
‫سهِمْ َ‬
‫جرَ َب ْي َنهُمْ ثُمّ ل َيجِدُوا فِي أَنفُ ِ‬
‫ح ّكمُوكَ فِيمَا شَ َ‬
‫حتّى ُي َ‬
‫َو َر ّبكَ ل ُي ْؤ ِمنُونَ َ‬
‫سلِيمًا}[النساء‪ ]65 :‬وتأمل كلمة (حرجا) في الية وكيف أنها نكرة في سياق النفي‬
‫سّلمُوا تَ ْ‬
‫َويُ َ‬
‫فتشتمل كل أنواع الحرج كبيرا كان أم صغيرا فكلّه مضاد لليمان‪ ..‬ومع ذلك فهؤلء السفهاء‬
‫يصفون التسليم المطلق للشريعة‪ ،‬بأن فيه ( حرجا بالغا )‪ .‬فهل يجوز لموحد بعد هذا أن يحترم‬
‫ياسقهم هذا؟؟ أو يوالي عبيده أو يحبهم‪..‬؟؟ فليتعرف المسلمون على نوع الحكم الذي يحكمهم‪،‬‬
‫وما يحويه من زيغ وضلل وهم غافلون نائمون‪..‬‬
‫ثم قالوا في الموضع نفسه من المذكرة الكفرية‪ ( :‬ومن ثم ل يمنع النص المذكور من الخذ‬
‫عاجلً أو آجلً‪ ،‬بالحكام الشرعية كاملة وفي كل المور إذا رأى المشرع ذلك)‪.‬‬
‫وها هنا مسألة خطيرة جدا‪ ..‬فحتى لو فرضنا جدلً أنهم أرادوا تحكيم بعض نصوص الشريعة‬
‫في يوم من اليام فلن يكون ذلك استسلما أو انقيادا ل َتعَالى ورضا بحكمه‪ ..‬وإنما لرأي‬
‫وإرادة وهوى طاغوتهم (المشرّع)‪.‬‬
‫يقول العلمة أحمد شاكر في كتابه (كلمة حق) ‪ ( :‬ترى في بعض بلد المسلمين قوانين ضربت‬
‫عليها‪ ،‬نقلت عن أوربة الوثنية الملحدة‪ ،‬وهي قوانين تخالف السلم مخالفة جوهرية في كثير‬
‫من أصولها وفروعها‪ ،‬بل إن في بعضها ما ينقض السلم ويهدمه‪ ،‬وذلك أمر واضح بديهي‪ ،‬ل‬
‫يخالف فيه إلّ من يغالط نفسه‪ ،‬ويجهل دينه أو يعاديه من حيث ل يشعر‪ ،‬وهي في كثير من‬

‫‪220‬‬
‫أحكامها َأيْضا توافق التشريع السلمي أو ل تنافيه على القل‪ ،‬وإن العمل بها في بلد المسلمين‬
‫غير جائز‪ ،‬حتى فيما وافق التشريع السلمي‪ ،‬لن من وضعها حين وضعها لم ينظر إلى‬
‫موافقتها للسلم أو مخالفتها‪ ،‬وإنما نظر إلى موافقتها لقوانين أوربة‪)...‬‬
‫ثم ذكر كلما للشافعي رحمه ال َتعَالى خلصته أن المجتهد إذا اجتهد عن علم وإحاطة بالدلة‬
‫وتحري للحق فأخطأ كان معذورا مأجورا‪ ،‬أما من لم يتحرّ الدليل‪ ،‬وتكلّف بل علم فإن إصابته‬
‫‪ -‬وإن أصاب الحق‪ -‬تكون غير محمودة ومن هذا يظهر لك بأن القوانين إن كان في بعضها ما‬
‫يوافق الشريعة فإنه باطل َأيْضا ل يُحمد ول يُمدح أبدا‪ ،‬لنه لم يخرج من دائرة الشرك‪ ،‬فما هو‬
‫إلّ انقياد لحكم الدستور واتباع لرأي مشرّعهم ‪ -‬الذي هو غير ال ‪ -‬ول يُمدح أو يُحمد أبدا إلّ‬
‫حين يكون ذلك استسلما وانقيادا لرب العباد وحده‪...‬‬
‫حكُمْ َب ْي َنهُمْ ِبمَا أَنزَلَ اللّهُ} [المائدة‪]49 :‬‬
‫وخلصة القول أنّ ال جل وعل قد قال في كتابه‪َ { :‬وأَنِ ا ْ‬
‫ولم يقل‪ ..‬بمثل ما أنزل ال‪ ..‬فتنبه لهذا وافهمه جيدا‪..‬‬
‫ومما سبق تظهر لك فضيحة من فضائح عبيد الياسق ‪ -‬وما أكثرها‪ -‬وذلك أن المشرع الحقيقي‬
‫عندهم؛ هو ليس ال عز وجل‪ ..‬وأن جعلهم الشريعة مصدرا من مصادر التشريع كذب وتمويه‪،‬‬
‫وبمعنى آخر‪ :‬أن جعلهم ال أحد المشرّعين المعبودين‪ ..‬وإن كان شركا لو صح ‪ -‬فإنه غير‬
‫صحيح ‪ -‬وهم كاذبون به‪ ..‬ملبّسون مخادعون‪..‬‬
‫فمن هو مشرّعهم الحقيقي الذي يعبدونه إذن ؟؟‬
‫• الله المشرع عندهم ليس الخالق الباري جل وعل‪ ..‬وإنما هو ‪ :‬ثالوث ( المير ومجلس‬
‫المة وفقا للدستور)‪ .‬وهكذا فقد شابهوا أحبابهم وأولياءهم عبّاد الصليب في عقيدة التثليث‬
‫الشركية‪ ..‬فأولئك عندهم ( الرب والبن وروح القدس) وهؤلء عندهم ( المير ومجلس المة‬
‫والدستور)‪ .‬وإليك الدلة على هذا من ياسقهم نفسه ‪:‬‬
‫جاء في المادة (‪ )51‬من الياسق الكويتي ‪ ( :‬السلطة التشريعية يتولها المير ومجلس المة وفقا‬
‫للدستور) ‪.‬‬
‫وهذا َأيْضا كفر فوق كفر وشرك فوق شرك وظلم فوق ظلم كما قدمنا وفصلنا‪ ...‬فل ينكر هذا‬
‫إلّ جاهل بدين السلم‪ ..‬أو كافر ظالم يرضى أن يعبد مع ال آلهة أخرى باطلة زائفة‪..‬‬
‫وسيأتي عما قريب كلم العلمة الشنقيطي رحمه ال في صفات من يستحق وحده التشريع من‬
‫تفسيره القيم "أضواء البيان"‪ ..‬ومن ذلك ما قاله رحمه ال ‪ -‬بعد أن ذكر قوله َتعَالى ‪{ :‬وَل تَدْعُ‬

‫‪221‬‬
‫جعُونَ}[القصص‪:‬‬
‫حكْمُ َوِإلَيْهِ ُترْ َ‬
‫جهَهُ لَهُ الْ ُ‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ إِلّ وَ ْ‬
‫خرَ ل ِإلَهَ إِلّ ُهوَ كُلّ َ‬
‫مَ َع اللّهِ ِإَلهًا آ َ‬
‫‪-]88‬قال ‪( :‬فهل في الكفرة الفجرة المشرّعين من يستحق أن يوصف بأنه الله الواحد؟؟ وأن‬
‫كل شيء هالك إلّ وجهه؟ وأن الخلئق يرجعون إليه؟ تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن يوصف‬
‫أخس خلقه بصفاته‪.‬‬
‫ش َركْ بِهِ‬
‫ي اللّهُ وَحْ َدهُ كَ َف ْرتُمْ َوإِنْ يُ ْ‬
‫عَ‬‫ومن اليات الدالة على ذلك قوله تعالى‪َ { :‬ذِلكُمْ بَِأنّهُ إِذَا دُ ِ‬
‫حكْمُ ِللّهِ ا ْل َعلِيّ ا ْل َكبِيرِ}[غافر‪.]12 :‬‬
‫ُت ْؤ ِمنُوا فَالْ ُ‬
‫فهل في الكفرة الفجرة المشرّعين للنظم الشيطانية من يستحق أن يوصف في أعظم كتاب‬
‫سماوي بأنه العلي القدير؟ سبحانك ربنا وتعاليت عن كل ما ل يليق بكمالك وجللك‪..‬‬
‫خ َرةِ‬
‫حمْدُ فِي الُولَى وَال ِ‬
‫ومن اليات الدالة على ذلك قوله تعالى‪{ :‬وَ ُه َو اللّهُ ل ِإلَهَ إِلّ ُهوَ لَهُ الْ َ‬
‫غ ْيرُ‬
‫س ْرمَدًا ِإلَى َيوْمِ الْ ِقيَامَةِ مَنْ ِإلَهٌ َ‬
‫عَل ْيكُ ُم الّليْلَ َ‬
‫ل اللّهُ َ‬
‫جعَ َ‬
‫جعُونَ‪ ،‬قُلْ َأ َرأَ ْيتُمْ إِنْ َ‬
‫حكْمُ َوِإَليْهِ ُترْ َ‬
‫ولَهُ الْ ُ‬
‫س ْرمَدًا ِإلَى َيوْمِ الْ ِقيَامَةِ مَنْ‬
‫عَل ْيكُمُ ال ّنهَارَ َ‬
‫ل اللّهُ َ‬
‫جعَ َ‬
‫س َمعُونَ قُلْ َأ َرَأ ْيتُمْ إِنْ َ‬
‫اللّهِ َي ْأتِيكُمْ ِبضِيَاءٍ أَفَل تَ ْ‬
‫س ُكنُوا‬
‫جعَلَ َلكُ ْم الّليْلَ وَالنّهَارَ ِلتَ ْ‬
‫ح َمتِهِ َ‬
‫صرُونَ َومِنْ َر ْ‬
‫س ُكنُونَ فِيهِ أَفَل ُت ْب ِ‬
‫غ ْيرُ اللّهِ يَ ْأتِيكُمْ ِبَليْلٍ تَ ْ‬
‫ِإلَهٌ َ‬
‫ش ُكرُونَ}[القصص‪.]73-70 :‬‬
‫ضلِهِ َوَل َعّلكُمْ تَ ْ‬
‫فِيهِ َوِل َت ْب َتغُوا مِنْ َف ْ‬
‫فهل في مشرعي القوانين الوضعية من يستحق أن يوصف بأن له الحمد في الولى والخرة‬
‫وأنه هو الذي يصرف الليل والنهار مبينا بذلك كمال قدرته وعظمة إنعامه على خلقه؟؟ سبحان‬
‫خالق السماوات والرض‪ ،‬جل وعل أن يكون له شريك في حكمه أو عبادته أو ملكهة) انتهى‬
‫كلمه رحمه ال‪.‬‬
‫فإن كان هذا المير ومجلس أمته يستحق أن يوصف بشيء من هذه الصفات ‪ -‬ولن يكون ذلك‬
‫أبدا‪ -‬فليتول السلطة التشريعية وليقل أنا ربكم العلى‪ ،‬وإذا علم علما جازما يقينا بأنه أخس‬
‫وأحقر وأتفه وأذل من أن يتصف بشيء من ذلكة فلينخلع من التشريع وليدعه وليرُجعه وليردّه‬
‫لمن هذه صفاته سبحانه وتعالى عما يشركونة‬
‫ليس له أن يشرع إن هو إل وحي يوحى وإذا كان صلوات ال وسلمه‬ ‫وإذا كان رسول ال‬
‫عليه يمنع عما هو أهون بكثير من التشريع وهو تسعير السلع كما صحّ في الحديث الذي رواه‬
‫عهْدِ رَسُولِ اللّهِ‬
‫علَى َ‬
‫س ْعرُ َ‬
‫أبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم عَنْ َأنَسِ قَالَ‪ ( :‬غَل ال ّ‬
‫ط الرّازِقُ ِإنّي‬
‫س ّعرُ الْقَابِضُ ا ْلبَاسِ ُ‬
‫ن اللّهَ ُهوَ ا ْلمُ َ‬
‫س ّعرْ َلنَا فَقَالَ إِ ّ‬
‫س ْعرُ فَ َ‬
‫ل اللّهِ قَدْ غَل ال ّ‬
‫فَقَالُوا يَا رَسُو َ‬
‫ظَلمَةٍ فِي دَمٍ وَل مَالٍ)‪.‬‬
‫طُل ُبنِي ِبمَ ْ‬
‫لرْجُو أَنْ َألْقَى َربّي َوَل ْيسَ أَحَدٌ يَ ْ‬
‫َ‬

‫‪222‬‬
‫وخوفه من التسعير‪ ،‬ثم تأمل حال من ل يصح أن يقارنوا أو يقاسوا‬ ‫ل اللّهِ‬
‫فتأمل ورع رَسُو ِ‬
‫بنعله؛ من عبيد الياسق الذين لم يجعلوا من أنفسهم مسعرين فقط كما في قانون رقم (‪ )10‬لسنة‬
‫م في شأن تحديد أسعار بعض السلع مادة رقم (‪ )3‬و(‪ )6‬وغيرها‪ ،‬بل يقننون العقوبات‬ ‫‪1979‬‬

‫لمن خالف تسعيرهم كما في المواد (‪ )13‬و(‪ )15‬وغيرها من قانونهم هذا‪ ،‬ليس هذا فقط‪ ،‬بل‬
‫جعلوا من أنفسهم مشرعين وأربابا مع ال كما رأيت‪ ..‬وسترى المزيدة فتبّا لهم وسحقا‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬ولقد عظموا مشرّعهم ومعبودهم أكثر من تعظيم قريش آلهتهاة‪ .‬فقد حكموا كما في المادة‬
‫رقم (‪ )25‬من جرائم أمن الدولة بالسجن مدة خمس سنوات لكل من (عاب في ذات المير)‬
‫بأنه ( عاب آلهتنا وديننا) فتعسا لمن‬ ‫وقريش لم تصل إلى هذا الحد‪ ،‬حينما وصفوا رسول ال‬
‫كان كفار قريش أقلّ منه ضلل‪.‬‬
‫شرَعُوا َلهُمْ مِنْ‬
‫ش َركَاءُ َ‬
‫وأخيرا فإن ال يبطل كل تشريع غير تشريعه فيقول مستنكرا {أَمْ َلهُمْ ُ‬
‫ضيَ َب ْي َنهُمْ َوإِنّ الظّاِلمِينَ َلهُمْ عَذَابٌ َألِي ٌم }[الشورى‪:‬‬
‫الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِ ِه اللّهُ َوَلوْل َكِلمَةُ الْفَصْلِ لَ ُق ِ‬
‫ش َركَاءُ}‪ :‬أي ألهم؟ والهمزة للتقريع‪.‬‬
‫‪{ ،]21‬أَمْ َلهُمْ ُ‬
‫فال عز وجل يخص نفسه العظيمة بالتشريع ويبطل جميع الشركاء الذين أشركهم الناس معه‬
‫ويبطل تشريعاتهم وينكر على الناس اتباعها‪..‬‬
‫وياسق القوم يأبى ويعاند ويقول‪( :‬السلطة التشريعية يتولها المير ومجلس المة) ‪ُ{ -‬أفّ َلكُمْ‬
‫ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ} ‪ -‬ل جرم أن من رضي بتشريعهم وقبله ولم يكفر به‬
‫َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ‬
‫ويتبرأ منه فقد اتخذ هذا الثالوث وثنا وإلها‪ ،‬وجعله نِدّا ل تعالى‪..‬‬
‫ونذكّر هذين المشرعين‪ ،‬أعني (المير ومجلس أمته) بمصير واحد من المشرعين الغابرين‪،‬‬
‫‪:‬‬ ‫وهو ( عمرو بن لحي) أول من شرع لقريش عبادة الوثان وتسييب السوائب‪ ،‬قال النبي‬
‫صبَهُ فِي النّارِ) ‪ ،‬ولن ينفعك يومئذ يا عبد‬
‫جرّ ُق ْ‬
‫عيّ يَ ُ‬
‫خزَا ِ‬
‫حيّ الْ ُ‬
‫ع ْمرَو بْنَ عَا ِمرِ بْنِ لُ َ‬
‫( َرَأ ْيتُ َ‬
‫الياسق جيشٌ ول شرطةٌ ول (مباحث) ول سلطان‪ ،‬ول المادة رقم (‪ )45‬من ياسق الكفر التي‬
‫تقول ( ذات المير مصونة ل تُمس) ول المادتان رقم (‪ )23‬و(‪ )24‬من قوانين جرائم أمن الدولة‬
‫التي تقضي بإعدام كل من عرض حياة المير أو حريته للخطر أو اعتدى بالقوة على السلطات‬
‫التي يتولها‪ ..‬ول غيرها من المواد‪ ..‬فارجع إلى دين ال َتعَالى وشرعه واكفر وتبرأ من‬
‫ياسقك هذا قبل أن يأتيك يوم تقول فيه {يَا َل ْي َتنِي لَمْ أُوتَ ِكتَابِيه َولَمْ أَ ْدرِ مَا حِسَابِيه يَا َل ْي َتهَا كَا َنتْ‬
‫سلْطَانِيه}[الحاقة‪.]29-25 :‬‬
‫عنّي ُ‬
‫عنّي مَالِيه َهَلكَ َ‬
‫غنَى َ‬
‫ضيَةَ مَا أَ ْ‬
‫الْقَا ِ‬

‫‪223‬‬
‫] ما هو الدين الذي يحترمه ويدين به الدستور؟؟ وبالتالي كل من احترم‬ ‫‪2‬‬ ‫[‬
‫الدستورة إنه ليس السلم‪.‬‬
‫جاء في المادة رقم (‪ )6‬من الياسق الكويتي‪ ( :‬نظام الحكم ديمقراطي) وعرّفوا هذا الدين الذي‬
‫هو (الديمقراطية) بقولهم في المادة نفسها‪( :‬السيادة فيه للمة مصدر السلطات جميعا)‪.‬‬
‫ح ْكمُهُ ِإلَى اللّهِ}[الشورى‪ .]10 :‬ويقول‪{ :‬فَإِنْ‬
‫شيْءٍ فَ ُ‬
‫خ َتلَ ْفتُمْ فِيهِ مِنْ َ‬
‫فال عز وجل يقول‪َ { :‬ومَا ا ْ‬
‫خ ْيرٌ َوأَحْسَنُ‬
‫خرِ َذِلكَ َ‬
‫شيْءٍ َفرُدّوهُ ِإلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِنْ كُنتُمْ ُت ْؤ ِمنُونَ بِاللّهِ وَا ْل َيوْمِ ال ِ‬
‫عتُمْ فِي َ‬
‫َتنَازَ ْ‬
‫حكْمُ إِلّ ِللّهِ}[يوسف‪.]40 :‬‬
‫تَ ْأوِيلً}[النساء‪ .]59 :‬ويقول ‪{ :‬إِنْ الْ ُ‬
‫حكْمُ إِلّ للمة)ة (وهي مصدر السلطات جميعا)ً‪ ،‬أي ما‬
‫والدستور يقول وعبيده يقولون‪( :‬إِنْ الْ ُ‬
‫قالت المة عنه‪( :‬حرام) فهو حرام‪ ،‬وما قالت ‪( :‬حلل) فهو حلل‪ ..‬هذا ما تقرره هذه‬
‫للناس‬ ‫المادة‪..‬وهو دين الدستور وهذا الدين ليس دين السلم الذي بعث ال به نبيه محمدا‬
‫غ ْيرَ الِسْلمِ دِينًا َفلَنْ يُ ْقبَلَ ِمنْهُ وَ ُهوَ فِي‬
‫كافة والذي ل يقبل ال دينا سواه‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬ومَنْ َي ْبتَغِ َ‬
‫سرِينَ}[آل عمران‪ ،]85 :‬وإنما هو (دين ديمقراط) الذي يُعرّفونه بالديمقراطية‪..‬‬
‫خ َرةِ مِنْ الْخَا ِ‬
‫ال ِ‬
‫وهو حكم الكثرية أي أن التشريع يكون بما يراه ويهواه أكثر الناس‪ ،‬وال رب الناس يقول‪:‬‬
‫صتَ ِب ُم ْؤ ِمنِينَ}[يوسف‪ ،]103 :‬ويقول سبحانه في أكثر من آية في كتابه‬
‫ح َر ْ‬
‫{ َومَا َأ ْك َثرُ النّاسِ َوَلوْ َ‬
‫ش ُكرُونَ}[ غافر‪،]61 :‬‬
‫{ َوَلكِنّ َأ ْك َثرَ النّاسِ ل َي ْعَلمُونَ}[الجاثية‪ ،]26 :‬ويقول‪َ { :‬وَلكِنّ َأكْثرَ النّاسِ ل يَ ْ‬
‫ويقول‪َ { :‬ولَكِنّ َأ ْك َثرَ النّاسِ ل ُي ْؤ ِمنُونَ}[ غافر‪ ،]59 :‬ويقول‪َ { :‬فَأبَى َأ ْك َثرُ النّاسِ إِلّ كُفُورًا}[‬
‫ش ِركُونَ}[ يوسف‪ ،]106 :‬ويقول‪:‬‬
‫الفرقان‪ ،]50 :‬ويقول‪َ { :‬ومَا ُي ْؤمِنُ َأ ْك َثرُهُمْ بِاللّهِ إِلّ وَهُمْ مُ ْ‬
‫{ َوَأ ْكثَرُهُمْ ِللْحَقّ كَارِهُونَ}[المؤمنون‪ ،]70:‬ويقول‪{ :‬بَلْ َأ ْك َثرُهُمْ ل َيعْ ِقلُونَ}[العنكبوت‪ ،]63 :‬ويقول‪:‬‬
‫ل اللّهِ إِنْ َي ّت ِبعُونَ إِلّ الظّنّ َوإِنْ هُمْ إِلّ‬
‫سبِي ِ‬
‫لرْضِ ُيضِلّوكَ عَنْ َ‬
‫{ َوإِنْ تُطِعْ َأ ْك َثرَ مَنْ فِي ا َ‬
‫خ ُرصُونَ}[ النعام‪.]116 :‬‬
‫يَ ْ‬
‫خلَقَ وَ ُه َو اللّطِيفُ‬
‫هذا قول ال رب الناس وحكمه العادل في أكثرهم وهو خالقهم {أَل َي ْعلَمُ مَنْ َ‬
‫خبِيرُ}[ الملك‪.]14 :‬‬
‫الْ َ‬
‫بالحكم بين المة بما أنزل إليه وحذره من اتباع أهوائها وآراءها فقال‪:‬‬ ‫• وال قد أمر نبيه‬
‫ل اللّهُ‬
‫حكُمْ َب ْي َنهُمْ ِبمَا أَنزَلَ اللّهُ وَل َت ّتبِعْ أَ ْهوَاءَهُمْ وَاحْ َذرْهُمْ أَنْ يَ ْف ِتنُوكَ عَنْ َب ْعضِ مَا أَنزَ َ‬
‫{ َوأَنِ ا ْ‬
‫ِإَل ْيكَ}[المائدة ‪.]49 :‬‬

‫‪224‬‬
‫ومع ذلك فالياسق يقول‪ ( :‬المة مصدر السلطان جميعا )‪.‬‬
‫ولحظ كلمة (بعض) التي حذر ال منها في الية‪ ..‬وكلمة (جميعا) في ياسقهم الكفري‪..‬‬
‫فهل يوجد وقاحة أشنع من هذه الوقاحة؟ وهل بعد هذه المحادّة لشرع ال من محادّة؟ وهل فوق‬
‫هذا التعدي لحدود ال َتعَالى شيء؟؟‪.‬‬
‫ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ} [ النبياء ‪.]67 :‬‬
‫{ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ‬
‫وأخيرا فإن ال عز وجل قد بين للمة بل للخلق الضعفاء المهازيل جميعا حدودهم‪ ،‬وأعلمهم‬
‫خلْقُ‬
‫بأن الذي خلق ورزق وصوّر وفطر سبحانه‪ ..‬هو وحده الذي يحكم ويشرع ويأمر {أَل لَهُ الْ َ‬
‫ك اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ} [العراف ‪.]54 :‬‬
‫ل ْمرُ َتبَا َر َ‬
‫وَا َ‬
‫يقول الشنقيطي في أضواء البيان (‪( :)7/163‬اعلم أن ال جل وعل بين في آيات كثيرة‪ ،‬صفات‬
‫من يستحق أن يكون الحكم له‪ ،‬فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة ويقابلها مع صفات‬
‫البشر المشرّعين للقوانين الوضعية‪ ،‬فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع‪ ،‬سبحان ال‬
‫وتعالى عن ذلك‪ ،‬فإن كانت ل تنطبق عليهم ولن يكون‪ ،‬فليتبع تشريعهم وإن ظهر يقينا أنهم‬
‫أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك‪ ،‬فليقف بهم عند حدهم‪ ،‬ول يجاوز بهم إلى مقام الربوبية‪،‬‬
‫سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته أو حكمه أو ملكه‪ ،‬فمن اليات القرآنية التي‬
‫ح ْكمُهُ ِإلَى‬
‫شيْءٍ فَ ُ‬
‫خ َتلَ ْفتُمْ فِيهِ مِنْ َ‬
‫أوضح بها َتعَالى صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا { َومَا ا ْ‬
‫عَليْهِ َت َو ّك ْلتُ َوِإَليْهِ ُأنِيبُ‬
‫اللّهِ}[الشورى‪ ،]10 :‬ثم قال مبينا صفات من له الحكم‪َ { :‬ذِلكُمْ اللّهُ َربّي َ‬
‫ل ْنعَامِ َأ ْزوَاجًا يَ ْذ َر ُؤكُمْ فِيهِ َل ْيسَ‬
‫سكُمْ َأ ْزوَاجًا َومِنْ ا َ‬
‫جعَلَ َلكُمْ مِنْ َأنْفُ ِ‬
‫لرْضِ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫طرُ ال ّ‬
‫فَا ِ‬
‫لرْضِ َيبْسُطُ ال ّرزْقَ ِلمَنْ يَشَاءُ َويَقْ ِدرُ ِإنّهُ‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫سمِيعُ ال َبصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ ال ّ‬
‫شيْءٌ وَ ُهوَ ال ّ‬
‫َك ِم ْثلِهِ َ‬
‫علِيمٌ}[الشورى‪.]12-10:‬‬
‫شيْءٍ َ‬
‫ِبكُلّ َ‬
‫فهل في الكفرة الفجرة المشرّعين للنظم الشيطانية‪ ،‬من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي‬
‫تفوض إليه المور‪ ،‬ويُتوكل عليه‪ ،‬وأنه فاطر السماوات والرض أي خالقها على غير مثال‬
‫شيْءٌ وَ ُهوَ‬
‫سابق‪ ،‬وأنه هو الذي خلق البشر أزواجا‪ ،‬وخلق لهم أزواج النعام‪ ..‬وأنه {َل ْيسَ َك ِم ْثلِهِ َ‬
‫لرْضِ}‪ ،‬وأنه الذي { َيبْسُطُ الرّزْقَ ِلمَنْ يَشَاءُ‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫سمِيعُ البَصِيرُ}‪ ،‬وأنه {لَهُ مَقَالِيدُ ال ّ‬
‫ال ّ‬
‫علِيمٌ}‪.‬‬
‫شيْءٍ َ‬
‫َويَقْ ِدرُ} أي يضيقه على من يشاء وهو { ِبكُلّ َ‬
‫فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يُشرّع ويُحلّل ويُحرّم‪ ،‬ول تقبلوا تشريعا‬
‫من كافر خسيس حقير جاهل‪ ).‬انتهى كلمه من تفسير سورة الشورى رحمه ال تعالى‪..‬‬

‫‪225‬‬
‫حتى غدوتم ضحكة الصبيان‬ ‫ال أكبر هتكت أستاركم‬
‫ح ْكمِهِ‬
‫ش ِركُ فِي ُ‬
‫فليس لحد كائنا من كان أن يشاركه سبحانه في حكمه‪ ..‬قال تعالى‪{ :‬وَل يُ ْ‬
‫ح ْكمِهِ} [الرعد‪.]41:‬‬
‫حكُمُ ل ُمعَ ّقبَ لِ ُ‬
‫أَحَدًا}[الكهف‪ .]26 :‬ول أن يعقب عليه‪ ،‬قال سبحانه‪{ :‬وَاللّهُ يَ ْ‬
‫ول أن يختار‪ ..‬فكما أن ليس لهم الخيرة في الخلق والقدر‪ ..‬أي في إرادة ال الكونية‪ .‬قال‬
‫ش ِركُونَ}‬
‫عمّا يُ ْ‬
‫ن اللّهِ َو َتعَالَى َ‬
‫سبْحَا َ‬
‫خ َي َرةُ ُ‬
‫ختَارُ مَا كَانَ َلهُمْ الْ ِ‬
‫خلُقُ مَا يَشَاءُ َويَ ْ‬
‫تعالى‪َ { :‬و َربّكَ يَ ْ‬
‫[القصص‪ .]68:‬فكذلك ل تجوز ول تحل لهم الخيرة في المر والتشريع والحكم والقضاء‪..‬بل‬
‫الواجب على كل من يدعي ويزعم اليمان؛ أن يستسلم وينقاد مختارا لرادة ال الشرعية كما‬
‫ك اللّهُ‬
‫ل ْمرُ َتبَا َر َ‬
‫خلْقُ وَا َ‬
‫أنه منقاد ل محالة شاء أم أبى لرادة ال الكونية‪ .‬قال سبحانه‪{ :‬أَل لَهُ الْ َ‬
‫َربّ ا ْلعَاَلمِينَ} [العراف ‪ .]54 :‬وقال جل وعز‪َ { :‬ومَا كَانَ ِل ُم ْؤمِنٍ وَل ُم ْؤ ِمنَةٍ إِذَا َقضَى اللّهُ‬
‫ل ضَللً‬
‫ص اللّهَ َورَسُولَهُ فَقَ ْد ضَ ّ‬
‫خ َي َرةُ مِنْ َأ ْمرِهِمْ َومَنْ َيعْ ِ‬
‫َورَسُولُهُ َأ ْمرًا أَنْ َيكُونَ َلهُمْ الْ ِ‬
‫ُمبِينًا}[الحزاب ‪ .]36 :‬هذا إن كانوا يزعمون اليمان‪ ..‬وإل فلهم الخيار في ترك سبيل الجنة‬
‫وسلوك سبيل النار‪..‬‬
‫وبعد‪ ..‬فليختر كل امرئ لنفسه‪ :‬سبيل البرار أم سبيل الفجارة دين ال الخالص‪ ..‬أم دين‬
‫ن الرّشْدُ مِنْ ال َغيّ َفمَنْ َيكْ ُفرْ بِالطّاغُوتِ َو ُي ْؤمِنْ بِاللّهِ فَقَدْ‬
‫الدستور؟ {ل ِإ ْكرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ َت َبيّ َ‬
‫سكَ بِا ْل ُع ْر َوةِ ا ْل ُوثْقَى} [البقرة ‪.]256 :‬‬
‫س َتمْ َ‬
‫اْ‬
‫ويحترمون ويحمون الملل والنحل الباطلة كلها‪ ،‬أما دين السلم‪ ..‬فعليه السلم‪..‬‬
‫واعلم أن دين الديمقراطية الكفري هذا الذي يظهرون بالدعوة إليه؛ للضحك على المغفلين من‬
‫الناس‪ ،‬ليس هو دين الدستور الوحيد‪ ..‬بل إن هذا الطاغوت قد جمع كل ملة ودين ومذهب‬
‫وشريعة فكفلها وحملها وأطلق العنان والحرية لها‪ .‬ولم يستثن من ذلك دين باطل‪ ..‬فهو ل يطلق‬
‫العنان فقط لليهود وعباد الصليب أو يحمي كتبهم المحرفة وما تحويه من شرك وباطل‪ ..‬بل‬
‫يحمي عبادة البقر والحجر والشجر وعبادة النيران والفئران‪ ،‬وعبادة بوذا وغاندي وماوتسي‪..‬‬
‫بل يحمي السيك والهندوس والبهائيين والسماعليين والرافضة وغيرهم من أصحاب الملل‬
‫الباطلة والنحل الخبيثة‪..‬‬
‫وإليك الدلة على ذلك من ياسقهم نفسه‪:‬‬
‫جاء في المادة (‪ )35‬من ياسقهم ما نصه ‪( :‬حرية العتقاد مطلقة وتحمي المادة حرية القيام‬
‫بشرائع الديان طبقا للعادات المرعية على أن ل يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الداب)‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫وتأمل قولهم (الديان) بصيغة الجمع المعرف باللف واللم‪ :‬أي كل الديان بل استثناء‪ .‬ولم‬
‫يقيدوا ذلك بأن ل يُخل بالتوحيد مثل أو يخدش شرائع السلم ويضادها‪ ،‬وإنما فقط أن ل‬
‫يخالف عاداتهم البالية‪ ،‬وسوف ترى فيما يأتي أن العرف والعادة عندهم بعد القانون مقدم دوما‬
‫على شرع ال َتعَالى هذا إن ذكروا الشرع أصلً‪..‬وإل فالصل عندهم عدم اللتفات إليه‪ ،‬كما‬
‫هو الحال هنا فإنهم لم يضعوا له اعتبارا أو وجودا‪.‬‬
‫ثم اشترطوا عدم الخلل بالنظام العام وهذا أهم ما يعنيهم‪ ،‬ومعناه استقرار عروشهم ونفوذ‬
‫قوانينهم وأنظمتهم‪ ،‬أما قولهم ( أو ينافي الداب) فإنها كلمة هلمية يستفيدون منها كيفما شاءوا‬
‫فلو وقف مسلم مثلً وبيّن للناس بطلن دين الصليب أو دين الروافض وذكر بعض دعاة‬
‫الضللة منهم‪ ،‬وسفه أحلمهم وحذر الناس من باطلهمة لمكنهم بهذه العبارة أن ينالوا منه إن‬
‫شاءوا ما يشتهون‪ ..‬وهكذا شأنهم في أكثر قوانين ياسقهم‪ ..‬يستعملون الكلمات المطاطية التي‬
‫يديرونها بأهوائهم كما يشتهون‪ ..‬ول يقيدونها بالدين لئل يقعوا في الحرج الذي ذكر ال َتعَالى‬
‫وجوده عند غير المؤمنين‪ ،‬والذي صرحوا به وبكل وضوح فيما تقدم‪ ..‬وفي الوقت نفسه تنطلي‬
‫قوانينهم هذه على السفهاء والمغفلين فتجد في المة من يقول بأنها ل تعارض الدين ول حدوده‪.‬‬
‫تبدو لهم ليسوا بأهل معــان‬ ‫والنـاس أكثرهم فأهل ظواهر‬
‫فهم القشور وبالقشور قوامهم واللب حظ خلصة النسـان‬
‫ومن أخطر وأكفر ما تحويه هذه المادة هو فتحهم لباب الردة بتبديل دين السلم لمن شاء متى‬
‫شاء دون أي عقاب‪ ..‬بل في ظل حماية قانونهم الكافر الخبيث‪ ،‬وذلك ما تضمنه قولهم في هذه‬
‫المادة ( حرية العتقاد مطلقة‪ )..‬ولن تجد أبدا في قوانينهم هذه من أولها إلى آخرها عقوبة ولو‬
‫تافهة لمن بدل دينه‪ ..‬بل هاهنا فتح لباب الردة ليخرج الناس منه أفواجا في ظل حماية الدولة‬
‫يقول ‪( :‬مَنْ بَدّلَ دِينَهُ فَا ْق ُتلُوهُ) ‪ .‬فرسول رب العالمين يقول (ا ْق ُتلُوهُ)‪،‬‬ ‫وقوانينها مع أن النبي‬
‫وياسق الكفر يقول‪( :‬له الحرية المطلقة)‪،‬‬
‫ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ}‪.‬‬
‫{ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ‬
‫فلو أن أي منتسب للسلم ارتد وأصبح يهوديا أو نصرانيا أو سيكيا أو عابدا للبقر لما وجد من‬
‫قانونهم الكفري هذا إلّ الحماية والتأييد والحرية‪ ..‬وليس لحد كائنا من كان أن يقيم عليه حدّ ال‬
‫َتعَالى بالقتل‪ ،‬وإن قام بذلك أحد‪ُ ،‬قتِل وأُخِذ بالكافر‪ ..‬فالناس عندهم سواء مسلمهم ومجرمهم في‬
‫سلِمٌ ِبكَا ِفرٍ) ‪.‬‬
‫يقول‪( :‬ل يُ ْقتَلُ مُ ْ‬ ‫كل شيء مع أن النبي‬

‫‪227‬‬
‫فالشريعة تحدد وتنظم وتحفظ دين ال وهم يريدونها عوجا وغوغائية‪ ..‬وإليك ما يدل على ذلك‬
‫أيضا‪:‬‬
‫جاء في مادة (‪ )29‬من ياسقهم الشركي‪ ( :‬الناس متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات‬
‫العامة ل تمييز في ذلك بسبب الجنس أو الصل أو اللغة أو الدين)‪.‬‬
‫خبِيثِ} [المائدة‪:‬‬
‫ج َبكَ َك ْث َرةُ الْ َ‬
‫طيّبُ َوَلوْ أَعْ َ‬
‫خبِيثُ وَال ّ‬
‫س َتوِي الْ َ‬
‫ال الخالق البارئ يقول‪{ :‬قُلْ ل يَ ْ‬
‫ظُلمَاتُ وَل النّورُ وَل الظّلّ وَل‬
‫عمَى وَا ْل َبصِيرُ وَل ال ّ‬
‫س َتوِي الَ ْ‬
‫‪ .]100‬ويقول سبحانه ‪َ { :‬ومَا يَ ْ‬
‫سمِعٍ مَنْ فِي الْ ُقبُورِ}‬
‫سمِعُ مَنْ يَشَاءُ َومَا َأ ْنتَ ِبمُ ْ‬
‫ن اللّهَ يُ ْ‬
‫ل ْموَاتُ إِ ّ‬
‫حيَاءُ وَل ا َ‬
‫س َتوِي الَ ْ‬
‫حرُورُ َومَا يَ ْ‬
‫الْ َ‬
‫جنّةِ} [الحشر ‪.]20 :‬‬
‫س َتوِي َأصْحَابُ النّارِ َوَأصْحَابُ الْ َ‬
‫[فاطر ‪ .]22-19 :‬ويقول سبحانه ‪{ :‬ل يَ ْ‬
‫س َتوُونَ} [السجدة‪:‬‬
‫ال يحكم بهذا بعدله ورحمته ويقول‪{ :‬أَ َفمَنْ كَانَ ُم ْؤ ِمنًا َكمَنْ كَانَ فَاسِقًا ل يَ ْ‬
‫‪ .]18‬وياسق الكفر وعبيده يقولون‪( :‬الناس متساوونة)‬
‫ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ}‬
‫{ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ‬
‫جعَلُ‬
‫وهذا حكم سوء‪ ،‬حكم الجاهلية الذي أنكره ال َتعَالى على المشركين فقال تعالى‪{ :‬أَ َفنَ ْ‬
‫ح ُكمُونَ} [القلم ‪ .]36-35 :‬وعبيد الياسق ضاهوا أولئك‬
‫ج ِرمِينَ مَا َلكُمْ َك ْيفَ تَ ْ‬
‫سِلمِينَ كَا ْلمُ ْ‬
‫ا ْلمُ ْ‬
‫الجاهلين في حكمهم هذا‪ ،‬وشابهوهم كما شابهوا النصارى في عقيدة التثليث‪ ،‬ومن قبل شابهوا‬
‫اليهود في أخذهم ببعض الكتاب ونبذهم بعضه وشابهوا التتار في مصادر ياسقهم‪ ،‬قد جمعوا كل‬
‫شر وباطل‪..‬‬
‫ثم يقول ال في السورة نفسها منكرا على المشركين ذلك الحكم العوج‪{ :‬أَمْ َلكُمْ ِكتَابٌ فِيهِ‬
‫خ ّيرُونَ} [القلم ‪ .]38-37 :‬ويُجيب عبيد الياسق‪( :‬نعم‪ ،‬عندنا كتاب‬
‫تَ ْدرُسُونَ إِنّ َلكُمْ فِيهِ َلمَا تَ َ‬
‫ندرسه ونُدرسه في جامعاتنا ومدارسنا ونبجّله ونقدسه ونحترمه ونحميه ونعاقب من تهجم عليه‬
‫أو كفر به‪ ..‬نعم‪ ،‬ونحكم به بجنب ما نشتهي ونتخير‪ ،‬إنه الدستور الذي شرع لنا أن ل فرق بين‬
‫الناس في الحقوق والواجبات بسبب الدين)‪.‬‬
‫ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ}‬
‫{ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ‬
‫وكانت النعل لها جاهزة‬ ‫إن عادت العقرب عدنا لها‬
‫] ما هو قرآنهم الذي يعظمونه ويقدسونه ويرجعون كل شيء إلى حدوده؟؟ هل هو كتاب‬ ‫‪3‬‬ ‫[‬
‫ال تعالى ؟؟ كلّ‪ ،‬بل الدستور‪..‬‬
‫جاء في المادة السابقة رقم (‪ )5‬أن تشريع أميرهم يكون (وفقا للدستور)‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫وجاء في المادة (‪ )53‬أيضا‪( :‬السلطة القضائية تتولها المحاكم باسم المير في حدود الدستور)‪.‬‬
‫وهكذا لو تصفحت قوانينهم النتنة ونظرت في موادها‪ ،‬لوجدت هذه العبارات تتكرر دوما‬
‫وبكثرة‪ - :‬في حدود القانون ‪ -‬وفقا للقانون ‪ -‬وفقا لقواعد القانون ‪ -‬بموجب القانون ‪ -‬بناء‬
‫على القانون ‪ -‬طبقا للقانون ‪ -‬يُعيّن القانون ‪ -‬يقضي القانون ‪ -‬ما ينص عليه القانون ‪-‬‬
‫الحوال التي يقرها القانون ة ‪ -‬وفقا للدستور ‪ -‬بموجب الدستور ‪ -‬في حدود الدستور‪.‬‬
‫فهم يرجعون كل تشريعاتهم وكل أمور حياتهم لياسقهم هذا ويعظمونه ويقدسونه لدرجة أن كل‬
‫من تولى منصبا خبيثا في حكومتهم كأمير أو نائب أمير أو رئيس مجلس الوزراء أو عضوية‬
‫مجلس المة أو الوزارة فإنه لبد له أن يقسم على احترام كتابهم النتن هذا‪.‬‬
‫ولجل ذلك سموا هذا القسم باليمين الدستوريةة ونسميها نحن باليمين الشركية الطاغوتية‪ ..‬فهم‬
‫يقسمون على احترام هذا الياسق‪ ..‬ويعظمونه ويقضون ويحكمون ويشرعون كما قررته هاتان‬
‫المادتان وفقا لحدود الدستور‪.‬‬
‫وهكذا فل اعتبار عندهم بكتاب ال تعالى‪ ،‬ول وجود لحدوده في محاكمهم وقضائهم وتشريعاتهم‬
‫بل يضربون بها عرض الحائط ويتعدونها وقد قال تعالى‪ِ { :‬تلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَل َت ْعتَدُوهَا َومَنْ َي َتعَدّ‬
‫حُدُو َد اللّهِ فَُأ ْوَل ِئكَ هُمْ الظّاِلمُونَ} [البقرة ‪ .]229 :‬ويقول سبحانه ‪َ { :‬و ِت ْلكَ حُدُو ُد اللّهِ َومَنْ َي َتعَدّ‬
‫ظلَمَ نَفْسَهُ} [الطلق ‪ .]1 :‬ويقول عز وجل‪َ { :‬ومَنْ َيعْصِ اللّهَ َورَسُولَهُ َو َي َتعَدّ‬
‫حُدُو َد اللّهِ فَقَدْ َ‬
‫خلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا َولَهُ عَذَابٌ ُمهِينٌ} [النساء ‪ .]14 :‬ومع ذلك فإن عبيد الياسق يتعدون‬
‫حُدُو َدهُ يُدْ ِ‬
‫حدود ال ويقولون‪( :‬في حدود الدستور)‪.‬‬
‫ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ}؟‪..‬‬
‫{ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ‬
‫جزء يسير جملة الكفـران‬ ‫يا أمة قد صار من كفرانها‬
‫من ربه أمسى على اليمان‬ ‫وال ما يرضى بهذا خائف‬
‫خـــــلصة مــــا ســـبق‬
‫يتلخص لدينا مما سبق من فضائح عبيد القانون‪ ،‬أن دستورهم هذا قائم على الكفر والشرك‬
‫والزندقة واللحاد ومحاربة ال ورسوله ودينه‪..‬‬
‫• فهم ل يعترفون بال عز وجل ول بتشريعه‪ ..‬بل الكلمة الولى والخيرة ترجع إلى رأي‬
‫وهوى مشرّعهم‪ ..‬ويظهرون ويعلنون ‪ -‬كما رأيت ‪ -‬ويجاهرون بتحرجهم البالغ من الستسلم‬
‫لشرع ال وحكمه وحده‪..‬‬

‫‪229‬‬
‫• ل يقيمون وزنا لملة التوحيد ودين السلم‪ ..‬فهم يحترمون ويحمون جميع أديان الكفر‬
‫والشرك والوثنية وكل الملل الخبيثة التي تُضاد التوحيد وتنافيه وتحاربه‪ ،‬ويحمون طقوسها‬
‫الشركية ويدافعون عن كتبها وعقائدها الكفرية‪ ..‬ويساوون أهل السلم بأهل الوثان والجرام‪..‬‬
‫ويفتحون باب الردة على مصراعيه‪ ..‬بل ويعاقبون كل من حاول إغلقه ودرء الناس عنه‪..‬‬
‫• السلطان الحقيقي عندهم ليس ل َتعَالى كما أمر سبحانه وأوجب‪ ،‬وإنما للمة بفجّارها‬
‫وكفّارها وزناتها ولصوصها وأفّاكيها‪ ،‬وهي صاحبة السلطات جميعاة ويمثل أولئك الحـثالت‬
‫وغيرهم‪( :‬مجلس المة والمير وفقا للدستور)‪ .‬وهذا ثالوثهم الذي يقدسون ويعبدون‪..‬‬
‫• وكتابهم الذي يعظمونه ويقدسونه ويجلونه ويحكمونه ويقدمونه على كتاب ال هو (الدستور)‬
‫وقوانينه‪ ..‬أما القرآن فليس له اعتبار ول تقدير ول سلطان ول تحكيم‪ ..‬ول يأخذون منه حين‬
‫يأخذون للتلبيس على العباد‪ ،‬إلّ ما كان موافقا لهوائهم وشهواتهم‪( ..‬متمشيا مع مصالح البلد‬
‫‪ -‬الفاسدة‪ -‬وواقعها ‪ -‬النتن)‪.‬‬
‫من بعد هذا القول ذي البـطـلن‬ ‫فانظر إلى السلم كيف بقاؤه‬
‫لتهدمت منـه قــوى الركـان‬ ‫وال لول ال حافـظ دينــه‬
‫عافاك من (قانون) ذي بهتـــان‬ ‫فاحمـد إلهـك أيها السني إذ‬
‫ناقضة لصل طـهارة اليـمـان‬ ‫(قانونـهم) أحداث هذا العصر‬
‫تلك الريح من روحٍ ومن ريحــان‬ ‫(قانونهـم) ريـح المقاعـد أين‬
‫أمثلة كفرية من قوانينهم الخرى‬
‫يقول أحد الخبراء القانونين معترفا بتناقض وتخبط القانون‪ ( :‬لو أنك طلبت من عشرة خبراء‬
‫قانونيين أن يعرّفوا القانون‪ ،‬فعليك الستعداد لسماع أحد عشر تعريفا) أهـ‬
‫قبل أن نشرع بسرد أمثلة كفرية من قوانينهم الخرى‪ ،‬أعني المدني والتجاري والجزاء‬
‫وترقيعاتها‪ ..‬ننبه على أمر هام فنقول‪-:‬‬
‫اعلم أن علماء الصول المسلمين إذا تكلّموا في الحكام‪ ،‬ذكروا الحكم والحاكم والمحكوم فيه‪:‬‬
‫الذي هو فعل المكلف ‪ -‬والمحكوم عليه‪ ،‬أي المكلف نفسه‪.‬‬
‫والحكم عندهم‪ ( :‬خطاب ال تعالى المتعلق بأفعال المكلفين طلبا أو وضعا )‬
‫والطلب يشمل‪ :‬الواجب ( أو الفرض ) والمحرّم ( أو المحظور ) والمستحب والمكروه والمباح‬
‫( أو الجائز)‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫والوضع يشمل ‪ :‬الصحة والبطلن ( أو الفساد )‪..‬‬
‫والحاكم ‪ :‬هو ال تباركت أسماؤه كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود وغيره أن‬
‫حكَم وإليه الحُكم )‪.‬‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ ( :‬إن ال هو ال َ‬
‫وقد عرفت مما تقدم تفصيلة أن الحُكم عند عبيد الياسق هو‪ ( :‬خطاب أميرهم ومجلس أمته وفقا‬
‫لحدود وأهواء وثنهم الدستور )‪.‬‬
‫والحاكم عندهم ‪ :‬هو ثالوث ( المير ومجلس أمته والدستور )‪.‬‬
‫وهذا أمر قد قدمنا الدلئل عليه من دستورهم فل حاجة إلى العادة والتكرار‪ ..‬ولكن المر‬
‫الخطير الذي نريد التنبيه عليه هنا‪ ..‬أنهم قد صبغوا ووصفوا أحكامهم أيضا‪ ،‬بخطاب ال تعالى‬
‫للعباد في الحكام الشرعية من تكليف ووضع‪.‬‬
‫والمقلب لقوانينهم النتنة يجدهم يستفتحون المئات من موادهم بقولهم ‪ - :‬يحرم أو يحظر‪-‬‬
‫ويجب أو يفرض القانون ‪ ..‬يجوز أو ل يجوز ‪ -‬أو يباح ‪ -‬يصحّ ‪-‬أو يقع باطلً ‪ ..‬وهكذا ‪..‬‬
‫بوقاحة سافرة مكشوفة رغم أن ال تعالى يقول‪ { :‬ول تَقولوا لما تَصفُ ألس َن ُتكُم الكذبَ هذا حللٌ‬
‫وهذا حرامٌ لتفتروا على ال الكذبَ إنّ الذينَ يفترونَ على ال الكذبَ ل يُفلحون‪َ ،‬متَاعٌ َقلِيلٌ َوَلهُمْ‬
‫عَذَابٌ َألِيمٌ} [النحل ‪.]117 :‬‬
‫ثم اعلم أن من فضل ال َتعَالى ومنّه‪ ،‬أن جعل شريعته سبحانه كلها قائمة على درء المفاسد عن‬
‫العباد وجلب المصالح لهم‪ ..‬وحدّ علماء السلم الضروريات التي جاءت شريعة السلم لدرء‬
‫المفاسد عنها بستة أمور عليها قيام حياة الناس واستقامة مصالحهم‪ ،‬وإذا فقدت اختل نظام‬
‫حياتهم وعمت فيها الفوضى والفساد‪ ..‬وهي‪:‬‬
‫(‪)1‬الدين (‪ )2‬النفس (‪ )3‬العقل (‪ )4‬العرض (‪ )5‬المال (‪ )6‬النسب‪.‬‬
‫إذا علمت هذا ‪ ..‬بقي أن تعلم أن قوانينهم هذه تعمل جهارا نهارا على هدم وهدر وهتك وتضييع‬
‫هذه المور الضرورية وغيرها مما جاءت الشريعة لحفظه ودرء المفاسد عنه‪..‬‬
‫وإليك الدلة على ذلك من قوانينهم النتنة نفسها حتى تتعرف إلى حقارة وتفاهة التشريع الذي‬
‫يحكم به عبيد الياسق ‪:‬‬
‫أول‪ :‬عدوان قوانينهم على دين السلم واستخفافها بملة التوحيد وحمايتها للشرك والمشركين‪.‬‬
‫دين السلم أو ( التوحيد ) من أهم الضرورات التي جاءت الشريعة للمحافظة عليها ودرء‬
‫المفاسد عنها‪ ،‬والحاديث في التحذير من الشرك بأنواعه المختلفة أكثر من أن يتسع لها هذا‬

‫‪231‬‬
‫حتّى ل َتكُونَ ِف ْتنَةٌ َو َيكُونَ الدّينُ ُكلّهُ‬
‫المقام الضيق‪ ..‬وقدمنا فيما مضى قوله تعالى‪{ :‬وَقَا ِتلُوهُمْ َ‬
‫‪( :‬مَنْ بَدّلَ دِينَهُ فَا ْق ُتلُوهُ) ‪.‬‬ ‫ِللّهِ} [النفال ‪ .]39 :‬وقول النبي‬
‫أما موقف قوانين عبيد الياسق من هذه الضرورة الخطيرة‪ ..‬فقد تقدم بيان ذلك في المثال الثاني‬
‫من كفريات دستورهم بما يُغني عن إعادته‪ ،‬وملخصه أن القوم ل يقيمون اعتبارا لدين السلم‬
‫في قوانينهم‪ ..‬فلو قلّبت قوانينهم كلها من أولها إلى آخرها لما وجدت مادة واحدة أو نصف مادة‬
‫أو سطرا أو كلمة تحرم أو تمنع أو حتى تقول بكراهة الرتداد عن دين السلم أو تنص على‬
‫عقوبة ولو هزيلة لذلكة فتلك عندهم حرية‪ ،‬وليست بجريمة مطلقا‪.‬‬
‫( كان الدين مصدرا لكل‬ ‫‪11‬‬ ‫جاء في كتاب (الوسيط في شرح القانون الجزائي الكويتي) ص‬
‫أنواع السلوك فيما مضى‪ ،‬ولم يشذ التنظيم التشريعي عن ذلك‪ ،‬فكان العدوان على المقدسات‬
‫الدينية‪ ،‬معاقبا جزائيا‪ ،‬كما كان التظاهر بعدم التمسك بالشعائر المقدسة جرما يلحق مقترفه)‬
‫إلى أن قالوا في الصفحة نفسها‪( :‬وجاءت شرعة حقوق النسان التي أعلنتها المم المتحدة عام‬
‫تؤكد حرية العبادة وحرية التعبير عن الرأي‪ ،‬وقد أقرت الدول العربية هذه الشرعة‪،‬‬ ‫‪1948‬‬

‫وأعلنت قبولها بمبادئها‪ ،‬وهذا التطور في الراء انتهى إلى قصر رسالة القانون الجزائي على‬
‫معالجة الجريمة والمجرمين دون تجاوزها إلى قضايا أخرى تتجاوز أهدافه ولذلك فإنه ل‬
‫يتعرض للجرائم الدينية إل إذا تسببت في إحداث اضطراب في المن‪ ،‬أو جرحت مشاعر‬
‫الكثرية الدينية‪ )..‬إلى قوله ‪( :‬ل توجد نصوص قانونية تعاقب على عدم القيام بالشعائر‬
‫الدينية‪ ..‬الخ)‪ .‬والتعليق على هذه الزندقة المكشوفة يحتاج إلى مصنف وحده‪ ..‬والمقصود منه‬
‫أن يعرف الموحد؛ أنّ الردة عن الدين بأي صورة‪ ،‬مغلظة كانت أم غير مغلظة‪ ،‬ليست بجريمة‬
‫عندهم ول حتى جنحة‪ ،‬ول عقوبة عليها‪ ،‬بل هي حرية تحميها وتكفلها قوانينهم‪..‬‬
‫علَم أي دولة أخرى من دول الولياء من مكانه‪ ،‬يعتبر جنحة‬
‫علَمهم أو َ‬
‫بينما مجرد تنـزيل َ‬
‫دينارا‪.‬‬ ‫‪225‬‬ ‫تستوجب السجن ثلث سنوات وغرامة مالية قدرها‬
‫ومجرد جرح كلب مملوك للغير أو قرد أو خنزير يكفي لسجن النسان بسببه سنتين ويعاقب‬
‫روبية‪.‬‬ ‫‪2000‬‬ ‫بغرامة قدرها‬
‫علَمهم النتن ولجرح حيوان‬
‫وهذا يدلك على سفاهة قوانينهم هذه وخستها‪ ،‬فهي تعاقب لنزال َ‬
‫وإن كان مأمورا بقتله في دين ال تعالى‪ ،‬أما إقصاء الشريعة وإنزالها عن دفة الحكم وفصلها‬
‫عن الدنيا‪ ،‬وقتل الدين وإماتة العقيدة وهدمها فل عقوبة عليه ألبتّة ‪ ..‬بل إن في مواد قوانينهم ما‬

‫‪232‬‬
‫يحمي المرتدين والمشركين على اختلف مللهم ونحلهم بل والوثنيين كعباد بوذا وغيرهم‪ ،‬وقد‬
‫قدمنا أن من الدلة الواضحة على أنهم ل يقيمون أي اعتبار لدين السلم حمايتهم لكل العقائد‬
‫والديان الباطلة وحماية طقوسها الشركية وكتبها الباطلة التي هي حرب على توحيد ال َتعَالى‬
‫وطعن صريح في عقائد السلم النقية‪ ،‬فيحمون السيكي وإفكه‪ ،‬والبوذي وباطله‪ ،‬وعباد البقر‬
‫وشركياتهم‪ ،‬وكل ملة ونحلة خبيثة‪ .‬وهذا كله مضاد لدين ال وتوحيده الذي يقتضي ويوجب‬
‫البراءة من كل ملة باطلةة‬
‫وتقدمت المادة (‪ )35‬من ياسقهم والتي نصت على أن (حرية العتقاد مطلقة) فل بأس في ياسقهم‬
‫أن يرتد المسلم عن دينه فيصبح يهوديا أو نصرانيا أو وثنيا أو علمانيا أو شيوعيا‪ ..‬فهذه حرية‬
‫شخصية يكفلها قانونهم النتن‪ ،‬والواقع البائس أكبر شاهد على ذلك ‪..‬‬
‫إذا فقوانينهم حرب على التوحيد وهدر وتضييع لدين السلم وحماية للشرك وأهله‪..‬‬
‫ل تفسدوه (بياسق ) الشيطان‬ ‫يا قومنا ال في إسلمكم‬
‫ثانيا ‪ :‬تضييع قوانينهم للنفوس والدماء وتهوينها من شأن الجريمة والمجرمين‬
‫عصمت الشريعة السلمية دم المسلم فل يحل دمه إلّ بأمور محدودة منصوص عليها في‬
‫سلِمٍ إِلّ‬
‫الكتاب والسنّة‪ ..‬ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما‪( :‬ل يَحِلّ دَمُ ا ْم ِرئٍ مُ ْ‬
‫جمَاعَةِ)‪.‬‬
‫س‪ 1‬وَالتّا ِركُ لِدِينِهِ ا ْلمُفَارِقُ ِللْ َ‬
‫ب الزّانِي وَالنّ ْفسُ بِالنّفْ ِ‬
‫بِإِحْدَى ثَلثٍ ال ّث ّي ُ‬
‫• والثيب الزاني ‪ :‬هو المتزوج إذا زنا‪ ،‬وسيأتي فيما بعد بيان هذا وذكر قوانينهم التي تشجع‬
‫على الزنا والدعارة والفواحش‪ ،‬وأن شريعة ال َتعَالى تأمر بقتل الثيب إذا زنى وقوانينهم تحميه‬
‫وتقول‪ :‬ل يقتلة‬
‫سلِمٌ ِبكَا ِفرٍ) كما تقدم من حديث النبي‬
‫• والمقصود بالنفس نفس المؤمن الموحد (ول يُ ْقتَلُ مُ ْ‬
‫وهذا بالطبع مردود غير معتبر في قوانينهم التي تساوي بين المسلمين والمجرمين خلفا‬
‫لشريعة ال العادلة التي ل تقتل المسلم الموحد بالكافر النجس ومع ذلك فإذا وُجدت دولة السلم‬
‫فإن أهل العهد وأهل الذمة تُعصم دماؤهم‪ ،‬ليس السيك وعبدة البقر وبوذا وغيرهم من عبدة‬
‫الوثان‪ ،‬وكذا الروافض وأمثالهم فهؤلء ليسوا أهل ذمة وإنما المقصود بهم أهل الكتاب ومن‬
‫سن الصحابة بهم سنتهم‪ ،‬ول يعني عصم دمائهم أن يقتل المسلم بالكافر وإنما يعني إثم القاتل‬
‫سلِمِ )‬
‫صفُ ِديَةِ ا ْلمُ ْ‬
‫عند ال تعالى وتغريمه الدية‪ ،‬وديتهم نصف دية المسلم لحديث ( ِديَةُ المعاهد ِن ْ‬
‫رواه المام أحمد وغيره وهو حديث حسن‪ ،‬إل أن يكون قتل عمد فتضاعف الدية بدل القود كما‬

‫‪233‬‬
‫في مسند المام أحمد والدارقطني وغيرهما وهو صحيح من قضاء عثمان بن عفان ‪ ،‬ول‬
‫يساوون بالمسلمين كما في ياسق الكفر‪ ،‬وهذا كله إذا كانوا يدفعون الجزية عن يد وهم‬
‫صاغرون ول يعلنون أو يجاهرون بطقوس دينهم أو يظهرون صلبانهم أو كتبهم وشركياتهم‪..‬‬
‫ول يترفّعون على المسلمين أو حتى يساوون أنفسهم أو يتشبهون بهم وقد قال الفاروق لبي‬
‫موسى حينما كان واليا واتخذ كاتبا نصرانيا‪( :‬ل تؤمّنوهم وقد خوّنهم ال‪ ،‬ول تقرّبوهم وقد‬
‫أبعدهم ال ول تعزّوهم وقد أذلّهم ال) رواه البيهقي وهو صحيحة‬
‫هذا في حكم الفاروق وأمثاله من أولياء الرحمن أما في حكم أولياء ياسق الشيطان فهم أعزة‬
‫مُقدّمون مُبجّلون مع أنهم يسومون المسلمين أشد العذاب في كل مكان‪ ..‬ويستضعفونهم‬
‫ويستهزؤون بدين السلم ويطعنون بنبيه ويعلنون شركياتهم ويجاهرون بهاة‬
‫• والتارك لدينه‪ :‬هو المرتد‪ ،‬وقد تقدم بأنهم فتحوا باب الردة على مصراعيه وحرسوا ذلك‬
‫وحموه بقوانينهم الكافرة‪ ،‬ول تخفى حال بلد المسلمين اليوم على كل بصير فإن أنواع الردة‬
‫وأشكالها المختلفة في ظل هذه القوانين النتنة قد ملت كل مكان‪ ..‬سواء بترك شعائر السلم‬
‫وتعطيلها كليا أو بترك الصلة وجحدها أو بانتشار نواقض ( ل ِإلَهَ إِلّ ال) المختلفة من‬
‫الستهزاء والطعن في الدين وأوامره وغير ذلك مما هو مشتهر ومعروف‪ ..‬ول يلقى ذلك كله‬
‫من هذه القوانين وعبيدها إلّ الحماية والحراسة والتأييد‪..‬‬
‫ويلتحق بقتل المرتد قتل الساحر فقد ثبت الدليل على قتله من السنة لنه كافر‪ ..‬وهذا غير‬
‫موجود في قوانينهم طبعا لن السحر أصبح فنّا من الفنون العصرية‪ ..‬أما الرقى القرآنية‬
‫والعلجات النبوية الشرعية فهي عندهم شعوذات يطاردها قانونهم ويمنعها‪.‬‬
‫ويلتحق بذلك الفساد في الرض وقطع الطريق وشق عصا المسلمين وأمثاله كما في الية (‪)33‬‬
‫من سورة المائدة التي تسمى بآية الحرابة‪ ..‬وهذا بالطبع ل تعرفه قوانين عبيد الياسق إلّ إذا‬
‫كان في سبيل حماية عروشهم وأمن كروشهم‪ ،‬فحينئذ تخرج وتنطلق فتاوى سدنتهم من كل‬
‫منافق عليم اللسان يدندنون بهذه الية ليصبغوا جرائم الطغاة في حق كل من خرج على قوانينهم‬
‫الباطلة صبغة شرعية ولو كان ذلك الخارج من أتقى أهل الرض وأصلحهم‪ ..‬فإنه يُسمى‬
‫بخروجه على كفريات عبيد الياسق مفسدا في الرض باغيا خارجيا إلى غير ذلك من ألقابهم‬
‫التي يج َترّونها دوما وينعتون بها أهل الدين والصلح‪ ،‬أما من خرج على الدين وأخرجه من‬
‫واقع الحكم والحياة وأفسد عقائد الناس وشريعتهم وحياتهم وأحكامهم وأموالهم وأعراضهم‬

‫‪234‬‬
‫بقوانينه الفاسدة‪ ..‬فإن هذه الية ل تتناوله أبدا عند علماء السوء هؤلء‪ ،‬وكذا قوانينهم ل شأن‬
‫لها بذلك؛ ول تعاقب عليه‪ ،‬لنها كما قدمنا مقصورة على معالجة كل ما يشتهون إلّ الجرائم في‬
‫حق الدين‪ ..‬وهذا ما قررته شرعة حقوق النسان التي أعلنتها المم المتحدة وهي سيدتهم‬
‫المبجّلة فكيف يحيدون عن قراراتها؟؟‪.‬‬
‫ومن ذلك قتل اللوطي سواء كان محصنا أو غير محصن‪ ،‬كما في حديث ابن عباس أن النبي‬
‫عمَلَ َقوْمِ لُوطٍ فَا ْق ُتلُوا الْفَاعِلَ وَا ْلمَ ْفعُولَ بِهِ)‬
‫قال‪( :‬مَنْ وَجَ ْد ُتمُوهُ َي ْعمَلُ َ‬
‫أما في شرع عبيد الياسق فليس للوطي قتل أبدا بل عقوبته الحبس مدة ل تتجاوز سبع سنوات‪..‬‬
‫وهذا يعني أنها قد تنحدر وتتدنى إلى أقل من ذلك بكثير تبعا لهوى القاضي (وشطارة المحامي‬
‫وقوة الواسطة)‪.‬‬
‫هذا إذا واقع رجل رجلً آخر بلغ الحادية والعشرين كما في المادة (‪ )193‬من قانون الجزاء‪ ،‬أما‬
‫إذا كان دون الثامنة عشرة ولو بأيام‪ ،‬فلهما مطلق الحرية في اللواطة وغيرها كما ستعرفه مما‬
‫سيأتي من قانون الحداثة لتزداد بصيرة من نتانة قوانينهم وقذارتها‪ ،‬وأنها تشجع على اللواطة‬
‫والزنا والخنا‪.‬‬
‫عَل ْيكُمْ‬
‫وكذلك النفس بالنفس في شرع ال ‪ ..‬أي قتل المسلم عمدا كما في قوله تعالى‪ُ { :‬ك ِتبَ َ‬
‫سلْطَانًا}‬
‫ج َع ْلنَا ِل َوِليّهِ ُ‬
‫ظلُومًا فَقَدْ َ‬
‫الْقِصَاصُ فِي الْ َق ْتلَى} [البقرة ‪ .]178 :‬وقوله تعالى‪َ { :‬ومَنْ ُقتِلَ مَ ْ‬
‫[السراء‪ .]33:‬فقاتل النفس المسلمة يقتل في شرع ال‪.‬‬
‫أما في شرع عبيد الياسق فالمر مختلف‪ ،‬والقوم عندهم استدراكات كثيرة على ال‪َ ،‬تعَالى ال‬
‫عما يفتريه الظالمون علوا كبيرا‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫المرأة إذا ارتكبت جريمة قتل وكانت حاملً ثم وضعت طفلها حيا فإنها ل تقتل في شرعهم‬
‫أبدا‪ ..‬انظر مادة رقم (‪ )59‬من قانون الجزاء ومادة (‪ )318‬من قانون الجراءات والمحاكمات‬
‫ومادة (‪ )49‬من قانون تنظيم السجون‪ ..‬ومعلوم في شرع ال َتعَالى أن المرأة إذا ارتكبت ما‬
‫يوجب القتل وكانت حاملً ل تعفى من القتل بل تُقتل بعد أن تضع ما في بطنها وترضعه‬
‫وتفطمه كما في حديث الغامدية التي زنت وحملت من الزنا‪..‬‬
‫فال عز وجل يوجب قتلها‪ ..‬وعبيد الياسق يوجبون وقف تنفيذ العدام فانظر إلى الوقاحة‬
‫والمحادة‪..‬‬

‫‪235‬‬
‫كذلك الشاب البالغ العاقل في شرع ال إذا قتل‪ ،‬فإنه ل يقتل عندهم‪ ،‬ما دام لم يتم الثامنة عشرة‬
‫من عمره ولو بأيام كما في المادة رقم (‪ )14‬من قانون الحداث ‪-:‬‬
‫( أ ‪ -‬إذا ارتكب الحدث الذي أكمل الخامسة عشرة ولم يكمل الثامنة عشر من العمر جناية‬
‫عقوبتها العدام أو الحبس المؤبد حكم القاضي عليه بالحبس مدة ل تزيد على عشر سنوات)‪.‬‬
‫وحتى الرجل الكبير الذي تعدى الثامنة عشرة من عمره إذا قتل عمدا ل يعاقب بالعدام على‬
‫كل حال‪ ،‬بل للقاضي أن يستبدل ذلك الحبس المؤبد كما في المادة (‪ )149‬من قانون الجزاء ول‬
‫يعاقب عندهم بالعدام جزما إلّ إذا اقترن القتل العمد بسبق الصرار والترصد كما في المادة (‬
‫‪.)150‬‬
‫بل لعبيد الياسق ومحاكمهم أن يستبدلوا عقوبة العدام بالسجن المؤقت أيضا‪ ،‬متى شاءوا كما‬
‫في المادة (‪ )83‬المرقعة من قانون الجزاء التي تنص على أنه ( يجوز للمحكمة إذا رأت أن‬
‫المتهم جدير بالرأفة بالنظر إلى الظروف التي ارتكب فيها الجريمة‪ ،‬أو بالنظر إلى ماضيه أو‬
‫أخلقه أو سنه‪ ،‬وأن تستبدل بعقوبة العدام عقوبة الحبس المؤبد أو المؤقت الذي ل تقل مدته‬
‫عن عشر سنوات)‪ ..‬ثم قالوا للتهويل من شأن مادتهم الفاسدة هذه ‪ ( :‬ول يجوز أن تقل عقوبة‬
‫الحبس المؤقت عن ثلث الحد القصى للجريمة) ثم عادوا فخرموها ليبقى معهم مجال للعب‬
‫والعبث فقالوا‪ ( :‬كل ذلك ما لم ينص القانون على حد أدنى آخر) وبالطبع فإن قانونهم ينص‬
‫على تهوينات وتمييعات كثيرة ل تحصى سنعدد كثيرا منها فيما يأتي لتعرف أن القضية في‬
‫شريعة الغاب ( حاميها حراميها) ومواد وبنود تخبط بعضها بعضا (وأنت وحظك وواسطتك يا‬
‫ولد)‪.‬‬
‫بل إن المادة رقم (‪( )160‬المعدلة) المرقعة من قانون الجراءات والمحاكمات تتيح لكثير من‬
‫المجرمين الهرب والفرار من عقوبة العدام بسهولة جدا فهي تنص على أنه‪ ( :‬إذا كانت‬
‫الجريمة معاقبا عليها بالحبس مدة تزيد على سبع سنوات أو بعقوبة أشد من ذلك واشترك في‬
‫ارتكابها أكثر من شخص واحد‪ .‬وكان التحقيق في حاجة إلى أدلة كافية ضدهم أو ضد بعضهم‬
‫فللمحكمة أن تمنح عفوا لي شخص يظن أن له علقة بالجريمة ولو كان متهما بارتكابها على‬
‫شرط أن يدلي بمعلومات تكفي للقبض على المتهمين الخرين وأن يقدم كل ما لديه من أدلة‬
‫تساعد في إدانتهم ويعتبر المتهم في هذه الحالة شاهدا‪ ،‬ولكن ل يحلف اليمين‪ .‬ويجوز أن يبقى‬
‫محبوسا على ذمة القضية ويصبح العفو نافذا ملزما إذا قام المتهم بتنفيذ هذه الشروط بحسن نية‬

‫‪236‬‬
‫وساعد المحكمة في التحقيق مساعدة جدية ويصدر الحكم بعدم قبول الدعوى ضده بناء على‬
‫العفو)ة‬
‫فبإمكان أي مجرم شارك في قتل البرياء أن ينجو من عقوبة العدام أو المؤبد بأن يبادر‬
‫ويسارع في التبليغ عن شركائهة وهذا فتح باب عظيم لزهاق أرواح البرياء والستخفاف بها‪..‬‬
‫في ظل حماية هذه المادة من قانونهم النتنة‬
‫أليست هذه شرعة غاب‪..‬؟؟ إي وربي إنها العبث والسفاهة والفوضىة‬
‫ليس ذلك وحسب بل لميرهم أن يسقط الحكم تماما ويأمر بالعفو الشامل عن القاتل قتلً عمدا‬
‫وإن كان قتله عن سبق الصرار والترصد كما في المادة (‪ )217‬من قانون الجراءات‬
‫والمحاكمات الجزائية‪( :‬كل حكم بالعدام ل يجوز تنفيذه إلّ بعد مصادقة المير عليه‪ ،‬ويوضع‬
‫المحكوم عليه في السجن إلى أن يُصدر المير قراره بالمصادقة أو تخفيف العقوبة أو العفو)‪.‬‬
‫بل قد نصوا على ذلك في دستورهم الكفري فقالوا في المادة (‪ )75‬منه ‪( :‬للمير أن يعفو‬
‫بمرسوم عن عقوبات الجرائم أو أن يخففها)‪.‬‬
‫وكذا مادة (‪ )60‬من قانون الجزاء ‪ ( :‬ل يجوز تنفيذ عقوبة العدام إلّ بعد تصديق المير‪،‬‬
‫ويحق له من تلقاء نفسه العفو عن هذه العقوبة أو استبدال غيرها بها)‪.‬‬
‫أليس هذا قمة في العبث بأرواح الناس وحقوقهم ودمائهم؟‪ ..‬ثم ليتفكر العاق‪ ،‬ما مصدر هذا‬
‫القانون وأمثاله؟ هل هو الكتاب والسنة يا ترى؟؟‬
‫أو عبده المبعوث بالبرهـــان‬ ‫هـذا كتاب ال أنّى قال ذا‬
‫لهم عـلى اليـمان والحسان‬ ‫أو صحبه من بعده أو تابع‬
‫ل وال إنما مصدره كناسة الهواء وزبالة الراء وقذارة الشهوات‪ ..‬أليس من مصادر تشريعهم‬
‫الرأي والهوى؟‪ ..‬فلبد إذن أن تطوع وتشكل القوانين تبعا لمصالحهم وكما يشتهون ويحبون‪..‬‬
‫وأين هذا كله من شرع اللطيف الخبير الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه؟‪ ..‬فسحقا‬
‫سحقا لمن عطّله واستبدل به هذه القاذورات سحقا له وبعداة وعلى هذا فإذا كان القاتل من آل‬
‫الصباح مثلً‪ ،‬أو كانت لديه معرفة وعلقة طاغوتية بالمير فلهذا المير أن يقرر العفو الشامل‬
‫عن أخيه المجرم الثيم ولو كان المقتول أتقى أهل الرض جميعا فل قيمة لذلك عندهم ول‬
‫الذي قال له النبي‪:‬‬ ‫حبّ رسول ال‬
‫اعتبار‪ ..‬وأنّى هذا المير وأمثاله من نعل أسامة بن زيد ِ‬

‫‪237‬‬
‫ط ْعتُ‬
‫سرَ َقتْ لَقَ َ‬
‫حمّدٍ َ‬
‫طمَةَ ِب ْنتَ مُ َ‬
‫(َأتَشْفَعُ فِي حَدّ مِنْ حُدُو ِد اللّهِ؟)‪ ..‬إلى قوله‪( :‬وَايْ ُم اللّهِ َلوْ أَنّ فَا ِ‬
‫يَدَهَا) ‪.‬‬
‫وإذا علمت أن شريعة ال َتعَالى لم تُحل دم المسلم إلّ بأمور معدودة منصوص عليها‪ ،‬بقي أن‬
‫تعلم أن عبيد الياسق قد استحلوا قتله في أبواب شتى‪ ،‬تبعا لهوائهم ومصالح عروشهم فمن‬
‫ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬مادة (‪ )1‬من الجرائم المتعلقة بأمن الدولة‪( :‬يعاقب بالعدام ‪ :‬أ‪ -‬كل من ارتكب فعلً يؤدي‬
‫إلى المساس باستقلل البلد أو وحدتها أو سلمة أراضيها‪ .‬ب ‪ -‬كل كويتي رفع السلح على‬
‫الكويت ‪ ..‬الخ)‪.‬‬
‫وهذا كما أسلفنا من القوانين المطاطية التي يستفيد منها عبيد الياسق لحماية عروشهم وقوانينهم‬
‫وسلطانهم كيف شاؤوا ومتى شاؤوا تبعا لهوائهم‪..‬‬
‫‪-‬ومثل ذلك تماما المادة (‪ )23‬من القانون نفسه‪( :‬يعاقب بالعدام كل من اعتدى على حياة‬
‫المير أو على سلمته أو على حريته أو تعمد تعريض حياته أو حريته للخطر ‪ ،‬ويحكم بذات‬
‫العقوبة إذا كان الفعل قد وقع على ولي العهد)‪.‬‬
‫‪ -‬وكذلك المادة (‪ ( : )24‬يعاقب بالعدام كل من اعتدى بالقوة على السلطات التي يتولها‬
‫المير‪ ،‬سواء كان ذلك بحرمانه من كل هذه السلطات أو من بعضها أو كان بعزله أو إجباره‬
‫على التنازل ويعاقب بنفس العقوبة كل من استعمل القوة لقلب نظام الحكم القائم في البلد)‪.‬‬
‫‪ -‬أضف إلى ذلك من أمثلة أهوائهم مادة (‪ ( )31‬ل جريمة إذا وقع الفعل أثناء مباراة رياضيةة‬
‫الخ) تأمل السفاهة‪ !.‬ومادة (‪ ( :)37‬ل جريمة إذا وقع الفعل من موظف عام أثناء مباشرته‬
‫اختصاصه‪ ،‬استعمالً لسلطة يقررها القانون‪ ،‬أو تنفيذا لمر يوجب عليه القانون طاعته‪ ،‬بشرط‬
‫أن يلتزم حدود السلطة أو المر) فينكّلون طبقا لهذه المادة وأمثالها بكل مخالف لسلطتهم‬
‫وشركياتهم وباطلهم في حدود ما يوجب ياسقهم الذي ل يقيم وزنا لحرمات ال‪ ،‬ول يرقب في‬
‫مؤمن إلً ول ذمة‪.‬‬
‫وهكذا ترى أن قوانينهم هذه ليست إلّ عبثا واستهتارا واستخفافا بنفوس المسلمين ودمائهم‪ ،‬وفي‬
‫الوقت نفسه هي حماية لدماء ونفوس المجرمين والمشركين والمرتدين كما تقدم يقلبونها‬
‫بأهوائهم وشهواتهم كيفما شاؤوا‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬استهتار قوانينهم واستخفافها بالعقول‬

‫‪238‬‬
‫العقل َأيْضا من الضروريات التي جاءت الشريعة لحفظها لذا فقد حرم ال كل شراب مسكر‪،‬‬
‫عمَلِ‬
‫جسٌ مِنْ َ‬
‫لزْلمُ رِ ْ‬
‫سرُ وَالَنصَابُ وَا َ‬
‫خ ْمرُ وَالْ َميْ ِ‬
‫قال تعالى‪{ :‬يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا ِإ ّنمَا الْ َ‬
‫خ ْمرِ‬
‫شيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ َب ْي َنكُمْ ا ْلعَدَا َوةَ وَا ْل َبغْضَاءَ فِي الْ َ‬
‫ج َت ِنبُوهُ َل َعّلكُمْ تُ ْفلِحُونَ ِإ ّنمَا ُيرِيدُ ال ّ‬
‫شيْطَانِ فَا ْ‬
‫ال ّ‬
‫ن الصّلةِ َفهَلْ َأ ْنتُمْ مُن َتهُونَ} [المائدة ‪.]91-90 :‬وأوجب النبي‬
‫وَا ْل َميْسِرِ َو َيصُ ّدكُمْ عَنْ ِذ ْكرِ اللّهِ وَعَ ْ‬
‫الحد على شارب الخمر درءا للمفسدة عن العقل‪ ،‬وكان شاربها يضرب بالجريد والنعال زيادة‬
‫في الزجر والتنفير عنها‪..‬‬
‫أما في شرع عبيد الياسق فالخمر ليست محرمة ول مانع من تعاطيها لمن شاء متى شاء ولكن‬
‫الشرط الوحيد عندهم فقط أل يكون ذلك في مكان عام‪ ،‬وحتى من تعاطاها في مكان عام ولو‬
‫شهد عليه ألف إنسان فإن دين ياسقهم ل يوجب عليه حدا ول ضربا‪ ،‬وإنما عقوبة هزيلة تافهة‬
‫تُـهوّن من شأن هذه الكبيرة وتشجّع عليها‪..‬‬
‫جاء في المادة (‪ )206‬مكرر‪( :‬يعاقب بالحبس مدة ل تزيد على ستة شهور وبغرامة ل تجاوز‬
‫خمسين دينارا أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من تعاطى في مكان عام أو في مكان يستطيع فيه‬
‫رؤيته من كان في مكان عام أو في ناد خاص خمرا أو شرابا مسكرا‪ )..‬والمقلب لجرائدهم‬
‫يجد فيها عشرات بل مئات من جرائم السكر التي يحكم فيها بوقف تنفيذ هذا القانون‬ ‫النتنة‬
‫رغم هزالته وتفاهته‪ ،‬فيُحكم على المجاهر بالسكر بسجن لمدة شهر أو شهرين أو ثلثة غالبا مع‬
‫وقف التنفيذ‪ ،‬أي أنه ل يسجن فعليا بل ذلك مجرد تهديد‪ ..‬وأحيانا إذا حكم عليه بالسجن خرج‬
‫بكفالة قدرها خمسون دينارا‪ ،‬أي أنه إذا عاد إلى المجاهرة بالسكر أخذت منه الخمسون دينارا‬
‫فقط‪ ،‬كما هو واضح في القانون حيث قالوا‪ ( :‬أو بإحدى هاتين العقوبتين) فل تتعجب بعد أن‬
‫عرفت هذا إذا ما رأيت أو سمعت خبرا مفاده (أصدرت محكمة الجنح حكمها بحبس المتهم‬
‫حسين ثلثة أشهر مع الشغل وكفالة خمسين دينارا ليقاف التنفيذ بتهمة السكر البين‪ ،‬وإقلقه‬
‫راحة عمته فاطمة بسبب تناوله الخمر‪ ،‬ودخوله منزلها وإيقاظها من نومهاةالخ)‪.‬‬
‫وغير ذلك كثير ل نريد تسويد هذه الصفحات به وإنما نقصد التمثل‪..‬وكل ذلك كي يسهلوا‬
‫تعاطي الخمر وهي مقدمات لباحتها مطلقا كما هو حال كثير من دول الجوار الطاغوتية‬
‫الخرى‪.‬‬
‫بل يصرحون وبوقاحة في قوانينهم بتسمية الخمر بالمشروبات الروحية تهوينا لها ومتابعة‬
‫لوليائهم الغربيين كما في قانون المرور‪ .‬انظر على سبيل المثال مادة (‪ )38‬ومادة (‪ ..)44‬وهذا‬

‫‪239‬‬
‫حين أخبر عن أناس يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها‪ ..‬كما في‬ ‫مصداق قول رسول ال‬
‫الحديث الذي رواه ابن ماجة عن عبادة ابن الصامت‪.‬‬
‫وهذا يدلك على استهتار القوم واستخفافهم بعقول البشر التي جعلتها الشريعة من الضروريات‬
‫التي يجب حفظها وحمايتها‪.‬حتى بلغ بهم المر أن يعظموا شأن الحيوان وإن كان حيوانا حقيرا‬
‫كالخنزير مثلً أكثر من عقول الخلق‪..‬‬
‫حيث تقدم أن من جرح أيّ (حيوان مملوك) هكذا جاء في المادة (‪ )254‬من قانون الجزاء بصيغة‬
‫العموم ولم تستثن أي نوع من الحيوانات خنزيرا أو غيره‪ ،‬المهم أن يكون مملوكا ولو لكافر‬
‫محارب أو مشرك فإنهم لم يحددوا أيضا‪ ..‬فالعقوبة عندهم السجن سنتين فأقل وغرامة ألفي‬
‫روبية‪ ..‬بينما للحفاظ على العقل وضعوا عقوبة ل تزيد عن ستة أشهر فجرح كلب لسيكي أو‬
‫خنزير لصليبي أهم في شريعة وقوانين عبيد الياسق من العقل الذي امتن ال َتعَالى به على‬
‫النسان‪..‬‬
‫ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ }‬
‫{ ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ‬
‫علَم‬
‫علَم روسيا الشيوعية أو أمريكا الصليبية‪ ،‬إنزاله فقط ليس تقطيعه أو إهانته‪ ،‬أو َ‬
‫كذلك إنزال َ‬
‫أي دولة خبيثة تحارب السلم والمسلمين‪ ،‬المهم عندهم أل تكون معادية لنظمتهم فهذا عندهم‬
‫جريمة أعظم من جريمة العتداء على الشرع والعقل لذا فإن ياسقهم النتن كما في المادة (‪)33‬‬
‫من قانون جرائم أمن الدولة يقضي على من فعل ذلك بالسجن ثلث سنوات وغرامة مالية‬
‫قدرها (‪ )225‬دينارا‪ ..‬كما تقدم‪ .‬فالحمد ل على نعمة السلم ونعمة العقل التي حرم منها‬
‫أصحاب هذه التشريعات المتهافتة الساقطة‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬تلعب قوانينهم وعبثها بالعراض‬
‫العرض َأيْضا من الضرورات التي جاءت الشريعة لحفظها وحمايتها‪ ،‬فنهى سبحانه عن كل ما‬
‫ضكُمْ َبعْضًا}[الحجرات ‪.]12 :‬‬
‫يمس عرض المسلم من أذى‪ .‬من ذلك قوله تعالى‪{ :‬وَل َي ْغ َتبْ َب ْع ُ‬
‫للْقَابِ} [الحجرات ‪ .]11 :‬وأحاديث النبي‬
‫سكُمْ وَل َتنَا َبزُوا بِا َ‬
‫وقوله عز وجل‪{ :‬وَل َتلْمزُوا أَنفُ َ‬
‫في ذلك كثيرة‪ ..‬ولجل ذلك حرّم ال القذف وجعله من الموبقات وأوجب سبحانه على من رمى‬
‫صنَاتِ ثُمّ لَمْ يَ ْأتُوا بَِأ ْر َبعَةِ‬
‫ح َ‬
‫مسلما بفرية حدّ القذف ثمانين جلدة‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وَالّذِينَ َي ْرمُونَ ا ْلمُ ْ‬
‫شهَا َدةً َأبَدًا َوُأ ْوَل ِئكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ إِلّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ‬
‫جلْ َدةً وَل تَ ْق َبلُوا َلهُمْ َ‬
‫جلِدُوهُمْ َثمَانِينَ َ‬
‫شهَدَاءَ فَا ْ‬
‫ُ‬
‫ن اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور ‪.]5-4 :‬‬
‫صلَحُوا فَإِ ّ‬
‫َبعْدِ َذِلكَ َوأَ ْ‬

‫‪240‬‬
‫فتوجب شريعة ال َتعَالى القاذف طبقا لهذه الية إذا لم يقم البينة على صحة ما قال‪ ،‬ثلثة‬
‫أحكام‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن يجلد ثمانين جلدة‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن ترد شهادته أبدا‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬أن تنتفي عدالته فيصير فاسقا‪.‬‬
‫خ َرةِ‬
‫صنَاتِ ا ْلغَافِلتِ ا ْل ُمؤْ ِمنَاتِ ُل ِعنُوا فِي ال ّد ْنيَا وَال ِ‬
‫ح َ‬
‫وقال َتعَالى في حقه‪{ :‬إِنّ الّذِينَ َي ْرمُونَ ا ْلمُ ْ‬
‫َوَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور ‪ .]23 :‬هذا في دين ال تعالى‪.‬‬
‫أما في دين عبيد الياسق ‪ ،‬فإن المر مختلف لنهم ل َي ْعتَدّون أصلً بأحكام الشريعة ل قرآنها‬
‫‪ ،‬ل في القذف ول في غيره‪ ،‬لذا فإن عقوبة القذف عندهم قد ل تتعدى السجن‬ ‫ول سنّة نبيها‬
‫شهرا واحدا أو الغرامة التي ل تتجاوز مائة روبية‪ ،‬طبقا لمادة (‪ )212‬من قانون الجزاء وقد‬
‫تزيد عن ذلك قليلً بشرط أن ل تتعدى السنتين‪ ،‬أو الغرامة التي ل تتجاوز ألفي روبية‪ ،‬وهي‬
‫أشد عقوبة عندهم للقذف كما في المادة (‪ )209‬والتي نصها‪( :‬كل من أسند لشخص‪ ،‬في مكان‬
‫عام أو على مسمع أو مرأى من شخص آخر غير المجني عليه‪ ،‬واقعة تستوجب عقاب من‬
‫تنسب إليه أو تؤذي سمعته‪ ،‬يعاقب بالحبس مدة ل تجاوز سنتين وبغرامة ل تجاوز ألفي روبية‬
‫أو بإحدى هاتين العقوبتين‪.‬‬
‫فال عز وجل يأمر في شريعة السلم بجلد القاذف ثمانين جلدة‪ ،‬وردّ شهادته وإسقاط عدالته‪..‬‬
‫وعبيد الياسق يقولون‪ :‬ل‪ ..‬السجن أو الغرامة فقط‪ ،‬هذا إذا لم يحكموا بوقف التنفيذ‪ ..‬أو‬
‫يستعملوا المواد التي تعطي المير حق العفو في أي جريمة كما تقدم أو غير ذلك مما يجعل‬
‫أعراض الناس ألعوبة لكل خسيسة‬
‫واعلم أن المر ل يقف عند هذا الحد بل القوم قد شرعوا في دينهم قوانين تفتح الباب على‬
‫مصراعيه لكل نذل وحقير ليطعن في أعراض من شاء من المسلمين كيف شاء ومتى شاءة‬
‫وانظر على سبيل المثال المادة (‪ )213‬من قانون الجزاء‪ (( :‬ل جريمة إذا وقعت الفعال‬
‫المنصوص عليها في المواد السابقة ‪ -‬أي مواد القذف والسب ‪ -‬في الحوال التية‪ - :‬إذا‬
‫صدرت القوال أو العبارات المنشورة من موظف أو غير موظف تنفيذا لحكم القانون أو‬
‫استعمالً لختصاص أو لحق يقرره ))‪ ،‬وذكروا أحوالً أخرى ‪ ..‬ثم قالوا ‪ (( - :‬وفي الحوال‬
‫المتقدمة الذكر‪ ،‬يستوي أن تكون القوال أو العبارات صحيحة أو غير صحيحة‪ ،‬ويستوي أن‬

‫‪241‬‬
‫يكون من صدرت منه يعتقد صحتها أو ل يعتقد ذلك‪ ،‬ويستوي أن يكون النشر قد تم بحسن نية‬
‫أو بسوء نية))‪ .‬وهاك بعض صفات هذه القوال والعبارات التي جوزوها لموظف أو غير‬
‫موظف تنفيذا لحكم القانون أو استعمال لختصاص منحة له القانون‪ ،‬كما جاءت في مادتيهم (‬
‫‪ :)210( )209‬فمن ذلك ‪( :‬وصف الشخص بواقعة تستوجب عقابا ‪ ،‬أو تؤذي سمعته‪ ،‬أو سب‬
‫يخدش شرفه)‪.‬‬
‫أليس هذا تسهيلً وفتحا لباب الطعن في العراض في ظل حماية قانونهم؟؟‪ .‬وفي ظل (الحقوق‬
‫والختصاصات التي يقررها) لوليائه وعبيده وسدنته‪ ..‬على حد تعبيرهم‪..‬؟؟‬
‫بقي أن تعلم أخيرا أن نصوص موادهم هذه المتعلقة بالقذف نصوص مطاطية هلمية عامة‬
‫كباقي قوانينهم‪ ..‬فيستطيعون عن طريق تسيّب هذه المواد وعمومها أن يدخلوا فيها وتحت‬
‫محتواها كل باطل وهوى وزور يشتهونه‪ ،‬فيستطيعون على سبيل المثال أن يصدوا الناس عن‬
‫النهي عن المنكر‪ ،‬كالتحذير من منكرات الممثلين الساقطين والساقطات الحياء منهم والموات‬
‫ومن أفلمهم ومسرحياتهم الفاجرة التي يشيعون فيها الفاحشة بين المسلمين‪ ..‬فباستطاعة عبيد‬
‫الياسق بواسطة هذه القوانين وعباراتها الهلمية أن يزجوا بكل مخلص حذّر الناس من هذه‬
‫المنكرات بالسجن سنتين مع الغرامة المالية‪ ..‬وهكذا‪ ،‬بأمثال قولهم في المادة (‪( )209‬أو تؤذي‬
‫سمعته) فإن هذه العبارة ليس لها حدود ول قيود عندهم‪ ،‬خصوصا وقد قالوا (يستوي أن تكون‬
‫القوال أو العبارات صحيحة أو غير صحيحة‪ ..‬إلخ )‪ ،‬فيدخل في ذلك إنكار المنكر على أهله‬
‫ولو كان شركا صراحا ‪ ..‬أضف إلى ذلك أن قانونهم هذا يصلح للذب عن كل زنديق وملحد‬
‫وينفع لحماية كل كافر ومشرك دون تفريق بين بوذي أو هندوسي أو سيكي أو رافضي‪ ،‬فقولهم‬
‫في مواد القذف المشار إلى أرقامها آنفا ( كل من أسند لشخص) يؤدي ولبد إلى هذه النتيجة‬
‫الوخيمة‪ ..‬أعني حماية الشرك وأهله‪..‬‬
‫وواقع مجتمعاتهم النكد من أكبر الدلة على ما نقول‪ ..‬فإن صور الدعاة المخلصين من المؤمنين‬
‫تشوه ويطعن فيها ليل نهار‪ .‬فتارة يظهرونهم في تمثيلياتهم الفاجرة بصور معتوهين يلحقون‬
‫النساء في كل مكان ل همّ لهم إلّ فروجهم‪ ..‬وتارة يصورون ذلك في صحافتهم النتنة بصور‬
‫(كاريكاتيرية) خسيسة مع كؤوس الخمر والنساء‪ .‬بل قد بلغ الطعن إلى خاتم النبياء والمرسلين‬
‫فتصفه كثير من كتب ومجلت أوليائهم من النصارى الغربيين وغيرهم بأنه ( زير نساء) وغير‬
‫ذلك مما لم يقله حتى مشركو قريش‪ ،‬ول يحرك هذا عند عبيد الياسق ممن يدعون السلم‬

‫‪242‬‬
‫واليمان ساكنا‪ ..‬بل على العكس تماما فدلئل الولء والود والصداقة والتعاون مع أولئك الكفرة‬
‫الفجرة أكثر من أن تحصى‪ ..‬بل تجدهم يستغلون أمثال هذه القوانين في الدفاع عن أولئك‬
‫الصدقاء الكفرة الفجرة وعن فسادهم وباطلهم وعن دولهم وأعلمهم كما تقدم‪.‬‬
‫وهكذا ترى أن قوانينهم هذه ليست إلّ حماية لكل ساقط وحصانة لكل حقير وديوث وخسيس‪،‬‬
‫وهدر لعراض المسلمين والمؤمنين الصادقين الطاهرين‪ ،‬واستخفاف بها ‪..‬‬
‫خامسا‪ :‬قوانينهم هدر للحقوق وأكل لموال الناس بالباطل وحماية للربا واللصوصية‬
‫( المال) من الضرورات التي أمر ال َتعَالى في شريعة السلم بحفظها‪ ..‬فمنع ال سبحانه أخذه‬
‫بغير حق شرعي‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا ل تَ ْأ ُكلُوا َأ ْموَاَلكُمْ َب ْي َنكُمْ بِا ْلبَاطِلِ إِلّ أَنْ َتكُونَ‬
‫تِجَا َرةً عَنْ َترَاضٍ ِم ْنكُمْ} [النساء ‪ .]29 :‬وحرّم سبحانه لجل ذلك وأبطل كثيرا من البيوع الفاسدة‬
‫كما حرّم الربا والسرقة وأوجب على السارق حد السرقة وهو قطع اليد‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وَالسّارِقُ‬
‫ن اللّهِ} [المائدة ‪ .]38 :‬وجعل سبحانه في أموال‬
‫سبَا َنكَالً مِ ْ‬
‫جزَاءً ِبمَا كَ َ‬
‫طعُوا َأيْ ِد َي ُهمَا َ‬
‫وَالسّارِقَةُ فَاقْ َ‬
‫الغنياء حقا لزما واجبا يؤدى للفقراء‪ ..‬أما دين عبيد الياسق فالمر مختلف‪ ..‬وباب أكل أموال‬
‫الناس بالباطل مفتوح على مصراعيه‪:‬‬
‫‪ -‬سواء بأكل حقوق الفقراء التي فرضها ال لهم في أموال الغنياء وذلك بتعطيلهم لفريضة‬ ‫‪1‬‬

‫الزكاة‪ ،‬وجعلها حرية شخصية‪ .‬مما سهل عليهم وعلى أوليائهم من الغنياء أكل تلك الحقوق بل‬
‫رقيب أو عتيب ‪ ..‬وفي المقابل تكديس المليين بل المليارات التي يأكلونها ويختلسونها من‬
‫خيرات المسلمين في بنوك الغرب الربوية‪ ..‬ليستثمرها أولياؤهم من اليهود والنصارى في‬
‫تعمير بلدهم وتخريب بلد المسلمين ‪ ..‬ومعلوم أن تعطيل هذه الفريضة العظيمة‪ ،‬كان سببا‬
‫‪..‬‬ ‫للمرتدين بعد وفاة النبي‬ ‫رئيسيا في قتال أبي بكر‬
‫‪ -‬وسواء بجعل الغرامة عقوبة قانونية معمولً بها في مختلف المجالت والقوانين‪ ،‬وهذا‬ ‫‪2‬‬

‫يتكرر كثيرا في قوانينهم وانظر على سبيل المثال ل الحصر قوانينهم الجزائية لتجد الغالبية‬
‫العظمى من موادها تحكم بالسجن وبالغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين‪ ..‬وقد تقدم من ذلك‬
‫الكثير من المثلة‪ ..‬وهذا من أكل أموال الناس بالباطل ولشك‪..‬‬
‫سلِمٍ‬
‫‪( :‬مَنِ ا ْقتَطَعَ حَقّ ا ْم ِرئٍ مُ ْ‬ ‫وشريعة ال َتعَالى قد جعلت للمال حرمة فقال رسول ال‬
‫جنّةَ َوإِنْ كَانَ َقضِـيـبًا مِنْ َأرَاكٍ) ‪ .‬واليات‬
‫عَليْهِ الْ َ‬
‫حرّمَ َ‬
‫ب اللّهُ لَهُ النّارَ وَ َ‬
‫ج َ‬
‫ِب َيمِينِهِ فَقَدْ َأوْ َ‬
‫والحاديث في هذا كثيرة‪ ..‬هذا في شريعة ال العادلة الصادقة‪..‬‬

‫‪243‬‬
‫أما في شرع عبيد الياسق فالغرامة عقوبة من العقوبات الرئيسة الهامة التي تكاد تكون ملزمة‬
‫لكل نص من نصوص قوانينهم‪ ..‬سواء على صورة غرامة كما في قوانين الجزاء وغيرها أو‬
‫على صورة مخالفات كما في قانون المرور أو في لوائح البلدية وقوانينها أو على صورة‬
‫مكوس وضرائب كما في القانون التجاري وغيره‪ ،‬وتتعدد الصور والتسميات والنتيجة واحدة‪،‬‬
‫وهي أكل أموال الناس بالباطل‪..‬‬
‫واعلم أن المر عند عبيد الياسق في باب الموال ل يقف عند الغرامة والمخالفة والمكس بل قد‬
‫فتحوا لنفسهم الباب على مصراعيه لكل أموال الناس بالباطل وذلك طبقا للمادة (‪)237‬‬
‫المرقّعة‪ - .‬هم يقولون المعدّلة‪ -‬من قانون الجراءات والمحاكمات الجزائية والتي وردت في‬
‫باب‪ :‬تنفيذ الحكم بالغرامة والحكم بالمصادرة‪ ،‬وتنص على أنه‪( :‬إذا حكم بمصادرة شيء منوط‬
‫أصبح ملكا للدولة‪ ،‬يجوز للمحكمة أو للنائب العام أن يأمر بإتلف الشياء المصادرة‪ ،‬أو بيعها‬
‫بالمزاد أو بالممارسة‪ ،‬أو بتسليمها إلى إحدى الجهات الحكومية للنتفاع بها في حدود القوانين‪،‬‬
‫ويكون إتلفها واجبا إذا نص عليه في الحكم)‪.‬‬
‫‪ -‬أضف إلى تلك البواب أبواب التأمين المختلفة التي أباحوها دون أي ضابط أو حد‪ ،‬وانظر‬ ‫‪3‬‬

‫على سبيل المثال ل الحصر المواد (‪ )5‬و(‪ )145‬من القانون التجاري‪ ..‬ففي المادة (‪ )5‬جعلوا‬
‫التأمين بمختلف أنواعه عملً تجاريا مباحا (تعد أعمالً تجارية‪ ،‬العمال المتعلقة بالمور التية‪،‬‬
‫بقطع النظر عن صفة القائم بها أو نيته‪:‬‬
‫معاملت البنوك‬ ‫(‪)1‬‬
‫الحساب الجارية‬ ‫(‪)2‬‬
‫التأمين بأنواعه المختلفةة)‬ ‫(‪)3‬‬
‫وغير هذه المادة كثير‪.‬‬
‫ولقد خصصوا في قانونهم المدني للتأمين بمختلف أنواعه التي نص على تحريمها أهل العلم‪،‬‬
‫فصلً كاملً مبيحا بل موجبا في كثير من الحوال للتأمين ويتكون من [‪ ]36‬مادة تبدأ من المادة‬
‫رقم (‪ )773‬فليراجعه من شاء التفصيل‪..‬‬
‫‪ -‬كذلك أبواب الميراث والدية ونحوها‪ ،‬فعبيد الياسق قد أكلوا بقوانينهم هذه حقوق الموحدين‬ ‫‪4‬‬

‫وأعطوها لقربائهم من المرتدين والزنادقة والملحدة‪ ،‬فقد تقدم أن قوانينهم ل تقيم وزنا لدين‬
‫السلم وملة التوحيد‪ ،‬فل عقوبة فيها للمرتد‪ ،‬فالردة والزندقة واللحاد حرية شخصية‪ ،‬حيث‬

‫‪244‬‬
‫نص دستورهم كما تقدم في قانونهم كما في المادة (‪ )29‬المتقدمة من الدستور َأيْضا ول فرق‬
‫عندهم في الحقوق والواجبات بسبب الدين‪ ،‬ل فرق بين المسلم الموحد والمشرك الملحد ول‬
‫يؤثر عندهم في الميراث أو الحقوق المالية الخرى كالدية أو غيرها كون النسان شيوعيا أو‬
‫بعثيا أو زنديقا أو ملحدا أو علمانيا أو من عبيد الياسق أو متبعا أو مواليا لغير ذلك من ملل‬
‫الكفر ومذاهبه المنتشرة بكثرة في هذا الزمان فليس في قوانينهم ‪ -‬ول حتى في تلك التي‬
‫يزعمون موافقتها للشريعة مما يسمونه (الحوال الشخصية) ‪ -‬ليس فيها ما يحول بين هذا‬
‫المرتد وبين ميراث أبيه المسلم بل يعطى من حقوق الموحدين ويعان على أكل أموال الورثة‬
‫سلِمَ ) وعبيد‬
‫يقول‪ ( :‬ل َي ِرثُ ا ْلكَا ِفرُ ا ْلمُ ْ‬ ‫المسلمين في ظل حماية قوانينهم الكافرة ‪ ..‬فالنبي‬
‫الياسق ل يقيمون وزنا لكلم ال ول لكلم رسولهة ويقولون ‪ :‬ل فرق بين الناس في الحقوق‬
‫والواجبات بسبب الدينة‬
‫ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ }‬
‫{ ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ‬
‫‪ -‬وكذلك الربا الصريح بأوضح أبوابه وأشنعها‪ ،‬فإنه مشروع جائز حلل مباح في شريعة‬ ‫‪5‬‬

‫عبيد الياسق بل قد جعلوه ‪ -‬قاتلهم ال ‪ -‬واجبا لزما في بعض المواضع والحوال‪..‬‬


‫انظر على سبيل المثال في باب (اللتزامات التجارية) مادة (‪ )102‬حيث جعلوا الربا الذي حرمه‬
‫رب السماوات والرض ومحقه‪ ،‬جعلوه حقا من حقوق الدائن‪ (( :‬للدائن الحق في اقتضاء فائدة‬
‫من القرض التجاري ما لم يتفق على غير ذلك وإذا لم يعين سعر الفائدة في العقد‪ ،‬كانت الفائدة‬
‫المستحقة هي الفائدة القانونية (‪.)) .)7‬‬
‫ويتبع هذه َأيْضا مادة (‪ )103‬ومادة (‪ )104‬من نفس القانون الثيم‪.‬‬
‫حرّ َم ال ّربَا}[البقرة ‪ ،]275 :‬و(َلعَنَ رَسُولُ‬
‫ل اللّهُ ا ْل َبيْعَ وَ َ‬
‫فال عز وجل يقضي بالحق ويقول‪َ { :‬وأَحَ ّ‬
‫سوَاء) ‪ ،‬وعبيد الياسق يقولون‪ :‬ل‪ ( ،‬الربا‬
‫ل ال ّربَا َو ُم ْؤ ِكلَهُ َوكَا ِتبَهُ وَشَاهِ َديْهِ وَقَالَ هُمْ َ‬
‫آكِ َ‬ ‫اللّهِ‬
‫حق للدائن) والربا القانوني ما كان بنسبة (‪ ) 7‬إذا لم يتفق الطرفان في العقد على غيره‪.‬‬
‫وكذا المواد (‪ ،)113( ،)112( ،)111( ،)110‬وكذا ما جاء في الفصل السابع من قانونهم التجاري‬
‫نفسه تحت عنوان ( عمليات البنوك) الفرع التاسع ( الحساب التجاري) مادة (‪ )297‬ببنديها‪.‬‬
‫وكذلك في (الوراق التجارية) باب الكمبيالة‪ :‬مادة (‪ )409‬وكذلك مادة (‪ )482‬ومادة (‪ )483‬وكذلك‬
‫المادة رقم (‪ )5‬التي أشرنا إليها فيما مضى حيث عددوا العمال التجارية المباحة في شريعة‬
‫ياسقهم فجعلوا على رأس هذه العمال وفي مقدمتها‪:‬‬

‫‪245‬‬
‫‪ -1‬معاملت البنوك ‪ ..‬هكذا مطلقا‪.‬‬
‫كل هذه المواد وغيرها تصرح تصريحا بجواز التعامل بالربا وبشرعية مؤسساته وتمتعها‬
‫بحماية الدولة وقوانينها وحكومتها وشرطتها‪..‬‬
‫حرّ َم ال ّربَا) فإذا‬
‫ويجاهرون بكلمة (يجوز) بكل وقاحة مع أن ال َتعَالى يقول في محكم تنزيله‪( :‬وَ َ‬
‫لم تكن هذه محادة ل ولدينه فما هي المحادة إذن يا سدنة الياسق؟ إنها وال المحاربة ل‬
‫ولرسوله ولشرعه صراحة‪ ،‬ولكن أكثر الناس نائمون غافلون‪ ..‬وما لجرح بميت إيلم‪ ..‬وقد‬
‫قال َتعَالى في سورة البقرة ‪ -‬بعد أن حرم الربا وأمر عباده بالنتهاء عن التعامل به إن كانوا‬
‫ن اللّهِ َورَسُولِهِ} [البقرة ‪.]279 :‬‬
‫ح ْربٍ مِ ْ‬
‫مؤمنين حقا ‪ -‬قال‪{ :‬فَإِنْ لَمْ تَ ْف َعلُوا فَأْ َذنُوا بِ َ‬
‫وانظر على سبيل المثال ل الحصر في مجاهرتهم وإعلنهم بهذه المحادّة‪ ،‬المادة (‪ )111‬من‬
‫قانونهم التجاري بند (‪( :)1‬يجوز للعاقدين أن يتفقا على سعر آخر للفائدة على أن ل يزيد السعر‬
‫على السعار المعلنة من البنك المركزي والتي يقوم بتحديدها مجلس إدارة البنك بعد موافقة‬
‫وزير المالية ةالخ)‬
‫وكذا المادة (‪ )297‬جاء في البند الثاني‪ ( :‬في الحسابات الجارية لدى البنوك يجوز احتساب فائدة‬
‫على الفوائد أثناء بقاء الحساب مفتوحاة الخ)‪.‬‬
‫وكذلك المادة (‪( : )483‬يجوز لمن وفى بكمبيالة أن يطالب ضامنيه بما يلي‪ :‬أ‪ . .. -‬ب‪ -‬فوائد‬
‫ما وفاه محسوبة من يوم الوفاء بالسعر القانوني ‪.)… •7‬‬
‫والربا في دين عبيد الياسق حق للدائن غير متعلق بالضرر أو غيره مما قد يستغله في الترقيع‬
‫والتلبيس بعض سدنة القانون‪ ..‬جاء في المادة (‪ ( :)112‬ل يشترط لستحقاق فوائد التأخير‬
‫قانونية كانت أو اتفاقية أن يثبت الدائن أن ضررا لحق من هذا التأخير)‪.‬‬
‫ولم يكتف عبيد الياسق بوقاحة قولهم (يجوز) ول بجعلهم الربا حقّا للدائن‪ ،‬بل جاهروا بجعله‬
‫واجبا لزما في شرعهم‪ ..‬كما في المادة (‪( :)110‬إذا كان محل اللتزام التجاري مبلغا من النقود‬
‫وكان معلوم المقدار وقت نشوء اللتزام‪ ،‬وتأخر المدين في الوفاء به كان ملزما أن يدفع للدائن‬
‫على سبيل التعويض عن التأخير فوائد قانونية قدرها سبعة في المائة)‪.‬‬
‫فعبيد الياسق يُلزمون ويوجبون على المدين المتأخر بالوفاء ربا قدره ‪ ... •7‬ول يعبأون‬
‫س َرةٍ َوأَنْ‬
‫ظ َرةٌ ِإلَى َميْ َ‬
‫س َرةٍ َفنَ ِ‬
‫بتحريم ال تبارك وتعالى له ول بقوله سبحانه‪َ { :‬وإِنْ كَانَ ذُو عُ ْ‬
‫‪ِ ( :‬درْهَمٌ ِربًا‬ ‫خ ْيرٌ َلكُمْ إِنْ ُك ْنتُمْ َت ْعَلمُونَ} [البقرة ‪ ،]280 :‬ول َي ْك َت ِرثُون بقول النبي‬
‫َتصَدّقُوا َ‬

‫‪246‬‬
‫ستّةٍ َوثَلثِينَ َز ْنيَةً) أو قوله ‪( :‬الربا ثلثة وسبعون بابا أيسرها‬
‫يَ ْأ ُكلُ ُه الرّجُلُ وَ ُهوَ َي ْعلَمُ أَشَدّ مِنْ ِ‬
‫مثل أن ينكح الرّجُلُ أمه ‪)...‬الحديث ‪ .‬بل يجعلون من الربا المحرم رغم كلم ال َتعَالى هذا فيه‬
‫منه وتعظيمه من‬ ‫ورغم توعّده سبحانه لمن أصرّ عليه بالحرب ورغم تحذير النبي‬
‫خطورته‪ ..‬يجعله هؤلء السفهاء الملحدة حقا وواجبا قانونيا لزما ‪ ..‬أي أنهم لم يكتفوا في‬
‫محادتهم ل ودينه بتحليل وتجويز وإباحة ما حرّمه سبحانه وحسب‪ ..‬بل جعلوا الحرام واجبا‬
‫لزما على العباد‪..‬‬
‫ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ }‪.‬‬
‫{ ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ‬
‫‪ -‬وكذلك المر بالنسبة للسرقة عند لصوص الياسق‪ ..‬فقد جاء في المادة (‪ )219‬من قانون‬ ‫‪6‬‬

‫الجزاء (باب الجرائم الواقعة على المال)‪ ( :‬يعاقب على السرقة بالحبس مدة ل تجاوز سنتين‬
‫وبغرامة ل تجاوز ألفي روبية أو بإحدى هاتين العقوبتين إلّ إذا نص القانون على غير ذلك)‪.‬‬
‫وهكذا في المواد (‪ )224( ،)222( ،)221‬من نفس القانون فإن عقوبة السرقة عندهم السجن مددا‬
‫متفاوتة قد تزيد على السنتين والثلث أو أكثر قليلً في بعض الحوال المذكورة ضمن هذه‬
‫المواد مع الغرامة المالية أو بإحدى العقوبتين‪ ..‬وذلك يعني أن عقوبة السرقة عند عبيد الياسق‬
‫تكون في كثير من الحوال مجرد غرامة مالية هزيلة تافهة ‪.‬‬
‫هذا هو تشريع عبيد الياسق في جريمة السرقة‪..‬‬
‫ول اعتبار عندهم بما شرعه رب العالمين في كتابه‪ ،‬إنما العتبار والتقديم عندهم لما نص عليه‬
‫القانون كما في المادة السابقة وغيرها‪.‬‬
‫سبَا‬
‫جزَاءً ِبمَا كَ َ‬
‫طعُوا َأيْ ِد َي ُهمَا َ‬
‫فال عز وجل يأمر في محكم كتابه ويقول‪َ{ :‬السّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْ َ‬
‫حكِيمٌ} [المائدة ‪.]38 :‬‬
‫عزِيزٌ َ‬
‫ن اللّهِ وَاللّهُ َ‬
‫َنكَالً مِ ْ‬
‫وعبيد الياسق يقولون‪ :‬ل‪ ،‬ل يوجد عندنا نكال ول قطع‪..‬‬
‫طعُوا َأيْ ِد َي ُهمَا}‪ ،‬وهم يقولون‪ :‬ل قطع‪ ،‬وإنما سجن أو غرامة فقط‪..‬‬
‫ال تباركت أسماؤه يقول‪{:‬فَاقْ َ‬
‫وربما تكون عقوبة السجن ل تتعدى الشهر القليلة فقط‪ ،‬وكذلك الغرامة فإنها تتناقص تبعا لحجم‬
‫الواسطة وهوى ومزاج القاضي لن موادهم تنص دوما على (السجن مدة ل تزيد على كذا أو‬
‫بالغرامة التي ل تزيد على كذا وكذا‪ )..‬فهي دائما ل تزيد عن حدها الذي حدوه لها ولكنها تقل‬
‫وتتناقص وتتضاءل إلى ما يشتهون‪ ..‬وهذا هو حال قوانينهم الهلمية‪ ..‬وضعوه حين وضعوها‬
‫ليبقى لهم فيها دوما وأبدا مجال للتلعب والعبث‪..‬‬

‫‪247‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فقد أسقطوا وألغوا بأحكامهم وموادهم هذه حدا من حدود ال َتعَالى كما قد فعلوا من قبل‬
‫بحد القذف وشرب الخمر والردة وحدود القصاص وغيرها‪ ،‬عطلوه ونبذوه وألقوه وراءهم‬
‫ظهريا وجعلوا مكانه وبدلً عنه عقوبات هزيلة حقيرة تجرّئ كل خبيث ولص مارق على‬
‫حرمات المسلمين‪ ..‬وتهون عليه السرقة وأكل أموال الناس بالباطل‪..‬‬
‫أضف إلى ذلك كله ما قدمنا من صلحيات مختلفة ومواد كثيرة شرعوها تهون من هذه الجريمة‬
‫وغيرها‪..‬‬
‫‪ -‬سواء الحق الذي جعلوه لميرهم وهو العفو الشامل عن أية جريمة كما في المادة (‪ )75‬من‬
‫دستورهم وقد تقدمت‪..‬‬
‫حبّ الرسول‬
‫ونذّكر هنا فقط تذكيرا بحديث المرأة المخزومية ومحاولة أسامة بن زيد ِ‬
‫لذلك غضبا شديدا‪ ،‬وقال مستنكرا‪َ( :‬أتَشْفَعُ فِي حَدّ مِنْ‬ ‫الشفاعة لها‪ ..‬وكيف غضب النبي‬
‫حُدُو ِد اللّه؟؟) وقد تقدمت الشارة إليه ونكرر هنا ونؤكد سؤالنا الذي سألناه من قبل‪( :‬هل هذا‬
‫المير يستحق أن يقارن بنعل أسامة بن زيد الذي كان يمس ذات التراب الذي مشى عليه رسول‬
‫‪ ،‬والذي تغبر مرارا في سبيل ال تعالى‪ ..‬ليكون له الحق الذي لم يكن لسامة نفسه في‬ ‫ال‬
‫العفو أو الشفاعة في حدود ال ؟؟‬
‫ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ}؟؟‬
‫{ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ‬
‫يقول شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال تعالى‪( :‬ول يجوز بعد ثبوت الحد بالبينة عليه أو‬
‫بالقرار تأخيره‪ ،‬ل بحبس ول مال يفتدى به ول غيره‪ ،‬بل تقطع يده في الوقات المعظمة‬
‫وغيرها‪ ،‬فإن إقامة الحدود رحمة من ال بعبادة‪)..‬اهـ ‪.‬‬
‫بقي أن تعلم أن عبيد الياسق لم يكتفوا بتعطيل حدود ال َتعَالى في السرقة وغيرهاة بل عطّلوا‬
‫وتلعبوا حتى في قوانينهم وعقوباتهم الهزيلة هذه التي استبدلوها بالحدود‪ ،‬وذلك عن طريق‬
‫كثير من القوانين المسهلة والمهونة التي ذكرنا بعضها فيما تقدم‪ ،‬كقانون الحداث الذي نص‬
‫على أن الحكام ل تطبق على الشاب البالغ العاقل ما دام لم يتعدّ الثامنة عشرة من عمره ولو‬
‫بأيام قلئل‪.‬‬
‫ونضيف هنا مادة أخرى من موادهم المسهلة (ال ُمَليّنة) وهي المادة رقم (‪ )87‬من قانون الجزاء‬
‫والتي تنص على جواز الفراج عن كل محكوم عنه بالحبس قضى ثلثة أرباع المدة المحكوم‬
‫عليهة)‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫فارجع إليها بتفاصيلها في قانون الجزاء‪ ..‬بند ( الفراج تحت شرط)‪.‬‬
‫‪ -‬والمادة رقم (‪ )81‬من القانون نفسه تحت بند (تخفيف العقوبة وتشديدها) ونصها‪( :‬إذا اتهم‬
‫شخص بجريمة تستوجب الحكم بالحبس جاز للمحكمة إذا رأت من أخلقه أو ماضيه أو سنه أو‬
‫الظروف التي ارتكب فيها جريمته أو تفاهة هذه الجريمة ما يبعث على العتقاد بأنه لن يعود‬
‫إلى الجرام أن تقرر المتناع عن النطق بالعقابة الخ)‪.‬‬
‫‪ -‬والمادة رقم (‪ )82‬من القانون نفسه والتي تنص على أنه يجوز للمحكمة إذا قضت بحبس‬
‫المتهم مدة ل تجاوز سنتين أو بالغرامة‪ ،‬أن تأمر بوقف تنفيذ الحكم‪ ،‬إذا تبين من أخلق المتهم‬
‫أو ماضية أو سنه أو الظروف التي ارتكبت فيها الجريمة ما يحمل على العتقاد بأنه لن يعود‬
‫إلى الجرام‪ ..‬الخ)‪.‬‬
‫ول يخفى على البصير كم تفتح لهم هذه المواد من أبواب التلعب والتمييع خصوصا إذا كان‬
‫من يُقدّر أخلق المتهم وماضيه وظروف الجريمة؛ ممن ل خلق لهم ول أخلق‪.‬‬
‫‪ -‬أضف إلى ذلك مادة حفظ التحقيق وهي المادة رقم (‪ )103‬المرقعة من قانون الجراءات‬
‫والمحاكمات الجزائية‪ ،‬وكذا المادة (‪ )104‬المرقعة أيضا‪ ،‬والتي تنص على أن (للنائب العام أن‬
‫يُصدر قرارا بحفظ التحقيق نهائيا ولو كانت هناك جريمة وكانت الدلة كافية‪ ،‬إذا وجد أن في‬
‫تفاهة الجريمة أو ظروفها ما يبرر هذا التصرف) وتأمل كلمة (تفاهة الجريمة) واربطها‬
‫باستخفافهم بحرمات ال‪ ،‬وبواقع حياتهم النجس‪ ،‬لتتعرف على النتائج الوخيمة التي يمكن أن‬
‫يستفيدونها منها‪..‬‬
‫وكذا المادة (‪ )4‬من قانون الجزاء ونصها (تسقط الدعوى الجزائية في الجنايات بمضي عشر‬
‫سنوات من يوم وقوع الجنايةة الخ)‪.‬‬
‫وكذلك المادة رقم (‪ )15‬من القانون نفسه تحت باب (سريان القانون من حيث المكان ومن حيث‬
‫الزمان ) والتي تنص على أنه‪( :‬إذا صدر بعد ارتكاب الفعل أو قبل أن يحكم فيه نهائيا‪ ،‬قانون‬
‫أصلح للمتهم وجب تطبيق هذا القانون دون غيره ومع ذلك إذا صدر بعد الحكم النهائي قانون‬
‫يجعل الفعل غير معاقب عليه إطلقا وجب تطبيق هذا القانون واعتبار الحكم كأن لم يكن)‪.‬‬
‫وغير ذلك من تلعبهم وعبثهم في دين ودماء وأموال وأعراض العباد والبلد‪..‬‬
‫فهذه الترقيعات والتسهيلت والتهوينات إذا أضفتها كلها إلى هزالة أحكامهم وعقوباتهم التي‬
‫جعلوها بدل حدود ال تعالى‪ ،‬أضفت إليها ما تقدم من أبواب أكل أموال الناس بالباطل كإباحتهم‬

‫‪249‬‬
‫بل إيجابهم للربا والمكوس والغرامات وغير ذلك‪ ..‬علمت حال شريعتهم الفاسدة هذه‪ ،‬وأنها‬
‫شريعة ل تحفظ مالً أو حقا أو غيره‪ ..‬بل تهدر وتضيّع كل ذلك نسأل ال تبارك وتعالى أن‬
‫يعجل في محوها وزوالها ويريح عباده منها ومن أوليائها وظلماتهم‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬قوانينهم تفتح أبواب الزنا على مصراعيها وتحمي الفجار والعاهرات‬
‫والنسب َأيْضا كما قدمنا من المور الضرورية التي جاءت الشريعة لحفظها‪ ..‬فأوجب ال َتعَالى‬
‫طلّقَاتُ‬
‫العدّة على النساء عند المفارقة بطلق أو موت حفاظا على النساب‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وَا ْلمُ َ‬
‫سهِنّ ثَلثَةَ ُقرُوءٍ}[البقرة ‪ .]228 :‬وقال عز وجل‪{ :‬وَالّذِينَ ُي َتوَ ّفوْنَ ِم ْنكُمْ َويَ َذرُونَ‬
‫َي َت َربّصْنَ بِأَنفُ ِ‬
‫شرًا}[البقرة ‪ .]234 :‬وحرم ال عز وجل الزنا فقال‪:‬‬
‫ش ُهرٍ وَعَ ْ‬
‫سهِنّ َأ ْر َبعَةَ أَ ْ‬
‫َأ ْزوَاجًا َي َت َربّصْنَ بِأَنفُ ِ‬
‫سبِيلً} [السراء ‪ .]32 :‬وأجب فيه الحد الرادع فقال‬
‫{وَل تَ ْق َربُوا ال ّزنَى ِإنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ َ‬
‫ن اللّهِ‬
‫جلْ َدةٍ وَل تَ ْأخُ ْذكُمْ ِب ِهمَا َرأْفَةٌ فِي دِي ِ‬
‫جلِدُوا كُلّ وَاحِدٍ ِم ْن ُهمَا مِائَةَ َ‬
‫سبحانه‪{ :‬الزّا ِنيَةُ وَالزّانِي فَا ْ‬
‫شهَدْ عَذَا َبهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ} [النور ‪ .]2 :‬هذا بالنسبة‬
‫خرِ َو ْليَ ْ‬
‫إِنْ كُنتُمْ ُت ْؤ ِمنُونَ بِاللّهِ وَا ْل َيوْمِ ال ِ‬
‫سلِمٍ‬
‫لغير المحصن أما المحصن فحدّه القتل كما تقدم في الحديث الصحيح ‪( :‬ل يَحِلّ دَمُ ا ْم ِرئٍ مُ ْ‬
‫ب الزّانِي‪ )..‬ويقتل رجما كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن‬
‫إِلّ بِإِحْدَى ثَلثٍ ال ّث ّي ُ‬
‫ل اللّهِ ِإنّي‬
‫وَ ُهوَ فِي ا ْلمَسْجِدِ َفنَادَاهُ فَقَالَ‪ :‬يَا رَسُو َ‬ ‫ل اللّهِ‬
‫قال‪َ( :‬أتَى رَجُلٌ رَسُو َ‬ ‫أبي هريرة‬
‫شهَادَاتٍ دَعَاهُ ال ّنبِيّ‬
‫علَى نَفْسِهِ َأ ْربَعَ َ‬
‫شهِدَ َ‬
‫عَليْهِ َأ ْربَعَ َمرّاتٍ َفَلمّا َ‬
‫حتّى رَدّدَ َ‬
‫عنْهُ َ‬
‫عرَضَ َ‬
‫َز َن ْيتُ‪ .‬فَأَ ْ‬
‫‪" :‬اذْ َهبُوا بِهِ‬ ‫ل ال ّن ِبيّ‬
‫ص ْنتَ؟" قَالَ‪َ :‬نعَمْ‪ ،‬فَقَا َ‬
‫ح َ‬
‫جنُونٌ؟" قَالَ‪ :‬ل‪ ،‬قَالَ‪َ " :‬فهَلْ أَ ْ‬
‫فَقَالَ‪َ" :‬أ ِبكَ ُ‬
‫جمُوهُ")‪ .‬هذا حكم شريعة ال الطاهرة الطيبة أما عند عبيد الياسق فهذا رجعية ووحشية‬
‫فَارْ ُ‬
‫وليس له وجود في قوانينهم ول اعتبار‪ ..‬بل شرعوا في ذلك قوانين نجسة تضيّع النساب وتفتح‬
‫أبواب الفجور والدعارةة وتشجع على الزناةوإليك الدلة على ذلك‪:‬‬
‫(‪ )1‬وقبل أن نشرع في بيان بعض قوانينهم الكثيرة التي تسهل الدعارة والفجور وتحمي الزنا‬
‫والعاهرات‪ ..‬نلفت النتباه هنا إلى باب خطير من أبواب فساد النكحة وضياع النساب سببه ما‬
‫تقدم تفصيله من فتحهم لباب الردة‪ ،‬فقد تكرر قريبا ذكر قوانينهم التي تنص على أن (حرية‬
‫العتقاد مطلقة وأن الناس متساوون مسلمهم وكافرهم ل فرق بينهم في الحقوق والواجبات‬
‫بسبب الدين) ولذلك فإنّ قوانينهم الفاسدة ل تمنع ول تحظر أبدا زواج المسلمة الموحدة الطاهرة‬
‫من الكافر أو المرتد الوالغ في أي باب من أبواب الردة المنتشرة في ظل حكوماتهم وقوانينهم‬
‫هذه‪ ..‬ول تحظر قوانينهم كذلك أو ترفع ولية أبيها عليها إذا كان مرتدا أو مشركا‪ ،‬وحتى لو‬

‫‪250‬‬
‫رفضت المسلمة ولية أبيها المرتد‪ ،‬فإنها لن تجد أميرا للمؤمنين أو إماما للمسلمين ليقال إن‬
‫السلطان وليها في تلك الحال‪ ،‬فالسلطان في هذا الزمان هو الحاكم بغير ما أنزل الرحمن‪ ،‬المتبع‬
‫لياسق الشيطانة فتأمل هذا الباب فإنه يزيدك ثقة بأنهم كذّابون دجّالون حين يدّعون تحكيم بعض‬
‫شرائع السلم في الباب الذي سموه ( بالحوال الشخصية)‪ ،‬لن هذه الحكام إضافة إلى كونها‬
‫إيمانا ببعض الكتاب وكفرا ببعض‪ ..‬فإنها محكومة منقادة لنصوص قوانينهم يهيمن عليها‬
‫دستورهم وهوى مشرّعهم وهكذا‪ ..‬فإذا ارتد زوج المسلمة الموحدة وأمسى شيوعيا أو علمانيا‬
‫أو بعثيا أو عبدا من عبيد الياسق أو زنديقا ليس له من دين السلم إلّ أن اسمه عبد ال أو‬
‫محمد أو عبد الرحمن‪ ،‬فليس في قوانينهم كلها من أولها إلى آخرها ما يفرق في شرعهم النتن‬
‫بين هذا النجس وبين الموحدّة الطاهرة‪ ..‬بل تبقى عنده يستحل نكاحها ويُنجب منها أولدا رغم‬
‫أنها حرُمت عليه في شرع ال تعالى‪..‬‬
‫حلّونَ َلهُنّ}[الممتحنة‪:‬‬
‫جعُوهُنّ ِإلَى ا ْلكُفّارِ ل هُنّ حِلّ َلهُمْ وَل هُمْ يَ ِ‬
‫فال عز وجل يقول‪{ :‬فَل َترْ ِ‬
‫‪ ،]10‬وعبيد الياسق يقولون‪ :‬ل بل هنّ حلل للمرتدين والمشركين والملحدة‪ ،‬إذ ل فرق في‬
‫قوانينهم بين الناس في الحقوق والواجبات بسبب الدين‪..‬‬
‫ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ }؟‪..‬‬
‫{ ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ‬
‫ونرجع إلى قوانينهم الخرى‪..‬‬
‫(‪ )2‬جاء في قانون الجزاء المادة رقم (‪ ( )194‬كل من واقع امرأة بلغت الحادية والعشرين‬
‫برضاها‪ ،‬ولم تكن محرما منه‪ ،‬وضبط متلبسا بالجريمة‪ ،‬يعاقب بالحبس مدة ل تجاوز ثلث‬
‫سنوات ول تقل عن ستة أشهر ويحكم بالعقوبة نفسها على المرأة التي رضيت بهذا الفعل‪) .‬‬
‫هذا هو حكم عبيد الياسق في زنا غير المحصن ل جلد ول غيره وإنما ستة أشهر من السجن أو‬
‫أكثر بقليل‪ ،‬ولكن لن تزيد في حال من الحوال عن الثلث سنوات‪ ..‬هذا إذا لم تتدخل مواد‬
‫التخفيف والتهوين الخرى كتوقف التنفيذ أو حفظ التحقيق أو قضاء ثلثي المدة أو العفو الشامل‬
‫الصادر من الميرة مما يسهل ويهون الطريق لهذه الجريمة على كل وغد زنيم‪..‬‬
‫وتأمل قولهم (ضبط متلبسا بالجريمة) هكذا دون تفصيل أو بيان‪ ،‬أو ضابط لكيفية التلبس أو عدد‬
‫الشهود أو غيره‪ ..‬فيثبت عندهم الزنا طبقا لعموم هذا القانون وغيره بشهادة فاسق أو فاسقين‬
‫قذفا بريئا به‪..‬‬

‫‪251‬‬
‫وإنما نذكر هذه التفريعات ليزداد المسلم بصيرة بقوانينهم المهلهلة التي ل ضابط لها ول‬
‫ميزان‪ ..‬وأين هذه الكناسات والزبالت من شريعة اللطيف الخبير الصادقة في الخبار العادلة‬
‫في الحكام التي قيدت حد الزنا بإحدى ثلث‪ :‬البينة وهي أربعة شهود عدول‪ ،‬أو العتراف‬
‫الجازم‪ ،‬أو الحمل؟ ‪.‬‬
‫(‪ )3‬أما زنا المحصن في دين عبيد الياسق‪ ،‬فإنه ل يختلف كثيرا عن زنا غير المحصن‪ ،‬فهم ل‬
‫يعترفون في دينهم بالرجم ول يعرفونه‪..‬‬
‫جاء في المادة (‪ ( : )195‬كل شخص متزوج رجلً كان أو امرأة اتصل جنسيا بغير زوجه‪ ،‬وهو‬
‫راض بذلك‪ ،‬وضبط متلبسا بالجريمة يعاقب بالحبس مدة ل تجاوز خمس سنوات وبغرامة ل‬
‫تجاوز خمسة آلف روبية أو بإحدى هاتين العقوبتين)‪.‬‬
‫وتأمل قولهم (ل تجاوز خمس سنوات) فإنه يعني أن العقوبة قد تكون أقل بكثير من ذلك حتى‬
‫تساوي عقوبة الزاني غير المحصن أو تقل عنها‪ ،‬خاصة وأنهم في غير المحصن قد حدّوا أخف‬
‫عقوبة بستة أشهر‪ ،‬أما هنا فلم يقيدوا حدّا أدنى‪..‬‬
‫بل إن قولهم (أو بإحدى هاتين العقوبتين) يجعل زنى المحصن أهون بكثير من زنى غير‬
‫المحصن فقد تكون العقوبة هنا غرامة تافهة لم يضعوا لها في قانونهم هذا حدّا أدنى‪ ،‬فيدفع‬
‫الفاجر دريهمات لينطلق مرة ثانية إلى فجورهة وبالطبع فإن ذلك كله يرجع إلى هوى القاضي‬
‫والواسطة وقوتها وشطارة المحامي وما إلى ذلك‪..‬‬
‫ول داعي أن نكرر ما قلناه قبل عن هلهلة قولهم (وضبط متلبسا) وعدم انضباطه‪ ،‬وإمكان‬
‫إستغلل ذلك لقذف المؤمنين الطهار وتلويث سمعتهم وعرضهم ‪..‬‬
‫(‪ )4‬ويجب أن يعلم المسلم أن العراض والنساب عند عبيد الياسق أحقر وأتفه من ذلك بكثير‪..‬‬
‫فإن المادة (‪ )197‬تسقط العقوبة تماما عن الزاني (أو الزانية) المحصن بشرط تنازل الزوج‬
‫الديوث ورضاه واستمرار الزوجية‪ ،‬ونصها‪( :‬يجوز للزوج المجني عليه في جريمة الزنا أن‬
‫يمنع إقامة الدعوى الجزائية على الزوج الزاني‪ ،‬رجلً كان أو امرأة‪ ،‬وعلى شريكه في الزنا‪،‬‬
‫بشرط أن يقبل المعاشرة الزوجية كما كانت‪ ،‬ولهذا الزوج أن يوقف تنفيذ الحكم النهائي‪،‬‬
‫برضائه باستمرار الحياة الزوجية‪ ،‬وإذا منع الزوج المجني عليه إقامة الدعوى الجزائية أو‬
‫أوقف سير الجراءات أو أوقف الحكم النهائي لم تسر أحكام المادة ((‪ .))194‬أي أنهم يعطّلون‬

‫‪252‬‬
‫عقوبتهم الهزيلة المتقدمة الذكر لسواد عين الزوج الديوث‪ ،‬وكيف ل يعطلونها وقد عطّلوا حدود‬
‫الشريعة قبلها‪..‬‬
‫فهذه المادة فتح لباب الدياثة والدعارة والفجور على مصراعيه‪ ،‬ولقد استغلها أهل الفجور‬
‫استغللً قذرا يتناسب مع قذارتها ‪ -‬ول شك بأن في مقدمتهم كثيرا من عبيد القانون ‪ -‬بحيث‬
‫يأتي الواحد منهم بأربع عاهرات من الشرق أو من الغرب على أنهن زوجات له‪ ،‬ويستخرج‬
‫لهن عقود زواج رسمية‪ ،‬ثم يفتح لهن بيتا للدعارة والفجور‪ ،‬يفتك بشباب المة ويُسهّل لهم سبل‬
‫الغي تسهيلً‪ ،‬ليدمر بقايا إيمانهم وأخلقهم ولدفعهم إلى جهنم دفعا‪ ،‬وإذا ما ُبلّغ عنه أو قبض‬
‫عليه فإن حصنه الحصين ودرعه المتين وحاميه الخؤون هو وعاهراته وفجّاره‪ ،‬هذه المادة‬
‫النتنة الخبيثة من دين عبيد الياسق‪ ،‬فإنها تنص على أنه ل دعوى جزائية في هذه الحالة بل‬
‫توقف جميع إجراءات قانونهم ويوقف تنفيذ أي حكم من أحكامهم الهزيلة نهائيا‪ ،‬بمجرد رضا‬
‫ذلك (القوّاد) باستمرار حياته الزوجية سواء الحقيقية أو المزيفة‪ ،‬وهو راضٍ بالطبع منذ البداية‬
‫وحتى النهاية ‪.‬‬
‫وهكذا يعلم كل مسلم علم اليقين أن شريعة عبيد الياسق ل تقيم للعراض ول للنساب وزنا‪ ،‬بل‬
‫هي في الحقيقة قتل للشرف والغيرة والرجولة والمروءة‪ ،‬وهي قبل ذلك كله إماتة للدين وحدوده‬
‫وهتك لحرماته‪ ..‬فإلى متى النوم يا قوم؟؟‬
‫ويؤكد المحتوى النتن للمادة السابقة ويباركه َأيْضا ما حوته المادة (‪ )109‬من قانون الجراءات‬
‫والمحاكمات الجزائية والتي تنص على أنه ‪( :‬ل يجوز رفع الدعوى الجزائية إلّ بناء على‬
‫شكوى المجني عليه في الجرائم التية‪:‬‬
‫أولً‪ :‬جرائم السب والقذف وإفشاء السرار‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬جريمة الزنا (وهذا محل الشاهد)‪.‬‬
‫ثالثاُ‪ :‬جرائم خطف الناثة الخ (وهو تبع لما قبله)‪.‬‬
‫وكذا المادة (‪ )110‬التي تليها مباشرة‪( :‬لمن صدر منه الذن أو الشكوى حق العدول عن ذلك‬
‫ويعتبر العدول عفوا خاصا عن المتهم وتسري عليه أحكامه)‪.‬‬
‫ومثل ذلك قولهم في المادة (‪ )39‬من قانون الجزاء‪( :‬ل يعد الفعل جريمة إذا رضي المجني عليه‬
‫بارتكابه‪ .‬وكان وقت ارتكاب الفعل بالغا من العمر ثماني عشرة سنة غير واقع تحت إكراه‬

‫‪253‬‬
‫مادي أو معنوي‪ ،‬عالما بالظروف التي يرتكب فيها الفعل وبالسباب التي من أجلها يرتكب‪،‬‬
‫ويشترط أن يكون الرضا سابقا على ارتكاب الفعل ومعاصرا له)‪.‬‬
‫وبهذا تعرف أن أصل قوانينهم قائم على تراضي المجرمين‪ ،‬فإن تراضوا على الزنا بزوجاتهم‬
‫أو غيرهن أو على القذف أو الخطف أو الفجور أو غير ذلك‪ ،‬فل عقوبة أبدا‪ ..‬فهل يشك بعد‬
‫هذا من عنده أدنى مسكة من عقل في سفاهة وحقارة قوانينهم ؟؟ وأنها تشريعات غابة نام‬
‫أسودها فتواثبت صغار الثعالب‪ ،‬وأنها هتك للعراض وضياع للنساب والحرمات‪ ..‬خاصة‬
‫وأن الغالبية العظمى من جرائم الزنا في هذه المجتمعات السنة تحصل برضى جميع الطراف‬
‫ومباركتهم‪.‬‬
‫فالعقوبة في جريمة الزنا عند عبيد الياسق حق من حقوق الزوج‪ ،‬لذى سموه (المجني عليه)‬
‫كما في هذه المادة وغيرها‪ ،‬وكما في المادة (‪ )197‬المتقدمة‪ ،‬فهو الذي يقررها أو يرفعها‪ ..‬وهذا‬
‫قمة في الفوضى القضائية‪ ،‬وفتح لباب الفجور كما قدمنا‪..‬‬
‫أما في شريعة اللطيف الخبير التي تعمل على تطهير المجتمعات وتحضيرها وتنظيفها‪ ،‬فإن‬
‫ذلك حد من حدود ال َتعَالى إذا بلغ الحاكم وثبت على المحكوم‪ ،‬فليس لحد رفعه كائنا من كان‬
‫ل زوج ول أب ول محرم ول أمير ول غيره‪ ..‬ومن هذا تعلم أن دين ال غير دين عبيد‬
‫الياسق‪ ،‬وأن حدود ال هي العليا وعقوبات وقوانين عبيد الدستور هي السفلى‪ ،‬وأن شرع ال‬
‫بريء من هذه الفوضى وذلك التخبط الذي يحويه شرع عبيد القانون‪ ..‬وأنّ لهم دينهم ولنا دين‪..‬‬
‫ومنه تعرف َأيْضا أن اليهود غضب ال عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير‪ ،‬لم يبلغوا‬
‫من الحقارة عندما غيّروا أحكام ال وحدوده في الزنا مبلغ أذنابهم من عبيد الياسق العصري‪،‬‬
‫فيوم أن عطل اليهود حد الرجم‪ ،‬لم يلغوا عقوبة الزنا كليا برضى الزوج ليسهلوا الفجور والبغاء‬
‫كما فعل هؤلء‪ ،‬بل استبدلوا حد الرجم بالجلد والتحميم‪ ،‬وطبقوه على الشريف والوضيع‪ ،‬فكانوا‬
‫غيَر على أعراضهم من عبيد الياسق‪ ..‬روى المام أحمد ومسلم في صحيحه عَنِ‬
‫مع كفرهم أ ْ‬
‫فَقَالَ‪َ " :‬هكَذَا َتجِدُونَ حَدّ‬ ‫جلُودًا فَدَعَاهُمْ‬
‫ح ّممًا مَ ْ‬
‫ِب َيهُو ِديّ مُ َ‬ ‫علَى ال ّنبِيّ‬
‫ا ْل َبرَاءِ بْنِ عَا ِزبٍ قَالَ ُمرّ َ‬
‫عَلمَا ِئهِمْ فَقَالَ‪َ " :‬أنْشُ ُدكَ بِاللّهِ الّذِي َأ ْنزَلَ ال ّت ْورَاةَ‬
‫الزّانِي فِي ِكتَا ِبكُمْ؟" قَالُوا‪َ :‬نعَمْ‪ ،‬فَدَعَا رَجُلً مِنْ ُ‬
‫خ ِب ْركَ‬
‫علَى مُوسَى أَ َهكَذَا تَجِدُونَ حَ ّد الزّانِي فِي ِكتَا ِبكُمْ؟" قَالَ ‪ :‬ل َوَلوْل َأ ّنكَ نَشَ ْد َتنِي ِبهَذَا لَمْ أُ ْ‬
‫َ‬
‫عَليْهِ‬
‫ضعِيفَ أَ َق ْمنَا َ‬
‫شرِيفَ َت َر ْكنَاهُ َوإِذَا أَخَ ْذنَا ال ّ‬
‫شرَا ِفنَا َف ُكنّا إِذَا أَخَ ْذنَا ال ّ‬
‫نَجِ ُد ُه الرّجْمَ َوَل ِكنّهُ َك ُثرَ فِي أَ ْ‬
‫جلْدَ َمكَانَ‬
‫حمِيمَ وَالْ َ‬
‫ج َع ْلنَا التّ ْ‬
‫شرِيفِ وَالْ َوضِيعِ فَ َ‬
‫علَى ال ّ‬
‫شيْءٍ نُقِيمُهُ َ‬
‫علَى َ‬
‫ج َتمِعْ َ‬
‫الْحَدّ ُق ْلنَا َتعَاَلوْا َف ْلنَ ْ‬

‫‪254‬‬
‫عزّ‬
‫ل اللّهُ َ‬
‫حيَا َأ ْم َركَ إِذْ َأمَاتُوهُ فََأ َمرَ بِهِ َفرُجِمَ فََأ ْنزَ َ‬
‫ل اللّهِ ‪( :‬الّلهُمّ ِإنّي َأوّلُ مَنْ أَ ْ‬
‫الرّجْمِ فَقَالَ رَسُو ُ‬
‫ح ُز ْنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ا ْلكُ ْفرِ } ِإلَى َق ْولِهِ { إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ}‬
‫وَجَلّ {يَا َأ ّيهَا الرّسُولُ ل َي ْ‬
‫ل اللّهُ‬
‫جلْدِ فَخُذُوهُ َوإِنْ أَ ْفتَاكُمْ بِالرّجْمِ فَاحْ َذرُوا فََأ ْنزَ َ‬
‫حمِيمِ وَالْ َ‬
‫فَإِنْ َأ َم َركُمْ بِالتّ ْ‬ ‫حمّدًا‬
‫يَقُولُ‪ :‬ا ْئتُوا مُ َ‬
‫حكُمْ ِبمَا َأ ْنزَلَ اللّهُ فَأُوَل ِئكَ هُمُ‬
‫ل اللّهُ فَأُوَل ِئكَ هُمُ ا ْلكَا ِفرُونَ } { َومَنْ لَمْ يَ ْ‬
‫حكُمْ ِبمَا َأ ْنزَ َ‬
‫َتعَالى { َومَنْ لَمْ َي ْ‬
‫حكُمْ ِبمَا َأ ْنزَلَ اللّهُ فَأُوَل ِئكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } فِي ا ْلكُفّارِ ُكّلهَا)‪.‬‬
‫الظّاِلمُونَ } { َومَنْ لَمْ يَ ْ‬
‫فتأمل نزول هذه اليات العظيمات فيمن بدل حكم الرجم فقط‪ ،‬فكيف بمن استبدل حدود ال‬
‫وأحكامه كلها جملة وتفصيلً‪ ،‬والشاهد من هذا كما قلنا أن تعلم أن اليهود على ضللهم لم يبلغوا‬
‫في استهتارهم بالعراض مبلغ عبيد الياسق وقوانينهم القذرة هذه‪..‬‬
‫أضف إلى ذلك كله ما قدمناه وأشرنا إليه من قبل من قوانين التخفيفات والتهوينات التي تفتح‬
‫الباب أكثر من مصراعيه لكل فاجر حقير‪ ..‬سواء الحكم بوقف التنفيذ أو حفظ التحقيق أو قضاء‬
‫ثلثي العقوبة أو صلحية العفو التام والشامل عن أي جريمة والذي جعلوه حقا من حقوق‬
‫أميرهم‪ .‬وكذا قوانين من سموهم بالحداث رغم بلوغهم مثل ذلك أيضا ‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫قوانينهم الخرى المميعة والمبطلة حتى لعقوباتهم الهزيلة‪ ..‬وقد كررنا هذا مرارا‪..‬‬
‫ويناسب هنا أن نضيف ونذكر البند (ب) من مادة رقم (‪ )14‬من قانون الحداث والذي ينص‬
‫على أنه (إذا ارتكب الحدث جريمة عقوبتها الحبس المؤقت حكم القاضي عليه بالحبس مدة ل‬
‫تجاوز نصف الحد القصى المقرر قانونيا) وكذلك المر بالنسبة للغرامة كما في البند (ج) من‬
‫المادة نفسها‪ ،‬وهكذا تعرف مدى استخفاف عبيد الياسق بأعراض الناس وكيف يفتحون لمن‬
‫سموهم أحداثاُ وهم في الحقيقة مكلفون بالغون‪ ،‬جميع أبواب الفساد والفساد واللعب بالعراض‬
‫فليس وراءهم من حكم مانع ول حد رادع‪ ،‬بل هي قوانين هزيلة‪ ،‬كل مادة فيها تنسف وتبطل‬
‫وتخنق وتلعب بما قبلها من المواد‪ ،‬فلعنة ال على الظالمين‪.‬‬
‫وأستدرك هنا فأقول‪ :‬بل إن في قانون من سموهم بالحداث ما يحكم بالبراءة على الزاني البالغ‬
‫الذي عدوه حدثا لن عمره لم يكمل الثامنة عشرة ولو بأسبوع واحد‪ ..‬وأعني بذلك المادة (‪)16‬‬
‫ونصها‪( :‬يجوز لقاضي الحداث فيما عدا الجرائم التي عقوبتها العدام أو الحبس المؤبد ‪ -‬بدلً‬
‫من توقيع العقوبات المنصوص عليها في المادة (‪ )14‬أن يتخذ في شأن الحدث التدابير‬
‫المنصوص عليها في الفقرات (ج‪ ،‬د‪ ،‬هـ) من المادة السادسة من هذا القانون)‪.‬‬

‫‪255‬‬
‫وماذا في الفقرات ( ج‪ ،‬د‪ ،‬هـ‪ )،‬يا ترى؟ هل فيها حد ال تعالى؟ بالطبع ل‪ ،‬لن عبيد الياسق‬
‫أبعد الناس عن ذلك فليس في هذه الفقرات إلّ العبث والستخفاف بأعراض الناس‪ ..‬وإليكها‪:‬‬
‫ج ‪ -‬الختبار القضائي‪.‬‬
‫د‪ -‬اليداع في مؤسسة لرعاية الحداث‪.‬‬
‫هـ‪ -‬اليداع في مأوى علجي‪..‬‬
‫وهكذا سقطت عقوبة الزنا التي شرعوها رغم هزالتها‪ ،‬وأصبح مباحا في دين عبيد الياسق لكل‬
‫شاب لم يكمل الثامنة عشرة ولو بيوم أو يومين طبقا لقانونهم‪..‬‬
‫وهكذا فلكل وغد خسيس أن يتمتع بعد بلوغه بهتك أعراض بناتكم يا من رضيتم بهذه القوانين‪،‬‬
‫لمدة قد تصل إلى أربع سنوات في ظل حماية هذه القوانين فهي له ولمثاله من محبي هذه‬
‫القوانين وواضعيها ومطبقيها درع متين وحصن حصين‪..‬وإباحيّة‪ ،‬وحرية جنسية كما يسمونها‪..‬‬
‫بل إن في المادة (‪ )21‬والمادة (‪ )20‬من قانون (الدعارة) أعني الحداث ما يفسح المجال ويسهله‪،‬‬
‫لكل من رغب بفتح بيوت للدعارة والزنا وتخير من سموهم بالحداث للعمل فيها‪ ،‬حيث نصت‬
‫المادة (‪ )21‬بأنه (يعاقب بنفس العقوبة المنصوص عليها في المادة السابقة ‪ -‬وهي الحبس مدة ل‬
‫تزيد على ثلثة أشهر‪ ،‬من عرّض حدثا للنحراف بأن أعدّه للقيام بعمل من العمال المنصوص‬
‫عليها في الفقرة (ج) من المادة الولى من هذا القانون‪ ..‬الخ)‪.‬‬
‫وإليك ما جاء في الفقرة (ج) من المادة الولى من هذا القانون‪ ،‬لتتعرف على المزيد من فضائح‬
‫ومخازي عبيد الياسق‪( :‬ج) يعتبر الحدث معرضا للنحراف إذا وجد في أي من الحالت التية‪:‬‬
‫‪ -‬فذكر عدة حالت منها‪: -‬‬
‫‪-‬إذا قام بأعمال تتصل بالدعارة والفجور أو القمار أو المخدرات أو المسكرات أو نحوها أو قام‬
‫بخدمة من يقومون بها‪.‬‬
‫وهكذا فإن لكل فاجر حقير أن يعد أفواجا من الحداث فتيانا وفتيات‪ ،‬من غير البالغين‪ ،‬أو من‬
‫البالغين منهم والبالغات ممن هم دون الثامنة عشرة للدعارة والفجور ولن يعاقب إن طاله عقاب‪،‬‬
‫إلّ بمدة ل تزيد على الثلثة أشهر وهذا يعني أنها قد تكون شهرا أو أقل‪ ،‬يقضيها في الراحة‬
‫والستجمام مع أحبابه من حماة الدياثة وحراس الزنا‪ ،‬أعني جند القوانين‪ ،‬ولن تزيد أبدا في‬
‫حال من الحوال عن ثلثة شهور‪ ،‬هذا إن لم تحمه المرَقّعات وال ُم َهوّنات وال ُم َميّعات من‬
‫قوانينهم التي كررناها مرارا‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫وفي المادة (‪ )200‬من قانون الجزاء‪( :‬كل من حرض ذكرا أو أنثى على ارتكاب أفعال الفجور‬
‫والدعارة أو ساعده على ذلك بأية طريقة كانت‪ ،‬يعاقب بالحبس مدة ل تجاوز سنة واحدة‪،‬‬
‫وبغرامة ل تجاوز ألف روبية أو بإحدى هاتين العقوبتين)‪.‬‬
‫فهذا في غير من سموهم بالحداث‪ ..‬وهذه المادة تعني أن من فتح بيتا للدعارة ولم يكن يعرف‬
‫المادة (‪ )197‬التي تسهل له ذلك وتساعده عليه كما قدمنا‪ ..‬فل ينبغي له أن يجزع‪ ،‬وليس عليه‬
‫أن يخاف أو يفزع‪ .‬لن هذه المادة هي ملذه وحصنه الحصين الذي يحميه ويعينه على تجارته‬
‫الرخيصة‪ ..‬فإنه بموجبها قد ل يسجن إلّ أشهرا يسيرة لن تجاوز السنة‪ .‬بل قد ل يحكم عليه‬
‫بالسجن ألبتة‪ ..‬ويكتفى بالغرامة المالية الهزيلة‪ ،‬هذا إن لم تبرئه قوانين التمييع والتهوين‪،‬‬
‫ليخرج مرة أخرى ويواصل مزاولته لمهنة الفجور والبغاء وتجارة رقيق العراض المباحة في‬
‫دين عبيد الياسق‪.‬‬
‫وبقية المادة (‪ )200‬تنص على أن العقوبة فيما إذا كانت سن المجني عليه تقل عن الثامنة عشرة‬
‫ل تتجاوز سنتين حبسا وغرامة ل تجاوز اللفي روبية أو إحدى هاتين العقوبتين‪.‬‬
‫وهذا يناقض على هزالته َأيْضا المادة (‪ )21‬من قانون الحداث السالفة الذكر السافلة القدر‬
‫والتي تقضي على من أعد حدثا للقيام بأعمال الدعارة والفجور بالحبس ثلثة أشهر فقط‪ ..‬وهذا‬
‫هو حال قوانين عبيد الياسق‪ ..‬يناقض بعضها بعضا‪ ،‬ويعارض آخرها أولها وهو حال وقدر‬
‫البشر الناقصين الضعفاء‪ ..‬فكيف بأرذالهم وسقطتهم وسفهائهم من عبيد القانون وأذناب‬
‫الطواغيت ‪ ..‬الذين هم كالنعام بل أضل‪ ..‬ينسون في قانون الحداث ما قرروه في قانون‬
‫الجزاء‪ ،‬ويبطلون في قانونهم التجاري ما قننوه في المدني‪ ،‬كما تقدم بعض من ذلك في الربا‬
‫وغيره‪ ،‬اليوم يقننون وغدا يرقعون ويبدلون‪ ..‬وصدق ال العلي العظيم إذ يقول عن شرعه‬
‫غ ْيرِ اللّهِ‬
‫عنْدِ َ‬
‫وحكمه الموصوف بالصدق والعدل‪ ،‬المنعوت بالكمال والجلل { َوَلوْ كَانَ مِنْ ِ‬
‫ختِلفًا َكثِيرًا} [النساء ‪ ،]82 :‬ومع ذلك فها هم ينافحون عن قوانينهم هذه ويعظمونها‬
‫َلوَجَدُوا فِيهِ ا ْ‬
‫ويبجلونها ويقسمون على احترامها‪ ..‬رغم حقارتها وسقوطها وتفاهتها‪..‬‬
‫ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ}؟؟‪.‬‬
‫{ ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ‬
‫وعلى كل حال فهم المستفيدون أولً وأخيرا من هذه التناقضات‪ ،‬فالقوانين إذا كانت يُعارض‬
‫ويُهوّن ويُرقع ويُميع بعضها بعضا‪ ،‬فإن هذا يعطي عبيد الياسق مجالت كثيرة من التلعب‬
‫بالعراض وغيرها‪..‬‬

‫‪257‬‬
‫وأضرب لك على هذا مثالً واضحا من أمثلة كثيرة‪ ،‬يزيد يقينك بصحة ما نقول‪( ،‬نشرت جريدة‬
‫قصة امرأة متزوجة تدعى (سعاد) تبلغ من العمر حسب‬ ‫‪27/5/1988‬‬ ‫السياسة الصادرة يوم الجمعة‬
‫وثائقها الرسمية (‪ )16‬سنة فقط‪ ،‬أي أنها تعتبر في قوانينهم حدثا ‪ -‬تهيم على وجهها طلبا للفجور‬
‫فيتلقاها أربعة من الفجار وتمكث معهم من ثلثة إلى أربعة أيام يتناوبون عليها الزنا‪ ..‬فتحكم‬
‫المحكمة ببراءة الربعة رغم ثبوت الزنا عليهم ورغم أن الزوج لم يتنازل ورفض استمرار‬
‫الحياة الديوثيةة)‬
‫إذن أين قوانينكم يا عبيد الياسق‪ ..‬يا من تدعون الفضيلة وتتظاهرون بالغضب إذا ما وصفناكم‬
‫بالفجار والقوادين‪ ،‬أو وصفنا قوانينكم بالدياثة؟؟‪.‬‬
‫إن المادة (‪ )197‬هنا ليس لها عمل لن الزوج رفض استمرار الحياة الزوجية فأين عقوبة الزناة‬
‫يا فقهاء!! القانون؟؟‬
‫سهّلة‪ ،‬الحكم هنا ببراءة هؤلء الفجار الربعة لن الزنا‬
‫قالوا‪ :‬ل‪ ،‬هناك قوانين أخرى ُمَليّنة ومُ َ‬
‫كان عن تراض (دون حيلة أو إكراه) وليس على جسد الفاجرة أية آثار ضرب أو اعتداء كما‬
‫جاء في الجريدة المذكورة‪..‬‬
‫عفوا لقد نسيت أن الزنا في شرعهم حلل إذا كان بتراضٍ من الفجار والفاجرات‪ ،‬لكن أين‬
‫قوانينكم الخرى يا مجرمون؟ أليست هذه العاهرة تعتبر في قوانينكم من الحداث؟ أين عقوباتهم‬
‫المهولة ‪ -‬التي تضحكون فيها على المساكين لمن استغل حدثا لعمال الدعارة؟ أين عقوبات‬
‫الزنا بالحداث وغيرها؟؟‬
‫قالوا‪ ( :‬ل‪ " ،‬يُبا" أنتم ما تفهمون بالقانون‪ ،‬عندنا " طال عمرك" قوانين ثانية تجعل للطبيب‬
‫ش ْغلَة‬
‫الشرعي حق تقدير عمر المتهم "واحنا يبا مو على كل حال نعترف بالوثائق الرسمية"‪" ،‬ال ّ‬
‫يُبا عالمزاج إذا بغينا نعترف اعترفنا‪ ،‬وإذا ما بغينا كِشتنا فيها‪ ،‬على حسب المتهم وواسطته)‪..‬‬
‫قالت الجريدة المذكورة ‪( :‬وجاء في حيثيات الدفاع أن الدفاع احتج بتقرير من الطبيب الشرعي‬
‫يقدر عمر المذكورة ب (‪ )21‬سنة لن شكلها يوحي بذلك !!)‪ .‬ولم يعترفوا بوثائقهم الرسمية‬
‫رغم أنهم لو اشتهوا ذلك وأرادوه لجعلوها وثائق مقدسة‪ ،‬وحججا دامغة‪ ،‬ل يأتيها الباطل من‬
‫بين يديها ول من خلفها‪ ..‬وهكذا خرج الزناة الربعة كغيرهم‪ ،‬براءة‪ ..‬ولم تُقم عليهم بالطبع‬
‫حدود ال‪ ،‬ول نالتهم حتى عقوبات الياسق المهترئة الهزيلة‪ ،‬لينطلقوا من جديد يعيثون في‬
‫الرض والعرض فسادا‪ ..‬وبحماس أشد هذه المرة‪ ..‬فقد عرفوا أن ل حسيب عليهم في ظل هذه‬

‫‪258‬‬
‫القوانين ول رقيب‪ ..‬فالرقيب والعريف والضابط والنقيب وسادتهم مشغولون بمثل شغلهم‬
‫وأخبارهم يعرفها كل من يعرفهم جيدا‪ ،‬وأنا على يقين بأنه لن يماري في ذلك أحد خصوصا‬
‫هم‪ ،‬وفي قرارة أنفسهم‪..‬‬
‫أضف إلى ذلك أن هؤلء الزناة ما عادوا يرهبون تلك القوانين‪ ،‬فقد جربوها واطمأنوا إلى‬
‫هزالة عقوباتها وعرفوا مخارجها الكثيرة ومداخلها‪ ..‬فهم فرحون مستبشرون آمنون في ظللها‬
‫المنتنة‪ ..‬ول يفرح بقوانين الياسق هذه وال إلّ كل ديوث‪ ..‬بل ل يفرح بها ورب الكعبة ويحبها‬
‫إلّ مشرك أو كافر قد برئ من السلم وبرئ السلم منه‪.‬‬
‫ولقد فتحت المادة (‪ )202‬من القانون نفسه الباب على مصراعيه لموظفي الدعارة فنصت على‬
‫أن (كل من يعتمد في حياته رجلً كان أو امرأة‪ ،‬بصفة كلية أو جزئية على ما يكسبه شخص‬
‫من ممارسة الفجور والدعارة وذلك بتأثيره فيه أو بسيطرته عليه أو بإغرائه على ممارسة‬
‫الفجور وسواء أكان يحصل على ماله برضائه‪ ..‬الخ) وذكروا العقوبة التي ل تتجاوز سنتين أو‬
‫الغرامة التي ل تجاوز ألفي روبية‪ ..‬وقولهم‪ ( :‬ل تجاوز كذا وكذا) واضح كما قدمنا مرارا بأن‬
‫العقوبة قد تتدنى كثيرا تبعا لشطارة المحامي والقوانين المميعة‪ ..‬فتأمل هذا لتزداد معرفة بحقارة‬
‫دين الياسق‪ ..‬وكذا المادة (‪ )203‬فإنها ل تختلف كثيرا عن أختها الغير شرعية السابقة‪ :‬ونصها‪:‬‬
‫(كل شخص أنشأ أو أدار محلً للفجور والدعارة يعاقب بالسجن مدة ل تزيد على ثلث سنوات‬
‫وبغرامة ل تجاوز ثلثة آلف روبية أو بإحدى العقوبتين)‪.‬‬
‫ويجدر بنا التنبيه إلى أن هذه العقوبة رغم هزالتها ورغم تقييدهم لها (بكلبشة) ‪( :‬ل تزيد)‬
‫المتكررة دوما في قوانينهم‪ ..‬فإنك ل تكاد تسمع بتطبيقها في واقعهم القذر هذا رغم نتانته‬
‫المكشوفة للبعيد والقريب ورغم وضوح الفجور والبغاء والدعارة في شوارعه لكل أحد‪ ،‬حتى‬
‫إن فجار الخليج والجزيرة يشدون الرحال إلى أسواق الكويت وشققها وقحابِها ليل نهار‪،‬‬
‫يستعيدون بذلك ذكريات (الرميلة) وأمثالها من مناطق الفجور المشهورة في هذا البلد حتى أننا‬
‫سمعنا أحد فجار الجزيرة يقول لفاجر من فجار الكويت‪( :‬أعطونا "السالمية" ونعطكم "مكة")‪..‬‬
‫فلعنة ال على الظالمين‪ .‬وعلى كل حال فيمكن تعليل تعطيلهم لهذه العقوبة وعدم اشتهارها في‬
‫جرائدهم بأمرين‪:‬‬

‫‪259‬‬
‫الول‪ :‬أن شبكات الدعارة المنتشرة هنا‪ ،‬تعمل بالغالب تحت حماية ورعاية المل من عبيد‬
‫الياسق أنفسهم‪ ،‬ومن شيوخ وضباط ومسؤولين كبار‪ ،‬فمن سيوقع هذه العقوبات إذا كان‬
‫( حاميها حراميها)؟؟‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬حصنهم الحصين أعني المادة (‪ )197‬التي يلجأ إليها كل ديوث وقح فيستغلونها لفتح‬
‫بيوت الدعارة تحت ظل رضى الزوج وقبوله باستمرار الحياة الزوجية مع زوجاته العاهرات‪..‬‬
‫كما قدمنا‪ ،‬وبذلك لن تطولهم ل هذه العقوبات ول غيرها رغم تفاهتها‪ ..‬ناهيك عن المواد‬
‫المكبلة والمهونة الكثيرة‪.‬‬
‫والمادة (‪ )200‬المتقدمة في بيوت الدعارة والفجور‪ ،‬إنما هي في بيت الدعارة الذي يقوم بتراضي‬
‫العاملين فيه والعاملت أما إذا كان ذلك بالجبر والتهديد والكراه فإن المر ل يختلف عند عبيد‬
‫الياسق كثيرا‪ ..‬كما في المادة (‪ )201‬من قانون الجزاء والتي نصت على أن ( كل من حمل‬
‫ذكرا أو أنثى على ارتكاب الفجور والدعارة عن طريق الكراه أو التهديد أو الحيلة يعاقب‬
‫بالحبس مدة ل تجاوز خمس سنوات وبغرامة ل تجاوز خمسة آلف روبية أو بإحدى هاتين‬
‫العقوبتين)‪..‬الخ‪.‬‬
‫وهكذا فإن لكل فاجر خسيس أن يقوم بإكراه من يشاء من النساء على أعمال البغاء والفجور‬
‫متى شاء وكيف شاء‪ ..‬وعليه أن ل يفزع أو يجزع لن قوانينهم كما في هذه المادة لن تحكم‬
‫عليه إلّ بفترة من الراحة‪ ،‬يقضيها في السجن قد ل تتجاوز أشهرا يسيرة ولن تزيد بحال من‬
‫الحوال عن الخمس سنوات بينما لها أن تقل تبعا لهوى القاضي وشطارة المحامي ومعرفته‬
‫بقوانينهم المسهلة ال ُمَليّنة‪ ..‬بل بالمكان طبقا لمنطوق هذه المادة أن يلغى عقوبة السجن تماما‪،‬‬
‫ويعاقب بالغرامة فقط والتي يجوز عندهم أن تتدنى كثيرا‪ ،‬المهم أنها لن تزيد في حال من‬
‫الحوال عن الخمسة آلف روبية !! ويرجع نقصانها والتنزيلت والخصميات عليها كذلك إلى‬
‫شطارة المحامي ومعرفته بالقوانين المميعة‪ ،‬واستغلله لها‪ ،‬وقوة علقته ومعرفته بأقطاب‬
‫المحكمة هذا كله إن سلمت القضية من عفو أميرهم أو وقف التنفيذ أو حفظ التحقيق أو غير ذلك‬
‫‪..‬‬
‫فهنيئا للزناة وهنيئا للفجرة بهذه القوانين هنيئا لهم بدين عبيد الياسق وشريعتهم التي تحمي‬
‫النزوات الساقطة وتحفظ الشهوات الرخيصة‪..‬‬

‫‪260‬‬
‫ليس ذلك وحسب‪ ..‬فالسقوط الذي تهوي به قوانين عبيد الياسق في مهاوي العهر والدياثة‬
‫والفجور ل يقف عند حد‪..‬‬
‫فالمادة (‪ )204‬من قانون الجزاء تضع هؤلء الفجار في مصاف البطال الذين يعملون على تقدم‬
‫المة ورفعة المجتمع‪ ،‬وإليك نصها‪:‬‬
‫( كل من حرّض علنا في مكان عام على ممارسة الفجور والدعارة يعاقب بالحبس مدة ل‬
‫تجاوز سنتين وبغرامة ل تجاوز ألفي روبية أو بإحدى هاتين العقوبتين‪ ،‬ويحكم بالعقوبات‬
‫السابقة على كل من طبع أو وزع أو عرض صورا أو رسوما أو نماذج أو أي شيء آخر يخل‬
‫بالحياء‪ .‬ول جريمة إذا صدرت القوال أو نشرت الكتابة أو الرسوم أو الصور على نحو‬
‫يعترف به العلم أو الفن وذلك بنية المساهمة في التقدم العلمي أو الفني)‪.‬‬
‫فبال عليك يا من تدين بدين السلم‪ ،‬هل رأيت أنتن وأخس وأقذر من هذه القوانين التي يبجلها‬
‫ويحكم بها عبيد الياسق ويعبّدون الناس لها‪..‬؟؟‬
‫انظر إلى هؤلء المفسدين كيف يفتحون أبواب الفساد والفجور بقوانين حقيرة رخيصة تجعل‬
‫الفن في مصاف العلم‪ ،‬والفنانين العاهرين منهم والعاهرات في مصاف العلماء‪ ..‬وأي علم هذا‬
‫الذي تخادعون الناس به وتتمسحون فيه‪ ،‬إنكم لم تأخذوا من أوليائكم من نصارى الغرب إلّ‬
‫العهر والفجور‪ ،‬وعلى رأس ذلك كله وثنيتهم العصرية وثنية القانون‪ ،‬وأخذتم منهم َأيْضا أراذل‬
‫الخلق‪ ،‬فنّكم الرخيص هذا الذي تبيحون لجله ‪ -‬كما في هذه المادة ‪( -‬التحريض علنا في مكان‬
‫عام على ممارسة الفجور والدعارة) وهذا هو تماما ما يفعل دوما في أفلمكم ومسرحياتكم‬
‫ورواياتكم وقصصكم ومهرجاناتكم وحفلتكم وهلكاتكم الساقطة‪ ،‬مما يقرر ياسقكم حكمه بقوله‪:‬‬
‫(ل جريمة)‬
‫ن اللّهِ أَفَل َتعْ ِقلُونَ}؟؟‬
‫{ُأفّ َلكُمْ َوِلمَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ‬
‫(‪ )5‬وحقارة عبيد الياسق وسفاهتهم واستخفافهم بالعراض والنساب ل تتوقف عند هذا الحد بل‬
‫تتعداه إلى الستخفاف حتى بزنا المحارم والعياذ بال‪.‬‬
‫كما في المادة (‪ )189‬من قانون الجزاء‪( :‬من واقع أنثى محرم منه وهو عالم بذلك بغير إكراه أو‬
‫تهديد أو حيلة وكانت تبلغ الحادية والعشرين يعاقب بالحبس مدة ل تجاوز خمس عشرة سنة)‪.‬‬
‫والمادة (‪( : )190‬كل أنثى أتمت الحادية والعشرين من عمرها وقبلت أن يواقعها محرم منها‬
‫وهي تعلم صلتها به تعاقب بالحبس مدة ل تجاوز عشر سنوات)‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫والمادة (‪ ( :)192‬كل من هتك عرض صبي أو صبية لم يتم كل منهما الحادية والعشرين من‬
‫عمره بغير إكراه أو تهديد أو حيلة يعاقب بالحبس مدة ل تجاوز عشر سنوات فإذا كان الجاني‬
‫من أصول المجني عليه أو من المتولي تربيته‪ ..‬الخ كانت العقوبة بالحبس مدة ل تجاوز خمس‬
‫عشرة سنة‪)..‬‬
‫وقد نبهنا فيما تقدم مرارا أن قولهم (ل تجاوز) من حيلهم القانونية التي قد تنزل بالعقوبات‬
‫الكبيرة ‪ -‬التي يضحكون بها على ضعاف العقول ‪ -‬فتجعلها أحكاما تافهة صغيرة هزيلة كما‬
‫هو الحال هنا‪.‬‬
‫وإذا تذكرنا قوانين التمييع والتخفيف وغيرها مما ينتفعون به وينفعون أولياءهم في تهوين‬
‫وتصغير كل عقوبة حقيرة هزيلة خسيسة يتوهمها الجاني عظيمة كبيرة‪ ..‬عرفنا واقع قوانينهم‬
‫الفاسدة أكثر وأكثر‪ ،‬وبهذا تزداد يقينا بأن النعام أعقل وأغير بفطرتها التي فطرها ال عليها‪،‬‬
‫من عبيد الياسق العصري الذين انحرفوا عن فطرة ال َتعَالى وشرعه ودينه‪ ،‬ويسعون لصد‬
‫العباد وتحريفهم عنها‪ ..‬نقل الحافظ ابن حجر في الفتح (‪ )7/161‬عن أبي عبيدة معمر بن المثنى‬
‫في (كتاب الخيل) له من طريق الوزاعي ( أن مهرا أُن ِزيَ على أمّه فامتنع فأدخلت في بيت‬
‫عمَدَ إلى ذكره فقطعه بأسنانه من أصله)‬
‫وجللت بكساء وأُنزيَ عليها فنزى فلما شم ريح أمه َ‬
‫اهـ‪.‬‬
‫فمن أغير على المحارم بعد هذا‪ ،‬عبيد الياسق العصري ‪ -‬بعقوباتهم الساقطة السالفة السافلة ‪-‬‬
‫أم النعام؟؟‬
‫وهكذا فمما تقدم كله يعلم المسلم علم اليقين أن شريعة عبيد الياسق ودينهم وقانونهم ما هي إلّ‬
‫شريعة عهر ودين فجور وقوانين دياثة‪ ..‬وأنها إفساد وهتك وضياع للفطر والعراض‬
‫والنساب‪ ..‬وحماية للفجار والزناة والعاهرات‪.‬‬
‫خــــــــــلصـــة مـا ســــــــــــــــبق‬
‫يتلخص لدينا مما سبق من فضائح القانون الوضعي وعبيد الياسق الكفري أن قوانينهم هذه قائمة‬
‫على الشرك بال َتعَالى بتشريع ما لم يأذن به سبحانه‪ ..‬وأنها تعمل على هدم وإبطال جميع‬
‫الضروريات التي جاءت شريعة ال َتعَالى لحفظها وحمايتها‪.‬‬
‫• فقوانينهم هدم لدين السلم وملة التوحيد فهي ألغت حد الردة‪ ،‬وفتحت بتشريعاتها أبواب‬
‫الكفر على مصراعيها‪ ،‬بل تحمي المرتدين وتوالي الشرك والمشركين على اختلف صورهم‪،‬‬

‫‪262‬‬
‫وتحمي معتقداتهم الباطلة وتبيح لهم الجهر بها‪ ،‬وبالتالي الدعوة إليها ونشرها‪ .‬وليس هذا لليهود‬
‫والنصارى وحسب‪ ،‬بل لكل ملة ونحلة خبيثة كما تقدم‪ ،‬وواقعهم النجس‪ ،‬وموالتهم الواضحة‬
‫وعلقات المودة والصداقة والمحبة والعمالة التي تربطهم بأعداء ال الشرقيين منهم والغربيين‪،‬‬
‫من أظهر المور على انقيادهم واستسلمهم وتطبيقهم لتشريعاتهم وقوانينهم العفنة في هذا الباب؛‬
‫وفي الوقت نفسه فإن قوانينهم حرب على المؤمنين الموحدين الكافرين بهم وبأوليائهم‬
‫وبطواغيتهم العصرية هذه‪ ..‬فهي كما تقدم حرب على التوحيد الحق ومعول هدم لركانه وأيدٍ‬
‫بنّاءة للشرك والوثنية‪ ،‬وأنّى لهذه القوانين أن تقر دعوة الحق أو ترضى بتوحيد ينقضها ويبطلها‬
‫ويبغض أولياءها ويعاديهم‪ ..‬فيا ليت قومي يفقهون ويعقلون وينتبهون‪..‬‬
‫• وقوانينهم كذلك تتلعب بالنفوس والدماء‪ ،‬فبينما هي تحمي أرواح المشركين والمرتدين‬
‫وتجعل ( الحرب الهجومية محرمة) وهذا واقعهم شاهد بتطبيقهم لهذه القوانين واستسلمهم لها‪،‬‬
‫فليس من عدو للسلم والمسلمين إلّ وهو ولي حميم لهم‪ ،‬ول من مغتصب أثيم لبلد المسلمين‬
‫إلّ وهم أخلؤه وأحبابه وحرس على حدوده‪ ،‬وفي مقابل ذلك فإنها تهدر وتبدد أرواح ودماء‬
‫الموحدين فتجيز قتل المسلم بالكافر‪ ،‬وتقتل وتستحل دم كل من نصر التوحيد وحارب أو سعى‬
‫لهدم نظم الشرك القانونية وغيرها‪.‬‬
‫‪ -‬كما أنها تحمي كل من أمر ال َتعَالى ورسوله بقتله من مرتد أو زنديق أو زان ثيب أو‬
‫لوطي أو غير ذلك مما تقدم ذكره‪ ،‬وليس بخاف حال كثير من الكفرة الزنادقة المتسمين بأسماء‬
‫إسلمية ممن يطعنون في صحافتهم ليل نهار بشرائع السلم ويستهزؤون بأوامر ال ونواهيه‪..‬‬
‫فهل هناك نص قانوني يعاقبهم على هذا‪..‬؟ أم أن في نصوص القانون اللعين ما يحميهم ويكفل‬
‫حرياتهم ويحرم دماءهم ويعصمها بل يبيح دم من استحلها‪..‬؟ ثم أليس صاحب القانون هو الذي‬
‫يمنحهم التراخيص ويدعم صحافتهم بالعطايا المالية الضخمة‪ ..‬ويبارك أعمالهم؟؟‬
‫‪ -‬كما أنها وبقوانين مرقعة كثيرة تقدم ذكرها‪ ،‬تهوّن من قتل النفس المحرمة بغير الحق وتجعل‬
‫أرواح الناس عموما ‪ -‬وأعداء ياسقهم بشكل خاص ‪ -‬ألعوبة للمجرمين والمجرمات‪.‬‬
‫• وقوانينهم كذلك تستخف بعقول الخلق فتبيح الخمر وتعطل حدود ال َتعَالى فيها‪ ،‬وتسمح‬
‫بتعاطيها شريطة أن ل يكون ذلك في مكان عام وحتى لو كان في مكان عام فحدّ ال مضروب‬
‫به عرض الحائط‪ ،‬قد استبدلوه بعقوبات هزيلة باطلة أخذوها من أوليائهم الكفرة الغربيين الذين‬
‫ل يحرمون ما حرم ال ورسوله ول يدينون دين الحق‪..‬‬

‫‪263‬‬
‫• وكذلك العراض فقد رأيت بأم عينيك أن قوانينهم حصن حصين لكل نذل خسيس وعتل‬
‫زنيم تحمي أعراض الديوثين والقوادين والفنانين من الفساق والفجار والكفار‪ ..‬وتجعل أعراض‬
‫المسلمين المؤمنين ألعوبة في أيديهم فتبيح لعبيدها وموظفيها إطلق كل قذف وطعن شنيع في‬
‫عرض من شاؤوا‪ ،‬فإن ذلك جائز عندهم مباح ما دام (تنفيذا لحكم القانون أو استعمالً‬
‫لختصاص وحق يقرره) كما نصت قوانينهم‪.‬‬
‫• وكذلك الموال فإن قوانينهم تضييع وهدر وأكل لحقوق الخلق وأموالهم‪ ،‬فإضافة إلى أكل‬
‫حقوق الفقراء بتعطيل فريضة الزكاة‪ ،‬فإن فيها الباحة الصريحة للربا بأبشع صوره وأبوابه‪..‬‬
‫هذا غير الصور الخرى الكثيرة عندهم في أكل أموال الناس بالباطل سواء عن طريق أبواب‬
‫المخالفات والغرامات المختلفة أو التأمين الجباري والجمارك والمكوس وغير ذلك‪ ..‬وفي‬
‫المقابل فإن قوانينهم تحمي الكفرة المشركين وتؤويهم وتسوّدهم وتنفق عليهم الموال الطائلة‬
‫وتسلطهم على أموال المسلمين‪ ،‬ول تعترف طبعا بشيء يقال له (الجزية) بل هي تحمي أموال‬
‫الكفار وتعصمها على اختلف مللهم ونحلهم وأحوالهم‪ ..‬أضف إلى ذلك كله‪ ،‬تشريعهم في‬
‫قوانينهم هذه لعقوبات ساقطة هزيلة في أبواب السرقة استبدلوها بحد ال العظيم الذي عطلوه‬
‫حماية لكل لص أثيم وتهوينا لشأن هذه الجريمة واستخفافا بأموال الناس وحقوقهم‪..‬‬
‫• كما أن قوانينهم فوق ذلك كله تفتح أبواب الزنا والفجور فتلغي حد الزنا ‪ -‬المحصن وغير‬
‫المحصن‪ -‬وتسهل للزنا والفجور والغتصاب والبغاء بعقوبات ساقطة وقوانين مرقعة تحمي‬
‫الفجار والعاهرات وتسهل تجارة رقيق العراض والفروج وتفتح المجال للساقطين والساقطات‬
‫والممثلين والممثلت العاهرين منهم والعاهرات لممارسة فجورهم والدعوة إليه بوسائل شتى ‪..‬‬
‫بل ويسخر عبيد الياسق لهم لجل ذلك أجهزة إعلمهم من صحافة وإذاعة وتلفاز وغيره‪ ..‬ول‬
‫جريمة في ذلك ول عقاب ما دام الفجور قد صدر‪ ( :‬على نحو يعترف به العلم !! أو الفن !! )‬
‫كما تقدم من قوانينهم نفسها‪.‬‬
‫‪ -‬أضف إلى ذلك ما تكرر كثيرا من قوانينهم المرقعة والمهونة أو المعطلة الموقفة لعقوباتهم‬
‫على تفاهتها وسقوطها‪ ..‬مما فتح أبواب الجريمة والفجور والفساد على مصراعيها‪..‬‬
‫‪ -‬أضف إلى هذا ما كررناه مرارا من تناقض قوانينهم وتصادم بعض موادها بالبعض الخر‬
‫وتهلهلها وتخلل العبث والهواء فيها‪..‬‬

‫‪264‬‬
‫‪ -‬وكذا ضلل وزور ما سموه بقانون الحداث الذي فتح للشباب دون الثامنة عشرة ولو بأسبوع‬
‫أبواب ومجالت الجريمة وسهلها على اختلف ألوانها من سرقة وقتل وزنا ولواطة وخطف‬
‫واغتصاب وغيره‪ ،‬كل ذلك في ظل حماية قانونهم هذا وتهويناته الساقطة التي أشرنا إليها في‬
‫مواضع مختلفة فيما تقدم‪..‬‬
‫‪ -‬وكذلك العفو الشامل والكامل في أي وقت عن أية جريمة‪ ،‬والذي قرروه وأعطوه ومنحوه‬
‫لطاغوتهم المير‪ ،‬وغير ذلك كثير‪..‬‬
‫دانــوا مـن (القـانون والهـذيان)‬ ‫إنّــا أبينـا أن نـديـن بمـا بـــه‬
‫يـكفي الرسـول ومـحكم الفرقـان‬ ‫إنــا عـزلنـاها ولم نـعمـل بهــا‬
‫كفاه ال شـــرّ حوادث الزمـان‬ ‫من لم يكـن يكـفـيـه ذان فـــل‬
‫شفــــاه ال في قلب ول أبـدان‬ ‫من لم يكـن يشـفيـه ذان فــــل‬
‫رب العـرش بالعـدام والحــرمان‬ ‫من لم يكــن يغـنـيه ذان رمـــاه‬
‫هـداه ال سـبل الحـق واليمــان‬ ‫من لم يكن يـهديه ذان فــــــل‬
‫تـلك الراذل سـفـلـة الحيـوان‬ ‫إن الكــلم مــع الكـبار وليس مع‬
‫جـيف الـوجود وأخـبث النـتان‬ ‫أوساخ هــذا الخـلـق بـل أنـتـانه‬
‫ولـدى المعـطل هـن غير حسـان‬ ‫هـذي حـسان عرائـس زفـت لكم‬
‫من غـير بـواب ول اسـتـئـذان‬ ‫والعلـم يدخل قـلـب كـل موفـق‬
‫ل تـشـقـنا اللهم بالحـرمــان*‬ ‫ويرده المحروم مـن خــذلنــــه‬
‫وتحاكـمـت لليـاسق الشيــطاني)‬ ‫يا فـرقـة نـفـت (الشريعة جمـلـة‬
‫ف لـكـم حـتى يكــل لسـاني‬
‫أ ّ‬ ‫ف لــكـم‬
‫ف لـكـم أفّ لـكم أ ّ‬
‫أ ّ‬
‫وبعد‪ ..‬فهذا غيض من فيض‬
‫هذا غيض من فيض باطل عبيد الياسق العصري‪ ..‬وهو شيء قليل من ضللت دينهم النتن‬
‫وسفاهة شريعتهم العفنة‪..‬‬
‫وكل من يعرف قوانينهم يعلم علم اليقين أن ما سقناه من سفاهاتهم وضللتهم في الصفحات‬
‫الماضية إنما هو شيء يسير من ذلك سقناه على سبيل البيان والمثال ل على سبيل الحصر‬
‫والجمال‪ ..‬خاصة وأن قوانينهم تتبدل وتترقع دوما تبعا لتبدل أهوائهم وأهواء أوليائهم الغربيين‬
‫والشرقيين‪..‬‬

‫‪265‬‬
‫وإل فلو كان المقصود تتبع جميع ما تحويه قوانينهم من باطل وزيغ وإلحاد‪ ،‬لكانت رسالتنا هذه‬
‫أضعاف أضعاف ما هي عليه الن ولضعنا من الجهد والوقت ما ل طائل تحته‪ ..‬واللبيب تغنيه‬
‫الشارة عن العبارة‪..‬‬
‫هذان خصمان اختصموا في ربهم‪..‬‬
‫وإن من أهم اليقينيات التي يجب أن يخرج بها المسلم من ذلك كله أن شريعة ال َتعَالى هي غير‬
‫شريعة عبيد الياسق وأن دين عبيد الياسق هو غير دين السلم‪ ،‬وأن ملتهم هي غير ملة إبراهيم‬
‫وأتباعه‬ ‫وأن سبيلهم ل شك من السبل المعوجة وهي غير السبيل التي كان يدعو إليها النبي‬
‫على بصيرة‪ ،‬وهي غير صراط ال المستقيم الذي أمرنا باتباعه بل هي من طرق المغضوب‬
‫عليهم والضالين وأذنابهم‪ ..‬ومن أهواء الذين ل يعلمون‪ ..‬وهكذا فإن طريق عباد الرحمن هي‬
‫غير طريق عبيد الياسق‪ ..‬وهما طريقان مختلفان مفترقان ل يجتمعان ول يلتقيان أبدا إلّ أن‬
‫تتخلى إحدى الطائفتين عن طريقها وتبرأ منه كلية وتتبع الطريق الخرى‪ ..‬فتأمل‪..‬‬
‫اعـــــتـــــــــــــــــــذار‬
‫واســـــــــــــــــتغفار‬
‫وإن المتأمل لما حواه دين عبيد الياسق من زيغ وضلل‪ ،‬ليستحيي أن يخوض في مقارنة بينه‬
‫وبين دين السلم وشرع الملك الديان‪ ..‬وأين بشر مهازيل ضعاف تقلبهم الهواء والشهوات من‬
‫لطيف خبير بيده المر كله‪ ..‬وأين المخلوق من الخالق جل وعل‪ ،‬أستغفرك ربي وأتوب إليك‪..‬‬
‫ولكن لم يكن من بد أن نبين للناس حكم ال َتعَالى حينما كنا نذكر قوانين عبيد الياسق‪ ..‬وليس‬
‫ذلك دفاعا عن حكم ال َتعَالى وشرعه فكلمة ال هي العليا دوما والظاهرة أبدا والمنصورة‬
‫سرمدا‪ ..‬وإنما فعلنا ذلك لنبين ونكشف لكثير من المخدوعين سفاهة دين عبيد الياسق وتفاهة‬
‫شريعتهم ونقصانها وزيغها وضللها‪ ،‬فبذكر أحكام ال َتعَالى وأوامره المكرمة المرفوعة‬
‫المطهرة يتم ويكمل هذا المقصود‪ ،‬ويظهر غاية الظهور لكل أحد‪ ..‬فبذكر الكمال‪ ،‬تتعرى‬
‫وتعظم فضيحة النقصان‪..‬‬
‫درن الدنيا وأمراضها يوما بأجربه‬ ‫وإل‪ ،‬فمن ذا يقيس نقي الجلد من‬
‫وبذلك يظهر أن عبيد الياسق بعدولهم عن شريعة السلم الصادقة العادلة المطهرة وإقبالهم على‬
‫قوانين عباد الصليب وغيرهم من أهل الهواء الباطلة المضللة‪ ،‬أن مثلهم كمثل الجعل الذي‬
‫يدهده الخرأة بأنفه‪ ..‬فهو يتأذى من رائحة المسك والورد الفواح‪ ،‬ويحيى بالعذرة والغائط في‬

‫‪266‬‬
‫المستراح‪ ..‬فسحقا وتعسا لمثال هذه العقول التي ل تشترى ول بالبقول‪ ..‬سحقا ومحقا لهن‬
‫اللهم محقا‪.‬‬
‫وال قد مسخت على البدان‬ ‫تبّا لهاتيك العـقول فإنــهـا‬
‫الثار والخـبار والـقرآن‬ ‫تبّا لمن أضحى يقدمها عــلى‬
‫يقول العلمة أحمد شاكر‪( :‬من البيّن البديهي الذي ل يستطيع أن يخالف فيه مسلم أن القرآن‬
‫والسنة أسمى سموّا‪ ،‬وأعلى علوّا‪ ،‬من الدستور ومن كل القوانين‪ ،‬وأن المسلم ل يكون مسلما إلّ‬
‫إذا أطاع ال ورسوله‪ ،‬وقدّم ما حكما به على كل حكم وكل قانون‪ )..‬اهـ ‪.‬‬
‫وبعد هذا كله‪..‬‬
‫لنا أن نطرح هذه السئلة على كل مسلم عرف الشرك من التوحيد‪ ،‬بعد أن بان ما يحويه‬
‫دستورهم وقوانينهم الخرى من شرك وكفر بواح‪..‬‬
‫‪ -‬هل يجوز لمسلم يعرف معنى ل ِإلَهَ إِلّ ال ويؤمن بها أن يقسم على احترام هذا (الطاغوت)‬
‫الدستور؟ والولء له ولقوانينه وعبيده؟؟؟‬
‫‪ -‬وإذا كان ذلك ل يجوز‪ ..‬فهل هو محرم من المحرمات؟ أم معول من معاول الشرك والوثنية‬
‫في جنب توحيد فاعله‪..‬؟‬
‫‪ -‬وهل تجوز حماية هذه القوانين وحراستها والدفاع عنها وجعل من وافقها حميما واليا ومن‬
‫خالفها وكفر بها عدوا باغيا؟؟ وما حكم من يفعل ذلك بل إكراه ؟؟‬
‫‪ -‬وما حكم من يموت في سبيل حمايتها والدفاع عنها؟؟‬
‫‪ -‬وهل يجوز التحاكم إليها أومدحها أوتسميتها بالعدالة؟؟‬
‫‪ -‬وهل يجوز وصفها بالنزاهة وتربية النشء والذراري على حبها وإجللها‪..‬؟؟؟‬
‫‪ -‬وما حكم من يعمل في تدريس ذلك وتعليمه ؟؟‬
‫هذه أسئلة وأسئلة كثيرة غيرها ل أظنها عادت تخفى على القارئ بعد ما تقدم من بيان‪ ..‬وهاك‬
‫مزيدا من البيان‪..‬‬
‫جـاءت عـن المبعوث بالـفرقان‬ ‫وانـصر كـتاب ال والسنن التي‬
‫ضرب المجاهد فـوق كل بنــان‬ ‫واضرب بسيف الوحي كل معطل‬
‫متجرد ل غير جــبــــان‬ ‫واحمـل بعزم الصدق حملة مخلص‬
‫فإن أصبت فـفي رضـا الرحمن‬ ‫واثبت بصبرك تحـت ألوية الهدى‬

‫‪267‬‬
‫ثبـتت سلحك ثم صح بجنــان‬ ‫واجعل كـتاب ال والسنن الـتي‬
‫أو من يسـابق يبد في الميــدان‬ ‫من ذا يـبارز فليقدم نـفـسـه‬
‫مـن قـلة النصـار والعـوان‬ ‫واصدع بما قال الرسول ول تخف‬
‫وال كــاف عبـده بلـسـان‬ ‫فال نـاصـر دينه وكـتـابـه‬
‫فـقـتالهم بالكذب والـبهـتان‬ ‫ل تخـش من كيد العدو ومكرهم‬
‫متحيرا فـلـيـنظر الـفـئـتان‬ ‫شتان بين العسكرين فمن يكـن‬
‫واصبر فـنـصـر ال ربـك دان‬ ‫واثبت وقاتل تحت رايات الهـدى‬
‫ل در مقتل الـفـرســــان‬ ‫واذكر مقاتلهم لفرسان الهــدى‬
‫وارجمهم بثواقب الـشهـبــان‬ ‫وادرأ بلفظ النص في نحر العـدى‬
‫وذبـابه أتخاف مـــن ذبـان‬ ‫ل تخش كثرتهم فهم همج الـورى‬
‫فاثـبت فصيحتهم كمثـل دخان‬ ‫وإذا تكاثرت الخصوم وصيّحـوا‬
‫يهـوي إلى قعر الحضيـض الداني‬ ‫يرقى إلى الوج الرفـيع وبـعده‬
‫فـزعا لحـمـلـتهم ول بجـبان‬ ‫وإذا همو حملوا عليك فل تـكن‬
‫هـذا بمـحمود لدى‬ ‫واثبـت ول تحمل بل جند فمـا‬
‫الشجعـان‬
‫وافـت عساكرها مع السلطـان‬ ‫فإذا رأيـت عصابة السلم قـد‬
‫بالعـاجز الـواني ول الفـزعان‬ ‫فهناك فاخترق الصفوف ول تكن‬
‫فالـعز تحـت مقاتـل القـران‬ ‫واقـصد إلى القـران ل أطرافها‬
‫ــمال ل بكتائب الشـجـعان‬ ‫هذا وإن قتال حزب ال بالعــ‬
‫أنى وأعــداهم بل حسبــان‬ ‫وال مـا فـتـحوا البلد بكثرة‬
‫نفـس وذا محـذور كـل جبان‬ ‫وشجاعة الفرسان نفس الزهد في‬
‫أن سوف ينصر عبده‬ ‫وال أخـبر وهــو أصدق قائل‬
‫بأمـــان‬
‫أو يعمل الحسنى يفز بجنـــان‬ ‫من يعمل السوءى سيجزى مثلها‬
‫وصى وبعد لسائر‬ ‫هـذي وصـيـة ناصح ولنفسه‬
‫الخـــوان*‬

‫‪268‬‬
‫المخـرج مـن الــفـتـنة‬
‫من أين نبدأ ؟ وكيف السبيل ؟؟‬
‫فلعلك تسأل بعدها وتقول‪ ..‬ما الحل؟؟ وكيف السبيل؟؟؟‬
‫إن الظلمات متشابكة‪ ،‬وهذه الحكومة عندها جيوشها وشرطتها ومخابراتها وأمنها وأجهزتها‪،‬‬
‫والناس كلهم أو أغلبهم لها خاضعون ومعها سائرون ولباطلها متابعون‪ ،‬وفي طريقها‬
‫يركضون‪ ..‬وما عساني أن أقدم وأنا وحدي لهذا الدين؟ وما عساني أن أعمل مقابل هذا الباطل‬
‫العظيم ؟؟؟‬
‫فها نحن نوضح لك السبيل ونضع بين يديك معالم الطريق‪ ،‬طريق النبياء وسبيل النصر‬
‫والنجاة وسلوك الصراط المستقيم‪ ،‬نبينه لك بكل صراحة ووضوح وبل لبس أو غموض فليست‬
‫هذه خطبة حماسية كخطب كثير من الوعاظ تلهب مشاعرك على الطغاة وقوانينهم ثم تتركك‬
‫بعد ذلك تبرد وتموت حسرة وكمدا دون أن تعطيك الحل أو الطريق‪..‬‬
‫ح اللّهِ إِلّ الْ َقوْمُ الكَا ِفرُونَ} [يوسف ‪.]87 :‬‬
‫{ ل َييْأسُ مِنْ َروْ ِ‬
‫دع عنك أولً اليأس والقنوط‪ ،‬وكن على يقين بنصر ال َتعَالى للمؤمنين‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬وكَانَ حَقّا‬
‫صرُ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ}[الروم ‪ .]47 :‬ول تلتفت إلى كثرة الهالكين وقلة السالكين‪ ،‬فما بالكثرة‬
‫عَل ْينَا َن ْ‬
‫َ‬
‫ن اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّا ِبرِينَ}‬
‫غَل َبتْ ِفئَةً َكثِي َرةً بِإِذْ ِ‬
‫ينتصر المؤمنون‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬كَمْ مِنْ ِفئَةٍ َقلِيلَةٍ َ‬
‫ح َرصْتَ ِب ُم ْؤ ِمنِينَ} [يوسف ‪.]103 :‬‬
‫[البقرة‪.]249:‬وقال تعالى‪َ { :‬ومَا َأ ْك َثرُ النّاسِ َوَلوْ َ‬
‫ثم اعلم أن من أعظم أنواع النصر والفوز أن تبرأ من الشرك وتحقق التوحيد فتنجو بنفسك‬
‫وأهلك من نار وقودها الناس والحجارة‪ ،‬وتفوز بجنة عرضها السماوات والرض أعدت‬
‫جنّةَ فَقَدْ فَازَ}[آل عمران ‪.]185 :‬‬
‫حزِحَ عَنْ النّارِ َوأُدْخِلَ الْ َ‬
‫للمتقين‪َ { ..‬فمَنْ زُ ْ‬
‫كما في البخاري وغيره أنّ من النبياء من يأتي يوم القيامة وليس معه إلّ‬ ‫وقد أخبرنا النبي‬
‫الرجل والرجلن ومنهم من يأتي وليس معه أحد‪ ..‬رغم دعوته وصبره وجهاده‪ ..‬فهل خسر أو‬
‫جنّةِ هُمْ الْفَا ِئزُونَ} [الحشر‪:‬‬
‫ندم أو تحسر‪..‬؟؟ كيف وهو من أصحاب الجنة؟؟ {َأصْحَابُ الْ َ‬
‫‪.]20‬وكيف يندم وقد أعلى كلمة التوحيد وسط قومه وأمته؟؟ تأمل هذا جيدا فإنه مهم‪..‬‬
‫ثم اعلم يا عبد ال يا من آمنت بدين ال وشهدت بأن ل معبود ول مشرع بحق إلّ ال‪ ،‬وأقررت‬
‫بأن ل حكم إلّ ل‪ ..‬وتعمل جاهدا للفوز بالجنة والنجاة من النيران أنك على ضعفك وقلة حيلتك‬

‫‪269‬‬
‫تملك أن تقدم لدينك الكثير‪ ..‬ولست مختارا في ذلك ول متطوعا ‪ ..‬بل هي واجبات‪ ،‬كل يجب‬
‫عليه منها‪ ،‬كل بحسب استطاعته ومقدرته‪..‬‬
‫وإذا تقرر هذا فانتبه جيدا إلى ما أوجب ال عليك تجاه هذا الطاغوت وعبيده وأوليائه‪..‬‬
‫خصوصا بعدما رأيت بأم عينيك ما يحويه من كفر وباطل وإلحاد‪ ،‬وظهرت لك الحجة بينة‬
‫واضحة‪ ،‬فما عدت تجهل حاله أو يخفى عليك ضلله‪..‬‬
‫الكفر بالدستور والبراءة من القوانين شطر التوحيد‬
‫يجب عليك قبل كل شيء الكفر بهذا الطاغوت ( الدستور وقوانينه) وبغضه ومعاداته والبراءة‬
‫منه وعدم الرضى والستسلم إلّ لحكم ال وحده وذلك كي تحقق معنى ل ِإلَهَ إِلّ ال‪ .‬قال‬
‫سمِيعٌ‬
‫سكَ بِا ْل ُع ْروَةِ ا ْل ُوثْقَى ل ان ِفصَامَ َلهَا وَاللّهُ َ‬
‫س َتمْ َ‬
‫تعالى‪َ { :‬فمَنْ َيكْ ُفرْ بِالطّاغُوتِ َو ُي ْؤمِنْ بِاللّهِ فَقَدْ ا ْ‬
‫ظُلمَاتِ ِإلَى النّورِ}[البقرة‪.]257-256 :‬‬
‫جهُمْ مِنْ ال ّ‬
‫خرِ ُ‬
‫علِيمٌ‪ ،‬اللّهُ َوِليّ الّذِينَ آ َمنُوا يُ ْ‬
‫َ‬
‫وقال َتعَالى عن الحنيف إبراهيم {قَالَ أَ َف َرَأ ْيتُمْ مَا ُك ْنتُمْ َت ْعبُدُونَ َأ ْنتُمْ وَآبَا ُؤكُمْ الَقْ َدمُونَ فَِإ ّنهُمْ عَ ُدوّ‬
‫لِي إِلّ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ} [الشعراء‪ .]77-75 :‬وقال سبحانه عن الخليل أيضا‪{ :‬قَالَ يَا َقوْمِ ِإنّي َبرِيءٌ‬
‫لبِيهِ وَ َق ْومِهِ ِإ ّننِي َبرَاءٌ ِممّا َت ْعبُدُونَ‬
‫ش ِركُونَ}[النعام‪ .]78 :‬وقال عز وجل‪َ { :‬وإِذْ قَالَ ِإ ْبرَاهِيمُ َ‬
‫ِممّا تُ ْ‬
‫س َيهْدِينِي} [الزخرف‪ .]27-26 :‬وقد أمرنا ال سبحانه وأمر نبينا محمدا‬
‫ط َرنِي فَِإنّهُ َ‬
‫إِلّ الّذِي فَ َ‬
‫ش ِركِينَ}‬
‫حنِيفًا َومَا كَانَ مِنْ ا ْلمُ ْ‬
‫بإتباع ملة إبراهيم هذه فقال‪{ :‬قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَا ّت ِبعُوا ِملّةَ ِإ ْبرَاهِيمَ َ‬
‫[آل عمران‪ .]95 :‬فأخذ بها صلوات ال وسلمه عليه بقوة واتبعها أحسن اتباع‪ ،‬وكان يبايع‬
‫ش ْيئًا َوتُقِي َم الصّلةَ َو ُت ْؤ ِتيَ ال ّزكَاةَ‬
‫ش ِركُ بِهِ َ‬
‫علَى أَنْ َت ْعبُدَ اللّهَ ل تُ ْ‬
‫أصحابه عليها فيقول‪ُ( :‬أبَا ِي ُعكَ َ‬
‫ش ِركِ) ومحل الشاهد منه أوله وآخره‪.‬‬
‫سلِمَ َو َت ْب َرأَ مِنَ ا ْلمُ ْ‬
‫َو َتنْصَحَ ا ْلمُ ْ‬
‫البراءة من أولياء الدستور ومعاداتهم من لوازم [ة ل ِإلَهَ إِلّ ال ] ومقتضياتها‬
‫وكما يجب عليك أن تبرأ من هذا الطاغوت( الدستور وقوانينه)‪ ،‬فعليك كذلك أن تتبرأ من كل‬
‫من دافع عنه ونافح عن قوانينه وأصر على تحكيمه وتعبيد العباد له وتبغضهم وتعادي حزبهم‬
‫حتى يتبرؤوا من طاغوتهم هذا ويكفروا به‪ ،‬ويرجعوا إلى حكم ال َتعَالى وحده وينقادوا لشرعه‬
‫ول يجدوا في أنفسهم حرجا من تحكيمه ويسلموا تسليما‪ ..‬فإن أوثق عرى اليمان الموالة في‬
‫هو خليل‬ ‫ال والمعاداة في ال والحب في ال والبغض في ال وأسوتك في ذلك وأسوة نبيك‬
‫سنَةٌ فِي‬
‫س َوةٌ حَ َ‬
‫الرحمن والذين كانوا معه وعلى دعوته وطريقته‪ ..‬قال تعالى‪{ :‬قَدْ كَا َنتْ َلكُمْ أُ ْ‬

‫‪270‬‬
‫ن اللّهِ كَ َف ْرنَا ِبكُمْ َوبَدَا َب ْي َننَا‬
‫ِإ ْبرَاهِيمَ وَالّذِينَ َمعَهُ إِذْ قَالُوا لِ َق ْو ِمهِمْ ِإنّا ُبرَآءُ ِم ْنكُمْ َو ِممّا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُو ِ‬
‫حتّى ُت ْؤ ِمنُوا بِاللّهِ وَحْ َدهُ} [الممتحنة‪.]4 :‬‬
‫َو َب ْي َنكُمْ ا ْلعَدَا َوةُ وَا ْل َبغْضَاءُ َأبَدًا َ‬
‫يقول الشيخ حمد بن عتيق رحمه ال َتعَالى في كتابه ( سبيل النجاة والفكاك) عن قوله َتعَالى {ِإنّا‬
‫ُبرَآءُ ِم ْنكُمْ َو ِممّا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ‪}..‬‬
‫( وها هنا نكتة بديعة وهي أن ال َتعَالى قدم البراءة من المشركين على البراءة من الوثان‬
‫المعبودة من دون ال لن الول أهم من الثاني فإنه إن تبرأ من الوثان ولم يتبرأ ممن عبدها ل‬
‫يكون آتيا بالواجب عليه‪ ،‬وأما إذا تبرأ من المشركين فإن هذا يستلزم البراءة من معبوداتهم‪،‬‬
‫ن اللّهِ‪ ..‬الية} [مريم‪.]48 :‬فقدم اعتزالهم على اعتزال‬
‫ع َت ِزُلكُمْ َومَا تَدْعُونَ مِنْ دُو ِ‬
‫وهذا كقوله { َوأَ ْ‬
‫ع َت َزَلهُمْ َومَا َي ْعبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ‪[ }..‬مريم‪.]49 :‬فعليك بهذه النكتة‬
‫معبوداتهم‪ ،‬وكذا قوله { َفَلمّا ا ْ‬
‫فإنها تفتح لك بابا إلى عداوة أعداء ال‪ ،‬فكم من إنسان ل يقع منه الشرك ولكنه ل يعادي أهله‬
‫فل يكون مسلما بذلك إذ ترك دين جميع المرسلين) اهـ‪.‬‬
‫وقد بين ال سبحانه وتعالى لنا آثار إهمال هذا الركن الوثيق والمر العظيم فقال عز وجل‪{ :‬إِلّ‬
‫لرْضِ وَفَسَادٌ َكبِيرٌ}[النفال‪{ .]73 :‬إِلّ تَ ْف َعلُوهُ} أي موالة أهل اليمان‬
‫تَ ْف َعلُوهُ َتكُنْ ِف ْتنَةٌ فِي ا َ‬
‫ومعاداة أهل الشرك المصرين على باطلهم بأن واليتموهم كلهم أو عاديتموهم كلهم أو واليتم أهل‬
‫لرْضِ وَفَسَادٌ َكبِيرٌ} فإنه يحصل من الشر جراء ذلك‬
‫الشرك وعاديتم أهل اليمان { َتكُنْ ِف ْتنَةٌ فِي ا َ‬
‫ما ل ينحصر من اختلط الحق بالباطل وأهل اليمان بأهل الشرك‪ ،‬وتعطيل كثير من مقاصد‬
‫الشرع والدين وغير ذلك من قواعد الدين التي تفوت إذا لم يجرّد الولء للمؤمنين وحدهم‪.‬‬
‫يقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن عن هذه الية نقلً عن بعض أهل العلم‪(..‬‬
‫الفتنة في الرض الشرك والفساد الكبير اختلط المسلم بالكافر والمطيع بالعاصي‪ ،‬فعند ذلك‬
‫يختل نظام السلم وتضمحل حقيقة التوحيد‪ ،‬ويحصل من الشر ما ال به عليم‪ ،‬فل يستقيم‬
‫السلم ويقوم قائم المر بالمعروف والنهي عن المنكر ويرتفع علم الجهاد إلّ بالحب في ال‬
‫والبغض في ال وموالة أوليائه ومعاداة أعدائه واليات الدالة على ذلك أكثر من أن تحصر)‬
‫اهـ‬
‫فوال ثم وال إن من لم يتبرأ من الباطل وأهله اليوم في هذه الدنيا فسيتبرأ منهم يوم القيامة‪،‬‬
‫وسيتمنى العودة إلى الدنيا لجل ذلك‪ ..‬ولكن هيهات هيهات ولت حين مناص‪ ..‬قال تعالى‪:‬‬
‫ط ْعنَا‬
‫ط ْعنَا الرّسُولَ وَقَالُوا َر ّبنَا ِإنّا أَ َ‬
‫ط ْعنَا اللّهَ َوأَ َ‬
‫{ َيوْمَ تُ َقّلبُ وُجُو ُههُمْ فِي النّارِ يَقُولُونَ يَا َل ْي َتنَا أَ َ‬

‫‪271‬‬
‫ضعْ َفيْنِ مِنْ ا ْلعَذَابِ وَا ْل َع ْنهُمْ َل ْعنًا َكبِيرًا}[الحزاب‪-66 :‬‬
‫سبِيلَ َر ّبنَا آ ِتهِ ْم ِ‬
‫سَا َد َتنَا َو ُك َبرَا َءنَا َفَأضَلّونَا ال ّ‬
‫سبَابُ‬
‫ط َعتْ ِبهِمْ الَ ْ‬
‫‪ .]68‬وقال تعالى‪{ :‬إِذْ َت َب ّرأَ الّذِينَ ا ّت ِبعُوا مِنْ الّذِينَ ا ّت َبعُوا َو َرَأوْا ا ْلعَذَابَ َوتَقَ ّ‬
‫سرَاتٍ‬
‫عمَاَلهُمْ حَ َ‬
‫وَقَالَ الّذِينَ ا ّت َبعُوا َلوْ أَنّ َلنَا َك ّرةً َف َن َت َب ّرأَ ِم ْنهُمْ َكمَا َت َبرّءُوا ِمنّا كَ َذِلكَ ُيرِيهِ ْم اللّهُ أَ ْ‬
‫عَل ْيهِمْ َومَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النّارِ}[البقرة‪.]167-166 :‬‬
‫َ‬
‫فعلى كل من ينتسب إلى عباد الرحمن أن يجمع بين البراءة من عبيد الياسق والبراءة من‬
‫أصنامهم وطواغيتهم القانونية ومن شريعتهم النتنة ودينهم النجس‪..‬‬
‫وهذه هي ملة إبراهيم ودعوة النبياء والمرسلين‪ ..‬إخلص العبادة ل وحده بكل ما تحويه كلمة‬
‫العبادة من معان‪ ،‬والبراءة من الشرك وأهله على اختلف ألوان الشرك وأنواعه‪.‬‬
‫الدعوة إلى ذلك والجهاد من أجله والصبر والثبات هو طريق المرسلين‬
‫وأعلى مراتب هذه الملة وذروة سنامها؛ أن تسعى وتعمل وتجاهد لتغيير هذا الطاغوت وهدمه‬
‫وإخراج العباد من ظلماته إلى نور شريعة ال تعالى‪..‬‬
‫وأول مراحل هذه الطريق وأهمها أن تصدع ببيان سفهه للناس وفضح زيفه وعواره وأن تجتهد‬
‫في تحذيرهم منه ودعوتهم إلى الكفر به والبراءة من أوليائه‪ ،‬فهذا هو دين التوحيد وهذه هي‬
‫دعوة النبياء‪ ..‬وتعلنها مدوية في وجه عبيد الياسق‪ ..‬كفرنا بكم وبطاغوتكم ودستوركم‬
‫وقوانينكم الكفرية‪ ،‬وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى ترجعوا إلى دين ال وتنقادوا إلى‬
‫حكمه وتشريعه وحده وتسلموا تسليما‪..‬‬
‫ط َرنِي‬
‫هكذا كما قال إبراهيم ومن معه لقومهم‪ ،‬وتقول َأيْضا {ِإ ّننِي َبرَاءٌ ِممّا َت ْعبُدُونَ إِلّ الّذِي فَ َ‬
‫س َيهْدِينِي} [الزخرف‪ ..]27 :‬وتقول‪َ{ :‬لكُمْ دِي ُنكُمْ َوِليَ دِينِ}‪..‬‬
‫فَِإنّهُ َ‬
‫‪( :‬سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى‬ ‫ول يغرنك تخذيل المخذلين فقد قال‬
‫إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) ‪ .‬فل قربة أفضل عند ال من القيام بجهاد الشرك وأهله وبيان‬
‫سفاهة الطواغيت وتعريتها للخاص والعام على اختلف أنواعها‪..‬‬
‫أفيقوم دين ال الذي أنزل من السماء إلّ بالطعن على أعدائه وكشف زيوف شركهم‪ ،‬وتحذير‬
‫الناس من كفرهم؟؟ وكيف يظهر الحق إن لم يخذل الباطل؟؟‬
‫في ال واخشاه تفز بأمـــان‬ ‫فاصدع بأمر ال ل تخش الورى‬
‫ل في هواك ونخوة الشيطــان‬ ‫واهـجر ولو كل الورى في ذاته‬

‫‪272‬‬
‫سوّيكُمْ‬
‫واستمع مقالة من خاف المخلوق في جنب دين ال‪ {..‬تَاللّهِ إِنْ ُكنّا لَفِي ضَللٍ ُمبِينٍ إِذْ نُ َ‬
‫حمِيمٍ َفَلوْ أَنّ َلنَا َك ّرةً‬
‫ج ِرمُونَ َفمَا َلنَا مِنْ شَا ِفعِينَ وَل صَدِيقٍ َ‬
‫ضّلنَا إِلّ ا ْلمُ ْ‬
‫ِب َربّ ا ْلعَاَلمِينَ َومَا َأ َ‬
‫َف َنكُونَ مِنْ ا ْل ُمؤْ ِمنِينَ} [الشعراء‪ ..]102-97 :‬وارجع إلى آية الممتحنة المذكورة‪ ،‬وتأمل قوله‬
‫َتعَالى ‪{ :‬إِذْ قَالُوا لِ َق ْو ِمهِمْ} وقوله {بَدَا}‪ ..‬يقول الشيح حمد بن عتيق رحمه ال تعالى‪"( :‬بدا" أي‬
‫ظهر وبان‪ ،‬وتأمل تقديم العداوة على البغضاء‪ ،‬لن الولى أهم من الثانية‪ ،‬فإن النسان قد‬
‫يبغض المشركين ول يعاديهم‪ ،‬فل يكون آتيا بالواجب عليه حتى تحصل منه العداوة والبغضاء‪،‬‬
‫ولبد َأيْضا من أن تكون العداوة والبغضاء باديتين ظاهرتين بينتين‪ ،‬واعلم أنه وإن كانت‬
‫البغضاء متعلقة بالقلب فإنها ل تنفع حتى تظهر آثارها وتتبين علماتها‪ ،‬ول تكون كذلك حتى‬
‫تقترن بالعداوة والمقاطعة فحينئذ تكون العداوة والبغضاء ظاهرتين) اهـ‪.‬‬
‫فعلى كل من أراد أن يسلك طريق النبياء أن يقوم بذلك ويدعو الناس إليه‪ ..‬فهذا من أعظم‬
‫الجهاد في هذا الزمان وأتباعه هم أتباع الرسل حقا وهم الغرباء حقا وهم الطائفة الظاهرة حقا‪..‬‬
‫فل تنشغل عن الركب بأمور مرجوحة أو بدنيا فانية فتفوتك القافلة فتكون من الخالفين‪..‬‬
‫ليســلم يقرع بعدها سن نادم‬ ‫فتلك حروب من يغب عن غمارها‬
‫ثم لتصبر على الذى والبتلء فإنها سنة ال َتعَالى التي يميز بها الخبيث من الطيب قال تعالى‪:‬‬
‫سبَ النّاسُ أَنْ ُي ْت َركُوا أَنْ يَقُولُوا آ َمنّا وَهُمْ ل يُ ْف َتنُونَ َولَقَدْ َف َتنّا الّذِينَ مِنْ َق ْبِلهِمْ َفَل َي ْعَلمَنّ اللّهُ‬
‫حِ‬‫{الم‪ ،‬أَ َ‬
‫صرِ‬
‫الّذِينَ صَدَقُوا َوَل َي ْعَلمَنّ ا ْلكَا ِذبِينَ} [العنكبوت‪ ..]3-1 :‬وخلصة المر في قوله تعالى‪{ :‬وَا ْل َع ْ‬
‫ص ْبرِ}‪.‬‬
‫صوْا بِال ّ‬
‫ع ِملُوا الصّالِحَاتِ َو َتوَاصَوْا بِالْحَقّ َو َتوَا َ‬
‫سرٍ إِلّ الّذِينَ آ َمنُوا وَ َ‬
‫إِنّ الِنسَانَ لَفِي خُ ْ‬
‫من عجز عن الصدع والدعوة والجهاد فلن يعجز عن تربية نفسه وأهله على هذا المنهاج‬
‫فإن لم تقدر على هذه المرتبة العظيمة ‪ -‬أعني إعلن هذا التوحيد وإظهاره ودعوة الناس‬
‫إليه‪ -..‬فالتغيير والنكار على درجات‪ ،‬ومن عجز عن درجة لم تسقط عنه التي هي دونها‪..‬‬
‫ستَطِعْ َفبِ َق ْلبِهِ‬
‫ستَطِعْ َف ِبلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَ ْ‬
‫وفي الحديث‪( :‬مَنْ َرأَى ِم ْنكُمْ ُم ْن َكرًا َف ْل ُي َغ ّي ْرهُ ِبيَ ِدهِ فَإِنْ لَمْ يَ ْ‬
‫ض َعفُ الِيمَانِ ) ‪.‬‬
‫وَ َذِلكَ َأ ْ‬
‫فإن لم تقدر على التغيير وإعلن البراءة منهم وإظهار الكفر من قوانينهم ودعوة الناس إلى ذلك‬
‫فعليك على أقل الحوال‪ ..‬أن تكفر بهذا الطاغوت بنفسك وتتبرأ من أهله وأوليائه لتحقق التوحيد‬
‫الذي هو حق ال على العبيد‪ ،‬و ُت َعلّم أولدك الكفر به وبغضه‪ ،‬وتعلمهم الولء ل ولرسوله‬
‫ولشرع ال وحكمه وللمؤمنين والبراء من كل من حكّم هذا الطاغوت وتغرس في نفوسهم‬

‫‪273‬‬
‫بغضه‪ ..‬وبغض كل من يدافع عنه ويحميه ويعبد الناس له من حكومة أو أمير أو رئيس أو ملك‬
‫أو جيش أو غيره ولو كان من أقرب المقربين إليهم‪ ..‬وترضعهم ذلك من نعومة أظافرهم حتى‬
‫يشبوا على التوحيد الحق وعلى عقيدة ل ِإلَهَ إِلّ ال الواضحة التي أضاعها أكثر الخلق في هذا‬
‫الزمان‪.‬‬
‫عَل ْيهَا مَل ِئكَةٌ‬
‫سكُمْ َوأَ ْهلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَا َرةُ َ‬
‫قال تعالى‪{ :‬يَا َأ ّيهَا الّذِينَ آ َمنُوا قُوا أَنفُ َ‬
‫‪ُ ( :‬كّلكُمْ رَاعٍ‬ ‫غِلظٌ شِدَادٌ ل َي ْعصُونَ اللّهَ مَا َأ َمرَهُمْ َويَ ْف َعلُونَ مَا ُي ْؤ َمرُونَ}[التحريم‪ .]6 :‬وقال‬
‫ع ّيتِهِ ) ‪.‬‬
‫سئُولٌ عَنْ رَ ِ‬
‫ع ّيتِهِ ‪)..‬الحديث‪ ،‬وفيه‪ (..‬وَالرّجُلُ رَاعٍ فِي أَ ْهلِهِ وَ ُهوَ مَ ْ‬
‫سئُولٌ عَنْ رَ ِ‬
‫َو ُكّلكُمْ مَ ْ‬
‫حرّمَ اللّهُ‬
‫ع ّيتِهِ إِلّ َ‬
‫عيّةً َيمُوتُ َيوْمَ َيمُوتُ وَ ُهوَ غَاشّ ِلرَ ِ‬
‫س َترْعِي ِه اللّهُ رَ ِ‬
‫عبْدٍ يَ ْ‬
‫‪( :‬مَا مِنْ َ‬ ‫وقال‬
‫جنّةَ) ‪ .‬وقد استرعاك ال فيهم واستخلفك عليهم فاحذر أن تلقاه غدا خائنا وفي دينه مداهنا‬
‫عَليْهِ الْ َ‬
‫َ‬
‫ولمانته مضيعا‪ ..‬فالمر جد خطير‪ ،‬وليس كما يحسبه ويظنه ويصوره كثير من المتهاونين‪..‬‬
‫يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه ال تعالى‪( :‬واذكروا لهم أن الواجب على الرجل أن‬
‫يعلم عياله وأهل بيته الحب في ال والبغض في ال والموالة في ال والمعاداة فيه‪ ،‬مثل تعليم‬
‫ل بصحة الصلة ول صحة لسلمه َأيْضا إلّ‬
‫الوضوء والصلة لنه ل صحة لسلم المرء إ ّ‬
‫بصحة المولة والمعاداة في ال) اهـ‪.‬‬
‫الحذر من وسائل إعلم عبيد الياسق ومدارسهم‬
‫ومن ذلك أن تجنب أبناءك كل وسائل الفساد والفساد التي يستغلها عبيد الياسق العصري في‬
‫تربية ذراري المسلمين على حب طاغوتهم هذا وعلى الولء له ولمن حكّمه وحماه‪ ..‬كالتلفزيون‬
‫وغيرها من وسائل إعلمهم الكافرة من جريدة ومجلة فاجرة وغيره‪..‬‬
‫واحذر كل الحذر من أن تعمل أو تساهم في شيء من هذه المجالت الفاسدة التي هي في‬
‫الحقيقة من أدوات الطاغوت وأبواقه فتكون على شفا هلكة‪..‬‬
‫واحرص كل الحرص أن تجنبهم مدارس الطواغيت ومناهجها المسمومة التي تمتلئ بمدح‬
‫ياسقهم وأوليائه وعبيده كما تربي الجيال على الولء له ولعبيده وتحببهم بجيوشهم وشرطتهم‬
‫وتشجعهم على المشاركة فيها‪..‬‬
‫بــغـض شــعـاراتهـم وأعــلمـهـم‬
‫وكذا تحية العلم‪ ..‬تلك الخرقة التي يعظمونها أكثر من كتاب ال وشرعه والتي ترمز إلى حكم‬
‫ونظام عبيد الياسق العصري‪ ،‬فليس العلم إلّ علمة وشعار لهم‪ ،‬ومن أحبه وعلقه ونشره أو‬

‫‪274‬‬
‫اتخذه شعارا‪ ،‬فإن هذا كله علمة على أنه منقاد موال في الظاهر لهذا النظام الحاكم بياسق‬
‫إبليس المعرض عن شريعة الرحمن فإياك أن تكون كذلك فتصبح أضل من سائمة النعام‪ ..‬بل‬
‫الواجب الشرعي عليك أن تبغض هذا العلم و ُت َبغّضه لولدك وذريتك وتُنشّئهم على البراءة منه‬
‫ومن الحكم الذي يرمز إليه‪ ،‬ومن الطاغوت الذي هو علمة عليه وعلى نظامه‪ ..‬وليس هذا وال‬
‫فرعا من الفروع يستهان به‪ ..‬بل هو كما عرفت من لوازم التوحيد ومعاني ل ِإلَهَ إِلّ ال التي‬
‫هي كفر بكل طاغوت وتوحيد ل عز وجل‪..‬‬
‫هذا هو أقل ما يجب عليك في نفسك وأهلك إذا لم تقدر على المرتبة الولى التي هي ملة‬
‫الذي يقول فيه‪:‬‬ ‫إبراهيم ودعوة النبياء والمرسلين‪ ،‬وتذكّر في مرتبتك هذه‪ ،‬حديث رسول ال‬
‫جتْ‬
‫ن النّاسِ قَدْ َمرِ َ‬
‫حثَالَةٌ مِ َ‬
‫غ ْر َبلَةً َتبْقَى ُ‬
‫شكُ أَنْ َي ْأ ِتيَ ُي َغ ْربَلُ النّاسُ فِيهِ َ‬
‫( َك ْيفَ ِبكُمْ ِب َزمَانٍ يُو ِ‬
‫ل اللّهِ قَالَ‬
‫ش ّبكَ َبيْنَ َأصَا ِبعِه)ِ فَقَالُوا َو َك ْيفَ ِبنَا يَا رَسُو َ‬
‫خ َتلَفُوا َفكَانُوا َهكَذَا (وَ َ‬
‫عهُودُهُمْ َوَأمَانَا ُتهُمْ وَا ْ‬
‫ُ‬
‫ص ِتكُمْ َوتَ َذرُونَ َأ ْم َر عوامكم ) ‪.‬‬
‫علَى َأ ْمرِ خَا ّ‬
‫تَأْخُذُونَ مَا َت ْعرِفُونَ َوتَ َذرُونَ مَا ُت ْن ِكرُونَ َوتُ ْق ِبلُونَ َ‬
‫الفرار إلى ال من كل وظيفة فاسدة فيها إعانة لعبيد الياسق على ظلمهم أو إقرار أو نصرة‬
‫لقوانينهم‪.‬‬
‫ثم اعلم هدانا ال وإياك إلى صراطه المستقيم أن البراءة من هؤلء المشركين والبراءة من‬
‫ياسقهم الكفري‪ ..‬ما دمت مقيما بين ظهرانيهم ولم تتهيأ للهجرة إلى بلد يعمل فيها بشرع ال ؛‬
‫تستلزم منك أن تهجر وتعتزل كل وظيفة أو عمل يقر باطلهم أو يُعينهم على تطبيق قوانينهم أو‬
‫ينصرهم عليها‪ ،‬فذلك كله من المتابعة والموافقة والموالة لهم ولقوانينهم الباطلة التي علمت بأن‬
‫الكفر بها والبراءة منها وبغضها وبغض أوليائها واجب من واجبات التوحيد ولزم من لوازم‬
‫ظَلمُوا‬
‫( ل ِإلَهَ إِلّ ال) التي ل يصح إسلم امرئ إلّ بها‪ .‬قال تعالى‪{ :‬وَل َت ْر َكنُوا ِإلَى الّذِينَ َ‬
‫صرُونَ} [هود‪.]113 :‬‬
‫ن اللّهِ مِنْ َأ ْوِليَاءَ ثُمّ ل تُن َ‬
‫سكُمْ النّارُ َومَا َلكُمْ مِنْ دُو ِ‬
‫َف َتمَ ّ‬
‫في أمراء لشك أنهم أقل شرا من هؤلء‪ ،‬وباطلهم أهون بكثير ‪ ،‬وقوله‬ ‫وسيأتي حديث النبي‬
‫فيه‪َ ( ..‬وَلكِنْ مَنْ َرضِيَ َوتَابَعَ ‪.)..‬‬
‫يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم ال‬
‫ش ْيئًا َقلِيلً} [السراء‪..]74 :‬‬
‫تعالى‪ ،‬عند قوله تعالى‪َ { :‬وَلوْل أَنْ َث ّب ْتنَاكَ لَقَدْ كِ ْدتَ َت ْركَنُ ِإَل ْيهِمْ َ‬
‫(فانظر ما ذكره المفسرون؛ حتى أدخل بعضهم لياقة الدواة وبري القلم في الركون وذلك لن‬
‫ذنب الشرك أعظم ذنب عصي ال به على اختلف رتبه فكيف إذا انضاف إليه ما هو أفحش‬

‫‪275‬‬
‫من الستهزاء بآيات ال وعزل أحكامه وأوامره وتسمية ما ضادّه وخالفه بالعدالة وال يعلم‬
‫ورسوله والمؤمنون أنها الكفر والجهل والضللة ومن له أدنى أنفةٍ وفي قلبه نصيب من الحياة‬
‫يغار ل ولرسوله وكتابه ودينه‪ ،‬ويشتد نكيره وبراءته في كل محفل وكل مجلس‪ ،‬وهذا من‬
‫الجهاد الذي ل يحصل جهاد العدو إلّ به‪ ،‬فاغتنم إظهار دين ال والمذاكرة به وذم ما خالفه‬
‫والبراءة منه ومن أهله‪ ،‬وتأمل الوسائل المفضية إلى هذه المفسدة الكبرى وتأمل نصوص‬
‫الشارع في قطع الوسائل والذرائع وأكثر الناس ولو تبرأ من هذا ومن أهله فهو جند لمن تولهم‬
‫وأنس بهم وأقام بحماهم وال المستعان) اهـ ‪.‬‬
‫وإياك ثم إياك أن تتعذر بالرزق وخشية الفقر‪ ،‬أو تردد مقالة المتخاذلين المخلدين إلى الرض (‬
‫أنا عبد مأمور)‪ ..‬بل أنت عبد الرزاق ذي القوة المتين الذي قال وقوله الحق { َومَنْ َيتّقِ اللّهَ‬
‫شيْطَانُ َيعِ ُدكُمْ‬
‫سبُ} [ الطلق‪ .]3-2 :‬وقال سبحانه‪{ :‬ال ّ‬
‫حتَ ِ‬
‫ح ْيثُ ل يَ ْ‬
‫خرَجًا َو َي ْرزُقْهُ مِنْ َ‬
‫جعَلْ لَهُ مَ ْ‬
‫يَ ْ‬
‫علِيمٌ} [ البقرة‪ .]268 :‬وقال‬
‫الْفَ ْقرَ َويَ ْأ ُم ُركُمْ بِالْ َفحْشَاءِ وَاللّهُ َيعِ ُدكُمْ َمغْ ِف َرةً ِمنْهُ وَ َفضْلً وَاللّهُ وَاسِعٌ َ‬
‫ضلِهِ إِنْ شَاءَ} [ التوبة‪ .]28 :‬وقال‬
‫س ْوفَ ُي ْغنِيكُ ْم اللّهُ مِنْ َف ْ‬
‫ع ْيلَةً فَ َ‬
‫سبحانه لمن أطاعه‪َ { :‬وإِنْ خِ ْفتُمْ َ‬
‫سعَةً} [ النساء‪.]100 :‬‬
‫غمًا َكثِيرًا وَ َ‬
‫لرْضِ ُمرَا َ‬
‫ل اللّهِ يَجِدْ فِي ا َ‬
‫سبِي ِ‬
‫جرْ فِي َ‬
‫عز وجل‪َ { :‬ومَنْ ُيهَا ِ‬
‫فبادر بالهجرة الواجبة على كل مسلم في كل زمان ومكان‪ ،‬واهجر كل ما يغضب ويُسخط‬
‫مولك الذي خلقك ورباك‪.‬‬
‫ومن هذه الوظائف والعمال التي يجب عليك أن تهجرها وتجتنبها ول ترتضيها لهلك وأبنائك‪:‬‬
‫العمل في جيش عبيد الياسق العصري وشرطتهم وعساكرهم وكذا الحرس الوطني‬
‫والميري والملكي وما شاكله ‪.‬‬
‫فإن من المعلوم أن حماة الظلم وحراسه لبد وأن يكونوا من الظالمين إذ لولهم لما قام الظلم‬
‫ولما دام‪.‬‬
‫وإذا كانت هذه القوانين ‪ -‬كما بان لك بوضوح‪ -‬هي في الحقيقة حرب على دين ال َتعَالى‬
‫وتوحيده وحدوده وحرماته‪ ،‬وحرب على أولياء ال الموحدين الذين يعادونها ويتبرؤون منها‬
‫ومن أهلها‪ ..‬فل شك ول ريب أن جيشها وحرسها وحماتها الذين يعملون على تثبيتها سيكونون‬
‫في مقدمة المحاربين ل ولدينه‪ ..‬إذ هم حماة القانون الكافر وأوتاده وحراس أوليائه وعبيده‬
‫ولولهم لما قامت القوانين ولما قام أولياؤها ولما داموا إذ هم الشوكة التي يمتنع بها عبيد‬
‫الياسق‪ ،‬وبها ينفذون أحكام ياسقهم‪.‬‬

‫‪276‬‬
‫وهل يجوز بعد ما ظهر لك ما في هذه القوانين من الشرك الصراح والكفر البواح‪ ،‬وبعد أن‬
‫ظهر لك أنها حرب على السلم والمسلمين هل يجوز حمايتها وإعانة أوليائها على تطبيقها‬
‫وإبقائها؟؟؟‬
‫يقول الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم ال تعالى‪( :‬وقد ورد الوعيد‬
‫الشديد فيمن أعان ولو بشطر كلمة في قتل مسلم‪ ،‬فكيف العانة على حرب السلم‬
‫والمسلمين؟؟) اهـ ‪.‬‬
‫ومن المعلوم َأيْضا أن ال عز وجل أهلك فرعون‪ ..‬أهلك معه جنوده الذين وصفهم بالوتاد‬
‫جنُو ِدهِ‬
‫عوْنُ بِ ُ‬
‫المثبتين له ولحكمه كما في قوله { وفرعون ذي الوتاد}‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬فََأ ْت َب َعهُمْ ِفرْ َ‬
‫ظرْ‬
‫جنُو َدهُ َف َنبَ ْذنَاهُمْ فِي ا ْليَمّ فَان ُ‬
‫ش َيهُمْ} [ طه‪.]87 :‬وقال تعالى‪{ :‬فَأَخَ ْذنَاهُ َو ُ‬
‫ش َيهُمْ مِنْ ا ْليَمّ مَا غَ ِ‬
‫َفغَ ِ‬
‫جنُودَ ُهمَا‬
‫عوْنَ وَهَامَانَ وَ ُ‬
‫َك ْيفَ كَانَ عَا ِقبَةُ الظّاِلمِينَ} [القصص‪ .]40 :‬وقال َتعَالى أيضا‪{ :‬إِنّ ِفرْ َ‬
‫فيمن هم أهون‬ ‫طئِينَ} [القصص‪ .]8:‬بل قد جاءت الحاديث الصحيحة عن النبي‬
‫كَانُوا خَا ِ‬
‫كثيرا من فرعون‪ ،‬كأمراء الجور الذين كانوا يحكمون بشرع ال َتعَالى بل والفتوحات في‬
‫زمانهم تمل الرض شرقا وغربا‪ ..‬ولكن كان عندهم شيء من الظلم والجور‪ ،‬ول يصح بحال‬
‫من الحوال أن يقارنوا بعبيد الياسق العصري الذين نبذوا حكم ال وعطّلوا شرائعه‪ ،‬ومع ذلك‬
‫فقد جاءت الحاديث تنهى عن العمل عندهم بهذه الوظائف وأمثالها مما فيه إعانة على الظلم‪..‬‬
‫فهي تتنزل في عبيد الياسق العصري وأمثالهم من باب أولى‪ ..‬ومن هذه الحاديث‪:‬‬
‫‪( :‬ليأتين عليكم أمراء‬ ‫عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي ال عنهما قال‪ :‬قال رسول ال‬
‫سفهاء يقربون شرار الناس ويؤخرون الصلة عن مواقيتها فمن أدرك ذلك منهم فل يكونن‬
‫عريفا ول شرطيا ول جابيا ول خازنا) ‪.‬‬
‫لم يأمرهم بالخروج عليهم فهم لم‬ ‫فهؤلء المراء مسلمون لم يظهروا كفرا بواحا بدليل أنه‬
‫يعطلوا أحكام ال َتعَالى ول استبدلوا بها تشريعات الكفار الساقطة‪ ،‬ول جعلوا من أنفسهم شركاء‬
‫بيانا‬ ‫ل‪ ،‬شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به ال‪ ..‬وأعظم جرائمهم التي ذكرها النبي‬
‫لنحرافهم وتنفيرا من العمل عندهم بتلك الوظائف؛ كونهم يقربون شرار الناس ويؤخرون‬
‫الصلة عن وقتها‪ ،‬فقد كانوا يصلون هم أو عمّالهم بالناس كما في حديث أبي ذر مرفوعا‪( :‬إنه‬
‫ل الصّلةَ ِلوَ ْق ِتهَا ثم ائتهم‪ ،‬فإن كانوا قد‬
‫ن الصّلةَ عَنْ مواقيتها أل فصَ ّ‬
‫خرُو َ‬
‫سيكون ُأ َمرَاءُ ُيؤَ ّ‬
‫ت صَل َتكَ‪ ،‬وإل صليت َم َعهُمْ فكانت تلك نَا ِفلَةً) ‪.‬‬
‫ح َر ْز َ‬
‫صلوا كنت قَدْ أَ ْ‬

‫‪277‬‬
‫أما عبيد الياسق العصري‪ ،‬فدعنا من الخوض في صلتهم وزكاتهم وصيامهم‪ ،‬فهم ل يصلون‬
‫بالخلق‪ ..‬ولن نضيع وقتنا في صلتهم أخروها أم تركوها بالكلية‪ ..‬إذ قد أخروا شريعة ال‬
‫َتعَالى كلها ونحّوا حدودها عن الحكم واستبدلوها بطاغوتهم الذي بان لك خبثه وباطله وكفره‪..‬‬
‫فهل يجوز لمسلم موحد كافر بهذا الطاغوت أن يكون حارسا له حاميا لباطله فيعمل في شرطة‬
‫أو جيش عبيده وأوليائه؟؟ وكيف له أن يقسم عند تخرجه من (كلية الشرطة) أو غيرها من‬
‫كلياتهم العسكرية بأن يكون مخلصا للمير أو الملك (الذي يتولى السلطة التشريعية وفقا‬
‫للدستور) وأن يحترم جميع قوانين البلد‪ ..‬التي علمت أن الواجب على كل مسلم أن يكفر بها‬
‫ويبغضها ويتبرأ منها ومن أوليائها ليحقق التوحيد الذي هو حق ال على العبيد؟؟؟‬
‫ل بل هو الشرك بالمعبود عدوانا‬ ‫هذا ضلل مبين واضح أبدا‬
‫نعم وال إنه الشرك بالمعبود عدوانا‪ ،‬فإن هذه الوظائف إذا كانت محرمة أو مكروهة في أزمنة‬
‫هيمنة الشريعة وحدودها بسبب جور بعض الئمة وظلمهم‪ ،‬فإن أصحابها في أزمنة قوانين‬
‫الكفر ‪ -‬ورب الكعبة‪ -‬على خطر عظيم وهاوية سحيقة‪.‬‬
‫وأنا أنقل لكل طالب علم طرفا من مقالت بعض أئمتنا العلم وحكمهم فيمن دافع عن الشرك‬
‫وأهله أو انضم إلى صفوفه وجعل من نفسه جنديا يقاتل دون الكفر والطاغوت‪..‬‬
‫سئل شيخ السلم رحمه ال تعالى عن المعاونة للظلمة أو لعداء ال تعالى‪..‬فبين أن حكمه حكم‬
‫المباشر وأنه يستوي المعاون والمباشر عند جمهور الئمة‪ ،‬كأبي حنيفة ومالك وأحمد‪ ،‬فمن كان‬
‫معاونا كان حكمه حكمهم‪ - ..‬مجموع الفتاوى ‪.3/11‬‬
‫وعدّ رحمه ال تعالى من قفز من المسلمين إلى معسكر عبيد الياسق التتري وصار في جيوشهم‬
‫مرتدا‪ ،‬وقال ص (‪( :)535/28‬فإنه ل ينضم إليهم طوعا من المظهرين للسلم إل منافق أو‬
‫زنديق أو فاسق فاجر) اهـ‪.‬‬
‫ويقول أيضا في الجزء نفسه ص (‪ ( : )530‬ولكل من قفز إليهم من أمراء العسكر وغير المراء‬
‫فحكمه حكمهم‪ ،‬وفيهم من الردة عن شرائع السلم بقدر ما ارتد عنه من شرائع السلم‪ ،‬وإذا‬
‫كان السلف قد سموا مانعي الزكاة مرتدين مع كونهم يصومون ويصلون ولم يكونوا يقاتلون‬
‫جماعة المسلمين‪ ،‬فكيف بمن صار مع أعداء ال ورسوله قاتلً للمسلمين؟؟) اهـ‪.‬‬
‫وكذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب فقد عد من نواقض السلم ( مظاهرة المشركين ومعاونتهم‬
‫على المسلمين) اهـ‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫ويقول رحمه ال تعالى في مجموع الرسائل الشخصية‪( :‬وكذلك نكفر من حسّن الشرك للناس‪،‬‬
‫وأقام الشبهة الباطلة على إباحته‪ ،‬وكذلك من قام بسيفه دون مشاهد الشرك‪ ،‬وقاتل بسيفه دونها‬
‫وأنكر وقاتل من يسعى في إزالتها) اهـ ص (‪.)60‬‬
‫قلت‪ :‬ما أشبه الليلة بالبارحة مع تلون صور الشرك ومشاهدها‪..‬‬
‫ويقول أحد أحفاده وهو الشيخ عبد ال بن عبد اللطيف في رسالة له في الدرر السنية عن بعض‬
‫الدول الخاضعة لبريطانيا (وكل من استطاع لهم ودخل في طاعتهم وأظهر موالتهم فقد حارب‬
‫ال ورسوله وارتد عن دين السلم‪ )..‬اهـ (ص ‪ )11‬من جزء الجهاد‪.‬‬
‫ويقول (ص ‪ )7‬من الكتاب نفسه‪( :‬حتى آل المر بأكثر الخلق إلى عدم النفرة من أهل ملل الكفر‬
‫وعدم جهادهم وانتقل الحال حتى دخلوا في طاعتهم واطمأنوا إليهم وطلبوا صلح دنياهم بذهاب‬
‫دينهم وتركوا أوامر القرآن ونواهيه‪ ،‬وهم يدرسونه آناء الليل والنهار وهذا لشك أنه من أعظم‬
‫أنواع الردة والنحياز إلى ملة غير السلم‪ )..‬اهـ‪.‬‬
‫سكَنَ َمعَهُ‬
‫ش ِركَ وَ َ‬
‫ويقول الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ معلقا على حديث (مَنْ جَامَعَ ا ْلمُ ْ‬
‫فَِإنّهُ ِم ْثلُهُ) [رواه أبو داود والحاكم وغيرهما عن سمرة] ‪( :‬ل يقال إنه بمجرد المجامعة‬
‫والمساكنة يكون كافرا بل المراد أن من عجز عن الخروج من بين ظهراني المشركين‬
‫وأخرجوه معهم كرها فحكمه حكمهم في القتل وأخذ المال ل في الكفر‪ ،‬وأما إن خرج معهم‬
‫لقتال المسلمين طوعا واختيار وأعانهم ببدنه وماله فلشك أن حكمه حكمهم في الكفر‪ )..‬اهـ‪.‬‬
‫من مجموعة الرسائل والمسائل (‪ .)2/135‬ويدل على تفصيل الشيخ هذا معاملة المسلمين للظالمي‬
‫أنفسهم الذين خرجوا فقط يكثرون سواد المشركين في بدر دون قتال‪ ،‬وكذا من زعم الكراه مع‬
‫قدرته على المفارقة والفرار‪ ،‬فهؤلء يعاملون معاملة الكفار من أسر وقتل وقتال ويوكل أمر‬
‫أعيانهم في الخرة إلى ال‪ ..‬بخلف من حارب التوحيد وأهله ونصر الشرك والمشركين وقاتل‬
‫دونهم‪ ،‬فإن أمره في الشريعة واضح بين‪..‬‬
‫وقد تقدم عن الشيخ حمد بن عتيق والشيخ سليمان حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنهما صنفا‬
‫كتاب ( سبيل النجاة والفكاك‪ )..‬وكتاب ( الدلئل) في تكفير عساكر مصر التابعين للدولة‬
‫التركية ومن آزرها وناصرها‪ ..‬فتنبه فإن المر وال جد خطير‪.‬‬
‫هذا وإن فساد هذه الوظائف وأمثالها وال بين واضح لكل من له عينان‪ ،‬ل ينبغي أن يجادل فيه‬
‫عاقل‪ ،‬أليس الشرطة وأمثالهم هم شوكة وحماة هذه النظمة الفاسدة؟؟ وبالتالي حماة الطغاة‬

‫‪279‬‬
‫وقوانينهم الكافرة الظالمة؟ أليسوا هم ‪ -‬كما يسمونهم ‪ -‬العين الساهرة على القانون الوضعي؟‬
‫المانعون من مخالفته والخروج عن بنوده الباطلة؟ أليسوا هم حماة البنوك والربا وتشريعاته ؟‬
‫أليس هم حماة الفساد والرذيلة ووسائلها من إذاعة وتلفاز وسينما وفيديو؟ أليسوا هم قطاع‬
‫الطرق ولصوص المخالفات وآكلوا السحت والباطل من كد وتعب الشعوب؟ أليسوا هم أعوان‬
‫الظلمة؟ بل هم الظلمة أنفسهم الذين يطاردون ويسجنون ويحققون ويقيدون ويعذبون‬
‫و(يسفّرون)‪..‬؟؟ إلى غير ذلك مما ل يحصى ول يعد من باطلهم وظلماتهم‪..‬‬
‫‪(:‬سيكون أمراء تعرفون وتنكرون‪ ،‬فمن نابذهم نجا ومن اعتزلهم سلم ومن خالطهم‬ ‫وقد قال‬
‫هلك) ‪ .‬فإياك أن تكون مع الهالكين‪..‬؟؟‬
‫عَل ْيكُمْ َأ ِئمّةٌ َت ْعرِفُونَ َو ُت ْن ِكرُونَ َفمَنْ َأ ْن َكرَ فَقَدْ َبرِيءَ َومَنْ َك ِرهَ فَقَدْ‬
‫س َيكُونُ َ‬
‫وفي حديث آخر (ِإنّهُ َ‬
‫ضيَ َوتَابَعَ ) ‪ .‬فإياك أن تكون من المتابعين المشايعين‪ ..‬إياك ‪ ..‬إياك ‪. ..‬‬
‫سلِمَ َوَلكِنْ مَنْ َر ِ‬
‫َ‬
‫شرْطِ َو َبيْعَ‬
‫ستّا ِإمْا َرةَ السّ َفهَاءِ َو َك ْث َرةَ ال ّ‬
‫أمته فقال‪( :‬يَقُولُ بَا ِدرُوا بالعمال ِ‬ ‫وقد حذر النبي‬
‫حكْمِ‪ )..‬الحديث‪ ..‬وعدّ أمورا ‪ ،‬رواه المام أحمد والطبراني وغيرهما عن عابس الغفاري‬
‫الْ ُ‬
‫رضي ال َتعَالى عنه وفي رواية (بَا ِدرُوا بِا ْل َموْتِ) بدل (بَا ِدرُوا بالعمال) وعابس كان يرى أن‬
‫هذه الستة قد حدثت في زمانه‪ ..‬لجل ذلك تمنى الموت فأنكر عليه ذلك‪ ،‬فحدث بهذا الحديث‬
‫كما في أصل هذه الرواية‪..‬‬
‫يعدّ كثرة الشرط ‪ -‬في زمن أئمة يحكمون شرع ال ضمن أمور وفتن يتخوفها‬ ‫فإذا كان النبي‬
‫على أمته‪ ..‬فكيف يكون حال هؤلء الشرط مع عبيد الياسق العصري الذين هدموا التوحيد‬
‫وأقاموا وحموا ونشروا بقوانينهم الشرك والتنديد‪ ،‬ول أشك طرفة عين بأن حالهم هو ما رواه‬
‫ب اللّهِ‬
‫غضَ ِ‬
‫أنه قال‪( :‬سيكون في آخر الزمان شرطة َيغْدُونَ فِي َ‬ ‫أبو أمامة عن رسول ال‬
‫ط اللّهِ ) رواه المام أحمد والحاكم والطبراني في الوسط والكبير وزاد‬
‫َو َيرُوحُونَ فِي سَخَ ِ‬
‫(فإياك أن تكون من بطانتهم)‪.‬‬
‫يقول‪ ( :‬إن‬ ‫وفي رواية لبي هريرة في مسند أحمد وصحيح مسلم قال‪ :‬سمعت رسول ال‬
‫طال بك مدة أوشكت أن ترى قوما يغدون في سخط ال ويروحون في لعنته‪ ،‬في أيديهم مثل‬
‫أذناب البقر )‪.‬‬
‫قال‪ ( :‬صنفنان من أهل النار لم أرهما‬ ‫وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أيضا أن رسول‬
‫بعد‪ ،‬قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس‪ ،‬ونساء كاسيات عاريات‪ ..‬الحديث)‪.‬‬

‫‪280‬‬
‫وإذا كان أولئك الشرط في القرون الخالية يضربون الناس بتلك السياط علنية‪ ..‬فإن عبيد‬
‫الياسق وشرطتهم أشد خبثا‪ ،‬فهم يتجنبون أمثال ذلك أمام الناس ويكتبون بالخط العريض‬
‫( الشرطة في خدمة الشعب) والصواب أنهم في خدمة الطاغوت‪ ،‬ويوقعون في ظلمات الزنازين‬
‫بأعداء ياسقهم وبعيدا عن أعين الناس ألوانا من العذاب والنكال بالسياط وغيرها مما يتفننون فيه‬
‫ولم يكن يعرفه أصحاب تلك السياط القديمة ‪ ..‬أعاذنا ال وإخواننا المسلمين من سبيلهم وطريقهم‬
‫وأعمالهم‪..‬‬
‫فإياك أن تكون من جند ياسق إبليس الذين يقول ال تعالى في أمثالهم‪ { :‬فكبكبوا فيها هم‬
‫والغاوون وجنود إبليس أجمعون } ‪ ،‬والذين يقول فيهم سبحانه‪ { :‬جند ما هنالك مهزوم من‬
‫الحزاب }[ ص‪. ]11:‬‬
‫ولكن احرص أن تكون من جند التوحيد وعساكر اليمان الذين قال تعالى عنهم‪ { :‬وإنّ جندنا‬
‫لهم الغالبون }‪.‬‬
‫العمل في أمن الدولة‪ ،‬أو مباحث عبيد الياسق وجواسيسهم ومخابراتهم‬
‫ويلتحق ول شك في الجيش والشرطة؛ العمل في المباحث أو المخابرات وجواسيس عبيد الياسق‬
‫العصري‪ ..‬الذين يتجسسون على أهل اليمان‪ ،‬ويرفعون أخبارهم إلى أوليائهم من عبدة الياسق‪،‬‬
‫بل قد جاءت الحاديث تنهى عن مثل هذه الوظيفة الخبيثة حتى عند أئمة وأمراء الهدى ‪..‬‬
‫ع ْثمَانَ‬
‫فروى البخاري وغيره عَنْ َهمّامٍ قَالَ‪ُ :‬كنّا مَعَ حُ َذيْفَةَ فَقِيلَ لَهُ‪ :‬إِنّ َرجُلً َيرْفَعُ الْحَدِيثَ ِإلَى ُ‬
‫جنّةَ َقتّاتٌ )‪ .‬والقتات كما في فتح الباري ‪ -‬هو‬
‫يَقُولُ‪( :‬ل يَدْخُلُ الْ َ‬ ‫س ِم ْعتُ ال ّن ِبيّ‬
‫فَقَالَ لَهُ حُ َذيْفَةُ َ‬
‫الذي يتسمع من حيث ل يعلم به ثم ينقل ما سمعه‪.‬‬
‫حتّى‬
‫جلُوسًا مَعَ حُ َذيْفَةَ فِي ا ْلمَسْجِدِ فَجَاءَ رَجُلٌ َ‬
‫وفي صحيح مسلم عَنْ َهمّامِ بْنِ الْحَا ِرثِ قَالَ‪ُ :‬كنّا ُ‬
‫س ِمعَهُ ‪..‬فذكر‬
‫شيَاءَ فَقَالَ حُ َذيْفَةُ ِإرَا َدةَ أَنْ يُ ْ‬
‫سلْطَانِ أَ ْ‬
‫جَلسَ ِإَل ْينَا فَقِيلَ لِحُ َذيْفَةَ‪ :‬إِنّ هَذَا َيرْفَعُ ِإلَى ال ّ‬
‫َ‬
‫الحديث‪..‬‬
‫وهذا في زمن عثمان فداه أبي وأمي‪ ..‬فكيف الحكم والحال فيمن يعمل في مثل هذه الوظيفة عند‬
‫عبيد الياسق ومشركي القانون‪..‬؟؟ وما هو حكمه ‪..‬؟ ل شك أن حكمه ما رواه البخاري وغيره‬
‫عن سلمة بن الكوع قال‪ :‬أتى النبي صلى ال عليه وسلم عينٌ من المشركين‪ -‬وهو في سفر‪-‬‬
‫فجلس عند أصحابه يتحدث‪ ،‬ثم انفتل‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬اطلبوه واقتلوه‪ ،‬فنفله‬
‫سلبه)‪.‬‬

‫‪281‬‬
‫وكل وظيفة فيها رقابة على المسلمين ورفع لمورهم إلى عبيد الياسق‪.‬‬
‫واعلم أن حديث حذيفة هذا يعم كثيرا من الوظائف التي فيها إعانة على الظلم ورفع أمور‬
‫المؤمنين والمصلين إلى أولياء الياسق وعبيده‪ ..‬كالرقابة على كثير من المؤسسات والهيئات‬
‫والتي من شأنها أن تعين على المظالم أو أكل حقوق الناس وأموالهم‪ ..‬وقد روى المام أحمد‬
‫ج َرةَ ‪:‬‬
‫قَالَ ِل َك ْعبِ بْنِ عُ ْ‬ ‫عبْ ِد اللّهِ أنه‬
‫والترمذي والنسائي وغيرهم بإسناد صحيح عَنْ جَا ِبرِ بْنِ َ‬
‫أَعَا َذكَ اللّهُ مِنْ ِإمَا َرةِ السّ َفهَاءِ‪ ،‬قَالَ َومَا ِإمَا َرةُ السّ َفهَاءِ؟ قَالَ‪ُ :‬أ َمرَاءُ َيكُونُونَ َبعْدِي ل يَ ْقتَدُونَ‬
‫ستُ‬
‫ظ ْل ِمهِمْ فَأُوَل ِئكَ َليْسُوا ِمنّي َولَ ْ‬
‫علَى ُ‬
‫ن صَدّ َقهُمْ ِبكَ ِذ ِبهِمْ َوأَعَا َنهُمْ َ‬
‫س ّنتِي َفمَ ْ‬
‫س َتنّونَ بِ ُ‬
‫ِبهَ ْديِي وَل يَ ْ‬
‫ظ ْل ِمهِمْ فَأُوَل ِئكَ ِمنّي َوَأنَا‬
‫علَى ُ‬
‫ح ْوضِي َومَنْ لَمْ ُيصَدّ ْقهُمْ ِبكَ ِذ ِبهِمْ َولَمْ ُي ِع ْنهُمْ َ‬
‫عَليّ َ‬
‫ِم ْنهُمْ وَل َيرِدُوا َ‬
‫ح ْوضِي‪.) ..‬‬
‫عَليّ َ‬
‫س َيرِدُوا َ‬
‫ِم ْنهُمْ وَ َ‬
‫هذا في من مضي‪ ....‬فكيف عند عبيد الياسق وشركياتهم؟؟‬
‫فكل امرئ أدرى بحاله وبعمله الذي يقوم به‪ ،‬وما فيه وما عليه‪ ..‬وكل امرئ حجيج نفسه‬
‫وحسيبها ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره‪..‬‬
‫العرافة وكل ما يدخل تحت مسمّاها‬
‫وكذا كل ما يدخل تحت لفظة ( العريف) المتقدمة في حديث أبي هريرة وأبي سعيد الذي فيه‬
‫(فل يكونن عريفا ول شرطيا ول جابيا ول خازنا) وهو كما في النهاية لبن الثير (‪)3/218‬‬
‫والفتح لبن حجر (‪( ..)13/168‬القيم بأمور الجماعة أو الطائفة من الناس يلي أمورهم ويعرف‬
‫المير منه أحوالهم وأمورهم) فيدخل إذا في مسمى العريف كثير مما يتوله الناس من وظائف‬
‫يحذر من‬ ‫ومناصب كالمختار والمحافظ وأعضاء المجالس البلدية‪ ..‬ونحوها‪ .‬وقد كان النبي‬
‫أمثال هذه الوظيفة في أزمنة الخير والهدى فقد روى الطيالسي بسند حسن عن أبي هريرة أن‬
‫قال‪( :‬العرافة أولها ملمة وآخرها ندامة والعذاب يوم القيامة) وانظر ما رواه المام‬ ‫النبي‬
‫أحمد (‪ )5/166‬وابن سعد وابن حبان عن أبي ذر حين حضرته الوفاة أنه قال لمن حضره‪:‬‬
‫عرِيفًا َأوْ َبرِيدًا‪ )..‬وقد أورد ابن القيم الخبر‬
‫(فََأنْشُ ُدكُ ُم اللّهَ أَنْ ل ُيكَ ّف َننِي رَجُلٌ ِم ْنكُمْ كَانَ َأمِيرًا َأوْ َ‬
‫كاملً في الزاد (‪. )3/535‬‬
‫‪ .‬فكيف يكون الحال يا أولي اللباب في زمن عبيد الياسق وشركياتهم‪ ..‬فالحذر الحذر خاصة‬
‫بعدما ثبت النهي الصحيح عنها‪..‬‬

‫‪282‬‬
‫وجباية الموال والمخالفات والغرامات والمكوس والجمارك وخزنها والعمل في المؤسسات‬
‫الربوية‪.‬‬
‫وفي الحديث َأيْضا النهي عن العمل جابيا أو خازنا وعن كل وظيفة فيها إعانة على الظلم وأكل‬
‫أموال الناس بالباطل‪.‬‬
‫ورحم ال عطاء بن أبي رباح يوم أن سأله سائل في زمان الخلفة والفتوحات فقال‪ :‬إن لي أخا‬
‫يأخذ بقلمه‪ ،‬وإنما يحسب ما يدخل ويخرج‪ ،‬وله عيال ولو ترك ذلك لحتاج وأدان ؟ فقال‪ :‬مَن‬
‫الرأس ؟ قلت‪ :‬خالد بن عبد ال القسري‪ ،‬قال‪ :‬أما تقرأ ما قال العبد الصالح‪{ :‬رب بما أنعمت‬
‫علي فلنْ أكونَ ظهيرا للمجرمين} فل يعينهم أخوك فإن ال يعينه قال عطاء‪ :‬فل يحل لحد أن‬
‫يعين ظالما ول يكتب له ول يصحبه‪ ،‬وأنه إن فعل شيئا من ذلك فقد صار معينا للظالمين) اهـ‪.‬‬
‫فمن باب أولى عبيد الياسق العصري خاصة وأن قوانينهم هذه فيها استحلل الربا وفرض‬
‫عقوبات مالية في كثير من المجالت التي ما أنزل ال بها من سلطان‪ ..‬والمقلب لقوانين الجزاء‬
‫وغيرها يجد في كل باب تقريبا عقوبة مالية إضافة للعقوبة الخرى‪ ،‬هذا غير مخالفات البلدية‬
‫والمحال التجارية وضرائب الجمارك وغير ذلك من الرسوم الباطلة التي يأكلون بها أموال‬
‫الناس ظلما وعدوانا‪ ،‬وهذا باب واسع تدخل فيه كثير من الوظائف التي فيها جبي للمخالفات‬
‫والمكوس‪ ،‬كالعمل في كثير من أقسام البلدية والجمارك و الجوازات والقامات وغيرها من‬
‫أعمال المظالم وأشباهها‪..‬‬
‫‪( :‬ل يَ ْقتَطِعُ‬ ‫وقد جاء في حديث أبي أمامة الحارثي في سنن ابن ماجة أنه سمع رسول ال‬
‫جبَ لَ ُه النّارَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْ َقوْمِ يَا‬
‫جنّةَ َوَأوْ َ‬
‫عَليْهِ الْ َ‬
‫حرّ َم اللّهُ َ‬
‫سلِمٍ ِب َيمِينِهِ إِلّ َ‬
‫رَجُلٌ حَقّ ا ْم ِرئٍ مُ ْ‬
‫سوَاكًا مِنْ َأرَاكٍ)‪ .‬وفي الحديث الخر ‪( :‬من أكل‬
‫ش ْيئًا يَسِيرًا قَالَ َوإِنْ كَانَ ِ‬
‫رَسُولَ اللّهِ َوإِنْ كَانَ َ‬
‫سلِمٍ ثوبا فإن ال يكسوه‬
‫سلِمٍ أكلة فإن ال يطعمه مثلها من جهنم‪ ،‬ومن اكتسى برجل مُ ْ‬
‫برجل مُ ْ‬
‫مثله من جهنم‪ )..‬الحديث‪.‬‬
‫ويدخل في ذلك حتما العمل في البنوك والمؤسسات الربوية الخبيثة سواء الحكومية منها أو‬
‫غيرها مما ترخصه قوانينهم ويحرسه حماة قوانينهم‪..‬‬
‫العمل بريدا أو سفيرا أو رسولً عند عبيد الياسق‬
‫فهذه وظائف ل يجادل عاقل عارف بواقع عبيد الياسق في كونها من أعظم وسائل التعاون على‬
‫الثم والعدوان‪ ..‬فذلك أمر جلي واضح كوضوح الشمس في رابعة النهار‪ ..‬وقد قال تعالى‪:‬‬

‫‪283‬‬
‫لثْمِ وَا ْلعُ ْدوَانِ} [ المائدة‪ .]2 :‬و قال تعالى‪{ :‬وَل‬
‫علَى ا ِ‬
‫علَى ا ْل ِبرّ وَالتّ ْقوَى وَل َتعَا َونُوا َ‬
‫{ َو َتعَا َونُوا َ‬
‫سكُمْ النّارُ} [هود‪ .]113 :‬قال المفسرون‪ :‬الركون هو الميل اليسير‪.‬‬
‫ظَلمُوا َف َتمَ ّ‬
‫َت ْر َكنُوا ِإلَى الّذِينَ َ‬
‫وقال سفيان الثوري‪ :‬من لق لهم دواة أو برى لهم أو ناولهم قرطاسا فقد دخل في ذلك‪ ..‬وتقدم‬
‫كلم الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ في الركون َأيْضا فارجع إليه وتأمله فإنه‬
‫ظلْمٍ لَمْ َيزَلْ فِي سَخَطِ اللّهِ‬
‫علَى ُ‬
‫ظلْمٍ َأوْ ُيعِينُ َ‬
‫خصُومَةٍ بِ ُ‬
‫علَى ُ‬
‫مهم‪ .‬وفي الحديث ‪( :‬مَنْ أَعَانَ َ‬
‫حتّى َي ْنزِعَ) ‪.‬‬
‫َ‬
‫والبعد عن مثل هذه الوظائف له أصل عند السلف الصالح في زمن الخلفة والفتوح فكيف في‬
‫زمن عبيد الياسق العصري؟ وقد تقدم من ذلك كلم أبي ذر المتقدم حين حضرته الوفاة‪ ،‬فأمر‬
‫الحاضرين أل يكفنه رجل منهم عمل (أميرا أو عريفا أو بريدا)‪.‬‬
‫وللحديث المتقدم عن أبي هريرة مرفوعا في النهي عن بعض الوظائف عند أمراء الجور شاهد‬
‫أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (‪( ..)2/383‬كيف أنت يا مهدي إذا‬ ‫موقوف على ابن مسعود‬
‫ظهر بخياركم واستعمل عليكم أحداثكم وصليت الصلة لغير وقتها؟ قال قلت‪ :‬ل أدري‪ ،‬قال‪:‬‬
‫(ل تكن جابيا ول عريفا ول شرطيا ول بريدا وصل الصلة لوقتها)‪.‬‬
‫والعمل في النيابة والمحاماة والقضاء والمحاكم‬
‫ويدخل كذلك في الوظائف الباطلة التي يجب على المسلم الموحد أن يطهر نفسه وأهله من‬
‫رجسها‪ ،‬كل وظيفة فيها نوع تحاكم إلى قوانينهم كالمحاماة والقضاء وأمثالها‪ .‬وقد صح عن‬
‫جنّةِ قاض َقضَى بالهوى فِي النّارِ‬
‫ضيَانِ فِي النّارِ وَقَاضٍ فِي الْ َ‬
‫أنه قال‪( :‬الْ ُقضَاةُ ثَلثَةٌ قَا ِ‬ ‫النبي‬
‫جنّةِ ) ‪.‬‬
‫وَقَاضٍ قضى بغير علم َف ُهوَ فِي النّارِ وَقَاضٍ َقضَى بِالْحَقّ َف ُهوَ فِي الْ َ‬
‫ثلثة‪:‬‬ ‫فالقضاة إذن كما قسمهم النبي‬
‫• قاض يقضي بالهوى‪ ..‬وكل ما خالف شرع ال فهو الهوى والجهل والجور‪.‬‬
‫• وَقَاضٍ يقضي بغير علم‪ ..‬وليس العلم المقصود هنا طبعا علم الحقوق والقانون‪ ،‬فل نعمة‬
‫ول كرامة لمثل هذه العلوم النتنة‪ ..‬بل العلم الذي يجب أن يقضي به القاضي هو علم الكتاب‬
‫والسنة وما سوى ذلك وسواس الشياطين‪..‬‬
‫• وَقَاضٍ يقضي بِا ْلحَقّ‪ ..‬والحق هو ما جاء في الكتاب والسنة ل غير‪ ،‬وأين كتاب ال وسنة‬
‫في محاكمهم وقوانينهم؟‪ ،‬إنه كما علمت مما تقدم معزول معطل ليس له سلطان‪ ،‬بل‬ ‫رسوله‬

‫‪284‬‬
‫السلطان كله والحق عندهم لما نطق به ياسقهم كما تقدم في المادة (‪ )53‬من دستورهم وغيرها‪..‬‬
‫ل الضلل) و شرع الطاغوت‪.‬‬
‫وإذا كان الحق معزولً معطلً في محاكمهم ( فماذا بعد الحق إ ّ‬
‫وكيف يحل لقضاة يزعمون السلم والتوحيد واليمان {أَنْ َيتَحَا َكمُوا ِإلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ ُأ ِمرُوا‬
‫أَنْ َيكْ ُفرُوا بِهِ}؟؟[النساء‪ .]60 :‬بل كيف يحل ذلك لكل من انتسب إلى دين التوحيد؟؟؟‬
‫تبّا لكل وظيفة أو شيء من متاع الدنيا يخدش جناب التوحيد‪ ،‬وسحقا لكل عقل تخيرها وقدمها‬
‫على ( ل ِإلَهَ إِلّ ال) والعقيدة والدين‪.‬‬
‫ورحم ال الشيخ سليمان بن سحمان إذ يقول في رسالة له في بيان معنى الطاغوت بعد أن بين‬
‫أن الموت وذهاب الحياة كلها أهون من الشرك والكفر مستدلً بقوله تعالى‪{ :‬وَالْ ِف ْتنَةُ َأ ْك َبرُ مِنْ‬
‫الْ َقتْلِ}‪{ ..‬وَالْ ِف ْتنَةُ أَشَدّ مِنْ الْ َقتْلِ}‪ ،‬قال‪( :‬فلو ذهبت دنياك كلها لما جاز لك المحاكمة إلى‬
‫الطاغوت لجلها ولو اضطرّك وخيّرك بين أن تحاكم إلى الطاغوت أو تبذل دنياك لوجب عليك‬
‫البذل ولم يجز لك المحاكمة إلى الطاغوت)اهـ الدرر السنية ص (‪ )285‬من حكم المرتد‪.‬‬
‫ويقول المودودي رحمه ال َتعَالى في كتابه الحكومة السلمية‪ ( :‬إن احتكامنا للمحاكم ‪ -‬التي‬
‫وضع الطاغوت‪ -‬لتقضي وتفصل في أمورنا ومشاكلنا أمر ينافي اليمان ويناقضه ‪ ..‬إنما‬
‫يقضي اليمان بال وكتابه أن يرفض النسان التسليم بشرعية هذه المحاكم لن اليمان بال‬
‫والكفر بالطاغوت أمران متلزمان في القرآن‪ .‬وطاعة ال والطاغوت في آن واحد هو النفاق‬
‫بعينه) اهـ‪.‬‬
‫ورحم ال السلف الذين كانوا يفرون من أمثال هذه الوظائف في أزمنة الشريعة والخلفة‬
‫والفتوحات‪ ..‬وكانوا يقولون‪ ( :‬من ولي القضاء فقد ذبح نفسه بغير سكين) ‪.‬‬
‫فيا لهف نفسي لو اطلعوا على كثير ممن يستميتون على هذه الوظائف من أهل زماننا الهادمين‬
‫لدينهم الناحرين للتوحيد على مذابح الياسق والشرك والتنديد‪ ..‬ماذا كانوا يقولون؟ أما آن لهؤلء‬
‫أن يرعووا عن ضللهم‪..‬؟ أو يستحيوا على القل من النتساب والتمسح بطريقة أولئك السلف‬
‫العلم الماجد‪.‬‬
‫وأختم هذا بكلم العلمة أحمد شاكر رحمه ال تعالى في( حاشية عمدة التفسير )(‪:)4/174‬قال‬
‫وهو يتكلم عن الياسق العصري‪( :‬أفيجوز إذن ‪ -‬مع هذا ‪ -‬لحد من المسلمين أن يعتنق هذا‬
‫الدين الجديد ‪-‬أعني التشريع الجديد‪ -‬أوَيجوز لبٍ أن يرسل أبناءه لتعلم هذا واعتناقه واعتقاده‬
‫والعمل به عالما كان الب أو جاهلً؟؟ ‪.‬‬

‫‪285‬‬
‫أوَ يجوز لرجل مسلم أن يلي القضاء في ظل هذا ( الياسق العصري) وأن يعمل به ويعرض‬
‫ل ويؤمن بأن‬
‫عن شريعته البينة؟؟ ما أظن أن رجلً مسلما يعرف دينه ويؤمن به جملة وتفصي ً‬
‫هذا القرآن أنزله ال على رسوله كتابا محكما‪ ،‬ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه‪ ،‬وبأن‬
‫الذي جاء به واجبة قطعية الوجوب في كل حال‪ ،‬ما أظنه يستطيع‬ ‫طاعته وطاعة الرسول‬
‫إلّ أن يجزم غير متردد ول متأول بأن ولية القضاء في هذه الحال باطلة بطلنا أصليا ل‬
‫يلحقه التصحيح ول الجازة؟) اهـ‪.‬‬
‫ومن باب أولى تولي منصب الوزارة وعضوية مجالس المة والبرلمانات‬
‫فهذه الوظائف ل شك أنها تدخل في العرافة التي جاء التحذير منها في الحاديث في زمن‬
‫الخلفة والفتوحات‪ ..‬فهي في أزمنة عبيد الياسق تعتبر إضافة إلى ذلك أركانا لدول وأنظمة‬
‫الطواغيت وأسسا لياسقها‪.‬‬
‫فوزير الوقاف مثلً ل شك أنه مجرم سند للمجرمين‪ ،‬يكمم أفواه الخطباء ويكبل المساجد ويخدم‬
‫الكنائس‪ ،‬فهو عبد لمخططات دولته العلمانية‪ ،‬ينفذ سياسة التلبيس ول يخرج أو يحيد عن‬
‫ياسقها‪ ،‬وكيف يحيد عنه وهو لم يتولّ منصبه إلّ بعدما أقسم اليمين الدستورية كما في المادة (‬
‫‪ )126‬من ياسقهم ( الدستور) فقال ‪( :‬أقسم بال العظيم أن أكون مخلصا للوطن وللمير وأن‬
‫أحترم الدستور وقوانين الدولة‪ )..‬إلى آخر قسمهم الشركي‪.‬‬
‫فهو إذن ليس مجرد موظف عادي‪ ..‬بل ركن من أركان الدولة وقطب من أقطابها‪ ..‬وإن كان‬
‫هناك من هو شر منه وأطغى‪ ..‬كوزير الدولة للشؤون القانونية والدارية مثل أو وزير الداخلية‬
‫وكذا الخارجية أو وزير المالية الربوية أو وزير قلة التربية‪ ..‬وهكذا فل شك أن هذه المناصب‬
‫درجات متفاوتة في الزندقة واللحاد والكفر‪ ،‬وتتنوع مهامهم في نصرة الشرك وأهله‪ ،‬وحرب‬
‫التوحيد وأهله‪ ،‬وقد تكون صريحة عند بعضهم‪ ،‬خفيّة عند آخرين‪ ،‬ولكنهم جميعا متعاونون على‬
‫نحر التوحيد وصيانة الشرك والتنديد‪ ،‬بإرساء قواعد الياسق وحفظ قوانينه واحترامها‪ ..‬وهذا‬
‫واضح بين معلوم من أهداف وأسس الوزارة ومجلس الوزراء ل يجادل فيه إلّ جاهل‪ ،‬ولذا‬
‫تسمى الوزارة عندهم بالسلطة التنفيذية‪ ،‬انظر دستورهم وتأمل مواد فرع ( الوزارة) ابتداء من‬
‫المادة (‪ )123‬التي تنص على التي (يهيمن مجلس الوزراء على مصالح الدولة‪ ،‬ويرسم السياسة‬
‫العامة للحكومة ويتابع تنفيذها‪ )..‬إلى غيرها‪.‬‬

‫‪286‬‬
‫وكذا عضوية البرلمانات فإنها ل تقل جرما عن الوزارة مهما حاول أن يرقع لها المرقعون بل‬
‫هي أشد خطرا وأعظم جرما فتلك (سلطة تنفيذية) وهذه يسمونها (تشريعية) فحقيقة نواب‬
‫البرلمانات التشريعيّة أنهم طواغيت قد اتخذهم من أنابهم عن نفسه في التشريع‪ ،‬أربابا‬
‫مشرعين‪..‬‬
‫وقد قال تعالى‪ {:‬ءأرباب متفرقون خير أم ال الواحد القهار}‪ ،‬وقال عن أمثالهم ‪ {:‬اتخذوا‬
‫أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون ال‪..}..‬‬
‫ول مانع أن نذكر َأيْضا أنها عرافة‪ ..‬وقد تقدم النهي عنها عند أئمة الجور فكيف بغيرهم ممن‬
‫هم أظلم وأطغى؟؟‪ ..‬وكيف إذا عرفت أن هذا نوع خطير جدا من أنواع العرافة‪ ..‬فالعريف مثلً‬
‫يمثل طائفة من الناس أما عضو مجلس المة فهو ( يمثل المة بأسرها) كما نصت المادة (‪)108‬‬
‫من دستورهم‪ ..‬وقبل أن يتولى العضو مهامه لبد من قسمهم الشركي ذاته على احترام الشرك‬
‫والطاغوت ( الياسق والقانون) والخلص ( لدار الكفر والمير المشرع)‪ ..‬انظر مادة (‪ )91‬من‬
‫دستورهم‪ ..‬ويمنحون على ذلك مكافآت معلومة نص عليها دستورهم كما في المادة (‪)119‬‬
‫والخلصة‪ ..‬أن المشاركين في هذه البرلمانات طواغيت صغار‪ ،‬أشركوا أنفسهم مع ال َتعَالى‬
‫في التشريع يشرعون ويقننون ويقررون‪ ،‬مع مشرّعهم الول الذي بيده التشريع كله في البلد‪،‬‬
‫كما في المادة (‪ )101‬من دستورهم (لعضو مجلس المة حق اقتراح القوانين) والمادة (‪ ( )79‬ل‬
‫يصدر قانون إلّ إذا أقره مجلس المة وصدّق عليه المير‪.)..‬‬
‫وقد عرفت أن هذا هو الشرك بعينه‪ ..‬فإياك إياك‪..‬‬
‫موقفنا من عوام الناس المتابعين للدولة والمشاركين في هذه الوظائف‬
‫قد ظهر لك فيما تقدم أن في وظائف الحكومات تفصيل مهم لبد من معرفته والتنبيه عليه‪.‬‬
‫فمن هذه الوظائف ما قد يكون معصية أو كبيرة ل تخرج بصاحبها من دائرة السلم‪ ،‬ومنها ما‬
‫قد يتعدى بالنسان إلى الشرك والكفر‪.‬‬
‫‪ -‬فالوظيفة التي فيها قسم على احترام ياسق الكفر والسهر على حراسة القوانين الوضعيّة أو‬
‫حمايتها مثلً‪ ،‬ليست كوظيفة ( الجابي) وأمثالها‪..‬‬
‫‪ -‬وكذلك الوظيفة التي فيها مولة عبيد الياسق وأوليائهم‪ ،‬ومظاهرتهم على الموحدين المنابذين‬
‫لطاغوتهم (الياسق) ليست كوظيفة (الخازن) وأمثالها‪ -.‬وكذا الوظيفة التي فيها تحاكم إلى‬

‫‪287‬‬
‫الطاغوت أو وصف لحكامه بالنزاهة والعدالة‪ ،‬وال يعلم أنها الكفر والشرك والضللة‪ ..‬أو‬
‫التشريع وسن القوانين‪ ..‬ليست كوظيفة ربوية تخلو من الستحلل‪ ..‬وهكذا‪..‬‬
‫وأهل هذه الوظائف والِغون بالشرك والثم والحرام كل بحسب حاله‪ ،‬ول شك أن فيهم المشرك‬
‫المعاند والفاسق الفاجر والجاهل المتأول‪ ..‬ومنهم من قد يعذر بجهله لخفاء بعض المور‬
‫والتباسها‪ ..‬ومنهم من ل يعذر لظهورها واشتهارها‪..‬‬
‫لذا فالتفصيل لبد منه‪ ..‬وطالب العلم يعرف ويفرق بين قولنا هذا شرك أو كفر‪ ،‬وبين قول‪:‬‬
‫فلن مشرك أو كافر‪.‬‬
‫ونحن عندما كتبنا هذه الوراق لم يكن همّنا ومقصودنا النشغال والخوض والتوسع في العيان‬
‫كفرهم وإسلمهم‪ ..‬وإنما مقصودنا فيها النصح للمسلمين وتحذيرهم من شرك العصر‪ ،‬وتنبيههم‬
‫إلى ذرائعه ووسائله وأبوابه‪ ،‬وتنفيرهم من كل وظيفة أو منزلق يخدش جناب التوحيد‪،‬‬
‫وإخراجهم من فتن هذا الزمان وظلمات عبيد الياسق إلى نور التوحيد ومنهاج الدعوة القويم‬
‫وطريقها المستقيم‪.‬‬
‫فلينشغل الدعاة بذلك‪ ،‬وليخلصوا العمل على إنقاذ المة وتعليم الناس ونصحهم وإرشادهم بكل‬
‫صراحة ووضوح‪ .‬فالمة في أمس الحاجة إلى ذلك‪..‬‬
‫‪ -‬والحكمة والموعظة الحسنة والصبر واجب وخلق عظيم من أخلق الدعوة إلى ال تعالى‪.‬‬
‫‪ -‬واللين والرحمة مطلوبة لتأليف القلوب وإصلحها‪.‬‬
‫‪ -‬وكذا الهجران للمصرين على الباطل والعراض عنهم وترك مآكلتهم ومجالستهم و ترك‬
‫كلمهم والسلم عليهم كل ذلك مشروع مقرر في محله‪.‬‬
‫‪ -‬وكذا الغلظة والشدة والقول البليغ كل في محله ومقامه‪ ،‬ورحم ال من قال‪:‬‬
‫إل بعبسة مالك الغضبان‬ ‫ل تلق مبتدعا ول متزندقا‬
‫وكذا البراءة من المصرين على شركياتهم وبغضهم ومعاداتهم والكفر بشركهم‪ ،‬وتكفيرهم إن‬
‫توفرت الشروط وانتفت الموانع‪.‬‬
‫ولنا في نبينا صلوات ال وسلمه عليه أحسن قدوة‬ ‫وتفاصيل ذلك موجودة في دعوة النبي‬
‫وأكملها‪.‬‬
‫قاعدة في وظائف الحكومات‬

‫‪288‬‬
‫وأخيرا‪ ..‬ولكي ل يرمينا علماء الحكومات وعبيد الياسق وسدنته أننا قد حرّمنا جميع الوظائف‬
‫والصناعات ودعونا إلى البطالة‪ ..‬وما إلى ذلك‪ ..‬نورد ما نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري‬
‫( كتاب الجارة)‪:‬‬
‫(كره أهل العلم ذلك ‪ -‬أي العمل عند أهل الشرك إل لضرورة بشرطين‪ :‬أحدهما ‪ :‬أن يكون‬
‫عمله فيما يحل للمسلم فعله‪ ،‬والخر‪ :‬أن ل يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين)اهـ‪.‬‬
‫وأضاف غيره شرطا ثالثاُ ‪ :‬أن ل يكون في العمل إذلل للمسلم‪...‬‬
‫فيستفاد من ذلك أن الولى للمسلم الموحد البعد عن وظائف حكومات عبيد الياسق عموما‪ ..‬فإن‬
‫كان ولبد‪ ،‬فالضابط في ذلك أن ل يكون في الوظيفة إعانة على ظلم أو باطل أو معصية أو‬
‫حماية قوانينهم أو القسم‪ ،‬على احترامها والتحاكم إليها وأمثاله فإن له شأنا آخر كما قدمنا‪ ..‬وكل‬
‫امرئ حجيج نفسه‪ ..‬وال المستعان‪..‬‬
‫أل تـكونوا لهل الظلم أعـوانـا‬ ‫يـا أيـها الناس إن ال يـأمركم‬
‫ول تكونوا لمن عاداه إخـــوانا‬ ‫يا قـوم ل تنصروا من ليس ينصره‬
‫مهمــا أرادوا ويلقى ال عصيانا‬ ‫يلقى العدا طاعة منكم ومـسكنة‬
‫ل تملكون لـه ردا إذا حــانـا‬ ‫إني أخـاف عليكـم حادثا جللً‬
‫وفي الطريق مخذلون ومرجفون‬
‫وبعد أن عرفت ضرورة معاداة عبيد الياسق العصري‪ ،‬ولزوم البراءة منهم ومن ياسقهم‬
‫الشركي ما داموا مصرين على تحكيمه‪ ،‬حتى يرجعوا إلى شرع ال العظيم وحكمه العادل‬
‫الواضحة في النهي عن الركون إلى من هم‬ ‫ويكفروا بذلك الياسق‪ ..‬ورأيت أحاديث النبي‬
‫أهون منهم شرا بكثير‪ ،‬والتحذير من إعانتهم على ظلمهم أو المشاركة في كثير من وظائفهم‬
‫الباطلة‪..‬‬
‫بعد هذا كله‪ ،‬إياك ثم إياك أن تعرض عن تلك الحاديث النبوية وتهملها لقول فلن أو علن‪ ،‬أو‬
‫تغتر بما يوحيه الشيطان ويقذفه في قلوب كثير من ضعفاء اليمان من إرجافات المصالح‬
‫وأمره واسلك طريق دعوته ول‬ ‫والضرورات وغيرها من التلبيسات‪ ،‬بل تـثبت بهدي نبيك‬
‫تهتم لقلة السالكين أو بكثرة الهالكين‪..‬‬
‫أما الحتجاج بالضرورات والكراه على موالة عبيد الياسق وإعانتهم على باطلهم أو شركياتهم‬
‫أو مدح ما يعبدونه أو حمايته‪ ..‬فل يجوز استباحة شيء من ذلك بمجرد التهديد بالطرد من‬

‫‪289‬‬
‫الوظيفة أو التضييق في الرزق أو الخراج من البلد‪ ،‬والحرمان من بعض حظوظ الدنيا‪ ..‬فإن‬
‫ال هو الرزاق ذو القوة المتين وللمسلم في هذه المواقف قدوة بأنبياء ال تعالى‪ ..‬وهذا شعيب‬
‫عليه السلم يخيره قومه بين العودة إلى دينهم أو الخروج من قريتهم هو ومن معه من‬
‫المؤمنين‪ ،‬فل يقدم على توحيده شيئا مما يتعذر به أكثر الناس‪ ،‬بل يجيبهم بكل وضوح‪َ {:‬أ َوَلوْ‬
‫علَى اللّهِ كَ ِذبًا إِنْ عُ ْدنَا فِي ِمّل ِتكُمْ َبعْدَ إِذْ نَجّانَا اللّهُ ِم ْنهَا َومَا َيكُونُ َلنَا أَنْ‬
‫ُكنّا كَارِهِينَ قَدْ ا ْف َت َر ْينَا َ‬
‫علَى اللّهِ َت َو ّك ْلنَا َر ّبنَا ا ْفتَحْ َب ْي َننَا َو َبيْنَ‬
‫ع ْلمًا َ‬
‫شيْءٍ ِ‬
‫َنعُودَ فِيهَا إلّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ َر ّبنَا وَسِعَ َر ّبنَا كُلّ َ‬
‫خ ْيرُ الْفَاتِحِينَ}‪.‬‬
‫َق ْو ِمنَا بِالْحَقّ َوَأ ْنتَ َ‬
‫سبَ النّاسُ أَنْ ُي ْت َركُوا أَنْ يَقُولُوا آ َمنّا وَهُمْ‬
‫وليتذكروا قول ال َتعَالى في أوائل العنكبوت‪{ :‬الم َأحَ ِ‬
‫سبَ الّذِينَ‬
‫ن صَدَقُوا َوَل َي ْعَلمَنّ ا ْلكَا ِذبِينَ أَمْ حَ ِ‬
‫ل يُ ْف َتنُونَ َولَقَدْ َف َتنّا الّذِينَ مِنْ َق ْبِلهِمْ َفَل َي ْعَلمَنّ اللّهُ الّذِي َ‬
‫لتٍ وَ ُهوَ‬
‫ل اللّهِ َ‬
‫ح ُكمُونَ مَنْ كَانَ َيرْجُو لِقَا َء اللّهِ فَإِنّ أَجَ َ‬
‫سبِقُونَا سَاءَ مَا يَ ْ‬
‫س ّيئَاتِ أَنْ يَ ْ‬
‫َي ْع َملُونَ ال ّ‬
‫ن اللّهَ َل َغ ِنيّ عَنْ ا ْلعَاَلمِينَ} [العنكبوت‪َ {..]6-1 :‬ومِنْ‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ َومَنْ جَاهَدَ فَِإ ّنمَا ُيجَاهِدُ ِلنَفْسِهِ إِ ّ‬
‫ال ّ‬
‫جعَلَ ِف ْتنَ َة النّاسِ َكعَذَابِ اللّهِ}[العنكبوت‪.]9 :‬‬
‫النّاسِ مَنْ يَقُولُ آ َمنّا بِاللّهِ فَإِذَا أُو ِذيَ فِي اللّهِ َ‬
‫يقول الشيخ حمد بن عتيق‪ ( :‬لم يجعل ال الدنيا عذرا لمن اعتذر بها‪ .‬قال ال تعالى‪{ :‬قُلْ إِنْ‬
‫شوْنَ كَسَادَهَا‬
‫خَ‬‫جكُمْ وَعَشِي َر ُتكُمْ َوَأمْوَالٌ ا ْق َترَ ْف ُتمُوهَا َوتِجَا َرةٌ تَ ْ‬
‫خوَا ُنكُمْ َوَأزْوَا ُ‬
‫كَانَ آبَا ُؤكُمْ َوَأ ْبنَا ُؤكُمْ َوإِ ْ‬
‫ي اللّهُ بَِأ ْم ِرهِ‬
‫حتّى يَ ْأ ِت َ‬
‫سبِيلِهِ َف َت َر ّبصُوا َ‬
‫جهَادٍ فِي َ‬
‫ن اللّهِ َورَسُولِهِ وَ ِ‬
‫حبّ ِإَل ْيكُمْ مِ ْ‬
‫َومَسَاكِنُ َت ْرضَ ْو َنهَا أَ َ‬
‫خ َرةِ َنزِدْ لَهُ فِي‬
‫ح ْرثَ ال ِ‬
‫وَاللّهُ ل َيهْدِي الْ َقوْمَ الْفَاسِقِينَ}[براءة‪ .]24 :‬وقال تعالى‪{ :‬مَنْ كَانَ ُيرِيدُ َ‬
‫خ َرةِ مِنْ َنصِيبٍ}[الشورى‪.]20 :‬وقال‬
‫ح ْرثَ ال ّد ْنيَا نُؤتِهِ ِم ْنهَا َومَا لَهُ فِي ال ِ‬
‫ح ْرثِهِ َومَنْ كَانَ ُيرِيدُ َ‬
‫َ‬
‫ج َهنّمَ َيصْلهَا مَ ْذمُومًا‬
‫ج َع ْلنَا لَهُ َ‬
‫ج ْلنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ ِلمَنْ ُنرِيدُ ثُمّ َ‬
‫جلَةَ عَ ّ‬
‫تعالى‪{ :‬مَنْ كَانَ ُيرِيدُ ا ْلعَا ِ‬
‫شكُورًا}[السراء‪:‬‬
‫س ْع ُيهُمْ مَ ْ‬
‫س ْع َيهَا وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَُأ ْوَل ِئكَ كَانَ َ‬
‫سعَى َلهَا َ‬
‫خ َرةَ وَ َ‬
‫مَدْحُورًا َومَنْ َأرَادَ ال ِ‬
‫فيما يرويه عن ربه‪" :‬ول يحملنكم الشيطان باستبطاء الرزق أن تطلبوه‬ ‫‪ .]19-18‬وقال النبي‬
‫بمعاصي ال" ‪.‬‬
‫ولما نهى ال سبحانه عن حمل المشركين إلى بيته‪ ،‬وعلم من خلقه العتذار بالحاجة قال‪:‬‬
‫ضلِهِ إِنْ شَاءَ } فلم يعذر بالفقر والحاجة إلى ما في‬
‫س ْوفَ ُي ْغنِيكُمْ اللّهُ مِنْ َف ْ‬
‫ع ْيلَةً فَ َ‬
‫{‪َ ..‬وإِنْ خِ ْفتُمْ َ‬
‫أيديهم وأخبر أنه الرزاق ذو القوة المتين)اهـ ‪.‬‬
‫ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن‪ ( :‬وقد عُرف من آية سورة براءة أن قصد‬
‫أحد الغراض الدنيوية ليس بعذر شرعي بل فاعله فاسق ل يهديه ال كما هو نص الية‪،‬‬

‫‪290‬‬
‫والفسوق إذا أطلق ولم يقترن بغيره فأمره شديد ووعيده أشد وعيد‪ ،‬وأي خير يبقى مع مشاهدة‬
‫تلك المنكرات والسكوت عليها وإظهار الطاعة والنقياد لوامر من هذا دينه وتلك نحلته‬
‫والتقرب إليهم بالبشاشة‪)..‬اهـ‪.‬‬
‫وفوق العباد رب يعلم سبحانه خفايا نفوسهم وما يعلنون ويعلم الصادق من الكاذب والمكره‬
‫الحقيقي من غيره‪..‬‬
‫وقد تكلم العلماء في الكراه وحدوا له حدودا يجهلها أو يتجاهلها كثير من المتهاونين المحتجين‬
‫بالكراه في زماننا‪..‬‬
‫ذكر الحافظ بعضها في الفتح‪ ..‬من ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬أن يكون المكرِه ( بكسر الراء) قادرا على إيقاع ما يهدد به‪ ،‬والمكرَه (بالفتح) عاجزا عن‬
‫الدفع أو الفرار‪.‬‬
‫‪-‬أن يكون ما هدد به فوريا‪ ،‬أو يغلب على ظنه ويترجح عنده أنه إذا امتنع أوقع به ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬أن ل يظهر من المأمور ما يدل على تماديه‪ ،‬كأن يعمل زيادة على ما يمكن أن يزول البلء‬
‫به عنه‪.‬‬
‫ومعلوم أن الضرورات تقدر بقدرها‪ ..‬وأن الميسور ل يسقط بالمعسور‪ ،‬وكل إنسان أخبر‬
‫وأعرف بنفسه وصدق ضرورته من زورها‪ ..‬تماما كمعرفته بنجاسته وطهارته‪ ..‬وكفى بنفسه‬
‫اليوم عليه حسيبا وبربك عليك رقيبا‪..‬‬
‫ومعلوم أن الكراه على إظهار الكفر أو موالة الكفار أو التحاكم إلى الطاغوت ليس كالكراه‬
‫الذي أنزلت بسببه آيات الكراه‪ ..‬والذي يحتج كثير من‬ ‫على سائر المعاصي‪ ..‬وأن عمارا‬
‫ما قال إلّ بعدما ذاق من أصناف الضرب والعذاب‪ ،‬وأوذي‬ ‫المتهاونين دوما بفعله‪ ..‬لم يقل‬
‫في ال أذى شديدا‪ ،‬فكسرت ضلوعه وقتل أبواه وغير ذلك مما يجب على المحتج بقصته أن‬
‫يتذكره ويستحضره إن كان منصفا‪..‬‬
‫ورحم ال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إذ يخاطب بعض أهل‬
‫زمانه ممن هم على شاكلة ‪ ،‬فيقول‪( :‬رضي ال عن عمار تبرأ من المشركين وسبهم وسب‬
‫دينهم ومعبوداتهم فلذلك تصدوا له ولهله بالعداوة الشديدة‪ ،‬وما ثم قرية ول قبيلة على السلم‪،‬‬
‫فجعلوا يضربونه أشد الضرب ويعذبونه أشد العذاب وحبسوه في بئر ميمون‪ ،‬وقتلوا أباه وأمه‬
‫إذا مر بهم يقول‪( :‬صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة) ومع هذا وغيره لم يقع‬ ‫وكان النبي‬

‫‪291‬‬
‫منه إلّ القول دون الفعل‪ .‬وأنتم سارعتم بل إكراه وقلتم وفعلتم تقربا إليهم واختيارا من غير أن‬
‫يكون منهم طلب لما فعلتموه‪ ،‬فما طلبوا منكم ذلك ول امتنعتم‪ ،‬ول أكرهتم عليه فأين أنتم من‬
‫عمّار فهو وأنتم في طرفي نقيض‪ ،‬شعرا‪..‬‬
‫شتان بين مشرق ومغرب)اهـ‬ ‫سارت مشرقة وسرت مغربا‬
‫‪( :‬فهذه‬ ‫ثم قال ص (‪ )124‬من الكتاب نفسه بعدما ذكر بعض مواقف الثبات لصحاب النبي‬
‫وما لقوا من المشركين من شدة الذى‪ ،‬فأين هذا من حال هؤلء‬ ‫حال أصحاب رسول ال‬
‫المفتونين الذين سارعوا إلى الباطل وأوضعوا فيه وأقبلوا وأدبروا وتوددوا وداهنوا وركنوا‬
‫س ِئلُوا الْ ِف ْتنَةَ‬
‫عَل ْيهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمّ ُ‬
‫خَلتْ َ‬
‫وعظّموا ومدحوا؟ فكان أشبه بما قال ال تعالى‪َ { :‬وَلوْ دُ ِ‬
‫ل َتوْهَا َومَا َتَل ّبثُوا ِبهَا إِلّ يَسِيرًا} [الحزاب‪ .]14 :‬نسأل ال الثبات على السلم) انتهى كلمه‬
‫رحمه ال تعالى‪ ،‬وكأنه يتكلم في زماننا‪..‬‬

‫ولعل قائلً ممن ل يشعرون بمصاب السلم وما حل به من فتن وضللت القوانين وعبيدها‬
‫يقول‪ :‬قد هوّلت المر‪ .‬فأقول‪ :‬بل المر وال أهول وأكبر مما حسبتم وأعظم مما سمعتم‬
‫عنْ َد اللّهِ عَظِيمٌ} ومن عرف قدر التوحيد وعظمته عند ال تعالى‪ ،‬وخطر‬
‫سبُونَهُ َه ّينًا وَ ُهوَ ِ‬
‫{ َوتَحْ َ‬
‫الشرك وعظم مفسدته وكثرة أبوابه وذرائعه وكثرة المتساقطين الهالكين فيه في زماننا هذا‪،‬‬
‫وكان في قلبه حياة وغيرة وغضب ل ولحرماته وشرعه‪ ،‬عرف خطورة وعظم المصيبة التي‬
‫حلت وتحل في السلم والمسلمين‪ ،‬ولكن أكثر من ترى والعياذ بال قد ماتت قلوبهم وأشرِبت‬
‫هذا الباطل واعتادته واستمرأته فاستهونته واستصغرته‪ ..‬وأصبح عند كثير منهم كذباب وقف‬
‫على أنفه فقال له بيده هكذا‪ ..‬فغالب من نراهم اليوم يحتجون بالضرورات والكراه‪ ،‬لم يُحبسوا‬
‫ولم يوثقوا ولم يضربوا ولم يعذبوا ول نالهم عشر معشار ما نال عمّار ‪ ،‬وتراهم مع هذا‬
‫مهطعين إلى كل هاوية وطامة مما يهدم أصول الدين ويقوضها‪ ،‬ظانين أن مجرد الخوف على‬
‫فوات بعض قشور الدنيا ومتاعها من وظيفة أو منصب أو سكن أو وطن يبيح لهم نحر التوحيد‬
‫وذبح العقيدة‪..‬‬
‫هذا وقد فرق أهل العلم في كلمهم كثيرا بين الكراه الحقيقي الذي قدّمنا لك بعض شروطه‪،‬‬
‫وبين الخوف المجرد‪ ،‬فها هو إمام أهل السنة والجماعة رحمه ال َتعَالى بعد المحنة‪ ،‬لما دخل‬
‫ط َمئِنّ بِالِيمَانِ} فقلب أحمد‬
‫عليه يحيى بن معين محتجا بالكراه وتل عليه‪{ :‬إِلّ مَنْ ُأ ْك ِرهَ وَ َق ْلبُهُ مُ ْ‬

‫‪292‬‬
‫وجهه إلى الجهة الخرى‪ ،‬فما زال ابن معين يعتذر ويقول‪ " :‬حديث عمار بن ياسر"‪ ..‬فلما‬
‫خرج من عنده‪ ،‬قال أحمد‪" :‬يحتج بحديث عمّار‪ ،‬وحديث عمّار يقول‪ :‬مررت بهم وهم يسبونك‪،‬‬
‫نهيتهم فضربوني‪ ،‬وأنتم قيل " نريد أن نضربكم" فقال يحيى‪.. :‬وال ما رأيت تحت أديم السماء‬
‫أفقه في دين ال منك) اهـ‪.‬‬
‫ولشيخ السلم كلم مثل هذا ونقولت عن المام أحمد حوله نقل بعضها العلمة ابن عتيق في‬
‫كتابه ( سبيل النجاة والفكاك من موالة المرتدين وأهل الشراك) تأمل كلمهم في هذا ص (‪)62‬‬
‫وما بعدها فإنه مهم‪ ،‬وكذا الشيخ سليمان بن عبد ال بن محمد بن عبد الوهاب في رسالته ( حكم‬
‫موالة أهل الشراك) فقد أفاض في الكلم فيه‪ ،‬وكلم جده المام محمد بن عبد الوهاب في كتبه‬
‫في التفريق بين الكراه الحقيقي والخوف المجرد أكثر وأكثر‪ .‬خذ على سبيل المثال أشهر متونه‬
‫التي يحفظها الصبيان وهي رسالة (نواقض اّلسلم) فقد قال بعدما عدد النواقض ( ول فرق في‬
‫جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إل المكره‪ )..‬فتأمل التفريق فإنه مهم‪.‬‬
‫أضف إلى هذا أن أهل العلم يذكرون دائما في أبواب الكراه أن الخذ بالعزيمة والثبات على‬
‫دين ال خير وأبقى‪ ..‬ومواقف السلف من الصحابة‪ ،‬وسير الئمة وأخبارهم أشهر وأكثر من أن‬
‫ختَارَ‬
‫يحصرها هذا المقام الضيق‪ ..‬وانظر على سبيل المثال صحيح البخاري بَاب (مَنِ ا ْ‬
‫علَى ا ْلكُ ْفرِ)‪..‬‬
‫ض ْربَ وَالْ َقتْلَ وَالْ َهوَانَ َ‬
‫ال ّ‬
‫ويقول الحافظ ابن كثير‪( :‬والفضل أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله)اهـ‪ .‬ذلك‬
‫لنه لبد لهذا الدين من رجال يضحون من أجله ويصدقون مع ال َتعَالى فيبيعون الرخيص‬
‫بالغالي والفاني بالباقي‪ ..‬وها هم أتباع الرسل نشروا بالمناشير وذاقوا ألوان العذاب فما ردهم‬
‫ذلك عن دينهم وعقيدتهم وملّتهم شيئا وهذه هي سنة النبيين ودعوة المرسلين‪ ..‬ويخبر النبي‬
‫بذلك أصحابه ويخبرنا تثبيتا وتعليما فيقول‪( :‬قَدْ كَانَ مَنْ َق ْبَلكُمْ ُيؤْخَ ُذ الرّجُلُ َفيُحْ َفرُ لَهُ فِي‬
‫جعَلُ ِنصْ َفيْنِ َو ُيمْشَطُ ِبَأمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا‬
‫علَى َرأْسِهِ َفيُ ْ‬
‫جعَلُ فِيهَا َفيُجَاءُ بِا ْل ِمنْشَارِ َفيُوضَعُ َ‬
‫لرْضِ َفيُ ْ‬
‫اَ‬
‫ظمِهِ َفمَا َيصُ ّدهُ َذِلكَ عَنْ دِينِهِ ‪..‬الحديث)‪ .‬رواه البخاري وغيره من حديث خباب‪،‬‬
‫حمِهِ وَعَ ْ‬
‫دُونَ لَ ْ‬
‫وهكذا كان صلوات ال وسلمه عليه يذكر أصحابه ويثبتهم بأخبار أهل الثبات ويحثهم عليها‬
‫ذكره بالرخصة ومغفرة ال لمن أكره وقلبه‬ ‫دوما حتى إذا وقع أحدهم بما وقع فيه عمّار‬
‫مطمئن باليمان‪ ،‬وليس كحال كثير من دعاة هذا الزمان يدندنون بنصوص الرخص والكراه‬
‫والضرورات طوال حياتهم فمتى يظهرون دين ال؟؟‬

‫‪293‬‬
‫فالثبات الثبات‪ ..‬فما هي وال إلّ أيام قلئل تمضي سراعا كيفما كانت‪ ..‬وبعد أن تمضي‪ ،‬فكأنه‬
‫ما تعب من تعب ول عذّب من عذّب ول تنعّم من تنعّم‪ ..‬ثم يرجع هؤلء وهؤلء إلى ربهم‬
‫ليجزى الذين أساؤوا بما عملوا‪ ،‬ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى‪..‬‬
‫أما مصلحة الدعوة فقد أمست في زماننا منزلقا خطيرا‪ ،‬انزلق فيه كثير من الدعاة الذين أفسدوا‬
‫دينهم وتوحيدهم بكثير من المداهنات والتنازلت والهلكات‪ ..‬ثم يحتجون بعد ذلك بشبه‪..‬‬
‫حقا وكل كاسر مكسور‬ ‫شبهٍ تهافت كالزجاج تخالها‬
‫ثلث عشرة سنة في مكة بين الصنام‪ ،‬ول يخفى فساد احتجاجهم‬ ‫ومن أشهرها مكوث النبي‬
‫هذا وبطلنه لكل من كان لديه أدنى بصيرة في دينه ودعوة نبيه ‪ ،‬وذلك أنهم يلجون بحجتهم‬
‫هذه في كثير من الموبقات التي هي في أعينهم أدق من الشعر‪ ،‬كالنضمام إلى جيش عبيد‬
‫الياسق وشرطتهم ومجالسهم الشركية التشريعية‪ ..‬وما إلى ذلك مما قدمناه وفصلناه من الوظائف‬
‫الشركية أو العمال المحرمة‪.‬‬
‫ما أنزل ال بالشراك سلطانا‬ ‫هذه حجج وال واهية‬
‫والسؤال الذي يفرض نفسه عليهم بإلحاح‪ ..‬هو ما وجه الدللة في تلك الفترة المكية على هذا‬
‫الباطل كله؟؟؟‬
‫في تلك الفترة تلكم الصنام أو أقسم على احترامها والخلص لها‪،‬والولء‬ ‫هل مدح النبي‬
‫لعبيدها ؟‬
‫شيئا من ذلك ‪ -‬كما تفعلون ‪ -‬ليكون استدللكم بمكوثه بينها وجيها؟؟ أم أصل دعوته‬ ‫هل فعل‬
‫كلها كان قائما على الكفر بتلك الصنام وتسفيهها وبيان زيفها والبراءة منها علنية ‪ -‬الذي هو‬
‫الشطر الول من ( ل ِإلَهَ إِلّ ال)‪ ..‬بل والبراءة ممن أصرّ على عبادتها وسدانتها‪ ..‬وإعلن‬
‫؟؟؟ ‪ -‬نترك الجواب لصحاب‬ ‫ذلك وبيانه وإظهاره رغم استضعافه واستضعاف أتباعه‬
‫الحتجاج‪..‬‬
‫وربما احتج بعضهم بغير هذه الحجة من حوادث العيان التي ل يجوز أن يخدش بها هذا‬
‫الصل الصيل من أصول الدين‪ ..‬خاصة عند من فقه ملّة إبراهيم ودعوة النبياء والمرسلين‬
‫التي قوام عمودها وقطب رحاها توحيد ال َتعَالى وموالة أوليائه والبراءة من الشرك‬
‫والمشركين‪.‬‬

‫‪294‬‬
‫فهل يُضحي بهذا الصل الصيل الذي هو معنى ل ِإلَهَ إِلّ ال في سبيل تلك المصالح الجزئية‬
‫المزعومة؟؟ ل يقول بذلك إلّ جاهل زائغ ضال‪..‬‬
‫وتفاصيل ذلك تطول وإنما نريد هنا الختصار‪ ..‬وخلصة المر أن نقول‪ :‬هل يعقل أن يُخرج‬
‫الدعاة الناس من الشرك باختلف صوره عن طريق السكوت عن الشرك أو الولوغ فيه أو‬
‫موالته و موالة أهله‪ .‬أو أن يُصلحوا الفساد بإفساد‪ ،‬ل يعقل ذلك أبدا‪..‬‬
‫تماما كما أنه ل يعقل أن تزال النجاسة بنجاسة أخرى‪ ..‬أو أن يتطهر من البول بالبول‪.‬‬
‫وربما احتجوا بقاعدة درء المفاسد‪ ،‬فهل هناك يا أولي اللباب أعظم من مفسدة الشرك إنها‬
‫أعظم مفسدة في الوجود‪..‬؟؟‬
‫(فالحذر الحذر أيها العاقلون والتوبة التوبة أيها الغافلون‪ ،‬فإن الفتنة حصلت في أصل الدين ل‬
‫في فروعه ول في الدنيا‪ ،‬فيجب أن تكون العشيرة والزواج والموال والتجارة والمساكن وقاية‬
‫للدين وفداء عنه‪ ،‬ول يجعل الدين فداء عنها ووقاية لها‪..‬‬
‫جكُمْ وَعَشِي َر ُتكُمْ َوَأ ْموَالٌ ا ْق َترَ ْف ُتمُوهَا‬
‫خوَا ُنكُمْ َوَأ ْزوَا ُ‬
‫قال تعالى‪{ :‬قُلْ إِنْ كَانَ آبَا ُؤكُمْ َوَأ ْبنَا ُؤكُمْ َوإِ ْ‬
‫سبِيلِهِ‬
‫جهَادٍ فِي َ‬
‫ن اللّهِ َورَسُولِهِ وَ ِ‬
‫حبّ ِإَل ْيكُمْ مِ ْ‬
‫ضوْ َنهَا أَ َ‬
‫شوْنَ كَسَادَهَا َومَسَاكِنُ َت ْر َ‬
‫َوتِجَا َرةٌ تَخْ َ‬
‫ي اللّهُ بَِأ ْم ِرهِ وَاللّهُ ل َيهْدِي الْ َقوْمَ الْفَاسِقِينَ}[براءة‪.]24 :‬‬
‫حتّى يَ ْأ ِت َ‬
‫َف َت َر ّبصُوا َ‬
‫فتفطن لها وتأملها فإن ال أوجب أن يكون ال ورسوله والجهاد في سبيله أحب من تلك الثمانية‬
‫كلها‪ ،‬فضلً عن واحدة منها أو أكثر‪ ،‬أو شيء دونها مما هو أحق فليكن الدين عندك أغلى‬
‫الشياء وأعلها)اهـ ‪.‬‬
‫وعلى الموحد أن ل ينحرف عن الطريق أو يستوحش أو يفتر عن المسير لقلة السالكين وكثرة‬
‫المخالفين ول يقل‪( :‬أين ذهب الناس وما بالهم زهدوا بهذه الطريق فإن لي بهم أسوة)؟؟ فإن هذا‬
‫من أسباب هلك أكثر الخلق وسقوطهم‪ ..‬ولينج بنفسه وأهله‪ ،‬وليشح بدينه وعقيدته‪ ،‬وليكن كما‬
‫قال بعض الصحابة في البلء‪( :‬إن عرض بلء فقدم مالك دون نفسك‪ ،‬فإن تجاوز البلء فقدم‬
‫نفسك دون دينك فإن المحروم من حرم دينه وإن المسلوب من سلب دينه) ‪.‬‬
‫وليعلم أن أهل الحق أقل الناس فيما مضى‪ ،‬وهم أقل الناس فيما بقي ولسيما في هذه الزمنة‬
‫المتأخرة التي ازداد الحق فيها غرابة‪ ..‬والموحد البصير ل يستوحش من قلة الرفيق إذا استشعر‬
‫قلبه معية ال تعالى‪ ،‬وتذكر السالكين لهذه الطريق من الرعيل الول الذين أنعم ال عليهم من‬
‫النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا‪ ..‬وقبل ذلك فالحق ل يعرف‬

‫‪295‬‬
‫بالرجال‪ ..‬وإنما يعرف الرجال بالحق‪ ..‬وهو ضالة المؤمن ومبتغاه‪ ..‬فشمّروا وبادروا‪ ،‬وال‬
‫ولي المتقين‪.‬‬
‫إلـى إخــواننا الـــــدعـاة‬
‫{َألَمْ َيأْنِ ِللّذِينَ آ َمنُوا أَنْ تَخْشَعَ ُقلُو ُبهُمْ لِ ِذ ْكرِ اللّهِ َومَا َنزَلَ مِنْ الْحَقّ وَل َيكُونُوا كَالّذِينَ أُوتُوا‬
‫ستْ ُقلُو ُبهُمْ َو َكثِيرٌ ِم ْنهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد‪.]16 :‬‬
‫لمَدُ فَقَ َ‬
‫عَل ْيهِمْ ا َ‬
‫ا ْل ِكتَابَ مِنْ َقبْلُ فَطَالَ َ‬

‫إننا غرباء في هذا الزمان‪ ..‬ونعرف جيدا أننا نخالف بطريقتنا هذه أهل الرض قاطبة‪..‬‬
‫ونعرف كذلك أننا نخالف بهذا ما يحبه ويرجوه ويستسهله كثير من إخواننا الدعاة إلى ال عز‬
‫وجل‪ ،‬الذين تجمعنا وإياهم كلمة التوحيد‪..‬‬
‫فأما رضى أهل الرض‪ ،‬فإننا ل نحرص عليه ول نطلبه أو نطمع فيه‪ ،‬لننا نؤمن بقول ربّنا‪:‬‬
‫صتَ ِب ُم ْؤ ِمنِينَ} [يوسف‪.]103 :‬‬
‫ح َر ْ‬
‫{ َومَا َأ ْك َثرُ النّاسِ َوَلوْ َ‬
‫وأما إخواننا الدعاة‪ ..‬فكم وددنا وال وحرصنا دوما أن نجتمع معهم‪ ،‬ونلتقي وإياهم على جادّة‬
‫واحدة‪ ،‬وما زلنا نحرص على ذلك وندعو إليه‪ ..‬ولكن على سبيل المؤمنين وطريق الولين‪..‬‬
‫وعلى صراط ال المستقيم‪ ..‬ل كما تتمنى النفوس وتهوى‪ ..‬وإننا وال لنتمنى أن نجد أو يجد لنا‬
‫إخواننا عذرا في ترك هذا السبيل أو النحراف عنه‪ ..‬لنلتقي معهم على ما تشتهي أنفسهم‬
‫ويحبون‪..‬‬
‫ولكن هيهات هيهات‪ ..‬أين هذا وقد عرفنا دعوة النبياء والمرسلين‪ ..‬وملة أبينا إبراهيم‪ ..‬وسبيل‬
‫المؤمنين الولين؟؟؟‬
‫فأين نفر من ال إن انحرفنا عن هذه المحجة البيضاء والملة العصماء‪..‬‬
‫وكيف يجوز لنا ذلك ونحن نردد دوما أمر ربنا لقدوتنا ورسولنا الكريم صلوات ال وسلمه‬
‫ط َغوْا ِإنّهُ ِبمَا َت ْع َملُونَ َبصِيرٌ وَل َت ْر َكنُوا ِإلَى الّذِينَ‬
‫ستَقِمْ َكمَا ُأ ِم ْرتَ َومَنْ تَابَ َم َعكَ وَل تَ ْ‬
‫عليه‪{ :‬فَا ْ‬
‫صرُونَ} [هود‪.]113-112 :‬‬
‫سكُمْ النّارُ َومَا َلكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ َأ ْوِليَاءَ ثُمّ ل تُن َ‬
‫ظَلمُوا َف َتمَ ّ‬
‫َ‬
‫الخـــــــــــــــــــــــاتمة‬
‫ختاما نقول‪:‬‬

‫‪296‬‬
‫جبْ‬
‫ج ْركُمْ مِنْ عَذَابٍ َألِيمٍ َومَنْ ل يُ ِ‬
‫{يَا َق ْو َمنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللّهِ وَآ ِمنُوا بِهِ َيغْ ِفرْ َلكُمْ مِنْ ُذنُو ِبكُمْ َويُ ِ‬
‫لرْضِ َوَليْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوِليَاءُ ُأ ْوَل ِئكَ فِي ضَللٍ ُمبِينٍ} [الحقاف‪:‬‬
‫جزٍ فِي ا َ‬
‫دَاعِي اللّهِ َفَل ْيسَ ِب ُمعْ ِ‬
‫‪.]32-31‬‬
‫حزَابِ ِمثْلَ َد ْأبِ َقوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ َو َثمُودَ وَالّذِينَ مِنْ َبعْدِهِمْ‬
‫عَل ْيكُمْ ِمثْلَ َيوْمِ الَ ْ‬
‫{يَا َقوْمِ ِإنّي أَخَافُ َ‬
‫ن اللّهِ‬
‫عَل ْيكُمْ َيوْمَ ال ّتنَادِ َيوْمَ ُت َولّونَ مُ ْد ِبرِينَ مَا َلكُمْ مِ ْ‬
‫ظ ْلمًا ِل ْل ِعبَادِ َويَا َقوْمِ ِإنّي أَخَافُ َ‬
‫َومَا اللّهُ ُيرِيدُ ُ‬
‫ل اللّهُ َفمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر‪.]33-30 :‬‬
‫ضلِ ْ‬
‫مِنْ عَاصِمٍ َومَنْ ُي ْ‬
‫ن اللّهَ َبصِيرٌ بِا ْل ِعبَادِ} [غافر‪.]44 :‬‬
‫ستَ ْذ ُكرُونَ مَا أَقُولُ َلكُمْ َوأُ َفوّضُ َأ ْمرِي ِإلَى اللّهِ إِ ّ‬
‫{فَ َ‬
‫ل ْلبَابِ} [إبراهيم‪.]52 :‬‬
‫{هَذَا بَلغٌ لِلنّاسِ َوِليُن َذرُوا بِهِ َوِل َي ْعَلمُوا َأ ّنمَا ُهوَ ِإلَهٌ وَاحِدٌ َوِليَ ّذ ّكرَ ُأ ْولُوا ا َ‬
‫جعُونَ} [القصص‪.]88 :‬‬
‫حكْمُ َوِإَليْهِ ُترْ َ‬
‫جهَهُ لَهُ الْ ُ‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ إِلّ َو ْ‬
‫{ل ِإلَهَ إِلّ ُهوَ كُلّ َ‬
‫نداء إلى علماء المة والدعاة المخلصين‬
‫يقول العلمة أحمد شاكر في حاشيته على عمدة التفاسير‪ ( :‬إن المر في هذه القوانين الوضعية‬
‫واضح وضوح الشمس هو كفر بواح ل خفاء فيه ول مداورة ول عذر لحد ممن ينتسبون‬
‫للسلم ‪ -‬كائنا من كان ‪ -‬في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها‪ ،‬فليحذر امرؤ نفسه وكل‬
‫امرئ حسيب نفسه‪.‬‬
‫أل فليصدع العلماء بالحق غير هيابين‪ ،‬وليبلغوا ما أمروا بتبليغه غير موانين ول مقصرين)‬
‫اهـ‪.‬‬
‫أل فليجتهد العلماء والدعاة في تحذير الناس من الوثنية الحديثة وشرك العصر الذي شاع في‬
‫بلد المسلمين تقليدا لوربة الوثنية وليحاربوها كما حارب سلفنا الصالح الوثنية القديمة والشرك‬
‫القديم‪ ،‬وليسعوا لرفع ما ضرب على المسلمين من ذلّ وما لقيت شريعتهم من إهانة بوضع هذه‬
‫القوانين الباطلة الخبيثة‪ ..‬يقول تعالى‪{ :‬إِنّ الّذِينَ َي ْك ُتمُونَ مَا أَن َز ْلنَا مِنْ ا ْل َب ّينَاتِ وَا ْلهُدَى مِنْ َبعْدِ مَا‬
‫صلَحُوا َو َب ّينُوا فَُأ ْوَل ِئكَ‬
‫عنُونَ إِلّ الّذِينَ تَابُوا َوَأ ْ‬
‫َب ّينّاهُ لِلنّاسِ فِي ا ْل ِكتَابِ ُأ ْولَ ِئكَ َي ْل َع ُنهُمْ اللّهُ َو َي ْل َع ُنهُمْ اللّ ِ‬
‫‪( :‬أَل ل َي ْم َنعَنّ أَحَ َدكُمْ رَ ْهبَةُ النّاسِ‬ ‫عَل ْيهِمْ َوَأنَا ال ّتوّابُ الرّحِيمُ} [البقرة‪ .]160-159 :‬وقال‬
‫َأتُوبُ َ‬
‫شهِ َدهُ فَِإنّهُ ل يُ َق ّربُ مِنْ أَجَلٍ وَل ُيبَاعِدُ مِنْ ِرزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقّ َأوْ يُ َذ ّكرَ‬
‫أَنْ يَقُولَ بِحَقّ إِذَا رَآهُ َأوْ َ‬
‫ل اللّهَ َوكَفَى‬
‫شوْنَ أَحَدًا إِ ّ‬
‫ش ْونَهُ وَل يَخْ َ‬
‫ت اللّهِ َويَخْ َ‬
‫ِبعَظِيمٍ) ‪ .‬ويقول تعالى‪{ :‬الّذِينَ ُي َبّلغُونَ رِسَال ِ‬
‫بِاللّهِ حَسِيبًا} [الحزاب‪.]39 :‬‬
‫قد طال نومـكـمو إلى ذا الن‬ ‫يا مـعـشر العـلماء هبوا هـبّة‬

‫‪297‬‬
‫ل َتعَالى كلمة اليـمـــان‬ ‫يا معشر العـلماء قــوموا قومة‬
‫مـتـجـرد ل غـير جـبان‬ ‫يا مـعشر العـلماء عزمة صادق‬
‫للناس في السلم والحســان‬ ‫يا معشر العلماء كونـوا قـدوة‬
‫للناس فادعوهـم إلى الـقرآن‬ ‫يا معـشر العلم أنتم حــجـة‬
‫من حـجة الجهال كـل زمان‬ ‫يا مـعشر العلماء إن سكوتـكم‬
‫وتعاونوا في الحق ل العــدوان‬ ‫يا معشر العلماء ل تتـخـاذلوا‬
‫ودعوا التنافس في الحطام الفاني‬ ‫وتجردوا ل من أهـــوائكـم‬
‫متعاضدين شـريـعة الرحـمن‬ ‫وتعاقدوا وتعاهدوا أن تنصـروا‬
‫نـصر الكتاب وسنة اليـمـان‬ ‫كونوا بحيث يكون نصب عيونكم‬
‫وال يخذل ناصر الـشـيـطان‬ ‫فاللـه يـنصر من يقوم بنـصره‬
‫ومن لم يقدر على ذلك ووجد في نفسه ضعفا وخيفة فليصمت‪ ،‬وليدع القافلة تسير‪ ،‬ول يشارك‬
‫علماء السوء بالصد عن سبيل ال والتلبيس والرجاف والتخذيل‪..‬‬
‫نجس السريرة طيب الكلمات‬ ‫فالصمت أفضل من كلم مداهن‬
‫يرضي ويعجب كل طاغ عات‬ ‫عرف الحقيقة ثم حـاد إلى الذي‬
‫المنـافقــــــــــــــــون كثــــــــــــير‬
‫سيقول عنا عبيد الياسق العصري وسدنته ومناصروه‪ :‬إننا جامدون وأننا رجعيون‪ ،‬وما إلى ذلك‬
‫من القاويل‪ ،‬أل فليقولوا ما شاؤوا فما عبئنا يوما ما بما يقولون‪ ..‬فقد قلنا ما يجب أن نقول‪..‬‬
‫وإذا أرضينا ربّنا فل نبالي‪..‬‬
‫أقام الحي أم (غضب المير)‬ ‫إذا رضي (الله) فل أبالي‬
‫وسيقولون وسيقول أولياؤهم وسدنة ياسقهم من الئمة المضلين بأننا خوارج وتكفيريون وغير‬
‫ذلك‪ ..‬كعادتهم‪ ..‬لتنفير الناس عن الحق والنور‪ ،‬فنحن نبرأ إلى ال من معتقد الخوارج ومن كل‬
‫معتقد يخالف عقيدة أهل السنة والجماعة‪.‬‬
‫فليقولوا ما شاءوا أن يقولوه‪ ..‬فالشمس تشرق رغم أنف الرمد‪ ،‬وأسلوب إلصاق التهم للتنفير‬
‫عن دعوة الحق‪ ..‬أسلوب قديم رخيص يقتدي هؤلء فيه بأساتذتهم وشيوخهم الغابرين‪ ..‬فقديما‬
‫لرْضِ‬
‫ظ ِهرَ فِي ا َ‬
‫قال فرعون عن موسى يوم جاء بالبينات‪ِ{ :‬إنّي أَخَافُ أَنْ ُيبَدّلَ دِي َنكُمْ َأوْ أَنْ يُ ْ‬
‫‪ .‬فقالوا‪:‬‬ ‫الْفَسَادَ} [غافر‪ .]26 :‬وقيل غير ذلك في أنبياء ال تعالى‪ ..‬من أولهم إلى خاتمهم‬

‫‪298‬‬
‫ساحر وكاهن ومجنون‪ ..‬وهذا أسلوب هابط ساقط كنبح الكلب‪ ،‬ما عاد ينطلي أو يخفى على‬
‫الخلق‪..‬‬
‫ما ضر أهل الهدى من سب أو شانا‬ ‫ما ضر أفق السما نبح الكلب كذا‬
‫وأنت ترى أيها الخ الكريم بأن كلمنا في هذه الورقات لم يخرج عن آية محكمة أو حديث‬
‫صحيح أو قول صحابي أو تابع أو إمام من أئمة الدين وغيرهم من العلماء المخلصين‪ ..‬فمن‬
‫رمانا بشيء من هذا فإنما يرمي به قرآن ربه وسنة نبيه والصحابة وعلماء المة المخلصين‪..‬‬
‫ونحن على كل حال عندما كتبنا هذه الوراق لم نكن ننتظر من أكثر الناس تأييدا أو ثناءً‪ ،‬بل‬
‫نخطّها ونحن نتوقع الذى والعداوة والطعن والتشهير والكذب والبهتان في النفس والهل‬
‫والعرض‪ ،‬وهذا كله ل شيء في سبيل ال َتعَالى وشريعته وفي جنب رضوان ال َتعَالى‬
‫‪:‬‬ ‫ومغفرته إن حصلت‪ ..‬وحسبي هنا أن أتمثل بقول حسان‬
‫(لدين) محمد منهم وجاء‬ ‫فإن أبي ووالدتي وعرضي‬
‫وبعد هذا كله‪ ..‬فنحن نعلم أن كلمنا هذا ل يرضي الحكومات ول أولياءها وعبيدها‪ ..‬ونعلم بأن‬
‫لديها من وسائل المكر والكيد ما ل يعلمه إلّ ال‪ ..‬ولكننا نعلم ونوقن قبل هذا بأن ال ربنا‬
‫ن اللّهَ ِبمَا َي ْع َملُونَ ُمحِيطٌ}‬
‫ش ْيئًا إِ ّ‬
‫ض ّركُمْ َكيْدُهُمْ َ‬
‫ص ِبرُوا َو َتتّقُوا ل َي ُ‬
‫ومولنا وناصرنا يقول‪َ { :‬وإِنْ َت ْ‬
‫[آل عمران‪.]120:‬‬
‫ويقول سبحانه وتعالى في سورة المجادلة بعدما أخبر بأن حزب الشيطان هم الخاسرون‪{ :‬إِنّ‬
‫عزِيزٌ}‬
‫ن اللّهَ َق ِويّ َ‬
‫سلِي إِ ّ‬
‫غِلبَنّ َأنَا َورُ ُ‬
‫الّذِينَ ُيحَادّونَ اللّهَ َورَسُولَهُ ُأ ْوَل ِئكَ فِي الَ َذلّينَ َك َتبَ اللّهُ لَ ْ‬
‫[المجادلة‪.]2021:‬‬
‫ضلِلْ اللّهُ َفمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر‪.]36 :‬‬
‫خوّفُو َنكَ بِالّذِينَ مِنْ دُونِهِ َومَنْ ُي ْ‬
‫ويقول سبحانه‪َ { :‬ويُ َ‬
‫ح ُكمُونَ} [العنكبوت‪.]4:‬‬
‫سبِقُونَا سَاءَ مَا يَ ْ‬
‫س ّيئَاتِ أَنْ يَ ْ‬
‫سبَ الّذِينَ َي ْع َملُونَ ال ّ‬
‫ويقول تعالى‪{ :‬أَمْ حَ ِ‬
‫شوْهُمْ َفزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا‬
‫ج َمعُوا َلكُمْ فَاخْ َ‬
‫ويقول سبحانه‪{ :‬الّذِينَ قَالَ َلهُمْ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ َ‬
‫ن اللّهِ وَاللّهُ‬
‫سهُمْ سُوءٌ وَا ّت َبعُوا ِرضْوَا َ‬
‫ن اللّهِ وَ َفضْلٍ لَمْ َيمْسَ ْ‬
‫س ُبنَا اللّهُ َو ِنعْمَ ا ْل َوكِيلُ فَانْ َقَلبُوا ِب ِن ْعمَةٍ مِ ْ‬
‫حَ ْ‬
‫خ ّوفُ َأ ْوِليَا َءهُ فَل تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ ُك ْنتُمْ ُم ْؤ ِمنِينَ}‬
‫شيْطَانُ يُ َ‬
‫ذُو َفضْلٍ عَظِيمٍ ِإ ّنمَا َذِلكُمْ ال ّ‬
‫[آلعمران‪ .]175-173:‬ولنا قدوة في هود إذ قال لقومه بثبات كثبات الجبال أو أشد وهم القوم‬
‫الجبارون الذين كانوا أشد من هؤلء قوة فكانوا يبطشون ويتخذون المصانع لعلهم يخلدون‪{ :‬قَالَ‬
‫ظرُونِ ِإنّي‬
‫جمِيعًا ثُمّ ل ُتنْ ِ‬
‫ش ِركُونَ مِنْ دُونِهِ َفكِيدُونِي َ‬
‫شهَدُوا َأنّي َبرِيءٌ ِممّا تُ ْ‬
‫شهِدُ اللّهَ وَا ْ‬
‫ِإنّي أُ ْ‬

‫‪299‬‬
‫ستَقِيمٍ فَإِنْ‬
‫صرَاطٍ مُ ْ‬
‫علَى ِ‬
‫ص َي ِتهَا إِنّ َربّي َ‬
‫علَى اللّهِ َربّي َو َر ّبكُمْ مَا مِنْ دَابّةٍ إِلّ ُهوَ آخِذٌ ِبنَا ِ‬
‫َت َو ّك ْلتُ َ‬
‫ش ْيئًا إِنّ َربّي‬
‫ضرّونَهُ َ‬
‫غ ْي َركُمْ وَل َت ُ‬
‫خِلفُ َربّي َق ْومًا َ‬
‫ستَ ْ‬
‫سلْتُ بِهِ ِإَل ْيكُمْ َويَ ْ‬
‫َت َوّلوْا فَقَدْ َأ ْبَل ْغتُكُمْ مَا ُأرْ ِ‬
‫شيْءٍ حَفِيظٌ} [ هود‪.]57-54 :‬‬
‫علَى كُلّ َ‬
‫َ‬
‫فها نحن نقولها لعبيد الياسق وحكوماتهم ونصدع بها ونقذفها في وجوههم‪ :‬كفرنا بكم‬
‫وبدساتيركم وبقوانينكم الكفرية‪ ،‬وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى ترجعوا إلى شرع‬
‫ال َتعَالى وحده وتنقادوا له وتسلموا تسليما‪.‬‬
‫ونقول لكل من اغتر منهم وتعالى بقوته الهزيلة الفانية التافهة‪ ،‬بأن ال أعلى وأجل وأنه هو‬
‫الجبار ذو القوة المتين وأنه مولى المؤمنين ونصيرهم وأن جنده هم الغالبون‪ {،‬ذلك بأنّ ال‬
‫ن اللّهَ‬
‫مولى الذين أمنوا وأن الكافرين ل مولى لهم} قال تعالى‪{ :‬إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنْ الّذِينَ آ َمنُوا إِ ّ‬
‫خوّانٍ كَفُورٍ} [الحج‪ .]38 :‬ويقول تعالى‪{ :‬قَدْ َم َكرَ الّذِينَ مِنْ َق ْبِلهِمْ َفَأتَى اللّهُ ُب ْنيَا َنهُمْ‬
‫حبّ كُلّ َ‬
‫ل يُ ِ‬
‫ش ُعرُونَ} [ النحل‪.]26 :‬‬
‫ح ْيثُ ل يَ ْ‬
‫عَل ْيهِمْ السّ ْقفُ مِنْ َفوْ ِقهِمْ َوَأتَاهُمْ ا ْلعَذَابُ مِنْ َ‬
‫خرّ َ‬
‫مِنَ الْ َقوَاعِدِ َف َ‬
‫ونقول لهم أيضا‪ :‬إن كان كبر عليكم كلمنا هذا فطبلوا وزمروا كما تشاؤون‪ ..‬وانتفشوا‬
‫بجيوشكم كما تشتهون‪ ..‬ثم ل يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلينا ول تنظرونا‪ ..‬إنا توكلنا‬
‫على ال ربنا وربكم‪ ..‬فلستم إلّ عبيدا من عبيده آخذ بنواصيكم متحكم بأقداركم وأقواتكم‬
‫وأعماركم‪ ..‬فأين تذهبون‪{ ..‬بَلغٌ َفهَلْ ُي ْهَلكُ إِلّ الْ َقوْمُ الْفَاسِقُونَ} [ الحقاف‪{ .]35 :‬أَفََأمِنَ الّذِينَ‬
‫ش ُعرُونَ َأوْ يَأْخُذَهُمْ فِي‬
‫ح ْيثُ ل يَ ْ‬
‫لرْضَ َأوْ َي ْأ ِت َيهُمْ ا ْلعَذَابُ مِنْ َ‬
‫ف اللّهُ ِبهِمْ ا َ‬
‫س َ‬
‫س ّيئَاتِ أَنْ يَخْ ِ‬
‫َم َكرُوا ال ّ‬
‫جزِينَ} [ النحل‪ .]36 -35 :‬ولنا قدوة بالحنيف إبراهيم حينما حاجه قومه فقال‪:‬‬
‫تَ َقّل ِبهِمْ َفمَا هُمْ ِب ُمعْ ِ‬
‫ش ْيئًا وَسِعَ َربّي‬
‫ش ِركُونَ بِهِ إِلّ أَنْ يَشَاءَ َربّي َ‬
‫{قَالَ َأتُحَاجّونِي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَل أَخَافُ مَا تُ ْ‬
‫ش َر ْكتُمْ بِاللّهِ مَا لَمْ ُي َنزّلْ‬
‫ش َر ْكتُمْ وَل تَخَافُونَ َأ ّنكُمْ أَ ْ‬
‫ع ْلمًا أَفَل َتتَ َذ ّكرُونَ َو َك ْيفَ أَخَافُ مَا أَ ْ‬
‫شيْءٍ ِ‬
‫كُلّ َ‬
‫لمْنِ إِنْ كُنتُمْ َت ْعَلمُونَ} [ النعام‪ .]81 -80 :‬ويأتي الجواب‬
‫سلْطَانًا فََأيّ الْ َفرِيقَيْنِ أَحَقّ بِا َ‬
‫عَل ْيكُمْ ُ‬
‫بِهِ َ‬
‫لمْنُ وَهُمْ ُم ْهتَدُونَ}‬
‫ظلْمٍ ُأ ْوَل ِئكَ َلهُمْ ا َ‬
‫حاسما واضحا جليا‪{ :‬الّذِينَ آ َمنُوا َولَمْ َي ْلبِسُوا إِيمَا َنهُمْ بِ ُ‬
‫[ النعام‪.]82 :‬‬
‫حزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَ َدنَا اللّهُ َورَسُولُهُ‬
‫‪َ { :‬وَلمّا َرأَى ا ْل ُم ْؤ ِمنُونَ الَ ْ‬ ‫وقدوة أخرى بأصحاب النبي‬
‫ل صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ‬
‫سلِيمًا مِنْ ا ْل ُم ْؤ ِمنِينَ ِرجَا ٌ‬
‫َوصَدَقَ اللّهُ َورَسُولُهُ َومَا زَادَهُمْ إِلّ إِيمَانًا َوتَ ْ‬
‫ظرُ َومَا بَ ّدلُوا َتبْدِيلً} [الحزاب‪.]23-22 :‬‬
‫حبَهُ َو ِم ْنهُمْ مَنْ َي ْنتَ ِ‬
‫عَليْهِ َف ِم ْنهُمْ مَنْ َقضَى َن ْ‬
‫َ‬

‫‪300‬‬
‫اللهم اجعلنا منهم‪ ..‬اللهم اجعلنا منهم‪ ..‬اللهم اجعلنا منهم‪ ..‬اللهم تقبل منا‪ ،‬واكتبه لنا براءة من‬
‫الشرك في صحائف أعمالنا‪ ..‬خالصا لوجهك يا عفو يا كريم‪..‬‬
‫خ ْيرُ الْفَاتِحِينَ} [ العراف‪.]89 :‬‬
‫علَى اللّهِ َت َو ّك ْلنَا َر ّبنَا ا ْفتَحْ َب ْي َننَا َو َبيْنَ َق ْو ِمنَا بِالْحَقّ َوَأ ْنتَ َ‬
‫{َ‬
‫اللهم إنا نُشهدك ونُشهد ملئكتك ونُشهد جميع خلقك أننا برآء من شرك القانون برآء من أهله‬
‫ومن كل شرك‪ ..‬اللهم فاشهد‪ ..‬اللهم فاشهد‪..‬‬
‫‪‬وكتب‪ /‬أبو محمّد المقدسي‬
‫النصف من شهر شعبان سنة ألف وأربعمائة وثمان من هجرة خير النام عليه أفضل الصلة‬
‫والسلم‪.‬‬
‫الفهرست‬
‫‪2‬‬ ‫براءة‬
‫‪3‬‬ ‫مقدمة‬
‫العظمى ‪11‬‬ ‫توحيد ال هو الغاية‬
‫‪12‬‬ ‫التسليم لحكم الكتاب والسنة ونبذ ما سواهما من أهم معاني التوحيد‬
‫‪13‬‬ ‫البراءة من كل شرع غير شرع ال من أهم معاني ل ِإلَهَ إِلّ ال‬
‫‪14‬‬ ‫توحيد ال فرض في جميع أنواع العبادة‬
‫‪15‬‬ ‫الطاعة في التشريع من أقسام العبادة والرضى بالقوانين شرك أكبر‬
‫‪17‬‬ ‫شرطان للنجاة والتمسك بالعروة الوثقى الكفر بكل الطواغيت واليمان بال وحده‬
‫‪19‬‬ ‫من أشنع طواغيت العصر الواجب الكفر بها الدستور والقوانين الوضعية‬
‫‪21‬‬ ‫ياسق طغاة العصر وياسق التتار‬
‫‪25‬‬ ‫مثال من طواغيت العصر‬
‫‪25‬‬ ‫ياسق الكويت‬
‫‪35 ‬‬ ‫ما هو الدين الذي يحترمه ويدين به الدستور؟؟ إنه ليس السلم‬
‫‪38‬‬ ‫ويحترمون ويحمون الملل والنحل الباطلة كلها أما دين السلم‪ ..‬فعليه السلم‪..‬‬
‫‪42‬‬ ‫ما هو قرآنهم الذي يعظمونه ويقدسونه ويرجعون كل شيء إلى حدوده؟؟‬
‫‪45‬‬ ‫خلصة ما سبق‬
‫‪49‬‬ ‫أول‪ :‬عدوان قوانينهم على دين السلم وحمايتها للشرك والمشركين‬

‫‪301‬‬
‫‪51‬‬ ‫ثانيا ‪ :‬تضييع قوانينهم للنفوس والدماء وتهوينها من شأن الجريمة والمجرمين‬
‫‪59‬‬ ‫ثالثا‪ :‬استهثار قوانينهم واستخفافها بالعقول‬
‫‪61‬‬ ‫رابعا‪ :‬تلعب قوانينهم وعبثها بالعراض‬
‫‪65‬‬ ‫خامسا‪ :‬قوانينهم هدر للحقوق وأكل لموال الناس بالباطل وحماية للربا واللصوصية‬
‫‪78‬‬ ‫سادسا‪ :‬قوانينهم تفتح أبواب الزنا على مصراعيها وتحمي الفجار والعاهرات‬
‫‪93‬‬ ‫خلصة ما سبق‬
‫فيض ‪97‬‬ ‫وبعد‪ ..‬فهذا غيض من‬
‫ربهم‪97 ..‬‬ ‫هذان خصمان اختصموا في‬
‫‪98‬‬ ‫اعتذار واستغفار‬
‫‪99‬‬ ‫وبعد هذا كله‪..‬‬
‫‪101‬‬ ‫المخرج من الفتنة‬
‫‪101‬‬ ‫من أين نبدأ ؟ وكيف السبيل ؟؟‬
‫التوحيد ‪102‬‬ ‫الكفر بالدستور والبراءة من القوانين شطر‬
‫‪103‬‬ ‫[ة ل ِإلَهَ إِلّ ال ]‬
‫‪105‬‬ ‫الدعوة إلى ذلك والجهاد من أجله والصبر والثبات هو طريق المرسلين‬
‫من عجز عن الصدع والدعوة والجهاد فلن يعجز عن تربية نفسه وأهله على هذا المنهاج‬
‫‪107‬‬
‫‪108‬‬ ‫الحذر من وسائل إعلم عبيد الياسق ومدارسهم‬
‫‪109‬‬ ‫بغض شعاراتهم وأعلمهم‬
‫‪114‬‬ ‫العمل في جيش عبيد الياسق العصري وشرطتهم وعساكرهم وكذا الحرس الوطني‬
‫‪121‬‬ ‫وكل وظيفة فيها رقابة على المسلمين ورفع لمورهم إلى عبيد الياسق‪.‬‬
‫‪122‬‬ ‫العرافة وكل ما يدخل تحت مسماها‬
‫وجباية الموال والمخالفات والغرامات والمكوس والجمارك والعمل في المؤسسات الربوية‬
‫‪122‬‬
‫‪124‬‬ ‫العمل بريدا أو سفيرا أو رسولً عند عبيد الياسق‬
‫‪124‬‬ ‫والعمل في النيابة والمحاماة والقضاء والمحاكم‬
‫‪127‬‬ ‫ومن باب أولى تولي منصب الوزارة وعضوية مجالس المة والبرلمانات‬

‫‪302‬‬
‫‪130‬‬ ‫[‪ ]...‬والمشاركين في هذه الوظائف‬
‫الحكومات ‪132‬‬ ‫قاعدة في وظائف‬
‫‪133‬‬ ‫وفي الطريق مخذولون ومرجفون‬
‫‪141‬‬ ‫إلى إخواننا الدعاة‬
‫الخاتمة ‪142‬‬

‫‪143‬‬ ‫نداء إلى علماء المة والدعاة المخلصين‬


‫كثير ‪145‬‬ ‫المنافقون‬
‫فهرس‬
‫**********************‬
‫تغيير المنكر باليد ‪:‬‬
‫حكم تغيير المنكر باليد لحاد الرعية‬
‫* حقوق الطبع محفوظة *‬
‫الطبعة الثانية‬
‫‪1418‬هـ ‪1997 -‬م‬
‫مكتب البحوث الثقافية‬
‫للطباعة والنشر والتوزيع‬
‫طرابلس – لبنان‬
‫‪624627‬‬ ‫هاتف ‪:‬‬
‫حكم تغــيير المنكــر باليد لحــاد الرعيــة‬
‫إعداد‬
‫عبد الخر حماد الغنيمي‬
‫الطبعة الثانية‬
‫الحمد ل الذي أكرمنا بالسلم وجعلنا من أتباع خير النام ‪ ،‬وحمّلنا أمانة الدعوة إلى دينه‬
‫القويم وحمْلِ رسالته للعالمين ‪ ،‬والصلة والسلم على نبينا ورسولنا محمد بن عبد ال خير من‬
‫دعا إلى ال وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وجاهد في ال حق جهاده حتى أتاه اليقين ‪،‬‬

‫‪303‬‬
‫وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له ‪ ،‬وأشهد أن محمدًا رسول ال صلى ال عليه وعلى‬
‫آله وصحبه أجمعين ‪ ،‬وبعد ‪:‬‬
‫فهذه هي الطبعة الثانية من رسالتي حول حكم تغيير المنكر باليد لحاد الرعية والتي نشرت‬
‫طبعتها الولى منذ ما يزيد على سبع سنين ‪.‬‬
‫ولكتابة هذه الرسالة قصة أرى من المناسب إثباتها في هذا المقام ؛ فلعل معرفة ظروف كتابة‬
‫الرسالة تعين على حُسن تفهّم ما ورد فيها ‪.‬‬
‫فمنذ حوالي عشر سنين بدأت أجهزة العلم في مصر تُشغَل بما أطلقت عليه حوادث العنف‬
‫والعتداء على بعض المواطنين التي تحدث في بعض مناطق صعيد مصر وخصوصًا في‬
‫الجامعات ‪ ،‬وفي الحقيقة فإن ذلك لم يكن إل تشويها متعمدا لقيام بعض أبناء الحركة السلمية‬
‫بواجب المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪.‬‬
‫وقد كان القيام بهذا الواجب امتدادًا لعودة صادقة للسلم ظهرت قبل ذلك بعدة سنوات وكان من‬
‫أهم مظاهرها تلك الحركة التي نشأت في جامعات مصر تحت اسم (( الجماعة السلمية )) ‪.‬‬
‫ثم إن تلك الحوادث لم تكن إل جانبا واحدا من جوانب عدة تشمل الدعوة إلى ال‬
‫ونشر العقيدة السلفية الصحيحة وتربية الشباب تربية إسلمية تعتمد على العلم الشرعي وتزكية‬
‫النفس بأنواع الطاعات والعبادات ‪ ،‬بل وتشمل أيضا العمل الجتماعي الخيري ؛ كمساعدة‬
‫الفقراء والمحتاجين ‪ ،‬والقيام بجهود الوساطة للصلح بين العائلت التي تقوم بينها المعارك‬
‫والحروب بسبب انتشار عادة الخذ بالثأر المعروفة في صعيد مصر ‪.‬‬
‫وكان العلم الخبيث ‪ -‬ول يزال ‪ -‬يركز على جانب واحد من تلك الجوانب ويظهره على‬
‫غير حقيقته وهو جانب المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬وهو حتى في هذا الجانب كان‬
‫يهمل عشرات الحالت التي يتم فيها تغيير المنكر بيسر وسهولة عن طريق اقتناع القائمين به‬
‫بخطأ ما هم عليه بينما يتم التركيز على تلك الحالت القليلة التي تدعو فيها الحاجة إلى شيء‬
‫من الشدة والقوة ويسميها تطرفا وإرهابا واعتداءً على حريات الخرين ‪.‬‬
‫وفي تلك الفترة وما بعدها كان النظام الحاكم في مصر يجرب أنواعا من وسائل مواجهة‬
‫الحركة السلمية للقضاء عليها ‪ ،‬فإلى جانب الملحقات المنية التي لم تنقطع في وقت من‬
‫الوقات(‪ )1‬كانت تلك الحملت العلمية التي أشرنا إلى شيء منها ‪ ،‬وكان من أخطر الوسائل‬

‫‪304‬‬
‫التي استخدمها النظام العلماني استمالة طائفة من المشايخ والمنتسبين للعلم الشرعي ليبرروا‬
‫للنظام باطله ويكونوا عونا له في حرب دعاة الحق الصادقين ‪.‬‬
‫وكان على رأس هؤلء الشيخ ‪ /‬سيد طنطاوي مفتي الجمهورية* و د‪ /‬محمد علي محجوب‬
‫وزير الوقاف ‪ ،‬فقد توليا كبر هذا المر ‪ ،‬وأخذا يجوبان مدن مصر من أجل تنفيذ الغاية‬
‫أن عقدت بعض المناظرات بين مشايخ السلطان وبين الدعاة‬ ‫السابقة ‪ .‬وكان من فضل ال‬
‫‪.‬‬ ‫وطلبة العلم اتضح بها الحق لدى كثير من الناس بحمد ال‬
‫وكان من قدر العبد الفقير ‪ -‬كاتب هذه السطور ‪ -‬أن شارك في مناظرة كان طرفها‬
‫الخر المفتي ووزير الوقاف وعُقدت في مدينة أسيوط ( كان ذلك في أوائل العام ‪1408‬هـ )‬
‫وقد وفقنا ال فيها لبيان بعض القضايا الشرعية التي كان من أهمها القضية التي نحن بصددها ‪:‬‬
‫قضية تغيير المنكر باليد لحاد الرعية ‪ ،‬وقد ذكرنا في ذلك بعض الدلة الشرعية وأقوال‬
‫العلماء الدالة على الجماع على أن تغيير المنكر باليد ليس قاصرا على الحكام ‪ ،‬أما المفتي‬
‫والوزير ‪ -‬وهما حامل لواء الدعوة إلى أن تغيير المنكر باليد ل يجوز لغير الحكام ‪ -‬فقد كانت‬
‫أدلتهما في تلك المناظرة بعض التحكمات العقلية في مقابل النصوص الشرعية من مثل القول‬
‫بأن تغيير المنكر باليد من ِقبَل غير الحكام يؤدي إلى الفوضى‪ ،‬أو التمسك بعمومات ليست في‬
‫محل النزاع كالقول بأن السلم دين الرفق والسماحة وأن الدعوة ل بد أن تكون بالموعظة‬
‫الحسنة ‪ ،‬وأخيرا قال المفتي إنه المفتي الرسمي للدولة بما يعني أن فتواه ل بد أن تكون ملزمة‬
‫للجميع ‪ ،‬وهذا قول مردود ؛ فإنه ليس لحد ‪ -‬كائنا من كان ‪ -‬أن يلزمنا بما يخالف كتاب ال‬
‫‪ ،‬ثم إننا نقول‪:‬إن كنت ترى أن إلزامك لنا مبني على أنك مُعين من قبل رئيس‬ ‫وسنة رسوله‬
‫الدولة ‪ ،‬فإنه عندنا حاكم ساقط الشرعية ‪ ،‬ل ولية له على المسلمين(‪. )2‬‬
‫وفي تلك الفترة كثُر اللغط حول هذه القضية ‪ ،‬وصار كل من هب ودب يتكلم فيها ‪ ،‬وصار أمرا‬
‫عاديا أن تتناقل وسائل العلم الحكومية كل يوم تقريبا تصريحات للمفتي ووزير الوقاف حول‬
‫هذا الموضوع ‪ ،‬ووصل المر بوزير الوقاف إلى أن قال حول المناظرة التي أشرت إليها إنه‬
‫حين ذهب إلى أسيوط وجد سبع جماعات يكفر بعضها بعضا ‪،‬وإنه قد تقدم طالب جامعي‬
‫صغير ليناظره هو والمفتي‪.‬‬
‫والحق أن هذا لم يكن إل محض كذب وافتراء(‪. )3‬‬

‫‪305‬‬
‫في تلك الجواء رأيت الحاجة داعية إلى كتابة هذه الرسالة التي بَيـَنتُ فيها ‪ -‬بحمد ال تعالى‬
‫‪ -‬ما أراه صوابا في هذه المسألة ‪ ،‬مؤيدا بالدلة الشرعية من كتاب ال وسنة رسوله ثم بأقوال‬
‫أهل العلم من سلف هذه المة ومن سار على دربهم واقتفى أثرهم ‪.‬‬
‫ولعله من تمام القول في ذلك أن أذكر أنه عُقد فيما بعد ( في جمادى الثانية ‪1409‬هـ ) مؤتمر‬
‫في الجامع الزهر تحدث فيه كل من الشيخ ‪ /‬متولي الشعراوي والشيخ ‪ /‬محمد الغزالي والشيخ‬
‫‪ /‬الطيب النجار ‪ ،‬وفي نهاية المؤتمر ألقى الشيخ الشعراوي بيانا قالت الصحف يومها إنه قد‬
‫وقّع عليه كل من الشيخ الشعراوي والشيخ الغزالي والدكتور يوسف القرضاوي ‪ .‬وقد كان ذلك‬
‫البيان ‪-‬مع السف الشديد‪ -‬حلقة في سلسلة الحرب التي شنها النظام العلماني في مصر ضد‬
‫الحركة السلمية ‪ ،‬ويكفي أن نقرأ من هذا البيان الفقرة التي تقول ‪ ... (( :‬ونحن نعتقد في‬
‫إيمان المسئولين في مصر ‪ ،‬وأنهم ل يردون على ال حكما ول ينكرون للسلم مبدأ ‪ ،‬وأنهم‬
‫يعملون على أن تبلغ الدعوة السلمية مداها تحقيقا وتطبيقا ))(‪. )4‬‬
‫وهذا قول ل يحتاج إلى رد ‪ ،‬وكل منصف متابع للحوال في مصر يعلم بطلنه‪.‬ومما جاء في‬
‫هذا البيان أيضًا ‪ ... (( :‬بل الثابت في كل العصور أن الذي يقوم بتنفيذ الحدود وتغيير المنكر‬
‫باليد هم أولياء المور وحدهم ))(‪،)4‬وهذا قول إن صح في مسألة تنفيذ الحدود ‪ ،‬فإنه ل يصح‬
‫في مسألة تغيير المنكر كما يجده القارئ الكريم مفصلً في هذه الرسالة ‪.‬‬
‫ولست الن في معرض الرد المفصل على هذا البيان‪،‬وإنما أشرت إليه لتعلقه بموضوع هذه‬
‫الرسالة ‪ ،‬ولكونه قد اُستغل من قِبل زبانية التعذيب في التنكيل بشباب السلم ‪ ،‬فإني أذكر أن‬
‫بعض أولئك الزبانية كان يقول لمن يعذبهم بعد صدور هذا البيان ‪ (( :‬أتدرون بم وصفكم الشيخ‬
‫الغزالي في المؤتمر ؟ إنه قال إنكم بُله ‪ ،‬أما الشيخ الشعراوي فقد قال إنكم خوارج ؛ أي أننا‬
‫نسجنكم ونعذبكم ونقتلكم بفتوى العلماء)) ‪ ،‬فهل يعي هؤلء العلماء خطورة ما أقدموا عليه ؟!‬
‫ومن عجيب تصاريف القدر أن العلماء الثلثة الذين نُسب إليهم توقيع البيان قد تعرضوا بعد‬
‫ذلك لهجوم حاد من قِبل زكي بدر ‪ -‬وزير داخلية النظام المصري في ذلك الوقت ‪ -‬حيث‬
‫أمطر كلً منهم بوابل مما كانت تسميه صحافة المعارضة وقتها بقاموس الشتائم البدري ؛ وهو‬
‫طائفة من البذاءات أُنزه هذا الكتاب عن إثبات شيء منها فيه‪ ،‬فهل يصدق فيهم القول بأن‪ [:‬من‬
‫أعان ظالما سلطه ال عليه ](‪ )5‬؟‬

‫‪306‬‬
‫وبعد ‪ :‬فقد كانت تلك إشارة سريعة إلى ظروف كتابة هذه الدراسة منذ ما يزيد على سبع‬
‫سنين ‪ ،‬وكنت بين الحين والخر أعيد النظر في مادتها ‪ ،‬فأحذف شيئًا وأضيف شيئًا وأختصر‬
‫شيئًا وأبسط شيئًا حتى بدت بهذه الصورة التي بين يديك ‪ -‬أخي القارئ ‪ -‬ثم شعرت بعد إلحاح‬
‫من بعض إخواني في ال بأهمية إعادة طبعها بصورة جيدة ‪ ،‬خصوصا وقد وجدت بعض من‬
‫كتبوا عن الحركة السلمية في مصر قد أشاروا إليها باعتبارها معبرة عن رأي فصيل مهم من‬
‫فصائل تلك الحركة(‪.)6‬‬
‫وأخيرا فهذا جهدي المتواضع أقدمه للقراء الكرام فما كان فيه من صواب فمن ال وما كان فيه‬
‫من خطأ فمني ومن الشيطان وال ورسوله بريئان منه ‪ ،‬وأنا راجع عن كل قول يخالف الكتاب‬
‫والسنة في حياتي وبعد مماتي ‪ ،‬وآخر دعوانا أن الحمد ل رب العالمين ‪.‬‬
‫وكتب عبد الخر حماد الغنيمي‬
‫محرم ‪1416‬هـ‬ ‫‪21‬‬ ‫في يوم الثنين الموافق‬
‫‪1995‬‬ ‫يونيو‬ ‫‪19‬‬

‫توطئــة‬
‫إن الحمد ل نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بال من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ‪ ،‬من‬
‫يهده ال فل مضل له ‪ ،‬ومن يضلل فل هادي له ‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له‬
‫‪ ..‬وبعد ‪:‬‬ ‫وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله‬
‫فإن السلم ‪ -‬وهو دين ال الحق ‪-‬قد جاء بكل ما فيه مصلحة ومنفعة محققة للناس في دنياهم‬
‫وآخرتهم ‪ ،‬ونهى عن كل ما فيه مفسدة ومضرة محققة لدنيا الخلق وآخرتهم ‪.‬‬
‫لذا فالسلم في حقيقته هو أمر بكل معروف ونهي عن كل منكر‪،‬وإن خيرية هذه المة مترتبة‬
‫خ ْيرَ ُأمّةٍ‬
‫‪ { :‬كُنتُمْ َ‬ ‫على كونها آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر بعد إيمانها بال كما قال‬
‫جتْ لِلنّاسِ تَ ْأ ُمرُونَ بِال َم ْعرُوفِ َو َت ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُن َكرِ َو ُت ْؤ ِمنُونَ بِالِ }(آل عمران ‪)110 :‬‬
‫خرِ َ‬
‫أُ ْ‬
‫جعل من أخص خصائص المجتمع المسلم المر بالمعروف والنهي عن المنكر مع‬ ‫وإن ال‬
‫لرْضِ أَقَامُواْ الصّلةَ وَءَا َت ُواْ ال ّزكَاةَ َوَأ َمرُواْ‬
‫إقامة الصلة وإيتاء الزكاة ‪ (:‬الّذِينَ إِن ّم ّكنّاهُمْ فيِ اْ َ‬
‫لمُورِ) ‪(.‬الحج ‪)41:‬‬
‫بِالم ْعرُوفِ َو َن َهوْا عَنِ ال ُم ْن َكرِ َولِ عَا ِقبَةُ ا ُ‬

‫‪307‬‬
‫وما استحق بنو إسرائيل اللعنة إل لتركهم لهذا المر العظيم { ُلعِنَ الّذِينَ كَ َفرُواْ مِنْ بَني‬
‫عصَواْ ّوكَانُوا َي ْعتَدُونَ ‪ ،‬كَانُواْ لَ َي َتنَا َهوْنَ‬
‫علَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ َم ْريَمَ ؛ َذِلكَ ِبمَا َ‬
‫سرَاءِيلَ َ‬
‫إِ ْ‬
‫عَنْ مّن َكرٍ َف َعلُوهُ َل ِب ْئسَ مَا كَانُواْ يَ ْف َعلُونَ }‪ (.‬المائدة ‪)79-78:‬‬
‫من رأى منكرا أن يغيره ‪:‬‬ ‫وقد أمر رسولنا‬
‫[ من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه ‪ ،‬فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف‬
‫اليمان ](‪، )7‬ولقد صدق الغزالي ‪-‬رحمه ال ‪ -‬حين قال عن المر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر إنه (( القطب العظم في الدين ‪ ،‬وهو المهم الذي ابتعث ال له النبيين أجمعين )) (‪.)8‬‬
‫وقد كثر اللغط في هذه اليام حول هذا الموضوع ‪ ،‬وأُثيرت حوله الشبهات وأُعلنت حروب‬
‫شعواء على شباب السلم الذين يحاولون ‪ -‬ما وسعهم الجهد ‪ -‬أن يأتمروا بأمر ال ورسوله‬
‫فيغيروا ما استطاعوا من هذه المنكرات الفاشية التي صار مجتمعنا يموج بها ليل نهار ‪.‬‬
‫ولما لم يستطع هؤلء أن يشككوا في مشروعية المر بالمعروف والنهي عن المنكر في السلم‬
‫؛ لجأوا إلى طريق أخرى وهي أن يدّعوا أن تغيير المنكر باليد إنما هو من خصائص الحكام ‪،‬‬
‫وليس لمن دونهم من الناس الحق في ذلك ‪ .‬وهم يعلمون جيدا أن حكام هذه اليام ل يقومون‬
‫بهذا المر ‪ ،‬بل الواضح أنهم يفعلون ضد ذلك تماما ؛ فهم يشجعون المنكرات والفواحش‬
‫ويحمونها ويحاربون دعاة الحق وينكلون بهم ‪ ،‬فلم يكن هناك بد من تسطير هذه الصفحات نبين‬
‫فيها الحق بمشيئة ال تعالى حتى يعلمه طلب الحق من المسلمين ‪.‬إن الحق الذي نعتقده وندين‬
‫به ‪ :‬أن المر بالمعروف والنهي عن المنكر هو واجب المة جمعاء ‪ ،‬وأن لحاد الرعية من‬
‫المسلمين تغيير المنكر بأيديهم وليس فقط بألسنتهم وقلوبهم ‪ ،‬وذلك بضوابط نذكرها في‬
‫موضعها إن شاء ال تعالى ‪.‬‬
‫وفي الصفحات التالية تجد عرضا لدلتنا في ذلك مؤيدة بأقوال العلماء الثبات في هذا‬
‫الموضوع ‪.‬‬
‫وال أسأل أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم‬
‫وأن ينفع به المسلمين ‪ ...‬آمين‬
‫عبد الخر حماد‬
‫شعبان ‪1408‬هـ‬ ‫‪4‬‬ ‫أسيوط في‬
‫مارس ‪1988‬م‬ ‫‪22‬‬

‫‪308‬‬
‫أولً ‪ :‬من القرآن الكريم‬
‫خ ْيرِ َويَ ْأ ُمرُونَ بِال َم ْعرُوفِ َو َي ْن َهوْنَ عَنِ اْلمُن َكرِ‬
‫‪َ { :‬و ْل َتكُنْ مّنكُمْ ُأمّةٌ يَدْعُونَ إِلى ال َ‬ ‫يقول ال‬
‫َوُأ ْولَ ِئكَ هُمُ المُ ْفلِحُونَ } ( آل عمران ‪)104:‬‬
‫قال المام‬ ‫فهذه الية الكريمة نص قاطع في وجوب المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪.‬‬
‫خ ْيرَ ُأمّةٍ‬
‫‪ُ { :‬ك ْنتُمْ َ‬ ‫القاضي أبو بكر بن العربي ‪ (( :‬في هذه الية والتي بعدها وهي قوله‬
‫جتْ لِلنّاسِ } دليل على أن المر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية ))(‪. )1‬‬
‫خرِ َ‬
‫أُ ْ‬
‫وقال الجصاص ‪ (( :‬قد حوت هذه الية معنيين أحدهما ‪ :‬وجوب المر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر ‪ ،‬والخر ‪ :‬أنه فرض على الكفاية ‪ ...‬لقوله تعالى ‪:‬‬
‫{ َو ْل َتكُنْ مّنكُمْ ُأمّةٌ‪ } ..‬وحقيقته تقتضي البعض دون البعض ‪ ،‬فدل على أنه فرض على الكفاية‬
‫إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين ))(‪. )2‬‬
‫وقال الحافظ ابن كثير ‪ (( :‬والمقصود من هذه الية أن تكون فرقة من هذه المة متصدية لهذا‬
‫الشأن ‪ ،‬وإن كان ذلك واجبا علىكل فرد من المة بحسبه ‪ ،‬كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي‬
‫‪ [ :‬من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ‪ ،‬فإن لم يستطع‬ ‫سعيد الخدري(‪ )3‬قال ‪ :‬قال رسول ال‬
‫فبلسانه ‪ ،‬فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف اليمان ] ))(‪.)4‬‬
‫قلت ‪ :‬قول ابن كثير ‪-‬رحمه ال‪ (( : -‬وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من المة بحسبه ))‬
‫معناه بحسب قدرته ‪ ،‬ويدل على ذلك استشهاده بحديث أبي سعيد الذي جعل مناط المر بالتغيير‬
‫هو الستطاعة ‪.‬‬
‫جتْ لِلنّاسِ تَ ْأ ُمرُونَ‬
‫خرِ َ‬
‫خ ْيرَ ُأمّةٍ أُ ْ‬
‫وفي معنى هذه الية آيات أُخر منها قوله تعالى ‪ :‬كُنتُمْ َ‬
‫في نعت المؤمنين الذين باعوا‬ ‫بِال َم ْعرُوفِ َو َت ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُنكَرِ‪ ( } ...‬آل عمران ‪ )110:‬وقوله‬
‫ن الرّا ِكعُونَ السّاجِدُونَ ال ِمرُونَ‬
‫أنفسهم وأموالهم ل ‪ْ { :‬اّلتَا ِئبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السّائِحُو َ‬
‫ش ِر ال ُم ْؤ ِمنِينَ } (التوبة ‪)112:‬‬
‫بِال َم ْعرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ المُن َكرِ وَالحَافِظُونَ لحُدُودِ الِ َوبَ ّ‬
‫قال الجصاص بعد أن ذكر طائفة من هذه اليات الكريمة ‪ (( :‬فهذه الي ونظائرها مقتضية‬
‫ليجاب المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬وهي على منازل أولها تغييره باليد ‪ -‬إذا أمكن‬
‫‪ -‬فإن لم يمكن وكان في نفسه خائفا على نفسه إذا أنكر بيده فعليه إنكاره بلسانه ‪ ،‬فإن تعذر ذلك‬
‫لما وصفنا فعليه إنكاره بقلبه ))(‪ )5‬أ‪.‬هـ ‪.‬‬

‫‪309‬‬
‫والمقصود من ذلك أنه قد َث َبتَ بهذه اليات وغيرها وجوب المر بالمعروف والنهي عن المنكر‬
‫وأنه فرض على الكفاية ‪ ،‬وهذا الحكم شامل لكل مراتب التغيير ‪ ،‬ول نعلم دليلً واحدا يخص‬
‫الحكام بمرتبة من هذه المراتب ‪ ،‬فمن ادعى شيئا من ذلك فعليه الدليل ‪.‬‬
‫ثانيًا ‪ :‬من السنة النبوية الشريفة‬
‫الحديث الول ‪:‬‬
‫عن طارق بن شهاب قال ‪:‬‬
‫(( أول من بدأ الخطبة يوم العيد قبل الصلة مروان فقام إليه رجل فقال ‪ :‬الصلة قبل الخطبة ‪.‬‬
‫يقول‬ ‫فقال ‪ :‬قد ترك ما هنالك فقال أبو سعيد ‪ :‬أما هذا فقد قضى ما عليه ‪ ،‬سمعت رسول ال‬
‫‪ [ :‬من رأى منكرا فليغيره بيده ‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف‬
‫اليمان] )) (‪. )6‬‬
‫وقد دل هذا الحديث على أن لحاد الرعية تغيير المنكر بأيديهم من وجوه ‪:‬‬
‫الوجه الول ‪:‬‬
‫[ مَنْ ] وهي من صيغ العموم ‪ ،‬وذلك يعني أن الخطاب موجه إلى كل فرد من المة‬ ‫قوله‬
‫وليس إلى طائفة معينة منهم ‪ ،‬وعلى من ادعى تخصيص طائفة معينة بشيء مما ورد في هذا‬
‫الحديث أن يأتينا بالمخصص وأنى له ذلك ؟‬
‫أما ما زعمه أحدهم من أنه لم يثبت أن أحدا من القرون الثلثة الولى قد فعل ذلك من غير‬
‫الولة(‪ )7‬فإنه منقوض بما سننقله فيما بعد من فعل الصحابة واستمرار عمل السلف على أن‬
‫لحاد الرعية أن يغيروا بأيديهم دون إذن من الولة‪.‬‬
‫الوجه الثاني ‪:‬‬
‫وهو الحاكم ‪ ،‬والمخاطَبون بذلك هم الرعية فلو كان‬ ‫[ منكم ] والقائل هو النبي‬ ‫قوله‬
‫الذي يغير بيده هو الحاكم وحده فكيف خوطب الرعية بذلك ؟!‬
‫الوجه الثالث ‪:‬‬
‫[ فإن لم يستطع ] وذلك يقتضي أن المخاطب بالمر الول هو عينه المخاطب بالمر‬ ‫قوله‬
‫الثاني وهو عينه المخاطب بالمر الثالث ؛ فهو شخص واحد إن لم يستطع أن يُغير بيده فله أن‬
‫ينتقل إلى البدل وهو التغيير باللسان فإن لم يستطع فله النتقال إلى البدل وهو التغيير بالقلب ‪.‬‬

‫‪310‬‬
‫وشبيه بهذا المعنى ما جاء في حديث الرجل الذي واقع امرأته في نهار رمضان حيث قال له‬
‫‪:‬‬ ‫النبي‬
‫[ هل تجد رقبة تعتقها ؟ قال ‪ :‬ل ‪ ،‬قال ‪ :‬فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال ‪ :‬ل ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬فهل تجد إطعام ستين مسكينا ؟ قال ‪ :‬ل ‪ )8(] ...‬الحديث ‪.‬‬
‫غير مستطيع للمر الول وهو العتق انتقل به‬ ‫فالشخص شخص واحد ‪ ،‬ولما وجده الرسول‬
‫إلى المر الثاني وهو الصيام ‪ ،‬فلما وجده غير مستطيع لهذا أيضا انتقل به إلى المر الثالث‬
‫وهو الطعام ‪ .‬وهكذا نقول هنا وال أعلم‬
‫الوجه الرابع ‪:‬‬
‫[ فإن لم يستطع ] أيضا فلو كان التغيير باليد قاصرا على الحاكم لما كان لقوله [ فإن‬ ‫قوله‬
‫لم يستطع ] معنى لن الصل في الحاكم أنه مستطيع التغيير باليد على كل حال ‪.‬‬
‫الحديث الثاني ‪:‬‬
‫قال ‪:‬‬ ‫روى مسلم في صحيحه عن عبد ال بن مسعود أن رسول ال‬
‫[ ما من نبي بعثه ال في أمة قبلي إل كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته‬
‫ويقتدون بأمره ‪ ،‬ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف ‪ ،‬يقولون ما ل يفعلون ‪ ،‬ويفعلون ما ل‬
‫يؤمرون ‪ ،‬فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ‪ ،‬ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ‪ ،‬ومن جاهدهم بقلبه‬
‫فهو مؤمن ‪ ،‬وليس وراء ذلك من اليمان حبة خردل](‪. )9‬‬
‫وفي هذا الحديث أيضا العموم في قوله [ فمن جاهدهم ] فهذا خطاب عام ل مخصص له‬
‫‪ ،‬بل إنه نص في أن للرعية أن يغيروا منكرات المراء بأيديهم ؛ فقد قال ابن رجب الحنبلي‬
‫بعد أن ذكر الحديث السابق ‪:‬‬
‫(( جهاد المراء باليد أن يزيل بيده ما فعلوه من المنكرات مثل أن يريق خمورهم ‪ ،‬أو‬
‫يكسر آلت اللهو التي لهم ‪ ،‬أو نحو ذلك ‪ ،‬أو يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كان له قدرة‬
‫الحديث الثالث ‪:‬‬ ‫على ذلك وكل ذلك جائز ))(‪.)10‬‬
‫قال ‪ [ :‬ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ ومن‬ ‫عن أم سلمة أن رسول ال‬
‫أنكر سلم ولكن من رضى وتابع ‪ ،‬قالوا ‪ :‬أفل نقاتلهم ‪،‬قال ‪:‬ل ما صلوا ] ‪ ،‬وفي رواية [ إنه‬
‫يُستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمنكره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضى‬
‫وتابع‪ ،‬قالوا ‪ :‬يا رسول ال أل نقاتلهم ؟ قال ‪ :‬ل ماصلوا](‪. )11‬‬

‫‪311‬‬
‫فهذا الحديث يوضح أنه في حالة وجود أمراء تقع منهم المخالفات لشرع ال فإن سلمة المسلم‬
‫في دينه تتحقق بالنكار عليهم ‪ ،‬والنكار هنا عام يدخل فيه التغيير باليد واللسان والقلب ‪.‬‬
‫وإليك ما قاله المام النووي في شرح هذا الحديث لتعلم أننا لم نأت ببدع من القول ‪ ،‬قال‬
‫‪-‬رحمه ال‪ (( : -‬فأما رواية من روى [ فمن كره فقد برئ ] فظاهرةٌ ومعناه من كره ذلك‬
‫المنكر فقد برئ من إثمه وعقوبته وهذا في حق من ل يستطيع إنكاره بيده ول لسانه فليكرهه‬
‫بقلبه وليبرأ ‪ ،‬وأما من روى [ فمن عرف فقد برئ ] فمعناه ‪-‬وال أعلم‪ -‬فمن عرف المنكر ولم‬
‫يشتبه عليه فقد صارت له طريق إلى البراءة من إثمه وعقوبته ‪ ،‬بأن يغير بيده وبلسانه ‪ ،‬فإن‬
‫عجز فليكرهه بقلبه )) (‪.)12‬‬
‫فيتبين من ذلك أن الرجل المسلم له أن يغير منكرات المراء بيده أو لسانه فإن عجز فبقلبه وإن‬
‫كان المنكر عليه هو المير فهل يسوغ مع ذلك أن يُقال ‪ :‬إنه ل تغيير باليد إل للمراء‬
‫والحكام ؟!‬
‫الحديث الرابع ‪:‬‬
‫وتقع فيه‬ ‫عن عكرمة قال حدثنا ابن عباس‪ [ :‬أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي‬
‫فينهاها فل تنتهي ويزجرها فل تنزجر ‪ ،‬قال ‪ :‬فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي‬
‫وتشتمه ‪ ،‬فأخذ المغول فوضعه في بطنها ‪ ،‬واتكأ عليها فقتلها‪ ...‬فلما أصبح ُذكِر ذلك لرسول‬
‫فجمع الناس فقال ‪ :‬أنشد رجلً فعل ما فعل لي عليه حق إل قام ‪ ،‬فقام العمى يتخطى‬ ‫ال‬
‫‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رسول ال أنا صاحبها كانت تشتمك‬ ‫الناس وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي‬
‫وتقع فيك فأنهاها فل تنتهي وأزجرها فل تنزجر ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت‬
‫بي رفيقة فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك‪،‬فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت‬
‫‪:‬أل اشهدوا أن دمها هدر](‪.)13‬‬ ‫عليها حتى قتلتها‪ ،‬فقال النبي‬
‫فهذا الحديث يدل على أن هذا الرجل وجد منكرا وحاول أن يغيره باللسان والوعظ والنصح فلم‬
‫تنته صاحبته ‪ ،‬فما كان منه إل أن غير بيده وكان التغيير باليد هنا هو استعمال السيف ؛ لن‬
‫أقرّه‬ ‫علِمَ النبي‬
‫فلما َ‬ ‫منكر هذه المرأة ل يزول بأقل من هذا فقتلها دون إذن من الرسول‬
‫على ذلك ‪.‬‬
‫الحديث الخامس ‪:‬‬

‫‪312‬‬
‫وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت‬ ‫‪ [ :‬أن يهودية كانت تشتم النبي‬ ‫روى الشعبي عن علي‬
‫دمها ](‪. )14‬‬ ‫فأبطل رسول ال‬
‫قال ابن تيمية ‪:‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪(15‬‬ ‫هذا الحديث نص في جواز قتلها لجل شتم النبي‬
‫فأقره النبي على ذلك ونحن نرى أن هذا من‬ ‫قلت ‪ :‬فهذا الرجل قتل المرأة دون إذن من النبي‬
‫باب تغيير المنكر باليد كما ذكرنا في القصة السابقة ‪.‬‬
‫الحديث السادس ‪:‬‬
‫‪:‬‬ ‫حتى أتينا الكعبة فقال لي رسول ال‬ ‫عن علي رضي ال عنه قال ‪ [ :‬انطلقت أنا والنبي‬
‫اجلس وصعد على منكبي فذهبت لنهض به فرأى مني‬
‫وقال ‪ :‬اصعد على منكبي ‪ ،‬قال ‪ :‬فصعدت على منكبه ‪ ،‬قال‬ ‫ضعفًا ‪ ،‬فنزل وجلس نبي ال‬
‫‪:‬فنهض بي‪ ،‬قال ‪ :‬فإنه يخيل إليّ أني لو شئت نلت أفق السماء حتى صعدت على البيت وعليه‬
‫تمثال صُفر أو نحاس ‪ ،‬فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه حتى إذا‬
‫‪ :‬اقذف به فقذفت به فتكسر كما تتكسر القوارير ثم نزلت‬ ‫استمكنت منه ‪ ،‬قال رسول ال‬
‫نستبق حتى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحدٌ من الناس ](‪. )16‬‬ ‫فانطلقنا أنا ورسول ال‬
‫المنكر بيده قبل الهجرة ‪ ،‬ومعلوم أنه لم يكن يومئذ حاكما‬ ‫قلت ‪ :‬هذا الحديث نص في تغييره‬
‫ول كانت قد قامت دولة السلم بعد ‪.‬‬
‫وقال المام الطبري تعليقا على هذا الحديث ‪ (( :‬والذي فيه من ذلك الدللة على صحة قول من‬
‫قال ‪ :‬ل بأس على الرجل المسلم إذا رأى بعض ما يتخذه أهل الكفر وأهل الفسوق والفجور من‬
‫الشياء التي يُعصى ال بها مما ليصلح لغير معصية ال وهو بهيئته ‪ ،‬وذلك مثل الطنابير‬
‫والعيدان والمزامير‪ ،‬أن يغيره عن هيئته المكروهة التي يعصى ال به وهو بها إلى خلفها من‬
‫الهيئات التي يزول عنه معها المعنى المكروه ))(‪. )17‬‬
‫ثالثًا ‪ :‬الجماع‬
‫‪ -1‬قال المام النووي ‪ -‬في شرح مسلم ‪ (( -‬قال العلماء ول يختص المر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر بأصحاب الوليات بل ذلك جائز لحاد المسلمين ‪ ،‬قال إمام الحرمين ‪:‬والدليل عليه‬
‫إجماع المسلمين ‪ ،‬فإن غير الولة في الصدر الول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون بالمعروف‬

‫‪313‬‬
‫وينهون عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بالمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر من غير ولية ))(‪. )18‬‬
‫وهذا كلم عام في المر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل درجاته لم يخصص إمام الحرمين‬
‫نوعا منها ‪.‬‬
‫‪ -2‬قال القرطبي عند تفسير قوله تعالى ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َيكْ ُفرُونَ بِآيَاتِ الِ َويَ ْق ُتلُونَ اّل َن ِبيِينَ ِب َغ ْيرِ‬
‫حَقٍ ‪( } ...‬آل عمران ‪: )21:‬‬
‫(( أجمع المسلمون فيما ذكره ابن عبد البر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه ‪،‬‬
‫وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إل اللوم الذي ل يتعدى إلى الذى فإن ذلك ل يجب أن يمنعه من‬
‫تغييره فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه ليس عليه أكثر من ذلك ))(‪.)19‬‬
‫فهذا الجماع الصحيح يدل على وجوب تغيير المنكر على كل من قدر عليه سواء كان حاكما أو‬
‫محكوما ‪.‬‬
‫رابعًا ‪ :‬فعل الصحابة‬
‫يخرج يوم الفطر والضحى إلى‬ ‫قال ‪ [ :‬كان رسول ال‬ ‫‪ -1‬عن أبي سعيد الخدري‬
‫المصلى ‪ ،‬فأول شيء يبدأ به الصلة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس ‪-‬والناس جلوس على‬
‫صفوفهم‪ -‬فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم ‪ ،‬فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه أو يأمر بشيء أمر‬
‫به ثم ينصرف ‪ .‬قال أبو سعيد ‪ :‬فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان ‪-‬وهو أمير‬
‫المدينة‪ -‬في أضحى أو فطر ‪ ،‬فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت ‪ ،‬فإذا مروان‬
‫يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذتُ بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلة فقلت له ‪ :‬غيرتم‬
‫وال‪ ،‬قال ‪ :‬أبا سعيد قد ذهب ما تعلم ‪ ،‬فقلت ‪ :‬ما أعلم وال خير مما ل أعلم ‪ ،‬فقال ‪ :‬إن الناس‬
‫لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلة فجعلتها قبل الصلة](‪.)20‬‬
‫قد باشر التغيير بيده فجبذ بثوب مروان ‪ ،‬وهو المير يومئذٍ ‪.‬‬ ‫فها هو أبو سعيد الخدري‬
‫قال المام النووي في شرح هذا الحديث ‪ (( :‬وفيه المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬وإن‬
‫كان المنكر عليه واليا ‪ ،‬وفيه أن النكار عليه يكون باليد لمن أمكنه ول يجزئ عن اليد اللسان‬
‫مع إمكان اليد ))(‪.)21‬أ‪.‬هـ ‪.‬‬
‫‪ -‬وهو أمير المؤمنين‪ -‬بالشام فأتاه‬ ‫‪ -2‬وعن سويد بن غفلة قال ‪ [ :‬كنا مع عمر بن الخطاب‬
‫نبطي مضروب مشجج مستعدي ‪ ،‬فغضب غضباشديدا‪ ،‬فقال لصهيب ‪ :‬انظر من صاحب هذا ؟‬

‫‪314‬‬
‫فانطلق صهيب فإذا هو عوف بن مالك الشجعي ‪ ...‬قال ‪ :‬يا أمير المؤمنين رأيته يسوق بامرأة‬
‫مسلمة فنخس الحمار ليصرعها ‪ ،‬فلم تُصرع ثم دفعها فخرت عن الحمار ‪ ،‬ثم تغشاها فَ َفعْلتُ ما‬
‫‪ ...‬فقالت‬ ‫ترى ‪ ،‬قال ‪ :‬ائتني بالمرأة لتُصدقك ‪ ،‬فأتى عوف المرأة ‪ ،‬فذكر الذي قال له عمر‬
‫المرأة ‪ :‬وال لذهبن معه إلى أمير المؤمنين ‪ ....‬قال أبوها وزوجها ‪ :‬نحن نُبلّغ عنك أمير‬
‫المؤمنين ‪ ،‬فأَتيا فصدّقا عوف بن مالك بما قال ‪ ،‬قال ‪ :‬فقال عمر لليهودي ‪ :‬وال ما على هذا‬
‫عاهدناكم ‪ ،‬فأمر به فصُلبَ ‪ ...‬قال سويد بن غفلة ‪ :‬وإنه لول مصلوب رأيته ](‪. )22‬‬
‫فهذا عوف بن مالك ‪ -‬وهو صحابي جليل ‪ -‬رأى منكرا فغيره بيده ‪ ،‬ولم يكن المنكر ليندفع إل‬
‫وعرف‬ ‫بالضرب ‪ ،‬فضرب عوف بن مالك صاحب المنكر ‪ ،‬فشج رأسه فلما بلغ ذلك عمر‬
‫حقيقة المر ‪ ،‬ما عنّفَهُ بل أقام حُكم ال في هذا الذمي وهو أن يُقتل ‪.‬‬
‫‪ -3‬ورأى ابن عمر فسطاطًا على قبر عبد الرحمن فقال ‪ [ :‬انزعه يا غلم ؛ فإنما يظله عمله ](‬
‫‪. )23‬‬
‫وهذا تغيير باليد وقع من غير حاكم كما ترى ‪.‬‬
‫خامسًا ‪ :‬فعل التابعين‬

‫‪ -1‬عن إبراهيم قال ‪[ :‬كان أصحاب عبد ال يستقبلون الجواري معهن الدفوف في‬
‫الطرق فيخرقونها ](‪. )24‬‬
‫‪ [ -2‬وعن أبي حصين أن رجلً كسر طنبورًا لرجل ‪ ،‬فخاصمه إلى شُريح فلم يضمنه‬
‫شيئًا ](‪. )25‬‬
‫وعدم تضمين القاضي شريح لهذا الرجل يدل على أنه يجوز له كسر هذا الطنبور ‪.‬‬
‫سادسا ‪ :‬أقوال العلماء في هذه المسألة‬
‫والن‪ -‬أخي القارئ ‪ -‬نسوق لك طائفة من أقوال العلماء في هذه المسألة ليتبين لك أن‬
‫قولنا هو قول أئمة الهدى من أهل العلم ‪.‬‬
‫(‪ )1‬من أقوال الحنفية ‪:‬‬
‫قال المام أبو بكر الجصاص ‪ (( :‬المر بالمعروف والنهي عن المنكر لهما حالن‪ :‬حال‬
‫يمكن فيها تغيير المنكر وإزالته ‪ ،‬ففرض على من أمكنه إزالة ذلك بيده أن يزيله ؛ وإزالته باليد‬
‫تكون على وجوه منها ‪ :‬أل يمكن إزالته إل بالسيف وأن يأتي على نفس فاعل المنكر ‪ ،‬فعليه أن‬

‫‪315‬‬
‫يفعل ذلك كمن رأي رجلً قصده أو قصد غيره بقتله أو بأخذ ماله ‪ ،‬أو قصد الزنا بامرأة أو‬
‫نحو ذلك ‪ ،‬وعلم أنه ل ينتهي إن أنكره بالقول أو قاتله بما دون السلح ‪ ،‬فعليه أن يقتله لقول‬
‫‪ [ :‬من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده ] فإذا لم يمكنه تغييره بيده إل بقتل المقيم على هذا‬
‫المنكر فعليه أن يقتله فرضا عليه))(‪ .)26‬أ‪.‬هـ ‪.‬‬
‫(‪ )2‬من أقوال المالكية ‪:‬‬
‫‪ -1‬قال المام أبو بكر بن العربي عند تفسير قوله تعالى ‪َ { :‬و ْلتَكُنْ مّنكُمْ ُأمّةٌ يَدْعُونَ إِلى‬
‫خ ْيرِ َويَ ْأ ُمرُونَ بِال َم ْعرُوفِ َو َي ْن َهوْنَ عَنِ اْلمُن َكرِ } (آل عمران ‪: )104 :‬‬
‫ال َ‬
‫أنه قال ‪ [ :‬من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم‬ ‫(( ثبت عن النبي‬
‫بدأ في‬ ‫يستطع فبقلبه وذلك أضعف اليمان ] ‪ .‬وفي هذا الحديث من غريب الفقه أن النبي‬
‫البيان بالخير في الفعل وهو تغيير المنكر باليد وإنما يبدأ باللسان والبيان فإن لم يكن فباليد ‪،‬‬
‫يعني أن يحول بين المنكر وبين متعاطيه ؛ بنزعه عنه وبجذبه منه ‪ ،‬فإن لم يقدر إل بمقاتلة‬
‫وسلح فليتركه وذلك إنما هو إلى السلطان؛ لن شهر السلح بين الناس قد يكون مخرجا إلى‬
‫الفتنة وآيلً إلى فساد أكثر من المر بالمعروف والنهي عن المنكر إل أن يقوى المنكر ‪ ،‬مثل‬
‫أن يرى عدوا يقتل عدوا فينزعه عنه ول يستطيع أل يدفعه ويتحقق أنه لو تركه قتله ‪ ،‬وهو‬
‫قادر على نزعه ول يسلمه بحال وليخرج السلح ))(‪. )27‬‬
‫ويلحظ هنا قول المام أبو بكر بن العربي ‪ (( :‬فإن لم يقدر إل بمقاتلة وسلح فليتركه‬
‫وذلك إنما هو إلى السلطان )) ومعنى ذلك أن ما قبل ذلك من تغيير باليد من غير سلح ليس‬
‫محتاجا إلى السلطان ‪ ،‬ومع ذلك فقد استثنى الشيخ حالة يجوز فيها للحاد استعمال السلح وهي‬
‫أن يقوى المنكر كأن يرى رجلً يقتل آخر ويتحقق أنه لو تركه قتله فهنا يجوز له إشهار السلح‬
‫في تغيير هذا المنكر‪.‬‬
‫‪ -2‬نقل النووي في شرح حديث ‪ [ :‬من رأى منكم منكرا ] قولً للقاضي عياض يقول فيه‬
‫‪ (( :‬هذا الحديث أصل في صفة التغيير فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولً‬
‫كان أو فعلً ‪ ،‬فيكسر آلت الباطل أو يريق المسكر بنفسه أو يأمر من يفعله وينزع الغصوب‬
‫ويردها إلى أصحابها بنفسه أو بأمره‪. )28( ))...‬‬

‫‪316‬‬
‫وكلم القاضي عياض هنا يبين صفة التغيير أيّا كان المغير حاكما أو محكوما فله أن يكسر‬
‫آلت الباطل أو يريق المسكر أو ينزع المغصوب ويرده إلى أصحابه ‪ ،‬فلم يفرق في ذلك بين‬
‫الوالي والرعية ‪.‬‬
‫‪-3‬وقال المام القرطبي في تفسير قوله تعالى ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َيكْ ُفرُونَ بِآيَاتِ ال َويَ ْق ُتلُونَ‬
‫اّل َن ِبيِينَ ِب َغ ْيرِ حَقٍ ‪( }....‬آل عمران ‪ (( : )21 :‬ولو رأى زيد عمرا وقد قصد مال بكر فيجب‬
‫عليه أن يدفعه ‪ ،‬إذا لم يكن صاحب المال قادرا عليه ول راضيا به))(‪.)29‬‬
‫فانظر كيف عبر بقوله (زيد) وذلك يفيد أنه أي فرد ول يشترط أن يكون الحاكم ‪ ،‬هذا وقد مر‬
‫بنا من قبل عند ذكر الجماع ما نقله القرطبي ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬من ذكر الجماع على أن تغيير‬
‫المنكر واجب على كل من قدر عليه باليد فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه‪.‬‬
‫‪ -4‬قال المام أبو بكر الطرطوشي ‪ (( :‬فانظروا يرحمكم ال أينما وجدتم سدرة أو شجرة‬
‫يقصدها الناس ويعظمون من شأنها ‪ ،‬ويرجون البرء والشفاء من قِبلها‪ ،‬وينوطون بها المسامير‬
‫والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها ))(‪. )30‬‬
‫وهذا من المام الطرطوشي خطاب للمسلمين جميعا ‪ ،‬ومن ادعى التخصيص‬
‫فعليه الدليل ‪.‬‬
‫(‪ )3‬من أقوال الشافعية ‪:‬‬
‫‪-1‬قال المام النووي ‪(( :‬قال إمام الحرمين ‪-‬رحمه ال ‪ : -‬ويسوغ لحاد الرعية أن‬
‫يصد مرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته العمل إلى نصب قتال وشهر سلح ‪،‬‬
‫فإن انتهى المر إلى ذلك ‪ ،‬ربط المر بالسلطان))(‪.)31‬‬
‫‪ -2‬وقال إمام الحرمين ‪ -‬الجويني‪ -‬أيضا في غياث المم عند الحديث عن خلو‬
‫الزمان عن المام أو الخليفة ‪ (( :‬أما ما يسوغ استقلل الناس فيه بأنفسهم لكن الدب يقتضي‬
‫جمَع وجر العساكر إلى الجهاد‬
‫فيه مطالعة ذوي المر ومراجعة مرموق العصر كعقد ال ُ‬
‫واستيفاء القصاص في النفس والطرف فيتوله الناس عند خلو الدهر ‪ ،‬ولو سعى عند شغور‬
‫الزمان طوائف من ذوي النجدة والبأس في نفض الطرق عن السعاة في الرض بالفساد فهم من‬
‫أهم أبواب المر بالمعروف والنهي عن المنكر )) (‪. )32‬‬
‫ومن هذا النص يتبين لنا أن الجويني ‪-‬رحمه ال‪ -‬يرى أن ما يسوغ لحاد‬
‫الرعية أن يقوموا به من غير إذن السلطان ‪-‬وإن كان الدب يقتضي مراجعته في ذلك‪ ، -‬فإن‬

‫‪317‬‬
‫الناس يقومون به إذا خل الزمان عن إمام ‪ .‬وذكر من أمثلة ذلك عقد الجمع وجر العساكر إلى‬
‫الجهاد واستيفاء القصاص في النفس والطرف ‪.‬‬
‫وأنه لو سعى طوائف من ذوي النجدة في حال غياب المام بنفض الطرق عن‬
‫السعاة في الرض بالفساد فإن ذلك من أهم أبواب المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ .‬ويدل‬
‫هذا الجزء الخير من كلم الجويني على أن القيام بتغيير المنكر وتطهير الرض من الساعين‬
‫فيها بالفساد جائز لحاد الرعية سواء في حال وجود المام أو حال غيابه ‪-‬وال أعلم‪-‬‬
‫‪ -3‬قال الغزالي في الحياء بعد كلم له في عدم وجوب استئذان المام في التغيير‪:‬‬
‫(( ‪ ...‬وكذلك كسر الملهي وإراقة الخمور فإنه تعاطي ما يعرف كونه حقا من غير اجتهاد فلم‬
‫يفتقر إلى المام ‪ ،‬وأما جمع العوان وشهر السلحة فذلك قد يجر إلى فتنة عامة ففيه نظر‬
‫سيأتي ‪. )33()) ...‬‬
‫وقال عند ذكره لدرجات الحسبة ‪:‬‬
‫الدرجة السابعة ‪ (( :‬مباشرة الضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه شهر سلح وذلك‬
‫جائز للحاد بشرط الضرورة والقتصار على قدر الحاجة في الدفع ‪ ،‬فإذا اندفع المنكر فينبغي‬
‫أن يكف )) (‪. )34‬‬
‫وقال‪(( :‬الدرجة الثامنة ‪ :‬أن ل يقدر عليه بنفسه ويحتاج فيه إلى أعوان يشهرون السلح وربما‬
‫يستمد الفاسق أيضًا بأعوانه ‪ ،‬ويؤدي ذلك إلى أن يتقابل الصفان ‪،‬ويتقاتل فهذا قد ظهر‬
‫الختلف في احتياجه إلى إذن المام‪،‬فقال قائلون ‪:‬ل يستقل آحاد الرعية بذلك لنه يؤدي إلى‬
‫تحريك الفتن وهيجان الفساد وخراب البلد ‪،‬وقال آخرون ‪ :‬ل يحتاج إلى الذن ‪ -‬وهو القيس‬
‫‪ -‬لنه إذا جاز للحاد المر بالمعروف وأوائل درجاته تجر إلى ثوان والثواني إلى ثوالث وقد‬
‫ينتهي ل محالة إلى التضارب ‪ ،‬والتضارب يدعو إلى التعاون فل ينبغي أن يبالي بلوازم المر‬
‫بالمعروف ومنتهاه تجنيد الجنود في رضا ال ودفع معاصيه ‪ ،‬ونحن نجوز للحاد من الغزاة أن‬
‫يجتمعوا ويقاتلوا من أرادوا من فرق الكفار قمعا لهل الكفر فكذلك قمع أهل الفساد جائز؛لن‬
‫الكافر ل بأس بقتله‪ ،‬والمسلم إن قتل فهو شهيد‪ ،‬فكذلك الفاسق المناضل عن فسقه ل بأس‬
‫بقتله‪،‬والمحتسب المحق إن قتل مظلوما فهو شهيد وعلى الجملة فانتهاء المر إلى هذا من‬
‫النوادر في الحسبة فل يغير به قانون القياس )) (‪)35‬أ‪.‬هـ‪.‬‬
‫ويتضح من هذا العرض لكلم الغزالي ‪ ..‬أن تغيير المنكر باليد له درجات ‪:‬‬

‫‪318‬‬
‫الولى ‪ :‬إزالة المنكر من غير تعرض لفاعله ‪ ،‬وهي الدرجة الخامسة في ترتيب الغزالي‬
‫لدرجات الحسبة ‪ ،‬فهذه كما رأينا في كلمه جائزة للحاد ول تفتقر إلى إذن المام ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬وهي مباشرة الضرب باليد والرجل ؛ أي ضرب فاعل المنكر ما لم يصل المر إلى‬
‫شهر السلح ‪ ،‬وهي الدرجة السابعة في ترتيب الغزالي ‪ ،‬فهذه أيضًا جائزة بشرط الضرورة‬
‫والقتصار على قدر الحاجة‬
‫الثالثة ‪ :‬وهي شهر السلح وجمع العوان وهي الدرجة الثامنة في ترتيب الغزالي ‪ ،‬وهذه‬
‫الدرجة هي التي وقع فيها الخلف بين العلماء فمنهم من أجازها لحاد الرعية ومنهم من‬
‫قصرها على الحكام وقد رجح الغزالي جوازها لحاد الرعية كما رأينا ‪.‬‬
‫قال الشيخ محمد أحمد الراشد في كتاب المنطلق تعقيبًا علىكلم الغزالي السابق ‪:‬‬
‫(( وهذا نص يكتب بماء الذهب وعلى الدعاة أن يحفظوه عن ظهر قلب )) (‪.)36‬‬
‫فتمسك أخي بهذا الكلم الجيد ول يغرنك قول متفلسفة العصر الذين يهاجمون صاحبه فيرمونه‬
‫بأن كلمه هذا لم يستند فيه إلى آية واحدة أو حديث واحد ولو ضعيف أو عمل من أعمال‬
‫الصحابة أو التابعين(‪. )37‬‬
‫‪ -4‬وقد تكلم ابن القيم في الطرق الحكمية عن تكسير آلت اللهو والصور ‪ ،‬وهل يضمن من‬
‫يكسر شيئًا من ذلك ؟ فقال‪(( :‬وقال أصحاب الشافعي يضمن ما بينه وبين الحد المبطل‬
‫للصورة‪،‬وما دون ذلك فغير مضمون لنه مستحق الزالة )) (‪.)38‬‬
‫وذلك يعني أن الرجل إذا أتلف الجزء المحرم فل شيء عليه ‪ ،‬فإن تعدى ذلك إلى إتلف ما‬
‫ليس بمحرم فإنه يضمن بقيمة ذلك ‪.‬‬
‫‪ -5‬قال المام النووي ‪-‬في شرح حديث أبي سعيد الذي في باب صلة العيدين‪(( :-‬وفيه المر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬وإن كان المنكر عليه واليًا‪،‬وفيه أن النكار عليه يكون باليد لمن‬
‫أمكنه ول يجزئ عن اليد اللسان مع إمكان اليد))(‪.)39‬‬
‫وقال في رياض الصالحين عند ذكره لحديث أم سلمة ‪ [ :‬إنه يستعمل عليكم‬
‫أمراء ‪ ...‬إلخ ] قال ‪ (( :‬معناه من كره بقلبه ولم يستطع إنكارا بيد ول لسان فقد برئ من الثم‬
‫وأدى وظيفته ‪ ،‬ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية ‪،‬ومن رضي بفعلهم وتابعهم‬
‫فهو العاصي )) (‪. )40‬‬
‫وقد مر بنا من قبل في باب الدلة من السُنة ما ذكره النووي في شرح مسلم‬

‫‪319‬‬
‫تعليقًا على هذا الحديث ‪.‬‬
‫وقال في كتاب الربعين النووية ‪ (( :‬وأعلى ثمرة اليمان في باب النهي عن المنكر ؛‬
‫أن ينهي بيده وإن قتل شهيدًا ‪ ،‬قال ال تعالى ‪ { :‬يَا بُنيّ أَقِمْ الصّلةَ َو ْأ ُمرْ بِال َم َعرُوفِ وَانْهَ عَنِ‬
‫))(‪. )41‬‬ ‫‪17‬‬ ‫علَى مَا َأصَا َبكَ } لقمان ‪:‬‬
‫ص ِبرْ َ‬
‫المُنكَرِ وَا ْ‬
‫قال ابن دقيق العيد ‪ (( :‬قالوا ول يختص المر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب‬ ‫‪-6‬‬
‫الولية ‪ ،‬بل ذلك ثابت لحاد المسلمين )) (‪.)42‬أ‪.‬هـ‪.‬‬
‫ويلحظ في ذلك أنه أثبت المر بالمعروف والنهي عن المنكر لحاد المسلمين ولم يستثن‬
‫من درجاته شيئا فدل ذلك على أن جميع الدرجات ثابتة لحاد المسلمين بما فيها اليد ‪ ،‬وال أعلم‬
‫‪.‬‬
‫(‪ )4‬من أقوال الحنابلة ‪:‬‬
‫‪ -1‬قال ابن القيم ‪ (( :‬وقال إسحق بن إبراهيم سئل أحمد عن الرجل يرى الطنبور أو طبلً‬
‫مغطى أيكسره ؟ قال إذا تبين أنه طنبور أو طبل كسره ‪ .‬وقال أيضًا سألت أبا عبد ال عن‬
‫الرجل يكسر الطنبور أو الطبل عليه في ذلك شيء ؟ قال يكسر هذا كله وليس يلزمه شيئ ))(‬
‫‪. )43‬‬
‫وقال ابن القيم أيضا ‪ (( :‬وقال المروذي ‪ :‬سألت أبا عبد ال عن كسر الطنبور الصغير يكون‬
‫مع الصبي ؟ قال ‪ :‬يُكسر أيضا ‪ ،‬قلت ‪َ :‬أ ُمرّ في السوق فأرى الطنبور يباع أكسره ؟ قال ‪ :‬ما‬
‫أراك تقوى ‪ .‬إن قويت ‪-‬أي فافعل‪ -‬قلت ‪ :‬أ دعى لغسل الميت فأسمع صوت الطبل ‪ ،‬قال ‪ :‬إن‬
‫))(‪. )44‬‬ ‫قدرت على كسره ‪ ،‬وإل فاخرج‬
‫وقال ابن القيم أيضًا في نفس الكتاب ‪ (( :‬وقال المروذي ‪ :‬قلت لبي عبد ال ‪ :‬دُفع إليّ‬
‫إبريق فضة لبيعه ‪ ،‬ترى أن أكسره أو أبيعه كما هو ؟ قال ‪ :‬اكسره‪ .‬وقال ‪ :‬قيل لبي عبد ال‬
‫‪ :‬إن رجلً دعا قوما فجيء بطست فضة وابريق فضة ‪ ،‬فكسره فأعجب أبا عبد ال كسره ‪،‬‬
‫وقال ‪ :‬بعثني أبو عبد ال إلى رجل بشيء فدخلت عليه ‪ ،‬فأتى بمكحلة رأسها مفضض‬
‫فقطعتها ‪ ،‬فأعجبه ذلك وتبسم ‪.‬قال ابن القيم ‪ :‬ووجه ذلك أن الصناعة محرمة فل قيمة لها ‪،‬‬
‫ول حرمة وأيضا فتعطيل هذه الهيئة مطلوب فهو بذلك محسن وما على المحسنين من سبيل ))‬
‫(‪.)45‬‬

‫‪320‬‬
‫‪ -2‬قال المام ابن قدامة ‪-‬رحمه ال‪ -‬عند حديثه عن الوليمة وما يفعله من دُعي إليها فوجد فيها‬
‫معصية ‪ (( :‬فإن رأى نقوشا وصور شجر ونحوها فل بأس بذلك لن تلك نقوش ‪ ،‬فهي كالعلم‬
‫في الثوب ‪ ،‬وإن كانت فيه صور حيوان في موضع يوطأ أو يتكأ عليها ‪ ،‬كالتي في البسط‬
‫والوسائد جاز أيضا ‪ ،‬وإن كانت على الستور والحيطان وما ل يوطأ وأمكنه حطها أو قطع‬
‫رؤوسها فعل وجلس ‪ ،‬وإن لم يكن ذلك انصرف ولم يجلس ‪ ،‬وعلى هذا أكثر أهل العلم )) (‬
‫‪.)46‬‬
‫‪ -3‬وقال ابن القيم عند حديثه عن النصاب ‪ (( :‬وقد كان بدمشق كثير من هذه النصاب فيسر‬
‫كسرها على يد شيخ السلم وحزب ال الموحدين)) (‪.)47‬‬ ‫ال‬
‫‪ -4‬قال ابن كثير ‪ (( :‬وفي بكرة يوم الجمعة المذكور دار الشيخ تقي الدين بن تيمية ‪-‬رحمه‬
‫ال‪ -‬وأصحابه على الخمارات والحانات فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف وأراقوا الخمور‬
‫وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش ففرح الناس بذلك )) (‪.)48‬‬
‫‪ -5‬وقال ابن القيم عند حديثه عن طائفة يغنون في المساجد ‪ (( :‬ومن أعظم المنكرات تمكينهم‬
‫من إقامة هذا الشعار الملعون هو وأهله في المسجد القصى عشية عرفة ويقيمونه أيضًا في‬
‫مسجد الخيف أيام منى وقد أخرجناهم منه بالضرب والنفي‬
‫مرارًا ‪ ،‬ورأيتهم يقيمونه بالمسجد الحرام نفسه والناس في الطواف ‪ ،‬فاستدعيت حزب ال‬
‫وفرقنا شملهم )) (‪.)49‬‬
‫فمن هذا يتبين أن شيخ السلم ابن تيمية وتلميذه كانوا يباشرون التغيير بأيديهم ؛ لعلمهم أنه‬
‫ليس هناك من دليل على اختصاص ذلك بالولة ‪.‬‬
‫‪ -6‬قال ابن رجب الحنبلي ‪ (( :‬جهاد المراء باليد أن يزيل بيده ما فعلوه من المنكرات ؛ مثل‬
‫أن يريق خمورهم أو يكسر آلت اللهو التي لهم أو نحو ذلك ‪ ،‬أو يبطل بيده ما أمروا به من‬
‫الظلم إن كان له قدرة على ذلك وكل ذلك جائز ))(‪.)50‬‬
‫(‪ )5‬من أقوال الظاهرية وغير المتمذهبين من العلماء ‪:‬‬
‫‪ -1‬قال المام ابن حزم في المحلى في ( أحكام المامة ) (( مسألة ‪ :‬والمر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر فرض على كل مسلم إن قدر بيده فبيده ‪ ،‬وإن لم يقدر بيده فبلسانه ‪ ،‬وإن لم يقدر‬
‫بلسانه فبقلبه ول بد ‪ ،‬وذلك أضعف اليمان فإن لم يفعل فل إيمان له ‪ ،‬ومن خاف القتل أو‬
‫الضرب أو ذهاب المال فهو عذر يبيح له أن يغير بقلبه فقط ويسكت عن المر بالمعروف وعن‬

‫‪321‬‬
‫النهي عن المنكر فقط ‪ ،‬ول يبيح له ذلك العون بلسان أو بيد على تصويب المنكر أصلً )) (‬
‫‪.)51‬‬
‫‪ -2‬قال المام الشوكاني في السيل الجرار ‪ (( :‬كل مسلم يجب عليه إذا رأى منكرا أن يغيره‬
‫‪ ،‬وظهور‬ ‫بيده ‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه ‪ ،‬فإن لم يستطع فبقلبه ‪ ،‬كما صح ذلك عن رسول ال‬
‫أو لجماع‬ ‫كون الشيء منكرا يحصل بكونه مخالفا لكتاب ال سبحانه أو لسنة رسوله‬
‫المسلمين ‪ ،‬ثم إذا كان قادرا على تغييره بيده كان ذلك فرضا عليه ولو بالمقاتلة ‪ ،‬وهو إن قُتل‬
‫فهو شهيد ‪ ،‬وإن قتل فاعل المنكر فبالحق والشرع قتله ‪ ،‬ولكنه يقدم الموعظة بالقول اللين ‪ ،‬فإن‬
‫لم يؤثر ذلك جاء بالقول الخشن ‪ ،‬فإن لم يؤثر ذلك انتقل إلى التغيير باليد ثم المقاتلة إن لم يمكن‬
‫التغيير إل بها ‪ ،‬فإذا كان غير قادر على النكار باليد أنكر باللسان فقط وذلك فرض ‪ ،‬فإن لم‬
‫يستطع النكار باللسان أنكر بالقلب وهذا يقدر عليه كل أحد وهو أضعف اليمان كما أخبر‬
‫)‪.‬‬ ‫‪))(52‬‬ ‫الصادق المصدوق‬
‫(‪ )6‬من أقوال العلماء المعاصرين ‪:‬‬
‫‪ -1‬قال الستاذ عبد القادر عودة ‪ (( :‬إذا شوهد الجاني ‪ ،‬وهو يرتكب الجناية كان لي شخص‬
‫أن يمنعه بالقوة عن ارتكاب الجريمة ‪ ،‬وأن يستعمل القوة اللزمة لمنعه سواء كانت الجريمة‬
‫اعتداء على حقوق الفراد ؛ كالسرقة ‪ ،‬أو اعتداء على حقوق الجماعة ؛ كشرب الخمر والزنا ‪،‬‬
‫وهذا ما يسمى بحق الدفاع الشرعي العام) (‪)53‬أ‪.‬هـ‪.‬‬
‫‪ -2‬سُئل الدكتور ‪ /‬عمر عبد الرحمن ‪ :‬هل يجوز استخدام القوة في تغيير المنكر للفراد ؛‬
‫كتحطيم سيارة عمدا أو كسر آلة موسيقية أو العتداء على مخمور مثلً ؟‬
‫‪ [ :‬من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده ‪] ...‬‬ ‫فأجاب ‪ :‬نعم يجوز ذلك بل قد يجب ‪ ،‬أولً ‪ :‬لقوله‬
‫ومَنْ تفيد العموم ؛ فيجوز بل يجب على آحاد الرعية وأفرادها أن يغيروا المنكر بأيديهم ول‬
‫يتوقف ذلك على إذن أصحاب السلطة ‪ ...‬إلى أن قال وكيف يستأذن من ولي المر إذا كان هو‬
‫قد جعل المنكر معروفا ؛ فأحل الربا والزنا والخمر والمسارح والمراقص ووقف رجال الشرطة‬
‫يحرسون هذه الماكن ويجعلون لها حماية ؟ فهل يستأذن ولي المر في النهي عن المنكر الذي‬
‫رعاه وحماه ‪ ،‬واعتنى به أشد العتناء وجعله من موارد الدولة وترويج السياحة ؟ )) (‪.)54‬‬

‫‪322‬‬
‫‪ -3‬قال الشيخ عبد ال ناصح علوان بعد كلم له في موضوع المر بالمعروف والنهي عن‬
‫فيما رواه مسلم ‪ [ :‬من رأى منكم منكرا‬ ‫المنكر‪ ((:‬وأما ما يحتج به البعض من حديث النبي‬
‫فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف اليمان ] إن المر‬
‫بالمعروف باليد على المراء ‪ ،‬وباللسان على العلماء وبالقلب على عوام الناس ‪ ،‬فهذا الحتجاج‬
‫‪ [ :‬من رأى منكم ] هو لفظ‬ ‫ل ينهض على دليل ول يستند على حجة لن لفظ [ مَن] في قوله‬
‫يدل على العموم ‪ ،‬ويشمل كل من استطاع تغيير المنكر باليد أو اللسان أو النكار بالقلب سواء‬
‫أكان المنكِر من المراء أو العلماء أو عامة الناس إذا فقهوا الخطر الذي يترتب عليه تفشي‬
‫المنكر ‪ ،‬وذلك للعموم الذي يدل عليه الحديث الذي سبق ‪ ،‬ولعموم كلمة ( أمة ) الواردة في‬
‫خ ْيرِ َويَ ْأ ُمرُونَ بِال َم ْعرُوفِ َو َي ْن َهوْنَ عَنِ اْلمُن َكرِ َوُأ ْوَل ِئكَ‬
‫‪َ { :‬و ْل َتكُنْ مّنكُمْ ُأمّةٌ يَدْعُونَ إِلى ال َ‬ ‫قوله‬
‫هُمُ المُ ْفلِحُونَ } فإن كلمة أمة تشمل المة بأسرها على اختلف طبقاتها ومستوايتها سواء أكانوا‬
‫حكاما أم علماء أم عامة ‪ ،‬وإل فكيف يتأتى للمة أن تكون واقفة بالمرصاد للذين يتآمرون عل‬
‫دينها وأخلقها ‪ ،‬ويعبثون بعقائدها ومقدساتها ويعيثون في الرض ظلما وفسادًا ‪ ،‬ويريدون أن‬
‫يطفئوا نور ال بأفواههم ؟ كيف يتأتى لهم الوقوف إذا لم تتضافر المة بأسرها على مقاومة‬
‫المنكر ‪ ،‬وتقف صفًا واحدًا أمام العابثين والظالمين ؟ ))(‪. )55‬‬
‫وبعــد ‪:‬‬
‫فهذه أقوال العلماء من فقهاء المذاهب الربعة وغيرهم ‪ ،‬تبين بوضوح وجلء جواز تغيير‬
‫المنكر باليد لحاد الرعية ‪ ،‬وإنما وقع الخلف فيما لو وصل التغيير باليد إلى جمع العوان‬
‫وشهر السلح ‪ ،‬ففيهم من أجاز التغيير عند ذلك أيضا كالغزالي ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬ومنهم من منع‬
‫التغيير حينئذٍ كالمام الجويني ‪.‬‬
‫وفي مثل هذا الخلف يمكننا ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬أن نجمع بين الرأيين ؛ وذلك بالنظر إلى جسامة‬
‫المنكر وخطورته ‪ ،‬فإذا كان المنكر من الجسامة بحيث يترتب على بقائه مفسدة أكبر من تلك‬
‫التي تتوقع من تغييره عن طريق شهر السلح وجمع العوان ‪ ،‬فل بأس حينئذٍ من اللجوء إلى‬
‫هذه الوسيلة في التغيير ‪ ،‬أما إن كان المنكر أهون من ذلك ‪ ،‬فل يلجأ حينئ ٍذ إلى تلك الوسيلة ‪،‬‬
‫وهذا يدخل في باب قياس المصالح والمفاسد الذي سنتكلم عنه في فصل الضوابط ‪ -‬بمشيئة ال‬
‫تعالى‪. -‬‬

‫‪323‬‬
‫وأيضا فالقارئ الكريم لو راجع ما نقلناه عن المام ابن العربي فسيجد شيئا كهذا الذي‬
‫ذكرناه ‪ ،‬وال أعلم ‪.‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫ضوابط التغيير باليد‬
‫عد أن تحدثنا عن جواز التغيير باليد لحاد الرعية ‪ ،‬لبد أن نعلم أن هناك شروطا لذلك ‪ ،‬وقد‬
‫استنبط العلماء هذه الشروط من نظراتهم في النصوص الشرعية وفي المقاصد العامة للشريعة ‪،‬‬
‫ونحن نبين في هذا الفصل أهم هذه الشروط وهي ‪:‬‬
‫أولً ‪ :‬أن يكون المنكر موجودا في الحال ‪:‬‬
‫فل تغيير باليد لمنكر لم يقع بعد ول لمنكر قد وقع وانتهى ‪ ،‬وفي ذلك يقول أبو حامد الغزالي ‪:‬‬
‫(( المعصية لها ثلثة أحوال ‪ :‬إحداها ‪ :‬أن تكون متصرمة فالعقوبة على ما تصرم منها حد ‪،‬‬
‫أو تعزير وهو إلى الولة ل إلى الحاد ‪ ،‬والثانية ‪ :‬أن تكون المعصية راهنة وصاحبها مباشر‬
‫لها ؛ كلبسه الحرير وإمساكه العود والخمر ‪ ،‬فإبطال هذه المعصية واجب بكل ما يمكن ما لم‬
‫تؤد إلى معصية أفحش منها أو مثلها ‪ ،‬وذلك يثبت لحاد الرعية ‪ ،‬الثالثة ‪ :‬أن يكون المنكر‬
‫متوقعا كالذي يستعد بكنس المجلس وتزيينه وجمع الرياحين لشرب الخمر وبعد لم يحضر‬
‫الخمر ‪ ،‬فهذا مشكوك فيه ‪ ،‬إذ ربما يعوق عنه عائق فل يثبت للحاد سلطنة على العازم على‬
‫الشرب إل بطريق الوعظ والنصح ‪ ،‬فأما التعنيف والضرب فل يجوز للحاد ول للسلطان إل‬
‫إذا كانت تلك المعصية علمت منه بالعادة المستمرة ))(‪. )1‬‬
‫ثانيا ‪ :‬أن يكون المنكر ظاهرا من غير تجسس ‪:‬‬
‫ج َت ِنبُواْ‬
‫وذلك لعموم النصوص الناهية عن التجسس كقوله تعالى ‪ { :‬يَا َأ ّيهَا الّذِينَ ءَا َمنُواْ اْ ْ‬
‫وفي الحديث ‪:‬‬ ‫َكثِيرا مّنَ الظّنّ إِنّ َبعْضَ الظّنّ ِإثْمٌ وَل تجَسّسُوا‪( }...‬الحجرات ‪)12 :‬‬
‫[ إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ول تجسسوا ول تحسسوا ول تباغضوا وكونوا إخوانا ](‬
‫‪ ، )2‬وعن زيد بن وهب قال ‪ [ :‬أُتي ابن مسعود فقيل ‪ :‬هذا فلن تقطر لحيته خمرا ‪ ،‬فقال عبد‬
‫ال ‪ :‬إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به ](‪ ، )3‬إلى غير ذلك من الدلة‬
‫القاضية بحرمة التجسس على المسلمين ول يستثنى من ذلك إل حالة الضرورة ؛ كأن يتعين‬
‫البحث والتجسس طريقا لنقاذ نفس من الهلك ‪ ،‬قال النووي في شرح مسلم ‪ (( :‬وقال أقضى‬
‫القضاة الماوردي ‪ :‬ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات فإن غلب على الظن‬

‫‪324‬‬
‫استسرار قوم بها لمارة وآثار ظهرت ‪ ،‬فذلك ضربان ‪ :‬أحدهما أن يكون ذلك في انتهاك حرمة‬
‫يفوت استدراكها مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلً خل برجل ليقتله أو بامرأة ليزني بها ‪،‬‬
‫فيجوز له في مثل هذا الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذرا من فوات ما ل‬
‫يستدرك ‪ ،‬وكذا لو عرف غير المحتسب من المتطوعة جاز لهم القدام على الكشف والنكار ‪،‬‬
‫والضرب الثاني‪:‬ما قصر عن هذه الرتبة فل يجوز التجسس عليه ول كشف الستار عنه ))(‪.)4‬‬
‫ثالثا ‪ :‬أن يلتزم الدرجات الشرعية التي ذكرها العلماء في التغيير ‪:‬‬
‫فقد ذكر الغزالي ‪-‬في الحياء‪ (( : -‬أن درجات التغيير تبدأ بالتعريف ؛ أي تعريف‬
‫الفاعل للمنكر أن هذا منكر ‪ ،‬ثم الوعظ اللين ثم السب والتعنيف بالقول ثم التغييرباليد ؛ ككسر‬
‫الملهي وإراقة الخمر ثم التهديد والتخويف ثم مباشرة الضرب باليد والرجل ثم جمع العوان‬
‫وشهر السلح ))(‪. )5‬‬
‫وهذه الدرجات يمكن تقسيمها ‪-‬كما يقول الستاذ جلل الدين العمري‪ -‬إلى نوعين ‪:‬‬
‫أحدهما الصلح بالوعظ ‪ ،‬والخر الصلح بالقوة على هذا الترتيب(‪ )6‬والصل في ذلك ما‬
‫ورد في أمر الجهاد من البدء بالدعوة قبل القتال وكذا قوله تعالى ‪َ { :‬وإِن طَائِ َفتَانِ مِنَ ال ُم ْؤ ِمنِينَ‬
‫خرَى فَقَا ِتلُواْ ا ْلتِي َت ْبغِي ‪( } ....‬الحجرات ‪)9 :‬‬
‫علَى الُ ْ‬
‫صلِحُواْ َب ْي َن ُهمَا فَإِنْ َب َغتْ إِحْدَا ُهمَا َ‬
‫اْ ْق َت َتلُواْ َفَأ ْ‬
‫‪ ،‬فأمر بالصلح قبل القتال ‪.‬‬
‫قال القرطبي ‪ (( :‬فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله ‪ ،‬وإن لم يمكنه إل‬
‫‪{:‬‬ ‫بالعقوبة أو القتل فليفعل ‪ ،‬فإن زال المنكر بدون القتل لم يجز القتل ‪ ،‬وهذا ُتلُقي من قوله‬
‫حتّى تَفِيءَ إِلىَ َأ ْمرِ الِ } ))(‪. )7‬‬
‫فَقَا ِتلُواْ ا ْلتِي َت ْبغِي َ‬
‫وقال ابن العربي ‪ (( :‬وإنما يبدأ باللسان والبيان ‪ ،‬فإن لم يكن فباليد ))(‪. )8‬‬
‫وقال الشوكاني ‪ (( :‬ولكنه يقدم الموعظة بالقول اللين ‪ ،‬فإن لم يؤثر ذلك جاء بالقول‬
‫الخشن ‪ ،‬فإن لم يؤثر ذلك انتقل إلى التغيير باليد ‪ ،‬ثم المقاتلة إن لم يمكن التغيير إل بها ))(‪. )9‬‬
‫لكن إن علم أنه ل ينتهي عن منكره بمجرد القول ‪ ،‬جاز له البدء بالدرجة العلى ‪ ،‬وقد‬
‫قال الجصاص فيمن قصد رجلً بالقتل ‪ ،‬أو قصد امرأة بالزنى ونحو ذلك ‪ ... (( :‬وعلم أنه ل‬
‫ينتهي إن أنكره بالقول ‪ ،‬أو قاتله بما دون السلح ‪ ،‬فعليه أن يقتله ‪ ...‬وإن غلب في ظنه أنه إن‬
‫أنكره بالدفع بيده أو بالقول امتنع عليه ولم يمكنه بعد ذلك دفعه عنه ‪ ،‬ولم يمكنه إزالة هذا‬
‫‪:‬‬ ‫المنكر إل بأن يقدم عليه بالقتل ‪ ،‬من غير إنذار منه له ‪ ،‬فعليه أن يقتله ‪ ...‬وقول النبي‬

‫‪325‬‬
‫[ من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ] يوجِب ذلك أيضا ؛ لنه قد أمر بتغييره على أي وجه أمكن‬
‫ذلك ‪ ،‬فإذا لم يمكنه تغييره إل بالقتل ‪ ،‬فعليه قتله حتى يزيله ‪ ،‬وكذلك قلنا في أصحاب‬
‫الضرائب والمكوس التي يأخذونها من أمتعة الناس أن دماءهم مباحة ‪ ،‬وواجب على المسلمين‬
‫قتلهم ‪ ،‬ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار منه ‪ ،‬ول التقدم إليهم‬
‫بالقول ؛ لنه معلوم من حالهم أنهم غير قابلين إذا كانوا مقدمين على ذلك مع العلم بحظره ‪،‬‬
‫ومتى أنذرهم من يريد النكار عليهم امتنعوا منه حتى ل يمكن تغيير ما هم عليه من المنكر ))(‬
‫‪. )10‬‬
‫رابعا ‪ :‬أن يقتصر على القدر المحتاج إليه ‪:‬‬
‫فإذا أمكن أن يغير المنكر بيده دون التعرض لفاعله ‪ ،‬فليس له أن يباشر الضرب على‬
‫فاعل المنكر ‪ ،‬وإن احتاج إلى ضربه ‪ :‬فإن كان المنكر يندفع بضربه بيده فليس له رفع العصا‬
‫في وجهه ‪ ،‬وقد قال الغزالي ‪-‬رحمه ال‪ (( -‬وهو أل يأخذ بلحيته في الخراج ول برجله إذا‬
‫قدر على جره بيده ‪ ،‬فإن زيادة الذى فيه مستغنى عنه ‪ ،‬وأن ل يمزق ثوب الحرير بل يحل‬
‫دروزه فقط ))(‪. )11‬‬
‫وقال الجصاص ‪ (( :‬وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بيده ودفعه عنه بغير سلح انتهى عنه ‪،‬‬
‫لم يجز له القدام على قتله ))(‪. )12‬‬
‫وقد مر بنا ما نقله ابن القيم في الطرق الحكمية عن الشافعية في أن المغير إذا اتلف ما زاد عن‬
‫الحد المبطل للصورة ‪ ،‬فإنه يُضمن بقيمة ذلك ‪ ،‬وإنما كان المر كذلك لنه مأمور بإزالة المنكر‬
‫فقط ‪ ،‬ومتى قدر على إزالة المنكر بغير إيذاء فاعله لم يكن له إيذاؤه ‪ ،‬ومتى أمكن إزالة المنكر‬
‫بأذى قليل ‪ ،‬لم يجز الذى الكثير ‪ -‬وال أعلم‪-‬‬
‫خامسا ‪ :‬أن ل يؤدي تغيير المنكر إلى منكر أكبر منه ‪:‬‬
‫(( فإن المر والنهي وإن كان متضمنا‬ ‫وقد أوضح شيخ السلم ابن تيمية هذه القضية فقال ‪:‬‬
‫لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة ‪ ،‬فينظر في المعارض له ‪ ،‬فإن كان الذي يفوت من المصالح أو‬
‫يحصل من المفاسد أكثر ‪ ،‬لم يكن مأمورا به ‪ ،‬بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من‬
‫مصلحته ))(‪. )13‬‬
‫لعبد ال بن أُبي‬ ‫ويضرب ابن تيمية لذلك مثالً فيقول ‪ (( :‬ومن هذا الباب إقرار النبي‬
‫وأمثاله من أئمة النفاق والفجور ‪ ،‬لما لهم من أعوان ‪ ،‬فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة‬

‫‪326‬‬
‫إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم ‪ ،‬وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدا يقتل‬
‫أصحابه ))(‪. )14‬‬
‫ويقول المام ابن القيم ‪ -‬رحمه ال ‪ (( : -‬إنكار المنكر أربع درجات ‪ :‬الولى أن يزول‬
‫ويخلفه ضده‪ ،‬الثانية أن يقل وإن لم يزل بجملته ‪ ،‬الثالثة أن يخلفه ما‬
‫هو مثله‪ ،‬الرابعة أن يخلفه ما هو شر منه ‪ ،‬فالدرجتان الوليان مشروعتان ‪ ،‬والثالثة موضع‬
‫اجتهاد ‪ ،‬والرابعة محرمة ))(‪. )15‬‬
‫ثم نقل عن شيخ السلم ابن تيمية قوله ‪ (( :‬مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار‬
‫بقوم منهم يشربون الخمر ‪ ،‬فأنكر عليهم من كان معي ‪ ،‬فأنكرت عليه وقلت له ‪ :‬إنما حرم ال‬
‫الخمر لنها تصد عن ذكر ال وعن الصلة ‪ ،‬وهؤلء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي‬
‫الذرية وأخذ الموال فدعهم ))(‪. )16‬‬
‫هذا ونحب أن نؤكد على قضية مهمة وهي أن قياس المصالح والمفاسد يجب أن يكون بمقياس‬
‫الشرع ‪ ،‬ل بمقياس العقول والهواء ‪ ،‬وفي ذلك يقول ابن تيمية ‪:‬‬
‫(( لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ‪ ،‬فمتى قدر النسان على اتباع‬
‫النصوص لم يعدل عنها ‪ ،‬وإل اجتهد رأيه لمعرفة الشباه والنظائر ))(‪. )17‬‬
‫سادسا ‪ :‬أن ل ينكر العامي إل في المور الجلية الظاهرة التي ل تحتاج إلى اجتهاد ‪:‬‬
‫وفي ذلك يقول النووي ‪-‬رحمه ال‪ (( : -‬إنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى‬
‫عنه ‪ ،‬وذلك يختلف باختلف الشيء ‪ ،‬فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة ؛‬
‫كالصلة والصيام والزنى والخمر ونحوها ‪ ،‬فكل المسلمين علماء بها ‪ ،‬وإن كان من دقائق‬
‫الفعال والقوال ‪ ،‬ومما يتعلق بالجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ‪ ،‬ول لهم إنكاره ‪ ،‬بل ذلك‬
‫للعلماء ))(‪. )18‬‬
‫وإنما اشترط ذلك لن الجاهل قد يوقعه جهله في المر بالمنكر والنهي عن المعروف‬
‫وهو ل يدري ‪ ،‬كما أنّا قد قدمنا أنه يلزمه تقديم الدعوة والبيان ‪ ،‬وأنّى له أن يدعو وأن يبين‬
‫علَى َبصِي َرةٍ } (يوسف ‪)108 :‬‬
‫سبِيلِي أَدْعُواْ إِلىَ الِ َ‬
‫يقول ‪ { :‬قُلْ هَ ِذهِ َ‬ ‫وهو جاهل ‪ ،‬وال‬
‫فمن أين له بالبصيرة في دقائق العلم وهو عاميّ جاهل ‪.‬‬
‫وبعد ‪:‬‬

‫‪327‬‬
‫فهذه أهم الضوابط التي يجب مراعاتها عند التغيير باليد ‪ ،‬ولعلك تلحظ فيها أخي القارئ أنها‬
‫كلها تقريبا ليست خاصة بآحاد الرعية ‪ ،‬بل إنها مما ينبغي على الحكام والعلماء أيضا‬
‫مراعاته ‪ ،‬وكذلك فإن منها ما ليس بقاصر على درجة التغيير باليد ‪ ،‬لكنه قد يُطلب أيضا عند‬
‫التغيير باللسان ‪ ،‬ولكننا ذكرناها كضوابط للتغيير باليد لحاد الرعية بالذات‪ ،‬لعظم الحاجة إليها‬
‫في هذه الحالة أكثر من غيرها ‪ ،‬وال أعلم ‪.‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫شبهات وتساؤلت‬

‫‪ -1‬الفهم الخطأ لقوله تعالى ‪ { :‬عليكم أنفسكم } ‪:‬‬


‫ن ضَلَ إِذَا اْ ْهتَ َد ْيتُمْ‬
‫ضرّكُمْ مّ ْ‬
‫سكُمْ لَ َي ُ‬
‫عَل ْيكُمْ َأنْفُ َ‬
‫‪ { :‬يَاَأ ّيهَا الّذِينَ ءَا َمنُواْ َ‬ ‫يذكر البعض قوله‬
‫} (المائدة ‪ )105 :‬ويقصدون أن معنى هذه الية أن النسان عليه أن يستقيم في نفسه ‪ ،‬وما دام‬
‫قد اهتدى هو فل شأن له بالخرين ‪.‬‬
‫حيث قال‬ ‫وهذا الفهم خطأ ول شك ‪ ،‬وقد كفانا مؤنة الرد على هؤلء أبو بكر الصديق‬
‫سكُمْ لَ‬
‫عَل ْيكُمْ َأنْفُ َ‬
‫‪ (( :‬يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الية وتضعونها على غير مواضعها { َ‬
‫يقول ‪ [ :‬إن الناس إذا رأوا الظالم ‪ ،‬فلم‬ ‫ن ضَلَ إِذَا اْ ْهتَ َد ْيتُمْ } وإنا سمعنا النبي‬
‫ضرّكُمْ مّ ْ‬
‫َي ُ‬
‫يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم ال بعقاب] ))(‪. )1‬‬
‫والمقصود من ذلك أنه حينما يقوم المؤمنون بواجبهم في المر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر فإنهم يكونون قد اهتدوا ‪ ،‬وبعد ذلك ل يضرهم ضلل من ضل ‪ ،‬قال ابن تيمية ‪:‬‬
‫(( وإنما يتم الهتداء إذا أطيع ال وأُدي الواجب من المر والنهي وغيرهما ))(‪. )2‬‬
‫وقال الستاذ سيد قطب ‪-‬رحمه ال‪ (( : -‬وهكذا صحح الخليفة الول رضوان ال‬
‫عليه ما ترامى إلى وهم بعض الناس في زمانه من هذه الية الكريمة ‪ ،‬ونحن اليوم أحوج إلى‬
‫هذا التصحيح ؛ لن القيام بتكاليف التغيير للمنكر قد صارت أشق ‪ ،‬فما أيسر ما يلجأ الضعاف‬
‫إلى تأويل هذه الية على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهاد ومشاقه ‪ ،‬ويريحهم من عنت الجهاد‬
‫وبلئه ‪ )) ..‬إلى أن قال رحمه ال‪ ... (( :‬ل بد من جهد بالحسنى حين يكون الضالون أفرادا‬
‫ضالين يحتاجون إلى الرشاد والنارة وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي‬
‫التي تصدهم عن الهدى ‪ ،‬وتعطل دين ال أن يوجد ‪ ،‬وتعوق شريعة ال أن تقوم ‪ ،‬وبعد ذلك ل‬

‫‪328‬‬
‫َقبْله تسقط التبعة عن الذين آمنوا وينال الضالون جزاءهم من ال حين يرجع هؤلء وهؤلء‬
‫إليه))(‪. )3‬‬
‫ظَلمُواْ مِنكُم خَاصَةً }‬
‫يقول ‪ { :‬وَاتّقُواْ فِتنَةً لّ ُتصِيبَنّ الّذِينَ َ‬ ‫ومما يوضح ذلك أن ال‬
‫(النفال ‪ )25 :‬فمن ترك النكار ‪ -‬مع قدرته عليه ‪ -‬دخل في الوعيد وقد يصيبه من الفتنة ما‬
‫يصيب الذين فعلوا المنكر ‪ ،‬ولذلك يسمي الشيخ محمد أحمد الراشد هؤلء بالبرار الهالكين(‪)4‬‬
‫ويقول ‪ (( :‬أيها الزهاد العابدون ‪ :‬أمامكم خطر القانون الرباني الرهيب إن تخارستم ‪ ،‬ل‬
‫يغرنكم زهدكم ول صلتكم ‪ ،‬انطقوا بالحق وانهوا عن المنكر ‪ ،‬وإل فهو الهلك ))(‪. )5‬‬
‫‪ -2‬شبهة إثارة الفوضى ‪:‬‬
‫يقول البعض‪ :‬إن ترك الفراد يغيرون المنكر بأيديهم سيؤدي إلى الفتن والفوضى ‪ .‬وردًا‬
‫على ذلك نقول ‪ :‬إن كنتم تقصدون أن تغيير المنكر باليد إذا قام به آحاد الرعية فإن ذلك سيؤدي‬
‫ول بد إلى الفتن والفوضى ‪ ،‬فهذا منكم تحكم عقلي في مواجهة نصوص صريحة من السُنة‬
‫وأفعال الصحابة وأقوال العلماء على اختلف مذاهبهم ‪ ،‬وليس يحق لحد أن يقول برأيه قولً‬
‫بأنه يأمر بما يثير الفوضى‬ ‫كما بيناه من قبل‪ ،‬وكأنهم بهذا يتهمون النبي‬ ‫مخالفا لما قاله‬
‫والفتن ‪.‬‬
‫وأما إن كنتم تقصدون أن ذلك المر ربما يؤدي إلى الفتن ‪ ،‬فنحن قد بينا من قبل أن من‬
‫شروط تغيير المنكر باليد أن ل يؤدي إلى منكر أكبر منه ‪ ،‬ونقلنا كلم ابن تيمية في قياس‬
‫المصالح والمفاسد بحيث لم تبق لهؤلء المعاندين حجة يتكلمون بها‪،‬ويحسن أن نسوق لهؤلء‬
‫كلمًا للمام أبي بكر الجصاص يقول فيه ‪:‬‬
‫(( لم يدفع أحد من علماء المة وفقهائها سلفهم وخلفهم وجوب ذلك إل قوم من الحشو‬
‫وجهال أصحاب الحديث ‪ ،‬فإنهم أنكروا قتال الفئة الباغية ‪ ،‬والمر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر بالسلح ‪ ،‬وسموا المر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة إذا احتيج فيه إلى حمل‬
‫حتّى تَفِيءَ‬
‫{ فَقَا ِتلُواْ ا ْلتِي َت ْبغِي َ‬ ‫السلح وقتال الفئة الباغية مع ما قد سمعوا فيه من قول ال‬
‫إِلىَ َأ ْمرِ الِ } وما يقتضيه اللفظ من وجوب قتالها بالسيف وغيره ‪ ،‬وزعموا مع ذلك أن‬
‫السلطان ل ينكر عليه الظلم والجور وقتل النفس التي حرم ال ‪ ،‬وإنما ينكر على غير السلطان‬
‫بالقول أو باليد بغير سلح ‪ ،‬فصاروا شرًا على المة من أعدائها المخالفين لها ؛ لنهم اقعدوا‬
‫الناس عن قتال الفئة الباغية ‪ ،‬وعن النكار على السلطان الظلم والجور حتى أدى ذلك إلى‬

‫‪329‬‬
‫المجوس وأعداء السلم حتى ذهبت الثغور وشاع الظلم وخربت‬ ‫تغلب الفجار بل‬
‫الدين والدنيا ‪ ،‬وظهرت الزندقة والغلو ‪ ،‬ومذاهب الثنوية والخرمية‬ ‫البلد وذهب‬
‫والمزدكية والذي‬
‫جلب ذلك كله عليهم ترك المر بالمعروف والنهي عن المنكر والنكار على السلطان الجائر ))‬
‫(‪. )6‬‬
‫أقول ‪ :‬هكذا يقول الجصاص في عصره ‪ ،‬فكيف لو رأى عصرنا وما حل بنا من‬
‫النكبات نتيجة البعد عن المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪.‬‬
‫ثم إنني أسجل هنا تعجبي الشديد من أن وزارة الوقاف المصرية توزع على أئمة‬
‫المساجد كتيبًا بعنوان ‪ :‬منهج السلم في تغيير المنكر ‪ ،‬ردد فيه كاتبوه هذه الشبهة ولم يأتوا‬
‫على قولهم هذا بدليل واحد من الكتاب أو السنة أو الجماع ‪ ،‬أو حتى قول أحد أهل العلم من‬
‫سلف هذه المة ‪.‬‬
‫والعجب من ذلك أنهم ينقلون لتأييد قولهم هذا كلمًا من سلسلة ‪ :‬السلم دين العقل في‬
‫مواجهة الفكر المتطرف ‪ ،‬وهي السلسلة التي استنكرها الزهر نفسه وطالب بمصادرتها ‪.‬‬
‫وبعد ‪...‬‬
‫فإن الفوضى الحقيقية ليست في تغيير المنكر ‪ ،‬ولكنها في تركه يتفشى ويزداد وفي‬
‫محاربة القائمين على تغييره بدعوى الفوضى والفساد ‪.‬‬
‫‪ -3‬كيف يبدأ بالوعظ مع أن الحديث بدأ بالتغيير باليد ‪:‬‬
‫‪ [ :‬من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن‬ ‫قد يتساءل البعض عن كيفية الجمع بين قوله‬
‫لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ‪ ] ...‬وبين ما نقلناه من أنه يبدأ بلسانه قبل يده ؟ فالمفهوم‬
‫وجوابا على ذلك نقول ‪ :‬قد مر بنا قول بن‬ ‫من الحديث أنه يبدأ باليد ثم اللسان ثم القلب‬
‫بدأ في البيان بالخير في‬ ‫العربي ‪-‬رحمه ال‪ -‬من غريب الفقه في هذا الحديث أن رسول ال‬
‫الفعل وهو تغيير المنكر باليد‪.‬‬
‫والذي يظهر لي ‪-‬وال أعلم‪ -‬أن الحديث قد بين مراتب التغيير ل مراحله ‪ ،‬فأعلى‬
‫المراتب التغيير باليد وأوسطها التغيير باللسان وآخرها التغيير بالقلب ‪.‬‬
‫أما المراحل فتبدأ بالتغيير بالقلب ثم اللسان ثم اليد ؛ فرجلٌ يستطيع أن يصل إلى أعلى‬
‫مرتبة فهو يبدأ بكراهية المنكر بقلبه ثم ينصح بلسانه ثم يغير بيده ‪ ،‬ورجلٌ ل يستطيع التغيير‬

‫‪330‬‬
‫باليد فهو ينكر بقلبه ثم ينصح بلسانه ويقف عند ذلك ‪ ،‬وثالث ل يستطيع حتى أن يغير بلسانه‬
‫فهو يكتفي بالمرحلة الولى فينكر بقلبه ويعتزل المنكر وال أعلم ‪.‬‬
‫‪ -4‬قضية استئذان الحاكم ‪:‬‬
‫يثير البعض قضية استئذان الحاكم في التغيير ‪ ،‬بمعنى أنهم يقولون ‪ :‬نعم لحاد الرعية أن‬
‫يغيروا ولكن ل بد من إذن الحاكم في ذلك ‪.‬‬
‫والحق أن النصوص التي أوردناها كما أنها تدل على أن التغيير باليد ليس خاصا بالحكام‬
‫فإنها أيضا تدل على عدم اشتراط استئذانه في التغيير ‪ ،‬وهذا الشرط تحكمٌ ل دليل عليه ‪ ،‬فهو‬
‫شرط باطل ول شك ‪ ،‬يقول الغزالي ‪-‬رحمه ال‪: -‬‬
‫(( هذا الشتراط فاسد ؛ فإن اليات والخبار التي أوردناها تدل على أن كل من رأى‬
‫منكرا فسكت عليه عصى ‪ ،‬إذ يجب نهيه أينما رآه وكيفما رآه على العموم فالتخصيص بشرط‬
‫التفويض من المام تحكم ل أصل له ))(‪. )7‬‬
‫وقال ‪ (( :‬بل أفضل الدرجات كلمة حق عند سلطان جائر(‪ ، )8‬كما ورد في الحديث‬
‫فإذا جاز الحكم على المام على مراغمته فكيف يحتاج إلى إذنه ؟ ))(‪. )9‬‬
‫وقال ‪ ((:‬واستمرار عادات السلف على الحسبة على الولة قاطع بإجماعهم على‬
‫الستغناء عن التفويض ‪ ،‬بل كل من أمر بمعروف ‪ ،‬فإن كان الوالي راضيا فذاك وإن كان‬
‫ساخطا له فسخطه له منكر يجب النكار عليه ‪ ،‬فكيف يُحتاج إلى إذنه في النكار عليه ؟ ))(‬
‫‪.)10‬‬
‫‪ -5‬شبهة اللقاء باليد إلى التهلكة ‪:‬‬
‫‪ { :‬ولَ تُلقُواْ بِأَيدِيكُم ِإلَى التّهلُكةِ } (البقرة ‪ )195 :‬ويقولون‬ ‫يستدل بعض الناس بقوله‬
‫إن تغيير المنكر باليد في هذه اليام يؤدي إلى إيذاء من يقومون به ؛ من سجنهم واعتقالهم من‬
‫جانب الحكومات الجائرة ‪ ،‬وعليه فإن تغيير المنكر يعتبر إلقاء باليد إلى التهلكة ‪.‬‬
‫‪:‬‬ ‫وهذه شبهة قد كفانا الرد عليها الصحابي الجليل أبو أيوب النصاري‬
‫[ فعن أسلم أبي عمران التجيبي قال ‪ :‬كنا بمدينة الروم ‪ .‬فحمل رجل من المسلمين على صف‬
‫الروم حتى دخل فيهم ‪ ،‬فصاح الناس وقالوا ‪ :‬سبحان ال يلقي بيديه إلى التهلكة ‪ ،‬فقام أبو أيوب‬
‫فقال ‪ :‬يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الية هذا التأويل ‪ ،‬وإنما أنزلت هذه الية فينا معشر‬
‫‪ :‬إن‬ ‫النصار لما أعز ال السلم ‪ ،‬وكثر ناصروه ‪ ،‬فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول ال‬

‫‪331‬‬
‫أموالنا قد ضاعت ‪ ،‬وإن ال قد أعز السلم وكثر ناصروه ‪ ،‬فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما‬
‫يرد علينا ما قلنا ‪ { :‬وأَنفِقُواْ في سَبيلِ ال ولَ تُلقُواْ بِأَيدِيكُمْ‬ ‫ضاع منها ‪ ،‬فأنزل ال على نبيه‬
‫ِإلَى التّهلُكةِ } فكانت التهلكة القامة على الموال وإصلحها و َت ْركَنا الغزو ](‪. )11‬‬
‫فقد ظهر من هذا البيان أن اللقاء باليد إلى التهلكة هو ترك النفاق وترك العمل لدين ال‬
‫وإيثار الهل و الموال على طاعة ال والجهاد في سبيله ؛ أي عكس ما يفهم هؤلء ‪ .‬وإذا‬
‫قد قال ‪ [ :‬سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ‪ ،‬ورجل قام إلى إمام جائر فأمره‬ ‫كان الرسول‬
‫ونهاه فقتله ](‪ . )12‬فجعل الذي يموت بسبب كلمة حق يقولها عند سلطان جائر شهيدا ‪ ،‬بل هو‬
‫إلقاء باليد إلى التهلكة ؟‍!‬ ‫سيد الشهداء ‪ ،‬فكيف تعتبرون الذى في سبيل ال‬
‫‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َيكْ ُفرُونَ بِآيَاتِ الِ َويَ ْق ُتلُونَ‬ ‫وقال المام أبو بكر بن العربي عند تفسير قوله‬
‫ْالّن ِبيِينَ ِب َغ ْيرِ حَقّ َويَ ْق ُتلُونَ الّذِينَ َي ْأ ُمرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ } (آل عمران ‪ (( : )21 :‬قال بعض‬
‫علمائنا هذه الية دليل على المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬وإن أدى إلى قتل المر به‬
‫‪ )) ...‬إلى أن قال ‪-‬رحمه ال‪ (( : -‬فإن خاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل ‪ ،‬فإن‬
‫رجا زواله جاز عند أكثر العلماء‬
‫القتحام عند هذا الغرر ‪ ،‬وإن لم يرج زواله فأي فائدة فيه ؟ والذي عندي أن النية إذا خلصت‬
‫فليقتحم كيفما كان ول يبالي ))(‪. )13‬‬
‫فها هو المام ابن العربي يرى أنه حتى لو غلب على ظنك وقوع الذى لك مع عدم‬
‫ول تُبالِ بشيء ‪.‬‬ ‫رجاء زوال المنكر ‪ ،‬فاهجم واخلص النية ل‬
‫‪ -6‬شبهة تنافي التغيير باليد مع الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ‪:‬‬
‫لموسى وهارون ‪ { :‬فَقُولَ لَهُ َقوْلً ّل ّينًا ّل َعلّهُ َيتَ َذ ّكرُ َأوْ يخْشَى }‬ ‫يستدل البعض بقول ال‬
‫(طه ‪ )44 :‬وقوله ‪ { :‬وَلَ تُجَا ِدلُواْ أَهْلَ ا ْل ِكتَابِ إِلَ بِالّتي ِهيَ أَحْسَنُ } (العنكبوت ‪ )46 :‬وقوله‬
‫سنَةِ وَجَادِلهُمْ بِا ْلتِي ِهيَ أَحْسَنُ } (النحل ‪)125 :‬‬
‫ح ْكمَةِ وَال َموْعِظَةِ اْلحَ َ‬
‫سبِيلِ َر ّبكَ بِالْ ِ‬
‫‪ { :‬اْدْعُ إِلىَ َ‬
‫ويقولون إن هذه اليات تدل على الرفق واللين وإن استعمال القوة في تغيير المنكر ينافي ذلك ‪.‬‬
‫وجوابا على ذلك نقول ‪:‬‬
‫‪ { :‬فَقُولَ لَهُ َقوْلً ّل ّينًا ‪ : } ...‬فإن هؤلء لم يفرقوا بين مقام الدعوة باللسان‬ ‫‪ -1‬أما قوله‬
‫ومقام المر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد ؛ فالدعوة باللسان سابقة ‪-‬كما بينا من قبل‪-‬‬
‫لستخدام القوة ‪ ،‬فإن اندفع المنكر بمجرد الوعظ والنصح فل يصح استخدام القوة ‪ ،‬وإل وجب‬

‫‪332‬‬
‫استخدام القوة ‪ ،‬ولو كان ما فهمه هؤلء صحيحا لما جاز قتال الكفار أبدا ؛ لن الية التي‬
‫استدلوا بها هي في الحديث عن فرعون وهو كافر ‪ ،‬فطرد قولهم أننا ل نزال نقول للكفار قولً‬
‫بل كان‬ ‫لينا ل شدة فيه حتى لو بقوا على كفرهم وأصروا عليه ‪ ،‬وما هكذا كان هدي النبي‬
‫يدعو باللسان ‪ ،‬فمن استجاب فبها ونعمت‪ ،‬وإل فالسيف يؤدب الطغاة ‪ ،‬قال ابن تيمية ‪-‬رحمه‬
‫ال‪ (( : -‬فَقوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر وكفى بربك هاديا ونصيرا ))(‪. )14‬‬
‫وقال الشنقيطي ‪ (( :‬واعلم أن الدعوة إلى ال بطريقين ‪ :‬طريق لين وطريق قسوة ‪ ،‬أما‬
‫طريق اللين فهي الدعوة إلى ال بالحكمة والموعظة الحسنة وإيضاح الدلة في أحسن أسلوب‬
‫وألطفه ‪ ،‬فإن نجحت هذه الطريق فبها ونعمت وهو المطلوب ‪ ،‬وإن لم تنجح تعينت طريق‬
‫القسوة بالسيف حتى يعبد ال وحده ‪ ،‬وتقام حدوده وتمتثل أوامره وتجتنب نواهيه ‪ ،‬وإلى هذا‬
‫سَلنَا بِا ْل َب ّينَاتِ َوأَنزَ ْلنَا َم َعهُمُ ا ْل ِكتَابَ وَالمِيزَانَ ِليَقُومَ ا ْلنّاسُ بِالْقِسْطِ‬
‫س ْلنَا رُ ُ‬
‫‪ { :‬لَقَدْ َأرْ َ‬ ‫الشارة بقوله‬
‫))(‪.)15‬‬ ‫‪35‬‬ ‫َوَأ ْنزَ ْلنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَ ْأسٌ شَدِيدٌ } الحديد ‪:‬‬
‫وقال الستاذ سيد قطب ‪-‬رحمه ال‪ (( : -‬ل بد من جهد بالحسنى حين يكون الضالون‬
‫أفرادا ضالين يحتاجون إلى الرشاد والنارة ‪ ،‬وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس‬
‫هي التي تصدهم عن الهدى وتعطل دين ال أن يوجد ‪ ،‬وتعوق شريعة ال أن تقوم ))(‪. )16‬‬

‫‪ { :‬وَلَ ُتجَا ِدلُواْ أَهْلَ ا ْل ِكتَابِ إِلَ بِالّتي ِهيَ أَحْسَنُ } ‪:‬‬ ‫‪ -2‬وأما قوله‬
‫ظَلمُواْ‬
‫فنحن نرد على فهمهم له بأنهم قد أغفلوا بقية الية وهي قوله تعالى ‪ { :‬إِلَ الّذِينَ َ‬
‫مِنهُمْ } فمن ظلم فإنه ل يجادل بالتي هي أحسن ‪ ،‬بل له شأن آخر‪ .‬هذا وقد قال فريق من‬
‫العلماء إن هذه الية منسوخة بآيات القتال ‪ ،‬كما ذكر أبو بكر بن العربي عند تفسيرها وذهب‬
‫هو ‪-‬رحمه ال‪ -‬إلى أنها ليست منسوخة قال‪:‬‬
‫بُعث باللسان يُقاتل به في ال ‪ ،‬ثم أمره ال بالسيف‬ ‫(( وإنما هي مخصوصة ؛ لن النبي‬
‫واللسان حتى قامت الحجة على الخلق ل ‪ ،‬وتبين العناد وبلغت القدرة غايتها عشرة أعوام‬
‫متصلة ‪ ،‬فمن قدر عليه قتل ومن امتنع بقي الجدال في حقه ))(‪ )17‬ويزيد المعنى وضوحًا ما‬
‫ذكره القاضي أبو بكر بن العربي من أقوال العلماء في المقصود بالذين ظلموا حيث قال ‪:‬‬
‫(( فيه أربعة أقوال ‪ :‬الول أهل الحرب ‪ ،‬الثاني مانعو الجزية ‪ ،‬الثالث من بقي على المعاندة‬

‫‪333‬‬
‫بعد ظهور الحجة ‪ ،‬الرابع الذين ظلموا في جدالهم بأن خلطوا في إبطالهم وهذه القوال كلها‬
‫صحيحة مرادة ))(‪.)18‬‬
‫وبعد ‪...‬‬
‫فقد تبين أن الجدال بالتي هي أحسن إنما هو لغير هذه الصناف الربعة وأشباهها ‪ ،‬فمن‬
‫ل يجدي معهم الجدال الحسن فينصحون بغيره‪،‬كما قال شوقي‪:‬‬
‫ذرعا وإن تلقه بالشر ينحسم‬ ‫والشر إن تلقه بالخير ضقت به‬
‫سنَةِ } فإن كان المفهوم‬
‫ح ْكمَةِ وَال َموْعِظَةِ اْلحَ َ‬
‫سبِيلِ َر ّبكَ بِالْ ِ‬
‫‪ -3‬وأما قوله تعالى ‪ { :‬اْدْعُ إِلىَ َ‬
‫منها أن الدعوة ل بد أن تكون باللين والرفق ‪ ،‬فقد بينا أننا نُقِر بهذا ول يمكن أن نجحده ‪ ،‬ولكن‬
‫الكلم فيما لو لم يج ِد النصح والرشاد ‪ ،‬كيف يكون العمل ؟ وبينا لك من قبل بالدلة والبراهين‬
‫ما يجب أن نقوم به إذا لم يجدِ النصح والرشاد بما ل نرى داعيًا لعادته وتكراره ‪.‬‬
‫ومن ناحية أخرى فإننا نريد أن نوضح أن الناس يفهمون من معنى الحكمة أنها مجرد‬
‫اللين والرفق ‪ ،‬مع أنها أعم من ذلك وأشمل ‪ ،‬فإن الحكمة كما يقول القرطبي ‪ (( :‬مصدر من‬
‫الحكام وهو التقان في قول أو فعل ‪ ...‬وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه ))(‪. )19‬‬
‫وقال ابن القيم ‪-‬رحمه ال‪ -‬في تعريف الحكمة ‪ (( :‬فعل ما ينبغي على الوجه الذي‬
‫ينبغي في الوقت الذي ينبغي ))(‪ )20‬ومعنى هذا أنها الشِدة حينما يتطلب المر الشدة ‪ ،‬واللين‬
‫حينما يتطلب المر اللين ‪.‬‬
‫فهل رأيت معنى الحكمة ؟ وأنها اتباع الشرع المبين في كتاب ال وسنة رسوله ‪ ،‬وأن‬
‫ندور مع الشرع الحنيف حيث دار ‪ ،‬فل نقحم أهواءنا في ذلك فنجعلها حَكما على كتاب ال‬
‫وسنة رسوله بحجة الحكمة المزعومة وما أصدق القائل ‪:‬‬
‫ووضع الندى في موضع السيف بالعل * مضر كوضع السيف في موضع الندى‬
‫وكلمة أخيرة نود أن نقولها في هذا الموضوع وهي أنه من الخطورة بمكان أن نأخذ‬
‫ببعض الجوانب من المفاهيم السلمية ونضخمها ونبرز شأنها ونغفل جوانب لها أهميتها أيضًا‬
‫هو نبي الرحمة ونبي الملحمة(‬ ‫‪ .‬فالسلم كما هو دين الرفق هو أيضًا دين القوة ‪ ،‬والرسول‬
‫‪ ، )21‬فهو نبي الرحمة حين يكون المطلوب هو الرحمة ‪ ،‬وهو المقاتل حين يحتاج المر للقتال‬
‫واستخدام القوة ‪.‬‬

‫‪334‬‬
‫وحينما يكون المر متعلقا بالفساد والبغي في الرض ‪ ،‬فإن عين الرحمة هي استعمال‬
‫يقول في شأن الزاني والزانية ‪:‬‬ ‫القوة لستئصال هذا الفساد ‪ ،‬وال‬
‫{ وَلَ تَأْخُ ْذكُمْ ِب ِهمَا َرأْفَةٌ فيِ دِينَ الِ إِن كُنتُمْ ُت ْؤ ِمنُونَ بِالِ وَا ْليَوْمِ الخِر }(النور ‪)2 :‬‬
‫أليست هذه الية دليلً على أن الرأفة وإن كانت مطلوبة في موضع فإنها مرفوضة في‬
‫موضع آخر ؟ ولكل مقام مقال ‪-‬كما يقولون‪ -‬أل فليتق ال أقوام يبترون النصوص السلمية‬
‫من أصولها ويفهمونها على ضوء ما يرضي أهل الباطل وليتقوا يومًا يرجعون فيه إلى ال‬
‫على الصغير والكبير ول ينفعهم حينئذٍ هؤلء الذين كانوا يرضونهم في الدنيا ‪.‬‬ ‫فيحاسبهم‬
‫‪ -7‬كلم للقرطبي ُفهِمَ على غير وجهه ‪:‬‬
‫يثير البعض كلمًا للقرطبي ‪-‬رحمه ال‪ -‬قال فيه ‪ (( :‬قال العلماء المر بالمعروف باليد‬
‫على المراء وباللسان على العلماء وبالقلب على الضعفاء يعني عوام الناس ))(‪ )22‬ويستدلون‬
‫به على أنه ل يجوز لحاد الرعية تغيير المنكر باليد ‪ ،‬ونحن نقول لهم ‪:‬‬
‫أولً ‪ :‬إنكم لم تفهموا ما نقله القرطبي ‪-‬رحمه ال‪ -‬حق الفهم لنه استعمل حرف الجر (على)‬
‫ونحن نستعمل حرف (اللم) بمعنى أنه يقصد أن الذين عليهم وجوبا عينيا تغيير المنكر بأيديهم‬
‫هم المراء أما العامة فليس عليهم من الوجوب مثل ما على الحكام ‪ ،‬وكون الواجب على العامة‬
‫هو التغيير بالقلب ل يعني عدم جواز التغيير باليد واللسان ‪ ،‬ونحن لم نقل أكثر من أن الفرد من‬
‫الرعية له جوازا تغيير المنكر بيده ‪ ،‬وإنما يتعين ذلك عليه في حالت خاصة‬
‫مثل أن يرى رجلً يزني بامرأة ول يراه أحد غيره ‪ ،‬ويكون قادرا على التغيير باليد فها هنا‬
‫يتعين عليه التغيير ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬إن هذا الفهم الذي فهمتموه مخالف لكلم للقرطبي قبل هذا القول بقليل يقول فيه ‪:‬‬
‫(( أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبد البر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه وأنه‬
‫إذا لم يلحقه بتغييره إل اللوم الذي ل يتعدى إلى الذى فإن ذلك ل يجب أن يمنعه من تغييره ‪،‬‬
‫فإن لم يقدر فبلسانه ‪ ،‬فإن لم يقدر فبقلبه ‪ ،‬ليس عليه أكثر من ذلك ))(‪ . )23‬فقد جعل التغيير‬
‫بكل الوسائل واجبا على الحاكم وغيره لكنه شرط لذلك القدرة ‪.‬‬
‫ثالثـا ‪ :‬إن هذا الفهم مخالف لكلم للقرطبي لحق بهذا الكلم يقول فيه ‪ (( :‬ولو رأى زيد‬
‫عمرا وقد قصد مال بكر فيجب عليه أن يدفعه عنه إذا لم يكن صاحب المال قادرا عليه ول‬
‫راضيا به ))(‪. )24‬‬

‫‪335‬‬
‫رابعا ‪ :‬إننا لو أخذنا بما فهموه من ظاهر كلم القرطبي ‪-‬رحمه ال‪ -‬لما جاز للعامة من غير‬
‫العلماء أن يغيروا المنكر بألسنتهم أيضًا ‪ ،‬ول يكون لهم إل النكار بالقلب ‪ ،‬وهذا الفهم ل يمكن‬
‫‪ [:‬الدين النصيحة ‪ ،‬قلنا لمن ؟ قال ‪ :‬ل ولكتابه ولرسوله ‪،‬‬ ‫قبوله لمخالفته الصريحة لقوله‬
‫ولئمة المسلمين وعامتهم ](‪.)25‬‬
‫فهذا الحديث يدل فيما يدل على أن العامة يقومون بنصح الئمة المراء ‪،‬‬
‫وماذا يكون نصحهم إن لم يكن أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر باللسان ‪.‬‬
‫‪ [ :‬سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى‬ ‫وإن هذا الفهم مخالف لقوله‬
‫إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ](‪. )26‬‬
‫فانظر إليه قال (ورجل) فدل ذلك على أنه أي رجل من عامة المسلمين ‪ ،‬والمقصود‬
‫أنهم لو قالوا بهذا الفهم الظاهر لكلم القرطبي من أن التغيير باليد للحكام فقط ‪ ،‬للزمهم بقية ما‬
‫في النص من أن التغيير باللسان للعلماء فقط وما أظن أحدًا عنده أدنى بصيرة بالنصوص‬
‫الشرعية يقول بعد ما سبق من البيان إن العامة ليس لهم النكار باللسان ‪.‬‬
‫وعلى ذلك فالمعنى الصحيح لقول القرطبي هو أن تغيير المنكر باليد أوجب على الحكام‬
‫من غيرهم ‪ ،‬وأن التغيير باللسان أوجب على العلماء من غيرهم ‪ ،‬وأما التغيير بالقلب فيستوي‬
‫فيه الجميع وال أعلم ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬إنه لو فرض أن القرطبي ‪-‬رحمه ال‪ -‬ذهب إلى هذا الفهم الذي فهموه لكان لنا أن‬
‫نخالفه ‪-‬رحمه ال‪ -‬ول نأخذ بقوله حيث كان هو مخالفا للحاديث الصحيحة وعمل الصحابة‬
‫والجماع الذي نقله هو بنفسه ‪-‬كما مرّ بنا‪ ،-‬على أننا استطعنا ‪-‬بحمد ال‪ -‬التوفيق بين كلمه‬
‫وكلم غيره من العلماء فاستقام المر والحمد ل ‪.‬‬
‫‪ -8‬شبهة الضرر الواقع على الغير ‪:‬‬
‫يثير البعض قضية الضرر الواقع على الغير من جراء القيام بتغيير المنكر ‪ ،‬فيقولون ‪:‬‬
‫إن المسلم إذا قام بتغيير المنكر فإن أهله وأقاربه سيتعرضون للذى من جانب أهل الباطل ‪ ،‬فل‬
‫يجوز التغيير بناءً على ذلك ‪.‬‬
‫ونحن نقول لهؤلء ‪ :‬نعم قد ذكر بعض العلماء أنه إن أدى تغييرك المنكر إلى الضرار‬
‫بغيرك من المسلمين ‪ ،‬فإنه يحرم عليك التغيير وفي ذلك يقول الغزالي ‪-‬رحمه ال‪ (( : -‬فإن‬
‫كان يتعدى الذى من حسبته إلى أقاربه وجيرانه فليتركها ‪ ،‬فإن إيذاء المسلمين محذور ‪ ،‬كما‬

‫‪336‬‬
‫أن السكوت على المنكر محذور ‪ ،‬نعم إن كان ل ينالهم أذى في مال أو نفس ولكن ينالهم الذى‬
‫بالشتم والسب ‪ ،‬فهذا فيه نظر ويختلف المر فيه بدرجات المنكر في تفاحشها ودرجات الكلم‬
‫المحذور في نكايته في القلب وقدحه في العرض ))(‪. )27‬‬
‫والمتأمل في الكلم السابق يجد مبناه على قياس المصالح والمفاسد ‪ ،‬بمعنى أنه إذا وقع‬
‫أذى على الغير فإن ذلك مفسدة تمنع التغيير ‪ ،‬والنظر الدقيق يقتضي ‪-‬وال أعلم‪ -‬أن نوازن‬
‫بين هذا الذى وبين ذلك المنكر ‪ ،‬فقد نجد من المنكرات العامة ما ينبغي أن يتحمل لتغييره‬
‫الذى الذي قد يقع على الغير ‪ ،‬وذلك لخطورة ذلك المنكر ‪ ،‬ولهذا فإنه لو تترس العدو بطائفة‬
‫من المسلمين فقد اتفق الفقهاء على أنه متى ما لم يمكن دفع الضرر عن المسلمين إل بما يفضي‬
‫إلى قتل أولئك المتترس بهم جاز ذلك كما بين ذلك شيخ السلم ابن تيمية(‪. )28‬‬
‫وقد وجدت تقرير هذا الذي ذكرناه عند السيوطي ‪-‬رحمه ال‪ -‬في الشباه والنظائر حيث‬
‫قال عند حديثه عن فروض الكفايات ‪ (( :‬ومنها المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬ول‬
‫يختص بأرباب الوليات ول بالعدل ول بالحر ول بالبالغ ول يسقط بظن أنه ل يفيد أو علم ذلك‬
‫عادة ‪،‬ما لم يخف على نفسه أو ماله أو على غيره مفسدة أعظم من ضرر المنكر الواقع ))(‪)29‬‬
‫‪.‬‬
‫فقد اشترط ‪-‬رحمه ال‪ -‬لسقوط التغيير أن يكون الضرر المتوقع وقوعه على نفسه أو ماله أو‬
‫غيره أعظم من ضرر المنكر المراد تغييره ‪ ،‬وهذا ‪-‬وال أعلم‪ -‬هو الصواب ‪ ،‬أل ترى لو أن‬
‫رجلً قصد رجلً ليقتله ولم يمكن دفع ذلك إل بما يؤدي إلى قطع طرف شخص ثالث‪،‬أيصح أن‬
‫يقال إنه يجب ترك الول يقتل الثاني حتى ل تقطع طرف الثالث ؟ ل شك أن الجابة أن هذا ل‬
‫يصح وأنه يُتحمل قطع طرف إنسان مسلم في سبيل حفظ حياة مسلم آخر ‪ .‬وال أعلم‬
‫ومن ناحية أخرى فإن افتراض أن كل تغيير باليد سيؤدي إلى إلحاق الضرر بالغير هو‬
‫افتراض غير صحيح بالمرة وهذه نقطة تتعلق بالواقع ‪ ،‬ومن مارس هذه المور وتعرض‬
‫لليذاء في سبيل ال هو أقدر من غيره على معرفة هل يلحق التغيير ضررًا بالغير أم ل ‪،‬‬
‫فأولى بهؤلء المعترضين أن يسألوا أهل الخبرة في ذلك ‪ ،‬فهم أدرى بما يتوقع حدوثه من‬
‫ضرر‪..‬‬
‫‪ -9‬شبهة الفتئات على الحاكم في إقامة الحدود ‪:‬‬

‫‪337‬‬
‫يقول البعض ‪ :‬إن من يقوم بتغيير المنكر بيده إنما يقوم بالفتئات على حق الحاكم ‪ ،‬إذ‬
‫أن الحاكم هو الذي يناط به مهمة إقامة الحدود ‪.‬‬
‫وجوابا على ذلك القول نقول ‪ :‬قد فرق أهل العلم بين تغيير المنكر وإقامة الحدود وممن‬
‫فرق بينهما الغزالي ‪-‬رحمه ال‪ -‬حيث قال ‪ (( :‬ليس إلى آحاد الرعية إل الدفع وهو إعدام‬
‫المنكر ‪ ،‬فما زاد على قدر العدام فهو إما عقوبة على جريمة سابقة أو زجر عن لحق ‪ ،‬وذلك‬
‫إلى الولة ل إلى الرعية ))(‪. )30‬‬
‫ومن ذلك نفهم أنه يفرق بين إزالة المنكر وبين العقوبة عليه فالولى تجوز لحاد الرعية‬
‫والثانية من خصائص الحكام ‪.‬‬
‫إن من أغراض إقامة الحد في السلم تأديب الجاني على ما اقترفت يداه وزجره عن أن‬
‫يعود إلى ذلك مرة أخرى ‪ ،‬وكذلك زجر غيره عن اقتراف هذا الثم ولجل ذلك فقد أنيطت‬
‫هذه المهمة بالحاكم ‪.‬‬
‫أما عملية التغيير فهي مجرد إزالة للمنكر أو دفع له‪،‬وهذه يقوم بها الحاكم وغيره ‪ ،‬ومن‬
‫قرأ ما سبق أن أوضحناه من الدلة على ذلك ل يحتاج معه إلى زيادة بيان وال أعلم(‪. )31‬‬
‫‪ -10‬شبهة المنكر الكبر والمنكر الصغر ‪:‬‬
‫يقول البعض إنه ل يجوز النشغال بتغيير المنكر الصغر قبل تغيير المنكر الكبر وهو‬
‫عدم الحكم بما أنزل ال ‪ ،‬وإن هذا النشغال بالمنكر الصغر يعرقل الجهود المبذولة من أجل‬
‫إزالة المنكر الكبر ‪ ،‬ويقول بعضهم إننا في عصر استضعاف يشبه العصر المكي ‪،‬وليس لنا‬
‫لم ينشغل بتكسير الصنام إل بعد فتح مكة‬ ‫أن نقوم بتغيير المنكرات بأيدينا ‪ ،‬لن الرسول‬
‫حين أصبحت مكة دار إسلم ‪.‬‬
‫وجوابا على ذلك نقول ‪ :‬إن كلمكم هذا ل دليل عليه من كتاب أو سنة أو إجماع ‪،‬‬
‫وإليكم البيان ‪:‬‬
‫‪ -1‬أما قولكم ل يجوز تغيير المنكر الصغر قبل تغيير المنكر الكبر فجوابه من وجوه‪:‬‬
‫‪ { :‬فَاتّقُوا الَ مَا استَطَعتُم } (التغابن ‪)16 :‬‬ ‫الوجه الول ‪ :‬يقول ال‬
‫ومعنى الية أن النسان عليه أن يتقي ال قدر استطاعته أي أنه إن استطاع أن يغير المنكر‬
‫الصغر ‪ ،‬ولم يستطع تغيير الكبر فليغير الصغر لن ذلك هو الذي في قدرته واستطاعته ‪.‬‬

‫‪338‬‬
‫‪ [ :‬إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ] (‪ )32‬وما قيل في‬ ‫الوجه الثاني ‪ :‬يقول النبي‬
‫الية السابقة يقال في هذا الحديث ‪،‬ولذا فقد تقرر عند العلماء أن الميسور ل يسقط بالمعسور(‬
‫‪ )33‬فمتى قدر على بعض المأمور به وجب فعله ول يسقط البعض لعدم القدرة على الكل ‪.‬‬

‫الوجه الثالث ‪ :‬أن هذا الفهم الذي ذكرناه هو الموافق لقول أهل العلم ‪ ،‬فقد ذكر الخلل أن‬
‫المام أحمد ‪-‬رحمه ال‪ -‬سئل عن رجل له جار يعمل بالمنكر ل يقوى على أن ينكر عليه ‪،‬‬
‫وضعيف يعمل بالمنكر أيضا يقوى علي هذا الضعيف ‪ ،‬أينكر عليه ؟ قال ‪ :‬نعم ينكر على هذا‬
‫الذي يقوى أن ينكر عليه(‪. )34‬‬
‫هذا وقد عنون الخلّل لهذه الفتوى بعنوان ( باب الرجل يرى المنكر الغليظ فل يقدر أن ينهى‬
‫عنه ‪ ،‬ويرى منكرا صغيرا يقدر أن ينهى عنه ‪.‬كيف العمل ؟ ) ‪.‬‬
‫هو المنكر الكبر ؛ لن‬ ‫الوجه الرابع ‪ :‬أنه لو صح استدللكم بهذا لكان الذي أخره النبي‬
‫تحطيم الصنام هو تحطيم لعقيدة الشرك ‪ ،‬وهل هناك منكر أكبر من الشرك ؟ ‪.‬‬
‫الوجه الخامس ‪ :‬ليس صحيحا أن النشغال بتغيير المنكر الصغر يعرقل العمل لتغيير‬
‫المنكر الكبر ‪ ،‬وكيف يكون ذلك وأصحاب المنكر الكبر وهم الحكام العلمانيون يعمدون إلى‬
‫تلك المنكرات الصغيرة في تثبيت أركان حكمهم ‪ ،‬فكل تغيير لمنكر يفت في عضد هذا النظام‬
‫وقد يفقده ركنًا من أركانه ‪-‬وال أعلم‪-‬‬
‫لم يحطم الصنام‬ ‫‪ -2‬أما قولكم إننا في عصر استضعاف يشبه العصر المكي ‪ ،‬وإن الرسول‬
‫إل بعد التمكين فجوابه من وجوه ‪:‬‬
‫فالدين قد كمل والنعمة قد تمت وقد كان‬ ‫الوجه الول ‪ :‬أننا مطالبون بآخر أمر النبي‬
‫هو الدين إلى يوم الدين‬ ‫في العهد المكي أحكام نسخت في العهد المدني ‪ ،‬فما مات عليه النبي‬
‫بدعوى أننا في حال يشبه العصر المكي ‪ ،‬وإل‬ ‫‪ ،‬وليس لحد أن يعطل حكما ثبت عن النبي‬
‫لصح أن يقول البعض ل نزكي ول نصوم لن الزكاة والصيام إنما شرعا في العهد المدني ‪.‬‬
‫الوجه الثاني ‪ :‬أنه ل يصح القول بأن المة جميعها صارت في عصر استضعاف بمعنى‬
‫يقول [ ل تزال طائفة من‬ ‫أن ل يكون فيها من يقوى على تغيير المنكر باليد ‪ ،‬لن رسولنا‬
‫أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ](‪. )35‬‬

‫‪339‬‬
‫وفي حديث جابر بن سمرة ‪ [ :‬لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى‬
‫تقوم الساعة ](‪ ، )36‬وفي حديث عقبة بن عامر ‪ [ :‬ل تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر‬
‫ال قاهرين لعدوهم ل يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك ](‪ ، )37‬فقد أخبر‬
‫أنه ل تزال طائفة من أمته تقاتل في سبيل ال ‪ ،‬وأن ذلك ل ينقطع في أمته حتى آخر الزمان‬
‫‪.‬‬
‫قال النووي في شرح مسلم (‪ (( : )13/67‬ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع‬
‫المؤمنين منهم شجعان مقاتلون ‪ ،‬ومنهم فقهاء ومنهم محدثون ‪ ،‬ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف‬
‫وناهون عن المنكر ‪ ،‬ومنهم أهل أنواع أخرى من أهل الخير ‪ ...‬وفي هذا الحديث معجزة‬
‫إلى الن ول يزال حتى‬ ‫ظاهرة ؛ فإن هذا الوصف ما زال بحمد ال تعالى من زمن النبي‬
‫يأتي أمر ال المذكور في الحديث )) أ‪.‬هـ‪.‬‬
‫والمقصود أن هذه الطائفة المقاتلة هي طائفة آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر‬
‫واستمرار وجودها في المة ينسف فكرة عصر الستضعاف من أساسها ‪ ،‬فلم يبق إل أن يقال‬
‫إن الستضعاف قد يشمل مكانًا دون آخر ‪ ،‬وهذا حق ومقتضاه أن ينظر أهل كل بلد في حالهم‬
‫وقدرتهم ‪،‬فقد يكون عند قوم من القدرة ما ليس عند آخرين فيجب على القادر ما ل يجب على‬
‫غير القادر ‪،‬وحينئذٍ فليس لغير القادر أن ينكر على غيره ممن قدر على إقامة أمر ال فقام به ‪.‬‬
‫قال ابن أبي العز في مقدمة شرح الطحاوية ‪ (( :‬وإن كان العبد عاجزا عن معرفة بعض‬
‫بل حسبه أن يسقط عنه اللوم‬ ‫ذلك ‪ ،‬أو العمل به فل ينهى عما عجز عنه مما جاء به الرسول‬
‫لعجزه ‪ ،‬لكن عليه أن يفرح بقيام غيره به ويرضى بذلك ويود أن يكون قائما به ))(‪. )38‬‬
‫لم يكسر الصنام في العهد المكي ليس على‬ ‫الوجه الثالث ‪ :‬أن ما يقال من أن النبي‬
‫قد كسر صنما على الكعبة بمكة قبل الهجرة(‪، )39‬‬ ‫إطلقه ‪ ،‬فقد أثبتنا من قبل أن الرسول‬
‫والصحيح أنه لم يكسر الصنام جملة إل بعد الفتح ‪ ،‬ليس لنه لم يكن يجوز له ذلك بل لعدم‬
‫قدرته عليه ‪ ،‬فإنه لما قدر على تكسير صنم واحد كسره ولما قدر على تكسير كل أصنام الكعبة‬
‫يوم الفتح فعل ذلك ‪.‬‬
‫ما يدل على أن التغيير بالقوة كان معروفا‬ ‫الوجه الرابع ‪ :‬أنه قد ثبت من فعل الصحابة‬
‫‪ [ :‬لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي في البيت‬ ‫قبل عصر التمكين ؛ فمن ذلك قول ابن مسعود‬
‫حتى أسلم عمر ‪ ،‬فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا نصلي ](‪. )40‬‬

‫‪340‬‬
‫والظاهر أن هذه المقاتلة كانت باليد ل بالسيف ‪ ،‬ولكنها على كل حال نوع من التغيير‬
‫ليمكن المسلمين من الصلة في البيت ‪ ،‬وواضح أن ذلك كان بمكة قبل‬ ‫باليد فعله عمر‬
‫الهجرة ‪.‬‬
‫قد حطم أصنام قومه وهو وحيد مستضعف‪ ،‬وهذا استدلل‬ ‫الوجه الخامس ‪ :‬أن إبراهيم‬
‫صحيح سواء أقلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يخالف شرعنا ‪ ،‬أو قلنا إنه ليس شرعا لنا‬
‫بل أقول إننا مطالبون‬ ‫إل إذا وافق شرعنا فإنه موافق ‪-‬بحمد ال‪ -‬لما صح عن رسول ال‬
‫حيث قال تعالى ‪:‬‬ ‫بالقتداء بإبراهيم‬
‫سنَةٌ في ِإ ْبرَاهِيمَ وَالّذِين َمعَهُ } (الممتحنة ‪ )4 :‬ولم يذكر لنا القرآن رسولً‬
‫س َوةٌ حَ َ‬
‫{ قَدْ كَا َنتْ َلكُمْ أُ ْ‬
‫‪ ،‬بل إن المام ابن حزم يرى أن‬ ‫وإبراهيم‬ ‫للقتداء به على وجه التعيين إل رسولنا محمدا‬
‫حيث يقول ‪:‬‬ ‫شريعة إبراهيم هي شريعة محمد‬
‫فهي شريعتنا هذه بعينها ‪ ،‬ولسنا نقول إن إبراهيم بعث إلى الناس كافة‬ ‫(( وأما شريعة إبراهيم‬
‫بها إبراهيم‬ ‫إلى الناس كافة بالشريعة التي بعث ال‬ ‫‪ ،‬وإنما نقول إن ال تعالى بعث محمدا‬
‫ُبعِث بها‬ ‫إلى قومه خاصة دون سائر أهل عصره ‪ ،‬وإنما لزمتنا ملة إبراهيم لن محمدًا‬
‫ُبعِث بها قال تعالى ‪:‬‬ ‫إلينا ‪ ،‬ل لن إبراهيم‬
‫حنِيفًا } (النحل ‪ )123 :‬وقال تعالى ‪:‬‬
‫ح ْينَا ِإَل ْيكَ أَنِ ْا ّتبِعْ ِملّةَ ِإ ْبرَاهِيمَ َ‬
‫{ ثُمّ َأوْ َ‬
‫شرِكِينَ } (البقرة ‪)41()) )135 :‬‬
‫حنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ اْلمُ ْ‬
‫{ بَلْ ِملّةَ ِإ ْبرَاهِيمَ َ‬
‫‪ -11‬شرط القدرة‬
‫فإن قال قائل فأين شرط القدرة فإنكم لم تذكروه فيما ذكرتم من الشروط ؟ وقد نُقل عن‬
‫بعض أهل العلم من المعاصرين أنه ل يجوز القدام على تغيير المنكر إل بتوافر شرط القدرة ‪.‬‬
‫قلنا ‪ :‬معنى القدرة ‪ :‬أن يعلم المغير أن في قدرته أن يغير المنكر ‪ ،‬والقدرة بهذا المعنى‬
‫شرط في الوجوب وليست شرطا في الصحة ولذلك لم نذكرها فيما ذكرنا من الضوابط ‪.‬‬
‫في حديث أبي سعيد ‪:‬‬ ‫والدليل على أن القدرة شرط في وجوب تغيير المنكر قوله‬
‫[ ‪ ...‬فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ‪ )42(] ...‬فقوله فإن لم يستطع دليل على أن‬
‫مناط الوجوب القدرة فمن فقد القدرة سقط عنه الوجوب ‪.‬‬
‫وأما الدلة على أن القدرة ليست شرطا في صحة التغيير فكثيرة منها ‪:‬‬
‫‪ [ :‬سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ‪ ،‬ورجل قام إلى إمام جائر‬ ‫‪ -1‬قوله‬

‫‪341‬‬
‫فأمره ونهاه فقتله ](‪. )43‬‬
‫فل شك أن هذا الرجل لم تبلغ قدرته أن يغير منكر ذلك الحاكم الجائر‪،‬ومع ذلك أنكر‬
‫‪.‬‬ ‫سيد الشهداء مع حمزة‬ ‫عليه فكان من نتيجة ذلك أن قُتل في سبيل ال ‪،‬فعده النبي‬
‫على رأس نفر من أصحابه‬ ‫‪ -2‬ومنها ما جاء في قصة عاصم بن ثابت لما بعثه رسول ال‬
‫إلى عضل والقارة ‪ ،‬فخرج عليهم قرابة مائة رام ‪ ،‬فأحاطوا بهم فقالوا ‪ :‬لكم العهد والميثاق إن‬
‫نزلتم إلينا أن ل نقتل منكم رجلً ‪ ،‬فقال عاصم ‪ :‬أما أنا فل أنزل في ذمة كافر ‪ ، ...‬فقاتلوهم‬
‫حتى قتلوا عاصما في سبعة نفر بالنبل ‪. )44(...‬‬
‫قال الشوكاني تعليقا على هذا الحديث ‪:‬‬
‫(( يجوز لمن ل طاقة له بالعدو أن يمتنع من السر وأن يستأسر ))(‪. )45‬‬
‫‪ -3‬ومنها ما ورد في قصة عمرو بن الجموح الذي (( كان رجلً أعرج شديد العرج وكان له‬
‫المشاهد ‪ ،‬فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه‬ ‫بنون أربعة مثل السد يشهدون مع رسول ال‬
‫فقال ‪:‬إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا‬ ‫قد عذرك ‪ ،‬فأتى رسول ال‬ ‫وقالوا له ‪ :‬إن ال‬
‫الوجه والخروج معك فيه ‪ ،‬فوال إني لرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة ‪ ،‬فقال رسول ال‬
‫‪ :‬أما أنت فقد عذرك ال فل جهاد عليك ‪ ،‬وقال لبنيه ‪ :‬ما عليكم أل تمنعوه لعل ال أن‬
‫يرزقه الشهادة فخرج معه فقتل يوم أحد ))(‪. )46‬‬
‫فقال ‪ :‬يا رسول ال أرأيت إن‬ ‫وعن أبي قتادة قال ‪ (( :‬أتى عمرو بن الجموح إلى رسول ال‬
‫قاتلت في سبيل ال حتى أقتل أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة ‪-‬وكانت رجله عرجاء‪-‬‬
‫‪ :‬نعم ‪ ،‬فقتلوه يوم أحد هو وابن أخيه ومولى لهم ‪ ،‬فمر عليه رسول ال‬ ‫فقال له رسول ال‬
‫فقال ‪ :‬كأني انظر إليه يمشي برجله هذه صحيحة في الجنة‪ ،‬فأمر رسول ال بهما وبمولهما‬
‫فجعلوا في قبر واحد))(‪)47‬‬
‫أذن له في القتال مع كونه أعرج والعرج‬ ‫والشاهد من قصة عمرو بن الجموح أن الرسول‬
‫معذور بنص القرآن الكريم فهو ل يجب عليه الجهاد ‪ ،‬لكنه لما جاهد قبل منه فدل ذلك على أن‬
‫القدرة شرط في الوجوب ل الصحة ‪.‬‬
‫وإنما ذكرت هذين الدليلين الخيرين ‪-‬أي قصة عاصم بن ثابت وقصة عمرو بن الجموح‪ -‬مع‬
‫أنهما واردان في شأن الجهاد ‪ ،‬لن حكم الجهاد هنا يعم المر بالمعروف النهي عن المنكر إذ‬
‫هما جنس واحد ‪ ،‬وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر في الكافي أن (( العمري العابد سأل مالك بن‬

‫‪342‬‬
‫وحكم بغيرها فقال‬ ‫أنس فقال ‪ :‬يا أبا عبد ال أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام ال‬
‫مالك ‪:‬المر في ذلك إلى الكثرة والقلة ‪ ،‬وقال أبو عمر ‪ :‬جواب مالك هذا وإن كان في‬
‫جهاد غير المشركين ‪،‬فإنه يشمل المشركين ويجمع المر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر‪،‬كأنه يقول من علم أنه إذا بارز العدو قتلوه ولم ينل منهم شيئًا جاز له‬
‫النصراف عنهم إلى فئة من المسلمين بما يحاوله فيه ‪ ،‬وقول مالك هذا يشبه‬
‫عندي ما رواه سفيان بن عيينة عن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس قال ‪:‬من فر من‬
‫رجلين فقد فر ‪ ،‬ومن فر من ثلثة فلم يفر(‪ )48‬يعني في القتال قال سفيان فحدثت به ابن شبرمة‬
‫فقال ‪ :‬هكذا المر بالمعروف والنهي عن المنكر ))(‪. )49‬‬
‫فقد ظهر من كلم أبي عمر بن عبد البر في توضيح المقصود من كلم مالك‬
‫وكذا من كلم ابن شبرمة الذي نقله سفيان بن عيينة أن حكم الجهاد هنا يشمل المر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر ‪.‬‬
‫وتأمل قوله ‪ (( :‬جاز له النصراف ‪ )) ...‬فإنه لم يقل وجب عليه النصراف مما‬
‫يدل على أن غاية ما في المر أنه يسقط عنه الوجوب بينما يبقى جواز التغيير ‪،‬‬
‫لن من جاز له النصراف جاز له البقاء بل قد يستحب البقاء إذا كان في ذلك‬
‫مصلحة ؛ ككسر جاه الفاسق برؤية أهل الحق وهم يندفعون غير مبالين بالذى‬
‫وإن كان المنكر ل يزول بفعلهم ‪.‬‬
‫‪ -4‬وما دام المر كذلك فإنه يصح لنا الستدلل هنا بما ذكره العلماء من جواز اندفاع الرجل‬
‫الواحد في صفوف الكفار وإن علم أنه يقتل ‪ ،‬فمن ذلك ما ذكر المام الدمياطي حيث عقد في‬
‫كتابه مشارع الشواق إلى مصارع العشاق في فضائل الجهاد بابا جعل عنوانه ( فضل انغماس‬
‫الرجل الشجيع أو الجماعة القليلة في العدد الكثير رغبة في الشهادة ونكاية في العدو ) وقد أورد‬
‫فيه جملة من الدلة منها حديث سلمة بن الكوع ‪ ،‬وفيه من قول سلمة ‪ (( :‬فما برحت مكاني‬
‫يتخللون الشجر ‪ ،‬قال ‪ :‬فإذا أولهم الخرم السدي على إثره‬ ‫حتى رأيت فوارس رسول ال‬
‫أبو قتادة النصاري‪ ،...‬قال فأخذت بعنان الخرم ‪،‬قال ‪ :‬فولوا مدبرين ‪ ،‬قلت ‪ :‬يا أخرم‬
‫وأصحابه ‪ ،‬قال ‪ :‬يا سلمة إن كنت تؤمن بال‬ ‫احذرهم ل يقتطعوك حتى يلحق رسول ال‬
‫واليوم الخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق فل تحل بيني وبين الشهادة ‪ ،‬قال ‪ :‬فخليته‪))...‬‬
‫‪ [:‬كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة](‪)50‬‬ ‫الحديث‪،‬وفيه من قوله‬

‫‪343‬‬
‫قال الدمياطي ‪ (( :‬وفي هذا الحديث الصحيح الثابت أدل دليل على جواز حمل الواحد على‬
‫الجمع الكثير من العدو وحده وإن غلب على ظنه أنه يقتل إذا كان مخلصًا في طلب الشهادة كما‬
‫ذلك عليه ولم ينه الصحابة عن مثل فعله ‪ ،‬بل في‬ ‫ولم يعب النبي‬ ‫فعل الخرم السدي‬
‫مدح أبا قتادة وسلمة على فعلهما‬ ‫الحديث دليل على استحباب هذا الفعل وفضله ‪ ،‬فإن النبي‬
‫كما تقدم مع أن كلً منهما قد حمل على العدو وحده ولم يتأن إلى أن يلحق به المسلمون ))(‪.)51‬‬
‫وقال المام النووي في شرح قصة عمير بن الحمام (( لما رمى التمرات ثم‬
‫قاتل حتى قتل ))(‪ )52‬قال ‪ (( :‬فيه جواز النغماس في الكفار والتعرض للشهادة وهو‬
‫جائز ل كراهة فيه عند جماهير العلماء ))(‪. )53‬‬
‫ومن هذا يعلم أن اندفاع الرجل المسلم مضحيا بنفسه في سبيل ال جائز في‬
‫الجهاد وفي الحسبة وإن علم أنه يقتل وإن علم أن المنكر ل يزول ما دام في ذلك مصلحة‬
‫شرعية ككسر قلوب الكفار والفساق بما يرونه من قوة المسلمين وجرأتهم أو تقوية المسلمين‬
‫الخرين وحملهم على التضحية كذلك ‪.‬‬
‫قال القرطبي‪ (( :‬قال محمد بن الحسن ‪ :‬لو حمل رجل واحد على ألف رجل من‬
‫المشركين وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو ‪ ،‬فإن لم يكن‬
‫كذلك فهو مكروه لنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين فإن كان قصده تجرئة‬
‫المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فل يبعد جوازه ‪ ،‬ولن فيه منفعة للمسلمين على‬
‫بعض الوجوه وإن كان قصده إرهاب العدو ليعلم صلبة المسلمين في الدين ‪ ،‬فل يبعد جوازه‬
‫وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت النفس لعزاز دين ال وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي‬
‫سهُمْ } إلى غيرها من آيات‬
‫ش َترَى مِنَ المُ ْؤ ِمنِينَ َأنْفُ َ‬
‫به المؤمنين في قوله‪ { :‬إِنّ الَ اْ ْ‬ ‫مدح ال‬
‫المدح التي مدح ال بها من بذل نفسه وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم المر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر ))(‪. )54‬‬
‫وقال القاضي أبو بكر بن العربي ‪ (( :‬فإن خاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل فإن‬
‫رجا زواله جاز عند أكثر العلماء القتحام عند هذا الغرر وإن لم يرج زواله فأي فائدة فيه ‪،‬‬
‫والذي عندي أن النية إذا خلصت فليقتحم كيفما كان ول يبالي ))(‪. )55‬‬
‫وبهذا يعلم صحة ما ذكرناه من أن تغرير المسلم بنفسه في سبيل ال جائز في الجهاد‬
‫والحسبة ‪ ،‬وإن علم أنه يقتل ‪ ،‬وإن علم أن المنكر ل يزول ما دام في ذلك مصلحة شرعية‬

‫‪344‬‬
‫ككسر قلوب الكفار والفساق بما يرونه من شجاعة المسلمين أو تقوية المسلمين وحثهم على‬
‫التضحية في سبيل ال ‪ .‬لكن تبقى معنا نقطة ل بد من إيضاحها وهي حالة ما إذا كان الشخص‬
‫يعلم أنه ل يقوى على تغيير المنكر ‪ ،‬وأنه يعرض نفسه للهلك دون أي منفعة للمسلمين وهي‬
‫الحالة التي أشار المام محمد بن الحسن إلى كراهتها فيما نقله عنه القرطبي كما مرّ قريبا ‪.‬‬
‫وقال الغزالي ‪ ... (( :‬ولكن لو علم أنه ل نكاية لهجومه على الكفار ؛ كالعمى يطرح‬
‫نفسه على الصف أو العاجز فذلك حرام ‪ ،‬داخل تحت عموم آية التهلكة وإنما جاز له القدام إذا‬
‫علم أنه يقاتل إلى أن يقتل ‪ ،‬أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جراءته واعتقادهم في‬
‫سائر المسلمين قلة المبالة وحبهم للشهادة في سبيل ال ‪ ،‬فتنكسر بذلك شوكتهم ‪ ،‬فكذلك يجوز‬
‫للمحتسب بل يستحب له أن يعرّض نفسه للضرب أو القتل إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر‬
‫أو في كسره جاه الفاسق أو في تقوية قلوب أهل الدين ‪ ،‬وأما إن رأى فاسقا متغلبا وعنده سيف‬
‫وبيده قدح وعلم أنه لو أنكر عليه لشرب القدح وضرب رقبته ‪ ،‬فهذا مما ل أرى للحسبة فيه‬
‫وجها وهو عين الهلك ))(‪. )56‬‬
‫ول شك أن المنع من التغيير هنا مبني على أن التغرير بالنفس ل يقابله أي منفعة‬
‫للمسلمين ‪ ،‬أما ما كان فيه نفع للمسلمين ولو بمجرد تجرئة قلوب أهل اليمان فإن جواز التغيير‬
‫‪ ،‬بل استحبابه هو الصل الذي ينبغي أل ينازع فيه ‪.‬‬
‫ول شك أيضا في أنه ل بد من معرفة جيدة بالواقع للحكم على مثل هذه المور ‪ ،‬وهل‬
‫فيها منفعة للمسلمين أم ل ؟ ول يصح لمن ل خبرة له بواقع بلد معين أن يحكم بأنه ل منفعة‬
‫ترجى من القدام على التغيير ‪ ،‬والصحيح أن يترك تقدير ذلك لهل ذلك البلد ‪ ،‬وخصوصا من‬
‫يقومون بأمر الحسبة فيه من أهل العلم والنظر الشرعي ‪.‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫أصل القضية‬
‫ل بد أن أشير هنا إلى أن ما سقناه في الفصول السابقة من أدلة على جواز تغيير المنكر‬
‫باليد لحاد الرعية ‪ ،‬ومن ردود على شبهات المخالفين ‪ ،‬إنما كان تنزل إلى منطق قوم من‬
‫حملة العلم الشرعي صدّرهم النظام العلماني ليوهموا الناس أن الخلف في هذه القضية إنما هو‬
‫خلف شرعي حول من له سلطة تغيير المنكر باليد ‪ ،‬وليتم إغضاء الطرف عن أصل القضية‬
‫وُلبّها ؛ وهو وجود سلطة حاكمة تُنحّي شريعة ال عن الحكم بين الناس ‪ ،‬وبالتالي تُل ِبسُ كثيرًا‬

‫‪345‬‬
‫من المنكرات ثوب الشرعية القانونية ‪ ،‬و ُيعَدّ من حاول تغيرها خارجًا عن القانون مستحِقًا‬
‫لقصى العقوبات ‪.‬‬
‫إن مشايخ النظم العلمانية ومن لفّ لفهم في هذه القضية قد أخطؤوا خطأين كبيرين‪:‬‬
‫الخطأ الول ‪ :‬عندما تبنوا رأيا مخالفا للدلة الشرعية من الكتاب والسنة وإجماع المة الذي‬
‫انعقد ‪-‬كما أسلفنا‪ -‬على جواز تغيير المنكر باليد لحاد الرعية ‪.‬‬
‫والخطأ الثاني ‪ :‬عندما ألبسوا هذا الخلف ثوبا ل يليق به ؛ فجعلوه خلفا بين رعية مسلمة‬
‫وسلطة مسلمة تحكم بالشرع ‪ ،‬حول أحقية أي منهما بتغيير المنكر باليد !! وهذا غير صحيح‬
‫‪ ،‬بل تحتكم إلى أهواء البشر وعقولهم‪،‬والمر‬ ‫فالسلطة الحاكمة ل تحتكم أصلً إلى شرع ال‬
‫عندنا واضح وضوح الشمس‪ ،‬فمن ترك شريعة ال واحتكم إلى غيرها فقد وقع في الكفر الكبر‬
‫حتّى‬
‫‪ { :‬فَلَ َو َر ِبكَ لَ يُؤ ِمنُونَ َ‬ ‫المخرج من الملة‪ ،‬وعلى من يماري في ذلك أن يتدبر قول ال‬
‫سلِيمًا } (النساء ‪:‬‬
‫سِلمُوا تَ ْ‬
‫حرَجًا ِممّا َقضَيتَ ويُ َ‬
‫سهِمْ َ‬
‫جرَ َب ْي َنهُم ثُمّ لَ يَجِدُوا في أَنفُ ِ‬
‫ح ّكمُوكَ فِيمَا شَ َ‬
‫يُ َ‬
‫‪. )65‬‬
‫اليمان عمن لم‬ ‫يقول الشيخ محمد بن إبراهيم ‪-‬رحمه ال‪ -‬حول هذه الية ‪ (( :‬وقد نفى ال‬
‫فيما شجر بينهم نفيا مؤكدا بتكراره أداة النفي والقسم ))(‪. )1‬‬ ‫حكّموا النبي‬
‫يُ َ‬
‫ول عبرة بإبقاء بعض أحكام الزواج والطلق ونحوهما مستمدة من أحكام الشريعة ‪ ،‬فإن‬
‫شرَعَ للناس ولو حكما واحدا ‪ ،‬فقد نازع ال صفة التشريع وهي من أخص صفاته سبحانه ‪.‬‬
‫من َ‬
‫ولذا فإن المام ابن كثير قد حكم بكفر من تحاكم إلى الياسا التي وضعها جينكيز خان‬
‫لتباعه مع أن فيها ما هو مأخوذ من شريعة السلم ‪ ،‬وذلك حيث يقول ‪-‬رحمه ال‪ -‬في تفسير‬
‫حكْما لّ َقوْمٍ يُو ِقنُونَ } (المائدة ‪: )50 :‬‬
‫حكْمَ الْجا ِهلِية َي ْبغُونَ َومَنْ أَحْسَنُ مِنَ الِ ُ‬
‫قوله تعالى ‪ { :‬أَفَ ُ‬
‫(( ينكر تعالى على من خرج عن حكم ال المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر ‪،‬‬
‫وعَدَلَ إلى ما سواه من الراء والهواء والصطلحات ‪ ، ...‬وكما يحكم به التتار من السياسات‬
‫الملكية المأخوذة من ملكهم جينكيز خان الذي وضع لهم الياسا ؛ وهو عبارة عن كتاب مجموع‬
‫من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة السلمية وغيرها ‪ ،‬وفيها‬
‫كثير من الحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعًا ُمتّبعا يُقدمونه على‬
‫‪ ،‬فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم‬ ‫الحكم بكتاب ال وسنة رسوله‬
‫ال ورسوله فل يُحكّم سواه في قليل ول كثير ))(‪. )2‬‬

‫‪346‬‬
‫بل إن ابن كثير ‪-‬رحمه ال‪ -‬قد نقل الجماع على كفر من تحاكم إلى الياسا حيث قال في‬
‫البداية والنهاية ‪ (( :‬فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد ال خاتم النبياء ‪،‬‬
‫وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر ‪ ،‬فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه ؟! من‬
‫فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين ))(‪. )3‬‬
‫ويعقب الشيخ أحمد شاكر ‪-‬رحمه ال‪ -‬في عمدة التفسير على كلم ابن كثير السبق‬
‫فيقول عن تلك القوانين الوضعية التي تسود بلد المسلمين اليوم ‪ (( :‬إن المر في هذه القوانين‬
‫الوضعية واضح وضوح الشمس ؛ هي كفر بواح ل خفاء فيه ول مداورة ‪ ،‬ول عذر لحد ممن‬
‫ينتسب للسلم ‪-‬كائنا من كان‪ -‬في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها ))(‪. )4‬‬
‫ويقول ‪-‬رحمه ال‪َ (( : -‬أوَ يجوز لرجل مسلم أن يليَ القضاء في ظل هذا (الياسق‬
‫العصري) وأن يعمل به و ُي ْعرِضَ عن شريعته البيّنة ؟ ما أظن أن رجلً مسلما يعرف دينه‬
‫ويؤمن به جملةً وتفصيلً ‪ ، ...‬ما أظنه يستطيع إل أن يجزم غير متردد ول متأول بأن ولية‬
‫القضاء في هذه الحال باطلة بطلنا أصليا‪ ،‬ل يلحقه التصحيح ول الجازة ))(‪. )5‬‬
‫شرَعَ للناس‬
‫حكْم تولي القضاء في ظل هذه القوانين الوضعية ‪ ،‬فكيف بمن َ‬
‫فإذا كان هذا ُ‬
‫تلك القوانين وأمرهم باتباعها ‪ ،‬وكانت شرعية وليته مستمدة منها ؟! إن المر حينئذٍ يكون‬
‫وحمل الناس على التحاكم إلى‬ ‫أكثر جلءً ووضوحا في أن كل حاكم نحّى شريعة ال‬
‫غيرها ‪ ،‬فوليته باطلة بطلنا أصليا أشد من بطلن ولية القضاء في ظل القوانين الوضعية ‪،‬‬
‫وال أعلم ‪.‬‬
‫وإذا كان المر بهذه المثابة ‪ ،‬تبينت لنا خطورة الثاني من الخطأين اللذين أشرنا إليهما‬
‫في صدر هذا الحديث ‪ ،‬وأنه أشد بكثير من الخطأ الول ؛ ذلك أنهم بهذا الخطأ الثاني قد أضفوا‬
‫‪،‬‬ ‫صفة الشرعية على نُظُمٍ ساقطة الشرعية لكونها قد وضعت للناس شريعة غير شريعة ال‬
‫وحملتهم على التحاكم إليها واحترامها والرضى بها ‪ ،‬وتلك مسألة ‪-‬كما رأينا‪ -‬في صلب العقيدة‬
‫‪ ،‬وليست مجرد خلف فقهي قد يَهون أمره ‪.‬‬
‫إن ما نريد أن نؤكده هنا هو أنه بافتراض أننا نعيش في ظل نظام إسلمي يحتكم إلى شرع‬
‫فإنه يجوز لحاد الرعية أن يغيروا المنكر بأيديهم ‪ ،‬على ما بيناه من قبل ‪ ،‬فكيف إذا‬ ‫ال‬
‫ابتلينا بنظام هو ‪-‬في حد ذاته‪ -‬منكر يجب تغييره ؟!‬
‫إن المر سيكون ‪-‬حينئذٍ‪ -‬غنيّا عن أي بيان ‪...‬‬

‫‪347‬‬
‫وأخيرا‬
‫وأخيرا نقول هذه كلمتنا نسطرها لمن يريد معرفة الحق في هذا المر ‪ ،‬والحقيقة أن‬
‫المخالفين في هذه المسألة قسمان من الناس ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬صحافيون علمانيون ‪ ،‬و ُكتّاب مأجورون ‪ ،‬وهؤلء ل شأن لهم بالنصوص‬
‫الشرعية ‪ ،‬بل دليلهم تلقوه من فتات موائد الغرب ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬قسم ينتسبون إلى العلم الشرعي ‪ ،‬يقولون جهلً أو تلبيسا على الناس بما‬
‫قاله أهل القسم الول من رمي الشباب المسلمين الذين يحاولون أن يغيروا‬
‫المنكر بأيديهم بالتطرف والتعصب واستعمال العنف ‪ ،‬إلى آخر هذه المبتدعات‬
‫وحديثنا في الصفحات الماضية إنما كان لهل هذا القسم الثاني ؛ فهم الذين نجد بيننا‬
‫وبينهم أرضية مشتركة ؛ وهي العتماد على النصوص والدلة وإن جهلوا أو ضلوا كما أسلفنا‬
‫‪.‬‬
‫أما الولون فإن لهم شأنا آخر وحوارهم ل يبدأ من هذه النقطة ‪ ،‬بل قد يبدأ بما هو قبل‬
‫ذلك ‪ ،‬هل هم مقتنعون أصلً بالسلم دينا أم ل ؟ وهل هم مستعدون للتحاكم في هذه النقطة‬
‫؟ وأمثال‬ ‫‪ ،‬أم هم يقدمون أهواءهم على شرع ال‬ ‫وسنة رسوله‬ ‫وغيرها إلى كتاب ال‬
‫ل ْمرِ فَ ْا ّت ِب ْعهَا وَلَ َت ّتبِعْ‬
‫شرِيعَةٍ مِنَ ا َ‬
‫علَى َ‬
‫ج َع ْلنَاكَ َ‬
‫‪ { :‬ثُمّ َ‬ ‫هؤلء نتبع معهم ما قاله تعالى لنبيه‬
‫أَ ْهوَاءَ ْالّذِينَ لَ َي ْعَلمُونَ (الجاثية ‪)18 :‬‬
‫وصلى ال وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ‪.‬‬
‫ملحق م هم‬
‫شيخ الزهر يجيز تغيير المنكر باليد لغير الحاكم !!‬
‫شرَ‬
‫في حديث مع الدكتور محمد سيد طنطاوي مفتي مصر السابق وشيخ الزهر الحالي نُ ِ‬
‫بمجلة أكتوبر ‪ ،‬قام الشيخ بحملة شعواء على القائلين بتغيير المنكر باليد لغير الحكام ‪ ،‬ثم قال ‪:‬‬
‫(( وقد يقال ‪ :‬طب إذا كان الحاكم ظالما أو مرتشيا أو كذا أو كذا ‪ ،‬حتى لو كان كذلك ‪ ،‬نسلك‬
‫الطرق الخرى التي نأخذ بها حقوقنا ‪ ،‬نشكو هذا الحاكم ونثور عليه ‪ ،‬ونأتي بحاكم آخر ‪)) ...‬‬
‫(‪. )1‬‬

‫‪348‬‬
‫ونحن نتساءل ‪ :‬ما معنى أن يثور الرعية على الحاكم الظالم ويأتوا بغيره ؟ أليس معناه‬
‫أن الفراد غيروا المنكر بأيديهم ؟ والمنكر هنا هو الحاكم الظالم الفاسق المرتشي ‪ ،‬فأزالوه‬
‫وأتوا بغيره ‪ ،‬فإن لم تكن هذه الثورة تغييرا باليد والقوة ‪ ،‬فلست أدري ماذا تكون ؟!‬
‫ثبت بأهم المراجع‬

‫الحكام في أصول الحكام ‪ ،‬للمام ابن حزم ‪ -‬ط منشورات دار الفاق الجديدة ‪-‬‬ ‫‪-1‬‬
‫بيروت ‪ -‬الطبعة الولى ‪1400‬هـ ‪1980 /‬م ‪.‬‬
‫أحكام القرآن ‪ ،‬لبي بكر بن العربي ‪ ،‬تحقيق علي محمد البجاوي ‪ -‬ط دار إحياء‬ ‫‪-2‬‬
‫التراث العربي ‪ -‬بيروت ‪ -‬بدون تاريخ ‪.‬‬
‫أحكام القرآن ‪ ،‬لبي بكر الجصاص ‪ -‬ط دار الكتاب العربي ‪ -‬بيروت ‪ -‬بدون تاريخ ‪.‬‬ ‫‪-3‬‬
‫إحياء علوم الدين تصنيف المام أبي حامد الغزالي ‪ -‬ط دار المعرفة ‪ -‬بيروت ‪ -‬بدون‬ ‫‪-4‬‬
‫تاريخ‬
‫أخبار المدينة النبوية ‪ ،‬تأليف أبي زيد عمر بن شبة ‪ -‬ط دار العليان ‪ -‬بريدة ‪ -‬بدون‬ ‫‪-5‬‬
‫تاريخ‪.‬‬
‫الربعون حديثًا النبوية مع شرحها ‪ ،‬للمام النووي ‪ -‬ط الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة‬ ‫‪-6‬‬
‫‪ -‬الطبعة الولى ‪1412‬هـ ‪1992 /‬م ‪.‬‬
‫إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل ‪ ،‬للشيخ ناصر الدين اللباني ‪ -‬ط المكتب‬ ‫‪-7‬‬
‫السلمي ‪ -‬بيروت ‪ -‬الطبعة الثانية ‪1405‬هـ ‪1985 /‬م ‪.‬‬
‫الشباه والنظائر في قواعد فروع فقه الشافعية ‪ ،‬تأليف المام جلل الدين السيوطي ‪ -‬ط‬ ‫‪-8‬‬
‫مصطفى البابي الحلبي وأولده بمصر ‪ -‬الطبعة الخيرة ‪1378‬هـ ‪1959 /‬م ‪.‬‬
‫أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ‪ ،‬تأليف محمد المين الشنقيطي ‪ -‬ط مكتبة ابن‬ ‫‪-9‬‬
‫تيمية ‪ -‬القاهرة ‪1413‬هـ ‪.‬‬
‫‪ -10‬إعلم الموقعين عن رب العالمين ‪ ،‬للعلمة شمس الدين بن قيم الجوزية ‪ ،‬تحقيق عبد‬
‫الرحمن الوكيل ‪ -‬ط مكتبة ابن تيمية ‪ -‬القاهرة ‪ -‬بدون تاريخ ‪.‬‬
‫إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ‪ ،‬للمام ابن قيم الجوزية ‪ ،‬تحقيق محمد حامد الفقي ‪-‬‬ ‫‪-11‬‬
‫ط دار المعرفة ‪ -‬بيروت ‪ -‬بدون تاريخ ‪.‬‬

‫‪349‬‬
‫‪ -12‬المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬لبي بكر الخلل ‪ ،‬تحقيق عبد القادر أحمد عطا ‪-‬‬
‫ط دار العتصام ‪ -‬بدون تاريخ ‪.‬‬
‫‪ -13‬الموال ‪ ،‬لبي عبيد القاسم بن سلم ‪ ،‬تحقيق محمد خليل هراس ‪ -‬ط مكتبة الكليات‬
‫الزهرية ‪ -‬القاهرة الطبعة الولى ‪1388‬هـ ‪1968 /‬م ‪.‬‬
‫‪ -14‬إيضاح القواعد الفقهية لطلب المدرسة الصولتية ‪ ،‬تأليف الشيخ عبد ال بن سعيد‬
‫اللحجي الحضرمي ‪ -‬ط مطابع الحرمين بجدة ‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪1410‬هـ ‪.‬‬
‫‪ -15‬البحر الزخار المعروف بمسند البزار ‪ ،‬تحقيق د‪/‬محفوظ الرحمن زيدان ‪ -‬ط مؤسسة‬
‫علوم القرآن ‪ -‬بيروت ومكتبة العلوم والحكم بالمدينة ‪ -‬الطبعة الولى ‪1409‬هـ ‪1988 /‬م ‪.‬‬
‫‪ -16‬البداية والنهاية ‪ ،‬تأليف الحافظ ابن كثير الدمشقي ‪ -‬ط دار الريان للتراث ‪ -‬الطبعة‬
‫الولى ‪1408‬هـ ‪1988 /‬م ‪.‬‬
‫‪ -17‬تاريخ بغداد ‪ ،‬للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي ‪ -‬ط دار الكتاب العربي‬
‫‪ -‬بيروت ‪ -‬بدون تاريخ ‪.‬‬
‫‪ -18‬التاريخ الكبير ‪ ،‬للمام البخاري ‪ -‬ط جمعية دار المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن ‪-‬‬
‫الطبعة الولى ‪1361‬هـ ‪.‬‬
‫‪ -19‬تربية الولد في السلم ‪ ،‬للشيخ عبد ال ناصح علوان ‪ -‬ط دار السلم ‪ -‬حلب‬
‫وبيروت ‪ -‬الطبعة الثالثة ‪1401‬هـ ‪.‬‬
‫‪ -20‬التشريع الجنائي السلمي مقارنا بالقانون الوضعي ‪ ،‬تأليف ‪ :‬عبد القادر عودة ‪ -‬ط‬
‫مؤسسة الرسالة ‪ -‬الطبعة السادسة ‪1405‬هـ ‪1985 /‬م ‪.‬‬
‫‪ -21‬تفسير القرآن العظيم ‪ ،‬للحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير ‪ -‬ط دار الفكر ‪ -‬بيروت‬
‫‪1401‬هـ ‪1981 /‬م ‪.‬‬
‫‪ -22‬تقريب التهذيب ‪ ،‬للحافظ ابن حجر العسقلني ‪ ،‬تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف ‪ -‬ط‬
‫دار المعرفة ‪ -‬بيروت ‪ -‬الطبعة الثانية ‪1395‬هـ ‪1975 /‬م ‪.‬‬
‫‪ -23‬تهذيب الثار وتفصيل الثابت عن رسول ال من الخبار ‪ ،‬لبي جعفر بن جرير الطبري‬
‫‪ ،‬تحقيق محمود محمد شاكر ‪ -‬ط جامعة المام محمد بن سعود ‪ -‬بدون تاريخ ‪.‬‬
‫‪ -24‬تهذيب التهذيب ‪ ،‬للحافظ ابن حجر العسقلني ‪ -‬ط إحياء دار التراث العربي ومؤسسة‬
‫التاريخ العربي ‪ -‬بيروت ‪ -‬الطبعة الثانية ‪1413‬هـ ‪1993 /‬م ‪.‬‬

‫‪350‬‬
‫‪ -25‬الجامع الصحيح ‪ ،‬للمام البخاري مع شرحه فتح الباري للمام ابن حجر العسقلني‬
‫بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي ‪ -‬المطبعة السلفية ‪ -‬القاهرة ‪ -‬الطبعة الثانية ‪1400‬هـ ‪.‬‬
‫‪ -26‬جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم ‪ ،‬تأليف زين الدين أبي‬
‫الفرج ابن رجب الحنبلي ‪ -‬توزيع الرئاسة العامة لدارات البحوث والفتاء والدعوة ‪ -‬الرياض‬
‫بدون تاريخ ‪.‬‬
‫‪ -27‬الجامع لحكام القرآن ‪ ،‬لبي عبد ال محمد بن أحمد النصاري القرطبي ‪ -‬ط دار‬
‫الكتاب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة ‪1387 -‬هـ ‪1967 /‬م ( مصورة عن طبعة دار الكتب )‬
‫‪.‬‬
‫‪ -28‬الحوادث والبدع ‪ ،‬للمام أبي بكر الطرطوشي ‪ ،‬تحقيق عبد المجيد التركي ‪ -‬ط دار‬
‫الغرب السلمي ‪ -‬الطبعة الولى ‪1410‬هـ ‪1990 /‬م ‪.‬‬
‫‪ -29‬رياض الصالحين من أحاديث سيد المرسلين ‪ ،‬للمام النووي ‪ ،‬تحقيق الشيخ ناصر الدين‬
‫اللباني ‪ -‬المكتب السلمي ‪ -‬بيروت ‪ -‬الطبعة الثالثة ‪1406‬هـ ‪1986 /‬م ‪.‬‬
‫‪ -30‬زاد المعاد في هدي خير العباد ‪ ،‬للمام أبي عبد ال شمس الدين بن القيم ‪ -‬ط دار‬
‫الكتب العلمية ‪ -‬بيروت ‪ -‬بدون تاريخ ‪.‬‬
‫‪ -31‬سنن ابن ماجه ‪ ،‬للمام أبي عبد ال محمد بن يزيد بن ماجه القزويني ‪ ،‬تحقيق محمد‬
‫فؤاد عبد الباقي ‪ -‬ط دار إحياءالكتب العربية ‪1372‬هـ ‪.‬‬
‫‪ -32‬سنن أبي داود ‪ ،‬للمام أبي داود سليمان بن الشعث السجستاني ‪ ،‬تحقيق عزت عبيد‬
‫الدعاس وعادل السيد ‪ -‬ط دار الحديث ‪ -‬بيروت ‪ -‬الطبعة الولى من ‪1388‬هـ وحتى ‪1394‬هـ‬
‫‪ -33‬سنن الترمذي ‪ ،‬لبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي ‪ ،‬تحقيق الشيخ أحمد شاكر ومحمد‬
‫فؤاد عبد الباقي وكمال يوسف الحوت ‪ -‬ط دار الكتب العلمية ‪ -‬بيروت ‪1408‬هـ ‪.‬‬
‫‪ -34‬سنن النسائي ‪ ،‬للمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي بشرح السيوطي ‪،‬‬
‫وحاشية السندي ‪ -‬ط دار الفكر ‪ -‬بيروت ‪ -‬الطبعة الولى ‪1348‬هـ ‪1930 /‬م ‪.‬‬
‫‪ -35‬السيل الجرار المتدفق على حدائق الزهار ‪ ،‬للمام الشوكاني ‪ ،‬تحقيق محمود إبراهيم‬
‫أبو زيد ‪ -‬ط دار الكتب العلمية ‪ -‬بيروت ‪1405‬هـ ‪.‬‬
‫‪ -36‬شرح الربعين حديثًا النووية ‪ ،‬لبن دقيق العيد ‪ -‬ط مكتبة التراث السلمي ‪ -‬القاهرة‬
‫‪-‬بدون تاريخ ‪.‬‬

‫‪351‬‬
‫‪ -37‬الصارم المسلول على شاتم الرسول ‪ ،‬لشيخ السلم تقي الدين أبو العباس بن تيمية ‪،‬‬
‫تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ‪ -‬ط دار الكتب العلمية ‪ -‬بيروت ‪1398‬هـ ‪1978 /‬م ‪.‬‬
‫‪ -38‬صحيح مسلم ‪ ،‬للمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري ‪ ،‬بتحقيق وترقيم محمد فؤاد‬
‫عبد الباقي ‪ -‬ط المكتبة السلمية للطبع والنشر والتوزيع ‪ -‬استانبول ‪1374‬هـ ‪1955 /‬م ‪.‬‬
‫‪ -39‬صحيح مسلم بشرح المام النووي ‪ -‬ط دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ‪ -‬بدون‬
‫تاريخ ‪.‬‬
‫‪ -40‬الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ‪ ،‬للمام ابن قيم الجوزية ‪ ،‬تحقيق محمد حامد‬
‫الفقي ‪ -‬ط دار الكتب العلمية ‪ -‬بيروت ‪ -‬بدون تاريخ ‪.‬‬
‫‪ -41‬عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير ‪ ،‬اختصار وتحقيق أحمد محمد شاكر ‪ -‬ط دار‬
‫المعارف بمصر ‪1377‬هـ ‪1957 /‬م ‪.‬‬
‫‪ -42‬غياث المم في التياث الظلم ‪ ،‬لمام الحرمين أبي المعالي الجويني ‪ ،‬تحقيق ودراسة‬
‫د‪/‬مصطفى حلمي ود‪/‬فؤاد عبد المنعم أحمد ‪ -‬ط دار الدعوة بالسكندرية ‪ -‬بدون تاريخ ‪.‬‬
‫‪ -43‬في ظلل القرآن ‪ ،‬بقلم سيد قطب ‪ -‬ط دار الشروق ‪ -‬بيروت والقاهرة ‪ -‬الطبعة‬
‫الشرعية الثانية عشرة ‪1406‬هـ ‪1986 /‬م ‪.‬‬
‫‪ -44‬الكافي في فقه أهل المدينة المالكي ‪ ،‬لبي عمر بن عبد البر ‪ -‬ط مكتبة الرياض الحديثة‬
‫‪1400‬هـ ‪1980 /‬م ‪.‬‬
‫‪ -45‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ‪ ،‬للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي ‪ -‬ط دار‬
‫الكتاب العربي ‪ -‬بيروت ‪ -‬الطبعة الثالثة ‪1412‬هـ ‪1991 /‬م ‪.‬‬
‫‪ -46‬مجموع فتاوى شيخ السلم ابن تيمية ‪ ،‬جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم النجدي ‪ -‬ط‬
‫دار عالم الكتب ‪ -‬الرياض ‪1412‬هـ ‪1991 /‬م ‪.‬‬
‫‪ -47‬المحلى ‪ ،‬تصنيف المام أبي محمد علي بن حزم ‪ ،‬تحقيق أحمد محمد شاكر ‪ -‬ط مكتبة‬
‫دار التراث ‪ -‬القاهرة ‪ -‬بدون تاريخ ‪.‬‬
‫‪ -48‬المستدرك على الصحيحين ‪ ،‬لبي عبد ال الحاكم النيسابوري ‪ -‬ط دار المعرفة ‪-‬‬
‫بيروت ‪ -‬بدون تاريخ ‪.‬‬
‫‪ -49‬المسند للمام أحمد بن حنبل ‪ -‬ط المطبعة الميمنية بمصر ‪1313‬هـ ‪.‬‬

‫‪352‬‬
‫‪ -50‬المسند للمام أحمد بن حنبل ‪ ،‬شرح وتعليق أحمد محمد شاكر ‪ -‬ط دار المعارف بمصر‬
‫من ‪1365‬هـ حتى ‪1374‬هـ ‪.‬‬
‫‪ -51‬المغني ‪ ،‬للمام ابن قدامة ‪ -‬ط دار الفكر ‪ -‬بيروت ‪ -‬الطبعة الولى ‪1404‬هـ ‪1984 /‬م‬
‫‪.‬‬
‫‪ -52‬ميزان العتدال في نقد الرجال ‪ ،‬للمام شمس الدين الذهبي ‪ ،‬تحقيق علي محمد البجاوي‬
‫‪ -‬ط دار الفكر ‪ -‬بدون تاريخ ‪.‬‬
‫‪ -53‬نيل الوطار شرح منتقى الخبار ‪ ،‬للمام محمد بن علي الشوكاني ‪ -‬ط دار القلم ‪-‬‬
‫بيروت ‪-‬بدون تاريخ‬
‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬
‫‪5‬‬ ‫مقدمة الطبعة الثانية ‪..................................................................‬‬
‫‪11‬‬ ‫توطئة ( مقدمة الطبعة الولى ) ‪....................................................‬‬
‫الفصل الول ‪:‬‬
‫‪13‬‬ ‫الدلة القاطعة على أن تغيير المنكر باليد ليس قاصرًا على الحكام ‪..........‬‬
‫‪15‬‬ ‫أولً ‪ :‬من القرآن الكريم ‪............................................................‬‬
‫‪17‬‬ ‫ثانيا ‪ :‬من السنة النبوية ‪..............................................................‬‬
‫ثالثا ‪ :‬الجماع ‪.........................................................................‬‬
‫‪25‬‬
‫‪27‬‬ ‫رابعا ‪ :‬فعل الصحابة ‪.................................................................‬‬
‫خامسا ‪ :‬فعل التابعين ‪................................................................‬‬
‫‪29‬‬
‫‪31‬‬ ‫سادسا ‪ :‬أقوال العلماء في هذه المسألة ‪............................................‬‬
‫‪31‬‬ ‫‪ - 1‬من أقوال الحنفية ‪.....................................................‬‬
‫‪31‬‬ ‫‪ - 2‬من أقوال المالكية ‪.....................................................‬‬
‫‪33‬‬ ‫‪ - 3‬من أقوال الشافعية ‪....................................................‬‬
‫‪37‬‬ ‫‪ - 4‬من أقوال الحنابلة ‪.....................................................‬‬
‫‪39‬‬ ‫‪ -5‬من أقوال الظاهرية وغير المتمذهبين ‪...............................‬‬
‫‪40‬‬ ‫‪ -6‬من أقوال العلماء المعاصرين ‪........................................‬‬

‫‪353‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫‪45‬‬ ‫ضوابط التغيير باليد ‪...................................................................‬‬
‫الفصل الثالث ‪:‬‬
‫‪53‬‬ ‫شبهات وتساؤلت ‪.................................................................‬‬
‫الفصل الرابع ‪:‬‬
‫‪81‬‬ ‫أصل القضية ‪..........................................................................‬‬
‫وأخيرا ‪..................................................................................‬‬
‫‪85‬‬
‫ملحق هام ‪:‬‬
‫‪86‬‬ ‫مفتي الجمهورية يجيز تغيير المنكر باليد لغير الحاكم !! ‪......................‬‬
‫ثبت بأهم المراجع ‪....................................................................‬‬
‫‪87‬‬
‫‪91‬‬ ‫المحتويات ‪.....................................................‬‬
‫(‪ )1‬وإنما قلت ‪(( :‬لم تنقطع في وقت من الوقات )) لن البعض يظنون أن النظمة العلمانية‬
‫الحاكمة في بلد المسلمين ل تتعرض للسلميين إل إذا سلكوا مسلك القوة أو ما يسمى‬
‫باستخدام‬
‫العنف ‪ ،‬والحق أن هؤلء الذين يسوسون الناس بغير شرع ال ل ينفكون عن ملحقة‬
‫الدعاة‬
‫الصادقين الذين يدعون إلى الحق وتحكيم شرع ال ‪ ،‬ولكن تلك الملحقات تتغير كما وكيفا‬
‫وقوةً‬
‫وضعفا حسب الحوال والظروف ‪.‬‬
‫* شيخ الزهر الحالي‬
‫(‪ )2‬انظر الفصل الرابع من هذه الرسالة ‪ :‬أصل القضية ‪.‬‬
‫(‪)3‬ي أعتذر للقارئ الكريم عن استعمال هذه الكلمات القاسية ‪ ،‬ولو أني وجدت وصفا لما قاله‬
‫الوزير غير ذلك لوصفته به ‪ .‬ولمن يشك في وقوع الكذب من هذا الرجل وأمثاله أسوق ما‬
‫نشرته جريدة الهرام في ‪7/7/1990‬م على لسانه إذ قال إنه التقى بالشيخ ‪ /‬عبد العزيز بن باز‬

‫‪354‬‬
‫وإن الشيخ أفتى بأن فوائد البنوك حلل ‪ ،‬وقال الوزير ‪ (( :‬إن معي فتوى مختومه بخاتمه )) ‪.‬‬
‫هذا ما نشرته جريدة الهرام ‪ ،‬فلما‬
‫اطلع الشيخ على ذلك أصدر بيانًا جاء فيه ‪ ... (( :‬فقد اطلعت على ما نشرته صحيفة‬
‫الهرام=‬
‫=الصادرة في ‪18/2/1411‬هـ الموافق ‪7/7/1990‬م نقلً عن معالي وزير الوقاف المصري بأنني‬
‫أفتيت بجواز التعامل مع البنوك بالفوائد من أجل الضرورة ‪ .‬أ‪.‬هـ المقصود ‪ ،‬ومن أجل‬
‫إيضاح الحق‬
‫للقراء وغيرهم أُعلن أن هذا النقل ل صحة له ‪ ،‬وقد صدرت عني فتاوى كثيرة نُشرت في‬
‫الصحف‬
‫المحلية وغيرها بتحريم الفوائد البنكية المعروفة ؛ لن الدلة الشرعية من الكتاب والسنة قد‬
‫دلت على‬
‫ذلك ‪ ،‬وحسبنا ال ونعم الوكيل )) ‪ .‬راجع كتاب ( الرد على كتاب مفتي مصر حول‬
‫معاملت‬
‫‪.‬‬ ‫‪128‬‬ ‫البنوك ) للدكتور ‪ /‬علي السالوس صـ‬
‫أقول ‪ :‬فإن كان الرجل قد تجرأ على الكذب على الشيخ ‪ /‬عبد العزيز وهو من هو علما‬
‫ومكانة ‪،‬‬
‫فكيف بمن دونه ‪ ،‬فإنا ل وإنا إليه راجعون ‪.‬‬
‫(‪ )4‬جريدة الخبار عدد ‪.2/1/1989‬‬
‫(‪ )5‬أخرجه ابن عساكر من حديث ابن مسعود مرفوعًا كما في تفسير ابن كثير (‪ )2/177‬وقال‬
‫الحافظ‬
‫ابن كثير ‪ (( :‬وهذا حديث غريب )) قلت ‪ :‬فيه أبو سعيد الحسن بن علي العدوي قال عنه‬
‫ابن عدي‬
‫في الكامل (‪ : )2/750‬يضع الحديث ويسرق الحديث ويلزقه على قوم آخرين ويحدّث عن قوم‬
‫ل‬
‫يعرفون وهو متهم فيهم أن ال لم يخلقهم )) ‪.‬‬
‫والحديث أورده السخاوي في المقاصد الحسنة (‪ )1063‬وقال ‪ (( :‬وابن زكريا هو العدوي متهم‬

‫‪355‬‬
‫بالوضع فهو آفته )) أ‪.‬هـ ‪.‬‬
‫) وقال ‪ (( :‬في إسناده متهم بالوضع )) وجزم‬ ‫‪211‬‬ ‫وأورده الشوكاني في الفوائد المجموعة (ص‬
‫الشيخ اللباني بوضعه في الضعيفة (‪. )1937‬‬
‫ولم أورده هنا على أنه حديث يُحتج به ‪،‬وإنما أوردته على أنه قول يصدق في كثير من الحيان‬
‫‪.‬‬
‫قال السخاوي ‪ (( :‬وبالجملة فمعناه صحيح ‪ ،‬وفي التنزيل ‪{ :‬كتب عليه أنه من توله فأنه‬
‫يضله‬
‫ويهديه إلى عذاب السعير } )) أ‪.‬هـ ( من المقاصد الحسنة ص‪. )398 :‬‬
‫(‪ )6‬انظر على سبيل المثال كتاب السلم السياسى في مصر من حركة الصلح إلى جماعات‬
‫العنف‬
‫ط ‪ :‬مركز الدراسات السياسية والستراتيجية بجريدة الهرام‬ ‫‪163‬‬ ‫لهالة مصطفى (ص‪:‬‬
‫‪1992‬م ) ‪.‬‬
‫(‪ )7‬صحيح مسلم ‪ :‬كتاب اليمان ( باب كون المر بالمعروف والنهي عن المنكر من‬
‫اليمان ) ‪ .‬وسيأتي تمام تخريجه قريبًا إن شاء ال تعالى ‪.‬‬
‫(‪ )8‬إحياء علوم الدين (‪. )2/306‬‬

‫(‪ )1‬أحكام القرآن لبن العربي (‪. )1/292‬‬


‫(‪ )2‬أحكام القرآن للجصاص (‪. )2/29‬‬
‫(‪ )3‬في تفسير ابن كثير عن أبي هريرة وهو خطأ والصواب ما أثبتناه ‪.‬‬
‫(‪ )4‬تفسير القرآن العظيم (‪. )1/391‬‬

‫(‪ )5‬أحكام القرآن للجصاص (‪. )2/30‬‬

‫(‪ )6‬مسلم (‪ )49‬وأبو داود (‪ )4340 ،1140‬والترمذي (‪ )2172‬وابن ماجه (‪)4013 ،1275‬‬
‫والنسائي (‪ )112-8/111‬وأحمد (‪. )3/54‬‬
‫(‪ )7‬هو الستاذ حمزة دعبس في مقال بجريدة النور المصرية عدد (‪ )20‬في رجب ‪1408‬هـ ‪.‬‬

‫(‪ )8‬أخرجه البخاري (‪ )1936‬ومسلم (‪ )1111‬وأبو داود (‪ )2390‬والترمذي (‪ )724‬وابن ماجه‬

‫‪356‬‬
‫(‪ )1671‬وأحمد (‪ )2/241‬من حديث أبي هريرة ‪.‬‬
‫(‪ )9‬صحيح مسلم (‪ )50‬كتاب اليمان باب (كون المر بالمعروف والنهي عن المنكر من اليمان‬
‫)‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫ص‪282:‬‬ ‫(‪ )10‬جامع العلوم والحكم ( شرح حديث من رأى منكم منكرًا ‪...‬‬
‫(‪ )11‬أخرجه مسلم (‪ )1854‬وأبو داود (‪ )4760‬والترمذي (‪ )2265‬وأحمد (‪. )6/302،305،321‬‬
‫(‪ )12‬شرح صحيح مسلم (‪. )12/243‬‬
‫(‪ )13‬أخرجه أبو داود (‪ )4361‬والنسائي (‪ )108-7/107‬والحاكم (‪ )4/354‬وصححه ‪ ،‬وقال ابن‬
‫‪ ( :‬ورواته ثقات ) ‪.‬‬ ‫‪223‬‬ ‫حجر في بلوغ المرام ص‪:‬‬

‫(‪ )14‬رواه أبو داود (‪ )4362‬وقال ابن تيمية في (الصارم المسلول) هذا الحديث جيد وذكر أن‬
‫الشعبي‬
‫رأى عليًا وروى عنه (راجع تفصيل ذلك في الصارم المسلول على شاتم الرسول ص ‪:‬‬
‫‪. )61‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪62‬‬ ‫(‪ )15‬الصارم المسلول ص ‪:‬‬

‫(‪ )16‬أخرجه أحمد (‪ )1/84‬وابنه عبد ال في زوائده (المسند ‪ )1/151‬والحاكم (‪ )2/366،3/5‬وأبو‬


‫‪ ،‬والخطيب في تاريخ بغداد‬ ‫ص‪74:‬‬ ‫يعلى (‪ )1/251‬والبزار (‪ )769‬والنسائي في خصائص علي‬
‫(‪ )13/203‬وفي موضح أوهام الجمع والتفريق (‪ )2/432‬وابن حرير في تهذيب الثار‪ :‬مسند‬
‫علي (‪ )4/236،237‬والحديث أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (‪ )6/23‬وقال ‪ (( :‬رواه أحمد وابنه‬
‫وأبو يعلى والبزار‪ .‬ورجال الجميع ثقات )) أ‪.‬هـ‪ .‬وصححه الشيخ أحمد شاكر في شرحه على‬
‫المسند (‪ )2/57‬وقال (( ومن الواضح أن هذه القصة كانت قبل الهجرة )) وصححه الحاكم (‬
‫‪ )2/366‬وقال الذهبي في التلخيص ‪ (( :‬إسناده نظيف والمتن منكر )) وصححه الطبري في‬
‫تهذيب الثار (‪. )4/238‬‬
‫والحديث مدار طرقه على أبي مريم الثقفي المدائني الراوي عن علي واسمه قيس وقد ذكره ابن‬
‫حبان في الثقات (‪ ، )5/314‬وقال ابن حجر في التقريب (‪ : )2/471‬مجهول‬
‫قلت ‪ :‬قول الحافظ ‪-‬رحمه ال‪ -‬ل يخلو من نظر ؛فإن أبا مريم الثقفي قد وثقه النسائي كما‬
‫في خلصة تذهيب التهذيب (‪ )3/244‬وميزان العتدال (‪ )4/573‬ولسان الميزان (‪ )7/482‬والكاشف‬

‫‪357‬‬
‫(‪، )3/376‬كما أنه ل ينطبق عليه ما ذكره الحافظ من تعريف المجهول في مقدمة التقريب (‪)1/5‬‬
‫فقد ذكر أن المجهول هو (( من لم يرو عنه غير واحد ولم يوثق )) وأبو مريم الثقفي قد روى‬
‫عنه اثنان ‪،‬فقد قال البخاري في التاريخ الكبير (‪ ((: )4/1/151‬روى عنه نعيم وعبد الملك ابنا‬
‫حكيم))‪،‬وقد وثقه النسائي كما أسلفنا ‪.‬‬
‫أما قول الذهبي ‪( :‬والمتن منكر) فإنه لم يبين وجه نكارته ول نرى في المتن ما يخالف شيئا‬
‫من القرآن والسنة ‪ ،‬وعليه فدعوى النكارة دعوى عارية عن الدليل فيما نعلم وعلى من يدعي‬
‫ذلك أن يأتي بالدليل وإلى أن يأتي الدليل فإننا نقول بصحة الحديث سندا ومتنا ‪-‬وال أعلم ‪.‬‬
‫(‪ )17‬تهذيب الثار مسند علي (‪. )4/239‬‬

‫(‪ )18‬شرح مسلم (‪. )2/23‬‬


‫(‪ )19‬تفسير القرطبي (الجامع لحكام القرآن ) (‪. )4/48‬‬

‫(‪ )20‬أخرجه البخاري (‪ )956‬واللفظ له ومسلم (‪ )889‬والنسائي (‪ )3/187‬وابن ماجه (‪)1288‬‬


‫وأحمد (‪. )3/36،54‬‬
‫(‪ )21‬شرح صحيح مسلم (‪. )6/178‬‬

‫(‪ )22‬أخرجه البيهقي (‪ )9/201‬وأبو عبيد في كتاب الموال (‪ )485‬والحديث حسنه الشيخ اللباني‬
‫في إرواء الغليل (‪. )5/119‬‬
‫فتح) وقد ذكر الحافظ‬ ‫(‪3/264‬‬ ‫(‪ )23‬علقه البخاري في كتاب الجنائز ( باب الجريدة على القبر )‬
‫في الفتح أن ابن سعد أخرجه موصولً ‪ .‬والفسطاط بيت من الشّعر وقد يطلق على غير‬
‫الشّعر ‪.‬‬

‫(‪ )24‬أخرجه ابن جرير في تهذيب الثار (‪ )4/240‬من طريق ابن بشار قال ‪ :‬حدثنا يحيى بن‬
‫سعيد‬
‫عن سفيان عن منصور عن ابراهيم قال ‪ :‬فذكره ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وهذا إسناد مسلسل بالثقات رجال الصحيحين ‪:‬‬
‫والتهذيب ‪ )5/47‬ويحيى‬ ‫‪2/147‬‬ ‫فابن بشار هو محمد بن بشار العبدي ثقة (انظر التقريب‬
‫بن‬

‫‪358‬‬
‫والتهذيب ‪ )6/138‬وسفيان هو الثوري‬ ‫‪2/348‬‬ ‫سعيد هو القطان الثقة المام (انظر التقريب‬
‫والتهذيب ‪ )2/353‬ومنصور هو ابن المعتمر السلمي ثقة ثبت‬ ‫‪1/311‬‬ ‫المام (انظر التقريب‬
‫والتهذيب ‪ )5/544‬وابراهيم هو ابن يزيد النخعي الفقيه الثقة (انظر‬ ‫‪2/276‬‬ ‫(انظر التقريب‬
‫والتهذيب ‪ )1/115‬والثر أخرجه ابن جرير في نفس الموضع من طريق‬ ‫‪1/46‬‬ ‫التقريب‬
‫ابن‬
‫بشار قال ‪ :‬حدثنا عبد الرحمن ‪ ،‬قال ‪ :‬حدثنا سفيان به ‪ .‬وهذه الطريق أيضًا في غاية‬
‫الصحة‬
‫والتهذيب ‪. )3/424‬‬ ‫‪1/499‬‬ ‫فعبد الرحمن هو ابن مهدي الحافظ المام العلم (التقريب‬
‫وقوله‬
‫‪.‬‬ ‫(أصحاب عبد ال) يعني عبد ال بن مسعود‬
‫(‪5/145‬‬ ‫(‪ )25‬أخرجه البخاري تعليقا في كتاب المظالم باب ‪ :‬هل تكسر الدنان التي فيها الخمر‬
‫فتح)‬
‫ووصله ابن أبي شيبة (‪ )7/312‬رقم (‪ )3575‬من طريق وكيع (هو ابن الجراح) عن سفيان‬
‫(هو الثوري) عن أبي حصين (هو عثمان بن عاصم السدي الكوفي) وهذا إسناد صحيح‬
‫رجاله‬
‫‪. )4/82 ،‬‬ ‫‪2/353‬‬ ‫‪،‬‬ ‫التهذيب ‪6/81‬‬ ‫ثقات رجال الكتب الستة (انظر تهذيب‬
‫وأخرجه ابن جرير في تهذيب الثار (‪ )4/241‬من طريق ابن بشار قال ‪ :‬حدثنا يحيى‬
‫وعبد‬
‫الرحمن قال ‪:‬حدثنا سفيان عن أبي حصين فذكره ‪ ،‬وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال‬
‫الستة‬
‫(انظر تخريج الثر السابق ) ‪.‬‬
‫(‪ ( )26‬أحكام القرآن ) للجصاص (‪. )2/31‬‬
‫(‪ )27‬أحكام القرآن لبن العربي (‪. )1/293‬‬
‫(‪ )28‬شرح صحيح مسلم (‪. )2/25‬‬
‫(‪ )29‬تفسير القرطبي (‪. )4/49‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪105‬‬ ‫(‪ )30‬الحوادث والبدع ص ‪:‬‬

‫‪359‬‬
‫(‪ )31‬شرح صحيح مسلم (‪ )2/25‬والعجيب أن لجنة كان قد ألفها شيخ الزهر للرد على شهادة‬
‫( الشيخ‪/‬صلح أبوإسماعيل ) فيما سمي بقضية الجهاد ‪1981‬م أوردت هذا النقل للجويني ‪،‬‬
‫وزعمت أنه يقصد أن التغيير باليد ل يكون إل للحكام ‪ ،‬وأما من عداهم فلهم التغيير بالقول‬
‫فقط ‪ .‬وفهمهم هذا عجيب ومخالف لقول الجويني ‪( :‬ما لم ينته العمل إلى نصب قتال وشهر‬
‫سلح ) لن معنى قوله ‪ ( :‬ما لم ينته العمل إلى نصب قتال ‪ ) ...‬أن كل ما قبل ذلك جائز‬
‫ومنه التغيير باليد من غير سلح ؛ كإراقة الخمور وكسر الملهي ونحو ذلك ‪ ،‬بل إنه رحمه‬
‫ال‬
‫ذكر في تتمة الكلم الذي نقله عن النووي آنفا أن لهل الحل والعقد التواطؤ على خلع والي‬
‫الوقت إذا جار وظهر ظلمه ‪ ،‬ولو بشهر السلحة ونصب الحروب ‪ (.‬المصدر السابق نفس‬
‫الجزء الصفحة ) ‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪279‬‬ ‫(‪ )32‬غياث المم في التياث الظلم ص ‪:‬‬
‫(‪ )33‬إحياء علوم الدين (‪. )2/315‬‬
‫(‪ )34‬المصدر السابق (‪. )2/332‬‬
‫(‪ )35‬إحياء علوم الدين (‪. )2/333‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪152‬‬ ‫(‪ )36‬المنطلق ص ‪:‬‬
‫هـ ‪.‬‬ ‫‪1408‬‬ ‫رجب‬ ‫‪20‬‬ ‫(‪ )37‬الحمزة دعبس في مقال له بجريدة النور المصرية عدد‬
‫‪.‬‬ ‫‪272‬‬ ‫(‪( )38‬الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ) ص ‪:‬‬
‫(‪ )39‬شرح صحيح مسلم (‪. )6/178‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪116‬‬ ‫(‪ )40‬رياض الصالحين ص ‪:‬‬

‫‪.‬‬ ‫‪111‬‬ ‫(‪ )41‬الربعون النووية ص ‪:‬‬


‫‪،‬وابن دقيق هو فقيه المذهبين الشافعي‬ ‫‪137‬‬ ‫(‪ )42‬شرح الربعين النووية لبن دقيق العيد ص ‪:‬‬
‫والمالكي ‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪272‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪271‬‬ ‫(‪ )43‬الطرق الحكمية ص‪:‬‬

‫‪360‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪272‬‬ ‫(‪ )44‬المصدر السابق ص ‪:‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪275‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪274‬‬ ‫(‪ )45‬المصدر السابق ص ‪:‬‬
‫(‪ )46‬المغني لبن قدامة (‪. )8/111‬‬
‫(‪ )47‬إغاثة اللهفان (‪. )1/212‬‬

‫(‪ )48‬البداية والنهاية (‪. )14/12‬‬


‫(‪ )49‬إغاثة اللهفان (‪. )1/231‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪282‬‬ ‫(‪ )50‬جامع العلوم والحكم شرح حديث [ من رأى منكم منكرًا ] ص ‪:‬‬

‫(‪ )51‬المحلى (‪. )9/361‬‬


‫(‪ )52‬السيل الجرار (‪. )4/586‬‬
‫(‪ )53‬التشريع الجنائي السلمي (‪. )1/86‬‬

‫هـ ‪.‬‬ ‫‪1408‬‬ ‫رجب‬ ‫‪13‬‬ ‫(‪ )54‬جريدة النور المصرية عدد‬

‫(‪ )55‬تربية الولد في السلم (‪. )1/481‬‬


‫(‪ )1‬إحياء علوم الدين (‪. )2/324‬‬
‫‪ )6724 ،‬ومسلم (‪ )2563‬وأبو داود (‪ )4917‬من‬ ‫‪6066‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪4064‬‬ ‫‪،‬‬ ‫(‪5143‬‬ ‫(‪ )2‬أخرجه البخاري‬
‫حديث أبي هريرة ‪.‬‬
‫‪ :‬حديث حسن‬ ‫‪508‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه أبو داود (‪ )4890‬وقال النووي في رياض الصالحين ص ‪:‬‬
‫صحيح‬
‫رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم ‪.‬‬
‫(‪ )4‬شرح مسلم (‪. )2/26‬‬
‫(‪ )5‬انظر إحياء علوم الدين (‪. )333-2/329‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪174‬‬ ‫(‪ )6‬المر بالمعروف والنهي عن المنكر لجلل الدين العمري ص ‪:‬‬
‫(‪ )7‬الجامع لحكام القرآن (‪. )4/49‬‬

‫‪361‬‬
‫(‪ )8‬أحكام القرآن لبن العربي (‪. )1/293‬‬
‫(‪ )9‬السيل الجرار (‪. )4/586‬‬
‫(‪ )10‬أحكام القرآن للجصاص (‪. )1/31،32‬‬
‫(‪ )11‬الحياء (‪. )2/331‬‬
‫(‪ )12‬أحكام القرآن للجصاص (‪. )2/31‬‬
‫(‪ )13‬رسالة الحسبة المطبوعة ضمن مجموع الفتاوى (‪. )28/129‬‬
‫(‪ )14‬المصدر السابق (‪. )28/131‬‬
‫(‪ )15‬إعلم الموقعين (‪. )3/7‬‬
‫(‪ )16‬المصدر السابق (‪. )3/7،8‬‬
‫(‪ )17‬رسالة الحسبة المطبوعة ضمن مجموع الفتاوى (‪. )28/129‬‬
‫(‪ )18‬شرح مسلم (‪. )2/23‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود (‪ )4338‬والترمذي (‪ )2168،3057‬وقال‪ :‬حسن صحيح وابن ماجه(‪)4005‬‬
‫وأحمد(‪ )1/2،5،7،9‬وصححه اللباني في السلسلة الصحيحة(‪. )1546‬‬
‫(‪ )2‬مجموع الفتاوى (‪. )14/480‬‬
‫‪. )993 ،‬‬ ‫(‪2/992‬‬ ‫(‪ )3‬الظلل‬
‫‪.‬‬ ‫‪75‬‬ ‫(‪ )4‬انظر المنطلق ص ‪:‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪84‬‬ ‫(‪ )5‬المصدر السابق ص ‪:‬‬
‫(‪ )6‬أحكام القرآن (‪. )2/34‬‬
‫(‪ )7‬الحياء (‪. )2/315‬‬
‫‪ )506 ،‬من حديث أبي سعيد الخدري ‪،‬‬ ‫(‪4/505‬‬ ‫(‪ )8‬أخرجه بهذا اللفظ أحمد (‪ )3/19‬والحاكم‬
‫وأخرجه أبو داود (‪ )4344‬والترمذي (‪ )2174‬وابن ماجه (‪ )4011‬وأحمد (‪ )3/61‬بلفظ ‪( :‬كلمة‬
‫عدل) وقال الترمذي حسن غريب من هذا الوجه ‪ ،‬وفي الباب عن أبي أمامة وطارق ابن شهاب‬
‫وغيرهما ‪ ،‬والحديث مخرج في السلسلة الصحيحة لللباني (‪. )491‬‬
‫(‪ )9‬الحياء (‪. )2/315‬‬
‫(‪ )10‬المصدر السابق (‪. )2/315‬‬

‫‪362‬‬
‫(‪ )11‬أخرجه أبو داود (‪ )2512‬والترمذي (‪ )2972‬وقال حسن غريب صحيح ‪ ،‬والحاكم (‪، )2/275‬‬
‫وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ‪.‬‬
‫(‪ )12‬أخرجه الحاكم (‪ )3/195‬من حديث جابر بن عبد ال ‪ ،‬وقال صحيح السناد وهو مخرج في‬
‫السلسلة الصحيحة لللباني (‪. )374‬‬
‫‪. )267 ،‬‬ ‫(‪1/266‬‬ ‫(‪ )13‬أحكام القرآن لبن العربي‬
‫(‪ )14‬مجموع الفتاوى (‪. )20/393‬‬
‫(‪ )15‬أضواء البيان (‪. )2/156‬‬
‫(‪ )16‬الظلل (‪. )2/993‬‬
‫(‪ )17‬أحكام القرآن (‪. )3/1487‬‬
‫(‪ )18‬المصدر السابق (‪. )3/1488‬‬
‫(‪ )19‬تفسير القرطبي (‪. )3/330‬‬
‫(‪ )20‬مدارج السالكين (‪. )2/479‬‬
‫(‪ )21‬انظر زاد المعاد (‪. )1/20‬‬
‫(‪ )22‬تفسير القرطبي (‪. )4/49‬‬
‫(‪ )23‬تفسير القرطبي (‪. )4/48‬‬
‫(‪ )24‬المصدر السابق (‪. )4/49‬‬
‫(‪ )25‬أخرجه مسلم (‪ )55‬وأبو داود (‪ )4944‬والنسائي (‪ )157-7/156‬من حديث تميم الداري ‪،‬‬
‫وأخرجه الترمذي (‪ )1926‬والنسائي (‪ )7/157‬من حديث أبي هريرة ‪ ،‬والحديث علقه‬
‫البخاري في صحيحه كتاب اليمان باب قول النبي صلى ال عليه وسلم الدين النصيحة‬
‫فتح) ونقل‬ ‫(‪1/166‬‬

‫الحافظ في الفتح (‪ )1/167‬عن البخاري قوله في تاريخه ((ليصح إل عن تميم)) ‪.‬‬


‫‪63‬‬ ‫(‪ )26‬سبق تخريجه ص ‪:‬‬
‫(‪ )27‬إحياء علوم الدين (‪. )2/323‬‬
‫(‪ )28‬انظر مجموع فتاوى شيخ السلم ابن تيميه (‪. )10/52‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪414‬‬ ‫(‪ )29‬الشباه والنظائر ص ‪:‬‬
‫(‪ )30‬الحياء (‪. )2/331‬‬

‫‪363‬‬
‫(‪ )31‬ما ذكرناه من أن إقامة الحدود من اختصاص الحكام إنما هو في حالة أن يكون الحكام‬
‫قائمين بذلك ‪ ،‬أما إذا قصر الحكام في إقامة الحدود فإنه يجوز للجماعة المحتسبة من آحاد‬
‫الرعية أن تقوم بذلك بعد قياس المصالح والمفاسد لن هذا المر واجب على المة وينوب عنها‬
‫الحاكم في ذلك فإن قصر الحاكم رجع المر للمة ‪ ،‬قال شيخ السلم ابن تيميه في مجموع‬
‫‪ (( : )176 /‬وكذلك المير إذا كان مضيعا للحدود أو عاجزا عنها ‪ ،‬لم يجب‬ ‫(‪34‬‬ ‫الفتاوى‬
‫تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه والصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه فمتى‬
‫أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين ‪ ،‬ومتى لم تقم إل بعدد ومن غير سلطان أقيمت إن لم‬
‫يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها ‪ ،‬فإنها من باب المر بالمعروف والنهي عن المنكر‬
‫‪ .))...‬وقال الشوكاني في السيل الجرار (‪ )4/311‬تعليقا على قول صاحب المتن ‪ ((:‬تجب إقامتها‬
‫في غير المسجد على المام وواليه إن وقع سببها في زمن ومكان يليه )) ‪ ،‬قال الشوكاني ‪:‬‬
‫(( هذا مبني على أن الحدود إلى الئمة وأنه ل يقيمها غيرهم على من وجبت عليه وليس على‬
‫هذا أثارة من علم ‪ ...‬ول شك أن المام ومن يلي من جهته هم أولى من غيرهم كما قدمنا ‪،‬‬
‫وأما أنه [ل] يقيمها إل الئمة وأنها ساقطة إذا وقعت في غير زمن إمام أو في غير مكان يليه‬
‫فباطل ‪ ،‬وإسقاط لما أوجبه ال من الحدود في كتابه ‪ ،‬والسلم موجود والكتاب والسنة‬
‫موجودان ‪ ،‬وأهل العلم والصلح موجودون فكيف تهمل حدود الشرع بمجرد عدم وجود واحد‬
‫من المسلمين ؟ )) أ‪.‬هـ‪.‬‬
‫وقد كان شيخ السلم ابن تيمية يعزر ويقيم الحدود (راجع في ذلك البداية والنهاية (‪. )14/12،20‬‬
‫(‪ )32‬أخرجه البخاري(‪ )7288‬ومسلم (‪ )1337‬وابن ماجه (‪ )2‬والنسائي(‪ )5/110‬من حديث أبي‬
‫هريرة ‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪91‬‬ ‫(‪ )33‬انظر ايضاح القواعد الفقهية لعبد ال بن سعيد اللحجي ص‪:‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪93‬‬ ‫(‪ )34‬المر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلل ص‪:‬‬
‫‪-‬‬ ‫(‪6780‬‬ ‫‪ )1923 ،‬وأحمد (‪ )3/384( ، )3/345‬وابن حبان‬ ‫(‪156‬‬ ‫(‪ )35‬أخرجه بهذا اللفظ مسلم‬
‫إحسان) وابن الجارود في المنتقى (‪ )1031‬من حديث جابر بن عبد ال ‪.‬‬
‫(‪ )36‬أخرجه مسلم (‪. )1922‬‬
‫(‪ )37‬أخرجه مسلم (‪. )1924‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪16‬‬ ‫(‪ )38‬شرح الطحاوية ص ‪:‬‬

‫‪364‬‬
‫(‪ )39‬انظر الدلة من السنة النبوية ‪ :‬الحديث السادس‬
‫(‪ )40‬أخرجه بهذا اللفظ ابن سعد في الطبقات الكبرى (‪ )3/270‬وابن أبي شبة في أخبار المدينة‬
‫النبوية (‪ )2/226‬كلهما من طريق محمد بن عبيد ‪ ،‬قال ‪ :‬أخبرنا اسماعيل بن أبي خالد عن قيس‬
‫بن أبي حازم قال ‪ :‬سمعت عبد ال بن مسعود يقول فذكره ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وهذا إسناد في غاية الصحة فإن محمد بن عبيد هو ابن أبي أمية وهو ثقة من رجال‬
‫الستة كما في تهذيب التهذيب (‪ )6/210‬وكذا إسماعيل بن أبي خالد وقيس بن أبي حازم (انظر‬
‫‪.)4/561 ،‬‬ ‫‪1/185‬‬ ‫تهذيب التهذيب‬
‫(‪ )41‬الحكام في أصول الحكام (‪. )5/182‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪21‬‬ ‫(‪ )42‬سبق تخريجه ص ‪:‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪63:‬‬ ‫(‪ )43‬سبق تخريجه ص‬
‫(‪ )44‬أخرجه البخاري (‪ )3045‬وأبو داود (‪ )2660‬وأحمد (‪ )2/294‬من حديث أبي هريرة ‪.‬‬
‫(‪ )45‬نيل الوطار (‪. )7/255‬‬
‫(‪ )46‬سيرة ابن هشام (‪ )3/96‬قال ابن اسحاق وحدثني أبي اسحاق بن يسار عن أشياخ من بني‬
‫سلمة ‪ :‬فذكره ‪ ،‬قال اللباني ‪ (( :‬وهذا سند حسن إن كان الشياخ من الصحابة ‪،‬وإل فهو‬
‫‪،‬ط‪:‬‬ ‫‪282‬‬ ‫مرسل ‪،‬وبعضه في المسند ‪ ...‬وسنده صحيح )) أ‪.‬هـ‪ .‬من تخريج فقه السيرة ص ‪:‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪1976‬‬ ‫دار الكتب الحديثة سنة‬
‫(‪ )47‬أخرجه أحمد (‪ )5/299‬وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (‪ )9/315‬ورجاله رجال الصحيح غير‬
‫يحيى بن النضر النصاري وهو ثقة ‪.‬‬
‫(‪ )48‬أخرجه البيهقي (‪ )9/76‬وقد صححه اللباني في إرواء الغليل (‪ )1206‬وأخرجه الطبراني‬
‫مرفوعًا (‪ )1151‬من حديث ابن عباس ‪ ،‬وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (‪ : )5/328‬ورجاله‬
‫ثقات‪.‬‬
‫(‪ )49‬الكافي في فقه أهل المدينة المالكي لبي عمر بن عبد البر (‪.)1/463‬‬
‫‪. )53 -‬‬ ‫(‪4/52‬‬ ‫(‪ )50‬أخرجه مسلم (‪ )1807‬وأحمد‬
‫‪.‬‬ ‫‪539‬‬ ‫(‪ )51‬مشارع الشواق ص ‪:‬‬
‫(‪ )52‬أخرجه مسلم (‪ )1901‬من حديث أنس بن مالك‪.‬‬
‫(‪ )53‬شرح مسلم للنووي (‪. )13/46‬‬

‫‪365‬‬
‫(‪ )54‬الجامع لحكام القرآن (‪. )2/364‬‬
‫‪. )267 -‬‬ ‫(‪1/266‬‬ ‫(‪ )55‬أحكام القرآن‬
‫‪. )320 -‬‬ ‫(‪2/319‬‬ ‫(‪ )56‬إحياء علوم الدين‬
‫(‪ )1‬رسالة تحكيم القوانين ص ‪.1 :‬‬
‫(‪ )2‬تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير (‪. )2/68‬‬
‫(‪ )3‬البداية والنهاية لبن كثير (‪. )13/128‬‬
‫(‪ )4‬عمدة التفسير (‪. )4/172‬‬
‫(‪ )5‬المصدر السابق نفس الموضع ‪.‬‬
‫(‪ )1‬مجلة أكتوبر عدد أول مايو ‪1988‬م ‪ ،‬ومعروف أن المفتي هو حامل لواء الدعوة إلى أن‬
‫تغيير المنكر باليد ل يجوز لغير الحكام ‪ ،‬ومع ذلك فقد أنطقه ال بما ترى ‪.‬‬
‫*********************‬
‫وقد جاءتني رسالة البارحة فقرأتها في ساعة متأخرة من الليل وكانت دموعي تتساقط دون‬
‫إرادة مني لن وجدت فيها بعضا مما يدور في نفسي وكنت مقررا الرد عليها لتأييد ما ورد‬
‫فيها والثناء عليها وهي للدكتور محمد عباس‬
‫فهذه هي كما وردت‬
‫مرارة الندم مهم جدا‬
‫التغيير لن يبدأ إل بتغيير الحكام‪..‬‬
‫وهم لن يسلموا إل بالقوة‪..‬‬
‫لماذا تخافين الموت يا أمة؟!‬
‫بقلم د محمد عباس‬
‫‪www.mohmadabbas.net‬‬
‫‪mohamadabbas@gawab.com‬‬
‫ما أشد مرارة الندم الذي يعتريني عندما أكتشف في نهايات العمر أنني لم أختر الختيار‬
‫الصحيح‪ ..‬و أنه كان علىّ أن أستشهد مع الشهيد العظيم سيد قطب ‪ ..‬فإن كان المر قد فاتني‬
‫عام ‪ 1966‬فقد كان يمكنني أن أنال شرفه مرة أخرى مع الشهيد العظيم الشيخ أحمد ياسين عام‬
‫‪..2004‬‬

‫‪366‬‬
‫ما أشد مرارة الندم حين أدرك أنه وقد فاتني هذا وذاك فإنني لم أتشرف بالجهاد مع شيخنا‬
‫العظيم أسامة بن لدن و أيمن الظواهري ورفاقهما ولو لمسح عن أقدامهم غبارا عفرها وهم‬
‫يجاهدون في سبيل ال‪..‬‬
‫***‬
‫طوال السابيع الخيرة أحاول أن أكتب فيسحقني أن كل ما كتبته طوال عمري ل يساوى‬
‫رصاصة يطلقها مجاهد لتمزق قلب شيطان أمريكي أو إسرائيلي نجس‪ . .‬بل إنها ل تساوي‬
‫مجرد حجر يقذفه طفل فلسطيني‪..‬‬
‫وعندما استشهد حبيبي وسيدي الشيخ أحمد ياسين‪ ..‬حاولت أن أكتب عنه‪..‬‬
‫كان كساكن قصر‪..‬‬
‫ليس مجرد ساكن‪..‬‬
‫بل ملك حقيقي‪..‬‬
‫ليس كالدعار والطفال والدمى الذين فرضوهم علينا وسموهم ملوكا ورؤساء و أمراء‪..‬‬
‫ملك حقيقي ليس كمثل ملك وقصر منيف ليس كمثله قصر‪..‬‬
‫وعندما فكرت أن أكتب بدت كلماتي كمتسول أشعث أغبر معفر الوجه ممزق الثياب حافي‬
‫القدمين ‪ ..‬وبدا منظر ذلك المتسول وهو يحوم حول القصر مستهجنا ومريبا‪..‬‬
‫صرخت في المتسول‪:‬‬
‫ابتعد يا صعلوك عن قصور الملوك‪ ..‬ابتعد‪ ..‬فلو أنك أطلقت ذات يوم رصاصة أو‬ ‫‪-‬‬
‫قذفت بحجر لكان ذلك أجدى من كل ما كتبت ولكان جواز مرورك‪ ..‬ولسمح لك بالدخول‬
‫للتهنئة ل للعزاء‪..‬‬
‫وعجزت عن الكتابة‪..‬‬
‫وجاءتني رسالة ابني الفلسطيني‪..‬‬
‫هل قلت ابني؟؟!!‪..‬‬
‫يا لوقاحة الصعلوك‪..‬‬
‫هل أجرؤ على أن أطلق على أي فلسطيني كلمة " ابني"؟!‪..‬‬
‫لكنه هو الذي ناداني في رسالته بــ‪":‬أبي"‪..‬‬
‫هل كان علىّ أن أصارحه أنني ل أملك الشرف الذي يبيح لي أن أقبل نداءه لي بيا أبي؟!!‬

‫‪367‬‬
‫هل كان علىّ أن أصارحه بأنني أبو الفشل والعجز والحباط واليأس والمواقف الخاطئة‬
‫والنخداع والقصور‪ ،‬العجز ل عن أن أكون شهيدا كالشهيد أحمد ياسين أو الشهيد سيد قطب‪..‬‬
‫ول عن أن أكون مجاهدا في جيش المجاهد العظيم أسامة بن لدن رضي ال عنه‪ ..‬بل العجز‬
‫عن أن أطلق رصاصة أو أن أقذف حجرا‪ ..‬ولو أنني فعلت فربما حق لي أن أكون أبا لذلك‬
‫الفلسطيني الغالي الذي كتب في رسالته‪:‬‬
‫رسالة من فلسطين الذبيحة‬
‫السيد الكريم والدكتور الفاضل والب الغالي ‪/‬‬
‫السلم عليكم ورحمة ال وبركاته‬
‫سيدي الدكتور سامحني أبي الغالي على تكرار مراسلتي لك ‪ ,‬لكن يشهد ال أنني ل أفعل ذلك‬
‫إل ثقة وحبا فيك ولك‬
‫ول ألجأ إلي ذلك إل عندما تضيق بي الدنيا وتظلم أمام ناظري‬
‫سيدي الدكتور الفاضل ‪ /‬الن وقد حدث ما كنا نتوقعه – في رسالتي الخيرة إليك‪ ،-‬نعم فقد‬
‫قتل الشيخ الياسين أملنا بعد ال جل في عله في هذه الدنيا ‪ ،‬الن وقد أصبحنا كاليتام على‬
‫موائد اللئام ‪ ،‬الن وقد شعرنا أننا نجتث من الرض ‪ ،‬والن ونحن نبكي شيخنا دما وألما‬
‫وحسرا ت ‪ ،‬ول نبكي عليه لنه قد فاز بإذن ال ‪ ،‬ومات ميتة ول أروع ‪ ،‬ميتة من ل يتمنى‬
‫مثلها فهو لم يعرف بعد معنى هذه الحياة ولم يحسن البيع ل عز وجل ‪.‬‬
‫نبكي يا دكتور على أنفسنا التي أصبحنا بعده كالقطيع في ليلة ظلماء بل حادي ول دليل ‪،‬‬
‫نبكي على أمتنا التي أسلمت رقبتها للجزار وتخلت عن دورها تجاه هذه القضية وتركت فلسطين‬
‫وأهلها وأخيارها نهبا لخس وأحقر الملل ‪.‬‬
‫سيدي الدكتور ‪/‬ذهب الشيخ الشهيد إلى عالمه وهنيئا له الفردوس العلى فقد كانت نعم الخاتمة‬
‫ونشهد له على ذلك‬
‫ولكن سيدي دماء الشيخ وأشلءه وبقايا كرسيه وقطع وشاحه المتناثرة تستصرخنا وتستنهضنا‬
‫وهي دين في رقابنا ورقاب هذه المة نعم دين وأي دين‬
‫فما هو طعم الحياة بعد هذا الرجل‬
‫نحن هنا في فلسطين تلمذة ومحبين وأنصار لهذا الشيخ قد قطعنا على أنفسنا عهدا وأقسمنا‬
‫على بقايا أشلءه قسما تهتز منه الجبال بأن بكل قطعة من جسده تناثرت وبكل شظية طارت‬

‫‪368‬‬
‫من كرسيه وبكل شقفة تطايرت من وشاحه ‪ ،‬سيكون بإذن ال نارا وحمما ولهيبا فوق رؤوس‬
‫بني يهود‬
‫ولكن سيدي ‪...‬الشيخ الشهيد هو ليس رمزا لنا فحسب بل هو لكل المة ولذلك ما على المة‬
‫أن تفعل الن ؟ هال ستبتلع الهانة والتحدي وتسكت أم ستقول كلمتها في هذا المصاب الجلل ‪،‬‬
‫وترد اعتبارها وهذا الذي نتمناه ‪،‬فإن لم يحركها هذا الزلل فيا ترى ما الذي سيحركها ؟‬
‫وخاصة سيدي أن أحد اليهود المجرمين اليوم قال‪ :‬لم يبق أمامنا الن سوى إزالة المسجد‬
‫القصى ‪ ،‬وترى إن حدث ذلك والمة في سباتها ‪ -‬رغم أن إراقة دم المسلم كما حدث اليوم‬
‫أعظم حرمة عند ال من ذلك ‪ -‬فما هو مبرر وجودها‪.‬؟؟؟؟‬
‫سيدي ‪ ...‬نعلم أن ليس اليهود وحدهم من ولغ في دماء الشيخ وصحبه بل إن هناك من ساعدهم‬
‫وأشار عليهم وبارك نيتهم من أطراف محلية وأطراف مجاورة ترى في الشيخ وفكره وحركته‬
‫خطرا على كراسيها وعلى أطماعها وعلى مصالحها وهم ل يخفون على أحد ‪ ،‬ولذلك هم‬
‫شركاء في هذه الجريمة ‪ ،‬وهؤلء سيتكفل بهم رب العالمين ولن يمهلهم طويل فدماء العلماء‬
‫والولياء مسمومة وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ‪.‬‬
‫سيدي الدكتور ‪ ..‬قال اليهود إن تصفية الشيخ ياسين هو بداية القضاء على السلم في فلسطين‬
‫وستتبعها خطوات أخرى بمنتهى التبجح والعنجهية ) لهم حق في ذلك فممن سيخشون؟؟ )‪،‬‬
‫ولكن سيدي خاب فألهم فوال الذي ل إله غيره إن شهادة هذا الشيخ وبهذا الشكل وفي هذا‬
‫المكان قد أحيت البعث السلمي من جديد ليس في هذه الديار بل في العالم السلمي أجمع فهذا‬
‫الرجل كما كانت حياته بعثا للدعوة في هذه الديار فشهادته ستكون إن شاء ال بعثا للسلم في‬
‫كل المعمورة ‪.‬‬
‫هذه رسالتي ول داعي لكثرة الكلم فالن جاء دور العمل ‪ ،‬ول حول ول قوة إل بال العلي‬
‫العظيم‬
‫سيدي أطلت عليك ‪..‬ولكن سامحني ففي القلب ل زال الكثير الكثير ول أريد أن أزعجك وأتمنى‬
‫أن تكون قد وصلت الرسالة‬
‫وفي الختام اسأل ال لك طول العمر والسلمة من كل مكروه وأن يحسن خاتمتك‬
‫وجزاك ال عنا خير الجزاء‬
‫والسلم عليكم ورحمة ال وبركاته‬

‫‪369‬‬
‫ابنكم (‪)...‬‬
‫***‬
‫وكنت أقرأ الرسالة و أصرخ في نفسي‪:‬‬
‫ابتعد يا صعلوك عن قصور الملوك‪ ..‬فهذا الفتى المجاهد لم يترك لك أي فضل أو‬ ‫‪-‬‬
‫مزيد من العقل والحكمة والتحليل فماذا يمكن أن تقول بعده‪..‬‬
‫وكنت أبكي و أنتحب‪..‬‬
‫وليس البكاء والنحيب شيئا يشرفني ذكره‪ ..‬بل وال يا قراء يخجلني‪..‬‬
‫هل كان يعزيني قبل ذلك أن أشبه بكائي – وبكاءكم يا قراء‪ -‬ببكاء النساء‪..‬؟؟!!‪..‬‬
‫نساء فلسطين سلبوا منا هذا العزاء‪..‬‬
‫كففن عن البكاء ورحن يستشهدن في سبيل ال وبقينا نحن ل رجال نجاهد ول نساء يستشهدن‬
‫ول أطفال يقذفون بالحجار‪ ..‬بقينا نزعم أننا كتاب ونملك الجرأة والوقاحة ما يبيح لنا أن نحلل‬
‫و أن نوزع نصائحنا‪..‬‬
‫ومع رسالة الفلسطيني الغالي الذي ل أجرؤ على التشرف بأبوته كنت أطالع الصور الذي‬
‫تناقلتها وكالت النباء للشهيد أحمد ياسين‪..‬‬
‫لم يبق منه إل وجهه‪..‬‬
‫الوجه فقط‪..‬‬
‫كم من حكامنا الدعار الن يحتفلون بمن يدلك لهم أجسادهم أو يصبغ لهم شعورهم‪ ..‬لكنهم ل‬
‫وجه لهم‪..‬‬
‫ل وجه لهم‪...‬‬
‫ل وجه لهم‪...‬‬
‫وفي هذه اللحظة تماما‪ ..‬هل يستقل ذلك الملك الفاجر طائرته الخاصة إلى قصره على تلك‬
‫الربوة الشهيرة في مدينة القمار لس فيجاس ‪ ..‬ذلك القصر الذي اشتراه بمليين الدولرات‪..‬‬
‫ليذهب إليه سرا يلعب القمار كل آن و آن‪..‬‬
‫يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ــــــــــــاه‪..‬‬

‫‪370‬‬
‫كم كان يمكن للشهيد العظيم أن يفعل لو توفرت بعض أموال القمار والقصور لينفقها على‬
‫الجهاد في سبيل ال‪..‬‬
‫كنت أراقب الصور‪..‬‬
‫صور الشهيد العظيم الذي لم يبق منه إل وجهه‪..‬‬
‫وانشققت إلى نصفين‪..‬‬
‫نصف يكاد يقتله الفرح بتلك الخاتمة العظيمة التي يستحقها الشهيد إن شاء ال‪..‬‬
‫ونصف يقتله اللم ‪ ..‬ألم العجز والقهر وعار الصمت على حكامنا والعجز عن إزالتهم‪..‬‬
‫نصف يتشظى من الفخر‪..‬‬
‫ونصف يتشظى من القهر‪..‬‬
‫أحسست أنني أتفتت‪ ..‬و أنني ل أطيق مواصلة الحياة دقيقة واحدة أخرى‪..‬‬
‫هتفت ‪:‬‬
‫‪-‬‬
‫يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ـــا رب‪..‬‬
‫لكن سيخا من الحديد المحمي اخترق قلبي و أنا أقرأ الخبر التالي‪..‬‬
‫كان الخبر ينعي الكاتب المجاهد العظيم محمد قطب‪ ..‬شقيق الشهيد سيد قطب‪ ..‬و أعظم من‬
‫دافع عن الهوية السلمية في العقود الخيرة كلها‪..‬‬
‫تضاعف ما بي‪..‬‬
‫كنت أظن أنني بلغت الحد القصى الذي ل مزيد عليه للم لكنني وجدته يتضاعف‪ ..‬ووجدتني‬
‫أنهار و أتلشى و أنا أهتف‪:‬‬
‫أيضــــــــــــــــــــــا‪..‬‬ ‫‪-‬‬
‫لكنني سرعان ما أدركت كيف يعزيني ربي فقد كان الخبر التالي ينفي شائعة موت محمد قطب‪.‬‬
‫***‬
‫لست أدري لماذا لم أتوقع استشهاد الشيخ أحمد ياسين رغم أنني أكتشف الن أن الرجل كان‬
‫هو الذي يطارد الستشهاد ويبحث عنه ويتعقبه طيلة عمره‪ ..‬ومنذ سجنه الول في سجون عبد‬
‫الناصر حتى استشهاده ‪..‬‬

‫‪371‬‬
‫كان قلبي الواجف يرتجف رعبا على حبيبي وسيدي ومولي المجاهد أسامة بن لدن رضي ال‬
‫عنه‪..‬‬
‫وكانت الرسالة من قارئ أردني تقول‪:‬‬
‫مولي الدكتور محمد‬
‫السلم عليكم ورحمة ال وبركاته‪:‬‬
‫أرجوك أن تجيب على رسالتي بأية طريقة تشاء‪ ،‬أسألك بال العلي العظيم أن تجيب‪.‬‬
‫هل صحيح أن أسامة بن لدن قد أعتقل؟ تورد وكالت النباء خبر اعتقاله وتنفي أمريكا‬
‫وعملئها‪ ،‬وأخشى ما أخشاه بأن ما يقال بأن بوش يؤجل إعلن خبر اعتقال سيدنا أسامه لحين‬
‫اقتراب موعد النتخابات الرئاسية المريكية هو كلم صحيح‪ ...‬أسألك بال يا دكتور محمد أن‬
‫تطمئنني وأن تقول لي بأن ذلك ليس صحيحا‪ ،‬ل أعلم لماذا أتوجه بسؤالي هذا إليك‪ ،‬لربما لم‬
‫أعد من أصدقه وأستطيع أن أصل إليه سواك‪ ،‬لربما لم أعد بمن أثق بقدرته وبقربه من ال‬
‫سواك‪ ،‬لربما تستطيع أن تجيب على سؤالي بحدس المرهف وإيمانك القوي‪....‬قل لي بال عليك‬
‫بأن ال لن يخذل أسامة ولن يسلمه إلى أعداءٍ يذيقونه الهوان‪ ،‬قل لي بال عليك بأن ال سيتكرم‬
‫عليه بالشهادة بدلً من ذلك‪.‬‬
‫أعلم بأنني أجدف في كلماتي هذه‪ ،‬وأعلم بأنك بشر لم يطلعك ال على الغيب‪ ،‬ولكن ل ملجأ لي‬
‫سواك‪ ،‬لم أستطع النوم البارحة من هذا الخبر المقلق‪.‬‬
‫عادل ‪ -‬الردن‬
‫وكتبت إليه‪:‬‬
‫أخي عادل‬
‫السلم عليكم ورحمة ال وبركاته‪..‬‬
‫أبكتني رسالتك‪ ..‬وقبل أن تستبد بك الظنون فإن الشيخ أسامة رضى ال عنه بخير إن شاء ال‪..‬‬
‫وليس المر أمر أمنيات فقط بل اتصلت بمن لهم باع في التحليل والمعلومات فأكدوا لي ذلك‪،‬‬
‫كما أكدوا لي أن أمريكا تسرب هذه الخبار كي تدفع بطلنا الغالي للتحرك فتكتشفه‪.‬‬
‫وعلى الرغم من هذا يا أخي‪..‬‬
‫هل الشيخ أسامة فوق الرسل؟؟‬
‫أفإن مات أو قتل‪ ..‬أو حتى أسر انقلبتم على أعقابكم‪..‬‬

‫‪372‬‬
‫أنا يا أخي في ال مثلك‪..‬‬
‫ولست أدعي شجاعة أو تجلدا‪..‬‬
‫أدعو ال أن يتقبله شهيدا‪..‬‬
‫لكن ‪..‬إذا شاء ال ‪ -‬ل قدر ال ‪ -‬أن يؤسر‪..‬‬
‫أعترف لك أنني سأبكيه حتى الموت‪..‬‬
‫لكن لن يهتز يقيني بال أبدا‪..‬‬
‫جزاك ال خيرا ‪ ..‬وطمأنني و إياك‪ ..‬ونصر السلم والمؤمنين وحفظ من نحسبه خير خلقه‬
‫على ظهر الرض الن‪ :‬الشيخ أسامة‪.‬‬
‫والسلم عليكم ورحمة ال وبركاته‬
‫وكتب هو مرة أخرى‪:‬‬
‫بسم ال الرحمن الرحيم‬
‫سيدي الدكتور محمد عباس‪..‬‬
‫السلم عليكم ورحمة ال وبركاته‪ ،‬وبعد‪..‬‬
‫طمأنك ال في الدنيا والخرة كما طمأنتني عن حبيبنا أسامة بن لدن‪ ،‬أنا أثق بما تقول يا‬
‫دكتور‪ ،‬أثق بقدرتك على التحليل وببصيرتك وإيمانك‪ ،‬وكان جوابك الكريم أثرا ل يمكن وصفه‪،‬‬
‫كنت بحاجة إلى كلمات مثل كلماتك الحكيمة تطفئ لهيب القلق الذي انتابني منذ سماعي لشائعة‬
‫اعتقال سيدنا أسامه‪.‬‬
‫سيدي‪ ،‬ل تحسب للحظة بأننا نحن شباب المسلمين نرى في سيدنا أسامه كائنا فوق البشر أو‬
‫فوق الرسل‪ ،‬حاشا ل‪ ،‬نعلم بأنه بشر يموت‪ .‬ولكن محبتنا له وخوفنا عليه تخرجنا عن طورنا‬
‫أحيانا ل بل وأقسم بال العظيم تجعلنا نتمنى له الموت‪ ،‬ولكم أتمنى أن أصحو ذات صباح‬
‫لسمع بأنه قتل أو مات حتى موته طبيعية‪ ،‬أتمنى ذلك حتى أتخلص من هاجس يلزمني ليلً‬
‫نهارا بأنهم قد يستطيعون أسره ومسّ شعيرات لحيته الكريمة‪ ...‬ولقد لزمني هذا الهاجس‬
‫بالخص منذ رؤيتي لصدام حسين أسيرا مهانا‪ .‬وأرجو أن ل تظن بأنني أقارن بينهما‪ ،‬فشتان‪.‬‬
‫لكن أسامة ليس صدام‪ ،‬ورجال أسامة ليسوا طلب حياة وأعضاء في حزب البعث‪ ،‬هذا ما يقرّ‬
‫القلب‪ ،‬لذا فإنهم لن يمكنوا منه أعداء ال بإذنه الواحد الحد‪ ،‬ولن تغريهم كنوز الدنيا وجوائز‬
‫بوش الصليبية‪...‬‬

‫‪373‬‬
‫سيدي الدكتور محمد‪ ،‬أرجو المعذرة على مراسلتي إياك شخصيا‪ ،‬أعلم بأنني أثقل عليك وأنت‬
‫صاحب الهموم الكبيرة‪ .‬لقد أفرحني ردك على رسالتي فرحا شخصيا‪ ،‬وفي نفس اللحظات أنّبتُ‬
‫نفسي على تكبيدك مشاق الرد‪ ،‬فأنت صاحب رسالة كبيرة لذا فإن من حقك علينا نحن أبناءك‬
‫أن ل نشغلك‪ .‬أدام ال عليك الصحة يا سيدي‪ ،‬وأبقاك ذخرا لمحبيك وما أكثرهم‪ ،‬وشكرا على‬
‫مكرمتك الكبيرة في الرد على رسالتي‪ ،‬شرف ل أستحقه وال العظيم‪.‬‬
‫والسلم عليكم ورحمة ال وبركاته‬
‫***‬
‫لم يكن استشهاد الشيخ أحمد ياسين هو ما يقلقنا إذن‪..‬‬
‫بل كان قلقنا على حبيبنا الغالي في أفغانستان‪..‬‬
‫ثم بعدها الخبار عن محاصرة البطل المجاهد أيمن الظواهري في مناطق القبائل في وزيرستان‬
‫بباكستان‪ ..‬وكنت أصرخ في الشعب الباكستاني أل يخنع كما خنعنا‪ ..‬و أل يحسن الظن في‬
‫حاكم خائن يخدعه حتى يتمكن منه ثم يسلمه إلى أعدائه‪ ..‬فل يدرك الشعب المخدوع المسكين‬
‫حقيقة ما حدث له إل بعد أن يكتمل حصاره وتنسد طرق الخلص أمامه‪..‬‬
‫كنت أصرخ في الشعب الباكستاني ‪ :‬ل تقع في خطيئتنا‪..‬‬
‫ل تنتظر‪ ..‬تول أمرك قبل أن يوردك الخائن موارد التهلكة والبوار‪ ..‬وقبل أن تخسر الدنيا‬
‫والخرة‪..‬‬
‫ل تنتظر يا شعب باكستان‪ ..‬فإن أسامة بن لدن و أيمن الظواهري هم وديعة ال عندكم شرفكم‬
‫بها فل تضيعوها‪ ..‬فإنكم إن تضيعوها تضيعوا في الوقت نفسه كل شرفكم وكل تاريخكم وتظل‬
‫اللعنة تحيق بكم أبد الدهر كما تحيق بمن سلم سبط الرسول الكريم عليه صلوات ال وسلمه‬
‫المام الحسين رضي ال عنه‪..‬‬
‫ل تنتظر‪..‬‬
‫و أنت أيها الجيش ‪ :‬ما تنتظر؟‪..‬‬
‫وهل يليق بالجيش أن يواصل حماية الخائن الذي ستترتب على أفعاله ضياع الدنيا والخرة‬
‫والوطن والدولة والمة ‪ ..‬والجيش أيضا‪..‬‬
‫وكان الحصار يضيق في وزيرستان فيضيق قفص صدري على قلبي‪..‬‬
‫و أحسست بغصة في القلب ل في الحلق‪..‬‬

‫‪374‬‬
‫كيف وقعت في هذا الخطأ الفادح‪ ..‬كيف لم أكتب عن هذا البطل العظيم أيمن الظواهري لقول‬
‫له أنه – حتى إن ضيعه الناس – فلن يضيعه ال أبدا‪ ..‬كيف لم أكتب لقول له كم يحظى بين‬
‫أمته السلمية بالتأييد والعزاز والكبار والحب ‪..‬‬
‫كيف‪..‬‬
‫منذ عامين اتصلت ببعض أسرته الكريمة‪ ..‬وكنت أريد أن أكتب عنه كتابا ل مقال‪ ..‬وبدأت‬
‫أعد عدتي و أجمع مادتي ولكن تهاطل الكوارث وتعاقب المصائب ل يترك لنا أي فرجة من‬
‫الوقت‪..‬‬
‫***‬
‫وفي هذه الحداث فقد اتخذ علماء الدين في الباكستان موقفا عظيما هائل لطالما دعوت فقهاءنا‬
‫لتخاذ موقف مثله منذ أعوام طويلة‪..‬‬
‫إن الشريعة ثابتة والفقه متغير‪..‬‬
‫و إجراءات المن في الظروف العادية غيرها في الظروف الستثنائية وكذلك يختلف فقه السلم‬
‫عن فقه الحرب ويختلف أيضا الفقه الذي يمارس في الدولة المسلمة عن الفقه الذي يطبق في‬
‫الدولة الكافرة بل ويختلف كل ذلك عن الفقه في دوله يحكمها حاكم أو نخبة منافقة تبطن الكفر‬
‫وتظهر السلم‪.‬‬
‫في إجراءات المن ل يخاف من " الفيش والتشبيه" إل المجرمين‪..‬‬
‫وفي الطب ل يخاف من اختبارات المراض السارية إل الزناة‪..‬‬
‫وفي ظروف كظروف دولنا ل يخاف من تطبيق أحكام اليمان والكفر إل الكفرة‪..‬‬
‫من هنا كان الموقف المبدع لعلماء الباكستان عندما أفتوا بأن جنود الجيش الباكستاني الذين‬
‫يموتون في المعارك ليسوا مسلمين ول يصلى عليهم ول يدفنون في مقابر المسلمين‪..‬‬
‫لقد حسمت هذه الفتوى المعركة‪ ..‬حتى أن أسر الجنود المقتولين رفضوا استلم جثثهم‪..‬‬
‫ماذا لو أن علماءنا فعلوا هذا منذ زمن‪..‬‬
‫ماذا لو حكموا بنفس الحكم على من يمارس التعذيب والتزوير‪ ..‬ول أقصد أي تعذيب و أي‬
‫تزوير بل أقصد ذلك الذي تفعله حكومات تود أن تكون كلمة الشيطان هي العليا‪ ..‬ولست أقصد‬
‫حتى التزوير والتعذيب رغبة في السلطة‪ ..‬بل أقصد ذلك الذي يكون هدفه الساسي تنحية‬
‫السلم و إبادة المسلمين‪..‬‬

‫‪375‬‬
‫نعم ‪..‬‬
‫لشد ما أود أن يتصدى علماؤنا للفتوى في أمور جوهرية في وقت خطر‪..‬‬
‫أنا أعلم أن الكفر حكم فقهي ل رأي عقلي‪..‬‬
‫والرأي العقلي ينبئني أن كل حاكم حارب ال ورسوله فهو كافر‪ ..‬وأن كل نخبة رفضت‬
‫الحتكام للسلم فهي كافرة‪ ..‬و أن أي تصد للمسلمين لنهم مسلمون هو كفر مخرج من‬
‫الملة‪..‬‬
‫و إن مقصدا من أهم مقاصد الفقه الحفاظ على الدين ‪ ..‬فكيف أعطي لعداء الدين رخصة فقهية‬
‫تتيح لهم هدم الدين‪.‬‬
‫من هنا كان انبهاري و إعجابي بفتوى علماء باكستان‪ ..‬و أنتظر من الشعب الباكستاني أن‬
‫يعمل بمقتضيات هذا الحكم‪ ..‬فليس منطقيا أن يكون الجندي الذي يحارب المسلمين كافرا ويكون‬
‫من أصدر له المر مسلما‪!!..‬‬
‫نعم فتوى الفقهاء كان يمكن لها أن تنقذنا من مزالق هائلة وقعنا فيها‪..‬‬
‫وكان ما كان‪..‬‬
‫***‬
‫و تعاقبت الحداث لتصل بنا إلى ما نحن فيه‪..‬‬
‫ورحت أعض بنان الندم عندما اكتشف في نهايات العمر أنني لم أختر الختيار الصحيح بالجهاد‬
‫أو الستشهاد‪..‬‬
‫نعم‪..‬‬
‫ما أشد مرارة الندم‪..‬‬
‫وندمي على الثانية أشد من ندمي على الولى‪ ..‬ذلك أنني أدرك أن الشهادة ليست ابتلء بل‬
‫اصطفاء ‪..‬‬
‫يقول الدكتور صلح الخالدي[‪ :]1‬إن المعنى القريب‪ ،‬الذي يتبادر إلى بعض الذهان‪ ،‬لكلمة‬
‫"الشهيد هو من يموت في سبيل ال ولكن للشهيد معنى أشمل من هذا انه شهيد وشاهد!‪.‬‬
‫ثم يستشهد بما قاله الشهيد سيد قطب في تفسير الظلل ( رحم ال قائله ولعن قاتله) لية‪:‬‬
‫"ويتخذ منكم شهداء"( آل عمران ‪:)140‬‬

‫‪376‬‬
‫" إن الشهداء لمختارون‪ ،‬يختارهم ال من بين المجاهدين‪ ،‬ويتخذهم لنفسه‪ -‬سبحانه‪ -‬فما هي‬
‫رزية إذن ول خسارة‪ ،‬أن يستشهد في سبيل ال من يستشهد‪ ،‬إنما هو اختيار وانتقاء‪ ،‬وتكريم‬
‫واختصاص‪." ..‬‬
‫إذ تتضمن كلمة "الشهيد‪ ،‬معنى "الشاهد"‪ ..‬فالشهداء إذن‪ ،‬يتخذهم ال‪ ،‬ويستشهدهم على هذا‬
‫الحق الذي‪ ،‬بعث به للناس‪ ،‬يستشهدهم فيؤدون الشهادة‪ .‬يؤدونها أداء ل شبهه فيه‪ ،‬ول مطعن‬
‫عليه‪ ،‬ول جدال حوله‪ ،‬يؤدونها بجهادهم حتى الموت‪ ،‬في سبيل إحقاق هذا الحق‪ ،‬وتقريره في‬
‫دنيا الناس " ‪.‬‬
‫يقول الشهيد العظيم سيد قطب كاتب الظلل ( أعز ال القائل ولعن القاتل ) في تفسير قولة‬
‫تعالى ‪:‬‬
‫"ول تقولوا لمن يقتل في سبيل ال أموات‪ ،‬بل أحياء ولكن ل تشعرون (البقرة ‪:" )154‬‬
‫هؤلء الذين يقتلون في سبيل ال ليسوا أمواتا‪ ..‬انهم أحياء‪ ،‬فل يجوز أن يقال عنهم أموات‪ .‬ل‬
‫يجوز أن يعتبروا أمواتا في الحس والشعور‪ ،‬ول أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان‪ .‬انهم‬
‫أحياء بشهادة ال سبحانه‪ .‬فهم ل بد أحياء‪ .‬انهم قتلوا في ظاهر المر‪ ،‬وحسبما ترى العين‪،‬‬
‫ولكن حقيقة الموت وحقيقة الحياة ل تقررهما هذه النظرة السطحية الظاهرة‪ ..‬إن سمة الحياة‬
‫الولى هي الفاعلية والنمو والمتداد‪ ،‬وسمة الموت الولى هي السلبية والخمود والنقطاع‪..‬‬
‫وهؤلء الذين يقتلون في سبيل ال‪ ،‬فاعليتهم في نصرة الحق الذي قتلوا من أجله‪ ،‬فاعلية مؤثرة‪.‬‬
‫والفكرة التي من أجلها قتلوا‪ ،‬ترتوي بدمائهم وتمتد‪ ،‬وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى‬
‫ويمتد‪ ،‬فهم ما يزالون عنصرا فعال دافعا مؤثرا‪ ،‬في تكييف الحياة وتوجيهها‪ ،‬وهذه هي صفة‬
‫الحياة الولى‪ .‬فهم أحياء أول بهذا العتبار الواقعي في دنيا الناس‪.‬‬
‫***‬
‫أجل‪ ..‬ما أشد مرارة الندم أنني لم أكن مجاهدا في جنين أو في الفالوجة‪..‬‬
‫وانتبهوا يا ناس‪..‬‬
‫الجيوش ل تحارب دفاعا عن المة‪..‬‬
‫المدن والمخيمات تفعل‪..‬‬
‫المدججون بالسلح ل يقاتلون‪..‬‬
‫المدنيون العزل يفعلون‪..‬‬

‫‪377‬‬
‫فليخسئوا إذن‪..‬‬
‫حكامنا ليسوا حكاما ودولنا ليست دول‪..‬‬
‫وكل فاجر منهم ليس سوى مأمور سجن لصالح أمريكا و إسرائيل‪..‬‬
‫نعم‪..‬‬
‫المدن والمخيمات والعزل يحاربون والجيوش المدججة بالسلح والحكام الفجار ل يفعلون شيئا‬
‫إل تقييد هذه الجماهير العزلء كي ل تقاتل‪..‬‬
‫ووصلنا إلى المعادلة المذهلة الفاجعة‪ :‬كلما ازدادت قوة الحاكم والجيش كلما ازداد ضعف‬
‫المة‪ ..‬ذلك أن الجيش ليس جيش مجاهدين ول حتى مقاتلين بل جيش جلدين وسجانين‪..‬‬
‫جيش ل يحارب العدو بل يقيد المة‪..‬‬
‫أخزاكم ال‪..‬‬
‫***‬
‫ليس فخرا للغرب أن يثخننا بالجراح إذ يستعمل آلته العسكرية الجبارة ضد المدنيين‪..‬‬
‫ما هي المهارة في أن تسحق دبابة طفل‪..‬‬
‫ما هي الجسارة أن تطلق الفانتوم ‪ 16‬صاروخا على بيت فتهدمه على قاطنيه‪..‬‬
‫ما هو العجاز في أن يحاصر جيشا عرمرما مدينة صغيرة فيمنع عنها الماء والطعام‪.‬‬
‫بل إنني أزعم أن أي بلد يستطيع هزيمة أمريكا لو استطاع أن يفعل بحكام الوليات المريكية‬
‫الخمسين ما فعلته أمريكا بحكامنا الخمسة والخمسين‪..‬‬
‫و أعني لو أن أخس و أحط و أضعف حكومة على وجه الرض وعبر التاريخ ( ل أقصد‬
‫حكومة الكويت رغم أن حكومة في التاريخ لم تجلب على أمتها ودينها من العار والدمار ما‬
‫جلبته هذه الحكومة على أمتها ودينها) تستطيع هزيمة أمريكا لو زرعت فيها خمسين خائن ‪:‬‬
‫خائن لكل ولية‪.‬‬
‫وليس في المر أي شجاعة أو مهارة‪.‬‬
‫و إنما وحشية وخسة لم توجد بهذا القدر أبدا عند أي أمة في التاريخ غير المة المريكية‪..‬‬
‫المة كلها خسيسة‪ ..‬الجمهوريون والديموقراطيون وما بين هذا وذاك‪..‬‬
‫أمة بل أخلق ول ضمير وليست الحكومات الحيوانية المتوحشة إل تعبيرا عن أمة من‬
‫الحيوانات المتوحشة‪..‬‬

‫‪378‬‬
‫أعود إلى كتابي‪" :‬بغداد عروس عروبتكم" و أعيد مطالعة كيف تعامل المريكان المجرمون مع‬
‫الشعب العراقي‪:‬‬
‫يقول الطيار المريكي ريتشارد وايت عن الغارات الجوية على العراق أنها كانت تكاد تشبه‬
‫إضاءة المصباح في المطبخ ليل فتنطلق الصراصير مسرعة فتقتلها‪..‬‬
‫ة" أظهر شريط فيديو متطور التقط ليل (ة) المجندين العراقيين سيئي الحظ والنار تطلق عليهم‬
‫في الظلم‪ ،‬وبعضهم قد تمزق بفعل قنابل المدفعية ة"‬
‫وكتب جون بالزار من صحيفة لوس أنجيلوس تايمز يقول أن العراقيين كانوا ‪ " :‬مثل قطيع من‬
‫الغنم أُخرج من حظيرته‪ ،‬كانوا مصعوقين ومرتعبين‪ ،‬استيقظوا فزعين فارين من خنادق النار‪،‬‬
‫كانوا يُذبحون واحدا بعد الخر على أيدي مهاجمين ل يستطيعون رؤيتهم أو فهمهم ‪ .‬ومزقت‬
‫بعضهم انفجارات قذائف مدفعية عيار ثلثين ملم‪ .‬وسقط جندي وتلوى على الرض وحاول‬
‫النهوض‪ ،‬ولكن انفجارا آخر مزقه إربا " ‪..‬‬
‫ولم يكن العراقيون يشبهون قطيعا من الغنم لن أي شعب في العالم يتعرض لما تعرض له‬
‫الشعب العراقي من هجوم قوات شيطانية بل عقل ول أخلق ول ضمير لم يكن ليبدي قدرا‬
‫أعلى من الشجاعة والتجلد‪..‬‬
‫نواصل الرجوع إلى ما حدث عام ‪ ..91‬ولنتصور ما أضافته التكنولوجيا المريكية منذ ذلك‬
‫الوقت‪.‬‬
‫الطيار المريكي المجرم رون بالك يفخر‪ " :‬عندما عدت جلست على جناح الطائرة ورحت‬
‫أضحك‪ ،‬ربما كنت أسخر من نفسي‪ ،‬أتسلل إلى هناك و أضرب هنا و أضرب هناك‪ ،‬اقترب‬
‫رجل منى وربت كل منا على ظهر الخر ة ثم قال ‪ :‬يا إلهي‪ ،‬ظننت أننا قصفنا مزرعة‪ ،‬بدا و‬
‫كأن أحدا قد فتح بوابة حظيرة الخراف" أما القرصان الضابط براين ووكر فقد كان يتطلع إلى‬
‫المزيد من نفس النوع من القتل ‪ " :‬ل يوجد ما يمكن أن يُخرجهم من أماكنهم مثل الباتشى(‬
‫طائرة هجومية)‪ ،‬سيكون المر مثل صيد البط" ة‬
‫" أحدث العرض الشامل للسلحة المتطورة مجزرة جماعية لعدو ل حول له ول قوةة(ة)‬
‫استعملت الجيوش المريكية والبريطانية قاذفة صواريخ من طراز ( ‪ ) MLRS‬وكل عربة من‬
‫هذا النوع تستطيع إطلق اثني عشر صاروخا لمسافة تزيد على عشرين ميل‪ ،‬ويطلق كل‬
‫صاروخ من هذا النوع ثمانية آلف قنبلة مضادة للفرادة(ة) في المراحل الخيرة من الحرب‬

‫‪379‬‬
‫أطلق الجيش المريكي عشرة آلف قذيفة ( ‪ ) MLRS‬في حين أطلقت القوات البريطانية‬
‫‪ 2500‬قذيفة أخرىة"‬
‫" ة قنابل روك آي العنقودية تحتوى الواحدة منها على ‪ 247‬قنبلة يدوية ضد الفراد تنفجر إلى‬
‫ألفى شظية عالية السرعة كالموسى تمزق الشخاصة"‬
‫هذه القنابل العنقودية هي التي يقصفون بها المدنيين في الفلوجة الن‪..‬‬
‫ولنواصل‪:‬‬
‫ة " لقد عنيت السلطات المريكية عناية شديدة لخفاء حجم المجزرة (ة) ولقي انسحابان عراقيان‬
‫كبيران من الكويت – كان من الصعب إخفاؤهما بسبب حجمهما‪ -‬بعض الهتمام في العلم‬
‫الغربي‪ ،‬ولكن حتى هنا أُخفى نطاق المجزرة عموما عن الشعوب الغربية‪ :‬عُرضت في‬
‫التليفزيون أرتال كبيرة من العجلت المدمرة والمحترقة واختفت آلف الجثث العراقية على نحو‬
‫غامض ة"‬
‫" بدأت هذه المرحلة من المذبحة عندما رصدت الطائرات المريكية أرتال من الرجال اليائسين‬
‫في طوابير من العجلت العسكرية والمدنية متجهة صوب العراق‪ ،‬كان العراقيون وقتها‬
‫يلتزمون بمطالب المم المتحدة بالنسحاب من الكويت‪ ،‬غير أن هذا النسحاب الواضح لم‬
‫ينقذهم‪ ،‬وتعاقبت الطائرات المريكية على شن الغارات فكانت المذبحة كاملة‪ ،‬هوجم العراقيون‬
‫الهاربون‪ ،‬و أسرهم الكويتيون‪ ،‬بل رحمة بالقنابل العنقودية التي تقطع اللحم البشرى قطعا‬
‫صغيرة (ة) كانت المجزرة جهنمية واستمرت ساعات عدة ة(ة) وتناثرت الجثث والشلء‬
‫المقطعة في كل مكان‪ ،‬وتحجر بعض الجثث في العجلت‪ ،‬واحترق بعضها الخر‪ ،‬ولم يتبق من‬
‫الوجوه سوى السنان ة" ة‬
‫علق ضابط الستخبارات العسكرية المقدم بوب نجنت أنه لم يشاهد مثل هذه المجزرة حتى في‬
‫فيتنام ‪..‬‬
‫ووردت تقارير بأن قوات التحالف استعملت البلدوزورات لدفن اللف من قتلى العدو في‬
‫الخنادق أثناء تقدمها ة" قُتل جنود عراقيون كثيرون بدفنهم أحياء‪".‬‬
‫العقيد المريكي لون ماغارت يقدر أن القوة التابعة له قتلت ‪ 650‬عراقيا‪..‬‬
‫***‬

‫‪380‬‬
‫والن أتوقف عن الرجوع إلى التاريخ ليس لؤكد أن العراق سينتصر في نهاية المطاف بل‬
‫لؤكد أنه انتصر بالفعل‪ ..‬ونزع عن أعتى قوة في التاريخ كل ما كان يستر عورتها‪..‬‬
‫نعم‪..‬‬
‫ذلك أن الحمق المطاع‪ ،‬الغبي المجرم الطائش المجنون جورج بوش ‪ ،‬قد تصرف على نحو‬
‫فريد في التاريخ‪ ،‬وهو لسطحيته وغبائه لم يدرك أثر جهازه العلمي الهائل في خداع العالم‪.‬‬
‫وقد يكون هذا المجرم أقوي من هتلر ونابليون ‪ ..‬ومن المؤكد أنه أكثر إجراما منهما‪ ..‬لكن‬
‫المؤكد أيضا أنهما كانا يتميزان بعبقرية ولو كانت شيطانية أما هو فمجرد بلياتشو غبي أحمق‬
‫فضح بلده و أمته وشعبه عبر التاريخ‪..‬‬
‫نعم كان الكثيرون من الفلسفة والمفكرين في كافة أرجاء العالم يدركون حقيقة الوحش‬
‫المريكي وخسته وحيوانيته وتوحشه‪ ..‬وكان المفكرون المسلمون على وجه خاص يدركون‬
‫ذلك‪ ( ..‬للشهيد العظيم سيد قطب رؤى مذهلة في ذلك أرجو أن أتناولها بالتعليق في مقال‬
‫آخر)‪..‬‬
‫لكن ما هي نسبة هؤلء و أولئك للعالم‪..‬؟‪ ..‬واحد في المليون؟‪ ..‬واحد في اللف؟؟‪ ..‬تظل‬
‫النسبة الهائلة مخدوعة في الوهم المريكي‪ ..‬ولقد كان هذا الوهم والضلل سر جاذبية الحلم‬
‫المريكي كله‪ ..‬وكان جهد النخبة المريكية إخفاء حقيقة التوحش والزيف في الحلم الشيطاني‪..‬‬
‫وظل المر كذلك حتى جاء جورج الغبي ل يعدو الوصف الذي وصف به أسامة بن منقذ‬
‫أجداده منذ ألف عام‪ :‬بغل قوي عديم الروح والخلق والنخوة‪ ،‬جاء ومعه مجموعة من‬
‫الخنازير المتوحشة ‪ ،‬جاءوا بحماقة لم تتكرر في التاريخ‪ ،‬إنهم يعلمون أنهم لصوص‪ ،‬و أنهم‬
‫مجرمون‪ ،‬و أنهم كاذبون‪ ،‬يعلمون ذلك‪ ،‬وظنوا أن العالم كله يعلم ما يعلمونه‪ ..‬فخلعوا ورقة‬
‫التوت‪ ..‬كانوا كالمجنون الذي رأي عورته فظن الناس جميعا يرونها فخرج إلى الشارع‬
‫عاريا‪..‬‬
‫ولول مرة في التاريخ يكشف الغرب الصليبي للدنيا كلها مدى الحقارة والخسة التي يتمتع بها‪..‬‬
‫و أظنها أول مرة في التاريخ تنظر البشرية كلها إلى أمة بهذا الزدراء الكلي‪ ..‬فليس في‬
‫الحضارة المريكية أي شئ يغري‪ ..‬أما العلم والتكنولوجيا فليست حكرا عليهم‪..‬‬
‫و أظنها المرة الولى في التاريخ الذي تتعلم فيه الدنيا دروسا مباشرة عبر الفضائيات أن هذه‬
‫أمة مجرمة ل تعرف إل لغة القوة و أنها لن ترعوي إل إذا قُصفت واشنطن ونيويورك بالقنابل‬

‫‪381‬‬
‫النووية كما قَصفت هيروشيما وناجازاكي‪ ..‬وإل بعد أن تصطاد الطائرات الحربية الحديثة‬
‫المدنيين المريكيين العزل في هيوستون ولوس أنجيلوس و أن تهدم ناطحات السحاب عليهم‬
‫كما فعلت الطائرات المريكية في إخوتنا في العراق‪..‬‬
‫نعم‪..‬‬
‫يدرك العالم الن أن الطبيعة الوحشية ل ترجع إلى نوع المعركة أو نوع الشعب الذي يهاجمه‬
‫المريكيون بل يعود إلى السفالة المريكية الجرامية المتوحشة‪ ..‬و أنها يجب أن تجابه‬
‫بالعقاب‪ ..‬ليس على ما ترتكبه أو سترتكبه بل على ما ارتكبته فعل كذلك‪..‬‬
‫حماقة المجنون المريكي أن العالم كله سيتعلم هذا الدرس‪..‬‬
‫نحن كعرب قد تعلمناه فعل‪..‬‬
‫لكن العالم كله يتعلمه الن‪..‬‬
‫ومن المؤكد أن المعارك القادمة سيدور بعضها على القل على الرض المريكية‪ ..‬وستكون‬
‫أي قوة موازية أو مواجهة حريصة على أن تقطع الذراع الطويلة لسلح الطيران المريكي‪..‬‬
‫وأن يكون لديها من وسائل الدمار ما يهلك الشعب المريكي على أرضه‪..‬‬
‫سوف يُضرب المدنيون منهم كما ضربوا المدنيين في شتى أنحاء العالم‪..‬‬
‫وسوف يُمثل بجثث قتلهم كما مثلوا بشهداء العالم السلمي‪..‬‬
‫المجرم المجنون عرّى بلده‪..‬‬
‫هل تريدون عريا أكثر من أن يقف الجنرال المريكي الحقير ليعلن على شاشة التلفاز وقف‬
‫إطلق النار وفي نفس الوقت وعلى ذات الشاشة صور الطائرات تقصف المدنيين العزل‪..‬‬
‫نعم أخس أمة في التاريخ‪..‬‬
‫ومن بين مائتي مليون أمريكي لم يخرج ليحتج إل بضع مئات‪..‬‬
‫لم تخرج المظاهرات الحاشدة لتهتف‪ :‬نحن المريكيون شعب همجي متوحش وعلينا أن نتعلم‬
‫التحضر واحترام حقوق النسان‪..‬‬
‫ول خرج المفكرون ليؤكدوا أن كل حكوماتهم لم تكن سوي عصابات من المجرمين‬
‫واللصوص‪.‬‬
‫***‬
‫طال المقال‪..‬‬

‫‪382‬‬
‫وثمة الكثير لم أقله بعد‪..‬‬
‫لكنني أوجزه على أمل إكماله في مقالت تالية‪..‬‬
‫لقد كففت عن سباب الحكام و أوجه الن إدانتي كلها للمة‪..‬‬
‫ولم أتوقف عن إدانة الحكام لنهم أبرياء‪ ..‬بل أتوقف لن كل قواميس الدنيا لم تعد كافية لوصف‬
‫خستهم ونذالتهم وعهرهم وجبنهم‪ ..‬بل إنني عندما أصفهم بهذه الصفات أظلم الصفات ‪..‬‬
‫لنناعندما نكتفي بها نكون كمن يكتفي بصفع من يستحق العدام‪..‬‬
‫وما عادت الدانة تجدي ولن يترتب عليها أي استجابة‪..‬‬
‫هل يتخيل القارئ أن نذهب إلى سموه قائلين‪:‬‬
‫سموك داعر وشاذ وخائن وقد حولت إمارتك إلى معسكر للعداء ودمرت المة‪..‬‬ ‫‪-‬‬
‫وما أن نقول له ذلك حتى يبادر بالعتذار والعتزال‪..‬‬
‫وهل يتخيل القارئ أن نذهب إلى جللته قائلين‪:‬‬
‫جللتك عميل قديم لنجليز ثم للمريكان‪ ..‬جللتك وغد ومقزز وخائن‪..‬‬ ‫‪-‬‬
‫فيبادر جللته بالتخلي عن العرش‪..‬‬
‫هل يتخيل القارئ أن نذهب إلى فخامته قائلين‪:‬‬
‫فخامتك جاسوس قديم وقد ضبطتك الحكومة البلغارية تتجسس عليها لحساب المخابرات‬ ‫‪-‬‬
‫المريكية عندما كنت مبتعثا إليها‪ ..‬و أنت عندما أفسدت اجتماع الجامعة كنت تفعل ذلك ولء‬
‫لسيادك‪ ..‬أيها الجاسوس الحقير؟!‪..‬‬
‫أو أن نذهب إلى سيادته قائلين‪:‬‬
‫‪ -‬يا أخس حاكم حكم بلدنا‪ ..‬كفاك فقد دمرت المة‪ ..‬كفاك فقد نهبت أنت و أسرتك المة‪..‬‬
‫فيبادر سيادته بالكتفاء‪..‬‬
‫ل بد أن نغير‪..‬‬
‫لكنه تغيير في عكس التجاه الذي يفرضه علينا الطواغيت‪..‬‬
‫في عكسه على طول الخط‪..‬‬
‫تغيير يحيى الجهاد ول يجرمه بل يجرم من يجرمه‪..‬‬
‫تغيير يدفع تلك الجيوش الذليلة الرابضة على قلوب أمتها إلى المبادرة بمواجهة أمريكا و‬
‫إسرائيل وقتالها‪..‬‬

‫‪383‬‬
‫تغيير يحيي الولء والبراء‪..‬‬
‫تغيير يعيد للسلم سيادته وسؤدده‪..‬‬
‫تغيير يحتكم للقرآن والسنة‬
‫تغيير يردع الداعرات وينفي الشواذ ل تغييرا يدفعهم إلى مقاعد التحكم والسيطرة والسلطة‪..‬‬
‫تغيير يحاكم اللصوص والخونة وليس البطال والمجاهدين‪..‬‬
‫تغيير يعيد إلى المة كرامتها التي أهدرها الحكام الخونة‪..‬‬
‫تغيير ل يبدأ إل بتغييرهم‪..‬‬
‫لعنهم ال‪..‬‬
‫***‬
‫المة أمام أزمة تهدد وجودها‪..‬‬
‫حكامها خونتها‪..‬‬
‫وعليها أن تغيرهم‪..‬‬
‫وهم لن يتغيروا بغير القوة‪..‬‬
‫وعلى المة أن تبتكر الوسائل التي تمكنها من هذه القوة‪..‬‬
‫فلماذا ل نبادر‪..‬‬
‫لقد مات مليون عراقي في حرب لم يكن لها أن تقوم‪..‬‬
‫ومات مليون آخر في حرب ظالمة فرضت عليها‪..‬‬
‫لماذا ل نبذل أرواح مليون آخر لنواجه الطاغوت وننتصر عليه‪..‬‬
‫لماذا ل نكون مستعدين في مصر لن نقدم مليون أو مليوني شهيد‪..‬‬
‫لماذا ل يقدم أهل الجزيرة مليون شهيد‪..‬‬
‫أم حسبتم أن تقولوا آمنا وأنتم ل تفتنون‪..‬‬
‫***‬
‫كلمة أخيرة أوجهها إلى شعبنا في الجزيرة العربية‪..‬‬
‫هل حقا تقلع الطائرات التي تضرب أبطال الفلوجة من المطارات في أرض الجزيرة؟؟‪..‬‬
‫إنني أعرض عليكم هذه الرسالة التي وصلتني من المرصد العلمي‪..‬‬
‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫‪384‬‬
‫وبه نستعين‬
‫والصلة والسلم على رسوله المين‬
‫(( فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى ال فتوكلوا إن كنتم مؤمنين))‬
‫إلى إخواننا الموحدين في جزيرة العرب من قاعدة الجهاد وباقي الخوة العاملين فيها‬
‫السلم عليكم ورحمة ال تعالى وبركاته وبعد‬
‫فهذا نداء إخوانكم من مجاهدي الفلوجة ( مقبرة المريكان ) إليكم فقد ورد إلى أسماعنا إن‬
‫طائرات الف ‪ 16‬التي تقصف الفلوجة حاليا بالقنابل العنقودية تنطلق من جزيرة رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫فإنّا نستنصركم أن تهبوا لدك المطارات التي تنطلق منها هذه الطائرات التي أهلكت الحرث‬
‫والنسل ولم تفرق بين مسجد وبيت وصغير وكبير ووال ما هالنا سكوت أمم الكفر على هذا‬
‫القصف الهمجي الوحشي فالكفر ملة واحدة ‪.‬‬
‫ول هالنا سكوت حكومات الردة في بلد العرب فهؤلء أولياء أولئك ‪.‬‬
‫ول حتى هالنا سكوت عوام الناس من أهل السلم فهم في سبات وسيبقون كذلك إلى إن يشاء‬
‫ال ‪.‬‬
‫ولكن هالنا وآلمنا سكوت إخواننا في الدين والعقيدة في باقي بلد المسلمين وفي الجزيرة‬
‫والكويت خاصة ‪.‬‬
‫فال ال يا موحدين بأهل الفلوجة ‪..‬‬
‫فانهم قد استنصروكم وقد وجبت عليكم النصرة‪..‬‬
‫اللهم إنّا استنصرنا إخواننا ‪ ،‬اللهم فاشهد‪..‬‬
‫مجاهدي الفلوجة‬
‫‪ 19/2/1425‬هـ الموافق ‪ 9/4/2004‬م‬
‫حاشية ‪1‬‬
‫الفلوجة البطلة‪..‬‬
‫ما يحدث في الفلوجة مذهل ومبهر‪..‬‬
‫لكم ال يا أبطال السلم و أسوده ولعن ال حكاما و أحزابا وكتابا يمنعونكم و إخوتكم من‬
‫الجهاد منذ عقود وعقود‪.‬‬

‫‪385‬‬
‫المدنيين العزل في الفلوجة يتفاوضون مع أمريكا ويسخرون منها ويقاتلونها في نفس الوقت‬
‫بطريقة لم يفعلها التحاد السوفيتي وروسيا والصين‪..‬‬
‫أحد الصدقاء استخفته النشوة فقال – بعد أن دعا لهم بالنصر‪: -‬‬
‫‪ -‬لم يبق إل سقوط حكومتين عربيتين أو ثلث وتدمير سلحها وتسريح جيوشها كي نحقق‬
‫النتصار الكامل على أمريكا‪!!..‬‬
‫***‬
‫حاشية ‪2‬‬
‫مباحث أمن الشيطان‬
‫هل تصدقون يا ناس أن ضابطا من مباحث الشيطان في مصر يلقي القبض على شباب علق‬
‫بعض الملصقات تنديدا باغتيال الشهيد أحمد يا سين‪ ..‬جمعهم وروعهم وعذبهم وداس على‬
‫رؤوسهم بحذائه‪..‬‬
‫كلب من كلب النار‪..‬‬
‫وهو أسوأ حتى من جنود أمريكا و إسرائيل‪ ..‬فالخيرة تبيع آخرتها بدنياها‪ ..‬أما هو فإنه يبيع‬
‫آخرته ودنياه بدنيا غيره‪.‬‬
‫***‬
‫حاشية ‪3‬‬
‫مجدي حسين‬
‫أغلب الظن أن مجدي حسين سوف يسجن في السابيع القادمة‪..‬‬
‫ل يهم القضية ول تهم التهمة ول تهم الجراءات‪..‬‬
‫لقد أصيب ضمير القضاء الشامخ المستشار يحيى الرفاعي بأزمة قلبية وهو يشاهد كيف ينتهك‬
‫القانون في التعامل مع مجدي حسين‪..‬‬
‫و أصيب بأزمة أخرى وهو يري كم تمكنت السلطة من الحاطة بأعلى درجات التقاضي‪..‬‬
‫راجعوا يا قراء مقالتي عن المستشار يحيى الرفاعي ومجدي حسين‪..‬‬
‫‪http://www.mohamadabbas.net/Ma2al/22Karsa.htm‬‬
‫‪http://www.mohamadabbas.net/Ma2al/397dthGlal.htm‬‬
‫‪http://www.mohamadabbas.net/Ma2al/50AdelHussen.htm‬‬
‫أما أصل الحكاية فتعود إلى زمن بعيد بعيد‪..‬‬

‫‪386‬‬
‫ولكي تفهموا يا قراء فإن عليكم أن تنظروا باستمرار في اتجاهين‪ ..‬ولكي تفهموا كيف تسير‬
‫المور في بلدنا انظروا ما ذا تفعل أمريكا بحكوماتنا‪..‬‬
‫تمكنت أمريكا من أن تزرع داخل حكوماتنا جواسيس لها تحولوا بمرور الوقت إلى الغلبية‬
‫الحاكمة فعل وتحول الوطنيون إلى أقلية نادرة تكاد ل تذكر‪..‬‬
‫وعلى نفس المنوال تمكنت أجهزة المن من أن تزرع داخل المؤسسات الصحافية عملء لها‬
‫يتسترون بالصحافة‪ ..‬راحوا يتكاثرون حتى أصبحوا الغلبية الحقيقية المؤثرة في كل صحيفة‬
‫بل وفي أحيان كثيرة استولوا على كل المناصب الرئيسية فيها‪..‬‬
‫( ولمجرد ضرب المثال فإن واحدا من هؤلء كان هو الذي شن حملة شعواء ضد أحد الشيوخ‬
‫في السابيع الخيرة باسم الخلق والدين‪ ،‬ولقد أقسم عالم من علماء الزهر الشريف على‬
‫إحدى الفضائيات أن هذا الصحافي ل يعرف عدد ركعات صلة الظهر‪ ،‬ترقى هذا الصحافي‬
‫من طالب إلى رئيس تحرير على ساعدي امرأة كانت أجهزة المن قد أعدتها لتكون محظية‬
‫لرئيس عربي – ما يزال في السلطة‪ -‬وكانت الحكاية مشهورة حتى أن المرأة أصبحت تنسب‬
‫إلى ذلك الرئيس‪ -‬ووصلت هذه إلى أرقى المناصب الصحفية وعلى شرفها صعد صاحبنا‬
‫ذاك‪ ..‬وفي الشهور الخيرة اصطدم صاحبنا ذاك بمستشار سابق على شاكلته‪ ..‬واستدرجه‬
‫المستشار عن طريق امرأة سوء إلى بيت سوء‪ ..‬وفي ذلك البيت فوجئ برجلين يغتصبانه‪..‬‬
‫والقضية أمام الجهزة المختصة‪ ..‬ليس بتهمة الغتصاب‪ ..‬بل بتهمة الغتصاب دون إرادته‪..‬‬
‫فالرجل شاذ‪ ..‬وهذا الشاذ هو الذي هاجم الشيخ‪)!!..‬‬
‫في مثل آخر‪ ..‬رئيس تحرير أنشأ صحيفة وافقت عليها أجهزة المن في سرعة البرق‪ ..‬وبعد‬
‫أسابيع تم القبض على شقيقه الذي يعمل معه في نفس الصحيفة متلبسا بالرشوة والبتزاز‬
‫لحساب الصحيفة)‪..‬‬
‫ولم تكن الشعب في بداية عصرها تمثل شذوذا عن القاعدة – بل إن المثلين السابقين بالذات‬
‫يخصان من عملوا ذات يوم بها‪ .. -‬واستمر المر على هذا المنوال حتى جاء عادل حسين‬
‫رحمه ال‪ ،‬فحاول تطهيرها وبذل في ذلك جهدا جبارا كلل بنجاح جزئي‪ ..‬ثم جاء مجدي حسين‬
‫ليسير على نفس المنوال‪ ..‬ثم أتت قضية الوليمة لتفرز معادلت أخرى ترتب عليها تطهير‬
‫الصحيفة من جل عملء المباحث‪ ..‬ولم يكن المر يشكل خطورة بالنسبة لهذه الجهزة طالما‬
‫كانت الصحيفة معطلة‪..‬‬

‫‪387‬‬
‫ومضت اليام والسابيع والشهور والسلطة تتحدى عشرات الحكام القضائية بعودة الشعب‬
‫للصدور حتى استنفدت كل حيلها وبدا في الفق اقتراب صدور حكم نهائي بعودة الشعب إلى‬
‫الصدور‪..‬‬
‫وهنا كان على أجهزة المن أن تستدرك المر‪ ،‬هذه الجهزة التي لم تتوقع أن تصمد صحيفة‬
‫الشعب الليكترونية كل هذه السنوات تحت الحصار‪ ،‬بل وتتجاوز الصمود لتصبح واحدة من‬
‫أهم المواقع على الشبكة الليكترونية‪ ،‬يتابعها المليين في شتى أرجاء العالم‪ ،‬للدرجة التي‬
‫أزعجت أجهزة المن فحاولت إعاقة استقبالها في مصر‪.‬‬
‫كان على هذه الجهزة أن تحاول إعادة عملئها إلى الصحيفة‪ ..‬ولم يكن ذلك ممكنا في وجود‬
‫مجدي حسين‪ ..‬لذلك فمن المحتم حبسه‪ ..‬بغض النظر عن القانون والمحاكم والنيابة والقضاء‪.‬‬
‫***‬
‫حاشية ‪4‬‬
‫قناة الجزيرة‪ ..‬ومباحث أمن الدولة‪..‬‬
‫من المؤكد أن قناة الجزيرة تستحق التحية على تغطيتها لحداث العراق في اليام الخيرة ‪..‬‬
‫لكن هذا موضوع آخر‪..‬‬
‫أما موضوعنا الن فقد حدث ظهر اليوم‪ :‬الجمعة حين فوجئت بمراسل قناة الجزيرة يجري‬
‫مقابلة مع الستاذ الدكتور مجدي قرقر داخل الجامع الزهر‪ ..‬فاستبدت بي الدهشة‪..‬‬
‫فالستاذ مجدي حسين والدكتور مجدي قرقر وكوكبة من الشباب السلمي حولهم يقومون منذ‬
‫ثلثة أعوام بقيادة مظاهرة كل أسبوع داخل صحن الجامع الزهر بعد صلة الجمعة من كل‬
‫أسبوع‪ ..‬وهذه المظاهرة تمثل قلب مصر الحقيقي وعقلها وضميرها‪ ..‬ومع ذلك تجاهلتها كل‬
‫الفضائيات مع سبق الصرار والترصد‪ ..‬وظننت أن المر يخضع للسهو والهمال والنسيان‬
‫إلى أن أدركت أنه متعمد مع سبق الصرار والترصد‪ ..‬إذ يكفي أن يذهب أي وجه غير‬
‫لسلمي لتطارده تلك الفضائيات وتسجل له وتظل تعيد التسجيل أياما‪ ..‬بل لحظت أن الكاميرا‬
‫تتعمد البتعاد عن الوجوه السلمية ما استطاعت‪..‬‬
‫من هنا كان ذهولي‪ ،‬وقلت لنفسي أن حمية الحماسة قد انتقلت من مقر الجزيرة الرئيسي في‬
‫قطر إلى مكتبها في القاهرة‪ .‬لكنني سرعان ما تراجعت‪ ،‬ففي نشرات الخبار التالية‪ ،‬كانت نفس‬
‫المشاهد والحوارات تتكرر‪ ،‬إل الحوار مع الدكتور مجدي قرقر فقد تم حذفه‪.‬‬

‫‪388‬‬
‫قلت لنفسي أن إذاعة الحوار كان خطأ فادحا ربما تورط فيه مذيع حديث ل يفهم قانون أمن‬
‫الدولة‪.‬‬
‫وربما يندهش القارئ من العلقة بين قناة فضائية غير مصرية و أمن الدولة في مصر‪..‬‬
‫وقبل أن أوضح الحكاية أذكركم بقصف مكاتب الجزيرة في أفغانستان والعراق‪ ،‬وبقتل مراسل‬
‫ومصور العربية في بغداد‪ ،‬ولم يكن القتل عن خطأ في التقدير‪ ،‬بل كان كامل التعمد‪ ،‬وكان‬
‫رسالة لمن لم يسمع ولم يع‪ :‬إما أن تذيعوا ما نريدكم أن تذيعوه بل زيادة أو فالموت مصيركم‪.‬‬
‫مباحث أمن الدولة في مصر أكثر رقة وتحضرا من خنازير المريكان‪ ..‬فهي ل تقتل ‪ ..‬ولكنها‬
‫تمارس طريقة شديدة الدهاء ‪ ..‬وكيف ل‪ ..‬ومؤسسها الول هو اللورد كرومر‪ ..‬ثم المخابرات‬
‫المريكية عن طريق صلح دسوقي الذي تدرب في الـ ‪( ..CIA‬ليكون مفتاح اللغز في حادث‬
‫المنشية‪ ..‬فهو وليس محمود عبد اللطيف الذي أطلق الرصاص تجاه عبد الناصر)‪..‬‬
‫أقول تمارس المباحث خطة شديدة الدهاء‪ ..‬إذ أنه من شروط افتتاح مكتب محلي لي فضائية‬
‫أو صحيفة عربية الحصول على موافقة المباحث‪..‬‬
‫والحكاية كما سمعتها من شاهد عيان أن المباحث لم ترفض أبد أي طلب لي فضائية أو‬
‫صحيفة‪ ..‬بل تبلغ الريحية بهم في بعض الحيان أن تغمض عينها عن العمل دون ترخيص‬
‫بإذن شفوي منها‪ ..‬لكن هذا الذن الشفوي سرعان ما يسحب عندما يتمرد مندوب تلك الفضائية‬
‫على قوانين السمع والطاعة ونشر ما تريد المباحث وحجب سواه‪.‬‬
‫أما بالنسبة للحصول على ترخيص دائم فإن المباحث ل ترفض أبدا‪ ..‬وتتذرع طول الوقت بأنها‬
‫ما زالت تبحث الطلب حتى لو استمر المر أعواما‪ ..‬ويظل المر كذلك إلى أن تفهم القناة أو‬
‫الصحيفة حقيقة المر فتبحث عن صحافي من أتباعهم‪ ..‬أو على القل إذا ما كانت الفضائية أو‬
‫الصحيفة قوية فهم يسمحون برئيس للمكتب ليس من العملء المباشرين لكنهم يلغمون له المكتب‬
‫بعملئهم‪ ..‬للدرجة التي جعلت مذيعا كبيرا بأحد أهم الفضائيات العربية يكاد يصاب بالنهيار‬
‫العصبي عندما حاول لمدة ساعتين أن يتصل بي – بناء على موعد سابق ‪ -‬من مكتب‬
‫الفضائية في القاهرة‪ ..‬فعجز تماما‪ ..‬وفي اليوم التالي اتصل بي من خارج مصر ليقول معتذرا‬
‫في أسف عظيم‪..‬‬
‫هذا المر ل يمكن أن يحدث في أي بلد في الدنيا‪ ..‬لكنه يحدث في مصر‪ ..‬لقد رفض‬ ‫‪-‬‬
‫عمال الستوديو بإصرار توصيلي بك‪..‬‬

‫‪389‬‬
‫وبهذه الطريقة تستطيع المباحث أن تسيطر سيطرة شبه كاملة على نشر ما تشاء ومنع ما‬
‫تشاء‪ ..‬إل في حالت استثنائية نادرة ‪ ..‬منها ظهور الدكتور مجدي قرقر على شاشة الجزيرة‬
‫‪..‬‬
‫إل أن علينا أن نعترف أن هذا العوار ينطبق على المكاتب المحلية دون المحطة الرئيسية‪..‬‬
‫والدليل على ذلك أن المحطة الرئيسية أذاعت الكثير من المقابلت مع قياديين إسلميين بارزين‬
‫وهو المر الذي ل يحدث عادة في الفرع‪.‬‬
‫***‬
‫حاشية ‪5‬‬
‫ثورة النعال‬
‫بالمناسبة‪..‬‬
‫أين كلب العرب من كتاب ومفكرين‪ ..‬أولئك الذين لم يكفوا عن التباكي على القتلى المدنيين‬
‫المريكيين في ‪ 11‬سبتمبر‪..‬‬
‫أين هذه الكلب‪..‬‬
‫أين هم من كتاب ووزراء وحكام ومفكرين وقادة‪..‬‬
‫إنني أدعو من حولهم – مادمنا قد عجزنا عن أي ثورة أخرى – أن ينشئوا حزبا أو أن يبتكروا‬
‫ثورة جديدة اسمها ثورة النعال ( لم تعتبر أمريكا حتى الن النعال من أسلحة الدمار الشامل كما‬
‫أن استعمالها غير خاضع لقوانين الرهاب)‪ ..‬ليقوم أعضاء هذا الحزب أو هذه الثورة بضرب‬
‫كل مروجي الحلم المريكي بالنعال‪ ..‬أيا كانت مراكزهم‪..‬‬
‫‪---------------------------------------------------------‬‬
‫‪-----------------------‬‬

‫‪ " - 1‬سيد قطب ‪ :‬الشهيد الحي" بقلم صلح عبد الفتاح الخالدي‪ -‬الناشر‪ :‬مكتبة القصى –‬
‫عمان الردن‬
‫*************‬
‫جزاك ال عنها ألف خير‬
‫*************‬

‫‪390‬‬
‫إن نصر ال تعالى آت ل محالة‬
‫شهَادُ‬
‫حيَاةِ ال ّد ْنيَا َو َيوْمَ يَقُومُ الْأَ ْ‬
‫سَلنَا وَالّذِينَ آ َمنُوا فِي الْ َ‬
‫صرُ رُ ُ‬
‫قال تعالى في سورة غافر ‪ :‬إِ نّا َلنَن ُ‬
‫(‪َ )51‬يوْمَ لَا يَنفَعُ الظّاِلمِينَ َمعْ ِذ َر ُتهُمْ َوَلهُمُ الّل ْعنَةُ َوَلهُمْ سُوءُ الدّارِ (‪)52‬‬
‫وقال تعالى في سورة الصافات ‪:‬‬
‫سلِينَ (‪ِ )171‬إ ّنهُمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ (‪َ )172‬وإِنّ جُن َدنَا َلهُمُ ا ْلغَاِلبُونَ‬
‫سبَ َقتْ َكِل َم ُتنَا ِل ِعبَا ِدنَا ا ْل ُمرْ َ‬
‫َولَقَدْ َ‬
‫جلُونَ (‬
‫س َتعْ ِ‬
‫صرُونَ (‪ )175‬أَ َف ِبعَذَا ِبنَا يَ ْ‬
‫س ْوفَ ُي ْب ِ‬
‫صرْهُمْ فَ َ‬
‫حتّى حِينٍ (‪َ )174‬وَأ ْب ِ‬
‫ع ْنهُمْ َ‬
‫(‪َ )173‬ف َتوَلّ َ‬
‫صرْ‬
‫حتّى حِينٍ (‪َ )178‬وَأ ْب ِ‬
‫ع ْنهُمْ َ‬
‫صبَاحُ ا ْلمُنذَرِينَ (‪َ )177‬و َتوَلّ َ‬
‫ح ِتهِمْ فَسَاء َ‬
‫‪ )176‬فَإِذَا َنزَلَ بِسَا َ‬
‫سلِينَ (‬
‫علَى ا ْل ُمرْ َ‬
‫سلَامٌ َ‬
‫عمّا َيصِفُونَ (‪ )180‬وَ َ‬
‫سبْحَانَ َر ّبكَ َربّ ا ْل ِع ّزةِ َ‬
‫صرُونَ (‪ُ )179‬‬
‫س ْوفَ ُي ْب ِ‬
‫فَ َ‬
‫حمْدُ ِللّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)181‬‬
‫‪ )181‬وَالْ َ‬

‫وقال تعالى في سورة النور ‪:‬‬


‫خَلفَ الّذِينَ مِن‬
‫ستَ ْ‬
‫خلِ َف ّنهُم فِي الَْأرْضِ َكمَا ا ْ‬
‫ستَ ْ‬
‫ع ِملُوا الصّالِحَاتِ َليَ ْ‬
‫وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آ َمنُوا مِنكُمْ وَ َ‬
‫ش ِركُونَ بِي‬
‫خوْ ِفهِمْ َأ ْمنًا َي ْعبُدُو َننِي لَا يُ ْ‬
‫َق ْبِلهِمْ َوَل ُي َم ّكنَنّ َلهُمْ دِي َنهُمُ الّذِي ا ْرتَضَى َلهُم َوَل ُيبَ ّدَل ّنهُم مّن َبعْدِ َ‬
‫ش ْيئًا َومَن كَ َفرَ َبعْدَ َذِلكَ فَُأ ْوَل ِئكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (‪)55‬‬
‫َ‬
‫يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال ‪:‬‬
‫إن وعد ال قاطع جازم‪( :‬إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ‪ . . ). .‬بينما يشاهد‬
‫الناس أن الرسل منهم من يقتل ومنهم من يهاجر من أرضه وقومه مكذبا مطرودا ‪ ,‬وأن‬
‫المؤمنين فيهم من يسام العذاب ‪ ,‬وفيهم من يلقى في الخدود ‪ ,‬وفيهم من يستشهد ‪ ,‬وفيهم من‬
‫يعيش في كرب وشدة واضطهاد ‪ . .‬فأين وعد ال لهم بالنصر في الحياة الدنيا ? ويدخل‬
‫الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل ‪ ,‬ويفعل بها الفاعيل !‬
‫ولكن الناس يقيسون بظواهر المور ‪ .‬ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير ‪.‬‬
‫إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان ‪ ,‬وحيز محدود من المكان ‪ .‬وهي مقاييس بشرية‬
‫صغيرة ‪ .‬فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان ‪ ,‬ول‬
‫يضع الحدود بين عصر وعصرول بين مكان ومكان ‪ .‬ولو نظرنا إلى قضية العتقاد واليمان‬
‫في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك ‪ .‬وانتصار قضية العتقاد هو انتصار أصحابها ‪.‬‬

‫‪391‬‬
‫فليس لصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها ‪ .‬وأول ما يطلبه منهم اليمان أن يفنوا‬
‫فيها ويختفوا هم ويبرزوها !‬
‫والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم ‪ ,‬قريبة الرؤية لعينهم ‪.‬‬
‫ولكن صور النصر شتى وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة ‪ . .‬إبراهيم‬
‫عليه السلم وهو يلقى في النار فل يرجع عن عقيدته ول عن الدعوة إليها ‪ . .‬أكان في موقف‬
‫نصر أم في موقف هزيمة ? ما من شك ‪ -‬في منطق العقيدة ‪ -‬أنه كان في قمة النصر وهو‬
‫يلقى في النار ‪ .‬كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار ‪ .‬هذه صورة وتلك صورة ‪.‬‬
‫وهما في الظاهر بعيد من بعيد ‪ .‬فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب ! ‪ . .‬والحسين ‪-‬‬
‫رضوان ال عليه ‪ -‬وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب ‪ ,‬المفجعة من جانب ?‬
‫أكانت هذه نصرا أم هزيمة ? في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة ‪ .‬فأما في‬
‫الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصرا ‪ .‬فما من شهيد في الرض تهتز له الجوانح‬
‫بالحب والعطف ‪ ,‬وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان ال عليه ‪ .‬يستوي‬
‫في هذا المتشيعون وغير المتشيعين ‪ .‬من المسلمين ‪ .‬وكثير من غير المسلمين !‬
‫وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام ‪ ,‬كما نصرها‬
‫باستشهاده ‪ .‬وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ‪ ,‬ويحفز اللوف إلى العمال‬
‫الكبيرة ‪ ,‬بخطبة مثل خطبته الخيرة التي يكتبها بدمه ‪ ,‬فتبقى حافزا محركا للبناء والحفاد ‪.‬‬
‫وربما كانت حافزا محركا لخطى التاريخ كله مدى أجيال ‪. .‬‬
‫ما النصر ? وما الهزيمة ? إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور ‪.‬‬
‫ومن القيم ‪ .‬قبل أن نسأل‪:‬أين وعد ال لرسله وللمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا !‬
‫على أن هناك حالت كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة ‪ .‬ذلك حين تتصل هذه‬
‫الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة ‪ .‬لقد انتصر محمد صلى ال عليه وسلم في حياته ‪.‬‬
‫لن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الرض ‪ .‬فهذه العقيدة ل يتم‬
‫تمامها إل بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعا ‪ .‬من القلب المفرد إلى الدولة‬
‫الحاكمة ‪ .‬فشاء ال أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته ‪ ,‬ليحقق هذه العقيدة في صورتها‬
‫الكاملة ‪ ,‬ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعة تاريخية محددة مشهودة ‪ .‬ومن ثم اتصلت صورة‬

‫‪392‬‬
‫النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة ‪ ,‬واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية ‪ .‬وفق‬
‫تقدير ال وترتيبه ‪.‬‬
‫وهنالك اعتبار آخر تحسن مراعاته كذلك ‪ .‬إن وعد ال قائم لرسله وللذين آمنوا ‪ .‬ول بد أن‬
‫توجد حقيقة اليمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها ‪ .‬وحقيقة اليمان كثيرا ما يتجوز‬
‫الناس فيها ‪ .‬وهي ل توجد إل حين يخلو القلب من الشرك في كل صوره وأشكاله ‪ .‬وإن هنالك‬
‫لشكالً من الشرك خفية ; ل يخلص منها القلب إل حين يتجه ل وحده ‪ ,‬ويتوكل عليه وحده ‪,‬‬
‫ويطمئن إلى قضاء ال فيه ‪ ,‬وقدره عليه ‪ ,‬ويحس أن ال وحده هو الذي يصرفه فل خيرة له إل‬
‫ما اختار ال ‪ .‬ويتلقى هذا بالطمأنينة والثقة والرضى والقبول ‪ .‬وحين يصل إلى هذه الدرجة‬
‫فلن يقدم بين يدي ال ‪ ,‬ولن يقترح عليه صورة معينة من صور النصر أو صور الخير ‪.‬‬
‫فسيكل هذا كله ل ‪ .‬ويلتزم ‪ .‬ويتلقى كل ما يصيبه على أنه الخير ‪ . .‬وذلك معنى من معاني‬
‫النصر ‪ . .‬النصر على الذات والشهوات ‪ .‬وهو النصر الداخلي الذي ل يتم نصر خارجي‬
‫بدونه بحال من الحوال ‪.‬‬
‫(إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الشهاد ‪ .‬يوم ل ينفع الظالمين‬
‫معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار) ‪.‬‬
‫وقد رأينا في المشهد السابق كيف ل تنفع الظالمين معذرتهم ‪ .‬وكيف باءوا باللعنة وبسوء الدار‬
‫‪ .‬فأما صورة من صور النصر في قصة موسى فهو ذاك‪:‬‬
‫(ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لولي اللباب) ‪. .‬‬
‫وكان هذا نموذجا من من نماذج نصر ال ‪ .‬إيتاء الكتاب والهدى ‪ .‬ووراثة الكتاب والهدى ‪.‬‬
‫وهذا النموذج الذي ضربه ال مثلً في قصة موسى ‪ ,‬يكشف لنا رقعة فسيحة ‪ ,‬نرى فيها صورة‬
‫خاصة من صور النصر تشير إلى التجاه ‪.‬‬
‫وهنا يجيء اليقاع الخير في هذا المقطع ‪ ,‬توجيها لرسول ال صلى ال عليه وسلم ومن كانوا‬
‫معه من المؤمنين في مكة في موقف الشدة والمعاناة ‪ .‬ولكل من يأتي بعدهم من أمته ‪,‬‬
‫ويواجهون مثل الموقف الذي كانوا فيه‪:‬‬
‫(فاصبر ‪ .‬إن وعد ال حق ‪ .‬واستغفر لذنبك ‪ ,‬وسبح بحمد ربك ‪ ,‬بالعشي والبكار) ‪. .‬‬
‫اليقاع الخير ‪ . .‬الدعوة إلى الصبر ‪ . .‬الصبر على التكذيب ‪ .‬والصبر على الذى ‪ .‬والصبر‬
‫على نفخة الباطل وانتشائه بالغلبة والسلطان في فترة من الزمان ‪ .‬والصبر على طباع الناس‬

‫‪393‬‬
‫وأخلقهم وتصرفاتهم من هنا ومن هناك ‪ .‬والصبر على النفس وميولها وقلقها وتطلعها ورغبتها‬
‫في النصر القريب وما يتعلق به من رغائب وآمال ‪ .‬والصبر على أشياء كثيرة في الطريق قد‬
‫تجيء من جانب الصدقاء قبل أن تجيء من جانب العداء !‬
‫(فاصبر ‪ .‬إن وعد ال حق) ‪ . .‬مهما يطل المد ‪ ,‬ومهما تتعقد المور ‪ ,‬ومهما تتقلب السباب ‪.‬‬
‫إنه وعد من يملك التحقيق ‪ ,‬ومن وعد لنه أراد ‪.‬‬
‫وفي الطريق ‪ ,‬خذ زاد الطريق‪:‬‬
‫(واستغفر لذنبك ‪ ,‬وسبح بحمد ربك بالعشي والبكار) ‪. .‬‬
‫هذا هو الزاد ‪ ,‬في طريق الصبر الطويل الشاق ‪ .‬استغفار للذنب ‪ ,‬وتسبيح بحمد الرب ‪.‬‬
‫والستغفار المصحوب بالتسبيح وشيك أن يجاب ‪ ,‬وهو في ذاته تربية للنفس وإعداد ‪ .‬وتطهير‬
‫للقلب وزكاة ‪ .‬وهذه هي صورة النصر التي تتم في القلب ‪ ,‬فتعقبها الصورة الخرى في واقع‬
‫الحياة ‪.‬‬
‫واختيار العشي والبكار ‪ .‬إما كناية عن الوقت كله ‪ -‬فهذان طرفاه ‪ -‬وإما لنهما آنان يصفو‬
‫فيهما القلب ‪ ,‬ويتسع المجال للتدبر والسياحة مع ذكر ال ‪.‬‬
‫هذا هو المنهج الذي اختاره ال لتوفير عدة الطريق إلى النصر وتهيئة الزاد ‪ .‬ول بد لكل‬
‫معركة من عدة ومن زاد ‪. .‬‬

‫ويقول ‪:‬‬
‫والوعد واقع وكلمة ال قائمة ‪ .‬ولقد استقرت جذور العقيدة في الرض ; وقام بناء اليمان ‪,‬‬
‫على الرغم من جميع العوائق ‪ ,‬وعلى الرغم من تكذيب المكذبين ‪ ,‬وعلى الرغم من التنكيل‬
‫بالدعاة والمتبعين ‪ .‬ولقد ذهبت عقائد المشركين والكفار ‪ .‬وذهبت سطوتهم ودولتهم ; وبقيت‬
‫العقائد التي جاء بها الرسل ‪ .‬تسيطر على قلوب الناس وعقولهم ‪ ,‬وتكيف تصوراتهم وأفهامهم ‪.‬‬
‫وما تزال على الرغم من كل شيء هي أظهر وأبقى ما يسيطر على البشر في أنحاء الرض ‪.‬‬
‫وكل المحاولت التي بذلت لمحو العقائد اللهية التي جاء بها الرسل ‪ ,‬وتغليب أية فكرة أو فلسفة‬
‫أخرى قد باءت بالفشل ‪ .‬باءت بالفشل حتى في الرض التي نبعث منها ‪ .‬وحقت كلمة ال‬
‫لعباده المرسلين ‪ .‬إنهم لهم المنصورون وإن جنده لهم الغالبون ‪.‬‬
‫هذه بصفة عامة ‪ .‬وهي ظاهرة ملحوظة ‪ .‬في جميع بقاع الرض ‪ .‬في جميع العصور ‪.‬‬

‫‪394‬‬
‫وهي كذلك متحققة في كل دعوة ل ‪ .‬يخلص فيها الجند ‪ ,‬ويتجرد لها الدعاة ‪ .‬إنها غالبة‬
‫منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق ‪ ,‬وقامت في طريقها العراقيل ‪ .‬ومهما رصد لها‬
‫الباطل من قوى الحديد والنار ‪ ,‬وقوى الدعاية والفتراء ‪ ,‬وقوى الحرب والمقاومة ‪ ,‬وإن هي‬
‫إل معارك تختلف نتائجها ‪ .‬ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده ال لرسله ‪ .‬والذي ل يخلف ولو‬
‫قامت قوى الرض كلها في طريقه ‪ .‬الوعد بالنصر والغلبة والتمكين ‪.‬‬
‫هذا الوعد سنة من سنن ال الكونية ‪ .‬سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها‬
‫المنتظمة ; وكما يتعاقب الليل والنهار في الرض على مدار الزمان ; وكما تنبثق الحياة في‬
‫الرض الميتة ينزل عليها الماء ‪ . .‬ولكنها مرهونة بتقدير ال ‪ ,‬يحققها حين يشاء ‪ .‬ولقد تبطىء‬
‫آثارها الظاهرة بالقياس إلى أعمار البشر المحدودة ‪ .‬ولكنها ل تخلف أبدا ول تتخلف وقد تتحقق‬
‫في صورة ل يدركها البشر لنهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة ‪ ,‬ول يدركون‬
‫تحقق السنة في صورة جديدة إل بعد حين !‬
‫ولقد يريد البشر صورة معينة من صور النصر والغلبة لجند ال وأتباع رسله ‪ .‬ويريد ال‬
‫صورة أخرى أكمل وأبقى ‪ .‬فيكون ما يريده ال ‪ .‬ولو تكلف الجند من المشقة وطول المد أكثر‬
‫مما كانوا ينتظرون ‪ . .‬ولقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر أن تكون لهم عير قريش وأراد ال‬
‫أن تفوتهم القافلة الرابحة الهينة ; وأن يقابلوا النفير وأن يقاتلوا الطائفة ذات الشوكة ‪ .‬وكان ما‬
‫أراده ال هو الخير لهم وللسلم ‪ .‬وكان هو النصر الذي أراده ال لرسوله وجنده ودعوته على‬
‫مدى اليام ‪.‬‬
‫ولقد يهزم جنود ال في معركة من المعارك ‪ ,‬وتدور عليهم الدائرة ‪ ,‬ويقسو عليهم البتلء ; لن‬
‫ال يعدهم للنصر في معركة أكبر ‪ .‬ولن ال يهيىء الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ‬
‫ثماره في مجال أوسع ‪ ,‬وفي خط أطول ‪ ,‬وفي أثر أدوم ‪.‬‬
‫لقد سبقت كلمة ال ‪ ,‬ومضت إرادته بوعده ‪ ,‬وثبتت سنته ل تتخلف ول تحيد‪:‬‬
‫(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) ‪.‬‬
‫وعند إعلن هذا الوعد القاطع ‪ ,‬وهذه الكلمة السابقة ‪ ,‬يأمر ال رسوله صلى ال عليه وسلم أن‬
‫يتولى عنهم ‪ ,‬ويدعهم لوعد ال وكلمته ‪ ,‬ويترقب ليبصرهم وقد حقت عليهم الكلمة ‪ ,‬ويدعهم‬
‫ليبصروا ويروا رأى العين كيف تكون‪:‬‬

‫‪395‬‬
‫(فتول عنهم حتى حين ‪ .‬وأبصرهم فسوف يبصرون ‪ .‬أفبعذابنا يستعجلون ? فإذا نزل بساحتهم‬
‫فساء صباح المنذرين ‪ .‬وتول عنهم حتى حين ‪ .‬وأبصر فسوف يبصرون) ‪. .‬‬
‫فتول عنهم ‪ ,‬وأعرض ول تحفلهم ; ودعهم لليوم الذي تراهم فيه ويرون هم ما ينتهي إليه وعد‬
‫ال فيك وفيهم ‪ .‬وإذا كانوا يستعجلون بعذابنا ‪ ,‬فياويلهم يوم ينزل بهم ‪ .‬فإنه إذا نزل بساحة قوم‬
‫صبحهم بما يسوء ‪ ,‬وقد قدم له النذير ويكرر المر بالعراض عنهم والهمال لشأنهم والتهديد‬
‫الملفوف في ذلك المر المخيف‪(:‬وتول عنهم حتى حين) ‪ . .‬كما يكرر الشارة إلى هول ما‬
‫سيكون‪(:‬وأبصر فسوف يبصرون) ‪ . .‬ويدعه مجملً يوحي بالهول المرهوب‬

‫ويقول عليه شآبيب الرحمة ‪:‬‬


‫إن حقيقة اليمان التي يتحقق بها وعد ال حقيقة ضخمة تستغرق النشاط النساني كله ; وتوجه‬
‫النشاط النساني كله ‪ .‬فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط‬
‫وبناء وإنشاء موجه كله إلى ال ; ل يبتغي به صاحبه إل وجه ال ; وهي طاعة ل واستسلم‬
‫لمره في الصغيرة والكبيرة ‪ ,‬ل يبقى معها هوى في النفس ‪ ,‬ول شهوة في القلب ‪ ,‬ول ميل في‬
‫الفطرة إل وهو تبع لما جاء به رسول ال صلى ال عليه وسلم من عند ال ‪.‬‬
‫فهو اليمان الذي يستغرق النسان كله ‪ ,‬بخواطر نفسه ‪ ,‬وخلجات قلبه ‪ .‬وأشواق روحه ‪,‬‬
‫وميول فطرته ‪ ,‬وحركات جسمه ‪ ,‬ولفتات جوارحه ‪ ,‬وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس‬
‫جميعا ‪ . .‬يتوجه بهذا كله إلى ال ‪ . .‬يتمثل هذا في قول ال سبحانه في الية نفسها تعليل‬
‫للستخلف والتمكين والمن‪( :‬يعبدونني ل يشركون بي شيئا) والشرك مداخل وألوان ‪,‬‬
‫والتوجه إلى غير ال بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بال ذلك اليمان منهج حياة‬
‫كامل ‪ ,‬يتضمن كل ما أمر ال به ‪ ,‬ويدخل فيما أمر ال به توفير السباب ‪ ,‬وإعداد العدة ‪,‬‬
‫والخذ بالوسائل ‪ ,‬والتهيؤ لحمل المانة الكبرى في الرض ‪ . .‬أمانة الستخلف ‪. .‬‬
‫فما حقيقة الستخلف في الرض ?‬
‫إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم ‪ . .‬إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في‬
‫الصلح والتعمير والبناء ; وتحقيق المنهج الذي رسمه ال للبشرية كي تسير عليه ; وتصل عن‬
‫طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الرض ‪ ,‬اللئق بخليقة أكرمها ال ‪.‬‬

‫‪396‬‬
‫إن الستخلف في الرض قدرة على العمارة والصلح ‪ ,‬ل على الهدم والفساد ‪ .‬وقدرة على‬
‫تحقيق العدل والطمأنينة ‪ ,‬ل على الظلم والقهر ‪ .‬وقدرة على الرتفاع بالنفس البشرية والنظام‬
‫البشري ‪ ,‬ل على النحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان !‬
‫وهذا الستخلف هو الذي وعده ال الذين آمنوا وعملوا الصالحات ‪ . .‬وعدهم ال أن يستخلفهم‬
‫في الرض ‪ -‬كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم ‪ -‬ليحققوا النهج الذي أراده ال ; ويقرروا‬
‫العدل الذي أراده ال ; ويسيروا بالبشرية خطوات في طريق الكمال المقدر لها يوم أنشأها ال ‪.‬‬
‫‪ .‬فأما الذين يملكون فيفسدون في الرض ‪ ,‬وينشرون فيها البغي والجور ‪ ,‬وينحدرون بها إلى‬
‫مدارج الحيوان ‪ . .‬فهؤلء ليسوا مستخلفين في الرض ‪ .‬إنما هم مبتلون بما هم فيه ‪ ,‬أو مبتلى‬
‫بهم غيرهم ‪ ,‬ممن يسلطون عليهم لحكمة يقدرها ال ‪.‬‬
‫آية هذا الفهم لحقيقة الستخلف قوله تعالى بعده‪( :‬وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) ‪. .‬‬
‫وتمكين الدين يتم بتمكينه في القلوب ‪ ,‬كما يتم بتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها ‪ .‬فقد وعدهم‬
‫ال إذن أن يستخلفهم في الرض ‪ ,‬وأن يجعل دينهم الذي ارتضى لهم هو الذي يهيمن على‬
‫الرض ‪ .‬ودينهم يأمر بالصلح ‪ ,‬ويأمر بالعدل ‪ ,‬ويأمر بالستعلء على شهوات الرض ‪.‬‬
‫ويأمر بعمارة هذه الرض ‪ ,‬والنتفاع بكل ما أودعها ال من ثروة ‪ ,‬ومن رصيد ‪ ,‬ومن طاقة ‪,‬‬
‫مع التوجه بكل نشاط فيها إلى ال ‪.‬‬
‫(وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) ‪ . .‬ولقد كانوا خائفين ‪ ,‬ل يأمنون ‪ ,‬ول يضعون سلحهم أبدا‬
‫حتى بعد هجرة الرسول صلى ال عليه وسلم إلى قاعدة السلم الولى بالمدينة ‪.‬‬
‫قال الربيع بن أنس عن أبي العالية في هذه الية‪:‬كان النبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه بمكة‬
‫نحوا من عشر سنين يدعون إلى ال وحده ‪ ,‬وإلى عبادته وحده بل شريك له ‪ ,‬سرا وهم خائفون‬
‫ل يؤمرون بالقتال ; حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة ‪ ,‬فقدموها ‪ ,‬فأمرهم ال بالقتال ‪ ,‬فكانوا‬
‫بها خائفين ‪ ,‬يمسون في السلح ويصبحون في السلح ; فصبروا على ذلك ما شاء ال ‪ .‬ثم إن‬
‫رجل من الصحابة قال‪:‬يا رسول ال أبد الدهر نحن خائفون هكذا ? أما يأتي علينا يوم نأمن فيه‬
‫ونضع عنا السلح ? فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم عليه وسلم ‪ " -‬لن تصبروا إل يسيرا‬
‫حتى يجلس الرجل منكم في المل العظيم ليست فيه حديدة " ‪ .‬وأنزل ال هذه الية ‪ ,‬فأظهر ال‬
‫نبيه على جزيرة العرب ‪ ,‬فأمنوا ووضعوا السلح ‪ .‬ثم إن ال قبض نبيه صلى ال عليه وسلم‬

‫‪397‬‬
‫فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان ‪ .‬حتى وقعوا فيما وقعوا فيه ‪ ,‬فأدخل ال‬
‫عليهم الخوف ; فاتخذوا الحجزة والشرط ‪ ,‬وغيروا فغير بهم ‪. .‬‬
‫(ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) ‪ . .‬الخارجون على شرط ال ‪ .‬ووعد ال ‪ .‬وعهد ال‬
‫‪..‬‬
‫لقد تحقق وعد ال مرة ‪ .‬وظل متحققا وواقعا ما قام المسلمون على شرط ال‪( :‬يعبدونني ل‬
‫يشركون بي شيئا) ‪ . .‬ل من اللهة ول من الشهوات ‪ .‬ويؤمنون ‪ -‬من اليمان ‪ -‬ويعملون‬
‫صالحا ‪ .‬ووعد ال مذخور‬
‫لكل من يقوم على الشرط من هذه المة إلى يوم القيامة ‪ .‬إنما يبطى ء النصر والستخلف‬
‫والتمكين والمن ‪ .‬لتخلف شرط ال في جانب من جوانبه الفسيحة ; أو في تكليف من تكاليفه‬
‫الضخمة ; حتى إذا انتفعت المة بالبلء ‪ ,‬وجازت البتلء ‪ ,‬وخافت فطلبت المن ‪ ,‬وذلت‬
‫فطلبت العزة ‪ ,‬وتخلفت فطلبت الستخلف ‪ . .‬كل ذلك بوسائله التي أرادها ال ‪ ,‬وبشروطه‬
‫التي قررها ال ‪ . .‬تحقق وعد ال الذي ل يتخلف ‪ ,‬ول تقف في طريقه قوة من قوى الرض‬
‫جميعا ‪.‬‬
‫**************‬
‫الرض لعباد ال الصالحين الذين يرونها بدمهم ‪:‬‬
‫قال تعالى في سورة النبياء ‪:‬‬
‫عبَا ِديَ الصّالِحُونَ (‪ )105‬إِنّ فِي هَذَا‬
‫َولَقَدْ َك َت ْبنَا فِي ال ّزبُورِ مِن َبعْدِ ال ّذ ْكرِ أَنّ الَْأرْضَ َي ِر ُثهَا ِ‬
‫حمَةً ّل ْلعَاَلمِينَ (‪)107‬‬
‫س ْلنَاكَ ِإلّا رَ ْ‬
‫َل َبلَاغًا لّ َقوْمٍ عَابِدِينَ (‪َ )106‬ومَا َأرْ َ‬

‫يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال ‪:‬‬


‫فما هي هذه الوراثة ? ومن هم عباد ال الصالحون ?‬
‫لقد استخلف ال آدم في الرض لعمارتها وإصلحها ‪ ,‬وتنميتها وتحويرها ‪ ,‬واستخدام الكنوز‬
‫والطاقات المرصودة فيها ‪ ,‬واستغلل الثروات الظاهرة والمخبوءة ‪ ,‬والبلوغ بها إلى الكمال‬
‫المقدر لها في علم ال ‪.‬‬

‫‪398‬‬
‫ولقد وضع ال للبشر منهجا كامل متكامل للعمل على وفقه في هذه الرض ‪ .‬منهجا يقوم على‬
‫اليمان والعمل الصالح ‪ .‬وفي الرسالة الخيرة للبشر فصل هذا المنهج ‪ ,‬وشرع له القوانين التي‬
‫تقيمه وتحرسه ; وتكفل التناسق والتوازن بين خطواته ‪.‬‬
‫في هذا المنهج ليست عمارة الرض واستغلل ثرواتها والنتفاع بطاقاتها هو وحده المقصود ‪.‬‬
‫ولكن المقصود هو هذا مع العناية بضمير النسان ‪ ,‬ليبلغ النسان كماله المقدر له في هذه الحياة‬
‫‪ .‬فل ينتكس حيوانا في وسط الحضارة المادية الزاهرة ; ول يهبط إلى الدرك بإنسانيته وهو‬
‫يرتفع إلى الوج في استغلل موارد الثروة الظاهرة والمخبوءة ‪.‬‬
‫وفي الطريق لبلوغ ذلك التوازن والتناسق تشيل كفة وترجح كفة ‪ .‬وقد يغلب على الرض‬
‫جبارون وظلمة وطغاة ‪ .‬وقد يغلب عليها همج ومتبربرون وغزاة ‪ .‬وقد يغلب عليها كفار فجار‬
‫يحسنون استغلل قوى الرض وطاقاتها استغلل ماديا ‪ . .‬ولكن هذه ليست سوى تجارب‬
‫الطريق ‪ .‬والوراثة الخيرة هي للعباد الصالحين ‪ ,‬الذين يجمعون بين اليمان والعمل الصالح ‪.‬‬
‫فل يفترق في كيانهم هذان العنصران ول في حياتهم ‪.‬‬
‫وحيثما اجتمع إيمان القلب ونشاط العمل في أمة فهي الوارثة للرض في أية فترة من فترات‬
‫التاريخ ‪ .‬ولكن حين يفترق هذان العنصران فالميزان يتأرجح ‪ .‬وقد تقع الغلبة للخذين بالوسائل‬
‫المادية حين يهمل الخذ بها من يتظاهرون باليمان ‪ ,‬وحين تفرغ قلوب المؤمنين من اليمان‬
‫الصحيح الدافع إلى العمل الصالح ‪ ,‬وإلى عمارة الرض ‪ ,‬والقيام بتكاليف الخلفة التي وكلها‬
‫ال إلى هذا النسان ‪.‬‬
‫وما على أصحاب اليمان إل أن يحققوا مدلول إيمانهم ‪ ,‬وهو العمل الصالح ‪ ,‬والنهوض بتبعات‬
‫الخلفة ليتحقق وعد ال ‪ ,‬وتجري سنته‪( :‬أن الرض يرثها عبادي الصالحون) ‪ . .‬فالمؤمنون‬
‫العاملون هم العباد الصالحون ‪. .‬‬
‫***************‬
‫نصر ال قريب‬
‫قال تعالى في سورة البقرة ‪:‬‬
‫ضرّاء َو ُز ْل ِزلُواْ‬
‫س ْتهُمُ ا ْلبَأْسَاء وَال ّ‬
‫خَل ْواْ مِن َق ْبِلكُم مّ ّ‬
‫جنّةَ َوَلمّا يَ ْأ ِتكُم ّمثَلُ الّذِينَ َ‬
‫خلُواْ الْ َ‬
‫س ْبتُمْ أَن تَدْ ُ‬
‫أَمْ حَ ِ‬
‫ص َر اللّهِ َقرِيبٌ (‪)214‬‬
‫صرُ اللّهِ أَل إِنّ َن ْ‬
‫ل الرّسُولُ وَالّذِينَ آ َمنُواْ َمعَهُ َمتَى َن ْ‬
‫حتّى يَقُو َ‬
‫َ‬
‫يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال ‪:‬‬

‫‪399‬‬
‫هكذا خاطب ال الجماعة المسلمة الولى ‪ ,‬وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها ‪,‬‬
‫وإلى سنته ‪ -‬سبحانه ‪ -‬في تربية عباده المختارين ‪ ,‬الذين يكل إليهم رايته ‪ ,‬وينوط بهم أمانته‬
‫في الرض ومنهجه وشريعته ‪ .‬وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم ‪. .‬‬
‫وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة ‪ . .‬إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه ‪ .‬من‬
‫الرسول الموصول بال ‪ ,‬والمؤمنين الذين آمنوا بال ‪ .‬إن سؤالهم‪( :‬متى نصر ال ?) ليصور‬
‫مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة ‪ .‬ولن تكون إل محنة فوق الوصف ‪ ,‬تلقي‬
‫ظللها على مثل هاتيك القلوب ‪ ,‬فتبعث منها ذلك السؤال المكروب‪( :‬متى نصر ال ?) ‪. .‬‬
‫وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة ‪ . .‬عندئذ تتم كلمة ال ‪ ,‬ويجيء النصر من‬
‫ال‪:‬‬
‫(أل إن نصر ال قريب) ‪. .‬‬
‫إنه مدخر لمن يستحقونه ‪ .‬ولن يستحقه إل الذين يثبتون حتى النهاية ‪ .‬الذين يثبتون على البأساء‬
‫والضراء ‪ .‬الذين يصمدون للزلزلة ‪ .‬الذين ل يحنون رؤوسهم للعاصفة ‪ .‬الذين يستيقنون أن ل‬
‫نصر إل نصر ال ‪ ,‬وعندما يشاء ال ‪ .‬وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها ‪ ,‬فهم يتطلعون فحسب‬
‫إلى (نصر ال) ‪ ,‬ل إلى أي حل آخر ‪ ,‬ول إلى أي نصر ل يجيء من عند ال ‪ .‬ول نصر إل‬
‫من عند ال ‪.‬‬
‫بهذا يدخل المؤمنون الجنة ‪ ,‬مستحقين لها ‪ ,‬جديرين بها ‪ ,‬بعد الجهاد والمتحان ‪ ,‬والصبر‬
‫والثبات ‪ ,‬والتجرد ل وحده ‪ ,‬والشعور به وحده ‪ ,‬وإغفال كل ما سواه وكل من سواه ‪.‬‬
‫إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة ‪ ,‬ويرفعها على ذواتها ‪ ,‬ويطهرها في بوتقة اللم ‪,‬‬
‫فيصفو عنصرها ويضيء ‪ ,‬ويهب العقيدة عمقا وقوة وحيوية ‪ ,‬فتتلل حتى في أعين أعدائها‬
‫وخصومها ‪ .‬وعندئذ يدخلون في دين ال أفواجا كما وقع ‪ ,‬وكما يقع في كل قضية حق ‪ ,‬يلقي‬
‫أصحابها ما يلقون في أول الطريق ‪ ,‬حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم‬
‫وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين ‪. .‬‬
‫على أنه ‪ -‬حتى إذا لم يقع هذا ‪ -‬يقع ما هو أعظم منه في حقيقته ‪ .‬يقع أن ترتفع أرواح‬
‫أصحاب الدعوة على كل قوى الرض وشرورها وفتنتها ‪ ,‬وأن تنطلق من إسار الحرص على‬
‫الدعة والراحة ‪ ,‬والحرص على الحياة نفسها في النهاية ‪ . .‬وهذا النطلق كسب للبشرية كلها ‪,‬‬

‫‪400‬‬
‫وكسب للرواح التي تصل إليه عن طريق الستعلء ‪ .‬كسب يرجح جميع اللم وجميع البأساء‬
‫والضراء التي يعانيها المؤمنون ‪ ,‬والمؤتمنون على راية ال وأمانته ودينه وشريعته ‪.‬‬
‫وهذا النطلق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف ‪ . .‬وهذا هو الطريق ‪. .‬‬
‫هذا هو الطريق كما يصفه ال للجماعة المسلمة الولى ‪ ,‬وللجماعة المسلمة في كل جيل ‪.‬‬
‫هذا هو الطريق‪:‬إيمان وجهاد ‪ . .‬ومحنة وابتلء ‪ .‬وصبر وثبات ‪ . .‬وتوجه إلى ال وحده ‪ .‬ثم‬
‫يجيء النصر ‪ .‬ثم يجيء النعيم ‪. .‬‬
‫***************‬
‫الجهاد حتمية كونية وسنة مطردة ل بد منها‬
‫قال تعالى في سورة البقرة ‪:‬‬
‫ش ْيئًا‬
‫حبّواْ َ‬
‫خ ْيرٌ ّلكُمْ وَعَسَى أَن تُ ِ‬
‫ش ْيئًا وَ ُهوَ َ‬
‫عَل ْيكُمُ الْ ِقتَالُ وَ ُهوَ ُك ْرهٌ ّلكُمْ وَعَسَى أَن َت ْكرَهُواْ َ‬
‫ُك ِتبَ َ‬
‫شرّ ّلكُمْ وَاللّهُ َي ْعلَمُ َوأَنتُمْ لَ َت ْعَلمُونَ (‪)216‬‬
‫وَ ُهوَ َ‬
‫يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال ‪:‬‬
‫إن القتال في سبيل ال فريضة شاقة ‪ .‬ولكنها فريضة واجبة الداء ‪ .‬واجبة الداء لن فيها خيرا‬
‫كثيرا للفرد المسلم ‪ ,‬وللجماعة المسلمة ‪ ,‬وللبشرية كلها ‪ .‬وللحق والخير والصلح ‪.‬‬
‫والسلم يحسب حساب الفطرة ; فل ينكر مشقة هذه الفريضة ‪ ,‬ول يهون من أمرها ‪ .‬ول ينكر‬
‫على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها وثقلها ‪ .‬فالسلم ل يماري في الفطرة ‪ ,‬ول‬
‫يصادمها ‪ ,‬ول يحرم عليها المشاعر الفطرية التي ليس إلى إنكارها من سبيل ‪ . .‬ولكنه يعالج‬
‫المر من جانب آخر ‪ ,‬ويسلط عليه نورا جديدا إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير‬
‫كريه المذاق ; ولكن وراءه حكمة تهون مشقته ‪ ,‬وتسيغ مرارته ‪ ,‬وتحقق به خيرا مخبوءا قد ل‬
‫يراه النظر النساني القصير ‪ . .‬عندئذ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها على المر ;‬
‫ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها ‪ .‬نافذة تهب منها ريح رخية عندما تحيط‬
‫الكروب بالنفس وتشق عليها المور ‪ . .‬إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيرا ‪ .‬ووراء‬
‫المحبوب شرا ‪ .‬إن العليم بالغايات البعيدة ‪ ,‬المطلع على العواقب المستورة ‪ ,‬هو الذي يعلم‬
‫وحده ‪ .‬حيث ل يعلم الناس شيئا من الحقيقة ‪.‬‬
‫وعندما تنسم تلك النسمة الرخية على النفس البشرية تهون المشقة ‪ ,‬وتتفتح منافذ الرجاء ‪,‬‬
‫ويستروح القلب في الهاجرة ‪ ,‬ويجنح إلى الطاعة والداء في يقين وفي رضاء ‪.‬‬

‫‪401‬‬
‫هكذا يواجه السلم الفطرة ‪ ,‬ل منكرا عليها ما يطوف من المشاعر الطبيعية ‪ ,‬ول مريدا لها‬
‫على المر الصعب بمجرد التكليف ‪ .‬ولكن مربيا لها على الطاعة ‪ ,‬ومفسحا لها في الرجاء ‪.‬‬
‫لتبذل الذي هو أدنى في سبيل الذي هو خير ; ولترتفع على ذاتها متطوعة ل مجبرة ‪ ,‬ولتحس‬
‫بالعطف اللهي الذي يعرف مواضع ضعفها ‪ ,‬ويعترف بمشقة ما كتب عليها ‪ ,‬ويعذرها ويقدرها‬
‫; ويحدو لها بالتسامي والتطلع والرجاء ‪.‬‬
‫وهكذا يربي السلم الفطرة ‪ ,‬فل تمل التكليف ‪ ,‬ول تجزع عند الصدمة الولى ‪ ,‬ول تخور عند‬
‫المشقة البادية ‪ ,‬ول تخجل وتتهاوى عند انكشاف ضعفها أمام الشدة ‪ .‬ولكن تثبت وهي تعلم أن‬
‫ال يعذرها ويمدها بعونه ويقويها ‪ .‬وتصمم على المضي في وجه المحنة ‪ ,‬فقد يكمن فيها الخير‬
‫بعد الضر ‪ ,‬واليسر بعد العسر ‪ ,‬والراحة الكبرى بعد الضنى والعناء ‪ .‬ول تتهالك على ما تحب‬
‫وتلتذ ‪ .‬فقد تكون الحسرة كامنة وراء المتعة ! وقد يكون المكروه مختبئا خلف المحبوب ‪ .‬وقد‬
‫يكون الهلك متربصا وراء المطمع البراق ‪.‬‬
‫إنه منهج في التربية عجيب ‪ .‬منهج عميق بسيط ‪ .‬منهج يعرف طريقه إلى مسارب النفس‬
‫النسانية وحناياها ودروبها الكثيرة ‪ .‬بالحق وبالصدق ‪ .‬ل باليحاء الكاذب ‪ ,‬والتمويه الخادع ‪.‬‬
‫‪ .‬فهو حق أن تكره النفس النسانية القاصرة الضعيفة أمرا ويكون فيه الخير كل الخير ‪ .‬وهو‬
‫حق كذلك أن تحب النفس أمرا وتتهالك عليه ‪ .‬وفيه الشر كل الشر ‪ .‬وهو الحق كل الحق أن‬
‫ال يعلم والناس ل يعلمون ! وماذا يعلم الناس من أمر العواقب ? وماذا يعلم الناس مما وراء‬
‫الستر المسدل ? وماذا يعلم الناس من الحقائق التي ل تخضع للهوى والجهل والقصور ?!‬
‫إن هذه اللمسة الربانية للقلب البشري لتفتح أمامه عالما آخر غير العالم المحدود الذي تبصره‬
‫عيناه ‪ .‬وتبرز أمامه عوامل أخرى تعمل في صميم الكون ‪ ,‬وتقلب المور ‪ ,‬وترتب العواقب‬
‫على غير ما كان يظنه ويتمناه ‪ .‬وإنها لتتركه حين يستجيب لها طيعا في يد القدر ‪ ,‬يعمل‬
‫ويرجو ويطمع ويخاف ‪ ,‬ولكن يرد المر كله لليد الحكيمة والعلم الشامل ‪ ,‬وهو راض قرير ‪. .‬‬
‫إنه الدخول في السلم من بابه الواسع ‪ . .‬فما تستشعر النفس حقيقة السلم إل حين تستيقن أن‬
‫الخيرة فيما اختاره ال ‪ .‬وأن الخير في طاعة ال دون محاولة منها أن تجرب ربها وأن تطلب‬
‫منه البرهان ! إن الذعان الواثق والرجاء الهاديء والسعي المطمئن ‪ . .‬هي أبواب السلم الذي‬
‫يدعو ال عباده الذين آمنوا ليدخلوا فيه كافة ‪ . .‬وهو يقودهم إليه بهذا المنهج العجيب العميق‬

‫‪402‬‬
‫البسيط ‪ .‬في يسر وفي هوادة وفي رخاء ‪ .‬يقودهم بهذا المنهج إلى السلم حتى وهو يكلفهم‬
‫فريضة القتال ‪ .‬فالسلم الحقيقي هو سلم الروح والضمير حتى في ساحة القتال ‪.‬‬
‫وإن هذا اليحاء الذي يحمله ذلك النص القرآني ‪ ,‬ل يقف عند حد القتال ‪ ,‬فالقتال ليس إل مثل‬
‫لما تكرهه النفس ‪ ,‬ويكون من ورائه الخير ‪ . .‬إن هذا اليحاء ينطلق في حياة المؤمن كلها ‪.‬‬
‫ويلقي ظلله على أحداث الحياة جميعها ‪ . .‬إن النسان ل يدري أين يكون الخير وأين يكون‬
‫الشر ‪ . .‬لقد كان المؤمنون الذين خرجوا يوم بدر يطلبون عير قريش وتجارتها ‪ ,‬ويرجون أن‬
‫تكون الفئة التي وعدهم ال إياها هي فئة العير والتجارة ‪ .‬ل فئة الحامية المقاتلة من قريش ‪.‬‬
‫ولكن ال جعل القافلة تفلت ‪ ,‬ولقاهم المقاتلة من قريش ! وكان النصر الذي دوى في الجزيرة‬
‫العربية ورفع راية السلم ‪ .‬فأين تكون القافلة من هذا الخير الضخم الذي أراده ال للمسلمين !‬
‫وأين يكون اختيار المسلمين لنفسهم من اختيار ال لهم ? وال يعلم والناس ل يعلمون !‬
‫ولقد نسي فتى موسى ما كانا قد أعداه لطعامهما ‪ -‬وهو الحوت ‪ -‬فتسرب في البحر عند‬
‫الصخرة ‪( .‬فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ‪ .‬قال‪:‬أرأيت إذ أوينا‬
‫إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ‪ ,‬وما أنسانيه إل الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر‬
‫عجبا ‪ . .‬قال‪:‬ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا ‪ .‬فوجدا عبدا من عبادنا ‪. . ). . .‬‬
‫وكان هذا هو الذي خرج له موسى ‪ .‬ولو لم يقع حادث الحوت ما ارتدا ‪ .‬ولفاتهما ما خرجا‬
‫لجله في الرحلة كلها !‬
‫وكل إنسان ‪ -‬في تجاربه الخاصة ‪ -‬يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان‬
‫من ورائهاالخير العميم ‪ .‬ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم ‪ .‬وكم من مطلوب كاد‬
‫النسان يذهب نفسه حسرات على فوته ; ثم تبين له بعد فترة أنه كان إنقاذا من ال أن فوت‬
‫عليه هذا المطلوب في حينه ‪ .‬وكم من محنة تجرعها النسان لهثا يكاد يتقطع لفظاعتها ‪ .‬ثم‬
‫ينظر بعد فترة فإذا هي تنشيء له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل ‪.‬‬
‫إن النسان ل يعلم ‪ .‬وال وحده يعلم ‪ .‬فماذا على النسان لو يستسلم‬
‫إن هذا هو المنهج التربوي الذي يأخذ القرآن به النفس البشرية ‪ .‬لتؤمن وتسلم وتستلم في أمر‬
‫الغيب المخبوء ‪ ,‬بعد أن تعمل ما تستطيع في محيط السعي المكشوف ‪. .‬‬
‫*****************‬
‫العاقبة للمتقين‬

‫‪403‬‬
‫لرْضَ ِللّهِ يُو ِر ُثهَا مَن يَشَاء مِنْ‬
‫ص ِبرُواْ إِنّ ا َ‬
‫س َتعِينُوا بِاللّهِ وَا ْ‬
‫قال تعالى ‪ { :‬قَالَ مُوسَى لِ َق ْومِهِ ا ْ‬
‫عبَا ِدهِ وَا ْلعَا ِقبَةُ ِل ْل ُمتّقِينَ} (‪ )128‬سورة العراف‬
‫ِ‬
‫ص ِبرْ إِنّ ا ْلعَا ِقبَةَ‬
‫{ ِت ْلكَ مِنْ أَنبَاء ا ْل َغيْبِ نُوحِيهَا ِإَل ْيكَ مَا كُنتَ َت ْعَل ُمهَا أَنتَ وَلَ َق ْو ُمكَ مِن َقبْلِ هَذَا فَا ْ‬
‫ِل ْل ُمتّقِينَ} (‪ )49‬سورة هود‬
‫عُلوّا فِي الَْأرْضِ َولَا َفسَادًا وَا ْلعَا ِقبَةُ ِل ْل ُمتّقِينَ } (‪)83‬‬
‫ج َعُلهَا ِللّذِينَ لَا ُيرِيدُونَ ُ‬
‫خ َرةُ نَ ْ‬
‫{ ِت ْلكَ الدّارُ الْآ ِ‬
‫سورة القصص‬
‫يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال ‪:‬‬
‫إنه المتفرد بالعلو ‪ ,‬المتفرد بالعظمة ‪ .‬وما يتطاول أحد من العبيد إلى هذا المقام إل ويرده ال‬
‫إلى الخفض والهون ; وإلى العذاب في الخرة والهوان ‪ .‬وهو يقول‪( :‬تلك الدار الخرة نجعلها‬
‫للذين ل يريدون علوا في الرض ول فسادا) ‪ . .‬ويقول عن فرعون في معرض الهلك‪ :‬إنه‬
‫كان عاليا ‪.‬‬
‫ويعلو النسان ما يعلو ‪ ,‬ويعظم النسان ما يعظم ‪ ,‬فل يتجاوز مقام العبودية ل العلي العظيم ‪.‬‬
‫وعندما تستقر هذه الحقيقة في نفس النسان ‪ ,‬فإنها تثوب به إلى مقام العبودية وتطامن من‬
‫كبريائه وطغيانه ; وترده إلى مخافة ال ومهابته ; وإلى الشعور بجلله وعظمته ; وإلى الدب‬
‫في حقه والتحرج من الستكبار على عباده ‪ .‬فهي اعتقاد وتصور ‪ .‬وهي كذلك عمل وسلوك ‪.‬‬
‫تلك الخرة التي تحدث عنها الذين أوتوا العلم ‪ .‬العلم الحق الذي يقوم الشياء قيمتها الحقيقية ‪.‬‬
‫تلك الدار الخرة العالية الرتبة البعيدة الفاق ‪ .‬تلك الدار الخرة (نجعلها للذين ل يريدون علوا‬
‫في الرض ول فسادا) ‪ . .‬فل يقوم في نفوسهم خاطر الستعلء بأنفسهم لنفسهم ; ول يهجس‬
‫في قلوبهم العتزاز بذواتهم والعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها ‪ .‬إنما يتوارى شعورهم‬
‫بأنفسهم ليملها الشعور بال ‪ ,‬ومنهجه في الحياة ‪ .‬أولئك الذين ل يقيمون لهذه الرض وأشيائها‬
‫وأعراضها وقيمها وموازينها حسابا ‪ .‬ول يبغون فيها كذلك فسادا ‪ .‬أولئك هم الذين جعل ال لهم‬
‫الدار الخرة ‪ .‬تلك الدار العالية السامية ‪.‬‬
‫(والعاقبة للمتقين) الذين يخشون ال ويراقبونه ويتحرجون من غضبه ويبتغون رضاه‬
‫****************‬
‫هلك الكفار ل محالة‬
‫قال تعالى في سورة آل عمران ‪:‬‬

‫‪404‬‬
‫ش ْيئًا َوأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ النّارِ (‪)10‬‬
‫ن اللّهِ َ‬
‫ع ْنهُمْ َأ ْموَاُلهُمْ وَلَ َأوْلَدُهُم مّ َ‬
‫إِنّ الّذِينَ كَ َفرُواْ لَن ُت ْغ ِنيَ َ‬
‫عوْنَ وَالّذِينَ مِن َق ْبِلهِمْ كَ ّذبُواْ بِآيَا ِتنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِ ُذنُو ِبهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ ا ْلعِقَابِ (‪ )11‬قُل‬
‫كَ َد ْأبِ آلِ ِفرْ َ‬
‫ج َهنّمَ َو ِب ْئسَ ا ْل ِمهَادُ (‪ )12‬قَدْ كَانَ َلكُمْ آيَةٌ فِي ِف َئ َتيْنِ ا ْلتَ َقتَا ِفئَةٌ‬
‫شرُونَ ِإلَى َ‬
‫س ُت ْغَلبُونَ َوتُحْ َ‬
‫ّللّذِينَ كَ َفرُواْ َ‬
‫ص ِرهِ مَن يَشَاء إِنّ فِي‬
‫خرَى كَا ِف َرةٌ َي َر ْو َنهُم ّم ْثَل ْيهِمْ َر ْأيَ ا ْل َعيْنِ وَاللّهُ ُي َؤيّدُ ِبنَ ْ‬
‫ل اللّهِ َوأُ ْ‬
‫سبِي ِ‬
‫تُقَاتِلُ فِي َ‬
‫ل ْبصَارِ (‪)13‬‬
‫َذِلكَ َل ِع ْبرَةً لُّأ ْولِي ا َ‬
‫يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال ‪:‬‬
‫إن هذه اليات واردة في صدد خطاب بني إسرائيل ‪ ,‬وتهديدهم بمصير الكفار قبلهم وبعدهم ‪.‬‬
‫وفيها لفتة لطيفة عميقة الدللة كذلك ‪ . .‬فهو يذكرهم فيها بمصير آل فرعون ‪ . .‬وكان ال‬
‫سبحانه قد أهلك آل فرعون وأنجى بني إسرائيل ‪ .‬ولكن هذا ل يمنحهم حقا خاصا إذا هم ضلوا‬
‫وكفروا ‪ ,‬ول يعصمهم أن يوصموا بالكفر إذا هم انحرفوا ‪ ,‬وأن ينالوا جزاء الكافرين في الدنيا‬
‫والخرة كما نال آل فرعون الذين انجاهم ال منهم !‬
‫كذلك يذكرهم مصارع قريش في بدر ‪ -‬وهم كفار ‪ -‬ليقول لهم‪:‬إن سنة ال ل تتخلف ‪ .‬وإنه ل‬
‫يعصمهم عاصم من أن يحق عليهم ما حق على قريش ‪ .‬فالعلة هي الكفر ‪ .‬وليس لحد على ال‬
‫دالة ‪ ,‬ول له شفاعة إل باليمان الصحيح !‬
‫(إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ول أولدهم من ال شيئا ‪ ,‬وأولئك هم وقود النار) ‪. .‬‬
‫والموال والولد مظنة حماية ووقاية ; ولكنهما ل يغنيان شيئا في ذلك اليوم الذي ل ريب فيه‬
‫‪ ,‬لنه ل إخلف لميعاد ال ‪ .‬وهم فيه‪( :‬وقود النار) ‪ . .‬بهذا التعبير الذي يسلبهم كل خصائص‬
‫"النسان" ومميزاته ‪ ,‬ويصورهم في صورة الحطب والخشب وسائر (وقود النار) ‪. .‬‬
‫ل بل إن الموال والولد ‪ ,‬ومعهما الجاه والسلطان ‪ ,‬ل تغني شيا في الدنيا‪:‬‬
‫(كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا ‪ ,‬فأخذهم ال بذنوبهم ‪ ,‬وال شديد العقاب) ‪. .‬‬
‫وهو مثل مضى في التاريخ مكرورا ‪ ,‬وقصة ال في هذا الكتاب تفصيل‪:‬وهو يمثل سنة ال في‬
‫المكذبين بآياته ‪ ,‬يجريها حيث يشاء ‪ .‬فل أمان إذن ول ضمان لمكذب بآيات ال ‪.‬‬
‫وإذن فالذين كفروا وكذبوا بدعوة محمد صلى ال عليه وسلم وآيات الكتاب الذي نزله عليه‬
‫بالحق ‪ ,‬معرضون لهذا المصير في الدنيا والخرة سواء ‪ . .‬ومن ثم يلقن الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم أن ينذرهم هذا المصير في الدارين ‪ ,‬وأن يضرب لهم المثل بيوم بدر القريب ‪,‬‬
‫فلعلهم نسوا مثل فرعون والذين من قبله في التكذيب والخذ الشديد‪:‬‬

‫‪405‬‬
‫(قل للذين كفروا‪:‬ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ‪ .‬قد كان لكم آية في فئتين‬
‫التقتا‪:‬فئة تقاتل في سبيل ال وأخرى كافرة ‪ ,‬يرونهم مثليهم رأي العين ‪ .‬وال يؤيد بنصره من‬
‫يشاء ‪ .‬إن في ذلك لعبرة لولي البصار) ‪. .‬‬
‫وقوله تعالى‪( :‬يرونهم مثليهم رأي العين) يحتمل تفسيرين‪:‬فإما أن يكون ضمير(يرون) راجعا‬
‫إلى الكفار ‪ ,‬وضمير(هم) راجعا إلى المسلمين ‪ ,‬ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا‬
‫يرون المسلمين القليلين(مثليهم) ‪ . .‬وكان هذا من تدبير ال حيث خيل للمشركين أن المسلمين‬
‫كثرة وهم قلة ‪ ,‬فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم ‪.‬‬
‫وإما أن يكون العكس ‪ ,‬ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين(مثليهم) هم ‪ -‬في‬
‫حين أن المشركين كانوا ثلثة أمثالهم ‪ -‬ومع هذا ثبتوا وانتصروا ‪.‬‬
‫والمهم هو رجع النصر إلى تأييد ال وتدبيره ‪ . .‬وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد ‪ .‬كما أن‬
‫فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فل يرهبونهم ‪ . .‬وكان الموقف ‪ -‬كما ذكرنا في‬
‫التمهيد للسورة ‪ -‬يقتضي هذا وذاك ‪ . .‬وكان القرآن يعمل هنا وهناك ‪. .‬‬
‫وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة ‪ .‬وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة ‪ . .‬إن وعد ال‬
‫بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج ال ‪ ,‬قائم في كل لحظة ‪ .‬ووعد ال بنصر‬
‫الفئة المؤمنة ‪ -‬ولو قل عددها ‪ -‬قائم كذلك في كل لحظة ‪ .‬وتوقف النصر على تأييد ال الذي‬
‫يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ ‪ ,‬وسنة ماضية لم تتوقف ‪.‬‬
‫وليس على الفئة المؤمنة إل أن تطمئن إلى هذه الحقيقة ; وتثق في ذلك الوعد ; وتأخذ للمر‬
‫عدته التي في طوقها كاملة ; وتصبر حتى يأذن ال ; ول تستعجل ول تقنط إذا طال عليها المد‬
‫المغيب في علم ال ‪ ,‬المدبر بحكمته ‪ ,‬المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة ‪.‬‬
‫(إن في ذلك لعبرة لولي البصار) ‪.‬‬
‫**********‬
‫وقال تعالى في سورة آل عمران ‪ :‬لَ َي ُغ ّر ّنكَ تَ َقّلبُ الّذِينَ كَ َفرُواْ فِي ا ْلبِلَدِ (‪َ )196‬متَاعٌ َقلِيلٌ ثُمّ‬
‫ل ْنهَارُ‬
‫ح ِتهَا ا َ‬
‫جرِي مِن تَ ْ‬
‫جنّاتٌ تَ ْ‬
‫ج َهنّمُ َو ِب ْئسَ ا ْل ِمهَادُ (‪َ )197‬لكِنِ الّذِينَ اتّ َق ْواْ َر ّبهُمْ َلهُمْ َ‬
‫مَ ْأوَاهُمْ َ‬
‫ل ْبرَارِ (‪)198‬‬
‫خ ْيرٌ لّ َ‬
‫خَالِدِينَ فِيهَا ُنزُلً مّنْ عِندِ اللّهِ َومَا عِندَ اللّهِ َ‬
‫يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال ‪:‬‬

‫‪406‬‬
‫وتقلب الذين كفروا في البلد ‪ ,‬مظهر من مظاهر النعمة والوجدان ‪ ,‬ومن مظاهر المكانة‬
‫والسلطان ‪ ,‬وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء ل محالة ‪ .‬يحيك منه شيء في قلوب‬
‫المؤمنين ; وهم يعانون الشظف والحرمان ‪ ,‬ويعانون الذى والجهد ‪ ,‬ويعانون المطاردة أو‬
‫الجهاد ‪ . .‬وكلها مشقات وأهوال ‪ ,‬بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون ! ‪ . .‬ويحيك منه‬
‫شيء في قلوب الجماهير الغافلة ‪ ,‬وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء ‪ ,‬والباطل وأهله في‬
‫منجاة ‪ ,‬بل في مسلة ! ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم ; فيزيدهم ضلل‬
‫وبطرا ولجاجا في الشر والفساد ‪.‬‬
‫هنا تأتي هذه اللمسة‪:‬‬
‫(ل يغرنك تقلب الذين كفروا في البلد ‪ .‬متاع قليل ‪ .‬ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) ‪.‬‬
‫متاع قليل ‪ . .‬ينتهي ويذهب ‪ . .‬أما المأوى الدائم الخالد ‪ ,‬فهو جهنم ‪ . .‬وبئس المهاد !‬
‫وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات ‪ .‬وخلود ‪ .‬وتكريم من ال‪:‬‬
‫(جنات تجري من تحتها النهار) ‪( . .‬خالدين فيها) ‪( . .‬نزل من عند ال) ‪( . .‬وما عند ال‬
‫خير للبرار) ‪. .‬‬
‫وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة ‪ ,‬وهذا النصيب في كفة ‪ ,‬أن ما عند ال خير للبرار‬
‫‪ .‬وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان ‪.‬‬
‫وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لنفسهم أولو اللباب !‬
‫إن ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬في موضع التربية ‪ ,‬وفي مجال إقرار القيم الساسية في التصور السلمي‬
‫ل يعد المؤمنين هنا بالنصر ‪ ,‬ول يعدهم بقهر العداء ‪ ,‬ول يعدهم بالتمكين في الرض ‪ ,‬ول‬
‫يعدهم شيئا من الشياء في هذه الحياة ‪ . .‬مما يعدهم به في مواضع أخرى ‪ ,‬ومما يكتبه على‬
‫نفسه لوليائه في صراعهم مع أعدائه ‪.‬‬
‫إنه يعدهم هنا شيئا واحدا ‪ .‬هو (ما عند ال) ‪ .‬فهذا هو الصل في هذه الدعوة ‪ .‬وهذه هي نقطة‬
‫النطلق في هذه العقيدة‪:‬التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية ‪ ,‬ومن كل مطمع ‪ -‬حتى‬
‫رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة ال وقهر أعداء ال ‪ -‬حتى هذه الرغبة يريد ال‬
‫أن يتجرد منها المؤمنون ‪ ,‬ويكلوا أمرها إليه ‪ ,‬وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو‬
‫كانت ل تخصها !‬

‫‪407‬‬
‫هذه العقيدة‪:‬عطاء ووفاء وأداء ‪ . .‬فقط ‪ .‬وبل مقابل من أعراض هذه الرض ‪ ,‬وبل مقابل‬
‫كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلء ‪ . .‬ثم انتظار كل شيء هناك !‬
‫ثم يقع النصر ‪ ,‬ويقع التمكين ‪ ,‬ويقع الستعلء ‪ . .‬ولكن هذا ليس داخل في البيعة ‪ .‬ليس جزءا‬
‫من الصفقة ‪ .‬ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا ‪ .‬وليس فيها إل الداء والوفاء والعطاء ‪. .‬‬
‫والبتلء ‪. .‬‬
‫على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة ; وعلى هذا كان البيع والشراء ‪ .‬ولم يمنح ال‬
‫المسلمين النصر والتمكين والستعلء ; ولم يسلمهم مقاليد الرض وقيادة البشرية ‪ ,‬إل حين‬
‫تجردوا هذا التجرد ‪ ,‬ووفوا هذا الوفاء‪:‬‬
‫قال محمد بن كعب القرظي وغيره‪:‬قال عبد ال بن رواحة ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬لرسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم يعني ليلة العقبة [ ونقباء الوس والخزرج يبايعونه صلى ال عليه وسلم‬
‫على الهجرة إليهم ]‪:‬اشترط لربك ولنفسك ما شئت ‪ .‬فقال‪ ":‬أشترط لربي أن تعبدوه ول تشركوا‬
‫به شيئا ‪ .‬وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " ‪ .‬قال‪:‬فما لنا إذا فعلنا‬
‫ذلك ? قال‪ ":‬الجنة " ‪ . .‬قالوا‪:‬ربح البيع ‪ .‬ول نقيل ول نستقيل ‪ . .‬هكذا ‪" . .‬الجنة " ‪ . .‬والجنة‬
‫فقط ! لم يقل ‪ . .‬النصر والعز والوحدة ‪ .‬والقوة ‪ .‬والتمكين ‪ .‬والقيادة ‪ .‬والمال ‪ .‬والرخاء ‪-‬‬
‫مما منحهم ال وأجراه على أيديهم ‪ -‬فذلك كله خارج عن الصفقة !‬
‫وهكذا ‪ . .‬ربح البيع ول نقيل ول نستقيل ‪ . .‬لقد أخذوها صفقة بين متبايعين ; أنهي أمرها ‪,‬‬
‫وأمضي عقدها ‪ .‬ولم تعد هناك مساومة حولها !‬
‫وهكذا ربى ال الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الرض ‪ ,‬وزمام القيادة ‪ ,‬وسلمها‬
‫المانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها ‪ ,‬وكل رغباتها ‪ ,‬وكل شهواتها ‪ ,‬حتى ما‬
‫يختص منها بالدعوة التي تحملها ‪ ,‬والمنهج الذي تحققه ‪ ,‬والعقيدة التي تموت من أجلها ‪ .‬فما‬
‫يصلح لحمل هذه المانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه ‪ ,‬أو بقيت فيه بقية لم تدخل في‬
‫السلم كافة‬
‫***************‬
‫ح ْيثُ لَ َي ْعَلمُونَ (‪)182‬‬
‫جهُم مّنْ َ‬
‫ستَ ْدرِ ُ‬
‫سنَ ْ‬
‫وقال تعالى في سورة العراف ‪ :‬وَالّذِينَ كَ ّذبُواْ بِآيَا ِتنَا َ‬
‫َوُأ ْملِي َلهُمْ إِنّ َكيْدِي َمتِينٌ (‪)183‬‬
‫يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال ‪:‬‬

‫‪408‬‬
‫وهذه هي القوة التي ل يحسبون حسابها وهم يشنون هذه المعركة الضارية ضد هذا الدين وضد‬
‫المة المستمسكة به الملتقية عليه المتجمعة على آصرته ‪ . .‬هذه هي القوة التي يغفلها المكذبون‬
‫بآيات ال ‪ . .‬إنهم ل يتصورون أبدا أنه استدراج ال لهم من حيث ل يعلمون ‪ .‬ول يحسبون أنه‬
‫إملء ال لهم إلى حين ‪ . .‬فهم ل يؤمنون بأن كيد ال متين ! ‪ . .‬إنهم يتولى بعضهم بعضا‬
‫ويرون قوة أوليائهم ظاهرة في الرض فينسون القوة الكبرى ! ‪. .‬‬
‫إنها سنة ال مع المكذبين ‪. .‬‬
‫يرخى لهم العنان ‪ ,‬ويملى لهم في العصيان والطغيان ‪ ,‬استدراجا لهم في طريق الهلكة ‪,‬‬
‫وإمعانا في الكيد لهم والتدبير ‪ .‬ومن الذي يكيد ? إنه الجبار ذو القوة المتين ! ولكنهم غافلون !‬
‫والعاقبة للمتقين ‪ .‬الذين يهدون بالحق وبه يعدلون ‪. .‬‬
‫***************‬
‫عَل ْيهِمْ‬
‫سيُنفِقُو َنهَا ثُمّ َتكُونُ َ‬
‫ل اللّهِ فَ َ‬
‫سبِي ِ‬
‫وقال تعالى ‪ { :‬إِنّ الّذِينَ كَ َفرُواْ يُنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ ِل َيصُدّواْ عَن َ‬
‫شرُونَ} (‪ )36‬سورة النفال‬
‫ج َهنّمَ يُحْ َ‬
‫س َرةً ثُمّ ُي ْغَلبُونَ وَالّذِينَ كَ َفرُواْ ِإلَى َ‬
‫حَ ْ‬
‫يقول الشهيد سيد قطب رحمه ال ‪:‬‬
‫والكفار ينفقون أموالهم ليتعاونوا على الصد عن سبيل ال ‪ . .‬هكذا فعلوا يوم بدر ‪ ,‬على نحو ما‬
‫ذكرنا في سياق الحديث عن الموقعة من كتب السيرة ‪ . .‬وهكذا ظلوا بعد بدر يستعدون للوقعة‬
‫التالية ‪ .‬وال ينذرهم بالخيبة فيما يبغون وبالحسرة على ما ينفقون ‪ ,‬ويعدهم الهزيمة في الدنيا‬
‫وعذاب جهنم في الخرة‪:‬‬
‫(إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل ال ‪ .‬فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ; ثم‬
‫يغلبون ; والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ‪ .‬ليميز ال الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه‬
‫على بعض ‪ ,‬فيركمه جميعا ‪ ,‬فيجعله في جهنم ‪ ,‬أولئك هم الخاسرون) ‪. .‬‬
‫روى محمد بن إسحاق عن الزهري وغيره قالوا‪:‬لما أصيبت قريش يوم بدر ‪ ,‬ورجع فلهم ‪ -‬أي‬
‫جيشهم المهزوم ‪ -‬إلى مكة ; ورجع أبو سفيان بِعيره ‪ ,‬مشى عبدال بن ربيعة ‪ ,‬وعكرمة بن‬
‫أبي جهل ‪ ,‬وصفوان بن أمية ‪ ,‬في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر ‪,‬‬
‫فكلموا أبا سفيان بن حرب ‪ ,‬ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة ‪ ,‬فقالوا‪:‬يا معشر‬
‫قريش ‪ ,‬إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم ! فأعينونا بهذا المال على حربه ‪ ,‬لعلنا أن ندرك منه‬

‫‪409‬‬
‫ثأرا بمن أصيب منا ‪ .‬ففعلوا ‪ .‬فقال‪:‬ففيهم ‪ -‬كما ذكر ابن عباس ‪ -‬أنزل ال عز وجل‪( :‬إن‬
‫الذين كفروا ينفقون أموالهم ‪. ). . .‬‬
‫وليس هذا الذي حدث قبل بدر وبعدها إل نموذجا من السلوب التقليدي لعداء هذا الدين ‪. .‬‬
‫إنهم ينفقون أموالهم ‪ ,‬ويبذلون جهودهم ‪ ,‬ويستنفدون كيدهم ‪ ,‬في الصد عن سبيل ال ‪ ,‬وفي‬
‫إقامة العقبات في وجه هذا الدين ‪ .‬وفي حرب العصبة المسلمة في كل أرض وفي كل حين ‪. .‬‬
‫إن المعركة لن تكف ‪ .‬وأعداء هذا الدين لن يدعوه في راحة ‪ .‬ولن يتركوا أولياء هذا الدين في‬
‫أمن ‪ .‬وسبيل هذا الدين هو أن يتحرك ليهاجم الجاهلية ‪ ,‬وسبيل أوليائه أن يتحركوا لتحطيم قدرة‬
‫الجاهلية على العدوان ; ثم لعلء راية ال حتى ل يجرؤ عليها الطاغوت ‪.‬‬
‫وال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬ينذر الكفار الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل ال بأنها ستعود عليهم‬
‫بالحسرة ‪ . .‬إنهم سينفقونها لتضيع في النهاية ‪ ,‬وليغلبوا هم وينتصر الحق في هذه الدنيا ‪.‬‬
‫وسيحشرون في الخرة إلى جهنم ‪ ,‬فتتم الحسرة الكبرى ‪ . .‬ذلك ‪. .‬‬
‫(ليميز ال الخبيث من الطيب ‪ ,‬ويجعل الخبيث بعضه على بعض ‪ ,‬فيركمه جميعا ; فيجعله في‬
‫جهنم أولئك هم الخاسرون) ‪. .‬‬
‫فكيف ?‬
‫إن هذا المال الذي ينفق يؤلب الباطل ويملي له في العدوان ; فيقابله الحق بالكفاح والجهاد ;‬
‫وبالحركة للقضاء على قدرة الباطل على الحركة ‪ . .‬وفي هذا الحتكاك المرير ‪ ,‬تنكشف‬
‫الطباع ‪ ,‬ويتميز الحق من الباطل ‪ ,‬كما يتميز أهل الحق من أهل الباطل ‪ -‬حتى بين الصفوف‬
‫التي تقف ابتداء تحت راية الحق قبل التجربة والبتلء ! ‪ -‬ويظهر الصامدون الصابرون‬
‫المثابرون الذين يستحقون نصر ال ‪ ,‬لنهم أهل لحمل أماناته ‪ ,‬والقيام عليها ‪ ,‬وعدم التفريط‬
‫فيها تحت ضغط الفتنة والمحنة ‪ . .‬عند ذلك يجمع ال الخبيث على الخبيث ‪ ,‬فيلقي به في جهنم‬
‫‪ . .‬وتلك غاية الخسران ‪. .‬‬
‫والتعبير القرآني يجسم الخبيث حتى لكأنه جِرم ذو حجم ‪ ,‬وكأنما هو كومة من القذار ‪ ,‬يقذف‬
‫بها في النار ‪ ,‬دون اهتمام ول اعتبار !‬
‫(فيركمه جميعا فيجعله في جهنم) ‪. .‬‬
‫وهذا التجسيم يمنح المدلول وقعا أعمق في الحس ‪ . .‬وتلك طريقة القرآن الكريم في التعبير‬
‫والتأثير ‪. .‬‬

‫‪410‬‬
‫**************‬
‫وهذه قطوف من الكتاب القيم لبي قتادة الجهاد والجتهاد ‪:‬‬
‫وفي كتاب الجهاد والجتهاد ‪:‬‬
‫السر والحبس والبتلء‬
‫(مذاهب في التغيير)‬
‫هل السجن مرحلة ضرورية للداعي؟ وهل هي مرتبة ممدوحة‪ ،‬الداخل فيها خير من غيره‬
‫بدخول هذه المرحلة؟‪.‬‬
‫سبَ النّاسُ أَنْ‬
‫مما ل شك فيه أن طريق الدعوة محفوف بالمخاطر والبتلءات‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬أَحَ ِ‬
‫ن اللّهُ الّذِينَ صَدَقُوا َوَل َي ْعَلمَنّ‬
‫ُي ْت َركُوا أَنْ يَقُولُوا آ َمنّا وَهُمْ ل يُ ْف َتنُونَ َولَقَدْ َف َتنّا الّذِينَ مِنْ َق ْبِلهِمْ َفَل َي ْعَلمَ ّ‬
‫ا ْلكَا ِذبِينَ} العنكبوت‪ .‬ذلك لن الداعي يأتي للناس بالجديد من المر‪ ،‬ويدعوهم لترك عوائدهم‬
‫وإيلفهم‪ ،‬بل ويسفه ما هم عليه من نهج وطريق‪ ،‬وهذا أمر كبير على الناس‪ ،‬لنه يطعن في‬
‫مسلماتهم وعظائم عقائدهم‪ ،‬ولهذا فإن الداعي يجابه بقوة وعنف‪ ،‬وبسبب هذا البتلء تتميز‬
‫الصفوف‪ ،‬ويفيء الناس إلى مقاماتهم الحقيقية دون لبس أو تزوير‪ ،‬فالبتلء يعرف مقامات‬
‫ص َبرُوا َوكَانُوا بِآيَا ِتنَا‬
‫ج َع ْلنَا ِم ْنهُمْ َأ ِئمّةً َيهْدُونَ بَِأ ْم ِرنَا َلمّا َ‬
‫الناس‪ ،‬والبقاء للصابر‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وَ َ‬
‫يُو ِقنُونَ}السجدة‪ .‬قال ابن تيمية ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬في تفسيرها‪ :‬بالصبر واليقين تنال المامة‪.‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫فالصبر يمنع التهور‪ ،‬واليقين يمنع اليأس والقنوط‪ ،‬فالداعي له قوتان تحصنانه من الخطأ‪ ،‬قوة‬
‫تدفعه وهي اليقين‪ ،‬وقوة تريثه وهي الصبر‪ ،‬يقين على الموعود القادم‪ ،‬وصبر على البلء‬
‫الواقع‪ ،‬والبلء والمتحان ظاهرة في كل الدعوات‪ ،‬و هي تكتنف المتمردين‪ ،‬سواء كان تمردهم‬
‫بحق أم بباطل‪ ،‬فليس النبياء أو أتباع النبياء هم فقط من لقي العنت في سبيل دعوته‪ ،‬بل كل‬
‫من أتى للناس بجديد‪ ،‬ولكن ما يميز أهل الحق من غيرهم في هذا الباب هو أن تعب النبياء‬
‫ل اللّهِ وَل‬
‫سبِي ِ‬
‫خ َمصَةٌ فِي َ‬
‫صبٌ وَل مَ ْ‬
‫ظمَأٌ وَل َن َ‬
‫وأتباعهم هو في سبيل ال { َذِلكَ بَِأ ّنهُمْ ل ُيصِي ُبهُمْ َ‬
‫ل صَالِحٌ}‪ ،‬وأما غيرهم‬
‫عمَ ٌ‬
‫طئًا َيغِيظُ ا ْلكُفّارَ وَل َينَالُونَ مِنْ عَ ُدوّ َنيْل إِلّ ُك ِتبَ َلهُمْ بِهِ َ‬
‫طئُونَ َموْ ِ‬
‫يَ َ‬
‫فتعبهم وبال عليهم كما قال تعالى‪{ :‬عاملة ناصبة تصلى نارا حامية}‪ ،‬وكما قال تعالى‪{ :‬إن‬
‫الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل ال فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون‪،‬‬
‫والذين كفروا إلى جهنم يحشرون}النفال‪ ،‬فالبتلء ظاهرة في مسيرة الدعوات لن وجود‬
‫العداء من مظاهر نصرة ال لوليائه‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين النس‬

‫‪411‬‬
‫والجن}النعام‪ ،‬ومظهر من مظاهر اسم ال تعالى‪ :‬المنتقم‪ .‬واختلف الناس سنة كونية‪ ،‬وكذلك‬
‫تدافعهم ليتحقق لكل واحد أهدافه التي يسعى إليها‪ ،‬والمعادلة بين الطرفين بحصول النصر‬
‫والهزيمة مبسوطة في القرآن‪ ،‬وما من أمر إلهي إل وهو عامل من عو امل النصر‪ ،‬وما من‬
‫مخالفة للشريعة إل عامل من عوامل الهزيمة‪.‬‬
‫والسجن إحدى مظاهر البتلء‪ ،‬وصورة من صور العذاب التي يهدد بما كل طرف الخر‪ ،‬كما‬
‫قال فرعون مهددا موسى عليه السلم‪{ :‬لئن اتخذت إلها غيري لجعلنك من المسجونين}‬
‫الشعراء‪ .‬وقد كان إحدى اختيارات قريش في عذابها لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪{ :‬وإذ‬
‫يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك}النفال‪ .‬لن السجن صورة من صور‬
‫العذاب النفسي والبدني‪ ،‬فهو تقييد لرادة النسان‪ ،‬ومانع له من ممارسة مدنيته وإنسانيته‪ ،‬ثم هو‬
‫بالنسبة للداعي أشق وأتعب لنه يفصل بين الداعي والمحيط الذي يحتاجه لدعوته‪ ،‬فعمل الداعي‬
‫هو النور في الناس‪ ،‬وتعليمهم الخير‪ ،‬وكسب أتباع لدعوته‪ ،‬وترقية لفراد دعوته في الطريق‪،‬‬
‫فالسجن حرمان من هذا كله‪ ،‬إذ أنه يعزل الداعي عن محيطه ليمنعه من التأثير والكسب‪.‬‬
‫وفي هذه الغربة المعاصرة حيث بدأ الدعاة يدعون إلى ال‪ ،‬وتمت سنة المدافعة بين فريق الحق‬
‫وفريق الباطل‪ ،‬ومل الطاغوت السجون بالدعاة‪ ،‬وتكررت صور البتلء وإلى الن‪ ،‬كانت‬
‫التجربة الولى أن دخلت مجموعات السجون‪ ،‬فماذا صنع فيهم السجن؟‪.‬‬
‫كان السحن وعاء تشكل لونه بلون الداخل فيه‪ ،‬فبعضهم انتكس ووقع‪ ،‬وهؤلء على الغلب قلة‬
‫ل يؤبه بها‪ ،‬ولكن الغلب خرج من السحن وهو يحمل ذكريات اللم والعذاب‪ ،‬وخرج ليكتب‬
‫للناس مذكرات كربلئية مليئة بالبكاء والنواح حاول كل واصف فيها أن يستدر عواطف القراء‬
‫نحوه‪ ،‬وأن يكسب شفقتهم عليه‪ ،‬وقد وجد أدب داخل المكتبة السلمية يمثل هذا النوع من‬
‫الفنون‪ ،‬من البكاء والنواح الكربلئي‪ ،‬وكان القصد من هذا هو تعليق النياشين (الوسمة) على‬
‫الصدور بأن هذا قد عذب وضرب‪ ،‬ولم يخرج من الن من هذا الصف المبتلى دراسة أو‬
‫دراسات تكون زادا للجيل القادم من هذه التجربة‪ ،‬فالسجن بلء‪ :‬إما أن يكسر‪ ،‬أو يعصر‪ ،‬أو‬
‫يثمر فيخرج صاحبه منه منقى من كل الشوائب‪ ،‬شوائب الفكار‪ ،‬وشوائب النفس‪ ،‬فتترقى‬
‫مدارك المرء‪ ،‬وتنصقل نفسه في تطورها وتربيتها‪ ،‬فالممتحن ل يمدح إل بمقدار استفادة المرء‬
‫منه‪ ،‬ل من حيث هو في نفسه ممدوحا مرغوبا‪ ،‬فقد ينتكس المرء فيه‪ ،‬وقد يخرج منه كما دخل‬
‫جهل وعماء وسوء خلق‪ ،‬وقد يرتقي فيه‪ ،‬وكل هذا بحسب المرء ونظره إلى ما تمر به الحياة‬

‫‪412‬‬
‫من مظاهر وظواهر‪ ،‬فليس السجن مرتبة مدحية‪ ،‬ول هو بالذي يطلبه المرء ليكون الفضل بين‬
‫أقاربه‪ ،‬ولكن ينظر إلى مقدار اكتساب المر ء من هذه التجربة‪.‬‬
‫السجن ( أو المدرسة اليوسفية )‬
‫عند أنصار فلسفة مذهب ابن آدم الول‬

‫جرى بعض الباحثين على تسمية السجن بالمدرسة اليوسفية ‪ -‬نسبة يوسف عليه السلم ‪-‬‬
‫والحق أن القرآن لم يحك لنا شيئا عن أهمية السجن ليوسف عليه السلم‪ ،‬ولم يذكر لنا شيئا عن‬
‫أثر هذه المدرسة ‪ -‬إن كانت مدرسة ‪ -‬على يوسف عليه السلم‪ ،‬بل الذي اهتم به القرآن هو‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن يوسف عليه السلم اشتغل بالدعوة إلى ال في السجن‪ ،‬ولم يشغله السجن عن هذه‬
‫المهمة‪ ،‬بل كان يستغل أصغر المور ليوجه أنظار أهل السجن معه إلى تأليه ال وتوحيده‪ ،‬قال‬
‫خ ْيرٌ أَ ْم اللّهُ ا ْلوَاحِدُ‬
‫ح َبيِ السّجْنِ َأَأ ْربَابٌ ُمتَ َفرّقُونَ َ‬
‫تعالى على لسان يوسف عليه السلم‪{ :‬يَا صَا ِ‬
‫سلْطَانٍ إِنْ‬
‫س ّم ْي ُتمُوهَا َأ ْنتُمْ وَآبَا ُؤكُمْ مَا أَنزَلَ اللّهُ ِبهَا مِنْ ُ‬
‫سمَاءً َ‬
‫الْ َقهّارُ مَا َت ْعبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلّ أَ ْ‬
‫حكْمُ إِلّ ِللّهِ َأ َمرَ ألّ َت ْعبُدُوا إِلّ ِإيّاهُ َذِلكَ الدّينُ الْ َقيّمُ َوَلكِنّ َأ ْك َث َر النّاسِ ل َي ْعَلمُونَ}يوسف‪.‬‬
‫الْ ُ‬
‫‪ - 2‬محاولة يوسف عليه السلم الخروج المبكر من السحن وذلك حين قال لصاحبه‪{ :‬وَقَالَ‬
‫شيْطَانُ ِذ ْكرَ َربّهِ َفَل ِبثَ فِي السّجْنِ ِبضْعَ‬
‫عنْدَ َر ّبكَ فَأَنسَاهُ ال ّ‬
‫ِللّذِي ظَنّ َأنّهُ نَاجٍ ِم ْن ُهمَا ا ْذ ُك ْرنِي ِ‬
‫سنِينَ}يوسف‪.‬‬
‫ِ‬
‫‪ - 3‬حمده ل تعالى أن أخرجه من السجن‪ ،‬قال تعالى على لسان يوسف عليه السلم‪{ :‬وَقَدْ‬
‫جنِي مِنْ السّجْنِ}يوسف‪.‬‬
‫خرَ َ‬
‫أَحْسَنَ بِي إِذْ أَ ْ‬
‫‪ - 4‬قبوله دخول السجن ‪ -‬إن كان ل بد منه ‪ -‬على تبديل المواقف وتغيير المبادئ {قَالَ َربّ‬
‫حبّ ِإَليّ ِممّا يَدْعُو َننِي ِإَليْهِ}‪.‬‬
‫السّجْنُ أَ َ‬
‫وهذه المور وغيرها ليس فيها شيء يتعلق بأن يكون السجن مدرسة‪ ،‬يتخرج المرء منها شهادة‬
‫يتميز بها المرء عن غيره‪ ،‬ولكن مما ل شك فيه أن من دخل هذا المتحان فصبر فهو خير من‬
‫غيره ممن دخله ولم يصبر‪.‬‬
‫ومما ينبغي التنبيه عليه أن نذكر هنا أن هناك مدرسة حديثة معاصرة‪ ،‬مقطوعة النسب‪ ،‬ل‬
‫تلتقي في شيء مع منهج خير القرون‪ ،‬هذه المدرسة تدعو إلى غريب القول‪ ،‬وعمدة هذا القول‬
‫يقوم على فلسفة تبرير البتلء كطريق على المرء أن ل يسعى للخروج منه بنفسه‪ ،‬أو يدافعه‬

‫‪413‬‬
‫ويعاديه‪ ،‬وكان أول قطر هذه المدرسة كتاب يسمى "مذهب ابن آدم الول" للسوري جودت‬
‫سعيد‪ ،‬وهو يعد نفسه من مدرسة مالك بن نبي‪ ،‬ثم تتابع القطر فكان من عمد هذا المذهب كتاب‬
‫آخر اسمه "ظاهرة المحنة" لخالص جلبي‪ .‬تقول هذه المدرسة‪ :‬إن سبب سقوط الحركة السلمية‬
‫وعدم تقدمها إلى مواقع جديدة نحو أهدافها هو تبني الحركة للعنف ضد خصومها وانتهاجها‬
‫العمل السري‪ ،‬فتبني الحركة للعنف والسرية أعطى لخصومها المبرر أن تضربها وتقضي‬
‫عليها‪ ،‬والطريقة المثلى للخروج من هذا المأزق هي التالي‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن تبتعد الحركة السلمية عن نفسية الصدام ضد خصومها وأن تتعامل معهم كما تعامل‬
‫ابن آدم الول مع أخيه حين قال له‪َ { :‬لئِنْ بَسَطتَ ِإَليّ يَ َدكَ ِلتَ ْق ُتَلنِي مَا َأنَا ِببَاسِطٍ يَدِي ِإَليْكَ لَ ْق ُتَلكَ‬
‫ب النّارِ}‪ .‬وتطور‬
‫ف اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ِإنّي ُأرِيدُ أَنْ َتبُوءَ بِِإ ْثمِي َوِإ ْث ِمكَ َف َتكُونَ مِنْ َأصْحَا ِ‬
‫ِإنّي أَخَا ُ‬
‫الحتجاج لهذا المذهب حتى وصل إلى الحتجاج بطريقة غاندي ضد خصومة النجليز‪.‬‬
‫‪ - 2‬على الحركة السلمية أن تجعل من السجن سبيل إلى حالة جماعية بها يتم التثقيف‬
‫والتربية ومن خلله يتم مد الفكرة إلى الخرين‪.‬‬
‫تنتهي هذه النظرية بالخلصة التالية‪ :‬أن الخصم سيمارس العقاب تلو العقاب ولن يجابه إل‬
‫بالسلبية في الرد‪ ،‬وبالصفح الجميل‪ ،‬وبعد أن يدرك الخصم أنك لن ترد عليه ستثور في نفسه‬
‫عقدة الندم ويلقى السلح ويولي منهزما‪ ،‬وحينئذ سيقع النصر الموعود‪...‬‬
‫إن من غرائب القوال في هذا الزمان‪ ،‬وهو من الحادثات التي نبتت ول يعرف لها سلف في‬
‫التاريخ ‪ -‬سلف مؤمن أو كافر ‪ -‬مذهب غريب‪ ،‬يدعو للعجب من القول‪ ،‬يدعو إلى نبذ العنف‬
‫ووسائله وأهمها السرية‪ ،‬والعنف والمقصود به الجهاد والقتال‪ .‬يقول هذا التيار‪:‬‬
‫إن سبب انتكاسة الحركة السلمية‪ ،‬وعدم حصولها على أهدافها أو القتراب منها‪ ،‬هو تبني‬
‫الحركات السلمية للعنف‪ ،‬فحيث تبنت الحركة العنف فإنها أعطت الخصوم المبرر لضربها‬
‫والجهاز عليها‪ ،‬فلو أن الجماعات السلمية واجهت عنف الدولة بالصبر وكف اليدي‪،‬‬
‫واحتملت الذى‪ ،‬فإن الدولة بعد ممارستها العذاب تلو العذاب على المسلمين ستصاب بعقدة‬
‫الندم‪ ،‬وبعدها ستلقي السلح جانبا‪ ،‬وبعدها سيكون وصول السلم إلى الحكم سهل ميسورا!‪.‬‬
‫قال جودت سعيد‪( :‬وهو إمام هذا المذهب المعاصر وصاحب كتاب "مذهب ابن آدم الول"‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أؤكد أن ل نمارس العنف بجميع أشكاله‪ ،‬ونتقبل العنف الذي يصدر من الخرين بصدور‬
‫مفتوحة‪ ،‬وأن نجعلهم يملون من ممارسة العنف بصبرنا على تحمله‪ ،‬وعدم مقابلة العنف بأي‬

‫‪414‬‬
‫عنف‪ ،‬وإنما نقابل العنف بقوله تعالى‪{ :‬ل تطعه واسجد واقترب}‪ ،‬وبقوله تعالى‪ { :‬كفوا أيديكم‬
‫وأقيموا الصلة} وبقوله تعالى‪ { :‬لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لقتلك إني‬
‫أخاف ال رب العالمين}‪ ،‬بهذا نقابل العالم ‪ .‬ا‪.‬هـ‪)1( .‬‬
‫ب ‪ -‬ينبغي فورا أن نقلص ونتخلص نهائيا من الجيش والسلح‪ ،‬وخاصة الســلحة‬
‫المتــطورة ‪.‬ا‪.‬هـ‪)2( .‬‬
‫ج ‪ -‬الجيش والسلح عقبة في سبيل تحرير المم‪.‬‬
‫‪ - 2‬يجب على الحركة السلمية تبني السلم‪ ،‬وأفضل صور السلم هو الديمقراطية الغربية‪،‬‬
‫يقول جودت سعيد‪ :‬نحن ينبغي أن ل نرفض الديمقراطية‪ ،‬وإنما ينبغي أن نزيدها فعالية‪ ،‬وذلك‬
‫بنشر المعرفة والعلم‪ ،‬لن الديمقراطية إن لم يكن وراءها علم ومعرفة في فستعجز عن حل‬
‫المشكلت ‪.‬ا‪.‬هـ‪)3( .‬‬
‫وعلينا أن نقبل بالديمقراطية حتى لو أدت إلى إزالة الحكم السلمي إن وجد‪ .‬يقول جودت‬
‫سعيد‪ :‬الذي أريد أن أذكر به هنا هو ماذا سيفعل المسلمون في المستقبل إذا بدأوا يخسرون‬
‫المارة بالديمقراطية؟ هذا ينبغي أن يكون في البال ماذا سنفعل؟‪ ،‬هل نقبل ترك الحكم‬
‫بالديمقراطية؟ أم نصير مثل الذي يعمله الن السكارى بالكراسي؟‪ ...‬ويواصل قائل‪ :‬ينبغي أن‬
‫نصبر ونتذكر قوله تعالى‪ { :‬ولنصبرن على ما آذيتمونا}‪ ...‬الخ ‪)4( .‬‬
‫‪ - 3‬ترك أي إشارة أو كلمة فيها عداوة لعداء الدين‪ .‬يقول جودت سعيد‪ :‬أن نكون شهداء ل‬
‫وقوامين بالقسط مع الذين يسيئون إلينا وعلينا أن ندرب أنفسنا أن نكون كذلك‪ ،‬ونتواصى بذلك‪،‬‬
‫ونتواصى بالصبر عليه‪ ،‬حتى أننا لسنا في حاجة أن نطلق لفظ العدو عليهم وإنما اختلفنا في‬
‫التفسير‪ ،‬وال تعالى علمنا أن نقول‪ { :‬وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلل مبين}ا‪.‬هـ‪)5( .‬‬
‫‪ - 4‬على الحركة السلمية أن تقبل التحدي وذلك بالذهاب إلى السجون والرضا بذلك وعدم‬
‫العتراض عليه‪:‬‬
‫أ ‪ -‬انظر كتاب ظاهرة المحنة لتلميذ جودت سعيد وهو الدكتور خالص جلبي كنجو‪.‬‬
‫ب ‪ -‬يقول جودت سعيد‪ :‬إذا أخذ واحد من المسجد لنه علم الناس في المسجد‪ ،‬فلنمل مكانه‬
‫ونقبل التحدي‪ ،‬ونقبل السجن ‪.‬ا‪.‬هـ‪)6( .‬‬
‫ويقول كذلك‪ :‬ل نضرب‪ ،‬ل نهرب‪ ،‬ل نطالب بالفراج عن المسجونين‪ ،‬بل نطالب أن يأخذونا‬
‫نحن أيضا إلى السحن‪.‬ا‪.‬هـ‪)7( .‬‬

‫‪415‬‬
‫‪ - 5‬عدم الهتمام أو الستدلل بالكتاب والسنة وإنما العقل‪ ،‬يقول جودت سعيد‪ :‬إنني لم أعد‬
‫ترهبني قعقعة الكلمات‪ :‬الروح‪ ،‬النفس‪ ،‬أو ال‪ ،‬أو الرسول‪ ،‬أو قال فلن وفلن (وهي حسب‬
‫السياق‪ ،‬قبل هذه الجملة يعني قال ال‪ ،‬قال الرسول) نريد أن نتحدث ماذا يحدث لنا‪ ،‬وكيف‬
‫يحصل الفهم؟ وكيف نعرف ما فهمناه أننا فهمناه‪ ،‬وكيف يحدث الفهم؟ وكيف انتقلت إلى هذه‬
‫الفكار؟ دعونا من الحديث عن السماء‪ ،‬ولنبحث في الرض‪ ،‬لنعد إلى النسان المولود على‬
‫الفطرة‪.‬ا‪.‬هـ‪)8( .‬‬
‫ويقول‪ :‬إن الذي سيعلمنا ليس القرآن‪ ،‬وإنما نفس حوادث الكون والتاريخ هي التي‬
‫ستعلمنا‪.‬ا‪.‬هـ‪)9( .‬‬
‫ويقول‪ :‬فالمرجع ليس الكتاب وإنما العودة إلى الحدث أو الشيء‪.‬ا‪.‬هـ‪)10( .‬‬
‫ويقول‪ :‬إن صخرة ما أدل على نفسها من كلم يقال عنها حتى لو كان كلم ال‪.‬ا‪.‬هـ‪)11( .‬‬
‫ويصف أوامر ال بالقتال بأنها خرافية‪ ،‬يقول‪ :‬نسأل ال أن يثبتكم‪ ،‬وأن ل يفلت الزمام من‬
‫أيديكم‪ ،‬وأن ل تستسلموا للوامر الخرافية (أي أوامر العنف حسب تعبيره) ا‪.‬هـ‪)12( .‬‬
‫وفي لقاء مع خالص جلبي لحد الخوة قال له‪ :‬أنا أسجد للعقل‪.‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وكلم جودت سعيد في معرض المر الشرعي‪ ،‬وليس الخلق الكوني فانتبه‪.‬‬
‫هذه خلصة أفكار هذه المدرسة‪ ،‬مدرسة كف اليدي والرضا بالصبر ‪ -‬من كتاب "مذهب ابن‬
‫آدم الول"‪ ..‬إلى كتاب "ظاهرة المحنة"‪.-‬‬
‫أما الرد عليهم‪ :‬فإن أول ما يقفز لذهن المسلم السني أمام هذا الغثاء هو القصة التالية‪ :‬ذكر‬
‫الذهبي في "ميزان العتدال" أنه ذكر لعمرو بن عبيد (من أئمة المعتزلة) حديثا يخالف هواه‪،‬‬
‫رواه العمش عن زيد بن وهب عن عبد ال بن مسعود عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‬
‫عمرو‪ :‬لو سمعت العمش يقول هذا لكذبته‪ ،‬ولو سمعته من زيد بن وهب لما صدقته‪ ،‬ولو‬
‫سمعت ابن مسعود يقوله لما قبلته‪ ،‬ولو سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول هذا‬
‫لرددته‪ ،‬ولو سمعت ال عز وجل يقول هذا لقلت‪ :‬ليس على هذا أخذت ميثاقنا‪.‬ا‪.‬هـ‪ .‬فهؤلء‬
‫القوم ل ندري من أين نبدأ معهم‪ ،‬فهم كما قال جودت سعيد‪" :‬ل ترهبهم الكلمات حتى لو كانت‬
‫كلمات ال"‪ ،‬وهم ل يكنون أي احترام لكلم السلف‪ ،‬بل قد صرح أنه قد اكتشف شيئا لم يعرفه‬
‫الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬يقول جودت سعيد‪ :‬إن المسلمين سواء في زمن أبي ذر أو الن لم‬
‫يفهموا هذا جيدا‪.‬ا‪.‬هـ‪)13( .‬‬

‫‪416‬‬
‫وعامة احتجاج هذه الطائفة بما فعل غاندي‪ )14( .‬ومما فعل الخميني ‪ )15( ،‬وبما فعل عبد‬
‫السلم ياسين إمام جماعة العدل والحسان المغربية‪ ،‬لن هذا هو الحدث أو الشيء الذي ينبغي‬
‫أن يعد مرجعا وليس المرجع هو القرآن كما يقول جودت سعيد‪ ،‬إذن فهؤلء القوم ل يرجى لهم‬
‫عودة لن البدعة قد استحكمت فيهم كما يستحكم داء الكلب بصاحبه‪ ،‬وصدق رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم حين قال‪(( :‬ل يرجعون إلى السلم حتى يرتد السهم إلى فوقه)) ‪ )16( .‬فل‬
‫يعود البدعي عن بدعته‪ ،‬وإن عاد فل بد من علوق بعض الشيء فيه ول يخرج منها إل بنوع‬
‫خاص من العلم‪ ،‬وال الهادي إلى سبيل الرشاد‪.‬‬
‫وهؤلء القوم يتذكر المرء معهم قوله تعالى‪ { :‬قل هل ننبئكم بالخسرين أعمال‪ ،‬الذين ضل‬
‫سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}‪ ،‬هذا هو اعتقادنا في أئمتهم‪ ،‬وليعلم‬
‫الناس أن العقل الذي يزعمونه هو عين الهوى‪ ،‬ولذلك فإن أمثالهم سماهم أهل السنة قديما‬
‫بأصحاب الهواء‪ ،‬وإن زعموا أنهم أهل العقل والمنطق‪ ،‬لن مدار أمرهم على رغبات النفوس‬
‫والتشهي‪ ،‬وليس على اتباع الحق‪ ،‬وإل فما معنى قولهم‪ :‬أنا لم تعد ترهبني الكلمات‪ ..‬ال أو‬
‫الرسول أو قال فلن أو قال فلن؟‪.‬‬
‫(‪ - )1‬سلسلة فانظروا (عدد ‪ 43‬ص ‪ - )2‬وهي رسالة موجهة إلى الشباب المسلم في الجزائر‪.‬‬
‫(‪ - )2‬المصدر السابق (ص ‪.)3‬‬
‫(‪ - )3‬السابق (ص ‪.)2‬‬
‫(‪ - )4‬السابق (ص ‪.)3‬‬
‫(‪ - )5‬السابق (ص ‪.)8‬‬
‫(‪ - )6‬السابق (ص ‪.)4‬‬
‫(‪ - )7‬السابق (ص ‪.)5‬‬
‫(‪ - )8‬سلسلة نشرة فانظروا (عدد ‪ 40‬ص ‪.)43‬‬
‫(‪ - )9‬السابق (ص ‪.)7‬‬
‫(‪ - )10‬السابق ص ‪7‬‬
‫(‪ - )11‬السابق (ص ‪.)7‬‬
‫(‪ - )12‬فانظروا ( ‪ 43‬ص ‪.) 9‬‬
‫(‪ - )13‬فانظروا (عدد ‪ 43‬ص ‪.)5‬‬

‫‪417‬‬
‫(‪ - )14‬مقدمة الطبعة الثانية لكتاب ظاهرة المحنة‪.‬‬
‫(‪ - )15‬ظاهرة المحنة‪ ،‬وسلسلة فانظروا عدد ‪.43‬‬
‫(‪ - )16‬انظر فتح الباري (ج ‪ )12/295‬وما بعدها‪.‬‬
‫مذهب ابن آدم الول‪:‬‬
‫العقل والنقل بصورة معاصرة‬
‫ما الفرق بين قول أهل الهواء قديما أن العقل هو اليقيني والنص هو الظني‪ ،‬وقول جودت‬
‫سعيد‪ :‬فالمرجع ليس الكتاب وإنما نفس حوادث الكون والتاريخ‪ .‬بل قوله أشد افتراء وكذبا‪.‬‬
‫إذا كان اعتقادنا في هؤلء أنه لم يبق منهم مفصل إل دخله الهوى‪ ،‬فنرجو أن يكون حديثنا مع‬
‫من بقي فيه بعض الخير‪ ،‬أو بعض خوف من كلمات ال تعالى‪ ،‬وسنأتي على عمد احتجاجاتهم‬
‫الشرعية بدءا من قوله تعالى‪ { :‬لئن بسطت إلى يدك ‪ }...‬الخ الية‪ ،‬لنرى كيف هي في شرع‬
‫ال ودينه؟‪.‬‬
‫من حجج هذا التيار البدعي استدللهم بقوله تعالى على لسان ابن آدم‪َ{ :‬لئِنْ بَسَطتَ ِإَليّ يَ َدكَ‬
‫ف اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ِإنّي ُأرِيدُ أَنْ َتبُوءَ بِِإ ْثمِي‬
‫ِلتَ ْق ُتَلنِي مَا َأنَا ِببَاسِطٍ يَدِي ِإَل ْيكَ لَ ْق ُتَلكَ ِإنّي أَخَا ُ‬
‫جزَاءُ الظّاِلمِينَ} المائدة (‪ .)69 - 68‬واحتجوا بهذه الية‬
‫َوِإ ْث ِمكَ َف َتكُونَ مِنْ َأصْحَابِ النّارِ وَ َذِلكَ َ‬
‫على أن مذهب الفطرة في النسان السوي هو عدم صد من أراد إيذاءه بل كف اليد عنه‪ ،‬مما‬
‫سيدفع الخصم المعتدي إلى ترك السلح جانبا والحتكام إلى العقل‪ ،‬ثم إثارة كوامن الخير التي‬
‫ستدفعه إلى الندم وعدم البطش بخصومه‪ ،‬وهذا كله سيجعل العاقبة للحق والصواب‪ ،‬وهو‬
‫السلم كما يعتقد هذا التتار‪ ،‬هذا هو خلصة ما يريده كتاب جودت سعيد "مذهب ابن آدم‬
‫الول" وكتاب "ظاهرة المحنة" لخالص جلبي‪ .‬ويزعم هذا التيار أنه عقلني في هذا المبدأ إلى‬
‫مشاشه‪ ،‬وأنه يحتكم في صواب هذا المنهج ليس إلى التفسير البياني (اللغوي ) للقرآن‪ ،‬ولكن‬
‫إلى الفطرة أو إلى التاريخ والواقع‪ ،‬وأن العقل ومقتضياته تلزم الجميع بصواب هذا المنهج وأن‬
‫خلفه جهل وخرافة‪ ،‬ومرض عصبي‪ ،‬يدفع المرء ليفكر للحتكام إلى السلح والقوة في فض‬
‫الخصوما ت بين أصحاب المذاهب الفكرية‪ ،‬سواء القابض على السلطة أو غيره من الخصوم‬
‫المقهورين‪.‬‬
‫الرد على احتجاجهم بهذه اليات القرآنية له عدة طرق‪ ،‬وكلها تتدافع بنفس القوة والتدليل‪ ،‬ولكن‬
‫الغريب في هذا التيار أصوله التي يتعامل بها مع الوحيين‪ ،‬فالمة قد أجمعت أن الحكم الشرعي‬

‫‪418‬‬
‫مأخذه الكتاب والسنة‪ ،‬وأن هذا المصدر نزل باللغة العربية‪ ،‬فأصول تفسير هذا المصدر وقواعد‬
‫فهمه تعود إلى قواعد وأصول هذه اللغة‪ ،‬وليس هناك من قواعد يحتكم إليها في ذلك سوى‬
‫قواعد البيان العربي‪ ،‬إل ما أحدثه أبو حامد الغزالي من إدخال قواعد علم المنطق إلى أصول‬
‫الستنباط‪ ،‬وقد عاب العلماء عليه‪ ،‬وشنعوا القول على صنيعه هذا‪ ،‬وكان أشدهم نكارة المام أبو‬
‫عمرو بن الصلح الشافعي رحمه ال تعالى‪ ،‬وأما قبل ذلك فإن المة مجمعة على تنزيل الكتاب‬
‫والسنة على أصول البيان العربي‪ ،‬قال المام الشافي ‪ -‬رحمه ال تعالى ‪ -‬في كتابه العظيم‬
‫"الرسالة"‪ :‬البيان اسم جامع لمعان متشعبة الفروع‪ ،‬فأقل ما في تلك المعاني المجتمعة المتشعبة‬
‫أنها بيان لمن خوطب بها ممن نزل القرآن بلسانه‪ ،‬متقاربة الستواء عنده‪ ،‬وإن كان بعضــها‬
‫أشـد تأكيد بيان من بعض‪ ،‬ومختلفة عند من يجهل لسان العرب‪.‬ا‪.‬هـ‪)1( .‬‬
‫ثم شرع المام الشافعي رحمه ال في تفصيل أنواع البيان في الوحي‪ ،‬وقسمها إلى أقسام‪:‬‬
‫‪ - 1‬ما أبانه لهم نصا ول يحتاج لغيره‪.‬‬
‫‪ - 2‬ما أحكم فرضه بكتابه (وأحكم هنا بمعنى أجمل أصله ) وبينت السنة تفصيله ‪ -‬أي هيئته‬
‫‪.-‬‬
‫‪ - 3‬ما أتت به السنة وبينته ولم يأت به في الكتاب نص محكم‪.‬‬
‫‪ - 4‬ما فرض ال على خلقه الجتهاد في طلبه‪ ،‬وابتلى طاعتهم في الجتهاد‪.‬‬
‫ثم شرع في تفصيل هذه النواع واحدة واحدة‪ ،‬واستخلص منها أدلة الحكم الشرعي وهي الكتاب‬
‫والسنة والجماع والقياس‪.‬‬
‫وهذا القسم الرابع من أقسام البيان هو الذي تنكره الظاهرية‪ ،‬ومن جهلهم به حكموا أن مستويات‬
‫البيان في الدللة واحدة ل فرق بينها‪ ،‬أي بين ما يعلم نصا وما يعلم اجتهادا‪ ،‬واختلف الناس‬
‫في توسيع دائرة السنة وتقنين الشروط في الخذ بها هي التي تفرق الناس بين أثريين وآرائيين‪،‬‬
‫فكلما وضعت ضوابط أكثر على السنة كلما قل الخذ بها‪ ،‬وبهذا تتسع دائرة الرأي‪ ،‬وكلما‬
‫أكثرنا الخذ بالسنة تقلصت دائرة الرأي‪ ،‬وقاعدة الشريعة تقوم على التباع وتقليل الرأي‬
‫والجتهاد‪.‬‬
‫نعود إلى ما سمي بقواعد البيان التي سميت بعد ذلك بأصول الفقه‪ ،‬كون أصول البيان وقواعده‬
‫هي نفسها قواعد استنباط الحكم الشرعي‪ ،‬فكلما زاد الرجل معرفة في البيان وقواعده كلما ازداد‬
‫معرفة بمراد الوحي‪ ،‬قال المام الشافعي‪ :‬لنه ل يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل‬

‫‪419‬‬
‫سعة لسان العرب‪ ،‬وكثرة وجوهه‪ ،‬وجماع معانيه وتفرقها‪ ،‬ومن علمه انتفت الشبه التي دخلت‬
‫على من جهل لسانها‪.‬ا‪.‬هـ‪ )2( .‬فمن جهل لغة العرب ثم فسر الوحي على أي جهة كان‬
‫وبأي قواعد أخرى فقد أخطأ وإن أصاب‪ ،‬قال الشافعي‪ :‬ومن تكلف ما جهل ولم تثبته معرفته‬
‫كانت موافقته للصواب إن وافقه من حيث ل يعرفه غير محمودة وال أعلم‪ ،‬وكان لخطأه غير‬
‫معذور إذا ما نطق فيما ل يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب منه‪.‬ا‪.‬هـ‪)3( .‬‬
‫هذه القواعد التي قالها الشافعي لم يخالف فيها أحد من أهل الملة قبل يومنا هذا إل ما تقوله‬
‫الباطنية‪ ،‬وهي التي تجعل الرابط بين اللفظ والمعنى ليس هو الوضع اللغوي‪ ،‬وإن قواعد‬
‫استنباط الحكم الشرعي من اللفظ ليست هي قواعد البيان‪ ،‬بل هي عندهم راجعة إلى سلطة‬
‫أخرى غير سلطة البيان‪ ،‬مثل قواعد شيوخهم‪ ،‬وهؤلء ل خلف بين أهل الملة في كفرهم‬
‫وزندقتهم‪ ،‬حتى المعتزلة ل يفترقون عن أهل السنة في هذه القاعدة‪ ،‬وهو وجوب إرجاع تفسير‬
‫النصوص إلى قواعد البيان العربي‪ ،‬يقول الجاحظ وهو معتزلي‪ :‬للعرب أمثال واشتقاقات وأبنية‬
‫وموضع كلم يدل عندهم على معانيهم وإرادتهم‪ ،‬ولتلك اللفاظ مواضع أخرى‪ ،‬ولها حينئذ‬
‫دللت أخرى‪ ،‬فمن لم يعرفها جهل تأويل الكتاب والسنة والشاهد والمثل‪.‬ا‪.‬هـ‪ )4( .‬فهو‬
‫يجعل البيان العربي أساس وقاعدة تفسير ولكنه بصفته معتزليا شط في فتح باب‪ ،‬أو لنقل وسع‬
‫بابا كان ضيقا‪ ،‬وهو أن الصل في اللفاظ الحقيقة ول يصار إلى غيرها إل على استحالة حملها‬
‫على الحقيقة ووجود القرينة وهو الذي سماه المتأخرون المجاز ‪ -‬فإنه قال‪ :‬ولتلك اللفاظ‬
‫مواضع أخرى ولها حينئذ دللت أخرى‪...‬الخ قوله‪ .‬ولكن لم يختلف معنا المعتزلة في أساس‬
‫سلطة البيان‪ ،‬فيقول الزمخشري‪ :‬وما يميز به ‪ -‬أي إنسان ‪ -‬من سائر الحيوان من البيان هو‬
‫المنطق ‪ -‬أي الكلم الفصيح المعرب عما في الضمير‪.‬ا‪.‬هـ‪)5( .‬‬
‫أما اكتشافنا لهل البدع فعن طريق معرفتنا مغايرتهم في فهمهم للنص عن قواعد البيان‬
‫فاكتشافنا لهم يتم بإرجاع أنفسنا وأنفسهم لما فهمته العرب‪ ،‬وعامة ضلل أهل البدع يكون بسبب‬
‫جهلهم بقواعد اللغة العربية‪ ،‬ولهذا قال الحسن رضي ال عنه عن المبتدعة‪ :‬من العجمة أوتوا‪.‬‬
‫وقال عمرو بن العلء ‪ -‬من أئمة أهل السنة ‪ -‬لعمرو بن عبيد ‪ -‬إمام المعتزلة في عصره ‪-‬‬
‫لما ناظره في مسألة خلود أهل الكبائر في النار‪ ،‬واحتج ابن عبيد أن هذا وعد‪ ،‬وال ل يخلف‬
‫وعده‪ ،‬يشير إلى ما في القرآن من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب بالنار والخلود‪ ،‬قال له‬
‫ابن العلء‪ :‬من العجمة أوتيت‪ ،‬هذا وعيد ل وعد‪ ،‬وأنشد قول الشاعر‪:‬‬

‫‪420‬‬
‫لمخلف إيعادي ومنجز موعدي‬ ‫وإني وإن أوعدته أوواعدته‬
‫وقال بعض الئمة فيما نقل البخاري وغيره‪ :‬إن من سعادة العجمي أو العرابي إذا أسلما أن‬
‫يوفقا لصاحب سنة‪ ،‬وإنه من شقاوتهما أن يمتحنا وييسرا لصاحب بدعة‪.‬ا‪.‬هـ‪ )6( .‬فالبدعي‬
‫أساسه الول هو ترك الصول العربية‪ ،‬ثم أساسه الثاني‪ :‬ترك المحكم إلى المتشابه‪ ،‬وهذا الثاني‬
‫في الحقيقة عائد إلى الول‪ ،‬لن من أصول البيان رد الفروع إلى الصول‪ ،‬واتفاق البيان وعدم‬
‫اختلفه إذا صدر من حكيم‪ .‬روى المام البخاري في صحيحه في كتاب التفسير أن عائشة‬
‫عَل ْيكَ‬
‫رضي ال عنها قالت‪(( :‬تل رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه الية‪ُ { :‬هوَ الّذِي َأ ْنزَلَ َ‬
‫خرُ ُمتَشَا ِبهَاتٌ فََأمّا الّذِينَ فِي ُقلُو ِبهِمْ َزيْغٌ َف َي ّت ِبعُونَ مَا‬
‫ح َكمَاتٌ هُنّ أُمّ ا ْل ِكتَابِ َوأُ َ‬
‫ا ْل ِكتَابَ ِمنْهُ آيَاتٌ مُ ْ‬
‫ل اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ يَقُولُونَ آ َمنّا‬
‫تَشَابَهَ ِمنْهُ ا ْب ِتغَاءَ الْ ِف ْتنَةِ وَا ْب ِتغَاءَ تَ ْأوِيلِهِ َومَا َي ْعلَمُ تَ ْأوِيلَهُ إِ ّ‬
‫ل ْلبَابِ}‪ ،‬قالت‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫عنْدِ َر ّبنَا َومَا يَ ّذ ّكرُ إلّ ُأ ْولُوا ا َ‬
‫بِهِ كُلّ مِنْ ِ‬
‫((فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأؤلئك الذين سماهم ال فاحذروهم ))‪)7( .‬‬
‫والمتشابه هاهنا ليس ما يذكر في كتب الصول‪ ،‬ولكن شيء تختلف درجته في عدم دللته على‬
‫المراد في نفسه‪ ،‬فمنه ما يحتمل أكثر من معنى‪ ،‬ومنه مما ل يعلم حقيقته ‪ -‬ل تفسيره ‪ -‬إل ال‬
‫وليس هذا موطن تفصيل ذلك‪ .‬لكن أهل البدع يتركون ما ل يفهم منه إل مراد المتكلم إلى ما‬
‫يحتمل عدة معاني (حيث وضع ابتلء للناس وهو ما تنكره الظاهرية)‪ ،‬ولكن هذا المتشابه لم‬
‫يترك للناس من غير بيان فل بد من رده إما إلى المحكم أو إلى خاصه‪ ،‬فيأتي أهل البدع إلى‬
‫هذا المتردد إلى معنيين أو أكثر فيصرفه إلى ما يريده هواه‪ ،‬فأولئك هم طالبوا الفتنة‪ ،‬والواقعون‬
‫فيها‪.‬‬
‫مدرسة كف اليدي أتت بالعجيب من القول‪:‬‬
‫‪ - 1‬أسندت حق تفسير الكتاب والسنة للواقع والتاريخ (وهو الحكم القدري) ولم ترجع حق‬
‫التأويل إلى اللسان العربي‪ ،‬بل احتقرت اللسان العربي كما تقدم من كلم جودت سعيد‪ ،‬وهذا‬
‫الذي قالته هذه المدرسة باطنية جديدة‪ ،‬فلو قال طبيب كافر إن بعض الخمر قد ثبت أنه يشفي‬
‫بعض السقام‪ ،‬وثبت هذا بحكم التجربة والواقع‪ ،‬وسيرورة التاريخ لوجب علينا أن نجيز القليل‬
‫من الخمر ول نلتفت لما فهم أهل البيان من كلم رب العالمين‪.‬‬
‫‪ - 2‬يؤدي هذا المر في هذه المدرسة إلى تفسير النصوص تفسيرا جديدا‪ ،‬ويجعل لللفاظ‬
‫العربية التي تكلم ال بما في القرآن معان جديدة لم يعرفها الوائل‪ ،‬مما يلتقي هذا المر مع أهل‬

‫‪421‬‬
‫الحداثة الجدد ‪ -‬أو الزنادقة الجدد ‪ .-‬وهذا التجديد ستفرضه اكتشافات الناس للواقع والتاريخ‬
‫كما يزعم هذا التيار‪...‬‬
‫اليات المخبرة عن ابني آدم ووضعها في شرعة السلم لها جانبان من النظر‪ ،‬جانب يلتقي‬
‫معها‪ ،‬وجانب يفترق عنها‪ ،‬أما ذكر الجانب المتفق معها فمعلوم اضطرارا وروده‪ ،‬ولكن قد‬
‫يسأل سائل‪ :‬ما فائدة أن يذكر القرآن الكريم جانبا من هذه القصة والحدث ول يريد من المة‬
‫المسلمة أن تتبعه وتقتدي به؟ وبعيدا عن قول أئمتنا السابقين أن شرع غيرنا ليس شرعا لنا‪ ،‬أو‬
‫قول بعضهم إن شرع من قبلنا شرع لنا‪ ،‬والخلف الدائر حول هذا المصدر‪ ،‬فإن هذه اليات‬
‫فيها التأكيد العظيم على أن شريعة السلم التي أتى بها محمد صلى ال عليه وسلم هي أكمل‬
‫الشرائع‪ ،‬وأحق الشرائع اتباعا ((فوال لو كان موسى حيا لما وسعه إل اتباعي)) كما قال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أما جانب التفاق فهو‪:‬‬
‫‪ -1‬إن خطاب ابن آدم الصالح لخيه الخر‪ ،‬هو خطاب علِمَ الخ من أخيه أن تخويفه بال قد‬
‫يردعه ويرده‪ ،‬وإل فلو علم أن نفس الخ غير متهيبة لخطاب التخويف من ال لما خاطبه به‪،‬‬
‫ولكان هذا الخطاب عبثا ل قيمة له‪ ،‬ثم تبين أن هذا الخطاب لم يجد نفعا‪ ،‬ولما تبين أن هذا‬
‫الخطاب لم يجد نفعا كان ل بد من تغيير التشريع ليوافق الحق‪ ،‬وهو عدم التمادي في الظلم‪ ،‬أو‬
‫السترسال في تحقيق أهواء النفوس بقتل الخصوم‪ ،‬وهذا هو جانب الفتراق كما سيأتي لحقا‪،‬‬
‫إذا فمقالة الرجل الخر‪" :‬اتق ال" لن تفعل مفعولها إل في نفس ترهب ال وتخافه‪ ،‬وهذا من‬
‫جنس قول مريم عليها السلم للملك الذي جاءها بالروح عيسى عليه السلم‪{ :‬قالت إني أعوذ‬
‫بالرحمن منك إن كنت تقيا}‪ ،‬فالستعاذة بالرحمن لن يخفرها التقي وهي استعاذة بكلمات ال‬
‫الكونية لما خفي عن النسان من الجن وغيره وهذه تمنع البر والفاجر‪ ،‬واستعاذة بكلماته‬
‫الشرعية لما يراه النسان ويحسه‪ ،‬فحين يقول المرء أعوذ بكلمات ال التامات من شر ما خلق‬
‫فإن المقصود بها الكلمات الكونية وليست التشريعية‪ ،‬فلو قال رجل مسلم لكافر‪ :‬أعوذ بال منك‪،‬‬
‫وأراد الكافر قتله فإن هذه الكلمات لن تنفعه‪ ،‬أما إذا قالها لمسلم فإنها تنفعه‪ ،‬كما نفعت كلمات‬
‫المرأة التي لقنت أن تقول لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬أعوذ بال منك‪ ،‬فقال لها رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪(( :‬لقد عذت بعظيم‪ ،‬الحقي بأهلك))‪ ،‬فإنها نفعت مع من يعلم أن خفر ذمة‬
‫ال تعالى جريمة ومعصية توجب العذاب‪ ،‬فمريم عليها السلم قيدت نفع كلماتها ‪ -‬أعوذ بال‬
‫منك بكون السامع تقيا‪ ،‬أما إن كان فاجرا فإنه سيخفر ذمة ال تعالى‪.‬‬

‫‪422‬‬
‫نعود إلى خطاب ابن آدم لخيه‪{ :‬إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك}‪ ،‬هذا تهديد لمن يعلم قيمة‬
‫الثم ويؤمن أن وراء هذا الثم عقابا‪ ،‬وهو الرادع في قلب المؤمن‪ ،‬أما الكافر والعاصي الجاهل‬
‫الناسي فلن تردعه هذه الكلمات‪.‬‬
‫فالمؤمن هو الذي يخاطب بكلمات ال الشرعية لنها عظيمة القيمة في قلبه‪ ،‬وأما غيره فليس له‬
‫إل كلمات ال الكونية‪.‬‬
‫المؤمن يقال له‪ :‬اتق ال‪ ،‬وعليك أن تخاف اليوم الخر فيتذكر كما قال تعالى‪{ :‬إن الذين اتقوا‬
‫إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}‪ ،‬وأما الكافر فهو الذي {إذا قيل له اتق‬
‫ال أخذته العزة بالثم}‪ ،‬فيتمادى في غيه وعصيانه‪.‬‬
‫المؤمن تردعه كلمات ال‪ ،‬والكافر تردعه اللطمة وإن لم تنفع فالركلة‪ ،‬فإن لم تنفع فالرهاب‬
‫{ترهبون به عدو ال وعدوكم} فإن لم ينفع فقوله تعالى‪{ :‬واقتلوهم حيث ثقفتموهم} ولن يردعهم‬
‫حتّى ُيثْخِنَ فِي‬
‫سرَى َ‬
‫إل أن تخضب الرض بدمائهم { مَا كَانَ ِل َن ِبيّ أَنْ َيكُونَ لَهُ أَ ْ‬
‫لرْضِ‪...‬فشرد بهم من خلفهم}‪ .‬وإعمال كلمات ال التشريعية بالتخويف للكافر هزل بآيات ال‬
‫اَ‬
‫تعالى‪ ،‬وإعمال كلمات ال الكونية مع من يرتدع بالكلمات التشريعية ظلم وتجاوز للحد‪ ،‬ولكل له‬
‫مكانه‪.‬‬
‫مدرسة الصبر وكف اليدي تريد منا أن نقول للنصيريين وهم في ذروة حماسهم وسكرتهم‪:‬‬
‫اتقوا ال!!‪ ،‬فهل جربت هذه المدرسة ماذا يقول المرتدون في بلدنا وهم يعذبون الشباب المسلم‬
‫فتخرج كلمات الستغاثة من الشباب قائل‪ :‬أنا لئذ بال أو ملتجئ إليه‪ ،‬فماذا كان ردهم؟‪ :‬ألم‬
‫يخبرنا أولئك أنهم ردوا عليهم قائلين‪ :‬لو حضر ال إلى هنا لسجناه معكم‪( .‬أستغفر ال وأتوب‬
‫إليه)‪.‬‬
‫لو أن المرتد دخل بيتك ليزني بأهلك فهل تمنعه من فعلته الشنيعة بقولك‪ :‬اتق ال؟!‪ ،‬إني أريد‬
‫أن تبوء بإثمي وإثمك ولمن زنيت بأهلي لن أحقد عليك ولن أسميك عدوا‪ ،‬إني أخاف ال رب‬
‫العالمين؟!‪.‬‬
‫بل سأذهب معكم إلى بعد آخر‪ ،‬لو أن المشركين من اليهود قالوا لرسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم بعد هزيمة بني قريظة‪ ،‬فحكم فيهم سعد بن معاذ رضي ال عنه أن يقتل رجالهم‪ ،‬فلو أن‬
‫يهوديا؟ قال لرسول ال صلى ال عليه وسلم ليكف يده عن قتلهم‪ :‬يا محمد اتق ال فينا!! فماذا‬

‫‪423‬‬
‫سيكون جواب رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ سيقول له‪ :‬أنا بأمر ال الذي أتقيه أقتلكم‪ ،‬ولول‬
‫تقوى ال ما حكمت فيكم هذا الحكم‪.‬‬
‫هذا أبو بكر الصديق ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬يقول له الناس عند توليته عمر بن الخطاب من بعده‪:‬‬
‫أستخلفت على الناس عمر‪ ،‬وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه فكيف إذا خل بهم‪ ،‬وأنت‬
‫لق ربك فسائلك عن رعيتك‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬أبال تفرقني (تخوفني)؟‪ .‬إذا لقيت ال ربي فسألني‬
‫قلت‪ :‬استخلفت على أهلك خير أهلك‪.‬ا‪.‬هـ‪)8( .‬‬
‫واليهودي يعتقد أنه بقتله المميين يرضي ربه‪ ،‬وكذا النصيري والدرزي‪ ،‬وكل ملة تتعبد إلهها‬
‫بخصومتها للخرين‪.‬‬
‫ولو ذهبنا نستعرض التاريخ النساني والسلمي عن حالة واحدة تؤيد اتجاه هذا الفريق لما‬
‫وجدنا‪ ،‬بل إن الية ضدهم‪ ،‬فإن تخويف ابن آدم لخيه لم يمنعه من قتله‪ ،‬والعرب تفهم هذا‪،‬‬
‫فإنها قالت‪ :‬القتل أنفى للقتل‪ ،‬وال تعالى قال‪ { :‬ولكم في القصاص حياة} ولكن القوم‪ :‬قال ال‪،‬‬
‫قال الرسول‪ ،‬كلمات لم تعد تخيفهم‪ ،‬فليأتوا لنا بحالة واحدة درست دراسة علمية تؤيد سبيلهم‪.‬‬
‫‪ -2‬إن مما قاله ابن آدم الصالح لخيه‪ :‬إني أخاف ال رب العالمين‪ ،‬فالمانع له عن بسط يده‬
‫لخيه حتى في رد عدوانه عليه هو خوفه من ال تعالى‪ ،‬فهو يتعامل مع شرع مأمور به‪ ،‬وهو‬
‫أنه لو بسط أخوه يده له بالقتل فعليه أن ل يبسط له يده لقتله‪ ،‬امتثال لمر ال تعالى‪ ،‬فهل مسلم‬
‫اليوم يستطيع أن يقول ذلك‪ ،‬وهو مأمور بقوله تعالى‪{ :‬وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم‬
‫على سواء} فأمر ال تعالى المسلم أن يقاتل من بينه وبينهم عهد لمجرد ظهور بوادر الخيانة‪،‬‬
‫فكيف من لم تكن بينه وبين المسلمين عهود ومواثيق؟!!‪.‬‬
‫ألم يقل سبحانه وتعالى‪{ :‬إل تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم} فجعل كف اليد‬
‫وترك القتال سببا موجبا لعذاب ال تعالى‪ ،‬فأين هذا من ذاك؟! ‪.‬‬
‫ألم يأمر النبي صلى ال عليه وسلم الرجل أن يفقأ عين الناظر إليه في بيته دون إذنه؟‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫((إنما جعل الستئذان من أجل البصر))‪ ،‬فهل انقلبت صورة الحجر التي تفقأ عين الظالم إلى‬
‫ورود في نفسية هذا التيار في هذا الزمان؟!‪.‬‬
‫أليس هذا هو عين تأويل البعض لقوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬احثوا في وجه المداحين‬
‫التراب))‪ ،‬فكان من تأويل بعض فقهاء السلطين لهذا الحديث أن الذهب من التراب‪ ،‬والسلطين‬
‫يطبقون أمر ال تعالى‪ ،‬فمن مدحهم حثوا في وجهه الذهب امتثال لمر النبي صلى ال عليه‬

‫‪424‬‬
‫وسلم‪ ،‬فصار التراب ذهبا!‪ ،‬وصار فقء العين يعني أن تعلق على ياقته الوردة حتى تخجل عينه‬
‫فيغلقها‪ ،‬فهذا هو عين الفقء!!‪.‬‬
‫هكذا تنقلب الوامر الشرعية إلى تأويلت جديدة تشابه تأويلت الباطنية‪.‬‬
‫آيات ابن آدم تصور لنا الحقيقة التالية‪:‬‬
‫رجلن قد اختلفا‪ :‬رجل يخاف ال فترده الكلمة والموعظة‪ ،‬ورجل ل يخاف ال فوعظ وخوف‬
‫بال تعالى فلم يرتدع‪ ،‬فل بد من ردعه ورده حتى ل يتمادى في غيه وظلمه‪ ،‬إذن ل بد من‬
‫شيء آخر غير كلمات ال التشريعية‪ ،‬وهي كلمات التكوينية‪ ،‬فتطور التشريع ليوافق الحق‬
‫المطلق‪ ،‬وهو ما جاء به رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهذا جانب الفتراق‪.‬‬
‫قصة ابني آدم عليه السلم ككل القصص القرآني فيها من العبر والعظات التي تؤكد حكمة‬
‫الرب سبحانه وتعالى‪ ،‬وتؤكد الحق المطلق الذي جاء به رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقد‬
‫قلنا إن في قصة آدم جانبا يفترق عن شريعة السلم‪ ،‬وهو جانب كف اليد عن المعتدي إذا‬
‫أرادك بسوء وظلم‪ ،‬وقد نستطيع القول إن هذا الجانب كذلك ل يفترق عن شريعة السلم‪ ،‬وهو‬
‫كف اليد عن المسلمين حتى لو أرادوك بظلم وشر‪ ،‬وأن تكن كما قال صلى ال عليه وسلم‪( :‬كن‬
‫عبد ال المقتول ول تكن عبد ال القاتل)‪ ،‬وهذا قطعا وجزما هو مع المسلمين من بني عقيدتك‬
‫ودينك‪ ،‬فالحديث الول يذكر في زمن الفتن الواقعة بين المسلمين‪ ،‬وكذلك الحديث الثاني‪ ،‬أما مع‬
‫غير المسلمين فل بد من استحضار قوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ل يجتمع كافر وقاتله في‬
‫النار)) وهو حديث فيه الترغيب في قتل الكافر‪ ،‬فكلما قتل المسلم من الكافرين كلما باعد ال بينه‬
‫وبين جهنم‪ ،‬وقد كان الصحابة رضي ال عنهم يتنافسون في قتل أعداء ال تعالى كما في قصة‬
‫ابني عفراء مع أبي جهل‪ ،‬فهما جانبان يحضران في نفس المسلم في الوقت ذاته {أعزة على‬
‫الكافرين} {أذلة على المؤمنين} لكن لو قلنا أن شريعة ابن آدم الول كانت تمنع بسط اليد إلى‬
‫أي أحد كائنا من كان فما هو وجه ذكرها في القرآن؟ ولماذا تذكر بعض الجوانب في قصص‬
‫النبياء في القرآن الكريم مما ل تلتقي مع شريعة السلم؟ فما هي الحكمة في ذلك؟‪.‬‬
‫إن المقارنة بين الشريعتين شريعة الوائل وشريعة محمد صلى ال عليه وسلم ‪ -‬مهمة من‬
‫مهمات القرآن الكريم‪ ،‬لن فيها من ال تعالى على عباده في أمة محمد صلى ال عليه وسلم‬
‫بأنه لم يشرع لهم إل الفضل‪ ،‬ولم يعطهم إل خير ما عنده سبحانه وتعالى في عله‪ ،‬فالوائل‬
‫استؤمنوا على كتبهم فخانوها وبدلوها‪ ،‬فدل هذا التبديل والتحريف أن الناس لن يكونوا أوفياء‬

‫‪425‬‬
‫لكتبهم‪ ،‬فمن ال تعالى على هذه المة بأن نزع منها حق الحفاظ على الكتاب وألزم الرب جل‬
‫في عله نفسه بأن يحفظه {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وكان الوائل يقتلون أنبياءهم‪،‬‬
‫فعصم ال نبي هذه المة من أعدائه { وال يعصمك من الناس} ومسيرة النبياء مع أقوامهم دلت‬
‫على أن كل نبي أتى إنما أعطاه ال سبحانه وتعالى ما ظهر لمن قبله أنه محتاج إليه‪ ،‬ولو تفرغ‬
‫بعض طلبة العلم ليرى تطور منهج النبياء في الدعوة لرأى العجب العجاب‪ ،‬ومع أن هذا‬
‫التطور شرعي ورباني‪ ،‬أي أنه وضع إلهي‪ ،‬ولكن مع توقيفه إل أن ال سبحانه وتعالى يعلم‬
‫عباده فوائد ما فرض عليهم من تطور جديد من خلل تجربة النبي السابق‪ ،‬لتظهر حكمة ال‬
‫تعالى في التشريع الجديد‪ ،‬وليشعر النبي وأتباعه أن هذا الفارق كان له ما يبرره من حكمة ال‬
‫تعالى‪ ،‬وهذا كله من رحمة ال تعالى بعباده‪.‬‬
‫لقد كان سبحانه قادرا {ل يسأل عما يفعل} أن يقيم هذه الحياة في أسس وجودها القائمة على‬
‫الصراع بين إرادة ال سبحانه وتعالى وبين إرادة الشيطان‪ ،‬إرادة ال تعالى التي تقدم للناس‬
‫الحق‪ ،‬وتجزي على الخير الجور المضاعفة‪ ،‬وبين إرادة الشيطان التي تقدم للناس الباطل‪،‬‬
‫وتجزي أتباعها يوم القيامة {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا} وقوله لهم‪ { :‬وما كان لي‬
‫عليكم من سلطان إل أن دعوتكم فاستجبتم لي فل تلوموني ولوموا أنفسكم} وغيرها من عبارات‬
‫البراءة والبعاد‪ ،‬لقد كان ال قادرا أن يقيم هذه الحياة على هذا الصراع من غير المقدمة التي‬
‫تمت في السماء والتي تبرر هذا الصراع على النسان‪ ،‬لكن ال سبحانه وتعالى حكيم ورحيم‬
‫بعباده‪ ،‬فإنه قدم لهم هذا الصراع مع مقدمة كونية حقيقية لتكون أدعى لقبولهم وأرجى‬
‫لستجابتهم‪ ،‬فسبحانه في عله يدعوهم إلى الحق بكل الصور التي تدفعهم للقبول والرضا‪ ،‬إذ‬
‫سبحانه ل يشرع لعباده من أمر إل ويقطع لهم من الحقائق الكونية التي تثبت لنفوس البشر‬
‫التواقة للمعرفة أن ما قاله وشرعه موافق لما خلقه وأبدعه‪ { ،‬سنريهم آياتنا في الفاق وفي‬
‫أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ} وهذا قد حدث مع حركة النبياء وسيرتهم مع أقوامهم‪ ،‬فما من‬
‫نبيّ إلّ وقد أغنى النّبيّ القادم بعده بتجربة يتواصل معها القادم ليعطي ثمرة أن يكون أكثر‬
‫ونتيجة أعظم‪ ،‬ولذلك فليس من الغريب أكثر النبياء أتباعا هم آخر النبياء‪ ،‬موسى وعيسى‬
‫ومحمّد عليهم الصّلة والسّلم‪ ،‬وعدد أتباعهم كثرة على التّوالي‪ ،‬وأكثرهم تابعا هو محمّد صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬فها هو رسول ال صلى ال عليه وسلم يدعو إلى ال تعالى كما دعا نوح عليه‬
‫السّلم مدّة ثلثة عشر سنة في مكّة فلم يستجب له إلّ القليل كما قال عن نوح { وما آمن معه‬

‫‪426‬‬
‫إلّ قليل}‪ .‬ومحمّد عليه السّلم في دعوته على منهج نوح لم يستجب له إلّ القليل‪ ،‬فشرع لهم‬
‫طريقا آخر في الدّعوة وهو اجتماع كلمة الحقّ مع القوّة والسّيف‪ ،‬فبهذه الطّريق دخل النّاس في‬
‫دين ال تعالى أفواجا‪ ،‬هكذا ينبغي أن نفهم قصص النبياء في القرآن‪ ،‬وهي صورة المقارنة بين‬
‫طريقة الوائل وطريقة محمّد صلى ال عليه وسلم ليعلّم أتباعه أنّهم هم القوى طريقا والسلم‬
‫منهجا‪ ،‬فل يحيدون عنه لنّهم يرون نتائج الطّرائق الولى ونتائج طريقة المتأخّر‪ ،‬وللتّدليل على‬
‫هذا الذي قدّمتُ أذكر هذا المر وهو أنّ لوطا عليه السّلم في صراعه مع قومه تمنّى أن يكون‬
‫معه شيء آخر في دعوته إلى ال غير الكلمة الحسنة في مجابهته لقومه الكافرين‪ ،‬قال لوط‬
‫عليه السّلم‪{ :‬لو أنّ لي بكم قوّة أو آوي إلى ركن شديد} هذه العبارة التي قالها لوط تحمل معها‬
‫الدّعاء والرّجاء‪ ،‬إذ يتمنّى أن تكون معه قوّة لتساعده في الدّعوة لنّه اكتشف أنّه ل بدّ أن يكون‬
‫مع الكلمة قوّة يقاتل بها وركن شديد يؤوى إليه‪ ،‬فهذه تجربة نبويّة ل بدّ أن يستثمرها النّبيّ‬
‫اللحق وذلك بتشريع ربّانيّ‪ .‬فكان الذي بعده ل بدّ له من ركن شديد يأوي إليه‪ ،‬قال صلى ال‬
‫عليه وسلم بعد أن قرأ اليات السّابقة { لو أنّ لي بكم قوّة أو آوي إلى ركن شديد} قال‪(( :‬رحمة‬
‫ال على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد ‪ -‬يعني ال عزّ وجل ‪ -‬فما بعث ال بعده من نبيّ‬
‫إلّ في ثروة من قومه))‪ ،‬فدلّ هذا على تطوّر مسيرة النبياء في دعوتهم إلى ال بطريقة سننيّة‪،‬‬
‫فإذا جاء تشريع جديد فهو بيّن الضّرورة‪ ،‬واضح السّبب‪.‬‬
‫لماذا ذكرت قصّة ابني آدم في القرآن الكريم؟‪:‬‬
‫لقد ظهر من قصّة ابني آدم أنّ النّفوس البشريّة ل ترتدع بالكلمة‪ ،‬ولنقل إن الكثير منها ل ترتدع‬
‫بالكلمة وهو الصل في النّفوس‪ ،‬وأنّه ل بدّ أن يشارك الكلمة الحسنة التي تقنع العقل بالصّواب‬
‫عصا تردع النّفس الرّاغبة في الشّر‪ ،‬لنّ النسان قد يقتنع بالحقّ ويعلمه ويدركه‪ ،‬ولكن يمنعه‬
‫من اتّباعه هوى النّفس وشهواتها‪ ،‬فل بدّ من علج القسمين‪ :‬الفكر والنّفس‪ ،‬فالفكر يعالج‬
‫بالموعظة والذّكرى والمجادلة‪ ،‬والنّفس ترتدع بالعصا والسّيف‪ ،‬والرّهبة من العقاب‪ ،‬وهذا هو‬
‫الصّواب في التّربية كما أمر صلى ال عليه وسلم راعي البيت أن يعلّق العصا في بيته ليراها‬
‫أهله تخويفا لهم من ارتكاب المخالفات‪ ،‬وتجربة ابن آدم الوّل كشفت لنا هذا المر‪ ،‬فهذا أخ‬
‫شقيق (وجود العاطفة النّسبيّة الصّلبيّة) تدفعه نفسه إلى قتل أخيه رغبة في الشّهوة النّفسيّة‪،‬‬
‫فيعظه أخوه {إنّي أخاف ال} ويخوّفه العقاب {فتكون من أصحاب النّار}‪ ،‬ولكنّ هذه الشّهوة‬
‫أعمته عن العاطفة الخويّة‪ ،‬وعن الموعظة العقليّة وعن رؤية العقاب الجل‪ ،‬فقتله {فطوّعت له‬

‫‪427‬‬
‫نفسه قتل أخيه فقتله} ثمّ ذهب بعد ذلك نادما {فأصبح من النّادمين}‪ ،‬لكنّ المعصية قد وقعت‬
‫وقتل ابن آدم الصّالح‪ .‬فهل تشريع ابن آدم الوّل نفع في منع وقوع المعصية؟ أبدا لم ينفع‪ .‬إذن‬
‫ل بدّ من تشريع يمنع من وقوع المعصية‪.‬‬
‫كلمات ال التّشريعيّة‪ ،‬والعاطفة الجبّليّة موانع ولكنّها ليست كافية‪ ،‬فجاء التّشريع الخير‪ ،‬الخاتم‬
‫ق المطلق بردع العاصي عن معصيته {وإمّا تخافنّ من قوم خيانةً فانبذ‬
‫لكلّ تشريع وفيه الح ّ‬
‫إليهم على سواء} و{فشرّد بهم من خلفهم} و{فاضربوا فوق العناق واضربوا منهم كلّ بنان} و‬
‫{وما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الرض} و{ول تأخذكم بهما رأفة في دين ال}‬
‫و{واغلظ عليهم} و{وليجدوا فيكم غلظة} و"قد حكمت فيهم بحكم ال من فوق سبع سماوات"‪)9( ،‬‬
‫حتّى وصل المر أن ترتعد فرائص العداء بمجرّد سماع اسم المسلمين‪ ،‬وهذا تفسير قوله‬
‫صلى ال عليه وسلم‪(( :‬نصرت بالرّعب))‪ ،‬لنّ المسلمين هم قوم يتقرّبون إلى ال بذبح أعداء‬
‫ال‪ ،‬فالذّبح سجيّتهم‪ ،‬وبه يكون العالم سالما من المعاصي والذّنوب إلّ فيما قدّر ال سبحانه‬
‫وتعالى‪.‬‬
‫فشريعة محمّد صلى ال عليه وسلم هي التي تمنع وقوع المعاصي واستفحالها‪:‬‬
‫‪ -‬رجل سرق تقطع يده‪ ،‬فصاحب شهوة السّرقة سيتحسّس يده ألف مرّة قبل أن يمدّ يده إلى‬
‫دراهم غيره‪..‬‬
‫‪ -‬رجل يزني يرجم أو يجلد‪ ،‬فصاحب الشّهوة ستموت شهوة الجنس عنده بمجرّد تذكّره حرّ‬
‫الحجارة أو ألم السّياط أو ذهاب سمعته بين النّاس‪..‬‬
‫‪ -‬رجل يريد أن يرتدّ سيجفّ حلقه خوفا قبل أن يستطرد ذهنه مع هذا الهاجس الشّيطانيّ‪.‬‬
‫أمّا شريعة ابن آدم الوّل فقتلته‪ ،‬فأيهما أهدى سبيل‪(( ..‬أمتهوكون أنتم‪ ،‬وال لو كان موسى حيّا‬
‫ما وسعه إلّ اتّباعي))‪ ،‬فاتّباع سبيل ابن آدم الوّل في مطلق كفّ اليد عن الكافرين وأعداء‬
‫ك وضلل‪.‬‬
‫الدّين‪ ..‬ته ّو ٌ‬
‫(‪ - )1‬ص ‪.21‬‬
‫(‪ - )2‬ص ‪ 50‬فقرة ‪.169‬‬
‫(‪ - )3‬ص ‪.52‬‬
‫(‪ - )4‬كتاب الحيوان (‪ 4‬ص ‪.)289‬‬
‫(‪ - )5‬الكشاف (‪ 4‬ص ‪.)442‬‬

‫‪428‬‬
‫(‪ - )6‬الرسائل والمسائل النجدية (ج ‪ 2‬ص ‪.)11 ،10‬‬
‫(‪ - )7‬صحيح البخاري (ج ‪،5‬ص ‪.)166‬‬
‫(‪ - )8‬الطبري‪.‬‬
‫(‪ - )9‬وذلك في حكم سعد بن معاذ في بني قريظة في قتل رجالهم‪.‬‬
‫العنف والسرية ومذهب كف اليدي‪:‬‬
‫هل صحيح أنّ سبب انتكاسة الحركة السلميّة بمجملها في الوصول إلى أهدافها هو تبنّيها منهج‬
‫العنف واعتماد الس ّريّة وسيلة في الحركة والعمل؟‪.‬‬
‫هذا ما يحاول خصوم المنهج إثباته وتقريره‪ ،‬وهم لهم طرق عدّة في إثبات هذه المقولة‪.‬‬
‫هؤلء الخصوم تتفاوت درجاتهم في فهمهم للمنهج الصّداميّ‪ ،‬فبعضهم يرى أنّه بمجرّد تبنّي‬
‫ي يصبح المنهج صداميا‬
‫الحركة السلميّة للعمل السّياسيّ أو كما يسمّيه بعضهم الكفاح السّياس ّ‬
‫يعطي المبرّر للطّواغيت بضرب الحركة‪ ،‬وبعضهم مثل جماعة التّبليغ يرى أنّ مجرّد الحديث‬
‫في السّياسة طريق مهلك للعمل السلميّ‪ ،‬لنّنا بذلك ندقّ نواقيس الخطر التي يتخوّف منها‬
‫الطّغاة‪ ،‬ومن أعجب ما نرى ممّن ينتمي للسلم أن نرى بعض المشايخ وخاصّة ممّن ينتمي‬
‫لل ّتيّار السّلفي ويتدثّر بشعاره يعلن ويجعل وليّ المر في مرتبة ل يجوز أن يتحدّث عنها أحد‬
‫بنقد أو تقويم‪ ،‬ولكن هل صحيح أنّ سبب ضرب الطّغاة للحركة السلميّة تبنّيها العنف ؟‪.‬‬
‫إنّ طرح القرآن الكريم لعمليّة الصّراع بين الحقّ والباطل كطريق حتميّ في هذا السّبيل يجعلنا‬
‫نثق أنّ البلء لبدّ أن يقع على أيّ وجه من الوجوه‪ ،‬وأنّ الحقد الذي يكنّه الطّغاة لهل التّوحيد‬
‫قضيّة ل مفرّ منها ول مهرب‪ ،‬لنّ الباطل بذاته يكره الحقّ ويحقد عليه ول يحتاج لمبرّر آخر‬
‫لضربه وسحقه‪ ،‬فهذه علقة جدليّة حتميّة ل مفرّ منها في لقاء الحقّ والباطل وفي تضاربهما‪.‬‬
‫ثمّ تعالوا إلى أرض الواقع لنرى أيّ نوع من العنف تبنّت الحركة السلميّة حتّى كان ضربها‬
‫عملً ل مفرّ منه من قبل الطّغاة ؟‪.‬‬
‫إنّ جماعة "الخوان المسلمين" هي التّجربة التي يحاول من خللها أصحاب مدرسة كفّ اليدي‬
‫العتماد عليها في تقرير مبدأ أنّ استخدام العنف سبب شقاء العمل السلميّ‪ ،‬هذا على الرّغم‬
‫من أنّ هذه المدرسة ل تفتأ المرّة تلو المرّة‪ ،‬بمناسبة وغير مناسبة العلن أنّ بينها وبين منهج‬
‫العنف عداء مستحكم أصيل‪ ،‬بل وتذهب أكثر من ذلك‪ ،‬وذلك بإعلنها أنّها لن تخرم موادّ‬
‫الدّستور والقانون في أيّ عمل من أعمالها أو تصرّف من تصرّفاتها‪ ،‬وهي قد قبلت بكّليّتها‬

‫‪429‬‬
‫نتائج العمل الدّيمقراطيّ‪ ،‬حتّى أنّ رجلً من رجـالهم في برلمان الكويت يعلن بعد فوز‬
‫الحكومة في إحدى قوانين الردّة والكفر فيقول هذا البرلمانيّ‪ :‬لقد قبلنا بالدّيمقراطيّة كحكمٍ فعلينا‬
‫أن نرضى بنتائجها‪ .‬لكن هل الضّربة التي تلقّتها جماعة الخوان المسلمين من عبد النّاصر هي‬
‫بسبب تبنّي الجماعة لمنهج العنف ؟‪.‬‬
‫الجواب بكلّ وضوح‪ :‬ل وألف ل‪ ،‬فإنّ الجماعة منذ مؤسّسها ومرشدها الشّيخ حسن البنّا إلى أن‬
‫ضربت زمن الرّجل الثّاني في قيادتها وهو المحامي الهضيبي لم تخرم العمل السّلميّ قِيد ‪-‬‬
‫بكسر القاف ل بفتحها ‪ -‬أنملة‪ ،‬فقد كان الشّيخ البنّا واضحا في عدم تبنّيه العمل الصّداميّ ضدّ‬
‫الحكومة المصريّة بقيادة ملوكها الكفرة‪ ،‬فهو الذي أمر جماعته أن تخرج لستقبال فاروق بعد‬
‫عودته من إحدى أسفاره‪ ،‬وأمرها في هذا الستقبال أن تهتف له لتأييده وبرّر ذلك بقوله‪ :‬إنّ‬
‫على العالم أن يعرف أنّ الشّعب المصريّ يحبّ مليكه‪ ،‬ومعلوم أنّ الستاذ حسن الهضيبي هو‬
‫الذي أمر بحلّ الجهاز الخاصّ‪ ،‬وهو الجهاز العسكريّ الذي كان حسن البنّا قد أنشأه من أجل‬
‫قتال النجليز‪ ،‬وهنا ل بدّ من وقفة وهو أنّ كلمة الجهاد التي ترفعها جماعة الخوان المسلمين‬
‫على معنىً واحد‪ ،‬ومفهوم قاصر‪ ،‬وهو جهاد الجنبيّ‪ :‬أي أن يجاهد المصريّون النجليز‪،‬‬
‫ويجاهد الفلسطينيّون اليهود‪ ،‬ويجاهد الفغان الرّوس‪ ،‬أمّا جهاد الكافر العربيّ أو المرت ّد العربي‬
‫فهذا ل يدور بخلدهم‪ ،‬فهو ليس له وجود في أذهانهم بسبب عدم وجود المقدّمات الشّرعيّة لهذا‬
‫النّوع من القتال وهو فهم التّوحيد على أساس فهم الصّحابة رضي ال ع نهم‪ ،‬فالقائد الذي ل‬
‫يفتأ يوزّع الرّحمات والدّعوات بدخول الجنان للطّواغيت أمثـال عبد النّاصر والسّادات‬
‫وغيرهما وأقصد الستاذ عمر التّلمساني‪ ،‬ل يمكن أن يكون على بصيرة واضحة لفهم التّوحيد‬
‫الذي بعث به الرّسل‪ ،‬فجماعة الخوان المسلمين التي ُتتّهم أنّها أفرزت الفكر الجهادي‪ ،‬أو كما‬
‫يزعم تيّار الضّلل والبدعة‪ ،‬تيّار مدرسة ربيع المدخلي وفريد المالكي وقد انض ّم إليهم أخيرا في‬
‫تلك الزّفّة "جمعيّة إحياء التّراث السلميّ" عن طريق مجلّتهم الضّالّة "الفرقان"‪ ،‬هذا ال ّتيّار‬
‫المتدثّر بلحاء السّلفيّة كذبا وزورا يتّهم جماعة الخوان المسلمين أنّها مصدر الفكر السّلفيّ‬
‫الجهاديّ‪ ،‬فإنّها هي التي أوصلت الشّباب المسلم إلى تكفير الحكّام‪ ،‬نقول إنّ جماعة الخوان‬
‫المسلمين بريئة من هذه التّهمة‪ ،‬لنّ الجماعة بكلّ أدبيّاتها لم تدْعُ إلى شيء من ذلك البتّة‪،‬‬
‫فسيبقى السّؤال إذا قائما‪ ،‬لماذا ضربت جماعة الخوان المسلمين؟ هل لتبنّيها العنف مع الحكّام؟‬
‫وأعود وأقول إنّ مفهوم العنف والصّداميّة مختلفة درجته عند تيّار كفّ اليدي‪ ،‬فهو متفاوت بين‬

‫‪430‬‬
‫الستاذ محمّد سرور مثلً وبين جماعة التّبليغ‪ ،‬فالستاذ سرور عند جماعة التّبليغ مثلً هو‬
‫ي المنهج‪ ،‬وطريقه مهلكة لنّه بسلوكه لطريق العمل السّياسيّ عن طريق البيان والتّبليغ‬
‫صدام ّ‬
‫يعطي المبرّر للدّولة لضربه وتصفيته‪ ،‬بل إنّ الستاذ سرور بما هو عليه من سلوك طريق‬
‫السّلمة ونبذ القتال‪ ،‬ونبزٍ لجماعات الجهاد في العالم السلميّ بأقبح الوصاف متّهم من التيّار‬
‫المذكور ‪ -‬تيّار السّلفيّة المزعومة ‪ -‬بأنّه من الخوارج‪ ،‬وهذا قاله أحد أعمدة هذا التيّار وهو‬
‫الشّيخ عبد ال السّبت‪ ،‬وهكذا تدور الدّائرة‪ ..‬سرور يتّهم جماعات الجهاد بالخارجيّة‪ ،‬وسرور‬
‫متّهم من جماعة السّلفيين المزعومة بأنّه خارجيّ‪ ،‬بل إنّ الشّيخ عبد الرّحمن عبد الخالق متّهم‬
‫عند البعض بأنّه يحمل فكر الخوارج‪ ،‬وهو يدعى ضال فقط لنّه أجاز للسّلفيين في الكويت أن‬
‫يتكتّلوا وينتظموا ويمارسوا العمل السّياسي‪ ،‬وهكذا تصبح السّاحة هي ساحة شعارات جوفاء ل‬
‫يعقل النّاقل لها وكذلك النّاطق شيئا من مفهومها ومدلولها‪ .‬إنّ مجرّد وجود جماعة تدعو إلى ال‬
‫تعالى‪ ،‬وتدلّ النّاس على الخير‪ ،‬وتنشر في النّاس الفضيلة جماعة لن تكون مقبولة من قبل‬
‫الطّواغيت‪ ،‬ولن ترضى عنها حكومات الردّة في عالمنا المليء بالشّياطين‪ ،‬إنّ حكّامنا ل‬
‫يحتملون وجود الطهار بين أظهرهم‪ ،‬وهذه نفسيّة المرتدّ‪ ،‬لنّها مشتقّة من نفسيّة الشّيطان الذي‬
‫ن لهم صراطك المستقيم}‪ ،‬فهؤلء يجب عليهم أن يقضوا على الخير‪ ،‬سواء تبنى هذا‬
‫قال‪{ :‬لقعد ّ‬
‫الخير العنف أم لم يتبنّاه‪ ،‬وهو يجب عليه أن يتبنّاه ليحمي نفسه أوّلً وليدمّر معاقل الشّياطين‬
‫التي تمنع وصول الخير إلى النّاس‪.‬‬
‫في بلدة كانت تسمّى إسلميّة‪ ،‬رئيسها خرّيج الجامع الزهر بالشّهادة العالميّة في علم الصول‪،‬‬
‫انتخبه النّاس يوما لنّه رجل متديّن‪ ،‬هذا الحاكم المرتدّ (عالم أصول) يمنع في بلده أن يتحدّث‬
‫المشايخ في المساجد عن حرمة الخمر‪ ،‬ويمنعهم أن يتحدّثوا عن الحجاب‪ ،‬ومن خالف فمصيره‬
‫السّجن والتّعذيب‪ ،‬وهو يسهّل الدّعارة بدرجة عالية حتّى أني سألت أحد الصّالحين في تلك البلدة‬
‫عن سبب عزوف المتديّنين من الزّواج من بني جلدتهم‪ ،‬فأجابني شاكيا إنّه من الصّعب جدّا أن‬
‫تجد في بلدتنا عذراء‪.‬‬
‫هذا الحاكم يلحق النّاس بسبب طهرهم وعفافهم‪.‬‬
‫وفي النّهاية‪..‬‬
‫إن حملت السّلح ستقتل‪..‬‬
‫وإن ركعت ستقتل‪..‬‬

‫‪431‬‬
‫إذا احملت السّلح ومت عزيزا‪ ،‬وربّما تنادى في العالي‪ :‬فلن شهيــد‪.‬‬
‫جوهر الخلف بين مدرسة الجهاد والسلم بقليل من التّمعّن والنّظر يتبيّن للفاحص أنّ الخلف‬
‫بين مدرسة كفّ اليدي والصّبر وترك العنف والعمل الصّداميّ‪ ،‬وبين المدرسة الجهاديّة السّلفيّة‬
‫ليس خلفا على باب من أبواب الفقه‪ ،‬وليس الخلف حول مسألة فقهيّة‪ ،‬يسع النّاس الخلف‬
‫فيها‪ ،‬بل الخلف حول منهج ومنهج‪ ،‬بل يصل الخلف إلى مستوى طبيعة الفهم للسلم‬
‫وجوهره‪ ،‬حيث تنظر بعض التيّارات المذكورة إلى السلم من بُعد إنسانيّ يعظّم فيها النسان‬
‫إلى درجة التأليه‪ ،‬وهذا يفرز صورة تعطي للعقل النسانيّ حقّ إلغاء النّص تحت دعاوى‬
‫أصوليّة كثيرة‪ ،‬مثل مدرسة "الغائيّة" أو مدرسة "المصلحة" التي ينسبونها كذبا وزورا للمام أبي‬
‫إسحاق الشّاطبيّ‪ ،‬وأمّا المدرسة الجهاديّة فهي تتعامل مع القضيّة من بُعد واحد‪ ،‬وهو بعد‬
‫العبوديّة لربّ العالمين‪ ،‬وبه تلغى الهواء التي تسمّى زورا بالعقل والمنطق‪.‬‬
‫أعمدة المدرسة المذكورة التي مثّل صورتها الوضح جودت سعيد وتلمذته‪ ،‬تبيّن لنا فساد ما‬
‫قالوا في فهمهم للقصص القرآني‪ ،‬وقبل ذلك فساد منهجهم في التّعامل مع الوحي‪ ،‬والمنهج‬
‫الصوليّ التّحليليّ للنّص‪ ،‬الذي أوصله إلى درجة الدّعوة إلى إلغاء قدسيّة النّص‪ ،‬وكذلك في‬
‫فهمهم للسّنن القدريّة التي تتبجّح المدرسة أنّها رائدة هذا الباب وذلك أنّهم زعموا أنّهم أصحاب‬
‫دعوة إلى الدّراسات السننيّة في المجتمع والنّفس‪ ،‬ول أدري إلى أيّ درجة من الفهم الثّاقب‬
‫وصلوا في تحليلهم لحركة الخميني‪ ،‬التي زعموا في أبحاثهم أنّ حركته ومنهجه في رمي‬
‫الورود ضدّ ال ّدبّابات‪ ،‬وإلقاء البتسامات ضدّ فوّهات البنادق هي التي ضمنت النّجاح لحركته‬
‫س ّريّة "السّافاك"‪ ،‬وجيشه الذي كان يحضّر كخطّ أوّل ضدّ الغزو الرّوسيّ‬
‫ضدّ الشّاه وشرطته ال ّ‬
‫من قبل الدارة الغربيّة! هل هذه النّتيجة التي خرجوا بها هي ممّا يستحقّ أن يدخل في باب‬
‫البحث العلميّ ؟ أو لنَقُل في مرتبة الكلم الذي يُستحقّ أن يحترم؟‪.‬‬
‫هل صحيح أنّ غاندي (أستاذ المدرسة الوّل) بحركته السلميّة السلبيّة المزعومة هي التي‬
‫ضمنت له النّجاح ضدّ اللة النجليزيّة في الهند ؟! فأوصلته إلى تحقيق أهدافه وذلك حين‬
‫أصيب الجنديّ النجليزيّ بعقدة النّدم فألقى السّلح جانبا وترك الهند وشأنها؟! أصحيح أنّ هذه‬
‫هي الدّراسات السننيّة الواعية التي تتعامل مع الحدث باحترام وتقدير؟!‪.‬‬
‫ل أدري وال أمام هذا الغثاء ما أقول؟ وأنا لست هنا بصدد دراسة حركة الخمينيّ لنّي أعتقد‬
‫وإلى الن أنّ حركته في التّغيير كانت كجبل الثّلج الطّافي على الماء‪ ،‬إذ يمثّل الجانب المخفيّ‬

‫‪432‬‬
‫منه أكثر بكثير من الجانب الطّافي‪ ،‬وحركة الخميني ول شكّ أصابت الكثير من الرّؤوس‬
‫المفكّرة‪ ،‬والقيادات الحركيّة بالصّدمة‪ ،‬إذ ظنّوها هي النّموذج الصلح في التّغيير‪ ،‬فبعض‬
‫الحركات خرجت بنتيجة اعتماد نظريّة حركة الجماهير‪ ،‬وأنّ الشّعوب هي الرقم الصّعب‪ ،‬وهي‬
‫القادرة على خوض المعركة‪ ،‬وتحقيق النّتائج‪ ،‬ولو أردنا أن نردّ على هذه النّتيجة بصورة مقابلة‬
‫لها تنقضها لرأينا أنّ تجربة النقاذ في الجزائر مثّلت الجانب السّلبيّ لهذه النّظريّة‪ ،‬وأنّ‬
‫ن العمل النّخبويّ الطّليعيّ هو‬
‫الجماهير كعدد ل تشكّل الرقم الصّعب في التّغيير‪ ،‬فلو قال قائل أ ّ‬
‫القادر على تحصيل النتائج لحتجّ بآلف التّجارب النقلبيّة في العالم القديم والحديث‪ ،‬فليس‬
‫بمثل هذه البعاد الفكريّة السّاذجة تناقش حركة التّغيير النقلبية‪ ،‬لنّ أعظم الباحثين والعاملين‬
‫في هذه المسألة سيقول لك‪ :‬إنّ أعظم النّاس إدراكا لطبيعة عدوّه وحقيقته‪ ،‬ولطبيعة واقعه لن‬
‫ن النّبيّ محمّد صلى ال عليه وسلم لم‬
‫يستطيع أن يجزم بنتائج الحركة الثّوريّة النقلبية‪ ،‬بل إ ّ‬
‫يكن يدري ما يفعل به‪ ،‬ولول الوحي اللهيّ المبشّر بحصـول الظّفر لما كان لبشر ‪ -‬أيّ بشر‬
‫‪ -‬أن يخبرنا جزما بنتيجة حركة التغيير وسبب ذلك أنّ حركة التغيير الثوريّ النقلبيّ هي من‬
‫أشقّ ما يقع في الوجود من تفاعلت‪ ،‬وعناصر هذا التفاعل تشمل عناصر الوجود بأكمله‪ ،‬ثمّ إنّ‬
‫من عناصر هذا التّفاعل النسان‪ ،‬وهو ليس بعنصر جامد خالي الرادة‪ ،‬فإلى أيّ درجة‬
‫سيضمن القائد هذا الرقم المتغيّر‪ ،‬والجماهير على مدار التّاريخ ضعيفة الدراك‪ ،‬يسيطر عليها‬
‫عقليّة وغريزة القطيع‪ ،‬فبلمسة ذكيّة تصبح الهتافات في اتّجاه معاكس إذا فقد اللعب بعض‬
‫بريقه أو إذا دخل عامل جديد على هذا التّفاعل الواقع‪.‬‬
‫حركة الخميني حركة معقّدة‪ ،‬دخلت فيها الكثير من العناصر‪ ،‬المعلوم منها والمجهول‪ ،‬الصيل‬
‫فيها والدّخيل‪ ،‬فكيف لعقلي الصّغير‪ ،‬ولنفسيّتي التي تحلّل الشياء تآمريّا أن أقبل القول أنّ‬
‫الخميني بإخلصه ‪ -‬مع كفره ‪ -‬قبلت منه فرنسا أن يركب من مطاراتها وينطلق كمخلّص‬
‫لمجتمعه من نير العبوديّة للغرب‪ ،‬من غير أن يقدّم الخمينيّ شيئا من إخلصه لشعبه مقابل هذا‬
‫الصّنيع الفرنسي‪ ،‬بل الدوليّ‪.‬‬
‫نرجوكم‪ :‬قليلً من احترام العقل يا أصحاب العبوديّة للعقل والمنطق‪ ،‬لنّه ليس من العقل ول‬
‫من المنطق أن يقول لي جودت سعيد ومدرسته أنّه بمجرّد أن أمر الخمينيّ الشّعب اليرانيّ أن‬
‫سرّ الذي لم تكتشفه‬
‫يواجه جيش الشّاه بالورود والقبلت حصلت المعجزة ووقع النّصر وتحقّق ال ّ‬
‫الحركات السلميّة!!‪.‬‬

‫‪433‬‬
‫ويقال كذلك بمثل هذا القول في استشهادهم بحركة غاندي ضدّ الحتلل النجليزيّ للهند‪ ،‬ويقال‬
‫هنا على الخصوص‪ :‬لماذا ألغت هذه المدرسة ما كان ظاهرا كنور الشّمس ضياءً ووضوحا‪،‬‬
‫وهو أنّ غاندي صنيعة إنجليزيّة أوجدوها لتحقيق الهدف بسلب المسلمين حقّ قيادة الهند‬
‫ورئاستها‪ ،‬إذ من المعلوم أنّ حركة الجهاد في الهند كانت على أشدّها بقيادة العلماء المسلمين‬
‫من مدرسة "ديويند" ومشايخ أهل الحديث‪ ،‬فإنّه قد علم القاصي والدّاني أنّه لم يُطلق طلقة واحدة‬
‫ضدّ النجليز في الهند إلّ من قبل المسلمين‪ ،‬فحركة التّحرّر من الستعمار كان المسلمون‬
‫وقودها ودثارها‪ ،‬وأدرك الستعمار النجليزيّ أنّه ل بدّ من ترك الهند‪ ،‬ول بدّ من وجود بديل‬
‫وراءه يحقّق له أهدافه‪ ،‬وهي صورة تكرّرت في كلّ البلد‪ ،‬فل ب ّد من صنع الصّنم‪ ،‬فكان‬
‫غاندي‪ ،‬حيث طبّلت له صحافة الغرب وأظهرته بصورة القدّيس المخلص؛ رجل وطنيّ يلبس‬
‫من قطن بلده‪ ،‬ويلتحف بلباس القدّيسين والزّهّاد‪ ،‬والطمّ من ذلك هي عنـزته‪ ،‬هذا الحيوان‬
‫السرّ‪ ،‬الذي يصرّ غاندي على اصطحابها في كلّ أسفاره حتّى وهو في أوروبّا إذ أنّه يصرّ أن‬
‫ل يشرب إلّ من لبن عنـز بلده‪ ،‬وهي مهزلة تقتلك من القهر‪ ،‬لما فيها من احتقار للعقل‪،‬‬
‫والدهى من ذلك أنّ النّاس يهلّلون ‪ -‬طبقا لعقليّة القطيع ‪ -‬ويعظّمون هذا القدّيس القادم من رحم‬
‫الغيب "غاندي"‪ ،‬لكن دعوني ‪ -‬بصفتي رجلٍ قرّر أن ل يلغي عقله ‪ -‬أن يسأل بعض السئلة‪،‬‬
‫وهي أسئلة بريئة شهد ال‪:‬‬
‫‪ - 1‬هل كانت عنـزة غاندي تأكل أم أنّها ل تأكل؟‪.‬‬
‫‪ - 2‬هل كانت عنـزة غاندي تبرّز وتتغوّط أم أنّها من أصحاب السرّ؟‪.‬‬
‫‪ - 3‬هل كانت العنـزة تدفع أجرة الطّائرة في سفرها من الهند إلى أوروبّا أم ل؟‪.‬‬
‫ول أدري هل فهمت السئلة أم أنّها أسئلة صبيان كما يريد أن يجعلنا جودت سعيد ومدرسته؟‪.‬‬
‫مذهب ابن آدم الول والتصوف الفكري‬
‫إنّ ملحقة أهل البدع وكشف سترهم هو منهج أهل الحقّ‪ ،‬وخاصّة إذا صار البدعيّ داعيا إلى‬
‫بدعته‪ ،‬مزيّنا لها أمام النّاظرين‪ ،‬إنّ الخلف الحاصل بين جماعات الجهاد السّلفيّة وبين غيرهم‬
‫من جماعات العمل السلميّ الخرى خلف منهجيّ‪ ،‬وليس خلفا فرعيّا‪ ،‬ومدار الخلف حول‬
‫الصّواب في فهم السّلف لتوحيديّ الشّرع والقدر‪ ،‬ثمّ حول المنهج الصولي في فهم النّصّ‬
‫وتحليله‪ ،‬والذين يريدون أن يهوّنوا من شأن هذا الخلف جديرون بأن يخرجوا من زمرة الفقهاء‬

‫‪434‬‬
‫لواقع المناهج المطروحة على السّاحة‪ ،‬ومن زمرة أهل البصيرة لمناهج السّلف في التّوحيد‬
‫والصول‪.‬‬
‫لعلّنا أطلقنا القليل من النّفَس في مناقشة مدرسة مذهب ابن آدم الوّل كما يسمّون أنفسهم‪ ،‬وسبب‬
‫ذلك هو أنّ هذا المذهب تستقي منه أغلب جماعات نبذ العنف والعمل الصّدامي‪ ،‬فبعضهم يستقي‬
‫منه حتّى التّضلّع‪ ،‬وبعضهم يأخذ منه لمّة أو لمّات‪ ،‬بحسب ما يلئمه من الهوى والستحسان‪،‬‬
‫وقد رأينا كيف تقلب هذه الجماعات حقائق الوجود‪ ،‬وتقريرات الفطرة‪ ،‬وكان من أبرز ما دعت‬
‫إليه من هذا الباطل ما قاله جودت سعيد‪ ،‬وكذا تلميذه خالص جلبي من أنّنا علينا أن ل نرهب‬
‫السّجن‪ ،‬ول نعاديه‪ ،‬ول نطالب بإخراج المساجين من إخواننا‪ ،‬بل علينا أن نطالب بأن يذهبوا‬
‫بنا نحن كذلك إلى السّجن‪ ،‬وقولهم هذا واضح تمام الوضوح في مخالفته لفطرة النسان السويّ‪،‬‬
‫فإنّ النسان السّويّ يكره القيد ول يشتهيه‪ ،‬بل يحاول جاهدا أن يخرج منه إن وقع فيه‪ ،‬ولكن‬
‫حيث أثّر قيح الفكر الصّوفيّ في كلّ جوانب الحياة‪ ،‬فغاير بين الحقائق‪ ،‬فشتم الصّواب وعابه‪،‬‬
‫ومدح الخطأ وشجّع عليه‪ ،‬وهذا الذي قالوه ينسجم تمام النسجام مع نتائج الفكر الصّوفيّ‪ ،‬فنحن‬
‫نعلم ما يمدح التّلميذ به شيوخهم هذه اليّام‪ ،‬حيث يقولون مثلً‪ :‬إنّ شيخنا ‪ -‬حفظه ال ‪ -‬ل‬
‫يقرأ الصّحف ول يسمع الرّاديو ول ينظر إلى التّلفزيون‪ ..‬و‪ ،...‬ف شيخنا مشغول طوال وقته‬
‫بين كتب الوائل!!‪.‬‬
‫وهذا الذي قالوه يعيب الشّيخ ويحقره أكثر ممّا يمدحه‪ ،‬وقد وجد كذلك من يمدح العزوبيّة في‬
‫العلماء‪ ،‬لنّ انشغالهم في العلم منعهم من الزّواج‪ ،‬أو أنّهم كما قالوا آثروا العلم على الزّواج‪،‬‬
‫ول ندري كيف يُمدح المرء بأن يجاهد نفسه ليغيّر فطرته وبشريّته؟! فهل يقوى؟! الجواب‪:‬‬
‫بالنفي‪ ..‬بل نجزم أنّه يضيع الوقات الكثيرة من تفكيره بهذه الفطرة التي فطر عليها أكثر من‬
‫انشغاله في بيته وزوجه إذا كان محصنا (هذا إن كان سويّا)‪ ،‬ويكفيه مدحا أنّ الشّارع أطلق‬
‫على المتزوّج لفظ المحصن‪.‬‬
‫وهكذا بفضل الفكر الصّوفيّ تنقلب الحقائق‪ ،‬ومن أراد المزيد فعليه بكتب طبقات الولياء ليرى‬
‫العجب العجاب أمثال كتاب‪" :‬جامع كرامات الولياء" ليوسف النّبهاني‪ ،‬و"الطبقات الكبرى"‬
‫للكبريت الحمر الشّعراني وأمثالها‪.‬‬
‫فها هو جودت سعيد وتلميذه ومدرسته يريدون من المّة ومن الئمّة ومن الدّعاة إلى ال أن‬
‫يذهبوا إلى السّجن باختيارهم‪ ،‬فهل قولهم هذا ممّا يستحقّ أن يناقش من وجهة نظر شرعيّة‪ ،‬أم‬

‫‪435‬‬
‫أنّ الولى بنا أن نناقشه من باب دخوله في أقوال المكلّفين أو المعذورين؟! أظنّ الثّانية هي‬
‫الولى مع مثل هذه القوال‪ ،‬لكن ما يجب أن نقوله ونذكّر به هؤلء النّوكى بحقيقة السّجون في‬
‫العالم المرتدّ‪ ،‬وهل يجوز للمسلم وقد علم حقيقتها أن يقول مثل قولهم‪ ،‬مع التّذكير مرّة أخرى أنّ‬
‫رسالة جودت سعيد التي قال فيها هذا القول رسالة موجّهة للشّباب المسلم في الجزائر إبّان حمى‬
‫الدّعوة إلى إحياء الدّولة السلميّة‪.‬‬
‫إنّ السّجن في العالم المعاصر وخاصّة في بلد الردّة لم يعـد حبسا فقط‪ ،‬حيث يوضع المرء‬
‫في جبّ يمنعه من ممارسة بشريّته في الحياة وحركتها؛ فيمنع من أهله وبيته وعمله‪ ،‬بل‬
‫صارت السّجون آلما ل تقوى لها النّفس البشريّة بحال‪ ،‬وعلينا على الدّوام أن نتذكّر صنائع‬
‫المرتدّين مع المسلمين في كلّ وقت وحين‪ ،‬لتبقى قلوبنا ونفوسنا مليئة بالبغض لهم‪ ،‬وعدم‬
‫التّفكير البتّة بالعفو عنهم أو مسامحتهم‪ ،‬وإن أقلّ ما يحكم فيهم إذا ظفر المسلم بهم هو حكم سعد‬
‫بن معاذ ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬في حلفائه من بني قريظة‪ ،‬حيث حكم أن تقتل مقاتلتهم‪ ،‬وكلّ من‬
‫بلغ منهم الحلم‪ ،‬وتسبى نساؤهم‪ ،‬وتغنم أموالهم‪ ،‬وهو حكم ال تعالى من فوق سبع سماوات‪ ،‬إن‬
‫ما نراه من ضعف ذاكرة قادة الحركات السلميّة مع خصوم السلم جدّ مؤلم‪ ،‬ول يتلءم مع‬
‫طبيعة المعركة بيننا وبين هؤلء المرتدّين‪.‬‬
‫السلم بين منهجين ‪ :‬الجهاد وابن آدم الول‬
‫كان ممّا قالته هذه المدرسة‪ ،‬ودعت النّاس إليه ترك أيّ إشارة أو كلمة فيها عداوة لعداء الدّين‪،‬‬
‫حيث يقول جودت سعيد‪ :‬أن نكون شهداء ل وقوّامين بالقسط مع الذين يسيئون إلينا‪ ،‬وعلينا أن‬
‫ندرّب أنفسنا أن نكون كذلك‪ ،‬ونتواصى بذلك‪ ،‬ونتواصى بالصّبر عليه‪ ،‬حتّى أنّنا لسنا في حاجة‬
‫أن نطلق لفظ العدوّ عليهم‪ ،‬وإنّما اختلفنا في التّفسير‪ ،‬وال تعالى علّمنا أن نقول‪ { :‬وإنّا أو إيّاكم‬
‫لعلى هدىً أو في ضلل مبين}‪.‬ا‪.‬هـ‪ .‬هذا الذي قاله جودت سعيد تمارسه الكثير من الحركات‬
‫ن النّصارى إخوانهم‪ ،‬كما‬
‫المنتسبة للسلم‪ ،‬فالخوان المسلمون ما زالوا يردّدون صباح مساء أ ّ‬
‫ورد في بيان لهم تحت عنوان‪" :‬بيان للنّاس"‪ ،‬وما مؤتمرات الحوار بين الديان إلّ صورة مثلى‬
‫لمثل هذا النحراف الخطير‪ ،‬وهؤلء القوم يمارسون هذه الخلق التي يزعمونها حسنة‪ ،‬ولكنّها‬
‫سيّئة لهذه الفعال القبيحة‪ ،‬وهذه المقولة‬
‫على حساب السلم‪ ،‬فالسلم هو الذي يجني الثّمار ال ّ‬
‫وغيرها من المقولت تؤكّد ما قلنا مرارا من أنّ هؤلء القوم يفقدون الفهم الصّحيح للبّ هذا‬
‫الدين وجوهره‪ ،‬وحكمته التي إن لم يفقهها المرء فقد الرّشد كلّه‪ ،‬واضطربت رؤاه وتصوّراته‪،‬‬

‫‪436‬‬
‫وجوهر الدّين قائم على العبوديّة لربّ العباد‪ ،‬وأنّ النسان عبد لهذا الله الحقّ‪ ،‬فليس له من‬
‫قول يراه‪ ،‬ول مذهب ينتحله سوى ما أراده ال تعالى له‪ ،‬فهو ل يقدّم قولً على قول ال سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬ول يؤثر رابطة على رابطة عبوديّته لربّ العالمين‪ ،‬فإذا أخطأ المرء هذه القضية أخطأ‬
‫الدّين كلّه ‪ ،‬وتظهر حينئذٍ المفارقة بين منهج عبودية ال ومنهج متّبع الهوى والرأي الذّاتي‪.‬‬
‫من فهم الولى وآمن بها‪ ،‬واعتقدها على ما هي عليه فإنّه يحارب الخلق ويعاديهم‪ ،‬أو يحبّهم‬
‫ويواليهم بمقدار قربهم من ال تعالى أو بعدهم عنه‪ ،‬فهو يحارب من حارب ال‪ ،‬ويعادي من‬
‫كفر بال‪{ ..‬قاتلوا الذين ل يؤمنون بال ول باليوم الخر}‪ .‬وقوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬وقاتلوا‬
‫من كفر بال))‪ .‬فعلّة حركته العدائيّة نحو مجموعة من الخلق هي عداؤهم ل تعالى‪ ،‬ولو كانت‬
‫هذه المجموعة من أكثر النّاس إحسانا له وعطفا عليه كأن يكون والده أو والدته‪ ،‬فإنّ المسلم ل‬
‫ف العداء‬
‫ترتجّف يده قط وهو يذبح والده أو أخاه أو ابنه إن وقف هؤلء مع صفّ الكفر‪ ،‬أي ص ّ‬
‫ل تعالى‪ ،‬وهو كذلك يحبّ من أحبّ ال تعالى‪ ،‬ويدافع عنه‪ ،‬وسيؤثره على نفسه وإن كان من‬
‫ن المرء ل يسأل عن موقف ظهر منه‬
‫قوم ل يعرفهم أو يعرفونه‪ ،‬إذا فهمت هذه النّكتة فإ ّ‬
‫التّناقض بين إحسان قوم له وبين سعيه الجادّ في قتالهم وقتلهم‪ ،‬فعلّة حرب المسلم للنّاس جميعا‬
‫هو كفرهم بال تعالى‪ ،‬لنّهم يسبّون ال سيد المؤمنين‪ ،‬وحيث سبّ سيّد العبد‪ ،‬فإنّ على العبد أن‬
‫ينتقم لسيّده لنّه ل يرضى لسيّده وحبيبه أن يتطاول عليه أحد‪ ،‬أو أن يتّهمه أحد بما ليس فيه‪،‬‬
‫كأن يقول‪ :‬إن سيّده وحبيبه وإلهه ثالث ثلثة‪ ،‬أو أ نّ فيه بعض صفات النّقص كادّعاء الشّريك‬
‫له‪ ،‬أو اتّهامه بعدم قـدسيّة حكمته في شرعه وقدره‪ ،‬أمّا إذا كان الرّجل من الصّنف الثّاني‪،‬‬
‫وهو من عامل النّاس على أساس معاملتهم معه فإنّه شاء أم أبى سيكون قد سيّدَ ذاته‪ ،‬وألّه هواه‪،‬‬
‫وهو ل يلتفت إلى جانب رضى ال تعالى عن الخلق أو غضبه عليه‪ ،‬وهذا هو مظهر تأليه‬
‫النسان لذاته أو لغيره من البشر‪ ،‬وهذه النّقطة هي التي أوجدت الفقه السّيء في أمّتنا نحو‬
‫الجهاد والقتال‪ ،‬فالجهاد في ديننا في سبيل ال تعالى‪ ،‬أي أنه متعلّق برضى ال وغضبه‪ ،‬فنحن‬
‫نقاتل من أغضب ال ولو أحسن إلينا أو ادّعى الحسان‪ ،‬ونحن نكفّ عمّن رضي ال عنه‪ ،‬ولو‬
‫أساء إلينا كلّ الساءة‪ ،‬وهذا يظهر بوضوح في مسألة الخروج على الحاكم الكافر‪ ،‬فإنّه بمجرّد‬
‫أن يكفر الحاكم‪ ،‬يجب الخروج عليه‪ ،‬وبذل النّفوس رخيصة في سبيل ذلك‪ ،‬بغضّ النّظر عن‬
‫كون الحاكم خرج عن السلم في نفسه‪ ،‬ولم يتعدّ كفره إلى غيره أم خرج من السلم وتعـدّى‬
‫كفره إلى غيره‪ ،‬فعلّة الخروج هي الكفر بال تعالى‪ ،‬الذي أمرنا بهذا المر‪ ،‬هو الذي أمرنا أن‬

‫‪437‬‬
‫نصبر على جور الئمّة إذا وقع على الرّعيّة كقوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬وأطع أميرك وإن‬
‫جلد ظهرك وأخذ مالك))‪ ،‬وعلى أساس هذا ا لمر ادّعى قوم عدم وجود جهاد الطّلب‪ ،‬وقصروا‬
‫الجهاد على جهاد الدّفع‪ ،‬وهذا الذي قالوه لم يقله أحد من الوائل كما قدّمنا عند مناقشتنا لمحمّد‬
‫سعيد رمضان البوطي‪ ،‬وهذا هو الذي دفع أقواما إلى إنكار حدّ الردّة‪ ،‬حيث زعموا أنّ الردّة‬
‫التي يقاتل النّاس عليها هي الخروج المسلّح ضدّ الدّولة‪ ،‬وليس هو الكفر بال تعالى‪ ،‬وجعلوا‬
‫يخبطون في الظّلمات بتأويلت فاسدة مثل قولهم‪ :‬إنّ قتال أبي بكر الصدّيق رضي ال عنه‬
‫للمرتـدّين لخروجهم عن الدّولة وحكم أبي بكر‪ ،‬أي قتال سياسيّ حسب تقسيمهم‪ ،‬وليس هو‬
‫قتال من أجل حقّ ال تعالى‪ ،‬فأنت ترى العلّة في الخلف ليست فرعيّة في فهم النّصوص على‬
‫غير محلّها‪ ،‬ولكن في فهمهم لحكمة الدّين وحقيقته‪ ،‬فهو خلف بين منهج ومنهج‪ ،‬والخلف‬
‫بينهما أشد من خلف أهل الحديث والمعتزلة‪ ،‬لنّ أغلب ما قاله المعتزلة قاله هؤلء وأشدّ منه‬
‫كذلك‪ ،‬وموقف هذا ال ّتيّار من منهج أهل الحديث معروف‪ ،‬سطّر في كتب أصحابه‪.‬‬
‫هذه المدرسة التي تضلّعت بالرأي الفاسد‪ ،‬والصول البدعيّة اضطرت لتوافق منهجها أن تقول‬
‫بترك عداوة أعداء الملّة والدّين‪ ،‬وكلم جودت سعيد المتقدّم هو في حقّ الفرانكفونيين العلمانيين‬
‫في الجزائر وليس مع جماعة من أهل السنّة والجماعة‪ .‬حتّى أننا لسنا في حاجة أن نطلق لفظ‬
‫العدو عليهم‪ ،‬وإنّما اختلفنا في التّفسير‪ ،‬وهذا الذي قاله ل ندري أقاله لحظة جذبة عرفانيّة أم‬
‫صحو وإفـاقة؟ فما هو الشّيء الذي اختلفنا في تفسيره ؟ أهي آيات ال تعـالى التّشريعيّة التي‬
‫اختلفنا حولها؟ إذ أنّ العلمانيين في ذهنية هذا المفكّر قوم أخطأوا في تفسير القرآن الكريم‬
‫وأنزلوا آياته على غير محلّها ؟‪.‬‬
‫ثمّ هل قضيّة إظهار عداوتنا لعداء ال خاضعة للرّأي أم هي من أسس توحيد المسلم؟‪ .‬إنّ ال‬
‫سبحانه وتعالى بعث محمّدا صلى ال عليه وسلم لهدم الوثان وتجريد الطّواغيت من قداستها‬
‫الزّائفة وهذا ل يقع إلّ بعيب اللهة الباطلة‪ ،‬فقد كان منهجه صلى ال عليه وسلم في دعوته إلى‬
‫ال بيان ضلل ما عليه البشر من عبادة غير ال تعالى‪ ،‬فقد عاب آلهتهم‪ ،‬وسبّ آباءهم‪ ،‬وسخر‬
‫من أوثانهم‪ ،‬لنّه ل يتمّ التّوحيد الحقّ إلّ بالبراءة من الطّواغيت وعبّادهم كما قال إبراهيم عليه‬
‫السّلم لقومه‪{ :‬إنّا برءاء منكم وممّا تعبدون من دون ال كفرنا بكم‪ ،‬وبدا بيننا وبينكم العداوة‬
‫والبغضاء أبدا حتّى تؤمنوا بال وحده}‪ .‬وهذا الذي قاله أبو النبياء عليه الصّلة والسّلم قاله في‬
‫ي الرّحمة والملحمة‪ ،‬فأمـر البراءة من‬
‫زمن الستضعاف‪ ،‬وقلّة النّاصرين‪ ،‬وهو الذي فعله نب ّ‬

‫‪438‬‬
‫ن إبراهيم عليه السّلم قال‪ { :‬وبدا بيننا‬
‫الكافرين وعبادتهم ليس ممّا يدخل في باب المصلحة‪ ،‬فإ ّ‬
‫وبينكم العداوة والبغضاء}‪ ،‬فقدّم العداوة وهي أمر ظاهر بيّن غير ظنّي على البغضاء وهي أمر‬
‫قلبيّ خفيّ‪ ،‬ثمّ ليعلم المسلم أن قوله للعلمانيين‪ :‬إنّنا اختلفنا معكم في التّفسير‪ ،‬هو تصويب‬
‫لعبادتهم ودينهم‪ ،‬وهو افتراض وجود الصّواب عندهم‪ ،‬وهذا أمر ل يقوله مسلم‪ ،‬فإنّ المسلم‬
‫الموحّد يجزم بكفر ما عليه العلمانيّون‪ ،‬وهكذا يظهر الخلف مرّة أخرى بين منهج العبوديّة‬
‫لربّ الرباب‪ ،‬وبين منهج تأليه البشر وأهوائهم‪ ،‬فإذا علّق المسلم بغضه للكافرين بكونهم أعداء‬
‫ل فلن يرضى إلّ بأن يرمي الحقيقة في وجوههم‪ ،‬ول تدخل المصالح في هذا الباب البتّة‪ ،‬وأمّا‬
‫إذا اتّبع المنهج الخر فإنه سيبقى جاهدا لرضاء خصوم الحقّ وأعداء الدّين‪.‬‬
‫وههنا نصيحة لطلّب الحقّ وناشديه أن ل يلتفتوا إلى أقوال المعاصرين ول ينتبهوا لها إلّ بعد‬
‫عرضها على منهج الوائل‪ ،‬فإنّ حقيقة الدّين في التّباع وترك البتـداع‪ ،‬وهذا أصل من‬
‫أصوله التي ل يقوم إلّ بها‪ ،‬وحيث ظنّ المرء أنّه قادر بذكائه أن يبتدع دينا جديدا فهو على‬
‫خطر عظيم‪ ،‬وإن زعم انتسابه إلى السلم‪ ،‬فعليك أخي المسلم بمنهج الوائل فالخير كلّه في‬
‫اتّباع من سلف‪.‬‬
‫موجبات وجود جماعات الجهاد في العالم (‪: )3‬‬
‫من موجبات وجود جماعات الجهاد في العالم كون الجهاد هو السبيل الجلى والقوى في تجلية‬
‫حقائق الرجال وقدراتهم‪ ،‬فبه تتمحّص النفوس‪ ،‬فتظهر على حقيقتهـا‪ ،‬فيقدّم حينئذ من يقدّمه‬
‫الجهاد‪ ،‬ويؤخّر من يؤخّره الجهاد‪.‬‬
‫إنّ أمراض الحركات السلمية كثيرة جدا‪ ،‬وإن ّ من أعظم أمراضِها التي تعاني منها وصول‬
‫أنصاف الرجال أو أرباعهم أو أعشارهم إلى القيادة بسهولة ويسر‪ ،‬فبعض الجماعات تقدّم‬
‫الكثر ثراءً ومالً‪ ،‬وبعضها يقدّم الكثر مرتبةً في الوظيفة أو العشيرة‪ ،‬وبعضها يقدّم البلغ‬
‫خطابا وبيانا‪ ،‬وهذه ليست من ميّزات القيادة في شيء‪ ،‬بل إنّ تقديم هذه الوصاف لعلّةِ هذه‬
‫الوصاف يجني على الحركة ويقضي عليها‪ ،‬وهذا هو الواقع والحاصل في الحركاتِ السلميّة‬
‫فإنّ مما يلحظه الناظر لبعض الحركات السلميّة التقليديّة أنّه كلما ارتفع الرّجل في السلّم‬
‫القيادي داخل الجماعة كلّما سَفُلَ تديّنه‪ ،‬وقلّت صلته بحقائق هذا الدّين‪ ،‬وصار أقرب إلى الفسق‬
‫منه إلى اليمان‪ ،‬فأنت تنظر إلى جماعة من الجماعات التي ملت الدنيا شهرة وصيتا ثمّ تحاول‬
‫أن ترى شيئا يميّز القيادة في علمها أو دينها أو قدرتها الداريّة فل ترى إلّ مسوخا من الرّجال‪،‬‬

‫‪439‬‬
‫إذا تكلّم أتى بالمصائب‪ ،‬وإذا قرر أودى بالجماعة إلى المهالك‪ ،‬ولسنا بحاجة إلى التّذكير أنّ‬
‫مراقبا لهذه الجماعة في بلدٍ من البلد ُمنِع من اللقاءات الصحفيّة بعد لقاء ‪ -‬مصيبة ‪ -‬مع إحدى‬
‫الصّحف حيث ظهر أنّه ل يصلح إلّ وراء بسْطة ( طاولة) من بسطات بائعي البَندورة‪ ،‬وإذا‬
‫حوججت الجماعة لماذا هذا ؟‪ ،‬قالوا لنا‪ :‬هذا قائد رمز فقط‪ ،‬وليس بيده شيءٌ من حقائق الدارة‬
‫والقيادة‪ ،‬ول أدري كيف تقبل الجماعات السلميّة بمثل هذه اللعيب (أن تسمي رجلً من‬
‫الرجال رمزا)؟‪ ،‬وكيف يقبل هذا الرجل إن كان رجلً أن يكون رمزا؟!‪.‬‬
‫في بلد من بلد الردّة سمّيت قيادةٌ من قياداتِ الجماعة السلميّة المذكورة بـ "الشّركة" أي أنّ‬
‫مجلس الشورى سمّي بشركة فلن (قائد الجماعة)‪ :‬لنّ قيادة الجماعة كلّها من أسرة هذا القائد‪،‬‬
‫ق للقواعد أن تسمّي‬
‫فهذا من بلده‪ ،‬وهذا زوج ابنته‪ ،‬وهذا نسيبه وهذا شريكه‪ ،‬وهذا صاحبه‪ ،‬فح ّ‬
‫قيادة الجماعة بشركة هذا المراقب العام لهذه الجماعة في هذا البلد‪ .‬الجماعات المعاصرة‪:‬‬
‫الختراق والتراص‬
‫حين تصبح الجماعة مهمّتها توصيل الرجال (رجالها) إلى البرلمان‪ ،‬فمن المقدّم حينئذٍ في هذه‬
‫الجماعة؟‪:‬‬
‫‪ - 1‬لنّها تحاول جاهدة لكسب أصوات العشائريين‪ ،‬ورجال القبائل فإنّها ستتغاضى عن الكثير‬
‫من المواصفات والميّزات في الرجال مقابل أن تبحث عن رجل تدفع له عشيرته أصواتها‪،‬‬
‫فحينئذٍ المقدّم هو رجل عشائريّ‪.‬‬
‫‪ - 2‬ولنّها بحاجة إلى المال من أجل الدعاية النتخابية فإنّها ستقدّم الرجل الكثر مالً‪،‬‬
‫وستتغاضى عن الكثير من الصفات الشّرعيّة للعدالة حتى تستفيد من قدراته الماليّة‪.‬‬
‫هذه الخروق وغيرها تجعل وصول الوصوليين والنتهازيين والنّفعيين والعملء إلى القيادة‬
‫ل وميسورا‪ ،‬وقد كان‪ ،‬وهذا حال الكثير من التنظيمات والتّكتّلت والتّجمّعات السلميّة‪،‬‬
‫سه ً‬
‫حتّى المراكز السلميّة لو نظرنا إلى القائمين عليها لرأيناهم على الحال الذي تقدّم وصفه‪.‬‬
‫وحتّى ل أبتعد في ذكر المطلقات فسأمرّ على بعض الحوادث التي تبيّن حال قيادات العمل‬
‫السلمي‪ ،‬وهي في الحقيقة أسئلة موجّهة إلى هذه الحركات لتجيب عليها‪ ،‬وهي أسئلة عليهم أن‬
‫ينظّفوا أنفسهم من َتبِعاتها قبل أن يتطاولوا بأنفسهم كالدّخان في اتّهام الخرين‪ ،‬وادّعاء العلميّة‬
‫والموضوعيّة‪ ،‬أو ادّعاء تصفيّة الصّف من المنافقين والمخابرات‪:‬‬

‫‪440‬‬
‫أ ) هناك رجل مصريّ‪ ،‬هرب من مصر إلى بلد الشّام واسم هذا الشّخص نجيب جويفل‪ ،‬ظهر‬
‫بعد ذلك أنّه رجلٌ مخابراتيّ من الدرجة الولى‪ ،‬هذا الشّخص كان له مهمّة تغيير القيادة في‬
‫بلد الشّام ‪ -‬الردن وسوريّا ولبنان ‪ -‬وقد نجح‪ ،‬فقد أزال الشّيخ أبي قورة من الردن عن‬
‫منصب المراقب العام‪ ،‬وعيّن غيره في ليلة ليلء ولم يُعرف إلى الن س ّر التّغيير‪ ،‬وحدث كذلك‬
‫في سورية ولبنان?‪ ..‬الرجاء كشف سرّ نجيب جويفل‪.‬‬
‫ب ) حين يعترف القائد المنظّر‪ ،‬شيخ المشايخ أنّه جلس مع ضبّاط مخابرات من أجل دعمه‬
‫لنشر كتابه "وجاء دور المجوس" الذي نشره بغير اسمه‪ ،‬أجاز لنفسه أن يتعاون مع الدّولة‬
‫السّعوديّة ضدّ الشّيعة الرّوافض‪ ،‬فماذا يسمّى هذا الفعل‪.‬‬
‫نعم إنّ تصفية الصّف المسلم مهمّةٌ عظيمة‪ ،‬ولكن من الجهل الفاضح‪ ،‬والعلميّة المفقودة تبني‬
‫القول‪ :‬إنّ جماعات العنف المسلّح‪ ،‬والجهاد القتالي هي الكثر عرضة للختراق‪ ،‬فليس هناك‬
‫من مقدّمات موضوعيّة لهذا الحكم القطعيّ‪ ،‬ثمّ أليس القول إنّ جماعة من الجماعات حين تجعل‬
‫القيادة تؤول مباشرة إلى الكبر سنّا مثلً‪ ،‬هي جماعة تؤول قيادتها إلى غير مقدّمات شرعيّة‬
‫ل الصّفوف ولكن لو رأينا النّتيجة التّالية لتبينت لنا مقاصد‬
‫معتبرة‪ ،‬ثمّ لقد كان هناك اختراق لك ّ‬
‫الختراق عند كلّ جماعة لنعرف قيمة كلّ جماعة على حدة‪?.‬‬
‫اختراق الجماعات الخرى يؤدي بهؤلء العملء إلى القيادة والسّيادة والرّياسة‪.‬‬ ‫•‬
‫اختراق جماعات التوحيد والجهاد يؤدّي إلى الموت والقتل‪.‬‬ ‫•‬
‫البتلء والمتحان‬
‫لو أراد باحث منصف أن يرى خصيصة تميز بها الصادقون في هذه المة‪ ،‬وشارة جمعت‬
‫العلماء الفذاذ لرأى بكل وضوح أن هذه الخصيصة والميزة هي البتلء‪ ،‬وهذا مصداق حديث‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬أشد الناس بلء النبياء‪ ،‬ثم المثل فالمثل))‪ ..‬و((يبتلى‬
‫الرجل على قدر دينه))‪ ،‬ولكن ما يلحظه المرء كذلك بوضوح أن وصول القيادة في هذا‬
‫الزمان‪ ،‬واعتلء منصة الزعامة (أعني في الحركات السلمية) هو طريق ل يمر أبدا عن‬
‫طريق البتلء والمتحان‪ ،‬بل يمر عبر طريق ل يعبر بحق عن صدق الرجل وانتمائه لهذا‬
‫الدين‪.‬‬
‫وعلى ضوء هذا يجوز لنا أن نسأل بعض السئلة البريئة مع بعض المقدمات الضرورية‪:‬‬

‫‪441‬‬
‫‪ - 1‬الذين يطالبون المة باحترام العلماء لكونهم ورثة علم السلف‪ ،‬ولكونهم رفعوا راية السلف‪،‬‬
‫لو قلنا لهم التالي‪ :‬لماذا كان ينتهي أمر السلف دوما بالسجن أو القتل أو النفي مع أنهم يعيشون‬
‫في ظل دولة إسلمية؟‪ ،‬ولماذا زعماء وزاعموا وراثة السلف ينتهي بهم المر في دولة مرتدة‬
‫كافرة أن يكونوا وزراء ومقربين عند قادة هذه الدول؟ هل انقلبت السنة الكونية في حقهم؟ أم أن‬
‫الجواب يكشف عوار ممثلي راية السلف المزعومة؟‪.‬‬
‫‪ -2‬الذين يريدون أن يصفوا الصف المسلم من المنافقين والوصوليين ديدنهم الحديث عن كشف‬
‫ما هو مكشوف‪ ،‬وفضح ما هو مفضوح‪ ،‬أي ما فضحه الخصوم لنتهاء مهمته‪ ،‬فلماذا ل‬
‫يمارسون فنونهم العبقرية في كشف ما لم يكشفه الخصوم‪ ،‬وفضح ما لم يفضحه أهله؟‬
‫‪ - 3‬إن إطلق الشائعات الصبيانية في حق الخصوم يتقنه كل جاهل وموتور‪ ،‬لنه سلح‬
‫تستجيب له المم الغبية الجاهلة‪ ،‬وهو ل يملك قوة دفع كما يملك قوة إثبات‪ ،‬فإذا قيل عن أحد‬
‫أنه مخترق فهو ل يستطيع دفع التهمة‪ ،‬ولكنها قمة أدعى للقبول في زمن العجائب والصغائر‪.‬‬
‫لماذا حين تطلق الشائعات ل يذكر معها الرهان الذي أمر ال عز وجل بإقامته عند كل‬
‫دعوى؟!‪.‬‬
‫أمام هذا الواقع المرير‪ ،‬وهو واقع يفرز ول شك السلبيات أكثر مما يفرز اليجابيات‪ ،‬لن المُلك‬
‫فيه للشيطان وحاشيته‪ ،‬وهو يدفع بضللته بقوة نحو المجتمعات‪ ،‬أمام هذا الواقع ما هو السبيل‬
‫القوم لفراز الثقات‪ ،‬ومعرفة حقائق الرجال دون لبس وتزوير‪ ،‬كذلك دون هروب من الحقيقة‬
‫نحو الرمل للختفاء؟‪.‬‬
‫إن الجواب على هذه السئلة يدعونا أن نرجع إلى النموذج المحتذى في تعريفنا بمنهجهم في‬
‫معرفة الرجال وأحوالهم وقيمتهم‪.‬‬
‫لقد كان في الصحابة رضي ال عنهم علماء‪ ،‬وكان فيهم العرابي البوال على عقبيه (كما قال‬
‫الذهبي)‪ .‬لقد كان في الصحابة رضي ال عنهم الثرياء‪ ،‬وكان فيهم من يقع في صلته لشدة‬
‫فاقته وفقره‪.‬‬
‫لقد كان في الصحابة رضي ال عنهم الشاعر البليغ‪ ،‬وكان فيهم العيي‪.‬‬
‫لقد كان في الصحابة رضي ال عنهم الصانع الخبير‪ ،‬وكان فيهم من يخسر في كل تجارة‬
‫يمارسها‪.‬‬
‫القيادة ‪ :‬العلماء والجهاد‬

‫‪442‬‬
‫لقد كانت صور الصّحابة تتنوّع وتختلف في قدراتهم ونماذجهم ولكن كان هناك شيء واحد‬
‫يجمعهم جميعا بل استثناء‪ ،‬ورابط يحوزهم بل شذوذ‪ ،‬هذا الرّابط هو الجهاد في سبيل ال‬
‫تعالى‪.‬‬
‫ل العلم التي علّمها رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ -‬سواء كانت في‬
‫بل إنّنا نرى أنّ أغلب مسائ ِ‬
‫التّجارة أو بقيّة الحكام ‪ -‬إنّما تعلّمها الصّحابة رضي ال عنهم وهم في حال الجهاد في سبيل‬
‫ال تعالى‪.‬‬
‫وأنا ل أستطيع أن أُكثر المثلة‪ ،‬أو أستوعب بعضها في ذكر النّماذج التي تشهد لهذه القاعدة‪ ،‬أو‬
‫لهاتين القاعدتين‪ ،‬لكنّي أدعو طلبة العلم وغيرهم إلى فتح وقراءة صحيح البخاري مثلً (وهو‬
‫أفضل نموذج لما أقول)‪ ،‬ويقرؤوه بتمعّن وتدبّر‪ ،‬ويحاول كلّ واحد أن يجمع سبب الحديث‬
‫الوارد‪ ،‬بمعنى أن يذكر الزّمن الذي قيل فيه الحديث‪ ،‬وأين قيل‪ ،‬وسوف يرى أنّ أغلب مسائل‬
‫الفقه في عموم الحياة كانت تقالُ في الجهاد في سبيل ال تعالى‪ ،‬وهاك بعض المثلة‪:‬‬
‫قوله صلى ال عليه وسلم لجابر رضي ال عنه في ترغيبه أن يتزوّج البكر‪(( :‬هلّ بكرا‬ ‫•‬
‫تلعبك وتلعبها))‪ ،‬قالها صلى ال عليه وسلم خلل قفلةٍ من غزوة‪.‬‬
‫فقه التّيمّم من الجنابة أُخذ من حادثةٍ في غزوة‪.‬‬ ‫•‬
‫حكم زواج المتعة‪ ،‬كان كلّه في الغزو من تحليل وتحريم مؤبّد‪.‬‬ ‫•‬
‫جواز شركة البدان أُخذ من حديث يتعلّق بجواز الشّركة بين المجاهدين في الغنيمة‪.‬‬ ‫•‬
‫والمثلة أكثر من أن تحصى‪ ،‬وهي تدلّ دللةً واضحةً أنّ عمل المّـة التي ينبغي أن تعمل به‬
‫‪ -‬وكلّ عمل آخر هو تبع له ‪ -‬الجهاد في سبيل ال تعالى‪.‬‬
‫ولمّا كان عمل المّة بمجموعها ‪ -‬إلّ من استثناه الشّارع الحكيم سبحانه وتعالى ‪ -‬هو الجهاد‬
‫في سبيل ال‪ ،‬فكان المقدّم فيها هو أتقنهم لهذا العمل‪ ،‬وأكثرهم قدرةً على خوضِ غماره‪ ،‬فكان‬
‫المُقدّم هو المجاهد في سبيل ال تعالى‪ ،‬وهكذا كان حال قادة المّة من خلفاء وأمراء‪ ،‬فل يوجد‬
‫خليفةٌ في تاريخنا الطّويل إلّ وكان مقاتلً مجاهدا‪ ،‬وفي أعلى مرتبةٍ من مراتبِ هذا العمل‬
‫العظيم‪.‬‬
‫هارون الرّشيد‪ ،‬هذه الشّخصيّة العظيمة‪ ،‬والتي ملها الكذّابون أخبارا مزيّفة عن بذخه ولهوه‬
‫وقصفه‪ ،‬لو علموا حقيقته‪ ،‬لخجلوا من أنفسهم أشدّ الخجل‪ ،‬ولكنّهم في الحقيقة ل يخجلون‪.‬‬

‫‪443‬‬
‫هارون الرّشيد كان يغزو عاما ويحجّ عاما‪ ،‬وكان ينام على حصانِ جهاده حتّى تقوّست رجله‬
‫من كثرة ركوبه عليه‪ ،‬ومات وهو في غزوة "الصّائف" جهة المشرق‪ ،‬وهو يجاهد في سبيل ال‬
‫تعالى‪ .‬لو قال قائل‪ :‬لكنّه كان كثير المال‪ ،‬عنده الجواهر بالطنان‪ ،‬والذّهب بالرطال‪ ،‬والمال ل‬
‫ُيعَدّ بين يديه‪ .‬قلنا له‪ :‬صدقْت وهكذا كانت المّة‪ ،‬غنيّة مثلهُ‪ ،‬فلم يكن غنيّا وأمّته ل تجد لقمة‬
‫الخبز‪ ،‬كما هو حال الظّلمة والمتكبّرين‪ ،‬ثمّ قلنا لهم كذلك‪ ،‬هذا كلّه من فضل ال تم بالجهاد في‬
‫سبيل ال‪ ،‬حيث أورثه ال تعالى بالجهاد ديار الظالمين‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬جعل‬
‫رزقي تحت ظلّ رمحي))‪.‬‬
‫نقول هذا الكلم ردّا على من يحاول أن يبحث عن القيادة الصّحيحة الحقّة للتّجمّعات السلميّة‪،‬‬
‫وكذا التّنظيمات والتّكتّلت‪ ،‬فلن نستطيع شئنا أو أبينا أن نفرز قيادة حقيقيّة إلّ في الظّرف‬
‫الصّحيح لهذا الفراز‪ ،‬هذا الظّرف هو الجهاد في سبيل ال‪ .‬حين يبرز قائد تلتقي حوله الجماعة‬
‫في ظروف الشّدائد والهوال‪ ،‬والمصابَرة والمكابَدة‪ ،‬وهي ظروف قاسيةٌ‪ ،‬تكشف المعادن على‬
‫حقيقتها‪ ،‬حينئذٍ يكون معدن القائد خالٍ من الشّوائب والكدَر‪ ،‬فهُو قائدٌ حقيقيّ يستحقّ هذا‬
‫المنصب‪ ،‬بل المنصبُ يتشرّف به ويفخر‪ ،‬لكن في زمن الدّعة والخمول‪ ،‬وفي زمن المهانة‬
‫والرّذيلة‪ ،‬وظروف الخسّة والعار‪ ،‬يأتي لنا شيخٌ معمّم جلّ ما يملك هو إتقانه صنع الكلمة‬
‫الحماسيّة‪ ،‬أو المنمّقة‪ ،‬فيأسرُ ألباب السّامعين‪ ،‬فيسارعُ الغثاء إلى تسييده وتأميره‪ ،‬فهل هذا هو‬
‫طلُع علينا رجل ملك البريق الدّعائيّ‪،‬‬
‫الطّريق الحقيقيّ في اكتشاف القيادة الصّائبة؟ أو حين يَ ْ‬
‫سواء بقدرته على إنشاء مجلة أو نشرة أو جريدة‪ ،‬بها واستطاع أن يشرف على الناس‪،‬‬
‫فيعرفونه كاتبا مرموقا‪ ،‬أو سياسيا خبيرا‪ ،‬فهل هذا هو الطريق الصائب للقيادة الحقيقية؟‪.‬‬
‫هذه أمثلة وعليك أن تقيس عليها‪ ،‬لتعلم أن القيادة الحقيقيةَ إنما تُعلم بالجهاد في سبيل ال تعالى‪،‬‬
‫في زمن الصّعاب والشدائد‪.‬‬
‫القيادة في القرآن‪:‬‬
‫عرض القرآن الكريم لنا نموذجا رائعا لستخلص الشّهد من بين ركام الخلط‪ ،‬وكان هذا‬
‫العرض والتصوير مثل حيّا وحقيقيا في تعليم المّة كيف يخلص هذا الخلوص‪ ،‬وكيف تتميز‬
‫الصّفوف‪ ،‬وكيف تعرف مقاديرُ الرّجال‪ ،‬وهذا الحدَث التاريخيّ كما عرضه القرآن العظيم فيه‬
‫ن الكثير‬
‫ي الواضحُ على الطّرق المُبتدعة في إعداد الكوادِر‪ ،‬أو صنعِ الكفاءات‪ ،‬إذ أ ّ‬
‫الردّ الجل ّ‬
‫من أصحاب الفكار الهجينة المعاصرة يطرحون طريقة بدعيّة أو طرقا بدعيّة في المة‪ ،‬وهم‬

‫‪444‬‬
‫في دعواتهم هذه التي سيتبيّن لنا أمرها وحقيقتها إنما هم يفرغون الشباب المسلم من الطاقات‬
‫البداعية الحقيقيّة‪.‬‬
‫يحاول أصحاب التربية المزعومة أن يوجدوا الدلّة على طريقتهم في صنع المّة‪ ،‬ورجال‬
‫المّة‪ ،‬وتراهم يصرخون في كل وادٍ أنّ المّة والشّباب المسلم بحاجة إلى تربيةٍ وإعدادٍ قبل أن‬
‫يوضع في معترك البلء والمتحان‪ ،‬ولعلّ أبرز أدلّة هذا التيار البدعي هو احتجـاجهم بحادِث‬
‫طالوت عليه السلم‪ ،‬وها نحن نعرض هذا الحادث كما صوره القرآن ليتبيّن بجلء أبلج أن هذا‬
‫عمْدةٌ من عُمد حركات الجهاد‪ ،‬ودليلٌ من أدلّتها أنّ حركة‬
‫الحدث عليهم ل لهم‪ ،‬وهو في الحقيقة ُ‬
‫الجهاد هي التي تربي المّة وتُبرز القيادات‪ ،‬وتعرّفنا بمقادير الرجال‪.‬‬
‫في سورة البقرة حديث مطوّل عن بني إسرائيل‪ ،‬وكان من كلم ال تعالى في هذه السّورة عن‬
‫بني إسرائيل بعد موسى عليه السّلم [البقرة من آية ‪{ :]252-246‬ألم تر إلى المل من بني‬
‫إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيّ لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل ال} وفي الية كما نرى‬
‫أنّ الذين طلبوا الملك هم "المل"‪ ،‬والمل في القرآن وصف ل ترتاح له النّفس‪ ،‬فبمجرّد ذِكر‬
‫المل وإطلق هذه الصّفة على قوم تتوجّس خيفة‪ ،‬وترتقب أوصاف شؤم وقبح (راجع كلمة المل‬
‫في القرآن الكريم)‪ ،‬وليس من عادة المل أن يطلبوا خيرا‪ ،‬وإن طلبوه فهو لمر خبّئ في‬
‫أنفسهم‪ ،‬وأنا هنا ل أدري لماذا فرّق الملُ بين النبيّ والملك المقاتل‪ ،‬وسنّة ال جاريةٌ في النبياء‬
‫سواء كانوا من بني إسرائيل أو من غيرهم أنّ النّبيّ في أتباعه هو الحاكم والقائد والقاضي‪،‬‬
‫وكان هذا المر في بني إسرائيل أوضحَ وأجْلى‪ ،‬والحديثُ النّبويّ يشهد لذلك لقوله صلى ال‬
‫عليه وسلم‪(( :‬كانت بنو إسرائيل تسوسهم النبياء)) فهل هذا الطّلب المشروط في المل مقدّمة‬
‫لنعرف أنّ الذين طلبوه هم "مل"‪ ،‬ل يخرجون عن هذا الوصف وإن تزيّنوا بغيره‪ ،‬هذا أمرٌ‬
‫يحتاج إلى بحثٍ ونظر وإن كان هذا هو الذي تطمئنّ إليه النّفس في هذا الوقت‪ ،‬بل إنّ هذه‬
‫السّرعة في كشف حقيقتهم في ختام الية تنبئك عن هذا الذي قلناه‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬فلمّا كتب‬
‫عليهم القتال تولّوا إلّ قليلً منهم وال عليم بالظالمين}‪.‬‬
‫ثمّ جاءت اليات تكشف لنا هذا الجمال وكيف تمّ فرض القتال وكيف سار الحدَث واستقرّ على‬
‫حاله‪.‬‬
‫{وقال لهم نبيّهم إنّ ال قد بعث لكم طالوت ملكا قـالوا أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحقّ‬
‫بالملك منه ولم يؤت سعة من المال}‪.‬‬

‫‪445‬‬
‫هذا الكلم الربّانيّ يؤكّد لنا أنّ البتلء كان للمل‪ ،‬المل الممتلئ مالً‪ ..‬المل طلبوا ملكا‪ .‬ولمّا‬
‫كان ال عليما بالظّالمين‪ ،‬فهو قد علم سبحانه أنّ هؤلء القوم يطلبون ملكا فقط‪ ،‬ل ملكا مقاتلً‪،‬‬
‫عمْدة الحقّ لديهم في إقرار الملك وقبوله هو أن يكون ممّن له سعة من المال ولو حاولنا‬
‫وُ‬
‫تصوّر النّفسيّة الحقيقيّة للمل‪ ،‬ومحاولتهم الزّائفة والذّكية في ستر مبرّر القتال لتّضح لنا‬
‫الشيء الكثير‪ ،‬فهم طلبوا أوّلً‪{ :‬ملكا نقـاتل في سبيل ال}‪ ،‬ولمّا حاججهم النبي وذكّرهم‬
‫بعورات نفوسهم‪{ ..‬قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألّ تقاتلوا} فكان جوابهم على قوله هذا‬
‫مؤكدا لما قال‪ :‬وهو أنّ ما علمْت من أنفسنا حبّه والشّغف به هو سبب طلبنا للقتال {قالوا وما لنا‬
‫أل نقاتل في سبيل ال وقد أُخرِجنا من ديارنا وأبناءنا}‪.‬‬
‫إنّه حديث المل‪ ،‬وهو حديث لكشف المل‪ ،‬وهذه المقدّمة تدلّك على ما سيأتي وراءها من أحداث‬
‫تكشِف المل على حقيقتهم‪.‬‬
‫{فلما فصل طالوت بالجنود} هذه الية تحمل في طيّاتها معنى تخلّف المل‪ ،‬وفيها إشارة إلى أن‬
‫المل قد سقط في أيديهم فمنهم من لحق بالركب فسار جنديا‪ ،‬ومنهم من تخلف ليبقى تحت‬
‫وصف المـل‪ ،‬فحيث ذهبَت حقيقتهم عن الموقع ‪ -‬الفصل ‪ -‬ذهب وصفهم‪ ،‬فمن ُفصِل به‬
‫فخرج معهم سار تحت وصف جديد هو "الجنود"‪..‬‬
‫فصل طالوت {بالجنود}‪ ،‬وطالوت عيّن َملِكا بقرارٍ ل دخل للجنود ول للمل فيه‪ ،‬بل ببعثٍ إلهي‬
‫{إنّ ال قد بعثَ لكم طالوت ملكا} مبرّر البعث {بسطَةً في العلمِ والجسم}‪ ،‬القوّة والمانة‪ .‬جاء‬
‫امتحانٌ تشريعيّ ل دخل للبشر فيه وهو قول طالوت ‪{ :‬إن ال مبتليكم بنهرٍ فمن شرب منه‬
‫فليس منّي ومن لم يطعمه فإنّه منّي إلّ من اغترف غرفةً بيده} فهذا أمرٌ تشريعي من وضعٍ‬
‫إلهي‪ ،‬وليس استحسانا بشريّا لشروط يضعها أصحاب التّصفية المزعومة‪ ،‬والتربية المدّعاة‪،‬‬
‫فكيف يجوز للناس أن يشترطوا شروطا للجهاد ما أنزل بها من سلطان؟ وما هي الدلة على‬
‫هذه الشّروط البدعية؟ فهذا شيخٌ يريد من المّة أن ل تجاهد حتى يصبح قيام الليل ديْدنها بل‬
‫تخلّف أحد منها‪ ،‬وهذا شيخٌ ل يُجيز الجهاد للمّة حتى تحفظ الربعين النوويّة‪ ،‬وهذا شيخٌ‬
‫يشترط للجهاد أن تصبح المّة منظّرةً في السياسة وفهم اللعيب الدولية‪ ،‬وهذا شيخٌ يوجب‬
‫على المّة قبل الجهاد أن تنبذ المذهبيّة وإل سيكون جهادها في سبيل المذاهب الربعة وهذا‪..‬‬
‫وهذا‪ ،..‬شروطٌ ما أنزل ال بها من سلطان‪ ،‬ثم هنا نقطة يدور البحث عليها‪ ،‬وهي‪ :‬هل طالوت‬
‫عليه السّلم اشترط شروطا قبل إعلن الجهاد؟ أم أنّ شروطه على جنوده كانت بعد الفصل‬

‫‪446‬‬
‫بالجنود؟ وهذه نقطة مهمّة لنّ الحدث يدلّنا على أنّ ابتلء القائد لمعرفة حقيقة جنوده واختبارهم‬
‫في قدراتهم‪ ،‬وفي مدى تحمّلهم للصّعاب والثقال كانت في مسيرة الجهاد‪ ،‬ومن خلل حركته‬
‫مع جنوده‪ ،‬ل كما يريد مشايخنا في هذا الزّمان‪ ،‬وهو أن يمتحنهم وهم على فُرشِهم الوثيرة‪،‬‬
‫فشتّان بين إخلص ونقاءٍ حقيقيّ يخرج من وسط الملمّات والمحن‪ ،‬وبين إخلص مز ّيفٍ يخرج‬
‫ي وإدراك فتصبغ عليه‬
‫من امتحانات الولء للقيادة‪ ،‬وابتلءات تسليم الرّأس كالببّغاء دون وع ٍ‬
‫القيادة لباس القُرب والنّجاح‪.‬‬
‫إنّ معرفة طالوت لحقيقة جنوده كانت من خلل مسيرته وحركته للجهاد في سبيل ال تعالى‪،‬‬
‫وهذا الذي نقوله وندعوا النّاس إليه بفضل ال تعالى ورحمته‪ ،‬ونحـمدُ ال تعالى أن عافانا من‬
‫أمراض الخرين وتصوّراتهم العليلة‪.‬‬
‫ثمّ خلص من خلص إلى المواجهة ضدّ جالوت وجنوده بعد محنة النّهر والشّرب منه‪ ،‬ثمّ محنة‬
‫الكثرة والقوّة الماديّة‪ ،‬ولم يذكر لنا القرآن الكريم أنّ محنة الكثرة العدديّة أسقَطَت بعض القوم‪،‬‬
‫بل إنّ الوصف المدْحيّ لهم كان قبل ابتلئهم برؤية كثرة عدوّهم‪ ،‬حيث قال ال تعالى بعد حادثة‬
‫النّهر‪ { :‬فلمّا جاوزه هو والذين آمنوا معه}‪ ،‬ف َوصْف اليمان هنا وصفٌ مدحيّ‪ ،‬لكنّ اليمان‬
‫مراتب متفاوتة وليس على درجة واحدة‪.‬‬
‫قال تعالى‪ { :‬فهزموهم بإذن ال‪ ،‬وقتل داود جالوت وآتاه ال المُـلك والحِكـمة وعلّمه ممّا‬
‫يشاء}‪.‬‬
‫ي بنصر المؤمنين ووقع الوعد اللهيّ { كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً‬
‫حصل المقدور الله ّ‬
‫بإذن ال وال مع الصّابرين}‪ ،‬ومن حدَث المعركة‪ ،‬ومن وسط ملمّاتها‪ ،‬ومن حركة الجهاد‬
‫عرف النّاس داودَ عليه السّلم‪ ،‬ونحن المسلمين نعتقد أنّ النّبوّة اختيار واصطفاء‪ ،‬وقد عاب‬
‫السّلف رحمهم ال على المام ابن حبان البستي صاحب الصّحيح‪ ،‬حين قال‪" :‬إنّما النّبوّة العلم‬
‫والعمل"‪ ،‬حيث لمحوا فيها إلغاء الختيار والصطفاء اللهي‪ ،‬ولكنّنا نجزم أنّ المام ابن حبان لم‬
‫يرد هذا‪ ،‬وأنا أقدّم هذا حتّى ل يخرجَ علينا زاعمٌ بأنّ معنى ما نقول هو إلغاء الختيار‪ ،‬ولكنّا‬
‫عرفنا من خلل اليات أنّ داود عليه السّلم برز بعد { وقتل داود جالوت}‪ .‬فجمع ال تعالى‬
‫لداود ما تفرّق قبل الحدث بين النّبوّة والملك { وآتاه ال الملك والحكمة}‪ .‬نعم! عندما قتل الجنديّ‬
‫داود الكافرَ جالوت كانت مقدّمة الختيار‪.‬‬

‫‪447‬‬
‫{قتل} فاجتباه ال تعالى‪ ،‬فهل عقل مشايخنا هذا‪ :‬قتل‪ ،‬قتل‪ ،‬قتل‪...‬؟ فليت مشايخنا يعيدون لنا‬
‫تفسير وتجليَة كلمة "قتل"‪ .‬قال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬ل يجتمع كافر وقاتله في النّار)) رواه‬
‫مسلم‪.‬‬
‫ومن أجل أن تفهم أمّة محمّد صلى ال عليه وسلم كلمة "قتل"‪ ،‬وأنّها منهجٌ ربّانيّ سليمٌ سديد‪،‬‬
‫أتبَع ال سبحانه وتعالى الحدث كلماتٍ عظيمة جليلة شريفة {ولول دفع ال النّاس بعضهم ببعضٍ‬
‫لفسدت الرض} فلو لم يقتل داود جالوت لبقيَ جالوت وجنوده يصولون ويجولون‪ ،‬ويُهلكون‬
‫حرث النّاس ونسلهم‪ ،‬ولكن لمّا منّ ال تعالى على المة بتعليمها قتل الطواغيت‪ ،‬كان عليهم أن‬
‫يشكروه‪ ،‬لنّه سبحانه وتعالى ذو فضل على العالمين‪ ،‬كما قال سبحانه في خاتمة الية‪{ :‬ولول‬
‫دفع ال النّاسَ بعضهم ببعضٍ لفسدتِ الرضُ ولكنّ ال ذو فضلٍ على العالمين}‪ .‬نعم‪ ،‬ولكنّ ال‬
‫ذو فضلٍ على العالمين‪ ،‬فمنهم من يشكرُ فضله ويرضاه‪ ،‬ومنهم من يرفضهُ ويأباه‪ ،‬ويذهبُ‬
‫يتخبّط في الظّلمات باحثا عن كلمة أخرى غير قوله {فهزموهم}‪{ ..‬وقتل‪}..‬‬
‫{تلك آيات الِ نتلوها عليك بالحق وإنّك لمن المرسلين}‪.‬‬
‫القيادة ‪ :‬الجهاد بداية ونهاية‬
‫هذه القصّة التاريخيّة ومن حديث القرآنِ الشّيق عنها كشفت لنا أن الجهاد هو بداية المر وهو‬
‫نهايته‪ ،‬وهو منهج ال تعالى في ابتلء الناس‪ ،‬لتكتَشِف المة حقيقتها‪.‬‬
‫وفي النهاية نخلص إلى النتائج التالية‪:‬‬
‫‪ - 1‬المل يناورون‪ ،‬والجهاد يكشفُ حقيقتهم‪ ،‬وليس بغير الجهاد تُكشف حقيقة المل‪ ،‬المل‬
‫الممتلئ فلسفةً ومناورة‪ ،‬والمل الممتلئ تبجّحا وتيها‪.‬‬
‫‪ -2‬طالوت يعرف حقيقةَ جنو ِدهِ خلل مسيرته وحركته للجهاد في سبيل ال تعالى‪ ،‬وليس بعيدا‬
‫عن أرض المعركة والحركة ونحوها‪.‬‬
‫‪ -3‬اليمان ل يتنافى مع بعض ما يعتري النفس من خوفٍ ووجل‪ ،‬وليس هذا الخوف والوجل‬
‫مبررا لترك إعلن الجهاد في سبيل ال تعالى‪.‬‬
‫‪ -4‬قيادة داود عليه السلم برزت من وسط المعركة‪ ،‬ومن خللها‪ ،‬وبعد برهان حقيقي أنه من‬
‫عنده القدرة على إصابة الرأس ‪-‬جالوت‪ -‬فهو يستحق أن يكون الرأس‪.‬‬
‫ن العلم الشرعي شرْطٌ من شروط القيادة الجهاديّة‪ ،‬لن الجهاد حركةٌ مضبوطة بضوابط‬
‫‪ -5‬إ ّ‬
‫الشّرع وأوامر الله جل في عله‪.‬‬

‫‪448‬‬
‫‪ -6‬إنّ شعيرة الجهاد فضل إلهي‪ ،‬ومنّة ربانية‪ ،‬ويجب على المة أن تقبل فضل ال ومنّته‪،‬‬
‫ومن أعرض عنها فهو الخاسر المغبون‪.‬‬
‫إنّ من أشدّ القضايا معاناة لدى الحركة السلميّة هي عدم وجود القائد المناسب‪ ،‬والرمز‬
‫الصّحيح للتيّار والحركة‪ ،‬وعلى الرّغم من وجود المدّة الزّمنيّة المناسبة لفرازه إل أن الخطوات‬
‫ما زالت متعثّرة وفاشلة‪ ،‬ونحن نرى الشّباب المسلم من أشدّ النّاس احتراما لمسئوليْه وقيادته‬
‫مازال بعيدا عن القيادة‪ ،‬غير مختلط بها‪ ،‬حتّى إذا عايشها وخالطها اهتزّت لديه الثّقة‪ ،‬وسقط‬
‫الحترام‪ ،‬وبدأت صيحاته تتعالى في بيان أخطاء مشايخه وقيادته‪ ،‬وهذا يؤكّد أنّ إفراز القيادة‬
‫بالطّرق التي اتّبعَتها هذه الحركات هي طرقٌ فاسدة وخاطئة‪ ،‬ومن أجل الحفاظ على صورة‬
‫الشّيخ المحترم‪ ،‬والقائد المقبول يحاول بعضهم إحياء الطّريقة الصّوفيّة في التّعامل مع الشّيوخ‪،‬‬
‫لكنّها تكون مغلفة بغلف العمليّة أو السّلفيّة‪ ،‬أو التّبريرات الداريّة التي اشتقّت من نظم جاهليّة‬
‫ل تمتّ إلى السلم بصلة‪ ،‬فالمحاولت المتكرّرة في إضفاء صفةِ القداسة على القيادة لم تعد‬
‫تدوم طويلً أمام اختبارات القرب والتّعامل بين القواعد والقادة‪ ،‬ومن صمد منهم أمام هذه‬
‫الضّغوط القسريّة من القادة‪ ،‬بغضّ الطرف عن النّظر إلى أنوار الشّيوخ والقادة فإنّه سيخرج‬
‫صورة شوهاء من رجلٍ باع عقله وإرادته لمثل هؤلء القوم‪ ،‬وحينئذٍ فإنّ الحركة تصبح‬
‫مجموعةً من البواق التي تسير وراء ناعقٍ واحدٍ فقط‪ ،‬هذه الصّورة هي أقـرب ما نرى في‬
‫الواقع من تركيبة الجماعات السلميّة‪.‬‬
‫القيادة والقاعدة ( التلميذ والشيخ )‬
‫المشكلة الواضحة هي كيف توفّق الجماعة المسلّحة المهتدية في إيجـاد الحترام بين أفرادها‬
‫على العموم وبين قواعدها والقيادة على الخصوص‪ ،‬وبين وجود المدى القصى من القدرة على‬
‫احترام العقل الذّاتي والرادة المستقلّة؟ وقد يظهر لبعض قاصري النّظر استحالة وجود هذه‬
‫التّركيبة‪ ،‬واعتقادُ الستحالةِ مردّه إلى عدم فهم أحد طرفي المعادلة‪ ،‬فقد يُدخِل البعض صورا أو‬
‫ممارساتٍ خاطئة إلى مفهوم الحترام والتّقدير‪ ،‬وبالتّالي يجعل من أضداد الحترام عدم وجود‬
‫هذه الممارسات والسّلوكيّات‪.‬‬
‫عندما يناقش التّلميذ شيخه في مسألةٍ من المسائل‪ ،‬ويراجِعه فيها إلى أقصى درجات المراجعة‬
‫بل المناظرة‪ ،‬فهل هذا الفعل يضادّ الحترام والتّقدير ؟‪.‬‬

‫‪449‬‬
‫هل مراجعةُ بلل رضي ال عنه المتكرّرة والصّلبة لعمر بن الخطّاب رضي ال عنه في مسألةِ‬
‫الختلف حول الرض المفتوحةِ‪ ،‬هل يُعمل فيها بالخراج كما هو رأي عمر‪ ،‬أم تُقسّم على‬
‫الفاتحين كما جرت السنّة وأصرّ على تطبيقها بلل‪ ،‬هل هذه المراجعة فيها ما ينبئ عن فقدان‬
‫درجة (أيّ درجة) من درجات الحترام بين شخص القائد وأتباعه؟‪.‬‬
‫هل استنكار سعد بن عبادة رضي ال عنه لمّا فهم من وجوب إحضار أربعة شهـود حال‬
‫رؤيته لزنى الزّوجة‪ ،‬وحلفه اليمان المغلّظة أنّه لو رأى ذلك ليضربنّ ما بين رجليها هو ممّا ل‬
‫يدخل تحت باب احترام الرعيّة للقيادة؟‪.‬‬
‫ثمّ تعالوا أيّها القادة لنحاسبَكم‪ ،‬وأنتم ملتم الدّنيا صياحا بوجوب محاكمةِ ومحاسبةِ المتسبّبين‬
‫بمصائب المّة وهزائمها؟‪.‬‬
‫تعالوا أيّها القادة لنحاسبكم عن أحداثِ حماة‪ ،‬ومن هو المتسبّب بهذا الكمّ من المصائبِ والبليا؟‬
‫ألم تدعوا الليالي الطّوال أن يخلّصكم ال تعالى من عدنان عقـلة‪ ،‬لنّه بدأ يسير في الفاق‬
‫داعيا إلى كشف المجرمين والمنافقين والوصوليين والنّفعيين والجبَناء وقادة الفنادق‪ ،‬وسماسرة‬
‫المال وقطّاع الطريقِ إلى ال؟‪.‬‬
‫لماذا احمرّت أنوفكم ‪ -‬غضبا ظالما ‪ -‬ضدّ كتاب "التّجربة السّوريّة" لمؤلّفه عمر عبد الحكيم مع‬
‫أنّه لم يُظهر من الحقائق إلّ بمقدار رأس البرة‪ ،‬وإلّ فالحقائق ينبغي أن تؤدّي بكم إلى المشانق‬
‫لو كان هناك قاعدة تَفهَم دين ال تعالى‪ ،‬وتتعامل مع المورِ بشرعيّةٍ وموضوعيّة‪.‬‬
‫ف النّاس حقيقة ما‬
‫ثمّ لماذا ل يفتح ملفّ حزب النّهضة بقيادة راشد الغنّوشي بطريقة علنيّةٍ ليعرِ َ‬
‫جرى في تونس فتوضع النّقاط فوق الحروف‪ ،‬فيعرف القائد المزيّف من القائد اللعوب‪ ،‬لماذا‬
‫تلصق هذه الصّور الزّائفة ضمن لوحة السلم العظيم‪ ،‬بل لماذا كتب علينا أن ل نرى إلّ قائدا‬
‫ورمزا مزيّفا عاجزا عن قيادة دجاجة ل قيادة أمّة؟‪.‬‬
‫إنّ الحترام والتقدير للقيادة الواعية أم ٌر تفرضه القيادةُ بنفسها‪ ،‬وذلك من خلل مسيرتها‬
‫المظفّرة نحو أهداف الجماعة وانتصاراتها‪.‬‬
‫المام أحمد ابن حنبل ‪ -‬رحمه ال تعالى ‪ -‬لم يخطب الخطب الرنّانة‪ ،‬ول أصدر البيانات‬
‫المطوّلة طالبا من النّاس احترامه وتقديره‪ ،‬بل موقفه وصلبته في الحق‪ ،‬وتفانيهِ في سبيل السنّة‬
‫ودين ال تعالى هو الذي جعله للناس إماما وفرض اسمه على أهل السنّة والجماعة‪.‬‬

‫‪450‬‬
‫شيخ السلم ابن تيمية ‪ -‬رحمه ال تعالى ‪ -‬بفعاله وجهاده جعل خصومه قبل تلميذه ومحبّيه‬
‫يُ ِقرّون له بالفضل والرّفعة‪ ،‬لنّهم رأوا رجل المواقف‪ ،‬ل أبواق كل ٍم وصراخ‪.‬‬
‫المّة والقاعدة والتباع يحترمون علماءهم وقادَتهم عندما تفرضُ القيادةُ نفسها بمواقفها وفعالها‬
‫ونزاهتها‪.‬‬
‫إنّني أعلم أقواما (من الشباب المتحمس) كان يرجو نظرة من بعض السماء الرنّانة من القادة‬
‫المفكرين‪ ،‬وكان يعتبر مجرّد الجلوسِ في محاضرةٍ لهذا الشيخ أو القائد أو المفـكّر هي من أشدّ‬
‫القُربات إلى ال تعالى‪ ،‬ولكنّه بعد تجربةٍ ُم ّرةٍ كشفت هذا الغثاء على حقيقته صار يعتقد أنّ قتل‬
‫هؤلء القادةِ من أفضَلِ القُربات إلى ال تعالى‪.‬‬
‫لماذا هذا ؟‪.‬‬
‫ق صراخ‪ ،‬حتى إذا جاء‬
‫السبب واضحٌ جليّ‪ ،‬لن الواقع كشف أن هؤلء القادة تُجّار كلمٍ‪ ،‬وأبوا ُ‬
‫َدوْر النّزال والتّجربة تعرّت حقائقهم‪ ،‬وكُشِف أمرهم‪.‬‬
‫ق الموازين في هذا الباب‪ ،‬فإنّه كذلك الفرقان‬
‫وإذا كان الجهاد يعرّ فنا بالرّجال‪ ،‬إذ هو من أد ّ‬
‫الذي يقسّم النّاس إلى أقسامها الحقيقيّة‪ ،‬فبه تتميّز الصّفـوف‪ ،‬فيتبيّن فسطاط اليمان‪ ،‬كما يتبيّن‬
‫فسطاط الكفر والنّفاق‪ ،‬فيؤوب النّاس إلى منازلهم التي يرتضونها لنفسهم‪ ،‬ومعلوم أنّ الفتن‬
‫والبتلءات تكشف النّاس‪ ،‬وتخرج مخبوء نجواهم‪ ،‬إذ صدق من قال‪" :‬إنّ الحرب حصاد‬
‫المنافقين"‪ ،‬وبها كذلك يتّخذ ال الشّهداء‪ ،‬والشّهادة باب جليلٌ ل يفتحه ال تعالى إلّ لوليائه‬
‫المقرّبين‪.‬‬
‫الجهاد‪ :‬مراتب الولية والقرب والنفاق والبعد‬
‫من قرأ السّيرة النّبويّة قراءة متفحّصة‪ ،‬يرى فيها هذا الذي قلناه‪ ،‬إذ أنّه ما من معركةٍ خاضها‬
‫ل وأظهرت رجالً في مرتبة الولية والقرب‪ ،‬كما وأظهرت‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم إ ّ‬
‫رجالً في مقام النّفاق والخِزي‪ ،‬فالجهاد هو الذي يكشف حقائق المخادعين والمتخاذلين‪ ،‬لنّ بذل‬
‫ل المرتبط بهذا الدين ارتباطا حقيقيّا‪ ،‬ومن‬
‫النّفوس هيّنة في سبيل هذا الدين ل يقوى عليه إ ّ‬
‫تمثّلت له الدّار الخرة بين عينيه‪ ،‬يراقبها أنّى توجّه أو قال أو فعل‪ ،‬كما مدح ال تعالى‬
‫الصّادقين من عباده بقوله‪{ :‬إنّا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدّار} وهي في سورة ص‪ ،‬ذلك بعد‬
‫أن تكلّم ال تعالى عن داود وسليمان وأيّوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصّلة والسّلم‪،‬‬
‫وذكر سبحانه وتعالى ِمنَنه عليهم‪ ،‬جعل سبحانه وتعالى علّة هذه ال ِمنَن‪ ،‬وسبب إغداقها أنّهم‬

‫‪451‬‬
‫أخلصوا أنفسهم للخرة‪ ،‬حبّا وعملً‪ ،‬قال مالك بن دينار‪" :‬نزعنا من قلوبهم حبّ الدّنيا وذكرها‬
‫وأخلصناهم بحبّ الخرة وذكرها"‪ ،‬إذ أنّ هذا الدّين ل يرفع ال به إلّ من آمن به حقّ اليمان‪،‬‬
‫وصبر على ما يلقاه من الفتن والهوال‪ ،‬ثمّ تيقّن على موعود ال تعالى وأنّه آت ل ريب فيه‪،‬‬
‫كما قال تعالى‪{ :‬وجعلنا منهم أئمّة يهدون بأ مرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}‪ .‬قال ابن‬
‫تيميّة ‪ -‬رحمه ال تعالى ‪ -‬تفسيرا لهذه الية‪" :‬بالصّبر واليقين تنال المامة"‪.‬‬
‫ففي غزوة الحزاب حيث جمع النّاس حشودهم‪ ،‬وتكاتفوا يدا واحدةً على بلدة صغيرة هي طيبة‬
‫مدينة رسول ال صلى ال عليه وسلم ومهاجره‪ ،‬واضطربت النّفوس‪ ،‬وزُلزِلت‪ ،‬ورأى النّاس‬
‫الموت بأمّ أعينهم [اليات من ‪ 27-9‬من سورة الحزاب]‪ .‬قال ال تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا‬
‫اذكروا نعمة ال عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان ال بما‬
‫تعملون بصيرا} الحزاب ‪.9‬‬
‫أمّا الجنود فهم الملئكة‪ ،‬ولم تقاتل الملئكة يومئذٍ‪ ،‬وإنّما عذّب ال الكافرين بالرّيح‪ ،‬ففي‬
‫الصّحيحين عن ابن عبّاس رضي ال عنهما عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه قال‪(( :‬نصرت‬
‫بالصّبا‪ ،‬وأهلكت عاد بالدبور))‪ .‬وأمّا تفاصيل حركة رياح الصّبا فقد روى ابن أبي حاتم بسند‬
‫صحيح عن ابن عباس رضي ال عنهما أنّه قال‪" :‬قالت الجنوب (أي ريح الجنوب) للشّمال (أي‬
‫ريح الشّمال) ليلة الحزاب‪ :‬انطلقي ننصر رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقالت الشّمال‪ :‬إنّ‬
‫الحرة ل تسري بالليل‪ ،‬وكانت الرّيح التي أرسلت عليهم الصّبا"‪.‬‬
‫ثمّ فصّل ال تعالى أمر المعركة وما جرى فيها‪ ،‬فقال جلّ وتعالى‪{ :‬إذ جاءوكم من فوقكم ومن‬
‫أسفل منكم وإذ زاغت البصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون بال الظّنونا} الحزاب ‪.10‬‬
‫إنّها الفتنة‪ ،‬إنّه البتلء والتّمحيص‪ ،‬حيث تظهر القلوب ما بها لشدّة الضّغط عليها‪{ ،‬زاغت‬
‫البصار}‪ :‬أي تحرّكت عن مكانها لشدّة الخوف والرّعب‪ ،‬و{بلغت القلوب الحناجر}‪ :‬وكذا زالت‬
‫القلوب عن مكانها لشدّة خفقانها واضطرابها‪ ،‬فالعيون تتحرّك بحركة القلوب‪ ،‬إذ العين لم تعد‬
‫ترى بوضوح وجلء‪ ،‬والقلب لم يعد يفكّر بسلمة وثبات‪ ،‬وهذا كلّه بسبب شدّة الخوف‪ ،‬وهو‬
‫خوف لم يسلم منه أحد‪ ،‬فقد حدّث حذيفة بخبر أصحاب رسول ال ? في هذا الشّأن شيئا عجيبا‪،‬‬
‫قال فتىً من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمـان رضي ال عنه‪ :‬يا أبا عبد ال رأيتم رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم وصحبتموه؟‪ .‬قال حذيفة‪ :‬نعم يا ابن أخي‪ .‬قال‪ :‬كيف كنتم تصنعون؟‪ .‬قال‪:‬‬
‫وال لقد كنّا نجهد‪ .‬أي نتعب بصحبته تعبا شديدا‪ ،‬وذلك أنّه صلى ال عليه وسلم كان صاحب‬

‫‪452‬‬
‫همّة عالية‪ ،‬وعمل دءوب‪ ،‬ونفس ل تكلّ‪ ،‬وكان أصحابه رضي ال عنهم لمحبّتهم له يحاولون‬
‫اللحاق به‪ ،‬والتّشبّه بفعاله‪ ،‬فكانت محاولتهم هذه تصيبهم بالتّعب والجهد‪ ،‬وكذا القائد الحقيقيّ ل‬
‫يرضى من رجاله الدّون‪ ،‬ول يقبل في رعيّته إلّ فعال الرّجال ووَثباتهم‪ ،‬وأمّا أولئك القوم الذين‬
‫يصنعون من أتباعهم أبواقا لهم‪ ،‬ومقلّدين لحضرتهم‪ ،‬فلن ينفعوهم شيئا في يوم كريهةٍ وسدادِ‬
‫ثغرٍ‪ ،‬ولقول حذيفة رضي ال عنه معنىً آخر‪ ،‬وهو أنّه كلّما َوضُح الحقّ وكان قويّا جليّا كلّما‬
‫كان الباطل كذلك جَلدا واضحا جليّا‪ ،‬ولم يكن الحقّ جليّا واضحا قويّا في يوم من اليّام كما كان‬
‫في عهد محمّد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكذا كان الكفر في عهده سافرا عن وجهه القبيح‪ ،‬فكان‬
‫هذا يُلحق بأصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم الجهد والتّعب‪ ،‬فقال حذيفة‪" :‬يا ابن أخي‬
‫وال لقد رأيتني ليلة الحزاب مع رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪(( :‬من يقوم فيذهب إلى‬
‫هؤلء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله ال الجنة))‪ ،‬فما قام منا رجل‪ ،‬ثم صلّى رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم هونا من الليل‪ ،‬ثمّ التفت إلينا‪ ،‬فقال مثله‪ ،‬فسكت القوم‪ ،‬وما قام منّا رجل‪ ،‬ثم صلّى‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم هونا من الليل‪ ،‬ثم التفت إلينا‪ ،‬فقال‪(( :‬هل من رجل يقوم فينظر‬
‫ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة))‪ ،‬فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة‬
‫البرد"‪.‬‬
‫{وتظنون بال الظنونا}‪ :‬فالمنافقون ظنّوا بربّهم شرّا‪ ،‬وبالسلم بهتانا‪ ،‬إذ أنّهم قالوا‪{ :‬ما وعدنا‬
‫ال ورسوله إل غرورا}‪ ،‬يقولون‪" :‬يعدنا محمد فتح قصور الشام وفارس وأحدنا ل يستطيع أن‬
‫يجاوز رحله‪ ،‬هذا وال غرور"‪ ،‬وها هم اليوم يقولون‪ :‬كيف لنا مع ضعفنا وقلة حيلتنا‪ ،‬وهواننا‬
‫على الناس أن نعيد دولة السلم؟ وكيف لنا ونحن ل نستطيع أن نعبد ال تعالى آمنين أن ينقلب‬
‫حالنا إلى حالٍ تخشانا فيه قوى الكفر والشّرك في مشرق الرض ومغاربها ؟‪ .‬لكنّنا نقول‪ :‬إنّها‬
‫الوعود اللهية‪ ،‬إن أخطَأتْنا نحن فهي واقعة ل شك فيمن ثبت على الطريق‪ ،‬وواصل المسير‪،‬‬
‫ل على صواب‬
‫ولم تُضعفه اليّام والشّهور‪ ،‬بل ازداد ثباتا ويقينا‪ ،‬وما شدة الصعوبات إل دلي ٌ‬
‫الطريق‪ ،‬وإذا كان طريق الجهاد وهو طريق الدّم والخطفِ والسجن‪ ،‬فإنّه كذلك طريق العزّة‬
‫خ ْزيُ‬
‫طرُق الخرى هي طرُق السّهولة والمناصب‪ ،‬فإن نهايتها الذلّة وال ِ‬
‫والنّجاح‪ ،‬وإذا كانت ال ّ‬
‫والشّنار‪ .‬وطائفة منهم قالت‪ :‬يا أهل يثرب ل مقام لكم على السلم فارجعوا‪ ،‬أو ل مقام لكم في‬
‫القتال فهزيمَتكم محقّقة‪ ،‬فارجعوا إلى منازلكم‪ ،‬وبدأوا يستأذنون رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫في الهروب وترك المواجهة يقولون‪{ :‬إن بيوتنا عورة} أي مكشوفةُ الجانب‪ ،‬ل نستطيع منعَ‬

‫‪453‬‬
‫الدّاخل إليها‪ ،‬فكذّبهم ال تعالى قائل‪ { :‬وما هي بعورة إن يريدون إلّ فرارا}‪ ،‬وهكذا النّفوس‬
‫المريضة‪ ،‬والقلوب الخاوية من اليمان‪ ،‬تبحث لها عن الحجج الواهيةِ الضعيفة لترك المواجهة‪،‬‬
‫ولعل هؤلء يبحثون عن الحجج الصولية في إسقاط فريضة الجهاد تحت دعوى المصلحة‬
‫الموهوم ِة الزائفة‪ ،‬ولكنّ حقيقةَ الحال أنهم ل يريدون الجهاد‪ ،‬ويخشون نتائجه‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ولو‬
‫سئِلوا ال ِفتْنة لتَوها وما تلبّثوا بها إل يسيرا ولقد كانوا عاهدوا ال‬
‫دُخِلت عليهم من أقطارها ثمّ ُ‬
‫من قبلُ ل يولّون الدبار وكان عهد ال مسئول قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو‬
‫القتل وإذا ل تمتّعون إل قليل قل من ذا الذي يعصمكم من ال إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم‬
‫رحمة ول يجدون لهم من دون ال وليّا ول نصيرا}‪.‬‬
‫إن هؤلء القوم ل يقيمون للفضائل شأنا ول لدين ال رأسا‪ ،‬همّهم بطونهم‪ ،‬وشُغلهم أهواءهم‪،‬‬
‫ودليل ذلك أنه لو دخَلت جيوشُ الحزاب عليهم في المدينة‪ ،‬ثم طلبت منهم الجيوش أن يُشركوا‬
‫بال تعالى ما احتبسوا‪ ،‬ول تلكّؤوا‪ ،‬بل لقبلوا على الكفر بال طيّبة بالشرك قلوبهم‪ ،‬فهم يدورون‬
‫مع من مُلك المنصب والمال‪ ،‬ويراقبون حَركته‪ ،‬حتى يبرمجوا أنفسهم على اتّجاهه‪ ،‬ليس لهم‬
‫اختيار إلّ اختيارُ الحاكم‪ ،‬إن أسلم الحاكمُ أسلَمنا‪ ،‬وإن كفَر الحاكمُ ك َفرْنا‪ ،‬ول يُقبِلون على‬
‫السلم إل بالوعود الممتلئةِ ذهبا وكنوزا‪ ،‬ومناصبَ وتشريفاتٍ‪ ،‬ولهذا قالوا قولتهم‪{ :‬ما وعدنا‬
‫ال ورسوله إل غرورا}‪ ،‬فهم اعتنقوا السلم لوعوده الدنيوية‪ ،‬أليس هذا يعلّمنا أن ل نفرش‬
‫الورود والرياحين للناس في دعوتهم للسلم ؟ ثم أليس هذا خطأ تلك الجماعات التي قالت‬
‫للناس‪ :‬انتخبونا‪ ،‬وسنطعمكم السّمن والعسل‪ ،‬وسنبني لكم المساكن الفاخرة‪ ،‬وسنسهّل لكم‬
‫حيَاتكم‪ ،‬فلمّا أصابهم بعضُ اللواء‪ ،‬فإذا هم أمام شاشاتِ التّلفزيون يتبرّأون من‬
‫معايشكم و َ‬
‫طرِيق الواحد تلو الخر‪ ،‬أل ما أتعسَ العبد الذي يُريد أن‬
‫السلم وأهله‪ ،‬ويتساقطون على ال ّ‬
‫يشتري بإسلمه منصبا وجاها‪ ،‬وصدق رسول ال صلى ال عليه وسلم حين قال‪(( :‬ما ذئبان‬
‫جائعان أرسل في غنم بأفسد من حرص الرّجل على المال والشّرف لدينه))‪.‬‬
‫يا قوم! أين عهودكم؟ أين بيعتكم مع ال؟ ألم تقسموا من قبل أن ل تولّوا يوم الزحف‪ ،‬بل تثبتوا‬
‫ثبات الصادقين؟!‪.‬‬
‫القدوة والسوة في الجهاد‪:‬‬
‫اعلموا أنّ الجهاد ل يقرّب أجلً‪ ،‬فلو كنتم في بيوتكم لبرز الموت إليكم‪ ،‬ففرارُكم لن ينفعَكم‪،‬‬
‫ومتاعُ الدّنيا قليلٌ زائل‪ ،‬والذين يظنّون أنّه بالجهاد قد توحّش الخصم‪ ،‬أو ازدادت شروره‪،‬‬

‫‪454‬‬
‫وكثْرةُ قتْله للموحّدين والضّعفاء هو جدّ واهم‪ ،‬لنّه سواء حملتم السّلح وقاتلتم على دينكم‬
‫وأعراضكم‪ ،‬أو أنّكم تركتم السلح وأعلنتم صباح مساء أنّكم ض ّد العُنف والقتال‪ ،‬فلن يغيّر هذا‬
‫من الحقيقة شيئا‪ ،‬وهذه الحقيقة تتجدّد كلّ يوم‪ ،‬فها هي جماعة الخوان المسلمين تساقُ في‬
‫مصر إلى السجون‪ ،‬وترمي بنفسها تحت أقدام الكفرةِ المرتدّين وترجو نظرةَ رِضى من قبل‬
‫وزير الداخلية المصري أن يسمح لها بلقائه‪ ،‬لتشرح له حقيقتها‪ ،‬بل إنها لترجو منهم أن يسمح‬
‫لوسيط بينهم أن يدخل عليه ويشرح له أنّ جماعة الخوان جماعة سلميّة‪ ،‬ل تنتهج العنف‪ ،‬بل‬
‫تتبرّأ منه صباح مساء‪ ،‬ونحن نقول‪ :‬حسبنا ال ونعم الوكيل‪ ،‬وإنّنا وال لنشعر بالخِزي من هذا‬
‫الموقف‪ ،‬فهل وصلت المهانة والذّلة بهذه الجماعة إلى هذا الدّرك السفل ؟‪ ،‬إنّه لشتّان بين‬
‫موقف جماعات التّوحيد والجهاد وجماعة الخوان المسلمين!! الدّكتور أيمن الظّواهري مع‬
‫ضعفه وعجزه‪ ،‬يلقي الكلمات كالحمم وكأنّها طلقاتُ مِدفع محمرّ الجَوا نب نحو الرّئيس المرتدّ‬
‫وحكومته‪ ،‬وتَحمِل كلماته المَل أنّ فتح مصر ل بدّ منه‪ ،‬وأنّه قريب‪ ،‬مع أنّ الجميع يعلم إلى أيّ‬
‫درجة هو ضعيف عاجز‪ ،‬لكنّها آيات ال ما زالت تتجلّى في هذا العصر‪ { :‬ولمّا رأى المؤمنون‬
‫الحزاب قالوا هذا ما وعدنا ال ورسوله وصدق ال ورسـوله وما زادهم إلّ إيمانا وتسليما}‪،‬‬
‫نحسبه كذلك ول نزكّي على ال أحدا‪.‬‬
‫إنّ الرّجال مواقف‪ ،‬فانظر يا عبد ال أين موقفُك‪ ،‬وإنّ اليمان ليستعلي بذاته حتّى لو كان حبيس‬
‫السّجن‪ ،‬أو طريحَ الفراش‪ ،‬أو فقير الجَيب‪ ،‬أو مطاردَ الحال‪.‬‬
‫إنّه ليستعلي في السّجن بخلوته‪ ،‬ومع القتل بشهادته‪ ،‬ومع النّفي بسياحته‪ ،‬ذلك هو اليمان‪ ،‬وإنّ‬
‫النّفاق مخذول مع منصبه وشاراته وأمواله وحشمه‪ ،‬لنّه النّفاق!! {قد يعلم ال المعوّقين منكم‬
‫والقائلين لخوانهم هلم إلينا ول يأتون البأس إلّ قليلً أشحّة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم‬
‫ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنةٍ حدادٍ‪،‬‬
‫أشحّة على الخير‪ ،‬أولئك لم يؤمنوا فأحبط أعمالهم‪ ،‬وكان ذلك على ال يسيرا}‪.‬‬
‫ضرّاء‪ ،‬معوّقون ومعوّقون‪ ،‬فإذا أتوا إلى مواطن النّزال أتوا‬
‫أرأيت أخي‪ :‬هم‪ ،‬هم‪ ،‬في البأساء وال ّ‬
‫قليلً‪ ،‬من أجل الرّياء والسّمعة‪ ،‬حتى يرجع الواحد منهم إلى بلدته ويخطب آلف الخطب‪،‬‬
‫سرّاء إيذاء ورميٌ بسوءِ‬
‫ويجمع آلف الدّنانير‪ ،‬في الحرب ينصحون بترك المعركة‪ ،‬وفي ال ّ‬
‫القوال من كلّ جانب‪ ،‬عيونهم مفتّحةٌ‪ ،‬مجهريّة البصر في النّظر إلى الخطاء والسّقطَات حتّى‬
‫يسيروا فيها شرقا وغربا‪ ،‬لكنّها كلّةٌ ت ِعبَة عن رؤية الخير وإبصاره‪ ،‬جيوبهم منتفخة‪ ،‬كريمة‬

‫‪455‬‬
‫على نفسها وعيالها‪ ،‬يبني الواحدُ منهم كأنّه مخلّد‪ ،‬ويجمع المال باستكثار يظهر عليه‪ ،‬حتّى‬
‫صار الواحدُ منهم يعَدّ من أثرياء بلده‪ ،‬وصارت أموالهم محـطّ تن ّدرٍ من قبل العداء‬
‫ت الملوك وشيكاتُ الهدايا بمليين‬
‫والخصوم‪ ،‬بنوكُهم تسجّل في بلد الـ "واق واق"‪ ،‬تأتيهم هبا ُ‬
‫الرّيالت‪ ،‬من أجل فتاوى رخيصة وخطب قبيحة‪.‬‬
‫لقد تكلّم ال بهذه اليات والكلمات‪ ،‬وهي كأنّها صورة كونيّة للحدث‪ ،‬كلمات ال تنقلنا نقلت‬
‫سريعة‪ ،‬وكذا حدث الحزاب‪ ،‬اختلطت فيه صورة المشركين {جاءتكم جنود}‪{ ..‬جاءوكم من‬
‫فوقكم}‪ ،‬وصورة مشاعر النّاس جميعا بصورة خاطفة‪{ :‬وتظنّون بال الظّنونا}‪ ،‬ولم يتكلّم ال عن‬
‫مشاعر الكافرين شيئا‪ ،‬بل يكفي أن يقول عنهم أنّهم جنود‪ ،‬جنود فقط‪ ،‬فلم يتكلّم شيئا إلّ عن‬
‫حركتهم الظّاهرة‪{ :‬إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم}‪ .‬ثمّ شرع القرآن في وصف‬
‫ي المؤمنون وزُلزِلوا زِلزالً شديدا}‪ ،‬لفتة‬
‫المؤمنين‪ ،‬حيث انتظرنا وصفا مُسهبا‪{ :‬هنالك ابتُل َ‬
‫سريعة‪ ،‬كلمات مفعمة بالبيان‪ ،‬وتحتاج إلى ما وراءها‪ ،‬ولكنّ سرعة المعركة تقتضي سرعة‬
‫الوصف‪ ،‬وفجأة تنتقل إلى المنافقين‪ ،‬كلمات ال إلى المنافقين‪ ،‬وتتحدّث‪ ،‬وكأنّهم في معزلٍ عن‬
‫ض المعركة‪ ،‬مشاعرهم خاصّة‪ ،‬وأقوالهم خاصّة‪ ،‬جسْمٌ غريب‪ ،‬يتوقّف عندهم حديث المعركة‬
‫أر ِ‬
‫ليحكي لنا أصولهم السّابقة‪ ،‬ومعالمهم قبل الحدث‪ ،‬وكيف يعالجون الحداث بتعليقاتهم‬
‫ن المعركة ما جاءت إلّ لهذا المر‪،‬‬
‫وتحليلتهم‪ ،‬ويفضح الحديث علّة حركاتهم وسكناتهم‪ ،‬وكأ ّ‬
‫وهو فضح المنافقين وكشْف عوراتهم‪.‬‬
‫ووسط ذلك كلّه‪ ،‬فجأة يلقي الرّب جلّ في عله علينا هذا التقرير والحكام قائلً‪ { :‬لقد كان لكم‬
‫في رسول ال أسوة حسنة لمن كان يرجوا ال واليوم الخر وذكر ال كثيرا}‪ ،21‬وعلى الرّغم‬
‫من أنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم أسوة المؤمنين في المور كلّها‪ ،‬وعلى الرّغم أنّ هذه‬
‫الية حجّة في وجوب اتّباع النّبيّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إلّ أنّ علينا أن نتوقّف أمام سِياقها‪،‬‬
‫وسِباقها‪ ،‬فقد قرّر ال هذه السوة من خلل حديثه عن المعركة‪ ،‬وتفاعلت النّاس حولها‪ ،‬نعم‬
‫أسوة لنا بلباسه‪ ،‬وأسوة لنا بصلته‪ ،‬وأسوة لنا بمأكله‪ ،‬وأسوة لنا بشأنه كلّه‪ ،‬لكنّ الحديث عن‬
‫السوة انطلق من وسط فتنة الحزاب‪ ،‬وغبا ِر المعارك‪ ،‬وصلبة القرارات‪ ،‬فأين المتحدّثون عن‬
‫السوة بحبّه لبياض الثّياب‪ ،‬وكثرة التّطيّب‪ ،‬وذراع الذّبيحة‪ .. ،‬و!‪.‬‬
‫ليعلموا أنّ حديث القرآن عن القدوة والتّساء كان من خلل حديثه عن غزوة الحزاب‪.‬‬
‫إنّه ابن عبد المطّلب‬ ‫إنّه النّبيّ ل كذب‬

‫‪456‬‬
‫وبعد أن قرّر ال تعالى حُكم السوة والقُدوة‪ ،‬وأنها لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فحيث أنه‬
‫صبر فعليكم أن تصبروا‪ ،‬وتقاتلوا‪ ،‬فل ينبغي لكم أن تتركوه وحده في مواطن القتال والنـزال‪،‬‬
‫بل ل يجوز لكم أن تستأذنوه في ترك القتال كما قال ال تعالى‪ { :‬لو كان عرَضا قريبا وسفرا‬
‫قاصدا لتّبعوك ولكن بعُدَت عليهم الشقة‪ ،‬وسيحلفون بال لو استطعنا لخرجنا معكم‪ ،‬يهلكون‬
‫أنفسهم وال يعلم إنهم لكاذبون عفا ال عنك لِمَ أذنت لهم حتّى يتبيّن لكَ الذين صدَقوا وتعلَم‬
‫الكاذبين ل يستأذِنك الذين يؤمنون بال واليوم الخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم وال عليم‬
‫بالمتقين إنّما يستأذنُك الذين ل يؤمنون بال واليومِ الخر وارتابت قلوبُهم فهم في َريْبهم‬
‫يتردّدُون} التوبة‪ .‬ذلك لنّ الستئذان هو هروب من نصرة دين ال تعالى‪ ،‬وخذلٌ له‪ ،‬ول ينبغي‬
‫للمسلم أن يخذل دين ال تعالى‪ ،‬أو َيتَـوانى عن نصرته‪ ،‬وإنّه من البيان الضّروري أن تكون‬
‫صبْر على القتال ودوام الرتباط به عملً وفِكرا‪ ،‬ودعوةً‪،‬‬
‫الُسوة في هذا الباب أعني باب ال ّ‬
‫وتحريضا‪ ،‬وردّا على شبه المثبّطين والمخذّلين‪ ،‬أو المعوّقين له بإسقاط أحكامه في أي عصر‬
‫من العصور‪.‬‬
‫إن القيام بهذا المر أسوة برسول ال صلى ال عليه وسلم ل يقوى عليه إل المتعلّق بالخرة‪،‬‬
‫جرِها أن يُصيبه‪ ،‬ولعذابِها أن يخطِأَه‪ ،‬والذّاكرُ لربّه تقويةً لقلبه‪ ،‬وتطمينا له من أن‬
‫الرّاجي ل ْ‬
‫يهتزّ أو يرتجف كما قال ال تعالى‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاذكروا ال كثيرا لعلّكم‬
‫تفلحون} النفال‪ ،‬لن الُسوة في هذا الباب تكاليفها شاقّة عالية‪ ،‬يرى المرءُ آثارها بأمّ عي َنيْه‪،‬‬
‫ويعيشُ هذه التكاليفَ لحظةً بلحظة‪ ،‬فهو مع ّذبٌ من طواغيت الرض‪ ،‬أو مطاردٌ غَريب‪ ،‬أو‬
‫صرٌ مَحْبوس‪ ،‬أو مهدّدٌ يرْقب الموتَ في كلّ آن‪ ،‬ومثل هذا الحال لن يصبِر عليه إل من قام‬
‫محا َ‬
‫به من أجل الخرة‪ ،‬واستعان على هذا الصبر بذكر ال تعالى‪ ،‬وبهذا يتحقق التوافق بين ذكر‬
‫السوة وبين ذكر وصف القائم بها‪ ،‬وذلك بخلف المتأسّي به في غير هذا الباب‪ ،‬إذ أنّه قد‬
‫تجتمع رغبة النّفس وشهوتُها مع السوة في أبواب أخرى كثيرة معلومة لدى القاصي والدّاني‪،‬‬
‫لنّ السوة في هذا الباب ل تكلّف كثيرا‪ ،‬ول تصابر النّفس نفسها عليها‪ ،‬بل تقوم عليها راغبةً‬
‫فرحةً‪ ،‬ل تخاف شيئا لترجو غيره‪ ،‬ول تضطرب فتحتاج إلى الطمئنان‪.‬‬
‫{ولمّا رأى المؤمنون الحزابَ قالوا هذا ما وعدنا ال ورسوله وصدق ال ورسوله‪ ،‬وما زادهم‬
‫إل إيمانا وتسليما من المؤمنين رجالٌ صدَقوا ما عاهدوا ال عليه فمنهم من قضى نحْبهُ ومنهم‬
‫من ينتظر وما بدّلوا تبديل}‪.‬‬

‫‪457‬‬
‫البتلء والوعد بين المنافقين والكافرين‬
‫بعد أن وصف ال تعالى المنافقين وأحوالهم‪ ،‬وذكر حركة الكافرين من اللتفاف حول المدينة‪،‬‬
‫ي المؤمنون وزُلزلوا‬
‫وبعد أن وصف ال تعالى عِظَم الزّلزلة على قلوب المؤمنين {هنالك ابتُل َ‬
‫زِلزالً شديدا} أخبرنا ال تعالى عن الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬وماذا كان تفسيرهم لحدث‬
‫الحزاب وكيف كان فقههم له‪{ ،‬هذا ما وعدنا ال ورسوله}‪ ،‬إنّ جمع الحزاب هو وعدٌ ال‬
‫ورسوله?‪ ،‬وانظر أخي في ال تعالى إلى أدب الصحابة رضي ال عنهم حين سمّوا البتلء‬
‫وعدا‪ ،‬مع أن لفظ الوعد يحمِل البِشارة وليس النّذارة‪ ،‬والحزاب نِذَارةٌ‪ ،‬فكيف سمّوا البتلء‬
‫وعدا ؟!‪.‬‬
‫إنّ تسميةَ البتلء وعدا من تمام الفقه والفهم‪ ،‬لن وعود ال تعالى بحصول الخير‪ ،‬وقدوم‬
‫البِشارات ل تتمّ إلّ بعد البتلء والتّمحيص‪ ،‬فحيث رأى المؤمن البتلء قادما إليه‪ ،‬فهو رابطٌ‬
‫له ول شك بما سيأتي بعده‪ ،‬وهو وقوع الوعد‪ ،‬لكن بعد اتّخاد الموْقف الصّحيح‪ ،‬وفي كلمهم‬
‫رضي ال عنهم موقِفُهم من الحدث‪ ،‬فحيث قالوا‪ :‬إن هذا البتلء هو وعد ل تعالى‪ ،‬فهو موقف‬
‫منهم أنّهم سيصبرون عليه‪ ،‬ويعالجونه وفق أحكـامِ ال تعالى‪ ،‬ذلك ليخرجَ من البتلء إلى‬
‫الوعد‪ ،‬وإل فإن البتلء سيكون مقدّمة الوعيد ل الوعد‪.‬‬
‫فهم رضي ال عنهم نظروا إلى نتيجة البتلء وخلصته‪ ،‬وذلك من خلل موقفهم من الحدث‪،‬‬
‫فالفتنة يسقط بها المرء‪ ،‬فتكون عذابا على صاحبها كما قال المنافقون‪ { :‬وإذ يقول المنافقون‬
‫والذين في قلوبهم مرضٌ ما وعدنا ال ورسوله إل غرورا} فهؤلء محجوبون بحجاب الهوى‬
‫ن الوعودَ اللهية تقدم على أطباق الذّهب‬
‫والشّهوة‪ ،‬وكذلك بحجاب البلدة والجهل‪ ،‬حيث ظنّوا أ ّ‬
‫والفضّة‪ ،‬بل امتحان وابتـلء‪ ،‬وبدون تمحيص واختبار‪ ،‬فحيث وقع البلء زاغت قلوبُهم عن‬
‫الحقّ‪ ،‬وخرجت منهم كلمات الشرّ والسّوء‪ ،‬وأمّا المؤمنون فقد تذكّروا قوله تعالى‪{ :‬أم حسبتم أن‬
‫تدخلوا الجنّة ولمّا يأتِكم َمثَلُ الذين خَلوْا من قبلكم مسّتهمُ البأسا ُء والضرّاءُ وزُلزِلوا حتّى يقولَ‬
‫ن نصر ال قريب} البقرة‪ .‬فالوعود ل تأتي بل‬
‫الرّسول والذين آمنوا معه متى نصر ال أل إ ّ‬
‫مقابل‪ ،‬بل ل بدّ من أن تأتي لمن يستحقّها {وصدق ال ورسوله وما زادهم إل إيمانا وتسليما}‬
‫وأنت أخي المسلم ترى أن ال فرّق في كلمه المجيد العظيم وصف المؤمنين حيث قال سابقا‪:‬‬
‫{هناك ابتُلي المؤمنون وزُلزِلوا}‪ ،‬ثمّ وصفَ المنافقين ثمّ عاد سبحانه وتعالى إلى ذكر المؤمنين‪،‬‬
‫ق للمؤمنين ووصف لحقٍ لهم‬
‫وأظنّ أنّ حكمة هذا ‪ -‬وهو ذكر وصف المنافقين بين وصفٍ ساب ٍ‬

‫‪458‬‬
‫‪ -‬إنّما هو تبيينٌ لحال المنافقين وأنّ وجودهم بين المؤمنين هو الذي اقتضى ذكرهم بين وصفين‬
‫ن الوصف السّابق { زُلزِلوا} كان بين وصفين وهو وصف‬
‫للمؤمنين‪ ،‬وهناك نكتة أخرى وهي أ ّ‬
‫حركة الكافرين {إذ جاءوكم} ووصف المنافقين‪ ،‬فالزّلزلةُ الحاصل ُة للمؤمنين هي بسبب هذين‬
‫العدوّين‪:‬‬
‫الكافرين وقدومهم‪..‬‬ ‫•‬
‫والمنافقين وخذلنهم وأراجيفهم‪..‬‬ ‫•‬
‫فالبتلء قد وقع بين سندانٍ ومطرقة‪ ،‬سندان المنافقين ومطرقةُ الكافرين‪ ،‬وهذا من أشدّ البلء‬
‫وأعظمه‪ ،‬وكما سيتبيّن لنا أنّ الكافرين قد ذهبوا وبقيت فتنة المنافقين بين أظ ُه ِر المسلمين‪ ،‬فما‬
‫أشدّ هؤلء القوم على أهل اليمان!! وما أقسى ما تعاني الجماعة المسلمة منهم!! بل {هم العدوّ‬
‫فاحذرهم قا َتلَهم ال أنّى يؤفكون}‪ .‬وحديث القرآن عن النّفاق والمنافقين طويل مسهب‪ ،‬ولكنّ‬
‫معاناة المؤمنين من هذا المَرض لم تكن إلّ في حال الجهاد والقتال‪ ،‬إذ أنّ النّفاق ل يُطِلّ برأسه‪،‬‬
‫ول يجد لكلماته قبولّ وصدى إلّ عند وقوع البتلء والمحن‪ ،‬فحين تضطرب النّفوس‪ ،‬وتبلغ‬
‫القلوبُ الحناجرَ يكون لراجيف النّفاق موطنٌ ونوع قبول‪ ...‬والنّفاق في القرآن على وصفين‬
‫ومثلين‪.‬‬
‫أصناف أهل النفاق‪ :‬المثل والواقع‬
‫المثل الوّل‪{ :‬مثلهم كمثل الذي استوقد نارا‪ ،‬فلمّا أضاءت ما حوله ذهب ال بنورهم وتركَهم في‬
‫ظلماتٍ ل يبصرون‪ ،‬صمّ بكمٌ عميٌ فهم ل يرجعون}‪..‬‬
‫المثل الثّاني‪{ :‬أو كصيّب من السّماء فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ يجعلونَ أصابعهم في آذانهم منَ‬
‫طفُ أبصارهم كلّما أضاء لهم مشوا‬
‫الصّواعقِ حذ َر الموْت وال محيط بالكافرين يكادُ البرقُ يخ َ‬
‫فيه‪ ،‬وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء ال لذهب بسمعهم وأبصارهم إنّ ال على كلّ شيء قدير}‪..‬‬
‫والمثلن القرآنيّان لحالتين واقعيّتين‪:‬‬
‫فالمثل الوّل لنوع المنافق الذي لم يُسلم أبدا‪ ،‬ولم يدخل اليمانُ قلبَه قطّ‪ ،‬بل بمجـرّد قدوم الحقّ‬
‫عليه أنكره وأعرض عنه‪ ،‬فهذا مستقرّ قلبه على الكُفر‪ ،‬لكنّه أسلمَ ظاهِرا خوف السّيفِ أو رجاءَ‬
‫الصفر (الذّهب)‪.‬‬
‫والمثل الثّاني لنوع آخر من النّفاق‪ ،‬وهو النّفاق المتقلّب‪ ،‬تأتي على قلبه الـواردات اليمانيّةُ‬
‫فيبصرها ويهتدي بها‪ ،‬فيسلم قلبه كما أسلم ظاهره‪ { ،‬كلّما أضاء لهم مشوا فيه} ولكنّه ل يقيم‬

‫‪459‬‬
‫على اليمان‪ ،‬فإذا أتت عليه وارداتُ الشّبه الباطلة‪ ،‬أو شهوات الهوى والنّفس‪ ،‬فإنّه يتنكّر لهذا‬
‫النّور‪ ،‬فيُظلم قلبه {وإذا أظلم عليهم قاموا}‪ ،‬فقلبُه متردّد بين اليمان والكفر‪ ،‬ل يَ ِقرّ له قرار‪،‬‬
‫وال عليم بما يختم لهم‪ ،‬فإذا جاءه الموت وهو في حال نوره وإسلمه مات مسلما‪ ،‬وإن أتاه‬
‫الموت حالَ كفره ونفاقه مات كافرا منافقا‪ ،‬وليس لنا إلّ الحكم بالظّاهر وقرائن الحال الغالِبة‪،‬‬
‫فالبتلءات والمِحن تكشف النّوعين‪ ،‬والقسم الثّاني تكون له فتنةً وابتلءً‪ ،‬فإمّا يزداد بها نورا‬
‫وإيمانا‪ ،‬وإمّا ينتكس بها ويخـلد إلى الكفر والنّفاق‪ ،‬وهذا سرّ قوله تعالى‪{ :‬وإذ يقول المنافقون‬
‫ل غرورا} فهما قسمان‪ :‬منافقون وفي قلوبهم‬
‫والذين في قلوبهم مرضٌ ما وعدنا ال ورسوله إ ّ‬
‫مرض‪ ،‬وهذا كذلك سبب تعليق الحكم عليهم على المشيئة كما سيأتي في قوله تعالى‪{ :‬ويعذّب‬
‫ال المنافقين إن شاء أو يتوبُ عليهم}‪ .‬وهذا الكشف ومعرفة الحقائق ‪-‬أي حقائق النّاس‪ -‬لم‬
‫تُعرف إلّ بالجهاد في سبيل ال تعالى‪.‬‬
‫{من المؤمنين رجالٌ صدَقوا ما عاهدوا ال عليه‪ ،‬فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما‬
‫بدّلوا تبديلً‪ ،‬ليجزي ال الصّادقين بصدقهم‪ ،‬ويعذّب المنافقين إن شاء أو يتوبَ عليهم إنّ ال كان‬
‫غفورا رحيما‪ ،‬وردّ ال الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا‪ ،‬وكـفى ال المؤمنين القتال‪ ،‬وكان‬
‫ال قويّا عزيزا‪ ،‬وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرّعب‬
‫فريقا تقتلون وتأسِرون فريقا‪ ،‬وأو َرثَكم أرضهم وديارَهم وأموالَهم وأرضـا لم تطأوها‪ ،‬وكان‬
‫ال على كلّ شيءٍ قديرا} الحزاب ‪.27-23‬‬
‫ق الغزوات على رسول‬
‫ثمّ انجلت المعركةُ وأسفرت نتائجها واضحة بيّنة‪ ،‬وهي غزوة من أش ّ‬
‫ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه‪ ،‬وفيها فقط قال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬يا أيّها النّاس‪ ،‬ل‬
‫تتمنّوا لقاء العدوّ‪ ،‬وسلوا ال العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا‪ ،‬واعلموا أنّ الجنّة تحت ظلل‬
‫السّيوف))‪ .‬ثمّ قال‪(( :‬اللهمّ منـزل الكتاب‪ ،‬ومجري السّحاب‪ ،‬وهازم الحزاب‪ ،‬اهزمهم‬
‫وانصرنا عليهم)) متّفق عليه‪ .‬فهي المعركة الوحيدة التي طلب فيها رسول ال صلى ال عليه‬
‫ج الصّحابة رضي ال عنهم لملقاة‬
‫وسلم من أصحابه عدم تمنّي لقاء العدوّ‪ ،‬وإلّ فإنّ خرو َ‬
‫العـدوّ أكثر من أن يحصى‪ ،‬بل إنّ بعدها (أي بعد الحزاب) قال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬الن‬
‫نغزوهم ول يغزوننا‪ ،‬نحن نسير إليهم)) البخاري‪ .‬ولذلك ل يحتجّ بهذا الحديث على عدم جواز‬
‫تمنّي لقاء العدوّ مطلقا‪ ،‬إنّما هو ظرف خاصّ‪ ،‬في حالة شديدةٍ‪ ،‬كان اللقاء يكلّف البادة الشّاملة‬
‫لكلّ الجماعة المؤمنة‪ ،‬ولكن إذا لقيتُموهم فاصبروا‪.‬‬

‫‪460‬‬
‫انجلت المعركة عن شهداء قضوا نحبهم‪ ،‬وأفضَوا إلى خالقهم‪ ،‬أحب ال لقاءهم فاتخذهم شهداء‪،‬‬
‫واتخاذ الشهداء من مقاصد الجهاد كما ذكر ال ذلك في غزوة أحد {وتلك اليّام نداوِلها بين‬
‫النّاس وليعلَمَ الُ الذين آمنوا ويتّخذ مِنكم شهداء وال ل يحب الظّالمين}‪ ،‬فالموت في سبيل ال‬
‫من مقاصد حركةِ الجهاد‪ ،‬وقد روى البخاري أنّ هذه الية نزلت في أنس بن النضر رضي ال‬
‫عنه‪ ،‬كما قال أنس بن مالك رضي ال عنه‪ ،‬وقد ذكر العلماء أنّه قد يكون للية الواحدةِ عدّة‬
‫مناسبات‪ ،‬وأنّها نزلت عدة مرات‪ ،‬فسياق الية في الحديث عن الحزاب‪ ،‬فل يمتنع أن تنـزل‬
‫هذه الية بعد أحد مرة‪ ،‬وفي الحزاب مرةً أخرى‪.‬‬
‫أصناف أهل اليمان‪:‬‬
‫أهل اليمان قسمان‬
‫شهداءٌ إلى ربّهم‪ ،‬وأحياءٌ أمناءٌ على العهد؛ ينتظرون النّصر أو الشّهادة‪ ،‬كلهما قد صدق ربّه‪،‬‬
‫فجزاؤهـم عند ربهم‪ ،‬ليس عند أحدٍ من الخلق‪ ،‬وانجلت المعركة عن منافقين يتردّدون بين‬
‫اليمان والكفر‪ ،‬فإما أن يـقيموا على الكُفر أو يموتوا عليه فلهم العذاب‪ ،‬وإمّا أن يغلب النور‬
‫على قلوبهم بعد أن رأوا من آيات ال البيّنـات من نصرِ نبيه‪ ،‬وتأيي ِد الريح له‪ ،‬فيغفرَ ال لهم‪،‬‬
‫ويُلحِقهم ب َر ْكبِ السلم واليمان‪ ،‬وبجماعة الهُدى والنّور‪.‬‬
‫{ ورد الذين كفروا بغيظهم}‪ :‬ع ّذبَهم ال بالرّيح‪ ،‬والرّيحُ جُنديّ من جنود ال تعالى‪ ،‬وروى‬
‫المام مسلم في صحيحه عن جابر رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قدم من‬
‫سفر‪ ،‬فلما كان قرب المدينة هاجت ريحٌ شديدة‪ ،‬تكاد أن تدفن الراكب‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪(( :‬بعثَت هذه الرّيح لموت منافق))‪ ،‬فلما قدِم المدينة فإذا منافق عظيم من المنافقين قد‬
‫مات‪ { .‬وكفى ال المؤمنين القتال وكان ال قويا عزيزا}‪ :‬فلم يُضرب في غزوة الحزاب‬
‫بسيف‪ ،‬ولم يُرم فيها بسهم‪ ،‬إنما هي الريح ‪ -‬ريح الصّبا ‪.-‬‬
‫وكان من زيادة ال تعالى وفضله عذابُ بني قريظة‪ ،‬وغنيمةُ المسلمين لرضهم وأموالهم‪ ،‬ففي‬
‫صحيح البخاري عن عائشة رضي ال عنها قالت‪" :‬لما رجع النبي صلى ال عليه وسلم من‬
‫الخندق ووضع السلح واغتسل‪ ،‬أتاه جبريل عليه السلم فقال‪ :‬قد وضعت السلح! وال ما‬
‫وضعناه‪ ،‬فاخرج إليهم‪ .‬قال‪(( :‬فإلى أين؟)) قال‪ :‬هاهنا‪ ،‬وأشار إلى قريظة‪ ،‬فخرج النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم إليهم"‪.‬‬

‫‪461‬‬
‫وفي رواية أخرى في غير الصحيح أنّ جبريل عليه السلم قال‪ :‬يا رسول ال انهض إلى بني‬
‫قريظة‪ .‬فقال (أي النبي صلى ال عليه وسلم)‪(( :‬إن في أصحابي جهدا))‪ .‬قال‪ :‬انهض إليهم‬
‫فلضعضعنهم‪ .‬قال‪ :‬فأدبر جبريل‪ ،‬ومن معه من الملئكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم‬
‫من النصار‪ .‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫ففتح ال عليهم بني قريظة‪ ،‬إذ لم يبق منهم رجل بالغ إل و ُقتِل‪ ،‬وس ِبيَت نسائهم‪ ،‬وغ ِنمَت‬
‫أَموالهم‪{ ،‬وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها}‪ ،‬قال أهل العلم في قوله تعالى‪:‬‬
‫{وأرضا لم تطئوها}‪" :‬أن هذه بُشرى لرسول ال صلى ال عليه وسلم ولصحابته بفتح أراض‬
‫أخرى غير بني قريظة‪ ،‬قال بعضهم هي خيبر‪ ،‬وقال بعضهم مكة‪ ،‬وقال آخرون‪ :‬فارس‬
‫والروم‪ ،‬وقال عكرمة‪ :‬هي كل أرض تفتح إلى يوم القيامة"‪.‬‬
‫نعم بالجهاد ورِث المسلمون كنوز الرض وملكوها؛ كنوزا َت ِعبَ عليها أصحابها حين جَمعوها‬
‫جنَانِ‬
‫وتعِبوا في جنْيها‪ ،‬وأضاعوا من أجلها الوقات والعمار والزمـان‪ ،‬وأرضا جعلوها من ِ‬
‫الرض‪ ،‬حدائقَ غنّاء‪ ،‬وأشجارا باسقةً عالية‪ ،‬وأرضا زاهيةً حيةً‪ ،‬كلّ هذا ورث ُه المسلمون عندما‬
‫كانوا أهل الجهاد وأصحابه‪ ،‬أما الن فيا حسرتاه على ما أصابَنا بسبب ترك الجهاد والرّكون‬
‫إلى الرض‪ :‬دفعنا الجزية‪ ،‬وورث الكفر أرضَنا وديارَنا‪.‬‬
‫في فلسطين‪ ،‬أرض من جنان الدّنيـا‪ ،‬بيّارات (بساتين) البرتقال والليمون‪ ،‬أخذَها إخوان ال ِقرَدة‬
‫سمْن والعسل‪،‬‬
‫والخنازير‪ ،‬و َورِثوها من أصحابها بسهولةٍ ويُسر‪ ،‬بلدُنا التي كانت تسمّى بلد ال ّ‬
‫هاهم أبناؤها يرتمون على أرصفة الذلّ والخزيِ في أوروبا بحثا عن لقمةِ الخبز‪ ،‬وخيراتُ‬
‫أرضِنا من معادنَ وبترول وذهب هاهو الكفر يتنعّم به كل نعيم‪ ،‬ويخوض فيه إلى أُذُنيه‪ ،‬والفقر‬
‫شرَفها من أجلِ قوتها‪ ،‬فيا ال ما أشدّ عذاب‬
‫يضرب بجذوره في ديارنا‪ ،‬عائلت تبيع عرْضها و َ‬
‫من ترك الجهادَ وأخلَدَ إلى الرض!‪.‬‬
‫أيها المسلمون ل بديل عن النار‪ ،‬ول بديل عن السّلح‪ ،‬ول بديل عن الدّم‪..‬‬
‫أيها المسلمون الجهاد‪ ..‬الجهاد‪ ..‬جهادٌ من أجلِ ديننا الذي ضيّعه المرتدّون‪ ،‬وتلعّبوا به وجعلوه‬
‫أهونَ موجود‪.‬‬
‫جهادٌ من أجلِ أعراضنا التي انتهكها الفقر والبؤس والجوع‪ ،‬وتلعّب بها الطّواغيت كحكايات‬
‫الليل‪.‬‬
‫جهاد من أجلِ صرخاتِ السارى والمعتقلين‪.‬‬

‫‪462‬‬
‫جهاد من أجل أرض السلم وديار السلم‪ ،‬الديار التي طهرت بدماء الصحابة والولياء‬
‫والصالحين فصارت مأوى الغربان والبوم وصهيل خيل مسيلمة‪.‬‬
‫لقد صمّت الذان بفحيح الفاعي ونعيق الغربان وصهيل خيل مسيلمة‪..‬‬
‫فمن يُسرج خيل الجهاد ؟‪.‬‬
‫ومتى يَطْرب الشّجر والحجر‪ ،‬ويتغنّى الوجود بنداء‪:‬‬
‫يا خيل ال اركبي؟‪.‬‬
‫موازين الرجال وحقائق الوجود‪:‬‬
‫تحت شمس الجهاد اللهبة ظهرت حقائق الوجود‪ ،‬والنسان من هذا الوجود‪ ،‬فتعرّى النسان‪،‬‬
‫وآب كل ص ْنفٍ إلى قسيمه‪ ،‬فعرف الناس أنفسهم‪ ،‬وعرف الناس إخوانهم وأعداءهم‪ ،‬ولم يكن‬
‫ليظهر هذا كله إل بسبب شمس الجهاد ونورها الكاشف‪.‬‬
‫غزوةُ الحزاب كما عرضها أشرف الكـلم وأعله ‪ -‬القرآن الكريم ‪ -‬كشَفَت الجزيرة‬
‫العربية‪ ،‬وكشَفَت مجتمع المدينة النبوية‪ ،‬فليس هناك من رطوبةٍ خبيثة مخبّأة‪ ،‬وليس هناك من‬
‫أماكن مظلمةٍ تضرب الغربان فيها بأجنحتها‪ ،‬و ُتغَمغِم البوم بنعيقها‪ ،‬وليس هناك مقادير للرجال‬
‫قد شغلها غيرُ أصحابها‪ ،‬ل‪ ،‬بل عدّلت غزوة الحزاب الموازين‪ ،‬موازين الرجال‪ ،‬وموازين‬
‫القوى‪.‬‬
‫أمّا موازين الرجال ففي قوله سبحانه وتعالى‪{ :‬من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا ال عليه‬
‫فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلً}‪ ،‬وفي قوله سبحانه وتعالى‪{ :‬ويستأذن‬
‫فريقٌ منهم النّبي ويقولون إنّ بيوتنا عورة}‪ ،‬وفي قوله‪{ :‬وإذ يقولُ المنافقون والذين في قلوبهم‬
‫مرضٌ ما وعَدَنا الُ ورسولهُ إلّ غرورا}‪.‬‬
‫موازين الرجال وحقائق الوجود‪ :‬سعد بن معاذ نموذجا‪:‬‬
‫فكان من القسم الول شهيدٌ ووفيّ‪ ،‬منهم سعد بن معاذ رضي ال عنه‪ ،‬وهو من سعود الخير‬
‫(سعد بن عبادة‪ ،‬سعد بن الربيع) من أنصار النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكان سيدا من سادات‬
‫خبَره في‬
‫الوس‪ ،‬رفعه ال فوق ما كان عليه من رفعةٍ في قومهِ‪ ،‬ورفع ال تعالى به السلم‪ ،‬و َ‬
‫غزوةِ الحزاب خبرٌ يملُ الجوانحَ إعجابا وحبّا‪ ،‬فيها الصورة المثلى لرجل التّوحيد والجهاد‪،‬‬
‫ففيها أصابه سهمٌ في أكحله من رمية رجلٍ مُشرك اسمه ابن العرقة‪ ،‬وقيل غير ذلك‪ ،‬ولما رماه‬
‫قال‪" :‬خذها وأنا ابن العرقة"‪ ،‬فقال سعد ‪" :‬عرّق ال وجهك في النّار"‪ ،‬فذُهِب به إلى داخل‬

‫‪463‬‬
‫المدينة ليمرّض‪ ،‬وكان من دعائه بعدما أصيب‪" :‬اللهم ل تمتني حتى تُ ِقرّ عينيّ في بني قريظة"‪،‬‬
‫وبنو قريظة هم من ثلثة قبائل يهوديةٍ في المدينة وهم‪:‬‬
‫بنو النّضير‪ ،‬ومن زعمائهم كعب بن الشرف‪.‬‬
‫بنو قينقاع‪ .‬وهؤلء قد سبق طردهم من المدينة بسبب نقضهم العهود والمواثيق التي أنشأها‬
‫معهم رسول ال صلى ال عليه وسلم عند قدومه إلى المدينة‪.‬‬
‫بنو قريظة‪ ،‬وكانوا حلفاء سعد بن معاذ ومواليه في الجاهليّة‪ ،‬وبعد انتهاء الغزوة وانصراف‬
‫الحزاب‪ ،‬فرغ رسول ال صلى ال عليه وسلم لهم بعدما حرّضه جبريل عليه السلم كما تقدم‪،‬‬
‫جهَدَهُم فيه الحصار جهدا شديدا‪ ،‬ففي صباح الخامس‬
‫وبعد حصارٍ دام خمسٍ وعشرين ليلةٍ‪َ ،‬‬
‫والعشرين‪ ،‬وبعد مداولت ومشاورات بين القرظيين‪ ،‬وبعد أن قذفَ ال في قلوبِهم الرّعب قبِلوا‬
‫أن ينـزلوا على حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فتواثب الوس‪ ،‬فقالوا‪" :‬يا رسول ال‬
‫موالينا دون الخزرج‪ ،‬وقد فعلتَ في موالي الخزرج بالمس ما قد علمت"‪ ،‬وقد كان الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم حاصر بني قينقاع‪ ،‬وكانوا حلفاء الخزرج‪ ،‬فسأله إياهم عبد ال بن أبي ابن‬
‫سلول فوجّههم له (أي أعتقهم)‪ ،‬فلما كّلمَه الوس قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬أل‬
‫ترضـون يا معشر الوس أن يحكم فيهم رجلٌ منكم))‪ ،‬قالوا‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪(( :‬فذاك إلى سعد بن‬
‫معاذ))‪ ،‬فأتاه قومه إلى الصّفّة التي كان يمرّضُ بها بجانب المسجد النبوي‪ ،‬فحملوه إلى الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم وجعلوا يقولون له‪" :‬يا أبا عمرو (أي سعد) أحسن في مواليك‪ ،‬فإنّ رسول‬
‫ال إنّما ولّك لتُحسن فيهم"‪ ،‬فلما أكثروا عليه قال‪" :‬قد آن لسعد أن ل تأخذه في ال لومة لئم"‪،‬‬
‫فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الشهل‪ ،‬فنعى لهم رجال بني قريظة قبل‬
‫أن يصل إليهم سعدٌ بن معاذ ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬عن كلمته التي سمع منه‪ ،‬فلمّا انتهى إلى‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم والمسلمين‪ ،‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬قوموا إلى‬
‫سيدكم))‪ ،‬فقاموا إليه‪ ،‬فقالوا يا أبا عمرو‪" :‬إنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قد ولّك مواليك‬
‫لتحكم فيهم"‪ ،‬فوقف سعد بين اليهود والمسلمين‪ ،‬فنظر إلى اليهود وقال‪" :‬عليكم بذلك عهد ال‬
‫وميثاقه أنّ الحكم فيما حكمت"‪ .‬قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬ثمّ قال وهو معرض عن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم إجللً له‪" :‬وعلى من ههنا"‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬نعم))‪ ،‬قال سعد‪:‬‬
‫"فإنّي أحكم فيهم بأن تقتّل الرّجال‪ ،‬وتقسّم الموال‪ ،‬وتسبى الذّراري والنّساء"‪ ،‬فقال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم لسعد‪(( :‬لقد حكمت فيهم بحكم ال من فوق سبع سماوات))‪ .‬ثمّ خرج‬

‫‪464‬‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى سوقِ المدينة‪ ،‬فخندق بها خنادق‪ ،‬ثمّ جيء بالقرظيين‪،‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‬
‫فض َربَ أعناقهم‪ ،‬وكان عددهم بين السبعمائ ٍة والثّمانمائة‪ ،‬وكان سيّاف النّب ّ‬
‫ي رضي ال عنهم جميعا‪ ،‬وقد كان الصّحابة رضي ال عنهم يفرّقون بين‬
‫الزّبير‪ ،‬وإن غاب فعل ّ‬
‫الرّجال وال طفال بظهور اللحية والشّارب‪ ،‬وإلّ بظهور العانة‪ ،‬فمن ظهر شاربه أو لحيتُه أو‬
‫عانَته فهو رجلٌ يُقتل‪ ،‬وإلّ فهو سبْي ومالٌ مغنوم‪ .‬أمّا سعد بن معاذ رضي ال عنه فقد دعا بعد‬
‫ب إليّ أن أقاتل أو أجاهد من قوم ك ّذبُوا رسولَك‪.‬‬
‫ذلك بقوله‪" :‬اللهمّ إنّك علمت أنّه لم يكن قومٌ أح ّ‬
‫اللهمّ إن كنتَ أبقيْت من حرب قريشٍ على رسولكَ شيئا فأبقني لها‪ ،‬وإن كنتَ قد قطعتَ الحربَ‬
‫بينه وبينهم فاقبضني إليك"‪ ،‬فانفجر جرحه حتى أنهاه‪ ،‬فرحل إلى ربّه راضيا مرضيّا‪.‬‬
‫إنّ هذه الشّخصيّة الصّحابيّة العظيمة تُظهر لنا أركان الصّورة المحبوبة ل تعالى‪{ :‬من المؤمنين‬
‫ل صَدَقُوا ما عاهدوا ال عليه فمِنهم من قضى نحبه}‪ ،‬وسع ٌد رضي ال عنه كان ممّن قضى‬
‫رجا ٌ‬
‫نحبه‪.‬‬
‫صورةٌ مشرقةٌ بعطائها وقتَ المِحن والخطوب‪ ،‬تأتي إلى الموت وهي ترتجز‪:‬‬
‫ل بأس بالموت إذا حان الجل‬ ‫لبث قليلً يشهد الهيجا حمـل‬
‫صورةٌ لرجلٍ ل تأخذهُ في ال لومةُ لئم‪ ،‬ل يعرفُ إلّ محبّة الِ ومحبّة رسوله صلى ال عليه‬
‫وسلم والمؤمنين‪ ،‬وشائجُ القربى بينه وبين النّاسِ مقطوعةٌ إلّ ما وصلها ال وأمر بوصلها‪ ،‬لم‬
‫ُيرِد رضي ال عنه أن يتشبّه برجلٍ منافقٍ‪ ،‬استغـلّ وجوده في الصّف المسلمِ لتمريرِ شبكةِ‬
‫علقاتٍ قائم ٍة على أصولٍ جاهليّةٍ فاسدة‪ ،‬أو يبني علقةً على حساب السل ِم والمسلمين‪ ،‬وفي‬
‫هذه الصورة المعروضةِ تظهر لنا أنّ الشّخصيّة الصّحابيّة قد بلغت من الرّقيّ ال ِفكْري والنّفسيّ‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫إلى درجةِ ما يحبّ ال تعالى وما يرضيه قبل أن تسمع الخبر اللهيّ‪ ،‬فالنّب ّ‬
‫وسلم شهد لحُكمِه أنّه هو حكم ال تعالى‪ ،‬وقد كان رضي ال عنه في منطقةِ الختيار الجائز‬
‫للطّرفين‪ ،‬ولكنّه لمّا وصل إلى درجة ال ُقرْب من عبوديّته لسيّده ‪-‬جلّ في عله‪ -‬صار يع ِرفُ ما‬
‫يريدُه سيّده‪ ،‬وما هذا إلّ بسبب الطّاعات وكثرة القرب كما قال ال تعالى‪{ :‬والذين جاهدوا فينا‬
‫لنهدينّهم سبلنا}‪ ،‬وكما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم في الحديث القدسيّ‪(( :‬وما يزال‬
‫عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه‪ ،‬فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي‬
‫يُبصر به‪ ،‬ويده التي يَبطش بها‪ ،‬ور جلَه التي يمشي بها‪ ،‬ولئن سألني لعطينّه‪ ،‬ولئن استعاذني‬
‫لعيذنّه))‪ ،‬ثمّ انظر إلى دعائه الخير‪ ،‬والذي يكشِف فيه سبب رغ َبتِه في زيادَة العُمر إن كانت‬

‫‪465‬‬
‫ثمّ فائدة‪ ،‬وما هي هذه العلة التي من أجلها يطلب طولَ العُمر‪ :‬إنّها مقاتلة المشركين‪" :‬اللهم إن‬
‫كنت أبقيتَ من حربِ قريشٍ شيئا فأبقني لها"‪ .‬إنّ الحياة ليست بطول السّنين ول بكثرة اليّام‪،‬‬
‫ن الفراش‪ ،‬ولكن إن كان ثمّة رغبة في الحياة فهي بسبب الجهاد‪،‬‬
‫وليس جمالها برغَد الطّعام ولي ِ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فهنـاك قولٌ لعمرَ بن الخطّاب رضي‬
‫وهذه نفسيّة أغلب أصحاب النّب ّ‬
‫ال عنه شبيه بقول سعد‪ ،‬وكـذا لخالد بن الوليد‪ ،‬ولبي بكر رضي ال عنهم جميعا‪ ،‬وكلّها‬
‫تشهَدُ أنّ الجهاد صار هاجس النّفـس‪ ،‬ومنتهى الطّلب‪ ،‬وغاية ال ُمنَى‪ ،‬وإن كان ال تعالى قد‬
‫كتب الجهاد وهو كُرهٌ للبشر كما قال في كتابه ‪ -‬جلّ في عله ‪ُ { :-‬ك ِتبَ عليكُمُ القِتال وهو كره‬
‫ش َهوَاتِها حتّى صار الجهاد شهوتها‬
‫ن تلك النّفوس ما زالت تترقّى وتتعالى على َ‬
‫لكم}‪ ،‬فإ ّ‬
‫ورغبتها‪:‬‬
‫يبارك على أوصال شلوٍ ممزّع‬ ‫وذاك في ذات الله وإن يشأ‬
‫إنّ هناك فارقا كبيرا بين جيل كان يطلب الذن للقتال‪ ،‬وإذا سمع شرّا با َدرَ بمعالجته بالسّيف‪:‬‬
‫ل يلتمسُ المعاذيرَ والحُجَج الهزيلة لسقاط الجهاد أو تعويقه أو تأجيله‪.‬‬
‫"أفل ننابذهم؟"‪ ،‬وبين جي ٍ‬
‫شتّان بين هذين الجيلين؟‪.‬‬
‫لقد كان لحكم سعدٍ بن معاذ رضي ال عنه ‪ -‬هذا الحكم الرائع ‪ -‬على بني قريظةَ موجباتٌ‬
‫ومقدّمات عقليّة ونفسيّة‪ ،‬وهذه العقليّة والنفسيّة قد شكّلها مبدأ الجهاد أوّلً‪ ،‬ثم مسيرةُ الجهادِ ثانيا‪،‬‬
‫وخاصّة حدثُ الحزاب‪ ،‬إنّه ل يُمكن أن يَصدُر هذا الحكم بل مقدّمات موضوعيةٍ حقيقيةٍ‪:‬‬
‫ج وصلتٌ هي من أقوى الصلت بين الناس يومَ ذاك‪ ،‬ومن أجلها‬
‫رجلٌ بينه وبين قومٍ وشائ ٌ‬
‫يبذلون الرواح والموال والطّاقات‪ ،‬فالحليف كان ينصر حليفه حتى لو أدت هذه النّصرة إلى‬
‫المهالك‪ ،‬ثمّ هذه الوشائجُ والصّلت بإنشاء الحلف لم تكن تنشأ من فراغٍ نفسي‪ ،‬بل من وجود‬
‫ف يص ِدرُ‬
‫ظ ْر ٍ‬
‫محبّةٍ وعلقةٍ خاصّة بين المتحالفين‪ ،‬وها هنا الوس وبني قريظة‪ ،‬ثمّ وفي َ‬
‫الحليف حكم الموت على حليفه‪" :‬حكمي فيهم بأن تقتل الرجال‪ ،‬وتقسّم الموال‪ ،‬وتسبى الذراري‬
‫والنساء"‪ ،‬وهذا الحكم ليس موجبه الخلف القبلي ودليل ذلك أن الوس جعلوا يطوفون به‬
‫يرجونه بأن يُعتقهم ويطلق سراحهم‪ ،‬فما هي هذه الموجِبات التي جَعلته ينطق هذا الحكم الرائع‬
‫العادل؟‪.‬‬
‫قلنا إنّ هذه الموجبات منشؤها الجهاد‪ ،‬وحركة الجهاد ومسيرة الجهاد‪ .‬فالجهاد بصفته مبدأً‬
‫وعقيدةً أنشأ في نفس المسلم الصّحابيّ بغضا للكفر وأهله‪ ،‬إذ أنّ المرءَ ل يندفع بقوّة كافية للقَتل‬

‫‪466‬‬
‫والقِتال إلّ بعد أن تمتلئ نفسه بالبغض والكره لخصمه‪ ،‬وقد بغّض القرآن الكريم الكفر‬
‫والكافرين لتباعه ورجاله‪ ،‬ودفعهم بكلّ ترغيبٍ إلى مصا َدرَة حياة الخصوم‪{ ..‬أل تقاتلون قوما‬
‫نكثوا أيمانهم}‪{ ..‬قاتلوهم يعذّبهمُ ال بأيديكم}‪{ ..‬فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}‪{ ..‬واقعدوا‬
‫لهم كل مرصد}‪ ،‬ولول مبدأ الجهاد وعقيدة الجهاد لما أمكن أن تصل النّفس المسلمةُ إلى درجة‬
‫البراءة المطلوبة ضدّ المشركين‪ ،‬فمبدأ البراء من المشركين يعبّأُ ثمّ ينفّذ من خلل الجهاد في‬
‫سبيـل ال‪ ..‬ثمّ بسبب الجهاد اكتشف الرجل النّقِيّ الطّاهر الوفيّ خبث الشّريك والحَليف‪ ،‬وأنه‬
‫س اليهودية أن تَظ َهرَ على حقيقتها إل بهذا الظّرف‬
‫ل يستحقّ حِلفه لنّه خائنٌ‪ ،‬وما كان للنّف ِ‬
‫المُلتهب وهو غزوة الحزاب‪ ،‬إذ أنّ الفتنة تكشف الصادق في كلماته‪ ،‬والكاذبَ في دعواه‪ ،‬فكان‬
‫الجهادُ في غزوةِ الحزاب كاشفا للحقائقِ النّفْسيةِ لهذا الحليف الخبيث‪ ،‬وكم هي مؤلمةٌ أن‬
‫يكتشفَ الطّاهر الصّادِقُ كَذِب وتزييف المدّعي!! إنّها لمؤلمة حقا أن يكتشف سعدٌ بن معاذ أنّ‬
‫حلفائه كذَبةٌ َفجَرة ين ُقضُون العهودَ والمواثيق بل حساب أو وَخْزةِ ضمير‪ ،‬وعلى هذا فسيكون‬
‫عقاب هذا الرجل شديدا على من خَدَعَهُ‪ .‬وهكذا كان حكم سعد بن معاذ رضي ال عنه‪ .‬إنّ‬
‫الجهاد بصفته مبدأً وعقيدةً أنشأ عقيدةَ البراءِ من المشركين‪ ،‬وبالتالي دفع الصحابة لقتل أعداء‬
‫ث العدوّ‪ ،‬وبالتّالي ذ َه َبتْ كلّ‬
‫ال‪ ،‬وإنّ الجهاد بصفته حركةً وسلوكا كشَف للصحابة مِقدار خب ِ‬
‫أعذار المعوّقين بأن هناك مجالً طيّبا في نفوس أعداء ال يمكن أن تستغل في الدّعوة إلى ال‪.‬‬
‫ولقد رأيت لبعض المعتوهين ممّن ينتسبون للفكر السلمي!! معالجةً غريبة لحكم سعد رضي‬
‫ال عنه‪ ،‬حيث ذهب هذا المعتوه إلى القول‪" :‬إن النبي صلى ال عليه وسلم لم يحكم على اليهود‬
‫هذا الحكم لنّه يناقض مبدأ الـرّحمة والحسان الذي بُعث به‪ ،‬ولذلك ترك الحكم لسعد بن معاذ‪،‬‬
‫حكْما لسعد ل لرسول ال صلى ال عليه وسلم"!!‪ ،‬ولكن أين ذهب هـذا المعتوه من قول‬
‫ليكون ُ‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم لحكم سعد‪(( :‬لقد حكمت فيهم بحكم ال فوق سبعة أرقعة))‪.‬‬
‫مات سعد‪..‬‬
‫فما الذي حدث عند موته؟ وماذا حدث في جنازته؟‪.‬‬
‫عندما مات اهتزّ له عرشُ الرحمن حزنا عليه أن ل تصعد إليه العمال الصالحة من سعد‪..‬‬
‫واهتز له فرحا بقدوم الروح واستقرارها معلقة بالقناديل الخضر المعلقة فيه‪..‬‬
‫أما في جنازته فقد مشى رسول ال صلى ال عليه وسلم على رؤوس أصابعه لكثرة ما كان من‬
‫الملئكة في المشيّعين!‪.‬‬

‫‪467‬‬
‫فهكذا رجال الجهاد يحيون‪ ،‬وهكذا يموتون‪..‬‬
‫غزوة الحزاب وموازين القوى في الجزيرة العربية‬
‫في غزوة الحزاب تغيّرت موازين القوى في الجزيرة العربيّة‪ ،‬لنّ روح الجهاد وحركة الجهاد‬
‫سرَت روحُ الجهاد وحركته‪ ،‬في قومٍ أذلّء‬
‫تُعيد ترتيب الوضـاع حسب مفهومٍ إيمانيّ‪ ،‬فإذا َ‬
‫محتقرين‪ ،‬فبالجهاد تنقلب الذّلة إلى عزّة‪ ،‬والحتقار إلى احترام وتقدير‪ ،‬ول يمكن وجود أمّة من‬
‫ل وروح الجهاد تسري في جميع أوصالها‪.‬‬
‫المم فيها النّجاح والعزّة إ ّ‬
‫والن كيف غيّرت غزوة الحزاب موازين القوى في الجزيرة العربيّة؟‪.‬‬
‫الشوكة من النكاية إلى التمكين‪:‬‬
‫ابتداءً علينا أن نعلم أنّ النّصر الكبير الضّخم مجموعة من سلسلة انتصارات صغيرة‪ ،‬ول يمكن‬
‫أن يقع شيء في مجال النّصر والهزيمة بصورة طفرةً مفاجئة تباغت المنتصر أو المهزوم‪ ،‬إذ‬
‫الطّفرة التي ل مقدّمة لها ل وجود لها إلّ في عقول مشايخنا وقادتنا فقط‪ ،‬فإنّهم يحملون في كلّ‬
‫ما يقولون ويرتّبون لضربة يحضّر لها تحضيرا تامّا وكاملً‪ ،‬بعيدا عن أعين الخصوم وبهذه‬
‫الضّربة المفاجئة المباغتة نقضي فيها على الخصوم‪ ،‬وبها نتجنّب الكثير من الدّماء التي تراق‪،‬‬
‫والرواح التي تزهق‪ ،‬ومشايخنا يدندنون على هذه الفكرة كثيرا‪ ،‬وعلى ضوئها يتراجعون عن‬
‫الصّراع تحت شعارات التّربية والعداد‪ ،‬وهذه الفكرة تجد صدىً وقبولً في النّفوس‪ ،‬لنّها‬
‫جميلة جدّا‪ ،‬ورائعة جدا‪ ،‬وورديّة جدّا‪ ،‬وهي مع ذلك كلّه هشّة جدا جدا‪ ،‬أمّا أنّها جميلة وورديّة‪،‬‬
‫فكيف ل تكون كذلك وهي تقدّم للسلميين النّصر والعزّة والسّؤدد على طبق من ورد ؟ ثمّ‬
‫كيف ل تكون ورديّة وهي من صنع أوهام الحالمين‪ ،‬والحلم عندما يختلط في ذهن المرء مع‬
‫الحقيقة فإنّه ل يناقش مناقشة العقلء‪ ،‬والذكياء‪.‬‬
‫إنّنا نحلم بترتيب رفيعٍ جدّا لشوكةِ التّمكين دون المرور بشوْكة النّكاية‪ ،‬وهي الشّوكة التي يقع‬
‫فيها‪{ :‬إن تكونوا تألمون فإنّهم يألمون كما تألمون}‪ ،‬ويقع فيها‪{ :‬يقاتلون في سبيل ال فيَقتُلون‬
‫ويقتَلون}‪ ،‬وهذا مع عدم إمكانيّة حدوثه فإنّه يفرز ول شكّ فِقها أعوجا‪ ،‬وأحكاما فاسدة‪ ،‬وما هذا‬
‫الفقه الذي نسمعه من مشايخنا من جواز التّعدّديّة السّياسيّة‪ ،‬وجواز التّداول على السّلطة‪ ،‬وعدم‬
‫جواز الجهاد الهجومي‪ ،‬وجواز تولّي الكفّار المناصب السّياسيّة والعسكريّة والقضائيّة في الدّولة‬
‫السلميّة إلّ بسبب هذا الحلم الفاسد الناشئ عن تُخمةٍ مردّها خلط الفكار غير المتجـانسة‪،‬‬
‫وتفسير هذا‪ :‬أنّ واقعنا بسبب عوامِل البناء الشّيطانيّ فيه قد امتلت جوانبه بالشّرور‪ ،‬وأصابت‬

‫‪468‬‬
‫المل السلمي بالحباط‪ ،‬فحين يأتي الشّيخ ليعالج هذا الواقع بهذه التّركيبة بأحكام فقهيّة‪ ،‬فإنّ‬
‫هذه المعالجة وعلى ضوء هذا الواقع ستجعله يتنازل عن كثير من (تشديدات السّلف كما‬
‫يسمّيها)‪ ،‬إلى ميوعات الخلف (اعتدالهم كما يسميها)‪ ،‬وهذا لنّه تمّ له التّمكين دون تحضير‬
‫أرضية التّمكين بما يناسبها‪ ،‬وهذا التّحضير ل يقع إلّ من خلل شوكة النّكاية‪ ،‬لنّنا حين نصل‬
‫إلى التّمكين مرورا بالنّكاية‪ ،‬نكون بفضل ال تعالى قد نظّفنا الطّريق من كلّ أوساخها‬
‫وقاذوراتها‪( ،‬ليس كلّ الوساخ والقاذورات‪ ،‬بل رؤوسها إن شاء ال تعالى) بشوكة النّكاية‬
‫المتكرّرة‪ ،‬يترقّى الحقّ في نفوسنا ويتجذّر‪ ،‬وتذهب زهومة الفكار الفاسدة‪ ،‬ويتجذّر بُغضُنا‬
‫للباطل وبُغضُ الباطل لنا‪ ،‬وبشوكة النّكاية نقطف الرّؤوس التي حان قطافها‪ ،‬فلسنا على استعداد‬
‫(بتاتا) لنقاش سفسطائي تفوح منه رائحة الهوى والشّرك‪ ،‬ولسنا على استعداد (أبدا) لحوار يبتسم‬
‫خصومنا لنا فيه فنظنّ فيهم خيرا‪ ،‬فيدفعنا هذا الظّنّ إلى تقسيماتٍ ما أنزل ال بها من سلطان‪،‬‬
‫ولسنا على استعداد (ونحن نمارس شوكة النّكاية) إلى التّحالفات الشّركيّة الباطلة‪ .‬خلل شوكة‬
‫النكاية يتّخذ ال منّا شهداء‪ ،‬فترتفع أرصدة الجماعة المجاهدة في خانة الصّدق وحبّ ال‪ ،‬وحبّ‬
‫الرّسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والبراءة من المشركين‪.‬‬
‫خلل شوكة النّكاية نتعلّم كيف ل نخاف من الدّم‪ ،‬وكيف نُتقن الذّبح‪ ،‬وكيف نُتقِن اقتحام‬
‫الحصون المنيعة‪.‬‬
‫من خلل شوكة النّكاية نتعلّم الصّبر على فقدان الحباب‪ ،‬ونتربّى على بذل الرواح في سبيل‬
‫هذا الدّين‪.‬‬
‫ومن خلل شوكة النّكاية نتصفّى ونتربّى‪ ،‬ومن خللها نجهّز لمن بقي منّا حقائبَ الدّخول على‬
‫الوزارات!!‪ ،‬فإذا وصلنا إلى التّمكين من خلل شوكة النّكاية لن نضطرّ إلى إعلن الحرب على‬
‫جيراننا‪ ،‬لنّنا سنكون في حالة حربٍ حقيقيّةٍ ل قيمة فيها للعلن‪.‬‬
‫إذا وصلنا إلى التّمكين من خلل شوكة النّكاية لن نكون مضطرّين إلى احترام آراء التّعدّديّة‬
‫السّياسية ول الحزاب الخرى لنّه ل وجود لها‪ ،‬لقد واريناها التّراب قبل قليل‪ ،‬أو رميناها في‬
‫قليب بدر‪.‬‬
‫وإذا وصلنا إلى التّمكين من خلل شوكة النّكاية المتكرّرة لن يكون قائدنا جبانا ول خائنا ول‬
‫عميلً‪ ،‬لنّ القائد الجبان والخائن والعميل هو التي لنا من الظّلم‪ ،‬لم نَخبُره ولم يَخبُرنا‪ ،‬أي‬
‫أتانا من وراء مكتب وثيرٍ ل من وهج المعركة‪.‬‬

‫‪469‬‬
‫والوصول إلى التّمكين من خلل شوكة النّكاية المتكرّرة لن يجعل همّنا إرضا َء النّاس بتأمين‬
‫السّكن والخبز والعمل لهم‪ ،‬ولسنا محتاجين إلى أخذ رضاهم فيمن يحكم أو بما يحكم ؟‪،‬‬
‫سيحكمهم أميرنا شاءوا أم أبَوا‪ ،‬وسنحكمهم بالسلم ومن رفع رأسه قطعناه‪ ،‬لنّ التّمكين وصل‬
‫إلينا بفضل ال وحده‪ ،‬فليس لنا أن نهتمّ إل برضـاه وحده‪ ،‬نفعل ما يأمُر وإن غضب النّاس‪،‬‬
‫ع ِريّ‪ ،‬وأطعمنا‬
‫وننتهي عمّا نهى‪ ،‬وإلهنا هو إلهنا وحبيبنا‪ ،‬نصرنا وحده من ضعف‪ ،‬وآوانا من ُ‬
‫من فقر‪ ،‬أخذنا سلحنا من يد عدوّنا‪ ،‬لم نعقد الصّفقات مع الشّرق والغرب مقابل تنازلت‬
‫مبدئية‪ ،‬ولم نصل إلى التّمكين بقرار في بيت أبيض أو أسود‪ ،‬بل بعبوديّتنا ل وحده‪ ،‬وببراءتنا‬
‫من كلّ طواغيت الرض‪.‬‬
‫الحزاب وانكسار شوكة قريش ( تحول الصراع )‪:‬‬
‫عودة إلى غزوة الحزاب‪ :‬لقد كان لقريش مكانة خاصّة في الجزيرة العربيّة‪ ،‬وكانت العربُ‬
‫ترقب نتيج َة الصّراع بين النّبيّ صلى ال عليه وسلم وقريش‪ ،‬وذلك كما روى البخاريّ عن‬
‫عمرو ابن سلمة رضي ال عنه أنّه قال‪" :‬وكانت العرب تلوم (أي تتحيّن وتتربّص) بإسلمهم‬
‫الفتح (أي فتح مكّة)‪ ،‬فيقولون اتركوه وقومه فإن ظهر عليهم (أي انتصر) فهو نبيّ صادق"‪ ،‬بل‬
‫إنّ بعض العرب جعل لسلمه موعدا‪ ،‬كما قال ذو الجوشن الضّبابيّ لرسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم بعدما دعاه إلى السلم‪ ،‬فوقّت ذو جوشن موعدا لسلمه وهو هزيمة قريش حيث قال‪:‬‬
‫"إن تغلب على الكعبة وتقطنها" [انظر مجمع الزوائد ‪ .]6/162‬وعلى هذا فلو رأينا معارك النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم مع قريش لرأيناه سجالً وذلك كما وصفها أبو سفيان قبل إسلمه لهرقل‪:‬‬
‫"يغلبنا يوما ونغلبه يوما"‪ ،‬وقبل الحزاب كانت بدر الكبرى التي سمّـاها ال تعالى {يوم‬
‫ي الغزوات‬
‫الفرقان}‪ ،‬بالرّغم من أنّها لم تكن حربا عالميّةً‪ ،‬وليست تعدل بحجمها العسكر ّ‬
‫السلميّةَ الكبرى كاليرموك والقادسيّة وغيرهما‪ ،‬وهي كذلك معركة لم تقض على قريش قضاء‬
‫مبرما‪ ،‬بل خرجت قريش بعدها بسنة لغزوة أحد‪ ،‬وتمّ لهم الغلبة العسكريّة في أحد‪ ،‬ولكن عظمة‬
‫هذه الغزوة التي سمّاها ال فرقانا وهي التي لم تحضّر لها قريش طويلً‪ ،‬ولم يخرج رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم من أجلها‪ ،‬بل تمّت من غير ميعاد‪ ،‬لنّ بها قد وضع حجر الساس للفتح‬
‫الكبر‪ ،‬فهي لبنة من لبنات بناء النّصر‪ ،‬وهكذا فكلّ معركة تلتها كانت تصبّ في خانة الفتح‬
‫الكبر "فتح مكّة" وكان فتح مكّة لبنة ومحطّة للخروج من الجزيرة‪ ،‬وهكذا‪ ،..‬وبعد بدر كانت‬
‫أحد‪ ،‬وما تمّ فيها من استشهاد سبعين صحابيّا‪ ،‬وخسران الجماعة المسلمة بعض قياداتها‪ ،‬وهكذا‬

‫‪470‬‬
‫توالى السجال‪ ،‬بئر معـونة وما حصل فيها من البلء الشّديد في السّنة الرّابعة للهجرة‪ ،‬حيث‬
‫قُتل نفر من خيرة المدرّسين والمعلّمين والفقهاء رضي ال عنهم‪ ،‬فالحرب تأخذُ وتُعطي‪ ،‬نصرٌ‬
‫وابتلء‪ ،‬حتّى وصلت ال ّذرْوة في هذا السّجال إلى غزوة الحزاب‪ ،‬حيث قرّرت قريش أن‬
‫تضرب ضربتها النّهائيّة‪ ،‬وتُنهي سلسلة الصّراع لصالحها‪ .‬ولو أردنا أن نوازن بين البلء على‬
‫قريش والبل ِء على الصّحابة والمسلمين في مجموع الصّراع لظهر أنّ البلء كان أشدّ وأعظمَ‬
‫على المسلمين‪ ،‬إذ كانت قريش تتعامل مع محيطٍ في الجملة معها سوى بعضِ القبائل الكارهة‬
‫طيّبة محاصرة من اليهود ومن العراب ومن قريش‪ ،‬وفي الدّاخل‬
‫لها كخزاعة‪ ،‬ولكنّ المدينة ال ّ‬
‫من المنافقين‪ ،‬فالمعوّقات على الصّفّ المسلم وفي داخله كانت أشدّ وأعظم من وجوده في عسكر‬
‫قريش‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم كما قلنا كانت العرب ترقبه وتنتظر نتيجته‪،‬‬
‫هذا الصّراع بين قريش والنّب ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم يحاول جاهدا أن يحيّد قريش في صراعه مع الشّرك في‬
‫وقد كان النّب ّ‬
‫الجزيرة العربيّة‪ ،‬لنّها ليست بالكتلة الهيّنة‪ ،‬ول المعادِلة له في الصّراع وظهر هذا في قوله كما‬
‫روى البخاري‪(( :‬إنّ قريشا نهكتهم الحرب وأضرّت بهم‪ ،‬فإن شاءوا ماددتهم مُدّة ويخلّوا بيني‬
‫وبين الناس‪ ،‬فإن أظهرُ فإن شاءوا أن يدخلوا في ما دخل فيه الناس فعلوا‪ ،‬وإل فقد جمّوا (أي‬
‫استراحوا) وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لقاتلنّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي‪ ،‬ولينفذنّ‬
‫ال أمره)) وهذا قاله عندما توجه إلى مكّة للعمرة ونزوله في الحديبية صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫ولكن يأبى ال تعالى إل أن ينصر دينه وذلك بتصعيد الصّراع بين قريش وبين النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فكانت قريش تضع نفسها في كل مرة أمام مدّ السلم‪ ،‬فتَغلِب وتُغلَب‪ ،‬حتى جاءت‬
‫غزوة الحزاب وهي الوعد اللهي المبشّر كما سمّاها الصحاب الكرام رضي ال عنهم وحدَث‬
‫ما حدَث من نزول الملئكة وإرسال الصّبا‪.‬‬
‫بعد غزوة الحزاب قال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬الن نغزوهم ول يغزونا‪ ،‬نحن نسير إليهم))‪،‬‬
‫بعدما انقلبت الموازين‪ ،‬وقد قدّر صلى ال عليه وسلم بما آتاه ال من الهـدى والرّشد أنّ قريشا‬
‫استجمعت كلّ قوّتها في غزوة الحزاب‪ ،‬ولم يبْق في جعبتها سهما إل ورمته‪ ،‬ول سيفا إل‬
‫وض َربَته‪ ،‬فلم َيبْق لها شيءٌ من القوى ما يمكن أن يجعلها تقوم بمعارك جديدة خارج أرضها‬
‫لذلك قال صلى ال عليه وسلم قولته وهو سائر للعمرة كما تقدم‪(( :‬إن قريشا نهكتهم الحرب‬
‫وأضرّت بهم)) وقد رأينا بعد غزوة الحزاب أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لم يقم بغزو‬

‫‪471‬‬
‫قريش‪ ،‬بل خرج إلى مكة معتمرا ل يريد حربا‪ ،‬بل كما روى البخاري‪(( :‬إنا لم نجىء لقتالِ‬
‫أحدٍ‪ ،‬ولكن جئنا معتمرين))‪ ،‬وسبب هذا المر هو أنّ النبي صلى ال عليه وسلم أراد أن يُحرجَ‬
‫قريشا أمام العرب‪ ،‬حتّى يُفقدها شرعيّتها في حماية البيت الحرام‪ ،‬وهذا أمر ضـروري لنه‬
‫مقدّمة ضروريّة لضعاف حلفِ قريش وتفتيته‪ ،‬ثمّ لعطاء المبرر لدى القبائل المنتظرة بأن‬
‫قريشا ليست بالذي يحقّ له أن يكون حاميا للبيت‪ ،‬فإن العرب لم تكن لتتصور أن يُمنَع قومٌ ‪-‬‬
‫أي قومٍ ‪ -‬من القدوم إلى بيت ال الحرام‪ ،‬فكيف إذا كان القوم هم المسلمون‪ ،‬حيث أحرموا‬
‫ع ِريَت أمام العرب بتصرّفها القَبيح‪،‬‬
‫وساقوا الهدي‪ ،‬وبهذا سقطت هيبةُ قريشٍ الدّينيّة‪ ،‬إذ أنها َ‬
‫حيثُ مَنعت رسول ال صلى ال عليه وسلم من العمرة‪ .‬وبمرورنا السريع على هذا الصّراع ‪-‬‬
‫ن الصّراع كان خاضعا للسّنن اللهيّة‪ ،‬ولم يتجاوزها في أيّ مرحلة‬
‫دراسة وبحثا ‪ -‬يظهر لنا أ ّ‬
‫من المراحل‪ ،‬صراعٌ سننيّ ل طَفرة فيه ول مفاجأة‪ ،‬ول يوجد فيه تلك الخَبطات الحالِمة‬
‫بالضّرب المفاجئ للخصم‪ ،‬حيث نصل إلى سيادة بلدٍ مهما صغر من خلل إعداد س ّريّ شديدٍ‬
‫(ودرجة السرّية تصل إلى عدم العمل‪ ،‬لنّ قمّة السّرية المطلقة تعني بكلّ جلء أن ل تعمل)‪،‬‬
‫وكأنّنا مع هذا النّوع من التّفكير نتعامل مع قومٍ من أهلِ القمر‪ ،‬يعِدّون أنفسهم هناك فوق مستوى‬
‫مراقبةِ القما ِر الصناعيّة وبعيدا عن ضربات الخصوم وهجماتهم!!!!‪.‬‬
‫ل وضوحٍ‬
‫معركتُنا مع المرتدّين هي معركةٌ قد فرغنا من أصولها الشّرعيّة‪ ،‬حيث تبيّن لنا بك ّ‬
‫حكْمَ ال تعالى في الحكّام وطوائفهم‪ ،‬وأمّا من بقي من النّاس يرتكس في جهله لعدم فهم التّوحيد‪،‬‬
‫ُ‬
‫أو لعدم عِلمه بنواقضه‪ ،‬فل نملك له إلّ الدّعاء‪ ،‬أمّا من فهم حكم ال في هؤلء أنّهم كفّار‬
‫مرتدّون‪ ،‬وأنّه يجب قتالهم فقد خرج من دائرة الجهل إذا تمّ هذا‪ ،‬فعلى الجميع حينئذٍ أن يُريحنا‬
‫من آرائه الرّائعة الورديّة‪ ،‬إنّ الدّور الن بعد الفراغ من معرفةِ حُكم ال تعالى فيه أن نسمع‬
‫لخبراء ومستشارين وقادة من نوع جديد‪ ،‬قطعا ليسوا هم خرّيجي الجامعات الشّرعيّة‪ ،‬والذين‬
‫دَفعَتهم علماتهم الضّعيفة مكرهين لدراسة الشّريعة والفِقه‪ ،‬وقطعا ليسوا هم المفكّرين الذين‬
‫يريدون أن يُجبرونا أن نعترف أنّهم مجدّدون لعصرهم‪ ،‬مع أنّهم ل يملكون إلّ الجهل والغباء‪،‬‬
‫قَطْعا ويقينا ليسوا هؤلء ممّن ابتُلينا بهم في العمل السلمي‪ ،‬إنّما هم أهل الخبرة والمعرفة في‬
‫العسكريّة والقتال والحرب‪:‬‬
‫مرّت فتراتٌ متقطّعة من أعمال الجهاد واقعة يتقمّصها غير أصحابها‪ ،‬ويتاجرُ بها غيرُ أبنائها‪،‬‬
‫وسبب ذلك عائدٌ إلى عواملَ منها‪ :‬رضا الجماهير المسلمة عن هذا الجهاد‪ ،‬ومن أجل الرّفعة‬

‫‪472‬‬
‫والظّهور على أكتاف المجاهدين‪ ،‬فتسارع هذه التّنظيمات الطّفيليّة إلى تقمّص دور البطولة‪،‬‬
‫وإظهار نفسها في موقع الرّيادة في هذا الجهاد‪ ،‬فترتفع الرصدة العلميّة‪ ،‬وبالتّالي ترتفع‬
‫الرصدة الماليّة‪ ،‬وحينئ ٍذ يصبح الجهاد في مأزق حقيقيّ‪ ،‬حيث يضرب المجاهدون ضربا شرسا‬
‫وذلك ليصبحوا تحت وطأة هؤلء اللصوص وقطّاع الطّريق إلى ال تعالى‪ ،‬فتظهر المراض‬
‫ي والمموّل الخبيث‬
‫العجيبة‪ ،‬وتتكشّف النّفوس الخبيثة‪ ،‬ويقع الفِصام النّكد بين المجاهد الحقيق ّ‬
‫(لص بغداد)‪ ،‬وأمثلة هذا كثيرة الوقوع وعديدة فمِن أفغانستان إلى فلسطين إلى البوسنة‬
‫والهرسك إلى سوريا‪ ..‬إلى‪ ..‬إلى‪ ،..‬ومن هذه العوامل كذلك‪ :‬إرضاء القواعد التّحتيّة المتململة‪،‬‬
‫فالنسان المسلم الفطري السويّ تتوق نفسه فطريّا إلى الجهاد‪ ،‬وإلى المشاركة في مواطن‬
‫العبوديّة ل ضدّ الكفر بجميع صنوفه وأشكاله‪ ،‬فمن أجل تفريغ هذا المِرجل من بخاره الغاضب‪،‬‬
‫فل بدّ من بعض المنفّسات للتّفريغ الذّكيّ الخبيث‪ ،‬فتسارع الجماعة إلى تبنّي أعمال جهاديّة‬
‫لتقنع القيادة قواعدها أنّها لم تغيّر الطّريق‪ ،‬أو لتعريف قواعِدها أنّ هناك فرقا بين ما هو معلن‬
‫من أجل الغطاء السّياسي‪ ،‬وبين ما هو مخفيّ حقيقيّ‪.‬‬
‫الجهاد السلفي بين السني والبدعي‬
‫هناك جماعاتٌ طفيليّة ووصوليّة في هذا الباب معروفة لدى القاصي والدّاني‪ ،‬وهي تملك في‬
‫خطابها نوعين من المضمون‪ ،‬نوع يتعاملُ مع الفكار والمفاهيم بكثير من الشّرعيّة والصوليّة‪،‬‬
‫ونوع يتعامل مع الواقع بكثير من الميكافيليّة والثعلبية‪.‬‬
‫ل ولكنّها ل تفتأ بل ل تتوانى في تأييد‬
‫فجماعةٌ ترى عدم شرعيّة النتخـابات الشّركيّة مث ً‬
‫جماعات العمل البرلمانيّ‪ ،‬خاصّة إذا أخذت هذه الجماعات خطوات متقدّمة في الحضور‬
‫العلميّ‪ ،‬والوجود الجماهيريّ الشّعبيّ‪.‬‬
‫هذه نقطة على الجماعات السّلفيّة المجاهدة أن تحسمها منذ البداية‪ ،‬عليها أن تحسمها وجودا‬
‫وكونا وذلك بقطع اليدي والرجل التي تحاول التّسلّق طفيليّا على أسوار الجهاد السّلفيّ‬
‫الواضح‪ ،‬وعليها أن تحسمه فكريّا وذلك ببيان الفـوارق الشّرعيّة بين هذه الجماعات الطّفيليّة‬
‫وبين المجاهدين الموحّدين‪.‬‬
‫ي الواضح هناك قضايا ل يمكن أن يتحمّلها الطّفيليّ الوصوليّ‪ ،‬وإنّه وإن‬
‫نعم في الجهاد السّلف ّ‬
‫حاول اللتفاف الخبيث حينا من الدّهر‪ ،‬فإنّه ل يستطيع أن يواصل بالشّوط إلى نهايته‪ .‬في‬

‫‪473‬‬
‫الجهاد السّلفيّ ميّزات وخصائص عن عموم الجهاد في المفهوم العرفيّ لدى عوامّ النّاس ومن‬
‫هؤلء العوامّ قادة الحركات البدعيّة‪ ،‬وقادة الحركات الطّفيليّة الوصوليّة‪ ،‬ومن أهمّ هذه الفوارق‪:‬‬
‫صفة الجهاد وطبيعته ونوعه‪ :‬حركات الجهاد السّلفيّ تقاتل في بلد الردّة تحت راية واضحة‪،‬‬
‫وكذلك تصف العدوّ وصفا واضحا‪ ،‬فهي تصف هذه الطّوائف المعادية أنّها طوائفَ ر ّدةٍ وكفر‪،‬‬
‫لنّها اجتمعت بقوّة وشوكة على أمرٍ مكفّر‪ ،‬أجمعت على كفره ملّة السلم‪ ،‬فنوع قتال هؤلء‬
‫الخصوم‪ ،‬وجنس هذا القتال‪ ،‬أنّه قتال المرتدّين‪ ،‬وهذا القتالُ له أحكامه الخاصّة التي تجتمع‬
‫وتفترق عن قتال الكفّا ِر الصليين‪ ،‬وحين تقاتل هذه الطّوائف السّلفيّة المجاهدة تحت هذه الرّاية‪،‬‬
‫فإنّها ل تفرّق في هذا القتال بين مرتدّ "دكتاتور" متسلّط‪ ،‬وبين مرتدّ "ديمقراطيّ" سِلميّ‪.‬‬
‫فهذا فارق مهم في التّفريق بين جهاد الموحّدين السلفيين وبين جهاد المبتدعين الضالين‪ ،‬فليس‬
‫مجرّد رفع راية الجهاد كافٍ لدخال المرء في طائفة التّوحيد والجهاد‪ ،‬وهذا المر يوجب على‬
‫الشباب السّلفي المجاهد أن يتوثّق لدينه وأن يتبيّن راية جماعته‪ ،‬ول يجوزُ له أن يقاتل تحت‬
‫راية عمية ل يدري أين تسير به‪ ،‬ففي يوم تسمّيه البطل المجاهد‪ ،‬وبعد حين تقذفه بأقبح‬
‫الوصاف وأشنعها‪.‬‬
‫وهذا الفارق الذي ذكرنـاه يعود إلى قضيّة رئيسيّة‪ ،‬بل هي أمّ القضايا في دين ال تعالى‪ ،‬هذه‬
‫القضية هي فهم المرء للتوحيد‪ ،‬وفهمه لمنهج السّلف في اليمان‪ ،‬فإن معرفة المرء للتوحيد‬
‫وتبيينه له بشكل واضح جليّ يمنعه من النزلق في متاهات الجاهلية المظلمة‪ ،‬ويردعه من‬
‫التنازل عن حق ال تعالى‪ ،‬فإنه يجوز للمرء أن يتنازل عن حقّه‪ ،‬وهذا من باب الفضل‪ ،‬ولكن‬
‫ل يجوز أن يتنازل عن حقّ ال تعالى‪ ،‬فالجماعة الموحدة المجاهدة تعفو عمّن ظلمها من‬
‫المسلمين‪ ،‬وتتجاوز عن حقوقها‪ ،‬ول توالي على أساس قرب الناس منها‪ ،‬ول تعادي على أساس‬
‫بعد الناس عنها‪ ،‬بل هي توالي النّاس على أساس محبّتهم ل‪ ،‬ومحبّة ال لهم‪ ،‬وتعادي على‬
‫قواعد الملّة المحمّدية في البراء من أعداء ال تعالى‪ ،‬وهذا المر من أ شدّ المور وضوحا في‬
‫دين ال تعالى‪ ،‬وعند أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫فقد نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الخروج على الحاكم إذا ظلم رعيته‪(( :‬أطع أميرك‬
‫وإن جلد ظهرك وأخذ مالك))‪ ،‬فحقّ النسان المسلم يتنازل عنه مقابل مقاصد الوحدة وجمع‬
‫الشمل‪ ،‬ودرءً للفرقة وذهاب الريح‪ ،‬وقد أوجبت الشريعة الخروج على الحاكم إذا كفر بال ((إل‬
‫أن تروا كفرا بواحا))‪.‬‬

‫‪474‬‬
‫هذا هو دين ال تعالى‪ ،‬فعلّة القتال فيه عدم إيمان المشركين بال‪ ،‬واجتماعهم بقوّة وشوكة على‬
‫هذا المر {قاتِلوا الذين ل يؤمنون بال ول باليوم الخر ول يحرّمون ما حرّم ال ورسوله ول‬
‫يَدينون دين الحقّ من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون}‪.‬‬
‫ي الواضح تكتَشِف الفارق‪ ،‬وهو أهمّ هذه الفوارق‪ ،‬بين جهاد الموحد السلفي وبين‬
‫بهذا المر الجل ّ‬
‫المبتدع الوصولي‪.‬‬
‫وهذا المر ‪ -‬وهو عدم تبيّن الناس لحقيقة الجمـاعات المقاتلة ‪ -‬يُحسَم من خلل إعلن‬
‫جماعات الجهاد السلفيّ براءتها من جماعات البِدعة‪ ،‬ويوجب عليها أن ت َؤصّل نظرتها من خلل‬
‫الرّؤى السلفيّة لواقع الجماعة البِدعيّة‪ ،‬وعليها أن تعلن ذلك ول تُخفيه‪ ،‬وليس هناك من مصالح‬
‫شرعيّة تمنع إعلن الفارق بيننا وبينهم‪.‬‬
‫بقي أمرٌ يتعلق بهذه النقطة‪ ،‬وهو وجود أقوام تسَربلوا بأثواب مُستعارة من السّلفية أو بشاراتٍ‬
‫خادعةٍ ل حقيقة لها مثل أهل السنة والجماعة‪ ،‬وهؤلء القوام قد يخفى أمرهم على المسلم‬
‫العاديّ غير المتبصّر بحقّ هؤلء المبتدعة‪ ،‬وبقليل من البحث ونور والبصيرة سيكتشف النّاس‬
‫أنّ عقول هؤلء القوم ما زالت تعمل خارج الطار السّلفي‪ ،‬وأنها خرجت من البدعة مع‬
‫بدعتها‪ ،‬ولكنّ غلبةَ المّية على أ ّمتِنا منَعت الكثير من البشر من اكتشافهم‪.‬‬
‫حركة التجديد المجاهدة السلفيّة ل تتعامل مع النّاس إلّ من خلل أصولهم وقواعدهم‪ ،‬وعلى‬
‫ضوء هذه القواعد والصول تحكم على المجتمعات‪ ،‬والتّنظيمات‪ ،‬وبالتالي على الشخاص‪.‬‬
‫والمنهج هو السّائق للنسان في سلوكه وحركته‪ ،‬وهو الذي يحدد أحكامه وعقليّته‪ ،‬ومعرفة‬
‫القواعد والصول للموضوع ‪ -‬شخصا أو فكرا ‪ -‬ل تعرف من خلل فكرة أو خاطرة‪ ،‬بل ل‬
‫بدّ من الستقراء‪ ،‬وهو يقع من الخاصّ إلى العام‪ ،‬فيبدأ النسان الباحث في مراقبة المفردات ثمّ‬
‫الرتفاع بها حتى تشكّل قاعدة كليّة تخضع لها مفردات المقدّمة وهي حركة النسان وأحكامه‪.‬‬
‫فيتشكّل الحكم العام من خلل أفراد أحاديّة في الحكم والسّلوك‪ ،‬وبعد ثبوت القاعدة‪ ،‬وهو وصف‬
‫الفكرة والشّخص‪ ،‬ثم لو طلب من الحاكم الدّليل فإنّه يسارع إلى إيجاد هذه القاعدة ليبسطها أمام‬
‫السّائل بثقة ويقين‪.‬‬
‫وعلى ضوء هذه المقدّمة فإن الشّعارات الكاذبة‪ ،‬واللقاب النّابتة‪ ،‬تفقد قيمتها عند أهل الوعي‬
‫والدراك‪ ،‬وأصحاب العلم والبصيرة‪ ،‬لكن تأثيرها يبقى على العـوام والسوقة‪ ،‬وغمار البشر‬

‫‪475‬‬
‫من أهل التقليد والبلهة‪ ،‬فهؤلء القوم يستطيع الخبثاء أن يسوقوهم إلى ما يريدون من خلل‬
‫الشّعارات الجميلة المرضية‪ ،‬ويصدّوهم عما يريدون من خلل اللقاب النابتة القبيحة‪.‬‬
‫وحين يقبل المرء أن يكون أتباعه من هذا الصنف من البشر ‪ -‬أهل التّقليد والبلهة ‪ -‬فهو‬
‫رجل نخاسة تهمّه الرقام والجسوم‪ ،‬ل المبادئ والعقائد والفكار‪ ،‬وهو رجل في ميزان الفكر‬
‫والعقل والدّين ل يساوي ذرّة أو نقير‪.‬‬
‫قد يجاهد البدعيّ‪ ،‬وقد ينصر ال الدين بالرّجل الفاجر كما أخبرنا رسول ال صلى ال عليه‬
‫حمْلُ السّلح هو الفارق بين البدعي والسّني‪ ،‬ولكن الفارق هو المنهج‪ ،‬وبالتالي‬
‫وسلم‪ ،‬فليس َ‬
‫علينا أن نفهم آلية الفهم عند الرّجل عندما حمل السلح‪ ،‬وما هي دوافعه ؟‪ ،‬وما هي مبرّراته‬
‫عندما حمل السّلح مقاتلً مجاهدا ؟‪ .‬فعلينا أن ل نـدفن رؤوسنا في الجهل‪ ،‬ونعمى عن رؤية‬
‫الحقيقة عندما يأتينا رجلٌ أو تنظيم ويحرّضنا على حمل السلح‪ ،‬بل علينا أن نتوثّق من منهجه‪،‬‬
‫ق والهدى‪.‬‬
‫ومن فهمه لحقيقة الجهاد‪ ،‬وفهمه لتوحيد ال‪ ،‬ولليمان عند أهل الح ّ‬
‫جماعات الجهاد السلفية‪ :‬الشمول والتكامل‬
‫نحن الن نعيش فوق قنطرةٍ‪ ،‬أمامها الكثير من المفاوز والقفار‪ ،‬وخلفها الكثير من الفوائد‬
‫والعبر‪ ،‬وبين يديها كتاب ال تعالى‪ ،‬وسنة النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكيف علينا أن نطرح‬
‫أنفسنا؟‪ ،‬وإذا طرحنا أنفسنا بصفتنا حركات جهاديّة سلفيّة‪ ،‬فما هي حقول وميادين عملنا ؟ هل‬
‫هي طوائف الردّة الممتنعة من قتالنا لهم فقط؟ أم أنّنا أمام أكوام من التراث المختلط‪ ،‬وواجبنا‬
‫كذلك أن نحرّر إرادة المة من عوائق الشرك والجهل؟‪.‬‬
‫وعلى معنى آخر‪ :‬هل طرح جماعات الجهاد السلفيّة لمواضيعها على صيغة شمولية أم في‬
‫جزئية من الجزئيات؟‪.‬‬
‫الجواب ول شك‪ :‬إن الواجب علينا أن نعالج الدّين كله‪ ،‬نجدّده‪ ،‬وأن نعيد بهجته وضياءه على‬
‫صورته الولى وهو جديد أوّل مرة‪ ،‬وهذا يوجب علينا كذلك أن ل نغترّ بالجزئيات والفرعيّات‪،‬‬
‫بل علينا أن نفهم آليّة فهم هذه الجزئيّات‪ ،‬وما هي أصولها‪ ،‬وما هو المنهج المتّبع حتى وصلت‬
‫هذه الجزئيات والفرعيات‪.‬‬
‫إن موافقة بعض الطوائف لنا في مسألة من المسائل ل يعني أبدا أن هذه الجماعة منّا‪ ،‬ونحن‬
‫منها‪ ،‬وأنّ لها ما لنا‪ ،‬وعليها ما علينا‪ .‬بل إنّ الجماعة التي هي نحن‪ ،‬وهي منّا‪ ،‬ونحن منها إنما‬
‫هو بالنّظر إلى منهجها‪ ،‬وآلية فهمها لدين ال تعالى‪.‬‬

‫‪476‬‬
‫لقد مرّت على أمّتنا أطوارٌ كان قادة القتال والجهاد فيها هم أئمّةٌ فيهم جذورٌ بدعية شديدة‪ ،‬وقد‬
‫مدحَتهم كتب الرّجال وما زال أثرهم الحسن يتردد على الشفاه واللسن‪ ،‬ولكن علينا أل نغضّ‬
‫الطّرف عن الجانب البدعي فيهم‪ ،‬وبراءتنا منه‪ ،‬وعدائنا له حتى نحفظ للحقائق وجودها‪ ،‬ولئل‬
‫تضيع خلل حمّى التشجيع والتأييد لهذه الطوائف‪.‬‬
‫والمثال يوضح المقال‪:‬‬
‫عندما نشأت الزّندقة العجَميّة في المجتمعات السلمية‪ ،‬وأطلّت برأسها الخبيث‪ ،‬وبدأت تكشف‬
‫عن نفسها دون خوف أو وجل‪ ،‬رأينا أن أقوى الرّدود على هذه الزندقة كانت صادرةً من جهاتٍ‬
‫مسلمة بدعيّة‪ ،‬وكان لردودهم في ذلك الطور أبلغ الثر في إزالة آثار هذه الفكار اللحادية‪.‬‬
‫عندما كتب ابن الراوندي الزنديق الملحد‪ ،‬كتب ودعا إلى عدم الثقة بالشريعة‪ ،‬وذهب (لعنه ال)‬
‫لضرب دين ال بعضه ببعض‪ ،‬حينئذٍ قام له رجل بدعي هو أبو علي الجبائي المعتزلي ففضح‬
‫أمره‪ ،‬وكشف جهله‪ ،‬وردّ كيده إلى نحـره‪ ،‬مدح الناس هذا الصنيع لبي علي الجبائي‬
‫المعتزلي‪ ،‬لكن لم ينسوا بدعته‪ ،‬بل شنّوا الغارات الشّديدة عليه وعلى بدعته‪ ،‬فكان أمره وأمر‬
‫العتزال إلى زوال‪.‬‬
‫لو افترضنا جدلً أن الرّوافض الثنى عشرية وقفوا وقفةً ما‪ ،‬وكان ق َدرُ هذه الوقفة في خندق‬
‫الحق والصواب‪ ،‬فهل يجوز لنا لهذا الموقف أن ننسى من هم الروافض؟ وأنّ دينهم ل يلتقي مع‬
‫دين السلم في شيء؟‪ ،‬الجواب‪ :‬ل‪ ،‬بل علينا أن نبقى نحن حيث نحن في تمسّكنا بالحقّ‬
‫والسّنة‪ ،‬وعلينا أن ل نزيل الفوارق الحقيقيّة بين أهل السنّة والجماعة والرّوافض‪ ،‬بحيث نزعم‬
‫أو نفتري أنّه ل فرق بين السنّي والرّافضيّ‪.‬‬
‫لقد فرح الصّحابة رضي ال عنهم‪ ،‬وكانوا يتمنّون أن ينتصر أهل الرّوم (أصحاب الكتاب) على‬
‫أهل فارس (أهل الوثان)‪ ،‬وليس من جامع بين المسلمين الصّحابة ومن بعدهم وبين الرّوم‬
‫النّصارى المشركين إلّ السم الذي ل حقيقة له سوى النتساب ‪ -‬أهل الكتاب ‪ .-‬لكن هل أجاز‬
‫هذا التّمنّي لهم أو لغيرهم من المسلمين أن يقاتلوا تحت راية النّصارى جند أهل الكتاب؟‪ .‬أبدا‬
‫بل إنّ دخول المسلمين تحت رايتهم تُخرجهم من السلم‪ ،‬وتخلع نسبتهم إلى السلم‪.‬‬
‫هذه قضايا يجب أن نعيها‪ ،‬وأن نهتمّ بها‪ ،‬لئلّ نُزيل الحواجز الشّرعيّة التي أمر ال تعالى‬
‫بإقامتها بين النّاس في جميع مستوياتهم القريبة والبعيدة عن السلم‪.‬‬

‫‪477‬‬
‫فإذا فهمنا هذا تمامَ الفهم حينها نخرج من المأزق‪ ،‬أو الزّاوية التي يحاول بعض العقلنيين (أهل‬
‫الهواء) أن يضعونا فيها فيجبرونا بين خيارين‪ ،‬أحلهما كفر‪.‬‬
‫ل يستطيع المرء إلّ أن يعترف أن المعركة ضدّ السلم شرسة وقاسية‪ ،‬وأن كلّ مبدأ وشخص‬
‫خارج دائرة السلم محارب لهذا الدّين‪ ،‬ومنذ مبعث النّبي صلى ال عليه وسلم والقضاء على‬
‫هذا الدّين هاجس الشّيطان وجُنده وذلك كما قال تعالى‪{ :‬ول يزالون يُقاتلونكم حتّى يردّوكم عن‬
‫دينكم إن استطاعوا}‪ ،‬ولكن كذلك من الفهم الصّحيح لطبيعة هذه المعركة أن نعتقد ونعترف أنّه‬
‫ما كانت هذه الخصومة من قبل الصّفوف المتراصّة خارج دائرة السلم أن تؤتي أكلها‪ ،‬وتُثمر‬
‫مجهوداتها إلّ بسبب حصول الضّعف والهزيمةِ في داخل المنضوين تحت دائرة السلم ورايته‪.‬‬
‫لقد كانت جهودٌ تقوم بها طوائفٌ من المنتسبين للسلم‪ ،‬وهذه الجهود تصنع الرضيّة الصّالحة‬
‫لغرس ثمار الشرّ القادمة من الخارج‪ ،‬وتمهّد لقبول الغزو الخارجيّ‪.‬‬
‫الجهاد والبتلء‪ :‬القيادة والقاعدة‬
‫ترقيق العبارة وسلوك سبيل السّلمة معناه في لغة الدّعوة والبيان في هذا الزّمان ترك ما هو‬
‫ق لترضى عنك طوائف الشرّ من كفرةٍ ومشركين ومبتدعةٍ وغيرهم‪.‬‬
‫حّ‬
‫وقد يظن الجاهل المتلعّب أنّ سلوك سبيل كلمة الحق معناه البحث عن الهلكة ونسي أن العلقة‬
‫بين كلمة الحق وبين البلء علقةُ تلزُم ل انفكاك بينهما‪.‬‬
‫وعلى كل حال نبارك لهم طرائقهم التي ستؤمّن لهم المن والدعة‪ ،‬ولكننا رضينا هذا الطريق‬
‫فسنسلُكه حتى النهاية‪.‬‬
‫سنبقى نفرح ونعلن َفرَحَنا لكلّ عملٍ جهاديّ فيه قتل الكافرين وتعذيبهم‪ ،‬وسننشُر هذا الفرح‬
‫وسنبقى الصوت النشاز بين كل الصوات الشيطانية السّاكتة أو الناعقة‪.‬‬
‫سنبقى نفرح ونُعلِن َفرَحنا لكل عملٍ استشهادي فيه دمار مَعقِلٍ من معاقل الطاغوت أو لكل عمل‬
‫رائع فيه صد طاغوتٍ وجندلته‪ ،‬وسنقتدي بهدْي القرآن في لَعنِ المشركين والكافرين ونردّدُ من‬
‫غير خوفٍ ول وجل {تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات‬
‫لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد}‪.‬‬
‫ل عصرٍ وسنلعن دولته وجُنده وأهله وامرأته حمّالة الحطب‪.‬‬
‫سنلعن أبا لهبٍ في ك ّ‬
‫قولوا ما شئتم‪ ،‬سمّوا هذا ما شئتم‪ ،‬واختاروا من معاجمكم الجديدة في قلب الحقائق ما أحببتم‪.‬‬

‫‪478‬‬
‫هل يسعنا أن نرمي رسالة الشيخ عمر عبد الرحمن في أدراج المهملت مخافة اتّهامنا بأننا‬
‫أنصار المتطرفين والرهابيين؟‪ .‬فوال لو فعلنا ذلك لخِفنا أن يخسف ال بنا ويضرب قلوبنا‬
‫ويختم عليها‪.‬‬
‫هل يسعُنا أن نفعل كما فعل أهل السّياسة الشيطانية من جماعة الضلل‪ ،‬وجماعات الخِزي‬
‫والعار في التسابق على استنكار كلّ عمل جهاديّ‪ ،‬وكأنه مفروض عليهم أن يموتوا وهم على‬
‫بغض الخير؟‪.‬‬
‫أيّ كلمة صادقة هذه إن لم تكن هذه الكلمة في هذا الزمان تؤدّي بك إلى السّجن أو النفي أو عدم‬
‫المن؟‪.‬‬
‫إن البحث عن كلمة صادقةٍ كل الصـدق‪ ،‬واضحةٍ كل الوضوح قريب ٍة إلى قلوب المؤمنين‬
‫يرضى عنها ساكنو السـماء وأولياءُ ال في الرض ثمّ تكون بغيرِ ثمنٍ تدفعه هي كلمةٌ ل‬
‫يُمكن أن تكون صادِقة ول يمكن أن تكون حقا من كل وجه‪.‬‬
‫أيّ دين هذا وأي حقّ هذا الذي نحمله‪ ،‬وأيّ كلم هذا الذي ننشره ونبتغي منه حركة المّة‬
‫وإصلح شأنها وخروجها من حمأة الذلّ والعار ثم نحن نجمجم فيه ونجمله ليرضى عنه أشباه‬
‫النعام ممن ل عقـل لهم ول نظر صحيح {إن هم إلّ كالنعام بل هم أضل}‪ .‬إنّ كلمـات الحق‬
‫حمَم حقّ كلّما رأوها كلّما ازدادوا لها بغضا‬
‫ليست برسِيما تفرَح له البقر إن رأته‪ ،‬بل هي ِ‬
‫وازدادوا عنها بُعدا ما دامت قلوبهم ل تؤمن بال وبمحمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫العلم السلمي والدعوة إلى ال ليست امرأة نزيّنها للخُطّاب من كلّ جِنس ليشمّ منها ما‬
‫يرضيه ويحبه‪.‬‬
‫نعم نحن نحبّ الخير للناس‪ ،‬ومن محبّتنا الخير لهم أن نقول لهم الخير والحقّ وإن كان ُمرّا‬
‫على أنفسهم‪ ،‬فإن أقبلوا عليه أقبلوا على الحق كما هو في نفسه من غير تزيينٍ باطلٍ‪ ،‬ول‬
‫تزويرٍ دجليّ‪.‬‬
‫لو أنّ بدعيّا جاءَك وسألك عن حكـم ال في بدعته‪ ،‬فما الواجب عليك لتهديه إلى الحق؟‪ .‬عندما‬
‫جاء الرجل إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال له‪ :‬أين أبي؟ بم أجابه رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم وهو إمام الحِكمةِ وسيّد الكلمة الحسنة‪ ،‬هل قال غير كلمة الحق التي أصابت منه‬
‫ألما؟‪ .‬قال له‪(( :‬هو في النار))‪.‬‬

‫‪479‬‬
‫ماذا سنقول للمشركين حين يسألونا عن موتاهم وعن عقائدهم وعن مذاهبهم؟ هل نقول لهم ‪-‬‬
‫إن استحسنوا الديمقراطية ‪ -‬أنّ في ديننا الديمقراطية ليرضوا عناّ وعن ديننا؟ أو نقول إن‬
‫السلم فيه الكثير من الديمقراطية ليحبوا السلم ويرغبوا فيه؟‪.‬‬
‫يا قوم مالكم كيف تحكمون؟ أي كتبٍ هذه التي تقرؤونها فتهديكم إلى هذا الش ّر المبير وال َمهْلَكة‬
‫العظيمة؟؟‪.‬‬
‫يا قوم هما طريقان‪ :‬طريق يؤدي إلى البتلء‪ ،‬وطريق ترضى به عنك الغيار‪ ،‬أما الول فهو‬
‫طريقُ الحقّ وأما الثاني فهو طريقُ الباطل وإن تسمّى بكل السماء الجميلة الكاذبة الخادعة‪.‬‬
‫ب أن يرضى عنّا مشايخ السلطان‪ ،‬ول طلّب السلمة ول أبواق‬
‫نحن ل نحبّ ول نرغَ ُ‬
‫الدعايات‪ ،‬ول مؤسّسات الكذب والدّجل‪ ،‬ووال إنّنا نخاف أن نسمع أنّ أحدا من هؤلء مَدَح ما‬
‫نقول أو أُعجِب بما نقول‪.‬‬
‫نحن نقولها بكل صراحة‪ :‬نحن نحبّ أن يَبغضنا أعداء ال‪ ،‬ونحن نحبّ أن يبغضنا أهل البدع‪،‬‬
‫لن بُغضهم زاد الطّريق كما قال ابن حزم رحمه ال تعالى‪ :‬لكل شيءٍ فائدةٌ ولقد انتفعت بمحك‬
‫أهل الجهل منفعةً عظيمة‪ ،‬وهي أنه توقّـد طبعي‪ ،‬واحتدم خاطري‪ ،‬وحمى فكري‪ ،‬وتهيّج‬
‫نشاطي‪ ،‬فكان ذلك سببا إلى تواليف عظيمةِ النفع‪ ،‬ولول استثارتهم ساكِني‪ ،‬واقتداحهم كامني ما‬
‫انبع ْثتُ لتلك التّواليف‪( .‬مداواة النّفوس ص ‪ ،)48‬فلول وجودهم ما عرفنا للحقّ طعما‪ ،‬وصدق‬
‫عمر رضي ال عنه حين تمثل قائلً‪ :‬ذكّرتَني الطّعن وكنت ناسيا‪ .‬هكذا هو الحقّ‪ ،‬وهكذا غربته‬
‫في كلّ زمانٍ‪ ،‬وأنا أعجب لولئك القوم الذين يضعون على أع ُينِهم عصاباتٍ غليظةٍ تمنعهم من‬
‫رؤية الشرّ الذي سرى في المّة‪ ،‬وأقول مرّات ومرّات لعلّهم فسدت أمزجتهم فصاروا يرون‬
‫الباطل حقّا‪ ،‬والحلو مرّا‪ ،‬وتغيّرت معالم الشياء وأسماؤها وهكذا يكون صاحب الفطرة المتغيّرة‬
‫والقلب المنكوس‪ ،‬فإنّه ل يعرف معروفا ول يُنكر منكرا‪ ،‬وحين يصل المرء إلى هذه المرتبة لن‬
‫تملك له شيئا‪ ،‬وال الهادي والموفّق‪.‬‬
‫نعم بعض الحبّة يُشفقون علينا ولكنّها شَفَقةُ ابن هرمة وهو يمدح الحكم بن عبد المطّلب بن عبد‬
‫ال بن المطّلب بن حنطب حين قال‪:‬‬
‫أمسي عليك من المنون شفيقا‬ ‫ل عيب فيك يُعـاب إلّ أنّني‬
‫ولكن من رحمة ال بنا أنّ هذه المنون لن تُبقي أحدا فالقاتل م ّيتٌ كما المقتول‪ ،‬وعند ال تجتمع‬
‫الخصوم فلِمَ الحُزن والشّكوى وإنّما بين المتقدّم والمتأخّر لحظات ثمّ نزور المقابر‪.‬‬

‫‪480‬‬
‫التربية الجهادية‬
‫العلقة بين فكر الشّخص ومعتقده وبين نفسيّته علقة حميمة وقويّة ولو بالغنا لقلنا إنّها علقة‬
‫تلزم ولكنّها قطعا غير مطلقةٍ فقد يقع التّخلّف لوجود بعض العوارض والتي تشكّل هيكلَ‬
‫ي والعلميّ والعاطفيّ وغيرها من أفرادِ إنسـانيّته‪ ،‬وبالتّالي فإنّ عمليّة‬
‫النسان العمَليّ والنّفس ّ‬
‫رفع مستوى نفسيّة المرء إلى مستوى معيّن ل بدّ أن يسبقها أو يكون معها رفع المستوى العلميّ‬
‫سواء بتصحيح الفكار والمعتقدات أو بتنشيطها وتذكيرها إن أصابها النّسيان والغفلة‪ ،‬فهذه‬
‫العمليّة المزدوجة هي التي يصحّ أن يُطلق عليها عمليّة التّربية‪ ،‬فالتّربية ليست صياغة لطرفٍ‬
‫في النسان دون طرفٍ آخر‪ ،‬فإن وقعت فإنّ الحركة لن تدوم في الوصول إلى مبتغاها‪.‬‬
‫فمثلً لو أنّك اتّبعت مع جماعة من الشخاص أسلوب "التّوريط" ‪ -‬وهو لفظٌ ل أدري مدى‬
‫صحّته لكن يُطلق من ِقبَل أصحابه على طريقة معيّنة في الممارسة‪ ،‬ويعني أن يقوم مجموعة‬
‫من النّاس بصنع جوّ من البيئة المعيّنة رغم أنف مجموعة أخرى من أجل إجبارهم على الدّخول‬
‫طتْ هذه‬
‫في اختيار وحيد تريده المجموعة المورّطة للمجموعة المورّطة ‪ -‬فإنّه وإن تورّ َ‬
‫الجماعة فإنّها لن تداوم على الفعل إلى نهايته وإلى آخر الشّوط وبالتّالي لن يتحقّق المراد من‬
‫هذا التّوريط‪.‬‬
‫لقد حاول الشيخ مروان حديد رحمه ال تعالى أن يورّط الخوان المسلمين في الجهاد في‬
‫سوريا‪ ،‬لنّه حاول جاهدا أن يُقنِعهم بالجهاد فكانوا يأبَون عليه ويرفضون رأيه فقرّر توريط‬
‫طرَدَنا الخوان المسلمون من الباب سنرجع لهم‬
‫الخوان المسلمين في الجهاد وأطلق كلمته‪" :‬لو َ‬
‫من النافذة"‪ ،‬ولذلك قام هو ومجموعةٌ معه بأحداث جهادية ف َرضَت معركةً بين النظام النصيري‬
‫البعثي الكافر وبين المسلمين عموما وعلى رأسهم الخوان المسلمين في سوريا‪ ،‬وبالفعل ُورّطَ‬
‫الخوان المسلمون في المعركة ودخلوا فيها من باب ‪ -‬مكره أخاك ل بطل ‪ -‬بل لقد واصل‬
‫عدنان عقلة هذا السلوب وسار عليه حيث أطلق على مجموعته "الطليعة المقاتلة للخوان‬
‫المسلمين" ولختيـار هذا السم أسباب كثيرة منها محاولته توريط الخوان المسلمين في هذه‬
‫المعركة‪ .‬فكان ماذا بعد ذلك؟!‪.‬‬
‫ارتفعت أصوات الجهاد من قبل القواعد وهذه استجابة فطريةٌ صحيحة للجهاد في سبيل ال‬
‫تعالى‪ ،‬لن العوام بفطرهم الصحيحة هم مادّة الجهاد على الدوام ولكنّهم يحتاجون إلى من يُحسِنُ‬
‫إعطاءهم الدين الصحيح ل أن يسلك بهم سبل أهل البدعة‪ ،‬وهذه نقطة مهمة وضرورية ? أعني‬

‫‪481‬‬
‫قاعدة اعتبار العوام أصحاب الفطر السليمة هم مادة الجهاد في سبيل ال تعالى ? وهذه بفضل‬
‫ال تعالى هي إحدى الفوارق بين جماعات الجهاد السلفية وبين جماعات التكفير‪ ،‬فإننا نعتبر أن‬
‫الصل في أمتنا هو السلم ما لم يأت الرّجل بمكفّر صريحٍ مك َتمِل الشّروط وانتفت عنه‬
‫الموانع‪ ،‬ولكن جماعات الغل ّو والتكفير وكذا جماعات التوقّف والتبيّن على غير هذا الهديِ السنّي‬
‫فإنهم يعتبرون أن الصل في أمتنا الكفر أو عدم اعتبارهم شيئا والتـوقّف في حكمهم حتى‬
‫يتبين ‪-‬ولذلك هم يعتبرونهم مادّة للدّعوة إلى أصل الدين‪ -‬أي من أجل إسلمهم‪ ،‬وأما جماعات‬
‫الجهاد السلفية فإنها تعتبرهم مسلمون وهم مادّة التعليم ومادّة الجهاد في سبيل ال‪ ،‬وهذا بخلف‬
‫سلّكوا وأقصد بلفظ التسليك هنا من مورست عليه طريقةٌ مبتدعةٌ صرفتهُ عن فطرته‬
‫الذين ُ‬
‫السليمة‪ ،‬فالنسان المسلم العامّي تستجيب فطرته استجابةً فورية للعمال الصالحة‪ ،‬فبمجرّد أن‬
‫يسمع هيعة للجهاد فإنه إن لم يستجب لها عملً فإنه يفرح لها وتطرب نفسه لخبَرها فيدعو ال‬
‫تعالى أن يوفّق أصحابها لهذا العمل‪ ،‬وهذا رآه من عايشه في كلّ عملٍ جهاديّ فإن النساء في‬
‫خدورهنّ وكذا العجائز يلهجن بالدعاء للمجاهدين‪ ،‬خلفا للمُسلكين سواء كانوا من الخوان‬
‫المسلمين أو من السلفيّة المزعومة أو من أصحاب الطّرق والمذاهب البدعية من أتباع جماعات‬
‫الفكر العرفاني الصوفي المعاصر المتطور‪ ،‬فإنهم بسبب فساد فِطَرهم ومرض أفكارهم‬
‫يستنكرون هذه العمال‪ ،‬ولكنهم قد يضطرون للمسايرة حينا أو السّكوت حينا مخافة سبّهم‬
‫وشتمهم‪ ،‬ولكنّهم يؤخّرون قَيح أفكارهم إلى فرصةٍ سانحةٍ لفتنة تقع أو مشكلةٍ تهب برياحها على‬
‫الجهاد‪.‬‬
‫إن استجابة القواعد البعيدة عن القيادة والتي ما زالت تردّد الشّعارات الولى "والجهاد في سبيل‬
‫ال طريقنا"‪ ،‬وشعار "والموت في سبيل ال أسمى أمانينا"‪ ،‬وهذه الشعارات معروضة بحقّ من‬
‫أجل القواعد ل من أجل القيادة‪ ،‬فكانت هذه الستجابة وسيلة ضغط لقبول القيادة للدّخول في‬
‫(الورطة)‪ ،‬ف ُورّطَت القيادة مع عدم اقتناعها‪ ،‬وقد وقع ما يرجو أصحاب نظريّة التوريط‪ ،‬ولكن‬
‫كان ماذا بعد ذلك؟!!‪.‬‬
‫الشّيوخ هم الذين يقودون المعركة وهم أصحاب القَرار (وأقصد بالشيوخ ليسوا كبار السن‪ ،‬ولكن‬
‫أقصد القيادة) وهم الذين شرعوا فيها بها على َمضَض‪ ،‬فهل سيسيرون بها إلى نهاية مبتغاها ؟‪.‬‬
‫الجواب‪ :‬ل وألف ل‪ ،‬بل إنّهم سيكونون من أولئك القوم ? بل هم منهم ? الذين ينتظرون‬
‫الفرصة السّانحة لشتم المُورّطين (بكسر الراء) وجلد القواعد التي أجبرتهم على هذا الطريق‪،‬‬

‫‪482‬‬
‫و ُفرَصُ هؤلء كثيرة في الجهاد‪ ،‬فإن الجهاد فيه من الفتن والبتلءات ما ل توجد في غيره من‬
‫العمال‪ ،‬فبمجرّد حدوث فرص ٍة لهزيمةٍ في معركةٍ حتى يبدأ الجلد وإظهار مكنون النفوس‪.‬‬
‫إذا فالذين يظنّون أنه بمقدورهم أن يورّطوا القواعد التحتية لجماعات البدعة والهوى وكذا قادتهم‬
‫في الجهاد في سبيل ال تعالى واهمون ولن يحققوا النتائج المرجوّة من الجهـاد‪ ،‬فل بدّ من‬
‫التمايز عن طريق إظهار مغا َي َرتِك للطّرق المطروحة‪ ،‬وأن توجب على المستجيب لنداء الجهاد‬
‫أن ينخلع من تنظيمه السابق ويعلن فهمه لسبب هذا النخلع ول يكون هذا السبب أبدا ول‬
‫يُرضَى منه أن يقول أن الفارق بينك وبين تنظيمه السابق أنك تجـاهد وهو ل يجاهد بل ل بدّ‬
‫من تأصيل المسألة على أساس الفهم الجديد والصل الصّحيح‪ ،‬وهي قواع ُد وأسسُ ومنطلقاتُ‬
‫جماعات الجهاد السلفية‪.‬‬
‫نعم هذا أمر ل يُخاف منه ‪ -‬وأعني لحوق أفراد عديدة من جماعات البدعة معك بالجهاد في‬
‫وقت الفتنة والبتلء ‪ -‬فإنّ هذه القواعد ل تلتحق بك لصعوبة هذه القنطرة‪ ،‬ولكن يُخاف حين‬
‫يكون للجهاد الصّوتُ العالي والمدّ الشّعبيّ الواسع‪ ،‬فإنّ مشايخ هذه التّنظيمات قد يسمحون‬
‫لفرادهم بالجهاد وقد يسكتون عنهم فحينئذٍ يكون هذا المحذور الذي نتكلّمُ عنه فل بدّ مِن شرط‬
‫التّمايز الذي تكلّمنا عنه‪ ،‬أمّا بقاء الرتباط التّنظيمي مع تلك الجماعات المسلّكة سبل الباطل‪ ،‬أو‬
‫الرتبـاط المشيخي مع مشايخ الرجاء والتهوّك فإنّ ثبات هؤلء إلى نهاية الطّريق أمرٌ في‬
‫غاية الصّعوبة وصعب الوقوع‪ ،‬فإن وَقَعَ فإنّما يقع لفراد قلئل ثمّ تعود الجموع إلى تنظيماتها‬
‫السّابقة أو إلى مشايخها ليمارسوا عمليّة الجلد ويُقال لهم‪ :‬ها قد جرّبتم‪ ...،‬ها قد َورّطتمونا‬
‫بحماسكم‪ ..‬فماذا ن َفعَكم؟! وحينها تصبح هذه الجموع أصواتا وأبواقا لولئك المشايخ‪،‬‬
‫وسيمارسون على المّة التّبجّح والتّرفّع والستذة بأنّهم أصحاب تجربة‪ ..‬فل يجوز لحدٍ أن‬
‫يزايد عليهم‪.‬‬
‫تلميذ السّلفيّة المزعومة الذين قدِموا إلى أفغانستان‪ ...‬بماذا رجعوا؟! وماذا يقولون؟! هل‬
‫انتفعوا بالجهاد ‪ -‬دع عنك الجر الخرويّ ‪ -‬هل أفهمهم شيئا؟؟ هل غيّر من مستوى أفهامهم‬
‫وعرّفهم سنّة ال في التّغيير والتّبديل؟؟‪ .‬الجواب‪ :‬ل وألف ل بل زادتهم انتكاسة‪ ،‬وظنّوا أنّهم‬
‫ملكوا ناصية التّجربة فهم يتكلّمون من منطلق التّجربة التي خاضوها (روح الستاذية الكاذبة)‪.‬‬
‫إذن فالذين يعتمدون على طريقة التّوريط أو دفع الخرين بأيّ طريقة من الطّرق غير طريقة‬
‫القتناع إلى عملٍ من العمال إنّما يبعدون في المذهب ويتعاملون مع القضيّة بغير الطّريقة‬

‫‪483‬‬
‫السننيّة في إظهار العمل وإيجاده‪ ،‬ل بدّ من القتناع وهذا طريقه إلى الدّماغ وإلى الفكر عن‬
‫طريق المجادلة بالحسنى وعرض الدلّة وتكرار ذلك مع اعتماد عامل الزّمن حتّى يحصل قبولً‬
‫للفكرة والدّعوة‪ ،‬ول بدّ من وجود الدّافع لتحقيق هذه القناعات وذلك عن طريق إيجاد‬
‫المحرّضات الكافيةِ لثارة النّفس البشريّة لتحقيق هذا العمل عن طريق الوعظ والتّذكرة وربط‬
‫نفسيّة المرء بمحبّة تحقيق رضاء ال سبحانه وتعالى وتحصيل الدّار الخرة‪ ،‬فإذا حصل‬
‫الطمئنان النّفسيّ لهذا العمل تحرّكت النّفس نحوه برغبةٍ صادقةٍ فل َيرُدّ عنانها عن ذلك إلّ‬
‫الذي فطرها‪ ،‬وهي بحاجة إلى التّذكير مرّة بعد مرّة ‪{ -‬وذكّر فإنّ الذّكرى تنفع المؤمنين} ‪-‬‬
‫ي والنّفسيّ‪ .‬بهذا يحصل‬
‫وذلك عن طريق استثارة القناعات بوضعها في جوّ التّأثير العاطف ّ‬
‫التّمايز عن الخرين وبه فقط يتمّ السّير نحو الهدف المطلوب وفي باب الجهاد هذه هي الطّريقة‬
‫السننيّة لتحقيقه وليست المسألة مسألة عواطف شباب جيّاشة سرعان ما تنتكس تحت ظروفٍ‬
‫جديدةٍ وأحداث متغيّرةٍ‪ ،‬فالقائلون بأنّ الجهاد تهوّر واندفاع وحماسة شباب ل خِبرةَ لهم في الحياة‬
‫واهمون‪ ،‬نعم يكون كذلك حين يكون الجهاد دافعه الحماس الفِطريّ غير المؤصّل‪ ،‬وتمّت‬
‫الستجابة له دون الفهم له على الوجه المطلوب فإنّ هذه الحماسة سرعان ما تزول إمّا لوقوع‬
‫البلء أو تخلّف النّصر أو كثرة المعوّقات في طريق الجهاد‪.‬‬
‫سسٍ علميّة واضحةٍ وعندها القدرة على كشف ودحض‬
‫هذه القناعات العقليّة والمبنيّة على أُ ُ‬
‫تلبيس الخصوم وأخطائهم مع نفسيّة محرّضة هي التي تصنع التّمايز في الشّخص المجاهد طول‬
‫حياته وتؤمّن له عدم النتكاس بالعودة إلى الجلّدين من قادة تنظيمات بدعيّة أو مشيخات‬
‫معوّقة‪.‬‬
‫إذن فالتّمايز شرطٌ لتحقيق الجهاد السنّي‪ ،‬ويقع التّمايز بتحقيق حقيقته المتقدّمة عن طريق التّنظيم‬
‫المتميّز والذي يعلن افتراقه عن الخرين واختلفه عنهم من جهة الشّعار المخـالف فل يلتبس‬
‫لدى الفراد تداخل الصّورتين بين هذا التّنظيم وبين غيره من التّنظيمات‪ ،‬وعن طريق تعميم‬
‫الفهم لدى الفراد كذلك بمخالفة الخرين للشّرع والعقل ودخولهم في دائرة الرّأي والهوى أو‬
‫طرُق الخرين من جهة أصوليّة عميقة فل‬
‫البدعة الممقوتة‪ ،‬وهذا يتمّ عن طريق كشف وتعرية ُ‬
‫يكون الرّجل معك في التّنظيم وهو يرقب إشارات المشايخ وفتاويهم من خارج السّرب‪ ،‬فإنّ هذا‬
‫النّوع من الشّباب خطيرٌ جِدّا ومُذ ِهبٌ للقوّة والرّيح لدى أيّ تنظيم من التّنظيمات في أيّ ظرف‬
‫من الظّروف‪.‬‬

‫‪484‬‬
‫ن العمل الصّحيح ل بدّ أن ينشأ عن قناعةٍ علميّة‬
‫إذا فهمنا هذا واستبان لنا حقيقة هذه المقالة بأ ّ‬
‫وبمحرّضٍ نفسيّ صحيح (التّمايز) يتبيّن لنا عمق الخطأ في قول من يقول بإمكانيّة استخدام‬
‫قواعد التّنظيمات البدعيّة ما ّدةً للجهاد في سبيل ال تعالى مع بقائهم في تنظيماتهم تحت دعوى‬
‫طرِهم واختلفهم عن قادتهم‪ ،‬أي التّفريق بين القواعد والشّيوخ‪ ،‬أو بين الشّباب الصّالح‬
‫سلمة فِ َ‬
‫والقيادة الزمنى‪ ،‬وهذا يُظهر كذلك خطأ من يقول إنّ المشكلة في عدم الجهاد هي مشكلة القادة‬
‫ن القضيّة ليست‬
‫الزمنى والمشايخ الئمّة وأمّا القواعد فهي صـالحةٌ للجهاد وهذا خطأ كبير ل ّ‬
‫قضيّة حماسٍ وعدمَ حماس‪ ،‬أو تأجّج عواطف وسكون أخرى‪ ،‬بل المشكلة الولى والخيرة في‬
‫التركيبة العقليّة والعِلميّة في الفرد بغضّ النّظر عن كونه قائدا أو مَقُودا‪ ،‬شابّا أم كهلً أم شيخا‪،‬‬
‫فتحليل عدم جهاد جماعةٍ مثل الخوان المسلمين بسبب القادة مثلً أو عدم جهاد السّلفيّة‬
‫المزعومة بسبب مشايخهم وكذا أصحاب الصّوفيّة‪ ،‬خطأٌ محض فهؤلء في هذا الجهاد ‪-‬‬
‫وأقصد جهاد المرتدّين ‪ -‬ليسوا مقتنعين به قناعةً علميّةً في أصل القضيّة‪ ،‬فإنْ حدث جهادٌ من‬
‫بعضهم حينا فإنّما هو من دافع توريط الصّغار للكبار‪ ،‬أو دفع ال ّتيّار أي ما يسمّى بغريزة‬
‫ي والتّنظيمي‪.‬‬
‫القطيع‪ ،‬وهؤلء سُرعان ما يؤوبون إلى مواقعهم وتبدأ عمليّة الجلد المشيخ ّ‬
‫نعم يُمكن للفراد والقواعد أن يخرجوا من أسر قادتهم ومشايخهم‪ ،‬لكن بعد أن يتمكّنـوا علميّا‬
‫من اكتشاف تهافت البناء العلميّ عند مشايخهم وقادتهم فيخرجوا عليهم وعنهم وحينها يتميّز‬
‫الشّخص ويُمكن إلحاقه بالتّنظيم المميّز‪ ،‬أمّا إن جاء من باب التوريط وتحت غثائيّة غريزة‬
‫القطيع ودفْعِ التيّار فارقب في كلّ لحظة سكونٍ ثورته وعودته إلى قواعده سالما محضّرا نفسه‬
‫للوقوف أمام قائده وشيخه ليعترف له أنّه اكتشف صواب ما يقوله وخطأ أولئك (المتسرّعين‬
‫والمتهوّرين)‪.‬‬
‫هذه نصيحة أسجّلها هنا‪ ،‬وهي أمانة أضعها في أعناق تنظيمات الجهاد السنّي السّلفيّ لئلّ‬
‫يكتشفوا بعد حين أنّ ما معهم مِن رجال إنّما هم شِبهُ المجاهدين (والشّبه هو صنم من نحاس‬
‫تدخل فيه الرّيح فيصفر فيظنّ الجاهل أنّه شخص حقيقيّ) وليسوا مجاهدين حقيقة‪.‬‬
‫السّيرة النّبويّة ومسيرة التّاريخ السلمي حديقةٌ خصبة للدّراسة والعتبار‪ ،‬وفيها من العظات ما‬
‫تجعل المرء المسلم الذي ينشد التّغيير في غنى عن أن يكون منبهرا بكلّ ما كتبه وخطّه الغيار‬
‫بتجاربهم وأحداثهم‪ ،‬وقد كان الوائل من آباء هذه المّة حريصين كلّ الحرص على تلوة‬
‫ج ْعلِها جزءً من تركيبة الطّفل العقليّة والنّفسيّة لنّ‬
‫السّيرة على مسامع البناء وتحفيظهم إيّاها و َ‬

‫‪485‬‬
‫السّيرة النّبويّة تصنع العقليّة السّديدة في فهم سنن الحياة‪ ،‬فالتّاريخ هو جريان سنّة ال تعالى‪،‬‬
‫والتّاريخ المتعلّق بالسّيرة النّبويّة فهي التّوافق الشّامل في مسيرة المرء في هذه الحياة من خلل‬
‫عدمِ تجاوزه لشرع ال تعالى وأمره‪ ،‬فالقارئ والدّارس ‪ -‬المؤمن بهذا الدّين ‪ -‬للسّيرة النّبويّة ل‬
‫يجِد أبدا شيئا من التّعارض في مسيرته إلى مقاصده سواء كانت هذه المقاصد حياتيّه بحتة أم‬
‫جزء من صراع مع الغيار أو من أجل تحقيق بعض المصالح بين تمسّك المرء بشرع ال‬
‫تعالى وانقياده لحكمه واستغنائه عن اقتراف أيّ معصية من المعاصي‪ ،‬وهذا بخلف المرء الذي‬
‫يُكثر من قراءة كتب التّجارب التي ل تمتّ إلى السلم بصلة فإنّها تقدّم في نفس المتضلّع بها‬
‫الحاجة الشّديدة إلى بعض المعاصي خلل حركته التغييريّة وأنّ من الصّعب إقامة حركة‬
‫تغييريّة ناجحةٍ دون تجاوز ضوابط الشّريعة‪.‬‬
‫الفارق بين الثائر والمجاهد‬
‫في القرن الخير قامت كثير من التّجا ُربِ النسانيّة لتحقيق أهدافٍ بإسقاط نظامٍ وقيام آخر وكان‬
‫أئمّة هذا الفن في هذا العصر هم اليساريّون‪ ،‬وهي الحركات التي يكثر البعض تسميتها حركات‬
‫التّحرير!! وهو اسم ل يوافق معناه حقيقـة هذه الحركات‪ ،‬هذه الحركات القتالية حققت أهدافها‬
‫مثل حركة ماوتسي تونغ في الصين‪ ،‬وهو الرجل الذي يسمّيه الكثير من الباحثين بأنّه خير من‬
‫كتب في حروب العصابات وهذا النوع من الحركات‪ ،‬وكذلك ثورة البلشفة في روسيا ضد‬
‫القياصرة وثورات أمريكا الجنوبية كثورة كاسترو وصديقه جيفارا‪ ،‬هذه التجارب قام أصحابها‬
‫بكتابة هذه التجارب وتُرجمت للغة السلم (اللغة العربية) وكان فيمن قرأها شبابٌ مسلمون‪،‬‬
‫وهي تجارب حقّقت على أرض الواقع أهدافها وهذا مدعاةٌ للقارئ أن يقتنع بالكثير من نظريّاتها‬
‫وقواعدها‪ ،‬والنسان أسير قراءاته شاء أم أبى‪ ،‬فإنّ الكِتاب يصنع عقلية قارئه ويصبغها‬
‫بصبغته‪ ،‬لنه ينقله إلى البيئة التي يريدها الكاتب والكتاب‪ ،‬فخلل هذه القراءات الكثيرة لهذه‬
‫الكتب اصطبغت عقليّة القارئ بنفسيّة الكاتب‪ ،‬وهذه الحركات كما خطّت في كتبها لم يكن لها‬
‫من قواعد وأُسُسَ أخلقيةٍ تحكم هذه الحركات أو توجب على السائر فيها أيّ قيو َد وروابط‪،‬‬
‫بمعنى أن هذه الحركات ليس لها أبعادٌ أخلقية‪ ،‬وهي عندي شبيهة بكتب فنّ الطّبخ المنتشرة في‬
‫ن واضعيها ل يحكمهم سوى حصول الطّبخ والمذاق الطّيب‪ ،‬فترى في بعض‬
‫السواق‪ ،‬فإ ّ‬
‫الطبخات وجوب وضع القليل من النبيذ‪ ،‬أو قليلٍ من الخَمر وهكذا‪ ،‬فهذه ال ُكتُب كتِلك حيث‬
‫وضع أصحابها نظريّاتٍ ومبادئ فيها التصور الذاتي من التحسين والتقبيح ليّ فعل من‬

‫‪486‬‬
‫الفعال‪ ،‬وفي داخلها الكثير من العمال التي ل ت ُمتّ إلى مبادئ الحق والدّين بصلة‪ ،‬فيأتي‬
‫المسلم المتديّن إلى قراءة هذه الكتب مع نفسيةِ الحترام النساني المجرّد لهذا الكاتب كونه‬
‫الخبير العليم المجرّب لهذا الفنّ‪ ،‬فيقرأها بنهم مع الكثير من التسليم والنقياد فيرجع عنها بعد‬
‫ذلك إلى حالته السلمية من أجل أن يراجع الكثير مما قرأه مع مبادئ السلم الذي يؤمن به‪،‬‬
‫فينشأ الشدّ والجذب بين ما احترمه من قواعد في هذا الباب وبين ما يؤمن به من مبادئ هذا‬
‫الدين‪ ،‬أي صراعٌ بين ما يحترمه ول يؤمن به وبين ما يؤمن به بفطرته‪ ،‬وهذه واحدة في الشر‪.‬‬
‫بعد ذلك يقع هذا المتضلع بهذه القراءات في حالة أخرى‪ ،‬وقد يقع فيها ابتداءا وهي أن هذا‬
‫القارئ له بعض القراءات الشرعية اليسيرة‪ ،‬سواء كانت نبذ قليلة في أصول الفقه أو فقرات‬
‫مجملة عامة في السيرة النبوية فيحاول حينها جاهدا إمرار هذه المفاهيم الوافدة من خلل هذه‬
‫النبذ أو الفقرات‪ ،‬فهو يحفظ مثلً أن السياسة الشرعية مبنية على المصلحة‪ ،‬وأن المصلحة علّة‬
‫الحكام وغيرها من القواعد التي ل يجوز للمسلم أن يشتق منها حُكما‪ ،‬لن القواعد الشرعية‬
‫والصولية لم توضع من أجل استنباط الحكام بل وُجدت من أجل ضبط الحكام‪ ،‬فيذهب هذا‬
‫المتضلع بهذه الكتب إلى تمرير هذه القواعد الجديدة تحت عمومات القواعد الشرعية‪ ،‬ويُلبسها‬
‫ثوبا شرعيا وصبغة ظاهرية للون السلم‪ ،‬مع أن جوهرها أن لينين قالها‪ ،‬وجيفارا نطق بها‪،‬‬
‫ولكن ل يُمكن تمريرها على أهل السلم إل بإلباسها اللّون السلمي بمحاولة (نتش) أي انتقاء‬
‫بعض الحداث السلمية سواء كانت في السيرة النبوية أو التاريخ السلمي ودفعها في طيّات‬
‫الحديث لتصبح الفكرة إسلمية الصنع والدليل‪ ،‬ودَور السلم فيها هو التزيين والتحوير‪.‬‬
‫وهذا الفعل قريب بل هو عين فعل الفقيه الذي يستحسن رأيا ما‪ ،‬ويكون منشؤه هوى الفقيه‬
‫ورأيه ولكن يذهب إلى كتب الفقه من أجل أن يبحث عن فقيه ولو كان شاذا ليقول عن نفسه أنه‬
‫متّبع لغيره وليس مبتدع‪.‬‬
‫هذا النوع من (المتضلعـين بهذه الكتب) لهم لونٌ خاصّ ورأي خاصّ في طريقة أهل الفقه‬
‫والثر في التعامل مع المور‪ ،‬ومن هذا الرأي‪ :‬أنهم يعتبرون أن أصحاب الفقه والثر‬
‫متحجّرون متكلّسون ل يفهمون الحياة وسُننها‪ ،‬ويصبغون على أنفسهم ما شاؤوا من ألوان‬
‫التعظيم والتبجيل فهم المتفتحون‪ ،‬وهم أصحاب الفكر المستنير‪ ،‬وهم أئمة فنّ الحركة‪ ،‬وهم أئمّة‬
‫فن الممكن‪ ..‬إلى غير ذلك من اللقاب‪ ،‬وهم حين يقـولون عن أنفسهم أنهم أهل الخبرة في‬
‫الحركة والحياة ل يَنسون أن يقولوا عن أنفسهم أنّ عندهم من فهم الشريعة ومقاصدها ما يكفيهم‬

‫‪487‬‬
‫لقيادة السلم في معترك الحياة ودروبها‪ ،‬وأما غيرهم من أهل الفقه والثر فهم ل يصلحون إل‬
‫في التكايا والمساجد حيث يخلع المرء عقله هناك وقصر المر على ذلك‪ ،‬وينسون أن ما كان‬
‫شرعيا ودليله الكتاب والسنة ل يمكن البداع الذاتي فيه حتى يقرأ الكتاب والسنة والثر‪ ،‬وما‬
‫كان عقليا فمداره على الرأي وليس هناك من عقل يزعم صاحبه أنه أعقل من غيره إل ونوزع‬
‫في هذا وعورض من قبل البشر جميعا فإن كان لهم عقولٌ فلبقيّة الناس عقول‪ ،‬وحين قسم ال‬
‫تعالى الموال بين الناس لم ترض الناس القسمة لن ابن آدم ل يشبع من المال‪ ،‬وحين قسمت‬
‫العقول رضي كل امرئ بعقله وظنّه أفضل العقول‪ ،‬نعم‪ ،‬لصاحب التجربة حِكمة يفوق بها‬
‫غيره‪ ،‬ولغير المجرب سبل كثيرة لرأب هذا النقص وإتمامه‪ ،‬ذكرها أئمّتنا‪ ،‬ل يعرفها هذا النوع‬
‫من (المتضلعين)‪.‬‬
‫هذه الثنائية المتعارضة بين أن تكون فقيها أوحركيا!! ل تنشأ في عقل المسلم الذي تضلع كثيرا‬
‫ودرس كثيرا وفهم كثيرا لكبر حركةٍ انقلبية في التاريخ النساني كله أقصد سيرة النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم لنّه ل يوجد أبدا داخل هذه السيرة التعارض بين ما هو شرعي وما هو حركي‪،‬‬
‫فليس هناك شيءٌ اسمه فقه الحكام وشيء غيره اسمه فقه الحركة‪ ،‬بل هما شيءٌ واحد‪ ،‬وليس‬
‫هناك في داخل هذه السّيرة حاجة إلى تأويلٍ فاسد باستيراد ما هو حرامٍ لتمريره في حركة‬
‫الجماعات في سعيها للتغيير تحت باب المصلحة أو السياسة الشّرعية (على مفهوم مغايرتها لفقه‬
‫الشريعة والحكام) بل في هذه السّيرة البيان الشّافي واليقين التام في حصول الجماعات‬
‫السلمية على أهدافها من غير الدخول في سبيل المجرمين‪ ،‬وأن التعارض بين الشرعي‬
‫وتحقيق الهداف هو تعارض موهوم‪ ،‬وكذا التعارض الموهوم بين مصلحة الجماعات وبين فقه‬
‫الحكام المأخوذ من (الورق الصفر) حسب زعمهم‪.‬‬
‫نعم إن فقه الحكام هو فقه ضوابط وتقييد الحركة لكنّه ليس فكرا ول فقها تعويقيّا ول مثبّطا بل‬
‫هو من رحمة ال بهذه المة ليصـالها إلى أهدافها بأقرب الطرق وأيسرها‪ ،‬والخروج عن فقه‬
‫الحكام إلى فقهٍ مزعوم يسمونه فقه الحركة أو ما أطلَق عليه بعضهم فقه السّيرة (فقه الموازنات‬
‫والتقلّبات الذاتية) هو الذي يمنع الجماعة المسلمة من الوصول إلى أهدافها ويُشغلها بذنوبها كما‬
‫قال ال تعالى‪{ :‬إنما استزلّهم الشيطان ببعض ما كسبوا} فما من معصيةٍ من المعاصي وإن‬
‫لبست ثوب التأويل الشرعي إل وهي مثبّطٌ ومعوّق للجماعة المسلمة في الوصول إلى الهداف‬
‫الشرعية وذلك بحصول البلء الرباني والعذاب اللهي‪.‬‬

‫‪488‬‬
‫في السيرة النبوية والهتداء بها تعميقٌ لعلقة المسلم بشقّ الشهادة الثاني محمد رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم فهو إن عمل عملً أو سار مسيرا فإنّه يشعر بعمق الرتباط بينه وبين النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فهو سائرٌ على الخطى المحمدية ويحس بها في كلّ خطوة يخطوها‪ ،‬وهذا‬
‫بخلف (المتضلع) بهدي الغيار والسير على مناهجهم‪ ،‬فإنّ باطنه مشغولٌ بشخوصهم الوثنية‬
‫المقيتة‪ ،‬وهذا رأيناه في عالم الواقع بين شخص يحاول أن يلبس ويتحرك ويجيل نظره مقتديا‬
‫بـجيمس بوند فهو حريص على مشابهة اللفتة للّفتة والهيئة للهيئة‪ ،‬وبين شخص لم ينشغل‬
‫باطنه إلّ بالشّخوص المهتدين ‪ -‬مَن ذكرهم ال في كتابه ‪ -‬ومن قرأ عنهم في السّيرة النّبويّة‪.‬‬
‫إصلح الباطن واليمان بالغيب‬
‫ن صلح وإعمار الباطن يكون بالقتداء بشخص النّبيّ صلى ال عليه وسلم وهديه وشخوص‬
‫إّ‬
‫الصّحابة كعُمر وخالد وأبي عبيدة والقعقاع رضي ال عنهم وهو يضاد إعمار الباطن بهدي‬
‫جيفارا وماوتسي تونغ ولينين وغيرهم من شخوص الوثنيّة والضّلل‪ ،‬إعمَار الباطن بهدي‬
‫المهتدين يكون بالتّضلّع ل بانتقاء السيرة النّبويّة وفِقه الئمّة‪ ،‬وإعمار الباطن (بل خرابه) بهدي‬
‫الوثنيين يكون بالتّضلّع بسيرتهم وحركتهم‪.‬‬
‫في السّيرة النّبويّة علقة مع عالم الغيب‪ ،‬حركة ومسيرة ل تخرِمُ شيئا من سنّة ال تعالى‬
‫الكونيّة‪ ،‬بل هي في إطارها‪ ،‬ولكنّ من سنن ال الكونيّة علقةُ الشّهادة بالغيب‪ ،‬ومن سنّته‬
‫حصول الرّعب لدى العداء‪ ،‬ومن سنّته حصول أثر الدّعاء‪ ،‬ومن سنّته أن ينصر المؤمنين به‬
‫ضعَفائهم‪ ،‬هذه السّنن الكونيّة سننٌ تعادل شطر عالم الشّهادة وسنن الحياة الظّاهرة ل ينتبه‬
‫بسبب ُ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم وسيرته‪ ،‬أمّا المتنكب فهذه أمور ل يقيم لها‬
‫ل المتضلّع بسنّة النّب ّ‬
‫لها إ ّ‬
‫وزنا ول يرفع لها رأسا‪.‬‬
‫سبابة الدّعاء المرتفعة إلى السّماء تعادل سيفا ورمحا مُشرَعا‪ ،‬بكاء الثّكالى وصراخ المظلومين‬
‫هي سهام الليل التي يشتّت ال بها العداء والكفّار‪.‬‬
‫إنّ أعظم البشر وأشجعهم وأشدّهم بأسا صلى ال عليه وسلم كان في بدر يناجي ربّه‪ ،‬لنّ هذه‬
‫المناجاة من أعظم السنن التي يستغلّها أهل السلم في القضاء على العداء والكفّار‪.‬‬
‫كان أهل السلم إذا سمعوا أهل الحصن أو البلدة يسبّون النّبيّ صلى ال عليه وسلم استبشروا‬
‫بسرعة حصول النّصر على هذه القرية والبلدة كما ذكر ابن تيمية في "الصّارم المسلول"‪ ،‬هذه‬
‫المعاني الحقيقيّة‪ ،‬وهذه السباب الكونيّة في ميزان القوى بين أهل السلم وبين أعدائهم ل‬

‫‪489‬‬
‫يهتدي لها ول يحسب لها حسابا إلّ المتضلّع بسنّة النّبي صلى ال عليه وسلم وسيرته‪ ،‬أمّا ذاك‬
‫الرّجل المتضلّع بسيرة الوثنيين والجاهلين فإنّه يستعيض عن سهام الليل أكف الدّعاء بمعاصي‬
‫يمرّرها تأويلً لها من باب المصلحة الموهومة والسّياسة الشّرعيّة التي ل ضابط لها ول زمام‬
‫يقيّدها في ذهنه وعقله‪.‬‬
‫فما من معصية يحتاج لها أهل السلم في معركتهم مع أعداء ال تعالى إلّ بسبب غفلتهم عن‬
‫طاعةٍ وشرعٍ علّمهم ال إياه فنسوه ولم يهتدوا له‪ ،‬فذهبوا يستعيضون عن السنّة بالبدعة‪ ،‬وعن‬
‫الطاعة بالمعصية‪ ،‬وعن عالم الغيب ورجاله برجال الكفر والبدعة‪.‬‬
‫فعالم الغيب الذي فيه الستر اللهي والنّصر اللهي والتأييد اللهي هو عالمٌ يشترك مع عالم‬
‫الشهادة في سنن ال تعالى في الجهاد والتغيير والنصر والفلح‪.‬‬
‫تحقيق التوحيد غاية المجاهد‬
‫في السيرة النبوة الهداف قبل الوسائل‪ ،‬ولمّا كانت أهداف السلم لها تعلّق بعالم الغيب أي‬
‫برضى ال تعالى كانت تقديرات المور تختلف تمام الختلف مع تقديرات وأهداف أصحاب‬
‫الـكتابات العسكرية للحركات الثورية في العالم‪.‬‬
‫أهل السلم هدفهم العظم ومرادهم الكمل تحقيق التوحيد في الرض‪ ،‬فكل ما يقترب من شأن‬
‫هذا الهدف إبطالً أو تأجيلً أو تبديلً فإنه مردودٌ بغضّ النظر عن بقية المصالح التي نظن أننا‬
‫سنحصّلها بعد ذلك‪.‬‬
‫ولذلك فكلّ مساومة حول هذا الهدف لتحقيق بعض المصالح مساوم ٌة مرفوضة‪ ،‬وكل محاولةٍ‬
‫لتأجيل البحث في هذا المقصد ل وجود له في سيرة النبي صلى ال عليه وسلم وسنته‪ ،‬لكنّ هذه‬
‫المساومة وهذا التأجيل لهما الوجود الكبر فيمن يرى المر سياسةً مطلق ًة ومصـالح فضفاضة‬
‫لنه سمع أن جمع النصار (مطلقا) هو إحدى مبادئ تحقيق الهداف وحرب النصار‪.‬‬
‫إن الوصول إلى القبور مع المحافظة على هذا المبدأ الصيل خير من الوصول إلى المساومة‬
‫حوله وتأجيل البحث فيه‪ ،‬فإقامة الدولة السلمية لخدمة التوحيد ومن أجله ولصيانته وللحفاظ‬
‫عليه‪ ،‬وليس العكس‪ ،‬فالسلم ليس وسيلة لهدف‪ ،‬وإرضاء ال تعالى ليس وسيلة لهدف‪ ،‬بل كل‬
‫وسائل البشر من أجل تحقيق السلم في أنفسنا‪ ،‬ونيل رضاء ال تعالى في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫فالتأجيل والمساومة تكون في غير التوحيد وصيانته‪ ،‬أما التأجيل والتأويل فيما يخص التوحيد‬
‫وأهله فهو شأن المتضلعين بكتب (سبيل المجرمين)‪.‬‬

‫‪490‬‬
‫الطريقة الشرعية لقامة الدولة طريقة كونية‬
‫بناء دولة السلم حكم شرعي بمعنى أنّه واجب شرعي دليله أمر ال تعالى في كتابه وفي سنّة‬
‫النبيّ صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولمّا أسقطت دولة الخلفة وانفرط عقد المّة وبدت في الفق معالم‬
‫عقديّة فاسدة تتسارع في اقتناص الدول المنفرطة من دولة الخلفة‪ ،‬فقد دخلت الحزاب‬
‫الشيوعيّة إلى بلدنا سنة ‪1917‬م أي في السنة ذاتها التي انتصر فيها لينين ضدّ خصومه وبنى‬
‫الدولة الشيوعية الولى في روسيا‪ ،‬وبعدها بدأت الحزاب اليمينيّة واليساريّة على مختلف‬
‫ألوانها من حمراء وبيضاء وزرقاء‪ ،‬من بعثيّة وقوميّة وعلمانيّة وغير ذلك‪ ،‬وكان من جملة هذه‬
‫الحزاب المتصارعة لحصول الغلبة على هذه الدولة الحزاب والتنظيمات السلميّة‪ ،‬وكان في‬
‫هذه الحزاب الكثير من العمومات التي لم تحدّد‪ ،‬وكانت هذه العمومات سببا لعدم اهتداء الكثير‬
‫منها إلى الوقوف الموقف الشرعي الصحيح مع الحداث المتسارعة‪ .‬وكان من جملة هذه‬
‫المعلومات المعوّقة من تحصيل الغلبة الختلف حول الطريقة المثلى في إقامة الدولة السلميّة‪،‬‬
‫وكان السؤال‪ :‬ما هو الطريق الشرعي لحياء دولة السلم؟ وقد أخذ هذا السؤال شوطا بعيدا‬
‫من الوقت والجهد للوصول إلى الجواب الصحيح‪ ،‬أو لتحديد معالمه‪.‬‬
‫وللسف (وأقولها حسيرا) ما زال بعض الناس يظنّ أن هذه الطريقة تحتاج إلى مزيد من‬
‫الكشف والدراسة‪ ،‬أي أنه مازال الكثير من أهل الدين يجمع الناس ليحدّثهم عن الطريقة المُثلى‬
‫في إسقاط الطواغيت‪ ،‬أو الطريقة المثلى لحياء دولة الخلفة‪.‬‬
‫في الوقت الذي كانت فيه الحزاب وخصوصا اليساريّة تشدّ الخطى وتسعى بتقدّم ناجح نحو‬
‫أهدافها في بناء دولهم ومجتمعاتهم كان المسلمون في تنظيماتهم يتناظرون فيما بينهم على‬
‫الطريقة النبويّة في إقامة دولة السلم‪ ،‬وهو أمر مشين معيب‪.‬‬
‫لقد كان أهل السلم يملكون الرصيد الكبر لتحصيل الغلبة في امتلك الدولة‪ ،‬ولكن بكلّ سهولة‬
‫ك الرصيد إلى مُهاجر مُطارد ل يملك‬
‫ويسر تحوّل مَن ل يملك الرّصيد إلى حاكمِ دولةٍ ومن يمل ُ‬
‫مترَ أرض يموت فيه‪.‬‬
‫لقد بنى النّاس دولهم وأقاموا لها الساسات وال ُعمُد ووثّقوا أركانها وجنُوا خيراتها وربّوا المّة‬
‫على ما يريدون‪ ،‬وكسبوا مواقع متقدّمة‪ ،‬وما زال أهل السلم يتناظرون ويتشاجرون حول‬
‫الطّريقة المثلى لقامة الدّولة السلميّة؟!!‪ .‬وكلّ المتناظرين يزعمون أنّ دليلهم فيما يقولون من‬
‫إقامة الدّولة السلميّة مشتقّة من الطّريقة النّبويّة (زعموا)‪.‬‬

‫‪491‬‬
‫وإنّي بفضل ال تعالى منذ أن بدأت أحترم عقلي وأحترم ما وهبني ال تعالى من ِنعَمٍ أيقنت أنّ‬
‫الطّريقة المثلى لقامة دولة السلم هي عين الطّريقة المثلى في إقامة أيّ دولة من الدّول‪.‬‬
‫فالطّريقة الشّرعيّة هي عينها الطّريقة الكونيّة‪ ،‬فإذا ثبت من جهة النّقل الصّحيح فإنّه يوافق‬
‫ي الصّريح‪ ،‬وإذا ثبت شيء من جهة العقل الصّريح فإنّه ل بدّ أن يوافق النّقل الصّحيح‪،‬‬
‫الكون ّ‬
‫ولكنّ الحكم الشّرعيّ ل يؤخذ من الكونيّ بل يؤخذ من النّقليّ‪ ،‬فالحلل والحرام والجائز‬
‫والمستحبّ والمكروه ل يث ُبتُ واحدٌ منها إلّ بالكتاب والسنّة‪.‬‬
‫ل الصّريح‪ ،‬ول يُمكن أن يُجمع العقلء‬
‫وبالتّالي ل يمكن أن يثبت نقلٌ صحيحٌ على خلف العق ِ‬
‫ي صريح وهو مخالف لشرع ال ودينه‪ ،‬فمصدر الكون هو مصدر الشّرع {أل له‬
‫على كون ّ‬
‫الخلق والمر} بل إنّ من معاني الحقّ (وهو اسم يطلق على الشّرعي) ثابت لكونه موافقٌ لق َدرِ‬
‫ال تعالى وخلقه (الفطرة)‪.‬‬
‫هذا الذي أقـوله ل بدّ أن يجتمع مع ما قُلته سابقا ليستقيم المعنى في نفوس إخواني القرّاء‪.‬‬
‫وقد علم كلّ من عاشرني وعرفني عن قرب أنّي من أشدّ النّاس (بفضل ال تعالى) تنبيها على‬
‫أولئك الذين يخرِمون السنن الكونيّة والقدَريّة بحجّة وجود قواعد خاصّة لنا (أي أهل السلم)‬
‫تُخالف السنن الكونيّة والقدريّة التي يجريها ال تعالى على البشر جميعا‪ ،‬وبالتّالي فإنّ مِن الخطأ‬
‫الشّنيع أن يظن ظان أنّ السّيرة النّبويّة لها نظام خاصّ وقواعد مستقلّة خارج نظام وقواعد‬
‫وسنن التّغيير السّننيّ في البشر جميعا‪ ،‬فهذا الزّعم هو الذي يجعل أولئك القوم يقرأون السّيرة‬
‫من أجل البركة فقط من غير نظرٍ إلى أنّها هي الطّريقة الكونيّة والشّرعيّة الوحيدة لقامة دولة‬
‫السلم‪ ،‬وهذا فيه ر ّد على أولئك الذين يجعلون الطّريقة النّبويّة طريقة خاصّة ل يعرفها إلّ أهل‬
‫السلم في إقامة الدّولة‪ ،‬وكفى بواقع أولئك دليلً على خطأ ما وقعوا فيه من الوهم والظّن الذي‬
‫حسبوه علما ويقينا‪.‬‬
‫ل أشكّ أنّ كثيرا من النّاس لن يقبلوا كلمي حتّى أمله وأحشُوه بكلم ابن تيمية رحمه ال‬
‫تعالى‪ ،‬مثل هؤلء القوم لست حريصا على إقناعهم بصواب ما قلته‪.‬‬
‫الشّيخ ناصر الدّين اللباني له طريقةٌ خاصّة في إقامة الدّولة السلمية يسمّيها ويلقّبها بالطّريقة‬
‫النّبويّة‪ ،‬ويُطلق عليها شعار التّصفية والتّربية‪.‬‬
‫حزب التّحرير له طريقةٌ خاصّةٌ في إقامة الدّولة السلميّة يوجب على النّاس سلوكها ويسمّيها‬
‫الطّريقة النّبويّة‪.‬‬

‫‪492‬‬
‫وكذا الخوان المسلمون (إحسانا للظّنّ بهم) وغيرهم الكثير‪ ،‬وأنا أسأل هؤلء جميعا سؤالً‬
‫واحدا أقدّم له بمقدّمات مُجمع عليها (!! أو أظنّ ذلك)‪:‬‬
‫أوّلً‪ :‬المسلم المهتدي معه توفيق ال تعالى وبالتّالي هو أقرب إلى تحصيل أهدافه من الكفّار‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬من أسماء الشّرع عندنا‪ :‬الهداية‪ ،‬ومعناها البصيرة في إدراك المطلوب‪ ،‬فبالتّالي ما هو‬
‫شرعيّ أقرب إلى غيره في الوصول إلى الهدف ف ُم ْم َتثِل الطّريقة الشّرعيّة أقـرب من العاصي‬
‫في إدراك المراد‪.‬‬
‫هاتان مقدّمتان (الهداية الشّرعيّة والهداية التّوفيقيّة) توجبان علينا سؤالً هو‪:‬‬
‫إذا كان المر كذلك فلماذا وصل الكافر إلى هدفه وجنى المسلم ضدّ مراده؟ لماذا بنى البعثيّون‬
‫دولتين وشيوخ السلم لم يجدوا مأوى لهم؟‪ .‬مع أنّ كلّ أدوات المعركة كانت بين أيدي‬
‫المسلمين ومشايخهم كما قدّمنا وكان القليل منها بيدِ أعدائهم (خلفا لواقعنا الن)‪.‬‬
‫أليس هذا السؤال يوجب عليّ وعلى كلّ عاقلٍ (لم يؤجّر عقله لغيره) أن يعتقد أنّ ما قاله‬
‫المشايخ عن الطريقة النبويّة في إقامة الدولة السلميّة خطأ على الطريقة النبويّة‪ ،‬وليس خطأ‬
‫من الطريقة النبويّة؟‪.‬‬
‫لكن للسف وُجد عندنا من قال أنّ هذا الطريق هو طريق البتلء‪ ،‬ومعناها عنده أنّ الشارع‬
‫أعطانا طريقةً غير صحيحةٍ من أجل أن يوصلنا إلى ضدّ أهدافنا وأهدافِهِ ابتلءً لنا‪ .‬فهذا هو‬
‫معنى البتلء عندهم‪:‬‬
‫أن تسلك الطريق التي أمرك بها الشارع فتصل إلى ضدّ أهدافك ابتلءً لك (وحسبنا ال ونعم‬
‫الوكيل)‪.‬‬
‫هل بين ما قُلتُه هنا وبين ما قلتُه سابقا خلف؟! بمعنى أني قلتُ أنّ الطريقة الكونيّة التي يسلكها‬
‫عقلء البشر في بناء دَولتهم هي عينها الطريقة النبويّة في إقامة الدولة السلميّة‪ ،‬لنّ الدّولة‬
‫شيءٌ وجوديّ كونيّ واسمها يُطلق على شيء واحد عند البشر جميعا ولكن المضاف إلى هذه‬
‫الدولة هي الحكام وال ِقيَم التي تحكم بها هذه الدولة‪ ،‬فهذه دولة إسلميّة لنها تحكم بالسلم‬
‫و ِق َيمُها مستمدّة من السلم‪ ،‬وهذه دولة شيوعيّة لنها تحكم بالقيم الشيوعية‪ ،‬وهذه دولة بعثية‬
‫لنها تحكم بقيم حزب البعث‪ ،‬ولكن اسم الدولة مشترك بينها جميعا وهو يُطلق على شيءٍ‬
‫وجودي واحد‪ ،‬والشيء الوجودي (السنة القدريّة) شيء جامع للبشر جميعا بغضّ النظر عن‬
‫دينه وقيمه‪.‬‬

‫‪493‬‬
‫سنن قيام الدول‬
‫ثمّ إني ثربت هناك ورهّبت من أولئك القوم الذين يتضلّعون من كتب الغيار في بنائهم‬
‫لمعارفهم في طريقة التغيير وبناء الدّول‪.‬‬
‫في الجواب على هذا أقول‪:‬‬
‫أوّلً‪ :‬إني وإن اعتقدت أن الطريقة النّبوية هي عينها الطريقة الكونيّة في إقامة الدّول إلّ أنّ‬
‫الخطاب الشرعي ل يَثبُت إلّ بدليلٍ شرعي‪ ،‬فهو كقولِ من قال إن النقل الصحيح ل يخالف‬
‫العقل الصريح‪ ،‬وقد أطلقه خيار الئمّة في باب صفات ال تعالى‪ ،‬إل أنّ صفات ال تعالى ل‬
‫تثبت إلّ بالشّرع الصّحيح مع أنها ل تخالف العقل الصّريح‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬إنّ مهمّة إقامة الدولة السلميّة تتطلّب إعمار الباطن بمثالٍ سابقٍ خللَ حركته وقيامه‬
‫وقعوده‪ ،‬وهذا المثال يجب أن يكون عبدا صالحا‪ ،‬فالواجب ض ْربُ المثلة بالشّخوص المهتدين‪،‬‬
‫وأنا أعتقد أنّ ما من حقّ يحتاجه المرء في هذه الدنيا إلّ وفي الكتاب والسنة ما يغنيه فيه‪ ،‬فلماذا‬
‫إبعاد النجعة (وإبعاد النجعة معناه أنّ طالب الماء حين يستطيع أن يأخذ الماء من مكان قريب‬
‫فيذهب إلى المورد البعيد يكون قد شقّ على نفسه وأبعد في الطلب من غير ما ضرورة)‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬في كلمي السابق تنبيه مهم على نوعيّةٍ من الدارسين لكتب الغيار امتلوا منها وتضلّعوا‬
‫عمُدُ معارفهم منها‪ ،‬ولم يكن التاريخ السلمي عموما والسيرة النبويّة‬
‫حتّى الثمالة فكانت ُ‬
‫خصوصا عندهم إلّ غِطاءً وصبغةً ظاهرة لهذه المعارف‪ ،‬فقد تراهم يأخذون المعارف من‬
‫الغيار ولكنهم يُأسلمونها بعد ذلك حسب نظريّة المعهد العالمي للفكر السلمي في مشروعه‬
‫(إسلميّة المعرفة)‪ ،‬فهذا الصّنف من الدارسين يقع في أخطاءٍ ل بدّ من التنبيه عليها‪.‬‬
‫ونحن في هذا الباب أمام صنفين من الناس‪:‬‬
‫الصنف الول‪ :‬غنوصي عرفاني (ومعناهما واحد وتعنيان من ينكر وجوب الدلئل والمقدمات‬
‫من أجل الحصول على نتيجةٍ سواءً في المعرفة أو في القَدَر‪ ،‬فهو يُنكر الدليل ويوجب عليك‬
‫أخذ النتيجة من غير مقدّمة‪ ،‬فإن كانت النّتيجة في القدر (الكونيات) كان جبريا وزعم بأنّ عالم‬
‫الشهادة مربوطة أحداثه بعالم الغيب (زعم) بالكليّة ول قيمة للسنن‪ ،‬وإن كانت النتيجة معرفية‬
‫كان باطنيّا وزعم أنّ اللهام والكشف والذوق دليله)‪.‬‬
‫فهذا الغنوصي العرفاني يقرأ السيرة النبوية قراءة صوفية ل صلة لها بعالم الشهادة والسنن‪.‬‬

‫‪494‬‬
‫والصنف الثاني‪ :‬انتقائي تجزيئي ومعارفه الساسية من الغيار‪ ،‬ودور السيرة عنده التدليس ل‬
‫التأسيس‪ ،‬وهذا ما عنيته آنفا‪.‬‬
‫أمّا إسقاط الكلم السابق على أحد من إخ َوتِنا أومعارفنا تحديدا فهو ظنّ لم يُصب صاحبُه فيه‪،‬‬
‫فالمناقشة كانت لظاهرة وليست لفرد من الفراد {ولكل وجهة هو مولّيها فاستبقوا الخيرات}‪.‬‬
‫أثر الخلط بين الكونيات والشرعيات‬
‫المعارف الكونيّة (معارف الخلق والتّكوين) معارف مشاعة وليست خاصّة لهل السلم‪ ،‬وهي‬
‫كذلك ليست محصورة ول محجورة على أصحاب المعارف الشّرعيّة (العلوم الدّينيّة)‪ ،‬بل قد‬
‫غلب على هذه العلوم والمعارف الكونيّة غير أهل السلم منذ القدم‪ ،‬وقد شكى على الدّوام أهل‬
‫العلم والذّكاء مِن ترك هذه العلوم لغير أهل السلم‪.‬‬
‫فقد شكى المام الشّافعيّ رحمه ال تعالى من إعراض أهل السلم عن أهمّ علمين على مدار‬
‫طبّ وعلم الحساب‪ ،‬فإنّه ل قوام لحياة البشر في‬
‫التّاريخ النساني بعد علوم الدّين‪ ،‬وهما علم ال ّ‬
‫دنياهم إلّ بهذين العلمين (علم البدان‪ ،‬وعلم الحساب) قال حرملة‪ :‬كان الشّافعيّ يتلهّف على ما‬
‫ضيّع المسلمون من الطّب‪ ،‬ويقول‪ :‬ضيّعوا ثلث العلم‪ ،‬ووكلوه إلى اليهود والنّصارى‪[ .‬سير‬
‫أعلم النّبلء ‪ ،]10/58‬وقال‪ :‬من نظر في الحساب جزل رأيه‪ [ .‬المصدر السّابق ‪ ،]10/41‬وقد‬
‫انتشر في بلد المسلمين الهتمام الشّديد بعلوم الذّهن وظهر العراض عن علوم اليد‪ ،‬وهو‬
‫ميراثٌ أساء كثيرا إلى البناء العلميّ للعقول في تاريخ أهل السلم المتأخّرين‪ ،‬وقد أصبغ‬
‫المتكلّمون وخاصّة الشاعرة على هذه المفاهيم صبغة شرعيّة ولعلّ من أعجب ما وقعوا فيه‬
‫النّظر إلى العلوم الكونيّة والكلم عليها بطريقة الكلم على المعارف الخرى حيث استعملوا‬
‫فيها المنطق الرسطيّ وقواعده التي سمّاها بالكليّات‪ ،‬وهي موازين ل تصلح لهذه المعارف‪،‬‬
‫ن المعارف الكونيّة ل تحصّل إلّ بطريق الحسّ والعقل‪ ،‬فالحسّ لتحصيل المعارف الجزئيّة‬
‫فإ ّ‬
‫لهذه السّنن‪ ،‬والعقل لتعميم هذه المعارف لتحصّل منها القواعد‪(،‬وهو المنهج التجريبي) فاستخدام‬
‫الحس فقط دون اعتبار العقل للتّعميم عن طريق العتبار والقياس ل ينشئ قاعدة‪ ،‬واستخدام‬
‫العقل في عموماته دون الحساب والتّجربة تنشئ أوهاما أغلبها ل يوجد لها وقائع وحقائق كونيّة‪،‬‬
‫ولذلك كان المتكلّمون (وعلى رأسهم الشاعرة) من أفسد النّاس نظرا إلى العلوم الكونيّة‪ ،‬ومن‬
‫أفسد ما قالوه ما سمّوه قاعدة الجوهر والعرض‪ ،‬وهي قاعدة جعلوها من أصل الدّين وبنوا‬

‫‪495‬‬
‫بعض العلوم الدّينيّة على أساسها‪ ،‬وهي في أساس بنائها ل وجود لها إلّ في أذهانهم الرسطيّة‬
‫الكليلة‪ ،‬وشرح هذه القاعدة يطول أمره وهي باختصار تقول‪:‬‬
‫‪ -1‬أنّ الشياء كلّها تتكوّن من جواهر متعدّدة‪.‬‬
‫‪ -2‬والجواهر هي أصغر شيء في المادّة‪ ،‬ول شيء أصغر منها‪.‬‬
‫‪ -3‬الجواهر حقيقة واحدة تتعدّد وليس بينها اختلف في جميع الشياء‪.‬‬
‫‪ -4‬العلقة بين الجواهر في تشكيل المادّة هي علقة تجاور فقط وليست علقة تفاعل‪.‬‬
‫وقد س ّميَت هذه القاعدة مؤخّرا بقاعدة ال ّذرّة‪ ،‬وعلى أساس هذه القاعدة التي أدخلت في أصول‬
‫الدّين بنى المتكلّمون (وعلى رأسهم الشاعرة) قاعدة التّحسين والتّقبيح وهي قولهم‪ :‬إنّ التّحسين‬
‫والتّقبيح شرعيّان‪ ،‬فالشياء التي حرّمها ال هي في حقيقتها كالشياء التي أحلّها ال وإنّما‬
‫التّحليل والتّحريم ابتلء من ال لعباده من غير علّة سابقة‪.‬‬
‫فلمّا اقتنع المتكلّمون أنّ الشياء في حقيقتها شيء واحد‪ ،‬أخذوا يقولون‪ :‬ما ضرورة البحث إذا؟!‬
‫ما أهميّة التّجربة في إدراك حقائق الشياء وهي في جوهرها شيء واحدٌ؟ فالحديد في حقيقته‬
‫عين النّحاس وهما عين الذّهب والفضّة‪ ،‬وإنّما الختلف في العراض (المظاهر الخارجيّة‬
‫كاللون والوزن وغيرهما)‪ ،‬وهذه القاعدة هي التي جعلت بعض المجاذيب (من المتكلّمين)‬
‫يسعون بشقّ النفس باحثين عن أكسير الكيمياء‪ ،‬وهذا يعني أنّنا كما استطعنا استخراج روح‬
‫الورد والزّهر‪ ،‬ثم وضعنا شيئا قليلً منه في بركة ماء فتحوّل الماء إلى رائحة الزّهر المُستخرَج‬
‫منه الرّوح‪ ،‬ولمّا كانت حقائق الشياء واحدة فلماذا ل نستخرج روح الذّهب فنضعه على بقيّة‬
‫المعادن فتتحوّل بسبب روح الذّهب إلى ذهب‪.‬‬
‫هذه العقليّة في تفسير الكونيّات التقت في عدم أهمّية البحث والنّظر وعدم أهميّة العمل في‬
‫حصول النّتيجة كنهاية مع النّظرة الجبريّة‪ ،‬فكمُلت المصيبة عند أهل السلم بالعراض عن‬
‫البحث والدّراسة والتّجربة‪ ،‬ثمّ جاءت الصّوفيّة فاستغلّت ذلك كلّه وجعلت الكسل شعار الزّهّاد‪،‬‬
‫وجعلت تحطيم الرادة نهاية التّعبّد والتألّه‪ ،‬وجعلت المجاذيب والمجانين هم البهاليل (والبهلول‬
‫كلمة مدح تعني الرّجل الشّجاع الحكيم الكريم ولكنّها أطلقت من قبل الصّوفيّة على مجاذيبهم‬
‫فانقلب معناها في أذهان النّاس إلى معنىً قبيح وهو المجنون)‪.‬‬

‫‪496‬‬
‫ن أضلّ النّاس كلما في الكونيّات هم أهل الكلم‪ ،‬وهم قادة المّة منذ القرن الخامس‬
‫ومن هنا فإ ّ‬
‫الهجريّ‪ ،‬فكان خلل هذه العصور رجال الكونيّات وأئمّتها هم النّصارى واليهود والفلسفة‬
‫والزّنادقة‪.‬‬
‫أمّا لماذا الفلسفة كابن سينا والرّازي والفارابي والخوارزمي فهذا له شرحٌ طويلٌ ل يتّسع له‬
‫هذا المقام‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬هل العلوم الكونيّة من اليمان؟ بمعنى هل المسلم البصير بأمور الخلق وسننه أكثر إيمانا‬
‫من غيره‪ ،‬كما أنّ المسلم البصير بأمور الشّرع والدّين أكثر إيمانا من غيره؟‪.‬‬
‫ن الوعود اللهيّة التي‬
‫الجواب بكلّ اطمئنان ويقين‪ :‬نعم‪ ،‬وعندما يكون الجواب نعم فإنه يعني أ ّ‬
‫قالها ال تعالى في كتابه وقالها رسول ال صلى ال عليه وسلم في السنّة النّبويّة ل تقع إلّ‬
‫بوجود النّوع من اليمان المتعلّق بالمور الشّرعيّة والدّينيّة‪.‬‬
‫وتفسير ذلك‪ ،‬أو دليل ذلك‪ ،‬قوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى ال من‬
‫المؤمن الضّعيف‪ ،‬وفي كلّ خير))‪.‬‬
‫فإيمان المؤمن القويّ أقوى ‪ -‬لنّه أحبّ إلى ال تعالى ‪ -‬من إيمان المؤمن الضّعيف‪ ،‬والقوّة‬
‫والضّعف تعلّقهما في الكونيّ والخلقيّ ل في الدّينيّ والشّرعيّ‪ ،‬وتفسير هذا‪ ،‬أنّ اليمان قول‬
‫وعمل‪ ،‬والعمل ل يقع إلّ بقوّة وإرادة‪ ،‬والقوّة هنا في هذا التّقسيم قاصرة فقـط على ما هو‬
‫كونيّ‪ ،‬ول ينبغي أن يقال هنا قوّة محبّة ال ومحبّة الخرة‪ ،‬فإن هذا النّوع من القوى داخلة في‬
‫الرادة وهي الشّقّ الثّاني المطلوب لتحقيق العمل‪ ،‬فالقوّة هنا تقع على ما هو كونيّ فقط‪.‬‬
‫إذا يجب علينا أن نعلم أنّ البصر والعلم بما هو كونيّ شرطٌ لتحقيق كمال اليمان الواجب‬
‫سنّة‪.‬‬
‫لتحقيق الوعود اللهيّة في الكتاب وال ّ‬
‫كما أنّ البصر والعلم بما هو شرعيّ شرطٌ لتحقيق كمال اليمان الواجب لتحقيق الوعود اللهيّة‬
‫في الكتاب والسنّة سواء بسواء‪.‬‬
‫ولهذا النّوع من العلوم (علم الكونيّ) طرقٌ للفهم‪ ،‬وقواعد للتّلقّي وأصول للتّأصيل والعمل‪ ،‬كما‬
‫أنّ للعلم الشّرعيّ طرقٌ للفهم وقواعد للتّلقّي وأصول للتّأصيل والعمل‪.‬‬
‫ومن أهم هذه القواعد وأرسخها وأوضحها وأبرزها أنّ النّبوّة والنبياء لم يرسلهم ال تعالى بهذه‬
‫العلوم‪ ،‬بل هذه العلوم داخلة في قوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬أنتم أعلم بأمور دنياكم))‪.‬‬

‫‪497‬‬
‫نعم‪ ،‬ما قاله صلى ال عليه وسلم من هذه المور والعلوم والسّنن حقّ وصدق ويجب التّسليم به‬
‫واعتقاد صدقه وحقّه مثل قوله صلى ال عليه وسلم عن الذّباب‪(( :‬إنّ في إحدى جناحيه داء‬
‫ن الداء ينـزل في الليل))‪ ،‬أو مثل ما أرشد إليه من‬
‫وفي الخرى دواء))‪ ،‬أو مثل قوله‪(( :‬أ ّ‬
‫بعض أمور الطّب كقوله عن الحبّة السوداء‪(( :‬أنها شفاء من كل داء إلّ السام ‪ -‬الموت‪، ))-‬‬
‫وكقوله عن ماء الكماة أنها‪(( :‬شفاء للعين))‪ ،‬فهذه أمور حق وصِدق ويجب اليمان بها والتسليم‬
‫بها ول يُلتفت إلى قول من قال إن رسول ال صلى ال عليه وسلم قالها من قبيل نفسه وتجربته‬
‫كما وقع لشاه ولي ال الدهلوي في "حجة ال البالغة" ومن تابعه‪ ،‬بل هي من أمور الوحي الذي‬
‫منّ ال تعالى على أمّة محمد صلى ال عليه وسلم بها رحمة بهم واليمان بها واجب والتعريض‬
‫بها ردّا وقدحا من ضعف اليمان وربّما يكون نفاقا عياذا بال تعالى‪.‬‬
‫ومن أوضح هذه القواعد في التّعامل مع الكونيّ أنها عرضة للتبديل والتغيير‪ ،‬وهي داخلة في‬
‫مجال البحث والكتشاف والخذ والردّ‪.‬‬
‫والبدعة في المور الشرعيّة الدّينيّة ول تطلق البدعة على ما اكتشفه الناس وحسّنوه في المور‬
‫الكونيّة‪ ،‬وهذه أمور يأخذها المرء المسلم ول يتحرّج في ذلك‪ ،‬فالناس كانوا يتنقلون على أرجلهم‬
‫وعلى الدواب من حمير وبغـال وخيول‪ ،‬وقد استطاع النسان أن يكشف أنظمة وسننا كونية‬
‫جعلت الوصول إلى أهدافه أيسر بكثير مما كان عليه في القديم‪ ،‬وهذا باب الحديث عن أمثلتهِ‬
‫واسع جدا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الثابت الذي يجب امتثاله وعدم تطـويره أو إدخال الرأي والهوى فيه هو الشرعي‪ ،‬أما‬
‫المتحوّل فممّا له تعلقٌ بالكونيات‪.‬‬
‫فالرجل الذي يقول بتطـوير الشّريعة هو رجلٌ زنديق في دين ال تعالى لنّه يريد أن يلغي‬
‫الشّريعة‪ ،‬حتّى لو كان هذا التطوير باسم التأويل الجديد‪ ،‬فإن التأويل الحق هو إصابة مراد‬
‫المتكلم‪ ،‬وأحقّ الناس بإصابة مراد ال ومراد رسول ال صلى ال عليه وسلم هم الصحابة‬
‫رضي ال عنهم‪ ،‬فالدّين والشرع هو ما فهموه‪ ،‬وما لم يكن عندهم دينا فل يجوز أن يكون فيمن‬
‫بعدهم دينا "اتّبعوا ول تبتدعوا فقد كُفيتم"‪ ،‬أمّا من أراد أن يجعل الثّبات فيما هو كوني فهو أضلّ‬
‫من حمار أهله‪ ،‬فإني أعجب من أقوام يزعمون أنّ استعمال الكهرباء والدوات الصناعيّة‬
‫الجديدة من البدعة‪ ،‬وإني أعجب أن يكون لهم رؤوس كرؤوس البشر‪ ،‬ولكن ل في خلقه‬
‫شؤون‪.‬‬

‫‪498‬‬
‫ومن هذه القواعد والصول في التعامل مع الكوني أنّها إنسانيّة التلقّي‪ ،‬فحيثما وُجِدت فيجب‬
‫على أهل السلم أن يسارعوا في الخذ بها ول يُعرضوا عنها بحجّة أن مكتشفها أو صانعها‬
‫غيرُ مسلم وهذا داخل في ضالّة المؤمن من الحكمة فحيثما وجدها فهو أحق بها‪ .‬أل ترون أن‬
‫رسول ال ? نهى عن الغِيلة فلمّا رأى أهل فارس والروم يفعلونها ول تضر أبناءهم نسخ نهيه‬
‫وأجاز فعلها (والغِيلة أن تحمل المرأة وهي تُرضع ابنها حيث كانوا يظنّون أنّ هذا يؤثّر على‬
‫الطفل ويخرجه ضعيف البدن)‪.‬‬
‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪:‬‬
‫التغيير كونا وشرعا‬
‫في باب التّغيير (تغيير المنكر) ومنه الجهاد في سبيل ال تعالى‪ ،‬يكون الجهاد حكما شرعيّا‬
‫وواجبا عينيّا في حالتٍ معروفة عند أهل العلم‪ ،‬فإنّه ل يجوز تغييره ول تبديله بحجج الرأي‬
‫والهوى والستحسان‪ ،‬إذ لو كان هناك أفضل منه وخير لعلمّنا الشارع إيّاه وهدانا إليه وفعله‬
‫الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬فالجهاد في سبيل ال تعالى ومقاتلة المشركين حكم شرعي وواجب‬
‫عينيّ في حالت وواجب كفائي في حالت أخرى‪.‬‬
‫فإذا قال الشارع الحكيم إن الحاكم إذا ارتدّ يجب قتاله فهذا حكم ل يدخل فيه التبديل والتغيير‪.‬‬
‫نعم هو حكم ككلّ الحكام الشرعيّة منوطٌ بالستطاعة والقدرة‪ ،‬بل قد أمر الشارع بتكوين القوّة‬
‫والستطاعة وهما من باب العداد‪ ،‬ولكن ل يجوز أن نبحث عن بدائل ووسائل للغاء هذا‬
‫الحكم وتطويره‪ ،‬كما فعل البعض حيث سمّى الدخول في النتخابات جهادا في سبيل ال تعالى‪،‬‬
‫وجعل هذه العملية بديلً عن الجهاد في سبيل ال تعالى‪ ،‬وأدخل هذا المر في باب الوسائل التي‬
‫تجيز للمسلم الختيار بينها (نعوذ بال من الخذلن)‪.‬‬
‫إذن يجب الجهاد‪ ،‬فمن لم يستطع الجهاد بسبب ضعف العداد أو عدمه‪ ،‬فيجب العداد فإن لم‬
‫يستطع العداد فيجب عليه العتزال ((فاعتزل تلك الفرق كلّها))‪.‬‬
‫والجهاد ليس وسيلةً بل هو عبادة‪ ،‬أي أن الجهاد في سبيل ال تعالى والقتال عبادةٌ من العبادات‬
‫وهو أمر شرعي ل يدخل فيه التحويل ول التطوير ول التغيير‪ ،‬وما لم يكن عند الصحابة دينا‬
‫فل يجوز أن يسمى اليوم دينا‪.‬‬
‫وما هو متحول في هذا الباب وسائل القتال وأساليبه وخططه وطرقه‪ ،‬فمن الجهل الذي ل جهل‬
‫فوقه‪ ،‬ومن الغباء الذي ل غباء فوقه ومن أسباب دمار أهل السلم وطوائفهم أن يوجب أحدهم‬

‫‪499‬‬
‫على أهل مصر مثلً أن يحكموا أهل مصر بالسلم بفتح جديد بنفس الطّريقة التي فتحها عمرو‬
‫بن العاص رضي ال عنه‪ ،‬ويرون من الخطأ والبدعة استعمال طرق وأساليب للحرب والقتال‬
‫(ولو تعلّمناها من غير أهل السلم) في إقرار حكم ال تعالى على هذا البلد‪.‬‬
‫ولو ل أني قرأت شيئا من هذا عن بعضهم لما ظننت أنّ أحدا من البشر (بله أهل السلم) يفكّر‬
‫بمثل هذا التّفكير ويقول مثل هذا القول الخطير‪.‬‬
‫صرُ الخذ في أساليب الحرب وطرقها وعلومها على أهل السلم‬
‫ومن فهم من كلمي أنّي أَق ُ‬
‫فقد فهِم كلمي على نحوٍ خطأ ول شكّ‪ .‬لكنّي أعتقد أنّ السّيرة النّبويّة غنيّة غناءً ل مثيل له في‬
‫إدراك سنن التّغيير وقواعد التّعامل مع الحداث‪.‬‬
‫السّيرة النّبويّة فيها الحرب الصّداميّة الشّاملة (مثل بدرٍ وأحد)‪.‬‬
‫السّيرة النّبويّة فيها الغتيال وتصفية الرّؤوس (قتل كعب بن الشرف وغيره)‪.‬‬
‫السّيرة النبويّة فيها العقود والمعاهدات (مثل صلح الحديبية وعقد الرسول عليه السلم المان‬
‫لليهود أول هجرته)‪.‬‬
‫السّيرة النّبويّة فيها النقلب والتّغيير الرّأسيّ الشّامل (حادثة فيروز الدّيلمي رضي ال عنه مع‬
‫السود العنسيّ في اليمن)‪.‬‬
‫السيرة النبوية فيها جهاد الدفع كما في غزوة أحد وغزوة الخندق‪ ،‬السيرة النبوية فيها جهاد‬
‫الطلب كفتح مكة وغزوة حنين بل أن مؤتة وتبوك وغيرهما قد اجتمع فيها الدفع والطلب‬
‫والتشريد‪..‬‬
‫السّيرة النبويّة فيها نظام {وشرّد بهم من خلفهم}‪( .‬مثل ما وقع في غزوة حمراء السد ومعركة‬
‫مؤتة وغزوة تبوك)‪.‬‬
‫وهكذا فهي تجربة غنيّة تمل نفس المسلم وتغني باطنه وتعمره بوجود المثال الصّالح لغلب‬
‫أحداث الحروب وطرقها‪ ،‬ولكنّ كتب السّيرة النّبويّة صارت كتبا للتّبرّك ل كتبا للعلوم والمعرفة‬
‫فحسبنا ال ونعم الوكيل‪.‬‬
‫ن هذه العلوم ممّا ينبغي أن‬
‫فعلوم الحرب وطرقها ووسائلها علومٌ إنسانيّة مشاعة‪ ،‬شئنا أم أبينا فإ ّ‬
‫نبكي على أهل السلم لعراضهم عنها وهي علوم تنشأ بالتّجربة والطّلع وحدة العقل‬
‫الرّاغب في هذه العلوم‪ ،‬وتؤخذ من مظانّها التي يعرفها أهل البحث والنّظر‪.‬‬

‫‪500‬‬
‫وقد يقوى لها الفاسق ويضعف عنها التّقيّ وحينئذٍ سنشكو كما شكى عمر بن الخطّاب رضي ال‬
‫عنه حين قال‪ :‬اللهم إنّي أعوذ بك من عجز التّقيّ وجلد الفاجر‪.‬‬
‫وأنا لست من أهل هذا الفنّ ول من أصحاب علومه المفاريد حتّى أنصح وأقوّم الكتب الرّائعة‬
‫في هذا الباب‪ ،‬وأقصد ما عمله أهل السـلم في اكتشاف علوم الحرب وقواعدها من خلل‬
‫السّيرة النّبويّة‪ ،‬ولكنّي رأيت عامّة من كتب في هذا الباب إنّما تأسّست معارفه وعلومه في فنّ‬
‫الحرب من الدّراسة خارج السّيرة‪ ،‬فلمّـا قرأ السّيرة نعى على النّاس وخاصّة أهل السلم‬
‫إعراضهم عن هذا النّبع العظيم‪ ،‬ومن هؤلء الممدوحين في هذا الباب محمود شيت خطّاب في‬
‫أغلب كتبه‪ ،‬وكذلك ما كتبه العسكريّ الباكستانيّ عن خالد بن الوليد‪ ،‬وما كتبه تنويها بهذا المر‬
‫منير شفيق في كتابه "في نظريّات التّغيير" وإن كانت سيّئات الكتاب أكثر بكثير جدّا من حسناته‬
‫وإنّما أشرت إلى تنويهه لقيمة السّيرة النبويّة في هذه العلوم‪ ،‬والرّجل له كتاب عندما كان‬
‫شيوعيّا ماويّا في فنّ الحرب((أقول ‪ :‬وما كتبه العلمة بسام العسلي أعمق ما كتب في هذا‬
‫العصر وخاصة في قادة الفتح السلمي والقادة المراء والخلفاء وكذلك في كتابه الضخم فن‬
‫الحرب السلمي )) وما كتبه الخ عمر عبد الحكيم في القسم الثّاني من كتابه "الثّورة السلميّة‬
‫الجهاديّة في سوريا" والذي حرص فيه أن ينبّه إلى أهميّة هذا البحث وليس فقط ما اقتصر‬
‫البعض عليه من قـراءة السّياق التّاريخيّ لمأساة جماعات البدعة على الجهاد في سوريّا الشّام‪،‬‬
‫وما ذكـر فيه من قواعد اختصّ بهـا دون غيرها من الكتب ا لمتقدّمة في البناء المنهجيّ‬
‫لجماعات الجهاد المعاصرة فعلوم الكونيّات تؤخذ من أصحابها المتفقّهين فيها ول تؤخذ من غير‬
‫أهلها‪ ،‬فإذا وقعت الموازنة بين الفاسق أو الكافر العالم لهذه العلوم وبين المسلم الصّالح الجاهل‬
‫في هذه العلوم فإنّ واجب التّرجيح يكون مائلً إلى أصحاب هذه العلوم من غير تردّد‪.‬‬
‫نعم‪ :‬أمانيّنا أن يجتمع البيان والدّين مع القوّة والفنون الما ّديّة‪ ،‬ولكنّها أماني أظنّ أنّنا فقدناها‬
‫قديما في أهل السلم‪ ،‬ول حاجة لذكر ما ذكره ابن تيمية رحمه ال تعالى من حصول هذا‬
‫الفتراق في زمانه‪ ،‬ولكن وما ذلك على ال بعزيز‪.‬‬
‫س والتّجربة والعقل‪ ،‬ومن رام دليل هذه العلوم في‬
‫وممّا يجب أن يُعلم أنّ هذه العلوم دليلها الح ّ‬
‫سنّة من غير العمـومات فهو جاهل ل يفهم دين‬
‫كلّ أحداثها وقواعدها وأصولها من الكتاب وال ّ‬
‫ال تعالى‪ ،‬نعم هي داخلة في عمومات الشّريعة التي تُبيح لنا تعلّم هذه العلوم من غير طريق‬
‫النّبوّة (الوحي) كالسّير في الرض والنّظر والبحث و((أنتم أعلم بأمور دنياكم))‪.‬‬

‫‪501‬‬
‫فمثل هؤلء الطّالبين لدلّة ما هو كونيّ ممّا هو شرعيّ يذكّروننا بقصّة ذكرها ابن حزم في‬
‫بعض كتبه وأظنّ أنّه "طوق الحمامة"‪ ،‬تقول القصّة‪ :‬إنّ رجلً مغفّلً من أهل الحديث ركب‬
‫ل نصرانيّا يحمل زجاجات خمر‪ ،‬فتقدّم منه المحدّث المغفّل وسأله عمّا هو‬
‫سفينة فرأى رج ً‬
‫داخل الزّجاجات‪ .‬فقال‪ :‬هذه زجاجات خمر‪.‬‬
‫فقال المحدّث‪ :‬ما دينك؟‪ .‬قال الرّجل‪ :‬نصرانيّ‪ .‬قال المحدّث‪ :‬ممّن اشتريتها؟‪ .‬قال الرّجل‪ :‬من‬
‫يهوديّ‪.‬‬
‫فأهوى المحدّث بيده على قارورة منها فشـربها‪ ،‬فتعجّب النّصرانيّ وقال له‪ :‬أقول لك هي خمر‬
‫وتشربها؟!!‪.‬‬
‫فردّ المغفّل‪ :‬يا هذا يأتيني الحديث عن فلن وفلن (وذكر أسماء جماعة من كبار أهل الحديث)‬
‫فأردّه‪ ،‬أفآخذ بقول نصرانيّ عن يهوديّ؟!‪.‬‬
‫ما يهمّنا كون المحدّث شرب الخمر وبالتّالي سيَسكر ولن تنفعه مهارته المزعومة‪ ،‬ول احتياطه‬
‫المقلوب‪ ،‬ول منطِقُه المعكوس‪ ،‬وهذا من فساد المتنطّعين في ظنّهم أنّ إتقان علمٍ من العلوم‬
‫وقاعدة من القواعد لقضيّة من القضايا كافية للفتوى والجواب على أيّ مسألة في الدّين والدّنيا‪،‬‬
‫طبّ‪ ،‬وخبير الكمبيوتر يتحدّث ويُفتي في علم‬
‫فمصلّح السيّارات يُفتي في إصلح البدان وال ّ‬
‫الحديث‪ ،‬وللسف فإن هذا كلّه ل نراه إلّ عند أهل السلم لنّنا ما زلنا نفكّر بمنطق أرسطو‬
‫الذي علّمنا الكليّات الجامعة لكلّ العلوم سواء كانت المعارف كونيّة أو من العلوم الشّرعيّة‪.‬‬
‫أليس من المعيب حقّا أن يُفتي شيخٌ في علم الحديث لرجل يعيش في البوسنة زمن الحرب أن ل‬
‫يقاتل حتّى يصل الصّربيّ باب بيته ؟!!‪.‬‬
‫ثمّ أليس من المَعيب أن يظنّ مف ّكرٌ أو بصير في علمٍ من العلوم الكونيّة أنّ قواعده الكليّة وروح‬
‫السلم العامّ ترشده إلى إدراك الحكم الشّرعيّ في أيّ مسألة من المسائل‪ ،‬حتىّ تصحيح‬
‫الحاديث وتضعيفها يدخل في باب روح السلم وقواعده الكليّة ؟!!‪.‬‬
‫نعم‪ :‬ديننا ليس فيه كهنوت‪ ،‬وليس فيه فاتيكان‪ ،‬وليس فيه بابا‪ ،‬ولكن أليس في ديننا شيء يسمّى‬
‫طلب العلم ؟!!‪.‬‬
‫أم أنّ الجوهر واحد والختلف في العراض فقط ؟!!‪.‬‬
‫الفصل الول‬
‫مفاهيم ومصطلحات‬

‫‪502‬‬
‫"المقصد الشرعي من وضع الشريعة‪ ،‬إخـراج المكلف من داعية هواه‪ ،‬حتى يكون عبدا ل‬
‫اختيارا كما هو عبدٌ ل اضطرارا"‬
‫الشاطبي‬
‫ما هي السّلفية ؟ !‬
‫السّلفية على مدار التّاريخ السلمي تتمثّل بأمرين‪:‬‬
‫أولهما‪ :‬منهج علمي في التّعامل مع الصلين (الكتاب والسنة) حيث تقوم على اعتمادهما فقط‬
‫ونبذ ما سواهما في الصّدور عنهما بالحكم المراد للحركة والحياة‪.‬‬
‫ثانيهما‪ :‬حركة حياة وسلوك طريق في تطبيق هذا المنهج‪.‬‬
‫فالسّلفيّة هي ذلك المنهج الّذي اختطّه الوائل من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم علما‬
‫وعملً‪ ،‬هكذا هي السّلفية وهكذا ينبغي أن تكون‪ ،‬ومن رحمة ال تعالى بهذا المنهج العلميّ‬
‫العمليّ أن أقام له رجالً تعاملوا معه بأسمى حالت الكمال حتّى صاروا هم المنهج‪ ،‬والمنهج‬
‫هم‪ ،‬فحينئذٍ ارتبط اسم المنهج بشخوصهم وتقيّد بهم فأطلق اسم المنهج عليهم بكونهم السلف‬
‫الّذين سبقوا الكلّ في تطبيق المنهج قدْرا وزمانا‪.‬‬
‫فالتّابعون تعاملوا مع أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم على أنهم‪( :‬منهج وسلف)‪ ،‬ومن‬
‫بَعدَهم تعامل مع التّابعين على أنهم‪( :‬منهج وسلف)‪ ،‬وهكذا‪ ،‬ولمّا كثرت البدع في نهاية القرن‬
‫الثّاني وبداية القرن الثّالث‪ ،‬وخاصّةً بدع أهل الكلم‪ ،‬في تقديم منهج بدعيّ جديد في التّعامل مع‬
‫الصلين‪ ،‬واختلطت المور‪ ،‬نشط أهل السنّة في تمييز المنهج عن غيره‪ ،‬وكذلك في كشف‬
‫رجال المنهج السّلفي عن غيرهم من أصحاب المناهج الخلَفيّة الخرى‪ ،‬وصار بعض أهل العلم‬
‫هم أصحاب المنهج‪ ،‬ولهم ينسب‪ ،‬وصاروا هم المقياس في ردّ الخرين لهم‪ ،‬وقد ذكر المام‬
‫الكرجي ‪ -‬رحمه ال تعالى ‪ -‬هؤلء الرّجال في كتاب سمّاه‪" :‬تنقيح الفصول في الصول عن‬
‫الئمّة الثنى عشر الفحول"‪ ،‬وهؤلء الئمة هم‪ :‬مالك والشّافعي وسفيان الثّوري وعبد ال بن‬
‫المبارك‪ ،‬والليث بن سعد واسحق بن راهويه وأحمد بن حنبل وسفيان بن عيينة والوزاعي‬
‫ومحمّد بن إسماعيل البخاريّ وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان‪)1( .‬‬
‫هؤلء العلماء ليسوا هم فقط‪ ،‬ولكن غيرهم يرجع إليهم في توضيح هذا المنهج القويم‪ .‬وبعد هذا‬
‫نخلص إلى النّتائج التّاليــة‪:‬‬

‫‪503‬‬
‫‪ - 1‬تحت كلّ شعار زيوف ونقد‪ -‬وكذلك السّلفية ‪ -‬ففيها الزّيف وفيها الحق‪ ،‬ولذلك ينبغي‬
‫التّعامل مع الحقائق ل مع الشّعارات‪ ،‬مع أهميّة الشّعار وضرورته‪.‬‬
‫‪ - 2‬السّلفية منهج علميّ عمليّ‪ ،‬أئمّته هم أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم وغيرهم تبع‬
‫لهم‪ ،‬فلهم وحدهم حقّ التّقويم والرشد‪.‬‬
‫‪ - 3‬علينا أن ندرك خطأ وانحراف من قرن السّلفية بشخص ل يؤمن عليه الفتنة في فهمه‬
‫للحركة والحياة‪ ،‬وكذلك علينا أن ندرك ضلل وبدعية من جعلها تنظيما وحزبا وتجمعا‪ ،‬وأشدّ‬
‫من هؤلء ضللً وانحرافا هو جعل السّلفية علقة بين أفراد‪ ،‬فهذا سلفيّ لنّه معروف لهذه‬
‫الجهة‪ ،‬أو تتلمذ على يديها‪ ،‬وهذا غير سلفيّ لنّه غير معروف لديها‪ ،‬أو لم يسلّم لهذه الجهة‬
‫رقبته لتقوده كالدّابّة‪ ،‬ثمّ علينا أن ندرك خطأ وانحراف من جعل السّلفية مذهبا فقهيا‪ ،‬يوالي‬
‫ويعادي عليه‪.‬‬
‫إن منهج السّحرة هو تزييف الحقائق وتمويهها على النّاس‪ ،‬والسّحرة في كلّ زمان إما أن‬
‫يغيّروا صورة الشياء في البصار عن طريق التّخْييل الشيطاني‪ ،‬وإما أن يغيروا حقائقها في‬
‫الذهان عن طريق السّحر البيانيّ‪ ،‬وقد حذّر النّبيّ صلى ال عليه وسلم من هاتين الطّائفتين أشدّ‬
‫التحـذير‪ ،‬ونبّه المّة إلى خطرهما وعظيم أمرهما‪ ،‬وقد علم أهل السنّة أن أعظم السّحرة على‬
‫مدار التّاريخ النساني هو الدّجال‪ ،‬الّذي سيخرج آخر الزّمان بما معه من شعوذات ومخاريق‬
‫يفتن بها النّاس عن توحيد ال سبحانه وتعالى‪ ،‬وقد جاءت الحاديث الكثيرة الّتي تكشف‬
‫للمؤمنين أمره فل يغترّوا به‪ ،‬ول يلتبس عليهم حاله‪ ،‬وفي حديث لرسول الرحمة والملحمة‬
‫صلى ال عليه وسلم يجمع فيه التحذير من هاتين الفرقتين‪ :‬سحرة التّخييل وسحرة البيان‪ :‬فقد‬
‫ذكر المام أحمد رحمه ال في مسنده حديثا فيه التّحذير من أمر الدّجال‪ ،‬وذكر فيه قول النّبي‬
‫صلى ال عليه وسلم‪(( :‬غير الدجال أخوف على أمّتي من الدّجال‪ ،‬الئمة المضلّون))‪)2( .‬‬
‫في هذا الحديث إرشاد نبويّ إلى وجوب كشف الئمّة المضلّين‪ ،‬كما كشف رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم أمر الدّجال بجامع فتنتهما‪.‬‬
‫وإذا كان الدّجال أعظم فتنة تقع في الدّنيا كما جاء في بعض الحاديث‪ ،‬فإن هذا الحديث يبيّن أن‬
‫الئمّة المضلّين أشد فتنة وأكثر سوءا وأعظم إفسادا‪ .‬فمن هم الئمة المضلّون؟‪.‬‬
‫المام‪ :‬هو المرء المتبوع‪ ،‬سواء كان هذا المتبوع في أمر علميّ أو أمر عمليّ‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫{وأطيعوا ال وأطيعوا الرّسول وأولي المر منكم} النساء‪ ،‬وقد ذكر ابن كثير ‪ -‬رحمه ال تعالى‬

‫‪504‬‬
‫‪ -‬تفسير العلماء بقوله‪ :‬أولي المر وخلفه في تعيينهم هل هم العلماء أم المراء؟ ثمّ خلص إلى‬
‫القول أنّها عامّة في كلّ من العلماء والمراء‪.‬‬
‫فالئمّة المضلّون هم المراء الضّالّون والعلماء الضالّون‪ ،‬وهاتان الفرقتان ربط رسول ال‬
‫بصلحهما صلح النّاس وبفسادهما فساد النّاس‪ ،‬وهما كما قال ابن المبارك رحمه ال تعالى‪:‬‬
‫وأحبار سـوء ورهبانـها‬ ‫ل الملوك‬
‫وهل أفسد الدين إ ّ‬
‫فساد المراء‪ :‬روى المام البخاري في صحيحه أنّ امرأة من أحمس سألت أبا بكر الصدّيق‬
‫فقالت‪ :‬ما بقاؤنا على هذا المر الصالح ‪ -‬أي السلم ‪ -‬الذي جاء ال به بعد الجاهليّة؟ قال‪:‬‬
‫بقاؤكم عليه ما استقـامت بكم أئمّتكم‪ .‬قالت‪ :‬وما الئمّة؟‪ .‬قال‪ :‬أمَا كان لقومك رؤوس وأشراف‬
‫يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت‪ :‬بلى‪ .‬قال‪ :‬فهم أولئك النّاس‪.‬‬
‫فصلح المراء بقيامهم على أمر السلم‪ ،‬وتطبيقهم شريعة الرحمن‪ ،‬ونشرهم العدل في‬
‫الحكام‪ ،‬وفسادهم بتركهم دين ال تعالى‪ ،‬وبعدم إقامته في النّاس‪ ،‬وقد علّق أبو بكر رضي ال‬
‫تعالى عنه فساد النّاس بفساد الئمة‪ .‬ما استقامت بكم أئمّتكم‪ .‬قال الحـافظ بن حجر ‪ -‬رحمه ال‬
‫‪ -‬في "فتح الباري" في شرحه لهذا الحديث‪ :‬لنّ النّاس على دين ملوكهم‪ ،‬فمن حاد من الئمّة‬
‫عن الحال مال وأمال‪ .‬ا‪ .‬هـ‪.‬‬
‫ومن أجل أهمية المراء وقيمتهم في الحياة فإنّ الشّارع الحكيم أمر المسلمين وحثّهـم على‬
‫مراقبتهم من أجل تقويم اعوجاجهم‪ ،‬ولو أدّى هذا إلى حصول الضّرر على النّاصح المقوّم‪ ،‬قال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪(( :‬أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر))‪ )3( ،‬وهذا كلّه في الحاكم‬
‫المسلم‪ ،‬أما الحاكم الكافر فقد وجب على المسلمين خلعه وإزالته‪ ،‬قال القاضي عياض‪ :‬فلو طرأ‬
‫عليه ‪ -‬أي المير ‪ -‬كفر وتغيير للشّرع أو بدعة خرج عن حكم الولية وسقطت طاعته‪،‬‬
‫ووجب على المسلمين القيام عيه وخلعه‪ .‬ا‪ .‬هـ‪.‬‬
‫فساد العلماء‪ :‬روى الشيخان عن عبد ال بن عمرو بن العاص رضي ال عنه مرفوعا أنّ‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬إن ال تعالى ل يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد‪،‬‬
‫لكن يقبض العلم بقبض العلماء حتّى إذا لم يبق عالما اتخذ النّاس رؤساء جهّالً‪ ،‬فسئلوا فأفتوا‬
‫بغير علم‪ ،‬فضلّوا وأضلّوا "‪.‬‬
‫ق والصواب‪ ،‬وإرشادهم للهدي الصّحيح‪ ،‬وتحذيرهم من‬
‫فصلح العلماء في تعليم النّاس الح ّ‬
‫الحكام والتّصورات الفاسدة‪ ،‬وفسادهم بالفتوى الجاهلة‪ ،‬والهدي الباطل‪ ،‬والقول الفاسد‪ ،‬فإذا‬

‫‪505‬‬
‫أفتى العالم بالهوى والجهل فإن قوله يفسد النّاس ويضلّهم كما قال صلى ال عليه وسلم في‬
‫الحديث السّابق (فضلّوا وأضلّوا)‪.‬‬
‫وقد فرّغ كثير من أهل الذّكر نفسه لذكر نماذج من الئمّة الصّالحين‪ ،‬وكيف كان لفعالهم‬
‫وأقوالهم الثر الطّيب‪ ،‬والخير الذي يصيب العباد والبلد‪ ،‬ونماذج العلماء الذين وقفوا أمام حيف‬
‫الئمّة المراء وظلمهم وفسادهم‪ ،‬وكذلك نماذج المراء الصّالحين الّذين سطروا بفعالهم دفاتر‬
‫الخير والنصر على مدار التاريخ السلمي‪ ،‬ولكن كل هذا لم يخل من ذكر نماذج من الجهة‬
‫المقابلة‪ ،‬جهة أمراء الضلل‪ ،‬وعلماء الضلل‪ ،‬وسأذكر أركان علماء الضّلل الّذين وقفوا أمام‬
‫الحقّ‪ ،‬وحاولوا مزايلته‪ ،‬أو أنهم حاولوا استغلل عمائمهم من أجل نشر الرذيلة الفكرية بين‬
‫النّاس‪ ،‬وهي أركان تعين الشّاب المسلم الن وغدا في كشف هؤلء القوم‪ ،‬وهذه الركان الّتي‬
‫سأسوقها هي الركان الّتي حذّر منها أهل السنّة والجماعة في أقوالهم ومصنّفاتهم‪ ،‬ولم أزد‬
‫سوى أني جمعتها على هذه الصورة‪:‬‬
‫(‪ - )1‬انظر "درء تعارض العقل والنّقل" لبن تيمية (ج ‪.)98-2/95‬‬
‫(‪ - )2‬سنده صحيح‪.‬‬
‫(‪ - )3‬رواه أحمد بسند صحيح عن أبي أمامة‪.‬‬
‫مـن هـم علماء الضلل؟‬
‫‪ - 1‬الـصوفية‪:‬‬
‫قال المام الشّافعي‪ :‬ما تصوّف رجـل عاقـل أول النّهار وأتت عليه صـلة العصر إلّ وهو‬
‫مجنـون‪ .‬ا‪ .‬هـ‪)1( .‬‬
‫والصّوفية فرقة ضالّة منحرفة‪ ،‬تلبست بمسوح السلم‪ ،‬وادعت العمل بالشريعة‪ ،‬وهي في‬
‫حقيقتها وجوهرها قائمة على أصول شركية منحرفة‪ ،‬ولم تعرف هذه الفرقة بعقائدها ول‬
‫بعباداتها في الصّدر الول الممدوح من قبل رسول ال صلى ال عليه وسلم بقوله‪(( :‬خير النّاس‬
‫قرني‪ ،))...‬وهي في كلّ زمان تتلوّن بأثواب جديدة‪ ،‬ولعلّ أكثر الفرق انحرافا في هذا الزّمان‬
‫فرقة الحبشية‪ ،‬وهم أتباع الضّال عبد ال الحبشي المقيم في لبنان‪ ،‬ومن أعظم انحرافاتهم بعد‬
‫كونهم صوفية كلمية موالتهم للطّواغيت‪ ،‬قال عدنان الطرابلسي‪ ،‬وهو نائب في مجلس الشّرك‬
‫(ال ّنوّاب) اللبناني‪ .‬وهو ممثّل الحبشيّة في البرلمان‪ ،‬والفرقة لها جمعية هناك تسمّى جمعيّة‬
‫المشاريع الخيرية‪ .‬يقول هذا الضّال المخرّف‪ :‬إننا لسنا من الصولية السّلبية!! هذه الصولية‬

‫‪506‬‬
‫المزعومة المراد منها الكرسيّ والزّعامة والتّخريب‪ ،‬ل لهذه الصولية الّتي تكفر حكّام العرب‬
‫المسلمين لمجرّد أنّهم حكموا بالقانون من غير أن يعتقدوا أن القانون خير من القـرآن‪ ،‬ل لهذه‬
‫الصولية الّتي تقتل العسكري أو رجل الدّولة‪ ،‬لمجرّد أنّه ينفذ حكم القانون‪ .‬انتهى كلمه‬
‫الضّال‪.‬‬
‫وهذه الفرقة الخبيثة بدأت تغزو كثيرا عقول الشّباب المغترب في أوروبّا وأمريكا وأستراليا‪ ،‬مع‬
‫ما لهذه الفرقة من أثر سيّء في لبنان حيث كانوا هم اليد القذرة الّتي تنفّذ سياسة الدّولة الخبيثة‬
‫الكافرة سوريا‪ ،‬ولذلك فإنّي أنصح الخوة في كلّ مكان أن يحذروا هذه الفرقة ويحذّروا منها‬
‫الشّباب لئل يقع في حبالهم‪ ،‬وهذه الفرقة لها طريقة خبيثة في جذب الشّباب إليها‪ ،‬فهي أوّل ما‬
‫تبدأ معهم في تكفير الئمّة العلم كابن خزيمة والجرّي وعبد ال بن أحمد بن حنبل‬
‫والبربهاري وابن تيمية وابن القيّم ومحمّد بن عبد الوهاب وسيّد قطب وغيرهم من أئمّة الهدى‬
‫والدّين‪.‬‬
‫وكثير من الفضلء العلماء يقع في الوهم والخطأ حين يقسّم الصّوفيّة إلى قسمين أو أقسام‪ ،‬فيظنّ‬
‫أن هناك صوفية سنّية وصوفيّة مبتدعة‪ .‬ولعلّ هذا التقسيم جاءهم من عدم دراستهم المتعمّقة‬
‫للصّوفية كما هي عند أصحابها‪ ،‬لن الصّوفيّة أنفسهم يرفضون هذا التّقسيم‪ ،‬ويتعاملون مع‬
‫الجميع على أنّهم طائفة واحدة ل طوائف على اختلف مشاربهم ومشايخهم وطرقهم‪ .‬وبدراسة‬
‫متأنّية نستطيع أن نجزم أن الصّوفيّة هي تلك التّربة النّجسة الّتي نمت فيها ومنها الكثير من‬
‫أفكار الضلل والنحراف كالشّيعة الرّوافض‪ ،‬وأهل الكلم الزّنادقة وغيرهما‪ .‬وقد يقع بعض‬
‫ن الصّوفي هو ذلك الرجل الذي ينتسب إلى صوفيّة‪،‬‬
‫أهل الخير كذلك في خطأ آخر حين يظنّ أ ّ‬
‫ن الصّوفية تعدّت كونها ابتداعا في العبادات والنّسك‪ ،‬إلى‬
‫أو مشيخة صوفية‪ ،‬وهذا حق‪ ،‬لك ّ‬
‫كونها طريقة حياة ومنهج تفكير‪ ،‬وأسلوب عمل‪ .‬ولذلك قد يقع بعض من يكثر حديثه عن بدع‬
‫الصّوفية وانحرافاتهم في منهـج التّفكير الصّوفي في فهمه للحركة والحياة‪.‬‬
‫الصّوفية طريقة منحرفة‪ ،‬أفرزت في حياة المسلم طريقة حياة‪ ،‬ومنهج حركة‪ ،‬علوة على أنها‬
‫دين يحمل عقيدة تصورية مبناها على وحدة الوجود‪ ،‬وطريقة عبادة‪ ،‬فيها من بدع الخلوة‬
‫والجوع والسّهر‪ ،‬وإنّ كثيرا من الفضلء تأثّروا بالمنهج الصّوفي في التّغيير والحركة‪ ،‬ولعلّ‬
‫أوضح عبارة أطلقت في هذا الزّمان عبّرت عن هذا المنهج الصّوفيّ هي الكلمة الّتي صارت‬
‫شعارا لبعض التّجمعات والتّنظيمات السلمية‪ ،‬هذه العبارة هي‪" :‬أقيموا دولة السلم في‬

‫‪507‬‬
‫قلوبكم‪ ،‬تقم لكم على أرضكم"‪ .‬وكذلك مثل هذه الدعوة أصحاب دعوة التصفية والتربية‪،‬‬
‫بالمفهوم التّربوي الّذي يطرحه أتباع هذه الشّعارات‪ ،‬وقد استساغ بعضهم أن يسمّي بعض‬
‫الجماعات أو الشّخصيات بأنّه سلفيّ العقيدة‪ ،‬إخوانيّ الطريقة‪ ،‬وهو لفظ شاع وانتشر للدّللة‬
‫على بعضهم بأنّه لم يتلبّس بالسّلفية الشّاملة‪ ،‬فإنّنا نستطيع بكلّ جرأة أن نسمي أصحاب هذا‬
‫الشّعار‪" :‬أقيموا‪ ...‬تقم‪ "...‬وهم أصحاب التّغيير عن طريق التصفية والتّربية أنّهم‪ :‬سلفيّة العقيدة‪،‬‬
‫صوفيّة المنهج‪.‬‬
‫هذا مع تنبيهنا الضّروري على أنّ هذه الثّنائية المتناقضة ل وجود لها على أرض الواقع‪ ،‬إذ ل‬
‫يمكن للرّجل أن يكون سلفيّا في عقيدته كما يزعمون وإخوانيّا في طريقته ومنهجه‪ ،‬كما أنّه ل‬
‫يمكن كذلك أن يكون سلفيا في عقيدته وصوفيّا في طريقته ومنهجه‪ ،‬والسبب الّذي يدعو هؤلء‬
‫القوم إلى هذا التقسيم الخرافيّ‪ ،‬هو أنهم لم يفهموا من السّلفية إل شيئا جزئيا في البناء الشّامل‬
‫للمنهج السّلفيّ‪ ،‬مثل ظنّهم أن السّلفي هو من يعتقد بمنهج السماء والصّفات اللهية على طريقة‬
‫الوائل من أئمّتنا‪ ،‬فظنّهم هذا يدعوهم أن يقولوا عن فلن أنّه سلفيّ في عقيدته (عقيدة السماء‬
‫والصّفات) وإخوانيّ الطّريقة والمنهج‪ ،‬مع أن السّلفيّ لم يكن يوما من اليام شعاره الّذي يتميّز‬
‫به عن غيره موضوع عقيدة السماء والصّفات فقط‪ ،‬بل السّلفي هو ذلك الشّخص الّذي يحمل‬
‫المنهج الشّامل في عقيدة التّوحيد بشقّيها‪ :‬توحيد الشّرع وتوحيد القدر‪ ،‬ويحمل المنهج الشّامل في‬
‫توحيد التّباع‪ ،‬كما بسط هذا في مواطن عديدة من كلم الئمة الهداة كشيخ السلم ابن تيمية‬
‫رحمه ال تعالى وغيره‪ .‬لكن ل بأس من استعمال طريقة هؤلء المحرّفة في هذا التّقسيم‬
‫الثّنائي‪ :‬سلفيّ العقيدة‪ ،‬صوفي المنهج‪ ،‬حين ل يكون أمامنا إل أن نسلك الصّعب من الفكار مع‬
‫هذا الغثاء الذي يمل الفضاء ممّن تغرّهم الشّعارات‪ ،‬وتستهويهم لعبة اللفاظ والعبارات‪.‬‬
‫(‪ - )1‬ذكره ابن الجوزي في صفة الصّفوة وفي تلبيس إبليس‪.‬‬
‫صوفيّة أقيموا دولة السلم في قلوبكم تقم لكم على أرضكم‬
‫الصّوفيّة في تاريخها مع المسلمين بنت نفسها على بعض الركان المنحرفة من العقائد الزّائغة‬
‫التي انتسبت للسلم زورا وبهتانا‪ ،‬وأهمّ هذه الركان المنحرفة الّتي استغلّتها الصّوفية عقيدة‬
‫الرجاء‪ ،‬وهي مناقضة لتوحيد الشّرع‪ ،‬وعقيدة الجبر وهي مناقضة لتوحيد القدر‪ ،‬وخلصة‬
‫ي تصوّر‬
‫عقيدة الرجاء المنحرفة أنّها تقدّم إسلما بل تكاليف‪ ،‬وتجعل مناط التّكليف اليمان ّ‬
‫القلب واعتقاده‪ ،‬وأمّا أعمال الجوارح فليست إل مظهرا ل قيمة له في عالم الحقائق‪ ،‬فهي عقيدة‬

‫‪508‬‬
‫تدفع صاحبها دوما إلى النتكاسة نحو الدّاخل (القلب) دون الهتمام بحركة الجوارح‪ ،‬ولمّا كان‬
‫لبد من أن تقدّم هذه العقيدة تفسيرا لحركة الحياة وما نراه من الرتباط السنني الظاهر فإنها‬
‫لجأت إلى عقيدة الجبر‪ ،‬وهي تفسير حركة الحياة تفسيرا غيبيّا خرافيّا ل وجود له في الحقيقة‪،‬‬
‫وتجعل وقوع القدار مربوطا بالباطل الرجائي‪ ،‬ول قيمة للظاهر من أعمال الجوارح‪ ،‬وقد علم‬
‫المسلم المبتدئ أن حركة القلوب ليست هي المؤثّر في حركة الحياة‪ ،‬بل المؤثّر هو حركة‬
‫الجوارح‪ ،‬مع علمه الكيد أن حركة الجوارح ل تقع إل بحركة القلب (إرادات الباطن)‪ ،‬وحين‬
‫نفسّر هذه الكلمات المثال نقول‪:‬‬
‫إذا أراد النسان ‪ -‬أيّ إنسان ‪ -‬أن يبني بيتا‪ ،‬فإن البيت ل يُبنى إلّ بحركة الجوارح‪ ،‬بكلّ ما‬
‫يطلب هذا البيت من أركان وشروط وتحسينات‪ ،‬مع أن هذا النسان ل يمكن أن يبني البيت إل‬
‫إذا أراد ذلك‪ ،‬والرادة هي حركة القلب ‪ ،‬لكن ل يصح أن يقول قائل‪ :‬إن الّذي يبني البيت هي‬
‫الرادة‪ ،‬بل الصّحيح أن الرادة هي التي تنشئ العمل‪ ،‬الذي هو حركة الجوارح وبالعمل يُبنى‬
‫البيت‪ ،‬وكلّها من حركة النسان‪ :‬من إرادة قلبية وعمل الجوارح‪ ،‬فالنسان يريدها في قلبه‪،‬‬
‫ويعملها بجوارحه‪ ،‬وليس هو مكلّف بإرادة القلب ليقوم غيره بعمل الجوارح‪.‬‬
‫ولنعد الن إلى العبارة المصيبة‪ :‬أقيموا دولة السلم في قلوبكم‪.‬‬
‫هذا الشّقّ من العبارة يبيّن لنا أن المكلّف بإقامة دولة السلم هو القلب (النتكاس نحو الداخل)‪،‬‬
‫مع أن الواجب أن نقيم دولة السلم بجوارحنا‪ ،‬أي عن طريق حركة الجوارح الّتي تؤثّر في‬
‫حركة الحياة‪ ،‬أي أن نقيمها في الخارج‪ ،‬وكان لنا أن نحسن الظنّ بهذه العبارة البدعيّة الضّالّة‪،‬‬
‫لو لم يأت الشّقّ الثّاني جازما لنا أن ل نحمل معناها إل على هذا المعنى البدعيّ الضّال‪ ،‬فلو‬
‫قال القائل‪ :‬أقيموا الدولة في قلوبكم (بإرادتكم الجازمة) لتقيموها (بجوارحكم العاملة) في‬
‫أرضكم‪ ،‬لقلنا له صدقت‪ ،‬ولما عَدَت أن تكون هذه الكلمة مفسّرة لحركة الحياة القدرية‪ ،‬ولن‬
‫تكون بحال من الحوال شعارا لمنهج شرعه صاحبه لينصح به أتباعه بسلوكه واتّباعه‪.‬‬
‫لكن الشق الثاني حدد لنا المراد بما تقدم من الفهم المنحرف‪ ،‬لنّه قال‪ :‬تقُم على أرضكم‪ .‬ولو‬
‫سألناه من سيقيمها لنا على الرض؟ فلن يكون الجواب أبدا نحن‪ ،‬لننا نحن مكلّفون فقط بأن‬
‫نّقيمها في قلوبنا‪ ،‬بل الجواب المجزوم بقوله هو‪ :‬ال‪ .‬وهذا الجواب مع ضلله الشّرعي‬
‫ومخالفته لمر ال‪ ،‬إل أنه للسف يستهوي بعض النّاس حين يظنّ أن في ذلك تعظيما لشأن ال‬
‫تعالى‪ ،‬وما درى أنّه استخفاف بتوحيد ال سبحانه وتعالى‪ ،‬وهو جواب جبريّ يناقض توحيد‬

‫‪509‬‬
‫القدر وأوصل إليها كما تقدّم‪ :‬الضلل في توحيد الشّرع حين جعل حركة الجوارح ليست هي‬
‫المطلوبة في الشّريعة‪ .‬بل المكلّف بذلك هو القلب وهو قول مذهب أهل الرجاء الضّال‪..‬‬
‫فالعبارة كما هي عند أصحابها‪ :‬أقيموا دولة السلم في قلوبكم (إرجاء بدعي) تقم لكم على‬
‫أرضكم (جبر بدعيّ)‪.‬‬
‫والن أين هذا من دين الصّوفية؟‪.‬‬
‫شعار الصّوفية الذي يسعى الصّوفي الملتزم لتحقيقه‪ ،‬هو خروجه من إنسانيته‪ ،‬بتحرره من‬
‫الرادة‪ ،‬ومن أهم الشّعارات لديهم‪ :‬أريد أن ل أريد‪ ..‬وعامّة مجاهداتهم الباطلة تسعى إلى هذا‬
‫المقام‪ ،‬وهو تحرره من الطّباع النسيّة‪ ،‬وهي الّتي يحلو لهم‪ ،‬ولبعض من تأثّر بهم أن يسمّيها‬
‫بالبهيمية‪ :‬ومن أمثلتها‪ :‬حبّ النّساء‪ ،‬شهوة التّملّك والقتناء‪ ،‬حاجة المأكل والمشرب والملبس‪،‬‬
‫فطرة الجتماع والمدنيّة والعمران‪ ،‬وهي أمور بشرية فطرية ل يمكن للنسان أن ينخلع منها‪،‬‬
‫ي الدائم إلى التّحرر منها أوصله إلى الجنون‪ ،‬وهو الّذي‬
‫ول أن تذهب عنه‪ ،‬لكن سعي الصوف ّ‬
‫لحظه المام الشّافعي قديما فيهم حين قال‪ :‬لم يتصوّف رجل عاقل قط واتت عليه صلة العصر‬
‫إلّ وهو مجنون‪ ،‬فالصّوفي يسعى إلى تحرره من الرادة البشرية فيه‪ ،‬ولما دخلت الصّوفية إلى‬
‫السلم حاولت أن تجد لها الدّليل السلمي لبدعتها هذه‪ ،‬لتستخدمه في نشر أفكارها وشعارها‪،‬‬
‫فكان مذهب الجبر هو خير معين على ذلك‪ ،‬وخاصة حين صار الجبريّة‪ ،‬وهم الشاعرة‪ ،‬أئمّة‬
‫المسلمين في عصور التّخلّف والنحطاط‪ ،‬والشاعرة يقولون بمذهب الكسب‪ ،‬وهو يعني احترام‬
‫وجود إرادة قلبية للنسان ل تأثير لها ول قيمة لوجودها‪ ،‬أي إرادة غير مؤثّرة‪.‬‬
‫صوفية دعاة التّصفية والتّربية‪:‬‬
‫ي الصّوفي سلفي‬
‫دعاة التّصفية والتّربية‪ ،‬صوفية المنهج والطّريقة‪ ،‬وللطّرافة فإن هذا السّلف ّ‬
‫مزعوم يلتقي مع الصّوفي في نقاط عمل كثيرة تجمع بين منهجيهما‪ ،‬ومن هذه النّقاط‪:‬‬
‫‪ - 1‬الصّوفيّ شعاره‪ :‬السّياسة تياسة (نسبة للتّيس وهو لفظ يطلق للدّللة على الغباء)‪ ،‬والسّلفي‬
‫المزعوم شعاره‪ :‬من السّياسة ترك السّياسة (قالها السّلفي في بعض أشرطته)‪ ،‬فكلهما يحرّم‬
‫السّياسة على أتباعه‪ ،‬ويجعلها رجسا من عمل الشّيطان‪.‬‬
‫‪ - 2‬الصّوفيّ شعاره‪ :‬كلمنا إمّا فوق السّماء‪ ،‬وإما تحت الرض‪ ،‬ويعني بها أنّ حديث‬
‫الصوفي ل ينبغي أن يكون إلّ في أمور الغيب (فوق السّماء‪ :‬كالملئكة والعرش) وتحت‬
‫الرض (القبور والموات)‪ ،‬وهو يدل على أنّه ل ينبغي للصّوفي أن يتحدّث في شؤون الحياء‬

‫‪510‬‬
‫لنّها تشتّت الهمّة‪ ،‬وتفرّق القلب‪ ،‬وتحبّب الحياة الدّنيا‪ ،‬والسّلفي المزعوم شعاره ودينه محاربة‬
‫الموات من أصحاب القبور‪ ،‬وأتباع البدع المنسيّة الغائبة‪.‬‬
‫‪ - 3‬شعار السّلفي المزعوم المعاصر‪ :‬دع ما لقيصر لقيصر وما ل ل (قالها محمد شقرة‪ ،‬وهو‬
‫سلفي مزعوم في كتابه "هي السّلفية")‪ ،‬والصوفي هو الّذي نشر في أمّتنا مقولة‪ :‬قيصر ظلّ ال‬
‫في الرض‪ ،‬من أهان سلطان ال أهانه ال‪.‬‬
‫التّصوّر الصّحيح لمفهوم التّصفية والتّربية عند أهله وأصحابه ‪،‬في حقيقته صورة جديدة‬
‫للصّوفية في مفهومها للتّربية‪ ،‬وقبل أن نستعرض هذا المفهوم الخاطئ‪ ،‬علينا أن نتكلّم عن‬
‫مفهوم التّربية في الطّرح السننيّ المهتدي‪ ،‬كما هو مفهوم من الكتاب والسنّة‪ ،‬ثمّ بعد ذلك نرى‬
‫قرب الفهم الجديد لهذا المفهوم السننيّ المهتدي‪ .‬التّربية في الكتاب والسنّة‪:‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬هو الذي بعث في المّيين رسولً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب‬
‫والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلل مبين} الجمعة‪ .‬فهذه اليات ومثلها الّتي في البقرة (‪)129‬‬
‫وآل عمران (‪ ،)164‬تدلّ على أن عنوان البعثة النّبوية تحقيق التّزكية في نفوس أتباع الشّريعة‬
‫المهديّة‪ ،‬والتزكية هي التطهير‪ ،‬وهي البراءة من النّقائص واجتناب الرّذائل‪ ،‬ومجمل شريعة‬
‫مجموعة في الية السّابقة وهي‪:‬‬ ‫محمد‬
‫‪ - 1‬تلوة الحقّ على النّاس‪ /‬البلغ‪.‬‬
‫‪ - 2‬التّزكية ‪ /‬التطهير ‪ /‬التربية‪.‬‬
‫‪ - 3‬تعليم الكتاب والسنّة ‪ /‬الفقه‪.‬‬
‫وقد علم الطالب المبتدئ في ديننا الحقّ أن السلم هو استماع الحقّ‪ ،‬ومعرفته والعمل به‪ ،‬أي‪:‬‬
‫استماع‪ -‬علم‪ -‬عمل‪ .‬وهي نفسها المذكورة في الية تلوة وتعليم وعمل‪ .‬وقيام العلم في‬
‫النسان دون العمل مذموم في الكتاب والسّنة‪ ،‬كذلك قيام العمل دون العلم مذموم في الكتاب‬
‫والسنّة‪ ،‬وأدلة ذلك مبسوطة في كتب العلم‪.‬‬
‫فما هي التّزكية إذا؟‪.‬‬
‫إنّها ممارسة المر‪.‬‬
‫ومعنى ذلك أن المتبع لهدي السلم هو مَن تربّى وتزكّى بامتثاله لمر ال تعالى‪ ،‬ومثاله أنّ من‬
‫أراد تربية نفسه وتزكيتها فعليه أن يطبق أمر ال تعالى‪ ،‬ومعلوم أن كلّ أمر له أثر تربوي‬

‫‪511‬‬
‫خاصّ به‪ ،‬فللصّلة أثر تربويّ ل يحدثه الصّيام‪ ،‬كما للصّيام أثر تربوي ل تحدثه الصّلة‪،‬‬
‫وللزّكاة أثر تربويّ ل يحدثه الصيام ول الصّلة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫فالتّربية تقع من النسان حين يمتثل أمر ال تعالى ويطبّقه في نفسه‪.‬‬
‫ما هو المفهوم البدعيّ للتّربية؟‬
‫التّربية في أذهان بعضهم مرحلة تسبق تطبيق المر‪ .‬فالمرء يحتاج إلى فترة سابقة حتّى يصل‬
‫إلى مرحلة ما (أختلف عليها) فيصبح بعد ذلك مربّيا ليستحقّ بعد ذلك الدّخول في المر اللهي‬
‫وتطبيقه‪.‬‬
‫وسئل بعض هؤلء القوم عن الدّرجة التي يمكن لنا أن نسمّي عندها المسلم‪ :‬مربّيا؟‪ .‬فأجاب‪ :‬لقد‬
‫شغلني هذا السؤال كثيرا‪ ،‬وتساءلت مرارا‪ :‬ما هي الحالة الّتي ينبغي أن نسعى إليها ونتوقّف‬
‫عندها حتّى نَشْرع بالجهاد القتاليّ‪ ،‬فهُديت إليه‪ .‬قال هذا السّلفي المزعوم (وهو "عدنان‬
‫عرعور")‪ :‬هو أن نصل إلى درجة ذلك الصّحابيّ الّذي قدم زوجته للخر عن طيب نفس‪.‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وهو يشير إلى هذه الحادثة المذكورة في صحيح البخاريّ بين المهاجر والنصاري رضي ال‬
‫عنهما !!‪ .‬فهؤلء كما ترون يطرحون التّربية كمرحلة تسبق تطبيق المر اللهي‪ ،‬والحقّ الذي‬
‫قدّمناه؛ أن التّربية هي تطبيق المر اللهيّ نفسه‪.‬‬
‫ونلحظ على هذه الطريقة من التّفكير النّقاط التّالية‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن هذا الخطاب المتقدّم يقرّ به على الجمال أصحاب التّربية المعاصرة‪ ،‬فإنّهم يقولون إنّ‬
‫مرحلة التّربية تتمّ عن طريق العمال الصّالحة من صلة وصوم وذكر وقيام وأعمال صالحة‬
‫أخرى‪ ،‬لكنّهم حين يكون المر متعلّق بالجهاد من اجل إقامة الحق اللهيّ في الرض‪ ،‬فإنّهم‬
‫ينتكسون ويقولون إن على المسلمين أن يتربوا قبل أن يجاهدوا‪ ،‬والسّؤال الموجّه إليهم‪ :‬لو قال‬
‫لكم قائل‪ :‬على المسلمين أن يتربّوا قبل أن يصلّوا‪ ،‬أو عليهم أن يتربّوا قبل أن يصوموا‪ ،‬فماذا‬
‫سيكون الجواب ؟ قطعا سيقول السّامع‪ :‬إنّ هذا الكلم يهرف به صاحبه ول يعقل ما يقول‪ ،‬لنّ‬
‫الصّلة هي نفسها تربية‪ ،‬وكذلك الصّيام‪ ،‬وكذلك الزّكاة‪ ،‬وجميع العمال الصّالحة‪ ،‬فلماذا يختلف‬
‫المر حين يكون الحديث عن الجهاد؟‪.‬‬
‫أليس الجهاد أعظم مسالك التّربية؟‪.‬‬
‫وهل الجهاد إل مرحلة من مراحل إعداد المرء المؤمن لدخول الجنان يوم لقاء ال تعالى؟‪.‬‬
‫أليس في الجهاد فتنة للنّفوس لتتخلّص من حبّ الدّنيا ومن النانيّة؟‪.‬‬

‫‪512‬‬
‫أليس في الجهاد تحصيل لعظم درجات التّوكّل واليقين على موعود ال تعالى؟‪.‬‬
‫وعلى هذا فالتّربية بتطبيق المر اللهي بالجهاد وليست هي مرحلة تسبق الجهاد في سبيل ال‬
‫تعالى‪.‬‬
‫وقد يقتنص بعضهم حادثة أو حوادث من ممارسات المجاهدين غير المنضبطة ليتّخذها ذريعة‬
‫إلى قوله‪ ،‬فإنّه قد يقع بعض المجاهدين في بعض الخطاء الشّرعية‪ ،‬وهذا أمر يقع في كلّ‬
‫التّجمّعات (حتى التّجمّع من أجل صلة الجماعة)‪ ،‬فيسارع هؤلء إلى تضخيم الحدث‪ ،‬وتسويقه‬
‫بين النّاس‪ ،‬وإشاعته عن المجاهدين حتّى ينفر النّاس منهم‪ ،‬وليدلّلوا بهذا الحدث أو الحوادث‬
‫على صواب رأيهم أن المّة لم تبلغ بعدُ المرحلة الّتي ينبغي أن تجاهد عندها‪.‬‬
‫والجواب على هذه التّصوّرات الّتي يقع بها هؤلء من وجوه‪ ،‬أهمّها‪:‬‬
‫أولً‪ :‬من المعلوم في علوم أهل السنّة أنه قد يجمع الرّجل الواحد إيمانا وضللً‪ ،‬صلحا وفسادا‬
‫في آن واحد‪ ،‬لنّ اليمان عندنا يتجزّأ‪ ،‬وعلى هذا فقد يجتمع في الرّجل المسلم المجاهد بعض‬
‫ل أطوار البشرية وفي كلّ تجمّعاتها‪ .‬فما هو السّبيل الحقّ‬
‫الصّفات المذمومة‪ ،‬وهذا واقع في ك ّ‬
‫في معالجة هذه الحالة؟‪.‬‬
‫أهل النحراف من أصحاب مفهوم التّربية العصريّة يطـرحون السلوب التّالي‪ :‬ينبغي على‬
‫الشّخص أن يترك الجهاد (الخير) حتى يتخلّص من الشّر‪.‬‬
‫وعلى قاعدتهم هذه‪ ،‬فإنّ من جمع ضللً وصلحا فالواجب عليه أن يترك الصّلح فيه حتى‬
‫يذهب الباطل فيه؟!!‪ ،‬وهو قول يردّه العاقل حين تصوّره له‪.‬‬
‫وأمّا الحكم الشّرعي في هذه الواقعة‪ :‬فهو تثبيت الحقّ لديه ودعمه وتجذيره‪ ،‬مع محاولة تقويمه‬
‫وإرشاده بالقلع عن الباطل الذي لديه‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬لو أردنا أن نقتنص السيّئات في هذه التّجمعات التي تزعم التّربية المعاصرة أو نعدّه عليهم‬
‫لملت الكراريس والدّفاتر‪ ،‬وحينئذٍ فسيّئاتهم تكون مضاعفة لنّهم يزعمون التّربية بخلف‬
‫غيرهم‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬قال الرسول صلى ال عليه وسلم‪(( :‬كلّ ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوّابون))‪،‬‬
‫وعصمة الفراد والتجمّعات من الخطاء لن تكون في هذه الدّنيا‪.‬‬

‫‪513‬‬
‫التّربية ليست مرحلة زمنيّة ثمّ تنتهي‪ ،‬بل هي تزكية للنّفس حتّى الممات‪ ،‬ول تتوقّف عند حدّ‬
‫معيّن كما هي في الدّين الصّوفي ‪ ،‬فهؤلء حين يتصوّرون إقامة السلم عن طريق تربية‬
‫النّفس التي تسبق هذه القامة مخالفون لبجديّات هذا الدّين العظيم‪.‬‬
‫أين هذا من دين الصّوفيّة؟‪.‬‬
‫قال الصوفي في تفسير قوله تعالى‪{ :‬واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين}‪ ،‬قال‪ :‬اليقين هو المعرفة‬
‫ن الصّوفي يسمّى سالكا مادام لم يصل إلى درجة اليقين‪ ،‬وهي عنده تعني الوصول‬
‫وعلى هذا فإ ّ‬
‫للحظة الكشف والجذبة‪ ،‬كما هو عند السّلفي المزعوم‪ :‬الوصول إلى درجة أن يقدّم المسلم‬
‫زوجته لخيه المسلم‪ ،‬وحين يصبح الصّوفيّ واصلً فإنّه حينئذً يكون معرّضا للجذبات اللهية‬
‫(وهي في الحقيقة شيطانية)‪ ،‬بل وحينها تسقط عنه التّكاليف اللهية‪ ،‬لنّ النسان أمُر بها حتى‬
‫يصل درجة اليقين‪ ،‬وأمّا بعدها فل‪.‬‬
‫فالصّوفي ل بدّ أن يسلك حتّى يصل‪ ،‬والسّلفي المزعوم يتربّى حتّى يصل‪ ،‬ونحن على العتبات‬
‫ننتظر‪.‬‬
‫بعضهم كالدّكتور صلح الصّاوي طوّر مفهوم التّربية الفاسد هذا فطبّقه على جانب التّحضير‬
‫لحصول الغلبة والظّفر‪ ،‬فقال إنّه ل يجوز للجماعة المسلمة أن تشرع بقتال الطّوائف الحاكمة في‬
‫بلدنا حتى تستكمل أدوات الغلبة والظّفر‪ ،‬وذهب بعضهم بعيدا حين قال‪ :‬علينا أن ل نجاهد‬
‫حتّى نجهّز كلّ شيء حتّى نصل إلى درجة تحضير الوزراء بحقائبهم على أبواب الوزارات‬
‫سمِعت قريبا من هذه العبارات من بعض‬
‫(وينسب هذا القول لمحمد سرور زين العابدين وقد ُ‬
‫القريبين منه)‪.‬‬
‫وجزما هؤلء يفكّرون بعقليّة أهل القمر‪ ،‬وليس بعقلية النّاس والبشر‪ ،‬وسيؤدي بهم قولهم هذا‬
‫(الممتنع وجوده قدرا) إلى اليأس من العمل الجهادي وحصوله‪ ،‬وبالتّالي إلى شتم العنب (كما‬
‫حصل للثّعلب حين عجز عن الوصول إلى العنب لعلوّه عن قدرته فذهب يشتمه)‪.‬‬
‫أهــل الرأي ‪ -‬الرآئيـون‬
‫على الرّغم من أنّ هذا الوصف يطلق بتوسّع في كثير من الكتب على كل من اشتغل بالفقه‪،‬‬
‫وأُثر عنه الفتوى (حتّى أن ابن قتيـبة في كتابه المعارف ذكر المام مالك رحمه ال تعالى من‬
‫أهل الرّأي)‪ ،‬إل أننا نقصد بأهل الرّأي هنا‪ :‬من آثر عقله على نصّ رسول ال ‪ ،‬فاستحسن‬
‫قولً أو مذهبا والنصّ بين يديه على خلفه‪.‬‬

‫‪514‬‬
‫اعلم أخي في ال أن الكتاب والسنّة (بنصوصهما) تستوعب الزّمان والمكان‪ ،‬فل يوجد واقعة أو‬
‫حادثة إلّ وفي النّصوص المعصومة ما يكشف لك أمرها بعينها وذاتها‪ ،‬فإنّ ال تعالى لم يبق‬
‫للنّاس شيئا يحتاجونه إل وكشفه لهم‪ ،‬وبيّن لهم أمره‪ ،‬علمه من علمه‪ ،‬وجهله من جهله‪ .‬فالكتاب‬
‫والسنّة هما دليل الحقّ دون سواهما‪ ،‬وقد يظنّ البعض أن هذا القول نفي للجماع والقياس‪،‬‬
‫وليس المر كذلك‪ ،‬فكيف ذلك؟‪.‬‬
‫أمّا بالنّسبة للجماع‪ :‬فإن القول الحقيق بالقبول أنّ الجماع يقسم إلى قسمين‪:‬‬
‫أ ‪ -‬إجماع قطعي‪ :‬وهو ما يسمّى بالمعلوم من الدّين بالضرورة‪ ،‬وقد ضرب المام الشافعي في‬
‫رسالته المثلة عليه‪ ،‬وهذا ل يجوز لمسلم مخالفته‪ ،‬وهو الّذي قيل فيه‪ :‬مخالفته كفر‪ ،‬وهذا‬
‫إجماع ل يقع إلّ بنص‪ ،‬إذ ل يقع هذا الجماع إل وله أدلّة في الكتاب والسنّة‪ ،‬إلّ ما ذكره‬
‫المام الشّافعي عن مسألة القراض (المضاربة) والصّحيح أنّها داخلة في عموم النّصوص‬
‫المحكمة المبيحة أمر المشاركة والتّجارة‪.‬‬
‫ب‪ -‬إجماع ظنّي‪ :‬وهو قول الفقيه‪ :‬ل أعلم فيه خلفا‪ ،‬وهو إجماع استقرائيّ‪ ،‬وقد رفض المام‬
‫أحمد بن حنبل إطلق اسم الجماع عليه وهو المقصود بقوله‪ :‬من ادّعى الجماع فقد كذب‪ ،‬لعلّ‬
‫الناس اختلفوا‪ .‬ا‪ .‬هـ‪.‬‬
‫وهذا إجماع متوهّم‪ ،‬وأغلبه منقوض‪ ،‬إن لم يكن كلّه‪ .‬بل قد يكون المشهور خلفه‪ ،‬إذن فأمر‬
‫الجماع الحقيقي ل يقوم إلّ على دليل‪ ،‬فعاد المر إلى الصل‪.‬‬
‫أمّا بالنّسبة للقياس‪ :‬فالمشتهر عند الناّس أمور عدّة خاطئة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫أولً‪ :‬قولهم إن القياس دليل شرعي‪ ،‬وهذا خطأ‪ ،‬والصّحيح أنّ القياس المصيب يكشف لك الحكم‬
‫الشّرعي الّذي غاب (بنصه)‪ .‬والنّصّ يغيب عن الفقيه لسببين‪:‬‬
‫‪ - 1‬لعدم معرفته له ابتداءً‪ ،‬كما غاب عن كثير من الصّحابة بعض الحكام الشّرعية‬
‫بنصوصها‪ ،‬وأمثلة ذلك كثيرة‪.‬‬
‫‪ - 2‬لعدم معرفة المجتـهد دللة النّص‪ ،‬مع أنّه بين يديه‪ ،‬وذلك لسببين‪ :‬إمّا لمور تعود إلى‬
‫نفس النّص‪ ،‬إذ أنّ دللة النّصوص الشّرعية على الحكام ليست على مرتبة واحدة‪ ،‬بل مراتب‬
‫متعددة‪ ،‬أو لسبب يعود إلى نفس المجتهد‪ ،‬ككلل ذهنه‪ ،‬أو ضعفه في البحث والتّنقيب‪ ،‬لضعف‬
‫بعض أدوات الجتهاد لديه‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أن القياس يتم به اللزام‪ ،‬وهذا خطأ‪ ،‬والصّحيح أنّه ل إلزام بالقياس‪.‬‬

‫‪515‬‬
‫إذا تبيّن لك هذا علمت أنّ القياس ل يذهب إليه لعدم وجود النّصّ في الحقيقة‪ ،‬ولكن لعدم معرفة‬
‫المجتهد لهذا الدّليل (النّص)‪.‬‬
‫وعلى هذا فإنّ القائل من أهل الصول‪ :‬إنّ الشّريعة ‪ -‬بنصوصها ‪ -‬ل تفي عشر الحوادث‬
‫والوقائع هو قول واهم مخطئ‪ ،‬دفعه له عدم توسّعه في الطلع على كتب الحديث‪ ،‬ومعرفتها‬
‫معرفة صحيحة‪.‬‬
‫لماذا يُردّ النّص من قبل (الرائي)؟‬
‫أسباب العراض عن النّص من قبل المفكّر أو الفقيه عديدة (ونحن هنا نتكلّم عن السلميين)‬
‫أهمها‪:‬‬
‫‪ - 1‬ظنّ المفكّر أو الفقيه أنّ النّص يخالف العقل‪ ،‬أو بعبارة بعض الفقهاء‪ :‬هذا نصّ على‬
‫خلف القياس‪ ،‬وبعبارة أهل الكلم‪ :‬تعارض العقل مع النّقل‪.‬‬
‫وقائلوا هذه العبارات يقعون في هذه الخطاء الفاحشة لعدّة أسباب منها‪:‬‬
‫أن هؤلء المفكّرين قد يغلب على ظنّهم صواب بعض القواعد العقلية الوافدة‪ ،‬ويجعلونها يقينيّة‪،‬‬
‫فيلتفتون إلى النّصّ الشّرعي فيرونه مخالفا‪ ،‬فينشأ لديهم هذا التصوّر الفاسد‪.‬‬
‫ومن أسباب هذه الخطاء كذلك‪ :‬عدم قدرة هؤلء المفكّرين على التّمييز بين النّصّ الثابت‬
‫والنّص الضّعيف‪ ،‬فيصبّون جام غضبهم على النّص الضعيف‪ ،‬وبه يتّهمون النّص بمخالفة العقل‬
‫أو القياس‪.‬‬
‫‪ - 2‬ظنّ المفكّر أو الفقيه تحقيق المصلحة بعيدا عن النّص‪:‬‬
‫وهؤلء لمّا رأوا مجموع النّصوص داعية إلى اعتبار المقاصد والمآلت‪ ،‬ظنّوا أن تحقيق‬
‫المآلت هي إصدار الحكم الشّرعي‪ ،‬ونكتفي هنا بإيراد المقصود الصحيح لقوله صلى ال عليه‬
‫وسلم‪(( :‬ل ضرر ول ضرار))‪.‬‬
‫اعلم أخي في ال أنّه ل يوجد حكم شرعي ثبت في الكتاب والسّنة إل وهو بذاته يحقّق المصلحة‬
‫للعباد في الحال والمآل‪ ،‬ثم اعلم أن المصـالح تتعارض فل بدّ من تقـديم القوى على‬
‫ن المصلحة ل يمكن‬
‫الضعف‪ ،‬ولهذا ل يمكن معرفته عند تفاوت العقول إلّ بالنّص‪ ،‬ثمّ اعلم أ ّ‬
‫تحقّق حدوثها ومآلها إلّ بالوعد المحمول داخل النّص‪.‬‬
‫هذه المور وغيرها الكثير ترشدك‪ :‬أنّ العصمـة للنّص وهي القادرة على معرفة الضّرر‬
‫والضّرار‪ ،‬والعقل تتفاوت مراتبه وتقديراته فالحالة عليه إحالة على غير ثابت‪.‬‬

‫‪516‬‬
‫‪ - 3‬ظنّ المفكّر أو الفقيه عدم كفاية الثّبوت في ذات النّص كقول بعضهم‪ :‬حديث الحاد ل يفيد‬
‫ظنّي على هذه الصّور المعروضة‬
‫ي وال ّ‬
‫العلم‪ ،‬وهذا قول أهل الكلم‪ .‬والتّفـريق بين القطع ّ‬
‫حادثة ل تعرف عند الوائل‪ ،‬وهي من إفرازات أهل الرّأي والكلم‪.‬‬
‫ص المعصوم كافية عند أهل‬
‫هذه السباب الظّاهرة (العقلية) التي يطرحها صاحب الرّأي لردّ الن ّ‬
‫السنّة والجماعة لعتبار الرّجل متأولً مع أنّه مخطئ ول شكّ‪.‬‬
‫لكن ماذا عن المور الباطنية؟ التي تدفع المفكّر أو الفقيه لردّ النّص المعصوم؟‪.‬‬
‫هناك أسباب نفسية عدّة تدفع المفكّر لهذا المسلك البدعي أهمّها‪:‬‬
‫ن العبوديّة ل تعالى تعني تجرّد العبد من جميع أهوائه‪،‬‬
‫أ ‪ -‬عدم الخلوص من أهواء النّفوس‪ ،‬ل ّ‬
‫وأعظم الهواء في هذا الباب هو أن يعتبر النسان أنّ له قولً ورأيا‪ ،‬وأنّه صاحب شخصيّة‬
‫معتبرة‪ ،‬ينسب لها القول‪ ،‬ويشار إليها بالعتبار والتقدير‪.‬‬
‫ب ‪ -‬محاولة تليين السلم وليّه ليوافق رغبة النسان وهـواه‪ ،‬أو ليوافق الواقع‪ ،‬وهذا نراه في‬
‫أغلب آرائيّة زماننا‪ ،‬فإنّهم لهزيمتهم النّفسيّة أمام استعلء الكفر واستكباره في هذا الزّمان‬
‫يعمدون إلى ليّ أعناق النّصوص لتوافق رغبات النّاس وأهوائهم‪ ،‬والشّيخ المصري محمّد‬
‫الغزالي خير دليل على ذلك‪ ،‬وخاصّة كتابه "السنّة النّبويّة بين أهل الفقه وأهل الحديث"‪ ،‬فقد‬
‫ي صلى‬
‫رأينا هذا الزهري يشرح لقرّائه عجزه عن تقديم الحكم الشّرعي المستمدّ من قول النّب ّ‬
‫ال عليه وسلم‪(( :‬ل يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة))‪.‬‬
‫فهو يقول‪ :‬كيف نستطيع أن نقدّم السلم ومنه هذا الحديث لهل بريطانيا مثلً وقد استطاعوا‬
‫أن يحقّقوا بعض مطامحهم‪ ،‬برئاسة "مارجريت تاتشر" ؟!‪.‬‬
‫فالنّتيجة عند هذا الشّيخ وأمثاله هي أن نضع أيدينا على هذا الحديث خجلً منه (كما فعلت يهود‬
‫بآيات الرّجم مع رسول ال صلى ال عليه وسلم) وذلك من أجل أصحاب العيون الزرق من‬
‫النجليز وغيرهم‪.‬‬
‫إن هذه النهزامية في تقديم السلم الحقّ كما أراده ال لنا‪ ،‬سبب رئيسي تدفع هؤلء القوم إلى‬
‫العراض عن بعض النّصوص النّبوية‪ ،‬ودفع النّصوص له طرق كثيرة عند هؤلء الرائيين‪.‬‬
‫‪ - 4‬عظم التكاليف الشّرعيّة‪ ،‬وكونها فتنة للنّاس‪ ،‬وعدم تحمل المرء على ترك عوائده‪ ،‬فرغباته‬
‫النّفسية تدفعه إلى البحث عن المخرج من هذه التّكاليف‪.‬‬

‫‪517‬‬
‫ومن أمثلته تلك الصّورة المعروضة للجهاد من أجل تحقيق الحقّ اللهيّ في الرض‪ ،‬وما فيه‬
‫من سوء للنّفوس المريضة‪ ،‬وما فيه من امتحان وفتنة للنّاس‪ ،‬فلو عرض لهذه النّفس مخرج‬
‫آخر مع توهّمه أنّ فيه تحقيقا لرغبات النّفس وأهوائها فإنّها تطير إلى هذا البديل الرّغيد‪.‬‬
‫اعلم أنّ هناك التفافا يحصل من هؤلء الرائيين حول كثير من حقائق أهل العلم المتقدّمين‪،‬‬
‫ومن أهمّ هذه الحقائق التي يتمّ اللتفاف حولها في هذا الزّمان الحقيقة التّالية‪:‬‬
‫من المعلوم أن إصدار حكم شرعي ما لواقعة ما‪ ،‬ل ينبغي أن يتمّ إلّ باستكمال شروط وأدوات‬
‫علمية تؤهل المرء لخوض مثل هذا المعترك‪ ،‬وهذه الشّروط التي اصطلح سلفنا الصالح على‬
‫ن عصور النحطاط المتأخّرة قد أفرزت بعض القوال الهزيلة‬
‫تسميتها‪ :‬بشروط الجتهاد‪ ،‬ومع أ ّ‬
‫في موضوع الجتهاد‪ ،‬مثل قول بعض أهل العلم‪ :‬بإغلق باب الجتهاد‪ ،‬وأنّه ل يجوز بعد‬
‫القرن الرّابع لحدٍ أن يقول قولً من اجتهاده‪ ،‬بل ل بدّ أن ينسب نفسه إلى إمام سابق‪ ،‬كأن يقول‬
‫عن نفسه أنّه حنفيّ أو شافعيّ أو مالكي أو حنبليّ ومن أجل هذه البدعة المبيرة صار بعضهم‬
‫يشدد في شروط الجتهاد‪ ،‬ويضع عوائق في طريق أهل العلم ليمنعهم من إطلق قدراتهم‬
‫لتحصيل الحكم الشّرعيّ من مظانّه‪ ،‬ولن كلّ فعل يؤدي إلى فعل مضادّ يعاكسه‪ ،‬فإنّ النتيجة‬
‫القدرية لهذا القول الخاطئ هو ما حصل في بداية هذا القرن‪ ،‬وذلك عندما انطلق النّاس يبحثون‬
‫في أنفسهم عن سبب انحطاطهم وتأخّرهم وهزيمتهم أمام أعدائهم‪ ،‬فكان ممّا اكتشفوه مبكّرا هذا‬
‫الموضوع‪ ،‬فسارع النّاس بالنداء لتحرير العقل المسلم من أغلل التخلّف ‪ -‬ومنها إغلق باب‬
‫الجتهاد ‪ -‬فتعالت الصّيحات في كلّ مكان تدعو إلى فتح هذا الباب‪ ،‬والولوج فيه بقوّة‪ ،‬وبدأ‬
‫النّاس يمارسون اختيار الحكام الشّرعية بأنفسهم من مصادرها‪ ،‬وحاول فريق آخر أن يحافظ‬
‫على مكتسبات عصر النحطاط وذلك بأن يمنع هذا الحادث الجديد‪ ،‬تحت دعوى أنّ اللمذهبية‬
‫قنطرة إلى اللدينية‪ ،‬لنهم رأوا أنّ الدّعوة إلى فتح باب الجتهاد قد وافقت زمن انفلت النّاس‬
‫من أحكام الشّريعة‪ ،‬وانتشار الباحية الفكرية وهي التي تسمّى عند أئمّتنا القدماء بالزّندقة‪،‬‬
‫وكذلك الباحيّة السّلوكية مثل دعوات تحرّر المرأة‪ ،‬وميوعة الشّباب وتحرّرهم من أحكام‬
‫الشّريعة‪.‬‬
‫ولكنّ هذه المواقف المضادّة من (المحافظين) كانت الضعف صوتا ودليلً ولم تفلح شيئا أمام‬
‫السّيل الهادر المنطلق من عقاله نحو النفلت من التّقليد والمذهبيّة‪ .‬ووجد بعض النّاس رغباتهم‬
‫متحققة في هذه الدّعوة‪ ،‬فاستغلّوها بإخراجها عن طريقها الصّحيح وأخذوا بها إلى آفاق ومواقع‬

‫‪518‬‬
‫كانت محرّمة حتّى في أزهى عصور الزدهار والتحرر من التقليد‪ ،‬فبدأوا يمارسون الجتهاد‬
‫على الثّوابت واليقينيّات المستقرّة في دين ال تعالى‪ ،‬وكلّ هذا تحت دعوى الجتهاد‪.‬‬
‫هؤلء القوم هم أئمّة أهل الضّلل في هذا العصر‪ ،‬وهم يريدون أن يقلبوا صورة هذا الدين من‬
‫الصّورة التي استقرّت عليها الشّريعة‪ ،‬إلى صورة أخرى تلئم واقعهم‪ ،‬وهو واقع بئيس ومنحط‬
‫بل شكّ‪ ،‬بل واقع مهزوم ول يفرز إل آراء الهزيمة‪ ،‬ويحاول بكلّ جهده إصباغ الشّرعيّة على‬
‫هذه الهزيمة‪.‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫الفقيه والسلطان والجتهاد‬
‫"إن كان المرء العالم في كفاف من العيش‪ ،‬من وجه مرضي‪ ،‬فليحمد ال عز وجل‪ ،‬وليقنع به‪،‬‬
‫وليعمل لدار القرار‪ ،‬ول يسره الكثار من أحجار وخرق يتركها عما قريب‪ ،‬أو تتركه" ابن حزم‬
‫المجتهد والمفكر‬
‫من أجل استتمام المر على صورته الكاملة انطلق هؤلء المنهزمون تحت شعارات عدة‪ ،‬وإلى‬
‫مواقع عدة لخدمة هذا النحراف‪ :‬من هذه الشعارات التي استخدموها شعار (الفكر السلمي)‬
‫و(المفكر السلمي) هذا الشعار بدأ استخدامه كبديل عن صورة "المجتهد" في اصطلح أئمتنا‪.‬‬
‫مصطلح المجتهد يحمل في ذهن المسلم مجموعة من الشروط التي ل يقبل أن يتنازل عنها‬
‫بسهولة‪ ،‬مع أننا نعترف أن كثيرا من هذه الشروط ليست صحيحة‪ ،‬لكن هذه الصورة على‬
‫العموم ل تسمح للمدعي أن يلج إلى هذا المصطلح ويتلبس به بسهولة‪ ،‬ومما استغله أصحاب‬
‫هذا الشعار‪ ،‬أن الفقه السلمي باعتباره مصطلحا‪ ،‬صار قاصرا في موضوعه على مجموعة‬
‫من البحاث ل يتعداها‪ ،‬مثل العبادات والمعاملت‪ ،‬وهكذا فإنهم اقتصروا في اجتهاداتهم على‬
‫هذه المور‪ ،‬فالفقيه السلمي في هذا العصر هو الذي يتكلم في شئون فقه الصلة‪ ،‬وفقه‬
‫الصوم‪ ،‬وفقه الزكاة‪ ،‬وفقه الحج‪ ،‬وأحكام الدماء والطهارة وما جرى على هذا المنوال‪ ،‬وأما‬
‫المفكر السلمي فهو الذي يبحث فيما ل يدخل في اختصاص الفقيه السلمي (حسب قسمة‬
‫عقلية النحطاط المتأخرة)‪ .‬ومن هذه المور التي ولج فيها المفكر السلمي بقوة‪ :‬مسائل‬
‫السياسة الشرعية‪ ،‬فهو يتكلم عن الديمقراطية في السلم‪ ،‬والشتراكية في السلم‪ ،‬والعدالة‬
‫الجتماعية في السلم‪ ،‬ونظام الحكم في السلم‪...‬الخ هذه القائمة الطويلة‪ ،‬وهذا المفكر بهذه‬
‫اللعبة الغريبة سمح لنفسه أن يجتهد في أعظم مسائل الدين والفقه‪ ،‬ولكن تحت دعوى أنه مفكر‬

‫‪519‬‬
‫إسلمي‪ ،‬وليس فقيها أو مجتهدا‪ ،‬مع أنه في الواقع فقيه ومجتهد (ولكن ليس كل مجتهد مصيبا)‬
‫وباستخدامه كلمة المفكر أسقطت عنه الكثير من المسدلت والعوائق التي ستقع لو أطلق على‬
‫نفسه وصف الفقيه أو المجتهد‪ ،‬وحتى تتضح لك الصورة أكثر خذ هذا المثال‪ :‬الشيخ المجتهد‬
‫الفقيه راشد الغنوشي‪ ( ،‬أظن أنك لن تستسيغ هذه الوصاف لهذا الرجل‪ ،‬لكنها الحقيقة على كل‬
‫حال)‪ ،‬ويقابله في الصورة الخرى‪ :‬المفكر السلمي عبد العزيز بن باز (أظن أنك لن تستسيغ‬
‫هذا الوصف كذلك‪ ،‬لكنها الحقيقة على كل حال)‪.‬‬
‫والسؤال‪ :‬لماذا لم تستسغ هذه الوصاف؟‪ ،‬وما هو الشيء الجتهادي الذي يخوض فيه الول‬
‫ومحرم على الخر؟‪ .‬وما هو الشيء الجتهادي الذي يخوض فيه الثاني ومحرم على الول؟‪.‬‬
‫راشد الغنوشي‪ :‬فقيه ومجتهد ول شك‪ ،‬وهو يصول ويجول في أكثر مسائل الدين والعبادات‬
‫تعقيدا‪( ،‬ويغوص) حتى أذنيه في مسائل فقهية كان كبار الئمة يتورعون عن القتراب منها‪.‬‬
‫ولكن كيف استطاع تمرير أفكاره؟ وكيف استطاع إسقاط المسائلة عنه؟‪ .‬إنه برفعه شعار‪:‬‬
‫المفكر السلمي‪ .‬فهو ل يتكلم في مسائل الصلة والصوم والزكاة‪ ،‬ولكنه يتكلم في الفكر‬
‫السلمي‪.‬‬
‫إن رفع شعار (الفكر السلمي) على هذه الصورة‪ ،‬وهذا المنوال لعبة ضللية ‪ -‬قصد أصحابها‬
‫أو لم يقصدوا ‪ -‬وهم به سمحوا لهذا الدين أن يصبح ألعوبة بيد الصبية‪ ،‬يلغون فيه كما‬
‫يشاءون‪ ،‬وإل فمن الذي سمح لفهمي هويدي أن يتكلم في عظائم الشريعة‪ ،‬ويقول فيها ما يحلو‬
‫له ويسقط أحكام أهل الذمة من كتب الفقه؟‪.‬‬
‫ومن الذي سمح لمحمد عمارة أن يتكلم في عقائد المسلمين فيصلح منها البالي كعقائد المعتزلة‬
‫ويرمي في المزبلة الحق والصواب؟‪.‬‬
‫ومن الذي سمح لحسن الترابي أن يجدد في أصول الفقه‪ ،‬ويجعل البرلمان السلمي صورة‬
‫الجماع التي لها الحق في نسخ الشريعة؟‪.‬‬
‫ومن الذي سمح لجودت سعيد أن يجعل مذهب ابن آدم الول يلغي دين محمد بن عبد ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬ثم يتجرأ بعد ذلك بأن يجعل الحكم القدري (الواقع ) هو الذي يفسر النصوص‬
‫في الشريعة وليس البيان العربي؟‪.‬‬
‫ومن الذي سمح لخالص جلبي أن يجعل مذهب غاندي أحب وأسلم من دين محمد بن عبد ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫‪520‬‬
‫من الذي سمح لهذا الغثاء ‪ -‬من المفكرين ‪ -‬أن يقودوا الحركة السلمية ويصدروا الحكام‬
‫فيها‪.‬‬
‫أي فكر هذا؟‪ .‬وما هي شروطه؟‪.‬‬
‫وما هي ضوابط الحكم عليه؟!‪.‬‬
‫أجيبونا يا أهل الرأي والفكر‪.‬‬
‫التحالف بين الفقيه (المتخلف) والمفكر (المتحرر)‬
‫لما بدأ الشباب المسلم يتساءل عن هذا الكم الهائل من المفكرين‪ ،‬وما هو السلطان الذي ملكوه‬
‫ليتكلموا في دين ال كما يشاءون؟ وهل يحق لهؤلء المفكرين أن يقودوا الحركة السلمية‬
‫ويتهادوا بها بين خطر الحياة ودروبها؟ ولكن هذه السئلة وللسف قد بدأت بعد أن تشرب‬
‫الناس من الشباب المسلم أفكار هؤلء القوم‪ ،‬واصطبغت عقليتهم بالصبغة التي يتحدث بها‬
‫المفكر‪ ،‬وهي صيغ أقل ما يقال عنها أنها ل تتحدث كما تتحدث الشخوص المهتدية في القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬حيث فقد هذا التيار عبارات الشرع المحكمة‪ ،‬وتغيرت موازين الحكم والقضاء في رحم‬
‫هذه العبارات‪ ،‬فبدل أن يتحدث الناس (الشباب المسلم) عن الجهاد‪ ،‬بدأوا يتكلمون عن الثورة‪،‬‬
‫والكفاح السياسي‪ ،‬وبدل أن يلقوا على الناس عبارات‪ :‬العبودية والعبادة صاروا يتحدثون عن‬
‫الواجب الوطني‪ ،‬والحس القومي‪ ،‬والضرورة الجتماعية‪ ،‬وبدل أن يستخدموا دوافع محبة ال‪،‬‬
‫والخوف من ال‪ ،‬ورجاء الدار الخرة‪ ،‬صار الحديث عن‪ :‬مكتسبات الحركة‪ ،‬والمن‬
‫الجتماعي‪ ،‬والمن الغذائي‪ ،‬ووحدة التراب‪ ،‬القومي‪ ،‬وبدل أن يتحدثوا عن حق ال المفقود‬
‫بتطبيق شرعه وحدوده صار حديثهم عن الحرية الجتماعية‪ ،‬والعدل الجتماعي‪ ،‬والظلم‪،‬‬
‫والدكتاتورية‪.‬‬
‫فهذه العبارات تبين فقدان القتداء بحركة الهداة والدعاة كما شرحها القرآن الكريم‪.‬‬
‫اقرأ هذا النموذج‪" :‬إن الحركة السلمية ليست حركة فئة معينة من الشعب‪ ،‬إنها ضمير المة‬
‫المتحرك وأعماقها الثائرة‪ ،‬ومن ثم فهي ترفض مقولة الصراع الطبقي‪ ،‬وتعتبر أن السلم‪،‬‬
‫والسلم وحده قادر على إزالة كل ألوان المظالم والستغلل داخل المجتمع‪ ،‬ولكن في مجتمع‬
‫ل يطبق السلم حقيقة‪ ،‬تتولد الفوارق الطبقية والحركة عندئذ تجد نفسها في صف الفقراء‬
‫والمضطهدين كما كان النبي عليه السلم يفعل إذ يرفض الغنياء الجلوس مع الفقراء فينحاز‬
‫إلى الفقراء بأمر من ال {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه‬

‫‪521‬‬
‫ول تعد عيناك عنهم تريد الحياة الدنيا} ولقد استطاعت الحركة السلمية المعاصرة أن تحرر‬
‫إلى حد ما السلم من الطبقة الحاكمة"‪ .‬انتهت العبارة عن كتاب مقالت لراشد الغنوشي‬
‫التونسي‪ ،‬ومثلها‪ :‬وما كان للمام الخميني أن تلتحم القوى الشعبية في إيران وتسلمه قيادتها‬
‫وتجن حتى الموت‪ ...‬وما كان له أن يطوي كل أحزاب المعارضة ورجال الدين فيدفعها مرة‬
‫أمامه ويجرها أخرى لو لم تجسد حركته أمل الجماهير العريضة في التحرر والعدالة والعزة‬
‫والستقلل‪ ،‬وكذلك المودودي فقد رسم للشعب الباكستاني خطة الحرية والعزة والستقلل‪،‬‬
‫فاستجابت له المة‪.‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫هذا الخطاب المصاغ له مشكاة لن تكون أبدا من مشكاة القرآن والسنة‪ ،‬حتى اليات القرآنية‬
‫التي يستشهد بها‪ ،‬ل تعود إلى المناط الذي سيقت من أجله‪ ،‬فالية التي استشهد بها النموذج‬
‫المتقدم لم ترد أبدا لبيان انحياز النبي صلى ال عليه وسلم إلى صف الفقراء ضد الغنياء‪ ،‬بل‬
‫انحياز النبي صلى ال عليه وسلم لصف { الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}‪.‬‬
‫فتكرار هذا النوع من الخطاب أفقد العبارات القرآنية والنبوية نضارتها وحضورها في نفسية‬
‫الشاب المسلم المعاصر‪ ،‬فأين عبارات‪ :‬اليمان‪ ،‬والتوحيد‪ ،‬والكفر‪ ،‬والردة‪ ،‬والجهاد‪ ،‬والشيطان‪،‬‬
‫والخير‪ ،‬والشر‪ ،‬والفسق‪ ،‬والذكر‪ ،‬والنابة‪ ،‬والخبات‪ ،‬والحب‪ ،‬والولء‪ ،‬والبراء‪ ،‬وغيرها من‬
‫العبارات التي تحمل في داخلها المفاهيم السلمية كما تعامل معها السلف‪.‬‬
‫أصبح الشباب المسلم بعيدا كل البعد بسبب هؤلء المفكرين (الرائيين) عن هدي الكتاب والسنة‪،‬‬
‫وقد اكتشف بعضهم فقدان هذا الخطاب الرائي أثره على قطاع من الشباب‪ ،‬إذ بدأ الشباب‬
‫ينفلت من حركة المفكرين المنحرفة‪ ،‬وصار يتوجه إلى ما يسمى بالكتب الصفراء‪ ،‬وأسباب هذا‬
‫الكتشاف‪ ،‬وعوامل تنميته له جوانب كثيرة ليس هذا مجال ذكرها‪ ،‬لكني أستطيع أن أقول إن‬
‫أثر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ثم كتب الشهيد سيد قطب كان لها الثر القوي في هذا‬
‫الكتشاف وإحياء الخطاب الشرعي الصحيح الملئم للحق القرآني‪.‬‬
‫هذا الكتشاف والتوجه الجديد بدأ يهز العروش النخرة من سلطان الرائيين فكان لبد من‬
‫معالجة هذا التوجه بما يناسبه‪ ،‬فتوجهت بسرعة حركات الرأي الضللية إلى أصحاب إل‬
‫العمائم القديمة‪ ،‬لتقنين هذه الفكار التي صدرت من الرائيين في صورة فقهية‪ ،‬تناسب التوجه‬
‫الجديد‪ ،‬فبدا أصحاب العمائم (الفقهاء) يفتشون في بطون الكتب الفقهية ليساندوا هؤلء الرائيين‬
‫بأقوال الفقهاء القدماء‪:‬‬

‫‪522‬‬
‫المفكر ينفي حد الردة‪ ،‬يأتي الفقيه ليقول له إن حد الردة كان سياسة وليس تشريعا دائما‪ ،‬وإن‬
‫شئت فاقرأ كتاب "الفروق" للمام القرافي المالكي لترى الفرق بين فعل النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم كمشرع وفعله كقائد دولة وسياسي‪.‬‬
‫المفكر ينفي وجود أهل الذمة‪ ،‬وإن وجدت فهي تسمية ل تبعة عليها‪ ،‬فأهل الذمة لهم الحق في‬
‫تولي السلطات‪ ،‬والمسلم يقتل بالكافر‪ ،‬فيسارع الفقيه إلى أقوال الفقهاء لتنجده‪.‬‬
‫المفكر ينفي الجهاد الهجومي (جهاد الطلب) فيسارع الفقيه إلى التدليل على رأي المفكر‪ .‬وهكذا‬
‫اكتشفنا بقدرة قادر‪ ،‬أن ما يقوله هذا الغثاء من المفكرين الرائيين لم يكن بدعا من القول‪ ،‬ولكن‬
‫هناك من أئمتنا من قال به‪ ،‬حتى أن من فقهائنا القدماء من قال‪ :‬بجواز الغناء‪ ،‬وجواز تولي‬
‫المرأة القضاء والمامة‪ ،‬بل وأعظم من ذلك‪ ،‬فلماذا العتب؟‪.‬‬
‫نعم لماذا العتب؟ وجاز للعقلء حينئذ أن يقولوا‪ :‬إذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب‪.‬‬
‫اقرأ هذا التحالف‪" :‬ولقد راجت أنشطة (الفكر السلمي) في الونة الخيرة‪ ،‬رواجا كاد أن‬
‫يحلها محل (العلوم السلمية)‪ ،‬تنبهت إلى هذه المشكلة ووقفت عندها طويل‪ ،‬عندما قال لي‬
‫الخ الستاذ جودت سعيد ذات يوم وكنا نتحدث عن الجهاد والعنف وحرية الفكر‪ .‬في تواضع‬
‫وصراحة نادرتين‪ :‬إنني مقتنع فكريا بما أقول‪ ،‬ولكني مفتقر إلى دعم قناعتي بالمؤيدات الفقهية‬
‫التي يجب العتماد عليها‪ .‬إن هذا الكلم بالضافة إلى ما يشع فيه من روح التواضع والصدق‬
‫مع ال‪ ،‬يلفت النظر إلى مشكلة كبرى في حياتنا السلمية اليوم‪ ،‬هي باختصار مشكلة إحلل‬
‫الفكر السلمي محل العلم بحقائق السلم‪ ،‬والتزود من أحكامنا الفقهية‪ ،‬ومنذ ذلك اليوم أجمعت‬
‫العزم على إخراج كتاب يتضمن بيان حقيقة الجهاد السلمي وأنواعه‪ ،‬وأهدافه وضوابطه‪ ،‬من‬
‫خلل عرض الحكام الفقهية المتفق عليها‪ "...‬الخ‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫هذه العبارات الجميلة ‪ -‬وليس كل جميل نافع ‪ -‬مع ما فيها من توزيع عبارات المدح‬
‫الممجوجة‪ :‬بروح التواضع والصدق مع ال‪ ،‬تواضع وصراحة نادرتين‪ ،‬وكقوله عن جودت‬
‫سعيد في مقام آخر من الكتاب أنه صاحب‪ :‬صدق كبير وتحرق على الحق‪ ...،‬عبارات خزفية‬
‫رقيقة يطلقها بوق كبير يتقن فن الصخب اسمه البوطي كقوله‪" :‬كبرى اليقينيات الكونية"‪(،‬وانتبه‬
‫إلى كلمة‪" :‬كبرى" فإنها ضرورية) وكقوله‪" :‬أبحاث في القمة" (وانتبه إلى كلمة‪" :‬في القمة" فإنها‬
‫ضرورية)‪ ،‬هذا الرجل هو الشيخ الفقيه المجدد المام الحجة‪ ،‬خاتمة المحققين‪ ،‬بقية السلف هو‬
‫"محمد سعيد رمضان البوطي"‪ ،‬قال العبارات السابقة في كتابه الفريد الذي ‪ -‬لم يعتمد فيه على‬

‫‪523‬‬
‫رؤية فكرية‪ ..‬وإنما وضعت الموازين الفقهية التي ل مجال لرفضها‪ ،‬حكما عدل يهدي إلى‬
‫الحق‪ ،‬وينهي جدل الفكار الذاتية المتعارضة ‪ -‬الكتاب الذي ختمه بقوله‪ :‬إنى أعيش ‪ -‬ول‬
‫الحمد ‪ -‬في وضع يجعلني أشد نفسي إلى الحكم الذي تؤيده دلئل الشرع والتقت عليه كلمة أئمة‬
‫المسلمين‪.‬ا‪.‬هـ‪ .‬وقال قبلها في الكتاب‪ :‬لقد آن لنا أن نستيقن بأن انتصارنا على هؤلء‬
‫الغاصبين والمتحكمين بحقوقنا وديارنا رهن بعودة صادقة منا إلى السلم‪ ،‬عقيدة وخلقا‬
‫وسلوكا‪ ،‬وقد أعلن ذلك الرئيس صراحة‪ ،‬مع الدلئل والمؤيدات لفريق من الصحفيين‬
‫المريكيين‪ .‬انتهى البداع‪.‬‬
‫جودت سعيد يفكر ومقتنع بما يفكر‪ ،‬ويستنجد لدعم فكره بالفقيه (صاحب اللفة)‪ :‬محمد سيد‬
‫رمضان البوطي فيلبي الفقيه (آية ال على خلقه)‪ ،‬ويستشهد بالدلة القاطعة من كلم الرئيس‬
‫المؤمن‪ ،‬أمين المة في هذا الزمان ‪ -‬وهي أوصاف من البوطي ‪ -‬للرئيس حافظ السد‪.‬‬
‫يا ال‪ :‬طف الكيل‪ ،‬وبلغ السيل الزبى‪ ،‬وإذا لم تستح فاصنع ما شئت (إلهي ل تحرمنا من‬
‫الحياء)‪.‬‬
‫لعلي نسيت أن أخبركم اسم الكتاب‪ ،‬إنه‪" :‬الجهاد في السلم‪ ،‬كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟‪،‬‬
‫والضمير يعود في "نفهمه" و"نمارسه" إلى الحكومة السورية بقيادة حافظ السد‪.‬‬
‫هناك وصفة طبية مضحكة لعلها تنفعك وقت الضجر هي كتاب محمد الغزالي المصري‪" :‬السنة‬
‫النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"‪ ،‬فهي تغني على مزمار المفكرين في المعهد العالي للفكر‬
‫السلمي‪.‬‬
‫الفقيه والسلطان‬
‫سدنة الحكام المرتدين وكهنتهم‪ :‬أصحاب العمائم النخرة‪ ،‬والوجوه القبيحة‪ ،‬والفتاوى المدفوعة‬
‫الثمن‪ ،‬مثلهم {كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث}‪.‬‬
‫يحاول بعض السذج من المنتسبين للعلم والدين أن يستخدم بعض الحاديث والثار السلفية‪ ،‬في‬
‫التنفير من القتراب من السلطين وذلك بإنزالها على الواقع المعاصر‪ ،‬وهذا خطا قبيح فج‪ ،‬فإن‬
‫الواقعتين بينهما من الختلف ما ل يمكن حمل الواحدة على الخرى‪ ،‬فالسلطين الذين تكلم‬
‫الئمة الوائل عنهم‪ ،‬وحذروا من القتراب منهم‪ ،‬هم أول وقبل كل شيء مسلمون‪ ،‬خلطوا عمل‬
‫صالحا وآخر غير ذلك‪ ،‬لكنهم كانوا على الدوام بيضة السلم وحماته‪ ،‬ودرعه الذي دفعت به‬

‫‪524‬‬
‫عوائد الحياة ومحن الزمن‪ ،‬وطوارق العداء‪ ،‬وكانوا على الدوام خاضعين لحكام الملة‪،‬‬
‫وقواعد الشريعة‪ ،‬ولم يألوا جهدا في إصابة الحق وتحريه‪.‬‬
‫فأين حكامنا من هؤلء؟ !‪.‬‬
‫حكام هذا الزمن خرجوا من السلم من جميع أبوابه‪ ،‬فهم معرضون عن دين ال رادون‬
‫لحكامه مستهزئون بالدين وشرائعه وأهله‪ ،‬موالون لكل ملة سوى ملة السلم‪ ،‬فأي عمى هذا‬
‫الذي أطبق على أعين الناس حتى جعلهم ل يكتشفون ردة حكامهم؟ فهل نستطيع أن نقول أن‬
‫امتناع جمع من (السدنة) المنتسبين للعلم والفقه من تكفير هؤلء الحكام بسبب شبه علمية؟‪.‬‬
‫إن الشبه العلمية التي يستحق أن تختلف حولها النظار والعقول‪ ،‬هي تلك الشبه الخفية الدقيقة‪،‬‬
‫أما تلك التي يصطدم بها العشى‪ ،‬بل العمى لعظمها وكبرها‪ ،‬فل تستحق أن تسمى شبها‪.‬‬
‫إن السبب الحقيقي لموقف هؤلء (السدنة) في الحقيقة شهوات النفوس‪ .‬إنها شهوة المال‬
‫والمنصب‪ ،‬وخوف ذهاب السم من سلم الوظائف الحكومية‪ .‬نعم إنها تنافس البلوغ لتحقيق‬
‫الشهوات‪.‬‬
‫نستطيع أن نقول إن الطاغوت المعاصر قد استطاع بسط ألوهيته الباطلة على الرض بعدة عمد‬
‫وأركان‪ ،‬ومن هذه الركان‪ :‬صك الورق النقدي‪ ،‬ووثائق إثبات الشخصية ومنها وشقة السفر‬
‫(جواز السفر)‪ ،‬والشهادات الدراسية‪.‬‬
‫هذه أهم مقومات الطاغوت المعاصر وبها استطاع أن يفرض سلطانه على الناس ويربط مجرى‬
‫الحياة به ومن خلله‪ ،‬فهو يستطيع أن يمنع ويعطي‪ ،‬وبإرادة واحدة منه يجعل الورقة المهينة‬
‫التي ل قيمة لها ول وزن ورقة نقد تحنى لها الرقاب وتذل لها النفوس وتكتسب قدرة خارقة‬
‫لتحصيل المال والطعام والمسكن والملبس ورغد الحياة‪ ،‬وبها يصبح ربا مزيفا‪ ،‬يمن على هذا‬
‫ويمنع هذا‪.‬‬
‫ومثلها كذلك وثائق إثبات الشخصية فمن خللها يستطيع أن ينفي النسان من الحياة‪ ،‬ويجعله له‬
‫أثرا بعد عين ل وجود له‪ ،‬ومن خللها يستطيع أن يثبت نسبك لتلك البلد أو يسلبها منك‪ ،‬وبها‬
‫تستطيع أن تتنقل بين البلد‪ ،‬ومثلها الشهادة المدرسية (ولشرح هذه الركان مواطن أخرى)‪.‬‬
‫وفي سابقة غريبة لم تعهد في أمة من المم السابقة ربط الطاغوت المعاصر به حق اللقب‬
‫العلمي‪ ،‬فهو يستطيع أن يجعل فلنا عالما‪ ،‬صيته يمل الدنيا وعالم الناس‪ ،‬أو يغيبه في ظلمات‬
‫الحياة‪ ،‬ل حس له ول خبر‪ ،‬فأنت أخي المسلم لو سئلت عن أسماء علماء بلد ما فإنه سيتبادر‬

‫‪525‬‬
‫إلى ذهنك فورا تلك السماء اللمعة ببريق تزيين إعلم الطاغوت لها‪ ،‬فهذا عالم من تلك البلد‬
‫تعرفه أنت لن الطاغوت أرادك أن تعرفه‪ ،‬فهو الذي جعله عضوا في هيئة كبار العلماء‪ ،‬وهو‬
‫الذي أطلق عليه لقب مفتي البلد‪ ،‬وهو الذي جعله وزيرا للوقاف‪ ،‬وهو الذي جعله قاضي‬
‫القضاة‪ ،‬وهو الذي عينه إماما للمسلمين‪ ،‬وهو‪ ..‬وهو‪ ..‬إنه صناعة الطاغوت‪.‬‬
‫كان على الدوام شيخ الزهر في مصر يتم انتخابه من قبل هيئة علماء تجتمع وتتداول فيما بينها‬
‫عن أحق الناس بلقب شيخ الزهر‪ ،‬ليوسد هذا المنصب العلمي إليه‪ ،‬أما الن فشيخ الزهر يعين‬
‫من قبل الطاغوت‪ ،‬فبجرة قلم‪ ،‬وبنفخة طاغوتية غير مباركة يصبح المسخ الصغير شيخا‬
‫للزهر‪ ،‬تصدر عنه الفتاوى العلمية‪ ،‬والبحاث الفقهية المميزة‪ ،‬ويتدافع ركب الجهل من الناس‬
‫ليستقوا من معين علمه الذي ل ينضب‪ ،‬وكل ذلك لم يقع إل لن الطاغوت سلّك له طريق اللقب‬
‫العلمي‪ .‬ولن الطاغوت لن يقبل من أتباعه إل الخضوع والذعان‪ ،‬والتأليه له‪ ،‬ولن يدخل في‬
‫حاشيته إل كل ساحر يزين له ملكه‪ ،‬ويدفع عنه عاديات الزمن‪( ،‬وهذا شرط صحة ل تنازل‬
‫عنه) فإن اللقب العلمي سيكون قاصرا على من تتحقق فيه هذه الشروط‪.‬‬
‫فصار الناس ل يرون عالما إل وهو سائر في ركب الطاغوت‪ ،‬ورجل من رجالته‪ ،‬وسقطت‬
‫من أعين الشباب المسلم قيمة العلم والعلماء‪ ،‬فصار جل هم الشباب شتم العلماء والتنفير منهم‪.‬‬
‫والحق أن هؤلء ‪ -‬كل من دخل في ركب الطاغوت ‪ -‬ل يستحق أن ينسب إلى العلم‪ ،‬وأهل‬
‫العلم على الحقيقة هم من قاموا بحق العلم عليهم‪ ،‬وتبرءوا من اللهة الباطلة‪ ،‬وعضوا على‬
‫الحق وإن كان مرا‪ .‬وهؤلء ‪ -‬للسف الشديد ‪ -‬ل يعرفون إل من قبل من فتش عنهم‪ ،‬وبحث‬
‫عنهم أشد البحث‪ ،‬وهم كثر بفضل ال تعالى‪ ،‬ولكن الطاغوت المعاصر سترهم عن أعين الناس‪،‬‬
‫وغيبهم عن لقب العلم واسمه‪ ،‬فالواجب على الشباب المسلم‪ ،‬أن يقتصر في طلبه للعلم‪ ،‬وفي‬
‫سؤاله عن أمور دينه على هؤلء العلماء الصادقين‪ ،‬المغيبين عن حياة البشر‪.‬‬
‫لقد جعل كل طاغوت حوله مجموعة من السدنة الفقهاء‪ ،‬يستخدمهم في تمرير كفره‪ ،‬وتزيين‬
‫حكمه‪ ،‬ويستغرب المرء حين يرى أن الجمع هو الجمع‪ ،‬والسدنة هم السدنة‪.‬‬
‫وهكذا فإن كل طاغوت له حاشية وسدنة‪ ،‬من المنتسبين إلى العلم يتخذهم كما يتخذ أحذيته‪،‬‬
‫ويجمعهم في مؤتمر سنوي‪ ،‬حيث يقدم لهم‪ ،‬بعض الحترام والتقدير‪ ،‬ويبارك جمعهم الخبيث‬
‫بخطبة عصماء‪ ،‬يزينها ببعض اليات والحاديث‪ ،‬وبشيء من التعالم الغث يشرح لعلمائنا‬
‫الفاضل بعض أصول الدعوة السلمية‪ ،‬وطرق نشر السلم وتحسينه للناس‪ ،‬فيحضهم على‬

‫‪526‬‬
‫الحكمة في الدعوة إلى ال ويرغبهم في مسايرة ركب الحضارة‪ ،‬ويشرح لهم ما فتح الشيطان‬
‫عليه‪ ،‬وهم خشب مسندة‪ ،‬يبتسمون كالبلهاء ويهزون رؤوسهم‪ ،‬ويطلقون بين الفينة والخرى‬
‫عبارات العجاب‪ ،‬أو يشتد بهم الوجد فيصفقون طربا وتيها‪ ،‬وكأنهم أمام الخليفة الراشد أو‬
‫مهدي آخر الزمان‪.‬‬
‫ولكن الطاغوت ل ينسى أن يشير بعصى التهديد كما أشار من قبل‪ ،‬بجزرة الترغيب‪ ،‬لن هذا‬
‫من أصول تربية القرود‪.‬‬
‫اقرأ هذا النموذج‪" :‬إن مما يشغل بالنا وبال كل مسلم غيور على إسلمه‪ ،‬حريص على صفائه‬
‫وإيمانه‪ ،‬هو ما بدأ ينتشر في بعض الوساط من انحراف عن مبادئ ديننا الحنيف‪ ،‬منحرفين‬
‫بذلك عن الطريق القويم الذي لعوج فيه‪ ...‬وإن إدراكنا العميق ووعينا الكامل بخطر الغزو‬
‫الفكري الهادف إلى المس بقيمنا الروحية‪ ،‬وكياننا الخلقي القائم على مبادئ السلم‪ ،‬وتعاليمه‬
‫الرشيدة‪ ،‬ليزيد من شعورنا بعبء المسئولية الملقاة على عاتقنا كأمير المؤمنين‪ ،‬وحامي حمى‬
‫الملة والدين‪ ،‬في هذا البلد المين"‪.‬ا‪.‬هـ‪ .‬هذا جزء من رسالة الحسن الثاني إلى المؤتمر السابع‬
‫لرابطة علماء المغرب‪.‬‬
‫وفي خطاب له‪ .‬بمناسبة تأسيس المجلس العلمي العلى‪ ،‬والمجالس العلمية القليمية يحذرهم من‬
‫التدخل في السياسة قائل‪" :‬ليست دروسا للسياسة‪ ،‬حينما أقول السياسة‪ ،‬أقول السياسة اليومية‪...‬‬
‫إياكم والدخول فيما ل يعنيكم‪ ،‬فيما إذا ارتفع سعر الوقود أو سعر الدخان" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وفي خطاب آخر له أمام جمع السدنة‪" :‬ل نغلق أندية‪ ،‬ول نغلق مسابح‪ ،‬ول نرجع إلى الوراء‬
‫أبدا‪ ،‬أنا أتكلم فيما يخص العبادات‪ ،‬المعاملت‪ ،‬والسيرات ل تهمكم‪ ،‬ل تهمكم السيرة في‬
‫الزقة‪ ،‬والعربدة في الطريق‪ ،‬وغير الحشمة في الطريق"‪.‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫هذا الكلم يقال أمام السدنة‪ ،‬فل يوجد قائم ل بحجة يثبت للشباب أن فيهم من يستحق أن يسمى‬
‫"عالما"‪ .‬وإذا تكلمنا عنهم قالوا عنا‪" :‬هؤلء قوم ل يحترمون العلماء‪ ،‬أو شباب متهور"‪ .‬نعم‬
‫نحن ل نحترم السدنة‪ ،‬بل نتقرب إلى ال بكشفهم‪.‬‬
‫روى المام أحمد بسند حسن عن عبادة بن الصامت قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬‬
‫ليس منا من لم يجل كبيرنا‪ ،‬ويرحم صغيرنا‪ ،‬ويعرف لعالمنا حقه "‪ .‬فقد أمر النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم بتقدير العلماء واحترامهم‪ ،‬وعدم منعهم حقهم من التوقير‪ ،‬والستر ودفع الذى عنهم‪،‬‬
‫وكان علماء المسلمين على الدوام حماة الدين‪ ،‬وحفظة نصوصه ومفاهيمه‪ ،‬دفع ال بهم‬

‫‪527‬‬
‫المحاولت المتكررة لتزوير معالمه‪ ،‬وطمس هديه‪ ،‬وهؤلء العلماء لم يدخروا وسعا في القيام‬
‫بحق ال عليهم‪ ،‬وحق العلم كذلك‪ ،‬وحتى ل نبتعد كثيرا في إصدار العمومات التي ما عادت‬
‫تشفي غليل‪ ،‬ول تطب عليل‪ ،‬فإنا سنسير معك أخي في ال في اكتشاف معالم الهدى الحقة‪،‬‬
‫وصفات العلم والعالم في كلم ال تعالى وفي سنة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وفي كلم‬
‫السلف الصالح‪ ،‬لن أدعياء العلم قد كثروا‪ ،‬وتغيرت موازين الناس في الحكم والقضاء‪ ،‬وصار‬
‫إطلق لفظ العالم ألعوبة ل ضابط له‪ ،‬وكذلك سلب صفة العالم من أهله ومستحقيه‪ ،‬وقبل أن‬
‫نبين صفة أهل العلم والعلماء فإنا سنمر على مزالق أهل الجهل وموازينهم في هذا الباب‪ ،‬وهي‬
‫مزالق قلما خل منها فئة من الناس إل من رحم ال تعالى‪ ،‬فمن أشهر هذه الموازين الخاطئة في‬
‫تقييم الناس والحكم عليهم بالعلم والفقه‪:‬‬
‫أول‪ :‬إن مما طم وعم أن أغلب الناس ‪ -‬إل من رحم ال تعالى ‪ -‬لم يعد يميز بين الخطيب‬
‫المفوه‪ ،‬صاحب الصوت الجهوري‪ ،‬وبين العالم‪ ،‬ولن الناس على الغلب ل يترددون إلى‬
‫مساجدنا إل يوم الجمعة‪ ،‬وأيام الدعوة إلى الندوات التي تسمى بالندوات الفكرية‪ ،‬ولنهم كذلك‬
‫ما عادت تشغلهم أحكام الدين وشرائعه بمقدار انشغالهم بسماع التحليلت السياسية‪ ،‬أو الخبار‬
‫والحكايات‪ ،‬وصار فرحهم يشتد‪ ،‬وغبطتهم تظهر بمقدار ما يرون ويسمعون من صوت عال‪،‬‬
‫أو شتم لفلن وعلن‪ ،‬وهذا جر على الناس خراب أمزجتهم ورداءة أحكامهم على الشياء‬
‫والفعال‪ ،‬فأعرض الناس عن الدراسات الهادئة‪ ،‬والبحاث العلمية‪ ،‬والتقريرات الشرعية‪،‬‬
‫وأقبلوا على هؤلء القوم الذين يتقنون فن الصخب الهادر‪ ،‬والصوات المرتفعة‪ ،‬وأعرضوا‬
‫عمن يحملهم على العمل ويحضهم على الشريعة‪ ،‬وييبن أحكام الدين والفقه‪.‬‬
‫وعلى هذا صار أهل المنابر قسمان‪:‬‬
‫‪ - 1‬أصحاب الطحن بل طحين‪ ،‬والكلم الكثير بل علم ول فقه‪ ،‬بل هو بدل أن يدفع الناس إلى‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬وبدل أن يزين خطبته بالعلم الحق ‪ -‬الكتاب والسنة ‪ -‬صار جريدة جديدة تسمى‬
‫(جريدة المنبر)‪ ،‬فقبل أن يصعد المنبر يختار هذا الخطيب لنفسه خبرا صحفيا ويعلق عليه‪،‬‬
‫وتروج تجارته‪ ،‬وتنفق بضاعته حين تنزل بالمسلمين نازلة‪ ،‬أو يكتشف مؤامرة وهمية سربت‬
‫إليه‪ ،‬فحينئذ هذا أسبوع الفرح لنه وجد لنفسه مادة دسمة لخطبته‪ ،‬وبها يستطيع أن يشد الذان‬
‫إليه‪ ،‬ومنها ينطلق إلى عالم النجومية والشهرة‪ ،‬هؤلء على الجملة من أكثر الناس حذرا في‬

‫‪528‬‬
‫إطلق الحكام الشرعية المحددة‪ ،‬بل كلمهم دائما في العمومات‪ ،‬التي ل يستطيع الناس بها أن‬
‫يلزموهم بموقف يؤخذ عليهم‪ ،‬فهؤلء القوم هم أهل العلم عند بعضهم‪.‬‬
‫‪ - 2‬لما رأى بعض طلبة العلم فساد أمزجة الناس بسبب القسم الول من الخطباء‪ ،‬ثم إعراض‬
‫الناس عن الفقه والعلم‪ ،‬ورأوا أن الحديث في المنابر صار على صورة جريدة أسبوعية‪ ،‬هالهم‬
‫هذا المر ودفعهم إلى موقف مضاد‪ ،‬ومختلف مع الول في كل شيء‪ ،‬هذا الموقف هو‪ :‬عدم‬
‫الكلم إل فيما يخص الفرد المسلم‪ ،‬أي‪ :‬فيما يجهل من أحكام الدين والفقه العامة‪ ،‬فهو يأبى أن‬
‫يتحدث إل في بر الوالدين‪ ،‬وآداب الزيارة الشرعية‪ ،‬أو أحكام العقيقة وبدعة صوم النصف من‬
‫شعبان‪ ،‬وقد يتقدم قليل فيحدث الناس عن الوائل وفتوحات الباء‪ ،‬وزمن العزة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ولم يعد المسلم العادي إل ألعوبة بين هذا وهذا‪ ،‬وعامة الخطباء يتجنبون البحث والكلم في‬
‫الحكام الشرعية التي تلزم المسلم بموقف محدد من أحداث معاصرة عم بلؤها الصغير‬
‫والكبير‪ ،‬وربي عليها المسلمون حتى صارت جزءا من حياتهم‪ ،‬فمن القليل النادر أن تجد‬
‫الخطيب الذي يقدم للناس الحكام الشرعية التي تلزمهم بموقف محدد من نوازل الحياة العامة‪،‬‬
‫أو التي تدفعهم إلى حركة شرعية منضبطة‪ ،‬فأين الحديث عن حكم المبدلين لشرع ال؟ وأين‬
‫الحديث عن وجوب جهادهم قبل جهاد الكفار الصليين؟ وأين الحديث عن عدم جواز الدخول‬
‫في وظائف طائفة الردة كالدخول في البرلمانات أو الشرطة؟‪.‬‬
‫نعم يوجد ممن مل الدنيا جعجعة بوجوب تحكيم السلم‪ ،‬أنه هو الحل‪ ،‬نعم يوجد اللف من‬
‫هؤلء‪ ،‬لكنا كنا نتمنى أل يتكلم هؤلء المخادعون لنهم تحدثوا عن وجوب تحكيم الشريعة‪،‬‬
‫وصرخوا بملء أفواههم بذلك أمام الناس‪ ،‬لكنهم دخلوا في وزارات الحكم بغير ما أنزل ال من‬
‫باب آخر‪ ،‬وقالوا للناس عن وجوب الشورى وتحدثوا عنها حتى بحت أصواتهم‪ ،‬لكنهم صاروا‬
‫عمدا في المجالس الشركية‪ ،‬فاهتزت هذه المفاهيم في أذهان الناس وعقولهم‪ ،‬وإل فكيف نستطيع‬
‫أن نقنع المسلم العامي أن الحكم بغير ما أنزل ال وأن استبدال شريعة الرحمن بشريعة كفرية‬
‫هو كفر بال العظيم‪ ،‬وموالة أهلها كفر وردة‪ ،‬وهم يرون الذي يتحدثون أمام الناس ويثيرون‬
‫عواطفهم لتأييدهم هم الذين يظهرون في التلفزيون ويتحدثون أمام هؤلء الحكام وبطانتهم‬
‫بالدب والتوقير‪ ،‬ويقولون لهم‪ :‬نحن معكم في كل كلمة قلتموها‪.‬‬
‫على المنابر تعريض وقدح وذم وفي الخلف تأييد ونصر وموالة‪.‬‬

‫‪529‬‬
‫هذه الصور وأمثالها أسقطت من حس الناس قيمة هؤلء الخطباء‪ ،‬واهتزت الثقة بهم مع أن‬
‫الطامة الكبرى وهي الهم‪ :‬ضياع مفاهيم السلم وأحكامه الواضحة من أذهان الناس وعقولهم‪.‬‬
‫لكن علينا أن ل ننسى أن قوما من الخطباء ما زالوا يعيشون خارج واقعهم ويفكرون بالمعارك‬
‫الفائتة‪ ،‬ويتصورون أنفسهم في زمن محنة خلق القرآن‪ ،‬أو في زمن الخصومة بين الشاعرة‬
‫والحنابلة‪ ،‬فهذا خطيب من خطباء المسجد المكي وقت أزمة الخليج حين سلط ال حبيب الكويت‬
‫على أهل الكويت‪ ،‬وجاءت قوات الصليب لترد قوات المرتدين‪ ،‬وانقسم الناس بطريقة غثائية‬
‫إلى مواقف ما أنزل ال بها من سلطان‪ ،‬وكان أهل الشام على الجملة‪ ،‬وخاصة غثاء أهل‬
‫الردن وفلسطين‪ ،‬قد شايعوا صدام وحلموا به أنه المنقذ وشبهوه بصلح الدين‪ ،‬ودارت بهم‬
‫سماديرهم حتى رأوا صورته في القمر‪ ،‬وصارت المساجد بخطبائها موقد فتنة‪ ،‬ومصدر شر‪،‬‬
‫وكان في الجهة المقابلة لهم أهل الخليج والجزيرة‪ ،‬حين حلفوا برأس بوش تأليها له وتقديسا‪،‬‬
‫وأعلن الشيخ المام أبو بكر الجزائري قائل‪" :‬جزى ال أمريكا خيرا"‪ ،‬وصار المريكي‬
‫والنجليزي الكافر أحب إليهم من بني جلدتهم المسلم في تلك الفتنة العمياء‪ ،‬يقوم خطيب المسجد‬
‫المكي ليفسر للناس واقع المعركة فيقول‪" :‬ماذا ينقم علينا أهل الشام‪ ،‬أينقمون علينا أننا أهل‬
‫توحيد؟ وأننا أصحاب العقيدة الصحيحة؟"‪ .‬ا‪.‬هـ‪ .‬فأهل الشام ومعهم أهل العراق في ذهن‬
‫الخطيب المام‪ ،‬هم أهل البدع‪ ،‬ل نهم صوفية أشاعرة‪ ،‬وأهل الجزيرة موحدون حنابلة‪ ،‬ولذلك‬
‫لم يقم صدام بغزو الكويت ول التحضير لغزو الجزيرة إل للقضاء على المذهب الوهابي!!‬
‫ونشر الطرق الصوفية والعقيدة الشعرية!‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬وإن من الموازين الخاطئة في مدح البعض‪ ،‬وإطلق اسم العلماء وصفة العلم عليهم‪ ،‬ظن‬
‫الجاهل أنه بمقدار تفرغ المرء عن أخبار الحياة‪ ،‬وبعده عن أحداثها‪ ،‬وتوحده‪ ،‬وعزلته‪ ،‬وانشغاله‬
‫ببطون الكتب‪ .‬يعيش معها وبها؛ يكون العالم عالما حقا‪ ،‬وإماما يقتدى به‪ ،‬فالمرء يأخذه العجب‬
‫حين يرى أحدهم يسوق عن شيخه‪ ،‬أو إمامه أو محبوبه‪ ،‬على جهة المدح والتعظيم أن شيخنا ‪-‬‬
‫بفضل ال تعالى ‪ -‬بعيد كل البعد عن الدنيا‪ ،‬فهو ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬ل يجد الوقت لسماع‬
‫أخبار الحياة‪ ،‬و لم تدخل الجريدة يوما بيته‪ ،‬بل هو ‪ -‬حفظه ال ورعاه ‪ -‬ل يقتني جهاز مذياع‪،‬‬
‫بل جل وقته في طلب العلم‪ ،‬وفي تعليم طلبة العلم‪.‬‬
‫ثم يأخذه العجب ويشتد به الوجد فيسوق لك الخبار تلو الخبار في إعراض شيخه عن معرفة‬
‫ما يدور حوله‪ ،‬فشيخنا ‪-‬حفظه ال تعالى ‪ ،-‬إذا حاول بعضهم أن يذكر شيئا من أمور السياسة‪،‬‬

‫‪530‬‬
‫وأخبار السياسيين‪ ،‬تجهم‪ ،‬وتغير وجهه‪ ،‬وتكلم معه بكلم بليغ‪ ،‬وذكر هذا (البق ) أن طالب‬
‫العلم عليه أن يصرف كل وقته للعلم‪ ،‬فهو يستشهد دوما بمقولة السلف‪" :‬إذا أعطى الرجل كل‬
‫وقته للعلم‪ ،‬أعطاه العلم بعضه"‪.‬‬
‫وهكذا تدور هذه الكلمات على ألسنتهم‪ ،‬ويظنون أنهم بهذا قدموا صورة جميلة عن شيخهم‪ ،‬وهم‬
‫في الحقيقة لم يزيدوا سوى أن عرفوا الناس‪ :‬أن شيخهم هذا هو من أجهل خلق ال‪ ،‬وأن شيخهم‬
‫هذا يجب أن يحجر عليه فل يسأل‪ ،‬ول يستفتى‪ ،‬لن من شرط المفتي أن يكون بصيرا بحال‬
‫أهل زمنه‪ ،‬عالما بمداخل الحياة وسبلها‪ ،‬وإل فما هو هذا العلم الذي أنزله ال على رسوله صلى‬
‫ال عليه وسلم؟ ولم جاء العلم؟‪.‬‬
‫أجاء العلم ليكون حبيس السراديب؟‪.‬‬
‫أم ليتمتع به بعضهم في خلواته؟‪.‬‬
‫ومن غرائب هؤلء الشيوخ وعجائبهم وكذلك من غرائب تلمذتهم أنهم إذا سئلوا عن المور‬
‫العظيمة في الحياة لم يتورعوا أبدا عن الخوض فيها بألسنتهم الطويلة‪ ،‬وتكلموا فيها وهم ل‬
‫يدرون شيئا‪ ،‬وخاضوا فيها وهم من أبعد الناس عنها فهما ومعرفة‪.‬‬
‫الخلط بين السياسي والمجاهد والفقيه‬
‫على ضوء هذا التفكير المنحط‪ ،‬وهذا السلوك الجاهل‪ ،‬ظهرت في عالم المسلمين ثنائيات لم تكن‬
‫معروفة لدى الوائل‪ ،‬وقد حاول بعضهم بشيء من التعالم الغث أن يجعل هذا من وضع‬
‫الختصاص المعاصر الذي ل بد منه‪ ،‬مع أن هذا الختصاص إذا وقع فقد كل طرف ما حمل‬
‫من خصوصيات‪.‬‬
‫هذه الثنائيات هي‪:‬‬
‫أول‪ :‬التفريق بين السياسي والفقيه‪ :‬فالسياسي عند الناس هو البصير بأمور الحياة‪ ،‬القادر على‬
‫تفسير أحداثها‪ ،‬وهو من يستشار ويسأل عن تفسير الكونيات والوقائع‪ ،‬وهو كذلك من له حق‬
‫قيادة الحياة ورعاية شؤونها‪ ،‬وهذا من خلل ما أعطي من قدرات سياسية‪ ،‬وأما الفقيه فهو‬
‫حبيس الكتاب ول يسأل إل فيما يخص الغيب‪ ،‬فالسياسي له عالم الشهادة‪ ،‬والفقيه له عالم الغيب‪،‬‬
‫وهذه ثنائية باطلة لم تكن معروفة لدى الوائل‪ ،‬بل إن كلمة الفقه ل تقع إل إذا اجتمع أمران‪:‬‬
‫‪ - 1‬إدراك الحياة على ما هي عليه‪ ،‬ومعرفة أحداثها‪ ،‬وهذا من أعظم الفقه‪ ،‬فإن ال تعالى قال‪:‬‬
‫{وتلك المثال نضربها للناس وما يعقلها إل العالمون} العنكبوت‪ ،‬فالعالم هو من فسر المور‬

‫‪531‬‬
‫على طريقة سننية لها تمام الوضوح في عالم الشهادة‪ ،‬ول تغيب عنه الخرة‪ ،‬فهو الجامع‬
‫بينهما‪.‬‬
‫وإن من طامات مشايخنا في كلمهم على وقائع حياتنا أنهم يعتمدون على مبدأ الكشف الصوفي‪،‬‬
‫ول ينسون أن يفتح ال عليهم بالفهم في تفسير الحداث‪ ،‬وهذا كله باطل من القول وزورا فإن‬
‫معرفة المرء للحدث ل تقع على وجهها الصحيح إل إذا درسه دراسة عقلية سننية‪ ،‬ونظهر إليه‬
‫كما هو في عالم الشهادة‪ ،‬فحينئذ ينطق إلى المر الخر وهو‪:‬‬
‫‪ - 2‬معرفة حكم ال في هذه الواقعة‪ ،‬أي يأتي بعد ذلك الحكم الشرعي‪ ،‬ول يمكن لحد أن‬
‫يطلق حكما شرعيا صحيحا إل إذا فهم الواقع فهما صحيحا‪ ،‬فالخلق أول‪ ،‬ثم الشرع‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫{أل له الخلق والمر تبارك ال رب العالمين} العراف‪ .‬وبعد أن يدرك تطابق الخلق والمر‬
‫لبد أن تصدر منه كلمات التسبيح والتعظيم والتقديس‪ ،‬فيزداد يقينا بحكمة الخالق‪ ،‬وتترسخ‬
‫مبادئه في حكمة الشريعة‪ .‬حينئذ تخرج منه {تبارك ال رب العالمين}‪.‬‬
‫فلو أننا قلنا إن السياسي هو من أدرك المر الول فقط (عالم الشهادة) وغاب عنه المر الثاني‬
‫(معرفة حكم ال فيه) فإن هذا لن يكون سياسيا مسلما‪ ،‬وستنطلق رؤاه في التعامل مع المور‬
‫على مبدأ المنفعة التي ليس لها ضابط سوى النظر إلى الفردية الذاتية‪ ،‬أو الشهوة التي يعود‬
‫مآلها إلى فساد الحياة‪ ،‬وإذا قلنا إن الفقيه هو من أدرك الحكم الشرعي دون معرفته بوقائع الحياة‬
‫على ما هي عليه فسيكون علمه هذا حبيس ذهنه وعقله‪ ،‬وليس له من أمر الحياة شيء‪ ،‬حينئذ‬
‫سيقتصر دوره على الوعظ الكنسي الذي يحتاجه الناس يوما في السبوع لتخرج منهم زفرات‬
‫الضيق ارتقابا بانتهاء غثائية الشيخ‪.‬‬
‫وعلى هذا فإن الفقيه لن يكون فقيها في ديننا ول يسمى فقيها وعالما إل إذا كان سياسيا بكل ما‬
‫تحمل هذه الكلمة من معنى ووقع على النفوس‪ ،‬وعلى الشباب المسلم أن يسقط من حسه ومن‬
‫احترامه من يقول‪ :‬إن من السياسة ترك السياسة‪ ،‬لنه حين يكون كذلك‪ ،‬أي حين ل يكون‬
‫سياسيا لن يكون فقيها بل يكون شيخ جهل وتجهيل‪ ،‬وعلى مثل هؤلء الشيوخ الجهلة يعتمد‬
‫الطاغوت في إمرار باطله على الناس‪ ،‬وفي إصباغ الشرعية على نفسه‪ ،‬فشيوخنا كمخدرات‬
‫البيوت‪ ،‬يلقون على أنفسهم الحجاب‪ ،‬ويرفع حجابهم عندما يبدأ مسرح الدجل أمام الطاغوت‪،‬‬
‫ليقرأ عليهم نصوص الحكمة ليدلل لهم على أنه الوفي للسلم وأهله‪ ،‬وإل ففسروا لنا ماذا‬
‫نسمى هذا القطيع البهيمي الذي يتحلق حول الطاغوت وقد زين الرؤوس بعمائم خربة‪ ،‬ولم ينس‬

‫‪532‬‬
‫أن يطلق شعرات الخديعة على لحيته (ولعله نسى أن يحلقها في ذلك اليوم لضطرابه)‪ ،‬ثم‬
‫يخرج من عنده وهو يمدح ويثني ويقسم اليمان المغلظة على أن حاكمنا هو ولي المر‬
‫الشرعي الذي يجب طاعته‪.‬‬
‫أهكذا يصنع الفقه بأهله؟‪.‬‬
‫أم هكذا يكون العلماء؟‪.‬‬
‫أم أن الفقيه كل الفقه هو عمر بن الخطاب حين يقول‪" :‬لست بالخب ول الخب يخدعني"‪ ،‬وكذلك‬
‫صاحبه حذيفة حين يقول‪" :‬كان أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم يسألون عن الخير‬
‫وكنت أساله عن الشر مخافة أن يدركني"‪.‬‬
‫من هو الفقيه والعالم في ديننا؟‪.‬‬
‫أهذه النماذج الجاهلة التي تعيش في عصرنا أم أولئك الذين سادوا الدنيا وحكموا الوجود؟‪.‬‬
‫إن هؤلء الجهلة الذين ل يدرون عن الحياة وما يدور فيها‪ ،‬ول يسمعون تصريحات قادتهم أمام‬
‫العداء‪ ،‬ول يعرفون شيئا عما يقال عن حركة دولهم وإلى أين تسير‪ ،‬هؤلء من العار على‬
‫أهل ديننا بمكان‪ ،‬وإنه مما يخجل منه أن يكونوا هم العلماء‪ ،‬ولو رضينا أن نطلق عليهم وصف‬
‫العلم والفقه لكان هذا شتما وقذفا لديننا‪ ،‬لننا علمنا الناس أن عالم هذا الدين‪ ،‬وفقيه هذه الشريعة‬
‫جاهل بالحياة‪ ،‬غبي بالزمن‪ ،‬ومن أجل ذلك لن نشتم هؤلء القوم ونخرجهم من زمرة العلماء‪،‬‬
‫خير وألف خير من أن نصبغ في أذهان الناس صورة قذرة عن الفقيه المسلم‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬التفريق بين المقاتل والفقيه‪ :‬كنت أعجب زمنا طويل‪ ،‬لماذا يلبس هؤلء الشيوخ هذا الزي‬
‫الكهنوتي‪ ،‬طربوش على الرأس (ثقيل نوعا ما)‪ ،‬طيلسان (رداء فضفاض)‪ ،‬له أكمام تتسع لقطة‬
‫أبي هريرة رضي ال عنه كما يزعمون‪ ،‬لكني أدركت الن شيئا من سر هذا اللباس المقرف‪،‬‬
‫ولعل من أسباب ذلك أن ينطبع في أذهان الناس وقبل ذلك في أذهان أصحاب هذا اللباس أنهم ل‬
‫يصلحون لشيء سوى الكلم‪.‬‬
‫فدور مشايخنا محصور فقط في الكلمة‪ ،‬ومن المستهجن الغريب أن يكون الشيخ قائدا عسكريا‪،‬‬
‫أو مقاتل شديدا‪ ،‬فهذا محمد الغزالي يعلن بكل صراحة غريبة‪ :‬أنه ل يطيق رؤية دم دجاجة‬
‫وهي تذبح‪ ،‬لكنه قطعا يفرح هو وإخوانه المشايخ في رؤية الدجاج على مائدة الطعام‪.‬‬
‫هذه الصورة المنكوسة للشيوخ جعلت الشباب يتساءلون‪ :‬لماذا خل تاريخنا من العلماء المقاتلين؟‬
‫وشبابنا على الجملة يحترمون شيخ السلم "ابن تيمية" ‪ -‬رحمه ال تعالى ‪ -‬لنهم رأوا فيه‬

‫‪533‬‬
‫صورة العالم الفقيه المقاتل‪ ،‬وظنوا أنه ل يوجد له مثال وشبيه‪ ،‬وهذا خطأ فإن من القليل النادر‬
‫أن تجد عالما من علمائنا الوائل إل وهو مقاتل من الدرجة الولى‪ ،‬بل إن بعضهم كان في‬
‫مرتبة القيادة العسكرية‪ ،‬مثل أسد بن الفرات‪ ،‬وإن الكثير من أئمة الحديث قد صنفوا كتبهم‪،‬‬
‫وعقدوا مجالس التحديث في الربطة القتالية‪ ،‬على ثغور المسلمين‪.‬‬
‫ومثل هذه الثنائيات الباطلة‪ ،‬التفريق بين الداري والفقيه‪ ،‬والقائد والفقيه‪ ،‬وغير ذلك مما أعطت‬
‫صورة غثائية عن الفقيه المسلم‪.‬‬
‫الجتهاد والتقليد‪:‬‬
‫لقد حرصت الشريعة على لسان مبلغها الول رسول ال صلى ال عليه وسلم على التحذير‬
‫الشديد الواضح من الوقوع في المثال الخطأ عن صورة الشريعة والدين‪ ،‬ذلك لن الناس بحاجة‬
‫دوما في فهمهم لفكرة ما‪ ،‬أو لموضوع معين أن يتمثل هذا الموضوع‪ ،‬وأن تشخص هذه الفكرة‬
‫بصورة عملية أمامهم‪ ،‬ليشدهم هذا المثال وهذا التشخيص إلى التطبيق العملي‪ ،‬وليقرب لذهانهم‬
‫حقيقة هذه الفكرة‪ ،‬فإن الناس وإن اختلفت عقولهم في تفسير شيء عرض عن طريق البيان‪،‬‬
‫وتعددت نظراتهم في تحديد المراد منه لتساع معاني البيان الواحد‪ ،‬إل أنهم لن يخطئوا في‬
‫تفسير هذا البيان حين يتمثل أمامهم بصورة عملية واقعية‪ ،‬ولذلك كانت السنة بتفصيلتها البيانية‬
‫والعملية في شخص النبي صلى ال عليه وسلم وفي حياة الصحابة كواقع عملي قرر من قبل‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم كانت قاضية على الكتاب البياني المجرد كما قال الكثير من أئمة‬
‫العلم والدين‪.‬‬
‫ولما كانت الصورة عادة تقل في وضوحها عن الحقيقة‪ ،‬والمقتدي ل يبلغ درجة المقتدى به إذا‬
‫كانت صورة القتداء تتم فقط عن طريق السوة العملية دون الرجوع المرة تلو المرة إلى‬
‫الحقيقة كما عرضت في أول مرة‪ ،‬فإنه ول بد أن يتم التشويه والتحوير في كل مرحلة من‬
‫مراحل تطبيق الفكرة‪ ،‬وهذا واقع مع أي فكرة وأي مثال‪ ،‬والتاريخ السلمي مع السلم كان‬
‫نموذجا حيا لهذا المثال‪ ،‬مع أن السلم حذر من هذا الخط البياني النازل على مدار التاريخ‬
‫النساني‪ ،‬إل أن هذه المة لم تخرم ‪-‬للسف ‪ -‬هذه السنة‪ ،‬على الرغم أنها سنة سيئة ول شك‪.‬‬
‫ولنقل أنها لم تخرمها بضابطين‪:‬‬
‫أولهما‪ :‬إلى الن‪ ،‬فالبشائر النبوية تعلمنا أن هذا الخط النازل في تطبيق المثال سيعود إلى‬
‫الصعود في آخر الزمان‪" ،‬ثم تكون خلفة على منهاج النبوة"‪ .‬لكن هذا المثال‪ .‬وللسف مرة‬

‫‪534‬‬
‫أخرى‪ .‬لن يكون إل بمثابة الفاقة الخيرة والنهائية لهذا الوجود‪ ،‬وهي بمقدار إفاقة من كان في‬
‫النزع الخير‪.‬‬
‫ثانيهما‪ :‬أن هذا النزول في مجموع الفكرة ومجموع المة‪ ،‬وإل فإن التوقف في النزول حينا أو‬
‫الصعود حينا يكون مرة في جزئية الفكرة أو جزئية المة‪.‬‬
‫والسلم حذر من هذه السنة‪ ،‬وهى اتخاذ السوة عن طريق المثال بعد غياب الحقيقة أو ما‬
‫قاربها في القرون الولى‪ ،‬وشدد على العودة دوما إلى الحقيقة البيانية مع حقيقة التطبيق الولى‪،‬‬
‫واعتبر أي نزول في المثال انحراف عن جادة الصواب‪ ،‬وابتعاد عن الحقيقة‪.‬‬
‫ومن هذه التحذيرات الواضحة وهي كثيرة قوله صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫‪(( - 1‬خير الناس قرني‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم‬
‫يمينه‪ ،‬ويمينه شهادته))‪ .‬وفي رواية‪" :‬خير الناس قرني‪ ،‬ثم الثاني‪ ،‬ثم الثالث‪ ،‬ثم يجيء قوم ل‬
‫خير فيهم"‪ .‬وهذا الحديث وإن كان بصيغة الخبر‪ ،‬إل أنه يحمل في طياته أمرا توجيهيا‬
‫وتحذيريا‪ ،‬توجيهيا للمسلم بمن يقتدي‪ ،‬وتحذيريا للمسلم ممن يتقي‪.‬‬
‫والحديث نموذج للتحذير الذي قدمناه وهو أنه بعد القرن الثالث (الجيل الثالث)‪ ،‬ينبغي على‬
‫المسلم أن تتوقف لديه صورة المتثال والقتداء عن طريق السوة العملية‪ ،‬لنها لن تكون‬
‫واضحة في شرح الفكرة ول هي واضحة في تمثلها‪ ،‬والخذ بهذه الصور الحادثة تعطي عن‬
‫الفكرة صورة ناقصة أو مشوهة فحينئذ ل بد من العودة إلى الصل وهو يساوي البيان مضافا‬
‫إلى النموذج الول‪.‬‬
‫‪" - 2‬عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي‪ ،‬عضوا عليها بالنواجذ‪ ،‬وإياكم‬
‫ومحدثات المور فإن كل محدثة بدعة‪ ،‬وكل بدعة ضللة"‪ .‬وبعيدا عن خلف السلف‪ .‬عليهم‬
‫رحمة ال‪ .‬في قيمة قول الصحابي إل أن السنة التشريعية بإجماع أهل الملة قاصرة على النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم ل يشركه فيها أحد‪ ،‬أما السنة التي يقتدى بها فمما ل شك فيه أن النموذج‬
‫القدوة للسنة التشريعية هم الخلفاء الراشدون‪ ،‬وهو نموذج قاصر عليهم وعلى المسلم أن ل‬
‫يتعداه في تمثيل البيان عن طريق قدوة ومثال مهما بلغت درجة هذا الخر‪ ،‬وفي الحديث إشارة‬
‫إلى الحوادث المهلكة في إنزال مرتبة القدوة حين قال‪" :‬وإياكم ومحدثات المور"‪ ،‬فالصورة‬
‫العملية صورة حادثة‪ ،‬ول شك أنها بمجموعها ستحوي بعض التشويه والنقص‪ ،‬فمن أراد الفوز‬
‫فليرجع إلى‪ :‬البيان مضافا إلى النموذج الول‪.‬‬

‫‪535‬‬
‫وهناك بعض العوارض في أذهان بعضهم تقدح في هذا المر‪ ،‬وتسمح بجعل المرتبة المتأخرة‬
‫نموذجا للقدوة‪ ،‬وقبل أن نتكلم على الدلة الموضوعية التي يسوقها هؤلء القوم‪ ،‬أعلم أن بواعث‬
‫هؤلء البعض في إنزال مرتبة النموذج بواعث نفسية‪ ،‬وأهم هذه البواعث فقدان روح التمرد‪،‬‬
‫والرغبة في التقليد المريح الذي يسقط عن المسلم الكسول الخامل تبعة المساءلة الخروية‪،‬‬
‫وتبعة ثمن التضحية في مخالفة عوائد الناس وإيلفهم‪ .‬وهؤلء وإن رفضوا مقولة العوام‪" :‬قلدها‬
‫لعالم فتخرج سالم"‪ .‬إل أنهم في الحقيقة يعيشونها شعورا حاضرا ل يغيب عن أذهانهم‪ ،‬وهؤلء‬
‫أبعد الناس عن الدخول في زمرة التجديد والحياء‪ ،‬أو الولوج إلى شعار تصفية الحق من دخن‬
‫العقول والهواء‪.‬‬
‫والن ما هي أدلة هؤلء القوم؟‪:‬‬
‫أدلة هؤلء القوم تقسم إلى قسمين‪ ،‬قسم فرضته عوائد العلماء كما يزعمون‪ ،‬وقسم نصي‬
‫يسترشد به في دعم الفكرة‪ ،‬وليس في تأصيلها‪.‬‬
‫القسم الول‪ :‬جامع لجراميز أدلتهم وهو قولهم‪ :‬إن العلماء على الدوام رفضوا اسم العلم أن‬
‫يلتصق بفرد أو جماعة أخذت علمها من مصدر البيان مباشرة‪ ،‬بل ل بد من أفواه العلماء‪،‬‬
‫والجلوس على الركب أمامهم‪ ،‬وهذا يدل على أن تواصل العلم عن طريق الرجال‪ ،‬مشافهة‪ ،‬ول‬
‫شيء في ذلك‪.‬‬
‫وقولهم هذا ل يعدو أن يكون حيدة عن موضوع البحث‪ ،‬لن هذا القول هو في البداية حجة‬
‫تراثية‪ ،‬والخصومة حولها وعليها‪ ،‬والختلف يدور حول حجية التراث والتاريخ‪ ،‬والمر الخر‬
‫هو أن هذا الذي قيل وجد في السنة ما ينقضه ويبدده‪ ،‬خاصة حين يصبح ويصير لكل طائفة‬
‫رجال‪ ،‬تتخذهم الطائفة قدوة وأئمة‪ ،‬وتزعم أن مجرى الهدى على محياهم‪ ،‬ومنبع النور من‬
‫أفواههم‪ ،‬فل بد من قطع علئق الفتن بالعودة إلى الصل وهو‪ :‬البيان مضافا إلى النموذج‬
‫الول‪.‬‬
‫والسنة التي مدحت العودة إلى الورق دون النظر إلى الشخوص والمثل هي القاطعة لحجة هذا‬
‫الفريق‪ ،‬هذه السنة هي قوله صلى ال عليه وسلم لصحابه يوما‪(( :‬أي الخلق أعجب إليكم‬
‫إيمانا؟‪ .‬قالوا‪ :‬الملئكة‪ ،‬قال‪ :‬وكيف ل يؤمنون وهم عند ربهم؟‪ .‬قالوا‪ :‬النبياء‪ ،‬قال‪ :‬وكيف ل‬
‫يؤمنون وهم يأتيهم الوحي؟‪ .‬قالوا‪ :‬نحن‪ ،‬فقال‪ :‬وكيف ل تؤمنون وأنا بين أظهركم؟‪ .‬قالوا‪ :‬فمن‬
‫يا رسول ال؟‪ .‬قال‪ :‬قوم يأتون من بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بها))‪.‬‬

‫‪536‬‬
‫وفي بعض ألفاظه‪(( :‬بل قوم من بعدكم‪ ،‬يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به‪ ،‬ويعملون بما فيه‪،‬‬
‫أولئك أعظم منكم أجرأ))‪.‬‬
‫وفي لفظ آخر‪(( :‬يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه‪ ،‬فهؤلء أفضل أهل اليمان إيمانا))‪( .‬‬
‫‪)1‬‬
‫فالحديث بوضوحه يمدح أخذ العلم عن طريق الورق المعلق‪ ،‬بل جعل هؤلء القوم هم أعظم‬
‫الناس أجرا‪ ،‬وأفضل أهل اليمان إيمانا‪ ،‬وهذا يدل على أن العصمة عند اختلف الزمان‪،‬‬
‫وسقوط النماذج الفاسدة الحاملة لسم العلم والعلماء زورا وبهتانا‪ ،‬هو العودة إلى الورق‪ ،‬ولن‬
‫يضر هؤلء (المتمردين ) قول فلن وعلن‪ ،‬ورأي زيد وعمرو فإنه ل يعدل أحد عن الطرق‬
‫الشرعية إلى البدعية إل لجهل أو عجز أو غرض فاسد كما قال ابن تيمية‪ ،‬وهذا الطريق‪ ،‬وهو‬
‫أخذ العلم عن طريق الورق المعلق ‪ -‬وهو طريق شرعي ‪ -‬هو الذي يمنع زلة العالم من أن‬
‫تقفز إلى ذهن التابع فتستقر تحت اسم العصمة والدين‪.‬‬
‫والقصد من الوسائل دوما تحقيق المقاصد‪ ،‬والنشغال بالوسائل دون النظر إلى المقاصد هو‬
‫سبيل أهل العي والضعف‪ ،‬والصل في ذلك كله‪ ،‬ومقصد الطلب تحصيل الحق أبلجا كما هو‪،‬‬
‫فحرص الوائل على حفظ هذا الصل دفعهم لوضع شروط حول هذا الحال والمر‪ ،‬وما دروا‬
‫بمصيبتنا مع جهلة هذا الزمان فكان ل بد من البيان‪.‬‬
‫وإن مما يحتج به أهل التقليد في العصور المتأخرة لئمتهم المتأخرين قوله صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ " :‬لكل قرن سابق " وله لفظ آخر‪ " :‬لكل قرن من أمتي سابقون " وهو حديث صحيح رواه‬
‫أبو نعيم في الحلية‪ ،‬الول من حديث أنس رضي ال عنه‪ ،‬والثاني من حديث ابن عمر رضي‬
‫ال عنهما‪ .‬وهذه الحاديث وغيرها التي تدل على بقاء الخير ودوامه في أمة محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وأن ال تعالى تكفل بحفظ هذا الدين‪ ،‬وأنه ستبقى طوائف من أهل الحق وفية له‪ ،‬ل‬
‫تعني أبدا إل البشارة بذلك‪ ،‬وأما أمر القتداء بالهدي واتباع النموذج القدوة فليست لي مرتبة‬
‫من مراتب هذه المة إل للمرتبة الولى والجيل الول‪ ،‬ودوام النظر إلى ذلك النموذج الصادق‬
‫الصالح يمنع من الوقوع والعثار‪ ،‬وهو يمنع من الزلل‪ ،‬وما تلك الصور الحادثة وإن كانت‬
‫رفيعة عالية إل صور قاصرة ل تمثل الصورة بتمامها وحقيقتها‪ ،‬ولعل من أسباب هذا العثار‬
‫عدم اجتماع الخير في جيل كما اجتمع في الجيل الول‪ ،‬وها أنذا أضرب لكم المثلة ليتضح‬
‫البيان‪:‬‬

‫‪537‬‬
‫درج بعض أهل العلم الوائل على تأليف كتب تجمع في طياتها سير أئمة أعلم‪ ،‬فبعضها جعل‬
‫الخيط الجامع لهؤلء هو الصلح والتقوى‪ ،‬وبعضهم جعل الخيط‪ :‬هو الجهاد والشجاعة والقتال‪،‬‬
‫وبعضهم جعله الفقه والرأي‪ ،‬وبعضهم جعله الحديث والرواية‪ ،‬وهكذا تنوعت التقاسيم في هذه‬
‫السير في عرض النماذج القدوة في العصور المتأخرة‪ .‬وكان بعض (الرواة) يبالغ في ذكر‬
‫صفات هؤلء العلم حتى يخرج بهم عن حد العتدال البشري‪ ،‬فلو قرأ المتأخر في كتب‬
‫طبقات الصفياء والولياء‪ .‬كما في كتاب المام أبي نعيم الصفهاني‪" :‬حلية الولياء وطبقات‬
‫الصفياء"‪ .‬نموذجا من هؤلء الولياء لرأى فيها العجب العجاب‪ ،‬فهذا ولي من الولياء إذا دخل‬
‫بيته فذكر ال تعالى سبحت معه جدران بيته‪ ،‬وآنية المطبخ في بيته‪ ،‬وسبح معه فراشه حتى‬
‫يسمعها كل من حضر‪ ،‬وهذا ولي آخر يرى بأم عينيه ذنوبه وهي تتساقط مع قطر ماء‬
‫الوضوء‪ ،‬وهذا ولي آخر يتورع عن أكل ما حضر في السوق‪ ،‬ويرفض أن يشتري منه ويأبى‬
‫الكل إل من القفار والخلء‪ ،‬وهذا ولي لم يتزوج‪ ،‬وآخر ل ينام‪ ،‬وولي ل يضحك‪ ،‬وغيره ل‬
‫ينظر إلى السماء وغيرها من الصور الحادثة التي ل تعبر أبدا عن حقيقة هذا الذين ول عن‬
‫واقعه الصحيح‪ ،‬وقارئ هذه النماذج يصاب بخيالت وأوهام تستقر في ذهنه عن النموذج‬
‫(الولي) مما يجعله‪ :‬إما دائم السعي للوصول إلى هذه المراتب‪ ،‬ولن يصل‪ ،‬وإما في يأس من‬
‫بلوغ هذه المرتبة‪ ،‬والنتيجة هي القعود وترك العمل‪.‬‬
‫وطامة أخرى يصاب بها المتأخر‪ :‬وهي أن كثيرا من هذه النماذج (من طبقات الولياء) يراها‬
‫ممدوحة معظمة في جانب الولية والصلح في كتب بعضهم‪ ،‬فإذا اطلع على كتب أخرى‪ .‬ناقدة‬
‫ممحصة‪ .‬رأى فيها أخبارا تزري هذا الولي‪ ،‬وتقذفه بأشد أنواع الحماقات والغفلة‪ ،‬فلو قرأنا‬
‫مثل عن أبي يزيد البسطامي (طيفور بن عيسى) فهو الولي في باب الولية حتى أنه يسمى‬
‫بسلطان العارفين‪ ،‬وهو يجاهد نفسه على الدوام حتى أنه قال عملت في المجاهدة ثلثين سنة‪.‬‬
‫الحلية (‪ .)10/36‬ثم في موطن آخر تقرأ عنه أنه من زنادقة الصوفية فهو يقول‪ :‬سبحاني"‪ ،‬و"ما‬
‫في الجبة إل ال"‪ ،‬ما النار؟! لستندن إليها غدا وأقول اجعلني فداء لهلها وإل بلعتها‪ ،‬ما‬
‫الجنة؟! لعبة صبيان‪ ،‬ومراد أهل الدنيا‪ .‬ما المحدثون؟! إن خاطبهم رجل عن رجل فقد خاطبنا‬
‫القلب عن الرب‪.‬ا‪.‬هـ‪ .‬ميزان العتدال للذهبي (‪ ،)2/246‬فهذا كلم زنديق ل كلم عارف ول‬
‫ولي‪.‬‬

‫‪538‬‬
‫وهكذا على هذا المنوال جرى كل قوم في مدح رجالهم وتعظيمهم‪ ،‬فأهل الحديث والرواة‬
‫يبالغون في تعظيم أئمتهم فيسوقون عنهم الخبار التي ل تعقل‪ ،‬مثلما ذكر بعضهم عن المام‬
‫البخاري رحمهم ال تعالى في قصة قلب الحاديث عليه في بغداد‪ .‬قال الخطيب البغدادي‪" :‬فإنهم‬
‫اجتمعوا (أهل الحديث في بغداد) وعمدوا إلى مائة حديث‪ .‬فقلبوا متونها وأسانيدها‪ ،‬وجعلوا متن‬
‫هذا لسناد آخر‪ ،‬وإسناد هذا لمتن لخر ودفعوها إلى عشرة أنفس‪ .‬تقول الرواية‪ :‬فلما قرأها رد‬
‫كل حديث إلى إسناده‪ ،‬وكل إسناد إلى متنه‪ ،‬ولم يرج عليه موضع واحد مما قلبوه وركبوه‪،‬‬
‫فعظم عندهم جدا‪ ،‬وعرفوا منزلته في هذا الشأن"‪ .‬وهي قصة ل تصح‪ ،‬ونبه إلى عدم صحتها‬
‫المام الذهبي رحمه ال تعالى‪.‬‬
‫وكذلك من مبالغات أهل الحديث في رجالهم قولهم عن الرجل‪( :‬كل حديث ل يعرفه فلن فليس‬
‫بحديث)‪ .‬وهذه العبارة كثر ترديدها في مدح بعض المحدثين‪ ،‬وهذا ل يقع أبدا‪ ،‬فإن المام‬
‫الشافعي رحمه ال تعالى نبه في كتابه العظيم "الرسالة" إلى خطأ هذا القول‪ ،‬وقال ص ‪:139‬‬
‫"والعلم به (أي لسان العرب) عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه‪ ...‬ل نعلم رجل جمع‬
‫السنن فلم يذهب منها عليه شيء"‪.‬‬
‫وصار نموذج المحدث المتفرغ للحديث هو النموذج المقتدى‪ ،‬فهو رحال ل تشغله شاغلة‪ ،‬وليس‬
‫له من هم إل الرواية وجمع السانيد‪ ،‬فهذا المام أبو بكر ( الخطيب البغدادى) عليه رحمة ال‬
‫تعالى‪ ،‬كان حريصا على علم الحديث‪ ،‬وكان يمشي في الطريق وفي يده جزء يطالعه‪)2( .‬‬
‫وهو نهم مشروع بل محبوب عند ال تعالى‪ ،‬ولول هذه الهمة العالية ما وصل إلينا دين ال‬
‫تعالى‪ ،‬ولكن السؤال‪ :‬هل أبو بكر الخطيب البغدادي هو نموذج المسلم في كل زمان؟ وهل إذا‬
‫وقعت بالمسلمين المصائب والرزايا ووجب على المسلمين جميعهم واجب‪ ،‬لم يكن لهم أن‬
‫يخرجوا عن مثال الخطيب رحمه ال تعالى؟‪.‬‬
‫وهل علينا أن نصنع كما صنع أبو حامد الغزالي وقت الحروب الصليبية‪ ،‬عندما اعتزل في بيت‬
‫المقدس السنين الطوال وهو متفرغ لذكر اسم ال المفرد للوصول إلى لحظة العرفان والجذبه‪،‬‬
‫والمسلمون يذوقون أقصى البليا على يد الصليبيين الكفرة؟!‪.‬‬
‫وكذلك عندما يقرأ المرء هذه السير يستقر في ذهنه صورة مشوهة وقاصرة‪ ،‬ول تكشف لك‬
‫سير الحياة الصحيحة للبشر في حركتهم ومعيشتهم لنها تقتصر في أخبارها على ما تريد من‬
‫شخصية المترجم له‪ ،‬فالعابد ل تساق لك من أخباره إل العبادة فلو سألت مثل‪ :‬كيف كان يأكل‬

‫‪539‬‬
‫هذا الرجل؟ وهل تزوج؟ وهل كان يعاشر زوجته وأبناءه؟ وهل كان يتاجر؟ وهل ماكس في‬
‫سعر بضاعته؟ وهل خاصم أحدا؟ وهي أمور ل يمكن أن تخلو منهما بشرية إنسان كائنا من‬
‫كان‪ ،‬وهي ل تذكر في سير هؤلء الئمة لنها ليست بشيء‪ ،‬ول قيمة لذكرها‪ .‬ولكننا لو عدنا‬
‫إلى النموذج الول وهم أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإلى التراجم الحقيقية لهم‬
‫وليست تراجم المتأخرين التي غلب عليها المبالغة والتهويل‪ ،‬لرأينا الصورة الحقيقية لحركة‬
‫النسان‪ ،‬وهي الصورة الحقيقية لمثال السلم الصحيح‪.‬‬
‫وقد سيقت أخبارهم ‪ -‬رضي ال عنهم ‪ -‬وأخبار إمامهم رسول ال صلى ال عليه وسلم مع ما‬
‫فيها من بشرية حقيقية‪ ،‬ومثال جامعا لنها دين‪ ،‬وهي تشريع لكل زمان ومكان‪ ،‬فحينئذ ل ترى‬
‫التهويلت التي ل مكان لها في حياة البشر‪ ،‬فليس هناك الصحابي الذي ل يضحك أبدا‪ ،‬وليس‬
‫هناك الصحابي الذي ل يخاصم أحدا أبدا‪ ،‬وليس هناك الصحابي المعتزل حياة الناس وحركتهم‪،‬‬
‫وليس هناك (مدينة الموت) التي ل يوجد فيها صخب السواق وخصومة الباعة ومنازعة‬
‫الحقوق‪ ،‬بل ترى الحياة بكل صخبها وكل حركتها‪ ،‬وترى بشرية النسان بما فيها من نوازع‬
‫ورغبات وشهوات‪ .‬فلو قرأت صحيح المام البخاري وصحيح مسلم لرأيت الحياة الحقيقية‬
‫والنموذج الحقيقي الواضح للنسان النموذجي‪ ،‬وللسلم عندما يطبق‪.‬‬
‫حينها ترى عبادة العباد بصورة صحيحة وترى جهاد المجاهدين بصورة صحيحة‪ ،‬فأنت حين‬
‫ترى المسجد وما فيه من عبادة الصحابة‪ ،‬ترى فيها بشرا يضحكون ويتسامرون ويختصمون‪،‬‬
‫بل ويتضاربون بالنعال‪.‬‬
‫وأنت حين ترى المجاهدين ترى شجاعة القوم ببشرية حقيقية‪ ،‬فهم يتألمون حين يصابون‪،‬‬
‫ويصرخ أحدهم من اللم‪ ،‬وهم ربما هرب المقاتل منهم فهو يصارع نفسا بشرية قد تغلبه وقد‬
‫يغلبها‪ ،‬ثم هم يغنمون فيختصمون على الغنيمة وتعلو أصواتهم‪ ،‬وهم يبيعون ويشترون‬
‫ويختصمون ويحتاجون إلى من يحكم لهم‪ ،‬وقد تخرج من فم أحدهم الكلمات (كلمات البشر حين‬
‫الخصومة)‪ ،‬وقد يتنازعون حتى يحلف الواحد منهم أن ل يكلم صاحبه‪ ،‬بل ربما مات أحدهم‬
‫وهو مخاصم لخيه‪.‬‬
‫وأنت ترى الزوج في بيته في حركة حقيقية‪ ،‬فهذا يشتهي زوجته وهي قائمة تصلي‪ ،‬وهذا‬
‫يضرب زوجته‪ ،‬وهذا يداعب أولده‪ ،‬وهم مع ذلك كله أولياء ال تعالى‪ .‬إنه النموذج الحقيقي‬
‫للسلم الصحيح والبشرية الحقيقية‪ ،‬هم أولياء ال حقا‪ ،‬والنخالة في غيرهم‪.‬‬

‫‪540‬‬
‫(‪ - )1‬انظر "الباعث الحثيث" بتعليق أحمد شاكر‪ ،‬هامش ص ‪.125‬‬
‫(‪ - )2‬انظر المنتظم لبن الجوزي (‪.)8/267‬‬
‫السلفية والتقليد‬
‫لما كان التقليد شرا من كل وجه‪ ،‬ويكفي أنه يعطل أعظم نعمة ل على عباده‪ ،‬وهي إطفاء نور‬
‫العقل الذي يتميز به النسان عن غيره‪ ،‬فإن سبيل الشيطان في تحجيم دور الحق في نفوس‬
‫أتباعه‪ ،‬ثم إماتته‪ ،‬عن طريق الخمول والكسل اللذان استعاذ رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫منهما‪ ،‬والدعوة السلفية في أصلها إحياء للقواعد التي أحيت في المة روح البحث‪ ،‬وفجرت في‬
‫نفوس المة عوامل البناء والنظر المبدع‪ ،‬وهكذا ينبغي أن تكون‪ ،‬ويجب على أصحابها‬
‫المحافظة عليها من عوامل الدخن والتشويه‪ ،‬فالدعوة السلفية هي إحياء المنهج العلمي وتجريده‬
‫من الشوائب الفاسدة‪ ،‬والعوامل الدخيلة‪ ،‬وهي كذلك تحطيم لغلل الرادة المعوقة لستقلل‬
‫النسان في البحث والنظر‪ ،‬فتجريد المنهج العلمي‪ ،‬يحمي المرء من الظن الفاسد‪ ،‬والوهم‬
‫الكاذب‪ ،‬وتحرير الرادة يمنع المرء من الوقوع في الهوى‪ ،‬والهوى في أهل التقليد هو الكسل‬
‫المن‪ ،‬وهو الذي يدفعهم إلى ربط عقولهم بدعة واطمئنان في أيدي غيرهم دون تمحيص‬
‫ومجاهدة‪ ،‬وقد جع ال تعالى الظن والهوى في آية‪ ،‬وجعلهما مقابل الحق الذي بعث به رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم قال ال تعالى‪{ :‬إن يتبعون إل الظن وما تهوى النفس‪ ،‬ولقد جاءهم من‬
‫ربهم الهدى}‪.‬‬
‫وقد بدأت الدعوة السلفية بكل قوة بتحطيم أوهام الظن‪ ،‬ومعوقات الهوى في بداية أمرها‪ ،‬فنشأت‬
‫بوادر التحقيق العلمي قريبا من النص المعصوم‪ ،‬وبعيدا عن الراء والجتهادات الواهمة‪،‬‬
‫وشنت الغارة تلو الغارة على معاقل التقليد والعصبية والمذهبية وبدأت عملية إحياء المنهج‬
‫العلمي على صورة تطبيقات لمسائل أغلبها قد بحثت عند المتقدمين‪ ،‬كتحقيق الصلة النبوية‬
‫الصحيحة‪ ،‬وكذلك حقيقة الحج ومسائله‪ ،‬والزكاة ومسائلها‪ ،‬والجنائز وما يتعلق بها‪ ،‬وبدأ المرء‬
‫يقرأ حديث رسول ال صلى ال عليه وسلم ومنه مباشرة يتعامل في أخذ الحكم الشرعي‪ ،‬وكان‬
‫مما دافع به بعض مشايخ السلفية هذه الجتهادات‪ ،‬حين اتهم خصوم السلفية من المذهبيين‬
‫والمتعصبين أن على هؤلء المجتهدين الجدد (السلفيين) أن يبحثوا في المسائل الجديدة الحادثة‪،‬‬
‫ويجتهدوا في إعطاء الحكام للنوازل‪ ،‬ل أن يتعبوا أذهانهم‪ ،‬ويصرفوا جهودهم للمسائل التي‬
‫أشبعت بحثا‪ .‬كان جواب السلفيين على هذه النتقادات يقول‪ :‬إننا نتمرن في الجتهاد والبحث‬

‫‪541‬‬
‫العلمي في هذه المسائل الولى والتي من خللها نترقى في الوصول إلى عظائم المسائل ودقائق‬
‫الحكام‪.‬‬
‫وهذا جواب منطقي صحيح‪ ،‬وهو اعتراف أن هذه العمال تطبيقات مرحلية وليست النهاية ول‬
‫منتهى الطلب‪.‬‬
‫وقد شن السلفيون غاراتهم الموفقة على الكتب المذهبية‪ ،‬وأسقطوا عصمتها حين كشفوا للناس‬
‫أن هذه الكتب ل تملك الدليل المعصوم وهي في أغلبها آراء وأقوال رجال‪ ،‬ل يملكون العصمة‬
‫في أنفسهم‪ ،‬بل هم عرضة للصواب والخطأ‪ ،‬فأعرض طالب العلم عن كتب الراء والفقه‬
‫المجرد عن الدليل‪ ،‬وبدأوا يوجهون قلوبهم وعقولهم إلى كتب النصوص‪ ،‬أو إلى كتب الفقه‬
‫المشبعة بالدليل‪ ،‬وبدأت صور من المعارك نحو اكتساب الهداف من الطراف المتناقضة في‬
‫هذه المسائل وغيرها‪ ،‬وبدأ الشباب المجتهد يقيم المعارك في المساجد والجلسات واللقاءات‬
‫لتحقيق المنهج السلفي الصحيح‪ ،‬حتى تحقق له الكثير من المكاسب‪ ،‬وغنم الكثير من الهداف‪،‬‬
‫وهي مكاسب تحققت عن طريق المناقشات الحامية في المساجد حتى كاد المر يصل إلى ما ل‬
‫يحمد عقباه من رفع الصوات والتقاذف بالتهم والرمي بالجهل وعدم احترام العلماء‪ ،‬وكذلك‬
‫تحققت كتب حوت أبحاثا علمية مجردة إل من الحاديث‪ ،‬أو الجتهادات المصاحبة للدليل‪.‬‬
‫وفي النهاية أوجد هذا التيار الجديد القديم مكانا ووجودا وبدأت علمات الزهو والغرور تستقر‬
‫في عقله ونفسه‪ ،‬فبدأت النتكاسة في نهاية الدور الول لهذا الوليد الحي‪ .‬فما الذي حدث لهذا‬
‫التيار الجديد؟‪.‬‬
‫أراد هذا الوليد أن يربط المسلم بالنص من خلل طرحه لمسائل يومية ملحة عليه ويتعامل معها‬
‫دوما‪ ،‬فهناك صفة صلة الرسول صلى ال عليه وسلم كأنك تراها‪ ،‬وهناك أحكام الجنائز‪،‬‬
‫وهناك أحكام الحج‪ ،‬وهناك أحكام المولود‪ ،‬وهناك‪ ..‬وهناك‪ ..‬وهي كتب أرادت إحياء النص‬
‫ليتعامل معه المسلم مباشرة‪ ،‬وما إن أقبل الشباب المسلم عليها بلهف وشوق‪ ،‬ولعوامل قدرية‬
‫سننية كان البعض من المشاركين في هذه الكتب يجني بعض المغانم المادية‪ ،‬وللقاعدة المتبعة‬
‫في اتهام الخصوم (تغيير شكل من أجل الكل) فإن الفكرة ما لبثت أن ماتت في مهدها‪ ،‬فظهرت‬
‫الكتب المذهبية الجديدة‪ ،‬والعصبية المتطورة فكتاب صفة صلة الرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫صار مختصر صفة صلة الرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫‪542‬‬
‫و قد يتوهم سلفي أن المختصر إنما هو القتصار على ذكر النص الحديثي فقط‪ ،‬وبدون زيادة‪،‬‬
‫أي من غير ذكر الجتهادات الخاصة والرؤى الذاتية ولكن خاب ظنهم‪ ،‬فقد كان المختصر هو‬
‫إزالة النص المعصوم والبقاء على متن هو خلصة رؤى ذاتية واجتهادات خاصة‪ ،‬ولما سأل‬
‫سائل لم فعلتم هذا؟ كان الجواب‪ :‬من أجل أن ل نشغل العوام بما ل يعنيهم‪ ،‬ولتقريب الفقه إلى‬
‫غمار الناس‪ ،‬ومن أراد معرفة الدليل فليرجع إلى أم الكتاب وأصله‪.‬‬
‫وهكذا صنعت الكتب الخرى كأحكام الجنائز وغيرها‪ .‬وعادت السلفية مذهبية وتقليدا‪.‬‬
‫وهذه الحجج التي قيلت هي هي بعينها حجج أهل التقليد الوائل‪ ،‬فالمام السلفي محمد بن‬
‫إدريس الشافعي حين ألف كتابه القيم "الم" وهو كتاب فقهي جامع للنص واجتهادات المام من‬
‫تصحيح حديث ومن استنباط مسألة‪ ،‬وهو إمام عظيم كان ينهى أتباعه عن التقليد‪ ،‬وبدأ تلميذه‬
‫يعلقون على كتابه ويزيدون وينقصون‪ ،‬وبعد طورين أو ثلتة من وفاة المام نشط بعض أتباعه‬
‫بتقريب فقه الشافعي للعوام‪ ،‬فما كان منهم إل أن اجتهدوا فاختصروا الكتب بأن أبقوا على‬
‫نصوص المام‪ ،‬وأزالوا الدلة وقالوا للناس ما قاله أتباع المذهب الجديد‪ ،‬وعلى ضوء هذا‬
‫تشكل مذهب الشافعي‪ ،‬وهو من هو في نهي الناس عن التقليد‪ ،‬ولو استشير في زمانه أن يكتبوا‬
‫رأيه بل دليل لستشاط غضبا‪ ،‬ولبين لهم ضلل فعلهم وصنيعهم‪ ،‬ومثل مذهب الشافعي تشكلت‬
‫كثير من المذاهب الفقهية الخرى من حنفي ومالكي وحنبلي إلى غير ذلك‪ ،‬وهم على كل حال‬
‫تشكلت مذاهبهم بالصورة المقيتة بعد وفاتهم‪ ،‬وجزما بعد وفاة تلمذتهم المباشرين لهم‪ ،‬ولكن‬
‫مذهبيتنا المعاصرة تشكلت في عصر أئمتنا ومشايخنا‪(( .‬قلت ‪ :‬هذا الكلم فيه نظر كبير وعدم‬
‫فهم لسباب الختصار والشرح))‬
‫ولما سقطت صورة التقديس الباطلة من نفوس الشباب نحو الئمة وغرست في نفوسهم مقولة‪:‬‬
‫أنهم بشر‪ ،‬يخطئون ويصيبون‪ ،‬فصار من المر المعتاد‪ ،‬والمشاهد المألوفة أن تجد طالبا مبتدئا‬
‫أتقن مسألة علمية وبحثها بحثا مقبول أن يكتشف خطأ أبي حنيفة أو غيره من الئمة‪ ،‬فيعلن بكل‬
‫صراحة أن مذهب الحنفية أخطأ في هذه المسألة‪ ،‬وهي صورة ل تنكر إن قامت على سوق‬
‫صحيحة‪ ،‬ولكن مذهبيتنا الجديدة صنعت قداسة جديدة لئمة محدثين‪ ،‬وصار من الجرم الذي ل‬
‫يغفر‪ ،‬والذنب الذي ل يتاب منه أن تقترب من حمى الشيخ‪ ،‬أو أن ترد عليه‪.‬‬
‫وقد جاهدت السلفية الولى أن تعمم الفقه خارج دائرة المذاهب الربعة فصار من العلم وسماته‬
‫أن يذكر المرء رأي ابن حزم الظاهري أو رأي أهل الحديث كالبخاري ومسلم‪ ،‬ولكن عباقرتنا‬

‫‪543‬‬
‫الجدد يأبون علينا أن نخرج عن لفظ الربعة‪ ،‬فل رأي يقبل ول قول يحترم إل إذا خرج من‬
‫تحت عمائم الشيوخ "السلفيين" وعددهم أربعة‪ ،‬قد يتفقون على اثنين أو ثلثة ثم يختلفون في‬
‫الباقي‪ .‬هذا ما كان من أمر الظن والتقليد‪ ،‬أما تحرير الرادة فلها مجال آخر‪.‬‬
‫دعوى تطوير الخطاب الديني بين العلمانيين والرائيين‪:‬‬
‫بنظرة يسيرة ندرك أن أمتنا فيها أمراض ذهنية وأمراض نفسية‪ ،‬والعلقة بينهما علقة تضامنية‬
‫ومطردة‪ ،‬كل مرض يدفع المرض الخر للرتقاء والتنمية‪ ،‬النفس تمد العقل بالهوى‪ ،‬والعقل‬
‫يبرر هذا الهوى على صورة أفكار تحمل سمة العلم والبحث‪ ،‬ومنشؤهما‪ :‬الظن والهوى {إن‬
‫يتبعون إل الظن وما تهوى النفس‪ ،‬ولقد جاءهم من ربهم الهدى}‪ ،‬وجذور المراض النفسية‬
‫هي نفسها جذور المراض الفكرية‪ ،‬لكن الغريب أن سبب هذه المراض هو الدعوى أن المة‬
‫بحاجة لمناهج جديدة وطرق جديدة لصد الخصوم الخارجيين‪ .‬وتحت دعوى تطوير الخطاب يتم‬
‫تطوير المضمون (أي حرف المضمون)‪ ،‬فيتجدد الدين أي يصبح شيئا جديدا ل يعرفه الوائل‪.‬‬
‫كيف نشأت دعوى تطوير الخطاب الديني؟‪:‬‬
‫نحن أمام تجربة سبقت في تمرير مفاهيم بدعية ضللية‪ ،‬وقد قاومتها المة أحسن مقاومة ولكنها‬
‫استطاعت لسباب قد نأتي على ذكرها يوما أن تقتحم السور وتستقر في داخله كممثلة وداعية‬
‫للسلم الصافي‪.‬‬
‫مضمون الدين مرتبط بطريقة الخطاب ارتباطا حتميا‪ ،‬وما من محاولة يقوم بها أهل الهواء‬
‫لتطوير الخطاب إل ويكون القصد (ويقع بالفعل) حرف الدين عن مفاهيمه الصحيحة‪ ،‬وما من‬
‫محاولة لحرف الدين عن مفاهيمه الصحيحة إل ويضطر أصحاب هذا النحراف إلى استخدام‬
‫ألفاظ جديدة وبنى للخطاب الديني‪ ،‬وخلل مسيرة التحريف يرفع أصحاب الهواء راية التقدمية‬
‫والعقلنية وينبزون خصومهم بألقاب الرجعية والحشوية والتزمت‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن أهل الهواء في هذا الباب تتفاوت مراتبهم وتتباين درجاتهم إل أن أغلبهم‬
‫يريد أن ينشئ فقها جديدا‪ ،‬وتسيير بدعة جديدة بين المسلمين‪.‬‬
‫مراتبهم تتفاوت من نبز الخصوم (والخصوم هنا هم أهل الحديث والثر) بالعقلية الفقهية‪ ،‬إلى‬
‫درجة تسميتهم بالرثوذكسية السلمية‪.‬‬

‫‪544‬‬
‫أصحاب الهواء هؤلء ليسوا بدعة نابتة في يومنا هذا‪ ،‬بل لهم امتداد زمني منذ (‪ )1200‬سنة‬
‫هجرية مضت ودعوى البداع هي دعوى خبيثة ل جذور لها‪ ،‬بل هي قائمة على الكذب‬
‫والتضليل‪.‬‬
‫فالمعتزلة يسمون أهل الحديث بالحشوية‪ ،‬وقصدهم من ذلك أن أهل الحديث ل يعملون عقولهم‬
‫في النص‪ ،‬بل دورهم التقليد والتباع وهو دور العوام وضعاف العقول من الناس‪ .‬وسموهم‬
‫كذلك غثاء وغثراء (أي سفلة الناس)‪ .‬وكذا قلد المعتزلة المتكلمون من أشاعرة وماتريدية‪ .‬أما‬
‫هم فذهبوا يتقنعون بأردية اللقاب الرنانة كأهل العدل والتوحيد‪ ،‬وأهل الحكمة والنظر‪ ،‬وأبصر‬
‫الناس بمقاصد الشريعة‪ ،‬ومآلت المور‪.‬‬
‫أما تفاوتهم الذي تكلمنا عنه فهو واقع ول شك في عصرنا هذا‪ ،‬ولكنهم كلهم مجمعون على‬
‫تحطيم الذهنية الفقهية في التعامل مع المور‪ ،‬ويأنفون من البحاث الصولية التي تنهج الطرق‬
‫السلفية في البحث والنظر‪.‬‬
‫إن العقلية الفقهية هي التي تحمي المرء من النزلق في الهواء الردية تحت دعوى حرية‬
‫البحث وتجديد الخطاب الديني‪ ،‬أو تحت دعوى وجود اختلف وجهات النظر الفكرية‪.‬‬
‫وقبل أن أضرب المثلة على هذه الطريقة الخبيثة فإن علينا أن نتذكر أن هؤلء القوم يزعمون‬
‫أن قيامهم بهذا المطلب ‪ -‬وهو تجديد الخطاب وبالتالي تجديد المضمون ‪ -‬إنما هو لحرصهم‬
‫الشديد على إعطاء السلم قوة وآلية جديدة لتستطيع الوقوف أمام المد التغريبي العاتي‪ .‬لقد‬
‫سمح المبتدعة الوائل لنفسهم هذا البتداع وهذا التطور المزعوم تحت دعوى موافقة الشريعة‬
‫للحكمة اليونانية‪ ،‬حتى ل ينشأ في عقول العوام اهتزاز من صلحية الشريعة وصواب مقولتها‪.‬‬
‫التفاوت يمتد من العلمانية المائعة (وهو اصطلح يطلقه العلمانيون الملحدون والذين يرفضون‬
‫التبرير للعلمانية من خلل مرجعية مقدسة مثل القرآن والسنة‪ ،‬وإنما مرجعية العلمانية عندهم‬
‫هو النسان مستقل‪ ،‬والمقصود عندهم بالعلمانية المائعة الذين يبررون للعلمانية ويحتجون لها‬
‫بالكتاب والسنة والتراث) وهذا الساس يدخل في قيده كم طائل من المثقفين والمفكرين (كما‬
‫يحلو للناس أن يسموهم) وعلى رأسهم‪:‬‬
‫‪ - 1‬حسن حنفي‪ :‬ومشروعه التراث والتجديد‪ ،‬وانظر كتابه "من العقيدة إلى الثورة"‪.‬‬
‫‪ - 2‬محمد عابد الجابري‪ :‬ومشروعه نقد العقل العربي ويقصد العقل السلمي‪.‬‬
‫‪ - 3‬محمد أركون‪ :‬ومشروعه نقد العقل السلمي‪.‬‬

‫‪545‬‬
‫وغيرهم الكثير‪.‬‬
‫قلنا إن التفاوت كذلك يمتد من العلمانية (المائعة!) إلى الرائية من مفكري السلم وبعض‬
‫فقهائه المتميعين أمثال‪:‬‬
‫‪ - 1‬راشد الغنوشي‪.‬‬
‫‪ - 2‬حسن الترابي‪.‬‬
‫‪ - 3‬محمد الغزالي وغيرهم الكثير‪.‬‬
‫بل يصل هذا الثر إلى بعض المنتسبين إلى مسميات السلفية والجهادية وغيرها‪ ،‬فقد نشأ في‬
‫هذه المسميات من يقدح ويستهزئ بالعقلية الفقهية‪ ،‬والمنهجية السلفية في البحث العلمي‬
‫والتحليل‪.‬‬
‫وقد يكون من المشاريع الهامة جدا في هذا الظرف نصب المجانيق وتجهيز الجيوش لغزو‬
‫هؤلء المبتدعة ودك حصونهم‪ ،‬وكشف مآلت أفكارهم وضللها‪ ،‬من أجل إعادتها إلى جحورها‬
‫مهزومة خاسئة كما فعل أسلفنا‪.‬‬
‫صحيح أن هؤلء فقدوا أسباب النصر ومن أهمها عدم توفيقهم لخطاب الفطرة كما هي طريقة‬
‫القرآن الكريم والسنة النبوية والسلف الصالح فبقي خطابهم نخبويا أكاديميا ل ينزل إلى مستوى‬
‫حركة الشعوب والتأثير على النسان إل أن خطورته تكمن في آثاره التي ستبقى عالقة في‬
‫أذهان بعض قادة الحركات السلمية مما يجعل المرحلة القادمة تتهيأ لنصر هؤلء المتكلمين‬
‫الجدد‪ .‬وذلك كما انتصر المتكلمون القدماء في كسب الساحة إلى صالحهم‪.‬‬
‫لقد فشل المعتزلة فشل ذريعا‪ ،‬وخرجوا من المعركة مع أهل السنة بخفي حنين حتى أن تراثهم‬
‫لم يبق منه إل شيء يلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد‪ ،‬ولم يبق من كلماتهم وأفكارهم إل التي‬
‫حفظت كتب المقالت والفرق‪ ،‬ولكن أفكار المعتزلة وطروحاتهم ومناهجهم تطورت مع جماعة‬
‫من المبتدعة‪ ،‬إذ تشربوا منها بعض نفثاتها وأصابوا من أفكارها كما أصابت الفكار منهم فنشأ‬
‫ما يسمى بالمتكلمين من الكلبية والشاعرة والماتريدية‪ ،‬وبقليل من الجهد والتحالف مع الفكر‬
‫الصوفي الغنوصي استطاع هؤلء المتكلمون أن يحكموا سيطرتهم على النتاج السلمي‬
‫والساحة السياسية والمنهجية في العالم السلمي‪.‬‬
‫وبصورة أوضح نقول صحيح أن عمرو بن عبيد والجهم بن صفوان والغزال وأبا هاشم الجبائي‬
‫وأبا علي الجبائي وغيرهم من مشايخ المعتزلة لم يتقلدوا قيادة المة‪ ،‬ولكن مهدوا الطريق‪،‬‬

‫‪546‬‬
‫وسهلوا المهمة لمن جاء بعدهم من أفراخ المعتزلة‪ ،‬حتى صار هؤلء المخانيث (أي أفراخ‬
‫المعتزلة من أشاعرة وماتريدية) هم قادة الفقه والفهم في تاريخ أمتنا‪ ،‬وبالتالي لنا أن نطلق‬
‫صرخة التحذير مع عدم خوفنا من تقلد العلمانيين المائعين لقيادة الشباب المسلم والتيارات‬
‫السلمية في البلد‪ ،‬ولكن صرخة التحذير من تولي أفراخهم ومخانيثهم لهذه القيادة في الزمن‬
‫الحاضر والمستقبل‪(( .‬الكلم عن الشعرية والماتريدية فيه شيء من الشطط والغلو ))‬
‫إننا نرى بعض أثار هذه الفكار بدأ يغزو وبقوة وبطء الشباب المسلم‪ ،‬وبدأت مظاهره على‬
‫صورة احتقار الخطاب الفقهي الصارم‪ :‬هذا حلل‪ ،‬وهذا حرام‪ ،‬إلى دعوى جديدة وهي احترام‬
‫وجهات النظر‪ ،‬والسماح بالتفكير إلى أبعد الحدود وفي المقدسات‪.‬‬
‫دعوى حضارية الخطاب العلماني الرائي وتخلف الخطاب السلفي الثري‬
‫لقد بدأ بعض الشباب ينبز العقلية الفقهية والخطاب السلفي بالتخلف‪ ،‬وأنه خطاب غير حضاري‪،‬‬
‫ول يلئم هذا العصر ول يوافقه‪ .‬لكن علينا أن نتذكر نقطة مهمة ومهمة جدا وهي أن الخطاب‬
‫الفقهي هو الذي يحفظ لهذا الدين جوهره لنه يحمل في ثناياه ‪ -‬بل في كل ثنية فيه ‪ -‬وكل لفظ‬
‫فيه حقيقة هذا الدين‪ ،‬وأن هذا الدين هو خطاب الرب لعبيده‪ ،‬وأن القصد من هذا الخطاب هو‬
‫تحقيق الدين في العبد‪ ،‬بأن يصبح متدينا تدينا إسلميا‪ ،‬وإن أقل ما يصنع هذا الخطاب البدعي‬
‫المنحرف رجل مفكرا تفكيرا إسلميا‪ ،‬ويظهر هذا واضحا بين شخصيتين ومثلين‪ ،‬فلو نظرت‬
‫إلى صورة نموذجية لهؤلء المبتدعة الجدد لرأيت أن مجرد الحديث عن اللتزام العلمي‬
‫بالسلم داخل في حديث النكتة والطرافة‪ ،‬وإن رجل من رجالت الفكر السلمي كالعقاد مثل‬
‫كان يعقد ندوته السبوعية وقت صلة الجمعة‪ ،‬وهو مثال عليك أن تضربه بعشرة هذه اليام‬
‫لتعلم مقدار التزام هؤلء المفكرين بالسلم وتشريعاته‪.‬‬
‫الخطاب الحضاري المزعوم القصد منه إفراغ السلم من حقيقته وجوهره وأنه دين جاء للناس‬
‫ليمتثلوا أمره‪ ،‬ويخضعوا له‪ ،‬الخطاب الحضاري المزعوم يصنع شخوصا تؤمن بالسلم‬
‫الحضاري على صورة أفكار ممتعة نتداولها في سهراتنا وندواتنا وأحاديثنا‪.‬‬
‫لقد بدأت بذرة الخبث تطل برأسها من احتقار الحديث عن الفقه وأحكامه‪ ،‬وعن المجال الذي يهم‬
‫النسان الفطري وهو العمل‪ ،‬إلى الحديث عما ل فائدة فيه سوى كونه متعة مشروعة إذا كان‬
‫بعد العمل‪.‬‬

‫‪547‬‬
‫إن أئمتنا كانوا يكرهون من الحديث ما ل يتبعه عمل‪ ،‬وقد ألف المام الخطيب البغدادي كتابا‬
‫سماه "اقتضاء العلم العمل"‪ .‬وقد كره السلف الكلم في الخطرات والوساوس‪ ،‬حتى أن المام‬
‫أحمد بدع الحارث المحاسبي لكتابته هذا النوع من العلوم لنه ل عمل تحته‪ ،‬وهو إشغال الناس‬
‫بشيء ل فائدة فيه‪ ،‬أو لنقل فائدته أقل من غيره‪.‬‬
‫العقلية الفقهية‪ ،‬والمنهج السلفي يحفظ لنا استقللنا‪ ،‬ويعرفنا بأقرب طريق ماذا يريد ال منا‪ ،‬وإن‬
‫معرفتنا لمراد ال من أجل العمل هو مقصد خلقنا‪.‬‬
‫دعاة التجديد والتحرر المعاصرين يجمعهم قيد واحد‪ ،‬وينتظمهم سلك جامع هو دعوتهم إلى‬
‫تجديد أصول الفقه‪ ،‬لنه بتغير أصول الفقه ستخرج نتائج مختلفة عما خرج به الوائل من‬
‫أحكام وأوامر فهموها من الكتاب والسنة‪ ،‬وقبل أن أخوض باختصار في جذور هذه البدع فإني‬
‫أنبه إلى نقطة مهمة وهي أن كتب الصول الحديثة‪ ،‬والتي كتبت من قبل المعاصرين ل نستطيع‬
‫أن نعدها كتب أصول كما هو إطلق الوائل‪ ،‬فكتب الصول هذه عبارة عن مصطلح أصول‬
‫الفقه‪ ،‬أي شارحة لمصطلحات أصول الفقه‪ ،‬فهي تعرفنا بأدلة الحكام الجمالية سواء كان‬
‫المتفق عليها كالكتاب والسنة والجماع والقياس‪ ،‬أو المختلف عليها كقول الصحابي والستحسان‬
‫والعرف وغيرها‪ ،‬ثم هي تعرف القارئ بمراتب الحكام من واجب ومستحب ومباح ومكروه‬
‫وحرام‪ ،‬وهكذا هي تشرح فقط مصطلحات هذا الفن العظيم‪ ،‬ول تعالج آلية عمل هذه الصول‬
‫في استخراج الحكم الشرعي‪ ،‬بمعنى أن هذه الكتب ل تنشئ أصوليا‪ ،‬وبالتالي ل تنشئ لقارئها‬
‫ذهنية وعقلية قادرة على استنباط الحكم الشرعي أو الترجيح بين الدلة (أي الملكة الصولية)‪،‬‬
‫فكتب الصول هذه هي كتب مصطلح فن أصول الفقه فقط‪ ،‬وهي بهذا على خلف الكتب‬
‫الحديثية القديمة في أصول الفقه وعلى رأسها كتاب المام الشافعي "الرسالة"‪.‬‬
‫أصول الفقه السلفية مأخوذة من منبعين اثنين‪:‬‬
‫أولهما‪ :‬اللسان العربي وأساليبه‪.‬‬
‫ثانيهما‪ :‬العلقة بين المخاطِب (بكسر الطاء) والمخاطَب (بفتح الطاء)‪.‬‬
‫ولنضرب على ذلك مثال‪:‬‬
‫لو جاز للناس أن يختلفوا في دللة المر في أصل اللغة العربية‪ ،‬وهل يفيد الوجوب (كما هو‬
‫رأي الجمهور) أو يفيد غير ذلك أم أنه ل يفيد إل مجرد الطلب‪ ،‬قلت‪ :‬لو جاز للناس أن يختلفوا‬
‫في أصل الوضع اللغوي لصيغة المر هذا الختلف لما جاز لهم أن يختلفوا على دللة المر‬

‫‪548‬‬
‫في الكتاب والسنة‪ ،‬وسبب ذلك أن العلقة في هذا الخطاب بين المر والمأمور هي علقة‬
‫العبودية ‪ -‬سيد يأمر وعبد يطيع ‪ -‬وهذه العلقة توجب على الدارس أن يحمل صيغة المر‬
‫على الوجوب وعلى الفور كذلك‪ ،‬فلو طلب صديق من صديقه ‪ -‬علقة متكافئة ‪ -‬شيئا واستخدم‬
‫صيغة المر فإنها ل تحمل في طياتها دللة الوجوب‪ ،‬لنها لم تقع على صفة الستعلء‪ ،‬والمر‬
‫في الكتاب والسنة وكذا النهي إنما يقعان على وجه الستعلء ‪ -‬سيد يأمر وعبد يطيع ‪.-‬‬
‫ولما كان القرآن والسنة لغتهما عربية فالمرجع في الفهم هو العربية وأساليبها‪ ،‬ولما كان ‪-‬‬
‫هؤلء المبتدعة قد تنشقوا وتضلعوا في غير بيئة العرب‪ ،‬ونشأت دراستهم في معاهد غربية‪،‬‬
‫فإنهم ظنوا أن هذه الطرق الجديدة في التحليل والتفكيك ‪ -‬كما يسمونها ‪ -‬هي القدر على‬
‫معرفة مراد ال في كتابه ومراد رسوله صلى ال عليه وسلم في سنته‪ ،‬وتكون قواعد هذه اللية‬
‫والعقلية والملكة ل تستند إلى القواعد العربية‪ ،‬فيشنوا غاراتهم على أصول الفقه لوجوب تجديده‬
‫‪ -‬أي تغييره ‪.-‬‬
‫دعاة التجديد وتهافت الخطاب‬
‫حسن الترابى دعا أول ما دعا إلى تجديد أصول الفقه وخرج بنتائج مرعبة تطمس قواعد‬
‫الشريعة وتلغي ثوابتها‪ ،‬وقال فيما قال‪ :‬الجماع عند الصوليين هو اجتماع أمة محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم على حكم شرعي‪ ..‬وقال‪ :‬الشرط الذي وضعه الصوليون بأن الجماع هو إجماع‬
‫المجتهدين شرط باطل لن الشريعة جعلت الطاعة ل تعالى ولرسوله صلى ال عليه وسلم‬
‫ولولي المر‪ ،‬فأولي المر هم العلماء والحكام‪ ،‬ومحاولة جعل طبقة تسمى العلماء في المجتمع‬
‫السلمي محاولة خبيثة (هكذا يقول) القصد منها تعطيل المة عن ممارسة حقها‪ ،‬ثم سلبهم‬
‫بالتالي هذا الحق وإعطائه للعلماء‪ ،‬والعلماء قد قننوا هذا السلب في كتب الصول (هكذا يفتري‬
‫على الئمة العلم)‪ .‬قال‪ :‬وهذا الجماع عند بعض الصوليين (وهو الصواب في رأيه) أقوى‬
‫من الكتاب والسنة‪ ،‬أي المة لو اجتمعت على شيء وهو بخلف ما علم من الكتاب والسنة‬
‫فالصواب ما اجتمعت عليه المة للثر ((ل تجتمع أمتي على ضللة))‪ .‬ثم يقول‪ :‬ولما كان‬
‫صعبا وصعبا جدا معرفة آراء الناس جميعا‪ ،‬فالطريقة المقترحة لمعرفة هذا الجماع هو أن‬
‫يختار كل تجمع نائبا لهم ووكيل يمثلهم‪ ،‬فإذا اتفق هؤلء النواب والوكلء على أمر فهو حكم‬
‫ال تعالى‪ ،‬لنه حكم الجماع‪ ،‬أ ي البرلمان السلمي هو الذي يقرر لنا الجماع‪ ،‬فلو قال لنا‬
‫البرلمان المنتخب حكما من الحكام فهو حكم ال المراد ولو كان يخالف الكتاب والسنة‪.‬ا‪.‬هـ‪.‬‬

‫‪549‬‬
‫أرأيتم هذا التجديد إلى أي شيء وصل؟!‪ ،‬لقد وصل إلى الكفر‪ ،‬نعم الكفر بال حيث أجاز للناس‬
‫أن يشرعوا على خلف الكتاب والسنة صراحة‪ ،‬لقد حذر المام الشافعي من ترك الناس أصول‬
‫العرب‪ ،‬أي أصول الفقه واتخاذهم المنطق دينا وسبيل قال رحمه ال تعالى‪ :‬ما جهل الناس‪ ،‬ول‬
‫اختلفوا إل لتركهم لسان العرب‪ ،‬وميلهم إلى لسان أرسطوطاليس‪.‬ا‪.‬هـ‪)1( .‬‬
‫قد يقول قائل‪ :‬أنت تفتري على حسن الترابي باتهامه تبديل الشريعة وتغييرها‪ ،‬فأقول لهذا القائل‬
‫اقرأ معي هذا النص جيدا‪" :‬تراثنا الثقافي المتميز أيضا مما ينبغي أن نحفظ أصالته ‪ -‬وأن نبني‬
‫عليه ‪ -‬تفاعل مع الخرين‪ ،‬وتجديدا له وتجاوزا له في بعض حين"‪)2( .‬‬
‫نعم‪ :‬وتجاوزا له في بعض حين‪ ،‬وهذا الحين غير مقيد‪ ،‬ول ضابط له بكونه قليل أو كثيرا‪ ،‬فما‬
‫كان قليل عند الخرين هو كثير عند البعض الخر‪.‬‬
‫ماذا تقول العلمانية المائعة؟‪:‬‬
‫محمد أركون هو أكثر هذه الزمرة أدبا‪ ،‬وهو يعلن في كل كلمة أنه ل يتجاوز الكتاب والسنة‬
‫ولكنه يقدم آلية وملكة تعلمها من المعاهد الغربية‪ ،‬وبهذه اللية سيجعل الفكر السلمي يخرج‬
‫من قمقمه الصدئ ومن أرثوذكسيته ‪ -‬كما يقول ‪ -‬إلى رحاب العالمية‪.‬‬
‫شرح محمد أركون شيما عن مشروعه في كتابه "أين هو الفكر السلمي المعاصر" (ناشره دار‬
‫الساقي) يقول في المقدمة الحزينة له حيث يشرح فيها نفسه‪ :‬ولذا لم أزل منذ ما يزيد على‬
‫ثلثين سنة أدعو إلى إحياء الموقف الفكري الديناميكي المتفتح لهؤلء المفكرين القدماء وألح في‬
‫الوقت نفسه على ضرورة التخلي عن مبادئهم ومقدماتهم ومناهجهم وإشكالياتهم ونظرتهم إلى‬
‫العالم والتاريخ والمجتمع والنسان لن ذلك كله داخل في الفضاء المعرفي الخاص بالقرون‬
‫الوسطى عند المسلمين كما عند المسيحيين واليهود وسائر الثقافات المعروفة في العالم ‪ .‬انتهى‬
‫من المقدمة‪ ،‬ومراده أن يصل إلى النتيحة التالية وهي‪ :‬المعارف التي وصل إليها أسلفنا من‬
‫قبل هي إسقاطات فكرية متخلفة كما هي في مناهجهم المتخلفة‪ ،‬وإذا أردنا أن نصل إلى معارف‬
‫جديدة فل بد أن نفهم هذه التعاليم من وجهة نظر تاريخية وليست مطلقة‪ ،‬وعلى هذا فإن الذين‬
‫يحاولون أن يجبرونا على الفهم القديم (كما يزعم) هم في الحقيقة أرثوذكسية طارئة‬
‫وحادثة‪.‬ا‪.‬هـ‪ .‬واعلم أخي القارئ أن هذه الورقات تقصر عن ذكر المصطلحات الجديدة التي لم‬
‫يعرفها الوائل‪ ،‬وهي مصطلحات لعلم الصول الجديد الذي يزعمه هؤلء‪ ،‬وسأذكر لك بعضها‬

‫‪550‬‬
‫كأفراد دون شرح‪ :‬الم خيال‪ ،‬المعرفة القصصية‪ ،‬المعرفة التاريخية‪ ،‬المعرفة العلمية‪ ،‬المعرفة‬
‫الفلسفية‪ ،‬السوسيولوجية‪ ،‬النثريولوجية‪ ،‬البنيوية‪ ،‬التفكيكية وهكذا‪..‬‬
‫عليك أخي المسلم القارئ أل تتهم نفسك بالجهل لعدم علمك بهذه المصطلحات فهم (أهل البدع‬
‫المكفرة)‪ ،‬يعترفون بعدم فهمهم لها‪ ،‬فمترجم الكتاب هاشم صالح (دكتوراه فلسفة من جامعة‬
‫فرنسية) اعترف في مقدمته العتراف التالي‪ :‬أنه لم يستطع أن يفهم هذه المصطلحات إل بعد (‬
‫‪ )10‬سنوات وبعضها بعد (‪ )3‬سنوات من الدراسة في المعاهد الفرنسية حتى استطاع أن‬
‫يتصور معناها كما أراد مستعملوها‪ ،‬وكم أتمنى لخواني أن يقرأوا هذه العترافات ليدركوا‬
‫مقدار معاناة هؤلء العلمانيين في محاولتهم المرهقة لفهم أصول التحليل والفهم عند‬
‫المستشرقين من أجل ماذا؟ من أجل فهم كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم {أل ساء ما‬
‫يزرون}‪...‬‬
‫إن الدعاء بأن البيئة من زمان ومكان هي التي جعلت فقهاءنا العلم يخرجون لنا بهذه النتائج‬
‫العلمية محاولة خبيثة القصد منها إلغاء هذا الفقه وتطويره ليلئم هذا العصر‪ ،‬أي بمعنى أوضح‬
‫لنجعل السلم يلئم الواقع ويساير المجتمعات ل أن نحاول جاهدين مجاهدين لتغيير ترتيب‬
‫الواقع والمجتمعات لتوافق السلم وتلئمه‪.‬‬
‫الشيخ الغزالي عندما يرد على الحكم الشرعي الذي يقوله جهور العلماء بتحريم الغناء فإنه ل‬
‫يعالج هذه المسألة بطريقة أصولية حديثية‪ ،‬ولكن يذهب إلى أن تحريم الغناء هو فقه أنتجه الفقه‬
‫البدوي (البيئة البدوية)‪ ،‬وهو بهذا الترجيح والتعليل يمارس التاريخية (وتعني منهجا يتعامل مع‬
‫الحكام من خلل كونها أتت في ظرف تلئمه ول تصلح لكل زمن‪ ،‬وهي بخلف قواعد‬
‫الشريعة وأنها صالحة لكل زمان ومكان) ويعلل الفقه بها‪ ،‬مع أن الشيخ في هذا الباب ومن‬
‫وجهة نظر إنسانية بحتة قد أخطأ خطأ شنيعا‪ ،‬بل كان دوره كالببغاء يردد الكلم دون فهم‪ ،‬لن‬
‫تفاعل النسان بالغناء وأدواته ل تختلف بين بيئة وبيئة‪ ،‬فما من إنسان إل ويهتز للغناء وأدواته‬
‫(وليس كل تفاعل واهتزاز مباح) بل إن الدواب تطرب للغناء وأدواته‪ ،‬والبدو فهموا هذا المر‬
‫قبل مدينة وحضارة الشيخ الغزالي المعمم‪ ،‬لكن هكذا تظهر بوادر تغيير أصول الفقه‪.‬‬
‫كما أن كثيرا من البحاثة (تجاوزا) جعلوا النتائج التي وصل إليها الستاذ سيد قطب وليدة معاناة‬
‫شخصية أسقطها على كتاب ال تعالى‪ ،‬فخرجت معه نتائج تلئم القهر الذي عاشه وعاناه‪ ،‬أي‬
‫أن سيد قطب تعامل مع تفسير القرآن بأصول خاصة وليس مع قواعد مطلقة فوق الزمان‬

‫‪551‬‬
‫والمكان‪ ،‬وهم بهذا يريدون القول أن تفسير القرآن هو تفاعل خاص وذاتي وغير ملزم‪ ،‬لكن‬
‫السؤال‪ :‬متى يكون هذا التفسير ملزما وكيف يثبت خطؤه؟‪.‬‬
‫الجواب معروف عند أهل السنة والجماعة‪ ،‬وهو أن القرآن يفسر بالقرآن وهو أفضل التفاسير‪،‬‬
‫ويفسر بالسنة ول يتعداها إذا وجدت ثم بأقوال الصحابة ثم باللغة العربية‪.‬‬
‫فعلى هؤلء أن يثبتوا خطا القول ل بإلغاء القواعد ولكن بالتعامل مع هذه القواعد‪ ،‬لكن هؤلء‬
‫لهم قواعد وأصول ل تمت إلى اللغة العربية بصلة‪ ،‬ول إلى قواعد السلف برابطة‪.‬‬
‫إن هؤلء المبتدعة يريدون جعل كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم نهبا لكل أحد‪،‬‬
‫يتكلم فيه كما يشاء وبقواعده الخاصة‪ ،‬ويفتي كما يريد‪ ،‬ويرجح من القوال ما يشتهي‪ ،‬ويدفع‬
‫من الراء ما يكره‪.‬‬
‫ألم تسمعوا برجل اسمه جهاد الخازن صحفي ونصراني ‪ -‬صار مجتهدا من مجتهدي السلم‬
‫ويرجح ويعدل ويضعف؟‪.‬‬
‫ألم تسمعوا باليهود والنصارى الذين صار لهم الحق أن يقولوا للمسلمين ما هو الصحيح من‬
‫السلم وما هو الخطأ؟‪.‬‬
‫نعم هذه هي نتائج هذا البداع المبتدع‪.‬‬
‫(‪ - )1‬أورده بدر الدين بن جماعة في تذكرته‪ .‬انظر كثيرا من هذه النصوص في "صون‬
‫المنطق والكلم عن فن المنطق والكلم" للسيوطي‪.‬‬
‫(‪ - )2‬وثيقة حسن الترابي إلى المؤتمر الشعبي العربي السلمي‪.‬‬
‫مناهج الرائيين في فقه الخطاب‬
‫الرائيون المنهزمون أمام حضارة الشيطان الحادثة‪ ،‬الراغبون بليّ الشريعة وتغيير أحكامها‬
‫لتوافق هذه الحضارة‪ ،‬لهم طرق وأساليب في تحرير أفكارهم وفقههم الغريب‪ ،‬وهؤلء القوم‬
‫يستقر في قلب أحدهم الحكم ويشتهيه ثم بعد ذلك يتوجه شطر كتب الفقه ليبحث له عن قول‬
‫يوافق رأيه‪ ،‬وهؤلء القوم ترى في أحكامهم وأبحاثهم أنه ليس لهم ضابط يضبطهم‪ ،‬ول قاعدة‬
‫يتعاملون معها‪ ،‬ولو أراد المرء أن يستخرج أصول فقههم من الفروع التي يتبنونها ويعتنقونها‬
‫لخرج بالعجب العجاب‪ ،‬وليت أحد الباحثين ‪ -‬وأتمنى أن أفرغ لهذا ‪ -‬يقوم باستخراج الصول‬
‫من الفروع ‪ -‬على طريقة الحناف ‪ -‬من كتاب راشد غنوشي "الحريات العامة في الدولة‬
‫السلمية" وكتاب "الجهاد في السلم كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟" لمحمد سعيد رمضان‬

‫‪552‬‬
‫البوطي‪ ،‬وكذا فهمي هويدي والغزالي والقرضاوي والخوان المسلمين على الجملة‪ ،‬وإني‬
‫لجزم أنه سيخرج بنتائج مذهلة‪ ،‬وبقواعد أصولية ما قالها أحد من قبل‪ ،‬وإن كان أكثرها يقوم‬
‫على قاعدة التلفيق والحيل‪ ،‬لكن بنظرة سريعة نستطيع اكتشاف بعض قواعدهم وأصولهم‬
‫العجيبة‪ ،‬وها أنا أمر على واحدة منها‪.‬‬
‫يكثر الرائيون المنهزمون الحتجاج بالعمومات‪ ،‬وخاصة القواعد الفقهية للتدليل على أحكامهم‬
‫المتبناة والعجيبة جدا‪ ،‬وحتى لو أتى أحدهم بقول لم يأت له فيه سلف فإن قاعدة "ل يُنكر تغير‬
‫الحكام بتغير الزمان" سعة لهم ليقولوا تحتها ما يشاءون وما يستحسنون وما يشتهون!!‪ ،‬وإن‬
‫كان ثم حركة أو فقه جديد توافق هوى القائد أو الرئيس أو الحزب والتنظيم‪ ،‬فإن باب المصلحة‬
‫مخلوع البواب‪ ،‬مهدم الجدران يتسع لكل حكم‪ ،‬وقاعدة‪" :‬حيثما كانت المصلحة فثم شرع ال"‬
‫فيها السعة أن ننسب لشرع ال ما نريد‪ ،‬والحقيقة أن الخلف بين هؤلء القوم ‪ -‬الرائيون‬
‫المنهزمون ‪ -‬وبين العلمانيين خلف لفظي فقط‪ ،‬فما من واقعة وطامة ومصيبة تفعلها الحزاب‬
‫العلمانية إل وهذه الحزاب والشخصيات والمفكرون الرائيون قد أتوا بها وفعلوها‪ ،‬وقبل ذلك‬
‫نسبوها لشرع ال تعالى‪ ،‬أي ازدادوا ظلما على ظلم وهو التقول على ال تعالى {ويقولون على‬
‫ال ما ل يعلمون} والفارق بين الطرفين هو إسناد هذا الحكم‪ ،‬فالعلماني منسجم مع نفسه عند‬
‫نسبته الحكم لمصدره‪ ،‬حيث يقول‪ :‬هذا حكم اقتضته المصلحة النسانية‪ ،‬والنسان مصدر‬
‫الحكام‪ ،‬فهو حكم صحيح‪ .‬وأما هذا المنتسب للسلم فيدخل السلم في وسط معادلة‪ ،‬ولكنها‬
‫تبقى ثابتة (أي المعادلة بطرفيها) المقدمة والنتيجة‪ ،‬ولكن يقول‪ :‬وحيث ثبت هذا فالسلم يقر‬
‫ذلك ويقول به‪ ،‬فأعطى هذا الحكم غطاء شرعيا‪ ،‬ولذلك أنت ترى أن الفجوة الفكرية والعلمية ثم‬
‫النفسية بين هذين الطرفين صارت ضيقة بل هي قد تلشت‪ ،‬فالترابي والغنوشي والبوطي‬
‫والخوان المسلمون وغيرهم‪ .‬والكثير صارت برامجهم متحدة مع خصوم السلم العلمانيين‪،‬‬
‫وصارت تجمعهم المؤتمرات والشعارات والبرامج والتحالفات‪ ،‬ولقد كانت بعض المؤتمرات‬
‫صدمة هائلة لدى هؤلء العلمانيين حيث صاروا يسمعون أن الخلف بينهم وبين السلميين‬
‫خلف مفتعل أوجدته القوى الجنبية لضرب الوحدة الوطنية والمصلحة العليا للوطن‪ ،‬نعم‪:‬‬
‫فعندما حضر جورج حبش ونايف حواتمة وكثير من قادة الكفر في المؤتمر القومي الشعبي‬
‫السلمي صُدموا من خطاب حسن الترابي‪ ،‬حيث تطوع بإضفاء صفة الوطنية والقومية‬
‫والنضال عليهم‪ ،‬وضيّق الفارق بين السلميين وبينهم‪.‬‬

‫‪553‬‬
‫ولعل الظاهرة الخيرة في ترشيح محفوظ النحناح على منصب الرئاسة الجزائرية كشف للناس‬
‫عدم وجود الفارق بين سعدي ونحناح وزروال وبوكروح‪ ،‬كلهم يتكلم بنفس التطلعات والحكام‬
‫التي يريد نشرها‪ ،‬والعمل على تحقيقها والفارق الوحيد بين نحناح وبين البقية هو استخدام‬
‫النحناح لغة السلم في جذب الجمهور‪ ،‬وتركيبه اللحية على ذقنه‪ ،‬فالبرامج واحدة والحكام‬
‫واحدة‪ ،‬فقط النحناح ل ينسى أن يزين خطابه بشيء من النفس السلمي‪ ،‬ولكن ل فرق‬
‫جوهري‪ ،‬وعلى ضوء هذا فإنه يحق للعلمانيين (الصليبيين) اتهام السلميين بالوصولية‪،‬‬
‫واستخدام السلم لمقاصد شخصية ولمآرب ذاتية‪ ،‬لن العلماني ل يرى عند السلمي!! قيما‬
‫جديدة يطرحها‪ ،‬ول مفاهيم محددة تفترق عن الخرين يدعو إليها‪.‬‬
‫القواعد الفقهية والحديث النبوي ( الكلي والجزئي)‬
‫ما هي القواعد الفقهية؟ وهل يجوز الحتجاج بها في الستدلل؟‪.‬‬
‫على الجملة هؤلء ل يقيمون شأنا للحديث النبوي‪ ،‬ومن السهل رده وعدم الخذ به‪ :‬فهذا حديث‬
‫آحاد‪ ،‬وهذا على خلف العقل‪ ،‬وهذا اختلف حوله العلماء‪ ،‬وهذا قد ضعفه بعض الناس‪ ،‬وهذا‬
‫فيه إشكال‪ ،‬وهذا راويه ليس فقيها‪ ،‬وهكذا‪ ...‬وصدق فيهم من قال‪ :‬إياكم وأصحاب الرأي فإنهم‬
‫أعداء السنن‪ ،‬أعيتهم الحاديث أن يحفظوها‪ ،‬فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا‪)1( .‬‬
‫أما القواعد الفقهية فهي ليست كلية‪ :‬أي ل يدخل فيها جميع أجزائها وأفرادها بل هي أغلبية كما‬
‫قال صاحب الفروق المام القرافي (‪ )1/36‬أي ل يدخل في القاعدة جميع أفرادها من الفروع‪،‬‬
‫ولهذا فحفظ القواعد الفقهية ل يغني المرء من النظر إلى الدليل الخاص‪ ،‬بل الواجب عليه النظر‬
‫في الدليل الخاص في المسألة‪ ،‬ولذلك كثيرا ما يقول السيوطي في الشباه والنظائر عند ذكر‬
‫القواعد‪ :‬والترجيح مختلف في الفروع‪ ،‬ولهذا أنشأ القرافي كتابه الفروق‪ ،‬إذ قد تدخل بعض‬
‫الفروع في قاعدة ولكنها تفترق عنها لوجود بعض المؤثرات الخرى لتجاذب العلل والمؤثرات‬
‫على الفرع الواحد‪ ،‬ولذلك اتفقوا على عدم الحتجاج بالقواعد الفقهية على الفروع‪ ،‬يقول ابن‬
‫نجيم‪ :‬إنه ل يجوز الفتوى بما تقتضيه القواعد والضوابط‪ ،‬لنها ليست كلية بل أغلبية‪)2( .‬‬
‫وجاء في شرح مجلة الحكام‪ :‬فحكام الشرع ما لم يقفوا على نقل صريح‪ ،‬ل يحكمون بمجرد‬
‫الستناد إلى واحدة من هذه القواعد‪ )3( .‬ولذلك نبه الشاطبي (المظلوم بنسبة قاعدة المصالح‬
‫له) إلى عدم جواز الحتجاج بالمصالح على الحكام‪ ،‬قال الشاطبي‪ :‬إذا ثبت في الشريعة قاعدة‬
‫كلية في هذه الثلثة أو في آحادها (أي الضروريات والحاجيات والتحسينيات) فلبد من‬

‫‪554‬‬
‫المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي‪ ،‬وذلك بالجزئيات‪ )4( .‬ولذلك يستدل للحكم من‬
‫مصادره وهي الكتاب والسنة والقياس‪ ،‬وليس من مصادره من القواعد الفقهية‪ ،‬والقواعد الفقهية‬
‫أخذت من الجزئيات وليس العكس‪ ،‬فالصل هو الدليل الخاص‪ ،‬فل ينبغي للناتج المكمل‬
‫(القواعد الفقهية) أن تعود على الدليل (الجزئي) بالبطال‪.‬‬
‫(‪ - )1‬وهو منسوب لعمر رضي ال عنه‪ ،‬انظر السنة لللكائي رقم ‪.201‬‬
‫(‪ - )2‬القواعد الفقهية للندوي ص ‪.292‬‬
‫(‪ - )3‬المرجع السابق ص ‪.294‬‬
‫(‪ - )4‬الموافقات ‪.2/6‬‬
‫قاعدة المصالح‬
‫لو رجع الناس إلى ما قاله الشاطبي جملة دون تخير بالهوى لرأوا أن ما يقوله الزاعمون من‬
‫نظرية المصالح البشرية محض هراء نفسي ل دليل عليها من دين أو عقل‪ ،‬وازن بين كلم أهل‬
‫الهواء وبين قول الشاطبي‪ :‬المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار عادة‪ ،‬كما أن المضار‬
‫محفوفة ببعض المنافع‪ :‬كما نقول‪ :‬إن النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة للحياء‪ ،‬بحيث إذا دار‬
‫المر بين إحيائها وإتلف المال عليها‪ ،‬أو إتلفها وإحياء المال كان إحياؤها أولى فإن عارض‬
‫إحياؤها إماتة الدين‪ ،‬كان إحياء الدين أولى‪ ،‬وإن أدى إلى إماتتها‪ ،‬كما جاء في جهاد الكفار‪،‬‬
‫وقتل المرتد وغير ذلك‪)1( .‬‬
‫فالمقاصد التي يتكلم عنها الشاطبي هي مقاصد ومصالح الشريعة المبنية على النظر الخروي‬
‫كما قال في عدة مواطن ومنها قوله‪ :‬المصالح المتجلية شرعا‪ ،‬والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر‬
‫من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الخرى‪ ،‬ل من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية‬
‫أو درء مفاسدها العادية‪)2( .‬‬
‫وكذلك قوله‪ :‬إن المصالح هي بنظر الشارع ل بنظر المكلف‪ ،‬أي أن حكم ال تعالى في الجزئي‬
‫(الدليل الخاص ) هو الذي يحقق المصلحة‪ ،‬وإن فاتت بعض المصالح لدى النظر القاصر‪)3( .‬‬
‫ومن قوله كذلك‪ :‬إن الكلي ل يقدح بالجزئي‪ .‬أي أن المصلحة ل تلغي الحكم الخاص بالمسألة‪،‬‬
‫وإن بدا للناظر التعارض‪ ،‬لنه ما من مسألة إل ويتجاذب فيها عدة قواعد‪ ،‬فالشارع يلحقها‬
‫بالشبه‪ ،‬ول يعرف الشبه إل بالدليل النقلي ل العقلي‪ ،‬ويغلف ذلك كله أن من مقاصد التشريع‬
‫ومن مصلحة الشريعة هو حصول البتلء‪ .‬قال الشاطبي‪ :‬الشارع إنما قصد بوضع الشريعة‬

‫‪555‬‬
‫إخراج المكلف عن اتباع هواه حتى يكون عبدا ل‪ )4( .‬فأين هذا الذي يقوله المام الشاطبي‬
‫رحمه ال تعالى من قول أهل الهواء الذين جعلوا الشريعة ألعوبة بيد الناس يستصلحون منها‬
‫ما يشاءون‪ ،‬ويردون منها ما يريدون‪.‬‬
‫وكلمي هنا ل يعني رد القواعد وعدم اعتبارها عند الترجيح والنظر‪ ،‬ول إلغاء المصلحة‬
‫الشرعية‪ ،‬ولكن القصد من ذلك هو أنه لبد من اعتماد الدلة الشرعية في الحتجاج وليس‬
‫مجرد التشهي والهوى‪ ،‬ففرق كبير بين من نظر إلى مقاصد الشريعة من جهة أنها تسعى‬
‫لتحقيق الخرة وأن المقاصد الخروية هي الغاية وبين من نظر إلى الحكام على اعتبار دنيوي‬
‫فقط‪ .‬انظر قول جودت سعيد في إلغائه هذه القاعدة في التعامل مع الشريعة والناس‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫"الكفر ليس ذنبا دنيويا‪ ،‬الكفر ذنب أخروي‪ ،‬ال يحاسبه‪ ،‬الكافر له حق أن يعيش‪ ،‬والملحد له‬
‫الحق أن يعيش محترما‪ ،‬وإن استطاع الملحد أن يقنع الناس بإلحاده ل حرج عليه لكنه ل يفرض‬
‫رأيه بالقوة‪ ،‬ويجب أن نزيل التنابز بالكفر‪ )5( .‬وهو قول حسن الترابي في إسقاط حد الردة‪،‬‬
‫وهو قول راشد الغنوشي‪ ،‬وهو قول محمد سعيد رمضان البوطي في نفيه الجهاد الهجومي‪،‬‬
‫وهو قول الخوان المسلمين في رسالتهم القبيحة المسماة "هذا بيان للناس" عندما نفوا العنف‬
‫تحت أي اسم كان‪ ،‬حتى لو كان باسم السلم (وهي كلمة مكفرة)‪.‬‬
‫وهذا القول الذي قالوه إنما كان استجابة لضغط العلمانيين ومحاولتهم للتوفيق بين السلم‬
‫ومذهبهم النساني‪ ،‬فإن العلمانيين يتهمون الحركات السلمية بأنها تمارس سكرتريا القيامة ‪( ،‬‬
‫‪ )6‬أي أنهم يطبقون إرادة ال في البشر‪ ،‬وهذا المعنى حق فإن السلم هو أمر ال للمسلمين‬
‫بأن يطبقوا أحكام ال على الناس‪ ،‬فمن أحبه ال أحبوه ووالوه وأحسنوا إليه‪ ،‬ومن أبغضه ال‬
‫أبغضوه وعادوه‪ ،‬نعم ينبغي على المسلمين أن يمارسوا سكرتيريا القيامة ‪ -‬ولكن الحمد ل في‬
‫ديننا الغناء عن هذا الغثاء وهذه اللقاب ‪ -‬فهذه منطلقات القوم في تحديد هوية هذا الدين وهي‬
‫المصلحة الدنيوية وعدم النظر إلى مصلحة الدين والخرة والذي هو أولى من جميع‬
‫الضرورات والمصالح بإجماع أهل الملة كما قال الشاطبي رحمه ال‪ ،‬فمصلحة الدين مقدمة‬
‫على أي مصلحة‪ ،‬وضرورة الدين أرجح من كل ضرورة‪ ،‬ولذلك ل قيمة لحظ النسان أمام‬
‫أحكام الشريعة‪)7( .‬‬
‫وقد يسأل سائل‪ :‬وبعد هذا الذي قلته‪ ،‬هل تخصص المصلحة الحكم الشرعي؟‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بعد فهم المصلحة فهما صحيحا فإنها تخصص الحكم الشرعي في موضوعين‪:‬‬

‫‪556‬‬
‫أولهما‪ :‬ما قال ابن القيم‪ :‬ما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة‪ )8( .‬وشرح هذه‬
‫القاعدة له مقام آخر‪.‬‬
‫ثانيهما‪ :‬ما قال الشاطبي‪ :‬المقاصد الشرعية ضربان أصلية وتابعية‪ ،‬فالصلية ل يراعى فيها‬
‫حق المكلف‪ ،‬وأما التابعية فيراعى فيها حق المكلف‪ )9( .‬وهي لها مقام آخر‪.‬‬
‫(‪ - )1‬الموافقات ‪.2/92‬‬
‫(‪.2/27-28 - )2‬‬
‫(‪ - )3‬المرجع السابق‪.‬‬
‫(‪ - )4‬المرجع السابق ص ‪.153‬‬
‫(‪ - )5‬النزعة المادية في العالم السلمي ص ‪ 170‬لعادل التل‪.‬‬
‫(‪ - )6‬العنف الصولي ص ‪.233‬‬
‫(‪ - )7‬انظر الموافقات ‪.2/176‬‬
‫(‪ - )8‬انظر إعلم الموقعين ‪ 2/142‬وزاد المعاد ‪ 3/88‬وروضة المحبين ص ‪.93‬‬
‫(‪ - )9‬الموافقات ‪/2‬ص ‪ 176‬وما بعدها‪.‬‬
‫قاعدة كل مجتهد مصيب‬
‫من القواعد العجيبة التي يستخدمها الرائيون للتلعب بالشريعة والقول عليها ما ليس فيها‬
‫رضوخا لضغط العلمانيين قاعدة‪" :‬كل مجتهد مصيب" وعدم حسم القضايا التي دخلت على دين‬
‫ال تعالى من قبل المتكلمين‪ ،‬مما جعل للعلمانيين سبيل للتلعب بدين ال تعالى‪ ،‬ووجود ثغرات‬
‫لهم لنفي أصلها ورد حقيقتها‪.‬‬
‫مما يعلمه كل دارس لهذه الشريعة ‪ -‬أصول وفروعا ‪ -‬أن الزمن قد أخذ حظه منها‪ ،‬وأن‬
‫الكثير من المحاولت للدخول في تأويلها نجحت وأثمرت‪ ،‬بل واستقرت في داخلها‪ ،‬إلى درجة‬
‫التمثيل والستحقاق‪ ،‬أي صارت هذه التأويلت في نظر الناس هي الحقيقة الوحيدة لهذه‬
‫الشريعة‪ ،‬مع غياب المفهوم الول الذي فهمه الصحابة رضي ال عنهم منها‪ ،‬وهو المفهوم‬
‫الصحيح لهذا التنزيل الحق ((خير الناس قرني)) وقد قامت خلل هذا الزمن محاولت جهادية‬
‫مضنية لتحقيق التأويل الحقيقي لهذا الدين‪ ،‬ونفي هذا التزوير‪ ،‬وقد آتت ثمارها لكنها موضعية‪،‬‬
‫أي بقي المد القوى للتأويل الفاسد الدخيل‪ ،‬فكانت محاولة ابن تيمية رحمه ال تعالى ثم تلميذه‬

‫‪557‬‬
‫ثم تلميذهم‪ ،‬ثم محاولة محمد بن عبد الوهاب وما أثمرت في العالم السلمي‪ ،‬لكن كما قلنا بقي‬
‫التجديد موضعيا محصورا‪.‬‬
‫الخليط الذي قاله بعض القادة الوائل ‪ -‬صوفية سلفية ‪ -‬وما هو جار مجراها فتح باب التلفيق‬
‫وعدم حسم القضايا‪ ،‬وبالتالي باب التميع والجمع بين المتناقضات في الشخصية الواحدة‪ ،‬سواء‬
‫كانت هذه الشخصية حقيقية أم اعتبارية‪ ،‬تبدأ النظرية بأن كل المعروض حق‪ ،‬وهو فقه‬
‫إسلمي‪ ،‬أي جائز الخذ به‪ ،‬وليس هذا القول بأولى من الخر قبول أو ردا‪ ،‬وبالتالي علينا‬
‫التخير بما يلئم واقعنا وحياتنا‪ ،‬أو بما يقدر أن يعيننا في مناظرتتا وحجاجنا لخصوم السلم‪،‬‬
‫وأنا هنا ل أتكلم فقط عن الفروع ولكن القضية الولى والبرز في هذا الموضوع هي القاعدة‬
‫التي يعتمد عليها هؤلء الرائيون وهي أن الشريعة كانت لينة في استجابتها للتغيير بسبب‬
‫دخول علل جديدة على حياة الناس وأفكارهم‪.‬‬
‫الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه "السلفية مرحلة زمنية مباركة ل مذهب إسلمي"‬
‫في استجابته للخصومة بينه وبين السلفيين اضطر البوطي أن يبرر بدعة العقيدة على يد‬
‫الوائل‪ ،‬وأن يجعل البدع التي قاتلها السلف ونفروا الناس منها ما هي إل الحقيقة الولى عند‬
‫الصحابة‪ ،‬وإنما تطورت استجابة للواقع ولرد الشبه التي أحدثها المولدون (المسلمون الجدد)‪،‬‬
‫أي أن مذهب الخلف هو مذهب السلف (ل يزيد ول ينقص) ولكن تطور ليوافق الواقع المعيش‪.‬‬
‫ومع أن البوطي يستدل بالكوني المتغير والمتطور (والصحيح المكتشف والمستثمر) على‬
‫الشرعي (وهذا منتهى الفجاجة والجهالة) إل أنه في النهاية يفتح هذا الباب (مع إخوانه) على‬
‫جواز تطور الشريعة لتوافق الظروف الجديدة‪.‬‬
‫الرائية جسر العلمانية‪( :‬أوجه التشابه)‬
‫لقد مدح هؤلء الرائيون منهج البدعة التي حذر منها رسول ال صلى ال عليه وسلم حين قال‪:‬‬
‫((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي‪ ،‬عضوا عليها بالنواجذ‪ ،‬وإياكم‬
‫ومحدثات المور‪ ،‬فإن كل محدثة بدعة‪ ،‬وكل بدعة ضللة))‪ )1( ،‬فجاء هؤلء ليقولوا أن ما‬
‫فعله الوائل من بدعة هو منتهى الحق‪ ،‬لنهم استجابوا لظروف حياتهم‪ ،‬ثم ذهبوا يبررون‬
‫الفارق بين علم السلف وعلم الخلف ل على أساس ما فعله الخلف ‪ -‬أنه سبب انحطاط المة‬
‫وذهاب قوتها وعزها ‪ -‬ولكن على أساس مدح المبتدعة بأنهم قدموا السلم الجديد للوضع‬
‫الجديد‪.‬‬

‫‪558‬‬
‫هذه القاعدة التي يقولها هؤلء القوم هي عين القاعدة التي يحتج بها العلمانيون على طريقتهم‬
‫المبتدعة والجديدة في دراسة الشريعة‪ ،‬صحيح أن الكثير من النتائج مختلفة عند الفريقين لكن‬
‫القواعد بين الفريقين قواعد مشتركة‪.‬‬
‫لو قرأ المرء كتاب عزيز العظمة "العلمانية من منظور مختلف" وهو من أوقح العلمانيين في‬
‫طرح ما يريد كما في كتابه المذكور‪ ،‬لرأى أن موقفه من تبني العلمانية خارج ‪ -‬رغم أنفه ‪-‬‬
‫من رؤيته لتطور السلم وتغييره (استجابة للسلطة ل كما يعتقد البوطي)‪ ،‬وقوله هذا نفس‬
‫مخرج محمد أركون حين برر لنفسه ابتداع أصول فقه جديد لفهم النص‪ ،‬وهو نفس قول‬
‫ومخرج نصر حامد أبو زيد‪ )2( ،‬وهي القاعدة التي ذكرها البوطي في كتابه "السلفية"‪.‬‬
‫القاعدة واحدة وهي أن الوائل أولوا النص‪ ،‬وداروا به‪ ،‬وحاوروه‪ ،‬واستجابوا في تفسيره‬
‫للفكار الجديدة الوافدة‪ ،‬وهؤلء الوائل لم يخرجوا من دائرة السلم‪ ،‬ولم يعنفهم أحد‪ ،‬بل عدهم‬
‫الناس أئمة وقادة‪ ،‬وعلماء‪ ،‬ومجددين‪ ،‬فلماذا يحرم علينا هذا الفعل‪ ،‬ولماذا ل نطور النص‬
‫بقواعد جديدة‪ ،‬ونفهمه بآلية حديثة؟‪.‬‬
‫هذه هي القضية وهي إحدى مشتركات العلمانية مع الرائية الحديثة أو هي إحدى ثغرات‬
‫الرائية للبناء العلماني‪.‬‬
‫المثلة على هذا المشترك كثيرة‪ ،‬ولعل القارئ الباحث ل يعجز عن رؤية الكم الهالل من‬
‫المداحين لئمة التغيير والتبديل في التاريخ السلمي حيث تصبغ عليهم عبارات هائلة من‬
‫المدح والتعظيم‪ ،‬وتطلق عليهم أوصاف العقلنية والتجديد‪ ،‬وأنهم كانوا القدر على فهم السلم‬
‫وتطويره ليوافق ويحاكي الثقافات الوافدة‪.‬‬
‫هل يعجز المرء أن يرى قصور المدح الشامخة على شخصية مثل الفارابي والكندي وابن سينا‪،‬‬
‫وجمهور الفلسفة المشائين في العصور السلمية السالفة؟‪.‬‬
‫هل يفوت المرء رؤية الشادة العجيبة بكل من حاول أن يذلل الشريعة للوافد الجديد من الثقافات‬
‫الوضعية كابن رشد الحفيد كما في كتابه "فصل المقال"؟‬
‫الواضح من كل هذا أنهم يريدون أن يجعلوا الشريعة مجال للحوار الفاتح أبوابها لتخرج لنا‬
‫أحكاما جديدة تناقض ما عرفه الوائل‪.‬‬
‫لقد وقف السلف الصالح موقفا صلبا أمام الغير‪ ،‬وحذروا منه أشد التحذير‪ ،‬حذروا من موضوعه‬
‫وحذروا من أسلوبه‪ ،‬لنهم أيقنوا أنه ما من خير إل في هذا الدين بمصدريه الكتاب والسنة‪،‬‬

‫‪559‬‬
‫وليس هناك من معرفة ‪ -‬مما تسمى معرفة إنسانية حسب تعبيراتهم ‪ -‬إل في هذا الدين الكفاية‬
‫لها‪ ،‬لكنها قد ل تجد لها رجال‪ ،‬وإنه لمنتهى الشقاء السماح للعقل المسلم أن يفتح بابه للغير طلبا‬
‫للهدى والرشد‪ ،‬ولقد حذر الرسول صلى ال عليه وسلم من ذلك حين غضب من عمر رضي‬
‫ال عنه وقد رأى في يده ورقات من التوراة وقال‪(( :‬أمتهوكون أنتم؟‪ ،‬وال لو كان موسى حيا‬
‫ما وسعه إل اتباعي))‪ ،‬ولم يكن إعراض السلف عن هذه العلوم تخلفا ول رجعية‪ ،‬ول من‬
‫قصور في الفهم‪ ،‬ولكن لشدة عقلهم وإدراكهم أن شرها أكثر من خيرها‪ ،‬ولو كان فيها الصلح‬
‫والهدى لنفعت أصحابها‪ ،‬ولذلك فإن هذا الذي يسميه البوطي والغنوشي وطارق البشري ومحمد‬
‫عمارة وفلول الهزيمة‪ ،‬وجماعة التصفيق‪ :‬تقدما وحضارة؛ إنما هو منتهى الهزيمة‪ ،‬وقمة‬
‫النحدار والرجعية‪.‬‬
‫إن علم الكلم الذي مدحه هؤلء‪ ،‬وإن الفلسفة السلمية المزعومة هي التي عطلت العقل المسلم‬
‫عن البداع‪ ،‬وفرغت نفسيته من كل احتمالت النهوض والتقدم‪.‬‬
‫نعم لقد أوجد علماء الكلم وكذا الفلسفة المشائين الرضية الفكرية للنحلل الديني والذي أفرز‬
‫آثاره التشريعية والجتماعية والسياسية وبالتالي الهزيمة العسكرية‪ ،‬وإذ القتصار على الوحيين‬
‫‪ -‬الكتاب والسنة ‪ -‬في صياغة النسان المسلم هي التي توجد في كل عصر شخصية المسلم‬
‫الصحابي المتجددة في كل وقت وحين‪ ،‬والتي تملك القدرة على صياغة الحياة على أسس‬
‫جديدة‪ ،‬ول ترى احتمال الترقيع والتلفيق‪ ،‬والذي يسميه بعضهم استلهاما (كما سماه طه جابر‬
‫العلواني في كتابه "الزمة الفكرية المعاصرة")‪ ،‬لن هذا التلفيق مبدؤه الشعور بالنقص من كمال‬
‫(النظام المعرفي ) المعطى من الكتاب والسنة‪ ،‬وإنه لن يصيبنا الخجل من تمسكنا بكمال‬
‫مصدرنا واقتصارنا عليه حتى لو أطلق هؤلء الخصوم على هذا التمسك تخلفا أو انتحارا‪.‬‬
‫لقد وضع الستاذ سيد قطب يده على مفتاح شخصية الصحابي الول وهداه ال إلى إدراك سرها‬
‫كما ذكر ذلك في كتابه "معالم في الطريق"‪ ،‬فصل "جيل قرآني فريد"‪.‬‬
‫يجب علينا أن ندرك أن كثيرا من مجالت البداع الممدوحة من قبل هذه التيارات هي قمة‬
‫البدعة والنحطاط والذم‪ ،‬فليس من إبداع السلم العمارة السلمية‪ ،‬إذ أن هذه العمارة والتي‬
‫يفتخر بها هؤلء الرائيون هي قمة النحطاط والرذيلة‪ ،‬فهذا الذي يأتي ليمدح لنا مثل قصر‬
‫الحمراء ليدلل على إبداع العقل المسلم وحضارته هو في الحقيقة يقدم الدليل على أن عصور‬
‫النحطاط أو بدايتها هي قمة البداع لهذا الدين الرباني‪ ،‬فليس من السلم هذا البذخ وهذا البناء‬

‫‪560‬‬
‫الباذخ‪ ،‬وليس من السلم ما يسمى بالفنون السلمية مثل فن الموسيقى‪ ،‬وفن العمارة الباذخة‬
‫والتطاول فيها‪ ،‬وغيرها من الفنون المذهبة لحقيقة وجود المسلم على هذه الرض‪ ،‬وبالتالي‬
‫مقصد وجود النسان كذلك‪.‬‬
‫نعم سيعودون علينا بزمزمة الوائل مدعين أن هذا مذهب الحشوية وهو مذهب العوام وهو‬
‫طريقة الوعظ والرشاد‪ ،‬وكما يسمونها طريقة الحكمة والموعظة (كما سماها الفلسفة) وأما هم‬
‫فهم أهل البرهان والمنطق والنظر الثاقب (كما يسميها الفلسفة كذلك)‪.‬‬
‫(‪ - )1‬حديث حسن من حديث العرباص بن سارية رض ال عنه‪.‬‬
‫(‪ - )2‬انظر مقدمة كتابه "مفهوم النص"‪.‬‬
‫دعوى تطوير الشريعة ( من التأويل إلى التلوين)‬
‫نعود إلى ما بدأنا به من الشارة إلى دور الرائيين من فتح باب تطور الشريعة حين سموا‬
‫البدع الحادثة من متصوفة ومتكلمين وفلسفة أنها فعل مجيد رائع ممدوح‪ ،‬وذلك حين أرادوا أن‬
‫يبرروا تأويل الشريعة وتغيير مفاهيمها لتساير الوقت والزمن‪ ،‬فجاء العلمانيون وبنوا على هذه‬
‫المقدمة النتيجة التي يسعون إليها حين توجهوا إلى التراث (كما يسمونه) ليدرسوه حسب‬
‫معطيات هذا العصر ونتائج مكتشفاته من علوم اجتماعية ولسانية وإنسانية ليخرجوا بنتائجهم‬
‫التي أوقفوا أنفسهم عليها يبدونها حينا ويرطنون بها حينا آخر‪.‬‬
‫إن هذه الشريعة هي دين ال تعالى أنزلها للبشر ليحققوا العبودية له‪ ،‬بتصديق خبرها وامتثال‬
‫أمرها وإن أعظم الناس فهما لها‪ ،‬وإدراكا لمرادها هم أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وإن كل خير في اتباعهم وكل شر في مخالفتهم وتنكب طريقهم‪.‬‬
‫علينا أن ل نبقى نردد أن ما يمدحونه من ثورات المعتزلة الفكرية ‪ -‬وتجديدية الفلسفة ‪-‬‬
‫كالكندي والفارابي وابن سينا وإشراقية الصوفية وهي ثورات على السلم‪ ،‬وليست منه ول‬
‫تلتقي معه ل في الجوهر ول في السلوب‪.‬‬
‫قال اليافعي في "نشر المحاسن الغالية في فضل المشايخ الصوفية أصحاب المقامات العالية"‪ :‬لما‬
‫سعي بالصوفية إلى بعض الخلفاء‪ ،‬أمر بضرب رقابهم فأما الجنيد فتستر بالفقه‪[ .‬ص ‪.]422‬‬
‫قال الشافعي‪ -‬رحمه ال ‪ :-‬حكمي في أهل الكلم أن يضربوا بالجريد‪ ،‬ويحملوا على البل‬
‫ويطاف بهم في العشائر والقبائل وينادى عليهم‪ :‬هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على‬
‫الكلم‪ )1( .‬ظاهرة اختراق الوضع البشري وخيالتهم للوحي الرباني ممتدة منذ القدم‪ ،‬وقد‬

‫‪561‬‬
‫نجحت مع الديان الولى‪ ،‬ولم يكن السلم خارج هذه الدائرة‪ ،‬فإنه منذ بدايته بدأت هذه‬
‫المحاولت‪ ،‬وترتيب ظاهرة الختراق يبدأ بالرفض والتنفير‪ ،‬حيث يكتشف الوائل أصل النحلة‬
‫الوافدة‪ ،‬وآليتها‪ ،‬وأبعادها الشركية والوثنية‪ ،‬وبالتالي يعلن العلماء للمسلمين أن هذه النحلة وهذا‬
‫الدين هو دين شركي وثني فل يجوز للمسلم أن يقترب منه أو يدور حوله‪ ،‬بل الواجب أن يفر‬
‫وينفر منه‪ ،‬وفي المرحلة التالية يبدأ البعض بالنظر إلى الجوانب التي تتفق هذه النحلة في بعض‬
‫آليتها وأعمالها مع السلم‪ ،‬فيبدأ بكشف جوانب اللقاء‪ ،‬ويفخم الحاديث والثار التي تشير إلى‬
‫رياضات الطريقة وأعمالها وفرائضها حتى إذا وجد لهذه النحلة الجديدة القبول عن طريق‬
‫العرض الجزئي لها ومدحه وتقريره‪ ،‬يصبح التعاطي معها جزءا من السلم والنتساب إليها ل‬
‫يغض أو يخدش في النتساب إلى السلم‪ ،‬ولنا على ذلك مثلن هما‪ :‬نحلة التصوف ونحلة‬
‫الفلسفة‪.‬‬
‫(‪ - )1‬صون المنطق والكلم للسيوطي‪.‬‬
‫الختراق ( تلوين الشريعة قديما)‬

‫المثل الول هو التصوف‪ :‬ثبت أن التصوف عندما دخل على المسلمين أعلنوا استنكارهم‬
‫ورفضهم له‪ ،‬وأدركوا الصوفية على حقيقتها وأنها دين جديد‪ ،‬وبالتالي تعاملوا معهم على أنهم‬
‫كفار‪ ،‬فأفتوا بقتلهم ردة وزندقة‪ ،‬لن المذهب الجديد والنحلة الوافدة تظهر في بداية أمرها‬
‫بصورتها الحقيقية وتعرض نفسها بوجهها السافر‪ ،‬والصوفية دون تقية هي مذهب ونحلة كفرية‪،‬‬
‫عقيدتها وحدة الوجود (أي ل فارق بين الخالق والمخلوق)‪ ،‬ولها رياضات (طريقة) لتحقيق هذه‬
‫العقيدة تقوم على‪ :‬السهر والجوع والخلوة‪ ،‬ولها بعض المنشطات الخرى كالذكر مثل‪ ،‬فبعد أن‬
‫تواجه من قبل المسلمين بالرفض والتكفير‪ ،‬تبدأ المحاولت التالية على صورة تكييف المذهب‬
‫والنحلة على وجه يوافق السلم‪ ،‬وذلك بعرض بعض الموافقات بين السلم والمذهب‬
‫(كالصوفية مثل)‪ ،‬فالجنيد تستر بالفقه‪ ،‬وعملية تضخيم جوانب اللقاء هذه الرياضات الصوفية‬
‫من خلل الحاديث النبوية الصحيحة والضعيفة‪ ،‬فيبدأ الكلم عن الخلوة تحت باب الزهد‪ ،‬ويبدأ‬
‫الكلم عن السهر تحت باب قيام الليل‪ ،‬والكلم عن الجوع تحت باب الصيام‪ ،‬وبالتالي تسلم‬
‫الصوفية (حسب تعبيراتهم) أو يتصوف السلم‪ ،‬والجهل هو أرضية هذا الزرع والنتاج‪،‬‬
‫وبالتقادم مع عاملي التكرار والزمن تستقر الصوفية داخل السلم وتصبح جزءا منه‪ ،‬وتصبح‬

‫‪562‬‬
‫من واجبات المسلم الدينية أن يصبح صوفيا‪ ،‬والخارج عنها خارج عن السلم‪ ،‬فيصبح‬
‫للصوفية فقه جديد‪ ،‬وكتب خاصة‪ ،‬وطرق ومشايخ ومؤسسات‪ ،‬ولم تعجز الصوفية من التقاط‬
‫بعض الذكياء إليها ليقوموا بالمهمات الصعبة وعلى رأسها صياغة السلم من خلل الدين‬
‫الصوفي‪ ،‬كما قام بكثير من هذا العبء أبو حامد الغزالي كما في كتابه "إحياء علوم الدين"‪،‬‬
‫حيث مزج الفقه والتوحيد والخلق السلمية بالتصوف حتى صار شيئا واحدا‪ ،‬والنتيجة الويل‬
‫كل الويل لمن حاول أن يقول للناس الحقيقة‪ ،‬والشأن كل الشأن لمن يقول‪:‬‬
‫كذا أبو القاسم هداة المـة‬ ‫ومالك وسائـر الئمـة‬
‫كذا حكى القوم بلفظ يفهم (‪)1‬‬ ‫فواجب تقليد حبر منهم‬
‫فصار تقليد أبي القاسم واجبا من واجبات الدين‪.‬‬
‫المثل الثاني هو الفلسفة‪ :‬والفلسفة صناعة بشرية عمادها نبذ الوحي‪ ،‬وهي وافد لها عقيدة خاصة‬
‫ورياضة خاصة (أي دين مستقل)‪ ،‬وقد عانت الفلسفة وإفرازاتها الفكرية الكثير عندما جاءت‬
‫إلى الصف السلمي‪ ،‬وحكم العلماء الفذاذ عليها بالكفر والزندقة‪ ،‬وكانوا يلحقونها بسيف‬
‫الشرع والسلم‪ ،‬وقد قتل الكثير من رجالها بفتاوى أهل الدين والحق‪ ،‬لكنها تستكن حينا ثم‬
‫تبرز على الطريقة التي شرحناها مع الصوفية‪ ،‬فتسلم الفلسفة أو يتفلسف السلم‪ ،‬وتصاغ‬
‫الفلسفة بطريقة إسلمية‪ ،‬ويصبح علم الكلم‪ ،‬والذي يعد من أبرز إفرازاتها في المجتمع‬
‫السلمي هو راية السلم‪ ،‬ورأسه‪ ،‬وعقيدته‪ ،‬حتى قيل‪ :‬والعجب ممن يقول‪ :‬ليس في القرآن‬
‫علم الكلم‪ )2( ،‬وبالتالي تصبح الفلسفة مسلمة‪ ،‬أي تسلم الفلسفة‪ ،‬وينتهي المر إلى‪ :‬أن‬
‫الحكمة (أي الفلسفة) هي صاحبة الشريعة والخت الرضيعة‪ ،‬فالذية ممن ينسب إليها هي شر‬
‫الذية‪ ،‬مع ما يقع بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة‪ ،‬وهما المصطحبتان بالطبع‪،‬‬
‫المتحابتان بالجوهر والغريزة‪)3( .‬‬
‫ولسنا الن في معرض نقاش الثار الشنيعة السيئة لهذا الختراق‪ ،‬فإن شرح آثار الصوفية‬
‫المجرمة على العقل المسلم وعلى المجتمع السلمي تحتاج إلى مجلدات‪ ،‬وكذا الفلسفة‬
‫وإفرازاتها فإن هذه المذاهب الوافدة قد دمرت المة السلمية‪ ،‬وما هذه الثمار السيئة التي‬
‫نعيشها إل صورة مصغرة من آثار هذه الوافدات الخبيثة‪.‬‬
‫لماذا أذكر بهذا؟ وما هو فائدة هذا التنبيه؟ ليس الحديث عن الصوفية والفلسفة باعتبارهما مثلين‬
‫لهذا الختراق إل مدخل لهذه الختراقات التي نراها في هذا العصر الذي نعيشه‪ ،‬مع أن التذكير‬

‫‪563‬‬
‫بهذه الختراقات مهم جدا لننا مازلنا نعيش آثار هذه الفكار القديمة‪ ،‬فما زالت الصوفية تعمل‬
‫فينا وفي عقليتنا وفي اختياراتنا‪ ،‬وكذا المنطق وعلم الكلم والفلسفة‪ ،‬ولكن ما يهمني هنا هو أن‬
‫نتمثل القديم لنعرف حقيقة ما يجري حولنا من اختراقات شركية‪ ،‬ومحاولت تدمير عن طريق‬
‫الوافدات الجديدة ولنتذكر أن مبدأ الختراق يقوم على التفريق بين معتقد المذهب وبين وسيلته‪،‬‬
‫فالصوفية عقيدة وطريقة وكذا الفلسفة‪ ،‬وحين يريد أصحاب هذه المذاهب إدخال هذه الوافدات‬
‫على السلم فإنهم يفرقون بين الطريقة والعقيدة وهذا منتهى التدليس والتقية‪.‬‬
‫أهل الختراق يشعرون المسلمين دائما بحاجة السلم إلى الطريقة لعطائه الفاعلية والحركة‪،‬‬
‫هكذا صنعت الصوفية وهكذا صنعت الفلسفة وهكذا تم اختراق السلم ومفاهيمه‪.‬‬
‫(‪ - )1‬جوهرة التوحيد‪.‬‬
‫(‪ - )2‬من كلم أبي القاسم القشيري‪.‬‬
‫(‪" - )3‬فصل المقال" لبن رشد الحفيد‪.‬‬
‫الختراق (تلوين الشريعة حديثا)‬
‫جاءت الشتراكية بارتباطها العقدي وطريقتها القتصادية وزورت لباسها على المسلمين بهذا‬
‫التفريق ( أي التفريق بين العقيدة والطريقة )‪ ،‬ومع أنها في بداية المر ككل المذاهب والنحل‬
‫الوافدة طرحت نفسها بصورتها الحقيقية وبأبعادها الشاملة فلما سل عليها حكم التكفير والزندقة‬
‫عادت لتتخفى بهذا التفريق المذكور‪ ،‬فانطلت الحيلة وصار السلم اشتراكيا أو بالمصطلح الذي‬
‫ذكرناه‪ :‬أسلمت الشتراكية‪ ،‬وبالتالي أصبح السلم‪ :‬الطريقة =صوفية‪ ،‬الحكمة = فلسفية‪،‬‬
‫القتصاد = اشتراكية‪.‬‬
‫ثم جاءت الديمقراطية‪ ،‬وكانت عند أصحابها دينا إنسانيا لها بعدها العقدي (اليديولوجي) ولها‬
‫بعدها السياسي الليبرالي‪ ،‬وكما قال الوائل عن الصوفية الولى وعن الفلسفة الولى أنها كفر‬
‫وزندقة‪ ،‬وسلت عليها سيوف العلم والجهاد‪ ،‬حيث قالوا عنها أنها دين جديد له كل خصائص‬
‫الدين‪ ،‬وأنها طريقة وعقيدة‪ ،‬عادت وتخفت وخرجت لنا بالثوب الجديد‪ ،‬وهو التفريق بين‬
‫الديمقراطية كدين وبين الديمقراطية كوسيلة (طريقة)‪ ،‬مع أن ارتباط الحقيقة (العقيدة) بالطريقة‬
‫(الوسيلة) هو ارتباط حتمي وعضوي‪ ،‬والتفريق بينهما هو تزوير للحقيقة والواقع‪ ،‬لكنهم بعد‬
‫هذا التفريق صيروا السلم ديمقراطيا أو بالتعبير السابق‪ :‬أسلمت الديمقراطية‪.‬‬
‫هل يمكن تصور عدم تأثر العقيدة مع تغير الطريقة؟‪.‬‬

‫‪564‬‬
‫الجواب ابتداء‪ :‬ل وألف ل‪ ،‬فإن هذه الطريقة هي طريقة خداعية لتمرير القضية خطوة خطوة‪،‬‬
‫وهكذا مذهب إبليس وطريقته ‪ -‬خطوات الشيطان ‪ -‬فعندما يرفض الناس المذهب جملة واحدة‬
‫فل مانع من إعطائه لهم جرعات متفرقة بدءا بالخف وانتهاء بالشد‪.‬‬
‫نعم استقرت الصوفية في السلم‪ ،‬وصارت هي السلم‪ ،‬والسلم هو الصوفية‪ ،‬وليس من‬
‫حرج أن نكرر مرة أخرى ‪ -‬أسلمة الصوفية أو تصوف السلم ‪ -‬ولكن هل استقرت الصوفية‬
‫في السلم كطريقة فقط‪ ،‬أم أنها بعد ذلك حملت الناس من الطريقة إلى العقيدة؟ لقد استعملت‬
‫الصوفية التقية في موضوع العقيدة‪ ،‬وبقيت تظهرها بعد أن يبلغ المرء منتهى الستسلم‪ ،‬ولذلك‬
‫ليس مستغربا أن يأتي لنا شيخ محدث مثل ليجعل عقيدة السلم هي وحدة الوجود‪ ،‬انظر كلم‬
‫الغماري في شرحه حديث ((من عادى لي وليا)) ورده على المام الذهبي ‪ -‬والشيخ من‬
‫المعاصرين ‪ ،-‬هذا غيض من فيض‪ ،‬لقد سيطرت الصوفية بعقيدتها مع طريقتها على عقائد‬
‫جملة من الناس تحت اسم السلم والهتداء بالكتاب والسنة‪.‬‬
‫وكذا فعلت الحكمة الفلسفية‪ ،‬أدخلت المنطق إلى طريقة التفكر والنظر‪ ،‬واستقـر المنطـق في‬
‫كتب العقائـد ‪ )1( ،‬واستقر بعد ذلك في أصول الفقه‪ )2( ،‬وبعد أن تم لها هذا لم تجبن في‬
‫عرض عقيدتها بعد أن صار لسمها الحترام والتقدير‪ ،‬فانتهى المر أن العقيدة الفلسفية هي‬
‫نفس العقيدة السلمية‪)3( .‬‬
‫والن جاءت الديمقراطية‪ :‬المشايخ يطرحونها باعتبارها طريقة حكم‪ ،‬ووسيلة سياسة‪ ،‬ويفرقون‬
‫بينها وبين عقيدتها (العلمانية)‪ ،‬ويقولون إن الديمقراطية هي لب السلم وجوهره‪ ،‬حتى أن‬
‫الشيخ المعمم يوسف قرضاوي لم يخجل من القول إن السلم يستوعب الديمقراطية بكل‬
‫تجلياتها‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬هل هؤلء في الحقيقة ل يعتقدون عقيدة الديمقراطية؟ الجواب يظهر من تصريحاتهم‬
‫وبياناتهم وأنهم صاروا يعتقدون العقيدة النسانية التي تعطي النسان استقللية حياته في هذه‬
‫الدنيا عن الغيب والخرة‪.‬‬
‫صار السلم إنسانيا أي لم يعد السلم الذي عرفه الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬والذي جعل هذه‬
‫الدنيا محطة للخرة‪ ،‬وأن النسان عبد ال‪ ،‬بل صارت الدنيا هي غاية المنى وعلى ضوء‬
‫أحكامها ومصالحها يستنبط الناس الحكام والتشريعات دون النظر إلى المقصد ا لخروي‪.‬‬

‫‪565‬‬
‫وكما حارب الناس قديما من حارب الصوفية‪ ،‬وكما حارب الناس قديما من حارب المنطق وعلم‬
‫الكلم فها هو التاريخ يتجدد على هذا النسق مع الديمقراطية‪ ،‬إذ صار المسلم المتنور والمفكر‬
‫الذكي الواعي والمستنير هو المفكر الديمقراطي‪ ،‬وحتى الذين يعرفون منشأ السلوب (الطريقة)‬
‫الديمقراطية‪ ،‬ويعرفون منبتها وعقيدتها فإنهم يفرقون بين العقيدة والطريقة‪ ،‬وهذا عندهم منتهى‬
‫الصولية‪ ،‬أي أننا أمام نوعين من المسلمين‪ :‬مسلم يؤمن بالديمقراطية وجميع تجلياتها‪ ،‬ومسلم‬
‫يؤمن بالطريقة ويكفر بالعقيدة‪ ،‬لكنا نقول كما قال سلفنا‪ :‬كلهما كفر وردة وحكمنا فيهم أنهم‬
‫زنادقة‪.‬‬
‫قال الشافعي ومالك رحمهما ال‪ :‬علماء الكلم زنادقة‪.‬‬
‫قاعدة التفريق بين الطريقة والعقيدة ( الدين وسيلة أم غاية‪..‬؟!)‪:‬‬
‫من أساليب أهل البدع الرائيين التفريق بين الطريقة والعقيدة‪ ،‬فهم يمررون المذهب الجديد‬
‫والنحلة الوافدة تحت باب إضفاء الفاعلية والحركة على هذا الدين‪ ،‬وذلك بأخذ الطريقة من‬
‫المذهب والنحلة الوافدة‪ ،‬كما رأينا هذا واضحا مع الصوفي والفلسفة سابقا‪ ،‬وهذا هو الواقع مع‬
‫الديمقراطية‪ ،‬فإنهم لسلمة الديمقراطية أو لتحريف السلم في البداية فرقوا بين العقيدة‬
‫الديمقراطية وبين أسلوبها‪ ،‬فهم يزعمون أنهم أخذوا الديمقراطية بآليتها وحركتها وتنظيمها‬
‫وأسلوبها ورفضوها عقيدة (وأيدلوجية)‪ ،‬وهذا التفريق مرحلي عند البعض‪ ،‬وإل فإن الكثير‬
‫صار ديمقراطيا باعتقاده‪ ،‬أي أنه ذهب يفسر السلم من خلل أصل النحلة الديمقراطية‬
‫وعقيدتها‪ ،‬فصار السلم إنساني الوضع‪ ،‬دنيوي الحكام‪ ،‬ل علقة له بالخرة‪ ،‬ول قيمة‬
‫لضرورة الدين والرضى اللهي‪ ،‬وهذا قد بسطناه قليل فيما سبق عند ذكرنا لمفهوم المصلحة‬
‫الشرعية والمصلحة في عرف الرائيين‪.‬‬
‫وإن من أخطر هذه المظاهر لهذا الختراق هو الحديث عن السلم باعتباره دينا نافعا ل بحقيقة‬
‫أنه الدين الوحيد الصحيح‪ ،‬وشرح المسألة كما يلي‪:‬‬
‫مبدأ العلقة بين المسلم وبين السلم هي التعبد‪ ،‬وأنه ما خضع لهذا الدين إل لكونه صادرا ممن‬
‫له حق المر والنهي‪ ،‬فلو أمر ال تعالى عباده بما فيه ضررهم وعذابهم فعلى العباد أن يطيعوه‬
‫ويمتثلوا أمره كما أمر ال تعالى عبده وخليله إبراهيم عليه السلم أن يذبح ابنه إسماعيل عليه‬
‫السلم ‪ ،-‬وأساس ذلك تصديقهم خبر النبي صلى ال عليه وسلم أنه صادر من ال تعالى ولو لم‬
‫تحتمله عقولهم‪ ،‬نعم كان من رحمة ال تعالى بعباده أنه ما من أمر أمرهم إياه إل وفيه تحقيق‬

‫‪566‬‬
‫لمنفعتهم في الدنيا والخرة‪ ،‬وما من خبر أعلمهم إياه إل وفي عقولهم القدرة على فهمه وإدراك‬
‫معناه‪ ،‬وهذا هو لب دين السلم ومعناه وجوهره‪ ،‬وأما المبتدعة الجدد والرائيون والحداثيون‬
‫فلهم تصور آخر مع هذه الحقيقة وسأسوق قصتين بهما أستطيع إيصال هذا الفارق لخواني‪:‬‬
‫القصة الولى‪ :‬من المعلوم أن الشيوعية ل تؤمن بالديان السماوية‪ ،‬وتنفي عالم الغيب بكل ما‬
‫فيه‪ ،‬ومن هذا الغيب ال سبحانه وتعالى‪ ،‬وقد حاربت الشيوعية الديان كلها‪ ،‬ولها تعامل خاص‬
‫مع السلم وأهله‪ ،‬فالشيوعيون يكنون حقدا وعداء خاصا للسلم ول نريد أن نأتي على شرح‬
‫أسباب هذا الخصوص‪ ،‬أقول‪ :‬ومع أن الشيوعية تنكر الديان‪ ،‬لكن هذا لم يمنع ستالين من أن‬
‫يفتح الكنائس ويستدعي القساوسة ليدخلهم إلى جبهات القتال‪ ،‬ويفتح لهم أماكن الجتماعات‬
‫ليواجهوا الرعايا وذلك خلل الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وعندما اجتاح هتلر روسيا‪ ،‬وسبب ذلك أن‬
‫ستالين رأى في الدين عامل مهما لتحقيق النجاحات والنتصارات ضد هتلر واللمان والنازيين‪،‬‬
‫فهو ل يعتقد بالديان ولكن رأى أنه يمكن استغلل الدين في هذه المرحلة لدفع الناس للمقاومة‬
‫والجنود للحرب‪ ،‬ولهذا أمر بالكنائس أن تضرب النواقيس‪ ،‬وللقساوسة أن يأخذوا دورهم في‬
‫التحريض والمقاومة‪ ،‬فأنت ترى أن ستالين لم يكن يهمه صحة الدين أو عدم صحته وصواب‬
‫الدين أو عدم صوابه‪ ،‬بل رأى في الدين عامل نافعا لهذه المرحلة‪.‬‬
‫القصة الثانية‪ :‬الجنرال باتون المريكي‪ ،‬أحد القادة في الحرب العالمية الثانية كان بحاجة في‬
‫إحدى معاركه إلى يوم صحو لتحقيق بعض النجازات العسكرية ضد اللمان‪ ،‬فاستدعى رجل‬
‫الدين النصراني المرافق للجيش‪ ،‬وطلب منه أن يكتب له صيغة صلة ليسأل فيها ربه لتحقيق‬
‫يوم صحو‪ ،‬وبالفعل كتب له صيغة الصلة وقدر ال أن يكون اليوم الذي طلبه صحوا‪ ،‬وبعد‬
‫المعركة استدعى الجنرال باتون القس العسكري وقلده وساما خاصا لحسن علقة القس مع ربه‬
‫كما قال الجنرال‪.‬‬
‫القصة حقيقية وتظهر لنا أن الدين بالنسبة لهذا النوع من البشر هو لتحقيق مقصد دنيوي‪ ،‬به‬
‫تحصل المنفعة‪ ،‬وهي صورة تتكرر في استخدام الدين باعتباره يحقق مصلحة ل باعتباره دينا‬
‫حقا‪ ،‬يحقق العبودية لرب العباد‪ ،‬كما استخدم الجيش المصري شعار "ال أكبر" في معركة‬
‫أكتوبر ضد اليهود‪ ،‬وكما تضع الكثير من المؤسسات العلمية والجتماعية بعض الشعارات‬
‫الدينية‪ ،‬سواء كانت إسلمية من آيات قرآنية أو أحاديث نبوية‪ ،‬أو غير إسلمية‪.‬‬

‫‪567‬‬
‫فالدين إذا عند هؤلء هو أحد العوامل التي تستخدم لتحقيق الهدف الدنيوي‪ ،‬ل أن الدين بنفسه‬
‫هو الهدف‪ ،‬وهو شبيه برفع الدولة السعودية شعار ل إله إل ال محمد رسول ال‪ ،‬ورفع صدام‬
‫البعثي شعار "ال أكبر"‪ ،‬وغيرها من المثلة‪ ،‬فالدين عندهم وسيلة ل غاية لتحقيق العبودية لرب‬
‫العباد التي هي غاية الغايات بالنسبة للمسلم الصادق‪ ،‬ولذلك مصلحة الدين تقدم على أي‬
‫مصلحة‪ ،‬وضرورة الدين ل تعادلها ضرورة‪ ،‬فالنفوس تموت من أجل الدين‪ ،‬والموال تنفق‬
‫لرفعة الدين‪ ،‬وكل المصالح تنهار في سبيل تحقيق إقامة الدين وإعلئه‪.‬‬
‫(‪ - )1‬انظر شرح المقاصد‪.‬‬
‫(‪ - )2‬انظر "المستصفى" للغزالي‪.‬‬
‫(‪ - )3‬انظر "تهافت التهافت" لبن رشد‪.‬‬
‫قراءة في التحالف الرائي العلماني‬
‫كيف نقرأ هذا التوجه في لهم الدين عند الرائيين المبتدعة؟‪.‬‬
‫في اللقاءات التي تقع بين هؤلء المبتدعة وبين القوميين والوطنيين‪ ،‬وكذلك في مؤتمرات‬
‫الديان‪ ،‬نرى أن القضية تجاوزت‪ ،‬بل لم تعد تجد الهتمام في عقول المبتدعة في أمر دعوة‬
‫الخصوم إلى السلم‪ ،‬وبيان حق ال تعالى على العبيد {يعبدونني ل يشركون بي شيئا}‪{ ،‬قل يا‬
‫أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن ل نعبد إل ال‪ }...‬بل صارت هذه اللقاءات‬
‫تعقد للتفاق على ضرورة استخدام كل طرف لقواه الفاعلة لتحقيق أهداف مشتركة‪ ،‬مثل‬
‫الوقوف أمام اللحاد‪ ،‬أو تحقيق الوحدة الوطنية‪ ،‬أو تعميق مبادئ الديمقراطية والحرية أو‬
‫الوقوف ضد الطغيان الجنبي وإليك المثلة‪:‬‬
‫في بيروت من تاريخ ( ‪ 12-10‬تشرين الول ‪ /‬أكتوبر سنة ‪ )1994‬تم عقد المؤتمر القومي‬
‫السلمي‪ ،‬وبتمثيل من الجانبين القومي والسلمي كونت مجموعة من الشيخ غير المعمم راشد‬
‫الغنوشي والدكتور خير الدين حسيب‪ ،‬والدكتور أحمد صدقي الدجاني‪ ،‬ومن عصام نعمان‬
‫(ممثل عن الدكتور حسن الترابي)‪ ،‬قدم السلميون ‪ )1( ،‬قلت قدم المبتدعة ورقة عمل‬
‫بتكليف من اللجنة المذكورة‪ ،‬وكان ممثلو التيار السلمي هم‪ :‬فهمي هويدي‪ ،‬محمد سليم العوا‪،‬‬
‫محمد عمارة‪ ،‬يوسف القرضاوي‪ ،‬وقالوا الكثير من الضللت في ورقتهم وما يهمنا هنا هو‬
‫البنود والتوصيات ا لتالية‪:‬‬

‫‪568‬‬
‫‪( - 8‬حسب تسلسل الورقة المقدمة) ولن التحديات على درجة من الخطورة غير مسبوقة في‬
‫تاريخنا المعاصر‪ ،‬والنهيارات في الجبهات العربية تتوالى بسرعة مخيفة‪ ،‬فإن التيار السلمي‬
‫ل يرى أي جدوى من إنفاق الوقات التي تخصص لهذه اللقاءات في مناقشة الماضي‪ ،‬أو‬
‫محاولت كل تيار لتبرئة ساحته مما يرميه البعض به من تهم‪ ،‬وإنما الذي نراه مجديا ومؤثرا‬
‫هو أن يتطلع المفكرون والقياديون المجتمعون إلى الحاضر والمستقبل‪ ،‬يحاولون في الحاضر‬
‫مقاومة الستسلم الرسمي لمحاولت الستتباع والضعاف وقهر الرادة الوطنية‪ ،‬ويحاولون في‬
‫المستقبل صنع ا لوسائل الكفيلة بتغير الواقع المر باستعادة السيادة الوطنية واستقلل القرار‬
‫العربي وفرض الحق على الناكبين عنه والرافضين له‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ل يوجد في هذه النقطة ول في كل الورقة إشارة إلى صراع السلم باعتباره دين ال‬
‫تعالى مع أديان الشيطان ومذاهبه‪ ،‬ول قضية التوحيد مع الشرك‪ ،‬ول يوجد إشارة ولو خفيفة‬
‫إلى أساس الخصومة {ول يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}‪.‬‬
‫‪ - 13‬ويفتح هذا اللقاء أبواب التفاهم الستراتيجي بين التيارين القومي والسلمي حول القضايا‬
‫التي يجب حسمها في سبيل صياغة مشروع للنهضة العربية في مواجهة محاولت ترسيخ‬
‫الستذلل والستتباع للصهيونية والغرب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬التيار القومي مدعو إلى المشاركة في صياغة مشروع النهضة العربية وهو التيار الذي‬
‫صنع الكثير من المصائب السياسية والقتصادية والفكرية‪ ،‬وما الحزب القومي السوري‬
‫وأعمدته عنا ببعيد‪ ،‬فإن أغلب العلمانيين الحاقدين على السلم من نتاج هذا الحزب وهذا‬
‫التيار‪ ،‬فهل يقال بعد هذا أن القوميين الكفرة مدعوون لصياغة مشروع النهضة للمة المحمدية‪،‬‬
‫سبحانك هذا كفر صريح‪.‬‬
‫‪ - 14‬وأولى هذه القضايا هي قضية المرجعية السلمية العامة لهذه المة‪ ،‬فالتيار السلمي‬
‫يرى أن هذه المرجعية ل تكون إل للسلم‪ ،‬وأن عوامل القوى الخرى للعتزاز القومي‬
‫بالتاريخ وبالنضال والبطال وبالمواقف يجب أن تكون إضافة مقدرة إلى رصيد المرجعية‬
‫السلمية ول يجوز أن تكون تحت أي ظرف خصما من هذا الرصيد أو عبئا عليه‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬أرأيت أخي المسلم ما هو مفهوم السلم عند هؤلء المبتدعة؟ إنه إسلم التاريخ‪،‬‬
‫والنتساب الحضاري‪ ،‬ل إسلم الستسلم لرب العباد‪ ،‬واعلم أن هذا الذي يقولون هو عين ما‬

‫‪569‬‬
‫يقوله البعثيون والقوميون عن السلم وهو نفس قول ميشيل عفلق النصراني البعثي عن‬
‫السلم‪ ،‬ولهذا ل تعجب من التحالفات التي تقوم بين هؤلء المبتدعة وبين المرتدين‪.‬‬
‫‪ - 15‬والنتقال من القاعدة الديمقراطية إلى الواقع العملي يبين أن السلم هو الطاقة القدر‬
‫على تحريك الجماهير نحو موقع حضاري متقدم‪ ،‬وهو القوة الدافعة لنضال مستمر يخرج بالمة‬
‫من نكبتها الحالية إلى الموقع الحضاري المناسب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إذا كان هذا هو السلم الذي يدعو إليه المبتدعة الرائيون‪ ،‬السلم النافع ل السلم‬
‫الصحيح الوحيد‪.‬‬
‫وبودي لو ذكرت شيئا من ورقة القوميين‪ ،‬ولكن ضيق المساحة يمنعني من هذا‪ ،‬ولكن البيان‬
‫الختامي كان بمثابة تحقيق لما قلناه وهو أن السلم كان مستخدما نافعا لقضايا الشعوب بعيدا‬
‫عن تدينهم‪ ،‬وبعيدا عن عبوديتهم لرب العباد‪ ،‬فاستخدم السلم لقضية تجميع الطاقات لمواجهة‬
‫التحديات الراهنة ورد الهجمة الحضارية الغربية بإنشاء نموذج حضاري متميز بالعروبة‬
‫والسلم‪.‬‬
‫وهكذا يصبح السلم دينا نافعا لتحقيق أهداف الحزاب والتنظيمات‪ ،‬وليس هو الدين الصحيح‪،‬‬
‫والحق الوحيد‪ ،‬وما عداه كفر وضلل‪.‬‬
‫{قل يا أيها الكافرون‪ ،‬ل أعبد ما تعبدون‪ ،‬ول أنتم عابدون ما أعبد‪ ،‬ول أنا عابد ما عبدتم‪ ،‬ول‬
‫أنتم عابدون ما أعبد‪ ،‬لكم دينكم ولي دين}‪{ ،‬ومن يبتغ غير السلم دينا فلن يقبل منه وهو في‬
‫الخرة من الخاسرين}‪{ ،‬ودوا لو تدهن فيدهنون}‪{ ،‬وما أمروا إل ليعبدوا ال مخلصين له الدين‬
‫حنفاء‪ ،‬ويقيموا الصلة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}‪{ ،‬إن الدين عند ال السلم} هذه اليات‬
‫القرآنية وغيرها من آيات شاهدة على ذلك‪ ،‬أن الدين الذي يعتقده هؤلء المبتدعة في واد وهم‬
‫في واد آخر‪ { ،‬متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون}‪.‬‬
‫(‪ - )1‬حسب تعبيرات العلمانية الصلبة‪ ،‬يعنون بما السلميين الصوليين‪ ،‬وإذا كان راشد‬
‫والترابي من الصوليين فقد هزلت وبان هزالها حتى سامها كل مفلس‪.‬‬
‫الختراق والتاريخ ( تأسيس التلبيس)‬

‫ظاهرة سرقة الشعار والدعوة تتكرر على مر الزمان والعصور‪ ،‬حيث يبدأ صاحب الدعوة‬
‫على عقيدة ما ومنهج مميز قد يكون مكتمل في ذهنه وقد يكون عائما مسطحا‪ ،‬فيتجمع حوله‬

‫‪570‬‬
‫النصار والمؤيدون‪ ،‬كل منهم دخلها لمقصد خاص له وبفهم خاص كذلك‪ ،‬فيتلقفها رجل مميز‬
‫في قدراته وعقليته فيستطيع بهذه القدرات والمميزات أن يجير الدعوة إلى حسابه وفكرته‪ ،‬فيبقى‬
‫الشعار على الوضع الول حديديا مصمتا جامدا ‪ -‬ويتغير المحتوى والمضمون‪ ،‬حتى إذا شاع‬
‫هذا الشعار مع المضمون الجديد صار أمر المصلحين عسيرا متعبا في رد الناس إلى المر‬
‫الول‪.‬‬
‫هذه الظاهرة حدثت في دين ال تعالى الذي أنزله على عيسى عليه السلم‪ ،‬فعيسى عليه السلم‬
‫دعا إلى التوحيد‪ ،‬وإلى إفراد ال تعالى بالعبادة‪ ،‬وأخبر عن صفات ال تعالى وأنه ليس كمثله‬
‫شيء‪ ،‬وأن العرش وما دونه مخلوقات ل تعالى‪ ،‬وال مستغن عن العرش وعن عبيده‪ ،‬وحذر‬
‫العباد من الشرك والكفر‪ ،‬فحذرهم من عبادة الصور والتماثيل‪ ،‬وحذرهم من اتخاذهم الناس‬
‫أربابا من دون ال تعالى‪ ،‬كل هذا كان واضحا وضوح الشمس في دعوة عيسى عليه السلم‬
‫لبني إسرائيل‪ ،‬فلم يكن في دعوة عيسى عليه السلم ما يحتمل التأويل‪ ،‬في هذا الجانب‪ ،‬لن هذا‬
‫الجانب هو أس الدعوة وعمادها‪ ،‬فلذلك ل بد أن يكون صريحا واضحا‪ ،‬فتبعه أصحاب له هم‬
‫خيرة الناس يوم ذاك‪ ،‬واصطفى منهم خواصا صاروا حواريين وأصفياء له‪ ،‬ثم رفع عيسى‬
‫عليه السلم إلى السماء‪ ،‬وشبه على اليهود فصلبوا غيره‪ ،‬كل هذا كان واضحا في ذهن وعقلية‬
‫الصفياء‪ ،‬فكيف انحرفت الدعوة وتغير مضمونها بعد ذلك؟‪.‬‬
‫بعد أن رفع عيسى عليه السلم إلى السماء نشط أتباعه بالدعوة إلى دين ال تعالى‪ ،‬وكلما‬
‫ازدادت الدعوة نشاطا وقوة كلما ازداد غضب الشر عليها‪ ،‬فازداد اضطهاد اليهود لها‪ ،‬وازداد‬
‫عذابهم لتباعها‪ ،‬وكان هناك رجل قد تميز في بيت المقدس (حسب الروايات) في عذابه وبغضه‬
‫لهذه الدعوة‪ ،‬كان هذا الرجل يهوديا يسمى شاؤول‪ ،‬وقد استطاع أن يستخرج فرمانا من الحاكم‬
‫الروماني في بيت المقدس لقتل جماعة من أتباع عيسى عليه السلم في دمشق‪ ،‬حمل شاؤول‬
‫الفرمان ووجه وجهه سائرا إلى دمشق‪ ،‬تقول الرواية‪ :‬إنه دخل دمشق مؤمنا بدعوة المسيح عليه‬
‫السلم‪ ،‬وادعى أنه رأى رؤيا في الطريق تدعوه إلى اتباع دين عيسى عليه السلم‪ ،‬كان خوف‬
‫الحواريين منه شديدا‪ ،‬فتخوفوا منه ابتداء لكنه استطاع أن يكسب ثقتهم بعد مدة قصيرة من‬
‫الزمن‪ ،‬ونشط معهم بالدعوة إلى الدين الجديد‪ ،‬كان أكثر الحواريين صداقة معه هو برنابا رضي‬
‫ال عنه‪ ،‬حيث تصاحبا في كثير من أسفارهما ورحلتهما إلى القرى والمدن للدعوة إلى الدين‬
‫السلمي الذي أتى به عيسى عليه السلم‪ ،‬وفي رحلة طويلة لهما قصدا إلى شمال الدنيا وصل‬

‫‪571‬‬
‫الثنان إلى أنطاكية وهناك انفصل‪ ،‬حيث وجه برنابا وجهته إلى جزائر البحر‪ ،‬وواصل شاؤول‬
‫(الذي غير اسمه بعدما ادعى السلم وسمى نفسه بولس) مسيرته إلى بلد الرومان حيث استقر‬
‫المقام به في عاصمة بلد الرومان ومقر المبراطورية روما‪ ،‬وهناك بدأ التحريف والتزوير‪.‬‬
‫ما إن وصل إلى روما واستقر به المقام حتى بدأ يدعو إلى دين السلم الذي أتى به عيسى‬
‫عليه السلم بمحتوى جديد ومضمون مختلف‪ ،‬فادعى هناك في روما أن عيسى تميز عن البشر‪،‬‬
‫وأنه ليس بشرا بل هو ابن ال‪ ،‬وأن الرب (أباه) قد صلبه من أجل أن يخلص البشر من‬
‫خطاياهم‪ ،‬فبهذا تم فداء البشر وانعتاقهم من ذنوبهم ومعاصيهم‪ ،‬وبدأ يكسب النصار والمؤيدين‬
‫للدين تحت الشعار الول ولكن بمضمون جديد‪ ،‬وفحوى متغيرة‪ ،‬يقال لهم من أنتم؟‪ .‬يقولون‪:‬‬
‫أتباع المسيح‪ .‬ما دينكم؟‪ .‬فيجيبون بأجوبة الشرك واعتقاد الكفر‪.‬‬
‫كثر التباع وانتشر الخبر حتى وصل إلى الحواريين‪ ،‬كان أكثرهم صدمة بهذا الحدث هو‬
‫سمعان الصفا رضي ال عنه هو بطرس‪( ،‬وبطرس تعني الصخرة التي يقام عليها الدين)‪ ،‬حمل‬
‫بطرس نفسه ماشيا من بيت المقدس إلى روما يمشي حينا ويعان حينا بدابة حتى وصل إلى‬
‫روما ليعلن للتباع هناك ضلل هذا الدين وكذبه بنسبته إلى عيسى عليه السلم‪ ،‬تقول الروايات‬
‫أن مشقة بطرس وصلت خلل مسيرته أنه تعرض للموت جوعا وعطشا مرات كثيرة‪ ،‬وأن‬
‫رجليه نزفتا مرات كثيرة‪ ،‬لكن إخلصه في بيان كذب بولس (شاؤول) دفعه لمواصلة الطريق‬
‫إلى روما‪ ،‬عندما وصل روما بدأ يعلن ضلل وكذب شاؤول‪ ،‬فاستعدى أتباع شاؤول عليه‬
‫الدولة هناك فقبضت عليه بعد أسبوع واحد من وصوله روما وحكموا عليه بالقتل فقتل‪ ،‬وواصل‬
‫شاؤول دعوته في روما إلى الشرك والكفر تحت دعوى وشعار دين عيسى عليه السلم‪.‬‬
‫تقول الروايات أن برنابا أرسل مجموعة رسائل إلى التباع الجدد في روما يحذرهم من‬
‫انحرافهم وشركهم كلها لم تنفع‪ ،‬واستغلها شاؤول استغلل سيئا‪ ،‬بل إن قتل الرومان لبطرس قد‬
‫استغله شاؤول في استدرار العطف والشفقة عليه وعلى أتباعه حيث نسبوا بطرس لمذهبهم‬
‫ودينهم وأنه قتل شهيدا من قبل الطغاة الرومانيين‪.‬‬
‫وهكذا بقي الشعار والعنوان والنسبة إلى عيسى عليه السلم وانحرف المضمون وتبدل‬
‫المحتوى‪ ،‬واستمر الصراع بين الموحدين في الشرق وبين الوثنيين في روما قائما حول ‪ -‬من‬
‫أحق بهذا الدين الجديد ‪ -‬واستمر على هذه الحالة سنين طويلة‪ ،‬حتى استطاع الوثنيون المثلثون‬
‫كسب إمبراطور روماني إلى صفهم هو قسطنطين (والتي يسميه النصارى بقسطنطين الكبير أو‬

‫‪572‬‬
‫القديس قسطنطين مع أنه لم يدخل في دينهم قط‪ ،‬فبعض الروايات تقول أنه تعمد نصرانيا على‬
‫فراش الموت وبعضها ينفي هذا التعميد كلية) حيث أعانوه في تحقيق انفراده بالسلطة ضد‬
‫خصومه‪ ،‬فحفظ لهم هذا الجميل وبدأ يدعم مذهبهم واتجاههم‪ ،‬وكذلك استطاعوا التاثير على أمه‬
‫هيلنة حيث استمالوا قلبها إلى الدين الوثني الجديد‪ ،‬فاستغلوا السلطة الحاكمة في القضاء على‬
‫خصومهم من الموحدين‪ ،‬تنصرت الدولة الرومانية على الطريقة الوثنية وبدأ تنكيلها وقتلها‬
‫للموحدين في الشرق مما اضطر أصحاب التوحيد إلى الهرب إلى الجبال والقفار بعيدا عن‬
‫بطش الدولة الرومانية‪ ،‬وبقي قلة منهم على طريق التوحيد حتى جاءهم السلم ودخل إلى‬
‫بلدهم فدخلوا فيه وأسلموا‪ ،‬وهكذا سرق الشعار‪ ،‬وتحولت الدعوة بفعل رجل واحد غير الملة‬
‫والدين‪ ،‬واستغل أتباعه السياسة والحكم فعاونتهم في القضاء على خصومهم وإبعادهم من‬
‫الطريق‪ ،‬وها هو الدين المنسوب لعيسى عليه السلم يمل أتباعه فجاج الرض وليس فيهم‬
‫موحد ل تعالى‪.‬‬
‫كاد هذا المر يحدث مع دين ال تعالى الذي أنزله على محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وما حادثة‬
‫الردة التي كانت في آخر حياة النبي صلى ال عليه وسلم ثم انتشرت بعد وفاته إل مثال لمحاولة‬
‫الختراق‪ ،‬ولول أن ال تكفل بحفظ دينه‪ ،‬وأن ال أقام لهذا الدين هذا الصنف الرائع من‬
‫الرجال‪ ،‬كأمثال أبي بكر الصديق رضي ال عنه وبقية المؤمنين لصار دين ال تعالى أثرا بعد‬
‫عين‪ ،‬ولصار إسلم التوحيد‪ ،‬إسلما آخر بمحتوى جديد‪ ،‬فيه اليمان بمسيلمة وسجاح‪.‬‬
‫وتكرر هذا الحدث مع الصديق الثاني أحمد بن حنبل رحمه ال تعالى في محنة خلق القرآن‪،‬‬
‫حيث تقلد القضاء أئمة العتزال‪( ،‬وخطبوا على المنابر ودخل الخليفة في دينهم ومذهبهم)‪،‬‬
‫فضيق على الموحدين‪ ،‬فقتل منهم من قتل‪ ،‬وهرب منهم من هرب‪ ،‬وأجاب بعضهم تقية‪ ،‬ولم‬
‫يصمد في المحنة إل أحمد رحمه ال تعالى‪ ،‬حيث حفظ ال به هذا الدين وهذه المة من‬
‫النحراف والردة‪.‬‬
‫عصمة المة‬
‫من الممتنع ردة جميع المة أو انحرافها وتغييرها تحت اسم السلم‪ ،‬فقد تكفل ال تعالى ببقاء‬
‫جماعة على الحق ل يحيدون ول يضطربون‪ .‬قال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬يحمل هذا العلم من‬
‫كل خلف عدولهم ينفون عنه تحريف المغالين‪ ،‬وانتحال المبطلين‪ ،‬وتأويل الجاهلين))‪ ،‬وقال فيهم‬
‫المام أحمد رحمه ال تعالى في خطبة كتابه في "الرد على الجهمية"‪ :‬الحمد ل الذي جعل في‬

‫‪573‬‬
‫كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى هدى‪ ،‬ويصبرون منهم على‬
‫الذى‪ ،‬ويبصرون بنور ال أهل العمى‪ ،‬فكم من قتيل لبليس قد أحيوه‪ ،‬ومن ضال جاهل قد‬
‫هدوه‪ ،‬فما أحسن أثرهم على الناس‪ ،‬وأقبح أثر الناس عليهم‪.‬ا‪.‬هـ‪ .‬أما أن تنحرف جماعة وترتد‬
‫وهي ترفع شعار السلم وتنتسب لمحمد صلى ال عليه وسلم فهذا قد وقع منه الشيء الكثير‪:‬‬
‫فالسماعيلية والقرامطة لهم دين عجيب غريب‪ ،‬ليس فيه شيء مما يصح انتسابه للكتاب والسنة‬
‫ومع ذلك فإنهم ينتسبون للسلم ولمة محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وها هم اليزيديون عبدة الشيطان ينتسبون للسلم ولمة محمد صلى ال عليه وسلم ومع ذلك‬
‫يعبدون الشيطان ويدينون له بالطاعة والولء‪.‬‬
‫وهاهم القائلون بوحدة الوجود (ل فرق بين الخالق والمخلوق) ينتسبون للسلم ولمحمد صلى‬
‫ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وها هم أهل البدع يرفعون شعار أهل السنة والجماعة كعبدة القبور‪ ،‬والقائلين بالجبر والتأويل‬
‫والتجهم‪.‬‬
‫وأنت لو أنعمت النظر في الطريقة التي حصل فيها هذا التزييف وهذه السرقة لوجدت أن أغلبها‬
‫يتم بالطريقة التي قدمناها مع شاؤول في تزييفه لدين ال تعالى (انحراف رجل داعية ثم تدخل‬
‫السياسة في نصرته)‪.‬‬
‫مسالك التزييف والتحريف‬

‫اعلم (حفظك ال) أن هناك مزالق ومسهلت يتخذها هؤلء المزيفون في تمرير بدعتهم أو‬
‫كفرهم أسوقها لك على عجل‪:‬‬
‫‪ - 1‬أهم هذه المزالق الشيطانية التي يتخذها هؤلء المزيفون هو الزهد وادعاء الفقر والمسكنة‪،‬‬
‫فأنت لو قرأت مبتدأ جميع الدعوات البدعية في التاريخ السلمي لوجدت أن الطريق الول في‬
‫بناء التباع هو اتباع الزهد والذلة‪ ،‬فهذا حمدان قرمط (مؤسس القرامطة)‪ ،‬وهذا ميمون القداح‬
‫(مؤسس دولة العبيديين)‪ ،‬وهذا حسن الصباح (مؤسس قلعة الحشاشين في قلعة ألموت)‪ ،‬وهذا‬
‫مؤسس الدين اليزيدي عبدة الشيطان وغيرهم كلهم بدأوا بإظهار الزهد والمسكنة‪.‬‬

‫‪574‬‬
‫‪ - 2‬حسن السمت‪ ،‬وهذا الذي يسميه البعض بنور الوجه‪ ،‬فالمغفلون من البشر تغرهم وضاءة‬
‫الوجه وحسن السمت‪ ،‬ول يناقشون الحقائق‪ ،‬وأنت لو سألت الكثير من أتباع الطرق الصوفية‬
‫عن دليل صدق طرقهم لجابك‪ :‬بأن شيخنا حفظه ال له وجه مشرق نير‪.‬‬
‫‪ - 3‬القدرة الخطابية والتمكن من البلغة‪ ،‬وكذا يلحق بها التمكن من المحاورة أو كما سماها‬
‫بعضهم بإتقانه‪ :‬من أين تؤكل الكتف‪.‬‬
‫‪ - 4‬النتساب لشرف المنبت والصل‪ ،‬كالنتساب لل البيت عليهم السلم مثل‪.‬‬
‫وهذه التي ذكرناها قد يستخدمها المحق ويستخدمها المبطل‪ ،‬وهي ليست أدلة إثبات الحق ممن‬
‫دليله في داخله‪ ،‬فعلى داعي الحق أن ل يفوتها لن الكثير من الناس تغرهم المظاهر والرسوم‪،‬‬
‫ول يعيرون الدراسة والفهم أدنى قيمة كما قال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬الناس كالبل المائة ل‬
‫تجد فيها راحلة))‪ ،‬وكما قال علي رضي ال عنه‪" :‬وأكثرهم همج رعاع يتبعون كل ناعق"‪،‬‬
‫ولذلك هذه المزالق تستحق أن تسمى "مزالق المغفلين"‪.‬‬
‫تحريف المعنى وتزييف اللفظ (السلفية ‪ /‬الجهاد)‬

‫ما قدمته من أمر قصدت منه الوصول إلى انحراف اسم عزيز علينا‪ ،‬له وقع حبيب على‬
‫نفوسنا‪ ،‬وما زلنا نتنازعه مع قوم صرفوه عن حقيقته‪ ،‬وألبسوه ثياب الزور والبهتان‪ ،‬هذا السم‬
‫هو "السلفية"‪.‬‬
‫عندما تصل الحركة الجهادية إلى درجة من الوضوح في العلقة مع الخرين فهذا أكبر دليل‬
‫على أنها على الحق‪ ،‬مع أن الدليل الول والكبر من ذلك كله هو أنها تنطق من الحق المطلق‪،‬‬
‫أي الكتاب والسنة على فهم الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬هذه العلقة التي كشفت الواقع على‬
‫حقيقته‪ ،‬فعرت المرتدين وكشفت سوآتهم‪ ،‬وصاروا أمام الناس من غير محسنات باطلة ودعاوى‬
‫فارغة‪ ،‬وعرت الحركات السلمية المبتدعة التي زورت السلم وشوهت وجهه الجميل‪ ،‬وبدأ‬
‫ضعاف النفوس بالسقوط وأعياهم طول المسير‪ ،‬وحطمت الشعارات الجوفاء واللقاب الرنانة‪،‬‬
‫وصدعت بالحق غير آبهة بالسفن التي تحرق‪ ،‬أو المصالح الموهومة التي تفوت من غير‬
‫رجعة‪ ،‬أليس هذا الواقع الذي تصنعه الحركات الجهادية في نفوس الناس هو أكبر دليل على‬
‫أنها تمثل في هذا الزمان عصا موسى عليه السلم والتي أكلت ما أفرزه السحرة والمشعوذون‪.‬‬

‫‪575‬‬
‫لقد قال ابن عباس رضي ال عنهما‪ :‬وال ما أظن على ظهر الرض اليوم أحدا أحب إلى‬
‫الشيطان هلكا مني‪ .‬فقيل‪ :‬كيف؟‪ .‬فقال‪ :‬وال إنه ليحدث البدعة في مشرق أو مغرب فيحملها‬
‫الرجل إلي فإذا انتهت إلي قمعتها فترد عليه‪ )1( .‬وهكذا هي وال حركات الجهاد السلفية في‬
‫العالم ‪ ،‬تكشف للناس الحقائق‪ ،‬وتبين نفوس الناس ومستويات عقولهم‪.‬‬
‫الناس راكدون راقدون‪ ،‬والطرق مبهمة‪ ،‬والسماء غائمة‪ ،‬وهناك شخوص اتخذهم الناس صوى‬
‫ودللت‪ ،‬يرقبون ندى فجر يرطب جفاف حلوقهم‪ ،‬لكنهم أيقنوا بعد مدة أنهم في سراب‪ ،‬وأن‬
‫كل ما يعيشونه مزور‪ ،‬باطل‪ ،‬يتخفى بالقنعة لكنها لم تعد مقنّعة‪ ،‬فيأتي البشير النذير‪ ،‬رجل‬
‫يحمل في قلبه التوحيد‪ ،‬وفي يده بندقية أو قنبلة فيفجرها في وسط هذا الركود‪ ،‬فيفيق الناس من‬
‫أحلمهم الخادعة‪ ،‬وأوهامهم الوادعة‪ ،‬فيدوك الناس ويضطربون أما الفطري فيحمد ال ويدعو‬
‫ال أن يبارك في هذا الصنيع إذ رأى فيه صورة نفسيته وفطرته السليمة‪ ،‬ولكن هناك قوم بنوا‬
‫قصورهم على الواقع السن‪ ،‬ورفعوها عللي شاهقات‪ ،‬فخافوا عليها من الزوال‪ ،‬أو جزعوا من‬
‫أن يروا الناس يكشفون أن هذه القصور إنما هي من ورق ل تصمد أمام العاديات‪ ،‬ول يدفع به‬
‫حر أو زمهرير‪.‬‬
‫راية الجهاد ومقصده تحكم على صوابه وخطاه‪ ،‬وقد رفعت راية الجهاد كثيرا ولكنها لم تكن‬
‫سوى تحريض عاطفي لتحقيق مقاصد باطلة وتنفيذ مآرب غير إسلمية‪ .‬وما فترة قبل الستقلل‬
‫(الوثني) إل دليل حقيقي على هذه المقولة‪ ،‬فالوطنيون والقوميون على اختلف ألوانهم العقدية‬
‫استغلوا هذا السم الجميل‪ ،‬والراية الرائعة "الجهاد" لتحقيق الوصول إلى أهدافهم عن طريق‬
‫سوق الناس إلى التضحية والفداء والرغبة في الشهادة‪ ،‬حتى إذا تم لهم المراد قلبوا ظهر المجن‬
‫للسلم وأهله وبانت الحقائق أن هذه الدعاوى لم تكن سوى قناع زائف يتستر خلفها أعداء ال‬
‫وأعداء رسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫(‪ - )1‬السنة لللكائي ح ‪.12‬‬
‫القتال والجهاد‪ :‬الوسائل والمقاصد‬

‫لماذا نقاتل؟ وتحت أي راية نقاتل؟‪ :‬هذان سؤالن ل بد أن يستعرضها المرء قبل أن يحمل‬
‫البندقية ويقدم روحه في هذا المضمار وهذا السبيل‪.‬‬
‫الراية أول‪:‬‬

‫‪576‬‬
‫الراية هي الغاية والحديث النبوي الشريف يجعلهما شيئا واحدا‪ :‬ففي مسند المام أحمد بن محمد‬
‫بن حنبل رحمه ال تعالى من حديث عوف بن مالك الشجعي قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪(( :‬هدنة تكون بينكم وبين بني الصفر‪ ،‬فيسيرون إليكم على ثمانين غاية‪ .‬قلت‪ :‬وما‬
‫الغاية؟‪ .‬قال‪ :‬الراية‪ ،‬تحت كل غاية اثنا عشر ألفا‪ ،‬وفسطاط المسلمين يومئذ في أرض يقال لها‬
‫دمشق))‪ .‬وفي رواية له من حديث أبي الدرداء بلفظ‪ :‬فيسيرون بثمانين بندا‪ .‬وعنده وعند غيره‬
‫بلفظ‪ :‬فيأتونكم تحت ثمانين راية‪ ،‬تحت كل راية اثنا عشر ألفا‪ ،‬وهو عند البخاري من حديث‬
‫عوف بن مالك بلفظ‪ :‬فيأتونكم تحت ثمانين غاية‪ ،‬كل غاية اثنا عشر ألفا‪.‬‬
‫قال ابن حجر في "فتح الباري" (‪ :)2/3176‬غاية أي راية‪ ،‬وسميت بذلك لنها غاية المتبع إذا‬
‫وقفت وقف‪.‬‬
‫فانظر (حفظك ال من كل شر وسوء) إلى مقاصد القتال وأنه مربوط بالراية التي تقاتل تحتها‪،‬‬
‫وكيف أن الراية تحدد المقصد لن السائر تحتها سيقف حيث وقفت‪ ،‬ويمتثل أمر ورودها‬
‫وصدورها ل يتعداها ول يخالفها في أمر من المور‪ ،‬ومن هنا فإننا نستطيع أن نحكم على‬
‫الراية بمعرفة الغاية‪ ،‬وكذلك نعرف الغاية بمعرفتنا للراية‪ ،‬لن الراية الظاهرة هي مظهر‬
‫المقصد الخفي‪ ،‬والغاية المعلنة باللفظ والتصريح هي التي تحدد لنا الراية التي يقاتل المرء‬
‫تحتها‪.‬‬
‫ومعلوم أن الجهاد في سبيل ال قد يكون لمقصد واحد من مقاصد الشريعة‪ ،‬وقد يكون مطلقا‬
‫لنشر السلم وتحكيم الشريعة‪ ،‬فقد يجاهد المرء مدافعا عن عرضه‪ ،‬وقد يجاهد مدافعا عن‬
‫ماله‪ ،‬أو عن نفسه‪ ،‬أو لفك أسير مسلم أو ذمي (على قول بعض أهل العلم) وكل ذلك داخل‬
‫تحت المقاصد الشرعية الصحيحة التي تدخل هذا الفعل في مسمى الجهاد في سبيل ال تعالى‪.‬‬
‫أما القتال تحت الرايات الكافرة أو البدعية بدعة مكفرة‪ ،‬أو في وقت الهرج الذي ل يدري المرء‬
‫على ماذا يقاتل‪ ،‬أو لي شيء يقتل فهذا ل يدخل في باب الجهاد في سبيل ال تعالى‪ ،‬قال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪(( :‬من قتل تحت راية عمية‪ ،‬يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية‪ ،‬فقتلته‬
‫جاهلية))‪ )1( .‬أي إن مات تحت هذه الراية فقد مات جاهليا‪ ،‬والعمية من العمى وهي الغواية‬
‫والضلل كالقتال في العصبية والهواء‪ ،‬وحكى بعضهم فيها ضم العين "عمية"‪ ،‬وسئل أحمد بن‬
‫حنبل ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬عمن قتل في عمية؟‪ .‬قال‪ :‬المر العمى للعصبية ل تستبين ما وجهه‪ .‬قال‬

‫‪577‬‬
‫أبو إسحاق‪ :‬إنما معنى هذا في تحارب القوم وقتل بعضهم بعضا‪ .‬يقول‪ :‬من قتل فيها كان هالكا‪.‬‬
‫قال أبو زيد‪ :‬العمية‪ :‬الدعوة العمياء فقتيلها في النار‪ .‬وقيل ‪ :‬العمية‪ :‬الفتنة‪ ،‬وقيل الضللة‪)2( .‬‬
‫فالراية العمية إذا على معنيين‪:‬‬
‫المعنى الول‪ :‬الراية التي ل وضوح فيها فهي غير بينة ول واضحة‪ ،‬وإنما انساق المرء فيها‬
‫كالدابة ل يدري فيما يتقاتل الناس عليه‪ ،‬ول على أي شأن يتقاتلون‪ ،‬ولذلك هي راية لم يستبن‬
‫المرء أمرها‪ ،‬ولم يتحقق من أهدافها‪.‬‬
‫المعنى الثاني‪ :‬الراية البينة الضللة‪ ،‬التي ل تقاتل على السلم ولكنها تنتصر لمعاني الجاهلية‪،‬‬
‫كالتعصب للقبلية أو العصبة أو الوجهة دون هدي من كتاب أو سنة‪ ،‬ويلتحق بهذه الراية الرايات‬
‫البدعية لنها رايات غواية وضلل ليس عليها نور الهدي النبوي‪ ،‬ول الحق مسفر بوجهه علينا‪.‬‬
‫فمن قتل تحت هاتين الرايتين فهو على سبيل هلكة وفي النار‪ ،‬والحديث إنما هو تحذير للمسلمين‬
‫أن ل يقاتلوا إل من أجل إسلمهم ودينهم‪ ،‬وأن ل يفرطوا بأرواحهم في سبيل الهوى والشهوة‬
‫والحزبية والعشائرية والقطرية‪ ،‬وليس في الحديث بيان حال من قاتل تحت راية كفرية شركية‬
‫فإن من قاتل تحت راية الشرك مشرك‪ ،‬ومن قاتل تحت راية الكفر كافر‪ ،‬ول ينفعه احتجاجه‬
‫بصلح قلبه ونيته ودليل ذلك قوله تعالى‪{ :‬إن الذين توفاهم الملئكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما‬
‫كنتم قالوا كنا مستضعفين في الرض‪ ،‬قالوا ألم تكن أرض ال واسعة فتهاجروا فيها فأولئك‬
‫مأواهم جهنم وساءت مصيرا إل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ل يستطيعون حيلة‬
‫ول يهتدون سبيل} النساء‪ ،‬وفي تفسيرها عن ابن عباس رضي ال عنهما‪ :‬أن ناسا مسلمين‬
‫كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على النبي صلى ال عليه وسلم (أي يوم بدر)‬
‫فيأتي السهم يرمى به يصيب أحدهم فيقتله‪ ،‬أو يضرب فيقتل فأنزل ال {إن الذين توفاهم‬
‫الملئكة}‪...‬‬
‫ولعكرمة‪ :‬فقتلوا ببدر كفارا ورجعوا عن السلم‪ )3( .‬وقد عامل الصحابة رضي ال عنهم‬
‫أسرى هؤلء كما عاملوا بقية الكفار‪ ،‬فقد أخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس رضي ال‬
‫عنهما أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪(( :‬يا عباس افد نفسك وابن أخويك عقيل بن أبي طالب‬
‫ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن عمرو فإنك ذو مال‪ .‬قال (أي العباس)‪ :‬إني كنت مسلما‬
‫ولكن القوم استكرهوني‪ ،‬قال صلى ال عليه وسلم‪ :‬ال أعلم بما تقول‪ ،‬إن كنت كما تقول حقا إن‬
‫ال يجزيك‪ ،‬ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا))‪)4( .‬‬

‫‪578‬‬
‫وقد نص العلماء على هذا الذي قلناه‪ ،‬فقد قال ابن حزم الظاهري رحمه ال تعالى‪ :‬ولو أن كافرا‬
‫مجاهرا غلب على دار من دور السلم‪ ،‬وأقر المسلمين بها على حالهم إل أنه هو المالك لها‬
‫المنفرد بنفسه في ضبطها وهو معلن بدين غير السلم لكفر بالبقاء معه كل من عاونه وأقام‬
‫معه وإن ادعى أنه مسلم‪)5( .‬‬
‫واعلم أن ابن حزم في قولته هذه قد جعل شرط التكفير لمثال هؤلء الذين يقاتلون تحت راية‬
‫الكفر هو علمهم بكفر الحاكم الذي يقاتلون تحت رايته‪ .‬حيث قال "كافرا مجاهرا" فمن ستر كفره‬
‫ولم يعلم أمره فهو معذور إل أن يكون قادرا على تبين حاله ولكن لم يفعل‪ ،‬فهو داخل في قتال‬
‫الراية العمية‪ ،‬لنها راية غير واضحة كما تقدم‪.‬‬
‫حال من قاتل تحت راية خيار الشعب والمسيرة النتخابية الشركية‪:‬‬
‫اعلم أن راية الديمقراطية راية كفرية شركية‪ ،‬وقد علم القاصي والداني أن السلم والديمقراطية‬
‫دينان مختلفان‪ ،‬فأما السلم فهو حكم ال لعباده‪ ،‬والديمقراطية حكم البشر بعضهم لبعض‪ ،‬واعلم‬
‫أن محاولة البعض مساواة السلم بالديمقراطية هي محاولة الزنادقة الذين يريدون أن يبدلوا‬
‫دين ال تعالى موافقة لهواء البشر‪ ،‬فإنه وإن التقت الديمقراطية والسلم في حق اختيار المة‬
‫لحكامها‪ ،‬فإن السلم يكفر من خير الناس في أحكامهم‪ ،‬إذ يجب على الناس أن يحكموا‬
‫بالسلم وأن يكون الئمة مسلمين‪ ،‬أما الديمقراطية فهي تجعل للناس حق اختيار أحكامهم‬
‫وتشريعاتهم‪ ،‬وهذا هو لب الديمقراطية وجوهرها وحقيقتها‪ ،‬فمن جعل السلم كالديمقراطية‬
‫فحاله حال من سوى بين السلم واليهودية بجامع أن كل منهما يعترفان بنبوة موسى عليه‬
‫السلم‪ ،‬ويقران بوجوب خضوع الناس لسياسة النبياء وامتثالهم لمر النبي المرسل‪ ،‬وشتان بين‬
‫السلم واليهودية {أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون}‪.‬‬
‫إذا تبين لنا هذا فإن من قاتل تحت هذه الراية فإنه كافر مشرك ويقاتل مقاتلة المشركين (بعد‬
‫إقامة الحجة الرسالية عليه)‪.‬‬
‫وقد يقول قائل‪ :‬إن هؤلء القوم المعنيون يريدون أن يقاتلوا لعادة الناس إلى البرلمان من أجل‬
‫أن يحكموا بالشريعة‪ ،‬إذا تبين بالواقع أن حكم السلم هو المقصود‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬إن تطبيق حكم ما عن طريق البرلمان ومجلس النواب ل يدخله في مسمى الحكم‬
‫الشرعي وإن التقى معه في الصورة‪ ،‬وقد قدمنا هذا سابقا‪ ،‬حيث تبين لكل من عقل وفهم دين‬
‫ال تعالى أن الحكم ل يسمى شرعا إسلميا وإن كانت صورته تلتقي مع الحكم الشرعي حتى‬

‫‪579‬‬
‫يطبقه المرء بتوصيفه الشرعي‪ ،‬وهو كونه حكما صادرا عن ال تعالى‪ ،‬والحكم الصادر عن‬
‫البرلمان الشركي هو حكم شركي وإن كان ظاهره يلتقي مع الحكم الشرعي‪ ،‬فالن قد تبين أن‬
‫هؤلء القوم يقاتلون من أجل حكم الشعب ل من أجل حكم ال تعالى‪ ،‬هذا هو حال من قاتل‬
‫الجنبي ليحكم الوطني الكافر‪ ،‬فهو يقاتل من أجل راية الوطنية ل من أجل حكم السلم الذي‬
‫أمر ال تعالى بالقتال من أجله كما قال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬اغزوا باسم ال‪ ،‬وقاتلوا من كفر‬
‫بال)) ولقوله صلى ال عليه وسلم‪(( :‬من قاتل لتكون كلمة ال هي العليا فهو في سبيل ال‬
‫تعالى))‪.‬‬
‫فجماعة يمثلها رجل لنه اختير من قبل الشعب‪ ،‬وجماعة ترى أن الصراع في بلدها هو صراع‬
‫للعودة إلى المسار النتخابي الذي أوصل بعض رجالهم إلى قبة البرلمان‪ ،‬فهل تسمى هذه‬
‫الجماعة بأنها جماعة إسلمية مجاهدة؟ أم أنها جماعة بدعية وبدعتها مكفرة ومخرجة من‬
‫الملة؟‪ .‬اللهم إنها جماعة تقاتل مقاتلة الكفار والممتنعين عن الشريعة‪.‬‬
‫وهنا تنبيه مهم وهو أن الطوائف المقاتلة ل تعامل معاملة أفرادها الجهلة أو حسني النية‪ ،‬بل‬
‫تعامل معاملة الراية والقيادة كما تقدم سابقا إذ ل يقدر عليها إل بالقتال‪ ،‬واعلم حفظك ال أن‬
‫قول من قال‪ :‬إننا نقاتل من أجل إعادة رجالنا إلى البرلمان هو إسقاط وإهمال لكثير من اليات‬
‫كقوله تعالى‪{ :‬وقاتلوهم حتى ل تكون فتنة ويكون الدين ل}‪ ،‬والدولة الديمقراطية لن يكون فيها‬
‫الدين كله ل‪ ،‬بل إنها ابتداء تقوم على إلغاء حق ال تعالى في التشريع والحكم والقضاء‪ ،‬فباسم‬
‫الشعب ل باسم ال تصدر الحكام وتطبق في القضاء والمحاكم‪.‬‬
‫(‪ - )1‬رواه مسلم من حديث جندب بن عبد ال البجلي رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ - )2‬انتهى "باب الياء فصل العين"‪.‬‬
‫(‪ - )3‬الطبري‪.‬‬
‫(‪ - )4‬والحديث في المسند (‪ )1/353‬من حديث ابن إسحاق إل أن فيه رجل مبهما ما بين ابن‬
‫إسحاق وعكرمة والحديث له شواهد وأصله في صحيح البخاري (كتاب المغازي) بغير هذه‬
‫الزيادة‪ .‬انظر شرح أحمد شاكر على المسند (‪.)2/3310‬‬
‫(‪ - )5‬المحلى ‪.11/200‬‬
‫سبيل أهل السنة والجماعة‪ :‬نقد التزييف‬

‫‪580‬‬
‫أذكر نفسي وإخواني بأن الفتن كاشفة للرجال‪ ،‬كما قال الرجل لسعيد بن المسيب رحمه ال‬
‫تعالى‪ :‬يا سعيد في الفتنة يتبين لك من يعبد ال ممن يعبد الطاغوت‪ )1( .‬وقوله هذا حق فإنهم‬
‫في الوسع يرفعون شارة السلم ورايته‪ ،‬وكلهم يزعم أنه وليه وصاحبه‪ ،‬ولكن بعد المتحان‬
‫والختبار يعرف الناس حقائق أنفسهم وعقائدهم‪ .‬فهؤلء المتمسكون بشعار جبهتهم وحزبهم‪،‬‬
‫هذا الحزب الذي لم يعلم قادته وأفراده قط التوحيد الصافي‪ ،‬فبعضهم صار وزيرا في دولة‬
‫الردة‪ ،‬وبعضهم نهق بعداء المجاهدين‪ ،‬وبعضهم ارتمى في أحضان الشرق أو الغرب‪ ،‬فأي‬
‫توحيد علمهم حزبهم هذا وتجعهم هذا‪ .‬ثم يأتي بعد ذلك من يأتي متبجحا قائل‪ :‬إن راية هذا‬
‫الحزب والتجمع هي راية أهل السنة والجماعة"‪ ،‬فل أدري عن أي سنة وجماعة يتكلمون!!‪.‬‬
‫واعلم وفقك ال لرشد أمرك أن هذه المسألة جد خطيرة‪ ،‬وليست هي بكثرة الناعقين‬
‫والمرجفين‪ ،‬ول بكثرة العمائم المدورة‪ ،‬والشهادات العالية المزركشة بل هي بالدليل والبرهان‪،‬‬
‫ثم عليك أن ل تطمع كثيرا بهداية أهل الهواء والبدع‪ ،‬فإن البدع قد دخلت في كل مفاصلهم‬
‫وشربتها قلوبهم حتى الثمالة‪ ،‬ثم اتفقوا وتمالؤوا على الكذب والبهتان فالصدق منهم كعنقاء‬
‫مغرب غرابة وقد صدق أبو بكر مسلم الزاهد ذكر يوما المخالفين وأهل البدع فقال‪" :‬قليل‬
‫التقوى يهزم العساكر والجيوش"‪ .‬وصدق الشاعر حين قال‪:‬‬
‫فـحيلتي فيه قليلة‬ ‫من كان يخلق ما يقول‬
‫فاهرب من هؤلء المبتدعة‪ ،‬ول ترخي لهم سمعك لئل يمرضوا قلبك‪ ،‬قال ابن عباس رضي ال‬
‫عنهما‪" :‬ل تجالسوا أصحاب الهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلب"‪ ،‬وأي مرض أعظم من أن‬
‫يذهبوا بك إلى دين يضاد دين محمد صلى ال عليه وسلم من كل وجه (أعني دين الديمقراطية)‬
‫فإياك وتسللهم في قلبك‪.‬‬
‫عن حبيب بن أبي حبيب قال‪ :‬شهدت خالد بن عبد ال القسري بواسط في يوم أضحى وقال‪:‬‬
‫ارجعوا فضحوا تقبل ال منكم‪ ،‬فإني مضح بالجعد بن درهم‪ ،‬زعم أن ال لم يتخذ إبراهيم خليل‬
‫ولم يكلم موسى تكليما‪ ،‬تعالى ال علوا كبيرا عما يقول الجعد بن درهم‪ ،‬ثم نزل فذبحه‪)2( .‬‬
‫وقد مدح الئمة العلم فعل القسري عند ذبحه الجعد‪ ،‬قال ابن القيم في نونيته‪:‬‬
‫أحــد يكون خليله النفسان‬ ‫وكذاك قالوا ماله من خلقـه‬
‫ذا الوصف يدخل عابد الوثان‬ ‫وخليله المحتاج عندهــم وفي‬
‫في أسر قبضته ذليل عـــاني‬ ‫الكـل مفتقر إليه لــذاته‬

‫‪581‬‬
‫لد القسري يوم ذبائح القربـان‬ ‫ولجل ذا ضحى بجعد خــا‬
‫كل ول موسى الكليم الـداني‬ ‫إذ قال إبراهيم ليس خليـله‬
‫ل درك مـن أخـي قربــان‬ ‫شكر الضحية كل صاحب سنة‬
‫شرح البيات‪ :‬هذه البيات في أوائل نونية ابن القيم في العقيدة (‪ )3‬حيث بدأ ابن القيم يعدد‬
‫خصال الجهمية المعطلة (‪ )4‬ويقصد بالمعطلة‪ :‬أنهم يعطون صفات ال تعالى وينفونها‬
‫ويزعمون أن ال ذات مجردة‪ ،‬وهم وإن كانوا متأولين إل أن نهاية قولهم هو القول بتعطيل‬
‫الخالق‪ ،‬إذ ل يتصور العقل ذاتا من في غير صفات إل لمن ل حياة له‪ ،‬أو نهاية أمره هو القول‬
‫بوحدة الوجود‪ ،‬وهو أن ال هو كل موجود‪ ،‬وقد ورث الشاعرة هذه العقيدة (التعطيل)‪ ،‬مع أنهم‬
‫ينسبون هذه الصفات إلى ال تعالى إل أنهم يجردونها عن حقيقتها بتأويلها فينسبون ل صفة‬
‫المحبة ولكنهم يفسرونها أنها إرادة الخير من ال للنسان‪ .‬فابن القيم يقول عن الجهمية أنهم نفوا‬
‫عن ال تعالى صفة الخلة وهي صفة جاءت في الحديث‪(( :‬لو كنت متخذا من الرض خليل‬
‫لتخذت أبا بكر خليل‪ ،‬ولكني خليل ال))‪ ،‬والخلة هي أعلى مراتب المحبة لنها ل تقال إل إذا‬
‫تخلل الحبيب كل القلب‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬
‫وبذا سمي الخليل خليل‬ ‫تخللت مسلك الروح مني‬
‫ولهذا سمي إبراهيم عليه السلم خليل ال تعالى‪.‬‬
‫فالجهمية نفت صفة الخلة وجعلوا الخلة هي حاجة المرء لربه‪ ،‬فرد عليهم ابن القيم أن هذه‬
‫الصفة ل يتميز المسلم بها عن الكافر لن جميع الخلق (مؤمنهم وكافرهم) محتاجون إلى ال‬
‫تعالى‪ ،‬وجميع الخلق في قبضته وأسره‪.‬‬
‫وبسبب نفيهم صفة الخلة عن ال تعالى وقولهم بتعطيل صفات ال تعالى كالكلم وكذا علوه على‬
‫خلقه استحقوا القتل‪ ،‬وقد قتل القسري الجعد بن درهم لقوله بهذه العقيدة الفاسدة‪.‬‬
‫وقد مدح العلماء (أهل السنة) صنيع خالد القسري هذا وكذا مدحه ابن القيم بقوله‪" :‬ل درك من‬
‫أخي قربان"‪.‬‬
‫لقد احتاج الشباب المسلم المجاهد قفزة نفسية هائلة حتى استقرت في أذهانهم مصطلحات‬
‫السلف‪ ،‬وصاروا يستعملونها دون حرج ودون شعور بالنقص‪ ،‬نعم كانت الدائرة التي يتوقف‬
‫عند حدودها الشباب في المناقشة حول القرب من الصواب‪ ،‬فمن أصوبنا؟ ومن أقربنا إلى‬
‫الحقيقة؟ وهذا بسبب التربية البدعية التي نشأوا عليها والتي تجعل كل قول ينتسب إلى السلم‬

‫‪582‬‬
‫قول إسلميا‪ ،‬وأنه يجب اعتباره واحترامه وتقديره‪ ،‬واختلط في أذهانهم عدم الفرق بين المسائل‬
‫الجتهادية والمسائل الخلفية فلم يعودوا يفرقون بينهما‪ ،‬فكل مسألة اختلف أهل السلم حولها‬
‫هي مسألة يصح فيها اعتبار القوال وعدم العيب فيها على المخالف حتى صرنا نسمع بوجود‬
‫مصطلحات غريبة عن الفقه الذي كتبه علماؤنا مثل مصطلح الثوابت ومصطلح المتغيرات‪ ،‬ولم‬
‫يعد الشباب الذين ربوا تربية بدعية في بعض التنظيمات يعرف الحد الفاصل بين ما هو ثابت‬
‫وما هو متغير‪ ،‬لنه قد سمع من قادته ومشايخه أنه ل فرق بين أهل السنة والشيعة في القواعد‬
‫والصول فربنا واحد ورسولنا واحد وقبلتنا واحدة وفقط (هذه هي الثوابت عندهم وغيرها من‬
‫المتغيرات)‪ ،‬إلى هذا الحد وصل تجريد السلم عن حقائقه وتعريته من أصوله وقواعده‪،‬‬
‫وتفريغه من مضمونه‪ ،‬ولهذا وجب على كل الدعاة إلى ال أن يقرأوا كتب السلف الصالح وأن‬
‫يتربوا عليها لن هذه الكتب هي التي تصنع المزاج السني زيادة على المنهج السني‪ ،‬فإن المزاج‬
‫السني يحتاج إلى طرق ومهمات تربوية لعادة صياغته وبنائه وإصلحه من الدمار الذي‬
‫أصابه‪ ،‬والتشويه الذي لحق به‪.‬‬
‫هناك كتب سلفية ل ينبغي للمرء المسلم السني المجاهد أن تغيب عن ناظريه‪ ،‬بل يجب عليه أن‬
‫يعود لها المرة تلو المرة حتى يستقيم منهجه ويصح مزاجه‪ ،‬ومن هذه الكتب العظيمة‪:‬‬
‫‪ - 1‬كتاب "السنة" للمام أحمد ال بن أحمد بن حنبل‪.‬‬
‫‪ - 2‬كتاب "الرد على بشر المريسي" للمام الدارمي‪.‬‬
‫‪ - 3‬كتاب "الرد على الجهمية" للمام البخاري‪.‬‬
‫‪ - 4‬كتاب "البانة الكبرى" لبن بطة العكبري‪.‬‬
‫‪ - 5‬كتاب "الشريعة" للجري‪.‬‬
‫‪ - 6‬كتاب "التوحيد" لبن خزيمة‪.‬‬
‫ففي هذه الكتب وما نسج على منوالها تستطيع أن تدرك الفارق العظيم بين ما نحن فيه من‬
‫أخطاء وعيوب وبين ما كان عليه السلف من نصاعة ووضوح‪.‬‬
‫في هذه الكتب المزاج السلفي الصريح بهجران المبتدعة وتنفير الناس منهم وتحذيرهم من‬
‫القتراب منهم‪.‬‬
‫هذه الكتب تعينك على فهم ضللة المفكرين الرائيين حيث أنهم يرومون هدم السلم من‬
‫قواعده وتدمير أركانه حيث جعلوا شعار السلم من حق كل أحد قال أنا مسلم‪.‬‬

‫‪583‬‬
‫هذه الكتب تصنع مزاجا حقيقيا لقيمة السنة وعظمتها ومحبة أهلها‪ ،‬وتصنع مزاجا حقيقيا ببغض‬
‫المبتدعة والبدعة‪ ،‬وتدفعك بقوة إلى قول كلمة الحق دون مواربة أو تقية‪.‬‬
‫(‪" - )1‬البانة الكبرى" لبن بطة ‪.2/769‬‬
‫(‪ - )2‬رواه البخاري في الرد على الجهمية (ح رقم ‪ )3‬وفي "التاريخ الكبير" (‪) 1/1/14‬‬
‫الدارمي والجري في "الشريعة"‪.‬‬
‫(‪ - )3‬سميت بذلك لن قافيتها نون‪.‬‬
‫(‪ - )4‬أتباع جهم بن صفوان الخزري وقيل الترمذي ثم قتل زندقة لقواله هذه‪.‬‬
‫تهافت المبتدعة (السلف والخلف)‬
‫المحدثون المعاصرون يريدون منك حامل لقاعدة الحق النسبي‪ :‬أي أن الحق الذي تحمله من‬
‫فهم السلف الصالح لدين ال هو حق نسبي ل مطلق‪ ،‬فعليك أن تعترف لغيرك بالوجود‪ ،‬ولغيرك‬
‫بأنه يملك رؤية عليك أن تحترمها وتقدرها فإن خلفك مع المبتدعة ل يفسد للود قضية‪ ،‬وأننا‬
‫علينا أن نتعاون على ما اتفقنا عليه (حتى مع الشيعة الروافض) ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا‬
‫فيه (حتى لو اختلفنا حول هل شيء هو إسلم واجب أم هو كفر غليظ الديمقراطية والدخول في‬
‫العمل البرلماني)‪.‬‬
‫وها أنا قد سقت لك مقدمة من تعامل السلف مع المبتدعة‪ ،‬حيث مدح أهل السنة والدين قتل خالد‬
‫القسري الجعد بن درهم‪ ،‬ولو حدثت الحادثة في هذه اليام لتصايح الرائيون بأن هؤلء (أهل‬
‫السنة) يقتلون مخالفيهم ول يحتملون وجود الرأي الخر‪ ،‬هؤلء منغلقون ومتحجرون‬
‫ومتخلفون!!‪ .‬هذه عبارات الرائيين‪.‬‬
‫وأنا أذكرك بأن ما قاله الجعد بن درهم أهون ألف مرة مما يقوله مبتدعة هذا الزمان‪ ،‬أل ليت‬
‫مبتدعة هذا الزمان كشجاعة الجعد بن درهم‪ ،‬وليتهم قائلون للحق أمام الطواغيت كالجهم بن‬
‫صفوان‪.‬‬
‫إن معايير السلف قد ضاقت في عقولنا إلى درجة هائلة‪ ،‬ولو أننا تعاملنا مع موازينهم في‬
‫الرجال والحركات لكان ما يقوله هؤلء المبتدعة في هذا الزمان عند الوائل زندقة‪:‬‬
‫فلو أن رجل قال أمام المام أحمد بن حنبل ‪ -‬رحمه ال تعالى ‪ :-‬إن حديث الذبابة ل آخذ به‬
‫لن محمدا صلى ال عليه وسلم ليس متخصصا في الكيمياء‪ ،‬فماذا سيحكم عليه المام أحمد‬
‫رحمه ال تعالى؟!!‪ ،‬بل لو عرض هذا القول على عمر بن الخطاب رضي ال عنه فماذا سيرد‬

‫‪584‬‬
‫عليه‪ ،‬هل سيرد عليه بأن يقول‪ :‬هذا قولك وأنا أخالفك‪ ،‬وخلف الرأي ل يفسد للود قضية‪ ،‬أهذا‬
‫هو دين ال الذي انتصر به السلف أم هو دين الزنادقة‪.‬‬
‫ولو أن رجل قال أمام المام البخاري رحمه ال‪ :‬إننا لن نحكم بالسلم حتى يقبل الناس هذا‬
‫الحكم‪ ،‬فلو اختار الناس اللحاد لجاز لهم أن يحكموا به‪ ،‬فهذا الرجل أيصنفه المام البخاري مع‬
‫الجعد بن درهم أم مع ابن الراوندي؟‪.‬‬
‫يا قوم قليل من تقدير ال تعالى‪ ،‬وقليل من احترام فهم الصحابة لدين ال تعالى‪.‬‬
‫هذه القفزة النفسية الرائعة بتسمية المبتدعة بأسمائهم احتاجت إلى جهد شاق من القراءة المتتابعة‬
‫لكتب السلف‪ ،‬ثم احتاجت إلى بصر واع للواقع الذي يعيشه الناس وإلى معرفة واقع القوم الذين‬
‫يزورون دين ال تعالى باسم السلم والدين‪.‬‬
‫قال أبو عبد ال (أحمد بن حنبل)‪ :‬ما أبالي صليت خلف الجهمي والرافضي أم صليت خلف‬
‫اليهود والنصارى‪ ،‬ول يسلم عليهم‪ ،‬ول يُعادُون ول يناكحون ول يشهدون ول تؤكل ذبائحهم‪.‬‬
‫قال عبد الرحمن بن مهدي‪ :‬هما ملتان (دينان يفترقان عن دين السلم) الجهمية والرافضة‪( .‬‬
‫قوله‪ :‬ل يعادون‪ :‬ل يزارون في مرضهم‪ ،‬وقوله ل يشهدون‪ :‬أي جنائزهم‪.‬‬ ‫‪)1‬‬
‫كان شأن سلفنا الصالح رضي ال عنهم عظيم‪ ،‬مع أهل البدع‪ ،‬ول يرون شيئا أضر على دين‬
‫السلم منهم‪ ،‬والقارئ المتمعن لكتب السلف ل يرى هذه الهنات النفسية التي وقع فيها الخلف‬
‫من الخوان المسلمين وحزب التحرير‪ ،‬ول يرى فيها التنازلت المقيتة التي وقع فيها‬
‫المتأخرون من أصحاب التجمعات البدعية‪ ،‬والسلف من أهل الحديث والسنة لم يكن عندهم هم‬
‫التجميع والتكثير على حساب المنهج بل كان المنهج قبل كل شيء‪ ،‬والتوحيد بجلئه ووضوحه‬
‫هو أساس المحبة والولء‪ ،‬والبدعة والشرك هما مناط البغض والعداء والبراء‪ ،‬لكن لما هانت‬
‫السنة على الناس‪ ،‬وصار الحديث عند أصحاب الفهم الحضاري للسلم عن الجنة والنار‬
‫والغيب والخرة والثواب والعقاب هو حديث السذج من الناس‪ ،‬ضاعت معالم الدين واندرست‬
‫آثاره‪ ،‬وبدأت المصطلحات الجديدة تغشى السلم وشعاره المجرد فصار هناك السلم‬
‫الحضاري‪ ،‬والسلم الديمقراطي‪ ،‬والسلم الليبرالي‪ ،‬وصار مقدم القوم هو من يحسن لوك‬
‫اللفاظ المفخمة‪ ،‬ويتقعر في حديثه متجنبا السنة وآثارها‪ ،‬فتضخمت الرؤوس بالفكار‪ ،‬واللسن‬
‫أصابها داء السرطان فطالت مرضا‪ ،‬وقل العمل‪ ،‬وضعفت عبودية الناس لربهم‪ ،‬وقل الشوق‬
‫إلى الخرة‪ ،‬حينئذ ضرب ال قلوب الناس بالشبه والهو اء‪ ،‬فالعبقري الذي ل يفري فريه هو‬

‫‪585‬‬
‫من يحسن رد السنة بالهوى‪ ،‬ومن يقدم الجنة للناس بل تكاليف‪ ،‬هذا حال أهل الرأي الذين‬
‫جعلوا الوحي حضارة والنص الغيبي فكرا‪ ،‬فتأنس السلم على أيديهم‪ ،‬إذ صار السلم هو‬
‫مصلحة الرجل والجماعة لتحقيق شهواتهم في الدنيا‪ ،‬وكل تكليف ومشقة تلحق الناس في عمل‬
‫من العمال ردوه بحجة الضرورة ورفع الحرج‪ ،‬فتوسع الناس في التأويل وحفظ الرخص‬
‫ومزالق العلماء وأخطائهم‪.‬‬
‫وقوم آخرون زعموا التمسك بالسنة وبفهم السلف الصالح‪ ،‬وأخرجوا الناس من تقليد الوائل‬
‫ولكنهم لم يبرأوا من جرثومة التقليد فأخرجوا الناس من تقليد الشافعي إلى تقليد ابن باز ومن‬
‫تقليد مالك إلى تقليد ابن عثيمين ومن تقليد أحمد إلى تقليد اللباني‪ ،‬تحاور الرجل منهم الساعة‬
‫والساعتين وتلقي بوجهه الدليل تلو الدليل فل يجد في قلبه من الشر إل أن يقول لك‪ :‬ولكن‬
‫اللباني يقول بغير ذلك!!‪ ،‬ولكن ابن باز لم يقل هذا!!‪ ،‬هل قال بهذا ابن عثيمين وابن باز‬
‫واللباني؟‪ ،‬من قال بهذا؟‪ ،‬ولو قلت له قال الئمة العظام لعارض هذا القول في نفسه ما يقول‬
‫هؤلء الذين اتخذهم آلهة من دون ال‪ ،‬ل يقول إل ما يقولون‪ ،‬ول يدين إل بمذهبهم‪ ،‬وكأنهم‬
‫أنبياء هذا الزمان‪ ،‬وكان من مقت ال تعالى لهؤلء القوم أن مسخ ال قلوبهم وعقولهم حيث‬
‫جعلوا المامة (وهي أعلى المراتب وأشرفها في هذه الدنيا) من حق من مسخ ال قلبه وأتى‬
‫المكفرات العظيمة‪ ،‬فانتسابهم للسلف لم يعلمهم التوحيد الذي يوجب عليهم البراءة من كل‬
‫طواغيت الرض‪ ،‬وإني لعلم عالما (سلفيا!!) اسمه يطرز على كتب الحديث تحقيقا وتخريجا‬
‫ومع ذلك هو في حزب علماني من أهل بلده‪ ،‬ول يرى الحرج في ذلك فأي قوم هؤلء؟! وأي‬
‫سنة صحيحة ينتسبون إليها؟!!‪.‬‬
‫هذا حال المتدينين في هذا الزمان‪ ،‬وأهل السنة والحديث كالملح في الطعام؟ غرباء بين أهل‬
‫السلم‪ ،‬ولول أن ال برحمته يرطب قلوبهم بالخلص وذكر الخرة لضاقت بهم الحياة‬
‫وانفطرت قلوبهم حزنا وغما‪.‬‬
‫إن حدثوا الناس بالسنة والعمل قال أهل النفاق‪ :‬هؤلء أهل القشور‪.‬‬
‫وإن حدثوا الناس بكفر الحاكمين بغير ما أنزل ال وطوائفهم قال أهل النفاق‪ :‬هؤلء خوارج‪.‬‬
‫وإن حدثوا الناس بالجهاد في سبيل ال ضد المرتدين قال أهل النفاق‪ :‬هؤلء متسرعون ل‬
‫يفقهون السياسة‪.‬‬

‫‪586‬‬
‫وإن حدثوا الناس بكفر الديمقراطية وكفر العمل البرلماني التشريعي قال أهل النفاق‪ :‬هؤلء‬
‫غلة‪.‬‬
‫وإن حدثوا الناس بوجوب تجريد التباع ونبذ الغيار قالوا‪ :‬هؤلء متكلسون‪.‬‬
‫فأي نصر يرجونه من ال ؟!! وأي تأييد إلهي سيقع عليهم؟!!‪.‬‬
‫لقد جاءت الفرص الكثيرة والكبيرة جدا لتحقيق أماني المسلمين بوجود دولة لهم ترعاهم‪،‬‬
‫وبيضة تمنعهم وتحميهم‪ ،‬وملذا يؤوبون إليه‪ ،‬ولكن خيب ال ظنونهم‪ ،‬وضاعت هذه الفرص‬
‫من أيديهم لنهم ل يستحقونها‪ ،‬ولعلم ال تعالى أنهم أدنى من أن يقع عليهم المن اللهي بالفوز‬
‫والظفر‪ .‬وإني لعتقد أن ال قد خبأ هذا الخير ‪ -‬دولة السلم ‪ -‬لمن يستحقه من أهل التوحيد‬
‫والسنة والجهاد‪ .‬وإن جاز لنا أن نحمد هؤلء القوم على عدم توفيقهم لحمدناهم‪ ،‬ولكن ل يحمد‬
‫المرء على جهله‪ ،‬فإنهم لو وفقوا لدولة لهم يحكمونها لساموا أهل السنة والحديث والجهاد سوء‬
‫العذاب‪.‬‬
‫فلو أن الخوان المسلمين حكموا دولة من الدول‪ ،‬ثم جاء الخميني بدولته الرافضية اللعينة فماذا‬
‫سيصنع هؤلء المبتدعة؟‪.‬‬
‫لقد علمنا صنيعهم‪ ،‬ورأيناهم وهم يتراكضون عليه يؤممونه ويسيدونه ويوسدونه‪ ،‬حتى قال‬
‫قائلهم وهو يخطب في جمع من الغثاء بعد أن عاد من إيران الرافضية وتنعم بالسلم على اليد‬
‫"المباركة"‪ ،‬يد المام الشيعي آية ال الخميني‪ ،‬قال‪ :‬لقد رأيت في وجهه صورة عمر بن الخطاب‬
‫رضي ال عنه‪ ،‬فلو أن مثل هؤلء القوم حكموا بلد المسلمين فماذا ستكون النتيجة؟‪ ،‬النتيجة‬
‫أنهم سيسلمون رقابنا إلى إمامهم الكبر وسيدهم العظم الخميني فيفعل بأهل السنة العاجيب‪،‬‬
‫كما صنع أستاذه وسيده ابن العلقمي نصير الدين الطوسي في أهل بغداد عندما فتح بغداد‬
‫لهولكو فاستباح دماء الناس وأعراضهم حتى قتل أكثر من مليون شخص‪.‬‬
‫(‪" - )1‬خلق أفعال العباد" للمام البخاري ‪.54 ،53‬‬
‫قدر الموحدين‬
‫إني أعتقد أن الفضل اللهي بدولة السلم الناصعة‪ ،‬القائمة على التوحيد الصافي والتباع‬
‫المجرد ل لن يصيب ‪ -‬إن شاء ال تعالى ‪ -‬إل أهله‪ ،‬ولكن بشرط (وشرط أكيد) أن ل‬
‫يضعفوا‪ ،‬ول يتنازلوا عن شيء من السنة والدين مقابل مصالح موهومة‪ ،‬أو من أجل هم‬
‫التجميع والتكثير‪ ،‬أو بسبب طول الطريق وكثرة المعوقات‪.‬‬

‫‪587‬‬
‫نعم يا أهل التوحيد والجهاد لقد ضاقت بكم السبل وقل الناصر وكثر الخصوم فل تغفلوا عن‬
‫باب ال المفتوح لكم في كل حين‪ ،‬وهو أوسع البواب وأرحمها وأرحبها‪.‬‬
‫نعم يا أهل الحق لم نصل بعد إلى أن ننشر بالمناشير‪ ،‬ولم نصل إلى أن نقول بل نصرخ‪ :‬متى‬
‫نصر ال؟!!‪.‬‬
‫نعم يا أهل التوحيد والجهاد أئمتنا يسجنون ويقتلون ويقتنصون لكنها ضريبة الطريق‪ ،‬وحتمية‬
‫السنن‪.‬‬
‫نعم يا أهل التوحيد والجهاد عمر عبد الرحمن يسجن ويقيد‪ ،‬وأصحاب العمائم النخرة يلهون‬
‫ويلعبون ويتحدثون أمام الطواغيت عن فضائلهم التي لم تكتشفها الشعوب إلى ا لن‪.‬‬
‫نعم يا أهل التوحيد والجهاد لقد رماكم الناس عن قوس واحدة‪ ،‬وتكالبت عليكم قوى الشرق‬
‫والغرب‪ ،‬وتبرأ منكم أهل البدعة والفرقة والشقاق‪ ،‬لكنها إرهاصات النصر إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫فإياكم والوهن والتبديل والتغيير‪ ،‬وإياكم ثم إياكم أن يأتيكم الموت وقد بدلتم وغيرتم‪.‬‬
‫أليس من سننية النصر أن يفترق الناس إلى فريقين‪ ،‬وينقسم الناس إلى معسكرين‪ :‬معسكر إيمان‬
‫ل نفاق فيه ومعسكر كفر ل إيمان فيه؟ فكيف يحصل هذا بدون محنة وبلء وعذاب ومشقة؟‬
‫لكن اعلموا أن أهل البدعة والضللة وإن ملكوا الموال والمناصب‪ ،‬وإن سارت بأسمائهم‬
‫الركبان‪ ،‬وإن فتحت لهم السدود والحدود فإن ذل المعصية والبدعة مضروب على جباههم‪،‬‬
‫معلق على صدورهم‪ ،‬فها هو الطاغوت يتلعب بهم‪ ،‬ويلهو الشيطان لهم‪ ،‬ويدحرجهم كما تدحرج‬
‫الكرة‪ ،‬فكفى بذلك لك عبرة‪ ،‬فإياك أن تمر بك اليات دون نظر وعبرة‪{ :‬إن في خلق السماوات‬
‫والرض واختلف الليل والنهار ليات لولي اللباب الذين يذكرون ال قياما وقعودا وعلى‬
‫جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والرض‪ ،‬ربنا ما خلقت هذا باطل سبحانك فقنا عذاب‬
‫النار}‪.‬‬
‫واحذروا من زمزمة القراء‪ ،‬وكثرة المتشدقين‪ ،‬قال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬أكثر منافقي أمتي‬
‫قراؤها))‪ ،‬وعليك بالسنة والثر والرجوع إلى فهم السلف ومنهجهم فهم أعلم الناس بدين ال‬
‫تعالى‪.‬‬
‫معوقات الدعوة‪ :‬المثالية والواقعية‬

‫‪588‬‬
‫إن من بين المعوقات التي تمنع الكثير من طيبي القلوب وحسني النية من متابعة تأييدهم‬
‫ومشاركتهم للعمال المؤثرة في حياة البشر هو أنهم يعيشون حالة من التسامي مع الفكار‬
‫والمبادئ‪ ،‬ويشعرون بجمالها وهي تحاور على الورق أو تناقش في الندوات والجلسات الممتعة‪،‬‬
‫لكنها حين تخرج من حيز القول والعتقاد إلى عالم التطبيق والحقيقة فإنهم يصابون بالصدمة‬
‫النفسية إذ لم يكونوا يربطون بين جمال الفكار المجردة وبين صورتها الواقعية والعملية‪،‬‬
‫وهؤلء على الدوام يخسرون التأثير وكذلك يكثرون اللوم والتقريع‪.‬‬
‫حين يأتي شيخ ويتحدث عن حكمة وعظمة التشريع في حد الزاني المحصن‪ ،‬وأن الرجل أو‬
‫المرأة يشدان إلى ثيابهما ويوضعان في وسط الناس‪ ،‬وتحضر لهما الحجارة فيقوم الناس برمي‬
‫الزاني والزانية بهذه الحجارة حتى يتم موتهما‪ ،‬هذا المنظر بكل انفعالته الواقعية‪ ،‬وبكل ما‬
‫يحمل من مدلولت وتأثيرات على النفس‪ ،‬إذ عليك أن تتصور صراخ المحدودين ونزيف‬
‫الدماء‪ ،‬وصياح الناس‪ ،‬وتفاوت النفوس في رؤيتها لهذا الحدث‪ ،‬فهذا محب للمرجوم فهو يبكي‬
‫على حالته‪ ،‬وقد تضطرب نفسه فيصاب بما يصيب أمثاله إن كان من ضعاف النفوس في موقفه‬
‫أمام هذه الحداث فقد يشهق شهقة‪ ،‬وقد يرتفع عويله وصراخه فيقع منه الهذيان‪ ،‬وقد يجتمع‬
‫أطفال الزانية أو أولد الزاني فيبكون فقيدهم‪ ،‬مثل هذه الصور قد ل يستطيع الشيخ الذي يتحدث‬
‫عن عظمة التشريع وحكمته أن يواصل النظر إلى الحدث حتى نهايته‪ ،‬وقد ل يطيق رؤية الدم‬
‫وهو يخرج كالنافورة من رأس المرجومة فيصاب بالغثيان أو يخر صريع الغيبوبة‪ ،‬فهناك فارق‬
‫كبير بين جمال الفكار وبين واقعيتها‪.‬‬
‫حين يتحدث الناس عن الجهاد في سبيل ال تعالى‪ ،‬فهذه كلمة جميلة وجميلة جدا ‪ -‬الجهاد في‬
‫سبيل ال تعالى ‪ -‬ولكن واقع الجهاد ليس جميل كله في كل أحداثه‪ ،‬فالجهاد ليس هو هذه‬
‫الخطب الرنانة‪ ،‬وليس هو تلك الكلمات الجميلة‪ ،‬وليس كله غنائم وسبايا‪ ،‬وليس كله نصر‬
‫مؤزر‪ ،‬وليس كله خطب نارية‪ ،‬بل فيه موت الحبيب‪ ،‬وفيه جرح الصديق‪ ،‬وفيه تطاير الشلء‬
‫وفقد المال‪ ،‬وفقد المعين‪ ،‬وبمعنى آخر فيه جانب من المشقة‪ ،‬بل المشقة العظيمة‪ ،‬ثم فيه اختلط‬
‫الجنود وحصول الخصومات بين الناس‪ ،‬فهذا ضرب هذا‪ ،‬وهذا خاصم هذا‪ ،‬وهذا شط على‬
‫هذا‪ ،‬فهو حركة بشرية‪ ،‬وفيه أخطاء واجتهادات‪ ،‬وتأويلت بعضها يستساغ وبعضها ليس كذلك‪،‬‬
‫فهناك حد فاصل بين جمال الفكرة وسموها وبين واقعيتها‪.‬‬

‫‪589‬‬
‫لو أخذنا تصور الناس وخيالهم لواقع الدولة السلمية‪ ،‬لوجدنا أنها أقرب ما تكون في أذهانهم‬
‫إلى عالم الحلم‪ ،‬عالم مليء بالصور الجميلة‪ ،‬والفراشات الطائرة‪ ،‬واللوان الزاهية‪ ،‬والسماء‬
‫تنزل غيثها على الدوام‪ ،‬والضرع مليء في كل حين‪ ،‬والعداء يخافون جانبنا لما يعلمون من‬
‫نزول الملئكة معنا في القتال‪ ،‬فهم يتصورون دولة السلم التي ل فقير فيها‪ ،‬ول مريض فيها‬
‫وكل من طلب شيئا فهو بين يديه‪ ،‬ولكن لو نظرنا لدولة النبي صلى ال عليه وسلم لما وجدنا‬
‫هذه الجنة‪ ،‬بل لوجدنا أن معاناة الصحابة رضي ال عنهم في دولة السلم في المدينة أشد من‬
‫معاناتهم وهم في مكة‪.‬‬
‫فهل حصل للصحابة رضي ال عنهم في مكة ما حصل لهم في غزوة الخندق {إذ جاؤوكم من‬
‫فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت البصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بال الظنونا هنالك‬
‫ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزال شديدا} في دولة السلم زاغت البصار وبلغت القلوب‬
‫الحناجر‪ ،‬وابتلء كالزلزال بل هو الزلزال نفسه‪.‬‬
‫قارن بين هذه الصورة وبين الصورة التي يحاول رسمها مشايخ هذا الزمان لدولة السلم‪ ،‬فهم‬
‫يعدون الناس بالدولة التي ل خوف فيها ول مشقة‪ ،‬بيت لكل إنسان‪ ،‬طعام لكل بطن‪ ،‬والناس‬
‫يدخلون في السلم لمجرد رؤيتهم لنا ولدولتنا‪ ،‬وعلى هذا فالناس يأتون إلينا (إلى جماعتنا) لن‬
‫في أذهانهم أننا الحزب الذي سيؤمن لهم من النعيم الدنيوي أكثر مما تؤمنه الحزاب الخرى‪.‬‬
‫لكن لو قلت لكم‪ :‬إن ثلثة من الخلفاء الراشدين ماتوا قتل‪ ،‬وعلى يد أناس لم يحتاجوا لكثير من‬
‫التخطيط لقتلهم‪:‬‬
‫‪ -‬فعمر بن الخطاب رضي ال عنه قتله عدو ال أبو لؤلؤة المجوسي وهو قائم في صلة‬
‫الفجر‪ ،‬بين يدي شيوخ المسلمين وعلمائهم وقادتهم ورؤسائهم‪.‬‬
‫‪ -‬عثمان بن عفان رضي ال تعالى عنه انطلق الهوجاء وسيطروا على المدينة حتى دخلوا وهو‬
‫يقرأ القرآن على الخليفة الصائم رضي ال عنه وذبحوه في بيته وهو يقرأ القرآن‪.‬‬
‫‪ -‬علي بن أبي طالب رضي ال تعالى عنه‪ ،‬قتل في وسط المسجد وهو قائم يدعو الناس إلى‬
‫صلة الفجر‪ ،‬وبين طائفة‪ ،‬يأتيه ابن ملجم الخارجي فيضرب هامته بالسيف بتصرف فردي‬
‫وباتفاق مع آخرين على قتل معاوية وابن العاص‪ ،‬وهذا عصر الخلفة الراشدة وما أدراك ما‬
‫بعده ولذلك علينا أن نقول‪ :‬إن الذين يتصورون عالم السلم العملي (حركة المرء المسلم في‬
‫الحياة) هو عالم ل يمت إلى عالم البشر‪ ،‬وهو خارج عن حركة الحياة برمتها هؤلء واهمون‪،‬‬

‫‪590‬‬
‫ويعيشون توهمات وخيالت فبمجرد اصطدامهم بالصورة الحقيقية لهذه الحياة ستجدهم ينقلبون‬
‫على أنفسهم‪ ،‬يعلنون اعتزالهم وعدم قدرتهم على تحمل هذه الحياة‪.‬‬
‫إن العيش مع الكتب وبين الكتب‪ ،‬ومع الفكار والقلم والورق ليس هو السلم إنما السلم هو‬
‫حركة الحياة‪ ،‬حركة البشر (النسان) بما فيه من صواب وخطأ‪ ،‬فالصواب يقوى ويدعم‪،‬‬
‫والخطأ يقوم ويصلح‪ ،‬فعالم السلم العملي فيه الصواب وفيه الظلم‪ ،‬فيه الصدق وفيه الكذب‪،‬‬
‫وكل له مقامه في السلم‪.‬‬
‫السلم يعترف بوجود الخطأ كونا‪ ،‬ول يلغيه في الخلق والوجود ولذلك أنزل ال تعالى الحدود‬
‫وأنزل العقوبات‪ ،‬وأنزل الحكام‪ ،‬والخطاب الرباني في ذلك كله للمجتمع المسلم الموحد المجاهد‬
‫وليس هو خطاب لغير المسلمين‪.‬‬
‫على الرغم أن عصر الفتنة بين علي رضي ال عنه وخصومه (عائشة ومعاوية رضي ال‬
‫عنهما) هو عصر نكل فيه أصحابه إلى ال تعالى‪ ،‬ول نقول فيه إل ما جاءنا عن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم من أحكامه كقوله صلى ال عليه وسلم لعمار‪( :‬تقتلك الفئة الباغية) وغيره‬
‫من الحاديث‪ ،‬لكن لو حاولنا استطلع ورؤية الواقع عن قرب (وهو عصر مبكر وقريب من‬
‫القرون الخيرة بل هو منها) لرأينا هول‪ ،‬ولرأينا من المور التي تشيب لهولها الطفال‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫‪ - 1‬الخوارج (أربعة آلف رجل مقاتل قرروا قتال علي رضي ال عنه وثلثة آلف في الكوفة‬
‫قرروا عدم قتاله ول القتال معه) طلب منهم علي رضي ال عنه أن (نمضي إلى قتال عدونا‬
‫وعدوكم معاوية)‪ ،‬لكنهم يرفضون حتى يعلن اعترافه بالكفر والتوبة عنه‪ ،‬فيقيم لهم علي رضي‬
‫ال عنه ملحمة في النهروان بعد قتلهم عبد ال بن خـباب بن الرت وزوجته الحامل‪ ،‬فقتلهم‬
‫ولم ينج منهم سـوى (‪ )400‬رجل جريح‪.‬‬
‫‪ - 2‬معركة الجمل في الخريبة قرب البصرة (حسب رواية عمر بن شبة) وهي معركة بين‬
‫مسلمين بل بين القبائل نفسها (مضر ضد مضر وربيعة ضد ربيعة ويمن ضد يمن ) إخوان في‬
‫الدين والمنهج والنسب‪ ،‬وقتل فيها طلحة والزبير (المبشرين بالجنة)‪.‬‬
‫‪ - 3‬معركة صفين بين على ومعاوية رضي ال عنهما‪ ،‬معركة حصل فيها مجزرة مع أن‬
‫بعض الناس حرضوا على الصلح وقالوا‪" :‬من لثغور الشام بعد أهل الشام؟ من لثغور العراق‬
‫بعد هلك أهل العراق‪ ،‬من للذراري والنساء‪ ،‬أل تذكرون الرحام؟" وبعيدا عن ضعف‬
‫الروايات التي ذكرت الهول في القتلى لكن بل شك أن القتل كان عظيما‪.‬‬

‫‪591‬‬
‫‪" - 4‬ردة بعض النصارى بعد إسلمهم حتى قالوا‪ :‬وال لديننا الذي خرجنا منه خير من دين‬
‫هؤلء الذين هم عليه‪ ،‬ما ينهاهم دينهم عن سفك الدماء وإخافة السبيل وأخذ الموال‪( .‬الطبري)‬
‫وقاتلهم علي على الردة‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك كله عام الجماعة‪ ،‬ثم حرب عبد ال بن الزبير‪ ،‬ثم‪ ...‬ثم‪...‬‬
‫فهذا جانب من حركة النسان (أي النسان) ل ينبغي أن ينسى أو توضع عليه اليدي لنفهم‬
‫الناس أن حياة المسلم كلها قيام ليل‪ ،‬وصيام نهار‪ ،‬وعفو متكرر‪ ،‬وعطاء متكرر‪ ،‬وخير دائم‬
‫حتى اصطبغت صورة الولي في خيال النسان المسلم على هيئة الغاز المثالي‪ ،‬الذي ل وجود‬
‫له‪)1( .‬‬
‫الولي هو إنسان‪ ..‬وهو‪ ..‬بشر‪.‬‬
‫المجاهد هو إنسان‪ ..‬وهو‪ ..‬بشر‪.‬‬
‫أما تصوير صورة السلم العملي وعالم السلم والمسلمين على صورة أفلم الكرتون أو عالم‬
‫الجن والملئكة فهي صورة تهين السلم أكثر مما ترفعه‪.‬‬
‫إننا نقول هذا لولئك القوم الذين يعطلون عظائم المور ويوقفونها لمجرد بعض المور‬
‫الصغيرة‪ ،‬فحساسيتهم أمام الخطاء تجعلهم يضعون العصبة على عيونهم لحجبها عن رؤية‬
‫الخير والنعمة والفضل اللهي‪.‬‬
‫إن الجهاد في سبيل ال تعالى حركة بشرية‪ ،‬وحركة من أجل السلطان والملك‪ ،‬ففيه تتداخل كل‬
‫انفعالت النسان‪ ،‬ومن دعا للسيف أو حرض على السيف‪ ،‬فل ينتظر أن يناقشه الناس‬
‫ويحاربوه بالخطب الرنانة والورق الصقيل‪ ،‬بل عليه أن يحضر نفسه ليذوق حر السيف‪ ،‬هذه‬
‫هي سنة ال تعالى‪ ،‬وللذكر فإن الخلفاء الثلثة (الشهداء) ما ماتوا بيد الكفار بل ماتوا بيد‬
‫مسلمين (فسقة‪ ،‬مبتدعين ) فأبو لؤلؤة الفارسي ليس من أهل الشرك (ومحاولة إثبات مجوسيته‬
‫دونها خرط القتاد وإن نسب إليها) وأبو ملجم من الخوارج (و لم يكفر أوائلهم إنما الخلف فيمن‬
‫أتى بعدهم)‪ ،‬والثائرون على عثمان (بعض قادتهم صار من قادة جيش علي رضي ال عنه)‪.‬‬
‫ولذلك من وضع رجله ويده في هذا السبيل‪ ،‬سبيل إعادة سلطان ال تعالى على الرض بالجهاد‬
‫في سبيل ال تعالى‪ ،‬ووقف نفسه للتحريض ضد الطواغيت‪ ،‬وإزالة عروشهم‪ ،‬ودك طغيانهم‪،‬‬
‫فهذا رجل نهايته معلومة‪ ،‬وإن لم يحضر نفسه لذلك فهو رجل مستريح (أي ل عقل له) فهذا‬
‫طريق نهايته إما برد العدل أو حر السيف‪.‬‬

‫‪592‬‬
‫نعم يسعك أن تنشئ مجلة أو نشرة لتكون حزبا معارضا‪ ،‬وحزبا ترقيعيا تطلب الصلح‬
‫وتنتظر الفرج بإخراج المساجين‪ ،‬أو موت ملك ليأتي غيره فربما يكون خيرا منه‪ ،‬فحينئذ أمرك‬
‫سهل وهين‪ ،‬فأنت رجل سياسة وكلمة‪ ،‬وملفك عندهم ل يعدو أن تكون معارضا محترما‪ ،‬أي‬
‫تحترم حدود المعارضة السياسية‪.‬‬
‫أما وقد قلت‪ :‬الجهاد والقتال‪ ،‬فما عليك إل أن ترتقب‪ ،‬فلست أنت بخير من أسلفك الخيار‪،‬‬
‫ولست أنت بخير من أقرانك‪ ،‬فليس عبد ال عزام عنك ببعيد‪ ،‬وليس الشيخ عمر عبد الرحمن‬
‫عنك ببعيد‪ ،‬وليس الشيخ أبو طلل القاسمي عنك ببعيد‪ ،‬وليس الشيخ أنور شعبان عنك ببعيد‪،‬‬
‫وليس أبو عبد ال أحمد عنك ببعيد‪ ،‬وليس سفر الحوالي وسلمان العودة عنك ببعيد وليس‪...‬‬
‫القائمة طويلة يا عبد ال ويكفيك هذا‪.‬‬
‫فهذا أمر تشيب له الولدان‪ ،‬وليس له إل الرجال‪ ،‬ففكر كثيرا قبل أن تخوض‪ ،‬وإياك أن تقول‪:‬‬
‫لقد ورطوني‪ ،‬فما ورطك أحد‪ ،‬فنحن لم نضمن لك حصول الوزارة والمنصب‪ ،‬ولم نضمن لك‬
‫ملئكة تجاهد معك ل يخطئون‪ ،‬ولم نضمن لك مسدسا ينزل من السماء يعرف المؤمن من‬
‫الكافر والسني من البدعي‪ ،‬ولم نضمن لك نبيا قائدا يوحى إليه‪ ،‬فقد نقول لك اليوم قول ونرجع‬
‫عنه غدا‪ ،‬ونقول لك‪ :‬هذا ما رأينا‪ ،‬وما شهدنا إل بما علمنا وما كنا للغيب حافظين‪ ،‬فإن أردت‬
‫(الغاز المثالي) اصعد إلى القمر‪ ،‬فإن أعجزك فالكثير من الناس قد سلكوا سبيل السلمة وجلسوا‬
‫كالعصافير مع أبنائهم في أعشاشهم‪ ،‬يأكلون ويشربون ويرقبون الحياة من وراء زجاج بيوتهم‪،‬‬
‫هذا في وقت المدافع‪ ،‬فإذا سكنت سيخرجون علينا بمواعظهم العظيمة ليقولوا لنا‪ :‬لقد قلنا‪ ...‬وقد‬
‫توقعنا‪ ...‬وقد أنذرنا‪ ...‬وقد‪ ..‬وقد‪ ...‬ألسنة طويلة نسأل ال تعالى قطعها‪.‬‬
‫{سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير}‪.‬‬
‫إن الكثير من المقعدين يتقنون نقد لعبي كرة القدم‪ ،‬ولكنهم أصحاب أصوات عالية في قيادة‬
‫المعركة على كرسي النظارة‪ ،‬وهم يعرقون ويتصببون عرقا وتبح أصواتهم لكنهم ليس لهم من‬
‫اللعب إل الوصف‪.‬‬
‫(‪ - )1‬انظر "المتهاجرون"‪ ،‬أي من مات من الصحابة والتابعين وهو مهاجر لصاحبه حتى مات‬
‫في المعارف لبن قتيبة ص ‪.550‬‬
‫الجهاد والجتهاد بين الظن واليقين‬

‫‪593‬‬
‫قال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬إنكم تختصمون لدي ولعل بعضكم ألحن بحجته من غيره فمن‬
‫قضيت له بشيء من حق أخيه فل يأخذه إنما أقطع له قطعة من النار))‪.‬‬
‫اعلم يا عبد ال أن مبنى أعمال البشر وأفعالهم قائمة على الظن وغلبته‪ ،‬وليست على اليقين‬
‫والقطع‪ ،‬لن أعمالهم قائمة على الجتهاد‪ ،‬والجتهاد كما هو معروف في كتب الصول ل يفيد‬
‫إل الظن‪ ،‬وقد تعبدنا ال تعالى بالجتهاد ‪ -‬كما قال الشافعي ‪ -‬مع أنه غير مأمون الخطأ‪ ،‬ومن‬
‫معوقات الطريق عند حسني النية وطيبي القلب أنهم يتركون العمال مخافة الخطأ‪ ،‬وهذا منتهى‬
‫السلبية والعجز‪ ،‬فها أنت ترى رسول ال صلى ال عليه وسلم في الحديث المتقدم بين احتمال‬
‫وقوع الخطأ لعارض من العوارض‪ ،‬ولكن هذا لم يمنعه من القضاء وفض الخصومات بحسب‬
‫الظاهر والجتهاد‪ ،‬بل إنه صلى ال عليه وسلم اجتهد في أمور ثم ثبت أنها على خلف‬
‫الصواب كما اجتهد في أسارى بدر من المشركين ثم نزل العتاب اللهي {لول كتاب من ال‬
‫سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} (النفال)‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬لو عذبنا في هذا‬
‫المر ما نجا غيرك يا عمر)) ‪ )1( ،‬والجهاد عمل من أعمال النسان المسلم‪ ،‬فهو يقارب‬
‫ويسدد ويبغي وجه ال تعالى‪ ،‬ويجتهد بحسب وسعه في إصابة الحق‪ ،‬فإن أصاب فله أجران‬
‫وإن أخطأ فله أجر‪ ،‬لن التكليف ل يقع إل بالظن الغالب كما قال أهل الصول‪ ،‬وقد نقل عن‬
‫الشافعي رحمه ال تعالى قوله‪ :‬في كل واقعة ظاهر وإحاطة‪ ،‬ونحن ما كلفنا بالحاطة‪)2( .‬‬
‫فمن هذا الذي يستطيع أن يحيط بالمر من جميع جوانبه؟!! ويعلم أصله وفصله ومآله؟!! ولذلك‬
‫يكفي المسلم أن يعمل بالظاهر‪ ،‬والظاهر يتوصل إليه بالنظر في المارة‪ ،‬والمارة قد يدخلها‬
‫العطب والتشويش أو التعظيم والتحسين (ألحن بحجته)‪ ،‬ولكن هذا (القيد) المحتمل ل يمنع‬
‫العامل من العمل وإل لبطلت الشريعة وتعطلت الحدود‪ ،‬وترك الناس دينهم وأعمالهم‪.‬‬
‫ثم اعلم أن الكثير من الحكام الشرعية مبنية على غلبة الظن ل على اليقين‪ ،‬لن مبناها على‬
‫السنة‪ ،‬وثبوت السنة يتم باطمئنان المسلم لثبوت هذا الحديث عن طريق صدق راويه وضبطه‪،‬‬
‫وهي أمور نسبية ل قطعية‪ ،‬فثبت أن فروع الشريعة ثبتت بغلبة الظن‪ ،‬وتصحيح المسلم عمله‬
‫يكون بغلبة الظن‪ ،‬وقد عاب أهل العلم طلب اليقين في موطن الظن‪ ،‬واعتبروا أن هذا الفعل من‬
‫أسباب هلك الدين وفرط عقد الشريعة‪ ،‬وترك مهمات المور‪ ،‬قال الجويني في الغياثي‪ ،‬وهو‬
‫يتكلم في باب "المامة" و"السياسة"‪ :‬معظم مسائل المامة عرية من مسالك القطع‪ ،‬خلية عن‬
‫مدارك اليقين‪ )3( .‬ويقول‪ :‬كل ما لم يصادف فيه إجماعا اعتقدناه واقعة من أحكام الشرع‪،‬‬

‫‪594‬‬
‫عرضناه على مسالك الظنون وعرضناه على سائر الوقائع‪ ،‬وليست المامة من قواعد العقائد‬
‫(أي التي تتطلب اليقين) بل هي ولية عامة‪ ،‬وعبارة معظم القول في الولة والوليات العامة‬
‫والخاصة مظنونة في محل التوخي والتحري‪ .‬فقرة ‪ 72‬ونفسها في فقرة ‪ ،221‬حيث يقول‪:‬‬
‫"والذي يجب العتناء به تمييز المقطوع به عن المظنون‪ ،‬ومستند القطع الجماع‪ ،‬فما اتفق ذلك‬
‫فيه تعين في التباع‪ ،‬وما لم يصادف فيه إجماعا عرضناه على مسالك النظر‪ ،‬وأعملنا فيه‬
‫طرف المقاييس وأدرنا فيه سبل الجتهاد"‪ ،‬بل إن الجويني يعتبر أن الفقه هو التدرب على مآخذ‬
‫الظنون وإدارتها حتى يتبين لك الترجيح‪ .‬يقول‪" :‬أهم المطالب في الفقه التدرب على مآخذ‬
‫الظنون في مجال الحكام‪ ،‬وهذا هو الذي يسمى فقه النفس‪ ،‬وهو أنفس صفات علماء الشريعة"‪،‬‬
‫والجويني يعلق سلك المة وتجنبها منهج القتصاد بذلك‪ :‬والسبب الظاهر في ذلك‪ ،‬أن معظم‬
‫الخائضين في هذا الفن يبغون مسلك القطع في مجال الظن‪ ،‬ويخرجون عقدهم باتباع الهوى‪،‬‬
‫ويتهاوون بالغلو على موارد الردى‪ ،‬ويمرحون في تعاليل النفوس والمنى‪ )4( .‬نعم وال إن‬
‫هؤلء القوم يمرحون في تعاليل النفوس والمنى‪.‬‬
‫(‪ - )1‬الطبري في تفسيره وهو في صحيح مسلم رحمه ال تعالى‪.‬‬
‫(‪ - )2‬المحصول ‪.6/34‬‬
‫(‪ - )3‬فقرة ‪.96‬‬
‫(‪ - )4‬فقرة ‪.69‬‬
‫أصناف المكلفين‪ :‬سلوك العامل والخامل‬

‫لقد مارس بعض المسلمين عمليات جهادية‪ ،‬وسبل دعوية‪ ،‬وحيث لم تكتمل أسباب النجاح لعجز‬
‫أو كسل فتقدم منهم من تقدم إلى ربه‪ ،‬وراح إليه وهو مجاهد شهيد‪ ،‬وأصيب من أصيب فخرج‬
‫منها ناقص العضو إذ قدم بعض أجزائه إلى الخرة‪ ،‬وبعضهم خرج وهو شاكر لربه أن وفقه‬
‫لعمل الخيرات وصرف الوقت في الخير والجهاد‪ ،‬وبعضهم خرج يضرب كفا بكف وهو يبكي‬
‫على سنين عمره التي ضيعها ولم تثمر النتيجة التي حلم بها ومل بها جوانحه‪ ،‬وخرج بنفس‬
‫مبتورة تشك في كل شيء‪ ،‬وتشك في كل طريق‪ ،‬وساعده في الوصول لهذه النفس المبتورة‬
‫دعاة الرجاف وأعلم الهزيمة والخذلن حيث استقر في ذهنه قولهم‪ ،‬وانطبعت في قلبه شبههم‪:‬‬
‫هاهي تجربتكم الجهادية في مكان كذا وكذا‪ ،‬وهاهي نتائجها‪ ،‬فانظروا إليها‪ ،‬أما تعلمتم؟ أما‬

‫‪595‬‬
‫اتعظتم؟!!‪ ،‬فيقع في التردد والحيرة والشك وحينئذ يكون كما قال الجويني‪" :‬ويمرحون في تعاليل‬
‫النفوس والمنى"‪ ،‬أي أنه يقف جامدا بل حركة ول نشاط يعلل نفسه ويمنيها بأن يقع فيها القطع‬
‫اليقين على شيء أو عمل أو حركة يجزم بنتيجتها‪ ،‬ول يأمن ضياعها أو تغيرها‪ ،‬هؤلء نراهم‬
‫ل يثقون إل بأنفسهم‪ ،‬ويربطون خير المة بقيادتهم‪ ،‬فإن سبقهم في غيرهم إلى عمل أو حركة‬
‫ذهبوا يرفعون راية التشكيك‪ ،‬ويحرضون قلع التخذيل ويصيحون‪ :‬رويدكم فما هذا الذي ترونه‬
‫إل كسابقته وقد جربنا هذه الحركات وهذه العمال فلم تعد تخدعنا‪ ،‬وقد جربنا وجربنا‪ ،‬وإني‬
‫لحس في هذه النفوس النفاق من وجهين‪:‬‬
‫الوجه الول‪ :‬أنهم ل يرون الخير إل في أنفسهم‪ ،‬ول يثقون إل بذواتهم‪ ،‬إذ امتلت أنفسهم‬
‫برؤية الذات وتعظيمها وهذا منتهى النفاق‪.‬‬
‫والوجه الثاني‪ :‬أنك تحس في أنفسهم تمنى وقوع الشر الذي توقعوه‪ ،‬ويرغبون من كل جوانحهم‬
‫أن ل يقع الخير الذي تمناه غيرهم‪ ،‬فهم يرجون الشر للمة لتصح توقعاتهم وما أساؤوا فيه‬
‫الظن‪.‬‬
‫وهناك قسم آخر من البشر‪ ،‬يكيل بمكيالين‪ ،‬ويزن بميزانين‪ :‬ميزان ما يقوم به ويؤيده‪ ،‬وميزان‬
‫ما يقوم به غيره أو يؤيده غيره‪( ،‬والتأييد جانب نفسي أكثر منه شرعي مبني على دليل)‪ :‬إن‬
‫كان ما يقوم به ويؤيده فهو ل يحس إل بالجوانب الحسنة‪ ،‬ول يرى إل الجمال وعينه عن‬
‫الخطاء معطوبة وكليلة‪ ،‬فهو يحسن كل ما يقع ويسبغ الشرعية على كل حدث‪ ،‬ويناور ليثبت‬
‫مراده‪ ،‬وإن كان الخر فهو على العكس تماما‪ :‬تشكيك دائم ونقد دائم‪ ،‬وعيوب ظاهرة‪ :‬وعين‬
‫الرضى عن كل عيب كليلة‪...‬‬
‫والجانب الصحيح أن يكون الرجل منصفا في الحب ومنصفا في البغضاء‪ :‬أحبب حبيبك هونا‬
‫ما‪ ،‬عسى أن يكون بغيضك يوما ما‪ ،‬وابغض بغيضك هونا ما‪ ،‬عسى أن يكون حبيبك يوما ما‪.‬‬
‫لقد قاتل الناس مع الفغان وأحسنوا فيهم الظن إلى أبعد حد‪ ،‬فوقع بعض الخير وتخلف بعضه‬
‫فماذا كان؟‪.‬‬
‫لقد قاتل بعضهم مع عزت بيجوفيتش في البوسنة‪ ،‬حيث جالسوه فرأوا فيه المسلم التقي‪ ،‬وظنوا‬
‫فيه من الخير إلى أبعد حد‪ ،‬فهل كان أمرهم مبنيا على الظن أم على اليقين؟ فوقع بعض الخير‬
‫وتخلف أكثره فماذا كان؟‪.‬‬

‫‪596‬‬
‫لقد جاهد من جاهد‪ ،‬واجتهد من اجتهد‪ ،‬وهاجر من هاجر‪ ،‬وابتلي من ابتلي‪ ،‬وتعلم من تعلم‪،‬‬
‫واستشهد من استشهد‪ ،‬فهل هذا مما يوسف عليه أم أن هذه هي الحياة التي ينبغي أن يعيشها أهل‬
‫السلم؟‪.‬‬
‫ثم اعلموا حفظكم ال أن حصول تمام ومنتهى النصر ل يقع دفعة واحدة‪ ،‬وإن النصر النهائي‬
‫هو محصلة نهائية لحركة حياة جهادية كاملة‪ ،‬فيها النصر‪ ،‬وفيها الهزيمة‪ ،‬فهل فتح مكة كان‬
‫بين ليلة وضحاها؟ أم أنه وقع بعد سنين من المعاناة‪ :‬نصر في بدر‪ ،‬وهزيمة في أحد‪ ،‬فتن وآلم‬
‫وملحم في الخندق‪ ،‬مناورات عسكرية ودعوية في الحديبية‪ ،‬ثم وقع الفضل اللهي بفتح مكة‪،‬‬
‫لكنه بعد مقدمات كثيرة‪ ،‬فهل الوصول إلى القمة يتم بقفزة واحدة كما يفكر أهل التصوف‬
‫الفكري المعاصر من أصحاب نظرية العصا السحرية‪ :‬ضربة واحدة فإذا نحن في بلد السلم‬
‫وبلد العزة والهجرة‪ ،‬مالكم كيف تحكمون؟!!‪.‬‬
‫المسلم ل يعلم الغيب لكن إن قدر لبعضنا أن يعيش ويرى الثمرة النهائية وهي تسقط على‬
‫أصحاب الفضل اللهي سيدرك أنه ما من حركة قام بها أهل التوحيد والجهاد إل وكانت لبنة في‬
‫البناء النهائي‪{ :‬ولو كنت أعلم الغيب لستكثرت من الخير وما مسني السوء}‪.‬‬
‫لم يكن أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم يدركون أن صلح الحديبية فتح من ال‪ ،‬وهو‬
‫مقدمة فتح الفتوح مع وجود رسول ال صلى ال عليه وسلم معهم‪ ،‬ومع أنه هو الذي عقد العقد‪،‬‬
‫وأنشأ الصلح‪ ،‬إل أن نفوسهم لم تكن تحتمل هذه الواقعة‪ ،‬ولكن سبق علم ال علمهم‪ ،‬وكان ما‬
‫أراده ال لهم‪.‬‬
‫نحن على الطريق نسدد ونقارب‪ :‬نعمل ونصبر ونبقى في مواقعنا ل نتزحزح عنها حتى يأتينا‬
‫أمر ال ولن نعتذر عن عمل بنيناه على الجتهاد‪ ،‬ورجونا خيره‪ ،‬وحصول ثمرته الكلية‪ ،‬فإن‬
‫وقع ما أملنا فهذا فضل ال وحده‪ ،‬وإن كانت الخرى‪ :‬فيا ال يا صمد‪ ،‬يا عالم السر وأخفى ويا‬
‫من بيده ملكوت السماوات والرض‪ ،‬أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تقبضني إليك‪،‬‬
‫فل أرى ول أسمع ضحكات التشفي والغرور‪.‬‬
‫فلسفة العجز قديما وحديثا‬

‫كثيرة هي المرات التي يتخلف الناس فيها عن الحق بسبب الهوى وشدة تكاليف الثبات على‬
‫الطريق‪ ،‬ولكن قليل هي الحالت التي يعترف فيها هذا المتخلف بهذا السبب‪ ،‬فإن المتخلفين لبد‬

‫‪597‬‬
‫لهم من ستر هذا الهوى وهذا الضعف بصور من التبريرات التي يحاولون بها إقناع الناس أن‬
‫تخلفهم له من السباب المقنعة والموضوعية‪ ،‬فأول ما يفعلونه أنهم يذهبون إلى الحق لشتمه‬
‫وتزوير حقيقته‪ ،‬أو لتعظيم بعض الجوانب السلبية على الحقيقة الظاهرة‪ ،‬والقرآن الكريم كشف‬
‫لنا هذه الساليب خير كشف‪ ،‬وعراها لنا لنكون على بصيرة ونور من هذه المكائد النفسية‪،‬‬
‫وليعلمنا أن محاولتهم هذه مكشوفة غير مستورة‪ ،‬وأنها وإن تقنعت بقناع حاجب‪ ،‬فهو في‬
‫الحقيقة قناع زائف يشف ما تحته‪ ،‬ويبين ماوراءه لمن تمعن فيه ولم تغره الصور الظاهرة‪.‬‬
‫في قوله تعالى عن المنافقين في أول سورة نقرؤها فيها ذكرهم‪{ :‬وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن‬
‫الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء أل إنهم هم السفهاء ولكن ل يعلمون}‪.‬‬
‫هذه الية عظيمة في كشف النفاق والمنافقين‪ ،‬وطريقتهم في التنفير من الحق‪ ،‬وهي كلما سمعتها‬
‫أو قرأتها تمثل لي أولئك القوم الذين مروا على مدار التاريخ السلمي وإلى يومنا هذا في‬
‫ادعاء الفهم الثاقب‪ ،‬والعقل السديد‪ ،‬والدراك العظيم للقضايا التي تطرح أو تعالج‪ ،‬وهم مع هذه‬
‫الدعوى ينبزون الثريين والسلفيين بضيق الفق‪ ،‬وقلة المعرفة‪ ،‬وسذاجة الفهم‪ ،‬وبسبب هذا‬
‫ينفرون عن الحق بسبب سهولته‪ ،‬ويتعاظمون نفاقا عن الحق بسبب أنه حق عملي له تأثيره على‬
‫الواقع‪.‬‬
‫في التاريخ وجد الفلسفة الذين يحللون الخبر ول يصنعونه‪ ،‬ويدرسون التاريخ وهم خارج‬
‫حركته‪ ،‬ولهذا قلما ما نجد فيلسوفا استطاع أن يكون قائدا عسكريا‪ ،‬أو إداريا ناجحا أو سياسيا‬
‫خبيرا‪ ،‬حتى صار في عرف الدارسين قولهم‪ :‬الفيلسوف ل يصلح للسياسة‪ ،‬وكذا ل يصلح‬
‫للقيادة فنشأت ثنائية الفيلسوف والقائد‪ ،‬والفيلسوف والداري‪ ،‬والفيلسوف والسياسي‪.‬‬
‫والسبب كما هو واضح أن الفيلسوف يعيش أوهام عقله‪ ،‬ويحلق بأجنحة الفكر فوق السحاب‪ ،‬ول‬
‫يتقن السير على طريقة البشر فوق الرض‪.‬‬
‫هذه ثنائية توجد في عالم البشر والناس‪ ،‬وكم شكى القادة العسكريون وكذا السياسيون من أوهام‬
‫الفلسفة والمفكرين‪.‬‬
‫في العالم السلمي تاريخا وحاضرا‪:‬‬
‫القرآن سماهم منافقين وقال لهم‪( :‬آمنوا كما آمن الناس}‪ ،‬وانظر إلى قوله تعالى‪( :‬الناس)‪ ،‬هو‬
‫اليمان على صورة واحدة وحقيقة واحدة يعيها الناس جميعا بفطرهم على حقيقة واحدة دون‬
‫تفاوت في أصلها‪ ،‬يا قوم آمنوا كما آمن الناس‪ ،‬فهذا هو الذي أرتضيه منكم‪ ،‬وهذا هو أمري‬

‫‪598‬‬
‫لكم‪ ،‬فل تغالوا‪ ،‬ول تتقعروا‪ ،‬ول تتعمقوا تعمقا ممقوتا‪ ،‬آمنوا كما آمن بلل‪ ،‬وكما آمن ياسر‪،‬‬
‫وكما آمن البدوي والحضري‪ ،‬فإن سألتم ما اليمان وما تعريفه وما حده‪ ،‬قال لكم ابتداء‪ :‬هو‬
‫شيء تعرفونه في أنفسكم فلماذا تسترونه‪ ،‬وهو شيء يلفح قلوبكم بحرارته فلماذا ل تعترفون‬
‫به؟‪.‬‬
‫وأنت أمام هذا تتذكر أمر ال تعالى لليهود‪( :‬إن ال يأمركم أن تذبحوا بقرة}‪.‬‬
‫فالمؤمن ل يتقعر‪ ،‬ول يداري ليستر الحقيقة‪ ،‬ول ينشغل بالحد عن المحدود‪ ،‬أي باللفظ عن‬
‫الحقيقة‪ ،‬ول بالسم عن المسمى‪ ،‬بل هو يفهم من القول أن يتحرك ليذبح بقرة‪ ،‬أما كون لفظ‬
‫الذبح له معنى خاص ووقع خاص وله شواهد في لغة الشعراء‪ ،‬فهذا ل يفكر فيه ابتداء‪ ،‬بل‬
‫يستقر في قلبه إرادة الحركة لتحقيق الفعل‪ :‬أن يذبح بقرة‪ .‬هكذا يتلقى المؤمن أمر ال تعالى‪،‬‬
‫يتلقاه ليعمل به‪ ،‬فإذا عمل به شعر بحلوة اليمان في قلبه‪ ،‬وازداد ألق العلم في نفسه‪ ،‬وفتح ال‬
‫عليه المعارف التي تؤيد صلته بال تعالى‪.‬‬
‫أما اليهود‪ ،‬من أهل السفسطة والجهالة‪ ،‬فكان وقع المر عليهم على صورة أخرى‪:‬‬
‫هذا أمر جميل‪ ،‬لكن ل بد أن نوقعه على طريقة ل تتلءم مع ما يفهمه (الناس)‪ ،‬فالساذجون هم‬
‫فقط من يفهم البقرة أنها البقرة‪ ،‬فهل كل بقرة تصلح لن تقدم لتنفيذ أمر ال‪ ،‬فتعالوا إذن نسأل‬
‫عن البقرة؟‪.‬‬
‫كان شان اليهود يوم ذاك أنهم يعيشون وبين يديهم نبي يوحى إليه‪ ،‬فصاروا يراوغون‬
‫ويحاورون حول صفة البقرة‪ ،‬لكن لنتخيل أمر أولئك اليهود في زمن ل يوجد فيه نبي‪.‬‬
‫قيل لهم‪{ :‬إن ال يأمركم أن تذبحوا بقرة}‪ ،‬فماذا سيقول أصحاب السفسطة (أو السفهاء كما‬
‫سماهم القرآن)‪ :‬قطعا سيجلسون أمام هذا المر محرفين ومؤولين لحقيقته لصرفه عن كونه‬
‫دافعا لهم للعمل والمتثال‪،‬كلما ابتعد ولكن المرء عن الحقيقة الولى التي تستقر في ذهنه ل بد‬
‫أن يزداد رهقا وتعبا‪ ،‬فلما زاد اليهود في السؤال ازداد ضيق المر عليهم {فذبحوها وما كادوا‬
‫يفعلون}‪.‬‬
‫قيل لهم‪ :‬آمنوا كما آمن الناس‪ ..‬قالوا‪ :‬أنؤمن كما آمن السفهاء‪.‬‬
‫هي كما ترى أخي في ال تقع على معنيين‪:‬‬
‫الول‪ :‬أنهم رفضوا اتباع الحق بسبب أن أهل الضعف والفقر والمسكنة قد سبقوهم إليه‪ ،‬فأنفت‬
‫نفوسهم الخبيثة أن يساووا بينها وبين أولئك القوم الذين أكرمهم ال تعالى بنور اليمان وبرد‬

‫‪599‬‬
‫اليقين‪ ،‬فرفضوا اليمان وتنكبوا عنه‪ ،‬وقد صدر منهم ما يدل على كبرهم هذا‪ ،‬وذلك أنهم طلبوا‬
‫من رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يجعل لهم يوما خاصا‪ ،‬أو مجلسا منفردا يحدثهم فيه عن‬
‫السلم واليمان‪ ،‬فلما هم ومال لهذا القول طمعا في هدايتهم قال ال تعالى له‪{ :‬واصبر نفسك‬
‫مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ول تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا‬
‫ول تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا وقل الحق من ربكم فمن شاء‬
‫فليؤمن ومن شاء فليكفر}‪ ،‬وهكذا سلب ال من الناس القدرة على أن يجعلوا للحق قيمة من عند‬
‫أنفسهم‪ ،‬بل الحق قوته تكمن في نفسه لنه من ال تعالى {وقل الحق من ربكم} فالحق ل تزداد‬
‫قوته بإقبالكم‪ ،‬ول تضعف قوته بإدباركم‪ ،‬الحق تكمن القوة فيه بسبب أنه من ال تعالى‪ ،‬وأنتم‬
‫الذين تنتفعون به وليس هو الذي ينتفع بكم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنهم استكثروا على أنفسهم أن يفهموا الحقيقة على صورتها الولى دون تأويل يبطل‬
‫حقيقته‪ ،‬فراحوا يشتمون الفهم الول والذي يعيه الناس جميعا بحجة أنه فهم ساذج‪ ،‬وطريقة ل‬
‫تليق بعقولهم العظيمة كما يزعمون‪ ،‬فلما انشغلوا بالتأويل المتعمق والتقعر الفاسد فاتهم نور‬
‫اليمان الذي ل يستقر في القلب ول يشعر به إل بعد القرار والتصديق‪ ،‬وحينئذ بدأ الشيطان‬
‫يأخذهم إلى شبهات العقول فأفسد عليهم عقولهم‪.‬‬
‫فالمعنى الول يدخل فيه أهل المناصب والموال ممن يأنفون عن الحق بسبب اتباع عوام الناس‬
‫له فهم أهل الشهوة‪ ،‬والمعنى الثاني يدخل فيه أهل السفسطة ودعاة التعمق والتفكر فهم أهل‬
‫الشبهة‪ ،‬وهم داخلون في التقرير الول‪{ :‬ومن الناس من يقول آمنا بال وباليوم الخر وما هم‬
‫بمؤمنين يخادعون ال والذين آمنوا وما يخدعون إل أنفسهم وما يشعرون}‪.‬‬
‫هكذا هي القضية‪ :‬قضية أقوام أعيتهم العمال‪ ،‬وأرهقهم التباع‪ ،‬فراحوا يزعمون العلو في‬
‫الدنيا مادة ومعنى‪ ،‬ولكن ليتذكر أولئك أن عامة أهل الجنة هم الفقراء‪.‬‬
‫وليتذكر أولئك أن عقول غيرهم أكبر من عقولهم‪ ،‬ولكن ل يصنع التاريخ إل العاملون‪ ،‬فاللهم‬
‫اجعلنا منهم‪.‬‬
‫كم هو عظيم هذا السلم‪ ،‬وكم هو يحتاج لرجال عظماء يرفعون شأنه في هذه الدنيا!‪.‬‬
‫حينما يستقر في نفس رجل مؤمن أن عليه أن يبذل نفسه وروحه في سبيل هذا الدين‪ ،‬فإن عليه‬
‫واجب النظر الصحيح والتفكير الصائب أن سنن ال تعالى ل تحابي أحدا ول تختلف بسبب‬
‫نفسيته الجميلة {ليس بأمانيكم ول أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به} فالسنن اللهية‬

‫‪600‬‬
‫حاكمة على البشر جميعا مؤمنهم وكافرهم وما أعظم ابن تيمية رحمه ال تعالى حين قال‪" :‬إن‬
‫ال لينصر الدولة الكافرة العادلة ويديمها ويهزم الدولة المسلمة الظالمة ويزيلها"‪ ،‬وهذا من تمام‬
‫فقه الرجل‪ ،‬فإن العدل هو قوام الملك‪ ،‬وبهذا نعلم أن السنن ستعمل عملها بإجراء ال تعالى لها‬
‫رغم أنف البشر جميعا قال تعالى‪{ :‬إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من ال‬
‫ما ل يرجون} فالمسلم يألم ويقع عليه ما يقع على الناس من جريان السنن اللهية ول تتخلف‬
‫عنه بحجة أن نيته طيبة ومقصده حسن وغايته جليلة‪ ،‬وهذا داخل في شروط العمل الصالح (أي‬
‫متابعة السنة وعدم معارضتها) فإن من شروط العمل الصالح أن يكون موافقا لسنة النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم التشريعية‪ ،‬وما السنن التشريعية إل موافقة للسنن اللهية الكونية‪ ،‬فما من سنة‬
‫أتى بها رسول ال صلى ال عليه وسلم إل وهي تعالج سنن هذه الحياة وتحقق للمرء إرادته‬
‫الصالحة ونيته الطيبة‪ ،‬فبهذا يحقق الوعد اللهي لتحقيق المصالح في الدنيا وتحصيل الجر‬
‫الخروي يوم القيامة‪ ،‬فهو سعيد في دنياه وسعيد في أخراه‪ ،‬ولكن ل يظنن أحد أن سعادة الدنيا‬
‫تتم بتحقيق كثرة المال والعرض والمنصب‪ ،‬فهذه ليست بشيء في إرادة الرجل المسلم‪ ،‬فإن‬
‫إرادته معلقة بنيل الشهادة‪ ،‬وهكذا يتقلب المرء في سنة ال بمتابعة سنة النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫عوامل التمكين‪ :‬الرادة والدارة مع العلم والقدرة‬
‫لقد كتب من كتب من الوائل في إبراز عامل الشجاعة وحب الدار الخرة في تحقيق النصر‬
‫وقلما رأينا من كتب في إبراز عامل الفهم والتعامل مع السنن اللهية والقيادة الواعية في تحقيق‬
‫النصر‪ ،‬ومن هنا فالمعركة إدارة وليست طلقات فقط وتحسم المعركة‪ ،‬ولكنها طلقات تسير‬
‫ضمن قانون سنني دقيق تجمع معها إدارة شاملة وحنكة راقية ووعيا رفيعا وهداية ربانية ودعاء‬
‫مظلومين والتجاء الصالحين لسيدهم في السحار كل هذه أجنحة مهمة لتحقيق الموعود اللهي‪.‬‬
‫إني على ضعفي وقلة حيلتي وقلة إدراكي فإني أقول إننا مازلنا في القاع‪ ،‬ولم نخرج بعد من‬
‫الفهم الغنوصي للسنن والحياة‪ ،‬وبيننا وبين الفهم عن ال تعالى وعن رسوله صلى ال عليه‬
‫وسلم أميال وأميال‪ ،‬ولما نفهم فهما صحيحا لكي تتحرك إرادتنا بعلم صحيح (للشرعي والكوني)‬
‫ورغبة في الدار الخرة ونملك ما أمر ال تعالى به من القوة حينها ستفتح علينا خزائن ال‬
‫متفجرة بتحقيق الوعود والمبشرات‪.‬‬

‫‪601‬‬
‫لسنا على استعداد أن نتوقف ويكفينا أن نذهب إلى الخدود كما ذهب أصحاب الخدود وعلينا‬
‫أن نحضر أنفسنا لذلك‪ ،‬فالطريق ما زالت بعيدة عن التمكين في الرض‪ ،‬ولكن لنجعل الطريق‬
‫إلى السماء بحصول الشهادة (وهي طريق جد قصيرة) خطوة ندفع بها إسلمنا إلى المام لتأتي‬
‫الجيال القادمة فترى طريقا معبدا‪ ،‬ومعالم واضحة‪ ،‬فتأخذ بها لتحقيق التمكين في الرض‪.‬‬
‫مقاصد الشارع ومقاصد المكلف من التمكين‪:‬‬

‫من المهمات العظمى لهذا الدين إخراج المرء من دواعي هواه إلى دواعي تحقيق العبودية لرب‬
‫العالمين‪ ،‬ومن صور هذه المهمة أن النسان بطبعه تقصر نظرته إلى الواقع الضيق الذي يعيش‬
‫فيه‪ ،‬ويكون همه أن تفرج عليه بمقدار هذا الواقع والهم الضيق‪ ،‬ويظن أن منتهى الطلب وغاية‬
‫المنى هو تحرره من ضيقه الني وحفرته الصغيرة‪ ،‬وهذا هو هم نفسه وغاية هواه‪ ،‬ولما يخرج‬
‫المرء من هم نفسه وغاية هواه إلى مقصد الرب من نفسه وغاية الله من ذاته فإنه وإن كان‬
‫النسان المسلم في لحظة من اللحظات يعيش هذا الهوان وهذا الضيق فإنه متطلع إلى غايات‬
‫عظمى ومقامات جليلة وهي مقاصد الرب التي تتلءم مع قوته وعظمته‪ ،‬مع أن غايات النسان‬
‫الضعيف تتلءم مع ضعفه وعجزه‪.‬‬
‫فالمسلم في سجن من السجون‪ ،‬وهو يذوق أصناف العذاب ويلقي أشد الهوان‪ ،‬فإن مقصده‪ ،‬بل‬
‫أعلى مطالبه أن يخرج من هذا السجن ويعفى من هذا العذاب‪ ،‬ويظن أن ذلك هو غاية ما يمكن‬
‫أن تبلغ رحمة ال تعالى به‪ ،‬ولكن من سمات هذا الدين ومن مقاصده أن يرفع نظره‪ ،‬ويعلي‬
‫درجته غايته أن يقود العالم‪ ،‬ويحكم الدنيا وتخضع له الرض‪ ،‬ويكون ذلك أمله وهو في هذه‬
‫الحالة من الهوان‪ ،‬فهو يتعامل مع قوي عظيم قادر على كل شيء‪ ،‬ول ينظر فقط إلى حالته‬
‫وقوته هو‪.‬‬
‫عندما كان الصحابة رضي ال عنهم يأتون إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وهم في أشد‬
‫حالت العذاب والفتنة وهم في مكة‪ ،‬ويشكون له هوانهم على الناس‪ ،‬وألم العذاب وضيق الحياة‪،‬‬
‫فهم في هذه الحالة وهم في شدة من أمرهم‪ ،‬وضيق بدني ونفسي كان رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم يرفع أعينهم وهممهم إلى غايات ل يحلم بها النسان في هذا الموطن‪ ،‬ول يتفكر بها‪،‬‬
‫فالموشك على الموت من الجوع ل يرجو أطايب الطعام ول أجوده ول أرفعه وأعله ولكنه‬
‫يحلم بقطعة خبز‪ ،‬فهذا منتهى أمله وغاية مطلبه‪ ،‬ولكن المؤمن يتعامل مع ال تعالى‪ ،‬فهو مدعو‬

‫‪602‬‬
‫ليرفع همته‪ ،‬ولذلك كان جواب النبي صلى ال عليه وسلم لصحابه رضي ال عنهم وهم في‬
‫مكة وهم يشكون شدة العذاب فوق ما يحلمون ويرجون‪(( :‬وال لتسيرن الظعينة من صنعاء إلى‬
‫حضرموت ل تخشى إل ال والذئب على غنمها ولكنكم تستعجلون))‪ ،‬ويقول لهم في موطن‬
‫آخر‪(( :‬وال لتفتحن كسرى وقيصر ولتنفقن أموالهما في سبيل ال))‪ ،‬كما وقع من قوله صلى‬
‫ال عليه وسلم في غزوة الخندق‪ ،‬فالصحابة رضي ال عنهم مشغولون بالحفاظ على أنفسهم لئل‬
‫تهلك وعلى أعراضهم لئل تسبى وتنتهك ومع ذلك فإن رسول ال صلى ال عليه وسلم يبشرهم‬
‫بفتح فارس كسرى وروم قيصر‪.‬‬
‫وهذا أمر فيه المتحان للنفوس والعقول فإن من في دينه شك وريبة سيقول‪{ :‬غر هؤلء دينهم}‪،‬‬
‫لنه حينئذ ينظر إلى قوته ويتعامل مع هذا الدين من خلل نفسه ل من خلل واضعه رب العزة‬
‫والجلل‪ ،‬وأما المؤمن فهو الموقن بموعود ال تعالى ويرقبه أيقع عليه أم أن الشهادة ستكون‬
‫أقرب إليه من الوعد اللهي؟‪.‬‬
‫ثم هذا فيه هدف آخر وهو دفع المؤمن ليغير واقعه ويسعى لصلحه وتدمير الباطل فيه‪،‬‬
‫فالمؤمن يحمل نفسية المهاجم دائما حتى وهو ضعيف عاجز‪ ،‬ول يجتمع هوان نظرة المؤمن مع‬
‫هوان واقعه‪ ،‬ول يرضى لليأس أن يصيب قلبه ونفسه‪ ،‬بل هو مستعل باليمان دائما وأبدا في‬
‫أي حال كان وعلى أي موطن من درجات الدنيا كان مستقره‪ ،‬فإذا علم أن مهمته ل تعدو‬
‫الخروج من مأزقه والنفكاك من عذابه‪ ،‬بل مهمته تتجاوز ذلك بأن يهاجم الباطل‪ ،‬ويصارعه‬
‫ويحاربه حتى وهو صريع ضعيف‪ ،‬فبهذا يكون حامل دائما نفسية المسلم العزيز بربه والواثق‬
‫بنصر ال تعالى وصواب دينه‪ ،‬انظر إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يسير داعيا إلى‬
‫ال تعالى في مكة‪ ،‬فهو مستضعف معذب‪ ،‬وقريش تريه ألوان العذاب فهي تضع على ظهره‬
‫فرث الجزور وهو ساجد في ظل الكعبة‪ ،‬ويبقى كذلك حتى تأتيه فاطمة رضي ال عنها فتزيل‬
‫عنه القاذورات وقريش تضحك بملء فيها‪ ،‬ومع ذلك كله فهو يوزع عليهم النذر‪ ،‬ويبشر‬
‫بالعذاب‪ ،‬ويعدد عليهم ماذا سيصنع بهم‪ ،‬فهو الذي قال لهم يوما وقد أساءوا الجابة له إساءة‬
‫بالغة‪(( :‬لقد جئتكم بالذبح))‪ ،‬فيرد أبو الحكم مرتعدا على هذه النذارة‪ :‬يا محمد ما كنت جهول‬
‫قبل اليوم‪ ،‬فيجيبه رسول ال صلى ال عل يه وسلم‪(( :‬بل أنت الجهول))‪ ،‬ومن يومها فأبو‬
‫الحكم هو أبو جهل‪ ،‬وهو الذي قال لرجل من قريش وقد مر رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫وهو يمرن مهرا من خيوله‪ ،‬فيقول لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬على هذا سأقتلك يا محمد‪،‬‬

‫‪603‬‬
‫فيجيبه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪(( :‬بل أنا قاتلك إن شاء ال))‪ ،‬فيكون هو الرجل الوحيد‬
‫الذي يقتله الرسول صلى ال عليه وسلم بيده الشريفة رحمة منه لنه القائل‪(( :‬أشد الناس عذابا‬
‫من قتل نبيا أو قتله نبي))‪.‬‬
‫ولهذا المر هدف آخر وهو هدف تربوي وهو أن المؤمن الصالح ل يضع خططا قصيرة‬
‫المد‪ ،‬ول يقصر نظره على ما هو أمامه فهو ل يتعامل مع الخطوة التالية فقط‪ ،‬ولكن يضع‬
‫خططه للف الخطوات القادمة‪ ،‬فهمّ الخطوة الولى كيف يخرج من واقعه‪ ،‬ولكن الخطوة‬
‫التالية هي كيف يغير واقعه‪ ،‬وبعدها كيف ينتقل إلى غيرها‪ ،‬فهو ممتلئ النفس بالمهمات العظمى‬
‫ول يقف عند حد‪ ،‬ول ينتهي عند نقطة قاصرة بل ينتقل من عمل إلى عمل‪ ،‬ومن خطوة إلى‬
‫خطوة‪ ،‬وكلها في ذات الله سبحانه وتعالى‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬فإذا فرغت فانصب وإلى ربك‬
‫فارغب} فحيث انتهى من مهمة نصب نفسه في مهمة أخرى‪.‬‬
‫ثم لهذا الداعي هدف آخر وهو امتلء النفس بأمر ال تعالى والنظر إلى مطالبه وأوامره‬
‫ومقاصد هذا الدين‪ ،‬وليس النظر القاصر إلى نفسه وهواه ومطالبه هو فقط‪ ،‬فإن مهمة هذا الدين‬
‫أن يبسط سلطانه على الرض كل الرض‪ ،‬فمن امتلت نفسه بذلك افترق عن الخرين بل‬
‫شك‪ ،‬وإذا أردت أن تنظر إلى الفارق المهم بين الجيل الذي ربي على هذه الوعود العظيمة وهو‬
‫حكم الرض كل الرض وبين الجيل الذي في ذهنه أن يكون غاية مناه أن يتوسع الضيق عليه‬
‫قليل هو هذا الذي تراه من الفقه العوج المرذول والذي يخرج من أفواه هؤلء المشايخ‬
‫السحرة‪ ،‬أو من قبل الحركات المهترئة‪ ،‬فإن عامة الجماعات وكذا المشايخ الذين يقرأون الواقع‬
‫كثيرا‪ ،‬ينشغلون بتعداد أسلحة أمريكا وجنود أمريكا‪ ،‬وأسلحة إسرائيل وجنود إسرائيل‪ ،‬وجنود‬
‫الشرق والغرب فإن انشغالهم هذا دون القراءة المتعمقة أو المعادلة لقراءة وعود النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم وبشاراته وقوة ال وقدرته هذه القراءة أوقعت في نفوسهم اليأس والخذلن والرهبة‬
‫إلى درجة الرتعاش وبالتالي خرج منهم فقه الهزيمة والخنوع‪ ،‬أو آراء التبرير والتسويغ لهذا‬
‫الواقع فهم يعرفون قوة القنبلة الذرية‪ ،‬ويعرفون قوة الصواريخ العابرة للقارات‪ ،‬وقوة الطائرات‬
‫السرع من الصوت‪ ،‬ولكن أنى لهم أن يعرفوا قدرة ال تعالى‪ ،‬أو يعرفوا عظمة ال تعالى‪ ،‬أو‬
‫يعرفوا قوة وقدرة جنود ال تعالى؟!!‪.‬‬
‫أنى لهؤلء أن يعرفوا أن ملكا من ملئكة ال تعالى قادر على جعل الرض ومن فيها نسيا‬
‫منسيا؟!!‪.‬‬

‫‪604‬‬
‫أنى لهؤلء أن يقرأوا وصف ملك من ملئكة ال ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة خسمائة‬
‫عام؟!‪.‬‬
‫أنى لهؤلء أن يقرأوا بشارات النبي صلى ال عليه وسلم أن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل‬
‫والنهار؟!!‪.‬‬
‫أنى لهؤلء أن يقرأوا وعود النبي صلى ال عليه وسلم بأن جند ال سيفتحون روما ويعلقون‬
‫سيوفهم على شجر قسطنطينية؟!!‪.‬‬
‫أنى لهؤلء أن يعرفوا شيئا عن جندي ضعيف من جنود ال تعالى لو سلطه على قواهم لصارت‬
‫أثرا بعد عين؟!!‪.‬‬
‫دعوى استعجال النصر في مواجهة الطواغيت‬

‫ساد في أوساط بعض المفكرين السلميين (!!) وبعض الجماعات السلمية(!!) دعوى غريبة‬
‫الشأن‪ ،‬لم تدرس بعناية من الوجهة الشرعية‪ ،‬ولم تكن هذه الدعوى قد خرجت إلى عقلية المسلم‬
‫من خلل دراسة موضوعية شاملة‪ ،‬هذه الدعوى هي الزعم أن العدو (المرتدين) قد استجرنا‬
‫إلى معركة خاسرة‪ ،‬فهو الذي دفعنا إليها وقد اختار لها التوقيت والدوات ليحسمها متى يريد‬
‫وكيفما يريد‪ ،‬وبالتالي علينا أن ل نستدرج إلى المعركة حسب توقيته‪ ،‬وكذا علينا أن نملك من‬
‫الصبر العالي حتى نتحمل عنف السلطة نحونا مانعين من حصول المواجهة في الوقت الذي‬
‫يريده هو ول نريده نحن‪.‬‬
‫والفكرة ول شك جميلة في أبعادها الذهنية‪ ،‬فإن من يملك التوقيت المناسب للمعركة هو الذي‬
‫يستطيع أن يجعل في جرينه إحدى عوامل النصر وهزيمة الخصم‪ ،‬ولكن هل هذه الفكرة مبنية‬
‫على أسس صحيحة؟ وهل سبب انتكاسة الحركة السلمية (!!) في الوصول إلى أهدافها أنها لم‬
‫تملك ساعة الصفر في هذه المعركة؟‪ ،‬وهل صحيح أن ما حصل من مصادمات سواء كانت‬
‫جهادية أم غير جهادية بين الحركات (!!) وبين السلطات المرتدة هي التي جعلت هذه الوساط‬
‫المفكرة والحركية تخرج هذه النتيجة؟‪.‬‬
‫ابتداء أقول أنه لم يحدث قط أن استدرج الطاغوت أي حركة إلى أي مواجهة في وقت أحبه هو‬
‫أو رضيه هو‪ ،‬ولم تكن هناك ثم معركة بين الجماعات (!!) وبين الطاغوت كان سبب انهزام‬
‫الحركات فيها هو خطأ التوقيت في البدء والعمل‪ ،‬بل إن الطاغوت في أي معركة نشأت بينه‬

‫‪605‬‬
‫وبين هذه الحركات كان يعاني فيها المرين‪ ،‬ويصرخ بملء فيه استنجادا ورعبا‪ ،‬ولكن لن‬
‫النتيجة كانت في صالحه في النهاية فإنه استطاع أن يبث خبثه وحقده على المة‪ ،‬فيفجر ويعربد‬
‫ويستغل فورة فوزه في تعميق جذور الجاهلية ومحاولة إضعاف جانب السلم في الدولة‬
‫والمة‪ ،‬نعم النتيجة كانت مرعبة بالنسبة للسلم بسبب هزيمة هذه الحركات‪ ،‬ولكن لم يكن‬
‫سبب الهزيمة هو اختيار الطاغوت لهذه المعركة في هذا الظرف‪.‬‬
‫نحن أمام تجارب متعددة في الصدام بين السلم ممثل بحركات سواء منها البدعية أو السنية‬
‫لكننا نستطيع أن نجمل هذه الحركات ضمن سياقين‪:‬‬
‫الول‪ :‬السياق السياسي وهي الحركات التي لم تتبن الجهاد كحل شرعي وحيد لهدم الطاغوت‬
‫واقتلعه‪ ،‬وهذا اللون فيه الكثير من الطياف بدءا بالخوان المسلمين المبتدعة إلى حزب‬
‫التحرير‪ ،‬ومن الجماعات الصلحية كجماعة التبليغ وإلى تيار القاعدة الصلبة والدعاة السلفيين‬
‫المزعومين وغيرهم‪.‬‬
‫السياق الثاني‪ :‬وهي الحركات القتالية والتي حكمت أمرها أن هذا الطاغوت له حل وحيد في‬
‫شرع ال تعالى وهو القتال‪ ،‬وهذا اللون كذلك فيه أطياف متعددة بدعية وسنية‪.‬‬
‫والتجارب التي يحتج بما أصحاب هذه النظرة يأخذون حالة أو حالت من الولى وحالة أو‬
‫حالت من الثانية‪.‬‬
‫أما الحتجاج بالسياق السياسي فهو احتجاج باطل‪ ،‬لن هذه الجماعات ليس في عقليتها ول‬
‫برنامجها مجابهة الطاغوت ول محاربته‪ ،‬وليس في خطط إعدادهم لكوادرهم ثم إرادة لتعليمهم‬
‫أصناف السلح وإتقان القتال‪ .‬فهو احتجاج باطل من أصله‪.‬‬
‫أما الحركات الثانية فالحق أن هذه الجماعات هي التي بدأت وشرعت‪ ،‬وليس الطاغوت هو‬
‫الذي استفزها واستدرجها‪ ،‬أما بالنظر إلى الفهم الشرعي لهذه الدعوى فإني قبل أن أعرض ما‬
‫أفهم من دين ال تعالى في تطبيق الحكم الشرعي في هؤلء المرتدين فإني مضطر أن أبين‬
‫عائقا جديدا استقر في أذهان آرائية هذا الزمان منعهم من الفهم عن ال تعالى والفهم على‬
‫رسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫أهل التحريف والتحليل السياسي‪:‬‬
‫نظرية العمالة والمؤامرة نموذجا‬

‫‪606‬‬
‫على مدار التاريخ السلمي كان الشيطان يصب في عقلية التيارات المنحرفة بعض البدع‬
‫والحوادث فيجعلها قواعد وأصول في تلقيهم للحكم الشرعي‪ ،‬فلو أخذنا مثل الصوفية فإن بعض‬
‫أئمتهم ‪ -‬الغزالي ‪ -‬في كتاب له لتربية النفس وصقلها صوفيا وعرفانيا نبه المبتدئ في الطلب‬
‫إلى عدم قراءته للقرآن الكريم وجعل سبب هذا التحذير أن قراءة القرآن تشتت اجتماع النفس‪،‬‬
‫ول بد للطالب من جع همته والتركيز على أمر واحد لحظة الخلوة‪ ،‬وقارئ القرآن الكريم‬
‫تتشتت همته فإذا قرأ سورة البقرة مثل فإنه يقرأ اليات الولى وفيها ذكر المؤمنين‪ ،‬ثم ذكر‬
‫الكافرين ثم ذكر المنافقين‪ ،‬ثم ذكر آدم وقصته ثم ذكر بني إسرائيل‪ ،‬فهذه القراءة لهذه‬
‫المتعددات تشتت الهمة وتوزع الفكر وهذا يفسد السالك الصوفي‪ ،‬فانظر إلى هذه المعوقات‬
‫الشيطانية التي استقرت كقواعد في أذهان أصحاب هذا المذهب في التنفير من القراءة لكتاب ال‬
‫تعالى وهي معوقات ذوقية‪.‬‬
‫بعض أهل الرأي ومتعصبو المذاهب منع من العمل بالحديث حتى يعرضه على إمام مذهبه‪ ،‬أو‬
‫على أقوال مذهبه‪ ،‬فإن أخذ به إمامه أخذ به وإن رده إمامه رده هو‪.‬‬
‫أهل الكلم جعلوا ضابط الخذ بالقرآن والسنة عرضها على العقل‪ ،‬فإن قبلها كان بها وإن‬
‫أنكرها ردت أو أولت‪.‬‬
‫والقائمة طويلة‪ ،‬وللشيطان فنون في صد الناس عن تطبيق الحكم الشرعي‪.‬‬
‫أما في زماننا هذا فللشيطان مع صبية الفقه ومفكري السلم ممن لم يتضلعوا بالسنة النبوية ولم‬
‫يقرأوها ولم يتشبعوا بها طريقة أخرى‪ ،‬فإنه استدرجهم لرفض الحكم الشرعي من باب جديد‬
‫وهو باب يعادل الذوق الصوفي والعقل الفلسفي والنظر البدعي في رد الحكم الشرعي‪ ،‬هذا‬
‫الباب هو التحليل السياسي‪.‬‬
‫هذه اللعبة الجديدة يمارسها أدعياء الفقه‪ ،‬وصبية الفكر في اتهام أي عمل يقوم به المجاهدون أنه‬
‫داخل ضمن اللعبة الدولية‪ ،‬وهو خادم لحدى قطبي النزاع في أي منطقة من العالم‪ ،‬فإنه ما من‬
‫شك لن عالمنا (السلمي!!) منطقة نزاع بين أقطاب دولية‪ ،‬وكل دولة تحاول أن تهيمن على‬
‫جزء منه‪ ،‬وهناك صراع دولي على الفوز بأكبر كمية من هذه الدول الضائعة بين أقدام‬
‫اللعبين الكبار(!!)‪.‬‬

‫‪607‬‬
‫وبالتالي فإن أي معركة يقوم بها المجاهدون‪ ،‬ومن خلل تحليل سياسي إبليسي‪ ،‬يستطيع هذا‬
‫المأفون السياسي(!!) أن يجعل جهاد المجاهدين في مصلحة قطب من أقطاب هذا الصراع‬
‫الدولي‪.‬‬
‫وقد سبق للناس جميعا أن سمعوا تحليل أصحاب الهواء ‪ -‬خدمة لعداء ال تعالى ‪ -‬للجهاد‬
‫في أفغانستان حيث جعلوا الجهاد هناك خدمة لمريكا‪ ،‬فبالتالي فإن عبد ال عزام في عقلية‬
‫هؤلء المأفونين خادم لمريكا‪ ،‬وبعضهم يرقق العبارة ليحدث لها القبول فيجعله مغفل نافعا ‪-‬‬
‫والحديث عن المغفل النافع طويل ‪ -‬بل إن بعض ضلل هذا التيار صار يعلق الحكام الشرعية‬
‫على مناطات يفتريها المحلل السياسي‪ ،‬وبالتالي فعبد ال عزام عميل أمريكي‪ ،‬والعميل كافر‪،‬‬
‫فعبد ال عزام كافر‪ ،‬وقد كان بعض أصحاب هذه اللعبة الشيطانية يقولها بملء فيه‪ ،‬وبعضهم‬
‫يقف بها إلى بعض الحدود‪ ،‬ولكن بعضهم توقف عن ذلك عند مقتل الشيخ عبد ال عزام‪ ،‬ولكنك‬
‫لن تعدم وجود محلل سياسيا آخر يزعم أن أسياده هم الذين قتلوه بعد أن انتهت مهمته‪.‬‬
‫التحليل السياسي يستطيع أن يفسر لك أي حركة ربانية في هذه الدنيا ضمن مساقات دولية معينة‬
‫ل دور للسلم فيها‪ ،‬ول لمصلحة السلم فيها ذرة‪.‬‬
‫لهل الهوى الرائية ضروب من التفنن المنطقي في صرف حكم ال من إيقاعه على وجهه‬
‫الصحيح‪ ،‬فمرة يدخل عليهم من باب الذوق النفسي فيجعلونه حاكما على الشريعة‪ ،‬وهذا منتشر‬
‫بين كثير من الناس حين يجابهون الحكم الشرعي بعدم اطمئنانهم له‪ ،‬فيقول لك أحدهم‪ :‬أنا ل‬
‫أطمئن لهذا الحكم‪ .‬أو قول بعضهم‪ :‬إن نفسي ل ترتاح لهذا الرأي‪ .‬وليت القائل قد تضلع‬
‫بالسنة‪ ،‬وتشربها حتى ملت عليه جوانحه ومشاشه‪ ،‬بل هو رجل لم يمر على السنة إل لماما‪،‬‬
‫وأخذ منها حديثا أو حديثين‪ ،‬ولم يقرأ القرآن قراءة درس وفهم‪ ،‬بل هذّا سريعا‪ ،‬فكيف لمثل هذا‬
‫الرجل أن يكون رأيه قريبا من السنة‪ ،‬أو يكون مزاجه قريبا من الحق؟!!‪ ،‬وللذكر فإن من جعل‬
‫ذوقه حاكما على الشريعة يحسن ويقبح من جهة نفسه وهواه كافر زنديق‪ ،‬فليحذر المرء من هذا‬
‫الباب فإنه من باب القول على ال تعالى بل علم‪ ،‬وهو أعلى مرتبته من الشرك كما قال تعالى‪:‬‬
‫{قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بال‬
‫ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على ال ما ل تعلمون} (العراف) فانظر حفظك ال تعالى‬
‫إلى ذكر مراتب المعصية وكيف رتب ال درجاتها حيث جعل أعلى المعاصي القول على ال‬

‫‪608‬‬
‫بل علم نعوذ با ل من الخذلن‪ .‬ولشيخ السلم رحمه ال تعالى كلم نفيس في بداية كتابه‬
‫الستقامة فارجع إليه فإنه مهم‪.‬‬
‫قلنا سابقا إن من صوارف الشيطان الظنية في إبعاد الناس عن الحكم الشرعي هذه اليام ما‬
‫يسمى بالتحليل السياسي‪ ،‬وهو باب غريب وللناس فيه مذاهب وطرق تحار فيها حينا وتعجب‬
‫منها حينا‪ ،‬وقبل أن أبين معارضة هذا الظني لقواعد الصول فإني سأمر مرورا سريعا لتحديد‬
‫بدايات هذا المأخذ الشيطاني في محاولة لكشف مصدره‪.‬‬
‫أعتقد أن أوائل وأسياد هذا المذهب في بلدنا هم اليساريون‪ ،‬فهم الذين فتحوا هذا الباب ليخدموا‬
‫به مذهبهم وطريقتهم‪ ،‬فهم في سبيل إقامة الثورات ضد الحكومات (اليمينية) أو الحكومات‬
‫(الرجعية) كما يقولون‪ ،‬جعلوا يرددون صباح مساء‪ ،‬وفي كل موطن أن حكوماتنا حكومات‬
‫عميلة للغرب‪ ،‬وخاصة لمريكا الجديدة وبريطانيا القديمة‪ ،‬وبريطانيا ومن معها من الدول‬
‫الستعمارية التاريخية ثم من لحق بها من العالم الجديد كأمريكا لها حضور سيء قبيح في‬
‫أذهاننا‪ ،‬وهذا الحضور سببه تلك الثار السيئة والتي ل تزال شاهدة على هذا السوء إلى يومنا‬
‫هذا‪ ،‬مثل هذا التفرق والحدود التي اصطنعتها في بلدنا‪ ،‬ثم النهب السيء لخيرات بلدنا‪ ،‬ثم‬
‫تاريخها مع فلسطين واليهود‪ ،‬فالعقل المسلم مليء ول شك بهذا الواقع السيء من تاريخ الغرب‬
‫في بلدنا‪ ،‬فبمجرد أن يلوح الخطيب بارتباط جماعة أو فرد بالغرب يكون كافيا بأن يسقط من‬
‫أعين الناس واحترامهم‪.‬‬
‫فإذا أردت تدمير عدو لك ما عليك إل أن تصفه بالعمالة ابتداء وبالتالي صارت هذه الكلمة تقال‬
‫جزافا‪ ،‬فما أن يقوم انقلب في بلدنا حتى يبرر النقلبيون ذلك بأنهم وطنيون‪ ،‬وأن سلفهم‬
‫عملء للستعمار‪ ،‬وكفى بذلك مبررا‪.‬‬
‫هذه البداية الصغيرة تطورت في تفسير أحداث الكون حتى صار مشهودا بين الناس المثل‬
‫القائل‪ :‬لو رأيت السمك يقتل في البحر ففكر بالنجليز‪ .‬ومع قليل من التهويل صار المسلم كلما‬
‫قرع له بالشنان فكر باليدي العميلة المدبرة لحداث الكون وأحداث الحياة‪ ،‬فليس هناك ثم‬
‫صغيرة أو كبيرة فوق هذه الرض وفي داخل البحر إل وللدول الكبرى فيها يد‪ ،‬وصار المجتهد‬
‫الجهبذ هو من يبعد لك النجعة في تحليل الخبر وتفسيره ضمن هذا السياق في فهم هذه الحداث‪،‬‬
‫وهناك بعض الكتب ساهمت في صنع هذه العقلية بغض النظر عن صواب بعض أحداثها‬
‫وتحليلها أم ل‪ ،‬مثل كتاب "حكومة العالم الخفية" وكتاب "أحجار على رقعة الشطرنج" ومثلها‬

‫‪609‬‬
‫كتاب "بروتوكولت حكماء صهيون" وكتاب "لعبة المم" وغيرها من الكتب‪ ،‬فإن هذه الكتب‬
‫أوحت لقارئها (المؤمن بما فيها) أن أحداث الكون بصغيرها وكبيرها محاطة ومرسومة من قبل‬
‫عالم خفي!‪ ،‬بعضهم أطلق عليه الماسونية وبعضهم قال هي حكومة أندية الروتاري وغيرها‪،‬‬
‫وعقلية المسلم المتخلفة رأت في نفسها التطور للخروج من تحليل الحداث على قاعدة الجن‬
‫والشياطين إلى عالم المؤامرة والحكومات الخفية‪ ،‬فبدل أن تكون صوفية متخلفة تحلل المور‬
‫على أنها من فعل الجن والشياطين وهذا تخلف‪ ،‬فالعلمية هي تسمية هذا العالم بالحكومة الخفية‪.‬‬
‫ول يفهم من كلمي أني أنفي عالم الجن والشياطين وأن لهما صلة بواقعنا‪ ،‬أو يفهم من كلمي‬
‫أي أنفي مبدأ وجود العداء المخططين ضد السلم وأهله‪ ،‬فأنا بفضل ال تعالى مازلت في‬
‫مكاني لم أبرح عليه عاكفا‪.‬‬
‫أي أني أعتقد بوجود عالم الشياطين في الجن والنس‪ ،‬وأعتقد قوله تعالى‪{ :‬يوحي بعضهم إلى‬
‫بعض زخرف القول غرورا} ولكني ل أعتقد أن محمد علي كلي كان ينتصر لنه كان يستعين‬
‫بجن مسلم يقاتل معه ضد جون فريزر الذي كان يستعين بجن كافر يلكم معه‪.‬‬
‫المهم أن المناط الوحيد الذي صار يعلق الناس أحداث الحياة عليه هو العمالة وتخطيط الحكومة‬
‫الخفية‪ ،‬والرتباط بإحدى أقطاب الصراع في العالم‪ ،‬وكان أئمة هذا الشأن من الجماعات‬
‫السلمية هم حزب التحرير‪ ،‬فإنه ما فتئ يردد للناس من خلل نشراته أن الصراع بين أمريكا‬
‫وبريطانيا على أشده في اقتسام العالم العربي‪ ،‬ولم يخرج رئيس ملعون أو حاكم مرتد أو رئيس‬
‫قبيلة أو قائد تنظيم من هذه المعادلة الجديدة‪ ،‬وما من معركة تقوم ول انقلب يحدث إل ضمن‬
‫هذا السياق والتحليل‪ ،‬فهذا بلد محكوم لمريكا والنقلب قام من أجل عمالة بريطانيا‪ ،‬وهذا بلد‬
‫عميل لبريطانيا وما النقلب إل من أجل عمالة أمريكا‪ ،‬وهكذا ما من حدث إل ضمن هذه‬
‫المعادلة‪ ،‬ل يخرج عنها شيء البتة‪ ،‬وانتشر هذا التحليل حتى عند صغار الناس وصار الوعي‬
‫الكامل والفهم الثاقب البرهنة على أن هذا الحدث ضمن معادلة دولية‪ ،‬وعمالة خفية‪ .‬وللذكر فإن‬
‫هذا النوع من التحليل ل يرى للمعسكر الشتراكي (يوم أن كان معسكرا) وجودا في المنطقة‪.‬‬
‫وقد استخدم بعضهم نفس السلوب ضد حزب التحرير فاتهمه بأنه عميل بريطاني‪ ،‬فانقلب‬
‫السحر على الساحر‪ ،‬وصدق من قال‪:‬‬
‫فلما اشتد ساعده رماني‬ ‫أعلمه الرماية كل يوم‬

‫‪610‬‬
‫وفي المقابل هناك قوم يحللون المر على جهة الحكومة اليهودية‪ :‬هنا يهود‪ ،‬وهناك يهود‪ ،‬فهذا‬
‫بلد صنعه اليهود‪ ،‬وهذا حزب وراءه اليهود‪ ،‬فاليهود هم قادة الحداث كلها في هذا الكون‪.‬‬
‫وقد قابلت أقواما يحللون كل شيء على مناط الشيوعية‪ ،‬فكل من حارب الدول الديمقراطية‬
‫واليمينية شيوعي ‪ -‬علم أم لم يعلم ‪ -‬فهو يرى أن الشيخ سلمان العودة وسفر الحوالي صنيعة‬
‫شيوعيةلنهما يحاربان الدولة التي ما زالت أقدامها راسخة في محاربة المد الشيوعي‪ ،‬وهذا‬
‫تيار موجود في الردن وله رجاله وله مذهبه‪ ،‬بل إنه يرى أن كل من تكلم على الحكام وكشف‬
‫شرهم وحرض المة على الخروج عليهم صنيعة يهودية ‪ -‬علم أم لم يعلم ‪ -‬ويحللون أحداث‬
‫الكون على هذا النسق وهذه المعادلة‪ ،‬وهكذا تتغير التفسيرات ولكنها تبقى ضمن إطار واحد‬
‫ونوع واحد وهو التفسير التآمري للحداث‪.‬‬
‫أما ما يهمنا فهو خطورة هذه الطريقة في فهم أحداث الكون والحياة‪ ،‬وبالتالي ما يتعلق بها من‬
‫أحكام شرعية‪.‬‬
‫لو نظرنا إلى أدلة هؤلء المحللين لرأينا هشاشة أدلتهم وعدم قبولها إل للطفال والصبية‪،‬‬
‫فبعضهم يجعل فلنا عميل بمجرد أنه رآه مشتريا مجلة فيها صورة لحاكم من الحكام‪ ،‬وبعضهم‬
‫يجعل فلنا عميل لنه رآه اشترى حذاء من صنع الدولة المعنية‪ ،‬وهكذا‪ ،..‬فلما كانت هذه‬
‫الدلة ل تقبل ول تصلح‪ ،‬كانت العمالة عندنا تعني الولء والنصرة وبالتالي فمن كان عميل‬
‫لدولة كافرة هو كافر مثلها‪ ،‬وحكمه في دين ال تعالى هو القتل‪ ،‬وهذا هو حكم الجاسوس عند‬
‫جمهور العلماء‪ ،‬كان إطلق لفظ العمالة والجاسوسية على رجل أو حركة خطير جدا ل يصلح‬
‫معه اللعب والفهلوة‪ ،‬نعم عليك بالحذر والكيس والفطنة ولكن عليك أن ل تكفر الناس بالظنة‪،‬‬
‫فالمر خطير‪.‬‬
‫هذه مسألة أولى تتعلق بأولئك القوم الذين يضربون بالرمل ويدعون علم السياسة فيستسهلون‬
‫القول بأن فلنا أو تلك الحركة عميلة للطواغيت‪ ،‬فليعلموا أن معنى حكمهم هذا هو تكفير هذا‬
‫الفرد وهذه الطائفة وتجويز قتله وقتاله لي أحد من المسلمين‪ ..‬هذه واحدة‪.‬‬
‫أما الثانية‪ :‬فهي ما قدمنا من إبطال أي عمل جهادي ضد طاغوت من الطواغيت‪..‬‬

‫أهل التخييل‪ :‬حكم قتال المرتدين‬

‫‪611‬‬
‫من قرأ سيرة الصحابة رضي عنهم في حروبهم وجهادهم رأى بكل وضوح أن جهادهم‬
‫للمرتدين وخاصة قتال بني حنيفة أتباع مسيلمة كان من أشق الحروب وأتعبها عليهم فقد جهدوا‬
‫فيها جهدا عظيما‪ ،‬وقال أهل السيرة أن عدد من قتل من المسلمين يقارب اللف‪ ،‬وعدد قتلى بني‬
‫حنيفة (‪ )10‬آلف نفس‪ ،‬وكان عدد كبير من القتلى من حملة القرآن‪ ،‬وكانت هذه المقتلة سببا‬
‫في إقبال الصديق رضي ال عنه على جمع القرآن‪ ،‬ثم من نظر في مسيرة التاريخ السلمي‬
‫رأى أن حروب المسلمين لطوائف الزندقة كانت من أشد البلء على المسلمين‪ ،‬أشد من قتالهم‬
‫للكفار الصليين‪ ،‬ولو تمعنا في سبب هذا الخصوص في قتال المرتدين لرأينا أن المر يرجع‬
‫إلى سببين اثنين‪ ،‬وبفهمهما تدرك جماعات التوحيد والجهاد أن ما هم عليه ل يقوى له إل‬
‫الرجال ول يقوم به إل من أخلص وجهه ل سبحانه وتعالى‪ ،‬هذان السببان هما‪:‬‬
‫‪ - 1‬إن حكم قتال المرتدين أشد من حكم قتال الكفار الصليين‪:‬‬
‫قال الغزالي في "فضائح الباطنية" (ص ‪ :)95‬والقول الوجيز فيه أنه يسلك بهم (أي الزنادقة‬
‫الباطنية) مسلك المرتدين في النظر في الدم والمال والنكاح ونفوذ القضية وقضاء العبادات‪ ،‬أما‬
‫الرواح فل يسلك بهم مسلك الكافر الصلي‪ ،‬إذ يتخير المام في الكافر الصلي بين أربع‬
‫خصال‪ :‬بين المن والفداء والسترقاق والقتل‪ ،‬ول يتخير في حق المرتد‪ ،‬بل ل سبيل إلى‬
‫استرقاقهم ول إلى قبول الجزية منهم ول إلى المن والفداء‪ ،‬وإنما الواجب قتلهم وتطهر وجه‬
‫الرض منهم‪ ،‬هذا حكم الذي يحكم بكفرهم من الباطنية‪ ،‬وليس يختص جواز قتلهم ول وجوبه‬
‫بحالة قتالهم‪ ،‬بل نغتالهم ونسفك دماءهم‪ ،‬فإنهم مهما اشتغلوا بالقتال جاز قتلهم‪.‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫فالمرتد أحكامه في القتال أشد من الكافر الصلي‪ .‬وكذلك ل يجوز مصالحة ومهادنة وعقد‬
‫المان للمرتدين‪ ،‬ويجوز مصالحة ومهادنة وموادعة الكفار الصليين‪ - :‬قال الشافعي‪ :‬إذا‬
‫ضعف المسلمون عن قتال المشركين‪ ،‬أو طائفة منهم لبعد دارهم‪ ،‬أو كثرة عدوهم أو خلة‬
‫بالمسلمين (أي اضطراب أمور المسلمين)‪ ،‬أو بمن يليهم منهم جاز لهم الكف عنهم‪ ،‬ومهادنتهم‬
‫على غير شيء يأخذونه من المشركين‪ ،‬وإن أعطاهم المشركون شيئا قل أو كثر كان لهم أخذه‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وجاء في "السير الكبير" وشرحه للشيباني بشرح السرخسي‪ :‬وان لم يكن بالمسلمين قوة عليهم‬
‫فل بأس بالموادعة‪ ،‬لن الموادعة خير للمسلمين في هذا الحال‪ ،‬وقد قال ال عز وجل‪{ :‬وإن‬
‫جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على ال}‪ )2( .‬وقال ابن قدامة‪ :‬وتجوز مهادنتهم على غير‬

‫‪612‬‬
‫مال‪ ،‬لن النبي صلى ال عليه وسلم هادنهم يوم الحديبية على غير مال يأخذه منهم فإنها إذا‬
‫جازت على غير مال فعلى مال أولى‪)3( .‬‬
‫هذا في أحكام الكفار الصليين فإنه يجوز للمام وللمسلمين موادعتهم ومصالحتهم وبسط أحكام‬
‫الموادعة وموجباتها مفصلة في كتب الئمة‪ ،‬ويجب الوفاء لهم بهذا‪ ،‬ول يجوز الغدر ول الخيانة‬
‫إل أن ينقضوا العهد والمواثيق‪ .‬أما المرتدون فل يجوز موادعتهم ول مصالحتهم‪ ،‬قال أبو الليث‬
‫السمرقندي في "تحفة الفقهاء" (‪ : )4‬إن أخذ الجزية وعقد الذمة مشروع في حق جميع الكفار‬
‫إل مشركي العرب‪ ،‬والمرتدين‪ ،‬فإنه ل يقبل منهم الجزية‪ ،‬كما لم يشرع فيهم السترقاق‪)5( .‬‬
‫قال كاساني عند شرحه لما تقدم‪ :‬بأنه ل يقبل من المرتد إل السلم أو السيف لقول ال تعالى‪:‬‬
‫{تقاتلوهم أو يسلمون} قيل إن الية نزلت في أهل الردة من بني حنيفة ولن العقد في حق المرتد‬
‫ل يقع وسيلة إلى السلم لن الظاهر أنه ل ينتقل عن دين السلم بعدما عرف محاسنه‬
‫وشرائعه المحمودة في العقول إل لسوء اختيار وشؤم طبع فيقع اليأس عن فلحه فل يكون عقد‬
‫ذمة‪)6( .‬‬
‫قال القرطبي‪ :‬قال الوزاعي‪ :‬تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذب‪ ،‬وكذلك‬
‫مذهب مالك‪ ،‬فإنه رأى أن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد‪ ،‬عربيا‪ ،‬أو عجميا‪،‬‬
‫تغلبيا أو قرشيا كائنا من كان إل المرتد‪)7( .‬‬
‫قال ابن تيمية‪ :‬وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الصلي من وجوه‬
‫متعددة‪ ،‬منها أن المرتد يقتل بكل حال‪ ،‬ول يضرب عليه جزية‪ ،‬ول تعقد له ذمة‪ ،‬بخلف الكافر‬
‫الصلي‪ ،‬ومنها أن المرتد يقتل وإن كان عاجزا عن القتال‪ ،‬بخلف الكافر الصلي الذي ليس‬
‫هو من أهل القتال‪ ،‬فإنه ل يقتل عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد‪ ،‬ومنها أن المرتد ل‬
‫يرث ول يناكح ول تؤكل ذبيحته‪ ،‬بخلف الكافر الصلي إلى غير ذلك من الحكام‪)8( .‬‬
‫وعلى هذا فأحكام قتال المرتدين أشد من أحكام قتال الكفار الصليين‪ ،‬ولما علمنا أن حكام بلدنا‬
‫مرتدون فل يجوز مصالحة أحد منهم أو مسالمته أو مهادنته تحت دعوى المصلحة‪ ،‬أي أنه ل‬
‫يجوز لجماعات الجهاد أن تداهن أحدا من هؤلء المرتدين أو تسالمه أو تتعاون معه في قتالها‬
‫لطائفة الكفر في بلدها‪.‬‬
‫كان المسلمون الوائل يخرجون للجهاد وقد حضروا أنفسهم وجهزوا أمورهم وهم في أرضهم‬
‫وبلدهم آمنون‪.‬‬

‫‪613‬‬
‫أما اليوم انظر إلى واقع الجماعات المجاهدة فإنها جاءت إلى واقع مقفل ل منفذ لهم فيه‪ ،‬وقد‬
‫ترقت الدول العلمانية الكافرة اليوم في الحالة المنية الرقي الشديد ما لم يكن بمثل هذه الصورة‬
‫المتينة في يوم من اليام‪ ،‬وليس للجماعات المجاهدة أرض ينطلقون منها‪ ،‬ومع ذلك فهم‬
‫يواصلون الطريق بكل آلمها وجروحها فلو أصابتهم مصيبة في لقاء ومعركة من المعارك‬
‫فليس لهم أرض يفيئون إليها‪ ،‬ول فئة ينحازون إليها‪ ،‬فيا ال ما أعظم هذا النوع من الجهاد وما‬
‫أشقه!!‪.‬‬
‫نعم إن جهاد المرتدين اليوم جهاد شاق وفيه من البلء والعنت ما ال به عليم‪ ،‬والرجل المجاهد‬
‫ملحق من بيت إلى بيت‪ ،‬وأهله تحت سطوة الطاغوت وقوته‪ ،‬أي أنه مكشوف نصفه‪ ،‬بل‬
‫أغلبه‪ ،‬فهذا جهاد خاص ولذلك له أجر خاص كما أخبرنا النبي صلى ال عليه وسلم أن أجر‬
‫المتمسك بدينه في مثل هذه الزمان أجر خمسين من الوائل‪ ،‬لن المجاهدين اليوم ل يجدون‬
‫على الحق أعوانا وكان الوائل يجدون على الحق أعوانا‪.‬‬
‫انظر اليوم كم يعاني الخ من أجل أن يصل إلى أرض الجهاد‪ ،‬وكم يبذل من الجهد والفكر‪،‬‬
‫وكم يلقي من العذاب والمشقة من أجل أن يصل إلى أرض ليجاهد فيها‪ ،‬وتفكر في هذه القيود‬
‫المنية التي يخترقها الشباب المسلم الموحد حتى يطبق فريضة وعبادة القتال في سبيل ال تعالى‬
‫ضد المرتدين؟‪.‬‬
‫هل مر على المسلمين مثل هذه الحالة من قبل؟‪.‬‬
‫الجواب القديم‪ :‬بالقطع أننا لم نعهد قبل هذه الحالة في تاريخنا‪.‬‬
‫انظر اجتماع العالم أجمع ‪ -‬كفارا ومرتدين ‪ -‬من أجل تطويق الجهاد والمجاهدين‪ ،‬وهم ل‬
‫ظهر يحميهم ول دولة ترعاهم‪ ،‬ول إعلم يوصل صوتهم‪ ،‬فهل مر على المسلمين على مدار‬
‫التاريخ مثل هذه الحالة؟‪ .‬الجواب‪ :‬بالقطع هو النفي‪.‬‬
‫‪ - 2‬وأما السبب الثاني فهو موافقة المر القدري للمر الشرعي المتقدم وأعني أنه لما جعل‬
‫الشارع الحكيم سبحانه وتعالى حكم المرتد أشد من حكم الكافر الصلي إنما هو لن المرتد في‬
‫نفسه وحاله يستحق هذا الحكم وهو ملئم له وقد أشار الكاساني رحمه ال في كلمه المتقدم إلى‬
‫هذا المعنى‪ ،‬وهو أن المرتد لم يقع منه هذا الكفر إل بسبب انحطاط نفسه وخبثها وعظيم شرها‪،‬‬
‫فإن من أسلم وعرف حقيقة هذا الدين وعظمته وأثره على النفس والحياة ثم انقلب عنه بغضا‬

‫‪614‬‬
‫وكرها لما أنزل ال تعالى فإن هذا الشخص يستحق هذا الحكم في حقه‪ ،‬وهو ل يستحق هذه‬
‫الحياة‪ ،‬فليس له أن ينعم بخيراتها ول يأكل من ثمارها‪.‬‬
‫ولما كان بغض المرتدين لهذا الدين وكذلك بغضهم لهله شديدا كان قتالهم للمسلمين شديدا‪،‬‬
‫بخلف الكفار الصليين فإن الكثير منهم ل يعرف لماذا يقاتل ول علم يقاتل‪ ،‬بل يساق إلى‬
‫الحرب سوقا‪ ،‬ولذلك بعد أن تضع الحرب أوزارها فان كثيرا منهم يدخل في دين ال تعالى‪،‬‬
‫وهذا حال الدول والممالك والقطار التي فتحها المسلمون الوائل رحمهم ال تعالى‪ ،‬فإن تلك‬
‫البلد دخل أصحابها في دين ال تعالى أفواجا‪.‬‬
‫وقد أشار الشيخ أبو الحسن الندوي( رحمه ال ) في كتابه "ردة ول أبا بكر لها" إلى حقيقة نفسية‬
‫هؤلء المرتدين‪ ،‬وأنها أعتى نفسية مرت على وجه التاريخ‪ ،‬بل هي اقتبست معالمها من نفسية‬
‫الشيطان ذلك أنه لما رأى نفسه قد حكم ال تعالى عليه الخلود في جهنم فإنه طلب من ال تعالى‬
‫أن يمهله إلى نهاية الدنيا حتى يفتن كثيرا من الناس فيذهب بهم معه إلى جهنم‪ ،‬فإنه نقم على‬
‫الناس طهرهم وعفافهم وإيمانهم‪ ،‬وكذا المرتد فإنه ينقم على الناس إسلمهم‪ ،‬وأذكر أن الشيخ أبا‬
‫الحسن قد ذكر في كتابه نفسية هذا المرتد وحلل هذا النوع من الناس وأنه يرى نفسه قد ضعف‬
‫أمام الشهوة‪ ،‬إما شهوة المال أو شهوة المنصب أو شهوة النساء فيرى نفسه حقيرا ذليل وهو‬
‫يرى أمامه شابا مسلما قد ترفع عن هذه الشهوات وضربها بقدمه واستمسك بدينه فينقم عليه هذه‬
‫الفضيلة ويستصغر نفسه أمامه فبدل أن يؤوب إلى رشده ويهتدي إلى رحمة ال فإنه لنفسه‬
‫الخبيثة يحقد على هذا الشاب لنه يذكره بضعفه وعجزه‪ ،‬فيكون له كالمرآة‪ ،‬ولذلك عندما تسمع‬
‫أو تقرأ هذه القصص الحقيقية من تعذيب المرتدين للمسلمين تكاد لهولها أن تدخل في عالم‬
‫الخيال والخرافات‪ ،‬لن هذا النوع من البشر ليس له مثيل في الظلم والكفر والعدوان‪.‬‬
‫إذن قتال هذا النوع من البشر قتال خاص في شدته وهوله وعظمته‪ ،‬وهو يقاتل إلى آخر رمق‬
‫وإلى آخر نفس‪ ،‬وإني لعجب من أصحاب النظر الصوفي الجديد حين يأملون الهداية لهؤلء‬
‫المرتدين‪ ،‬إن هؤلء القوم جد واهمون ول يعرفون حقيقة حكامهم‪.‬‬
‫(‪ - )1‬الم ‪.4/186‬‬
‫(‪.5/1689 - )2‬‬
‫(‪ - )3‬المغني ‪.10/519‬‬
‫(‪ - )4‬وهو متن كتاب "بدائع الصنائع للكاساني"‪.‬‬

‫‪615‬‬
‫(‪.3/207 - )5‬‬
‫(‪.7/111 - )6‬‬
‫(‪ - )7‬الجامع لحكام القرآن ‪.8/110‬‬
‫(‪ - )8‬مجموع الفتاوى ‪.28/532‬‬
‫محك النظر وميزان العمل‪ :‬الحسنة والسيئة‬

‫إعادة ترتيب الموازين المائلة في العقول في الحكم على الشياء والفعال هي إحدى مهمات‬
‫النبياء المرسلين عليهم الصلة والسلم‪ ،‬فالنظر القاصر الضعيف‪ ،‬والعين التي ل ترى إل هذا‬
‫العالم فقط وما فيه من حركة ظاهرة ل بد أن تحكم على الشياء والفعال حكما قاصرا ضعيفا‪،‬‬
‫فإذا أقام الناس أحكامهم وموازينهم على ما سماه ال تعالى ظنا وهوى فإن الحياة ستختل‬
‫وتضطرب‪ ،‬والفطرة وإن كانت في أصل خلقتها سليمة معافاة وفيها الصلحية أن تصيب الحق‬
‫أو أن تتعرف عليه حين تهدى إليه إل أن هذه الفطرة قابلة للتبدل والتغير بعد معافستها هذه‬
‫الحياة ‪(( -‬فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )) ‪ -‬والهوى له قوة دافعة لتحقيق الشرور‪،‬‬
‫والظن والجهل وسوء التأويل يبرر لهذا الهوى أفعاله وحركته‪ ،‬ول يتم وقوع هوى فاسد إل‬
‫بشبهة فاسدة ولذلك جمعهما ال تعالى في آية واحدة حين قال‪{ :‬إن يتبعون إل الظن وما تهوى‬
‫النفس} وجعل سبحانه وتعالى مقابل هذين المرين‪ :‬الهدى‪ ،‬فقال‪{ :‬ولقد جاءهم من ربهم‬
‫الهدى} فالهدى يمنع الهوى‪ ،‬والهدى يمنع الظن‪.‬‬
‫إن الميزان المختل ل يقوم إل على عمادين اثنتين هما‪ :‬الهوى والظن‪ ..‬فالهوى هو الشهوة‬
‫الجامحة التي ل رابط لها ول زمام‪ ،‬وهي ل يمكن لها أن تنطلق من عقالها وتسرح في وديان‬
‫الضللة والغواية إل بعماد يدعمها ويبرر لها أفعالها أل وهو الظن وهو ضد العلم‪ ،‬فدور الظن‬
‫الفاسد تبرير حركة الهوى وإعطائه المقدمات المزعومة من الموضوعية الكاذبة المفتراة‪ ،‬وإذا‬
‫وقعت الشهوة المحرمة دون ظن يبرر لها فعلها فإنها قريبا ما تتوب وترجع عن غيها‬
‫ومعصيتها‪ ،‬ولكن إذا وقعت الشهوة المحرمة (الهوى) وكان معها الظن الفاسد والجهل المؤول‬
‫فإنها ستكون حلقة ثابتة في الشر وهي كذلك تملك القوة في الدفع نحو الشرك والكفر‪.‬‬
‫إذا ل بد من التأويل الفاسد لتستقر المعصية ثباتا ودواما‪ ،‬وكلما كان التأويل (الظن والشبهة)‬
‫مقنعا بقناع جميل براق‪ ،‬أي بقناع العقلنية والموضوعية كلما كان أدعى للقبول وأسلم للنفوس‪.‬‬

‫‪616‬‬
‫هذه واحدة‪.‬‬
‫أما الثانية فهي أن حركة النسان ل تقع إل بإرادة وهذه الرادة تتكون من قوتين اثنتين هما‪:‬‬
‫قوة العلم وقوة الدافع‪ ،‬فحاجه المرء إلى شيء من الشياء قوة لدفعه لتحقيق هذه الحاجة‪ ،‬وهذه‬
‫الحاجة استقرت النفس على معرفتها معرفة حقيقية قوية‪ ،‬ففساد المرء (أي فساد عمله ) إما أن‬
‫يقع من جهة العلم‪ ،‬وإما أن يقع من جهة الدافع‪ .‬وصلح العلم يوجد صلح الدافع وقد يفترقا‬
‫كما هو شأن المبتدعة الذين يريدون تحقيق الرضى اللهي ودخول جنته بعلم باطل فاسد (أي‬
‫بالجهل) كما قال تعالى‪{ :‬هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا‬
‫حامية} فهذه نفس عاملة لكنها ل تبلغ هدفها لنها تعمل بجهل كما هو شأن رهبان النصارى‬
‫وعباد الصوفية وأمثالهم‪ ،‬وقد يقع العلم الصحيح مع الدافع الباطل كما هو شأن علماء السوء‬
‫ممن يعوقون الحق ويأكلون به أموال الناس بالباطل كأحبار اليهود من المم السابقة ومن سار‬
‫على دربهم من علماء المسلمين ممن يبيعون دينهم من أجل أعراض الدنيا الفانية‪.‬‬
‫فركنا الضللة هما الجهل والهوى‪ ،‬فل يمكن أن تستقر المعصية (الهوى) في الرض إل بتبرير‬
‫صاحب الجهل لصاحب الهوى‪ .‬وليس الجهل هنا عدم العلم فقط ولكن الجهل ههنا هو ما يتعلق‬
‫بالعلم من فساد‪ ،‬فأي فساد لحق بالعلم انقلب العلم إلى جهل سواء لحق الفساد من جهة ترك‬
‫العمل أو من جهة اتباع الهوى أو من جهة التأويل الفاسد أو من جهة معرفة الحق والحيدة عنه‬
‫فكل هذا وغيره يقلب العلم الصحيح إلى جهل وظن‪.‬‬
‫إذا عرفنا هذا علمنا لماذا يحرص أصحاب الهواء من السلطين والحكام دائما على اصطحاب‬
‫أصحاب العمائم‪ ،‬ولماذا ينفقون عليهم الذهب ويوسعون لهم في المجالس‪ ..‬السبب هو أن‬
‫معصية الحاكم وأهواءه ل يمكن لها أن تدوم وتستقر إل بوجود هذا الجاهل (العارف)‪.‬‬
‫فالحكام والسلطين رؤوسهم فارغة من الفهم‪ ،‬وألسنتهم كلة عيية في تزوير حقائقهم للناس‪ ،‬فهم‬
‫محتاجون دوما إلى رجل ذرب اللسان‪ ،‬ويمتلك القدرة على الخروج والدخول وإقناع الناس‬
‫بمراد صاحب الهوى‪ ،‬بمعنى آخر ل بد من وجود الساحر‪ ،‬القادر على قلب حقائق الشياء في‬
‫أعين الناظرين‪.‬‬
‫والمسألة ليست مع الحكام والسلطين فقط ولكن هذا أمر عام في كل معصية يريدها إبليس أن‬
‫تستقر على وجه الرض‪ ،‬وأن يجعل لها قوائما وأرجل وجذورا وسيقانا‪.‬‬
‫((أخوف من الدجال على أمتي‪ :‬الئمة المضلون)) هكذا نطق رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫‪617‬‬
‫أسباب الهزيمة وعوامل النصر‪ :‬الطاعة والمعصية‬

‫المعصية من غير ستار يسترها عارية مفضوحة‪ ،‬نتنة الرائحة‪ ،‬خبيثة المنظر ينفر منها كل أحد‬
‫ول يستسيغها أحد‪ ،‬لكنها حين تحف بالشبهة وتأتي إليك وهي تنطق كلمات ال فإنها تتزين‬
‫للناظرين‪ ،‬وهذا هو مكمن قوتها وسر قبولها ولذلك صدق من قال‪ :‬كم يخيفني الشيطان حين‬
‫يأتيني ذاكرا اسم ال‪.‬‬
‫العلم الصحيح القائم على الحق المطلق (الكتاب والسنة)‪ ،‬وترك التقليد‪ ،‬ونبذ التعصب‪ ،‬ومتابعة‬
‫السنة‪ ،‬والهتداء بمن ماتوا على خير‪ ،‬وترك التعلق بالغرائب والشذوذات‪ ،‬كل هذه محصنات‬
‫للمسلم من أن تمرر عليه ألعيب أهل الباطل من السدنة الكاذبين‪ ،‬وعلماء اللسان والسلطان‪،‬‬
‫وخطباء الفتنة‪.‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد‬
‫عفى ال عنهم إن ال غفور رحيم}(آل عمران)‪.‬‬
‫هذه الية من سورة آل عمران في عرضها لذكر المصاب الجلل في غزوة أحد‪ ،‬وهذه الية‬
‫جامعة لكل معوقات النصر وموانع وقوعه‪ :‬وإنما هي الذنوب‪.‬‬
‫{إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} وبعيدا عما قاله أهل التفسير رحمهم ال تعالى حيث‬
‫أكثروا فيها القول فإنما أقوالهم تعود إلى أمر واحد‪ ،‬وهو أن الشيطان ل يكون له على المسلم‬
‫سبيل في تحقيق مراده منه حتى يعطي المسلم الحجة لها‪.‬‬
‫{استزلهم الشيطان}‪ :‬أي أوقعهم في الزلل‪ ،‬والزلل هنا الهزيمة وعدم الثبات في المعركة‪ ،‬أي هو‬
‫تعطيل النصر وعدم تحقيقه‪.‬‬
‫{ببعض ما كسبوا}‪ :‬لقد كان للشيطان عليهم سبيل بأن حقق فيهم الهزيمة بسبب أعمالهم‬
‫وذنوبهم‪ .‬فهكذا هي سنة ال الجارية في المسلمين‪ ،‬وهي سنة ل تتخلف ول تتعطل وهي أن‬
‫الهزائم ل تقع إل بسبب أعمال يصيبها المسلم فتبعد عنه النصر وتقرب إليه الهزيمة‪.‬‬
‫وهنا ل بد من أمر نذكره وهو أن هذه المعاصي (أسباب الهزيمة) ل بد أن يكون لها من ارتباط‬
‫سنني مع الهزيمة‪ .‬أي أنها ليست مطلق المعاصي والذنوب لكنها المعاصي التي لها علقة‬
‫بالحرب والقتال مثل‪ :‬ترك التدريب‪ ،‬والعراض عن الجماعة‪ ،‬وعصيان المير‪ ،‬وترك الخذ‬

‫‪618‬‬
‫بالسنة القدرية كعدم تعيين صاحب المر المفيد في بابه‪ ،‬وهذا ل يعني التقليل من شأن الذنوب‬
‫الخرى لكن تأثيرها على نتيجة المعركة تأثير غير مباشر بخلف الذنوب التي لها علقة‬
‫مباشرة بعملية الجهاد والقتال‪ ،‬ولذلك من إبعاد النجعة حين نبحث عن أسباب الهزيمة في معركة‬
‫من المعارك وموقع من المواقع أن نذهب فنعدد معصية عدم صلة الرحم‪ ،‬أو معصية أكل مال‬
‫اليتيم كأسباب لحصول الهزيمة ونترك السباب المباشرة لحصول الهزيمة‪ ،‬فل بد أن ننتبه إلى‬
‫العلقة القدرية بين السبب والمسبب‪ ،‬بين العمل والنتيجة‪ ،‬بين الذنب والهزيمة‪.‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬إن فرعون عل في الرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم‬
‫ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين} (القصص)‪.‬‬
‫في هذه الية من سورة القصص يبين ال سبحانه وتعالى أسلوب الطاغوت في فرض ألوهيته‬
‫على الخلق‪ ،‬وكيف حصل له العلو والفساد‪ ،‬والعلو في القرآن مقارن للفساد‪ :‬قال تعالى‪:‬‬
‫{وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا} (السراء)‪.‬‬
‫قال تعالى‪ { :‬عل في الرض وجعل أهلها شيعا) فأول أمر فعله لستتباب حكمه وإفساده هو‬
‫تفريق الناس فجعلهم شيعا‪.‬‬
‫واللفظ القرآني (جعل أهلها شيعا) فيه من الدللت العميقة والتي تحتاج إلى كشف وبيان‪ :‬فقول‬
‫ال تعالى‪( :‬شيعا) دل على أن فرعون لم يستخدم كثيرا من القهر في تحزيبهم وتشتيتهم‬
‫وتفرقهم‪ ،‬بل استخدم شيئا من المكر والدهاء في إثارة عوامل التفرق الكامنة في نفوسهم‪،‬‬
‫فالتشيع هو التناصر على شيء‪ ،‬فشيعة الرجل أتباعه وأنصاره‪ ،‬هذا التشيع حصل بإثارة كوامن‬
‫ذاتية في النفوس‪ ،‬فيها القبول الذاتي بحصول التشيع أي التباع والنصار‪ ،‬فصارت كل فرقة‬
‫تتبع وتناصر شيئا فيه الدافع الذاتي من المحسن الخارجي‪ ،‬وإل فلو كان فقط القهر الخارجي هو‬
‫الذي صنع الفرقة لما جاء لفظ (شيعا) ولجاء لفظ غيره‪ .‬ولكنهم صاروا شيعا بعامل ذاتي فيه‬
‫القبول الذاتي والرضوخ النفسي لهذا المحرض الخارجي وهو فساد فرعون‪.‬‬
‫وقد ذكر ال تعالى عقب هذا قوله‪ { :‬يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم}‬
‫وهنا لم يذكر ال تعالى شأن الذين اتخذهم فرعون ليمارسوا القهر والذبح والسبي‪ ،‬فحيث اتخذ‬
‫طائفة للستضعاف فإنه ول بد اتخذ طائفة أخرى للستكبار والستعلء‪.‬‬
‫والحديث هنا في ذكر القرآن لقصة موسى عليه السلم مع بن إسرائيل‪ ،‬ولكن الحديث القرآني‬
‫عنه في جعل الناس شيعا جاء عاما { إن فرعون عل في الرض وجعل أهلها شيعا}‪.‬‬

‫‪619‬‬
‫هكذا هي سنة الطاغوت في استتباب ملكه وتجذير شره في الناس‪ :‬أن يكون الناس شيعا‪ ،‬التفرق‬
‫والتنازع والتعدد‪.‬‬
‫والقران ل يذم التفرق على أساس الحق حيث يتعدد الناس إلى فرق بحسب أديانهم‪ ،‬بل هذا هو‬
‫الواجب في دعوة النبياء‪ ،‬فإن النبي صلى ال عليه وسلم فرق بين الناس‪ ،‬فالمؤمنون ينزعون‬
‫أنفسهم من بين الكافرين ويتفرقون عنهم ويتشيعون دونهم على حقهم‪ ،‬وأهل السنة ينزعون‬
‫أنفسهم من بين أهل البدع ويتشيعون دونهم على السنة‪ ،‬وهذا من أسباب تحقيق الرفعة لهم‬
‫والعزة لدينهم ولسنة النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫أما الذنب الذي ل يجبر في هذه الدنيا فهو التشيع على الباطل‪ ،‬والتحزب على غير الحق‪،‬‬
‫والتفرق على أسس الجاهلية‪ ،‬فهذا الذي يجعل لزلل الشيطان فيهم موضعا‪.‬‬
‫وكذلك من الذنب الذي تعجل به العقوبة وتحصل به الهزيمة الجتماع على غير الحق‪،‬‬
‫واللتفاف على الباطل‪.‬‬
‫التحالفات المقيتة (هزيمة)‬

‫إن من أعظم ما نراه واقعا ومحققا الهزيمة للمسلمين في كل موقع هو التحالفات على أسس‬
‫الوطنية المقيتة‪.‬‬
‫لقد كان لهذا الباب دور شر على أمتنا في عدم تحقيق مقاصد الشريعة بل وقوع الضد وهو‬
‫تحقيق مصالح أعداء ال تعالى‪ .‬فما من تجربة وقعت فيها التحالفات على غير الهدى والحق إل‬
‫وكانت هذه التحالفات السبب الماحق لكل المكاسب التي يحاول أهل السلم تحقيقها‪.‬‬
‫لقد أعمل فينا فرعون عمله حين قسم المسلمين إلى طوائف وشيع حسب بلداننا وقرانا واستجبنا‬
‫له بفعل الجاهلية التي أعملت فينا عملها‪ .‬فتفرقت أوصالنا على أسس الجاهلية المقيتة فسهل‬
‫على الشيطان أن يبث فينا شره‪.‬‬
‫وهذا وقع أشد منه وقوعا بين المسلمين وأوضح معلما‪ .‬أي تفرق المسلمين شيعا على أساس‬
‫الباطل (الجاهلية) واجتماعهم على أساس باطل (الجاهلية)‪.‬‬
‫هذه الوطنية المقيتة متى يعلو أهل السلم عن خبثها ونتنها؟‪ :‬جماعات مسلمة تتحد مع‬
‫جماعات كافرة على أساس الوطنية‪ ،‬وتعرض عن أخواتها لنها ليست من بلدها ووطنها‪ ،‬فكيف‬
‫يتحقق النصر حينئذ؟!!‪.‬‬

‫‪620‬‬
‫كيف نخطو إلى أهدافنا والشيطان يعمل فينا عمله ولم نستطع أن نتجاوز ما استمرأنا عليه من‬
‫نتن الجتماع على القبيلة الواحدة والبلد الواحد والدولة الواحدة؟!!‪.‬‬
‫نحن ل نذيع سرا حين نقول إن هذا المرض ما زال يعمل عمله بين المسلمين وهو موجود بكل‬
‫ثقله ووطأته بين الفرق والجماعات‪.‬‬
‫لقد أعطانا ال تعالى عمقا جغرافيا نستطيع أن نستخدمه باتباع سبيل المؤمنين لتحقيق أهداف‬
‫السلم العظيمة‪ ،‬ولكننا قلبنا هذه النعمة نقمة وحولنا بقبول ذاتي ورضوخ نفسي عوامل النصر‬
‫إلى سبب الهزيمة‪ ،‬ثم والعجب من ذلك كله صرنا نتمتع بلعق هذه الدماء النازفة منا دمارا‬
‫وتفتيتا‪ ،‬وأقصد بهذا التمتع هو ما نراه بين الشباب المسلم من استكبار وغرور في تعداده لمناقب‬
‫أهل بلده‪ ،‬وظلمه وحيفه وهو يعدد مثالب وأخطاء بلد غيره‪.‬‬
‫أتمنى أن يكتشف كل أهل بلدة أخطاءهم ومثالبهم وسوءاتهم مثل قدرتهم على اكتشاف سيئات‬
‫وأخطاء الخرين!!‪.‬‬
‫إن الجرح في الكف‪ ،‬بل إن الجرح تحول إلى مرض سار في البدن كله‪ ،‬فإن لم نتداركه باتباع‬
‫الشرع الحنيف هلكنا واستزلنا الشيطان بقبولنا أن نكون شيعا‪.‬‬
‫إيثار الحق على الخلق (نصر)‬
‫اعلم يا عبد ال أن هذا الدين ل يعطى ثماره في الخلق حتى يثقوا به تمام الثقة‪ ،‬وتمتلئ قلوبهم‬
‫به‪ ،‬ويستغنوا به عمن سواه‪ ،‬لن صاحب هذا المر هو ال سبحانه وتعالى‪ ،‬وال جل وعل‬
‫كامل قدوس ل يعتريه النقص والضعف {ل تأخذه سنة ول نوم}‪ ،‬فلما كان صاحب هذا المر‬
‫كامل ل يحتاج إلى غيره‪ ،‬علومه كاملة‪ ،‬وعطاياه كاملة‪ ،‬فإن تخلف شيء من العطاء إنما هو‬
‫لضعف في الخلق‪ ،‬وعدم استحقاقهم لكامل العطاء والمنح‪.‬‬
‫واعلم حفظك ال وهداك أن هذا الحق ليس بحاجة إلى رضا أحد من البشر‪ ،‬ول يجوز للمسلم‬
‫الواثق بكمال هذا الدين أن يطلب من الغيار أعداء هذا الدين الرضا والقبول على هذا الدين‪،‬‬
‫فإنه إن فعل ذلك دل على أنه مهزوم في نفسه‪ ،‬ل يثق الثقة الكاملة بهذا الدين‪ .‬وهذه هي حقيقة‬
‫الهزيمة‪ ،‬لن الهزيمة ليست خسارة أرض وبلدان‪ ،‬ول ضياع أولد وخلن‪ ،‬ول ذهاب أموال‬
‫وأعراض وعمران‪ ،‬بل الهزيمة تخلي المسلم عن دينه‪ ،‬وإصابته في نفسيته من جهة ثقته بهذا‬
‫الدين‪ ،‬ولذلك سيبقى السؤال قائما للتفريق بين إعلمين ودعوتين‪ :‬هل علينا أن نسعى لقناع‬
‫الغيار بوجودنا وحقنا في إثبات مواقفنا؟ وهل سيكون دور إعلمنا وكلماتنا ودعوتنا أن نقنع‬

‫‪621‬‬
‫الغيار (من كفرة ومبتدعة وضلل) بأنفسنا؟ فلعلنا ننال منهم نظرة رضا أو كلمة إعجاب‪،‬‬
‫وقبول الوجود‪.‬‬
‫هل هذا هو دور العلم والنشرات والدوريات؟ أن نرتق الكلمات‪ ،‬ونخفي شيئا ونظهر شيئا‪،‬‬
‫فنضع أيدينا على آيات ساطعة‪ ،‬وكلمات مضيئة حتى يرضى عنا الغيار‪.‬‬
‫أم أن هذه القضايا ل تهمنا‪ ،‬بل همنا أن نظهر دين ال تعالى كما هو في نفسه من غير تقية ول‬
‫مناورة ول جمجمة؟‪.‬‬
‫على أي حساب وضعنا هذه المقارنة فسيكون خيار أهل الثقة بهذا الدين هو خيار الذين باعوا‬
‫أنفسهم ل وارتقبوا في كل لحظة التخطف من الرض‪ ،‬واللحوق بالصادقين من هذه المة‪،‬‬
‫هناك فرق بين التاجر مع ال والتاجر مع المال والدينار‪ ،‬وهناك فرق بين الحكمة المزعومة‬
‫المكذوبة وبين الحكمة التي تحمل في طياتها أول ما تحمل كلمة الحق لن الحق هو الحكمة‪،‬‬
‫والحكمة هي الحق‪ .‬هي قاعدة يعرفها أهل السلم‪{ ،‬ولن ترضى عنك اليهود ول النصارى‬
‫حتى تتبع ملتهم}‪ .‬أليست هذه آية محكمة وهي قاعدة في حصول الصراع بين الحق والباطل‪،‬‬
‫وأن هذا الصراع سيبقى قائما مادمت مفارقا لباطلهم‪ ،‬ولن يسكتوا عنك حتى تكون مثلهم‪.‬‬
‫إن خوف حصول البلء معناه ترك سبيل ال‪ ،‬وإن سلوك سبيل ال معناه وقوع البلء‪ ،‬أما أن‬
‫تسلك سبيل ال ثم تطلب حصول المان والرضا والستقرار فهذا لعمري في القياس عجيب‪.‬‬
‫إن قاعدة التبرير بعد التقصير يتقنها كل الناس‪ .‬وهذا القرآن الكريم مليء بحجج المنافقين‬
‫وبحجج تاركي الحق‪ ،‬لكنها وإن تقنعت بقناع الحكمة والتروي والتبصر‪ ،‬فإنها مكشوفة عند‬
‫أصحابها وعند أهل البصيرة وقبل ذلك عند علم الغيوب‪.‬‬
‫بل البلء كل البلء ومعاناة المة من صنوف العذاب والهوان والذل والضعف المبين‪ ،‬إنما‬
‫يكون بالعراض عن هذا الدين وترك الجهاد {إل تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما‬
‫غيركم ول تضروه شيئا وال على كل شيء قدير} واعلم أن البلء سنة كونية شرعية وهو واقع‬
‫بالعبد ل محالة‪ ،‬فاختر لنفسك يا عبد ال أقوم السبيلين وأهدى الطريقين‪ ،‬واصبر على البلء كي‬
‫تؤجر فبلء في طاعة ال وفي سبيله وابتغاء مرضاته خير من بلء في معصية ال وإخلدا إلى‬
‫الحياة الدنيا الفانية السريعة الزوال‪ .‬وحياة في عز طاعة ال تفضي إلى رضوانه ونعيمه خير‬
‫من حياة في الذلة والشقاء تفضي بالعبد إلى سخط ال وعقوبته {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم‬
‫ثم ل يكونوا أمثالكم}‪.‬‬

‫‪622‬‬
‫واعلم أن سعادة المسلم في الدنيا والخرة إنما تكون بابتغاء مرضاة ال وباتباع هدي رسوله ‪:‬‬
‫{من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما‬
‫كانوا يعملون}‪.‬‬
‫وتأمل عبد ال قول الحق جل وعل‪ ،‬ثم كن على يقين وثقة من موعود ال {وعد ال الذين آمنوا‬
‫منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم‬
‫الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني ل يشروكون بي شيئا ومن كفر بعد‬
‫ذلك فأولئك هم الفاسقون} النور‪.‬‬
‫وآخر دعوانا أن الحمد ل رب العالمين وصلى ال على نبيه وعلى آله وصحبه‪.‬‬
‫***************************‬
‫أخوكم‬
‫أبو حمزة الشامي‬
‫الحد في ‪ 28‬صفر ‪ 1425‬هـ الموافق ‪18/4/2004‬‬

‫‪623‬‬

You might also like