Professional Documents
Culture Documents
العلوم المعرفية 2
العلوم المعرفية 2
العلوم المعرفية 2
شعبة الفلسفة
الفصل السادس
المحاضرة الثانية
فتحت مشاريع دعاوى الذكاء الصناعي آفاقا جديدة في مختلف المجاﻻت ،حيث دفعت فﻼﺳﻔﺔ
وباحثين من حقول مختلﻔﺔ مثل علم النﻔس المعرفي ،وعلوم اﻷعصاب واللﺳانيات ،واللغويات،
والمنطق ،والﻔلﺳﻔﺔ وعلوم اﻷحياء واﻷنتربلوجيا ،وعلم اﻻجتماع ،وغيرها من المجاﻻت اﻷخرى
الهادفﺔ إلى دراﺳﺔ مختلف اﻷنﺳاق الطبيعيﺔ والصناعيﺔ .بحيث تﺳعى العلوم المعرفيﺔ إلى اﺳتكشاف
مختلف الﺳيرورات المتعلقﺔ بالوظائف المعرفيﺔ من خﻼل أنﺳاق وأنظمﺔ ماديﺔ وعقليﺔ ،وكذلك
دراﺳﺔ اﻵليات المعرفيﺔ الﻔاعلﺔ على مﺳتوى الدماغ .وتﻔﺳير نشاطات الدماغ وفق أدوات مﻔاهيميﺔ
وإجرائيﺔ تﺳمح بتقﺳيم اﻹشكاليات المتعلقﺔ باﻹنﺳان بحﺳب الحقول المعرفيﺔ.
وفي هذا المقام ،فقد كان التقاء هذه العلوم في منتصف الخمﺳينات عندما بدأ الدارﺳون في مختلف
المجاﻻت بتطوير نظريات العقل القائمﺔ على تمثيﻼت معقدة وإجراءات الحﺳاب والخوازميات ؛
لتنتقل اﻹنﺳانيﺔ بذلك إلى عصر آخر يتمثل فيما ﺳمي بالثورة المعرفيﺔ) ،تعابير "الثورة المعرفيﺔ"
أو "عصر المعرفﺔ"؛ حيث تقاطعت حقول علميﺔ عدة حول موضوع مشترك .وهكذا يمكن أن
يقتصر القول بأن العلوم المعرفيﺔ بالكيﻔيﺔ يهتم التي يمكن بها لﻺنﺳان ،والحيوانات ،واﻵﻻت أن
تكتﺳب المعارف ،وكيف تتعامل معها وتعالجها ،وذلك بهدف فهم وظائف العقل .فهي تﺳتهدف
دراﺳﺔ مختلف وجوه النشاط المعرفي و البنيات الوظيﻔيﺔ للدماغ ،وبصﻔﺔ خاصﺔ وظائف الذكاء
والذاكرة .ومن ثم ،الﺳعي إلى فهم وظيﻔﺔ العقل البشري بﻔهم العمل الذي تقوم به مختلف وظائف
اﻹدراك ،والتمثل ،والﻔهم ،والتعلم ،والتذكر ،وغيرها من الخصائص العقليﺔ)الذهنيﺔ(.
1
2
-الذكاء الصناعي
ظهرت في اﻷربعينيات من القرن الماضي الﺳيبرنتيقا التي تحاول الجمع في نطاق واحد نظري
دراﺳﺔ اﻷنﺳاق الطبيعيﺔ والصناعيﺔ اهتمت العديد من اﻷبحاث بالذاكرة وطرق تخزين المعلومات
واﺳتخدامها وعقدها وحلها واﺳتردادها .في هذا المقام ،اعتبرت الﺳيبرنتيقا الممهدة لظهور الذكاء
الصناعي ،وهو ما ظهر في منتصف القرن الماضي لما نشر آﻻن تورينغ ورقﺔ بحثيﺔ تتضمن
خﻼلها على أنه ﺳيأتي الوقت الذي لن نﺳتطيع أن نُم ِيز فيه بين أداء اﻹنﺳان وأداء اﻵﻻت ،ليﻔتح منذ
ذلك الوقت آفاقا تنظيرا وتطبيقا .على هذا اﻷﺳاس ،ح َدد بعض الدارﺳين موضوع "المعرفيﺔ" بكونه
فرع من المعلوميات ،موضوعه :التعلم والتمثَل الصوري للمعارف بهدف محاكاتها بالحاﺳوب؛
ومادام الحاﺳوب ليس ﺳوى آلﺔ ﻻ تحتوي إﻻ على مبادئ رياضيﺔ و خوارزميات ،فقد ش َكل
الحاﺳوب كأداة للمحاكاة والتأويل الرمزي أهم الخصائص اﻷﺳاﺳيﺔ التي بنت عليها العلوم المعرفيﺔ
أبحاثها .من هذا المنطلق ﺳيعمل ماكرتي على تنظيم لقاء لمدة شهر فيDartmouth College
ﻹثارة انتباه الباحثين إلى أهميﺔ البحث في مجال الذكاء الصناعي .وفي هذا الصدد ،فإن مﻔهوم
الذكاء الصناعي يعود إلى محاضرة ماكرتي في هذا المؤتمر لتعيين برنامج يﺳعى إلى صنع آلﺔ
ذكيﺔ .وعليه ،إن جوهر الذَكاء الصناعي ُمتم ِثل حﺳبه في :اﻻهتمام ببرمجﺔ أجهزة الحاﺳوب ِ
لحل
المشاكل التي تتطلب درجﺔ عاليﺔ من الذكاء عند اﻹنﺳان .ومن ثم ،عرفه على أنه عبارة عن برامج
معلوماتيﺔ تﺳتهدف القدرة على أداء نﻔس المهام التي يقوم بها اﻹنﺳان .ش َكلت محاضرة ماكرتي
صت على إنشاء مراكز للبحث في هذا المجال ،كما
أرضيﺔ خصبﺔ لمناقشات كثيرة ،خاصﺔ وقد ن َ
كانت هاته المحاضرة مدعاة انطﻼقﺔ للعديد من المطارحات التي ه َمت قدرة الحواﺳب .ليتبلور
الﺳؤال المتعلق بما إذا كان الذكاء الصناعي هو مجموعﺔ من اﻹجراءات التي تﺳعى إلى إعادة
إنتاج الﺳلوك اﻹنﺳاني ،أم محاولﺔ لنمذجﺔ الﺳلوك اﻹنﺳاني؟ وما إذا كان مﻔهوم الذكاء يحيل فقط
على أداء الوظائف المعقدة؟ كما ُ
طرح الﺳؤال بخصوص أوجه التشابه واﻻختﻼف والﻔوارق بين
الذكاء الطبيعي والذكاء الصناعي فيعاد طرح الﺳؤال في إطار فلﺳﻔﺔ العقل حيث ﺳتظهر عبر
مقاربات مختلﻔﺔ خاصﺔ المقاربتين الثنائيﺔ والواحديﺔ التي ﺳتتناول بعض ﺳماته اﻷﺳاﺳيﺔ كالوعي
والقصديﺔ باعتبارهما من بين أهم مشكﻼتها.
يﺳتﻔاد من هذا ،الذكاء الصناعي أحدث تطورات تحوﻻت عميقﺔ في منظوماتها المعرفيﺔ القائمﺔ،
ﺳواء من الوجهﺔ الوظيﻔيﺔ أو اﻹجرائيﺔ ،والتي من شأنها أن تتيح فهما مختلﻔا ومغايرا لطرق
اشتغال العقل البشري في ﺳعيه إلى اكتﺳاب معارف جديدة ،أو إعادة اﺳتثمار معارف مخزونﺔ.
وبموجب أعمال ﺳعى العديد من الباحثين إلى بناء آلﺔ ذكيﺔ تحاكي اﻹنﺳان؛ فبدأ النقاش حو
2
3
إمكانات تحقيق برامج معلوماتيﺔ قادرة على "أن تتصرف" أو باﻷحرى "تﻔكر" بشكل ذكي ،وقد
حدد ترينغ هدف بوصف من أجل محاكاة ذكاء اﻹنﺳان ،وفي أحﺳن اﻷحوال إعادة إنتاجه في
آلﺔ.
لنﻔهم القوى المعرفيﺔ اﻹنﺳانيﺔ علينا أن نكتشف البرامج التي تنﻔذها الكائنات اﻹنﺳانيﺔ عندما
يﺳتعملون قواهم المعرفيﺔ .هذه هي الﻔرضيﺔ التي انطلق منها العديد من الدارﺳين في محاولﺔ فهم
اﻷﺳس المعرفيﺔ عند اﻹنﺳان ،بل ﺳعوا كذلك إلى ابتكار آلﺔ قادرة على محاكاة ما يقوم به اﻹنﺳان
ﺳلوكا وفكرا؛ إنها الرغبﺔ في خلق آلﺔ تعمل بشكل ذكي .وقد اﺳتطاعوا من خﻼل المقارنات بين
عمل الدماغ وعمل اﻵلﺔ فهم العديد من المﺳائل المتعلقﺔ بالكيﻔيﺔ التي يﻔكر بها اﻹنﺳان وطرق
اﺳتخدامه لقدراته المعرفيﺔ .كما تمكنوا من فهم الطرق التي ينهجها عقل اﻹنﺳان عندما يﺳتخدم
القدرات المعرفيﺔ ،كالذكاء والذاكرة ،وغيرهما .وهو ما أفضى بهم إلى القول بقدرتهم على صناعﺔ
آلﺔ قادرة على محاكاة العمليات المعرفيﺔ عند اﻹنﺳان .ذلك أن العقل كحاﺳوب رقمي ،فهو يشبه ألﺔ
ترينغ التي تنﻔذ عمليات حﺳابيﺔ بتطبيق برامج .لنﻔترض أن الدماغ اﻹنﺳاني ألﺔ ترينغ ،فيمكننا
دراﺳﺔ العقل الذي هو بمثابﺔ برنامج أو مجموعﺔ من البرامج التي ينﻔذها الدماغ.
-علوم اﻷعصاب
توجهت علوم اﻷعصاب أﺳاﺳا إلى البحث في تركيبﺔ وبنيﺔ الدماغ والكشف عما يطرأ في أجزاء
الدماغ عندما يقوم اﻹنﺳان بوظائف ذهنيﺔ ،هي محاولﺔ لتطوير النظريات الرياضيﺔ والمعلوماتيﺔ
ونماذج البنيات ومﺳلﺳﻼت دماغ اﻹنﺳان والحيوان .لقد لجأ علماء اﻷعصاب إلى إجراء تجارب
تتعلق بﻔحص تركيب الدماغ .حيث اﺳتخدموا تقنيات عدة لمعرفﺔ ما يحدث في مختلف أجزاء
الدماغ عندما يقوم الﻔرد بمهام ذهنيﺔ مختلﻔﺔ ،واﻵثار التي تحدث عندما يتعرض جزء معين من
الدماغ لضرر ما ،مثﻼ تعرض الجزء الخاص باللغﺔ إلى ضرر ما قد يؤدي إلى عدم القدرة على
التعبير عن جمل .في هذا الصدد ،تﺳتعين في بحوثها بعلوم اﻷحياء ،و علم النﻔس ،والمعلوميات،
والكيمياء ،والﻔيزياء ،وﻻ يجب أن ننﺳى الﻔلﺳﻔﺔ)فلﺳﻔﺔ العقل( ،التي لها أثر واضح في مناقشﺔ
الكيﻔيﺔ التي تتناول علوم اﻷعصاب العديد من القضايا مثل هل يمكن لحادث في الدماغ أن يغير
من هويﺔ الشخص .وماهي العﻼقﺔ الموجودة بين الدماغ والذهن )عﻼقﺔ العقل بالجﺳد( ،باﻹضافﺔ
إلى أﺳئلﺔ من قبيل العﻼقﺔ بين المقاربات للعقل ،كيف يمكن أن ندرس العقل؟ بأيﺔ كيﻔيﺔ يعمل
العقل؟ كيف يﻔكر اﻹنﺳان؟ ما طبيعﺔ الﻔكر؟ ماهو الوعي؟ كيف نﺳتخدم اللغﺔ؟ وغيرها من
الظواهر المتعلقﺔ بآليات التﻔكير ،مثل اللغﺔ واﻻﺳتدﻻل واﻹرادة والوعي.
3
4
ظهر علم النﻔس المعرفي في خمﺳينيات القرن الماضي بتزامن مع الذكاء الصناعي؛ وكان الهدف
هو دراﺳﺔ محتوى "العلبﺔ الﺳوداء" ،بما تطلب من تطوير تصورات قادرة على وصف ما يحدث
بداخلها .وقد ﺳاعد ظهور المعلوميات على تزويدها بآليات تﺳمح بمعالجﺔ القدرات المعرفيﺔ؛ حيث
لعبت النمذجﺔ المعلوماتيﺔ دورا أﺳاﺳيا .التوجه المعرفي في علم النﻔس يركز على دراﺳﺔ ما هو
ذهني ،وليس اﻻقتصار على الﺳلوك الخارجي القابل للمﻼحظﺔ فقط؛ فهو ﻻيرى وعلى عكس
التوجهات أن اﻻﺳتبطان هو طريق للولوج لتﻔﺳير مناﺳب للذهن .ومن ثم ،ركز على دراﺳﺔ
الوظائف الكبرى عند اﻹنﺳان مثل اللغﺔ ،وحل المشاكل ،واﻹدراك أو الذاكرة ،وحﻔظ المعارف
واﺳترجاعها؛ لهذا ،يهتم بالكيﻔيﺔ التي يﻔكر بها الناس ويتذكرون وكيف ينظمون ويﺳتخدمون
معارفهم ،وكيف يتخذون قراراتهم ويتوصلون إلى حل المشاكل التي تعترضهم ،والطرق التي
يقدمون بها اﻷخبار والمعلومات ،وكيف يتﻔاعلون مع أي خبر أو معلومﺔ جديدة .بالجملﺔ ،اهتمت
العلوم المعرفيﺔ بآليات التﻔكير ،والعﻼقات التي يربطها العقل بالﺳيرورات الذهنيﺔ التي تﺳمح بتعلم
المعارف.
يﺳتﻔاد من هذا ،أن كلمﺔ معرفﺔ تجد تﻔﺳيرها من كونها تتضمن إحالﺔ على مختف اﻷنشطﺔ التي يقوم
بها الﻔرد ،ﺳواء حين يﺳعى إلى اكتﺳاب معارف جديدة أو تمثلها أو تخزينها أو تذكرها قصد
اﺳتثمارها؛ إنها مجموعﺔ من اﻷنشطﺔ التي يقوم بها الﻔرد بهدف تنميﺔ معارفه والحﻔاظ عليها بغايﺔ
إعادة اﺳتعمالها؛ وكلها أنشطﺔ تتﻔاعل فيما بينها .لهذا ،أعتبر علم النﻔس ،خاصﺔ علم النﻔس
المعرفي ،مبحثا يحتل وضعا خاصا ضمن مختلف العلوم المعرفيﺔ ،ﺳواء من حيث المهام أو
اﻷهداف التي رﺳمت له والتي تﺳتهدف فحص ﺳلوكيات اﻹنﺳان عندما يتعامل مع محيطه .لقد عمل
علماء النﻔس المعرفي على تنظير النمذجﺔ وتنظير الحﺳاب.
منذ أواخر الخمﺳينات ظهر اﻻتجاه المعرفي في علم النﻔس .فﻔي هذه الﻔترة بدأت تظهر نواقص
في معالجات المدرﺳﺔ الﺳلوكيﺔ .فرغم تمكنها من تﻔﺳير الﺳلوك اﻵلي واﻷشكال الدنيا من التﻔكير،
فقد فشلت لما تعلق اﻷمر بتﻔﺳير اﻷشكال اﻷكثر تعقيدا من الﺳلوك ،مثل التﻔكير المجرد واﻹبداع
والقدرة على حل المشاكل المعقدة .فﻼ يمكن اﻻقتصار على مجرد المؤثر والمﺳتجيب لتﻔﺳير مثل
هذه الوظائف .فقد أدت عوامل أخرى مثل ظهور وأعمال تشومﺳكي في اللﺳانيات إلى بلورة
نموذج مختلف هو النموذج المعرفي لﻺنﺳان .فقد رفض من خﻼل نقده لكتاب " الﺳلوك اللﻔظي"
4
5
لـﺳكينر وإثباته عدم إمكان اكتﺳاب اللغﺔ اعتمادا على مبادئ التعزيز والعقاب؛ وقد أدى هذا إلى
الشك في كون العقل آلﺔ صماء تتعلم بالمحاولﺔ والخطإ إلى اعتبار العقل كيانا حركيا قادرا على
توليد قواعد اللغﺔ وتصيح القواعد وإلغاؤها متى ثبت فشلها.
لعبت أبحاث لﺳانيين مثل تشومﺳكي دورا أﺳاﺳيا في تطور العلوم المعرفيﺔ .فقد انطلق منذ
) 1957نموذج البنى التركيبيﺔ( في بناء أنحاء صوريﺔ ضمن ما يﺳمى بمدرﺳﺔ النحو التوليدي،
فقد حدد هدفه منذ اﻷول في بناء اﻷنحاء اﺳتناد إلى أﺳاس رياضي يجعلها تبتعد عن المقاربﺔ
الكﻼﺳيكيﺔ القائمﺔ على التصورات الﺳلوكيﺔ والبنيويﺔ ،والتي اعتمدت على اﻻﺳتقراء في
اﺳتخراج قواعد اللغﺔ .وبذلك عاد إلى ديكارت والتوجه العقﻼني ليﺳتعين بمبادئه قصد تﻔﺳير
الظواهر اللغويﺔ المعرفيﺔ المﺳؤولﺔ عن القدرة اللغويﺔ عند اﻹنﺳان .حيث يرى أن القدرة ناتجﺔ
عن معرفﺔ قبليﺔ لنحو كلي .يولد البشر ولديهم معرفﺔ فطريﺔ بالمبادئ ،يﺳميها "القواعد الكليﺔ"
والمشتركﺔ ،كما في ﺳائر لغات البشر .لذا ،جعل من مهمﺔ النحو تمييز الجمل النحويﺔ عن الجمل
غير النحويﺔ ،ليصبح بذلك آلﺔ توليديﺔ .وبالجملﺔ ،رفض فكرة تصور اللغﺔ كعادة نتعلمها
بالمﻼحظﺔ؛ ليبني نحوا صوريا يتبنى فرضيﺔ هذه القدرة ناتجﺔ عن معرفﺔ قبليﺔ لنحو كلي ،كما
اعترض على تصور المحاكاة مؤكدا أن الكﻔايﺔ ناتجﺔ عن معرفﺔ فطريﺔ لنحو كلي .لقد تطورت
هذه اﻷفكار خارج مبحث اللﺳانيات من قبل جورج فدور في دعوته الخاصﺔ بنمذجﺔ العقل.
كما ظهرت في هذه الﻔترة اﻷبحاث في إطار فلﺳﻔﺔ اللغﺔ مع دراﺳين من قبيل كوين ،وتارﺳكي،
ودفدﺳين ،بارهيﻼل،و مونتيغيو ،إلخ .حيث هذا اﻷخير التي قام بها مونتيغيو الذي تبنى تصور
التأويل المﻔهومي للغﺔ الطبيعيﺔ ،ليؤﺳس نظريﺔ قائمﺔ على أﺳاس رياضي ،تتمثل في النحو المقولي.
حيث نتمكن بذلك من نقل تعابير اللﺳان الطبيعي إلى عبارات تخضع للتأويل المﻔهومي ،بشكل
يﺳمح لنا بأن نﺳند لعبارة طبيعيﺔ واحدة صيغا محموليﺔ متعددة .كما أدى اكتشاف الحاﺳوب إلى
الحديث عن إمكان التخزين واﺳتقبال وتشﻔير واﺳترجاع المعلومات في الذاكرة .وفي نﻔس الﻔترة
اهتم بارهيﻼل باﻹشاريات وبالترجمﺔ) ،بتوﺳط الحاﺳوب( فبين اﺳتحالﺔ القيام بترجمﺔ آليﺔ متى لم
نتوفر على بنك للمعطيات كبير تهم المعطيات التي تخص العناصر خارج -لﺳانيﺔ .فالترجمﺔ تتطلب
معارف خارجيﺔ عن النص الذي ننوي ترجمته ،أما فيما تعلق فيرى اﻹشاريات أن مبدأ اﻹشاريﺔ
ﺳيجعل معنى قضيﺔ ما يتعلق ليس فقط بﺳياقه اللﺳاني بل أﺳاﺳا بمجموع معارف المتكلم .كان هناك
تأثير متبادل بين الذكاء الصناعي واللغﺔ ،حيث يﺳعى الذكاء الصناعي إلى بناء لغات للبرمجﺔ
وجعل اﻵلﺔ تﻔهم العديد من الكلمات التي قد تبدو غامضﺔ ،كما ﺳعت اللﺳانيات إلى تطوير اﻷبحاث
في العديد من المجاﻻت مثل تحليل المعجم والترجمﺔ اﻵليﺔ والمقاربﺔ اﻵليﺔ للغﺔ ،إلخ .في ظل هذه
5
6
الشروط اهتم الذكاء الصناعي في بداياته باللغﺔ وفهمها ،كما اللغات الصوريﺔ التي تﺳمح ببرمجﺔ
الحاﺳوب تشكل فرضيات تخص اللغﺔ اﻹنﺳانيﺔ)الطبيعيﺔ( .وهو ما جعل الباحثين في مجال
التطبيقات يعمدون إلى تطوير لغات برمجﺔ قادرة على معالجﺔ الرموز .وهناك لغتين جاري بهما
العمل في هذا المجال ،هما :ليﺳب Lispوهي اﻷولى المﺳتخدمﺔ في الذكاء الصناعي أوجدها
الباحث "ماكرتي" في نهايﺔ الخمﺳينات ،لتصبح من أهم لغات البرمجﺔ ،ويعتمد على عﻼقات
منطقيﺔ تتمثل في أن الحجﺔ تأخذ صادق إذا كانت ذرة وكاذب متى ليﺳت كذلك ،كما يعتمد على
العﻼقات الحﺳابيﺔ Prolog ،التي تهدف إلى محاكاة الطريقﺔ المنطقيﺔ في تﻔكير اﻹنﺳان ،تعمل
بنظام اﻻﺳتنباط واﻻﺳتنتاج؛ باﻹضافﺔ ، C++ Cإلخ.
ابتداء من الﺳتينيات ﺳتظهر مقاربات ذات توجهات مختلﻔﺔ منها المقاربﺔ المعرفيﺔ
والﺳﺳيو -لﺳانيات ،وتحليل الخطاب و فلﺳﻔﺔ اللغﺔ العاديﺔ والتداوليات والحجاج واﻻنتربلوجيا
الثقافيﺔ والتﻔكير النقدي .كما تطورت اللﺳانيات التطبيقيﺔ التي اهتمت من جهﺔ باللﺳانيات
التطبيقيﺔ ،ومن جهﺔ أخرى التناول اﻵلي للغات خاصﺔ الترجمﺔ اﻵليﺔ ،ثم اللﺳانيات المطبقﺔ على
تبلوجيا اللغﺔ .كما ظهرت عدة اتجاهات مختلﻔﺔ ﺳعت إلى دراﺳﺔ اللغﺔ باعتبارها فعاليﺔ )نشاطا،
ردا على الﺳلوكيﺔ( .وكان غرضها توضيح كيف يعمل العقل خﻼل عمليﺔ التﻔكير وكيف يكتﺳب
المعارف ومن ضمنها اللغﺔ .أي ،كيف يعمل الدماغ في اﺳتقبال وإخراج ومعالجﺔ المعلومات.
بمعنى آخر ،البحث في القدرات العقليﺔ في اكتﺳاب المعرفﺔ ،خاصﺔ ما يتعلق بملكﺔ التعلم .لقد
اﺳتهدفت مجمل اﻷبحاث اللغويﺔ التي ﺳارت دراﺳﺔ مختلف وجوه النشاط المعرفي ،مثل تحديد
الكليات اللغويﺔ و المبادئ العامﺔ التي تتحكم في الﺳلوك اللغوي .في مقابل هذه المقاربات التي
يمكن أن نﺳميها الطبيعيﺔ ،العقليﺔ أو الوظيﻔيﺔ ظهرت مقاربﺔ أخرى تقول بوجوب اﻷخذ بالبعد
الثقافي بقولها بوجوب اﺳتحضار تنوع الثقافات ،وهو ما ﺳيؤدي إلى تعديل للمعرفيﺔ اللغويﺔ نحو
نوع من البنائيﺔ الناتجﺔ عن العلوم اﻻجتماعيﺔ ،فالﺳﺳيولوجيا واﻻنتربولوجيا والﺳيكولوجيا في
بعدها المعرفي هي التي فتحت الباب منذ التﺳعينيات في المجال المعرفي اﻻجتماعي والثقافي .لقد
تم إغناء وتعديل لﺳانيات الخطاب ولﺳانيات النص بواﺳطﺔ المعطيات المعرفيﺔ اﻻجتماعيﺔ
والثقافيﺔ .ليتم التخلي بموجب ذلك عن ثنائيﺔ العقل والجﺳد ،الداخل والخارج لصالح فرضيات
معرفيﺔ .وقد أعطى هذه اﻷبحاث اﻻنطﻼقﺔ لمجالين:
أ -المعرفيﺔ الثقافيﺔ :فتحت آفاقا لنشاطات إنﺳانيﺔ مرتبطﺔ بالتذواتي .فظهرت أبحاث تخص الثقافﺔ
والمعرفﺔ ،وكان الغرض هو دراﺳﺔ التﻔاعﻼت بين العقل والثقافات.
6
7
ب -المعرفيﺔ اﻻجتماعيﺔ :تﺳمح بربط آليات إنتاج الخطاب بمعطيات خارجيﺔ.
-فلسفة العقل
يمكن القول بأنه إذا كانت الظواهر العقليﺔ أو النﻔﺳيﺔ قد ارتبطت في بدايﺔ التﻔكير اﻹنﺳاني بالطابع
الخرافي والﺳحري ،لتصبح بعد ذلك وبظهور الﻔلﺳﻔﺔ جزءا من البحث الﻔلﺳﻔي في إطار ما ﺳمى
بنظريﺔ المعرفﺔ ،ولتظل على هذا الحال حتى العصر الحاضر؛ حيث بدأت علوم أخرى مثل علم
النﻔس وعلوم اﻷعصاب بعد اكتشاف اﻷﺳس البيلوجيﺔ للعمليات النﻔﺳيﺔ والعقليﺔ تزاحم الﻔلﺳﻔﺔ في
دراﺳﺔ ﺳبل اكتﺳاب المعرفﺔ واﺳتثمارها .ولتكاثف مجموعﺔ من المباحث في ﺳعيها إلى فهم
مختلف الظواهر المتعلقﺔ بآليات التﻔكير عند اﻹنﺳان والحيوان ،بل حتى اﻵلﺔ؛ ومع ذلك فالﻔلﺳﻔﺔ
تﺳاهم في هذا المشروع في تناولها باﻷﺳاس أﺳئلﺔ تهم فلﺳﻔﺔ العقل مثل عﻼقﺔ العقل بالجﺳد،
وكيف يﻔكر اﻹنﺳان وفهم التﻔكير اﻹنﺳاني وعﻼقﺔ الﻔكر باللغﺔ.
إشكاليﺔ تحديد مﻔهوم فلﺳﻔﺔ العقل في اللغﺔ العربيﺔ واﻷجنبيﺔ ،فقد نعني به الذهن أو العقل أو النﻔس
أو الروح ،وأحيانا يتم خلطه بالدماغ والمخ ،وربطه أحيانا بالﻔهم واللغﺔ؛ كما هو حال الجﺳد
والجﺳم والبدن .فالتعبير "فلﺳﻔﺔ العقل" mindيجعل هذه الكلمﺔ تأخذ هنا معنى ثقافيا أكثر منه
روحيا ،فالعقل نشاط ذهني .بﺳبب إيماءاته الدينيﺔ ،تﻼفى الﻔﻼﺳﻔﺔ اﺳتخدام كلمات أخرى مثل
"الروح" أو هناك من تﻼفى حتى اﺳتخدام كلمﺔ "عقل" ليﺳتخدموا حاﻻت ذهنيﺔ أو الذهن أو
الوعي.
انطلقت فلﺳﻔﺔ العقل من أﺳئلﺔ منها هو من أنا؟ ما هو الﺳبل التي أﺳلكها لﻔهم ذاتي وفهم العالم
والتكيف معه؟ كيف تنﺳجم الظواهر العقليﺔ مع العالم المادي؟ ما عﻼقﺔ الذات بالموضوع؟ هل
الحاﻻت الذهنيﺔ تماثل الحاﻻت التجربيﺔ ،خاصﺔ الجﺳديﺔ؟ هل يمكن لعقلين أن يتقاﺳما نﻔس
الحالﺔ الذهنيﺔ؟ هل العقل ميزة خاصﺔ بالكائن اﻹنﺳاني دون غيره؟ هل للحيوانات عقول؟ هل لها
عقول تختلف جذريا عن العقل اﻹنﺳاني؟ هل يمكن للعقل أن يتصرف بحريﺔ في عالم محدد
ماديا؟ ما الذي يوحد بين مختلف الظواهر الذهنيﺔ من الحﺳاﺳيات الجﺳديﺔ البﺳيطﺔ إلى اﻷفكار
التصوريﺔ المعقدة؟ هل هناك تطابق بين الوعي ومضمونه المباشر في التجربﺔ؟ ما عﻼقﺔ الوعي
والملكات الذهنيﺔ بالجهاز العصبي؟ هل هناك وعي ووعي بالذات؟ كيف يمكن حل إشكال بين
زمنيﺔ الوعي وﻻمكانيﺔ الذهن؟ كيف يمكن لتجربتي عن اﻷلم أن توجد في عالم مادي ،وكيف
يمكن لبعض الجﺳيمات الماديﺔ المﻔروضﺔ أنها موجودة في الدماغ أن تﺳبب تجارب ذهنيﺔ؟ هل
كل الظواهر الذهنيﺔ قصديﺔ؟ كيف يمكن للقصد الذي هو ﻻمادي أن يﺳبب تحريكي لذراعي
7
8
)مشكل الﺳببيﺔ العقليﺔ(؟ ماذا يقع عندما ندرك شيئا ما ،عندما نلمﺳه أو نشاهده أو نﺳمعه؟ هل
نحن عندما نكون في حالﺔ مشاهدة شيء ما فهل ندركه مباشرة أو تتشكل لدينا صور ذهنيﺔ
نﺳتخدمها لتمثل الشيء؟إلخ.
كل هذا يقودنا إلى الﺳؤال المحور المتعلق بتحديد العﻼقات بين الحاﻻت الذهنيﺔ واﻷحداث
الواقعيﺔ ،أو بمعنى آخر إلى تحديد العﻼقات بين العقل والجﺳد .لقد غيرت هذه اﻷﺳئلﺔ ومثيﻼتها
مركز اﻻهتمام في النصف الثاني من القرن العشرين بعد أن تحول اﻻهتمام من فلﺳﻔﺔ اللغﺔ ،إلى
فلﺳﻔﺔ العقل؛ إلى فلﺳﻔﺔ الﻔعل ،أو بمعنى آخر من التمثل اللغوي إلى التمثل العقلي ،ومن التمثل
الذهني إلى الﻔعل .تحول مرده أﺳاﺳا إلى تحول اﻻهتمام من قصديﺔ اللغﺔ إلى قصديﺔ العقل ثم
قصديﺔ الﻔعل .حيث يرى العديد من المشتغلين بﻔلﺳﻔﺔ اللغﺔ أن معظم اﻷﺳئلﺔ التي طرحت في هذا
الحقل تعد حاﻻت خاصﺔ تتعلق بطبيعﺔ العقل .ومن ثم ،اقتنع العديد من المهتمين بأن حل العديد
من المﺳائل المطروحﺔ على مﺳتوى اللغﺔ يتوقف على البدء بحلها على مﺳتوى فلﺳﻔﺔ العقل ،ثم
فلﺳﻔﺔ الﻔعل؛ فلن نتمكن من فهم اللغﺔ ووظائﻔها متى لم نبدأ بﻔهم قدراتنا العقليﺔ .وذلك ﻷن اﺳتعمال
اللغﺔ ليس ﺳوى انعكاﺳا لقدراتنا العقليﺔ.
8