Professional Documents
Culture Documents
محاضرات فلسفة العلوم 2 السنة الثالثة فلسفة-1
محاضرات فلسفة العلوم 2 السنة الثالثة فلسفة-1
اعداد:
1
المحور األول:
لقــد عــرف العلم الحــديث اكتمالــه ونضــجه ـ ـ ـ خاصــة في مجــال الفيزيــاء ـ ـ ـ في القــرن الســابع عشــر مــع "إســحاق نيــوتن" Isaac Newton (1643-
،من خالل وضعه لنظرية متكاملة الجوانب تعطى تصورا واحدا ومتماسـكا لجميـع الظـواهر الكونيـة ،وهـو مـا أصـبح يعـرف بالتصـور الميكـانيكي اآللي للطبيعـة )1727
القائم على العلية واالطراد ،النظام والحتمية وال مجال فيه للمصادفة والفوضى ،وغاية العلم هي اكتشاف هذا النظام.
وقد استند هذا النموذج الحديث للعلم على جملة من األسس يمكن أن نجملها في النقاط التالية :
االستناد إلى فكرة البداهة والوضوح الذاتي ،وهو شرط ضروري للتبرير الذاتي الذي يعنى بالبحث عن القضايا الواضحة بذاتها باعتبارها أساس كل تبرير عقالني.
القائم على جملة من القواعد الثابتة ،و يستند المنهج العلمي كما تتصوره العقالنية الحديثة إلى مجموعة من المسلمات األساسية منها : وحدة المنهج
ـ ـ ـ مسلمة النظام:
ومفادها أن ظواهر الكون تسير وفقا لنظام ثابت ال يتغير ،فنسقية الظاهرة تضفي صفة المعقولية عليها وتجعل فهمنا لها في حدود نسق معين ال يتغير بتغير العقول،
»:النظام هو أحد مفاهيم العقل األساسية، والنظام يعبر عن مبدأ الهوية الثابت الذي يجسد عالقة الماهية بذاتها .يقول الالند (André Lalande )1963-1867
i
( ).
ويشمل الترتيب الزماني والترتيب المكاني والعلل والقوانين ،والنظام الطبيعي هو اطراد الحوادث وفقا لقوانين معينة
ـ ـ ـ ـ مسلمة الحتمية:
وتع ــني أن نظ ــام الك ــون ث ــابت ش ــامل مط ــرد ك ــل ظ ــاهرة من ظ ــواهره مقي ــدة بش ــروط تل ــزم ح ــدوثها اض ــطرار أي خاض ــعة لق ــانون مح ــدد ،وه ــذا م ــا يجعل ــه كون ــا منظم ــا (
ii
)( ) ،فليس في الطبيعـة جـواز وال إمكـان ،وال طفـرة وال معجـزة ،بـل كـل مـا فيهـا ضـرورة واطـراد ،ولمـا )Cosmosوليس هاوية من الفوضى والعماء (Chaos
iii
( )
فالحتميـة إذن ليسـت فقـط تعميمـا مؤيـدا بمـا نالحظـه ،بـل كانت الضرورة استحالة النقيض فإن الحتمية تعني أن كل ما يحدث البـد وأن يحـدث ويسـتحيل أن يحـدث سـواه .
أيضا مقدمة قبلية شرطية لجعل عالمنا منتظما ،وبهذا ارتبط مفهوم الحتميـة العلميـة بالقابليـة للتنبـؤ على أسـاس أن الكـون خاضـع لقـوانين ثابتـة يمكننـا التنبـؤ بكـل واقعـة الحقـة
بواسطة الحالة الكاملة في لحظة معينة تنبؤا صادقا صدقا يقينا ،وعلى هذا األساس يصبح الصدق واليقين تبريرا عقليا.
-iالالند :املوسوعة الفلسفية ،تعريب ،أمحد خليل ،منشورات عويدات ،بريوت ،ط ،2ص 720
-iiحممد عابد اجلابري :مدخل إىل فلسفة العلوم ،م س ،ص 416
-iiiميىن طريف اخلويل :فلسفة العلم يف القرن العشرين ،عامل املعرفة ،اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب ،الكويت ،العدد 200 ،264ص .119
2
"الموضوعية:
تعد الموضوعية معيارا لتمييز العلم عن غيره من أشكال المعرفة اإلنسانية األخرى والموضوعية هنا لهـا معنيـان ،المعـنى األول وهـو تحديـد الموضـوع محـل البحث العلمي،
وهذا يتضمن فصل هذا الموضوع عن باقي موضوعات البحث ،والمعنى الثاني هو فصل الذات عن الموضوع ،فالمعرفة العلمية هي معرفة موضـوعية مسـتقلة عن رغبـات
وتوجهات الباحث ،فهو باحث محايد ال يتأثر بحالته النفسية وال بالظروف االجتماعية وال بالخلفيات الثقافية التي ينتسب إليهـا فالمعرفـة العلميـة هي معرفـة موضـوعية بمعـنى
أنها تمدنا بوصف دقيق لألشياء الموجودة في العالم على أنها واقعية
ويوصف العلم بأنه موضوعي ألنه يزودنا بقواعد منهجية ومعايير ثابتة وشاملة ال تاريخية ،بمعنى أنها ال تتغير بتغير الزمان والمكان ،ومن هنا يتعلـق مفهــوم الموضـوعية
الحديث ،بكل ما هو قابل للتحقق التجريبي ،ومن ثم كانت الموضوعية في العلم هي االعتقاد بأن موضوعات المعرفـة لهـا وجـود مـادي خـارجي في الواقـع ،وأن العقـل يصـل
إلى إدراك الحقيقة الواقعية القائمة بذاتها والمستقلة عن الذات المدركة فكأن العقل (عقل العالم/المالحظ) له مهمة واحدة هي تسجيل ورصد الوقائع في الطبيعة رصدا محايــدا
بعيــدا عن كــل تحــيز إنســاني ،وبهــذا ارتبــط مفهــوم الصــدق واليقين بمفهــوم الموضــوعية ،فمعيــار صــدق النظريــة العلميــة وصــحتها هــو مراعــاة بنيتهــا وانســجامها المنطقي،
ومطابقتهـا للتجربـة فقـط ،دون االهتمـام بعالقـة العلمـاء كـأفراد أو كجماعـات تنتمي إلى مؤسسـة اجتماعيـة مـا ،وبمعـنى آخـر دون االهتمـام بمعتقـدات وخلفيـات العلمـاء الفكريـة
واإليديولوجية باعتبارها معتقدات ذاتية ال تدخل في بنية النظرية العلمية وتركيبها
الفيزياء المعاصرة وأزمة العلم الحديث :
لقد أدت التطورات العلمية التي شهدها الفكر العلمي منذ مطلع القرن العشرين إلى ثورة شاملة مست مجمل األسس النظرية والمنهجية التي ترسخت على مدى ثالثــة قــرون
لقوانين الحركة الفيزيائية األمـر الـذي جعـل العقـل العلمي يراجـع ويعـدل معظم المفـاهيم واألسـس النظريـة الـتي سـعت العقالنيـة من الزمن منذ اكتشاف نيوتن Newton
العلمية الحدي ـ ـ ـ ــثة لتب ـ ــريرها بحجـة أنهـا حقـائق ثابتـة كليـة ومطـ ــلقة ،حـتى تصب ـ ــح قـادرة على استي ـ ــعاب هـذا الواقـ ـ ــع العل ـ ـ ــمي الجدي ـ ـ ــد بـل إن هـذا الواقـع العلمي الجديـد يتطلب
استبدالها بعلم جديد ،وعقالنية علمية جديدة ،وقد تمثلت هذه الثورة العلمية على مستويين ،األول على مستوى علوم الرياضيات ،والثاني على مستوى العلــوم الفيزيائيــة .وإ ذا
كــان ظهــور الهندســات الالاقليديــة ،ونظريــة المجموعــات يعــبر عن الوجــه األول من األزمــة الــتي عرفهــا العلم الحــديث والعقالنيــة العلميــة الكالســيكية ،فــان الوجــه األخــر لهــذه
األزمة (و أعني به العلوم الفيزيائية) كان أعنف بكثير.
لقد حقق العلم الفيزيائي خالل الثلث األول من القرن العشرين تقدما مذهال ،أدى إلى تغيير الكثير من المفاهيم واألسس التي قام عليها العلم الكالسيكي ،حتى قيل أن التقدم
الذي أحرزه العلم في هذه الفترة يفوق ما أنجزته البشرية طوال تاريخها السابق ،ويمكن إجمال هذه االنجازات في ثالثة أعمال رئيسية كانت تمثل مجتمعة ثورة كبرى في
العلم وهي "نظرية الكوانتم" "لماكس بالنك " ( ،Max Planck )1947-1858ونظرية " النسبية الخاصة والعامة"" ألينشتاين " Albert Einstein
.)(1879-1955
نظرية الكوانتم:
لقــد كــانت نظريــة "الكــوانتم" ثمــرة جهــود مجموعــة من الفيزيــائيين الــذي حــاولوا تفســير ظــاهرة الضــوء ،وقــد شــكلت نظريــاتهم المــادة الضــرورية الــتي يتأســس عليهــا تصــور
الفيزيائي تجاه العالم ،ومحور األشكال في تفسير الضوء يرجع إلى طبيعته ،هـل هـو ذو طبيعـة جسـيمية أم موجيـة؟ فمنـذ القـرن السـابع عشـر اتخـذ البحث في الضـوء طـابع
) أن الضـوء عبـارة عن دقـائق متناهيـة في الصـغر تعـرف "بـ ـ المنافسة بين نظريتين مختلفتين وهما النظرية الجسيمية والنظرية الموجية ،وقد اعتقد "نيـوتن"(Newton
) أو جسيم الضوء ،تنبعث من الجسم المضيء وتنتشر في الفراغ بسرعات عالية ومنتظمـة في شـكل خطـوط مسـتقيمة وفي كـل االتجاهـات وذلـك في الفتون "(Photon
األوساط المتشابهة ،مستدال على ذلك بتكـون ظـاهرة الظـل ،وقـد نجحت هـذه النظريـة في تفسـير ظـاهرة االنتشـار واالنعكـاس* ،وتمكنت من البرهنـة على أن الضـوء األبيض
i
لكن هذا التصور النيوتوني للضوء لم يلبث أن اصطدم باكتشاف ظواهر تناقضه ،فقد تـبين أنـه ()
ممكن أن ينقسم إلى عدة ألوان وهو ما يعرف بالطيف (Spectre
)
عندما يسلط منبع ضوئي على حاجز به ثقب ،يؤدي ذلك إلى ظهور بقع ضوئية أعرض من هذا الثقب ،بل ويزداد حجمها كلما ابتعد عن هذا الثقب ،وهــذا مــا يتعــارض مــع
* iينعكس الضوء عندما يسقط على سطح أملس ،ويسمى الشعاع الذي يسقط بالشعاع الساقط ،وبعد أن ينعكس الشعاع يسمى الشعاع املنعكس
- 1اللون األبيض يتكون من سبعة ألوان :األمحر الربتقايل واألصفر واألخضر واألزرق والنيلي والبنفسجي ،واحنالل الضوء اىل هذه األوان السبعة هو ما يعرف بالطيف ،اجلابري :مدخل اىل فلسفة العلوم ،
م س ،ص 330
3
التصور النيوتوني " ،ألنه لو كان الضوء عبارة عن جسيمات تسير في خط مستقيم ،لكان حجم البقعة مساويا لحجم الثقب ،فعجز النظرية الجسمية عن تفسير ظاهرة انعراج
الضــوء أدى إلى ظهــور التفســير المــوجي أو النظريــة الموجيــة الــتي تــرى أن الضــوء عبــارة عن موجــات بمعــنى أن الضــوء ينتشــر على شــكل أمــواج طويلــة مماثلــة النتشــار
األمواج الطويلة الميكانيكية في األوساط المادية وعندما تتالقى مع جسم ما فإنها تمر من جانبيه ثم تلتقي خلفه كما تفعل أمواج البحر تماما.
وقد تعززت النظرية الموجية من خالل تجارب الفيزيائيين واكتشافهم للعالقة الموجودة بين ظواهر فيزيائية جديدة ومنها الكهرباء والمغناطيس والضــوء ،ويعتــبر ماكســويل*
أول من ربـ ــط بين الكهربـ ــاء والمغناطيسـ ــية من خالل تجاربـ ــه ال ــتي بينت أن التـ ــأثير المغناطيسـ ــي والتـ ــأثير )James Maxwell (1831-1879
) ،فـاألمواج الكهرطيسـية (الكهربائيـة المغناطيسـية) واألمـواج الضـوئية لهـا الكهربائي ينتشـران على شـكل أمـواج وبسـرعة هي نفس سـرعة الضـوء 3000كم/ثـا(Km/s
عبــارة عن أمــواج كهرطيســية أي عبــارة عن مجــال كهربــائي ومجــال Maxwell نفس الســرعة وبالتــالي هي ذات طبيعــة واحــدة ،فالضــوء حســب معادلــة "ماكســويل"
i
()
مغناطيسي ينتشران في آن واحد.
وهكذا أصبحت النظرية الموجية هي النظرية العلمية المقبولة والقادرة على تفسير جميع الظواهر الفيزيائية ،لكن هـذه النظريـة قـد تعرضـت النقالب عـنيف سـنة 1900على
)الجســيمية ،فقــد افــترض (Newton ) الــذي أثبت أن الضــوء يتــألف من جســيمات ،ومن ثم أيــد نظريــة "نيــوتن" يــد األلمــاني "مــاكس بالنــك " (Max Planck
) أن اإلشـعاع ال ينطلـق من المـادة على شـكل تيـار متصـل مثـل تيـار المـاء المتـدفق من خرطـوم ،بـل هـو أشـبه بطلقـات من الرصـاص تنطلـق من مـدفع "بالنك" (Planck
فالطاقة ال تظهر إال بصورة منفصلة متقطعة ،على شكل حبات أو وحدات محددة تسمى بالكوانتوم *** (Quan ii
( )
رشاش ،فاإلشعاع ينطلق على هيئة مقادير منفصلة.
) إلى إبـداع فكـرة الكم نظـرا لمـا أثارتـه هـذه التجربـة من نتـائج تتعـارض مـع معطيـات العامـل األهم الـذي ألهم بالنـك (Planck ) وتعتبر تجربة الجسم األسود tum
التجربة.
(كم) أي وحــدات ال تقبــل لقــد انطلــق "بالنــك" ( )Planckمن مســلمة إن الطاقــة منفصــلة وإ ن الضــوء عبــارة عن طاقــة تســري على شــكل "كــوانتم" Quantum
التجزئة وأخذ بالبحث عن الكيفية التي تتوزع بهـا الطاقـة الضـوئية في الجسـم األسـود وربـط هـذا التوزيـع بتـواتر أشـعة ذلـك الضـوء ودرجـة حـرارة ذلـك الجسـم ،وتوصـل إلى
ت ،حيث (ك) هـو قيمـة الكـوانتم ،و(ه) عـدد ثـابت مقـداره صياغة العالقة بين كم الطاقة والطول الموجي في معادلة سميت بثابت بالنك وفقا للصـياغة التاليـة :ك = ه x
)" إلى انقالب ثـوري جعـل العلمـاء ،: x 10-27 6,62ويعرف بثات بالنك ،أما (ت) فـيرمز للتـواتر ، iiiوهكـذا أدت معادلـة "مـاكس بالنـك(Max Planck
( )
يتخلون عن كثير من المفاهيم األساسية في الفيزياء ،بل هـزت هـذه الثـورة الجذريـة الكيـان الفيزيـائي برمتـه بسـبب مـا كـان لهـا من أثـر في ظهـور نظريـات وتصـورات علميـة
جديدة .
أن الضوء له طبيعة مزدوجة جسيمية وموجية ،فالشعاع الضوئي )Louis de Broglie (1892-1987 وفي عام 1924أعلن "لوي دو بروي*
يتألف من حبات (كما تقول النظرية الكوانتية) ،ولكن لكل حبة ضوئية (أو فتون) موجة خاصة تصحبه باستمرار ،فعندما ينتشر الفتون يكون مصحوبا دوما بموجة من عنــده
) إلى أنــه ال يمكن (de Broglie تغمــره وتجعلـه يشــغل حــيزا ال يمكن ضـبطه بدقـة ،ونقــل هــذه الفكــرة إلى مجــال جزيئــات الـذرة (االلكترونــات) وتوصـل " دو بــروي"
ماكسويل جيمس كالرك ، ) 1879-1831( :فيزيائي اجنليزي ،من أهم اجنازاته :معادالت املوجات االلكرتو مغناطيسية ذات السرعة يف الفراغi *
حممد عابد اجلابري :مدخل اىل فلسفة العلوم ،م س ،ص 2- 333
-3iiالسيد نفادي :الضرورة واالحتمال بني العلم والفلسفة ،دار التنوير للطباعة والنشر ،بريوت ، 2005ط ،2ص. 140
*** الكوانتوم :هو كم الطاقة اليت تتعامل به الطبيعة أخذا وعطاء كمقدار ثابت ،أو هو وحدة الطاقة اإلشعاعية .
iii
4
تحديد موقع اإللكترون بدقة ،ذلك ألن طول موجته والذي يمثل موقعه ،تحدده كتلة اإللكترون وسرعته ،وألن الكتلـة تتغـير بتغـير السـرعة ،فإنـه من المتعـذر ضـبط مكانـه بمـا
i
أن سرعة اإللكترون تقترب من سرعة الضوء( ).
وفي ظل هذا التسارع المذهل لحركة االكتشافات الفيزيائية المتعلقة بالميكروفيزياء ،أعلن العالم األلماني"هايزنبرغ" Werner Heisenberg (1901-
عن مبدئه الشهير المعروف باسم "مبدأ الالتعيين" الذي ينص على استحالة التعيين الدقيق لموضع اإللكترون وسرعته في آن واحد ،ذلك ألنه عنـدما يزيـد ضـبط )1976
موقع اإللكترون البد أن نسلط عليه شعاعا ضوئيا وبقوة ،ولكن عندما يصطدم الفوتون باإللكترون يمتص منه قسطا من طاقته يضيفها إلى نفســه فـتزداد ســرعته فنعجــز عن
ii
( )
ضبط مكانة.
وقد أدى مبدأ الالتعيين إلى إعادة مراجعة مفهوم أساسي في العلم والعقالنية الكالسيكية ،وهو مفهـوم "الحتميـة"الـذي يقـوم على إمكانيـة التنبـؤ الـدقيق لموقـع الجسـم انطالقـا من
تحديد سرعته ،وبما أن هذا التنبؤ أصبح مستحيال في الفيزياء الذرية ،فان المفهوم الكالسيكي للحتمية قد انهار ليحل محله مفهوم االحتمال ،وبما أن مبدأ الالتعــيين يقــوم على
اعتبار أثر أدوات القياس ،والرصد والتجريب واألجهزة المعملية في الظواهر موضـوع الدراسـة فـان األمـر يـدعو إلى مراجعـة مفهـوم " الموضـوعية العلميـة " كمـا تصـورتها
العقالنية العلمية الكالسيكية.
وإ ذا كانت النظرية "الكوانتية " تعد وجها من أوجه الثورة العلمية التي عصفت باألسس والمبادئ التي قام عليها العلم الكالسيكي فإن الوجه الثاني لهذه الثورة العلمية كان
(Albert Einstein
). أعنف بكثير ،وأعني به ظهور نظرية "النسبية" ل ـ " ألبرت اينشتاين "
نظرية النسبية
) هي الثـورة الفيزيائيـة األولى (أي الثـورة ضـد فيزيـاء" أرسـطو " تعد نظرية النسبية الجزء الثاني المكمل للثورة الفيزيائية الثانية ،فإذا كانت فيزياء "نيوتن"(Newton
فإن نظرية "النسبية " هي الثورة الفيزيائية الثانية ،فقد أحدثت انقـ ــالب ـ ـ ـ ـ ـ ــا إبيستمولوجيا حقيقيا في بنية العلم الكالسيكي ،وغيرت الكثير من مفاهيمه األساسية كمفهوم "المطلــق"،
ومفه ــوم "الزم ــان "و "المك ــان" و"الحرك ــة" و"الس ــرعة" و" الكتلــة" ،وقــد أدى ذلــك إلى إعــادة صــياغة قواعــد الميكانيك ــا النيوتوني ــة على أس ــس تجريبي ــة يق ــول "أينش ــتاين" » :إن
iii
( )
« الضرورة هي التي حتمت ظهور نظرية النسبية بعد ما اكتشفت تناقضات عميقة وخطيرة في النظرية القديمة.
وتنقسـم نظريـة النسـبية إلى "نظريـة النسـبية الخاصـة " الـتي أعلن عنهـا اينشـتاين عـام 1905و"نظريـة النسـبية العامـة " والـتي تمتـد من " ،1915-1912فالنسـبية الخاصـة"
تتنـاول األجسـام والمجموعـات الـتي تتحـرك بعضـها بالنسـبية إلى بعض بسـرعة ثابتـة والنسـبية العامـة تتنـاول األجسـام والمجموعـات الـتي تتحـرك بعضـها بالنسـبية إلى بعض
بسرعة متزايدة أو متناقصـة ،وقـد سـميت ب ـ ـ ــ" النسـبية" تأكيـدا على أن الحركـة المطلقـة فقـدت معناهـا ،وأننـا أمـام حقيقـة نسـبية "نسـبية الحركـة" ،ووصـفت بـ ـ ـ ـ ـ "الخاصـة" تأكيـدا
على أن الحركــة المعينــة بين هياكــل الرصــد الحــرة هي الحالــة الخاصــة من الحركــة لكونهــا حركــة كونيــة منتظمــة ،وعلى نفس الوتــيرة ،ووصــفت " بالعامــة " تأكيــدا على أن
) (iv
الحركة المعينة بين هياكل الرصد الحرة هي الحركة العامة التي تكافئ مجال الجذب العام «
لقد انطلق "اينشتاين" في بناء نظرية النسبية الخاصة من فرضيتين أساسيتين :
الفرض األول يتعلق بإنكار فرض " األثير المطلق " الذي قامت عليه الفيزياء النيوتونية ،فقد أثبت "اينشتاين" أن كل حركة هي حركــة نســبية فليس هنــاك "حركــة مطلقــة"،
فنحن ال نستطيع أن نقول أن جسما ما ،له سرعة كذا أو كذا بل يجب أن نقول أن الجسم له سـرعة كـذا بالنسـبة لكـذا ،وليس هنـاك" مكـان مطلـق " يمكن إسـناد كـل شـيء
إليه مثلما فعل "نيوتن" بفرضية "األثير "و هو المطلق عنده.
" .لويس دي برويه ،) 1960 -1875( :فيزيائي فرنسي ،من أهم مؤلفاته " :الفيزياء وامليكروفيزياء *i-
حممد عابد اجلابري :مدخل اىل فلسفة العلوم ،م س ،ص376
املرجع نفسه ،ص ii- 377
-iiiألربت انشتاين وليوبولد أنفلد :تطور الفيزياء ،مرجع سابق ،ص 14
-ivآلربت اينشتاين :النسبية :النظرية اخلاصة والعامة ،ترمجة رمسيس شحاتة ،مراجعة حممد مرسي امحد ،دار هنضة مصر ،القاهرة 1965ص .25
5
والفـ ــرض الثـ ــاني هـ ــو أن "سـ ــرعة الضـ ــوء مقـ ــدار مطلـ ــق وثـ ــابت بالنسـ ــبة لجميـ ــع المشـ ــاهدين" ،بـ ــدون النظـ ــر إلى حـ ــالتهم الحركيـ ــة من مصـ ــدر الضـ ــوء ،يقـ ــول"اينشـ ــتاين"(
i
) » :ت كون لسرعة الضوء في الفضاء الفارغ نفس القيمة القياسية دائما بغض النظر عن حركة منبع الضوء أو مسـتقبله «( ) فسـرعة الضـوء المقـدرة ب ـ ــ: Einstein
). 300ألف كلم/ثا ،هي الثابت الكوني الوحيد عند اينشتاين (Einstein
وقد ترتبت عن الفرضين السابقين جملة من القوانين تمثل جوهر نظرية النسبية وأبرزها:
نسبية المكان والزمن والمسافة
لقد أثبت" أينشتاين" أنه ليس هناك معيـار واحـد ثـابت نسـتند إليـه في تحديـد مكـان جسـم مـا ،أو تحديـد المسـافة بين جسـم وأخـر تحديـدا مطلقـا ،أو تحديـد سـرعة جسـم مـا ،وال
يوجد معيار ثابت نستطع بفضله تحديد الفترة الزمنية لوقوع حادثة ما على مستوي الكون كله ،ذلك أن كل فضاء له زمانه الخاص به.
فإذ كنا نقدر الزمان على "األرض" من خالل اليوم( ،وأجزائه أي السـاعة ،والدقيقـة ،والثانيـة) ،واألسـبوع ،والشـهر ،والعـام على أسـاس أن اليـوم هـو مـدة دورة األرض حـول
نفسها ،والسنة هي مدة دورة األرض حول الشمس ،فـإن هـذا التقـدير سـيختلف إذ كنـا على كـوكب "عطـارد " أو على أي كـوكب أخـر ،وهـذا يعـني غيـاب النمـوذج أو "المعيـار
الثابت" الذي نحسب به الزمان ،ما دامت أن الساعات المستعملة على األرض قد ضبطت على النظـام الشمسـي ،ممـا يعـني أن المـدة الـتي نسـميها السـاعة مـا هي إال مقيـاس
ii
( ).
فالبـد حينمـا نريـد قيـاس زمن الحـوادث أن يكـون ذلـك بالنسـبة للكـوكب الـذي نقيس فيـه ،وهـذا مـا يجعـل فكـرة "الزمـان المطلـق" فكـرة ال معـنى لهـا ،فكلمـات مثـل : مكاني
" اآلن ،وقبل ،وبعد" هي تصورات نسبية يقول "اينشتاين" »:وقبل ظهور النسبية كانت الفيزياء تسلم تسليما أعمى بأن الزمن أمر مطلق ،أي أنه مستقل عن حالة الحركــة أو
iii
( )
السكون التي عليها مجموعة اإلسناد « .
وهكذا تجاوزت النسبية الخاصة التصورات النيوتونيـة المتعلقـة "بالزمـان" عنـدما نسـبته إلى النظـام اإلحـداثي الـذي أشـتق منـه ،فال وجـود لزمـان واحـد للكـون ،فتتعـدد األزمنـة
).
(iv
بتعدد األنظمة ،يقول"اينشتاين" » :علينا أن نقبل مفهوم الزمان النسبي في كل نظام إحداثي ،ألنها الطريقة األفضل للخروج من صعوباتنا«
ويري اينشتاين أن القياسات الزمنية لحدث ما تختلف باختالف محاور اإلسناد ،والتي تكون في حركة نسبية بالنسبة لبعضها البعض ،فالزمن يتباطـأ مـع السـرعة ،فـإذا بلغت
سرعة الجسم سرعة الضـوء فـإن الـزمن سـيتوقف وبهـذا ربـط "اينشـتاين" الـزمن بالحركـة ،فال وجـود لـزمن مطلـق ،كمـا أن "المكـان" في نظـر اينشـتاين مقـدار متغـير ونسـبي
يمكن وصفه بالنسبة لمتغير أخر ،فلكي نحدد مكان شيء ما تحديدا مطلقا يجيب تحديده بالقياس إلى شيء ثـابت ،لكن ال وجـود لنمـوذج أو معيـار ثـابت نسـتند إليـه في عمليـة
القياس فالكواكب ليست ثابتة ،وإ نما تدور حول الشمس بسرعات متفاوتة ،وليست الشمس والنجوم األخرى ثابتة .
ليس هناك إذن المعاير الواحد الكفيل بتحديد مكان شيء ما باعتباره مقياس ثابت »:كما أن "المكان" ليس منفصال عن األجسام ،وليست األجسام في مكان ،وإ نما هي امتداد
v
( )
فالمكان ليس إال عالقات بين األشياء ،والزمن ليس إال عالقات بين الحوادث. مكاني ،وبذالك يفقد المكان الفارغ (الخالء) معناه «
نحــو األرض ،بينمــا يراهــا شــخص يجــري على وال وجــود أيضــا "لحركــة مطلقــة" ،فحين أســقط حجــر من نافــدة قطــار يجــري ،فــإني أري حركــة ســقوط الحجــر مســتقيمة
) (vi
،وال يعني "اينشـتاين" بنسـبية المكـان والزمـان األرض خارج القطار حركة مائلة منحرفة ،وال معنى للحركة مستقلة عن المالحظ ،وال عن المجال الذي تتحرك فيه
(vii
) ،تختلـف بـاختالف األنظمـة اإلحداثيـة والمكـان والحركة ،أنها تصورات ذاتية تختلـف من شـخص ألخـر ،وإ نمـا يعـني أن النسـبية هنـا هي نسـبية فيزيائيـة ال سـيكولوجية
6
ومن النتائج التي أفرزتها نظرية " النسـبية الخاصـة "مبـدأ " تكـافؤ قـوانين الطاقـة والكتلـة" ،فالطاقـة عنـد "أينشـتاين" هي كتلـة وكم ومقـدار ،وقـد صـاغ كتلـة الطاقـة في المعادلـة
مربـع سـرعة الضـوء " ،ووصـل"أينشـتاين"من اكتشـافه الكتلـة الطاقـة إلى أن المـادة والطاقـة متكافئتـان ،أي يمكن تحويـل إحـداهما إلى األخـرى»: التاليـة " :الطاقـة = الكتلـة x
i
فالكتلـة طاقـة مركـزة حين تتحـرك المـادة بسـرعة الضـوء نسـميها طاقـة أو إشـعاعا ،وإ ذ خمـدت الطاقـة وأدركتـا كتلتهـا نسـميها مـادة « ( ) ،وعلى هـذا األسـاس دمج "أينشـتاين"
قانوني "بقاء الطاقة"،و"بقاء المادة" في قانون واحد هو قانون بقاء الكتلة طاقة" *.
ومن التصورات الجديدة التي أفرزتها نظرية النسبية العامة ،فكرة ا"لمتصل الرباعي األبعاد" ،وتقوم هذه الفكرة على تصور جديد لفكرتي "المكان المطلق والزمــان المطلــق،
خاصــة بعــد أن دحضــت فرضــية األثــير ،وينص هــذا التصــور الجديــد على أن فصــل المكــان على الزمــان متكلــف غــير طــبيعي ،وليس إال تجريــدا من الواقــع ،على أســاس أن
هناك تداخل بينهما ،ويؤلف هذا التداخل كيانـا واحـدا هـو المتصـل ،ولمـا كـان حسـاب طـول األشـياء مرتبـط بمعرفـة اللحظـة الـتي يتم فيهـا حسـاب هـذا الطـول ،فال منـاص من
ii
( )
فـإذا أردنـا اإلقرار بمتصل الزمان ـ المكان كخليفة لألحداث ،يقول اينشتاين »:ليس هناك قـول أعم من أن العـالم الـذي نعيش فيـه متصـل زمـاني مكـاني ربـاعي األبعـاد «
وصف أو تحديد شيء طـبيعي متحـرك ،فال يكفي تحديـد موضـعه في المكـان ،بـل يجب أيضـا تحديـد طريقـة تغيـير موضـعه في الزمـان ،وهكـذا أضـيف الزمـان إلى األبعـاد
المكانية الثالثة.
النتائج االبيستمولوجية للثورات العلمية المعاصرة
لقد أدت الثورات العلمية الـتي أبرزنـا بعض جوانبهـا ،سـواء في مجـال الرياضـيات ،أو في مجـال الفيزيـاء النظريـة الى جملـة من النتـائج كـان لهـا انعكـاس على طبيعـة العلم
المعاصر ومن أهم هذه النتائج:
تصـدع البنـاء المنطقي للعلم الكالسـيكي وإ عـادة النظـر في مفهـوم العقـل ،وذلـك من خالل نـزع صـفه الصـالحية المطلقـة ألطـره ومبادئـه الـتي جـرى العـرف في العقالنيـة
الكالسيكية على اعتبارها قوانين العقل األساسية ،ولم تقف هذه المراجعة عند حدود صورتي الحدس الحسي (المكان والزمان) ،بل امتــدت إلى المبــادئ الـتي كــان يعتقــد أنهــا
مبادئ عقلية ضرورية تسمح بانتظام التجربة كمبدأي السببية والحتمية ،حيث أبرزت الفيزياء الكوانطية تجـارب تخـالف بعض مبـادئ العقـل الكالسـيكية كمبـدأي الذاتيـة وعـدم
التناقض ،وذلك من خالل إثبات الطبيعة الثنائية (الجسمية – والموجية) للضوء.
ـ فــك الحصــار الــذي كــان مضــروبا على العقــل ،فــإذ كــان أرســطو تصــور المنطــق أداة مطلقــة تعصــمنا من الخطــأ ،فــإن جدليــة العلم أثبتت أن عــدم الوقــوف عنــد هــذه األداة
iii
( )
المنطقية هو ما يعصمنا من الخطأ .
لقد أكدت العقالنية المعاصرة أن مجال العلم المعاصر أساسه الالنظام ،والفوضى ،والتعددية ،والالسلطة ،وهذ ما يتعـارض مـع القواعـد والمعـايير والمبـادئ الثابتـة الـتي يقـوم
عليها المنهج بمفهومه الكالسيكي .فالمنهج العلمي يتغير من حقبة تاريخية إلى أخرى ،وليس هو بالحقيقة الثابتة ،ولهذا كانت العقالنية المعاصرة عقالنية "ضد المنهج" كمــا
سنبينه في الفصول القادمة.
ومن أهم القيم التي أفرزتها العقالنية المعاصرة قيمة النقد وقابلية كل شيء للمراجعة ،فليس هناك حقائق مطلقة ومبادئ ثابتة أو أنساق نهائية.
-iعلي مصطفي مشرفة :النظرية النسبية اخلاصة ،جلنة التأليف والرتمجة والنشر ،القاهرة ،194 ،ص .43-42
ضŠئيال من املادة مبكن أن يعطينŠا كمŠا هŠائال من * لقانون تكŠافؤ الكتلŠة والطاقŠة أمهيŠة كبŠرية يف الفيزيŠاء املعاصŠرة ،فالكتلŠة عنŠدما نضŠرهبا يف مربŠع السŠرعة سŠتنتج مقŠدارا كبŠريا من الطاقŠة وهŠذا يعŠين أن مقŠدارا
الطاقة
-iiآلربت اينشتاين :النسبية النظرية اخلاصة والعامة ،م س ،ص .55
-iiiسامل يفوت :العقالنية بني النقد واحلقيقة ،م س ،ص .83
7
المحور الثاني
مقدمة :
درج الكثير من فالسفة العلم والميتودولوجيين على تناول المنهج العلمي اعتبارا من القرن السابع عشر ،تاريخ ظهور كتاب "االورغانون الجديد" لـ ـ "فرانســيس بيكــون " الــذي
اعتبر البداية الحقيقية لمعالم المنهج العلمي ،لقد اعتبر"بيكون" القياس األرسطي أداة غير صالحة للكشف العلمي ،وسـببا في تـأخر العلـوم الطبيعيـة ،فـالمنطق األرسـطي منطـق
عقيم في كث ــير من وجوه ــه ،وال يس ــتجيب للتط ــورات ال ــتي عرفه ــا العلم ،وعلى ه ــذا األس ــاس أس ــس "بيك ــون" لمنط ــق جدي ــد أو آل ــة جدي ــدة « األرغ ــانون الجدي ــد » New
في مقابل "األورغانون األرسطي"ووضع طريقة جديدة في الكشف العلمي تقوم على المنهج االستقرائي الذي أصبح يسـيطر على منـاهج العلمـاء في العلـوم Organon
8
الطبيعية ،وامتدت تطبيقاته إلى مجال العلوم اإلنسانية في ما بعد ،لقد أصبح المنهج االستقرائي عمـاد العلم الحـديث ،لكن التطـورات الـتي شـهدتها فلسـفة العلم المعاصـر نتيجـة
الثورات العلمية خاصة في مجال الرياضيات والفيزياء النظرية قد أدت إلى مناهضة هذا المنهج وهذا ما سنتناوله في هذا المحور.
يع ــد المنهج االســتقرائي عن ــد النزعــة االســتقرائية في صــورتها التجريبي ــة ه ــو المنهج الوحي ــد للوصــول إلى المعرفــة العلمي ــة ،ألن التجرب ــة الحس ــية أو المالحظ ــة هي مصــدر
المعرفة ،وأن العقل صفحة بيضاء ترتسم فيه المعرفة من الخارج ،لذا من الضروري أن تكـون الحقيقيـة العلميـة مؤسسـة على مالحظـات ووقـائع عن طريـق منهج االسـتقراء
وهــو المنهج الوحيــد الصــائب إلقامــة المشــروع العلمي ،إذ ال يمكن تصــور ســبيال آخــر لبنــاء معرفــة علميــة من غــير أن يكــون لالســتقراء فيــه دور أساســي فهــو الســبيل الوحيــد
لالنتقال من التجربة الحسية إلى التعقل المجرد ( القانون).
) عن المبــدأ بقولــه "..من الواضــح أن العلم بــدون هــذا المبــدأ ســوف لن يكــون لديــه الحــق في تميــيز نظرياتــه عن خيــال الشــعراء ويعــبر"ريشــنباخ" (Reichenbach
i
الخالق وإ بداع عقولهم" ،ومبدأ االستقراء مقبول صراحة من جانب العلم بأسره وأنه ال يمكن ألي إنسان أن يشكك في هذا المبدأ حتى في الحياة اليومية ( ).
وق ــد جعلت النزع ــة المنطقي ــة من االس ــتقراء المنهج الس ــليم لبن ــاء لغ ــة للعلم محكم ــة منطقي ــا ،ومؤسس ــة على جم ــل وعب ــارات أولي ــة تك ــون مطابق ــة لوق ــائع مف ــردة أولي ــة (جم ــل
الــبروتوكول) والــتي ال يمكن الحصــول عليهــا إال من خالل منهج االســتقراء ،فمبــدأ االســتقراء ســيقرر الوقــائع المفــردة الخارجيــة ،والوقــائع المفــردة ســتقرر جمــل الــبروتوكول
(علم الداللـة)" ،وباسـتخدام قواعـد المنطـق األساسـية (في األساسية ،واألخيرة ستشيد مجمل المحتوى المعرفي عن العالم الخارجي في لغة "السيمنطيقا" (Semantics
ii
( )
تركيب حدود العبارات وجمل اللغة) سنحصل على لغة العلم المحكمة منطقيا ،وهذا هو جوهر المشروع التجريبي المنطقي إلنتاج لغة علم محكمة وموحدة
وإ ذا ك ــانت التجريبي ــة المنطقي ــة ال تختلــف في ه ــذه المرحلــة األولى من مراح ــل منهج االس ــتقراء المتعلق ــة بجم ــع الوقــائع المف ــردة من الع ــالم الخ ــارجي عن النم ــوذج األساس ــي
،فإنها ستتجاوز هـذا النمـوذج في لالستقراء عند "بيكون" ( Francis Bacon )1626-1561و"ج.س .ميل" (John Stuart Mill )1873-1806
المرحلة الثانية من مراحل المنهج االستقرائي والمتعلقة بكشف القوانين العلمية والتعميمات.
جملــة من القواعــد لوضــع الفــروض واختبارهــا ،فــإن (Mill ) برنامجــا متكــامال للوصــول إلى كشــف هــذه التعميمــات ،وحــدد "ميــل" فبعــد أن وضــع "بيكــون" (Bacon
التجريبية المنطقية تنكر وجود قواعد ثابتة لالستدالل االستقرائي ،فال وجود ألي برنامج يدلنا على كيفية إنتاج القوانين ،بناء على المالحظات والوقائع التجريبية "
iii
( )
فعملية الكشف تعلو على التحليل المنطقي ،إذ ال توجد قواعد منطقية يمكن بواسطتها صنع "آلة للكشف" تحل محل الوظيفة الخالقة للكشف العبقري
) نفس هــذا االتجــاه في إنكــار ،وجــود قواعــد ينبغي إتباعهــا للوصــول إلى القــوانين والنظريــات العلميــة من الوقــائع المالحظــة بقولــه ":من ويتجــه كرنــاب (Carnap
المشــكوك فيــه مثال أن نقــوم بصــياغة قواعــد تمكن العــالم الفيزيــائي من معاينــة مئــة ألــف قضــية تقــرر أشــياء مختلفــة يمكن مالحظتهــا ،وعندئــذ يتمكن من وضــع نظريــة عامــة
(iv
). يفسر بها الظواهر المالحظة عن طريق التطبيق اآللي لتلك القواعد .....إن ذلك يتطلب براعة خالقة".....
العلميــة كمــا حــددها " ميــل"و"بيكــون" (Mill et وبهــذا تجــاوزت التجريبيــة المنطقيــة ســذاجة االلــتزام بالقواعــد الــتي ينبغي إتباعهــا للوصــول إلى القــوانين والنظريــات
) و قدمت تصورا عن الكشف العلمي أقرب إلى واقع الممارسة العلمية. Bacon
9
) والتي تهدد التصور االستقرائي لتكون المعرفة ،وهو ما يعرف بمسألة غير أن هذا التصور لم يستطيع تقديم تبرير متين للمشكلة التي طرحها "هيوم"(D. Hume
"تــبرير االسـتقراء" أي التأســيس العقلي والمنطقي لتــبرير صـدق القــوانين والتعميمــات ،وقـد طــرحت التجريبيــة المنطقيــة أهم إشــكالية في االســتقراء وقـدمتها بعقالنيــة تماشــيا مــع
االنعطافــات الــتي حصــلت في فلســفة العلم المعاصــرة ،والــتي أدت إلى تجــاوز مفــاهيم العليــة والحتميــة واليقين والمطلــق ،وتجــاوزت مفهــوم البرهنــة القاطعــة على صــحة أيــة
معرفة أو أي مبدأ ،واستبدلته بمفهوم التبرير.
وتذهب التجريبية المنطقية إلى دعوى أنه إذا كان من المسـتحيل كمـا يقـول "هيـوم" البرهنـة على صـدق االسـتدالل االسـتقرائي ،فمن الممكن تـبريره عن طريـق جعـل الحكم
i
االستقرائي حكما مرجحا ،وما الحقيقة التجريبية سوى درجة عالية من االحتمال ،في حين أن الخطأ التجريبي ما هو إال درجة منخفضة من االحتمال ( ).
) أن التخلي عن االستقراء يعني تجريد العلم من أداته الكشفية ،وإ ن كانت الطريقة االستقرائية ليسـت السـبيل الوحيـد للكشـف، (Reichenbach ويرى ريشنباخ
لكنه السبيل الذي يملك األولوية المنطقية من حيث أنه يتيح لنا التنبؤ بخالف السبل األخرى ،فـإذا كـانت أهـداف العلم األساسـية تتمثـل في التفسـير والتنبـؤ ،فـإن إمكانيـة التنبـؤ
تفترض تصنيف الحوادث والوقائع إلى أنواع باالعتماد إلى عدد تكررها مما ينتج لالستقراء أن يكون مبدأ ومنهجا ناجحا للقيام بهذه المهمة.
وإ ذا كانت المعرفة التنبؤية ممكنة فإن الطريقة االستقرائية تمثل الشرط الكافي للحصول عليها" وقد تكون هناك طرق أخرى للقيام بها ( المعرفـة التنبؤيـة) لكننـا ال نعرفهـا،
ii
( )
. إال أننا نعرف المنهج االستقرائي جيدا ،وعليه سيكون المنهج والمبدأ الضروري لتبرير معرفتنا التنبؤية".
لكن هذا ال يعـني الوصـول إلى تنبـؤات دقيقـة وتفسـيرات نهائيـة ،فالنتـائج المسـتقاة من المنهج االسـتقرائي نتـائج احتماليـة فمراجعـة النظريـات والفرضـيات من طبيعـة الفعـل
العلمي ،فالنظريــة االحتماليــة في المعرفــة أداة لتــبرير االســتقراء ،وطريقــة يجعــل منــه أفضــل وســيلة لبلــوغ المعرفــة المتاحــة ،وهي معرفــة احتماليــة وال يمكن وصــفها إال أنهــا
(iii
)،كما أن المفاضلة بين النظريات يتم وفق معيار االحتمالية ،فالنظرية األكثر احتماال ،هي التي تملك أكبر عدد من الوقائع المحققة لها. مجرد ترجيحا
)نفس المنحى في تــبرير االســتقراء على أســاس الـترجيح واالحتمــال ،إال أنــه أضـفى على االحتمــال بعــدا منطقيــا تحليليــا قبليــا ،بعــد أن كــان ذا(Carnap وينحــو كارنــاب
) هــو عالقــة منطقيــة تربــط قضــيتين ،األولى هي الفــرض طــابع تركيــبي بعــدي عنــد ريشــنباخ ( )Reichenbachفاالحتمــال المنطقي لــدى كرنــاب (Carnap
الذي نفرضه والثانية هي البينـة أو الواقعـة التجريبيـة ،فـإذا كنت تصـوغ قضـية تقـرر أنـه بالنسـبة لفـرض مـا ،يكـون االحتمـال المنطقي فيـه 10/7طبقـا لبّينـة مـا فالقضـية كليـة
وتحليليــة ،ومعــنى هــذا أن القضــية تنتج مــع تعريــف االحتمــال المنطقي أو م ــن بــديهيات نســق منطقي دون الرجــوع ألي شــيء خــارج هــذا النســق المنطقي ،ودون اإلشــارة إلى
iv
العالم الخارجي( ).
) حــول طبيعــة االحتمــال إحصــائي ،أم منطقي ،بعــدي أم قبلي، وعلى الــرغم من تفــاوت وجهــة النظــر بين ريشــنباخ ( )Reichenbachوكارنــاب (Carnap
فإنهما يشتركان في تبرير االستدالل االستقرائي على أساس تبرير الترجيح الناتج منه والمستند إلى القدرة المعرفية الخاصة باالحتمال.
) ،ويقــترب موقفــه من أمــا "همبــل" ( )Hempelفقــد كــان لــه تصــور خــاص يختلــف عن تصــور ريشــنباخ ( )Reichenbachوكارنــاب (Carnap
) في الصـورة موقف كارل بوبر( ، )Karl Popperخاصة فيما يتعلق بفكرة "التعزيز" و"رجحان الصدق" ،ويمكن تلخيص منهج العلم عنــد همبــل (Hempel
-iاجلابري حممد عابد :مدخل إىل فلسفة العلوم ،م س ،ص 307
-iiاجلابري حممد عابد :مدخل إىل فلسفة العلوم ،م س ،ص 308
-iiiريشنباخ :نشأة الفلسفة العلمية ،م س ،ص 216
-ivرودولف كارناب :األسس الفلسفية للفيزياء ،م س ،ص47
10
التالية » :إن المعرفة العلمية ال تكون بتطبيق طريقة استدالل اسـتقرائي على معطيـات مسـتقاة مسـبقا ،لكن بتطـبيق منهج الفرضـية ،أي إيـداع فـروض تسـعى لحـل المشـكلة
i
( ).
المدروسة ،ثم إخضاعها الحقا للمراقبة التجريبية ،ويرتكز التحقق التجريبي أوال على معرفة هل الفرضية معززة بكل النتائج ذات الدالئل التي استطعنا جمعها «
) ،لكنه يقبل به لكن بتصور جديد ،فقبــول الفرضـيات يرتكــز (Popper ) ال يرفض االستقراء رفضا كامال كما سنجد ذلك عند بوبر (Hempel وعليه فإن
(ii
). تضفي عليها بداهة ويقينية من وجهة نظر استنباطية ،لكنها تمدها بسند استقرائي ،أو تأكيد قوي نسبيا
على المعطيات التي
وبناء على ما سبق فـإن االسـتقراء في تصـور التجريبيـة المنطقيـة هـو المنهج الـذي يـبرر موضـوعية وعقالنيـة المعرفـة العلميـة ،فالـذي يـبرر قبـول الفـروض العلميـة هـو
تأييدها على أساس البّينة والوقائع التجريبية ،والتأييد االستقرائي ال يثبت صدق الفرض أو القانون العلمي ،وإ نما يجعله أكثر احتماال.
ويتم اختبار الفرض عن طريق تحديد ما إذا كانت التنبؤات المشتقة عن الفـرض بمسـاعدة بعض الشـروط المبدئيـة تتفـق مـع معطيـات المالحظـة أم ال ،ومن المفـترض
أن معطيات المالحظة مستقلة عن النظرية ،كما أنها ال تعتمد العالم القائم بالمالحظة ،والعبارات التي يتم فيها صـياغة تلـك المعطيـات المحايـدة مـادامت الحـدود الـتي
iii
( )
ترد فيها كلها حدود مالحظة ،وبناء على هذا توفر عبارات المالحظة األساس الضروري لقبول القوانين العلمية بصورة موضوعية وعقالنية
المحور الثالث
تمهيد:
من أشهر فالسفة العلم في القرن العشرين ،ارتبط اسمه بالمحاوالت الجادة إليجاد بديل لالستقراء ،ونقده للنزعة يعد "كارل بوبر" (Karl Popper )1994-1902
االستقرائية ،وتأسيسه لمعيار "القابليـة للتكـذيب" الـذي يعتـبر محـور أفكـاره في الشـق المنهجي ومحاولـة لقلب المنهج االسـتقرائي رأسـا على عقب ،كمـا ارتبـط اسـمه "بالعقالنيـة
النقدية" التي شكلت الطابع العام لفلسفته العلمية .
كارل بوبر ونقد النزعة االستقرائية:
يمثل نقد االستقراء الحجر األساس في إبستمولوجيا "بوبر" ومدخال ضروريا للتعـرف على منهجيتـه التكذيبيـة ،وتعتـبر المقاربـة الـتي قـدمها لحـل إشـكالية االسـتقراء من أبـرز
المقاربات التي عرفتها فلسفة العلم في القرن العشرين ،ويتلخص مضمون إشكالية االستقراء في محاولة التبرير المنطقي ألساسه .
) ،فمب ــدأي ــرى ب ــوبر أن الص ــعوبات المتض ــمنة في المنط ــق االس ــتقرائي ال يمكن تخطيه ــا ح ــتى في ص ــورتها االحتمالي ــة كم ــا ح ــددها ريش ــنباخ(Reichenbach
االستقراء ال يمكن أن يكون صادقا صدقا منطقيا بحتا مثل القضايا التحليلية ،وال يمكن أن يكون صادقا تجريبيا أي أن صدقة مشتق من الخـبرة ،يقـول بـوبر »إذا كـان هنـاك
شــيء مثــل المبــدأ المنطقي البحت لالســتقراء فلن تكــون هنــاك مشــكلة لالســتقراء أصــال ....يجب إذن أن يكــون قضــية تأليفيــة ،بمعــنى أن نفيهــا ال يــؤدي إلى تنــاقض ....وإ ن
i- Carl Hempel : éléments d’épistémologie , Bernard saint sermin (Paris Armand Colin 1972 p 21-20
ii- Ibid p. 22
-iiiكارل مهبل :فلسفة العلوم الطبيعية ،ترمجة ،حممد جالل موسى ،دار الكتاب املصري ،القاهرة ،ص 56
11
حاولنا إسناد صدق هذا المبدأ إلى الخبرة فإن تبرير هذا المبدأ يتطلب استدالالت استقرائية ،ولكي تبرر تلـك االسـتدالالت البــد أن نفـترض مبـدأ اسـتقرائيا من مسـتوى أعلى ،
i
ومن ثم فان محاولة إسناد مبدأ االستقراء إلى الخبرة تتحطم ألنها تفضي إلى ارتداد ال نهائي « ( ).
،في عدم إمكانية تبرير االستقراء منطقيا ،لكنه يختلف معه في التفسير النفسـي لالسـتقراء مع د هيوم )David Hume (1711-1776 و يتفق بوبر
)تطـبيق المبـدأ نفسـه في مجـال علم النفس ويعلن بطالنـه من الناحيـة السـيكولوجية اسـتنادا (Hume على ضوء مبدأ العادة الذي قاله به هيوم ،إذ يعلن أنه كان على هيـوم
ii
النفس ) .فتكـرار الظـواهر حسـب بـوبر هـو نتيجـة السـتعدادنا لتوقـع االطـرادات ،وليس توقعنـا
(
إلى مبدأ التحويل ،الذي ينص على أن ما يصدق في المنطـق يصـدق في علم "
لالطرادات الموجودة في الطبيعة كان نتيجة لتكرار الظـواهر كمـا يعتقـد هيـوم ،فاإلنسـان يولـد وهـو مـزود بتوقعـات أو اسـتعدادات نظريـة سـابقة لكـل خـبرة ملحوظـة،
iii
( )
وتوقع وجود اطراد هو أحد أهم هذه التوقعات واالستعدادات النظرية.
والعلم ال يبدأ من مالحظات ،بل من فروض تخمينات ،والنظريات العلمية ليسـت خالصـة المالحظـات بـل هي اختراعـات وتخمينـات وضـعت من اجـل التجـريب ،فاالعتقـاد
بأن العلم يبدأ بالمالحظة البحة ( المحايـدة) الخاليـة من أي نظريـة ،هـو اعتقـاد مظلـل حسـب بـوبر ،وقـد حـاول أن يؤكـد ذلـك في أحـدى محاضـرته في" فيينـا" بـأن قـال لطالب
الفيزياء " :امسك بالقلم والورقة ،الحظ بعناية ودقة ،سجل ما تالحظه".
فتساءل الطالب عما يريدهم بوبر أن يالحظوه ،فأوضح بوبر أن عبارة " أالحظ فحسب "ال تعني شيئا فالمالحظـة دائمـا توجههـا مشـكلة مختـارة ،أو وجهـة من النظـر
(iv
). نريد من المالحظة أن نختبرها ،فالعالم/المالحظ يحتاج مسبقا إلى نظرية (تخمين فرض) يالحظ على أساسها
لقــد رفض بــوبر أن يكــون المنهج االســتقرائي هــو المنهج المعــبر عن الســير الحقيقي للعلم مســتبدال إيــاه بمنهج جديــد ينســجم مــع أســس العقالنيــة النقديــة ،ينطلــق من العقــل
(الفروض والتخمينات) ،وليس من المالحظة والتجربة لينتهي إلى المحاولة الدائمة لتفنيد ودحض الحقائق العلمية ،ال تبريرها .
)" ،فبعــدما كــان لهــا دور تحقيقي ايجــابي عنــد النزعــة االســتقرائية كمــا ()Popperارتبــط بــدور "البّينــة (l’évidence إن التحــول األساســي الــذي أحدثــه بــوبر
v
( )
سبقت اإلشارة إليه سابقا ،أصبح للبّينة عند "بوبر"دورا تفنيديا ،فالمنهج العلمي هو منهج التخمينات ،والمحاولة اإلبداعية الصارمة لتفنيدها .
وهــذه الفــروض والتخمينــات غــير قابلــة للتــبرير المنطقي ،بــل هي ذات بعــد ســيكولوجي حدســي ،غــير مرتبــط بمنطــق العلم وهنــا ترتســم عقالنيــة بــوبر النقديــة في تصــورها
لديناميكيــة حركــة نشــاط البحث العلمي القائمــة على النقــد في المقابــل العقالنيــة التجريبيــة المنطقيــة في تصــورها لحركــة البحث العلمي القائمــة على فكــرة التأســيس والــتراكم
» لقد كان المذهب السلطوي في العلم مرتبطا بفكرة التأسيس ،بمعنى إثبات نظرياته أو التحقق منها ،بينما ترتبط المقارنة النقدية للعلم بفكـرة االختبـار ،بمعـنى التدريجي
) (vi
محاولة تفنيد حدوسه االفتراضية ،أو تكذيبها «
). حيث تشير P1إلى مشكلة ( ، )Problem1و TTإلى محاولة حل (Tentative Theory
12
(Problem2
) وهكــذا "فكــل نقــاش إلى مشــكل ثــاني ( ،)Error EliminationوP2 إلى إلغــاء أو اســتبعاد الخطــأ EE و تشــير
علمي لديه نقطة بدء ،وهو مشكل نقدم له نوع من الحل المؤقت ،نظرية مؤقتة ،لتنتقد هذه النظرية لغرض استبعاد كـل إمكانيـة للخطـأ ،والمراجعـة النقديـة الدائمـة للنظريـة
i
يولد مشكالت جديدة" ( ) وليس بمقدور هذا المنهج تأكيد صحة النظرية ،إنما يستطيع تفنيدها فحسب ،وال تبقى إال المعززة منها .
) في مؤلفه «منطق الكشف العلمي« أربعة قواعد لمنهجه تتمثل في : و قد حدد بوبر (Popper
خطــة العلم مفتوحــة بالنهايــة ،أي ال يمكننــا القــول أن البحث في قضــايا العلم يقــف عنــد حــد معين ،وانــه تم التحقــق منهــا بشــكل نهــائي وفال يمكن إن نتوقــع من
الميتودولوجيا صدقا راسخا ،وإ نما نتوقع من العلم تقدما أكبر ،ويصبح على درجة عالية من الصدق .
إذا افترضنا فرض وتم اختباره ،وتثبيت صالبته ،فال ينبغي التخلي عنه ،حتى وإ ن صعب علينا تقديم سبب نجاحه أو يمكن استبداله بفرض أكثر قابلية لالختبار.
ال تقبل النظرية العلمية التبرير أو التحقيق ،وإ نما من أهم خصائصها ،القابلية لالختبار وهذا معيار موضوعيتها
ii
علينـا أن ال نتخلى عن البحث عن القـوانين الكليـة ،وعن ترابـط النسـق النظـري ،وإ ال نتوقـف عن محاولـة تفسـير أي نـوع من الحـوادث الـتي تخضـع للوصـف ( ) ،والمهمـة
األساسية لهذه القاعدة هي توجيه الباحث العلمي توجيها سليما في عمله ،فالتطورات التي وصلت إليها الفيزياء تتطلب منا ـ ـ حسب بوبر ـ ـ ـ التمسك بهذه القاعدة.
أما عن الخطوات اإلجرائية للمنهج كما حددها بوبر فيمكن إجمالها في النقاط التالية :
المقارنة المنطقية للنتائج بعضها البعض ،والتي بمقتضاها نختبر االتساق الداخلي للنسق.
البحث عن الصورة المنطقية للنظرية ،مع تحديد ما إذا كان لها خاصية النظرية األمبريقية ،أو لها خاصية أخرى.
المقارنة بالنظريات األخرى ،وهي تلتقي أساسا مع هدف تقرير ما إذا كانت النظرية تشكل تقدما علميا يخدم أغراضنا االختبارية المختلفة.
iii
( )
اختبار النظرية عن طريق التطبيقات االمبريقية للنتائج التي يمكن أن تشتق منها.
) (iv
ذالك من خالل قوله «:لقد ناقشت مشكلة التمييز تفصيال ألنني اعتقد أن حلها هو إال مفتاح لحل معظم المشاكل الرئيسية لفلسفة العلم«
و يعـد معيـار القابليـة للتكـذيب المعيـار العقالني لتميـيز القضـايا العلميـة عن تلـك غـير العلميـة ،وفي هـذا الصـدد يقـول "بـوبر" « :أن الـدور األساسـي الـذي تلعبـه النظريـات
والفروض أو الحدوس االفتراضية في العلم يجعل من األهمية بمكان إن نميز بين النظريات القابلة لالختبار ،أو القابلة للتكذيب ،وبين النظريات غـير القابلـة لإلخبـار ،أو
v
( )
غير القابلة للتكذيب«
والقابلية للتكذيب لها وجهان ،وجه صوري يحدد الصيغة المنطقية للنظريات العلمية ،وهو مجرد معيار يحـدد الخاصـية العلميـة لهـا ،ووجـه واقعي تختـبر فيـه النظريـة عن
طريق ما نستنبطه منها من الواقع التجريبي ،وهذا االختبار يؤدي إما إلى تفنيد النظرية ،أو تعزيزها.
13
ويختلف معيار القابلية للتكذيب عن معيار"القابلية للتحقيق" الذي تبنته التجريبيـة المنطقيـة كأسـاس للتميـيز بين المعـنى والال معـنى ،وبالتـالي بين العلم والال علم ،بعـد أن
) أن معيار قابلية التكذيب ال يعـني أن النظريات غير القابلـة للتكـذيب ،نظريـات "بوبر" (Popper طابقت بين المعنى والعلم ،وبين الال معنى والالعلم ،في حين يؤكد
i
كاذبة أو بدون معنى بل هي نظريات ال تنتمي إلى عالم العلم التجريبي ،وإ لى أن تحين الفرصة لبيان كيفية تكذبيها ( ).
فالنظرية غير القابلة االختبار ال تعني بالضرورة أنهـا بـدون معـنى كمـا يفضـي مبـدأ القابليـة للتحقيـق عنـد التجريبيـة المنطقيـة ،والقابليـة للتكـذيب ترتبـط بالجـانب المنطقي،
ii
فالنظريــة العلميــة تكــون قابلــة للتكــذيب إذا كــانت فئــة مكــذباتها بــالقوة ليســت فارغــة ( ) ،أي مــدى إمكانيــة حمــل النظريــة لمكــذبات محتملــة ،بمعــنى وجــود على األقــل قضــية
قاعدية قابلة للتنفيذ بالتجربة ،وهذا ما يؤهل النظرية ألن تصنف داخل منظومة أو نسق العلم.
كما ترتبط القابلية للتكذيب بالمحتوى المعرفي للنظرية ،وهذا االرتباط يعطي للعلم خطوة ناجحة نحـو األمـام والعالقـة بين المحتـوى المعـرفي للنظريـة ،ودرجـة احتمالهـا،
عالقة عكسية ،بمعنى كلما زاد المحتـوى المعـرفي للنظريـة تناقصـت درجـة احتمالهـا ،وقابليـة النظريـة للتكـذيب يرتبـط باتسـاع المحتـوى المعـرفي للنظريـة ،ال بتزايـد درجـة
iii
( )
فالنظرية التي يكون محتواها التجريبي والمنطقي كبيرين ،يكون احتمال صدقها ضئيل ودرجة احتمالهـا ضـئيلة ،وأفضـل النظريـات هي تلـك الـتي لهـا محتـوى االحتمال ،
)
(iv
غني ،وقدرة تفسيرية كبيرة ،وهي النظريات األكثر قابلية لالختبار.
) ،ونظرية "الكونتوم" ونظرية "الجينات " أمثلة عن النظريات الجريئة ذات المحتوى المنطقي الكبير. نظريات نيوتن( )Newtonواينشتاين (Einstein
والعالق ــة بين المحت ــوى المنطقي والمحت ــوى التجري ــبي عالق ــة طردي ــة ،كلم ــا زاد المحت ــوى المنطقي زاد المحت ــوى التجري ــبي ،ف ــالمحتوى المنطقي ه ــو ال ــذي يمث ــل القابلي ــة
للتكذيب استنادا إلى أنه يشير إلى القضايا المستنبطة من النظرية المتسقة معها أو غير المتسقة ،أما المحتوى التجريبي فيشير خصوصا إلى التفنيد .
وقد تبين مما سبق أن القابلية للتكذيب تسمح بتحديد النظريات القابلة للتكذيب أي العلمية ،أما التكذيب فيحـدد القواعـد الـتي تمكننـا من اعتبـار فرضـية مـا مكذبـة ،وتقـول عن
v
( )
ويجب اإلشارة إلى إن تنفيذ فرضية ما يكـون نهـائي ،أمـا تعزيزهـا فهـو دائمـا مـؤقت ولن نسـتطيع فرضية ما أنها كذلك إذا كانت هناك قضايا قاعدية تتناقض معها
) (vi
ينبغي علينا أيضا أن ندرك أننا أبدا لن نتيقن تماما من أننا لم نقع في الخطأ « .
وبهــذا التصــور يضــع بــوبر التكــذيب المحــرك األســاس للبحث العلمي ،وهــو يمثــل الطبيعــة االيجابيــة لنمــو العلم ،فالمســيرة العلميــة ليســت تراكميــة كمــا تصــورها أعالم
التجريبية المنطقية ،بل هي مسيرة ثورية ،إذ يقوم التقدم العلمي على إحالل نظريات محل أخرى ،وتكون النظرية الجديدة ذات طابع ثوري ،تنطلـق من فـروض تتجـاوز
(vii
)
. بها النظريات القديمة ،وتتناقض معها أي ترفضها ،وبهذا نجد أن التقدم في العلم ،أو على األقل التقدم الالفت دائما ثوريا
14
ويرتبط تقدم العلم ونمو المعرفة العلمية بقابلية التكـذيب ،على أسـاس أن المعرفـة في تطـور مسـتمر ،فالنظريـات في تطـور بـدرجات أعلى حـتى تصـل إلى أرفـع مسـتوى
من الصدق والشمولية في التفسير ألكثر قدر ممكن من الظواهر.
i
كما يرتبط مفهوم التقدم في العلم ،عند بوبر بنظرية "التعزيز" ،والمحتـوى المتزايـد للنظريـة ،ونعـني "بـالتعزيز" (درجـة صـمود فرضـية مـا أمـام امتحانـات قاسـية) ( ) ،أي أن
التعزيز هو بمثابة تثمين مؤقت لنظرية ما ،فالنظرية تعزز عندما تنجح في االختبار وكلما كان االختبار قاسيا كلما ارتفعت درجة التعزيز ،وترتكز قسوة االختبـار على مـا
ii
( )
. يتضمنه التنبؤ من محتوى لم يسبق معرفته بواسطة المعرفة الخلفية
وقـد جعـل بـوبر من "التعزيـز" المبـدأ الفاصـل بين النظريـات المتكافئـة والمتنافسـة ،فالنظريـة المفضـلة هي النظريـة الـتي تصـمد في التنـافس أمـام النظريـات األخـرى وتـبرر
اختبارهــا بتخطيهــا كــل الفحــوص القاســية الــتي أجــريت عليهــا حــتى اآلن ،أي حــتى لحظــة معينــة ،فالتنفيــذ المتكــرر للنظريــات ،وتعزيــز التخمينــات الجريئــة هــو الم ــحرك
(iii
). األسـاسي لنمـو المعرفة وتقدم العلم « فاإلسهامات الحاسمة في نمو المعرفة العلمية تنتج عندما يتم تأييد تخمين حذر ،أو عندما يتم تكذيب تخمين حذر «
إن هــدف العلم حســب بــوبر هــو االقــتراب من الحقيقــة ،أي البحث عن النظريــات الــتي تتفــق بطريقــة أفضــل مــع الوقــائع حيث يقــول « :تفــترض فكــرة االقــتراب من
الحقيقــة ،مثلهــا مثــل فكــرة الصــدق كمبــدأ موجــه ،نظريــة أو رؤيــة واقعيــة للعــالم ،فهي ال تفــترض أن الوجــود الفعلي هــو على النحــو الــذي تصــفه نظريتنــا العلميــة ،ولكنهــا
) (iv
. تفترض وجودا فعليا ،وأننا يمكننا أن نصل بنظريتنا التي هي أفكارنا التي خلقناها إلى وصف تقترب به من الفعلية متى استخدمنا منهج المحاولة والخطأ«
وتعـد فكـرة االقـتراب من الحقيقـة إحـدى األفكـار الهامـة بالنسـبة لنظريـة العلم ،من حيث أنهـا تـتيح الفرصـة للبحث الـدائم وإ عـادة النظـر المسـتمر ،فعقالنيـة النظريـة حسـب
"بوبر" تكمن في الحقيقة الـتي مؤداهـا أننـا نختارهـا ألنهـا فقـط أفضـل من النظريـات السـابقة عليهـا ،وألنهـا خضـعت الختبـارات أشـد قسـوة ،وبـذلك تكـون أكـثر اقترابـا من
بقدر ما يمكن النظر إليها وتقويمها كتقرب ظاهري أفضــل من الحقيقــة ، الحقيقة فبقدر ما تثبت النظرية T2أمام االختبارات التجريبية المتعلقة بنقاط تختلف فيها مع T1
.
v
( )
.
المرحلة التالية والنظريات العلمية في تصور بوبر نظريات نامية ومتطورة ،ومن ثم ال يمكن معرفة الخطوة أو
لها ،فبوبر ال يهتم بالتنبؤ ،وال بالمستقبل العلمي ،بل اهتمامه ينصب على تطور العلم حتى وقتنا الحالي« ،
vi
) ،فالمستقبل العلمي ذلك لمناف لطبيعته ولنظرياته « فالعلم يعيش في اللحظة الحاضرة وليس هناك يقين فيه ،وهو ال يتضمن القدرة على التنبؤ ،ألن
)(vii
طبقا لوجهة نظر بوبر غير معروف ،والتقدم هو مغامرة في الال معروف ،وفي اإلمكانات المتفتحة
تعد المقاربة البوبرية خاصة في شقها الميتودولـوجي (التكـذيب والقابليـة للتكـذيب) من أهم المقاربـات االبيسـتمولوجية الـتي عرفتهـا فلسـفة العلم في القـرن العشـرين ،لكن منهج
التكذيب لم يسلم من النقد من طرف فالسفة علم ما بعد الوضعية خاصة من طرف "توماس كون" وبول فييرابند" الذين سنتعرض ألهم موقفهم من البوبرية الحقا.
15
16
المحور الرابع
االبيستمولوجيا الباشالرية
تمهيد:
لقد أدت التطورات التي شهدها الفكر العلمي نتيجـة الثـورات العلميـة الـتي تحققت في مجـالي الرياضـيات والفيزيـاء النظريـة ،إلى المراجعـة النقديـة لألسـس والمبـادئ الـتي قـام
عليهــا العقــل العلمي الكالســيكي كالبداهــة والوضــوح واليقين والموضــوعية ووحــدة المنهج ،وتجــاوز كــل الثنائيــات الــتي مــيزت النمــوذج الكالســيكي للعلم ،و بــروز عقــل علمي
جديد عقل متفتح على النقد ،والمراجعة الدائمة ،عقل متفتح على التعددية المنهجية ،وهي المقاربة االبيستمولوجية التي قدمها فيلسوف العلم الفرنسي "غاستون باشــالر" والــتي
تعرف باالبيستمولوجيا الباشالرية ،وسنتناول في هذه المحاضرة أهم معالم هذه االبيستمولوجيا الجديدة.
إبستمولوجيا باشالر تعبير عن موقف فلسفي جديد ،أراد من خالله "باشالر" تجـاوز الموقـف الفلسـفي التقليـدي الـذي أصـبح غـير قـادر على مسـايرة راهن العلـوم ،والتأسـيس
لعقالنية جديدة قادرة على تحليل التركيب المعقد للفكر العلمي المعاصر ،وتتمثل أهداف هذه االبيستمولوجية الباشالرية في تحديد ثالثة مهام أساسية هي:
إبراز القيم االبستمولوجية المتجددة للعلم ،من العلم وليس من الفلسفة ،ثم البحث عن أثر المعارف والقيم العلمية الجديدة في بنية العقل القابل للتشكل والتطور باستمرار ،ثم
التحليل النفسـي للمعرفـة الموضـوعية ،من خالل عمليـة فحص وتشـخيص وتطهـير عقلي وعـاطفي يقـوم بهـا االبسـتمولوجي وباسـتمرار تسـتهدف الفكـر كـذات عارفـة من جهـة
وموضوع معرفتها من جهة أخرى ،فإذا كان التحليل النفسي يساعدنا على فهم السلوك اإلنساني والحياة النفسية فإن التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية سيمكننا من فهم هذه
المعرفة في تطورها أو نكوصها أو توقفها ،وهو ما يسميه باشالر بالعوائق االبيستمولوجية.
ينطلــق "باشــالر" من معطيــات الفكــر العلمي المعاصــر لينتقــد الفلســفات المعاصــرة لــه الــتي يكتشــف فيهــا عــدم قــدرتها على مســايرة مــا حــدث من تطــور ،ويعيب على نظريــات
المعرفة التقليدية استغاللها اإليديولوجي للعلم ألنها وظفت نتائج العلم لخدمة الفلسفات التي تقوم عليها ،إن مثل هذه الفلسفات المغلقة على نفسها ال تسـتطيع متابعـة التطـورات
العلميــة المعاصــرة ويقــول باشــالر « :عنــدما نــدرس المســالك المتعــددة الــتي يســير عليهــا التقــدم الرياضــي للميكانيكــا الموجيــة … ســرعان مــا نتأكــد من قصــر نظــر الفلســفات
i
التقليدية فاستخدام المذاهب الفلسفية في ميـادين بعيـدة عن أصـلها الـروحي ،عمليـة دقيقـة ومهمـة إذا مـا راعت خصوصـية العلم لكنهـا مخيبـة لآلمـال في أغلب األحـوال ،ألن
هــذه األنســاق حين تفكــر في العلم بطريقــة فلســفية ميتافيزيقيــة ،تبقى جامــدة وعقيمــة وال تســتطيع مواكبــة حركيــة المعرفــة العلميــة .وإ ذا فســرنا العلم بمبــادئ الفلســفة وبتــأمالت
ii
ميتافيزيقية نجد أنفسنا أمام ضرورة تطبيق فلسفة غائية ومغلقة على فكر علمي متفتح
يدعو باشالر إلى ضرورة قيام إبستيمولوجيا بإمكانها مواكبة التقلبات المختلفة للفكـر العلمي .وتـدرك ضـرورة المزاوجـة بين القبلي والبعـدي ،بين معطيـات التجربـة ومبـادئ
العقــل ،فـالفكر العلمي المعاصـر يجمــع بين التجريبيــة والعقالنيــة وال يمكن الفصـل بينهمــا على طريقــة الفلســفة التقليديــة ،فالتجريبيــة عنــد باشــالر في حاجـة إلى أن تســتند إلى
البرهــان العقلي ،كمــا أن العقالنيــة في حاجــة إلى التطــبيق المــادي ،فقيمــة القــوانين التجريبيــة تنبثــق من قــدرتها على المعاقلــة ،وبالمقابــل أن مــا يضــفي الشــرعية على أحكــام
العقل قابليتها.
i
-باشالر غاستون :فلسفة الرفض ،ترجمة د.خلیل أحمد خلیل ،دار الحداثة ،بیروت الطبعة األولى ، 1985 ،ص ) 5
ـ محمد وقیدي :ماھي اإلبستیمولوجیا ،ص ) 23
ii
باشالر غاستون :فلسفة الرفض ،ترجمة د.خلیل أحمد خلیل ،دار الحداثة ،بیروت الطبعة األولى ، 1985 ،ص ) 5
17
اإلبستيمولوجيا الباشالرية فلسفة يراد لها أن تكون متكيفة مع التطورات الحاصلة في الفكر العلمي ،المتجدد باسـتمرار فال وجـود لفكـر عبـارة عن صـفحة بيضـاء يسـجل فيـه
الواقع كما يريد وأيضـا ال وجـود لعقـل حـائز بـالفطرة عن مقـوالت الفهم األساسـية .فالعقـل العلمي ال يتكـون إال على أنقـاض العقـل القبلعلمي ،و بنـاء مثـل هـذا العقـل يتطلب
i
تغييرا جذريا لجميع قيم المعرفة
ابيستمولوجيا باشالر تؤمن بوجود عالقة جدلية بين الفكر اإلنساني وبين تطور المعرفة العلمية التي ينتجها
فالمعرفة العلميـة من نتـاج الفكـر اإلنسـاني ،والفكـر اإلنسـاني بـدوره من نتـاج هـذه المعرفـة فليسـت هنـاك بنيـة ثابتـة للفكـر اإلنسـاني ،فـالثورات العلميـة المعاصـرة الـتي عرفهـا
الفكر العلمي في مجال الرياضيات والفيزياء لم تؤد إعادة تغيير ومراجعة المبادئ التي قامت عليها تلك العلوم فحسب بل أدت أيضًا إلى تغيير بنية الفكر اإلنســاني ذاتــه
،فهو ليس منتجًا لهذا التطـور العلمي فحسـب ،بـل إنـه متـأثر بنتـائج هـذا التطـور أيضـًا ،وهـذا مـا لم تنتبـه إليـه الفلسـفة الكالسـيكية الـتي استخلصـت مبـادئ الفكـر اإلنسـاني في
مرحلة معينة من تأريخ العلوم فأضفت على هذه المبادئ صفة اإلطالق ،واعتقدت نتيجة لذلك أن هـذه المبـادئ هي بنيـة الفكـر اإلنسـاني ذاتـه ،أن العقـل الينتج العلم فحسـب
ii
ولكنه فضًال عن ذلك يتعلم من العلم " فالعلم بصفة عامة يعلم العقل ،وعلى العقل أن يخضع للعلم األكثر تطورا ،العلم الذي يتطور.
لقد ميز "باشالر" بين ثالث مراحل في تكوين العقل العلمي :
ـ المرحلة األولى تمثل الحالـة ماقبـل العلميـة وتشـتمل على األزمنـة الكالسـيكية القديمـة وعصـر النهضـة والجهـود المسـتمرة في القـرن السـادس عشـر والسـابع عشـر وحـتى في
القرن الثامن عشر.
ـ المرحلة الثانية التي تمثل الحالة العلمية والتي بدأت في أواخر القرن الثالث عشر وتشمل القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين .
ـ المرحلة الثالثة مرحلة العقل العلمي الجديد تبدًأ من عام 1905ظهور نظرية "أنشتاين" في النسبية التي غيرت الكثير من المفاهيم التي كانت سائدة قبل ذلك.
يحدد "باشالر" سمات كل مرحلة ويميزها عن األخرى ،حسب مفهومه لتطور العقل العلمي:
المرحلة األولى هي الحالة الملموسة :إذ ينشغل العقل بالصور األولى للظاهرة ويعتمد على صيغ فلسفية تمجد الطبيعة وتؤمن بوحدة العلم .
ـ المرحلة الثانية هي الحالة الملموسة المجردة :إذ يضـيف العقـل إلى التجربـة الفيزيائيـة األشـكال الهندسـية ويسـتند الى فلسـفة البسـاطة هنـا مـا يـزال العقـل في وضـع متنـاقض
فهو واثق من تجريده بقدر ما يكون هذا التجريد ماثًال بوضوح في حدس " ملموس " أو "محسوس ".
ـ المرحلة الثالثة هي الحالة المجردة :حيث يتدخل العقل بمعالجـة المعلومـات المـأخوذة من الواقـع لكنهـا منفصـلة عن التجربـة المباشـرة أو بمعـنى آخـر يكـون العقـل والتجربـة
iii
في هذه المرحلة متالزمين كل منهما متمم لآلخر .
االبيس ــتمولوجيا الالديكارتي ــة:يتم ــيز الخط ــاب الفلس ــفي بأن ــه خط ــاب منهج فض ــرورة تحدي ــد منهج البحث والممارس ــة العلمي ــة والفلس ــفية ه ــو المب ــدأ األس ــاس ال ــذي ق ــامت عليه ــا
تصــورات الفالســفة والميتودولوجــيين من "أرســطو" إلى ديكــارت ،فقــد جعــل "أرســطو" من القيــاس ،المنهج الوحيــد والضــروري لقيــام العلم ،وألح "ديكــارت" على أن البحث في
). (iv
المنهج يع ـ ـ ـ ـ ـ ــد من أهم المش ـ ـ ـ ـ ـ ــكالت ،وأواله ـ ـ ـ ـ ـ ــا عناي ـ ـ ـ ـ ـ ــة في مهم ـ ـ ـ ـ ـ ــة الفيلس ـ ـ ـ ـ ـ ــوف ،فالش ـ ـ ـ ـ ـ ــعور بض ـ ـ ـ ـ ـ ــرورة المنهج ه ـ ـ ـ ـ ـ ــو أول م ـ ـ ـ ـ ـ ــا يل ـ ـ ـ ـ ـ ــزم من أدوات التفلس ـ ـ ـ ـ ـ ــف
وقد أرجع ديكارت سبب تأخر العلم في عصره إلى عدم إتباعه منهجا واضحا يقول ديكارت " الناس مسـوقون برغبـة في االسـتطالع عميـاء حـتى أنهم يوجهـون أذهـانهم في
v
فالمنهج هـو الموجـه الصـادق للعقـل إذ يعتمـد فيـه على طريقـتين في التفكـير همـا "الحـدس واالسـتنباط " ويقصـد ديكـارت بالحـدس الفكـرة المتينـة الـتي طرق مجهولة "
شـيء لنـا بـه معرفـة يقينيـة نتـائج تلـزم تقوم في ذهن خالص منتبه وتصدر عن نور العقل وحده ،أما االسـتنباط فيعـبر عنـه بأنـه فعـل ذهـني بواسـطته نسـتخلص من
vi
منها .
18
لقد أصـبح التصـور الفلسـفي مرهونـا باالعتقـاد المنهجي الـديكارتي الـذي يوجـه البحث لبلـوغ الحقيقـة مهمـا تنـوعت المنهجيـات ومهمـا كـانت حركيتهـا في مختلـف العلـوم ،فإنهـا
تنسب مع ذلك إلى منهج أولي ،منهج عام يفترض فيه تشكيل كل المعرفة ،وملزم بمعالجة كل الموضوعات بنفس الكيفية.
يرى باشالر إن الكشوفات العلمية المعاصرة تتعارض مع هذا التصـور المنهجي األحـادي ،ألنــه تصـور ميتـافيزيقي ،يغلـق آفـاق اإلبـداع المعـرفي و العلمي ،يـرفض" باشـالر"
العقــل الشــمولي والمنهج األحــادي الصــالح لكــل علم ففي الفكــر العلمي المعاصــر ،ال وجــود لهــذه األحاديــة فلكــل علم منهجــه الخــاص بــه ومفاهيمــه الخاصــة الــتي تتناســب مــع
المرحلة التي هو عليها هذا العلم أو ذاك ،إن الفكر العلمي ال يتطور إال بقدرته على أبداع وابتكار المناهج والنظريات الخاصـة بـه ،ومنـه فالمنـاهج مؤقتـة وليسـت دائمـة وال
وجود لمنهج صالح لكل علم وفي كل زمان فكل تجربة جديدة كفيلة بتفسير الفكر العلمي برمته " كل مقالة في الطريقة العلمية ستكون دائمًا مقالة طرف ولكن بالبنية النهائية
".
ينتقد باشالر فكرة الوضوح والبداهة الديكارتية ،فالوضوح العقلي في حاجة إلى تأكيد تجريبي ،فالطريق الى الحقيقة العلمية هي مجموعـة التجــارب العلميــة الدقيقــة والمعقــدة
التي تعتمد على تقنيات ومسائل مادية وتستند على نظرية مركبة ،وال يمكن لحقيقة ما أن تصبح يقينـًا بمجـرد كونهـا صـادرة عن يقين أول ،ولم تعـد البديهيـة فكـرة واضـحة
بذاتها ال تحتاج الى برهان بل غدت بعد ظهور الهندسات الالأقليدية مجـرد مسـلمة صـالحيتها مرتبطـة بالنسـق الـذي تنتمي إليـه فالشـيء بسـيط وكـل شـيء يحتـاج الى تبسـيط،
كما أن أهم ميزة في الفكر العلمي المعاصر هي خاصية التعقيد.
المنطق الالأرسطي:
يــرى باشــالر أن الــروح العلميــة الجديــدة تتطلب منطقــا خاصــا الأرســطيا يكــون بــديال عن المنطــق التقليــدي القــائم على المبــادئ المطلقــة الــذي ال يهتم بمحتويــات المعرفــة .فهــو
يعالج صورة الفكر دون مضمونه (الموضوع ان الطبيعة التركيبية للعلم المعاصر المتمثلة في تعدد النظريات العلمية تتطلب حسب "باشالر" على ضرورة تعدد المنطــق أي
ظهورأنواع من المنطق تتناسب مع تعدد النظريات ،فالمنطق االرسطي فقد قيمته الكلية فالبد من قيام منطق الأرسطي يضاف الى الفيزياء الالنيوتونية والهندسة الالأقليدية.
التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية:
يرى باشالر ان االبستمولوجيا يمكن أن تستفيد في نظر من التحليل النفسي فإذا كان التحليل النفسي يساعدنا على فهم السلوك اإلنساني والحياة النفسـية فـإن التحليـل النفسـي
للمعرفة الموضوعية سيمكننا من فهم هذه المعرفة في تطورها أو نكوصها أو توقفها ،وهو ما يسميه باشالر بالعوائق االبيستمولوجية ،أن العمل العلمي هو الذي يخلــق بذاتــه
وبذاته ما يمثل مظاهر تعطله ،أو توقفه أو نكوصه ،إن المكبوتات العقلية هي ما يدعوه باشالر بالعوائق االبستمولوجية وليست هذه المكبوتات شيئًا يرد على العمل العلمي
i
من خارجه بل هي منبثقة عنه يقول باشالر في هـذا الصـدد " عنـدما نبحث في الشـروط النفسـية لتقـدم العلم فسـرعان مـا نصـل الى االعتقـاد بأنـه ينبغي وضـع مشـكلة المعرفـة
العلمية في صيغة عوائق أو عقبات وال يتعلق األمر هنا عقبات خارجية كتعقد الظواهر وزوالها ،وال بالطعن في ضعف الحواس والفكر اإلنسـانيين ،ففي فعـل المعرفـة ذاتـه
ii
تبرز االضطرابات بنوع من الضرورة الوظيفية وبذلك نتبين أسباب الجمود والركود بل والنكوص وهنالك سينكشف عن علل السكون التي سندعوها عوائق أبستمولوجية
i
ـ ـ محمد وقيدي " ماهي االبستمولوجيا " ص190
19
يرى باشالر أن الفكر القبعلمي ال يميز بين المفهـوم واللفـظ ،حيث تشـكل كلمـة واحـدة قاعـدة للتفسـير الشـامل وعليـه تعتـبر العـادات اللفظيـة عوائقـا إبسـتيمولوجية على الفكـر
العلمي تجاوزها ،ويقدم "باشالر"عن عائق اللفظ مثال لفظة "اسفنجة" ،ذلك أن خاصية االسفنجة في الشـرب يقـع تمديـدها لنفسـر أو لنعـبر عن ظـواهر أخـرى كـالهواء ،فـالهواء
يبدوا شبيها باألجسام القابلة للتشرب ،فكان تفسيرها عند البعض باألجسام القابلة للتشرب.
القطیعة اإلبستیمولوجیة:
يعـد مفهـوم القطيعـة االبيسـتمولوجية من المفـاهيم القاعديـة الـتي تقـوم عليهـا االبيسـتمولوجيا الباشـالرية ،وتعـني القطيعـة تلـك القفـزات النوعيـة الـتي تحـدث في تـاريخ العلـوم ،
وتحدث القطيعة االبستمولوجية عند نشأة علم جديد أو نظرية علمية جديدة قاطعًا للصلة مع ماسبقه من علوم ومعارف ،فالقطيعة إعالن عن ميالد علم جديد غير مرتبط بما
قبل ،إن تطور المعرفة العلمية ال يستند على نفس المفاهيم التي تحملها التطورات العلميـة في عصـر من العصـور ،أو في فـترة من فـترات تطـور العلم بـل إنـه انتقـال معـرفي
يستند في أساسه على إعادة بناء المفاهيم والنظريات العلمية وإ عادة تعريفها وإ عطائها مضمونا جديدا ،ومن هنا فإن تـاريخ العلـوم هـو تـاريخ للقطـائع اإلبسـتمولوجية ،قطـائع
على مستوى التصورات والمبادئ التي قامت عليها العلوم ،وقطائع وعلى مستوى المناهج ،وهي قطائع تنطلق من داخل العلم ،فكـل علم لـه طـرق خاصـة بـه ،إن النظريـات
العلميــة المســتجدة في كــل عصــر ال يمكن النظــر إليهــا على أنهــا اســتمرارا للنظريــات الســابقة فال يمكن إرجــاع فيزيــاء" أينشــتاين" الى فيزيــاء "نيــوتن" وال فيزيــاء نيــوتن إلى
"غاليلي" كل نظرية علمية مبنية على أسس مخالفة للنظريات السابقة عنها.
تطور العلوم يعبر عن القطيعة مع المبادئ العلمية الراسخة ،تلـك المبـادئ الـتي ينظـر إليهـا كمبـادئ أساسـية في العلم ولكن يجب أن نفهم أن العلم في تطـوره ال يهـدم المبـادئ
األساسية التي تثبت تجريبا صدقها ،العلم ينظر إلى تلك المبادئ على انها ضرورية كما أنه ال غنى عنها للمبادئ العلمية الحديثة إلى أن هذه المبادئ تستمر وتتغــير في نفس
الوقت.
يأخذ "باشالر" مثال المصباح الكهربائي ليوضح القطيعة بين المعرفتين القبلية والبعدية فمفهوم اإلنارة كان يتمثل في خاصية احتراق المادة فلكي نبني نورا يجب أن نحرق
i
مادة إلى أن المصباح الكهربائي يمنحنا نورا دون ضرورة جعل المادة تحترق "التقنية القديمة هي تقنية احتراق والتقنية الجديدة هي تقنية ال احتراق
ويربط مفهوم القطيعة بمفهوم العائق فإذا كانت العوائق سببًا في تباطؤ واختالل المعرفة العلمية وجمودها فإن القطيعة هي الفعل االبستمولوجي الذي تم به تجاوز هذه
العوائق ونشط الفكر العلمي بعد جموده ،فالعلم يتباطأ في مرات ويتسارع في أخرى وذلك عند وجود عوائق أو قطيعة بين مرحلة وأخرى.
فالقطيع ــة االبس ــتمولوجية ال تع ــني انفص ــاال عن الفك ــر العلمي الس ــابق أو رفض ــه رفض ــا مطلق ــا ب ــل تع ــني احت ــواء الفك ــر العلمي الجدي ــد للفك ــر العلمي الس ــابق علي ــه ،فالقطيع ــة
االبستمولوجية تعني قيام فكر علمي جديد أكثر تفتحا ،الحقائق العلمية الجديدة ال تلغي بالضرورة الحقائق العلميـة القديمـة.،فنسـبية "اينشـتاين" لم تلـغ فيزيـاء "نيـوتن" بـل قـامت
ii
بتصحيح الخطأ ،المتمثل في المطلق النيوتني .
تاريخ العلم عند باشالر:
يقدم" باشالر" مفهوما جديدا لتاريخ العلوم هـذا المفهـوم الـذي يتضـمن الحكم على الماضـي انطالقـا من الحاضـر عن طريـق إبـراز القيم العلميـة المرتبطـة بعلم مـا والتميـيز بين
تدفع العلم نحو التقدم. الخطأ والحقيقة من خالل تتبع المسيرة التطورية للعلم و تحديد فترات الركود و الحركة والكشف عن القيم التي تعيق العلم و القيم المنتجة التي
إن المهمــة األساســية لتــاريخ العلــوم عنــد "باشــالر" هي الكشــف عن أخطــاء الماضــي و الحكم عليهــا ،فتــاريخ العلم ليس تاريخــا للحقــائق العلميــة ،أنــه تــاريخ لمــا ليس علم" ،إن
تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلم ،تاريخ للمراجعة الدائمة ،والهدف من المراجعة هو وعي تاريخانية العلم من أجل معاصرته.
تاريخ العلوم ليس موجها لألحداث الماضية التي عرفتها البشرية ،بل تاريخ موجه أساسـا لفهم التطـورات العلميـة في سـياقها التـاريخي ،لمعرفـة أسـس الفكـر العلمي باالعتمـاد
على المنهج التــاريخي النقــدي في دراســة التيــارات الكــبرى للفكــر العلمي ،انــه التــاريخ الــذي يربــط االكتشــافات أو التيــارات العلميــة ،ال بمختلــف الفلســفات الميتافيزيقيــة الــتي
اســتندت عليهــا ،بــل بــالفكر العلمي و بتطــور العلم ذاتــه ،فتــاريخ العلم هــو التــاريخ اإلبســتيمولوجي وكــل إبســتيمولوجيا هي إبســتيمولوجيا تاريخيــة "التــاريخ الــذي يقيم العلم من
الخارج ال يعد من تاريخ العلوم" ،ويقـترب هـذا المفهـوم لتـاريخ العلم في عالقتـه باالبيسـتمولوجيا عنـد "باشـالر" من مفهـوم تـاريخ العلم عنـد فيلسـوف العلم المعاصـر "امـري ال
كاتوش" صاحب مقولة " :تاريخ العلم بدون فلسفة علم اعمى ،وفلسفة علم بدون تاريخ العلم خواء".
خالصة :
20
تمثـل أبسـتمولوجيا باشـالر بـديال لمختلـف التصـورات االبيسـتمولوجية والميتودولوجيـة الـتي عرفتهـا فلسـفة العلم ،ابيسـتمولوجيا تؤسـس لعقـل علمي جديـد قـائم على قيم الثقافـة
العلميــة المتجـددة باســتمرار ،ابيســتمولوجيا مناهضـة للعقــل العلمي الكالســيكي الـذي يعمــل وفـق مبــادئ منطقيــة صـارمة ،العقــل عنــد" باشــالر" هــو في حــد ذاتــه نتيجــة من نتــائج
العلم ،وتغيير هذه النتائج يؤدي إلى تغيير العقل نفسه ،فليس هناك عقل ثابت وال معرفة ثابتة وبالتالي ال يمكن وضع منهجــا قبليــا يفــرض على العــالم إتباعـه فـالمنهج العلمي
انعكاس للثقافة العلمية السـائدة في مرحلـة مـا من مراحـل الفكـر،فـالمنهج مرتبـط بالممارسـة الواقعيـة للعلمـاء وهـذه الممارسـة تتطلب تعدديـة منهجيـة قابلـة للتعـديل المسـتمر ،إن
الفكــر العلمي فكــر متفتح ومتطــور على الـدوام ،ولـذلك وجب أن يكــون لكــل علم إبســتيمولوجيته الخاصـة( ،ابيســتمولوجيا الرياضـيات ،البيولوجيــا ،العلـوم االنســانية) ال وجــود
لعلم عام.
المحور الخامس
تمهيد:
لمفهـ ــوم العلم والمنهج العلمي من أجـ ــرأ التنظـ ــيرات K.P.Feyerabend تعـ ــد المقاربـ ــة االبيسـ ــتمولوجية الـ ــتي قـ ــدمها كـ ــارل بـ ــول فيرابنـ ــد" ()1994-1924
االبستمولوجية التي عرفها القرن العشرين وتكمن هذه الجرأة وهذا التميز في بلورتـه لرؤيـة فكريـة جديـدة تثـور ضـد كـل التصـورات والتنظـيرات المعروفـة في مجـال العلم
وفلسفته ،حـتى لقب بالعديـد من األلقـاب ،ووصـف بـالكثير من الصـفات ،فقـد لقب "بفيلسـوف العلم الثـائر" وب ـ ـ ـ ـ ــ"العـدو اللـدود للعلم" ،و"بالفوضـوي" و"بالنسـباوي" والالعقالني
المتطرف" ،وذلك لمناهضته لكل األنساق االبستمولوجية والميتودولوجيات المتداولة ،وانتقاداته الصارمة لجميع نظريات العقالنية الحديثة والمعاصرة ،إذ يقف "فيرابند" ضد
النزعــة االســتقرائية ،وضــد العقالنيــة النقديــة البوبريــة ،حيث يــرفض كــل محاولــة ابســتمولوجية وكــل متودولوجيــا تســعى إلى بنــاء نظريــة تســتهدف عقلنــة الممارســة العلميــة
ويؤسس لمفاهيم جديدة لم تعرفها فلسفة العلم من قبل كمفهوم الالمقايسة ،االستقراء المعاكس ،الفوضوية االبيستمولوجية ،فما دالالت هذه المفاهيم ؟
يعــد " فيرابنــد" أول من نقــل مصــطلح "الفوضــوية" المتــداول في األدبيــات السياســية ،إلى أدبيــات فلســفة العلم المعاصــرة فقــد جعــل منهــا (الفوضــوية) عنوانــا فرعيــا ألهم وأول
كتاب له" :ضد المنهج :مخطط لنظرية فوضوية في المعرفة" Contre la méthode Esquisse d’une théorie anarchiste de la
حيث وظف "فيرانبـد" مصـطلح الفوضـوية في فلسـفة العلم ليتوافـق مـع موقفـه المنـاهض للعقالنيـة العلميـة الكالسـيكية القائمـة على القواعـد والمعـايير، connaissance
والمنهج الثابت ،فالعلم عند " فيرانبد " في جوهره " مشروع فوضوي ال يعترف بأية سلطة تحد من نشـاطه ،فكـل النظريـات ،وكـل المنـاهج فيـه مقبولـة تبعـا لشـعاره المشـهور
،ويختلــف مفهــوم"الفوضويةاالبســتمولوجية"عن"الفوضــوية السياســية" "والنســبية البروتاغوريــة"*،وعن غيرهــا من األنمــاط الفكريــة "كــل شــيء حســن " tout est bon
واالجتماعية األخرى ،فإذا كان الفوضوي السياسي يسعى إللغاء نمط حياة معين واستبداله بآخر وتحس ـ ــين ص ـ ــورة محددة للحي ـ ــاة ،فـان الفوضـ ـ ــوي االبسـتمولوجي يستـ ــطيـ ـ ــع
ويسـتند " فيرابنـد أن يـ ــدافع عن أي ت ــوجـ ـ ــه ،وعـ ــن أية ف ـ ـ ـك ـ ــرة مهما بدت مبتذلة ،كما يمكن أن ينقد أي تصور كيفما كان تأسيسه ،طالما أنـه ال توجـد مشـروعية دائمـة.
21
" في إثبــات أطروحتــه حــول الفوضــوية االبســتمولوجية إلى تــاريخ العلم ،إذ يقــول في مقدمــة كتابــه " ضــد المنهج " » :إن التــاريخ بعامــة -وتــاريخ الثــورات بصــفة خاصــة –
غني في محتواه وأكثر تنوعا وأكثر حيوية مما قد يتخيله أفضل المؤرخين والميتودولوجيين ،والتاريخ مليء بالمصادفات ،والتخمينات والعالقات المثيرة بين األحـداث ،وهــذا
i
ما يبين مدى تعقد التطور اإلنساني والسمة الالتنبؤية للنتائج النهائية ألي فعل أو قرار إنساني « ( ).
إن تاريخ العلم كما يرى"فيرابند"معقد ومشوش ،ومليء باألخطاء والتطورات المفاجئة وغـير المتوقعةوهـذا الطـابع المعقـد يحتـاج إلى إجـراءات معقـدة ،يصـعب تحليلهـا على
أساس مجموعة القواعد والمعايير والمناهج التي يتم وضعها مسبقا دون النظر إلى الظـروف المتغـيرة دائمـا للتـاريخ ،كمـا أن العـالم الـذي نريـد اكتشـافه كيـان مجهـول إلى حـد
()3
كبير ،لذا يجب أن تبقى كل اختياراتنا مفتوحة وال يجب أن نتقيد بشكل مسبق بقواعد ومعايير ومناهج ثابتة.
وعلى هــذا األســاس فـان الفوضـوية االبســتمولوجية هي اتجــاه مضـاد لكــل ميتودولوجيــة معياريــة تــدعي أن هنــاك قواعـد حصـينة غـير قابلـة للتغيــير تحكم ســير العلم ،وتتخــذ
كمعيـار للتميـيز بين الذاتيـة والموضـوعية ،وبين العقالنيـة والالعقالنيـة ،وبين العلم والالعلم ،كمـا نجـد ذلـك عنـد الوضـعيين المنطقـيين والتفنيـديين الـذين حـاولوا حصـر الـثراء
الكبير لتاريخ العلم في قوالب منهجية ومنطقية جامدة..
ان الفوضوية االبستمولوجية فيما يرى " فيرابند " هي السبيل األمثل لردم الهوة بين االبستمولوجيا وواقع العلم واحتواء العوامل المتعددة والمتشابكة التي تكّو ن ظــاهرة العلم،
()1
يقول " فيرابند " " :إن الفوضوية ربما ليست الفلسفة السياسية األكثر جاذبية ،لكنها بالتأكيد هي العالج الفعال االبستمولوجيا ولفلسفة العلم"
وال يعني مصطلح "الفوضوية" الفوضى أو العشوائية ،وإ نما المعنى الذي أراده " فيرابند"لهذا المصطلح هو عدم التقيد بقوانين العقل ومعايير العقالنية( ،)2والتفتح على كــل
الخيارات والبدائل المنهجية والنظرية غير العقالنية كالخيال والحـدس والعاطفـة واألسـاطير والسـحر والتقاليـد ،...فـالعلم كمـا يـراه " فيرانبـد " أكـثر ال عقالنيـة وأكـثر فوضـى،
وأكثر تعقد ،مقارنة بصورته العقالنية القائمة على النظام والقانون.
يقول فيرانبد » :إن أطـ ــروح ــتي هي أن الفوضـ ــوية تسـاهم في إحراز التــقدم مهما كان المعـ ـ ــنى الـذي تحـ ـ ـ ـ ــمله ،وحـتى الع ـ ـل ــم القـائم على النظـام والقـانون ال يحقـ ــق نجاحـا،
إال إذا فسح المجال لحركات فوضـ ــوية ،وان ف ــكرة المنـ ـ ــهج الثـاب ــت والنظريـة الثابتـ ــة للعقالني ـ ــة ،تقـوم على رؤيــة ساذج ـ ــة جـدا لإلنس ـ ــان ،ولمحيطـه االجتــماعي ،وإ لى هـؤالء
ال ـ ــذيـ ــن ينظرون إلى المـادة الثري ــة التي يزخر بـها تاريخ العـلم دون محاولة تــطوي ــرها ،من أجل نزع ــة عقالني ــة تق ـ ـ ــوم على مفاهيم من مثل :الوضوح ،الدقـة ،الموضـوعية،
ii
( )
الحقيقة ،الصدق ـ ـ ـ ـ إلى هؤالء ـ ـ سوف يتضح أن هناك مبـ ــدأ واحدا فقط يمكن الدفاع عنه في كل الظروف ،وكل مراحل التطور اإلنساني وهو":كل شيء حسن"«
للعلم في مقابل التصـور العقالني لـه ،فـإذا كـان العقالنيـون ويعد شعار"كل شيء حسن*" أو كل شيء مقبول ،األساس الجوهري الذي تقوم عليه رؤية فيرانبد الفوضوية
ومنهم "ك ــارل ب ــوبر" ي ــدعون إلى الح ــرص على التماس ــك واالل ــتزام بقواع ــد المنهج ،والعم ــل على زي ــادة المحت ــوى ،وتحاش ــي الف ــروض العيني ــة ،والموض ــوعية ،...وإ ذا ك ــان
التجريبيون يدعون إلى التمسك بقواعد التحليل المنطقي ،والوضوح ،والتحقق ،فإننا نجد " فيرانبد" يدعونا إلى معاكسة مبادئ العقالنية ومخالفة قواعد المنطق (عـدم التنـاقض –
3
-.ibid p 25.
* لقد ترجم هذا الشعار عن االجنليزية « » Anything Gooesإىل اللغة العربية بعدة ترمجات فقد ترجم إىل " :كل شيء حسن" و " كل شيء على ما يرام" و" كل شيء مير" و" كل شيء
مقبول" وترجم إىل اللغة الفرنسية ب « " » tout est bonكل شيء حسن" ونرى أن الرتمجة " كل شيء مقبول" هي الرتمجة األقرب إىل الداللة اليت أرادها "فريانبد" هلذا الشعار من خالل تبنيه لعقالنية
تعددية متفتحة على تعدد الفروض والنظريات املتنافسة ،تعدد املناهج ،تعدد الثقافات ،تعدد التقاليد يف مقابل العقالنية الكالسيكية اليت تقوم على وحدة املناهج والنظريات والفروض.
22
شرط االتساق) ،ومعاكسة تقـارير التجـارب ،ومعاكسـة االسـتقراء بـل إن هـذه المعاكسـة لمب ــادئ العقالني ــة ،وللمنهج ،تع ـ ــد في نظـر " فيرانبـد" عامـل ابتكـار ،وش ـ ـ ــرط ض ـ ــروري
i
()
لف ـ ــهم الطبيعة الحقيقية للعلم ،فالتحليل التجريدي لطبيعة العالقة بين الفكر والممارسة ،يفضي إلى أن المبدأ الوحيد الذي ال يكبح التقدم في العلم ،هو " :كل شيء حسن"
فليست هناك ـ ـ ـ ـ ـ حسب فييرابند ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ قواعد ثابتة ،أو معايير قبلية تحدد مسيرة العلم ،وال توجد نظرية علمية بل نظريـات متعـددة ومتعارضـة ،وتقاليـد ووجهـات نظـر مختلفـة،
تفسر وتؤول نفس الوقائع في صور أشكال وجودية متعددة ،وال وجود لحدود عقالنية لهذه التأويالت ،فكل نظريـة وكـل تقليـد وكـل فكـرة وكـل منهج مقبـول ويمكن أن يسـاهم
في فهم الطبيعة ،وفي فهم مسيرة العلم المعقدة ،يقول فيرانبـد »إذا أردنـا أن نفهم حقيقـة العلم يجب علينـا اسـتعمال جميـع األفكـار ،جميـع المنـاهج ،وليسـت انتقـاء البعض منهـا
( )ii
وكل منهج مقبول ما دام يفي بالغرض. فكل شيء جائز فقط«
ان شعار " كل شيء حسن " ال يعني أن قضايا العلم ليست مشروطة ـ ـ ـ ال في طبيعتها وال في نتائجها ـ ـ ـ ـ ـ ـ بقواعد أو معايير محددة ،وال بمنهج كلي ثابت ،بل هي متروكة
لطبيعة الموضوعات ،وما تقتضيه من إجراءات ومتطلبات منهجية ونظرية ،كما أن هذا الشعار ال يعبر عن قناعة أو اقتناع شخصي من " فيرانبد "،بل هو تعبير هزلي عن
المأزق العقالني » فإذا كنت ال تستطيع أن تعيش بدون مبادئ تحكم العالم ،عندئذ يمكن أن أعطيك هذا المبدأ ،فقد يكون فارغا وغير مفيدا ،بل وسخيف لكنه على كل حال
(iii
من العقالنية العلمية إلى الفوضوية المنهجية ارتبط مفهوم العقالنية في ). مبدأ«
فلسفة العلم الكالسيكية بالمعايير والقواعد التي تحكم وتوجه الفكر أو الفعل ،حيث يوصف الفكر أو الفعل بأنه عقالني ،متى كان يسير وفقا ألفضل المعايير المتاحة،
ويوصف التفكير بأنه عقالني إذا كان مطابقا لمجموعة من القواعد الواضحة ،وهذا ما يفسر ارتباط العقالنية بالميتودولوجيا باعتبار أن المنهج هو ما يوفر منطقا أو معيارا
عقالنيا من شأنه أن يبرر قبول أو رفض القضايا أو العبارات والعلم في جوهره ليس شيئا غير البحث المنهجي عن المعرفة ،وصفة المنهجية صفة أساسية في العلم ،حتى
iv
أنه في وسعنا أن نعرف العلم عن طريقه ،فنقول إن العلم في صميمه معرفة منهجية ،وبذلك نميزه بوضوح عن أنواع المعرفة األخرى التي تفتقر إلى هذه الصفة( ).
ويرجع ارتباط العقالنية بالمنهج إلى الفكرة الجوهرية التي يتأسس عليها مفهوم العقالنية ،ونعني بها فكرة " النظام"" ،فالنظام" هو أحد مفاهيم العقل األساسية ،ويشمل
v
( )
وعلى هذا األساس فان مهمة العلم هو إيجاد الترتيب الزماني ،والترتيب المكاني ،والعلل ،والقوانين ...والنظام الطبيعي هو اطراد لوقوع الحوادث ،وفقا لقوانين معينة".
تفسير منظم (عقالني) للعالم ،وذلك بوضع طريقة أو منهج* محدد يقوم على مجموعة من القواعد والمعايير الثابتة لتنظيم تفكيرنا وممارستنا العقلية ،وفي الوقت نفسه
تنظيم العالم الخارجي ،فتقدم العلم والبحث العلمي رهين بالمنهج ،ويدور معه وجودا وعدما ،دقة وتخلخال ،خصبا وعمقا ،صدقا وبطالنا ،وأن انتكاسة العلم تعود إلى النقص
)
(vi
في تطبيق قواعد المنهج العلمي".
* نعين باملنهج العلمي جمموعة اإلجراءات العقلية اليت يتم بواسطتها استخالص قوانني عامة انطالقا من وقائع خاصة ،ويعرف أيضا على أنه جمموعة األساليب الذهنية واحلسية املوصلة إىل احلقيقة أو الصاحلة للربهنŠة
عليها ،وهي ختتلف باختالف موضوع العلم ،فإذا كŠان املوضŠوع جمردا كمŠا يف الرياضŠيات كŠان املنهج أو الطريقŠة اسŠتنتاجيه أو عقليŠة ،وإذا كŠان حمسوسŠا كمŠا يف العلŠوم الطبيعيŠة كŠان املنهج أو الطريقŠة اسŠتقرائية
وجتريبيŠŠة( ،مجيŠŠل صŠŠليبا – املعجم الفلسŠŠفي ،ج ،2ص )21وهبذا ميكن أن حندد املنهج العلمي كمŠŠا تصŠŠورته العقالنيŠŠة الكالسŠŠيكية يف فŠŠرعني أساسŠŠيني مها :املنهج االسŠŠتنباطي الŠŠذي ننطلŠŠق فيŠŠه من فŠŠروض أوليŠŠة
لنصل إىل نتائج تلزم عنها ضŠرورة وذلŠك باالسŠتناد إىل القواعŠد األساسŠية للمنطŠق الصŠوري ،واملنهج االسŠتقرائي الŠذي ننطلŠق فيŠه من وقŠائع جزئيŠة حسŠية غŠري ضŠرورية لنصŠل إىل قŠوانني عامŠة ،وذلŠك باالسŠتناد إىل
جمموعة من القواعد تعرف بقواعد االستقراء.
- viعبد الرمحن بدوي :مناهج البحث العلمي ،دار النهضة العربية ،القاهرة ،1968 ،ص 10
23
ينتقد فيرابند هذا التصور العقالني للمنهج ويدعو إلى التساؤل عما إذا كان هنالك حقا منهجا كليا ،ثابتا ،يتوجب إتباعه ،وااللتزام بقواعده لفهم ودراسة هذا الواقع العلمي
المعقد ،ليس ثمة ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ حسب"فيرابند" ـ ـ ـ ـ ـ ـ "منهج علمي ،وال توجد مجموعة من اإلجراءات أو مجموعة من القواعد تشكل أساسا لكل نموذج بحث علمي وضمانا له ،فعلى
الرغم من وجود أنماط للنجاح في العلوم ،إال أنه ليس هناك منهج ثابت ،وال يمكن أن يكون ثمة منهج كلي ،فاالنجازات التي تمت في مجال العلوم ال يمكن أن تعزى
لوجود مبادئ عامة ،تغطي كل المجاالت ،فال توجد حقيقة كلية ،وال معايير محددة للمعرفة والعقل ،وحتى وإ ن كانت المعايير والقواعد الميتودولوجية مطلوبة من أجل
السير العقالني والمنطقي للبحث (و خاصة البحث العلمي) فانه يتوجب أال نجعل من تلك المعايير والقواعد ،المعايير الثابتة والوحيدة ،ألن ذلك سيكبح مسيرة العلم ،خاصة
إذا كانت تلك القواعد والمعايير تعبر عن تصورات مذهبية ،كما أن االلتزام الصارم بقواعد المنهج ،يؤدي إلى خنق القدرات العقلية ،وكبح قوة الخيال ،والحد من القدرات
اإلبداعية ،يقول فييرابند »فالفكرة القائل ــة بأن العلم يمكن له ،وينبغي لــه أن ينتظم وفقا لقواع ــد ثابتة وكـليـة ،هـي فكرة مـ ــثالـية وذات بريق خادع ،فهي مثالية ألنـها تتضمن
تص ـ ــورا مفرطا في البساطة حول ما يــملكه اإلنسـان م ـ ـ ــن استعدادات وقدرات ،وحول الـظ ــروف التي تشج ـعـ ــها على النمو ،وهي بـ ــراق ــة خادعـ ـ ــة من ح ـ ـ ــيث أن محاولـ ــة
فرض مثــل هذه القواعد ال تخـ ــلو من جـ ــعل الزيـ ــادة في كفاءتنا المهنية ال يكون إال على حساب إنسانيتنا ،فضال عن أن هذه الفكرة مـضرة بالــعلم ،ألنها تهمل الشـ ـ ــروط
i
()
الفـيزيـ ــائية والتاريخي ـ ــة الـمعـ ـقـ ــدة التي تؤثر في عملية التحول العلمي ،إنها تجعل مشروعنا العلمي أقـ ــل مرون ـ ــة ،وأكثر دوغماتـ ـي ــة« ..
إن فكــرة االلــتزام بقواعــد المنهج الــتي مــيزت معظم الميتودولوجيــات في فلســفة العلم الكالســيكية والمعاصــرة تقــوم حســب "فيرابنــد" على مســلمة خاطئــة ،وهي االعتقــاد بوجــود
منهج وحيد ينبغي االلتزام به في الممارسة العلمية ،وأن هذا المنهج هو السـبيل الوحيـد لتحصـيل المعرفـة واكتشـاف الحقيقـة .ويسـتند "فيرابنـد" إلى تـاريخ العلم للبرهنـة على
بطالن هــذا االعتقــاد حيث يقــول» إن ف ـ ــكرة وجــود منهج ين ـ ـ ـط ــوي على مبــادئ صــارمة وثابـت ــة تحكم مســيرة العلم ،تواجه ــها صع ــوبات جمــة عنـ ـ ـ ــد مجابهته ـ ـ ــا بنتائـ ـ ــج البحث
التاريخي ،إذ أنــه لي ـ ــس ثمـ ـ ــة قاعــدة واحدة م ـ ـ ــهما كانت مؤسـسة وراسـ ـخـ ــة في حـ ـقـ ــل االبستم ــولوجيا ،لم يتم انــتهاكها ولو لمرة واحــدة ،وهـ ــذه االنت ـ ــهاكات لق ـ ــواعـ ــد المنهـ ــج،
لـ ـ ــيس حــوادث عرضـ ــة ،وليســت ناتجـ ــة عن نقـ ــص في مــعارفنـ ـ ــا ،أو عن عـ ــدم وع ــي يمكن تداركــه ،بــل هي عـ ــلى العكس ض ــروري ـ ــة للتـ ـق ــدم العـ ـ ـ ــلمي ،إن األحــداث الهـامـ ـ ــة
والتـ ـ ــطورات العلمي ـ ــة الكبـ ــرى ،كإبـ ــداع المذهب ال ـ ــذري الـ ـ ــقديم ،والثـ ـ ـ ــورة الكوبرنيـ ـ ــكية ،وظـ ــهور المـذهب الـذري الحـديث ،والنش ـ ــوء المتـدرج للميكانيكـا الموجي ــة للض ـ ــوء،
لم تكن ل ــترى الن ــور ل ــوال أن ،بعض العـ ـ ــلماء والمفك ــرين ،ق ــد ق ــرروا أن ال يلت ـ ـ ــزموا بق ـ ـ ـ ـ ــواعد محـ ـ ــددة وثابت ـ ـ ــة ،أو ألنهـ ـ ــم اخترقوه ــا أو تخطوه ــا عن غ ــير قص ــد.
ii
«( كما أن تاريخ العلم ،وتاريخ المنهج ذاته يكشف لنا عن عدم وجود منهج محدد لتحصيل المعرفة واكتشاف الحقيقة ،فقد كانت المعرفة مؤسسة على التأمل والمنطق ،ثم
أدخل "أرسطو" إجراء تجريبيـا أكـثر تطـورا ،بيـد أن "ديكـارت" ،و"غـاليلي" اسـتبداله بمنـاهج ذات طـابع رياضـي ،ثم انصـهر كلـه في نزعـة تجريبيـة متطرفـة ،غـير أن هـذه
iii
( )
فكل هذه المناهج ضرورية لتطور العلم. اإلعاقات واالنتهاكات لهذه المناهج ،ال ينبغي أن تؤخذ كباعث على استبعادها
وعلى هذا األساس يعارض "فيرابند" كل الميتودولوجيات التي عرفتهـا فلسـفة العلم الـتي تفـترض وجـود معـايير وقواعـد ثابتـة كليـة ،وال تاريخيـة ،وال يجب أن نفهم من دعـوة
أن البحث العلمي يسير خبط عشـواء ،ودون أيـة قواعـد أو إجـراءات عمليـة ،أو أنـه بنفي المنهج مطلقـا، "فيرابند" إلى "ضد المنهج" ،أو "الالمنهج"non-méthode
وإ نما يعني "الالمنهج" :ال يوجد منهج علمي محدد ،كلي وال تاريخي ،وليست هناك مبادئ وقواعد أو شروط مسـبقة ثابتـة ونهائيـة تحـدد منهج العلم ومسـيرته ،كمـا هـو الشـأن
عند التجريبية المنطقية والتكذيبية البوبرية ،فدعوى فيرابند ضد المنهج تدخل في معركة ضد الميتودولوجيا المفروض فيها أن تقدم قواعد العمل أو السلوك للمشتغلين بالعلم
) (iv
24
فالالمنهج هو إجراء فوضوي ،في مقابل االلتزام المتزمت بالقواعد والمعايير العقالنية ،والغرض منه تحرير العلم من سلطة المنهج ،كما أن "الالمنهج" يعني عدم فرض
منهج معين ،أو طريقة بحث معينة ،ثم العمل على قولبة موضوع الدراسة أو البحث داخل ذلك اإلطار المنهجي ،ألن ذلك ال يناسب الوضع الحقيقي للعلم فقواعد
i
وإ جراءات البحث العلمي تتحـدد بظروف وأهلية البحث ذاته ومعايير الحكم عليها ،وتعديلها أو تغييرها البد أن تكون متكيفة مع العمليات والمواضيع التي يبحث فيها( )،
تعــد وجهــة نظــر"فيرابنــد" حــول العلم واحــدة من أكــثر وجهــات النظــر جــرأة واســتفزازا ،وينــدرج تص ـّو ره للعلم في إطــار مشــروعه االبســتيمولوجي والسياســي الــرامي ،إلى
مناهضـة العقالنيــة العلميــة الغربيــة ،القائمــة على مســلمة مفادهــا أّن العلم الغــربي هــو وحــده دون غـيره القــادر على اكتشــاف الطبيعــة والســيطرة عليهــا ،وأّن ه المقّيم أو المعيــار
الوحيد للحضارات والمعارف األخرى غير الغربية.
ينطلـق "فيرابنــد" في معــرض مناقشــته لموضـوع العلم من تســاؤلين رئيســيين ،األول :مــا هــو العلم ؟ وهــل تختلـف معــاييره ونتائجــه عن معــايير وحقــول النشــاطات اإلنســانية
األخــرى؟ والســؤال الثــاني :مــا هــو الشــيء العظيم في العلم الــذي يجعــل منــه مفضــال ،وأرقى من النشــاطات المعرفيــة األخــرى ؟ هــل بســبب عقالنيــة معــاييره أو بســبب نتائجــه
ii
( )
المهّم ة؟
إّن اإلجابــة عن الســؤال األول متع ـّد دة ،فكــل مدرســة من مــدارس العلم تق ـّد م تّص ورا مختلفــا عن ماهيــة العلم وكيــف يــؤدي عملــه ،ويجمــل بــول فيرابنــد إجابتــه عن الســؤال
األّو ل بقوله« :إن طبيعة العلم مازالت مغّل فة بحجب من الظالم ،وال يزال الموضوع قيد المناقشة ،وثمة فرصة سانحة لمعرفة ما متواضعة عن العلم سوف تنشــأ ذات يــوم».
(iii
أّم ا بالنسبة المتياز العلم وتفّو قه عن باقي النشاطات المعرفية اإلنسانية األخرى ،فان المدافعين عن هذا الرأي يبنون موقفهم على دعامتين أساسيتين:
تتمثل الدعامة األولى في االعتقاد بأن نتائج العلم مستقلة بذاتها وال تدين بشيء ألي فعاليات غير علمية وتتمثل الثانية في القول بامتالك العلم لمنهج علمي ثابت قائم على
مجموعة من القواعد الصارمة.
ويعّلق "فيرابند" بسخرية على ما هو شـائع في المجتمـع ،إذ من النـادر أن نجـد شخصـا يسـأل ويشـكك في أفضـلية وتفّو قـه على بـاقي المجـاالت «،إذ تجـد العلمـاء وفالسـفة العلم
يــدافعون عن العلم مثلمــا يتصـرف المــدافعون عن الكنيســة الرومانيــة الواحــدة ،فالمــذهب الكنســي صـحيح ،وكـّل مــا عـاداه وثــني وبال معــنى ،وكــان هــذا التوّج ه ذات يــوم كنــوزا
) (iv
للخطابة الدينية ،وقد وجدت لها اآلن موطنا جديدا في العلم ».
يعــارض "فيرابنــد" هــذا التوجــه ،ويــرى أن العلم ليس كتابــا مغلقــا ال يمكن فهمــه إال بعــد ســنوات من التــدريب وإ نمــا هــو نظــام عقلي يمكن أن يختــبره وينتقــده أي شــخص معــني
v
( )
باألمر ،أما صعوبة العلم المزعومة فذلك يرجع إلى الحملة المنّظمة التي يشّنها العديد من العلماء إلدخال الّر عب في نفوسنا.
25
إن ما يجعل تفّو ق العلم عن باقي المجاالت المعرفية األخرى أمرا بديهيا ،مبعثه خطأ فادح يتمّثل في أّننـا نفاضـل بين العلم ،وبين غـيره من المجـاالت على أسـاس معـايير
العلم ذاتــه ( الموضــوعية ،الصــدق ،اليقين ،المنهج العلمي) لكن تــاريخ العلم نفســه يؤّك د أّن العلم لم يتف ـّو ق بســبب نتائجــه ،وال بســبب منهجــه ،فنحن نعلم مــا يؤّد يــه العلم لكن
i
()
ليست لدينا أدنى فكرة عّم ا إذا كان في مقدور تقاليد أخرى ـ ـ غير علمية ـ ـ ـ ـ أن تؤّد ي أفضل منه بكثير أم ال ولذا يتعّين علينا أن نبحث عن ذلك.
فالنتــائج الــتي حّققهــا العلم في جميــع مجاالتــه ،ال تعطيــه األفضــلية واالمتيــاز ،ذلــك ألنهــا تــدين بشــكل كبــير إلى معــارف غــير علميــة هي من نتــاج معــارف إنســانية قديمــة ال
تنتمي إلى مضمار العلم ،والمثال المحّبب لفيرابند في هذا الّص دد هو "الثورة الكوبرنيكية" ،فقد استقى "كوبرنيـك" أفكـاره من الفيثـاغوري "فيلـوالوس"حيث تبـنى أفكـاره ودافـع
عن ــها بعـ ـ ـ ــد أن خـ ـ ـ ــرق قواعــد العقـ ـ ـ ــالنية الســائدة ،وقواعــد الحس المش ـ ــترك ،وكــان "في ــلوالوس" فيـ ـث ـ ــاغوريا صـوفي ــا م ـ ــشوش الــذهن ،ومثلمــا انتفــع علم الفلــك من المــذهب
ii
الفيثاغوري ،نجد أن الميكانيكا والبصريات تدينان كثيرا لحرفة الّص ناع ،ويدين الطب للقابالت والعّر افين وبائعي األدوية المتجـولين( )،ومن هنـا فـان القـول بموضـوعية العلم
كما يرد "فيرابند" على المدافعين عن امتياز العلم عن شتى ضروب المعارف األخرى ،بحّج ة امتالك العلم لمنهج يجعل منه معرفة منّظمــة يقينيــة صـادقة ال يشــوبها أّي
شّك ،بأّن تاريخ العلم نفسه يشهد أّن فكرة وجـود منهج علمي ثـابت ينّظم عمليـة اكتسـاب المعرفـة العلميـة الصـحيحة ال يوجـد مـا يـبّر ره ،فهنـاك الكثـير من النظريـات العلميـة
حّققت تقّد ما في العلم ألّن ها تجاوزت وانتهكت المناهج العلمية الثابتة والجامدة في عصرها .
فال وجود إذن لحّج ة قطعية ونهائية يمكن اعتمادها لتأييد الدور االستثنائي للعلم وامتيازه عن باقي المعارف األخرى ،بل ليست للعلم ـ ـ ـ على حّد تعبير فيرابند ـ ـ ـ أّي ســمة
تجعله أسمى أو مختلف عن الّس حر والشعوذة أو التنجيم ،فالعلم ليس إّال تقليدا من بين التقاليد األخرى الموجودة في المجتمع.
وإ ذا كان الّنقد ينصّب على كل التقاليـد ،فانـه عـادة مـا يسـتثني العلم ،يقـول فيرابنـد « :نحن ـ ـ ـ ـ المجتمعـات الغربيـة ـ ـ ـ ـ اآلن نسـتطيع أن ننتقـد مـا نشـاء وكيفمـا نشـاء ،باسـتثناء
على ســبيل المثــال إلى ضــرورة هــدم جميــع مؤّس ســات وصــور االعتقــاد التقليديــة ،إّال أّن ه يســتثني العلم ،كمــا ينتقــد الكــاتب العلم ،فقــد ذهب "كروبــوتكين* Kropotkin
نـدرك أّن الفكـر LEVI STRAUSS أهّم إيديولوجيات القـرن التاسـع عشـر ،مـا عـدا العلم ،وقـد جعلنـا " ليفي سـتروس" المسرحي "هنري ابسن** I bsen
iii
( )
الغربي ال يعد قّم ة االنجاز البشري الوحيد ،كما كان معتقدا من قبل إال أّن ه يستثني العلم من انتسابه لإليديولوجيات.
إن العلم حسب فيرابند ليس نظاما معرفيا مقّد سا يستلزم الكفر بكّل ما عداه أو خالفه ،اّن ه نظام عقالني وجب أن ينمو ويزدهر وسط األنظمة المعرفية األخرى ،وإ ذا كــان
العلم الــذي ســاد في القــرنين الســابع والثــامن عشــر قــد اعتــبر أداة للتنــوير والتح ـّر ر ،فمن غــير الملــزم أّن يظ ـّل دائمــا أداة للتحــرر أو التنــوير ،فــالعلم شــأنه في ذلــك شــأن أّي ـ ـ ــة
إي ــدي ــول ـ ــوجي ــة أخ ــرى ،قـ ــد ي ــؤّد ي إلى الخـ ــراب والدمـ ــار ،بــل إّن العــلم الي ــوم أصبـ ــح يمـ ــاث ــل في اسـ ـتـب ـ ــداده اإليديولوجيات التي جاء أصال ليحاربها ويخّلص اإلنسان منها .
والعلم في تصور"فيرابند"هو وجهة نظر واحدة من بين وجهات نظر متعددة ،وليس هو الدرب األوحد صوب الحقيقـة والواقـع ،فال ينبغي لنـا أن نجعـل منـه المستشـار األوحـد
الــذي نلجــأ إليــه ،يقــول فيرابنــد « :فنحن نعلم أّن الّطّب العشــيري البــدائي والطّب الّش عبي ،واألشــكال التقليديــة للطّب في الّص ين ،والــتي ال تــزال قريبــة الّص لة برؤيــة الحّس
26
المش ــترك واإلنس ــان والطبيع ــة ،لــديها في الغ ــالب وس ــائل أفضــل للّتش ــخيص والعالج من الطّب العلمي ،كم ــا أّنن ــا نعلم أيضــا أن األش ــكال البدائي ــة للحي ــاة ،قــد س ــاهمت في ح ـّل
i
مشكالت الوجود اإلنساني ،والتي تعد بعيدة المنال بالّنسبة للمعالجة العقالنية»( ) وإ ذا كان هناك فرق بين العلم وهذه الثقافات البديلة ،فهو فرق في الّد رجة فقط.
ويشيد فيرابند باألسطورة بكونها بناء مهّم ،يحمل هّم ا وجوديا تّم من خالله تقديم مجموعة من التصّو رات حول اإلنسـان والكـون والمعرفـة والقيم ،ويمكن تطـوير الّتفسـيرات
األسطورية إذا ما تّم ربطها بسياقها الزماني والمكاني ،وعدم تأويلها بطريقة كالسيكية .وبهذا يصل "فيرابند" إلى أن الّتمييز التقليدي الذي وضـعه االبسـتيمولوجيون بين العلم
بيئتنـا ومحيطينـا الفيزيـائي ينبغي والالعلم وأشباه العلم غير مبّر ر ،بل هو مصطنع ومضّر بتقّد م المعرفة،حيث يقول «:فـإذا أردنـا أن نفهم الطبيعـة وأن نتحّك م في
ii
( )
االس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــتناد إلى ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـّل األفك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــار وك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل المن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاهج ،وليس إلى ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوع معّين فق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــط ».
كمــا أن هــذا التميــيز بين العلم واألنشــطة المعرفيــة األخــرى هــو من صــنع الحضــارة الغربيــة ،فلم تكن على اإلطالق أّي ة منافســة عادلــة بين هــذا التعقيــد الكامــل لألفكــار ،وبين
أسـاطير وأديـان وتصـّر فات المجتمعـات غـير الغربيـة ،فقـد اختفت وتـدهورت هـذه األسـاطير ،وهـذه الـّد يانات ،ليس ألّن العلم كـان أفضـل ،لكن ألّن رسـل العلم كـانوا مظفـرين وذوي
iii
( )
وال يخفى على أحـد مـا قـام بـه المستشـرقون من طمس لمعـالم الثقافـات البديلـة ،لصـالح الحركـة االسـتعمارية عزيمـة ،وألّنهم طمسـوا بنـوع أخّص حـاملي الّثقافـات البديلـة.
التي ما فتئت تّتسع مجاالتها وأدواتها ووسائلها ،وما يعيشه العالم اليوم في إطار سياسة العولمة ،وفرض النموذج الغـربي هـو صـورة واضـحة لـذالك ،إن هـذا التفـّو ق الظـاهر
للعلم الغربي لم يكن بسبب ما حّققه من معارف ،وإ نما بسبب طمسه للّثقافات األخرى وبهذا أصبح وسيلة استبداد واستغالل ،يقول فيرابند « :ال شّك أّن العلم الغربي قد لّو ث
معظم العــالم بمــرض معــد لكن هــل هــذا التلــوث الــذي أحدثــه العلم الغــربي هــل قــد أدخــل تحســينات على حيــاة هــؤالء الــذين يتصــلون بــه ؟ إن اإلجابــة لــدي بــالنفي ،فالحضــارة
) (iv
الغربية ،قد تم فرضها بالقوة ،وليس عن طريق حجج تبين صدقها ،أنها سادت ألن أسلحتها أفضل».
27
خالصة:
لقــد أســس "فيرابنــد" لنظريــة جديــدة في المعرفــة ،وهي "الفوضــوية االبســتمولوجية" وال تعــني "الفوضــوية" :الفوضــى أو العشــوائية ،وإ نمــا المعــنى الــذي أراده "فيرابنــد" لهــذا
المصطلح الجديد في فلسفة العلم ،هو عدم التقيد بقوانين العقل ومعايير العقالنية ،والتفتح على كل الخيارات والبدائل النظرية والمنهجية ،فالعلم كما يراه "فيرابند" هو أكــثر ال
عقالنيـ ــة ،وأكـ ــثر تعقـ ــدا مقارنـ ــة بصـ ــورته العقالنيـ ــة القائمـ ــة على النظـ ــام والقـ ــانون والصـ ــدق والموضـ ــوعية وقـ ــوانين المنطـ ــق الكالسـ ــيكي الجامـ ــدة ،وبهـ ــذا كـ ــانت الفوضـ ــوية
االبســتمولوجية اتجــاه مضــاد لكــل ميتودولوجيــا معياريــة تــدعي أن هنــاك قواعــد ومعــايير تحكم مســيرة العلم ،وتتخــذ كمعيــار للتميــيز بين الذاتيــة والموضــوعية ،وبين العقالنيــة
والالعقالنية ،وهي تصور جديد في فلسفة العلم ،يسعى إلى ردم الهوة بين االبستيمولوجيا وواقع العلم ،واحتواء العوامل المتعددة والمتشابكة التي تكون ظاهرة العلم.
كما أن فيرابند ليس ضد العلم ،وإ نما ضد سيطرة العلم وسيادته ،وضد مقولـة أنـه وجهـة النظـر الواحـدة والوحيـدة للنظـر إلى العـالم وتفسـيره ،و ضـد التوظيـف اإليـديولوجي
للعلم واالستغالل غير المشروع له من طرف الحضارة الغربية التي جعلت منه مقياس التفوق ،وذريعة إلقصاء كل البدائل وأشكال المعرفة غير الغربيـة في إطـار المشـروع
الّثقافي الغربي القائم على فكرة أن العلم غربي المنشأ والتطور.
إن دعــوة "فيرابنــد" الى "الالمنهج" ال تعــني أنــه ينفي المنهج مطلقــا ،وإ نمــا يعــني "الالمنهج" :عــدم وجــود منهج علمي محــدد كلي وال تــاريخي ،وعــدم وجــود مبــادئ وقواعــد أو
شروط مسبقة ثابتة ونهائية تحدد مسيرة العلم فقواعد وإ جراءات البحث العلمي تتحدد بظروف وأهلية البحث ذاته.
28