You are on page 1of 28

‫وزارة التعليم العلي والبحث العلمي‬

‫جامعة زيان عاشور ـ الجلفة‬

‫كلية العلوم االجتماعية واالنسانية‬

‫قسم علم النفس والفلسفة‬

‫محاضرات مقياس فلسفة العلوم ‪2‬‬

‫السنة الثالثة ـ فلسفة‬

‫اعداد‪:‬‬

‫الدكتور ‪ /‬بوصالحيح حمدان‬

‫السنة الجامعية‪2020 /2019 :‬‬

‫محاضرات فلسفة العلوم ‪ 2‬السنة الثالثة فلسفة‬

‫‪1‬‬
‫المحور األول‪:‬‬

‫فلسفة العلوم الطبيعية( التجريبية)‪.‬‬


‫تمهيد ‪ :‬تعد النهضة العلمية التي عرفتها أوروبا في العصر الحديث معلما جديدا لقيام العلم التجريبي القائم على أسس تجريبية‪ ،‬والذي قطع الصلة مع الفكر القروسطي القائم‬
‫التصورات الالهوتية والمفاهيم األرسـطية‪ ،‬كـان القـرن السـابع عشـر إعالن ميالد العلم الحـديث الـذي أرسـى قواعـده "غـاليلي" و"بيكـون" و"نيـوتن"‪ ،‬لكن التطـورات الـتي عرفهـا‬
‫العلم المعاصر نتيجة الثورات العلمية المتتالية قد أدت إلى تقويض الكثير من المبادئ التي قام عليها العلم الحديث‪ ،‬وقبل الحديث عن هذه التطورات ما هي األسس والمبادئ‬
‫التي قام عليها العلم الحديث؟‬
‫الخصائص االبيستمولوجية للعلم الحديث‪:‬‬

‫لقــد عــرف العلم الحــديث اكتمالــه ونضــجه ـ ـ ـ خاصــة في مجــال الفيزيــاء ـ ـ ـ في القــرن الســابع عشــر مــع "إســحاق نيــوتن" ‪Isaac Newton (1643-‬‬
‫‪ ،‬من خالل وضعه لنظرية متكاملة الجوانب تعطى تصورا واحدا ومتماسـكا لجميـع الظـواهر الكونيـة‪ ،‬وهـو مـا أصـبح يعـرف بالتصـور الميكـانيكي اآللي للطبيعـة‬ ‫)‪1727‬‬
‫القائم على العلية واالطراد‪ ،‬النظام والحتمية وال مجال فيه للمصادفة والفوضى‪ ،‬وغاية العلم هي اكتشاف هذا النظام‪.‬‬
‫وقد استند هذا النموذج الحديث للعلم على جملة من األسس يمكن أن نجملها في النقاط التالية ‪:‬‬

‫االستناد إلى فكرة البداهة والوضوح الذاتي‪ ،‬وهو شرط ضروري للتبرير الذاتي الذي يعنى بالبحث عن القضايا الواضحة بذاتها باعتبارها أساس كل تبرير عقالني‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫القائم على جملة من القواعد الثابتة‪ ،‬و يستند المنهج العلمي كما تتصوره العقالنية الحديثة إلى مجموعة من المسلمات األساسية منها ‪:‬‬ ‫‪ ‬وحدة المنهج‬

‫ـ ـ ـ مسلمة النظام‪:‬‬
‫ومفادها أن ظواهر الكون تسير وفقا لنظام ثابت ال يتغير‪ ،‬فنسقية الظاهرة تضفي صفة المعقولية عليها وتجعل فهمنا لها في حدود نسق معين ال يتغير بتغير العقول‪،‬‬

‫‪ »:‬النظام هو أحد مفاهيم العقل األساسية‪،‬‬ ‫والنظام يعبر عن مبدأ الهوية الثابت الذي يجسد عالقة الماهية بذاتها ‪.‬يقول الالند (‪André Lalande )1963-1867‬‬
‫‪i‬‬
‫( )‪.‬‬
‫ويشمل الترتيب الزماني والترتيب المكاني والعلل والقوانين‪ ،‬والنظام الطبيعي هو اطراد الحوادث وفقا لقوانين معينة‬

‫ـ ـ ـ ـ مسلمة الحتمية‪:‬‬
‫وتع ــني أن نظ ــام الك ــون ث ــابت ش ــامل مط ــرد ك ــل ظ ــاهرة من ظ ــواهره مقي ــدة بش ــروط تل ــزم ح ــدوثها اض ــطرار أي خاض ــعة لق ــانون مح ــدد‪ ،‬وه ــذا م ــا يجعل ــه كون ــا منظم ــا (‬
‫‪ii‬‬
‫)( )‪ ،‬فليس في الطبيعـة جـواز وال إمكـان‪ ،‬وال طفـرة وال معجـزة‪ ،‬بـل كـل مـا فيهـا ضـرورة واطـراد‪ ،‬ولمـا‬ ‫‪ )Cosmos‬وليس هاوية من الفوضى والعماء (‪Chaos‬‬
‫‪iii‬‬
‫( )‬
‫فالحتميـة إذن ليسـت فقـط تعميمـا مؤيـدا بمـا نالحظـه‪ ،‬بـل‬ ‫كانت الضرورة استحالة النقيض فإن الحتمية تعني أن كل ما يحدث البـد وأن يحـدث ويسـتحيل أن يحـدث سـواه ‪.‬‬

‫أيضا مقدمة قبلية شرطية لجعل عالمنا منتظما‪ ،‬وبهذا ارتبط مفهوم الحتميـة العلميـة بالقابليـة للتنبـؤ على أسـاس أن الكـون خاضـع لقـوانين ثابتـة يمكننـا التنبـؤ بكـل واقعـة الحقـة‬
‫بواسطة الحالة الكاملة في لحظة معينة تنبؤا صادقا صدقا يقينا‪ ،‬وعلى هذا األساس يصبح الصدق واليقين تبريرا عقليا‪.‬‬

‫‪ -i‬الالند ‪ :‬املوسوعة الفلسفية‪ ،‬تعريب‪ ،‬أمحد خليل‪ ،‬منشورات عويدات‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،2‬ص ‪720‬‬
‫‪ -ii‬حممد عابد اجلابري ‪ :‬مدخل إىل فلسفة العلوم ‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪416‬‬
‫‪ -iii‬ميىن طريف اخلويل ‪ :‬فلسفة العلم يف القرن العشرين ‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،‬العدد ‪ 200 ،264‬ص ‪.119‬‬

‫‪2‬‬
‫"الموضوعية‪:‬‬
‫تعد الموضوعية معيارا لتمييز العلم عن غيره من أشكال المعرفة اإلنسانية األخرى والموضوعية هنا لهـا معنيـان‪ ،‬المعـنى األول وهـو تحديـد الموضـوع محـل البحث العلمي‪،‬‬
‫وهذا يتضمن فصل هذا الموضوع عن باقي موضوعات البحث‪ ،‬والمعنى الثاني هو فصل الذات عن الموضوع‪ ،‬فالمعرفة العلمية هي معرفة موضـوعية مسـتقلة عن رغبـات‬
‫وتوجهات الباحث‪ ،‬فهو باحث محايد ال يتأثر بحالته النفسية وال بالظروف االجتماعية وال بالخلفيات الثقافية التي ينتسب إليهـا فالمعرفـة العلميـة هي معرفـة موضـوعية بمعـنى‬
‫أنها تمدنا بوصف دقيق لألشياء الموجودة في العالم على أنها واقعية‬
‫ويوصف العلم بأنه موضوعي ألنه يزودنا بقواعد منهجية ومعايير ثابتة وشاملة ال تاريخية‪ ،‬بمعنى أنها ال تتغير بتغير الزمان والمكان‪ ،‬ومن هنا يتعلـق مفهــوم الموضـوعية‬
‫الحديث‪ ،‬بكل ما هو قابل للتحقق التجريبي‪ ،‬ومن ثم كانت الموضوعية في العلم هي االعتقاد بأن موضوعات المعرفـة لهـا وجـود مـادي خـارجي في الواقـع‪ ،‬وأن العقـل يصـل‬
‫إلى إدراك الحقيقة الواقعية القائمة بذاتها والمستقلة عن الذات المدركة فكأن العقل (عقل العالم‪/‬المالحظ) له مهمة واحدة هي تسجيل ورصد الوقائع في الطبيعة رصدا محايــدا‬
‫بعيــدا عن كــل تحــيز إنســاني‪ ،‬وبهــذا ارتبــط مفهــوم الصــدق واليقين بمفهــوم الموضــوعية‪ ،‬فمعيــار صــدق النظريــة العلميــة وصــحتها هــو مراعــاة بنيتهــا وانســجامها المنطقي‪،‬‬
‫ومطابقتهـا للتجربـة فقـط‪ ،‬دون االهتمـام بعالقـة العلمـاء كـأفراد أو كجماعـات تنتمي إلى مؤسسـة اجتماعيـة مـا‪ ،‬وبمعـنى آخـر دون االهتمـام بمعتقـدات وخلفيـات العلمـاء الفكريـة‬
‫واإليديولوجية باعتبارها معتقدات ذاتية ال تدخل في بنية النظرية العلمية وتركيبها‬
‫الفيزياء المعاصرة وأزمة العلم الحديث ‪:‬‬
‫لقد أدت التطورات العلمية التي شهدها الفكر العلمي منذ مطلع القرن العشرين إلى ثورة شاملة مست مجمل األسس النظرية والمنهجية التي ترسخت على مدى ثالثــة قــرون‬

‫لقوانين الحركة الفيزيائية األمـر الـذي جعـل العقـل العلمي يراجـع ويعـدل معظم المفـاهيم واألسـس النظريـة الـتي سـعت العقالنيـة‬ ‫من الزمن منذ اكتشاف نيوتن ‪Newton‬‬
‫العلمية الحدي ـ ـ ـ ــثة لتب ـ ــريرها بحجـة أنهـا حقـائق ثابتـة كليـة ومطـ ــلقة‪ ،‬حـتى تصب ـ ــح قـادرة على استي ـ ــعاب هـذا الواقـ ـ ــع العل ـ ـ ــمي الجدي ـ ـ ــد بـل إن هـذا الواقـع العلمي الجديـد يتطلب‬
‫استبدالها بعلم جديد‪ ،‬وعقالنية علمية جديدة ‪ ،‬وقد تمثلت هذه الثورة العلمية على مستويين‪ ،‬األول على مستوى علوم الرياضيات‪ ،‬والثاني على مستوى العلــوم الفيزيائيــة‪ .‬وإ ذا‬
‫كــان ظهــور الهندســات الالاقليديــة‪ ،‬ونظريــة المجموعــات يعــبر عن الوجــه األول من األزمــة الــتي عرفهــا العلم الحــديث والعقالنيــة العلميــة الكالســيكية‪ ،‬فــان الوجــه األخــر لهــذه‬
‫األزمة (و أعني به العلوم الفيزيائية) كان أعنف بكثير‪.‬‬
‫لقد حقق العلم الفيزيائي خالل الثلث األول من القرن العشرين تقدما مذهال‪ ،‬أدى إلى تغيير الكثير من المفاهيم واألسس التي قام عليها العلم الكالسيكي‪ ،‬حتى قيل أن التقدم‬
‫الذي أحرزه العلم في هذه الفترة يفوق ما أنجزته البشرية طوال تاريخها السابق‪ ،‬ويمكن إجمال هذه االنجازات في ثالثة أعمال رئيسية كانت تمثل مجتمعة ثورة كبرى في‬

‫العلم وهي "نظرية الكوانتم" "لماكس بالنك " (‪ ،Max Planck )1947-1858‬ونظرية " النسبية الخاصة والعامة"" ألينشتاين " ‪Albert Einstein‬‬
‫‪.‬‬‫)‪(1879-1955‬‬
‫نظرية الكوانتم‪:‬‬
‫لقــد كــانت نظريــة "الكــوانتم" ثمــرة جهــود مجموعــة من الفيزيــائيين الــذي حــاولوا تفســير ظــاهرة الضــوء‪ ،‬وقــد شــكلت نظريــاتهم المــادة الضــرورية الــتي يتأســس عليهــا تصــور‬
‫الفيزيائي تجاه العالم‪ ،‬ومحور األشكال في تفسير الضوء يرجع إلى طبيعته‪ ،‬هـل هـو ذو طبيعـة جسـيمية أم موجيـة؟ فمنـذ القـرن السـابع عشـر اتخـذ البحث في الضـوء طـابع‬

‫) أن الضـوء عبـارة عن دقـائق متناهيـة في الصـغر تعـرف "بـ ـ‬ ‫المنافسة بين نظريتين مختلفتين وهما النظرية الجسيمية والنظرية الموجية‪ ،‬وقد اعتقد "نيـوتن"(‪Newton‬‬
‫) أو جسيم الضوء‪ ،‬تنبعث من الجسم المضيء وتنتشر في الفراغ بسرعات عالية ومنتظمـة في شـكل خطـوط مسـتقيمة وفي كـل االتجاهـات وذلـك في‬ ‫الفتون "(‪Photon‬‬
‫األوساط المتشابهة‪ ،‬مستدال على ذلك بتكـون ظـاهرة الظـل‪ ،‬وقـد نجحت هـذه النظريـة في تفسـير ظـاهرة االنتشـار واالنعكـاس*‪ ،‬وتمكنت من البرهنـة على أن الضـوء األبيض‬
‫‪i‬‬
‫لكن هذا التصور النيوتوني للضوء لم يلبث أن اصطدم باكتشاف ظواهر تناقضه‪ ،‬فقد تـبين أنـه‬ ‫()‬
‫ممكن أن ينقسم إلى عدة ألوان وهو ما يعرف بالطيف (‪Spectre‬‬
‫)‬

‫عندما يسلط منبع ضوئي على حاجز به ثقب‪ ،‬يؤدي ذلك إلى ظهور بقع ضوئية أعرض من هذا الثقب‪ ،‬بل ويزداد حجمها كلما ابتعد عن هذا الثقب‪ ،‬وهــذا مــا يتعــارض مــع‬

‫‪ * i‬ينعكس الضوء عندما يسقط على سطح أملس‪ ،‬ويسمى الشعاع الذي يسقط بالشعاع الساقط ‪ ،‬وبعد أن ينعكس الشعاع يسمى الشعاع املنعكس‬
‫‪ - 1‬اللون األبيض يتكون من سبعة ألوان ‪ :‬األمحر الربتقايل واألصفر واألخضر واألزرق والنيلي والبنفسجي‪ ،‬واحنالل الضوء اىل هذه األوان السبعة هو ما يعرف بالطيف‪ ،‬اجلابري ‪ :‬مدخل اىل فلسفة العلوم ‪،‬‬
‫م س ‪ ،‬ص ‪330‬‬

‫‪3‬‬
‫التصور النيوتوني "‪ ،‬ألنه لو كان الضوء عبارة عن جسيمات تسير في خط مستقيم‪ ،‬لكان حجم البقعة مساويا لحجم الثقب‪ ،‬فعجز النظرية الجسمية عن تفسير ظاهرة انعراج‬
‫الضــوء أدى إلى ظهــور التفســير المــوجي أو النظريــة الموجيــة الــتي تــرى أن الضــوء عبــارة عن موجــات بمعــنى أن الضــوء ينتشــر على شــكل أمــواج طويلــة مماثلــة النتشــار‬
‫األمواج الطويلة الميكانيكية في األوساط المادية وعندما تتالقى مع جسم ما فإنها تمر من جانبيه ثم تلتقي خلفه كما تفعل أمواج البحر تماما‪.‬‬
‫وقد تعززت النظرية الموجية من خالل تجارب الفيزيائيين واكتشافهم للعالقة الموجودة بين ظواهر فيزيائية جديدة ومنها الكهرباء والمغناطيس والضــوء‪ ،‬ويعتــبر ماكســويل*‬

‫أول من ربـ ــط بين الكهربـ ــاء والمغناطيسـ ــية من خالل تجاربـ ــه ال ــتي بينت أن التـ ــأثير المغناطيسـ ــي والتـ ــأثير‬ ‫)‪James Maxwell (1831-1879‬‬
‫) ‪ ،‬فـاألمواج الكهرطيسـية (الكهربائيـة المغناطيسـية) واألمـواج الضـوئية لهـا‬ ‫الكهربائي ينتشـران على شـكل أمـواج وبسـرعة هي نفس سـرعة الضـوء ‪ 3000‬كم‪/‬ثـا(‪Km/s‬‬
‫عبــارة عن أمــواج كهرطيســية أي عبــارة عن مجــال كهربــائي ومجــال‬ ‫‪Maxwell‬‬ ‫نفس الســرعة وبالتــالي هي ذات طبيعــة واحــدة‪ ،‬فالضــوء حســب معادلــة "ماكســويل"‬

‫‪i‬‬
‫()‬
‫مغناطيسي ينتشران في آن واحد‪.‬‬

‫وهكذا أصبحت النظرية الموجية هي النظرية العلمية المقبولة والقادرة على تفسير جميع الظواهر الفيزيائية‪ ،‬لكن هـذه النظريـة قـد تعرضـت النقالب عـنيف سـنة ‪ 1900‬على‬

‫)الجســيمية‪ ،‬فقــد افــترض‬ ‫(‪Newton‬‬ ‫) الــذي أثبت أن الضــوء يتــألف من جســيمات‪ ،‬ومن ثم أيــد نظريــة "نيــوتن"‬ ‫يــد األلمــاني "مــاكس بالنــك " (‪Max Planck‬‬
‫) أن اإلشـعاع ال ينطلـق من المـادة على شـكل تيـار متصـل مثـل تيـار المـاء المتـدفق من خرطـوم‪ ،‬بـل هـو أشـبه بطلقـات من الرصـاص تنطلـق من مـدفع‬ ‫"بالنك" (‪Planck‬‬
‫فالطاقة ال تظهر إال بصورة منفصلة متقطعة‪ ،‬على شكل حبات أو وحدات محددة تسمى بالكوانتوم *** (‪Quan‬‬ ‫‪ii‬‬
‫( )‬
‫رشاش‪ ،‬فاإلشعاع ينطلق على هيئة مقادير منفصلة‪.‬‬

‫) إلى إبـداع فكـرة الكم نظـرا لمـا أثارتـه هـذه التجربـة من نتـائج تتعـارض مـع معطيـات‬ ‫العامـل األهم الـذي ألهم بالنـك (‪Planck‬‬ ‫) وتعتبر تجربة الجسم األسود‬ ‫‪tum‬‬
‫التجربة‪.‬‬

‫(كم) أي وحــدات ال تقبــل‬ ‫لقــد انطلــق "بالنــك" (‪ )Planck‬من مســلمة إن الطاقــة منفصــلة وإ ن الضــوء عبــارة عن طاقــة تســري على شــكل "كــوانتم" ‪Quantum‬‬
‫التجزئة وأخذ بالبحث عن الكيفية التي تتوزع بهـا الطاقـة الضـوئية في الجسـم األسـود وربـط هـذا التوزيـع بتـواتر أشـعة ذلـك الضـوء ودرجـة حـرارة ذلـك الجسـم‪ ،‬وتوصـل إلى‬

‫ت‪ ،‬حيث (ك) هـو قيمـة الكـوانتم‪ ،‬و(ه) عـدد ثـابت مقـداره‬ ‫صياغة العالقة بين كم الطاقة والطول الموجي في معادلة سميت بثابت بالنك وفقا للصـياغة التاليـة ‪ :‬ك = ه ‪x‬‬
‫)" إلى انقالب ثـوري جعـل العلمـاء‬ ‫‪ ،: x 10-27 6,62‬ويعرف بثات بالنك‪ ،‬أما (ت) فـيرمز للتـواتر ‪ ، iii‬وهكـذا أدت معادلـة "مـاكس بالنـك(‪Max Planck‬‬
‫( )‬

‫يتخلون عن كثير من المفاهيم األساسية في الفيزياء‪ ،‬بل هـزت هـذه الثـورة الجذريـة الكيـان الفيزيـائي برمتـه بسـبب مـا كـان لهـا من أثـر في ظهـور نظريـات وتصـورات علميـة‬
‫جديدة ‪.‬‬

‫أن الضوء له طبيعة مزدوجة جسيمية وموجية‪ ،‬فالشعاع الضوئي‬ ‫)‪Louis de Broglie (1892-1987‬‬ ‫وفي عام ‪ 1924‬أعلن "لوي دو بروي*‬

‫يتألف من حبات (كما تقول النظرية الكوانتية)‪ ،‬ولكن لكل حبة ضوئية (أو فتون) موجة خاصة تصحبه باستمرار‪ ،‬فعندما ينتشر الفتون يكون مصحوبا دوما بموجة من عنــده‬

‫) إلى أنــه ال يمكن‬ ‫(‪de Broglie‬‬ ‫تغمــره وتجعلـه يشــغل حــيزا ال يمكن ضـبطه بدقـة‪ ،‬ونقــل هــذه الفكــرة إلى مجــال جزيئــات الـذرة (االلكترونــات) وتوصـل " دو بــروي"‬

‫ماكسويل جيمس كالرك ‪ ، ) 1879-1831( :‬فيزيائي اجنليزي‪ ،‬من أهم اجنازاته ‪ :‬معادالت املوجات االلكرتو مغناطيسية ذات السرعة يف الفراغ‪i‬‬ ‫*‬
‫حممد عابد اجلابري ‪ :‬مدخل اىل فلسفة العلوم ‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪2- 333‬‬
‫‪ -3ii‬السيد نفادي ‪ :‬الضرورة واالحتمال بني العلم والفلسفة ‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنشر‪ ،‬بريوت ‪، 2005‬ط‪ ،2‬ص‪. 140‬‬
‫*** الكوانتوم ‪ :‬هو كم الطاقة اليت تتعامل به الطبيعة أخذا وعطاء كمقدار ثابت ‪ ،‬أو هو وحدة الطاقة اإلشعاعية ‪.‬‬
‫‪iii‬‬

‫‪4‬‬
‫تحديد موقع اإللكترون بدقة‪ ،‬ذلك ألن طول موجته والذي يمثل موقعه‪ ،‬تحدده كتلة اإللكترون وسرعته‪ ،‬وألن الكتلـة تتغـير بتغـير السـرعة‪ ،‬فإنـه من المتعـذر ضـبط مكانـه بمـا‬
‫‪i‬‬
‫أن سرعة اإللكترون تقترب من سرعة الضوء( )‪.‬‬

‫وفي ظل هذا التسارع المذهل لحركة االكتشافات الفيزيائية المتعلقة بالميكروفيزياء‪ ،‬أعلن العالم األلماني"هايزنبرغ" ‪Werner Heisenberg (1901-‬‬
‫عن مبدئه الشهير المعروف باسم "مبدأ الالتعيين" الذي ينص على استحالة التعيين الدقيق لموضع اإللكترون وسرعته في آن واحد‪ ،‬ذلك ألنه عنـدما يزيـد ضـبط‬ ‫)‪1976‬‬
‫موقع اإللكترون البد أن نسلط عليه شعاعا ضوئيا وبقوة‪ ،‬ولكن عندما يصطدم الفوتون باإللكترون يمتص منه قسطا من طاقته يضيفها إلى نفســه فـتزداد ســرعته فنعجــز عن‬
‫‪ii‬‬
‫( )‬
‫ضبط مكانة‪.‬‬

‫وقد أدى مبدأ الالتعيين إلى إعادة مراجعة مفهوم أساسي في العلم والعقالنية الكالسيكية‪ ،‬وهو مفهـوم "الحتميـة"الـذي يقـوم على إمكانيـة التنبـؤ الـدقيق لموقـع الجسـم انطالقـا من‬
‫تحديد سرعته‪ ،‬وبما أن هذا التنبؤ أصبح مستحيال في الفيزياء الذرية‪ ،‬فان المفهوم الكالسيكي للحتمية قد انهار ليحل محله مفهوم االحتمال‪ ،‬وبما أن مبدأ الالتعــيين يقــوم على‬
‫اعتبار أثر أدوات القياس‪ ،‬والرصد والتجريب واألجهزة المعملية في الظواهر موضـوع الدراسـة فـان األمـر يـدعو إلى مراجعـة مفهـوم " الموضـوعية العلميـة " كمـا تصـورتها‬
‫العقالنية العلمية الكالسيكية‪.‬‬
‫وإ ذا كانت النظرية "الكوانتية " تعد وجها من أوجه الثورة العلمية التي عصفت باألسس والمبادئ التي قام عليها العلم الكالسيكي فإن الوجه الثاني لهذه الثورة العلمية كان‬

‫(‪Albert Einstein‬‬
‫)‪.‬‬ ‫أعنف بكثير‪ ،‬وأعني به ظهور نظرية "النسبية" ل ـ " ألبرت اينشتاين "‬

‫نظرية النسبية‬

‫) هي الثـورة الفيزيائيـة األولى (أي الثـورة ضـد فيزيـاء" أرسـطو "‬ ‫تعد نظرية النسبية الجزء الثاني المكمل للثورة الفيزيائية الثانية‪ ،‬فإذا كانت فيزياء "نيوتن"(‪Newton‬‬
‫فإن نظرية "النسبية " هي الثورة الفيزيائية الثانية‪ ،‬فقد أحدثت انقـ ــالب ـ ـ ـ ـ ـ ــا إبيستمولوجيا حقيقيا في بنية العلم الكالسيكي‪ ،‬وغيرت الكثير من مفاهيمه األساسية كمفهوم "المطلــق"‪،‬‬
‫ومفه ــوم "الزم ــان "و "المك ــان" و"الحرك ــة" و"الس ــرعة" و" الكتلــة"‪ ،‬وقــد أدى ذلــك إلى إعــادة صــياغة قواعــد الميكانيك ــا النيوتوني ــة على أس ــس تجريبي ــة يق ــول "أينش ــتاين"‪ » :‬إن‬
‫‪iii‬‬
‫( )‬
‫«‬ ‫الضرورة هي التي حتمت ظهور نظرية النسبية بعد ما اكتشفت تناقضات عميقة وخطيرة في النظرية القديمة‪.‬‬

‫وتنقسـم نظريـة النسـبية إلى "نظريـة النسـبية الخاصـة " الـتي أعلن عنهـا اينشـتاين عـام ‪ 1905‬و"نظريـة النسـبية العامـة " والـتي تمتـد من ‪" ،1915-1912‬فالنسـبية الخاصـة"‬
‫تتنـاول األجسـام والمجموعـات الـتي تتحـرك بعضـها بالنسـبية إلى بعض بسـرعة ثابتـة والنسـبية العامـة تتنـاول األجسـام والمجموعـات الـتي تتحـرك بعضـها بالنسـبية إلى بعض‬
‫بسرعة متزايدة أو متناقصـة‪ ،‬وقـد سـميت ب ـ ـ ــ" النسـبية" تأكيـدا على أن الحركـة المطلقـة فقـدت معناهـا‪ ،‬وأننـا أمـام حقيقـة نسـبية "نسـبية الحركـة"‪ ،‬ووصـفت بـ ـ ـ ـ ـ "الخاصـة" تأكيـدا‬
‫على أن الحركــة المعينــة بين هياكــل الرصــد الحــرة هي الحالــة الخاصــة من الحركــة لكونهــا حركــة كونيــة منتظمــة‪ ،‬وعلى نفس الوتــيرة‪ ،‬ووصــفت " بالعامــة " تأكيــدا على أن‬
‫)‬ ‫(‪iv‬‬
‫الحركة المعينة بين هياكل الرصد الحرة هي الحركة العامة التي تكافئ مجال الجذب العام «‬
‫لقد انطلق "اينشتاين" في بناء نظرية النسبية الخاصة من فرضيتين أساسيتين ‪:‬‬
‫الفرض األول يتعلق بإنكار فرض " األثير المطلق " الذي قامت عليه الفيزياء النيوتونية‪ ،‬فقد أثبت "اينشتاين" أن كل حركة هي حركــة نســبية فليس هنــاك "حركــة مطلقــة"‪،‬‬
‫فنحن ال نستطيع أن نقول أن جسما ما ‪ ،‬له سرعة كذا أو كذا بل يجب أن نقول أن الجسم له سـرعة كـذا بالنسـبة لكـذا‪ ،‬وليس هنـاك" مكـان مطلـق " يمكن إسـناد كـل شـيء‬
‫إليه مثلما فعل "نيوتن" بفرضية "األثير "و هو المطلق عنده‪.‬‬

‫‪" .‬لويس دي برويه ‪ ،) 1960 -1875( :‬فيزيائي فرنسي‪ ،‬من أهم مؤلفاته ‪" :‬الفيزياء وامليكروفيزياء *‪i-‬‬
‫حممد عابد اجلابري ‪ :‬مدخل اىل فلسفة العلوم ‪ ،‬م س‪ ،‬ص‪376‬‬
‫املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪ii- 377‬‬

‫‪ -iii‬ألربت انشتاين وليوبولد أنفلد ‪ :‬تطور الفيزياء ‪ ،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪14‬‬
‫‪ -iv‬آلربت اينشتاين ‪ :‬النسبية ‪ :‬النظرية اخلاصة والعامة ‪ ،‬ترمجة رمسيس شحاتة‪ ،‬مراجعة حممد مرسي امحد‪ ،‬دار هنضة مصر‪ ،‬القاهرة ‪ 1965‬ص ‪.25‬‬

‫‪5‬‬
‫والفـ ــرض الثـ ــاني هـ ــو أن "سـ ــرعة الضـ ــوء مقـ ــدار مطلـ ــق وثـ ــابت بالنسـ ــبة لجميـ ــع المشـ ــاهدين"‪ ،‬بـ ــدون النظـ ــر إلى حـ ــالتهم الحركيـ ــة من مصـ ــدر الضـ ــوء‪ ،‬يقـ ــول"اينشـ ــتاين"(‬
‫‪i‬‬
‫) ‪ » :‬ت كون لسرعة الضوء في الفضاء الفارغ نفس القيمة القياسية دائما بغض النظر عن حركة منبع الضوء أو مسـتقبله «( ) فسـرعة الضـوء المقـدرة ب ـ ــ‪:‬‬ ‫‪Einstein‬‬
‫)‪.‬‬‫‪ 300‬ألف كلم‪/‬ثا‪ ،‬هي الثابت الكوني الوحيد عند اينشتاين (‪Einstein‬‬
‫وقد ترتبت عن الفرضين السابقين جملة من القوانين تمثل جوهر نظرية النسبية وأبرزها‪:‬‬
‫نسبية المكان والزمن والمسافة‬
‫لقد أثبت" أينشتاين" أنه ليس هناك معيـار واحـد ثـابت نسـتند إليـه في تحديـد مكـان جسـم مـا ‪ ،‬أو تحديـد المسـافة بين جسـم وأخـر تحديـدا مطلقـا‪ ،‬أو تحديـد سـرعة جسـم مـا‪ ،‬وال‬
‫يوجد معيار ثابت نستطع بفضله تحديد الفترة الزمنية لوقوع حادثة ما على مستوي الكون كله‪ ،‬ذلك أن كل فضاء له زمانه الخاص به‪.‬‬
‫فإذ كنا نقدر الزمان على "األرض" من خالل اليوم‪( ،‬وأجزائه أي السـاعة‪ ،‬والدقيقـة‪ ،‬والثانيـة)‪ ،‬واألسـبوع‪ ،‬والشـهر‪ ،‬والعـام على أسـاس أن اليـوم هـو مـدة دورة األرض حـول‬
‫نفسها‪ ،‬والسنة هي مدة دورة األرض حول الشمس‪ ،‬فـإن هـذا التقـدير سـيختلف إذ كنـا على كـوكب "عطـارد " أو على أي كـوكب أخـر‪ ،‬وهـذا يعـني غيـاب النمـوذج أو "المعيـار‬
‫الثابت" الذي نحسب به الزمان‪ ،‬ما دامت أن الساعات المستعملة على األرض قد ضبطت على النظـام الشمسـي‪ ،‬ممـا يعـني أن المـدة الـتي نسـميها السـاعة مـا هي إال مقيـاس‬
‫‪ii‬‬
‫( )‪.‬‬
‫فالبـد حينمـا نريـد قيـاس زمن الحـوادث أن يكـون ذلـك بالنسـبة للكـوكب الـذي نقيس فيـه‪ ،‬وهـذا مـا يجعـل فكـرة "الزمـان المطلـق" فكـرة ال معـنى لهـا‪ ،‬فكلمـات مثـل ‪:‬‬ ‫مكاني‬

‫" اآلن‪ ،‬وقبل‪ ،‬وبعد" هي تصورات نسبية يقول "اينشتاين" ‪ »:‬وقبل ظهور النسبية كانت الفيزياء تسلم تسليما أعمى بأن الزمن أمر مطلق‪ ،‬أي أنه مستقل عن حالة الحركــة أو‬
‫‪iii‬‬
‫( )‬
‫السكون التي عليها مجموعة اإلسناد « ‪.‬‬

‫وهكذا تجاوزت النسبية الخاصة التصورات النيوتونيـة المتعلقـة "بالزمـان" عنـدما نسـبته إلى النظـام اإلحـداثي الـذي أشـتق منـه‪ ،‬فال وجـود لزمـان واحـد للكـون‪ ،‬فتتعـدد األزمنـة‬

‫)‪.‬‬
‫(‪iv‬‬
‫بتعدد األنظمة‪ ،‬يقول"اينشتاين"‪ » :‬علينا أن نقبل مفهوم الزمان النسبي في كل نظام إحداثي‪ ،‬ألنها الطريقة األفضل للخروج من صعوباتنا«‬

‫ويري اينشتاين أن القياسات الزمنية لحدث ما تختلف باختالف محاور اإلسناد‪ ،‬والتي تكون في حركة نسبية بالنسبة لبعضها البعض‪ ،‬فالزمن يتباطـأ مـع السـرعة‪ ،‬فـإذا بلغت‬
‫سرعة الجسم سرعة الضـوء فـإن الـزمن سـيتوقف وبهـذا ربـط "اينشـتاين" الـزمن بالحركـة‪ ،‬فال وجـود لـزمن مطلـق‪ ،‬كمـا أن "المكـان" في نظـر اينشـتاين مقـدار متغـير ونسـبي‬
‫يمكن وصفه بالنسبة لمتغير أخر‪ ،‬فلكي نحدد مكان شيء ما تحديدا مطلقا يجيب تحديده بالقياس إلى شيء ثـابت‪ ،‬لكن ال وجـود لنمـوذج أو معيـار ثـابت نسـتند إليـه في عمليـة‬
‫القياس فالكواكب ليست ثابتة‪ ،‬وإ نما تدور حول الشمس بسرعات متفاوتة‪ ،‬وليست الشمس والنجوم األخرى ثابتة ‪.‬‬
‫ليس هناك إذن المعاير الواحد الكفيل بتحديد مكان شيء ما باعتباره مقياس ثابت ‪ »:‬كما أن "المكان" ليس منفصال عن األجسام‪ ،‬وليست األجسام في مكان‪ ،‬وإ نما هي امتداد‬
‫‪v‬‬
‫( )‬
‫فالمكان ليس إال عالقات بين األشياء‪ ،‬والزمن ليس إال عالقات بين الحوادث‪.‬‬ ‫مكاني‪ ،‬وبذالك يفقد المكان الفارغ (الخالء) معناه «‬

‫نحــو األرض‪ ،‬بينمــا يراهــا شــخص يجــري على‬ ‫وال وجــود أيضــا "لحركــة مطلقــة"‪ ،‬فحين أســقط حجــر من نافــدة قطــار يجــري ‪ ،‬فــإني أري حركــة ســقوط الحجــر مســتقيمة‬

‫)‬ ‫(‪vi‬‬
‫‪ ،‬وال يعني "اينشـتاين" بنسـبية المكـان والزمـان‬ ‫األرض خارج القطار حركة مائلة منحرفة ‪ ،‬وال معنى للحركة مستقلة عن المالحظ ‪ ،‬وال عن المجال الذي تتحرك فيه‬

‫(‪vii‬‬
‫)‪ ،‬تختلـف بـاختالف األنظمـة اإلحداثيـة والمكـان‬ ‫والحركة‪ ،‬أنها تصورات ذاتية تختلـف من شـخص ألخـر‪ ،‬وإ نمـا يعـني أن النسـبية هنـا هي نسـبية فيزيائيـة ال سـيكولوجية‬

‫الذي نرصد منه ‪.‬‬

‫‪ - i‬ألربت انشتاين وليوبولد أنفلد ‪ :‬تطور الفيزياء ‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪13‬‬


‫‪ -ii‬حممد عبد الرمحن مرحبا ‪ :‬اينشتاين والنظرية النسبية ‪ ،‬دار القلم لللطباعة والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1981 ،8‬ص ‪.90-89‬‬
‫‪ -iii‬آلربت اينشتاين ‪" :‬النسبية ‪ :‬النظرية اخلاصة والعامة ‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪.28‬‬
‫‪ -iv‬ألربت انشتاين وليوبولد أنفلد ‪ :‬تطور الفيزياء ‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪.142‬‬
‫‪-v‬آلربت اينشتاين ‪" :‬النسبية ‪ :‬النظرية اخلاصة والعامة ‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫‪ -vi‬آلربت اينشتاين ‪ :‬النسبية ‪ :‬النظرية اخلاصة والعامة ‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫‪ -vii‬حممود فهمي زيدان ‪ :‬من نظريات العلم املعاصر إيل املواقف الفلسفية ‪ ،‬دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر اإلسكندرية‪ ،2004 ،‬ط‪ ،1‬ص ‪.38‬‬

‫‪6‬‬
‫ومن النتائج التي أفرزتها نظرية " النسـبية الخاصـة "مبـدأ " تكـافؤ قـوانين الطاقـة والكتلـة"‪ ،‬فالطاقـة عنـد "أينشـتاين" هي كتلـة وكم ومقـدار‪ ،‬وقـد صـاغ كتلـة الطاقـة في المعادلـة‬

‫مربـع سـرعة الضـوء "‪ ،‬ووصـل"أينشـتاين"من اكتشـافه الكتلـة الطاقـة إلى أن المـادة والطاقـة متكافئتـان‪ ،‬أي يمكن تحويـل إحـداهما إلى األخـرى‪»:‬‬ ‫التاليـة ‪" :‬الطاقـة = الكتلـة ‪x‬‬
‫‪i‬‬
‫فالكتلـة طاقـة مركـزة حين تتحـرك المـادة بسـرعة الضـوء نسـميها طاقـة أو إشـعاعا‪ ،‬وإ ذ خمـدت الطاقـة وأدركتـا كتلتهـا نسـميها مـادة « ( )‪ ،‬وعلى هـذا األسـاس دمج "أينشـتاين"‬

‫قانوني "بقاء الطاقة"‪،‬و"بقاء المادة" في قانون واحد هو قانون بقاء الكتلة طاقة" *‪.‬‬
‫ومن التصورات الجديدة التي أفرزتها نظرية النسبية العامة‪ ،‬فكرة ا"لمتصل الرباعي األبعاد" ‪ ،‬وتقوم هذه الفكرة على تصور جديد لفكرتي "المكان المطلق والزمــان المطلــق‪،‬‬
‫خاصــة بعــد أن دحضــت فرضــية األثــير‪ ،‬وينص هــذا التصــور الجديــد على أن فصــل المكــان على الزمــان متكلــف غــير طــبيعي‪ ،‬وليس إال تجريــدا من الواقــع ‪ ،‬على أســاس أن‬
‫هناك تداخل بينهما‪ ،‬ويؤلف هذا التداخل كيانـا واحـدا هـو المتصـل‪ ،‬ولمـا كـان حسـاب طـول األشـياء مرتبـط بمعرفـة اللحظـة الـتي يتم فيهـا حسـاب هـذا الطـول‪ ،‬فال منـاص من‬
‫‪ii‬‬
‫( )‬
‫فـإذا أردنـا‬ ‫اإلقرار بمتصل الزمان ـ المكان كخليفة لألحداث‪ ،‬يقول اينشتاين ‪ »:‬ليس هناك قـول أعم من أن العـالم الـذي نعيش فيـه متصـل زمـاني مكـاني ربـاعي األبعـاد «‬

‫وصف أو تحديد شيء طـبيعي متحـرك ‪ ،‬فال يكفي تحديـد موضـعه في المكـان ‪ ،‬بـل يجب أيضـا تحديـد طريقـة تغيـير موضـعه في الزمـان‪ ،‬وهكـذا أضـيف الزمـان إلى األبعـاد‬
‫المكانية الثالثة‪.‬‬
‫النتائج االبيستمولوجية للثورات العلمية المعاصرة‬
‫لقد أدت الثورات العلمية الـتي أبرزنـا بعض جوانبهـا‪ ،‬سـواء في مجـال الرياضـيات‪ ،‬أو في مجـال الفيزيـاء النظريـة الى جملـة من النتـائج كـان لهـا انعكـاس على طبيعـة العلم‬
‫المعاصر ومن أهم هذه النتائج‪:‬‬
‫تصـدع البنـاء المنطقي للعلم الكالسـيكي وإ عـادة النظـر في مفهـوم العقـل‪ ،‬وذلـك من خالل نـزع صـفه الصـالحية المطلقـة ألطـره ومبادئـه الـتي جـرى العـرف في العقالنيـة‬
‫الكالسيكية على اعتبارها قوانين العقل األساسية‪ ،‬ولم تقف هذه المراجعة عند حدود صورتي الحدس الحسي (المكان والزمان)‪ ،‬بل امتــدت إلى المبــادئ الـتي كــان يعتقــد أنهــا‬
‫مبادئ عقلية ضرورية تسمح بانتظام التجربة كمبدأي السببية والحتمية‪ ،‬حيث أبرزت الفيزياء الكوانطية تجـارب تخـالف بعض مبـادئ العقـل الكالسـيكية كمبـدأي الذاتيـة وعـدم‬
‫التناقض‪ ،‬وذلك من خالل إثبات الطبيعة الثنائية (الجسمية – والموجية) للضوء‪.‬‬
‫ـ فــك الحصــار الــذي كــان مضــروبا على العقــل‪ ،‬فــإذ كــان أرســطو تصــور المنطــق أداة مطلقــة تعصــمنا من الخطــأ‪ ،‬فــإن جدليــة العلم أثبتت أن عــدم الوقــوف عنــد هــذه األداة‬
‫‪iii‬‬
‫( )‬
‫المنطقية هو ما يعصمنا من الخطأ ‪.‬‬

‫لقد أكدت العقالنية المعاصرة أن مجال العلم المعاصر أساسه الالنظام‪ ،‬والفوضى‪ ،‬والتعددية‪ ،‬والالسلطة‪ ،‬وهذ ما يتعـارض مـع القواعـد والمعـايير والمبـادئ الثابتـة الـتي يقـوم‬
‫عليها المنهج بمفهومه الكالسيكي‪ .‬فالمنهج العلمي يتغير من حقبة تاريخية إلى أخرى‪ ،‬وليس هو بالحقيقة الثابتة‪ ،‬ولهذا كانت العقالنية المعاصرة عقالنية "ضد المنهج" كمــا‬
‫سنبينه في الفصول القادمة‪.‬‬
‫ومن أهم القيم التي أفرزتها العقالنية المعاصرة قيمة النقد وقابلية كل شيء للمراجعة‪ ،‬فليس هناك حقائق مطلقة ومبادئ ثابتة أو أنساق نهائية‪.‬‬

‫‪ -i‬علي مصطفي مشرفة ‪ :‬النظرية النسبية اخلاصة ‪ ،‬جلنة التأليف والرتمجة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ ،194 ،‬ص ‪.43-42‬‬
‫ض‪Š‬ئيال من املادة مبكن أن يعطين‪Š‬ا كم‪Š‬ا ه‪Š‬ائال من‬ ‫* لقانون تك‪Š‬افؤ الكتل‪Š‬ة والطاق‪Š‬ة أمهي‪Š‬ة كب‪Š‬رية يف الفيزي‪Š‬اء املعاص‪Š‬رة‪ ،‬فالكتل‪Š‬ة عن‪Š‬دما نض‪Š‬رهبا يف مرب‪Š‬ع الس‪Š‬رعة س‪Š‬تنتج مق‪Š‬دارا كب‪Š‬ريا من الطاق‪Š‬ة وه‪Š‬ذا يع‪Š‬ين أن مق‪Š‬دارا‬
‫الطاقة‬
‫‪ -ii‬آلربت اينشتاين ‪ :‬النسبية النظرية اخلاصة والعامة ‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪.55‬‬
‫‪ -iii‬سامل يفوت ‪ :‬العقالنية بني النقد واحلقيقة ‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪.83‬‬

‫‪7‬‬
‫المحور الثاني‬

‫فلسفة العلم المعاصرة والمنهج االستقرائي‬

‫مقدمة ‪:‬‬

‫درج الكثير من فالسفة العلم والميتودولوجيين على تناول المنهج العلمي اعتبارا من القرن السابع عشر‪ ،‬تاريخ ظهور كتاب "االورغانون الجديد" لـ ـ "فرانســيس بيكــون " الــذي‬

‫اعتبر البداية الحقيقية لمعالم المنهج العلمي‪ ،‬لقد اعتبر"بيكون" القياس األرسطي أداة غير صالحة للكشف العلمي‪ ،‬وسـببا في تـأخر العلـوم الطبيعيـة‪ ،‬فـالمنطق األرسـطي منطـق‬

‫عقيم في كث ــير من وجوه ــه‪ ،‬وال يس ــتجيب للتط ــورات ال ــتي عرفه ــا العلم‪ ،‬وعلى ه ــذا األس ــاس أس ــس "بيك ــون" لمنط ــق جدي ــد أو آل ــة جدي ــدة « األرغ ــانون الجدي ــد » ‪New‬‬

‫في مقابل "األورغانون األرسطي"ووضع طريقة جديدة في الكشف العلمي تقوم على المنهج االستقرائي الذي أصبح يسـيطر على منـاهج العلمـاء في العلـوم‬ ‫‪Organon‬‬

‫‪8‬‬
‫الطبيعية‪ ،‬وامتدت تطبيقاته إلى مجال العلوم اإلنسانية في ما بعد‪ ،‬لقد أصبح المنهج االستقرائي عمـاد العلم الحـديث‪ ،‬لكن التطـورات الـتي شـهدتها فلسـفة العلم المعاصـر نتيجـة‬

‫الثورات العلمية خاصة في مجال الرياضيات والفيزياء النظرية قد أدت إلى مناهضة هذا المنهج وهذا ما سنتناوله في هذا المحور‪.‬‬

‫التجريبية المنطقية وإ شكالية تبرير االستقراء ‪:‬‬

‫يع ــد المنهج االســتقرائي عن ــد النزعــة االســتقرائية في صــورتها التجريبي ــة ه ــو المنهج الوحي ــد للوصــول إلى المعرفــة العلمي ــة‪ ،‬ألن التجرب ــة الحس ــية أو المالحظ ــة هي مصــدر‬
‫المعرفة‪ ،‬وأن العقل صفحة بيضاء ترتسم فيه المعرفة من الخارج‪ ،‬لذا من الضروري أن تكـون الحقيقيـة العلميـة مؤسسـة على مالحظـات ووقـائع عن طريـق منهج االسـتقراء‬
‫وهــو المنهج الوحيــد الصــائب إلقامــة المشــروع العلمي‪ ،‬إذ ال يمكن تصــور ســبيال آخــر لبنــاء معرفــة علميــة من غــير أن يكــون لالســتقراء فيــه دور أساســي فهــو الســبيل الوحيــد‬
‫لالنتقال من التجربة الحسية إلى التعقل المجرد ( القانون)‪.‬‬

‫) عن المبــدأ بقولــه "‪..‬من الواضــح أن العلم بــدون هــذا المبــدأ ســوف لن يكــون لديــه الحــق في تميــيز نظرياتــه عن خيــال الشــعراء‬ ‫ويعــبر"ريشــنباخ" (‪Reichenbach‬‬
‫‪i‬‬
‫الخالق وإ بداع عقولهم"‪ ،‬ومبدأ االستقراء مقبول صراحة من جانب العلم بأسره وأنه ال يمكن ألي إنسان أن يشكك في هذا المبدأ حتى في الحياة اليومية ( )‪.‬‬

‫وق ــد جعلت النزع ــة المنطقي ــة من االس ــتقراء المنهج الس ــليم لبن ــاء لغ ــة للعلم محكم ــة منطقي ــا‪ ،‬ومؤسس ــة على جم ــل وعب ــارات أولي ــة تك ــون مطابق ــة لوق ــائع مف ــردة أولي ــة (جم ــل‬
‫الــبروتوكول) والــتي ال يمكن الحصــول عليهــا إال من خالل منهج االســتقراء‪ ،‬فمبــدأ االســتقراء ســيقرر الوقــائع المفــردة الخارجيــة‪ ،‬والوقــائع المفــردة ســتقرر جمــل الــبروتوكول‬

‫(علم الداللـة)"‪ ،‬وباسـتخدام قواعـد المنطـق األساسـية (في‬ ‫األساسية‪ ،‬واألخيرة ستشيد مجمل المحتوى المعرفي عن العالم الخارجي في لغة "السيمنطيقا" (‪Semantics‬‬
‫‪ii‬‬
‫( )‬
‫تركيب حدود العبارات وجمل اللغة) سنحصل على لغة العلم المحكمة منطقيا‪ ،‬وهذا هو جوهر المشروع التجريبي المنطقي إلنتاج لغة علم محكمة وموحدة‬

‫وإ ذا ك ــانت التجريبي ــة المنطقي ــة ال تختلــف في ه ــذه المرحلــة األولى من مراح ــل منهج االس ــتقراء المتعلق ــة بجم ــع الوقــائع المف ــردة من الع ــالم الخ ــارجي عن النم ــوذج األساس ــي‬

‫‪ ،‬فإنها ستتجاوز هـذا النمـوذج في‬ ‫لالستقراء عند "بيكون" (‪ Francis Bacon )1626-1561‬و"ج‪.‬س‪ .‬ميل" (‪John Stuart Mill )1873-1806‬‬
‫المرحلة الثانية من مراحل المنهج االستقرائي والمتعلقة بكشف القوانين العلمية والتعميمات‪.‬‬

‫جملــة من القواعــد لوضــع الفــروض واختبارهــا‪ ،‬فــإن‬ ‫(‪Mill‬‬ ‫) برنامجــا متكــامال للوصــول إلى كشــف هــذه التعميمــات‪ ،‬وحــدد "ميــل"‬ ‫فبعــد أن وضــع "بيكــون" (‪Bacon‬‬
‫التجريبية المنطقية تنكر وجود قواعد ثابتة لالستدالل االستقرائي‪ ،‬فال وجود ألي برنامج يدلنا على كيفية إنتاج القوانين‪ ،‬بناء على المالحظات والوقائع التجريبية "‬
‫‪iii‬‬
‫( )‬
‫فعملية الكشف تعلو على التحليل المنطقي‪ ،‬إذ ال توجد قواعد منطقية يمكن بواسطتها صنع "آلة للكشف" تحل محل الوظيفة الخالقة للكشف العبقري‬

‫) نفس هــذا االتجــاه في إنكــار‪ ،‬وجــود قواعــد ينبغي إتباعهــا للوصــول إلى القــوانين والنظريــات العلميــة من الوقــائع المالحظــة بقولــه ‪ ":‬من‬ ‫ويتجــه كرنــاب (‪Carnap‬‬
‫المشــكوك فيــه مثال أن نقــوم بصــياغة قواعــد تمكن العــالم الفيزيــائي من معاينــة مئــة ألــف قضــية تقــرر أشــياء مختلفــة يمكن مالحظتهــا‪ ،‬وعندئــذ يتمكن من وضــع نظريــة عامــة‬
‫(‪iv‬‬
‫)‪.‬‬ ‫يفسر بها الظواهر المالحظة عن طريق التطبيق اآللي لتلك القواعد ‪.....‬إن ذلك يتطلب براعة خالقة‪".....‬‬

‫العلميــة كمــا حــددها " ميــل"و"بيكــون" (‪Mill et‬‬ ‫وبهــذا تجــاوزت التجريبيــة المنطقيــة ســذاجة االلــتزام بالقواعــد الــتي ينبغي إتباعهــا للوصــول إلى القــوانين والنظريــات‬

‫) و قدمت تصورا عن الكشف العلمي أقرب إلى واقع الممارسة العلمية‪.‬‬ ‫‪Bacon‬‬

‫‪ -i‬كارل بوبر‪ :‬منطق الكشف العلمي ‪ ،‬م س ‪ ،‬ص ‪65‬‬


‫‪ -ii‬كرمي موسى ‪ :‬فلسفة العلم من العقالنية إىل الالعقالنية ‪ ،‬دار الفارايب ‪،‬بريوت ‪ ،‬لبنان ط‪ 2012 ، 1‬ص ‪130‬‬

‫‪ -iii‬هانز رايشنباخ ‪ :‬نشأة الفلسفة العلمية ‪ ،‬م س ‪ ،‬ص ‪204‬‬


‫‪ -2iv‬رودولف كارناب ‪ :‬األسس الفلسفية للفيزياء ‪ ،‬م س‪ ،‬ص‪48‬‬

‫‪9‬‬
‫) والتي تهدد التصور االستقرائي لتكون المعرفة‪ ،‬وهو ما يعرف بمسألة‬ ‫غير أن هذا التصور لم يستطيع تقديم تبرير متين للمشكلة التي طرحها "هيوم"(‪D. Hume‬‬
‫"تــبرير االسـتقراء" أي التأســيس العقلي والمنطقي لتــبرير صـدق القــوانين والتعميمــات‪ ،‬وقـد طــرحت التجريبيــة المنطقيــة أهم إشــكالية في االســتقراء وقـدمتها بعقالنيــة تماشــيا مــع‬
‫االنعطافــات الــتي حصــلت في فلســفة العلم المعاصــرة‪ ،‬والــتي أدت إلى تجــاوز مفــاهيم العليــة والحتميــة واليقين والمطلــق‪ ،‬وتجــاوزت مفهــوم البرهنــة القاطعــة على صــحة أيــة‬
‫معرفة أو أي مبدأ‪ ،‬واستبدلته بمفهوم التبرير‪.‬‬
‫وتذهب التجريبية المنطقية إلى دعوى أنه إذا كان من المسـتحيل كمـا يقـول "هيـوم" البرهنـة على صـدق االسـتدالل االسـتقرائي‪ ،‬فمن الممكن تـبريره عن طريـق جعـل الحكم‬
‫‪i‬‬
‫االستقرائي حكما مرجحا‪ ،‬وما الحقيقة التجريبية سوى درجة عالية من االحتمال‪ ،‬في حين أن الخطأ التجريبي ما هو إال درجة منخفضة من االحتمال ( )‪.‬‬

‫) أن التخلي عن االستقراء يعني تجريد العلم من أداته الكشفية‪ ،‬وإ ن كانت الطريقة االستقرائية ليسـت السـبيل الوحيـد للكشـف‪،‬‬ ‫(‪Reichenbach‬‬ ‫ويرى ريشنباخ‬

‫لكنه السبيل الذي يملك األولوية المنطقية من حيث أنه يتيح لنا التنبؤ بخالف السبل األخرى‪ ،‬فـإذا كـانت أهـداف العلم األساسـية تتمثـل في التفسـير والتنبـؤ‪ ،‬فـإن إمكانيـة التنبـؤ‬
‫تفترض تصنيف الحوادث والوقائع إلى أنواع باالعتماد إلى عدد تكررها مما ينتج لالستقراء أن يكون مبدأ ومنهجا ناجحا للقيام بهذه المهمة‪.‬‬
‫وإ ذا كانت المعرفة التنبؤية ممكنة فإن الطريقة االستقرائية تمثل الشرط الكافي للحصول عليها" وقد تكون هناك طرق أخرى للقيام بها ( المعرفـة التنبؤيـة) لكننـا ال نعرفهـا‪،‬‬
‫‪ii‬‬
‫( )‬
‫‪.‬‬ ‫إال أننا نعرف المنهج االستقرائي جيدا‪ ،‬وعليه سيكون المنهج والمبدأ الضروري لتبرير معرفتنا التنبؤية‪".‬‬

‫لكن هذا ال يعـني الوصـول إلى تنبـؤات دقيقـة وتفسـيرات نهائيـة‪ ،‬فالنتـائج المسـتقاة من المنهج االسـتقرائي نتـائج احتماليـة فمراجعـة النظريـات والفرضـيات من طبيعـة الفعـل‬
‫العلمي‪ ،‬فالنظريــة االحتماليــة في المعرفــة أداة لتــبرير االســتقراء‪ ،‬وطريقــة يجعــل منــه أفضــل وســيلة لبلــوغ المعرفــة المتاحــة‪ ،‬وهي معرفــة احتماليــة وال يمكن وصــفها إال أنهــا‬
‫(‪iii‬‬
‫)‪،‬كما أن المفاضلة بين النظريات يتم وفق معيار االحتمالية‪ ،‬فالنظرية األكثر احتماال‪ ،‬هي التي تملك أكبر عدد من الوقائع المحققة لها‪.‬‬ ‫مجرد ترجيحا‬

‫)نفس المنحى في تــبرير االســتقراء على أســاس الـترجيح واالحتمــال‪ ،‬إال أنــه أضـفى على االحتمــال بعــدا منطقيــا تحليليــا قبليــا‪ ،‬بعــد أن كــان ذا‬‫(‪Carnap‬‬ ‫وينحــو كارنــاب‬

‫) هــو عالقــة منطقيــة تربــط قضــيتين‪ ،‬األولى هي الفــرض‬ ‫طــابع تركيــبي بعــدي عنــد ريشــنباخ (‪ )Reichenbach‬فاالحتمــال المنطقي لــدى كرنــاب (‪Carnap‬‬
‫الذي نفرضه والثانية هي البينـة أو الواقعـة التجريبيـة‪ ،‬فـإذا كنت تصـوغ قضـية تقـرر أنـه بالنسـبة لفـرض مـا‪ ،‬يكـون االحتمـال المنطقي فيـه ‪ 10/7‬طبقـا لبّينـة مـا فالقضـية كليـة‬
‫وتحليليــة‪ ،‬ومعــنى هــذا أن القضــية تنتج مــع تعريــف االحتمــال المنطقي أو م ــن بــديهيات نســق منطقي دون الرجــوع ألي شــيء خــارج هــذا النســق المنطقي‪ ،‬ودون اإلشــارة إلى‬
‫‪iv‬‬
‫العالم الخارجي( )‪.‬‬

‫) حــول طبيعــة االحتمــال إحصــائي‪ ،‬أم منطقي‪ ،‬بعــدي أم قبلي‪،‬‬ ‫وعلى الــرغم من تفــاوت وجهــة النظــر بين ريشــنباخ (‪ )Reichenbach‬وكارنــاب (‪Carnap‬‬
‫فإنهما يشتركان في تبرير االستدالل االستقرائي على أساس تبرير الترجيح الناتج منه والمستند إلى القدرة المعرفية الخاصة باالحتمال‪.‬‬

‫)‪ ،‬ويقــترب موقفــه من‬ ‫أمــا "همبــل" (‪ )Hempel‬فقــد كــان لــه تصــور خــاص يختلــف عن تصــور ريشــنباخ (‪ )Reichenbach‬وكارنــاب (‪Carnap‬‬
‫) في الصـورة‬ ‫موقف كارل بوبر(‪ ، )Karl Popper‬خاصة فيما يتعلق بفكرة "التعزيز" و"رجحان الصدق"‪ ،‬ويمكن تلخيص منهج العلم عنــد همبــل (‪Hempel‬‬

‫‪ -i‬اجلابري حممد عابد ‪:‬مدخل إىل فلسفة العلوم ‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪307‬‬

‫‪ -ii‬اجلابري حممد عابد ‪:‬مدخل إىل فلسفة العلوم ‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪308‬‬
‫‪ -iii‬ريشنباخ ‪ :‬نشأة الفلسفة العلمية ‪ ،‬م س ‪ ،‬ص ‪216‬‬
‫‪ -iv‬رودولف كارناب ‪ :‬األسس الفلسفية للفيزياء ‪ ،‬م س‪ ،‬ص‪47‬‬

‫‪10‬‬
‫التالية ‪ » :‬إن المعرفة العلمية ال تكون بتطبيق طريقة استدالل اسـتقرائي على معطيـات مسـتقاة مسـبقا‪ ،‬لكن بتطـبيق منهج الفرضـية‪ ،‬أي إيـداع فـروض تسـعى لحـل المشـكلة‬
‫‪i‬‬
‫( )‪.‬‬
‫المدروسة‪ ،‬ثم إخضاعها الحقا للمراقبة التجريبية‪ ،‬ويرتكز التحقق التجريبي أوال على معرفة هل الفرضية معززة بكل النتائج ذات الدالئل التي استطعنا جمعها «‬

‫)‪ ،‬لكنه يقبل به لكن بتصور جديد‪ ،‬فقبــول الفرضـيات يرتكــز‬ ‫(‪Popper‬‬ ‫) ال يرفض االستقراء رفضا كامال كما سنجد ذلك عند بوبر‬ ‫(‪Hempel‬‬ ‫وعليه فإن‬

‫(‪ii‬‬
‫)‪.‬‬ ‫تضفي عليها بداهة ويقينية من وجهة نظر استنباطية ‪ ،‬لكنها تمدها بسند استقرائي‪ ،‬أو تأكيد قوي نسبيا‬
‫على المعطيات التي‬

‫وبناء على ما سبق فـإن االسـتقراء في تصـور التجريبيـة المنطقيـة هـو المنهج الـذي يـبرر موضـوعية وعقالنيـة المعرفـة العلميـة‪ ،‬فالـذي يـبرر قبـول الفـروض العلميـة هـو‬
‫تأييدها على أساس البّينة والوقائع التجريبية‪ ،‬والتأييد االستقرائي ال يثبت صدق الفرض أو القانون العلمي‪ ،‬وإ نما يجعله أكثر احتماال‪.‬‬
‫ويتم اختبار الفرض عن طريق تحديد ما إذا كانت التنبؤات المشتقة عن الفـرض بمسـاعدة بعض الشـروط المبدئيـة تتفـق مـع معطيـات المالحظـة أم ال‪ ،‬ومن المفـترض‬
‫أن معطيات المالحظة مستقلة عن النظرية‪ ،‬كما أنها ال تعتمد العالم القائم بالمالحظة‪ ،‬والعبارات التي يتم فيها صـياغة تلـك المعطيـات المحايـدة مـادامت الحـدود الـتي‬
‫‪iii‬‬
‫( )‬
‫ترد فيها كلها حدود مالحظة‪ ،‬وبناء على هذا توفر عبارات المالحظة األساس الضروري لقبول القوانين العلمية بصورة موضوعية وعقالنية‬

‫المحور الثالث‬

‫كارل بوبر والنزعة التكذيبية‪:‬‬

‫تمهيد‪:‬‬

‫من أشهر فالسفة العلم في القرن العشرين‪ ،‬ارتبط اسمه بالمحاوالت الجادة إليجاد بديل لالستقراء‪ ،‬ونقده للنزعة‬ ‫يعد "كارل بوبر" (‪Karl Popper )1994-1902‬‬
‫االستقرائية‪ ،‬وتأسيسه لمعيار "القابليـة للتكـذيب" الـذي يعتـبر محـور أفكـاره في الشـق المنهجي ومحاولـة لقلب المنهج االسـتقرائي رأسـا على عقب‪ ،‬كمـا ارتبـط اسـمه "بالعقالنيـة‬
‫النقدية" التي شكلت الطابع العام لفلسفته العلمية ‪.‬‬
‫كارل بوبر ونقد النزعة االستقرائية‪:‬‬
‫يمثل نقد االستقراء الحجر األساس في إبستمولوجيا "بوبر" ومدخال ضروريا للتعـرف على منهجيتـه التكذيبيـة‪ ،‬وتعتـبر المقاربـة الـتي قـدمها لحـل إشـكالية االسـتقراء من أبـرز‬
‫المقاربات التي عرفتها فلسفة العلم في القرن العشرين‪ ،‬ويتلخص مضمون إشكالية االستقراء في محاولة التبرير المنطقي ألساسه ‪.‬‬

‫) ‪ ،‬فمب ــدأ‬‫ي ــرى ب ــوبر أن الص ــعوبات المتض ــمنة في المنط ــق االس ــتقرائي ال يمكن تخطيه ــا ح ــتى في ص ــورتها االحتمالي ــة كم ــا ح ــددها ريش ــنباخ(‪Reichenbach‬‬
‫االستقراء ال يمكن أن يكون صادقا صدقا منطقيا بحتا مثل القضايا التحليلية‪ ،‬وال يمكن أن يكون صادقا تجريبيا أي أن صدقة مشتق من الخـبرة‪ ،‬يقـول بـوبر »إذا كـان هنـاك‬
‫شــيء مثــل المبــدأ المنطقي البحت لالســتقراء فلن تكــون هنــاك مشــكلة لالســتقراء أصــال‪ ....‬يجب إذن أن يكــون قضــية تأليفيــة‪ ،‬بمعــنى أن نفيهــا ال يــؤدي إلى تنــاقض ‪ ....‬وإ ن‬

‫‪i- Carl Hempel : éléments d’épistémologie , Bernard saint sermin (Paris Armand Colin 1972 p 21-20‬‬
‫‪ii- Ibid p. 22‬‬
‫‪ -iii‬كارل مهبل ‪ :‬فلسفة العلوم الطبيعية ‪ ،‬ترمجة ‪ ،‬حممد جالل موسى ‪ ،‬دار الكتاب املصري ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ص ‪56‬‬

‫‪11‬‬
‫حاولنا إسناد صدق هذا المبدأ إلى الخبرة فإن تبرير هذا المبدأ يتطلب استدالالت استقرائية‪ ،‬ولكي تبرر تلـك االسـتدالالت البــد أن نفـترض مبـدأ اسـتقرائيا من مسـتوى أعلى ‪،‬‬
‫‪i‬‬
‫ومن ثم فان محاولة إسناد مبدأ االستقراء إلى الخبرة تتحطم ألنها تفضي إلى ارتداد ال نهائي « ( )‪.‬‬

‫‪ ،‬في عدم إمكانية تبرير االستقراء منطقيا‪ ،‬لكنه يختلف معه في التفسير النفسـي لالسـتقراء‬ ‫مع د هيوم )‪David Hume (1711-1776‬‬ ‫و يتفق بوبر‬

‫)تطـبيق المبـدأ نفسـه في مجـال علم النفس ويعلن بطالنـه من الناحيـة السـيكولوجية اسـتنادا‬ ‫(‪Hume‬‬ ‫على ضوء مبدأ العادة الذي قاله به هيوم‪ ،‬إذ يعلن أنه كان على هيـوم‬

‫‪ii‬‬
‫النفس )‪ .‬فتكـرار الظـواهر حسـب بـوبر هـو نتيجـة السـتعدادنا لتوقـع االطـرادات‪ ،‬وليس توقعنـا‬
‫(‬
‫إلى مبدأ التحويل‪ ،‬الذي ينص على أن ما يصدق في المنطـق يصـدق في علم "‬

‫لالطرادات الموجودة في الطبيعة كان نتيجة لتكرار الظـواهر كمـا يعتقـد هيـوم‪ ،‬فاإلنسـان يولـد وهـو مـزود بتوقعـات أو اسـتعدادات نظريـة سـابقة لكـل خـبرة ملحوظـة‪،‬‬
‫‪iii‬‬
‫( )‬
‫وتوقع وجود اطراد هو أحد أهم هذه التوقعات واالستعدادات النظرية‪.‬‬

‫والعلم ال يبدأ من مالحظات‪ ،‬بل من فروض تخمينات‪ ،‬والنظريات العلمية ليسـت خالصـة المالحظـات بـل هي اختراعـات وتخمينـات وضـعت من اجـل التجـريب‪ ،‬فاالعتقـاد‬
‫بأن العلم يبدأ بالمالحظة البحة ( المحايـدة) الخاليـة من أي نظريـة‪ ،‬هـو اعتقـاد مظلـل حسـب بـوبر‪ ،‬وقـد حـاول أن يؤكـد ذلـك في أحـدى محاضـرته في" فيينـا" بـأن قـال لطالب‬
‫الفيزياء ‪" :‬امسك بالقلم والورقة‪ ،‬الحظ بعناية ودقة‪ ،‬سجل ما تالحظه‪".‬‬
‫فتساءل الطالب عما يريدهم بوبر أن يالحظوه ‪ ،‬فأوضح بوبر أن عبارة " أالحظ فحسب "ال تعني شيئا فالمالحظـة دائمـا توجههـا مشـكلة مختـارة‪ ،‬أو وجهـة من النظـر‬
‫(‪iv‬‬
‫)‪.‬‬ ‫نريد من المالحظة أن نختبرها‪ ،‬فالعالم‪/‬المالحظ يحتاج مسبقا إلى نظرية (تخمين فرض) يالحظ على أساسها‬

‫لقــد رفض بــوبر أن يكــون المنهج االســتقرائي هــو المنهج المعــبر عن الســير الحقيقي للعلم مســتبدال إيــاه بمنهج جديــد ينســجم مــع أســس العقالنيــة النقديــة‪ ،‬ينطلــق من العقــل‬
‫(الفروض والتخمينات)‪ ،‬وليس من المالحظة والتجربة لينتهي إلى المحاولة الدائمة لتفنيد ودحض الحقائق العلمية‪ ،‬ال تبريرها ‪.‬‬

‫)"‪ ،‬فبعــدما كــان لهــا دور تحقيقي ايجــابي عنــد النزعــة االســتقرائية كمــا‬ ‫(‪)Popper‬ارتبــط بــدور "البّينــة (‪l’évidence‬‬ ‫إن التحــول األساســي الــذي أحدثــه بــوبر‬

‫‪v‬‬
‫( )‬
‫سبقت اإلشارة إليه سابقا‪ ،‬أصبح للبّينة عند "بوبر"دورا تفنيديا‪ ،‬فالمنهج العلمي هو منهج التخمينات‪ ،‬والمحاولة اإلبداعية الصارمة لتفنيدها ‪.‬‬

‫وهــذه الفــروض والتخمينــات غــير قابلــة للتــبرير المنطقي‪ ،‬بــل هي ذات بعــد ســيكولوجي حدســي‪ ،‬غــير مرتبــط بمنطــق العلم وهنــا ترتســم عقالنيــة بــوبر النقديــة في تصــورها‬
‫لديناميكيــة حركــة نشــاط البحث العلمي القائمــة على النقــد في المقابــل العقالنيــة التجريبيــة المنطقيــة في تصــورها لحركــة البحث العلمي القائمــة على فكــرة التأســيس والــتراكم‬
‫» لقد كان المذهب السلطوي في العلم مرتبطا بفكرة التأسيس‪ ،‬بمعنى إثبات نظرياته أو التحقق منها‪ ،‬بينما ترتبط المقارنة النقدية للعلم بفكـرة االختبـار‪ ،‬بمعـنى‬ ‫التدريجي‬

‫)‬ ‫(‪vi‬‬
‫محاولة تفنيد حدوسه االفتراضية‪ ،‬أو تكذيبها «‬

‫"‬ ‫لحركة العلم ‪P2 EE TT، P1":‬‬


‫‪،‬‬ ‫‪،‬‬ ‫ويتجلى الطابع النقدي للمنهج في الصيغة التي حددها بوبر‬

‫)‪.‬‬ ‫‪ ‬حيث تشير ‪ P1‬إلى مشكلة (‪ ، )Problem1‬و‪ TT‬إلى محاولة حل (‪Tentative Theory‬‬

‫‪ -i‬بوبر كارل ‪ :‬منطق الكشف العلمي ‪ ،‬م س ‪ ،‬ص ‪.65 -64‬‬


‫‪ii- K. Popper : La connaissance objective , tra et préface par Jean Jacques Rosat ed. Flammarion , France 1991. p 46‬‬
‫‪ -iii‬سهام النويهى‪ :‬تطور املعرفة العلمية ـ ـ مقال يف فلسفة العلم ‪ ،‬دار الثقافة للنشر والتوزيع ‪ ،‬القاهرة ‪ ، 1988 ،‬ص ‪22‬‬
‫‪ -iv‬ميىن طريف اخلويل‪ :‬فلسفة العلم يف القرن العشرين‪ ،‬م س ‪ ،‬ص ‪.180‬‬

‫‪v- K. Popper : la connaissance objective, op, cit, p 146‬‬


‫‪ -vi‬بوبر كارل ‪ :‬أسطورة اإلطار‪ ،‬يف دفاع عن العلم والعقالنية ‪ ،‬ترمجة ‪ ،‬ميىن طريف اخلويل‪ ،‬عامل املعرفة ‪ ،‬اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب الكويت ‪ ، 2003‬عدد ‪ ، 292‬ص ‪125‬‬

‫‪12‬‬
‫(‪Problem2‬‬
‫) وهكــذا "فكــل نقــاش‬ ‫إلى مشــكل ثــاني‬ ‫(‪ ،)Error Elimination‬و‪P2‬‬ ‫إلى إلغــاء أو اســتبعاد الخطــأ‬ ‫‪EE‬‬ ‫و تشــير‬ ‫‪‬‬
‫علمي لديه نقطة بدء‪ ،‬وهو مشكل نقدم له نوع من الحل المؤقت‪ ،‬نظرية مؤقتة‪ ،‬لتنتقد هذه النظرية لغرض استبعاد كـل إمكانيـة للخطـأ‪ ،‬والمراجعـة النقديـة الدائمـة للنظريـة‬
‫‪i‬‬
‫يولد مشكالت جديدة" ( ) وليس بمقدور هذا المنهج تأكيد صحة النظرية‪ ،‬إنما يستطيع تفنيدها فحسب‪ ،‬وال تبقى إال المعززة منها ‪.‬‬

‫) في مؤلفه «منطق الكشف العلمي« أربعة قواعد لمنهجه تتمثل في ‪:‬‬ ‫و قد حدد بوبر (‪Popper‬‬
‫خطــة العلم مفتوحــة بالنهايــة‪ ،‬أي ال يمكننــا القــول أن البحث في قضــايا العلم يقــف عنــد حــد معين‪ ،‬وانــه تم التحقــق منهــا بشــكل نهــائي وفال يمكن إن نتوقــع من‬ ‫‪‬‬
‫الميتودولوجيا صدقا راسخا‪ ،‬وإ نما نتوقع من العلم تقدما أكبر‪ ،‬ويصبح على درجة عالية من الصدق ‪.‬‬

‫إذا افترضنا فرض وتم اختباره‪ ،‬وتثبيت صالبته‪ ،‬فال ينبغي التخلي عنه‪ ،‬حتى وإ ن صعب علينا تقديم سبب نجاحه أو يمكن استبداله بفرض أكثر قابلية لالختبار‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ال تقبل النظرية العلمية التبرير أو التحقيق‪ ،‬وإ نما من أهم خصائصها‪ ،‬القابلية لالختبار وهذا معيار موضوعيتها‬ ‫‪‬‬
‫‪ii‬‬
‫علينـا أن ال نتخلى عن البحث عن القـوانين الكليـة‪ ،‬وعن ترابـط النسـق النظـري‪ ،‬وإ ال نتوقـف عن محاولـة تفسـير أي نـوع من الحـوادث الـتي تخضـع للوصـف ( )‪ ،‬والمهمـة‬ ‫‪‬‬
‫األساسية لهذه القاعدة هي توجيه الباحث العلمي توجيها سليما في عمله‪ ،‬فالتطورات التي وصلت إليها الفيزياء تتطلب منا ـ ـ حسب بوبر ـ ـ ـ التمسك بهذه القاعدة‪.‬‬
‫أما عن الخطوات اإلجرائية للمنهج كما حددها بوبر فيمكن إجمالها في النقاط التالية ‪:‬‬

‫المقارنة المنطقية للنتائج بعضها البعض‪ ،‬والتي بمقتضاها نختبر االتساق الداخلي للنسق‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫البحث عن الصورة المنطقية للنظرية‪ ،‬مع تحديد ما إذا كان لها خاصية النظرية األمبريقية‪ ،‬أو لها خاصية أخرى‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫المقارنة بالنظريات األخرى‪ ،‬وهي تلتقي أساسا مع هدف تقرير ما إذا كانت النظرية تشكل تقدما علميا يخدم أغراضنا االختبارية المختلفة‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫‪iii‬‬
‫( )‬
‫اختبار النظرية عن طريق التطبيقات االمبريقية للنتائج التي يمكن أن تشتق منها‪.‬‬

‫معيار التكذيب والقابلية التكذيب‪:‬‬


‫تعد مشكلة التمييز بين العلم والالعلم من أهم المسائل التي تقوم عليها فلسفة علم كارل بوبر ويظهر‬

‫)‬ ‫(‪iv‬‬
‫ذالك من خالل قوله ‪ «:‬لقد ناقشت مشكلة التمييز تفصيال ألنني اعتقد أن حلها هو إال مفتاح لحل معظم المشاكل الرئيسية لفلسفة العلم«‬

‫و يعـد معيـار القابليـة للتكـذيب المعيـار العقالني لتميـيز القضـايا العلميـة عن تلـك غـير العلميـة‪ ،‬وفي هـذا الصـدد يقـول "بـوبر" ‪ « :‬أن الـدور األساسـي الـذي تلعبـه النظريـات‬
‫والفروض أو الحدوس االفتراضية في العلم يجعل من األهمية بمكان إن نميز بين النظريات القابلة لالختبار‪ ،‬أو القابلة للتكذيب‪ ،‬وبين النظريات غـير القابلـة لإلخبـار‪ ،‬أو‬
‫‪v‬‬
‫( )‬
‫غير القابلة للتكذيب«‬

‫والقابلية للتكذيب لها وجهان‪ ،‬وجه صوري يحدد الصيغة المنطقية للنظريات العلمية‪ ،‬وهو مجرد معيار يحـدد الخاصـية العلميـة لهـا‪ ،‬ووجـه واقعي تختـبر فيـه النظريـة عن‬
‫طريق ما نستنبطه منها من الواقع التجريبي‪ ،‬وهذا االختبار يؤدي إما إلى تفنيد النظرية‪ ،‬أو تعزيزها‪.‬‬

‫‪i- ibid. p 191‬‬

‫‪ -ii‬كارل بوبر‪ :‬منطق الكشف العلمي ‪ ،‬م س ‪ ،‬ص ‪.70‬‬


‫‪ -iii‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪.49‬‬
‫‪ -iv‬سهام النويهى ‪ :‬تطور املعرفة العلمية ‪ ،‬م س ‪ ،‬ص ‪.36‬‬
‫‪ -v‬بوبر كارل ‪ :‬أسطورة اإلطار ‪ ،‬م س ‪ ،‬ص ‪.124‬‬

‫‪13‬‬
‫ويختلف معيار القابلية للتكذيب عن معيار"القابلية للتحقيق" الذي تبنته التجريبيـة المنطقيـة كأسـاس للتميـيز بين المعـنى والال معـنى‪ ،‬وبالتـالي بين العلم والال علم‪ ،‬بعـد أن‬

‫) أن معيار قابلية التكذيب ال يعـني أن النظريات غير القابلـة للتكـذيب‪ ،‬نظريـات‬ ‫"بوبر" (‪Popper‬‬ ‫طابقت بين المعنى والعلم‪ ،‬وبين الال معنى والالعلم‪ ،‬في حين يؤكد‬

‫‪i‬‬
‫كاذبة أو بدون معنى بل هي نظريات ال تنتمي إلى عالم العلم التجريبي‪ ،‬وإ لى أن تحين الفرصة لبيان كيفية تكذبيها ( )‪.‬‬

‫فالنظرية غير القابلة االختبار ال تعني بالضرورة أنهـا بـدون معـنى كمـا يفضـي مبـدأ القابليـة للتحقيـق عنـد التجريبيـة المنطقيـة‪ ،‬والقابليـة للتكـذيب ترتبـط بالجـانب المنطقي‪،‬‬
‫‪ii‬‬
‫فالنظريــة العلميــة تكــون قابلــة للتكــذيب إذا كــانت فئــة مكــذباتها بــالقوة ليســت فارغــة ( )‪ ،‬أي مــدى إمكانيــة حمــل النظريــة لمكــذبات محتملــة ‪ ،‬بمعــنى وجــود على األقــل قضــية‬

‫قاعدية قابلة للتنفيذ بالتجربة‪ ،‬وهذا ما يؤهل النظرية ألن تصنف داخل منظومة أو نسق العلم‪.‬‬
‫كما ترتبط القابلية للتكذيب بالمحتوى المعرفي للنظرية‪ ،‬وهذا االرتباط يعطي للعلم خطوة ناجحة نحـو األمـام والعالقـة بين المحتـوى المعـرفي للنظريـة‪ ،‬ودرجـة احتمالهـا‪،‬‬
‫عالقة عكسية‪ ،‬بمعنى كلما زاد المحتـوى المعـرفي للنظريـة تناقصـت درجـة احتمالهـا‪ ،‬وقابليـة النظريـة للتكـذيب يرتبـط باتسـاع المحتـوى المعـرفي للنظريـة‪ ،‬ال بتزايـد درجـة‬
‫‪iii‬‬
‫( )‬
‫فالنظرية التي يكون محتواها التجريبي والمنطقي كبيرين‪ ،‬يكون احتمال صدقها ضئيل ودرجة احتمالهـا ضـئيلة ‪ ،‬وأفضـل النظريـات هي تلـك الـتي لهـا محتـوى‬ ‫االحتمال ‪،‬‬

‫)‬
‫(‪iv‬‬
‫غني‪ ،‬وقدرة تفسيرية كبيرة‪ ،‬وهي النظريات األكثر قابلية لالختبار‪.‬‬

‫فنظريــة اينشــتاين (‪ )Einstein‬ذات محتــوى تجريــبي أكــبر من نظريــة نيــوتن (‪Newton‬‬


‫)‪ ،‬وهي أكــثر قابليــة للتفنيــد نظــرا لكــثرة المفنــدات الممكنــة‪ ،‬وتعتــبر‬

‫)‪ ،‬ونظرية "الكونتوم" ونظرية "الجينات " أمثلة عن النظريات الجريئة ذات المحتوى المنطقي الكبير‪.‬‬ ‫نظريات نيوتن(‪ )Newton‬واينشتاين (‪Einstein‬‬
‫والعالق ــة بين المحت ــوى المنطقي والمحت ــوى التجري ــبي عالق ــة طردي ــة‪ ،‬كلم ــا زاد المحت ــوى المنطقي زاد المحت ــوى التجري ــبي‪ ،‬ف ــالمحتوى المنطقي ه ــو ال ــذي يمث ــل القابلي ــة‬
‫للتكذيب استنادا إلى أنه يشير إلى القضايا المستنبطة من النظرية المتسقة معها أو غير المتسقة‪ ،‬أما المحتوى التجريبي فيشير خصوصا إلى التفنيد ‪.‬‬
‫وقد تبين مما سبق أن القابلية للتكذيب تسمح بتحديد النظريات القابلة للتكذيب أي العلمية‪ ،‬أما التكذيب فيحـدد القواعـد الـتي تمكننـا من اعتبـار فرضـية مـا مكذبـة‪ ،‬وتقـول عن‬
‫‪v‬‬
‫( )‬
‫ويجب اإلشارة إلى إن تنفيذ فرضية ما يكـون نهـائي‪ ،‬أمـا تعزيزهـا فهـو دائمـا مـؤقت ولن نسـتطيع‬ ‫فرضية ما أنها كذلك إذا كانت هناك قضايا قاعدية تتناقض معها‬

‫بتاتا التأكد من عدم تفنيد نظرية ما ‪.‬‬


‫نمو المعرفة وتقدم العلم ‪:‬‬
‫تقوم وجهة نظر بوبر حول المشروع العلمي والمعرفـة بصـورة عامـة على أسـاس فلسـفته النقديـة‪ ،‬إذ يـرى "بـوبر" أن الخطـأ صـفة متأصـلة في الطبيعـة اإلنسـانية‪ ،‬وعلى‬
‫هذا األساس فإن مهمة النشاط العلمي هي العمل على كشف أخطائه واستبعادها وتفنيدها‪ ،‬يقول بوبر ‪ « :‬إننا إذا ما أدركنا أن معرفتنا البشرية ليست معصومة من الخطــأ‪،‬‬

‫)‬ ‫(‪vi‬‬
‫ينبغي علينا أيضا أن ندرك أننا أبدا لن نتيقن تماما من أننا لم نقع في الخطأ « ‪.‬‬

‫وبهــذا التصــور يضــع بــوبر التكــذيب المحــرك األســاس للبحث العلمي‪ ،‬وهــو يمثــل الطبيعــة االيجابيــة لنمــو العلم‪ ،‬فالمســيرة العلميــة ليســت تراكميــة كمــا تصــورها أعالم‬
‫التجريبية المنطقية‪ ،‬بل هي مسيرة ثورية ‪ ،‬إذ يقوم التقدم العلمي على إحالل نظريات محل أخرى‪ ،‬وتكون النظرية الجديدة ذات طابع ثوري‪ ،‬تنطلـق من فـروض تتجـاوز‬
‫(‪vii‬‬
‫)‬
‫‪.‬‬ ‫بها النظريات القديمة ‪ ،‬وتتناقض معها أي ترفضها‪ ،‬وبهذا نجد أن التقدم في العلم‪ ،‬أو على األقل التقدم الالفت دائما ثوريا‬

‫‪ -i‬بوبر كارل ‪ :‬أسطورة اإلطار ‪ ،‬م س ‪ ،‬ص ‪.117‬‬


‫‪ -ii‬بوبر كارل ‪ :‬منطق الكشف العلمي‪ ،‬م س ‪ ،‬ص ‪.125‬‬
‫‪iii- K. Popper : la connaissance objective ,op cit , p 60‬‬
‫‪iv- Ibid. p 123‬‬

‫‪v- K. Popper la connaissance objective ,op cit. p 147‬‬


‫‪ -vi‬كارل بوبر ‪ :‬حبثا عن عامل أفضل ‪ ،‬م س ‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫‪ -vii‬كارل بوبر‪ :‬أسطورة إلطار ‪ ،‬م س ‪ ،‬ص ‪.45‬‬

‫‪14‬‬
‫ويرتبط تقدم العلم ونمو المعرفة العلمية بقابلية التكـذيب‪ ،‬على أسـاس أن المعرفـة في تطـور مسـتمر‪ ،‬فالنظريـات في تطـور بـدرجات أعلى حـتى تصـل إلى أرفـع مسـتوى‬
‫من الصدق والشمولية في التفسير ألكثر قدر ممكن من الظواهر‪.‬‬
‫‪i‬‬
‫كما يرتبط مفهوم التقدم في العلم‪ ،‬عند بوبر بنظرية "التعزيز"‪ ،‬والمحتـوى المتزايـد للنظريـة‪ ،‬ونعـني "بـالتعزيز" (درجـة صـمود فرضـية مـا أمـام امتحانـات قاسـية) ( )‪ ،‬أي أن‬

‫التعزيز هو بمثابة تثمين مؤقت لنظرية ما‪ ،‬فالنظرية تعزز عندما تنجح في االختبار وكلما كان االختبار قاسيا كلما ارتفعت درجة التعزيز‪ ،‬وترتكز قسوة االختبـار على مـا‬
‫‪ii‬‬
‫( )‬
‫‪.‬‬ ‫يتضمنه التنبؤ من محتوى لم يسبق معرفته بواسطة المعرفة الخلفية‬

‫وقـد جعـل بـوبر من "التعزيـز" المبـدأ الفاصـل بين النظريـات المتكافئـة والمتنافسـة‪ ،‬فالنظريـة المفضـلة هي النظريـة الـتي تصـمد في التنـافس أمـام النظريـات األخـرى وتـبرر‬
‫اختبارهــا بتخطيهــا كــل الفحــوص القاســية الــتي أجــريت عليهــا حــتى اآلن‪ ،‬أي حــتى لحظــة معينــة‪ ،‬فالتنفيــذ المتكــرر للنظريــات‪ ،‬وتعزيــز التخمينــات الجريئــة هــو الم ــحرك‬
‫(‪iii‬‬
‫)‪.‬‬ ‫األسـاسي لنمـو المعرفة وتقدم العلم « فاإلسهامات الحاسمة في نمو المعرفة العلمية تنتج عندما يتم تأييد تخمين حذر‪ ،‬أو عندما يتم تكذيب تخمين حذر «‬

‫إن هــدف العلم حســب بــوبر هــو االقــتراب من الحقيقــة ‪ ،‬أي البحث عن النظريــات الــتي تتفــق بطريقــة أفضــل مــع الوقــائع حيث يقــول ‪ « :‬تفــترض فكــرة االقــتراب من‬
‫الحقيقــة‪ ،‬مثلهــا مثــل فكــرة الصــدق كمبــدأ موجــه‪ ،‬نظريــة أو رؤيــة واقعيــة للعــالم‪ ،‬فهي ال تفــترض أن الوجــود الفعلي هــو على النحــو الــذي تصــفه نظريتنــا العلميــة‪ ،‬ولكنهــا‬

‫)‬ ‫(‪iv‬‬
‫‪.‬‬ ‫تفترض وجودا فعليا‪ ،‬وأننا يمكننا أن نصل بنظريتنا التي هي أفكارنا التي خلقناها إلى وصف تقترب به من الفعلية متى استخدمنا منهج المحاولة والخطأ«‬

‫وتعـد فكـرة االقـتراب من الحقيقـة إحـدى األفكـار الهامـة بالنسـبة لنظريـة العلم‪ ،‬من حيث أنهـا تـتيح الفرصـة للبحث الـدائم وإ عـادة النظـر المسـتمر‪ ،‬فعقالنيـة النظريـة حسـب‬
‫"بوبر" تكمن في الحقيقة الـتي مؤداهـا أننـا نختارهـا ألنهـا فقـط أفضـل من النظريـات السـابقة عليهـا‪ ،‬وألنهـا خضـعت الختبـارات أشـد قسـوة‪ ،‬وبـذلك تكـون أكـثر اقترابـا من‬

‫بقدر ما يمكن النظر إليها وتقويمها كتقرب ظاهري أفضــل من الحقيقــة‬ ‫‪،‬‬ ‫الحقيقة فبقدر ما تثبت النظرية ‪ T2‬أمام االختبارات التجريبية المتعلقة بنقاط تختلف فيها مع ‪T1‬‬
‫‪.‬‬

‫‪v‬‬
‫( )‬
‫‪.‬‬

‫المرحلة التالية‬ ‫والنظريات العلمية في تصور بوبر نظريات نامية ومتطورة‪ ،‬ومن ثم ال يمكن معرفة الخطوة أو‬
‫لها‪ ،‬فبوبر ال يهتم بالتنبؤ‪ ،‬وال بالمستقبل العلمي‪ ،‬بل اهتمامه ينصب على تطور العلم حتى وقتنا الحالي‪« ،‬‬
‫‪vi‬‬
‫)‪ ،‬فالمستقبل العلمي‬ ‫ذلك لمناف لطبيعته ولنظرياته «‬ ‫فالعلم يعيش في اللحظة الحاضرة وليس هناك يقين فيه‪ ،‬وهو ال يتضمن القدرة على التنبؤ‪ ،‬ألن‬

‫)‬‫(‪vii‬‬
‫طبقا لوجهة نظر بوبر غير معروف‪ ،‬والتقدم هو مغامرة في الال معروف ‪ ،‬وفي اإلمكانات المتفتحة‬

‫تعد المقاربة البوبرية خاصة في شقها الميتودولـوجي (التكـذيب والقابليـة للتكـذيب) من أهم المقاربـات االبيسـتمولوجية الـتي عرفتهـا فلسـفة العلم في القـرن العشـرين‪ ،‬لكن منهج‬
‫التكذيب لم يسلم من النقد من طرف فالسفة علم ما بعد الوضعية خاصة من طرف "توماس كون" وبول فييرابند" الذين سنتعرض ألهم موقفهم من البوبرية الحقا‪.‬‬

‫‪ -i‬كارل بوبر‪ :‬منطق الكشف العلمي ‪ ،‬م س ‪ ،‬ص ‪.273‬‬


‫‪ -ii‬سهام النوهىي‪ :‬تطور املعرفة العلمية ‪ ،‬م س ‪ ،‬ص ‪.54‬‬
‫‪ -iii‬أالن شاملرز ‪ " :‬نظريات العلم"‪ ،‬م س ‪ ،‬ص ‪.65‬‬
‫‪ -iv‬بوبر كارل ‪ " :‬احلياة بأسرها حلول ملشاكل ‪ ،‬م س ‪ ،‬ص ‪.51‬‬
‫‪ -v‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.52‬‬
‫‪ -vi‬حممد قاسم حممد ‪ :‬كارل بوبر‪ :‬نظرية املعرفة يف ضوء املنهج العلمي ‪ ،‬دار املعرفة اجلامعية ‪ ،‬اإلسكندرية ‪ ، 1986 ،‬ص ‪.174 -173‬‬
‫‪ -vii‬سهام النويهى ‪ :‬تطور املعرفة العلمية"‪ ،‬م س ‪ ،‬ص ‪.66‬‬

‫‪15‬‬
16
‫المحور الرابع‬

‫االبيستمولوجيا الباشالرية‬

‫تمهيد‪:‬‬

‫لقد أدت التطورات التي شهدها الفكر العلمي نتيجـة الثـورات العلميـة الـتي تحققت في مجـالي الرياضـيات والفيزيـاء النظريـة‪ ،‬إلى المراجعـة النقديـة لألسـس والمبـادئ الـتي قـام‬
‫عليهــا العقــل العلمي الكالســيكي كالبداهــة والوضــوح واليقين والموضــوعية ووحــدة المنهج‪ ،‬وتجــاوز كــل الثنائيــات الــتي مــيزت النمــوذج الكالســيكي للعلم‪ ،‬و بــروز عقــل علمي‬
‫جديد عقل متفتح على النقد‪ ،‬والمراجعة الدائمة‪ ،‬عقل متفتح على التعددية المنهجية‪ ،‬وهي المقاربة االبيستمولوجية التي قدمها فيلسوف العلم الفرنسي "غاستون باشــالر" والــتي‬
‫تعرف باالبيستمولوجيا الباشالرية ‪ ،‬وسنتناول في هذه المحاضرة أهم معالم هذه االبيستمولوجيا الجديدة‪.‬‬

‫خصائص ابيستمولوجيا "باشالر"‪:‬‬

‫إبستمولوجيا باشالر تعبير عن موقف فلسفي جديد‪ ،‬أراد من خالله "باشالر" تجـاوز الموقـف الفلسـفي التقليـدي الـذي أصـبح غـير قـادر على مسـايرة راهن العلـوم‪ ،‬والتأسـيس‬
‫لعقالنية جديدة قادرة على تحليل التركيب المعقد للفكر العلمي المعاصر‪ ،‬وتتمثل أهداف هذه االبيستمولوجية الباشالرية في تحديد ثالثة مهام أساسية هي‪:‬‬
‫إبراز القيم االبستمولوجية المتجددة للعلم‪ ،‬من العلم وليس من الفلسفة‪ ،‬ثم البحث عن أثر المعارف والقيم العلمية الجديدة في بنية العقل القابل للتشكل والتطور باستمرار‪ ،‬ثم‬
‫التحليل النفسـي للمعرفـة الموضـوعية‪ ،‬من خالل عمليـة فحص وتشـخيص وتطهـير عقلي وعـاطفي يقـوم بهـا االبسـتمولوجي وباسـتمرار تسـتهدف الفكـر كـذات عارفـة من جهـة‬
‫وموضوع معرفتها من جهة أخرى‪ ،‬فإذا كان التحليل النفسي يساعدنا على فهم السلوك اإلنساني والحياة النفسية فإن التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية سيمكننا من فهم هذه‬
‫المعرفة في تطورها أو نكوصها أو توقفها‪ ،‬وهو ما يسميه باشالر بالعوائق االبيستمولوجية‪.‬‬
‫ينطلــق "باشــالر" من معطيــات الفكــر العلمي المعاصــر لينتقــد الفلســفات المعاصــرة لــه الــتي يكتشــف فيهــا عــدم قــدرتها على مســايرة مــا حــدث من تطــور‪ ،‬ويعيب على نظريــات‬
‫المعرفة التقليدية استغاللها اإليديولوجي للعلم ألنها وظفت نتائج العلم لخدمة الفلسفات التي تقوم عليها‪ ،‬إن مثل هذه الفلسفات المغلقة على نفسها ال تسـتطيع متابعـة التطـورات‬
‫العلميــة المعاصــرة ويقــول باشــالر‪ « :‬عنــدما نــدرس المســالك المتعــددة الــتي يســير عليهــا التقــدم الرياضــي للميكانيكــا الموجيــة … ســرعان مــا نتأكــد من قصــر نظــر الفلســفات‬
‫‪i‬‬
‫التقليدية فاستخدام المذاهب الفلسفية في ميـادين بعيـدة عن أصـلها الـروحي ‪ ،‬عمليـة دقيقـة ومهمـة إذا مـا راعت خصوصـية العلم لكنهـا مخيبـة لآلمـال في أغلب األحـوال ‪ ،‬ألن‬

‫هــذه األنســاق حين تفكــر في العلم بطريقــة فلســفية ميتافيزيقيــة ‪ ،‬تبقى جامــدة وعقيمــة وال تســتطيع مواكبــة حركيــة المعرفــة العلميــة‪ .‬وإ ذا فســرنا العلم بمبــادئ الفلســفة وبتــأمالت‬
‫‪ii‬‬
‫ميتافيزيقية نجد أنفسنا أمام ضرورة تطبيق فلسفة غائية ومغلقة على فكر علمي متفتح‬

‫يدعو باشالر إلى ضرورة قيام إبستيمولوجيا بإمكانها مواكبة التقلبات المختلفة للفكـر العلمي ‪.‬وتـدرك ضـرورة المزاوجـة بين القبلي والبعـدي ‪ ،‬بين معطيـات التجربـة ومبـادئ‬
‫العقــل ‪ ،‬فـالفكر العلمي المعاصـر يجمــع بين التجريبيــة والعقالنيــة وال يمكن الفصـل بينهمــا على طريقــة الفلســفة التقليديــة ‪ ،‬فالتجريبيــة عنــد باشــالر في حاجـة إلى أن تســتند إلى‬
‫البرهــان العقلي ‪ ،‬كمــا أن العقالنيــة في حاجــة إلى التطــبيق المــادي ‪ ،‬فقيمــة القــوانين التجريبيــة تنبثــق من قــدرتها على المعاقلــة ‪ ،‬وبالمقابــل أن مــا يضــفي الشــرعية على أحكــام‬
‫العقل قابليتها‪.‬‬

‫‪i‬‬
‫‪ -‬باشالر غاستون ‪ :‬فلسفة الرفض‪ ،‬ترجمة د‪.‬خلیل أحمد خلیل ‪ ،‬دار الحداثة ‪ ،‬بیروت الطبعة األولى ‪، 1985 ،‬ص ‪) 5‬‬
‫ـ محمد وقیدي ‪ :‬ماھي اإلبستیمولوجیا ‪،‬ص ‪) 23‬‬
‫‪ii‬‬
‫باشالر غاستون ‪ :‬فلسفة الرفض‪ ،‬ترجمة د‪.‬خلیل أحمد خلیل ‪ ،‬دار الحداثة ‪ ،‬بیروت الطبعة األولى ‪، 1985 ،‬ص ‪) 5‬‬

‫‪17‬‬
‫اإلبستيمولوجيا الباشالرية فلسفة يراد لها أن تكون متكيفة مع التطورات الحاصلة في الفكر العلمي ‪ ،‬المتجدد باسـتمرار فال وجـود لفكـر عبـارة عن صـفحة بيضـاء يسـجل فيـه‬
‫الواقع كما يريد وأيضـا ال وجـود لعقـل حـائز بـالفطرة عن مقـوالت الفهم األساسـية ‪ .‬فالعقـل العلمي ال يتكـون إال على أنقـاض العقـل القبلعلمي ‪ ،‬و بنـاء مثـل هـذا العقـل يتطلب‬
‫‪i‬‬
‫تغييرا جذريا لجميع قيم المعرفة‬

‫ابيستمولوجيا باشالر تؤمن بوجود عالقة جدلية بين الفكر اإلنساني وبين تطور المعرفة العلمية التي ينتجها‬
‫فالمعرفة العلميـة من نتـاج الفكـر اإلنسـاني ‪ ،‬والفكـر اإلنسـاني بـدوره من نتـاج هـذه المعرفـة فليسـت هنـاك بنيـة ثابتـة للفكـر اإلنسـاني‪ ،‬فـالثورات العلميـة المعاصـرة الـتي عرفهـا‬
‫الفكر العلمي في مجال الرياضيات والفيزياء لم تؤد إعادة تغيير ومراجعة المبادئ التي قامت عليها تلك العلوم فحسب بل أدت أيضًا إلى تغيير بنية الفكر اإلنســاني ذاتــه‬
‫‪،‬فهو ليس منتجًا لهذا التطـور العلمي فحسـب ‪ ،‬بـل إنـه متـأثر بنتـائج هـذا التطـور أيضـًا ‪ ،‬وهـذا مـا لم تنتبـه إليـه الفلسـفة الكالسـيكية الـتي استخلصـت مبـادئ الفكـر اإلنسـاني في‬
‫مرحلة معينة من تأريخ العلوم فأضفت على هذه المبادئ صفة اإلطالق ‪ ،‬واعتقدت نتيجة لذلك أن هـذه المبـادئ هي بنيـة الفكـر اإلنسـاني ذاتـه ‪ ،‬أن العقـل الينتج العلم فحسـب‬
‫‪ii‬‬
‫ولكنه فضًال عن ذلك يتعلم من العلم " فالعلم بصفة عامة يعلم العقل ‪ ،‬وعلى العقل أن يخضع للعلم األكثر تطورا ‪ ،‬العلم الذي يتطور‪.‬‬

‫لقد ميز "باشالر" بين ثالث مراحل في تكوين العقل العلمي ‪:‬‬
‫ـ المرحلة األولى تمثل الحالـة ماقبـل العلميـة وتشـتمل على األزمنـة الكالسـيكية القديمـة وعصـر النهضـة والجهـود المسـتمرة في القـرن السـادس عشـر والسـابع عشـر وحـتى في‬
‫القرن الثامن عشر‪.‬‬
‫ـ المرحلة الثانية التي تمثل الحالة العلمية والتي بدأت في أواخر القرن الثالث عشر وتشمل القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ‪.‬‬
‫ـ المرحلة الثالثة مرحلة العقل العلمي الجديد تبدًأ من عام ‪ 1905‬ظهور نظرية "أنشتاين" في النسبية التي غيرت الكثير من المفاهيم التي كانت سائدة قبل ذلك‪.‬‬
‫يحدد "باشالر" سمات كل مرحلة ويميزها عن األخرى ‪ ،‬حسب مفهومه لتطور العقل العلمي‪:‬‬
‫المرحلة األولى هي الحالة الملموسة ‪ :‬إذ ينشغل العقل بالصور األولى للظاهرة ويعتمد على صيغ فلسفية تمجد الطبيعة وتؤمن بوحدة العلم ‪.‬‬
‫ـ المرحلة الثانية هي الحالة الملموسة المجردة ‪ :‬إذ يضـيف العقـل إلى التجربـة الفيزيائيـة األشـكال الهندسـية ويسـتند الى فلسـفة البسـاطة هنـا مـا يـزال العقـل في وضـع متنـاقض‬
‫فهو واثق من تجريده بقدر ما يكون هذا التجريد ماثًال بوضوح في حدس " ملموس " أو "محسوس "‪.‬‬
‫ـ المرحلة الثالثة هي الحالة المجردة ‪ :‬حيث يتدخل العقل بمعالجـة المعلومـات المـأخوذة من الواقـع لكنهـا منفصـلة عن التجربـة المباشـرة أو بمعـنى آخـر يكـون العقـل والتجربـة‬
‫‪iii‬‬
‫في هذه المرحلة متالزمين كل منهما متمم لآلخر ‪.‬‬

‫االبيس ــتمولوجيا الالديكارتي ــة‪:‬يتم ــيز الخط ــاب الفلس ــفي بأن ــه خط ــاب منهج فض ــرورة تحدي ــد منهج البحث والممارس ــة العلمي ــة والفلس ــفية ه ــو المب ــدأ األس ــاس ال ــذي ق ــامت عليه ــا‬
‫تصــورات الفالســفة والميتودولوجــيين من "أرســطو" إلى ديكــارت‪ ،‬فقــد جعــل "أرســطو" من القيــاس‪ ،‬المنهج الوحيــد والضــروري لقيــام العلم‪ ،‬وألح "ديكــارت" على أن البحث في‬

‫)‪.‬‬ ‫(‪iv‬‬
‫المنهج يع ـ ـ ـ ـ ـ ــد من أهم المش ـ ـ ـ ـ ـ ــكالت‪ ،‬وأواله ـ ـ ـ ـ ـ ــا عناي ـ ـ ـ ـ ـ ــة في مهم ـ ـ ـ ـ ـ ــة الفيلس ـ ـ ـ ـ ـ ــوف‪ ،‬فالش ـ ـ ـ ـ ـ ــعور بض ـ ـ ـ ـ ـ ــرورة المنهج ه ـ ـ ـ ـ ـ ــو أول م ـ ـ ـ ـ ـ ــا يل ـ ـ ـ ـ ـ ــزم من أدوات التفلس ـ ـ ـ ـ ـ ــف‬

‫وقد أرجع ديكارت سبب تأخر العلم في عصره إلى عدم إتباعه منهجا واضحا يقول ديكارت " الناس مسـوقون برغبـة في االسـتطالع عميـاء حـتى أنهم يوجهـون أذهـانهم في‬
‫‪v‬‬
‫فالمنهج هـو الموجـه الصـادق للعقـل إذ يعتمـد فيـه على طريقـتين في التفكـير همـا "الحـدس واالسـتنباط " ويقصـد ديكـارت بالحـدس الفكـرة المتينـة الـتي‬ ‫طرق مجهولة "‬

‫شـيء لنـا بـه معرفـة يقينيـة نتـائج تلـزم‬ ‫تقوم في ذهن خالص منتبه وتصدر عن نور العقل وحده ‪ ،‬أما االسـتنباط فيعـبر عنـه بأنـه فعـل ذهـني بواسـطته نسـتخلص من‬
‫‪vi‬‬
‫منها ‪.‬‬

‫‪ 2 i‬المرجع نفسه ص ‪ 10‬ـ‬


‫غاستون باشالر ‪":‬الفكر العلمي الجديد " ترجمة ‪ :‬خليل أحمد خليل‬ ‫‪ii‬‬
‫‪ iii‬ـ ـ شعبان حسن‪ :‬برونشفيك وباشالر‪ ،‬ص ‪ 127‬ـ ‪128‬‬
‫‪ - iv‬عثمان أمني ‪ :‬ديكارت‪ ،‬مكتبة األجنلو مصرية‪ ،‬القاهرة‪ ،1969 ،‬ط‪ ،2‬ص ‪78-77‬‬
‫‪ v‬عثمان أمین ‪ :‬دیكارت ‪ ،‬سلسلة أعالم الفلسفة ‪ ،‬مكتبة القاھرة الحدیثة‪ ،‬القاھرة ‪ ،‬الطبعة الخامسة ‪، 1965 ،‬ص ‪8‬‬
‫عثمان أمني ‪ :‬ديكارت‪ ،‬ص ‪vi 92‬‬

‫‪18‬‬
‫لقد أصـبح التصـور الفلسـفي مرهونـا باالعتقـاد المنهجي الـديكارتي الـذي يوجـه البحث لبلـوغ الحقيقـة مهمـا تنـوعت المنهجيـات ومهمـا كـانت حركيتهـا في مختلـف العلـوم‪ ،‬فإنهـا‬
‫تنسب مع ذلك إلى منهج أولي‪ ،‬منهج عام يفترض فيه تشكيل كل المعرفة‪ ،‬وملزم بمعالجة كل الموضوعات بنفس الكيفية‪.‬‬
‫يرى باشالر إن الكشوفات العلمية المعاصرة تتعارض مع هذا التصـور المنهجي األحـادي‪ ،‬ألنــه تصـور ميتـافيزيقي‪ ،‬يغلـق آفـاق اإلبـداع المعـرفي و العلمي‪ ،‬يـرفض" باشـالر"‬
‫العقــل الشــمولي والمنهج األحــادي الصــالح لكــل علم ففي الفكــر العلمي المعاصــر‪ ،‬ال وجــود لهــذه األحاديــة فلكــل علم منهجــه الخــاص بــه ومفاهيمــه الخاصــة الــتي تتناســب مــع‬
‫المرحلة التي هو عليها هذا العلم أو ذاك‪ ،‬إن الفكر العلمي ال يتطور إال بقدرته على أبداع وابتكار المناهج والنظريات الخاصـة بـه‪ ،‬ومنـه فالمنـاهج مؤقتـة وليسـت دائمـة وال‬
‫وجود لمنهج صالح لكل علم وفي كل زمان فكل تجربة جديدة كفيلة بتفسير الفكر العلمي برمته " كل مقالة في الطريقة العلمية ستكون دائمًا مقالة طرف ولكن بالبنية النهائية‬
‫"‪.‬‬
‫ينتقد باشالر فكرة الوضوح والبداهة الديكارتية‪ ،‬فالوضوح العقلي في حاجة إلى تأكيد تجريبي ‪ ،‬فالطريق الى الحقيقة العلمية هي مجموعـة التجــارب العلميــة الدقيقــة والمعقــدة‬
‫التي تعتمد على تقنيات ومسائل مادية وتستند على نظرية مركبة ‪ ،‬وال يمكن لحقيقة ما أن تصبح يقينـًا بمجـرد كونهـا صـادرة عن يقين أول ‪ ،‬ولم تعـد البديهيـة فكـرة واضـحة‬
‫بذاتها ال تحتاج الى برهان بل غدت بعد ظهور الهندسات الالأقليدية مجـرد مسـلمة صـالحيتها مرتبطـة بالنسـق الـذي تنتمي إليـه فالشـيء بسـيط وكـل شـيء يحتـاج الى تبسـيط‪،‬‬
‫كما أن أهم ميزة في الفكر العلمي المعاصر هي خاصية التعقيد‪.‬‬
‫المنطق الالأرسطي‪:‬‬
‫يــرى باشــالر أن الــروح العلميــة الجديــدة تتطلب منطقــا خاصــا الأرســطيا يكــون بــديال عن المنطــق التقليــدي القــائم على المبــادئ المطلقــة الــذي ال يهتم بمحتويــات المعرفــة ‪.‬فهــو‬
‫يعالج صورة الفكر دون مضمونه (الموضوع ان الطبيعة التركيبية للعلم المعاصر المتمثلة في تعدد النظريات العلمية تتطلب حسب "باشالر" على ضرورة تعدد المنطــق أي‬
‫ظهورأنواع من المنطق تتناسب مع تعدد النظريات‪ ،‬فالمنطق االرسطي فقد قيمته الكلية فالبد من قيام منطق الأرسطي يضاف الى الفيزياء الالنيوتونية والهندسة الالأقليدية‪.‬‬
‫التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية‪:‬‬
‫يرى باشالر ان االبستمولوجيا يمكن أن تستفيد في نظر من التحليل النفسي فإذا كان التحليل النفسي يساعدنا على فهم السلوك اإلنساني والحياة النفسـية فـإن التحليـل النفسـي‬
‫للمعرفة الموضوعية سيمكننا من فهم هذه المعرفة في تطورها أو نكوصها أو توقفها‪ ،‬وهو ما يسميه باشالر بالعوائق االبيستمولوجية‪ ،‬أن العمل العلمي هو الذي يخلــق بذاتــه‬
‫وبذاته ما يمثل مظاهر تعطله ‪ ،‬أو توقفه أو نكوصه ‪ ،‬إن المكبوتات العقلية هي ما يدعوه باشالر بالعوائق االبستمولوجية وليست هذه المكبوتات شيئًا يرد على العمل العلمي‬
‫‪i‬‬
‫من خارجه بل هي منبثقة عنه يقول باشالر في هـذا الصـدد " عنـدما نبحث في الشـروط النفسـية لتقـدم العلم فسـرعان مـا نصـل الى االعتقـاد بأنـه ينبغي وضـع مشـكلة المعرفـة‬

‫العلمية في صيغة عوائق أو عقبات وال يتعلق األمر هنا عقبات خارجية كتعقد الظواهر وزوالها ‪ ،‬وال بالطعن في ضعف الحواس والفكر اإلنسـانيين‪ ،‬ففي فعـل المعرفـة ذاتـه‬
‫‪ii‬‬
‫تبرز االضطرابات بنوع من الضرورة الوظيفية وبذلك نتبين أسباب الجمود والركود بل والنكوص وهنالك سينكشف عن علل السكون التي سندعوها عوائق أبستمولوجية‬

‫مفهوم العائق االبستمولوجي " المعرفي " عند باشالر‪:‬‬


‫العائق بأنه عنصر أو جملة عناصر تمنع الفكر العلمي من التطور أو تؤخر العلم عن النشاط ‪،‬وتعتبر فترة الركود أو النكوص التي يعيشها العلم على وجود عوائق‬
‫إبستمولوجية مرتبطة بالشروط النفسية للمعرفة في حد ذاتها وليست خارجية‪ ،‬العائق المعرفي يتعلق بالذات العارفة وعالقتها بموضوع المعرفة‪ ،‬ومن أهم هذه العوائق ‪:‬‬
‫عائق التجربة األولى ‪:‬‬
‫ونعني به التجربة الحسية فالمعرفة العامية تعتمد على التجربة الحسية وبالتالي فإن الواقع المباشر ال يقود الى معرفة علمية والموضوع المباشر الذي تقدمه الحواس يلغي‬
‫دور العقل في التفكير والنقد ويفرض عليه التصديق الكلي بكل ما تقدمه الحواس ‪ ،‬ولذلك تعد التجربة األولى العائق األكبر أمام تطور المعرفة العلمية‪.‬‬
‫عائق المعرفة العامة‪:‬‬
‫يرى باشالر أن التحليل النفساني للمعرفة الموضوعية يكشف عن المتعة الفكرية السيئة المتولدة عن التعميم السريع والبسيط‪ ،‬لقد طبع التعميم فكر الفالسفة ويرجع ذلــك إلى‬
‫محاولة تكييف الفالسفة التقليديين نتائج العلم لما يناسب مذهبهم ‪ ،‬وهذا عائق امام تطور الفكر المفاهيم العلمية متجادلة فيما بينها فكل مفهوم مرتبط بمفهوم مضاد‪.‬‬
‫العائق اللفظي ‪:‬‬

‫‪i‬‬
‫ـ ـ محمد وقيدي " ماهي االبستمولوجيا " ص‪190‬‬

‫باشالر ‪ :‬تكوين العقل العلمي‪ ،‬ص‪ii 13‬‬

‫‪19‬‬
‫يرى باشالر أن الفكر القبعلمي ال يميز بين المفهـوم واللفـظ ‪ ،‬حيث تشـكل كلمـة واحـدة قاعـدة للتفسـير الشـامل وعليـه تعتـبر العـادات اللفظيـة عوائقـا إبسـتيمولوجية على الفكـر‬
‫العلمي تجاوزها‪ ،‬ويقدم "باشالر"عن عائق اللفظ مثال لفظة "اسفنجة"‪ ،‬ذلك أن خاصية االسفنجة في الشـرب يقـع تمديـدها لنفسـر أو لنعـبر عن ظـواهر أخـرى كـالهواء‪ ،‬فـالهواء‬
‫يبدوا شبيها باألجسام القابلة للتشرب‪ ،‬فكان تفسيرها عند البعض باألجسام القابلة للتشرب‪.‬‬
‫القطیعة اإلبستیمولوجیة‪:‬‬
‫يعـد مفهـوم القطيعـة االبيسـتمولوجية من المفـاهيم القاعديـة الـتي تقـوم عليهـا االبيسـتمولوجيا الباشـالرية‪ ،‬وتعـني القطيعـة تلـك القفـزات النوعيـة الـتي تحـدث في تـاريخ العلـوم ‪،‬‬
‫وتحدث القطيعة االبستمولوجية عند نشأة علم جديد أو نظرية علمية جديدة قاطعًا للصلة مع ماسبقه من علوم ومعارف ‪ ،‬فالقطيعة إعالن عن ميالد علم جديد غير مرتبط بما‬
‫قبل‪ ،‬إن تطور المعرفة العلمية ال يستند على نفس المفاهيم التي تحملها التطورات العلميـة في عصـر من العصـور‪ ،‬أو في فـترة من فـترات تطـور العلم بـل إنـه انتقـال معـرفي‬
‫يستند في أساسه على إعادة بناء المفاهيم والنظريات العلمية وإ عادة تعريفها وإ عطائها مضمونا جديدا‪ ،‬ومن هنا فإن تـاريخ العلـوم هـو تـاريخ للقطـائع اإلبسـتمولوجية‪ ،‬قطـائع‬
‫على مستوى التصورات والمبادئ التي قامت عليها العلوم‪ ،‬وقطائع وعلى مستوى المناهج‪ ،‬وهي قطائع تنطلق من داخل العلم‪ ،‬فكـل علم لـه طـرق خاصـة بـه‪ ،‬إن النظريـات‬
‫العلميــة المســتجدة في كــل عصــر ال يمكن النظــر إليهــا على أنهــا اســتمرارا للنظريــات الســابقة فال يمكن إرجــاع فيزيــاء" أينشــتاين" الى فيزيــاء "نيــوتن" وال فيزيــاء نيــوتن إلى‬
‫"غاليلي" كل نظرية علمية مبنية على أسس مخالفة للنظريات السابقة عنها‪.‬‬
‫تطور العلوم يعبر عن القطيعة مع المبادئ العلمية الراسخة‪ ،‬تلـك المبـادئ الـتي ينظـر إليهـا كمبـادئ أساسـية في العلم ولكن يجب أن نفهم أن العلم في تطـوره ال يهـدم المبـادئ‬
‫األساسية التي تثبت تجريبا صدقها‪ ،‬العلم ينظر إلى تلك المبادئ على انها ضرورية كما أنه ال غنى عنها للمبادئ العلمية الحديثة إلى أن هذه المبادئ تستمر وتتغــير في نفس‬
‫الوقت‪.‬‬
‫يأخذ "باشالر" مثال المصباح الكهربائي ليوضح القطيعة بين المعرفتين القبلية والبعدية فمفهوم اإلنارة كان يتمثل في خاصية احتراق المادة فلكي نبني نورا يجب أن نحرق‬
‫‪i‬‬
‫مادة إلى أن المصباح الكهربائي يمنحنا نورا دون ضرورة جعل المادة تحترق "التقنية القديمة هي تقنية احتراق والتقنية الجديدة هي تقنية ال احتراق‬

‫ويربط مفهوم القطيعة بمفهوم العائق فإذا كانت العوائق سببًا في تباطؤ واختالل المعرفة العلمية وجمودها فإن القطيعة هي الفعل االبستمولوجي الذي تم به تجاوز هذه‬
‫العوائق ونشط الفكر العلمي بعد جموده‪ ،‬فالعلم يتباطأ في مرات ويتسارع في أخرى وذلك عند وجود عوائق أو قطيعة بين مرحلة وأخرى‪.‬‬
‫فالقطيع ــة االبس ــتمولوجية ال تع ــني انفص ــاال عن الفك ــر العلمي الس ــابق أو رفض ــه رفض ــا مطلق ــا ب ــل تع ــني احت ــواء الفك ــر العلمي الجدي ــد للفك ــر العلمي الس ــابق علي ــه‪ ،‬فالقطيع ــة‬
‫االبستمولوجية تعني قيام فكر علمي جديد أكثر تفتحا‪ ،‬الحقائق العلمية الجديدة ال تلغي بالضرورة الحقائق العلميـة القديمـة‪.،‬فنسـبية "اينشـتاين" لم تلـغ فيزيـاء "نيـوتن" بـل قـامت‬
‫‪ii‬‬
‫بتصحيح الخطأ ‪ ،‬المتمثل في المطلق النيوتني ‪.‬‬
‫تاريخ العلم عند باشالر‪:‬‬
‫يقدم" باشالر" مفهوما جديدا لتاريخ العلوم هـذا المفهـوم الـذي يتضـمن الحكم على الماضـي انطالقـا من الحاضـر عن طريـق إبـراز القيم العلميـة المرتبطـة بعلم مـا والتميـيز بين‬
‫تدفع العلم نحو التقدم‪.‬‬ ‫الخطأ والحقيقة من خالل تتبع المسيرة التطورية للعلم و تحديد فترات الركود و الحركة والكشف عن القيم التي تعيق العلم و القيم المنتجة التي‬
‫إن المهمــة األساســية لتــاريخ العلــوم عنــد "باشــالر" هي الكشــف عن أخطــاء الماضــي و الحكم عليهــا‪ ،‬فتــاريخ العلم ليس تاريخــا للحقــائق العلميــة‪ ،‬أنــه تــاريخ لمــا ليس علم‪" ،‬إن‬
‫تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلم‪ ،‬تاريخ للمراجعة الدائمة ‪ ،‬والهدف من المراجعة هو وعي تاريخانية العلم من أجل معاصرته‪.‬‬
‫تاريخ العلوم ليس موجها لألحداث الماضية التي عرفتها البشرية‪ ،‬بل تاريخ موجه أساسـا لفهم التطـورات العلميـة في سـياقها التـاريخي‪ ،‬لمعرفـة أسـس الفكـر العلمي باالعتمـاد‬
‫على المنهج التــاريخي النقــدي في دراســة التيــارات الكــبرى للفكــر العلمي‪ ،‬انــه التــاريخ الــذي يربــط االكتشــافات أو التيــارات العلميــة‪ ،‬ال بمختلــف الفلســفات الميتافيزيقيــة الــتي‬
‫اســتندت عليهــا‪ ،‬بــل بــالفكر العلمي و بتطــور العلم ذاتــه‪ ،‬فتــاريخ العلم هــو التــاريخ اإلبســتيمولوجي وكــل إبســتيمولوجيا هي إبســتيمولوجيا تاريخيــة "التــاريخ الــذي يقيم العلم من‬
‫الخارج ال يعد من تاريخ العلوم"‪ ،‬ويقـترب هـذا المفهـوم لتـاريخ العلم في عالقتـه باالبيسـتمولوجيا عنـد "باشـالر" من مفهـوم تـاريخ العلم عنـد فيلسـوف العلم المعاصـر "امـري ال‬
‫كاتوش" صاحب مقولة‪ " :‬تاريخ العلم بدون فلسفة علم اعمى ‪ ،‬وفلسفة علم بدون تاريخ العلم خواء"‪.‬‬
‫خالصة ‪:‬‬

‫شعبان حسن‪ :‬برونشفيك وباشالر بين الفلسفة والعلم‪،‬ص ‪154‬‬ ‫‪i‬‬


‫‪ ii‬محمد وقيدي ‪ :‬فلسفة المعرفة عند غاستون باشالر‪ ،‬ص ‪155‬‬

‫‪20‬‬
‫تمثـل أبسـتمولوجيا باشـالر بـديال لمختلـف التصـورات االبيسـتمولوجية والميتودولوجيـة الـتي عرفتهـا فلسـفة العلم‪ ،‬ابيسـتمولوجيا تؤسـس لعقـل علمي جديـد قـائم على قيم الثقافـة‬
‫العلميــة المتجـددة باســتمرار‪ ،‬ابيســتمولوجيا مناهضـة للعقــل العلمي الكالســيكي الـذي يعمــل وفـق مبــادئ منطقيــة صـارمة‪ ،‬العقــل عنــد" باشــالر" هــو في حــد ذاتــه نتيجــة من نتــائج‬
‫العلم‪ ،‬وتغيير هذه النتائج يؤدي إلى تغيير العقل نفسه ‪ ،‬فليس هناك عقل ثابت وال معرفة ثابتة وبالتالي ال يمكن وضع منهجــا قبليــا يفــرض على العــالم إتباعـه فـالمنهج العلمي‬
‫انعكاس للثقافة العلمية السـائدة في مرحلـة مـا من مراحـل الفكـر‪،‬فـالمنهج مرتبـط بالممارسـة الواقعيـة للعلمـاء وهـذه الممارسـة تتطلب تعدديـة منهجيـة قابلـة للتعـديل المسـتمر‪ ،‬إن‬
‫الفكــر العلمي فكــر متفتح ومتطــور على الـدوام ‪ ،‬ولـذلك وجب أن يكــون لكــل علم إبســتيمولوجيته الخاصـة‪( ،‬ابيســتمولوجيا الرياضـيات‪ ،‬البيولوجيــا‪ ،‬العلـوم االنســانية) ال وجــود‬
‫لعلم عام‪.‬‬

‫المحور الخامس‬

‫الفوضوية االبيستمولوجية( بول فييرابند)‬

‫تمهيد‪:‬‬

‫لمفهـ ــوم العلم والمنهج العلمي من أجـ ــرأ التنظـ ــيرات‬ ‫‪K.P.Feyerabend‬‬ ‫تعـ ــد المقاربـ ــة االبيسـ ــتمولوجية الـ ــتي قـ ــدمها كـ ــارل بـ ــول فيرابنـ ــد" (‪)1994-1924‬‬

‫االبستمولوجية التي عرفها القرن العشرين وتكمن هذه الجرأة وهذا التميز في بلورتـه لرؤيـة فكريـة جديـدة تثـور ضـد كـل التصـورات والتنظـيرات المعروفـة في مجـال العلم‬
‫وفلسفته‪ ،‬حـتى لقب بالعديـد من األلقـاب‪ ،‬ووصـف بـالكثير من الصـفات‪ ،‬فقـد لقب "بفيلسـوف العلم الثـائر" وب ـ ـ ـ ـ ــ"العـدو اللـدود للعلم"‪ ،‬و"بالفوضـوي" و"بالنسـباوي" والالعقالني‬
‫المتطرف"‪ ،‬وذلك لمناهضته لكل األنساق االبستمولوجية والميتودولوجيات المتداولة‪ ،‬وانتقاداته الصارمة لجميع نظريات العقالنية الحديثة والمعاصرة‪ ،‬إذ يقف "فيرابند" ضد‬
‫النزعــة االســتقرائية‪ ،‬وضــد العقالنيــة النقديــة البوبريــة‪ ،‬حيث يــرفض كــل محاولــة ابســتمولوجية وكــل متودولوجيــا تســعى إلى بنــاء نظريــة تســتهدف عقلنــة الممارســة العلميــة‬
‫ويؤسس لمفاهيم جديدة لم تعرفها فلسفة العلم من قبل كمفهوم الالمقايسة ‪ ،‬االستقراء المعاكس‪ ،‬الفوضوية االبيستمولوجية ‪ ،‬فما دالالت هذه المفاهيم ؟‬

‫الفوضوية االبيستمولوجية عند بول فييرابند ‪:‬‬

‫يعــد " فيرابنــد" أول من نقــل مصــطلح "الفوضــوية" المتــداول في األدبيــات السياســية‪ ،‬إلى أدبيــات فلســفة العلم المعاصــرة فقــد جعــل منهــا (الفوضــوية) عنوانــا فرعيــا ألهم وأول‬

‫كتاب له‪" :‬ضد المنهج‪ :‬مخطط لنظرية فوضوية في المعرفة" ‪Contre la méthode Esquisse d’une théorie anarchiste de la‬‬
‫حيث وظف "فيرانبـد" مصـطلح الفوضـوية في فلسـفة العلم ليتوافـق مـع موقفـه المنـاهض للعقالنيـة العلميـة الكالسـيكية القائمـة على القواعـد والمعـايير‪،‬‬ ‫‪connaissance‬‬
‫والمنهج الثابت‪ ،‬فالعلم عند " فيرانبد " في جوهره " مشروع فوضوي ال يعترف بأية سلطة تحد من نشـاطه‪ ،‬فكـل النظريـات‪ ،‬وكـل المنـاهج فيـه مقبولـة تبعـا لشـعاره المشـهور‬

‫‪ ،‬ويختلــف مفهــوم"الفوضويةاالبســتمولوجية"عن"الفوضــوية السياســية" "والنســبية البروتاغوريــة"‪*،‬وعن غيرهــا من األنمــاط الفكريــة‬ ‫"كــل شــيء حســن " ‪tout est bon‬‬
‫واالجتماعية األخرى‪ ،‬فإذا كان الفوضوي السياسي يسعى إللغاء نمط حياة معين واستبداله بآخر وتحس ـ ــين ص ـ ــورة محددة للحي ـ ــاة‪ ،‬فـان الفوضـ ـ ــوي االبسـتمولوجي يستـ ــطيـ ـ ــع‬
‫ويسـتند " فيرابنـد‬ ‫أن يـ ــدافع عن أي ت ــوجـ ـ ــه‪ ،‬وعـ ــن أية ف ـ ـ ـك ـ ــرة مهما بدت مبتذلة‪ ،‬كما يمكن أن ينقد أي تصور كيفما كان تأسيسه‪ ،‬طالما أنـه ال توجـد مشـروعية دائمـة‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫" في إثبــات أطروحتــه حــول الفوضــوية االبســتمولوجية إلى تــاريخ العلم‪ ،‬إذ يقــول في مقدمــة كتابــه " ضــد المنهج "‪ » :‬إن التــاريخ بعامــة ‪ -‬وتــاريخ الثــورات بصــفة خاصــة –‬
‫غني في محتواه وأكثر تنوعا وأكثر حيوية مما قد يتخيله أفضل المؤرخين والميتودولوجيين‪ ،‬والتاريخ مليء بالمصادفات‪ ،‬والتخمينات والعالقات المثيرة بين األحـداث‪ ،‬وهــذا‬
‫‪i‬‬
‫ما يبين مدى تعقد التطور اإلنساني والسمة الالتنبؤية للنتائج النهائية ألي فعل أو قرار إنساني « ( )‪.‬‬

‫إن تاريخ العلم كما يرى"فيرابند"معقد ومشوش‪ ،‬ومليء باألخطاء والتطورات المفاجئة وغـير المتوقعةوهـذا الطـابع المعقـد يحتـاج إلى إجـراءات معقـدة‪ ،‬يصـعب تحليلهـا على‬
‫أساس مجموعة القواعد والمعايير والمناهج التي يتم وضعها مسبقا دون النظر إلى الظـروف المتغـيرة دائمـا للتـاريخ‪ ،‬كمـا أن العـالم الـذي نريـد اكتشـافه كيـان مجهـول إلى حـد‬
‫(‪)3‬‬
‫كبير‪ ،‬لذا يجب أن تبقى كل اختياراتنا مفتوحة وال يجب أن نتقيد بشكل مسبق بقواعد ومعايير ومناهج ثابتة‪.‬‬

‫وعلى هــذا األســاس فـان الفوضـوية االبســتمولوجية هي اتجــاه مضـاد لكــل ميتودولوجيــة معياريــة تــدعي أن هنــاك قواعـد حصـينة غـير قابلـة للتغيــير تحكم ســير العلم‪ ،‬وتتخــذ‬
‫كمعيـار للتميـيز بين الذاتيـة والموضـوعية‪ ،‬وبين العقالنيـة والالعقالنيـة‪ ،‬وبين العلم والالعلم‪ ،‬كمـا نجـد ذلـك عنـد الوضـعيين المنطقـيين والتفنيـديين الـذين حـاولوا حصـر الـثراء‬
‫الكبير لتاريخ العلم في قوالب منهجية ومنطقية جامدة‪..‬‬

‫ان الفوضوية االبستمولوجية فيما يرى " فيرابند " هي السبيل األمثل لردم الهوة بين االبستمولوجيا وواقع العلم واحتواء العوامل المتعددة والمتشابكة التي تكّو ن ظــاهرة العلم‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫يقول " فيرابند "‪ " :‬إن الفوضوية ربما ليست الفلسفة السياسية األكثر جاذبية‪ ،‬لكنها بالتأكيد هي العالج الفعال االبستمولوجيا ولفلسفة العلم"‬

‫وال يعني مصطلح "الفوضوية" الفوضى أو العشوائية‪ ،‬وإ نما المعنى الذي أراده " فيرابند"لهذا المصطلح هو عدم التقيد بقوانين العقل ومعايير العقالنية(‪ ،)2‬والتفتح على كــل‬
‫الخيارات والبدائل المنهجية والنظرية غير العقالنية كالخيال والحـدس والعاطفـة واألسـاطير والسـحر والتقاليـد‪ ،...‬فـالعلم كمـا يـراه " فيرانبـد " أكـثر ال عقالنيـة وأكـثر فوضـى‪،‬‬
‫وأكثر تعقد‪ ،‬مقارنة بصورته العقالنية القائمة على النظام والقانون‪.‬‬

‫يقول فيرانبد‪ » :‬إن أطـ ــروح ــتي هي أن الفوضـ ــوية تسـاهم في إحراز التــقدم مهما كان المعـ ـ ــنى الـذي تحـ ـ ـ ـ ــمله‪ ،‬وحـتى الع ـ ـل ــم القـائم على النظـام والقـانون ال يحقـ ــق نجاحـا‪،‬‬
‫إال إذا فسح المجال لحركات فوضـ ــوية‪ ،‬وان ف ــكرة المنـ ـ ــهج الثـاب ــت والنظريـة الثابتـ ــة للعقالني ـ ــة‪ ،‬تقـوم على رؤيــة ساذج ـ ــة جـدا لإلنس ـ ــان‪ ،‬ولمحيطـه االجتــماعي‪ ،‬وإ لى هـؤالء‬
‫ال ـ ــذيـ ــن ينظرون إلى المـادة الثري ــة التي يزخر بـها تاريخ العـلم دون محاولة تــطوي ــرها‪ ،‬من أجل نزع ــة عقالني ــة تق ـ ـ ــوم على مفاهيم من مثل‪ :‬الوضوح‪ ،‬الدقـة‪ ،‬الموضـوعية‪،‬‬
‫‪ii‬‬
‫( )‬
‫الحقيقة‪ ،‬الصدق ـ ـ ـ ـ إلى هؤالء ـ ـ سوف يتضح أن هناك مبـ ــدأ واحدا فقط يمكن الدفاع عنه في كل الظروف‪ ،‬وكل مراحل التطور اإلنساني وهو‪":‬كل شيء حسن"«‬

‫للعلم في مقابل التصـور العقالني لـه‪ ،‬فـإذا كـان العقالنيـون‬ ‫ويعد شعار"كل شيء حسن*" أو كل شيء مقبول‪ ،‬األساس الجوهري الذي تقوم عليه رؤية فيرانبد الفوضوية‬
‫ومنهم "ك ــارل ب ــوبر" ي ــدعون إلى الح ــرص على التماس ــك واالل ــتزام بقواع ــد المنهج‪ ،‬والعم ــل على زي ــادة المحت ــوى‪ ،‬وتحاش ــي الف ــروض العيني ــة‪ ،‬والموض ــوعية‪ ،...‬وإ ذا ك ــان‬
‫التجريبيون يدعون إلى التمسك بقواعد التحليل المنطقي‪ ،‬والوضوح‪ ،‬والتحقق‪ ،‬فإننا نجد " فيرانبد" يدعونا إلى معاكسة مبادئ العقالنية ومخالفة قواعد المنطق (عـدم التنـاقض –‬

‫‪i P Feyerabend :contre la méthode. p. 13.14.‬‬


‫‪3-Ibid p 16‬‬

‫‪ii‬‬ ‫‪P Feyerabend: contre la méthode, Op cit. p13‬‬


‫‪ -2‬أمحد أنور‪ :‬ضد املنهج‪ :‬إطاللة على أزمة العقالنية الغربية املعاصرة ‪ ،‬سلسلة الفلسفة و العلم‪ ،‬علي عبد املعطي و آخرون‪ ،‬قضايا العلوم اإلنسانية‪ ،‬إشكالية املنهج‪،‬اهليئة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬القاهرة العدد‬
‫األول ‪1996‬‬

‫‪3‬‬
‫‪-.ibid p 25.‬‬
‫* لقد ترجم هذا الشعار عن االجنليزية « ‪ » Anything Gooes‬إىل اللغة العربية بعدة ترمجات فقد ترجم إىل‪ " :‬كل شيء حسن" و " كل شيء على ما يرام" و" كل شيء مير" و" كل شيء‬
‫مقبول" وترجم إىل اللغة الفرنسية ب « ‪" » tout est bon‬كل شيء حسن" ونرى أن الرتمجة " كل شيء مقبول" هي الرتمجة األقرب إىل الداللة اليت أرادها "فريانبد" هلذا الشعار من خالل تبنيه لعقالنية‬
‫تعددية متفتحة على تعدد الفروض والنظريات املتنافسة‪ ،‬تعدد املناهج‪ ،‬تعدد الثقافات‪ ،‬تعدد التقاليد يف مقابل العقالنية الكالسيكية اليت تقوم على وحدة املناهج والنظريات والفروض‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫شرط االتساق)‪ ،‬ومعاكسة تقـارير التجـارب‪ ،‬ومعاكسـة االسـتقراء بـل إن هـذه المعاكسـة لمب ــادئ العقالني ــة‪ ،‬وللمنهج‪ ،‬تع ـ ــد في نظـر " فيرانبـد" عامـل ابتكـار‪ ،‬وش ـ ـ ــرط ض ـ ــروري‬
‫‪i‬‬
‫()‬
‫لف ـ ــهم الطبيعة الحقيقية للعلم‪ ،‬فالتحليل التجريدي لطبيعة العالقة بين الفكر والممارسة‪ ،‬يفضي إلى أن المبدأ الوحيد الذي ال يكبح التقدم في العلم‪ ،‬هو‪ " :‬كل شيء حسن"‬

‫فليست هناك ـ ـ ـ ـ ـ حسب فييرابند ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ قواعد ثابتة‪ ،‬أو معايير قبلية تحدد مسيرة العلم‪ ،‬وال توجد نظرية علمية بل نظريـات متعـددة ومتعارضـة‪ ،‬وتقاليـد ووجهـات نظـر مختلفـة‪،‬‬
‫تفسر وتؤول نفس الوقائع في صور أشكال وجودية متعددة‪ ،‬وال وجود لحدود عقالنية لهذه التأويالت‪ ،‬فكل نظريـة وكـل تقليـد وكـل فكـرة وكـل منهج مقبـول ويمكن أن يسـاهم‬
‫في فهم الطبيعة‪ ،‬وفي فهم مسيرة العلم المعقدة‪ ،‬يقول فيرانبـد »إذا أردنـا أن نفهم حقيقـة العلم يجب علينـا اسـتعمال جميـع األفكـار‪ ،‬جميـع المنـاهج‪ ،‬وليسـت انتقـاء البعض منهـا‬

‫( )‬‫‪ii‬‬
‫وكل منهج مقبول ما دام يفي بالغرض‪.‬‬ ‫فكل شيء جائز‬ ‫فقط«‬

‫ان شعار " كل شيء حسن " ال يعني أن قضايا العلم ليست مشروطة ـ ـ ـ ال في طبيعتها وال في نتائجها ـ ـ ـ ـ ـ ـ بقواعد أو معايير محددة‪ ،‬وال بمنهج كلي ثابت‪ ،‬بل هي متروكة‬
‫لطبيعة الموضوعات‪ ،‬وما تقتضيه من إجراءات ومتطلبات منهجية ونظرية‪ ،‬كما أن هذا الشعار ال يعبر عن قناعة أو اقتناع شخصي من " فيرانبد‪ "،‬بل هو تعبير هزلي عن‬
‫المأزق العقالني » فإذا كنت ال تستطيع أن تعيش بدون مبادئ تحكم العالم‪ ،‬عندئذ يمكن أن أعطيك هذا المبدأ‪ ،‬فقد يكون فارغا وغير مفيدا‪ ،‬بل وسخيف لكنه على كل حال‬
‫(‪iii‬‬
‫من العقالنية العلمية إلى الفوضوية المنهجية ارتبط مفهوم العقالنية في‬ ‫)‪.‬‬ ‫مبدأ«‬

‫فلسفة العلم الكالسيكية بالمعايير والقواعد التي تحكم وتوجه الفكر أو الفعل‪ ،‬حيث يوصف الفكر أو الفعل بأنه عقالني‪ ،‬متى كان يسير وفقا ألفضل المعايير المتاحة‪،‬‬
‫ويوصف التفكير بأنه عقالني إذا كان مطابقا لمجموعة من القواعد الواضحة‪ ،‬وهذا ما يفسر ارتباط العقالنية بالميتودولوجيا باعتبار أن المنهج هو ما يوفر منطقا أو معيارا‬
‫عقالنيا من شأنه أن يبرر قبول أو رفض القضايا أو العبارات والعلم في جوهره ليس شيئا غير البحث المنهجي عن المعرفة‪ ،‬وصفة المنهجية صفة أساسية في العلم‪ ،‬حتى‬
‫‪iv‬‬
‫أنه في وسعنا أن نعرف العلم عن طريقه‪ ،‬فنقول إن العلم في صميمه معرفة منهجية‪ ،‬وبذلك نميزه بوضوح عن أنواع المعرفة األخرى التي تفتقر إلى هذه الصفة( )‪.‬‬

‫ويرجع ارتباط العقالنية بالمنهج إلى الفكرة الجوهرية التي يتأسس عليها مفهوم العقالنية‪ ،‬ونعني بها فكرة " النظام"‪" ،‬فالنظام" هو أحد مفاهيم العقل األساسية‪ ،‬ويشمل‬
‫‪v‬‬
‫( )‬
‫وعلى هذا األساس فان مهمة العلم هو إيجاد‬ ‫الترتيب الزماني‪ ،‬والترتيب المكاني‪ ،‬والعلل‪ ،‬والقوانين ‪ ...‬والنظام الطبيعي هو اطراد لوقوع الحوادث‪ ،‬وفقا لقوانين معينة"‪.‬‬

‫تفسير منظم (عقالني) للعالم‪ ،‬وذلك بوضع طريقة أو منهج* محدد يقوم على مجموعة من القواعد والمعايير الثابتة لتنظيم تفكيرنا وممارستنا العقلية‪ ،‬وفي الوقت نفسه‬
‫تنظيم العالم الخارجي‪ ،‬فتقدم العلم والبحث العلمي رهين بالمنهج‪ ،‬ويدور معه وجودا وعدما‪ ،‬دقة وتخلخال‪ ،‬خصبا وعمقا‪ ،‬صدقا وبطالنا‪ ،‬وأن انتكاسة العلم تعود إلى النقص‬

‫)‬
‫(‪vi‬‬
‫في تطبيق قواعد المنهج العلمي‪".‬‬

‫‪i-P Feyerabend : contre la méthode . Op cit. p. p 20.‬‬

‫‪ii -Ibid . p.346.‬‬


‫‪ - iii‬بول فريانبد‪ :‬العلم يف جمتمع حر‪ ،‬م س‪ ،‬ص‪.55‬‬
‫‪ - iv‬بدوي عبد الفتاح‪ :‬فلسفة العلوم ‪ ،‬م س‪ ،‬ص‪.352‬‬
‫‪ - v‬الالند أندري‪ :‬املوسوعة الفلسفية ‪ ،‬ترمجة خليل أمحد خليل‪ ،‬منشورات عويدات‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،2‬ص ‪720‬‬

‫* نعين باملنهج العلمي جمموعة اإلجراءات العقلية اليت يتم بواسطتها استخالص قوانني عامة انطالقا من وقائع خاصة‪ ،‬ويعرف أيضا على أنه جمموعة األساليب الذهنية واحلسية املوصلة إىل احلقيقة أو الصاحلة للربهن‪Š‬ة‬
‫عليها‪ ،‬وهي ختتلف باختالف موضوع العلم‪ ،‬فإذا ك‪Š‬ان املوض‪Š‬وع جمردا كم‪Š‬ا يف الرياض‪Š‬يات ك‪Š‬ان املنهج أو الطريق‪Š‬ة اس‪Š‬تنتاجيه أو عقلي‪Š‬ة‪ ،‬وإذا ك‪Š‬ان حمسوس‪Š‬ا كم‪Š‬ا يف العل‪Š‬وم الطبيعي‪Š‬ة ك‪Š‬ان املنهج أو الطريق‪Š‬ة اس‪Š‬تقرائية‬
‫وجتريبي‪ŠŠ‬ة‪( ،‬مجي‪ŠŠ‬ل ص‪ŠŠ‬ليبا – املعجم الفلس‪ŠŠ‬في‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪ )21‬وهبذا ميكن أن حندد املنهج العلمي كم‪ŠŠ‬ا تص‪ŠŠ‬ورته العقالني‪ŠŠ‬ة الكالس‪ŠŠ‬يكية يف ف‪ŠŠ‬رعني أساس‪ŠŠ‬يني مها‪ :‬املنهج االس‪ŠŠ‬تنباطي ال‪ŠŠ‬ذي ننطل‪ŠŠ‬ق في‪ŠŠ‬ه من ف‪ŠŠ‬روض أولي‪ŠŠ‬ة‬
‫لنصل إىل نتائج تلزم عنها ض‪Š‬رورة وذل‪Š‬ك باالس‪Š‬تناد إىل القواع‪Š‬د األساس‪Š‬ية للمنط‪Š‬ق الص‪Š‬وري‪ ،‬واملنهج االس‪Š‬تقرائي ال‪Š‬ذي ننطل‪Š‬ق في‪Š‬ه من وق‪Š‬ائع جزئي‪Š‬ة حس‪Š‬ية غ‪Š‬ري ض‪Š‬رورية لنص‪Š‬ل إىل ق‪Š‬وانني عام‪Š‬ة‪ ،‬وذل‪Š‬ك باالس‪Š‬تناد إىل‬
‫جمموعة من القواعد تعرف بقواعد االستقراء‪.‬‬
‫‪- vi‬عبد الرمحن بدوي ‪ :‬مناهج البحث العلمي‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬القاهرة‪ ،1968 ،‬ص ‪10‬‬

‫‪23‬‬
‫ينتقد فيرابند هذا التصور العقالني للمنهج ويدعو إلى التساؤل عما إذا كان هنالك حقا منهجا كليا‪ ،‬ثابتا‪ ،‬يتوجب إتباعه‪ ،‬وااللتزام بقواعده لفهم ودراسة هذا الواقع العلمي‬
‫المعقد‪ ،‬ليس ثمة ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ حسب"فيرابند" ـ ـ ـ ـ ـ ـ "منهج علمي‪ ،‬وال توجد مجموعة من اإلجراءات أو مجموعة من القواعد تشكل أساسا لكل نموذج بحث علمي وضمانا له‪ ،‬فعلى‬
‫الرغم من وجود أنماط للنجاح في العلوم‪ ،‬إال أنه ليس هناك منهج ثابت‪ ،‬وال يمكن أن يكون ثمة منهج كلي‪ ،‬فاالنجازات التي تمت في مجال العلوم ال يمكن أن تعزى‬
‫لوجود مبادئ عامة‪ ،‬تغطي كل المجاالت‪ ،‬فال توجد حقيقة كلية‪ ،‬وال معايير محددة للمعرفة والعقل‪ ،‬وحتى وإ ن كانت المعايير والقواعد الميتودولوجية مطلوبة من أجل‬
‫السير العقالني والمنطقي للبحث (و خاصة البحث العلمي) فانه يتوجب أال نجعل من تلك المعايير والقواعد‪ ،‬المعايير الثابتة والوحيدة‪ ،‬ألن ذلك سيكبح مسيرة العلم‪ ،‬خاصة‬
‫إذا كانت تلك القواعد والمعايير تعبر عن تصورات مذهبية‪ ،‬كما أن االلتزام الصارم بقواعد المنهج‪ ،‬يؤدي إلى خنق القدرات العقلية‪ ،‬وكبح قوة الخيال‪ ،‬والحد من القدرات‬
‫اإلبداعية‪ ،‬يقول فييرابند »فالفكرة القائل ــة بأن العلم يمكن له‪ ،‬وينبغي لــه أن ينتظم وفقا لقواع ــد ثابتة وكـليـة‪ ،‬هـي فكرة مـ ــثالـية وذات بريق خادع‪ ،‬فهي مثالية ألنـها تتضمن‬
‫تص ـ ــورا مفرطا في البساطة حول ما يــملكه اإلنسـان م ـ ـ ــن استعدادات وقدرات‪ ،‬وحول الـظ ــروف التي تشج ـعـ ــها على النمو‪ ،‬وهي بـ ــراق ــة خادعـ ـ ــة من ح ـ ـ ــيث أن محاولـ ــة‬
‫فرض مثــل هذه القواعد ال تخـ ــلو من جـ ــعل الزيـ ــادة في كفاءتنا المهنية ال يكون إال على حساب إنسانيتنا‪ ،‬فضال عن أن هذه الفكرة مـضرة بالــعلم‪ ،‬ألنها تهمل الشـ ـ ــروط‬
‫‪i‬‬
‫()‬
‫الفـيزيـ ــائية والتاريخي ـ ــة الـمعـ ـقـ ــدة التي تؤثر في عملية التحول العلمي‪ ،‬إنها تجعل مشروعنا العلمي أقـ ــل مرون ـ ــة‪ ،‬وأكثر دوغماتـ ـي ــة« ‪..‬‬

‫إن فكــرة االلــتزام بقواعــد المنهج الــتي مــيزت معظم الميتودولوجيــات في فلســفة العلم الكالســيكية والمعاصــرة تقــوم حســب "فيرابنــد" على مســلمة خاطئــة‪ ،‬وهي االعتقــاد بوجــود‬
‫منهج وحيد ينبغي االلتزام به في الممارسة العلمية‪ ،‬وأن هذا المنهج هو السـبيل الوحيـد لتحصـيل المعرفـة واكتشـاف الحقيقـة‪ .‬ويسـتند "فيرابنـد" إلى تـاريخ العلم للبرهنـة على‬
‫بطالن هــذا االعتقــاد حيث يقــول» إن ف ـ ــكرة وجــود منهج ين ـ ـ ـط ــوي على مبــادئ صــارمة وثابـت ــة تحكم مســيرة العلم‪ ،‬تواجه ــها صع ــوبات جمــة عنـ ـ ـ ــد مجابهته ـ ـ ــا بنتائـ ـ ــج البحث‬
‫التاريخي‪ ،‬إذ أنــه لي ـ ــس ثمـ ـ ــة قاعــدة واحدة م ـ ـ ــهما كانت مؤسـسة وراسـ ـخـ ــة في حـ ـقـ ــل االبستم ــولوجيا‪ ،‬لم يتم انــتهاكها ولو لمرة واحــدة‪ ،‬وهـ ــذه االنت ـ ــهاكات لق ـ ــواعـ ــد المنهـ ــج‪،‬‬
‫لـ ـ ــيس حــوادث عرضـ ــة‪ ،‬وليســت ناتجـ ــة عن نقـ ــص في مــعارفنـ ـ ــا‪ ،‬أو عن عـ ــدم وع ــي يمكن تداركــه‪ ،‬بــل هي عـ ــلى العكس ض ــروري ـ ــة للتـ ـق ــدم العـ ـ ـ ــلمي‪ ،‬إن األحــداث الهـامـ ـ ــة‬
‫والتـ ـ ــطورات العلمي ـ ــة الكبـ ــرى‪ ،‬كإبـ ــداع المذهب ال ـ ــذري الـ ـ ــقديم‪ ،‬والثـ ـ ـ ــورة الكوبرنيـ ـ ــكية‪ ،‬وظـ ــهور المـذهب الـذري الحـديث‪ ،‬والنش ـ ــوء المتـدرج للميكانيكـا الموجي ــة للض ـ ــوء‪،‬‬

‫لم تكن ل ــترى الن ــور ل ــوال أن ‪ ،‬بعض العـ ـ ــلماء والمفك ــرين‪ ،‬ق ــد ق ــرروا أن ال يلت ـ ـ ــزموا بق ـ ـ ـ ـ ــواعد محـ ـ ــددة وثابت ـ ـ ــة‪ ،‬أو ألنهـ ـ ــم اخترقوه ــا أو تخطوه ــا عن غ ــير قص ــد‪.‬‬
‫‪ii‬‬
‫«( كما أن تاريخ العلم‪ ،‬وتاريخ المنهج ذاته يكشف لنا عن عدم وجود منهج محدد لتحصيل المعرفة واكتشاف الحقيقة‪ ،‬فقد كانت المعرفة مؤسسة على التأمل والمنطق‪ ،‬ثم‬

‫أدخل "أرسطو" إجراء تجريبيـا أكـثر تطـورا‪ ،‬بيـد أن "ديكـارت"‪ ،‬و"غـاليلي" اسـتبداله بمنـاهج ذات طـابع رياضـي‪ ،‬ثم انصـهر كلـه في نزعـة تجريبيـة متطرفـة‪ ،‬غـير أن هـذه‬
‫‪iii‬‬
‫( )‬
‫فكل هذه المناهج ضرورية لتطور العلم‪.‬‬ ‫اإلعاقات واالنتهاكات لهذه المناهج‪ ،‬ال ينبغي أن تؤخذ كباعث على استبعادها‬

‫وعلى هذا األساس يعارض "فيرابند" كل الميتودولوجيات التي عرفتهـا فلسـفة العلم الـتي تفـترض وجـود معـايير وقواعـد ثابتـة كليـة‪ ،‬وال تاريخيـة‪ ،‬وال يجب أن نفهم من دعـوة‬

‫أن البحث العلمي يسير خبط عشـواء‪ ،‬ودون أيـة قواعـد أو إجـراءات عمليـة‪ ،‬أو أنـه بنفي المنهج مطلقـا‪،‬‬ ‫"فيرابند" إلى "ضد المنهج"‪ ،‬أو "الالمنهج"‪non-méthode‬‬
‫وإ نما يعني "الالمنهج"‪ :‬ال يوجد منهج علمي محدد‪ ،‬كلي وال تاريخي‪ ،‬وليست هناك مبادئ وقواعد أو شروط مسـبقة ثابتـة ونهائيـة تحـدد منهج العلم ومسـيرته‪ ،‬كمـا هـو الشـأن‬
‫عند التجريبية المنطقية والتكذيبية البوبرية‪ ،‬فدعوى فيرابند ضد المنهج تدخل في معركة ضد الميتودولوجيا المفروض فيها أن تقدم قواعد العمل أو السلوك للمشتغلين بالعلم‬

‫)‬ ‫(‪iv‬‬

‫‪i -P Feyerabend : contre la méthode Op cit. p 332‬‬

‫‪ii-P Feyerabend : contre la méthode Op cit p 20‬‬


‫‪ - iii‬بول فريابند‪ :‬العلم يف جمتمع حر‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪116‬‬
‫‪ - iv‬أالن شاملرز ‪ :‬نظريات العلم ‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪135‬‬

‫‪24‬‬
‫فالالمنهج هو إجراء فوضوي‪ ،‬في مقابل االلتزام المتزمت بالقواعد والمعايير العقالنية‪ ،‬والغرض منه تحرير العلم من سلطة المنهج ‪،‬كما أن "الالمنهج" يعني عدم فرض‬
‫منهج معين‪ ،‬أو طريقة بحث معينة‪ ،‬ثم العمل على قولبة موضوع الدراسة أو البحث داخل ذلك اإلطار المنهجي‪ ،‬ألن ذلك ال يناسب الوضع الحقيقي للعلم فقواعد‬
‫‪i‬‬
‫وإ جراءات البحث العلمي تتحـدد بظروف وأهلية البحث ذاته ومعايير الحكم عليها‪ ،‬وتعديلها أو تغييرها البد أن تكون متكيفة مع العمليات والمواضيع التي يبحث فيها( )‪،‬‬

‫نقد فيرابند ألسطورة تفوق العلم وامتيازه عن باقي النشاطات المعرفية‬

‫تعــد وجهــة نظــر"فيرابنــد" حــول العلم واحــدة من أكــثر وجهــات النظــر جــرأة واســتفزازا‪ ،‬وينــدرج تص ـّو ره للعلم في إطــار مشــروعه االبســتيمولوجي والسياســي الــرامي ‪ ،‬إلى‬
‫مناهضـة العقالنيــة العلميــة الغربيــة ‪ ،‬القائمــة على مســلمة مفادهــا أّن العلم الغــربي هــو وحــده دون غـيره القــادر على اكتشــاف الطبيعــة والســيطرة عليهــا‪ ،‬وأّن ه المقّيم أو المعيــار‬
‫الوحيد للحضارات والمعارف األخرى غير الغربية‪.‬‬

‫ينطلـق "فيرابنــد" في معــرض مناقشــته لموضـوع العلم من تســاؤلين رئيســيين‪ ،‬األول‪ :‬مــا هــو العلم ؟ وهــل تختلـف معــاييره ونتائجــه عن معــايير وحقــول النشــاطات اإلنســانية‬
‫األخــرى؟ والســؤال الثــاني‪ :‬مــا هــو الشــيء العظيم في العلم الــذي يجعــل منــه مفضــال‪ ،‬وأرقى من النشــاطات المعرفيــة األخــرى ؟ هــل بســبب عقالنيــة معــاييره أو بســبب نتائجــه‬
‫‪ii‬‬
‫( )‬
‫المهّم ة؟‬

‫إّن اإلجابــة عن الســؤال األول متع ـّد دة‪ ،‬فكــل مدرســة من مــدارس العلم تق ـّد م تّص ورا مختلفــا عن ماهيــة العلم وكيــف يــؤدي عملــه‪ ،‬ويجمــل بــول فيرابنــد إجابتــه عن الســؤال‬
‫األّو ل بقوله‪« :‬إن طبيعة العلم مازالت مغّل فة بحجب من الظالم‪ ،‬وال يزال الموضوع قيد المناقشة‪ ،‬وثمة فرصة سانحة لمعرفة ما متواضعة عن العلم سوف تنشــأ ذات يــوم»‪.‬‬
‫(‪iii‬‬

‫أّم ا بالنسبة المتياز العلم وتفّو قه عن باقي النشاطات المعرفية اإلنسانية األخرى‪ ،‬فان المدافعين عن هذا الرأي يبنون موقفهم على دعامتين أساسيتين‪:‬‬

‫تتمثل الدعامة األولى في االعتقاد بأن نتائج العلم مستقلة بذاتها وال تدين بشيء ألي فعاليات غير علمية وتتمثل الثانية في القول بامتالك العلم لمنهج علمي ثابت قائم على‬
‫مجموعة من القواعد الصارمة‪.‬‬

‫ويعّلق "فيرابند" بسخرية على ما هو شـائع في المجتمـع‪ ،‬إذ من النـادر أن نجـد شخصـا يسـأل ويشـكك في أفضـلية وتفّو قـه على بـاقي المجـاالت‪ «،‬إذ تجـد العلمـاء وفالسـفة العلم‬
‫يــدافعون عن العلم مثلمــا يتصـرف المــدافعون عن الكنيســة الرومانيــة الواحــدة‪ ،‬فالمــذهب الكنســي صـحيح‪ ،‬وكـّل مــا عـاداه وثــني وبال معــنى‪ ،‬وكــان هــذا التوّج ه ذات يــوم كنــوزا‬

‫)‬ ‫(‪iv‬‬
‫للخطابة الدينية‪ ،‬وقد وجدت لها اآلن موطنا جديدا في العلم »‪.‬‬

‫يعــارض "فيرابنــد" هــذا التوجــه‪ ،‬ويــرى أن العلم ليس كتابــا مغلقــا ال يمكن فهمــه إال بعــد ســنوات من التــدريب وإ نمــا هــو نظــام عقلي يمكن أن يختــبره وينتقــده أي شــخص معــني‬
‫‪v‬‬
‫( )‬
‫باألمر‪ ،‬أما صعوبة العلم المزعومة فذلك يرجع إلى الحملة المنّظمة التي يشّنها العديد من العلماء إلدخال الّر عب في نفوسنا‪.‬‬

‫‪ - i‬بول فريابند ‪ :‬العلم يف جمتمع حر ‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪117‬‬

‫‪ -ii‬بول فريابند ‪ :‬العلم يف جمتمع حر ‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪.91‬‬

‫‪ -iii‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪92‬‬

‫‪ - iv‬بول فريابند ‪ :‬العلم يف جمتمع حر‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪92‬‬

‫‪ -v‬بول فريابند‪{ :‬كيف ندافع عن اجملتمع ضد العلم} م س ص ‪،235‬‬

‫‪25‬‬
‫إن ما يجعل تفّو ق العلم عن باقي المجاالت المعرفية األخرى أمرا بديهيا‪ ،‬مبعثه خطأ فادح يتمّثل في أّننـا نفاضـل بين العلم‪ ،‬وبين غـيره من المجـاالت على أسـاس معـايير‬
‫العلم ذاتــه ( الموضــوعية‪ ،‬الصــدق‪ ،‬اليقين‪ ،‬المنهج العلمي) لكن تــاريخ العلم نفســه يؤّك د أّن العلم لم يتف ـّو ق بســبب نتائجــه‪ ،‬وال بســبب منهجــه‪ ،‬فنحن نعلم مــا يؤّد يــه العلم لكن‬
‫‪i‬‬
‫()‬
‫ليست لدينا أدنى فكرة عّم ا إذا كان في مقدور تقاليد أخرى ـ ـ غير علمية ـ ـ ـ ـ أن تؤّد ي أفضل منه بكثير أم ال ولذا يتعّين علينا أن نبحث عن ذلك‪.‬‬

‫فالنتــائج الــتي حّققهــا العلم في جميــع مجاالتــه ‪ ،‬ال تعطيــه األفضــلية واالمتيــاز‪ ،‬ذلــك ألنهــا تــدين بشــكل كبــير إلى معــارف غــير علميــة هي من نتــاج معــارف إنســانية قديمــة ال‬
‫تنتمي إلى مضمار العلم‪ ،‬والمثال المحّبب لفيرابند في هذا الّص دد هو "الثورة الكوبرنيكية"‪ ،‬فقد استقى "كوبرنيـك" أفكـاره من الفيثـاغوري "فيلـوالوس"حيث تبـنى أفكـاره ودافـع‬
‫عن ــها بعـ ـ ـ ــد أن خـ ـ ـ ــرق قواعــد العقـ ـ ـ ــالنية الســائدة ‪ ،‬وقواعــد الحس المش ـ ــترك‪ ،‬وكــان "في ــلوالوس" فيـ ـث ـ ــاغوريا صـوفي ــا م ـ ــشوش الــذهن‪ ،‬ومثلمــا انتفــع علم الفلــك من المــذهب‬
‫‪ii‬‬
‫الفيثاغوري ‪ ،‬نجد أن الميكانيكا والبصريات تدينان كثيرا لحرفة الّص ناع‪ ،‬ويدين الطب للقابالت والعّر افين وبائعي األدوية المتجـولين( )‪،‬ومن هنـا فـان القـول بموضـوعية العلم‬

‫وحياده عن التأثيرات السوسيولوجية والثقافية هو وهم باطل‪.‬‬

‫كما يرد "فيرابند" على المدافعين عن امتياز العلم عن شتى ضروب المعارف األخرى‪ ،‬بحّج ة امتالك العلم لمنهج يجعل منه معرفة منّظمــة يقينيــة صـادقة ال يشــوبها أّي‬
‫شّك ‪ ،‬بأّن تاريخ العلم نفسه يشهد أّن فكرة وجـود منهج علمي ثـابت ينّظم عمليـة اكتسـاب المعرفـة العلميـة الصـحيحة ال يوجـد مـا يـبّر ره‪ ،‬فهنـاك الكثـير من النظريـات العلميـة‬
‫حّققت تقّد ما في العلم ألّن ها تجاوزت وانتهكت المناهج العلمية الثابتة والجامدة في عصرها ‪.‬‬

‫فال وجود إذن لحّج ة قطعية ونهائية يمكن اعتمادها لتأييد الدور االستثنائي للعلم وامتيازه عن باقي المعارف األخرى‪ ،‬بل ليست للعلم ـ ـ ـ على حّد تعبير فيرابند ـ ـ ـ أّي ســمة‬
‫تجعله أسمى أو مختلف عن الّس حر والشعوذة أو التنجيم‪ ،‬فالعلم ليس إّال تقليدا من بين التقاليد األخرى الموجودة في المجتمع‪.‬‬

‫وإ ذا كان الّنقد ينصّب على كل التقاليـد‪ ،‬فانـه عـادة مـا يسـتثني العلم‪ ،‬يقـول فيرابنـد‪ « :‬نحن ـ ـ ـ ـ المجتمعـات الغربيـة ـ ـ ـ ـ اآلن نسـتطيع أن ننتقـد مـا نشـاء وكيفمـا نشـاء‪ ،‬باسـتثناء‬

‫على ســبيل المثــال إلى ضــرورة هــدم جميــع مؤّس ســات وصــور االعتقــاد التقليديــة‪ ،‬إّال أّن ه يســتثني العلم‪ ،‬كمــا ينتقــد الكــاتب‬ ‫العلم‪ ،‬فقــد ذهب "كروبــوتكين* ‪Kropotkin‬‬
‫نـدرك أّن الفكـر‬ ‫‪LEVI STRAUSS‬‬ ‫أهّم إيديولوجيات القـرن التاسـع عشـر‪ ،‬مـا عـدا العلم‪ ،‬وقـد جعلنـا " ليفي سـتروس"‬ ‫المسرحي "هنري ابسن** ‪I bsen‬‬
‫‪iii‬‬
‫( )‬
‫الغربي ال يعد قّم ة االنجاز البشري الوحيد‪ ،‬كما كان معتقدا من قبل إال أّن ه يستثني العلم من انتسابه لإليديولوجيات‪.‬‬

‫إن العلم حسب فيرابند ليس نظاما معرفيا مقّد سا يستلزم الكفر بكّل ما عداه أو خالفه‪ ،‬اّن ه نظام عقالني وجب أن ينمو ويزدهر وسط األنظمة المعرفية األخرى‪ ،‬وإ ذا كــان‬
‫العلم الــذي ســاد في القــرنين الســابع والثــامن عشــر قــد اعتــبر أداة للتنــوير والتح ـّر ر‪ ،‬فمن غــير الملــزم أّن يظ ـّل دائمــا أداة للتحــرر أو التنــوير‪ ،‬فــالعلم شــأنه في ذلــك شــأن أّي ـ ـ ــة‬
‫إي ــدي ــول ـ ــوجي ــة أخ ــرى‪ ،‬قـ ــد ي ــؤّد ي إلى الخـ ــراب والدمـ ــار‪ ،‬بــل إّن العــلم الي ــوم أصبـ ــح يمـ ــاث ــل في اسـ ـتـب ـ ــداده اإليديولوجيات التي جاء أصال ليحاربها ويخّلص اإلنسان منها ‪.‬‬

‫والعلم في تصور"فيرابند"هو وجهة نظر واحدة من بين وجهات نظر متعددة‪ ،‬وليس هو الدرب األوحد صوب الحقيقـة والواقـع‪ ،‬فال ينبغي لنـا أن نجعـل منـه المستشـار األوحـد‬

‫الــذي نلجــأ إليــه‪ ،‬يقــول فيرابنــد‪ « :‬فنحن نعلم أّن الّطّب العشــيري البــدائي والطّب الّش عبي‪ ،‬واألشــكال التقليديــة للطّب في الّص ين‪ ،‬والــتي ال تــزال قريبــة الّص لة برؤيــة الحّس‬

‫‪ -i‬بول فريابند العلم يف جمتمع حر‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪121‬‬

‫‪- ii‬بول فريابند ‪ :‬العلم يف جمتمع حر ‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪92‬‬


‫‪iii- P Feyerabend : Contre la méthode ,op cit p 340‬‬
‫* كروب‪Š‬وتكن ‪ 1842 (:‬ـــ‪ Kropotkine )1922‬ع‪Š‬امل جغرافي‪Š‬ا‪ ،‬وك‪Š‬اتب سياس‪Š‬ي روس‪Š‬ي‪ ،‬ارتب‪Š‬ط امسه مبذهب الفوض‪Š‬وية ‪ ،‬وض‪Š‬ع نظري‪Š‬ة يف الش‪Š‬يوعية تق‪Š‬وم على إلغ‪Š‬اء امللكي‪Š‬ة اخلاص‪Š‬ة ومتل‪Š‬ك ال‪Š‬ثروات‪ ،‬من‬
‫مؤلفاته ‪ :‬مذكرات ثوري‬
‫االجتماعي‪Š‬ة ال‪Š‬يت يعيش‪Š‬ها اجملتم‪Š‬ع األورويب ‪ ،‬من‬ ‫**هنري يوه‪Š‬ان ابس‪Š‬ن ‪ 1828(:‬ـ ـ ‪ I bsen )1906‬ك‪Š‬اتب ومس‪Š‬رحي ن‪Š‬روجيي‪ ،‬يع‪Š‬رف ب‪Š‬أيب املس‪Š‬رح احلديث ‪ ،‬متيزت مس‪Š‬رحياته بالط‪Š‬ابع النق‪Š‬دي لألوض‪Š‬اع‬
‫أشهر أعمله ‪ :‬األشباح‪ ،‬مسرحية عدو الشعب ‪ ،‬البط املتمرد‬

‫‪26‬‬
‫المش ــترك واإلنس ــان والطبيع ــة‪ ،‬لــديها في الغ ــالب وس ــائل أفضــل للّتش ــخيص والعالج من الطّب العلمي‪ ،‬كم ــا أّنن ــا نعلم أيضــا أن األش ــكال البدائي ــة للحي ــاة‪ ،‬قــد س ــاهمت في ح ـّل‬
‫‪i‬‬
‫مشكالت الوجود اإلنساني‪ ،‬والتي تعد بعيدة المنال بالّنسبة للمعالجة العقالنية»( ) وإ ذا كان هناك فرق بين العلم وهذه الثقافات البديلة‪ ،‬فهو فرق في الّد رجة فقط‪.‬‬

‫ويشيد فيرابند باألسطورة بكونها بناء مهّم ‪ ،‬يحمل هّم ا وجوديا تّم من خالله تقديم مجموعة من التصّو رات حول اإلنسـان والكـون والمعرفـة والقيم‪ ،‬ويمكن تطـوير الّتفسـيرات‬
‫األسطورية إذا ما تّم ربطها بسياقها الزماني والمكاني‪ ،‬وعدم تأويلها بطريقة كالسيكية‪ .‬وبهذا يصل "فيرابند" إلى أن الّتمييز التقليدي الذي وضـعه االبسـتيمولوجيون بين العلم‬
‫بيئتنـا ومحيطينـا الفيزيـائي ينبغي‬ ‫والالعلم وأشباه العلم غير مبّر ر‪ ،‬بل هو مصطنع ومضّر بتقّد م المعرفة‪،‬حيث يقول ‪ «:‬فـإذا أردنـا أن نفهم الطبيعـة وأن نتحّك م في‬
‫‪ii‬‬
‫( )‬
‫االس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــتناد إلى ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـّل األفك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــار وك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل المن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاهج‪ ،‬وليس إلى ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوع معّين فق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــط »‪.‬‬

‫كمــا أن هــذا التميــيز بين العلم واألنشــطة المعرفيــة األخــرى هــو من صــنع الحضــارة الغربيــة‪ ،‬فلم تكن على اإلطالق أّي ة منافســة عادلــة بين هــذا التعقيــد الكامــل لألفكــار‪ ،‬وبين‬
‫أسـاطير وأديـان وتصـّر فات المجتمعـات غـير الغربيـة‪ ،‬فقـد اختفت وتـدهورت هـذه األسـاطير‪ ،‬وهـذه الـّد يانات‪ ،‬ليس ألّن العلم كـان أفضـل‪ ،‬لكن ألّن رسـل العلم كـانوا مظفـرين وذوي‬
‫‪iii‬‬
‫( )‬
‫وال يخفى على أحـد مـا قـام بـه المستشـرقون من طمس لمعـالم الثقافـات البديلـة‪ ،‬لصـالح الحركـة االسـتعمارية‬ ‫عزيمـة‪ ،‬وألّنهم طمسـوا بنـوع أخّص حـاملي الّثقافـات البديلـة‪.‬‬

‫التي ما فتئت تّتسع مجاالتها وأدواتها ووسائلها‪ ،‬وما يعيشه العالم اليوم في إطار سياسة العولمة‪ ،‬وفرض النموذج الغـربي هـو صـورة واضـحة لـذالك‪ ،‬إن هـذا التفـّو ق الظـاهر‬
‫للعلم الغربي لم يكن بسبب ما حّققه من معارف‪ ،‬وإ نما بسبب طمسه للّثقافات األخرى وبهذا أصبح وسيلة استبداد واستغالل‪ ،‬يقول فيرابند‪ « :‬ال شّك أّن العلم الغربي قد لّو ث‬
‫معظم العــالم بمــرض معــد لكن هــل هــذا التلــوث الــذي أحدثــه العلم الغــربي هــل قــد أدخــل تحســينات على حيــاة هــؤالء الــذين يتصــلون بــه ؟ إن اإلجابــة لــدي بــالنفي‪ ،‬فالحضــارة‬

‫)‬ ‫(‪iv‬‬
‫الغربية‪ ،‬قد تم فرضها بالقوة‪ ،‬وليس عن طريق حجج تبين صدقها‪ ،‬أنها سادت ألن أسلحتها أفضل»‪.‬‬

‫‪ -i‬بول فريابند ‪ :‬العلم يف جمتمع حر‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪79‬‬


‫‪ii- P Feyerabend : Contre la méthode ,op cit p 346‬‬
‫‪ - iii‬بول فريابند ‪ :‬العلم يف جمتمع حر‪ ،‬م س‪ ،‬ص ‪117‬‬

‫‪iv- P Feyerabend : Adieu la raison op cit p339‬‬

‫‪27‬‬
‫خالصة‪:‬‬

‫لقــد أســس "فيرابنــد" لنظريــة جديــدة في المعرفــة‪ ،‬وهي "الفوضــوية االبســتمولوجية" وال تعــني "الفوضــوية"‪ :‬الفوضــى أو العشــوائية‪ ،‬وإ نمــا المعــنى الــذي أراده "فيرابنــد" لهــذا‬
‫المصطلح الجديد في فلسفة العلم‪ ،‬هو عدم التقيد بقوانين العقل ومعايير العقالنية‪ ،‬والتفتح على كل الخيارات والبدائل النظرية والمنهجية‪ ،‬فالعلم كما يراه "فيرابند" هو أكــثر ال‬
‫عقالنيـ ــة‪ ،‬وأكـ ــثر تعقـ ــدا مقارنـ ــة بصـ ــورته العقالنيـ ــة القائمـ ــة على النظـ ــام والقـ ــانون والصـ ــدق والموضـ ــوعية وقـ ــوانين المنطـ ــق الكالسـ ــيكي الجامـ ــدة‪ ،‬وبهـ ــذا كـ ــانت الفوضـ ــوية‬
‫االبســتمولوجية اتجــاه مضــاد لكــل ميتودولوجيــا معياريــة تــدعي أن هنــاك قواعــد ومعــايير تحكم مســيرة العلم‪ ،‬وتتخــذ كمعيــار للتميــيز بين الذاتيــة والموضــوعية‪ ،‬وبين العقالنيــة‬
‫والالعقالنية‪ ،‬وهي تصور جديد في فلسفة العلم‪ ،‬يسعى إلى ردم الهوة بين االبستيمولوجيا وواقع العلم‪ ،‬واحتواء العوامل المتعددة والمتشابكة التي تكون ظاهرة العلم‪.‬‬
‫كما أن فيرابند ليس ضد العلم‪ ،‬وإ نما ضد سيطرة العلم وسيادته‪ ،‬وضد مقولـة أنـه وجهـة النظـر الواحـدة والوحيـدة للنظـر إلى العـالم وتفسـيره‪ ،‬و ضـد التوظيـف اإليـديولوجي‬
‫للعلم واالستغالل غير المشروع له من طرف الحضارة الغربية التي جعلت منه مقياس التفوق‪ ،‬وذريعة إلقصاء كل البدائل وأشكال المعرفة غير الغربيـة في إطـار المشـروع‬
‫الّثقافي الغربي القائم على فكرة أن العلم غربي المنشأ والتطور‪.‬‬
‫إن دعــوة "فيرابنــد" الى "الالمنهج" ال تعــني أنــه ينفي المنهج مطلقــا‪ ،‬وإ نمــا يعــني "الالمنهج"‪ :‬عــدم وجــود منهج علمي محــدد كلي وال تــاريخي‪ ،‬وعــدم وجــود مبــادئ وقواعــد أو‬
‫شروط مسبقة ثابتة ونهائية تحدد مسيرة العلم فقواعد وإ جراءات البحث العلمي تتحدد بظروف وأهلية البحث ذاته‪.‬‬

‫‪28‬‬

You might also like