Professional Documents
Culture Documents
ضوابط الإفتاء الكياهي الحاج زلفى مصطفى 122041
ضوابط الإفتاء الكياهي الحاج زلفى مصطفى 122041
مصطلح "بحث املسائل" عند نهضة العلماء عبارة عن عملية اإلفتاء صدرت من علمائها
منذ تاريخ تأسيس هذه الجمعية املباركة ،بل قد كان قبل تأسيس الجمعية نشاطا من أنشطة
مجالس بحث املسائل الدينية على اختالف أسمائها ،فاملباحثون للمسائل هم املفتون لألمة
ي ْفت ْون جماعيا ،وسميت هذه العملية ببحث املسائل ال اإلفتاء لشدة تواضعهم وامتناعهم
ومنص ٌب
جنب ِتحمل منصب املفتي على ظهرهم .وذلك ملعرفتهم أن الفتوى لها مكانة عظيمة في ٍ
وق ٌع عن رب العاملين .ومن سمات شدة تواضعهم أنهم كانوا خطر في جنب َ
آخر ،وأن املفتي م ِ ٍ ٌ
ويسمون هذا العمل باالستنباط الجماعي، ُّ ً
اجتهادا أصوليا يجتهدون في مجالس بحث املسائل
وهو نفس االجتهاد املطلق كما كان قد فعله سلفنا الصالح في غابر الزمان ،غير أن االستنباط
ً
اجتهادا فعله جماعة من علماء النهضة1. الجماعي كان
َ
وإذا كان منصب التوقيع عن امللوك كما قال ابن قيم الجوزية في مقدمة إعالمه ال ينكر
اتب السنيات ،فكيف بمنصب التوقيع عن رب ْ
فضله ،وال يجهل قدره ،ويعتبر من أعلى املر ِ
املنص ِب أن ي ِع َّد ع َّدته ،وأن يتأهب له أهبته ،وأن َ
األرض والسموات؟ فحقيق بمن أقيم في هذا ِ
حرج من قول الحق والصدع به. أقيم فيه ،وال يكون في صدره ٌ يعلم قدر املقام الذي َ
وبهذا املنطلق ،فقد وضع علماء النهضة القرارات املعتمدة عليها في مؤتمراتهم عن
ضوابط بحث املسائل ومنهجه جيال بعد جيل.
َ
وجوازه املشاورة الوطنية بين علماء نهضة العلماء في المفنج سنة اثنين وتسعين منهج من مناهج اإلفتاء قد قرر صح َته
-1اإلستنباط الجماعي ٌ
وتسعمائة وألف ( )1٩٩٢ميالدية
1
غير أنهم يكتبونه باللغة النهضة َ عديد من علماء ٌ وقد سبقني في هذا املشروع
ِ
باختصار
ٍ اإلندونيسية ،وإني مع الكفاءة املحدودة شرعت كتابة تلك الضوابط باللغة العربية
إن شاء هللا تعالى بسرد أرجوزة قبل الشروع لكي يسهل حفظها.
َْ ْ َ َ َ َ ْ
فحفظ َه ـا َس ْه ـ ٌل ِلع ـ ِالـ ٍم َسـ ِخ ـ ـيْ ِ ض َوابط اإلف َتـ ـ ـ ِاء ِإحفظ يـ ـا أ ِخ ـي
ْ
ْ َّ ْ َ
َب ْي َن الفـ ـر ْو ِع َواألص ْو ِل الث ـ ِاب َت ـ ـ ـة التـ ْفـ ـ ـ ِرْي ِق ف ـي املقـ ـ ـ ِد َم ـ ـ ـة ضـ ـرو َرة َّ َ
ْ َ َ ْ َ
الد ْين ي ـ ـ ْس ـ ٌر واآلراء تـ ْس ـ ِه ـ ـ ـ ـلـ ـ ْك ِ احـذ ْر ِم َن اإلن ـك ِار َم ْن يخـ ِالفـ ـ ْك و
َ َ ْ َ َ ْ
اج فـ ْتـ َي ـ ـ ـ ـاه ـ ـ ـ ْم َوال ت ـغ ـ ـ ـ ِي ـ ـ َر ْه م ْنه ـ ـ ـ َ
ِ َواتـ َب ـ ـ ْع ِمـ َن امل ـ ـذ ِاه ـ ـ ِب امل ْع ـ ـ َت ـ ـ ـ ـ َب ـ ـ َرة
احك َم ْن آل َم ـ ـا ت ْفتـيـ ـه َثب ْت َو ْ َم ـ ـ َ ن َ ْ َ ْ َْ
رـ ـ ظ ان و ع ار ـ ـف عار ـ ـ َمق ـ ـاص ـ ـ َد َّ
الش
ِ ِ ِ ْ ِِ ِ ِ
َ ْ َ
قب ـ َل إف َتـ ـ ٍاء ت ـ َر ْه واإل ْج ـتـ ـ َم ـ ـاعـ ـ ْي ْ
ِ ِ ِ ياس ْي َر ِاع ل ْه الفك ِري الس ِ
َ َ َ
والو ِاقع ِ
مـ ـ ـداره بـ ـالع ـ ـ ـ ـ ْر ِف والـع ـ ـ ـ ـ ـادا ِت َال تـ ـ ْ
ات ص ـ ـ ـ ـ ِدروه خـ ـ ـ ـارج البـ ـيـ ـ ـئ ـ ـ ـ ـ ـ ِ
َ َ َ َ
أقـ ـ ـ ـ ـ َداره ال ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َّد ِمـ ْن ت ـ ْف ـ ـ ـ ِرق ـ ـ ٍة ت َد ُّيـ ـ ـ ـ ـن الـ ُّنـ ـفـ ـ ـ ـ ْو ِس ذ ْو ت ـ ـ َفـ ـ ـ ـ ـ ـاو ٍت
َ
كذاك َن ْه ـ ـ ـ ٌج ق ْد َر َو ْو َ ِل ْل َخ ـ َّ
اصـ ـ ِة العـ ـام ِة ْأو اعـ ـ ـر ْف م َن املسـ ـائل َ َ ْ
ِ و ِ ِ
2
وأما الفروع ،فهي عبارة عن األحكام الفرعية املعتبرة املتغيرة ،ويؤثر فيها الزمان واملكان
والحال ،ويتسم باملرونة واالنفتاح والتجدد والتطور ،ويختلف أهل العلم في كثير من األحيان
إزاء تحديد املعاني املرادة للشارع منها الختالف الظروف الفكرية املتقلبة ،واألوضاع السياسية
ُّ
املتغيرة ،واألحوال اإلجتماعية واإلقتصادية والثقافية املتجددة ،كانت وال تزال تؤثر في تشك ِل
تلك األحكام ،مما يجعلها محال الجتهادات متجددة ونظرات متعقبة.
تنتظم هذه األحكام الفرعية كافة املسائل املوسومة باملسائل االعتقادية وهي املسائل
التي اختلف فيها أهل العلم بالكالم قديما ،كاختالفهم في رؤية هللا ،وتحيزه في السماء تعالى هللا
عن ذلك ،ومعاني العديد من األسماء والصفات ،وكون القرآن كالم هللا أو مخلوقا ،وزيادة
اإليمان ونقصانه ،وخلود مرتكب الكبائر في النار وعدمه ،وغيرها من املسائل املدروسة في علم
الكالم.
وتتكون األحكام الفرعية من املسائل الفقهية املختلف فيها عند املذاهب الفقهية،
وتتكون كذلك من املسائل التربوية الصوفية التي اختلف العارفون باهلل قديما كاختالفهم في
الرقص في الذكر الذي سماه القوم بالوجد ،واختالفهم في شطحات الحالج وابن عربي والشيخ
ستي جنار من أهل الفقه في زمانه ،وكاختالفهم فيما فعله ابن الكرنبي شيخ الجنيد البغدادي
َ ْ َّ َ
نفسه ِم ْن حب الجاه وهو يقول ( :نزلت في َم ِحل ٍة فع ِرفت فيها بالصالح ،فش َّت قلبي
عال َج َ حينما
َ َّ ً َ ْ
ولبستها ،ثم لبثت م َرق َع ِتي فوقها وخرجت، فاخرة ْ وس َرقت ثيابا ونفر مني فدخلت الحمام
لحمام ص ا َّ أمش ي قليال قليال ،فلحقوني وأخذوا مني الثياب وصنعوني وسموني ِل َّ فجعلت ِ
كن ْت نفس ْي ) .قال الغزالي ... :ثم أهل النظر إلى النفس وأرباب األحوال ربما عالجوا أنفسهم فس َ
َ
بما ال ي ِفتي به الفقيه مهما رأوا صالح قلوبهم بذلك ثم يتداركون ما فرط منهم في صورة التقصير
كما هذا في الحمام1.
والجدير بالذكر أن العلماء املباحثين عليهم تفريق األصول والفروع عند البحث واإلفتاء
تشد ٍد في فتاواهم إزاء القضايا املوسومة باألصول والثوابت املتفق عليها حيث يتشددون أيما ُّ
بين أهل القبلة .وأما اإلفتاء في القضايا الفروعية املختلف فيها ،فإن عليهم اتخاذ التيسير مسلكا
ومنهاجا بحيث يتخير للمستفتي من اآلراء اإلجتهادية ،تلك اآلراء األصلح بحاله واألسهل له في
التطبيق واأليسر عليه في اإلمتثال ملنهجه ﷺ حيث ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه
البخاري في صحيحه عن أم املؤمنين عائشة رض ي هللا عنها قالت ( :ما خير رسول هللا ﷺ بين
. 1إحسان بن محمد دحالن الجمفس ي ،سراج الطالبين شرح منهاج العابدين ،ج 1ص .3٢
3
أمرين قط إال أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما ،فإن كان إثما كان أبعد الناس منه ،وما انتقم رسول
هللا ﷺ لنفسه في ش يء قط إال أن تنتهك حرمة هللا ،فينتقم بها هلل ) .
كما ورد قوله ﷺ في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رض ي
هللا عنه قال :قال رسول هللا ﷺ ( :يسروا وال تعسروا ،وبشروا وال تنفروا ) ،وفي الحديث الذي
فبال في طائفأخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رض ي هللا عنه قال :قام أعرابي َ
ماء ،أو ذنوبا
جل ٍ املسجد ،فتناوله الناس ،فقال لهم رسول هللا ﷺ :دعوه ،فأهريقوا على بوله س َ
ِ
من ماء ،فإنما بعثتم ميسرين وال معسرين ) .قال القاض ي عياض عن حديث عائشة املتقدم :
فيه األخذ باأليسر واألرفق وترك التكلف وطلب املطاق إال فيما ال يحل األخذ به كيف كان.
وما ينبغي تحريره وتقريره في هذا املقام أن التفريق بين التيسير والتساهل وبين التيسير
وتتبع الرخص أمر ضروري .فالتيسير يكون عند وجود خالف معتبر بين أهل العلم في قضية من
أي الذي يراه يسيرا وسهال ،كأن يختلف القضايا .فيتخير املفتي والفقيه من ذلك اإلختالف الر َ
أهل العلم في مسألة القنوت ،ومسألة اإلفطار في السفر ملن كان قادرا على الصوم بدون مشقة،
ومسألة مس الحائض والجنب املصحف ،ومسألة نصاب الذهب ،وأداء زكاة الفطر بالقيمة
وغيرها من املسائل اإلجتهادية .فإذا اختار املفتي والفقيه للمسائل رأيا من اآلراء الواردة لكونه
عد تساهال أو تتبعا للرخص كما يتوهم به رأيا يسيرا وسهال ،فإنه ال إنكار عليه في ذلك ،وال ي ُّ
بعض املتعلمين ،ألن تتبع الرخص املحظور ينحصر في تتبع املفتي زالت العلماء ،وهفواتهم وهي
سوغ فيها الخالف ،أما اآلراء املأثورة عن أهل العلم اآلراء التي أثرت عن العلماء في املسائل التي ال ي َّ
سوغ فيها الخالف فإنها ال تندرج ضمن دائرة تتبع الرخص املحظور. في املسائل التي ي َّ
ونقل الكردي في الفوائد املدنية عن الشيخ خليل القروش ي الداغستاني :الراجح املعتمد
ً ً ً
وقضاء ،وكذا من عدا هم من املجتهدين املوثوقين وإفتاء جواز تقليد كل من األئمة األربعة عمال
أيضا ،ما لم يلزم على ذلك تلفيق بهم في العلم لنفسه ،إال ملصلحة دينية ففي اإلفتاء والقضاء ً
محال ،ولم يتتبع الرخص كما صرحوه.
ً
فمثال قد قرر علماء النهضة في إحدى مؤتمراتهم جواز دفع أجرة الحصادين من الحبوب
باعا لجماعة من التابعين ،وهذا اإلفتاء ليس إال ملراعاة ما انتشر في بالدنا وإن جهل مبلغه ات ً
دفعا لحرج األمةإندونيسيا من تلك التقاليد في معامالتهم ،فانتهجوا منهج التيسير في فتواهم ً
صا من أعمال التنفير حتى لو اعتبر األمر تقليدا للتابعين. وتخل ً
4
-٢الضابط الثاني :البتعاد عن النكار في املسائل الجتهادية والستفادة القصوى من
املذاهب السالمية املعتبرة.
َ لئن ت َ
ْ
بدى لنا في الضابط األول أن للمفتي والفقيه ضرورة التفريق عند اإلفتاء بين
األصول والفروع ،وبين الثوابت واملتغيرات ،وإن عليه أن يتخذ من التيسير منهاجا يسير عليه
اتباعا لنبينا محمد عليه الصالة والسالم ،فالضابط الثاني املعتمد عليه هو اإلبتعاد عن اإلنكار
على املخالفين له في املسائل اإلجتهادية عند اإلفتاء استفادة من املذاهب اإلسالمية املعتبرة
السابقة.
واملراد باملسائل اإلجتهادية في هذا السياق هي املسائل التي اختلف فيها أهل العلم قديما وحديثا،
اختالفا مشروعا ،وتتكون من :
ٌ ٌ
نصوص ظنية في ثبوتها وداللتها معا ،وينطبق هذا على أول :املسائل التي وردت في شأنها
العديد من األحكام العقدية والفقهية والتربوية الثابتة عن طريق أخبار اآلحاد.
ٌ ٌ
ثانيا :املسائل التي وردت في شأنها نصوص ظنية في الثبوت قطعية في الداللة ،وينطبق
هذا على األحكام الثابتة عن طريق اآلحاد إذا كانت املعاني املرادة منها قطعية بحيث ال يحتمل
النصوص إال معنى واحدا.
ثالثا :املسائل التي وردت في شأنها نصوص قطعية في الثبوت ،وقطعية في الداللة،
وينطبق هذا على األحكام الثابتة عن طريق القرآن الكريم والسنن املتواترة إذا كانت املعاني
املرادة من تلك النصوص ظنية تحتمل أكثر من معنى بسبب اشتراك أو عموم اللفظ أو سواهما.
والنوعان ( النصوص املقطوع بداللتها ) كما قال الشاطبي في غاية الندور وإال فهو لم
ً
يرد أصال في آحاد األدلة ،ألن النص إن كان من آحاد األخبار ( فعدم إفادته القطع ) أمر قد
ً
متواترا فإفادته القطع موقوفة على مقدمات صرح بجلذان يراه الصادر والوارد ،وإن كان النص
جميعها أو غالبها ظني ،فاملفيد للقطع إذن تضافر األدلة على معنى واحد ،قال الشاطبي :فلو
َ َّ َ ُ ََ
ٰ
استدل مستدل على وجوب الصالة بقوله تعالى ﴿ :وأقِّيموا ٱلصلوة ﴾ أو ما أشبه ذلك لكان في
1
5
ْ َّ
لكن حف بذلك من األدلة الخارجية واألحكام املترتبة ما صار اإلستدالل بمجرده نظر من أوجه،
به فرض الصالة ضروريا في الدين ال يشك فيه ٌّ
شاك في أصل الدين اهـ1.
رابعا :املسائل التي لم ترد في شأنها نصوص مطلقة ،وإنما سميت هذه املسائل األربعة باملسائل
ظن في الثبوت أو الداللة أو فيهما معا، ْ
اإلجتهادية ،ألن النصوص التي وردت في شأنها لم تخل ِمن ٍ
مما يستوجب اإلجتهاد الظني من النص ،وبتعبير آخر ،إذا كان الظن في الثبوت كان اإلجتهاد
مشروعا في صحة ثبوت النص ،وأما إذا كان الظن في الداللة ،فإنه ي َ
شرع اإلجتهاد في الداللة،
وإذا كان ُّ
الظن في الثبوت والداللة ،فإنه يشرع اإلجتهاد في كليهما.
دائرة
خرجها من ِ والذي يؤسفنا أن بعض الناس يظنون أن وجود النص في املسألة ي ِ
ٌ َ َّ
النصوص كلها قطعية ،وليس كذلك ،بل أن النصوص القطع ،ويظنون أن
ِ جتهاد إلى دائرة
اإل ِ
ٌ
من القرآن والسنن معظمها ظنية ،ولهذا قال العلماء ( :معظم الشريعة اجتهادية ،وذلك ألن
النصوص معظمها ظنية في شكلها األربعة املتقدمة ،وال يكون ذلك إال توسعة للمكلفين ).
َ
قال الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول ( :فإن قيل ِ :ل َم ل ْم يجعل هللا في الشريعة أدلة قاطعة،
بل جعل معظمها ظنية؟ وذلك توسعة للمكلفين ) .٢وتوسعة املكلفين هي رحمته تعالى ألمته
حيث جعل لهم اختيارات ما هي أرفق وأصلح لهم .ورحم هللا عمر بن عبد العزيز حينما قال :ما
يسرني لو أن أمة محمد ما اختلفت ( أي في املسائل اإلجتهادية ).
فبناء على هذا ،فإنه ليس من الوجاهة في النظر ،وال من السداد في الرأي أن يعتقد
َ ً
أخبار اآلحاد في املسألة يؤدي إلى رفع الخالف نص ،وخاصة
املفتي والفقيه بأن مجرد وجود ٍ
فيها ،ذلك ألن أئمة املذاهب األربعة كما هو معلوم يختلفون اختالفا ظاهرا في تصحيح
األحاديث وتضعيفها ،كما أن لكل إمام منهم شروطه الخاصة لقبول األحاديث وردها ،مما يعني
أن صحة حديث ما عند إمام من األئمة ال يعني بالضرورة صحة ذلك الحديث عند غيره من
األئمة ،كما أن احتجاج إمام بحديث من األحاديث ال يعني بالضرورة وجوب احتجاج غيره من
األئمة به.
وإلى هذا اإلتجاه توجهت نهضة العلماء منذ تأسيسها ،فهي من قديم الزمان إلى عصرنا
هذا قد توجهت حيث توجهت املذاهب املعتبرة من األئمة األربعة دون تمييز بعض على بعض،
6
فهم أئمة الهدى وكانوا وما زالوا على حق وصواب ،وقد كانت في املشاورة الوطنية سنة 1٩٩7م
باعا ملالك وأبي حنيفة بتفاصيل قد قررت جواز نبش املقابر ونقل موتاها إلى مكان آخر ات ً
قوليهما.
بل ربما كانوا لجأوا إلى مذاهب الصحابة والتابعين حين رأوه ذلك ،ففي املؤتمر الواحد
والثالثين سنة ٢٠٠4م ،أصدرت الفتاوى املهمة عن تعزير بائع املخدرات واستندت مباشرة إلى
قوله تعالى واألحاديث الصحاح واآلثار الثابتة عن كبار الصحابة والتابعين ،فادعاء أن نهضة
ْ
صوابا كان أو خطأ ،ويركبون في مسألة التمذهب َمت َن عمياء ً ً
تقليدا أعمى، العلماء يقلدون
ادعاء ال أساس له من الحق ،فهذا اإلدعاء ال محالة كذب وافتراء الٌ فيخبطون خبط عشواء،
يخرج إال من قلب حسود.
وتأسيسا على هذا ،فإن على املفتي والفقيه اإلبتعاد عن اإلنكار على املخالفين له من أهل
الفتيا في هذه املسائل ،كما أن عليه أن يبتعد عن حمل مستفتيه في املسائل اإلجتهادية على رأي
العلم .وبتعبير آخر
عمل إذا كان العمل مما يقره غيره من أهل ِ من اآلراء ،بل عليه أن ي ِق َّره من ٍ
ال يجوز للعالم واملفتي أن يغير مذهبه في هذه املسائل إلى املذهب الذي يرجحه املفتي ،أو يسير
عليه ،وإنما يجب عليه إقرار مستفتيه على ذلك الرأي الذي يختاره من اآلراء واإلجتهادات
َ
املعتبرة ،وذلك تطبيقا للقاعدة الفقهية األصولية التي تق َّرر :ال ينكر املختلف فيه ولكن ينكر
املؤتلف فيه.
وقد عبر اإلمام يحيى بن سعيد رحمه هللا عن املنهج الصافي الذي عليه سلف هذه األمة
رحمهم هللا فقال ما نصه ( :ما برح أولو الفتوى يفتون ،فيحل هذا ،ويحرم هذا ،فال يرى املحرم
أن املحلل هلك لتحليله ،وال يرى املحلل أن املحرم هلك لتحريمه )1.
وذهب اإلمام سفيان الثوري رحمه هللا بتحرير هذا املبدأ بصورة جلية فقال ( :إذا رأيت
غيره ،فال َت ْن َهه )٢.
الرجل يعمل الذي قد اختلف فيه ،وأنت ترى َ
. 1جامع بيان العلم وفضله ،ابن عبد البر ،ج ٢ص .٨٠
. ٢الفقيه واملتفقه،الخطيب البغدادي ،ج ٢ص .٦٩
7
الخليفة العباس ي أبي ضعر َ ض ْبن أنس عند ما ر َف َ مالك َ إمام دار الهجرة َ ورحم هللا َ
ِ ٍ
ْ َ
كتاب بعد واحد في اآلراء اإلجتهادية التي أوردها في أصح ٍ أي ٍ جعفر املنصو ِر حمل الناس على ر ٍ ٍ
دار بين هذا اإلمام الرباني العظيم نص ما َ كتاب هللا تعالى ،إنه كتابه الفريد املوطأ ،وهذا ُّ
والخليفة العباس ي أبي جعفر املنصور :روى ابن عبد البر من طريق الحارث بن أبي أسامة ،عن
مالك بن أنس يقول :ملا َح َّج أبو جعفر املنصور، محمد بن سعد عن الواقدي ،قال :سمعت َ
آمر بكتابك هذا الذي دعاني ،فدخلت عليه ،فحادثته ،وسألني ،فأجبته ،فقال :إني عزمت ْأن َ
َ ً َ َ ً وضع َ ْ
مصر من أمصار املسلمين منها ن ْسخة، ٍ كل إلى أبعث ثم ا، خ س ن خ فتنس املوطأ، يعني ت قد ْ
وآم َرهم أن يعملوا بما فيها ،وال َيت َع ُّدوها إلى غيرهاَ ،وي ْدعو ما سوى ذلك من هذا العلم املحدث،
َ ْ
َ
املؤمنين وع ْل َمه ْم .قال ( أي اإلمام مالك ) :فقلت :يا َ
أمير ِ ِ املدينة أهل اية
َ
أصل العلم رو فإني رأيت َ
ِ
أحاديث ،ورووا روايات ،وأخذ ُّ َ ْ !! ال ْ
كل سبقت إليهم أقاويل ،وسمعوا تفعل هذا ،فإن الناس قد
ودانوا به من اختالف أصحاب رسول هللا ﷺ وغيرهمَّ ، َ
وأن ر َّدهم ِ قوم بما سبق إليهم ،وعملوا به، ٍ
ألنفسهم .فقال ( أي بلد َ َ ٌ
ِ كل ٍ فدع الناس وما هم عليهم ،وما اختار أهل ِ على ما اعتقدوه شديدِ ،
طاو ْع َتني على ذلك ألمرت به1. أبو جعفر املنصور ) :لعمري لو َ
وبي َن اإلمام الزركش ي السبب الوجيه الرصين ور َاء النهي عن اإلنكار على املخالف في
املنكر ،إنما يكون فيما اجتمع عليه ،فأما ِ املسائل اإلجتهادية ،فقال ما نصه ( :اإلنكار من
صيب أو املصيب واحد وال نعلمه ،ولم يزل الخالف مجتهد م ٌ ٍ كل املختلف فيه ،فال إنكار فيه ،ألن َّ
َ
غيره مجتهدا فيه ،وإنما ينكرو َن ما خالف نصا أي نكر أحد على ِ
ٌ
السلف في الفروع ،وال ي ِ ِ بين
قطعيا أو إجماعا قطعيا ،أو قياسا جليا ).٢
عالم ما على املخالفين مفت أو ٌ وتأسيسا على هذا ،فإن من غير املقبول شرعا أن يتحامل ٍ
ومصر .إذ ال يجوز ألحد أن يمنع عصر كل ُّ َ
ٍ ٍ ونظر في ِ ٍ اجتهاد
ٍ وستظل محل مسائل كانت له في
ً اإلجتهاد املتجدد في تلك املسائل ما دام الشرع الكريم قد َ
أذن باإلجتهاد فيها ثبوتا وداللة .وبتعبير
تكفلت ببيان أحكام الشرع في َ ْ َ َ َ
تلك املسائل آخر ،إن كون النصوص الشرعية الواردة التي
واضح على إذن الشرع ٌ نصوصا ظنية ثبوتا وداللة ،أو ثبوتا ال داللة ،أو داللة ال ثبوتا ٌ
دليل
واحد ،وهو أجر اإلجتهاد. أجر ٌ باإلجتهاد فيها ،فمن أراد مراد الشرع منها كان له ٌ
8
ويصدق هذا األمر في العصر الحاضر على اختالف العلماء في حكم عدد من املسائل
املعاصرة ،منها اختالفهم في تولي املرأة القضاء والواليات العامة ،واختالفهم في اعتماد الحساب
الفلكي في إثبات الصيام والفطر بديال عن الرؤية ،واختالفهم في جواز الرمي ليال في الحج،
واختالفهم في اإلحرام بعمرة وحج من مدينة جدة ملن لم يعتمر من أحد من املواقيت املكانية
املعروفة ،واختالفهم في حكم طواف الوداع بين كونه واجبا أو مندوبا ،واختالفهم في جواز
مغادرة منى بعد الغروب في ثاني أيام التشريق ،واختالفهم في جواز انتفاع أنزيم الخنزير في مادة
الجدري أو اللقاح حيثما استحالت ،واختالفهم في جواز ذبح دماء الحج في الحل ،وغيرها من
ٌ
معتبر بين أهل العلم قديما وحديثا. املسائل التي وقع وال يزال يقع فيها خالف
والذي يؤسفنا أن بعض العلماء واملفتين هداهم هللا ي ِص ُّرو َن إصرارا عجيبا على نفي
بعض آخر على اإلنكار على املخالفين لهم فيها.الخالف كل الخالف فيها كما ي ِص ُّر ٌ
من املذاهب اإلسالمية واللطيف بأمر اإلفتاء يعلم حقا أن اإلستفادة بأقوال السلف َ
املعتبرة ِم ْن أدوات اإلفتاء التي ذكرها األقدمون من لدن اإلمام الهاشمي الشافعي رحمه هللا
الذي عبر عنها بأقاويل السلف ،فإن اإلستفادة منهم تقتض ي اإلبتعاد عن تخطئة اجتهادات أئمة
املذاهب األخرى ،كما تقتض ي منهم عن مهاجمة أئمة املذاهب الفقهية والعقدية والتربوية
املخالفة له ،بل ينبغي عليه أن يقبل بما انتهى إليه عامة أهل العلم باألصول من أن الحق يتعدد
بتعدد املجتهدين في املسائل اإلجتهادية ،كما ينبغي عليه اإليمان بأنه غير محظور شرعا وعقال
عاقل محق ٌق في أن تلك املذاهب
يشك ٌ في اتباع أي مذهب من املذاهب اإلسالمية املعتبرة ،إذ ال ُّ
ٍ
املعتبرة كلها على هدى من هللا تعالى.
9
تأسيسا لهذا ،ال يجوز للعالم واملفتي أن ي َب ِد َع من يرى مشروعية القنوت في الفجر ،أو
املصافحة بعد الصلوات ،أو رفع اليدين في الدعاء ،وأن ي َف ِس َق َم ْن يرى أن خروج املرأة من بيتها
الغناء غير الفاحش ٌ
جائز، َ وحدها آمنة من الفتنة جائز ،وأن شرب الدخان ليس بحرام ،وأن
ِ
جائز مطلقا .وأنه ليس للمفتي أن القضاء ٌَ وأن إسبال اإلزار بال فاحش ٌ
جائز ،وأن تولية املرأة
وجه املرأة ليس بعورة ،وأن إسالمها ال يمنعها من االستمرار في يهاجم َم ْن أفتى من العلماء بأن َ
العزم على دعوته إلى اإلسالم ،كما أجاز ذلك بعض َ ْ
وعقدت زواجها إذا كان ز ْوجها كتابيا،
الصحابة رضوان هللا تعالى عليهم.
إذا كانت لألحكام أصول وفروع ،فإن لألحكام أيضا مقاصد ووسائل.
وإن معرفة املقاصد من أهم املعارف التي يجب على الفقيه واملفتي لصناعة الفتوى
ُّ
إتقانها ،كما أن عليه أن َي ْرِبط األحكام بمقاصدها تمكينا للمستفتي من حسن التمث ِل واالمتثال
بهذه األحكام ،والنزول عندها ،ألن ذلك يكسبه ويجعله طمأنينة في القلب واستقرارا في الفؤاد،
وراحة في البال.
إن املتدبر في نصوص الكتاب والسنة يجد توسعا من الشارع الحكيم في ربط األحكام
املقص ِد منه ،كما أن الواجبات
ِ بمقاصدها وغاياتها ،فقلما يورد الشرع تحريما دون ِ
بيان
َ ُّ
الشرعية من صالة وزكاة وصوم وغيرها رِبط كلها بمقاصدها وغاياتها.
واإلعتصام باملقاصد ال يتوقف عند بيان الحكم واملعاني الثاوية بين طيات النصوص،
ولكنه يمتد ليشمل تحكيم املقاصد في االجتهادات املأثورة عن أئمة الهدى من الصحابة
والتابعين وتابعيهم ،كما يمتد لينتظم عرض جميع االجتهادات املنسوجة حول النصوص الظنية
على املقاصد ،فما انسجم من تلك االجتهادات مع مقاصد الشرع يجب االعتماد به ،وما عارضها
أو خالفها ،وجب صرف النظر عنه اعتبارا بأن مقاصد الشرع حاكمة ومعيارا وميزانا على
االجتهادات .وهذا السبكي يذكر أن استيعاب املقاصد شرط من شروط كمال رتبة االجتهاد،
فقال في اإلبهاج :أن يكون له منة املمارسة والتبع ملقاصد الشريعة ما يكسبه قوة يفهم منها مراد
الشرع من ذلك1.
10
املقاصد العامة والخاصة في الشريعة.
تحقيقا لهذا البعد في املقاصد ،فإنه يجب على املفتي معرفة مقاصد الشريعة العامة
املتمثلة في الحفاظ على الضروريات والحاجيات والتحسينيات ،كما يجب عليه معرفة مقاصد
الشرع الخاصة بأبواب الفقه ،بدأ بمقاصد الشرع في العبادات من القيام بواجب العبودية
من إشباع الرغبة الجنسية ( ويتفرع عنه العفة وتحقيقها ،ومقاصد الشرع في املناكحات ْ :
والحياء ) وتحقيق التناسل الشرعي وتحقيق السكينة للزوجين ،ومقاصد الشرع في املعامالت
:من إثبات التملك والتكسب والرواج في املال ،ومقاصد الشرع في الجنايات ْ :
من تأديب الجاني
وإرضاء املجني عليه وزجر املقتدي بالجناية ،ومقاصد الشرع في السياسات :وهي تحقيق
مصلحة املكلفين من حفظ كرامة اإلنسان ،والعدل ،وحرية االختيار ،والسماحة ،والتيسير،
والتكافل االجتماعي ،بل إنه يجب عليه أن يستفرغ طاقته من أجل الوقوف على مقاصد الشرع
في أبواب العقيدة والتربية ،وذلك اعتبارا بأن للشرع مقاصد عامة وخاصة في جميع أحكامه
سواء تلك األحكام عقدية أم فقهية أم تربوية ،وينبغي للمفتي أن يتشبع من هذه املقاصد
ليعرض عليها اإلجتهادات القديمة والجديدة ،وليفرغ إليها عند الهم بترجيح رأي اجتهادي على
آخر .فيلزم على علماء النهضة أن يعتمدوا على هذه املقاصد قبل إصدار الفتوى ،بل كانوا قد
قعدوا قرارات قواعد التقنين على هذا البعد املقصدي ،ففي املؤتمر الثاني والثالثين الذي عقد
ً
استنادا كليا على بمكاسر سنة ٢٠1٠م أصدروا القرار حول مسائل الزكاة ،كله يعتمد ويستند
مقاصد الشريعة.
11
قتيال ،ورحم هللا الشاطبي الذي نبهنا على أهمية النظر إلى املآالت حيث قال ما نصه املوافقات1
وتأسيسا على هذا ،فإنه يجب على املفتي والفقيه أن يتعرف على مآالت األفعالُّ ،
وتعرفه
على املآالت يتوقف توقفا أساسا على تمكنه من معرفة الناس من جهة ،ومن معرفة الواقع
الفكري والسياس ي واالجتماعي والثقافي الذي يعيش فيه الناس من جهة أخرى ،وال تمكين له
من هاتين املعرفتين إذا لم يستوعب بأهم مبادئ العلوم اإلنسانية املعاصرة التي تعتبر أدوات
كاشفة عن املآالت واآلثار الناجمة عن األفعال .فعلماء النهضة يستشعرون في هذا استشعا ًرا
يستجلب لهم بإصدار القرار بوجوب النظر وااللتفات إلى املآالت الفكرية والسياسية
أيضا قراراتان حول الحفاظ واالجتماعية واالتقصادية والثقافية قبل إصدار الفتوى 3.ولهم ً
على البيئة تدالن على شدة اعتنائهم وقوة التفاتهم إلى مآالت األفعال4.
12
-4الضابط الرابع :مراعاة الو اقع من الفكر السياس ي والجتماعي والقتصادي
إن الواقع يمثل املحل الذي ينزل فيه الحكم الشرعي ،وهو دائب التغير والتبدل والتحول
والتأثر،لذلك ،فإن مراعاة الواقع والتعرف عليه قبل اإلفتاء من األمر الضروري الالزم أن
يلتفت املفتي والفقيه إلى الواقع الذي يعيش فيه املستفتي.
واقعها الفكري والسياس ي واإلجتماعي واإلقتصادي ،وأن وذلك ألن للشعوب واألمم َ
حياتهم تتأثر بما يستجد في ساحتهم من تطورات وتغيرات التي البد للمتصدين على اإلفتاء
مراعاة تلك التغيرات والتطورات للتعامل الرشيد مع النوازل واملستجدات ،بعيدا عن الجمود
في املنقوالت والفتاوى القديمة ،بل يجب عليهم إذا أرادوا أن يفتوا في املسائل السياسية القائمة
أن ينطلقوا في فتاواهم من الفهم الرشيد للواقع السياس ي مستندين في ذلك إلى األصول
النظم السياسية الشريعة العامة ،و املقاصد الشريعة الكبرى ،ومآالت األفعال املعتبرة ،إذ ُّ
املعاصرة من ديمقراطية وليبرالية واشتراكية والدولة الوطنية تخالف عن النظام السياس ي
السابق خالفا بينا السيما بعد أن كان قرار األمم املتحدة ميثاقا غليظا لجميع أعضائها.
َ
وكذلك في الفتاوى اإلقتصادية املعاصرة ،فإن على املفتي املعاصر أن يتعرف تعرفا
عميقا على الواقع االقتصادي من أجل بيان حكم الشرع في مستجدات املال واألعمال ،وفي ذلك
تمكين لشرع هللا من الوقوع الفعلي في دنيا الناس.
ومن الجدير بالذكر ،أن مراعاة الواقع ال تتوقف على استحضار الظواهر التي تؤثر في
الواقع من سياسية وفكر واجتماع واقتصاد ،وإنما تنتظم ضرورة التفريق بين الواقع الفردي
والواقع املجتمعي ،إذ لكل واحد من هذين الواقعين خصائصه وقضاياه ،مما يوجب على املفتي
التنبه له ،وإصدار الحكم الذي يناسب كل واحد منهما تقويما وترشيدا له .فال غرو ملا أعادت
توفيقا بين الواقع السابق والواقع الحاضر اللذان يختلفان تمام ً قرارات النهضة النظر
اإلختالف حسب الظروف واألزمنة ،فإعادتهم النظر أمر ال بأس به ( بل الزم ) في الوقائع التي ال
تزال متحركة ومتغيرة التحاد الكيان بين التغير والواقع اللذان هما جزءان ال ينفصالن من
فطرة الفقيه كما قد بيناه في الضابط األول في وجوب املعرفة والتفريق بين الثوابت واملتغيرات1.
ً ً
مطلقا ،وأكدت هذا القرار املشاورة الوطنية سنة 1٩٦٠م ،وبعد ثالثين سنة .1فمثال قرر املؤتمر الرابع عشر سنة 1٩3٩م حرمة التأمين
وتحديدا سنة 1٩٩٢م أعادت املشاورة الوطنية النظر في تفاصيل أحكام التأمين ،وأعادت ً
أيضا املشاورة الوطنية سنة 1٩٩٢م النظر في ً
أحكام الفوائد املصرفية التي كانت قد تم قرار تحريمها في املؤتمرات السابقة
13
ولألصوليين عن هذه القضية ،أعني إعادة النظر ،بحث يطول ذكره ،وحاصله :أنه يجب
تجديد النظر إذا تكررت الواقعة وتجدد ما يقتض ي الرجوع ولم يكن ً
ذاكرا للدليل األول.
ومما ال بد من ذكره ما قررته نهضة العلماء سنة ٢٠1٩م في بنجار فاترومان جاوة
الغربية ،بتسمية غير املسلمين مواطنين عند مفهوم الوطنية ،وهذا القرار منهم نوع من أنواع
املراعاة للواقع السياس ي واإلجتماعي ،ولي عن هذا القرار :
جنسكم تكن من الرخي َ مواط ٌن ال ٌ
كافر قل يا أخي #أبناء ِ ِ
لئن قلنا إن معرفة الواقع ومراعاته قبل اإلفتاء من األمر الضروري الالزم أن يلتفت
املفتي أو الفقيه إلى الواقع الذي يعيش فيه املستفتي ،فإن عليه أيضا أن يراعي عادات املستفتي
وتقاليده وأعرافه وال يجوز له الجمود على املسطور واملنقول في الكتب ،ألن العادات والتقاليد
واألعراف تجددت وتتغيرت بتغير األزمنة واألمكنة.
َ
سقطه ،وال تجم ْد
قال القرافي في الفروق ( :فمهما تجدد العرف اعتبره ،ومهما سقط أ ِ
َ ٌ َ َ
جريهعمرك ،إذا جاء رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك ،فال ت ِ الكتب طول ِ
ِ على املسطو ِر في
على عرف بلدك ،واسأله غن عرف بلده ،وافته به دون عرف بلدك واملقرر في كتبك ،فهذا هو
بمقاصد علماء املسلمين
ِ الحق الواضح ،والجمود على املنقوالت أبدا ضالل في الدين ،وجهل
والسلف املاضين1.) ..
ولئن أردنا تطبيقا لهذا الضابط في عصرنا الراهن ،فإن الفتاوى واإلجتهادات حول
املسائل املتصلة باملرأة املسلمة تأثرت في كثير من األحيان بالعادات والتقاليد واألعراف التي
كانت سائدة آنذاك ،أمثال حدود وطبيعة مشاركة املرأة املسلمة في الحياة اإلجتماعية
واإلقتصادية والسياسية والثقافية جنبا مع جنب مع شقيقها الرجل ،فإن العادات والتقاليد
واألعراف التي تجري في أندونيسيا نحو هذه املسائل تخالف عما جرت في أفغانستان أو بالد
أخرى ،فال يجوز للمفتي والفقيه ،مثال أن يمنع ويحرم املرأة املسلمة في مشاركتها الحياة
ً السياسة بسرد حديث ( لن يفلح قوم ولوا َ
أمرهم إمرأة ) ٢بدون النظر إلى تلك العادات
14
والتقاليد واألعراف ،كما ال يجوز للمفتي والفقيه أن يخصص النساء بأحكام والرجال بأحكام
أخرى سواء في مجال السياسة واإلجتماع واإلقتصاد ما لم يكن ثمة نص صريح قاطع من الشرع
يخصص أحدهما بمهمة دون اآلخر ،وبهذا املبدأ أصدر علماء النهضة الفتوى بجواز خروج املرأة
نوعا من أنواع رعاية التقاليد والعاداتللعمل بشرط أمن الفتنة ،وهذا القرار منهم ليس إال ً
الشائعة في البالد األندونيس ي 1.ومن أمثلة رعايتهم التقاليد فتواهم في جواز استعراض قمة
ً
قباب املسجد حول البلد رجاء للفأل وتبركا به واستدل عليه بأنه ال ش يء من كتبنا الفقهية التي
توارثناها عن األسالف يشير بأدنى اإلشارة على عدم جواز ذلك التقليد اإلجتماعي ،فأفتوا
بجوازه٢.
مفت عن حكم الشرع في ز ٍي من األزياء من حيث فعلى سبيل املثال أيضا ،إذا استفتي ٍ
كونه زيا ِرجاليا أم زيا ِنسائيا استنادا إلى الحديث النبوي الشريف الذي أخرجه البخاري في
صحيحه عن عبد هللا بن عباس رض ي هللا عنهما ،قال رسول هللا ﷺ :لعن هللا املتشبهين من
الرجال بالنساء ،واملتشبهات من النساء بالرجال ) ،فإن تنزيل هذا الحكم على زي من األزياء يجب
أن يتم اإلعتداد فيه بمراعاة األعراف والعادات والتقاليد ،ألن الشرع الكريم اكتفى في مسألة
الزي بوضع تلك الشروط والضوابط التي يجب توافرها في الزي ليغدو َزيا إسالميا بغض النظر
بلد كجمهوريةعن كونه إزارا أو قميصا أو سرواال أو بنطلونا أو سوى ذلك ،فالبنطلون في عرف ٍ
أندونيسيا قبل سنوات قديمة زيا رجاليا خالصا ،فإذا لبسته امرأة عدت متشابهة بالرجال،
بينما اآلن صار زيا مشتركا بين الرجال والنساء في بلدنا وفي بلدان أخرى كجمهورية باكستان
عد في عرف كثيراإلسالمية ،فال يمكن اعتبار املرأة التي تلبسه متشبهة بالرجال ،وكذلك اإلزار ي ُّ
من البلدان كجمهورية تركيا ومصر وغينيا والسنغال وغيرها زيا نسائيا ،فإذا لبسه رجل في تلك
الدول ع َّد متشبها بالنساء ،خالفا ملا هو الحال في عدد من دول جنوب شرق آسيا كأندونسيا
وماليزيا وبروناي حيث يعتبر اإلزار زيا مشتركا بين الرجال والنساء في عرف هذا الدول .فمن لبسه
ال يمكن اعتباره متشبها بالنساء ،كما أن من لبسته ال تعتبر متشبهة بالرجال .وهذه القضية من
قبيل تحقيق مناط الحكم الذي قال فيه الغزالي :تسعة أعشار النظر الفقهي.
15
-٦الضابط السادس :البتعاد عن إصدارالفتاوى واستيرادها خارج بيئتها
16
نعم ،هناك فرق بين استيراد الفتوى بما يسمونه "االعتبار بأقوال املفتين والعاملين السابقين"
فإنه ليس فقط مجرد النقل من فتاواهم ومصنفاتهم ،وإنما هناك توافق أو تطابق في الوا ِق َعين
َ
تين ،فالعلماء يجوزون هذا اإلعتبار بأقوال املفتين اآلخرين والعاملين السابقين وال والبيئ ِ
ِ
يسمونه باستيراد الفتاوى املمنوع املذموم .
ولعل بعض أهل العلم يقول :أننا نرى كثيرا في قرارات نهضة العلماء ومجلس العلماء :
قال الحنفية ،قال املالكية ،قال الشافعية ،قال الحنابلة في مسألة ما ،وقرر دار اإلفتاء للديار
املصرية أن املسألة الفالنية حكمها كذا ،...وقرر مجمع الفقه اإلسالمي مثال أن جدة ومطارها
تصح ألن تكون ميقاتا للحجاج والعمار ،فإن ذلك ال يسمى باستيراد الفتوى ونقلها عن املفتين
اآلخرين بمجرد النقل بل إذا كان هناك توافق وتطابق في األدلة والواقع فإن العلماء يسمونه
باإلعتبار بأقوال املجتهدين .فمن أمعن النظر إلى قرارات نهضة العلماء كل اإلمعان وجد بأن
املسائل التي نقلوها من كتب الفتاوى القديمة ليست من قبيل اإلصدار واإلستيراد للفتاوى ،بل
كانت من جملة اإلعتبار بأقوال املجتهدين حين تطابق الواقع والدليل أو كان من جملة إلحاق
املسائل بنظائرها.
من املعلوم لدى العامة والخاصة أن أحكام الشرع متوزعة على الواجبات واملندوبات،
واملحرمات ،واملكروهات ،واملباحات ،كما أنه قد تقدم الذكر أن تعاليم الشرع الحنيف ليست
َ
على مرتبة واحدة ،فثمة أصول ،وهناك فروع ،وأن الناس متفاوتون في أقدارهم التدين ودرجات
تحمل الدين ،الختالف كسبهم الديني ،والتزامهم األخالقي بتعاليم الدين .وتأسيسا على هذا ،فإن
على املفتي والفقيه أن يراعي عند اإلفتاء والبحث عن مسائلهم هذه األقدار املتفاوتة بين الناس
بحيث يختار ما يناسب قدر التدين في نفسه ،كما ينتقي من اإلجتهادات ما يتناسب مع اإلمكان
اإللتزامي التديني ملختلف املستفتين والعوام ،ويجب على املفتي اإلعتداد به لتكون فتاواه
محققة مقاصد الشارع.
َ
تحقيق املناط الخاص واإلمام الشاطبي قد أصل هذا الضابط في موافقاته 1وسماه
حينما قال.. .( :فتحقيق املناط الخاص نظر في مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدالئل
17
التكليفية ،بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان ،ومداخل الهوى ،والحظوظ العاجلة ،حتى
يلقيها هذا املجتهد على ذلك املكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك املداخل ،هذا بالنسبة إلى
التكليف املنحتم وغيره ،ويختص غير املنحتم بوجه آخر :وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في
نفسه بحسب وقت دون وقت ،وشخص دون شخص ،إذ النفوس ليس في قبول األعمال
َّ
عمل صالح يدخل بسبه على الخاصة على وزن واحد ،كما أنها في العلوم والصنائع كذلك ،فرب ٍ
عمل يكون حظ النفس والشيطان َّ
رجل ضرر أو فترة ،وال يكون كذلك بالنسبة إلى آخر ،ورب ٍ
عمل آخر ،ويكون بريئا من ذلك في بعض األعمال دون فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في ٍ
بعض ...والدليل على صحة هذا اإلجتهاد..أن النبي سئل في أوقات مختلفة على أفضل األعمال،
وخير األعمال ،وعرف بذلك في بعض األوقات من غير سؤال ،فأجاب بأجوبة مختلف ،كل واحد
التضاد في التفضيل .ففي الصحيح أنه َ منها لو حمل على إطالقه وعمومه القتض ى مع غيره
سئلُّ :
أي األعمال أفضل؟ قال ( :إيمان باهلل ) ،قال :ثم ماذا؟ قال ( :الجهاد في سبيل هللا ) ،قال:
ثم ماذا؟ قال ( :حج مبرور ) .وسئل أي األعمال أفضل؟ قال ( :الصالة على وقتها ) قال :ثم أي؟
قال ( :بر الوالدين ) قال ثم أي؟ قال ( :الجهاد في سبيل هللا ) .وفي النسائي عن أبي أمامة ،قال :
عنك؟ قال ( :عليك بالصوم ،فإنه ال َ
مثل له ) .وفي الترمذي :أي أتيت فقلت :مرني بأمر آخذه َ
ٍ
األعمال أفضل درجة عند هللا يوم القيامة؟ قال ( :الذاكرون هللا كثيرا والذاكرات ) .وفي
الصحيح في قول ( :ال إله إال هللا وحده ال شريك له ) ...قال ( :ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به
) .وفي النسائي ( :ليس شيئ أكرم على ذلك من الدعاء ) ..وفيه ( :أفضل العبادة انتظار َ
الفرج )
إلى أشياء من هذا النمط ،جميعها يدل على أن التفضيل ليس بمطلق ،ويشعر إشعارا ظاهرا
بأن القصد إنما هو بالنسبة إلى الوقت ،أو إلى حال السائل.
وقد سار الصحابة رضوان هللا تعالى عليهم على هذا املنهج النبوي في مراعاة هذا الضابط
عند اإلفتاء ،كابن عباس فيما أخرجه أبو داود في سننه في كتاب األدب ،وابن أبي شيبة في
املصنف في كتاب الديات عن عبد بن حميد عن سعد بن عبيدة ( :أن ابن عباس رض ي هللا
َ ٌ جل فسأله أملَ ْن َ
عنهما ملا جاءه ر ٌ
قتل مؤمنا توبة؟ كان يقول :ال ،إال النار ،فلما قام الرجل ،قال ِ
ً ً كنت هكذا تفتيناَ ،له جلساؤه :ما َ
كنت تفتينا :أن ملن قتل مؤمنا توبة مقبولة ،فما شأن هذا
اليوم؟ قال إني أظنه رجال يغضب ،يريد أن يقتل مؤمنا!! فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك ). َ
وتأسيسا لهذا الضابط الهام ،فإن للمفتي والفقيه أن يعرف ويراعي أقدار تدين الناس
واختالف كسبهم الديني والتزامهم األخالقي بتعاليم الدين ألن تكون فتوى موافقا ملقاصد الشارع
18
واملكلف ال ألجل الهوى .فمن أمثلة تلك املسائل مسألة حدود املرأة املسلمة أمام الرجل األجنبي،
ومسألة إسبال اإلزار بال بطر ،ومسألة اإلستماع إلى الغناء غير الفاحش ،ومسألة التهنئة
والتحية بميالد عيس ى عليهم السالم للنصارى ،وسواها من املسائل اإلجتهادية القديمة
والحديثة التي تسبب اليوم مع األسف نزاعا شديدا وصداما غريبا بين الشعوب والطوائف
اإلسالمية في أنحاء املعمورة وأندونسيا بوجه أخص ،فإن املفتي والفقيه تجاه هذه املسائل ال بد
من مراعاة أقدار التدين كما نهج به الرسول ﷺ ،وسار على نهجه الصحابة واألئمة األقدمون.
َ
وللتعليالت الفقهية ما يسمى بعموم البلوى الذي يسوغ قضايا منهية جائزة املباشرة،
وللعارف الشعراني فكرة فريدة لم يسبق إليها أحد قبله ،وسماها امليزان الكبرى ،وترجع فكرة
الشعراني إلى أن لالختالفات الفقهية ميز ًانا يرجع إليها أفراد الناس ،فكان املحتاطون يراعي قول
من قال بالتخفيف واملتساهلون يراعي قول من قال بالتشدد ،فما هذا إال املراعاة لألقدار بين
الناس ،فهذه كلها ما سبقنا إليه أسالفنا الصالحون عن هذا الضابط الفريد.
من املتفق عليه لدى الفقهاء أن مسائل الفتيا بالنسبة إلى املجتمع تنقسم إلى قسمين،
األول املسائل العامة ،والثاني املسائل الخاصة.
فاملسائل العامة هي املسائل التي تتعلق بعموم املجتمع ،أو بالسواد األعظم من املجتمع
وهي تنطبق في معظم املسائل املوسومة بمسائل اإلمامة والسياسة الشرعية كمسائل الجهاد،
والقضاء ،وفي مسائل املناكحات كالوالية في النكاح ،والكفاءة والشهادة.
وأما املسائل الخاصة ،فهي عبارة عن املسائل املتعلقة باألفراد ،وال تتجاوزهم إلى سواهم
كمعظم مسائل العبادات املحضة ،ومسائل الطالق ،والرجعة ،والرضاع.
فاملفتي والفقيه عند اإلفتاء ال بد من تفرقة هذين القسمين ،ألن كثيرا من املسائل
العامة والخاصة قد اختلف العاملون من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة اإلجتهاد ،فقد
اختلفوا على سبيل املثال في اشتراط الوالية لصحة النكاح ،واختلفوا في تولي املرأة املسلمة
الوالية الصغرى والكبرى ،واختلفوا في عقوبة الردة ،وحد الخمر ،بل إنهم اختلفوا في اإلمامة
بين كونها من باب الد يانة أو من باب السياسة ،واختلفوا في العديد من املسائل املتصلة
باملعامالت كاختالفهم في تحريم بعض البيوع كالعينة ،والتورق ،وبيع الدين.
19
واختالفهم وتعدد آرائهم في املسائل العامة خاصة ربما يؤدي إلى إيجاد حالة من الفوض ى
والنزاع بين األفراد في مجتمع وربما لم يؤد إلى ش يء من ذلك.
وتأسيسا على هذا ،فإن مقتض ى هذا الضابط أن يكف املفتي والفقيه عن ممارسة
اإلفتاء الفردي في مسائل الشأن العام عبر الفضائيات والصفحات العنكبوتية والجرائد
واملجالت ،سواء أكان ذلك الشأن العام شأنا فكريا ،أم شأنا اجتماعيا ،أم شأنا اقتصاديا أم
ش أنا سياسيا .وبدال عن ذلك ،فإن عليهم أن يحيلوا املستفتين إلى املجالس اإلفتائية الرسمية
أو املجامع الفقهية التي تتوفر على عدد معتبر من أهل الفتوى واإلجتهاد.
ولقد وجدنا كثيرا من علماء النهضة الذين تتوفر لهم شروط اإلفتاء ،أنهم امتنعوا عن
اإلفتاء فرديا عن املسائل العامة اختلفت فيها العلماء وأحالوا املستفتين إلى لجنة بحث املسائل
لجمعية نهضة العلماء أو إلى مجلس العلماء حفاظا على انتظام أمر األمة وحماية للمجتمع من
التنازع والتناحر فيما بينهم نتيجة الفتاوى املتضاربة واملتناقضة.
وأما مستند هذا الضابط هو ما أخرجه اإلمام الطبراني في معجمه األوسط عن أمير
املؤمنين علي بن أبي طالب رض ي هللا عنه قال :قلت يا رسول هللا ،إن نزل بنا أمر ليس فيه بيان
أمر وال نهي فما تأمرنا؟ قال ( :شاوروا الفقهاء والعابدين وال تمضوا فيه رأي خاصة ) وقال
الهيثمي رجاله موثوقون من أهل الصحيح ،وسار على هذا املنهج الخلفاء الراشدون كما قال
ذلك ابن قيم الجوزية في إعالمه ،1نقال عن اإلمام أبو عبيدة معمر بن املثنى البصري في كتاب
حكم نظر في كتاب هللا تعالى ،فإن وجد فيه ماالقضاء ( :كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه ٌ
يقض ي به ،قض ى به ،وإن لم يجد في كتاب هللا نظر في سنة رسول هللا ﷺ ،فإن وجد فيهما ما
يقض ي به قض ى ،فإن أعياه ذلك ،سأل الناس :هل علمتم أن رسول هللا ﷺ قض ى فيه بقضاء؟
فربما قام إليه القول ،فيقولون :قض ى فيه بكذا وكذا ،فإن يجد سن ًة سنها النبي ﷺ َ
جمع رؤساء
الناس ،فاستشارهم ،فإذا اجتمع رأيهم على ش يء قض ى به ..وكان عمر يفعل ذلك ..أي مثل ما
كان أبو بكر يفعل ،فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة ،سأله هل كان أبو بكر قض ى فيه
بقضاء؟ فإذا كان ألبي بكر قضاء قض ى به ،وإال جمع علماء الناس واستشارهم ،فإذا اجتمع
رأيهم على ش يء قض ى به.)..
فهذه الرواية دليل على أن املفتي والفقيه ال بد من مراعاة هذا الضابط في اإلفتاء السيما
في املسائل العامة التي تعم بها البلوى ،ويؤدي اإلختالف وتعدد اآلراء فيها إلى إخالل بمقصد
20
انتظام أمر األمة ووحدتها وتضامنها وترابطها ،فإذا وجدها كذلك ،األفضل له أن يمتنع عن
اإلفتاء فيها ورعا وخوفا من هللا تعالى وحفاظا على وحدة الصف ووحدة الكلمة في القضايا
العامة.
هذه هي الضوابط الثمانية في اإلفتاء التي ينبغي للمفتي والفقيه اإلعتماد عليها ،وال يجوز
على املتفقه جهلها ،إضافة إلى هذه الضوابط فإنه البد للمفتي والفقيه في اإلفتاء من معرفة
املقاصد ،ومعرف ة املذاهب ،ومعرفة القواعد الفقهية ،ومعرفة مبادئ العلوم اإلنسانية ،وذلك
ً ألن املفتي في األديان بمنزلة الطبيب في األبدان ،ينظر َّ
حالة حالة ،ال بد من أدوات ومعارف كل ٍ
وضوابط في التطبيب ،فإذا كان املتطبب الجاهل خطرا على أبدان الناس ،فإن املفتي الجاهل
خر خطرا عظيما على أديان الناس. يعدو اآل َ
فهذا ما تيسر لي من هذا املشروع ،وصلى هللا وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين والحمد هلل رب العاملين.
21