You are on page 1of 21

‫‪Dlawabit Berfatwa dan Bahtsul Masail‬‬

‫‪dalam Nahdlatul Ulama‬‬

‫ضوابط بحث المسائل واإلفتاء عند نهضة العلماء‬


‫كتبه ‪ :‬زلفى مصطفى بن مقــربيــن يوسف‬
‫جاكرتا‪ ٨ ،‬ربيع الثاني ‪ ١٤٤٥‬هـ‪ ،‬الموافق ب ـ ـ ‪ 22‬أكتوبر ‪ 2023‬م‪.‬‬

‫املوقعين عن رب العاملين‪ ،‬وعلى‬


‫إمام ِ‬‫الحمد هلل رب العاملين‪ ،‬والصالة والسالم على سيدنا محمد ِ‬
‫آله وأصحابه الغر امليامين‪ ،‬ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد ‪:‬‬

‫مصطلح "بحث املسائل" عند نهضة العلماء عبارة عن عملية اإلفتاء صدرت من علمائها‬
‫منذ تاريخ تأسيس هذه الجمعية املباركة‪ ،‬بل قد كان قبل تأسيس الجمعية نشاطا من أنشطة‬
‫مجالس بحث املسائل الدينية على اختالف أسمائها‪ ،‬فاملباحثون للمسائل هم املفتون لألمة‬
‫ي ْفت ْون جماعيا‪ ،‬وسميت هذه العملية ببحث املسائل ال اإلفتاء لشدة تواضعهم وامتناعهم‬
‫ومنص ٌب‬
‫جنب ِ‬‫تحمل منصب املفتي على ظهرهم‪ .‬وذلك ملعرفتهم أن الفتوى لها مكانة عظيمة في ٍ‬
‫وق ٌع عن رب العاملين‪ .‬ومن سمات شدة تواضعهم أنهم كانوا‬ ‫خطر في جنب َ‬
‫آخر‪ ،‬وأن املفتي م ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬
‫ويسمون هذا العمل باالستنباط الجماعي‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬
‫اجتهادا أصوليا‬ ‫يجتهدون في مجالس بحث املسائل‬
‫وهو نفس االجتهاد املطلق كما كان قد فعله سلفنا الصالح في غابر الزمان‪ ،‬غير أن االستنباط‬
‫ً‬
‫اجتهادا فعله جماعة من علماء النهضة‪1.‬‬ ‫الجماعي كان‬
‫َ‬
‫وإذا كان منصب التوقيع عن امللوك كما قال ابن قيم الجوزية في مقدمة إعالمه ال ينكر‬
‫اتب السنيات‪ ،‬فكيف بمنصب التوقيع عن رب‬ ‫ْ‬
‫فضله‪ ،‬وال يجهل قدره‪ ،‬ويعتبر من أعلى املر ِ‬
‫املنص ِب أن ي ِع َّد ع َّدته‪ ،‬وأن يتأهب له أهبته‪ ،‬وأن‬ ‫َ‬
‫األرض والسموات؟ فحقيق بمن أقيم في هذا ِ‬
‫حرج من قول الحق والصدع به‪.‬‬ ‫أقيم فيه‪ ،‬وال يكون في صدره ٌ‬ ‫يعلم قدر املقام الذي َ‬
‫وبهذا املنطلق‪ ،‬فقد وضع علماء النهضة القرارات املعتمدة عليها في مؤتمراتهم عن‬
‫ضوابط بحث املسائل ومنهجه جيال بعد جيل‪.‬‬

‫َ‬
‫وجوازه املشاورة الوطنية بين علماء نهضة العلماء في المفنج سنة اثنين وتسعين‬ ‫منهج من مناهج اإلفتاء قد قرر صح َته‬
‫‪ -1‬اإلستنباط الجماعي ٌ‬
‫وتسعمائة وألف (‪ )1٩٩٢‬ميالدية‬

‫‪1‬‬
‫غير أنهم يكتبونه باللغة‬ ‫النهضة َ‬ ‫عديد من علماء‬ ‫ٌ‬ ‫وقد سبقني في هذا املشروع‬
‫ِ‬
‫باختصار‬
‫ٍ‬ ‫اإلندونيسية‪ ،‬وإني مع الكفاءة املحدودة شرعت كتابة تلك الضوابط باللغة العربية‬
‫إن شاء هللا تعالى بسرد أرجوزة قبل الشروع لكي يسهل حفظها‪.‬‬
‫َْ ْ َ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫فحفظ َه ـا َس ْه ـ ٌل ِلع ـ ِالـ ٍم َسـ ِخ ـ ـيْ‬ ‫ِ‬ ‫ض َوابط اإلف َتـ ـ ـ ِاء ِإحفظ يـ ـا أ ِخ ـي‬
‫ْ‬
‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َب ْي َن الفـ ـر ْو ِع َواألص ْو ِل الث ـ ِاب َت ـ ـ ـة‬ ‫التـ ْفـ ـ ـ ِرْي ِق ف ـي املقـ ـ ـ ِد َم ـ ـ ـة‬ ‫ضـ ـرو َرة َّ‬ ‫َ‬
‫ْ َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫الد ْين ي ـ ـ ْس ـ ٌر واآلراء تـ ْس ـ ِه ـ ـ ـ ـلـ ـ ْك‬ ‫ِ‬ ‫احـذ ْر ِم َن اإلن ـك ِار َم ْن يخـ ِالفـ ـ ْك‬ ‫و‬
‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬
‫اج فـ ْتـ َي ـ ـ ـ ـاه ـ ـ ـ ْم َوال ت ـغ ـ ـ ـ ِي ـ ـ َر ْه‬ ‫م ْنه ـ ـ ـ َ‬
‫ِ‬ ‫َواتـ َب ـ ـ ْع ِمـ َن امل ـ ـذ ِاه ـ ـ ِب امل ْع ـ ـ َت ـ ـ ـ ـ َب ـ ـ َرة‬
‫احك َم ْن‬ ‫آل َم ـ ـا ت ْفتـيـ ـه َثب ْت َو ْ‬ ‫َم ـ ـ َ‬ ‫ن‬ ‫َ ْ َ ْ َْ‬
‫ر‬‫ـ‬ ‫ـ‬ ‫ظ‬ ‫ان‬ ‫و‬ ‫ع‬ ‫ار‬ ‫ـ‬ ‫ـ‬‫ف‬ ‫ع‬‫ار‬ ‫ـ‬ ‫ـ‬ ‫َمق ـ ـاص ـ ـ َد َّ‬
‫الش‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫قب ـ َل إف َتـ ـ ٍاء ت ـ َر ْه‬ ‫واإل ْج ـتـ ـ َم ـ ـاعـ ـ ْي ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ياس ْي َر ِاع ل ْه‬ ‫الفك ِري الس ِ‬
‫َ َ َ‬
‫والو ِاقع ِ‬
‫مـ ـ ـداره بـ ـالع ـ ـ ـ ـ ْر ِف والـع ـ ـ ـ ـ ـادا ِت‬ ‫َال تـ ـ ْ‬
‫ات‬ ‫ص ـ ـ ـ ـ ِدروه خـ ـ ـ ـارج البـ ـيـ ـ ـئ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أقـ ـ ـ ـ ـ َداره ال ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َّد ِمـ ْن ت ـ ْف ـ ـ ـ ِرق ـ ـ ٍة‬ ‫ت َد ُّيـ ـ ـ ـ ـن الـ ُّنـ ـفـ ـ ـ ـ ْو ِس ذ ْو ت ـ ـ َفـ ـ ـ ـ ـ ـاو ٍت‬
‫َ‬
‫كذاك َن ْه ـ ـ ـ ٌج ق ْد َر َو ْو‬ ‫َ‬ ‫ِل ْل َخ ـ َّ‬
‫اصـ ـ ِة‬ ‫العـ ـام ِة ْأو‬ ‫اعـ ـ ـر ْف م َن املسـ ـائل َ‬ ‫َ ْ‬
‫ِ‬ ‫و ِ ِ‬

‫‪ -1‬الضابط األول ‪ :‬التفريق بين الثوابت واملتغيرات‪.‬‬


‫من املتفق عليه عند العلماء بأن األحكام الشرعية العقدية والعملية والتهذيبية تنقسم‬
‫تغي ٌر‪ ،‬وال يؤثر فيها‬ ‫إلى أصول وفروع‪ ،‬وتعرف األصول باألحكام الثابتة القاطعة التي ال يعتريها ُّ‬
‫زمان وال مكان وال حال‪ ،‬وذلك باعتبارها أحكاما صالحة لكل زمان ومكان‪ ،‬وال يؤثر فيها أيضا‬
‫اختالف معتبر بين أهل القبلة كفرضية الصلوات الخمس وصيام رمضان وحرمة الخمر‬
‫األحكام‬ ‫القدر املعلوم من الدين بالضرورة‪ .‬وتندرج ضمن هذه‬ ‫َ‬ ‫والخنزير والزنا التي تمثل ذلك‬
‫ِ‬
‫وقطعيات األحكام‬
‫ِ‬ ‫وأركان اإليمان‬‫ِ‬ ‫القواطع أصول العقيدة اإلسالمية املتمثلة في أركان اإلسالم‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ب‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫ٱلرب ْٰۚوا ﴾‪ .1‬والعملية ‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫العقدية ‪ :‬كحالل البيع وحرمة الربا لقطعية دليله ﴿ وأحل ٱَّلل ٱۡليع وحرم ِّ‬
‫َ َُ َ ب‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ب‬ ‫ُُ‬
‫ۡسف ْۚٓوا ﴾‪ 2‬والتهذيبية ‪ :‬كوجوب بر‬
‫كجواز األكل والشرب استنادا لقوله تعالى ﴿ وُكوا وٱۡشبوا وَل ت ِّ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫نصوص قطعية في الثبوت والداللة‪ ،‬ولم‬ ‫الوالدين وحرمة العقوق عليهما‪ ،‬التي وردت في شأنها‬
‫َ‬ ‫ٌ‬
‫يؤثر إزاءها خالف من لد ِن املصطفى ﷺ إلى يومنا هذا‪.‬‬

‫‪ .1‬البقرة ‪.175 :‬‬


‫‪ .٢‬األعراف ‪.31 :‬‬

‫‪2‬‬
‫وأما الفروع‪ ،‬فهي عبارة عن األحكام الفرعية املعتبرة املتغيرة‪ ،‬ويؤثر فيها الزمان واملكان‬
‫والحال‪ ،‬ويتسم باملرونة واالنفتاح والتجدد والتطور‪ ،‬ويختلف أهل العلم في كثير من األحيان‬
‫إزاء تحديد املعاني املرادة للشارع منها الختالف الظروف الفكرية املتقلبة‪ ،‬واألوضاع السياسية‬
‫ُّ‬
‫املتغيرة‪ ،‬واألحوال اإلجتماعية واإلقتصادية والثقافية املتجددة‪ ،‬كانت وال تزال تؤثر في تشك ِل‬
‫تلك األحكام‪ ،‬مما يجعلها محال الجتهادات متجددة ونظرات متعقبة‪.‬‬
‫تنتظم هذه األحكام الفرعية كافة املسائل املوسومة باملسائل االعتقادية وهي املسائل‬
‫التي اختلف فيها أهل العلم بالكالم قديما‪ ،‬كاختالفهم في رؤية هللا‪ ،‬وتحيزه في السماء تعالى هللا‬
‫عن ذلك‪ ،‬ومعاني العديد من األسماء والصفات‪ ،‬وكون القرآن كالم هللا أو مخلوقا‪ ،‬وزيادة‬
‫اإليمان ونقصانه‪ ،‬وخلود مرتكب الكبائر في النار وعدمه‪ ،‬وغيرها من املسائل املدروسة في علم‬
‫الكالم‪.‬‬
‫وتتكون األحكام الفرعية من املسائل الفقهية املختلف فيها عند املذاهب الفقهية‪،‬‬
‫وتتكون كذلك من املسائل التربوية الصوفية التي اختلف العارفون باهلل قديما كاختالفهم في‬
‫الرقص في الذكر الذي سماه القوم بالوجد‪ ،‬واختالفهم في شطحات الحالج وابن عربي والشيخ‬
‫ستي جنار من أهل الفقه في زمانه‪ ،‬وكاختالفهم فيما فعله ابن الكرنبي شيخ الجنيد البغدادي‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫نفسه ِم ْن حب الجاه وهو يقول ‪ ( :‬نزلت في َم ِحل ٍة فع ِرفت فيها بالصالح‪ ،‬فش َّت قلبي‬
‫عال َج َ‬ ‫حينما‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َ ْ‬
‫ولبستها‪ ،‬ثم لبثت م َرق َع ِتي فوقها وخرجت‪،‬‬ ‫فاخرة ْ‬ ‫وس َرقت ثيابا‬ ‫ونفر مني فدخلت الحمام‬
‫لحمام‬ ‫ص ا َّ‬ ‫أمش ي قليال قليال‪ ،‬فلحقوني وأخذوا مني الثياب وصنعوني وسموني ِل َّ‬ ‫فجعلت ِ‬
‫كن ْت نفس ْي )‪ .‬قال الغزالي ‪ ... :‬ثم أهل النظر إلى النفس وأرباب األحوال ربما عالجوا أنفسهم‬ ‫فس َ‬
‫َ‬
‫بما ال ي ِفتي به الفقيه مهما رأوا صالح قلوبهم بذلك ثم يتداركون ما فرط منهم في صورة التقصير‬
‫كما هذا في الحمام‪1.‬‬

‫والجدير بالذكر أن العلماء املباحثين عليهم تفريق األصول والفروع عند البحث واإلفتاء‬
‫تشد ٍد في فتاواهم إزاء القضايا املوسومة باألصول والثوابت املتفق عليها‬ ‫حيث يتشددون أيما ُّ‬
‫بين أهل القبلة‪ .‬وأما اإلفتاء في القضايا الفروعية املختلف فيها‪ ،‬فإن عليهم اتخاذ التيسير مسلكا‬
‫ومنهاجا بحيث يتخير للمستفتي من اآلراء اإلجتهادية‪ ،‬تلك اآلراء األصلح بحاله واألسهل له في‬
‫التطبيق واأليسر عليه في اإلمتثال ملنهجه ﷺ حيث ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه‬
‫البخاري في صحيحه عن أم املؤمنين عائشة رض ي هللا عنها قالت ‪ ( :‬ما خير رسول هللا ﷺ بين‬

‫‪ . 1‬إحسان بن محمد دحالن الجمفس ي‪ ،‬سراج الطالبين شرح منهاج العابدين‪ ،‬ج ‪ 1‬ص ‪.3٢‬‬

‫‪3‬‬
‫أمرين قط إال أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما‪ ،‬فإن كان إثما كان أبعد الناس منه‪ ،‬وما انتقم رسول‬
‫هللا ﷺ لنفسه في ش يء قط إال أن تنتهك حرمة هللا‪ ،‬فينتقم بها هلل ) ‪.‬‬
‫كما ورد قوله ﷺ في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رض ي‬
‫هللا عنه قال ‪ :‬قال رسول هللا ﷺ ‪ ( :‬يسروا وال تعسروا‪ ،‬وبشروا وال تنفروا )‪ ،‬وفي الحديث الذي‬
‫فبال في طائف‬‫أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رض ي هللا عنه قال ‪ :‬قام أعرابي َ‬
‫ماء‪ ،‬أو ذنوبا‬
‫جل ٍ‬ ‫املسجد‪ ،‬فتناوله الناس‪ ،‬فقال لهم رسول هللا ﷺ ‪ :‬دعوه‪ ،‬فأهريقوا على بوله س َ‬
‫ِ‬
‫من ماء‪ ،‬فإنما بعثتم ميسرين وال معسرين )‪ .‬قال القاض ي عياض عن حديث عائشة املتقدم ‪:‬‬
‫فيه األخذ باأليسر واألرفق وترك التكلف وطلب املطاق إال فيما ال يحل األخذ به كيف كان‪.‬‬
‫وما ينبغي تحريره وتقريره في هذا املقام أن التفريق بين التيسير والتساهل وبين التيسير‬
‫وتتبع الرخص أمر ضروري‪ .‬فالتيسير يكون عند وجود خالف معتبر بين أهل العلم في قضية من‬
‫أي الذي يراه يسيرا وسهال‪ ،‬كأن يختلف‬ ‫القضايا‪ .‬فيتخير املفتي والفقيه من ذلك اإلختالف الر َ‬
‫أهل العلم في مسألة القنوت‪ ،‬ومسألة اإلفطار في السفر ملن كان قادرا على الصوم بدون مشقة‪،‬‬
‫ومسألة مس الحائض والجنب املصحف‪ ،‬ومسألة نصاب الذهب‪ ،‬وأداء زكاة الفطر بالقيمة‬
‫وغيرها من املسائل اإلجتهادية‪ .‬فإذا اختار املفتي والفقيه للمسائل رأيا من اآلراء الواردة لكونه‬
‫عد تساهال أو تتبعا للرخص كما يتوهم به‬ ‫رأيا يسيرا وسهال‪ ،‬فإنه ال إنكار عليه في ذلك‪ ،‬وال ي ُّ‬
‫بعض املتعلمين‪ ،‬ألن تتبع الرخص املحظور ينحصر في تتبع املفتي زالت العلماء‪ ،‬وهفواتهم وهي‬
‫سوغ فيها الخالف‪ ،‬أما اآلراء املأثورة عن أهل العلم‬ ‫اآلراء التي أثرت عن العلماء في املسائل التي ال ي َّ‬
‫سوغ فيها الخالف فإنها ال تندرج ضمن دائرة تتبع الرخص املحظور‪.‬‬ ‫في املسائل التي ي َّ‬
‫ونقل الكردي في الفوائد املدنية عن الشيخ خليل القروش ي الداغستاني ‪ :‬الراجح املعتمد‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وقضاء‪ ،‬وكذا من عدا هم من املجتهدين املوثوقين‬ ‫وإفتاء‬ ‫جواز تقليد كل من األئمة األربعة عمال‬
‫أيضا‪ ،‬ما لم يلزم على ذلك تلفيق‬ ‫بهم في العلم لنفسه‪ ،‬إال ملصلحة دينية ففي اإلفتاء والقضاء ً‬
‫محال‪ ،‬ولم يتتبع الرخص كما صرحوه‪.‬‬
‫ً‬
‫فمثال قد قرر علماء النهضة في إحدى مؤتمراتهم جواز دفع أجرة الحصادين من الحبوب‬
‫باعا لجماعة من التابعين‪ ،‬وهذا اإلفتاء ليس إال ملراعاة ما انتشر في بالدنا‬ ‫وإن جهل مبلغه ات ً‬
‫دفعا لحرج األمة‬‫إندونيسيا من تلك التقاليد في معامالتهم‪ ،‬فانتهجوا منهج التيسير في فتواهم ً‬
‫صا من أعمال التنفير حتى لو اعتبر األمر تقليدا للتابعين‪.‬‬ ‫وتخل ً‬

‫‪4‬‬
‫‪ -٢‬الضابط الثاني ‪ :‬البتعاد عن النكار في املسائل الجتهادية والستفادة القصوى من‬
‫املذاهب السالمية املعتبرة‪.‬‬

‫َ‬ ‫لئن ت َ‬
‫ْ‬
‫بدى لنا في الضابط األول أن للمفتي والفقيه ضرورة التفريق عند اإلفتاء بين‬
‫األصول والفروع‪ ،‬وبين الثوابت واملتغيرات‪ ،‬وإن عليه أن يتخذ من التيسير منهاجا يسير عليه‬
‫اتباعا لنبينا محمد عليه الصالة والسالم‪ ،‬فالضابط الثاني املعتمد عليه هو اإلبتعاد عن اإلنكار‬
‫على املخالفين له في املسائل اإلجتهادية عند اإلفتاء استفادة من املذاهب اإلسالمية املعتبرة‬
‫السابقة‪.‬‬
‫واملراد باملسائل اإلجتهادية في هذا السياق هي املسائل التي اختلف فيها أهل العلم قديما وحديثا‪،‬‬
‫اختالفا مشروعا‪ ،‬وتتكون من ‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫نصوص ظنية في ثبوتها وداللتها معا‪ ،‬وينطبق هذا على‬ ‫أول ‪ :‬املسائل التي وردت في شأنها‬
‫العديد من األحكام العقدية والفقهية والتربوية الثابتة عن طريق أخبار اآلحاد‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ثانيا ‪ :‬املسائل التي وردت في شأنها نصوص ظنية في الثبوت قطعية في الداللة‪ ،‬وينطبق‬
‫هذا على األحكام الثابتة عن طريق اآلحاد إذا كانت املعاني املرادة منها قطعية بحيث ال يحتمل‬
‫النصوص إال معنى واحدا‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬املسائل التي وردت في شأنها نصوص قطعية في الثبوت‪ ،‬وقطعية في الداللة‪،‬‬
‫وينطبق هذا على األحكام الثابتة عن طريق القرآن الكريم والسنن املتواترة إذا كانت املعاني‬
‫املرادة من تلك النصوص ظنية تحتمل أكثر من معنى بسبب اشتراك أو عموم اللفظ أو سواهما‪.‬‬

‫والنوعان ( النصوص املقطوع بداللتها ) كما قال الشاطبي في غاية الندور وإال فهو لم‬
‫ً‬
‫يرد أصال في آحاد األدلة‪ ،‬ألن النص إن كان من آحاد األخبار ( فعدم إفادته القطع ) أمر قد‬
‫ً‬
‫متواترا فإفادته القطع موقوفة على مقدمات‬ ‫صرح بجلذان يراه الصادر والوارد‪ ،‬وإن كان النص‬
‫جميعها أو غالبها ظني‪ ،‬فاملفيد للقطع إذن تضافر األدلة على معنى واحد‪ ،‬قال الشاطبي‪ :‬فلو‬
‫َ‬ ‫َّ َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬
‫ٰ‬
‫استدل مستدل على وجوب الصالة بقوله تعالى‪ ﴿ :‬وأقِّيموا ٱلصلوة ﴾ أو ما أشبه ذلك لكان في‬
‫‪1‬‬

‫‪ . 1‬البقرة ‪.43 :‬‬

‫‪5‬‬
‫ْ َّ‬
‫لكن حف بذلك من األدلة الخارجية واألحكام املترتبة ما صار‬ ‫اإلستدالل بمجرده نظر من أوجه‪،‬‬
‫به فرض الصالة ضروريا في الدين ال يشك فيه ٌّ‬
‫شاك في أصل الدين اهـ‪1.‬‬

‫رابعا ‪ :‬املسائل التي لم ترد في شأنها نصوص مطلقة‪ ،‬وإنما سميت هذه املسائل األربعة باملسائل‬
‫ظن في الثبوت أو الداللة أو فيهما معا‪،‬‬ ‫ْ‬
‫اإلجتهادية‪ ،‬ألن النصوص التي وردت في شأنها لم تخل ِمن ٍ‬
‫مما يستوجب اإلجتهاد الظني من النص‪ ،‬وبتعبير آخر‪ ،‬إذا كان الظن في الثبوت كان اإلجتهاد‬
‫مشروعا في صحة ثبوت النص‪ ،‬وأما إذا كان الظن في الداللة‪ ،‬فإنه ي َ‬
‫شرع اإلجتهاد في الداللة‪،‬‬
‫وإذا كان ُّ‬
‫الظن في الثبوت والداللة‪ ،‬فإنه يشرع اإلجتهاد في كليهما‪.‬‬
‫دائرة‬
‫خرجها من ِ‬ ‫والذي يؤسفنا أن بعض الناس يظنون أن وجود النص في املسألة ي ِ‬
‫ٌ‬ ‫َ َّ‬
‫النصوص كلها قطعية‪ ،‬وليس كذلك‪ ،‬بل أن النصوص‬ ‫القطع‪ ،‬ويظنون أن‬
‫ِ‬ ‫جتهاد إلى دائرة‬
‫اإل ِ‬
‫ٌ‬
‫من القرآن والسنن معظمها ظنية‪ ،‬ولهذا قال العلماء ‪ ( :‬معظم الشريعة اجتهادية‪ ،‬وذلك ألن‬
‫النصوص معظمها ظنية في شكلها األربعة املتقدمة‪ ،‬وال يكون ذلك إال توسعة للمكلفين )‪.‬‬
‫َ‬
‫قال الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول ‪ ( :‬فإن قيل ‪ِ :‬ل َم ل ْم يجعل هللا في الشريعة أدلة قاطعة‪،‬‬
‫بل جعل معظمها ظنية؟ وذلك توسعة للمكلفين ) ‪ .٢‬وتوسعة املكلفين هي رحمته تعالى ألمته‬
‫حيث جعل لهم اختيارات ما هي أرفق وأصلح لهم‪ .‬ورحم هللا عمر بن عبد العزيز حينما قال‪ :‬ما‬
‫يسرني لو أن أمة محمد ما اختلفت ( أي في املسائل اإلجتهادية )‪.‬‬
‫فبناء على هذا‪ ،‬فإنه ليس من الوجاهة في النظر‪ ،‬وال من السداد في الرأي أن يعتقد‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫أخبار اآلحاد في املسألة يؤدي إلى رفع الخالف‬ ‫نص‪ ،‬وخاصة‬
‫املفتي والفقيه بأن مجرد وجود ٍ‬
‫فيها‪ ،‬ذلك ألن أئمة املذاهب األربعة كما هو معلوم يختلفون اختالفا ظاهرا في تصحيح‬
‫األحاديث وتضعيفها‪ ،‬كما أن لكل إمام منهم شروطه الخاصة لقبول األحاديث وردها‪ ،‬مما يعني‬
‫أن صحة حديث ما عند إمام من األئمة ال يعني بالضرورة صحة ذلك الحديث عند غيره من‬
‫األئمة‪ ،‬كما أن احتجاج إمام بحديث من األحاديث ال يعني بالضرورة وجوب احتجاج غيره من‬
‫األئمة به‪.‬‬
‫وإلى هذا اإلتجاه توجهت نهضة العلماء منذ تأسيسها‪ ،‬فهي من قديم الزمان إلى عصرنا‬
‫هذا قد توجهت حيث توجهت املذاهب املعتبرة من األئمة األربعة دون تمييز بعض على بعض‪،‬‬

‫‪ . 1‬املوافقات للشاطبي‪ ،‬ج‪ ،1 .‬ص‪.٢٩ .‬‬


‫‪ . ٢‬ونقله عن الزركش ي في "البحر" قال ‪ :‬اعلم أن هللا لينصب على جميع األحكام الشرعية أدلة قاطعة‪ ،‬بل جعلها ظنية‪ ،‬قصدا للتوسيع على‬
‫املتكلفين‪ ،‬لئال ينحصروا في مذهب واحد‪ ( .‬إرشاد الفحول‪ .‬ج ‪ ،٢‬ص‪.)٢57 .‬‬

‫‪6‬‬
‫فهم أئمة الهدى وكانوا وما زالوا على حق وصواب‪ ،‬وقد كانت في املشاورة الوطنية سنة ‪ 1٩٩7‬م‬
‫باعا ملالك وأبي حنيفة بتفاصيل‬ ‫قد قررت جواز نبش املقابر ونقل موتاها إلى مكان آخر ات ً‬
‫قوليهما‪.‬‬
‫بل ربما كانوا لجأوا إلى مذاهب الصحابة والتابعين حين رأوه ذلك‪ ،‬ففي املؤتمر الواحد‬
‫والثالثين سنة ‪ ٢٠٠4‬م‪ ،‬أصدرت الفتاوى املهمة عن تعزير بائع املخدرات واستندت مباشرة إلى‬
‫قوله تعالى واألحاديث الصحاح واآلثار الثابتة عن كبار الصحابة والتابعين‪ ،‬فادعاء أن نهضة‬
‫ْ‬
‫صوابا كان أو خطأ‪ ،‬ويركبون في مسألة التمذهب َمت َن عمياء‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تقليدا أعمى‪،‬‬ ‫العلماء يقلدون‬
‫ادعاء ال أساس له من الحق‪ ،‬فهذا اإلدعاء ال محالة كذب وافتراء ال‬‫ٌ‬ ‫فيخبطون خبط عشواء‪،‬‬
‫يخرج إال من قلب حسود‪.‬‬
‫وتأسيسا على هذا‪ ،‬فإن على املفتي والفقيه اإلبتعاد عن اإلنكار على املخالفين له من أهل‬
‫الفتيا في هذه املسائل‪ ،‬كما أن عليه أن يبتعد عن حمل مستفتيه في املسائل اإلجتهادية على رأي‬
‫العلم‪ .‬وبتعبير آخر‬
‫عمل إذا كان العمل مما يقره غيره من أهل ِ‬ ‫من اآلراء‪ ،‬بل عليه أن ي ِق َّره من ٍ‬
‫ال يجوز للعالم واملفتي أن يغير مذهبه في هذه املسائل إلى املذهب الذي يرجحه املفتي‪ ،‬أو يسير‬
‫عليه‪ ،‬وإنما يجب عليه إقرار مستفتيه على ذلك الرأي الذي يختاره من اآلراء واإلجتهادات‬
‫َ‬
‫املعتبرة‪ ،‬وذلك تطبيقا للقاعدة الفقهية األصولية التي تق َّرر‪ :‬ال ينكر املختلف فيه ولكن ينكر‬
‫املؤتلف فيه‪.‬‬

‫أقوال السلف في عدم النكار على املخالفين في املسائل الجتهادية‪.‬‬

‫وقد عبر اإلمام يحيى بن سعيد رحمه هللا عن املنهج الصافي الذي عليه سلف هذه األمة‬
‫رحمهم هللا فقال ما نصه ‪ ( :‬ما برح أولو الفتوى يفتون‪ ،‬فيحل هذا‪ ،‬ويحرم هذا‪ ،‬فال يرى املحرم‬
‫أن املحلل هلك لتحليله‪ ،‬وال يرى املحلل أن املحرم هلك لتحريمه )‪1.‬‬

‫وذهب اإلمام سفيان الثوري رحمه هللا بتحرير هذا املبدأ بصورة جلية فقال ‪ ( :‬إذا رأيت‬
‫غيره‪ ،‬فال َت ْن َهه )‪٢.‬‬
‫الرجل يعمل الذي قد اختلف فيه‪ ،‬وأنت ترى َ‬

‫‪ . 1‬جامع بيان العلم وفضله‪ ،‬ابن عبد البر‪ ،‬ج ‪ ٢‬ص ‪.٨٠‬‬
‫‪ . ٢‬الفقيه واملتفقه‪،‬الخطيب البغدادي‪ ،‬ج ‪ ٢‬ص ‪.٦٩‬‬

‫‪7‬‬
‫الخليفة العباس ي أبي‬ ‫ض‬‫عر َ‬ ‫ض ْ‬‫بن أنس عند ما ر َف َ‬ ‫مالك َ‬ ‫إمام دار الهجرة َ‬ ‫ورحم هللا َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ْ َ‬
‫كتاب بعد‬ ‫واحد في اآلراء اإلجتهادية التي أوردها في أصح ٍ‬ ‫أي ٍ‬ ‫جعفر املنصو ِر حمل الناس على ر ٍ‬ ‫ٍ‬
‫دار بين هذا اإلمام الرباني العظيم‬ ‫نص ما َ‬ ‫كتاب هللا تعالى‪ ،‬إنه كتابه الفريد املوطأ‪ ،‬وهذا ُّ‬
‫والخليفة العباس ي أبي جعفر املنصور ‪ :‬روى ابن عبد البر من طريق الحارث بن أبي أسامة‪ ،‬عن‬
‫مالك بن أنس يقول ‪ :‬ملا َح َّج أبو جعفر املنصور‪،‬‬ ‫محمد بن سعد عن الواقدي‪ ،‬قال ‪ :‬سمعت َ‬
‫آمر بكتابك هذا الذي‬ ‫دعاني‪ ،‬فدخلت عليه‪ ،‬فحادثته‪ ،‬وسألني‪ ،‬فأجبته‪ ،‬فقال ‪ :‬إني عزمت ْأن َ‬
‫َ ً‬ ‫َ َ ً‬ ‫وضع َ‬ ‫ْ‬
‫مصر من أمصار املسلمين منها ن ْسخة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫كل‬ ‫إلى‬ ‫أبعث‬ ‫ثم‬ ‫ا‪،‬‬ ‫خ‬ ‫س‬ ‫ن‬ ‫خ‬ ‫فتنس‬ ‫املوطأ‪،‬‬ ‫يعني‬ ‫ت‬ ‫قد ْ‬
‫وآم َرهم أن يعملوا بما فيها‪ ،‬وال َيت َع ُّدوها إلى غيرها‪َ ،‬وي ْدعو ما سوى ذلك من هذا العلم املحدث‪،‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫َ‬
‫املؤمنين‬ ‫وع ْل َمه ْم‪ .‬قال ( أي اإلمام مالك ) ‪ :‬فقلت‪ :‬يا َ‬
‫أمير‬ ‫ِ ِ‬ ‫املدينة‬ ‫أهل‬ ‫اية‬
‫َ‬
‫أصل العلم رو‬ ‫فإني رأيت َ‬
‫ِ‬
‫أحاديث‪ ،‬ورووا روايات‪ ،‬وأخذ ُّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫!! ال ْ‬
‫كل‬ ‫سبقت إليهم أقاويل‪ ،‬وسمعوا‬ ‫تفعل هذا‪ ،‬فإن الناس قد‬
‫ودانوا به من اختالف أصحاب رسول هللا ﷺ وغيرهم‪َّ ،‬‬ ‫َ‬
‫وأن ر َّدهم‬ ‫ِ‬ ‫قوم بما سبق إليهم‪ ،‬وعملوا به‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ألنفسهم‪ .‬فقال ( أي‬ ‫بلد‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫ِ‬ ‫كل ٍ‬ ‫فدع الناس وما هم عليهم‪ ،‬وما اختار أهل ِ‬ ‫على ما اعتقدوه شديد‪ِ ،‬‬
‫طاو ْع َتني على ذلك ألمرت به‪1.‬‬ ‫أبو جعفر املنصور ) ‪ :‬لعمري لو َ‬
‫وبي َن اإلمام الزركش ي السبب الوجيه الرصين ور َاء النهي عن اإلنكار على املخالف في‬
‫املنكر‪ ،‬إنما يكون فيما اجتمع عليه‪ ،‬فأما‬ ‫ِ‬ ‫املسائل اإلجتهادية‪ ،‬فقال ما نصه ‪ ( :‬اإلنكار من‬
‫صيب أو املصيب واحد وال نعلمه‪ ،‬ولم يزل الخالف‬ ‫مجتهد م ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫كل‬ ‫املختلف فيه‪ ،‬فال إنكار فيه‪ ،‬ألن َّ‬
‫َ‬
‫غيره مجتهدا فيه‪ ،‬وإنما ينكرو َن ما خالف نصا أي‬ ‫نكر أحد على ِ‬
‫ٌ‬
‫السلف في الفروع‪ ،‬وال ي ِ‬ ‫ِ‬ ‫بين‬
‫قطعيا أو إجماعا قطعيا‪ ،‬أو قياسا جليا )‪.٢‬‬
‫عالم ما على املخالفين‬ ‫مفت أو ٌ‬ ‫وتأسيسا على هذا‪ ،‬فإن من غير املقبول شرعا أن يتحامل ٍ‬
‫ومصر‪ .‬إذ ال يجوز ألحد أن يمنع‬ ‫عصر‬ ‫كل‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ونظر في ِ‬ ‫ٍ‬ ‫اجتهاد‬
‫ٍ‬ ‫وستظل محل‬ ‫مسائل كانت‬ ‫له في‬
‫ً‬ ‫اإلجتهاد املتجدد في تلك املسائل ما دام الشرع الكريم قد َ‬
‫أذن باإلجتهاد فيها ثبوتا وداللة‪ .‬وبتعبير‬
‫تكفلت ببيان أحكام الشرع في َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫تلك املسائل‬ ‫آخر‪ ،‬إن كون النصوص الشرعية الواردة التي‬
‫واضح على إذن الشرع‬ ‫ٌ‬ ‫نصوصا ظنية ثبوتا وداللة‪ ،‬أو ثبوتا ال داللة‪ ،‬أو داللة ال ثبوتا ٌ‬
‫دليل‬
‫واحد‪ ،‬وهو أجر اإلجتهاد‪.‬‬ ‫أجر ٌ‬ ‫باإلجتهاد فيها‪ ،‬فمن أراد مراد الشرع منها كان له ٌ‬

‫‪ . 1‬املوطأ‪ ،‬مالك بن أنس‪ ،‬ص ‪.77‬‬


‫‪ .٢‬املنشور في القواعد‪ ،‬للزركش ي‪ ،‬تحقيق تيسير محمود ج ‪ ٢‬ص ‪.14٠‬‬

‫‪8‬‬
‫ويصدق هذا األمر في العصر الحاضر على اختالف العلماء في حكم عدد من املسائل‬
‫املعاصرة‪ ،‬منها اختالفهم في تولي املرأة القضاء والواليات العامة‪ ،‬واختالفهم في اعتماد الحساب‬
‫الفلكي في إثبات الصيام والفطر بديال عن الرؤية‪ ،‬واختالفهم في جواز الرمي ليال في الحج‪،‬‬
‫واختالفهم في اإلحرام بعمرة وحج من مدينة جدة ملن لم يعتمر من أحد من املواقيت املكانية‬
‫املعروفة‪ ،‬واختالفهم في حكم طواف الوداع بين كونه واجبا أو مندوبا‪ ،‬واختالفهم في جواز‬
‫مغادرة منى بعد الغروب في ثاني أيام التشريق‪ ،‬واختالفهم في جواز انتفاع أنزيم الخنزير في مادة‬
‫الجدري أو اللقاح حيثما استحالت‪ ،‬واختالفهم في جواز ذبح دماء الحج في الحل‪ ،‬وغيرها من‬
‫ٌ‬
‫معتبر بين أهل العلم قديما وحديثا‪.‬‬ ‫املسائل التي وقع وال يزال يقع فيها خالف‬
‫والذي يؤسفنا أن بعض العلماء واملفتين هداهم هللا ي ِص ُّرو َن إصرارا عجيبا على نفي‬
‫بعض آخر على اإلنكار على املخالفين لهم فيها‪.‬‬‫الخالف كل الخالف فيها كما ي ِص ُّر ٌ‬
‫من املذاهب اإلسالمية‬ ‫واللطيف بأمر اإلفتاء يعلم حقا أن اإلستفادة بأقوال السلف َ‬
‫املعتبرة ِم ْن أدوات اإلفتاء التي ذكرها األقدمون من لدن اإلمام الهاشمي الشافعي رحمه هللا‬
‫الذي عبر عنها بأقاويل السلف‪ ،‬فإن اإلستفادة منهم تقتض ي اإلبتعاد عن تخطئة اجتهادات أئمة‬
‫املذاهب األخرى‪ ،‬كما تقتض ي منهم عن مهاجمة أئمة املذاهب الفقهية والعقدية والتربوية‬
‫املخالفة له‪ ،‬بل ينبغي عليه أن يقبل بما انتهى إليه عامة أهل العلم باألصول من أن الحق يتعدد‬
‫بتعدد املجتهدين في املسائل اإلجتهادية‪ ،‬كما ينبغي عليه اإليمان بأنه غير محظور شرعا وعقال‬
‫عاقل محق ٌق في أن تلك املذاهب‬
‫يشك ٌ‬ ‫في اتباع أي مذهب من املذاهب اإلسالمية املعتبرة‪ ،‬إذ ال ُّ‬
‫ٍ‬
‫املعتبرة كلها على هدى من هللا تعالى‪.‬‬

‫نعم بطبيعة الحال‪..،‬‬


‫َ‬ ‫َ‬
‫أحد أن يحمل‬‫لكل صاحب رأي أن يزع َم بأن اجتهاده هو األرجح‪ ،‬ولكن ليس من حق ٍ‬
‫الناس على اجتهاده ورأيه مهما ألبسه من لباس العصمة والوجاهة واألرجحية‪ ،‬فالحق في هذه‬
‫املسائل عند عامة محققي األصولية يتعدد بتعدد املجتهدين‪ ،‬وإن لم يتعدد الحق في ذات األمر‬
‫قو َلته لبعض‬‫وعند هللا يوم القيامة‪ .‬ورحم هللا اإلمام أبا عبد هللا أحمد بن حنبل عند ما قال ْ‬
‫َ‬
‫الناس‬ ‫تحم ِل‬
‫يحمل على مذهبه‪ ،‬وال يشدد عليه‪ ...‬وقال أيضا ‪ :‬ال ِ‬
‫أصحابه ‪ ( :‬ال ينبغي للفقيه أن ِ‬
‫على مذهبك‪ ،‬فيحرجوا‪ ،‬دعهم يترخصوا بمذاهب الناس‪1.) ..‬‬
‫ِ‬

‫‪ .1‬البحر املحيط في أصول الفقه‪ ،‬للزركش ي‪ ،‬ج ‪ ٦‬ص ‪.31٩‬‬

‫‪9‬‬
‫تأسيسا لهذا‪ ،‬ال يجوز للعالم واملفتي أن ي َب ِد َع من يرى مشروعية القنوت في الفجر‪ ،‬أو‬
‫املصافحة بعد الصلوات‪ ،‬أو رفع اليدين في الدعاء‪ ،‬وأن ي َف ِس َق َم ْن يرى أن خروج املرأة من بيتها‬
‫الغناء غير الفاحش ٌ‬
‫جائز‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وحدها آمنة من الفتنة جائز‪ ،‬وأن شرب الدخان ليس بحرام‪ ،‬وأن‬
‫ِ‬
‫جائز مطلقا‪ .‬وأنه ليس للمفتي أن‬ ‫القضاء ٌ‬‫َ‬ ‫وأن إسبال اإلزار بال فاحش ٌ‬
‫جائز‪ ،‬وأن تولية املرأة‬
‫وجه املرأة ليس بعورة‪ ،‬وأن إسالمها ال يمنعها من االستمرار في‬ ‫يهاجم َم ْن أفتى من العلماء بأن َ‬
‫العزم على دعوته إلى اإلسالم‪ ،‬كما أجاز ذلك بعض‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫وعقدت‬ ‫زواجها إذا كان ز ْوجها كتابيا‪،‬‬
‫الصحابة رضوان هللا تعالى عليهم‪.‬‬

‫‪ -3‬الضابط الثالث ‪ :‬مراعاة مقاصد الشريعة‪ ،‬واللتفات إلى مآلت األفعال‪.‬‬

‫‪ ‬إذا كانت لألحكام أصول وفروع‪ ،‬فإن لألحكام أيضا مقاصد ووسائل‪.‬‬
‫وإن معرفة املقاصد من أهم املعارف التي يجب على الفقيه واملفتي لصناعة الفتوى‬
‫ُّ‬
‫إتقانها‪ ،‬كما أن عليه أن َي ْرِبط األحكام بمقاصدها تمكينا للمستفتي من حسن التمث ِل واالمتثال‬
‫بهذه األحكام‪ ،‬والنزول عندها‪ ،‬ألن ذلك يكسبه ويجعله طمأنينة في القلب واستقرارا في الفؤاد‪،‬‬
‫وراحة في البال‪.‬‬
‫إن املتدبر في نصوص الكتاب والسنة يجد توسعا من الشارع الحكيم في ربط األحكام‬
‫املقص ِد منه‪ ،‬كما أن الواجبات‬
‫ِ‬ ‫بمقاصدها وغاياتها‪ ،‬فقلما يورد الشرع تحريما دون ِ‬
‫بيان‬
‫َ ُّ‬
‫الشرعية من صالة وزكاة وصوم وغيرها رِبط كلها بمقاصدها وغاياتها‪.‬‬
‫واإلعتصام باملقاصد ال يتوقف عند بيان الحكم واملعاني الثاوية بين طيات النصوص‪،‬‬
‫ولكنه يمتد ليشمل تحكيم املقاصد في االجتهادات املأثورة عن أئمة الهدى من الصحابة‬
‫والتابعين وتابعيهم‪ ،‬كما يمتد لينتظم عرض جميع االجتهادات املنسوجة حول النصوص الظنية‬
‫على املقاصد‪ ،‬فما انسجم من تلك االجتهادات مع مقاصد الشرع يجب االعتماد به‪ ،‬وما عارضها‬
‫أو خالفها‪ ،‬وجب صرف النظر عنه اعتبارا بأن مقاصد الشرع حاكمة ومعيارا وميزانا على‬
‫االجتهادات‪ .‬وهذا السبكي يذكر أن استيعاب املقاصد شرط من شروط كمال رتبة االجتهاد‪،‬‬
‫فقال في اإلبهاج ‪ :‬أن يكون له منة املمارسة والتبع ملقاصد الشريعة ما يكسبه قوة يفهم منها مراد‬
‫الشرع من ذلك‪1.‬‬

‫‪ . 1‬اإلبهاج في شرح املنهاج‪ ،‬للسبكي‪ ،‬ج‪ ،1.‬ص ‪.٨ .‬‬

‫‪10‬‬
‫‪ ‬املقاصد العامة والخاصة في الشريعة‪.‬‬
‫تحقيقا لهذا البعد في املقاصد‪ ،‬فإنه يجب على املفتي معرفة مقاصد الشريعة العامة‬
‫املتمثلة في الحفاظ على الضروريات والحاجيات والتحسينيات‪ ،‬كما يجب عليه معرفة مقاصد‬
‫الشرع الخاصة بأبواب الفقه‪ ،‬بدأ بمقاصد الشرع في العبادات من القيام بواجب العبودية‬
‫من إشباع الرغبة الجنسية ( ويتفرع عنه العفة‬ ‫وتحقيقها‪ ،‬ومقاصد الشرع في املناكحات ‪ْ :‬‬
‫والحياء ) وتحقيق التناسل الشرعي وتحقيق السكينة للزوجين‪ ،‬ومقاصد الشرع في املعامالت‬
‫‪ :‬من إثبات التملك والتكسب والرواج في املال‪ ،‬ومقاصد الشرع في الجنايات ‪ْ :‬‬
‫من تأديب الجاني‬
‫وإرضاء املجني عليه وزجر املقتدي بالجناية‪ ،‬ومقاصد الشرع في السياسات ‪ :‬وهي تحقيق‬
‫مصلحة املكلفين من حفظ كرامة اإلنسان‪ ،‬والعدل‪ ،‬وحرية االختيار‪ ،‬والسماحة‪ ،‬والتيسير‪،‬‬
‫والتكافل االجتماعي‪ ،‬بل إنه يجب عليه أن يستفرغ طاقته من أجل الوقوف على مقاصد الشرع‬
‫في أبواب العقيدة والتربية‪ ،‬وذلك اعتبارا بأن للشرع مقاصد عامة وخاصة في جميع أحكامه‬
‫سواء تلك األحكام عقدية أم فقهية أم تربوية‪ ،‬وينبغي للمفتي أن يتشبع من هذه املقاصد‬
‫ليعرض عليها اإلجتهادات القديمة والجديدة‪ ،‬وليفرغ إليها عند الهم بترجيح رأي اجتهادي على‬
‫آخر‪ .‬فيلزم على علماء النهضة أن يعتمدوا على هذه املقاصد قبل إصدار الفتوى‪ ،‬بل كانوا قد‬
‫قعدوا قرارات قواعد التقنين على هذا البعد املقصدي‪ ،‬ففي املؤتمر الثاني والثالثين الذي عقد‬
‫ً‬
‫استنادا كليا على‬ ‫بمكاسر سنة ‪ ٢٠1٠‬م أصدروا القرار حول مسائل الزكاة‪ ،‬كله يعتمد ويستند‬
‫مقاصد الشريعة‪.‬‬

‫‪ ‬اللتفات إلى مآلت األفعال‬


‫إذا كان استحضار املقاصد ضابطا منهجيا مهما ينبغي للمفتي والفقيه اإللتزام به‬
‫والصدور عنه‪ ،‬فإن اإللتفات إلى املآالت التي تؤول إليها األحكام ي َع ُّد مكمال لهذا الضابط في غاية‬
‫فة باإلفتاء َ‬ ‫َ‬ ‫األهمية واملوضوعية‪ ،‬وذلك َّ‬
‫التثبت‬
‫ِ‬ ‫قبل‬ ‫يعصمه من املجاز ِ‬
‫ِ‬ ‫املآالت‬ ‫إلى‬ ‫ه‬ ‫التفات‬ ‫ألن‬
‫والتفكر في اآلثار النفسية واإلجتماعية والسياسية والثقافية‪ ،‬كما أن اإللتفات إلى املآالت عند‬
‫الهم باإلفتاء يصير املفتي معالجا صادقا مخلصا في فتواه‪ ،‬إذ ال يتسرع إلى إعطاء الوصفة قبل‬
‫الفحص والتأكد من أثر األدوية على من يعالجه‪ ،‬ذلك ألن الفتوى في حقيقتها دواء يقدمه املفتي‬
‫للمستفتي كما قيل املفتي في األديان بمنزلة الطبيب في األبدان‪ ،‬فإذا لم يراع ما سيفض ي إليه‬
‫الدواء‪ ،‬فإنه سيضر املستفني من حيث يحسب أنه ينفعه ويحسن إليه‪ ،‬وربما زاد في دائه‪ ،‬وأراده‬

‫‪11‬‬
‫قتيال‪ ،‬ورحم هللا الشاطبي الذي نبهنا على أهمية النظر إلى املآالت حيث قال ما نصه املوافقات‪1‬‬

‫باختصار وتصرف ‪:‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫مقصود شرعا‪ ،‬كانت األفعال موافقة أو مخالفة‪ ،‬وذلك أن‬ ‫معتبر‬ ‫( النظر إلى مآالت األفعال‬
‫فعل من األفعال الصادرة عن املكلفين باإلقدام أو باإلحجام إال بعد نظره‬ ‫املجتهد ال يحكم على ٍ‬
‫مآل على‬‫ملفسدة تدرأ‪ ،‬ولكن له ٌ‬
‫ٍ‬ ‫إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل‪ ،‬مشروعا ملصلحة فيه تستجلب‪ ،‬أو‬
‫ملفسدة تنشأ عنه‪ ،‬أو مصلحة تندفع به‪ ،‬ولكن له‬ ‫فيه‪ ،‬وقد يكون َ‬
‫غير مشرو ٍع‬ ‫َ‬
‫ٍ‬ ‫خالف ما ق ِصد ِ‬
‫مآل على خالف ذلك‪ ،‬فإذا أطلق القول في األول باملشروعية‪ ،‬فربما أدى استجالب املصلحة فيه‬
‫إلى مفسدة تساوى املصلحة أو تزيد عليها‪ ،‬فيكون هذا مانعا من إطالق القول‬
‫باملشروعية‪...‬فالنظر في مآالت األفعال مجال للمجتهد صعب املورد‪ ،‬إال أنه عذب املذاق‪،‬‬
‫محمود الغب‪ ،‬جار على مقاصد الشريعة )‪.‬‬
‫نوعا من أنواع اإللتفات إلى مآالت األفعال حيث‬ ‫وقد عد الشاطبي رحمه هللا سد الذرائع ً‬
‫قال ‪ ( :‬وكذلك األدلة الدالة على سد الذرائع كلها‪ ،‬فإن غالبها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير‬
‫جائز‪ ،‬فاألصل على املشروعية لكن مآله غير مشروع )‪٢.‬‬

‫وتأسيسا على هذا‪ ،‬فإنه يجب على املفتي والفقيه أن يتعرف على مآالت األفعال‪ُّ ،‬‬
‫وتعرفه‬
‫على املآالت يتوقف توقفا أساسا على تمكنه من معرفة الناس من جهة‪ ،‬ومن معرفة الواقع‬
‫الفكري والسياس ي واالجتماعي والثقافي الذي يعيش فيه الناس من جهة أخرى‪ ،‬وال تمكين له‬
‫من هاتين املعرفتين إذا لم يستوعب بأهم مبادئ العلوم اإلنسانية املعاصرة التي تعتبر أدوات‬
‫كاشفة عن املآالت واآلثار الناجمة عن األفعال‪ .‬فعلماء النهضة يستشعرون في هذا استشعا ًرا‬
‫يستجلب لهم بإصدار القرار بوجوب النظر وااللتفات إلى املآالت الفكرية والسياسية‬
‫أيضا قراراتان حول الحفاظ‬ ‫واالجتماعية واالتقصادية والثقافية قبل إصدار الفتوى‪ 3.‬ولهم ً‬
‫على البيئة تدالن على شدة اعتنائهم وقوة التفاتهم إلى مآالت األفعال‪4.‬‬

‫‪ . 1‬املوافقات‪ ،‬للشاطبي‪،‬ج‪ 4 .‬ص‪ ،553 .‬باختصار وتصرف‪.‬‬


‫‪ . ٢‬املوافقات‪ ،‬للشاطبي‪،‬ج‪ ،5 .‬ص‪.1٨٢ .‬‬
‫‪ . 3‬قررت املشاورة الوطنية في المفنج سنة ‪ 1٩٩٢‬م عن وجوب النظر إلى املآالت االجتماعية والسياسية والثقافية قبل اإلفتاء‪ ،‬وبهذا االعتبار‬
‫دفعا لالضطرابات بسبب فراغ الرئاسة وهذا‬ ‫أثبت املؤتمر لجمعية نهضة العلماء سنة ‪ 1٩54‬بسربايا سوكرنو كولي األمر الضروري بالشوكة ً‬
‫نفس االلتفات إلى املآالت على سبيل السد للذرائع‬
‫‪ .4‬كلتاهما أصدرت سنة ‪ 1٩٩4‬م في املؤتمر التاسع والعشرين‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫‪ -4‬الضابط الرابع ‪ :‬مراعاة الو اقع من الفكر السياس ي والجتماعي والقتصادي‬

‫إن الواقع يمثل املحل الذي ينزل فيه الحكم الشرعي‪ ،‬وهو دائب التغير والتبدل والتحول‬
‫والتأثر‪،‬لذلك‪ ،‬فإن مراعاة الواقع والتعرف عليه قبل اإلفتاء من األمر الضروري الالزم أن‬
‫يلتفت املفتي والفقيه إلى الواقع الذي يعيش فيه املستفتي‪.‬‬
‫واقعها الفكري والسياس ي واإلجتماعي واإلقتصادي‪ ،‬وأن‬ ‫وذلك ألن للشعوب واألمم َ‬
‫حياتهم تتأثر بما يستجد في ساحتهم من تطورات وتغيرات التي البد للمتصدين على اإلفتاء‬
‫مراعاة تلك التغيرات والتطورات للتعامل الرشيد مع النوازل واملستجدات‪ ،‬بعيدا عن الجمود‬
‫في املنقوالت والفتاوى القديمة‪ ،‬بل يجب عليهم إذا أرادوا أن يفتوا في املسائل السياسية القائمة‬
‫أن ينطلقوا في فتاواهم من الفهم الرشيد للواقع السياس ي مستندين في ذلك إلى األصول‬
‫النظم السياسية‬ ‫الشريعة العامة‪ ،‬و املقاصد الشريعة الكبرى‪ ،‬ومآالت األفعال املعتبرة‪ ،‬إذ ُّ‬
‫املعاصرة من ديمقراطية وليبرالية واشتراكية والدولة الوطنية تخالف عن النظام السياس ي‬
‫السابق خالفا بينا السيما بعد أن كان قرار األمم املتحدة ميثاقا غليظا لجميع أعضائها‪.‬‬
‫َ‬
‫وكذلك في الفتاوى اإلقتصادية املعاصرة‪ ،‬فإن على املفتي املعاصر أن يتعرف تعرفا‬
‫عميقا على الواقع االقتصادي من أجل بيان حكم الشرع في مستجدات املال واألعمال‪ ،‬وفي ذلك‬
‫تمكين لشرع هللا من الوقوع الفعلي في دنيا الناس‪.‬‬
‫ومن الجدير بالذكر‪ ،‬أن مراعاة الواقع ال تتوقف على استحضار الظواهر التي تؤثر في‬
‫الواقع من سياسية وفكر واجتماع واقتصاد‪ ،‬وإنما تنتظم ضرورة التفريق بين الواقع الفردي‬
‫والواقع املجتمعي‪ ،‬إذ لكل واحد من هذين الواقعين خصائصه وقضاياه‪ ،‬مما يوجب على املفتي‬
‫التنبه له‪ ،‬وإصدار الحكم الذي يناسب كل واحد منهما تقويما وترشيدا له‪ .‬فال غرو ملا أعادت‬
‫توفيقا بين الواقع السابق والواقع الحاضر اللذان يختلفان تمام‬ ‫ً‬ ‫قرارات النهضة النظر‬
‫اإلختالف حسب الظروف واألزمنة‪ ،‬فإعادتهم النظر أمر ال بأس به ( بل الزم ) في الوقائع التي ال‬
‫تزال متحركة ومتغيرة التحاد الكيان بين التغير والواقع اللذان هما جزءان ال ينفصالن من‬
‫فطرة الفقيه كما قد بيناه في الضابط األول في وجوب املعرفة والتفريق بين الثوابت واملتغيرات‪1.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫مطلقا‪ ،‬وأكدت هذا القرار املشاورة الوطنية سنة ‪ 1٩٦٠‬م‪ ،‬وبعد ثالثين سنة‬ ‫‪ .1‬فمثال قرر املؤتمر الرابع عشر سنة ‪ 1٩3٩‬م حرمة التأمين‬
‫وتحديدا سنة ‪ 1٩٩٢‬م أعادت املشاورة الوطنية النظر في تفاصيل أحكام التأمين‪ ،‬وأعادت ً‬
‫أيضا املشاورة الوطنية سنة ‪ 1٩٩٢‬م النظر في‬ ‫ً‬
‫أحكام الفوائد املصرفية التي كانت قد تم قرار تحريمها في املؤتمرات السابقة‬

‫‪13‬‬
‫ولألصوليين عن هذه القضية‪ ،‬أعني إعادة النظر‪ ،‬بحث يطول ذكره‪ ،‬وحاصله ‪ :‬أنه يجب‬
‫تجديد النظر إذا تكررت الواقعة وتجدد ما يقتض ي الرجوع ولم يكن ً‬
‫ذاكرا للدليل األول‪.‬‬
‫ومما ال بد من ذكره ما قررته نهضة العلماء سنة ‪ ٢٠1٩‬م في بنجار فاترومان جاوة‬
‫الغربية‪ ،‬بتسمية غير املسلمين مواطنين عند مفهوم الوطنية‪ ،‬وهذا القرار منهم نوع من أنواع‬
‫املراعاة للواقع السياس ي واإلجتماعي‪ ،‬ولي عن هذا القرار ‪:‬‬
‫جنسكم تكن من الرخي‬ ‫َ‬ ‫مواط ٌن ال ٌ‬
‫كافر قل يا أخي ‪ #‬أبناء ِ‬ ‫ِ‬

‫‪ -5‬الضابط الخامس ‪ :‬مراعاة العادات والتقاليد واألعراف الصحيحة‬

‫لئن قلنا إن معرفة الواقع ومراعاته قبل اإلفتاء من األمر الضروري الالزم أن يلتفت‬
‫املفتي أو الفقيه إلى الواقع الذي يعيش فيه املستفتي‪ ،‬فإن عليه أيضا أن يراعي عادات املستفتي‬
‫وتقاليده وأعرافه وال يجوز له الجمود على املسطور واملنقول في الكتب‪ ،‬ألن العادات والتقاليد‬
‫واألعراف تجددت وتتغيرت بتغير األزمنة واألمكنة‪.‬‬
‫َ‬
‫سقطه‪ ،‬وال تجم ْد‬
‫قال القرافي في الفروق ‪ ( :‬فمهما تجدد العرف اعتبره‪ ،‬ومهما سقط أ ِ‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫جريه‬‫عمرك‪ ،‬إذا جاء رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك‪ ،‬فال ت ِ‬ ‫الكتب طول ِ‬
‫ِ‬ ‫على املسطو ِر في‬
‫على عرف بلدك‪ ،‬واسأله غن عرف بلده‪ ،‬وافته به دون عرف بلدك واملقرر في كتبك‪ ،‬فهذا هو‬
‫بمقاصد علماء املسلمين‬
‫ِ‬ ‫الحق الواضح‪ ،‬والجمود على املنقوالت أبدا ضالل في الدين‪ ،‬وجهل‬
‫والسلف املاضين‪1.) ..‬‬

‫ولئن أردنا تطبيقا لهذا الضابط في عصرنا الراهن‪ ،‬فإن الفتاوى واإلجتهادات حول‬
‫املسائل املتصلة باملرأة املسلمة تأثرت في كثير من األحيان بالعادات والتقاليد واألعراف التي‬
‫كانت سائدة آنذاك‪ ،‬أمثال حدود وطبيعة مشاركة املرأة املسلمة في الحياة اإلجتماعية‬
‫واإلقتصادية والسياسية والثقافية جنبا مع جنب مع شقيقها الرجل‪ ،‬فإن العادات والتقاليد‬
‫واألعراف التي تجري في أندونيسيا نحو هذه املسائل تخالف عما جرت في أفغانستان أو بالد‬
‫أخرى‪ ،‬فال يجوز للمفتي والفقيه‪ ،‬مثال أن يمنع ويحرم املرأة املسلمة في مشاركتها الحياة‬
‫ً‬ ‫السياسة بسرد حديث ( لن يفلح قوم ولوا َ‬
‫أمرهم إمرأة )‪ ٢‬بدون النظر إلى تلك العادات‬

‫‪ . 1‬الفروق‪( ،‬أنوار البروق في أنواء الفروق)‪ ،‬للقرافي‪ ،‬ج‪ ،1 .‬ص‪.17٦ .‬‬


‫‪ . ٢‬رواه البخاري (‪.)44٢5‬‬

‫‪14‬‬
‫والتقاليد واألعراف‪ ،‬كما ال يجوز للمفتي والفقيه أن يخصص النساء بأحكام والرجال بأحكام‬
‫أخرى سواء في مجال السياسة واإلجتماع واإلقتصاد ما لم يكن ثمة نص صريح قاطع من الشرع‬
‫يخصص أحدهما بمهمة دون اآلخر‪ ،‬وبهذا املبدأ أصدر علماء النهضة الفتوى بجواز خروج املرأة‬
‫نوعا من أنواع رعاية التقاليد والعادات‬‫للعمل بشرط أمن الفتنة‪ ،‬وهذا القرار منهم ليس إال ً‬
‫الشائعة في البالد األندونيس ي‪ 1.‬ومن أمثلة رعايتهم التقاليد فتواهم في جواز استعراض قمة‬
‫ً‬
‫قباب املسجد حول البلد رجاء للفأل وتبركا به واستدل عليه بأنه ال ش يء من كتبنا الفقهية التي‬
‫توارثناها عن األسالف يشير بأدنى اإلشارة على عدم جواز ذلك التقليد اإلجتماعي‪ ،‬فأفتوا‬
‫بجوازه‪٢.‬‬

‫مفت عن حكم الشرع في ز ٍي من األزياء من حيث‬ ‫فعلى سبيل املثال أيضا‪ ،‬إذا استفتي ٍ‬
‫كونه زيا ِرجاليا أم زيا ِنسائيا استنادا إلى الحديث النبوي الشريف الذي أخرجه البخاري في‬
‫صحيحه عن عبد هللا بن عباس رض ي هللا عنهما‪ ،‬قال رسول هللا ﷺ ‪ :‬لعن هللا املتشبهين من‬
‫الرجال بالنساء‪ ،‬واملتشبهات من النساء بالرجال )‪ ،‬فإن تنزيل هذا الحكم على زي من األزياء يجب‬
‫أن يتم اإلعتداد فيه بمراعاة األعراف والعادات والتقاليد‪ ،‬ألن الشرع الكريم اكتفى في مسألة‬
‫الزي بوضع تلك الشروط والضوابط التي يجب توافرها في الزي ليغدو َزيا إسالميا بغض النظر‬
‫بلد كجمهورية‬‫عن كونه إزارا أو قميصا أو سرواال أو بنطلونا أو سوى ذلك‪ ،‬فالبنطلون في عرف ٍ‬
‫أندونيسيا قبل سنوات قديمة زيا رجاليا خالصا‪ ،‬فإذا لبسته امرأة عدت متشابهة بالرجال‪،‬‬
‫بينما اآلن صار زيا مشتركا بين الرجال والنساء في بلدنا وفي بلدان أخرى كجمهورية باكستان‬
‫عد في عرف كثير‬‫اإلسالمية‪ ،‬فال يمكن اعتبار املرأة التي تلبسه متشبهة بالرجال‪ ،‬وكذلك اإلزار ي ُّ‬
‫من البلدان كجمهورية تركيا ومصر وغينيا والسنغال وغيرها زيا نسائيا‪ ،‬فإذا لبسه رجل في تلك‬
‫الدول ع َّد متشبها بالنساء‪ ،‬خالفا ملا هو الحال في عدد من دول جنوب شرق آسيا كأندونسيا‬
‫وماليزيا وبروناي حيث يعتبر اإلزار زيا مشتركا بين الرجال والنساء في عرف هذا الدول‪ .‬فمن لبسه‬
‫ال يمكن اعتباره متشبها بالنساء‪ ،‬كما أن من لبسته ال تعتبر متشبهة بالرجال‪ .‬وهذه القضية من‬
‫قبيل تحقيق مناط الحكم الذي قال فيه الغزالي ‪ :‬تسعة أعشار النظر الفقهي‪.‬‬

‫‪ .1‬قرارات املؤتمرالثامن سنة ‪ 1٩33‬م بجاكرتا‬


‫‪ .٢‬قرار املؤتمر الثالث سنة ‪ 1٩٢٨‬م بسرابايا‬

‫‪15‬‬
‫‪ -٦‬الضابط السادس‪ :‬البتعاد عن إصدارالفتاوى واستيرادها خارج بيئتها‬

‫إذا كانت مراعاة العادات والتقاليد واألعراف الصحيحة ضابطا من الضوابط‬


‫املوضوعة الهامة التي ينبغي للمفتي والفقيه اإللتزام بها‪ ،‬فإن املكمل لهذا الضابط هو اإلبتعاد‬
‫عن تصدير الفتاوى واستيرادها خارج البيئات التي نشأت فيها‪.‬‬
‫واملراد بتصدير الفتوى خارج البيئات هو أن ينقل املفتي والفقيه الفتاوى والقرارات التي‬
‫اجتهدها ملجتمعه ومستفتيه خارج البيئة التي يعيش فيها دون اعتبار لخصائص تلك البيئة التي‬
‫ينقل إليها فتاواه‪ ،‬أو بتعبير آخر أن املفتي والفقيه فتواه ال تخضع لتأثيرات الزمان واملكان‪ ،‬وال‬
‫غض‬ ‫لتغير البيئات واألوضاع‪ ،‬بل يراها صالحة للتطبيق والتنزيل في جميع األقطار واألمصار ِب ِ‬
‫النظر عن ذلك التفاوت واإلختالف في خصائص البيئات‪.‬‬
‫أما استيراد الفتوى فهو أن ينقل املفتي والفقيه الفتاوى التي أصدرها غيره من املفتين‬
‫قديما وحديثا في بالد ما وفي بيئات من البيئات إلى البيئة التي يعيش فيها دون تحقق من مدى‬
‫وجود توافق أو تطابق بين البيئة الجديدة والبيئة القديمة التي نشأت فيها الفتوى املستوردة‪،‬‬
‫كما أننا نروم باستيراد الفتاوى أن يكتفي املفتي بنقل تلك الفتاوى التي صنعها املفتون وأصدرها‬
‫العاملون السابقون في مصنفاتهم ومدوناتهم‪ ،‬وتنزيل تلك الفتاوى القديمة على الواقعات‬
‫الجديدة املستحدثة في امللة‪ ،‬بدون اعتبار اإلختالف بين خصائص الواقع‪.‬‬
‫كل منهما مخالفة للمنهج الذي كان يسير عليه‬ ‫إن كال األمرين "التصدير واالستيراد" يعد ٌّ‬
‫األسالف من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة اإلجتهاد في فتاواهم‪ ،‬بل إن كل واحد منهما ُّ‬
‫يعد‬
‫وق َع عن هللا جل جالله‬‫خيانة ألمانة الفتوى‪ ،‬وأمانة التوقيع عن رب العاملين‪ ،‬إذ أن للمرء أن ي ِ‬
‫في ش يء قبل أن يتأكد من كون ذلك املحل هو املحل الذي أمر بالتوقيع فيه عن رب العاملين‪.‬‬
‫ً‬
‫وإذا قرأنا ما تركه لنا األقدمون من الفتاوى نجد أن هناك فروقا وسياقات ال سبيل لها إلى‬
‫ً‬
‫التوافق‪ ،‬فمثال أفتى شيخ املالكية الطرطوش ي بأن الحج حرام على أهل املغرب لبعد املسافة‬
‫ذهابا فقط ً‬
‫وكثيرا ما لقي في سبيله إلى مكة‬ ‫وكان أهل املغرب أفنى سنتين من عمره ألداء الحج ً‬
‫ما يلقيه إلى التهلكة‪ ،‬فال غرو ملا قرأنا فتوى الطرطوش ي بأنه يقول ‪ :‬فمن غر‪ ،‬يعني من الغرور‬
‫وحج سقط فرضه ولكنه آثم بما ارتكب من الغرر‪ .‬وإذا أصدرنا هذه الفتيا عن سياقها الزماني‬
‫واملكاني كنا ضالين ومضلين‪ ،‬نعوذ باهلل من شر ذلك‪ ،‬وكذا لو استوردنا هذه الفتوى إلى سياق‬
‫آخر مختلف كل اإلختالف‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫نعم‪ ،‬هناك فرق بين استيراد الفتوى بما يسمونه "االعتبار بأقوال املفتين والعاملين السابقين"‬
‫فإنه ليس فقط مجرد النقل من فتاواهم ومصنفاتهم‪ ،‬وإنما هناك توافق أو تطابق في الوا ِق َعين‬
‫َ‬
‫تين‪ ،‬فالعلماء يجوزون هذا اإلعتبار بأقوال املفتين اآلخرين والعاملين السابقين وال‬ ‫والبيئ ِ‬
‫ِ‬
‫يسمونه باستيراد الفتاوى املمنوع املذموم ‪.‬‬
‫ولعل بعض أهل العلم يقول ‪ :‬أننا نرى كثيرا في قرارات نهضة العلماء ومجلس العلماء ‪:‬‬
‫قال الحنفية‪ ،‬قال املالكية‪ ،‬قال الشافعية‪ ،‬قال الحنابلة في مسألة ما‪ ،‬وقرر دار اإلفتاء للديار‬
‫املصرية أن املسألة الفالنية حكمها كذا‪ ،...‬وقرر مجمع الفقه اإلسالمي مثال أن جدة ومطارها‬
‫تصح ألن تكون ميقاتا للحجاج والعمار‪ ،‬فإن ذلك ال يسمى باستيراد الفتوى ونقلها عن املفتين‬
‫اآلخرين بمجرد النقل بل إذا كان هناك توافق وتطابق في األدلة والواقع فإن العلماء يسمونه‬
‫باإلعتبار بأقوال املجتهدين‪ .‬فمن أمعن النظر إلى قرارات نهضة العلماء كل اإلمعان وجد بأن‬
‫املسائل التي نقلوها من كتب الفتاوى القديمة ليست من قبيل اإلصدار واإلستيراد للفتاوى‪ ،‬بل‬
‫كانت من جملة اإلعتبار بأقوال املجتهدين حين تطابق الواقع والدليل أو كان من جملة إلحاق‬
‫املسائل بنظائرها‪.‬‬

‫‪ -7‬الضابط السابع ‪ :‬مراعاة أقدار التدين في النفوس‬

‫من املعلوم لدى العامة والخاصة أن أحكام الشرع متوزعة على الواجبات واملندوبات‪،‬‬
‫واملحرمات‪ ،‬واملكروهات‪ ،‬واملباحات‪ ،‬كما أنه قد تقدم الذكر أن تعاليم الشرع الحنيف ليست‬
‫َ‬
‫على مرتبة واحدة‪ ،‬فثمة أصول‪ ،‬وهناك فروع‪ ،‬وأن الناس متفاوتون في أقدارهم التدين ودرجات‬
‫تحمل الدين‪ ،‬الختالف كسبهم الديني‪ ،‬والتزامهم األخالقي بتعاليم الدين‪ .‬وتأسيسا على هذا‪ ،‬فإن‬
‫على املفتي والفقيه أن يراعي عند اإلفتاء والبحث عن مسائلهم هذه األقدار املتفاوتة بين الناس‬
‫بحيث يختار ما يناسب قدر التدين في نفسه‪ ،‬كما ينتقي من اإلجتهادات ما يتناسب مع اإلمكان‬
‫اإللتزامي التديني ملختلف املستفتين والعوام‪ ،‬ويجب على املفتي اإلعتداد به لتكون فتاواه‬
‫محققة مقاصد الشارع‪.‬‬
‫َ‬
‫تحقيق املناط الخاص‬ ‫واإلمام الشاطبي قد أصل هذا الضابط في موافقاته‪ 1‬وسماه‬
‫حينما قال‪.. .( :‬فتحقيق املناط الخاص نظر في مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدالئل‬

‫‪ .1‬املوافقات‪ ،‬ج‪ ،4 .‬ص‪.73٠-7٢٩ .‬‬

‫‪17‬‬
‫التكليفية‪ ،‬بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان‪ ،‬ومداخل الهوى‪ ،‬والحظوظ العاجلة‪ ،‬حتى‬
‫يلقيها هذا املجتهد على ذلك املكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك املداخل‪ ،‬هذا بالنسبة إلى‬
‫التكليف املنحتم وغيره‪ ،‬ويختص غير املنحتم بوجه آخر‪ :‬وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في‬
‫نفسه بحسب وقت دون وقت‪ ،‬وشخص دون شخص‪ ،‬إذ النفوس ليس في قبول األعمال‬
‫َّ‬
‫عمل صالح يدخل بسبه على‬ ‫الخاصة على وزن واحد‪ ،‬كما أنها في العلوم والصنائع كذلك‪ ،‬فرب ٍ‬
‫عمل يكون حظ النفس والشيطان‬ ‫َّ‬
‫رجل ضرر أو فترة‪ ،‬وال يكون كذلك بالنسبة إلى آخر‪ ،‬ورب ٍ‬
‫عمل آخر‪ ،‬ويكون بريئا من ذلك في بعض األعمال دون‬ ‫فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في ٍ‬
‫بعض‪ ...‬والدليل على صحة هذا اإلجتهاد‪..‬أن النبي سئل في أوقات مختلفة على أفضل األعمال‪،‬‬
‫وخير األعمال‪ ،‬وعرف بذلك في بعض األوقات من غير سؤال‪ ،‬فأجاب بأجوبة مختلف‪ ،‬كل واحد‬
‫التضاد في التفضيل‪ .‬ففي الصحيح أنه‬ ‫َ‬ ‫منها لو حمل على إطالقه وعمومه القتض ى مع غيره‬
‫سئل‪ُّ :‬‬
‫أي األعمال أفضل؟ قال ‪ ( :‬إيمان باهلل )‪ ،‬قال‪ :‬ثم ماذا؟ قال‪ ( :‬الجهاد في سبيل هللا )‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ثم ماذا؟ قال ‪ ( :‬حج مبرور )‪ .‬وسئل أي األعمال أفضل؟ قال‪ ( :‬الصالة على وقتها ) قال ‪ :‬ثم أي؟‬
‫قال‪ ( :‬بر الوالدين ) قال ثم أي؟ قال‪ ( :‬الجهاد في سبيل هللا )‪ .‬وفي النسائي عن أبي أمامة‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫عنك؟ قال ‪ ( :‬عليك بالصوم‪ ،‬فإنه ال َ‬
‫مثل له )‪ .‬وفي الترمذي ‪ :‬أي‬ ‫أتيت فقلت ‪ :‬مرني بأمر آخذه َ‬
‫ٍ‬
‫األعمال أفضل درجة عند هللا يوم القيامة؟ قال ‪ ( :‬الذاكرون هللا كثيرا والذاكرات )‪ .‬وفي‬
‫الصحيح في قول ‪ ( :‬ال إله إال هللا وحده ال شريك له )‪ ...‬قال ‪ ( :‬ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به‬
‫)‪ .‬وفي النسائي ‪ ( :‬ليس شيئ أكرم على ذلك من الدعاء )‪ ..‬وفيه ‪ ( :‬أفضل العبادة انتظار َ‬
‫الفرج )‬
‫إلى أشياء من هذا النمط‪ ،‬جميعها يدل على أن التفضيل ليس بمطلق‪ ،‬ويشعر إشعارا ظاهرا‬
‫بأن القصد إنما هو بالنسبة إلى الوقت‪ ،‬أو إلى حال السائل‪.‬‬
‫وقد سار الصحابة رضوان هللا تعالى عليهم على هذا املنهج النبوي في مراعاة هذا الضابط‬
‫عند اإلفتاء‪ ،‬كابن عباس فيما أخرجه أبو داود في سننه في كتاب األدب‪ ،‬وابن أبي شيبة في‬
‫املصنف في كتاب الديات عن عبد بن حميد عن سعد بن عبيدة ‪ ( :‬أن ابن عباس رض ي هللا‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫جل فسأله أملَ ْن َ‬
‫عنهما ملا جاءه ر ٌ‬
‫قتل مؤمنا توبة؟ كان يقول ‪ :‬ال‪ ،‬إال النار‪ ،‬فلما قام الرجل‪ ،‬قال‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫كنت هكذا تفتينا‪َ ،‬‬‫له جلساؤه ‪ :‬ما َ‬
‫كنت تفتينا ‪ :‬أن ملن قتل مؤمنا توبة مقبولة‪ ،‬فما شأن هذا‬
‫اليوم؟ قال إني أظنه رجال يغضب‪ ،‬يريد أن يقتل مؤمنا!! فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك )‪.‬‬ ‫َ‬
‫وتأسيسا لهذا الضابط الهام‪ ،‬فإن للمفتي والفقيه أن يعرف ويراعي أقدار تدين الناس‬
‫واختالف كسبهم الديني والتزامهم األخالقي بتعاليم الدين ألن تكون فتوى موافقا ملقاصد الشارع‬

‫‪18‬‬
‫واملكلف ال ألجل الهوى‪ .‬فمن أمثلة تلك املسائل مسألة حدود املرأة املسلمة أمام الرجل األجنبي‪،‬‬
‫ومسألة إسبال اإلزار بال بطر‪ ،‬ومسألة اإلستماع إلى الغناء غير الفاحش‪ ،‬ومسألة التهنئة‬
‫والتحية بميالد عيس ى عليهم السالم للنصارى‪ ،‬وسواها من املسائل اإلجتهادية القديمة‬
‫والحديثة التي تسبب اليوم مع األسف نزاعا شديدا وصداما غريبا بين الشعوب والطوائف‬
‫اإلسالمية في أنحاء املعمورة وأندونسيا بوجه أخص‪ ،‬فإن املفتي والفقيه تجاه هذه املسائل ال بد‬
‫من مراعاة أقدار التدين كما نهج به الرسول ﷺ‪ ،‬وسار على نهجه الصحابة واألئمة األقدمون‪.‬‬
‫َ‬
‫وللتعليالت الفقهية ما يسمى بعموم البلوى الذي يسوغ قضايا منهية جائزة املباشرة‪،‬‬
‫وللعارف الشعراني فكرة فريدة لم يسبق إليها أحد قبله‪ ،‬وسماها امليزان الكبرى‪ ،‬وترجع فكرة‬
‫الشعراني إلى أن لالختالفات الفقهية ميز ًانا يرجع إليها أفراد الناس‪ ،‬فكان املحتاطون يراعي قول‬
‫من قال بالتخفيف واملتساهلون يراعي قول من قال بالتشدد‪ ،‬فما هذا إال املراعاة لألقدار بين‬
‫الناس‪ ،‬فهذه كلها ما سبقنا إليه أسالفنا الصالحون عن هذا الضابط الفريد‪.‬‬

‫‪ -8‬الضابط الثامن ‪ :‬التفريق بين املسائل العامة واملسائل الخاصة‪.‬‬

‫من املتفق عليه لدى الفقهاء أن مسائل الفتيا بالنسبة إلى املجتمع تنقسم إلى قسمين‪،‬‬
‫األول املسائل العامة‪ ،‬والثاني املسائل الخاصة‪.‬‬
‫فاملسائل العامة هي املسائل التي تتعلق بعموم املجتمع‪ ،‬أو بالسواد األعظم من املجتمع‬
‫وهي تنطبق في معظم املسائل املوسومة بمسائل اإلمامة والسياسة الشرعية كمسائل الجهاد‪،‬‬
‫والقضاء‪ ،‬وفي مسائل املناكحات كالوالية في النكاح‪ ،‬والكفاءة والشهادة‪.‬‬
‫وأما املسائل الخاصة‪ ،‬فهي عبارة عن املسائل املتعلقة باألفراد‪ ،‬وال تتجاوزهم إلى سواهم‬
‫كمعظم مسائل العبادات املحضة‪ ،‬ومسائل الطالق‪ ،‬والرجعة‪ ،‬والرضاع‪.‬‬
‫فاملفتي والفقيه عند اإلفتاء ال بد من تفرقة هذين القسمين‪ ،‬ألن كثيرا من املسائل‬
‫العامة والخاصة قد اختلف العاملون من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة اإلجتهاد‪ ،‬فقد‬
‫اختلفوا على سبيل املثال في اشتراط الوالية لصحة النكاح‪ ،‬واختلفوا في تولي املرأة املسلمة‬
‫الوالية الصغرى والكبرى‪ ،‬واختلفوا في عقوبة الردة‪ ،‬وحد الخمر‪ ،‬بل إنهم اختلفوا في اإلمامة‬
‫بين كونها من باب الد يانة أو من باب السياسة‪ ،‬واختلفوا في العديد من املسائل املتصلة‬
‫باملعامالت كاختالفهم في تحريم بعض البيوع كالعينة‪ ،‬والتورق‪ ،‬وبيع الدين‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫واختالفهم وتعدد آرائهم في املسائل العامة خاصة ربما يؤدي إلى إيجاد حالة من الفوض ى‬
‫والنزاع بين األفراد في مجتمع وربما لم يؤد إلى ش يء من ذلك‪.‬‬
‫وتأسيسا على هذا‪ ،‬فإن مقتض ى هذا الضابط أن يكف املفتي والفقيه عن ممارسة‬
‫اإلفتاء الفردي في مسائل الشأن العام عبر الفضائيات والصفحات العنكبوتية والجرائد‬
‫واملجالت‪ ،‬سواء أكان ذلك الشأن العام شأنا فكريا‪ ،‬أم شأنا اجتماعيا‪ ،‬أم شأنا اقتصاديا أم‬
‫ش أنا سياسيا‪ .‬وبدال عن ذلك‪ ،‬فإن عليهم أن يحيلوا املستفتين إلى املجالس اإلفتائية الرسمية‬
‫أو املجامع الفقهية التي تتوفر على عدد معتبر من أهل الفتوى واإلجتهاد‪.‬‬
‫ولقد وجدنا كثيرا من علماء النهضة الذين تتوفر لهم شروط اإلفتاء‪ ،‬أنهم امتنعوا عن‬
‫اإلفتاء فرديا عن املسائل العامة اختلفت فيها العلماء وأحالوا املستفتين إلى لجنة بحث املسائل‬
‫لجمعية نهضة العلماء أو إلى مجلس العلماء حفاظا على انتظام أمر األمة وحماية للمجتمع من‬
‫التنازع والتناحر فيما بينهم نتيجة الفتاوى املتضاربة واملتناقضة‪.‬‬
‫وأما مستند هذا الضابط هو ما أخرجه اإلمام الطبراني في معجمه األوسط عن أمير‬
‫املؤمنين علي بن أبي طالب رض ي هللا عنه قال ‪ :‬قلت يا رسول هللا‪ ،‬إن نزل بنا أمر ليس فيه بيان‬
‫أمر وال نهي فما تأمرنا؟ قال ‪ ( :‬شاوروا الفقهاء والعابدين وال تمضوا فيه رأي خاصة ) وقال‬
‫الهيثمي رجاله موثوقون من أهل الصحيح‪ ،‬وسار على هذا املنهج الخلفاء الراشدون كما قال‬
‫ذلك ابن قيم الجوزية في إعالمه‪ ،1‬نقال عن اإلمام أبو عبيدة معمر بن املثنى البصري في كتاب‬
‫حكم نظر في كتاب هللا تعالى‪ ،‬فإن وجد فيه ما‬‫القضاء ‪ ( :‬كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه ٌ‬
‫يقض ي به‪ ،‬قض ى به‪ ،‬وإن لم يجد في كتاب هللا نظر في سنة رسول هللا ﷺ‪ ،‬فإن وجد فيهما ما‬
‫يقض ي به قض ى‪ ،‬فإن أعياه ذلك‪ ،‬سأل الناس ‪ :‬هل علمتم أن رسول هللا ﷺ قض ى فيه بقضاء؟‬
‫فربما قام إليه القول‪ ،‬فيقولون ‪ :‬قض ى فيه بكذا وكذا‪ ،‬فإن يجد سن ًة سنها النبي ﷺ َ‬
‫جمع رؤساء‬
‫الناس‪ ،‬فاستشارهم‪ ،‬فإذا اجتمع رأيهم على ش يء قض ى به‪ ..‬وكان عمر يفعل ذلك‪ ..‬أي مثل ما‬
‫كان أبو بكر يفعل‪ ،‬فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة‪ ،‬سأله هل كان أبو بكر قض ى فيه‬
‫بقضاء؟ فإذا كان ألبي بكر قضاء قض ى به‪ ،‬وإال جمع علماء الناس واستشارهم‪ ،‬فإذا اجتمع‬
‫رأيهم على ش يء قض ى به‪.)..‬‬
‫فهذه الرواية دليل على أن املفتي والفقيه ال بد من مراعاة هذا الضابط في اإلفتاء السيما‬
‫في املسائل العامة التي تعم بها البلوى‪ ،‬ويؤدي اإلختالف وتعدد اآلراء فيها إلى إخالل بمقصد‬

‫‪ .1‬إعالم املوقعين‪ ،‬البن القيم‪ ،‬ج‪ ،1 .‬ص‪ ،٦3 .‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫انتظام أمر األمة ووحدتها وتضامنها وترابطها‪ ،‬فإذا وجدها كذلك‪ ،‬األفضل له أن يمتنع عن‬
‫اإلفتاء فيها ورعا وخوفا من هللا تعالى وحفاظا على وحدة الصف ووحدة الكلمة في القضايا‬
‫العامة‪.‬‬
‫هذه هي الضوابط الثمانية في اإلفتاء التي ينبغي للمفتي والفقيه اإلعتماد عليها‪ ،‬وال يجوز‬
‫على املتفقه جهلها‪ ،‬إضافة إلى هذه الضوابط فإنه البد للمفتي والفقيه في اإلفتاء من معرفة‬
‫املقاصد‪ ،‬ومعرف ة املذاهب‪ ،‬ومعرفة القواعد الفقهية‪ ،‬ومعرفة مبادئ العلوم اإلنسانية‪ ،‬وذلك‬
‫ً‬ ‫ألن املفتي في األديان بمنزلة الطبيب في األبدان‪ ،‬ينظر َّ‬
‫حالة حالة‪ ،‬ال بد من أدوات ومعارف‬ ‫كل ٍ‬
‫وضوابط في التطبيب‪ ،‬فإذا كان املتطبب الجاهل خطرا على أبدان الناس‪ ،‬فإن املفتي الجاهل‬
‫خر خطرا عظيما على أديان الناس‪.‬‬ ‫يعدو اآل َ‬
‫فهذا ما تيسر لي من هذا املشروع‪ ،‬وصلى هللا وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه‬
‫أجمعين والحمد هلل رب العاملين‪.‬‬

‫‪21‬‬

You might also like