Professional Documents
Culture Documents
المحاضرة الثالثة المذهب العقلي
المحاضرة الثالثة المذهب العقلي
تمهيد
يعرف كل متتبعي الحركة العقلية أن المذهب العقلي في العصر الحاضر كان له دو ار
بار از في قيادة العقل البشري إلى الهدى والرشاد المؤسسين على الحجة والبرهان ،ال على
العاطفة والشعور ،وبعيدا عن كل تلك المناهج التي حددتها الفلسفة القديمة ،والتي خضعت
لها اإلنسانية قرون عدة ،في حين ان هذا االتجاه جعل الفلسفة القديمة منتجة وإزالة
الغموض ،فما مفهوم المذهب العقلي ومن هو رائده؟
تطلق العقالنية ) (Le Rationalismeعلى التيار الفلسفي الذي يقر أن العقل هو
مصدر المعرفة الحقيقية ،وترفض العقالنية كل ما هو مخالف للعقل أو ما يعجز العقل عن
تفسيره ،ويتمسك رواد هذا المذهب بالقول إن العقل وهو قوة أو ملكة ) (Facultéفطرية تضم
العديد من المبادئ البعيدة عن التجربة والخرافة تتمثل في :مبدأ الهوية ،مبدأ عدم التناقض،
ومبدأ الثالث المرفوع ،ومبدأ السببية ...الخ ،هذه المبادئ وغيرها من المبادئ :فطرية -عامة
1
-كلية ،مطلقة ،ضرورية ( .)1وهي ليست محل اكتساب تجريبي ،وإنما هي قائمة في العقل
منذ نشأته ،وعليه تصبح األوليات أو البديهيات العقلية حقائق واضحة بذاتها ،ومن ثمة كانت
صادقة في كل زمان ومكان .ويعتبر أب الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت René Descartes
( )1650-1596مؤسس المذهب العقالني في الفلسفة األوروبية الحديثة ،ألنه رد للعقل
سلطته الحقيقية بعد تهديمها من طرف المدرسة الشكية ،كما رفض ديكارت السلطة الدينية
التي فرضتها الكنيسة ،ورفض ديكارت النسق األرسطي كمصدر من مصادر المعرفة ،وقام
برد الحقيقة وكل الحقيقة الى العقل وحده ،جاعال من البداهة والوضوح معيا ار للخطأ والصواب.
يلخص ديكارت أسلوب المعرفة العقالنية من خالل عمليتين عقليتين محضتين هما الحدس
واالستنباط ( .)2والحدس عند ديكارت ليس المقصود به شهادة الحواس المتغيرة وال الحكم الخداع
الناشئ عن الخيال المشوش بالطبع ،وإنما المقصود به إدراك العقل المتنبه أي اإلدراك الواضح
المتميز إلى حد أال يبدي للعقل أي مجال للشك فيما يفهم ،أو هو اإلدراك البديهي للعقل السليم
المتنبه ،وهو اإلدراك الذي ينشأ من نور العقل وحده والذي هو أشد يقينا من االستنباط ألنه
أبسط منه (.)3
-1المقصود بكلية مبادئ العقل أنها انها مشتركة بين جميع الناس ،ومطلقة تعني أنها ال تتغير بتغير الزمان والمكان ،وهي
ضرورية معناها انها واضحة بذاتها ذات نتيجة حتمية عامة.
-2الحدس هو الرؤية العقلية المباشرة التي يدرك بها الذهن بعض الحقائق دون وسائط فمعرفتي لنتيجة العملية الحسابية
التالية 2 = 1 + 1ال يحتاج إلى عمليات عقلية معقدة ونفس األمر بالنسبة لحدوسنا الحسية والنفسية ،كما يعتبر الحدس
نظرة عقلية تبلغ من الوضوح والتمييز تجعلها بعيدة عن الشك ،في حين أن االستنباط هو عبارة عن استدالل نستخلص فيه
النتائج من المقدمات أو هو انتقال الفكر من المقدمات العامة الى النتائج الجزئية وهو عكس االستقراء.
-3محمد غالب ،المذاهب الفلسفية العظمى في العصور الحديثة ،دار احياء الكتب العربية ،1948 ،ص .75
2
-1قاعدة اليقين (البداهة) :أال أقبل البتة كحق أي شيء ،ما لم أكن قد عرفت بوضوح أنه
كذلك ،أي ،أن أتجنب بعناية االندفاع والتسرع في الحكم ،وأال أدخل في أحكامي إال ما يتمثل
(.)1
في عقلي بجالء وتميز بحيث ال تكون لدي ألية فرصة لوضعه موضع الشك
-2قاعدة التحليل :أن أجزئ كل واحدة من المعضالت التي أختبرها إلى القدر الممكن من
األجزاء ،والذي هو من الضروري لحلها على أكمل الوجوه (.)2
-3قاعدة التركيب :أن أسير أفكاري بنظام مبتدئا باألشياء األكثر بساطة وسهولة في المعرفة،
ألصعد قليال في تدرج إلى معرفة األكثر تركيبا ،وأن أفرض نظاما حتى بين األشياء التي ال
تتابع بعضها بعضا بالطبع (.)3
-4قاعدة االستقراء (اإلحصاء) :أن أجري إحصاءات كاملة ،ومراجعات تامة تجعلني أتحقق
من أني لم أغفل شيئا (.)4
وعلى العموم فاإلنسان في اعتقاد ديكارت إذا استطاع أن يسلك قواعد المنهج يطبقها مع
استخدام كل من الحدس واالستنباط في ثنايا المنهج فانه حتما سيصل الى المعرفة اليقينية.
يرى ديكارت أن العقل هو الذي يتجه من الفكر إلى األشياء ،ال من األشياء إلى الفكر،
وبأن معرفة الكائنات عن طريق فكرها سابقة على فرض وجودها أو الجزم به ،وبأن الفكرة
وحدها هي التي تقدم إلينا هذه الميزة الكبرى التي يستمتع بها الكائن ،وهي أنه حقيقة يمكن
إدراكها بطريقة مباشرة (.)5
-1رونيه ديكارت ،حديث الطريقة ،تر .عمر الشارني ،المنظمة العربية للترجمة ،الطبعة األولى ،بيروت ،2008 ،ص
.96-94
-2المصدر نفسه ،ص .98-97
-3المصدر نفسه ،ص .100-98
-4المصدر نفسه ،ص .102-101
-5محمد غالب ،المرجع السابق نفسه ،ص .82
3
– 2مآخذ على العقالنية :
هناك بعض المالحظات على المذهب العقالني سيما عند ديكارت يمكن تلخيصها فيما
يلي:
-وصف ديكارت األفكار الفطرية بالوضوح والتميز والجالء ،ووثق في قدرة العقل على
اكتشاف الحقيقة أو رؤيتها من تلقاء نفسه ،لكن تلك الثقة في حاجة إلى إيضاح ،فالناس ليسوا
بقادرين على التفكير الواضح إال إذا كان هناك معيار خارجي لهذا الوضوح والتميز.
نرد هنا مثاال نقد ليبنتز )1716-1646( Leibnizلديكارت على أنه البد من التمييز بين
الجالء الحق والجالء الزائف حتى ال يكون العقل قد أضل أثناء نظره في قضية بوساطة جالء
زائف ،فديكارت في قاعدته هذه يشبه أحد الكيميائيين األقدمين على حسب ليبنتز ،إذ قال
لتلميذه يوما :خذ ما يجب أخذه ،وأعمل فيه ما يجب عمله ،فإنك ستظفر بما تشتهيه .وهكذا
ديكارت حين يقول :ال تقبل إال ما هو جلي (أي ال نقبل إال ما يجب قبوله) وقسم المشكلة إلى
أجزائها الضرورية (أي اعمل ما يجب عمله) ورتب اجزاءها ترتيبا تاما (أي رتب الترتيب الذي
يجب) .ويختم ليبنتز نقده بهذه العبارة« :ها هو ذا المنهج الشهير الذي يقدم إلينا بدل الكنز
فحما»(.)1
-أقام ديكارت نسقه الفلسفي على أساس من الشك ،وبصفة خاصة الشك المنهجي لكن شكه
هذا ليس واقعيا ،فليس من المعقول أن يلقي اإلنسان وراء ظهره بكل أرائه ومعتقداته ليبدأ
بمفرده الطريق من جديد ،إنه شك خيالي فلو كان واقعيا لصدر من واقعة معينة وأمام موقف
معين.
4
-ذهب ديكارت إلى أن الضامن للمعرفة والحقيقة والعلم هو هللا بيد أن هذا الضامن قد
يكون محل نظر ومناقشة ،فقد يؤمن اإلنسان بوجود هللا ،ولكنه ال يسلم بأن الوجود اإللهي
يتدخل في وضوح أفكاره وتميزها.
االستنتاج:
يمكن القول في األخير أن العقالنية هي االتجاه الفلسفي الذي يقر أن العقل هو مصدر
المعرفة الحقيقية ،وبالتالي ترفض العقالنية كل ما هو مخالف للعقل أو ما يعجز العقل عن
تفسيره ،وتقوم هذه الفلسفة على القول إن العقل قوة أو ملكة فطرية تضم العديد من المبادئ
البعيدة عن التجربة والخرافة تتمثل في :مبدأ الهوية ،مبدأ عدم التناقض ،ومبدأ الثالث المرفوع،
ومبدأ السببية ...الخ ،تتميز هذه المبادئ بكونها :فطرية ،عامة -كلية ،مطلقة ،ضرورية.
5