You are on page 1of 19

‫الفصل الّث اني‬

‫التعب واالكتئاب‬
‫أ – ما هو التعب ‪:‬‬
‫التعب إشارة إنذار ‪ ,‬إشارة ضوئية حمراء ‪ .‬فعلى اإلنسان أن يوقف نشاطه أمام هذه اإلشارة بصورة تامة ‪ .‬ذلك أن الراحة والنوم‬
‫حاجتان طبيعيتان تصبحان أكثر ضرورة كلما امتدت الفترة الزمنية التي يبذل فيها اإلنسان نشاطا ‪ .‬فالنوم مرحلة ترميم تتخلص‬
‫فيها الخاليا الدماغية من النفايات السامة التي تتجمع أثناء فاعليتها ‪ .‬وينتج عن ذلك أن أي نقص في النوم يحدث تسمما حقيقا ‪.‬‬
‫فالخاليا الدماغية تستن فد احتياطيها إذ تراكم النفايات السامة ‪ .‬وهي تعيد تكوين احتياطيها الغذائي ‪ ,‬مصدر طاقتها ‪ ,‬في أثناء النوم ‪.‬‬
‫فالتعب إذن آلية طبيعية تتيح للموجود اإلنساني أن يتهيأ للنوم ‪ ,‬وأن يتجنب تسمم خالياه الدماغية بذلك ‪.‬‬
‫إذن ‪ ,‬ال بد لإلنسان من ان يشعر بعد النوم أنه أحسن ما يكون استعداد ‪ ,‬مثله مثل المحرك الذي تم تنظيفه ‪ .‬وال بد من أن تكون‬
‫خالياه العصبية قد است عادت حيويتها ‪ .‬أن على كل موجود إنساني أن ينهض من نومه على أفضل نضارة ‪ .‬وهو يغني ‪ ,‬محتفيا بكل‬
‫فرح بوالدة النهار ! ‪. . .‬‬
‫ولننظر مع ذلك من حولنا نجد أن ليس ثمة شيء من هذا ‪ ,‬فالتعب أحد أكبر العيوب الخالية ‪ .‬وما يكاد النهار يبدأ حتى يجر السواد‬
‫األعظم من الناس معهم تعبا يلتصق بهم وكأنه الدبق ‪ .‬فما هي الالزمة الحديثة ؟‬
‫" أشعر منذ الصباح أنني متعب ‪ . .‬أنني سريع التهيج في الصباح ‪.‬‬
‫أنني في الصباح ذو مزاج هو من الفظاظة بحيث أني أرغب في البحث عن شجار ألتفه األسباب ‪ . . .‬علي أن أقوم في الصباح‬
‫بجهود مضنية حتى أنطلق في علمي ‪ ,‬ثم ينتهي ذلك حوالي الساعة الحادية عشرة ‪ . . .‬الخ " ‪.‬‬
‫وبدي هي أن هذا التعب ليس تعبا طبيعيا ‪ .‬يبد أنه مهما يكن غير طبيعي ‪ ,‬فإنه سائد على شكل وباء ‪ .‬أنه تعب أصبح نمطا من أنماط‬
‫الحياة بحيث أن الراحة ال تتوصل إلى استبعاده حتى ولو كانت طويلة ‪.‬‬
‫نحن نعلم تمام العلم أن الحياة المضربة الحديثة تمنع اإليقاع الطبيعي لإلنسان على الغالب ‪ .‬بل ثمة ما هو أفدح ‪ .‬لقد جعل الناس‬
‫من التعب أمرا أخالقيا ويكادون يجعلون منه عيبا إراديا محتقرا ‪.‬‬

‫ب – احتقار التعب ‪:‬‬


‫ًا‬
‫إن المناخ الحديث قائم أذن على المبالغة في الفاعلية ‪ ,‬على التنافس والعدوان واإلرادة المتوترة بإفراط ‪ .‬اننا نسمع غالب ‪ :‬أن يكون‬
‫ذلك اإلنسان على هذه الدرجة من الهدوء أمر يثير أعصابي ! " أو نسمع ‪ " :‬وي ! اننه على غير عجلة من أمره ‪ ,‬ذلك الشخص !‬
‫" أو ‪ " :‬أنه يثير أعصابي ‪ . . .‬انه ألمر يدعو إلى االعتقاد بأنه من غير أعصاب " ‪.‬‬
‫تلكم بعض هذه الحكم الراهنة التي تسبب كثيرا من األلم ‪:‬‬
‫‪ -‬تابع ‪ ,‬تغلب على تعبك ‪ ,‬فالوقت ال يسمح لإلنسان أن يكون متعبا !‬
‫‪ -‬أمتعب أنت ؟ ولكنك رجل ‪ ,‬نعم أم ال ؟ إذن تغلب على تعبك !‬
‫‪ -‬أمتعب أنت ؟ ما عليك سوى أن تقوم ببعض المجهود !‬
‫‪ -‬أنني استمر في القدوم ‪ .‬متعبا كنت أم غير متعب !‬
‫‪ -‬التعب ؟ إنني ال أعر فه ! ( األمر الذي يستتبع ضمنيا ‪ . . . " :‬وبالتالي إنني ال أفهم شيئا من هؤالء الذين يشعرون بالتعب ‪ ,‬إنني‬
‫احتقرهم ‪ ,‬وما عليهم إال أن يبذلوا مجهودا " ) ‪.‬‬
‫‪ -‬هل تشعر بأنك متعب ومكتئبّ انتقل إلى مرحلة الهجوم واندفع !‬
‫‪ -‬هل أنت مكتئب ؟ أنه لمجرد خيال ‪ .‬قليل من اإلرادة ‪ ,‬هيا ! الخ ‪.‬‬
‫ماذا يفعل المتعب غالبا أمام هذا الوابل من السخافات ؟‬
‫أنه يخشى االحتقار ‪ .‬إنه يخاف الخزي ‪ ,‬وينتصب قائما ‪ .‬ويستمر ويتجاوز الحد ‪ .‬إنه يتصيد سائر المنبهات التي " تتيح " له‬
‫التغلب على هذا لتعب ‪ ,‬ويحقق جهدا فوق جهد ‪ .‬وبما أنه شخص متعب ‪ ,‬فإن من البديهي أن يكون الجهد أكثر مشقة ‪ .‬ان مثله مثل‬
‫من كان عليه أن يوتر سائر عضالته ليفتح بابا ‪ .‬وهكذا يركب رأسه ويعاند ويستبسل ‪ ,‬فيبلغ من مرحلة اإلرهاق في التعب ‪,‬‬
‫ومرحلة اإلنهاك ‪.‬‬
‫ولنفحص الحالة السوية ‪ ,‬حالة اإلنسان ‪ .‬فهل هذه الحالة السوية دائمة ؟ كال ‪ .‬إنها تهتز بين قطبين ‪ .‬أنها شبيهة بموجة هادئة بين‬
‫األقل واألكثر ‪ ,‬بين السلب واإليجاب ‪ ,‬بين " الحضيض " و " الذروة " ‪.‬‬
‫آ – يعمل اإلنسان دون عجلة ‪ .‬فالعمل هو طبيعته ذاتها ‪ .‬وقد يكون عمال يدويا ‪ ,‬عضليا ‪ ,‬ذهنيا ‪ ,‬كالميا الخ‪. ..‬‬
‫ب – يقود هذا العمل إلى ضرب من اإلحساس ‪ :‬التعب الطبيعي الذي ينبغي أن يكون ممتعا ألنه طبيعي ‪.‬‬
‫ج – يتباطأ العمل ثم يتوقف ‪ .‬فاإلنسان يستريح في تراخ تام ‪.‬‬
‫د – يستعيد اإلنسان نشاطه ويستأنف سيره ويعمل مجددا ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫ينبغي إذن أن ينتقل اإلنسان السوي انتقاال منتظما من العمل إلى الراحة ومن الراحة إلى العمل ‪ ,‬مع ما بينهما من إشارة التعب‬
‫المحترمة‬
‫ولننظر اآلن إلى حال اإلنسان المعاصر ‪:‬‬
‫آ – أنه يعمل بطريقة سيئة ألنه متعب ‪.‬‬
‫ب – ويبلغ حد اإلرهاق ‪.‬‬
‫ج – ويرفض هذا اإلرهاق ويستمر في العمل ‪.‬‬
‫د – ويصل إلى حد كبير من اإلرهاق ‪.‬‬
‫ه – ويرفضه وينتهي به األمر إلى اإلنهاك ‪.‬‬

‫جـ – نتائج اإلنهاك المباشرة ‪:‬‬


‫لإلنهاك رد فعل مزدوج ‪ :‬االكتئاب والهياج ‪ ,‬فاإلنسان المنهك مكتئب تارة ومتهيج تارة أخرى ‪.‬‬
‫فال اكتئاب دون هياج ال هياج دون اكتئاب ‪ .‬وهذا من جهة أخرى ‪ ,‬إنما هو سمة المنهك ‪ .‬انه يترجح بين هذا القطبين باستمرار ‪.‬‬
‫لقد أصبحت الموجة الهادئة ‪ ,‬موجة الالستقرار الطبيعي ‪ ,‬موجة مذعورة تمس الطرفين االقصيين بالتناوب ‪.‬‬
‫يصبح اإلنسان المنهك صورة مشوهة لإلنسان المتعب بصورة طبيعية ‪ :‬و " ذروة " خطه البياني تتعمق وتصبح اكتئابا ‪ ,‬و "‬
‫حضيض "‬
‫فالقاعدة أن اإلنسان يعمل فيصبح متعبا ‪ ,‬ويستريح ثم يعمل مجددا ‪.‬‬
‫ولكنها تصبح على الوجه التالي ‪ :‬يتهيج اإلنسان فيصبح منهكا ‪ ,‬وال يستطيع أن يستريح فيتهيج ثم يكتئب ‪ ,‬الخ ‪.‬‬
‫إنها ‪ ,‬والحالة هذه ‪ ,‬سلسلة جهنمية تنبسط دون رحمة والنهاية ‪.‬‬
‫ذلك إن اإلنهاك ‪ ,‬كالسم ‪ ,‬يسبب الذهول ( االكتئاب ) من جهة ‪ ,‬والتنبيه ( الهياج ) من جهة ثانية ‪.‬‬

‫أين يجني المنهك االحتقار ‪:‬‬


‫تنخفض الفاعلية في االكتئاب إلى حد كبير ‪ .‬فالمكتئب يقلل من حركاته بهدف االقتصاد في الحيوية ‪ .‬إنه يشكو الملل واألرق ‪.‬‬
‫ويبدو الهزال عليه غالبا ‪ ,‬وتضطرب وظائف الهضم لديه وقد يحدث ارتعاش من التعب ‪ ,‬كما قد يحدث ضعف في الرؤية ‪,‬‬
‫واضطرابات في القلب ‪ ,‬الخ ‪.‬‬
‫يسبب االكتئاب ‪ ,‬بصورة آلية ‪ ,‬صعوبة في العمل ألن ثمة إجزاء عن العمل ! فال تكفي الطاقة حتى يضطلع المكتئب بأعماله‬
‫الطبيعية بيسر ‪.‬‬
‫ويصبح أي عمل هين ‪ ,‬بالنسبة إلى المكتئب ‪ ,‬جبال ينبغي رفعه ‪.‬‬
‫من الطبيعي إذن أن يتراجع المكتئب ‪ ,‬أمام الظروف التي تتطلب عمال مادام جهازه العصبي ال يسمح له بهذا العمل ‪.‬‬
‫كل هذا هو أذن آلية جسمية بصورة صرفه ‪.‬‬
‫ولكن كيف يفسر المجتمع هذا التراجع أمام العمل ؟ إ نه سيزعم بأن المكتئب تعوزه الطاقة ‪ .‬وهذا أمر بديهي ‪ .‬ولكن الناس يرتكبون‬
‫في هذا الشأن ‪ ,‬على األغلب ‪ ,‬خطأ فادحا ‪ :‬إنهم يعتقدون بأن الموجود اإلنساني سيد طاقته وأنه يستطيع أن يصنعها حينما يشاء ‪.‬‬
‫وهذا خطأ على وجه اإلطالق – سيقول المجتمع عن المكتئب إذن أن الطاقة تعوزه ألن " اإلرادة " تعوزه ‪ . . .‬وما هو أسوأ كذلك‬
‫أنه سيعد مسؤوال عن هذا النقص في اإلرادة دون أن يكون مفهوما إن اإلرادة السوية هي ميالة صحة وتوازن ‪.‬‬
‫ينبغي أن يقال ‪ " :‬لتكن لديك الصحة الجسمية والعصبية التي تنشئ اإلرادة آليا " ‪ ,‬بدال من أن يقال ‪ " :‬لتكن لديك اإلرادة " ‪.‬‬
‫ذلك أن اإلرادة هي مجرد اليسر ‪ .‬أن قوام اإلرادة هو التصريح التالي ‪ " :‬إنني أرغب في أن أفعل هذا ‪ ,‬وأنا أفعله دونما صعوبة‬
‫وبيسر تام " ‪ .‬وب وسعنا أن نستنتج أن اضطراب اإلنسان إلى االستعانة بإرادته من أجل أن ينجز عمال إنما يعني أن اإلرادة الواقعية‬
‫تعوزه ‪ .‬وحالما يصبح العمل عمال متشنجا ‪ ,‬فإن اإلرادة الحقيقة ( اليسر ) تختفي ‪ .‬وحالما يصبح من الضروري أن يصارع‬
‫اإلنسان المشكل ‪ ,‬فإن المشكل هو الذي يصرعه ‪ .‬إن اإلرادة الحقيقة السليمة ينبغي أن تكون كاألناقة ‪ :‬غير مرئية ‪ .‬فقوام الفعل‬
‫اإلرادي الواقعي هو االغتراف من مستودع الطاقة دونما جهد ‪.‬‬
‫إن تدخل الجدارة والحالة هذه يزيف المشكل غالبا ‪ .‬فكلما تغلب اإلنسان على الصعوبات كلما كان جدير بالتقدير ‪ .‬لكن أال يكون‬
‫قولنا التالي أكثر بساطة ‪ :‬كلما تمتع اإلنسان بالصحة والتوازن كلما كان عمله أكثر اتقانا ‪ ,‬وهذا ما يسمح له بأن يخفف من الجهد‬
‫وبجعل الطاقة التي صانها جاهزة للقيام بأعمال أخرى ؟ أنني سأتكلم عن كل هذا ‪.‬‬
‫د – جهود المكتئب ‪:‬‬
‫تحول أي حالة من حاالت القصور بين المكتئب وبين العمل على وجه صحيح ‪ .‬ويصبح كل جهد ‪ ,‬مهما كان بسيطا بالنسبة إلى‬
‫اإلنسان السوي ‪ ,‬مخيفا بالنسبة إلى المكتئب ‪ .‬وذلك أمر بدهي بقدر ما هو بدهي أن يتسلق جسور دونما صعوبة كبيرة جبال وأن‬
‫يالقي المقعد في هذا أخفاقا ال يمكن التغلب عليه تقريبا ‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫علينا أن نفهم بالتالي أن المكتئب يبذل جهودا كبير مستمرة يتغلب على قصوره ألنه يتألم وألنه يخشى االحتقار ‪ .‬وعلى الرغم من‬
‫ذلك يقال بأنه يرفض الجهد ! والخالصة أن الناس يصمونه بالتخاذل وضعف الوجدان والجبن بكل بساطة ‪ ,‬وال يكفون عن رميه‬
‫باإلهانات المؤلمة ‪.‬‬
‫أما المكتئب فإنه يعلن ما يحيط به من عدم الفهم متمنيا للذين يحيطون به جميعا أن يغرقوا في االكتئاب كيما يعملوا أنه ‪ ,‬وهو‬
‫المكتئب ‪ ,‬إذا كان ال يعمل ويتردد ويتراجع ‪ ,‬فذلك مرده أن حالته تفرض عليه إال يعمل وإن يتردد يتراجع ‪.‬‬
‫ولكن هذا من البساطة بحيث ال يمكن قبوله بصورة عامة ‪.‬‬
‫وتبدو عواقب االحتقار ‪ :‬التوبيخ والقصاص ‪.‬‬
‫وعندئذ يجد المكتئب نفسه بين أناس آخرين يحكمون عليه ويحتقرون ‪ . . .‬ألنهم يعدون المنهك دون شك بمثابة من " أراد لنفسه أن‬
‫يكون منهكًا " ‪.‬‬

‫‪ -1‬اإلنهاك واالكتئاب‬
‫" ‪ . . .‬إنك مشرف على االكتئاب ‪ " . . .‬ذلك ما يسمعه ماليين األشخاص ‪ .‬ويثبت الطبيب ‪ ,‬بصورة عامة ‪ ,‬في الوصفة‬
‫مجموعات المهدئات أو المنبهات ‪ ,‬والمقومات العامة ‪ ,‬النصائح بالراحة وضروب اللهو واألسفار ‪ .‬كما ينصح ‪ ,‬عند الضرورة ‪,‬‬
‫باالبتعاد عن الوسط العائلي ‪ ,‬وبالعزلة والعالج النفساني ‪.‬‬
‫يضاف إلى هذا فحص االضطرابات المعدية بعناية ‪ ,‬ومثلها المنعكسات العصبية ‪ .‬لقد استطاع الطبيب أن يكشف عالمات توتر في‬
‫األوعية الدموية أو عالمات السكري ‪ ,‬أو عالمات عصبية ‪ ,‬أو في شرايين الدماغ ‪.‬‬
‫أ‪ -‬ماذا يعني مصطلح االكتئاب ؟‬
‫االكتئاب " هبوط " في التوير العصبي أو النفساني ‪ .‬فاالكتئاب إذن ‪ ,‬حد عام كل العمومية ‪ .‬انه عنوان يمكن أن يغطي سلسلة‬
‫برمتها من الحاالت ‪ .‬هذه الحاالت تحمل بدورها أسماء خاصة ‪ :‬كالوهن ‪ ,‬الوهن العصبي والوهن النفسي والوساوس والفصام‬
‫والهوس االكتئابي ‪ ,‬حاالت تبدأ من الخفيفة إلى األكثر خطرا ‪ .‬أنني سأتناول هذه الحاالت االكتئابية في اللحظة المقصودة ‪.‬‬
‫تعدد أعراض االكتئاب كبير إذن ‪ .‬وقد يكون له أساس جسمي صرف ( كما هو الحال في الوهن ) ‪ ,‬بالإضافة إلى ظاهرات نفسانية‬
‫تصاحبه ‪.‬‬
‫ومن الناحية الجسمية كذلك ‪ ,‬فإن االياس قد يثير االكتئاب أحيانا ‪.‬‬
‫غير أننا ال ينبغي أن نستنج أن االياس يؤدي إلى االكتئاب حتما ‪ .‬ذلك أن التربة ذات االستعداد المسبق هامة دائما ‪ .‬واالستعداد‬
‫المسبق يمكن أن يكون عضويا ‪ ,‬كالتوتر العصبي أو مرض السكر ‪ ,‬أو نفسانيا ‪.‬‬
‫وعندئذ يستخدم االياس بمثابة القاطعة ويثير وضعا كان موجودا منذ زمن طويل في حالة كمون ‪.‬‬
‫يمكن أن يكون لالكتئاب كذلك أساس نفساني أو عائلي أو ديني ‪.‬‬
‫وقد يبدو وعقب هموم طال أمدها وشكوك وضروب من القلق والخوف ‪ ,‬الخ ‪ . . .‬تؤدي إلى هبوط في التوتر بفعل اإلنهاك ‪.‬‬
‫ب – األعراض العامة لحاالت االكتئاب ‪:‬‬
‫يعرف المكتئب بسهولة من هيئته ‪ .‬أنه يبدو مغموما ‪,‬خامال ‪ ,‬تقلصت استجاباته الحركية إلى حدها األدنى ‪ .‬فهو بخيل في حركاته ‪,‬‬
‫ويتبعه أسهل األعمال ‪ .‬ويبدو األرق على األغلب ‪ .‬أما الهزال ‪ ,‬فإنه جسيم تقريبا ‪.‬‬
‫وقد تحدث رعشات تعب وأوجاع رأ س وهبوط في ضغط الدم في الشرايين ‪ ,‬وشعور بالملل فائق الحد ‪ ,‬ووسواس التعب ‪ ,‬تعذر‬
‫التركيز ‪ ,‬وحيرة أو تردد ‪ ,‬وحزن دونما سبب ظاهرة ‪ ,‬وضروب من الهوس والوهن النفسي ‪ ,‬ودماغ " أجوف ‪ ,‬فارغ ‪ ,‬بارد " ‪,‬‬
‫وألم في العنق ‪ ,‬واضطرابات الرؤية ‪ .‬وثمة على األغلب ‪:‬‬
‫فقدان اإلرادة وسوداوية وخوف من الجنون ‪.‬‬
‫ج‪ -‬فقدان اإلرادة ‪:‬‬
‫مالحظة أميل ‪ Amiel‬مشهورة ‪ " :‬أنني أستطيع أن أحب ‪ ,‬وأحلم ‪ ,‬وأتعلم ‪ ,‬وأفهم ‪ ,‬أستطيع كل شيء شريطة أن أعفى من اإلرادة‬
‫‪...‬‬
‫ربما كانت اإلرادة هي الصعوبة الكبيرة بالنسبة إلى المكتئب ‪.‬‬
‫ولكن هذا العجز يبرز بصورة خاصة في مرحلة االنتقال من الفكرة إلى الفعل ‪ .‬انه يرغب في أن يفعل هذا األمر رغبة جامحة في‬
‫غالب األحيان ‪ ,‬ولكن تحقيق هذه الرغبة يبقى حبرا على ورق ‪.‬‬
‫فاإلرادة ال تنطلق ‪ ,‬والعطالة تتغلب ‪ .‬ثم تبدو رغبة أخرى وأخرى ‪ .‬أنه وابل حقيقي من الرغبات ‪.‬‬
‫" ‪ . . .‬سأفعل هذا حاال ‪ . . .‬سأفعل ذلك غدا ‪" . . .‬‬
‫ومع ذلك فلن بفعل حاال وال غدا ‪ ,‬ذلك أن اإلرادة ال تتحرك لتحقيق الفكرة ‪ .‬ويشهد المرء تشتتا حقيقيا في اإلرادة التي تتجزأ إلى‬
‫قطع صغيرة ‪ .‬ولكن أيا من هذه القطيع الصغيرة تبقى غير كافية إلنجاز العمل ‪. . .‬‬

‫‪3‬‬
‫وقد يتفق أن يكون العجز في اإلرادة ضئيال ‪ .‬وفي هذه الحال ‪ ,‬يتم إنجاز العمل باإلرادة كذلك ‪ .‬غير أن الفاعلية تكون بطيئة ‪,‬‬
‫شاقة ‪ ,‬مصحوبة بجهود مضنية ‪ .‬يضاف إلى هذا أن العمل تعوزه المثابرة والحيوية ‪ .‬فالمصاب بعجز ضئيل في إرادته ينجز إذن‬
‫سلسلة من الأعمال الصغيرة المتفرقة ألنه عاجز عن السير الذي يستلزمه العمل الطويل األمد ‪.‬‬
‫أما في الصور األكثر خطورة ‪ ,‬فإن الأعمال األولية تصبح ممتنع ة ‪ .‬ويتخلى المصابون عن أي فاعلية ‪ .‬فماذا يقول هؤالء ؟‬
‫‪ -‬أنني عاجزة عن أن أتناول الغبار على الرغم من أنني أرغب في ذلك ‪ .‬أنني خجلة من زوجي الذي يفهمني مع ذلك ‪ ,‬ولكنني‬
‫عاجزة عن الجماع ‪ .‬ان رفع المم سحة عمل فوق طاقتي ‪ . . .‬وعلى أن أعد الطعام لزوجي ‪ ,‬وال أستطيع ‪ .‬أنني أتوزع إلى مئات‬
‫من األفكار ‪ .‬ولكن عندما يكون علي أن أجمعها ‪ ,‬فذلك أمر ليس في مقدوري ‪ ,‬وأهمل كل شيء ‪.‬‬
‫لقد فقدت شجاعتي إلى حد كبير ‪ .‬أنني أشعر بالعجز عن القيام بأبسط العمليات الحسابية الخاصة بأعمال المنزل ‪ . . .‬فأهمل كل‬
‫شيء ا ن تسريح شعري عمل يتركني الهثة األنفاس ‪ .‬أنني أشعر بالحزن إلى درجة أتمنى أن أموت ‪. " . . .‬‬
‫‪ -‬أشعر أنني عاجز عن اتخاذ قرار ومتردد ‪ .‬يلزمني ساعة من الزمن حتى أشتري قلم رصاص ‪ .‬واشك وأدرك ادراكا تاما أنني‬
‫مهووس ‪ .‬غير أنه يتعذر على أن افعل خالف ذلك ‪ .‬أشعر بعد مضي بعض الوقت بما يشبه نوبة من الغضب الشديد موجهة ضدي‬
‫‪ ,‬وأشعر أيضا بزلزال يتصاعد ‪ .‬عندئذ اترك كل شيء وأهرب محتميا بأي سبب ‪.‬‬
‫فلو تصرفت على نحو مختلف ألصبح في وسعي أن ألطم من الغيظ أي شخص كان أو أشمته ‪. " . . .‬‬
‫‪ . . . " -‬إنني أتحقق من إغالقي مفتاح الغاز عشر مرات قبل أن أنام ‪ .‬ثم أنهض من فراشي لأتحقق أيضا ‪ .‬وأنام مرة ثانية ‪.‬‬
‫وأنهض كذلك على الرغم من أنني أعلم أنني أغلقته ‪ .‬وذلك أمر ينهكني " ‪.‬‬
‫كل هذا يبقى في مجال االكتئاب " العادي " إذا صح القول ‪ .‬بيد أن الفاعلية تتوقف نهائيا في حاالت االكتئاب األكثر خطورة ‪.‬‬
‫فالمكتئب يأوي إلى سريره مصحوبا بموكب من العواطف النفسانية التي تذيقه األلم بقسوة شديدة على الغالب ‪ .‬وعلة ذلك أن‬
‫المكتئب يتأئر بسائرالظاهرات تأثرا شعوريا ‪.‬‬
‫ولما كان المكتئب يشعر بأنه عاجز عن استعمال ا رادته عجزا تاما ‪ ,‬فإنه يلفي نفسه في مواجهة مع الذين يحيطون به ‪ .‬ثمة‬
‫احتماالت في هذه الحال ‪ :‬أما أن يفهموا ما هو فيه من مرض وأما أال يفهموا ‪ .‬واالحتمال الثاني هو األكثر حدوثا بالتأكيد ‪ .‬ومن‬
‫هنا ‪ ,‬فليس بينه وبين أن يتهم بالـ " كسل " واال " تنبلة " و " سوء النية ‪ :‬غير خطوة واحدة ‪ .‬ويتهمه الناس أيضا بأن " اإلرادة‬
‫تعوزه " علما بأن ما هو عليه مترتب على مرضه بكل دقة ‪.‬‬

‫ما هو عالج فقدان اإلرادة ؟‬


‫فقدان اإلرادة ظاهرة من ظاهرات االكتئاب وليس االكتئاب ذاته ‪.‬‬
‫فإذا زال االكتئاب تبعه فقدان اإلرادة ‪ .‬ومع ذلك ‪ ,‬فلنعلم أمرا ولنردد العبارة الشهيرة التالية ‪ " :‬ال وجود للكسالى ‪ ,‬وال وجود لغير‬
‫المرضى " ‪.‬‬
‫ذلك أمر حقيقي بصورة أساسية ‪ .‬فالوظيفة اإلنسانية هي العمل واإلرادة ألن العضالت هي التي تقود العمل وألن الجملة العصبية‬
‫هي التي تطلق اإلرادة بصورة آلية ‪ .‬ولذلك ال بد من أن يكون كل منهما في حالة جيدة ‪.‬‬
‫فمنذ أن يبدو " الكسل ‪ :‬على شخص من األشخاص ‪ ,‬طفال كان أم راشدا ‪ ,‬البد من البحث مباشرة عن السبب ‪ .‬ذلك أن هذا الكسل‬
‫عرض ينشأ إما عن قصور جسمي أو عصبي وإما من ألم نفساني ‪ ,‬كما يمكن أن ينشأ من مصادر عديدة ‪.‬‬
‫فإعادة العمل واإلرادة إلى من يفقدها تعني أن تؤّمن له توازنا جديدا ‪.‬‬

‫‪ -2‬السوداوية‬
‫إن قوام السوداوية حزن دائم ‪ ,‬عميق ‪ ,‬ال يبرره أي شيء على ما يبدو ‪ .‬فالتشاؤم كلي ينسحب على األشياء كافة ‪.‬‬
‫كيف يبدو السوداوي ؟ يظهر التعب على كل حركاته ‪ .‬شفتاه متدليتان وجبهته محفورة بالتجاعيد ‪ .‬صوته ال يكاد يسمع ‪ .‬ولنغترف‬
‫في هذا الشأن من الوصف الرائع لطبيب المشافي الخاصة باألمراض العقلية ‪ ,‬سوتر ‪: J . Sutter‬‬
‫ينفق القول مع المظهر الخارجي ‪ .‬فكل شيء بالنسبة إلى السوداوي يبعث على األسى ‪ .‬واألحداث المؤلمة تتضخم بصورة ال‬
‫تعرف الحدود ‪ ,‬ونتائجها المتوقعة ينظر إليها السوداوي في جو غير مالئم اطالقا ‪ .‬أما الحوادث السعيدة ذاتها ‪ ,‬فإنها مدعاة إلى‬
‫الحزن ‪ ,‬تدأب مهارة المريض المرضية على أن تجد لها داللة مفجعة ‪ .‬أن تشاؤمه يشمل كل شيء بطريقة تبدو أحيانا أكثر ما‬
‫تكون بعدا عن المنطق وعن التوقع ‪ .‬انه ال يرمي سالحه أبدا ‪.‬‬
‫والقرف من الحياة أولى استجابات السوداوي ‪ .‬فهو ال يبالي بأي شيء ‪ ,‬حتى وال بألمه ‪ .‬كل صباح هو عذاب يتجدد ‪ :‬فالفناء‬
‫رغبته الكبرى ‪ .‬ومن البدهي أن يكون فقدان اإلرادة كليا ‪ ,‬ومثله العجز ‪ .‬وال شيء يبقى له غير المباالة تفوق كل حد ‪.‬‬
‫ثمة ظاهرات نفسانية تنضاف بسرعة ‪ :‬بما أن السوداوي ال يبالي بأي شيء ‪ .‬فإنه يلوم نفسه على هذه الالمباالة ‪ .‬تلك أم سوداوية‬
‫تقول " ‪ . . .‬أنني ال أتوصل إلى أن أحب أطفالي مع أنني كنت أعبدهم منذ عام ‪ . . .‬أن ال مباالتي تقض مضجعي ‪ .‬أتمنى لو‬
‫أستطيع أن أتألم ‪ ,‬أن أحزن ‪ .‬حتى هذا ال أستطيعه ‪ ". . .‬تسيطر علي السوداوي غالبا أفكار مفادها أنه غير أهل لشيء ‪ .‬انه يعاني‬

‫‪4‬‬
‫من احساسات مخيف ة من االتهام الذاتي وتبكيت الضمير والشعور باإلثم ‪ .‬فهو يتهم نفسه بأبشع األمور ‪ ,‬وألمه المعنوي حاد ‪ ,‬مبرح‬
‫أحيانا ‪ .‬ويبدو انه مصاب بضرب من العذاب الثابت الرتيب ‪ .‬وتتركز فاعليته الذهنية على هذه األفكار ‪ ,‬أفكار األثم وتبكيت‬
‫الضمير ‪ ,‬وتقوده إلى ضرب من االجترار بحيث يصل إلى وضع تنعدم فيه حركته ويرفض الطعام ‪ .‬ثمة اضطرابات عضوية‬
‫ترافق السوداوية ‪ ,‬كفقدان الشهية واإلمساك الشديد والدوران الدموي غير المنتظم ‪ .‬فالتغذية ينبغي أن تتم بصورة اصطناعية في‬
‫بعض الحاالت الخطيرة ‪ .‬ولما كان السوداوي يرزح تحت عبء تبكيت الضمير ‪ ,‬فإنه يبحث أحيانا عن قصاص لنفسه ‪ .‬أنه يبحث‬
‫أحيانا عن عقاب قد يبلغ حد االنتحار ‪.‬‬
‫ثمة صورة أخرى من صور السوداوية ‪ ,‬خاصة جدا ‪ ,‬تظهر أحيانا لدى الفتيات ‪,‬هي ‪:‬‬

‫هـ‪ -‬فقدان الشهية الذهني ‪.‬‬


‫ذلك هو فقد الشهية ‪ .‬فبعض الفتيات بين الخامسة عشر والعشرين أي قبل البلوغ بقليل ‪ ,‬يقللن من الطعام بصورة إرادية دون أن‬
‫يقدمن أسبابا مقبولة لذلك ‪ .‬أن رفض الغذاء راسخ كل الرسوخ ‪ .‬فهن يكثرن من استعمال المسهالت أو يطرحن الطعام وهن يتقيأن‬
‫خفية ‪ .‬ويبدو سوء التغذية مصحوبا بهزال كبير ‪ .‬وقد تكون عاقبته الموت في بعض الحاالت ‪ ,‬موت تتمنان الفتاة بفعل المرض‬
‫على ما يبدو ‪ .‬ويظهر تماما أن هذا المرض مرتبط باستجابة انفعالية نالحظها أحيانا لدى األطفال الرضع بمناسبة الفطام أوتبديل‬
‫المرضعة ‪ ,‬كما نعثر عليها لدى بعض المتزوجات إثر نزاعات زوجية ‪ .‬فالمرأة تعتصم عندئذ بالمرض أو تنتقم بالمرض رافضة‬
‫أن تأكل أو طارحة ما ابتلعته ‪ .‬ويعقب رفض الغذاء لدى بعض األطفال حوالي الرابعة أو الخامسة من عمرهم والدة أخ أو أخت ‪.‬‬
‫ثمة أذن خوف من الحرمان هنا ‪ .‬أن الطفل يثير مرضا من األمراض بغية االحتفاظ باهتمام والديه ‪.‬‬
‫وماذا عن الفتيات ؟ يالحظ لديهن ‪ ,‬في بعض الحاالت ‪ ,‬شعور عنيف بالخجل ينشأ مع البلوغ ‪ .‬ثمة اهتمامات دينية أو جنسية‬
‫تستقر مصحوبة بالبحث عن قصاص ذاتي على شكل عقاب جسدي ‪ ,‬يوصف هذا البحث نتيجة هذه االهتمامات ‪.‬‬
‫قد يستخدم بلوغ المراهقة ‪ ,‬في بعض الحاالت ‪ ,‬بمثابة القاطعة ‪,‬إذ يثير أوضاعا كانت موجودة في حالة الكمون ‪ ,‬شأنه شأن الأياس‬
‫وقد يمثل فقدان الشهية هذا أحيانا أخرى ضربا من " ابتزاز " ‪ ,‬هدفه االحتفاظ بحب الوالدين حبا كامال ‪ .‬وتلك هي حالة من حاالت‬
‫الطفالة ‪ .‬أو قد يجسد هذا الرفض ‪ ,‬رفض الغذاء والمرض الناشئ عنه ‪ ,‬انتقاما من الوالدين ‪.‬‬
‫ال بد من ف حص الوسط العائلي أوال وبعمق باإلضافة إلى الفحص الطبي الدقيق ‪ .‬فقد يكتشف فيه أحيانا ضروب من الدراما‬
‫االنفعالية المخيفة ‪ .‬ويوصى ‪ ,‬في مثل هذه الحالة ‪, ,‬بالعزل وبالشروع بالعالج النفساني مباشرة ‪.‬‬
‫والخالصة أن السوداوية تجعل الفاعلية الجسمية والذهنية بطيئة ‪ ,‬وتدفع إلى العطالة التامة كما يحدث في مرض فقدان اإلرادة ‪.‬‬
‫والخرس في هذا المرض كثير الحدوث ‪ .‬فالمرض يبقى خائر القوى ‪ ,‬ذا نظرة مبهمة ‪ ,‬يجتر يأسه ‪.‬‬
‫أما في الحاالت الخطيرة ‪ ,‬فيخشى االنتحار أو مجرد رفض الطعام ‪.‬‬
‫لقد أدرجت السوداوية في عداد أعراض االكتئاب الناشئ عن اإلنهاك ‪ .‬ولكن ثمة العديد من األسباب األخرى الممكنة ‪ ,‬وقد تكون‬
‫هذه األسباب ناشئة من الجهاز العصبوني االعاشي والمبيض والغدة الدرقية ‪ ,‬الخ ‪. . .‬‬
‫ا ن السبب األول هو أذن سبب جسمي صرف ‪ ,‬واالنعكاسات النفسية تبدو فيما بعد ‪.‬‬
‫وماذا لو كانت السوداوية نتيجة من نتائج االكتئاب ؟ ان النتائج في هذه الحال هي ذات النتائج التي تترتب على فقدان اإلرادة ‪ ,‬وما‬
‫ينبغي معالجته إنما هو االكتئاب ذاته ‪.‬‬

‫و – الخوف من الجنون ‪.‬‬


‫ا ننا نلقى هذا الخوف لدى المكتئبين غالبا ‪ .‬أنه وسواس حقيقي أحيانا ‪ ,‬وسواس السع ‪ ,‬شرس ‪ ,‬ال يرحم ‪ ,‬حتى أن التفوه بكلمات "‬
‫مجنون " و " جنون " و " مستشفى المجانين " جهد يتعذر أن يذهلل المكتئبون الذين ال يجرؤن على قراءة أي مقال ذي عالقة‬
‫باالغتراب العقلي وال على رؤية أي فيلم يعرضه ‪.‬‬
‫من المعلوم أن المكتئب يحس بـ " فراغ " في دماغه ‪ ,‬وبأنه عاجز عن " لملمة أفكاره " ‪ .‬ففكره ضبابية في الغالب ‪ .‬أنه لمن‬
‫المنطقي أذن أن يسيطر عليه وسواس التعب الدماغي وأن يعتقد بأن هذا التعب يقوده إلى الجنون ‪.‬‬
‫ماذا يقول كثير من المكتئبين ؟‬
‫ًا‬
‫" هذا الفراغ في الرأس ‪ ,‬صباحا على وجه الخصوص ‪ ,‬فراغ يرافقه رحيل أفكاري ‪ ,‬يؤكد لي أنني سأصبح مجنون ‪" . . .‬‬
‫" ‪ . . .‬يسبب لي تعبي والبرودة في دماغي وأوجاع رأسي حصرا يفوق كل وصف ‪ .‬فكيف تطلبون مني أن احتفظ بعقلي وضروب‬
‫الحصر الدائمة تسيطر علي ؟ "‬
‫" ‪ . . .‬لقد نصحني الطبيب ‪ ,‬بشأن اكتئابي ‪ ,‬أن أتلقى عالجا نفسيا ‪ .‬أنه البرهان القاطع على أنني نصف مجنون ‪. " . . .‬‬
‫لنعلم ‪ ,‬قبل كل شيء ‪ ,‬أن هذه المخاوف ال تطابق أي واقع ممكن على اإلطالق ‪ .‬فخوف المكتئب يلتقطون أقل كلمة ويضخمونها ‪.‬‬
‫أنهم سريعو التأثر جدا بأي إيحاء شريطة أن يكون سيء التأثير ! فإذا قلت لمكتئب أنه عرضة للجنون ‪ ,‬صدقك مباشرة ‪ .‬أما إذا‬

‫‪5‬‬
‫نفيت نفيا قاطعا امكان أن يصبح ‪ ,‬فإنه ال يصدقك ! ان ما يسهم في ذلك هو كون المكتئب مشغوال بشأن صحته شغال يفوق كل حد‬
‫( توهم المرض ) ‪.‬‬
‫ويالزم المكتئب ‪ ,‬وسواس السير الوظائفي ألعضائه وأفكاره وفكره ‪.‬‬
‫وهو ال ينفك يالحظ نفسه مدفوعاً بحالة اإلنهاك التي بلغها ‪ ,‬ويفسر أقل قصور تفسيرا سيئا ‪ .‬وسبب ذلك أن االستجابة العفوية‬
‫تعوزه ‪.‬‬
‫وهي تعوزه لمجرد أنها مصابة بالقصور ‪ ,‬فليس للفكرة المرضية عدو ‪.‬‬
‫ولكن لها صديقا قويا كل القوة ‪ :‬االكتئاب ذاته ‪ .‬وهكذا تنمو الفكرة من تلقاء ذاتها كنبات شوكي في دفيئة ‪ ,‬وتنمو كدمل معنوي ‪.‬‬
‫أن مثلها مثل الجرثوم الذي ينتشر في عضوية دون دفاع ‪.‬‬
‫فأي شيء ‪ ,‬والحالة هذه ‪ ,‬يتسلط على المكتئب بصورة خاصة ؟‬
‫يتسلط على المكتئب تلك االنطباعات التي " يحسها في رأسه "‬
‫والخواء ‪ ,‬الصداع ‪ ,‬وما يفقده من ذكرياته ‪ ,‬وعجزه عن التركيز ‪ ,‬وتعذر اتمام عمل باشر به ‪ .‬ويتسلط على المكتئب ضروب من‬
‫الهوس التي تبالغ بالتردد والشك السويين ‪ ,‬وضروب من االجترار النفسي الذي ال يعرف التوقف ‪.‬‬
‫من هنا منشأ االعتقاد بأن بينه وبين الوقوع فجأة في الجنون خطوة ‪ .‬أنني أكرر أن هذا االكتئاب ال يحتمل أن يؤدي إلى الجنون‬
‫المتوقع أبدا على الرغم من أنه متسلط ويقيني ‪.‬‬

‫‪ -2‬أسباب االكتئاب‬
‫االكتئاب ا ذن عام جدا ‪ .‬فبين الحاالت االكتئابية الكثيرة ‪ ,‬ثمة أعراض مشتركة يجب أن تفحص فحصا دقيقا دقة الساعاتي ‪.‬‬
‫نحن ندرك جيدًا أن مئات من األسباب المختلفة يمكن أن تؤدي إلى هبوط التوتر العصبي ! ومع ذلك ‪ ,‬فإن أحد هذه األسباب‬
‫الرئيسية يبقى اإلنهاك العصبي والنفسي ‪.‬‬
‫أسباب هذا اإلنهاك ‪ .‬فما هي أسبابه ؟ يجيب الباليس ‪ La palice‬فالبحث عن سبب االكتئاب في هذه الحالة يرجع إلى العثور على‬
‫" أن سبب اإلنهاك أعمال تنهك " ‪ .‬وقوله هو القول الحق دائما ‪ .‬علينا أن تتساءل ‪ :‬ما هي األعمال التي تنهك ؟ ولماذا تنهك ‪,‬‬
‫ويتجه التفكير اذن إلى اإلرهاق بصورة مباشرة ‪.‬‬
‫أ‪ -‬ما هو اإلرهاق ؟‬
‫تذكرني هذه الكلمة بصورة طالب تعيس ‪ .‬كانت الساعة الثانية صباحا عندما رأيته منذ شهر من خالل الدخان األزرق والمتجمع في‬
‫غرفته من تدخين عدد كبير من لفائف التبغ وقدح من القهوة قريب منه كل القرب ‪ ,‬وقد " توقف " عن متابعة استعداده‬
‫لالمتحانات ‪ .‬انه منهك ‪.‬‬
‫فهل سيصاب باالكتئاب آليا ؟ لماذا يصاب به هذا الطالب وال يصاب به طالب آخر ؟ لنفرض في الواقع أن ثمة عواطف " معنوية‬
‫" تمتزج بهذا االستعداد لالمتحانات ‪ .‬ولنفرض أن االمتحانات النهائية تمثل السهم األخير بالنسبة إلى هذا الطالب ‪ ,‬وأنه يعمل بجو‬
‫من الحصر بأنه لن ينجح ‪ ,‬وأن هذا الحصر قد أصبح خوفا من والده مثال ‪ ,‬خوفا من أن يفقد مجرى حياته أو خوفا من االحتقار ‪,‬‬
‫الخ ‪ .‬ومن المؤكد أن ثمة عناصر انفعالية تفرز اإلنهاك تنضاف إلى اإلرهاق من الدراسة ‪.‬‬
‫هكذا نرى اذن امكان اإلرهاق يختلف باختالف اإلفراد ‪.‬‬
‫يحدث اإلرهاق عندما يصرف اإلنسان من طاقته ما يتجاوز إمكاناته ‪.‬‬
‫فاالستعمال المفرط ألي عضو من األعضاء ‪ ,‬كالدماغ مثال ‪ ,‬إنما يعني إنقاص قدرته ‪ ,‬مثله في ذلك مثل سيارة على وجه الدقة ‪.‬‬
‫واإلرهاق إنما هو تبديد رأسمال ‪ .‬أن الشعور بالتعب إشارة ال تعادلها في القيمة أي إشارة أخرى ‪.‬‬
‫فإذا تجاوز المرء هذا اإلحساس ‪ ,‬فإنه إنما يتعرض إلى الوقوع في اإلنهاك ‪ .‬صحيح أنه إنهاك ال زال بالإمكان تالفيه ‪ ,‬ولكنه مع‬
‫ذلك ا نهاك ‪ .‬فإذا دام هذا اإلنهاك فترة طويلة أو تكرر حدوثه عدة مرات ‪ ,‬فإن المرء سائر مباشرة نحو االكتئاب ‪.‬‬
‫يحدث اإلرهاق منذ أن تصبح المرممات الطبيعة ‪ ,‬الغذاء والنوم ‪ ,‬عاجزة عن تجديد القوى ‪.‬‬
‫ومن البدهي أن يكون اإلرهاق منوطا إذن بالقوى الجاهزة ‪.‬‬
‫ويعني اإلرهاق أن يصرف اإلنسان من طاقته أكثر مما يتجدد من قواه ‪ .‬وعلينا أال ننسى ‪ ,‬مرة أخرى ‪ ,‬أن التعب إشارة هدفها أن‬
‫تمنع تسمم الخاليا العصبية ‪ .‬وينبغي أن ينظر إلى ال إرهاق من حيث كونه وقائيا ‪ .‬وعلى كل موجود إنساني أن يعرف استطاعته‬
‫الخاصة ‪.‬‬
‫انني اعلم أن هذا ألمر هو أحدى الصعوبات الكبرى علما نشأ من معاناتي تعليم ذلك ‪.‬‬
‫علينا أال نظن بأن االكتئاب يبرز دائما بعد العمل المنهك بصورة مباشرة ‪ .‬بل أنها حالة نادرة جدا ‪ .‬ويالحظ كل طبيب وكل عالم‬
‫نفس ‪ ,‬على الغالب ‪ ,‬أن االكتئاب عن سلسلة من األعمال المنهكة التي تتنضد خالل سنتين عديدة في بعض األحيان ‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫حالة شائعة ذات إنهاك مباشر ‪.‬‬
‫س ‪ . . .‬موظف نموذجي ‪ ,‬سمي بصورة مفاجئة رئيس مكتب ‪ ,‬أخذ س يعمل خالل شهرين ‪ ,‬تحدوه الرغبة في أن يكون مقدار في‬
‫وظيفته الجديدة ‪ .‬انه يسهر حتى ساعة متأخرة من الليل وال ينفك يتجاوز تعبه لقد بدت عليه سائر ظاهرات " االنهيار " في نهاية‬
‫هذين الشهرين ‪ ,‬وسقط منهكا مع سائر أعراض " اكتئاب عصبي " ‪ .‬انه إرهاق نفسي بالتأكيد ‪ ,‬ولكنه كان يعمل في وظيفته‬
‫السابقة مثلما يعمل في وظيفته الحالية ! إذن ؟ ماذا ؟ حدث ؟‬
‫أوال ‪ ,‬كانت وظيفة س السابقة تتكون من مجموعة من العادات وعلى الرغم من أن علمه كان كثيفا فإن التكيف مع أوضاع جديدة‬
‫كانت نادرة ‪ .‬لقد كان س يعمل في ضرب من اآللية التي جنبته كل تعب نفسي ‪.‬‬
‫أما في الوظيفة الجديدة ‪ ,‬فإن س ‪ ,‬على العكس ‪ ,‬كان ملزما بأن يتكيف سريعا مع مسؤوليات تظهر باستمرار وتتطلب مقدارا كبيرا‬
‫من العمل العقلي ‪ .‬فكانت النتيجة إنهاك واكتئابا ‪.‬‬
‫قد يظن المرء أن ما قيل هو كل شيء ‪ . . .‬ومع ذلك فهو ال يمثل شيئا يذكر ‪.‬‬
‫نشأ "س" في أسرة ميسورة ‪ .‬لقد " غالى في حمايته " باستمرار و " أحاطته بالرعاية " أبوان كانا " يعبدانه " ‪ .‬كان يقومان بكل‬
‫شيء مقامه ‪ ,‬ويفكران ويقرر أن بدال من أن يفكر هو ويقرر ‪ .‬وهكذا دخل معترك الحياة ترافقه صعوبة في أن يريد ( فقدان‬
‫اإلرادة ) وعدد كبير من العقد النفسانية ‪ .‬لقد عرضت عليه وظيفة رئيس دائرة وقبلها ‪ ,‬فأصيب باإلرهاق ‪ ,‬هذا أمر واضح ‪ .‬ولكن‬
‫"س" كان قد وقع دون أن يدري في الحصر والشك والتردد واإلخفاق قبل أن يبدأ عمله الجديد ‪ .‬ثمة إرهاق عقلي وال ريب ‪ .‬ولكنه‬
‫ثمة إرهاق انفعالي على األخص ‪ .‬ا ن عقدة النفسانية كانت األساس لكل عمل ينطوي على مسؤولية ‪ .‬وكانت هي التي تمنع ‪,‬‬
‫بصورة آلية ‪ ,‬التكيف المباشر وإنهاء العمل الذي كان يستمر في الدوران في عقل "س" مثيرا ضروبا من التردد والشك والحصر‬
‫والهوس واألرق ‪ .‬ولكن ثمة مسؤوليات أخرى تظهر في الوقت ذاته ‪ ,‬تجر معها ‪ ,‬هي أيضا ‪ ,‬موكبا نفسانيا منهكا ‪ .‬وهكذا‬
‫دواليك ‪. . .‬‬
‫ان القول ‪ ,‬في هذا الشأن بأن "س" أصيب باإلرهاق في عمله الجديد ينقصه الدقة ‪ .‬لقد كان وضعه الجديد هو القاطعة والمحول ‪.‬‬
‫فعقده العميقة جعلت األعمال التي تتطلب تحمل المسؤولية والتي يمكن أن يواجهها أي شخص آخر بصورة سوية ‪ ,‬صعبة كل‬
‫الصعوبة ‪ .‬ثمة ‪ ,‬في هذا المجال ‪ ,‬اكتئاب ذو قاعدة نفسانية تربوية ‪.‬‬

‫حالة أخرى ‪.‬‬


‫ع ‪ . . .‬طبيب شاب وقع في " االكتئاب العصبي " في نهاية ستة أشهر ‪ .‬وكان التشخيص كما يلي ‪ :‬إرهاق منشأه الدراسة والعمل‬
‫في مهنة الطب ‪ .‬هذا أمر مؤكد ‪ ,‬مؤكد ‪ . . .‬ولكننا إذا علمنا أن أي وصفة لدواء غير جاهز تثير لديه سلسلة من ضروب التردد‬
‫والشك ‪ ,‬فإننا نفهم الوضع على نحو أفضل ‪ .‬وإذا علمنا بأن ع ‪ . . .‬كان يعود إلى كتبه يستفتيها ساعات وساعات بشأن وصفة‬
‫دقيقة وصفها الطبيب له ‪ ,‬وكان ينتظر نتيجة وصفته انتظارا مصحوبا بالحصر ( ولنتصور كذلك ما هو أسوأ ) ‪ ,‬فإننا ندرك األمر‬
‫بصورة أوضح ‪.‬‬
‫ما هو سبب االكتئاب أذن في هذه الحالة ؟ أهو العمل أو الدراسة أم هو الوصفات ‪ ,‬ليس السبب ما ذكرناه ‪ .‬هل هو التردد والحصر‬
‫؟ نعم ‪ ,‬ولكن ال على وجه الدقة ‪ .‬ذلك أننا ينبغي أن نعرف سبب التردد الذي يتصف بالحصر ‪ .‬ينبغي أن نعلم لماذا يستمر هذا‬
‫لعمل ‪ :‬كتابة وصفة طبية " ‪ ,‬بالدوران في رأس ع مثيرا للحصر ‪.‬‬
‫أن نقدم تحليال مفصال لحالة ع أمر قد يطول شرحه كثيرا ‪ .‬ولكن هذه الحالة تبين شيئا واحدا ‪ :‬ال مناص من فحص كل اكتئاب من‬
‫سائر وجوهه ‪ .‬فقد ترجع األسباب غالبا إلى ما هو بعيد ‪ .‬بيد أنها البد من العثور عليها ‪.‬‬
‫ا ن اإلرهاق الجسمي ال يتدخل عمليا في أحداث االكتئاب بمفرده على اإلطالق ‪ ,‬بل يرافقه اإلرهاق النفسي كما في حالة الطالب‬
‫مثال ‪.‬‬
‫وسنرى ‪ ,‬من جهة أخرى ‪ ,‬فيما بعد ‪ ,‬إلى أي حد يشكل التركيز الطويل األمد خطرا على اإلنسان ‪ ,‬وإلى أي حد يبدو ضروريا أن‬
‫يتخلل التركيز فترات من التسلية ‪ .‬ولست أهدف من وراء ذلك إلى أن أقدم نصيحة ‪ ,‬وإنما أعرض مجرد حاجة ضرورية من‬
‫حاجات الدماغ ‪.‬‬
‫أن ضروب اإلرهاق االنفعالي ‪ ,‬واألفكار الثابتة ‪ ,‬والوساوس ‪ ,‬والدماغ الذي يدور حول فكرة واحدة ‪ ,‬ضروب االجترار النفسي ‪,‬‬
‫أكثر خطرا ‪ .‬قد يقال غالبا ‪ " :‬دع عنك العواطف الحزينة السوداوية واألفكار السوداء ‪ .‬أعمل على حسب طاقتك وهمتك وحالة‬
‫ضعفك " ‪ .‬أنه لقول لطيف كل اللطف ‪ .‬يبد أن هذه الظاهرات جميعها هي معلوالت حالة من حاالت القصور ! فليس من أجل اللذة‬
‫بالتأكيد إنما يجتر شخص من األشخاص أفكارا سوداء أو وساوس ‪.‬‬
‫ففي المستوى األول ‪ ,‬ينبغي إذن أن نعثر على المستودع ‪ :‬ذلك أن هذه األفكار المرضية تصبح بدورها أسبابا تتفاقم تدريجيا وتدفع‬
‫الشخص نحو اإلنهاك العصبي ‪ .‬وعندئذ يحتمل أن تصبح أفكار ثابتة توجه لحسابها طاقة الفرد برمتها ‪.‬‬

‫ب – األعمال المنهكة ‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫ان " جدولة " السلوكات اإلنسانية تبقى دائما عبثا بعض الشيء ‪.‬‬
‫ولكن ثمة أمرا يقينيا يبذل كل جهد إنساني في سبيل التكيف مع وضع من األوضاع ‪ .‬أيا كان هذا الوضع ‪ ,‬يستوي في ذلك أن يفتح‬
‫بابا ويتزوج ‪.‬‬
‫اإلنسان ً‬
‫ثمة ‪ ,‬إذن ‪,‬درجات في صعوبات التكيف ‪ ,‬وبالتالي في كمية الطاقة التي تصرف ‪.‬‬
‫وال يحس الفرد دائما بأعماله المنهكة ‪ .‬فكثير منها يبقى تحت الشعور ‪ .‬وسنرى ذلك في الفصل الخاص بـ " التحليل النفسي " ‪.‬‬
‫وسواء كانت تحت الشعور أم ال ‪,‬فإنها تقوم بعملها التخريبي مع ذلك ‪.‬‬
‫أنني اعتقد بأن الوسط العائلي مصدر من أخصب مصادر اإلنهاك واالكتئاب ‪ .‬فالمصادر األخرى تنطلق بعد زمن طويل ‪ .‬إن‬
‫أخطر مشكل من مشكالت التربية يتدخل في هذا المجال ‪ .‬فبعض المراهقين يحملون في داخلهم عددا هائال من ضروب التكيف‬
‫الداخلية الفاشلة ‪ .‬ويحمل كل ضرب من ضروب الل ا تكيف هذه شحنة انفعالية ‪ .‬والحياة في العائلة مشكل من مشكالت التكيف‬
‫المتبادل المستمر ‪ .‬ثمة طبائع متباينة تتواجه ‪ ,‬وهي تتطلب تكيفا مرنا قائما على الفهم ‪ .‬والبد من أن تحدث صدامات ‪ .‬فكل شيء‬
‫يجري على أحسن أو بالشرح ‪ ,‬وأما بالغضب ‪ ,‬أي أن كل شيء أذن يجري على ما يرام إذا تمت " تصفية " هذه الصدامات‬
‫مباشرة ‪ ,‬إما بتوازن الشخص أو بالشرح ‪ ,‬وإما بالغضب ‪ ,‬أي أن كل شيء إذن يجري على ما يرام إذا تم " تفريغ " الشحنة‬
‫االنفعالية ‪ .‬بيد أن هذا التفريغ ال يتم على الغالب ‪ .‬وهذا هو ما يحدث في أكثر األحيان ‪ ,‬ولألطفال إزاء والديهم ‪ .‬فال يحدث تفريغ‬
‫الغضب واللوم ‪ ,‬على سبيل المثال ‪ ,‬ألن القانون األخالقي الذي يحدد واجبات األطفال يحرمه ‪ .‬وعاقبة ذلك عندئذ إنما هو‬
‫االجتراس النفسي المشحون باالنفعاالت الذي يمكن أن يصبح نواة ضخمة من التعب ‪.‬وسنرى ذلك في " األشخاص المتعبون " ‪.‬‬
‫فلنفكر أذن بعدد السنين التي تستطيل خاللها ضروب الالتكيف االنفعالي وتنمو ‪.‬‬
‫لقد الحظت أن الذي يفهم فهما سيئا ‪ ,‬هو أيضا ‪,‬تربة لإلنهاك واالكتئاب في غالب األحيان ‪ .‬أن كل شيء منوط بالمربى الديني‬
‫وباالستعدادات المسبقة التي يتصف بها الفرد ‪ .‬ثمة مراهقون يحملون في داخلهم خوفا وحصرا دينيين ‪ ,‬بل ويحملون كذلك رعبا ‪.‬‬
‫ثمة مفاهيم خاطئة عن ا له طاغ ‪ ,‬منتقم ‪ ,‬ال يرحم ‪ ,‬تمتزج بجنسية المراهقين المضطربة ‪ .‬ويمكن أن أقدم مثاال عل ذلك األضرار‬
‫التي تحدث بفعل العادة السرية ‪ ,‬ال بفعل العادة ذاتها ‪ ,‬وإنما بفعل االنفعاالت وتبكيت الضمير التي تنشأ منها إزاء تربية دينية‬
‫مفهومة فهما سيئا ‪ ,‬أنزلها الناس منزلة القانون األخالقي الذي ال يعرف الرحمة ‪.‬‬
‫ج‪ -‬البلوغ الجسمي ‪.‬‬
‫انني استشهد بجانه ‪: Janet‬‬
‫تبدو المظاهر األولى لعدم التكيف عند كثير من الأفراد ‪ ,‬بين الثانية عشرة والرابعة عشرة ‪ ,‬في فترة البلوغ الجسمي الذي‬
‫يضعف ‪ ,‬منذ ظهوره ‪ ,‬قوة المقاومة لديهم بصورة كبيرة ‪ ,‬إنها ‪ ,‬في الوقت ذاته ‪ ,‬إنما هي الفترة التي يتجه فيها انتباه األطفال إلى‬
‫الممارسات الدينية للمناولة األولى ‪ .‬إ نها هي المرحلة التي يبدأ فيها هوس تكرار الصلوات وهوس الكمال والرعب من جهنم‬
‫ووساوس السحر عند من هم أكثر نضجا ‪ .‬ويمكن أن تبقى هذه االضطرابات مقتصرة على األفعال الدينية وأن تستمر إلى ماال‬
‫نهاية ‪.‬‬
‫إذن ‪ ,‬فكل تكيف هام يمكن أن يكون عمال منهكا ‪ . . .‬كما يمكن أن يكون منهكا أي عمل تافه ‪ .‬إن السيدة س تقع في أزمة اكتئاب‬
‫كلما عادت من سفر ‪ .‬أنه لعمل تافه مع ذلك لو اقتصر األمر عند هذا الحد فاالستعداد للسفر يدوم فعال خمسة عشر يوما مع‬
‫يصاحبه من ضروب التردد والشك والبطء ‪ ,‬ومن العجز عن إعداد حقيبة دون أن تفض ما فيها مباشرة " ألن بالإمكان دائما نسيان‬
‫أي شيء " ‪ .‬أما في السفر فإن القلق يحدث ‪ .‬أنها تخشى أن تقع مريضة وهي بعيدة عن منزلها ‪ ,‬وأن تفقد دراهمها ويحترق بيتها‬
‫ويحدث لها حادث اصطدام ‪ .‬تقول لي ‪ " :‬أنني أبقى دائما ‪ ,‬أثناء ركوبي في القطار ‪ ,‬أنتظر انتظارا يتسم بالحصر وقوع صدام‬
‫مفجع ‪ .‬يصفر وجهي من صفارة القاطرة ‪ ,‬وال أستطيع أن امنع نفسي من سؤال جيراني من الركاب عن سرعة القطار " ‪ .‬تبقى‬
‫السيدة س ساعات حتى تختار فندقا وحتى تجري حساباتها ‪ ,‬وتبقى ساعات تتردد وتجتر منهكة أكثر فأكثر ‪.‬‬
‫وتعود السيدة س من سفرها " خائرة القوى " بصورة كاملة ‪ ,‬جاهزة ألن تقع في فراشها مريضة ‪ .‬وتلك هي ‪ ,‬عندئذ ‪ ,‬حاالت‬
‫فقدان اإلرادة والسوداوية واالجترار النفسي لما تشعر به من نقص ‪.‬‬
‫إن سفرا بسيطا هو إرهاق كبير بالنسبة إليها إذن ‪ .‬مرد ذلك إنها عاجزة عن التكيف مع الظروف العديدة التي يتطلبها هذا السفر ‪.‬‬
‫فعلى علم النفس إذن أن يبحث في هذه الحالة عن األسباب األولى التي أحدثت هذا القصور ‪.‬‬

‫حالة جاكلين د ‪. .‬‬


‫جاكلين فتاة رائعة عمرها ثالث وعشرون ربيعا ‪ .‬إن ها فريسة انحراف شديد في عمودها الفقري منذ طفولتها ‪ ,‬ويبدو عليها سائر‬
‫أعراض االكتئاب العصبي ‪ .‬يضاف إلى هذا أن رؤية أي من ممثلي السلطة ( كاهن ‪ ,‬شرطي ‪ ,‬دركي ‪ ,‬بل وموظف خلف كوته )‬
‫يحدث لديها ارتعاشات عصبية أو ا حساسات تقيؤ تجعلها تهرب منه ‪ .‬فهي ال تجرؤ على النظر وجها لوجه ‪ ,‬ويعدها الناس‬
‫مرائية ‪ .‬انها متوترة ‪ ,‬عدوانية ‪ ,‬ذات ثقافة رائعة تتباهى بها باستمرار ‪ .‬إن أمر ثقافتها من الوضوح بحيث ال ينبغي أن يكون‬
‫اإلنسان عالما كبيرا حتى يحزر السبب ‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫‪ -‬ولكن ثقافتك رائعة ‪ ,‬أيتها اآلنسة ‪ . . .‬لماذا ؟‬
‫أجابت جاكلين والعدوان باد عليها ‪:‬‬
‫حسن ‪ ,‬أحزر أيها السيد !‬ ‫‪-‬‬
‫لقد حزرت ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫آه ؟‬ ‫‪-‬‬
‫لقد سببت لك ما تسمينه عاهتك شعورا هائال بالدونية منذ طفولتك ‪ .‬أليس كذلك ؟‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬نعم أيها السيد ‪ ( .‬عدوانية ) ‪ .‬واآلن ‪ ,‬أكمل قصتي ‪.‬‬
‫ثم تابعت حديثها بلطف ‪:‬‬
‫‪ -‬حسن ‪ ,‬سأتقدم إذن إلى امتحان البكالوريا ثانية ‪.‬‬
‫واستأنفت كالمها بتواضع مفاجيء ‪:‬‬
‫أوه ‪ ,‬ال تصدق ذلك ‪ ,‬ايها ا لسيد ‪ ,‬أرجوك ! لكنني اجتررت حياتي كثيرا ‪ . . .‬وتعذبت كثيرا !‬ ‫‪-‬‬
‫بالتأكيد ‪ .‬لقد وصلت في حديثي إلى الشعور بالدونية ‪ ,‬أليس كذلك ؟‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬نعم يا سيدي ‪.‬‬
‫لقد عانيت كثيرا من الشعور باإلحباط والمهانة وبأنك مبعدة عن كل شيء ومنبوذة من الجميع ‪ ,‬أليس كذلك ؟ أنك تثورين‬ ‫‪-‬‬
‫ضد قدرك ليال نهارا ‪.‬‬
‫‪ -‬نعم يا سيدي ‪.‬‬
‫ولكن شعورك بالدونية هذا أفقدك كل شعور باألمن ‪ .‬أنك تشعرين بالوحدة شعورا رهيبا ‪ .‬وكان المناص ‪ ,‬أذن ‪ ,‬من أن‬ ‫‪-‬‬
‫تجدي هذا األمن أين ؟ أفي أحضان والديك ؟‬
‫أوه ‪,‬كال فوالدي يمقتاني في الواقع ‪ .‬لقد سمعتهما يتخاصمان وكان لي من العمر عشر سنوات ‪ .‬كان أبي يتحدث عني‬ ‫‪-‬‬
‫قائال ألمي " ابنتك " ‪ . . .‬لقد كنت وكأنني لقطة يبحث الناس عن مالكها ‪ . . .‬ثم سمعت أمي تقول ‪ " :‬أنني أخجل من‬
‫الخروج معها ‪ .‬ا نني أخجل من شفقة الناس ‪ .‬لو كانت عبقرية على األقل ‪ ,‬ماذا أقول ؟ لتوازن األمر ! "‬
‫وفي هذه اللحظة بالذات انما بدأ كل شيء ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬نعم يا سيدي ‪.‬‬
‫عندئذ عزمت أمرك يا جاكلين ‪ .‬انك لم تقولي كلمة واحدة من هذا لوالديك ‪ .‬وبدأت تدرسين لوحدك بجد وعنف ‪ .‬لقد كان‬ ‫‪-‬‬
‫عليك أن تصبحي غول المعرفة المقدس ‪ .‬فتفوقك الوحيد الممكن كامن في معرفتك الفكرية ‪ - .‬ثم اخبريني كذلك ‪ ,‬هل‬
‫كنت ترغبين أن تقتصي من والديك بأن تكوني منهكة بما أنك لم تكوني قوية من الناحية الجسمية ‪.‬‬
‫نعم ‪ . . .‬ا نها تخطر ببالي اآلن ‪ . . .‬لقد كانت هذه الفكرة لدي ‪ . . .‬ولكنني رفضتها باستمرار ‪ .‬كنت أقول لنفسي غالبا ‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫" لومت لكان ذلك ما يرغبونه ‪ " . . .‬يا سيدي ‪,‬كان األمر أكثر تعقيدا مما كنت أعتقد ! ‪ . . .‬اعتقد ! ‪. . .‬‬
‫ولكن كال ‪ ,‬كال ‪ ,‬يا جاكلين ‪ ,‬سترين ‪. . .‬‬ ‫‪-‬‬
‫أشكرك يا سيدي ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫هيا ‪ ,‬لننزل إلى ما هو أعمق ‪ .‬أتتبعينني ؟‬ ‫‪-‬‬
‫انني اتبعك بكل شغف‪ ,‬قالت مبتسمة ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تفوقا بالنسبة إليك ‪ .‬وشعرت‬
‫ً‬ ‫خفية بدأت العمل أذن ‪ ,‬صباح مساء ‪ ,‬ودون انقطاع ‪ .‬لقد أصبح كل شيء تكتسبينه بعمق‬ ‫‪-‬‬
‫كالعب الجيدو أنك قادرة أكثر فأكثر أن " تقهري " أي شخص كان وأن تجعلينه هزأة ‪.‬‬
‫كنت تقولين ‪ :‬لكل إنسان دوره ‪ . . .‬لقد كان ذلك هو سالحك السري ‪.‬‬
‫نعم يا سيدي ‪ .‬ولكن اإلنهاك أصابني بعد سنتين ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫حسن ‪ . . .‬لقد قاومت ! وعلى هذا المنوال ‪ . . .‬أنت نبذت التعب إذن بسبين ‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫آ – أردت أن تكوني مثقفة بأي ثمن ‪.‬‬
‫ب – رغبت الشعوريا أن تنهاري من التعب عقابا لوالديك ‪.‬‬
‫‪ -‬اتفقنا يا سيدي ‪ .‬قل لي ‪ . . .‬هل مهنتكم هي دوما على هذه الدرجة من التعقيد ؟‬
‫‪ -‬ا نها غالبا أكثر تعقيدا ‪ ,‬يا جاكلين ! لنستمر في حديثنا ‪ .‬إذن ‪ ,‬كنت تغرفين المعرفة غرفا ‪ .‬كنت منهكة ‪ .‬كل شيء جرى في‬
‫صمت تام ‪ .‬ثم قذفت بمعلوماتك وكأنها قنابل ‪ .‬أظن أنك كنت تلقين أسئلة " عويصة " على أساتذتك وأنك قد استوليت على كل‬
‫الجوائز ‪.. .‬‬
‫‪ -‬باستثناء جائزة الرياضة ‪ .. .‬قالت ذلك باسمة وقد خفضت رأسها ‪.‬‬
‫‪ -‬سيحدث هذا يا جاكلين ! وتأملك اساتذك وصديقاتك ووالدك بذهول ‪ .‬ونتج عن ذلك أن الناس كفوا عن الكالم عن عاهتك ‪ ,‬أليس‬
‫ذلك صحيحا ؟‬

‫‪9‬‬
‫‪ -‬أوه ‪ ,‬كال !‬
‫‪ -‬ولكنني أظن أنك لم تقولي شيئا بعد ‪ . . .‬ألم تتخذي مظهرا وقحا كما لو أن األمر كان طبيعيا ودون أي جهد ؟ ألم يكن تفوقك‬
‫الحقيقي لقاء هذا الثمن ؟‬
‫‪ -‬نعم يا سيدي ‪ ,‬وتابعت سلوكي هذا زمنا طويال ‪.. .‬‬
‫‪ -‬ولم ينظر إلى وضعك هذا أي شخص نظرة خاصة ؟ لم يجد أي شخص أن ذلك لم يكن طبيعيا ‪.. .‬‬
‫‪ -‬أوه ‪ ,‬كال ! لقد كان التغلب علي مبعث فخرهم الكبير ! تصورا ! أنني أصبحت موسوعة ! فخر والداي ومدرستي!‬
‫‪ -‬احم ! ‪ .. .‬انه لشيء جميل ‪. . .‬‬
‫‪ -‬نعم ‪ ,‬يا سيدي‬
‫‪ -‬ثم أدركت البلوغ وأنت على ما أنت عليه من إنهاك ‪.‬‬
‫‪ -‬نعم ‪ ,‬وقد أخبرتني صديقاتي ‪. . .‬‬
‫‪ -‬بأي شيء أخبرتك صديقاتك ؟‬
‫‪ -‬ولكن ‪. . .‬بكل شيء ‪.‬‬
‫‪ -‬وعندئذ ؟‬
‫‪ -‬عندئذ بدأت ‪ ,‬يا سيدي ‪ ,‬أمور كثيرة ‪ .‬لقد دخلت ميدانا جديدا ‪.‬‬
‫كنت منبوذة من الجميع خالل طفولتي كان علي أن أحطم كل شيء ‪. . .‬‬
‫وكان رأ سي يصاب بدوار من ذلك ‪ ,‬وكان علي أن تدبر األمر ‪ . . .‬ثم أنزلت قلوعي كثيرا ( صرخة تمرد ) ‪ ,‬ولكنني بقيت مع‬
‫ذلك حدباء ‪ ,‬حدباء قذرة ! وأصبحت فتاة صبية تعاشر الفتيان الذين نبذوني جميعهم أيضا ‪ . . .‬ما عد اثنين أو ثالثة منهم كانوا‬
‫يحموني ‪ .. .‬وشعرت بحمايتهم وكأنها شتيمة إضافية ‪ .‬كنت منزعجة معهم ألنهم لم يفكروا أبدا بـ ‪. . .‬‬
‫‪ -‬إ نهم لم يفكروا بدورك النسوي ‪ ,‬السيما وأنني أفرض بأنك كنت تقذفينهم بمعلوماتك كما لو أنها دالء من الماء المثلج ؟‬
‫‪ -‬كنت أريد أن اصرع تفوقهم الرجولي ‪.‬‬
‫‪ -‬وما استمر ذلك زمنا طويال ‪.‬‬
‫‪ -‬كال ‪ ,‬يا سيدي ‪ ,‬هجروني ووجدت نفسي وحيدة ‪.‬‬
‫‪ -‬متى بدأت تمارسين العادة السرية ‪.‬‬
‫‪ ( -‬احمر وجه جاكلين احمرار شديدا ‪ ,‬شنجت يديها ‪ ,‬نهضت ‪,‬ولكن " نزعتها العقالنية " تستلزم النظر إلى المسألة الجنسية دون‬
‫انفعال ‪.‬‬
‫وعادت إلى الجلوس على مقع دها بعد أن وصلت في حركة نهوضا حتى منصفها ‪ ,‬واستأنفت الحديث ) حوالي الخامسة عشرة ‪.‬‬
‫‪ -‬هل شعرت بتبكيت الضمير ؟‬
‫‪ -‬لم أشعر بذلك مباشرة ‪ .‬شعرت بالحقد أكثر ‪ .‬كنت اقتص من نفسي وحيدة ألنني كنت ازداد انهيارا ‪ .‬ذات يوم ‪ ,‬كنت في مدرسة‬
‫كاثوليكية ‪ ,‬قدم الموعظة واعظ غريب ‪ .‬فتكلم عن الجسد ‪ .‬كنت قد بلغت الخامسة عشرة كما تعلم ‪ . . .‬ال يزال صوته يجلجل في‬
‫إذني ‪ .‬لقد بدا كل ذلك أمرا ال يغتفر ‪ . . .‬ولم أجرؤ أبدا على البوح بما كنت أفعل ‪ .‬وتلك كانت عندئذ مرحلة االعترافات الدينية‬
‫وانتهاكات حرمة القربان المقدس ‪.‬‬
‫‪ -‬هل فهم معرفك مع ذلك يا جاكلين !‬
‫‪ -‬نعم ‪ ,‬يا سيدي ‪ .‬ولكنني في الخامسة عشرة من عمري ‪ . .‬كنت أشعر شعورا عنيفا بعد كل انتهاك لحرمة القربان المقدس أن كل‬
‫شيء سمحقني ‪.‬‬
‫كنت أظن بأن الصاعقة ستصيبني كلما خطوت خطوة ‪ ,‬واشعر أن سريرتي عفنة ‪ .‬وكان شعوري هذا من القوة بحيث أنني اعتقدت‬
‫أن رائحتي تثير التقزز ‪ ,‬وبحيث أنني كنت أضع العطور بكمية كبيرة حتى ال يكتشف الناس هذه الرائحة ‪ . . .‬كانت رؤية الكاهن‬
‫تجعلني ارتعش ‪ . . .‬واعتقدت أن أقذر األمراض الممكنة قد أصابتني ‪ ,‬وعدت إلى سائر المؤلفات الطبية خالل ساعات وساعات‬
‫ابحث فيها ‪ . . .‬كان يبدو لي في الشارع ( كنت كالمجنونة ) أن رجال الشرطة يالحقونني بنظراتهم ‪ . . .‬ودام ذلك خمسة أعوام‬
‫‪ ,‬خمسة أعوام ‪ ,‬يا سيدي ! وتحملت هذا وحيدة ‪ ,‬فقد كان أهلي ال يعرفون شيئا عن الحياة العامة وال يشكون بشيء ‪ .‬كنت أقع غالبا‬
‫فريسة ضروب من اإلغماء والدوار وفقدان الذاكرة ‪ .‬لم أجرؤ أبدا أن أقول شيئا ‪ ,‬أيا كان ‪ ,‬إلى شخص ‪ . . .‬ما عدا اآلن ‪ . . .‬انه‬
‫األمر أسهل بكثير مما كنت أظن ‪ . . .‬وبعد انقضت خمسة أعوام وأنا على هذه الحال ‪ ,‬إنما كان لقائي عندئذ مصادقة لصديق من‬
‫أصدقاء الطفولة ترك البالد في ذلك الوقت ‪ . . .‬لقد كان من اللطف والبعد عن التصنع بحيث أنه قلب أوضاعي رأسا عل عقب ‪.‬‬
‫‪ . .‬هل تفهم يا سيدي معنى لطف بالنسبة إلي ؟ لم أتحدث إليه عن كل شيء من هذا ‪ ,‬وإنما عن اكتئابي ‪ . . .‬لقد أرغمني بلطف‬
‫على زيارتك ‪ . . .‬وهكذا هاأ نذا ‪ ,‬يا سيدي ‪ .‬أنني ال أحس بجسدي ‪ ,‬أنني متعبة جدا ‪ . . .‬ولكنني أشعر بأني أقل شناعة بسبب ما‬
‫قلت ه عن كل ذلك ‪ . . .‬وبخاصة أنني أحس أنك لن تصدر حكما علي ‪. . .‬‬

‫‪10‬‬
‫ا ن جاكلين هي اآلن متزوجة وسعيدة ‪ .‬هل هذه قصة من القصص الخرافية ؟ ليست قصة من القصص الخرافية ‪ ,‬وإنما هي قصة‬
‫كل يوم من حياة الناس ‪ .‬لقد تدخلت ثالثة علوم في شفاء جاكلين ‪:‬‬
‫ففي المستوى األول ‪ ,‬تدخل الطب إلصالح حالتها العامة العصبية ‪ ,‬واجتث في الوقت ذاته عالج أعماق نفساني عقدها التي كانت‬
‫بمثابة أسنان نخرة ‪ .‬كان الهدف أن تلغى عشر سنوات من ضروب الحصر والكبت والحقد والتشنج ‪ . . .‬كان الهدف أن تعود إلى‬
‫وضعها الطبيعي جنسية مزيفة ‪ ,‬وان تتعلم جاكلين كيف تستريح وكيف تقتصد في قواها ‪.‬‬
‫وأخيرا نجح طبيب من األطباء في أن يخفف من الجنف في عمودها الفقري وتم كل هذا بمساعدة حماسية من قبل الفتاة ‪ ,‬لقد تم كل‬
‫هذا ونجح أتمنى لك حياة سعيدة يا جاكلين ‪.‬‬

‫‪ -3‬اإلنهاك والهياج‬
‫قلت أن اإلنهاك يثير االكتئاب والهياج ‪.‬‬
‫ويبدو في الهياج عرضان رئيسيان ‪:‬‬
‫آ – تتصف االستجابات للظروف بأنها غير منتظمة ‪ ,‬كما تتصف بالمبالغة بصورة واضحة ( استجابات عضلية وسيول من األلفاظ‬
‫‪ ,‬الخ ) ‪.‬‬
‫ب – يعطي المهتاج انطباعا بأنه لعبة بين يدي اندفاعاته دون أن يكون لديه الكابح الضروري من أجل إحداث التوازن ‪.‬‬
‫ويصبح سلوك المهتاج سلسلة من ضروب التفريغ المفاجىء التي ال يفلح في مراقبتها ‪ .‬أن " السيادة على الذات " تختفي ‪.‬‬
‫ويختفي كذلك اليسر الذي تمنحه حيوية سوية ‪ .‬فالحركات سريعة غير منتظمة ‪ ,‬والكالم يصبح سيال ‪ ,‬وتبدو عرات عرات حركية‬
‫ولغوية ‪ ,‬وحركات إيمائية مفاجئة وتشنجات وانقباضات عضلية ‪ ,‬الخ ‪ .‬ومن الطبيعي أن يحدث كل هذا حسب درجة الهياج ‪.‬‬
‫ا نني أشير إلى أن ثمة التباسا بين هذه االستجابات وبين ضرب من " فائض كبير " في الطاقة ‪ ,‬على الغالب ‪ .‬ولكن األمر هو على‬
‫العكس من ذلك تماما ‪.‬‬
‫ولننتبه هنا ‪ :‬فقد يظن البعض أحيانا بأن قوام " السيادة على الذات " أن يقوي اإلنسان من عزيمته حتى " يتغلب عل نفسه " وهذا‬
‫خطأ كل الخطأ ‪ .‬فإذا كانت السيادة على الذات تقتضي جهدا ‪ ,‬فذلك يعني انه ال وجود للسيادة على الذات ‪.‬‬
‫ا ن السيادة على الذات تزول عندما يظهر الجهد ‪ .‬فالسيادة الحقيقة على الذات مساوية لليسر ‪ .‬ينبغي أن تظهر بفعل طاقة موزعة‬
‫توزيعا منسجما ‪.‬‬
‫وبهذا المعنى ‪ ,‬فإن السيادة على الذات شبيهة باإلرادة ‪ :‬فإذا كان على الفرد أن يستنجد باإلرادة أو بالسيادة على الذات ‪ ,‬فهذا يعني‬
‫أنه يفتقر إليهما ‪ .‬ولو كان األمر غير ذلك ‪ ,‬فلماذا كان عليه أن يستنجد بهما ؟‬
‫من الضروري أن يعرف اإلنسان آلية هامة جدا من آليات الدقة العصبية الهائلة دونما حاجة للدخول في التفاصيل ‪ .‬ذلك أننا سنرى‬
‫أن بإمكاننا أن نستخلص من هذه اآللية نتائج تشمل الصحة ‪ ,‬والتوازن والطريقة اليومية في الحياة أو التربية ‪.‬‬
‫يسود االعتقاد بصورة عامة أن الدماغ بمجموعه يعمل إذا فكر اإلنسان بأمر من األمور ‪ .‬غير أن هذا االعتقاد اعتقاد خاطئ ‪ ,‬كما‬
‫هو أكثر خطأ أن نعتقد بأن الدماغ يعمل برمته عمال قاسيا عندما نركز فكرنا على مشكل من المشكالت ‪.‬‬
‫إ ن جزءا صغيرا من الدماغ يكون وحده في حالة نشاط عندما يقتض األمر تركيزا ‪ .‬أما الباقي فإنه في حالة من عدم النشاط ‪ ,‬في‬
‫حالة النوم ‪ .‬نحن ندري جميعا بحالة اإلنسان الذي " يركزه فكره " على دراسة أو قراءة "‪ :‬انه ال يسمع شيئا مما يحيط بهما ‪.‬‬
‫فكـأن األلفاظ والمذياع واألحاديث غير موجودة ‪ .‬ا ننا نعرف حالة االستاذ " الشارد " ( أي الذي ركز فكره على مسألة من مسائل )‬
‫الذي ل ن يري سيارة بأقصى سرعتها مسا خفيفا ‪ .‬فإذا أوغلنا في التقدم نحو العمق ‪ ,‬وقعنا في حالة الفكرة الثابتة ‪ .‬وال يالحظ‬
‫الشخص أي شيء سوى فكرته ‪ .‬فلماذا ؟‬

‫آ – آلية بديعة‬
‫تثير الجملة العصبية آليا استجابتين كبيرتين حالما تتلقى " رسالة " ‪:‬‬
‫أ – توجه الرسالة نحو المراكز العصبية المعنية بها ‪ .‬تلك هي ظاهرة توليد الحركة ‪ .‬ويسمح هذا التوجيه بإثارة المراكز العصبية‬
‫المعنية ‪.‬‬
‫هذه اإلثارة العصبية ‪ ,‬بدورها ‪ ,‬تجعل االستطاعة التي يتطلبها العمل الحالي ممكنة ‪.‬‬
‫ب – توقف الجملة العصبية في الوقت ذاته عمل المراكز العصبية األخرى التي ال عالقة لها بالعمل الحالي ‪ .‬فهي تثير على هذا‬
‫المنوال توقفا في سائر صور السلوك التي ليست معينة بالعمل ‪.‬‬
‫وتلك هي ظاهرة الكف ‪.‬‬
‫هذا الكف هو أذن توقف ‪ ,‬وبالتالي نوم ‪.‬‬
‫فاألجزاء الدماغية التي ال تشترك في العمل الحالي تنام ‪.‬‬
‫أ – فالم حاضرة نقطة تصدر رساالت بصرية ‪ ,‬سمعية ‪ ,‬الخ ‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫ب – توجه الجملة العصبية هذه الرساالت نحو المراكز العصبية المعنية ‪.‬‬
‫ج – تصبح المراكز العصبية في حالة تنبيه ‪ .‬ويصل المنبه إلى المراكز على صورة ذبذبات كهربائية ‪ .‬عندئذ ينتبه اإلنسان ويركز‬
‫‪.‬‬
‫د – وتبقى ‪ ,‬في الوقت ذاته ‪ ,‬اإلجزاء األخرى التي ليست معنية بالرساالت الحالية ‪ ,‬أرقدة ‪ .‬فالباقي من القشرة الدماغية يكف إذن‬
‫عن العمل ( الكف )‬
‫لنتذكر القاعدة التالية إذن ‪ :‬يرافق تنبيه بعض المراكز العصبية آليات ايقاف المراكز العصبية األخرى ‪ ,‬فكلما كانت منطقة التنبيه‬
‫ضيقة كانت ا لمناطق الموقوفة عن العمل واسعة ‪ .‬تلك هي ‪ ,‬مع ذلك ‪ ,‬بعض التخطيطات التي توضح شروط الحد األعلى من‬
‫وضوح الدماغ ‪ ,‬وبالتالي الحد األدنى من اإليقاف ( النوم )‬

‫أحالم اليقظة‬
‫ال يشغل الدماغ موضوع خاص في أحالم اليقظة ‪ .‬تلك إنما هي حالة من حاالت التخلي ‪ .‬فالفرد يتفرج على االحساسات التي‬
‫تجري في دماغه ‪ .‬وليس ثمة أي نقطة معينة تجذب انتباه الحالم ‪ " .‬الرساالت " كبيرة العدد إذن ‪ ,‬وبالتالي فالدماغ مفتوح ‪ ,‬يقظ‬
‫إلى الحد األقص ‪ ,‬واإليقاف في حده األدنى ‪ .‬فأحالم اليقظة هي أحيانا ملجأ الضعفاء ‪ .‬ومع ذلك ‪ ,‬ثمة صورة عالية من أحالم‬
‫اليقظة ‪ :‬انها التأمل ‪.‬‬

‫التأمل‬
‫التأمل شبي ه من الناحية العصبية بأحالم اليقظة ‪ .‬ومن المعلوم أن بعض الناس " ال يميزون " غالبا التأمل من التركيز ‪ .‬فليس ثمة ‪,‬‬
‫والحالة هذه ‪ ,‬أكثر خطأ من ذلك ‪ .‬أن التأمل ال يقوم على التفكير بجهد في شيء محدد ‪ .‬بل ‪ ,‬على العكس ‪ ,‬يرخي اإلنسان " العنان‬
‫" للدماغ في موضوع عام ‪ .‬فا إلنسان المتأمل منفعل ‪ ,‬ودماغه يتلقى الحد األقصى من االحساسات ‪ .‬إنها إذن أحالم يقظة " في‬
‫العمق " ‪ .‬فاألفكار تجري بسهولة بالنظر إلى الدماغ ال يتركز على فكرة معينة منها ‪ ,‬وبالنظر إلى عدد المراكز العصبية التي‬
‫تعمل ‪ .‬وينطوي الفكر على ذاته في ضرب من " التخمر " المعمم ودون أدنى جهد ‪ ,‬ويشمل سائر األمور بيسر ‪.‬فقابلية االستقبال‬
‫والوضوح رائعان جدا ‪.‬‬
‫ربما كان التأمل هو الدرجة العليا من درجات الفكر اإلنساني ‪ .‬فالفكر صاف ‪ ,‬متسمع جدا ‪ ,‬بعيد األطراف ‪ ,‬مفعم باليسر ‪ ,‬وقابلية‬
‫االستقبال هي في حدها األقصى في حين أن المنطقة التي ال تعمل في الدماغ هي في حدها األدنى ‪.‬‬
‫أن ينتبه اإلنسان يعني أن ينتبه إلى شيء ما ‪ .‬فالفكر هنا يستقر على شيء محدد ‪ ,‬على نقطة أو نقاط معينة ( محاضرة مثال ) ‪ .‬أن‬
‫االنتباه ضرب من التركيز الضعيف ‪ .‬وبما أنه يتجه نحو نقطة معينة ‪ ,‬فإن الرساالت توجه صوب بعض المراكز العصبية ‪ .‬ويتم‬
‫إيقاف المراكز األخرى مباشرة ‪ .‬ومن البدهي أن توجد درجات مختلفة من االنتباه تبدأ من االنتباه المشتت ‪ ,‬كانتباه التلميذ الشارد ‪,‬‬
‫وتنتهي باالنتباه المحدد ‪ ,‬كاإلصغاء إلى محاضرة باهتمام ‪ .‬فإذا تقدمنا أكثر من ذلك وقعنا في التركيز ‪.‬‬

‫التركيز‬
‫يقوم التركيز على تثبيت الفكر بجهد على نقطة وحيدة ‪ ,‬كالمسألة الصعبة مثال ‪ .‬فالمنطقة الدماغية النشيطة هي إذن ‪ ,‬محدودة‬
‫جدا ‪ .‬وهذا أمر طبيعي مادام االنتباه مركزا على نقطة واحدة ‪ ,‬على رسالة واحدة إذن ‪ .‬فالمناطق المتوقعة عن العمل هي ‪,‬‬
‫بالتالي ‪ ,‬واسعة جدا ‪ .‬وخالل التركيز الشديد إنما ينام أكبر جزء من الدماغ ‪.‬‬
‫وهذا ما يشرح لنا لماذا ال يالحظ الرجل الذي يقوم بالتركيز شيئا حوله أنه ال يالحظ شيئا ألن المناطق المتوقفة عن العمل في‬
‫الدماغ عاجزة عن استقبال الرساالت األخرى ( ضجة ‪ ,‬مذياع ‪ ,‬كالم ) ‪ .‬فإذا دفعنا بالتركيز إلى الحد المريض ‪ ,‬بلغنا الفكرة الثابتة‬
‫‪.‬‬

‫الفكرة الثابتة‬
‫الفكرة الثابتة ‪ ,‬وكذلك الوسواس واالجترار النفسي الخ ‪ ,‬هي ضروب من التركيز الالارداي المرضي ‪ .‬انها تبقى ثابتة بصورة‬
‫دائمة على الموضوع ذاته ‪ .‬من هنا ينشأ تنبيه قوي لبعض المراكز الدماغية التي تعمل إلى حد اإلنهاك ‪ .‬فالفكرة الثابتة تمثل رسالة‬
‫واحدة ‪ ,‬رسالة هي ذاتها أبدا ‪ :‬ثمة إذن جزء صغير من الدماغ في حالة من النشاط المبالغ فيه ‪ ,‬وجميع األجزاء األخرى في حالة‬
‫النوم ‪ .‬ومن المعلوم من جهة أخرى أن الفرد الذ ي يصاب باألفكار الثابتة يعجز عن مالحظة أي شيء كان مما يحيط بها ‪ ,‬وسأعود‬
‫للحديث عن هذه األفكار ‪.‬‬
‫ماذا يحدث لو دام التركيز زمنا طويال ؟‬

‫‪12‬‬
‫نحن نعلم جميعا أن التركيز عمل متعب ‪ ,‬ا نه ألمر بدهي مادامت المراكز الدماغية التي تعمل خاضعة لتنبيه قوي ‪ ,‬فهي تنهك إذن‬
‫بسرعة كبيرة ‪ .‬ولهذا فإننا نرى أن بعض الطالب الذين ‪ .‬يتوقعون " عن دراسة دروسهم ( تركيز ) يستسلمون بصورة العصبية‬
‫التي هي في نشاط كبير يدوم زمنا طويال ‪.‬‬
‫ينبغي إذن أن يتحلل كل تركيز فترات من اللهو ‪ .‬لماذا ؟ أن اللهو ‪ ,‬بصورة بديهية ‪ ,‬حال يختلف عن التركيز األولي ‪ .‬فهو إذن "‬
‫رسالة " أخرى توجه صوب مراكز عصبية أخرى كانت مكفوفة عن العمل أثناء التركيز ‪ ,‬وبالتالي هي في حالة رقاد ‪ .‬هذه‬
‫المراكز العصبية ستكون إذن في حالة التنبيه بدورها ‪ ,‬في حين أن المراكز التي عملت أثناء التركيز تصبح مكفوفة عن العمل‬
‫فتستريح وتتجدد ‪.‬‬

‫التركيز يمنع الوضوح ‪:‬‬


‫ما هو الوضوح ؟ ان الوضوح إنما هو إدراك واضح واسع ‪ .‬انه يقظة هادئة تمتد في اتجاهات كثيرة ‪ .‬لقد أصبح مفهوما أن هذا‬
‫الوضوح يستلزم السير الوظائفي لعدد كبير من المراكز العصبية ‪ ,‬فاإلنسان في حالة التركيز هو ‪ ,‬إذن على طرفي نقيض مع‬
‫الوضوح مادام ثالثة أرباع دماغه ال تعمل ‪.‬‬
‫ا نني أعرف أن التركيز ضروري في بعض األحيان ‪ .‬ولكن لنمعن النظر فيما يلي ‪ :‬متى ينبغي على اإلنسان أن يركز ؟ انه يركز‬
‫عندما يشعر بصعوبات كبرى في فهم مشكل من مشكالت ‪ .‬التركز يعني أذن جهدا ضخما ‪ ,‬والجهد الضخم يعني " نقصًا في‬
‫نقصا يدل بدوره على نقص في السير واتساع الفكر ‪.‬‬
‫ً‬ ‫السيادة على الذات " ‪,‬‬
‫فما هي النتيجة ؟ النتيجة هي أن اليسر الذهني ‪ ,‬وأقول ذلك مرة أخرى ‪ ,‬أمر أولي ‪ .‬أنه يلغي ضرورة التركيز ويتيح التغلب على‬
‫المشكل ‪ ,‬ان ه يتيح لإلنسان أن يرى ‪ ,‬كما في التأمل ‪ ,‬معطيات بعيدة ذات عالقة بالمشكل ‪ ,‬هذا فضال عن أنه يجنب التعب ما دام‬
‫يترك ساحة جد واسعة من الشعور مفتوحة ‪ ,‬ثمة عدد كبير من الرساالت يمكن أذن أن تمس دماغا شديد اليقظة يمتد وضوحه‬
‫أحيانا إلى ماال نهاية ‪.‬‬

‫التشنجات العقلية ‪:‬‬


‫ا ن المكابرة والعناد واآلراء العنيفة تخضع لآللية ذاتها ‪ .‬فالمكابرة والعناد شبيهان بالفكرة الثابتة ‪ .‬إذ يستحوذ على الشخص رأي‬
‫وحيد ‪ ,‬ظنه ‪ ,‬حكم مسبق ‪ ,‬تصبح مسمارا مغروسا في ذهنه ‪ .‬هذه المكابرة هي إذن " رسالة " وحيدة تحكمها القوانين العصبية‬
‫التي تحكم التركيز والفكرة الثابتة ‪ ,‬أي أن جزاء صغيرا من الدماغ في حالة العمل وجزءا كبيرا منه في حالة الرقاد ‪.‬‬
‫وغني عن البيان أن العنيد يفتقر إلى الوضوح بسبب انكماش ساحة الشعور لديه ‪ .‬وإذا شئنا قلنا بأن المكابرة حالة تركيز الارادية‬
‫دون أي نتيجة عملية ‪.‬‬
‫نحن نعرف جميعا أناسا ال يعلمون سوى أمور قليلة ‪ ,‬ولكنهم يتشبثون بها تشبث اليائس ‪ .‬ومن المؤكد أن اإلنسان الذي ال يعرف‬
‫سوى ب عض األفكار الثابتة ‪ ,‬يتعلق بها تعلق المفلس بالدريهمات الباقية في جبيبه ‪ .‬باإلضافة إلى ذلك ‪ ,‬كم هو كبير عدد األشخاص‬
‫الذين يتصفون بالعناد ألن حالتهم " النفسية ‪ :‬تدور حول مشكالت انفعالية لم يتوصلوا إلى تصفيتها أبدًا ‪ ,‬فأصبحت ضروبا من‬
‫التشنجات العقلية ؟‬
‫أنت ترى أن المصيب ة الكبرى تكمن في أن هؤالء الناس يرقدون ‪ .‬وكلهم ال يدرون ماذا يفعلون ‪ ,‬مثلهم في ذلك مثل جميع الناس‬
‫الذين يرقدون ‪ .‬ا نهم يدورون في حلقة ‪ ,‬وقد تسمروا على آراء تشنجية ‪ ,‬دوران السناجب المحبوسة في قفص ‪ ,‬وهم يظنون أن‬
‫فكرهم في حالة صحو ‪ .‬ولكن ‪ ,‬ب ما أن كل عناد يوقف عن العمل جزاء كبيرا من الدماغ فإن أي رسالة أخرى ال يمكنها أن تصل‬
‫إليهم ‪ .‬هل جربت يوما بيأس أن تقنع عنيدا ؟‬
‫يضاف إلى هذا أن للفظة عناد معنى أوسع مما يبدو ‪ .‬فالرجل الذي يثبت على آراء قائمة على أحكام مسبقة رجل عنيد ‪ .‬والرجل‬
‫الذي ال يعرف غير قليل من األمور ويتشبث بها رجل عنيد ‪ .‬والرجل الذي ال يكف عن الدوران حول المشكلة الداخلية ذاتها رجل‬
‫عنيد ‪.‬‬
‫ومثله الرجل الذي يتشنج في داخله ‪ ,‬والرجل الذي يعجز عن أن يرى أي شيء آخر سوى ذاته ‪.‬‬

‫ضرورة التحرر ‪:‬‬


‫يتطلب دورنا اإلنساني أن نطرح أسئلة على أنفسنا باستمرار ‪.‬‬
‫لنكن إذن على حذر من موضوع ضروب عنادنا الممكنة ‪ .‬ولنتساءل ‪ :‬هل أنا في حالة عناد في هذه البرهة حتى ولو أرها بصورة‬
‫مباشرة ؟ ألست عنيدا ألنني متعب ‪ ,‬األمر الذي يقلل من اتساع ساحة شعوري ؟ أوال ألنني متشنج ؟ ألست عنيدا ألن هذا المشكل‬
‫يختفي ؟ أو ألن هذا المشكل يناظر أمرا كبته دائما ؟ ألست عنيدا ألنني أتوتر من الخجل ؟‬
‫أو ألنني عدواني ؟ أو ألنني أشعر بالدونية وأنني أرغب في أن أفرض نفسي ؟ الست عنيدا ألن فكرتي تمثل أمنا بالنسبة إلي ؟ هل‬
‫تمت رؤية المشكل برمته ؟ هل أنا واثق من أنني لم أفحصه من خالل الجزء المزيف من " أنا " ؟‬

‫‪13‬‬
‫ذلك أن العناد يحتمل أن يتجلى منذ أن تنقص مساحة الوضوح ‪.‬‬
‫وهكذا نرى كم هو هام أن يتخلص اإلنسان من سائر التشنجات العقلية ومن جميع السلوكات التي توجهها انفعالية مزيفة أو متحجرة‬
‫‪ ,‬وكم هو هام أن يكون اإلنسان في حالة من اليقظة المستمرة ‪ ,‬يقظة عري ضة ‪ ,‬هادئة ذات اتساع شبيه باتساع الرادار الذي ينقب‬
‫اآلفاق ‪ ,‬وكم هو هام أن يكون اإلنسان في يسر ‪ ,‬يسر من الناحية الجسمية ويسر من الناحية النفسية ضيقة وما يوصد على الدماغ‬
‫بابا يعزله بذلك عن امكاناته اإلنسانية ‪. . .‬‬

‫كيف تثير الجملة العصبية االكتئاب والهياج ؟‬


‫يمكن النظر إلى الجملة العصبية بوصفها حكومة ‪ ,‬بوصفها منسقا يوجه التنبيه ( توليد الحركة ) والرقاد ( الكف ) وفاق الحاجات‬
‫الراهنة ‪.‬‬
‫ماذا يحدث في اإلنهاك ؟ تترك هذه الحكومة التي التعب سممها الباب مفتوحا على مصراعيه للرساالت دون أن تراقبها ‪ .‬تلك هي‬
‫الفوضى الكلية ‪ .‬ومن البدهي أن يكون السير الوظائفي الجيد للقشرة الدماغية منوط بالخاليا العصبية في حالة جيدة ‪ ,‬ومنوط أيضا‬
‫بما تقوم به الجملة العصبية من تصحيح لتوجية التنبيه ‪.‬‬
‫هذه الرساالت المتوجهة تتوزع بصورة غير سوية في حالة اإلنهاك ثمة إذن في هذه الحالة ‪:‬‬
‫أ – إما سيطرة التنبيه سيطرة غير طبيعية ‪ ,‬وتلك هي الهياج ‪.‬‬
‫ب – وإما سيطرة الكف سيطرة غير طبيعية ‪ ,‬وتلك هي حالة االكتئاب ‪.‬‬
‫وت ستجيب المراكز العصبية بمبالغة إلى الرساالت التي تتلقاها في الهياج ‪ .‬في الكف الطبيعي ال يحدث أبدا ‪ .‬ويصبح الهائج عاجزا‬
‫عن ردع االندفاعات التي ال تفيد ‪ .‬فحركاته تثيرها محركات قوية في حين أن الظروف ( الرساالت ) ال تحتاجها على اإلطالق ‪.‬‬
‫يضاف إلى ذلك أن سلوك الهائج يدل بوضوح على أن رقابة ارادت ه قاصرة ‪ .‬وسبب ذلك أن اإلرادة الواقعية تستلزم عمال وظائفيا‬
‫سليما للمراكز الدماغية ( يسر ) ‪ ,‬عمال يرتب ط بدوره بالعمل الوظائفي المتناغم للجملة العصبية برمتها ‪ .‬وعلى هذا النحو إنما‬
‫يعجز الهائج عن كبح االستجابات الكثيرة التي توجهها جملته العصبية الفوضوية ‪ ,‬من جهة أخرى ‪ ,‬كيف أن هذا " الكابح " منوط‬
‫بالعمل الوظائفي الدماغي السليم ‪.‬‬
‫الهائج " يشعر بأنه أحسن حاال " من المكتئب ‪:‬‬
‫تختفي األفكار السوداء في الهياج وتخلي مكانها لعواطف الفرح الشديد والزهو ‪ .‬وتنطلق حيوية هائلة على ما يبدو ‪ .‬ويختفي كذلك‬
‫الشعور بالعجز والدونية والشك والتردد ‪ ,‬فال يشك الهائج وال يتردد ‪ .‬انه يصبح منتصرا ‪ ,‬واثقا من نفسه ‪ .‬ولكن ثمة احساسات‬
‫قاسية بالتعب الشديد ‪ ,‬مع ذلك ‪ ,‬تبقى وتزداد ‪.‬‬
‫فإذا كان المكتئب هادئا إلى حد المبالغة في هدوئه ( كف ) ‪ ,‬فإن الهائج نشيط إلى حد المبالغة في نشاطه ‪ .‬ولكن الهياج ينزلق من‬
‫جديد نحو االكتئاب بعد خمس دقائق ( أو بعد عام ‪ , ) . . .‬اكتئاب ستكون شدته أكبر بمقدار ما يكون الهياج قد استنفد من احتياطي‬
‫الطاقة ‪.‬‬

‫مكافأة المنهك ( الهائج ) أحيانا ‪:‬‬


‫هل يظن بأن المنهم ك يمكن أن يكافأ ‪ ,‬ال على الرغم من إنهاكه ‪ ,‬وإنما بسبب هذا اإلنهاك ؟ لنمعن النظر في ذلك عن كثب ‪ ,‬من‬
‫البدهي أن الهائج يهتاج ‪ .‬فهو يبدو متخما بالفاعلية والطاقة والقوة عندما يهتاج ويركض ويتكلم ويظهر واثقا من نفسه ‪.‬‬
‫ويالحظه المجتمع من الناحية الخارجية ‪ .‬انه يرى المظاهر ال الجواهر ‪ .‬ذلك هو األمر األول ‪.‬‬
‫أما األمر الثاني ‪ ,‬فغالبا ما ينظر إلى اإلرادة والطاقة خطأ بوصفهما كثيرا من العمل الذي ال ينقطع ‪ ,‬وجهدا ال يعرف الراحة ‪,‬‬
‫وتركيزا ال يتوقف ‪ ,‬وقوى تتجمع ‪ ,‬وهمة تشد ‪ ,‬وحاجبان يقطبان ‪ ,‬وإنسانا ال يعرف التعب ‪ ,‬وحركة مستمرة ‪ ,‬وفرضا للوجود ‪.‬‬
‫فإذا نظرنا إلى األمور على هذا النحو ‪ ,‬فإن الهائج يبدي سائر مظاهر الطاقة واإلرادة ويصنف إذن في معسكر " النشيطين " و "‬
‫االراديين " دون أن يخطر بالبال أن أي حّط اب هادئ ‪ ,‬قوي ‪ ,‬ال يتسلى بالقيام بمائة حركة بدال من حركة واحدة ‪.‬‬
‫ذلك إنما هو ما يصنعه الهائج والحالة هذه ‪.‬‬
‫بحسب الناس ‪ ,‬اذن الظاهر واقعا في أغلب األحيان ‪.‬‬
‫يظن البعض أن الهائج ‪:‬‬
‫‪ -‬قوي جدا ‪ .‬والواقع أن قواه قد ضعفت ( إفراط في التنبيه بفعل القصور العصبي ) ‪.‬‬
‫‪ -‬نشيط جدا ‪ .‬والواقع أن الطاقة تعوزه ‪.‬‬
‫‪ -‬ال يشعر بالتعب ‪ .‬والواقع أنه يبدة غير‬
‫شاعر بالتعب ألنه ال يستطيع أن يرتاح ( تنبيه ) ‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫ما هو ا ذن مآل هذه التفسيرات الخاطئة ؟ مآلها اإلعجاب به ومكافأته بسبب الظن أنه ذو فاعلية تفوق الحد وإرادة حديدية ‪ .‬ويقال‬
‫أيضا بأنه يبذل جهدا فوق جهد ‪ .‬ولكنه يتعذر عليه أن يفعل خالف ذلك ‪ .‬أنني أكرر بأن الجهد يبدو منذ أن تختفي السيادة على‬
‫الذات ‪.‬‬
‫ا ن أي عازف للبيانو ‪ ,‬سيد آلته ‪ ,‬يعزف قطعة لشوبان دون جهد ‪ .‬فهو سيد مجسته وفي حالة من اليسر ‪ .‬فإذا ظهر التعب عليه ‪,‬‬
‫اختفت البراعة واليسر وأصبح الجهد والتركيز ضروريان ‪.‬‬
‫فليس عازف البيانو سيد قطعته الموسيقية في هذه اللحظة ‪ ,‬وإنما تصبح هذه القطعة الموسيقية صاحبة السيادة عليه ‪ .‬انه ال "‬
‫يعزفها " قطعا ‪ ,‬بل يجرب أن " يقه رها " ‪ ,‬أي يقهر ذاته ألنه يشعر بأن اليسر الذي ال غنى عنه قد زال ‪.‬‬

‫الهائج يحتقر المكتئب أحيانا ‪:‬‬


‫لو لم يكن الموقف محزنا لما كان ثمة من مشهد يثير الضحك ‪ ,‬في رأيي ‪ ,‬أكثر مما يثيره احتقار الهائج للمكتئب بما أن االثنين‬
‫متشابهان من الناحية العصبية ‪ .‬فإذا قارنت حالتهما بقطعة من النقود ‪ ,‬أمكنني القول بأن االكتئاب هو " القفا " وأن الهياج هو "‬
‫الوجه " ‪ .‬فأساسهما واحد ‪ ,‬ولكن السلوكات الخارجية مختلفة ‪.‬‬
‫ونحن من جهة أخرى سنرى اللعبة ذاتها بين الخجل والعدوانية ‪.‬‬
‫ماذا يحدث أذن ؟ أن سلوك المكتئب الخارجي يعبر تغبيرا واضحا ويرى الناس أنه مكتئب ‪ ,‬ويبدو كل ذلك سويا بالتالي ‪ :‬فنحن‬
‫أمام عن حالته الداخلية ‪ .‬فما هو في داخله يظهر في الخارج ‪ ,‬أنه مكتئب مكتئب حقيقي ‪.‬‬
‫وليس األمر على هذا النحو لدى الهائج ‪ ,‬بل هو العكس ‪ .‬فعلى الرغم من أنه مكتئب ‪ ,‬فإن سلوكه الخارجي يقول عكس ذلك‬
‫بالضبط ‪ .. .‬كما رأينا ‪ .‬ويحسب البعض غالبا بأنه يمتلك كثيرا من الطاقة ‪ .‬وقد رأيت عددا من الهائجين يعلقون في الفخ ويعدون‬
‫ذلك حقيقيا ‪ .‬ثم تتم المحاكمة التالية ‪ " :‬إذا اكتسبت كثيرا من الطاقة ‪ ,‬وإذا كانت لدي فاعلية تفوق الحد ‪ ,‬فذلك إنما يعود إلى أنني‬
‫أردت هذا لقد جمعت قواي ‪ ,‬فما دام هذا المر زمنا طويال ! "‬
‫ولم يدم ذلك زمنا طويال في الواقع ‪ .‬لقد قامت الجملة العصبية المرهقة بمجرد تغيير توجيهها ‪ ,‬وأصبح الكف المفرط تنبيها مفرطا‬
‫كذلك ‪ . . .‬إذن ‪ ,‬فالهائج أكثر تعب ا من المكتئب الحقيقي ‪ .‬انه ألمر طبيعي ‪ :‬ذلك أن المكتئب " المكفوف " يخفف من أعماله‬
‫ويتمهل فيها ‪ ,‬في حين أن الهائج يتكلم ‪ ,‬ويركض ‪ ,‬ويعمل باستمرار ‪ ,‬ويبدد احتياطي طاقته وما يعوضه منها ‪ .‬كل هذا يجري‬
‫دون حساب ألنه ال يعرف حالته الواقعية قطعا ‪ .‬ماذا يفعل عندئذ ؟ انه يحتقر أخاه المكتئب ألنه يحكم عليه بأنه " عاجز عن التغلب‬
‫على اكتئابه ومجابهة األمور ‪" . . .‬ر‬
‫نحن أذن أمام توأمين يقومه أحدهما لآلخر ‪ " :‬أنا ‪ . . .‬لست شبيها بك قطعا " ‪ .‬أن هذا لباطل ‪ ,‬وألمر مؤسف ‪ ,‬ال بالنسبة إلى‬
‫مناخ عدم‬
‫الفهم الذي يبقى المكتئب عائشا فيه فحسب ‪ ,‬بل بالنسبة إلى التزوير الذي يقوم به المكتئب – الهائج أيضا ‪ ,‬المؤمن كل اإليمان بما‬
‫يفعله ‪.‬‬
‫ولكن اإلنهاك مترصد يرقب ذلك اليوم الذي تبدل فيه الجملة العصبية توجيهها من جديد ‪ .‬وعندئذ يقع الهائج في االكتئاب ‪ .‬لقد‬
‫رأيت كثيرا من الهائجين الذين كانت هذه الحالة بالنسبة إليهم بداية الفهم والحكمة ‪ ,‬وبداية تعلمهم من جديد كيف يعيشون ‪.‬‬

‫حالة عامل مصنع ‪:‬‬


‫نحن في مصنع من مصانع الورق ‪ .‬على اآللة التي تقطع الورق ‪ ,‬يقف عامل شاب يتناول خالل ثماني ساعات في اليوم رزما من‬
‫الورق موضوعة وراءه ‪ ,‬وفي كل رزمة خمسمائة ورقة كبيرة ‪ .‬أنه يرفعها مع صوت من اإلعياء صادر عن وجوده برمته ‪ ,‬ثم‬
‫يضعها على طاولة أخرى تقع على يمينه ‪ .‬أنه يضبط اآللة ويدفع مفتاحا ‪ ,‬ويأخذ الرزم ‪ ,‬بعد أن يتم قطع أطراف الورق وقصه ثم‬
‫قصه من جديد ‪ ,‬ويضعها فوق رزم أخرى كانت قد تمت عملية تهيئتها ‪ ,‬كل هذا كان إذن العمل الطبيعي لعامل قص الورق ‪.‬‬
‫لنالحظ عن كثب ‪:‬‬
‫ينجز هذا العامل ثالثة أضعاف ما ينجزه عامل طبيعي يقوم بالعمل نفسه ‪ .‬ان عاملنا نحيف مصاب بكثير من العرات ‪ ,‬العرق‬
‫يتصبب منه ‪.‬‬
‫سلوكه كله يدل على الجهد ‪ .‬انه يشرب كل دقيقتين مباشرة من مطرته ‪.‬‬
‫أما اضبارته الطبية فتشير إلى الوهن والضعف واالكتئاب العصبي واإلرهاق ‪.‬‬
‫إلى جانب ذلك ‪ ,‬لنر عالقاته في العمل ‪ :‬درجات استحقاق عديدة في العمل ‪ ,‬درجات استحقاق في اإلنتاج ‪ ,‬مكافآت سنوية ‪ .‬سألت‬
‫رئيسه ‪ ,‬فأجابني ‪:‬‬
‫" هذا ؟ ا نه ظاهرة ! أنه ينجز من العمل ماال ينجزه غيره ! وال يتوقف أبدا ‪ ,‬يمكنك أن تصدقني ( وأنا أصدقه ) ‪ ,‬ويجري‬
‫باستمرار إلى حد االعتقاد بأنه ال يتعب ‪ ,‬وينتج بسرعة ‪ .‬انه ألحسن عامل في فريقه ! ‪". . .‬‬
‫ا نه ‪ ,‬في هذه الحالة ‪ ,‬العامل األسرع ‪ . . .‬ألنه العامل األشد مرضا ‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫سألته ‪:‬‬
‫‪ -‬ما عمرك ؟‬
‫‪ -‬أنني في الثالثة والعشرين ‪,‬ولي ولدان ‪.‬‬
‫‪ -‬في أي سن تزوجت ؟‬
‫‪ -‬في العشرين ‪.‬‬
‫‪ -‬انك لم تقض فترة عزوبة طويلة !‬
‫‪ ( -‬يضحك ) ‪ . . .‬أوه ! لم أتزوج ألنني كنت أحب خطيبتي ‪ ,‬وبالتأكيد ‪ .‬ولكن ‪. . .‬‬
‫‪ -‬ولكن ماذا ‪. . .‬‬
‫‪ -‬ولكن من أجل أن أتخلص من عائلتي أيضا ‪.‬‬
‫‪ -‬أنه ألمر شائع ‪ ,‬مع األسف ‪.‬‬
‫‪ -‬نعم ‪ ,‬أعلم ذلك ‪ .‬علي أن أقول لك بأن زوجة أبي الثانية التي ربتني ‪.‬‬
‫‪ -‬هل عرفت أمك ؟‬
‫‪ -‬كال ‪.‬‬
‫‪ -‬كيف كان أبوك ؟‬
‫‪ -‬أوه ‪ . . .‬ديكتاتورا ‪ ,‬طاغية بصورة عنيفة ‪ .‬كان يشعرني بأنني لست ذكيا ‪.‬‬
‫ولكنني كنت اعلم بأني لست غبيا ! هل تراني غبيا ؟‬
‫غبيا ‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬كال بالتأكيد ‪ .‬وحسب اإلنسان أن ينظر إليك ليعلم أنك لست‬
‫‪ -‬أشكرك ‪.‬‬
‫‪ -‬ليس ثمة ما يستوجب الشكر ‪ .‬فليس األمر من فعل يديك إذا كنت ذكيا ‪ ,‬أليس كذلك ؟ إذن ليس ثمة من شيء نمدحك به ‪.‬‬
‫‪ -‬هذا صحيح فعال ‪.‬‬
‫‪ -‬إذن ‪ ,‬هل نستأنف الحديث ؟‬
‫‪ -‬نعم ‪ .‬أعتقد ‪ ,‬في الواقع ‪ ,‬أن والدي كان يحبني ‪ ,‬ولكنه كان " ذا طبع ضعيف " هل ترى ؟‬
‫‪ -‬أنني أرى ‪ .‬لو لم يكن كذلك لما كان مستبدا ‪ ,‬يا عزيزي ‪ .‬وامرأته الثانية ‪ ,‬ألم تكن تحبك ؟‬
‫‪ -‬تحبني ؟ كانت تكرهني ‪ .‬كانت تنتهز أي فرصة تذلني فيها ‪ ,‬وتجرب أن تزرع في نفسي االعتقاد بأنني نكرة وبأنني عائق يحول‬
‫بينها وبين أبي ‪ .‬لم يمر يوم دون أن أشعر بأنني منبوذ ومكروه ‪ ,‬وحيد في زاويتي التي يحرم علي تحريما قطيعا أن أغادرها ‪.‬‬
‫عشت خمس عشرة سنة من عمري على هذا النحو ‪.‬‬
‫‪ -‬تعد األيام يوما بعد يوم ‪.‬‬
‫‪ -‬بالضبط ‪ .‬أعدها يوما بعد يوم ‪ .‬كانت منها أيام قاسية جدا ‪ ,‬أيام هي من اليأس بحيث ال يمكن شرحها ‪ .‬لم يكن لدي غير رغبة‬
‫واحدة ‪ ,‬أن أهرب ‪ .‬هل تفهمني ؟‬
‫‪ -‬بالتأكد ‪ .‬هل تدين بدين ؟‬
‫‪ -‬ال أدين بدين ‪ ,‬أو بالحري ‪ ,‬ال أدين بدين قطعا ولكنني نشأت في أحضان المذهب البروتستانتي ‪ .‬ليس هذا األمر غريبا عندما‬
‫نفكر فيه ‪ .‬حذرا على أشد ما يكون الحذر من أجل أن انتقم آنئذ ‪ ,‬كنت أسرق السكاكر والملبسات التي كنت أمصها في ركني ‪.‬‬
‫يخطر ببالي جيدا ما كنت أقوله ‪ " :‬ذلك إنما هو ما سأحصل عليه دائما ولن تعلموا عنه شيئا ! " ‪.‬‬
‫‪ -‬بالتأكيد ‪ .‬انك تفعل مثل أولئك الذين يمارسون العادة السرية للسبب ذاته ‪.‬‬
‫‪ -‬كنت أمارسها أيضا ‪.‬‬
‫‪ -‬كثيرا ؟‬
‫‪ -‬أوه ‪ . . .‬كل يوم تقريبا ‪.‬‬
‫‪ -‬هل كنت تشعر وأنت تمارسها باآلثم ؟ اقصد ‪ :‬هل كنت تشعر وأنت تمارسها بأنك آثم ؟‬
‫‪ -‬نعم وقتئذ ‪ . . ,‬بئست هذه العادة نعم ‪.‬‬
‫‪ -‬آثم تجاه من ؟ دينك والدك ؟‬
‫‪ -‬حسن ‪ . . .‬أنه ليصعب علي أن أحدد ‪ . . .‬لقد كنت اشعر بأنني أكره والدي ‪ ,‬ولكن ‪. . .‬‬
‫‪ -‬ولكنك كنت تشعر باآلثم لكرهك إياه ‪ .‬بسبب كونه والدك ‪ .‬فهل كنت تشعر بأنك آثم لكرهك امرأته ؟‬
‫‪ -‬أوه ‪ ,‬كال بالتأكد كال ‪ .‬لقد كنت أمقتها من كل قلبي ! فذلك إنما كان كل ما بقي لي !‬
‫‪ -‬هل كنت تخاف أباك ؟‬
‫‪ -‬نعم ‪ . . .‬هذا لم يكن ينقصني ‪ .‬كنت أصاب بتشنج في معدتي كل مرة يظهر فيها ‪ .‬كنت أرغب في التقيؤ دائما عندما أتناول‬
‫طعامي ‪ .‬كنت أرتجف ‪ ,‬في نهاية األمر ‪ ,‬لسماعي ألقل ضجة ‪ . . .‬ومع ذلك ‪ ,‬وهذا أمر غريب ‪ ,‬بقيت أحترم والدي ‪. . .‬‬

‫‪16‬‬
‫‪ -‬يا عزيزي يتمسك اإلنسان باحترام شخص ما ‪ . . .‬ولم يكن لك سواه ‪ . . .‬وكنت تحاول أن يكون موضع إعجابك على الرغم‬
‫من كل شيء ‪ .‬هل أصابتك حاالت من االكتئاب العصبي عندما كنت تسكن مع أهلك ؟‬
‫‪ -‬نعم ‪ ,‬في الخامسة عشرة من عمري ‪ .‬لقد وصف الطبيب لي أن أقيم في الريف وحيدا ‪ ,‬ولكن لم يكن ثمة من المال ما يكفي ‪ ,‬أال‬
‫ترى ؟ ثم كنت قد بدأت العمل ‪.‬‬
‫‪ -‬عندئذ ؟‬
‫‪ -‬عندئذ ؟ كان الوضع جحيما ال يطاق ‪ " .‬اكتئاب عصبي ؟ قالوا ‪ ,‬اكتئاب عصبي ؟ أي سخافات هذه ؟ أنت تشعر باأللم في مكان‬
‫ما من جسمك ‪ ,‬نعم ؟ ألم في بطنك ‪ ,‬في معدتك ؟ قال لنا الطبيب بأن هذه اآلالم عصبية ! إذن هذه أمراض وهمية ! ما عليك أال أن‬
‫تبذل جهدا ! أفهمت ؟ أنني ال أهتم بك ‪ ,‬أنا ‪ ,‬بسبب االكتئاب العصبي ! " هيا إلى األمام ‪ . . .‬كان علي أن أستمر ‪ .‬وال أعلم كيف‬
‫استطعت أن افعل ذلك أتفهم ؟‬
‫‪ -‬بالتأكيد ‪ ,‬يا عزيزي ‪.‬‬
‫‪ -‬إذن ‪ ,‬هذا هو الوضع ‪.‬‬
‫‪ -‬سؤال أخير ‪ .‬هل كنت تخاف أباك ؟‬
‫‪ -‬نعم ‪ ,‬لقد أخبرتك بذلك ‪ .‬لماذا ؟‬
‫‪ -‬واآلن ‪ ,‬هل تخاف رئيسك ؟‬
‫‪ -‬أخاف رئيسي ؟ نعم ‪ ,‬ليس ثمة ما يدعوني إلى أن أخفي ذلك ‪.‬‬
‫صّر اخ مثله ‪ . . .‬أنني أشعر بأنني أمام والدي ‪.. .‬‬
‫لقد أصبح كل شيء واضحا ومؤسفا بسبب عدم الفهم اإلنساني أن حصيلة عدم الفهم هذا موجودة خلف آلة إنتاج سريعة ‪ ,‬يراقبها‬
‫رئيس صّر اخ ‪ ,‬عدواني ‪ ,‬في حالة تأهب مستمر ‪.‬‬
‫إذن ‪ ,‬فهذا العامل االنفعالي ‪ ,‬الخائف ‪ ,‬المرتجف ‪ ,‬الهائج ‪ ,‬يعمل بأقصى طاقته ودون توقف خوفا من أن " يساء فهمه " ‪ ,‬خوفا‬
‫من أن يفقد عمله ‪ ,‬خوفا من مالحظة يبديها رئيسه ويجترها عندئذ زمنا طويال ليل نهار ‪ .‬هكذا يعمل هذا العامل ‪,‬سريعا ‪ ,‬بصورة‬
‫تخلو من كل عيب ‪ ,‬ثم بصورة أسرع وأكثر كماالً ‪ .‬وتدور اآللة بأقصى سرعتها ويزداد اإلنتاج ‪ .‬وليس على هذا العامل إال أن‬
‫يفتح كيسه ‪ .‬بما أن اإلنتاج يتم التعبير عنه بدرجات من االستحقاق في نهاية العام ‪ ,‬لتسقط فيه الدرجات دونما صعوبة ‪ ,‬وربما‬
‫تعلق على سترته المغموسة بالخوف واالنفعال ميدالية ‪ ,‬مكافأة سخيفة على عدم فهم سخيف ‪.‬‬

‫‪ - 3‬عالج االكتئاب ‪:‬‬


‫علينا ‪ ,‬قبل كل شيء ‪ ,‬أن نفتش عن ‪:‬‬
‫أ – طبيعة الحالة االكتئابية ‪ ,‬ا نني أكرر بأن " االكتئاب ‪ :‬حد عام ‪ .‬فال مناص إذن من أن نرفع القشرة لنكتشف الجرح ‪.‬‬
‫ب – أساب هذا الجرح ‪ .‬ومن هنا ينطلق العالج ‪ .‬فالفحص الطبي الكامل أمر ال غنى عنه ‪ ,‬وبخاصة الفحص العصبي والمزاجي‬
‫وا لكلوي والكبدي ‪ .‬ثم الفحص النفساني الذي يكشف فيما إذا كان ثمة دوافع نفسية سببت اإلنهاك واالكتئاب ‪ ,‬كذلك يمكن االعتماد‬
‫على علم النفس لمعرفة فيما إذا كان ثمة اضطرايات أخالقية تلت االكتئاب الجسمي ‪.‬‬
‫ا ن الظاهرتين العصبيتين الكبيرتين هما ‪ ,‬كما نعلم ‪,‬توليد الحركة والكف ‪ .‬فإعادة هذا التوازن العصبي الرائع هي الهدف النهائي‬
‫للعالج ‪.‬‬
‫ومن البدهي أن يتم هذا العالج النفساني بصورة عميقة ‪ .‬ذلك أن العالج النفساني السطحي ال يفيد في شيء ‪ .‬أنه يقتصر على وضع‬
‫مرهم على رجل خشبية ‪.‬‬
‫ولكن ‪ ,‬ماذا نفعل ونحن بانتظار مفعول هذا ا لعالج العميق ‪ ,‬البد من أن يتم مساعدة المكتئب مباشرة ‪ .‬وتأتي هذه المساعدة‬
‫المباشرة من الخارج من عالم نفس أو طبيب ‪ .‬ذلك أم مساعدة المكتئب الذاتية متعذرة تقريبا فوضى جملته العصبية التي أضعفت‬
‫امكان إرادته ووعيه ‪ .‬انه يتمنى أن يريد ولكنه عاجز عن أن يريد ‪ .‬يضاف إلى ذلك وهذا أمر هام ‪ ,‬أن لديه " موشورات "‬
‫وضعت وضعا سيئا ‪ ,‬تشوه سائر الظروف التي تمر عبرها ‪ .‬فالمكتئب يرى نفسه إذن بطريقة مشوهة والعمل األول لعالم النفس‬
‫هو أن يصلح وضعها كيما يكون بمقدور المكتئب أن يالحظ نفسه على وجه الدقة ‪.‬‬
‫ومن الطبيعي أن تقدم هذه المساعدات السطحية في الوقت الذي يتم فيه العالج البعيد الغور ‪ .‬انها تتيح أال تبعثر كيفما اتفق طاقة‬
‫ضرورية إلصالح جذري ‪.‬‬

‫أ‪ -‬ما هي الطرق الرئيسية التي يتم بها تبديد الطاقة ؟‬


‫‪ – 1‬بعثرة الجهود ‪.‬‬
‫يقال ‪ :‬أن المكتئب " يعش في مستوى أعلى من موارده " ‪.‬لقد كان من الواجب أن يقال بالحري ‪ :‬انه يلقي برأسماله من األبواب‬
‫والنوافذ ‪ ,‬ألنه ال يستطيع أن يفعل غير ذلك ‪ .‬فالمكتئب يتسم غالبا بضعف دماغي يمنعه من أن يدرك الظروف إدراكا تأليفيا ‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫وليس له إرادة شاملة ومستقرة ‪ ,‬وإنما له ا رادات ورغبات ‪ .‬انه ال يباشر عمال واحدا ‪ ,‬بل يباشر أعماال كثيرة ‪ ,‬مع العلم بأنه‬
‫عاجز عن إنهائها وتصفيتها ‪.‬‬
‫من هنا منشأ التعب وتقص الكفاية ‪ ,‬تعوزه اإلرادة السوية إذن ألن طاقته ليست موزعة توزيعا متناغما ‪.‬‬
‫ولنشر إلى أن ذلك صحيح بالنسبة إلى الهياج أيضا ‪ .‬فالهائج مكتئب في حالة تنبيه ‪ .‬أن جميع القواعد التي ينبغي مراعاتها في‬
‫االكتئاب صحيحة في الهياج ‪.‬‬
‫ال مناص إذن من الطلب إلى المكتئبين أن يقللوا من صرف الطاقة حتى يتسنى لهم أن يجمعوا منها رأس مال ‪ .‬عليهم أن يتعلمون‬
‫العيش ( بصورة مؤ قتة ) بالوسائل الموجودة في حوزتهم ‪ .‬عليهم أن يجعلوا مجال حياتهم أقل اتساعا ‪ .‬ان القرارات التي ال بد أن‬
‫يتخذها المكتئبون هي ‪ ,‬على الغالب ‪ ,‬صرف هائل للطاقة بالنسبة إليهم ‪ .‬فقد يحدث إذن أن يكون ال مناص لعالم النفس من أن يتخذ‬
‫هذه القرارات خالل مدة ما من الزمن ‪ .‬وذلك فإنه يتيح للعالج أن يعطي كامل مفعوله ‪ .‬إنني ال أتصور في الواقع أن يضيء سائق‬
‫سيارة ضوء سيارته الكبيرين في الوقت الذي يشحن فيه البطارية ! أليس من الفضل أن يخفف ضوء القنديل في الوقت الذي نصب‬
‫فيه الزيت ؟‬
‫يكثر الحديث عن التدريب الذي ينبغي أن يخضع له المكتئبون ‪.‬‬
‫ومن البدهي أنه جيدا جدا ! ولكن نسبة كبيرة منهم ‪ ,‬تبلغ التسعين بالمائة ‪ ,‬ال تستطيع متابعة تدريب تدريجي ‪ ,‬ألن التدريب‬
‫التدريجي مخصص ألولئك الذين يتمتعون بصحة جيدة ولمن هم في دور النقاهة ‪.‬‬
‫ومن المالحظ مع ذلك ‪ ,‬في علم النفس ‪ ,‬أن المكتئب يبدأ في التصرف لوحده ودون مساعدة أي شخص منذ أن يبدأ ظهور مفعول‬
‫العالج العميق ‪ ,‬أي في حوالي نهاية الشهر ‪ .‬والسب في ذلك أن المكتئب يبدأ في تجميع ما كان مبعثرا ‪ .‬فهو يبدأ اذن باالهتمام بما‬
‫يحيط به ‪.‬‬
‫وبما أنه يهتم ‪ ,‬فهو يتصرف ‪ .‬ذلك أن التصرف فعل آلي منوط بالقوة التي تم استرجاعها ‪ .‬ومن المالحظ عندئذ أن المكتئب‬
‫يستأنف القيام بأعماله المنزلية ‪,‬وأفعاله اإلرادية ‪ ,‬والتقرير ‪ ,‬والنظام ‪ .‬ويالحظ كذلك بأنه ينهض باكرا ‪ ,‬ويفقد االهتمام تدريجيا‬
‫بكل ما كان يالزمه من قبل ‪ .‬وهذا وضع طبيعي تماما ‪.‬‬

‫‪ - 2‬تمركز انتباه المكتئب على بعض االضطرابات ‪.‬‬


‫ثمة مقدار من الطاقة يتبدد ‪ .‬هنا أيضا ‪ ,‬دونما حاجة إليه ‪ .‬فالسواد األعظم من المكتئبين ‪ ,‬على سبيل المثال ‪ ,‬يسيطر عليهم‬
‫وسواس التعب ‪.‬‬
‫لقد دار النقاش طويال لمعرفة فيما إذا كانت قابلية التعب لدى المكتئبين حقيقة أم مبالغ فيها ‪ .‬هل ينبغي أن تطبق عليهم الراحة‬
‫المطلقة أم ينبغي أن يوصف لهم القيام بالعمل ؟ أنني اعتقد أن السؤال ال ينطوي على فائدة كبيرة ‪ :‬فالمشكل الرئيسي هو ‪ :‬ما هي‬
‫األعمال المنهكة بالنسبة إلى هذا المكتئب ؟ ما هي أسبابها ؟ هل المقصود أعمال انفعالية شخصية منشأها الوسط العائلي أم الوسط‬
‫الديني ‪ .‬الخ ‪.‬‬
‫من غير المجدي ‪,‬مثال ‪ ,‬أن توصف الراحة التامة في الوسط العائلي إذا كانت العائلة هي السبب البدئي في االكتئاب ‪ .‬وقد يحدث‬
‫كذلك غالبا أن يكون االعتزال في السرير هرب من بعض المسؤوليات بالنسبة إلى المكتئب ‪ ,‬أو من يعض األوضاع ‪ .‬أنتشل‬
‫المكتئب من هذه الوضع العائلي مثال ‪ ,‬تره يستعيد العمل مباشرة ‪ .‬لقد قصدت من كل هذا أن أبين أن البحث عن األسباب تجب‬
‫متابعته دون هدنة وال راحة ‪.‬‬
‫يالزم وسواس االضطرابات المعدية أيضا سواد المكتئين ‪ .‬أن يقال لهم بأن هذه االضطرابات موجودة واقعيا ‪ ,‬فذلك هو الكذب ‪.‬‬
‫ذلك أن هذه االضطرابات موجودة ‪ .‬فإفراز الغدد المعدية يقل في االكتئاب ‪ ,‬وينقص المعدة التوتر العصبي الضروري ‪ ,‬فتطول‬
‫فترة بقاء األطعمة فيها وينشأ التخمر غير الطبيعي ‪ .‬ان الهضم بطيء وغير تام ‪.‬‬
‫ويشغل المكتئبين دائما كونهم يهضمون هضما سيئا ‪ .‬تلك هي حلقة مفرغة ‪ :‬فالضعف العصبي يسبب تغذية سيئة ‪ ,‬وهذه التغذية‬
‫السيئة ال تجدد الطاقة المستهلكة تجديدا تاما ‪ .‬من هنا منشأ ضروب التسمم الذي يفسد الدم ويفاقم من ضعف الخاليا العصبية ‪ .‬فال‬
‫مناص في هذا الشأن من فحص طبي عميق ‪ .‬أن االضطرابات التي يسببها قصور الكبد معروفة ‪ :‬اضطرابات في المزاج معدية ‪,‬‬
‫ضروبا من النزق الخفيف الخ ‪ . . .‬وكذلك فإن القصور الكلوي قد يحدث اضطرابات نفسانية قد تخلق ‪ ,‬بالتبادل ‪ ,‬الهابا كلويا ‪,‬‬
‫وعلى أي األحوال ‪ ,‬يمكن أن نعد أن سبع حاالت من عشر من حاالت االضطرابات المعدية تدين بوجودها إلى االكتئاب ‪ ,‬وتزول‬
‫بالتالي بزواله ‪ .‬ينبغي أن نحارب بكل ما أوتينا من قوة " تمركز " المكتئب على أمعائه وغذائه وامساكاته ‪ ,‬الخ ‪ .‬وينصب‬
‫الواسوس في نهاية األمر على األطعمة ذاتها لدى بعض المكتئبين ‪ ,‬فيخشى الفرد منهم أن يأكل ‪.‬‬
‫وفي بعض الحاالت ‪,‬يصل المكتئب إلى الطرف االقصى ‪ :‬انه يصبح منهكا إلى أقص حد وسغبا ‪.‬‬
‫" يمركز " بعض المكتئبين اآلخرين انتباههم على لسانهم ‪ .‬انهم يحملون في جيبهم مرآة يخرجونها مائة مرة في اليوم ويفحصون‬
‫لسانهم ‪ " ,‬انعكاس معدتهم على وجه الدقة " كما يقولون ‪ .‬هذا القول خطأ بصورة عامة ‪ .‬ذلك أن الراق األبيض الذي يغطي اللسان‬
‫منحصر بالعضو ذاته ‪ .‬فكم من مكتئب يغسل لسانه عدة مرات في اليوم حتى بالماء المزوج باألوكسجين ‪ .‬ومن المؤكد أن اللسان‬

‫‪18‬‬
‫يتخذ صبغة ال تدعو لالطمئنان كثيرا ‪ ,‬األمر الذي يثير الرعب في نفوسهم ( الخوف من السرطان ‪ ,‬الخوف من السفلس ‪,‬‬
‫الخ ‪. ). . .‬‬
‫إذن ‪ ,‬ينبغي أن يكون العون ‪ ,‬هنا كذلك مباشرا ‪,‬والبد من أن تعرض الوثائق الطبية على الطبية على المريض ( الفحوص‬
‫السريرية ‪ ,‬الصور الشعاعية ) وأن تناقش معه ‪ .‬فال مناص من أن يواجه الحقيقة التي تخص اضطراباته الجسمية ‪ ,‬سواء كانت‬
‫هذه الحقيقة ايجابية أم سلبية ‪.‬‬
‫هذا مع العمل بأنها سلبية على األغلب ‪ .‬فالمفعول األول للعالج النفساني العميق الذي يزيل معظم هذه االضطرابات ( آالم الرأس ‪,‬‬
‫أرق ‪ ,‬كوابيس ‪ ,‬الخ ) تقنعه عندئذ ‪.‬‬
‫وستكشف إذن ضروب التبعثر الكبرى للطاقة بعناية ‪ .‬ذلك هدف عالج المكتئب هو توحيد الشخص ‪.‬‬
‫ا ن المقصود هو أن نجمع ‪ ,‬في مركز واحد ‪,‬تلك األجزاء المتعددة التي تجذب الشخص في جميع االتجاهات ‪ ,‬أن تمنحه قوة ‪.‬‬
‫لتحق يق ذلك ‪ ,‬فإن الهدف هو أن نستبعد آالف القطع الصغيرة من القوة ‪ ,‬قطع صغيرة تعمل في جميع االتجاهات ‪.‬‬
‫ان العالج النفساني العميق يبحث عن أشياء أيضا ‪.‬‬

‫‪ – 3‬كل مكتئب مرضه ذو أساس نفساني هو غير متكيف ‪.‬‬


‫جميع هؤالء المرضى توقفوا في جهة ما وتجمدوا وعلقوا بعوائق ما استطاعوا أن يتغلبوا عليها ‪.‬‬
‫فالتكيف لم يتم لسبب من الأ سباب ‪ .‬هذا التكيف يتطلب ‪,‬و الحالة هذه ‪ ,‬تبدال في عالمهم الداخلي ‪ .‬وعلى الظرف الجديد أن يتوافق‬
‫في ساحة شعورهم ‪ .‬أن سائر األوضاع الصعبة تتطلب أبدا توافقا مماث ال ‪ :‬ومثال ذلك الحياة العائلية التي تستلزم توافقا مع أوضاع‬
‫جديدة في أغلب األحيان ‪.‬‬
‫ال يحدث التكيف إذا كان ثمة قصور في التكيف ‪ .‬ويمكن أن يتأتى هذا القصور عن أسباب عديدة ‪ :‬نقص في الذكاء ‪ ,‬نقص في‬
‫الفهم ‪ ,‬ذهنية ضيقة ‪ ,‬انفعالية ‪ ,‬عقد نفسانية موجودة من قبل ‪ .‬آراء شديدة الرسوخ ‪ ,‬عواطف وطنية أو دينية مشوهة ‪ ,‬الخ ‪.‬‬
‫يمكن القول إذا ‪ :‬لم يحدث التكيف في هذه الحالة ‪ .‬فذلك انما مرده أن تصفية العمل لم تتم ‪ .‬وعندئذ يبقى الشخص مثبتا على الحدث‬
‫الذي سبب الصدمة ‪ ,‬ويتصرف في الزمن الحالي بانفعاالت تعود إلى الزمن الماضي ‪.‬‬
‫متى تتم تصفية وضع من األوضاع ؟‬
‫‪ -‬تتم تصفية الوضع عندما نستجيب بطريقة يكون فيها هذا الوضع قد اندمج في شخصيتنا العامة ‪ .‬وبعبارة أخرى ‪ ,‬ثمة تكيف‬
‫عندما يذوب الوضع الجديد في مستودع شخصيتنا العام ‪ .‬وسنرى أهمية هذا الذوبان وهذا " التأليف " ‪ ,‬تأليف الشعور ‪ .‬كذلك‬
‫سنرى أن ب عض ضروب الالتكيف قد تحيا خارج شعور العالم وتعيش وجودا خاصا ‪.‬‬
‫ال مناص من البحث عن سائر األوضاع التي لم تتم تصفيتها لدى المكتئب مهما كان الزمن الذي ترجع إليه في الماضي بعيدا ‪.‬‬
‫وما هي النتيجة ؟ يصبح الشخص المشتت شخصا موحدا ‪.‬‬
‫أجازف بتشييه اإلنسان بالطيارة ‪ :‬ينبغي أن يكون طيارة متينة قادرة على العودة تتزود بوقودها من القاعدة لكي تنطلق من جديد‬
‫إلى مهمات أخرى ‪ ,‬بدال من أن يكون عشرات من الطائرات الصغيرة التي تطير دون أن تتزود بالوقود الضروري وتسقط سريعا‬
‫على األرض ‪.‬‬
‫هذا ما يستلزم إذن ‪ ,‬ولنكرر ذلك ‪ ,‬السير الذي يقتضي ‪ ,‬بدوره التوازن العام الذي يتيح جهدا سويا يتالءم مع العمل الحالي ‪.‬‬

‫‪19‬‬

You might also like