Professional Documents
Culture Documents
002 Chapter - 2
002 Chapter - 2
التعب واالكتئاب
أ – ما هو التعب :
التعب إشارة إنذار ,إشارة ضوئية حمراء .فعلى اإلنسان أن يوقف نشاطه أمام هذه اإلشارة بصورة تامة .ذلك أن الراحة والنوم
حاجتان طبيعيتان تصبحان أكثر ضرورة كلما امتدت الفترة الزمنية التي يبذل فيها اإلنسان نشاطا .فالنوم مرحلة ترميم تتخلص
فيها الخاليا الدماغية من النفايات السامة التي تتجمع أثناء فاعليتها .وينتج عن ذلك أن أي نقص في النوم يحدث تسمما حقيقا .
فالخاليا الدماغية تستن فد احتياطيها إذ تراكم النفايات السامة .وهي تعيد تكوين احتياطيها الغذائي ,مصدر طاقتها ,في أثناء النوم .
فالتعب إذن آلية طبيعية تتيح للموجود اإلنساني أن يتهيأ للنوم ,وأن يتجنب تسمم خالياه الدماغية بذلك .
إذن ,ال بد لإلنسان من ان يشعر بعد النوم أنه أحسن ما يكون استعداد ,مثله مثل المحرك الذي تم تنظيفه .وال بد من أن تكون
خالياه العصبية قد است عادت حيويتها .أن على كل موجود إنساني أن ينهض من نومه على أفضل نضارة .وهو يغني ,محتفيا بكل
فرح بوالدة النهار ! . . .
ولننظر مع ذلك من حولنا نجد أن ليس ثمة شيء من هذا ,فالتعب أحد أكبر العيوب الخالية .وما يكاد النهار يبدأ حتى يجر السواد
األعظم من الناس معهم تعبا يلتصق بهم وكأنه الدبق .فما هي الالزمة الحديثة ؟
" أشعر منذ الصباح أنني متعب . .أنني سريع التهيج في الصباح .
أنني في الصباح ذو مزاج هو من الفظاظة بحيث أني أرغب في البحث عن شجار ألتفه األسباب . . .علي أن أقوم في الصباح
بجهود مضنية حتى أنطلق في علمي ,ثم ينتهي ذلك حوالي الساعة الحادية عشرة . . .الخ " .
وبدي هي أن هذا التعب ليس تعبا طبيعيا .يبد أنه مهما يكن غير طبيعي ,فإنه سائد على شكل وباء .أنه تعب أصبح نمطا من أنماط
الحياة بحيث أن الراحة ال تتوصل إلى استبعاده حتى ولو كانت طويلة .
نحن نعلم تمام العلم أن الحياة المضربة الحديثة تمنع اإليقاع الطبيعي لإلنسان على الغالب .بل ثمة ما هو أفدح .لقد جعل الناس
من التعب أمرا أخالقيا ويكادون يجعلون منه عيبا إراديا محتقرا .
1
ينبغي إذن أن ينتقل اإلنسان السوي انتقاال منتظما من العمل إلى الراحة ومن الراحة إلى العمل ,مع ما بينهما من إشارة التعب
المحترمة
ولننظر اآلن إلى حال اإلنسان المعاصر :
آ – أنه يعمل بطريقة سيئة ألنه متعب .
ب – ويبلغ حد اإلرهاق .
ج – ويرفض هذا اإلرهاق ويستمر في العمل .
د – ويصل إلى حد كبير من اإلرهاق .
ه – ويرفضه وينتهي به األمر إلى اإلنهاك .
2
علينا أن نفهم بالتالي أن المكتئب يبذل جهودا كبير مستمرة يتغلب على قصوره ألنه يتألم وألنه يخشى االحتقار .وعلى الرغم من
ذلك يقال بأنه يرفض الجهد ! والخالصة أن الناس يصمونه بالتخاذل وضعف الوجدان والجبن بكل بساطة ,وال يكفون عن رميه
باإلهانات المؤلمة .
أما المكتئب فإنه يعلن ما يحيط به من عدم الفهم متمنيا للذين يحيطون به جميعا أن يغرقوا في االكتئاب كيما يعملوا أنه ,وهو
المكتئب ,إذا كان ال يعمل ويتردد ويتراجع ,فذلك مرده أن حالته تفرض عليه إال يعمل وإن يتردد يتراجع .
ولكن هذا من البساطة بحيث ال يمكن قبوله بصورة عامة .
وتبدو عواقب االحتقار :التوبيخ والقصاص .
وعندئذ يجد المكتئب نفسه بين أناس آخرين يحكمون عليه ويحتقرون . . .ألنهم يعدون المنهك دون شك بمثابة من " أراد لنفسه أن
يكون منهكًا " .
-1اإلنهاك واالكتئاب
" . . .إنك مشرف على االكتئاب " . . .ذلك ما يسمعه ماليين األشخاص .ويثبت الطبيب ,بصورة عامة ,في الوصفة
مجموعات المهدئات أو المنبهات ,والمقومات العامة ,النصائح بالراحة وضروب اللهو واألسفار .كما ينصح ,عند الضرورة ,
باالبتعاد عن الوسط العائلي ,وبالعزلة والعالج النفساني .
يضاف إلى هذا فحص االضطرابات المعدية بعناية ,ومثلها المنعكسات العصبية .لقد استطاع الطبيب أن يكشف عالمات توتر في
األوعية الدموية أو عالمات السكري ,أو عالمات عصبية ,أو في شرايين الدماغ .
أ -ماذا يعني مصطلح االكتئاب ؟
االكتئاب " هبوط " في التوير العصبي أو النفساني .فاالكتئاب إذن ,حد عام كل العمومية .انه عنوان يمكن أن يغطي سلسلة
برمتها من الحاالت .هذه الحاالت تحمل بدورها أسماء خاصة :كالوهن ,الوهن العصبي والوهن النفسي والوساوس والفصام
والهوس االكتئابي ,حاالت تبدأ من الخفيفة إلى األكثر خطرا .أنني سأتناول هذه الحاالت االكتئابية في اللحظة المقصودة .
تعدد أعراض االكتئاب كبير إذن .وقد يكون له أساس جسمي صرف ( كما هو الحال في الوهن ) ,بالإضافة إلى ظاهرات نفسانية
تصاحبه .
ومن الناحية الجسمية كذلك ,فإن االياس قد يثير االكتئاب أحيانا .
غير أننا ال ينبغي أن نستنج أن االياس يؤدي إلى االكتئاب حتما .ذلك أن التربة ذات االستعداد المسبق هامة دائما .واالستعداد
المسبق يمكن أن يكون عضويا ,كالتوتر العصبي أو مرض السكر ,أو نفسانيا .
وعندئذ يستخدم االياس بمثابة القاطعة ويثير وضعا كان موجودا منذ زمن طويل في حالة كمون .
يمكن أن يكون لالكتئاب كذلك أساس نفساني أو عائلي أو ديني .
وقد يبدو وعقب هموم طال أمدها وشكوك وضروب من القلق والخوف ,الخ . . .تؤدي إلى هبوط في التوتر بفعل اإلنهاك .
ب – األعراض العامة لحاالت االكتئاب :
يعرف المكتئب بسهولة من هيئته .أنه يبدو مغموما ,خامال ,تقلصت استجاباته الحركية إلى حدها األدنى .فهو بخيل في حركاته ,
ويتبعه أسهل األعمال .ويبدو األرق على األغلب .أما الهزال ,فإنه جسيم تقريبا .
وقد تحدث رعشات تعب وأوجاع رأ س وهبوط في ضغط الدم في الشرايين ,وشعور بالملل فائق الحد ,ووسواس التعب ,تعذر
التركيز ,وحيرة أو تردد ,وحزن دونما سبب ظاهرة ,وضروب من الهوس والوهن النفسي ,ودماغ " أجوف ,فارغ ,بارد " ,
وألم في العنق ,واضطرابات الرؤية .وثمة على األغلب :
فقدان اإلرادة وسوداوية وخوف من الجنون .
ج -فقدان اإلرادة :
مالحظة أميل Amielمشهورة " :أنني أستطيع أن أحب ,وأحلم ,وأتعلم ,وأفهم ,أستطيع كل شيء شريطة أن أعفى من اإلرادة
...
ربما كانت اإلرادة هي الصعوبة الكبيرة بالنسبة إلى المكتئب .
ولكن هذا العجز يبرز بصورة خاصة في مرحلة االنتقال من الفكرة إلى الفعل .انه يرغب في أن يفعل هذا األمر رغبة جامحة في
غالب األحيان ,ولكن تحقيق هذه الرغبة يبقى حبرا على ورق .
فاإلرادة ال تنطلق ,والعطالة تتغلب .ثم تبدو رغبة أخرى وأخرى .أنه وابل حقيقي من الرغبات .
" . . .سأفعل هذا حاال . . .سأفعل ذلك غدا " . . .
ومع ذلك فلن بفعل حاال وال غدا ,ذلك أن اإلرادة ال تتحرك لتحقيق الفكرة .ويشهد المرء تشتتا حقيقيا في اإلرادة التي تتجزأ إلى
قطع صغيرة .ولكن أيا من هذه القطيع الصغيرة تبقى غير كافية إلنجاز العمل . . .
3
وقد يتفق أن يكون العجز في اإلرادة ضئيال .وفي هذه الحال ,يتم إنجاز العمل باإلرادة كذلك .غير أن الفاعلية تكون بطيئة ,
شاقة ,مصحوبة بجهود مضنية .يضاف إلى هذا أن العمل تعوزه المثابرة والحيوية .فالمصاب بعجز ضئيل في إرادته ينجز إذن
سلسلة من الأعمال الصغيرة المتفرقة ألنه عاجز عن السير الذي يستلزمه العمل الطويل األمد .
أما في الصور األكثر خطورة ,فإن الأعمال األولية تصبح ممتنع ة .ويتخلى المصابون عن أي فاعلية .فماذا يقول هؤالء ؟
-أنني عاجزة عن أن أتناول الغبار على الرغم من أنني أرغب في ذلك .أنني خجلة من زوجي الذي يفهمني مع ذلك ,ولكنني
عاجزة عن الجماع .ان رفع المم سحة عمل فوق طاقتي . . .وعلى أن أعد الطعام لزوجي ,وال أستطيع .أنني أتوزع إلى مئات
من األفكار .ولكن عندما يكون علي أن أجمعها ,فذلك أمر ليس في مقدوري ,وأهمل كل شيء .
لقد فقدت شجاعتي إلى حد كبير .أنني أشعر بالعجز عن القيام بأبسط العمليات الحسابية الخاصة بأعمال المنزل . . .فأهمل كل
شيء ا ن تسريح شعري عمل يتركني الهثة األنفاس .أنني أشعر بالحزن إلى درجة أتمنى أن أموت . " . . .
-أشعر أنني عاجز عن اتخاذ قرار ومتردد .يلزمني ساعة من الزمن حتى أشتري قلم رصاص .واشك وأدرك ادراكا تاما أنني
مهووس .غير أنه يتعذر على أن افعل خالف ذلك .أشعر بعد مضي بعض الوقت بما يشبه نوبة من الغضب الشديد موجهة ضدي
,وأشعر أيضا بزلزال يتصاعد .عندئذ اترك كل شيء وأهرب محتميا بأي سبب .
فلو تصرفت على نحو مختلف ألصبح في وسعي أن ألطم من الغيظ أي شخص كان أو أشمته . " . . .
. . . " -إنني أتحقق من إغالقي مفتاح الغاز عشر مرات قبل أن أنام .ثم أنهض من فراشي لأتحقق أيضا .وأنام مرة ثانية .
وأنهض كذلك على الرغم من أنني أعلم أنني أغلقته .وذلك أمر ينهكني " .
كل هذا يبقى في مجال االكتئاب " العادي " إذا صح القول .بيد أن الفاعلية تتوقف نهائيا في حاالت االكتئاب األكثر خطورة .
فالمكتئب يأوي إلى سريره مصحوبا بموكب من العواطف النفسانية التي تذيقه األلم بقسوة شديدة على الغالب .وعلة ذلك أن
المكتئب يتأئر بسائرالظاهرات تأثرا شعوريا .
ولما كان المكتئب يشعر بأنه عاجز عن استعمال ا رادته عجزا تاما ,فإنه يلفي نفسه في مواجهة مع الذين يحيطون به .ثمة
احتماالت في هذه الحال :أما أن يفهموا ما هو فيه من مرض وأما أال يفهموا .واالحتمال الثاني هو األكثر حدوثا بالتأكيد .ومن
هنا ,فليس بينه وبين أن يتهم بالـ " كسل " واال " تنبلة " و " سوء النية :غير خطوة واحدة .ويتهمه الناس أيضا بأن " اإلرادة
تعوزه " علما بأن ما هو عليه مترتب على مرضه بكل دقة .
-2السوداوية
إن قوام السوداوية حزن دائم ,عميق ,ال يبرره أي شيء على ما يبدو .فالتشاؤم كلي ينسحب على األشياء كافة .
كيف يبدو السوداوي ؟ يظهر التعب على كل حركاته .شفتاه متدليتان وجبهته محفورة بالتجاعيد .صوته ال يكاد يسمع .ولنغترف
في هذا الشأن من الوصف الرائع لطبيب المشافي الخاصة باألمراض العقلية ,سوتر : J . Sutter
ينفق القول مع المظهر الخارجي .فكل شيء بالنسبة إلى السوداوي يبعث على األسى .واألحداث المؤلمة تتضخم بصورة ال
تعرف الحدود ,ونتائجها المتوقعة ينظر إليها السوداوي في جو غير مالئم اطالقا .أما الحوادث السعيدة ذاتها ,فإنها مدعاة إلى
الحزن ,تدأب مهارة المريض المرضية على أن تجد لها داللة مفجعة .أن تشاؤمه يشمل كل شيء بطريقة تبدو أحيانا أكثر ما
تكون بعدا عن المنطق وعن التوقع .انه ال يرمي سالحه أبدا .
والقرف من الحياة أولى استجابات السوداوي .فهو ال يبالي بأي شيء ,حتى وال بألمه .كل صباح هو عذاب يتجدد :فالفناء
رغبته الكبرى .ومن البدهي أن يكون فقدان اإلرادة كليا ,ومثله العجز .وال شيء يبقى له غير المباالة تفوق كل حد .
ثمة ظاهرات نفسانية تنضاف بسرعة :بما أن السوداوي ال يبالي بأي شيء .فإنه يلوم نفسه على هذه الالمباالة .تلك أم سوداوية
تقول " . . .أنني ال أتوصل إلى أن أحب أطفالي مع أنني كنت أعبدهم منذ عام . . .أن ال مباالتي تقض مضجعي .أتمنى لو
أستطيع أن أتألم ,أن أحزن .حتى هذا ال أستطيعه ". . .تسيطر علي السوداوي غالبا أفكار مفادها أنه غير أهل لشيء .انه يعاني
4
من احساسات مخيف ة من االتهام الذاتي وتبكيت الضمير والشعور باإلثم .فهو يتهم نفسه بأبشع األمور ,وألمه المعنوي حاد ,مبرح
أحيانا .ويبدو انه مصاب بضرب من العذاب الثابت الرتيب .وتتركز فاعليته الذهنية على هذه األفكار ,أفكار األثم وتبكيت
الضمير ,وتقوده إلى ضرب من االجترار بحيث يصل إلى وضع تنعدم فيه حركته ويرفض الطعام .ثمة اضطرابات عضوية
ترافق السوداوية ,كفقدان الشهية واإلمساك الشديد والدوران الدموي غير المنتظم .فالتغذية ينبغي أن تتم بصورة اصطناعية في
بعض الحاالت الخطيرة .ولما كان السوداوي يرزح تحت عبء تبكيت الضمير ,فإنه يبحث أحيانا عن قصاص لنفسه .أنه يبحث
أحيانا عن عقاب قد يبلغ حد االنتحار .
ثمة صورة أخرى من صور السوداوية ,خاصة جدا ,تظهر أحيانا لدى الفتيات ,هي :
5
نفيت نفيا قاطعا امكان أن يصبح ,فإنه ال يصدقك ! ان ما يسهم في ذلك هو كون المكتئب مشغوال بشأن صحته شغال يفوق كل حد
( توهم المرض ) .
ويالزم المكتئب ,وسواس السير الوظائفي ألعضائه وأفكاره وفكره .
وهو ال ينفك يالحظ نفسه مدفوعاً بحالة اإلنهاك التي بلغها ,ويفسر أقل قصور تفسيرا سيئا .وسبب ذلك أن االستجابة العفوية
تعوزه .
وهي تعوزه لمجرد أنها مصابة بالقصور ,فليس للفكرة المرضية عدو .
ولكن لها صديقا قويا كل القوة :االكتئاب ذاته .وهكذا تنمو الفكرة من تلقاء ذاتها كنبات شوكي في دفيئة ,وتنمو كدمل معنوي .
أن مثلها مثل الجرثوم الذي ينتشر في عضوية دون دفاع .
فأي شيء ,والحالة هذه ,يتسلط على المكتئب بصورة خاصة ؟
يتسلط على المكتئب تلك االنطباعات التي " يحسها في رأسه "
والخواء ,الصداع ,وما يفقده من ذكرياته ,وعجزه عن التركيز ,وتعذر اتمام عمل باشر به .ويتسلط على المكتئب ضروب من
الهوس التي تبالغ بالتردد والشك السويين ,وضروب من االجترار النفسي الذي ال يعرف التوقف .
من هنا منشأ االعتقاد بأن بينه وبين الوقوع فجأة في الجنون خطوة .أنني أكرر أن هذا االكتئاب ال يحتمل أن يؤدي إلى الجنون
المتوقع أبدا على الرغم من أنه متسلط ويقيني .
-2أسباب االكتئاب
االكتئاب ا ذن عام جدا .فبين الحاالت االكتئابية الكثيرة ,ثمة أعراض مشتركة يجب أن تفحص فحصا دقيقا دقة الساعاتي .
نحن ندرك جيدًا أن مئات من األسباب المختلفة يمكن أن تؤدي إلى هبوط التوتر العصبي ! ومع ذلك ,فإن أحد هذه األسباب
الرئيسية يبقى اإلنهاك العصبي والنفسي .
أسباب هذا اإلنهاك .فما هي أسبابه ؟ يجيب الباليس La paliceفالبحث عن سبب االكتئاب في هذه الحالة يرجع إلى العثور على
" أن سبب اإلنهاك أعمال تنهك " .وقوله هو القول الحق دائما .علينا أن تتساءل :ما هي األعمال التي تنهك ؟ ولماذا تنهك ,
ويتجه التفكير اذن إلى اإلرهاق بصورة مباشرة .
أ -ما هو اإلرهاق ؟
تذكرني هذه الكلمة بصورة طالب تعيس .كانت الساعة الثانية صباحا عندما رأيته منذ شهر من خالل الدخان األزرق والمتجمع في
غرفته من تدخين عدد كبير من لفائف التبغ وقدح من القهوة قريب منه كل القرب ,وقد " توقف " عن متابعة استعداده
لالمتحانات .انه منهك .
فهل سيصاب باالكتئاب آليا ؟ لماذا يصاب به هذا الطالب وال يصاب به طالب آخر ؟ لنفرض في الواقع أن ثمة عواطف " معنوية
" تمتزج بهذا االستعداد لالمتحانات .ولنفرض أن االمتحانات النهائية تمثل السهم األخير بالنسبة إلى هذا الطالب ,وأنه يعمل بجو
من الحصر بأنه لن ينجح ,وأن هذا الحصر قد أصبح خوفا من والده مثال ,خوفا من أن يفقد مجرى حياته أو خوفا من االحتقار ,
الخ .ومن المؤكد أن ثمة عناصر انفعالية تفرز اإلنهاك تنضاف إلى اإلرهاق من الدراسة .
هكذا نرى اذن امكان اإلرهاق يختلف باختالف اإلفراد .
يحدث اإلرهاق عندما يصرف اإلنسان من طاقته ما يتجاوز إمكاناته .
فاالستعمال المفرط ألي عضو من األعضاء ,كالدماغ مثال ,إنما يعني إنقاص قدرته ,مثله في ذلك مثل سيارة على وجه الدقة .
واإلرهاق إنما هو تبديد رأسمال .أن الشعور بالتعب إشارة ال تعادلها في القيمة أي إشارة أخرى .
فإذا تجاوز المرء هذا اإلحساس ,فإنه إنما يتعرض إلى الوقوع في اإلنهاك .صحيح أنه إنهاك ال زال بالإمكان تالفيه ,ولكنه مع
ذلك ا نهاك .فإذا دام هذا اإلنهاك فترة طويلة أو تكرر حدوثه عدة مرات ,فإن المرء سائر مباشرة نحو االكتئاب .
يحدث اإلرهاق منذ أن تصبح المرممات الطبيعة ,الغذاء والنوم ,عاجزة عن تجديد القوى .
ومن البدهي أن يكون اإلرهاق منوطا إذن بالقوى الجاهزة .
ويعني اإلرهاق أن يصرف اإلنسان من طاقته أكثر مما يتجدد من قواه .وعلينا أال ننسى ,مرة أخرى ,أن التعب إشارة هدفها أن
تمنع تسمم الخاليا العصبية .وينبغي أن ينظر إلى ال إرهاق من حيث كونه وقائيا .وعلى كل موجود إنساني أن يعرف استطاعته
الخاصة .
انني اعلم أن هذا ألمر هو أحدى الصعوبات الكبرى علما نشأ من معاناتي تعليم ذلك .
علينا أال نظن بأن االكتئاب يبرز دائما بعد العمل المنهك بصورة مباشرة .بل أنها حالة نادرة جدا .ويالحظ كل طبيب وكل عالم
نفس ,على الغالب ,أن االكتئاب عن سلسلة من األعمال المنهكة التي تتنضد خالل سنتين عديدة في بعض األحيان .
6
حالة شائعة ذات إنهاك مباشر .
س . . .موظف نموذجي ,سمي بصورة مفاجئة رئيس مكتب ,أخذ س يعمل خالل شهرين ,تحدوه الرغبة في أن يكون مقدار في
وظيفته الجديدة .انه يسهر حتى ساعة متأخرة من الليل وال ينفك يتجاوز تعبه لقد بدت عليه سائر ظاهرات " االنهيار " في نهاية
هذين الشهرين ,وسقط منهكا مع سائر أعراض " اكتئاب عصبي " .انه إرهاق نفسي بالتأكيد ,ولكنه كان يعمل في وظيفته
السابقة مثلما يعمل في وظيفته الحالية ! إذن ؟ ماذا ؟ حدث ؟
أوال ,كانت وظيفة س السابقة تتكون من مجموعة من العادات وعلى الرغم من أن علمه كان كثيفا فإن التكيف مع أوضاع جديدة
كانت نادرة .لقد كان س يعمل في ضرب من اآللية التي جنبته كل تعب نفسي .
أما في الوظيفة الجديدة ,فإن س ,على العكس ,كان ملزما بأن يتكيف سريعا مع مسؤوليات تظهر باستمرار وتتطلب مقدارا كبيرا
من العمل العقلي .فكانت النتيجة إنهاك واكتئابا .
قد يظن المرء أن ما قيل هو كل شيء . . .ومع ذلك فهو ال يمثل شيئا يذكر .
نشأ "س" في أسرة ميسورة .لقد " غالى في حمايته " باستمرار و " أحاطته بالرعاية " أبوان كانا " يعبدانه " .كان يقومان بكل
شيء مقامه ,ويفكران ويقرر أن بدال من أن يفكر هو ويقرر .وهكذا دخل معترك الحياة ترافقه صعوبة في أن يريد ( فقدان
اإلرادة ) وعدد كبير من العقد النفسانية .لقد عرضت عليه وظيفة رئيس دائرة وقبلها ,فأصيب باإلرهاق ,هذا أمر واضح .ولكن
"س" كان قد وقع دون أن يدري في الحصر والشك والتردد واإلخفاق قبل أن يبدأ عمله الجديد .ثمة إرهاق عقلي وال ريب .ولكنه
ثمة إرهاق انفعالي على األخص .ا ن عقدة النفسانية كانت األساس لكل عمل ينطوي على مسؤولية .وكانت هي التي تمنع ,
بصورة آلية ,التكيف المباشر وإنهاء العمل الذي كان يستمر في الدوران في عقل "س" مثيرا ضروبا من التردد والشك والحصر
والهوس واألرق .ولكن ثمة مسؤوليات أخرى تظهر في الوقت ذاته ,تجر معها ,هي أيضا ,موكبا نفسانيا منهكا .وهكذا
دواليك . . .
ان القول ,في هذا الشأن بأن "س" أصيب باإلرهاق في عمله الجديد ينقصه الدقة .لقد كان وضعه الجديد هو القاطعة والمحول .
فعقده العميقة جعلت األعمال التي تتطلب تحمل المسؤولية والتي يمكن أن يواجهها أي شخص آخر بصورة سوية ,صعبة كل
الصعوبة .ثمة ,في هذا المجال ,اكتئاب ذو قاعدة نفسانية تربوية .
7
ان " جدولة " السلوكات اإلنسانية تبقى دائما عبثا بعض الشيء .
ولكن ثمة أمرا يقينيا يبذل كل جهد إنساني في سبيل التكيف مع وضع من األوضاع .أيا كان هذا الوضع ,يستوي في ذلك أن يفتح
بابا ويتزوج .
اإلنسان ً
ثمة ,إذن ,درجات في صعوبات التكيف ,وبالتالي في كمية الطاقة التي تصرف .
وال يحس الفرد دائما بأعماله المنهكة .فكثير منها يبقى تحت الشعور .وسنرى ذلك في الفصل الخاص بـ " التحليل النفسي " .
وسواء كانت تحت الشعور أم ال ,فإنها تقوم بعملها التخريبي مع ذلك .
أنني اعتقد بأن الوسط العائلي مصدر من أخصب مصادر اإلنهاك واالكتئاب .فالمصادر األخرى تنطلق بعد زمن طويل .إن
أخطر مشكل من مشكالت التربية يتدخل في هذا المجال .فبعض المراهقين يحملون في داخلهم عددا هائال من ضروب التكيف
الداخلية الفاشلة .ويحمل كل ضرب من ضروب الل ا تكيف هذه شحنة انفعالية .والحياة في العائلة مشكل من مشكالت التكيف
المتبادل المستمر .ثمة طبائع متباينة تتواجه ,وهي تتطلب تكيفا مرنا قائما على الفهم .والبد من أن تحدث صدامات .فكل شيء
يجري على أحسن أو بالشرح ,وأما بالغضب ,أي أن كل شيء أذن يجري على ما يرام إذا تمت " تصفية " هذه الصدامات
مباشرة ,إما بتوازن الشخص أو بالشرح ,وإما بالغضب ,أي أن كل شيء إذن يجري على ما يرام إذا تم " تفريغ " الشحنة
االنفعالية .بيد أن هذا التفريغ ال يتم على الغالب .وهذا هو ما يحدث في أكثر األحيان ,ولألطفال إزاء والديهم .فال يحدث تفريغ
الغضب واللوم ,على سبيل المثال ,ألن القانون األخالقي الذي يحدد واجبات األطفال يحرمه .وعاقبة ذلك عندئذ إنما هو
االجتراس النفسي المشحون باالنفعاالت الذي يمكن أن يصبح نواة ضخمة من التعب .وسنرى ذلك في " األشخاص المتعبون " .
فلنفكر أذن بعدد السنين التي تستطيل خاللها ضروب الالتكيف االنفعالي وتنمو .
لقد الحظت أن الذي يفهم فهما سيئا ,هو أيضا ,تربة لإلنهاك واالكتئاب في غالب األحيان .أن كل شيء منوط بالمربى الديني
وباالستعدادات المسبقة التي يتصف بها الفرد .ثمة مراهقون يحملون في داخلهم خوفا وحصرا دينيين ,بل ويحملون كذلك رعبا .
ثمة مفاهيم خاطئة عن ا له طاغ ,منتقم ,ال يرحم ,تمتزج بجنسية المراهقين المضطربة .ويمكن أن أقدم مثاال عل ذلك األضرار
التي تحدث بفعل العادة السرية ,ال بفعل العادة ذاتها ,وإنما بفعل االنفعاالت وتبكيت الضمير التي تنشأ منها إزاء تربية دينية
مفهومة فهما سيئا ,أنزلها الناس منزلة القانون األخالقي الذي ال يعرف الرحمة .
ج -البلوغ الجسمي .
انني استشهد بجانه : Janet
تبدو المظاهر األولى لعدم التكيف عند كثير من الأفراد ,بين الثانية عشرة والرابعة عشرة ,في فترة البلوغ الجسمي الذي
يضعف ,منذ ظهوره ,قوة المقاومة لديهم بصورة كبيرة ,إنها ,في الوقت ذاته ,إنما هي الفترة التي يتجه فيها انتباه األطفال إلى
الممارسات الدينية للمناولة األولى .إ نها هي المرحلة التي يبدأ فيها هوس تكرار الصلوات وهوس الكمال والرعب من جهنم
ووساوس السحر عند من هم أكثر نضجا .ويمكن أن تبقى هذه االضطرابات مقتصرة على األفعال الدينية وأن تستمر إلى ماال
نهاية .
إذن ,فكل تكيف هام يمكن أن يكون عمال منهكا . . .كما يمكن أن يكون منهكا أي عمل تافه .إن السيدة س تقع في أزمة اكتئاب
كلما عادت من سفر .أنه لعمل تافه مع ذلك لو اقتصر األمر عند هذا الحد فاالستعداد للسفر يدوم فعال خمسة عشر يوما مع
يصاحبه من ضروب التردد والشك والبطء ,ومن العجز عن إعداد حقيبة دون أن تفض ما فيها مباشرة " ألن بالإمكان دائما نسيان
أي شيء " .أما في السفر فإن القلق يحدث .أنها تخشى أن تقع مريضة وهي بعيدة عن منزلها ,وأن تفقد دراهمها ويحترق بيتها
ويحدث لها حادث اصطدام .تقول لي " :أنني أبقى دائما ,أثناء ركوبي في القطار ,أنتظر انتظارا يتسم بالحصر وقوع صدام
مفجع .يصفر وجهي من صفارة القاطرة ,وال أستطيع أن امنع نفسي من سؤال جيراني من الركاب عن سرعة القطار " .تبقى
السيدة س ساعات حتى تختار فندقا وحتى تجري حساباتها ,وتبقى ساعات تتردد وتجتر منهكة أكثر فأكثر .
وتعود السيدة س من سفرها " خائرة القوى " بصورة كاملة ,جاهزة ألن تقع في فراشها مريضة .وتلك هي ,عندئذ ,حاالت
فقدان اإلرادة والسوداوية واالجترار النفسي لما تشعر به من نقص .
إن سفرا بسيطا هو إرهاق كبير بالنسبة إليها إذن .مرد ذلك إنها عاجزة عن التكيف مع الظروف العديدة التي يتطلبها هذا السفر .
فعلى علم النفس إذن أن يبحث في هذه الحالة عن األسباب األولى التي أحدثت هذا القصور .
8
-ولكن ثقافتك رائعة ,أيتها اآلنسة . . .لماذا ؟
أجابت جاكلين والعدوان باد عليها :
حسن ,أحزر أيها السيد ! -
لقد حزرت . -
آه ؟ -
لقد سببت لك ما تسمينه عاهتك شعورا هائال بالدونية منذ طفولتك .أليس كذلك ؟ -
-نعم أيها السيد ( .عدوانية ) .واآلن ,أكمل قصتي .
ثم تابعت حديثها بلطف :
-حسن ,سأتقدم إذن إلى امتحان البكالوريا ثانية .
واستأنفت كالمها بتواضع مفاجيء :
أوه ,ال تصدق ذلك ,ايها ا لسيد ,أرجوك ! لكنني اجتررت حياتي كثيرا . . .وتعذبت كثيرا ! -
بالتأكيد .لقد وصلت في حديثي إلى الشعور بالدونية ,أليس كذلك ؟ -
-نعم يا سيدي .
لقد عانيت كثيرا من الشعور باإلحباط والمهانة وبأنك مبعدة عن كل شيء ومنبوذة من الجميع ,أليس كذلك ؟ أنك تثورين -
ضد قدرك ليال نهارا .
-نعم يا سيدي .
ولكن شعورك بالدونية هذا أفقدك كل شعور باألمن .أنك تشعرين بالوحدة شعورا رهيبا .وكان المناص ,أذن ,من أن -
تجدي هذا األمن أين ؟ أفي أحضان والديك ؟
أوه ,كال فوالدي يمقتاني في الواقع .لقد سمعتهما يتخاصمان وكان لي من العمر عشر سنوات .كان أبي يتحدث عني -
قائال ألمي " ابنتك " . . .لقد كنت وكأنني لقطة يبحث الناس عن مالكها . . .ثم سمعت أمي تقول " :أنني أخجل من
الخروج معها .ا نني أخجل من شفقة الناس .لو كانت عبقرية على األقل ,ماذا أقول ؟ لتوازن األمر ! "
وفي هذه اللحظة بالذات انما بدأ كل شيء . -
-نعم يا سيدي .
عندئذ عزمت أمرك يا جاكلين .انك لم تقولي كلمة واحدة من هذا لوالديك .وبدأت تدرسين لوحدك بجد وعنف .لقد كان -
عليك أن تصبحي غول المعرفة المقدس .فتفوقك الوحيد الممكن كامن في معرفتك الفكرية - .ثم اخبريني كذلك ,هل
كنت ترغبين أن تقتصي من والديك بأن تكوني منهكة بما أنك لم تكوني قوية من الناحية الجسمية .
نعم . . .ا نها تخطر ببالي اآلن . . .لقد كانت هذه الفكرة لدي . . .ولكنني رفضتها باستمرار .كنت أقول لنفسي غالبا : -
" لومت لكان ذلك ما يرغبونه " . . .يا سيدي ,كان األمر أكثر تعقيدا مما كنت أعتقد ! . . .اعتقد ! . . .
ولكن كال ,كال ,يا جاكلين ,سترين . . . -
أشكرك يا سيدي . -
هيا ,لننزل إلى ما هو أعمق .أتتبعينني ؟ -
انني اتبعك بكل شغف ,قالت مبتسمة . -
تفوقا بالنسبة إليك .وشعرت
ً خفية بدأت العمل أذن ,صباح مساء ,ودون انقطاع .لقد أصبح كل شيء تكتسبينه بعمق -
كالعب الجيدو أنك قادرة أكثر فأكثر أن " تقهري " أي شخص كان وأن تجعلينه هزأة .
كنت تقولين :لكل إنسان دوره . . .لقد كان ذلك هو سالحك السري .
نعم يا سيدي .ولكن اإلنهاك أصابني بعد سنتين . -
حسن . . .لقد قاومت ! وعلى هذا المنوال . . .أنت نبذت التعب إذن بسبين : -
آ – أردت أن تكوني مثقفة بأي ثمن .
ب – رغبت الشعوريا أن تنهاري من التعب عقابا لوالديك .
-اتفقنا يا سيدي .قل لي . . .هل مهنتكم هي دوما على هذه الدرجة من التعقيد ؟
-ا نها غالبا أكثر تعقيدا ,يا جاكلين ! لنستمر في حديثنا .إذن ,كنت تغرفين المعرفة غرفا .كنت منهكة .كل شيء جرى في
صمت تام .ثم قذفت بمعلوماتك وكأنها قنابل .أظن أنك كنت تلقين أسئلة " عويصة " على أساتذتك وأنك قد استوليت على كل
الجوائز .. .
-باستثناء جائزة الرياضة .. .قالت ذلك باسمة وقد خفضت رأسها .
-سيحدث هذا يا جاكلين ! وتأملك اساتذك وصديقاتك ووالدك بذهول .ونتج عن ذلك أن الناس كفوا عن الكالم عن عاهتك ,أليس
ذلك صحيحا ؟
9
-أوه ,كال !
-ولكنني أظن أنك لم تقولي شيئا بعد . . .ألم تتخذي مظهرا وقحا كما لو أن األمر كان طبيعيا ودون أي جهد ؟ ألم يكن تفوقك
الحقيقي لقاء هذا الثمن ؟
-نعم يا سيدي ,وتابعت سلوكي هذا زمنا طويال .. .
-ولم ينظر إلى وضعك هذا أي شخص نظرة خاصة ؟ لم يجد أي شخص أن ذلك لم يكن طبيعيا .. .
-أوه ,كال ! لقد كان التغلب علي مبعث فخرهم الكبير ! تصورا ! أنني أصبحت موسوعة ! فخر والداي ومدرستي!
-احم ! .. .انه لشيء جميل . . .
-نعم ,يا سيدي
-ثم أدركت البلوغ وأنت على ما أنت عليه من إنهاك .
-نعم ,وقد أخبرتني صديقاتي . . .
-بأي شيء أخبرتك صديقاتك ؟
-ولكن . . .بكل شيء .
-وعندئذ ؟
-عندئذ بدأت ,يا سيدي ,أمور كثيرة .لقد دخلت ميدانا جديدا .
كنت منبوذة من الجميع خالل طفولتي كان علي أن أحطم كل شيء . . .
وكان رأ سي يصاب بدوار من ذلك ,وكان علي أن تدبر األمر . . .ثم أنزلت قلوعي كثيرا ( صرخة تمرد ) ,ولكنني بقيت مع
ذلك حدباء ,حدباء قذرة ! وأصبحت فتاة صبية تعاشر الفتيان الذين نبذوني جميعهم أيضا . . .ما عد اثنين أو ثالثة منهم كانوا
يحموني .. .وشعرت بحمايتهم وكأنها شتيمة إضافية .كنت منزعجة معهم ألنهم لم يفكروا أبدا بـ . . .
-إ نهم لم يفكروا بدورك النسوي ,السيما وأنني أفرض بأنك كنت تقذفينهم بمعلوماتك كما لو أنها دالء من الماء المثلج ؟
-كنت أريد أن اصرع تفوقهم الرجولي .
-وما استمر ذلك زمنا طويال .
-كال ,يا سيدي ,هجروني ووجدت نفسي وحيدة .
-متى بدأت تمارسين العادة السرية .
( -احمر وجه جاكلين احمرار شديدا ,شنجت يديها ,نهضت ,ولكن " نزعتها العقالنية " تستلزم النظر إلى المسألة الجنسية دون
انفعال .
وعادت إلى الجلوس على مقع دها بعد أن وصلت في حركة نهوضا حتى منصفها ,واستأنفت الحديث ) حوالي الخامسة عشرة .
-هل شعرت بتبكيت الضمير ؟
-لم أشعر بذلك مباشرة .شعرت بالحقد أكثر .كنت اقتص من نفسي وحيدة ألنني كنت ازداد انهيارا .ذات يوم ,كنت في مدرسة
كاثوليكية ,قدم الموعظة واعظ غريب .فتكلم عن الجسد .كنت قد بلغت الخامسة عشرة كما تعلم . . .ال يزال صوته يجلجل في
إذني .لقد بدا كل ذلك أمرا ال يغتفر . . .ولم أجرؤ أبدا على البوح بما كنت أفعل .وتلك كانت عندئذ مرحلة االعترافات الدينية
وانتهاكات حرمة القربان المقدس .
-هل فهم معرفك مع ذلك يا جاكلين !
-نعم ,يا سيدي .ولكنني في الخامسة عشرة من عمري . .كنت أشعر شعورا عنيفا بعد كل انتهاك لحرمة القربان المقدس أن كل
شيء سمحقني .
كنت أظن بأن الصاعقة ستصيبني كلما خطوت خطوة ,واشعر أن سريرتي عفنة .وكان شعوري هذا من القوة بحيث أنني اعتقدت
أن رائحتي تثير التقزز ,وبحيث أنني كنت أضع العطور بكمية كبيرة حتى ال يكتشف الناس هذه الرائحة . . .كانت رؤية الكاهن
تجعلني ارتعش . . .واعتقدت أن أقذر األمراض الممكنة قد أصابتني ,وعدت إلى سائر المؤلفات الطبية خالل ساعات وساعات
ابحث فيها . . .كان يبدو لي في الشارع ( كنت كالمجنونة ) أن رجال الشرطة يالحقونني بنظراتهم . . .ودام ذلك خمسة أعوام
,خمسة أعوام ,يا سيدي ! وتحملت هذا وحيدة ,فقد كان أهلي ال يعرفون شيئا عن الحياة العامة وال يشكون بشيء .كنت أقع غالبا
فريسة ضروب من اإلغماء والدوار وفقدان الذاكرة .لم أجرؤ أبدا أن أقول شيئا ,أيا كان ,إلى شخص . . .ما عدا اآلن . . .انه
األمر أسهل بكثير مما كنت أظن . . .وبعد انقضت خمسة أعوام وأنا على هذه الحال ,إنما كان لقائي عندئذ مصادقة لصديق من
أصدقاء الطفولة ترك البالد في ذلك الوقت . . .لقد كان من اللطف والبعد عن التصنع بحيث أنه قلب أوضاعي رأسا عل عقب .
. .هل تفهم يا سيدي معنى لطف بالنسبة إلي ؟ لم أتحدث إليه عن كل شيء من هذا ,وإنما عن اكتئابي . . .لقد أرغمني بلطف
على زيارتك . . .وهكذا هاأ نذا ,يا سيدي .أنني ال أحس بجسدي ,أنني متعبة جدا . . .ولكنني أشعر بأني أقل شناعة بسبب ما
قلت ه عن كل ذلك . . .وبخاصة أنني أحس أنك لن تصدر حكما علي . . .
10
ا ن جاكلين هي اآلن متزوجة وسعيدة .هل هذه قصة من القصص الخرافية ؟ ليست قصة من القصص الخرافية ,وإنما هي قصة
كل يوم من حياة الناس .لقد تدخلت ثالثة علوم في شفاء جاكلين :
ففي المستوى األول ,تدخل الطب إلصالح حالتها العامة العصبية ,واجتث في الوقت ذاته عالج أعماق نفساني عقدها التي كانت
بمثابة أسنان نخرة .كان الهدف أن تلغى عشر سنوات من ضروب الحصر والكبت والحقد والتشنج . . .كان الهدف أن تعود إلى
وضعها الطبيعي جنسية مزيفة ,وان تتعلم جاكلين كيف تستريح وكيف تقتصد في قواها .
وأخيرا نجح طبيب من األطباء في أن يخفف من الجنف في عمودها الفقري وتم كل هذا بمساعدة حماسية من قبل الفتاة ,لقد تم كل
هذا ونجح أتمنى لك حياة سعيدة يا جاكلين .
-3اإلنهاك والهياج
قلت أن اإلنهاك يثير االكتئاب والهياج .
ويبدو في الهياج عرضان رئيسيان :
آ – تتصف االستجابات للظروف بأنها غير منتظمة ,كما تتصف بالمبالغة بصورة واضحة ( استجابات عضلية وسيول من األلفاظ
,الخ ) .
ب – يعطي المهتاج انطباعا بأنه لعبة بين يدي اندفاعاته دون أن يكون لديه الكابح الضروري من أجل إحداث التوازن .
ويصبح سلوك المهتاج سلسلة من ضروب التفريغ المفاجىء التي ال يفلح في مراقبتها .أن " السيادة على الذات " تختفي .
ويختفي كذلك اليسر الذي تمنحه حيوية سوية .فالحركات سريعة غير منتظمة ,والكالم يصبح سيال ,وتبدو عرات عرات حركية
ولغوية ,وحركات إيمائية مفاجئة وتشنجات وانقباضات عضلية ,الخ .ومن الطبيعي أن يحدث كل هذا حسب درجة الهياج .
ا نني أشير إلى أن ثمة التباسا بين هذه االستجابات وبين ضرب من " فائض كبير " في الطاقة ,على الغالب .ولكن األمر هو على
العكس من ذلك تماما .
ولننتبه هنا :فقد يظن البعض أحيانا بأن قوام " السيادة على الذات " أن يقوي اإلنسان من عزيمته حتى " يتغلب عل نفسه " وهذا
خطأ كل الخطأ .فإذا كانت السيادة على الذات تقتضي جهدا ,فذلك يعني انه ال وجود للسيادة على الذات .
ا ن السيادة على الذات تزول عندما يظهر الجهد .فالسيادة الحقيقة على الذات مساوية لليسر .ينبغي أن تظهر بفعل طاقة موزعة
توزيعا منسجما .
وبهذا المعنى ,فإن السيادة على الذات شبيهة باإلرادة :فإذا كان على الفرد أن يستنجد باإلرادة أو بالسيادة على الذات ,فهذا يعني
أنه يفتقر إليهما .ولو كان األمر غير ذلك ,فلماذا كان عليه أن يستنجد بهما ؟
من الضروري أن يعرف اإلنسان آلية هامة جدا من آليات الدقة العصبية الهائلة دونما حاجة للدخول في التفاصيل .ذلك أننا سنرى
أن بإمكاننا أن نستخلص من هذه اآللية نتائج تشمل الصحة ,والتوازن والطريقة اليومية في الحياة أو التربية .
يسود االعتقاد بصورة عامة أن الدماغ بمجموعه يعمل إذا فكر اإلنسان بأمر من األمور .غير أن هذا االعتقاد اعتقاد خاطئ ,كما
هو أكثر خطأ أن نعتقد بأن الدماغ يعمل برمته عمال قاسيا عندما نركز فكرنا على مشكل من المشكالت .
إ ن جزءا صغيرا من الدماغ يكون وحده في حالة نشاط عندما يقتض األمر تركيزا .أما الباقي فإنه في حالة من عدم النشاط ,في
حالة النوم .نحن ندري جميعا بحالة اإلنسان الذي " يركزه فكره " على دراسة أو قراءة " :انه ال يسمع شيئا مما يحيط بهما .
فكـأن األلفاظ والمذياع واألحاديث غير موجودة .ا ننا نعرف حالة االستاذ " الشارد " ( أي الذي ركز فكره على مسألة من مسائل )
الذي ل ن يري سيارة بأقصى سرعتها مسا خفيفا .فإذا أوغلنا في التقدم نحو العمق ,وقعنا في حالة الفكرة الثابتة .وال يالحظ
الشخص أي شيء سوى فكرته .فلماذا ؟
آ – آلية بديعة
تثير الجملة العصبية آليا استجابتين كبيرتين حالما تتلقى " رسالة " :
أ – توجه الرسالة نحو المراكز العصبية المعنية بها .تلك هي ظاهرة توليد الحركة .ويسمح هذا التوجيه بإثارة المراكز العصبية
المعنية .
هذه اإلثارة العصبية ,بدورها ,تجعل االستطاعة التي يتطلبها العمل الحالي ممكنة .
ب – توقف الجملة العصبية في الوقت ذاته عمل المراكز العصبية األخرى التي ال عالقة لها بالعمل الحالي .فهي تثير على هذا
المنوال توقفا في سائر صور السلوك التي ليست معينة بالعمل .
وتلك هي ظاهرة الكف .
هذا الكف هو أذن توقف ,وبالتالي نوم .
فاألجزاء الدماغية التي ال تشترك في العمل الحالي تنام .
أ – فالم حاضرة نقطة تصدر رساالت بصرية ,سمعية ,الخ .
11
ب – توجه الجملة العصبية هذه الرساالت نحو المراكز العصبية المعنية .
ج – تصبح المراكز العصبية في حالة تنبيه .ويصل المنبه إلى المراكز على صورة ذبذبات كهربائية .عندئذ ينتبه اإلنسان ويركز
.
د – وتبقى ,في الوقت ذاته ,اإلجزاء األخرى التي ليست معنية بالرساالت الحالية ,أرقدة .فالباقي من القشرة الدماغية يكف إذن
عن العمل ( الكف )
لنتذكر القاعدة التالية إذن :يرافق تنبيه بعض المراكز العصبية آليات ايقاف المراكز العصبية األخرى ,فكلما كانت منطقة التنبيه
ضيقة كانت ا لمناطق الموقوفة عن العمل واسعة .تلك هي ,مع ذلك ,بعض التخطيطات التي توضح شروط الحد األعلى من
وضوح الدماغ ,وبالتالي الحد األدنى من اإليقاف ( النوم )
أحالم اليقظة
ال يشغل الدماغ موضوع خاص في أحالم اليقظة .تلك إنما هي حالة من حاالت التخلي .فالفرد يتفرج على االحساسات التي
تجري في دماغه .وليس ثمة أي نقطة معينة تجذب انتباه الحالم " .الرساالت " كبيرة العدد إذن ,وبالتالي فالدماغ مفتوح ,يقظ
إلى الحد األقص ,واإليقاف في حده األدنى .فأحالم اليقظة هي أحيانا ملجأ الضعفاء .ومع ذلك ,ثمة صورة عالية من أحالم
اليقظة :انها التأمل .
التأمل
التأمل شبي ه من الناحية العصبية بأحالم اليقظة .ومن المعلوم أن بعض الناس " ال يميزون " غالبا التأمل من التركيز .فليس ثمة ,
والحالة هذه ,أكثر خطأ من ذلك .أن التأمل ال يقوم على التفكير بجهد في شيء محدد .بل ,على العكس ,يرخي اإلنسان " العنان
" للدماغ في موضوع عام .فا إلنسان المتأمل منفعل ,ودماغه يتلقى الحد األقصى من االحساسات .إنها إذن أحالم يقظة " في
العمق " .فاألفكار تجري بسهولة بالنظر إلى الدماغ ال يتركز على فكرة معينة منها ,وبالنظر إلى عدد المراكز العصبية التي
تعمل .وينطوي الفكر على ذاته في ضرب من " التخمر " المعمم ودون أدنى جهد ,ويشمل سائر األمور بيسر .فقابلية االستقبال
والوضوح رائعان جدا .
ربما كان التأمل هو الدرجة العليا من درجات الفكر اإلنساني .فالفكر صاف ,متسمع جدا ,بعيد األطراف ,مفعم باليسر ,وقابلية
االستقبال هي في حدها األقصى في حين أن المنطقة التي ال تعمل في الدماغ هي في حدها األدنى .
أن ينتبه اإلنسان يعني أن ينتبه إلى شيء ما .فالفكر هنا يستقر على شيء محدد ,على نقطة أو نقاط معينة ( محاضرة مثال ) .أن
االنتباه ضرب من التركيز الضعيف .وبما أنه يتجه نحو نقطة معينة ,فإن الرساالت توجه صوب بعض المراكز العصبية .ويتم
إيقاف المراكز األخرى مباشرة .ومن البدهي أن توجد درجات مختلفة من االنتباه تبدأ من االنتباه المشتت ,كانتباه التلميذ الشارد ,
وتنتهي باالنتباه المحدد ,كاإلصغاء إلى محاضرة باهتمام .فإذا تقدمنا أكثر من ذلك وقعنا في التركيز .
التركيز
يقوم التركيز على تثبيت الفكر بجهد على نقطة وحيدة ,كالمسألة الصعبة مثال .فالمنطقة الدماغية النشيطة هي إذن ,محدودة
جدا .وهذا أمر طبيعي مادام االنتباه مركزا على نقطة واحدة ,على رسالة واحدة إذن .فالمناطق المتوقعة عن العمل هي ,
بالتالي ,واسعة جدا .وخالل التركيز الشديد إنما ينام أكبر جزء من الدماغ .
وهذا ما يشرح لنا لماذا ال يالحظ الرجل الذي يقوم بالتركيز شيئا حوله أنه ال يالحظ شيئا ألن المناطق المتوقفة عن العمل في
الدماغ عاجزة عن استقبال الرساالت األخرى ( ضجة ,مذياع ,كالم ) .فإذا دفعنا بالتركيز إلى الحد المريض ,بلغنا الفكرة الثابتة
.
الفكرة الثابتة
الفكرة الثابتة ,وكذلك الوسواس واالجترار النفسي الخ ,هي ضروب من التركيز الالارداي المرضي .انها تبقى ثابتة بصورة
دائمة على الموضوع ذاته .من هنا ينشأ تنبيه قوي لبعض المراكز الدماغية التي تعمل إلى حد اإلنهاك .فالفكرة الثابتة تمثل رسالة
واحدة ,رسالة هي ذاتها أبدا :ثمة إذن جزء صغير من الدماغ في حالة من النشاط المبالغ فيه ,وجميع األجزاء األخرى في حالة
النوم .ومن المعلوم من جهة أخرى أن الفرد الذ ي يصاب باألفكار الثابتة يعجز عن مالحظة أي شيء كان مما يحيط بها ,وسأعود
للحديث عن هذه األفكار .
ماذا يحدث لو دام التركيز زمنا طويال ؟
12
نحن نعلم جميعا أن التركيز عمل متعب ,ا نه ألمر بدهي مادامت المراكز الدماغية التي تعمل خاضعة لتنبيه قوي ,فهي تنهك إذن
بسرعة كبيرة .ولهذا فإننا نرى أن بعض الطالب الذين .يتوقعون " عن دراسة دروسهم ( تركيز ) يستسلمون بصورة العصبية
التي هي في نشاط كبير يدوم زمنا طويال .
ينبغي إذن أن يتحلل كل تركيز فترات من اللهو .لماذا ؟ أن اللهو ,بصورة بديهية ,حال يختلف عن التركيز األولي .فهو إذن "
رسالة " أخرى توجه صوب مراكز عصبية أخرى كانت مكفوفة عن العمل أثناء التركيز ,وبالتالي هي في حالة رقاد .هذه
المراكز العصبية ستكون إذن في حالة التنبيه بدورها ,في حين أن المراكز التي عملت أثناء التركيز تصبح مكفوفة عن العمل
فتستريح وتتجدد .
13
ذلك أن العناد يحتمل أن يتجلى منذ أن تنقص مساحة الوضوح .
وهكذا نرى كم هو هام أن يتخلص اإلنسان من سائر التشنجات العقلية ومن جميع السلوكات التي توجهها انفعالية مزيفة أو متحجرة
,وكم هو هام أن يكون اإلنسان في حالة من اليقظة المستمرة ,يقظة عري ضة ,هادئة ذات اتساع شبيه باتساع الرادار الذي ينقب
اآلفاق ,وكم هو هام أن يكون اإلنسان في يسر ,يسر من الناحية الجسمية ويسر من الناحية النفسية ضيقة وما يوصد على الدماغ
بابا يعزله بذلك عن امكاناته اإلنسانية . . .
14
ما هو ا ذن مآل هذه التفسيرات الخاطئة ؟ مآلها اإلعجاب به ومكافأته بسبب الظن أنه ذو فاعلية تفوق الحد وإرادة حديدية .ويقال
أيضا بأنه يبذل جهدا فوق جهد .ولكنه يتعذر عليه أن يفعل خالف ذلك .أنني أكرر بأن الجهد يبدو منذ أن تختفي السيادة على
الذات .
ا ن أي عازف للبيانو ,سيد آلته ,يعزف قطعة لشوبان دون جهد .فهو سيد مجسته وفي حالة من اليسر .فإذا ظهر التعب عليه ,
اختفت البراعة واليسر وأصبح الجهد والتركيز ضروريان .
فليس عازف البيانو سيد قطعته الموسيقية في هذه اللحظة ,وإنما تصبح هذه القطعة الموسيقية صاحبة السيادة عليه .انه ال "
يعزفها " قطعا ,بل يجرب أن " يقه رها " ,أي يقهر ذاته ألنه يشعر بأن اليسر الذي ال غنى عنه قد زال .
15
سألته :
-ما عمرك ؟
-أنني في الثالثة والعشرين ,ولي ولدان .
-في أي سن تزوجت ؟
-في العشرين .
-انك لم تقض فترة عزوبة طويلة !
( -يضحك ) . . .أوه ! لم أتزوج ألنني كنت أحب خطيبتي ,وبالتأكيد .ولكن . . .
-ولكن ماذا . . .
-ولكن من أجل أن أتخلص من عائلتي أيضا .
-أنه ألمر شائع ,مع األسف .
-نعم ,أعلم ذلك .علي أن أقول لك بأن زوجة أبي الثانية التي ربتني .
-هل عرفت أمك ؟
-كال .
-كيف كان أبوك ؟
-أوه . . .ديكتاتورا ,طاغية بصورة عنيفة .كان يشعرني بأنني لست ذكيا .
ولكنني كنت اعلم بأني لست غبيا ! هل تراني غبيا ؟
غبيا .
ً -كال بالتأكيد .وحسب اإلنسان أن ينظر إليك ليعلم أنك لست
-أشكرك .
-ليس ثمة ما يستوجب الشكر .فليس األمر من فعل يديك إذا كنت ذكيا ,أليس كذلك ؟ إذن ليس ثمة من شيء نمدحك به .
-هذا صحيح فعال .
-إذن ,هل نستأنف الحديث ؟
-نعم .أعتقد ,في الواقع ,أن والدي كان يحبني ,ولكنه كان " ذا طبع ضعيف " هل ترى ؟
-أنني أرى .لو لم يكن كذلك لما كان مستبدا ,يا عزيزي .وامرأته الثانية ,ألم تكن تحبك ؟
-تحبني ؟ كانت تكرهني .كانت تنتهز أي فرصة تذلني فيها ,وتجرب أن تزرع في نفسي االعتقاد بأنني نكرة وبأنني عائق يحول
بينها وبين أبي .لم يمر يوم دون أن أشعر بأنني منبوذ ومكروه ,وحيد في زاويتي التي يحرم علي تحريما قطيعا أن أغادرها .
عشت خمس عشرة سنة من عمري على هذا النحو .
-تعد األيام يوما بعد يوم .
-بالضبط .أعدها يوما بعد يوم .كانت منها أيام قاسية جدا ,أيام هي من اليأس بحيث ال يمكن شرحها .لم يكن لدي غير رغبة
واحدة ,أن أهرب .هل تفهمني ؟
-بالتأكد .هل تدين بدين ؟
-ال أدين بدين ,أو بالحري ,ال أدين بدين قطعا ولكنني نشأت في أحضان المذهب البروتستانتي .ليس هذا األمر غريبا عندما
نفكر فيه .حذرا على أشد ما يكون الحذر من أجل أن انتقم آنئذ ,كنت أسرق السكاكر والملبسات التي كنت أمصها في ركني .
يخطر ببالي جيدا ما كنت أقوله " :ذلك إنما هو ما سأحصل عليه دائما ولن تعلموا عنه شيئا ! " .
-بالتأكيد .انك تفعل مثل أولئك الذين يمارسون العادة السرية للسبب ذاته .
-كنت أمارسها أيضا .
-كثيرا ؟
-أوه . . .كل يوم تقريبا .
-هل كنت تشعر وأنت تمارسها باآلثم ؟ اقصد :هل كنت تشعر وأنت تمارسها بأنك آثم ؟
-نعم وقتئذ . . ,بئست هذه العادة نعم .
-آثم تجاه من ؟ دينك والدك ؟
-حسن . . .أنه ليصعب علي أن أحدد . . .لقد كنت اشعر بأنني أكره والدي ,ولكن . . .
-ولكنك كنت تشعر باآلثم لكرهك إياه .بسبب كونه والدك .فهل كنت تشعر بأنك آثم لكرهك امرأته ؟
-أوه ,كال بالتأكد كال .لقد كنت أمقتها من كل قلبي ! فذلك إنما كان كل ما بقي لي !
-هل كنت تخاف أباك ؟
-نعم . . .هذا لم يكن ينقصني .كنت أصاب بتشنج في معدتي كل مرة يظهر فيها .كنت أرغب في التقيؤ دائما عندما أتناول
طعامي .كنت أرتجف ,في نهاية األمر ,لسماعي ألقل ضجة . . .ومع ذلك ,وهذا أمر غريب ,بقيت أحترم والدي . . .
16
-يا عزيزي يتمسك اإلنسان باحترام شخص ما . . .ولم يكن لك سواه . . .وكنت تحاول أن يكون موضع إعجابك على الرغم
من كل شيء .هل أصابتك حاالت من االكتئاب العصبي عندما كنت تسكن مع أهلك ؟
-نعم ,في الخامسة عشرة من عمري .لقد وصف الطبيب لي أن أقيم في الريف وحيدا ,ولكن لم يكن ثمة من المال ما يكفي ,أال
ترى ؟ ثم كنت قد بدأت العمل .
-عندئذ ؟
-عندئذ ؟ كان الوضع جحيما ال يطاق " .اكتئاب عصبي ؟ قالوا ,اكتئاب عصبي ؟ أي سخافات هذه ؟ أنت تشعر باأللم في مكان
ما من جسمك ,نعم ؟ ألم في بطنك ,في معدتك ؟ قال لنا الطبيب بأن هذه اآلالم عصبية ! إذن هذه أمراض وهمية ! ما عليك أال أن
تبذل جهدا ! أفهمت ؟ أنني ال أهتم بك ,أنا ,بسبب االكتئاب العصبي ! " هيا إلى األمام . . .كان علي أن أستمر .وال أعلم كيف
استطعت أن افعل ذلك أتفهم ؟
-بالتأكيد ,يا عزيزي .
-إذن ,هذا هو الوضع .
-سؤال أخير .هل كنت تخاف أباك ؟
-نعم ,لقد أخبرتك بذلك .لماذا ؟
-واآلن ,هل تخاف رئيسك ؟
-أخاف رئيسي ؟ نعم ,ليس ثمة ما يدعوني إلى أن أخفي ذلك .
صّر اخ مثله . . .أنني أشعر بأنني أمام والدي .. .
لقد أصبح كل شيء واضحا ومؤسفا بسبب عدم الفهم اإلنساني أن حصيلة عدم الفهم هذا موجودة خلف آلة إنتاج سريعة ,يراقبها
رئيس صّر اخ ,عدواني ,في حالة تأهب مستمر .
إذن ,فهذا العامل االنفعالي ,الخائف ,المرتجف ,الهائج ,يعمل بأقصى طاقته ودون توقف خوفا من أن " يساء فهمه " ,خوفا
من أن يفقد عمله ,خوفا من مالحظة يبديها رئيسه ويجترها عندئذ زمنا طويال ليل نهار .هكذا يعمل هذا العامل ,سريعا ,بصورة
تخلو من كل عيب ,ثم بصورة أسرع وأكثر كماالً .وتدور اآللة بأقصى سرعتها ويزداد اإلنتاج .وليس على هذا العامل إال أن
يفتح كيسه .بما أن اإلنتاج يتم التعبير عنه بدرجات من االستحقاق في نهاية العام ,لتسقط فيه الدرجات دونما صعوبة ,وربما
تعلق على سترته المغموسة بالخوف واالنفعال ميدالية ,مكافأة سخيفة على عدم فهم سخيف .
17
وليس له إرادة شاملة ومستقرة ,وإنما له ا رادات ورغبات .انه ال يباشر عمال واحدا ,بل يباشر أعماال كثيرة ,مع العلم بأنه
عاجز عن إنهائها وتصفيتها .
من هنا منشأ التعب وتقص الكفاية ,تعوزه اإلرادة السوية إذن ألن طاقته ليست موزعة توزيعا متناغما .
ولنشر إلى أن ذلك صحيح بالنسبة إلى الهياج أيضا .فالهائج مكتئب في حالة تنبيه .أن جميع القواعد التي ينبغي مراعاتها في
االكتئاب صحيحة في الهياج .
ال مناص إذن من الطلب إلى المكتئبين أن يقللوا من صرف الطاقة حتى يتسنى لهم أن يجمعوا منها رأس مال .عليهم أن يتعلمون
العيش ( بصورة مؤ قتة ) بالوسائل الموجودة في حوزتهم .عليهم أن يجعلوا مجال حياتهم أقل اتساعا .ان القرارات التي ال بد أن
يتخذها المكتئبون هي ,على الغالب ,صرف هائل للطاقة بالنسبة إليهم .فقد يحدث إذن أن يكون ال مناص لعالم النفس من أن يتخذ
هذه القرارات خالل مدة ما من الزمن .وذلك فإنه يتيح للعالج أن يعطي كامل مفعوله .إنني ال أتصور في الواقع أن يضيء سائق
سيارة ضوء سيارته الكبيرين في الوقت الذي يشحن فيه البطارية ! أليس من الفضل أن يخفف ضوء القنديل في الوقت الذي نصب
فيه الزيت ؟
يكثر الحديث عن التدريب الذي ينبغي أن يخضع له المكتئبون .
ومن البدهي أنه جيدا جدا ! ولكن نسبة كبيرة منهم ,تبلغ التسعين بالمائة ,ال تستطيع متابعة تدريب تدريجي ,ألن التدريب
التدريجي مخصص ألولئك الذين يتمتعون بصحة جيدة ولمن هم في دور النقاهة .
ومن المالحظ مع ذلك ,في علم النفس ,أن المكتئب يبدأ في التصرف لوحده ودون مساعدة أي شخص منذ أن يبدأ ظهور مفعول
العالج العميق ,أي في حوالي نهاية الشهر .والسب في ذلك أن المكتئب يبدأ في تجميع ما كان مبعثرا .فهو يبدأ اذن باالهتمام بما
يحيط به .
وبما أنه يهتم ,فهو يتصرف .ذلك أن التصرف فعل آلي منوط بالقوة التي تم استرجاعها .ومن المالحظ عندئذ أن المكتئب
يستأنف القيام بأعماله المنزلية ,وأفعاله اإلرادية ,والتقرير ,والنظام .ويالحظ كذلك بأنه ينهض باكرا ,ويفقد االهتمام تدريجيا
بكل ما كان يالزمه من قبل .وهذا وضع طبيعي تماما .
18
يتخذ صبغة ال تدعو لالطمئنان كثيرا ,األمر الذي يثير الرعب في نفوسهم ( الخوف من السرطان ,الخوف من السفلس ,
الخ . ). . .
إذن ,ينبغي أن يكون العون ,هنا كذلك مباشرا ,والبد من أن تعرض الوثائق الطبية على الطبية على المريض ( الفحوص
السريرية ,الصور الشعاعية ) وأن تناقش معه .فال مناص من أن يواجه الحقيقة التي تخص اضطراباته الجسمية ,سواء كانت
هذه الحقيقة ايجابية أم سلبية .
هذا مع العمل بأنها سلبية على األغلب .فالمفعول األول للعالج النفساني العميق الذي يزيل معظم هذه االضطرابات ( آالم الرأس ,
أرق ,كوابيس ,الخ ) تقنعه عندئذ .
وستكشف إذن ضروب التبعثر الكبرى للطاقة بعناية .ذلك هدف عالج المكتئب هو توحيد الشخص .
ا ن المقصود هو أن نجمع ,في مركز واحد ,تلك األجزاء المتعددة التي تجذب الشخص في جميع االتجاهات ,أن تمنحه قوة .
لتحق يق ذلك ,فإن الهدف هو أن نستبعد آالف القطع الصغيرة من القوة ,قطع صغيرة تعمل في جميع االتجاهات .
ان العالج النفساني العميق يبحث عن أشياء أيضا .
19