Professional Documents
Culture Documents
الوساطة التربوية
الوساطة التربوية
رشيد بن بيه
ثالثة مالحظات أساسية تبين مدى حاجة المدرسة المغربية إلى نظام للوساطة التربوية ،أولها استمرار لظاهرة الهدر المدرسي
خصوصا في المجال القروي ،والذي يبلغ نسبا مقلقة تصل إلى %20في بعض المناطق القروية في نهاية السلك االبتدائي ،وثانيا
ضعف مردودية المنظومة التربوية المغربية مقارنة مع نظيراتها في دول عربية ومغاربية أخرى مثل تونس واألردن ..كما كشف
ذلك تقرير البنك الدولي حول «إصالح التعليم في الشرق األوسط وشمال إفريقيا» الصادر سنة . 2008ويؤشر عليه كذلك وجود
نسبة هامة من األطفال الذين يعانون من الفشل الدراسي والتكرار ،وضعف التعلمات األساسية في اللغات والعلوم (تقرير المجلس
األعلى للتعليم حول نتائج البرنامج الوطني لتقويم التحصيل الدراسي .)2009وأخيرا تعرف الحياة المدرسية صعودا متناميا للعنف
المدرسي سواء العنف المتبادل بين التالميذ فيما بينهم ،أو العنف الموجه إما لبنايات المؤسسة التعليمية وممتلكاتها أو للمدرسين
.والمدرسات
إن هذه الظواهر الثالثة تستدعى التفكير ،ومن زوايا مختلفة طبعا ،في المشاكل والصعوبات التي يعاني منها التالميذ الذين يعتبرون
أساس العملية التربوية برمتها .ولعل استمرار ،أو باألحرى تزايد حدة بعض هذه المشاكل (ضعف التعلمات األساسية ،العنف
المدرسي ،الغش في االمتحانات )...يدل على محدودية اآلليات التي يتم اتخاذها للحد من تلك الظواهر ألن هذه اإلجراءات غالبا ما
.يتم اقتراحها دون معرفة حقيقية بالمتعلمين ومشاكلهم وحاجياتهم
ونعتقد أن الوساطة التربوية كما هي معمول بها في بعض الدول مثل فرنسا واسبانيا ...من شأنها أن تساعد على تحقيق االندماج
المدرسي واالجتماعي للتالميذ الذين يعانون من مشاكل التوافق المدرسي ،وتحسين جودة التعلمات داخل الفصول الدراسية والحد
من بعض مشاكل المنظومة التربوية .فماهي الوساطة التربوية ؟ ماهي بعض أدوارها االيجابية ؟ من هم المؤهلون للقيام بها ؟
وما هي آليات تأسيسها في المنظومة التربوية المغربية ؟
:في مفهوم الوساطة التربوية وأدوارها 1-
تعرف الوساطة التربوية على أنها « :مجموع المساعدات والدعامات التي يمكن لشخص تقديمها لشخص آخر بهدف جعله قادرا
على ولوج معرفة ما :معارف ،مهارات ،إجراءات العمل ،حلول الخ» .وال يقتصر نظام الوساطة على المجال التربوي
والتعليمي فقط ،بل وجد تطبيقات له في نظام التكوين والتمرس والتدريب داخل المقاوالت من خالل نظام «االحتضان» (أو في
.المجال الحرفي كما كان معموال به ،قديما ،في الطوائف المهنية
وقد توصل مجموعة من علماء النفس والتربية إلى أهمية «الوساطة التربوية» ،سواء تلك التي يقوم بها المدرس أو أي شخص
.آخر له تجارب ومعارف يمكن أن تفيد المتعلم (ة) ،في مجال بناء التعلمات وتحقيق التفاعل االجتماعي والمعرفي بين التالميذ
فقد كشفت أعمال فيكوتسكي ( محمد طه ،الذكاء اإلنساني )2006عن الدور الذي يلعبه الراشد بالنسبة للتلميذ (ة) في عملية
التعلم من خالل مقارنته بين ما يتعلمه لوحده ،ومقدار ما يتعلم هذا األخير أثناء مرافقة شخص راشد له أثناء اكتساب المعارف
والكفايات فالتعلمات التي يكونها الطفل في حالة وجود شخص راشد تفوق تلك التي يقوم ببنائها واكتسابها لوحده .إن هذه
الفرضيات التي اتضح صدقها تجريبيا ،تجعل من عملية حضور «وسيط» بين المتعلم (ة) والمعرفة مسألة ضرورية .ألن جانبا
كبيرا من المعارف والمهارات يتم بناؤها عن طريق االحتكاك بعالم األشخاص الذين يمتلكون تلك المعارف .ونعتقد أن أبحاث فيكو
تسكي في هذا الجانب ،تعتبر من بين األسس النظرية لنظام الوساطة التربوية الذي نقترح ضرورة تبنيه من طرف وزارة التربية
.الوطنية
مدرس ،أو شخص( le tuteurفي نفس المنحى ؛ ذلك أنه اعتبر وصي التلميذ )(Jérome Brunerوقد سار جيروم برونير
لمختلف التعلمات والمهارات والقدرات من ) ( les tutorésيلعب دورا مهما في عملية اكتساب األطفال )أخر يقوم بعملية التعليم
خالل التحفيز والمساعدة والتوجيه الذي يقدمه هذا الوسيط في هذا الجانب ،وركز بالخصوص على التفاعالت السسيوثقافية التي
.تنشأ عن هذه العملية وأهميتها في تكوين المفاهيم لدى المتعلمين
أحد تالميذ بياجيه ،أن Reven Freuerstein ،وفي نفس االتجاه دائما ،المدعم ألهمية وضرورة الوساطة التربوية ،اعتبر
الطفل يتعلم أكثر أثناء مساعدة شخص راشد له .وقد ال يكون بالضرورة هذا الشخص أستاذه (ته) في المدرسة .وإنما يمكن
.لألب المتعلم ،أو األخ األكبر أو أحد أفراد العائلة المتوفر على مستوى تعليمي يفوق مستوى التلميذ أن يقوم بمثل هذا الدور
فمن خالل قراءة جوانب من أعمال هؤالء الباحثين يمكن التأكيد على مجموعة من األدوار االيجابية التي من الممكن أن تنهض بها
الوساطة التربوية من أهمها :بناء الكفايات وتحقيق التعلمات األساسية لدى المتعلمين (ات) من خالل المساعدة التي يقدمها
شخص راشد؛ قد يكون مدرسا أو أبا أو أحد أفراد العائلة أو أحد المتطوعين من جمعيات المجتمع المدني المهتمة بالدعم التربوي
من جهة أولى .وتحقيق التفاعل والصراع السسيومعرفي بين المتعلم (ة) والمعرفة المقدمة له من طرف الشخص المكلف
.بالوساطة التربوية من جهة ثانية .باإلضافة ،طبعا ،إلى فهم حاجيات التلميذ (ة) ومشاكله وإيجاد حلول لها من جهة ثالثة
إن أهم أدوار الوساطة التربوية الحالية ،والملحة في السياق المغربي هي قدرتها على التقليص من حدة الهدر المدرسي ،
والتكرار ،والعنف المدرسي ...وهي الظواهر التي تكشف على أن المدرسة المغربية تجهل أبنائها ،وال تبالي بمشاكلهم وحاجياتهم
االجتماعية والنفسية والعالئقية والتربوية .غير أن تحقيق األهداف المبتغاة من ذلك يتوقف على مجموعة من الشروط القبلية
من ضمنها تأهيل المتدخلين في هذا المجال ،وإحداث آلية للتتبع والتقويم ،وتوفير الموارد )(conditions préalables
الضرورية للمكلفين بهذه المهمة سواء داخل المؤسسات التربوية أو من خارجها مثل جمعيات المجتمع المدني المهتم بقضايا
.التربية والمدرسة المغربية
كما أن الوساطة التربوية تتطلب من «الوسيط» أو «المرافق» نهج األساليب الحديثة في التواصل والتربية .تقوم بالدرجة األولى
على اإلنصات للمتعلم ،ورصد حاجياته في مجال التعلم ،ومساعدته لمعالجة مشاكله داخل المدرسة واألسرة وفي محيطه بشكل
.عام
المتدخلون في مجال الوساطة التربوية ومجاالتها 2-
يعتبر المدرس أهم عناصر نظام الوساطة التربوية ألنه يرافق المتعلم خالل سنة دراسية تمكنه من معرفة البأس بها بشخصية
الطفل ومشاكله والعوائق التي يعاني منها داخل المدرسة (مشاكل بناء التعلمات) واألسرة (مشاكل اجتماعية) ومحيطها (مشاكل
عالئقية وتواصلية مع مؤسسات المجتمع األخرى) .وعلى أساس ذلك ،فإن هذه الوساطة يجب أن تطال ثالثة جوانب أساسية هي
:
أ -بناء التعلمات والكفايات ،ويتطلب ذلك :أن يكون المدرس وسيطا حقيقيا بين المعرفة والتلميذ خالل مختلف عمليات بناء
التعلمات والسهر على نقل المعرفة من إطارها العلمي المحض إلى إطار قابل للتدريس .وهذا الجانب يتوجه بالخصوص إلى
ومن النتائج المتوقعة من خالل نظام الوساطة في هذا المجال (Jean Piaget) .تطوير القدرات والخطاطات المعرفية للتلميذ
...تحقيق التعلمات األساسية لدى المتعلم في مجال العلوم واللغات
ب -تدليل المشاكل االجتماعية والنفسية للمتعلم (ة) ،عن طريق ربط جسور التواصل بين المدرسة والمحيط األسري للتلميذ (ة).
ومساعدته كذلك على االندماج في فضاءات المؤسسة المدرسية مثل النوادي التربوية ...وينتظر من هذا النوع من الوساطة تحقيق
مجموعة من النتائج االيجابية مثل إيجاد حل مشترك ،بين األسرة والمدرسة ،لمشاكل التلميذ ،وتقديم المساعدات الممكنة له ،
..وانخراط التلميذ (ة) في الحياة المدرسية بما تشمله من نوادي بيئية وحقوقية وأنشطة تربوية ورياضية
ج -خلق تفاعل ايجابي بين المتعلمين فيما بينهم وإطالق دينامية تنافسية ايجابية قائمة على التعلم المتبادل فيما بين المتعلمين .
والمهام الموكولة لمنشطي الوساطة التربوية هي تنظيم أنشطة تربوية وفنية ،وتشجيع العمل التشاركي ،وترسيخ العمل
االجتماعي ،وتكريس االنتماء للمدرسة .ويتوقع من خالل هذه المجهودات ،معالجة الكثير من مشاكل المدرسة المغربية مثل
العنف المتبادل بين التالميذ ،والعنف الموجه لبنايات المؤسسة وممتلكاتها ،وتحقيق تنشئة اجتماعية تستجيب لحاجيات المجتمع
...في مجال المواطنة واحترام الحقوق والواجبات
غير أن المدرس (ة) الذي يعتبر وسيطا بالضرورة ،مادامت مهمة التربية والتعليم تستدعي مثل هذه الوساطة ،لن يقدر لوحده
القيام بهذه المهمة ؛ خصوصا في ظل ظروف المدرسة المغربية الراهنة المتسمة بالعديد من اإلكراهات مثل االكتضاض واألقسام
المشتركة ،وعدم توفر القاعات وضعف االستقرار المهني للمدرسين ،والتحفيز المادي والمعنوي ...لهذا من الضروري االنفتاح
على الجمعيات المشتغلة في مجال الدعم التربوي ،ودروس التقوية ،وتوظيف منشطين اجتماعيين (مثال خريجو معهد العمل
االجتماعي بطنجة) ،يعهد إليهم إيجاد الحلول للصعوبات االجتماعية التي تعترض المتعلمين .فمثل هذا العمل سيخفف من حدة
العديد من المشاكل التي تعاني منها المنظومة التربوية مثل الهدر المدرسي ،والعنف المدرسي ،ألنه من الممكن كما بينت التجربة
في مجال التعامل مع األطفال والمراهقين ،أن يتم حل نسبة هامة من المشاكل التي تسبب لهم ( أي لألطفال والمراهقين) الفشل
.الدراسي بإجراءات بسيطة وتدخالت تربوية مالئمة
ولعل إقرار الوساطة التربوية في المجاالت الثالثة السالفة الذكر (بناء التعلمات وتدليل المشاكل االجتماعية للمتعلمين ،وتحقيق
التفاعل االيجابي مع مختلف مؤسسات المجتمع) وذلك بإشراك المتدخلين في تلك الميادين سيساهم في إعادة االعتبار للمدرسة
.كمؤسسة للتكوين والتنشئة االجتماعية ،ويعزز التواصل والثقة بينها وبين المجتمع
اقتراحات لتأسيس نظام الوساطة التربوية في المدرسة المغربية 3-
لم يتم التنصيص على نظام الوساطة في النظام التربوي المغربي بشكل رسمي إال في التعليم الجامعي ،فقد أكد البرنامج
الذي نعتبره بدورنا أحد أهم أشكال الوساطة التربوية .حيث سيتم ،في إطار ) (le tutoratاالستعجالي على أهمية االحتضان
البرنامج االستعجالي « ،تبني نظام للتأطير بالنظير حيث يوكل لطلبة الدكتوراه بمصاحبة الطلبة الجدد الملتحقين بسلك اإلجازة
تيسيرا الندماجهم في الحياة الجامعية وتكييفهم مع نمط اشتغالها» .وهو ما سيسمح لطلبة المستويات العليا بمساعدة زمالئهم
.المسجلين في السنوات األولى الجامعية
أما في مجال التعليم الثانوي واإلعدادي واالبتدائي فال وجود ألي نظام للوساطة التربوية .صحيح أن هناك محاوالت غير محددة
المعالم في إطار االهتمام ب «نظام التوجيه» ،والبعد االجتماعي لبعض األطفال في بعض المناطق (،مشروع تيسير) وفسح المجال
للجمعيات ،من خالل شراكات معينة بتقديم دروس للدعم داخل المؤسسات التعليمية ،وتأسيس بعض مراكز االستماع في مدن مثل
...مراكش ،والدار البيضاء وفاس
وبالرغم مما لعبته تلك التدخالت من أدوار ايجابية ،كما تتجلى في تقليص مشاكل بعض التالميذ والتخفيف من آثارها .فإنها ،لم
تتحول بعد إلى نظام متكامل للوساطة التربوية .ألن هذه المهمة منوطة أساسا بوزارة التربية الوطنية التي يتوجب عليها عقلنة
تدخالتها أوال وتدخالت المجتمع المدني ثانيا .والحرص على استهداف المشاكل الحقيقية التي تواجه المنظومة التربوية .لقد قامت
الحكومة المغربية خالل سنة 2003بدور كبير في هذا المجال عندما وضعت إطارا قانونيا للشراكة بين الدولة والجمعيات (منشور
السيد الوزير األول رقم 7/2003بتاريخ .)27/06/2003وعلى غرار ذلك يتوجب عليها اآلن التفكير في إطار قانوني للوساطة
التربوية قادر على المساهمة في استغالل الرأسمال االجتماعي الذي تمثله جمعيات المجتمع المدني العاملة في مجال التربية .فهذا
.لم يستغل بما فيه الكفاية) (le capital socialالرأسمال
وبالنظر ألهمية الوساطة التربوية في النهوض بجودة التعليم ،ومحاربة ظاهرتي التكرار واالنقطاع عن الدراسي ،كما أشرنا إلى
ذلك سابقا ،وبهدف إشراك المجتمع المدني واألفراد في هذا المشروع الواعد ،نقترح أن تتدخل وزارة التربية الوطنية من خالل
:أربع واجهات أساسة
أ? -الواجهة القانونية :عبر إصدار نص قانوني أو مذكرة تحدد شروط ومقتضيات تفعيل نظام الوساطة التربوية في المدرسة
.المغربية ،وأدوارها ،وآلياتها والمتدخلين في هذا المجال
ب? -وضع برنامج سنوي في هذا المجال :يحدد مكان التدخل والفئات المستهدفة من الوساطة التربوية وأشكال اقتراح المشاريع
.من طرف المتدخلين
ت? -إقرار آليات ومقتضيات والتزامات المتدخلين في هذا المجال من جمعيات وأفراد وفق دفاتر تحمالت محددة ..ذلك أنه ،وإلى
حدود اآلن ال يمكن للجمعيات أن تقوم بأدوار محددة في مجال الوساطة إال في إطار اتفاقيات الشراكة بين الجمعيات والنيابات ،
.الذي يعتبر إطارا محدودا
ث? -تخصيص الموارد المالية واإلمكانيات المادية المالئمة النجاز هذا البرنامج ،وإقرار نظام للتتبع والتقويم على المستوى
.اإلقليمي ومناقشة النتائج التي تم تحقيقها مقارنة مع األهداف المحددة سلفا
إن التفكير في إرساء نظام للوساطة التربوية ،يحمل آفاقا واعدة بالنسبة للمدرسة المغربية .فمن جهة ،سيمكن هذا النظام من
االستفادة من الرأسمال االجتماعي الذي يشكله النسيج الجمعوي المهتم بقضايا التربية والتعليم وما راكمه من تجربة في مجال
الدعم التربوي .ومن جهة أخرى ،من شأن وضع هذا النظام أن يساهم في التقليص من المشاكل التي تعاني منها المنظومة
التربوية مثل الهدر المدرسي ،واالنقطاع عن الدراسة ،كما سيساهم في عقلنة تدخالت وزارة التربية الوطنية في مجال الدعم
التربوي ،والتوجيه ،والمساعدة االجتماعية للتالميذ التي يتم تنفيدها حاليا بشكل عشوائي ،وأخيرا سيساعد على المشروع على
.وضع المدرسة ضمن أولويات المجتمع بشكل عام