You are on page 1of 165

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬

‫شرح العقيدة الطحاوية‬


‫الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي‬
‫مقدمة شرح العقيدة الطحاوية ‪1‬‬
‫يبدأ الشيخ ‪-‬حفظه الله تعالى‪ -‬شرحه بمقدمةٍ مختصرةٍ عن مؤلف العقيدة الطحاوية‬
‫وشارحها ثم يتحدث عن بعض الشبه ويناقشها‪ ،‬ثم يتكلم عن أهمية العقيدة وأهمية‬
‫ط متفرقةٍ عديدة إلى أن بدأ بمقدمة ابن أبي العز‬
‫علم أصول الدين ويتحدث عن نقا ٍ‬
‫رحمه الله تعالى‪.‬‬

‫‪ – 1‬مقدمة‬

‫ن‬
‫م ْ‬‫سَنا و ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن شرور أن ُ ْ‬ ‫ه ونستهديه ونستغفره‪ ،‬وَن َُعوذ ُ باللهِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ست َِعين ُ ُ‬ ‫مد ُهُ وَن َ ْ‬‫ح َ‬ ‫مد َ ل ِل ّهِ ن َ ْ‬ ‫ح ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫إِ ّ‬
‫ه إ ِلّ‬
‫ن َل إ ِل ََ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل فَل َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ه‪ ،‬وَأ ْ‬
‫شهَد ُ أ ْ‬ ‫هادِيَ ل ُ‬ ‫ضل ِ ْ‬
‫ن يُ ْ‬
‫م ْ‬ ‫ه وَ َ‬ ‫لل ُ‬ ‫ض ّ‬ ‫ه فَل ُ‬
‫م ِ‬ ‫ن ي َهْدِهِ الل ُ‬ ‫م ْ‬ ‫مال َِنا‪َ ،‬‬ ‫ت أعْ َ‬ ‫سيئا ِ‬ ‫َ‬
‫ه اللهم علمنا ما ينفعنا‪ ،‬وانفعنا‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫سو‬ ‫ر‬‫و‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫ب‬ ‫ع‬ ‫دا‬ ‫م‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫د‬ ‫ه‬ ‫ْ‬
‫ش‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ري‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫ح‬ ‫ّ‬
‫ُ ََ ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ ّ‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ال ُ َ‬
‫و‬ ‫ه‬ ‫ل‬
‫بما علمتنا‪ ،‬وارزقنا من كرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين‪ ،‬اللهم إنا نعوذ بك من علم‬
‫ب لها‪.‬‬ ‫ل ينفع‪ ،‬ومن قلب ل يخشع‪ ،‬ومن عين ل تدمع‪ ،‬ومن دعوة ل ُيستجا ُ‬

‫ن الله في موضوِع َ‬
‫شرِح هذه العقيدة القيمة المباركة‪ ،‬عقيدة المام أبي جعفر‬ ‫نبدأ ّ بعو ِ‬
‫طحاويّ الزدي المصري الحنفي ‪.‬‬ ‫ال ّ‬

‫• عبرة من حياة الطحاوي‬

‫ن ابن أخت المزني صاحب ال ّ‬ ‫ي َ‬ ‫ّّ‬


‫ي ‪ ،‬ونفع الشافعية‪ ،‬ومع ذلك لما‬ ‫شافِعِ ّ‬ ‫كا َ‬ ‫طحاو ّ‬ ‫المام ال‬
‫بدا له أن الحق في مذهب أبي حنيفة صار عََلى مذهبه‪ ،‬ومع ذلك أيضا ً لم يكن متقيدا ً‬
‫ن ُيفتي بخلفه‪.‬‬ ‫بكل ما ورد في المذهب؛ بل َ‬
‫كا َ‬
‫سئل‪ :‬لماذا تفتي بخلف مذهب أبي حنيفة ‪ ،‬وأنت َ‬
‫عَلى مذهبه؟!!‬ ‫ولما ُ‬

‫َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪) :‬وهل من مقلد إل غبي(‪.‬‬

‫يعني أن رائده العلم وهدفه هو البحث عن الدليل‪ ،‬واتباع الحق مع‬


‫أي إمام كان‪ ،‬وتحت أي شعار‪ ،‬وفي أي كتاب‪.‬‬

‫عَلى سعته في العلم‪.‬‬


‫عاَلى مؤلفات عظيمة تدل َ‬
‫ه تَ َ‬
‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫وله َر ِ‬

‫وقد كتب هذه العقيدة ليبين عقيدة المام أبى حنيفة وتلميذيه أبي‬
‫مد بن الحسن ‪ ،‬وليقول للمسلمين وللحنفية ‪ -‬وهم‬ ‫ح ّ‬
‫م َ‬
‫يوسف و ُ‬
‫أكثر المذاهب الربعة أتباعا ً ‪:-‬‬
‫ن المذهب الذي يدين به‬ ‫إن العقيدة الصحيحة هي هذه العقيدة أيا ً َ‬
‫كا َ‬
‫ن‪ ،‬فإنه ل يجوز له أن يعتقد إل هذه العقيدة‪.‬‬‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫ا ِ‬
‫ثُ ّ‬
‫م بعد ذلك تبقى أحكام الفقه ‪-‬وخاصة الجتهادية منها أو النظرية‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫على أحد أن يتخذ منها ما يشاء متمشيا مع‬ ‫المحضة‪ -‬فل حرج َ‬
‫ً‬
‫القواعد الشرعية والصول العامة مادام أهل لن يجتهد‪.‬‬

‫عبرة من حياة ابن أبي العز‬


‫ه الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ومن العبر التي ينبغي أن نكتسبها من حياة المام ابن أبي العز ‪ :‬أنه َر ِ‬
‫ت ََعاَلى جاهد في الله جهادا ً كبيرا ً من أجل هذه العقيدة‪ ،‬وقد أدى تمسكه بهذه‬
‫ن يسمى" قاضي القضاة‬ ‫العقيدة التي شرحها إ َِلى أن يضطهد ويسجن‪ ،‬مع أنه َ‬
‫كا َ‬
‫ن هذا السم ل يجوز أن ُيسمى به‪.‬‬ ‫" أي أكبر القضاة‪ ،‬وإن َ‬
‫كا َ‬
‫م ظهر‬‫وولي قضاء مصر فكان القاضي الكبر في دولة المماليك‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫ل قصيدة ‪-‬إما أنه قالها أو أنها قيلت له‪-‬‬ ‫ف َ‬
‫قا َ‬ ‫أحد أمراء المماليك َ‬
‫وكان فيها شرك وغلو‪ ، ،‬وفي القرن الثالث وما قبله وبعده كثر‬
‫م والشرك في كلم‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫سول الله َ‬‫الغلو في َر ُ‬
‫الشعراء‪ ،‬فأنكر المام القاضي ابن أبي العز ما في هذه القصيدة‬
‫من الشرك‪ ،‬ولم يبال بأن قائلها من المراء والسرة الحاكمة‬
‫المملوكية‪ ،‬وفي الحديث )إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند‬
‫سلطان جائر( ‪ ،‬فلما قال كلمة الحق في هذه القصيدة وبّين ما‬
‫فيها من الشرك؛ أدى ذلك إ َِلى أن يعزل من منصبه ويضطهد ويفقد‬
‫الجاه‪.‬‬
‫ولكنه ‪ -‬وهذا هو الهم ‪ -‬لم يفقد العقيدة الصحيحة التي هي أغلى‬
‫سان‪ ،‬فمهما فقد من أعراض الدنيا ومناصبها ومتاعها‬ ‫لن َ‬
‫ما يملك ا ِ‬
‫ة‪ ،‬إل إذا فقد العقيدة الحقة التي يدين الله‬
‫د حقيق ً‬
‫فإنه ليس بفاق ٍ‬
‫عاَلى بها‪.‬‬‫وت َ َ‬ ‫ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬

‫• شبهات حول تعيين شارح الكتاب‬


‫قا َ‬
‫ل‪ :‬إن شارح هذه العقيدة مجهول؟‬ ‫وقد أثير سؤال وهو أنه ي ُ َ‬
‫والحقيقة أن هناك لبسا ً حصل في نسبة هذه العقيدة‪ ،‬سببه أن‬
‫بعض مخطوطاتها لم يكن مكتوبا ً عليها اسم المؤلف‪.‬‬

‫ه‪ ،‬هو أول من طبع هذه العقيدة‬‫ه الل ّ ُ‬ ‫م ُ‬‫ح َ‬


‫والشيخ أحمد شاكر َر ِ‬
‫على نسخة عثر عليها في مكتبة الحرم في‬ ‫َ‬ ‫‪-‬الطبعة القديمة ‪ -‬بناء َ‬
‫مكة المكرمة ‪ ،‬ولم يكن عليها اسم المؤلف‪ ،‬لكن العقيدة نفسها‬
‫كانت معروفة أنها للمام ابن أبي العز ‪ ،‬وأنه الذي شرحها شرحا ً‬
‫سلفيًا‪.‬‬
‫• الدلة على أن مؤلف شرح الطحاوية هو ابن أبي العز‬
‫‪ -1‬أن الزبيدي في شرح إحياء علوم الدين " نقل قسما ً كبيرا ً من هذه العقيدة‬
‫ونسبها إ َِلى ابن أبي العز ‪ ،‬والزبيدي من أكبر العلماء الموثوق بهم إحاطة وعلما ً‬
‫ن في مصر ‪ ،‬حيث اجتمع له أكبر قدر‬ ‫بالرجال وبالمخطوطات ‪ -‬ل سيما وقد َ‬
‫كا َ‬
‫ن قبل قدوم الحملت الستعمارية التي نهبت مكتباتنا‬ ‫كا َ‬‫من المخطوطات ‪ -‬وهذا َ‬
‫وثرواتنا العلمية‪ ،‬وأودعتها في خزائن ومكتبات أوروبا‪ .‬واعتمادا ً عََلى هذا رجح‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫ه أنها لهذا الشارح‪.‬‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫الشيخ أحمد شاكر َر ِ‬
‫وممن أثار ضد هذا الشارح الشبهات المبتدعة الذين تعرض لهم‪،‬‬
‫فإنه تعرض للعقائد الباطلة كـالصوفية والشعرية والماتريدية‬
‫ء أن هذه العقيدة‬
‫ؤل ِ‬ ‫والمعتزلة والجهمية ‪ ،‬فكان طبيعيا ً أن ينشر َ‬
‫ه ُ‬
‫ليست ذات أهمية لن مؤلفها مجهول‪.‬‬

‫‪ -2‬وجدت المخطوطات في تركيا ‪-‬النسخ التركية‪ -‬مكتوب عليها اسم المؤلف‬


‫بوضوح‪.‬‬

‫سبب إخفاء اسم المصنف‬


‫والنسخ التي لم يوجد عليها اسم المؤلف يمكن تفسيرها عََلى ضوء المحنة التي‬
‫مرارا ً ومات في السجن‪،‬‬‫سجن ِ‬ ‫ة ‪-‬مث ً‬
‫ل‪ُ -‬‬ ‫مي ّ َ‬
‫سلم ِ اْبن ت َي ْ ِ‬ ‫شي ْ َ‬
‫خ ال ِ ْ‬ ‫ن َ‬
‫حدثت له؛ ل ّ‬
‫وكثير من العلماء الذين تصدوا في تلك الفترة لمقاومة الشرك ذهبوا ضحية تلك‬
‫المقاومة وذلك الجهاد‪ ،‬فكان هناك اضطهاد أو نوع من الضطهاد لمن يدين‬
‫ل‪ ،‬ومن السلطين ثانيًا‪.‬‬
‫بالعقيدة الصحيحة في تلك اليام من علماء السوء أو ً‬
‫فنتيجة لذلك ل ُيستغرب أن توجد نسخ من العقيدة ليس مكتوبا ً‬
‫عليها اسم المؤلف‪ ،‬لنه في فترة الضطهاد التي يتعرض لها بعض‬
‫العلماء تحمل كتبهم‪ ،‬ول يكتب عليها أسماؤهم‪ ،‬وهذه الحال حصلت‬
‫ة‪.‬‬
‫مي ّ َ‬
‫ن ت َي ْ ِ‬
‫سلم ِ اب ْ ُ‬
‫خ ال ِ ْ‬ ‫لبعض كتب َ‬
‫شي ْ ِ‬
‫نل‬ ‫ويكفي طالب العلم الذي حوى هذه العقيدة أن يقرأها وإن َ‬
‫كا َ‬
‫يعرف من هو مؤلفها‪ ،‬والشاهد أنه ينبغي أن ل نغفل الواقع الذي‬
‫ن يعيشه العالم أثناء كتابته للعلم‪ ،‬والظروف التي كانت تلم به‬ ‫َ‬
‫كا َ‬
‫وما يتعرض له من الذى في كتابته أو في وصول علمه إلينا‪.‬‬

‫عاَلى أن‬ ‫ه الل ّ ُ‬


‫ه تَ َ‬ ‫م ُ‬ ‫عَلى أن المؤلف هو ابن أبي العز َر ِ‬
‫ح َ‬ ‫‪ -3‬ومن الدلة َ‬
‫عَلى‬
‫السخاوي ‪ -‬وهو المام المؤرخ والمحدث المعروف ‪ -‬كتب ذيل ً َ‬
‫عاَلى سماه ذيل تاريخ‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫ه تَ َ‬ ‫م ُ‬‫ح َ‬‫تاريخ السلم للمام الذهبي َر ِ‬
‫مل الشخصيات التي جاءت بعد وفاة الذهبي أو توفيت‬ ‫السلم ‪ ،‬وك ّ‬
‫ء العلماء وأّرخ لهم‪ ،‬ومنهم‬ ‫ؤل ِ‬‫ه ُ‬‫قريبا ً من وفاته‪ ،‬فأكمل أسماء َ‬
‫المام ابن أبي العز‪.‬‬
‫وهذه الصورة من كتاب السخاوي موجودة في نسخة مقدمة الكتاب‬
‫مد ناصر الدين اللباني ‪ .‬يقول‪" :‬وفي ذي‬
‫ح ّ‬
‫م َ‬
‫من تحقيق الشيخ ُ‬
‫القعدة العلمة ‪-‬يعني توفي العلمة‪ -‬الصدر علي بن العلء علي بن‬
‫مد بن أبي العز الدمشقي قاضيها ‪-‬يعني قاضي دمشق‬ ‫ح ّ‬
‫م َ‬
‫مد بن ُ‬
‫ح ّ‬
‫م َ‬
‫ُ‬
‫ّّ‬
‫ي "‪.‬‬
‫‪ -‬الحنفي شارح عقيدة الطحاو ّ‬
‫وبذلك لم يبق هناك أي شبهة يصح أن تثار حول مؤلف الكتاب‪ ،‬على‬
‫هم في أي كتاب هو محتواه ومضمونه‪،‬‬ ‫أننا نعلم جميعا ً أن الذي ي ُ‬
‫لكن المبتدعة قد يشككون في المؤلف ليصلوا بذلك إ َِلى التشكيك‬
‫ه لم يبق هناك أي ريب في أن هذا‬ ‫مدُ ل ِل ّ ِ‬ ‫في الكتاب نفسه‪ ،‬وإل فال ْ َ‬
‫ح ْ‬
‫هو المؤلف‪.‬‬
‫عَلى صحة نسبة الكتاب أنه في بعض المواضع‬ ‫‪-4‬ومن الدلة َ‬
‫‪-‬وستأتي معنا إن شاء الله‪ -‬يقول‪ :‬وقال شيخنا الحافظ ابن كثير ‪،‬‬
‫ن من الخلص والخيرة في تلميذ‬ ‫ومعروف أن ابن أبي العز َ‬
‫كا َ‬
‫ه ‪-‬صاحب التفسير المشهور المتداول‪-‬‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫الحافظ ابن كثير َر ِ‬
‫ة‬
‫مي ّ َ‬
‫ن ت َي ْ ِ‬
‫سلم ِ اب ْ ُ‬
‫خ ال ِ ْ‬ ‫وكذلك النصوص الكثيرة التي نقلها عن َ‬
‫شي ْ ِ‬
‫ن القيم ‪ ،‬مع أنه لم يشر إليهما‪ ،‬والشيخ عبد‬ ‫سلم ِ اب ُ‬
‫خ ال ِ ْ‬ ‫و َ‬
‫شي ْ ِ‬
‫كد بعض هذه الحالت‪.‬‬ ‫الرزاق عفيفي اطلع وأ ّ‬

‫حقيقة العقيدة السلفية‬


‫ة‪ -‬عقيدة إجماعية ليست‬ ‫ماعَ ِ‬ ‫سن ّةِ َوال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫هل ال ّ‬ ‫هذه العقيدة السلفية ‪-‬عقيدة أ ْ‬
‫حن َْبل ؛ بل هي عقيدة الصدر‬ ‫َ‬
‫حمد ُ ُبن َ‬ ‫ة ول عقيدة ابن القيم ول أ ْ‬ ‫مي ّ َ‬
‫عقيدة اْبن ت َي ْ ِ‬
‫الول‪ ،‬عقيدة السلف الصالح جميعًا‪.‬‬
‫ذب ورّتب‬ ‫ة جمع كثيرا ً من النقول‪ ،‬وه ّ‬ ‫مي ّ َ‬
‫سلم ِ اْبن ت َي ْ ِ‬
‫خ ال ِ ْ‬ ‫ولكن َ‬
‫شي ْ َ‬
‫وخاض في قضايا كلمية حدثت بعد الصدر الول‪ ،‬فأجاد في رد‬
‫الشبهات وعرض المسائل‪.‬‬

‫سلم ِ اْبن‬
‫خ ال ِ ْ‬ ‫وتكون المسألة هي عقيدة السلف من قديم‪ ،‬لكن َ‬
‫شي ْ َ‬
‫ة ُيحسن عرضها وُيحسن الدفاع عنها بعرض الشبهات الواردة‬ ‫مي ّ َ‬
‫ت َي ْ ِ‬
‫عليها‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫م نقضها شبهة شبهة‪ ،‬وكذا ابن القيم ‪.‬‬

‫ن يعانيه ابن أبي العز لم يكن من‬ ‫فنتيجة للعصر والضغط الذي َ‬
‫كا َ‬
‫المصلحة أن يشير إليهما‪.‬‬

‫ة فهو باطل‪،‬‬ ‫فالمبتدعة ينظرون إ َِلى أن أي كلم يقولهاْبن ت َي ْ ِ‬


‫مي ّ َ‬
‫وهذا من أكبر الجهل وأرذل أنواع التعصب‪.‬‬

‫ة ‪...‬ردوه‪ ،‬وإذا رأوا كتابا ً من كتب اْبن‬


‫مي ّ َ‬
‫فكان إذا قيل قال اْبن ت َي ْ ِ‬
‫ة ‪ ...‬لم يقبلوه إطلقًا؛ بحيث أنك لو جئت إ َِلى مسألة ولم تذكر‬ ‫مي ّ َ‬
‫ت َي ْ ِ‬
‫ة‪.‬‬
‫مي ّ َ‬
‫اْبن ت َي ْ ِ‬
‫فقلت‪ :‬قال بعض المحققين؛ لوجدت قبول ً ولقيل‪ :‬هذا التحقيق‬
‫جيد‪.‬‬
‫فهنا تجلت مهارة الشيخ القاضي ابن أبي العز ‪ ،‬بأنه راعى جانب‬
‫عَلى جانب المانة العلمية من العزو إليهما‪.‬‬
‫المصلحة الشرعية َ‬
‫سبب اختيار عقيدة السلف‬
‫ة ل يختارها طالب العلم تشهيًا‪،‬‬ ‫ماعَ ِ‬ ‫سن ّةِ َوال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ل ال ّ‬
‫عقيدةُ السلف أو عقيدةُ أهْ ِ‬
‫ه وَت ََعاَلى‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫وإنما هي العقيدة التي يجب أن تعتقد‪ ،‬ول يجوز أن يتعبد لله ُ‬
‫بغيرها‪.‬‬
‫نقول ذلك واثقين؛ لن هذا الحكم شرعي قطعي ل يجوز لحد أن‬
‫ة كل‬
‫ف ‪-‬بإذن الله‪ -‬لزال ِ‬
‫ُيخالف فيه‪ ،‬ولدينا من الدلة عليه ما هو كا ٍ‬
‫ت العظيمة‬‫ل افتراء‪ ،‬فهذه العقيدة لها من المميزا ِ‬‫شبهة‪ ،‬ودحض ك ِ‬
‫ما يؤهلها ويجعلها العقيدة الوحيدة‪ ،‬التي ل يجوز أن نتعبد بغيرها‬
‫ول ُيعتقد غيرها‪.‬‬
‫من خصائص العقيدة السلفية‬
‫أنها العقيدة الوحيدة الربانية ‪-‬ربانية المصدر‪ -‬وكل عقيدة غير عقيدة السلف تجد‬
‫مصادرها إما من كلم اليونان ‪ ،‬وإما من كلم ما يسمون بالحكماء القدماء‪ ،‬وإما‬
‫من كلم دعاة البدعة والضللة‪ ،‬إل هذه العقيدة فإنها نقية صافية ليس فيها عن‬
‫أحد ول عن بشر إل الفهم الذي يفهمه بعض العلماء من نصوص الوحي‪،‬‬
‫فمصدرها هو الوحي‪.‬‬
‫فكما أن السلم هو الدين الرباني الوحيد في الرض الذي مصدره‬
‫الوحي‪ ،‬ولكن يجتهد العلماء في التفريعات في بعض الفروع‬
‫عَلى ضوء الصول المنزلة‪ ،‬فكذلك عقيدة السلف‬
‫العملية ليطبقوها َ‬
‫هي بأصولها العامة‪ ،‬عقيدة ربانية مصدرها الوحي؛ لكن تجد بعض‬
‫المسائل ُيجتهد فيها من خلل هذه الصول التي هي ربانية‬
‫المصدر‪.‬‬

‫ولهذا قيل‪ :‬إن أهل السنة في أهل السلم مثل أهل السلم في‬
‫صّلى‬
‫سائر الملل‪ ،‬فالعقيدة السلفية هي كتاب الله وسنة رسوله َ‬
‫سل ّ َ‬
‫م كما فهمه الجيل الول‪ ،‬فهي تعبر عن حقيقة‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬
‫الل ُ‬
‫السلم‪ ،‬فكل ميزة من ميزات السلم فهي في هذه العقيدة‪.‬‬

‫وهي عقيدة إجماعية‪ .‬فكل العقائد الخرى عقائد أشخاص وأفراد‪،‬‬


‫من هو أول‬ ‫فالعتزال يعرف بالتاريخ العام المحايد؛ وذلك بمعرفة َ‬
‫من أنشأ مذهب العتزال وكذا الشعرية ‪ ،‬بل ونأخذ القضايا العلمية‬
‫ل‪ -‬فنعرف من هو أول من قال بالكلم النفسي‪ ،‬وأول من قال‬ ‫‪-‬مث ً‬
‫بالكسب في القضاء والقدر‪ ،‬فنعرف بالتاريخ المحايد العام متى‬
‫ه‪ -‬لنها هي نفس‬ ‫مدُ ل ِل ّ ِ‬
‫ح ْ‬‫بدأت هذه العقيدة‪ ،‬إل عقيدة السلف ‪-‬وال ْ َ‬
‫م وفهم الصحابة‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫ال ُ‬
‫قْرآن والسنة وتربية النبي َ‬
‫رضوان الله عليهم‪ ،‬فنجد هذا القول في كتاب الله وفي سنة‬
‫هل‬‫م‪ ،‬ول يوجد بين أصول مذهب أ ْ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫رسوله َ‬
‫ة أي أصل أبدا ً حدث بعد هذه القرون المفضلة‪ ،‬أو‬ ‫ع ِ‬
‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ة َ‬
‫سن ّ ِ‬
‫ال ّ‬
‫حدث من غير الكتاب والسنة‪ ،‬فهي إذا ً عقيدة إجماعية‪.‬‬

‫أما غيرها فهي عقائد أشخاص وأفراد قد يكون لديهم من الذكاء‬


‫والمتياز الذهني والتعمق العقلي الشيء الكثير‪ ،‬لكن يخالفهم في‬
‫عقلهم من هو مثلهم عقل ً وفهمًا‪.‬‬

‫بل كثير من مؤسسي العقائد البدعية نشؤوا وماتوا مقهورين‬


‫جاءَ ببدعة نفي الصفات قتل‪.‬‬
‫محتقرين‪ ،‬فإن الجعد بن درهم الذي َ‬
‫وقال خالد بن عبد الله القسري وهو من ولة بني أمية‪ :‬أيها‬
‫ن انحروا ضحاياكم تقبل الله منكم‪ -‬فإني مضح بـالجعد بن‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫درهم ‪ ،‬فإنه أنكر أن الله كّلم موسى تكليمًا‪ ،‬وذبحه ونحره يوم‬
‫ن يومئذ ينظرون‪ ،‬وارتاحت صدورهم لذلك‪ .‬وهذا‬ ‫مو َ‬
‫سل ِ ُ‬ ‫النحر‪ ،‬وال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫الرجل أصل نشأة تعطيل )نفي( الصفات‪.‬‬
‫ل كما ُ‬
‫قت ِ َ‬
‫ل الجعد ‪ ،‬حتى لما جيء به‬ ‫وتلميذه الجهم بن صفوان ُ‬
‫قت ِ َ‬
‫عَلى شرطة بني أمية في خراسان َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪ :‬ل‬ ‫إ َِلى سلم بن أحوز وكان َ‬
‫تقتلني أرجوك؟!!‬
‫ف َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪ :‬والله يا جهم ما أقتلك لنك ذو شأن في السياسية أو‬
‫المعارضة ضد الدولة‪ ،‬لكن بلغتني عنك أقوال أقسمت بالله إن‬
‫ن عنقك‪.‬‬‫مكنني الله منك لضرب ّ‬
‫وهو الذي أسس العقيدة الجهمية ‪.‬‬

‫وأيضا ًعبد الله بن سعيد بن كلب الذي أسس عقيدة الكلبية‬


‫والتزمها الشعري في الفترة الثانية من حياته قبل أن يرجع إ َِلى‬
‫ة‪.‬‬‫ع ِ‬
‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ة َ‬
‫سن ّ ِ‬
‫هل ال ّ‬
‫مذهب أ ْ‬

‫وكذاالحارث المحاسبي وكان له ميل إ َِلى التصوف والكلم‪ ،‬أمر‬


‫حن َْبل بهجرهما فهجرا‪ ،‬ولم يكن يقربهما من طلب‬ ‫َ‬
‫حمدُ بن َ‬‫المام أ ْ‬
‫العلم إل القليل النادر؛ لهجر علماء السنة لهم‪ ،‬وعلى رأسهم‬
‫مد ‪.‬‬ ‫َ‬
‫ح َ‬‫المام أ ْ‬
‫وكذلك عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ‪ ،‬وأمثالهم ممن أسسوا‬
‫عَلى القدح والطعن‬
‫مذهب العتزال‪ ،‬اتفقت كتب الجرح والتعديل َ‬
‫فيهم‪.‬‬
‫فأي عقيدة غير عقيدة السلف الصالح إنما هي محدثة بعد القرون‬
‫المفضلة أو في أثنائها‪ ،‬وكانت محتقرة ومهجورة من علماء وأئمة‬
‫الدين‪.‬‬

‫ن الئمة‬
‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫ومنذ القرن الثالث تقريبا ً إ َِلى اليوم‪ ،‬يتبع أكثر ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫ي والمزني والسفرائيني‬ ‫ع ّ‬
‫ف ِ‬ ‫الربعة‪ ،‬وبطبيعة الحال فإن ال ّ‬
‫شا ِ‬
‫والصبهاني الذي ألف كتاب بيان الحجة ‪ ،‬علماء وراء علماء‪،‬‬
‫عَلى مذهب‬ ‫ي ‪ ،‬كلهم َ‬ ‫ع ّ‬‫ف ِ‬ ‫وطبقات وراء طبقات‪ ،‬في مذهب ال ّ‬
‫شا ِ‬
‫ة‪.‬‬
‫ع ِ‬
‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ة َ‬
‫سن ّ ِ‬
‫هل ال ّ‬
‫أ ْ‬

‫ة‬
‫سن ّ ِ‬‫ل ال ّ‬ ‫عَلى مذهب أ ْ‬
‫ه ِ‬ ‫ن َ‬
‫كا َ‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫وكذلك تجد المام أبي حنيفة َر ِ‬
‫م‬ ‫مد بن الحسن الشيباني وأبو يوسف كذلك‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫ح ّ‬
‫م َ‬
‫ة ‪ ،‬وكان ُ‬
‫ع ِ‬‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫َ‬
‫ّّ‬
‫ي الذي وضع متن هذه العقيدة وهو من‬ ‫ّ‬ ‫طحاو‬ ‫ال‬ ‫جعفر‬ ‫أبو‬ ‫المام‬ ‫ء‬
‫َ َ‬‫جا‬
‫الحنفية‪.‬‬

‫وهكذا كثير ممن ينتمي إ َِلى مذهب أبي حنيفة وهم من أئمة‬
‫عَلى هذه العقيدة‪.‬‬‫المذهب هم َ‬

‫عَلى مذهب‬ ‫م مذهب المام مالك وهو إمام أهل الثر جميعًا‪ ،‬وهو َ‬ ‫ثُ ّ‬
‫ة ‪-‬ولله الحمد‪ -‬وتلميذه كـابن القاسم وابن‬ ‫ع ِ‬‫ما َ‬ ‫ج َ‬‫وال ْ َ‬
‫ة َ‬ ‫سن ّ ِ‬
‫ل ال ّ‬ ‫ه ِ‬ ‫أ ْ‬
‫م من بعدهم كـابن عبد البر وهو من أكبر علماء‬ ‫الحسن وأمثالهم‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫هل‬‫عَلى مذهب أ ْ‬ ‫المغرب وكتبه معروفة ومشهورة‪ ،‬كانوا كلهم َ‬
‫ة‪.‬‬ ‫ع ِ‬‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ة َ‬
‫سن ّ ِ‬‫ال ّ‬
‫َ‬
‫ة ‪ -‬وكذلك أتباعه استمروا‬ ‫ع ِ‬
‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ة َ‬
‫سن ّ ِ‬‫هل ال ّ‬ ‫مد ‪-‬إمام أ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫ثُ ّ‬
‫م المام أ ْ‬
‫ة إ َِلى القرن العاشر وربما إ َِلى‬ ‫ع ِ‬ ‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ة َ‬ ‫سن ّ ِ‬
‫هل ال ّ‬‫عَلى منهج أ ْ‬ ‫َ‬
‫اليوم‪.‬‬

‫وهكذا نجد المامالشوكاني والصنعاني وابن الوزير وأمثالهم من‬


‫علماء الزيدية ‪ ،‬لما توسعوا في العلم وتبحروا‪ ،‬انتقلوا من الزيدية‬
‫إلى مذهب السلف ‪.‬‬

‫فالشاهد أن هذه العقيدة إجماعية من عدة نواحي‪:‬‬

‫أ‪ -‬أنها لم يكن غيرها في القرون الولى‪ ،‬وما وجد في تلك القرون‬
‫من عقيدة فاسدة فإنها مرذولة مردودة؛ لن أكثر علماء المة‬
‫عَلى‬‫كأصحاب المهات الست ‪=> ،‬حتى أئمة اللغة الكبار كانوا َ‬
‫ة ‪-‬ولله الحمد‪.-‬‬
‫ع ِ‬
‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ة َ‬
‫سن ّ ِ‬
‫هل ال ّ‬
‫مذهب أ ْ‬

‫ن‪،‬‬
‫مو َ‬
‫سل ِ ُ‬ ‫ب‪ -‬ولنها العقيدة الوحيدة التي يمكن أن يجتمع عليها ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫ن شرعا ً ودينا ً ول يقبل غيرها‪،‬‬ ‫مو َ‬
‫سل ِ ُ‬ ‫والتي يجب أن يجتمع عليها ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫ل‪ ،‬كما قال‬ ‫كما ل تزال هي العقيدة التي تجمع آخرا ً كما جمعت أو ً‬
‫ه‪" :‬ل يصلح آخر هذه المة إل بما صلح به‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫المام مالك َر ِ‬
‫أولها" فآخر هذه المة إن أرادوا الجتماع والنصر والتمكن‬
‫عاَلى لعباده‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫والستخلف في الرض‪ ،‬الذي جعله الله ُ‬
‫الصالحين من الجيل الول‪ ،‬فعليهم بهذه العقيدة نفسها‪ ،‬فإنها‬
‫‪-‬بإذن الله‪ -‬هي الوحيدة الكفيلة بذلك ول شيء غيرها‪.‬‬

‫ج‪-‬وهي عقيدة فطرية سليمة ‪-‬ولله الحمد‪ -‬فكل مسلم يقرأ كتاب‬
‫ل يؤمن بها بالبداهة وبالفطرة‪ ،‬فالعقيدة السلفية‬ ‫ج ّ‬‫و َ‬‫عّز َ‬
‫الله َ‬
‫ة ‪ -‬في اليمان‪ ،‬تكتفي باليمان المجمل‬
‫ع ِ‬
‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ة َ‬
‫سن ّ ِ‬
‫ل ال ّ‬
‫ه ِ‬‫‪-‬عقيدة أ ْ‬
‫فيمن ل يستطيع اليمان المفصل‪.‬‬

‫قْرآن أو يسمعه بالبداهة‬ ‫وهذا اليمان المجمل يحصل لمن يقرأ ال ُ‬


‫والفطرة‪ ،‬لنه دين الجميع وقد أنزله الله لجميع البشر‪ ،‬فلم ينزله‬
‫لعلماء الكلم المتعمقين المكذبين‪ ،‬الذين يكتبون الوراق‬
‫عاَلى لكل الناس‪،‬‬
‫والصفحات التي ل يفهمها أحد‪ ،‬وإنما أنزله الله ت َ َ‬
‫للبدوي الجاهل الذي في الصحراء‪ ،‬وللعالم الكيميائي أو الفلكي‬
‫المتخصص‪ ،‬فيلبي حاجة الفطرة ويتفق معها‪.‬‬

‫عَلى وضوحها أن أعداء العقيدة السلفية ينكرون قضايا‬ ‫ومما يدل َ‬


‫دعون غموضها وهي واضحة‬ ‫في الصفات وفي المباحث المهمة وي ّ‬
‫ش‬
‫عْر ِ‬‫عَلى ال ْ َ‬
‫ن َ‬
‫م ُ‬ ‫للعوام فمثل ً إذا قرأ العامي أو سمع القرآن‪ :‬الّر ْ‬
‫ح َ‬
‫وى ]طه‪[5 :‬‬ ‫ست َ َ‬
‫ا ْ‬
‫عَلى العرش؟‬
‫وتقول له‪ :‬هل الرحمن َ‬

‫فسيقول‪ :‬نعم‪.‬‬

‫عَلى باله استولى أبدًا‪.‬‬


‫ول يخطر َ‬

‫عَلى باله أن يقول‪ :‬إنه ل داخل العالم‬


‫وأعقد من ذلك‪ ،‬أنه ل يخطر َ‬
‫ول خارجه ول يمينه ول شماله ول خلفه ول قدامه كما هي عقيدة‬
‫الشعرية‪.‬‬

‫وفي قضية اليمان تقول المرجئة والخوارج معًا‪ :‬إن اليمان ل يزيد‬
‫ول ينقص؛ ولذلك تقول الخوارج من ارتكب الكبيرة كفر‪ ،‬لنه مادام‬
‫أنه نقص من اليمان شيء فقد ذهب كله‪.‬‬

‫وبالمقابل قالت المرجئة ‪ :‬مادام أن الزاني يزني ويبقى مؤمنًا‪،‬‬


‫فاليمان ل ينقص إل بالكفر‪.‬‬

‫جاءَ‬‫ة فاليمان عندهم يزيد وينقص‪ ،‬فإذا َ‬ ‫ع ِ‬


‫ما َ‬‫ج َ‬‫وال ْ َ‬ ‫ة َ‬
‫سن ّ ِ‬
‫هل ال ّ‬
‫وأما أ ْ‬
‫مانا‬‫مُنوا ِإي َ‬
‫نآ َ‬ ‫دادَ ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫وي َْز َ‬
‫َ‬ ‫عاَلى‪:‬‬
‫وت َ َ‬
‫ك َ‬‫أحد العوام يقرأ قول الله ت ََباَر َ‬
‫هدى ]محمد‪ [17:‬فبالبداهة‬ ‫م ُ‬
‫ه ْ‬‫وا َزادَ ُ‬
‫هت َدَ ْ‬‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬‫وال ّ ِ‬‫َ‬ ‫]المدثر‪[31:‬‬
‫والفطرة دون أن يلقن من ذلك شيء‪ ،‬سيقول‪ :‬اليمان يزيد‪.‬‬
‫وكذلك القدر ‪-‬وهو من أكبر المباحث التي يخوض فيها الّناس من‬
‫كل مذهب ويؤلف فيها المؤلفات الطويلة العريضة التي ل تسمن‬
‫ن إ ِّل‬
‫ءو َ‬ ‫ما ت َ َ‬
‫شا ُ‬ ‫و َ‬
‫َ‬ ‫ول تغني من جوع‪ -‬كل إنسان يقرأ قوله تعالى‪:‬‬
‫َ‬
‫سان‪ [30 :‬إذا سئل هل أنا لي مشيئة وإرادة؟‬ ‫لن َ‬ ‫شاءَ الل ّ ُ‬
‫ه ]ا ِ‬ ‫ن يَ َ‬
‫أ ْ‬
‫َ‬
‫ه‬‫شاءَ الل ّ ُ‬
‫ن يَ َ‬‫ن إ ِّل أ ْ‬ ‫ءو َ‬ ‫ما ت َ َ‬
‫شا ُ‬ ‫و َ‬
‫َ‬ ‫فسيقول‪ :‬نعم‪ ،‬يقول تعالى‪:‬‬
‫عاَلى له مشيئة‪.‬‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫سان‪ ،[30 :‬فأنت لك مشيئة والله ُ‬ ‫لن َ‬
‫]ا ِ‬
‫ومن هنا نقول‪ :‬إن آيات وأحاديث الصفات وأصول العقيدة جملة‪،‬‬
‫ن‬ ‫ليست من المتشابه؛ بل هي من المحكم الواضح الجلي‪ .‬وإن َ‬
‫كا َ‬
‫في بعضها ما قد ل يفهمه إل أولو العلم أو بعض طلبة العلم‪ ،‬لكنها‬
‫عّز‬
‫بالجملة من المحكم‪ ،‬وأما الفهم فتتفاوت الفهام بما يقدر الله َ‬
‫عَلى ذلك‪.‬‬
‫ل لكل إنسان من معرفة اللغة والهلية َ‬‫ج ّ‬
‫و َ‬
‫َ‬
‫عاَلى بهذه‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫فهذه المميزات وغيرها تجعلنا جميعا ً ندين الله ُ‬
‫ل بها دون غيرها‪،‬‬ ‫ج ّ‬‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫العقيدة دون غيرها‪ ،‬ونتعلمها ونتعبد الله َ‬
‫وإن تعلمنا غيرها فمن باب معرفة الباطل ليجتنب ل من باب‬
‫معرفته ليعتقد‪.‬‬

‫م كما‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬


‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬‫وحسبنا ما في هذه العقيدة‪ ،‬فإن النبي َ‬
‫ه‬‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬ ‫ض َ‬‫مَر َر ِ‬ ‫ع َ‬‫ي لما رأى في يد ُ‬ ‫سائ ِ ّ‬
‫في الحديث الذي رواه الن ّ َ‬
‫ن موسى بن‬ ‫كا َ‬ ‫ل‪) :‬أوقد فعلتموه‪ ،‬والله لو َ‬ ‫صحيفة من التوراة َ‬
‫قا َ‬
‫عمران حيا ً ما وسعه إل اتباعي( ‪ ،‬ولما فتح سعد بن أبي وقاص‬
‫ن كسرى‬ ‫كا َ‬‫المدائن ‪-‬مدائن كسرى ‪ -‬وجدوا من الكتب الضخمة التي َ‬
‫مر رضى الله‬ ‫ع َ‬ ‫يحتفظ بها في سائر العلوم والفنون‪ ،‬فكتبوا إ َِلى ُ‬
‫ن أو أن نستفيد منها؟‬ ‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫قاُلوا‪ :‬هل ترى أن ننقلها إ َِلى ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫و َ‬
‫عنه َ‬
‫ن فيها من شر فليرحنا الله‬ ‫ل‪ :‬أحرقوها أو أغرقوها‪ .‬فما َ‬
‫كا َ‬ ‫قا َ‬ ‫ف َ‬
‫ن فيها من خير فقد أغنانا الله بما هو أعظم منه‪،‬‬‫كا َ‬‫منه‪ ،‬وما َ‬
‫مدُ ل ِل ّ ِ‬
‫ه‪.‬‬ ‫ح ْ‬‫وال ْ َ‬
‫عاَلى‪ ،‬أن‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬
‫فل نحتاج في مصدر ديننا‪ ،‬وفي معرفة ربنا ُ‬
‫م وأصحابه‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫ن النبي َ‬ ‫نتلقى من غير ما َ‬
‫كا َ‬
‫يأخذونه‪ ،‬وهو الوحي‪.‬‬

‫سان‬‫لن َ‬
‫فالمسألة خطيرة‪ ،‬لنها ليست قضية رأي وعقل يفكر به ا ِ‬
‫ل‪ ،‬فمن أراد الحق‪،‬‬ ‫ج ّ‬
‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫ويختار؛ بل هي قضية اتباع وتسليم لله َ‬
‫عاَلى بالحق فعليه بهذه العقيدة الجماعية‪،‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫والدين لله ُ‬
‫التي ل يجوز الخروج عليها‪.‬‬

‫ن لَ ُ‬
‫ه‬ ‫ما ت َب َي ّ َ‬ ‫د َ‬ ‫ع ِ‬
‫ن بَ ْ‬ ‫م ْ‬‫ل ِ‬ ‫سو َ‬ ‫ق الّر ُ‬ ‫ق ِ‬‫شا ِ‬ ‫ن يُ َ‬
‫م ْ‬‫و َ‬‫وإل فإنه كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫م‬‫هن ّ َ‬‫ج َ‬
‫ه َ‬ ‫صل ِ ِ‬‫ون ُ ْ‬
‫ولى َ‬‫ّ‬ ‫ما ت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ول ِ‬ ‫ن نُ َ‬
‫مِني َ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ل ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ع َ‬
‫غي َْر َ‬ ‫وي َت ّب ِ ْ‬
‫دى َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ه َ‬
‫عَلى حجية الجماع‬ ‫]النساء‪ ،[115:‬فهذه الية من اليات التي تدل َ‬
‫عَلى ذلك العلماء‪ -‬وأن اتباع غير سبيل المؤمنين هو‬ ‫‪-‬كما نص َ‬
‫طي‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬
‫صَرا ِ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫وأ ّ‬ ‫التفرق عن الدين القويم قال الله تعالى‪َ :‬‬
‫ه‬
‫سِبيل ِ ِ‬‫ن َ‬
‫ع ْ‬ ‫م َ‬ ‫فّرقَ ب ِك ُ ْ‬
‫فت َ َ‬
‫ل َ‬
‫سب ُ َ‬
‫عوا ال ّ‬
‫ول ت َت ّب ِ ُ‬
‫عوهُ َ‬
‫فات ّب ِ ُ‬‫قيما ً َ‬
‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬
‫ُ‬
‫]النعام‪.[153:‬‬
‫‪ - 2‬أهمية علم أصول الدين‬
‫ه‪- :‬‬
‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫مصن ّ ُ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ال ُ‬
‫د‬
‫م ُ‬ ‫]بسم الله الرحمن الرحيم حسبي الله ونعم الوكيل‪ ،‬وبه نستعين‪ ،‬ال ْ َ‬
‫ح ْ‬
‫ه‪ ،‬نستعينه‪ ،‬ونستغفره‪ ،‬ونعوذ بالله من شرور أنفسنا‪ ،‬ومن سيئات‬ ‫ل ِل ّ ِ‬
‫أعمالنا‪ ،‬من يهده الله فل مضل له‪ ،‬ومن يضلل فل هادي له‪ ،‬وأشهد أن ل‬
‫إله إل الله وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن سيدنا محمدا ً عبده ورسوله‬
‫صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ً كثيرًا‪ .‬أما بعــد‪:‬‬

‫ن علم أصول الدين أشرف العلوم‪ ،‬إذ شرف العلم بشرف‬ ‫فإنه لما َ‬
‫كا َ‬
‫المعلوم‪ ،‬وهو الفقه الكبر بالنسبة إ َِلى فقه الفروع‪ ،‬ولهذا سمى المام‬
‫أبو حنيفة رحمة الله عليه ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين‪:‬‬
‫الفقه الكبر وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة‪ ،‬وضرورتهم إليه فوق كل‬
‫ضرورة‪ ،‬لنه ل حياة للقلوب‪ ،‬ول نعيم ول طمأنينة‪ ،‬إل بأن تعرف ربها‬
‫ومعبودها وفاطرها‪ ،‬بأسمائه وصفاته وأفعاله‪ ،‬ويكون مع ذلك كله أحب‬
‫إليها مما سواه‪ ،‬ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر‬
‫خلقه[ اهـ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫عاَلى‪ -‬كتابه بهذه الخطبة ‪-‬خطبة الحاجة‪ -‬التي‬ ‫ه تَ َ‬ ‫ه الل ُ‬


‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف ‪َ-‬ر ِ‬
‫مصن ّ ُ‬
‫بدأ ال ُ‬
‫م ‪-‬كما صح عنه‪ -‬يستفتح بها‪ ،‬وهذه سنة‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫ن النبي صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫كا َ‬
‫ينبغي لنا أن نقتدي بها جميعًا‪.‬‬

‫وكل خطبة ل يذكر فيها الشهادة أو ل يتشهد فيها‪ ،‬فهي كاليد الجذماء‪،‬‬
‫جاءَ في الحديث‪ .‬وكذلك في الحديث‪) :‬كل أمر ذي بال ل يبدأ فيه‬ ‫كما َ‬
‫ن في الحديث ضعف من‬ ‫ببسم الله فهو أقطع( أو )فهو أبتر( وإن َ‬
‫كا َ‬
‫م في‬‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫حيث السناد‪ ،‬ولكن هو ثابت من فعل النبي صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬
‫خطبه ومكاتباته إ َِلى الملوك وغيرهم‪.‬‬

‫ه‪ ،‬أو ببسم الله‪ ،‬أو بخطبة‬ ‫مدُ ل ِل ّ ِ‬


‫ح ْ‬‫ى‪ ،‬أو بال ْ َ‬‫عال َ َ‬‫وت َ َ‬‫ه َ‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫فالبداية بذكر الله ُ‬
‫م ل ينبغي العدول‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬‫الحاجة‪ ،‬هي سنة ثابتة عن النبي صّلى الل ُ‬
‫عال َ َ‬
‫ى‪.‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫ه بذكر الله ُ‬ ‫ه الل ُ‬ ‫م ُ‬‫ح َ‬ ‫ف َر ِ‬ ‫مصن ّ ُ‬ ‫عنها‪ ،‬وهكذا بدأ ال ُ‬
‫م‬‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫م قال بعد ذلك‪" :‬أما بعد"‪ ،‬وهذه أيضا ً سنة النبي صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫ثُ ّ‬
‫عَلى الله‬ ‫ن بعد أن يسمي الله أو يحمد الله‪ ،‬أو يثني َ‬ ‫في خطبه وكتبه‪َ ،‬‬
‫كا َ‬
‫م يبدأ في الموضوع الذي يريده‪.‬‬ ‫عاَلى بما هو له أهل‪ ،‬يقول‪ :‬أما بعد‪ ،‬ث ُ ّ‬‫تَ َ‬
‫وعلم أصول الدين أشرف العلوم؛ لن شرف الشيء من شرف موضوعه‪،‬‬
‫وموضوع علم التوحيد هو معرفة الله وصفاته‪ ،‬وما ينبغي لوجهه من‬
‫عال َ َ‬
‫ى من العبادة وهو حقه‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫التعظيم والثناء‪ ،‬وما ينبغي لحقه ُ‬
‫عَلى العباد‪.‬‬
‫َ‬

‫وبذلك نستنتج قضية مهمة ل ينبغي أن نفوتها ‪-‬وإن كانت معلومة‬


‫ومفهومة لدى الجميع‪ -‬وهي التشكيك في تعليم التوحيد والعقيدة‬
‫وأصول الدين‪ ،‬والقول بأن هذه المور ل داعي لها‪.‬‬

‫فُيردّ عليهم بمثل ما افتتح المصنف‪ ،‬أن شرف العلم بشرف المعلوم‪،‬‬
‫عاَلى هي الفقه الكبر‪ ،‬وهي أعظم العلوم‬ ‫وت َ َ‬ ‫فمعرفة الله ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫والغايات‪ ،‬وأشرف ما يسعى إليه المؤمنون جميعًا‪ ،‬فل يجوز لحد أن‬
‫ع إ َِلى معرفة‬
‫ن من أمرها أو يشكك فيها‪ ،‬أو يقول‪ :‬ليس هناك دا ٍ‬ ‫و َ‬
‫ُيه ّ‬
‫توحيد السماء والصفات!!‬

‫لو قال رجل‪ :‬ليس هناك داع أن يعلم الناس الصلة والزكاة‪ ،‬لنكر عليه‬
‫عاَلى في‬
‫ن‪ .‬فكيف بالتوحيد! وهو أعظم؛ لن معرفة الله ت َ َ‬ ‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫جميع ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫ذاته أعظم من معرفة حقه‪ ،‬فاعتقادنا فيه أعظم من فعلنا له‪ ،‬وكما‬
‫قْرآن كله توحيد‪،‬‬ ‫ه وهو يقول‪ :‬إن ال ُ‬ ‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫مصن ّ ِ‬
‫سيأتي من كلم ال ُ‬
‫ى‪.‬‬ ‫عال َ َ‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫قْرآن هو ما يتعلق بتوحيد الله ُ‬ ‫فأفضل ما في ال ُ‬

‫م أمضى الفترة الطويلة في تعليم التوحيد‪،‬‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬


‫ه َ‬ ‫والنبي صّلى الل ُ‬
‫َيا‬ ‫م لم يزل في المدينة تنزل عليه أحكام الفروع مرتبطة بالعقيدة‬ ‫ثُ ّ‬
‫َ‬
‫عل ّك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م لَ َ‬
‫قب ْل ِك ُ ْ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫ن ِ‬ ‫عَلى ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ما ك ُت ِ َ‬
‫ب َ‬ ‫م كَ َ‬
‫صَيا ُ‬
‫م ال ّ‬ ‫عل َي ْك ُ ُ‬
‫ب َ‬ ‫مُنوا ك ُت ِ َ‬‫نآ َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫أي ّ َ‬
‫ن ]البقرة‪.[183 :‬‬ ‫قو َ‬ ‫ت َت ّ ُ‬

‫ل شرع لتكون كلمة الله هي العليا‪،‬‬ ‫ج ّ‬


‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫وهكذا الجهاد في سبيل الله َ‬
‫ومن أوائل ما شرع وفرض هو قتال أهل الكتاب الذين قالوا‪ :‬إن الله‬
‫ثالث ثلثة‪ ،‬والذين قالوا‪ :‬إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم‪.‬‬
‫عاَلى في سور ِ‬
‫ة التوبة بقتالهم‪ ،‬وهو واجب محتم‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫فأمر الله ُ‬
‫ن المعطلين‪ ،‬فمن عرف الله ووصفه بغير صفته‪ ،‬أو جعل‬ ‫كي َ‬ ‫ر ِ‬‫ش ِ‬ ‫كقتال ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫ة أو ولدًا‪ ،‬أو أشرك في صفاته في أي نوع من أنواع‬ ‫له خدنا ً أو صاحب ً‬
‫الشرك‪ ،‬فإنه يقاتل كما يقاتل المشرك المعطل‪.‬‬
‫الحديث عن كتاب الفقه الكبر‬
‫وهنا ينبغي لنا أن نتجه إ َِلى قضية ثبوت كتاب الفقه الكبر ‪.‬‬
‫ب التي‬‫ض الكت ِ‬‫ه بع ُ‬
‫ت إلي ِ‬
‫سب َ ْ‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫ه نُ ِ‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫الواقع أن المام أبو حنيفة َر ِ‬
‫عَلى ما يبدو أحد أئمة الحنفية‬ ‫لم يكتبها ولم يؤلفها‪ ،‬وإنما كتبها َ‬
‫المسمى أبي مطيع البلخي الحكم بن عبد الله ‪ ،‬ونسبها إ َِلى المام‬
‫أبي حنيفة ‪.‬‬
‫وفيها حق كثير لشك فيه‪ ،‬لكن يهمنا أن نعرف أنها ليست لـأبي‬
‫ن‬ ‫حنيفة ‪ ،‬فرسالة العالم والمتعلم ‪ ،‬ورسالة الفقه الكبر وإن َ‬
‫كا َ‬
‫عَلى أنها للمام أبي حنيفة ‪ ،‬لكنها من‬
‫أكثرها صحيح‪ ،‬وشرحت َ‬
‫الناحية العلمية توثيقا ً للكتاب ليست لـأبي حنيفة ‪.‬‬

‫والحكم نفسه ضعيف؛ بل هو متهم بالوضع‪.‬‬

‫ن في ذلك العصر‬ ‫مي َ‬


‫سل ِ ِ‬
‫م ْ‬‫ولن المؤلف حنفي ‪-‬والحنفية هم أكثر ال ْ ُ‬
‫ء الحنفية‬
‫ؤل ِ‬ ‫عَلى أن َ‬
‫ه ُ‬ ‫صّنف في شرحه َ‬ ‫م ْ‬
‫بل هم الدولة‪ -‬انطلق ال ُ‬
‫ُيثبتون ويعتقدون أن الفقه الكبر صحيح وثابت عن أبي حنيفة ‪،‬‬
‫كم ‪-‬وهو أبو مطيع البلخي ‪ -‬ثقة‪.‬‬ ‫وربما يقولون‪ :‬إن الح َ‬

‫ونقول لهم‪ :‬إذا انتسبتم إ َِلى هذا المام فانظروا ماذا قال‪ ،‬ول‬
‫عَلى‬
‫تعتقدوا عقائد بدعية مخالفة لمذهبه حدثت في القرن الرابع َ‬
‫عَلى يد النسفي وغيرهم من الذين‬ ‫م َ‬‫يد أبي منصور الماتريدي ‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫أحدثوا في مذهب الحنفية ما ليس منه‪ ،‬في مجال العقيدة‪.‬‬
‫• ل حياة للقلوب إل بمحبة الله ومعرفته‬
‫ف‪ :‬وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة وضرورتهم‪ ...‬إ َِلى آخر‬ ‫صن ّ ِ‬
‫م ْ‬ ‫وأما قول ال ُ‬
‫العبارة‪.‬‬
‫ه في‬ ‫ه الل ّ ُ‬‫م ُ‬
‫ح َ‬‫هذه العبارة هي عنوان باب عقده المام ابن القيم َر ِ‬
‫إغاثة اللهفان ‪ :‬أنه ل حياة للقلب ول طمأنينة ول نعيم إل أن يكون‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫م ُ‬ ‫ح َ‬‫ف َر ِ‬ ‫صن ّ ُ‬ ‫عاَلى هو معبوده وإلهه‪ ،‬واختصر ال ُ‬
‫م ْ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫الله ُ‬
‫هذه السطر من ذلك الكتاب‪.‬‬
‫• مشكلة النسان المعاصرة‬
‫والقرن العشرون أكثر القرون في تاريخ البشرية اضطرابا ً وحيرة وتفككا ً‬
‫وضياعًا‪ ،‬ومعلوم أن الذي يعبر عن هذا حق التعبير في أي واقع ومجتمع ‪-‬سواء‬
‫ن هذا الواقع حقا ً أو باطل ً عقيدة أو سلوكًا‪ -‬بالتعبير الدقيق هم أصحاب‬ ‫َ‬
‫كا َ‬
‫الحساس العميق الدقيق‪ ،‬كالشعراء والدباء وأمثالهم‪.‬‬
‫فماذا يقول أدباء وشعراء أوروبا حول قضية أنه ل حياة للنسان‪،‬‬
‫عاَلى؟!!‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ول سعادة ول هناء إل بأن يعرف الله ُ‬
‫عَلى الضياع والفراغ والحيرة‪ ،‬ويؤسفني‬ ‫عبروا عن ذلك بما يدل َ‬
‫ن يسلكون وينتهجون منهج‬ ‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫جدا ً أن أقول‪ :‬إن بعض أدباء ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫ك الدباء الحيارى الضائعين؛ ولذلك نجد كثيرا ً من الدواوين‬ ‫ُأول َئ ِ َ‬
‫الشعرية ضائعة تمامًا‪.‬‬

‫فمثل ً شاعر نصراني يقول‪:‬‬


‫جئت ل أدري مـن أين؟! ولكـني أتيت‬
‫وغيره من الشعراء يكتب ديوانا ً كامل ً تقرأ فيه الحيرة والضياع‬
‫واللم‪ ،‬فيتألم من شيء ل يدري ما هو‪.‬‬

‫ج ّ‬
‫ل‪ ،‬وأنه لو‬ ‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫ونحن والله نعرف أن سببه هو عدم اليمان بالله َ‬
‫ن في‬ ‫كا َ‬‫عاَلى وصلى وقرأ كتاب الله‪ ،‬لما َ‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫عرف الله ُ‬
‫ن من يقول‪:‬‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬ ‫شعراء ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫ومضى عمري ول أعرف دربي أبدا ً‬

‫‪.‬‬

‫ن والله إننا نعرف دربنا وإلى أين المصير‪ ،‬ونعرف أن مردنا‬ ‫ح ُ‬


‫أما ن َ ْ‬
‫عاَلى‪ ،‬وأنه فرض علينا فرائض وشرع لنا شرائع‪،‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫إ َِلى الله ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫عاَلى وأطعناه فمصيرنا‬‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫فإذا وقفنا عند حدوده ووحدناه ُ‬
‫إ َِلى الجنة والسعادة في الدنيا والخرة‪ ،‬وإن عصيناه وتعدينا حدوده‬
‫فمصيرنا إ َِلى الشقاء وضيق الدنيا‪ ،‬وإلى الّنار في الخرة أجارنا الله‬
‫وإياكم‪ ،‬لكن الحيارى ل يدركون ذلك‪.‬‬

‫وهذا شاعر فرنسي وهو من أكبر الشعراء أثرا ً في فرنسا يقول‪:‬‬


‫سان لنهم‬ ‫سان المعاصرة"!!‪ ،‬طبعا ً هم يعممون ا ِ‬
‫لن َ‬ ‫لن َ‬
‫"حيرة ا ِ‬
‫ن حيارى‪ ،‬ونحن في الحقيقة حيارى؛ لن‬ ‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫يظنون أن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫عَلى‬
‫القليل مّنا من يمثل حقيقة السلم‪ ،‬فيظنون أننا مثلهم َ‬
‫هامش المم حيارى‪.‬‬

‫صرة قضية واحدة‪ ،‬وهي أنه يبحث‬


‫سان المعا ِ‬‫لن َ‬
‫يقول‪) :‬ومشكلة ا ِ‬
‫عن سيد‪ ،‬يبحث عن إله(‪.‬‬

‫فيحدد أول مرة سيدا ً عاما ً لكنه في الخير يقول‪" :‬يبحث عن إله"‬
‫سان المعاصرة‪ ،‬فالدمار والحروب المستمرة‪،‬‬ ‫لن َ‬
‫وهي مشكلة ا ِ‬
‫والقنابل الذرية‪ ،‬والمصير الرهيب الذي ينذر البشرية‪ ،‬وتحاول أن‬
‫تتخلص منه ول تستطيع‪ ،‬هو الذي يلجئ أهل الحساس وأهل الشعر‬
‫وأهل النظرات البعيدة إ َِلى المخدرات والنتحار‪ ،‬يتخلصون به من‬
‫رعب المستقبل كما يسمونه‪ ،‬ولذلك نجد أرقى بلد العالم في‬
‫الحضارات المادية‪ ،‬وفي الشوارع الفسيحة‪ ،‬والعمارات الضخمة‪،‬‬
‫والترف المادي في معدل المعيشة‪ ،‬هي أكثر بلد العالم نسبة في‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫ه وكما قال ابن القيم في‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫صن ّ ُ‬
‫م ْ‬‫ل ال ُ‬ ‫النتحار‪ ،‬لنه كما َ‬
‫قا َ‬
‫إغاثة اللهفان ‪ ) :‬ل حياة للقلوب ول نعيم ول طمأنينة إل بأن تعرف‬
‫ربها ومعبودها وفاطرها (‪.‬‬
‫والله ل يجد العبد الطمأنينة والراحة واللذة ول يجد السعادة مهما‬
‫أخذ من الدنيا وجمع من حطامها‪ ،‬بل يعذبه الله بها في الحياة الدنيا‬
‫وتزهق أنفسهم وهم كافرون‪.‬‬
‫• كيفية معرفة الله سبحانه وتعالى‬
‫ه ت ََعاَلى‪:‬‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬ ‫صن ّ ُُ‬
‫ف َر ِ‬ ‫م ْ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ال ُ‬
‫عَلى‬
‫محال أن تستقل العقول بمعرفة ذلك وإدراكه َ‬ ‫]ومن ال ُ‬
‫التفصيل‪ ،‬فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به‬
‫معرفين‪ ،‬وإليه داعين‪ ،‬ولمن أجابهم مبشرين‪ ،‬ولمن خالفهم‬
‫منذرين وجعل مفتاح دعوتهم‪ ،‬وزبدة رسالتهم معرفة المعبود‬
‫عَلى هذه المعرفة تبنى‬ ‫سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله‪ ،‬إذ َ‬
‫م يتبع ذلك أصلن‬‫مطالب الرسالة كلها من أولها إ َِلى آخرها‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫عظيمان‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬تعريف الطريق الموصل إليه‪ ،‬وهي شريعته المتضمنة‬


‫لمره ونهيه‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬تعريف السالكين مالهم بعد الوصول إليه من النعيم‬


‫المقيم‪.‬‬

‫ل أتبعهم للطريق الموصل إليه‪،‬‬ ‫ج ّ‬ ‫و َ‬‫عّز َ‬ ‫ه َ‬ ‫س بالل ِ‬ ‫ف الّنا ِ‬ ‫فأعر ُ‬


‫وأعرفهم بحال السالكين عند القدوم عليه‪ ،‬ولهذا سمى الله ما‬
‫عَلى رسوله روحًا‪ ،‬لتوقف الحياة الحقيقة عليه‪ ،‬ونورا ً لتوقف‬ ‫أنزله َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫شاءُ ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫عَلى َ‬ ‫ه َ‬ ‫ر ِ‬‫م ِ‬‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫قي الّرو َ‬ ‫ل تعالى‪ :‬ي ُل ْ ِ‬ ‫قا َ‬‫ف َ‬‫الهداية عليه‪َ ،‬‬
‫عباده ]غافر‪ [15:‬وقال تعالى‪ :‬وك َذَل ِ َ َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ك ُروحا ً ِ‬ ‫حي َْنا إ ِل َي ْ َ‬ ‫و َ‬‫كأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ َ ِ ِ‬
‫َ‬
‫ه‬
‫دي ب ِ ِ‬ ‫ه ِ‬ ‫عل َْناهُ ُنورا ً ن َ ْ‬ ‫ج َ‬ ‫ن َ‬ ‫ول َك ِ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ما ُ‬ ‫لي َ‬ ‫ول ا ْ ِ‬ ‫ب َ‬ ‫ما ال ْك َِتا ُ‬ ‫ري َ‬ ‫ت ت َدْ ِ‬‫ما ك ُن ْ َ‬ ‫رَنا َ‬ ‫م ِ‬ ‫أ ْ‬
‫ط الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫صَرا ِ‬ ‫قيم ٍ * ِ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ط ُ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫دي إ َِلى ِ‬ ‫ه ِ‬ ‫ك ل َت َ ْ‬ ‫وإ ِن ّ َ‬‫عَباِدَنا َ‬ ‫ن ِ‬‫م ْ‬ ‫شاءُ ِ‬ ‫ن نَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫موُر‬ ‫صيُر اْل ُ‬ ‫ه تَ ِ‬‫ض أل إ َِلى الل ّ ِ‬ ‫في الْر ِ‬
‫ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫و َ‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫في ال ّ‬ ‫ما ِ‬ ‫ه َ‬‫ذي ل َ ُ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫جاءَ به الرسول‪ ،‬ول نور إل في‬ ‫]الشورى‪ [53-52:‬فل روح إل فيما َ‬
‫مُنوا‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫و ل ِل ّ ِ‬‫ه َ‬
‫ل ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫ُ‬ ‫الستضاءة به‪ .‬وسماه الشفاء كما قال تعالى‪:‬‬
‫ى وشفاءً مطلقًا‪ ،‬لكن‬ ‫ن هد ً‬ ‫كا َ‬ ‫فاءٌ ]فصلت‪ [44:‬فهو وإن َ‬ ‫ش َ‬‫و ِ‬ ‫ى َ‬ ‫هد ً‬ ‫ُ‬
‫ن المنتفع بذلك هم المؤمنون خصوا بالذكر اهـ‪.‬‬ ‫كا َ‬ ‫لما َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫عاَلى نبه‬
‫وت َ َ‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫ه أهمية العلم بالله ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬‫م ْ‬
‫بعد أن ذكر ال ُ‬
‫إ َِلى الصل العظيم‪ ،‬وبداية انحرافات الفرق جميعا ً التي تنتهي بها‬
‫إ َِلى الضللة والهاوية‪.‬‬

‫عاَلى؟‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫وهي‪ :‬كيفية معرفة الله ُ‬
‫عَلى‬
‫إن من المحال أن تنفرد العقول وحدها بمعرفة ذلك وإدراكه َ‬
‫التفصيل‪ ،‬أما الدراك المجمل والمعرفة المجملة فهذه موجودة في‬
‫م‬‫ه ْ‬
‫ر ِ‬ ‫ن ظُ ُ‬
‫هو ِ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫ن ب َِني آدَ َ‬ ‫م ْ‬‫ك ِ‬ ‫خذَ َرب ّ َ‬ ‫وإ ِذْ أ َ َ‬ ‫َ‬ ‫الفطرة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫قاُلوا ب ََلى َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وأ َ ْ‬
‫هدَْنا‬‫ش ِ‬ ‫م َ‬‫ت ب َِرب ّك ُ ْ‬‫س ُ‬‫م أل َ ْ‬ ‫ه ْ‬‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫عَلى أن ْ ُ‬
‫م َ‬
‫ه ْ‬
‫هد َ ُ‬
‫ش َ‬ ‫م َ‬ ‫ذُّري ّت َ ُ‬
‫ه ْ‬
‫عاَلى قد أخذ الميثاق الفطري‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫]العراف‪ ،[173 :‬فالله ُ‬
‫ق الل ّ ِ‬
‫ه ]الروم‪[30:‬‬ ‫ل لِ َ ْ‬
‫خل ِ‬ ‫دي َ‬ ‫عل َي ْ َ‬
‫ها ل ت َب ْ ِ‬ ‫فطََر الّناس َ‬
‫ه ال ِّتي َ‬
‫ت الل ّ ِ‬
‫فطَْر َ‬
‫ِ‬
‫‪-‬وسيأتي بحثها عما قريب‪ -‬وهي موجودة لكنها ل تعطي معرفة‬
‫تفصيلية‪ ،‬وإنما تكون المعرفة التفصيلية عن طريق الوحي‪.‬‬

‫وأما العقول والذهان فل تستقل بمعرفة ذلك‪ ،‬ولهذا تخبطت‬


‫الفرق السلمية تخبطا ً شديدا ً لما اتبعت آراء المتخرصين‬
‫المتهوكين بعقولهم‪.‬‬

‫ق ْ‬
‫ل‬ ‫عاَلى أمرنا أن نتبع الدليل الشرعي والوحي ُ‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫والله ُ‬
‫ُ‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫ي ]النبياء‪ [45:‬فنذارة النبي َ‬ ‫ح ِ‬ ‫و ْ‬ ‫م ِبال ْ َ‬ ‫ذُرك ُ ْ‬‫ما أن ْ ِ‬ ‫إ ِن ّ َ‬
‫عاَلى به وكرمنا به‪،‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫م بالوحي‪ ،‬وهذا الذي ميزنا الله ُ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫َ‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫وإ ِّنا ل ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ن َّزلَنا الذّكَر َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ل‪ :‬إ ِّنا ن َ ْ‬ ‫َ‬
‫عالى قا َ‬ ‫َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫م إن الله ُ‬ ‫ثُ ّ‬
‫ن ]الحجر‪ [9:‬فالوحي محفوظ ومعصوم‪ ،‬فينبغي لنا أن‬ ‫ظو َ‬ ‫ف ُ‬ ‫حا ِ‬ ‫لَ َ‬
‫عاَلى ول نبحث عن مصدر آخر غير هذا‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫ندرك نعمة الله ُ‬
‫الوحي‪ ،‬وإل فالضلل والويل والخسارة والتخبط واقع كما وقع لمن‬
‫خرج عن منهج السلف الصالح ‪.‬‬
‫وغاية سعي العالمين‬ ‫نهاية إقدام العقول عقال‬
‫ضلل‬
‫سوى أن جمعنا‬ ‫ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا‬
‫فيه قيل وقالوا‬
‫فمن ينتهج غير منهج السلف الصالح نجد عادته جمع القوال‬
‫والردود‪ ،‬وقال الحكماء‪ ،‬وقال فلن‪ ،‬ورد عليه فلن وفلن‪.‬‬
‫ل يصل أبدا ً إ َِلى اليقين والحقيقة؛ لن هذا الدين ليس مما يدرك‬
‫ن‬ ‫بالنظر والعقول‪ ،‬وليس مما تنفرد به الفهام والذهان‪ ،‬وإل لو َ‬
‫كا َ‬
‫كذلك لما احتيج للنبياء‪.‬‬
‫• حاجة الناس إلى النبياء والرسل‬
‫ه وَت ََعاَلى بعث ال َن ْب َِياء ليبينوا ذلك التوحيد‪ ،‬وجعله مفتاح دعوة الرسل‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫الله ُ‬
‫ه وَت ََعاَلى في أسمائه وصفاته‬
‫حان َ ُ‬ ‫يدعون أول ما يدعون إ َِلى معرفته وتوحيده ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫وأفعاله‪ ،‬وما يستحقه عََلى العباد من أنواع الطاعات والتعبدات‪ ،‬فل تستقل‬
‫العقول ول تنفرد بمعرفة هذا‪ ،‬ودلئل ذلك من الواقع أكثر من أن تحصر‪.‬‬
‫جاءَ‬
‫فأيام اليونان كانت هناك نظريات عقلية بل دين‪ ،‬فلما َ‬
‫المنتسبون إ َِلى السلم من الفلسفة كـابن سينا وابن رشد‬
‫والفارابي والكندي نقدوا تلك النظريات وأبطلوا كثيرا ً منها‪،‬‬
‫وأضافوا إليها إضافات هي صحيحة بالنسبة لباطل أولئك‪.‬‬

‫ثُ ّ‬
‫م جاءت النهضة الوروبيه أو عصر التنوير ‪ -‬كما يسمى‪ -‬في القرن‬
‫السادس عشر والسابع عشر‪ ،‬فظهرت نظريات جديدة‪ ،‬ومنها‬
‫النظريات القديمة سواء ما أضافه المنتسبون إ َِلى السلم أو‬
‫نظريات أرسطو وأفلطون ‪.‬‬

‫جاءَ القرن التاسع عشر فظهرت المذاهب التي تسمى المذاهب‬ ‫ثُ ّ‬
‫م َ‬
‫الوضعية‪ ،‬وفي القرن العشرين ظهرت نظريات أكثر حداثة وأكثر‬
‫ن الّله!!‬
‫سْبحا َ‬
‫ردة‪ ،‬فيا ُ‬
‫هم ‪:‬من جعل دينه عرضة‬ ‫عاَلى َ‬
‫عن ْ ُ‬ ‫ه تَ َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫وكما قال بعض السلف َر ِ‬
‫للهوى أكثر التنقل ‪.‬‬

‫ت‬
‫وا ِ‬
‫ما َ‬
‫س َ‬ ‫خل ْ َ‬
‫ق ال ّ‬ ‫م َ‬‫ه ْ‬‫هدْت ُ ُ‬ ‫ش َ‬ ‫ما أ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫عاَلى‪:‬‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫ويكفينا قول الله ُ‬
‫ضدا ً ]الكهف‪:‬‬ ‫ع ُ‬‫ن َ‬ ‫ضّلي َ‬ ‫م ِ‬ ‫خذ َ ا ل ْ ُ‬‫مت ّ ِ‬‫ت ُ‬ ‫ما ك ُن ْ ُ‬ ‫و َ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫س ِ‬‫ف ِ‬ ‫ق أ َن ْ ُ‬
‫خل ْ َ‬
‫ول َ‬ ‫ض َ‬‫والْر ِ‬
‫ْ َ‬
‫َ‬
‫‪ [51‬فأي نظرية غيبية تتحدث عن نشأة الكون‪ ،‬أو ما يتعلق بالله‬
‫عَلى هذه الرض‪ ،‬وكيف جاء؟‬ ‫سان َ‬ ‫لن َ‬ ‫عاَلى‪ ،‬أو نشأة ا ِ‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ُ‬
‫ولماذا جاء؟!‬

‫ه‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫هي باطلة من وضع المضلين الذين لم يشهدهم الله ُ‬
‫عاَلى خلق السماوات والرض‪ ،‬ولم يشهدهم خلق أنفسهم فضل ً‬ ‫وت َ َ‬
‫َ‬
‫سانية‬ ‫لن َ‬ ‫عن أن يشاركوه في ذلك‪ ،‬فهم مضلون‪ ،‬أضلوا بني ا ِ‬
‫م أضلوا أهل السلم فيما بعد‪.‬‬ ‫وأضلوا أهل الديانات القديمة‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫ة وحكماء‪ ،‬وأصحاب العقول الضخمة‪ ،‬وهم ل‬ ‫ويسمونهم فلسف ً‬
‫سان من‬
‫لن َ‬
‫قدرة لهم في معرفة ذلك إل بالوحي‪ ،‬وأما ما يفهمه ا ِ‬
‫عاَلى فل مدخل للعقل‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫الوحي فيما يتعلق بمعرفة الله ُ‬
‫فيه‪.‬‬

‫ه‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫أما فيما يتعلق بالفروع فللعقول مدخل عليه‪ ،‬لن الله ُ‬
‫قْرآن للتدبر والفهم والستنباط‪ ،‬وكذا المعارف‬ ‫عاَلى نزل هذا ال ُ‬
‫وت َ َ‬
‫َ‬
‫سان نفسه‬ ‫لن َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عالى أوكل أمرها إ ِلى ا ِ‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫الدنيوية‪ ،‬فإن الله ُ‬
‫وسمح له وأفسح له المجال أن يعمل ويكدّ فيها ويتعلم‪.‬‬
‫سانية أو النظريات الكونية )النظريات‬
‫لن َ‬
‫وأما ما يسمى بالعلوم ا ِ‬
‫ً‬
‫سانية( فهذه ل يجوز للمسلم أن يستمد منها شيئا ‪.‬‬ ‫لن َ‬
‫ا ِ‬
‫• أصول المعرفة الكلية‬
‫فالصول ثلثة‪:‬‬
‫عاَلى‪.‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫معرفة الله ُ‬
‫عاَلى‪.‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫ومعرفة الطريق الموصل إ َِلى الله ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ومعرفة العاقبة والمآل لمن أطاع الله ولمن عصاه‪ ،‬وهذه أساس‬
‫المعرفة بالخرة‪.‬‬
‫عَلى هذه الصول والقسام الثلثة‪ ،‬وأولها‬ ‫فالمعرفة الكلية تشتمل َ‬
‫َ‬
‫عالى‪.‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫وأشرفها‪ :‬معرفة الله ُ‬
‫• فائدة في كلمة المعرفة‬
‫سان الذي بلغ‬‫لن َ‬
‫كلمة المعرفة ينكرها بعض الناس؛ لن الصوفية يسمون ا ِ‬
‫ة ما "العارف"‪ ،‬وهذا المصطلح غريب عََلى السلم‪.‬‬
‫عندهم درج ً‬
‫لكن معرفة الله ليست غريبة؛ بل وردت في الحديث الصحيح في‬
‫ه عندما أرسله النبي‬ ‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫إحدى روايات حديث معاذ بن جبل َر ِ‬
‫ل‪) :‬فإذا هم عرفوا الله فأنبئهم‬ ‫م إ َِلى اليمن َ‬
‫قا َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫أن الله افترض عليهم خمس صلوات( والشاهد أن هذه اللفظة في‬
‫ذاتها ل غبار عليها‪ ،‬وإنما الخطأ في إطلق كلمة العارف في‬
‫المصطلح المتداول عند الصوفية ‪ ،‬فالدرجات عندنا‪ :‬مسلم ث ُ ّ‬
‫م‬
‫م محسن‪.‬‬ ‫مؤمن ث ُ ّ‬
‫وهناك صفات أخرى وهي‪ :‬المتقون‪ ،‬المفلحون‪ ،‬الفائزون‪ ،‬إ َِلى‬
‫آخره وليس فيها ول منها العارفون‪.‬‬

‫عاَلى هي الصل الول من أصول المعرفة‬ ‫وت َ َ‬


‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫فمعرفة الله ُ‬
‫م معرفة الطريق الذي يوصل إ َِلى رضا وطاعة الله وهو حقيقة‬ ‫ثُ ّ‬
‫الشريعة‪ ،‬ومعرفة أحكام الحلل والحرام‪.‬‬
‫فنعرف أو ً‬
‫ل‪ :‬التوحيد‪.‬‬

‫م نعرف ثانيًا‪ :‬الفقه والشريعة ‪-‬أي‪ :‬معرفة الحلل والحرام‪.-‬‬


‫ثُ ّ‬
‫م نعرف ثالثًا‪ :‬مصيرنا‪ ،‬فنعرف أخبار الخرة وما يتعلق بها‪ ،‬وما هو‬
‫ثُ ّ‬
‫حالنا عند الموت وبعده‪ ،‬وما هو حالنا في العالم الخر‪.‬‬

‫فمن عرف هذه الثلث اكتملت معرفته الضرورية في معرفة دينه‪،‬‬


‫وهي وإن كانت ‪-‬أي‪ :‬معرفة أخبار الخرة‪ ،‬وما يتعلق بها‪ -‬مما ل‬
‫يتعبد بها عمل ً لكنها مما ينبغي معرفتها اعتقادًا‪.‬‬

‫عاَلى‪ :‬ولهذا سمى الله‪ ...‬إلخ‪.‬‬ ‫ه الل ّ ُ‬


‫ه تَ َ‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫صن ّ ِ‬
‫م ْ‬‫ل ال ُ‬ ‫َ‬
‫قو ُ‬
‫الشارة هنا "ولهذا" تعود إ َِلى التعليل‪ ،‬والغرض من التعليل إثبات‬
‫أن العقول ل تستقل بمعرفة الله وأنه يلزم أن تكون تابعة للشرع‪،‬‬
‫م روحا ً‬
‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫عَلى نبيه َ‬‫مى الله ما أنزله َ‬ ‫س ّ‬‫ولهذا َ‬
‫ء‪.‬‬‫وسماه نورًا‪ ،‬وسماه شفا ً‬

‫مقدمة شرح العقيدة الطحاوية ‪2‬‬


‫يتحدث الشيخ ‪-‬رعاه الله‪ -‬في هذه المقدمة عن تاريخ البشرية في معرفة الله‪ ،‬وما‬
‫يجب على النسان معرفته من العقيدة‪ ،‬ومتى يعذر النسان بالجهل‪ ،‬وعن أسباب‬
‫الضلل والحيرة‪ ،‬وعن أنواع النظر والستدلل‪ ،‬وعن تنـزيه الله لنفسه‪ ،‬ويختم بأهمية‬
‫البصيرة في الدعوة إلى الله‪.‬‬

‫‪ - 1‬تاريخ البشرية في معرفة الله‬


‫سلم نبيا ً من‬ ‫ه وَت ََعاَلى في الكتاب والسنة‪ ،‬أنه خلق آدم عَل َي ْهِ ال ّ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫أخبرنا الله ُ‬
‫النبياء‪ ،‬وأن ذريته بقيت عََلى التوحيد‪ ،‬حتى اختلفوا كما قال ابن عباس رضي الله عنه‪:‬‬
‫جاَء في‬ ‫م وقع الشرك في قوم نوح كما َ‬ ‫ن بين آدم ونوح عشرة قرون "‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫"إنه َ‬
‫كا َ‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫الحديث الصحيح‪ ،‬ولم يكن هناك أعراف ول كهان ول سحرة؛ بل بعث الله ُ‬
‫وَت ََعاَلى النبيين مبشرين ومنذرين ليقاوموا تلك العراف وأولئك الكهان‪ .‬فصار الناس‬
‫فريقين‪:‬‬
‫المؤمنون الموحدون‪.‬‬

‫ن‪.‬‬ ‫ر ُ‬
‫كو َ‬ ‫م ْ‬
‫ش ِ‬ ‫والكفار ال ُ‬
‫وهذه الحضارات الموجودة آثارها إ َِلى اليوم‪ ،‬كحضارة الفراعنة‪ ،‬والروم‪،‬‬
‫ن هلكها ودمارها بسبب تكذيبها بما‬ ‫كا َ‬‫وقوم هود‪ ،‬وقوم صالح؛ وكلها َ‬
‫جاءَ من عند الله سبحانه تعالى‪.‬‬‫جاءَ به النبياء‪ ،‬والوحي الذي َ‬
‫َ‬
‫وليست العملية تطور علمي‪ :‬وهو أن البشرية تطورت حتى وصلت إ َِلى‬
‫م الدين‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫م لما عرفت التوحيد جاءتها الكتب الثلثة المنزلة‬ ‫قمة العلم ث ُ ّ‬
‫كما يقولون‪.‬‬

‫سان بدأ يحتكم إ َِلى العراف‪،‬‬ ‫لن َ‬


‫ومن ذلك نظرية القانون يقولون‪ :‬إن ا ِ‬
‫م وجدت ما يسمونها نظرية العقد‬ ‫عرف هو الذي يحكم الناس‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫وكان ال ُ‬
‫الجتماعي ومعناه‪ :‬أن أفراد المجتمع تعاقدوا فيما بينهم عقدا ً عرفيا ً‬
‫م بعد‬ ‫بأنه ل تظالم‪ ،‬وأنه يتم بينهم أخذ وعطاء "ول تؤذيني ول أؤذيك"؛ ث ُ ّ‬
‫جاءَ ال َن ْب َِياء وجاءت الكتب‪.‬‬
‫ذلك َ‬
‫عاَلى‪ ،‬فإن هذه النظريات‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫عَلى الله ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫وهذا من الكذب والفتراء َ‬
‫إنما عرفتها البشرية في فترات النحراف ‪-‬أزمان الفترة‪ -‬التي ل يبعث‬
‫فيها نبي‪ ،‬بل ينحرف الناس عن شريعة النبياء‪ ،‬ويتخذون الحبار‬
‫عاَلى‪.‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫والرهبان والملوك والكهان يشرعون لهم من دون الله ُ‬
‫عاَلى عندما يبعث أي نبي إنما يبعثه بشرع ليتحاكم الناس‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫والله ُ‬
‫عاَلى‪.‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫إليه‪ ،‬وليحكموا به‪ ،‬والحاكم هو الله ُ‬
‫والحياة؛ إنما هي في القرآن‪ ،‬أحيا الله به العالمين وأخرجهم من‬
‫ن يعتلج ويختلج في‬ ‫الظلمات إ َِلى النور ورحمهم به‪ ،‬وشفى ما َ‬
‫كا َ‬
‫صدورهم من الوهام والظنون والنظريات الباطلة‪.‬‬
‫ى‬
‫هد ً‬‫مُنوا ُ‬
‫نآ َ‬ ‫و ل ِل ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ه َ‬
‫ل ُ‬ ‫ُ‬
‫ق ْ‬ ‫وهنا قد يرد سؤال حيث يقول الله تعالى‪:‬‬
‫فاءٌ ]فصلت‪ [44:‬فكيف يكون هدى وشفاءً للذين آمنوا فقط؟ أليس‬ ‫ش َ‬
‫و ِ‬‫َ‬
‫ى للعالمين جميعا؟ً‬
‫قْرآن هد ً‬‫ال ُ‬

‫قْرآن‬‫ى للناس جميعًا‪ ،‬لكن المنتفع بهداية ال ُ‬ ‫نقول‪ :‬بلى‪ ،‬إن ال ُ‬


‫قْرآن هد ً‬
‫فُروا فهو عليهم عمى‪.‬‬ ‫ن كَ َ‬ ‫هم المؤمنون الذين يؤمنون به‪ ،‬أما ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ن‬
‫قي َ‬
‫س ِ‬ ‫ه إ ِّل ال ْ َ‬
‫فا ِ‬ ‫ض ّ‬
‫ل بِ ِ‬ ‫ما ي ُ ِ‬ ‫ه ك َِثيرا ً َ‬
‫و َ‬ ‫دي ب ِ ِ‬
‫ه ِ‬ ‫ه ك َِثيرا ً َ‬
‫وي َ ْ‬ ‫ض ّ‬
‫ل بِ ِ‬ ‫وقال تعالى‪ :‬ي ُ ِ‬
‫]البقرة‪ [26:‬فمع أنه نور‪ ،‬لكنه قد يكون سببا ً للضلل‪.‬‬

‫فإنه إذا رأى الرائي النور أمامه فأعرض عنه فضلله أعظم من ضلل من‬
‫جاءَ في الظلم ولم ير النور من أصله‪.‬‬ ‫َ‬
‫عاَلى‪،‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫م ويسمع كلم الله ُ‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫فالذي يرى النبي صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬
‫م يعرض عنه ل شك أنه لم يخالط قلبه هذا الدواء الذي أنزله الله‬ ‫ثُ ّ‬
‫عاَلى‪ ،‬فكان ذلك سببا ً لزيادة مرضه وضلله وهلكه‪.‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫ُ‬
‫ن‬ ‫فالدواء دواء‪ ،‬والنور نور‪ ،‬والهدى هدى‪ ،‬والشفاء شفاء‪ ،‬ومن هنا َ‬
‫كا َ‬
‫للذين آمنوا هدى وشفاء لنهم يؤمنون به ويطمعون ويسعون للتداوي به‬
‫والقتداء والستضاءة بنوره‪.‬‬
‫• ماذا يجب على النسان معرفته من العقيدة‬
‫ه ت ََعاَلى‪:‬‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬ ‫صن ّ ُُ‬
‫ف َر ِ‬ ‫م ْ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ال ُ‬
‫عاَلى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق‪ ،‬فل هدى إل فيما‬ ‫]والله ت َ َ‬
‫سول‬ ‫جاءَ به الّر ُ‬
‫ن بما َ‬ ‫د أن يؤم َ‬ ‫عَلى كل أح ٍ‬‫جاءَ به‪ ،‬ول ريب أنه يجب َ‬ ‫َ‬
‫عَلى‬‫سول َ‬ ‫ل‪ ،‬ول ريب أن معرفة ماجاء به الّر ُ‬ ‫مجم ً‬‫إيمانا ً عاما ً ُ‬
‫عَلى الكفاية‪ ،‬فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله‬ ‫التفصيل فرض َ‬
‫قْرآن وعقله وفهمه‪ ،‬وعلم الكتاب‬ ‫به رسوله‪ ،‬وداخل في تدبر ال ُ‬
‫والحكمة‪ ،‬وحفظ الذكر‪ ،‬والدعاء إ َِلى الخير‪ ،‬والمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر‪ ،‬والدعاء إ َِلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة‬
‫عَلى‬
‫الحسنة‪ ،‬والمجادلة بالتي هي أحسن‪ ،‬ونحو ذلك مما أوجبه الله َ‬
‫عَلى‬‫عَلى الكفاية منهم‪ .‬وأما ما يجب َ‬ ‫المؤمنين‪ ،‬فهو واجب َ‬
‫أعيانهم‪ :‬فهذا يتنوع بتنوع قدرهم‪ ،‬وحاجتهم ومعرفتهم‪ ،‬وما أمر به‬
‫عَلى العاجز عن سماع بعض العلم أو عن فهم‬ ‫أعيانهم‪ ،‬ول يجب َ‬
‫عَلى من سمع النصوص‬ ‫عَلى ذلك‪ .‬ويجب َ‬ ‫عَلى القادر َ‬‫دقيقه ما يجب َ‬
‫عَلى من لم يسمعها ويجب‬ ‫وفهمها من علم التفصيل مال يجب َ‬
‫على من ليس كذلك[ اهـ‬ ‫َ‬ ‫عَلى المفتي والمحدث والحاكم مال يجب َ‬ ‫َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ه الل ّ ُ‬
‫ه‪ :‬إذا عرفنا أن القرآن‪ ،‬وأن الوحي عامة‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫صن ّ ُ‬
‫م ْ‬
‫يقول ال ُ‬
‫هو النور‪ ،‬وهو الهدى والشفاء‪ ،‬وهو الذي منه تعرف هذه الصول‬
‫عاَلى وما ينبغي لجلل وجهه‬
‫وت َ َ‬ ‫الثلثة‪ ،‬حيث تعرف الله ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫وعظيم سلطانه‪ ،‬ومن أسمائه ومن صفاته‪ ،‬ومن حق العبودية علينا‪.‬‬

‫ن ذلك كذلك فما مقدار معرفة كل إنسان بهذا القرآن؛ وكأنه‬ ‫إذا َ‬
‫كا َ‬
‫عَلى كل إنسان‬
‫بذلك يحتاط ويحترز عن قول بعض الناس‪ :‬إنه يجب َ‬
‫ل‪ ،‬وإل لم يكن مؤمنًا‪.‬‬
‫ة تفصي ً‬
‫أن يعرف العقيدة كامل ً‬

‫وهذا القول قاله بعض المتكلمين والخوارج ‪ ،‬وكثير من الزائغين‬


‫ة‪.‬‬‫ع ِ‬
‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ة َ‬
‫سن ّ ِ‬
‫هل ال ّ‬
‫المنحرفين عن منهج أ ْ‬

‫ة فقولهم هو ما يوافق الكتاب والسنة وهو‪:‬‬


‫ع ِ‬‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ة َ‬
‫سن ّ ِ‬
‫هل ال ّ‬
‫أما أ ْ‬
‫عَلى نوعين‪:‬‬ ‫أن اليمان َ‬

‫إيمان مجمل‪.‬‬

‫وإيمان مفصل‪.‬‬

‫فأما اليمان المجمل‪ :‬فهذا الذي في إمكان كل إنسان أن يعرفه‬


‫عاَلى واحد ل شريك له‪ ،‬وأنه‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫ويتعلمه مثل‪ :‬معرفة أن الله ُ‬
‫سول‬‫م هو َر ُ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫أرسل أنبيائه بالهدى‪ ،‬وأن محمدا ً َ‬
‫الله المطاع المقتدى به وحده‪ ،‬وأن الصلة والزكاة وأشباهها من‬
‫المور الظاهرة المعروفة بالضرورة أنها فرائض‪ ،‬فرضها الله‬
‫عَلى العباد‪ ،‬فهذا يسمى اليمان المجمل‪ ،‬وهو الذي‬ ‫عاَلى َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ُ‬
‫ل‪) :‬أن‬ ‫م في حديث جبريل حين َ‬
‫قا َ‬ ‫سل َ‬‫ّ‬ ‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫علي ْ ِ‬‫ه َ‬
‫صلى الل ُ‬ ‫ّ‬ ‫ذكره النبي َ‬
‫تؤمن بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر وتؤمن بالقدر خيره‬
‫عاَلى( وهذا اليمان المجمل يجب أن يعّلم للعوام‬ ‫وشره من الله ت َ َ‬
‫م من لم‬ ‫حتى يعرفوه ويفهموه‪ ،‬وتقوم الحجة عليهم‪ ،‬وإل فيأث ُ ّ‬
‫يعلمهم‪.‬‬

‫وأما اليمان المفصل‪ :‬فإن معرفته فرض كفاية‪ ،‬مثل‪ :‬معرفة‬


‫السماء والصفات بالتفصيل‪ ،‬وأدلة كل منها‪ ،‬ومعرفة الحكام‬
‫ل؛ لن اليمان شعب‪ ،‬وكل عبادة وطاعة من فرض‬ ‫الشرعية تفصي ً‬
‫أو نفل فهي شعبة من شعب اليمان‪.‬‬
‫قاُلوا‪ :‬يجب معرفة اليمان تفصي ً‬
‫ل‪ ،‬لنه شيء واحد‬ ‫ف َ‬
‫وأما الخوارج َ‬
‫فقط‪ ،‬وهو ما يقوم في القلب‪.‬‬

‫عَلى العلم‪ ،‬لكن العلم‬


‫عاَلى أمرنا أن نتعلم وحثنا َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫والله ُ‬
‫عَلى كل إنسان أن يتعلمه‪ ،‬وهو داخل في قوله‬ ‫التفصيلي ل يجب َ‬
‫م ]التغابن‪.[16:‬‬ ‫ست َطَ ْ‬
‫عت ُ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫قوا الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫فات ّ ُ‬
‫َ‬ ‫عاَلى‪:‬‬ ‫وت َ َ‬ ‫ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫لكنه في حق المة كافة فرض كفاية‪ ،‬يجب أن يوجد في المة‬
‫العلماء والمفتون والحكام الذين يحكمون بما أنزل الله‪ ،‬ويفتون‬
‫عاَلى وما َ‬
‫جاءَ به‬ ‫وت َ َ‬ ‫الّناس بما أنزل الله‪ ،‬ويعلمونهم شرع الله ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫عَلى التفصيل‪.‬‬ ‫سل ّ َ‬
‫م َ‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫النبي َ‬
‫م‪ ،‬فكل إنسان بحسب‬
‫ه ْ‬
‫ر ِ‬ ‫وأما المعرفة العينية فهو متنوع بحسب ُ‬
‫قد َ ِ‬
‫قدرته‪.‬‬
‫• متى يعذر النسان بالجهل‬
‫سان معذور بالجهل أو غير‬
‫لن َ‬
‫وهنا قضية مهمة ينبغي أن نتفطن إليها وهي‪ :‬هل ا ِ‬
‫معذور به؟‬
‫الذي يعرف هذه الحقيقة التي سبق أن ذكرناها الن‪ ،‬وذكرها‬
‫ه ل يخفى عليه الجواب‪ ،‬بل يعرف أن مثل هذا‬‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫الشارح َر ِ‬
‫السؤال ل يجاب عنه بإطلق؛ لننا نفصل فنقول‪:‬‬

‫عَلى كل إنسان أن يعرفه‪ ،‬وهناك ما ل‬ ‫أما اليمان المجمل‪ :‬فيجب َ‬


‫ن بإمكانه أن يعلم وجوب‬ ‫ن‪ ،‬فإن َ‬
‫كا َ‬ ‫مي َ‬‫سل ِ ِ‬ ‫يعذر بجهله أحد من ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫الصلة وفرضية الصلة وأعرض عنه ولم يبال به‪ ،‬فإنه ل يعذر بجهله‬
‫هذا في الصول‪ ،‬أما في الفروع فإنه ُيعاقب؛ لنه فرط ولم يتعلم‬
‫ما يجب عليه من شعب اليمان‪ ،‬فعلى حسب قدرته وطاقته يعاقب‬
‫مادام بإمكانه أن يتعلم‪ ،‬أما من ليس بإمكانه أن يتعلم فل ُيكلف الله‬
‫نفسا ً إل وسعها‪.‬‬

‫ت كثيرة؛ بل قد يجهل‬‫سان بعض المور لعتبارا ٍ‬ ‫لن َ‬


‫وقد يجهل ا ِ‬
‫ل الساسية التي ل يليق بأحد أن‬ ‫ج ّ‬
‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫سان بعض صفات الله َ‬ ‫لن َ‬
‫ا ِ‬
‫يجهلها‪.‬‬

‫ومن ذلك‪ :‬الرجل الذي من بني إسرائيل فقد ثبت في الصحيح‬


‫بروايات صحيحة كثيرة أنه قال لهله عندما حضره الموت‪) :‬إذا أنا‬
‫م ذروني في البحر وفي البر‪ ،‬والله‬ ‫م اطحنوني‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫مت فاحرقوني‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫ي ليعذبني عذابا ً لم يعذبه أحدا ً من العالمين( فإن‬ ‫لئن قدر الله عل ّ‬
‫ل‪ ،‬ولشدة اعترافه‬‫ج ّ‬
‫و َ‬‫عّز َ‬
‫هذا الرجل ليمانه وخوفه من الله َ‬
‫ل أوصى أهله أن يفعلوا به هذا‬ ‫ج ّ‬‫و َ‬ ‫عّز َ‬ ‫وإقراره بتفريطه لحق الله َ‬
‫عَلى كل شيء قدير‪ ،‬وأنه‬ ‫عاَلى َ‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫الفعل‪ ،‬فجهل أن الله ُ‬
‫يحي الموتى‪) ،‬فجمعه الله وأعاده خلقا ً سويا ً كما كان( وهو قادر‬
‫عَلى ما فعلت؟‬ ‫م قال له‪) :‬ما حملك َ‬ ‫عَلى كل شيء‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫عاَلى َ‬
‫وت َ َ‬ ‫ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫ل‪ :‬خوفك يا رب!!(‬ ‫قا َ‬ ‫َ‬

‫ل أو شكا ً في إيمانه أو قدرته‪،‬‬


‫ج ّ‬
‫و َ‬ ‫عَلى الله َ‬
‫عّز َ‬ ‫فلم يفعل ذلك جرأة َ‬
‫ل هو الذي حمله أن يظن أنه سيتخلص من‬ ‫ج ّ‬‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫لكن خوف الله َ‬
‫هذا الهول العظيم إذا أحرق وطحن ووزع في البر والبحر‪.‬‬
‫عَلى‬
‫سان قد يجهل مثل هذه الشياء‪ ،‬ولو علم لتفطن أن الله َ‬
‫لن َ‬
‫فا ِ‬
‫كل شيء قدير‪.‬‬

‫فالشاهد أن قضية العذر بالجهل أو عدم العذر به قضية نسبية‬


‫عاَلى بمقدار ما بلغه من‬
‫وت َ َ‬ ‫متفاوتة‪ ،‬وكل إنسان يحاسبه ربه ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫العلم وما يمكن أن يتعلمه‪.‬‬

‫ء‬
‫ؤل ِ‬ ‫عَلى َ‬
‫ه ُ‬ ‫ه بهذا الكلم الموجز يرد بذلك َ‬‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬‫فالمصنف َر ِ‬
‫المنحرفين من الخوارج أو من المتكلمين في هذه القضية المهمة‪،‬‬
‫فالواجب أن يعلم الجاهل‪ ،‬وأن يدعى الغافل ويذكر‪ ،‬هذا هو واجبنا‪،‬‬
‫وعلى كل من عرف شيئا ً من الحق أن يبذله‪ ،‬وأن يعلم الّناس‬
‫العقيدة الصحيحة‪ ،‬ول يكثر الخوض والجدل في العذر بالجهل أو‬
‫عدم العذر به‪.‬‬

‫عاَلى سوف يحاسبهم كل ً منهم بما بلغه من‬ ‫وت َ َ‬


‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫فإن الله ُ‬
‫سل ّ َ‬
‫م‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫العلم‪ ،‬ونحن سيحاسبنا هل بل ّ ْ‬
‫غَنا دعوة النبي َ‬
‫أم ل؟‬
‫عاَلى هنا موضوع المر بالمعروف‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫ه تَ َ‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬
‫م ْ‬
‫ولذلك يذكر ال ُ‬
‫َ‬
‫والنهي عن المنكر‪ ،‬والدعاء إ ِلى سبيل الله بالحكمة والموعظة‬
‫الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن‪ ،‬ضمن الفروض الكفائية التي‬
‫يجب أن يقوم بها القادر عليها‪ ،‬وبذلك ينتشر العلم في المة ول‬
‫يفشو فيها الجهل‪ ،‬وبذلك تقوم الحجة‪.‬‬
‫• أسباب الضلل والحيرة‬
‫ه ت ََعاَلى‪:‬‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫صن ّ ُ‬
‫م ْ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ال ُ‬
‫]وينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن‬
‫معرفة الحق‪ ،‬فإنما هو لتفريطه في اتباع ماجاء به الرسول‪ ،‬وترك‬
‫النظر والستدلل الموصل إ َِلى معرفته فلما أعرضوا عن كتاب الله‬
‫ْ‬
‫فل‬‫ي َ‬ ‫دا َ‬ ‫ه َ‬
‫ع ُ‬ ‫ن ات ّب َ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ف َ‬‫ى َ‬ ‫هد ً‬ ‫مّني ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ما ي َأت ِي َن ّك ُ ْ‬ ‫فإ ِ ّ‬‫َ‬ ‫ضلوا‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ضْنكا ً‬‫ة َ‬ ‫ش ً‬ ‫عي َ‬ ‫م ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫فإ ِ ّ‬ ‫ري َ‬ ‫ن ِذك ْ ِ‬ ‫ع ْ‬ ‫ض َ‬ ‫عَر َ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫و َ‬ ‫قى * َ‬ ‫ش َ‬ ‫ول ي َ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫يَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫م ال ْ ِ‬
‫ت‬‫قدْ ك ُن ْ ُ‬ ‫و َ‬
‫مى َ‬ ‫ع َ‬ ‫شْرت َِني أ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫م َ‬‫ب لِ َ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫قا َ‬ ‫مى َ‬ ‫ع َ‬
‫ةأ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫قَيا َ‬ ‫و َ‬ ‫شُرهُ ي َ ْ‬ ‫ح ُ‬‫ون َ ْ‬
‫َ‬
‫سى ]طه‪:‬‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ي‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫ها‬ ‫ت‬ ‫سي‬ ‫ن‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫نا‬ ‫ت‬ ‫يا‬ ‫آ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ت‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫*‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫صير‬
‫َ ْ َ ُ ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ َ َ َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫بَ ِ‬
‫‪.[126-123‬‬

‫قْرآن‬ ‫هما‪) :‬تكفل الله لمن قرأ ال ُ‬


‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫قال ابن عباس َر ِ‬
‫وعمل بما فيه‪،‬أن ل يضل في الدنيا‪ ،‬ول يشقى في الخرة‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫م قرأ‬
‫هذه اليات( ‪.‬‬

‫ه‬
‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫ي َر ِ‬
‫عل ِ ّ‬
‫ي وغيره عن َ‬ ‫ذ ّ‬ ‫م ِ‬ ‫وكما في الحديث الذي رواه الت ّْر ِ‬
‫م‪) :‬أل إنها ستكون فتن‪،‬‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫سول الله َ‬
‫ل‪ :‬قال َر ُ‬ ‫َ‬
‫قا َ‬
‫سول الله؟‬ ‫قلت‪ :‬فما المخرج منها يا َر ُ‬
‫َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪ :‬كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم‪ ،‬وخبر ما بعدكم‪ ،‬وحكم ما‬
‫بينكم‪ ،‬هو الفصل‪ ،‬ليس بالهزل‪ ،‬من تركه من جبار قصمه الله‪،‬‬
‫ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله‪ ،‬وهو حبل الله المتين‪ ،‬وهو‬
‫الذكر الحكيم‪ ،‬وهو الصراط المستقيم‪ ،‬وهو الذي ل تزيغ به الهواء‪،‬‬
‫ول تلتبس به اللسن‪ ،‬ول تنقضي عجائبه‪ ،‬ول تشبع منه العلماء‪،‬‬
‫ومن قال به صدق‪ ،‬ومن عمل به أجر‪ ،‬ومن حكم به عدل‪ ،‬ومن دعا‬
‫إليه هدي إ َِلى صراط مستقيم( إلى غير ذلك من اليات والحاديث‪،‬‬
‫عَلى مثل هذا المعنى[ اهـ‪.‬‬
‫الدالة َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫عَلى تساؤل قد يقال وهو‪ :‬إن‬ ‫ه الل ّ ُ‬


‫ه هنا يجيب َ‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬
‫م ْ‬
‫لعل ال ُ‬
‫الوحي من الكتاب والسنة مع أن فيه الحق والنور والهدى‪ ،‬ولكن‬
‫نجد أقواما ً كثيرين حتى من المنتسبين إ َِلى السلم قد ضلوا‬
‫وتخبطوا وتاهوا!‬

‫فمنهم من عبر عن حيرته كما قال أحدهم‪:‬‬


‫وسيرت طرفي‬ ‫لعمري لقد طفت المعاهد كلها‬
‫بين تلك المعالم‬
‫على ذقن أو قارعا ً سن‬ ‫فلم أر إل واضعا ً كف حائر‬
‫نادم‬
‫وكما قال الخر وهو الرازي ‪:‬‬
‫وغاية سعي العالمين‬ ‫نهاية إقدام العقول عقـــال‬
‫ضــلل‬
‫سوى أن جمعنا‬ ‫ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا‬
‫فيه قيل وقالوا‬
‫فعبروا عن حيرتهم وضياعهم مع أن الكتاب والسنة بين أيديهم‪،‬‬
‫وهذا الهدى بين أيديهم؛ لكنهم خاضوا في علم الكلم والعقائد‪،‬‬
‫لمعرفة الله ومعرفة اليوم الخر ومعرفة صفات الله سبحانه‪،‬‬
‫ء ويضلون‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫فتاهوا وحاروا وضلوا‪ ،‬فإذا قيل‪ :‬كيف يضيع َ‬
‫ويتخبطون مع أن الكتاب والسنة بين أيديهم؟‬

‫عَلى ذلك ويقول‪:‬‬


‫عاَلى َ‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫ه تَ َ‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬
‫م ْ‬
‫فيجيب ال ُ‬
‫]إن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز عن معرفته‪ ،‬فإنما بسبب‬
‫سل ّ َ‬
‫م وترك‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫سول َ‬
‫جاءَ به الّر ُ‬
‫تفريطه في اتباع ما َ‬
‫النظر والستدلل الموصل إ َِلى معرفته[‪.‬‬
‫ن‬ ‫ن مؤمنًا‪ ،‬وإن َ‬
‫كا َ‬ ‫فلم يأخذ الحق من مصدره الصحيح‪ ،‬وإن َ‬
‫كا َ‬
‫قْرآن والقتداء بهديه‪،‬‬‫قْرآن بين يديه‪ ،‬لكنه فرط في اتباع هذا ال ُ‬
‫ال ُ‬
‫فحينئذ عوقب بالضلل والحيرة والعياذ بالله‪.‬‬
‫• أنواع النظر والستدلل‬
‫النظر والستدلل هو بمعنى المعرفة العقلية‪ ،‬وإذا جاءت كلمة النظر في هذا‬
‫الشرح فمعناها‪ :‬المعرفة العقلية‪ ،‬أو الجتهاد العقلي‪ ،‬أو الستدلل العقلي‪.‬‬
‫والنظر نوعان‪:‬‬

‫النوع الول‪ :‬نظر عقلي محض وهو النظر الكلمي‪ :‬وهو اتباع‬
‫القواعد المنطقية والفلسفية في التفكير‪ ،‬فهذا النظر ل يأتي إل‬
‫بالضلل‪ ،‬ول يثمر لصاحبه أي علم أو هدى‪.‬‬

‫ء المعبرون عن حيرتهم وضياعهم وضللهم‪.‬‬ ‫ه ُ‬


‫ؤل ِ‬ ‫وهذا الذي سلكه َ‬

‫النوع الثاني‪ :‬نظر شرعي وهو‪ :‬النظر لفهم نصوص الكتاب والسنة‬
‫ج ّ‬
‫ل‪ ،‬كما أمر الله‬ ‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫بالتدبر والتأمل والتفكر لفهم كتاب الله َ‬
‫عاَلى‪.‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ُ‬
‫وهذا الستدلل هو الذي يوصل إ َِلى اليقين‪ ،‬فطريق اليقين هو‪:‬‬
‫النظر أو الستدلل الشرعي‪ ،‬ل الستدلل والنظر الكلمي‬
‫عاَلى ضرب لنا المثلة الكثيرة‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫المنطقي‪،‬ومن ذلك أن الله ُ‬
‫عَلى أعظم القضايا وهي قضايا اليمان‪ ،‬فقضية اليمان بالله‬ ‫َ‬
‫سبحانه مثل ً ضرب الله عليها المثلة لثبات وحدانيته سبحانه‪ ،‬وأنه‬
‫م حق‪.‬‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫قْرآن حق‪ ،‬وأن محمدا ً َ‬ ‫حق‪ ،‬وعلى أن ال ُ‬

‫في‬ ‫و ِ‬ ‫ق َ‬ ‫في اْل َ‬


‫فا ِ‬ ‫م آَيات َِنا ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫سن ُ ِ‬‫َ‬ ‫عاَلى‪:‬‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫يقول الله ُ‬
‫َ‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫ق ]فصلت‪ [53:‬فهناك آيات في‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ال ْ َ‬ ‫م أن ّ ُ‬ ‫ه ْ‬‫ن لَ ُ‬ ‫حّتى ي َت َب َي ّ َ‬ ‫م َ‬‫ه ْ‬
‫س ِ‬‫ف ِ‬
‫الكون‪ ،‬وآيات في النفس‪ ،‬فعلماء الفلك والطب مثل ً يعرفون هذه‬
‫المور‪ ،‬والبدوي العامي الجاهل ينظر إ َِلى السماء كيف رفعت‪،‬‬
‫وإلى الجبال كيف نصبت‪ ،‬وإلى الرض كيف سطحت‪ ،‬وبإمكانه أن‬
‫ينظر إ َِلى البعير الذي يركبه كيف خلق‪ ،‬فيصل به نظره وتدبره إ َِلى‬
‫َ‬
‫ل لَ ُ‬
‫ه‬ ‫ع ْ‬
‫ج َ‬
‫م نَ ْ‬ ‫اليقين والعتقاد الجازم الصادق الذي ل يدخله ريب أل َ ْ‬
‫ن ]البلد‪ [10-8 :‬كل‬ ‫جدَي ْ ِ‬ ‫هدَي َْناهُ الن ّ ْ‬ ‫و َ‬ ‫ن* َ‬ ‫فت َي ْ ِ‬‫ش َ‬ ‫و َ‬ ‫سانا ً َ‬ ‫ول ِ َ‬
‫ن* َ‬ ‫عي ْن َي ْ ِ‬
‫َ‬
‫عالى‪ ،‬فيصل عن طريق هذا‬ ‫َ‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫إنسان ينظر كيف خلقه الله ُ‬
‫عاَلى حق‪.‬‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫النظر إ َِلى أن الله ُ‬
‫وكذلك اليمان باليوم الخر‪ ،‬وهو أكثر القضايا الغيبية إنكارا ً عند‬
‫عَلى اليمان باليوم‬ ‫عاَلى أقسم َ‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ن‪ ،‬فإن الله ُ‬ ‫كي َ‬ ‫ر ِ‬‫ش ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫ن‪ ،‬فأقسم‬ ‫كي َ‬
‫ر ِ‬ ‫م ْ‬
‫ش ِ‬ ‫الخر‪ ،‬لنه يقابل بالنكار وبالجحود من كثير من ال ْ ُ‬
‫عَلى أن البعث حق في ثلثة مواضع من كتاب‬ ‫عاَلى َ‬
‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫الله ُ‬
‫عاَلى‪ ،‬وبين الحكمة العظيمة في ذلك‪ ،‬بحيث لو‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫الله ُ‬
‫سان لفطن وتدبر أن اليمان بالموت حق‪.‬‬ ‫لن َ‬ ‫تأملها ا ِ‬
‫عاَلى في سور كثيرة وآيات عديدة المثال‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫فضرب الله ُ‬
‫جاءَ المطر‪ ،‬أتت الزهور الخضراء‬ ‫بإحياء الرض الميتة‪ ،‬فإذا َ‬
‫والحمراء‪ ،‬والنباتات الطويلة‪ ،‬والنباتات الممتدة‪ ،‬ولها روائح‬
‫مختلفة‪ ،‬ولها نسبة من السكر‪ ،‬هذا أكثر‪ ،‬وهذا أقل‪ ،‬وهذا مر‪ ،‬وهذا‬
‫فيه دواء‪ ،‬وهذا فيه غذاء للناس‪ ،‬وهذا فيه غذاء للدواب‪.‬‬

‫عَلى إحياء الموتى بإحياء الرض‬ ‫فهو سبحانه ضرب المثل بأنه قادر َ‬
‫َ‬
‫وَتى‬ ‫م ْ‬‫حِيي ال ْ َ‬ ‫م ْ‬‫ها ل َ ُ‬ ‫حَيا َ‬ ‫ذي أ ْ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫عاَلى‪ :‬و إ ِ ّ‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫الميتة‪ ،‬قال الله ُ‬
‫عاَلى لنا هذه المثلة‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫]فصلت‪ [39:‬فيضرب الله ُ‬
‫عاَلى حق‪ ،‬وأن اليمان بالخرة يقين‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫لنستيقن‪ ،‬ونعلم أنه ُ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫وأ ْ‬ ‫َ‬
‫ه ْ‬
‫مان ِ ِ‬‫هدَ أي ْ َ‬ ‫ج ْ‬
‫ه َ‬ ‫موا ِبالل ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ق َ‬ ‫َ‬ ‫عالى‪:‬‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫ل يتزعزع لذلك يقول ُ‬
‫َ‬
‫سل‬ ‫ن أك ْث ََر الّنا ِ‬ ‫ول َك ِ ّ‬ ‫قا ً َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫عدا ً َ‬ ‫و ْ‬ ‫ت ب ََلى َ‬ ‫مو ُ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ه َ‬‫ث الل ّ ُ‬‫ع ُ‬‫ل ي َب ْ َ‬
‫فُروا‬ ‫ن كَ َ‬‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫عل َ َ‬ ‫ول ِي َ ْ‬
‫ه َ‬ ‫في ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫فو َ‬ ‫خت َل ِ ُ‬ ‫ذي ي َ ْ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫ه ُ‬‫ن لَ ُ‬ ‫ن * لي ُب َي ّ َ‬ ‫مو َ‬ ‫عل َ ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫ن ]النحل‪.[39-38:‬‬ ‫كاُنوا َ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫كاِذِبي َ‬ ‫ه ْ‬ ‫أن ّ ُ‬
‫عَلى أن البعث حق؛ وهي‪ :‬العبرة النظرية‪ ،‬حيث‬ ‫هنا آيات أخرى تدل َ‬
‫ن‪" :‬والله ل يبعث الله من يموت"‬ ‫كو َ‬ ‫ر ُ‬‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫سان إذا قال ال ُ‬ ‫لن َ‬ ‫يتفكر ا ِ‬
‫َ‬ ‫وأ َ ْ‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫عدا ً َ‬ ‫ت ب ََلى َ‬
‫و ْ‬ ‫مو ُ‬
‫ن يَ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ث الل ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ع ُ‬‫م ل ي َب ْ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫مان ِ ِ‬‫هدَ أي ْ َ‬ ‫ج ْ‬‫ه َ‬ ‫موا ِبالل ّ ِ‬ ‫س ُ‬‫ق َ‬ ‫َ‬
‫مون َ ]النحل‪ [39:‬ليبين الحكمة قال‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫عل ُ‬ ‫س ل يَ ْ‬ ‫ن أكثَر الّنا ِ‬ ‫ولك ِ ّ‬ ‫حقا َ‬ ‫َ‬
‫ه هذه واحدة‪.‬‬ ‫في ِ‬‫ن ِ‬ ‫فو َ‬ ‫خت َل ِ ُ‬ ‫ذي ي َ ْ‬ ‫ّ‬
‫م ال ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫َ‬
‫نل ُ‬ ‫تعالى‪ :‬ل ِي ُب َي ّ َ‬
‫َ‬
‫سان‬
‫لن َ‬
‫لو تأمل ا ِ‬ ‫ن‬ ‫كاُنوا َ‬
‫كاِذِبي َ‬ ‫م َ‬
‫ه ْ‬ ‫ن كَ َ‬
‫فُروا أن ّ ُ‬ ‫م ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫عل َ َ‬
‫ول ِي َ ْ‬
‫َ‬ ‫والخرى‬
‫هاتين الحكمتين لستيقن أنه ل بد من اليوم الخر‪.‬‬

‫ه فكم يختلف البشر في قضايا‬ ‫في َِ‬‫ن ِ‬ ‫فو َ‬ ‫خت َل ِ ُ‬‫ذي ي َ ْ‬‫م ال ّ ِ‬ ‫ن لَ ُ‬
‫ه ُ‬ ‫ل ِي ُب َي ّ َ‬
‫علمية وفي دعاوى وحقوق‪ ،‬بل اختلف الّناس في أمور أعظم من‬
‫ل‪ ،‬فمنهم من يعبد الحجار ويقول‪ :‬هذا ربي‪،‬‬ ‫ج ّ‬ ‫و َ‬ ‫عّز َ‬ ‫ذلك وهو ربهم َ‬
‫عاَلى حق العبادة‪ ،‬ومنهم من يعبد‬
‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬ ‫ومنهم من يعبد الله ُ‬
‫ثلثة‪ ،‬ومنهم من يعبد عشرة‪.‬‬
‫وهذه الختلفات الواقعة بين الّناس ووجود الظالم والمظلوم‪،‬‬
‫ل الذي يعيش‬ ‫ج ّ‬ ‫و َ‬ ‫عّز َ‬‫والباغي الباطش المتكبر الجبار المحارب لله َ‬
‫ل‪ ،‬ويتسلط‬ ‫ج ّ‬ ‫و َ‬ ‫عّز َ‬‫عمرا ً طويل ً في عافية وقوة‪ ،‬يظلم عباد الله َ‬
‫م يأتيه الموت‪ ،‬ويوجد من‬ ‫عَلى دمائهم وأموالهم‪ ،‬ويفعل ما يشاء ث ُ ّ‬ ‫َ‬
‫ل الذين يبتلون‬‫ج ّ‬ ‫و َ‬‫عّز َ‬‫عباد الله الصادقين المخلصين المقربين لله َ‬
‫م يموت‪.‬‬‫بأنواع من اللم والفتن‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫• تنزيه الله تعالى لنفسه‬
‫ه ت ََعاَلى‪:‬‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫صن ّ ُ‬
‫م ْ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ال ُ‬
‫]ول يقبل الله من الولين والخرين دينا ً يدينون به؛ إل أن يكون‬
‫عَلى ألسنة رسله عليهم السلم وقد نزه‬ ‫موافقا ً لدينه الذي شرعه َ‬
‫عاَلى نفسه عما يصفه العباد‪ ،‬إل ما وصفه به المرسلون بقوله‬ ‫الله ت َ َ‬
‫عَلى‬
‫م َ‬‫سل ٌ‬
‫و َ‬‫ن* َ‬ ‫فو َ‬‫ص ُ‬ ‫ما ي َ ِ‬‫ع ّ‬
‫ة َ‬ ‫عّز ِ‬ ‫ب ال ْ ِ‬
‫ك َر ّ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫حا َ‬‫سب ْ َ‬
‫ُ‬ ‫سبحانه‪:‬‬
‫ن ]الصافات‪ [182-180 :‬فنزه‬ ‫مي َ‬ ‫َ‬
‫عال ِ‬ ‫ْ‬
‫ب ال َ‬ ‫ه َر ّ‬ ‫ّ‬
‫مدُ ل ِل ِ‬ ‫ح ْ‬ ‫ْ‬
‫وال َ‬ ‫ن* َ‬ ‫سِلي َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫مْر َ‬
‫عَلى المرسلين‪،‬‬ ‫م سلم َ‬ ‫نفسه سبحانه عما يصفه به الكافرون‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫عَلى‬
‫م حمد نفسه َ‬ ‫لسلمة ما وصفوه به من النقائص والعيوب‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫تفرده بالوصاف التي يستحق عليها كمال الحمد[ اهـ‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ن من قولهم‪ :‬إن الملئكة‬ ‫فو َ‬‫ص ُ‬


‫ما ي َ ِ‬
‫ع ّ‬‫ه َ‬‫ن الل ّ ِ‬‫حا َ‬‫سب ْ َ‬
‫ُ‬ ‫قال تعالى‪:‬‬
‫عاَلى بعد‬ ‫إناث‪ ،‬وإنهم بنات الله‪ ،‬وجعلوا بينه وبينهم نسبا ً َ‬
‫ف َ‬
‫قا َ‬
‫ل تَ َ‬
‫عاَلى الله وتبارك وتقدس وتنزه‬ ‫ن تَ َ‬ ‫فو َ‬ ‫ص ُ‬
‫ما ي َ ِ‬‫ع ّ‬
‫ه َ‬ ‫ن الل ّ ِ‬
‫حا َ‬
‫سب ْ َ‬
‫ُ‬ ‫ذلك‪:‬‬
‫عما يصفون‪.‬‬

‫ن يعني‪ :‬إل الوصف الذي يصفه به عباده‬ ‫خل َ ِ‬


‫صي َ‬ ‫ه ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫عَبادَ الل ّ ِ‬
‫إ ِل ّ ِ‬
‫المخلصون‪ ،‬فما يطلقه عليه غيره من الوصاف‪ ،‬فإنه ينزه عنه‪ ،‬إل‬
‫العباد الذين ذكرهم في هذه السورة وفي غيرها ‪-‬وهم‪ :‬نوح‬
‫عاَلى الذين يصفون الله‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫وموسى وإبراهيم‪ -‬وأنبياء الله ُ‬
‫بأوصاف الحق‪.‬‬

‫م يقولون‪:‬‬ ‫ء الذين يجعلون الملئكة بنات الله والعياذ بالله‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫أما َ‬
‫ل‬ ‫قا َ‬ ‫ف َ‬ ‫إنهم يؤمنون بالله‪ ،‬فقد رد الله عليهم في سور كثيرة َ‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫ت ُ‬ ‫ه ال ْب ََنا ِ‬ ‫ن ل ِل ّ ِ‬ ‫عُلو َ‬ ‫ج َ‬ ‫وي َ ْ‬‫َ‬ ‫عاَلى في سورة النحل‪:‬‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫ُ‬
‫و‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫م ِبالن َْثى ظ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ذا ب ُ ّ‬
‫وإ ِ َ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫َ‬
‫ه َ‬‫و ُ‬‫ودّا َ‬ ‫س َ‬
‫م ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫ه ُ‬‫ج ُ‬‫و ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه ْ‬ ‫حد ُ ُ‬ ‫شَر أ َ‬ ‫ن* َ‬ ‫هو َ‬ ‫شت َ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ول ُ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫نأ ْ‬ ‫هو ٍ‬ ‫على ُ‬ ‫ه َ‬ ‫سك ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ه أي ُ ْ‬ ‫ما ب ُشَر ب ِ ِ‬ ‫ء َ‬ ‫سو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬‫وم ِ ِ‬ ‫ن ا لق ْ‬ ‫م َ‬ ‫واَرى ِ‬ ‫م * ي َت َ َ‬ ‫ظي ٌ‬ ‫ك ِ‬
‫ن ِباْل ِ‬ ‫َ‬
‫مث َ ُ‬
‫ل‬ ‫ة َ‬ ‫خَر ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬‫ن ل يُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن * ل ِل ّ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫حك ُ ُ‬‫ما ي َ ْ‬ ‫ساءَ َ‬ ‫ب أل َ‬ ‫في الت َّرا ِ‬ ‫ه ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ي َدُ ّ‬
‫م ]النحل‪.[60-57:‬‬ ‫كي ُ‬
‫ح ِ‬ ‫زيُز ال ْ َ‬ ‫ع ِ‬‫و ال ْ َ‬ ‫ه َ‬‫و ُ‬‫عَلى َ‬ ‫ل اْل َ ْ‬ ‫ه ال ْ َ‬
‫مث َ ُ‬ ‫ول ِل ّ ِ‬
‫ء َ‬ ‫و ِ‬ ‫س ْ‬ ‫ال ّ‬
‫ء ينسبون لله ما يترفعون عنه‪ ،‬أما عباد الله المخلصون فإنهم‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫ف َ‬
‫َ‬
‫يصفونه بما هو أهل له‪ ،‬فغير الن ْب َِياء والمرسلين ومن سلك‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ن ُ‬ ‫عال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫ب ال ْ َ‬
‫طريقهم هم ضالون مخطئون فيما يصفون به َر ّ‬
‫عاَلى‪ .‬ولو تأملنا المم والطوائف والفرق لوجدنا أن هذه الية ترد‬ ‫وت َ َ‬ ‫َ‬
‫على جميع الملل والفرق التي شذت وانحرفت فيما يتعلق بصفات‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عاَلى‪،‬فـاليهود قالوا‪ :‬يد الله مغلولة! وقالوا في‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫الله ُ‬
‫توراتهم المحرفة‪ :‬إن الله صارع يعقوب إ َِلى الفجر والعياذ بالله!‬
‫قاُلوا‪ :‬إن عزيرا ً ابن الله ‪-‬تعالى الله عن ذلك‪.-‬‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫صاَرى‪ :‬إن المسيح ابن الله‪ ،‬وإنه ثالث ثلثة‪ ،‬وتعالى‬
‫وعن قول الن ّ َ‬
‫الله عن قول مشركي العرب‪ :‬إن الملئكة بنات الله‪.‬‬

‫وتعالى الله عن قول أمم التتار والمغول واليابانيين وأمثالهم‪ :‬إن‬


‫ء الملوك‬
‫ؤل ِ‬ ‫عاَلى تزوج الشمس‪ ،‬وولد من الشمس َ‬
‫ه ُ‬ ‫وت َ َ‬ ‫الله ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫والباطرة الذين يتناسلون‪ ،‬وهم يعبدونهم من أجل ذلك‪.‬‬
‫وتعالى الله عن قول الشيوعيين‪ :‬إنه ل إله‪ ،‬ول وجود له تعالى‪ ،‬أو‬
‫إنه أسير‪ ،‬أو هواء‪ ،‬كما يقول أصحاب النظرية الثيرية وما أشبهها‪.‬‬
‫وتعالى الله أن يكون العقل الكلي ‪-‬كما يقول أفلطون‬
‫وأرسطو‪: -‬خلق عشرة عقول تدير الكون وبقي ل يعمل شيئًا‪.‬‬

‫وتعالى الله أن يكون كما قالت الرافضة ‪ :‬إنه فوض أمر السماوات‬
‫والرض إ َِلى الئمة الثني عشر يعملون ما يشاءون ويديرون الكون‪،‬‬
‫فشابهوا قول اليهود أنه خلق السموات والرض في ستة أيام‪،‬ث ُ ّ‬
‫م‬
‫َ‬
‫ما‬
‫و َ‬ ‫واْلْر َ‬
‫ض َ‬ ‫ت َ‬
‫وا ِ‬
‫ما َ‬
‫س َ‬
‫قَنا ال ّ‬‫خل َ ْ‬
‫قد ْ َ‬‫ول َ َ‬
‫َ‬ ‫استراح في اليوم السابع‬
‫غوب ]ق‪ [38:‬وتعالى الله عما‬ ‫ن لُ ُ‬ ‫في ست ّ َ‬
‫م ْ‬‫سَنا ِ‬ ‫م ّ‬
‫ما َ‬
‫و َ‬
‫ة أّيام ٍ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ما ِ‬
‫ه َ‬
‫ب َي ْن َ ُ‬
‫يقوله المعتزلة ‪ :‬من أنه عليم بل علم‪ ،‬وقدير بل قدرة‪ ،‬وعزيز بل‬
‫عزة‪ ،‬إ َِلى آخر ما يقولون ويفترون‪ ،‬وتعالى الله عما يقول‬
‫الحلوليون‪ :‬من أنه يحل في كل مكان‪ ،‬حتى في الماكن القذرة‬
‫والنجسة‪ ،‬والعياذ بالله‪.‬‬

‫وتعالى الله عما يقول الشاعرة وغيرهم‪ :‬من أنه ليس فوق‬
‫عَلى عرشه‪.‬‬
‫السماوات ول مستويا ً َ‬

‫ل‪:‬‬ ‫عاَلى في هذه الية عندما َ‬


‫قا َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫وهكذا نجد أن الله ُ‬
‫ن ]الصافات‪-159:‬‬ ‫صي َ‬ ‫خل َ ِ‬‫م ْ‬‫ه ال ْ ُ‬ ‫عَبادَ الل ّ ِ‬ ‫ن * إ ِّل ِ‬ ‫فو َ‬ ‫ص ُ‬
‫ما ي َ ِ‬‫ع ّ‬ ‫ن الل ّ ِ‬
‫ه َ‬ ‫حا َ‬‫سب ْ َ‬‫ُ‬
‫‪ [160‬نزه نفسه عن جميع الوصاف التي يصفه بها جميع المم‬
‫َ‬ ‫خل َ ِ‬
‫ن( ‪ ،‬وهم الن ْب َِياء‬ ‫صي َ‬ ‫م ْ‬‫ه ال ْ ُ‬ ‫عَبادَ الل ّ ِ‬ ‫الضالة وجميع الفرق الضالة )إ ِّل ِ‬
‫ة‬
‫سن ّ ِ‬
‫هل ال ّ‬ ‫م وصحبه‪ ،‬وهم أ ْ‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬‫صّلى الل ُ‬ ‫مد َ‬ ‫ح ّ‬
‫م َ‬‫والرسل‪ ،‬وهم ُ‬
‫ة ‪ ،‬والذين اتبعوهم بإحسان‪ ،‬وهم الذين يصفون الله‬ ‫ع ِ‬
‫ما َ‬‫ج َ‬‫وال ْ َ‬‫َ‬
‫عاَلى بالمحامد‪ ،‬وبالسماء الحسنى وبالصفات العل‪،‬‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫حا‬
‫ُ ْ َ َ ُ َ َ َ‬ ‫ب‬ ‫س‬
‫ويثبتون له ما أثبته لنفسه‪.‬‬

‫فهذه الطائفة ‪-‬الفرقة الناجية المنصورة ‪ -‬وحدها هي المستثناة؛‬


‫لنها تعلم أن له المثل العلى في السماوات والرض‪ ،‬وأنه‪ :‬ل َي ْ َ‬
‫س‬
‫ع ال ْب َ ِ‬
‫صيُر ]الشورى‪.[11:‬‬ ‫مي ُ‬
‫س ِ‬
‫و ال ّ‬
‫ه َ‬
‫و ُ‬
‫يء ٌ َ‬ ‫ه َ‬
‫ش ْ‬ ‫كَ ِ‬
‫مث ْل ِ ِ‬

‫ه الل ّ ُ‬
‫ه‪] :‬فنزه نفسه سبحانه عما يصفه به‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬‫صّنف َر ِ‬ ‫م ْ‬
‫يقول ال ُ‬
‫عَلى المرسلين‪ ،‬لسلمة ما وصفوه به من‬ ‫م سلم َ‬ ‫الكافرون‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫النقائص والعيوب[‪.‬‬

‫فقوله‪] :‬من النقائص والعيوب[ "من"‪ :‬ترجع إ َِلى كلمة سلمة‪ ،‬ل‬
‫إ َِلى كلمة وصفوه‪ ،‬أي‪ :‬لسلمة ما قالوه في حق الله من النقائص‬
‫والعيوب‪ ،‬أي أن كلمهم في حق الله سليم من النقائص ومن‬
‫ما وصفوه من النقائص والعيوب‪.‬‬ ‫العيوب‪ ،‬وليس معناها‪ :‬ل ِ َ‬
‫ف التي يستحق بها كمال الحمد‬ ‫عَلى تفرده بالوصا ِ‬ ‫م حمد نفسه َ‬ ‫ثُ ّ‬
‫ن ]الصافات‪[182:‬‬ ‫مي َ‬ ‫َ‬
‫عال ِ‬ ‫ْ‬
‫ب ال َ‬
‫ه َر ّ‬ ‫ّ‬
‫مدُ ل ِل ِ‬
‫ح ْ‬ ‫ْ‬
‫وال َ‬
‫َ‬ ‫ل‪:‬‬ ‫َ‬
‫عالى ف َ‬
‫قا َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫ُ‬
‫ن‬ ‫عال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫ب ال ْ َ‬‫ه َر ّ‬ ‫مدُ ل ِل ّ ِ‬
‫ح ْ‬‫وال ْ َ‬‫َ‬ ‫فختم السورة‪ ،‬وختم هذه المعاني بقوله‪:‬‬
‫عالى لكمال الحمد‬ ‫َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫]الصافات‪ [182:‬فهو المستحق ُ‬
‫وكمال الشكر المتفرد به‪ ،‬وكلمة الحمد‪ :‬تشمل جميع أنواع‬
‫المحامد؛ لن "ال" هنا للستغراق‪ ،‬أي‪ :‬جميع أنواع الحمد والثناء‬
‫عاَلى‪.‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ك َ‬ ‫عاَلى فهو يستحقه ت ََباَر َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫اللئق بجلل الله ُ‬
‫• أهمية البصيرة في الدعوة إلى الله‬
‫ه ت ََعاَلى‪:‬‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫صن ّ ُ‬
‫م ْ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ال ُ‬
‫م خير‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬‫سول َ‬ ‫ن عليه الّر ُ‬ ‫كا َ‬‫عَلى ما َ‬ ‫]ومضى َ‬
‫القرون‪ ،‬وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان‪ ،‬يوصي به الول‬
‫مد‬‫ح ّ‬‫م َ‬‫الخر ويقتدي فيه اللحق بالسابق‪ ،‬وهم في ذلك كله بنبيهم ُ‬
‫م مقتدون‪ ،‬وعلى منهاجه سالكون‪ ،‬كما قال‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ة‬
‫صيَر ٍ‬‫عَلى ب َ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫عو إ َِلى الل ّ ِ‬ ‫سِبيِلي أدْ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ذ ِ‬
‫ه ِ‬
‫ل َ‬ ‫ُ‬
‫ق ْ‬ ‫عاَلى في كتابه العزيز‪:‬‬ ‫تَ َ‬
‫عِني‬ ‫َ‬ ‫عِني ]يوسف‪ ،[108 :‬فإن َ‬ ‫َ‬
‫ن ات ّب َ َ‬‫م ِ‬ ‫و َ‬ ‫ن قوله أَنا َ‬ ‫كا َ‬ ‫ن ات ّب َ َ‬‫م ِ‬
‫و َ‬
‫أَنا َ‬
‫عَلى أن أتباعه هم‬ ‫عَلى الضمير في "أدعو" فهو دليل َ‬ ‫معطوفا ً َ‬
‫عَلى الضمير المنفصل فهو صريح‬ ‫ن معطوفا ً َ‬ ‫الدعاة إ َِلى الله وإن َ‬
‫كا َ‬
‫جاءَ به دون غيرهم‪ ،‬وكل المعنيين‬ ‫أن أتباعه هم أهل البصيرة فيما َ‬
‫حق[ اهـ‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫عَلى العتقاد الصحيح ‪-‬في حق‬ ‫ه‪ :‬مضى َ‬ ‫ه الل ّ ُ‬‫م ُ‬


‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬ ‫م ْ‬ ‫يقول ال ُ‬
‫م‪ ،‬وأصحابه خير‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫عاَلى‪ -‬النبي َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫الله ُ‬
‫عو إ َِلى‬ ‫َ‬
‫سِبيِلي أدْ ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫ُ‬ ‫عاَلى‪:‬‬
‫ه َ‬ ‫ذ ِ‬ ‫ه ِ‬‫ل َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫القرون‪ ،‬كما قال الله ُ‬
‫َ‬ ‫عَلى بصير َ‬
‫ن‬
‫كي َ‬
‫ر ِ‬
‫ش ِ‬ ‫م ْ‬‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬
‫ما أَنا ِ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ ِ‬ ‫حا َ‬ ‫سب ْ َ‬
‫و ُ‬ ‫عِني َ‬ ‫ن ات ّب َ َ‬ ‫م ِ‬
‫و َ‬
‫ة أَنا َ‬ ‫َ ِ َ ٍ‬ ‫الل ّ ِ‬
‫ه َ‬
‫ه في هذه الية معنيين‪،‬‬ ‫ه الل ّ ُ‬ ‫م ُ‬‫ح َ‬ ‫صّنف َر ِ‬ ‫م ْ‬ ‫]يوسف‪ [108:‬ويذكر ال ُ‬
‫بحسب الوقوف‪.‬‬

‫عَلى‬ ‫َ‬ ‫م قلنا‬ ‫ه فوقفنا ث ُ ّ‬ ‫عو إ َِلى الل ّ ِ‬ ‫سِبيِلي أ َدْ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ذ ِ‬‫ه ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ق ْ‬‫ُ‬ ‫فإذا قلنا‪:‬‬
‫عَلى‬‫عِني فهذا له معنى‪ ،‬أي‪ :‬أنا ومن اتبعني َ‬ ‫بصير َ‬
‫ن ات ّب َ َ‬‫م ِ‬ ‫و َ‬ ‫ة أَنا َ‬ ‫َ ِ َ ٍ‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫ه َ‬‫صّلى الل ُ‬ ‫بصيرة‪ ،‬وغيرنا ليس لديه بصيرة‪ ،‬فالمعنى أن النبي َ‬
‫م يخبر‬ ‫ه ‪ ،‬ثُ ّ‬ ‫عو إ َِلى الل ّ ِ‬ ‫سِبيِلي أ َدْ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ذ ِ‬‫ه ِ‬
‫ل َ‬ ‫ق ْ‬‫ُ‬ ‫م أمر أن يقول‪:‬‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫ن الوحيدون الذين‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ح ُ‬ ‫عِني أي ن َ ْ‬ ‫ن ات ّب َ َ‬ ‫م ِ‬ ‫و َ‬
‫ة أَنا َ‬ ‫صيَر ٍ‬ ‫على ب َ ِ‬ ‫َ‬ ‫في َقول‪:‬‬
‫عَلى ضلل‪.‬‬ ‫عَلى بصيرة‪ ،‬لن منهجنا هو الحق‪،‬وأما غيرنا فهو َ‬ ‫َ‬
‫عَلى بصير َ‬ ‫سِبيِلي أ َدْ ُ‬
‫ن‬
‫م ِ‬
‫و َ‬
‫ة أَنا َ‬
‫َ ِ َ ٍ‬ ‫عو إ َِلى الل ّ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬
‫ذ ِ‬
‫ه ِ‬
‫ل َ‬ ‫ُ‬
‫ق ْ‬ ‫وإذا قلنا‪:‬‬
‫عِني دون وقوف فهذا له معنى آخر‪ ،‬أي‪ :‬أنا ومن اتبعني ندعو‬ ‫ات ّب َ َ‬
‫عَلى جهل‪ .‬وكل المعنيين لهما مدلول واضح‬ ‫عَلى بصيرة ل َ‬ ‫إ َِلى الله َ‬
‫وجيد‪.‬‬
‫ن المعنى الثاني هو الظهر‪ ،‬وهو المتبادر؛ لن معناه‪ُ :‬‬
‫ق ْ‬
‫ل‬ ‫كا َ‬‫وإن َ‬
‫عِني أي‪ :‬إنني‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ات ّب َ َ‬
‫م ِ‬
‫و َ‬
‫ة أَنا َ‬
‫صيَر ٍ‬
‫على ب َ ِ‬‫ه َ‬
‫عو إ ِلى الل ِ‬
‫سِبيِلي أدْ ُ‬
‫ه َ‬‫ذ ِ‬
‫ه ِ‬
‫َ‬
‫عَلى بصيرة‪،‬‬
‫عاَلى ندعو إ َِلى الله َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫وأتباعي المؤمنون بالله ُ‬
‫على بصيرة‪ ،‬فإن أحبار‬ ‫َ‬ ‫وغيرنا يدعو إ َِلى الله؛ لكنه ل يدعو إ ِلى الله َ‬
‫َ‬
‫صاَرى يدعون إ َِلى الله ‪-‬كما يظنون‪ ،-‬لكنهم ل‬ ‫اليهود ورهبان الن ّ َ‬
‫َ‬
‫على بصيرة‪ ،‬وإنما يدعون إ ِلى الضلل‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عالى َ‬ ‫يدعون إ َِلى الله ت َ َ‬
‫والشرك بالله‪ .‬وكم تبذل الكنيسة من الموال ومن الجهود من أجل‬
‫عَلى غير بصيرة‪.‬‬ ‫الدعوة إ َِلى دينهم‪َ ،‬‬

‫مقدمة شرح العقيدة الطحاوية ‪3‬‬


‫يتكلم الشيخ حفظه الله في هذا الدرس عن تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وأنه‬
‫بلغ البلغ المبين‪ ،‬ويتحدث عن بعض أسباب الختلف‪ ،‬ثم ينتقل للحديث عن البدع وعن‬
‫ظهورها وخطورتها‪ ،‬وتحدث عن التأويل وخطورته ومراتبه وتكلم في آخر الدرس عن‬
‫أقسام الشيعة‪.‬‬

‫‪ - 1‬تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم البلغ المبين‬


‫ه ت ََعاَلى‪:‬‬
‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬‫ح َ‬‫ف َر ِ‬ ‫مصن ّ ُ‬ ‫ل ال ُ‬ ‫َقا َ‬
‫م البلغ المبين‪ ،‬وأوضح الحجة‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬‫سول صّلى الل ُ‬ ‫]وقد بلغ الّر ُ‬
‫م خلف من بعدهم خلف اتبعوا‬ ‫للمستبصرين‪ ،‬وسلك سبيله خير القرون‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫أهواءهم‪ ،‬وافترقوا‪ ،‬فأقام الله لهذه المة من يحفظ عليها أصول دينها‪،‬‬
‫ة من أمتي‬ ‫م بقوله‪) :‬ل تزال طائف ٌ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫كما أخبر الصادق صّلى الل ُ‬
‫عَلى الحق ل يضرهم من خذلهم( وممن قام بهذا الحق من‬ ‫ظاهرين َ‬
‫مد بن سلمة الزدي‬ ‫ح ّ‬
‫م َ‬
‫ن‪ ] :‬المام أبو جعفر أحمد بن ُ‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫علماء ال ْ ُ‬
‫ّّ‬
‫ي ‪ ،‬تغمده الله برحمته‪ ،‬بعد المائتين‪ ،‬فإن مولده سنة )تسع‬ ‫طحاو ّ‬ ‫ال‬
‫وثلثين ومائتين( ووفاته سنة )إحدى وعشرين وثلثمائة( [ ‪.‬‬

‫ن عليه السلف ‪ ،‬ونقل عن المام أبي حنيفة‬ ‫كا َ‬‫ه عما َ‬


‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫فأخبر َر ِ‬
‫النعمان بن ثابت الكوفي ‪ ،‬وصاحبيه‪:‬أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم‬
‫مد ابن الحسن الشيباني رضي الله عنهم ما‬ ‫ح ّ‬‫م َ‬
‫الحميري النصاري ‪ ،‬و ُ‬
‫ن[ اهـ‪.‬‬ ‫عال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫ب ال ْ َ‬
‫كانوا يعتقدونه من أصول الدين ويدينون به َر ّ‬
‫الشرح‪:‬‬

‫م البلغ المبين‬ ‫سل ّ َ‬


‫و َ‬
‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫سول صّلى الل ُ‬ ‫يقول المصنف‪] :‬وقد بلغ الّر ُ‬
‫وأوضح الحجة[ وهذا ل يشك فيه أحد ولو شك فيه أحد لكان كافرا ً مرتدًا‪،‬‬
‫ن‪.‬‬‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬
‫م ْ‬‫وهذه القضية بديهة ومعلومة عند جميع ال ْ ُ‬
‫ن‪.‬‬
‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫عَلى كثير من ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫لكن ما نجعله من لوازمها يخفى َ‬

‫م قد بلغ الدين كامل ً ولم‬‫سل ّ َ‬


‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫سول صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫فإذا آمنا وأيقنا أن الّر ُ‬
‫عَلى ذلك أنه إذا وضع أحد قواعد نفهم بها‬ ‫ينقص منه أي شيء‪ ،‬فيترتب َ‬
‫جاءَ بإضافات وأعمال جديدة لم يشرعها النبي صّلى الل ُ‬
‫ه‬ ‫بعض اليات‪ ،‬أو َ‬
‫سان‬‫لن َ‬
‫ل‪ :‬هذه من حقيقة الدين‪ ،‬فمعنى ذلك أن هذا ا ِ‬ ‫سل ّ َ‬
‫م‪ ،‬و َ‬
‫قا َ‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫جاءَ به النبي صّلى‬
‫يقول بلسان حاله ‪-‬إن لم يقل بلسان مقاله‪ -‬أن ما َ‬
‫م ناقص‪ ،‬وأنه لم يبلغ البلغ‪ ،‬ولم يؤدّ المانة التي وكلت‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬
‫الل ُ‬
‫م من ذلك‪ ،‬لكن هذه هي حقيقة قولهم‪.‬‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫إليه وحاشاه صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬
‫ومن ذلك التأويل الذي سيذكره المصنف‪.‬‬
‫• بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم يستلزم المنع من وضع قواعد وإضافات‬
‫ليست مستمده منه‬
‫فالذين وضعوا قواعد التأويل متفقون ومطبقون ومجمعون عََلى أن هذا التأويل‬
‫م ول الصحابة‪ ،‬ويقولون‪ :‬هذا من أصول‬ ‫سل ّ َ‬
‫ه عَل َي ْهِ وَ َ‬
‫صّلى الل ُ‬
‫لم يعرفه النبي َ‬
‫الدين التي يجب أن نتمسك بها‪ ،‬ويردون بها كثيرا ً من النصوص‪ ،‬ويحرفون بها‬
‫معاني كثير من اليات لنها قاعدة ضرورية!‬
‫صّلى الل ُ‬
‫ه‬ ‫كيف تقولون إنه من أصول الدين مع قولكم‪ :‬إن النبي َ‬
‫سل ّ َ‬
‫م لم يذكره ولم يتعرض له ولم يأت به؟!‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬

‫م ما بلغ‪ ،‬وقد خان المانة‬ ‫سل ّ َ‬


‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫فلزم كلمكم أنه َ‬
‫والرسالة عياذا ً بالله‪ ،‬وبذلك نفهم أهمية توثيق قضايا العقيدة التي‬
‫خالفت فيها الفرق‪ ،‬وترتيبها وإرجاعها إ َِلى القضايا المحكمة‪.‬‬

‫ه في كشف‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫مد بن عبد الوهاب َر ِ‬
‫ح ّ‬
‫م َ‬
‫ولذلك قال الشيخ ُ‬
‫ن أو من‬
‫كي َ‬
‫ر ِ‬ ‫م ْ‬
‫ش ِ‬ ‫ْ‬
‫الشبهات ‪" :‬إن العامي الموحد يغلب اللف من ال ُ‬
‫أصحاب البدع "‪.‬‬

‫ن عاميًا‪ ،‬وعلمه محدود‪ ،‬لكنه يرجع القضايا المشتبهة‬ ‫لنه وإن َ‬


‫كا َ‬
‫الشائكة التي يخوض فيها العلماء إ َِلى قضايا واضحة وأصول‬
‫وضوابط محكمة‪.‬‬

‫فنرد المتشابهات أو المشكلت إ َِلى المحكم الواضح الجلي‪ ،‬فإن َ‬


‫جاءَ‬
‫ل‪ :‬نؤول هذه‪ ،‬أو نترك هذه‪ ،‬فعندنا كلمة عامة محكمة‬ ‫أحد و َ‬
‫قا َ‬
‫م‬‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫وهي‪ :‬ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له النبي َ‬
‫آمنا به‪ ،‬وهكذا‪...‬‬

‫ل‪ :‬هذه زيادة نعمل بها‪ ،‬ولم يعملها بها الصحابة‬ ‫قا َ‬‫فمن جاءنا و َ‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫هم‪ ،‬ولم يأت فيها شيء عن النبي َ‬ ‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬‫ض َ‬ ‫َر ِ‬
‫م‪ ،‬فالجواب عليه أنه‪ :‬ما دام كذلك فهي ليست من الدين ول‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬‫َ‬
‫أجر فيها ول ثواب‪ ،‬بل فيها العقوبة والرد )من أحدث في أمرنا هذا‬
‫ما ليس منه فهو رد( ‪.‬‬

‫عَلى ما وضع من قواعد علم الكلم‪ ،‬والبدع العملية‬ ‫وهذا ينطبق َ‬


‫والفرعية‪ ،‬بل كل بدعة ابتدعت فهي داخلة فيما أحدث بعد النبي‬
‫صّلى الل ُ‬
‫ه‬ ‫م‪ ،‬والفتراق لم يقع في عهد النبي َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫َ‬
‫م‪ ،‬ولم يكن هناك معتزلة أومرجئة ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫سل َ‬ ‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫علي ْ ِ‬ ‫َ‬
‫لكن كيف تفرقت المة؟ وكيف ظهرت هذه البدع؟‬

‫ن بعضهم يطعن فيه‪ ،‬لنه ليس في‬ ‫كا َ‬‫ورد الحديث بذكر ذلك‪ ،‬وإن َ‬
‫الصحيحين ‪ ،‬وإنما ورد في المسند ‪ ،‬وعند ابن أبي عاصم ‪ ،‬وفي‬
‫عَلى ثلث وسبعين‬‫السنن في روايات كثيرة‪) :‬إن هذه المة تفترق َ‬
‫فرقة كلها في الّنار إل واحدة( وبعضها تذكر )إن اليهود افترقت‬
‫عَلى اثنين وسبعين‬ ‫عَلى إحدى وسبعين فرقة والن ّ َ‬
‫صاَرى افترقت َ‬ ‫َ‬
‫على ثلث وسبعين فرقة( وبعضها ل يذكر‬ ‫َ‬ ‫فرقة‪ ،‬وهذه المة تفترق َ‬
‫زيادة )كلها في الّنار إل واحدة( وبعض الروايات تذكر صفات‬
‫الفرقة الناجية وأنها )ما أنا عليه اليوم وأصحابي( ‪.‬‬
‫عَلى صحة الحديث‪ ،‬حتى إن‬‫الشاهد أن مجموع الروايات تدل َ‬
‫بعضهم عده من الحاديث المتواترة مع أنه ليس في أحد الصحيحين‬
‫‪ ،‬لكن الفتراق في ذاته ثابت وواضح من أدلة قطعية غير هذه‬
‫اللفاظ‪ ،‬وغير هذه الروايات التي وردت في الحديث‪.‬‬
‫• من أسباب الختلف نسيان الحظ‬
‫صاَرى افترقوا إ َِلى حد القتتال‪ ،‬وأنهم كما قال‬ ‫ونحن نعلم جميعا ً أن اليهود والن ّ َ‬
‫ما‬
‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ب َعْدِهِ ْ‬
‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬‫ما اقْت َت َ َ‬‫ه َ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫ه وَت ََعاَلى‪ ) :‬وَل َوْ َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫الله ُ‬
‫فر ]البقرة‪[253:‬‬ ‫ن كَ َ‬ ‫م ْ‬‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫ن وَ ِ‬ ‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬‫م َ‬ ‫فوا فَ ِ‬
‫من ْهُ ْ‬ ‫َ‬
‫خت َل ُ‬‫نا ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ت وَلك ِ ِ‬‫م الب َي َّنا ُ‬ ‫جاَءت ْهُ ُ‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫داوَةَ‬
‫م العَ َ‬ ‫ما ذ ُكُروا ب ِهِ فَأغَْري َْنا ب َي ْن َهُ ُ‬ ‫م ّ‬‫حظا ِ‬ ‫سوا َ‬ ‫فهم اختلفوا وتفرقوا بغيا بينهم فَن َ ُ‬
‫ضاء ]المائدة‪.[14:‬‬ ‫َوال ْب َغْ َ‬
‫صاَرى اختلفوا‪ ،‬وأخبرنا‬ ‫عاَلى أن اليهود والن ّ َ‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬ ‫وأخبرنا الله ُ‬
‫صاَرىأنهم نسوا‬
‫في هذه الية من سورة المائدة أن سبب اختلف الن ّ َ‬
‫حظا ً مما ذكروا به‪.‬‬

‫ولو أخذنا هذه الية فإنها تفسر لنا كثيرا ً جدا ً جدا ً من أسباب وقوع‬
‫ن‪ ،‬كيف أنهم لما نسوا حظا ً مما ذكروا به‬ ‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫الخلف بين ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫وقعت العداوة والبغضاء بينهم‪.‬‬

‫عَلى هذه المة‪ ،‬ونعرف أن هذه المة‬ ‫ونطبق هذه الجملة القرآنية َ‬
‫افترقت‪ ،‬بسبب "نسيان الحظ" وذلك بآيات وأحاديث الوعيد مث ً‬
‫ل‪:‬‬

‫نل‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬‫َ‬ ‫عاَلى الوعيد فيمن قتل وزنى وسرق‪:‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ك َ‬ ‫ذكر الله ت ََباَر َ‬
‫ق‬ ‫ه إ ِّل ِبال ْ َ‬
‫ح ّ‬ ‫م الل ّ ُ‬‫حّر َ‬ ‫س ال ِّتي َ‬
‫ف َ‬ ‫ن الن ّ ْ‬‫قت ُُلو َ‬‫ول ي َ ْ‬ ‫خَر َ‬ ‫ه إ َِلها ً آ َ‬ ‫ع الل ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن َ‬ ‫عو َ‬ ‫ي َدْ ُ‬
‫َ‬
‫م‬ ‫و َ‬
‫ب يَ ْ‬ ‫ع َ‬
‫ذا ُ‬ ‫ه ال ْ َ‬
‫ف لَ ُ‬
‫ع ْ‬ ‫ق أَثاما ً * ي ُ َ‬
‫ضا َ‬ ‫ك ي َل ْ َ‬
‫ل ذَل ِ َ‬‫ع ْ‬‫ف َ‬ ‫ن يَ ْ‬‫م ْ‬ ‫و َ‬ ‫ن َ‬ ‫ول ي َْزُنو َ‬ ‫َ‬
‫صلى‬ ‫ّ‬ ‫هانا ]الفرقان‪ [69-68:‬وجاء أن النبي َ‬ ‫ً‬ ‫م َ‬‫ه ُ‬ ‫في ِ‬ ‫خلدْ ِ‬ ‫ُ‬ ‫وي َ ْ‬‫ة َ‬ ‫م ِ‬ ‫قَيا َ‬ ‫ْ‬
‫ال ِ‬
‫ل‪) :‬ل يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‪...‬‬ ‫قا َ‬ ‫م َ‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬‫الل ُ‬
‫إلخ( ‪ ،‬وجاء في الحديث الخر‪) :‬ل يؤمن أحدكم حتى يحب لخيه ما‬
‫يحب لنفسه( ‪.‬‬
‫ص كثيرة في مقام الوعيد‪ ،‬فجاءت الخوارج فأخذت حظا ً‬ ‫وهكذا نصو ٌ‬
‫ً‬
‫قالوا‪ :‬إذا من‬ ‫ُ‬ ‫و َ‬
‫مما ذكروا به‪ ،‬حيث أخذوا بأحاديث الوعيد فقط‪َ ،‬‬
‫ارتكب كبيرة فهو كافر خارج من الملة‪ ،‬وتركوا الحاديث واليات‬
‫التي تفسرها وأخذوا حظا ً مما ذكروا به وتركوا الحظ الخر‪ ،‬مع‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫أنهم لو أخذوا هذا وهذا لفهموا ما أخبر به النبي َ‬
‫م في الحديث الصحيح‪) :‬ل تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬‫َ‬
‫ي‬ ‫عل ِ ّ‬
‫ن من قتال في عهد َ‬ ‫َ‬
‫سر ذلك بأنه ما كا َ‬ ‫ُ‬
‫دعواهما واحدة( ‪ ،‬فقد ف ّ‬
‫م باليمان والسلم‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫ومعاوية ‪ ،‬وشهد لهم النبي َ‬
‫ن‬‫فَتا ِ‬ ‫طائ ِ َ‬ ‫ن َ‬‫وإ ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫مع وقوع القتال‪ ،‬وفي آية الحجرات يقول تعالى‪:‬‬
‫قت َت َُلوا ]الحجرات‪ [9:‬فالقتال يقع بين المؤمنين ول‬ ‫نا ْ‬‫مِني َ‬‫ؤ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫يخرجهم من الملة‪ ،‬نعم هو كبيرة وعليها وعيد شديد‪ ،‬ولكن ل يخرج‬
‫من الملة‪.‬‬

‫وأخذت المرجئة حظا ً آخر مما ذكروا به‪ ،‬فأخذوا بآيات وأحاديث‬
‫الوعد‪) :‬من قال ل إله إل الله دخل الجنة( ‪ ،‬فأخذوا بروايات مطلقة‬
‫مع وجود روايات تقيدها وتفسر معناها وتدل عليها‪ ،‬منها تكفير‬
‫ل‪) :‬العهد الذي بيننا وبينهم الصلة‪ ،‬فمن تركها فقد‬‫تارك الصلة مث ً‬
‫كفر( )بين العبد وبين الكفر أو الشرك ترك الصلة( ‪ ،‬فتركوا جانب‬
‫الوعيد كله‪ ،‬وأخذوا بجانب الوعد فقط‪.‬‬

‫ل جاءت في آيات‬ ‫ج ّ‬ ‫و َ‬
‫عّز َ‬ ‫وفي موضوع الصفات‪ :‬فإثبات صفات الله َ‬
‫م علمنا كيف نؤمن بصفات الله‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫كثيرة‪ ،‬والنبي َ‬
‫ع ال ْب َ ِ‬
‫صيُر‬ ‫مي ُ‬
‫س ِ‬
‫و ال ّ‬
‫ه َ‬‫و ُ‬
‫يءٌ َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ه َ‬ ‫مث ْل ِ ِ‬‫س كَ ِ‬ ‫عَلى جانبين‪ :‬ل َي ْ َ‬ ‫ل وأنها َ‬ ‫ج ّ‬ ‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫َ‬
‫يءٌ هذا جانب نفي‬ ‫ش ْ‬ ‫ه َ‬ ‫مث ْل ِ ِ‬‫س كَ ِ‬ ‫]الشورى‪ [11:‬نفي وإثبات ل َي ْ َ‬
‫صيُر هذا جانب إثبات‬ ‫ع ال ْب َ ِ‬ ‫مي ُ‬ ‫س ِ‬ ‫و ال ّ‬ ‫ه َ‬‫و ُ‬
‫َ‬ ‫عاَلى‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫وتنزيه لله ُ‬
‫عاَلى‪.‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫لله ُ‬
‫فجاءت المعطلة فأخذوا بجانب النفي والتنزيه فقط‪ ،‬وقالوا ل‬
‫يءٌ ‪ ،‬وإذا‬ ‫ش ْ‬ ‫ه َ‬ ‫س كَ ِ‬
‫مث ْل ِ ِ‬ ‫يسمع ول يبصر‪ ،‬وليس له يد ولم يستو ل َي ْ َ‬
‫أثبتنا اليد والعين والنزول والرؤية‪ ،‬أصبح الله من المخلوقات‬
‫الممكنات‪ ،‬وأصبح له أعضاء والعياذ بالله‪ ،‬فقدموا أمورا ً لم ترد في‬
‫ن ننزه الله وننفي هذه كلها‪،‬‬ ‫ح ُ‬
‫كتاب الله ول سنة رسوله‪ ،‬وقالوا ن َ ْ‬
‫ولو كانت في الكتاب والسنة‪ ،‬فإننا نأولها ونردها وننفيها حتى ننزه‬
‫س كَ ِ‬
‫مث ْل ِ ِ‬
‫ه‬ ‫عاَلى عنها‪ ،‬فأخذوا حظا ً مما ذكروا به ل َي ْ َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫الله ُ‬
‫م ي َك ُ ْ‬
‫ن‬ ‫ول َ ْ‬
‫َ‬ ‫مي ّا ً ]مريم‪[65:‬‬ ‫س ِ‬
‫ه َ‬ ‫م لَ ُ‬‫عل َ ُ‬ ‫ه ْ‬
‫ل تَ ْ‬ ‫َ‬ ‫يءٌ ]الشورى‪[11 :‬‬ ‫ش ْ‬‫َ‬
‫َ‬
‫ل بمثل هذه‬ ‫ج ّ‬‫و َ‬ ‫عّز َ‬ ‫د ]الخلص‪ [4:‬ونفوا صفات الله َ‬ ‫ح ٌ‬ ‫فوا ً أ َ‬ ‫لَ ُ‬
‫ه كُ ُ‬
‫اليات‪.‬‬

‫وبالمقابل جاءتالمشبهة ونسوا حظا ً مما ذكروا به‪ ،‬وتركوا اليات‬


‫ه‬
‫حان َ ُ‬ ‫عاَلى‪ ،‬وأثبتوا لله ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫التي جاءت في تنزيه الله ُ‬
‫عاَلى الصفات كما يليق بالمخلوق ‪-‬تعالى الله عن ذلك علوا ً كبيرًا‪-‬‬ ‫وت َ َ‬
‫َ‬
‫عالى ‪-‬كما هو‬ ‫َ‬ ‫وت َ َ‬ ‫مشابهين في ذلك لليهودعندما قالوا‪ :‬إن الله ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫مذكور في التوراة‪ -‬خلق السموات والرض في ستة أيام واستراح‬
‫في اليوم السابع والعياذ بالله!‬

‫عاَلى يتعب ويلغب‪ ،‬كما يلغب ابن آدم إذا‬ ‫وت َ َ‬


‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫فجعلوا الله ُ‬
‫ما‬
‫و َ‬‫َ‬ ‫قا َ‬
‫ل‪:‬‬ ‫عاَلى ذلك ف َ‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫عمل عمل ً ما‪ ،‬ولذلك نفى الله ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ب ]ق‪ [38:‬أي‪ :‬لم يمسنا التعب ول النصب ول‬ ‫ن لُ ُ‬
‫غو ٍ‬ ‫م ْ‬
‫سَنا ِ‬
‫م ّ‬
‫َ‬
‫ء المشبهة‪ ،‬وأخذوا من اليهودالتشبيه‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫اللغب‪ ،‬وردّ عليهم‪ ،‬فجاء َ‬
‫ل مثل‬ ‫ج ّ‬ ‫و َ‬ ‫قاُلوا‪ :‬له يد كيدنا‪ ،‬فجعلوا صفات الله َ‬
‫عّز َ‬ ‫ف َ‬‫وزادوا عليهم َ‬
‫صفات المخلوق‪.‬‬

‫ك المعطلة ‪ :‬أنتم شبهتم‪ ،‬قالوا‪ :‬أنتم عطلتم‪ ،‬لذا‬ ‫فإذا قال لهم ُأول َئ ِ َ‬
‫قال السلف الصالح ‪ :‬المعطل عابد عدم‪ ،‬والمشبه عابد صنم‪،‬‬
‫عاَلى ل داخل العالم ول‬
‫فالمعطل عابد عدم لنه يقول‪ :‬إن الله ت َ َ‬
‫خارجه‪ ،‬ول فوقه ول تحته‪ ،‬ول يمينه ول شماله‪ ،‬وليس له يد‪ ،‬وليس‬
‫له عين‪ ،‬وليس له أي صفة من الصفات‪ ،‬ول يسمع ول يبصر‪.‬‬

‫إذًا‪ :‬فهذا معدوم غير موجود‪ ،‬فالمعطل عابد عدم‪ ،‬ولكن المشبه‬
‫عابد صنم لن الذي يقول يد الخالق كيد المخلوق‪ ،‬ووجهه كوجه‬
‫المخلوق‪ ،‬وقدمه كقدم المخلوق‪ ،‬فإنما هو يعبد صنمًا‪ ،‬لن الصنام‬
‫نحتت لكي تعبد من دون الله‪ ،‬لكي ي َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪ :‬هذا هو الله تعالى الله عن‬
‫ذلك علوا ً كبيرًا‪.‬‬

‫والشاهد أن سبب الخلف بينهما هو أن هذا أخذ حظا ً مما ذكر به‬
‫ونسي حظًا‪ ،‬وهذا أخذ حظا ً مما ذكر به ونسي الحظ الخر‪ ،‬فأغرى‬
‫الله بينهما العداوة والبغضاء‪.‬‬
‫فتجد في كتب المعطلة أنهم يكفرون المشبهة ‪ ،‬وفي كتب‬
‫المشبهة يكفرون المعطلة ‪ ،‬وفي كتب المرجئة يكفرون الخوارج ‪،‬‬
‫عاَلى‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫وفي كتب الخوارج يكفرون المرجئة ‪ ،‬أغرى الله ُ‬
‫بينهم العداوة والبغضاء‪ ،‬وهذا من أعظم أسباب الختلف أن ل‬
‫يؤخذ الكتاب كله ول يتلقى العلم والدين كله من عند الله ورسوله‬
‫سل ّ َ‬
‫م‪.‬‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫• وكذلك الشهوات وحب الدنيا‬
‫ومن أسباب الختلف‪" :‬الشهوات وحب الدنيا" فإن حب الدنيا يفسد النية‬
‫والرادة‪ ،‬وإذا فسدت الرادة ودخل الدخن إ َِلى القلب‪ ،‬فإن العمال تفسد‪،‬‬
‫ويترتب عََلى فساد العمال فساد في العتقاد‪ ،‬وأسباب ذلك تبدأ بسيطة لكنها‬
‫فيما بعد تظهر وتبدو‪ ،‬حتى تكون منهجا ً من المناهج‪.‬‬
‫ن‪ ،‬ومن عوامل‬ ‫مي َ‬‫سل ِ ِ‬ ‫ن من عوامل الفساد بين ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫فحب الدنيا َ‬
‫كا َ‬
‫جاءَ أبو‬
‫جاءَ في الحديث الصحيح‪ ،‬لما َ‬ ‫ن وهلكهم كما َ‬ ‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫تفرق ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫عبيدة من البحرين بالغنيمة أو الجزية إ َِلى النبي َ‬
‫جاءَ به أبو عبيدة من هجر ( ومع ذلك‬ ‫ل‪) :‬لعله بلغكم ما َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫مف َ‬
‫قا َ‬ ‫و َ‬
‫َ‬
‫م في آخر الحديث‪) :‬فو الله ما‬ ‫ّ‬
‫سل َ‬‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫علي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫صلى الل ُ‬‫قال لهم النبي َ‬
‫الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم‬
‫كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم‬
‫كما أهلكتهم( فالتنافس في الدنيا والتفرق فيها يؤدي إ َِلى التفرق‬
‫في الدين‪.‬‬

‫ولذلك لما قام بعض الّناس يريد الخلفة وينازع فيها تفرقت المة‬
‫السلمية‪ ،‬حتى أصبح لهم في عام )‪ 72‬أو ‪ (73‬أربعة أمراء للحج‪،‬‬
‫حجت طائفة مع بني أمية تحت راية بني أمية في يوم عرفة‪،‬‬
‫وحجت طائفة تحت راية المختار بن أبي عبيد ‪ ،‬وحجت طائفة تحت‬
‫راية عبد الله بن الزبير ‪ ،‬وحجت طائفة للخوارج تحت راية نافع بن‬
‫الزرق ‪ ،‬أربع رايات للحج في وقت واحد وفي يوم واحد يوم عرفة‬
‫سل ّ َ‬
‫م!‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫سول َ‬
‫بعد حوالي "‪ 60‬سنة" من وفاة الّر ُ‬
‫عَلى الملك‪.‬‬
‫وذلك لجل الهواء والشهوات وحب الدنيا والتنازع َ‬
‫ي‪َ ،‬‬
‫قا َ‬
‫ل‪" :‬والله إني‬ ‫ر ّ‬
‫خا ِ‬
‫كما قال أبو برزة في الحديث الذي رواه الب ُ َ‬
‫عَلى هذا الحي من قريش‪،‬‬ ‫لحتسب عند الله أني أصبحت ساخطا ً َ‬
‫عَلى الدنيا‪ ،‬وإن هذا الذي هنا‬ ‫إن هذا الذي في العراق إنما يقاتل َ‬
‫ك ‪-‬يعني القراء الخوارج ‪ -‬إنما‬ ‫عَلى الدنيا‪ ،‬وإن ُأول َئ ِ َ‬
‫إنما يقاتل َ‬
‫عَلى الدنيا "‪.‬‬
‫يقاتلون َ‬
‫ن وتنازعهم واختلفهم‪.‬‬
‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫ن من أسباب تفرق ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫فحب الدنيا َ‬
‫كا َ‬
‫• وكذلك دخول الحاقدين‬
‫ن واختلفهم‪ :‬دخول الحاقدين‪ ،‬وهذا عامل خارجي‪،‬‬ ‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬‫م ْ‬‫ومن أسباب تنازع ال ْ ُ‬
‫ه وَت ََعاَلى‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫ة لخلل داخلي‪ ،‬كما أن الله ُ‬ ‫والعامل الخارجي ل يأتي إل عقوب ً‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ذا قُ ْ‬
‫ل‬ ‫م أّنى هَ َ‬ ‫مث ْل َي َْها قُل ْت ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫ة قَد ْ أ َ‬
‫صب ْت ُ ْ‬ ‫صيب َ ٌ‬
‫م ِ‬ ‫صاب َت ْك ُ ْ‬
‫م ُ‬ ‫ما أ َ‬‫عاقب في يوم أحد‪ :‬أوَل َ ّ‬
‫م ]آل عمران‪.[165:‬‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫عن ْدِ أ َن ْ ُ‬
‫ف ِ‬ ‫ن ِ‬
‫م ْ‬
‫هُوَ ِ‬
‫جاءَ في الية‬‫فكانت العقوبة بسبب ما عند النفس من الذنوب كما َ‬
‫خَرة ]آل عمران‪:‬‬ ‫ريدُ اْل ِ‬
‫ن يُ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫و ِ‬
‫ريدُ الدّن َْيا َ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫م ْ‬
‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫ِ‬ ‫الخرى‪:‬‬
‫‪ [152‬فبسبب فساد الرادة‪ ،‬أو بسبب الخلل الداخلي تأتي العقوبة‬
‫ن‬
‫وإ ِ ْ‬
‫َ‬ ‫عاَلى‪:‬‬
‫وت َ َ‬ ‫الخارجية‪ ،‬وتسليط العداء‪ ،‬وإل فقد قال ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫شْيئا ً ]آل عمران‪ ،[120:‬فأعداؤنا‬ ‫م َ‬ ‫م ك َي ْدُ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫ضّرك ُ ْ‬ ‫قوا ل ي َ ُ‬ ‫وت َت ّ ُ‬‫صب ُِروا َ‬ ‫تَ ْ‬
‫يكيدون علينا ليل نهار دائمًا‪ ،‬فإذا تحدثنا عن أي مصيبة أصابت‬
‫ن قلنا هو بسبب العداء‪ ،‬فالشيوعيون والصليبيون واليهود‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫يخططون ويعملون ضدنا‪ ..‬وهكذا وكأننا قوم مؤمنون صالحون‬
‫ء آذونا وامتحنونا وفعلوا بنا!‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬
‫متقون‪ ،‬ولكن َ‬
‫ن الّله!! لماذا ل ننظر إ َِلى السبب العظم؟ وهو لماذا سلطهم‬ ‫سْبحا َ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫عالى علينا؟‬
‫وت َ َ‬ ‫الله ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫سلطوا علينا فضرنا كيدهم وأثر‬
‫لنه ل تقوى ول صبر لدينا‪ ،‬ولذلك ُ‬
‫فينا‪ ،‬ولله في ذلك حكمة‪.‬‬

‫ن يوالون الكفار مع هذه المخططات الواضحة‬‫مي َ‬


‫سل ِ ِ‬ ‫فاليوم أكثر ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫ن الكفار ل يخططون‬ ‫الجلية‪ ،‬فبالله كيف يكون الحال لو أن َ‬
‫كا َ‬
‫ضدنا؟‬

‫عَلى وجوههم‪.‬‬
‫إذا ً لحييناهم ولقبلناهم وبششنا َ‬

‫ولذلك شاء الله أن يكون مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب‬


‫عَلى يد‬ ‫ه‪ ،‬وهو من أكبر الفجائع في التاريخ السلمي‪َ ،‬‬‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫َر ِ‬
‫رجل مجوسي لنعتبر‪ ،‬وعندما جيء به ليحقق معه‪ ،‬شهد بعض‬
‫الصحابة بأننفيلة النصراني والهرمزان ‪ ،‬وهما من ملوك العجم جاءا‬
‫وأظهرا السلم في المدينة ‪ ،‬واتفقا مع أبي لؤلؤة المجوسي ‪،‬‬
‫ورآهم قبل ذلك بليال وهم يتحدثون‪ ،‬وسقط بينهم السيف الذي له‬
‫ه‪.‬‬
‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫نصلن‪ ،‬وهو الذي استخدم في قتل عمر الفاروق َر ِ‬
‫ه‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬ ‫مَر َر ِ‬
‫ع َ‬
‫صاَرى والمجوس اتفقوا وبيتوا المؤامرة لمقتل ُ‬ ‫فـالن ّ َ‬
‫ء‪ ،‬وأن‬ ‫ن هذه المؤامرة ليعرفوا أن لهم أعدا ً‬ ‫مو َ‬
‫سل ِ ُ‬ ‫ه‪ ،‬واكتشف ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫عن ْ ُ‬
‫َ‬
‫ء‪.‬‬
‫ؤل ِ‬ ‫العداوة هذه لن تخمد أبدًا‪ ،‬وليحتاطوا من أمثال َ‬
‫ه ُ‬

‫م السم في الشاة ‪-‬كما‬ ‫سل ّ َ‬


‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫واليهود وضعوا للنبي َ‬
‫جاءَ في الحديث الصحيح‪ -‬الشاة المسمومة التي أكل منها النبي‬ ‫َ‬
‫م حتى قالت الذراع‪ :‬إنها مسمومة‪ ،‬أنطقها الله‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫م‪.‬‬ ‫ّ‬
‫سل َ‬‫و َ‬‫ه َ‬ ‫َ‬
‫علي ْ ِ‬‫ه َ‬‫صلى الل ُ‬ ‫ّ‬ ‫لنبيه َ‬
‫د‬ ‫ن أَ َ‬
‫ش ّ‬ ‫عاَلى‪ :‬ل َت َ ِ‬
‫جد َ ّ‬ ‫وت َ َ‬
‫ك َ‬ ‫فهم ألد أعداء السلم كما قال الله ت ََباَر َ‬
‫كوا ]المائدة‪[82 :‬‬ ‫شَر ُ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬
‫هودَ َ‬‫مُنوا ال ْي َ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫وةً ل ِل ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫دا َ‬‫ع َ‬
‫س َ‬ ‫الّنا ِ‬
‫ي‬
‫ض َ‬‫عَلى عثمان َر ِ‬ ‫جاءَ اليهودي عبد الله بن سبأ وأثار الفتنة َ‬ ‫ولذلك َ‬
‫ه‪ ،‬ليكمل الدور الذي قام به أبو لؤلؤة المجوسي عليه‪ ،‬ولما‬ ‫عن ْ ُ‬‫ه َ‬ ‫الل ُ‬
‫ء الزنادقة وكانوا من طائفة عبدالله بن‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬
‫ه َ‬‫عن ْ ُ‬‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬ ‫ض َ‬ ‫ي َر ِ‬ ‫عل ِ ّ‬ ‫حرق َ‬
‫سبأ اليهودي ‪ ،‬هرب عبدالله بن سبأ ولجأ إ َِلى بلد فارس ‪ ،‬حيث بذر‬
‫الفكر المجوسي‪ ،‬فالتقى الفكر المجوسي مع الفكر اليهودي‪،‬‬
‫ه‪ ،‬لن عليا ً‬ ‫عن ْ ُ‬‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬ ‫ض َ‬ ‫وبذروا الفكرة التي أصبحت تؤّله عليا ً َر ِ‬
‫ه إنما حرقهم عندما قالوا‪ :‬أنت أنت‪.‬‬ ‫عن ْ ُ‬‫ه َ‬ ‫ي الل ُ‬ ‫ض َ‬‫َر ِ‬
‫َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪ :‬من أنا؟‬

‫قالوا‪ :‬أنت الله‪.‬‬


‫ه‪:‬‬
‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫فقال َر ِ‬
‫أججت ناري ودعوت‬ ‫لما رأيت المر أمرا ً منكرا ً‬
‫قنبرا ً‬

‫ل‪ :‬أوقدوا لي نيرانا ً فأحرقوهم‪ ،‬فهرب عبدالله بن سبأ إ َِلى بلد‬ ‫َ‬
‫قا َ‬
‫فارس ‪ ،‬وبذر هذه الفكرة في نفوس العجم‪ ،‬وأوجدت الدين‬
‫السبئي الذي ل يزال قائما ً حتى الن‪.‬‬

‫ن‪ ،‬وظهور هذه الفرق‪ ،‬هو المكر‬


‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫فمن أسباب تفرق ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫اليهودي والنصراني والمجوسي‪.‬‬

‫عَلى هذه الطائفة وغيرها عندما يأتي ‪-‬إن‬


‫وسنأتي أيضا ً للتعرف َ‬
‫شاء الله تعالى‪ -‬الحديث عن الصحابة وما الذي يجب اعتقاده في‬
‫حقهم رضوان الله عليهم؟‬

‫فالمغرور والمخدوع من يظن أن هذه الطوائف الحاقدة التي‬


‫ن‪ ،‬وفرقوا بها‬ ‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫أنشأها أعداء السلم‪ ،‬وبذروها في بلد ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫ن‪،‬‬
‫مي َ‬‫سل ِ ِ‬ ‫ن‪-‬أنها يمكن أن تحب وتوالي السلم وال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫مي َ‬‫سل ِ ِ‬ ‫صف ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫عَلى الحقد وبه تتغذى‪.‬‬
‫فإنها قامت َ‬

‫والفرق والطوائف المبتدعة المنحرفة تعتمد في تكونها وتركيبها‬


‫عَلى معادة أهل الحق ‪-‬الطائفة الكبرى‪ -‬فليس‬ ‫وتجميع أفرادها َ‬
‫هناك قضية عقلية خاصة‪ ،‬أو بحث نظري مجرد يجمعها‪ ،‬أو هو الذي‬
‫ة‬
‫سن ّ ِ‬
‫هل ال ّ‬ ‫أعطاها منهجًا‪ ،‬وإنما الذي يجمعها هو العداوة لـأ ْ‬
‫عَلى‬
‫ة ‪ ،‬أهل الحق‪ ،‬فيربون أنفسهم وأبناءهم وأجيالهم َ‬ ‫ع ِ‬
‫ما َ‬ ‫ج َ‬‫وال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ة أو الطائفة‬ ‫ع ِ‬‫ما َ‬‫ج َ‬ ‫وال ْ َ‬‫ة َ‬
‫سن ّ ِ‬
‫هل ال ّ‬‫عَلى الطائفة الحق‪ ،‬لـأ ْ‬ ‫الحقد َ‬
‫م‪) :‬ل تزال‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫المنصورة التي قال عنها النبي َ‬
‫عَلى الحق ل يضرهم من خذلهم( وفي‬ ‫طائفة من أمتي ظاهرين َ‬
‫الرواية الخرى‪) :‬ل تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله ل يضرهم‬
‫عَلى‬‫من خذلهم أو خالفهم‪ ،‬حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون َ‬
‫الّناس( وفي رواية من حديث جابر في صحيح مسلم زيادة مهمة أو‬
‫تفسير مهم وهي‪) :‬لن يبرح هذا الدين قائما ً يقاتل عليه عصابة من‬
‫ن حتى قيام الساعة( ففيها زيادة أن هذه الطائفة تجاهد‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫الّناس من أجل إقامة هذا الدين‪.‬‬

‫وجهاد أهل البدع مشروع بالحاديث المتواترة في قتال الخوارج‪،‬‬


‫م قال في الحديث‬‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫فهم من أهل البدع‪ ،‬والنبي َ‬
‫الصحيح المتواتر كما قال بعض العلماء‪) :‬لو أدركتهم لقتلتهم قتل‬
‫عاد( ‪.‬‬

‫ومن هنا أخذ العلماء قاعدة عظمى وهي‪" :‬مقاتلة أهل البدع" وهي‬
‫أن حكم أهل البدع؛ المقاتلة إذا تميزوا وأصبحوا طائفة‪ ،‬وأما إذا‬
‫بقوا في المجتمع فإنه يجب علينا أن نكبتهم ونمنعهم من نشر‬
‫بدعهم والدعوة إليها‪ ،‬ومع ذلك نعطيهم أحكام السلم الظاهرة‬
‫قاُلوا‪ :‬ل حكم‬ ‫ه ‪-‬لما لجأوا إ َِلى جنبات المسجد َ‬
‫و َ‬ ‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫ي َر ِ‬
‫عل ِ ّ‬
‫َ‬
‫إل لله‪ ،‬ل حكم إل لله‪ ،‬فقال‪ :-‬إن لكم علينا أل ّ نمنعكم البيت‪ ،‬ول‬
‫نمنعكم المساجد‪ ،‬يعني تصلون معنا وتأخذون حصتكم من الفيء‬
‫ن‪ ،‬إل ّ إذا أحدثوا حدثًا‪ ،‬أي‪ :‬إذا عملوا عمل ً يخل‬
‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫من بيت مال ال ْ ُ‬
‫بأمر المجتمع المسلم والجماعة المسلمة‪ ،‬وأحكام أهل البدع طويلة‬
‫ولعله يأتي بعضها إن شاء الله‪.‬‬

‫صّلى‬‫ن عليه النبي َ‬ ‫كا َ‬‫عَلى مثل ما َ‬ ‫و الطائفة المنصورة هي التي َ‬


‫ي ‪) :‬ما أنا عليه‬
‫ذ ّ‬
‫م ِ‬
‫م وأصحابه‪ ،‬كما فسرتها روايةالت ّْر ِ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬‫الل ُ‬
‫مد عن الطائفة المنصورة‬ ‫َ‬
‫ح َ‬
‫اليوم وأصحابي( ولما سئل المام أ ْ‬
‫ل‪) :‬إن لم يكونوا أهل الحديث فل أدري من هم( وذلك أن لهل‬ ‫قا َ‬‫َ‬
‫الحديث مصطلحين‪:‬‬

‫مصطلح علمي‪.‬‬

‫ومصطلح شرعي‪.‬‬

‫فالصطلح العلمي المراد به هم الذين يشتغلون بدراسة الحديث‪،‬‬


‫ء يسمون علماء‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫ونقد الرجال والمتون ومعرفتها وتخريجها‪ ،‬ف َ‬
‫الحديث‪ ،‬كما تقول علماء النحو‪ ،‬وعلماء البلغة‪ ،‬وعلماء اللغة‪،‬‬
‫مد ‪،‬‬ ‫َ‬
‫ح َ‬
‫وعلماء التفسير‪ ،‬وليس هذا هو المعنى المراد من المام أ ْ‬
‫عَلى بدعة خاصة في القرون‬ ‫لنه يوجد من المحدثين من هو َ‬
‫الخيرة‪ ،‬ويوجد من المشتغلين بالرجال ودراسة السانيد من ل‬
‫ة حق التمثيل‪.‬‬
‫ع ِ‬
‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ة َ‬
‫سن ّ ِ‬
‫هل ال ّ‬
‫يمثل عقيدة أ ْ‬

‫والصطلح الشرعي‪ :‬هم الذين يأخذون بالحاديث ويعملون بها‪.‬‬

‫عَلى الذين ل يأخذون بالحديث والثر من‬ ‫ولذلك أطلق السلف َ‬


‫طوائف أهل البدع‪ :‬أهل الكلم وأهل الجدل‪ ،‬لن بدعهم ل تقوم‬
‫م‪ ،‬وإنما‬‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫عَلى دليل من كتاب الله وسنة رسوله َ‬ ‫َ‬
‫هل‬‫عَلى الجدل وعلم الكلم‪ ،‬فبقيت الطائفة المنصورة أ ْ‬ ‫تقوم َ‬
‫ة يأخذون بالحاديث‪.‬‬
‫ع ِ‬
‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ة َ‬‫سن ّ ِ‬
‫ال ّ‬
‫ه‬
‫ن علي ِ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫ولذلك ُيسمون‪ :‬أهل الثر وأهل الحديث‪ ،‬أي‪ :‬المتبعون ل ِ َ‬
‫َ‬
‫مد إن لم‬ ‫ح َ‬
‫م وأصحابه؛ فكلم المام أ ْ‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫النبي َ‬
‫ن‬
‫كا َ‬‫يكونوا أهل الحديث فل أدري منهم" أي المتبع للثر‪ ،‬حتى وإن َ‬
‫من أهل اللغة‪ ،‬فقدماء أهل اللغة عموما ً النضر بن شميل والخليل‬
‫ء‬
‫ؤل ِ‬‫ه ُ‬‫بن أحمد وأبو عبيد القاسم بن سلم من علماء اللغة والحديث َ‬
‫ة أيضًا‪.‬‬
‫ع ِ‬
‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ة َ‬
‫سن ّ ِ‬
‫هل ال ّ‬ ‫من أهل اللغة وهم من أ ْ‬
‫صّلى الل ُ‬
‫ه‬ ‫فأهل الحديث المراد بهم أهل الثر المتبعون لسنة النبي َ‬
‫م‪ ،‬وعلى هذا نستطيع أن نفهم أن الطائفة المنصورة هي‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫م وأصحابه‪ ،‬وهي‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫ن عليه النبي َ‬ ‫كا َ‬ ‫المتبعة لما َ‬
‫الناجية الوحيدة‪ ،‬وهي التي قامت بإبلغ ونقل ما ثبت عن النبي‬
‫م‪.‬‬‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫َ‬
‫ّّ‬
‫ي [‪.‬‬
‫طحاو ّ‬ ‫ولذا يقول المصنف‪] :‬وممن قام بذلك المام أبو جعفر ال‬
‫فقد نقل عقيدة السلف ‪ ،‬وبالذات عقيدة المام أبي حنيفة‬
‫ة‬
‫سن ّ ِ‬
‫هل ال ّ‬
‫وتلميذيه‪ ،‬وهكذا كل من يأتي ويتكلم في عقيدة أ ْ‬
‫ة إنما ينقل كلمهم ويشرحه ويوضحه‪ ،‬ولو جاءنا أحد بشيء‬ ‫ع ِ‬
‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫َ‬
‫عَلى أهل البدع‪ ،‬فهذا هو الطريق المتبع‬ ‫من عنده لرددناه كما نرد َ‬
‫وهذا هو طريق أهل الثر‪.‬‬
‫‪ - 2‬ظهور البدع وخطورتها‬
‫ه ت ََعاَلى‪:‬‬
‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫مصن ّ ُ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ال ُ‬
‫]وكلما بعد العهد ظهرت البدع‪ ،‬وكثر التحريف الذي سماه أهله تأويل ً‬
‫مى‬ ‫س ّ‬‫ل من يهتدي إ َِلى الفرق بين التحريف والتأويل‪ ،‬إذ قد ُ‬ ‫ليقبل‪ ،‬وق ّ‬
‫صرف الكلم عن ظاهره إ َِلى معنى آخر يحتمله اللفظ في الجملة تأوي ً‬
‫ل‪،‬‬
‫م قرينة توجب ذلك‪ ،‬ومن هنا حصل الفساد‪ ،‬فإذا سموه‬ ‫وإن لم يكن ث َ ّ‬
‫عَلى من ل يهتدي إ َِلى الفرق بينهما‪ .‬فاحتاج المؤمنون‬ ‫قبل وراج َ‬ ‫تأويل ً ُ‬
‫شَبه الواردة عليها‪ ،‬وكثر الكلم‬ ‫بعد ذلك إ َِلى إيضاح الدلة‪ ،‬ودفع ال ُ‬
‫شبه المبطلين‪ ،‬وخوضهم في الكلم‬ ‫والشغب‪ ،‬وسبب ذلك إصغاؤهم إ َِلى ُ‬
‫المذموم الذي عابه السلف ‪ ،‬ونهوا عن النظر فيه‪ ،‬والشتغال به‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ضو َ‬ ‫خو ُ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫ت ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ذا َرأي ْ َ‬ ‫وإ ِ َ‬
‫َ‬ ‫والصغاء إليه‪ ،‬امتثال ً لمر ربهم‪ ،‬حيث قال‪:‬‬
‫ره ]النعام‪ [68:‬فإن‬ ‫ث َ‬
‫غي ْ ِ‬ ‫دي ٍ‬
‫ح ِ‬
‫في َ‬‫ضوا ِ‬‫خو ُ‬ ‫حّتى ي َ ُ‬
‫م َ‬‫ه ْ‬
‫عن ْ ُ‬
‫ض َ‬‫ر ْ‬
‫ع ِ‬‫فأ َ ْ‬‫في آَيات َِنا َ‬
‫ِ‬
‫على مراتب‪ :‬فقد‬ ‫َ‬ ‫ل من التحريف والنحراف َ‬ ‫معنى الية يشملهم‪ .‬وك ٌ‬
‫يكون كفرًا‪ ،‬وقد يكون فسقًا‪ ،‬وقد يكون معصية‪ ،‬وقد يكون خطأ‪.‬‬

‫فالواجب اتباع المرسلين واتباع ما أنزله الله عليهم وقد ختمهم الله‬
‫م‪ ،‬فجعله آخر ال َن ْب َِياء وجعل كتابه مهيمنا ً َ‬
‫عَلى‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫مد صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫ح ّ‬
‫م َ‬
‫ب ُ‬
‫ما بين يديه‪ ،‬من كتب السماء‪ ،‬وأنزل عليه الكتاب‪ ،‬والحكمة‪ ،‬وجعل دعوته‬
‫ة‪ ،‬وانقطعت به‬ ‫م ِ‬
‫قَيا َ‬ ‫عامة لجميع الثقلين‪ :‬الجن والنس‪ ،‬باقية إ َِلى ي َ ْ‬
‫وم ِ ال ِ‬
‫عَلى الله‪ ،‬وقد بين الله به كل شيء وأكمل له ولمته الدين‪،‬‬ ‫حجة العباد َ‬
‫خبرا ً وأمرا ً وجعل طاعته طاعة له‪ ،‬ومعصيته معصية له‪ ،‬وأقسم بنفسه‬
‫أنهم ل يؤمنون حتى يحكموه فيما شجر بينهم‪ ،‬وأخبر أن المنافقين‬
‫سول ‪-‬وهو‬ ‫يريدون أن يتحاكموا إ َِلى غيره‪ ،‬وأنهم إذا دعوا إ َِلى الله والّر ُ‬
‫الدعاء إ َِلى كتاب الله وسنة رسوله‪ -‬صدوا صدودا ً وأنهم يزعمون أنهم‬
‫إنما أرادوا إحسانا ً وتوفيقا‪.‬‬
‫وكما يقول كثير من المتكلمة والمتفلسفة وغيرهم‪ :‬إنما نريد أن ُنحس‬
‫الشياء بحقيقتها‪ ،‬أي‪ :‬ندركتها ونعرفها ونريد التوفيق بين الدلئل التي‬
‫يسمونها العقليات ‪-‬وهي في الحقيقية جهليات‪ -‬وبين الدلئل النقلية‬
‫سول أو نريد التوفيق بين الشريعة والفلسفة‪.‬‬ ‫المنقولة عن الّر ُ‬
‫وكما يقوله كثير من المبتدعة من المتنسكة والمتصوفة‪ :‬إنما نريد‬
‫العمال بالعمل الحسن‪ ،‬والتوفيق بين الشريعة وبين يما يدعونه من‬
‫الباطل الذي يسمونه‪ :‬حقائق وهي جهل وضلل وكما يقوله كثير من‬
‫المتكلمة والمتأثرة‪ :‬إنما نريد الحسان بالسياسة الحسنة والتوفيق بينها‬
‫وبين الشريعة ونحو ذلك‪.‬‬

‫جاءَ به الرسول‪،‬‬ ‫وكل من طلب أن ُيحكم في شيء من أمر الدين غير ما َ‬


‫سول وبين ما‬ ‫جاءَ به الّر ُ‬
‫ويظن أن ذلك حسن‪ ،‬وأن ذلك جمع بين ما َ‬
‫ل يدخل فيه‬ ‫ف كام ٌ‬‫سول كا ٍ‬ ‫جاءَ به الّر ُ‬
‫يخالفه‪ ،‬فله نصيب من ذلك‪ ،‬بل ما َ‬
‫كل حق‪ ،‬وإنما وقع التقصير من كثير من المنتسبين إليه‪ ،‬فلم يعلموا ما‬
‫سول في كثير من المور الكلمية العتقادية‪ ،‬ول في كثير من‬ ‫جاءَ به الّر ُ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫الحوال العبادية‪ ،‬ول في كثير من المارة السياسية‪ ،‬أو نسبوا إ ِلى‬
‫سول بظنهم وتقليدهم ما ليس منها وأخرجوا عنها كثيرا من‬ ‫شريعة الّر ُ‬
‫ما هو منها‪.‬‬
‫ء وظللهم وتفريطهم وبسبب عدوان ُأول َئ ِ َ‬
‫ك وجهلهم‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫فبسبب جهل َ‬
‫ونفاقهم كثر النفاق ودرس كثير من علم الرسالة‪.‬‬

‫سول‬
‫جاءَ به الّر ُ‬
‫بل البحث التام والنظر القوي والجتهاد الكامل في ما َ‬
‫م لُيعلم ويعتقد ويعمل به ظاهرا ً وباطنًا‪ ،‬فيكون قد‬
‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬
‫ُتلي حق تلوته‪ ،‬وأن ل يهمل منه شيء[ اهـ‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬
‫كلما بعد العهد كثرت النحرافات والتأويل الذي سماه أهله "تأوي ً‬
‫ل" فإن‬
‫من المعلوم أنه قد كثر التعطيل والتشبيه‪.‬‬
‫• التأويل‬
‫هدمت الشريعة‪ ،‬ويوضح ذلك‪ :‬أن الذين ينفون صفات الله‬ ‫والتأويل هو أصل به ُ‬
‫ل كـالمعطلة والباطنية والرافضة ‪ ،‬وأمثالهم من الذين يضربون كتاب الله‬ ‫ج ّ‬
‫عَّز وَ َ‬
‫ة بوضوح‪،‬‬‫ماعَ ِ‬ ‫سن ّةِ َوال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫هل ال ّ‬ ‫ؤلِء هم قوم مجاهرون ومعادون لـأ ْ‬ ‫بعضه ببعض‪ ،‬هَ ُ‬
‫ن‪ ،‬ويعادون الصول الشرعية‪ ،‬فيردون‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬
‫م ْ‬‫ويعادون المة السلمية وجماعة ال ْ ُ‬
‫الية والحديث‪ ،‬وأمرهم واضح جلي‪ ،‬لكن المؤول أخطر وجنايته أكثر‪ ،‬لنه يقول‪:‬‬
‫ة ‪ ،‬وهكذا يدعي‬ ‫ماعَ ِ‬ ‫سن ّةِ َوال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫هل ال ّ‬‫أنا أؤمن بالية والحديث‪ ،‬ويقول‪ :‬أنا من أ ْ‬
‫ة‪.‬‬ ‫ماعَ ِ‬ ‫ج َ‬‫سن ّةِ َوال ْ َ‬
‫هل ال ّ‬
‫المؤولون‪ :‬أنهم من أ ْ‬
‫والتأويل هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إ َِلى المعنى المرجوح‬
‫قرينة‪،‬‬

‫والتأويلت كثيرة جدًا‪ ،‬وبعضها مضحك‪ ،‬وبعضها يستدعي التعجب‪،‬‬


‫دي ]ص‪:‬‬ ‫ت ب ِي َ َ‬ ‫خل َ ْ‬
‫ق ُ‬ ‫ما َ‬ ‫سوطََتا ِ‬
‫ن ]المائدة‪ [64:‬ل ِ َ‬ ‫مب ْ ُ‬
‫داهُ َ‬ ‫فمثل ً ب َ ْ‬
‫ل يَ َ‬
‫دي"‪ ،‬وهناك "يداه"‪ ،‬فالمؤول يقول‪ :‬نؤول اليد‪ ،‬مع أن‬ ‫‪ [75‬هنا "ي َ‬
‫ظاهر اليد صفة معروفة‪.‬‬

‫ل هذه الصفة يقولون‪ :‬اليد حقيقية تليق‬ ‫ج ّ‬


‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫فالذين يثبتون لله َ‬
‫عاَلى‪ ،‬ل نعرف كيفيتها‪ ،‬فيقول المؤولة هذا‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫بالله ُ‬
‫الظاهر‪ ،‬ونحن مسّلمون بأنه ظاهر اللفظ وأنه تدل عليه الية‪ ،‬لكن‬
‫نصرف هذا الظاهر إ َِلى وجه واحتمال مرجوح‪ ،‬وهو أن لفظة اليد‬
‫ل‪،‬‬ ‫ج ّ‬‫و َ‬‫عّز َ‬ ‫معناها النعمة أو القدرة‪ ،‬لقرينة وهي‪ :‬تنزيه الله َ‬
‫عاَلى منزه‬‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫عَلى أن الله ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫فالقواطع والبراهين العقلية دلت َ‬
‫عن الجارحة ‪.‬‬

‫فهناك قواعد عقلية وضعوها هم‪:‬‬

‫منها‪ :‬أن الله ينزه عن الجارح‪ ،‬واليد جارحة‪ ،‬فتنفى عن الله‬


‫ويصرف اللفظ من الحتمال الراجح المتبادر الذي يعرفه كل من‬
‫يقرؤه إ َِلى احتمال مرجوح يقال فيها بوجود القرينة‪ ،‬وهي البرهان‬
‫عَلى تنزيه الله تعالى‪.‬‬
‫العقلي الذي قام َ‬

‫وأولوا وحرفوا بتأويلت عجيبة‪ ،‬نذكر فقط بعض المثلة‪ ،‬ففي‬


‫الحديث الصحيح‪) :‬ل تزال النار تقول هل من مزيد حتى يضع الله‬
‫عاَلى قدمه في النار( وروايات كثيرة في أن الّنار ل تمتلئ حتى‬ ‫تَ َ‬
‫عاَلى فيها قدمه‪ ،‬وفي رواية‪) :‬رجله( كلها في‬ ‫وت َ َ‬ ‫يضع الجبار ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫ي و ‪<<b=4000011‬مسلم ‪) ،‬يضع الله تعالى قدمه في‬ ‫ر ّ‬ ‫خا ِ‬
‫صحيح الب ُ َ‬
‫الّنار فتقول‪ :‬قط قط( وفي إحدى الروايات كلمة )الجبار( وفي‬
‫قاُلوا‪ :‬الجبار إما أنه أحد‬
‫ف َ‬
‫روايات كثيرة‪) :‬يضع الله( )يضع الرحمن ( َ‬
‫الملئكة اسمه "الجبار"‪ ،‬وإما أنه أحد الظلمة من أهل الرض‪ ،‬فل‬
‫تمتلئ حتى يضع هذا الجبار الطاغوت قدمه أو رجله في النار‪،‬‬
‫فتقول‪ :‬قط قط قد امتلت‪.‬‬

‫وهذا تأويل أبي المعالي الجويني ‪ ،‬وقد رجع عن ذلك‪ ،‬وتبعه‬


‫عليهأبو حامد الغزالي ‪ ،‬وهو موجود في كتابه المصقول في علم‬
‫ج ّ‬
‫ل‪.‬‬ ‫و َ‬ ‫المعقول ‪ ،‬وهم قالوا بذلك هروبا ً من أن يقولوا‪ :‬هو الله َ‬
‫عّز َ‬
‫والروايات الخرى التي فيها )الله‪ ،‬الرحمن( قالوا‪ :‬عندنا قرينة‬
‫وهي‪ :‬أن الله ينزه عن البعاض والجوارح‪ ،‬وهذا قد قامت عليه‬
‫البراهين العقلية والدلة القطعية من العقل‪ ،‬فتنفى‪.‬‬
‫ي ومسلم‬ ‫َ‬
‫ر ّ‬ ‫خا ِ‬‫مد والب ُ َ‬
‫ح َ‬‫وحديث الحبر اليهودي‪ ،‬رواه المام أ ْ‬
‫م‬‫و َ‬
‫مد أن الله ي َ ْ‬
‫ح ّ‬
‫م َ‬‫ل‪) :‬أما علمت يا ُ‬ ‫جاءَ إ َِلى النبي و َ‬
‫قا َ‬ ‫وغيرهم‪ ،‬أنه َ‬
‫عَلى إصبع‪ ،‬والثرى‬ ‫عَلى إصبع‪ ،‬والرضين َ‬ ‫ة يضع السماوات َ‬ ‫م ِ‬
‫قَيا َ‬
‫ال ِ‬
‫عَلى إصبع( وفي‬ ‫عَلى إصبع‪ ،‬وبقية الخلئق َ‬ ‫عَلى إصبع‪ ،‬والشجر َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫عَلى ذه وأشار إ َِلى السبابة( ث ُ ّ‬
‫م‬ ‫مد ‪) :‬أنه يضع الرض َ‬ ‫ح َ‬
‫رواية المام أ ْ‬
‫استمر في بقية الصابع‪.‬‬

‫م تصديقا ً لقوله(‬ ‫سل ّ َ‬


‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫وفي الحديث‪) :‬فضحك النبي َ‬
‫سل ّ َ‬
‫م‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫هكذا نص الحديث "على إصبع" فضحك النبي َ‬
‫تصديقا ً لقوله‪.‬‬
‫ميعا ً َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫و َ‬
‫ه يَ ْ‬‫ضت ُ ُ‬
‫قب ْ َ‬ ‫ج ِ‬
‫ض َ‬ ‫واْلْر ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ر ِ‬
‫قدْ ِ‬ ‫ق َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه َ‬ ‫قدَُروا الل ّ َ‬
‫ما َ‬ ‫و َ‬
‫َ‬ ‫ومثله الية‪:‬‬
‫ن‬
‫كو َ‬ ‫ر ُ‬
‫ش ِ‬ ‫ما ي ُ ْ‬ ‫عاَلى َ‬
‫ع ّ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫ه ُ‬ ‫مين ِ ِ‬ ‫ت ب ِي َ ِ‬ ‫وّيا ٌ‬‫مطْ ِ‬‫ت َ‬‫وا ُ‬
‫ما َ‬ ‫س َ‬
‫وال ّ‬
‫ة َ‬
‫م ِ‬
‫قَيا َ‬
‫ال ِ‬
‫م ضحك تصديقا ً لقوله‪ ،‬وأن‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫]الزمر‪ ،[67:‬فالنبي َ‬
‫هذا حق‪ ،‬لكن كيفية الصفة غير معلومة لنا‪ ،‬فله من الصفات ما‬
‫يليق به كما أن للمخلوق ما يليق به‪.‬‬

‫وأما المؤولة فقالوا هذا الحديث يؤول‪ ،‬وذلك كـابن فورك ‪ ،‬فإنه‬
‫م ضحك تعجبا ً من تشبيه هذا‬
‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪ :‬إن النبي َ‬
‫الكافر اليهودي‪.‬‬

‫م تعجبا ً من كفره؟!!‬
‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫فيقال هل ضحك النبي َ‬
‫تأويلت غريبة ليس عليها أي دليل‪ ،‬إل أنه كما قالوا‪ :‬قامت‬
‫عَلى أن هناك قرينة تمنعنا من أن‬‫القواطع والبراهين العقلية َ‬
‫نقول بظاهر هذا اللفظ‪.‬‬
‫عَلى بطلن التأويل‪ ،‬ما قاله‪ :‬أبو المعالي الجويني‬
‫ومن الدلة َ‬
‫نفسه ‪-‬شيخ الغزالي ‪ -‬في آخر عمره لما رجع عن الشعرية ‪ ،‬وقد‬
‫ن إمامهم‪ ،‬وألف كتابا ً سماه الرسالة النظامية "إني اطلعت‬ ‫َ‬
‫كا َ‬
‫عَلى عدم التأويل مع كثرة اهتمامهم‬ ‫فرأيت السلف مطبقين َ‬
‫بفروع الشريعة‪ ،‬فلما رأيتهم قد نقلوا إلينا الشريعة كاملة‪ ،‬وأنهم‬
‫عَلى‬
‫أكثر منا اهتماما ً بأصول الشريعة وفروعها‪ ،‬ورأيتهم مطبقين َ‬
‫عدم التأويل‪ ،‬علمت أن التأويل غير حق‪ ،‬فتركت التأويل " ‪.‬‬
‫• خطر التأويل‬
‫ينبغي أن نعرف خطر التأويل‪ ،‬فإنه أخطر من قضية السماء والصفات‪ ،‬وإن‬
‫ل وتوحيده‪ ،‬وهي ركن عظيم من‬‫ج ّ‬
‫كانت السماء والصفات تتعلق بالله عَّز وَ َ‬
‫ديننا‪ ،‬لكن القول بالتأويل‪ ،‬نقض للدين كله أصوله وفروعه‪.‬‬
‫فاالروافض والباطنية قيامهم وتعلقهم وتطاولهم إنما هو بسبب‬
‫ن‪ ،‬تقول الرافضة ‪ :‬إن الله أمرهم أن‬
‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫انتشار التأويل بين ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫مروها عليهم‪،‬‬ ‫ة بنت أبي بكر ‪ ،‬ولكنهم عصوه وأ ّ‬ ‫عائ ِِ َ‬
‫ش َ‬ ‫يذبحوا َ‬
‫ل‪ ،‬وذهبوا بها لتحارب أمير المؤمنين على بن أبي‬ ‫وأركبوها جم ً‬
‫ه في معركة الجمل‪.‬‬ ‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫طالب َر ِ‬
‫حوا ب َ َ‬ ‫عَلى ذلك إن الل ّه يأ ْمرك ُ َ‬
‫ة ]البقرة‪[67:‬‬ ‫قَر ً‬ ‫ن ت َذْب َ ُ‬
‫مأ ْ‬‫َ َ ُ ُ ْ‬ ‫ِ ّ‬ ‫والدليل َ‬
‫عاَلى وهو العظيم الجليل يأمر في ال ُ‬
‫قْرآن بذبح‬ ‫فهل ُيعقل أن الله ت َ َ‬
‫بقرة من التي تمشي في الرض؟ ل‪ .‬وإنما المسألة أعظم من ذلك‪.‬‬

‫قال أهل السنة ‪ :‬هذه ليست في أم المؤمنين ‪ ،‬وإنما هي في‬


‫اليهود من بني إسرائيل‪ ،‬لن موسى قال لقومه‪ :‬إن الله يأمركم أن‬
‫تذبحوا بقرة‪.‬‬

‫وقالت الباطنية للمسلمين‪ :‬لماذا تصلون وتصومون وتحجون؟‬

‫قالوا‪ :‬هذا ديننا‪ ،‬وهي من أركان السلم‪.‬‬

‫ي وفاطمة‬ ‫عل ِ ّ‬
‫فقالوا‪ :‬هذه نؤولها عن ظاهرها‪ ،‬فالصلوات الخمس‪َ :‬‬
‫عَلى‬
‫والحسن والحسين والمام المنتظر ‪ ،‬وتأويلنا هذا ليس بناءً َ‬
‫عَلى خبر يقين‪.‬‬
‫قرينة عقلية‪ ،‬بل بناءً َ‬

‫قاُلوا‪ :‬المام الغائب الذي في السرداب ‪ ،‬وهو المام المعصوم هو‬ ‫و َ‬


‫َ‬
‫المصدر العلمي اليقيني عندنا‪ ،‬وينقله إلينا الباب‪ ،‬فالباب ينقل‬
‫ة‪ ،‬فنحن‬
‫م ِ‬
‫قَيا َ‬ ‫كلم المام الغائب الذي في السرداب إ َِلى ي َ ْ‬
‫وم ِ ال ِ‬
‫نتكلم بيقين‪ ،‬لن هذا المام المعصوم ينقل لنا الكلم عن طريق‬
‫الباب‪ ،‬والباب يعطي الحجاب‪ ،‬والحجاب أو نواب المير ينقلون إلينا‬
‫هذه المعاني‪ ،‬فعرفنا أن الصلوات الخمس هي هذه السماء‬
‫الخمسة‪.‬‬

‫والصوم هو‪ :‬أن يحفظ أسرار الطائفة‪ ،‬والحج‪ :‬أن تقصد الئمة‬
‫وتتلقى عنهم وحدهم‪ ،‬فما هناك طواف بـالكعبة ‪ ،‬ول هناك حجر‪.‬‬

‫وكذلك الفلسفة أوّلوا كما أو ّ‬


‫ل الرافضة والباطنية ‪ ،‬فقالت‬
‫الفلسفة ‪ :‬إن البعث ل حقيقة له‪.‬‬

‫عاَلى أخبر بالبعث في كتابه‪،‬‬‫وت َ َ‬


‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫فقيل لهم‪ :‬إن الله ُ‬
‫َ‬
‫عالى‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫والحاديث الصحيحة ذكرت البعث ووضحته‪ ،‬وأن الله ُ‬
‫ة حفاة عراة غرل‪ ،‬وتدنوا منهم الشمس‬ ‫م ِ‬‫قَيا َ‬
‫م ال ِ‬
‫و َ‬
‫يحشر الّناس ي َ ْ‬
‫فيكلمهم ليس بينهم وبينه ترجمان‪.‬‬

‫فقالوا‪ :‬هذا البعث حشٌر روحاني للرواح فقط‪ ،‬ول تعاد إ َِلى البدن‪،‬‬
‫عَلى أن هذا محال‪ ،‬وأن هذه الجثة بعد أن دخلت‬ ‫لن العقل يدل َ‬
‫الرض وصارت هباءً ل تعود حية‪.‬‬
‫ونعيم الجنة نعيم روحاني فقط‪ ،‬وهذا الكلم يكفرهم به المؤولة‬
‫ن جميعا ً يكفرون من يقول بهذا الكلم‬
‫مو َ‬
‫سل ِ ُ‬ ‫وغير المؤولة ‪ ،‬فال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫حتى المؤولة يكفرونهم‪.‬‬

‫عَلى المؤولة فيقلون‪ :‬أنتم أ ّ‬


‫ولتم اليد والستواء‬ ‫لكن يرد الفلسفة َ‬
‫ونحن نؤول البعث أيضًا‪.‬‬

‫قال المؤولة نحن أوّلنا بقرينة‪.‬‬

‫قال الفلسفة ‪ :‬ونحن عندنا قرائن عقلية مثل ما عندكم قرينة‬


‫ه‬
‫حان َ ُ‬ ‫عَلى أن الله ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫عقلية‪ ،‬فالقواطع والبراهين العقلية تدل َ‬
‫عاَلى ل يتصف بهذه الصفات‪ ،‬وهو منزه عنها‪.‬‬ ‫وت َ َ‬
‫َ‬
‫عَلى عقيدتنا‪ ،‬فلو فتحنا هذا الباب فمن‬
‫هذه جناية التأويل وخطره َ‬
‫ولت جميع الطوائف فماذا بقي من ال ُ‬
‫قْرآن‬ ‫ولنا وأ ّ‬
‫يسده؟ وإذا أ ّ‬
‫والدين؟‬
‫ل‪ ،‬وإل فهو تحريف‪ ،‬فالله‬ ‫فهذا التأويل قبل وراج لما سمي تأوي ً‬
‫وى ]طه‪ [5:‬ويقول‬ ‫ست َ َ‬‫شا ْ‬ ‫عَلى ال ْ َ‬
‫عْر ِ‬ ‫ن َ‬
‫م ُ‬ ‫ح َ‬‫عاَلى يقول‪ :‬الّر ْ‬
‫تَ َ‬
‫على العرش استولى زيادة تأويل‪ ،‬لكنه يحول‬ ‫َ‬ ‫المؤولة ‪ :‬الرحمن َ‬
‫ويغير المعنى‪ ،‬وإن كانوا لم يغيروا الية‪ ،‬فهم لم يزيدوا في الية‬
‫إل "لم" لكن إذا تركوها بهذا المعنى لم يبق من حقيقة الية إل ما‬
‫هو مكتوب في المصحف فقط‪ ،‬أما ما تفهم به فهو المعنى الذي‬
‫وضعوه‪ ،‬وهو بزيادة اللم‪.‬‬
‫• سبب التأليف في العقائد‬
‫ه‪] :‬من أجل ذلك احتاج المؤمنون إ َِلى دفع الشبه[ أي‪:‬‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬
‫م ْ‬
‫يقول ال ُ‬
‫من أجل انتشار التأويل وأمثاله‪ ،‬احتاج المؤمنون إ َِلى التأليف في العقيدة‪ ،‬ليردوا‬
‫عََلى هذه العقائد‪.‬‬
‫سول‬
‫ن عليه الّر ُ‬ ‫ل والسنة‪ ،‬وهذا ما َ‬
‫كا َ‬ ‫ج ّ‬
‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫والصل هو كتاب الله َ‬
‫ء أن نسلك هذه‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫م وأصحابه‪ ،‬فاضطرنا َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫الطريقة وذلك لما كثرت البدع والتأويلت والنحرافات‪ ،‬فبدأنا‬
‫نضطر أن نقاوم هذه البدع‪ ،‬ونبينها ونكشفها‪ ،‬ل نكتفي ببيان‬
‫الحق‪ ،‬وإنما نبين ما يضاده من الباطل‪.‬‬

‫عَلى مراتب‪ :‬فقد يكون‬


‫ل من التحريف والنحراف َ‬‫م يقول‪] :‬وك ٌ‬‫ثُ ّ‬
‫كفرًا‪ ،‬وقد يكون فسقًا‪ ،‬وقد يكون معصية‪ ،‬وقد يكون خطأ‪.[...‬‬

‫ه الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف وعدله َر ِ‬ ‫م ْ‬ ‫هذه قاعدة مهمة‪ ،‬وهذا من إنصاف ال ُ‬
‫ه‬ ‫ّ‬ ‫كوُنوا َ‬ ‫مُنوا ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫عاَلى‪ ،‬فقد قال الله تعالى‪:‬‬
‫ن ل ِل ِ‬
‫مي َ‬ ‫وا ِ‬‫ق ّ‬ ‫نآ َ‬
‫ذي َ‬ ‫ها ال ِ‬ ‫َيا أي ّ َ‬ ‫تَ َ‬
‫دُلوا ُ‬ ‫دُلوا ا ْ‬ ‫َ‬
‫و‬
‫ه َ‬ ‫ع ِ‬ ‫عَلى أّل ت َ ْ‬
‫ع ِ‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ن َ‬
‫ق ْ‬ ‫شَنآ ُ‬ ‫من ّك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ر َ‬
‫ج ِ‬
‫ول ي َ ْ‬
‫ط َ‬
‫س ِ‬
‫ق ْ‬ ‫داءَ ِبال ْ ِ‬
‫ه َ‬
‫ش َ‬ ‫ُ‬
‫وى ]المائدة‪.[8:‬‬ ‫ق َ‬ ‫ب ِللت ّ ْ‬
‫قَر ُ‬‫أَ ْ‬
‫• مراتب التأويل‬
‫للتأويل ثلث مراتب‪ :‬قد يكون التأويل كفرًا‪ ،‬مثل التأويلت الباطنية ‪ ،‬وتأويلت‬
‫الفلسفة ‪ ،‬وبعض التأويلت الكفرية‪ ،‬وبعض تأويلت الرافضة ‪ ،‬كمن يؤول‬
‫الصلوات الخمس بأنها الئمة الخمسة‪ ،‬ويؤول الصوم بأنه حفظ السرار إ َِلى غير‬
‫ذلك‪ ،‬هذا التأويل كفر يخرج من الملة‪.‬‬
‫عَلى صاحبه أنه‬ ‫وقد يكون معصية يخرج صاحبه إ َِلى البدعة‪ُ ،‬يحكم َ‬
‫ل‪ ،‬وذلك مثل التأويلت التي ذكرناها ‪-‬تأويل صفات الله‬‫منح ٌ‬
‫مبتدع و ُ‬
‫ل مع نية تنزيهه‪.‬‬‫ج ّ‬
‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫َ‬

‫وقد يكون خطًأ‪ ،‬فبعض الّناس ل يتعمد التأويل‪ ،‬وهذا موجود حتى‬
‫ة ‪ ،.‬وكتب الحديث لـ‬
‫ع ِ‬
‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ة َ‬
‫سن ّ ِ‬
‫هل ال ّ‬ ‫في بعض كتب التفسير لـ أ ْ‬
‫ة ‪ ،‬عندما يؤول بعض الصفات خطأ‪ ،‬فهذا ل‬ ‫ع ِ‬ ‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ة َ‬‫سن ّ ِ‬
‫هل ال ّ‬
‫أ ْ‬
‫ة‪.‬‬
‫ع ِ‬
‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ة َ‬
‫سن ّ ِ‬
‫هل ال ّ‬ ‫يخرجه من أ ْ‬

‫ن المعتبرين قد يخطأ ويؤول بعض الصفات‪،‬‬


‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫فبعض علماء ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫فهذا خطؤه مغفوٌر له إن شاء الله‪ ،‬فقد يخطأ بعض الئمة في فهم‬
‫بعض الحاديث في الصفات مع سلمة المنهج‪.‬‬

‫ن منهجه وأصوله بدعية‪ ،‬فهذا من أهل البدع المتوعدين‬ ‫وأما من َ‬


‫كا َ‬
‫عاَلى له‪ ،‬ول نقطع له‬
‫وت َ َ‬ ‫بعقوبة الله‪ ،‬إل ّ أن يتوب أو يغفر الله ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫بجنة ول نار‪.‬‬

‫والتأويل المكفر‪ ،‬الذي ذكرنا إنما عد كفرا ً لنه مضادة للقرآن‪،‬‬


‫عاَلى‬
‫وت َ َ‬ ‫وتعمد في تحريفه كما تعمدت اليهود‪ ،‬لما قال الله ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫ة ]البقرة‪ [58:‬فقالت اليهود‪:‬‬ ‫حطّ ٌ‬
‫قوُلوا ِ‬ ‫جدا ً َ‬
‫و ُ‬ ‫س ّ‬ ‫خُلوا ال َْبا َ‬
‫ب ُ‬ ‫وادْ ُ‬
‫َ‬
‫"حنطة"‪.‬‬
‫قال بعض العلماء‪ :‬النون التي زادها اليهودفي "حطة" وجعلوها‬
‫"حنطة" مثل‪ :‬اللم التي زادها المؤولة ‪ ،‬فقالوا في استوى‪:‬‬
‫"استولى" هذا وجه الشبه بينهم‪ ،‬فالذي يزيد بنية المضادة أو‬
‫الستهزاء أو المحادة‪ ،‬فهذا يصبح من التأويل المكفر‪ ،‬أما الذي زاد‬
‫لعتماد أصول بدعية‪ ،‬فهو يدخل في باب التأويل المذموم المبتدع‬
‫المتوعد عليه‪ ،‬وأما الذي أصوله صحيحة‪ ،‬لكن يقع منه خطأ ً كما يقع‬
‫من سائر العلماء في سائر النصوص والحاديث‪ ،‬فهذا يسمى خطأ‪،‬‬
‫وهذا نرجو أل ّ يؤاخذ عليه عند الله تعالى‪ ،‬أما في الدنيا فنبين له؛‬
‫لن الله تعهدنا بأن نبين الحق‪ ،‬وليس كلم أحد حجة وصواب إل‬
‫م‪ ،‬وأما من عداه فإن كلمه ُيبّين‬‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫مد َ‬ ‫ح ّ‬
‫م َ‬‫كلم ُ‬
‫هل‬‫وخطأه يوضح‪ ،‬دون أن ننتقص من قدره‪ ،‬ول نخرجه من دائرة أ ْ‬
‫ة‪.‬‬
‫ع ِ‬
‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ة َ‬‫سن ّ ِ‬
‫ال ّ‬
‫• تاريخ ظهور البدع‬
‫َ‬
‫ك وَت ََعاَلى‪ :‬وَأ ّ‬
‫ن هَ َ‬
‫ذا‬ ‫وهذه الفرق انشقت عن الجماعة‪ ،‬وخالفت قول الله ت ََباَر َ‬
‫سِبيِله ]النعام‪:‬‬ ‫ن َ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫فّرقَ ب ِك ُ ْ‬
‫ل فَت َ َ‬ ‫قيما ً َفات ّب ُِعوهُ َول ت َت ّب ُِعوا ال ّ‬
‫سب ُ َ‬ ‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬
‫طي ُ‬
‫صَرا ِ‬
‫ِ‬
‫‪ [153‬فاتخذت دينها شيعًا‪ ،‬وتفرقت عن الدين‪ ،‬وأقدم هذه الفرق على ما يظهر‬
‫لي هي الخوارج ‪ ،‬لن فكرة الخوارج بدأت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫حين )كان النبي يقسم غنائم حنين‪ ،‬فكان يعطي المؤلفة قلوبهم‪ ،‬ويترك بعض‬
‫المهاجرين والنصار‪ ،‬حتى وجد بعض النصار في أنفسهم( ‪ ،‬فكان بعض العراب‬
‫يذهب باللف أو اللفين من الغنم والبل‪ ،‬فخرج منهم رجل له كساء‪ ،‬غائر‬
‫ة ما‬
‫ل‪ :‬اعدل يا محمد! إنها لقسم ٌ‬ ‫قا َ‬‫العينين‪ ،‬شعث الشعر ‪-‬كما في الحديث‪) -‬ف َ‬
‫م‪ :‬ويلك فمن‬ ‫سل ّ َ‬ ‫ه عَل َي ْهِ وَ َ‬
‫صّلى الل ُ‬‫ل النبي َ‬ ‫قا َ‬‫أريد بها وجه الله ‪-‬والعياذ بالله‪ -‬فَ َ‬
‫سل ّ َ‬
‫م‪ ،‬وعلمنا‬ ‫ه عَل َي ْهِ وَ َ‬‫صّلى الل ُ‬ ‫يعدل إذا لم أعدل؟( فهو الذي شرع شريعة العدل َ‬
‫ل‪ ،‬ولكن هذا من ضيق لبه وجهله وقلة علمه‪ ،‬وعدم‬ ‫ج ّ‬
‫إياها من عند ربه عَّز وَ َ‬
‫مراعاته للمقاصد والحكام التي يراعيها الشارع في أحكامه فقد رأى أن هذه‬
‫م‪.‬‬‫سل ّ َ‬
‫ه عَل َي ْهِ وَ َ‬‫صّلى الل ُ‬ ‫سول الله َ‬ ‫القسمة ليست عادلة‪ ،‬فاعترض عََلى َر ُ‬
‫م‪) :‬يرحم الله موسى قد أوذي‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫فقال النبي َ‬
‫بأكثر من هذا فصبر( لما اتهمه قومه بأنه آدر‪ ،‬فما زالوا يتهمونه‬
‫عاَلى وكذب قولهم‪ ،‬وغير ذلك مما أوذي به‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫حتى برأه الله ُ‬
‫سلم‪.‬‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه ال ّ‬ ‫موسى َ‬

‫سل ّ َ‬
‫م‪) :‬يرحم الله موسى قد أوذي‬ ‫و َ‬‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫فقال النبي َ‬
‫ل‪) :‬يخرج من صلب هذا أقوام تحقرون‬ ‫م َ‬
‫قا َ‬ ‫بأكثر من هذا فصبر( ‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫صلتكم إ َِلى صلتهم‪ ،‬وقراءتكم إ َِلى قراءتهم‪ ،‬يمرقون من الدين‬
‫كما يمرق السهم من الرمية( ‪.‬‬

‫وثبت قوله في أحاديث كثيرة في قتال الخوارج )لئن أدركتهم‬


‫لقتلنهم( فأول فرقة مستقلة لها غاية‪ ،‬وتجمع كانت هي الخوارج ‪.‬‬
‫ومن مبادئهم التكفير بالذنب‪ ،‬وهم أصحاب الوعيد‪ ،‬حيث يأخذون‬
‫الوعيد ويتركون الوعد‪ ،‬فيكفرون الزاني وشارب الخمر والسارق‬
‫ونحو ذلك‪.‬‬

‫ويجاب عن ذلك أن الله قد جعل للمرتد عقوبة القتل‪ ،‬وللزاني‬


‫ن بكرا ً فعقوبته الجلد‪ ،‬وللسارق عقوبة القطع‪ ،‬فلو‬ ‫الرجم‪ ،‬فإن َ‬
‫كا َ‬
‫ن الجميع يكفرون لكان الحد واحدا ً وهو القتل‪ ،‬والردود عليهم‬ ‫َ‬
‫كا َ‬
‫كثيرة‪.‬‬

‫كم الحكمين‪،‬‬ ‫ه لما ح ّ‬ ‫عن ْ ُ‬


‫ه َ‬‫ي الل ُ‬ ‫ض َ‬‫ي َر ِ‬
‫عل ِ ّ‬
‫ء في عهد َ‬
‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬
‫وخرج َ‬
‫قاُلوا‪ :‬ل حكم إل ّ لله‪ ،‬حكمت الرجال في دين الله؟ فخرجوا وأ ّ‬
‫مروا‬ ‫ف َ‬
‫َ‬
‫عليهم عبد الله بن وهب الواحدي وقيل غيره‪ ،‬لكن هذا الذي‬
‫قاُلوا‪ :‬ل نبايع‬
‫و َ‬
‫ه‪َ ،‬‬
‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬‫ض َ‬ ‫ي َر ِ‬‫عل ِ ّ‬
‫اشتهرت إمرته‪ ،‬ورفضوا بيعة َ‬
‫مر ‪ ،‬وإل ّ فلن نبايع‪ ،‬فبايعوا عبد الله بن وهب ‪ ،‬وهو‬ ‫إل ّ مثل ُ‬
‫ع َ‬
‫أعرابي جلف ليس له صحبة‪ ،‬ول شهد له الله بخير كما يقول ابن‬
‫حزم‪.‬‬
‫وظهرت الشيعة بمبدأ التعطيل‪ ،‬كفكرة أولى هي موجودة في‬
‫أمثال عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أسس دينالشيعة منذ أن أثار‬
‫ه‪ ،‬فبداية الفرقة موجودة‪ ،‬لكن‬ ‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬ ‫عَلى عثمان َر ِ‬
‫ض َ‬ ‫الفتنة َ‬
‫ه‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬ ‫ً‬ ‫ظهرت كفرقة واضحة عندما خرج الخوارج وك ّ‬
‫فروا عليا َر ِ‬
‫ه‪.‬‬
‫عن ْ ُ‬
‫َ‬
‫• أقسام الشيعة‬
‫الشيعة ثلثة أقسام‪:‬‬
‫قاُلوا‪:‬‬
‫و َ‬
‫ه‪َ ،‬‬
‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫ي َر ِ‬
‫عل ِ ّ‬
‫" الغالية‪ ،‬المؤلهة " الذين غلوا في َ‬
‫أنت أنت‪.‬‬
‫َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪ :‬من أنا؟‬

‫قالوا‪ :‬أنت الله‪ ،‬وسجدوا له ‪-‬والعياذ بالله‪.-‬‬

‫ه بإحراقهم‪ ،‬وهرب عبد الله بن سبأ‬


‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫ي َر ِ‬
‫عل ِ ّ‬
‫ء أمر َ‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫و َ‬
‫إ َِلى بلد العجم‪ ،‬وهناك بدأ الدين السبئي‪.‬‬

‫الفرقة الثانية‪" :‬السّبابة"‪ :‬الذي يسبون ويشتمون الشيخين‪ ،‬فهم‬


‫لم يخرجوا من السلم ولم يؤلهوا عليًا‪ ،‬ولكنهم سبوا الشيخين‬
‫هما‪ ،‬وقد قال بعض الئمة‪ :‬إن سب الشيخين كفر لن‬ ‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬‫َر ِ‬
‫هذين كما قال علي بن الحسين زين العابدين الذي رفضته الرافضة‬
‫ل‪ :‬كيف أسبهم وهما وزيرا جدي؟‬ ‫َ‬
‫قا َ‬

‫م فقد سب النبي‪،‬‬ ‫سل ّ َ‬


‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫فالذي يسب وزيري النبي َ‬
‫سول الله‪،‬‬
‫والذي يقول‪ :‬إن أبا بكر عدو للسلم فهو متهم لَر ُ‬
‫ومتهم للمة كلها‪.‬‬

‫صّلى‬
‫سول َ‬‫كيف يكون هذا الرجل منافقا ً عدوا ً للسلم ويوليه الّر ُ‬
‫م الصلة إشارة إ َِلى تولية المامة العظمى؟‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬
‫الل ُ‬
‫مر أفضل الصحابة؟‬
‫ع َ‬
‫وكان هو و ُ‬

‫ء المغترون‪ -‬فالدين كله‬


‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬‫ن هذان كذابين ‪-‬كما يقول َ‬ ‫كا َ‬ ‫فإذا َ‬
‫ي‬ ‫كذب‪ ،‬وما نقلت لنا السنة والشريعة إل ّ عن طريق الصحابة َر ِ‬
‫ض َ‬
‫مر ‪.‬‬‫ع َ‬ ‫هم‪ ،‬وعلى رأسهم أُبو ب َك ْ ٍ‬
‫رو ُ‬ ‫عن ْ ُ‬‫ه َ‬
‫الل ُ‬
‫ء هم الزيدية الذين‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫وأما الفرقة الثالثة‪ :‬وهي‪" :‬المفضلة"‪ :‬ف َ‬
‫قاُلوا‪ :‬ل نشتم الشيخين‪ ،‬ولكنهم‬ ‫ف َ‬
‫وافقوا علي بن الحسين ‪َ ،‬‬
‫يفضلون عليا ً عليهما‪ ،‬ويقولون‪ :‬إن إمامة المفضول جائزة مع‬
‫وجود الفضل‪.‬‬

‫مر جائزة‪ ،‬وهذا الذي‬‫ع َ‬ ‫ي ‪ <P‬الفضل‪ ،‬ولكن إمامة أِبي ب َك ْ ٍ‬


‫رو ُ‬ ‫عل ِ ّ‬
‫فـ َ‬
‫أنكره عليهم علماء السلف ‪ ،‬وهو من البدع‪ ،‬ويكفينا في بدعيته أنه‬
‫عَلى‬ ‫ل‪" :‬ما جاؤني بأحد يفضلني َ‬ ‫قا َ‬ ‫ه أنه َ‬‫عن ْ ُ‬‫ه َ‬‫ي الل ُ‬ ‫ض َ‬
‫ي َر ِ‬
‫عل ِ ّ‬
‫صح عن َ‬
‫ي‬‫ض َ‬‫ي َر ِ‬
‫عل ِ ّ‬
‫مر إل جلدته حد الفرية ثمانين جلدة ‪ ،‬وقال َ‬ ‫ع َ‬
‫رو ُ‬ ‫أِبي ب َك ْ ٍ‬
‫ي ‪" :‬والله ما من رجل وددت أن ألقى الله‬ ‫ر ّ‬‫خا ِ‬
‫ه‪ ،‬كما في الب ُ َ‬ ‫عن ْ ُ‬‫ه َ‬ ‫الل ُ‬
‫مر وهو في سكرات الموت" وهذا‬ ‫بعمله إل هذا " وكان يشير إ َِلى " ُ‬
‫ع َ‬
‫الثر معروف ومشهور ومتواتر بين الصحابة‪.‬‬

‫ولما اشتهرالخوارج وكفروا صاحب الذنب‪ ،‬كشارب الخمر والزاني‬


‫والسارق‪ ،‬خرجت منهم فرقة تقول‪ :‬ل نكفر أحدا ً يقول ل إله إل‬
‫الله‪ ،‬وكانوا مع الخوارج وجلسوا معهم فترة‪ ،‬فرجعوا إ َِلى غلو آخر‬
‫قاُلوا‪ :‬ل نكفر أحدا ً أبدا ً ما دام يقول ل إله إل الله‪ ،‬حتى وإن‬
‫و َ‬
‫شديد َ‬
‫ء‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫َ‬
‫سب الله ورسوله‪ ،‬وأنكر القرآن‪ ،‬فجنحوا إ ِلى الطرف الخر‪ ،‬و َ‬
‫هم "المرجئة "‪ ،‬وظهروا في أواخر العهد الخامس‪.‬‬

‫م ظهرت القدرية ‪ ،‬وكان ظهورها في العراق أيضًا‪ ،‬في عهد‬ ‫ثُ ّ‬


‫صاَرى الذين كانوا في الشام‪ ،‬وكان لهم كلم في‬ ‫الصحابة بتأثير الن ّ َ‬
‫ن‪ ،‬وقال بهمعبد الجهني ‪،‬‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫القدر والخوض فيه‪ ،‬فنقلوه إ َِلى ال ْ ُ‬
‫وقد ثبت في صحيح مسلم في حديث جبريل الطويل المشهور‬
‫م وأسند ركبتيه إ َِلى‬‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬ ‫ه َ‬‫صّلى الل ُ‬ ‫المعروف‪) :‬أنه أتى النبي َ‬
‫مد أخبرني عن‬ ‫ح ّ‬ ‫م َ‬
‫ل‪ :‬يا ُ‬ ‫قا َ‬ ‫ركبتيه‪ ،‬ووضع يديه على فخذيه‪ ،‬و َ‬
‫جاءَ بعض‬ ‫مر حيث َ‬‫ع َ‬ ‫السلم؟ ‪ ،(...‬رواه عبد الله بن عمر عن أبيه ُ‬
‫ل‪ :‬إن هناك أقواما ً في‬ ‫قا َ‬‫التابعين إ َِلى عبد الله بن عمر وسأله ف َ‬
‫ل لهم‪ :‬حدثني أبي‪ ،‬فذكر حديث جبريل‬ ‫ف َ‬
‫قا َ‬ ‫العراق ينكرون القدر‪َ ،‬‬
‫عَلى أن اليمان بالقدر هو أحد أركان اليمان الستة‪.‬‬ ‫الذي يدل َ‬

‫فـالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية هذه الفرق جميعا ً ظهرت‬


‫هم‪ ،‬وهذه الفرق‬ ‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫هَر ِ‬
‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫في عهد الصحابة َر ِ‬
‫الربع هي أصول الفرق التي تشعبت منها فرق صغيرة‪ ،‬وظهرت‬
‫المعتزلة في أوائل المائة في عهد الحسن البصري ‪ ،‬فاعتزلوا‬
‫مجلسه‪ ،‬وهم في الحقيقة امتداد لفكر الخوارج ‪ ،‬لكنهم ل يقولون‪:‬‬
‫إن مرتكب الكبيرة يخرج من الملة‪ ،‬وإنما قالوا‪ :‬يخرج من السلم‬
‫قاُلوا‪ :‬يخرجونه‬
‫ف َ‬
‫ول يدخل الكفر‪ ،‬فهو في منزلة بين المنزلتين‪َ ،‬‬
‫من السلم لن اليات والحاديث التي في المؤمنين ل تنطبق‬
‫عليه‪ ،‬ول يدخلونه في الكفر لن اليات والحاديث التي في‬
‫الكافرين ل تنطبق عليه‪ ،‬فجعلوه في منزلة بين المنزلتين‪.‬‬

‫م ظهر الجعد بن درهم ‪ ،‬فضحى به خالد بن عبد الله القسري بعد‬ ‫ثُ ّ‬
‫ل‪ :‬أيها الّناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني‬ ‫المائة والعشرين‪ ،‬و َ‬
‫قا َ‬
‫ح بـالجعد بن درهم ‪ ،‬فإنه أنكر أن الله كلم موسى تكليمًا‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫م‬ ‫مض ٍ‬
‫نزل من المنبر وذبح الجعد بن درهم ‪.‬‬
‫عَلى بني‬ ‫م تلميذه الجهم بن صفوان ‪ ،‬وخرج مع الحارث بن سريج َ‬ ‫ثُ ّ‬
‫ن‬ ‫أمية سنة ‪128‬هـ‪ ،‬وكان كاتبا ً له فنشر فكر المرجئة ‪ ،‬والجهم َ‬
‫كا َ‬
‫ينفي جميع الصفات عن الله‪ ،‬وكان في نفس الوقت مرجئًا‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫إن اليمان هو المعرفة القلبية فقط‪ ،‬فمن عرف الله بقلبه فهو‬
‫مؤمن ‪-‬عند جهم ‪ ،-‬ولهذا فـالمرجئة غلو في هذا الباب‪ ،‬لن إبليس‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ك َل ُ ْ‬
‫عّزت ِ َ‬ ‫َ‬ ‫يعرف الله بقلبه‪ ،‬بل بلسانه َ‬
‫قا َ‬
‫عي َ‬
‫م ِ‬
‫ج َ‬
‫مأ ْ‬‫ه ْ‬
‫وي َن ّ ُ‬
‫غ ِ‬ ‫فب ِ ِ‬ ‫ل‪:‬‬
‫]ص‪ [82:‬وكان الجهم كثير الجدل بل علم‪ ،‬لم يتفقه‪ ،‬ويخالط‬
‫العلماء‪ ،‬ويقرأ كتب العلم‪ ،‬ويحفظ من كتاب الله وسنة رسوله‪،‬‬
‫ن يجادل فقط‪ ،‬فجاءه قوم من الهنود من عباد البقار‪،‬‬ ‫وإنما َ‬
‫كا َ‬
‫قاُلوا‪ :‬جئنا نناظرك‪ ،‬فقالوا له‪ :‬صف لنا ربك؟ هل رأيته؟ هل‬ ‫ف َ‬‫َ‬
‫لمسته؟ هل شممته؟‬

‫ء؟‬ ‫عَلى َ‬
‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫فبقي أربعين يوما ً يفكر‪ ،‬كيف يرد َ‬

‫ل‪ :‬هو كالهواء‪ ،‬ليس له أي صفة‪ ،‬ل يرى ول يشم‪ ،‬ونتج عن ذلك‬ ‫ف َ‬
‫قا َ‬
‫ج ّ‬
‫ل‪.‬‬ ‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫نفي صفات الله َ‬

‫م تلقى عن الجهم بشر المّريسي ‪ ،‬وهو يهودي في الصل‪ ،‬لم يلق‬‫ثُ ّ‬


‫الجهم ‪ ،‬ولكن لقي تلميذ تلمذته‪ ،‬وتعلم مذهب الجهم‬

‫لب ‪ ،‬وهو المؤسس الحقيقي‬ ‫م تلقى عنه عبدالله بن سعيد بن ك ّ‬ ‫ثُ ّ‬


‫ه‬ ‫َ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫مد َر ِ‬
‫ح َ‬
‫للمذهب المسمى مذهب الشعرية ‪ ،‬ولذلك هجره المام أ ْ‬
‫عاَلى‪ ،‬لنه وافق مقالة بشر وجهم ‪ ،‬لكن ابن كلب لم ينف‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ه تَ َ‬
‫جميع الصفات‪ ،‬كما قال جهم بأن الكلم كلم نفسي‪ ،‬ولكن أثبت ما‬
‫يثبته العقل‪ ،‬ونفى ما ينفيه العقل‪ ،‬وح ّ‬
‫كم العقل‪.‬‬

‫قاُلوا‪ :‬ما قامت القواطع‬


‫ف َ‬
‫وهذا الذي قالتهالشعرية والماتريدية ‪َ ،‬‬
‫عَلى إثباته فإننا نثبته‪ ،‬وهي‪ :‬الحياة والعلم والقدرة‬
‫العقلية َ‬
‫والسمع والبصر والرادة والكلم ‪-‬الكلم النفسي‪ -‬فهذه يدل العقل‬
‫عَلى إثباتها‪.‬‬
‫َ‬

‫وأما الخرى فالعقل يحكم باستحالتها في حق الله تعالى‪ ،‬فل‬


‫نثبتها لله تعالى‪ ،‬وأصل هذا العقل هو عقل الجهم لما اختلى‬
‫أربعين يومًا‪.‬‬

‫والقدرية تشعبت‪ ،‬فكان منها القدرية الغلة الذين ينكرون العلم‪،‬‬


‫ء أكفر‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫ومن أنكر علم الله للشياء قبل وقوعها فقد كفر‪ ،‬و َ‬
‫ن الله يعلم أنه يفعل المعصية‪ ،‬إذا ً هو‬ ‫القدرية فإنهم قالوا‪ :‬لو َ‬
‫كا َ‬
‫ول لهم‬ ‫در عليه المعصية‪ ،‬فكيف يجازيه عليها؟ وهكذا س ّ‬ ‫ق ّ‬
‫الشيطان‪.‬‬
‫عاَلى أخبرنا أن هذه الحجة قديمة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫والله ُ‬
‫ؤَنا ]النعام‪:‬‬ ‫ول آَبا ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ما أ ْ‬ ‫ّ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫نأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫قو ُ‬ ‫سي َ ُ‬
‫شَركَنا َ‬ ‫ه َ‬ ‫شاءَ الل ُ‬ ‫شَركوا ل ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ِ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ْ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ذي‬
‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫النحل‪:‬‬ ‫سورة‬ ‫في‬ ‫ل‬‫ّ‬ ‫ج‬ ‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ز‬ ‫ّ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫الله‬ ‫[ويقول‬ ‫‪148‬‬
‫ن ]النحل‪ [35،36:‬وقال‬ ‫بي‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ُ‬
‫غ‬ ‫بل‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ل‬‫ّ‬ ‫إ‬ ‫ل‬‫عَلى الّر ُ ِ‬
‫س‬ ‫ل َ‬ ‫ه ْ‬ ‫م َ‬
‫ف َ‬ ‫ه ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ُ ِ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫قب ْل ِ ِ‬
‫ن‬‫عي َ‬ ‫م ِ‬‫ج َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫داك ُ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬
‫شاءَ ل َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫فل ْ‬ ‫ة َ‬ ‫غ ُ‬ ‫ْ‬
‫ة الَبال ِ َ‬ ‫ج ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ال ُ‬‫ْ‬ ‫ّ‬
‫فل ِل ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ُ‬ ‫في النعام‪:‬‬
‫َ‬
‫م‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫م َرب ّك ُ ْ‬ ‫حّر َ‬
‫ما َ‬ ‫ل َ‬ ‫وا أت ْ ُ‬ ‫عال َ ْ‬ ‫ل تَ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ُ‬ ‫ل‪:‬‬ ‫قا َ‬ ‫م َ‬ ‫]النعام‪ [149:‬ث ُ ّ‬
‫ن‬
‫كا َ‬‫عاَلى ذكر هذه الشبهة وردّ عليها بأنه لو َ‬ ‫]النعام‪ [151:‬فالله ت َ َ‬
‫يلزم من ذلك أنه أراد الشرك ‪-‬يعني قضاه وقدره‪ -‬لما أرسل‬
‫النبياء‪ ،‬ولما أقام الحجة البالغة‪.‬‬
‫مقدمة شرح العقيدة الطحاوية ‪4‬‬
‫تكلم الشيخ حفظه الله عما يحب على العبد المسلم‪ ،‬الذي لم يستطع أن يعرف‬
‫تفاصيل العقيدة‪ ،‬وعّرج إلى موقف السلف من علم الكلم‪ ،‬وذكر نقولت لعلماء‬
‫السلف‪ ،‬كالشافعي‪ ،‬وأبي يوسف‪ ،‬وأصحاب أبي حنيفة‪ ،‬في ذم علم الكلم‪ ،‬وفي الخير‬
‫ذكر أن نبينا صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم وأن المتأخرين كثر كلمهم وقلت‬
‫بركة ما يقولون‪.‬‬

‫‪ - 1‬الواجب على من لم يستطع اليمان بتفاصيل العقيدة‬


‫ف رحمة الله‪:‬‬‫مصن ّ ُ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ال ُ‬
‫ن العبد عاجزا ً عن معرفة عض ذلك أو العمل به فل ينهى عما‬ ‫كا َ‬‫]وإن َ‬
‫م بل حسبه أ ن يسقط‬‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫سول صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫جاءَ الّر ُ‬
‫عجز عنه مما َ‬
‫عنه اللوم لعجزه‪ ،‬لكن عليه أن يفرح بقيام غيره به ويرضى بذلك ويود‬
‫أن يكون قائما ً به‪ ،‬وأن ل يؤمن ببعضه ويترك بعضه بل يؤمن بالكتاب‬
‫كله‪ ،‬وأن يصان عن أن يدخل فيه ما ليس منه من رواية أو رأي‪ ،‬أو يتبع‬
‫ق‬
‫ح ّ‬ ‫سوا ال ْ َ‬ ‫ول ت َل ْب ِ ُ‬‫َ‬ ‫ما ليس من عند الله اعتقادا ً أو عمل ً كما قال تعالى‪:‬‬
‫بال ْباطل وت َك ْت ُموا ال ْحق َ‬
‫مون ]البقرة‪ [42:‬وهذه كانت طريقة‬ ‫عل َ ُ‬
‫م تَ ْ‬
‫وأن ْت ُ ْ‬
‫َ ّ َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ َ ِ ِ َ‬
‫ة‪،‬‬‫م ِ‬‫قَيا َ‬ ‫وم ِ ال ِ‬ ‫السابقين الولين وهي طريقة التابعين لهم بأحسان إ َِلى ي َ ْ‬
‫ء‬
‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬
‫م من بعدهم‪ ،‬ومن َ‬ ‫وأولهم السلف القديم من التابعين الولين ث ُ ّ‬
‫أئمة الدين المشهود لهم عند المة الوسط بالمامة[‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫عَلى المسلم أن يتفقه في دينه‪ ،‬ويعرف تفاصيل معتقده‬ ‫إن الذي ينبغي َ‬
‫عَلى وفق منهج النبياء‪ ،‬فإذا قال أحد‪ :‬أنا ل أستطيع العتقاد المفصل‪،‬‬ ‫َ‬
‫ول أستطيع أن أعتقد بجميع أحاديث العقيدة‪ ،‬وبآياتها وأجمع بين‬
‫المتعارضات منها‪ ،‬خاصة في موضوع القدر والصفات‪ ،‬فنقول له‪ :‬العاجز‬
‫عن ذلك قد يسقط عنه لعجزه‪ ،‬لكن ل يجوز لك أن تحارب أو تعادي أو‬
‫تلوم من قال بهذا المر‪ ،‬وإنما ينبغي عليك أن تؤيده وتناصره وتتعلم منه‬
‫ما استطعت‪ ،‬وأن تفرح بقيام غيرك به؛ لن هذا من باب الدفاع عن‬
‫ق‪ ،‬فكثير من الّناس ل يريد أن يتعلم‬
‫فَر ْ‬
‫الدين‪ ،‬ومن ذلك‪ :‬معرفة ال ِ‬
‫الفرق‪ ،‬ويكره أن يعرف عنها شيئًا‪ ،‬فنقول له‪ :‬إن لم تتعلم فعليك أل‬
‫عَلى من تصدى لها‪ ،‬بل عليك أن‬
‫تعايش شيئا ً من هذه الفرق‪ ،‬وأل تعيب َ‬
‫تفرح إذا وجد في المة من يتصدى لهذه الفرق‪ ،‬ويحارب هذه الضللت‪.‬‬

‫عَلى من لم يستطع اليمان المفصل‪ :‬أن يؤمن بالكتاب كله‬ ‫ومما يجب َ‬
‫ويسلم له ول يؤخذ بعضه ويترك البعض الخر‪ ،‬وقد سبق أن ذكرنا في‬
‫موضوع تعارض العقل والنقل أنهم ل يعارضون النقل بالعقل دائمًا‪،‬‬
‫وإنما يعارضون به في المواضع التي يرون وجوب التأويل فيها‪ ،‬وإعمال‬
‫العقل فيها فقط‪ ،‬وهذا يتنافى مع التسليم‪ ،‬فإنه ليس هناك مواضع يجب‬
‫كم العقل فيها‪ ،‬بل‬ ‫أن نسلم فيها‪ ،‬ومواضع ل نسلم فيها بل نؤولها ونح ّ‬
‫يجب علينا أن نسلم ونؤمن بالجميع ونؤمن بالكتاب الذي أنزله الله‬
‫عاَلى كله‪.‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ُ‬
‫عَلى العالمين‪ ،‬وتخيلنا‬
‫وإذا كنا نعرف أن الوحي هو نعمة الله الكبرى َ‬
‫عَلى‬‫بأذهاننا كيف يكون حال البشرية لو أن الله لم ينزل هذا الوحي َ‬
‫م؟‬‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫مد صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫ح ّ‬
‫م َ‬
‫ُ‬
‫فإننا ل نستطيع أن نحصر الضللت والشركيات في الرض اليوم مع‬
‫وجود الوحي فكيف مع عدم وجود الوحي‪ ،‬فإن العالم فيه أمم تعبد أنواعا ً‬
‫من المعبودات مما ل يكاد الخيال يصدقه‪ ،‬حتى حدثني بعض الخوة ممن‬
‫ن‬ ‫ذهبوا إ َِلى الهند أنهم وجدوا فيها أقواما ً يعبدون الذر الصغير ‪ -‬ف ُ‬
‫سْبحا َ‬
‫ن هذا حال البشرية مع وجود هذا النور وهذا الوحي‪ ،‬فكيف‬ ‫الّله ‪ -‬إذا َ‬
‫كا َ‬
‫لو لم ينزل هذا النور وهذا الوحي المبين؟!‬

‫فيجب أن نقدر هذا الوحي حق قدره‪ ،‬فل ندخل فيه ما ليس منه‪ ،‬فكل‬
‫حديث موضوع ننزه عنه الشريعة وننزه عنه الرسل‪ ،‬ول تجوز روايته إل‬
‫عَلى سبيل بيانه للناس‪ ،‬وكذلك تنزهه عن الراء‪ ،‬فهو بذاته محفوظ بإذن‬ ‫َ‬
‫الله تعالى‪ ،‬وقد كانت طريقة علماء السلف من التابعين ومن بعدهم هي‬
‫اتباع السبيل‪ ،‬والحذر الشديد من البدع وأهلها‪ ،‬ولذلك كانوا رحمهم الله‬
‫ل‪ ،‬حتى‬‫عاَلى ل يجادلون أهل البدع‪ ،‬بل إنهم يرفضون أن يكلموهم أص ً‬ ‫تَ َ‬
‫ه عرض عليه أن يسمع من بعض‬ ‫عاَلى َ‬
‫عن ْ ُ‬ ‫ه تَ َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫أن أيوب السختياني َر ِ‬
‫ل‪ :‬ل ول نصف كلمة وخرج وتركه ‪ ،‬وبلغ بعض علماء‬ ‫أهل البدع كلمة ف َ‬
‫قا َ‬
‫السلف بدعة من بعض الّناس فأقسم بالله أنه ل يؤيه وإياه سقف واحد‬
‫إل سقف المدينة ‪.‬‬

‫عاَلى كما روى عنه الجري في‬ ‫ه تَ َ‬


‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫وقيل إن الحسن البصري َر ِ‬
‫ف َ‬
‫قا َ‬
‫ل الحسن‬ ‫كتاب الشريعة ‪ ،‬جاءه رجل وقال له تعال يا حسن أناظرك‪َ ،‬‬
‫رضي الله عنه‪" :‬أما أنا فقد عرفت ديني‪ ،‬وأما أنت فإن كنت أضللت‬
‫دينك‪ ،‬فاذهب فالتمسه حيث شئت "‪.‬‬

‫وجاء آخر إ َِلى المام مالك فقال له‪ :‬تعال أناظرك‪.‬‬


‫ف َ‬
‫قا َ‬
‫ل له مالك ‪ :‬أرأيت إن غلبتني؟‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪ :‬اتبعتني‪ ،‬قال‪ :‬فإن اتبعتك‪ ،‬فجاء رجل ثالث فغلبني وإياك‪.‬‬

‫د صّلى‬
‫م ٍ‬
‫ح ّ‬ ‫عَلى ُ‬
‫م َ‬ ‫قا َ‬
‫ل‪ :‬سبحان لله! إن دين الله واحد أنزله َ‬ ‫ل‪ :‬نتبعه‪َ ،‬‬ ‫قا َ‬‫َ‬
‫م وأمرنا باتباعه قصدًا‪ ،‬فقد قال عمر بن عبد العزيز رضي‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬‫الل ُ‬
‫الله عنه‪" :‬من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل " فمتى يثبت‬
‫وعلى أي دين يستقر‪.‬‬
‫‪ - 2‬موقف السلف من علم الكلم‬
‫ه ت ََعاَلى‪:‬‬
‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫مصن ّ ُ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ال ُ‬
‫عاَلى أنه قال لـبشر المريسي ‪ :‬العلم‬ ‫ه تَ َ‬
‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫]فعن أبي يوسف َر ِ‬
‫بالكلم هو الجهل‪ ،‬والجهل بالكلم هو العلم‪ ،‬وإذا صار الرجل رأسا ً في‬
‫الكلم قيل‪ :‬زنديق‪ ،‬أو رمي بالزندقة‪ .‬أراد بالجهل به اعتقاد عدم صحته‪،‬‬
‫فإن ذلك علم نافع‪ ،‬أو أراد به العراض عنه أو ترك اللتفات إ َِلى اعتباره‪.‬‬
‫فإن ذلك يصون علم الرجل وعقله فيكون علما ً بهذا العتبار‪ .‬والله أعلم‪.‬‬
‫وعنه أيضا ً أنه َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪ :‬من طلب العلم بالكلم تزندق‪ ،‬ومن طلب المال‬
‫بالكيمياء أفلس‪ ،‬ومن طلب غريب الحديث كذب‪.‬‬

‫عاَلى‪ :‬حكمي في أهل الكلم أن‬ ‫ه تَ َ‬


‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ي َر ِ‬
‫ع ّ‬
‫ف ِ‬ ‫وقال المام ال ّ‬
‫شا ِ‬
‫يضربوا بالجريد والنعال‪ ،‬ويطاف بهم في العشائر والقبائل‪ ،‬وي َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪ :‬هذا‬
‫عَلى الكلم‪.‬‬
‫جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل َ‬

‫عاَلى‪:‬‬
‫ه تَ َ‬
‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬ ‫وقال أيضا ً َر ِ‬
‫ح َ‬
‫إل الحديث وإل‬ ‫قْرآن مشغلة‬
‫كل العلوم سوى ال ُ‬
‫الفقه في الدين‬
‫وما سوى ذاك‬ ‫ن فيه قال حدثنا‬ ‫العلم ما َ‬
‫كا َ‬
‫وسواس الشياطين‬
‫وذكر الصحاب في الفتاوى‪ :‬أنه لو أوصى لعلماء بلده‪ :‬ل يدخل‬
‫المتكلمون ‪ ،‬ولو أوصى إنسان أن يوقف من كتبه ما هو من كتب العلم‪،‬‬
‫فأفتى السلف أن يباع ما فيها من كتب الكلم‪ .‬ذكر ذلك بمعناه في‬
‫الفتاوى الظهيرية ‪.‬‬

‫فكيف يرام الوصول إ َِلى علم الصول‪ ،‬بغير اتباع ما َ‬


‫جاءَ به الرسول؟!‬

‫ولقد أحسن القائل‪:‬‬


‫كل علم عبد لعلم‬ ‫أيها المغتدي ليطلب علما‬
‫الرسول‬
‫كيف أغفلت علم‬ ‫تطلب الفرع كي تصحح أصل‬
‫أصل الصول‬
‫[‬

‫الشرح‪:‬‬
‫ه كلم السلف والتابعين‪ ،‬ويحتج بأقوال الئمة‬ ‫ه الل ُ‬ ‫م ُ‬ ‫ح َ‬‫ف َر ِ‬
‫مصن ّ ُ‬ ‫يذكر ال ُ‬
‫على أحاديث‬ ‫َ‬ ‫المتبوعين الذين يحتج بكلمهم‪ ،،‬وربما قدمه البعض منهم َ‬
‫م في الفروع‪ ،‬أو في‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫صحيحة ثابتة عن النبي صّلى الل ُ‬
‫جاءَ إ َِلى علم أصول الدين الذي هو أجل‬ ‫المعاملت ونحو ذلك‪ ،‬فإذا َ‬
‫وأشرف من الفروع رمى بما قاله إمامه‪ ،‬وما ثبت عن السلف ‪ ،‬واتبع‬
‫كلم علماء الكلم‪ ،‬ولذلك ظهرت ازدواجية ثلثية فتجد أحدهم علىعقيدة‬
‫الشعري ‪ ،‬وفقه مالك وطريقة نمير كما قال أحد المتأخرين في‬
‫ف‬
‫مصن ّ ُ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫كا َ‬‫ن الّله! َ‬ ‫منظومة له فوصل المر بهم إ َِلى هذا الحد ف ُ‬
‫سْبحا َ‬
‫ي‬
‫ع ّ‬‫ف ِ‬‫شا ِ‬ ‫ه يريد أن يقول‪ :‬إن كنتم صادقين أنكم تتبعون مالكا ً وال ّ‬ ‫ه الل ُ‬ ‫م ُ‬‫ح َ‬‫َر ِ‬
‫وأبا حنيفة فهذا كلمهم في أصول الدين وهو أعظم من الفروع‪ ،‬وهذا‬
‫منهجهم في العبادة‪ ،‬ول يقول أحد من أئمة النقد وعلم الرجال والجرح‬
‫والتعديل أن ابن المودع أفضل من مالك في العبادة وأكثر منه اتباعا ً‬
‫مد بن‬ ‫ح ّ‬ ‫م َ‬‫للسنة‪ ،‬وكما يقول آخر‪ :‬الفقه فقه أبي حنيفة ‪ ،‬والدين دين ُ‬
‫كّرام ‪ ،‬فكان كراميا ً في العقيدة لكنه حنفي في الفروع‪ ،‬فهذه‬
‫الزدواجية‪ ،‬هي التي فرقت المة‪ ،‬وإل فإن الئمة الربعة رضوان الله‬
‫عاَلى عليهم أجمعين‪ ،‬وباقي الئمة المتبوعين هم في أصول الدين‬ ‫تَ َ‬
‫على عقيدة السلف إل فيما ندر من بعض المسائل‪ ،‬كالمام أبي‬ ‫َ‬ ‫سواء َ‬
‫عالى في اليمان كما سيأتي‪ .‬وهذه من بدع القوال ل‬ ‫َ‬ ‫ه تَ َ‬ ‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬‫ح َ‬‫حنيفة َر ِ‬
‫ه‪ ،‬فالئمة الربعة هم في‬ ‫َ‬
‫ه الل ُ‬‫م ُ‬ ‫ح َ‬
‫مد َر ِ‬ ‫ح َ‬‫من بدع العمال كما قال المام أ ْ‬
‫عَلى مذهب واحد‪ ،‬وهو مذهب السلف والفرقة‬ ‫أصول الدين ولله الحمد َ‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫ه َ‬ ‫ة الذين هم أصحاب النبي صّلى الل ُ‬ ‫ع ِ‬
‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ة َ‬ ‫سن ّ ِ‬‫هل ال ّ‬ ‫الناجية ‪ :‬أ ْ‬
‫عَلى منهاجهم‪.‬‬ ‫م ومن سار َ‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫َ‬
‫• موقف المام أبو يوسف من علم الكلم‬
‫ه قول أبي يوسف المام المشهور المعروف ‪-‬وهو‬ ‫ه الل ّ ُ‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬‫صّنف َر ِ‬ ‫م ْ‬
‫وقد ذكر ال ُ‬
‫ن أبوه يهوديًا‪ ،‬ودخل في‬ ‫ه‪ -‬لـبشر المريسي الذي َ‬
‫كا َ‬ ‫ه الل ّ ُ‬‫م ُ‬‫ح َ‬‫تلميذ أبي حنيفة َر ِ‬
‫ه‬
‫م ُ‬ ‫دين السلم ليفسده عََلى أهله‪ ،‬كما قالت أمه كما نقله المام الدارمي َر ِ‬
‫ح َ‬
‫ه ت ََعاَلى في رده عََلى ـبشر المريسي ‪ ،‬وقد اشتهر بشر بالضللة وكان تلميذا ً‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ل له أبو يوسف هذه العبارة‪ :‬العلم بالكلم هو الجهل‪ ،‬والجهل‬ ‫قا َ‬ ‫لـأبي يوسف ‪ ،‬فَ َ‬
‫بالكلم هو العلم‪.‬‬
‫ن في وقته متهما ً من قبل العلماء ‪-‬في‬ ‫فهذا أبو يوسف الذي َ‬
‫كا َ‬
‫الفروع فقط‪ -‬لنه من أهل الرأي‪ ،‬وينصر مذهب أهل الرأي‪ ،‬وهذا‬
‫كلمه في المبتدعة في أصول الدين‪ ،‬فما بالك بكلم الذين‬
‫يتمسكون بمنهج أهل السنة والحديث في الصول والفروع! وكما‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬
‫م ْ‬
‫قيل‪ :‬من طلب علم الكلم تزندق‪ .‬وقد ذكر ال ُ‬
‫عاَلى القوال عن علماء الكلم أنفسهم في ذم علم الكلم وأهله‪،‬‬ ‫تَ َ‬
‫وأنه لم يحصد منه إل الحيرة والشك والندامة باعتراف أصحابه‬
‫أنفسهم فضل ً عن غيرهم‪.‬‬

‫وممن نقل عنهم ذلك الرازي والجويني وأبو حامد الغزالي ‪،‬‬
‫وغيرهم‪ ،‬وقوله‪" :‬من طلب العلم بالكلم تزندق‪ ،‬ومن طلب المال‬
‫بالكيمياء أفلس" لنه يضّيع ما معه من مال في شراء هذه المعادن‬
‫وفي شراء اللت‪ ،‬وفي النقل‪ ،‬وفي الغليان بدون فائدة‪.‬‬
‫ل‪" :‬ومن طلب غريب الحديث كذب" أي أن الذي يتتبع الشواذ‬ ‫و َ‬
‫قا َ‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫والروايات‪ ،‬فإنه يكذب كما حصل في العصور المتأخرة‪ ،‬حيث كا َ‬
‫الرجل يريد أن يثبت أن لديه سندا ً عاليا ً إ َِلى حافظ مث ً‬
‫ل‪ ،‬فيكذب‬
‫ويجعل بينه وبين ذاك رجل ً واحدا ً أو رجلين‪.‬‬
‫• موقف المام الشافعي من علم الكلم‬
‫ه في كتابه فضل علم السلف عََلى علم‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫وقد نقل الحافظ ابن رجب َر ِ‬
‫ل‪" :‬ما فسد الّناس إل لما تركوا لسان العرب‪،‬‬ ‫ي أنه َقا َ‬ ‫الخلف عن ال ّ‬
‫شافِعِ ّ‬
‫واتبعوا لسان أرسطو "‪ ،‬فالمقصود أن المة السلمية إنما فسدت وانحرفت لما‬
‫تركت المنهج الفطري‪ ،‬والمنطق العربي هو المنطق الفطري واللغة العربية هي‬
‫لغة فطرية‪ ،‬ومنهجنا في الستدلل فطري‪ ،‬ولغتنا فطرية‪ ،‬ل تكلف فيها ول‬
‫تعقيد‪ ،‬امتن الله ت ََعاَلى بها علينا فلماذا نعقد المور؟!‪.‬‬
‫عَلى أن المام‬ ‫ه تدل َ‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ي َر ِ‬
‫ع ّ‬
‫ف ِ‬‫شا ِ‬ ‫وهذه العبارة العجيبة من ال ّ‬
‫جاءَ به أرسطو ‪ ،‬فعلماء السلف‬ ‫ي قد خبر علم المنطق الذي َ‬ ‫ع ّ‬ ‫ف ِ‬ ‫ال ّ‬
‫شا ِ‬
‫مد ول أبو يوسف ‪ ،‬فقد‬ ‫َ‬ ‫ليسوا يجهلون المنطق ل ال ّ‬
‫ح َ‬
‫ي ول أ ْ‬ ‫ع ّ‬‫ف ِ‬
‫شا ِ‬
‫كانوا يعرفونه‪ ،‬ولكنهم لما عرفوا حقيقة الموقف استغنوا عنه وهم‬
‫مقتنعون تمام القتناع أنه ل حاجة لي عاقل إليه‪" ،‬فل يستفيد منه‬
‫ي‬
‫ع ّ‬ ‫ف ِ‬‫شا ِ‬ ‫البليد ول يحتاج إليه الذكي"‪ ،‬فمن هذا المنطلق قال ال ّ‬
‫صّنف هنا‬ ‫م ْ‬ ‫وقال علماء السلف هذه المقول وليس كما يشترط ال ُ‬
‫عندما يقول السلف ‪ :‬لم يحبوا التكلم بالجوهر والجسم والعرض‬
‫لنه السلح البديل‪ .‬أو لنهم كانوا عاجزين عن فهمه‪ ،‬أو كانوا‬
‫منشغلين بالجهاد والفتوحات‪ ،‬ولم يحرروا مسائل العقيدة ومسائل‬
‫العلم والعبادة‪ ،‬هذه النظريات التي أكدها علماء اليونان وصلت إ َِلى‬
‫ن وترجموها‬ ‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫علماء ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫مد في‬ ‫َ‬
‫ح َ‬ ‫واشتهر ذلك في عصر المأمون‪ ،‬وبناءً عليها ابتلي المام أ ْ‬
‫القول بخلق القرآن‪ ،‬وفي غيرها من الضللت‪ ،‬كإذاعة أن اليمان‬
‫هو المعرفة القلبية المجردة‪ ،‬فجائتنا هذه الضللت نتيجة نقل هذا‬
‫ه في المنسوب إليه ‪:‬‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ي َر ِ‬‫ع ّ‬‫ف ِ‬ ‫م قال المام ال ّ‬
‫شا ِ‬ ‫العلم‪ .‬ث ُ ّ‬
‫إل الحديث وإل‬ ‫قْرآن مشغلة‬ ‫كل العلوم سوى ال ُ‬
‫الفقه في الدين‬
‫وما سوى ذاك‬ ‫ن فيه قال حدثنا‬ ‫العلم ما َ‬
‫كا َ‬
‫وسواس الشياطين‬
‫َ‬
‫ة‬
‫ع ِ‬
‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ة َ‬
‫سن ّ ِ‬
‫هل ال ّ‬ ‫ه في تعريف أ ْ‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫مد َر ِ‬
‫ح َ‬
‫وقال المام أ ْ‬
‫والطائفة المنصورة ‪" :‬إن لم يكونوا أهل الحديث فل أدري من هم"‪،‬‬
‫وأهل الحديث هم الذين يتبعون الحديث وليس المراد بهم أنهم‬
‫عَلى متن الحديث والرجال ونحو ذلك ولو كانوا‬
‫الذين يحكمون َ‬
‫مبتدعة‪.‬‬
‫• موقف الصحاب من هذا العلم‬
‫ل‪ :‬الحنفي‪ ،‬قال الصحاب‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫ه ]قال الصحاب[ إذا َقا َ‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬ ‫ح َ‬‫صّنف َر ِ‬ ‫م ْ‬
‫قول ال ُ‬
‫فقهاء الحنفية‪ ،‬وإذا قال ابن قدامة في المغني قال أصحابنا فيعني علماء مذهب‬
‫الحنابلة‪ ،‬وإذا قال في شرح المنهاج قال الصحاب يعني‪ :‬علماء الشافعية‪..‬‬
‫وهكذا‪ ،‬ولنالشارح حنفي ولن الحنفية أكثر المذاهب إتباعًا‪ ،‬وقد كثرت فيهم‬
‫هذه الضللت فننبه إ َِلى ما هو موجود في كتبهم‪ ،‬فيقول المصنف‪ :‬قال الصحاب‬
‫في الفتاوى‪ :‬أنه لو أوصى لعلماء بلده بشيء فل يدخل في ذلك المتكلمون ‪،‬‬
‫فعالم الكلم ل يدخل في ركب العلماء‪ ،‬فهو يشتغل في الجدل وفي المناظرات‬
‫ل‪ :‬كتبي كلها وقف‬ ‫والمنطق‪ ،‬ول تدخل كتبهم في كتب العلم فلو أن رجل ً َقا َ‬
‫ن من كتب الفقه والحديث والصول والمصطلح‪،‬‬ ‫لمكتبة الحرم‪ ،‬فننظر فما َ‬
‫كا َ‬
‫ن من كتب الجاهلية والفلسفة ونحو ذلك رميناه‪ ،‬إذا ً‬ ‫كا َ‬‫ونحو ذلك أدخلناه‪ ،‬وما َ‬
‫فأصحاب علم الكلم ل يدخلون في العلماء ول كتبهم تدخل في كتب العلم‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫م‬
‫م أوتي جوامع‬‫سل ّ َ‬
‫ه عَل َي ْهِ وَ َ‬
‫صّلى الل ُ‬ ‫مد َ‬ ‫ح ّ‬ ‫بعد ذلك ننتقل إ َِلى موضوع أن نبينا ُ‬
‫م َ‬
‫الكلم‪.‬‬
‫‪ - 3‬نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم‬
‫ه‪:‬‬ ‫ه الل ُ‬ ‫م ُ‬‫ح َ‬‫ف َر ِ‬
‫مصن ّ ُ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ال ُ‬
‫م أوتي فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه‪ ،‬فبعث‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫]ونبينا صّلى الل ُ‬
‫عَلى أتم الوجوه‪ ،‬ولكن كلما‬ ‫بالعلوم الكلية والعلوم الولية والخرية َ‬
‫ابتدع شخص بدعة اتسعوا في جوابها‪ ،‬فلذلك صار كلم المتأخرين كثيرا‬
‫قليل البركة‪ ،‬بخلف كلم المتقدمين‪ ،‬فإنه قليل‪ ،‬كثير البركة " ل " كما‬
‫يقول ضلل المتكلمين وجهلتهم‪ :‬إن طريقة القوم أسلم‪ ،‬وإن طريقتنا‬
‫درهم قدرهم من المنتسبين إ َِلى‬ ‫أحكم وأعلم وكما يقول من لم يق ّ‬
‫الفقه‪ :‬أنهم لم يتفرغوا لستنباطه‪ ،‬وضبط قواعده‪ ،‬وأحكامه‪ ،‬اشتغال ً‬
‫ء محجوبون‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫منهم بغيره! والمتأخرون تفرغوا لذلك فهم أفقه!! فكل َ‬
‫عن معرفة مقادير السلف ‪ ،‬وعمق علومهم‪ ،‬وقلة تكلفهم‪ ،‬وكمال‬
‫بصائرهم‪ ،‬وتالله ما امتاز عنهم المتأخرون إل بالتكلف والشتغال‬
‫بالطراف‪ ،‬التي كانت همة القوم مراعاة أصولها‪ ،‬وضبط قواعدها‪ ،‬وشد‬
‫معاقدها‪ ،‬وهممهم مشمرة إ َِلى المطالب العالية في كل شيء‪،‬‬
‫فالمتأخرون في شأن‪ ،‬والقوم في شأن آخر وقد جعل الله لكل شيء‬
‫قدرا[‬

‫الشرح‪:‬‬
‫رحم الله المصنف! فقد أتى بكلم عظيم حتى نعرف قدر النبي صّلى‬
‫م‪ ،‬وقدرالسلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫الل ُ‬
‫مد صّلى الل ُ‬
‫ه‬ ‫ح ّ‬
‫م َ‬ ‫ن كلمهم دررا ً وإمامهم هو ُ‬‫كا َ‬‫بإحسان‪ ،‬والئمة الذين َ‬
‫م عبد الله ورسوله الذي بعث بهذه الشريعة العظيمة‪ ،‬وأوتي‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫َ‬
‫جوامع الكلم كما في الحديث الصحيح‪)) :‬أعطيت جوامع الكلم( فكلم‬
‫ء الفلسفة‬ ‫ؤل ِ‬‫ه ُ‬
‫م بالضد والنقيض لكلم َ‬‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫النبي صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬
‫والمناطقة ‪ ،‬الذين يتكلمون بالكلم الطويل المعقد من أجل قضية مدنية‪،‬‬
‫عاَلى بجوامع‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫م بعثه الله ُ‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫سول الله صّلى الل ُ‬ ‫بينما َر ُ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الكلم يقول قول ً واحدا‪ ،‬أو جملة واحدة‪ ،‬فتكون منهاجا ودستورا إ ِلى‬ ‫ً‬
‫عَلى ذلك‬ ‫ف من آحاد القضايا والوقائع العينية‪ ،‬والمثلة َ‬ ‫ة‪ ،‬وبآل ٍ‬ ‫م ِ‬ ‫قَيا َ‬ ‫وم ِ ال ِ‬ ‫يَ ْ‬
‫ّ‬
‫م فمثل ً يقول النبي صلى‬ ‫ّ‬
‫سل َ‬ ‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫علي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫كثيرة من أحاديث النبي صلى الل ُ‬
‫م‪) :‬كل بدعة ضللة( فما أوجز هذه العبارة‪ ،‬ويدخل فيها‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫الل ُ‬
‫كل ما يمكن أن يحدث في الدين‪ ،‬فكل بدعة أيا ً كانت ضللة‪ ،‬وهذه‬
‫العبارة قاعدة تشمل آلف الوقائع‪ ،‬ومثل ذلك في الفقه قوله صّلى الل ُ‬
‫ه‬
‫سان‬ ‫لن َ‬ ‫م‪) :‬ل ضرر ول ضرار( وهذه العبارة البسيطة لو تأملها ا ِ‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫َ‬
‫لعجب‪ ،‬فأنت تحتاجها عندما تحكم بين اثنين‪ ،‬أو تصلح في أي قضية‪ ،‬أو‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫ه َ‬ ‫تحكم في أي مسألة‪ ،‬وهكذا‪ ،‬ومثل ذلك في التعبد قوله صّلى الل ُ‬
‫م‪) :‬الدين النصيحة( فبهذه الكلمة نذكر كل ما أمر الله به ورسوله‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫ل‪) :‬لله ولكتابه ولرسوله‬ ‫قا َ‬‫م‪ ،‬وفسر هذه الكلمة ف َ‬ ‫ّ‬
‫سل َ‬ ‫و َ‬‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫الل‬ ‫لى‬ ‫ّ‬ ‫ص‬
‫ن وعامتهم( وهكذا أمثلة كثيرة من أحاديث النبي صّلى‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ولئمة ال ْ ُ‬
‫عَلى أنه بعث بجوامع الكلم‪ ،‬عبارات وألفاظ وكلمات‬ ‫م تدل َ‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫الل ُ‬
‫ن عظيمة‪.‬‬ ‫محدودة لكنها جامعة لمعا ٍ‬
‫• كلم المتأخرين كثير قليل البركة‬
‫لو اجتمع أهل الرض جميعًا‪ ،‬وأعملوا عقولهم عََلى أن يأتوا بمثل هذا العجاز‪،‬‬
‫ومثل هذه الذكرى ومثل هذا الشمول‪ ،‬واقتراب القاعدة لجميع الوقائع لعجزوا‬
‫ه وَت ََعاَلى فهو‬
‫حان َ ُ‬ ‫عن ذلك عجزا ً بينًا‪ ،‬وفوق ذلك عجزهم عن كتاب الله ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫أعظم‪.‬‬
‫م إن السلف الصالح كانوا كذلك‪ ،‬وكما سبق أن تحدثنا في مبحث‬ ‫ثُ ّ‬
‫الفرق‪ ،‬فـالخوارج والقدرية والشيعة وجدوا في عهد السلف الصالح‬
‫‪ ،‬وكذا المرجئة وجدوا أواخر عهد التابعين‪.‬‬

‫فرد عليهم علماء السلف بكلمات قليلة ولكنها مفحمة غاية‬


‫عَلى الخوارج فقد‬ ‫الفحام‪ ،‬لكن المتأخرين لو أراد أحدهم أن يرد َ‬
‫يؤلف مجلدات‪ ،‬فتقرأها ول تكاد تحصد منها شيئًا‪ ،‬لكن تجد أن ابن‬
‫عباس ناظر الخوارج ‪ ،‬فرجع ابن عباس ومعه اللف إ َِلى معسكر‬
‫ه بهذه الكلمات‪.‬‬ ‫عاَلى َ‬
‫عن ْ ُ‬ ‫ه تَ َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫ي َر ِ‬
‫عل ِ ّ‬
‫َ‬

‫عاَلى‬
‫وبهذا نعرف فضل علماء الصحابة والسلف رضوان الله ت َ َ‬
‫جاءَ بعدهم‪،‬‬ ‫عليهم‪ ،‬فكانت كلما تهم من الجوامع بالنسبة لمن َ‬
‫فكانت قليلة العبارات كثيرة البركة‪ ،‬فعندما يناظرون القدرية أو‬
‫الشيعة أو أية فرقة فإنهم يأتون بعبارة واحدة موجزة‪ ،‬أو عبارتين‬
‫فتغني عما وراءها وتكفي وتشفي من أراد الشفاء بإذن الله‬
‫عاَلى‪.‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ُ‬
‫جاءَ رجل إ َِلى المام مالك‬ ‫وأما المتأخرون فتعمقوا وتنطعوا‪ ،‬ولما َ‬
‫وقال له‪ :‬كيف استوى؟ قال له عبارات ما زلنا نستخدمها إ َِلى الن‬
‫ل فلو ألفنا‬ ‫ج ّ‬
‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫في جميع الصفات‪ ،‬وإذا تحدثنا عن صفات الله َ‬
‫كتبا ً ما خرج كلمنا عن هذه العبارات التي قالها المام مالك وهي‪:‬‬
‫"الستواء معلوم والكيف مجهول واليمان به واجب والسؤال عنه‬
‫ل هذا الملكة لنهم‬ ‫ج ّ‬ ‫و َ‬ ‫عّز َ‬ ‫ن الّله! كيف أعطاهم الله َ‬ ‫سْبحا َ‬ ‫بدعة " ُ‬
‫ل حق تلوته‪ ،‬ويؤمنون بحديث النبي‬ ‫ج ّ‬
‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫كانوا يتلون كتاب الله َ‬
‫عاَلى في‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬ ‫جر الله ُ‬ ‫م‪ ،‬فباليمان ف ّ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫قلوبهم ينابيع الخير والتقوى والعلم النافع‪ ،‬وأعطاهم فراسة‬
‫المؤمن وقوة النظر‪ ،‬فيأتون بهذه العبارات الجامعة الدقيقة‪،‬‬
‫عَلى ضوء‬ ‫ة إل َ‬ ‫فمهما خضنا في الصفات فنحن ل نتكلم في أي صف ٍ‬
‫هذه القواعد الربع‪ ،‬لن معانيها واضحة جلية لكل أحد أما أن‬
‫عاَلى وإذا جهلنا ذاته‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫كيفيتها مجهولة فلننا نجهل ذاته ُ‬
‫جهلنا صفاته‪ ،‬وأما أن السؤال عنها بدعة فكل الطوائف التي‬
‫خالفت ما أخبر به الله ورسوله فهي طوائف بدعية‪ ،‬وهذا من الدلة‬
‫عاَلى من فضل‬ ‫ه تَ َ‬ ‫ه الل ّ ُ‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬ ‫صّنف َر ِ‬ ‫عَلى ما ذكره ال ُ‬
‫م ْ‬ ‫الكثيرة الدللة َ‬
‫السلف ‪.‬‬

‫ولذلك عندما نقول ويقول كل مؤمن بالله وبرسوله‪ :‬إن علينا أن‬
‫نتبع آثارهم وأن نقتفي خطاهم‪ ،‬وننظر فيما خاضوا فيه فنخوض‬
‫في كل ما خاضوا‪ ،‬وما سكتوا عنه نسكت عنه‪ ،‬وما أجابوا عنه‬
‫ذ نعرف أن هذا هو‬ ‫بجواب فإننا نجيب عليه بمثل ما أجابوا‪ ،‬حينئ ٍ‬
‫ه في باب اليمان عندما رد‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ي َر ِ‬
‫ر ّ‬
‫خا ِ‬
‫الصواب‪ ،‬كما فعل الب ُ َ‬
‫علىالمرجئة ‪.‬‬

‫يقوليزيد اليانق ‪ :‬سألتأبا وائل شقيق بن سلمة وهو التابعي‬


‫ه عن المرجئة‬ ‫عاَلى َ‬
‫عن ْ ُ‬ ‫ه تَ َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫المشهور تلميذ ابن مسعود َر ِ‬
‫صّلى الل ُ‬
‫ه‬ ‫سول الله َ‬ ‫ل‪ :‬حدثني عبد الله ‪-‬وهو ابن مسعود ‪ -‬أن َر ُ‬ ‫قا َ‬ ‫ف َ‬
‫ل‪) :‬سباب المسلم فسوق وقتاله كفر( انتهت العبارة‬ ‫سل ّ َ‬
‫م َ‬
‫قا َ‬ ‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫َ‬
‫وانتهى الجواب وفهم السامع‪ ،‬ونستخرج من هذه العبارات أعظم‬
‫ء‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫ن رد َ‬ ‫عَلى المرجئة ‪ ،‬وأمثلة كثيرة جدًا‪ ،‬فانظر! كيف َ‬
‫كا َ‬ ‫رد َ‬
‫العلماء‪ ،‬وكيف أوتوا هذه المقدرة العقلية الهائلة‪.‬‬

‫فالذين يقولون مثل ً في الفقه‪ :‬إننا أفقه من الصحابة لن الصحابة‬


‫كانوا مشغولين بالجهاد‪ ،‬ولم يتفرغوا لستنباط القواعد الفقهية‬
‫ولم يعرفوا أصول علم الفقه‪ ،‬فلما أتينا وضعنا قواعد أصولية‬
‫ء في الحقيقة ما قدروا‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫نستطيع من طريقها معرفة الدليل‪ ،‬ف َ‬
‫الصحابة حق قدرهم‪.‬‬

‫إن الشتغال بما ورد عن الصحابة رضى الله عنهم‪ ،‬وتتبع فقههم‬
‫عاَلى‪،‬‬
‫وت َ َ‬‫ه َ‬‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬ ‫عَلى صاحبها الحكمة بإذن الله ُ‬ ‫وآثارهم‪ُ ،‬تنزل َ‬
‫عَلى‬
‫م كانت المور تأتيهم َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫مد َ‬
‫ح ّ‬
‫م َ‬
‫فأصحاب ُ‬
‫عَلى‬
‫م َ‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬‫صّلى الل ُ‬
‫سول َ‬ ‫الفطرة‪ ،‬ويفهمون ما يقوله َر ُ‬
‫الفطرة‪ ،‬فعرفوه علما ً وجاهدوا عليه عم ً‬
‫ل‪ ،‬ودعوا إليه ث ُ ّ‬
‫م ماتوا وهم‬
‫هم أجمعين‪.‬‬‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫ثابتون عليه َر ِ‬
‫فمن قال من أهل علم الكلم‪ :‬إن علم السلف أسلم ونحن أعلم‬
‫وأحكم‪ ،‬فهذا ضال مضل‪ ،‬وقد أساء وظلم نفسه‪ ،‬ولم يرع ما قال‬
‫سل ّ َ‬
‫م‪،‬‬ ‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬‫عَلى أصحاب النبي َ‬ ‫عاَلى من الثناء َ‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫ُ‬
‫عاَلى إنما جعل لنا الخير في أن‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫وأئمة السلف‪ ،‬فإن الله ُ‬
‫وال ّ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ر َ‬ ‫واْلن ْ َ‬
‫صا ِ‬ ‫ن َ‬
‫ري َ‬
‫ج ِ‬
‫ها ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬‫وُلو َ‬ ‫ن اْل ّ‬ ‫ساب ِ ُ‬
‫قو َ‬ ‫وال ّ‬‫َ‬ ‫ء‬
‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫نتبع َ‬
‫ن ]التوبة‪.[100:‬‬ ‫سا ٍ‬
‫ح َ‬‫م ب ِإ ِ ْ‬
‫ه ْ‬ ‫عو ُ‬ ‫ات ّب َ ُ‬

‫قوُلو َ‬
‫ن َرب َّنا‬ ‫م يَ ُ‬‫ه ْ‬ ‫د ِ‬‫ع ِ‬ ‫ن بَ ْ‬‫م ْ‬
‫ءوا ِ‬ ‫جا ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫وال ّ ِ‬ ‫َ‬ ‫عاَلى‪:‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬
‫ويقول ُ‬
‫غّل ً‬
‫قُلوب َِنا ِ‬ ‫في ُ‬‫ل ِ‬ ‫ع ْ‬ ‫ج َ‬‫ول ت َ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ما ِ‬ ‫قوَنا ِبا ْ ِ‬
‫لي َ‬ ‫سب َ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫وان َِنا ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫خ َ‬ ‫وِل ِ ْ‬ ‫فْر ل ََنا َ‬
‫غ ِ‬‫ا ْ‬
‫ن أعلم وأحكم‪.‬‬ ‫ح ُ‬ ‫ء يقولون‪ :‬ن َ ْ‬ ‫ؤل ِ‬‫ه ُ‬ ‫مُنوا ]الحشر‪ [10:‬و َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ل ِل ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫سان المسلم مثل أحد ذهبا ً ما‬ ‫لن َ‬
‫وأهل السنة يؤمنون أنه لو أنفق ا ِ‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫ه َ‬‫صّلى الل ُ‬
‫بلغ مد أحدهم ول نصيفه‪ ،‬كما صح ذلك عن النبي َ‬
‫م؛ وهو إنما خاطب به خالد بن الوليد وأمثال خالد ‪ ،‬وهو‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫َ‬
‫ً‬
‫صحابي أيضا بالنسبة لمن آمن قبل الفتح‪ ،‬فـالخطاب في هذا‬
‫ن من‬ ‫كا َ‬‫الحديث إنما هو لولئك الذين أسلموا بعد الفتح‪ ،‬أو ممن َ‬
‫المفضولين بالنسبة لفاضلهم ولسابقهم ولمتقدمهم‪.‬‬
‫فما بالك بالتابعين؟ فكيف بأتباعهم؟! فكيف بمن أتى بعدهم من‬
‫القرون المتأخرة بعد القرون الثلثة التي ظهر فيها قول الزور‬
‫وأصبحوا يتهوكون في البدع‪ ،‬وتتجارى بهم الهواء‪ ،‬كما يتجارى‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫ب بصاحبه ‪-‬كما ورد في الحديث عن النبي َ‬ ‫الك َل َ ُ‬
‫م؟!!‪.‬‬‫سل ّ َ‬‫و َ‬‫َ‬
‫مقدمة شرح العقيدة الطحاوية ‪5‬‬
‫يتحدث الشيخ في هذا الدرس عن سبب تأليف هذه العقيدة‪ ،‬أي شرح ابن أبي العز‬
‫كما أنه يتكلم عن بعض الشروحات السابقة‪ ،‬وتكلم عن قضية هامة وهي‪ :‬كراهية‬
‫السلف للتكلم بالكلمات المجملة‪.‬‬
‫‪ - 1‬بيان سبب شرح العقيدة الطحاوية‬
‫إن المجوس والبوذيين وغيرهم هم في الحقيقة ما قدروا اللـه حق قدره بعدم تقديرهم‬
‫رسول اللـه حق قدره‪ ،‬أو الصحابة حق قدرهم‪ ،‬فالذين يقولون مثل ً في الفقه‪ :‬إننا‬
‫أفقه من الصحابة لن الصحابة كانوا مشغولين بالجهاد ولم يتفرغوا لستنباط القواعد‬
‫الفقهية وما عرفوا أصول علم الفقه‪ ،‬فلما أتينا وضعنا قواعد أصولية نستطيع من‬
‫طريقها معرفة الدليل‪ ،‬فهؤلء في الحقيقة ما قدروا الصحابة حق قدرهم‪.‬‬
‫إن الشتغال بما ورد عن الصحابة رضى اللـه عنهم وتتبع فقههم‬
‫وآثارهم تنزل على صاحبها الحكمة بإذن اللـه سبحانه وتعالى‪ ،‬فأصحاب‬
‫محمد صلى اللـه عليه وسلم كانت المور تأتيهم على الفطرة ويفهمون‬
‫ما يقوله رسول صلى اللـه عليه وسلم على الفطرة فعرفوه علما ً‬
‫وجاهدوا عليه عم ً‬
‫ل‪ ،‬ودعوا إليه ثم ماتوا وهم ثابتون عليه رضي اللـه‬
‫عنهم أجمعين‪.‬‬

‫فمن قال من أهل علم الكلم‪ :‬إن علم السلف أسلم ونحن أعلم وأحكم‪،‬‬
‫فهذا ضال مضل‪ ،‬وقد أساء وظلم نفسه‪ ،‬ولم يرع ما قال سبحانه وتعالى‬
‫من الثناء على أصحاب النبي صلى اللـه عليه وسلم‪ ،‬وأئمة السلف ‪ ،‬فإن‬
‫ن‬ ‫ساب ِ ُ‬
‫قو َ‬ ‫وال ّ‬
‫َ‬ ‫اللـه سبحانه وتعالى إنما جعل لنا الخير في أن نتبع هؤلء‬
‫وال ّ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ]التوبة‪:‬‬ ‫سا ٍ‬
‫ح َ‬
‫م ب ِإ ِ ْ‬
‫ه ْ‬
‫عو ُ‬
‫ن ات ّب َ ُ‬
‫ذي َ‬ ‫ر َ‬
‫والنصا ِ‬
‫ن َ‬
‫ري َ‬
‫ج ِ‬
‫ها ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬ ‫م ْ‬ ‫وُلو َ‬
‫ن ِ‬ ‫ال ّ‬
‫‪.[100‬‬

‫فْر ل ََنا‬
‫غ ِ‬ ‫ن َرب َّنا ا ْ‬ ‫قوُلو َ‬‫م يَ ُ‬ ‫ه ْ‬‫د ِ‬
‫ع ِ‬
‫ن بَ ْ‬
‫م ْ‬‫ءوا ِ‬ ‫جا ُ‬
‫ن َ‬‫ذي َ‬‫وال ّ ِ‬‫ويقول سبحانه وتعالى‪َ ) :‬‬
‫مُنوا َرب َّنا‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫غل ّ ل ِل ّ ِ‬
‫قُلوب َِنا ِ‬‫في ُ‬ ‫ل ِ‬ ‫ع ْ‬‫ج َ‬
‫ول ت َ ْ‬ ‫ن َ‬‫ما ِ‬‫لي َ‬ ‫سب َ ُ‬
‫قوَنا ِبا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫وان َِنا ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫خ َ‬‫ول ِ ْ‬ ‫َ‬
‫م ( ]الحشر‪ [10:‬وهؤلء يقولون‪ :‬نحن أعلم وأحكم‪.‬‬ ‫حي‬ ‫ر‬
‫ٌ َ ِ ٌ‬ ‫ف‬ ‫ءو‬ ‫َ ُ‬‫ر‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫إِ ّ‬
‫ن‬

‫وأهل السنة يؤمنون أنه لو أنفق النسان المسلم مثل أحد ذهبا ً ما بلغ مد‬
‫أحدهم ول نصيفه‪ ،‬كما صح ذلك عن النبي صلى اللـه عليه وسلم؛ وهو‬
‫إنما خاطب به خالد بن الوليد وأمثالخالد ‪ ،‬وهو صحابي أيضا ً بالنسبة لمن‬
‫آمن قبل الفتح‪ ،‬فالخطاب في هذا الحديث إنما هو لولئك الذين أسلموا‬
‫بعد الفتح‪ ،‬أو ممن كان من المفضولين بالنسبة لفاضلهم ولسابقهم‬
‫ولمتقدمهم‪.‬‬

‫فما بالك بالتابعين ؟ فكيف بأتباعهم ؟!! فكيف بمن أتى بعدهم من‬
‫القرون المتأخرة بعد القرون الثلثة التي ظهر فيها قول الزور وأصبحوا‬
‫يتهوكون في البدع‪ ،‬وتتجارى بهم الهواء كما يتجار الكلب بصاحبه كما‬
‫ورد في الحديث عن النبي صلى اللـه عليه وسلم‪.‬‬

‫قال المصنف رحمه اللـه تعالى ‪:‬‬

‫] وقد شرح هذه العقيدة غير واحد من العلماء‪ ،‬ولكن رأيت بعض‬
‫الشارحين قد أصغى إلىأهل الكلم المذموم‪ ،‬واستمد منهم‪ ،‬وتكلم‬
‫بعباراتهم‪ ،‬والسلف لم يكرهوا التكلم بالجوهر والجسم والعرض ونحو‬
‫ذلك لمجرد كونه اصطلحا ً جديدا ً على معان صحيحة‪ ،‬كالصطلح على‬
‫ألفاظ لعلوم ٍ صحيحة‪ ،‬ول كرهوا أيضا ً الدللة على الحق‪ ،‬والمحاجة لهل‬
‫ر كاذبة مخالفة للحق‪ ،‬ومن ذلك‬
‫الباطل‪ ،‬بل كرهوه لشتماله على أمو ٍ‬
‫مخالفتها للكتاب والسنة‪ ،‬ولهذا ل تجد عند أهلها من اليقين والمعرفة ما‬
‫عند عوام المؤمنين‪ ،‬فضل ً عن علمائهم ولشتمال مقدماتهم على الحق‬
‫والباطل‪ ،‬كثر المراء والجدال‪ ،‬وانتشر القيل والقال‪ ،‬وتولد لهم عنها من‬
‫القوال المخالفة للشرع الصحيح والعقل الصريح ما يضيق عنه المجال‪،‬‬
‫وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله‪] :‬فمن رام علم ما حظر عنه علمه‪.[..‬‬

‫وقد أحببت أن أشرحها سالكا ً طريق السلف في عباراتهم‪ ،‬وأنسج على‬


‫منوالهم‪ ،‬متطفل ً عليهم‪ ،‬لعلي أن ُأنظم في سلكهم‪ ،‬وأدخل في‬
‫ه َ َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ن الن ّب ِّيي َ‬
‫م َ‬
‫م ِ‬
‫ه ْ‬
‫علي ْ ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ع َ‬ ‫ن أن ْ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ع ال ّ ِ‬‫م َ‬‫َ‬ ‫عدادهم‪ ،‬وأحشر في زمرتهم‬
‫فيقا ]النساء‪ [69:‬ولما‬ ‫ك َر ِ‬ ‫َ‬
‫ن أولئ ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫وال ّ‬
‫س َ‬ ‫ح ُ‬ ‫و َ‬‫ن َ‬ ‫حي َ‬‫صال ِ ِ‬
‫وال َ‬
‫ء َ‬
‫دا ِ‬
‫ه َ‬
‫ش َ‬ ‫ن َ‬ ‫قي َ‬ ‫دي ِ‬
‫ص ّ‬‫وال ّ‬ ‫َ‬
‫ما‬
‫و َ‬
‫َ‬ ‫رأيت النفوس مائلة إلى الختصار‪ ،‬آثرته على التطويل والسهاب‬
‫عل َيه ت َوك ّل ْت وإل َي ُ‬
‫ب ]هود‪ [88 :‬وهو حسبنا ونعم‬ ‫ه أِني ُ‬ ‫ُ َ ِ ْ ِ‬ ‫ه َ ْ ِ َ‬ ‫قي إ ِّل ِبالل ّ ِ‬ ‫في ِ‬‫و ِ‬
‫تَ ْ‬
‫الوكيل[ اهـ‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫انظر إلى هذا التواضع من المصنف بالنسبة لمن يقولون‪ :‬نحن أعلم‬
‫وأحكم حيث يقول‪] :‬وقد أحببت أن أشرحها سالكا ً طريق السلف في‬
‫عباراتهم‪ ،‬وأنسج على منوالهم‪ ،‬متطفل ً عليهم‪ ،‬لعلي أن أنظم في‬
‫سلكهم‪ ،‬وأدخل في عدادهم‪ ،‬واحشر في زمرتهم [ ‪.‬‬

‫ونحن نسأل اللـه تعالى أن ننظم في سلكهم‪ ،‬وندخل في عدادهم‪،‬‬


‫ونحشر في زمرتهم ‪.‬‬
‫يذكر المصنف رحمه الله تعالى أن هذه العقيدة ‪-‬يعني عقيدة المام‬
‫الطحاوي أبي جعفر ‪ -‬شرحها غير واحد‪ ،‬لكن بعض من شرحها أصغى‬
‫إلى أهل الكلم المذموم‪ ،‬كما في معنى الربوبية‪ ،‬ونقل ما فهمه من‬
‫قول المام الطحاوي ‪] :‬ولتحويه الجهات الست كسائر المبتدعات[‪،‬‬
‫فقال‪ :‬هو قولنا‪ :‬ل داخل العالم ول خارجه‪ ،‬ول يمينه ول شماله‪ ،‬ول‬
‫فوقه ول تحته‪.‬‬
‫• ملحظات ابن أبي العز حول الشروحات السابقة‬
‫ّّ‬
‫ي شرحا ً أشعريا ً ماتريديًا‪ ،‬فنبه‬
‫طحاو ّ‬ ‫صّنف من شرح عقيدة المامال‬ ‫م ْ‬
‫وجد ال ُ‬
‫الشارح هنا إ َِلى أنه لما رآهم مالوا وشرحوها هذا الشرح أحب هو أن يشرحها‬
‫شرحا ً سلفيًا‪.‬‬
‫عَلى‬
‫ولوا كلمه َ‬ ‫فما قالوا في هذه المواضع وفي غيرها خطأ‪ ،‬أو أ ّ‬
‫ّّ‬
‫عَلى الخطأ‪.‬‬
‫عاَلى فإننا ننبه َ‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫ه تَ َ‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ي َر ِ‬
‫طحاو ّ‬ ‫غير ما أراده ال‬

‫سل ّ َ‬
‫م‪.‬‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫ول نقول إن أحدا ً معصوم إل َر ُ‬
‫سول الله َ‬
‫وممن شرح هذه العقيدة ابن منكوبه ول أحفظه إل مخطوطًا‪ ،‬حيث‬
‫شرحها شرحا ً ماتريديًا‪.‬‬

‫وممن فسرها تفسيرا ً أشعريا ً ابن السبكي في طبقات الشافعية ‪،‬‬


‫وهو كتاب عظيم في التراجم وتاريخ العلماء ومؤلفاتهم‪ ،‬ولكنه‬
‫عَلى أن لديه‬‫أشعري متعصب ‪-‬غفر الله لنا وله‪ -‬فهو شديد التعصب َ‬
‫علما ً وفضل ً كأبيه‪ ،‬لكن وقع منه ‪-‬أي‪ :‬من أبيه‪ -‬الحسد ل َ‬
‫شْيخ‬
‫ة ‪ ،‬حتى جره ذلك إ َِلى التعصب لغير عقيدة السلف ‪.‬‬ ‫مي ّ َ‬
‫ماْبن ت َي ْ ِ‬
‫سل ِ‬
‫ال ِ ْ‬
‫جاءَ ابن السبكي صاحب الطبقات إ َِلى ترجمة أبي الحسن‬
‫فلما َ‬
‫على عقيدةالشاعرة مع أنه رجع‬‫َ‬ ‫الشعري أثبت أن الشعري مات َ‬
‫عنها‪.‬‬
‫ّّ‬
‫ي ‪ ،‬ليثبت‬
‫طحاو ّ‬ ‫م عقد مقارنة بين عقيدة الشعري وبين عقيدة ال‬‫ثُ ّ‬
‫أن الكلم متطابق‪ ،‬وأن الثنين متفقان‪.‬‬

‫والعجيب أنه ذكر في مواضع الفتراق مواضع كثيرة جدا ً فوق‬


‫العشرين‪ ،‬وعبارة العقيدة الطحاوية مائة جملة تقريبًا‪ ،‬وبعض‬
‫ن الشعري يختلف معه في ذلك‪ ،‬فأين‬ ‫الجمل فيها مكررة‪ ،‬فإذا َ‬
‫كا َ‬
‫التفاق أص ً‬
‫ل‪.‬‬

‫فهو يريد أن يجعل العقيدة الطحاوية ‪-‬وهي عقيدة مشهورة‪،‬‬


‫عَلى فضلها بين الناس‪ -‬هي عقيدة الشعرية ‪ ،‬ومعلوم أن‬
‫ومجمع َ‬
‫عقيدة أبي الحسن الشعري ‪ ،‬ليست موافقة لعقيدة أبي جعفر‬
‫ّّ‬
‫ي‪.‬‬ ‫طحاو ّ‬ ‫ال‬
‫ل‪ :‬أنا أشرحها سالكا ً منهج السلف ‪.‬‬ ‫عاَلى َ‬
‫قا َ‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫ه تَ َ‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ولذلك َر ِ‬
‫• كراهية السلف للتكلم بالكلمات المجملة‬
‫ل‪ :‬إن السلف لم يكرهوا التكلم في العرض والجوهر والحيز والجسم لنه‬ ‫م َقا َ‬
‫ثُ ّ‬
‫اصطلح جديد‪ ،‬وإنما لنها تشتمل عََلى أمور كاذبة‪ ،‬وهذه قضية مهمة لئل يأتي‬
‫معترض ويقول‪ :‬لماذا تنكرون عََلى علم الكلم‪ ،‬ول تنكرون عََلى غيره من العلوم‬
‫المستحدثة كعلم النحو وعلم الصول‪ ،‬فالعرب كانوا يتكلمون اللغة بدون معرفة‬
‫مبتدأ ول خبر‪ ،‬ول نواسخ‪ ،‬ول مضاف ومضاف إليه‪ ،‬والفقهاء كانوا يقولون حرام‬
‫وحلل‪ ،‬ولم يكونوا يعرفون الحكام التكليفية والوضعية‪ ،‬والعلة والمناط‪ ،‬وغير‬
‫ذلك من مباحث علم الصول‪.‬‬
‫جاءَ به النحويون وضبطنا العقيدة‪ ،‬فوضعنا‬
‫فنحن جئنا بمثل ما َ‬
‫جسم وعرض‪ ،‬وحيز وجوهر‪ ،‬وتركيب وغير تركيب‪ ،‬أتينا بها حتى‬
‫هم الّناس العقيدة‪.‬‬
‫نف ّ‬
‫ن أتينا ورتبنا طريق السلوك‪ ،‬وجعلنا له‬
‫ح ُ‬
‫وقالت الصوفية ‪ :‬ن َ ْ‬
‫ل‪ ،‬والحال له تعريف‪ ،‬والمقام له تعريف‪ ،‬وكيف‬ ‫مقامات‪ ،‬وأحوا ً‬
‫نجمع بين هذا المقام وهذا الحال‪ ،‬فما أتينا إل بمصطلحات ُنفهم‬
‫ن الصحابة يتعبدون‪.‬‬ ‫الّناس كيف َ‬
‫كا َ‬
‫ل‪] :‬السلف لم يكرهوا ذلك‬ ‫صّنف هذه الشبهة ف َ‬
‫قا َ‬ ‫م ْ‬‫فرد عليهم ال ُ‬
‫عَلى معان جديدة‪ ،‬لكن أنكروا عليهم‬‫لمجرد كونه اصطلحات جديدة َ‬
‫عَلى أمور كاذبة‪ ،‬ولنها عبارات منقولة عن مشركي‬ ‫لنها تشتمل َ‬
‫اليونان والمجوس‪ ،‬وتعبر عن عقائد جاهلية قديمة باطلة‪ ،‬وكل‬
‫مصطلح منها له دللة تختلف عند أهله عنها في لغة العرب‪.‬‬
‫فالجسم في لغة العرب غير الجسم في تعريف المناطقة ‪...‬وهكذا‬
‫بقية المور كالعرض‪ ،‬والجوهر‪.‬‬

‫عَلى مقدمات باطلة‪ ،‬وتؤدي‬ ‫فهي تعبر عن عقائد زائفة‪ ،‬وتشتمل َ‬


‫إ َِلى نتائج كاذبة مبتدعة في الدين‪ ،‬لم يكن عليها السلف الصالح‬
‫عاَلى عليهم‪ ،‬وإنما انتشر القيل والقال والجدال لما‬ ‫رضوان الله ت َ َ‬
‫م‬‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫انتشرت مثل هذه القوال‪ ،‬وإل فإن النبي َ‬
‫عاَلى‪ ،‬ودعا أصحابه الّناس‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫دعا الّناس إ َِلى عبادة الله ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫فأدخلوهم في دين الله‪ ،‬وأقنعوهم إقناعا ً عقليا ً حتى ولد منهم‬
‫ي‬
‫ر ّ‬‫خا ِ‬‫أكبر الدعاة إ َِلى الله‪ ،‬وأكبر العلماء المؤلفين كالمام الب ُ َ‬
‫وغيره‪ ،‬فما أقنعوهم وناظروهم وأفهموهم بالمنطق اليوناني‪،‬‬
‫وإنما أفهموهم بمنطق الوحي الذي يعطي الحجة‪ ،‬فيأتونهم‬
‫بالوحي والمحجة الواضحة‪.‬‬

‫م علمنا منهج الدعوة‪ ،‬فكتب‬ ‫سل ّ َ‬


‫و َ‬‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫سول َ‬ ‫كما مر أن الّر ُ‬
‫إ َِلى هرقل عظيم الروم‪ :‬هرقل عظيم الروم‪ ،‬أسلم تسلم‪ ،‬فإن‬
‫عال َ ْ‬
‫وا‬ ‫ب تَ َ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬‫ه َ‬‫ل َيا أ َ ْ‬‫ق ْ‬‫ُ‬ ‫م كتب‪:‬‬ ‫م الريسيين( ث ُ ّ‬ ‫أبيت فإنما عليك إث ُ ّ‬
‫َ‬
‫ول‬ ‫شْيئا ً َ‬‫ه َ‬ ‫ر َ‬
‫ك بِ ِ‬ ‫ش ِ‬‫ول ن ُ ْ‬ ‫ه َ‬‫عب ُدَ إ ِّل الل ّ َ‬ ‫م أّل ن َ ْ‬ ‫وب َي ْن َك ُ ْ‬
‫ء ب َي ْن ََنا َ‬‫وا ٍ‬‫س َ‬ ‫ة َ‬ ‫م ٍ‬ ‫إ َِلى ك َل ِ َ‬
‫دوا ب ِأ َّنا‬ ‫ه ُ‬
‫ش َ‬ ‫قوُلوا ا ْ‬ ‫ف ُ‬‫وا َ‬‫ول ّ ْ‬
‫ن تَ َ‬ ‫ه َ‬
‫فإ ِ ْ‬ ‫ن الل ّ ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬
‫َ‬
‫عضا ً أْرَبابا ً ِ‬ ‫ضَنا ب َ ْ‬‫ع ُ‬ ‫خذ َ ب َ ْ‬ ‫ي َت ّ ِ‬
‫ن ]آل عمران‪ [64:‬وختم الكتاب‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫وهذه الية تهدم جميع المعتقدات التي كانت تدين بها المبراطورية‬
‫ن الرومان يعبدون‬ ‫كا َ‬‫َ‬ ‫عضا ً أ َْرَبابا ً‬ ‫ضَنا ب َ ْ‬‫ع ُ‬‫خذ َ ب َ ْ‬ ‫ول ي َت ّ ِ‬ ‫َ‬ ‫الرومية وأولها‪:‬‬
‫المبراطور‪ ،‬وكانوا يتلقون عن الحبار والرهبان في الدولة كما‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫دو ِ‬
‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م أْرَبابا ً ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫هَبان َ ُ‬‫وُر ْ‬‫م َ‬‫ه ْ‬ ‫حَباَر ُ‬ ‫ذوا أ ْ‬ ‫خ ُ‬‫قال تعالى‪ :‬ات ّ َ‬
‫]التوبة‪ [31:‬ولذلك لما جاءت هذه اليات وهذا الكتاب إ َِلى هرقل‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫ه َ‬‫صّلى الل ُ‬ ‫هزته ‪-‬وهو أعظم ملوك الرض‪ -‬وأيقن أن النبي َ‬
‫عَلى الخرى لمن بالله واتبع‬ ‫عَلى الحق‪ ،‬ولول أنه آثر الدنيا َ‬ ‫م َ‬‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫َ‬
‫م‪.‬‬ ‫ّ‬
‫سل َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬
‫علي ْ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫صلى الل ُ‬ ‫النبي َ‬
‫هذا هو أسلوب الدعوة الصحيح‪ ،‬أن ندعوهم بمنطق القرآن‪ ،‬ل‬
‫أقول‪ :‬نكتب الية فقط! لكن نشرح الية شرحا ً فنوضح حجة ال ُ‬
‫قْرآن‬
‫عّز‬‫للناس فهي التي تقنعهم‪ ،‬فإن لم تقنعهم فل أقنعهم الله َ‬
‫ل فإننا أمرنا أن‬ ‫ج ّ‬ ‫و َ‬ ‫عّز َ‬ ‫ل‪ ،‬وإن لم تهدهم فل هداهم الله َ‬ ‫ج ّ‬
‫و َ‬
‫َ‬
‫حي ]النبياء‪ [45:‬فننذر‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫و ْ‬ ‫ل‬
‫ُ ْ ِ َ‬ ‫با‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ر‬ ‫ذ‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ما‬ ‫ّ‬
‫ِ َ‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫قال‬ ‫ندعوهم‬
‫ه‪ ،‬ومن لم يهتد‬ ‫مدُ ل ِل ّ ِ‬ ‫َ ْ‬‫ح‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫فا‬ ‫واهتدى‬ ‫به‬ ‫آمن‬ ‫الّناس أيضا ً بالوحي‪ ،‬فمن‬
‫فإنما علينا البلغ؛ بل نقول‪ :‬يارب‪ ،‬بلغناهم ما أوحيت به إلينا‬
‫فكفروا‪ ،‬لكن لو أنذرناهم بمنطقهم وبفلسفاتهم وجدالهم‪ ،‬فبم‬
‫م لم تنذروهم بالوحي‪ ،‬وأنا قلت‬ ‫ة إذا قال ل ِ َ‬ ‫م ِ‬‫قَيا َ‬ ‫م ال ِ‬‫و َ‬
‫نجيب ربنا ي َ ْ‬
‫ُ‬
‫حي ]النبياء‪:‬‬ ‫و ْ‬ ‫م ِبال ْ َ‬‫ذُرك ُ ْ‬ ‫ما أن ْ ِ‬ ‫ق ْ‬
‫ل إ ِن ّ َ‬ ‫ُ‬ ‫م‪:‬‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫للنبي َ‬
‫م؟‬‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫‪ [45‬وأنتم تقولون أنكم من اتباع النبي َ‬
‫ج ّ‬
‫ل أن يرزقنا البصيرة في الدين‪ ،‬وأن يجعلنا من‬ ‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫فنسأل الله َ‬
‫على منهجه‪.‬‬‫َ‬ ‫المتبعين له ولصحابه‪ ،‬المتمسكين بسنته السائرين َ‬
‫التوحيد ‪1‬‬
‫يركز الشيخ حديثه على التوحيد‪ ،‬و كيف أنه هو نقطة البدء والنتهاء‪ ،‬ثم يتحدث عن‬
‫أنواع التوحيد‪ ،‬و كيف أن نفي الصفات أفضى إلى الحلول والتحاد‪.‬‬

‫‪ - 1‬التوحيد هو نقطة البدء والنتهاء‬


‫قال المامالطحاوي رحمه الله تعالى‪:‬‬
‫] نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله‪ :‬إن الله واحد ل شريك له[ ‪.‬‬

‫قال المصنف رحمه الله تعالى‪:‬‬

‫] اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل‪ ،‬وأول منازل الطريق‪ ،‬وأول مقام‬
‫سل َْنا ُنوحا ً إ َِلى‬ ‫يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل‪ ،‬قال تعالى‪ :‬ل َ َ َ‬
‫قدْ أْر َ‬
‫ه ]العراف‪ [59:‬وقال‬ ‫غي ُْر ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن إ ِل َ ٍ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬‫ه َ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫عب ُ ُ‬
‫وم ِ ا ْ‬ ‫ل َيا َ‬
‫ق ْ‬ ‫قا َ‬ ‫ف َ‬ ‫ه َ‬ ‫م ِ‬ ‫و ِ‬ ‫ق ْ‬‫َ‬
‫غي ُْرهُ ]العراف‪:‬‬ ‫ه َ‬ ‫ن إ ِل َ ٍ‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫عب ُ ُ‬‫هود عليه السلم لقومه‪ :‬ا ْ‬
‫ه‬
‫غي ُْر ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن إ ِل َ ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫‪ [65‬وقال صالح عليه السلم لقومه‪ :‬ا ْ‬
‫ن‬‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫]العراف‪ [73:‬وقال شعيب عليه السلم لقومه‪ :‬ا ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ول َ َ‬
‫سول ً أ ِ‬
‫ن‬ ‫ة َر ُ‬ ‫م ٍ‬ ‫لأ ّ‬ ‫في ك ُ ّ‬ ‫عث َْنا ِ‬ ‫قدْ ب َ َ‬ ‫َ‬ ‫ه ]العراف‪ [85:‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫غي ُْر ُ‬ ‫ه َ‬ ‫إ ِل َ ٍ‬
‫سل َْنا‬ ‫َ‬ ‫جت َن ُِبوا ال ّ‬
‫ما أْر َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬ ‫غوت ]النحل‪ [36:‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫طا ُ‬ ‫وا ْ‬‫ه َ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫ا ْ‬
‫دون ]النبياء‪:‬‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫فا ْ‬ ‫ه إ ِّل أ ََنا َ‬ ‫ه ل إ ِل َ َ‬
‫حي إل َي َ‬
‫ه أن ّ ُ‬ ‫ِ ْ ِ‬ ‫ل إ ِّل ُنو ِ‬ ‫سو ٍ‬ ‫ن َر ُ‬‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫قب ْل ِ َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫‪ [25‬وقال صلى الله عليه وسلم ‪):‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا‬
‫أن ل إله إل الله‪،‬وأن محمدا ً رسول الله( ولهذا كان الصحيح أن أول‬
‫واجب يجب على المكلف شهادة أن ل إله إل الله‪ ،‬ل النظر‪ ،‬ول القصد‬
‫إلى النظر‪ ،‬ول الشك‪ ،‬كما هي أقوال لرباب الكلم المذموم؛ بل أئمة‬
‫السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان‪،‬‬
‫ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقيب‬
‫بلوغه‪ ،‬بل يؤمر بالطهارة والصلة إذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك‪ .‬ولم‬
‫يوجب أحد منهم على وليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد الشهادتين‪ ،‬وإن كان‬
‫القرار بالشهادتين واجبا ً باتفاق المسلمين‪ ،‬ووجوبه يسبق وجوب‬
‫الصلة‪ ،‬لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك‪ ،‬وهنا مسائل تكلم فيها‬
‫الفقهاء‪ :‬فمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين‪ ،‬أو أتى بغير ذلك من خصائص‬
‫السلم‪ ،‬ولم يتكلم بهما‪ ،‬هل يصير مسلما ً أم ل؟ والصحيح أنه يصير‬
‫مسلما ً بكل ما هو من خصائص السلم‪ .‬فالتوحيد أول ما يدخل به في‬
‫السلم‪ ،‬وآخر ما يخرج به من الدنيا‪ ،‬كما قال النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪) :‬من كان آخر كلمه ل إله إل الله دخل الجنة( فهو أول واجب‬
‫وآخر واجب[ اهـ‬

‫الشرح‪:‬‬
‫ابتدأ الماتن ‪-‬رحمه الله تعالى‪ -‬واضع العقيدة وهو المام الطحاوي بهذه‬
‫الجملة‪:‬‬

‫] نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله‪ :‬إن الله واحد ل شريك له[ ‪.‬‬

‫فابتدأ العقيدة بالتوحيد‪ ،‬وهذا هو اللئق‪ ،‬لن التوحيد هو أشرف وأهم‬


‫فروع العقيدة‪ ،‬بل العقيدة كلها توحيد‪ ،‬والقرآن كله توحيد‪ ،‬فالتوحيد هو‬
‫أول ما يجب‪ ،‬وأول ما يدعى إليه‪ ،‬وحول التوحيد كانت المعركة بين‬
‫النبياء ‪-‬صلوات الله وسلمه عليهم‪ -‬وبين المم ‪.‬‬

‫ن‬
‫دو ِ‬‫عب ُ ُ‬ ‫ه إ ِّل أ ََنا َ‬
‫فا ْ‬ ‫ه ل إ ِل َ َ‬
‫حي إل َي َ‬
‫ه أن ّ ُ‬
‫ِ ْ ِ‬ ‫ل إ ِّل ُنو ِ‬
‫سو ٍ‬
‫ن َر ُ‬‫م ْ‬ ‫قب ْل ِ َ‬
‫ك ِ‬ ‫ن َ‬
‫م ْ‬‫سل َْنا ِ‬
‫َ‬
‫ما أْر َ‬ ‫و َ‬‫َ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سول أ ِ‬ ‫ة َر ُ‬ ‫م ٍ‬
‫في كل أ ّ‬ ‫عثَنا ِ‬ ‫ولقدْ ب َ َ‬ ‫َ‬ ‫]النبياء‪ [25:‬وقال تبارك وتعالى‪:‬‬
‫ت ]النحل‪ [36:‬فهذا هو ما دعا إليه النبياء‬ ‫غو َ‬ ‫جت َن ُِبوا ال ّ‬
‫طا ُ‬ ‫وا ْ‬
‫ه َ‬ ‫دوا الل ّ َ‬
‫عب ُ ُ‬‫ا ْ‬
‫جميعا‪ ،‬دعوا إلى توحيد الله تبارك وتعالى حيث افتتحوا دعوتهم‬
‫واختتموها بذلك‪ .‬فإن الشرائع والتعبدات جميعا ً إنما هي فروع وتوابع‬
‫للتوحيد‪.‬‬

‫ومعنى كون التوحيد أول دعوة الرسل‪ :‬هو أن كل نبي إنما يأتي قومه‬
‫لينذرهم أنه ل إله إل الله‪ ،‬ويحذرهم من عبادة الطاغوت‪.‬‬

‫وأما قوله‪] :‬وأول منازل الطريق وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله‬
‫عز وجل[‪ ،‬هذه العبارات استعارها المصنف من المصطلحات الصوفية ‪،‬‬
‫فـالصوفية عندهم أن الناس ثلثة أنواع‪ :‬مريد ‪-‬وهذا هو المبتدئ‪ -‬ثم‬
‫السالك الذي يسير في الطريق‪ ،‬ثم الواصل الذي وصل وسقطت عنه‬
‫التكاليف‪ ،‬ووصل إلى حقيقة المعرفة كما يقولون ‪.‬‬

‫وهذه الستعارة إنما هي على سبيل التقريب‪ ،‬لن كثيرا ً من الناس‬


‫يظنون أن المصطلحات الصوفية ما هي إل اصطلحات فنية ‪-‬أي عبارات‬
‫أو معاني أو ألفاظ‪ُ -‬أطلقت على المعاني القلبية لنعرف بها هذه‬
‫المدلولت‪ ،‬ويقول كثيٌر منهم‪ :‬إن التصوف هو شرح لحقيقة المرتبة‬
‫الثالثة من مراتب الدين التي هي الحسان ‪.‬‬

‫هؤلء القوم أي الصوفية يقولون ‪-‬كما هو أصل ديانتهم في الهند ‪ :-‬إن‬


‫بين العبد وبين الرب ألف مقام من الظلمة‪ ،‬يقطعها حتى يصل إلى النور‬
‫أو التوحيد الذي هو عندهم المحو والفناء في ذات الله‪ ،‬بحيث تتحد نفسه‬
‫بالباري‪ ،‬تعالى الله عما يقولون علوا ً كبيرا ً ‪.‬‬

‫وهذه المصطلحات نقلت إلينا على سبل‪ ،‬فنقلها بعضهم وهو من أهلها‪،‬‬
‫ونقلها بعضهم على سبيل التقريب أو استعارة لصطلحات ل يؤمن‬
‫بمدلولتها‪ ،‬ونقلها بعضهم وهو ل يدري على أي شيء تدل‪.‬‬

‫فالنقطة الولى‪ :‬نقطة النطلق ونقطة البدء في حياة النسان‬


‫ومعاملته وعبادته هي‪ :‬توحيد الله تبارك وتعالى‪ ،‬فل شيء قبله‪ ،‬ول‬
‫يقبل من العبد شيء إل بعد أن يوحد الله تبارك وتعالى وأن يؤمن به‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬فهي أول دعوة النبياء‪ ،‬وأول ما يبدأ فيه النسان في‬
‫عبادته لله تبارك وتعالى وهذه المة هي أمة التوحيد‪ ،‬وأبو النبياء جدنا‬
‫الخليل إبراهيم عليه السلم هو إمام الموحدين‪ ،‬وهو الذي جاء بملة‬
‫حِنيفا ً ]النحل‪ [132:‬فهي‬ ‫مل ّ َ‬ ‫إبراهيم ث ُم أ َوحيَنا إل َي َ َ‬
‫م َ‬‫هي َ‬
‫ة إ ِب َْرا ِ‬ ‫ع ِ‬
‫ن ات ّب ِ ْ‬
‫كأ ِ‬ ‫ِ ْ‬ ‫ّ ْ َ ْ‬
‫الملة الحنيفية التي تقوم على التوحيد‪ .‬ثم جاء النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم بعد أن ارتدت العرب إلى الشرك وعبدت الوثان‪ ،‬وأشركت مع الله‬
‫غيره‪ ،‬وعبدت المعبودات التي كان قوم نوح يعبدونها‪ ،‬فجاء بدعوة‬
‫التوحيد وهي‪ :‬شهادة أن ل إله إل الله وأن محمدا ً رسول الله‪ ،‬وجاء‬
‫بالسيف كما قال صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬بعثت بالسيف بين يدي‬
‫الساعة حتى يعبد الله وحده ل شريك له (‬

‫يعني‪ :‬دعوة التوحيد هي موضوع المعركة بين الرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم وبين المشركين‪- ،‬ومن هنا نعرف أهمية هذا العلم وأهمية‬
‫معرفته‪ ،‬ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث‪) :‬‬
‫أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ل إله إل الله وأن محمدا ً رسول‬
‫الله ( فهو بعث بالقتل والقتال حتى يعبد الله وحده تبارك وتعالى وذلك‬
‫تحقيق منه صلى الله عليه وسلم لخر ما أنزل الله تعالى من أحكام‬
‫القتال‪ .‬فالجهاد أول ما بدأ به كان إذنا ً فقط‪ ،‬فلم يكن أمرا ً مستحبا ً ول‬
‫م لَ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ديٌر‬ ‫ق ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ر ِ‬ ‫عَلى َنص ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫وإ ِ ّ‬
‫موا َ‬ ‫م ظُل ِ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫ن ب ِأن ّ ُ‬‫قات َُلو َ‬ ‫ن يُ َ‬‫ذي َ‬ ‫ن ل ِل ّ ِ‬ ‫واجبا ً أِذ َ‬
‫]الحج‪ [39:‬فأذن الله تعالى للمؤمنين بالقتال بعد أن تحرقت قلوبهم‬
‫وتشوقت إلى أن يقاتلوا الكفار‪ ،‬ثم استمر المر إلى أن وصلت المرحلة‬
‫الخيرة‪ ،‬وهي المر بالقتل لكل مشرك‪ ،‬وآخر مهلة للكفار في جزيرة‬
‫العرب خاصة‪ ،‬أربعة أشهر يسيحون في الرض‪ ،‬ثم بعدها تكون النهاية‬
‫م‬ ‫ه ْ‬‫ذو ُ‬ ‫خ ُ‬‫و ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫مو ُ‬‫جدْت ُ ُ‬
‫و َ‬‫ث َ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫كي َ‬ ‫ر ِ‬‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫قت ُُلوا ال ْ ُ‬ ‫فا ْ‬ ‫م َ‬ ‫حُر ُ‬ ‫هُر ال ْ ُ‬ ‫ش ُ‬ ‫خ اْل َ ْ‬ ‫سل َ َ‬ ‫ذا ان ْ َ‬ ‫َ‬
‫فإ ِ َ‬
‫مْرصد ]التوبة‪ [5:‬هذه اليات آخر ما نزل‬ ‫ل َ‬ ‫م كُ ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫دوا ل َ ُ‬ ‫ع ُ‬ ‫ق ُ‬‫وا ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫صُرو ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫وا ْ‬ ‫َ‬
‫موا‬ ‫َ‬
‫وأ َ‬ ‫َ‬
‫قا ُ‬ ‫ن َتاُبوا َ‬ ‫فإ ِ ْ‬ ‫في شأن الجهاد‪ ،‬وقال سبحانه وتعالى عقبها‪:‬‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫فإ ِ ْ‬ ‫هم ]التوبة‪ [5:‬وقال بعد ذلك أيضًا‪:‬‬ ‫سِبيل َ ُ‬ ‫خّلوا َ‬ ‫ف َ‬ ‫كاةَ َ‬ ‫وا الّز َ‬ ‫وآت َ ُ‬ ‫صلةَ َ‬ ‫ال َ‬
‫َ‬
‫ن ]التوبة‪.[11:‬‬ ‫دي ِ‬ ‫في ال ّ‬ ‫م ِ‬ ‫وان ُك ُ ْ‬
‫خ َ‬ ‫كاةَ َ‬
‫فإ ِ ْ‬ ‫وا الّز َ‬ ‫وآت َ ُ‬ ‫صلةَ َ‬ ‫موا ال َ‬ ‫قا ُ‬ ‫وأ َ‬ ‫َتاُبوا َ‬
‫فمنطوق الحديث‪ ) :‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ل إله إل الله‪،‬‬
‫وأن محمدا ً رسول الله‪ ،‬ويقيموا الصلة ويؤتوا الزكاة ( هو نفس مدلول‬
‫هم ]التوبة‪[5:‬‬ ‫سِبيل َ ُ‬
‫خّلوا َ‬
‫ف َ‬ ‫وا الّز َ‬
‫كاةَ َ‬ ‫وآت َ ُ‬
‫صلةَ َ‬
‫موا ال َ‬‫قا ُ‬‫وأ َ َ‬
‫ن َتاُبوا َ‬ ‫َ‬
‫فإ ِ ْ‬ ‫الية‪:‬‬
‫ن ]التوبة‪- [11:‬أي‪ :‬وجبت لهم الخوة‪ -‬فمن لم‬ ‫دي ِ‬‫في ال ّ‬ ‫م ِ‬ ‫وان ُك ُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫َ‬
‫فإ ِ ْ‬ ‫و‬
‫يأت بهذه الركان الثلثة فل أخوة له في الدين ول يخلى سبيله‪ ،‬بل‬
‫يقاتل‪ ،‬ولم يذكر الصيام والحج مع الشهادتين والصلة والزكاة؛ لن‬
‫الصوم عبادة خفية ل يعلم بها ول يطلع عليه فيقاتل عليها‪ ،‬لكن نقاتل‬
‫ونقتل واحدا ً عرفناه بعينه‪ ،‬أو عرفنا أمة أو قرية أو طائفة امتنعت عنه‪،‬‬
‫فنقاتلها قتال كفر وردة‪ ،‬كما أجمع الصحابة بعد المناظرة مع أبي بكر‬
‫على أن يقاتلوا تاركي الزكاة كما يقاتلون المرتدين‪..‬‬

‫وقال عمر " لو لم نطع أبا بكر لكفرنا بغداة واحدة " بعد أن تذكروا‬
‫ل أبي بكر ‪" :‬والله لقاتلن من فرق بين الصلة‬ ‫ن قو َ‬
‫وتنبهوا إلى أ ّ‬
‫ة‬ ‫وا الّز َ‬
‫كا َ‬ ‫َ‬
‫وأ َ‬ ‫َ‬
‫وآت َ ُ‬
‫صلةَ َ‬‫موا ال َ‬
‫قا ُ‬ ‫ن َتاُبوا َ‬
‫فإ ِ ْ‬ ‫والزكاة " هو نفس منطوق الية‪:‬‬
‫]التوبة‪ .[11:‬والحج يجب مرة واحدة في العمر‪ ،‬ويجب على من‬
‫استطاع الزاد والراحلة‪ ،‬وهذا ل نستطيع أن نعرفه ‪-‬أيضًا‪ -‬بسهولة‪ ،‬لننا‬
‫لو جئنا وقلنا لمة من المم لم ل تحجون؟ قالوا‪ :‬نحج السنة القادمة ‪-‬إن‬
‫شاء الله‪ -‬أو بعدها فل نستطيع أن نقاتلهم‪ ،‬لكن لو قالوا‪ :‬ل لن نحج هذا‬
‫البيت أبدًا‪ ،‬لحكمنا بأنهم كفار‪ ،‬وقاتلناهم قتال كفر وردة ‪.‬‬

‫فهذه الركان الساسية الثلثة التي هي‪ :‬شهادة أن ل إله إل الله وأن‬
‫محمدا ً رسول الله وهو الركن الول‪ ،‬وإقام الصلة وهو الركن الثاني‪،‬‬
‫وإيتاء الزكاة وهي الركن الثالث الذي ورد النص صريحا ً في المقاتلة‬
‫عليها‪ ،‬لنها هي التي تعطي الطابع العام للمجتمع أو للفرد‪ ،‬أما الحج‬
‫والصوم فهذا حكمه بينه وبين ربه‪ ،‬بخلف الصلة فنقاتله ونقتله إن أصر‬
‫على تركها‪ ،‬وكذا الزكاة نقتله أو نأخذها منه قهرًا‪ ،‬فإذا أخذنا الزكاة منه‬
‫قهرا ً وسكت وهو في قلبه كاره لذلك؛ فهو منافق بينه وبين ربه‪ ،‬لكنه‬
‫في الحكام الدنيوية الظاهرة مسلم‪ ،‬وزكاته أخذناها منه قهرا ً كما قال‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات‬
‫ربنا ( ‪.‬‬

‫والمام البخاري ‪-‬رحمه الله تعالى‪ -‬لما وضع كتاب التوحيد‪ ،‬ذكر فيه أول‬
‫ما ذكر حديث معاذ لما بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن‬
‫فقال له‪ ):‬إنك تأتي قوما ً من أهل الكتاب‪ ،‬أو إنك تقدم على قوم من‬
‫أهل الكتاب من اليهود‪ ،‬فليكن أول ما تدعهم إليه عبادة الله ( وهذا يدل‬
‫على دقة فهم البخاري ‪ ،‬وفقه البخاري في تراجمه وتبويبه ‪.‬‬

‫فهذه روايات صحيحة وثابتة في البخاري ‪ ،‬وبعضها في مسلم في ألفاظ‬


‫حديث معاذ ‪:‬‬

‫الرواية الولى‪ ) :‬فليكن أول ما تدعهم إليه عبادة الله‪ ،‬فإذا عرفوا الله‪،‬‬
‫فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات ( ‪.‬‬

‫الرواية الثانية‪ ) :‬فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن ل إله إل الله ( ‪.‬‬

‫الرواية الثالثة‪ ) :‬فليكن أول ما تدعهم إلى أن يوحدوا الله‪ ،‬فإذا عرفوا‬
‫ذلك‪ ،‬فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات ( ‪.‬‬

‫فمن مجموع هذه الروايات نفهم أن أول ما يجب أن يدعى إليه هو‬
‫التوحيد‪ ،‬وهو شهادة أن ل إله إل الله‪ .‬فالتوحيد هو أول ما ندعو إليه‪،‬‬
‫وعلى جميع الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى في كل زمان ومكان أن‬
‫يبدؤوا دائما ً بالتوحيد‪ .‬فإن ذهبنا إلى قوم ل يعرفون التوحيد‪ ،‬فأول ما‬
‫ندعوهم إليه التوحيد‪ ،‬فإذا قالوها علمناهم معناها ولوازمها‪ ،‬ومقتضياتها‬
‫وحقوقها وفروعها‪ ،‬وإن ذهبنا إلى قوم يقولون أو يشهدون أن ل إله إل‬
‫الله‪ ،‬فندعوهم أن يصححوا عقيدة التوحيد إن كان فيها خلل أو خطأ‪،‬‬
‫ولشك أنه مع تطاول القرون‪ ،‬ومع دخول كثير من العجم وغيرهم في‬
‫هذا الدين‪ ،‬ومع انتشار الجهل وفشو البدع والضللت‪ ،‬صارت عقيدة‬
‫التوحيد فيها غبش يتفاوت كثرةً بحسب البلدان‪.‬‬

‫فأول ما ندعوا إليه المسلمين هو تصحيح عقيدة التوحيد‪ ،‬وأول ما ندعو‬


‫إليه غير المسلمين هو عقيدة التوحيد ‪.‬‬
‫فمث ً‬
‫ل‪ :‬إذا ذهبنا إلى أوروبا فأول ما ندعو إليه التوحيد‪ ،‬ل نناقش ابتداءً‬
‫في المشاكل الجتماعية التي يعيشها الغرب إل في حالة واحدة وهي‪:‬‬
‫أن نناقشها لنربطها بحقيقة التوحيد‪.‬‬

‫د‬ ‫هو الل ّ َ‬ ‫ُ‬


‫ق ْ‬
‫ح ٌ‬
‫هأ َ‬‫ُ‬ ‫ل ُ َ‬ ‫ثم ذكر المام البخاري ‪-‬بعد حديثمعاذ ‪ -‬حديث فضل‬
‫فذكر حديثين‪:‬‬

‫الحديث الول‪} :‬إنها لتعدل ثلث القرآن { ‪.‬‬

‫والحديث الخر‪ } :‬أن النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم بعث‬
‫و الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ه َ‬
‫ل ُ‬ ‫ُ‬
‫ق ْ‬ ‫رجل على سرية وكان يقرأ لصحابه في صلته فيختم بـ‬
‫د فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فقال سلوه‬ ‫َ‬
‫ح ٌ‬
‫أ َ‬
‫لي شيء يصنع ذلك؟‬

‫فسألوه‪ ،‬فقال‪ :‬لنها صفة الرحمن‪ ،‬وأنا أحب أن أقرأ بها‪ ،‬فقال النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم أخبروه أن الله يحبه { ‪.‬‬

‫وذلك لنه أحب صفات الله عز وجل‪ ،‬فمن هنا نعرف أهمية توحيد‬
‫السماء والصفات ‪.‬‬

‫فـالمام البخاري رحمه الله عقد كتاب التوحيد ‪ ،‬وافتتحه بهذين‬


‫المضمونين‪ :‬مضمون توحيد اللوهية الذي هو حديث معاذ بن جبل رضي‬
‫ل‬ ‫ُ‬
‫ق ْ‬ ‫الله عنه‪ ،‬ومضمون توحيد السماء والصفات الذي هو حديث فضل‬
‫د ‪.‬‬ ‫هو الل ّ َ‬
‫ح ٌ‬
‫هأ َ‬‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫يقول المصنف رحمه الله تعالى ‪ ] :‬ولهذا كان الصحيح أن أول واجب‬
‫يجب على المكلف شهادة أن ل إله إل الله [ ‪.‬‬

‫أول ما يجب على كل مخلوق خلقه الله عز وجل هو‪:‬شهادة أن ل إله إل‬
‫الله‪ ،‬هذا أول الواجبات‪.‬‬
‫ول شك أن شهادة أن ل إله إل الله أول الواجبات‪ ،‬ولها معنيان‪ ،‬وكل‬
‫المعنيين حق‪:‬‬

‫الول‪ :‬أنها أول الواجبات‪ ،‬بمعنى أول ما ندعو إليه من الواجبات‪ ،‬وأول‬
‫ما نبدأ به هو‪ :‬شهادة أن ل إله إل الله ‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬أنها أول الواجبات‪ ،‬بمعنى أهم الواجبات وأعظم شيء‪ .‬إذا ً هي‬
‫أول ما نبدأ بها‪ ،‬وهي أعظم شيء ‪.‬‬

‫فأول ما يأتينا الكافر ليدخل في دين السلم ندخله من باب شهادة أن ل‬


‫إله إل الله‪ ،‬وآخر ما نطلبه من النسان عند الموت هو شهادة أن ل إله إل‬
‫الله‪- ،‬أي التوحيد‪.-‬‬

‫فإذا عرفنا أن التوحيد هو أول المر وآخره عرفنا أهميته‪ .‬فهو الول من‬
‫ناحية البتداء‪ ،‬والول من ناحية الهمية ‪.‬‬

‫قال المصنف رحمه الله تعالى ‪:‬‬

‫] ل النظر ول القصد إلى النظر ول الشك كما هي أقوال لرباب الكلم‬


‫المذموم [ ‪.‬‬

‫اختلف الناس في قضية أول واجب على المكلف‪ ،‬وهذا الختلف هو‬
‫لهل البدع الذين خرجوا عن كتاب الله وعن سنة رسوله الله صلى الله‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وأعرضوا عن هذه اليات العظيمة التي مرت بنا ‪-‬على‬
‫كثرتها‪ -‬وأعرضوا عما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم رسله‪ ،‬وأخذوا‬
‫بالنظر العقلي المجرد‪.‬‬

‫فقالوا‪ :‬أول ما يجب هو معرفة الله ‪.‬‬

‫ونقول لهم أما إذا كان المقصود بالمعرفة عندكم معرفة أسماء الله‬
‫وصفاته وحقه على العباد وحق العباد عليه سبحانه وتعالى فهذه ل خلف‬
‫فيها‪ ،‬ولذلك جاء في رواية للبخاري في كتاب الزكاة ) فإذا عرفوا الله‬
‫فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات ( فمعرفة الله هي‪ :‬ذات‬
‫التوحيد‪ ،‬لكن التوحيد أو المعرفة عندنا غير المعرفة العقلية عندهم‪ ،‬فهم‬
‫يريدون معرفة عقلية فلسفية نظرية‪.‬‬

‫مثل ً يقول المعتزلة ‪ :‬يجب عليه أن يعرف الصول الخمسة‪:‬‬

‫ا‪-‬العدل‪.‬‬

‫‪-2‬التوحيد‪.‬‬

‫‪-3‬الوعد والوعيد‪.‬‬

‫‪ -4‬المنزلة بين المنزلتين‪.‬‬


‫‪-5‬المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬

‫ولهم على كل واحدة منها تأويل وتفسير‪.‬‬

‫فمعرفة الله ‪-‬كما وضعوا‪ -‬تعني معرفته ذاتا ً مجردة من جميع الصفات‬
‫كما يريد الجهمية ‪ ،‬أو معرفته بماله من أسماء‪ ،‬ول يثبت له أي صفة أبدا ً‬
‫كما يقول المعتزلة ‪ ،‬أو معرفته بأن نثبت له بعض الصفات‪ ،‬إما سبعة‪ ،‬أو‬
‫تسعة‪ ،‬أو إحدى عشر‪ ،‬أو ثلثة عشر‪ ،‬كما يقول الشعرية ‪ .‬وننفي عنه‬
‫الباقي‪ .‬هذه هي المعرفة التي يريدها أهل البدع‪ .‬ويقولون‪ :‬معرفة الله‬
‫‪-‬أي‪ :‬معرفة وحدانيته‪.-‬‬

‫فنحن نقول‪ :‬توحيد الله هو‪ :‬إفراد الله بالعبادة‪ ،‬لن التوحيد مصدر وحد‬
‫يوحد توحيدًا‪ .‬فمعرفة وحدانيته هو‪ :‬إفراد الله بالعبادة‪ ،‬وأما وحدانية الله‬
‫عندهم فهم يقولون في كتب علم الكلم‪ :‬هو نفي الكمية المتصلة ونفي‬
‫الكمية المنفصلة‪ ،‬وهذا كلم فلسفي جاءوا به من الفلسفة اليونانية ‪.‬‬

‫فالكمية المتصلة‪ :‬أي‪ :‬ننفي أن يكون هذا الله أبعاضا ً أو أجزاء‪ ،‬فليس له‬
‫أجزاء ول أبعاض‪ ،‬ول هو أرباع ول هو كسور ‪.‬‬

‫والكمية المنفصلة‪ :‬أي‪ :‬هو واحد‪ ،‬ل نقول اثنين‪ ،‬ول ثلثة‪ ،‬ول أربعة‪ ،‬ول‬
‫خمسة‪ ،‬فهو واحد ليس هناك كمية منفصلة عنه ول كمية متصلة به ‪.‬‬

‫هذا هو التوحيد عندهم‪ ،‬لذلك ل يكفرون من يعبد ويدعو غير الله ويذبح‬
‫لغير الله‪.‬‬

‫فالمقصود أنهم يجعلون الوحدانية هي‪ :‬نفي الكمية المتصلة‪ ،‬ونفي‬


‫الكمية المنفصلة‪ ،‬فيثبتون رقما ً مجردًا‪ ،‬ثم يقولون‪ :‬هذا الرقم المجرد‬
‫ليس له أي صفة من الصفات كما يقول الجهمية ‪ ،‬أو كما يفعل بعض‬
‫أتباع الفرق الضالة يثبتون البعض وينكرون البعض الخر‪ ،‬فهو واحد فقط‬
‫ليس متعددا ً ول متبعضًا‪.‬‬

‫وهذا هو مفترق الطريق بيننا وبينهم‪ ،‬فهم يرون أنهم موحدون‪ ،‬لن الله‬
‫عندهم شيء واحد ‪-‬ذات مجردة هلمية‪ -‬هكذا ‪.‬‬

‫فيقولون‪ :‬هذا الرقم الواحد ليس أرباعا ً ول أثمانًا‪ ،‬ول اثنين ول ثلثة ول‬
‫أربعة‪ ،‬وهذا هو حقيقة التوحيد عندهم‪ ،‬بل إذا قلنا‪ :‬نثبت له صفات‬
‫كالعين‪ ،‬أو الوجه‪ ،‬أو اليد‪ ،‬أو القدم‪ ،‬قالوا هذه أبعاض‪ ،‬والبعاض منفية‪،‬‬
‫لن الكمية المتصلة منفية‪ ،‬كما أن الكمية المنفصلة منفية‪ .‬فلنهم‬
‫ينفون صفات الله عز وجل ويثبتون أنه واحد يظنون أنهم هم الموحدون‪،‬‬
‫ونحن نثبت لله هذه الصفات‪ ،‬وننهى عن الشرك بالله‪ ،‬وندعو إلى توحيد‬
‫الله ‪-‬وهو إفراده وحده بالعبادة والتوجه والتقرب ‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬أنتم مشبهون لنكم تثبتون هذه الصفات‪ ،‬وتقولون لله أبعاض‪،‬‬
‫وأنتم تكفرون المسلمين‪ ،‬لنكم تأتون إلى موحد يعتقد في الله هذا‬
‫العتقاد‪ ،‬ولكنه يدعو غير الله حيث يدعو الولياء ويذبح للموات‬
‫وتقولون‪ :‬هذا مشرك وهو لم يشرك‪ .‬فالذين قالوا‪ :‬إن أول ما يجب هو‬
‫التوحيد أو المعرفة يعنون بها توحيدهم ومعرفتهم ‪.‬‬

‫وقال بعضهم‪ :‬أول واجب هو النظر‪ ،‬لن المعرفة تترتب على النظر‪،‬‬
‫فالنسان أول شيء يحصل منه هو النظر‪ .‬والنظر معناه‪ :‬التفكير ‪.‬‬

‫فالقضية النظرية‪ :‬قضية ذهنية وعقلية تفكيرية‪ ،‬فأول ما يجب هو‬


‫التفكير والنظر والستدلل بالعقل‪ .‬لن المعرفة سببها وقوع النظر‪.‬‬

‫والمسلم ‪-‬عندهم‪ -‬إذا بلغ التكليف مثل ً في هذه الليلة باحتلم‪ ،‬أو إنبات‪،‬‬
‫أو بلوغ خمسة عشر سنة‪ ،‬يجب عليه من هذه اللحظة ‪-‬لحظة ما بلغ‪ -‬أن‬
‫يفكر‪ ،‬فيقول‪ :‬هذا العالم حادث‪ ،‬وكل حادث لبد له من محدث‪ ،‬وهذا‬
‫العالم متغير‪ ،‬والمتغير حادث‪ ،‬والحادث لبد له من محدث‪ .‬والمحدث هو‬
‫الله‪ ،‬ويعيد المقدمات حتى يتأكد أن المحدث هو الله‪ ،‬ثم يعرفه بأنه‬
‫واحد‪ ،‬ل هو أبعاض ول هو أعداد‪ ،‬فإذا عرف هذا الشيء فقد وحد وأصبح‬
‫مسلمًا‪ .‬والعجيب أنهم بحثوا في حكم من مات في أثناء النظر على أي‬
‫دين يموت؟‬

‫فقال بعضهم‪ :‬يموت على الكفر‪ ،‬لنه لم يدخل في السلم‪.‬‬

‫وقال بعضهم‪ :‬هو مسلم لكنه عاصي‪.‬‬

‫وأطالوا الكلم في هذا كما في كتاب الرشاد للجويني ‪-‬فيا سبحان الله‪-‬‬
‫كيف نضع الصول الفاسدة‪ ،‬ثم نركب عليها لوازم باطلة‪ ،‬ثم يتشعب‬
‫الباطل حتى نجد باطل كام ً‬
‫ل؟!‬

‫فأول واجب عندهم هو النظر‪ ،‬كما قال الجويني ‪ ،‬وابن فورك ‪ ،‬وكلهما‬
‫من أئمة الشعرية ‪.‬‬

‫وقال القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلني ‪-‬إمام الشعرية في زمانه‪-‬‬


‫أول ما يجب‪ :‬هو أول جزء من النظر‪ ،‬وليس كل النظر بحيث يرتقي بعد‬
‫ذلك حتى يصل إلى المعرفة ‪.‬‬

‫وهناك قول رابع جاء به أبو هاشم الجبائي شيخ المعتزلة في زمانه‬
‫فقال‪ :‬أول ما يجب على النسان‪ :‬هو الشك‪ .‬لنك إذا شككت وصلت إلى‬
‫اليقين‪ .‬على طريقة ديكارت حيث قال‪" :‬أنا أفكر؛ إذا ً أنا موجود" هذه‬
‫النظرية كانت أعظم نظرية‪ ،‬وأعظم فتح في تاريخ الفلسفة الوروبية‬
‫والعالم الغربي‪-‬كما يقولون‪ ،-‬حيث تحرر من قيود الرجعية ومن قيود‬
‫الفلسفة الكلسيكية بهذه القاعدة العظيمة "أنا أفكر؛ إذا ً أنا موجود" ‪.‬‬
‫فالشك في الشياء أو السفسطة ‪-‬وهو إنكار حقائق الشياء‪ -‬مخيم على‬
‫أذهانهم‪ ،‬وأن كل ما نراه الن قد يكون حقا ً وقد يكون غير موجود‪.‬‬
‫فابتلهم الله تعالى بالشك والزيغ في قلوبهم‪.‬‬

‫وظهر في بريطانيا رجل اسمه هيوم زعيم الشكاك أو شيخ الشكاك‪،‬‬


‫حيث أعاد نظرية الشك اليونانية القديمة وقال‪ :‬لبد من الشك في كل‬
‫شيء‪ ،‬وكل الحقائق الموجودة تقبل الجدال وتقبل النزاع‪ ،‬ول يوجد أي‬
‫حقيقة مطلقا ً ‪.‬‬

‫فاعتبروا نظرية ديكارت انتصارًا؛ لنه قال‪" :‬أنا أفكر؛ إذا ً أنا موجود"‬
‫وخرج يصيح ويقول‪" :‬أنا أفكر‪ .‬إذا ً أنا موجود" فانظروا ما مقدار النعمة‬
‫التي أكرمنا الله تعالى بها لما أعطانا هذا الوحي‪ ،‬ولم يكلنا إلى زبالة‬
‫أذهان هؤلء المتهوكين أئمة الضللة؟! فلو خرج أحد منا من بيته وقال‪:‬‬
‫"أنا أفكر‪ .‬إذا ً أنا موجود" ‪ .‬لقلنا‪ :‬إنه مجنون‪ .‬وهم إذا جاءتهم دعوة‬
‫النبياء وأتباع النبياء قالوا‪ :‬أنتم مجانين‪.‬‬

‫فهؤلء أعمى الله بصائرهم‪ ،‬فهم في ظلمات وفي شك ‪.‬‬

‫فأول شيء كما قال أبو هاشم الجبائي ‪ :‬أن نشك في كل شيء‪ ،‬وبعد‬
‫الشك نبدأ في اليقين‪ ،‬ثم نستدل بحدوث العالم على وجود الله‪ ،‬ثم‬
‫نعتقد أن الله موجود‪ ،‬ثم نعرف ما يجب لله من التوحيد على منهجهم‬
‫الذي هو منهج المعتزلة ‪.‬‬

‫فهذا هو كلمهم في مسألة أول ما يجب على المكلف‪ .‬وهو مردود‬


‫ومنقوض بما في صريح القرآن‪ ،‬وبما دعا إليه النبياء أن أول ما يدعى‬
‫إليه هو شهادة إن ل إله إل الله وأن محمدا ً رسول الله‪ ،‬فهي دعوة‬
‫واضحة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى ‪.‬‬

‫ومع ذلك سنرد عليهم بمنطقهم العقلي وحججهم النظرية‪ ،‬وهنا لفتة‪:‬‬
‫وهي أن أصحاب الكلم جميعا ً يقولون‪ :‬إننا ندافع عن السلم في وجه‬
‫أعداء الدين من الملحدة والفلسفة العقليين الذين يقولون‪" :‬كل‬
‫الديان تقليد"‪ ،‬فالمسلم لنه عاش في دار السلم وولد فيها صار‬
‫مسلمًا؛ وكذا اليهودي والنصراني‪ ،‬والتقليد لينفع‪ ،‬بل ل بد أن نقيم ديننا‬
‫على حجج وبراهين وننبذ التقليد ‪.‬‬

‫فقال علماء الكلم ‪ :‬ونحن ليس عندنا تقليد أبدًا‪ ،‬فإننا نقول أول ما يجب‬
‫على النسان هو أن ينظر‪ ،‬أو يشك حتى نحرر عقله ‪.‬‬

‫وأما من يعيش في بادية وهو أمي‪ ،‬ويعبد الله عز وجل ويقوم بجميع‬
‫الواجبات والفرائض دون أن يستدل بالعقل على وحدانية الله كما‬
‫يريدون‪ ،‬فهذا يسمى مقلدًا‪ ،‬وقد اختلفوا في إيمان المقلد كما مر‪،‬‬
‫فقال بعضهم‪ :‬ل يثبت له إيمان‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬إنه عاصي‪ .‬وقال بعضهم‪:‬‬
‫إنه معذور‪.‬‬

‫فاليهودي مقلد‪ ،‬والنصراني مقلد‪ ،‬والمسلم مقلد‪ ،‬فالديان كلها تقليد‪،‬‬


‫وأما الحق فهو ما يعتقدونه من البراهين والحجج العقلية‪.‬‬

‫ونحن نرد عليهم بالتي‪:‬‬

‫ل‪ :‬كيف رضيتم أن يسوى بين السلم‪ ،‬وبين غيره من الديان الباطلة‬ ‫أو ً‬
‫د أبدًا‪ ،‬بل كل مسلم ليس‬‫المحرفة؟ فإن من ولد على السلم ليس بمقل ٍ‬
‫بمقلد في أصل الدين ‪-‬أي في إيمانه بالله‪ -‬إل على المعنى الذي سنذكره‬
‫‪-‬إن كان يسمى تقليدًا‪ ،-‬لن النبي صلى الله عليه وسلم يقول‪ ) :‬كل‬
‫مولود يولد على الفطرة ( ) كل مولود يولد على الملة ( وفي رواية‪) :‬كل‬
‫مولود يولد على هذه الملة ( ‪ ،‬فنحن نجزم ونعلم أن أولد‬
‫اليهودوالنصارى‪ ،‬وأولد المجوس كلهم يولدون على هذه الملة‪ ،‬ولذلك‬
‫قال‪ ) :‬فأبواه يهودانه‪ ،‬أو ينصرانه‪ ،‬أو يمجسانه ( ولم يقل يمسلمانه‪ .‬ثم‬
‫قال صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل ترون‬
‫فيها من جدعاء ؟ ( فالبهيمة ل تولد مقطوعة الذن‪ ،‬أو عليها علمات‬
‫مميزة‪ ،‬وإنما تولد جمعاء‪ .‬فالذي يشرط ويقطع الذن‪ ،‬ويجعل علمة‬
‫معينة لنتماء معين هو المجتمع أو التربية؛ بحيث يربى على اليهودية ‪،‬‬
‫فيصير يهوديًا‪ .‬وإل فهو في أصله ولد على السلم‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬أنكم إن قلتم إنه ل إيمان للمقلد‪.‬‬

‫فمن هو المقلد؟‬

‫وما هو التقليد؟‬

‫فنحن وهم متفقون على أن التقليد هو‪ :‬اتباع الغير بل حجة‪ ،‬لذا لو قلت‬
‫له‪ :‬أنا اتبعك في كل ما تقول‪ ،‬فإنه سيقول‪ :‬ل تقلدني‪ .‬لكن لو قلت‪ :‬ما‬
‫هي براهينك؟ فقال‪ :‬كذا وكذا ‪.‬‬

‫فقلت‪ :‬أنا عرفت هذه البراهين واتبعتك تقليدا ً لك ‪.‬‬

‫فإنه سيقول‪ :‬ل‪ ،‬أنت لست مقلدًا؛ لنك آمنت واتبعتني بعد ما عرفت‬
‫براهيني‪.‬‬

‫فنقول‪- :‬يا سبحان الله!‪ -‬وأي حجة أعظم من إرسال الرسل؟!‬

‫وهل اتباع النبياء تقليد؟!‬

‫وهل هناك حجة أعظم من اتباع النبياء ومن الوحي الذي أنزله الله؟!‬
‫وما من نبي إل وأتى بآيات بينات خارقات على أنه نبي من عند الله‪ ،‬وما‬
‫ذب إل وأهلك الله عز وجل المكذبين ودمرهم‪ ،‬وأنجى المؤمنين‬ ‫من نبي ك ُ ّ‬
‫ن‬
‫كو َ‬‫وأنجى نبيهم‪ .‬فالحجة هي في إرسال الرسل‪ .‬قال تعالى‪ :‬ل ِئ َّل ي َ ُ‬
‫ه‬‫فل ِل ّ ِ‬‫ل َ‬
‫ق ْ‬ ‫ُ‬ ‫ل ]النساء‪ [165:‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫س ِ‬
‫عدَ الّر ُ‬
‫ة بَ ْ‬
‫ج ٌ‬
‫ح ّ‬ ‫عَلى الل ّ ِ‬
‫ه ُ‬ ‫س َ‬ ‫ِللّنا ِ‬
‫غة ]النعام‪ [149:‬فكيف تقولون‪ :‬إننا نأخذ كلم الغير بل حجة‬ ‫ة ال َْبال ِ َ‬‫ج ُ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ح ّ‬
‫ونحن نتبع أنبياء الله ورسله‪ ،‬ونتبع اليات والبراهين البينات التي نجدها‬
‫في الكتاب والسنة؟‬

‫ثانيا ً ‪ :‬القرآن العظيم قد جاء بالحجج العقلية النظرية مثل ما جاء بالحجج‬
‫النقلية‪ ،‬وهو واضح لكل من يقرأه ويتدبره‪ ،‬فلم يذكر في القرآن وجود‬
‫الله ول اليمان باليوم الخر مجردًا‪ ،‬بل جاء ذكرها بما يهز العقل‬
‫والفطرة هزا ً شديدًا‪.‬‬

‫أفل ينظرون؟!‬

‫أفل يتدبرون؟!‬

‫أفل يتذكرون؟!‬

‫آيات عظيمة! ويستدل الله علينا ويحتج بأنه قادر على إحياءنا بعد الموت‬
‫بالحجج السمعية والخبرية‪ ،‬وكذا بالحجج والبراهين العقلية‪ .‬ولذلك لم‬
‫يثبت ولم يصمد أمام أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ول التابعين أي‬
‫مناظر من الملحدين أبدًا‪ ،‬بل كانوا يفتحون قلوب المم والشعوب قبل‬
‫أن يفتحوا بلدهم‪ ،‬لن النور الذي يحملونه معهم يضيء لتلك القلوب‬
‫م‬‫ه ْ‬
‫ر ِ‬
‫هو ِ‬ ‫ن ظُ ُ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫ن ب َِني آدَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫خذَ َرب ّ َ‬ ‫وإ ِذْ أ َ َ‬‫َ‬ ‫فيظهر الميثاق الفطري‪:‬‬
‫قاُلوا ب ََلى َ‬ ‫َ‬ ‫عَلى أ َن ْ ُ‬ ‫وأ َ ْ‬
‫هدَْنا‬ ‫ش ِ‬ ‫م َ‬ ‫ت ب َِرب ّك ُ ْ‬ ‫س ُ‬ ‫م أل َ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫م َ‬‫ه ْ‬
‫هد َ ُ‬
‫ش َ‬ ‫م َ‬ ‫ذُّري ّت َ ُ‬
‫ه ْ‬
‫]العراف‪ [172:‬فهم شاهدون ومقرون‪ ،‬فإذا جاء هذا المبلغ عن رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى التوحيد‪ ،‬تطابقت هذه الدعوة مع‬
‫فطَْر َ‬
‫ت‬ ‫حِنيفا ً ِ‬ ‫ن َ‬ ‫دي ِ‬ ‫ه َ‬
‫ك ِلل ّ‬ ‫ج َ‬
‫و ْ‬
‫م َ‬ ‫ق ْ‬ ‫فأ َ ِ‬ ‫َ‬ ‫الفطرة تمامًا‪ ،‬ولذلك قال الله تعالى‪:‬‬
‫ق الّله ]الروم‪ [30:‬فهذا الدين‬ ‫خل ِ‬
‫ل لِ َ ْ‬ ‫دي َ‬ ‫ها ل ت َب ْ ِ‬ ‫عل َي ْ َ‬ ‫فطََر الّنا َ‬
‫س َ‬ ‫ه ال ِّتي َ‬ ‫الل ّ ِ‬
‫منقوش في الفطرة ل يبدله أحد‪ ،‬ثم يأتي النبياء بما يصدق ويؤيد هذه‬
‫الفطرة‪ ،‬فليس في المر إذن تقليد مطلقًا‪ ،‬وإنما هو حجج عقلية‪.‬‬

‫أما أهل الكلم فكلمهم هو محض التقليد‪ ،‬ومحض الهوى والتخرص‬


‫والظنون‪ ،‬ولذلك اختلفوا وأعرضوا وتركوا سنة رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم‪.‬‬

‫فالفقهاء مثل ً متفقون على أنه إذا بلغ الصبي ل يجب على وليه أن‬
‫يقول له‪ :‬قل ل إله إل الله‪ .‬لنه ولد على السلم‪ ،‬فهو مسلم بالفطرة‬
‫وبالتباع لبويه‪ ،‬وهما مسلمان‪ ،‬بل يغلب جانب السلم دائمًا‪.‬‬
‫فلو وجدنا لقيطا ً مرميا ً في بلد الكفار‪ ،‬فإننا نفترض في هذا اللقيط‬
‫السلم‪ ،‬ونأخذه ونربيه على أنه مسلم‪ ،‬ونسميه محمدًا‪ ،‬ول ندعه للكفار‬
‫أبدًا؛ لن الصل في كل مولود هو السلم‪ ،‬وهو مولود على هذه الملة ‪.‬‬

‫وهذا الكلم تجده عند أصحاب البدع في كتب فقههم؛ حيث تجد بعضهم‬
‫من أرباب الفقه وأرباب الكلم‪.‬‬

‫فإذا جاء في الفقه ذكر هذا الكلم‪ ،‬وإذا جاء في علم الكلم قال‪ :‬لبد من‬
‫ترك التقليد‪ ،‬وهل يكفر المقلد أو ل يكفر؟‪ ...‬إلخ‪ ،‬كأنه يشرح لمة أخرى‬
‫غير أمة محمد التي يشرح لها الفقه ‪.‬‬

‫فأول واجب على المكلف هو‪ :‬القرار بالشهادتين والنطق بهما‪ ،‬وهو‬
‫أخص من القول‪ ،‬فالنطق‪ :‬مجرد إخراج الحروف‪ ،‬أما القول فهو في‬
‫اللغة العربية‪ :‬يطلق على الفعل‪ ،‬فإذا حرك رجل يده تقول‪ :‬وقال بيده‬
‫هكذا‪ ،‬كما جاء في الحديث‪ ):‬وقال بيديه هكذا ( فل يكون النسان مسلما ً‬
‫أبدا ً إل إذا شهد أن ل إله إل الله‪ ،‬وليس في هذا خلف ‪-‬ولله الحمد‪ -‬بين‬
‫علماء السنة والجماعة‪ ،‬ول بين الفقهاء‪ ،‬إل لما ظهرت البدع‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن‬
‫اليمان يكون في القلب‪ ،‬ول يشترط أن ينطق بلسانه‪ ،‬ولذلك قال بعض‬
‫المؤلفين‪ :‬إن من عرف الله بقلبه ولم يشهد أن ل إله إل الله ولم ينطق‬
‫و عند الله ول يعذبه؛ لن التصديق حصل عنده‪ ،‬وهذا‬ ‫بها‪ ،‬يمكن أن ينج َ‬
‫كلم باطل مخالف للجماع المنعقد من عهد النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫إلى اليوم من أهل السنة والجماعة ‪ ،‬وهو‪ :‬أن النسان ل بد له أن يشهد‬
‫أن ل إله إل الله‪ ،‬ولبد له ‪-‬أيضا‪ -‬أن يؤدي الصلة والزكاة ظاهرًا؛ حتى‬
‫يكون له حكم السلم‪ ،‬ول يهم إن كان في قلبه غير مقر بها‪ ،‬فإننا لم‬
‫نؤمر أن نشق عن قلوب الناس ‪.‬‬

‫وهناك فرق بين أحكام المرتد‪ ،‬وبين أحكام الكافر الصلي كاليهودي أو‬
‫النصراني‪ ،‬فمن شهد أن ل إله إل الله‪ ،‬وقال‪ :‬أنا مسلم‪ ،‬أو فعل شيئا ً‬
‫من خصائص السلم‪ ،‬ثم نكث وكفر فحمل الصليب مث ً‬
‫ل‪ ،‬أو سجد لغير‬
‫الله‪ ،‬فهذا مرتد يقتل‪ ،‬بخلف الثاني فإنه على دينه من الصل‪.‬‬

‫قال المصنف رحمه الله تعالى‪ ] :‬وهاهنا مسائل تكلم فيها الفقهاء‪ :‬كمن‬
‫صلى ولم يتكلم بالشهادتين‪ ،‬أو أتى بغير ذلك من خصائص السلم‪ ،‬هل‬
‫يصير مسلمًا؟ الصحيح أنه يصير مسلما ً بكل ما هو من خصائص السلم [‬

‫قال عمر رضي الله عنه‪" :‬لو أنني بعثت جيشا ً فحاصروا حصنا ً من العجم‪،‬‬
‫فخرج منهم رجل من الحصن المحاصر‪ ،‬فرفع يديه إلى السماء وأشار‬
‫بإصبعه‪ ،‬فقتلهم المسلمون ‪-‬لقتلتهم‪ ،‬أو وديتهم " ‪-‬أي‪ :‬إما أقتلهم أو‬
‫أدفع دياتهم‪ -‬لنه أشار بالتوحيد‪ ،‬وهي قرينة تدل على السلم‪ .‬فهذا هو‬
‫القول الصحيح‪.‬‬
‫فلو رأينا إنسانا ً يصلي فهو مسلم‪ ،‬لنه فعل خصيصة من خصائص‬
‫السلم‪ .‬هذا بالنسبة للفرد‪ ،‬وبالنسبة للدار نعرف أنها دار إسلم أو دار‬
‫كفر بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يبعث الجيش أو السرية‬
‫في الليل‪ ،‬فيبيتون قريبا ً من العدو‪ ،‬فإن سمعوا الذان وإل أغاروا (‬
‫فالبلد الذي يؤذن فيه هو بلد إسلم‪ ،‬ثم بعد ذلك نتعرف عن بقية‬
‫الحكام‪ ،‬فقد تكون جالية مسلمة فقط‪ ،‬والكفار هم الكثرية‪ ،‬فهناك‬
‫علمات مبدئية‪ ،‬ثم بعد ذلك يأتي البحث والستقصاء‪ ،‬ويأتي اللزام‬
‫بالشريعة والتمسك بها‪ .‬فإثبات السلم للنسان يثبت على القول‬
‫الصحيح بأي شيء من خصائص السلم‪ ،‬وعادات المسلمين وأحيانا ً قد‬
‫ل‪ :‬لو دخلت بيت إنسان‪ ،‬وإذا هو معلق‬ ‫تكون قرائن‪ ،‬ولكنها ضعيفة‪ .‬فمث ً‬
‫صورة الكعبة على بيته‪ ،‬أو فيها سجادة وبجوارها مصحف‪ ،‬وأنت لم تجد‬
‫فيها إنسانًا‪ ،‬فإنك تستشعر حتى ولو كنت في بلد كفر أن هذه الغرفة‬
‫يسكنها إنسان مسلم‪ ،‬فلو جاء وقال‪ :‬السلم عليكم‪ .‬تأكدت أن هذا‬
‫مسلم‪ ،‬ول يعني هذا أنك تشهد له أنه من أهل الجنة‪ ،‬أو أنه كامل‬
‫اليمان‪ .‬فهذا مجرد إثبات مبدئي للحكام ول يعني الشهادة له بالجنة‪ ،‬أو‬
‫بكمال اليمان ‪.‬‬

‫وفي بعض الحاديث زيادة‪ ،‬كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم في‬
‫الحديث الصحيح‪ ) :‬فإذا صلوا صلتنا‪ ،‬واستقبلوا قبلتنا‪ ،‬وأكلوا ذبيحتنا‪،‬‬
‫قال‪ :‬فهم المسلمون‪ ،‬أو فهو المسلم له مالنا وعليه ما علينا ( فأكل‬
‫ذبيحة المسلمين معناه‪ :‬أنه دخل في دين السلم‪ ،‬لننا ل نأكل ذبائح‬
‫المشركين‪ ،‬ولنفترض أن المشركين ل يأكلون ذبائحنا‪ ،‬فهو المسلم‪ ،‬له‬
‫مالنا وعليه ما علينا من حقوق ومعاملت دنيوية‪ ،‬أما ما بينه وبين الله عز‬
‫وجل فهذا حسابه إلى الله‪ ،‬ونحن إنما نعامل الناس بالحكام الظاهرة‪،‬‬
‫ولذلك من قال‪ :‬ل إله إل الله ولو كان في المعركة كان له حكم السلم‪،‬‬
‫كما في حديث أسامة }بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى‬
‫الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من النصار رجل‬
‫منهم فلما غشيناه قال ل إله إل الله فكف النصاري عنه فطعنته برمحي‬
‫حتى قتلته فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أسامة‬
‫أقتلته بعد ما قال ل إله إل الله قلت كان متعوذا فما زال يكررها حتى‬
‫تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم {‪.‬‬

‫لذا لما اقتتل الصحابة ووقعت الفتنة بينهم‪ ،‬اعتزل أسامة جميع الفرق‪،‬‬
‫ولم يقاتل‪ ،‬مع حبه لـعلي رضي الله عنه حتى قال لـ علي ‪ :‬لو كنت في‬
‫شدق السد لوددت أن أكون معك إل في هذا المر ‪ .‬لنه قد التزم أن ل‬
‫يقاتل مسلما ً أبدا ً بعدما قال له النبي صلى الله عليه وسلم‪) :‬أشققت‬
‫عن قلبه؟! (‪.‬‬

‫ذكر الحافظ ابن حجر ‪-‬رحمه الله‪ -‬في شرح كتاب التوحيد من صحيح‬
‫البخاري كلم أئمة الشاعرة في قضية النظر‪ ،‬فذكر كلم أبى جعفر‬
‫السمناني ‪-‬وهو من أئمة الشاعرة الكبار‪ -‬أنه قال‪ ) :‬مسألة أول واجب‬
‫هو النظر أو بداية النظر أو أجزاء النظر‪ ،‬هذه المسألة بقيت في مذهب‬
‫الشعري من المعتزلة ( ‪.‬‬

‫والنسان قد يعود إلى الحق عودة إجمالية‪ ،‬لكن ل يعرف تفاصيل هذا‬
‫الحق‪ ،‬كما حصل لـأبي الحسن الشعري ‪ ،‬كما قد يعيش مفكرا ً كبيرا ً في‬
‫الشيوعية ‪ ،‬أوفي اليهودية ‪ ،‬ثم يقرأ عن السلم‪ ،‬فيدخل فيه‪ ،‬فل يعني‬
‫دخوله في السلم أنه عرف جميع تفاصيل السلم‪،‬فـعلماء الكلم من‬
‫ل‪ ،‬وقد‬ ‫رجع منهم إلى عقيدة أهل السنة والجماعة إنما كان رجوعا ً مجم ً‬
‫ل يتاح له أن يعرف تفاصيلها‪.‬‬
‫فمث ً‬
‫ل‪ :‬أبو حامد الغزالي ‪ -‬وهو من هو في العلم والتبحر ‪ -‬مات وصحيح‬
‫البخاري على صدره مع أنه أفنى عمره في كتابات كثيرة في التصوف‬
‫وعلم الكلم‪ ،‬وفي آخر أمره اقتنع أن علم الكلم ل يصلح‪ ،‬وألف كتاب‬
‫إلجام العوام عن علم الكلم ‪.‬‬

‫فإنه قبل موته بدأ في طريق الحق‪ ،‬ول يقتضي ذلك أنه عرف الحق كله‪،‬‬
‫فكذلك أبو الحسن الشعري رجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة في‬
‫الجملة‪ ،‬فكلمه في أول ما يجب على النسان وهو النظر من بقايا‬
‫العتزال ‪.‬‬

‫ذكر ابن حجر في الفتح في شرح كتاب التوحيد فقال‪>" :‬‬

‫فإن قال‪ :‬عبث ولعب‪.‬‬


‫َ‬
‫زُئون "‪ ،‬ومعنى هذا‪ :‬أنه‬‫ه ِ‬
‫ست َ ْ‬ ‫ه ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م تَ ْ‬ ‫سول ِ ِ‬
‫وَر ُ‬
‫ه َ‬
‫وآَيات ِ ِ‬
‫ه َ‬‫فيقال له‪ :‬أِبالل ّ ِ‬
‫دخل في دين الله هزوا ً وكذبًا‪ ،‬وهذا هو الزنديق المرتد الملحد‪ .‬فنقتله‬
‫على قول من يرى أن الزنديق ل توبة له‪ ،‬وعلى القول الخر يستتاب‪،‬‬
‫فإن تاب وإل قتل ‪.‬‬
‫فل نسمح لي إنسان أن يعبث بديننا‪ ،‬فيصلي عبثا ً أو يؤذن تقليدا ً‬
‫للمؤذنين واستهزاء بديننا‪ ،‬بينما الكافر الصلي نرضى أن يذهب إلى‬
‫الكنيسة ول نتدخل في دينه على الشروط المعروفة المعلومة في حكم‬
‫أهل الذمة‪ ،‬لكن لو قال‪ :‬ل إله إل الله‪ ،‬أو دخل المسجد وصلى‪ ،‬أو عمل‬
‫عمل ً من الشعائر السلمية‪ ،‬فل بد له أن يلتزم بالسلم وهو دين الله‬
‫سبحانه وتعالى ول يقبل منه الرجوع عن هذا الدين أبدًا‪ ،‬فإن قال‪ :‬أنا‬
‫عابث أو مستهزئ‪ ،‬عاقبناه على هذا العبث والستهزاء ‪.‬‬
‫‪ - 2‬أنواع التوحيد‬
‫ه ت ََعاَلى‪:‬‬
‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫مصن ّ ُ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ال ُ‬
‫]فالتوحيد أول المر وآخره‪ ،‬أعني توحيد اللهية‪ ،‬فإن التوحيد يتضمن‬
‫ثلثة أنواع‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬الكلم في الصفات ‪.‬‬


‫والثاني‪ :‬توحيد الربوبية وبيان أن الله وحده خالق كل شيء ‪.‬‬

‫عاَلى أن يعبد وحده ل‬


‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫والثالث‪ :‬توحيد اللهية وهو استحقاقه ُ‬
‫شريك له‪.‬‬

‫أما الول فإن نفاة الصفات أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد‬
‫كـالجهم بن صفوان ومن وافقه‪ ،‬فإنهم قالوا‪ :‬إثبات الصفات يستلزم‬
‫تعدد الواجب‪ ،‬وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة‪ ،‬فإن إثبات ذات‬
‫مجردة عن جميع الصفات ل يتصور لها وجود في الخارج‪ ،‬وإنما الذهن قد‬
‫يفرض المحال ويتخيله وهذا غاية التعطيل وهذا القول قد أفضى بقوم‬
‫إ َِلى القول بالحلول أو التحاد‪ ،‬وهو أقبح من كفر الّنصاَرى‪ ،‬فإن الّنصاَرى‬
‫ء عموا جميع المخلوقات‪.‬‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫خصوه بالمسيح‪ ،‬و َ‬

‫ومن فروع هذا التوحيد‪ :‬أن فرعون وقومه كاملو اليمان عارفون بالله‬
‫عَلى الحقيقة‪.‬‬
‫َ‬

‫عَلى الحق والصواب وأنهم إنما عبدوا الله‬ ‫ومن فروعه أن عباد الصنام َ‬
‫ل غيره‪ .‬ومن فروعه‪ :‬أنه ل فرق في التحريم والتحليل بين الم والخت‬
‫والجنبية‪ ،‬ول فرق بين الماء والخمر‪ ،‬والزنى والنكاح‪ ،‬الكل من عين‬
‫واحدة‪ ،‬ل بل هو العين الواحدة‪ .‬ومن فروعه أن ال َن ْب َِياء ضيقوا َ‬
‫عَلى‬
‫عاَلى الله عما يقولون علوا ً كبير[ ‪.‬‬
‫الّناس ت َ َ‬
‫الشرح‪:‬‬

‫ه‪ -‬يشرح أنواع التوحيد الثلثة‪ ،‬وهنا شبهة يثيرها‬


‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف ‪َ-‬ر ِ‬
‫مصن ّ ُ‬
‫ابتدأ ال ُ‬
‫بعض المبتدعة وهي‪ :‬أن تقسيم التوحيد إ َِلى ثلثة أقسام بدعة‪ .‬فلم نقرأ‬
‫قْرآن ول في السنة توحيد السماء والصفات‪.‬‬ ‫في ال ُ‬

‫عَلى جهلهم ومكابرتهم‪ ،‬وإل فإنهم ل يتحرجون من‬ ‫وهذه الشبهة دالة َ‬
‫البدع حتى يقولون‪ :‬إن هذا التقسيم بدعي‪ ،‬ولكن نقول لهم مع ذلك‪ :‬إن‬
‫أقسام التوحيد الثلثة نقرأها في كل ركعة من صلتنا‪ ،‬فإذا قرأنا‪:‬‬
‫ن‬
‫م ِ‬‫ح َ‬‫ن فهذا توحيد الربوبية‪ ،‬وإذا قرأنا الّر ْ‬ ‫مي َ‬‫عال َ ِ‬
‫ب ال ْ َ‬‫ه َر ّ‬ ‫مدُ ل ِل ّ ِ‬‫ح ْ‬‫ال ْ َ‬
‫د‬
‫عب ُ ُ‬ ‫م إذا قرأنا بعد ذلك إ ِّيا َ‬
‫ك نَ ْ‬ ‫حيم ِ فهذا توحيد السماء والصفات‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫الّر ِ‬
‫ن فهذا توحيد اللوهية أو توحيد العبادة‪.‬‬ ‫عي ُ‬‫ست َ ِ‬‫ك نَ ْ‬ ‫وإ ِّيا َ‬‫َ‬
‫فمن أهمية هذه القسام الثلثة أننا نرددها في كل فريضة‪ ،‬وهي في‬
‫س‬
‫ب الّنا ِ‬ ‫ل أَ ُ‬
‫عوذُ ب َِر ّ‬ ‫ُ‬
‫ق ْ‬ ‫القرآن‪ ،‬وكذلك آخر سورة في القرآن‪ ،‬فإذا قرأنا‬
‫س فهذا يشمل توحيد الربوبية‪ .‬إ ِل َ ِ‬
‫ه‬ ‫ك الّنا ِ‬
‫مل ِ ِ‬
‫َ‬ ‫فهذا توحيد الربوبية‪.‬‬
‫س فهذا يشمل توحيد اللوهية‪ ،‬وتشمل اليات توحيد السماء‬ ‫الّنا ِ‬
‫والصفات‪ ،‬لنه سمى نفسه ربا ً وملكا ً وإلهًا‪ .‬فالقرآن من أوله إ َِلى آخره‬
‫توحيد‪ ،‬وصلتنا في كل ركعة نذكر فيها التوحيد بأنواعه الثلثة‪ ،‬وعلماء‬
‫السلم فهموا هذا الفهم‪ ،‬ولذلك من ألف منهم في التوحيد كـابن مندة‬
‫‪-‬وهو من العلماء المتقدمين‪ -‬ذكر هذه النواع الثلثة في القرن الرابع‪،‬‬
‫ة ول غيره‪.‬‬‫مي ّ َ‬
‫ة ِ‬
‫مي ّ َ‬
‫سلم ِ اْبن ت َي ْ ِ‬ ‫فليس هذا التقسيم من اختراع َ‬
‫شْيخ ال ِ ْ‬
‫فأنواع التوحيد ثلثة جاءت في الكتاب والسنة‪ ،‬كما في الحديث عن‬
‫عَلى‬ ‫م بعث رجل َ‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫عْنها أن النبي صّلى الل ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫ة َر ِ‬ ‫عائ ِِ َ‬
‫ش َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫د فلما‬ ‫ح ٌ‬
‫هأ َ‬‫و الل ّ ُ‬
‫ه َ‬
‫ل ُ‬ ‫ق ْ‬‫ُ‬ ‫سرية وكان يقرأ لصحابه في صلته فيختم ب‬
‫ل سلوه لي شيء‬ ‫قا َ‬ ‫ف َ‬
‫م َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫رجعوا ذكروا ذلك للنبي صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬
‫قا َ‬
‫ل‬ ‫ف َ‬
‫ل لنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها َ‬ ‫قا َ‬‫ف َ‬‫يصنع ذلك فسألوه َ‬
‫م أخبروه أن الله يحبه( ‪.‬‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬‫النبي صّلى الل ُ‬
‫عَلى‬
‫إذا ً توحيد السماء والصفات معروف لدى السلف الصالح ‪ ،‬والدلة َ‬
‫ذلك كثيرة‪ ،‬وسورة الخلص تعدل ثلث القرآن؛ لنها صفة الرحمن‪،‬‬
‫ومعنى هذا أن توحيد السماء والصفات هو ثلث التوحيد‪ ،‬والثلث الثاني‬
‫هو توحيد الربوبية‪ ،‬والثلث الخير هو توحيد اللوهية‪.‬‬

‫عَلى أنواع التوحيد‬


‫فالدلة من الكتاب ومن السنة ومن فعل السلف دالة َ‬
‫الثلثة‪ ،‬ول ينكر ذلك إل مكابر‪ ،‬ولو أنهم حققوا التوحيد لما اختلفنا في‬
‫السماء‪ ،‬لكن التوحيد عندهم نظري‪ ،‬وهو‪ :‬نفي الكميه المتصلة‪ ،‬ونفي‬
‫الكميه المنفصلة‪ ،‬هذا هو التوحيد عندهم‪ ،‬فلذلك قالوا‪ :‬هذه القسام‬
‫الثلثة بدعة‪.‬‬

‫ف أما بيان التوحيد الول‪ ،‬فإن نفاة الصفات أدخلوا نفي‬‫مصن ّ ُ‬ ‫يقول ال ُ‬
‫الصفات في مسمى التوحيد‪ ،‬فالتوحيد عند الجهميةالمعتزلة ‪ :‬أن ننفي‬
‫جميع الصفات مع إثبات السماء‪ ،‬عليم بل علم‪ ،‬قدير بل قدرة‪ ،‬مريد بل‬
‫عَلى‬
‫إرادة‪ ،‬عزيز بل عزة‪ ،‬هكذا يقول المعتزلة من عند أنفسهم افتراء َ‬
‫ج ّ‬
‫ل‪.‬‬ ‫و َ‬
‫عّز َ‬ ‫الله َ‬

‫عاَلى قد جعل القول عليه بغير علم في درجة بعد درجة‬ ‫وت َ َ‬‫ك َ‬‫والله ت ََباَر َ‬
‫ها‬‫من ْ َ‬‫هَر ِ‬ ‫ما ظَ َ‬ ‫ش َ‬ ‫ح َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ف َ‬ ‫ي ال ْ َ‬‫م َرب ّ َ‬ ‫حّر َ‬‫ما َ‬ ‫ل إ ِن ّ َ‬‫ق ْ‬ ‫ُ‬ ‫ل‪:‬‬‫قا َ‬‫الشرك في الزجر‪ ،‬ف َ‬
‫َ‬
‫ه‬
‫ل بِ ِ‬ ‫ما ل َ ْ‬
‫م ي ُن َّز ْ‬ ‫ه َ‬ ‫كوا ِبالل ّ ِ‬ ‫ر ُ‬ ‫ن تُ ْ‬
‫ش ِ‬ ‫وأ ْ‬ ‫ق َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ر ال ْ َ‬ ‫غي ْ ِ‬
‫ي بِ َ‬‫غ َ‬‫وال ْب َ ْ‬
‫م َ‬‫واْل ِث ُ ّ‬ ‫ما ب َطَ َ‬
‫ن َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن‬
‫مو َ‬ ‫عل ُ‬ ‫ما ل ت َ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫على الل ِ‬ ‫قولوا َ‬ ‫وأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ل‪:‬‬‫قا َ‬ ‫سلطانا ]العراف‪ [33:‬ث ُ ّ‬ ‫ُ‬
‫ج ّ‬
‫ل‪،‬‬ ‫و َ‬ ‫عّز َ‬ ‫]العراف‪ [33:‬فهذا أعظم من الشرك‪ .‬فالمشرك يعبد غير الله َ‬
‫عَلى الله بغير علم أعظم من مجرد هذا المشرك؛ لنه‬ ‫لكن من يقول َ‬
‫ل‪.‬‬‫ج ّ‬ ‫و َ‬ ‫عّز َ‬ ‫عَلى الله َ‬ ‫ظر لهذا الشرك‪ ،‬ويفتري َ‬ ‫يقنن‪ ،‬وين ّ‬

‫فنفاة الصفات جعلوا التوحيد هو‪ :‬نفي الصفات‪ ،‬فقالت الجهمية ‪ :‬إثبات‬
‫الصفات يستلزم تعدد الواجب‪.‬‬

‫عاَلى‬
‫فالواجب عندهم هو‪ :‬واجب الوجود‪ ،‬فـالفلسفة يسمون الله ت َ َ‬
‫واجب الوجود‪ ،‬ويقولون‪ :‬الموجودات تنقسم إ َِلى ثلثة أقسام‪ :‬واجب‪،‬‬
‫وممكن‪ ،‬ومستحيل‪ ،‬من حيث الوجود‪ .‬فواجب الوجود هو‪ :‬ما يوجد بذاته‬
‫ل‪ .‬والممكن‪:‬‬ ‫ج ّ‬
‫و َ‬ ‫مستغنى عن غيره وغيره مفتقر إ َِلى وجوده‪ ،‬أي الله َ‬
‫عّز َ‬
‫وجود المخلوقات‪ ،‬والمستحيل‪ :‬وجود واجبين‪ ،‬كما هو مستحيل وجود‬
‫إلهين ‪-‬مث ً‬
‫ل‪.-‬‬

‫ج ّ‬
‫ل‪ ،‬فل يثبتون له إل‬ ‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫فواجب الوجود عندهم ‪-‬كما يقولون‪ -‬هو الله َ‬
‫أنه واجب الوجود‪ ،‬وأنه موجود في عالم المثال ‪-‬أي‪ :‬في الذهن‪ -‬فل‬
‫يثبتون أي صفة وجودية ‪-‬كما قلنا‪ -‬حتى ل يتعدد ويصبح في عالم الواقع‪،‬‬
‫حيث ننفي الكمية المتصلة والكمية المنفصلة‪ ،‬فنقول‪ :‬بإثبات ذات‬
‫مجردة عن جميع الصفات‪.‬‬
‫وهذا في الحقيقة ل يتصور له وجود في خارج الذهن‪ ،‬بحيث نثبت ذات‬
‫ليس لها أي صفة‪ .‬فكل شيء له وجود لبد أن يكون له صفات‪ ،‬فنقول‬
‫ل‪ :‬هو طويل‪ ،‬عريض‪ ،‬ضخم‪ ،‬أحمر أو أبيض‪ ،‬فلبد له من وصف مادام‬ ‫مث ً‬
‫موجودا ً في الخارج‪ .‬فواجب الوجود الذي يتكلم عنه الفلسفة غير موجود‬
‫أبدًا‪ ،‬إل في أذهان الفلسفة فقط‪.‬‬
‫• نفي الصفات أفضى إلى الحلول والتحاد‬
‫صّنف قضية خطيرة وهي‪ :‬أن هذا القول قد أفضى بقوم إ َِلى القول‬
‫م ْ‬ ‫ثُ ّ‬
‫م ذكر ال ُ‬
‫بـالحلول والتحاد ‪ ،‬وهذه أخطر من مجرد نفي الصفات‪.‬‬
‫ل يخرج من الملة؛ لنه تكذيب‬‫ج ّ‬
‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫فنفي الصفات كفر بالله َ‬
‫لكتاب الله‪ ،‬ولكن أكفر منه مذهب الحلول والتحاد الذين يقولون‪ :‬ل‬
‫يوجد متعينا ً في الخارج‪.‬‬

‫وهذا مصطلح من المصطلحات اليونانية‪ ،‬فاستوعبت اللغة العربية‬


‫هذه المصطلحات لنها لغة واسعة‪ ،‬ومعنى هذا المصطلح‪ :‬أنه إذا‬
‫وجد أي شيء متعين خارج الذهن فلبد له من صفات‪ ،‬والله عندهم‬
‫ل صفة له مطلقًا‪- ،‬إذًا‪ -‬ل يكون موجودا ً متعينا ً في العيان‪ ،‬وإنما‬
‫يبقى في الذهان فقط‪.‬‬

‫قاُلوا‪:‬‬ ‫عَلى هذا الكلم شيئا ً آخر‪َ ،‬‬


‫ف َ‬ ‫فجاء بعض علماء الصوفية وبنوا َ‬
‫مادام أنه ل وجود له في العيان‪ ،‬فليس في حقيقة المر إله غير‬
‫هذه العيان‪ ،‬وهي ذات الله سبحانه ‪-‬تعالى الله عما يقولون علوا ً‬
‫كبيرا‪ -‬فهكذا ركبوا قضية وحدة الوجود أو الحلول‪ ،‬فهذا العاَلم هو‬
‫الرب والله‪ ،‬وهو الخالق والمخلوق معًا‪ ،‬ولذا قال المصنف‪] :‬وهذا‬
‫قاُلوا‪:‬‬
‫ف َ‬
‫صاَرى خصوه بالمسيح‪َ ،‬‬ ‫صاَرى[‪ ،‬لن الن ّ َ‬
‫أقبح من كفر الن ّ َ‬
‫قاُلوا‪ :‬حل‬ ‫ف َ‬
‫ء َ‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫المسيح هو الله أو الله حل في المسيح‪ ،‬وأما َ‬
‫في كل شيء‪ ،‬فالوجود الخارجي هذا هو نفس الله‪.‬‬

‫ل‪:‬‬ ‫ءف َ‬
‫قا َ‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫صّنف ما يلزم قول َ‬
‫م ْ‬ ‫ثُ ّ‬
‫م ذكر ال ُ‬
‫]من فروع هذا التوحيد أن فرعون وقومه كاملوا اليمان عارفون‬
‫ل فهو مؤمن‬‫ج ّ‬
‫و َ‬ ‫عَلى الحقيقة[ أي‪ :‬أن كل من أنكر الله َ‬
‫عّز َ‬ ‫بالله َ‬
‫عَلى ]النازعات‪ [24:‬صدق‪ .‬فهذا‬ ‫َ‬
‫م اْل ْ‬ ‫َ‬
‫بالله‪ .‬وقولفرعون‪ :‬أَنا َرب ّك ُ ُ‬
‫ن صادقا ً‬ ‫هو لزم قولهم‪ ،‬بل صرح بعض الصوفية بأنفرعون َ‬
‫كا َ‬
‫عَلى ]النازعات‪ ،[24:‬لنه ليس في الوجود‬ ‫م اْل َ ْ‬ ‫َ‬
‫عندما قال‪ :‬أَنا َرب ّك ُ ُ‬
‫إل هو‪ ،‬فهو تكلم عن ذات الحقيقة‪ ،‬وهو من الوجود لم يكذب‪،‬‬
‫ولذلك ألفوا كتابا ً في إثبات إيمان فرعون‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬إنفرعون‬
‫أصل ً لم يكفر ولم يشرك‪ ،‬وكل من عبد الصنام‪ ،‬أو عبد الكواكب‪ ،‬أو‬
‫عبد الحجار‪ ،‬فإنه لم يعبد غير الله‪ ،‬وإنما اختلفت المسميات‪ ،‬أو‬
‫اختلفت النظار‪ ،‬ومراد الكل واحد‪.‬‬

‫ولهم في ذلك أشعار ‪-‬نسأل الله العافية‪ -‬كما في شعرابن‬


‫الفارض ‪ ،‬وابن عربي ‪ ،‬بل في كتاب الفتوحات المكية لبن عربي‬
‫من أمثال هذا الكلم الشيء الكثير‪.‬‬

‫قال شاعرهم عبد الكريم الجيلي ‪:‬‬


‫وما الله إل راهب في‬ ‫وما الكلب والخنزير إل إلهنا‬
‫كنيسة‬
‫سان أن يقول‬
‫لن َ‬
‫نعوذ بالله من هذا القول الساقط الذي يستحي ا ِ‬
‫مثل هذا الكلم‪ :‬أن الكلب والخنزير هو إلههم‪ ،‬وأن الله عندهم‬
‫راهب في كنيسة‪.‬‬

‫وكما يقول‪ :‬ابن عربي ‪:‬‬


‫ب ديني‬
‫ه فالح ُ‬
‫ركائب ُ ُ‬ ‫ب أّنى توجهت‬
‫ن الح ِ‬
‫ن بدي ِ‬
‫أدي ُ‬
‫وإيماني‬
‫ن وديٌر‬
‫ة أوثا ٍ‬
‫وكعب ُ‬ ‫فأصبح قلبي حاويا ً كل ملـ ٍ‬
‫ة‬
‫ن‬
‫لرهبا ِ‬
‫صاَرى‬
‫يعني أن جميع الديان عنده سواء‪ ،‬فـاليهود والمجوس والن ّ َ‬
‫ن كلهم يعبدون شيئا ً واحدًا‪ ،‬وكذا من يعبد الكلب‬
‫مو َ‬
‫سل ِ ُ‬ ‫وال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫والخنزير‪ ،‬ومن يعبد الشجر والحجر والكواكب‪ ،‬ليس هناك أي فرق‬
‫لن الموجود واحد‪ ،‬كما قال ابن عربي ‪:‬‬
‫ياليت شعري من المكلف‬ ‫العبد رب والرب عبد‬
‫أو قلت رب أنى يكلف‬ ‫إن قلت عبد فذاك رب‬
‫أي ليس هناك تكليف نهائيًا؛ لنه إن كلفنا العبد فذاك رب‪ ،‬وإن‬
‫كلفنا الرب فإنما يكلف العبد ول يكلف الرب‪ ،‬فهذا هو دين القوم‬
‫الذي يسمونه‪ :‬توحيد خاصة الخاصة‪ ،‬ومن فروعه أنه ل فرق في‬
‫التحريم والتحليل بين الم والخت والجنبية لن الكل واحد‪ ،‬بل هم‬
‫اعترفوا ببعضه‪ .‬فبعضهم لما أراد أن يزني بامرأة فامتنعت قال لها‪:‬‬
‫ن الّله كيف ينتسب‬
‫سْبحا َ‬
‫الله أنا‪ ،‬وكلمهم موجود في مصادره‪ .‬ف ُ‬
‫لهذا الدين من يقول هذا القول؟!‬
‫وأيضا ً قالوا‪ :‬الماء والخمر مشروب كله‪ .‬ومن فروعه‪ :‬أن ال َن ْب َِياء‬
‫عَلى الّناس ‪-‬تعالى الله عما يقولون علوا ً كبيرًا‪ -‬لنهم جعلوا‬ ‫ضيقوا َ‬
‫لنا عبادات وعقيدة معينة‪ ،‬فجعلوا طريق الله واحدا ً وغيره باطل‪،‬‬
‫بينما كل الطرق تؤدي إليه‪ ،‬وكل العبادات صواب ‪-‬كما يقولون‬
‫والعياذ بالله‪ -‬إذا ً ال َن ْب َِياء ضيقوا وحجروا واسعًا!!‬

‫وابن سبعين ‪-‬وهو من أئمة الصوفية الحلولية ‪ -‬ترجم له الذهبي‬


‫ن يتعبد في مكة ‪ ،‬وأقام بـغار حراء فترة‬ ‫وغيره‪ ،‬ومما ذكروا‪ :‬أنه َ‬
‫كا َ‬
‫طويلة ينتظر الوحي‪.‬‬

‫ء كالحمير التي‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫وكان يقف بالطواف والّناس يطوفون ويقول‪َ :‬‬
‫تدور في الطاحون‪ ،‬فقالوا له‪ :‬لم تتعبد عند الكعبة مادمت تقول‬
‫هذا الكلم‪ ،‬ف َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪ :‬انتظر الوحي‪.‬‬

‫سل ّ َ‬
‫م وقد انقطع الوحي‪.‬‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫مد َ‬
‫ح ّ‬
‫م َ‬
‫فقالوا‪ :‬ل وحي بعد ُ‬
‫ل‪ :‬لقد ضيق ابن آمنة واسعًا‪.‬‬ ‫ف َ‬
‫قا َ‬

‫فهذا دين القوم‪ .‬نسأل الله السلمة والعافية‪.‬‬

‫وهم في الحقيقة زنادقة تستروا بالنتساب إ َِلى الدين ليهدموه‪،‬‬


‫وهذه النظريات ودعاوى الصوفية كلها تعود إ َِلى الوثنية اليونانية‪.‬‬

‫فـالفلسفة الرواقيون كانوا من أكثر الّناس عبادة وزهدًا‪ ،‬وكانوا‬


‫يقولون‪ :‬إذا أردت الحكمة أن تنقدح في قلبك وتنطق بها‪ ،‬فل تأكل‬
‫في اليوم إل لوزة أو حبة‪.‬‬

‫وفيهم الفلسفة المشاؤون ‪ ،‬وهم الذين يلقى أحدهم الدرس‬


‫التمهيدي وهو ويمشي ويقول‪ :‬التفكير مع المشي أعمق‪ ،‬ولذا‬
‫سموهم المشائين‪.‬‬

‫وأما الرواقيون فكانوا يجلسون بين الروقة فسموهم رواقيين‪.‬‬


‫وكذلك أصحاب وحدة الوجود والحلول والتحاد قالوا‪ :‬إذا تعبدنا‬
‫عَلى أنفسنا فاضت علينا الحكمة‬ ‫وزهدنا كثيرا ً في الدنيا‪ ،‬وضيقنا َ‬
‫والعلم اللدني‪ ،‬وينزل في قلوبنا العلم الباطن‪ ،‬حدثني قلبي عن‬
‫ربي‪ .‬لذا يقولون‪ :‬أنتم تأخذون دينكم من ميت عن ميت‪ .‬فتقولون‪:‬‬
‫حدثنا عبد الرزاق ‪-‬وقد مات‪ -‬عن معمر ‪-‬وقد مات‪ -‬عن أيوب ‪-‬وقد‬
‫ن فنأخذ علمنا عن الحي الذي ل يموت‪- ،‬تعالى الله‬ ‫ح ُ‬
‫مات‪ -‬وأما ن َ ْ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عما يقولون علوا كبيرا‪.-‬‬
‫التوحيد ‪2‬‬
‫يبتدئ الشيخ حديثه عن الحلول والتحاد والفرق بينهما‪ ،‬ثم ينتقل إلى الحديث عن‬
‫توحيد الربوبية‪ ،‬وكيف أن هذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضه أحد‪ ،‬ويختم بحديثه عما‬
‫يسمى )الماهية( ‪.‬‬
‫‪ - 1‬الحلول والتحاد‬
‫قالت الجهمية ‪ :‬إن إثبات صفة أو أكثر مع الذات التي هي واجبة الوجود ‪-‬كما يسمونها‪-‬‬
‫يستلزم تعدد القدماء‪ ،‬أو تعدد الواجب‪ ،‬فهو العلة الولى‪ ،‬وعنه وجدت الموجودات‬
‫الممكنة ‪-‬أي المخلوقات‪ -‬فلو أثبتنا له الصفات للزم من ذلك تعدد الذات‪ ،‬فل نثبت إل‬
‫وجودا ً مطلقًا‪.‬‬
‫وقالوا بنظرية المثل الفلطونية ‪ :‬أن عالم المثال موجود وهو عالم‬
‫حقيقي‪.‬‬

‫ويرد عليهم‪ :‬أن هذه الصفات هي لذات واحدة لم تتعدد‪.‬‬

‫وكلم الجهمية هو امتداد لكلم الفلسفة اليونانيين في إثبات‬


‫الموجودات الكلية المطلقة التي ل أعيان لها في الخارج‪.‬‬

‫سان موجود في الدنيا فهو عين للوجود الكلي المطلق‬


‫لن َ‬
‫فيقولون‪ :‬إن ا ِ‬
‫للنسان‪.‬‬
‫فنقول لهم‪ :‬إن وجود إنسان كلي ل تعيين له إنما يتخيل في الذهن‪ ،‬وأما‬
‫في الواقع فل يوجد إل فلن وفلن معين بذاته‪.‬‬
‫• الفرق بين الحلول والتحاد‬
‫ن نفي الصفات طريقا ً إ َِلى الحلول و التحاد ؟‬ ‫لماذا َ‬
‫كا َ‬
‫ل‪ :‬نذكر الفرق بين الحلول والتحاد ‪ :‬وهو أن الحلول ‪ :‬أن تحل‬ ‫أو ً‬
‫صاَرىفي‬
‫الذات اللهية ‪-‬كما يقولون‪ -‬في ذات أخرى‪ ،‬كما تقول الن ّ َ‬
‫ن‬ ‫المسيح‪ ،‬حيث يقولون‪ :‬إن اللوهية حلت في المسيح‪ .‬فعندما َ‬
‫كا َ‬
‫يحي الموتى كانت اللوهية هي التي تحي الموتى ‪-‬تعالى الله عن‬
‫ذلك علوا ً كبيرًا‪.-‬‬

‫والتحاد‪ :‬أن تقترن ذات بذات حتى تصبح شيئا ً واحدًا‪ ،‬فالذين قالوا‪:‬‬
‫إن الله في كل مكان يقولون‪ :‬هو حال بذاته في هذه المكنة وهو‬
‫قول الحلولية ‪ ،‬أو يقولون‪ :‬اتحد بهذه المكنة فأصبح شيئا ً واحدا ً‬
‫وهو قول التحادية ‪.‬‬

‫ج ّ‬
‫ل قالوا بالحلول في حق‬ ‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫فـالمتكلمون الجهلة بصفات الله َ‬
‫عاَلى في كل مكان‪.‬‬
‫الله وأنه ت َ َ‬
‫ك الذين قالوا بالتحاد فهم أصل ً أصحاب نظرية الفناء‬ ‫أما ُأول َئ ِ َ‬
‫ب إليه‪،‬‬ ‫م ي ُت َ ْ‬
‫قر ُ‬ ‫م ُيعبد ث ُ ّ‬
‫الهندية الصوفية الذين قالوا‪ :‬إن الله ُيعبد ث ُ ّ‬
‫وتصفى الروح تماما ً بالزهد والعبادة والمشي في الفلوات وسكنى‬
‫المغارات وغير ذلك‪ ،‬حتى تتحد بالذات اللهية الواحدة وتصبح شيئا ً‬
‫واحدًا‪.‬‬
‫صاَرى قالوا‪ :‬إنه‬ ‫ودين الصوفية أعظم شرا ً من الن ّ َ‬
‫صاَرى‪ ،‬لن الن ّ َ‬
‫ء قالوا‪ :‬إنه حل أو اتحد بكل شيء‪ ،‬فكل‬ ‫ؤل ِ‬ ‫عاَلى حل بالمسيح‪ .‬و َ‬
‫ه ُ‬ ‫تَ َ‬
‫شيء هو عينه وهو ذاته‪ ،‬وفي ذلك يقولابن عربي ‪:‬‬
‫يا ليت شعري من المكلف‬ ‫العبد رب والرب عبد‬
‫أو قلت رب أنى يكلف‬ ‫إن قلت عبد فذاك رب‬
‫وكما قال في أبيات أخرى‪:‬‬
‫ويعبدني وأعبده‬ ‫فيحمدني وأحمده‬
‫وكما قال في أبيات أخرى‪:‬‬
‫ركائبه فالحب ديني‬ ‫أدين بدين الحب أنى توجهت‬
‫وإيماني‬
‫يعني‪ :‬محبة الله أو العشق اللهي المطلق‪ ،‬وهي محبة الزنادقة كما‬
‫قال علماء السلف ‪) :‬‬

‫من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق‪ ،‬ومن عبد الله بالخوف وحده‬
‫فهو حروري خارجي‪ ،‬ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ‪ ،‬ومن‬
‫عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن الحنيفي (‪.‬‬

‫فهم يقولون بالحب المطلق‪ ،‬ولذلك يستحلون جميع المحرمات‬


‫حيث يقولون‪ :‬إنك إذا أحببت شخصا ً وأحبك هو كذلك‪ ،‬لم تغضب إذا‬
‫أخذ من مالك شيئا ً أو أخطأ عليك لوجود المحبة بينك وبينه‪ ،‬ونحن‬
‫بيننا وبين الله المحبة المطلقة والفناء في ذاته‪ ،‬فل نبالي بأي‬
‫معصية نعملها‪ ،‬لن المحب من عادته التجاوز عن المحبين‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫م‬
‫يستدلون بأشعار العرب مثل من يقول‪:‬‬
‫فليس لي متأخر عنه ول‬ ‫وقف الهوى بي حيث أنت‬
‫متقدم‬
‫إلى أن يقول‪:‬‬
‫حبـا ً لذكـرك فليلمن‬ ‫أجد الملمة في هواك لذيذة‬
‫اللوم‬
‫ومثل من يقول‪:‬‬
‫وأوقفت كل عمري‬ ‫يا حبيبا ً من أجله أحببت العمر‬
‫عليه‬
‫ج ّ‬
‫ل‪،‬‬ ‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫فهم ينقلون هذه المعاني ويجعلونها في حق الله َ‬
‫ويقولون‪ :‬إنه مادام الحبيب ل يؤاخذ حبيبه في أي شيء فليس‬
‫هناك أي حرج‪.‬‬
‫صاَرى حين ادعوا أنهم أبناء الله‬ ‫عَلى اليهود والن ّ َ‬‫وقد رد الله َ‬
‫ه‬ ‫حّبا ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫و َ‬ ‫وأحباؤه ف َ‬
‫قا َ‬
‫ؤ ُ‬ ‫وأ ِ‬‫ه َ‬
‫ن أب َْناءُ الل ِ‬
‫ح ُ‬
‫صاَرىاَرى ن َ ْ‬
‫والن ّ َ‬
‫هودُ َ‬‫ت الي َ ُ‬
‫قال ِ‬ ‫َ‬ ‫ل‪:‬‬
‫فل ِم يعذّبك ُم بذُُنوبك ُم ب ْ َ‬
‫ق ]المائدة‪[18:‬‬ ‫خل َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ّ‬‫شٌر ِ‬ ‫م بَ َ‬ ‫ل أن ْت ُ ْ‬ ‫ِ ْ َ‬ ‫ل َ َ ُ َ ُ ْ ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ُ‬
‫سوءا ً‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل ُ‬ ‫ع َ‬‫ن يَ ْ‬‫م ْ‬ ‫ب َ‬ ‫ل الك َِتا ِ‬ ‫ه ِ‬ ‫يأ ْ‬ ‫مان ِ ّ‬ ‫ول أ َ‬ ‫م َ‬ ‫مان ِي ّك ْ‬‫س ب ِأ َ‬‫وقال تعالى‪ :‬لي ْ َ‬
‫ه ]النساء‪ [123:‬بل الن ْب َِياء كذلك‪ ،‬فآدم عندما عصى جازاه‬ ‫َ‬ ‫جَز ب ِ ِ‬ ‫يُ ْ‬
‫سلم بكى‬ ‫ه ال ّ‬ ‫علي ْ ِ‬‫َ‬ ‫على معصيته‪ ،‬والخطيئة التي أخطأها داود َ‬ ‫َ‬ ‫الله َ‬
‫ك‬ ‫َ‬
‫ي إ ِلي ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ول َ‬‫َ‬ ‫قا َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫عليها وندم‪ ،‬بل هدد الله الن ْب َِياء تهديدا ف َ‬
‫ح َ‬ ‫قدْ أو ِ‬ ‫َ‬ ‫ل‪:‬‬
‫ن‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كون َ ّ‬ ‫ول َت َ ُ‬ ‫ك َ‬ ‫مل ُ َ‬ ‫ع َ‬ ‫ن َ‬ ‫حب َطَ ّ‬ ‫ت ل َي َ ْ‬ ‫شَرك ْ َ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫ك ل َئ ِ ْ‬‫قب ْل ِ َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫ن ِ‬
‫ذي َ‬‫وإ َِلى ال ّ ِ‬ ‫َ‬
‫ن ]الزمر‪.[65:‬‬ ‫ري‬
‫ِ ِ َ‬ ‫س‬ ‫خا‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫• علقة الحلول والتحاد بنفي الصفات‬
‫الذين نفوا الصفات خرجوا قبل الحلولية والتحادية‪ ،‬لن الجهم بن صفوان قتل‬
‫سنة ‪128‬هـ‪ ،‬وأما من قالوا بالحلول والتحاد فقد أقيمت لهم أول محاكمة علنية‬
‫حوالي عام ‪280‬هـ أو بعدها‪ ،‬وذلك بعد أن أشيع في بغداد أنهم زنادقة‪ ،‬فجمع‬
‫منهم الجنيد ‪،‬و ذا النون المصري وعدد كبير من عبادهم يزيد عن ‪ 80‬رج ً‬
‫ل‪،‬‬
‫ن نظهر السلم ونقيم الشعائر الخمس‬ ‫ح ُ‬
‫وسجنوا وحقق معهم‪ ،‬ولكنهم قالوا‪ :‬ن َ ْ‬
‫وليس عندنا أي زندقة‪ ،‬وأخذت التوبة عليهم‪ ،‬وكان الذي تولى شكواهم وإثارة‬
‫َ‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫م ُ‬‫ح َ‬
‫حن َْبل ‪َ-‬ر ِ‬
‫حمد ُ بن َ‬
‫الدعوة ضدهم هو غلم خليل أحد تلميذ تلمذة المامأ ْ‬
‫ت ََعاَلى‪ -‬وهذه القضية تعرف بقضية غلم خليل ‪.‬‬
‫عَلى مذهب نفي الصفات كالتالي ‪:‬‬ ‫وقد بنوا مذهبهم َ‬
‫قال أهل الحلول والتحاد ‪ :‬مادام أن الصفات منفية وأن لله وجودا ً‬
‫مطلقا ً ل صفة له‪ ،‬فهذا الوجود هو عين ذات الله‪.‬‬

‫فمن تأثر بعلماء الكلم إ َِلى حد التجهم ونفى جميع الصفات‪ ،‬من‬
‫الممكن أن يصبح عند الصوفية اتحاديا ً وحلوليًا‪ ،‬لنه لم يكن يثبت‬
‫قاُلوا‪ :‬هذا الوجود‬ ‫شيئا ً إل وجودا ً مطلقًا‪ ،‬فأتى عند الصوفية َ‬
‫ف َ‬
‫المطلق الذي ل صفة له هو هذه العيان الموجودة‪.‬‬

‫لنه عندما قال أفلطون ‪ :‬إن هناك عالم الموجودات وعالم المثل‬
‫لم يره أحد ولم يسمع به أحد إل أفلطون ‪ ،‬وعالم أعيان مشاهد‬
‫ن موجودا ً هذا الرب‬ ‫الوجود‪ ،‬فالحقيقي هو هذه العيان‪ .‬فلو َ‬
‫كا َ‬
‫الذي يقوله أفلطون ‪ ،‬فهو هذا الوجود الحقيقي الذي نراه بالعين‪،‬‬
‫ومن هنا قالوا‪ :‬إن كل العباد والعقائد والديان هي تهدف إ َِلى شيء‬
‫واحد وإلى حقيقة واحدة‪ ،‬هي حقيقة الوجود وحقيقة الموجودات؛‬
‫حد‪.‬‬‫دد في الشارة وبعضهم و ّ‬
‫لكن بعضهم ع ّ‬
‫فهم يقولون كما يقول شاعرهم‪ :‬ما في الوجود حقيقة إل هو‪،‬‬
‫سان‬ ‫عَلى ذلك بعبارات روحانية فيقولون‪ :‬إن ا ِ‬
‫لن َ‬ ‫والصوفية يزيدون َ‬
‫إذا نظر بعين البصيرة والتأمل رأى أن هذا كله سراب‪ ،‬فالبشر‬
‫والحجارة لوجود لها أص ً‬
‫ل‪ ،‬إنما الوجود الحقيقي هو الله‪.‬‬

‫فمن هنا اجتمعت النظريتان‪ ،‬الكلمية والصوفية وأدتا إ َِلى مدلول‬


‫واحد‪ ،‬وهو إما‪ :‬الحلول وإما‪ :‬التحاد وهما متقاربان‪ .‬فلذلك يذكر‬
‫ل‪ :‬إن كفرهم أقبح من كفر‬ ‫صّنف هنا ما يلزم عليهم‪ ،‬ف َ‬
‫قا َ‬ ‫م ْ‬‫ال ُ‬
‫صاَرى قالوا‪ :‬إن الله حل في المسيح‪ ،‬وكفرهم الله‬ ‫صاَرى فالن ّ َ‬ ‫الن ّ َ‬
‫مْرَيم‬
‫ن َ‬
‫ح اب ْ ُ‬
‫سي ُ‬ ‫و ال ْ َ‬
‫م ِ‬ ‫ه َ‬‫ه ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫قاُلوا إ ِ ّ‬
‫ن َ‬ ‫فَر ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫تعالى‪ :‬ل َ َ‬
‫قد ْ ك َ َ‬
‫ل‪ :‬إن الله هو هذه الحجارة‬ ‫قا َ‬ ‫]المائدة‪ [72:‬فهذا كفر‪ ،‬فكيف بمن َ‬
‫وهذه الشجار‪ ،‬فهذا أقبح وأشد كفرًا‪.‬‬

‫ومن فروع هذا الكلم أو التوحيد عندهم‪ :‬أن فرعون وقومه كاملوا‬
‫عَلى الحقيقة‪ ،‬ولذلك صرح ابن عربي‬ ‫اليمان‪ ،‬عارفون بالله َ‬
‫عَلى ]النازعات‪ [24:‬لم يكن‬ ‫َ‬
‫م اْل ْ‬ ‫َ‬
‫ل‪ :‬أَنا َرب ّك ُ ُ‬ ‫بأنفرعونعندما َ‬
‫قا َ‬
‫مخطئًا‪ ،‬ولم يقل إل الحق‪ ،‬لنه ليس في الوجود إل هو‪ ،‬فهو تكلم‬
‫عن ذات الحقيقة الكلية وعن ذات الوجود‪.‬‬

‫ولذا قال الحلج وأبو يزيد وغيرهم‪" :‬سبحاني سبحاني ما أعظم‬


‫شأني" و"ما في الجبة إل الله"!!‪.‬‬

‫وقالفرعون‪" :‬أنا ربكم العلى"‪ ،‬فكان كافرا ً فما الفرق بين‬


‫العبارتين؟!‬

‫ل شك أن العبارتين واحدة ومدلولهما واحد‪ ،‬ولكنهم عكسوا القياس‬


‫قاُلوا‪ :‬الحلج وأبو يزيد مسلمان مؤمنان مع قولهم‪" :‬سبحاني‪،‬‬‫ف َ‬
‫َ‬
‫سبحاني" وقولهم "ما في الجبة إل الله" فـفرعون هو كذلك مؤمن‬
‫ومسلم وموحد فر من الشرك إ َِلى التوحيد‪.‬‬
‫ء ‪-‬ومنهم ابن سينا ‪ :-‬ال ُ‬
‫قْرآن شرك كله‪ ،‬وإنما‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫ولذلك يقول َ‬
‫التوحيد عندنا‪ ،‬لن الثنينية شرك‪.‬‬

‫فإن قلت‪ :‬خالق ومخلوق‪ ،‬وعابد ومعبود‪ ،‬فهذا شرك لنك عددت‪.‬‬

‫وأما التوحيد فهو‪ :‬اعتقاد أن كل الوجود واحد‪ ،‬وما في الوجود إل‬


‫هو‪.‬‬

‫قال الحلج ‪:‬‬


‫كنظرة الحاجب للحاجب‬ ‫حتى لقد عاينه خلقه‬
‫ولما قيل للحلج إن هذا الكلم كفر َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪:‬‬
‫ي وعند‬
‫عل ّ‬ ‫ب‬
‫كفرت بدين الله والكفر واج ٌ‬
‫ن قبيح‬
‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫يعني‪ :‬نظرتكم نظرة كفر ول يهمني هذا الذي تقولونه‪.‬‬

‫ن‬ ‫ن يدعو إ َِلى الشرك‪ ،‬لنه َ‬


‫كا َ‬ ‫سلم َ‬
‫كا َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه ال ّ‬ ‫بل يقولون‪ :‬إن موسى َ‬
‫يدعو إ َِلى اثنين‪ ،‬وأما فرعونفهو الموحد‪ ،‬لنه يدعو إ َِلى شيء واحد‪،‬‬
‫عَلى الحق‬‫فهو ينطق بعين الحقيقة‪ .‬ومن فروعه‪ :‬أن عباد الصنام َ‬
‫والصواب لنهم إنما عبدوا الله ل غير‪ ،‬لن الوجود كله واحد ‪-‬وجود‬
‫مطلق‪ -‬ول موجود حقيقي إل هو كما يقولون‪ ،‬فهذه الموجودات‬
‫هي ذاته!!‬

‫ه‪] :‬مما نلزمهم به التحليل والتحريم بين‬‫ه الل ّ ُ‬


‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬‫م ْ‬ ‫ثُ ّ‬
‫م يقول ال ُ‬
‫الم والخت والجنبية[ لن الذي يثبت ذوات مختلفة فهو شخص‬
‫معدد‪ ،‬والتوحيد عندهم أن الكل ذات واحدة‪ ،‬فما الفرق بين الجنبية‬
‫وغيرها؟! ولذلك وجد في سيرهم وكتبهم أنهم كانوا يتعاشرون‬
‫بالباحية فيقولون‪ :‬هذا حلل في حقهم‪ ،‬وإنما التحريم في حق‬
‫عَلى الشرك‪ ،‬فتوحيد العوام أن يقولوا‪" :‬ل إله إل‬ ‫العوام لنهم َ‬
‫الله"‪ ،‬وأن الله فوق السماوات‪ ،‬لنهم ل يفهمون‪ .‬وأما هم فقد‬
‫عرفوا حقيقة التوحيد‪ ،‬وأن الشياء كلها واحدة‪ ،‬وسقطت عنهم‬
‫الحواجز‪ ،‬فلم يعد هذا حلل وهذا حرام‪.‬‬

‫وقد عقد ابن الجوزي في تلبيس إبليس فصل ً طويل ً عن الصوفية‬


‫فيما يتعلق بالعشق الذي يجعلونه فيما بينهم ‪-‬والعياذ بالله‪ -‬فذكر‬
‫كلما ً يندى له الجبين‪ ،‬ول يكاد يصدقه أحد أو يفعله أحد من فساق‬
‫ن مجاهرة‪ ،‬فضل ً أن تكون هي أخلق أولياء الله الذين هم‬ ‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫القدوة وأوتاد الرض‪ ،‬ولولهم لنزل البلء من السماء ولمحقت‬
‫عَلى المنارة‪-‬‬
‫البركات‪ ،‬ومن عجائبهم‪ :‬أن النوري ‪-‬لما صاح غراب َ‬
‫ل‪ :‬الحق ناداني‪ .‬فهل الحق في‬ ‫ل‪ :‬لبيك لبيك‪ .‬قالوا‪ :‬لماذا؟ َ‬
‫قا َ‬ ‫قا َ‬ ‫َ‬
‫الغراب والعياذ بالله؟!‬

‫وهذه كلها مرجعها إ َِلى شيء واحد وهو‪ :‬قضية الفناء الصوفي التي‬
‫عَلى قضية كلمية‪.‬‬ ‫بنيت َ‬

‫ه‪] :‬ومن فروعه أن ال َن ْب َِياء ضيقوا َ‬


‫عَلى‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫صن ّ ُ‬
‫م ْ‬
‫ل ال ُ‬ ‫م َ‬
‫قا َ‬ ‫ثُ ّ‬
‫الّناس[‪.‬‬

‫لن ال َن ْب َِياء في نظرهم عينوا لهم معبودا ً واحدًا‪ ،‬بينما المعبودات‬


‫في نظرهم كثيرة جدًا‪ ،‬وعينوا لهم أنواع محدودة من العبادات‪.‬‬

‫جاءَ به ال َن ْب َِياء جميعا ً عقيدة وعبادة وشريعة‬


‫فهذا دين الله الذي َ‬
‫قاُلوا‪ :‬اللهة والمعبودات‬ ‫عَلى الّناس َ‬
‫و َ‬ ‫ء فوسعوا َ‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫محددة‪ ،‬وأما َ‬
‫والعبادات متعددة كله لله ومن الله‪ ،‬بل قالوا‪ :‬إن الفاعل الحقيقي‬
‫هو الله‪ ،‬وهنا تلتقي النظرية الجبرية مع النظرية الصوفية ‪.‬‬
‫بل قالوا أشد من ذلك‪ :‬أنه ل فاعل في الحقيقة إل الله ‪-‬هذا‬
‫حقيقة التوحيد عندهم‪ -‬والبشر وجودهم عارض ل قيمة له‪ ،‬فلو أن‬
‫إنسانا ً أعطى فلنا ً مبلغا ً من المال فالمعطي الحقيقي هو الله‪،‬‬
‫ء يأتون‬‫ؤل ِ‬ ‫ولشك أن الله هو الرازق‪ ،‬ولكن يجب أن ينتبه إ َِلى أن َ‬
‫ه ُ‬
‫م يدخلون عليها أمثلة أخرى فيقولون‪ :‬فإذا زنى‬ ‫بمثل هذه المثلة ث ُ ّ‬
‫؟! ‪-‬والعياذ بالله‪ -‬فيجب أن يعلم أن‬ ‫الزاني ول فاعل حقيقي إل لله ‍‬
‫هناك فرقا ً بين الخالق للسباب والفاعل للسباب فكون الله هو‬
‫خالق السباب هذا شيء‪ ،‬وكونه هو فاعل السباب جميعا ً هذا شيء‬
‫آخر‪ ،‬فالله خلقني وجعلني سببا ً أن أعطي فلنا ً هذا المبلغ من‬
‫المال‪ ،‬ول نقول‪ :‬إن الله أعطى ذلك دون سبب مني‪ .‬والجبرية‬
‫والجهمية شيء واحد يقولون‪ :‬إن البشر كالريشة في مهب الريح‪،‬‬
‫سان مقهور عليه‪ ،‬والله هو الذي قدره عليه‪.‬‬ ‫لن َ‬
‫فكل ما يفعله ا ِ‬
‫ك إ َِلى‬ ‫ُ‬
‫وهذه المقولة مع شناعتها وكفرها أقرب من كلم أول َئ ِ َ‬
‫العقل‪.‬‬
‫‪ - 2‬توحيد الربوبية‬
‫ه‪:‬‬
‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫مصن ّ ُ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ال ُ‬
‫]وأما الثاني‪ :‬وهو توحيد الربوبية‪ ،‬كالقرار بأنه خالق كل شيء‪ ،‬وأنه‬
‫ليس للعالم صانعان متكافئان في الصفات والفعال‪ ،‬وهذا التوحيد حق ل‬
‫ريب فيه‪ ،‬وهو الغاية عند كثير من أهل النظر والكلم وطائفة من‬
‫الصوفية ‪ ،‬وهذا التوحيد لم يذهب إ َِلى نقيضه طائفة معروفة من بني‬
‫عَلى‬
‫عَلى إل قرار به أعظم من كونها مفطورة َ‬ ‫آدم‪ ،‬بل القلوب مفطورة َ‬
‫القرار بغيره من الموجودات‪ ،‬كما قالت الرسل عليهم السلم‪ ،‬فيما‬
‫واْل َْرض‬
‫ت َ‬
‫وا ِ‬
‫ما َ‬
‫س َ‬
‫ر ال ّ‬
‫فاطِ ِ‬ ‫ش ّ‬
‫ك َ‬ ‫ه َ‬ ‫م أَ ِ‬
‫في الل ّ ِ‬ ‫سل ُ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫قال َ ْ‬
‫ت ُر ُ‬ ‫حكى الله عنهم‪َ :‬‬
‫]إبراهيم‪.[10:‬‬

‫ن‬‫كا َ‬ ‫وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع فرعون‪ ،‬وقد َ‬


‫ما‬‫ت َ‬ ‫م َ‬ ‫عل ِ ْ‬‫قدْ َ‬ ‫سلم‪ :‬ل َ َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫مستيقنا ً به في الباطن‪ ،‬كما قال له موسى َ‬
‫ض َبصائ َِر ]السراء‪ [102:‬وقال‬ ‫والْر ِ‬
‫ْ َ‬
‫ت َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫ب ال ّ‬ ‫ء إ ِّل َر ّ‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬‫ل َ‬ ‫أ َْنـَز َ‬
‫وا ً‬‫عل ُ ّ‬‫و ُ‬ ‫م ظُْلما ً َ‬ ‫ه ْ‬ ‫س ُ‬‫ف ُ‬ ‫ها أ َن ْ ُ‬ ‫قن َت ْ َ‬‫ست َي ْ َ‬ ‫وا ْ‬ ‫ها َ‬ ‫دوا ب ِ َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ج َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬ ‫عاَلى عنه وعن قومه‪:‬‬ ‫تَ َ‬
‫عَلى وجه النكار له‬ ‫َ‬ ‫ن‬
‫مي َ‬ ‫عال َ ِ‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫ما َر ّ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬ ‫ل‪:‬‬ ‫قا َ‬ ‫]النمل‪ [14 :‬ولهذا لما َ‬
‫ن‬‫ما إ ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ت َ ْ‬
‫ه َ‬ ‫ما ب َي ْن َ ُ‬ ‫و َ‬‫ض َ‬ ‫والْر ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬‫ب ال ّ‬ ‫َر ّ‬ ‫تجاهل العارف‪ ،‬قال له موسى‪:‬‬
‫َ‬
‫ب آَبائ ِك ُ ُ‬
‫م‬ ‫وَر ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل َرب ّك ُ ْ‬ ‫قا َ‬ ‫ن* َ‬ ‫عو َ‬ ‫م ُ‬ ‫ست َ ِ‬‫ه أل ت َ ْ‬ ‫ول َ ُ‬ ‫ح ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫قا َ‬
‫ل لِ َ‬ ‫ن* َ‬ ‫قِني َ‬ ‫مو ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ك ُن ْت ُ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ق‬‫ر ِ‬‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫قا َ‬ ‫ن* َ‬ ‫جُنو ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫م لَ َ‬ ‫ل إ ِل َي ْك ُ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ذي أْر ِ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫سول َك ُ ُ‬ ‫ن َر ُ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫قا َ‬ ‫ن* َ‬ ‫وِلي َ‬ ‫اْل ّ‬
‫ن ]الشعراء‪.[28-24:‬‬ ‫قُلو َ‬ ‫ع ِ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ما إ ِ ْ‬‫ه َ‬‫ما ب َي ْن َ ُ‬
‫و َ‬ ‫ب َ‬ ‫ر ِ‬ ‫غ ِ‬‫م ْ‬ ‫وال ْ َ‬ ‫َ‬
‫وقد زعم طائفة أن فرعون سأل موسى مستفهما ً عن الماهية‪ ،‬وأن‬
‫سى عن الجواب‪ ،‬وهذا‬ ‫مو َ‬‫المسؤول عنه لما لم تكن له ماهية‪ ،‬عجز ُ‬
‫عَلى‬ ‫غلط‪ ،.‬وإنما هذا استفهام إنكار وجحد كما دلت سائر آيات ال ُ‬
‫قْرآن َ‬
‫ن جاحدا ً لله نافيا ً له‪ ،‬لم يكن مثبتا ً له طالبا ً للعلم بماهيته‪،‬‬ ‫أن فرعون َ‬
‫كا َ‬
‫فلهذا بّين لهم موسى أنه معروف‪ ،‬وأن آياته ودلئل ربوبيته أظهر‬
‫وأشهر من أن يسأل عنه بما هو؟‬

‫بل هو سبحانه أعرف وأظهر وأبين من أن يجهل‪ ،‬بل معرفته مستقرة‬


‫في الفطر أعظم من معرفة كل معروف‪.‬‬
‫ولم يعرف عن أحد من الطوائف أنه َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪ :‬إن العالم له صانعان متماثلن‬
‫في الصفات والفعال‪ ،‬فإن الثنوية من المجوس‪ ،‬والمانوية القائلين‬
‫عَلى أن النور‬
‫بالصلين‪ :‬النور والظلمة‪ ،‬وأن العالم صدر عنهما‪ :‬متفقون َ‬
‫خير من الظلمة‪ .‬وهو الله المحمود‪ ،‬وأن الظلمة شريرة مذمومة‪ ،‬وهم‬
‫متنازعون في الظلمة‪ ،‬هل هي قديمة أو محدثة؟‬

‫فلم يثبتوا ربين متماثلين‪.‬‬

‫وأما الّنصاَرى القائلون بالتثليث‪ ،‬فإنهم لم يثبتوا للعالم ثلثة أرباب‬


‫عَلى أن صانع العالم واحد‪،‬‬ ‫ينفصل بعضهم عن بعض‪ ،‬بل هم متفقون َ‬
‫ويقولون‪ :‬باسم الب والبن وروح القدس إله واحد‪ ،‬وقولهم في التثليث‬
‫متناقض في نفسه‪ ،‬وقولهم في الحلول أفسد منه‪ ،‬ولهذا كانوا‬
‫مضطربين في فهمه‪ ،‬وفي التعبير عنه‪ ،‬ل يكاد واحد منهم يعبر عنه‬
‫عَلى معنى واحد‪ ،‬فإنهم يقولون‪:‬‬ ‫بمعنى معقول‪ ،‬ول يكاد اثنان يتفقان َ‬
‫هو واحد بالذات‪ ،‬ثلثة بالقنوم! والقانيم يفسرونها تارة بالخواص‪،‬‬
‫عَلى فساد هذه‬ ‫وتارة بالصفات‪ ،‬وتارة بالشخاص‪ .‬وقد فطر الله العباد َ‬
‫القوال بعد التصور التام‪ ،‬وفي الجملة فهم ل يقولون بإثبات خالقين‬
‫متماثلين‪.‬‬

‫والمقصود هنا‪ :‬أنه ليس في الطوائف من يثبت للعالم صانعين متماثلين‪،‬‬


‫مع أن كثيرا ً من أهل الكلم والنظر والفلسفة تعبوا في إثبات هذا‬
‫المطلوب وتقريره‪ ،‬ومنهم من اعترف بالعجز عن تقرير هذا بالعقل‬
‫وزعم أنه يتلقى من السمع[ اهـ‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬
‫هذا الكلم كله في قضية واحدة معلومة لدى الجميع وهي‪ :‬أن الله‬
‫عاَلى‪ -‬خالق كل شيء وحده ل شريك له‪.‬‬‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫‪ُ -‬‬
‫• إثبات وجود الله قضية فطرية‬
‫وهذه القضية بديهية فطرية‪ ،‬وهي توحيد الربوبية الذي أتى به النبياء‪ ،‬ولمعرفة‬
‫حقيقة الفلسفة اليونانية فـأفلطون وأرسطو وغيرهم من أئمة الضلل في‬
‫العالم لم يكونوا ممن ينكر وجود الله‪ ،‬بل هم وضعوا نظريات لثبات وجود الله‪،‬‬
‫ولكن لما كانوا ضالين وكاذبين ومفترين وتخيلوه عََلى غير حقيقته‪ ،‬فهم كفار‬
‫لنهم لم يتبعوا شرائع النبياء‪ ،‬فلم ينفعهم إثبات وجود الله‪ ،‬لنهم غير موحدين‬
‫عََلى دين النبياء‪.‬‬
‫والمتكلمون الذين ورثوا هذه الفلسفات من المعلم الول أرسطو ‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬أعظم آية هي التيان بحجج تقرر بأن الله موجود‪ ،‬فأتوا‬
‫بدليل التمانع وأتعبوا أنفسهم في تقرير ذلك‪ ،‬وسيمر بنا ‪-‬إن شاء‬
‫الله‪.-‬‬

‫ووجوده سبحانه في النفوس أعظم يقينا ً من بديهيات الرياضيات‬


‫مثل "‪ "2=1+1‬ومن كلم علماء الكلم؛ العلم الضروري أنه لبد أن‬
‫تعلم أن الكل أكبر من الجزء‪ ،‬ويقولون‪ :‬هذا علم ضروري‪ ،‬ولو أتيت‬
‫بشخص من البادية فلعله ل يفهم مثل هذا الكلم‪ ،‬ولكنه يفهم أن‬
‫الله موجود‪ ،‬ولذلك يقول علماء الجتماع‪ :‬عندما بدأت حركة‬
‫الكشوفات في القرن السابع عشر والثامن عشر‪ ،‬وذهبوا إ َِلى‬
‫مناطق في أفريقيا والهند وأمريكا حيث لم يسبقهم أحد إليها‬
‫وجدوا مجتمعات بدون حضارة أو دولة أو فن‪ ،‬ولكن لم يجدوا قط‬
‫ء الّناس يؤمنون بأن هناك‬ ‫ؤل ِ‬ ‫مجتمعا ً بل دين أبدًا‪ ،‬ووجدوا أن كل َ‬
‫ه ُ‬
‫طوفان أتى وعم الرض كلها وأطلقوا عليها اسم الضللة‬
‫المشتركة‪ ،‬وهي الحقيقة المشتركة‪ :‬أن نوحا ً هو أبو البشر الثاني‬
‫ء من ذريته‪ ،‬وأصبحوا يتناقلونها بينهم‪ ،‬فهي حقيقة‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫بعد آدم و َ‬
‫مشتركة‪ ،‬وكذلك وجود الله هي حقيقة مشتركة‪ ،‬فالدلة الفطرية‬
‫عَلى وجود الله أعظم وأشهر من أن يتكلم فيها‪.‬‬ ‫َ‬

‫وأما الصوفية فالغاية عندهم إثبات أن الله خالق كل شيء‪،‬‬


‫فالموحد الحقيقي ل يثبت لحد الفعال‪ ،‬بل هو سبحانه الفاعل‬
‫الحقيقي ولذلك لما دخل التتار إ َِلى بغداد أخذ القطب الكبر يقود‬
‫الفرس لـجنكيز خان ويقول‪ :‬هذا هو الله‪ ،‬فعلينا أن نرضى بفعل‬
‫الله‪ ،‬وهذا يقولونه عن اعتقاد أن هذا هو غاية التوحيد‪ ،‬وهو شهود‬
‫الحقيقة الكونية بحيث ل ترى في الكون إل هو‪ ،‬وأن كل ما يقع في‬
‫عاَلى وهو الذي يفعله بذاته‪ ،‬وأما غيره فل يثبت له‬ ‫الكون فهو منه ت َ َ‬
‫أي شيء من ذلك‪.‬‬

‫وشهود الحقيقة الكونية هو عين توحيد الربوبية فيسقط اللوم‬


‫ويعذر الخليقة؛ لذا لو وجدت شخصا ً منهمكا ً في المعصية فل تلمه‪،‬‬
‫لن الله هو الذي يفعل هذه الشياء وله حكم في ذلك‪.‬‬

‫فـالصوفية وعلماء الكلم جعلوا توحيد الربوبية هو غاية التوحيد‪،‬‬


‫جاءَ به ال َن ْب َِياء وهو توحيد‬
‫بينما هو أمر فطري يستلزم التوحيد الذي َ‬
‫اللوهية‪.‬‬

‫ولذلك عندما يقول المتكلمون ‪ :‬إن الله واحد في ذاته وفي صفاته‬
‫وفي أفعاله‪ ،‬غير متعدد ول متبعض‪ ،‬فهم يقصدون بواحد في‬
‫صفاته أنه ليس له صفة‪ ،‬وواحد في أفعاله أن كل ما في الكون هو‬
‫فعله وحده ل يشاركه أحد‪ ،‬فـفرعون أنكر وجود الله‪ ،‬ولكنه لم يقله‬
‫ها‬‫دوا ب ِ َ‬‫ح ُ‬‫ج َ‬
‫و َ‬
‫َ‬ ‫عاَلى يقول‪:‬‬ ‫عن اعتقاد ويقين في نفسه لن الله ت َ َ‬
‫وا ]النمل‪ [14:‬وقال له موسى‪:‬‬ ‫عل ُ ّ‬
‫و ُ‬‫م ظُْلما ً َ‬ ‫ه ْ‬‫س ُ‬
‫ف ُ‬‫ها أ َن ْ ُ‬ ‫ست َي ْ َ‬
‫قن َت ْ َ‬ ‫وا ْ‬ ‫َ‬
‫صائ َِر‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ه ُ‬ ‫َ‬
‫ما أن َْز َ‬ ‫َ‬
‫لل َ‬ ‫َ‬
‫قا َ‬
‫ض بَ َ‬‫والْر ِ‬ ‫ت َ‬‫وا ِ‬
‫ما َ‬
‫س َ‬
‫ب ال ّ‬ ‫ء إ ِل َر ّ‬
‫ءا ِ‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ت َ‬‫م َ‬ ‫عل ِ ْ‬
‫قدْ َ‬
‫وإني لظنك يا فرعون مثبورا ً ]السراء‪ [102:‬فالخذلن الذي كتب‬
‫عليه هو الذي جعله يقول ذلك‪ ،‬وإل فهو يعلم أن ما أنزل هذه‬
‫اليات إل الله‪ ،‬وهو وإن جحد الله باللسان فهو مستيقن بربوبيته‬
‫بالقلب‪ ،‬فالنفس قد تستيقن بالشيء ولكن تأبى القرار به مكابرة‪،‬‬
‫وهذا ل غرابة فيه‪ ،‬لن من هم أعظم من فرعون في الدلئل أنكروا‬
‫عَلى‬
‫من هو أعظم أدلة من موسى وهم اليهود‪ ،‬فلديهم من الدلئل َ‬
‫عَلى نبوة‬
‫م أعظم من أدلة فرعون َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫مد َ‬ ‫ح ّ‬‫م َ‬
‫نبوة ُ‬
‫سلم‪ ،‬ومع ذلك كفروا‪.‬‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه ال ّ‬ ‫موسى َ‬

‫سل ّ َ‬
‫م للحبر‪) :‬أينفعك شيء‬ ‫و َ‬
‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫وفي صحيح مسلم قال َ‬
‫ل الحبر‪) :‬أسمع بأذني( ‪.‬‬ ‫ف َ‬
‫قا َ‬ ‫إن حدثتك؟ َ‬

‫والحبران اللذان جاءا وقبل قدميه لما سأله عن اليات التسع‪،‬‬


‫سل ّ َ‬
‫م‪} :‬لماذا ل تؤمنان بي؟‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫فقال لهما النبي َ‬
‫فقال‪ :‬إن الله قد أخذ علينا العهد أن ل يزال في ذرية داود نبي {‪.‬‬

‫سل ّ َ‬
‫م من ذرية إسماعيل ولم‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫فالمشكلة عندهم أنه َ‬
‫يكن من ذرية إسحاق وداود‪.‬‬

‫وكذلك كفار قريش لما جحدوا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫شيَرت َ َ‬
‫ك‬ ‫َ‬
‫ع ِ‬
‫ذْر َ‬
‫وأ ن ْ ِ‬
‫َ‬ ‫كانوا يعلمون صدقه‪ ،‬كما في الحديث‪ } :‬لما نزلت‬
‫ن ]الشعراء‪ [214:‬صعد النبي صلى الله عليه وسلم على‬ ‫اْل َ ْ‬
‫قَرِبي َ‬
‫الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى‬
‫اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسول لينظر‬
‫ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيل‬
‫بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي‪ ،‬قالوا‪ :‬نعم ما جربنا‬
‫عليك إل صدقا‪ ،‬قال‪ :‬فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد‪ ،‬فقال‬
‫أبو لهب‪ :‬تبا ً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا {‪.‬‬

‫صّلى الل ُ‬
‫ه‬ ‫وكذلك }لما نزلت أول سورة فصلت وقرأها عليهم النبي َ‬
‫ق ْ َ‬ ‫ن أَ ْ‬
‫ة‬‫ق ً‬‫ع َ‬
‫صا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ل أن ْذَْرت ُك ُ ْ‬ ‫ف ُ‬‫ضوا َ‬ ‫عَر ُ‬ ‫م إ َِلى قوله تعالى‪َ :‬إ ِ ْ‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫مد ناشدتك‬ ‫ح ّ‬‫م َ‬ ‫ل عتبة‪) :‬يا ُ‬ ‫قا َ‬ ‫د ]فصلت‪ [13:‬ف َ‬ ‫وث َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫عاٍد َ‬ ‫ة َ‬
‫ق ِ‬‫ع َ‬ ‫صا ِ‬
‫ل َ‬ ‫مث ْ َ‬ ‫ِ‬
‫الله والرحم( فخاف مع ادعائه أنه كذب وسحر وأساطير الولين‪،‬‬
‫ن‬
‫دو َ‬
‫ح ُ‬‫ج َ‬ ‫ه يَ ْ‬‫ت الل ّ ِ‬ ‫ن ِبآَيا ِ‬ ‫مي َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫ول َك ِ ّ‬‫ك َ‬ ‫م ل ي ُك َذُّبون َ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫َ‬
‫فإ ِن ّ ُ‬ ‫قال تعالى‪:‬‬
‫]النعام‪.[33:‬‬

‫فتكذيب فرعون من هذا القبيل؛ لن قضية وجود الله فطرية‪.‬‬

‫وكذلك الثنوية الذين يقولون‪ :‬إن للعالم صانعين هما‪ :‬النور‬


‫دعوا أنهما متماثلن‪ ،‬ولذا قالوا‪ :‬إن الله الحق هو‬ ‫والظلمة‪ ،‬لم ي ّ‬
‫النور‪ ،‬ويحبونه ويجعلون له صفات الله‪ ،‬وأما الظلمة‪ :‬فإنهم‬
‫يجعلون له صفات الشيطان‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬إن النور قديم واجب‬
‫الوجود وهو الخالق‪ ،‬وأما الظلمة فهي محدثة مخلوقة‪ ،‬فـالمجوس‬
‫إذا ً ل يثبتون حقيقة إل ربا ً واحدًا‪.‬‬
‫صاَرى الذين يقولون‪ :‬بثلثة آلهة كلهم خالق ورازق‪ ،‬وهم‬ ‫وكذلك الن ّ َ‬
‫ً‬
‫أكثر أمم أهل الرض عددا وأكثرها حضارة‪ ،‬في الحقيقة لم يثبتوا‬
‫إل ربا ً واحدًا‪ ،‬ل ينفصل بعضه عن بعض‪ ،‬وقد نظر أحد ملوك الهند‬
‫ل‪ :‬هذه المة‬ ‫صاَرى‪َ ،‬‬
‫قا َ‬ ‫اللدينيين في أديان العالم‪ ،‬فلما بلغه دين الن ّ َ‬
‫سان؛ لنهم يقولون عن عيسى‪" :‬إنه رب‪،‬‬ ‫لن َ‬
‫سبة في جبين بني ا ِ‬
‫عَلى الرض‪ ،‬وأن أعداءه اليهود قتلوه وصلبوه‪،‬‬ ‫وله أم ولدته‪ ،‬ونشأ َ‬
‫عَلى‬‫عَلى صدورنا ونضعه َ‬ ‫فلذا نتخذ هذا الصليب شعارا ً نرفعه َ‬
‫الكنائس"‪.‬‬

‫ء ليس عندهم عقول‪ ،‬وإذا سئلوا‪ :‬لماذا قتل الرب؟‬ ‫ه ُ‬


‫ؤل ِ‬ ‫ف َ‬
‫ن من‬ ‫قالوا‪ :‬ليفدي الرب بني آدم من الخطيئة‪ ،‬لن ابتداءنا َ‬
‫كا َ‬
‫الخطيئة‪ ،‬حيث أخطأ وأذنب آدم‪ ،‬ففدى الله الخليقة بابنه الوحيد‪.‬‬

‫عَلى‬
‫ن الّله! أليس يقدر الله أن يغفر لهم ول يعذب ابنه َ‬
‫سْبحا َ‬
‫ُ‬
‫زعمهم؟!‬

‫بل الذي أغرى آدم بالخطيئة هو الشيطان‪ ،‬فلماذا ل يكون الفداء‬


‫بالشيطان أو بابنه؟!‬

‫هذه كلها تناقضات ودين ل يقبله العقل‪ ،‬وكيف يصلب اليهودالله؟!‬

‫ولماذا يتخذ الصليب إله؟!‬

‫المفروض أن النصراني إذا رأى الصليب بكى وحزن وغضب‪.‬‬

‫ويقول بعض العلماء‪ :‬إن شر الفرق وأجهلها وأقلها عقل ً هم‬


‫الرافضة ‪ ،‬ومع ذلك إذا ذكروا بمقتل الحسين بكوا وضربوا أنفسهم‪،‬‬
‫فهم إذا ً أعقل من الن ّ َ‬
‫صاَرى‪.‬‬

‫ه الل ّ ُ‬
‫ه‪] :‬مع ذلك هم ل يقولون إن الله ل ينفصل‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫صن ّ ُ‬
‫م ْ‬
‫ل ال ُ‬ ‫َ‬
‫قا َ‬
‫بعضه عن بعض‪ ،‬بل يقولون باسم البن والب وروح القدس‬
‫‪-‬والمعروف في الناجيل باسم الب والبن وروح القدس‪ -‬إله‬
‫واحد[‪.‬‬

‫كيف ثلثة هم واحد؟!‬

‫قال المصنف‪] :‬ولهذا كانوا مضطربين في فهمه‪ ،‬وفي التعبير عنه‪،‬‬


‫حتى ل يكاد واحدا ً منهم يعبر عن ذلك بمعنى معقول‪ ،‬ول يكاد يتفق‬
‫عَلى معنى واحد[‪ .‬ولذا ذكر مؤلف كتاب إظهار الحق أن‬ ‫اثنان منهم َ‬
‫صاَرىذهب إ َِلى الهند أو أفريقيا للتبشير‪ ،‬فجاء رجل‬
‫أحد علماء الن ّ َ‬
‫كبير من الكنيسة الم يزور المدارس التابعة لهم التي تبذل عليها‬
‫ء الشباب كلهم‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫ف َ‬
‫قا َ‬
‫ل العالم النصراني‪َ :‬‬ ‫الموال والتضحيات‪َ ،‬‬
‫أدخلتهم في نور المسيحية‪ .‬فسأل الرجل ثلثة طلب‪ :‬ماذا تعلمتم؟‬

‫ل أحدهم‪ :‬علمني القسيس أن اللهة ثلثة‪ ،‬واحد منهم نزل‬ ‫ف َ‬


‫قا َ‬ ‫َ‬
‫وبقي اثنان‪.‬‬

‫ل له‪ :‬أنت ل تعرف شيئا ً وضربه‪.‬‬ ‫ف َ‬


‫قا َ‬ ‫َ‬

‫م قال الثاني‪ :‬علمني القسيس أن اللهة ثلثة‪ :‬الب والبن وروح‬ ‫ثُ ّ‬
‫القدس‪ ،‬فأما روح القدس فهو الطائر الذي مثل الحمام ل نراه‪،‬‬
‫عَلى الصليب‪،‬‬‫وإنما أتى وسيلة وانتهى عمله‪ ،‬وأما الثاني فقد قتل َ‬
‫فقتل منهما اثنان وبقي واحد‪.‬‬
‫ف َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪ :‬ما أحسنت العلم‪.‬‬
‫م قال الثالث‪ :‬علمني أن اللهة ثلثة‪ ،‬وأن الثلثة واحد‪ ،‬وأن واحدا ً‬‫ثُ ّ‬
‫عَلى الصليب‪ ،‬فلما قتل الواحد ‪-‬والثلثة واحد‪ -‬قتل‬‫منهم قتل َ‬
‫الثلثة‪ ،‬فل إله الن‪َ .‬‬
‫قا َ‬
‫ل‪ :‬هذا شر الثلثة‪.‬‬

‫ل بعضهم‪ :‬هو الذات‪.‬‬ ‫ف َ‬


‫قا َ‬ ‫صاَرىأن يشرحوها‪َ ،‬‬ ‫القنوم‪ :‬لم يقدر الن ّ َ‬
‫ل‪ :‬هو بمعني العنصر‪ ،‬وقال بعضهم‪:‬‬ ‫يعني ثلثة ذوات‪ ،‬وبعضهم َ‬
‫قا َ‬
‫هو بمعني الصفة‪ ،‬أي ثلث صفات لله واحد‪ ،‬وقال بعضهم‪:‬‬
‫صاَرىيقولون‪ :‬واحد وهو ثلثة‪.‬‬ ‫الشخاص يعني العيان ولذلك الن ّ َ‬
‫على الصليب‪ ،‬والثلث الثاني فوق‬ ‫َ‬ ‫فكيف هذا الواحد نزل ثلثه وقتل َ‬
‫العرش‪ ،‬والثلث الثالث مرة قالوا‪ :‬مريم‪ ،‬ومرة قالوا‪ :‬روح القدس‬
‫جبريل وهو الحمام‪.‬‬
‫فـالناجيل مختلفة والقساوسة مختلفون‪ ،‬فكل واحد يفهم فهما ً‬
‫عاَلى‪] :‬إنهم مضطربون‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫ه تَ َ‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫صن ّ ُ‬
‫م ْ‬‫ل ال ُ‬ ‫مخالفا ً للخر‪ ،‬كما َ‬
‫قا َ‬
‫صاَرىعلى معنى[‪.‬‬ ‫ل يكاد يتفق اثنان من الن ّ َ‬
‫عَلى هذه‬‫ن الله َ‬ ‫ولذا نرى اللحاد في أوروبا ؛ لنهم يقولون‪ :‬إن َ‬
‫كا َ‬
‫ء‪ .‬وقد طبع رسميا ً في‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫الهيئة‪ ،‬فدين الشيوعية أفضل من دين َ‬
‫أوروبا سبعون إنجيل ً تسمى الكتاب المقدس‪ ،‬كل واحد يكذب الخر‬
‫في اسم المسيح ونسبه! وهم متفقون أنه ليس له أب‪ ،‬ويقولون‬
‫إنه عيسى بن يوسف النجار‪.‬‬

‫صاَرىمضطربون‪ ،‬ومع ذلك فإن الله عندهم هو إله واحد ‪-‬كما‬


‫فـالن ّ َ‬
‫يدعون ويزعمون‪ -‬فهم ل يعارضون هذه الحقيقة القطعية‪.‬‬
‫ه سابقًا‪] :‬وهذا التوحيد لم يذهب إ َِلى نقيضه‬‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫صن ّ ُ‬
‫م ْ‬
‫ل ال ُ‬ ‫َ‬
‫قا َ‬
‫طائفة معروفة من بنى آدم[‪.‬‬
‫• توحيد الربوبية لم يذهب إلى نقيضه أحد‬
‫والشيوعية لم تكن معروفة من قبل لذا يقول ابن أبي العز ‪ :‬لم يذهب طائفة‬
‫معروفة إ َِلى نقيضه‪ ،‬فهل الحقيقة غير الكلم؟‬
‫فـالشيوعيون حقيقة سموه بغير اسمه‪ ،‬لنهم إذا سئلوا‪ :‬من خلق‬
‫الكون؟ قالوا‪ :‬الطبيعة‪.‬‬

‫وهي كلمة معروفة باللغات القديمة وباللغة العربية‪ ،‬ومعناها واحد‬


‫هو‪ :‬الطبيعة والمدلول كذلك واحد ‪-‬أي‪ :‬فعيلة بمعني مفعولة أو‬
‫بمعني فاعل‪ -‬مثل أن تقول‪ :‬فلنة كريمة بمعنى كارمة‪ ،‬أو امرأة‬
‫قتيلة بمعنى مقتولة‪ ،‬فالطبيعة إما فاعلة أو مفعولة‪ ،‬فإن كانت‬
‫فعيلة بمعنى مفعولة فل شيء فيها‪ ،‬ومعناها‪ :‬أنها مخلوقة‪ ،‬فل بد‬
‫عاَلى‪ -‬فإن كانت فعيلة بمعنى‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫لها من خالق وهو الله ‪ُ -‬‬
‫عاَلى بغير اسمه‪،‬‬‫فاعلة ومعناها أنها خالقة‪ ،‬قلنا‪ :‬أنتم سميتم الله ت َ َ‬
‫ول يقولون الخالق هو الله‪ ،‬لنهم ل يعرفون إل الله التابع للكنيسة‬
‫التي ل يتفقون معها‪ ،‬فاختاروا اسما ً بعيدا ً فسموه الطبيعة‪ ،‬ولذا‬
‫وجد في أوروبا في القرن التاسع عشر ما يسمى بالدين الطبيعي‪،‬‬
‫والفلسفة الطبيعيين‪ ،‬وعلم الجتماع الطبيعي‪ ،‬وهذه النظريات‬
‫تقول‪ :‬إن الطبيعية هي الجمال الذي في الكون‪ ،‬وفي الدب‬
‫الرومنسي يقولون‪" :‬عبادة الطبيعة" لن الطبيعة هي المناظر التي‬
‫تعجبنا‪ ،‬والدين الطبيعي كما يقول روسو ‪" :‬دين حر ليس كمثل‬
‫أديان الكنيسة"‪ ،‬فإن رجال الدين يأتون بما يخالف العقول‪،‬‬
‫عَلى الناس‪ ،‬بخلف الدين‬ ‫فيفرضون التاوات والعشور والرهبنة َ‬
‫الطبيعي؛ فإنك تعشق وتحب وتتزوج وتقول الشعر وترسم كما‬
‫تشاء‪ ،‬والكنيسة تقول‪ :‬ل ترسم إل صورة العذراء وصورة المسيح‪،‬‬
‫وفي الحقيقة ل يوجد شيء اسمه دين طبيعي‪ ،‬ولكنهم أتوا بهذا‬
‫السم حتى يخرجوا من سيطرة البابوات‪.‬‬

‫وجاء اليهودي كارل ماركس وإنجلز بنظريات اجتماعية للشتراكية‪،‬‬


‫وهي ليست من بنات أفكارهم‪ ،‬وإنما ذكرها أفلطون في كتاب‬
‫ل‪" :‬أحسن شيء أن يعيش الّناس بل أحقاد‪ ،‬فيكون‬ ‫الجمهورية ف َ‬
‫قا َ‬
‫الزواج مشاعًا‪ ،‬والموال مشاعة‪ ،‬والسياسيون والجنود ل يملكون‬
‫أي شيء" وذكرها شخص يسمى سان سيمون ‪-‬وهو فرنسي وهذا‬
‫جاءَ به المنتسبون إ َِلى السلم من الفلسفة ‪ ،‬كما في‬ ‫الكلم كذلك َ‬
‫جاءَ به رجل‬ ‫آراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي ‪ ،‬وكذلك اليوتوبايه َ‬
‫يسمى توماس مور ومعناها‪ :‬المدينة الفاضلة ‪-‬قال سان الفرنسي‬
‫عَلى الملكية الخاصة ونجعل‬ ‫‪-‬وهو قبل ماركس ‪" :-‬يجب أن نقضي َ‬
‫الملكية مشاعة للجميع رحمة بالضعفاء والعمال" فجاء كارل‬
‫ماركس وأخذ اللحاد من الفلسفة الطبيعيين ‪ ،‬وأخذ مبدأ العدالة‬
‫ل‪" :‬هذه نظرية علمية لن سان سيمون‬ ‫الشتراكية من سان ‪ ،‬و َ‬
‫قا َ‬
‫وتوماس مور وأفلطون كلهم مثاليون خياليون غير حقيقيين‪ ،‬وأما‬
‫عَلى حتميات التطور‪ ،‬لن نظرية‬ ‫نظريتي فهي علمية‪ ،‬لنها مبنية َ‬
‫سان تطور"‪ ،‬وحقيقة أوروبا كانت تعيش في‬ ‫لن َ‬
‫ماركس ‪" :‬أن ا ِ‬
‫تطور من عصر القطاع إ َِلى عصر الحضارة‪ ،‬فهذه النظرية تتفق مع‬
‫العلم ومع التطور‪ ،‬فاشتراكيتي وشيوعيتي فقط هي العلمية‪ ،‬وأما‬
‫عَلى خيال وأخلق‪،‬‬‫اشتراكية من قبلي‪ ،‬فهي مثالية‪ ،‬لنها مبنية َ‬
‫وأما أنا فل أنظر إ َِلى الخلق ولكن أنظر إ َِلى العلم‪ ،‬والتاريخ يتطور‬
‫حتما ً من مرحلة إ َِلى مرحلة‪ ،‬والشيوعية مرحلة حتمية في تاريخ‬
‫سان‪ .‬فهذه خلصة إنكار الله عند الشيوعيون‪ ،‬فهي نظرية‬ ‫لن َ‬
‫ا ِ‬
‫عَلى البشرية وعلى كل الديان سماها بالطبيعة‪ ،‬وتبعه‬ ‫يهودي حاقد َ‬
‫من الغرب من تبعه‪.‬‬

‫قا َ‬
‫ل‪ :‬إن قلنا‪" :‬الله" عدنا‬ ‫وهناك مفكر غربي ملحد اسمه أدنكتوت َ‬
‫ل‪" :‬الطبيعة" فهذا إنسان جاهل‬ ‫إ َِلى مشاكل الكنيسة‪ ،‬ومن َ‬
‫قا َ‬
‫م وجد أن علماء عصره يسمونها "الصدفة"‪ ،‬فإذا‬ ‫أحمق ومغفل‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫سئلوا‪ :‬كيف نشأ الكون؟ قالوا‪ :‬صدفة‪ .‬فلم يجد بدا ً أن يسمي‬
‫سان هو ضد المصادفة ول‬ ‫لن َ‬‫نظريته‪" :‬ضد المصادفة"‪ ،‬فالذي أنشأ ا ِ‬
‫يقدر أن يقول‪ :‬الله‪ ،‬لن الله هو ذلك التابع للكنيسة‪ .‬فكلم شارح‬
‫عَلى الحقيقة‪،‬‬‫الطحاوية حق‪ ،‬وهو أنه ل يوجد أحد ينكر وجود الله َ‬
‫لكن الشيوعيون والملحدة يسمونه بغير اسمه‪ ،‬فهذا مجمع عليه‬
‫سان حتى الطفال يسألون في كل شيء من أتى‬ ‫لن َ‬
‫بين بني ا ِ‬
‫بهذا؟‬

‫لن الفطرة في ذهن البشر أنه لبد وراء كل موجود من فاعل‪،‬‬


‫جاءَ به ال َن ْب َِياء هو أن يعبد هذا الخالق وحده ل شريك‬ ‫ولذلك الذي َ‬
‫جاءَ في الحديث القدسي‪ :‬إنني والجن والنس لفي أمر‬ ‫له‪ ،‬كما َ‬
‫عاَلى يفضح‬‫عظيم أخلق ويعبد غيري‪ ،‬وأرزق ويشكر سواي( والله ت َ َ‬
‫كل معاند وكل جبار وكل كذاب‪ ،‬فمسيلمة مثل ً يتفل في عين‬
‫الرجل حتى تبرأ فتعمى عينه فضيحة من الله‪ ،‬حيث أراد أن يتشبه‬
‫م عندما تفل في عين علي فبرأت‪ ،‬ولم‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫مد َ‬
‫ح ّ‬
‫م َ‬
‫ب ُ‬
‫يوجد أحد ادعى أنه خلق أبدًا‪ ،‬وما ادعاه الكذابون فقد فضحهم الله‪،‬‬
‫لئل يغتر بهم أحد‪.‬‬

‫عَلى ذلك الدلئل الفطرية‪ ،‬واليات الكونية‪ ،‬والبراهين‬


‫ويدل َ‬
‫العقلية‪ ،‬ولذلك قال المصنف‪] :‬ومنهم من اعترف بالعجز عن تقرير‬
‫هذا بالعقل‪ ،‬وزعم أنه يتلقى من السمع[‪.‬‬

‫سان وهو‬ ‫لن َ‬‫إثبات وجود الله موجود في الفطرة قبل أن يعقل ا ِ‬
‫م‬‫ه ْ‬‫ر ِ‬‫هو ِ‬‫ن ظُ ُ‬‫م ْ‬
‫م ِ‬‫ن ب َِني آدَ َ‬ ‫م ْ‬‫ك ِ‬ ‫خذَ َرب ّ َ‬‫وإ ِذْ أ َ َ‬
‫َ‬ ‫"الميثاق الفطري"‪.‬‬
‫قاُلوا ب ََلى َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وأ َ ْ‬
‫هدَْنا‬‫ش ِ‬ ‫م َ‬ ‫ت ب َِرب ّك ُ ْ‬
‫س ُ‬‫م أل َ ْ‬ ‫ه ْ‬‫س ِ‬
‫ف ِ‬ ‫عَلى أن ْ ُ‬
‫م َ‬‫ه ْ‬
‫هد َ ُ‬
‫ش َ‬ ‫م َ‬ ‫ذُّري ّت َ ُ‬
‫ه ْ‬
‫]العراف‪ [172:‬فإذا تحركت العقول بالنظر فإنها ل تخرج إل بهذه‬
‫النتيجة‪ ،‬وهو أنه موجود‪.‬‬
‫أم كيف يجحده الجاحـد‬ ‫فواعجبا ً كيف يعصى الله‬
‫تـدل عََلى أنه واحـد‬ ‫وفي كل شيء لـه آيــة‬
‫عاَلى الذي سبق ومنه هذا الكلم‪:‬‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫ه تَ َ‬ ‫م ُ‬‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬
‫م ْ‬
‫وأما قول ال ُ‬
‫]وقد زعم طائفة أن فرعون سأل موسى مستفهما ً عن الماهية‪،‬‬
‫وأن المسؤول عنه لما لم تكن له ماهية‪ ،‬عجز موسى عن الجواب‪،‬‬
‫وهذا غلط‪ ،.‬وإنما هذا استفهام إنكار وجحد كما دل سائر آيات‬
‫ن جاحدا ً لله نافيا ً له‪ ،‬لم يكن مثبتا ً له طالبا ً‬ ‫كا َ‬‫عَلى أنفرعون َ‬ ‫ال ُ‬
‫قْرآن َ‬
‫للعلم بماهيته‪ ،‬فلهذا بين لهم موسى أنه معروف‪ ،‬وأن آياته ودلئل‬
‫ربو بيته أظهر وأشهر من أن يسأل عنه بما هو؟ بل هو سبحانه‬
‫أعرف وأظهر وأبين من أن يجهل‪ ،‬بل معرفته مستقرة في الفطر‬
‫أعظم من معرفة كل معروف[‪.‬‬
‫• كلم حول الماهية‬
‫صّنف هنا فتكلم عن مسألة الماهية‪.‬‬
‫م ْ‬
‫استطرد ال ُ‬
‫و "أي"‪.‬‬
‫يقول علماء المنطق‪ :‬السؤال عن الماهية له أداتان "ما" َ‬
‫فـ"ما"‪ :‬تسأل به عن الشيء لتعرف ماهيته أو حقيقته‪.‬‬

‫و"أي"‪ :‬تسأل به عن الشيء لتخصيصه عن غيره‪.‬‬

‫ن ]الشعراء‪ [23:‬سأل موسى‬ ‫مي َ‬‫عال َ ِ‬


‫ب ال ْ َ‬‫ما َر ّ‬
‫و َ‬
‫َ‬ ‫ولما قال فرعون‪:‬‬
‫عن الماهية‪ ،‬لن "ما" أداة الماهية‪ ،‬فعجز موسى عن شرح ماهية‬
‫ما‬ ‫ْ َ‬ ‫قا َ‬‫الله‪ ،‬فعدل عن الجواب و َ‬
‫ه َ‬
‫ما ب َي ْن َ ُ‬
‫و َ‬
‫ض َ‬
‫والْر ِ‬ ‫ت َ‬
‫وا ِ‬
‫ما َ‬
‫س َ‬
‫ب ال ّ‬
‫َر ّ‬ ‫ل‪:‬‬
‫]الشعراء‪ [24:‬وهذا الكلم خطأ متناقض‪.‬‬
‫وذلك أنفرعون لم يكن يعرف علم المنطق ول الماهية معروفا ً‬
‫ب‬
‫ما َر ّ‬‫و َ‬ ‫َ‬ ‫قا َ‬
‫ل‪:‬‬ ‫عنده‪ ،‬وإنما أراد أن يجحد وينكر أن يكون هناك إله‪ ،‬ف َ‬
‫ن ]الشعراء‪ [23:‬أي‪ :‬ليس موجودا ً هذا الله‪ ،‬ولذلك لما‬ ‫عال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫وِلي َ‬‫م اْل ّ‬ ‫ب آَبائ ِك ُ ُ‬ ‫وَر ّ‬‫م َ‬‫ألزمته الحجة وقال له موسى‪َ ) :‬رب ّك ُ ْ‬
‫ُ‬
‫ن‬
‫جُنو ٌ‬‫م ْ‬ ‫م لَ َ‬
‫ل إ ِل َي ْك ُ ْ‬
‫س َ‬‫ذي أْر ِ‬ ‫م ال ّ ِ‬
‫سول َك ُ ُ‬
‫ن َر ُ‬ ‫]الشعراء‪َ [26:‬‬
‫قا َ‬
‫ل‪ :‬إ ِ ّ‬
‫]الشعراء‪.[27:‬‬
‫فلم يكن له حجة‪ ،‬ولذا نسب كلم موسى للجنون‪ ،‬ولم يكن‬
‫جاءَ وقت الشدة‬‫مقصوده الستفهام عن ماهية الله‪ ،‬ولذلك لما َ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫سرائيل ]يونس‪[90:‬‬ ‫ه ب َُنو إ ِ ْ‬
‫ت بِ ِ‬‫من َ ْ‬ ‫ه إ ِّل ال ّ ِ‬
‫ذي آ َ‬ ‫ه ل إ ِل َ َ‬ ‫ت أن ّ ُ‬
‫من ْ ُ‬
‫ل‪ :‬آ َ‬ ‫َ‬
‫قا َ‬
‫ن عالما ً بوجود الله‪ ،‬ولكنه أنكر ذلك جحدا ً‬ ‫كا َ‬ ‫فالشاهد أنفرعون َ‬
‫ن ]الشعراء‪ [23:‬هو إنكار وجحد‪ ،‬وأما‬ ‫مي َ‬ ‫عال َ ِ‬ ‫ب ال ْ َ‬
‫ما َر ّ‬ ‫و َ‬
‫َ‬ ‫وقوله‪:‬‬
‫على الذات مجردة من‬ ‫َ‬ ‫الصطلح المنطقي عن الماهية‪ ،‬وأنها تطلق َ‬
‫الصفات ‪-‬أي عن الحقيقة الكلية الوجودية‪ -‬فهذا كلم ل داعي بأن‬
‫نتعب أنفسنا فيه وهو باطل ومردود‪.‬‬
‫التوحيد ‪3‬‬
‫يتحدث الشيخ هنا عن توحيد الربوبية‪ ،‬وكيف حرص النبي صلى الله عليه وسلم على‬
‫حماية جناب التوحيد وسد الذرائع الموصلة إلى الشرك‪ ،‬ثم يتكلم عن أسباب الشرك‬
‫ويبين بعضها‪.‬‬
‫‪ - 1‬توحيد الربوبية‬
‫ه ت ََعاَلى‪:‬‬ ‫ه الل ُ‬ ‫م ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ف َر ِ‬ ‫مصن ّ ُ‬ ‫يقول ال ُ‬
‫ن للعالم‬ ‫كا َ‬ ‫]والمشهور عند أهل النظر إثباته بدليل التمانع‪ ،‬وهو‪ :‬أنه لو َ‬
‫صانعان فعند اختلفهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم والخر‬
‫تسكينه‪ ،‬أو يريد أحدهما إحياءه والخر إماتته‪ -‬فإما أن يحصل مرادهما أو‬
‫مراد أحدهما أو ل يحصل مراد واحد منهما‪ ،‬والول ممتنع‪ ،‬لنه يستلزم‬
‫الجمع بين الضدين‪ ،‬والثالث ممتنع‪ ،‬لنه يلزم خلو الجسم عن الحركة‬
‫والسكون‪ ،‬وهو ممتنع‪ ،‬ويستلزم أيضا ً عجز كل منهما‪ ،‬والعاجز ل يكون‬
‫ن هذا هو الله القادر‪ ،‬والخر‬ ‫كا َ‬ ‫إلها‪ ،‬وإذا حصل مراد أحدهما دون الخر‪َ ،‬‬
‫عَلى هذا الصل معروف في‬ ‫عاجزا ً ل يصلح لللهية‪ ،‬وتمام الكلم َ‬
‫موضعه‪ ،‬وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله‬
‫سدََتا ]النبياء‪ [22:‬لعتقادهم أن‬ ‫ف َ‬ ‫ه لَ َ‬‫ة إ ِّل الل ّ ُ‬‫ه ٌ‬ ‫ما آل ِ َ‬ ‫ه َ‬ ‫في ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫و َ‬ ‫تعالى‪ :‬ل َ ْ‬
‫توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد اللهية الذي بينه القرآن‪ ،‬ودعت‬
‫إليه الرسل عليهم السلم وليس المر كذلك‪ ،،‬بل التوحيد الذي دعت إليه‬
‫الرسل‪ ،‬ونزلت به الكتب‪ ،‬هو توحيد اللهية المتضمن توحيد الربوبية‪ ،‬وهو‬
‫ن من العرب كانوا يقرون‬ ‫كي َ‬ ‫ر ِ‬‫ش ِ‬ ‫م ْ‬‫عبادة الله وحده ل شريك له‪ ،‬فإن ال ْ ُ‬
‫عاَلى عنهم‬ ‫بتوحيد الربوبية‪ ،‬وأن خالق السموات والرض واحد‪ ،‬كما أخبر ت َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ه)(‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫قول ُ ّ‬ ‫ض ل َي َ ُ‬ ‫واْلْر َ‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫ق ال ّ‬ ‫خل َ َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫سأل ْت َ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ول َئ ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫بقوله‪:‬‬
‫َ‬
‫ن‬
‫مو َ‬ ‫عل َ ُ‬ ‫م تَ ْ‬‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ها إ ِ ْ‬ ‫في َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫و َ‬‫ض َ‬ ‫ن اْلْر ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ل لِ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ُ‬ ‫]لقمان‪[25:‬‬

‫ن ]المؤمنون‪ [85 ،84:‬ومثل هذا كثير في‬ ‫فل ت َذَك ُّرو َ‬ ‫ل أَ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫ن ل ِل ّ ِ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫سي َ ُ‬‫َ‬
‫القرآن‪ ،‬ولم يكونوا يعتقدون في الصنام أنها مشاركة لله في خلق‬
‫ن حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي المم من الهند‬ ‫كا َ‬ ‫العالم‪ ،‬بل َ‬
‫والترك والبربر وغيرهم‪ ،‬تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من‬
‫ال َن ْب َِياء والصالحين‪ ،‬ويتخذونهم شفعاء‪ ،‬ويتوسلون بهم إ َِلى الله‪ ،‬وهذا‬
‫قاُلوا ل ت َذَُر ّ‬
‫ن‬ ‫و َ‬
‫َ‬ ‫عاَلى حكاية عن قوم نوح‪:‬‬ ‫ن أصل شرك العرب‪ ،‬قال ت َ َ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫سرا ً ]نوح‪ [23:‬وقد‬ ‫ون َ ْ‬ ‫عوقَ َ‬ ‫وي َ ُ‬‫ث َ‬ ‫غو َ‬ ‫ول ي َ ُ‬ ‫واعا ً َ‬ ‫س َ‬‫ول ُ‬ ‫ودّا ً َ‬ ‫ن َ‬ ‫ول ت َذَُر ّ‬ ‫م َ‬ ‫هت َك ُ ْ‬‫آل ِ َ‬
‫َ‬
‫ي ‪ ،‬وكتب التفسير‪ ،‬وقصص الن ْب َِياء وغيرها‪ ،‬عن‬ ‫ر ّ‬ ‫خا ِ‬ ‫ثبت في صحيح الب ُ َ‬
‫ابن عباس رضي الله عنهماـ وغيره من السلف ‪ ،‬أن هذه أسماء قوم‬
‫م صوروا‬ ‫عَلى قبورهم‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫صالحين في قوم نوح‪ ،‬فلما ماتوا عكفوا َ‬
‫م طال عليهم المد فعبدوهم‪ ،‬وأن هذه الصنام بعينها صارت‬ ‫تماثيلهم‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫إ َِلى قبائل العرب ‪ ،‬ذكرها ابن عباس ـرضي الله عنهماـ قبيلة قبيلة[‪ .‬اهـ‬

‫الشرح‪-:‬‬
‫عاَلى والقرار بتوحيد الربوبية في‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫ف أن وجود الله ُ‬ ‫مصن ّ ُ‬
‫ذكر ال ُ‬
‫الجملة أمر مجمع عليه‪ ،‬مفطورة عليه الخلئق‪ ،‬وذكر عجز المتكلمين‬
‫وأصحاب النظر والجتهاد العقلي‪ ،‬أو البحث الكلمي‪ ،‬وأنهم كلما جاؤوا‬
‫عاَلى َ‬
‫جاءَ الفلسفة فأبطلوا‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫عَلى وجود الله ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫بدليل وضعوه َ‬
‫عليهم هذا الدليل‪ ،‬فتناقض القول بذلك؛ لن المتكلمين يضعون أدلة من‬
‫جنس قواعد الفلسفة ‪ -‬والفلسفة أعلم بقواعدهم‪ -‬فإذا وضعوا دليل ً‬
‫ك من قواعدهم وكلمهم‪.‬‬ ‫من كلمهم هدمه ُأول َئ ِ َ‬

‫فلذلك اضطر بعضهم أن يقول‪ :‬إن وجود الله وتوحيد الربوبية‪ ،‬أمر ثابت‬
‫بالسمع وبالوحي فقط‪ ،‬بحيث لو لم يرد به الوحي فإن العقول تعجز عن‬
‫إثباته؛ لنه ما من دليل تضعه العقول إل وتأتي عقول أخرى تنقض هذا‬
‫قاُلوا‪ :‬إن القضية قضية‬ ‫ف َ‬‫الدليل‪ ،‬وهذا الذي بلغ بهم حتى أن أقروا بذلك‪َ ،‬‬
‫ي‪ ،‬وهذا من تفريطهم وجهلهم‪ ،‬وقد أوضحنا أن الله سبحانه‬ ‫خبرية ووح ٌ‬
‫وتعالى لما نزل هذا القرآن أنزل فيه أدلة برهانية‪ ،‬فهو أمر تسمعه‪،‬‬
‫وخبر من عند الله تعتقده‪ ،‬وليس بنظريات فلسفية وإنما هو تنزيل من‬
‫العزيز الحكيم سبحانه وتعالى ومع ذلك يشتمل على‪ :‬البراهين القوية‬
‫التي ليس في بابها أشد وأعظم إقناعا ً منها‪ ،‬فذكر سبحانه تعالى اليمان‬
‫باليوم الخر‪ ،‬وذكر صدق أنبيائه‪ ،‬بأقوى البراهين وأقوى الحجج‪ ،‬بل‬
‫ن‬
‫قي َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م صاِد ِ‬ ‫هان َك ُ ْ‬
‫م إِ ْ‬ ‫هاُتوا ب ُْر َ‬
‫ل َ‬ ‫ُ‬
‫ق ْ‬ ‫ويتحدى المشركين ويقول‪:‬‬
‫]البقرة‪]،[111:‬النمل‪.[64:‬‬

‫قْرآن من‬‫ل‪ :‬قضية النبوة هي من أهم قضايا العقيدة‪ ،‬وقد ذكر لنا ال ُ‬ ‫فمث ً‬
‫عَلى صدق ال َن ْب َِياء ما يذعن له كل أحد مهما قيل عن‬
‫الدلئل العظيمة َ‬
‫عقله‪ ،‬إل أن يكون مكابرا ً معاندًا‪ ،‬فإن العناد طبع وجبلة في أعداء الله‬
‫المستكبرين‪ ،‬وما من نبي بعثه الله إل وله أعداء‪.‬‬
‫صيرا ً‬ ‫هاِديا ً َ‬
‫ون َ ِ‬ ‫فى ب َِرب ّ َ‬
‫ك َ‬ ‫وك َ َ‬
‫ن َ‬
‫مي َ‬
‫ر ِ‬‫ج ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫وا ً ِ‬
‫م َ‬ ‫عد ُ ّ‬
‫ي َ‬ ‫عل َْنا ل ِك ُ ّ‬
‫ل ن َب ِ ّ‬ ‫ج َ‬ ‫وك َذَل ِ َ‬
‫ك َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫]الفرقان‪ [31:‬وكل نبي ينقسم قومه إ ِلى فريقين‪:‬‬

‫‪-1‬المل الذين استكبروا وهم الطبقة العليا أصحاب المناصب‪.‬‬

‫‪-2‬والمل الذين استضعفوا وهم التباع وحواشي الناس‪ ،‬وطبيعة الطبقة‬


‫العليا ‪-‬المستكبرين في الرض‪ -‬أنهم يحادون ويعاندون أي دعوة جديدة‪،‬‬
‫وخاصة إذا كانت ناشئة من الطبقات الدنيا‪ ،‬الذين ل مال لهم ولجاه‬
‫ن‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫قْري َت َي ْ ِ‬ ‫م َ‬
‫ل ِ‬ ‫عَلى َر ُ‬
‫ج ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫قْرآن آ ُ‬ ‫ذا ال ُ‬
‫ه َ‬
‫ل َ‬ ‫عندهم‪ ،‬ولذلك قالوا‪ :‬ل َ ْ‬
‫ول ن ُّز َ‬
‫م ليس من أصحاب‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬‫ظيم ٍ ]الزخرف‪ [31:‬لن النبي صّلى الل ُ‬ ‫ع ِ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫عَلى الن ْب َِياء بهذه‬ ‫الثرآء‪ ،‬ول من أصحاب الموال‪ ،‬فيعترضون َ‬
‫العتراضات‪.‬‬

‫سلم‪ ،‬كل نبي يعترض عليه‬ ‫عل َي ْ ِ‬


‫ه ال ّ‬ ‫فالعتراضات قديمة من عهد نوح َ‬
‫باعتراضات قديمة‪ ،‬والنبياء يأتون بالحجج والبراهين واليات البينات‪،‬‬
‫التي ل يملك أي بشر إل أن يؤمن بنبوتهم‪ ،‬ومن ث ُ ّ‬
‫م يؤمن بأن الله‬
‫عاَلى حق‪ ،‬فإن أعتى طواغيت العالم ‪-‬وهوفرعون‪ -‬يتحدث عنه‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫ُ‬
‫ً‬
‫قْرآن أنه يأتيهم هذا النبي وحده منفردا‪ ،‬قد نشأ وتربى في بيته وفي‬ ‫ال ُ‬
‫رعايته‪ ،‬ولم يكن يدري أن له أبا ً ول أما ً ول أحدًا‪ ،‬وإنما هو لقيط‪ ،‬التقطه‬
‫م يأتي ويقتل النفس ويهرب‪ ،‬ويقدر الله سبحانه أن‬ ‫من البحر ورّباه‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫يأتي هذا الذي تطالبه العدالة‪ ،‬وتبحث عنه لتقتص منه‪ ،‬وإذا به يدعي‬
‫النبوة‪.‬‬

‫وجاء بدعوة جديدة غريبة‪ ،‬ل يطيق فرعون أن يسمعها ول يأبه لها‪ ،‬فهل‬
‫قال له موسى‪ :‬القضية خبرية؟!‬
‫ل َ ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫ن ك ُن ْ َ‬ ‫ه إِ ْ‬‫ت بِ ِ‬‫فأ ِ‬ ‫قا َ‬ ‫ن* َ‬ ‫مِبي ٍ‬ ‫ء ُ‬ ‫ي ٍ‬‫ش ْ‬ ‫ك بِ َ‬ ‫جئ ْت ُ َ‬‫و ِ‬‫ول َ ْ‬
‫ل‪ :‬أ َ‬ ‫قا َ‬ ‫ل‪ ،‬إنما َ‬
‫ن ]الشعراء‪ [30،31:‬فأخرج يده فإذا هي بيضاء للناظرين‪،‬‬ ‫قي َ‬ ‫صاِد ِ‬ ‫ال َ‬
‫م تأتي المناظرة العظمي حيث أراد‬ ‫ووضع العصا فإذا هي حية تسعى‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫عَلى المل مثل ما ادعى الربوبية‬ ‫عاَلى أن يفضح فرعون َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ك َ‬ ‫الله ت ََباَر َ‬
‫في‬ ‫ث ِ‬ ‫ع ْ‬
‫واب ْ َ‬‫خاهُ َ‬ ‫وأ َ َ‬
‫ه َ‬‫ج ْ‬
‫َ‬
‫قاُلوا‪ :‬أْر ِ‬ ‫عَلى المل فشاور قومه‪ ،‬فأشاروا عليه َ‬
‫ف َ‬ ‫َ‬
‫ً‬
‫ن ]الشعراء‪ ،[36:‬فالمر بسيط جدا‪ ،‬ليس هناك أمة‬ ‫ري َ‬‫ش ِ‬‫حا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ْ‬
‫دائ ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ال َ‬
‫يجتمع لديها من السحرة أكثر من أمتنا‪ ،‬فليجمع السحرة جميعًا‪ ،‬وكانت‬
‫ة من الله‪ ،‬لنه لو بقي أحد لقالوا‪ :‬بقي سحرة‪ ،‬فجاء السحرة‬ ‫حكم ً‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أجمعون‪ ،‬واحتاط فرعون بحيث لم يترك أحدا‪ ،‬وجاؤوا جميعا ليتحدوا هذا‬
‫َ‬
‫حُر ]الزخرف‪ [49:‬فأمرهم موسى‬ ‫سا ِ‬ ‫ها ال ّ‬ ‫قاُلوا َيا أي ّ َ‬ ‫و َ‬‫َ‬ ‫الساحر بزعمهم‪:‬‬
‫سلم‪ ،‬ولم‬ ‫ه ال ّ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫سلم بإلقاء عصيهم‪ ،‬فلما ألقوها‪ ،‬خاف موسى َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫َ‬
‫يتوقع أن الله يوحي إليه‪ ،‬ول أن يوجهه إ َِلى هذا الطاغوت العنيد الجبار‪،‬‬
‫ن ]العراف‪[117،118:‬‬ ‫كو َ‬ ‫ف ُ‬‫ما ي َأ ْ ِ‬
‫ف َ‬ ‫ق ُ‬ ‫ي ت َل ْ َ‬‫ه َ‬ ‫ذا ِ‬‫فإ ِ َ‬‫عصاهُ َ‬ ‫سى َ‬ ‫مو َ‬ ‫قى ُ‬ ‫فأ َل ْ َ‬
‫َ‬
‫فأتى بآيات عظيمة ل يمكن لحد أن يماري فيها‪ ،‬ل من السحرة ول من‬
‫الجمهور‪ ،‬ول من المل المستكبرين في الرض‪.‬‬

‫فتأتي هذه الحية فتلقف جميع الحيات‪ ،‬ويأتي السحرة الذين أتى بهم‬
‫ب‬ ‫قاُلوا آ َ‬
‫مّنا ب َِر ّ‬ ‫ن* َ‬
‫دي َ‬
‫ج ِ‬
‫سا ِ‬
‫حَرةُ َ‬
‫س َ‬
‫ي ال ّ‬ ‫فأ ُل ْ ِ‬
‫ق َ‬ ‫َ‬ ‫ل‪ :‬إن لكم لجرًا‪،‬‬ ‫فرعون‪ .‬و َ‬
‫قا َ‬
‫ن ]الشعراء‪.[48-46:‬‬ ‫هاُرو َ‬‫و َ‬
‫سى َ‬
‫مو َ‬
‫ب ُ‬
‫ن * َر ّ‬ ‫عال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫فأي حجة أعظم من هذه الحجة‪ ،‬وأي فضيحة أخزى وأذل لعداء الله من‬
‫عَلى‬‫هذه الفضيحة‪ ،‬فكل نبي من ال َن ْب َِياء يأتي بآية ومعجزة وبرهان يدل َ‬
‫أن المسألة ليست مجرد وحي أو سماع فقط‪ ،‬وإنما الوحي نفسه يأتي‬
‫بالدلة والبراهين الجدلية‪ ،‬التي ل يقوى أي مجادل ول مناظر أن يقف‬
‫أمامها بإطلق‪ ،‬وأقل ال َن ْب َِياء معجزة هو شعيب‪ ،‬وكل نبي من ال َن ْب َِياء‬
‫ة إل أن يتحدى‬ ‫سماها الله سبحانه‪ -‬ولو لم يأت بآي ٍ‬ ‫يأتي بآية بينة ‪-‬كما ّ‬
‫قومه بأن الله سبحانه سيعصمه وسيحميه من مكرهم ومن شرهم‪ ،‬فهذه‬
‫عَلى صدق‬ ‫معجزة عظمى‪ ،‬وآية بينة‪ ،‬لو تأملتها المم! كل ذلك بينات َ‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫ه َ‬ ‫النبياء‪ ،‬ولم يقف أي مناظر ول مجادل في وجه النبي صّلى الل ُ‬
‫جاءَ وفد نجران إلى المدينة وأخذوا‬ ‫م‪ ،‬فقد جادله اليهود‪ ،‬ولما َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬‫َ‬
‫عالى‪ -‬عليه‬‫َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ك َ‬ ‫م‪ ،‬فأنزل الله ‪-‬ت ََباَر َ‬ ‫ّ‬
‫سل َ‬ ‫و َ‬‫ه َ‬ ‫َ‬
‫علي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫يجادلون النبي صلى الل ُ‬
‫صدر سورة "آل عمران" وقرأها عليهم وجادلهم بما فيها‪ ،‬وكذلك جادله‬
‫ن طويل ً وأكثروا الجدال‪ ،‬وكذلك أصحابه من بعده‪ ،‬ما وقف في‬ ‫كو َ‬‫ر ُ‬
‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ُ‬
‫وجههم أي مجادل ول مناظر‪ ،‬بل كانت الحجة والبينة والبرهان الساطع‬
‫عاَلى هم‬
‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫بين أيديهم دائما ً في كل موقف‪ ،‬ولهذا جعلهم الله ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫العلون‪ :‬العلون في الحجة والبيان‪ ،‬والعلون في السيف والسنان‪،‬‬
‫عَلى ربوبيته هو عجز لهم‪ ،‬لنهم رفضوا‬ ‫فعجز المتكلمون عن إثبات دليل َ‬
‫قْرآن ‪-‬وهو اليقين‪ -‬واتبعوا مناهج الفلسفة واليونان المتقدمين‪،‬‬ ‫منهج ال ُ‬
‫ك وعجزوا‪.‬‬ ‫ُ‬
‫فأفحمهم أول َئ ِ َ‬

‫عَلى وجود الله‪ ،‬ول‬ ‫ودليل التمانع‪ :‬قال بعض المتكلمين عنه‪ :‬عندنا دليل َ‬
‫يستطيع أحد أن ينقضه‪ .‬فلو افترضنا أن للعالم إلهين متماثلين‪ ،‬فل بد‬
‫أن لكل منهما إرادة مستقلة عن الخر‪ ،‬فتأتي لجسم من الجسام‬
‫أحدهما‪ :‬يريد تحريكه‪ ،‬والخر‪ :‬يريد تسكينه‪ ،‬فإما أن تتحقق الرادتان‬
‫وهذا ممتنع‪ ،‬لنه ل يمكن أن يكون الجسم الواحد متحرك وساكن في‬
‫لحظة واحدة! وإما أن ل تتحقق الرادتان معا ً وهذا باطل‪ ،‬لن الجسم ل‬
‫يخلوا عن الحركة أو السكون وأيضا ً إذا بطلت الرادتان معًا‪ ،‬فهما‬
‫عاجزان كلهما‪ ،‬فل بد أن تتحقق إرادة واحد منهما‪ ،‬ول تتحقق إرادة‬
‫قاُلوا‪:‬‬ ‫ف َ‬‫الخر‪ ،‬فالذي تتحقق إرادته‪ :‬هو الله الواحد‪ ،‬والخر ليس بإله‪َ ،‬‬
‫عَلى إثبات وحدانية الله‪ ،‬وهذا غاية ما عند المتكلمين‪،‬‬ ‫هذا دليل عقلي َ‬
‫قاُلوا‪ :‬هذا‬ ‫و َ‬‫عاَلى َ‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫وهو يبين لنا هزال المتكلمين وجهلهم بالله ُ‬
‫جاءَ به القرآن‪ ،‬وهم في الحقيقة أخذوه من علماء اليونان‬ ‫الدليل العقلي َ‬
‫ه‬‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫الذين كانوا يثبتون وجود الله بهذه الطريقة التي أغنانا الله ُ‬
‫عاَلى عنها‪.‬‬
‫وت َ َ‬
‫َ‬
‫سدََتا‬
‫ف َ‬ ‫ه لَ َ‬
‫ة إ ِّل الل ّ ُ‬
‫ه ٌ‬
‫ما آل ِ َ‬
‫ه َ‬
‫في ِ‬
‫ن ِ‬
‫كا َ‬ ‫عَلى ذلك قول الله‪ :‬ل َ ْ‬
‫و َ‬ ‫قالوا‪ :‬والدليل َ‬
‫ن هناك أكثر من إله‪ ،‬لراد هذا الله أن يحرك‬ ‫]النبياء‪ [22:‬أي‪ :‬لو َ‬
‫كا َ‬
‫السموات والرض‪ ،‬والله الخر ل يريد أن تتحرك‪ ،‬فإما أن تتفق‬
‫الرادتان‪ ،‬وإما أن تتخلف الرادتان‪ ،‬وإما أن تتحقق إرادة واحدة‪،‬‬
‫عاَلى‪.‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫والموجود في العالم اليوم هو إرادة إله واحد وهو الله ُ‬
‫عاَلى‪ :-‬بأن التوحيد الذي قرره الله‬ ‫ه تَ َ‬
‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف ‪َ-‬ر ِ‬
‫مصن ّ ُ‬
‫وقد رد عليهم ال ُ‬
‫عاَلى في هذه الية ليس هو توحيد الخلق توحيد الربوبية‪ ،‬وإنما‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫ُ‬
‫َ‬
‫المراد بالتوحيد هنا هو‪ :‬توحيد اللوهية‪ ،‬وهو موضوع المعركة بين الن ْب َِياء‬
‫والرسل وبين قومهم‪ ،‬فالذي جاءت به هذه اليات أنه إذا عبد غير الله‬
‫عاَلى حصل الفساد‪ ،‬لن المعبود واحد‪.‬‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬ ‫ُ‬
‫عَلى‬‫عاَلى‪ -‬ول فساد َ‬
‫وت َ َ‬ ‫فالمعبود في السماء واحد‪ ،‬وهو الله ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫الطلق في السماء‪ ،‬وإنما هنالك الملئكة الذين يسبحون الليل والنهار ل‬
‫يفترون‪ ،‬ل يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون‪ ،‬فننفي الفساد‬
‫ذي‬‫و ال ّ ِ‬ ‫ه َ‬
‫و ُ‬‫َ‬ ‫قا َ‬
‫ل‪:‬‬ ‫عاَلى َ‬ ‫وت َ َ‬‫ك َ‬ ‫عنها‪ ،‬لن المعبود في السماء واحد‪ ،‬والله ت ََباَر َ‬
‫ض إ َِله ]الزخرف‪ [84:‬يعني‪ :‬وهو الذي في‬ ‫ْ َ‬
‫في الْر ِ‬ ‫و ِ‬‫ه َ‬ ‫ء إ ِل َ ٌ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬‫في ال ّ‬ ‫ِ‬
‫السماء معبود وفي الرض معبود‪ ،‬فأما في السماء فظاهر‪ ،‬وصلح‬
‫عاَلى هو وحده المعبود فيها‪ ،‬كما قال‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬ ‫السماء ظاهر‪ ،‬بأن الله ُ‬
‫م‪) :‬أطت السماء وحق لها أن تئط‪ ،‬ما فيها موضع‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫شبر إل وفيها ملك ساجد أو راكع أو قائم( ولهذا انتفى عنهم الفساد‪،‬‬
‫ماءَ ]البقرة‪،[30:‬‬ ‫ف ُ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫ع ُ‬ ‫َ‬
‫ك الدّ َ‬ ‫س ِ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫ها َ‬ ‫في َ‬
‫سد ُ ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ها َ‬ ‫في َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ج َ‬ ‫ولهذا قالوا‪ :‬أت َ ْ‬
‫ة‬
‫ه ٌ‬‫ما آل ِ َ‬‫ه َ‬‫في ِ‬
‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ن لَ ْ‬
‫و َ‬ ‫شُرو َ‬ ‫م ي ُن ْ ِ‬ ‫ه ْ‬‫ض ُ‬ ‫ْ َ‬
‫ن الْر ِ‬ ‫م َ‬ ‫ة ِ‬ ‫ه ً‬ ‫ذوا آل ِ َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ل‪ :‬أ َم ِ ات ّ َ‬ ‫قا َ‬ ‫ولذلك َ‬
‫عاَلى ذكر أنهم اتخذوا‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫سدََتا ]النبياء‪ [21،22:‬فالله ُ‬ ‫ف َ‬ ‫ه لَ َ‬ ‫إ ِّل الل ّ ُ‬
‫آلهة في الرض‪ ،‬وأما السماء فلن الملئكة المقربين لم يعبدوا غير الله‪،‬‬
‫ولم يتخذوا إلها ً غيره؛ فالصلح فيها ظاهر‪ ،‬والصلح ظاهر في المكان‬
‫الذي يعبد فيه الله وحده في الرض‪ ،‬وأما المكان الذي يعبد فيه مع الله‬
‫غيره؛ فإن فيه أكبر الفساد وأعظمه وهو الشرك‪.‬‬

‫فعلم بذلك أن توحيد الربوبية وتوحيد اللوهية متلزمان‪.‬‬

‫وأما من حيث أن نظام الكون لم يختل‪ ،‬لنه من صنع إله واحد سبحانه‬
‫فهذا حق‪ ،‬لكنه ليس هو كل الحق‪ ،‬وإنما المراد ربط هذا الحق بالهم وهو‬
‫جانب اللوهية‪.‬‬

‫فإذا عبد الله ‪-‬سجانه وتعالى‪ -‬وحده ل شريك له‪ ،‬صلح الحال كله‪ ،‬لنه هو‬
‫عاَلى‪ -‬بعبادته‬
‫وت َ َ‬ ‫وحده الذي يدبر نظام الكون‪ ،‬وأما من صادم ربه ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫ذ يحصل الفساد في الرض‪.‬‬ ‫غير الله فحينئ ٍ‬
‫فالمؤمن يتآلف مع هذه المخلوقات جميعًا‪ ،‬لنه يشعر أنها تعبد الله‪،‬‬
‫ح‬ ‫ء إ ِّل ي ُ َ‬
‫سب ّ ُ‬ ‫ي ٍ‬ ‫ن َ‬
‫ش ْ‬ ‫م ْ‬
‫ن ِ‬
‫وإ ِ ْ‬
‫َ‬ ‫والنجم والشجر يسجدان‪ ،‬كل شيء يسجد لله‪،‬‬
‫هم ]السراء‪ [44:‬ويقول النبي صّلى الل ُ‬
‫ه‬ ‫ح ُ‬
‫سِبي َ‬
‫ن تَ ْ‬
‫هو َ‬ ‫ف َ‬
‫ق ُ‬ ‫ول َك ِ ْ‬
‫ن ل تَ ْ‬ ‫ه َ‬‫د ِ‬
‫م ِ‬‫ح ْ‬ ‫بِ َ‬
‫م عن أحد ‪) :‬جبل يحبنا ونحبه( ‪.‬‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫َ‬
‫عاَلى فنحن‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫فهناك علقة ومحبة بيننا وبين مخلوقات الله ُ‬
‫عالى‬‫َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫ً‬
‫نشعر بأن هناك ما يربطنا به‪ ،‬وهو‪ :‬عبوديتنا جميعا لله ُ‬
‫أما أعداء الله والمستكبرون فل ينظرون إليها إل نظرة العداوة‪ ،‬ولذلك‬
‫عَلى أن‬ ‫اصطلحت أوروبا منذ عصر ما يسمى‪" :‬عصر النهضة" إ َِلى اليوم َ‬
‫تسمي كل إنجاز أو اكتشاف علمي "قهرا ً للطبيعة" فإذا فتحوا طريقا ً‬
‫في الجبل‪ ،‬قالوا‪ :‬قهرنا الطبيعة‪ ،‬وفتحنا هذا الطريق‪ ،‬فالمسألة مقاهرة‬
‫عاَلى سخر له ذلك‪ ،‬فإن فعل‬ ‫ومغالبة ومعاندة‪ ،‬أما المؤمن فيثق أن الله ت َ َ‬
‫عالى‪ ،‬وهذا من‬ ‫َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫شيئا ً من هذا فإنه يقول‪ :‬هذا من فضل الله ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫عاَلى فهذا هو توحيد اللوهية المتضمن لتوحيد‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫تسخير الله ُ‬
‫الربوبية‪ ،‬والتوحيدان متلزمان‪.‬‬
‫• توحيد اللوهية متضمن لتوحيد الربوبية‬
‫قْرآن أو‬ ‫جاَء في ال ُ‬ ‫والتوحيد الذي جاءت به ال َن ْب َِياء هو‪ :‬توحيد اللوهية‪ ،‬فكل ما َ‬
‫في دعوات ال َن ْب َِياء من بيان توحيد الربوبية‪ ،‬فهو ليبني عليه اللزام بتوحيد‬
‫اللوهية‪ ،‬وهكذا كانت العرب ‪-‬كما ذكر المصنف‪ -‬في الجاهلية يقرون بأن الله‬
‫وحده ل شريك له‪ ،‬هو الله الذي خلق السموات والرض‪ ،‬وهو الذي يدبر المر‪،‬‬
‫ولكنهم اتخذوا من دونه آلهة أخرى لدعاوي عدة‪ ،‬إما أن هذه اللهة تقربهم إ َِلى‬
‫الله ت ََعاَلى زلفى! فهو الله الكبر‪ ،‬وهذه اللهة الصغرى واسطة بيننا وبين الله‬
‫الكبر‪ ،‬كما كانوا يقولون في تلبيتهم‪) :‬لبيك ل شريك لك‪ ،‬إل شريكا ً هو لك‪،‬‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫تملكه وما ملك( ووقع الشرك في المم بسبب تعظيم غير الله ‪ُ -‬‬
‫ن المقصود به عبادة الله‪ ،‬فأي بشر إن قدسته وعظمته بما‬ ‫كا َ‬ ‫وَت ََعاَلى‪ ،-‬وإن َ‬
‫ه وَت ََعاَلى‪ -‬فقد أشركت به مع الله‪ ،‬وإن كانت النية في‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫يعظم به الله ‪ُ -‬‬
‫الصل سليمة‪.‬‬
‫عَلى الحنيفية كما قال الله‬ ‫عاَلى‪ -‬خلق الخلق َ‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫والله ‪ُ -‬‬
‫عاَلى في الحديث القدسى عن عياض بن حمار في صحيح‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ُ‬
‫مسلم ‪) :‬وإني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين( فبقوا‬
‫عَلى الحنيفية عشرة قرون ‪ ،‬كما ورد في تفسير ابن عباس عند‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ّ‬ ‫حدَةً َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫قول الله ت ََباَر َ‬
‫ه الن ّب ِّيي َ‬
‫ث الل ُ‬
‫ع َ‬
‫فب َ َ‬ ‫وا ِ‬
‫ة َ‬
‫م ً‬
‫سأ ّ‬‫ن الّنا ُ‬
‫كا َ‬ ‫عالى‪:‬‬
‫وت َ َ‬
‫ك َ‬
‫رين فتقدير الية‪ :‬كان الناس أمة واحدة على‬ ‫ذ ِ‬
‫من ْ ِ‬
‫و ُ‬
‫ن َ‬
‫ري َ‬ ‫مب َ ّ‬
‫ش ِ‬ ‫ُ‬
‫التوحيد فاختلفوا ‪.‬‬

‫وقبل أن يختلفوا لم ُيبعث نبي وإنما كانوا يعبدون الله‪ ،‬حتى ظهر‬
‫س‬‫ن في قوم نوح أنا ٌ‬ ‫كا َ‬ ‫قوم نوح وظهر الشرك فيهم‪ ،‬فقد َ‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫عاَلى‪ -‬وذكر الله ‪ُ -‬‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫صالحون متبتلون متعبدون لله ‪ُ -‬‬
‫عاَلى‪ -‬ودا ً وسواعا ً ويغوث ويعوق ونسرًا‪ ،‬وهم رجال صالحون‪-‬‬ ‫وت َ َ‬ ‫َ‬
‫ل‪:‬‬ ‫قا َ‬ ‫جاءَ الشيطان ولعب بعقول قومهم ف َ‬ ‫َ‬ ‫القوم؛‬ ‫ء‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ؤل‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫مات‬ ‫فلما‬
‫ء الّناس كانوا يعبدون الله ويذكرونكم بعبادة الله وهم أحياء‪،‬‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫َ‬
‫وهم اليوم أموات‪ ،‬فصوروا صورهم حتى تتذكروا عبادة الله‪،‬‬
‫فتعبدون الله وتتقربون مثل ما كانوا يتقربون‪...‬فصوروا هذه‬
‫ء بوجود هذه الصور‪،‬‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬‫الصور‪ ،‬وجعلوهم تماثيل‪ ،‬وأخذوا يتذكرون َ‬
‫ء ليسوا معبودين‪ ،‬وأنهم‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬‫م تناسخ العلم ومرت أجيال نست أن َ‬ ‫ثُ ّ‬
‫إنما صوروا للتذكير فقط‪ ،‬فكانوا يرون آباءهم يأتون إ َِلى هذه‬
‫الصور‪ ،‬ويدعون الله بعدما يتذكرون الله بهذه الصور‪ ،‬فأصبحوا‬
‫جاءَ نوح‬ ‫م َ‬ ‫عاَلى‪ -‬ث ُ ّ‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫يدعون هذه المعبودات من دون الله ‪ُ -‬‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫سلم فوقع بينه وبين قومه ما وقع‪ ،‬وأغرقهم الله ‪ُ -‬‬ ‫ه ال ّ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫َ‬
‫عاَلى‪ -‬جميعا ً وأهلكهم ودمرهم‪ ،‬وما آمن معه إل قليل‪ ،‬وعاد‬ ‫وت َ َ‬ ‫َ‬
‫على الشرك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫التوحيد مرة أخرى ‪-‬وهو الساس‪ -‬في الرض‪ ،‬وقضي َ‬
‫فُروا‪ ،‬ولم يبق منهم ديار‪ ،‬كما دعا نوح‬ ‫ن كَ َ‬ ‫وقطع دابر القوم ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫عَلى التوحيد‪ ،‬ولكن الشيطان عاد‬ ‫سلم‪ ،‬وعاد المر من جديد َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫َ‬
‫صّلى الل ُ‬
‫ه‬ ‫من جديد‪ ،‬فأعاد الشرك وأعاد الصنام‪ ،‬ولم يبعث النبي َ‬
‫م إل وودا ً وسواعا ً ويغوث ويعوق ونسرا ً يعبدن بأعيانهن‪،‬‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫َ‬
‫عاَلى‪-‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫وهي التي كانت أيام نوح‪ ،‬في أمد ل يعلمه إل الله ‪ُ -‬‬
‫ومع ذلك ‪-‬ولن الشيطان واحد‪ -‬أعاد تلك الصنام بأعيانها‬
‫هما في‬ ‫عن ْ ُ‬‫عاَلى َ‬ ‫ه تَ َ‬ ‫ي الل ُ‬ ‫ض َ‬
‫وبأسمائها‪ ،‬كما فسرها ابن عباس َر ِ‬
‫ي ‪ ،‬فكل قبيلة من العرب عبدت إلها ً من هذه اللهة‪،‬‬ ‫ر ّ‬‫خا ِ‬ ‫صحيح الب ُ َ‬
‫الذي هو في الصل اسم رجل صالح من قوم نوح‪ ،‬وقد سبق أن‬
‫ن بسبب‬ ‫كا َ‬ ‫تحدثنا‪ :‬كيف وقع الشرك في بلد العرب؟‪ ،‬وقلنا إنه َ‬
‫النبهار الحضاري‪ ،‬وأن عمرو بن لحي الخزاعي هو الذي أسس‬
‫الشرك في جزيرة العرب بعد التوحيد‪ ،‬وغّير ملة إبراهيم وإسماعيل‬
‫‪-‬عليهما السلم‪ -‬وذهب إ َِلى بلد الشام ‪ ،‬ورأى الّناس يعبدون‬
‫الصنام هناك‪ ،‬فجاء إ َِلى العرب بهذه التجارة الفاسدة‪ ،‬واستوردها‬
‫عاَلى أول بيت‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫وجعلها عند البيت الحرام الذي جعله الله ُ‬
‫م عبدت‬ ‫وضع لكي ل يعبد إل الله‪ ،‬فجاء عمرو بن لحي بالصنام‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫وبقيت قريش تتناقل ذلك‪ ،‬حتى بعث فيهم النبي المي دعوة‬
‫م‪.‬‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬‫مد َ‬
‫ح ّ‬
‫م َ‬
‫سلم‪ -‬وهو ُ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه ال ّ‬ ‫إبراهيم ‪َ -‬‬

‫فلم يكن الشرك واقعا ً في الربوبية‪ ،‬كما في توحيد اللوهية‪ ،‬وكان‬


‫ل‪ -‬وتقديسهم‬ ‫ج ّ‬
‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫سبب وقوع الشرك هو‪ :‬تعظيم غير الله ‪َ -‬‬
‫وخاصة الصور‪.‬‬
‫عاَلى‪ -‬الحاديث الواردة في ذلك‪،‬‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫ه تَ َ‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف ‪َ-‬ر ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ولذلك ذكر ال ُ‬
‫َ‬
‫وفي طمس الصور‪ ،‬وتسوية القبور‪ ،‬لنها ذرائع إ ِلى عبادة غير الله‬
‫عاَلى‪.‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ك َ‬ ‫ت ََباَر َ‬
‫‪ - 2‬حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حماية جناب التوحيد وسده الذرائع‬
‫الموصلة إلى الشرك‬
‫ه ت ََعاَلى‪:‬‬
‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬‫ف َر ِ‬
‫مصن ّ ُ‬ ‫يقول ال ُ‬
‫ل‪ :‬قال لي على‬ ‫]وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهّياج السدي َ‬
‫قا َ‬
‫سول الله صّلى‬ ‫عَلى ما بعثني َر ُ‬
‫بن أبي طالب رضي الله عنه‪ :‬أل أبعثك َ‬
‫م؟‪) :‬أمرني أن ل أدع قبرا ً مشرفا ً إل سويته‪ ،‬ول تمثال ً إل‬
‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬
‫الل ُ‬
‫طمسته( ‪.‬‬

‫م أنه قال في مرض موته‪:‬‬ ‫سل ّ َ‬


‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬ ‫وفي الصحيحين عن النبي صّلى الل ُ‬
‫} لعن الله اليهود والّنصاَرى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا‬
‫عْنها‪ :‬ولول ذلك لبرز قبره‪ ،‬ولكن كره أن يتخذ‬ ‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫ة ‪َ-‬ر ِ‬ ‫عائ ِ َ‬
‫ش َ‬ ‫قالت َ‬
‫مسجدا ً {‪ ،‬وفي الصحيحين أنه ذكر له في مرض موته كنيسة بأرض‬
‫ل‪) :‬إن ُأول َئ ِ َ‬
‫ك إذا مات‬ ‫قا َ‬ ‫الحبشة ‪ ،‬وذكر له من حسنها وتصاوير فيها‪ ،‬ف َ‬
‫عَلى قبره مسجدا ً وصوروا فيه تلك‬ ‫فيهم الرجل الصالح بنوا َ‬
‫ة( ‪.‬‬‫م ِ‬‫قَيا َ‬‫م ال ِ‬‫و َ‬ ‫التصاوير‪،‬أولئك شرار الخلق عند الله ي َ ْ‬
‫م أنه قال قبل أن يموت‬‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫وفي صحيح مسلم عنه صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬
‫ن قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم‬ ‫بخمس‪) :‬إن من َ‬
‫كا َ‬
‫مساجد‪ ،‬أل فل تتخذوا القبور مساجد‪ ،‬فإني أنهاكم عن ذلك[ اهـ‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫سل ّ َ‬
‫م‬ ‫و َ‬‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫عَلى حرص النبي صّلى الل ُ‬ ‫هذه الحاديث من أعظم ما يدل َ‬
‫عَلى حماية جناب التوحيد‪ ،‬وسده لكل ذريعة توصل إ َِلى الشرك بالله‬ ‫َ‬
‫ه يقوللبي‬ ‫عن ْ ُ‬‫ه َ‬ ‫ي الل ُ‬ ‫ض َ‬ ‫عاَلى‪ ،‬بأي صورة من الصور‪ ،‬فإن عليا ً َر ِ‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬ ‫ُ‬
‫ل‪:‬‬‫قا َ‬ ‫م‪َ ،‬‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫عَلى ما بعثني عليه النبي صّلى الل ُ‬ ‫الهياج ‪) :‬أل أبعثك َ‬
‫أمرني أن ل أدع قبرا ً مشرفا ً إل سويته ول تمثال ً إل طمسته( وهذه سنة‬
‫لكل موحد من الموحدين من المؤمنين‪ ،‬أنه ل يدع قبرا ً مشرفا ً إل‬
‫عَلى نهج النبي صّلى الل ُ‬
‫ه‬ ‫ويسويه‪ ،‬ول يرى تمثال ً إل ويطمسه‪ ،‬ومن سار َ‬
‫م يجب عليه إذا رأي قوما ً يعظمون ذلك أو يفعلونه أن ينكر‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫َ‬
‫ن يستطيع أن يغيره باليد‪ ،‬كما فعل أبو الهياج‬ ‫كا َ‬‫عليهم ويبين لهم‪ ،‬فإن َ‬
‫ه فيجب عليه ذلك باليد‪ ،‬وإن لم يستطع‬ ‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬ ‫ي َر ِ‬
‫عل ِ ّ‬
‫وكما فعل َ‬
‫عَلى عباد القبور الذين يرفعون القبور‪ ،‬والذين‬ ‫وجب عليه أن يقيم الحجة َ‬
‫عاَلى فإن من‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬
‫ينصبون الصور والتماثيل ويعبدونها من دون الله ُ‬
‫رحمة الله ‪-‬سبحانه‪ -‬أننا أمة ل تنحت التماثيل‪ ،‬ول تعظمها‪ ،‬ول تقدسها‪،‬‬
‫وهذه القضية ذكرها كثير من علماء الغرب في الدول الغربية‪ ،‬وحتى في‬
‫ل‪ ،‬وهناك‬ ‫كثير من دول العالم السلمي‪ ،‬ل تمر بميدان إل وتجد تمثا ً‬
‫حركات دينية في داخل أوروبا تسمى حركة طمس التماثيل أو تحطيم‬
‫التماثيل‪ ،‬ويدعون أن هذا امتهان للنسان الحي‪ ،‬وتأليه للنسان الميت‪،‬‬
‫فكأن قائل ً يقول‪ :‬إنكم أيها الحياء ل يوجد فيكم من يمكن أن يقدم‬
‫لمته‪ ،‬مثل ما قدم هذا الرجل‪ ،‬وهذا احتقار للبشر الحياء‪.‬‬

‫ن قبلكم‪ ،‬حذو‬ ‫كا َ‬‫م‪) :‬لتتبعن سنن من َ‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬


‫ه َ‬ ‫وقد قال النبي صّلى الل ُ‬
‫القذة بالقذة‪ ،‬حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه‪ ،‬وحتى لو أن أحدهم أتى‬
‫عَلى المؤمنين‬ ‫عَلى قارعة الطريق لفعلتموه!( فالواجب َ‬ ‫امرأته َ‬
‫الموحدين هو‪ :‬إنكار هذه المور أشد النكار وتوعية الناس‪ ،‬وتعليم‬
‫الجهال بأن ل يرفعوا القبور‪ ،‬وأن ل ينصبوا التماثيل‪ ،‬وهذا مما هو مجمع‬
‫عليه ‪-‬ولله الحمد‪ ،-‬ولم يخالف عليه أحد من العلماء بإطلق‪ ،‬ولم يكن هذا‬
‫ن ‪-‬على ما كثر فيها من الجهل‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬‫م ْ‬ ‫المر في أي بلد من بلدان ال ْ ُ‬
‫والضلل‪ -‬إل في هذا العصر‪ ،‬متأثرين بـأوروبا النصرانية الملحدة التي‬
‫سلم وأمه في كل مكان كما سيأتي في الحديث‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه ال ّ‬ ‫تصور عيسى َ‬
‫م‪} :‬لعن‬‫سل ّ َ‬
‫و َ‬‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬ ‫الخر الذي اتفق عليه الشيخان وهو قوله صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬
‫الله اليهود والّنصاَرى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد { ولما ذكر له الكنيسة‬
‫التي بأرض الحبشة وما فيها من الصور‪ ،‬وهذا من ديدن الكنائس أنهم‬
‫سلم في الكنائس وفي كل مكان‪ ،‬ولهذا‬ ‫ه ال ّ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫يجعلون صور المسيح َ‬
‫يعبدونه من دون الله‪ ،‬ولم يعبدوا المسيح فقط بل حتى القديسين الذين‬
‫يقدسونهم عبدوهم‪ ،‬بل في العالم الغربي ل يزال إ َِلى الن في قلوبهم‬
‫تعظيم القديسين‪ ،‬وما تزال أسماء مدنهم وشوارعهم بأسماء القديسين‬
‫سان مون ‪ ،‬أو باسم القديس يوحنا ‪ ،‬أو القديس جورج ‪ ،‬أو القديس فلن‬
‫م لنهم كانوا إذا مات فيهم النبي أو‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫فلعنهم النبي صّلى الل ُ‬
‫العبد الصالح إما أن ينصبوا تمثال ً يعبدونه‪ ،‬وإما أن يتخذوا قبره مسجدا ً‬
‫ن ل نعبد صاحب القبر وإنما نعبد الله‬ ‫ح ُ‬ ‫فيبنون عليه القبة‪ ،‬ويقولون‪ :‬ن َ ْ‬
‫فى ]الزمر‪[3:‬‬ ‫ه ُزل ْ َ‬
‫قّرُبوَنا إ َِلى الل ّ ِ‬
‫م إ ِّل ل ِي ُ َ‬ ‫ه ْ‬
‫عب ُدُ ُ‬ ‫ما ن َ ْ‬
‫َ‬ ‫كما قال أسلفهم‪:‬‬
‫فإذا قيل لهم‪ :‬إذا كنتم تعبدون الله‪ ،‬فلم ل تعبدونه إل عند هذا القبر؟‬

‫ولم تشيدون هذا القبر؟‬

‫قالوا‪ :‬صاحب هذا القبر يقربنا إ َِلى الله ‪-‬بنفس الكلم الذي قاله أصحاب‬
‫ء شفعاؤنا عند الله(‪ -‬فهذا الميت الذي في القبر يشفع‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫الجاهلية‪َ ) :‬‬
‫لنا عند الله‪ ،‬هذا ما يقولونه وهذا ما يزعمونه‪ ،‬ولكنه في الحقيقة‪ :‬هو‬
‫سل ّ َ‬
‫م والنبياء بمحاربته‪.‬‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫جاءَ النبي صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫عين الشرك الذي َ‬

‫م وإلى من قبله‪ :‬ل َئ ِ ْ‬


‫ن‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫مد صّلى الل ُ‬ ‫ح ّ‬
‫م َ‬‫وأوحى الله إ َِلى نبيه ُ‬
‫ن ]الزمر‪ [65:‬وتهدد الله‬ ‫ري َ‬‫س ِ‬
‫خا ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫ول َت َ ُ‬
‫كون َ ّ‬ ‫ك َ‬‫مل ُ َ‬
‫ع َ‬ ‫حب َطَ ّ‬
‫ن َ‬ ‫ت ل َي َ ْ‬‫شَرك ْ َ‬ ‫أَ ْ‬
‫عاَلى أنه ل يدخل الجنة مشرك قط أبدًا‪ ،‬فقد حرم الله عليه‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫ُ‬
‫الجنة ومأواه الّنار وما للظالمين من أنصار‪.‬‬

‫ويجب أن تبين لهم هذه الحقيقة‪ ،‬ليتركوها وليرتدعوا عنها‪ ،‬ول يصلى‬
‫في المسجد الذي فيه قبر‪ ،‬فهذا محرم‪ ،‬ولكن ليس فاعله مشركا ً لنه‪:‬‬
‫أو ً‬
‫ل‪ -:‬ل يجوز الصلة في أماكن القبور‪.‬‬

‫سان يعبد‬ ‫لن َ‬‫جاءَ ا ِ‬


‫م َ‬‫ثانيًا‪ -:‬لنه إذا كانت هذه الماكن يعبد فيها غير الله‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫ن‪ ،‬ول يجوز لحد أن ينحر بمكان‬ ‫كي َ‬
‫ر ِ‬
‫ش ِ‬ ‫الله فيها‪ ،‬فكأنه يكثر سواد ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫ينحر فيه لغير الله‪ ،‬ول أن يصلي بمكان يصلى فيه لغير الله‪ ،‬وإن لم‬
‫يقصد الشرك لن فيه تكثيرا ً لسوادهم وهو ذريعة بأن يأتي بعده أحد‬
‫ه‬
‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬‫مر َر ِ‬‫ع َ‬‫فيشرك‪ ،‬كما وقع الشرك في قوم نوح‪ ،‬ولهذا قطع ُ‬
‫الشجرة التي في الحديبية ولم يعلم أحد بمكانها‪.‬‬

‫سان فيها‬ ‫عَلى أنها أثر مقدس‪ ،‬يتذكر ا ِ‬


‫لن َ‬ ‫ففي المرة الولى‪ :‬ستزار َ‬
‫الصحابة ‪-‬رضي الله عنهم‪ ،-‬وكيف بايعوا تحت هذه الشجرة‪.‬‬

‫والمرة الثانية‪ :‬يزداد تعجبا ً ويتأمل في الغصان وفي السيقان‪ ،‬وينسى‬


‫موضوع البيعة‪.‬‬

‫ن لي حاجة أقضيها دعوت الله عند هذه‬ ‫والمرة الثالثة‪ :‬يقول‪ :‬إن َ‬
‫كا َ‬
‫الشجرة فيستجيب الله لي‪ ،‬لن هذا المكان عظيم اجتمع فيه الصحابة‬
‫سل ّ َ‬
‫م‪.‬‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫سول صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫وبايعوا فيه الّر ُ‬
‫ن في نجد‬ ‫كو َ‬ ‫ر ُ‬ ‫م ْ‬
‫ش ِ‬ ‫ن يقول ال ُ‬ ‫والرابعة‪ :‬يتمسح بالشجرة ويقول كما َ‬
‫كا َ‬
‫ه إذا أتوا إ َِلى الجذع‬‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫مد بن عبد الوهاب َر ِ‬
‫ح ّ‬
‫م َ‬
‫قبل دعوة الشيخ ُ‬
‫الضخم من جذوع الشجرة ‪-‬النخل الذكور‪ -‬قالوا‪) :‬يا فحل الفحول أبغي‬
‫ولد قبل الحول( يعني‪ :‬تريد من الشجرة أن تعطيها ولدا ً قبل نهاية‬
‫الحول‪ ،‬فكأن الذي يخلق الولد والذرية هو هذه الشجار‪.‬‬

‫هم‪ -‬كانوا يحاربون أشد المحاربة كل ما‬ ‫عاَلى َ‬


‫عن ْ ُ‬ ‫ه تَ َ‬‫ي الل ُ‬‫ض َ‬ ‫والصحابة ‪َ-‬ر ِ‬
‫ن من آثار النبي‬ ‫يخرم كمال التوحيد‪ ،‬أو يخدش جناب التوحيد‪ ،‬ولو َ‬
‫كا َ‬
‫م فضل ً عن غيره‪ ،‬ولهذا قطعت تلك الشجرة‪ ،‬ويجب‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬
‫أن تقطع كل شجرة يظن فيها ذلك‪ ،‬ويجب أن يطمس ويسوى كل قبر‬
‫يظن فيه ذلك‪ ،‬حتى نحمي جناب التوحيد ونحفظه‪.‬‬

‫م فكما تعلمون جميعا ً أن قبر النبي صّلى‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬


‫ه َ‬ ‫ه َ‬ ‫وأما قبره صّلى الل ُ‬
‫م ليس مسجدًا‪ ،‬ولم يكن موجودا ً في المسجد؛ كما يظن‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬
‫الل ُ‬
‫الجهال‪ ،‬وإنما يدفن الن ْب َِياء في المكان الذي قبضوا فيه‪ ،‬كما في الحديث‬‫َ‬
‫الصحيح }ما قبض الله نبيا ً إل في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه {‪،‬‬
‫م في‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫فيدفن في المكان الذي قبض فيه‪ ،‬ودفن صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬
‫ه‬ ‫عاَلى َ‬
‫عن ْ ُ‬ ‫ه تَ َ‬ ‫ي الل ُ‬ ‫ض َ‬
‫ة ‪ ،‬ودفن بجواره صاحباه الصديق َر ِ‬ ‫عائ ِِ َ‬
‫ش َ‬ ‫حجرة َ‬
‫ه‪.‬‬‫عن ْ ُ‬‫عاَلى َ‬ ‫ه تَ َ‬
‫ي الل ُ‬‫ض َ‬ ‫والفاروق َر ِ‬
‫وبعد التوسعة للمسجد من جميع الجهات في أيام الوليد بن عبد الملك‬
‫جاءَ عصر المماليك‬ ‫م َ‬ ‫أصبحت الحجرات وكأنها داخلة في بناء المسجد‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫فأدخلت أكثر‪ ،‬وهكذا مع الزمن أصبح القبر كأنه وسط المسجد‪ ،‬وأصبح‬
‫عَلى القبر‪ ،‬وكذا بعض‬ ‫الجاهل الذي ل يدري يقول‪ :‬إن المسجد بني َ‬
‫عَلى قبر إبراهيم‬ ‫الجهال يظنون أن الكعبة ‪-‬البيت الحرام ‪ -‬إنما بنيت َ‬
‫ن هو تقليد اليهود‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬‫م ْ‬‫سلم‪ ،‬لن أكثر ما رسخ في أذهان ال ْ ُ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه ال ّ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫مو َ‬‫سل ِ ُ‬ ‫م تناقله ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫والّنصاَرى في اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫عَلى قبر‪.‬‬ ‫عَلى أنه ل يوجد مسجد بأي مكان إل وهو َ‬ ‫أنفسهم بعد‪َ ،‬‬

‫جاءَ التتر‬
‫وهذا من أعظم الخطر الذي أصاب المة السلمية‪ ،‬حتى لما َ‬
‫ن بعض سدنة القبور يقول‪:‬‬ ‫َ‬
‫كا َ‬
‫لوذوا بقبر أبي عمر‬ ‫يا خائفين من التتر‬
‫فكان الّناس يجتمعون عند أصحاب القبور يدعونهم ويقولون‪ :‬إن المدينة‬
‫الفلنية محروسة بالولي الفلني ‪-‬ويسمونه )الحارس(‪ -‬فل يدخلها التتار‬
‫جاءَ العدو تزاحموا عند القبر‬
‫ول الصليبيون لن الحارس موجود‪ .‬فإذا َ‬
‫يدعون‪ ...‬يا حارس!‪ ...‬يا حارس!‪.‬‬

‫فاقتحم التتار المدن ودمروها‪ ،‬لن هذه الضللت والخرافات ل تقف‬


‫أمام الواقع والحقيقة‪.‬‬
‫وهذا هو عين الشرك الذي إذا لم تتخلص هذه المة منه‪ ،‬فلن يرفع الله‬
‫عنها الذل‪ ،‬وإذا وحدته وحده ل شريك له نصرها وأعل شأنها‪.‬‬

‫والشرك كما يباعد الّناس عن الله وعن الجنة‪ ،‬فإنه يفرق القلوب‪ ،‬لنه‬
‫عَلى أن قبره هناك! وُيعبد‬ ‫كذب وافتراء‪ ،‬فـالحسين مث ً‬
‫ل‪ُ :‬يعبد في العراق َ‬
‫عَلى أن قبره هناك! أو‬ ‫عَلى أن قبره هناك! وُيعبد في مصر َ‬ ‫فيالشام َ‬
‫َ‬
‫ي ب ْن أِبي َ‬
‫طاِلب‬ ‫ِ‬ ‫عل ِ ّ‬
‫ي ‪ ،‬هم في كل مكان‪ ،‬حتى َ‬ ‫عل ِ ّ‬
‫نفيسة ‪ ،‬وزينب ‪ ،‬و َ‬
‫ه‪ -‬فإنه معروف قطعا ً أنه إنما قتل في الكوفة ‪،‬‬ ‫عاَلى َ‬
‫عن ْ ُ‬ ‫ه تَ َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫‪َ-‬ر ِ‬
‫ودفن فيها في مكان مجهول‪ ،‬ومع ذلك نجد في مدينة من المدن‬
‫عَلى الحدود مع التحاد السوفيتي ‪ ،‬اسمها مزار‬ ‫السلمية التي تقع َ‬
‫َ‬
‫على‬ ‫شريف ‪-‬أي المزار الشريف‪ ،‬فيقولون‪ :‬هو دفن هناك وراء تركستان َ‬
‫حدود النهر‪.‬‬

‫وحدثني بعض إخواننا من تلك البلد ممن درسوا معنا‪ ،‬أن عدد من يزور‬
‫هذا المزار يصل أكثر من أربعة مليين سنويًا‪.‬‬

‫ن الّله العظيم!‪ -‬كيف يلعب الشيطان بعقول هذه المة؟!‪ ،‬نعجب‬ ‫سْبحا َ‬ ‫‪ُ -‬‬
‫أن لعب بعقول اليهود والّنصاَرى واستحقوا اللعن الذي قاله النبي صّلى‬
‫سل ّ َ‬
‫م‪) :‬لعن الله اليهود والّنصاَرى‪ ،‬اتخذوا قبور أنبيائهم‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬
‫الل ُ‬
‫مساجد( ونعجب أكثر لمة التوحيد التي تقول‪ :‬ل إله إل الله‪ ،‬والتي ترفع‬
‫مآذنها خمس نداءات في اليوم "أشهد أن ل إله أل الله وأشهد أن محمدا ً‬
‫سول الله"‪ ،‬فوافقنا أهل الكتاب اليهود والّنصاَرى ‪-‬أعداء الله‪ -‬في‬ ‫َر ُ‬
‫الشركيات وفي عبادة غير الله‪ ،‬فكيف تقدس أمة تتبع أعداء الله‬
‫وتواليهم؟!‪.‬‬

‫ف‬ ‫مصن ّ ُ‬ ‫فأعظم أسباب وقوع الشرك هو‪ :‬تعظيم الولياء ‪-‬وسيذكر ال ُ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬‫ك ال ّ ِ‬ ‫ُأول َئ ِ َ‬ ‫قا َ‬
‫ل‪:‬‬ ‫عاَلى عليهم جميعا ً ف َ‬ ‫أسبابا ً أخرى‪ -‬وقد رد الله ت َ َ‬
‫ن‬
‫فو َ‬ ‫خا ُ‬ ‫وي َ َ‬‫ه َ‬ ‫مت َ ُ‬‫ح َ‬ ‫ن َر ْ‬
‫جو َ‬ ‫وي َْر ُ‬
‫ب َ‬ ‫قَر ُ‬‫م أَ ْ‬
‫ه ْ‬
‫غون إَلى ربهم ال ْوسيل َ َ َ‬
‫ة أي ّ ُ‬ ‫َ ِ‬ ‫َ ّ ِ ُ‬ ‫ن ي َب ْت َ ُ َ ِ‬
‫عو َ‬ ‫ي َدْ ُ‬
‫ك المدعوون أنفسهم الذين يدعونهم هم‬ ‫ه ]السراء‪ [57:‬أي‪ُ :‬أول َئ ِ َ‬ ‫ذاب َ ُ‬‫ع َ‬
‫َ‬
‫يدعون الله‪ ،‬ويبتغون إ َِلى ربهم الوسيلة‪ ،‬فهم يرجون رحمة الله‪،‬‬
‫ويخافون عذابه‪ ،‬فكيف تأتي أنت وتدعوهم من دون الله؟! فإذا وقع‬
‫ه‪-‬‬
‫عن ْ ُ‬‫عاَلى َ‬ ‫ه تَ َ‬ ‫ي الل ُ‬‫ض َ‬ ‫ي ‪َ-‬ر ِ‬ ‫عل ِ ّ‬
‫ي !‪ ،‬و َ‬ ‫عل ِ ّ‬‫ي ! يا َ‬ ‫عل ِ ّ‬
‫ل‪ :‬يا َ‬ ‫بأحدهم الكرب َ‬
‫قا َ‬
‫عانى من الكروب في حياته‪ ،‬وآخرها انشقاق المة عليه‪ ،‬وخروج الخوارج‬
‫عليه‪ ،‬حتى أتى الشقى فقتله‪.‬‬

‫ه لنفسه نفعا ً ول ضرًا‪ ،‬ولم يحم نفسه من‬‫عن ْ ُ‬


‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬ ‫ض َ‬ ‫ي َر ِ‬‫عل ِ ّ‬
‫فلم يملك َ‬
‫هذا الخارجي‪ ،‬ول من عدوان الخوارج ‪ ،‬ول ممن انشقوا عن طاعته‪.‬‬
‫وكان يريد أن يكون أمير المؤمنين عامة ويتوحدوا جميعا ً تحت طاعته‪،‬‬
‫ه لما خرج إ َِلى البر وجاءه الجيش وقتلوه‪ ،‬ل شك‬ ‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ي الل ُ‬‫ض َ‬‫والحسين َر ِ‬
‫ل‪ ،‬ول يجوز‬‫أنه قتل مظلومًا‪ ،‬وأن دمه ل يحل‪ ،‬ول يحل دم أي مسلم أص ً‬
‫ن‪ ،‬لكن لما جاءوا وأحاطوا به مات‬
‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫ل‪ -‬بين ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫القتال في الفتنة ‪-‬أص ً‬
‫عطشانا ً في البر‪ ،‬ل يملك أي شيء‪.‬‬
‫والن! يبكون ويقولون‪ :‬كيف نشرب الماء وقد مات الحسين عطشانا ً في‬
‫ن الّله! كيف يقول‬
‫سْبحا َ‬ ‫م إذا نزل بأحدهم كرب َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪ :‬يا حسين ‪ُ ،‬‬ ‫البر؟‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫ذلك والحسين لم يملك لنفسه شربة ماء؟!‬
‫‪ - 3‬من أسباب الشرك‬
‫• تعظيم الولياء والصالحين‬
‫ه ت ََعاَلى‪:‬‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬
‫م ْ‬
‫يقول ال ُ‬
‫]ومن أسباب الشرك عبادة الكواكب واتخاذ الصنام بحسب ما يظن‬
‫سلم‬ ‫ه ال ّ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫أنه مناسب للكواكب من طباعها‪ .‬وشرك قوم إبراهيم َ‬
‫ن ‪ -‬فيما يقال‪ -‬من هذا الباب‪ ،‬وكذلك الشرك بالملئكة والجن‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫ء كانوا مقرين بالصانع‪ ،‬وأنه ليس للعالم‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫واتخاذ الصنام لهم‪ .‬و َ‬
‫عاَلى‬ ‫صانعان‪ ،‬ولكن اتخذوا هذه الوسائط شفعاء‪ ،‬كما أخبر عنهم ت َ َ‬
‫قّرُبوَنا إ َِلى‬ ‫م إ ِّل ل ِي ُ َ‬ ‫ذوا من دون ِ َ‬
‫ه ْ‬ ‫عب ُدُ ُ‬ ‫ما ن َ ْ‬ ‫ول َِياءَ َ‬‫هأ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ْ ُ‬ ‫خ ُ‬‫ن ات ّ َ‬‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫َ‬ ‫بقوله‪:‬‬
‫ول‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ضّر ُ‬ ‫ما ل ي َ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫دو َ‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫وي َ ْ‬
‫َ‬ ‫فى ]الزمر‪[3:‬‬ ‫ه ُزل ْ َ‬ ‫الل ّ ِ‬
‫ق ْ َ‬
‫ما ل‬ ‫ه بِ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ل أت ُن َب ُّئو َ‬ ‫ه ُ‬ ‫عن ْدَ الل ّ ِ‬ ‫ؤَنا ِ‬ ‫عا ُ‬ ‫ف َ‬ ‫ش َ‬ ‫ء ُ‬ ‫ءا ِ‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬‫ن َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫وي َ ُ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫ع ُ‬‫ف ُ‬ ‫ي َن ْ َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫كو َ‬ ‫ر ُ‬‫ش ِ‬ ‫ما ي ُ ْ‬ ‫ع ّ‬‫ى َ‬ ‫عال َ َ‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫ض ُ‬ ‫في الْر ِ‬
‫ْ‬ ‫ول ِ‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬‫ما َ‬‫س َ‬
‫في ال ّ‬ ‫م ِ‬ ‫عل َ ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫ن الذين كذبوا‬ ‫كي َ‬ ‫ر ِ‬‫ش ِ‬‫م ْ‬ ‫ن حال المم السالفة ‪-‬ال ْ ُ‬ ‫كا َ‬‫]يونس‪ [18:‬وكذلك َ‬
‫سلم عن‬ ‫ه ال ّ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫عاَلى عنهم في قصة صالح َ‬ ‫الرسل‪ -‬كما حكى الله ت َ َ‬
‫التسعة رهط الذين تقاسموا بالله )أي‪ :‬تحالفوا بالله( لنبيتنه وأهله‪،‬‬
‫عَلى قتل نبيهم وأهله‪،‬‬ ‫ن تحالفوا بالله َ‬ ‫كو َ‬ ‫ر ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ء المفسدون ال ُ‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫ف َ‬
‫ن‪.‬‬‫كي َ‬ ‫ر ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن أنهم كانوا مؤمنين بالله إيمان ال ْ ُ‬ ‫وهذا بي ّ ٌ‬
‫فعلم أن التوحيد المطلوب هو توحيد اللهية‪ ،‬الذي يتضمن توحيد‬
‫ه ال ِّتي‬ ‫ت الل ّ ِ‬ ‫فطَْر َ‬ ‫حِنيفا ً ِ‬‫ن َ‬‫دي ِ‬ ‫ك ِلل ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ج َ‬
‫و ْ‬‫م َ‬ ‫ق ْ‬‫فأ َ ِ‬‫َ‬ ‫الربو بية‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫َ‬
‫ن أك ْث ََر‬ ‫ول َك ِ ّ‬ ‫م َ‬ ‫قي ّ ُ‬‫ن ال ْ َ‬
‫دي ُ‬
‫ك ال ّ‬ ‫ه ذَل ِ َ‬‫ق الل ّ ِ‬ ‫ل لِ َ ْ‬
‫خل ِ‬ ‫دي َ‬ ‫ها ل ت َب ْ ِ‬‫عل َي ْ َ‬
‫س َ‬ ‫فطََر الّنا َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫مو َ‬ ‫عل َ ُ‬‫س ل يَ ْ‬ ‫الّنا ِ‬
‫ن‬‫كي َ‬ ‫ر ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م ْ‬‫كوُنوا ِ‬‫ول ت َ ُ‬ ‫صلةَ َ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫قي ُ‬‫وأ َ ِ‬‫قوهُ َ‬ ‫وات ّ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن إ ِل َي ْ ِ‬
‫مِنيِبي َ‬ ‫ُ‬
‫حون‬ ‫ر ُ‬ ‫م َ‬
‫ف ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ب بِ َ َ‬ ‫شَيعا ً ك ُ ّ‬ ‫و َ‬ ‫فّر ُ‬
‫ن َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ما لدَي ْ ِ‬ ‫حْز ٍ‬ ‫ل ِ‬ ‫كاُنوا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬
‫قوا ِدين َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ة‬
‫م ً‬
‫ح َ‬
‫ه َر ْ‬
‫من ْ ُ‬
‫م ِ‬ ‫ه ْ‬
‫ق ُ‬‫ذا َ‬ ‫ذا أ َ َ‬ ‫ن إ ِل َي ْ ِ‬
‫ه ثُ ّ‬
‫م إِ َ‬ ‫مِنيِبي َ‬ ‫م ُ‬‫ه ْ‬‫وا َرب ّ ُ‬ ‫ع ْ‬
‫ضّر دَ َ‬ ‫س ُ‬ ‫س الّنا َ‬ ‫م ّ‬ ‫ذا َ‬ ‫وإ ِ َ‬‫َ‬
‫ن‬‫َ‬ ‫كو‬ ‫ُ‬ ‫ر‬‫ِ‬ ‫ش‬‫ْ‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ر‬‫ب‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬‫م‬
‫ِ ٌ ِ ْ ُ ْ ِ َ ّ ِ ْ ُ‬ ‫ق‬‫ري‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ذا‬‫َ‬ ‫إِ‬
‫ن‬‫مو َ‬‫عل َ ُ‬
‫ف تَ ْ‬‫و َ‬ ‫س ْ‬ ‫ف َ‬ ‫عوا َ‬ ‫مت ّ ُ‬ ‫م َ‬
‫فت َ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ما آت َي َْنا ُ‬ ‫ل ِي َك ْ ُ‬
‫فُروا ب ِ َ‬
‫ن‬ ‫ر ُ‬
‫كو َ‬ ‫ه يُ ْ‬
‫ش ِ‬ ‫كاُنوا ب ِ ِ‬‫ما َ‬ ‫و ي َت َك َل ّ ُ‬
‫م بِ َ‬ ‫ه َ‬
‫ف ُ‬‫طانا ً َ‬ ‫سل ْ َ‬
‫م ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫م َأنَزل َْنا َ َ‬ ‫َ‬
‫علي ْ ِ‬ ‫أ ْ‬
‫ت‬
‫م ْ‬ ‫ما َ‬
‫قد ّ َ‬ ‫سي ّئ َ ٌ‬
‫ة بِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬
‫صب ْ ُ‬
‫ن تُ ِ‬
‫وإ ِ ْ‬
‫ها َ‬
‫حوا ب ِ َ‬
‫ر ُ‬ ‫ة َ‬
‫ف ِ‬ ‫م ً‬
‫ح َ‬ ‫س َر ْ‬‫قَنا الّنا َ‬ ‫ذا أ َذَ ْ‬
‫وإ ِ َ‬
‫َ‬
‫قن َطون ]الروم‪ [36 -30:‬اهـ ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫م إِ َ‬ ‫َ‬
‫ه ْ‬
‫ذا ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫دي ِ‬
‫أي ْ ِ‬
‫الشرح‪:‬‬
‫صّنف من أعظم أسباب وقوع الشرك هو تعظيم الولياء‬ ‫م ْ‬
‫يذكر ال ُ‬
‫َ‬
‫عالى‪ -‬وهناك أسباب أخرى في‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫والصالحين من دون الله ‪ُ -‬‬
‫وقوع الشرك‪ ،‬ومنها‪ :‬تعظيم الكواكب‪.‬‬
‫• تعظيم الكواكب‬
‫ن عند قوم إبراهيم عليه الصلة‬ ‫وهذا الشرك وجد عند الصابئين ‪ ،‬كما َ‬
‫كا َ‬
‫والسلم‪ ،‬الذين كانوا يعبدون الصنام بـبلد الشام تجاه حران وما حولها‪ ،‬فكانوا‬
‫يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل‪ ،‬وما تزال هذه الهياكل أو بعضا ً منها باقية‬
‫ك القوم كانوا‬‫إ َِلى اليوم‪ ،‬حتى أن علماء الحفريات والثار لما بحثوا وجدوا أن ُأول َئ ِ َ‬
‫يبنون المراصد والهياكل‪.‬‬
‫ء القوم عظموا الكواكب‪ ،‬كما عظم أصحاب القبور قبورهم‪،‬‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫ف َ‬
‫والولياء أولياءهم‪ ،‬ويبدو ‪-‬والله أعلم‪ -‬أن سبب تعظيمهم للكواكب‬
‫أنهم رأوا الخلق والرزق والمطر والخير والبركة تنزل من السماء‪،‬‬
‫ورأوا أن هذه أعظم شيء في السماء ‪-‬كما يرون‪ -‬فاتجهوا إ َِلى‬
‫تعظيم هذه المخلوقات‪ ،‬ول سيما وقد أوحى إليهم الشيطان أنه إذا‬
‫ظهر الكوكب الفلني في المكان الفلني يكون الدمار‪ ،‬وتكون‬
‫الزلزل‪ ،‬ويكون الخسف‪ ،‬وإذا ظهر الكوكب الفلني واقترب من‬
‫الكوكب الفلني يكون المطر‪ ،‬ويكون الخير‪ ،‬والرحمة والبركة‪ ،‬هذا‬
‫مما أوحى الشيطان إ َِلى الكهان والمنجمين منهم‪ ،‬فنظروا إ َِلى هذه‬
‫الكواكب نظرة التعظيم‪ ،‬واعتقدوا أن لهذه الكواكب تأثيرا ً في‬
‫العوالم السفلية‪ ،‬وأن ما يقع في الرض فإنه يكون بسبب تلك‬
‫ن حتى اليوم‪ ،‬بل وبعض‬ ‫كي َ‬
‫ر ِ‬
‫ش ِ‬ ‫الكواكب‪ ،‬ول يزال هذا فاشيا ً في ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫من يدعي النتساب إ َِلى هذه الملة يسألك عن نجمك! أو عن برجك!‬
‫برج السرطان!! يقول لك‪ :‬حظك طيب‪ ،‬وزواجك موفق وكذا وكذا!!‬
‫أو يقول لك‪ :‬ل‪ ،‬أنت من برج العقرب‪ ،‬وخطيبتك من برج السرطان‪،‬‬
‫فل تتزوجها وابحث عن واحدة من برج الحمل مث ً‬
‫ل!‬

‫ج ّ‬
‫ل‪ -‬أن‬ ‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫هذه الخرافات ما تزال حتى في هذه المة ‪-‬نسأل الله َ‬
‫يرفع عنها هذا البلء والضلل ويردها إليه تائبة موحدة عابدة ‪-‬‬
‫ن الشوريون والبابليون‬ ‫فوقع هذا الشرك في الصابئين ‪ ،‬ولذا َ‬
‫كا َ‬
‫وأمثالهم يبنون الهياكل العظيمة ويرصدون الكواكب‪ ،‬ل للعلم‬
‫الجغرافي الذي هو معروف اليوم‪ ،‬وإنما لغرض التقرب إليها‪،‬‬
‫عَلى أحوال العالم الرضي‪ ،‬وكان‬ ‫ومعرفة أحوالها‪ ،‬والستدلل بها َ‬
‫لها شياطينها؛ فكانت الشياطين تنزل وتوحي إ َِلى أوليائها الخبار‬
‫عن أمور معينة‪ ،‬أو أحداث أو أحوال‪ ،‬فيأتي كهنة كل كوكب‬
‫ء المردة‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫ويخبرون الّناس بما أخبرهم‪ ،‬وأوحى به إليهم َ‬
‫والشياطين‪ ،‬فيظن الّناس أن الله هو الذي أوحى إليهم‪ ،‬وأنه الذي‬
‫يملك هذه الحقائق‪ ،‬أو الذي يعلم الغيب‪ ،‬وهو الذي يدبر الكون‪.‬‬
‫وكانت كل منطقة من المناطق تنافس المنطقة الخرى‪ ،‬وتحاربها‬
‫ن البشر‬ ‫ء‪ .‬هكذا َ‬
‫كا َ‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬‫ء أفضل من َ‬ ‫ؤل ِ‬ ‫عَلى أن إله َ‬
‫ه ُ‬ ‫وتتقاتل معها‪َ ،‬‬
‫م وضعت أصنام في الرض كما‬ ‫ُ‬
‫يتخبطون في الضللت والجهل‪ ،‬ث ّ‬
‫يقولون بما يتناسب مع طباع الكواكب‪ ،‬فبعضهم يعبد الكوكب في‬
‫السماء‪ ،‬وبعضهم يعبد الصنام في الرض‪ ،‬وينحت هيكل ً من صخر؛‬
‫ويقول‪ :‬هذا مناسب لطباع المشتري أو زحل‪ ،‬فيعبد الّناس هذا‬
‫عَلى تعظيم الكوكب الذي يتناسب مع طباعهم‪ ،‬ويأتي‬ ‫الصنم بناء َ‬
‫أولياءهم من الجن والشياطين‪ ،‬فتدخل في جوف هذه الصنام‬
‫ن‬ ‫والحجار‪ ،‬فتكلمهم وتخاطبهم باسم الصنم المعبود‪ ،‬وهذا ما َ‬
‫كا َ‬
‫م‪ ،‬فكانت الشياطين‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫حاصل ً إ َِلى زمن بعثة النبي َ‬
‫تخاطبهم من الصنام‪ ،‬وتكلمهم وتحكم بينهم منها‪ ،‬فيظن الّناس‬
‫أن هذه الرباب اللهة هي التي تتكلم‪ ،‬وهكذا أغوى الشيطان بني‬
‫آدم‪.‬‬
‫• الشرك بالملئكة‬
‫وكذلك الشرك بالملئكة أو الجن‪ ،‬واتخاذ الصنام لهم ‪-‬كما يقول المصنف‪-‬‬
‫ج ّ‬
‫ل‪-‬‬ ‫فهناك قوم قالوا‪ :‬الملئكة من جنس الصالحين‪ ،‬وهم عباد لله ‪-‬عَّز وَ َ‬
‫يسبحون الليل والنهار ل يفترون‪ ،‬ل يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون‪،‬‬
‫وقد أخبر ال َن ْب َِياء عن صفاتهم العظيمة‪ ،‬وطاعتهم لله عَّز وَ َ‬
‫ج ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬إذا ً نتخذ الملئكة شفعاء عند الله‪ ،‬فندعو الملئكة من‬
‫م يدعونه استقل ً‬
‫ل‪ ،‬وإذا‬ ‫جبريل أو ميكائيل‪ ،‬أن يشفع لنا عند الله‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫قيل لهم‪ :‬لماذا تدعون الملئكة؟ قالوا‪ :‬ما نعبدهم أو ندعوهم إل‬
‫ليقربونا إ َِلى الله زلفى لنهم أقرب عند الله‪ ،‬وأما أنا فمسكين‬
‫مذنب‪ ،‬ل أستطيع أن أدعو الله‪ ،‬فكيف أدعو الله وأنا مليء بهذه‬
‫ء لنهم مقربين عند الله‪ ،‬فهم يشفعون‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫الذنوب؟ وإنما أدعو َ‬
‫عند الله‪.‬‬

‫عَلى مصراعيه! ويبسط يده بالليل ليتوب‬ ‫الله الذي فتح باب التوبة َ‬
‫مسيء النهار‪ ،‬ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل‪ ،‬وهو يقبل‬
‫التوبة عن عباده‪ ،‬غافر الذنب‪ ،‬وقابل التوب‪ ،‬شديد العقاب‪ ،‬ذي‬
‫عاَلى‪ -‬وهو الذي ينجي كل من دعاه في ظلمات‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫الطول ‪ُ -‬‬
‫البر والبحر‪ ،‬فالله ل يحتاج إ َِلى من يتوسط عنده‪ ،‬أو يشفع عنده‪ ،‬أو‬
‫عَلى‬
‫عاَلى‪َ -‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫يدعى غيره‪ ،‬ويعبد غيره لكي ينزل رحمته ‪ُ -‬‬
‫أحد؟!‪.‬‬

‫سبحانك هذا بهتان عظيم!‬


‫هذا أصل الذين عبدوا الملئكة‪.‬‬
‫• عبادة الجن‬
‫ه وَت ََعاَلى‪-‬‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ة‪ -‬يأمر الله ‪ُ -‬‬ ‫م ِ‬‫قَيا َ‬
‫وم ال ِ‬‫وأما عبادة الجن‪ ،‬فيوم يبعثهم جميعا ً ‪-‬ي َ ْ‬
‫كل أناس كانوا يعبدون الطواغيت‪ ،‬أن يتبعوا ما كانوا يعبدون‪ ،‬فيتبع عباد‬
‫الطواغيت الطواغيت‪ ،‬ويتبع عباد الجن الجن‪ ،‬لنهم كانوا في الدنيا يعبدونهم‪،‬‬
‫ه‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫ه وَت ََعاَلى بين الطواغيت وبين عبادهم‪ ،‬فيقول الله ُ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫فيحكم الله ُ‬
‫س ]النعام‪- [128:‬أي‪ :‬الذين‬ ‫م َ ْ‬ ‫ست َك ْث َْرت ُ ْ‬
‫ن قَدِ ا ْ‬ ‫شَر ال ْ ِ‬ ‫مع ْ َ‬ ‫وَت ََعاَلى‪َ :‬يا َ‬
‫ن ال ِن ْ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ج ّ‬
‫م َ ْ‬ ‫يعبدون الجن أكثر طائفة بني آدم‪ -‬وَقا َ َ‬
‫ضَنا‬
‫مت َعَ ب َعْ ُ‬‫ست َ ْ‬
‫س َرب َّنا ا ْ‬ ‫ن ال ِن ْ ِ‬ ‫ل أوْل َِياؤُهُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫َ‬
‫جل ََنا ]النعام‪.[128:‬‬ ‫َ‬
‫ض وَب َل َغَْنا أ َ‬
‫ب ِب َعْ ٍ‬
‫فسبب وقوع عبادة الجن هو‪ :‬استمتاع النس بالجن بعضهم ببعض‪،‬‬
‫جا ٌ‬
‫ل‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬ ‫عاَلى في سورة الجن‪:‬‬
‫ر َ‬
‫ن ِ‬
‫كا َ‬ ‫وأن ّ ُ‬ ‫َ‬ ‫هذا جواب النس‪ ،‬وقال ت َ َ‬
‫هقا ً ]الجن‪[6:‬‬ ‫م َر َ‬ ‫ه ْ‬‫دو ُ‬
‫فَزا ُ‬‫ن َ‬
‫ج ّ‬ ‫ن ال ْ ِ‬‫م َ‬
‫ل ِ‬ ‫جا ٍ‬‫ر َ‬
‫ن بِ ِ‬ ‫عو ُ‬
‫ذو َ‬ ‫س يَ ُ‬ ‫م َ ْ‬
‫ن ال ِن ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫ف‬‫فالنسي يظن أنه يستفيد من الجني‪ ،‬فكان إذا نزل بواٍد مخي ٍ‬
‫ل‪ :‬أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه‪ ،‬يعني‪ :‬يحصل‬ ‫قا َ‬ ‫َ‬
‫الستمتاع بالسلمة من أذى الجن السفهاء‪ ،‬وذلك مقابل دعاء‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫سيدهم‪ ،‬والجن استمتعوا‪ ،‬بأن النس عبدوهم من دون الله ‪ُ -‬‬
‫عاَلى‪ -‬فاستمتع بعضهم ببعض‪ ،‬لكن زادوهم رهقًا‪ ،‬حيث يأتي‬ ‫وت َ َ‬ ‫َ‬
‫النسي فيمر بالوادي‪ ،‬فيسلط سيد الوادي أحد التباع ليخيفه‪ ،‬فإذا‬
‫ل‪ :‬أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه‪،‬‬ ‫أخافه وأرهقه َ‬
‫قا َ‬
‫ك لهم عبادة‪ ،‬وهذا هو الحاصل‬ ‫ُ‬
‫فزادوهم رهقا ً وخوفا ً ليزداد أول َئ ِ َ‬
‫دائما ً للمتعاملين مع الجن‪ ،‬يحصل لهم نوع من الستمتاع بحيث‬
‫يعظمه الناس‪ ،‬ويعطونه الموال ويأتون له بما يشاء‪ ،‬مقابل أنه‬
‫يشفي مرضاهم‪ ،‬ويفك السحر عنهم‪ ،‬أو يخبرهم بشيء ضيعوه‪ ،‬أو‬
‫حاجة فقدوها‪ ،‬أو أمر من المور‪ ،‬فيحصل استمتاع للنسي بما يأخذ‬
‫ل‪ :‬هذا ولي‪ ،‬ويحصل‬ ‫قا َ‬ ‫من أموال الناس‪ ،‬وبما يكسب من الجاه وي َ‬
‫الستمتاع للجني‪ ،‬بأن يعبده هذا الرجل الذي يذهب إليه الناس‪،‬‬
‫ويسألونه عن الخبار‪ ،‬أو يطلبون فك السحر عنهم‪ ،‬وهم يعلمون‬
‫قْرآن في الماكن‬ ‫أنه يتعامل مع الجن‪ ،‬فهو يسجد له‪ ،‬ويضع ال ُ‬
‫قْرآن ‪-‬والعياذ بالله ‪ -‬بالدم النجس‬ ‫النجسة والقذرة تقربًا‪ ،‬ويكتب ال ُ‬
‫ق‪ ،‬ويسمونها حجبا ً أو أحرازًا‪ ،‬وإن صلى‬ ‫القذر‪ ،‬ويجعله في أورا ٍ‬
‫ل‪ :‬أناس يعتقدون‬ ‫ظاهرا ‪-‬أمام الناس‪ -‬أو صام وزعم أنه مسلم‪ .‬فمث ً‬
‫سان؛ لنه يستخدم الجن‪،‬‬ ‫لن َ‬‫في هذا الولي‪ ،‬أنه يخرج الجن من ا ِ‬
‫ويعرف كيف يفكهم‪ ،‬فيسبب الضرر لهم بتسليط أحد التباع‬
‫عَلى أحد من النس فيدخل فيه‪ ،‬فيأتي النسي‬ ‫‪-‬أوليائه‪ -‬من الجن َ‬
‫إ َِلى الولي ‪-‬من النس‪ -‬ويقول‪ :‬دخل جني في ولدي‪ ،‬فيقول الولي‪:‬‬
‫الدواء عندي‪ ،‬فيقوم الولي النسي‪ ،‬فيتقرب إ َِلى الجن بعبادتهم‪،‬‬
‫فعندها يأمر السيد الجني وليه أن يخرج من الولد‪ ،‬فتكون النتيجة‬
‫أن هذا الولي أخرج الجني وأنه رجل عظيم فيزيدهم رهقا ً وشركا‪ً.‬‬
‫ء القوم‪ ،‬ولذلك يقول الله‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫ويكثر في الرض الشرك بسبب َ‬
‫وَنه ]النحل‪ [100:‬فالذين ل‬ ‫ّ‬
‫ول ْ‬ ‫ن ي َت َ َ‬‫ذي َ‬‫عَلى ال ّ ِ‬‫ه َ‬ ‫سل ْ َ‬
‫طان ُ ُ‬ ‫ما ُ‬ ‫تعالى‪ :‬إ ِن ّ َ‬
‫يعتقدون في هذا الرجل الصلح ‪-‬نهائيًا‪ -‬ول يعتقدون أنه ولي‪ ،‬بل‬
‫ء يكونون أكثر حفظا ً بإذن‬‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫يعتقدون أنه مشرك يتعاون بالجن‪َ ،‬‬
‫ك الذين يعتقدون فيه الولية‬ ‫عاَلى من ضرر الجن من ُأول َئ ِ َ‬ ‫الله ت َ َ‬
‫سان‬‫لن َ‬
‫والصلح‪ ،‬ومع ذلك فل شك أن هذا المر ابتلء‪ ،‬فقد يبتلى ا ِ‬
‫بالجن‪ ،‬وهو ليس من أوليائهم‪ ،‬ول يعبدهم‪ ،‬ول يعتقد فيهم‪ ،‬ولكن‬
‫ء المؤمنين الموحدين أقل بكثير‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬
‫نسبة دخول الجن‪ ،‬وإيذائهم ب َ‬
‫جدا ً من نسبتها في القبائل أو الطوائف أو المدن التي تعتقد في‬
‫عَلى أوليائه الذين يتولونه‬
‫ء الولياء؛ لن سلطان الشيطان َ‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬‫َ‬
‫ل للذين ل يعتقدون فيهم ذلك قائمة‪،‬‬ ‫ج ّ‬
‫و َ‬‫عّز َ‬ ‫أكثر‪ ،‬وحماية الله َ‬
‫ء الشياطين أكثر؛ لن الذي يعتقد فيهم هو‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬‫ومناعتهم من كيد َ‬
‫مستسلم‪ ،‬قد فتح قلبه وأفرغه؛ لن تأتي إليه الشياطين بالوهام‪،‬‬
‫م تأتيه بالعلج‪.‬‬ ‫م بالمرض‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫ثُ ّ‬
‫فيقولون‪ :‬يا ملك الرض السابعة من الجن‪ ،‬إن أحد أتباعك فلن‪،‬‬
‫م يكتبون أسماءً وأرقاما ً‬
‫دخل في فلن فأخرجه منه بكذا وبكذا‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫وألغاز بالسريانية ‪-‬كما يقولون‪ -‬أو بلغة مجهولة لن الشياطين‬
‫تعلمهم رموزا ً معينة هي رموز عبادتهم‪ -‬فيكتبون هذه الرموز‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫م‬
‫ء الجن‪ ،‬فيأمر وليه من الجن‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫يدعونهم‪ ،‬فإذا دعاهم‪ ،‬أتى ملك َ‬
‫‪-‬الذي آذى النسي الخر‪ -‬أن يخرج منه‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫عاَلى عليهم‪ -‬فل يرضون أن‬ ‫وأما الملئكة والنبياء ‪-‬رضوان الله ت َ َ‬
‫عبد من دون ‪-‬وهو غير راض‪ -‬فإنه يتبرأ‬ ‫يدعو من دون الله‪ ،‬ومن ُ‬
‫ه َيا‬‫ل الل ّ ُ‬ ‫قا َ‬ ‫وإ ِذْ َ‬ ‫َ‬ ‫ء‪ ،‬كما تبرأ المسيح‪ ،‬قال الله‪:‬‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫ة من َ‬ ‫م ِ‬ ‫قَيا َ‬ ‫م ال ِ‬ ‫و َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫هي ْ ِ‬ ‫ي إ ِل َ َ‬ ‫م َ‬
‫وأ ّ‬ ‫ذوِني َ‬ ‫خ ُ‬‫س ات ّ ِ‬ ‫ت ِللّنا ِ‬ ‫قل ْ َ‬ ‫ت ُ‬ ‫م أأن ْ َ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫سى اب ْ َ‬ ‫عي َ‬ ‫ِ‬
‫ت‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫قو َ‬ ‫َ‬
‫نأ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫حان َ َ‬ ‫قا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ن كن ْ ُ‬ ‫ق إِ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫س ِلي ب ِ َ‬ ‫ما لي ْ َ‬ ‫ل َ‬ ‫ن ِلي أ ْ‬ ‫ما ي َكو ُ‬ ‫ك َ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫ل ُ‬ ‫الل ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ت‬
‫ك أن ْ َ‬ ‫ك إ ِن ّ َ‬ ‫س َ‬ ‫ف ِ‬ ‫في ن َ ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫م َ‬ ‫عل َ ُ‬‫ول أ ْ‬ ‫سي َ‬ ‫ف ِ‬ ‫في ن َ ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫م َ‬ ‫عل َ ُ‬ ‫ه تَ ْ‬ ‫مت َ ُ‬
‫عل ِ ْ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ف َ‬ ‫ه َ‬‫قل ْت ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫قل ْت ل َهم إّل ما أ َمرت َِني ب َ‬
‫دوا الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫عب ُ ُ‬
‫نا ْ‬ ‫هأ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ ِ‬ ‫ما ُ ُ‬ ‫ب* َ‬ ‫غُيو ِ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫عّل ُ‬ ‫َ‬
‫]المائدة‪ [117-116:‬وهذا القول هو أول قول قاله بعدما خلقه الله‪:‬‬
‫ة يقول‪ :‬ما قلت لهم إل ما أمرتني به‪ :‬أن‬ ‫م ِ‬ ‫قَيا َ‬ ‫م ال ِ‬ ‫و َ‬ ‫إني عبد الله‪ ،‬وي َ ْ‬
‫ذ يقع‬ ‫اعبدوا الله‪- ،‬يعني‪ :‬أنا بريء منهم ومن شركهم‪ -‬فحينئ ٍ‬
‫عَلى العابدين فقط‪.‬‬ ‫الشرك عليهم‪ ،‬وتقع العقوبة والعذاب َ‬

‫وأما الجن فلنهم رضوا أن يعبدوا فتكون الّنار للجميع هم ومن‬


‫عبدهم‪.‬‬

‫م‬
‫ه ْ‬
‫م بِ ِ‬ ‫ن أ َك ْث َُر ُ‬
‫ه ْ‬ ‫ن ال ْ ِ‬
‫ج ّ‬ ‫دو َ‬
‫عب ُ ُ‬ ‫ل َ‬
‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫وأما الملئكة فيقولون‪ :‬ب َ ْ‬
‫ن ]سبأ‪- [41:‬أي‪ :‬أكثر النس مؤمنون بالجن‪ -‬فالذين‬ ‫مُنو َ‬ ‫م ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ُ‬
‫يعبدون الجن من النس أكثر من الذين يعبدون الملئكة‪ ،‬لن‬
‫ة منهم‪.‬‬
‫م ِ‬
‫قَيا َ‬
‫م ال ِ‬
‫و َ‬
‫الملئكة تتبرأ ي َ ْ‬
‫فأعظم أسباب وقوع الشرك‪ :‬تعظيم غير الله‪ ،‬ولذلك يقول الله‬
‫خل َ َ‬
‫ق‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫مدُ ل ِل ّ ِ‬ ‫ح ْ‬ ‫عاَلى‪ -‬في أول سورة النعام‪ :‬ال ْ َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫‪ُ -‬‬
‫م ال ّ ِ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ه ْ‬ ‫فُروا ب َِرب ّ ِ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫والّنوَر ث ُ ّ‬‫ت َ‬ ‫ما ِ‬ ‫ل الظّل ُ َ‬ ‫ع َ‬‫ج َ‬‫و َ‬
‫ض َ‬‫واْلْر َ‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫ال ّ‬
‫ن ]النعام‪ [1:‬أي‪ :‬يجعلون أحدا ً عديل ً له‪ ،‬يساويه بالله في‬ ‫دُلو َ‬ ‫ع ِ‬
‫يَ ْ‬
‫ن‬‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫خذ ُ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬‫م ْ‬ ‫س َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬‫و ِ‬‫َ‬ ‫المحبة‪ ،‬وفي التعظيم والتقديس‬
‫َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ه ]البقرة‪:‬‬ ‫حب ّا ً ل ِل ّ ِ‬‫شدّ ُ‬ ‫مُنوا أ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫وال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ه َ‬ ‫ب الل ّ ِ‬‫ح ّ‬‫م كَ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫دادا ً ي ُ ِ‬
‫حّبون َ ُ‬ ‫ه أن ْ َ‬ ‫ِ‬
‫‪ [165‬فالعدل والتسوية هي في المحبة والتعظيم والتقديس؛ ل‬
‫في اعتقاد أنهم يخلقون كخلق الله‪ ،‬أو يرزقون كما يرزق الله‬
‫سبحانه‪.‬‬
‫وهنا شيء عجيب‪ ،‬وهو أن الّناس كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله‬
‫مخلصين له الدين‪ ،‬وهذا هو شرك القدامى‪ ،‬ولكن عظم الشرك في‬
‫عاَلى في وقت الشدة‪،‬‬ ‫المتأخرين‪ ،‬حتى أصبحوا يدعون غير الله ت َ َ‬
‫وفي وقت الرخاء معًا‪ ،‬وهذا ‪-‬والعياذ بالله‪ -‬غاية النتكاسة‪ ،‬نسأل‬
‫عاَلى‪ -‬أن يجنبنا وإياكم الشرك دقيقه وجليله‪ ،‬وأن‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫الله ‪ُ -‬‬
‫يباعدنا عنه‪ ،‬وعن طريقه‪ ،‬وعن كل ما يوصل إليه‪ ،‬وأن يجعلنا من‬
‫عباده الموحدين المؤمنين‪.‬‬
‫التوحيد ‪4‬‬
‫يتحدث الشيخ في هذا الدرس عن توحيد اللوهية وعن أهميته‪ ،‬كما يتحدث عن حديث‬
‫)اللهم ل تجعل قبري وثنا ً يعبد( ويبين في الخير كيف تكون الفطرة دليل ً على توحيد‬
‫الربوبية‪.‬‬
‫‪ - 1‬توحيد اللوهية‬
‫• أهمية توحيد اللوهية‬
‫موضوع توحيد اللوهية هو موضوع مهم‪ ،‬يبنغي لنا أن نعيد النظر والكرة إليه‬
‫ونتأمله‪ ،‬ل سيما أنه في هذا الكتاب قد ل يعود إلينا إل في الخير في مواضيع‬
‫ه ت ََعاَلى‪ -‬هو توحيد السماء‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫متفرقة‪ ،‬لن الشغل الشاغل لـابن أبي العز َر ِ‬
‫م ما يتعلق بمسائل العقيدة الخرى‪ ،‬كالقدر واليمان والصحابة‬ ‫والصفات‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫وكرامات الولياء ونحو ذلك‪ ،‬أما موضوع توحيد اللوهية فهو عََلى أهميته لم يكن‬
‫هو الموضوع الساس في هذه العقيدة‪ ،‬وإنما هو أحد هذه الموضوعات‪.‬‬
‫فجدير بنا أن نراجعه‪ ،‬وأن نتأمله‪ ،‬وأن نرجع إ َِلى الصول التي‬
‫شرحته وبينته‪ ،‬ول سيما كتاب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب‬
‫التوحيد ‪ ،‬فإنه من أعظم الكتب التي فصلت في هذا الجانب‪ ،‬وبينت‬
‫أن توحيد الربوبية لم تكن تنازع فيه المم السابقة‪ ،‬أي‪ :‬اليمان‬
‫عاَلى‪ -‬هو وحده الخالق‬‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫والقرار والعتراف بأن الله ‪ُ -‬‬
‫الرازق‪ ،‬المحيي المميت‪ ،‬الذي يدبر المر وينزل الغيث‪ ،‬ولم تقع‬
‫جاءَ الرسل‬‫العداوة والخصومة فيه بين ال َن ْب َِياء وأممهم‪ ،‬وإنما َ‬
‫دوا‬ ‫عاَلى‪ -‬إ َِلى الّناس ليقولوا لهم‪ :‬ا ْ‬
‫عب ُ ُ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫والنبياء من الله ‪ُ -‬‬
‫َ‬
‫غي ُْره ]هود‪ [61:‬أي‪ :‬جاءوا داعين إ ِلى إفراد‬ ‫ه َ‬‫ن إ ِل َ ٍ‬‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ه َ‬
‫عاَلى‪ -‬بتوحيد اللوهية أو توحيد اللهية‪.‬‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫الله ‪ُ -‬‬
‫فهذا هو الذي وقعت فيه المم‪ ،‬أي وقعوا في شرك العبادة‪ ،‬عبادة‬
‫عاَلى‪ -‬ودعاء غير الله والستغاثة بغير الله‪،‬‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫غير الله ‪ُ -‬‬
‫عاَلى‪ ،‬والذبح لغير‬ ‫وت َ َ‬
‫ك َ‬ ‫ورجاء النفع أو الضر من عند غير الله ت ََباَر َ‬
‫عاَلى‪ -‬يعلم‬‫وت َ َ‬‫ك َ‬ ‫الله‪ ،‬والنذر لغير الله‪ ،‬واعتقاد أن غير الله ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫الغيب أو يملك من المر شيئا‪ ،‬هذا هو الموضوع الذي وقع به‬
‫الشرك‪ .‬عندما اختلف الّناس بعد أن كانوا عشرة قرون بعد آدم‬
‫ُ‬ ‫عَلى التوحيد كما قال تعالى‪:‬‬
‫حدَةً‬
‫وا ِ‬
‫ة َ‬
‫م ً‬
‫سأ ّ‬‫ن الّنا ُ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬ ‫سلم‪َ -‬‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه ال ّ‬ ‫‪َ -‬‬
‫رين ]البقرة‪:‬‬ ‫ذ ِ‬‫من ْ ِ‬‫و ُ‬ ‫ن َ‬‫ري َ‬‫ش ِ‬‫مب َ ّ‬‫ن ُ‬ ‫ث الل ّ ُ‬
‫ه الن ّب ِّيي َ‬ ‫ع َ‬
‫فب َ َ‬‫َ‬ ‫أي‪ :‬فاختلفوا‬
‫‪.[213‬‬

‫عَلى التوحيد‪ ،‬حتى جاءتهم الشياطين‬ ‫فكانوا عشرة قرون َ‬


‫فاجتالتهم عن دينهم‪ ،‬وحولتهم وصرفتهم من التوحيد إ َِلى الشرك‪،‬‬
‫فوقع الشرك في قوم نوح‪ ،‬وهي أول أمة مشركة بسبب تعظيم‬
‫الولياء الذين يظن الّناس فيهم الخير‪ ،‬فكان ذلك ذريعة إ َِلى‬
‫الشرك‪ ،‬وموصل إليه‪.‬‬

‫ء الذين ذكرهم الله من آلهتهم ودًّا‪ ،‬وسواعًا‪ ،‬ويغوث‪،‬‬ ‫ه ُ‬


‫ؤل ِ‬ ‫فإن َ‬
‫ويعوق‪ ،‬ونسرا ً كانوا رجال ً صالحين من قوم نوح ‪ ،‬كما في الحديث‬
‫ي في صحيحه ‪ ،‬فأراد الشيطان أن يضل‬ ‫ر ّ‬ ‫خا ِ‬‫الذي رواه المام الب ُ َ‬
‫ء وعملتم لهم التماثيل‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫ل لهم‪) :‬لو صورتم َ‬ ‫ف َ‬
‫قا َ‬ ‫قوم نوح َ‬
‫عاَلى‪،‬‬
‫وت َ َ‬ ‫ء لله‪ ،‬وتذكرتم قربهم من الله ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫لتذكرتم عبادة َ‬
‫ء( هكذا زين لهم‬ ‫ؤل ِ‬ ‫عاَلى‪ -‬مثل ما يعبده َ‬
‫ه ُ‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫فعبدتم الله ‪ُ -‬‬
‫الشيطان في أول المر‪ ،‬فوضعت التماثيل لهم ليتذكروا بها عبادة‬
‫الله سبحانه فقط‪.‬‬

‫م نسخ العلم‪ ،‬وتخلف الخلوف‪ ،‬وهكذا عادة المم‪ ،‬تخلف خلوف‬ ‫ثُ ّ‬
‫وأجيال فتنسى الغرض الساسي الذي من أجله أنشئت البدعة أو‬
‫نصب التمثال‪ ،‬فيتخذ التمثال أو الصورة إلها ً معبودا ً من دون الله‬
‫عاَلى‪.‬‬
‫وت َ َ‬ ‫ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫فحدث ذلك وعبدت هذه اللهة من دون الله‪ ،‬فهذا هو أحد أسباب‬
‫عاَلى‪ -‬من‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫وقوع الشرك في بني آدم‪ ،‬وهو ما ذكره الله ‪ُ -‬‬
‫مدُ ل ِل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫ح ْ‬ ‫عاَلى فيها‪ :‬ال ْ َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ك َ‬ ‫العدل أو من التسوية التي قال الله ت ََباَر َ‬
‫م ال ّ ِ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫والّنوَر ث ُ ّ‬ ‫ت َ‬ ‫ما ِ‬‫ل الظّل ُ َ‬ ‫ع َ‬
‫ج َ‬‫و َ‬‫ض َ‬ ‫واْلْر َ‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬
‫ما َ‬ ‫س َ‬‫ق ال ّ‬ ‫خل َ َ‬‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ن ]النعام‪ [1:‬وقال في آية أخرى حكاية عن‬ ‫دُلو َ‬‫ع ِ‬
‫م يَ ْ‬‫ه ْ‬
‫فُروا ب َِرب ّ ِ‬ ‫كَ َ‬
‫ب‬ ‫م ب َِر ّ‬ ‫ويك ُ ْ‬ ‫س ّ‬ ‫ن * إ ِذْ ن ُ َ‬ ‫مِبي ٍ‬ ‫ل ُ‬ ‫ضل ٍ‬ ‫في َ‬ ‫ن ك ُّنا ل َ ِ‬ ‫َتالل ّ ِ‬
‫ه إِ ْ‬ ‫أهل النار‪ :‬قالوا‪:‬‬
‫ن ]الشعراء‪.[97،98:‬‬ ‫مي َ‬ ‫عال َ ِ‬‫ال ْ َ‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ن‪ُ -‬‬ ‫مي َ‬ ‫عال َ ِ‬
‫ب ال ْ َ‬ ‫ن غيره‪ ،‬وسووا ب َِر ّ‬ ‫مي َ‬ ‫عال َ ِ‬
‫ب ال ْ َ‬ ‫فهم عدلوا ب َِر ّ‬
‫عاَلى‪ -‬غيره في التعظيم والمحبة والتقديس‪ ،‬ل في اعتقاد أن‬ ‫وت َ َ‬
‫َ‬
‫غير الله هو الذي يخلق أو يرزق أو يضر أو ينفع أو يحيي أو يميت‬
‫أو يدبر المر أو ينزل الغيث‪ ،‬بل هو من شرك المحبة والتعظيم‬
‫ن‬
‫دو ِ‬‫ن ُ‬‫م ْ‬ ‫خذ ُ ِ‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫س َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫و ِ‬ ‫َ‬ ‫عاَلى‪:‬‬ ‫وت َ َ‬‫ك َ‬ ‫والتقديس‪ ،‬كما قال ت ََباَر َ‬
‫َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ه ]البقرة‪:‬‬ ‫حب ّا ً ل ِل ّ ِ‬
‫شدّ ُ‬ ‫مُنوا أ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫وال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ه َ‬ ‫ب الل ّ ِ‬‫ح ّ‬‫م كَ ُ‬ ‫ه ْ‬‫حّبون َ ُ‬‫دادا ً ي ُ ِ‬
‫ه أن ْ َ‬
‫ِ‬
‫‪ [165‬وهو من أخطر وأعظم أبواب الشرك‪،‬‬

‫ء الصالحين‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫ن وإن كانوا يدعون َ‬ ‫كي َ‬
‫ر ِ‬
‫ش ِ‬ ‫ء ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫ومن لوازمه‪ :‬أن َ‬
‫أو ال َن ْب َِياء أو المقربين وقت الرخاء‪ ،‬فإنهم كانوا إذا ركبوا في‬
‫الفلك‪ ،‬وجاءتهم الريح من كل مكان وأحاط بهم الموج دعوا الله‬
‫مخلصين له‪ ،‬ويتضرعون طالبين منه الغوث‪ ،‬وهذا بخلف شرك‬
‫عاَلى‪ -‬في الرخاء‬
‫وت َ َ‬ ‫المتأخرين‪ ،‬فإنهم يدعون غير الله ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫والشدة‪.‬‬

‫ك‬‫وهذا من أعظم البلء الذي وقع في هذه المة‪ ،‬نسأل الله ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫عاَلى‪ -‬أن يرفعه عنها فالذي وقع أنهم يعتقدون أن لغير الله‬ ‫وت َ َ‬‫َ‬
‫ن الولون كانوا‬ ‫ُ‬
‫ركو َ‬ ‫م ْ‬
‫ش ِ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫عالى تصرفا في الربوبية‪ ،‬فال ُ‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫ُ‬
‫يعتقدون أن آلهتهم إنما هي شفعاء‪ ،‬تقربهم إ َِلى الله زلفى‪ ،‬ولكن‬
‫ن المتأخرين يعتقدون في آلهتهم ومعبوداتهم أنها تخلق‬ ‫كي َ‬‫ر ِ‬‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫وترزق وتحيي وتميت‪ ،‬وهذا ما لم يقع فيه أصحاب الشرك الول‪،‬‬
‫عَلى انحطاطهم‪ ،‬فإن البشرية كلما تقدم بها الزمن‬ ‫وهو دليل َ‬
‫َ‬
‫وكلما بعدت عن رسالت الن ْب َِياء ازدادت انحطاطا ً وشركا ً عياذا ً‬
‫بالله‪.‬‬

‫مد‬
‫ح ّ‬ ‫وأعظم المصائب أن يقع هذا الشرك ممن ينتمي إ َِلى أمة ُ‬
‫م َ‬
‫م‪ ،‬فيعتقد أن القطاب أو النجباء أو البدال أو‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫الولياء يملكون النفع والضر والخلق والرزق والتصرف في‬
‫عاَلى‪ -‬قد وكل أمر تصرف‬ ‫وت َ َ‬ ‫الكائنات‪ ،‬كما يزعمون أن الله ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫ء الولياء‪ ،‬فهم يتصرفون فيه كما يشاءون‪،‬‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫العالم إ َِلى َ‬
‫عَلى الناس‪ ،‬حتى إذا قال أحدهم‪ :‬الله هو‬ ‫ويقولون ذلك تلبيسا ً َ‬
‫المتصرف في كل شيء قالوا‪ :‬نعم‪ .‬إن الله هو المتصرف في كل‬
‫شيء‪.‬‬

‫عاَلى يعطي من يشاء فيتصرف في ملكه‪ .‬وهذا من أبطل‬ ‫ولكنه ت َ َ‬


‫عاَلى‪ -‬إن أكرم أحدا ً من العباد أو من‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫الباطل؛ لن الله ‪ُ -‬‬
‫الولياء أو الصالحين فلن يعطيه شيئا ً من خصائص اللوهية‪ ،‬لن‬
‫عاَلى‪ -‬وهي التي من أجلها خلق السماوات‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫هذه ألوهيته ‪ُ -‬‬
‫والرض‪ ،‬فالملئكة المقربون والنبياء والمرسلون‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫م بعد ذلك عباد‬
‫عاَلى‪ -‬ويتوجهون‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫الله جميعا ً والخلق جميعا ً يعبدون الله ‪ُ -‬‬
‫سب ْ َ‬
‫عاَلى‪ -‬وهذا هو شأنهم‪ ،‬وهذا هو ديدنهم جميعًا‪ ،‬فل‬ ‫وت َ َ‬ ‫إليه ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫عاَلى‪-‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫يمكن ول يصح بحال من الحوال أن يعطي الله ‪ُ -‬‬
‫أحدا ً منهم شيئا ً من خصائص اللوهية‪.‬‬

‫بل هذا تكذيب لما هو ثابت بالقرآن والسنة وعلى ألسنة جميع‬
‫عاَلى‪ -‬هو وحده الله‪.‬‬
‫وت َ َ‬ ‫َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫الن ْب َِياء من أن الله ‪ُ -‬‬
‫ء الولياء التصرف في‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫فإن قالوا‪ :‬إن الله هو الذي يعطي َ‬
‫عَلى الخلق والرزق والحياء والماتة‪ ...‬فإن هذا‬ ‫الكوان‪ ،‬والقدرة َ‬
‫من الباطل الذي ترده بديهة المسلم وفطرته‪ ،‬لعلمه اليقيني أن‬
‫َ‬
‫صّلى الل ُ‬
‫ه‬ ‫عاَلى إنما بعث الن ْب َِياء من قبل وبعث آخرهم محمدا ً َ‬ ‫الله ت َ َ‬
‫في‬‫عث َْنا ِ‬ ‫ول َ َ‬
‫قد ْ ب َ َ‬ ‫َ‬ ‫م ليفرده الّناس باللهية‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫َ‬
‫جت َن ُِبوا ال ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ت ]النحل‪[36:‬‬ ‫طا ُ‬
‫غو َ‬ ‫وا ْ‬ ‫دوا الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫عب ُ ُ‬‫نا ْ‬ ‫سول ً أ ِ‬ ‫ة َر ُ‬ ‫م ٍ‬ ‫لأ ّ‬ ‫كُ ّ‬
‫عاَلى‪ -‬غيره إلها ً وطاغوتا ً يعبد من دونه؟!‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬ ‫فكيف يجعل ‪ُ -‬‬
‫عَلى‬‫ومن أسباب وقوع الشرك‪ :‬تعظيم الكواكب أو القياس َ‬
‫الكواكب‪ ،‬كما قلنا‪ :‬إن الحرانيين الصابئين ‪-‬قوم إبراهيم‪ -‬والمم‬
‫قبلهم من الكنعانيين والبابليين والشوريين وكثير من المم‬
‫البائدة‪ ،‬كانوا يعتقدون أن للفلك والكواكب تأثيرات وتدبيرات في‬
‫عَلى مثال‬ ‫العوالم السفلية‪ ،‬ومن أجل ذلك بنوا الهياكل‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫م صوروا َ‬
‫تلك الكواكب الصنام‪ .‬ونحتوها‪ ،‬وأخذوا يعبدون هذه الصنام من‬
‫عاَلى‪ -‬بسبب هذا العتقاد‪.‬‬
‫وت َ َ‬ ‫دون الله ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫ه الحاديث الصحيحة في النهي عن عبادة‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫صن ّ ُ‬
‫م ْ‬
‫وذكر ال ُ‬
‫القبور‪ ،‬وعن اتخاذ القبور مساجد‪ ،‬وهي أحاديث كثيرة وصحيحة‪.‬‬
‫• حديث اللهم ل تجعل قبري وثنا ً يعبد ل يفهم منه جواز تعظيم القبور والتقرب‬
‫إليها‬
‫ولكن هنا إشكال يرد‪ ،‬ونحب أن نفصل فيه حتى تزول الشبهة‪ ،‬وهو قول النبي‬
‫م كما روى المام مالك في الموطأ عنه أنه قال‪) :‬اللهم ل‬ ‫سل ّ َ‬
‫ه عَل َي ْهِ وَ َ‬
‫صّلى الل ُ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله عَلى قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد(‬ ‫ً‬
‫م مجاب‬ ‫سل ّ َ‬
‫ه عَل َي ْهِ وَ َ‬
‫صّلى الل ُ‬
‫سول َ‬ ‫فأورد بعض دعاة الشرك قديما ً وحديثا ً أن الّر ُ‬
‫ه وَت ََعاَلى‪ -‬أن ل يجعل قبره وثنا ً‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫الدعوة‪ ،‬وهو في هذا الحديث قد دعا الله ‪ُ -‬‬
‫م‪ ،‬فمهما عبدنا‪ ،‬ومهما دعونا القبر‪،‬‬ ‫سل ّ َ‬
‫ه عَل َي ْهِ وَ َ‬
‫صّلى الل ُ‬
‫يعبد‪ ،‬إذا ً فلن يعبد قبره َ‬
‫ومهما استغثنا‪ ،‬ومهما طفنا‪ ،‬فهذه ليست بعبادة‪.‬‬
‫وهذه الشبهة هي من أعظم شبهاتهم ‪-‬كما يظنون‪ -‬ولكنها إذا‬
‫عاَلى‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬ ‫عَلى الدليل العلمي الصحيح تزول بإذن الله ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫عرضت َ‬
‫ة‬
‫سن ّ ِ‬‫هل ال ّ‬ ‫وتنكشف‪ ،‬وكما سبق وأن قلنا ونعيد القول بأن أ ْ‬
‫ة ودعاة التوحيد ‪-‬ولله الحمد والمنة‪ -‬مستعدون للجابة عن‬ ‫ع ِ‬ ‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫َ‬
‫ء‪ ،‬فالجواب عليها موجود عند علماء‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫َ‬ ‫يوردها‬ ‫علمية‬ ‫شبهة‬ ‫أية‬
‫ء الّناس‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬
‫ن نريد من َ‬ ‫ح ُ‬
‫ة وفي كتبهم‪ ،‬ولذلك ن َ ْ‬ ‫ع ِ‬
‫ما َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫ة َ‬
‫سن ّ ِ‬ ‫هل ال ّ‬ ‫أ ْ‬
‫صّلى الل ُ‬
‫ه‬ ‫سول َ‬‫أن يحرروا عقولهم من التقليد والتبعية لغير الّر ُ‬
‫م‪ ،‬وينظروا إ َِلى المور بنظرة علمية خالصة جادة‪ ،‬فإذا‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫عَلى ذلك‪ ،‬ولم يبق إل مثل هذه الشبهات العلمية‪ ،‬فان‬ ‫وافقوا َ‬
‫عاَلى‪.‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫الجواب عنها قريب بإذن الله ُ‬
‫ى وظنون وتأويلت من عند أنفسهم‪،‬‬ ‫وأما الشبهات التي هي هو ً‬
‫ن بالتقليد كقولهم‪:‬‬ ‫كا َ‬ ‫فهذه يجب عليهم هم أن يردوها‪ ،‬وكذلك ما َ‬
‫هذا رواه الولياء‪ ،‬أو هذا ثبت بالتجربة عند المشايخ‪ ،‬أو هذا مما‬
‫ة‬
‫قَناهُ بالعلم الباطن أو نحو ذلك‪ ،‬فإن هذا الكلم مردود أصل وبداه ً‬ ‫لُ ِ‬
‫ل‪ ،‬لكن‬ ‫ة وتفصي ً‬ ‫عَلى سبيل رده جمل ً‬ ‫ول نناقش في هذا الكلم‪ ،‬إل َ‬
‫صلى‬‫ّ‬ ‫سول الله َ‬ ‫قاُلوا‪ :‬قال الله‪ :‬أو قال َر ُ‬ ‫و َ‬
‫إذا جاءونا بأدلة علمية َ‬
‫عَلى غير وجهها‪ ،‬أو فهموا‬ ‫م‪ ،‬لكنهم فهموا الية َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬
‫الل ُ‬
‫ن وإياكم نبحث عن‬ ‫ح ُ‬ ‫عَلى غير وجهه‪ ،‬قلنا لهم‪ :‬نعم‪ ،‬إذًا؛ ن َ ْ‬ ‫الحديث َ‬
‫عاَلى‪.‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫الدليل العملي الصحيح ونتبعه بإذن الله ُ‬
‫ن‪ ،‬ول نجادلهم إل ّ‬
‫كي َ‬
‫ر ِ‬
‫ش ِ‬ ‫ء ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫هذه قاعدة عامه في مجادلة َ‬
‫بالتي هي أحسن‪.‬‬

‫م‪) :‬اللهم ل تجعل قبري‬ ‫سل ّ َ‬


‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫فنقول‪ :‬إن قول النبي َ‬
‫عَلى قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد( ‪.‬‬ ‫وثنا ً يعبد‪ ،‬اشتد غضب الله َ‬

‫الكلم عليه يتلخص في أمرين‪:‬‬

‫الول‪ :‬في ثبوته‪.‬‬

‫ن في الستدلل به‪.‬‬
‫كي َ‬
‫ر ِ‬
‫ش ِ‬ ‫والثاني‪ :‬في معناه‪ ،‬وفي رد شبهة ال ْ ُ‬
‫م ْ‬

‫ه‪ -‬قد رواه في‬ ‫ه الل ّ ُ‬‫م ُ‬ ‫ح َ‬ ‫أما ثبوت هذا الحديث‪ :‬فإن المام مالك ‪َ-‬ر ِ‬
‫الموطأ مرسل ً عن زيد بن أسلم ‪ ،‬وروي أيضا ً مرسل ً عن عطاء ‪،‬‬
‫والحديث المرسل هو‪ :‬الحديث الذي سقط منه الصحابي‪ ،‬يعني أن‬
‫م‪ ،‬فهذا الحديث‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬‫سول الله َ‬ ‫يقول التابعي‪ :‬قال َر ُ‬
‫ل‪ ،‬كما قال الناظم‪) :‬ومرسل منه الصحابي سقط(‬ ‫يسمى مرس ً‬
‫وزيد بن أسلم أو عطاء تابعيان‪ ،‬ومثل ذلك سعيد بن المسيب‬
‫رحمهم الله‪ ،‬والزهري ‪ ،‬ونافع ‪ ،‬وأمثالهم ممن يروون عن الصحابة‬
‫سول الله‬ ‫ء التابعين‪ :‬قال َر ُ‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫‪-‬رضوان الله عليهم‪ -‬فإذا قال أحد َ‬
‫سل ّ َ‬
‫م‪،‬‬ ‫و َ‬‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫سول الله َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫م‪ ،‬أو عن َر ُ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫ولم يذكر الصحابي الذي روى عنه ‪-‬فلم يقل عن أنس ولعن جابر‬
‫ل‪.‬‬‫ة ‪ -‬فهذا الحديث يسمى مرس ً‬ ‫هَري َْر َ‬ ‫ول عن أ َِبي ُ‬

‫والمرسل ل يحتج به بعض العلماء‪ ،‬لنه يحتمل أن التابعي رواه عن‬


‫تابعي أو عن أكثر من تابعي‪ ،‬فقد يروي الرجل الحديث عن اثنين أو‬
‫م يكون الثالث أو الرابع رواه عن صحابي عن‬‫عن ثلثة من أقرانه‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫صّلى الل ُ‬
‫ه‬ ‫سل ّ َ‬
‫م‪ ،‬والتابعي لم يدرك النبي َ‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫النبي َ‬
‫م وإنما أدرك الصحابة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫سل َ‬‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬

‫ن ثقة‪ ،‬لكنه قد يروي عن تابعي ضعيف‪ ،‬أو تابعي‬ ‫كا َ‬ ‫فالتابعي وإن َ‬
‫غير مقبول‪ ،‬وذهب بعض علماء الحديث وكثير من الفقهاء إ َِلى أن‬
‫سول‬ ‫ل‪ :‬قال َر ُ‬ ‫قاُلوا‪ :‬إن التابعي إذا َ‬
‫قا َ‬ ‫و َ‬
‫المرسل مقبول يحتج به‪َ ،‬‬
‫صّلى الل ُ‬
‫ه‬ ‫م فإنه إنما قاله متأكدا ً أن النبي َ‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬‫صّلى الل ُ‬ ‫الله َ‬
‫م قد قاله‪ ،‬وراويا ً له عن الصحابي الذي أسقطه‪ ،‬لنه‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫َ‬
‫ليس من الضروري أن يذكر الراوي من روى عنه‪ ،‬فهو يقول‪ :‬قال‬
‫م ليقينه أنه سمع هذا الحديث من‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫سول الله َ‬ ‫َر ُ‬
‫أحد الصحابة‪ ،‬هذه وجهة نظر الخرين‪.‬‬

‫ن بعض التابعين يقبل حديثه‬ ‫قاُلوا‪ :‬إ ّ‬


‫ف َ‬ ‫سط في ذلك بعض العلماء َ‬ ‫وتو ّ‬
‫ه فإنه إذا قال‪:‬قال‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬‫المرسل بإطلق‪ ،‬كـسعيد بن المسّيب َر ِ‬
‫ما بعضهم‬ ‫م‪ .‬فإّنا نقبله بإطلق‪ ،‬وأ ّ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫سول الله َ‬ ‫َر ُ‬
‫ل‪ ،‬كما قال العلماء‪،‬‬ ‫ن مراسيله غير مقبولة كـالّزهري مث ً‬ ‫فإ ّ‬
‫فـالزهري وغيره يروون كثيرا ً جدا ً عن التابعين وعن أقرانهم‪،‬‬
‫م‪ ،‬فإذا قال‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫ويرفعون أحاديث كثيرةً إ َِلى النبي َ‬
‫ن منهم‬‫كا َ‬‫سول الله‪ .‬فإنه ل يقبل‪ ،‬وخاصة من َ‬ ‫ء‪ :‬قال َر ُ‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫مثل َ‬
‫من صغار التابعين‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وهذا المرسل مردود عند بعض‬ ‫فالحديث رواه المام مالك مرس ً‬
‫م أورد لهذا الحديث بعض طرق روي‬ ‫العلماء ومقبول عند بعضهم‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫َ‬
‫مد في المسند له‬ ‫بها مرفوعا ً عنأبي سعيد الخدري ‪ ،‬وأورد المام أ ْ‬
‫ح َ‬
‫ن الحديث بمجموع هذه الشواهد يرتقي إ َِلى‬ ‫شواهد‪ ،‬فنقول‪ :‬إ ّ‬
‫صحة‪.‬‬
‫ال ّ‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ن النبي َ‬
‫وأما دللة هذا الحديث ومعناه فنقول لهم‪ :‬إ ّ‬
‫م‪ ،‬بل كل ال َن ْب َِياء ليسوا مجابي الدعوة بإطلق‪ ،‬فليس صحيحا ً‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫َ‬
‫صلى‬ ‫ّ‬ ‫م تستجاب له كل دعوة يدعو بها َ‬ ‫ّ‬
‫سل َ‬‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫علي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫صلى الل ُ‬ ‫ّ‬ ‫ن النبي َ‬ ‫أ ّ‬
‫م‪ ،‬وهذا ل غرابة فيه‪ ،‬بل وردت وصحت عن النبي‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫الل ُ‬
‫م أحاديث لم يستجب فيها دعاؤه‪ ،‬لن الله‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬
‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫عالى‪ -‬له حكم عظيمة ل يدركها أحدٌ من البشر وإن كا َ‬ ‫َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫‪ُ -‬‬
‫نبي ًّا‪.‬‬

‫عاَلى‪ -‬قد قدر أقداًرا‪ ،‬وقد كتب في اللوح المحفوظ‬ ‫وت َ َ‬ ‫وهو ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫أقدارا ً وأمورا ً مما تقتضيها حكمته‪ ،‬فتقع هذه المور وتجري في‬
‫الكون‪ ،‬ول يحيط ال َن ْب َِياء ول غيرهم بها علمًا‪.‬‬

‫عاَلى‪ -‬قد‬
‫وت َ َ‬ ‫فيأتي النبي فيدعو الله بدعوة‪ ،‬ويكون الله ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫قضى وقدر أن هذا المر يمضي وينفذ‪ ،‬فل تستجاب دعوة النبي‬
‫في هذا المر‪ ،‬ول يعني هذا أن النبي غير مقبول عند الله‪ ،‬فإن‬
‫َ‬
‫سول‬ ‫عاَلى‪ ،‬ول سيما َر ُ‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫جميع الن ْب َِياء مقبولون عند الله ُ‬
‫وم‬
‫م الذي هو أفضلهم‪ ،‬وهو سيد ولد آدم ي َ ْ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫الله َ‬
‫عاَلى حكم عظيمة‪.‬‬ ‫ة ولكن لله ت َ َ‬ ‫م ِ‬‫قَيا َ‬
‫ال ِ‬

‫ن رجل ً صالحا ً تقيا ً عابدًا‪ ،‬ل يدعو الله‬ ‫مثال ذلك‪ :‬لو أن أحدا ً منا َ‬
‫كا َ‬
‫ن في هذه المة‬ ‫كا َ‬‫عاَلى‪ -‬في شيء إل واستجاب له‪ ،‬وقد َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫‪ُ -‬‬
‫ه‪ ،‬فلو‬‫عن ْ ُ‬‫ه َ‬ ‫ي الل ُ‬ ‫ض َ‬ ‫من هو مجاب الدعوة مثل‪ :‬سعد بن أبي وقاص َر ِ‬
‫سل ّ َ‬
‫م‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫عاَلى‪ -‬أن يبعث النبي َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫دعا الله ‪ُ -‬‬
‫ل‪ ،‬أو يبعث أبا بكر حتى يراه‪ ،‬ل يقبل دعاؤه‪ ،‬لنه وإن كانت‬ ‫مث ً‬
‫دعوته مستجابة فإن الدعاء ل يجوز العتداء فيه‪ ،‬وهذا من العتداء‬
‫عاَلى به‬ ‫في الدعاء‪ ،‬فل يصح أبدا ً أن تدعو الله به‪ .‬فإذا دعوت الله ت َ َ‬
‫فإنك معتد في الدعاء‪ ،‬وهذا الدعاء مردود‪ ،‬وإن كنت مستجاب‬
‫الدعوة في أمور أخرى‪ .‬وهكذا ما يذكر في قصة عابد بني إسرائيل‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫عَلى موسى َ‬ ‫ن مجاب الدعوة‪ -‬فقيل له‪ :‬ادع الله َ‬ ‫كا َ‬ ‫‪-‬وقد َ‬
‫سلم‪ ،‬فلما دعا اندلق لسانه ‪-‬والعياذ بالله‪ -‬وكان ذلك شؤما ً عليه‬ ‫ال ّ‬
‫وخسارة‪.‬‬

‫م أنه دعا الله‬ ‫سل ّ َ‬


‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫جاءَ الحديث عن النبي َ‬ ‫ولهذا َ‬
‫عالى‪ -‬ثلث دعوات‪ ،‬فاستجاب الله له دعوتين ولم‬ ‫َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫‪ُ -‬‬
‫مد إني إذا‬ ‫ح ّ‬
‫م َ‬‫عاَلى ذلك فقال‪) :‬يا ُ‬ ‫م بين الله ت َ َ‬ ‫يستجب له الثالثة‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫سل ّ َ‬
‫م‬ ‫و َ‬‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫قضيت قضاء فإن قضائي ل يرد( فدعا النبي َ‬
‫ربه أن ل يهلك أمته بسنة بعامة أي‪ :‬بالجدب والقحط العام الذي‬
‫يفنيهم جميعا‪ ،‬كما بينته الرواية الخرى‪ ،‬وفي رواية أخرى أعم من‬
‫عاَلى‪ -‬أن ل يهلكهم بما أهلك المم قبلهم ‪،‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ك َ‬ ‫ذلك دعا الله ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪:‬‬ ‫وفي بعض الروايات ‪-‬وهي كلها صحيحة‪ -‬عينت أنه الغرق‪َ ،‬‬
‫ل‪ :‬دعوت ربي أل يهلك أمتي‬ ‫قا َ‬ ‫)اللهم ل تهلكهم بالغرق‪ ،‬أو َ‬
‫بالغرق( فاستجاب الله له‪.‬‬

‫عَلى أمته أهل الشرك( وفي رواية‬ ‫والدعوة الثانية‪) :‬أن ل يسلط َ‬
‫حديث شداد قال‪):‬ول يسلط عليهم عدوا ً من سوى أنفسهم‬
‫صّلى الل ُ‬
‫ه‬ ‫عاَلى‪ -‬لنبيه َ‬
‫وت َ َ‬
‫ك َ‬ ‫فيستبيح بيضتهم( فاستجاب الله ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫م بأن ل يسلط علينا الكفار فيستأصلونا جميعا‪ ،‬فإنه ل‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫تزال في هذه المة طائفة باقية‪ ،‬ول تزال طائفة منصورة يقاتلون‬
‫عَلى أمر الله ل يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله‪ ،‬فل يسلط‬ ‫َ‬
‫ن‪ ،‬فيبيدونا إبادة تامة‬‫كي َ‬ ‫ر ِ‬
‫ش ِ‬‫م ْ‬‫صاَرى ول ال ْ ُ‬
‫الله علينا اليهود ول الن ّ َ‬
‫عَلى وجه الرض مسلم‪ ،‬فهذا ل يقع‪.‬‬ ‫حتى ل يبقى َ‬

‫والدعوة الثالثة‪) :‬أن ل يجعل بأسنا بيننا شديدًا( ‪.‬‬


‫عاَلى‬ ‫ف َ‬
‫قا َ‬
‫ل الله ت َ َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫م‪َ ،‬‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬‫صّلى الل ُ‬
‫سول َ‬
‫وهذه لم ُتستجب للَر ُ‬
‫له‪) :‬يا محمد‪ ،‬إني إذا قضيت قضاء فإن قضائي ل يرد‪ ،‬وإني لن‬
‫أهلك أمتك بسنة بعامة( أو )وإني وعدتها أل أهلكها بسنة بعامة وأل‬
‫أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم حتى يقتل‬
‫بعضهم بعضا‪ ،‬ويسبي بعضهم بعضا( ‪.‬‬

‫قْرآن مع بيان سبب‬ ‫جاءَ في صريح ال ُ‬ ‫جاءَ في الحديث قد َ‬ ‫وهذا الذي َ‬


‫و‬ ‫ه َ‬
‫ل ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫ُ‬ ‫عاَلى‪ -‬في سورة النعام‪:‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ك َ‬ ‫النزول‪ ،‬وهو قول الله ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫و‬
‫مأ ْ‬ ‫جل ِك ُ ْ‬ ‫ت أْر ُ‬‫ح ِ‬
‫ن تَ ْ‬
‫م ْ‬
‫و ِ‬ ‫مأ ْ‬‫قك ُ ْ‬
‫و ِ‬ ‫ن َ‬
‫ف ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ذابا ً ِ‬‫ع َ‬‫م َ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬‫ث َ‬ ‫ع َ‬ ‫عَلى أ ْ‬
‫ن ي َب ْ َ‬ ‫قاِدُر َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ْ‬
‫عض ]النعام‪.[65:‬‬ ‫س بَ ْ‬‫م ب َأ َ‬ ‫ضك ُ ْ‬ ‫ع َ‬ ‫ق بَ ْ‬
‫ذي َ‬ ‫وي ُ ِ‬‫شَيعا ً َ‬
‫م ِ‬ ‫ي َل ْب ِ َ‬
‫سك ُ ْ‬

‫صّلى الل ُ‬
‫ه‬ ‫ه في هذه الية أن النبي َ‬ ‫ه الل ّ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ي َر ِ‬ ‫ر ّ‬ ‫خا ِ‬ ‫روى المام الب ُ َ‬
‫ذابا ً‬ ‫َ‬
‫ع َ‬ ‫م َ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬‫ث َ‬ ‫ع َ‬ ‫ن ي َب ْ َ‬ ‫عَلى أ ْ‬ ‫قاِدُر َ‬ ‫و ال ْ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ل ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫ُ‬ ‫م لما نزلت‪:‬‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫َ‬
‫ل‪) :‬أعوذ بوجهك( ‪ .‬فاستعاذ النبي‬ ‫قا َ‬ ‫م ]النعام‪َ [65:‬‬ ‫قك ُ ْ‬ ‫و ِ‬
‫ف ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫عاَلى‪ -‬علينا عذابا ً من‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫م أن ينزل الله ‪ُ -‬‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫َ‬
‫فوقنا‪ ،‬إما القذف بالحجارة من السماء‪ ،‬وإما الغرق والمطر أو أي‬
‫و‬ ‫قا َ َ‬ ‫عذاب يأتي من السماء‪ ،‬كالصيحة أو الصاعقة ونحو ذلك‪َ ،‬‬
‫ل‪ :‬أ ْ‬
‫َ‬
‫م‪) :‬أعوذ‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫ل النبي َ‬ ‫قا َ‬ ‫ف َ‬‫م‪َ .‬‬ ‫جل ِك ُ ْ‬ ‫ت أْر ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫عاَلى‪ -‬له وأعاذنا من أن يرسل‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬
‫بوجهك( فاستجاب الله ‪ُ -‬‬
‫علينا عذابا من تحت أرجلنا‪ ،‬وهو الخسف أو الغرق أيضا‪ ،‬أو أي‬
‫عذاب يكون من تحت أرجلنا فيهلك المة عامة‪ ،‬وإل فإن الخسف قد‬
‫شَيعا ً‬ ‫َ‬
‫م ِ‬ ‫سك ُ ْ‬‫و ي َل ْب ِ َ‬ ‫ل‪ :‬أ ْ‬ ‫قا َ‬ ‫م َ‬ ‫يقع لبعض المة والغرق والزلزل‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫ْ‬
‫م‪) :‬هذه‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫عض قال النبي َ‬ ‫س بَ ْ‬ ‫م ب َأ َ‬ ‫ضك ُ ْ‬ ‫ع َ‬ ‫ق بَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫وي ُ ِ‬ ‫َ‬
‫على أن هذه الية نزلت بعد أن دعا الله‬ ‫َ‬ ‫أهون‪ ،‬هذه أيسر( فهذا يدل َ‬
‫عاَلى‪ -‬بالدعوات الثلث‪ ،‬فلم تستجب له الدعوة الثالثة‪.‬‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫‪ُ -‬‬
‫م في هذه الثالثة‪ :‬أعوذ‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫فلذلك لم يقل النبي َ‬
‫ل‪) :‬هذه أهون هذه أيسر( هذا هو الظاهر‪ ،‬والله‬ ‫قا َ‬ ‫بوجهك‪ .‬بل َ‬
‫عاَلى أعلم‪.‬‬ ‫تَ َ‬
‫مد في‬ ‫َ‬
‫ح َ‬
‫ولكن المهم من ذلك أنه كما روى المام مسلم ‪ ،‬والمام أ ْ‬
‫م قد استجاب الله له‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫المسند وغيرهما أن النبي َ‬
‫دعوتين ولم يستجب له الثالثة‪ ،‬وقد ورد في طرق هذا الحديث أن‬
‫ف َ‬
‫قا َ‬
‫ل‬ ‫م صلى صلة حسنة طويلة خاشعة َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫النبي َ‬
‫سول الله إنك صليت صلة‬ ‫له معاذ ‪-‬وفي بعض الروايات خباب ‪ :-‬يا َر ُ‬
‫ل‪) :‬نعم‪ ،‬إنها صلة رغب ورهب(‬ ‫ما رأيتك صليت مثلها من قبل! َ‬
‫قا َ‬
‫‪.‬‬

‫عاَلى‪ -‬ويدعوه بأمر‬


‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫فصلى هذه الصلة ليتضرع إ َِلى الله ‪ُ -‬‬
‫سب ْ َ‬
‫ل‪) :‬إني صليت هذه الصلة‪ ،‬وإني سألت ربي‬ ‫مهم عظيم جدا ً ف َ‬
‫قا َ‬
‫ثلثًا‪ ،‬فأعطاني اثنتين ومنعني الثالثة( <‬
‫مد وغيرهم أن‬ ‫َ‬ ‫دليل آخر ‪-‬وهو أيضا ً صحيح‪ -‬رواه الب ُ َ‬
‫ح َ‬
‫ي والمام أ ْ‬ ‫ر ّ‬‫خا ِ‬
‫ل‪ :‬سمع‬ ‫م‪} :‬كان يقنت بعد الركوع إذا َ‬
‫قا َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫النبي َ‬
‫ن‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫كي َ‬
‫ر ِ‬ ‫م ْ‬
‫ش ِ‬ ‫عَلى بعض ال ْ ُ‬
‫الله لمن حمده‪ ،‬ربنا ولك الحمد‪ ،‬يدعو َ‬
‫اللهم العن فلنا ً والعن فلنا ً {‪.‬‬

‫وممن ذكر بالتعيين‪ ،‬بالسم في هذا الحديث كما في رواية‬


‫المسند ‪:‬‬

‫} الحارث بن هشام ‪ ،‬وسهيل بن عمرو ‪ ،‬وصفوان بن أمية {‪.‬‬

‫عَلى رعل وذكوان‬ ‫عَلى قبائل من العرب بأعيانها‪ ،‬فـقنت َ‬ ‫وقنت َ‬


‫ه‬‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫عَلى النبي َ‬ ‫عاَلى‪َ -‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ك َ‬ ‫صية‪ ،‬فأنزل الله ‪-‬ت ََباَر َ‬ ‫وع ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ه ْ‬
‫فإ ِن ّ ُ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫عذّب َ ُ‬
‫و يُ َ‬
‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬‫علي ْ ِ‬‫ب َ‬
‫و ي َُتو َ‬
‫يءٌ أ ْ‬
‫ش ْ‬ ‫ر َ‬ ‫م ِ‬‫ن ال ْ‬ ‫م َ‬ ‫سل َ‬
‫ك ِ‬ ‫م‪ :‬لي ْ َ‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫ن ]آل عمران‪. [128:‬‬ ‫مو َ‬ ‫ظال ِ ُ‬‫َ‬

‫أي‪ :‬ليس لك من المر شيء‪ ،‬إنما عليك البلغ والبيان والدعوة‪ ،‬أما‬
‫عاَلى‪ ،‬فإن شاء تاب عليهم‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫ء فإنه إ َِلى الله ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬
‫إهلك َ‬
‫عاَلى‪ -‬وحده‪،‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ك َ‬ ‫عاَلى‪ ،‬وإن شاء عذبهم‪ ،‬فالمر إليه ‪-‬ت ََباَر َ‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ُ‬
‫َ‬
‫م بعدها إ ِلى‬‫سل َ‬‫ّ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬
‫علي ْ ِ‬ ‫ه َ‬
‫صلى الل ُ‬‫ّ‬ ‫فلما نزلت هذه الية لم يعد النبي َ‬
‫ن عام الفتح أسلم سهيل بن عمرو ‪،‬‬ ‫ء‪ ،‬ولما َ‬
‫كا َ‬ ‫ؤل ِ‬ ‫عَلى َ‬
‫ه ُ‬ ‫القنوت َ‬
‫وصفوان بن أميه ‪ ،‬والحارث بن هشام ‪ ،‬كما أن القبائل الخرى‬
‫أسلمت‪ ،‬ومنها‪ :‬رعل وذكوان وعصية‪.‬‬

‫عَلى مضر‪ ،‬وقد سبق معنا‬ ‫م َ‬ ‫سل ّ َ‬


‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬‫صّلى الل ُ‬ ‫وكذلك دعا النبي َ‬
‫م‪،‬‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫حديث وفد عبد القيس لما جاءوا إ َِلى النبي َ‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫فكانوا من أول قبائل العرب إيمانا ً واستجابة للنبي َ‬
‫ي ومسلم ‪،‬‬ ‫ر ّ‬ ‫خا ِ‬ ‫م لذلك قالوا‪ ،‬كما في الحديث الذي في الب ُ َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫َ‬
‫}قالوا‪ :‬إنا ل نستطيع أن نأتيك إل في الشهر الحرام‪ ،‬لن بيننا‬
‫وبينك هذا الحي من مضر { وكفار مضر من بني تميم ومن حولهم‬
‫ء القوم وبين المجيء إ َِلى‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬‫وكانوا في وسط نجد يحولون بين َ‬
‫جاءَ الشهر المحرم وامتنع‬ ‫المدينة ‪ ،‬إل في الشهر المحرم‪ ،‬فإذا َ‬
‫م‪ ،‬وكانوا‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫سول َ‬ ‫العرب عن القتل‪ ،‬جاءوا إ َِلى َر ُ‬
‫م‪ ،‬فدعا النبي‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫سول الله َ‬ ‫عَلى َر ُ‬ ‫من أشد الكفار َ‬
‫عَلى‬ ‫ل‪} :‬اللهم اشدد وطأتك َ‬ ‫قا َ‬ ‫م عليهم ف َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫ن كسني يوسف { أي‪ :‬أهلكهم بالجدب‬ ‫مضر‪ ،‬واجعلها عليهم سني َ‬
‫سلم‪ ،‬بقوا سبع‬ ‫ه ال ّ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫فيأخذهم القحط‪ ،‬كما أخذ قوم يوسف َ‬
‫سنوات عجاف‪ ،‬ولم يستجب هذا الدعاء‪ ،‬بل أسلمت مضر بعد ذلك‬
‫ودخلت في السلم‪ ،‬وإن ارتد منهم بعد ذلك من ارتد‪ ،‬فإنهم قد‬
‫دخلوا في السلم واهتدوا وأصبحوا من المؤمنين‪.‬‬
‫ن أو دعاة الشرك أو أصحاب الشبهات‬ ‫كي َ‬‫ر ِ‬‫ش ِ‬‫م ْ‬ ‫ء ال ْ ُ‬‫ؤل ِ‬ ‫إذًا؛ فنقول ل َ‬
‫ه ُ‬
‫ل‪:‬‬‫قا َ‬‫م قد َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫سول الله َ‬ ‫الشركية الذين قالوا‪ :‬إن َر ُ‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫)اللهم ل تجعل قبري وثنا يعبد( ودعاؤه مستجاب َ‬
‫م‪ ،‬فمهما عبدنا ومهما فعلنا ومهما أشركنا حول القبر‪ ،‬ومهما‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬
‫َ‬
‫طفنا به أو استغثنا به أو شددنا الرحل إليه‪ ،‬فهذا ليس شركًا؛ لن‬
‫م دعا الله أل يجعل قبره وثنًا‪ ،‬وهذه‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬‫سول َ‬ ‫الّر ُ‬
‫ليست من الوثنية في شيء!‪.‬‬

‫م قد‬‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫نقول لهم‪ :‬هذا القول مردود بأن النبي َ‬
‫دعا بدعوات ولم يستجب له فيها‪ ،‬ونستطيع أن نتلمس الحكمة في‬
‫عاَلى‪ -‬قد قضى وقدر أن هذه المة يكون‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ذلك أن الله ‪ُ -‬‬
‫ن في المم قبلها‪ ،‬كما ثبت في الحديث الصحيح‪) :‬لتتبعن‬ ‫فيها ما َ‬
‫كا َ‬
‫عاَلى ذلك‪ ،‬ول‬ ‫ن قبلكم حذو القذة بالقذة( فقدر الله ت َ َ‬ ‫سنن من َ‬
‫كا َ‬
‫عاَلى‪ -‬أن هذه المة تعود إ َِلى‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫راد لقضائه‪ ،‬وقدر الله ‪ُ -‬‬
‫ن‪ ،‬وأنه )ل تقوم الساعة‬ ‫كي َ‬
‫ر ِ‬
‫ش ِ‬‫م ْ‬ ‫الشرك‪ ،‬وأن فئام منها تلحق بال ْ ُ‬
‫عَلى ذي الخلصة ( ‪-‬كما في الحديث‬ ‫حتى تضطرب أليات نساء دوس َ‬
‫الصحيح‪ ،-‬فهذا مما قدره الله ول راد لقضائه‪.‬‬

‫م وقوله‪) :‬اللهم ل‬ ‫سل ّ َ‬


‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬‫صّلى الل ُ‬
‫سول الله َ‬
‫ولكن دعوة َر ُ‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫تجعل قبري وثنا يعبد( فيها فوائد عظيمة لما سبق أن الله ‪ُ -‬‬
‫ة ويجمع من‬ ‫م ِ‬
‫قَيا َ‬
‫م ال ِ‬ ‫عاَلى‪ -‬يجمع العبيد الذين عبدوا غير الله‪ ،‬ي َ ْ‬
‫و َ‬ ‫وت َ َ‬ ‫َ‬
‫ء وهؤلء‪ ،‬ويرى ماذا‬ ‫هؤل ِ‬ ‫ُ‬ ‫عب ِدَ أو عبدوهم من دونه‪ ،‬ويسأل َ‬ ‫ُ‬
‫يجيبون؟!‪.‬‬

‫وإ ِذْ‬
‫َ‬ ‫عاَلى‪ -‬يسأل المسيح عيسى بن مريم‪:‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ك َ‬ ‫ومن ذلك‪ :‬أنه ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫ذوِني ُ‬ ‫ََ‬
‫ن‬
‫هي ْ ِ‬ ‫ي إ ِل َ َ‬
‫م َ‬
‫وأ ّ‬
‫َ‬ ‫خ ُ‬
‫س ات ّ ِ‬ ‫قل ْ َ‬
‫ت ِللّنا ِ‬ ‫ت ُ‬
‫م أأن ْ َ‬
‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫سى اب ْ َ‬ ‫عي َ‬‫ه َيا ِ‬ ‫ل الل ّ ُ‬‫قا َ‬‫َ‬
‫ه ]المائدة‪.[116 :‬‬ ‫ن الل ّ ِ‬‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫عاَلى‪ -‬يسأله ويسأل المرسلين والولياء والملئكة‪:‬‬
‫وت َ َ‬ ‫فالله ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫هل أنتم رضيتم أن تعبدوا من دون الله؟‬

‫هل أنتم دعوتم الّناس إ َِلى أن يعبدوكم من دون الله؟‬

‫فيقول كل منهم‪ :‬يا رب لم آمرهم بعبادتي‪ ،‬ولم آذن لهم أن‬


‫يعبدوني‪ ،‬وما دعوتهم إل إ َِلى التوحيد ول علم لي بهذه العبادة‪،‬كما‬
‫قل ْت ل َهم إّل ما أ َمرت َِني ب َ‬
‫دوا‬ ‫عب ُ ُ‬
‫نا ْ‬ ‫هأ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ ِ‬ ‫ما ُ ُ‬‫َ‬ ‫سلم‪:‬‬ ‫ه ال ّ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫قال عيسى َ‬
‫ه ]المائدة‪ [117:‬فإذا وقع الشرك في هذه المة وعملوا مثل ما‬ ‫الل ّ َ‬
‫م‬‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬‫صّلى الل ُ‬ ‫اعتقد قوم عيسى في عيسى‪ ،‬وعظموا قبره َ‬
‫وقبور الولياء والصالحين من هذه المة‪ ،‬مثل ما عظم اليهود‬
‫صاَرى‪ ،‬واتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‪ ،‬فهنا تنفع دعوة النبي‬ ‫والن ّ َ‬
‫ل‪) :‬اللهم ل تجعل قبري وثنا يعبد(‬ ‫قا َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫م‪ ،‬لنه قد َ‬ ‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬ ‫م إ َِلى الله ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫سول َ‬‫فهذه براءة من الّر ُ‬
‫عاَلى‪ ،‬وأنه لم يكن راضيا بذلك‪.‬‬‫وت َ َ‬
‫َ‬
‫م بأن ذلك سيقع تبرأ إ َِلى الله‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬‫صّلى الل ُ‬
‫فهو لعلمه َ‬
‫م يقول‪ :‬اللهم إني أبرأ‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫عاَلى‪ ،‬كأنه َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫ُ‬
‫إليك ممن سيتخذ قبري وثنا يعبد‪ ،‬فإن فعلوه واتخذوه فهذا أمر لم‬
‫سلم لم ُيرد ولم‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه ال ّ‬ ‫أرده ولم أرض به ول أقره‪ ،‬مثل عيسى َ‬
‫عاَلى‪،‬‬‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫صاَرى من دون الله ُ‬ ‫يقر ولم يرض أن يعبده الن ّ َ‬
‫م‪) :‬ل تطروني كما أطرت‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫ولذلك يقول النبي َ‬
‫صاَرىعيسى ابن مريم( ويقول كما في هذا الحديث‪) :‬لعن الله‬ ‫الن ّ َ‬
‫صاَرى اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد( ‪.‬‬ ‫اليهود والن ّ َ‬
‫فهذه الشبهة التي يتعلل بها دعاة الشرك القدامى منهم‪،‬‬
‫والمعاصرون في قولهم‪ :‬إن ما يفعلونه ليس وثنية وشركًا‪.‬‬

‫ه‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫نقول‪ :‬إن الوثنية والشرك يقعان في هذه المة‪ .‬ولكن الله ‪ُ -‬‬
‫م من الرضى بهذا‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫عاَلى‪ -‬قد برأ رسوله َ‬
‫وت َ َ‬
‫َ‬
‫ً‬
‫الشرك‪ ،‬فأنتم حين تجعلون قبره وثنا وتشدون الرحل إليه‬
‫م وتستغيثون به‪،‬‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫وتطوفون به‪ ،‬وحين تدعونه َ‬
‫م حتى في هذا‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫سول َ‬ ‫قد حاددتم وضاددتم الّر ُ‬
‫الحديث‪ ،‬فإنه يدعو الله أن ل يتخذ قبره وثنًا‪ ،‬وأنتم تتخذونه وثنًا‪.‬‬
‫عاَلى‪ -‬الحاديث التي تدل‬ ‫ه تَ َ‬‫ه الل ّ ُ‬‫م ُ‬‫ح َ‬ ‫وقد جمع المام ابن كثير ‪َ-‬ر ِ‬
‫م‪ ،‬وما لم يستجب له‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫عَلى ما استجاب الله لنبيه َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ث‬
‫ع َ‬ ‫عَلى أ ْ‬
‫ن ي َب ْ َ‬ ‫قاِدُر َ‬ ‫و ال ْ َ‬ ‫ه َ‬‫ل ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫ُ‬ ‫عاَلى‪:‬‬ ‫وت َ َ‬‫ك َ‬ ‫في تفسير قول الله ت ََباَر َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫قك ُ َ‬
‫ق‬
‫ذي َ‬‫وي ُ ِ‬‫شَيعا ً َ‬‫م ِ‬ ‫و ي َل ْب ِ َ‬
‫سك ُ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫جل ِك ُ ْ‬‫ت أْر ُ‬ ‫ح ِ‬‫ن تَ ْ‬‫م ْ‬ ‫و ِ‬‫مأ ْ‬‫و ِ ْ‬ ‫ن َ‬
‫ف ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ذابا ً ِ‬
‫ع َ‬‫م َ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ض ]النعام‪.[65:‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ع ٍ‬‫س بَ ْ‬
‫م ب َأ َ‬ ‫ضك ْ‬ ‫ع َ‬ ‫بَ ْ‬
‫• تنبيه على كلم شيخ السلم وابن القيم‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫ه‪ -‬ومثله‬ ‫م ُ‬‫ح َ‬
‫وهنا قضية أخرى ينبغي التنبيه إليها‪ :‬وهي أن المام ابن القيم ‪َ-‬ر ِ‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫ة من قبل في الجواب الباهر قالوا‪ :‬إن الله ‪ُ -‬‬ ‫مي ّ َ‬
‫ماْبن ت َي ْ ِ‬
‫سل ِ‬ ‫َ‬
‫شْيخ ال ِ ْ‬
‫م هذا الحديث‪-‬أي‪ :‬حديث‬ ‫سل ّ َ‬
‫ه عَل َي ْهِ وَ َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫سول َ‬ ‫وَت ََعاَلى‪ -‬قد استجاب للَر ُ‬
‫)اللهم ل تجعل قبري وثنا يعبد( ‪ -‬فإن الصحابة ‪-‬رضوان الله عليهم‪ -‬لما دفن‬
‫سنة دفن ال َن ْب َِياء جميعا‪-‬‬ ‫م في موضعه ‪-‬وهذه ُ‬ ‫سل ّ َ‬
‫ه عَل َي ْهِ وَ َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫سول الله َ‬ ‫َر ُ‬
‫م لما أراد بعض الصليبيين‬ ‫م أحيط بالجدران بعد ذلك‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫وكان محاطا بالحجرة‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫م في أيام المماليك صب عليه من‬ ‫سل ّ َ‬
‫ه عَل َي ْهِ وَ َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫أن يعتدوا عََلى قبره َ‬
‫جاَء في‬ ‫الرصاص في أطرافه فأصبح مخفيا جدا ً بهذه الجدران‪ ،‬وهذا مثل ما َ‬
‫ه عَْنها قالت‪) :‬ولول ذلك لبرز قبره غير‬ ‫ي الل ُ‬ ‫ض َ‬
‫ة َر ِ‬ ‫ش َ‬‫الحديث الخر الذي روتهَعائ ِ َ‬
‫أنه خشي أن يتخذ وثنا( فخشية أن يتخذ وثنا ً لم يجعل بارزا‪ ،‬ولم يأمر بأن يبنى‬
‫َ‬
‫صاَرى من‬ ‫عليه القبة كما بني عََلى قبور الن ْب َِياء من قبل‪ ،‬وكما فعل اليهود والن ّ َ‬
‫قبل‪.‬‬
‫هذا في عهد الصحابة ‪-‬رضوان الله عليهم‪ -‬ومن بعدهم‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫م جاءت‬
‫التوسعة العمرانية في أيام الوليد بن عبد الملك ومن بعده‪.‬‬

‫جاءَ ذلك وخشي الّناس أن يتخذ القبر قبلة‪،‬‬ ‫يقول القرطبي ‪ :‬فلما َ‬
‫عَلى شكل مثلث وجعل قاعدته من جهة‬ ‫بني بناء القبر وما حوله َ‬
‫سان فإنه ل‬ ‫لن َ‬
‫القبلة‪ ،‬ورأس المثلث من جهة الشمال‪ ،‬فإذا وقف ا ِ‬
‫عَلى رأس القائمة‪،‬‬ ‫يستطيع أن يتخذ القبر قبلة ول أن يدعوه لنه َ‬
‫ولذلك من يظن أنه يعبد قبره أو أراد الوصول إليه فإنه ل يستطيع‪،‬‬
‫ء العلماء الجلء‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫بل ول يستطيع أن يراه‪ .‬ولكن هذا الذي ذكره َ‬
‫ل يعارض ول يمانع ما هو واقع الن ومشاهد حسًا‪ ،‬ووقع في‬
‫القرون الماضية‪ ،‬وهو أن الّناس الجهال يتخذون القبر وثًنا‪ ،‬وهذا‬
‫عَلى أن هذا الحديث ليس المراد به الجابة المطلقة‪ ،‬لوقوع‬ ‫يدل َ‬
‫م قد تبرأ ممن يفعل‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫ذلك من الجهال‪ ،‬فالنبي َ‬
‫عاَلى‪ -‬ذلك لكي ل يؤاخذ أو يظن به أنه‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ذلك وسأل الله ‪ُ -‬‬
‫مقر بهذا الفعل‪.‬‬

‫ي‬
‫ض َ‬
‫م والصحابة َر ِ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫سول َ‬ ‫والحتياطات تبرىء الّر ُ‬
‫هم عندما أحاطوه بالجدران‪ ،‬وأيضا ً تبرئ من بعدهم ممن‬ ‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬ ‫الل ُ‬
‫صّلى الل ُ‬
‫ه‬ ‫عَلى شكل مثلث‪ ،‬ومثل ذلك ما فعل النبي َ‬ ‫وضع البناء َ‬
‫َ‬
‫ه إ ِلى العزى‬ ‫عن ْ ُ‬‫ه َ‬ ‫ي الل ُ‬‫ض َ‬ ‫م لما أرسل خالد بن الوليد َر ِ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫َ‬
‫طاِلب إ َِلى القبور والصور فطمسها‬ ‫َ‬
‫ي ب ْن أِبي َ‬
‫ِ‬ ‫عل ِ ّ‬
‫فقطعها‪ ،‬وأرسل َ‬
‫ل‪ -‬قبل‬ ‫ج ّ‬‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫ومحاها‪ ،‬ومع ذلك تعود عبادة العزى من دون الله ‪َ -‬‬
‫قيام الساعة‪ ،‬وتعود الصنام وعبادة القبور‪.‬‬

‫فاتخاذ السباب والحتياطات لعدم وقوع الشرك ضروري ومطلوب‬


‫مر‬
‫ع َ‬
‫وواقع‪ ،‬لكن ل يتنافى مع وقوع الشرك بالفعل‪ ،‬مثل ما فعل ُ‬
‫ه عندما قطع شجرة الحديبية ‪ ،‬وهذا هو الواجب من‬
‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫َر ِ‬
‫سد ذرائع الشرك‪.‬‬
‫عَلى توحيد‬ ‫والن نعود إ َِلى موضوع إثبات الفطرة الذي هو دلي ٌ‬
‫ل َ‬
‫الربوبية‪ ،‬وبيان أن الرسل إنما جاءوا لتقرير توحيد اللوهية‬
‫‪ - 2‬الفطرة دليل على توحيد الربوبية‬
‫ه ت ََعاَلى‪:‬‬‫ه الل ُ‬ ‫م ُ‬ ‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫مصن ّ ُ‬
‫ل ال ُ‬ ‫َقا َ‬
‫واْل َْرض ]إبراهيم‪[10:‬‬ ‫ت َ‬‫وا ِ‬
‫ما َ‬
‫س َ‬
‫ر ال ّ‬‫فاطِ ِ‬ ‫ش ّ‬
‫ك َ‬ ‫ه َ‬ ‫في الل ّ ِ‬ ‫]وقال تعالى‪ :‬أ َ ِ‬
‫عَلى الفطرة‪ ،‬فأبواه‬‫م‪) :‬كل مولود يولد َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫وقال صّلى الل ُ‬
‫ل‪ :‬إن معناه يولد ساذجا ً ل يعرف‬ ‫قا َ‬‫يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه( ول ي َ‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫توحيدا ً ول شركا ً ‪-‬كما قاله بعضهم‪ -‬لما تلونا‪ ،‬ولقوله صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬
‫ل‪) :‬خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم‬ ‫ج ّ‬
‫و َ‬
‫عّز َ‬‫م فيما يروي عن ربه َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫َ‬
‫الشياطين( الحديث‪.‬‬
‫ل‪) :‬يهودانه أو ينصرانه‬ ‫عَلى ذلك‪ ،‬حيث َ‬
‫قا َ‬ ‫وفي الحديث المتقدم ما يدل َ‬
‫على الملة( وفي‬ ‫َ‬ ‫أو يمجسانه( ولم يقل‪ :‬ويسلمانه‪ .‬وفي رواية‪) :‬يولد َ‬
‫عَلى هذه الملة( [ اهـ‪.‬‬
‫أخرى‪َ ) :‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫هذا موضوع الفطرة‬

‫عَلى الفطرة‪،‬‬ ‫م‪) :‬كل مولود يولد َ‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬‫سول الله صّلى الل ُ‬ ‫قال َر ُ‬
‫عَلى‬
‫فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه( وفي رواية‪) :‬كل مولود يولد َ‬
‫عَلى هذه الملة‪ ،‬فأبواه‬ ‫الملة( وفي رواية أجلى وأصرح‪) :‬كل مولود يولد َ‬
‫ل‪) :‬كما تنتج‬ ‫يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه( وكما في رواية الصحيح َ‬
‫قا َ‬
‫البهيمة البهيمة جمعاء هل ترون فيها من جدعاء؟( معنى هذا الحديث أو‬
‫عاَلى قد أودع في فطر الّناس‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬ ‫دللة هذا الحديث‪ :‬أن الله ُ‬
‫عاَلى فكل مولود من بني آدم يولد‪ ،‬فهو مقر‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫اليمان بالله ُ‬
‫عَلى القرار واليمان‬ ‫عاَلى ومفطور َ‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫ه بفطرته إليه ُ‬ ‫بالله ومتج ٌ‬
‫عاَلى‪ -‬بحيث ل يحتاج إ َِلى أن يلقن ذلك ول أن يعّلم‪ ،‬بل هو‬ ‫وت َ َ‬ ‫به ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬ ‫عَلى نفس هذه الملة ‪-‬ملة السلم‪ -‬التي ل يقبل الله ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫مولود َ‬
‫عاَلى من أحد غيرها‪.‬‬ ‫وت َ َ‬
‫َ‬
‫وضرب مثال ً لذلك بالبهيمة )كما تنتج البهيمة البهيمة( أي‪ :‬تلد البهيمة‬
‫ة جمعاء كاملة ليس فيها أثر من آثار إحداث الدمي‪ ،‬كقطع الذان أو‬ ‫بهيم ً‬
‫عَلى البل والبقر والغنم لتعرف‪ ،‬وإنما الذي‬‫العلمات التي توضع سمة َ‬
‫يجدعها صاحبها‪.‬‬

‫عَلى التوحيد سليما ً نقيا ً حتى يه ّ‬


‫ود أو ينصر أو‬ ‫سان يولد َ‬
‫لن َ‬
‫وكذلك ا ِ‬
‫يمجس‪ ،‬فتجدع هذه الفطرة وتوضع عليها علمة معينة قد تكون نصرانية‬
‫أو يهودية أو مجوسية‪.‬‬
‫عَلى هذه الملة والدين‪.‬‬
‫وإن لم يوضع علمة فهو يولد َ‬
‫• معنى الفطرة عند المعتزلة والرد عليهم‬
‫ل‪ :‬إن معناه يولد ساذجا ً ل يعرف توحيدا ً ول‬
‫قا َ‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫ه‪] :‬ول ي ُ َ‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬
‫م ْ‬
‫ويقول ال ُ‬
‫شركًا[‪.‬‬
‫عَلى الفطرة‪ :‬أي يولد‬ ‫وهذا قول بعض ‪<2000004‬المعتزلة ‪ :‬يولد َ‬
‫ساذجا ً ل يعرف شركا ً ول توحيدًا‪ ،‬خالي الذهن‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫م أبواه يهودانه أو‬
‫ينصرانه‪.‬‬

‫م السلم في‬ ‫سل ّ َ‬


‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬‫صّلى الل ُ‬
‫ويقال لهم‪ :‬لم يذكر النبي َ‬
‫ن يولد ل يعرف توحيدا ً ول شركًا‪،‬‬ ‫الحديث‪) :‬أو يسلمانه( فإذا َ‬
‫كا َ‬
‫فمن أين يأتي إليه التوحيد والسلم؟‬
‫فهم أولوه بهذا التأويل ليبنوا أو يؤسسوا قواعدهم التي وضعوها‪،‬‬
‫عاَلى‪ -‬في المولود‪ ،‬وهذه‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫وتركوا الوحي الذي أنزله الله ‪ُ -‬‬
‫قاعدة فاسدة من قواعد المتكلمين من ‪<2000004‬المعتزلة‬
‫وغيرهم فهم يقولون‪ :‬إن التقليد ليس إيمانًا‪ ،‬فإن اليهود يولد‬
‫عَلى دينهم أيضًا‪ ،‬والمجوس‬ ‫صاَرى يولد أبناؤهم َ‬ ‫أبناؤهم يهودًا‪ ،‬والن ّ َ‬
‫كذلك‪ ،‬أي أن كل واحد يولد يتبع ويقلد آباءه وبيئته ومجتمعه‪.‬‬

‫عَلى كل إنسان أن ينظر ويتأمل ويفكر‪ ،‬حتى يعرف‬ ‫قالوا‪ :‬ويجب َ‬


‫الله ويعرف توحيد الله‪ ،‬ويتأكد هل ال ُ‬
‫قْرآن حق أم ل؟!‪ ،‬ويتأكد هل‬
‫سول أم ل؟!‬ ‫سل ّ َ‬
‫م َر ُ‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫مد َ‬
‫ح ّ‬
‫م َ‬
‫ُ‬
‫فلو مات وهو في أثناء مرحلة التفكير والنظر‪ ،‬قيل‪ :‬يكون مسلمًا‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬ل يكون مسلمًا‪.‬‬

‫عَلى هذا الصل الباطل الفاسد‪.‬‬


‫وهكذا دار الخلف بينهم لنهم بنوا َ‬
‫قال ‪<2000004‬المعتزلة ‪ :‬هذا الحديث معناه‪ :‬أنه يولد ساذجا ً خاليا ً‬
‫كالورقة البيضاء ليس فيها شيء‪ ،‬لكن قد يكتب فيها اليمان‬
‫والسلم‪ ،‬وقد يكتب فيها والنصرانية ‪ ،‬وقد يكتب فيها واليهودية ‪.‬‬

‫م بنص الحديث الذي قال فيه‪:‬‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬


‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫وقد كذبهم النبي َ‬
‫عَلى الملة ( أو )على هذه الملة ( أي‪ :‬يولد متدينا ً‬ ‫كل مولود يولد َ‬
‫بهذا الدين‪ ،‬فهذا صريح بأن المولود ل يولد ساذجا ً ل يعرف شركا ً‬
‫عاَلى‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬ ‫عَلى التوحيد الذي أخذ الله ُ‬ ‫ول توحيدًا‪ ،‬بل يولد َ‬
‫ن ب َِني‬ ‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫خذَ َرب ّ َ‬ ‫وإ ِذْ أ َ َ‬
‫َ‬ ‫ميثاقه علينا في الفطرة‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫وأ َ ْ‬
‫م‬‫ت ب َِرب ّك ُ ْ‬ ‫س ُ‬ ‫م أل َ ْ‬ ‫ه ْ‬‫س ِ‬‫ف ِ‬ ‫عَلى أن ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫هد َ ُ‬ ‫ش َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫م ذُّري ّت َ ُ‬‫ه ْ‬ ‫ر ِ‬ ‫هو ِ‬ ‫ن ظُ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫آد َ َ‬
‫م‬
‫و َ‬ ‫ر الناَر ي َ ْ‬ ‫قاُلوا ب ََلى ]العراف‪ [172:‬ولذلك لما يدخل أهل الّنا ِ‬ ‫َ‬
‫عاَلى كما في الحديث الصحيح لبعض‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫ة‪ ،‬فيقول الله ُ‬ ‫م ِ‬ ‫قَيا َ‬ ‫ال ِ‬
‫أهل النار‪) :‬ابن آدم! لو أن لك ملك الرض جميعا ً أتفتدي به من‬
‫ن لي ملك الرض‬ ‫كا َ‬ ‫ل‪ :‬نعم يا رب والله لو َ‬ ‫قو ُ‬ ‫في َ ُ‬ ‫عذاب النار؟ َ‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫لفتديت به من هذا العذاب الذي أنا فيه‪ ،‬فيقول الله ُ‬
‫عاَلى‪ :‬قد طلب منك ما هو أهون من ذلك‪ ،‬قد أخذت عليك العهد‬ ‫وت َ َ‬ ‫َ‬
‫صلى‬ ‫ّ‬ ‫وأنت في صلب أبيك أل تشرك بي شيئا " الشاهد هو قوله َ‬ ‫ً‬
‫م في هذه الحديث الصحيح‪) :‬صلب أبيك( فهذا يدل‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫الل ُ‬
‫عَلى بني آدم ميثاق‬ ‫عاَلى َ‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫عَلى أن الميثاق الذي أخذه الله ُ‬ ‫َ‬
‫م‬‫عاَلى عليهم في الصلب‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫حقيقي‪ ،‬وعهد حقيقي‪ ،‬أخذه الله ت َ َ‬
‫بعد ذلك يقرون به وتبقى في فطرهم‪ ،‬والميثاق الفطري هذا‬
‫سيأتي الكلم عليه إن شاء الله في موضوعه‪ ،‬لكن الشاهد منه أن‬
‫عاَلى في عالم الذر‪ ،‬وولد‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫هذا هو الميثاق الذي أخذه الله ُ‬
‫سان في عالم الوجود ‪-‬في العالم الحقيقي الذي نعيشه الن‪-‬‬ ‫لن َ‬ ‫به ا ِ‬
‫عَلى الفطرة‪ ،‬ومن أراد التوسع في موضوع‬ ‫فكل مولود يولد َ‬
‫سلم ِ اْبن‬ ‫عَلى أقوال المعتزلة فليراجع كتاب َ‬
‫شْيخ ال ِ ْ‬ ‫الفطرة والرد َ‬
‫ة درء تعارض العقل والنقل ‪ ،‬فإن الجزء الثاني منه والتاسع‬ ‫مي ّ َ‬
‫ت َي ْ ِ‬
‫امتداد وشرح لهذا الحديث‪ ،‬وبيان لدلة المعتزلة والمتكلمين‬
‫والفلسفة ‪ ،‬وإبطال لها ونقل لكلم العلماء في معنى ذلك‪ ،‬ومنهم‬
‫المام مالك وأبو عمر بن عبد البر ‪.‬‬

‫فالشاهد أن هذا هو المعنى الحقيقي للحديث فل يقال إن معناه‬


‫أنه يولد ساذجًا‪،‬‬
‫عاَلى‬ ‫ه تَ َ‬ ‫ي الل ُ‬ ‫ض َ‬ ‫عَلى ما ذكرناه حديث عياض بن حمار َر ِ‬ ‫ومن الدلة َ‬
‫ه وهو‪ :‬قوله‪) :‬خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين‪،‬‬ ‫عن ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ه‬ ‫َ‬ ‫ح َ‬ ‫ُ‬
‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫على أن الله ُ‬ ‫ل لهم( فإن هذا دليل َ‬ ‫ت عليهم ما أ ِ‬ ‫وحرم ْ‬
‫على‬ ‫َ‬ ‫على التوحيد‪ ،‬وفطرهم َ‬ ‫َ‬ ‫عاَلى قد خلق البشرية في الصل َ‬ ‫وت َ َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫على‬ ‫م أشركوا‪ ،‬وكذلك كل أحد من آحاد بني آدم فإنه يولد َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ث‬ ‫اليمان‬
‫التوحيد‪ ،‬حتى تجتاحه وتجتاله شياطين النس أو الجن فيصرفونه‬
‫ويحولونه من التوحيد إ َِلى الشرك‪ ،‬ويصرفونه عن الفطرة التي هي‬
‫حِنيفا ً‬ ‫ن َ‬ ‫دي ِ‬ ‫ك ِلل ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ج َ‬‫و ْ‬‫م َ‬ ‫فأ َ ِ‬
‫ق ْ‬ ‫َ‬ ‫عاَلى كما قال تعالى‪:‬‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫دين الله ُ‬
‫ن‬
‫دي ُ‬ ‫ك ال ّ‬ ‫ه ذَل ِ َ‬‫ق الل ّ ِ‬ ‫ل لِ َ ْ‬
‫خل ِ‬ ‫دي َ‬ ‫ها ل ت َب ْ ِ‬‫عل َي ْ َ‬
‫س َ‬ ‫فطََر الّنا َ‬ ‫ه ال ِّتي َ‬ ‫ت الل ّ ِ‬ ‫فطَْر َ‬ ‫ِ‬
‫ن ]الروم‪ [30:‬فدين السلم هذا‬ ‫مو‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫نا‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ث‬‫ْ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫و‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫َ ْ ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ ُ َ ِ ّ‬
‫دين الفطرة‪ ،‬وهو الدين القيم وإن اختلفت الشرائع فإن الله‬
‫َ‬
‫قال‪:‬‬ ‫عَلى ملة إبراهيم‪ ،‬وأمرنا أن نتبعها ف َ‬ ‫عاَلى جعلنا َ‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬ ‫ُ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حِنيفا ]النحل‪ [123:‬وملة‬ ‫م َ‬
‫هي َ‬ ‫ة إ ِب َْرا ِ‬‫مل َ‬‫ع ِ‬ ‫ن ات ّب ِ ْ‬ ‫حي َْنا إ ِلي ْك أ ِ‬ ‫و َ‬‫مأ ْ‬ ‫ثُ ّ‬
‫إبراهيم وملة الن ْب َِياء جميعا ً هي التوحيد الذي هو دين الفطرة ل‬ ‫َ‬
‫تغيير له أبدا‪ ،‬ولكن الشرائع والتعبدات تختلف من دين إ َِلى دين‪.‬‬
‫• الدلة العقلية تدل على وجود الفطرة‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫ه‪:‬‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬
‫م ْ‬ ‫ثُ ّ‬
‫م يقول ال ُ‬
‫م هو الذي تشهد الدلة‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫]وهذا الذي أخبر به َ‬
‫سان قد يحصل له من‬‫لن َ‬
‫ل‪ :‬ل ريب أن ا ِ‬ ‫قا َ‬‫العقلية بصدقه‪ ،‬منها‪ :‬أن ي ُ َ‬
‫العتقادات والرادات ما يكون حقًا‪ ،‬وتارة ما يكون باط ً‬
‫ل‪ ،‬وهو‬
‫حساس متحرك بالراداة‪ ،‬فل بد له من أحدهما‪ ،‬ول بد له من مرجح‬
‫عَلى كل أحد أن يصدق وينتفع وأن‬ ‫لحدهما‪ .‬ونعلم أنه إذا عرض َ‬
‫يكذب ويتضرر‪ ،‬مال بفطرته إ َِلى أن يصدق وينتفع‪ ،‬وحينئذ‬
‫فالعتراف بوجود الصانع واليمان به هو الحق أو نقيضه‪.‬‬

‫والثاني فاسد قطعًا‪ ،‬فتعين الول‪ ،‬فوجب أن يكون في الفطرة ما‬


‫يقتضي معرفة الصانع واليمان به‪ ،‬وبعد ذلك‪ :‬إما أن تكون محبته‬
‫أنفع للعبد أو ل‪.‬‬

‫والثاني فاسد قطعًا‪ ،‬فوجب أن يكون في فطرته محبة ما ينفعه‪.‬‬

‫عَلى جلب المنافع ودفع المضار بحسبه وحينئذ‬ ‫ومنها‪ :‬أنه مفطور َ‬
‫وإن لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك‪ ،‬بل يحتاج إ َِلى‬
‫سبب معين للفطرة‪ ،‬كالتعليم ونحوه‪ ،‬فإذا وجد الشرط وانتفى‬
‫المانع استجابت لما فيها من المقتضي لذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن ي َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪ :‬من المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق‪،‬‬
‫ومجرد التعليم والتحضيض ل يوجب العلم والرادة‪ ،‬لول أن في‬
‫النفس قوة تقبل ذلك‪ ،‬وإل فلو علم الجماد والبهائم وحضضا لم‬
‫يقبل‪.‬‬

‫ومعلوم أن حصول إقرارها بالصانع ممكن من غير سبب منفصل‬


‫ن المقتضي قائما ً‬ ‫من خارج‪ ،‬وتكون الذات كافية في ذلك‪ .‬فإذا َ‬
‫كا َ‬
‫در عدم المعارض‪ ،‬فالمقتضي السالم عن المعارض‬ ‫في النفس و ُ‬
‫ق ّ‬
‫يوجب مقتضاه‪ ،‬فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يحصل لها من‬
‫يفسدها‪ ،‬كانت مقرة بالصانع عابدة له‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن ي َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪ :‬إنه إذا لم يحصل المفسد الخارج‪ ،‬ول المصلح‬
‫الخارج كانت الفطرة مقتضية للصلح لن المقتضي فيها للعلم‬
‫والرادة قائم‪ ،‬والمانع منتف[ اهـ‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫م هو الذي تشهد الدلة‬ ‫سل ّ َ‬


‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫]وهذا الذي أخبر به َ‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬
‫م ْ‬
‫العقلية بصدقه[ هذه الدلة العقلية التي ذكرها ال ُ‬
‫فيها صعوبة‪ ،‬ول يستطيع أي إنسان أن يفهمها إل أن تؤخذ كلمة‬
‫كلمة‪ ،‬ومع ذلك فإن فائدتها النهائية واضحة‪ ،‬وهي ما سبق أن‬
‫قلناه‪ ،‬ونحب أن ننبه بهذه المناسبة أنه ستأتي موضوعات في شرح‬
‫هذه العقيدة من مثل هذا النوع‪ ،‬فنقول‪ :‬إننا ‪-‬إن شاء الله تعالى‪-‬‬
‫عَلى المور التي يكون إيضاحها‪:‬‬ ‫سوف نقتصر َ‬
‫أو ً‬
‫ل‪ :‬المور النقلية التي جاءت في اليات والحاديث‪.‬‬

‫ثانيا ً المور العقلية التي تكون واضحة وجلية‪ ،‬أما القضايا الكلمية‬
‫التي فيها تعقيدات‪ ،‬أو التي فيها بحوث متعمقة جدا ً نضيع من‬
‫أجلها ساعات وراء ساعات‪ ،‬وقد يكون في الحاضرين من ل يستطيع‬
‫أن يفهم هذه المصطلحات ول يدركها‪ ،‬فهذه إن شاء الله سوف‬
‫نضرب عنها صفحًا‪ ،‬ولن هذه الموضوعات معقدة أو بعضها معقدة‬
‫سان أن يبين كل كلمة وكل مصطلح‪ ،‬فتضيع‬ ‫لن َ‬ ‫جدًا‪ ،‬ويحتاج ا ِ‬
‫عَلى الجميع‪ ،‬وهذا المر ليس بدعيا ً من عندنا‪ ،‬بل‬ ‫الفائدة العامة َ‬
‫حتى في الجامعات كما هو معلوم أن هذا الكتاب مقرر في كليات‬
‫المملكة جميعا ً ‪-‬تقريبًا‪ -‬وأن هناك مقاطع تحذف من المنهج إذا‬
‫كانت في مثل هذه المور‪ ،‬لكن نقول‪ :‬إن هذه التفصيلت ليست‬
‫ن ننبه إ َِلى ما بعدها‪ ،‬وإل ففي المكان أن تفهم‬ ‫ح ُ‬‫صعبة جدا ً لكن ن َ ْ‬
‫ه هنا إن شاء‬‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬
‫م ْ‬
‫وسنوضح هذه الوجوه التي ذكرها ال ُ‬
‫الله‪ ،‬بكلم إذا فهم تفهم جميعا ً بإذن الله فنقول‪ :‬كل إنسان عنده‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫إرادة وإحساس‪ ،‬فهو حساس ومريد‪ ،‬وكما قال َ‬
‫سل ّ َ‬
‫م‪) :‬أصدق السماء حارث وهمام(‬ ‫و َ‬
‫َ‬
‫ن أو كافرًا‪،‬‬ ‫لن كل إنسان من البشر هو حارث وهمام‪ ،‬مؤمنا ً َ‬
‫كا َ‬
‫غبيا ً أو ذكيًا‪ ،‬ما دام أنه إنسان فهو حارث وهمام‪ ،‬أي له إرادات‬
‫عَلى هذه الرادات‬ ‫واعتقادات وتصورات‪ ،‬ويقوم بأعمال يعملها بناءً َ‬
‫عاَلى قد فطر كل إنسان أن تكون‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫والحساسات‪ ،‬والله ُ‬
‫إراداته وهمه وحرثه فيما ينفعه ل فيما يضره‪ ،‬فأي إنسان عندما‬
‫ن قد يكون‬ ‫يعمل أي عمل إنما يجتهد في عمل ما ينفعه‪ ،‬وإن َ‬
‫كا َ‬
‫ضارا ً في الحقيقة‪ ،‬مثل الكافر الذي يجتهد في عبادة الصنام فهذا‬
‫شيء آخر‪ ،‬المهم أن يكون اجتهاده حسب ما يعتقد هو ويرى أنه‬
‫نافع له‪ ،‬فهذه حقيقة واضحة فإذا كانت الفطرة بهذا الشيء‪ ،‬وكان‬
‫سان حارثا ً وهمامًا‪ ،‬وأنه ل يعمل ول يكدح إل فيما يعتقد أنه‬ ‫لن َ‬
‫ا ِ‬
‫ينفعه‪ ،‬ل فيما يعتقد أنه يضره‬

‫فالمشاهد والمحسوس الن عند الّناس جميعا ً أنهم يتجهون إ َِلى‬


‫عاَلى‪ ،‬وأن كل البشر الذين يولدون‪ ،‬يولدون وهم‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫الله ُ‬
‫ب ما‪ ،‬كما سبق أن بينا‬ ‫يريدون أن يتبعوا دينا ً ما‪ ،‬ويتجهون إ َِلى ر ّ‬
‫شبه من يقول‪ :‬إن الشيوعيين ل يتجهون إ َِلى إله‪ ،‬بأن الشيوعي‬
‫قبل أن يلقن مبادئ الحزب‪ ،‬وقبل أن يعرف أن مصلحته الدنيوية‬
‫هي في اتباع هذا الحزب‪ ،‬هو أيضا ً متجه إ َِلى الله بأي شكل من‬
‫عَلى الطلق في أي عصر من العصور‪ ،‬وفي أي‬ ‫الشكال‪ ،‬ول يوجد َ‬
‫ن أو باط ً‬
‫ل‪،‬‬ ‫أمة من المم ل يوجد أبدا ً مجتمع بل دين أبدًا‪ ،‬حقا ً َ‬
‫كا َ‬
‫المهم أن هناك اتجاه إ َِلى أن يكون هناك دين‪ ،‬وإله معبود‪.‬‬

‫وقد قلنا إن أكبر الملحدة من أمثال البيركامل الذي هو من‬


‫المدرسة العدنية ‪-‬كما يسمونها‪ -‬وهي مدرسة فلسفية أوروبية قال‬
‫سان المعاصر تتلخص في كلمة واحدة‪،‬‬ ‫لن َ‬
‫هذا الملحد‪" :‬إن مشكلة ا ِ‬
‫وهي البحث عن الله‪.‬‬

‫إذا ً فكل إنسان وكل مجتمع وكل أمة تتجه وتبحث عن إله‪ ،‬وتبحث‬
‫عَلى وجود الفطرة‪ ،‬وعلى أن هذه الفطرة‬ ‫عن دين‪ ،‬وهذا دليل َ‬
‫عاَلى؛ لكن قد تضل وقد تصيب‪ ،‬ولنضرب‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬ ‫تتجه إ َِلى الله ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫عَلى ذلك أمثلة واقعية حسية من واقع الحيوان‪ ،‬فالحيوان إذا رأى‬ ‫َ‬
‫الّنار ابتعد عنها‪ ،‬ول يمكن أن يأتي حيوان ويدخل في النار‪ ،‬إل إذا‬
‫وقع طريق الخطأ‪ ،‬مثل الفراشة لنها عندما ترى الّنار تظن أن هذه‬
‫ألوان الطيف من الجمال‪ ،‬مثل الزهار الجميلة‪ ،‬فالجمال يجعل‬
‫الفراشة تقع في النار‪ ،‬مع أنها ل تريد أن تعذب نفسها‪ ،‬ولذلك إذا‬
‫وقعت في الّنار واحترق جناح من أجنحتها تهرب وتحاول أن تتحرك‬
‫لتبتعد عن النار‪ ،‬فكل إنسان متجه إ َِلى ما ينفعه ل إ َِلى ما يضره‪.‬‬

‫فإن زين له‪ ،‬أو لبس عليه‪ ،‬أو أغري فوقع فيما يضر‪ ،‬فإنه سرعان‬
‫ما يحاول الخروج‪ ،‬وذلك مثل الكفار‪ ،‬عندما تزين لهم الشبهات‬
‫فيعبدون غير الله‪ ،‬فالتجاه إ َِلى الله موجود‪ ،‬لكن زينت لهم‬
‫الشبهات والشهوات‪ ،‬وسول لهم الشيطان أن يعبدوا غير الله‪،‬‬
‫جَنا‬
‫ر ْ‬ ‫َرب َّنا أ َ ْ‬
‫خ ِ‬ ‫فعبدوا غير الله ووقعوا في الّنار فعندما يقولون‪:‬‬
‫ن ]المؤمنون‪ [107:‬يدعون الله ويتمون‬ ‫مو َ‬ ‫فإ ِّنا َ‬
‫ظال ِ ُ‬ ‫عدَْنا َ‬
‫ن ُ‬ ‫ها َ‬
‫فإ ِ ْ‬ ‫من ْ َ‬
‫ِ‬
‫أن يخرجهم من الّنار لنهم قد وقعوا فيها بسبب التلبيس؛ لكن هل‬
‫ن والكفار عبدوا غير الله ليدخلوا النار؟‬ ‫كو َ‬‫ر ُ‬ ‫م ْ‬
‫ش ِ‬ ‫ال ُ‬
‫فى ]الزمر‪[3:‬‬ ‫ه ُزل ْ َ‬
‫قّرُبوَنا إ َِلى الل ّ ِ‬
‫م إ ِّل ل ِي ُ َ‬
‫ه ْ‬
‫عب ُدُ ُ‬
‫ما ن َ ْ‬
‫َ‬ ‫ل؛ بل قالوا‪:‬‬
‫فهم ل يريدون أن يدخلوا النار‪ ،‬ول يعبدون أصنامهم إل لتدخلهم‬
‫ن هناك بعث‪.‬‬ ‫الجنة إن َ‬
‫كا َ‬
‫عَلى‬ ‫سل ّ َ‬
‫م‪ :‬إن افترضنا َ‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫سول الله َ‬
‫وقد قالوا لَر ُ‬
‫كلمك أن هناك جنة ونارًا‪.‬‬

‫فنحن أهل الجنة لننا أكثر أموال ً وأولدا ً في هذه الدنيا‪ ،‬وقالوا مرة‬
‫ن الذين بنينا البيت ونحن الذين نعظم الحرم‪ ،‬ونسقي‬ ‫ح ُ‬
‫أخرى ن َ ْ‬
‫سان‬‫لن َ‬
‫ن هناك من جزاء ومن عمل يحاسب عليه ا ِ‬ ‫الحجاج‪ ،‬فإن َ‬
‫كا َ‬
‫جزاؤه الجنة‪ ،‬فنحن من أهل الجنة‪.‬‬

‫فالشاهد مما سبق أن كل إنسان يتجه إ َِلى ما ينفعه‪ ،‬وإلى ما يعتقد‬


‫أن فيه مصلحته‪ ،‬ما لم يأت صارف فيصرفه عن ذلك‪ ،‬مثل ما جاءت‬
‫الشياطين فاجتالت بني آدم عن دينهم وقالت‪ :‬إن عبدتم غير الله‬
‫ما‬
‫َ‬ ‫فهذا خير لكم‪ ،‬مثل ما زين الشيطان لبوينا عندما قال لهما‪:‬‬
‫َ‬ ‫كوَنا َ َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫و تَ ُ‬
‫كوَنا ِ‬ ‫نأ ْ‬‫ملك َي ْ ِ‬ ‫ة إ ِّل أ ْ‬
‫ن تَ ُ‬ ‫جَر ِ‬ ‫ه ال ّ‬
‫ش َ‬ ‫ذ ِ‬
‫ه ِ‬
‫ن َ‬
‫ع ْ‬ ‫ما َرب ّك ُ َ‬
‫ما َ‬ ‫هاك ُ َ‬‫نَ َ‬
‫سلم نسي ما‬ ‫ه ال ّ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫ن الّله! آدم َ‬ ‫سْبحا َ‬ ‫ن ]العراف‪ُ [20:‬‬ ‫دي َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫خال ِ ِ‬
‫أخذه الله عليه من العهد‪ ،‬ووقع في المعصية؛ لنه طمع أن يكون‬
‫من الملئكة أو أن يكون من الخالدين‪.‬‬

‫عاَلى تكفل له ما دام فيها ولم يأكل منها‪،‬‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫ونسي أن الله ُ‬
‫أنه ل يجوع ول يعرى ول يضحى ول يمسه أي أذى أو نصب أو ألم‪،‬‬
‫سان‬ ‫لكنه نسي طمعا ً في لذة أعظم من اللذة الموجودة‪ ،‬فا ِ‬
‫لن َ‬
‫حساس ومتحرك وله إرادات‪ ،‬ول يعمل أي عمل إل وفيه مصلحته‪،‬‬
‫وإن عمل غير ذلك فلنه في تصوره يسعى إ َِلى لذة أعل‪ ،‬وإلى‬
‫عَلى وجود الفطرة وأن الفطرة تتجه في‬ ‫مصلحة أعظم‪ ،‬فهذا دليل َ‬
‫َ‬
‫عالى‪،‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫طبيعتها إ َِلى الله ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫سان ‪-‬الذي يبحث عن الحق مع نفسه‪ -‬لتجه إ َِلى عبادة‬‫لن َ‬
‫ولو خلي ا ِ‬
‫الله وحده ل شريك له‪ ،‬لكن تأتيه شياطين الجن والنس‪ ،‬فتلبس له‬
‫الشرك وتزينه له‪.‬‬

‫عاَلى هو الحق وهو النافع‪ ،‬فلو‬


‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫وإذا قلنا‪ :‬إن توحيد الله ُ‬
‫عَلى أي إنسان يهودي أو نصراني أو مجوسي فإنه يتجه إليه‪،‬‬ ‫عرض َ‬
‫ويترك التكذيب الذي يؤدي به إ َِلى النار‪ ،‬وإنما يقع الشرك؛ لنه‬
‫سان الذي ينفعه بالذي يضره‪ ،‬لكن لو خليت الفطرة‪.‬‬ ‫عَلى ا ِ‬
‫لن َ‬ ‫يلبس َ‬

‫سان‪ ،‬وأقنعناه أن يترك تقليده الذي مشى‬ ‫ولو جئنا إ َِلى هذا ا ِ‬
‫لن َ‬
‫صّلى‬
‫عليه‪ ،‬ويترك الفلسفات التي ورثها‪ ،‬ويتخلى عن حقده للنبي َ‬
‫م لدين السلم‪ ،‬ويتخلى عن تعصبه‪ ،‬أي لو قلنا له‪:‬‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬
‫الل ُ‬
‫أزل هذه الموانع الخارجية جميعًا‪.‬‬

‫م أزال هذه جميعًا‪،‬‬ ‫م انظر إ َِلى نفسك فاختر الدين الذي تريد‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫ثُ ّ‬
‫م بالبقرة‪ ،‬وقرأ في‬ ‫قْرآن وبدأ بالفاتحة مثل ً ث ُ ّ‬ ‫وأخذ يقرأ ال ُ‬
‫الحاديث‪ ،‬فإنه سيجد أن هذا هو الدين الحق‪ ،‬وسوف يؤمن به‪ ،‬وإذا‬
‫قرأتم قصص الذين دخلوا في السلم‪ ،‬وما كتبوه‪ ،‬لوجدتم هذا‬
‫ه‪ -‬هنا؛ أنه إذا خليت‬ ‫ه الل ّ ُ‬‫م ُ‬‫ح َ‬ ‫ف ‪َ-‬ر ِ‬
‫صن ّ ُ‬
‫م ْ‬
‫ل ال ُ‬ ‫الكلم تصديقا لما َ‬
‫قا َ‬
‫النفس عن الموانع الخارجية‪ ،‬من التقليد أو التباع فإنها تهتدي إ َِلى‬
‫الدين الحق‪.‬‬

‫تجد الواحد منهم يقول‪ :‬قرأت أديان الهند ‪ ،‬وقرأت أديان الصين ‪،‬‬
‫م لم أقتنع بها‪ ،‬وأخذت أبحث عن‬ ‫ودخلت في دين كذا ودين كذا‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫صّنف أن الفطرة تبحث‪ ،‬وأنها لو‬‫م ْ‬
‫جاءَ ما يقوله ال ُ‬ ‫الدين الحق وهنا َ‬
‫عَلى شاب‬
‫تركت لهتدت‪ ،‬يقول أحدهم‪ :‬في أثناء البحث تعرفت َ‬
‫مسلم‪ ،‬أو وقع بيدي نسخة من القرآن‪ ،‬فلما قرأت عرفت أن هذا‬
‫عَلى وجود‬
‫هو الدين الحق‪ ،‬فاهتدى الرجل فأسلم‪ ،‬فهذا دليل َ‬
‫الفطرة‪.‬‬

‫لكن الفطرة وحدها ل تهتدي فقد تضل‪ ،‬والذي يقوم الطريق ويمنع‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫الفطرة من الخطأ هو الوحي‪ ،‬ولذلك لم يؤاخذنا الله ُ‬
‫عاَلى‪ ،‬ولم يحاسبنا بمقتضى العهد الذي أخذه علينا في عالم‬ ‫وت َ َ‬‫َ‬
‫عاَلى أو يؤاخذنا بمقتضى الفطرة التي‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫الذر‪ ،‬ولم يحاسبنا ُ‬
‫فطرها في أنفسنا‪ ،‬وإنما بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل‬
‫عَلى الله حجة بعد الرسل‪- ،‬أي‪ :‬أن‬ ‫معهم الكتاب‪ ،‬لئل يكون للناس َ‬
‫الحجة والبلغ إنما هي بدعوى النبياء‪ -‬فهذا من حكمة الله‪ ،‬ومن‬
‫حّتى‬ ‫عذِّبي َ‬
‫ن َ‬ ‫م َ‬‫ما ك ُّنا ُ‬
‫و َ‬
‫َ‬ ‫عاَلى علينا؛ أنه ل يعذب أحدا ً‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫فضله ُ‬
‫سول ً ]السراء‪ [15:‬مع قيام الحجج في الفطرة‪ ،‬وقيام‬ ‫ث َر ُ‬
‫ع َ‬‫ن َب ْ َ‬
‫الحجج في العقل‪ ،‬ومع الميثاق الذي أخذه الله في عالم الذر‪،‬‬
‫والبراهين التي جعلها في الكون والنفس والفاق‪ ،‬مع ذلك كله فإن‬
‫سان من العلم‬ ‫عَلى ما يبلغ ا ِ‬
‫لن َ‬ ‫العذاب ودخول الّنار ل يكون إل َ‬
‫النبوي‪. ،‬‬

‫ه هنا‪ ،‬وهو أن‬ ‫ه الل ّ ُ‬


‫م ُ‬‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬
‫م ْ‬
‫فهذا ملخص لهذه للوجه التي ذكر ال ُ‬
‫سان لديه قابلية‬ ‫لن َ‬‫عاَلى‪ ،‬وأن ا ِ‬‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫الفطرة تتجه إ َِلى الله ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫التباع‪ ،‬كما أن لدى كل إنسان قابلية التعلم والعبادة لله‪ ،‬والهتداء‬
‫عاَلى‪ ،‬فما لم يحل حائل‪ ،‬أو يأتي حجاب من الحجب‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫بهديه ُ‬
‫سان عن التوحيد‪ ،‬فإن بني آدم جميعا ً يتجهون إ َِلى‬ ‫لن َ‬‫يحجب ا ِ‬
‫التوحيد‪.‬‬
‫عَلى ظهر الرض فليس مقلدًا؛ لنه مؤمن بالله‬ ‫وكل مسلم َ‬
‫بمقتضى الميثاق في عالم الذر‪ ،‬وبمقتضى الفطرة التي خلقه الله‬
‫م‪،‬‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫عاَلى عليها‪ ،‬وبمقتضى اليمان بالنبي َ‬‫تَ َ‬
‫اليمان البدهي الذي هو أقوى من البراهين النظرية العقلية‪ ،‬ومع‬
‫عاَلى‬
‫وت َ َ‬‫ه َ‬‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬ ‫ذلك فلكل مؤمن براهينه وحجته التي أعطاه الله ُ‬
‫عَلى قدر علمه وعلى قدر ما بلغه‪.‬‬
‫إياها َ‬
‫• دليل على وجود الله والكلم عليه‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫ه‪:‬‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫صن ّ ُ‬
‫م ْ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ال ُ‬
‫ه‪ :‬أن قوما ً من أهل الكلم أرادوا‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫]وُيحكى عن أبي حنيفة َر ِ‬
‫ل لهم‪ :‬أخبروني ‪-‬قبل أن‬ ‫ف َ‬
‫قا َ‬ ‫البحث معه في تقرير توحيد الربوبية‪َ ،‬‬
‫نتكلم في هذه المسألة‪ -‬عن سفينة في دجلة تذهب فتمتل من‬
‫الطعام والمتاع وغيره بنفسها‪ ،‬وتعود بنفسها‪ ،‬فترسي بنفسها‪،‬‬
‫وتتفرغ وترجع كل ذلك من غير أن يدبرها أحد؟!‬

‫قاُلوا‪ :‬هذا محال ل يمكن أبدًا!‬


‫ف َ‬
‫َ‬

‫ن هذا محال ً في سفينة‪ ،‬فكيف في هذا العالم كله‬ ‫ل لهم‪ :‬إذا َ‬


‫كا َ‬ ‫ف َ‬
‫قا َ‬ ‫َ‬
‫علوه وسفله؟!‬

‫وتحكى هذه الحكاية عن غير أبي حنيفة أيضًا‪.‬‬

‫ء النظار‪ ،‬ويفنى فيه‬ ‫ه ُ‬


‫ؤل ِ‬ ‫فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية الذي يقر به َ‬
‫كثير من أهل التصوف‪ ،‬ويجعلونه غاية السالكين كما ذكره صاحب‬
‫منازل السائرين وغيره‪ ،‬وهو مع ذلك إن لم يعبد الله وحده ويتبرأ‬
‫ن[ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫كي َ‬
‫ر ِ‬
‫ش ِ‬ ‫ن مشركا ً من جنس أمثاله من ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫من عبادة ما سواه َ‬
‫كا َ‬
‫الشرح‪:‬‬

‫ه الل ّ ُ‬
‫ه‪] :‬وُيحكى عنأبي حنيفة [ كلمة "يحكى" أو‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬
‫م ْ‬
‫يقول ال ُ‬
‫"ُيقال" معناها‪ :‬أن الخبر فيه كلم‪ ،‬فليس موثوقًا‪ ،‬والحقيقة أن‬
‫هذه الواقعة ل تتصور أنها تصح عن المام أبي حنيفة لنه ل يمكن‬
‫أن يتجرأ أحد من الملحدة في عهد المام أبي حنيفة وفي أوائل‬
‫م يؤتى به إ َِلى الكوفة‬ ‫القرن الثاني‪ ،‬ويقول أنا أنكر وجود الله‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫إلى عالم من أكبر علمائها ويقول له‪ :‬أنا أريد أن أناظرك!! لنه‬
‫عَلى ضعف إيماننا‪ ،‬وعلى ضعف‬ ‫ه‪َ -‬‬ ‫مدُ ل ِل ّ ِ‬‫ح ْ‬ ‫حتى في هذا العصر ‪-‬وال ْ َ‬
‫علمنا‪ ،‬ل يتجرأ الملحد أن يأتي فضل ً عن أن يبحث عن عالم من‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫ن الكبار ويقول‪ :‬أنا أريد أن أناظره‪ ،‬لن الله ُ‬ ‫مي َ‬‫سل ِ ِ‬ ‫علماء ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫ن جميعا ً‬ ‫مو َ‬‫سل ِ ُ‬‫م ْ‬ ‫ن وال ْ ُ‬‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬ ‫عاَلى ضرب عليهم الذل‪ ،‬وعلماء ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫وت َ َ‬
‫َ‬
‫سان‪ ،‬أو‬‫لن َ‬ ‫ً‬
‫حتى العامة منهم يرفضون أصل أن يقابلوا مثل هذا ا ِ‬
‫يتحدثوا معه‪ ،‬فضل ً عن أن يفتحوا له الطريق ويقبلوا المناظرة‪،‬‬
‫ويقولون وإذا لم نقنعك نذهب بك إ َِلى المام أبي حنيفة نقول‪ :‬هذا‬
‫ل يمكن ول يتخيل لكن هذا مما يذكره بعض المتكلمين ليبينوا أن‬
‫الئمة الربعة وغيرهم قد عرفوا الدلة والبراهين والحجج العقلية‪،‬‬
‫ي أنهم قالوا‪:‬‬ ‫مد والمام ال ّ‬ ‫َ‬
‫ع ّ‬ ‫ف ِ‬ ‫شا ِ‬ ‫ح َ‬‫ومثل ذلك ما ينقل عن المام أ ْ‬
‫انظروا إ َِلى هذه البيضة أو عجبت لهذه البيضة‪ ،‬التي ظاهرها هذا‬
‫م يكون له العين‬ ‫م يخرج منها ذلك الحيوان ث ُ ّ‬ ‫العظم وباطنها الماء‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫والمنقار والرئتان‪ ،‬مع ذلك نقول أن هذه النقولت لو ثبتت فليس‬
‫عَلى وجود الله‪ ،‬هو هذه البيضة‪ ،‬أو‬ ‫مد َ‬ ‫َ‬
‫ح َ‬‫معنى ذلك أن دليل المامأ ْ‬
‫عَلى وجود الله وعلى توحيد الربوبية هو‬ ‫أن دليل المام أبي حنيفة َ‬
‫السفينة‪.‬‬

‫سان‬ ‫أو من قال من الئمة‪ :‬من أراد أن يعرف الله فلينظر إ َِلى ا ِ‬
‫لن َ‬
‫م من ماء‪ ،‬هذه أمثلة وعبر‪ ،‬مثلهم مثل أي‬ ‫كيف خلق من طين‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫ن الّله‬
‫سْبحا َ‬
‫ل‪ُ :‬‬ ‫قو ُ‬ ‫واحد يرى منظرا ً في ملكوت الله في السماء َ‬
‫في َ ُ‬
‫ل أحد؟!‬‫ج ّ‬ ‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫كيف ينكر الله َ‬

‫عَلى ربوبية الله‪ ،‬فليس هذا هو دليله الوحيد الذي‬‫انظر هذا دليل َ‬
‫يقوم إيمانه ويعتمد عليه إنما هو كمثال من المثلة وكدليل من‬
‫جملة الدلة‪ ،‬فهذا الدليل دليل السفينة يذكر كذلك‪ ،‬ول يعني هذا‬
‫عَلى هذا الدليل‪ ،‬أو أن هذا هو حجتنا‬
‫أننا ل نؤمن بالله إل بناء َ‬
‫عَلى وجود الله إل أمثال هذه الدلة‪.‬‬
‫الوحيدة‪ ،‬أو أننا ل نملك َ‬
‫عَلى أنه واحد ت ََباَر َ‬
‫ك‬ ‫عاَلى له في كل شيء آية تدل َ‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫فالله ُ‬
‫عاَلى ووجوده أيقين في النفوس من وجود المخلوقين أنفسهم؛‬ ‫وت َ َ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫عالى‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ء المخلوقين إنما وجدوا؛ لن الله ُ‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬‫لننا نعلم أن َ‬
‫عاَلى إيمان‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫هو الذي خلقهم‪ ،‬فوجود الخالق الموجد ُ‬
‫النفس به أكثر يقينا ً من يقينها بوجود بلد اسمه أمريكا أو الهند ‪،‬‬
‫سان ربما لم يرها قط ومع ذلك هو مؤمن‬ ‫لن َ‬
‫ومع أنه قد يكون ا ِ‬
‫بوجودها‪ ،‬فاليمان بوجود الله أعظم وأكثر يقينا ً من اليقين بذلك؛‬
‫عَلى المباحث‬ ‫لنه تمتل به الفطرة والقلب قبل أن يعرضه الدين َ‬
‫ه ذكر هذا المثال‪ .‬وتفسيره‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫العقلية النظرية والمصنف َر ِ‬
‫واضح‪.‬‬
‫ونختتم بما ذكره مؤلف منازل السائرين ‪ ،‬وهذا الكتاب ألفه المام‬
‫أبو إسماعيل عبد الله الهروي والذي شرحه المام ابن القيم في‬
‫كتابه مدارج السالكين شرح منازل السائرين وهو المذكور هنا في‬
‫قوله‪" :‬ويفنى فيه كثير منأهل التصوف ويجعلونه غاية السالكين"‪.‬‬

‫أما المتكلمون والنظار فقد سبق الحديث عنهم‪ ،‬وأما هذا الهروي‬
‫صاحب منازل السائرين فإنه قد وقع ‪-‬عفا الله عنه‪ -‬فيما وقع فيه‬
‫الصوفية من الحديث عن الفناء‪ ،‬حيث قالوا‪ :‬إن حقيقية الفناء‬
‫وحقيقة التوحيد‪ ،‬هو توحيد الربوبية‪ :‬أن تعتقد أنه ل خالق إل الله‪،‬‬
‫وأنه ل فاعل إل الله‪.‬‬

‫وسيأتي تفصيل هذا قريبًا‪ ،‬كما سيأتي ذكر البيات التي ذكرها‬
‫ه عن الهروي نفسه‪ ،‬وهي أبيات مردودة في‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬
‫م ْ‬
‫ال ُ‬
‫موضوع التوحيد‪ ،‬وهذا الكلم الذي ذكره الهروي نقله صاحب حلية‬
‫الولياء عن الجنيد ‪ ،‬وهو من كلم الصوفية حيث يعتقدون أن توحيد‬
‫الربوبية هو غاية التوحيد فمن وصل عندهم إ َِلى توحيد خاصة‬
‫الخاصة فهو الذي يصل إ َِلى اعتقاد أنه ل فاعل إل الله‪ ،‬وأن كل ما‬
‫عاَلى‪ ،‬وأن الله هو الذي‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫في الكون إنما يتحرك بإذن الله ُ‬
‫حركه‪ ،‬أي‪ :‬حقيقة الفعل هذه منسوبة إ َِلى الله‪.‬‬

‫فل ترى لغير الله فعل ً ول حركة ول إرادة فهذا هو غاية التوحيد‬
‫عندهم‪ ،‬أما ما دمت تثبت فعلين‪ ،‬فأنت ل تزال في توحيد أقل‪ ،‬أو‬
‫قْرآن كله شرك‪،‬‬ ‫ل‪ :‬ال ُ‬ ‫في الشرك كما قال ذلك ابن سينا حيث َ‬
‫قا َ‬
‫والعياذ بالله‪ ،‬وهذا كلم الفلسفة ‪ ،‬وأخذه الصوفية في الصل‬
‫ء‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫أخذوا عن الفلسفة ‪ ،‬من اليونان والهنود‪ ،‬لكن فلسفة َ‬
‫فلسفة روحانية‪ ،‬وأولئك فلسفة عقلنية‪.‬‬

‫والشاهد أن دعاوى المتكلمين والنظار‪ ،‬ودعاوى الصوفية وأمثالهم‪،‬‬


‫أن التوحيد الحقيقي هو توحيد الربوبية‪ ،‬وهذا مردود عليهم؛ لن‬
‫التوحيد الحقيقي هو توحيد اللوهية‪ ،‬فهو الذي أمر الّناس أن‬
‫يتدرجوا فيه حتى يعرفوه حق معرفته‪ ،‬ويقوموا به حق قيامه‪ ،‬وكما‬
‫سبق أن بينا أنه ليس كل الصوفية يقولون بوحدة الوجود‪ ،‬وليسوا‬
‫جميعا ً يقولون‪ :‬إن التوحيد الحقيقي هو توحيد الربوبية‪ ،‬وإنما‬
‫الّناس دائما ً درجات ومراتب في البدعة‪ ،‬أو في الضللة‪ ،‬أو في‬
‫عَلى المنهج العام‬
‫الشرك‪ ،‬أو الكفر‪ ،‬فهم درجات ومراتب‪ ،‬والكلم َ‬
‫يختلف عن الكلم في العيان والشخاص‪.‬‬
‫فالشخاص فيهم من يأخذ بذلك المنهج كله‪ ،‬وفيهم من يأخذ منه‬
‫ببعضه‪ ،‬وفيهم من ينتسب إليه بالسم ويدعيه وهو ل يعرفه ول‬
‫يأخذ منه بشيء‪ ،‬فالشاهد هو هذا‪ ،‬وسوف يأتي ‪-‬إن شاء الله‬
‫عاَلى‪ -‬مزيد من الحديث عن الهروي وعن كتابه عند‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ُ‬
‫الحديث عن البيات التي ذكرها في نفس هذا الموضع فيما سيأتي‪.‬‬
‫التوحيد ‪5‬‬
‫في هذا الدرس يتحدث الشيخ ‪-‬رعاه الله‪ -‬عن التوحيد خاصة توحيد الربوبية ويسرد‬
‫بعض الدلة على ذلك‪ ،‬ثم ينتقل إلى توحيد اللوهية ويتكلم عن الغاية العظمى من‬
‫إرسال الرسل‪ ،‬وختم بالحديث عن العلقة بين توحيد اللوهية وتوحيد الربوبية‪.‬‬
‫‪ - 1‬توحيد الربوبية‬
‫• إنما يقصد بتوحيد الربوبية الستدلل واللزام به على توحيد اللوهية‬
‫ه ت ََعاَلى‪ -‬إ َِلى بيان أن هذا التوحيد ليس هو‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬ ‫وامتدادا ً لذلك نظر ‪َ-‬ر ِ‬
‫ح َ‬
‫ن بتوحيد‬
‫كي َ‬
‫شرِ ِ‬ ‫قْرآن للستدلل به‪ ،‬وإلزام ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫المطلوب لذاته‪ ،‬وإنما يأتي في ال ُ‬
‫اللوهية‪.‬‬
‫ومن جعله هو المطلوب لذاته وهو الغاية من الطريقة والعبادة كما‬
‫عَلى خطأ‬‫يقول بعض الضلل والصوفية أو بعض علماء الكلم ‪ -‬فهو َ‬
‫عظيم‪ ،‬فـالصوفية يدعون أن غاية التوحيد هو أن يعتقد أنه ل تأثير‬
‫عاَلى‪ ،‬ويقول صحاب جوهرة‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫لحد في الكون إل لله ُ‬
‫التوحيد المنظومة في العقيدة الشعرية ‪:‬‬
‫للواحد القهار جل وعل‬ ‫والفعل في التأثير ليس إل‬
‫ت‬
‫فذاك بـدعي فل تلتف ِ‬ ‫ة‬
‫ومن يقل بالقوة المودعـ ِ‬
‫فذاك كفـر عند أهل‬ ‫ومن يقل بالطبع أو بالعلة‬
‫الملة‬
‫سان أنه ل مؤثر ول فاعل في الكون إل‬ ‫لن َ‬
‫فالتوحيد هو‪ :‬أن يعتقد ا ِ‬
‫عاَلى‪ -‬ولو دعا غير الله‪ ،‬أو ذبح لغير الله‪ ،‬أو صرف‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫الله ‪ُ -‬‬
‫أي نوع من أنواع العبادة لغير الله‪ ،‬وهو يعتقد أن المؤثر هو الله‬
‫وحده‪ ،‬وأن هذا المدعو أو المرجو أو المعبود من دون الله سواء‬
‫ن ملكا ً أو نبيا ً أو عبدا ً صالحا ً ما هو إل واسطة ووسيلة وشفيع‪،‬‬ ‫َ‬
‫كا َ‬
‫وأن المؤثر الفاعل الحقيقي هو الله فهذا عندهم ل يسمى مشركًا‪،‬‬
‫ن وهو من الخوارج إ َِلى‬
‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫فر ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ل‪ :‬إنه مشرك فقد ك ّ‬ ‫قا َ‬ ‫فمن َ‬
‫آخر ما يقولون!‬

‫فإن حقيقة التوحيد عندهم‪ ،‬والغاية النهائية من التوحيد أن يترقى‬


‫سان في فهم الوحدانية حتى يصل به المر ‪-‬كما يقولون‪ -‬إ َِلى‬ ‫لن َ‬
‫ا ِ‬
‫أن يعتقد أن هذا العالم كله ل تأثير فيه لحد إل الله‪ ،‬وكل هذه‬
‫الفعال التي نراها في الكون هي من فعل الله وحده فقط‪.‬‬

‫ونحن نرد عليهم ونبين ونكشف هذه الشبهات بالدلة القطعية‬


‫صّلى‬
‫عاَلى‪ -‬ومن سنة رسوله الله َ‬‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫الجلية من كتاب الله ‪ُ -‬‬
‫م‪ ،‬ومن البراهين اليقينية التي يجدها كل مسلم في‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬
‫الل ُ‬
‫ن في الجاهلية ما كانوا يعتقدون لحد‬ ‫كي َ‬‫ر ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫نفسه‪ ،‬وهي‪ :‬أن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫تأثيرا ً غير الله‪ ،‬وما كانوا يعتقدون أن أحدا ً خلق أو رزق غير الله‬
‫عاَلى‪.‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ُ‬
‫هذه هي عقيدة الجاهليين والذين يعبدونهم من دون الله من اللهة‬
‫‪-‬اللت والعزى ومناة وهبل وود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا‪ ،‬فهذه‬
‫المعبودات والكهان الذين كانوا يطيعونهم بما يأمرونهم‪ ،‬ويلقون‬
‫عاءَ‬ ‫ش َ‬
‫ف َ‬ ‫ن الل ّ ِ‬
‫ه ُ‬ ‫دو ِ‬
‫ن ُ‬
‫م ْ‬
‫ذوا ِ‬ ‫إليهم إنما هم واسطة أو وسيلة أ َم ِ ات ّ َ‬
‫خ ُ‬
‫]الزمر‪ [43:‬ويقولون في تلبيتهم‪" :‬لبيك ل شريك لك إل شريكا ً هو‬
‫لك‪ ،‬تملكه وما ملك"‪.‬‬
‫فلم يجعلوا لغير الله ملكا ً ول تأثيرا ً ول فع ً‬
‫ل‪ ،‬ولم يكن أحد من كفار‬
‫قريش يعتقد أن اللت أو هبل هي التي خلقت هذه الجبال التي‬
‫يراها أهل مكة ‪ ،‬أو هي التي خلقت فلنا ً وفلنا ً قصي وعبد‬
‫المطلب من زعماء مكة ‪.‬‬
‫إذًا؛ نقول لهم‪ :‬أنتم تريدون أن ترجعونا إ َِلى عين الشرك القديم‪،‬‬
‫ء‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫ن َ‬
‫وإلى حقيقة الشرك القديم‪ ،‬وهو أنكم تقولون‪ :‬إ ّ‬
‫ل‪ -‬يعتقدون أنه ل تأثير لحد إل‬‫ن الذين يدعون السلم ‪-‬مث ً‬ ‫كي َ‬‫ر ِ‬‫ش ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫عاَلى‪.‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫الله ُ‬
‫• القرآن مملوء بالدلة على توحيد الربوبية‬
‫ه ت ََعاَلى‪:‬‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫صن ّ ُ‬
‫م ْ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ال ُ‬
‫]والقرآن مملوء من تقرير هذا التوحيد وبيانه وضرب المثال له‪.‬‬
‫ومن ذلك أنه يقرر توحيد الربوبية‪ ،‬ويبين أنه ل خالق إل الله‪ ،‬وأن‬
‫عَلى الثاني‪ ،‬إذ‬
‫ذلك مستلزم أن ل يعبد إل الله‪ ،‬فيجعل الول دليل ً َ‬
‫كانوا يسلمون الول‪ ،‬وينازعون في الثاني‪ ،‬فيبين لهم ‪ -‬سبحانه‪-‬‬
‫أنكم إذا كنتم تعلمون أنه ل خالق إل الله‪ ،‬وأنه هو الذي يأتي العباد‬
‫بما ينفعهم‪ ،‬ويدفع عنهم ما يضرهم‪ ،‬ل شريك له في ذلك‪ ،‬فلم‬
‫تعبدون غيره وتجعلون معه آلهة أخرى؟‬

‫فى آلل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫صطَ َ‬ ‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬‫ه ال ّ ِ‬ ‫عَلى ِ‬
‫عَباِد ِ‬ ‫م َ‬ ‫سل ٌ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬‫مدُ ل ِل ّ ِ‬ ‫ح ْ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫ق ِ‬‫ُ‬ ‫كقوله تعالى‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م َ‬‫م ِ‬‫ل ل َك ُ ْ‬‫وأن َْز َ‬ ‫ض َ‬‫واْلْر َ‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬‫ق ال ّ‬ ‫خل َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن*أ ّ‬ ‫كو َ‬ ‫ر ُ‬
‫ش ِ‬ ‫ما ي ُ ْ‬
‫خي ٌْر أ ّ‬ ‫َ‬
‫كان ل َك ُ َ‬ ‫ء ماءً َ َ‬
‫ها‬ ‫جَر َ‬
‫ش َ‬‫ن ت ُن ْب ُِتوا َ‬‫مأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ما َ َ‬ ‫ة َ‬ ‫ج ٍ‬
‫ه َ‬ ‫ت بَ ْ‬ ‫ذا َ‬‫ق َ‬ ‫دائ ِ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ه َ‬ ‫فأن ْب َت َْنا ب ِ ِ‬ ‫ما ِ َ‬ ‫س َ‬‫ال ّ‬
‫َ‬
‫ن ]النمل‪.[60،59:‬‬ ‫دُلو َ‬ ‫ع ِ‬‫م يَ ْ‬ ‫و ٌ‬ ‫ق ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ل ُ‬ ‫ه بَ ْ‬‫ع الل ّ ِ‬
‫م َ‬‫ه َ‬ ‫أإ ِل َ ٌ‬
‫َ‬
‫أي‪ :‬أإله مع الله‬ ‫ع الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م َ‬ ‫أإ ِل َ ٌ‬
‫ه َ‬ ‫عاَلى في آخر كل آية‪:‬‬
‫يقول الله ت َ َ‬
‫فعل هذا؟‬

‫وهذا استفهام إنكار‪ ،‬يتضمن نفي ذلك‪ ،‬وهم كانوا مقرين بأنه لم‬
‫يفعل ذلك غير الله‪ ،‬فاحتج عليهم بذلك‪ ،‬وليس المعنى استفهام‪:‬‬
‫هل مع الله إله؟ ‪-‬كما ظنه بعضهم‪ -‬لن هذا المعنى ل يناسب سياق‬
‫الكلم‪ ،‬والقوم كانوا يجعلون مع الله آلهة أخرى كما قال تعالى‪:‬‬
‫هد ]النعام‪.[19:‬‬ ‫ش َ‬‫ل ل أَ ْ‬ ‫ق ْ‬ ‫خَرى ُ‬ ‫ة أُ ْ‬‫ه ً‬‫ه آل ِ َ‬ ‫ع الل ّ ِ‬
‫م َ‬‫ن َ‬
‫َ‬
‫نأ ّ‬‫دو َ‬
‫ه ُ‬ ‫م ل َت َ ْ‬
‫ش َ‬
‫َ‬
‫أإ ِن ّك ُ ْ‬
‫ذا ل َ َ‬ ‫َ‬
‫ب‬
‫جا ٌ‬
‫ع َ‬
‫يءٌ ُ‬
‫ش ْ‬ ‫ه َ‬
‫ن َ‬‫حدا ً إ ِ ّ‬ ‫ة إ َِلها ً َ‬
‫وا ِ‬ ‫ه َ‬‫ل اْلل ِ َ‬ ‫ع َ‬‫ج َ‬
‫وكانوا يقولون‪ :‬أ َ‬
‫]ص‪.[5:‬‬
‫َ‬
‫ع َ‬
‫ل‬ ‫ج َ‬ ‫قَرارا ً َ‬
‫و َ‬ ‫ض َ‬‫ل اْلْر َ‬ ‫ع َ‬‫ج َ‬‫َ‬ ‫لكنهم ما كانوا يقولون‪ :‬إن معه إلها ً‬
‫جزا ً ]النمل‪:‬‬ ‫َ‬
‫حا ِ‬
‫ن َ‬ ‫ن ال ْب َ ْ‬
‫حَري ْ ِ‬ ‫ع َ‬
‫ل ب َي ْ َ‬ ‫ج َ‬
‫و َ‬
‫ي َ‬
‫س َ‬
‫وا ِ‬ ‫ل لَ َ‬
‫ها َر َ‬ ‫ع َ‬
‫ج َ‬ ‫هارا ً َ‬
‫و َ‬ ‫خلل َ َ‬
‫ها أن ْ َ‬ ‫ِ‬
‫‪ [61‬بل هم مقرون بأن الله وحده فعل هذا وهكذا سائر اليات‪.‬‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫وال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م َ‬ ‫خل َ َ‬
‫قك ُ ْ‬ ‫م ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫دوا َرب ّك ُ ُ‬
‫عب ُ ُ‬
‫سا ْ‬
‫ها الّنا ُ‬
‫َيا أي ّ َ‬ ‫وكذلك قوله تعالى‪:‬‬
‫ن ]البقرة‪.[21:‬‬ ‫قو َ‬ ‫عل ّك ُ ْ‬
‫م ت َت ّ ُ‬ ‫م لَ َ‬
‫قب ْل ِك ُ ْ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫ِ‬

‫عك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م َ‬
‫س ْ‬
‫َ‬ ‫خذَ الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ن أَ َ‬‫م إِ ْ‬
‫ق ْ َ َ‬
‫ل أَرأي ْت ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫وكذلك قوله في سورة النعام‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫]النعام‪:‬‬ ‫ه‬
‫م بِ ِ‬ ‫غي ُْر الل ّ ِ‬
‫ه ي َأِتيك ُ ْ‬ ‫ه َ‬‫ن إ ِل َ ٌ‬
‫م ْ‬ ‫قُلوب ِك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫عَلى ُ‬‫م َ‬
‫خت َ َ‬
‫و َ‬ ‫صاَرك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫وأب ْ َ‬‫َ‬
‫‪ [46‬وأمثال ذلك[ اهـ‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫قْرآن مملوء من تقرير وذكر‬ ‫عاَلى‪ -‬أن ال ُ‬ ‫ه الل ّ ُ‬


‫ه تَ َ‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف ‪َ-‬ر ِ‬
‫صن ّ ُ‬
‫م ْ‬
‫يبين ال ُ‬
‫عاَلى‪ -‬هو وحده الخالق الرازق‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫توحيد الربوبية‪ ،‬وأن الله ‪ُ -‬‬
‫محيي المميت الضار النافع‪ ،‬الذي يدبر المر‪ ،‬والذي يغيث‬ ‫ال ُ‬
‫الملهوف‪ ،‬ويجيب المضطر‪ ،‬ويكشف السوء ممن دعاه إ َِلى غير ذلك‬
‫من خصائص الربوبية‪ ،‬التي منها أيضا ً التفرد‪ :‬بعلم الغيب المطلق‪،‬‬
‫والتي منها‪ :‬التفرد بحق التشريع للبشر في الدين وفي مصالح‬
‫الدنيا‪ ،‬ومنها لوازم كثيرة لعلنا نعرض بعضها ‪-‬إن شاء الله‪.-‬‬

‫عَلى‬
‫عَلى انفراد‪ ،‬ول َ‬
‫والقرآن مملوء بذكر هذا التوحيد لكن ل َ‬
‫أساس أنه يقره كأمر جديد‪ ،‬وإنما يقول للمشركين‪ :‬هذا الذي أنتم‬
‫مقرون به يستلزم ويستوجب منكم القرار بما أنتم منازعون فيه‪،‬‬
‫عاَلى هو وحده المعبود‪،‬‬ ‫ن كانوا ينازعون في أن الله ت َ َ‬ ‫ر ُ‬
‫كو َ‬ ‫م ْ‬
‫ش ِ‬ ‫فال ُ‬
‫وهو الذي يرجى ويدعى ويخاف وحده ل شريك له‪ ،‬وكانت هذه هي‬
‫المعركة بينهم وبين الرسل‪.‬‬

‫ن وأهل الكتاب ‪-‬أيضًا‪ -‬يعتقدون أن غير الله هو الذي‬ ‫كو َ‬‫ر ُ‬‫ش ِ‬‫م ْ‬
‫وكان ال ُ‬
‫عاَلى‪ -‬يلزمهم‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬ ‫يملك أن يشرع وأن يحلل أو يحرم فالله ‪ُ -‬‬
‫بأنه وحده الذي خلق الكون والبشر‪ ،‬فهو وحده الذي يشرع لهم‪،‬‬
‫وهو وحده الذي يجب أن يطيعوه‪ ،‬وأما غيره فل يجوز أن يتخذ ربا ً‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م أْرَبابا ً ِ‬ ‫ه ْ‬
‫هَبان َ ُ‬ ‫وُر ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬
‫حَباَر ُ‬ ‫خ ُ‬
‫ذوا أ ْ‬ ‫كما قال تعالى‪ :‬ات ّ َ‬
‫ه إ َِلى‬ ‫حك ْ ُ‬
‫م ُ‬ ‫ف ُ‬‫ء َ‬ ‫ي ٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫في ِ‬ ‫م ِ‬ ‫فت ُ ْ‬‫خت َل َ ْ‬‫ما ا ْ‬ ‫و َ‬
‫َ‬ ‫]التوبة‪ [31:‬وقال تعالى‪:‬‬
‫َ‬
‫ل‪ :‬ل َ ُ‬
‫ه‬ ‫قا َ‬ ‫م َ‬ ‫واْلْرض‪ ..‬ث ُ ّ‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬‫فاطُِر ال ّ‬ ‫َ‬ ‫ل‪:‬‬‫قا َ‬‫الّله‪ ...‬إ َِلى أن َ‬
‫واْل َْرض‪] ..‬الشورى‪[12-10:‬‬ ‫ت َ‬‫وا ِ‬
‫ما َ‬‫س َ‬ ‫م َ‬
‫قاِليدُ ال ّ‬ ‫َ‬
‫ن فاطر السماوات والرض‪ ،‬وله مقاليد السماوات والرض‪،‬‬ ‫ومن َ‬
‫كا َ‬
‫فهو الذي يحق له وحده أن يشرع في السماوات والرض‪ ،‬وأن يطاع‬
‫شرعه ويتبع أمره‪.‬‬

‫واليات كثيرة من كتاب الله التي تذكر بهذه المعاني لتلزم بما‬
‫بعدها من توحيد اللوهية‪ ،‬ومنها هذه اليات التي في سورة النمل‪:‬‬
‫ن‬ ‫ه ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫عَلى ِ‬
‫عَباِد ِ‬ ‫م َ‬
‫سل ٌ‬
‫و َ‬ ‫ه َ‬‫مدُ ل ِل ّ ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫ح ْ‬ ‫ق ِ‬ ‫عاَلى‪ُ :‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫قال الله ُ‬
‫َ‬
‫ن ]النمل‪.[59:‬‬ ‫كو َ‬‫ر ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫ما ي ُ ْ‬‫خي ٌْر أ ّ‬
‫ه َ‬‫فى ]النمل‪ [59:‬آلل ّ ُ‬ ‫صطَ َ‬
‫ا ْ‬
‫َ‬
‫ع الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م َ‬ ‫ه َ‬ ‫م ذكر خمس آيات تنتهي كل منها بقوله تعالى‪ :‬أإ ِل َ ٌ‬ ‫ثُ ّ‬
‫ء‬
‫ما ِ‬‫س َ‬‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫وأ َن َْز َ‬
‫ض َ‬ ‫واْلْر َ‬
‫َ‬
‫ت َ‬ ‫وا ِ‬
‫ما َ‬‫س َ‬ ‫ق ال ّ‬ ‫خل َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫َ‬
‫‪...‬قال تعالى‪ :‬أ ّ‬
‫شجر َ َ‬ ‫كان ل َك ُ َ‬ ‫ماءً َ َ‬
‫ع‬
‫م َ‬
‫ه َ‬ ‫ها أإ ِل َ ٌ‬ ‫ن ت ُن ْب ُِتوا َ َ َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ما َ َ‬ ‫ة َ‬ ‫ج ٍ‬‫ه َ‬ ‫ت بَ ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫ق َ‬ ‫دائ ِ َ‬ ‫ح َ‬
‫ه َ‬‫فأن ْب َت َْنا ب ِ ِ‬ ‫َ‬
‫قوم يعدُلون ]النمل‪ [60:‬إَلى أن يقول‪ :‬أ َمن يبدأ ُ‬
‫ّ ْ َْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫م َ ْ ٌ َ ْ ِ‬ ‫ه ْ‬‫ل ُ‬ ‫ه بَ ْ‬‫الل ّ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫ق ْ‬
‫ل‬ ‫ه ُ‬ ‫ع الل ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه َ‬ ‫ض أإ ِل َ ٌ‬
‫والْر ِ‬ ‫ء َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬‫ن ال ّ‬‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫قك ُ ْ‬ ‫ن ي َْرُز ُ‬ ‫م ْ‬ ‫و َ‬ ‫عيدُهُ َ‬ ‫م يُ ِ‬ ‫ق ثُ ّ‬ ‫خل ْ َ‬‫ال ْ َ‬
‫ن ]النمل‪.[64:‬‬ ‫قي َ‬ ‫صاِد ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫هان َك ُ ْ‬
‫م إِ ْ‬ ‫هاُتوا ب ُْر َ‬ ‫َ‬

‫وفي هذه السورة بعد أن ذكر في أولها تكذيب قومفرعون‪:‬‬


‫وا ً ]النمل‪ [14:‬وبعد أن‬ ‫عل ُ ّ‬ ‫م ظُْلما ً َ‬
‫و ُ‬ ‫ه ْ‬
‫س ُ‬
‫ف ُ‬ ‫ها أ َن ْ ُ‬ ‫قن َت ْ َ‬‫ست َي ْ َ‬‫وا ْ‬ ‫ها َ‬
‫دوا ب ِ َ‬‫ح ُ‬‫ج َ‬
‫و َ‬
‫َ‬
‫ذكر تكذيب قوم سبأ‪ ،‬وقصة أهل اليمن ‪-‬الذين كانت ملكتهم بلقيس‬
‫عاَلى‪-‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫م دخولها في دين الله ‪ُ -‬‬ ‫سلم‪ -‬ث ُ ّ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫مع سليمان َ‬
‫م ذكر قوم لوط وإهلكهم‬ ‫وبعد أن ذكر تكذيب ثمود قوم صالح‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫ن لهم‪ ،‬ذكر بعد ذلك هذه اليات‪ ،‬فالموضوع كله في بيان‬ ‫كا َ‬‫وما َ‬
‫عاَلى‪ -‬هو وحده المعبود‪ ،‬وهو وحده‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫موضوع أن الله ‪ُ -‬‬
‫عاَلى‪ -‬ل يجوز أن يشرك مع غيره في طاعته‬ ‫وت َ َ‬ ‫ك َ‬ ‫المطاع‪ ،‬وأنه ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫وفي عبادته وفي التقرب إليه‪.‬‬
‫فضرب لهم هذه المثلة وبين لهم‪ :‬أنكم أنتم تقولون‪ :‬إنه لم يخلق‬
‫السماوات الرض إل الله‪ ،‬ولم ينزل الغيث من السماء فينبت به‬
‫عاَلى‪ -‬بعد ذلك‬
‫وت َ َ‬ ‫هذه الحدائق ذات البهجة إل الله‪ ،‬فيقول ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫َ‬
‫ه أي‪ :‬أإله مع الله فعل هذا‪ ،‬فتعبدونه‬ ‫ع الل ّ ِ‬
‫م َ‬
‫ه َ‬‫منكرا ً عليهم‪ :‬أإ ِل َ ٌ‬
‫ن غيره قد شاركه في فعل ذلك‪ ،‬فيجوز أن‬ ‫كا َ‬‫مع الله‪ ،‬فإنه إذا َ‬
‫تعبدوا غيره الذي شاركه في هذا الفعل‪ ،‬أما إذا كنتم تقرون بأنه‬
‫وحده‪ :‬هو المتفرد بخلق هذه المخلوقات‪ ،‬والمتفرد بخلق السماوات‬
‫والرض‪ ،‬والمتفرد بأنه جعل الرض قرارًا‪ ،‬وجعل فيها أنهارًا‪ ،‬وجعل‬
‫فيها رواسي‪ ،‬وجعل بين البحرين حاجزًا‪ ،‬والمتفرد بأنه‪ :‬هو الذي‬
‫يهدي في ظلمات البر والبحر‪ ،‬وأنه هو الذي يكشف الضر ممن‬
‫دعاه‪ ،‬فيجب عليكم أن تفردوه وحده بالعبادة‪ ،‬ول تعبدوا غيره أبدا ً‬
‫‪-‬سبحانه‪ -‬فل تدعوا غيره‪ ،‬ول تصلوا لغيره‪ ،‬ول تذبحوا لغيره‪ ،‬ول‬
‫تنذروا لغيره‪.‬‬
‫• التفسير الصحيح لقوله تعالى ))أإله مع الله ((‬
‫ف‪ :‬ليس المر كما فهم بعض الشراح أو بعض المفسرين أن السياق‬‫مصن ّ ُ‬‫يقول ال ُ‬
‫قد انتهى‪ ،‬وكأن قوله‪:‬‬
‫ع الّله ِ معناه هل هناك شريك لله؟‬ ‫َ‬
‫م َ‬‫ه َ‬‫أإ ِل َ ٌ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫فهذا الوجه خطأ لن الكلم يجب أن يقرأ متصل ً فنقول مث ً‬
‫م ْ‬‫ل‪ ) :‬أ ّ‬
‫ء ماءً َ َ‬ ‫وأ َن َْز َ‬ ‫َ‬
‫ق‬
‫دائ ِ َ‬‫ح َ‬
‫ه َ‬
‫فأن ْب َت َْنا ب ِ ِ‬ ‫ما ِ َ‬
‫س َ‬‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬‫م ِ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫ض َ‬‫واْلْر َ‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬
‫ما َ‬
‫س َ‬‫ق ال ّ‬ ‫خل َ َ‬
‫َ‬
‫ع الّله ]النمل‪[60:‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م َ‬
‫ه َ‬‫ها أإ ِل َ ٌ‬‫جَر َ‬
‫ش َ‬ ‫ن ت ُن ْب ُِتوا َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫ة َ‬‫ج ٍ‬‫ه َ‬
‫ت بَ ْ‬‫ذا َ‬ ‫َ‬
‫التقدير‪ :‬أإله مع الله فعل هذا؟!‬

‫سيكون جوابهم‪ :‬ل‪ .‬وهذا سؤال إنكار هذا الوجه هو الصحيح في‬
‫َ‬
‫خل َ َ‬
‫ق‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫الية أما الوجه الخطأ فهو أن يظن أن الية تقول‪ :‬أ ّ‬
‫ء ماءً َ َ‬ ‫وأ َن َْز َ‬ ‫َ‬
‫ت‬ ‫ق َ‬
‫ذا َ‬ ‫دائ ِ َ‬
‫ح َ‬‫ه َ‬ ‫فأن ْب َت َْنا ب ِ ِ‬ ‫ما ِ َ‬
‫س َ‬
‫ن ال ّ‬
‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫ض َ‬ ‫واْلْر َ‬ ‫ت َ‬‫وا ِ‬
‫ما َ‬
‫س َ‬ ‫ال ّ‬
‫َ‬
‫ها ]النمل‪ [60:‬انتهى‪.‬‬ ‫جَر َ‬‫ش َ‬ ‫ن ت ُن ْب ُِتوا َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫ة َ‬‫ج ٍ‬
‫ه َ‬‫بَ ْ‬
‫َ‬
‫ع الل ّ ِ‬
‫ه كأنه سؤال جديد يقول‪ :‬هل لله شريك؟‬ ‫م َ‬ ‫م يقول‪ :‬أإ ِل َ ٌ‬
‫ه َ‬ ‫ثُ ّ‬
‫عاَلى ل يسألهم‬
‫فهذا الوجه خطأ لنهم يثبتون لله شريكًا‪ ،‬والله ت َ َ‬
‫هل له شريك؟‬

‫يعني مجرد سؤال‪ ،‬إنما المقصود أِإله مع الله فعل هذا فتعبدونه من‬
‫دون الله؟ فإذا قلتم‪ :‬ل‪ ،‬لم يفعل هذا أحد مع الله‪ ،‬وإنما فعله الله‬
‫ء الشركاء الذين تعبدونهم من دون الله إذن عبادتكم‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫وحده‪ ،‬ف َ‬
‫لهم باطلة وشرككم لهم باطل فهذا هو المراد‪.‬‬

‫ة أُ ْ‬
‫خَرى‬ ‫ه ً‬‫ه آل ِ َ‬‫ع الل ّ ِ‬‫م َ‬‫ن َ‬
‫َ‬
‫نأ ّ‬‫دو َ‬ ‫ه ُ‬ ‫م ل َت َ ْ‬
‫ش َ‬
‫َ‬
‫عاَلى‪ :‬أإ ِن ّك ُ ْ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫وكما قال ُ‬
‫هد أي‪ :‬أنهم هم‬ ‫َ‬
‫للأ ْ‬ ‫ُ‬
‫ق ْ‬
‫ش َ‬ ‫]النعام‪ [1:‬فهم يشهدون‪ ،‬ولكن أنت‬
‫يشهدون أن مع الله آلهة أخرى ويدعون مع الله آلهة أخرى‪،‬‬
‫والستفهام هنا إنكار عليهم‪ ،‬كيف تؤمنون وتقرون بأنه لم يفعل‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫م تعبدون وتدعون غير الله ُ‬ ‫ولم يخلق أحد غير الله ث ُ ّ‬
‫عاَلى؟!‬
‫وت َ َ‬
‫َ‬
‫ه أيضا ً اليات التي في سورة البقرة ‪-‬التي‬ ‫ه الل ّ ُ‬ ‫م ُ‬‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬ ‫صن ّ ُ‬‫م ْ‬ ‫وذكر ال ُ‬
‫س‬ ‫َ‬
‫ها الّنا ُ‬
‫َيا أي ّ َ‬ ‫قلنا أن فيها أول أمر في القرآن‪ -‬منها قول تعالى‪:‬‬
‫ن ]البقرة‪:‬‬ ‫قو َ‬ ‫عل ّك ُ ْ‬
‫م ت َت ّ ُ‬ ‫م لَ َ‬
‫قب ْل ِك ُ ْ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫ن ِ‬ ‫وال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م َ‬ ‫خل َ َ‬
‫قك ُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫دوا َرب ّك ُ ُ‬‫عب ُ ُ‬
‫ا ْ‬
‫‪.[21‬‬

‫وسورة البقرة أول سورة نزلت في المدينة ‪ ،‬وهي من أعظم سور‬


‫عاَلى‪-‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫عَلى أعظم آية في كتاب الله ‪ُ -‬‬
‫سب ْ َ‬ ‫القرآن؛ لشتمالها َ‬
‫وهي‪ :‬آية الكرسي ولما اشتملت عليه من الحكام العظيمة‪،‬‬
‫والمعاني الجليلة‪ ،‬ولذلك ‪-‬كما في الحديث الصحيح‪) -‬ل تستطيعها‬
‫البطلة( ‪-‬أي‪ :‬السحرة والكهان‪ -‬والشيطان يفر من البيت الذي‬
‫يسمع سورة البقرة تقرأ فيه ‪-‬كما في الحديث الخر‪.‬‬
‫قْرآن بعد‬‫وهي أول سورة نزلت في المدينة ‪ ،‬جاءت في مفتتح ال ُ‬
‫قْرآن‬‫عاَلى‪ -‬في أولها صفة ال ُ‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫الفاتحة‪ ،‬فذكر الله ‪ُ -‬‬
‫م المنافقين‪ ،‬وبعد‬ ‫م الكافرين ث ُ ّ‬ ‫م صفات المؤمنين فيه ث ُ ّ‬ ‫العظيم‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫النتهاء من صفات المنافقين أمر بهذا المر الذي هو أول أمر في‬
‫س هذا خطاب عام لجميع الّناس‬ ‫َ‬ ‫ال ُ‬
‫ها الّنا ُ‬ ‫قْرآن فقوله سبحانه‪َ :‬يا أي ّ َ‬
‫ن‬
‫قو َ‬ ‫عل ّك ُ ْ‬
‫م ت َت ّ ُ‬ ‫م لَ َ‬
‫قب ْل ِك ُ ْ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬‫وال ّ ِ‬‫م َ‬ ‫قك ُ ْ‬‫خل َ َ‬ ‫م ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫دوا َرب ّك ُ ُ‬
‫عب ُ ُ‬
‫ا ْ‬
‫]البقرة‪.[21:‬‬

‫ذي‬‫أمر الّناس جميعا ً أن يعبدوه وحده‪ ،‬لنه هو الذي خلقهم ال ّ ِ‬


‫م فكونه هو الذي خلقكم‪ ،‬وكونه هو الذي خلق الذين من‬ ‫خل َ َ‬
‫قك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ً‬
‫قبلكم‪ ،‬هذه قضية بدهية‪ ،‬وهي حقيقة مقررة عندكم؛ إذا فاعبدوه‬
‫عاَلى‪.‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫وحده ل شريك له وأفردوه بالعبادة ُ‬

‫عك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م َ‬
‫س ْ‬
‫ه َ‬ ‫خذَ الل ّ ُ‬ ‫ن أَ َ‬‫م إِ ْ‬
‫ق ْ َ َ‬
‫ل أَرأي ْت ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫والية التي في سورة النعام‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ه ]النعام‪:‬‬ ‫م بِ ِ‬ ‫ه ي َأِتيك ُ ْ‬‫غي ُْر الل ّ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن إ ِل َ ٌ‬
‫م ْ‬ ‫قُلوب ِك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫عَلى ُ‬
‫م َ‬
‫خت َ َ‬
‫و َ‬ ‫صاَرك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫وأب ْ َ‬‫َ‬
‫‪ [46‬وهم مقرون وعالمون أنه ل أحد غير الله يأتيهم بذلك‪ ،‬وأن‬
‫الله هو الذي رزقهم‪.‬‬
‫قْرآن ‪-‬ومنها‬ ‫فهذا يبين ويوضح أن كل اليات التي وردت في ال ُ‬
‫م تجعلون لله‬‫اليات التي في سورة النمل‪ -‬إنما المراد بها أنكم ل ِ َ‬
‫شريكا ً في العبادة ما دام أنه ليس له شريكا ً في الخلق؟! هذا هو‬
‫ه تعالى‪ -‬في ذلك‪.‬‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف ‪َ-‬ر ِ‬
‫صن ّ ُ‬
‫م ْ‬
‫مضمون ما ذكره ال ُ‬
‫‪ - 2‬توحيد اللوهية‬
‫• الغاية العظمى لرسال الرسل هو توحيد اللوهية‬
‫ه ت ََعاَلى‪:‬‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫صن ّ ُ‬
‫م ْ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ال ُ‬
‫ء النظار‪ ،‬ومن وافقهم‬ ‫ه ُ‬
‫ؤل ِ‬ ‫ن توحيد الربوبية‪ ،‬الذي يجعله َ‬ ‫)وإذا َ‬
‫كا َ‬
‫من الصوفية هو الغاية في التوحيد‪ :‬داخل ً في التوحيد الذي جاءت‬
‫به الرسل ‪-‬عليهم السلم‪ -‬ونزلت به الكتب‪ ،‬فليعلم أن دلئله‬
‫متعددة كدلئل إثبات الصانع ودلئل صدق الرسول‪ ،‬فإن العلم كلما‬
‫ة من الله بخلقه‪.‬‬
‫ن الّناس إليه أحوج كانت أدلته أظهر‪ ،‬رحم ً‬ ‫َ‬
‫كا َ‬
‫والقرآن قد ضرب الله للناس فيه من كل مثل‪ ،‬وهي المقاييس‬
‫العقلية المفيدة للمطالب الدينية‪ ،‬لكن ال ُ‬
‫قْرآن يبين الحق في الحكم‬
‫والدليل‪ ،‬فماذا بعد الحق إل الضلل؟‬

‫ن من المقدمات معلومة ضرورية متفقا ً عليها استدل بها‪،‬‬ ‫وما َ‬


‫كا َ‬
‫ولم يحتج إ َِلى الستدلل عليها‪ ،‬والطريقة الفصيحة في البيان أن‬
‫قْرآن بخلف ما يدعيه الجهال‪ ،‬الذين يظنون‬ ‫تحذف‪ ،‬وهي طريقة ال ُ‬
‫قْرآن ليس فيه طريقة برهانية‪ ،‬بخلف ما قد يشتبه ويقع فيه‬ ‫أن ال ُ‬
‫نزاع‪ ،‬فإنه يبينه ويدل عليه‪.‬‬
‫ن الشرك في الربوبية معلوم المتناع عند الّناس كلهم‪،‬‬ ‫كا َ‬ ‫ولما َ‬
‫باعتبار إثبات خالقين متماثلين في الصفات والفعال‪ ،‬وإنما ذهب‬
‫م خالقا ً خلق بعض العالم كما يقوله‬ ‫ن إ َِلى أن ث ُ ّ‬ ‫كي َ‬ ‫ر ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫بعض ال ْ ُ‬
‫الثنوية في الظلمة‪ ،‬وكما يقوله القدرية في أفعال الحيوان‪ ،‬وكما‬
‫دهرية في حركة الفلك أو حركات النفوس‪ ،‬أو‬ ‫يقوله الفلسفة ال ّ‬
‫ء يثبتون أمورا ً محدثة بدون إحداث الله‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫الجسام الطبيعية‪ ،‬فإن َ‬
‫ن في بعض الربوبية‪ ،‬وكثير من مشركي العرب‬ ‫كو َ‬ ‫ر ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫إياها‪ ،‬فهم ُ‬
‫وغيرهم قد يظن في آلهته شيئا ً من نفع أو ضر بدون أن يخلق الله‬
‫ن هذا الشرك في الربوبية موجودا ً في الناس‪ ،‬بّين‬ ‫كا َ‬ ‫ذلك‪ ،‬فلما َ‬
‫ن‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫و َ‬‫د َ‬‫ول َ ٍ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬‫ه ِ‬ ‫خذَ الل ّ ُ‬ ‫ما ات ّ َ‬ ‫َ‬ ‫قْرآن بطلنه‪ ،‬كما في قوله تعالى‪:‬‬ ‫ال ُ‬
‫ض‬
‫ع ٍ‬ ‫عَلى ب َ ْ‬‫م َ‬‫ه ْ‬ ‫ض ُ‬
‫ع ُ‬‫عل ب َ ْ‬ ‫ول َ َ‬ ‫خل َ َ‬
‫ق َ‬ ‫ما َ‬
‫ه بِ َ‬‫ل إ ِل َ ٍ‬ ‫ب كُ ّ‬
‫ه َ‬ ‫ه ِإذا ً ل َذَ َ‬ ‫ن إ ِل َ ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬
‫ع ُ‬‫م َ‬
‫َ‬
‫]المؤمنون‪ [91:‬فتأمل هذا البرهان الباهر‪ ،‬بهذا اللفظ الوجيز‬
‫ل‪ ،‬يوصل إ َِلى‬ ‫الظاهر‪ ،‬فإن الله الحق ل بد أن يكون خالقا ً فاع ً‬
‫ن معه ‪-‬سبحانه‪ -‬إله آخر يشركه‬ ‫كا َ‬‫عابده النفع ويدفع عنه الضر فلو َ‬
‫ذ فل يرضى تلك الشركة‪ ،‬بل إن‬ ‫في ملكه لكان له خلق وفعل‪ ،‬وحينئ ٍ‬
‫عَلى قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك واللهية دونه فعل‪ ،‬وإن‬ ‫قدر َ‬
‫عَلى ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق‪ ،‬كما ينفرد ملوك‬ ‫لم يقدر َ‬
‫َ‬
‫على‬ ‫الدنيا بعضهم عن بعض بممالكه‪ ،‬إذا لم يقدر المنفرد منهم َ‬
‫قهر الخر والعلو عليه‪ ،‬فل بد من أحد ثلثة أمور‪:‬‬

‫إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه‪.‬‬

‫عَلى بعض‪.‬‬
‫وإما أن يعلو بعضهم َ‬

‫وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء‪ ،‬ول‬
‫يتصرفون فيه بل يكون وحده هو الله‪ ،‬وهم العبيد المربوبون‬
‫المقهورون من كل وجه‪.‬‬

‫عَلى أن مدبره‬ ‫وانتظام أمر العالم كله وإحكام أمره‪ ،‬من أدل دليل َ‬
‫إله واحد‪ ،‬وملك واحد‪ ،‬ورب واحد‪ ،‬ل إله للخلق غيره‪ ،‬ول رب لهم‬
‫عَلى أن خالق العالم واحد‪ ،‬ل رب‬‫سواه‪ .‬كما قد دل دليل التمانع َ‬
‫غيره ول إله سواه‪ ،‬فذاك تمانع في الفعل واليجاد‪ ،‬وهذا تمانع في‬
‫العبادة واللهية‪ ،‬فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان‬
‫متكافئان‪ ،‬كذلك يستحيل أن يكون لهم إلهان معبودان‪ ،‬فالعلم بأن‬
‫وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته‪ ،‬مستقر في الفطر‬
‫معلوم بصريح العقل بطلنه‪ ،‬فكذا تبطل إلهية اثنين‪ .‬فالية الكريمة‬
‫موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية‪ ،‬دالة مثبتة‬
‫مستلزمة لتوحيد اللهية[ اهـ‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬
‫هذا المقطع الطويل كله في بيان حقيقة توحيد الربوبية‪ ،‬ويبدؤه‬
‫ن توحيد الربوبية الذي يجعله‬ ‫ه ببيان أنه إذا َ‬
‫كا َ‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬
‫م ْ‬‫ال ُ‬
‫جاءَ به‬
‫بعض النظار أو المتكلمين هو الغاية؛ فإن التوحيد الذي َ‬
‫ال َن ْب َِياء ‪-‬وهو توحيد اللوهية‪ -‬متضمن لهذا التوحيد‪ ،‬بمعني‪ :‬أن‬
‫توحيد الربوبية داخل في توحيد اللوهية‪ ،‬فكيف تجعلونه غاية وهي‬
‫داخلة في الغاية العظمى التي دعا إليها ال َن ْب َِياء وهي التوحيد‬
‫م يقول‪ :‬إذا علم ذلك وأن هذا التوحيد‬ ‫الحقيقي توحيد اللوهية؟! ث ُ ّ‬
‫داخل في ذلك التوحيد‪ ،‬فينبغي أن يعلم أن دلئل ذلك التوحيد ‪-‬أي‬
‫توحيد الربوبية‪ -‬كثيرة مثلما أن دلئل توحيد اللوهية كثيرة‪ ،‬وأن‬
‫عَلى أن‬‫م كثيرة‪ ،‬والدلئل َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬‫دلئل صدق النبي َ‬
‫عَلى‬
‫صّنف في تعليل كثرة الدلة َ‬ ‫م ْ‬ ‫م يقول ال ُ‬ ‫قْرآن حق كثيرة‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫ال ُ‬
‫توحيد الربوبية‪:‬‬

‫ن دليله أظهر وأقوى‬ ‫كا َ‬‫إن العلم كلما كانت الحاجة إليه أكثر‪ ،‬كلما َ‬
‫عاَلى‪ -‬بخلقه‪ ،‬فإن أمور العقيدة الدقيقة‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫رحمة من الله ‪ُ -‬‬
‫التي ل يحتاج إليها كل إنسان ل يعلمها إل الراسخون في العلم‪،‬‬
‫وأدلتها تحتاج إ َِلى تتبع وقراءة ودراسة ونظر‪ ،‬ولكن المور العظمى‬
‫سان مؤمنا ً أو كافرًا‪ ،‬يدخل‬ ‫لن َ‬
‫والكبرى التي يترتب عليها كون ا ِ‬
‫عاَلى‪ -‬أنه أوضحها‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫الجنة أو يدخل النار‪ ،‬فمن رحمة الله ‪ُ -‬‬
‫عَلى توحيد الربوبية كثيرة جدا ً‬ ‫وأظهرها وجلها لعباده‪ ،‬فجعل الدلة َ‬
‫في الكون وفي الفاق وفي النفس‪.‬‬

‫ء النظار‪ :‬أين الدلة البرهانية في‬ ‫ه ُ‬


‫ؤل ِ‬ ‫إل أنه قد يقال كما يقول َ‬
‫عَلى توحيد الربوبية أي‪ :‬الدلة العقلية فقط‪.‬‬ ‫ال ُ‬
‫قْرآن َ‬

‫ف‬ ‫ل ك َي ْ َ‬ ‫ن إ َِلى اْل ِب ِ ِ‬


‫فل ي َن ْظُُرو َ‬ ‫عاَلى‪ :‬أ َ َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫عندما يقول الله ُ‬
‫ف‬
‫خِتل ِ‬ ‫في ا ْ‬ ‫عاَلى‪ :‬إ ِ ّ‬
‫ن ِ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫ت ]الغاشية‪ [17:‬وقوله ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫خل ِ َ‬ ‫ُ‬
‫في‬ ‫و ِ‬
‫َ‬ ‫ر ]يونس‪ [6:‬في اليات الكونية‪ ،‬فعندما يقول‪:‬‬ ‫ها ِ‬
‫والن ّ َ‬‫ل َ‬ ‫الل ّي ْ ِ‬
‫ن ]الذاريات‪ [21:‬وغير ذلك يقولون‪ :‬هذه‬ ‫صُرو َ‬‫فل ت ُب ْ ِ‬ ‫م أَ َ‬
‫سك ُ ْ‬‫ف ِ‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫قْرآن‬ ‫جاءَ في ال ُ‬ ‫اليات عيانية يعني‪ :‬تشاهد بالعين والنظر‪ ،‬فهل َ‬
‫براهين نظرية يقينية عقلنية نفحم بها الفلسفة ونسكت بها‬
‫الملحدة ؟ فنقول لهم‪ :‬إن العجاز العظيم والمعجزة العظمى التي‬
‫جاءَ بها القرآن‪ ،‬هو العجاز اليقيني قبل أي نوع من أنواع العجاز‪،‬‬ ‫َ‬
‫والعجاز اليقيني وبلغته التي هي من أعظم أنواع العجاز الذي‬
‫خرصت العرب أمامها‪ ،‬ما هي إل وسيلة للعجاز اليقيني‪ ،‬وهو أن‬
‫عاَلى‪ -‬هداية مطلقة ل ضلل معها‬ ‫وت َ َ‬
‫ك َ‬‫قْرآن جعله الله ‪-‬ت ََباَر َ‬ ‫هذا ال ُ‬
‫قْرآن ما يعالج هذه‬ ‫أبدًا‪ ،‬وما من شهوة إ َِلى قيام الساعة وإل في ال ُ‬
‫عَلى‬ ‫قْرآن ما يدل َ‬ ‫الشهوة‪ ،‬وما من بدعة ول انحراف إل وفي ال ُ‬
‫بطلنه‪ ،‬وبيان ضرره وانحرافه أوضح وأجلى بيان‪ ،‬علمه من علمه‬
‫وجهله من جهله‪.‬‬
‫جاءَ بيانا ً وهدى ورحمة وشفاء لما في الصدور‪ ،‬شفى‬ ‫فالقرآن إنما َ‬
‫على الشكوك والريب‪ ،‬فل‬ ‫َ‬ ‫عالى‪ -‬به القلوب‪ ،‬وقضى َ‬ ‫َ‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫الله ‪ُ -‬‬
‫عَلى ثقة‬
‫تجد إنسانا ً في أي دين من الديان غير هذا الدين يعبد َ‬
‫واطمئنان قلبي أبدًا‪ ،‬بل يتردد ويتشكك‪ ،‬ولهذا يوجد من كبار علماء‬
‫م يلحد ويترك دينه نهائيًا‪،‬‬ ‫صاَرى وأحبارهم من يفكر ث ُ ّ‬ ‫اليهود و الن ّ َ‬
‫م يدخل في السلم أو ينقلب إ َِلى أي دين‬ ‫ويوجد منهم من يفكر ث ُ ّ‬
‫غير دينه‪ ،‬ولكن لم يوجد ‪-‬ولله الحمد‪ -‬فيمن رسخ إيمانه في هذا‬
‫الدين من يرتد إ َِلى دين آخر أبدًا‪ ،‬لن هذا الدين دين اليقين‪ ،‬وكل‬
‫من يعبد الله بغير دين السلم فإنه في شك مما يعبد‪ ،‬ولو أنه حكم‬
‫عقله لعرف أنه ل يعبد حقيقة إل وفق آراء بشرية ومكتوبات‬
‫عَلى بينة‬
‫عاَلى‪َ -‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫إنسانية‪ ،‬إل المؤمن فإنه يعبد الله ‪ُ -‬‬
‫وبرهان وطريق مستنير واضح‪.‬‬

‫فمعنى قول المصنف‪ :‬إن هذه الشبهة التي يزعم بعض النظار أنهم‬
‫جاءَ بالدلة الخطابية‬ ‫يدافعون بها عن السلم‪ ،‬لن ال ُ‬
‫قْرآن إنما َ‬
‫ن نزيد ونضيف فندافع عن الدين‬ ‫ح ُ‬
‫والدلة العيانية‪ ،‬ويقولون‪ :‬ن َ ْ‬
‫بالقضايا العقلية‪ ،‬قد يكون هذا قول بعضهم‪ ،‬وإما أن يكونوا ملحدة‬
‫عَلى‬
‫قْرآن لنه لم يأت بهذه القواعد‪ ،‬وكلهما َ‬ ‫ينكرون ما في ال ُ‬
‫ء كفار وأولئك مخطئون‪ ،‬لكن نقول كما قال‬ ‫ؤل ِ‬‫ه ُ‬
‫ن َ‬ ‫خطأ‪ ،‬وإن َ‬
‫كا َ‬
‫قْرآن تضمن هذه الدلة وجاء بأوجز وأعظم الدلة‬ ‫المصنف‪ :‬إن ال ُ‬
‫البرهانية‪ ،‬فإن من أعظم ما تسمونه البراهين النظرية أن تقولوا‬
‫ل‪ :‬العالم متغير وكل متغير حادث وكل حادث ل بد له من محدث‪،‬‬ ‫مث ً‬
‫إذا ً فالله موجود وهو المحدث لهذا الكون‪ ،‬هذه التي يسمونها‬
‫قْرآن تأتي في أجلى وأوضح‬ ‫عَلى مقدمات‪ ،‬وطريقة ال ُ‬ ‫براهين تقوم َ‬
‫أنواع الستدلل‪ ،‬بحيث تحذف المقدمة الضرورية المعلومة‪.‬‬

‫ل‪ :‬كون الكون متغيرا ً فهذه معلومة بدهية كل الّناس يعرفونها‪،‬‬ ‫فمث ً‬
‫يتغير الليل والنهار والحياة والموت والمطر والجفاف‪ ،‬فالشيء‬
‫عاَلى‪-‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫البدهي المعلوم يستدل به ول يستدل عليه‪ ،‬فالله ‪ُ -‬‬
‫عَلى توحيد اللوهية‬ ‫ن توحيد الربوبية بدهيا ً معلومًا‪ ،‬استدل به َ‬ ‫لما َ‬
‫كا َ‬
‫الذي فيه النزاع‪.‬‬

‫فالقرآن يجمع بين غاية العجاز اليقيني وغاية العجاز البلغي‬


‫العلمي في السلوب‪ ،‬فل يصل به إ َِلى الحق واليقين بعد مقدمات‬
‫طويلة ل ثمرة ول فائدة من ذكرها‪ ،‬فمثل ً العرب في الجاهلية كانوا‬
‫يعظمون الشعر‪ ،‬ولذلك تجد المعلقات العشر‪ ،‬ولما فيها من البلغة‬
‫وقوة التعبير كتبوها وعلقوها في الكعبة ‪ ،‬وسميت المعلقات‬
‫لعظمتها ونفاستها‪ ،‬فالعرب أمة بيان يهمها البيان‪ ،‬فلما أنزل الله‬
‫جاءَ بالهداية‪ ،‬تضمنه كلم معجز‬ ‫عاَلى‪ -‬هذا ال ُ‬
‫قْرآن الذي َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫‪ُ -‬‬
‫ل يستطيع العرب ول النس ول الجن ولو اجتمعوا وكان بعضهم‬
‫ظهيرا ً لبعض‪ ،‬أن يأتوا ل بمثله ول بعشر سور من مثله ول بسورة‬
‫عاَلى في‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫من مثله أبدًا‪ ،‬فلما سمع أعرابي قول الله ُ‬
‫جي ّا ً ]يوسف‪ [80:‬ما‬ ‫َ‬
‫خل َ ُ‬
‫صوا ن َ ِ‬ ‫ه َ‬
‫من ْ ُ‬
‫سوا ِ‬‫ست َي ْأ ُ‬‫ما ا ْ‬ ‫فل َ ّ‬
‫سورة يوسف‪َ :‬‬
‫ن منه إل أن نزل من فوق البعير وسجد‪ ،‬وهو لم يؤمن ولم يدر‬ ‫كا َ‬‫َ‬
‫قاُلوا‪ :‬ما لك؟ َ‬
‫قا َ‬
‫ل‪:‬‬ ‫و َ‬ ‫قْرآن شيء اسمه سجود فتعجبوا َ‬ ‫أن في ال ُ‬
‫والله هذا ليس من كلم البشر أبدًا‪ ،‬فالجملة موجودة في كلم‬
‫عَلى‬‫العرب )استيأس وخلص والنجوى والنجيء( لكن لم يوجد َ‬
‫فل َ ّ‬
‫ما‬ ‫َ‬ ‫جاءَ بهذا المعنى‬ ‫الطلق في كلم العرب ل شعرا ً ول نثرا ً أن َ‬
‫عَلى معنى طويل‬ ‫جي ّا ً في ثلث كلمات تدل َ‬ ‫َ‬
‫صوا ن َ ِ‬ ‫خل َ ُ‬
‫ه َ‬
‫من ْ ُ‬
‫سوا ِ‬ ‫ست َي ْأ ُ‬‫ا ْ‬
‫عَلى أنهم جادلوا الملك ‪-‬الذي هو يوسف وهم ل يعرفونه‪-‬‬ ‫جدًا‪ ،‬تدل َ‬
‫م أخذوا‬ ‫عَلى أنهم يخرجون إ َِلى مكان بعيد ث ُ ّ‬ ‫م اتفقوا َ‬ ‫حتى تعبوا ث ُ ّ‬
‫يتشاورون‪ :‬ماذا نصنع؟ وماذا نفعل؟ كل هذه المعاني التي هي‬
‫عبارة عن عدة حلقات أو عدة فصول من الحديث والنقاش جاءت‬
‫في هذه الكلمات الموجزاة‪ ،‬فلذلك لم يملك العرابي إل أن نزل‬
‫ل‪ :‬والله ل يكون هذا من كلم‬ ‫عَلى ظهر البعير وسجد و َ‬
‫قا َ‬ ‫من َ‬
‫البشر أبدًا‪.‬‬

‫في‬‫و ِ‬
‫َ‬ ‫ن يطوف وسمع القارئ يقرأ‪:‬‬ ‫كا َ‬‫والعرابي الخر الذي َ‬
‫ب‬
‫وَر ّ‬ ‫ن* َ‬
‫ف َ‬ ‫دو َ‬
‫ع ُ‬
‫ما ُتو َ‬
‫و َ‬
‫م َ‬‫قك ُ ْ‬ ‫رْز ُ‬
‫ء ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫في ال ّ‬ ‫و ِ‬ ‫ن* َ‬ ‫صُرو َ‬ ‫فل ت ُب ْ ِ‬ ‫م أَ َ‬ ‫سك ُ ْ‬‫ف ِ‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫ن ]الذاريات‪[23-21:‬‬ ‫قو َ‬ ‫م ت َن ْطِ ُ‬ ‫ما أن ّك ُ ْ‬ ‫مث ْ َ‬
‫ل َ‬ ‫ق ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه لَ َ‬‫ض إ ِن ّ ُ‬
‫والْر ِ‬ ‫ء َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬
‫ال ّ‬
‫ل‪ :‬من أغضب الجبار؟! من أغضب الجبار؟!‪ ،‬هذا الكلم‬ ‫قا َ‬ ‫فعجب و َ‬
‫الذي لم يعهدوا مثله يأتي باليقين إ َِلى قلوبهم‪ ،‬حتى أنه ل يحتاج‬
‫ل‪ :‬من الذي أغضب الجبار حتى أقسم‬ ‫قو ُ‬ ‫إ َِلى تأكيد ول يمين َ‬
‫في َ ُ‬
‫ق فمجرد أن سمع ذلك أيقن‬ ‫ه لَ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫قا َ‬ ‫ف َ‬
‫ح ّ‬ ‫ض إ ِن ّ ُ‬
‫والْر ِ‬ ‫ء َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬
‫ب ال ّ‬ ‫وَر ّ‬ ‫ف َ‬ ‫ل‪:‬‬
‫أنه حق ول مجادلة فيه‪.‬‬

‫ما‬ ‫و َ‬‫د َ‬ ‫ول َ ٍ‬


‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬‫خذَ الل ّ ُ‬ ‫ما ات ّ َ‬ ‫َ‬ ‫ه‪:‬‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬‫م ْ‬‫والية التي ذكرها ال ُ‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫ه ]المؤمنون‪ [91:‬هي حقيقة يقررها الله ‪ُ -‬‬ ‫ن إ ِل َ ٍ‬‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ع ُ‬‫م َ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫و َ‬‫َ‬ ‫صاَرى‬ ‫عاَلى‪ -‬أنه ما اتخذ الله من ولد ‪-‬كما يقول اليهود والن ّ َ‬ ‫وت َ َ‬ ‫َ‬
‫ن "إذا" نلحظ الكلمة‬ ‫ً‬ ‫كي َ‬‫ر ِ‬ ‫ش ِ‬‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ه كما يقول جميع ال ُ‬ ‫َ‬
‫ن إ ِل ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ع ُ‬‫م َ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫عل‬ ‫ول َ َ‬‫ق َ‬ ‫خل َ َ‬ ‫ما َ‬ ‫ه بِ َ‬‫ل إ ِل َ ٍ‬ ‫ب كُ ّ‬ ‫ه َ‬‫ِإذا ً ل َذَ َ‬ ‫ن كذا وكذا‬ ‫‪-‬كلمة "إذًا"‪ -‬أي‪ :‬لو َ‬
‫كا َ‬
‫ض ]المؤمنون‪ [91:‬أي‪ :‬لو افترض وجود ولد أو إله‬ ‫ع ٍ‬ ‫عَلى ب َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ض ُ‬
‫ع ُ‬ ‫بَ ْ‬
‫عَلى الحقيقة ‪ -‬كما تزعمون ‪ -‬لحدث الذي‬ ‫عاَلى‪َ -‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬
‫مع الله ‪ُ -‬‬
‫يحدث في حال ملوك الدنيا وهو مشاهد أنهم يتغالبون‪ ،‬ويحاول‬
‫الملك أن يأخذ ما تحت قبضة الملك الخر ليتفرد وحده بالملك‪ ،‬فإن‬
‫عجز عن المغالبة فإنه ينفرد بملكه‪ ،‬ويتصرف في مملكته‪ ،‬ويتصرف‬
‫الخر في مملكته‪ ،‬فانتظام أمر العالم واتساقه واتفاقه ينبيء‬
‫عاَلى‪ -‬أما‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫عَلى أن مدبره واحد وهو الله ‪ُ -‬‬ ‫ويشعر ويدل َ‬
‫التعارض والتصادم والختلف فهو الذي ينبيء ويشعر بأن هناك‬
‫ن كل ً منهم يملك جزءا ً من هذا الكون‪ ،‬وحينئذ فل بد إما‬
‫عدة آلهة وأ ّ‬
‫أن يكون هذا الله يغالب الله الخر وإما أن يتفرد بجزء من الكون‪،‬‬
‫وإما أن يكون ل وجود له بل يغلبه الله الخر ويأخذ ما عنده‪.‬‬

‫عَلى انتظام ولم‬ ‫فالنتيجة أن المتفرد واحد‪ ،‬وما دام أن الكون َ‬


‫عاَلى‪ -‬كما‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫يحدث أية تعارض ول تصادم فيه‪ ،‬فالله واحد ‪ُ -‬‬
‫يضرب علماء الفلك لذلك فيقولون‪ :‬إن احتمال أن يتصادم نجم مع‬
‫آخر في المدارات التي تدور فيها النجوم مثل احتمال أن تصطدم‬
‫سفينة تمخر في المحيط الهادي بسفينة أخرى في المحيط‬
‫عَلى الطلق أن تصطدم سفينة في هذا‬ ‫الطلسي ‪ ،‬فل يمكن َ‬
‫المحيط بسفينة في المحيط الخر‪ ،‬بل لو لم يكن بينهما إل مسافة‬
‫مائة ميل أو عشرة أو ميل واحد لما اصطدمتا‪ ،‬ما دام أن كل ً منها‬
‫يتجه في اتجاه‪ ،‬فكيف إذا كانت هذه في محيط وهذه في محيط‪،‬‬
‫هل يتصور أنهما تتصادمان؟!‬

‫ويقولون‪ :‬إن هذا مثال بسيط للنجوم في مداراتها ل يتصور أن‬


‫عَلى الطلق مع كثرة هذه المجرات والمجموعات‬ ‫يصطدم نجمان َ‬
‫ضمن المجرات التي لم يصلوا بعد إ َِلى عمقها وإلى نهايتها‪ ،‬فهذا‬
‫عاَلى‪.‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫عَلى أن خالقهم واحد ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫دليل َ‬

‫ن ممتنعا ً بإطلق‪ ،‬لكن‬ ‫وقد سبق أن الشرك في الربوبية وإن َ‬


‫كا َ‬
‫توجد أنواع من الفرق مثل الثنوية الذين يقولون‪ :‬إن الظلمة إله‬
‫والنور إله‪ ،‬وهم مقرون في النهاية ‪-‬كما سبق‪ -‬بأن الله الواحد‬
‫والله الحقيقي هو النور وهي الديانة اليرانية القديمة‪.‬‬

‫سان يخلق فعل نفسه‬‫لن َ‬


‫والقدرية في أفعال الحيوان يقولون‪ :‬إن ا ِ‬
‫والله لم يخلق أفعال العباد الختيارية وإنما خلق أفعالهم غير‬
‫الختيارية ‪-‬تعالى الله عن ذلك‪ -‬هذا أيضا ً نوع خفي من الشرك في‬
‫الربوبية‪.‬‬

‫وكذلك شرك الفلسفة الدهرية الذين يقولون‪ :‬إن الفلك بعضها‬


‫يحرك بعضًا‪ ،‬فيثبتون وجود الله لكن يجعلونه وجودا ً مطلقا ً ل تأثير‬
‫ل‪ :‬هذه‬‫له في الكون‪ ،‬وأن الفلك بعضها يحرك بعضًا‪ ،‬فيقولون مث ً‬
‫الفلك تؤثر في المصائب والنكبات والزلزل والفتن‪ ،‬فإذا تحرك‬
‫الكوكب واتجه اتجاها ً معينا ً قالوا‪ :‬سيذهب ملك فلن ويقوم ملك‬
‫لفلن‪ ،‬سيموت كذا من المة‪ ،‬ويأتي كذا من الغيث‪ ،‬ويعتقدون أن‬
‫هذه المور تكون بتدبير من الفلك‪ ،‬كل هذه الفكار هي أنواع من‬
‫قْرآن لتنفي هذا‬ ‫الشرك في الربوبية‪ ،‬ولذلك جاءت الدلة في ال ُ‬
‫عَلى تقرير‬ ‫الشرك‪ ،‬والصل أن يستدل بنفي الشرك في الربوبية َ‬
‫حقيقة اللوهية وهذا هو الهم‪.‬‬
‫عَلى أن خالق‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫ه‪] :‬كما قد دل دليل التمانع َ‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬
‫م ْ‬
‫ويقول ال ُ‬
‫َ‬
‫على أن الله أو المعبود واحد‪.‬‬‫العالم واحد[ فهذا الدليل كذلك يدل َ‬

‫عَلى أن خالق الكون‬


‫فهذا الدليل العقلي البرهاني ‪-‬كما يسمونه‪َ :-‬‬
‫واحد‪ .‬وهناك شيء مهم يجب أن يفهم في كلمة الكون أو الفساد‪،‬‬
‫فالكون نعني به‪ :‬العالم كله‪ ،‬نقول‪ :‬في الكون كذا أي في العالم‪،‬‬
‫والفساد هو البطلن أو هو ضد الصلح‪.‬‬
‫وأما اصطلح الفلسفة عندما يقولون الكون والفساد يقصدون‬
‫بالكون‪ :‬الوجود أو اليجاد‪ ،‬ويقصدون بالفساد ضد ذلك وهو العدم‪،‬‬
‫ن يكون كونا ً أي وجد يوجد‬ ‫وأصل المعنى اللغوي للكون هو‪َ :‬‬
‫كا َ‬
‫وجودًا‪ ،‬فالكون والوجود لهما معنى عند الفلسفة أكثر اصطلحا ً‬
‫ن نستخدمه‪ ،‬وهذا هو سبب ضللهم في‬ ‫ح ُ‬
‫من المعنى اللغوي الذي ن َ ْ‬
‫سدََتا‬‫ف َ‬‫ه لَ َ‬
‫ة إ ِّل الل ّ ُ‬
‫ه ٌ‬
‫ما آل ِ َ‬
‫ه َ‬
‫في ِ‬‫ن ِ‬‫كا َ‬ ‫عاَلى‪ : -‬ل َ ْ‬
‫و َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ك َ‬ ‫قول الله ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫ن هناك‬ ‫]النبياء‪ [22:‬فظنوا أن الفساد هو العدم‪ ،‬فيقولون‪ :‬لو َ‬
‫كا َ‬
‫أربابا ً لم يوجد الكون؛ لن هذا الله يريد أن يخلق والخر ل يريد أن‬
‫يخلق فتتعارض إرادتان فيكون الذي تحققت إرادته هو الله‪ ،‬ولهذا‬
‫ف في هذه الية كما سبق‪.‬‬ ‫صن ّ ُ‬‫م ْ‬
‫رد عليهم ال ُ‬
‫سدَتا‬
‫ف َ‬‫ه لَ َ‬‫ة إّل الل ُ‬ ‫ما آل ِهَ ٌ‬
‫ن ِفيهِ َ‬ ‫• التفسير الصحيح لقوله تعالى‪ :‬ل َوْ َ‬
‫كا َ‬
‫ه ت ََعاَلى‪:‬‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬‫صن ّ ُ‬
‫م ْ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ال ُ‬
‫ة إ ِّل‬
‫ه ٌ‬
‫ما آل ِ َ‬
‫ه َ‬‫في ِ‬‫ن ِ‬ ‫كا َ‬‫و َ‬ ‫]وقريب من معنى هذه الية قوله تعالى‪ :‬ل َ ْ‬
‫سدََتا ]النبياء‪ [22:‬وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع‬ ‫ف َ‬‫ه لَ َ‬
‫الل ّ ُ‬
‫ن للعالم صانعان‪ ..‬الخ‪ .‬وغفلوا عن‬ ‫كا َ‬‫الذي تقدم ذكره‪ ،‬وهو أنه لو َ‬
‫ن فيهما آلهة غيره‪ .‬ولم‬ ‫كا َ‬ ‫مضمون الية‪ ،‬فإنه سبحانه أخبر أنه لو َ‬
‫يقل أرباب‪.‬‬

‫ن فيهما ‪-‬وهما‬ ‫وأيضا ً فإن هذا إنما هو بعد وجودهما‪ ،‬وأنه لو َ‬


‫كا َ‬
‫موجودتان‪ -‬آلهة سواه لفسدتا‪.‬‬

‫سدََتا( وهذا فساد بعد الوجود‪ ،‬ولم يقل‪ :‬لم‬ ‫ل‪) :‬ل َ َ‬
‫ف َ‬ ‫قا َ‬ ‫وأيضا ً فإنه َ‬
‫عَلى أنه ل يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة‪ ،‬بل‬ ‫يوجدا‪ ،‬ودلت الية َ‬
‫ل يكون الله إل واحدا‪ ،‬وعلى أنه ل يجوز أن يكون هذا الله الواحد‬
‫عاَلى‪ -‬وأن فساد السماوات والرض يلزم من‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫إل الله ‪ُ -‬‬
‫كون اللهة فيهما متعددة‪ ،‬ومن كون الله الواحد غير الله وأنه ل‬
‫ن‬ ‫صلح لهما إل بأن يكون الله فيهما هو الله وحده ل غيره‪ ،‬فلو َ‬
‫كا َ‬
‫للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله‪ ،‬فإن قيامه إنما هو بالعدل‪،‬‬
‫عَلى الطلق الشرك‬ ‫وبه قامت السماوات والرض‪ ،‬وأظلم الظلم َ‬
‫وأعدل العدل التوحيد[ اهـ‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬
‫]النبياء‪[22:‬‬ ‫سدََتا‬ ‫ه لَ َ‬
‫ف َ‬ ‫ة إ ِّل الل ّ ُ‬
‫ه ٌ‬
‫ما آل ِ َ‬
‫ه َ‬
‫في ِ‬
‫ن ِ‬ ‫و َ‬
‫كا َ‬ ‫هذه الية‪ :‬ل َ ْ‬
‫عَلى توحيد اللوهية‪.‬‬ ‫دللتها عظيمة َ‬

‫وهي برهان عقلي‪ ،‬ل كما يظنون أنها برهان التمانع أو دليل‬
‫التمانع بمعنى أنه دليل لوجود الله فقط‪.‬‬

‫ولم يقل‪:‬‬ ‫ة إ ِّل الل ّ ُ‬


‫ه‬ ‫ه ٌ‬
‫ما آل ِ َ‬
‫ه َ‬
‫في ِ‬
‫ن ِ‬
‫كا َ‬ ‫لَ ْ‬
‫و َ‬ ‫قا َ‬
‫ل‪:‬‬ ‫وذلك‪ :‬أو ً‬
‫ل‪ :‬أن الله َ‬
‫ن فيهما أرباب(‪.‬‬ ‫)لو َ‬
‫كا َ‬
‫ن فيهما‬ ‫وثانيًا‪ :‬الكلم إنما هو بعد وجود السماوات والرض فلو َ‬
‫كا َ‬
‫هاتين الموجودتين آلهة غير الله لفسدتا وليس الكلم قبل أن‬
‫توجدا ‪-‬كما يقولون‪ -‬وأن الفساد عندهم‪ :‬هو عدم الوجود والكون‪:‬‬
‫هو الوجود‪.‬‬

‫وثالثًا‪ :‬قوله‪) :‬لفسدتا( فلو فرضنا أن الفساد هو عدم الوجود فالية‬


‫ل‪ -‬لفسدتا فعلى كلمكم‪:‬‬‫ج ّ‬
‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫ن فيهما آلهة غير الله ‪َ -‬‬ ‫تقول‪ :‬لو َ‬
‫كا َ‬
‫ن هناك أرباب أخرى لبطل وجود السماوات والرض؛ لن‬ ‫لو َ‬
‫كا َ‬
‫الفساد عدم الوجود‪.‬‬

‫عَلى أن الخالق في البتداء هو واحد‪،‬‬ ‫فأنتم تقولون‪ :‬إنها دليل َ‬


‫والية تتكلم عن شيء قد خلق ووجد‪ ،‬والفساد الذي يحصل فيه‬
‫يكون بعد وجوده وخلقه‪ ،‬فهذا يوضح أنها ليست دليل التمانع الذي‬
‫ج ّ‬
‫ل‬ ‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫يقولون‪ ،‬وإنما هي دليل لللوهية وأنه متى عبد غير الله َ‬
‫في السماوات أو في الرض فإن الفساد يقع الذي هو ضد الصلح‪،‬‬
‫لن السماوات والرض لم تقم إل بالعدل‪ ،‬وأعظم العدل هو‬
‫م‬
‫ظي ٌ‬
‫ع ِ‬ ‫ك ل َظُل ْ ٌ‬
‫م َ‬ ‫شْر َ‬
‫ن ال ّ‬
‫التوحيد‪ ،‬وأعظم الظلم هوالشرك‪ :‬إ ِ ّ‬
‫]لقمان‪ [13:‬أي‪ :‬أكبر الظلم‪.‬‬

‫فانتظام السماوات والرض وصلح أمر السماوات والرض‪ ،‬ل يكون‬


‫إل بأن يكون المعبود هو الله‪ ،‬وليس فقط أن نقول أن الذي أوجدها‬
‫هو الله‪ ،‬وقد قلنا‪ :‬إن السماوات ل فساد لها؛ لن المعبود فيها‬
‫ض إ َِله‬ ‫ْ َ‬
‫في الْر ِ‬ ‫و ِ‬ ‫ء إ ِل َ ٌ‬
‫ه َ‬ ‫ما ِ‬‫س َ‬ ‫في ال ّ‬ ‫ذي ِ‬ ‫و ال ّ ِ‬‫ه َ‬‫و ُ‬
‫َ‬ ‫عاَلى‪:-‬‬‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬
‫واحد ‪ُ -‬‬
‫]الزخرف‪ [84:‬أي‪ :‬هو الذي في السماء معبود‪ ،‬وفي الرض‬
‫عاَلى‪ -‬ليس ث ُ ّ‬
‫م‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫معبود؛ لكنه في السماء معبود وحده ‪ُ -‬‬
‫شرك بالله تعالى‪ ،‬فالملئكة كلهم عباد الرحمن المكرمون يعبدونه‬
‫ن ]النبياء‪:‬‬ ‫فت ُُرو َ‬ ‫هاَر ل ي َ ْ‬ ‫والن ّ َ‬ ‫ن الل ّي ْ َ‬
‫ل َ‬ ‫حو َ‬ ‫سب ّ ُ‬‫عاَلى‪ :-‬ي ُ َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫‪ُ -‬‬
‫‪.[20‬‬

‫وأما الرض ففيها يقع الفساد‪ ،‬ولذلك قالت الملئكة منذ اللحظة‬
‫ماءَ ]البقرة‪[30:‬‬ ‫ف ُ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫ع ُ‬ ‫َ‬
‫ك الدّ َ‬ ‫س ِ‬
‫وي َ ْ‬
‫ها َ‬
‫في َ‬
‫سد ُ ِ‬
‫ف ِ‬ ‫م ْ‬
‫ها َ‬
‫في َ‬
‫ل ِ‬ ‫ج َ‬
‫الولى‪ :‬أت َ ْ‬
‫لن الرض مكان يتوقع فيه وقوع عبادة غير الله كالشراك بالله‬
‫عاَلى‪ -‬وهذا أعظم الفساد‪ ،‬لكن لو انتظم أمر الّناس في‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫‪ُ -‬‬
‫هذه الرض‪ ،‬فلم يعبدوا ولم يطيعوا إل الله ولم يتبعوا إل أوامر الله‬
‫عاَلى‪ -‬لنتفى الفساد من الرض‪ ،‬مثلما انتفى من‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫‪ُ -‬‬
‫ل‪ -‬أنهم ل يزالون مختلفين إل من‬ ‫ج ّ‬‫و َ‬ ‫عّز َ‬ ‫السماء؛ ولكن حكمة الله ‪َ -‬‬
‫رحم ربك ولذلك خلقهم‪ ،‬حكمة الله أنه ل يزال إيمان وكفر وصلح‬
‫عاَلى‪ -‬الجهاد ليدفع الّناس‬ ‫وت َ َ‬‫ك َ‬ ‫وفساد‪ ،‬ولذلك شرع الله ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫بعضهم بعضا ً وليدفع شر أهل الشر بقوة الحق عند أهل اليمان؛‬
‫ولذلك كانت الرض هي مكان التكليف والتعبد‪ ،‬وأما الذين في‬
‫عاَلى‪ -‬دائما ً وأبدا ً بل جزاء ول‬‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫السماء فإنهم يعبدونه ‪ُ -‬‬
‫ثواب‪ ،‬لنهم لم يكلفوا بأمر يترتب عليه دخول الجنة أو دخول النار‪.‬‬

‫عَلى وجازة لفظها تدل وتبين أن صلح العالم كله إنما‬ ‫وهذه الية َ‬
‫يكون بأن يعبد الله وحده ل شريك له‪ ،‬وأن يطاع وحده ل شريك له‪،‬‬
‫ل‪ -‬في حق النساء جعل الله‬ ‫ولننظر إ َِلى واقع العالم اليوم ‪-‬مث ً‬
‫للمرأة أعمال ً ومهمات محددة تعملها‪ ،‬ول تتعداها‪ ،‬وجعل خروجها‬
‫عاَلى‪.‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫عن ذلك فسادا ً في الرض وخروجا ً عما أراد الله ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫عاَلى‪ -‬في هذا الموضوع‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫فلما ترك الّناس أمر الله ‪ُ -‬‬
‫عاَلى‪ -‬وأخرجت المرأة ‪-‬كما في‬ ‫ُ‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫واتبعوا أمر غير الله ‪ُ -‬‬
‫ه‬
‫العالم الغربي وأكثر العالم السلمي‪ -‬عن العمل الذي شرعه ‪-‬الل ُ‬
‫ه‪ -‬واتبعت أهواء وأقوال الشياطين ودعاة الضللة‪ ،‬كم حصل‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ُ‬
‫من الفساد ‍‬
‫؟‬

‫وكم حصل من الشرور ‍‬


‫؟‬

‫وتجدون أن المراض في العالم الغربي ومن قلده كلها ترجع إ َِلى‬


‫أن السرة متفككة‪‍ ،‬وأن المرأة خرجت لتعمل مثل الرجل‪ ،‬والكفار‬
‫أنفسهم مقرون بذلك‪.‬‬

‫ه‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ن الله هو وحده المعبود المطاع واُتبعت أوامره ‪ُ -‬‬ ‫فلو َ‬
‫كا َ‬
‫ن إل الصلح والخير‪ ،‬ولما وجد هذا الفساد في‬ ‫عاَلى‪ -‬لما َ‬
‫كا َ‬ ‫وت َ َ‬
‫َ‬
‫الرض بإطلق‪.‬‬

‫وكذلك القتل فالعالم يموج ويضطرب بالقتل‪ ،‬ل يكاد يمر يوم إل‬
‫والقتلى بسبب حروب أو انفجارات أو تدميرات‪ ،‬لن الله ليس هو‬
‫عاَلى‪ -‬بل اتخذوا آلهة من دون الله‪،‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫وحده المعبود ‪ُ -‬‬
‫ه‪ -‬ومن‬
‫حان َ ُ‬ ‫فأطاعوا أحبارا ً ورهبانا ً أربابا ً أو زعماء من دون الله ‪ُ -‬‬
‫سب ْ َ‬
‫ن الفساد والضطراب في الرض‪.‬‬ ‫هنا َ‬
‫كا َ‬
‫عَلى هذه المعاني كلها‬
‫عَلى قلة ألفاظها تدل َ‬ ‫ولذلك فهذه الية َ‬
‫سدََتا ]النبياء‪ [22:‬فالفساد‬ ‫ه لَ َ‬
‫ف َ‬ ‫ة إ ِّل الل ّ ُ‬
‫ه ٌ‬
‫ما آل ِ َ‬
‫ه َ‬‫في ِ‬
‫ن ِ‬
‫كا َ‬ ‫و َ‬ ‫وأنه ل َ ْ‬
‫الواقع في الرض اليوم إنما هو نتيجة أن المحكم هو غير شريعة‬
‫ه‪ -‬فجميع الشرور التي في العالم هذا مصدرها وهذا‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫الله ‪ُ -‬‬
‫سببها‪.‬‬
‫• توحيد اللوهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس‬
‫ه ت ََعاَلى‪:‬‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫صن ّ ُ‬
‫م ْ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ال ُ‬
‫]وتوحيد اللهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس‪ .‬فمن ل يقدر‬
‫عَلى أن يخلق يكون عاجزًا‪ .‬والعاجز ل يصلح أن يكون إلها ً قال‬ ‫َ‬
‫ن ]العراف‪.[191:‬‬ ‫َ‬
‫خل ُ‬ ‫ً‬ ‫ق َ‬ ‫ُ‬ ‫ر ُ‬ ‫َ‬
‫تعالى‪ :‬أي ُ ْ‬
‫قو َ‬ ‫م يُ ْ‬
‫ه ْ‬
‫و ُ‬
‫شْيئا َ‬ ‫خل ُ‬‫ما ل ي َ ْ‬
‫ن َ‬
‫كو َ‬ ‫ش ِ‬
‫]النحل‪.[17:‬‬ ‫ن‬ ‫ق أَ َ‬
‫فل ت َذَك ُّرو َ‬ ‫خل ُ ُ‬
‫ن ل يَ ْ‬
‫م ْ‬ ‫خل ُ ُ‬
‫ق كَ َ‬ ‫ن يَ ْ‬
‫م ْ‬ ‫أَ َ‬
‫ف َ‬ ‫وقال تعالى‪:‬‬

‫وا‬ ‫ن ِإذا ً َلب ْت َ َ‬


‫غ ْ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫ة كَ َ‬
‫ما ي َ ُ‬ ‫ه ٌ‬
‫ه آل ِ َ‬
‫ع ُ‬
‫م َ‬
‫ن َ‬
‫كا َ‬ ‫ل لَ ْ‬
‫و َ‬ ‫ُ‬
‫ق ْ‬ ‫وكذا قوله تعالى‪:‬‬
‫سِبيل ً ]السراء‪ [42:‬وفيها للمتأخرين قولن‪:‬‬ ‫ش َ‬ ‫إ َِلى ِذي ال ْ َ‬
‫عْر ِ‬
‫أحدهما‪ :‬لتخذوا سبيل ً إ َِلى مغالبته‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬وهو الصحيح المنقول عن السلف كـقتادة وغيره‪ ،‬وهو‬


‫الذي ذكره ابن جرير ولم يذكر غيره‪ :‬لتخذوا سبيل ً بالتقرب إليه‪،‬‬
‫سِبيل ً‬ ‫خذَ إ َِلى َرب ّ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ن َ‬
‫شاءَ ات ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ت َذْك َِرةٌ َ‬
‫ف َ‬ ‫ذ ِ‬
‫ه ِ‬
‫ن َ‬
‫كقوله تعالى‪ :‬إ ِ ّ‬
‫سان‪.[29:‬‬
‫لن َ‬
‫]ا ِ‬
‫ن وهم لم يقولوا‪ :‬إن‬ ‫قوُلو َ‬ ‫ة كَ َ‬
‫ما ي َ ُ‬ ‫ه ٌ‬
‫ه آل ِ َ‬ ‫ع ُ‬‫م َ‬‫ن َ‬ ‫و َ‬
‫كا َ‬ ‫ل‪ :‬ل َ ْ‬ ‫قا َ‬ ‫وذلك أنه َ‬
‫ما‬
‫َ‬ ‫قاُلوا‪:‬‬
‫و َ‬
‫العالم له صانعان بل جعلوا معه آلهة اتخذوهم شفعاء َ‬
‫فى ]الزمر‪ [3:‬بخلف الية الولى[‬ ‫ه ُزل ْ َ‬‫قّرُبوَنا إ َِلى الل ّ ِ‬
‫م إ ِّل ل ِي ُ َ‬
‫ه ْ‬
‫عب ُدُ ُ‬
‫نَ ْ‬
‫اهـ‪..‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ه الل ّ ُ‬
‫ه‪] :‬وتوحيد اللهية‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬
‫م ْ‬‫هذه الكلمة مهمة وهي قول ال ُ‬
‫متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس[ فإن من أثبت أن الله خالق‬
‫رازق محي ومميت‪ ،‬ل يلزم منه ول يتضمن أنه مفرد وموحد له‬
‫بالعبادة وبالطاعة‪ ،‬وهذا هو المهم في العلقة بين التوحيدين‪ ،‬وفي‬
‫بيان أن توحيد اللوهية هو الهم‪.‬‬
‫ن ِإذا ً‬
‫قوُلو َ‬ ‫ما ي َ ُ‬ ‫ة كَ َ‬ ‫ه ٌ‬ ‫ه آل ِ َ‬‫ع ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫ل لَ ْ‬
‫و َ‬ ‫ُ‬
‫ق ْ‬ ‫عاَلى‪:‬‬ ‫وت َ َ‬‫ك َ‬ ‫وأما قول الله ت ََباَر َ‬
‫سِبيل ً ]السراء‪ [62:‬فهي أيضا ً تتضمن‬ ‫ش َ‬ ‫عْر ِ‬ ‫وا إ َِلى ِذي ال ْ َ‬ ‫َلب ْت َ َ‬
‫غ ْ‬
‫عاَلى‪ ،‬وكأنه‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫عَلى أن الله المعبود واحد ُ‬ ‫برهانا ً يقينيا ً َ‬
‫ن معه آلهة كما يقولون أو كما يزعمون إذا ً لبتغوا إ َِلى‬ ‫يقول‪ :‬لو َ‬
‫كا َ‬
‫ن يثبتون ذا العرش الله العظم أو‬ ‫كو َ‬ ‫ر ُ‬
‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل‪ ،‬فال ُ‬ ‫ذي العرش سبي ً‬
‫عاَلى‪ -‬ويثبتون‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫الله الكبر ‪-‬كما يسمونه‪ -‬الذي هو الله ‪ُ -‬‬
‫معه آلهة أخرى هي شفعاء وتقرب إ َِلى الله ‪-‬سبحانه‪ -‬وهي واسطة‬
‫عاَلى‪-‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫ووسيلة إ َِلى الله سبحانه ‪-‬كما يقولون‪ -‬فيرد الله ‪ُ -‬‬
‫سب ْ َ‬
‫ء اللهة موجودين ‪-‬كما تزعمون‪ -‬لبتغوا‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬‫ل‪ :‬لو َ‬ ‫قو ُ‬ ‫في َ ُ‬
‫عليهم َ‬
‫إ َِلى ذي العرش سبي ً‬
‫ل‪.‬‬
‫‪:‬‬ ‫سِبيل‬
‫ش َ‬ ‫وا إ َِلى ِذي ال ْ َ‬
‫عْر ِ‬ ‫َلب ْت َ َ‬
‫غ ْ‬ ‫وفي معنى‪:‬‬

‫ن‬ ‫يقول بعض المفسرين‪ :‬أي لبتغوا طريقا ً إ َِلى مغالبته‪ ،‬أي‪ :‬لو َ‬
‫كا َ‬
‫هناك آلهة لغالبوا ذا العرش حتى يكونوا هم اللهة الكبرى‪ ،‬ولكن‬
‫هذا المعنى مرجوح‪.‬‬

‫ن هناك آلهة غير الله سبحانه ممن‬ ‫كا َ‬ ‫والمعنى الصحيح‪ :‬أنه لو َ‬
‫ل‪ ،‬أي‪ :‬لبتغوا التقرب والتعبد‬ ‫تعبدون لبتغوا إ َِلى ذي العرش سبي ً‬
‫ه‬‫ذ ِ‬‫ه ِ‬
‫ن َ‬ ‫عاَلى‪ -‬كما في الية الخرى‪ :‬إ ِ ّ‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫والتزلف إليه ‪ُ -‬‬
‫سان‪ [29:‬كما في قوله‬ ‫لن َ‬ ‫سِبيل ً ]ا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫خذَ إ َِلى َرب ّ ِ‬ ‫شاءَ ات ّ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ت َذْك َِرةٌ َ‬
‫ف َ‬
‫سيَلة‬ ‫َ‬
‫و ِ‬‫ه ال ْ َ‬
‫غوا إ ِل َي ْ ِ‬ ‫واب ْت َ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫مُنوا ات ّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬‫َيا أي ّ َ‬ ‫تعالى‪:‬‬
‫ُ‬
‫ن‬ ‫ك ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫عاَلى‪ :-‬أول َئ ِ َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫]المائدة‪ [35:‬وكما في قول الله ‪ُ -‬‬
‫ب ]السراء‪[57:‬‬ ‫َ‬
‫مأ ْ‬ ‫غون إَلى ربهم ال ْوسيل َ َ َ‬
‫قَر ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫ة أي ّ ُ‬ ‫َ ِ‬ ‫َ ّ ِ ُ‬ ‫ن ي َب ْت َ ُ َ ِ‬‫عو َ‬‫ي َدْ ُ‬
‫فالمعبودون من الملئكة والنبياء والولياء الصالحين لله ‪-‬سبحانه‪-‬‬
‫ل‪.‬‬‫هم يبتغون إ َِلى الله سبي ً‬

‫فأنت تقول‪ :‬أنا أتخذهم وسيلة إ َِلى الله‪ ،‬بينما هم أنفسهم يتخذونه‬
‫وسيلة إ َِلى الله بالعبادة والعمل الصالح والخوف والرجاء والتقرب‬
‫إليه‪ ،‬فعليك أن تتخذ أنت وسيلة إ َِلى الله أيضًا‪.‬‬

‫ن من‬ ‫ر ُ‬
‫كو َ‬ ‫م ْ‬
‫ش ِ‬ ‫وأما الحجار والشجار والبقار والّنار وكل ما يعبده ال ُ‬
‫ء لو كانت لهم‬ ‫ؤل ِ‬ ‫دون الله مما ل تملك شيئا ً ول تفقه شيئًا‪ ،‬ف َ‬
‫ه ُ‬
‫ل‪ -‬لتقربت هي إ َِلى الله واتخذت الوسيلة‬ ‫إرادة في هذا المر ‪-‬مث ً‬
‫عاَلى‪ -‬له وحدة الربوبية واللوهية لجميع‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫إليه؛ لن الله ‪ُ -‬‬
‫ن هناك آلهة أخرى لكان‬ ‫المخلوقات فل معبود سواه أبدًا‪ ،‬فلو َ‬
‫كا َ‬
‫شأنها أن تتقرب هي إ َِلى الله سبحانه‪.‬‬
‫عَلى‬
‫عاَلى‪ ،‬وهذا من الدلة َ‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫إذًا؛ ل توجد آلهة من دون الله ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ل‪ -‬لها كلمات موجزة‪ ،‬تتضمن‬ ‫ج ّ‬ ‫و َ‬‫عّز َ‬‫أن هناك آيات في كتاب الله ‪َ -‬‬
‫من الدلئل اليقينيات والبرهانيات ما يعجز العقل عن تصوره‪.‬‬
‫التوحيد ‪6‬‬
‫يتحدث الشيخ ‪-‬حفظه الله‪-‬عن أقسام التوحيد الذي دعت إليه الرسل‪ ،‬ويذكر تقسيمات‬
‫أخرى للتوحيد‪ ،‬ثم يتكلم عن مفهوم التوحيد ومعنى الشهادة ومراتبها‪.‬‬
‫‪ - 1‬أنواع التوحيد الذي دعت إليه الرسل‬
‫ه ت ََعاَلى‪:‬‬
‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫مصن ّ ُ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ال ُ‬
‫]ث ُ ّ‬
‫م التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان‪ :‬توحيد في‬
‫الثبات والمعرفة‪ ،‬وتوحيد في الطلب والقصد‪.‬‬

‫عاَلى وصفاته وأفعاله وأسمائه‪،‬‬


‫فالول‪ :‬هو إثبات حقيقة ذات الرب ت َ َ‬
‫ليس كمثله شيء في ذلك كله‪ ،‬كما أخبر به عن نفسه‪ ،‬وكما أخبر رسوله‬
‫قْرآن عن هذا النوع كل الفصاح‪ ،‬كما‬ ‫سل ّ َ‬
‫م‪ .‬وقد أفصح ال ُ‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬
‫في أول )الحديد( و)طه( وآخر )الحشر( وأول آلم تنزيل السجدة وأول آل‬
‫عمران وسورة الخلص بكمالها وغير ذلك‪.‬‬

‫ها‬ ‫َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ُ‬


‫ل َيا أي ّ َ‬ ‫والثاني‪ :‬وهو توحيد الطلب والقصد‪ :‬مثل ما تضمنته سورة‪:‬‬
‫م‬ ‫وب َي ْن َك ُ ْ‬
‫ء ب َي ْن ََنا َ‬
‫وا ٍ‬
‫س َ‬
‫ة َ‬ ‫وا إ َِلى ك َل ِ َ‬
‫م ٍ‬ ‫عال َ ْ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫ب تَ َ‬ ‫ل َيا أ َ ْ‬
‫ه َ‬ ‫ن و ُ‬
‫ق ْ‬ ‫فُرو َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫كا ِ‬

‫]آل عمران‪ [64:‬وأول سورة‪) :‬تنزيل الكتاب(وآخرها‪ ،‬وأول سورة‬


‫)يونس( وأوسطها وآخرها‪ ،‬وأول سورة )العراف( وآخرها وجملة سورة‬
‫قْرآن متضمنة لنوعي التوحيد بل كل سورة في‬‫)النعام(‪.‬وغالب سور ال ُ‬
‫القرآن‪.‬‬

‫فإن القرآن‪ :‬إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وهو التوحيد‬
‫العلمي الخبري‪.‬‬

‫وإما دعوة إ َِلى عبادته وحده ل شريك له‪ ،‬وخلع ما ُيعبد من دونه‪ ،‬فهو‬
‫التوحيد الرادي الطلبي‪.‬‬

‫وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته‪ ،‬فذلك من حقوق التوحيد ومكملته‪.‬‬

‫وإما خبر عن إكرامه لهل توحيده‪ ،‬وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم‬
‫به في الخرة‪ ،‬فهو جزاء توحيده‪ ،‬وإما خبر عن أهل الشرك‪ ،‬وما فعل‬
‫ل بهم في العقبى من العذاب فهو‬ ‫بهم في الدنيا من النكال‪ ،‬وما يح ّ‬
‫جزاء من خرج عن حكم التوحيد‪.‬‬

‫فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه‪ ،‬وفي شأن الشرك وأهله‬


‫وجزائهم‪،‬‬

‫وم ِ‬ ‫ك يَ ْ‬‫مال ِ ِ‬‫حيم ِ توحيد َ‬ ‫ن الّر ِ‬


‫م ِ‬
‫ح َ‬
‫ن توحيد الّر ْ‬ ‫مي َ‬ ‫عال َ ِ‬‫ب ال ْ َ‬ ‫ه َر ّ‬ ‫مدُ ل ِل ّ ِ‬‫ح ْ‬ ‫فـ ال ْ َ‬
‫م‬
‫قي َ‬ ‫ست َ ِ‬‫م ْ‬‫ط ال ْ ُ‬‫صَرا َ‬
‫دَنا ال ّ‬
‫ه ِ‬
‫ن توحيد ا ْ‬ ‫عي ُ‬
‫ست َ ِ‬ ‫وإ ِّيا َ‬
‫ك نَ ْ‬ ‫عب ُدُ َ‬ ‫ك نَ ْ‬ ‫ن توحيد إ ِّيا َ‬ ‫دي ِ‬ ‫ال ّ‬
‫توحيد متضمن لسؤال الهداية إ َِلى طريق أهل التوحيد الذين أنعم عليهم‬
‫ن الذين فارقوا التوحيد[ اهـ‪.‬‬ ‫ضاّلي َ‬‫ول ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ب َ َ‬
‫علي ْ ِ‬ ‫ضو ِ‬ ‫غ ُ‬ ‫م ْ‬‫ر ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫غي ْ ِ‬
‫الشرح‪-:‬‬

‫عَلى أحد القسمة الصطلحية في‬


‫عاَلى‪ -‬هنا َ‬
‫ه تَ َ‬
‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف ‪َ-‬ر ِ‬
‫مصن ّ ُ‬
‫جرى ال ُ‬
‫التوحيد‪.‬‬

‫فبعض العلماء يقسم التوحي‪-‬د إ َِلى نوعين‪ ،‬وبعض العلماء يقسمه إ َِلى‬
‫ثلثة‪ ،‬وبعضهم يقسمه إ َِلى نوعين باعتبار آخر ووجهة نظر أخرى‪،‬‬
‫وبعضهم يقسمه إ َِلى أربعة وغير ذلك‪.‬‬

‫فأما العلماء الذين قسموا التوحيد إ َِلى نوعين ومنها هذه القسمة التي‬
‫هنا أي‪ :‬توحيد الثبات والمعرفة‪ ،‬وتوحيد الرادة والطلب‪ ،‬وإن شئت‬
‫فقل‪ :‬هو التوحيد العلمي العتقادي أو التوحيد العملي الخبري‪.‬‬
‫وليس هناك خلف بين من يجعل التوحيد ثلثة أقسام أو قسمين أو‬
‫أربعة‪ ،‬وإنما ك ٌ‬
‫ل يقسم باعتبار ‪.‬‬
‫• أقسام التوحيد باعتبار تعلقه بالله تعالى‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫فإذا قسمنا التوحيد باعتبار أنه حق الله تعالى‪ ،‬وباعتبار تعلقه بالله ‪ُ -‬‬
‫وَت ََعاَلى‪ -‬فهو ثلثة أنواع‪ :‬توحيد الربوبية وتوحيد اللوهية توحيد السماء والصفات‬
‫وهذا هو المشهور كثيرًا‪.‬‬
‫• أقسام التوحيد باعتبار تعلقه بالعباد‬
‫ن كحق لله ت ََعاَلى علينا فإنه‬ ‫وأما إذا نظرنا إ َِلى التوحيد من جهة تعلقه بنا ن َ ْ‬
‫ح ُ‬
‫نوعان‪:‬‬
‫‪-1‬التوحيد العتقادي أو توحيد المعرفة والثبات وهو‪ :‬أن نثبت لله‬
‫عاَلى ما أثبته لنفسه‪ ،‬ونعتقد له ما أخبر به في كتابه‪ ،‬سواء‬
‫تَ َ‬
‫التوحيد العلمي العتقادي‪ ،‬أو توحيد المعرفة والثبات بالنسبة لنا‪.‬‬
‫‪-2‬والتوحيد العملي أو التوحيد الرادي الطلبي فهو‪ :‬أن نعبده‬
‫عاَلى‪ -‬وحده‪ ،‬فنعرفه حق معرفته ونعبده حق عبادته‪ ،‬فل‬‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫‪ُ -‬‬
‫يغني أحد نوعي التوحيد عن الخر‪.‬‬
‫• تقسم آخر لنواع التوحيد‬
‫ومن ناحية أخرى بعض العلماء يجعل التوحيد قسمين‪:‬‬
‫سل‪.‬‬
‫‪ -1‬توحيد المر ِ‬

‫سل ّ َ‬
‫م‪.‬‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫سول َ‬
‫‪-2‬وتوحيد متابعة الّر ُ‬
‫وسورة الفاتحة يجب أن ننتبه لها‪ ،‬وأن نعلم أن هذه السورة ليست‬
‫مجرد عبارات نكررها حتى تعود كأنها ألفاظ روتينية عادية‪ ،‬وإنما ل‬
‫بد أن نعي ونتدبر معاني هذه السورة العظيمة‪.‬‬

‫ن ]الفاتحة‪) [2:‬هذا إثبات لتوحيد الربوبية‪(،‬‬ ‫مي َ‬ ‫عال َ ِ‬


‫ب ال ْ َ‬
‫ه َر ّ‬‫مدُ ل ِل ّ ِ‬‫ح ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫دين ]الفاتحة‪ [3،4:‬إثبات لتوحيد‬ ‫وم ِ ال ّ‬ ‫ك يَ ْ‬
‫مال ِ ِ‬‫حيم ِ * َ‬ ‫ن الّر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ح َ‬‫الّر ْ‬
‫ن ]الفاتحة‪[5:‬‬ ‫عي ُ‬
‫ست َ ِ‬
‫ك نَ ْ‬ ‫وإ ِّيا َ‬
‫عب ُدُ َ‬
‫ك نَ ْ‬‫السماء والصفات وقوله‪ :‬إ ِّيا َ‬
‫م ]الفاتحة‪ [6:‬هذا‬ ‫قي َ‬ ‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬‫ط ال ْ ُ‬
‫صَرا َ‬ ‫دَنا ال ّ‬ ‫ه ِ‬ ‫توحيد اللوهية وقوله‪ :‬ا ْ‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫علي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫صلى الل ُ‬ ‫سول َ‬ ‫توحيد من النوع الخر وهو توحيد متابعة الّر ُ‬
‫م‪.‬‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬‫َ‬
‫ل‪ ،‬وهو الوصية‬ ‫ج ّ‬‫و َ‬
‫عّز َ‬ ‫فالصراط المستقيم هو الذي أوصى به الله َ‬
‫العاشرة من الوصايا العشر التي ل يدخلها التغيير ول يدخلها النسخ‬
‫ه ]النعام‪:‬‬ ‫قيما ً َ‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬
‫عو ُ‬
‫فات ّب ِ ُ‬ ‫ست َ ِ‬‫م ْ‬‫طي ُ‬ ‫صَرا ِ‬
‫ذا ِ‬ ‫ن َ‬‫مهما تغيرت الشرائع) َأ ّ‬
‫م‪) :‬خط خطا ً واحدا ً‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬‫صّلى الل ُ‬‫‪ [153‬فلما فسرها النبي َ‬
‫مستقيما ً وخط خطوطا ً معوجة فقرأ هذه الية (‪.‬‬
‫ج ّ‬
‫ل‬ ‫و َ‬ ‫عّز َ‬ ‫والخط المستقيم هو‪ :‬الصراط المستقيم الذي نسأل الله َ‬
‫م‬
‫قي َ‬ ‫ست َ ِ‬‫م ْ‬ ‫ط ال ْ ُ‬‫صَرا َ‬ ‫دَنا ال ّ‬
‫ه ِ‬
‫وندعوه أن يهدينا إليه في كل ركعة‪ ) ،‬ا ْ‬
‫م‪،‬‬‫سل ّ َ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬‫ن عليها النبي َ‬ ‫كا َ‬‫وهو السنة الصحيحة التي َ‬
‫قْرآن أو السلم أو‬ ‫ومهما اختلفت القوال في تفسيره فقيل‪ :‬ال ُ‬
‫مر فمعناها واحد‪ ،‬وهو من اختلف‬ ‫ع َ‬ ‫السنة أو طريق أِبي ب َك ْ ٍ‬
‫رو ُ‬
‫ه‬‫صّلى الل ُ‬ ‫سول َ‬ ‫التنوع ل من اختلف التضاد‪ ،‬فهذا توحيد متابعة الّر ُ‬
‫م وترك البدع‪.‬‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬

‫ضاّلين (]الفاتحة‪[7:‬‬
‫ول ال ّ‬
‫م َ‬
‫ه ْ‬ ‫ب َ َ‬
‫علي ْ ِ‬ ‫ضو ِ‬
‫غ ُ‬ ‫ر ال ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫وقوله تعالى‪َ ) :‬‬
‫غي ْ ِ‬
‫أي‪ :‬غير من غلى ومن جفا ومن فرط ومن أفرط وهكذا فاليهود‬
‫صاَرى هم قمة في التجاهين‪.‬‬ ‫والن ّ َ‬
‫صاَرى‪ ،‬وأيضا المرجئة‬
‫فالخوارج والصوفية غلوهم يشبه غلو الن ّ َ‬
‫تفريطهم يشبه تفريط اليهود‪ ،‬وكذا أهل الكلم ‪-‬مثل‪ -‬مجادلتهم‬
‫ل تشبه مجادلت ومماحكات اليهودمع أممهم‬ ‫ج ّ‬
‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫في دين الله َ‬
‫ومع كتبهم‪.‬‬

‫حيم ِ *‬ ‫ن الّر ِ‬ ‫م ِ‬
‫ح َ‬ ‫سم ِ الل ّ ِ‬
‫ه الّر ْ‬ ‫وإن قلنا إن التوحيد نوعان‪ :‬فتكون ب ِ ْ‬
‫حيم ِ هذا توحيد المعرفة‬ ‫ن الّر ِ‬ ‫م ِ‬‫ح َ‬
‫ن * الّر ْ‬ ‫مي َ‬ ‫عال َ ِ‬
‫ب ال ْ َ‬ ‫مدُ ل ِل ّ ِ‬
‫ه َر ّ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ح ْ‬
‫ن إ َِلى آخرها توحيد الرادة‬ ‫عي ُ‬‫ست َ ِ‬ ‫وإ ِّيا َ‬
‫ك نَ ْ‬ ‫عب ُدُ َ‬
‫ك نَ ْ‬ ‫والثبات‪ ،‬و) ِّيا َ‬
‫والطلب؛ لن الرادة والطلب ل تكون إل بعبادة الله وحده‪،‬‬
‫سل ّ َ‬
‫م‬ ‫و َ‬‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫والستعانة بالله وحده‪ ،‬واتباع طريق النبي َ‬
‫عَلى هذا‬ ‫وحده الذي هو الصراط المستقيم‪ ،‬فتكون السورة نصفين َ‬
‫الساس أي‪ :‬توحيد المعرفة والثبات‪ ،‬وتوحيد الطلب والرادة‬
‫والقصد‪.‬‬
‫عاَلى‪ :-‬إن ال ُ‬
‫قْرآن أفصح عن النوع‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫ه تَ َ‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف ‪َ-‬ر ِ‬
‫م ْ‬
‫وكما يقول ال ُ‬
‫الول ‪ -‬توحيد المعرفة‪ -‬كل الفصاح‪ ،‬وقد سبق أن شرحنا معنى‬
‫)المعرفة(‪.‬‬

‫عاَلى أو أثبته‬
‫عاَلى‪ -‬إثبات ما أثبته لنفسه ت َ َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫ومعرفة الله ‪ُ -‬‬
‫م مما يتعلق بمعرفته‪ ،‬ول يستلزم منا‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬‫رسوله َ‬
‫عَلى جوارحنا‬ ‫ن له أثره َ‬ ‫ل‪ -‬إل اليمان به والقرار به‪ ،‬وإن َ‬
‫كا َ‬ ‫‪-‬عم ً‬
‫وعلى أعمالنا‪.‬‬

‫ج ّ‬
‫ل أن نصلي‬ ‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫وتوحيد اللوهية‪ :‬هي أوامره علينا‪ ،‬فيأمرنا الله َ‬
‫له وحده‪ ،‬وأن نذبح له وحده‪ ،‬وأن ننذر له وحده‪ ،‬وكذلك الخوف‬
‫والرجاء والمحبة وبقية أنواع العبادة‪ ،‬هذا جانب توحيد اللوهية‪.‬‬

‫وأما توحيد المعرفة والثبات‪ ،‬أو توحيد السماء والصفات‪ ،‬فإنما‬


‫يستلزم أو يتطلب منا أن نعرفه‪ ،‬ونؤمن به‪ ،‬ونستيقن‪ ،‬ول يشترط‬
‫ن بعمل‪،‬‬
‫ح ُ‬
‫أن يترتب عليه في ذاته أمر لنا إل العتقاد‪ ،‬فلم يكلفنا ن َ ْ‬
‫عاَلى‪ -‬يدين وأن له عينين‪،‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫لكن كلفنا أن نعتقد أن لله ‪ُ -‬‬
‫وأنه ينزل في الثلث الخير من كل ليلة‪ ،‬فنؤمن ونعتقد بها‪ ،‬ونؤجر‬
‫عَلى اليمان بها واعتقادها‪.‬‬
‫َ‬

‫أما توحيد اللوهية الذي هو توحيد الرادة والطلب فإنه أعمال؛‬


‫ولذلك قلنا التوحيد العملي وذاك التوحيد العتقادي‪ ،‬فهذا إيضاح‬
‫صّنف ‪-‬هنا‪ -‬أمثلة كما في أول‬‫م ْ‬‫لسبب هذه القسمة‪ ،‬ولذلك ذكر ال ُ‬
‫سورة "الحديد‪ ،":‬وسورة "طه"‪ ،‬وآخر سورة "الحشر"‪ ،‬وسورة‬
‫"السجدة"‪ ،‬وآخر سورة "آل عمران" وسورة "الخلص"‪ ،‬وآية‬
‫ج ّ‬
‫ل‪.‬‬ ‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫الكرسي وهي أعظم آية في كتاب الله َ‬

‫عَلى توحيد المعرفة والثبات‪،‬‬


‫وآية الكرسي‪ :‬هي من أعظم الدلة َ‬
‫وكذلك تضمنت توحيد اللوهية أو توحيد الطلب والرادة؛ وهي آية‬
‫قصيرة أو صغيرة وقد ل يدرك المرء معانيها ولكنها في الحقيقة لم‬
‫تكن أعظم آية من كتاب الله إل لحكم عظيمة لو تأملها المسلم لو‬
‫عرف شيئا ً كثيرا ً منها‪.‬‬

‫جمل‪ ،‬كل جملة من هذه الجمل‬ ‫شر ُ‬‫ع ْ‬


‫فآية الكرسي‪ :‬عبارة عن َ‬
‫عَلى أصل عظيم‪ ،‬وقاعدة عظيمة فيما يتعلق بمعرفة الله‬ ‫تشتمل َ‬
‫عاَلى‪ -‬ولو أن أحدا ً فهم هذه الية حق الفهم‪ ،‬وأدرك‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫‪ُ -‬‬
‫عاَلى‪-‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫معانيها حق الدراك‪ ،‬لعرف حقيقتها وعرف الله ‪ُ -‬‬
‫معرفة عظيمة بآية واحدة في جمل معدودة‪ ،‬وهذا من عجائب‬
‫قْرآن وعظمته‪ ،‬حيث أودع فيه من العجائب ما ل تدركه أكثر‬ ‫ال ُ‬
‫الفهام‪ ،‬مهما نهلت منه ومهما أخذت منه‪.‬‬

‫فهذه السور في التوحيد الطلبي والقرآن كله متضمن لنوعي‬


‫التوحيد‪:‬‬

‫توحيد المعرفة والثبات‪ ،‬كاليات التي جاءت في الستواء‪ ،‬والتي‬


‫عاَلى‪ -‬مثل‪ :‬آخر سورة "السجدة"‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫جاءت في صفات الله ‪ُ -‬‬
‫وأول "الحديد"‪.‬‬

‫عاَلى‪ ،‬ولذلك‬ ‫ه الل ّ ُ‬


‫ه تَ َ‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫صن ّ ُ‬
‫م ْ‬
‫ل ال ُ‬ ‫وسورة "الخلص"كلها كما َ‬
‫قا َ‬
‫عَلى‬
‫صح الحديث )بأن سورة الخلص تعدل ثلث القرآن ( لشتمالها َ‬
‫نوع من أنواع التوحيد وهو توحيد السماء والصفات‪.‬‬
‫فُرون ]الكافرون‪ [1:‬و ُ‬
‫ق ْ‬
‫ل‬ ‫ها ال ْ َ‬
‫كا ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ق ْ‬
‫ل َيا أي ّ َ‬ ‫سان يقرأ سورة‪:‬‬ ‫لن َ‬‫فا ِ‬
‫َ‬
‫حد ]الخلص‪ [1:‬في ركعتي الفجر‪ ،‬وفي سنة المغرب‬ ‫هأ َ‬‫و الل ّ ُ‬
‫ه َ‬
‫ُ‬
‫والوتر وكذلك ركعتي الطواف ونحو ذلك‪ ،‬حيث تضمنت هذه السورة‬
‫ن‬ ‫ها ال ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ق ْ‬
‫فُرو َ‬
‫كا ِ‬ ‫ل َيا أي ّ َ‬ ‫توحيد المعرفة والثبات‪ ،‬وتضمنت سورة‪:‬‬
‫توحيد الطلب والرادة‪.‬‬
‫صّلى‬
‫فهناك حكمة في فضل هاتين السورتين‪ ،‬وتكرر قراءة النبي َ‬
‫سل ّ َ‬
‫م لهما فيما ذكرنا‪.‬‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬
‫الل ُ‬
‫ف فهو‪ :‬توحيد الطلب والقصد‬ ‫صن ّ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫أما التوحيد الثاني الذي ذكره ال ُ‬
‫ل‬ ‫ل َيا أ َ ْ‬
‫ه َ‬ ‫ن و ُ‬
‫ق ْ‬ ‫فُرو َ‬
‫كا ِ‬‫ها ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ل َيا أي ّ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ُ‬ ‫ودليله مثل قوله تعالى‪:‬‬
‫م الية ]آل عمران‪[64:‬‬ ‫وب َي ْن َك ُ ْ‬‫ء ب َي ْن ََنا َ‬ ‫وا ٍ‬‫س َ‬ ‫ة َ‬ ‫وا إ َِلى ك َل ِ َ‬
‫م ٍ‬ ‫عال َ ْ‬ ‫ال ْك َِتا ِ‬
‫ب تَ َ‬
‫م إ َِلى أعظم الملوك في‬ ‫سل ّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬ ‫التي كتبها النبي َ‬
‫ن يمثل قمة‬ ‫كا َ‬‫الرض في زمانه وهو هرقل عظيم الروم‪ ،‬وهو الذي َ‬
‫وزعامة أرباب أوروبا النصرانية التي تدين بالدين المعروف الذي‬
‫سلم‪.‬‬ ‫ه ال ّ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ينسبونه إ َِلى المسيح َ‬

‫عَلى التوحيد العملي وتوحيد اللوهية‪ ،‬وكذلك‬ ‫فهذه الية من الدلة َ‬


‫عاَلى‪ ،‬عن أهل الكتاب أنفسهم في‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫أيضا ً أخبرنا الله ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬‫م ْ‬ ‫م أْرَبابا ً ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫هَبان َ ُ‬
‫وُر ْ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫حَباَر ُ‬ ‫خ ُ‬
‫ذوا أ ْ‬ ‫ل‪ :‬ات ّ َ‬ ‫قا َ‬‫سورة التوبة حين َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬‫م ْ‬‫عضا ً أْرَبابا ً ِ‬ ‫ضَنا ب َ ْ‬‫ع ُ‬‫خذ َ ب َ ْ‬ ‫ول ي َت ّ ِ‬ ‫َ‬ ‫الّله ]التوبة‪ [31:‬وهنا يقول‪:‬‬
‫عَلى أن أهل الكتاب وخاصة‬ ‫ه آل عمران‪ ،[64:‬فهذه الية دالة َ‬ ‫الل ّ ِ‬
‫صاَرىأعظم ما أضلوا فيه أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ً‬ ‫الن ّ َ‬
‫من دون الله فالبابوات والكردينلت والساقفة والقساوسة‬
‫عاَلى‪-‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫والبطاريق يشرعون لهم العبادات من دون الله ‪ُ -‬‬
‫فيطيعونهم في تحريم الحلل وتحليل الحرام‪ ،‬ولذلك نزلت هذه‬
‫الية في حقهم‪.‬‬

‫مُروا إ ِّل‬ ‫ُ‬ ‫عاَلى‪ -‬في حق أهل الكتاب‪:‬‬


‫ما أ ِ‬ ‫و َ‬‫َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫ويقول الله ‪ُ -‬‬
‫كاةَ‬‫ؤُتوا الّز َ‬‫وي ُ ْ‬
‫صلةَ َ‬
‫موا ال ّ‬
‫قي ُ‬
‫وي ُ ِ‬ ‫حن َ َ‬
‫فاءَ َ‬ ‫ن ُ‬
‫دي َ‬
‫ه ال ّ‬‫ن لَ ُ‬
‫صي َ‬ ‫خل ِ ِ‬ ‫م ْ‬‫ه ُ‬ ‫دوا الل ّ َ‬‫عب ُ ُ‬‫ل ِي َ ْ‬
‫ة ]البينة‪ [5:‬فإن أهل الكتاب أتاهم الشيطان من‬ ‫م ِ‬‫قي ّ َ‬‫ن ال ْ َ‬ ‫ك ِدي ُ‬‫وذَل ِ َ‬ ‫َ‬
‫هذا الجانب فعبدوا المسيح بن مريم واتخذوه وأمه إلهين‪ ،‬وعبدوا‬
‫الحبار والرهبان‪.‬‬

‫ب ]الزمر‪ [1:‬فإنها تكرر فيها‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬


‫زي ُ‬ ‫وكذلك أول سورة‪ :‬ت َن ْ ِ‬
‫َ‬
‫غي َْر الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫لأ َ‬
‫ف َ‬ ‫ق ْ‬‫ُ‬ ‫ل في أولها وفي آخرها‬ ‫ج ّ‬ ‫و َ‬ ‫عّز َ‬ ‫ذكر الخلص لله َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫مُروّني أ َ ْ‬ ‫ْ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫وإ َِلى ال ّ ِ‬
‫ك َ‬ ‫ي إ ِل َي ْ َ‬ ‫ح َ‬ ‫قدْ أو ِ‬ ‫ول َ َ‬‫ن* َ‬ ‫هُلو َ‬ ‫جا ِ‬ ‫ها ال ْ َ‬ ‫عب ُدُ أي ّ َ‬ ‫ت َأ ُ‬
‫ل الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫ن * بَ ِ‬ ‫ري َ‬ ‫س ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫خا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كون َ ّ‬ ‫ول َت َ ُ‬
‫ك َ‬ ‫مل ُ َ‬
‫ع َ‬
‫ن َ‬ ‫حب َطَ ّ‬ ‫ت ل َي َ ْ‬ ‫شَرك ْ َ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫ك ل َئ ِ ْ‬
‫قب ْل ِ َ‬ ‫َ‬
‫ن ]الزمر‪ [66-64:‬فهذه اليات من ضمن‬ ‫ري َ‬ ‫شاك ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫وك ُ ْ‬
‫عب ُدْ َ‬ ‫فا ْ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫عَلى أفراد الله ‪ُ -‬‬ ‫اليات التي جاءت في سورة الزمر تدل َ‬
‫عاَلى‪ -‬بالعبادة وهو توحيد اللوهية‪ ،‬وكذلك أول سورة يونس‬ ‫وت َ َ‬ ‫َ‬
‫وأوسطها وآخرها هي في التوحيد الذي هو توحيد اللوهية‪ ،‬وكذلك‬
‫أول سورة العراف واليات الخيرة من السورة‪ ،‬وجملة سورة‬
‫عَلى طولها؛ لنها ناقشت‬ ‫النعام من السور المتميزة المتفردة َ‬
‫عاَلى بجميع أنواعه‪،‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫وبحثت وتحدثت عن قضية توحيد الله ُ‬
‫فجاءت بذكر ما لم يذكر في السور الخرى من تفصيل لشرك‬
‫ن‪.‬‬
‫كي َ‬
‫ر ِ‬
‫ش ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م ْ‬

‫ن عبدوا وأطاعوا من دون‬ ‫كي َ‬‫ر ِ‬


‫ش ِ‬ ‫ل‪ :‬ذكر في بعض السور أن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫مث ً‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫خ ُ‬
‫ه ْ‬
‫هَبان َ ُ‬‫وُر ْ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬
‫حَباَر ُ‬‫ذوا أ ْ‬ ‫الله كما في الية من سورة التوبة‪ :‬ات ّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫كاءُ‬‫شَر َ‬ ‫م ُ‬ ‫ه ْ‬‫م لَ ُ‬‫ه ]التوبة‪ [31:‬وقوله تعالى‪ :‬أ ْ‬ ‫ن الل ّ ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫أْرَبابا ً ِ‬
‫ْ‬
‫ه ]الشورى‪ [21:‬ونحو ذلك‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫ن بِ ِ‬ ‫ما ل َ ْ‬
‫م ي َأذَ ْ‬ ‫ن َ‬
‫دي ِ‬
‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬‫ه ْ‬ ‫عوا ل َ ُ‬ ‫شَر ُ‬ ‫َ‬
‫من السور‪ ،‬لكن في سورة النعام تأتي اليات بالتفصيل في بيان‬
‫ن‪ ،‬وما شرعوا من البدع الضالة‪.‬‬ ‫كو َ‬ ‫ر ُ‬‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما حرم ال ُ‬
‫صيل َ ٍ‬
‫ة‬ ‫و ِ‬ ‫ول َ‬
‫ة َ‬‫سائ ِب َ ٍ‬‫ول َ‬ ‫ة َ‬‫حيَر ٍ‬ ‫ن بَ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ه ِ‬‫ل الل ّ ُ‬ ‫ع َ‬ ‫ج َ‬ ‫وفي سورة المائدة‪ َ) :‬ما َ‬
‫حام (]المائدة‪ [103:‬وفي سورة النعام تفصيل أكثر‪ :‬بأنهم‬ ‫ول َ‬
‫َ‬
‫عاَلى‪ -‬واستحلوا المحرمات مثل قتل‬ ‫ت‬
‫َ َ َ‬ ‫و‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ر‬ ‫با‬
‫َ َ َ‬ ‫ت‬ ‫‪-‬‬ ‫الله‬ ‫رزقهم‬ ‫ما‬ ‫حرموا‬
‫النبياء‪ ،‬وحرموا بعض النواع من النعام التي ل مجال الن‬
‫عاَلى‪ -‬عليهم بقوله ‪-‬مثل في‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫لتفصيلها‪ ،‬فرد الله ‪ُ -‬‬
‫ُ‬ ‫حا ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م الن ْث َي َي ْ ِ‬
‫ن‬ ‫ه أْر َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ت َ‬‫مل َ ْ‬
‫شت َ َ‬‫ما ا ْ‬‫نأ ّ‬ ‫ْ‬
‫م أم ِ الن ْث َي َي ْ ِ‬ ‫حّر َ‬
‫ن َ‬‫النعام‪ :-‬آلذّك ََري ْ ِ‬
‫]النعام‪ [143:‬بمعنى‪ :‬إما أن يكون التحريم لجنس النثى فتحرم‬
‫كل أنثى‪ ،‬وإما أن يكون التحريم لجنس الذكور فيحرم كل ذكر‪ ،‬وإما‬
‫أن يكون التحريم لما حمل البطن فيحرم ما حمل البطن جميعا ً‬
‫لكنهم خصصوا‪.‬‬

‫ج ّ‬
‫ل‪،‬‬ ‫و َ‬ ‫عَلى تحريم البدع في دين الله َ‬
‫عّز َ‬ ‫وهذا من أعظم الدلة َ‬
‫مثال ذلك‪ :‬لك أن تتصدق بما شئت وتقول هذه الشاة لله تعالى‪،‬‬
‫وهذا المبلغ لله؛ لكن أن تخصص وقتا ً معينا ً ومبلغا ً معينا ً لكيفية‬
‫معينة وتتحرى زمنا ً معينا ً فيها فهذا التخصيص يجعل القضية تخرج‬
‫عَلى إطلقه لدخل في‬ ‫من السنة إ َِلى البدعة‪ ،‬وإل لو بقي المر َ‬
‫ن هناك حرج‪.‬‬
‫كا َ‬ ‫الدلة العامة ول َ َ‬
‫ما َ‬

‫جاءَ فيها تحريم‬


‫فسورة النعام هي‪ :‬سورة التوحيد الكبرى التي َ‬
‫اتخاذ غير الله ربا ً ووليا ً وحكمًا‪ ،‬وهذه هي أصول التوحيد الثلثة فإن‬
‫عاَلى‪ -‬هو وحده الرب الذي يعبد دون من سواه‪ ،‬وهو‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫الله ‪ُ -‬‬
‫وحده الولي وهو وحده الحكم الذي يتحاكم إليه‪ ،‬وعلى هذه الثلث‬
‫القضايا تدور أكثر السورة بالضافة إ َِلى ما اشتملت عليه من توحيد‬
‫عاَلى‪.‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫السماء والصفات وتمجيد الله ُ‬
‫• القرآن كله في التوحيد‬
‫ه الل ّ ُ‬
‫ه‪:-‬‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف ‪َ-‬ر ِ‬
‫م ْ‬
‫يقول ال ُ‬
‫قْرآن متضمنة لنوعي التوحيد[ بل إن كل سورة في‬ ‫]وغالب سور ال ُ‬
‫قْرآن متضمنة للتوحيد‪ ،‬والقرآن كله في التوحيد فمث ً‬
‫ل‪ :‬يذكر الله‬ ‫ال ُ‬
‫عاَلى‪ -‬القصص في القرآن‪ ،‬وقد يذكر ما ليس له تعلق‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫‪ُ -‬‬
‫بالنبياء‪ ،‬كقصة قارون ويحدثنا بالتفصيل عن أحوال المم‪ ،‬وهلك‬
‫قوم عاد وثمود ونوح وتكذيبهم‪ ،‬وما أجابوا من الرسل وليس فيها‬
‫أمر صريح بالتوحيد‪ ،‬ولكنه خبر عن حال الذين كذبوا بالتوحيد‪ ،‬وماذا‬
‫عاَلى‪.‬‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ن مصيرهم لما جحدوا بالتوحيد وأشركوا بالله ُ‬ ‫َ‬
‫كا َ‬
‫وكذا اليات في وصف الجنة‪ ،‬في وصف النار‪ ،‬كما في سورة‬
‫سان‪ ،‬وكذلك في سورة الواقعة‪ ،‬علقتها بالتوحيد أنها تتحدث‬ ‫لن َ‬
‫ا ِ‬
‫ن وهو النار‪،‬‬
‫كي َ‬
‫ر ِ‬
‫ش ِ‬ ‫عن مصير الموحدين وهو الجنة‪ ،‬وعن مصير ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫قْرآن فهو‪ :‬إما عن التوحيد في ذاته وإما عن‬ ‫فكل شيء في ال ُ‬
‫لوازمه ومقتضياته‪ ،‬وكذلك إما عن الشرك في ذاته وحقيقته‪ ،‬وإما‬
‫عن لوازم الشرك ومقتضياته‪ ،‬وإما عن جزاء أهل الشرك أو جزاء‬
‫أهل التوحيد ‪.‬‬

‫قْرآن إما أخبر عن الله وأسمائه‬ ‫ه أن ال ُ‬‫ه الل ّ ُ‬


‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬
‫م ْ‬
‫فذكر ال ُ‬
‫حد وآية الكرسي وما أشبه‬ ‫هو الل ّ َ‬ ‫وصفاته مثل سورة‪ :‬ق ْ‬
‫هأ َ‬‫ُ‬ ‫ل ُ َ‬
‫ذلك‪ ،‬وهو التوحيد العلمي الخبري‪ ،‬أو توحيد المعرفة والثبات أو‬
‫التوحيد العتقادي كلها أسماء لشيء واحد‪.‬‬

‫وإما دعوة إ َِلى عبادة الله وحده ل شريك له‪ ،‬وخلع ما يعبد من دونه‬
‫ل‪ :‬سورة الكافرون والنعام‬ ‫وهو التوحيد الرادي الطلبي‪ ،‬فمث ً‬
‫عَلى‬
‫والزمر هي أمر ونهي وإلزام لطاعته‪ ،‬فآيات تأمرنا بالمحافظة َ‬
‫عَلى النفاق وتبين فضل النفاق في سبيل‬ ‫الصلة‪ ،‬وآيات تحث َ‬
‫عَلى المر بالمعروف والنهي عن‬ ‫عاَلى‪ -‬وآيات تدل َ‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬ ‫الله ‪ُ -‬‬
‫صّلى‬‫المنكر‪ ،‬فالصلة والزكاة من حقوق التوحيد كما قال النبي َ‬
‫م‪) :‬أمرت أن أقاتل الّناس حتى يشهدوا أن ل إله إل‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬
‫الل ُ‬
‫ل‪:‬‬ ‫سول الله ويقيموا الصلة ويؤتوا الزكاة( و َ‬
‫قا َ‬ ‫الله‪ ،‬وأن محمدا ً َر ُ‬
‫)إل بحقها( ‪.‬‬

‫صّلى‬‫ه‪ -‬بعد وفاة النبي َ‬ ‫عن ْ ُ‬‫ه َ‬ ‫ي الل ُ‬ ‫ض َ‬


‫وبذلك استدلأبو بكر الصديق ‪َ-‬ر ِ‬
‫ه‪-‬‬
‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬
‫مر ‪َ-‬ر ِ‬
‫ع َ‬
‫ل له ُ‬ ‫قا َ‬‫ف َ‬
‫م لما ارتدت العرب َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬
‫الل ُ‬
‫ومعظم الصحابة‪ :‬كيف تقاتل من يشهد أن ل إله إل الله‪ ،‬وقد قال‬
‫م‪) :‬أمرت أن أقاتل الّناس حتى يشهدوا‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬‫صّلى الل ُ‬ ‫النبي َ‬
‫ر بالرواية المطلقة التي‬ ‫عَلى أِبي ب َك ْ ٍ‬ ‫أن ل إله إل الله( فاستدلوا َ‬
‫ر بقوله‪) :‬إل بحقها( وأن‬ ‫ليس فيها التفصيل واستدل عليهم أُبو ب َك ْ ٍ‬
‫الزكاة حق المال‪.‬‬

‫ومثل ً تحدث في سورة يوسف عن سيرة إنسان موحد هو نبي من‬


‫عَلى يديه هذه اليات البينات‬ ‫عاَلى لتتحقق َ‬ ‫أنبياء الله‪ ،‬اصطفاه الله ت َ َ‬
‫ي‬‫حب َ ِ‬
‫صا ِ‬
‫َيا َ‬ ‫ل في السجن‪:‬‬ ‫قا َ‬ ‫عاَلى‪َ -‬‬
‫ف َ‬ ‫وت َ َ‬ ‫ويدعو إ َِلى الله ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬
‫حدُ ال ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫هاُر يوسف‪[39:‬‬ ‫ق ّ‬ ‫ه ال ْ َ‬
‫وا ِ‬ ‫خي ٌْر أم ِ الل ّ ُ‬
‫ن َ‬ ‫قو َ‬‫فّر ُ‬
‫مت َ َ‬
‫ب ُ‬‫ن أأْرَبا ٌ‬
‫ج ِ‬
‫س ْ‬
‫ال ّ‬
‫وأخذ يدعوهم وهم في السجن‪.‬‬
‫وأما قصة حسد إخوانه‪ ،‬وكيف ألقوه في البئر‪ ،‬وكيف شروه بثمن‬
‫ه‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫بخس‪ ،‬وكيف وقعت له الفتنة مع المرأة وخلصه الله ‪ُ -‬‬
‫عاَلى‪ -‬ورفعه عن دنس الحرام والزنى‪ ،‬وكيف صار ملكا‪ ،‬كل هذا‬
‫ً‬ ‫وت َ َ‬
‫َ‬
‫حديث عن إكرام من الله لهل التوحيد‪.‬‬
‫• سعة مفهوم التوحيد‬
‫قْرآن من توحيد سواء في موضوعه من أصله أو مكملته‪،‬‬ ‫كل ما ذكر الله في ال ُ‬
‫كل هذا يدلنا عََلى أهمية التوحيد من ناحية‪ ،‬وعلى سعة مفهوم التوحيد من ناحية‬
‫ل فأول ما ندعو إليه هو توحيد الله‪ ،‬وهو البدء‬ ‫أخرى‪ ،‬فإذا دعونا إ َِلى الله عَّز وَ َ‬
‫ج ّ‬
‫بتصحيح عقائد الّناس سواء كانوا مسلمين لديهم انحرافات؛ أو كانوا كفارا ً‬
‫يعبدون غير الله‪ ،‬فندعوهم إما إ َِلى التوحيد نفسه أو إ َِلى تحقيقه وتصحيحه عند‬
‫ن فهذا في أهميه التوحيد‪.‬‬ ‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫والجانب الخر في سعة مفهوم التوحيد‪ ،‬فإن بعض الّناس يأخذ‬
‫أجزاء من التوحيد ويدعو إليها وينسى الجزاء الخرى‪ ،‬وهذا ل شك‬
‫عَلى ذلك أجرا ً ‪-‬بإذن الله تعالى‪ -‬لكن‬ ‫أنه قد أحسن وأنه يجزى َ‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫ها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫َيا أي ّ َ‬ ‫ينبغي أن ندعو إ َِلى التوحيد كله كما قال الله تعالى‪:‬‬
‫حّتى ل‬ ‫م َ‬‫ه ْ‬ ‫قات ُِلو ُ‬
‫و َ‬
‫ة ]البقرة‪َ [208:‬‬ ‫ف ً‬ ‫كا ّ‬ ‫سل ْم ِ َ‬ ‫في ال ّ‬ ‫خُلوا ِ‬ ‫مُنوا ادْ ُ‬‫آ َ‬
‫ه النفال‪ [39:‬فينبغي لنا أن ندعو‬ ‫ه ل ِل ّ ِ‬‫ن ك ُل ّ ُ‬‫دي ُ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫وي َ ُ‬
‫كو َ‬ ‫ة َ‬
‫فت ْن َ ٌ‬
‫ن ِ‬
‫كو َ‬‫تَ ُ‬
‫إ َِلى جميع أنواع التوحيد‪.‬‬

‫وبعض الّناس ‪ -‬هداهم الله ‪ -‬قد يكون عن إخلص أو اجتهاد يدعون‬


‫إ َِلى أن يوحد الله في اللوهية‪ ،‬وأن يطاع وحده‪ ،‬وأن تتبع شريعته‬
‫وحده ولكنهم ل يريدون الحديث عن توحيد السماء والصفات‪،‬‬
‫فنقول لهم‪ :‬مهل ً ‪-‬جزاكم الله خيرًا‪ -‬هذا خطأ فكيف تدعون إ َِلى‬
‫جانب من جوانب التوحيد وتتركون الجانب الخر‪.‬‬

‫وأكثر من ذلك أن يأتي فينتقد هذا الجانب من التوحيد وينتقد من‬


‫سان في الحقيقة يخشى عليه لن المسألة‬ ‫لن َ‬
‫يدعو إليه!! وهذا ا ِ‬
‫حرب أو إنكار لنوع من أنواع التوحيد هي في غاية الخطورة‪ ،‬ولول‬
‫ما نعرفه أنه قد يكون بعضهم قصده حسنا ً وهو جاهل به لكان‬
‫حكمهم أصعب مما يظنون‪ ،‬لن هذا محاربة لنوع من أنواع التوحيد‪.‬‬

‫ل‪ -‬أو إ َِلى جانب‬


‫وبعض الّناس يدعو إ َِلى توحيد السماء والصفات ‪-‬مث ً‬
‫من جوانب اللوهية‪ ،‬ويترك جوانب أخرى‪ ،‬فمثل ً يدعو إ َِلى نبذ‬
‫ل كشرك الدعاء وما‬ ‫ج ّ‬
‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫الشرك والتقرب والتنسك لغير الله َ‬
‫أشبه ذلك‪ ،‬ويهمل بالكلية مثل ً شرك الطاعة وشرك التباع‪.‬‬

‫عاَلى‪ -‬بالعبادة وبالطاعة وبالتقرب معًا‪،‬‬ ‫وت َ َ‬


‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫فكما نفرد الله ‪ُ -‬‬
‫عاَلى‪ -‬بالطاعة والتباع‪ ،‬فل‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫فكذلك ندعو إ َِلى توحيده ‪ُ -‬‬
‫سب ْ َ‬
‫يحاكم إ َِلى غير شرعه‪ ،‬ول تتبع غير شرعته‪ ،‬ولذلك جاءت اليات‬
‫عاَلى‪:‬‬‫وت َ َ‬ ‫ل ت ََباَر َ‬
‫ك َ‬ ‫بنفي اليمان عمن تحاكم إ َِلى غير شرع الله َ‬
‫ف َ‬
‫قا َ‬
‫ُ‬ ‫ل إ ِل َي ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ز َ‬
‫ل ِ‬ ‫ما أن ْ ِ‬ ‫و َ‬
‫ك َ‬ ‫ز َ‬
‫ما أن ْ ِ‬
‫مُنوا ب ِ َ‬
‫مآ َ‬‫ه ْ‬
‫ن أن ّ ُ‬
‫مو َ‬ ‫ع ُ‬
‫ن ي َْز ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ‬ ‫ا َل َ ْ‬
‫ن ي َك ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫غوت و َ ُ‬ ‫موا إ َِلى ال ّ‬ ‫َ‬
‫فُروا ِبه‬ ‫مُروا أ ْ‬ ‫قدْ أ ِ‬ ‫طا ُ ِ َ‬ ‫حاك َ ُ‬ ‫ن ي َت َ َ‬‫نأ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ري ُ‬‫ك يُ ِ‬‫قب ْل ِ َ‬
‫َ‬
‫عَلى أنه ل يتحاكم إل لشرع الله وحده‬ ‫]النساء‪ [60:‬فدلت هذه الية َ‬
‫عاَلى‪ -‬ول يتحاكم إ َِلى أي قانون بشري أو نظام وضعي‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫‪ُ -‬‬
‫أبدا ً فإن هذا من الشرك بالله‪ ،‬مث َُله في ذلك مثل من يعبد غير الله‬
‫عند قبر فيدعوه أو يتوسل بصاحبه‪ ،‬فالشرك في هذا كالشرك في‬
‫هذا‪.‬‬
‫فيجب أن ندعو إ َِلى التوحيد بشموله‪ ،‬وكماله الذي يجتث هذه‬
‫المراض والخطاء والجزئيات الكثيرة‪ ،‬التي لو ذهبنا نعالجها لتفانت‬
‫العمار ولم تعالج‪ ،‬لكن إذا عولج الصل وهو أن يدعى إ َِلى اليمان‬
‫ل‪ ،‬فسنجد‬‫ل‪ ،‬وأن يوضح اليمان بالله‪ ،‬وتوحيد الله كام ً‬ ‫ج ّ‬
‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫بالله َ‬
‫أن المسلم الذي يعبد الله وحده تتكامل شخصيته بتكامل حقيقة‬
‫التوحيد في قلبه‪.‬‬
‫‪ - 2‬معنى الشهادة ومراتبها‬
‫ه ت ََعاَلى‪:‬‬
‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫مصن ّ ُ‬ ‫َقا َ‬
‫ل ال ُ‬
‫]وكذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد‪ ،‬وشهدت له به ملئكته وأنبياؤه‬
‫وُأوُلو ال ْ ِ ْ‬ ‫ملئ ِك َ ُ‬‫وال ْ َ‬ ‫ه إ ِّل ُ‬
‫ه ل إ ِل َ َ‬
‫شهد الل ّ َ‬
‫َ ِ َ‬
‫علم ِ‬ ‫ة َ‬ ‫و َ‬‫ه َ‬ ‫ه أن ّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ورسله قال تعالى‪:‬‬
‫سلم‬ ‫ه اْل ِ ْ‬
‫عن ْدَ الل ّ ِ‬‫ن ِ‬ ‫دي َ‬‫ن ال ّ‬‫م * إِ ّ‬‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫زيُز ال ْ َ‬ ‫و ال ْ َ‬
‫ع ِ‬ ‫ه إ ِّل ُ‬
‫ه َ‬ ‫ط ل إ ِل َ َ‬
‫س ِ‬ ‫قاِئما ً ِبال ْ ِ‬
‫ق ْ‬ ‫َ‬
‫]آل عمران‪ [19 ،18:‬فتضمنت هذه الية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد‪،‬‬
‫ل شهادة وأعظمها وأعدلها‬ ‫عَلى جميع طوائف الضلل‪ ،‬فتضمنت أج ّ‬ ‫والرد َ‬
‫ل مشهود به‪.‬‬‫ل شاهد بأج ّ‬
‫وأصدقها‪ ،‬من أج ّ‬

‫عَلى الحكم‪ ،‬والقضاء‪ ،‬والعلم‪،‬‬


‫وعبارات السلف في )شهد( تدور َ‬
‫والبيان والخبار‪.‬‬

‫وهذه القوال كلها حق ل تنافي بينها‪ :‬فإن الشهادة تتضمن كلم الشاهد‬
‫وخبره‪ ،‬وتتضمن إعلمه وإخباره وبيانه‪.‬‬

‫فلها أربع مراتب‪ :‬فأول مراتبها‪ :‬علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به‬
‫وثبوته‪ ،‬وثانيها‪ :‬تكلمه بذلك وإن لم يعلم به غيره‪ ،‬بل يتكلم بها مع نفسه‬
‫ويذكرها وينطق بها أو يكتبها‪ .‬وثالثها‪ :‬أن يعلم غيره بها بما يشهد به‬
‫ويخبره به ويبينه له‪ .‬ورابعها‪ :‬أن يلزمه بمضمونها ويأمره به‪.‬‬

‫فشهادة الله ‪-‬سبحانه‪ -‬لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه‬


‫المراتب الربع‪ :‬علمه سبحانه بذلك‪ ،‬وتكلمه به‪ ،‬وإعلمه وإخباره لخلقه‬
‫به‪ ،‬وأمرهم وإلزامهم به‪.‬‬
‫ن الشاهد شاهدا ً‬ ‫كا َ‬ ‫فأما مرتبة العلم فإن الشهادة تضمنتها ضرورة‪ ،‬وإل َ‬
‫ن‬ ‫عل َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫م يَ ْ‬‫ه ْ‬
‫و ُ‬
‫ق َ‬ ‫هدَ ِبال ْ َ‬
‫ح ّ‬ ‫ش ِ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫بما ل علم له به قال تعالى‪ :‬إ ِّل َ‬
‫عَلى مثلها فاشهد‪ ،‬وأشار‬ ‫م‪َ ) :‬‬ ‫سل ّ َ‬‫و َ‬‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬ ‫]الزخرف‪ [86:‬وقال صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬
‫إ َِلى الشمس( ‪.‬‬
‫عَبادُ‬
‫م ِ‬
‫ه ْ‬
‫ن ُ‬ ‫ة ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ملئ ِك َ َ‬‫عُلوا ال ْ َ‬
‫ج َ‬
‫و َ‬
‫َ‬ ‫ل تعالى‪:‬‬ ‫ف َ‬
‫قا َ‬ ‫وأما مرتبة التكلم والخبر‪َ ،‬‬
‫شهادت ُهم وي َ‬ ‫خل ْ َ‬ ‫ن إ َِناثا ً أ َ َ‬
‫ن ]الزخرف‪[19:‬‬ ‫سألو َ‬ ‫ب َ َ َ ُ ْ َ ُ ْ‬‫ست ُك ْت َ ُ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫ق ُ‬ ‫دوا َ‬
‫ه ُ‬
‫ش ِ‬ ‫م ِ‬
‫ح َ‬
‫الّر ْ‬
‫فجعل ذلك منهم شهادة‪ ،‬وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عند‬
‫غيرهم‪.‬‬

‫وأما مرتبة العلم والخبار فنوعان‪ :‬إعلم بالقول‪ ،‬وإعلم بالفعل‪ ،‬وهذا‬
‫شأن كل معلم لغيره بأمر‪ :‬تارة يعلمه به بقوله‪ ،‬وتارة بفعله‪.‬‬

‫ن من جعل داره مسجدا ً وفتح بابها وأفرزها بطريقها وأذن‬ ‫ولهذا َ‬


‫كا َ‬
‫للناس بالدخول والصلة فيها معلما ً أنها وقف وإن لم يتلفظ به‪ ،‬وكذلك‬
‫من وجد متقربا ً إ َِلى غيره بأنواع المسار‪ ،‬يكون معلما له ولغيره أنه يحبه‬
‫وإن لم يتلفظ بقوله‪ ،‬وكذلك بالعكس‪.‬‬

‫ج ّ‬
‫ل‪ -‬وبيانه وإعلمه‪ ،‬يكون بقوله تارة وبفعله‬ ‫و َ‬
‫عّز َ‬
‫وكذلك شهادة الرب ‪َ -‬‬
‫أخرى‪ ،‬فالقول ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه‪ .‬وأما بيانه وإعلمه‬
‫بفعله فكما قال ابن كيسان ‪ :‬شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة‬
‫عند خلقه‪" :‬أنه ل إله إل هو" وقال آخر‪:‬‬
‫وفي كل شيء له آية‬
‫عَلى أنه واحد‬
‫تدل َ‬

‫ن‬
‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬ ‫عَلى أن الشهادة تكون بالفعل‪ ،‬قوله تعالى‪:‬‬ ‫ومما يدل َ‬
‫م ِبال ْك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫عَلى أن ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ر‬‫ف ِ‬ ‫ه ْ‬
‫س ِ‬‫ف ِ‬ ‫ن َ‬
‫دي َ‬
‫ه ِ‬
‫شا ِ‬ ‫جدَ الل ّ ِ‬
‫ه َ‬ ‫سا ِ‬
‫م َ‬
‫مُروا َ‬‫ع ُ‬
‫ن يَ ْ‬
‫نأ ْ‬ ‫كي َ‬
‫ر ِ‬
‫ش ِ‬ ‫ل ِل ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫عَلى أنفسهم بما يفعلونه‪ ،‬والمقصود أنه‬ ‫]التوبة‪ [17:‬فهذه شهادة منهم َ‬
‫‪-‬سبحانه‪ -‬يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه‪ ،‬ودللتها إنما هي‬
‫بخلقه وجعله[ اهـ‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫عَلى أن الله قد بين أنواع‬


‫ه‪ -‬أن يستشهد َ‬ ‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف ‪َ-‬ر ِ‬
‫مصن ّ ُ‬‫لما أراد ال ُ‬
‫جاءَ بآية الشهادة وهي من أعظم الدلئل‬‫قْرآن كله توحيد‪َ ،‬‬ ‫التوحيد‪ ،‬وأن ال ُ‬
‫قْرآن هو الدعوى وهو الشاهد‪ ،‬وهو أيضا ً الحكم‬ ‫عَلى الصل الكلي‪ :‬أن ال ُ‬ ‫َ‬
‫وهذه الثلث من خصائص ال ُ‬
‫قْرآن‪.‬‬

‫ه‬
‫حان َ ُ‬ ‫عَلى أنه من عند الله ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫فالقرآن تضمن الدعوى والبرهان القاطع َ‬
‫قْرآن‬ ‫عاَلى فكل من أراد أن يتأمل حقيقة الدعوى‪ ،‬عليه أن يتأمل ال ُ‬
‫وت َ َ‬
‫َ‬
‫فإن الدعوى هي نفسها البرهان‪.‬‬

‫عاَلى ففيها الدعوى وفيها‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬


‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫هذه الية هي حقا ً من كتاب الله ُ‬
‫وُأوُلو‬ ‫وال ْ َ‬
‫ملئ ِك َ ُ‬
‫ة َ‬ ‫و َ‬ ‫ه إ ِّل ُ‬
‫ه َ‬ ‫ه ل إ ِل َ َ‬
‫شهد الل ّ َ‬
‫ه أن ّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ِ َ‬ ‫البرهان معا ً قال تعالى‪:‬‬
‫م ]آل عمران‪ [18:‬ث ُ ّ‬
‫م‬ ‫كي ُ‬‫ح ِ‬ ‫زيُز ال ْ َ‬ ‫ع ِ‬‫و ال ْ َ‬ ‫ه إ ِّل ُ‬
‫ه َ‬ ‫ط ل إ ِل َ َ‬
‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫قاِئما ً ِبال ْ ِ‬
‫عل ْم ِ َ‬
‫ال ْ ِ‬
‫م ]آل عمران‪ [19:‬هذه الشهادة شهادة‬ ‫سل ُ‬ ‫ه اْل ِ ْ‬
‫عن ْدَ الل ّ ِ‬
‫ن ِ‬ ‫دي َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ل‪ ِ) :‬إ ّ‬‫قا َ‬ ‫َ‬
‫عاَلى لنفسه‪ ،‬فما بالكم بأمر يكون الشاهد فيه هو الله‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫الله ُ‬
‫عالى والمشهود له هو الله سبحانه‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ُ‬
‫عاَلى أنه هو وحده الله فهو الشاهد‪ ،‬وهو المشهود له؛‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫فيشهد ُ‬
‫عاَلى‪ :-‬إن هذه الية تضمنت إثبات‬‫ه تَ َ‬
‫ه الل ُ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف ‪َ-‬ر ِ‬
‫مصن ّ ُ‬ ‫ولذلك يقول ال ُ‬
‫عَلى جميع طوائف الضلل الذين خالفوا في توحيد‬ ‫حقيقة التوحيد والرد َ‬
‫عاَلى وأنها تضمنت أجل شهادة وأعظمها وأعدلها‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫الله ُ‬
‫وأصدقها من أجل شاهد بأجل مشهود به وهو التوحيد‪.‬‬

‫عن ْدَ الل ّ ِ‬


‫ه‬ ‫ن ِ‬
‫دي َ‬
‫ن ال ّ‬
‫جاءَ بعدها قول الله تعالى‪ِ ) :‬إ ّ‬
‫فهي الشهادة التي َ‬
‫م فشهادة أن ل إله الله هي‪ :‬دين السلم وحقيقته‪ ،‬وبقية أركان‬ ‫اْل ِ ْ‬
‫سل ُ‬
‫السلم وشعب اليمان هي أسنان لهذه الشهادة‪.‬‬

‫عَلى دين‬ ‫وسبب نزول سورة آل عمران أن وفد نجران الذين كانوا َ‬
‫م وجادلوه في ألوهية‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬ ‫الّنصاَرى‪ ،‬جاءوا إ َِلى النبي صّلى الل ُ‬
‫عاَلى هذه اليات‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫المسيح وبنوته لله ‪-‬كما يعتقدون‪ -‬فأنزل الله ُ‬
‫ء الّنصاَرى في‬ ‫ؤل ِ‬ ‫ه ُ‬‫سلم‪ ،‬ورد دعاوى َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه ال ّ‬ ‫يبين فيها حقيقة المسيح َ‬
‫عاَلى أن ملة إبراهيم هي التوحيد‪،‬‬ ‫ألوهية المسيح أو أنه ابن لله‪ ،‬وبين ت َ َ‬
‫وأن أولى الّناس بإبراهيم هم الذين آمنوا به في عهده والنبي صّلى الل ُ‬
‫ه‬
‫عَلى أهل الكتاب أنهم يكتمون الحق‪،‬‬ ‫م ومن اتبعه أيضًا‪ ،‬وأنكر َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬
‫وأنهم يلبسون الحق بالباطل‪ ،‬وألزمهم إن لم تنفع وتجدي فيهم هذه‬
‫الحجج بالحجة المعروفة المشهورة التي لو تأملها كل من ينتمي إ َِلى هذا‬
‫الدين ليقن بحقيقة دين السلم‪ ،‬وهي أنكم إن كنتم تقولون‪ :‬أن‬
‫عاَلى الله عن ذلك علوا ً كبيرا ً ‪-‬لنه‬ ‫سلم هو ابن لله! ‪ -‬ت َ َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه ال ّ‬ ‫المسيح َ‬
‫ولد من أم بل أب‪ ،‬فماذا تقولون في آدم؟!‬

‫ن‬ ‫في َ ُ‬
‫كو ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ل لَ ُ‬
‫ه كُ ْ‬ ‫م َ‬
‫قا َ‬ ‫ب ثُ ّ‬‫ن ت َُرا ٍ‬ ‫م ْ‬
‫ه ِ‬ ‫خل َ َ‬
‫ق ُ‬ ‫م َ‬ ‫مث َ ِ‬
‫ل آد َ َ‬ ‫عن ْدَ الل ّ ِ‬
‫ه كَ َ‬ ‫سى ِ‬ ‫عي َ‬‫ل ِ‬ ‫مث َ َ‬
‫ن َ‬
‫إِ ّ‬
‫]آل عمران‪ [59:‬فالعجوبة الخارقة في آدم أعظم منها في عيسى‪،‬‬
‫م إنه خلق حواء‬ ‫عاَلى‪ -‬خلق آدم من غير أب ول أم‪ ،‬ث ُ ّ‬ ‫وت َ َ‬
‫ك َ‬ ‫لن الله ‪-‬ت ََباَر َ‬
‫ها ]النساء‪ [1:‬بدون أم‪ ،‬وخلق‬ ‫ج َ‬
‫و َ‬‫ها َز ْ‬‫من ْ َ‬ ‫خل َ َ‬
‫ق ِ‬ ‫و َ‬
‫َ‬ ‫من أب ‪-‬وهو آدم‪-‬‬
‫عاَلى‪ -‬يخلق ما‬ ‫وت َ َ‬
‫ك َ‬ ‫سلم من أم بدون أب‪ ،‬فالله ‪-‬ت ََباَر َ‬ ‫ه ال ّ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫عيسى َ‬
‫يشاء‪ ،‬فلماذا يكون عيسى هو إله أو ابن لله كما تزعمون؟!‬

‫وبعد ذلك تأتي الحجة الخيرة الدامغة في مناظرتنا دائما ً لهل الكتاب‬
‫عاَلى في ذلك إذا حاجونا من‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫وهي المباهلة‪ ،‬ولهذا يقول الله ُ‬
‫عاَلى لنبيه‪:‬‬ ‫بعد ما جاءتهم البينات موضحة لهم‪ ،‬أن نقول كما قال الله ت َ َ‬
‫َ‬ ‫وأ َن ْ ُ‬ ‫ع أ َبَناءََنا َ‬
‫سك ُ ْ‬
‫م ثُ ّ‬
‫م‬ ‫وأ ن ْ ُ‬
‫ف َ‬ ‫سَنا َ‬ ‫ف َ‬ ‫ساءَك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ون ِ َ‬‫ساءََنا َ‬ ‫ون ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫وأب َْناءَك ُ ْ‬‫َ‬ ‫وا ن َدْ ُ ْ‬ ‫عال َ ْ‬ ‫ق ْ‬
‫ل تَ َ‬ ‫ف ُ‬‫َ‬
‫ن ]آل عمران‪.[61:‬‬ ‫كاِذِبي َ‬ ‫عَلى ال ْ َ‬ ‫ه َ‬‫ت الل ّ ِ‬ ‫ل لَ ْ‬
‫عن َ َ‬ ‫ع ْ‬‫ج َ‬ ‫ل َ‬
‫فن َ ْ‬ ‫ه ْ‬‫ن َب ْت َ ِ‬
‫وعبارات السلف في شهد جاءت بمعنى‪ :‬حكم‪ ،‬وقضى‪ ،‬وأعلم‪ ،‬وبين‬
‫وأخبر‪ ،‬وكلها حق‪ ،‬فحكم الله ‪-‬سبحانه‪ -‬أنه ل إله إل هو‪ ،‬وقضى أنه ل إله‬
‫إل هو‪ ،‬وأعلم أنه ل إله إل هو‪ ،‬وبين‪ ،‬وأخبر أنه ل إله إل هو‪ ،‬فكل ذلك‬
‫حق وكل ذلك تتضمنه كلمة شهد‪ ،‬فإذا أردنا أن نتبين ذلك فلنعلم مراتب‬
‫الشهادة‪.‬‬
‫• مراتب الشهادة‬
‫هذه الشهادة تتضمن أربع مراتب وهي‪ :‬العلم‪ ،‬والتكلم‪ ،‬والعلم والخبار‪ ،‬والمر‬
‫واللزام‪.‬‬
‫الولى‪ :‬مرتبة العلم‪ ،‬فعندما نقول‪ :‬فلن يشهد بشيء‪ ،‬معنى ذلك‬
‫أنه يعلمه لنه شهد به‪ ،‬لكن فرق بين مرتبة العلم ومرتبة العلم؛‬
‫سان قد يعلم الشيء ولكنه ل يتكلم به ول يخبر به‪.‬‬
‫لن َ‬
‫لن ا ِ‬
‫وهذه المرتبة قد دلت عليها أدلة كثيرة من كتاب الله تعالى‪ ،‬ومن‬
‫م‪.‬‬‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫سنة رسوله َ‬
‫والمخلوقون ينبغي لهم أن يعلموا حقيقة هذه الشهادة أيضًا‪ :‬إ ِّل‬
‫ن ]الزخرف‪ [86:‬أي‪ :‬أنه ل إله إل هو‪،‬‬ ‫عل َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫م يَ ْ‬
‫ه ْ‬ ‫و ُ‬
‫ق َ‬ ‫ح ّ‬‫هدَ ِبال ْ َ‬ ‫ش ِ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫َ‬
‫عالى‪ -‬يعلم أنه ل يوجد هناك إله معبود بحق سواه‬ ‫َ‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫فهو ‪ُ -‬‬
‫عاَلى‪ -‬ول يمكن أن يكون شيء خارج عن علم الله‪ ،‬فهذا‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫‪ُ -‬‬
‫علم الله‪.‬‬

‫ه‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ن فالعلم بها‪ :‬أن نعتقدها ونصدقها بأنه ‪ُ -‬‬
‫ح ُ‬
‫وفي حقنا ن َ ْ‬
‫عاَلى‪ -‬واحد ل شريك له‪.‬‬ ‫وت َ َ‬
‫َ‬
‫عَلى مثلها فاشهد( فهذا‬ ‫الثانية‪ :‬مرتبة التكلم‪ ،‬وفيه الحديث‪َ ) :‬‬
‫جاءَ إ َِلى‬
‫الحديث معناه صحيح ولكن لفظه ضعيف‪ ،‬وهو }أن رجل ً َ‬
‫صّلى‬
‫م فسأل عن الشهادة‪ ،‬فأشار النبي َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫النبي َ‬
‫عَلى مثلها فاشهد‪ ،‬أو دع {‬ ‫ل‪َ :‬‬ ‫م إ َِلى الشمس و َ‬
‫قا َ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬‫الل ُ‬
‫سان ل يشهد إل بما يعلم ل بما يظن‪ ،‬فل يجوز لشاهد في‬ ‫لن َ‬
‫فا ِ‬
‫قضية دنيوية أن يشهد فيها بظنه؛ وإنما يشهد بما يعلم وما هو‬
‫متأكد ومستيقن منه‪ ،‬فما بالك بمن يشهد أنه ل إله إل هو!‬

‫عاَلى وبالنسبة‬
‫فمرتبة التكلم‪ :‬أن تتكلم بما تشهد به بالنسبة لله ت َ َ‬
‫عاَلى‪ -‬تكلم بهذه‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫لنا‪ ،‬فتتكلم به وتقول للناس‪ :‬إن الله ‪ُ -‬‬
‫قْرآن شهادة أن ل إله إل الله والمر‬ ‫الشهادة‪ ،‬فجاءت ضمن ال ُ‬
‫بتوحيد الله‪.‬‬

‫عَلى ذلك في كتاب الله قال‬ ‫والتكلم بشيء شهادة له‪ ،‬والدليل َ‬
‫َ‬
‫ن إ َِناثا ً أ َ‬
‫دوا‬
‫ه ُ‬
‫ش ِ‬ ‫م ِ‬
‫ح َ‬
‫عَبادُ الّر ْ‬
‫م ِ‬ ‫ه ْ‬
‫ن ُ‬ ‫ذي َ‬‫ة ال ّ ِ‬‫ملئ ِك َ َ‬ ‫عُلوا ال ْ َ‬
‫ج َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬ ‫تعالى‪:‬‬
‫َ‬ ‫خل ْ َ‬
‫ن ]الزخرف‪ [19:‬فهذا القول‬ ‫سألو َ‬ ‫وي ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫هادَت ُ ُ‬‫ش َ‬ ‫ب َ‬‫ست ُك ْت َ ُ‬ ‫م َ‬
‫ه ْ‬
‫ق ُ‬ ‫َ‬
‫بذاته شهادة‪ ،‬فهم شهدوا بأن الملئكة إناث مع أنهم لم يقولوا‬
‫شهدنا‪ ،‬وإنما قالوا‪ :‬الملئكة إناث‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬مرتبة العلم والخبار‪ :‬وهي أن تتكلم بشيء فتخبر غيرك‬
‫عَلى نوعين‪ ،‬فقد يكون‬
‫به وهذا يكون شهادة‪ ،‬يقول المصنف‪ :‬إنه َ‬
‫بالفعل وقد يكون بالقول‪.‬‬

‫النوع الول‪ :‬ومثاله‪ :‬لو أن إنسانا ً فتح بابا ً لمبنى وجاء الّناس‬
‫ل‪ -‬فهو وإن لم‬‫يصلون فيه‪ ،‬وفرشه ووضع فيه مكبر الصوت ‪-‬مث ً‬
‫يكتب صكا ً بأن هذا وقف فإنه يحكم فيه أنه وقف‪ .‬ومثله إنسان‬
‫يفتح بابه ويضع مائدة يدخل الّناس إليها‪ ،‬ويأتي الذي يعرف والذي‬
‫ل يعرف‪ ،‬فهو كأنه يقول‪ :‬تعالوا أنا أدعوكم إ َِلى وليمة‪ ،‬ودللة‬
‫عَلى أنه معلن ومخبر‪.‬‬ ‫الحال تدل عليه‪ ،‬ففعله هذا يدل َ‬

‫والعلم يكون بالفعل المجرد عن اللفظ‪ ،‬ويكون ذلك في حق الله‬


‫عاَلى‪ -‬بأن الله شهد بفعله وبقوله‪ :‬أنه ل إله إل هو‪،‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫‪ُ -‬‬
‫ولذلك قال ابن كيسان ‪ :‬شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة‬
‫عاَلى‪ -‬السماء‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫عند خلقه أنه ل إله إل هو‪ .‬حيث جعل الله ‪ُ -‬‬
‫بروجًا‪ ،‬وجعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا‪،‬‬
‫سان في أحسن تقويم‪ ،‬وأنزل من السماء ماء فأخرج به‬ ‫لن َ‬ ‫وخلق ا ِ‬
‫ة ألوانها‪ ،‬وبث في الرض من كل دابة‪ ،‬وسخر الرياح‬ ‫ثمرات مختلف ً‬
‫وسخر النجوم‪.‬‬

‫عاَلى‪ -‬شهد أنه ل إله إل‬ ‫وت َ َ‬


‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫فبهذه الفعال التي فعلها الله ‪ُ -‬‬
‫هو كما قالأبو العتاهية ‪:‬‬
‫أم كيف يجحده الجاحد‬ ‫فواعجبا ً كيف ُيعصى الله‬
‫تدل عََلى أنه الواحـد‬ ‫ة‬
‫وفي كل شيء لـه آيـ ٌ‬
‫فهذه من الشهادة بالفعل‪ ،‬ولذلك يكون الخبار عن صدق ال ُ‬
‫قْرآن‬
‫دل عليه السمع والبصر والقلب والنقل الذي هو الشرع‪.‬‬

‫عل ْ ٌ‬
‫م‬ ‫ه ِ‬ ‫س لَ َ‬
‫ك بِ ِ‬ ‫ما ل َي ْ َ‬‫ف َ‬‫ق ُ‬ ‫ول ت َ ْ‬‫َ‬ ‫عاَلى‪:-‬‬ ‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫فعندما يقول الله ‪ُ -‬‬
‫ُ‬
‫ل أول َئ ِ َ‬ ‫وال ْ ُ‬
‫ؤول ً ]السراء‪:‬‬ ‫س ُ‬
‫م ْ‬‫ه َ‬‫عن ْ ُ‬
‫ن َ‬‫كا َ‬‫ك َ‬ ‫ؤادَ ك ُ ّ‬ ‫ف َ‬ ‫صَر َ‬ ‫وال ْب َ َ‬
‫ع َ‬ ‫م َ‬ ‫س ْ‬
‫ن ال ّ‬ ‫إِ ّ‬
‫‪ [36‬وكما في اليات الخرى التي تتحدث عن الصنام والمعبودين‬
‫عاَلى‪ -‬أنه ليس لهم سمع وليس لهم بصر‪،‬‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫من دون الله ‪ُ -‬‬
‫م إ ِّل‬
‫ه ْ‬ ‫ن ُ‬‫وكذلك اليات التي تنفي السمع عمن يعبدون الصنام إ ِ ْ‬
‫ه‬‫صّلى الل ُ‬ ‫سِبيل ً ]الفرقان‪ [44:‬وأن النبي َ‬ ‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫م أَ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ل ُ‬‫عام ِ ب َ ْ‬‫كاْل َن ْ َ‬ ‫َ‬
‫عمي البصار‪ ،‬ول يعطي الصم السماع‪.‬‬ ‫م ل يعطي ال ُ‬ ‫سل ّ َ‬
‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫َ‬
‫عَلى‬ ‫ج ّ‬
‫ل‪ -‬قد جعل اليات الدالة َ‬ ‫و َ‬ ‫عَلى أن الله ‪َ -‬‬
‫عّز َ‬ ‫هذه كلها تدل َ‬
‫توحيده من هذه المنافذ العظيمة ‪ -‬منفذ السمع والبصر‪ -‬فما يبصره‬
‫سان في هذا الكون من المخلوقات تنطق وتشهد بأنه ل إله إل‬ ‫لن َ‬
‫ا ِ‬
‫هو‪ ،‬وإن لم تتكلم بالكلم الحسي الذي نألفه ونعرفه‪.‬‬
‫• دللة الشهادة بالفعل‬
‫ه‪] :-‬ومما يدل عََلى أن الشهادة تكون بالفعل[ قوله‬ ‫ه الل ّ ُ‬‫م ُ‬
‫ح َ‬‫صّنف ‪َ-‬ر ِ‬ ‫م ْ‬
‫يقول ال ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م ِبالك ُفْ ِ‬
‫ر‬ ‫سهِ ْ‬
‫ف ِ‬‫ن عَلى أن ْ ُ‬
‫دي َ‬ ‫جد َ اللهِ َ‬
‫شاهِ ِ‬ ‫سا ِ‬
‫م َ‬
‫مُروا َ‬
‫ن ي َعْ ُ‬
‫نأ ْ‬ ‫كي َ‬‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ل ِل ُ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫تعالى َ‬
‫]التوبة‪ [17:‬فهذه شهادتهم عََلى أنفسهم بما يفعلون من أعمال الكفر وأقواله ‪-‬‬
‫في بعض طبعات الكتاب نقص‪ ،‬والزيادة هي قوله‪] :‬بما يفعلون من أعمال الكفر‬
‫وأقواله[‪ -‬فهي شهادة بكفرهم‪ ،‬وهم شاهدون عََلى أنفسهم بما شهدت عليهم[‪.‬‬
‫فلو أن إنسانا ً يأكل الحرام ‪-‬أجارنا الله وإياكم‪ -‬وفي يوم من اليام‬
‫عَلى نفسه‪،‬‬ ‫وقف وتكلم عن تحريم أكل الحرام فإنك ستقول‪ :‬شهد َ‬
‫عَلى نفسي‪.‬‬ ‫وإن لم يقل أشهد َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫نأ ْ‬ ‫كي َ‬ ‫ر ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫ن ل ِل ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫كا َ‬‫ما َ‬ ‫ن‪َ ) :‬‬ ‫كي َ‬
‫ر ِ‬‫ش ِ‬ ‫عاَلى عن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ومثله ما قاله الله ت َ َ‬
‫م ِبال ْك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫عَلى أن ْ ُ‬
‫ر فإن هذا الفعل‬ ‫ف ِ‬ ‫ه ْ‬
‫س ِ‬‫ف ِ‬ ‫ن َ‬
‫دي َ‬
‫ه ِ‬ ‫ه َ‬
‫شا ِ‬ ‫جدَ الل ّ ِ‬
‫سا ِ‬
‫م َ‬
‫مُروا َ‬
‫ع ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬ ‫عَلى أنهم لم يوحدوا الله ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫منهم شهادة بكفرهم ودللة َ‬
‫عاَلى‪.‬‬‫وت َ َ‬‫َ‬
‫عاَلى‪:‬‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫ه تَ َ‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ف َر ِ‬
‫صن ّ ُ‬
‫م ْ‬
‫ل ال ُ‬ ‫َ‬
‫قا َ‬

‫ن مجرد الشهادة ل‬ ‫كا َ‬ ‫]وأما مرتبة المر بذلك واللزام به وإن َ‬


‫يستلزمه‪ ،‬لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه فإنه‬
‫‪-‬سبحانه‪ -‬شهد به شهادة من حكم به‪ ،‬وقضى وأمر وألزم عباده به‪،‬‬
‫ضى رب َ َ‬
‫ه ]السراء‪[23:‬‬ ‫دوا إ ِّل إ ِّيا ُ‬ ‫عب ُ ُ‬‫ك أّل ت َ ْ‬ ‫َ ّ‬ ‫ق َ‬‫و َ‬ ‫َ‬ ‫كما قال تعالى‪:‬‬
‫ن ]النحل‪ [51:‬وقال‬ ‫ن اث ْن َي ْ ِ‬‫هي ْ ِ‬‫ذوا إ ِل َ َ‬‫خ ُ‬‫ه ل ت َت ّ ِ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫قا َ‬ ‫و َ‬
‫وقال تعالى‪َ :‬‬
‫حدا ً ]التوبة‪ [31:‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ُ‬
‫وا ِ‬ ‫دوا إ َِلها ً َ‬ ‫عب ُ ُ‬‫مُروا إ ِّل ل ِي َ ْ‬ ‫ما أ ِ‬ ‫و َ‬‫َ‬ ‫تعالى‪:‬‬
‫ع‬
‫ول ت َدْ ُ‬‫َ‬ ‫خَر ]السراء‪ [39:‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ه إ َِلها ً آ َ‬ ‫ع الل ّ ِ‬ ‫م َ‬‫ل َ‬ ‫ع ْ‬ ‫ج َ‬
‫ول ت َ ْ‬
‫َ‬
‫خَر ]القصص‪ [88:‬والقرآن كله شاهد بذلك‪.‬‬ ‫ً‬
‫ه إ ِلها آ َ‬‫َ‬ ‫ّ‬
‫ع الل ِ‬ ‫م َ‬
‫َ‬
‫ووجه استلزام شهادته ‪-‬سبحانه‪ -‬لذلك‪ :‬أنه إذا شهد أنه ل إله إل هو‪،‬‬
‫فقد أخبر وبّين وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله‪ ،‬وأن‬
‫إلهية ما سواه باطلة‪ ،‬فل يستحق العبادة سواه‪ ،‬كما ل تصلح اللهية‬
‫لغيره‪ ،‬وذلك يستلزم المر باتخاذه وحده إلها ً والنهي عن اتخاذ غيره‬
‫طب من هذا النفي والثبات‪ ،‬كما إذا‬‫معه إلهًا‪ ،‬وهذا يفهمه المخا َ‬
‫رأيت رجل ً يستفتي رجل ً أو يستشهده أو يستطّبه وهو ليس أهل ً‬
‫لذلك‪ ،‬ويدع من هو أهل ً له فتقول‪ :‬هذا ليس بمفت ول شاهد ول‬
‫طبيب‪ ،‬المفتي فلن‪ ،‬والشاهد فلن والطبيب فلن‪ ،‬فإن هذا أمر‬
‫منه ونهي‪.‬‬

‫عَلى أنه وحده المستحق للعبادة‪ ،‬فإذا أخبر أنه‬ ‫وأيضًا‪ :‬فالية دلت َ‬
‫هو وحده المستحق للعبادة‪ ،‬تضمن هذا الخبار أمر العباد وإلزامهم‬
‫عاَلى عليهم‪ ،‬وأن القيام بذلك هو خالص‬ ‫بأداء ما يستحقه الرب ت َ َ‬
‫حقه عليهم‪.‬‬
‫وأيضًا‪ :‬فلفظ "الحكم" و"القضاء" يستعمل في الجمل الخبرية‪،‬‬
‫ويقال للجمل الخبرية‪ :‬قضية‪ ،‬وحكم‪ ،‬وقد حكم فيها بكذا‪ ،‬قال‬
‫م لَ َ‬ ‫َ‬
‫ن*‬‫كاِذُبو َ‬ ‫ه ْ‬
‫وإ ِن ّ ُ‬‫ه َ‬ ‫ول َدَ الل ّ ُ‬‫ن* َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫م ل َي َ ُ‬‫ه ْ‬ ‫فك ِ ِ‬‫ن إِ ْ‬‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫تعالى‪ :‬أل إ ِن ّ ُ‬
‫َ‬
‫ن ]الصافات‪:‬‬ ‫مو َ‬ ‫حك ُ ُ‬‫ف تَ ْ‬ ‫م ك َي ْ َ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬‫ن* َ‬ ‫عَلى ال ْب َِني َ‬ ‫ت َ‬ ‫فى ال ْب ََنا ِ‬ ‫صطَ َ‬ ‫أ ْ‬
‫‪ [154-151‬فجعل هذا الخبار المجرد منهم حكما ً وقال تعالى‪:‬‬
‫ن ]القلم‪:‬‬ ‫مو َ‬ ‫حك ُ ُ‬‫ف تَ ْ‬ ‫م ك َي ْ َ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬ ‫ن* َ‬ ‫مي َ‬ ‫ر ِ‬ ‫ج ِ‬‫م ْ‬‫كال ْ ُ‬
‫ن َ‬ ‫مي َ‬‫سل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ال ْ ُ‬
‫ع ُ‬‫ج َ‬ ‫أَ َ‬
‫فن َ ْ‬
‫‪ [35،36‬لكن هذا حكم ل إلزام معه‪.‬‬

‫ن المراد‬ ‫والحكم والقضاء بأنه ل إله إل هو متضمن لللزام‪ .‬ولو َ‬


‫كا َ‬
‫مجرد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها‪ ،‬ولم ينتفعوا بها ولم تقم‬
‫عليهم بها الحجة‪ ،‬بل قد تضمنت البيان للعباد ودللتهم وتعريفهم‬
‫بما شهد به‪ ،‬كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة ولم‬
‫نل‬ ‫يبينها بل كتمها‪ ،‬لم ينتفع بها أحد ولم تقم بها حجة‪ ،‬وإذا َ‬
‫كا َ‬
‫ينتفع بها إل ببيانها‪ ،‬فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلثة‪:‬‬

‫السمع والبصر والعقل[ اهـ‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ه الل ّ ُ‬
‫ه المرتبة الخيرة من مراتب الشهادة وهي‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬
‫م ْ‬
‫ذكر ال ُ‬
‫أهم المراتب‪ :‬مرتبة المر واللزام به‪.‬‬

‫ن مجرد الشهادة ل يستلزمه؛ لنه إذا شهد إنسان‬ ‫كا َ‬‫وقلنا‪ :‬وإن َ‬
‫بشيء فشهادته في الصل ل تستلزم أمرا ً ول نهيا ً ولذا يقول‬
‫عاَلى‪-‬‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫المصنف‪ :‬لكن الشهادة في موضع التوحيد لله ‪ُ -‬‬
‫تستلزم وتتضمن ذلك‪- ،‬أي‪ :‬المرتبة الرابعة والخيرة‪ -‬فإن الله‬
‫عاَلى‪ -‬شهد شهادة من حكم وأمر وقضى به‪ ،‬ولذلك‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬ ‫‪ُ -‬‬
‫عَلى المر والقضاء بتوحيد الله‬ ‫قْرآن دالة َ‬ ‫جاءت اليات في ال ُ‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫عاَلى‪ ،‬وهو ما يقتضي أن شهادة الله عندما قال ُ‬ ‫وت َ َ‬‫ه َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫ُ‬
‫ه إ ِّل ُ‬ ‫َ‬
‫و ]آل عمران‪ [18:‬تتضمن أمر‬ ‫ه َ‬ ‫ه ل إ ِل َ َ‬ ‫ه أن ّ ُ‬ ‫هدَ الل ّ ُ‬ ‫عالى‪َ :‬ش ِ‬
‫وت َ َ َ‬ ‫َ‬
‫مُروا إ ِلّ‬ ‫الله بأنه ل يكون هناك إله إل هو‪ ،‬وقال تعالى‪ :‬وما أ ُ‬
‫ِ‬ ‫َ َ‬
‫خَر‬ ‫ً‬
‫ه إ ِلها آ َ‬‫َ‬ ‫ّ‬
‫ع الل ِ‬ ‫م َ‬ ‫ل َ‬ ‫ع ْ‬‫ج َ‬
‫ول ت َ ْ‬
‫ن ]البينة‪َ [5:‬‬ ‫دي َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫صي َ‬ ‫خل ِ ِ‬‫م ْ‬
‫ه ُ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫عب ُ ُ‬‫ل ِي َ ْ‬
‫خر ]القصص‪ [88:‬إ َِلى غير‬ ‫ه إ َِلها ً آ َ‬
‫ع الل ّ ِ‬‫م َ‬
‫ع َ‬ ‫]السراء‪َ ) [22،39:‬ل ت َدْ ُ‬
‫ذلك‪.‬‬

‫فالمرتبة الرابعة من مراتب الشهادة‪ :‬هي أمر الله وقضاؤه وحكمه‬


‫عاَلى‪ -‬دون من سواه‪ ،‬كما دلت‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫بأن يفرد ويوحد بالعبادة ‪ُ -‬‬
‫اليات الخرى التي ورد فيها القضاء والمر‪ ،‬وورد فيها النهي‪.‬‬

‫فمجرد الشهادة في ذاتها ل تتضمن المر؛ لكن هذه الشهادة ‪-‬‬


‫خاصة‪ -‬أنه "ل إله إل الله" تستلزم المر‪ ،‬ووجه استلزامها ذلك أن‬
‫عاَلى‪ -‬شهد أنه يعلم أنهم ما يدعون من دونه من‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫الله ‪ُ -‬‬
‫م أخبر به كما في الية‪،‬‬ ‫شيء‪ ،‬فهو يعلم أنه هو الله الله الواحد ث ُ ّ‬
‫ن هو الله المعبود‬ ‫ويتضمن ذلك أن إلهية ما سوى الله باطلة إذ َ‬
‫كا َ‬
‫بحق‪.‬‬

‫ل‪ :‬لو جئت إ َِلى إنسان‬ ‫ه الل ّ ُ‬


‫ه لذلك مثال ً َ‬
‫في َ ُ‬
‫قو ُ‬ ‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫صّنف َر ِ‬
‫م ْ‬
‫ويضرب ال ُ‬
‫قد ذهب إ َِلى طبيب ما‪ ،‬فقلت له‪ :‬ليس هذا بطبيب‪ ،‬الطبيب فلن‪،‬‬
‫فأنت الن لم تأمر باللفظ ولم تنه ولكن دللة ذلك أنك تقول‪ :‬دع‬
‫سان واذهب إ َِلى الطبيب الذي هو فلن‪.‬‬ ‫لن َ‬
‫هذا ا ِ‬
‫فعندما تقول‪ :‬ل إله إل الله فهذا نفي وإثبات‪ ،‬وهو متضمن للمر‬
‫والنهي أي‪ :‬ل تعبدوا هذه اللهة واعبدوا الله‪ ،‬فمعنى أنه إله ورب‬
‫إلزام العباد أن يعبدوه وحده وأن العبادة خالص حقه ‪-‬كما في‬
‫عَلى العباد‬ ‫سل ّ َ‬
‫م‪) :‬حق الله َ‬ ‫و َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫صّلى الل ُ‬
‫ه َ‬ ‫الحديث المشهور‪ -‬قال َ‬
‫ً‬
‫أن يعبدوه ول يشركوا به شيئا( ‪.‬‬
‫• من استعمالت الحكم والقضاء‬
‫ومن الدلة عََلى أن لفظ الحكم والقضاء قد يستعمل في الجمل الخبرية‪:‬‬
‫أو ً‬
‫ل‪ :‬أن الكلم نوعان‪" :‬خبر‪ ،‬وإنشاء" والفرق بينهما أن الجملة‬
‫جاءَ فلن‪ ،‬ويقول آخر‪ :‬ما‬
‫الخبرية تحتمل الصدق والكذب‪ ،‬تقول‪َ :‬‬
‫جاءَ فلن‪ ،‬فهذا محتمل الرد أو القبول يعني‪ :‬التصديق أو التكذيب‪.‬‬‫َ‬
‫وأما الجمل النشائية فهي التي ل تتضمن ذلك مثل المر‪ ،‬كأن‬
‫تقول‪ :‬قم يا فلن‪ ،‬فهذا ل يحتمل الصدق والكذب‪ ،‬ومثل‬
‫الستفهام‪ ،‬تقول كيف حال فلن؟ فهذا ل يحتمل أن تقول له‬
‫كذبت‪.‬‬

‫والحكم والقضاء في الصل أمر ونهي ويكون في الجمل النشائية‪،‬‬


‫ة ]البقرة‪[110:‬‬ ‫وآُتوا الّز َ‬
‫كا َ‬ ‫صلةَ َ‬
‫موا ال ّ‬‫قي ُ‬ ‫وأ َ ِ‬
‫َ‬ ‫فإذا قال الله تعالى‪:‬‬
‫شَرُبوا ]العراف‪ [31:‬هذه الوامر‬ ‫قوا ]الجمعة‪َ ) [9:‬ك ُُلوا َ‬
‫وا ْ‬ ‫وأ َن ْ ِ‬
‫ف ُ‬ ‫َ‬
‫كلها إنشاء‪.‬‬

‫ه إ ِّل ُ‬ ‫شهد الل ّ َ‬


‫و ]آل عمران‪ [18:‬هذا‬ ‫ه َ‬ ‫ه ل إ ِل َ َ‬
‫ه أن ّ ُ‬
‫ُ‬ ‫َ ِ َ‬ ‫فقوله تعالى‪:‬‬
‫ن وصدق‬ ‫ر ُ‬
‫كو َ‬ ‫م ْ‬
‫ش ِ‬ ‫خبر‪ ،‬ولذلك يحتمل التكذيب‪ ،‬وقد كذب به الكفار ال ُ‬
‫به المؤمنون فهذه الجمل خبرية‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬أن المرتبة الرابعة من مراتب الشهادة‪ :‬فيها المر واللزام‬


‫وهو متعلق بالجمل النشائية‪ ،‬والية هي جملة خبرية‪ ،‬فهذا إشكال‪،‬‬
‫وحله أن لفظ‪" :‬الحكم والقضاء" يأتي في الجمل الخبرية‪ ،‬فإذا‬
‫م‬ ‫َ‬
‫ه ْ‬
‫أخبرنا إنسان بشيء فكأنه أنشأ فحكم ودليله من القرآن‪ :‬أل إ ِن ّ ُ‬
‫َ‬
‫ت‬‫فى ال ْب ََنا ِ‬
‫صطَ َ‬ ‫ن*أ ْ‬ ‫م لَ َ‬
‫كاِذُبو َ‬ ‫ه ْ‬
‫وإ ِن ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ول َدَ الل ّ ُ‬
‫ن* َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫م ل َي َ ُ‬‫ه ْ‬
‫فك ِ ِ‬ ‫ن إِ ْ‬
‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ن ]الصافات‪ [154-151:‬هم‬ ‫مو َ‬ ‫حك ُ ُ‬ ‫ف تَ ْ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬
‫م ك َي ْ َ‬ ‫ن* َ‬ ‫عَلى ال ْب َِني َ‬ ‫َ‬
‫عاَلى يقول‪:‬‬ ‫قالوا‪ :‬ولد الله‪ ،‬ولم يأمروا ويلزموا فهذا خبر والله ت َ َ‬
‫ن فهذا الكلم منهم حكم‪ ،‬مثلما قال عن قول‬ ‫مو َ‬ ‫حك ُ ُ‬
‫ف تَ ْ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬
‫م ك َي ْ َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ن ]الزخرف‪[19:‬‬ ‫سألو َ‬‫وي ُ ْ‬
‫م َ‬
‫ه ْ‬
‫هادَت ُ ُ‬ ‫ب َ‬
‫ش َ‬ ‫ست ُك ْت َ ُ‬ ‫َ‬ ‫الملئكة‪ :‬إنه شهادة‪:‬‬
‫فكما أن الله سمى اتخاذهم للولد حكمًا‪ ،‬لكنه حكم ل إلزام معه‪،‬‬
‫ه‬‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬‫عاَلى‪ -‬بأنه ل إله غيره وشهادته ‪ُ -‬‬ ‫وت َ َ‬ ‫ه َ‬‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫فإن حكم الله ‪ُ -‬‬
‫عاَلى‪ -‬تتضمن اللزام والمر‪ ،‬فتأتي الجمل الخبرية في موضع‬ ‫وت َ َ‬‫َ‬
‫الجمل النشائية‪ ،‬كما تأتي الجمل النشائية في موضع الجمل‬
‫ه‬
‫حان َ ُ‬‫سب ْ َ‬
‫الخبرية‪ ،‬وكل ذلك بحسب دللة المعنى‪ ،‬كما يقول الله ‪ُ -‬‬
‫ر ]إبراهيم‪ [10:‬فهذا استفهام لكن‬ ‫فاطِ ِ‬ ‫ك َ‬ ‫ش ّ‬‫ه َ‬ ‫في الل ّ ِ‬ ‫عاَلى‪ :-‬أ َ ِ‬ ‫وت َ َ‬ ‫َ‬
‫معناه نفي ‪-‬أي‪ :‬ليس في الله شك‪ -‬وهذا كله مفصل في علم‬
‫البلغة‪.‬‬
‫عَلى العباد حينما يعلمون أنه‬ ‫فهذه الشهادة فيها إقامة الحجة َ‬
‫أعلمهم بذلك‪ ،‬وشهد أن ل إله إل هو بآياته الكونية وآياته النفسية‪،‬‬
‫عاَلى‪ -‬قد بين‬
‫وت َ َ‬
‫ه َ‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫وبما أنزل من اليات القرآنية‪ ،‬فإن الله ‪ُ -‬‬
‫هذه الشهادة ‪-‬شهادة أن ل إله إل هو‪ -‬بطرق ثلث هي السمع‬
‫والبصر والعقل‪.‬‬

You might also like