‫الطبعة األولى‪ 1434 :‬هـ ‪ 2014 -‬م‬

‫الطبعة الثانية‪ 1436 :‬هـ ‪ 2015 -‬م‬

‫ردمك ‪978-614-01-0665-9‬‬

‫جميع الحقوق محفوظة‬

‫توزيع‬

‫عين التينة‪ ،‬شارع المفتي توفيق خالد‪ ،‬بناية الريم‬

‫هاتف‪(+961-1) 785107 - 785108 - 786233 :‬‬
‫ص‪ .‬ب‪ 13-5574 :‬شوران ‪ -‬بيروت ‪ - 1102-2050‬لبنان‬
‫فاكس‪ - (+961-1) 786230 :‬البريد اإللكتروني‪asp@asp.com.lb :‬‬
‫الموقع على شبكة اإلنترنت‪http: //www.asp.com.lb :‬‬

‫يمنـــع نأـــس عو اأـــتعمام عه جـــزت مـــي هـــلا الوتـــاأ بايـــة وأـــي ة ت ـــويرية عو الوترونيـــة عو‬
‫مقــروت عو بايــة‬ ‫ميوانيويــة بمــا ايــج التأــجيم الفوتــو راا والتأــجيم ى ــى ع ــرطة عو عق ـ ار‬
‫وأــي ة ن ــر عبــرف بمــا ايلــا حفــظ المع ومــا ‪ ،‬واأــترجاىلا مــي دوي خلي بط ـ مــي النا ــر‪.‬‬

‫ش‪.‬م‪.‬ل‬ ‫الدار العربية للعلوم ناشرون‬ ‫إن اآلراء الواردة يف هذا الكتاب ال تعرب بالضرورة عن رأي‬

‫صورة الغالف‪Wikimedia :‬‬

‫تصميم الغالف‪ :‬أامح ب ف‬

‫التنضيد وفرز األلوان‪ :‬عبجد راايوس‪ ،‬بيروت ‪ -‬هاتف ‪(+9611) 785107‬‬

‫الطباعة‪ :‬مطابع الدار العربية ل ع وم‪ ،‬بيروت ‪ -‬هاتف ‪(+9611) 786233‬‬

‫‪4‬‬
 ‫الفلرس‬

‫بيت يدز هيا اليتأو‪9 ...........................................................................‬‬

‫المقدمة ‪11......................................................................................‬‬

‫هذا الكتاب ‪11...................................................................................‬‬

‫أهمية البحث‪11..................................................................................‬‬
‫الفرضية ‪11......................................................................................‬‬
‫الدراسات السابقة‪11..............................................................................‬‬
‫المنهجية‪11......................................................................................‬‬

‫الفوي األوي‬
‫بيفية تأريبية‬
‫مقدمة ‪11........................................................................................‬‬
‫الوضع السياسي لبيت المقدس قبل بعثة النبي ﷺ‪11...........................................‬‬
‫الرومان والنصرانية‪11............................................................................‬‬
‫الوضع السياسي في بيت المقدس في مطلع بعثة النبي ﷺ ‪11..................................‬‬
‫الغزو الفارسي لبيت المقدس‪12...................................................................‬‬
‫مكانة بيت المقدس في اإلسالم ‪12................................................................‬‬
‫مواطن ذكر بيت المقدس في القرآن الكريم ‪11.....................................................‬‬
‫بيت المقدس قبلة المسلمين األولى‪11.............................................................‬‬
‫رحلة اإلسراء والمعراج‪13.........................................................................‬‬
‫الخالصة ‪44.....................................................................................‬‬

‫‪5‬‬
 ‫الفوي الثأن‬
‫الوثأئق األأأأية‬
‫مقدمة ‪42........................................................................................‬‬
‫الوثائق المتعلقة بالبحث ‪42.......................................................................‬‬
‫أولا‪ :‬اإلقطاعات‪11...............................................................................‬‬
‫إقطاع أبي ثعلبة‪11........................................................................‬‬
‫إقطاع بني جفال ‪11.......................................................................‬‬
‫إقطاع تميم الداري‪11......................................................................‬‬
‫إقطاع تميم الداري‪ :‬النسخة (‪11.................................................. )1‬‬
‫إقطاع تميم الداري‪ :‬النسخة (‪11.................................................. )1‬‬
‫إقطاع تميم الداري‪ :‬النسخة (‪12.................................................. )1‬‬
‫ثانيا‪ :‬المراسالت الدبلوماسية‪11...................................................................‬‬
‫ا‬
‫كتاب النبي ﷺ إلى هرقل‪11............................................................‬‬
‫ثالثاا‪ :‬المعاهدات السياسية ‪11.....................................................................‬‬
‫العهد إلى أهل أيلة ‪11.....................................................................‬‬
‫العهد إلى أهل مقنا ‪21.....................................................................‬‬
‫العهدة إلى أهل مقنا‪ :‬النسخة (‪21................................................ )1‬‬
‫العهدة إلى أهل مقنا‪ :‬النسخة (‪24................................................ )1‬‬
‫العهدة إلى أهل مقنا‪ :‬النسخة (‪21................................................ )1‬‬
‫العهدة إلى أهل مقنا‪ :‬النسخة (‪22................................................ )4‬‬
‫معاهدة النبي ﷺ ألهل أذرح‪31.........................................................‬‬
‫الخالصة ‪29.....................................................................................‬‬

‫الفوي الثألث‬
‫التحريأ العأيرية‬
‫مقدمة ‪22........................................................................................‬‬
‫السرايا والغزوات في حياة النبي ﷺ‪23.........................................................‬‬
‫سرية ِحسمى ‪191 .........................................................................‬‬
‫سرّية ّأم القرى والوقائع التي تلتها‪193 ......................................................‬‬

‫‪6‬‬
‫سرّية فدك‪192 ............................................................................‬‬
‫سرّية أم قرفة ‪119 .........................................................................‬‬
‫غزوة خيبر‪111 ...........................................................................‬‬
‫سرية فدك الثانية‪ ،‬وسرية الجناب‪111 ......................................................‬‬
‫سرية ذات أطالح‪114 .....................................................................‬‬
‫معركة مؤتة ‪111 ..........................................................................‬‬
‫سرّية ذات السالسل‪111 ...................................................................‬‬
‫سرّية الجناب الثانية ‪111 ..................................................................‬‬
‫غزوة تبوك ‪114 ...........................................................................‬‬
‫بعث أسامة‪111 ...........................................................................‬‬
‫الخالصة ‪112 ...................................................................................‬‬

‫البأتمة‪141 .....................................................................................‬‬

‫مرحلة التحضير ‪141 ............................................................................‬‬

‫الخطوات العملية‪142 ............................................................................‬‬
‫الخطوة األخيرة‪111 ..............................................................................‬‬

‫الموأدر والمراجع ‪111 ..........................................................................‬‬

‫‪7‬‬
 ‫بيت يدز هيا اليتأو‬

‫أصل هذا الكتاب مأخوذ عن أطروحة درجة الدكتوراه‬

‫اليت قدمها املؤلف يف ختصص دراسات بيت املقدس جبامعة‬
‫‪ Aberdeen‬يف اململكة املتحدة عام ‪1993‬م‪.‬‬

‫ويشار إىل أن ترمجة املادة األساسية والصياغة العربية متت‬

‫بالتعاون مع الباحث املترجم أ‪ .‬حممد سعد الدين زيدان‪،‬‬
‫فله جزيل الشكر والتقدير‪.‬‬

‫‪9‬‬
 ‫المقدمة‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على سيدنا حممد النبـي الكرمي‬
‫األمني وعلى آله وأصحابه أمجعني‪ ،‬وبعد‪،‬‬

‫هذا الكتاب‬
‫ي نقطةَ حتول‬‫يع ّد الفتح‪ 1‬اإلسالمي األول لبيت املقدس يف القرن السابع امليالد ّ‬
‫كربى يف تاريخ العامل يف القرون الوسطى‪ ،‬ذلك ألن بيت املقدس كان يرزح حتت‬
‫حكم واحدة من أقوى إمرباطوريات ذلك الزمان‪ ،‬أال وهي اإلمرباطورية البيزنطية‪.‬‬
‫لذا كان ال بدّ أن يتطلب فتح هبذه العظمة واألمهية حتضرياتٍ كبريةً وختطيطًا على‬
‫أعلى املستويات كي يتم الظفر به وبلوغ الغاية منه‪ .‬وبينما يعزو معظم الناس‪،‬‬
‫سواء كانوا من املختصني أو العامّة‪ ،‬الفضل يف فتح بيت املقدس إىل اخلليفة الراشد‬
‫الثاين عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه‪ ،‬وينسبه آخرون إىل أبـي بكرٍ الصديق‪،‬‬
‫خليفة املسلمني األول‪ ،‬رضي اهلل عنه‪ .‬إال أنّه قلّما يشارُ إىل دورِ النبـي حممد ﷺ‬
‫وخطتِه لفتح بيت املقدس‪ ،‬مع أنّ تأثريه ال خيفى يف األحداث والوقائع اليت أدت‬
‫إىل فتح تلك البالد املقدسة‪ .‬لذا جاء هذا الكتاب ليسلط الضوء على دور النبـي‬
‫حممّد ﷺ يف صياغة الفتح اإلسالمي األول لبيت املقدس‪.‬‬
‫أهمية البحث‬
‫لقد تناول العديد من العلماء والباحثني اجلوانبَ املختلفة حلضور املسلمني يف‬
‫بيت املقدس يف وقت مبكّرٍ من تاريخ اإلسالم‪ ،‬وخباصة فتح بيت املقدس وبسط‬
‫النفوذ على املنطقة يف عهد اخلليفة الثاين عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه‪ .‬إال أننا‬

‫عادة ما تستخدم كلمة الفتح يف املصادر اإلسالمية للحديث عن حتقق انتصار يف السلم‬ ‫‪1‬‬
‫واحلرب مبعونة إهلية‪ .‬وتستخدم الكلمة يف سياق سيطرة جيش املسلمني على مدينة ما‪،‬‬
‫وسيتضح مفهوم الفتح بشكل أكرب يف سياق هذا الكتاب‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫ألفينا عنصرًا أساسيًا غائبًا يف هذه البحوث‪ ،‬أال وهو دور النبـي حممد ﷺ‪ ،‬وهو‬
‫خامت النبيني وزعيم املسلمني يف أول دولة أقامها هوَ هلم‪ ،‬وأثره ﷺ يف األحداث‬
‫والوقائع اليت وقعت يف بيت املقدس واليت تكللت بفتح هذه البقعة من األرض على‬
‫يد املسلمني‪ .‬فهذه الدراسات مل تسرب بعض الوقائع التارخيية اليت مهّدت الطريق‬
‫أمام أبـي بكر وعمر رضي اهلل عنهما لبسط نفوذ دولة اإلسالم على تلك املنطقة‪.‬‬
‫وترد علينا يف سياقنا هذا العديد من األسئلة من هذا القبيل‪ :‬ما الذي دفع‬
‫املسلمني حنو فتح بيت املقدس؟ وماذا كان دور النبـي حممد ﷺ يف تلك‬
‫األحداث‪ ،‬وهل مهّد النبـي ﷺ بنفسه هذا الفتح‪ ،‬أم أنه مل يول اهتمامًا إىل تلك‬
‫املنطقة؟ هذه األسئلة املبدئية وغريها ال بد أن تلقى إجابة كي تتضح الصورة أمامنا‬
‫خبصوص ما حدث يف بيت املقدس خالل أول فتح إسالميٍ له‪ .‬وهكذا جاء هذا‬
‫الكتاب ليعود إىل تفاصيل سرية النبـي حممّد ﷺ وليلقي نظرة فاحصة على خطته‬
‫اإلستراتيجية لتحقيق هذا الفتح وأثره ودوره ﷺ يف حتقيق ذلك التغيري التارخيي‬
‫الذي حدث يف بيت املقدس إبّان وفاته‪.‬‬
‫إن دراسة العالقة بني نيبّ اإلسالم حممّدٍ ﷺ وبيت املقدس اقتصرت غالبًا على‬
‫النظر يف األحاديث الشريفة اليت ورد فيها ذكر بيت املقدس واملسجد األقصى‬
‫والتنبيه إىل فضائلهما‪ ،‬باإلضافة إىل ما ورد من أحاديث خبصوص رحلة اإلسراء‬
‫ال‬
‫واملعراج‪ .‬بل إن التركيز يف هذه املعجزة اليت انتقل خالهلا النبـي ﷺ من مكةَ لي ً‬
‫إىل بيت املقدس‪ ،‬وعرج به من هناك إىل السماء‪ ،‬قد اقتصر على رحلته ﷺ إىل‬
‫السماء‪ ،‬وهكذا يصبح بيت املقدس يف كثري من هذه البحوث واملقاالت جمردَ‬
‫مكان اللتقاء النبيني فيه وما أشبه ذلك من جوانب قد تكونُ هي الفرع ال األصل‪.‬‬

‫الفرضية‬
‫يتناول هذا الكتاب فرضية مفادها أنّ النبـي حممدًا ﷺ هو من خططَ بداء ًة‬
‫وأصالةً للفتح اإلسالمي لبيت املقدس‪ .‬ووفق هذه الفرضيّة‪ ،‬فإن أبا بكر الصديق‬
‫وعمر بن اخلطاب رضي اهلل عنهما إنّما قاما بتنفيذ خطة النبـي ﷺ وحتقيق‬
‫مراده‪ .‬وبناءً على هذه الفرضية‪ ،‬فإن مجيع احلمالت العسكرية اإلسالمية اليت‬
‫سبقت فتح تلك املدينة إمنا كانت تطبيقًا هلذه اخلطة‪.‬‬
‫‪01‬‬
‫إنّ ما دفعين لدراسة هذه القضية هو افتراضات وإشارات طرحها عددٌ من‬
‫العلماء والباحثني من أمثال خليل عثامنة (‪ ،)33 :1999‬وعبدالفتّاح العويسي‬
‫(‪ ،)19 :1991‬وحممد شراب (‪ ،)24 :1224‬وإبراهيم بيضون (‪ ،)3 :1222‬وموشي‬
‫جيل (‪ ،)11 :1222‬وهاين أبو الرُّب (‪ ،)21 :1991‬وأسامة مجعة األشقر (‪:1991‬‬
‫‪ )11‬وسواهم من الباحثني‪ ،‬حيث أشاروا إىل فكرة أن النبـي ﷺ هو من خطا‬
‫اخلطوات األوىل ولفتَ األنظار حنو فتح بيت املقدس‪ .‬إال أن أوالء الباحثني خيتلفون‬
‫حول أهداف تلك اخلطوات‪ ،‬وكيف بدأت ومىت بدأت‪ .‬ويبدو أن العويسي‬
‫وعثامنة مها الوحيدان اللذان يعتقدان أن النبـي ﷺ قد وضع خطة هذا الفتح‪ ،‬بل‬
‫إن العويسي يرى أن هذه اخلطة كانت تفصيلية كذلك‪ .‬ويف املقابل جند من‬
‫يعارض هذه الفكرة يف مصادر أخرى‪ ،‬مثل ما جاء عند هافا الزروس يافيه‬
‫(‪ ،)11 :1229‬وجويتني (‪ ،)111 )1( :1231‬وعوفري ليفين َكفْري (‪،)111 :1991‬‬
‫إذ يشريون إىل أن بيت املقدس مل يكن ذا أمهية يف مراحل اإلسالم األوىل أثناء حياة‬
‫النبـي ﷺ وأنّه مل يضع يف حسبانه فت َح تلك املنطقة‪.‬‬
‫وهكذا حياول كاتب هذه السطور هنا أن يشق طريقه بني هذه الفرضيات‬
‫املتعلقة خبطة النبـي حممّد ﷺ لفتح بيت املقدس‪ ،‬ساعيًا لتحقيق فهم أفضل ملقاصد‬
‫النبـي ﷺ خبصوص عالقته ببيت املقدس‪ .‬كما ينظر هذا الكتاب إىل جوانب‬
‫متعددة من السرية النبوية العطرة كمحاولة إلعادة قراءهتا وحتديد أوجه االرتباط‬
‫فيها ببيت املقدس‪.‬‬

‫الدراأأ الأأبقة‬
‫ذكرنا فيما سبق أن العديد من الباحثني قد تناولوا هذه القضية وأبدوا آرائهم‬
‫حول دور النبـي حممد ﷺ يف فتح بيت املقدس‪ .‬وأحد املصادر اليت ُدرِسَت‬
‫لغرض هذا املوضوع هو كتاب موشي جيل (‪ )1221‬بعنوان "تاريخ فلسطني‬
‫‪ ،"1922-114‬وقد نشر بالعربية عام ‪ 1231‬وباإلجنليزية عام ‪ .1221‬وحتلل هذه‬
‫الدراسة التفصيلية أحداث السرية النبوية ووجه ارتباطها بالفتح اإلسالمي لبيت‬
‫املقدس‪ ،‬ويركّز الكتاب بشكل كبري على فلسطني يف القرن السابع امليالدي‪ .‬إال أنّ‬
‫حتليله لألسباب والدوافع لنظريته بأكملها تعتمد بشكل حصري على حتليل اجلانب‬
‫‪01‬‬
‫العسكري وحسب‪ .‬ويرى الكاتب يف مقال له بعنوان التاريخ السياسي للقدس أنه‬
‫"من املستبعد أن تكون قدسيّة القدس أحد الدوافع اليت دفعت بالنبـي حممد ﷺ‬
‫إلطالق محالته العسكرية ضد البيزنطيني قبيل وفاته" (جيل ‪ .)4 :1221‬وهكذا جند‬
‫هذا الباحث يعزو أفعال النبـي ﷺ فيما يتعلق بفتح بيت املقدس إىل أسباب‬
‫اقتصادية وسياسية‪ .‬وال بدّ من اإلشارة هنا إىل أن جيل ال يستعني يف حتليالته‬
‫باملصادر اإلسالمية األساسية كالقرآن الكرمي والسنة النبوية الشريفة‪ ،‬ويف هذا‬
‫إغفال ألول وأهم ما يساعد على فهم أهداف النبـي ﷺ يف هذا الصدد‪ .‬ومبا أنّ‬
‫حممدّا ﷺ هو نبـي املسلمني‪ ،‬ومبا أن القرآن الكرمي قد كان أهمّ ما يؤثّر فيه‬
‫ويسيّر حياته‪ ،‬والسيما عالقته ببيت املقدس‪ ،‬فكيف ميكن بعد ذلك إغفال املصادر‬
‫اإلسالمية األساسية يف هذا السياق!‪.‬‬
‫هنالك مصدر آخر يتناول هذه القضية كذلك‪ ،‬أال وهو كتاب حممد حسن‬
‫شراب‪ ،‬والذي جاء بعنوان بيت املقدس واملسجد األقصى ونشر عام ‪ .1224‬ويشري‬
‫هذا الكتاب إىل أنّ النبـي ﷺ قد قام بعدد من اخلطوات لفتح بيت املقدس‪ ،‬إال‬
‫أن ه ال حيلل هذه اخلطوات أو األحداث بالعمق الذي تتطلبه مسألة هبذا احلجم‪ ،‬مثّ‬
‫إنه يغفل بعض العناصر األساسية‪ ،‬كوثائق النبـي ﷺ يف تلك الفترة‪.‬‬
‫ومن املصادر اليت تناولت هذا القضية كتاب بعنوان تقدمي بيت املقدس لعبد‬
‫الفتاح العويسي‪ ،‬والذي نشر أول مرة عام ‪ .1991‬ويرى العويسي أن النبـي ﷺ‬
‫قد وضع "خطة استراتيجية" لفتح بيت املقدس‪ ،‬ويرى كذلك أن رحلة اإلسراء‬
‫واملعراج كانت نقطة البدء هلذه اخلطة‪ .‬وميضي الباحث يف حتليل عددٍ من األحداث‬
‫والوقائع يف حياة النبـي ﷺ ويتناوهلا على أهنا عناصر خطة الفتح‪ .‬غري أنه وبالنظر‬
‫إىل طبيعة الكتاب واهلدف منه فإن العويسي ال يتعمق بتحليل األحداث التارخيية‬
‫املرتبطة مباشرة هبذا الشأن‪.‬‬
‫كما تناول إبراهيم بيضون (‪ )1222‬هذه القضية يف كتابه تاريخ بالد الشام‪.‬‬
‫وبيضون كاتب وباحث معاصر ومؤرخٌ خمتص بتاريخ اخلالفة األموية‪ ،‬كما أنه‬
‫مهتم بتاريخ بالد الشام‪ ،‬وهي منطقة تضم ما بني حلب يف سوريا إىل العريش يف‬
‫مصر‪ .‬وهو يتعرض للتحركات العسكرية والسياسية للنبـي حممد ﷺ ويشري إىل‬
‫أن اهلدف من هذه التحركات هو فتح بالد الشام بأكملها‪ ،‬إال أنه ال يربط ذلك‬
‫‪04‬‬
‫مباشرة ببيت املقدس وال يظهره كدافع أساسيّ لوضع النيبّ ﷺ خطته لفتح‬
‫املنطقة‪.‬‬
‫أما كتاب فلسطني يف مخسة قرون (‪ )1999‬فهو من املصادر املهمة األخرى‬
‫اليت تناولت هذه القضية‪ ،‬وهو من تأليف خليل عثامنة‪ ،‬املؤرخ املختص بالتاريخ‬
‫العربـي اإلسالمي والسيما تاريخ بالد الشام يف العصر اإلسالمي‪ .‬ويبحث عثامنة‬
‫يف هذا الكتاب ما يسميه هو "خطة الفتح املبكرة يف عهد النبوة" (‪ ،)33 :1999‬إال‬
‫أنه ينطلق يف مناقشاته للقضية من زاوية سياسية حبتة‪ ،‬مشريًا إىل أنّ النبـي ﷺ‬
‫رسم خطة فتح فلسطني يف السنوات األخرية من حياته‪ .‬كما يقتصر عثامنة يف‬
‫دراسته هذه على فلسطني حبدودها املعاصرة‪ ،‬كما أنه يغفل العديد من اجلوانب‬
‫اليت شكلت العالقة بني النبـي حممد ﷺ وبيت املقدس يف مرحلة مبكرة من‬
‫النبوة‪ .‬وألن عثامنة يدرس حياة النبـي ﷺ بوصفه قائدًا سياسيًا وليس بوصفه‬
‫نبيًا‪ ،‬فإنه ال يتعدى يف كتابه هذا التحركات العسكرية اليت قام هبا النبـي ﷺ يف‬
‫األيام األخرية من حياته‪ ،‬ومن الطبيعي يف هذه احلالة أن يغفل النقطة املرجعية‬
‫األساسية للنبـي ﷺ‪ ،‬واليت من شأهنا أن تفصح عن دوافعه احلقيقية لوضع خطة‬
‫الفتح‪ .‬وهكذا جند عثامنة يعزو التحركات العسكرية إىل أسباب جتارية وسياسية‪،‬‬
‫ال الطبيعية التارخيية األساسية حملمد ﷺ‪ ،‬أال وهي كونه نبيًا يف املقام األول‪.‬‬
‫مغف ً‬
‫ترد هذه القضية كذلك عند هاين أبو الرب يف كتابه تاريخ فلسطني يف صدر‬
‫اإلسالم (‪ .)1991‬كان هذا الكتاب أطروحة درجة الدكتوراة اليت قدمها أبو الرب‬
‫للحصول على درجة الدكتوراة يف التاريخ اإلسالمي يف جامعة بغداد يف العراق عام‬
‫‪ .1223‬وجند أن فلسطني عند أبو الرب هي فلسطني التارخيية كما كانت يف القرن‬
‫السابع امليالدي‪ ،‬وهي قريبة يف حدودها ملنطقة بيت املقدس‪ .‬ومع هذا فإنه خيصص‬
‫‪ 19‬صفحات فقط لبيان العالقة بني النبـي حممد ﷺ وهذه املنطقة‪ ،‬رابطًا بني‬
‫حتركات النبـي العسكرية وحتركات أبـي بكر الصديق رضي اهلل عنه‪ ،‬وواصفًا‬
‫هلا بأهنا خطوات ممهدة للحمالت األخرى وحسب‪.‬‬
‫وأحد آخر الكتب الصادرة يف هذا الشأن كتاب بعنوان فتوح فلسطني ملؤلفه‬
‫أسامة مجعة األشقر (‪ .)1991‬وهو باحث معروف يف حقل األدب ويف حقل‬
‫التاريخ‪ ،‬ويدرس يف هذا الكتاب اخلطوات األوليّة للفتح اإلسالمي األول لبيت‬
‫‪05‬‬
‫املقدس يف عهد النبـي حممد ﷺ‪ .‬ويتناول الكاتب استراتيجية النبـي ﷺ يف‬
‫التحضري لفتح بيت املقدس‪ .‬إال أنه يركز كذلك على األسلوب العسكري‬
‫والدبلوماسي للنبـي من دون أن يسرب دوافعه ﷺ لتبين تلك اإلستراتيجيات‪ ،‬كما‬
‫أنه يتناول فلسطني حبدودها املعاصرة‪.‬‬
‫وهناك باإلضافة إىل هؤالء الباحثني الذين سبق ذكرهم والذي تناولوا هذه‬
‫القضية بالتفصيل‪ ،‬باحثون آخرون مثل أمنون كوهني‪ ،‬والذي يدرس العالقة بني‬
‫النبـي حممدﷺ وبيت املقدس يف كتابه القدس‪ ،‬دراسات يف تاريخ املدينة(‪.)1229‬‬
‫فهو يؤكد يف كتابه هذا أنّ النبـي ﷺ قد اهتمّ بأمر القدس وخطط لفتحها‪ ،‬إال‬
‫أنّه يف الوقت نفسه يعزو هذا إىل ما يدّعيه من تأثر النبـي ﷺ مبا للقدس من‬
‫مكانة مقدسة يف اليهودية والنصرانية‪ .‬ويتوقف كوهني عند هذا احلد يف دراسة‬
‫خطة النبـي ﷺ لفتح القدس‪ ،‬مع التوسع يف حتليله للتأثري اليهودي النصراين على‬
‫النبـي ﷺ‪ ،‬مما دفعه حسب رأي كوهني إىل وضع استراتيجية كان من شأهنا أن‬
‫جتعله أقرب إىل اليهود والنصارى ومتنحه الشرعية لديهم‪ .‬ويغفل كوهني اجلانب‬
‫األكثر أمهية يف حتديد عالقة النبـي ﷺ باملنطقة‪ ،‬أال وهو القرآن الكرمي‪.‬‬
‫يهدف هذا الكتاب إىل ردم هذه الفجوات اليت وقفنا عليها يف هذه‬
‫التحليالت والدراسات‪ .‬فهو دراسة للعالقات العملية والدينية والسياسية بني‬
‫النبـي حممد ﷺ وبيت املقدس‪ ،‬مبتدئًا بالعنصر األول واألكثر أمهية وتأثريًا على‬
‫النبـي ﷺ يف توجيه اهتمامه حنو بيت املقدس‪ ،‬أال وهو القرآن الكرمي‪ ،‬لذلك فإننا‬
‫ننظر ونبحث يف رحلة اإلسراء واملعراج ويف فرائض اإلسالم‪ ،‬وعلى رأسها الصالة‪،‬‬
‫وفق هذا السياق‪ .‬وتساعد مجيع هذه العناصر يف حتديد التجليات الفعلية للعالقة‬
‫بني النبـي ﷺ وبيت املقدس‪ .‬وعليه فقد درسنا التحركات الدبلوماسية والسياسية‬
‫للنبـي خبصوص بيت املقدس من أجل التأكد من وجود خطة للفتح‪ ،‬وأن حندد‬
‫دالالت هذه اخلطة يف حال تأكد وجودها‪.‬‬

‫المنلجية‬
‫ال من منهجية البحث التارخيي ومنهجية دراسة األحاديث‬ ‫يعتمد الباحث ك ً‬
‫النبوية من أجل حتليل املصادر‪ .‬ومبا أن هذا الكتاب يتعامل مع قضية تارخيية حيضر‬
‫‪06‬‬
‫فيها النبـي ﷺ‪ ،‬فإن الباحث يعتمد على املنهجية التارخيية‪ ،‬ومبا أن الكتاب يف‬
‫ال ملصادر إسالمية‬ ‫الوقت ذاته يبحث يف حياة النبـي ﷺ‪ ،‬فإن هذا يتطلب حتلي ً‬
‫أصيلة‪ ،‬وهي األحاديث النبوية الشريفة يف هذه احلالة‪ ،‬وعليه فإن الباحث يتكّئ‬
‫كذلك على منهجية احلديث النبوي عند احلاجة حبيث يتشكل لديه منهجية متعددة‬
‫ومتداخلة بني أكثر من منهجية‪.‬‬
‫وجيري استخدام املنهجية التارخيية ألغراض التقييم النقدي ودراسة الوثائق‬
‫التارخيية املختلفة املستخدمة يف البحث‪ .‬ويطبق الباحث املنهجية التارخيية عند‬
‫التعامل مع املصادر التارخيية‪ ،‬ككتب التاريخ وكتب السرية‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫دراسة وحتليل لغة هذه الوثائق وأفكارها‪ .‬ويقوم الباحث كذلك جبمع النصوص‬
‫واملعلومات املتعلقة باألحداث التارخيية من املصادر املتعددة اليت تتناول حياة‬
‫النبـي ﷺ‪ ،‬ومن مث يقوم بتحليلها نقديًا واملقارنة فيما بينها من أجل حتديد فهمٍ‬
‫أكثر دقة هلا‪ .‬ومن مث ميكن ربط هذه البيانات اليت خضعت للتحليل واملقارنة مع‬
‫الوقائع التارخيية اليت حدثت يف الفترة موضوع البحث‪ ،‬أي خطة النبـي ﷺ لفتح‬
‫بيت املقدس‪.‬‬
‫أمّا منهجية احلديث الشريف فتتعامل بشكل أساسي مع استخدام األحاديث‬
‫املرفوعة إىل النبـي ﷺ والتأكد من صحتها‪ .‬كما تتعامل هذه املنهجية مع جرح‬
‫وتعديل الرواة وقتما يستلزم ذلك يف الدراسة‪ .‬بيدَ أ ّن الباحث يتعامل بشكل أساسي‬
‫مع مصادر احلديث الصحيحة (كاألحاديث الواردة يف البخاري ومسلم)‪ ،‬لذا مت‬
‫االقتصار يف استخدام منهجية احلديث على املواطن اليت يرد فيها حديث خمتَلَف على‬
‫صحته‪ .‬وكجزء من استخدام منهجية احلديث بالتبادل مع املنهجية التارخيية‪ ،‬فإنه ويف‬
‫حال ورود حديث وكان هو املصدر الوحيد ألي حادثة كانت‪ ،‬فإنه يُنظرُ يف صحة‬
‫احلديث‪ ،‬فإن كان ضعيفًا صار نصًا تارخييًا‪ .‬ويتم بعد ذلك مقارنة هذا احلديث‬
‫بالنصوص التارخيية األخرى ويتم النظر فيها على هذا األساس‪ .‬وعليه فإنه يف حال‬
‫تعارض حديث ضعيف جدًا أو أثرٍ مع نص تارخيي آخر‪ ،‬فإنه يتم التعامل معه‬
‫باستخدام املنهجية التارخيية‪ .‬واحلقّ أنّ احلديث الصحيح أكثر دقة من الرواية‬
‫التارخيية‪ ،‬ولكنّ احلديث الضعيف قد يتساوى يف الدقة مع الرواية التارخيية أو يتفوق‬
‫عليها‪ ،‬وذلك ألنّ منهجية احملدثني صارمة يف حتديد احلديث الصحيح من غريه‪.‬‬
‫‪07‬‬
‫ال بد من اإلشارة إىل أنّ الكاتب يقوم بعمليات التقييم والتحليل وفق املصادر‬
‫اإلسالمية األساسية‪ ،‬فمحمدٌ ﷺ يف املصادر اإلسالمية هو نبـي مرسلٌ من ربّ‬
‫العاملني‪ ،‬ورحلة اإلسراء واملعراج هي حقيقة ال مراء وال جدال فيها وليست خرافةً‬
‫أو حلمًا‪ .‬كما أن القرآن الكرمي هو كالم اهلل عزّ وجلّ الذي نـزّله على نبيّه ﷺ‬
‫واحلديث الشريف هو املصدر الثاين بعد القرآن‪ ،‬وله املكانة نفسها تقريبًا يف معتقد‬
‫املسلمني‪.‬‬

‫‪08‬‬
‫الفصل األول‬

‫‪09‬‬
 ‫مقدمة‬
‫اهلدف من هذا الفصل هو تقدمي خلفية للنظرية املتعلقة خبطة النبـي حممد ﷺ‬
‫لفتح بيت املقدس واألسباب احملتملة لوضعها‪ .‬إذ إن معرفة أطراف من تاريخ بيت‬
‫املقدس قبل بعثة النبـي حممد ﷺ ويف إبّاهنا تساعد يف تقدمي صورة أكثر وضوحًا‬
‫حلالة املنطقة يف تلك الفترة‪.‬‬
‫ويتناول هذا الفصل بعض األحداث األساسية اليت تبلورت من خالهلا مكانة‬
‫بيت املقدس يف اإلسالم‪ .‬وهذا يشتمل بالتأكيد على النصوص القرآنية اليت ورد‬
‫فيها ذكر هذه املنطقة‪ ،‬كسورة الروم‪ .‬كما يقف هذا الفصل عند رحلة اإلسراء‬
‫واملعراج‪ ،‬واختاذ املسجد األقصى قبلة للمسلمني يف الصالة يف مرحلة مبكرة من‬
‫اإلسالم‪ ،‬حبيث ندخل يف إطار اهتمام النبـي ﷺ ببيت املقدس لتتجلّى لنا بوضوح‬
‫األسباب وراء حتركاته باجتاه فتح املنطقة بأسرها‪.‬‬

‫الوضع الأيأأ لبي المقدس أبي بعثة النب ﷺ‬

‫استوىل الرومان بقيادة بومبـي على منطقة بيت املقدس وتأسس حكم‬
‫الرومان يف مدينة القدس يف أيلول ‪ 11‬قبل امليالد (ويلكنسون ‪ .)21 :1229‬وليس‬
‫هنالك وثائق واضحة تدل على طبيعة العالقة بني سكان بيت املقدس يف ذلك‬
‫الزمان وبني الرومان‪ ،‬لكنّ الظاهر أن وضع بيت املقدس قد تغري مرارًا حسب‬
‫الظروف اليت مرت هبا املنطقة وساء احلال يف املرحلة األخرية من حكم الرومان‪.‬‬
‫ومع بعثة النبـي عيسى عليه الصالة والسالم‪ ،‬ولدت النصرانية يف بيت‬
‫املقدس‪ .‬ومل يقبل معظم اليهود هذه الرسالة اجلديدة‪ ،‬وهذا يفسر سبب القمع‬
‫الذي تعرض له أتباع عيسى عليه الصالة والسالم‪ .‬وقامت الثورتان اليهوديتان‬
‫املعروفتان ضد الرومان دون تدخل العرب من سكان األرض املقدسة‪ ،‬األوىل عام‬
‫‪29‬م‪ ،‬واليت أهناها القائد الروماين تيطس يف عهد والده اإلمرباطور فاسباسيان‪.‬‬
‫والثانية املعروفة باسم ثورة مشعون باركوخبا عام ‪111‬م‪ ،‬واليت كانت شديدةً على‬
‫‪10‬‬
‫الرومان‪ ،‬إال أنّ تدخّل اإلمرباطور الروماين هدريان أمخد الثورة اليهودية الثانية‪،‬‬
‫وأقام إقليم إيلياء وأسس مدينة إيليا كابيتولينا‪ .‬وقد تعرض اليهود للقمع وطردوا‬
‫من املنطقة بعد ثورة باركوخبا (جولدهيل ‪ .)31 :1991‬ويشري ويلكنسون (‪:1229‬‬
‫‪ ) 33‬إىل وجود الكثري من الشاميني والعرب من بني الذين مل يطردوا من بيت‬
‫املقدس مع اليهود‪ ،‬ويتفق كلّ من عثمان الطل (‪ )113-111 :1991‬وفاطمة‬
‫الزهراء عبد الرمحن (‪ )141-141 :1991‬مع ما ذهب إليه ويلكنسون‪.‬‬

‫الرومأت والنورانية‬
‫اعتنق قنسطنطني النصرانية وعُمِّدَ قبيل وفاته عام ‪ 112‬ميالدية‪ ،‬وترتّب على‬
‫ذلك حتول عظيم انقلبت اإلمرباطورية الرومانية على إثره من حضارة وثنية إىل‬
‫إمرباطورية نصرانية (ماكهنري ‪ .)122 )1( :1221‬لكنّ هذا التحول مل يقف عند‬
‫هذا احلد‪ ،‬بل تبعه انقسام يف اإلمرباطورية الرومانية؛ فأصبح القسم اآلسيوي هو‬
‫أوروبا الشرقية واألجزاء اآلسيوية من اإلمرباطورية الرومانية‪ ،‬أي اإلمرباطورية‬
‫البيزنطية‪ .‬أما القسم األوروبـي فأصبح أوروبا الغربية‪ ،‬أي اإلمرباطورية الرومانية‬
‫املقدسة (ماكهنري ‪ .)122 )1( :1221‬وصارت روما عاصمةَ اإلمرباطورية‬
‫الرومانية الغربية املقدسة‪ ،‬وبيزنطة عاصمة اإلمرباطورية البيزنطية الشرقية‪ ،1‬وباتت‬
‫تعرف بالقسطنطينية‪.‬‬
‫وقد كان بيت املقدس يف وقتٍ مبكّر من حياة النبـي ﷺ قبل بعثته حتت حكم‬
‫البيزنطيني‪ ،‬وكانوا يعدّون تابعني للكنيسة الشرقية (جونـز ‪،)1211 )19( :1991‬‬

‫تشتق صفة "بيزنطي" من كلمة "بيزنطة" وفيما يلي توضيح هلذه الكلمة ورد يف املوسوعة‬ ‫‪1‬‬
‫احلديثة "‪( "Modern Encyclopedia Illustrated‬جوريل ‪:)441 )1( :1211‬‬
‫مدينة تأسست على ضفاف البسفور يف القرن السابع قبل امليالد على يد مستعمرين من‬
‫اليونان أتوا من مدينة ميغارا‪ ،‬حيث احتلوا موقعًا ذا أمهية إستراتيجية وجتارية بسبب ما‬
‫متنحه من حتكم بالعبور إىل البحر األسود‪ .‬وقد سيطر عليها اإلمرباطور الروماين سيبتموس‬
‫سيفروس (‪ 121‬ميالدية)‪ ،‬وأعاد قسطنطني إعمارها من جديد لتصبح عاصمة‬
‫اإلمرباطورية الرومانية الشرقية عام ‪ 119‬للميالد فصارت تعرف بالقسطنطينية‪.‬‬
‫ويظهر هذا أن االسم األصلي للقسطنطينية كانن بيزنطة‪ ،‬ولكن اإلمرباطور قسطنطني أعاد‬
‫تأسيسها لتصبح عاصمة اإلمرباطورية الرومانية الشرقية‪ ،‬واليت بقيت معروفة باسم‬
‫اإلمرباطورية البيزنطية نسبة إىل امسها األصلي‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫وهم النصارى األرثوذكس‪ ،‬كما يعرفون اآلن‪ .‬وخبالف الكنيسة الكاثوليكية اليت‬
‫يرأسها أسقف واحد‪ ،‬وهو بابا روما‪ ،‬فإن الكنيسة الشرقية يرأسها أكثر من أسقف‪.‬‬
‫ومنذ القرن الرابع امليالدي كان هنالك أربع مراكز أساسية للكنيسة األرثوذكسية هي‪:‬‬
‫أنطاكية والقدس والقسطنطينية واإلسكندرية (جونـز ‪.)1131 )4( :1991‬‬

‫الوضع الأيأأ ا بي المقدس ا مطيع بعثة النب ﷺ‬

‫إن إدراك طبيعة الوضع السياسي يف مطلع بعثة النبـي ﷺ بشكل جيد‬
‫يتطلب النظر بدقة فيما كتبه املؤرخون الذين اهتموا باألحداث اليت وقعت بني‬
‫الفرس والبيزنطيني بشكل عام وما كان حيدث يف بيت املقدس على وجه اخلصوص‬
‫يف تلك الفترة املبكرة من نبوته ﷺ‪ .‬ويركز الباحث هنا على مصادر أساسية ثالثة‬
‫وهي‪ :‬يوميّات الفِصح (‪ )Chronicon Paschale‬يف القرن السابع امليالدي‪ ،‬وتاريخ‬
‫تيوفانيس املعرِّف (ت‪ 313 .‬ميالدية)‪ ،1‬والذي عاش ووضع كتابة يف القرن التاسع‬
‫امليالدي‪ .‬أما ثالث هذه املصادر فهو تاريخ الراهب أنتيكوس ستراتيجوس‪ ،‬والذي‬
‫عاش يف مدينة القدس يف تلك الفترة وشهد غزو الفرس للمنطقة واملدينة‪ .‬وبينما‬
‫يتناول املصدران األوالن هذه الفترة بتفاصيلها‪ ،‬فإن املصدر الثالث يتحدث بشكل‬
‫خمصوص عن استيالء الفرس على بيت املقدس‪ .‬وقد دُوِّنت يوميّات الفِصح يف‬
‫وقت األحداث اليت تصفها‪ ،‬ولذا ميكن أن تعدّ مصدرًا موثوقًا‪ .‬أمّا تيوفانيس‬
‫ال عن مؤرخني غريه‪ ،‬إال أنّه حترّى الدقّة‪،‬‬
‫املعرّف فقد دوّن العديد من األحداث نق ً‬
‫ولذا يعدّ كتابه من املصادر املهمة كذلك‪ .‬وجند من ناحية أخرى أن ستراتيجوس‬
‫قد أرّخ حدثًا واحدًا خالل فترة قصرية من الزمن‪ ،‬بيدَ أنّه تناوله بشكل تفصيلي‬
‫ومشويل‪ ،‬مما يوفّر لنا إضاءات على تلك الفترة ال ميكن االستغناء عنها‪.‬‬

‫نظرت يف بعض املصادر التارخيية اليت تعود لتلك الفترة أو بعدها بقليل ووجدت ثالثة‬ ‫‪1‬‬
‫مصادر فقط تقدم معلومات عن تلك الفترة (وهي موجودة اآلن باللغة اإلجنليزية)‪ .‬هذه‬
‫املصادر هي‪ :‬تاريخ تيوفانيس‪ ،‬ويوميات الفصح‪ ،‬وستراتيجوس‪ .‬وقد كتب األخري بعد‬
‫الغزو الفارسي لبيت املقدس يف القرن السابع للميالد‪ ،‬أما يوميات الفصح فقد كتبت يف‬
‫القسطنطينية يف القرن السابع امليالدي أيضًا‪ .‬أما تاريخ تيوفانيس فقد كتب بعد مائيت سنة‬
‫من تلك الفترة‪ ،‬واعتمد على مصادر خمتلفة يف كتابه‪ .‬وقد كتبت معظم هذه املصادر‬
‫باليونانية أو الالتينية‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫‪119‬‬ ‫كانت بعثة النبـي حممّد ﷺ كما تذكر املصادر التارخيية يف العام‬
‫للميالد (املباركفوري ‪ .)13 :1221‬وقد كانت اإلمرباطوريتان البيزنطية والفارسية‬
‫قبل هذه الفترة وأثنائها قد دخلتا فيما بينهما يف حروب طويلة طاحنة‪ .‬ويشري‬
‫ويلكنسون (‪ )199 :1229‬إىل أن هجمات الفرثيني‪ 1‬على روما قد بدأت منذ العام‬
‫‪ 41‬قبل امليالد واستمرت حىت إنشاء اإلمرباطورية الفارسية الساسانية‪ ،‬مع فترات‬
‫متقطعة من اهلدوء‪ ،‬كتلك اهلدنة اليت استمرت ‪ 19‬عامًا واليت توصّل إليها‬
‫اإلمرباطور جستنيان مع الفرس‪ .‬ويعدّ غزوُ كسرى عظيم الفرس لألقاليم البيزنطية‬
‫من املفاصل املهمّة يف احلرب بني اإلمرباطوريتني‪ ،‬وقد حدث ذلك يف العام ‪191‬‬
‫للميالد‪ ،‬أي قبل مثاين سنوات فقط من بعثة النبـي ﷺ‪ ،‬وقد ذكر تيوفانيس ذلك‬
‫كذلك يف تارخيه (تيوفانيس‪.)419-413-1222 :‬‬
‫ويروي تيوفانيس أنّ احلرب اندلعت بادئ األمر يف منطقة الرّها‪( 2‬جنوب‬
‫األناضول) عندما قام جنرال بيزنطي يدعى نارسيس باالستيالء على املدينة وحرّض‬
‫على الثورة ضد اإلمرباطور البيزنطي اجلديد بوخاس‪ ،‬إذ كان نارسيس يرفض‬
‫الطريقة اليت جاء هبا بوخاس إىل سدة احلكم وكان يقف ضدّ االغتياالت اليت قام‬
‫هبا بوخاس هذا لتصفية شخصيات وقادة كبار يف اإلمرباطورية وقتل عائالهتم‬
‫كذلك‪ .‬ويذكر تيوفانيس أن نارسيس طلب العون من كسرى الفرس للتغلب على‬
‫اإلمرباطور البيزنطي‪ ،‬وقد أجابه كسرى إىل ذلك بالفعل‪ ،‬وأرسل جنده وأعلن‬
‫احلرب ضد البيزنطيني يف العام ‪ 191‬للميالد‪.‬‬
‫ومما يستدعي االهتمام يف هذا املقام هو أن يوميات الفصح ال تذكر دور‬
‫الفرس يف هذه الفوضى‪ ،‬مع أنّ من دوّنوا هذه اليوميات كانوا معاصرين هلذا‬
‫احلدث وكانوا يعيشون يف القسطنطينية يف تلك األوقات (يوميات الفصح ‪:1232‬‬

‫الفرثيون كما يورد ويلكنسون (‪ )199 :1229‬هم أحد الشعوب اإليرانية اليت حكمت‬ ‫‪1‬‬
‫فارس قبل أن يقوم أردشري بإنشاء اإلمرباطورية الفارسية الساسانية عام ‪ 114‬قبل امليالد‪.‬‬
‫تقع الرها يف آسيا الصغرى جنوب شرقي تركيا على بعد ‪ 219‬كم من إسطنبول‪ ،‬وكان‬ ‫‪2‬‬
‫اإلسكندر األكرب قد أطلق عليها اسم (إديسَّا)‪ ،‬وتعرف اليوم باسم شانلي أورفا (أو‬
‫‪http:‬‬ ‫أورفا) (انظر املوقع اإللكتروين لوزارة الثقافة والسياحة يف تركيا‪:‬‬
‫‪//www.kultur.gov.tr/EN/BelgeGoster.aspx?17A16AE30572D313404F97‬‬
‫‪ .55767D76FF89326D2B69E01EEB‬تاريخ الرجوع إىل املوقع‪)1991-1-12 :‬‬
‫‪14‬‬
‫‪ .)141-141‬ولرمبا كان مدونو يوميات الفصح أكثر اهتمامًا باألحداث اليت كانت‬
‫جتري يف القسطنطينية نفسها‪ ،‬عاصمة اإلمرباطورية‪ ،‬أو لعله مل يتوفر بني أيديهم‬
‫معلومات واضحة عمّا كان جيري يف الرها يف ذلك الوقت‪.‬‬
‫وميكننا من خالل حتليل التسلسل التارخي ي أن نتوصل إىل أن الفرس كانوا‬
‫بالفعل يسعون جاهدين للتوسع واالستيالء على مزيد من األراضي واألقاليم‬
‫لتكون أقرب إىل القسطنطينية عاصمةِ البيزنطيني‪ ،‬إذ مل تكن الرها تبعد عنها‬
‫سوى ‪ 219‬كم‪ ،‬وحتققُ ذلك يعين أن يُحكِم الفرس قبضتهم على البيزنطيني‪ ،‬وأن‬
‫يغتنموا هذه الفرصة الذهبية لتدمري هذه اإلمرباطورية أو زعزعة أركاهنا على‬
‫األقل‪.‬‬
‫وجدير بالذكر هنا‪ ،‬كما ورد عند تيوفانيس‪ ،‬أن الفرس مل يهامجوا بالد الشام‬
‫مباشرة‪ ،‬وهذا يعين أنه مل تراودهم فكرة غزو بيت املقدس ألسباب دينية‪ ،‬وإمنا‬
‫ألسباب سياسية حمضة‪ .‬بيد أنّ البعض قد يرى أن الفرس كانوا يسعون للسيطرة‬
‫على األجزاء اجلنوبية الشرقية من اإلمرباطورية البيزنطية‪ ،‬ابتداءً من الرها‪ ،‬واليت‬
‫كانت تعدّ حاجزًا أساسيًا بني األقاليم البيزنطية األساسية‪ ،‬أي آسيا الصغرى‪ ،‬وبني‬
‫املناطق غري البيزنطية‪ ،1‬وهي بالد الشام ومصر‪ .‬ويعزز هذا القول ما ورد يف‬
‫املصادر التارخيية املتعددة‪ ،‬كالتاريخ الذي كتبه تيوفانيس وما جاء يف يوميات‬
‫الفصح‪ ،‬حيث يظهر لنا يف هذه املصادر املسلك الذي اختطته اجليوش الفارسية‬
‫لنفسها بعد اهلجوم على الرها واملنطقة اجملاورة هلا تيوفانيس ‪)414-411 :1222‬‬
‫كما يظهر يف اخلريطة ‪ 1‬فيما يلي‪:‬‬

‫وهذا يعين املناطق املأهولة بأعراق أخرى غري البيزنطيني األصليني‪ ،‬كالعرب والقبط‬ ‫‪1‬‬
‫(والذين يعدّون عرقًا خمتلفًا عن العرب)‪ ..‬إخل‪.‬‬
‫‪15‬‬
 ‫البريطة (‪ :)1‬الغزو الفأرأ والمدت الت اأتولوا ييلأ مت البيزنطييت ا القرت الأأبع‬
‫‪1‬‬
‫تمأدا يى مأ ورد ند يمبأريت (‪.)2002‬‬
‫ً‬ ‫الميالدز‪ .‬رأم البأحث هيه البريطة ا‬

‫ماتيو كمبارييت‪ ،1991 ،‬الساسانيون يف إفريقيا‪ ،‬ترانسوكسيانا (‪:)4‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ ،www.salvador.edu.ar/transox/0104/sasanians.html//‬وقد مت الرجوع إىل‬
‫املوقع يف تاريخ‪.1993-1-11 :‬‬
‫‪16‬‬
‫وقد يتعارض هذا الفهم مع النظرية اليت ترى أن الفرس أرادوا تدمري‬
‫اإلمرباطورية البيزنطية عن بكرة أبيها واهلجوم على القسطنطينية‪ ،‬مع أنّه ليس بعيدًا‬
‫على الفرس أن يسعوا لالستيالء على املناطق البعيدة نوعًا ما عن القسطنطينية مركز‬
‫القوة البيزنطية‪ ،‬حيث كان ميكنهم على هذا النحو التمكني ألنفسهم خالل‬
‫هجومهم األخري على املناطق البيزنطية األساسية‪ .‬وهلذا توجه اهتمامهم حنو الرها‬
‫فهامجوها‪ ،‬فصارت القوات البيزنطية يف الشام معزولة وانقطعت عاصمة البيزنطيني‬
‫عن العديد من األقاليم األساسية اخلاضعة لسيطرة هذه العاصمة يف اجلنوب‪ .‬أما‬
‫غزو الشام ومصر فكان يعين تأمني مدخل مهمّ للفرس حنو املتوسط‪ ،‬األمر الذي قد‬
‫يساعدهم يف أي حتركات قادمة هلم ضد القسطنطينية وآسيا الصغرى‪.‬‬
‫يتجلى لنا فيما سبق صورةٌ للوضعِ السياسيِّ املتقلب لبيت املقدس‪ ،‬وهو‬
‫انعكاس لطبيعة الوضع السياسي يف بالد الشام بأسرها واليت كانت ظالل احلروب‬
‫تغشاها‪ .‬وتلك هي الفترة اليت شهدت بعثة النبـي حممد ﷺ وتلقّيه وحي السماء‪،‬‬
‫وذلك يف العام ‪ 119‬للميالد (املباركفوري ‪ .)13 :1221‬ويرد يف العديد من‬
‫الروايات يف السرية النبوية أن األوضاع يف بالد الشام وبيت املقدس شهدت‬
‫استقرارًا نسبيًا بعد بعثته ﷺ‪ ،‬وميكن تأكيد ذلك من خالل دراسة الروايات اليت‬
‫تتحدث عن قوافل قريش إىل بالد الشام‪ ،‬وهو أمر ذكره القرآن الكرمي يف سورةٍ‬
‫من أوائل السور املكّية‪ ،‬وهي سورة قريش (‪( )4-1 :191‬الزركشي ‪)1( :1223‬‬
‫‪ .)121‬ومل يرد يف كتب التاريخ ما يشري إىل توقّف حركة هذه القوافل خالل تلك‬
‫الفترة‪ ،‬رغم احلرب الدائرة بني الفرس والبيزنطيني‪ ،‬إذ إنّ وقوع أمرٍ كهذا كان ال‬
‫بدّ أن ينقل يف التاريخ لو أنه حدث نظراً لضخامته وتأثريه املباشر على حياة قريش‪.‬‬
‫لذا ميكن القول إن وضع املنطقة شهد هدوءًا إىل حدّ ما‪ ،‬واستمرّ هذا الوضع اهلشّ‬
‫يف بيت املقدس إىل أن دمهه الغزو الفارسيّ‪.‬‬

‫الغزو الفأرأ لبي المقدس‬

‫غزا الفرس بالد الشام وبيت املقدس خالل فترة قصرية‪ ،‬وقد ورد ذكر هذا‬
‫الغزو يف العديد من املصادر التارخيية‪ ،‬كيوميات الفصح‪ ،‬واليت كتبت يف‬
‫القسطنطينية بُعيد هذه احلرب مباشرة‪ .‬إال أنّ ما كتبه ستراتيجوس حول هذه الفترة‬
‫‪17‬‬
‫التارخيية يعدّ األهمّ بني ما كُتب يف هذا الصدد‪ ،‬إذ شهد ستراتيجوس تلك احلرب‬
‫بنفسه‪ ،‬وخصّ ذكرَ دخول الفرس إىل بيت املقدس وحدّد ذلك بالعام ‪114‬‬
‫للميالد‪ .‬وفيما يلي وصف ملا حدث كما ورد يف يوميات الفصح‪:‬‬
‫يف هذا العام ويف شهر حزيران‪ ،‬جترعنا مرارةً تستحقُّ عزاءً ال ينتهي‪،‬‬
‫كيف ال وقد سقطت القدس ومعها العديد من مدن الشرق يف يد‬
‫الفرس‪.‬‬
‫ويظهر هذا النصّ أ ن الفرسَ قد استولوا على العديد من املدن يف الوقت‬
‫نفسه‪ ،‬ومع ذلك مل يردْ ذكرٌ أليٍّ من هذا املدن بأمسائها باستثناء القدس‪ .‬ويذكر‬
‫تيوفانيس املناطق اليت احتلّت غري مدينة القدس‪ ،‬فيذكر منطقة "األردن وفلسطني‬
‫واملدينة املقدسة"‪ .‬وهذا يظهر أنّه قصد املنطقة ضمن بيت املقدس أو القريبة من‬
‫بيت املقدس‪ ،‬وليس منطقة الشام بعمومها‪ ،‬ذلكَ أنّه يذكر يف الوقت نفسه على‬
‫سبيل املثال أن الفرس احتلوا دمشق يف العام ‪ 111‬للميالد (تيوفانيس ‪.)419 :1222‬‬
‫أما ستراتيجوس فريكّز من ناحية أخرى على مدينة القدس (إيلياء)‪ .‬حيث‬
‫يصف يف البداية الطريق الذي سلكه الفرس للوصول إىل مدينة القدس بعد احتالهلم‬
‫للمناطق الشرقية من بالد الشام‪ .‬كما يذكر ستراتيجوس بعض األماكن واملدن اليت‬
‫احتلها الفرس يف طريقهم إىل القدس‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫ووصلوا فلسطني ومشارفها‪ ،‬كما وصلوا إىل قيسارية‪ ،‬واليت كانت‬
‫من املتروبوليس‪ 1‬ولكنّهم استجدوا هنالك للتوصل إىل هدنة‪ ،‬واحننت‬
‫رقاهبم خاضعني‪ .‬مث تقدم جيش العدو حنو سرابيون (أرسوف)‪،‬‬
‫واستولوا عليها‪ ،‬وسقطت معها مجيع املدن الساحلية وحصوهنا‪ ...‬مث‬
‫وصلوا منطقة يهودا‪ ،‬ومن مثّ أتوا مدينة كبرية ومشهورة‪ ،‬مدينة‬
‫مسيحية‪ ،‬أال وهي مدينة القدس (كونيبري ‪.)101 :1910‬‬
‫يظهر هذا الوصف أن التحرك الفارسي كان من الشمال باجتاه اجلنوب‬
‫الشرقي‪ .‬ولو قمنا بالربط بني ما ورد هنا وبني ما دوّنه تيوفانيس خبصوص احتالل‬
‫الفرس لدمشق عام ‪ 111‬للميالد‪ ،‬فإنه سيظهر لنا أن الفرس قد حتركوا من دمشق‬
‫أي أهنا من أمّهات املدن‬ ‫‪1‬‬

‫‪18‬‬
‫إىل أذرعات (درعا)‪ ،‬ومن مث انتقلوا حنو مدن الساحل الفلسطيين مرورًا باجلزء‬
‫الشمايل من وادي األردن باجتاه قيسارية ومن مث جنوبًا حنو سرابيون (أرسوف)‪،1‬‬
‫ووصلوا يف هناية املطاف إىل القدس من الشمال الغربـي‪.‬‬
‫باملقارنة بني املصادر نقول‪ :‬مع أنّ تيوفانيس قد عاش يف القرن التاسع‬
‫للميالد‪ ،‬ومع أن يوميات الفصح قد كتبت يف القرن السابع‪ ،‬فإن الباحث هنا يرى‬
‫أن تيوفانيس كان أكثر دقة يف تدوين بعض هذه األحداث‪ ،‬ولعل ذلك راجع إىل‬
‫اعتماده على مصادر أخرى‪ ،‬خبالف يوميات الفصح‪ ،‬واليت اعتمدت على جتارب‬
‫املؤلفني أنفسهم يف القسطنطينية يف العام ‪ 119‬للميالد (يوميات الفصح‪،1232 :‬‬
‫ظهر الغالف)‪ .‬وهذا ما جعل الكثري من أجزاء يوميات الفصح مقتضبة‪ ،‬وذلك ألنّ‬
‫كتاهبا كانوا يف القسطنطينية على وجه العموم‪ .‬أما ستراتيجوس‪ ،‬فقد كان أكثر‬
‫ال من تيوفانيس ومن يوميات الفصح‪ ،‬وذلك ألنه كان شاهد عيان على تلك‬ ‫تفصي ً‬
‫األحداث بأكملها‪ ،‬ولكنّه يف الوقت نفسه مل يكن على علم بتحركات الفرس قبل‬
‫وصوهلم إىل فلسطني‪ ،‬وقد يعزى ذلك إىل الوضع غري املستقر يف بيت املقدس أو‬
‫بسبب عدم اهتمامٍ من ستراتيجوس نفسه بالوقوف على تلك التحركات‪.‬‬

‫ميأنة بي المقدس ا اإلأالم‬

‫لبيت املقدس مكانة خاصة عند املسلمني منذ السنوات املبكرة األوىل لإلسالم‬
‫يف مكة‪ .‬وقد حبث العامل املاليزي حممد رسالن نور أمهية بيت املقدس يف اإلسالم‬
‫من منظور القرآن الكرمي واحلديث الشريف يف أطروحةٍ غري منشورةٍ له عام ‪،1991‬‬
‫جاء فيه (‪:)122 :1991‬‬
‫إن هذه املنطقة راسخة بكل ما تعنيه الكلمة يف القرآن الكرمي والسنة‬
‫الشريفة‪ ،‬كما أهنا راسخة يف تاريخ املسلمني‪ ،‬وال عجبَ أهنا حتتل‬
‫أرفع مكانة وأمسى منـزلة يف عقل ووجدان كل مسلم‪.‬‬

‫سرابيون هي مدينة أرسوف الواقعة على الساحل الفلسطيين (انظر دجلادو (غ‪ .‬م)‪:‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪http: //www.biblioteca-tercer-milenio.com/sala-de-lectura/Bizancio-Vasiliev/‬‬
‫‪ :docs/DestrucciondeJerusalen.htm‬يف تاريخ ‪ ،)1993-1-2‬وهي تقع جنوب‬
‫قيسارية ومشال يافا اليت تقع مشال غرب القدس‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫ويتفق الباحث مع ما ذهب إليه نور‪ ،‬إذ ميكن للدارس ملنـزلة بيت املقدس يف‬
‫اإلسالم أن يتوصل دومنا صعوبة إىل حقيقة مفادها أن لبيت املقدس مكانة عظيمة‬
‫عند املسلمني‪ ،‬وميكن فهم هذا األمر بدراسة اآليات القرآنية واألحاديث اليت تشري‬
‫‪1‬‬
‫إىل مكانة هذه املنطقة‪.‬‬
‫يقول عبد احلليم عويس (‪ )12 :1991‬يف هذا الشأن‪ " :‬واملسلمون منذ أربعة‬
‫عشر قرناً ينظرون إىل بيت املقدس نظرة تقديس‪ ،‬على أنه مركز لتراث ديين كبري‬
‫جتب محايته‪ ،‬وهم يربطون ربطاً كامالً وثيقاً بني املسجد احلرام يف مكة‪،‬‬
‫واملسجد األقصى يف القدس"‪ ،‬ويضيف قائالً‪ " :‬وإذا كان املسلمون يف كل بقاع‬
‫األرض أصبحوا يتجهون يف صالهتم إىل املسجد احلرام‪ ،‬فإهنم ال ينسون أن نبيهم‬
‫حممداً وأسالفهم الصاحلني قد اجتهوا ‪ -‬قبل نـزول آيات حديث القبلة‪ 2‬إىل‬
‫الكعبة‪ -‬إىل املسجد األقصى أوىل القبلتني‪ ..‬وال زالت مدينة الرسول عليه الصالة‬
‫والسالم تضم مسجداً يسمى "مسجد القبلتني" شاهداً حياً على الترابط الديين‬
‫بني مكة والقدس‪ ،‬واملسجد احلرام واملسجد األقصى"‪ .‬ويتفق الكاتب مع األستاذ‬
‫عويس‪ ،‬ويزيد على ذلك أن تعدّد الروايات يف التراث اإلسالمي فيما يتعلق بأمهية‬
‫بيت املقدس إمنا يعكس املكانة العظيمة هلذه املنطقة وما هلا من اعتبار خاص يف‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫جند يف املقابل أنّ الزاروس يافيه (‪ )41-41 :1229‬ترى أن قدسية هذه‬
‫املنطقة تطورت خالل الوقت يف اإلسالم‪ ،‬وأنّ هذا املكانة مل تكن موضع قبول‬
‫دومًا‪ .‬وهي تعتمد يف ذلك على بعض األحاديث الشريفة اليت تذكر قدسية مكة‬
‫واملدينة وتغفل ذكر بيت املقدس‪ .‬وتدّعي يافيه أن معارضة هذه املكانة لبيت‬
‫املقدس قد بدأت بالظهور لدى العديد من العلماء كابن تيمية (ت‪213 .‬‬
‫هجرية‪ 1113/‬ميالدية)‪ .‬ويتفق معها يف هذا ليفين‪-‬كافري (‪ ،)111 :1991‬والذي‬
‫ي رى أن لألمويني دورًا مهمًا يف تطوير مكانة بيت املقدس يف اإلسالم‪ ،‬وجتلى ذلك‬

‫لن خنوض يف تفاصيل هذه القضية ألهنا قد حبثت بشكل مستفيض عند حممد رسالن نور‪،‬‬ ‫‪1‬‬
‫كما أهنا ليست يف صلب حبثنا‪.‬‬
‫تشري القبلة إىل جهة الصالة (القلعجي ‪ ،)111 :1223‬وأتت كلمة "قبلة" يف العربية من‬ ‫‪2‬‬
‫اجلذر الثالثي ق ب ل‪ ،‬ويعين حرفيا "االجتاه" (ابن منظور ‪،11 )11( :1222‬‬
‫الفريوزأبادي ‪.)41 )4( :1221‬‬
‫‪11‬‬
‫يف آثارهم املعمارية يف مدينة القدس‪ .‬غريَ أنّ مكانة بيت املقدس جليةٌ ال مراء فيها‬
‫يف العديد من األحاديث النبوية ويف ما كتبه فقهاء اإلسالم ومؤرخوه‪ .‬فابن تيمية‬
‫رمحه اهلل على سبيل املثال يذكر استحباب زيارة املسجد األقصى للصالة فيه‬
‫(‪( :1222‬اجلزء ‪ .)31 )11‬كما تكلم يف كثري من مؤلفاته عن مكانة تلك املنطقة‬
‫يف اإلسالم‪( .‬انظر ابن تيمية ‪( :1222‬اجلزء ‪.)3-2 )12‬‬

‫مواطت يير بي المقدس ا القرآت اليريم‬

‫ورد ذكر بيت املقدس يف القرآن الكرمي يف مراحل مبكرة من تنـزّل‬
‫ال أن مطلع سورة التني يف القرآن الكرمي‬
‫الوحي على النبـي ﷺ‪ .‬فنرى مث ً‬
‫هو‪:‬‬
‫ني وَالزَّيْتُونِ * وَطُو ِر سِينِنيَ * َوهَذَا الْبَلَدِ ا َألمِنيِ‪( ‬التني‪)1-1 :‬‬
‫‪‬وَالتِّ ِ‬
‫وهذه من أوائل السور اليت تنـزلت على النبـي ﷺ كما يذكر الزركشي‬
‫(ت‪ 224 .‬للهجرة‪ 1121/‬ميالدية) (‪.)121 )1( :1223‬‬
‫ويذكر ابن كثري (ت‪ 224 .‬للهجرة‪ 1121/‬ميالدية) ما يلي يف تفسري هذه‬
‫اآليات‪:)131 )4( :1224( :‬‬
‫هذه حمال ثالثة بعث اهلل يف كل واحد منها نبيا مرسال من أويل العزم‬
‫أصحاب الشرائع الكبار‪ .‬فاألول حملة التني والزيتون وهي بيت‬
‫املقدس اليت بعث اهلل فيها عيسى ابن مرمي عليه السالم‪ ،‬والثاين طور‬
‫سنني وهو طور سيناء الذي كلم اهلل عليه موسى بن عمران‪ ،‬والثالث‬
‫مكة وهو البلد األمني الذي من دخله كان آمنا وهو الذي أرسل فيه‬
‫حممدًا ﷺ‪.‬‬
‫ويتفق سيد قطب (ت‪ 1212 .‬ميالدية) (‪ )1211 )1( :1221‬مع ابن كثري‪.‬‬
‫وجدير بالذكر أن هذا النص يساوي بني وجود التني والزيتون وبني وجود جبل‬
‫سيناء ومكة يف وقت معًا‪ ،‬ويف هذا إشارة إىل أن ذكر التني والزيتون هو إشارة إىل‬
‫البالد اليت تنمو فيها هاتان الثمرتان‪ .‬وال بد من اإلشارة كذلك إىل أن اآليات‬
‫القرآنية اليت تذكر األرض اليت بارك اهلل فيها‪ ،‬وهو االسم الذي يستخدم عادة‬
‫‪10‬‬
‫لإلشارة إىل بيت املقدس أو األراضي اجملاورة له‪ ،‬قد تنـزّلت كلها يف املرحلة‬
‫املكية من البعثة‪ .‬وهنالك أربع آيات يرد فيها ذكر هذه األرض املباركة‪ ،‬ومجيعها‬
‫مكّية‪ .‬وهلذا األمر داللة على األمهية اليت مينحها القرآن هلذه املنطقة من مرحلة‬
‫مبكّرة‪.‬‬
‫كما جند يف السنّة العديد من األحاديث اليت تذكر بيت املقدس‪ ،‬منها ما رواه‬
‫أمحد بن حنبل (ت‪ 141 .‬للهجرة‪ 311/‬ميالدية) (‪ )22 )11( :1221‬عن ذي‬
‫األصابع أنه قال‪" :‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إن ابتلينا بالبقاء بعدك أين تأمرنا؟ قال‪:‬‬
‫عليك ببيت املقدس‪ ،‬فلعله أن ينشأ لك ذرية يغدون إىل ذلك املسجد ويروحون"‪.‬‬
‫ويظهر جبالء يف هذا احلديث األمهية اليت يضفيها النبـي ﷺ على بيت‬
‫املقدس‪ ،‬وال بدّ من اإلشارة هنا إىل أنّ هذا احلديث سابق لفتح املسلمني بيتَ‬
‫املقدس‪ .‬وهكذا يتّضح أن مكانة بيت املقدس يف اإلسالم هي سبب اهتمام‬
‫النبـي ﷺ هبا‪.‬‬
‫كانت هزمية البيزنطيني على يد الفرس واستيالء الفرس على بيت املقدس من‬
‫األحداث األساسية اليت تناوهلا القرآن الكرمي‪ ،‬وذلك يف سورة الروم‪ .‬ويرى العديد‬
‫من املفسرين وعلماء القرآن الكرمي أنّ هذا احلدث قد ورد يف اآليات اخلمسة‬
‫األوىل من سورة الروم‪:‬‬
‫‪‬امل * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى ا َأل ْرضِ َوهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سََيغْلِبُو َن‬
‫* فِي ِبضْعِ سِنِنيَ لِلَّهِ ا َألمْرُ مِنْ قَبْلُ َومِنْ َبعْدُ وَيَ ْومَئِذٍ َيفْ َرحُ الْمُ ْؤمِنُونَ‬
‫الرحِيمُ‪.‬‬ ‫* بَِنصْ ِر اللَّهِ يَْنصُرُ مَنْ يَشَاءُ َوهُ َو اْلعَزِيزُ َّ‬
‫إن جمرّد ذكر هذه األحداث يف القرآن الكرمي هلو داللة على مدى أمهيتها عند‬
‫املسلمني‪ .‬كما أن أمهية هذا احلدث بالتحديد نابعة من أمهية املنطقة اليت جرت فيها‬
‫هذه احلرب‪ .‬بينما جند أن القرآن الكرمي مل يأتِ قطّ على ذكر سقوط دمشق أو‬
‫أنطاكية أو محص أو غريها من املدن البيزنطية ذات األمهية السياسية والدينية يف‬
‫بالد الشام‪ ،‬واكتفى القرآن بذكر سقوط بيت املقدس‪.‬‬
‫كما أن اهتمام القرآن الكرمي يف ذكر زمن سيطرة الفرس على بيت املقدس‬
‫واالنتصار املرتقب من بعد ذلك للبيزنطيني يفيد بوجود عالقة حمتملة بني هذه‬
‫‪11‬‬
‫األحداث وفتح املسلمني لبيت املقدس‪ .‬ولو تناولنا هذه التواريخ والفترات التارخيية‬
‫فإننا سنجد أن الفرس دخلوا بيت املقدس عام ‪ 114‬ميالدية‪ ،‬مث متكن البيزنطيون‬
‫من هزميتهم يف املرة األوىل بعد أقل من ‪ 19‬سنوات (عند حساب الشهور)‪ ،‬وكان‬
‫ذلك يف العام ‪ 114‬ميالدية‪ ،‬وذلك حسب إشارة القرآن الكرمي‪ ،1‬وهذه إشارةٌ إىل‬
‫مدى أمهية هذا احلدث وأبعاده‪ .‬وتعدّ هذه اآليات من سورة الروم أول موطن يف‬
‫القرآن فيه إخبار بالغيب‪ ،‬وهو مرتبط يف الوقت نفسه ببيت املقدس‪ ،‬أي أن بيت‬
‫املقدس موطن أول نبوءةٍ يف القرآن‪ ،‬بل أول نبوءة يف اإلسالم‪ ،‬وهذا أمر له أثره‬
‫اخلطري يف بناء صورةِ بيت املقدس يف الذهن املسلم‪.‬‬

‫بي المقدس أبية المأيميت األولى‬

‫الصالة ركن اإلسالم الثاين بعد الشهادتني‪ ،‬وهو الفرض الوحيد الذي‬
‫يتوجب على مجيع املسلمني أداؤه كل يوم مهما كانت ظروفهم من غىن أو فقر‬
‫وصحة أو مرض وعمل أو فراغ أو غري ذلك من األحوال‪ ،‬بينما جند أن أركان‬
‫اإلسالم األخرى ختتلف من شخص آلخر كما أهنا مقيدة زمنيًا ومكانيًا‪ ،‬إذ ميكن‬
‫استثناء بعض املسلمني من أداء بعض الفروض لرخصٍ خمتلفة‪ ،‬كالفقر يف حال‬
‫الزكاة واحلج أو املرض يف حال الصيام أو غريه‪ .‬أما وإن للصالة شأهنا املميز يف‬
‫اإلسالم‪ ،‬فإن الرتباطها ببيت املقدس شأنًا مميزًا كذلك‪.‬‬
‫تشتق كلمة "صالة" يف لسان العرب من اجلذر الثالثي صال‪ .‬ويذكر ابن‬
‫منظور (ت‪ 211 .‬للهجرة‪ 1111/‬ميالدية) (‪ ،)122 )2( :1222‬واجلرجاين‬
‫(ت‪ 311 .‬للهجرة‪ 1411/‬ميالدية) (‪ )111 :1991‬والفريوزأبادي (‪)4( :1221‬‬
‫‪ )119‬أن الصالة تعين الدعاء‪ .‬ويرى الباحث أن كلمة "صالة" مبعناها اللغوي‪ ،‬أي‬
‫الدعاء‪ ،‬هلا ارتباط أقرب بكلمة عربية أخرى مشتقة من جذر قريب‪ ،‬وهي كلمة‬

‫كنت قد نشرت حبثاً حمكماً يتناول بشكل تفصيلي هذه اآليات القرآنية وعالقتها‬ ‫‪1‬‬
‫باألحداث اليت ترتبط هبا‪ ،‬وكان هذ البحث بعنوان‪Islamicjerusalem and the First :‬‬
‫‪Qur’anic Prophecy: A Study of the First Verses of Chapter 30 al-Rum‬‬
‫(بيت املقدس والنبوءة القرآنية األوىل‪ :‬دراسة ألوائل سورة الروم)‪ ،‬وقد نشر البحث يف‬
‫جملة دراسات بيت املقدس‪ ،‬العدد ‪ 19‬يف العام ‪.1992‬‬
‫‪11‬‬
‫"صِلة" (انظر البعلبكي ‪ .)122 :1991‬هذه الكلمة مشتقة من الفعل "وصل" (انظر‬
‫البعلبكي ‪ .)1111 :1991‬وهذا املعىن مرتبط كذلك باملعىن الذي ذكره ابن منظور‬
‫ال بني العبد الداعي والربّ‬
‫واجلرجاين والفريوزابادي‪ ،‬إذ أن الدعاء ميثل صلةَ وحب ً‬
‫املدعوّ‪ ،‬ويتبع ذلك أن الصالة يف اإلسالم متثل صلةً بني العبد وربه‪ ،‬وهذا ما يعطي‬
‫الصالة وزهنا يف اإلسالم‪.‬‬
‫فرضت الصلوات اخلمس يف اإلسالم يف رحلة اإلسراء واملعراج‪ ،‬حسب ما‬
‫ورد يف العديد من األحاديث‪ .‬فاإلمام مسلم (‪ )31 )1( :1999‬يروي حديثًا‬
‫صحيحًا عن احلادثة اليت فرضت فيها الصالة يف معراج النبـي ﷺ للسماء‪.‬‬
‫ويرى بعض العلماء أن الصالة نفسها قد فرضت من وقت مبكر‪ ،‬معتمدين على ما‬
‫ورد يف سورة املزمّل‪ ،‬وهي من السور األوىل يف القرآن الكرمي‪ ،‬وجاء يف اآليتني‬
‫األوليني فيها‪:‬‬

‫‪‬يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُ ِم اللَّيْلَ إِالَّ قَلِيالً‪( ‬املزمل‪.)2-1 :‬‬

‫ويقول العديد من املفسرين كابن كثري (‪ ،)113 )4( :1224‬والطربي (‪:1222‬‬

‫(‪ ،)122-123 )11‬والزخمشري (‪ ،)114-111 )4( :1221‬والرازي (‪)11( :1991‬‬
‫‪ )121-121‬واأللوسي (‪ ،)114 )11( :1224‬يف تفسري هاتني اآليتني "قم الليل إال‬
‫قليال" أن هذه إشارة إىل قيام الليل‪ .‬وينطبق هذا على اآلية رقم ‪ 19‬من السورة‬
‫نفسها ‪‬إِنَّ رَبَّكَ َيعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَاِئفَةٌ مِنَ الَّذِينَ‬
‫َمعَكَ‪ .‬ويرى الباحث أن هذه اآلية األخرية تؤكد أن املقصود هو صالة الليل‪،‬‬
‫وفيها إشارة إىل التخفيف على املسلمني يف هذه الصالة‪.‬‬
‫وهنالك العديد من الروايات اليت تذكر الصالة يف مكة قبل رحلة اإلسراء‬
‫واملعراج‪ ،‬وتبدو كأهنا تتعارض مع األحاديث األخرى اليت تشري إىل أن الصلوات‬
‫اخلمسة قد فرضت يف رحلة اإلسراء واملعراج‪ .‬ويذكر ابن اسحاق بشكل واضح‬
‫أن الصالة بدأت بعد اعتناق أم املؤمنني خدجية رضي اهلل عنها لإلسالم‪ ،‬فيقول‬
‫(‪ )139 :1994‬إن النبـي ﷺ وخدجية رضي اهلل عنها كانا يصليان سرًا يف‬
‫بداية البعثة‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫كما يذكر ابن اسحاق ما ورد عن عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه حني‬
‫قال‪" :‬ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة‪ ،‬حىت أسلم عمر" (انظر ابن اسحاق‬
‫‪ .)111 :1994‬ومن املعروف أن عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه أسلم قبل رحلة‬
‫اإلسراء بكثري‪ ،‬إذ أسلم رضي اهلل عنه يف السنة السادسة للبعثة‪ 111/‬ميالدية (انظر‪:‬‬
‫املباركفوري ‪ ،)192 :1221‬أي بعد هجرة املسلمني األوىل إىل احلبشة‪ .‬وهذا يعين‬
‫أن املسلمني قد بدؤوا الصالة يف وقت مبكر‪ ،‬قد يكون يف السنة األوىل من بعثة‬
‫النبـي ﷺ‪ ،‬لكن ما حدث ليلة اإلسراء واملعراج كان تقنني الصلوات املفروضة‬
‫خبمس صلواتٍ يف اليوم والليلة‪.‬‬
‫وجاء يف احلديث أن النبـي ﷺ كان يستقبل بيت املقدس عند الصالة‪ .‬وقد‬
‫روى البخاريّ هذا احلديث يف صحيحه (‪:)11 )1( :1999‬‬
‫عن الرباء بن عازب أن النبـي ﷺ كان أول ما قدم املدينة نـزل‬
‫على أجداده أو قال أخواله من األنصار‪ ،‬وأنه صلى قِبَلَ بيت‬
‫املقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً وكان يعجبه أن‬
‫تكون قبلته قبل البيت وأنه صلى أول صالة صالة العصر وصلى‬
‫معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم‬
‫راكعون فقال أشهد باهلل لقد صليت مع رسول اهلل ﷺ قبل مكة‬
‫فداروا كما هم قبل البيت‪ ،‬وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان‬
‫يصلي قبل بيت املقدس وأهل الكتاب فلما وىل وجهه قبل البيت‬
‫أنكروا ذلك‪.‬‬
‫ويظهر أن الراوي ليس متأكدًا يف هذا احلديث من الفترة اليت توجه فيها‬
‫النبـي إىل بيت املقدس يف صالته‪ ،‬أكانت ‪ 11‬أو ‪ 12‬شهرًا‪ .‬ولكنّ روايات‬
‫أخرى حتدد هذه الفترة‪ ،‬كاحلديث الذي رواه النسائي (‪،)119 )1( :1999‬‬
‫والذي حددها بستة عشر شهرًا‪ .‬ومن املعروف أن املسلمني شرعوا بأداء‬
‫الصلوات اخلمس املفروضة يوميًا بعد رحلة الِإسراء واملعراج‪ ،‬واليت حدثت قبل‬
‫اهلجرة إىل املدينة‪ .‬ولذا ال بد من معرفة القبلة اليت كان عليها املسلمون قبل‬
‫اهلجرة‪.‬‬
‫‪15‬‬
 ‫جاء يف مسند أمحد (‪:)119 )1( :1221‬‬
‫عن ابن عباس قال‪( :‬كان رسول اهلل ﷺ يصلي وهو مبكة حنو بيت‬
‫املقدس والكعبة بني يديه‪ ،‬وبعد ما هاجر إىل املدينة ستة عشر شهراً‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫مث صرف إىل الكعبة)‪.‬‬
‫من الواضح يف هذا احلديث أن النبـي كان يصلي جهة بيت املقدس حني‬
‫كان يف مكة‪ ،‬حيث كان يستقبل بيت املقدس والكعبة املشرفة يف آن معًا‪ ،‬أي أنه‬
‫كان يصلي خلف الركن اجلنوبـي للكعبة‪ ،‬واملعروف بالركن اليماين حبيث يتجه‬
‫إىل بيت املقدس وتبقى الكعبة أمامه‪ .‬وهذا يشمل الفترة اليت فرضت فيها الصالة يف‬
‫اإلسالم مخس مرات يف اليوم‪ ،‬وذلك يف رحلة اإلسراء واملعراج‪ ،‬واستمرّ ذلك ‪11‬‬
‫إىل ‪ 12‬شهرًا بعد اهلجرة إىل املدينة‪.‬‬
‫ويرى فادي الرابـي (‪ )13 :1992‬أن "ال دليلَ على حدوث تغيري للقبلة بعد‬
‫اإلسراء واملعراج (ألنّ حدثًا هبذا القدر من األمهية ال بدّ أن يكون قد دوّن بشكل‬
‫أفضل)‪ ،‬وأنّ القبلة على األرجح قبل رحلة اإلسراء واملعراج بقيت كما هي‬
‫بعدها"‪ .‬وهذا يعين أن الصالة جهة بيت املقدس كانت هي األصل عند املسلمني‪،‬‬
‫منذ بدء الصالة يف مكة‪ .‬بناءً على ذلك نصل إىل أن النبـي ﷺ واملسلمني يف‬
‫ذلك الوقت قد صلوا باجتاه بيت املقدس طيلة ‪ 14‬سنة أو أكثر‪ ،‬كان منها يف املدينة‬
‫‪ 11‬شهرًا تقريبًا‪ ،‬أما البقية فكانت يف مكة‪ ،‬أي أن النبـي ﷺ صلى حنو بيت‬
‫املقدس أكثر مما صلى حنو مكة املكرمة‪.‬‬
‫يف الوقت نفسه نقول إن السؤال الذي جيب أن يطرح هنا هو‪ :‬ملاذا أُمر‬
‫النبـي ﷺ بالصالة حنو بيت املقدس ألكثر من ‪ 14‬سنة؟ ال ريب أن النبـي ﷺ‬
‫قد توجه إىل بيت املقدس يف صالته بأمر من اهلل تعاىل من بداية األمر‪ ،‬وهذا ما ورد‬
‫ِال‬
‫يف القرآن الكرمي‪ ،‬حيث يقول اهلل تعاىل‪َ ... :‬ومَا َجعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إ َّ‬
‫لَِنعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَنْ يَْنقَِلبُ عَلَى َعقِبَيْهِ َوإِنْ كَاَنتْ لَكَبِ َريةً إِالَّ عَلَى الَّذِينَ‬
‫هَدَى اللَّهُ َومَا كَانَ اللَّهُ لُِيضِيعَ إِميَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ َرحِيمٌ‪ .‬وهذه اآلية‬
‫الكرمية دليل قطعي على أنّ اختاذ بيت املقدس قبل ًة كان بأمرٍ من اهلل تعاىل‪.‬‬

‫ميالدية) يف جممع‬ ‫‪ 292‬للهجرة‪1193/‬‬ ‫وهذا حديث صحيح كما يذكر اهليثمي (ت‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫الزوائد (‪)33 )1( :1991‬‬
‫‪16‬‬
‫لقد كانت الكعبة حسب العديد من املصادر اإلسالمية قبلة النبـي إبراهيم‬
‫ال راسخًا ونقطة مرجعيةً للنبـي حممد ﷺ‬ ‫عليه السالم‪ ،‬وهو النيبّ الذي ميثّل أص ً‬
‫وهو أمرٌ يؤكده القرآن الكرمي يف غري موضع‪ 1.‬ورمبا يفسّر هذا األمر سبب ذكر‬
‫القرآن يف سورة البقرة إلبراهيم عليه السالم ورفعه قواعد البيت احلرام‪ ،‬للداللة‬
‫على الفكرة الكامنة وراء اختيار الكعبة قبل ًة املسلمني‪.‬‬
‫إن التفسري الوارد آليات حتويل القبلة يف التفاسري املختلفة يغفل نقطة مركزية‪.‬‬
‫فهذه التفاسري تعىن بالوقوف على األسباب اليت دعت إىل تغيري القبلة من بيت‬
‫املقدس إىل مكة املكرمة‪ ،‬كما ورد يف اآلية رقم ‪ 144‬يف سورة البقرة‪ ،‬من دون‬
‫‪2‬‬
‫الكشف عن األسباب اليت دعت أصالةً إىل اختاذ بيت املقدس قبلةً أوىل للمسلمني‪.‬‬
‫إن السبب الوحيد واملمكن هلذا هو أن يصبح بيت املقدس نقطة مرجعية للمسلمني‬
‫وذلك كقوله تعاىل ‪‬وَاتََّبعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا‪( ‬النساء‪ ،)111 :‬واحلنيفية هي التوحيد‬ ‫‪1‬‬
‫الصرف واإلميان باخلالق وحده (انظر خان ‪ .)394 :1221‬وهنالك آيات غريها يف هذا‬
‫السياق كقوله تعاىل‪ :‬وَمَنْ يَرْ َغبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِالَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ‪( ...‬البقرة‪،)119 :‬‬
‫وقوله تعاىل‪... :‬قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ اْلمُشْرِ ِكنيَ‪( ‬البقرة‪ .)111 :‬أما‬
‫يف سورة آل عمران‪ ،‬فقد قال تعاىل‪ :‬مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ َيهُودِيًّا وَالَ نَصْرَانِيًّا وََلكِنْ كَانَ‬
‫ِي‬
‫حَنِيفًا مُسِْلمًا وَمَا كَانَ مِنَ اْلمُشْرِ ِكنيَ * إِنَّ َأوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لََّلذِينَ اتَّبَعُوهُ َوهَذَا النَّب ُّ‬
‫َالذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ اْلمُؤْمِنِنيَ‪( ‬آل عمران‪ ،)13-12 :‬وقوله يف السورة نفسها ‪‬قُلْ‬ ‫و َّ‬
‫صدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا‪( ...‬آل عمران‪ .)21 :‬وجاء يف سورة األنعام‪ :‬قُلْ‬ ‫َ‬
‫إِنَّنِي َهدَانِي رَبِّي إِلَى صِ رَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قَِيمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ اْلمُشْرِكِنيَ‪‬‬
‫(األنعام‪ .)111 :‬ويف سورة النحل‪ :‬ثُمَّ َأ ْوحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَِّبعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا‪...‬‬
‫(النحل‪ ،)111 :‬ويف سورة احلج‪... :‬مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ُهوَ سَمَّا ُكمُ اْلمُسِْل ِمنيَ مِنْ‬
‫قَبْلُ‪( ...‬احلج‪ ،)23 :‬والعديد غريها من اآليات يف القرآن الكرمي‪ ،‬واليت تظهر أن النقطة‬
‫املرجعية من األنبياء السابقني يف اإلسالم بشكل عام هو النبـي إبراهيم‪.‬‬
‫لقد كان سيد قطب (‪ )111 )1( :1221‬املفسر الوحيد الذي طرح السؤال بصورة معكوسة‪،‬‬ ‫‪2‬‬
‫إذ حبث عن السبب الذي دعا إىل اختاذ بيت املقدس قبلة يف املقام األول‪ ،‬مع أن رأيه يف املسألة‬
‫يعتمد على أن الكعبة قد كانت قبلةً للمسلمني قبل اهلجرة‪ ،‬مث تغريت القبلة حنو بيت املقدس‬
‫بعد اهلجرة‪ ،‬ومن مث عادت مكة مرة أخرى لتكون قبلة املسلمني بعد اهلجرة إىل املدينة‪ ،‬حيث‬
‫يرى سيد أن التحول عن القبلة األوىل‪ ،‬وهي الكعبة حسب رأيه‪ ،‬إىل بيت املقدس‪ ،‬كان‬
‫اختبارًا للمؤمنني مع النبـي ﷺ والذي كانت الكعبة يف وجداهنم رمزًا وطنيًا‪ .‬ولكنّ هذا‬
‫الرأي غري دقيق‪ ،‬فاألدلة واملصادر تشري إىل أن النبـي ﷺ قد صلى حنو بيت املقدس حيث‬
‫كان يف مكة قبل اهلجرة‪ ،‬وهذا الرأي الذي عرضه قطب يف تفسريه خيالف العديد من املصادر‬
‫والروايات اليت تؤكد أن الصالة يف مكة كانت حنو بيت املقدس كما أوضحنا‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫مجيعًا وذلك من خالل إقامة هذه الصلة الروحية العميقة والفعلية بينهم وبني هذا‬
‫ال سوى بالصالة‪ ،‬وهي كفيلة جبعلهم يدركون‬ ‫املكان‪ ،‬ومل يكن ليتحقق ذلك فع ً‬
‫أمهية تلك املنطقة وقيمتها يف اإلسالم‪.‬‬
‫كان مشركو مكة يدعون أهنم يرتبطون بعالقة دينية بالنبـي إبراهيم عليه‬
‫السالم‪ ،‬لذا ميكن أن يقول البعض إنه كان أجدرَ بالنبـي ﷺ أن يتوجه يف صالته‬
‫إىل الكعبة منذ بداية بعثته‪ ،‬ال إىل بيت املقدس‪ ،‬فمحمد ﷺ قد نشأ وعاش يف هذا‬
‫اجملتمع الذي يقدّس الكعبة وجيلّها‪ ،‬ولذا مل يكن من املفترض عقالً أن يستقبل بيت‬
‫املقدس‪ .‬حىت أنّ النبـي ﷺ حني هاجر إىل املدينة‪ ،‬واليت كانت تضم قبائل من‬
‫اليهود‪ ،‬كان يشاركهم القبلة اليت هي من أهم شعائر الدين‪ ،‬مث توجه إىل الكعبة‬
‫اليت ال يقدسوهنا‪ ،‬ولكنّه مل يتوجّه إىل الكعبة يف مكّة‪ .‬احلاصلُ هنا أنّ االدّعاء بأن‬
‫حممدًا ﷺ كان يسعى يف قضية القبلة لكسب تعاطف اليهودِ أو أهلِ مكةَ ادعا ٌء‬
‫باطل‪ ،‬فلو كان النبـي ﷺ حياول استمالة أحد الفريقني إليه لكان استقبل الكعبة‬
‫وهو يف مكة‪ ،‬ومن مث حتوّل إىل بيت املقدس حني هاجر إىل املدينة‪.‬‬
‫كل ما يف األمرُ إذن أنه كان جيب على املسلمني التوجه يف صالهتم كل يوم‬
‫حنو بيت املقدس ولفترة طويلة من أجل ترسيخ عالقة دينية مقدّسة بينهم وبني بيت‬
‫املقدس‪ ،‬عالقةٍ ستتجلّى لتصبح أهمّ الدوافع لدى املسلمني بعد سنوات للتوجه‬
‫لفتح املدينة وما حوهلا‪ .‬ومبا أنّ األمرَ يف استقبال بيت املقدس يف الصالة كان وحيًا‬
‫من اهلل تعاىل إىل نبيّه ﷺ‪ ،‬فإنّ اهلل تعاىل هو من أراد هلذا االرتباط أن يتمّ بني نبيه‬
‫واملسلمني وبني تلك البقعة املباركة من األرض‪ ،‬متامًا كما كان القصد من تنـزيل‬
‫سورة الروم يف القرآن الكرمي‪ .‬لقد كانت الصالة حنو بيت املقدس بكل وضوح‬
‫إحدى أهمّ اخلطوات اليت ربطت املسلمني ببيت املقدس ورسّخت املكانة الشريفة‬
‫لتلك املنطقة‪.‬‬

‫رحية اإلأراذ والمعراج‬

‫متّ االتصال املباشر ألوّل مرةٍ بني النبـي حممدٍ ﷺ وبيتِ املقدس بعد نبوّته‬
‫ج إىل السماء‪ .‬وميكن أن تُعدّ رحلة اإلسراء‬
‫خاللَ رحلة اإلسراء وما تالها من عرو ٍ‬
‫إحدى أهمّ األحداث يف سرية النبـي ﷺ فيما يرتبط بعالقته ببيت املقدس‪ .‬وال بد‬
‫‪18‬‬
‫من اإلشارة هنا إىل أن رحلة اإلسراء قد حدثت والنيبّ ﷺ ميرّ بإحدى أقسى‬
‫املراحل يف بعثته‪.‬‬
‫يرى عبد الفتاح العويسي (‪ )42-43 :1991‬أنّه من املمكن أن تعدّ هذه‬
‫الرحلة نقطة البدء خلطة النبـي حممّد لفتح بيت املقدس‪ ،‬ولعلّه كان من املمكن أن‬
‫يتطوّر هذا الرأي ليفسّرَ أمهيةَ هذا احلدث حبد ذاته‪ ،‬أي بيان وقت الرحلة‪ ،‬والوقائع‬
‫اليت حدثت يف تلك الليلة‪ ،‬وأثر تلك التجربة بأسرها على حياة حممّد وبعالقته‬
‫ببيت املقدس‪.‬‬
‫ويذكر ابنُ سعد (ت‪ 119 .‬ه‪321/‬م) (‪ )111-114 )1( :1222‬ثالثَة حوادث‬
‫أساسية وقعت خالل العهد املكيّ من نبوّة حممّد ﷺ واليت دفعته لترك مكةَ إىل‬
‫الطائف طالبًا النصرة‪ .‬وأول هذه احلوادث أنّ النبـي ﷺ وقبيلته (بين هاشم)‬
‫واملسلمني قد عانوا عنتَ املقاطعةِ يف شِعَب أبـي طالب‪ ،‬إذِ استمرت هذه‬
‫املقاطعة بضع سنني‪ .‬تال ذلكَ وفاةُ أبـي طالب عمّ النبـي ﷺ ووفاة زوجه‬
‫خدجية رضي اهلل عنها‪ ،‬حيث مل يفصل بني وفاة عمه وزوجه سوى شهرين (انظر‬
‫املباركفوري ‪.)114 :1221‬‬
‫ويشري كلّ من املباركفوري (‪ )114 :1221‬والعويسي (‪ )44 :1991‬إىل أن‬
‫أبا طالب كان يعدّ ظهريًا للنبـي ﷺ‪ ،‬أمّا خدجية رضي اهلل عنها فقد كانت سنده‬
‫املعنويّ واملاديّ معًا‪ .‬فقد كانت خدجية تسلّيه ﷺ خالل أوقات الشدّة يف مكّة‪.‬‬
‫وتعين خسارة هذين املصدرين من املؤازرة أنّ حممدًا ﷺ بات أكثر ضعفًا من‬
‫الناحية السياسية واملعنوية‪ .‬ولعل هذا ما دفع ابن إسحاق (ت‪ 111 .‬ه‪ 213/‬م)‬
‫ليقول إنه وبعد هذه اخلسائر الكبرية‪ ،‬عَمِدت قريش إىل إحلاق األذى به أكثر من‬
‫أي وقت مضى (انظر ابن إسحاق ‪ ،)121-129 :1994‬ولعل هذا أيضًا ما جعل‬
‫ذاك العام يعرف باسم "عام احلزن" (املباركفوري ‪.)111 :1221‬‬
‫تبع ذلك زيارةٌ للنبـي حممّد ﷺ إىل الطائف مل يكتب هلا النجاح‪ ،‬بعد أن‬
‫سعى لدعوة أهلها إىل اإلسالم وطلب النصرة من قادهتا‪ ،‬وهم ابن عبد ياليل‬
‫بن عبد كالل‪ ،‬ومسعود بن عمر‪ ،‬وحبيب بن عمر‪ .‬وما كان من سادة الطائف إال‬
‫أن قابلوا دعوة النيبّ ﷺ بالرّفض وطردوه من بالدهم‪ ،‬وحرّضوا أهل املدينة على‬
‫رميه باحلجارة وإهانته (انظر ابن هشام ‪ .)12-11 )1( :1991‬لقد كانت الظروف‬
‫‪19‬‬
‫اليت سبقت رحلة اإلسراء أقسى ما تعرّض له النبـي ﷺ‪ ،‬كما يقرّ ذلك هو نفسُه‬
‫بعد سنوات يف حديثٍ أورده البخاري (‪)111-111 )1( :1999‬‬
‫تروي عائشة رضي اهلل عنها أهنا سألت النيبّ ﷺ‪" :‬هل أتى عليك يوم‬
‫أشد من يوم أحد؟ قال‪ :‬لقد لقيت من قومك ما لقيت‪ ،‬وكان أشد ما‬
‫لقيت منهم يوم العقبة‪ ،1‬إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد‬
‫كالل‪ ،2‬فلم جيبين إىل ما أردت‪ ،‬فانطلقت وأنا مهموم على وجهي‪ ،‬فلم‬
‫أستفق إال وأنا بقرن الثعالب‪ ،‬فرفعت رأسي‪ ،‬فإذا أنا بسحابة قد أظلتين‪،‬‬
‫فنظرت فإذا فيها جربيل‪ ،‬فناداين فقال‪ :‬إن اهلل قد مسع قول قومك لك‪،‬‬
‫وما ردوا عليك‪ ،‬وقد بعث اهلل إليك ملك اجلبال‪ ،‬لتأمره مبا شئت فيهم‪،‬‬
‫فناداين ملك اجلبال فسلم علي‪ ،‬مث قال‪ :‬يا حممد‪ ،‬فقال‪ :‬ذلك فيما‬
‫شئت‪ ،‬إن شئت أن أطبق عليهم األخشبني‪3‬؟ فقال النبـي ﷺ‪ :‬بل‬
‫أرجو أن خيرج اهلل من أصالهبم من يعبد اهلل وحده‪ ،‬ال يشرك به شيئا‪.‬‬
‫وبعد معاجلة هذا األذى يف الطائف‪ ،‬توجّه النبـي ﷺ إىل اهلل بدعاء جتلّى فيه‬
‫ذلك احلزن العميق الذي حلّ به‪ ،‬وقد ورد هذا احلديث عند ابن هشام (ت‪113 .‬‬
‫هـ‪314/‬م) (‪ )12 )1( :1991‬هبذا اللفظ‪:‬‬
‫اللهم إين أشكو إليك ضعف قويت‪ ،‬وقلة حيليت‪ ،‬وهواين على الناس يا‬
‫أرحم الرامحني‪ ،‬أنت رب املستضعفني وأنت ربـي‪ ،‬إىل من تكلين؟‬
‫إىل بعيد يتجهمين؟ أم إىل عدو ملَّكته أمري؟ إن مل يكن بك عليَّ‬
‫غضب فال أبايل‪ ،‬ولكن عافيتك هي أوسع يل‪ ،‬أعوذ بنور وجهك‬
‫الذي أشرقت له الظلمات‪ ،‬وصلح عليه أمر الدنيا واآلخرة‪ ،‬من أن‬
‫تُنـزِ َل بـي غضبَك‪ ،‬أو حيل عليَّ سخطك‪ ،‬لك العتىب حىت ترضى‪،‬‬
‫وال حول وال قوة إال بك‪.‬‬
‫العقبة هنا مكان على الطريق حنو الطائف وليس املقصود بالعقبة هنا بيعة العقبة املعروفة يف‬ ‫‪1‬‬
‫السرية النبوية واليت حدثت بعد رحلة اإلسراء واملعراج‪.‬‬
‫يوضح العسقالين (ت‪ 311 .‬للهجرة‪ 1442/‬ميالدية) (‪ )122 )1( :1222‬أن ابن عبد‬ ‫‪2‬‬
‫ياليل الوارد ذكره يف هذا احلديث كان أحد زعماء الطائف‪.‬‬
‫األخشبان جبالن يف مكة‪ ،‬ومها جبل أبو قبيس وجبل القعيقعان (املباركفوري ‪.)113 :1221‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪41‬‬
‫يرى الباحث أنّه لوال وصول النبـي ﷺ إىل تلك الدرجة من اإلحباط‪ ،‬ملا‬
‫أقدمَ على ترك مكة‪ ،‬اليت بقي فيها فترة طويلةً حني كان عمّه أبو طالب يوفّر له‬
‫الدعم‪ .‬أما بعد وفاة أبـي طالب‪ ،‬فيبدو أن النبـي ﷺ قد فقد األمل يف مكّة‪.‬‬
‫ولعلّه شعر أيضًا أنّ حياته معرضة للخطر‪ ،‬وهذا يفسّر سبب نـزوله يف جوار أحد‬
‫أكرب رجاالت مكة‪ ،‬املِطعم بن عديّ‪ ،‬لدى عودته من الطائف‪ .‬كل هذه الظروف‬
‫قد سبقت رحلة اإلسراء‪ ،‬ولذا ميكن النظر إىل هذه الرحلة على أهنا استجابةٌ لتظلّم‬
‫النيبّ حممّد ﷺ ومواساة له‪.‬‬
‫وقد وقعت رحلة اإلسراء على األرجح يف ‪ 12‬رجب من السنة ‪ 11‬للبعثة‪ ،‬أي‬
‫يف العام الثاين قبل اهلجرة‪ 111/‬للميالد (انظر نور ‪ .)11 :1991‬ويرى العديد من‬
‫العلماء أن بداية نبوّة حممد ﷺ كانت يف شهر رمضان‪ ،‬أي يف السنة ‪ 11‬قبل‬
‫اهلجرة (انظر ابن إسحاق ‪ ،121 :1994‬وابن هشام ‪ .)121 )1( :1991‬وقد تويف‬
‫النبـي ﷺ يف ‪ 11‬ربيع األول للعام ‪ 11‬بعد اهلجرة (انظر ابن كثري ‪)4( 1211‬‬
‫‪ ،)192‬وهذا يعين أن النبوّة كلها قد امتدت على فترة ‪ 11‬سنةً و‪ 1‬أشهر يف التقومي‬
‫القمري‪ .‬وتكون نصف هذه الفترة ‪ 11‬سنة و‪ 1‬أشهر‪ .‬ولو حسبنا هذه املدّة من‬
‫بداية بعثة حممّد ﷺ‪ ،‬فإن منتصف مدّة نبوّته ستكون يف شهر ذي احلجّة يف السنة‬
‫الثانية قبل اهلجرة‪ .‬أي أن رحلة اإلسراء قد حدثت قبيل منتصف فترة نبوّة‬
‫حممد ﷺ‪ ،‬وهنا نشري إىل ما طرحه أمحد إمساعيل نوفل من أن رحلة اإلسراء قد‬
‫متّت يف قلبِ نبوّة النبـي ﷺ‪ ،‬وهذا يتوافق مع السورة ‪ 12‬من القرآن (سورة‬
‫اإلسراء)‪ ،‬وهي السورة اليت يرد ذكر رحلة اإلسراء فيها‪ .‬وهذا السورة‪ ،‬وفق ما‬
‫يرى نوفل‪ ،1‬تقع يف قلب القرآن‪ .‬ولتحليل ذلك وتدقيقه نقول إن نقطة النصف يف‬

‫لقد مسعت هذا الرأي من الدكتور أمحد إمساعيل نوفل للمرة األوىل يف اجلامعة األردنية عام‬ ‫‪1‬‬
‫‪ ،1222‬ومسعته منه مرة أخرى يف مكاملة هاتفية معه يف تاريخ ‪ .1993/1/11‬ويدعي بعض‬
‫األكادمييني واملستشرقني مثل الزاروس‪-‬يافيه (‪ )12 :1229‬وبيترز (‪ )131 :1221‬وبوز‬
‫(‪ )1 :1221‬أن كلمة "املسجد األقصى" يف هذه اآلية ال تعين بالضرورة املسجد األقصى‬
‫يف القدس‪ ،‬بل يذهب بوز (‪ )1 :1221‬إىل أبعد من ذلك ويقترح أن هذه اآلية تشري إىل‬
‫مسجد يف اجلعرانة قرب مكة‪ ،‬أو إىل مسجد يف اجلنة‪ .‬ولكنّ األحاديث العديدة اليت‬
‫وردت يف هذا الشأن ال تترك جماالً للشك يف أنّ املسجد املذكور يف اآلية هو املسجد‬
‫األقصى يف القدس‪ .‬وقد كان يشار إىل هذا املسجد يف ذلك الوقت باسم بيت املقدس‬
‫‪40‬‬
‫القرآن الكرمي يف احلقيقة تقع متامًا يف سورة الكهف‪ ،1‬وهي تأيت مباشرة بعد سورة‬
‫اإلسراء‪ .‬أي أنّ سورة اإلسراء تأيت قبيل منتصف القرآن‪ ،‬وهذا يتوافق متامًا مع‬
‫الوقت الذي جرت فيه حادثة اإلسراء يف نبوّة حممّد ﷺ‪.‬‬
‫وقد ورد ذكر ترتيب أحداث رحلة اإلسراء يف العديد من األحاديث‪ ،‬وأحد‬
‫أكثر هذه املصادر موثوقية ما ورد يف صحيح اإلمام مسلم (ت‪ 111 .‬بعد‬
‫اهلجرة‪ 321/‬ميالدية) (‪:)31 )1( :1999‬‬
‫عن أنس بن مالك أن رسول اهلل ﷺ قال‪ :‬أتيت بالرباق وهو دابة أبيض‬
‫طويل فوق احلمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه‪ ،‬قال‬
‫فركبته حىت أتيت بيت املقدس‪ ،‬قال فربطته باحللقة اليت يربط به األنبياء‪،‬‬
‫قال مث دخلت املسجد فصليت فيه ركعتني‪ ،‬قم خرجت فجاءين جربيل‬
‫عليه السالم بإناء من مخر وإناء من لنب فاخترت اللنب فقال جربيل ﷺ‬
‫‪2‬‬
‫اخترت الفطرة‪ ،‬مث عرج بنا إىل السماء‪ .....‬احلديث‪.‬‬

‫(انظر ابن إسحاق ‪ .)192 :1994‬كما تذكر العديد من األحاديث كذلك أن بيت‬
‫املقدس هو املكان الذي سرى إليه النبـي ﷺ يف رحلة اإلسراء واملعراج‪ ،‬كاحلديث الذي‬
‫رواه مسلم (‪ .)33932 )1( :1999‬ونرى أن هذا اخللط سببه اعتماد أولئك الكتاب على‬
‫النص القرآين وحسب من دون النظر يف النصوص النبوية‪ ،‬مع أنّه ال بد من األخذ‬
‫بنصوص القرآن واحلديث الصحيح كمصادر أساسية يف الدراسات اإلسالمية‪.‬‬
‫إن النقطة اليت ينتصف عندها القرآن باعتبار الكلمات هي كلمة "وليتطلف" يف سورة‬ ‫‪1‬‬
‫الكهف‪ ،‬اآلية رقم ‪ .12‬وهذا رأي معظم املفسرين (انظر الشبكة اإلسالمية‪:‬‬
‫‪www.islamweb.net/ver2/Fatwa/ShowFatwa.php?lang=A&Id=65007&//‬‬
‫‪ ،Option=FatwaId‬تاريخ الرجوع إىل املوقع‪ .)1991-19-1 :‬أما باعتبار احلروف‪،‬‬
‫فهي حرف النون يف كلمة "نكرًا" يف سورة الكهف كذلك‪ ،‬اآلية رقم ‪( 24‬انظر ابن‬
‫عطية ‪ .)111 )1( :1991‬أما ابن عاشور (ت‪ 1121 .‬للهجرة‪ 1221/‬ميالدية) فريى‬
‫أن منتصف القرآن الكرمي باعتبار احلروف يقع عند حرف (التاء) يف كلمة وليتلطّف‬
‫يف السورة نفسها يف اآلية رقم ‪( .12‬انظر الشبكة اإلسالمية‪:‬‬
‫&‪http: //www.islamweb.net/ver2/Fatwa/ShowFatwa.php?lang=A&Id=65007‬‬
‫‪ ،Option=FatwaId‬تاريخ الرجوع إىل املوقع‪.)1991-19-1 :‬‬
‫ورد هذا احلديث بروايات عديدة ختتلف يف بعض تفاصيلها‪ ،‬كموضع انطالق الرحلة‬ ‫‪2‬‬
‫واجتاهها وغري ذلك‪ ،‬ومل نتعرض هلذه الروايات واالختالفات الطفيفة بينها إال يف السياق‬
‫الذي يعنينا يف هذا الكتاب‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫وهناك روايات أضعف‪ ،‬بعضها يقترب مما ورد يف احلديث السابق‪ ،‬وبعضها‬
‫يشتمل على اختالفات طفيفة عن رواية مسلم‪ .‬وقد ورد ذكر هذه الروايات عند‬
‫بعض علماء احلديث مثل أمحد وأبـي داود (ت‪ 121 .‬بعد اهلجرة‪ 333 /‬م)‪،‬‬
‫والنسائي (ت‪ 191 .‬بعد اهلجرة‪ 211/‬م)‪ ،‬وابن ماجه (ت‪ 121 .‬بعد اهلجرة‪332/‬‬
‫م)‪ .‬ويظهر يف هذه الروايات املتعددة أن مدة الزيارة للمسجد األقصى كانت‬
‫قصرية نوعًا ما‪ ،‬واشتملت على حدثني أساسيني‪ :‬أوهلما كان صالة النبـي‬
‫حممد ﷺ داخل املسجد األقصى‪ ،‬وعلى األخص صالته باألنبياء إمامًا‪ ،‬وثاين هذين‬
‫احلادثني هو اختياره اللنب حني خُيِّرَ بينه وبني اخلمر‪.‬‬
‫إنّ الصالة يف املسجد األقصى أمر مهمّ ذو داللة؛ فالنبـي ﷺ مل يصلِّ قطّ‬
‫خارج شبه جزيرة العرب قبل رحلة اإلسراء وال بعدها‪ ،‬فلماذا صلى النبـي ﷺ‬
‫يف املسجد األقصى ومل يصلِّ يف مكان غريه خارج شبه اجلزيرة العربية‪ 1.‬أليس يف‬
‫هذا بيانًا بأنّ تلك الصالة قد كانت إعالنًا للصلة اليت تربط حممدًا ﷺ‪ ،‬وكذا‬
‫املسلمني‪ ،‬ببيت املقدس؟ كما جتدر اإلشارة هنا إىل أن النيبّ ﷺ مل يذكر ما إذا‬
‫كانت تلك الصالة أمرًا من اهلل أو كانت جمرد اختيار شخصي من قبله‪ .‬بيد أنّه ال‬
‫بدّ أن هذه القضية قد كانت واضحة للنبـي ﷺ حىت لو يكن قد أُمر بالصالة‬
‫هناك‪ .‬فقد عرف النبـي ﷺ أن املسجد األقصى مكان مقدّس‪ ،‬ولذا فإنه قد صلى‬
‫فيه كفعلٍ طبيعي لدى دخوله مسجدًا‪.‬‬
‫أما إمامتُه النبيني يف الصالة يف املسجد األقصى فهو حدث مهم وذو مغزى‪.‬‬
‫ففيه داللة على أن النبـي حممدًا ﷺ وارث النبيني من قبله وأنه قائد البشرية‬
‫مجعاء‪ .‬وإمامته للعديد من األنبياء من خمتلف اخللفيات واألصول‪ ،‬ويف بيت املقدس‬
‫على اخلصوص‪ ،‬ميثل الطبيعة العاملية لبيت املقدس والنظرةَ الكونية اليت تكتنفه‪ .‬مل‬
‫حيصل للنبـي ﷺ أن صلى باألنبياء يف مكة‪ ،‬رغم أهنا متثّل بؤرة اإلميان لدى‬
‫املسلمني‪ ،‬ولكنه صلى هبم يف بيت املقدس‪ ،‬والذي ميثل بؤرة اهتمام العامل‪ .‬وينظر‬
‫تورد بعض الروايات الضعيفة عن رحلة اإلسراء أن النبـي ﷺ قد صلى يف تلك الليلة يف‬ ‫‪1‬‬
‫سيناء أو مدين ويف بيت حلم (انظر ابن كثري ‪ ،)11-11 )1( :1224‬ولكن معظم العلماء‬
‫يردون هذه الروايات لضعفها‪ .‬كما أن هناك حديثًا آخر أكثر صحةً يدل على أ ّن‬
‫النبـي ﷺ إمنا صلى يف املسجد األقصى يف تلك الرحلة‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫العويسي (‪ )41 :1991‬إىل هذا احلدث من جانب مثري لالهتمام‪ ،‬إذ يقول‪" :‬إن‬
‫النبـي حممد مل ينتقل إىل بيت املقدس يف رحلة اإلسراء وحسب‪ ،‬بل رُتّب له لعقد‬
‫قمّة من نوع خاص مع األنبياء يف بيت املقدس"‪ .‬إن هذا االجتماع باألنبياء كان‬
‫أمرًا مميزًا كيفما نظرنا إليه‪ ،‬يف مكانه‪ ،‬وتوقيته‪ ،‬ومجهوره‪ .‬مثل هذا احلدث مل يسبق‬
‫له مثيلٌ من قبل يف تاريخ البشرية‪ .‬وهذا مينح بيت املقدس منـزلة خاصة من دون‬
‫مجيع البقاع املقدسة يف املعمورة وميثل أمهية خاصة لتلك املنطقة‪.‬‬
‫إن رحلة اإلسراء قد كانت حبق نقطة فارقة يف حياة النبـي ﷺ‪ .‬فقد حتمّل‬
‫النبـي املهانة واملشقّة يف بداية نبوّته‪ ،‬وكانت تلك املعاناة قد وصلت مداها قبيل‬
‫رحلة اإلسراء‪ .‬ويف الوقت ذاته‪ ،‬فإن رحلة اإلسراء كانت بداية التغيري يف حياة‬
‫النبـي حممد ﷺ‪ ،‬إذ حتقق له بعد رحلة اإلسراء ما كان يرجوه حني استقبله أهل‬
‫يثرب (واليت صارت تعرف باملدينة) وبدأ هناك دولة املسلمني األوىل‪.‬‬
‫لقد كانت هذه الرحلة عنصرًا مهمًا يف تكوين رؤية وفهم النبـي ﷺ‪ ،‬ليس‬
‫ألمهية بيت املقدس فحسب‪ ،‬بل للحاجة للتخطيط لفتح بيت املقدس‪ .‬لقد بدأ‬
‫النبـي ﷺ مرحلة جديدة مباشرةً بعد رحلة اإلسراء؛ وميكن تلخيص هذه املرحلة‬
‫بوصفها التخطيط العملي ملستقبل هذه املهمة‪ .‬ويالحظ أثناء دراسة السرية‪ ،‬أن‬
‫النبـي ﷺ قد بدأ عهدًا جديدًا من نشر رسالته‪ ،‬وذلك باختاذ خطوات عملية لبناء‬
‫دولة متثّل مصدرًا لقوّة املسلمني‪ .‬وقد بدا ذلك جليًا يف بيعة العقبة الثانية بعد رحلة‬
‫اإلسراء‪ .‬لقد كانت تلك البيعة خطوة عملية خطاها النبـي ﷺ يف طريق بناء دولة‬
‫حقيقية ووضع خطة عملية تتناول اجلوانب السياسية واالجتماعية واملالية‬
‫والدبلوماسية والعسكرية للدولة اإلسالمية الناشئة‪.‬‬

‫البالوة‬
‫كانَ بيت املقدس يف مطلع بعثة النبـي ﷺ مسرحًا ألحداثٍ قاسيةٍ وحروب‬
‫طاحنة بني أكرب قوتني يف ذلك الزمان‪ .‬فاحتلَّ بيت املقدس وسفكت دماء كثرية يف‬
‫اجملازر اليت ارتكبت على أرضه‪ .‬ويف تلك األوقات العصيبة‪ ،‬شهدت الدنيا ميالد‬
‫دينٍ جديد‪ .‬لقد جاء ذكر هذه البقعة املباركة يف السور األوىل من القرآن الكرمي‪،‬‬
‫وارتبط املسلمون هبذه األرض منذ البداية‪ ،‬وهذا ما جعل تلك املنطقة تتنفس‬
‫‪44‬‬
‫الصعداء ألول مرة‪ ،‬إذ جتدّد األمل يف أن تشهد عصرًا جديدًا ميسح عنها ما تعانيه‬
‫من حروب ودمار‪ .‬لقد كان بيت املقدس حباجة لفسحة األمل هذه يف تلك‬
‫الظروف العصيبة‪ ،‬وهذا ما حتقق يف السور األوىل من القرآن الكرمي والسيما يف‬
‫سورة الروم‪ ،‬اليت أكّدت لبيت املقدس أن النصارى سيعودون إليه‪ ،‬وأنّ ذلك‬
‫سيفرح املؤمنني؛ وهذه إشارةٌ إىل أنّ أمّة أخرى بعد ذلك ستأيت إىل تلك املنطقة‬
‫وتفتحها ليشيع فيها االستقرار والطمأنينة من جديد‪ .‬أمّا النبـي ﷺ فقد توجّه‬
‫نظره وقلبه إىل تلك البقعة منذ بدء تنـزّل الوحي عليه‪ ،‬وذلك ألمهيتها يف اإلسالم‬
‫وما كانت تشهده من ظروف صعبة يف ذلك الزمان‪.‬‬
‫إن سورة الروم من أوائل السور اليت تنـزلت على النبـي ﷺ‪ ،‬ومن أول ما‬
‫تنـزل عليه بعد انتهاء مرحلة الدعوة السرية يف اإلسالم‪ ،‬وهي يف الوقت نفسه من‬
‫األدلة الواضحة على التوجيه الرباين اهتمامَ النبـي ﷺ إىل منطقة بيت املقدس يف‬
‫مرحلة مبكرة من الدعوة‪ .‬فهذه السورة قد اشتملت على أول إشارة يف تاريخ‬
‫اإلسالم تلمّح إىل فتح بيت املقدس‪ .‬وال بدّ أن هذا االرتباط الروحي املبكر مع‬
‫بيت املقدس والذي جتلّى صراحة يف القرآن الكرمي سيتبعه ارتباط فعليّ بني‬
‫النبـي ﷺ وبيت املقدس‪ ،‬وذلك من أجل وضع فهمٍ شامل لطبيعة هذه املنطقة‬
‫ومكانتها‪.‬‬
‫إن الصالة حنو بيت املقدس كانت مبثابة تواصل يومي بني النبـي ﷺ وأتباعه‬
‫وبني بيت املقدس‪ ،‬إذ صارت هذه البقعة مركزية يف حياة املسلمني‪ ،‬إذ كانت هي‬
‫القبلة اليت جيب على املسلمني مجيعًا استقباهلا للتوجّه إىل ربّهم‪ ،‬وهكذا يظهر أن‬
‫أمرَ املسلمني للصالة حنو بيت املقدس أمر يقع يف صلبِ قضية الصالة يف تلك‬
‫الفترة‪.‬‬
‫أما إسراء النبـي ﷺ إىل املسجد األقصى يف قلب بيت املقدس فقدكان أمرًا‬
‫ضروريًا لرؤية املنطقة عيانًا واستشعار خصوصيتها‪ .‬إن رحلة اإلسراء هذه كانت‬
‫اللقاء املباشر األول والوحيد للنبـي ﷺ باملسجد األقصى يف بيت املقدس‪،‬‬
‫وكانت نقطة حتول بني مرحلتني تارخييتني‪ ،‬إذ كانت هذه الزيارة اخلطّ الفاصل بني‬
‫مرحلة االبتالء ومرحلة النصر‪ .‬إن رحلة اإلسراء تع ّد حبقّ نقطة التحول األساسية يف‬
‫حياة النبـي ﷺ‪ ،‬إذ انتقلت به هذه الرحلة إىل مرحلة جديدة حيث تفتّحت‬
‫‪45‬‬
‫عيناه ﷺ حنو نقطة بداية جديدة‪ .‬وال عجب إذن أن تكون سورة اإلسراء قبيل‬
‫منتصف القرآن‪ ،‬متامًا كما وقع هذا احلدث نفسه قبيل منتصف بعثته ﷺ‪.‬‬
‫ويبدو أن العالقة بني النبـي ﷺ وبيت املقدس كانت قائمة على أساس ديينٍّ‬
‫متني‪ ،‬ولكنّه ﷺ كان يعرف طبيعة منطقة بالد الشام بشكل عامٍ حىت قبل بعثته‪ ،‬إذ‬
‫زارها عدة مرات مع قوافل التجارة (انظر ابن إسحاق ‪ 111 :1994‬و‪ ،)113‬مما‬
‫ساعده فيما بعد على فهم املنطقة وأمهيتها على مستويات متعددة‪ ،‬دينية وسياسية‬
‫واقتصادية وغريها‪.‬‬
‫بقي أن نشري إىل أنّ اآليات القرآنية تذكر هذه املنطقة وختربنا بأمور ستقع‬
‫فيها‪ ،‬كما أن الصالة كانت حنو بيت املقدس وأسري بالنبـي ﷺ إليها‪ ،‬وهلذا كلّه‬
‫أثرٌ على األجندة اليت سيجلبها اإلسالم إىل املنطقة بأسرها‪ ،‬وكان هلذا أثر عظيم‬
‫على مستقبلها‪ ،‬وتكلّل هناية بفتح املسلمني لبيت املقدس بعد عدة سنوات‪ .‬كل‬
‫هذه األحداث‪ ،‬ويف مقدمتها رحلة اإلسراء والصالة‪ ،‬كانت جتليات واقعية هلذه‬
‫اخلطة‪ .‬ويف ضوء هذا كله يسعى الكاتب يف الفصول القادمة إىل تفسري هذه املكانة‬
‫اخلاصة لبيت املقدس من خالل حتليل اخلطوات العملية حنو فتح بيت املقدس‪ ،‬ابتداءً‬
‫من النصوص والوثائق اليت تربط املسلمني هبذا املكان‪ ،‬وما تبع ذلك من حتركات‬
‫عسكرية قام هبا النبـي ﷺ ضمن خطته لتحقيق الفتح اإلسالمي لبيت املقدس‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫الفصل الثاني‬

‫‪47‬‬
 ‫مقدمة‬
‫تلعب الوثائق التارخيية دورًا مهمًًّا يف إثبات أو نفي وجود خطة لفتح بيت املقدس‬
‫لدى النبـي حممّد ﷺ‪ .‬ويتطرق هذا الفصل إىل العديد من الوثائق األساسيّة اليت تعود‬
‫إىل عهد النبـي ﷺ‪ ،‬واليت قد تساعد يف دراسة الفرضية املتعلقة خبطة فتح بيت‬
‫املقدس‪ .‬وسنتناول هنا ثالثة أصناف من الوثائق هي‪ :‬الرسائل الدبلوماسية‪،‬‬
‫واإلقطاعات‪ ،‬واملعاهدات السياسية أو عهود األمان‪ ،‬حيث حيللها الكاتب ويوظفها‬
‫لفهم العالقة بني النبـي ﷺ وبيت املقدس‪ .‬كما ميكن هلذه الوثائق أن توضّح لنا‬
‫طبيعة هذه العالقة وما إذا كان من املمكن النظر إليها كخطّة لفتح تلك املنطقة‪.‬‬

‫الوثأئق المتعيقة بألبحث‬

‫سننظر يف هذا الفصل يف العديد من الوثائق اليت تعود إىل عهد النبـي ﷺ‪،‬‬
‫وقد مجعها حممّد أمحد محيد اهلل (‪ )1232‬وصنفها تصنيفًا زمنيًا وفق اآلراء املختلفة‬
‫لعلماء السرية‪ .‬إال أنّ التركيز لدينا هنا ينصبّ بطبيعة احلال على الوثائق املتعلقة‬
‫ببيت املقدس بشكل مباشر أو باملناطق القريبة جدًا من بيت املقدس‪ ،‬وهنالك‬
‫معايري خاصة الختيار هذه الوثائق ميكن تلخيصها يف النقاط التالية‪.‬‬
‫أو ًال‪ ،‬سنتناول تلك الوثائق املتعلقة ببيت املقدس فقط‪ ،‬أو املنطقة اليت تفصل بينها‬
‫وبني املدينة املنورة‪ ،‬أي الطريق الشمايل الغربـي بني املدينة املنورة وبيت املقدس‪.1‬‬
‫ال من إطار هذه الدراسة‪.‬‬ ‫وعليه خترج املعاهدة بني النبـي ﷺ وأهل دومة اجلندل‪ 2‬مث ً‬

‫وهذه الطريق تضم العديد من املناطق فيها كاألجزاء اجلنوبية من البلقاء ووادي القرى‪،‬‬ ‫‪1‬‬
‫كما تشتمل على مدن معان وأذرح وأيلة ومقنا وخيرب وغريها من املدن والقرى‪.‬‬
‫تقع دومة اجلندل يف املنطقة اليت تعرف اآلن باسم اجلوف يف اململكة العربية السعودية‪ .‬ويعمد‬ ‫‪2‬‬
‫بعض الباحثني كاألشقر (‪ )49 :1991‬إىل جعل هذه املنطقة داخلة يف دراسة حتركات‬
‫النبـي ﷺ باجتاه الشام‪ .‬ولكنّ هذه املنطقة تقع يف واقع األمر على الطريق الواصل إىل العراق‬
‫وبصرى الشام ال إىل بيت املقدس (انظر أبو خليل ‪ .)13 :1991‬إضافةً إىل ذلك‪ ،‬فقد تبني يل‬
‫عند دراسة املعاهدة مع دومة اجلندل والنظر فيها‪ ،‬باإلضافة إىل دراسة حتركات جيش املسلمني‬
‫حنو بيت املقدس‪ ،‬أهنا مل تلعب أي دور يف محالت املسلمني لفتح بيت املقدس‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫ثانياً‪ ،‬جيب أن تكون هذه الوثائق مما ميكن حتديد نصوصها أو مضموهنا يف‬
‫املصادر التارخيية‪ ،‬فللنص أمهية كربى يف حتليل روح الوثيقة والتأكد من أمهيتها يف‬
‫نطاق الدراسة‪ .‬وبناءً على ذلك فقد استثنيت بعض الوثائق كرسالتَي النبـي ﷺ‬
‫إىل جبلّة بن األيهم الغساين وإىل شرحبيل بن عمرو الغساين إذ ال وجود لنص هذه‬
‫الرسائل يف املصادر التارخيية‪.‬‬
‫ثالثاً‪ ،‬سنقتصر على دراسة الوثائق اليت كتبت مببادرة من النبـي حممد ﷺ ألن‬
‫ذلك ما يكشف عن حقيقة استراتيجيته يف هذا الصدد‪ ،‬ولذلك مل تتم دراسة رسالة‬
‫‪1‬‬
‫النبـي ﷺ إىل فروة اجلذاميّ رضي اهلل عنه ألهنا مل تكن إال ردًا على رسالة فروة‪.‬‬
‫وأخرياً‪ ،‬و فيما يتعلق بالوثائق السياسية اليت تعدّ اتفاقيات تعاون سياسية أو‬
‫العُهدات حتديداً‪ ،‬فسنتناول وثائق تنطبق عليها شروط حمددة تساعد يف فهم‬
‫استراتيجية النبـي ﷺ‪ .‬كتلك العهدات غري املشروطة على املستفيدين من الوثيقة‪،‬‬
‫لذلك مل تتم دراسة وثيقة النبـي السياسية إىل بين َغ ِديَّا على سبيل املثال‪.‬‬
‫وهكذا يكون لدينا وفق هذه املعايري سبع وثائق توضح استراتيجية‬
‫النبـي ﷺ يف هذا السياق‪ ،‬وهذه الوثائق هي إقطاع النبـي ﷺ إىل أبـي ثعلبة‬
‫وإىل بين جفال وإىل متيم الداري‪ ،‬باإلضافة إىل كتابه إىل هرقل‪ ،‬ووثائق الصلح مع‬
‫أهل أيلة ومقنا وأذرح وجرباء‪ .2‬هذه هي الوثائق السبع اليت تتماشى مع املعايري اليت‬

‫أرسل فروة اجلذامي رضي اهلل عنه كتابًا إىل النبـي ﷺ خيربه فيه أنه دخل يف اإلسالم‪،‬‬ ‫‪1‬‬
‫فأجابه النبـي ﷺ مباركًا ما قام به ومؤيدًا له‪ .‬وفيما يلي نص الرسالة كما وردت عند‬
‫ابن سعد (‪:)111 )1( :1222‬‬
‫َمدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى فَ ْروَةَ بن َعمْرٍو أَمَّا بَ ْعدُ فَقَدْ َقدِمَ عَلَيْنَا رَسُولُكَ وَبََّلغَ مَا أَرْسَلْتَ‬
‫منْ مُح َّ‬
‫بِهِ وَخَبَّرَ عَمَّا قِبََلكُمْ وَأَتَانَا بِإِسْالمِكَ‪ ،‬وَأَنَّ اللَّهَ َهدَاكَ ِب ُهدَاهُ إِنْ أَصْلَحْتَ وَأَطَعْتَ اللَّهَ‬
‫وَرَسُولَهُ وَأََق ْمتَ الصَّالةَ وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ"‬
‫وما كان من البيزنطيني حني علموا بإسالم فروة إال أن قتلوه رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫لقد قمت بدراسة طبيعة هذه الوثائق الثالث بشكل خاص من أجل حتديد ما إذا كان‬ ‫‪2‬‬
‫ميكن النظر إليها باعتبارها معاهدات‪ ،‬كما كان يف صلح احلديبية‪ ،‬ووجدت أنه ال ميكن‬
‫أن تعدّ هذه الوثائق معاهدات سياسية ألهنا مل تكن بني طرفني متعادلني يف القوة‪ ،‬وإمنا‬
‫كانت عهدًا من النبـي ﷺ أسبغه على أهل تلك املدن أو قادهتا‪ .‬فنرى أن هذه الكتب‬
‫تبدأ باسم النبـي ﷺ وتذكر أنّ عهدًا باألمان قد منح ألهل املدينة املعنية‪ ،‬من دون ذكر‬
‫ألحكام أو شروط مفروضة على املسلمني‪ .‬وهذا يعين أنّ النبـي ﷺ قد منحهم هذا‬
‫العهود من دون ضغط وال مفاوضات‪ ،‬خبالف ما حدث يف احلديبية‪ .‬وهلذا نستخدم هنا‬
‫مصطلح معاهدات األمان أو وثائق الصلح لإلشارة إىل هذه الوثائق‪.‬‬
‫‪51‬‬
‫حددناها واليت من شأهنا أن ترسم صورة واضحة خلطة النبـي ﷺ واستراتيجيته‬
‫بشأن بيت املقدس‪.‬‬

‫ولً‪ :‬اإلأطأ أ‬
‫اإلقطاع يعين يف هذا السياق منح شخصٍ أو جمموعة من األشخاص ملكي ًة‬
‫ال‪ ،‬وهكذا فإن اإلقطاع خيتلف عن الوقف لغة‬ ‫دائمة لشيء ما‪ ،‬كقطعة أرض مث ً‬
‫واصطالحًا‪ 1.‬ويرى الناظر يف سرية النبـي ﷺ أنّه قد قام ﷺ مبنح العديد من‬
‫األراضي للعديد من األشخاص يف مناسبات خمتلفة‪ ،‬معظمها كانت يف مناطق‬
‫خاضعة لسيطرة املسلمني‪ ،‬باستثناء حاالت ثالثة كانت متعلقة ببيت املقدس‬
‫واملنطقة اجملاورة له‪ .‬إحدى هذه احلاالت كانت يف أرض يف بالد الشام منحها‬
‫النبـي ﷺ ألبـي ثعلبة‪ ،‬وأخرى إىل اجلنوب من بيت املقدس منحها ﷺ لبين‬
‫جفال‪ ،‬والثالثة كانت لتميم الداريّ رضي اهلل عنه يف بيت املقدس‪.‬‬
‫خأطأع ب ثعيبة‬
‫يروي اإلمام أمحد بن حنبل يف مسنده (‪ )423 )11( :1221‬حديثًا عن قصة‬
‫أبـي ثعلبة اخلُشَنِي رضي اهلل عنه جاء فيه‪:‬‬
‫عن أبـي ثعلبة اخلشين قال‪ :‬أتيت النبـي ﷺ فقلت‪" :‬يا رسول‬
‫اهلل‪ ،‬اكتب يل بأرض كذا وكذا بأرض الشام‪ ،‬مل يظهر عليه‬
‫النبـي ﷺ حينئذ"‪ .‬قال النبـي ﷺ‪" :‬أال تسمعون إىل ما يقول‬
‫هذا؟" فقال أبو ثعلبة‪" :‬والذي نفسي بيده لتظهرن عليها" قال فكتب‬
‫‪2‬‬
‫له هبا‪.‬‬

‫خيتلف مصطلح اإلقطاع عن مصطلح الوقف يف أن األول يعين منح قطعة من األرض‬ ‫‪1‬‬
‫ملصلحة شخص ما وجعله مالكًا هلا‪ ،‬أما الوقف فهو نـزع مفهوم امللكية من اإلنسان‬
‫وجعله ملكًا هلل تعاىل (انظر قحف ‪ .)11 :1999‬لكن هذا ال يؤثر على الدراسة اليت حنن‬
‫بصددها‪ ،‬وذلك ألن الوقف املذكور‪ ،‬وهو وقف متيم الداري رضي اهلل عنه يعدّ وقفًا‬
‫ذريًّا‪ ،‬أي أن منفعته تؤول إىل ذرية متيم من بعده‪ ،‬ولكنّه ال حيق له بيعه (انظر قحف‬
‫‪.)111-114 :1999‬‬
‫حديث صحيح‬ ‫‪2‬‬

‫‪50‬‬
‫‪114‬‬ ‫وقد وردت هذه القصة برواية أخرى عن أبـي عبيد‪( 1‬ت‪.‬‬
‫للهجرة‪ 313/‬ميالدية) يف كتابه األموال (‪ .)133-132 :1231‬حيث تشري هذه‬
‫الرواية إىل أن قول النبـي ﷺ للصحابة‪" :‬أال تسمعون إىل ما يقول هذا؟" هو‬
‫داللة على تقبل طلب أبـي ثعلبة وانشراح صدره له‪ ،‬وهذا يوضّح أن النيبّ ﷺ قد‬
‫وافق على اإلسهام له بتلك األرض‪.‬‬
‫إال أنه مل يرد ذكر لتاريخ هذا اإلقطاع وال ملكانه احملدد يف هذه الرواية‪،‬‬
‫ولكنه على العموم يقع يف منطقة الشام‪ ،‬يف بيت املقدس أو جبوار بيت املقدس‪،‬‬
‫واليت حتتل مساحة كبرية من الشام كما هو معلوم‪ .‬لقد كان هلذا اإلقطاع أمهية‬
‫كبرية رغم أنه مل يرد نصّ كتابٍ به‪ ،‬كما هو واضح يف الرواية‪ ،‬وكما يؤكّد ذلك‬
‫‪2‬‬
‫محيد اهلل نفسه يف كتابه (‪.)114 :1232‬‬
‫خأطأع بن جفأي‬
‫يذكر األشقر (‪ )43-41 :1991‬ومحيد اهلل (‪ )131 :1232‬أن النبـي ﷺ قد‬
‫قدم إقطاعًا آخر لبين جفال اجلذاميني‪ ،3‬والذين كانوا يقطنون الشام‪ ،‬حيث أعطاهم‬
‫النبـي ﷺ "إِرَم"‪ ،‬وهو جبل من منطقة حِسمى‪( 4‬احلموي ‪ .)131 )1( :1229‬وقد‬
‫أورد الدَّيبُلِي (ت‪ 111 .‬للهجرة‪ 214/‬ميالدية) نصًا مكتوبًا هبذا اإلقطاع (انظر ابن‬
‫طولون ‪ ،5)142-143 :1232‬كما ذكرها احلموي يف كتابه (‪:)131 )1( :1229‬‬

‫يعدّ أبو عبيد من القضاة ال من املؤرخني‪ ،‬وقد تناول العديد من مثل هذه القضايا يف كتابه‬ ‫‪1‬‬
‫من ناحية قضائية شرعية‪.‬‬
‫ال يعرف الكثري عن هذا الصحابـي ونسبه‬ ‫‪2‬‬
‫كانت جذام قبيلة كبرية ولكنّها انقسمت إىل أفخاذ عديدة‪ ،‬ويذكر أبو الرب (‪:1991‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪ )12‬أن جلذام ثالث عشرة فخذًا‪ ،‬أحدها كان بين جفال‪ .‬وقد عاشت قبيلة جذام كما‬
‫يشري أبو الرب يف منطقة واسعة من طربية إىل مشال حسمى يف اجلنوب‪ ،‬وكانت حسمى‬
‫بالتحديد واحدة من أكرب مناطقهم‪.‬‬
‫حسمى منطقة كبرية بني املناطق الواقعة مشال غربـي تبوك وصوالً إىل سيناء عن طريق‬ ‫‪4‬‬
‫أيلة (انظر احلموي ‪.)123 )1( :1229‬‬
‫لقد كتب الديبُلي كتابًا حول مراسالت النبـي ﷺ‪ ،‬ويعدّ هذا الكتاب وفق ما يصف‬ ‫‪5‬‬
‫محيد اهلل (‪ )111 :1232‬أحد أوائل الكتب املختصة هبذا الشأن‪ .‬وقد مت إضافة مجيع‬
‫نصوص املراسالت اليت مجعها الديبلي يف ملحق كتابٍ البن طولون (ت‪211 .‬‬
‫للهجرة‪ 1141/‬ميالدية) بعنوان "إعالم السائلني"‪ ،‬وذكر ابن طولون يف كتابه هذا سلسلة‬
‫الرواة الذين نقل منهم هذه النصوص وصوالً إىل الديبُلي‪.‬‬
‫‪51‬‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬من حممد النبـي لبين جفال بن ربيعة‬
‫بن زيد اجلذاميني‪ :‬إن هلم إرم ال حيلها عليهم أحد أن يغلبهم عليها‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫وال حياقهم فيها‪.‬‬
‫ومع أنّه مل يرد ذكر تاريخ هذا اإلقطاع يف كتب التاريخ‪ ،‬إال أنّه يظهر أهنا‬
‫كانت يف فترة متأخرة من نبوة النبـي ﷺ‪ ،‬ذلك أهنا تذكر قبيلة بين جفال‪ .2‬ومبا‬
‫أنّ نص هذا اإلقطاع ليس حمدّدًا بأجل‪ ،‬فال بدّ إذن أنّ هذه القبيلة كانت تعيش‬
‫ال يف تلك املنطقة‪ ،‬أو أهنا كانت تقع حتت حكمها‪ ،‬وأنّ هذا اإلقطاع إمنا جاء‬ ‫أص ً‬
‫ليؤكّد ملكيتهم لألرض‪ .‬كما أنّ هذه الوثيقة مهمة يف هذا السياق ألنّ هذه املنطقة‬
‫تقع إىل اجلنوب من بيت املقدس‪ ،‬وتأمينها على يد هذه القبيلة املوالية للرسول ﷺ‬
‫كان يعين تأمني الطريق إىل بيت املقدس من اجلنوب وعرب أيلة‪.‬‬
‫خأطأع تميم الدارز‬
‫تعد اهلبة اليت قدمها النبـي ﷺ لتميم الداري من أهم الوثائق يف التاريخ‬
‫اإلسالمي‪ .‬فهذه العطية كما يقول العويسي (‪ )11 :1991‬مل تكن األوىل يف بيت‬
‫املقدس وحسب‪ ،‬بل كانت األوىل يف تاريخ املسلمني كله‪ .3‬وأكثر ما يثري اهتمامنا‬

‫وهنالك مجلةٌ أضيفت على نص الديبلي‪" :‬فمن حاقهم فال حقّ له وحقهم حق"‪ .‬وال‬ ‫‪1‬‬
‫تؤثر هذه اإلضافة يف دراسة نص هذا اإلقطاع‪ ،‬فإمنا هي تأكيد على اجلملة اليت قبلها‪.‬‬
‫إن لغة وأسلوب نص كتاب هذا اإلقطاع يشريان إىل أنه قد يكون كتب بعد غزوة تبوك‪،‬‬ ‫‪2‬‬
‫وهو الوقت الذي أتت فيه معظم قبائل املنطقة إىل املدينة وأذعنوا للنبـي ﷺ‪ .‬وهذه‬
‫املنطقة بعيدة عن املدينة‪ ،‬ولذا يبدو أهنم قد أتوا النبـي ﷺ بعد أن ذاع صيته يف األرجاء‪،‬‬
‫وقد حتقق ذلك يقينًا إما بعد غزوة تبوك أو أثناءها‪.‬‬
‫قد ال يكون رأي العويسي دقيقًا متامًا هنا‪ .‬فنحن نقرّ بأن هبة متيم الداري رضي اهلل عنه‬ ‫‪3‬‬
‫كانت األوىل يف بيت املقدس ويف األرض املقدسة‪ ،‬إذ ما من دليل على منح النبـي ﷺ‬
‫أراضيَ لغريه داخل بيت املقدس‪ .‬كما أنه ال يعرف بالتحديد موقع اإلقطاع الذي منح‬
‫ألبـي ثعلبة‪ .‬أما فيما يتعلق بتوقيت هبة متيم الداري‪ ،‬فإن النبـي ﷺ كان قد قدم‬
‫العديد من اإلقطاعات واهلبات من قبل ذلك يف العديد من املناطق الواقعة حتت سيطرة‬
‫املسلمني‪ ،‬وقد ذكر محيد اهلل الكثري من هذه اإلقطاعات يف كتابه (‪-113-112 :1232‬‬
‫‪ .)121-113-111‬ويبدو أنّ العويسي قد توصل هلذا الرأي بناء على الرواية اليت تذكر‬
‫أنّ النبـي ﷺ قد منح هذه اهلبة لتميم رضي اهلل عنه يف مكة‪ ،‬وهي رواية ضعيفة غري‬
‫مقبولة على ما سيأيت‪.‬‬
‫‪51‬‬
‫هو كون هذا اإلقطاع داخل بيت املقدس‪ ،1‬وفرادة هذه احلادثة تتمثل كذلك يف‬
‫أهنا تشتمل على أول وثيقة تفصيلية من نوعها يف هذا السياق‪ ،‬على عكس اإلقطاع‬
‫الذي قدم إىل ثعلبة واليت مل يعرف له نصّ مكتوب‪ .‬لذا تعدّ هذه الوثيقة معلمًا‬
‫أساسيًا يف دراسة العالقة بني النبـي ﷺ وبيت املقدس‪.‬‬
‫تقدم لنا املصادر التارخيية ثالث نسخ من نص هذا اإلقطاع وقد يكون عليها‬
‫شيء من خالف‪ .‬وقد مجع شُرّاب (‪ )111-119 :1229‬مجيع الروايات املختلفة‬
‫لنص هذا اإلقطاع ورتبها ترتيبا زمنيا‪ .‬أما محيد اهلل (‪ )111-112 :1232‬فقد مجع‬
‫هذه النسخ الثالثة من نص اهلبة وذهب إىل أنّها دوّنت مرتني ال مرةً واحدة‪ ،‬ويرى‬
‫بناء على ذلك أن النسخة اليت أوردها يف كتابه هي هبة أخرى منفصلة‪ ،‬وأنّ‬
‫النسختني األخريني إلقطاع آخر‪.‬‬
‫ال شكّ أنّ وجود ثالث نسخ أو أكثر هلذا اإلقطاع قد يكون نامجًا عن‬
‫االختالف يف تاريخ تدوينها‪ .‬إذ يذكر بعض املؤرخني كابن عساكر (‪)11( :1221‬‬
‫‪ ،)11-14‬أن نص هذا اإلقطاع قد كتب يف مكة‪ ،‬قبل هجرة النبـي ﷺ‪ .‬إال أن‬
‫الروايات العديدة األخرى تذكر أنّ هذا اإلقطاع قد دُوّنَ لتميم الداري رضي اهلل‬
‫عنه يف املدينة خالل زيارة وفد من قومه بعد غزوة تبوك (انظر ابن سعد ‪:1222‬‬
‫(‪ .)131-131 )1‬أما ما ذكر من أنّ هذا اإلقطاع كان يف مكة فيعتمد على رواية‬
‫ضعيفة جدًا كما يقول شرّاب (‪ .)111 :1229‬ويقول أيضًا إن هذه الرواية تذكر‬
‫آيةً من سورة آل عمران‪ ،‬وهي سورة مدنية‪ .‬وهذا دليل على أن هذا اإلقطاع كان‬
‫يف املدينة‪ ،‬وأن الرواية اليت تدّعي أنّ قوم متيم الداري وفدوا على النبـي ﷺ يف‬
‫مكة هي رواية ضعيفة‪ ،‬لكنّ هذا ال يغين من النظر يف هذه الروايات الثالثة‬
‫وحتليلها‪.‬‬

‫يذكر ابن سعد (‪ )131 )2( :1222‬وابن دريد (ت‪ 111 .‬للهجرة‪ 211/‬ميالدية) (‪:1314‬‬ ‫‪1‬‬
‫(‪ )111 )1‬أنّ النبـي ﷺ مل مينح أيّ أحدٍ أرضًا يف الشام سوى متيم الداري رضي اهلل‬
‫عنه‪ ،‬ولكنّ هذا الرأي غري دقيق‪ ،‬فقد أشرنا فيما سبق إىل إقطاع أبـي ثعلبة ومن الواضح‬
‫أهنا كانت يف الشام‪ ،‬واألمر ذاته ينطبق على إقطاعه ﷺ لبين جفال‪.‬‬
‫‪54‬‬
 ‫خأطأع تميم الدارز‪ :‬النأبة (‪)1‬‬
‫وردت هذه الرواية يف طبقات ابن سعد (‪ ،)191 )1( :1222‬كما أوردها أبو‬
‫يوسف يف كتاب اخلراج (د‪.‬ت‪ ،)111 :‬وأوردها العديد من املؤرخني بعد ذلك‬
‫هبذا النص‪:‬‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬هذا كتاب من حممد رسول اهلل إىل متيم‬
‫بن أوس الداري‪ :‬إن له قرية حربون‪ ،‬وبيت عينون‪ ،‬قريتهما كلهما‪،‬‬
‫وسهلهما وجبلهما‪ ،‬وماءمها وحرثهما‪ ،‬وأنباطهما وبقرمها‪ ،‬وِل َعقِبِه‬
‫من بعده‪ ،‬ال حياقه فيهما أحد‪ ،‬وال يلجهما عليهم أحد بظلم‪ .‬فمن‬
‫ظلم وأخذ منهم شيئاً فإن عليه لعنة اهلل‪.‬‬
‫إنّ هذا النص يؤكد على منح هذه املنطقة احملددة لتميم الداري رضي اهلل‬
‫عنه‪ ،‬واليت تشتمل حسب النص على منطقة حربون‪ ،‬واملعروفة اليوم باسم اخلليل‪،‬‬
‫وبيت عينون‪ ،‬وهي قرية صغرية على مقربة منها‪ .‬نالحظ كذلك أنّ لغةَ هذا النص‬
‫شبيهة باللغة اليت يستخدمها النبـي ﷺ يف رسائله واتفاقياته‪ ،‬ولذا يبدو أنّه نصّ‬
‫صحيح يف ظاهره من جهة‪ ،‬إال أنه جيدر الذكر أن هذه الرواية نقلها راويان مل‬
‫يطّلعا على النص األصلي‪ ،‬وال يذكر أيٌّ منهما مرجعًا واضحًا للنص الذي قدّماه‪،‬‬
‫باستثناء أبـي يوسف‪ ،‬والذي يذكر أنه روى هذا النص عن الزُّهريّ‪ .‬لذا ميكن أن‬
‫توصف هذه الرواية بالضعف‪ ،‬إذ فيها انقطاعٌ يف سلسلة الرواة بني أبـي يوسف‬
‫والزهري‪ ،‬وهذا يدعو لتضعيفها كحديث‪ ،‬ولكنّه ال يردّها كرواية تارخيية‪ ،‬فال‬
‫ميكن إذن أن نعدّها حديثًا بسبب االنقطاع احلاصل يف سلسلة الرواة‪ ،‬فهي ليست‬
‫مرفوعة إىل النبـي ﷺ وإمنا تقف عند الزهري‪ ،‬إال أنه ميكن التعامل معها كرواية‬
‫تارخيية وحسب‪ ،‬وهي قصّة مقنعة جدّا‪ ،‬وال شيء يوجب تضعيفها كأثر تارخيي‪،‬‬
‫خاصة عند النظر إىل لغتها اليت تقترب من اللغة اليت كان يستخدمها النبـي ﷺ‪،‬‬
‫إال إن ظهرت أدلة أخرى خبالف ذلك‪.‬‬
‫خأطأع تميم الدارز‪ :‬النأبة (‪)2‬‬
‫هذه الرواية األكثر تداو ًال وشهرة‪ ،‬إذ جاء ذكرها يف العديد من املصادر‬
‫التارخيية‪ ،‬إال أن معظمها متأخر عن املصادر اليت ذكرت النسخة األوىل من النص‪.‬‬
‫‪55‬‬
‫‪121‬‬ ‫ومن أوائل املؤرخني الذين تناولوا هذه املصادر ابن عساكر (ت‪.‬‬
‫للهجرة‪ 1121/‬ميالدية) (‪ ،)11 )11( :1221‬والذي يوردها إىل جانب رواية‬
‫أخرى‪ ،‬سريد ذكرها الحقًا‪ .‬كما جاءت هذه الرواية عند ابن فضل اهلل العمري‬
‫(ت‪ 242 .‬للهجرة‪ 1121/‬ميالدية) (‪.)111 )1( :1991‬‬
‫ما مييّز رو اية ابن فضل اهلل العمري هو إشارته الواضحة إىل أنّه وقف على‬
‫الوثيقة األصلية ونسخها كما هي‪ ،‬وذلك حني وجدها مع خادم وقف متيم‬
‫الداري‪ ،‬وامسه ناصر الدين حممد بن اخلليل التميمي الداريّ‪ ،‬حتّى أنّ العمري قدّم‬
‫وصفًا لقطعة القماش اليت حفظت فيها الوثيقة‪ .‬ويذكر كذلك أن الوثيقة كانت‬
‫مكتوبة على قطعة من اجللد‪ ،‬وأنّ ما كتب فيها كان قد حميَ تقريبًا‪ .‬كما يذكر أنه‬
‫رأى وثيقة أخرى بالنص نفسه‪ .‬هذه الوثيقة كان قد كتبها اخلليفة العباسي‬
‫املستضيء باهلل (ت‪ 121 .‬للهجرة‪ 1122/‬ميالدية)‪ .‬ورغم قدم تلك القطعة وعدم‬
‫وضوحها وما أشار إليه من أنّ الكتابة فيها قد حميت تقريبًا إال أنّ العمري متكن من‬
‫قراءة ما كان مكتوبًا على الوثيقة األصلية اليت كتبت على اجللد‪ ،‬إذ إنه يؤكد يف‬
‫الوقت نفسه أنّ النص األصلي كان قد كتب خبط كويفّ واضح ومجيل‪.‬‬
‫وقد توخّى العمري الدقة يف نقل النص كما هو يف الوثيقة األصلية اليت رآها‪،‬‬
‫ولذلك نشري إىل رواية العمري لنص الوثيقة‪ ،‬مع األخذ بعني االعتبار أنّ العمريّ‬
‫قد نقل النص من الوثيقة اليت كتبها اخلليفة املستضيء‪ ،‬ال من الوثيقة األصل‪:‬‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬هذا ما أنطى حممد رسول اهلل لتميم الداري‬
‫وإخوته‪ ،‬حربون واملرطوم وبيت عينون وبيت إبراهيم وما فيهن‪،‬‬
‫نطيةَ بَتٍّ بذمتهم‪ ،‬ونفذت وسلمت ذلك هلم وألعقاهبم‪ ،‬فمن آذاهم‬
‫آذاه اهلل‪ ،‬فمن آذاهم لعنه اهلل‪ ،‬شهد عتيق بن أبو قحافة‪ ،‬وعمر‬
‫بن اخلطاب‪ ،‬وعثمان بن عفان‪ ،‬وكتب علي بن بو طالب وشهد‪.‬‬
‫سنشري هنا إىل قضايا أخرى متعلقة هبذا النص‪ ،‬والسيما لغته‪ .‬فالعمري يذكر‬
‫أن النص األصلي كان مكتوبًا باخلط الكويف‪ ،‬ويصف اخلط بأنه مجيل وواضح‪،‬‬
‫وهذا يطرح إشكا ًال هنا‪ ،‬فاخلط الكويف مل يكن معروفًا بالشكل الذي يصفه‬
‫العمري يف تلك املرحلة املبكرة من تطور الكتابة العربية‪ ،‬إذ مل يعرف اخلط الكويف‬
‫‪56‬‬
‫إال بعد فتح العراق‪ ،1‬بعد وفاة النبـي ﷺ‪ .‬أما اإلشكال اآلخر يف النص فيتمثل‬
‫بشكل واضح يف لغته‪ .‬إذ إن استخدام الفعل "نفّذت" و"سلّمت" يضعفان النص‪،‬‬
‫خاصة عند مقارنته بالوثائق التارخيية األخرى اليت كتب فيها النيبّ ﷺ شيئًا‬
‫ألشخاص آخرين‪ .‬لقد قارنت بني هذا النص والنصوص العديدة األخرى للهبات‬
‫ال (‪ )191-191 )1( :1222‬وغريه من املؤرخني‪ ،2‬وميكن‬ ‫اليت ذكرها ابن سعد مث ً‬
‫‪3‬‬
‫القول إنّ تلك النصوص تتفق يف أسلوهبا‪ ،‬إال أ ّن النص السابق يشذّ عنها‪.‬‬
‫إن النصّ يف هذه النسخة الثانية‪ ،‬وليس فكرة اإلقطاع نفسه‪ ،‬قد بدأ يف‬
‫الظهور (وهذا ما يشري إليه ابن عساكر ومن بعده العمري) بعد اهلجمات الصليبية‪،‬‬
‫ولكنّه مل يرد عند أيٍّ من املؤرخني من قبل أنّه قد مت نسخ النص مباشرة من الوثيقة‬
‫األصلية قبل العمري‪ .‬وهذا يثري العديد من الشكوك حول هذه الوثيقة اليت رآها‬
‫العمري‪ ،‬كما أنّ أبا يوسف (د‪ .‬ت‪ )111 :‬يذكر أنّ أبا بكر رضي اهلل عنه قد‬
‫أعطى متيمًا الداريّ وثيقة أخرى لتجديد اإلقطاع‪ ،‬غري أنّها تذكر حربون (اخلليل)‬
‫وبيت عينون فقط‪ ،‬وال تذكر املرطوم اليت ورد ذكرها يف هذه النسخة من النص‬
‫فقط‪.4‬‬
‫خأطأع تميم الدارز‪ :‬النأبة (‪)1‬‬
‫وردت هذه النسخة أو ًال يف تاريخ ابن عساكر (‪،)11-11 )11( :1221‬‬
‫وأشار إليها املؤرخون من بعده وبنفس العبارة تقريبًا‪ .‬إال أن هذه الرواية تشتمل‬
‫على بعض االختالفات عن سواها‪ ،‬إذ تذكر أن متيمًا الداري رضي اهلل عنه قد أتى‬

‫واألمر ذاته يسري عند دراسة الوثائق األخرى اليت تعود لتلك الفترة‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫وقد ذكر محيد اهلل نصوص إقطاعات أخرى مشاهبة‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫لقد كان الشهود على هذا اإلقطاع وذكرهم بذلك الترتيب حملّ إشكال كذلك‪ ،‬فهذه‬ ‫‪3‬‬
‫أول وثيقة يشهد عليها عثمان بن عفان رضي اهلل عنه‪ ،‬وإن ذكر اخللفاء األربعة كشهود‪،‬‬
‫وترتيبهم على حنو مماثل لترتيبهم يف توليهم خلالفة املسلمني أمرٌ يثري تساؤالت عديدة‬
‫كذلك‪ ،‬وإن كانت اإلشكاالت النامجة عنها أقل جدّية من القضايا األخرى املتعلقة هبذه‬
‫الوثيقة‪.‬‬
‫مع أنّ املرطوم تعدّ جزءًا من ضمن تلك املنطقة بأكملها‪ ،‬وميكن لذلك أن تكون جزءًا من‬ ‫‪4‬‬
‫اهلبة رغم عدم ذكرها‪ ،‬إال أننا حنيل إىل النص نفسه هبدف مقارنته مع نص النسخة األوىل‬
‫هلذه اهلبة‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫النبـي ﷺ مع قومه مرتني وليس مرةً واحدة‪ ،‬كانت األوىل إىل مكة والثانية إىل‬
‫املدينة‪ ،‬حيث جدد هلم النبـي اهلبة‪ .‬وتشري هذه الرواية إىل نصني اثنني‪ ،‬وفيما يلي‬
‫نص قصة هذه األرض‪:‬‬
‫عن أبـي هند الداري قال‪ ...:‬فدعا رسول اهلل ﷺ بقطعة جلد‬
‫فكتب لنا فيها كتاباً نسخته‪" :‬بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬هذا ذكر ما‬
‫وهب حممد رسول اهلل للداريني إذا أعطاه اهلل األرض‪ ،‬وهب هلم بني‬
‫عني حربون وبيت إبراهيم مبن فيهن‪ ،‬هلم أبداً‪ ،‬شهد عباس بن عبد‬
‫املطلب‪ ،‬وجهم بن قيس‪ ،‬وشرحبيل بن حسنة وكتب"‪ ،‬قال‪ :‬مث‬
‫دخل بالكتاب إىل منـزله‪ ،‬فعاجل يف زاوية من الرقعة وغشاه بشيء‬
‫ال يُعرَف‪ ،‬وعقد من خارج الرقعة بشيء عقدين وخرج إلينا مطوياً‬
‫وهو يقول‪( :‬إن أوىل الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبـي‬
‫والذين آمنوا‪ ،‬واهلل ويل املؤمنني)‪ .‬مث قال‪ :‬انصرفوا حىت تسمعوا بـي‬
‫أين قد هاجرت‪ .‬قال أبو هند‪ :‬فانصرفنا‪ ،‬فلما هاجر رسول اهلل ﷺ‬
‫إىل املدينة قدمنا عليه فسألناه أن جيدد لنا كتاباً فكتب لنا كتاباً‬
‫نسخته‪...‬‬
‫أمّا التتمّة فهي النص اآلخر الذي كتب يف املدينة‪ ،‬وهي النسخة الثانية من‬
‫كتاب اإلقطاع‪ ،‬واليت سبق أن نظرنا فيها يف البند السابق‪ .‬ومن الواضح أنّ هذه‬
‫القصة‪ ،‬باالعتماد على هذا النص‪ ،‬قد وقعت يف مكة قبل اهلجرة‪ ،‬ذلك أهنا تذكر‬
‫هجرة النبـي ﷺ إىل املدينة بعد ذكر قصة اهلبة األوىل‪.‬‬
‫أحد أهم اإلشكاالت يف هذه الرواية هو اآلية اليت ترد فيها‪ ،‬وهي آية من‬
‫سورة آل عمران‪ ،‬وهنالك إمجاع على أنّ هذه السورة مدنيّة‪ .‬ويشري شرّاب‬
‫(‪ ) 111 :1229‬إىل أن ذكر هذه اآلية يثبت أن القصة قد وقعت يف املدينة‪ ،‬وأن‬
‫الرواية اليت تتحدث عن وفود قبيلة الداري إىل مكة ضعيفة من أساسها‪ .‬أما‬
‫الباحث هنا فريى أنّه ال ميكن هلذه القصة نفسها أن تكون قد جرت يف املدينة‪،‬‬
‫ذلك أهنا تذكر بوضوح أن هؤالء القوم زاروا النبـي ﷺ مرة أخرى بعد هجرته‬
‫إىل املدينة‪ ،‬وطلبوا منهم أن جيدد هلم كتاب اإلقطاع‪ .‬وهذا ما يثري الشك بشأن‬
‫‪58‬‬
‫الرواية بأسرها‪ .‬إن عملية التحقق هذه تقودنا ليس إىل احلكم بضعف هذه الرواية‬
‫وحسب كما يذهب شرّاب‪ ،‬وإمنا إىل رفضها وردّ النص الذي تورده بالكليّة‪ ،‬ألهنا‬
‫ال يف‬
‫رواية تثري إشكاالت وتناقضات داخلية واضحة‪ ،‬عدا عن أهنا قد ذكرت أص ً‬
‫مصادر متأخرة‪ ،‬وال تقوّيها أي مصادر تارخيية مبكرة‪.‬‬
‫واعتمادًا على هذا التحليل‪ ،‬جندُ أن النسخة األقرب إىل الصحة لكتاب هذا‬
‫اإلقطاع هي النسخة األوىل‪ ،‬وذلك ألسباب منها أهنا األقرب تارخييًا لعهد‬
‫النبـي ﷺ‪ ،‬وألهنا لغتها أوضح وأكثر اتساقًا مع وثائق ولغة النبـي ﷺ عند‬
‫مقارنتها مع النسخة الثانية‪ ،‬كما أهنا ختلو من التناقضات يف حمتواها أو يف األمساء‬
‫اليت تذكرها‪ .‬وفيما يلي نص هذا اإلقطاع‪:‬‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬هذا كتاب من حممد رسول اهلل إىل متيم‬
‫بن أوس الداري‪ :‬إن له قرية حربون‪ ،‬وبيت عينون‪ ،‬قريتهما كلهما‪،‬‬
‫وسهلهما وجبلهما‪ ،‬وماءمها وحرثهما‪ ،‬وأنباطهما وبقرمها‪ ،‬وِل َعقِبِه‬
‫من بعده‪ ،‬ال حياقه فيهما أحد‪ ،‬وال يلجهما عليهم أحد بظلم‪ .‬فمن‬
‫ظلم وأخذ منهم شيئاً فإن عليه لعنة اهلل‪.‬‬
‫يظهر يف هذا النص أن النبـي ﷺ يهب متيمًا الداريّ رضي اهلل عنه املنطقة‬
‫اجملاورة للخليل كلها‪ ،‬ولكنّه يذكر أنّ اإلقطاع خاصّ حبربون (اخلليل) وبيت‬
‫عينون‪ ،‬وهي قرية صغرية قرهبا‪ .‬وهكذا يكون هذا النص واحدًا من أهمّ النصوص‬
‫يف تاريخ املسلمني فيما يتعلق ببيت املقدس‪ ،‬ألنه يعدّ أول صكّ ملكية قانوينّ‬
‫ألرض داخل األرض املقدسة‪ ،‬وهو مبثابة إعالن النبـي ﷺ واليته على ذلك اجلزء‬
‫من بيت املقدس‪ ،‬رغم أهنا مل تكن خاضعة حلكم املسلمني يف وقت تقدمي تلك‬
‫اهلبة‪.‬‬
‫إن تقدمي هذا اإلقطاع له ارتباط باملستقبل املنظور لبيت املقدس من وجهة‬
‫نظر النبـي ﷺ وإرهاصٌ بالفتح القادم‪ ،‬فلم يسبق للنبـي ﷺ أن منح اآلخرين‬
‫أرضًا ال سلطة له عليها‪ .‬ولقد كان هلذه الفكرة انعكاسات وتطبيقات عديدة من‬
‫قبل فقهاء املسلمني وقادهتم‪ .‬فالعُلَيمِي على سبيل املثال (ت‪ 212 .‬للهجرة‪1111/‬‬
‫ميالدية) (‪ )142-141 )1( :1222‬يشري إىل حادثة جرت مع ذرية متيم الداري‬
‫‪59‬‬
‫رضي اهلل عنه يف العام ‪ 431‬للهجرة‪ 1921/‬ميالدية تقريبًا‪ ،‬أي قبل احلملة الصليبية‬
‫األوىل‪ ،‬فيذكر أن أحد الوالة يف ذلك الوقت حاول مصادرة تلك األراضي من‬
‫ذرية متيم الداري حبكمٍ من القاضي أبـي حامد اهلروي‪ ،‬الذي رأى أنّ اإلقطاع‬
‫لتميم الداري ليس ملزمًا‪ ،‬وذلك ألنّ النبـي ﷺ قد منح أرضًا ال ميلكها ﷺ لتميم‬
‫الداري‪ .‬وحني وصلت القضية اإلمامَ أبا حامد الغزايل (ت‪ 191 .‬للهجرة‪1111/‬‬
‫ميالدية) حكم بكف ِر القاضي‪ ،‬وقال كما يروي العليمي‪:‬‬
‫هذا القاضي كافر‪ ،‬فإن النبـي ﷺ قال‪" :‬زويت يل األرض كلها"‪،‬‬
‫وكان يقطع يف اجلنة‪ ،‬فيقول‪" :‬قصر كذا لفالن"‪ ،‬فوعده حق‪،‬‬
‫وعطاؤه صدق‪.‬‬
‫فأسقط يف يدي الوايل والقاضي معًا لدى مساع رأي اإلمام الغزايل رمحه اهلل‪،‬‬
‫وبقيت األرض ملكًا لعقب متيم الداري رضي اهلل عنه‪ .‬ويف هذه القصة إذن داللة‬
‫على أمهية هذا اإلقطاع يف تاريخ املسلمني‪ ،‬وما قاله الغزايل رمحه اهلل إمنا يعكس‬
‫فهمًا عميقًا لقصد النبـي ﷺ من هذا اإلقطاع‪ ،‬فهو إمنا كان يقدم وعدًا‬
‫للمسلمني من خالله‪ ،‬وبشارةً بأن منطقة بيت املقدس ستؤول للمسلمني فيما هو‬
‫قادم من أيام‪ .‬كما ميثّل هذا اإلقطاع صورة للسلطة السياسية اليت يتمتع هبا‬
‫النبـي ﷺ على بيت املقدس‪.‬‬
‫بقي أن نشري إىل أن التوقيت الذي اختاره النبـي ﷺ لتقدمي هذا اإلقطاع لتميم‬
‫الداري رضي اهلل عنه‪ ،‬بعد غزوة تبوك‪ ،‬ذو داللة خاصة‪ .‬فالنبـي ﷺ حني أسهم‬
‫لتميم بتلك األرض كان فعليًا قريبًا كلّ القرب من بيت املقدس‪ ،‬وميكن النظر إىل هذا‬
‫على أنه ممارسة عملية للنبـي ﷺ لدوره التبشريي فيما يتعلق بفتح بيت املقدس‪.‬‬
‫ويرى أمني الرشيد ياتيبان (‪ )111 :1991‬أن قيام النبـي ﷺ هبذا األمر "يظهر عزمه‬
‫الواضح بطريقة مالئمة وحصيفة تدلّ على حرصه وبعد نظره يف التخطيط هلذا‬
‫املشروع العظيم" لفتح بيت املقدس‪ .‬ويقارن ياتيبان بني هذا اإلقطاع والوعد الذي‬
‫قدمه ﷺ لسراقة بن مالك رضي اهلل عنه‪" ،‬حني وعده بسواري كسرى" (ياتيبان‬
‫‪ .)111 :1991‬وقد حتقق كال الوعدان بعد وفاته ﷺ كما هو معروف‪ ،‬وحصل متيم‬
‫رضي اهلل عنه على أرضه بعد فتح بيت املقدس (انظر ابن عساكر ‪.)11 )11( :1221‬‬
‫‪61‬‬
‫وال بدّ من التأكيد على األمهية الكبرية هلذه اإلقطاعات اليت وهبها‬
‫النبـي ﷺ لكل من متيم الداري رضي اهلل عنه‪ ،‬ولقبيلة بين جفال اجلذاميني‬
‫وأبـي ثعلبة‪ .‬فهي هبات ترسم طبيعة العالقة بني النبـي ﷺ وبيت املقدس‪،‬‬
‫واليت تبلورت فيما بعد على شكل خطة لفتح املنطقة‪ .‬وال شكّ أن ما مييز‬
‫اإلقطاع الذي قدِّمَ لتميم الداري رضي اهلل عنه هو كونه يف داخل منطقة بيت‬
‫املقدس‪ ،‬وقد يعدّ ذ لك كما أسلفنا خطوة سياسية تشكّل نوعًا من سلطةٍ مفترضة‬
‫على تلك املنطقة‪ .‬ويرى اخلطيب (‪ ) 19 :1991‬أن هذا اإلقطاع "يشري بوضوح‬
‫إىل املكانة اليت اكتسبتها مدينة اخلليل يف وقت مبكر من تاريخ اإلسالم‪ ،‬وهي‬
‫مكانة موازية وتابعة ملكانة القدس يف اإلسالم"‪ .‬وال اختالف يف هذا السياق بني‬
‫تينك املدينتني أثناء دراسته ملنطقة األرض املقدسة بشكل عام‪ ،‬ويبدو أن هذه‬
‫املكانة العظيمة لبيت املقدس هي اليت دفعت النبـي ﷺ ملنح تلك األرض لتميم‬
‫الداريّ رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫بيد أنّه من الضروري النظر إىل هذه اإلقطاعات الثالثة يف آنٍ معًا‪ ،‬فهي هبات‬
‫لثالث أراضٍ‪ ،‬إحداها يف منطقة من الشام على الطريق اجلنوبـي الواصل إىل بيت‬
‫املقدس‪ ،‬وأخرى يف منطقة النقب‪ ،‬وهي جزء من الشام ال من األرض املقدسة‬
‫أرضِ بيت املقدس‪ ،‬والثالثة داخل منطقة األرض املقدسة‪ ،‬على بعد ‪ 19‬كم فقط‬
‫عن املسجد األقصى‪ ،‬وهي منطقة اخلليل وما جياورها‪ .‬وال دليل يشريُ إىل أنّ‬
‫النبـي ﷺ منح أرضًا ألحد يف األجزاء الشمالية من بيت املقدس‪ ،‬وهذا يؤكد‬
‫القول بأن األرض اليت منحت ألبـي ثعلبة ستكون يف اجلنوب أو اجلنوب الشرقي‬
‫من بيت املقدس أو الشام‪ ،‬ويف هذه داللة على أن هذه اإلقطاعات جزءٌ من عملية‬
‫تقصد فتح الطريق حنو بيت املقدس من جهة اجلزيرة العربية‪ ،‬فبنو جفال كانوا‬
‫يقطنون املنطقة‪ ،‬كما كان متيم الداريّ من هناك‪ ،‬لذا فإن الظاهر أن النبـي ﷺ‬
‫كان يسعى لتشكيل حلف له يساعده يف املستقبل على فتح بيت املقدس من جهة‬
‫اجلنوب الشرقي‪.‬‬

‫‪60‬‬
 ‫ثأنيأ‪ :‬المراأال الدبيومأأية‬
‫ً‬
‫يتأو النب ﷺ خلى هرأي‬
‫تعدّ رسالة النبـي ﷺ إىل هرقل إمرباطور بيزنطة من أهم الوثائق اليت تعود‬
‫إىل عهد النبـي حممد ﷺ‪ ،‬فهي ترد يف العديد من املصادر التارخيية اإلسالمية وغري‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وقد درسها وتناوهلا كثري من املؤرخني والعلماء‪ .‬كما أنّ نص هذه‬
‫الوثيقة موثق بشكل جيد‪ ،‬سواءً فيما يتعلق بروايتها شفاهةً من قبل الرواة أو نقل‬
‫نصّها بدقّة يف كتب احلديث والتاريخ‪.‬‬
‫وجيمع العديد من املؤرخني‪ ،‬على أن هذا الكتاب يعود إىل العام السادس‬
‫للهجرة‪ 112/‬ميالدية‪ ،1‬وقد أرسل مباشرة عقب عقد صلح احلديبية بني‬
‫النبـي ﷺ وسادة قريش يف مكّة‪ ،‬وهو معاهدة اشتملت على اتفاق وقف القتال‬
‫بني الطرفني لعشر سنوات‪ .‬ويقول ابن هشام (‪ )143 )4( :1991‬إن مجيع الكتب‬
‫اليت بعثها النبـي ﷺ إىل احلكّام كانت بعد صلح احلديبية‪.‬‬
‫ث‬
‫ومما يدل صراحة على أن هذه الرسالة بعثت بعد صلح احلديبية احلدي ُ‬
‫الذي ورد يف صحيح البخاري (‪ )1-4 )1( :1999‬وصحيح مسلم (‪)1( :1999‬‬
‫‪ .)221-221‬إذ يرد يف احلديث ذكر هذه الرسالة بنصّها‪ ،‬وقد روى احلديث أبو‬
‫سفيان بن حرب‪ ،‬قائد قريش قبل إسالمه‪ .‬ويقول أبو سفيان يف هذا احلديث إنه‬
‫كان يف الشام يف وقت اهلدنة بني قريش والنبـي حممد ﷺ‪ ،‬يف جتارة له على‬
‫األغلب‪ ،‬وهي الرحلة السنوية املألوفة لتجار قريش إىل الشام واليمن كما يذكر‬
‫القرآن الكرمي‪ .‬وبينا هو يف الشام‪ ،‬كما يذكر احلديث‪ ،‬وصل كتاب النبـي ﷺ‬
‫إىل هرقل بيد دحيّة الكلبـي‪ .‬وقد دعيَ أبو سفيان ومن معه للحضور بني‬
‫يدي هرقل‪ ،‬يف إيلياء‪ ،‬وكان حوله عظماء الروم‪ ،‬ودار بينهما حديث بشأن‬
‫ال عن‬‫أمر النبـي ﷺ‪ .‬ويف هناية هذا اللقاء‪ ،‬توجّه هرقل لوفد قريش قائ ً‬

‫تذكر العديد من الروايات أن النبـي ﷺ قد أرسل كتابًا إىل هرقل أثناء غزوة تبوك (انظر‬ ‫‪1‬‬
‫محيد اهلل ‪ ،)111-111 :1232‬إال أنّه ال ميكن االعتماد على هذه الروايات‪ ،‬ألهنا تتعارض‬
‫مع حديث أبـي سفيان رضي اهلل عنه وما جاء فيه من ذكر للرسالة إىل هرقل‪ ،‬حيث‬
‫يشري احلديث صراحة إىل أن الرسالة قد بعثت خالل صلح احلديبية‪.‬‬
‫‪61‬‬
 ‫النبـي ﷺ‪" ..:‬إنه سيملك موضع قدميّ هاتني"‪ ،‬مث دعا بكتاب رسول اهلل ﷺ‬
‫وجاء فيه‪:‬‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬من حممد رسول اهلل إىل هرقل عظيم الروم‪،1‬‬
‫سالم على من اتبع اهلدى أما بعد‪ ،‬فإين أدعوك بدعاية اإلسالم‪ ،‬أسلم‬
‫تسلم يؤتك اهلل أجرك مرتني‪ ،‬فإن أبيت فعليك إمث األريسيني‪ ،2‬و(يا‬
‫أهل الكتاب تعالوا إىل كلمة سواء بيننا وبينكم أن ال نعبد إال اهلل وال‬
‫نشرك به شيئاً وال يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون اهلل فإن تولوا‬
‫فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون)‪.‬‬
‫وتذكر رواية البخاري (‪ )1-4 )1( :1999‬أن الكتاب قد وصل هرقل وهو‬
‫يف إيلياء‪ ،‬كما أن الرواية اليت وردت يف صحيح مسلم (‪ )221 )1( :1999‬تشري‬
‫كذلك إىل أنّ هرقل كان يف إيلياء ليشكر اهلل على نصره على الفرس‪ .‬ومع أنّ‬
‫يوميّات الفصح ال تذكر هذه الرسالة‪ ،‬إال أهنا تذكر أنّ هرقل قد ذهب إىل‬
‫"األراضي الشرقية" يف ذلك الوقت مع ابنه وابنته‪ .‬وتستخدم كلمة "األراضي‬
‫الشرقية" يف يوميات الفصح عادة لإلشارة إىل بالد الشام‪ ،‬مثلما كانت تستخدم‬
‫عند وصف احتالل الفرس لبيت املقدس (‪.)111 :1232‬‬
‫إن األمهية يف هذه الرسالة ال تكمن يف الواقع يف نصّها‪ ،‬ألنّ النص ال خيتلف‬
‫عن نصوص الكتب األخرى اليت أرسلها النبـي ﷺ إىل احلكام اآلخرين يف العامل‬
‫يف ذلك الوقت (انظر محيد اهلل ‪ ،)141-111 :1232‬وإمنا تكمن أمهية هذه الرسالة‬
‫يف توقيتها‪ .‬فقد أرسلها النبـي ﷺ مباشرة يف عقب صلح احلديبية‪ ،‬وقبيل معركة‬

‫الروم هنا تعين الرومان‪ ،‬وهكذا كانت العرب تشري إىل البيزنطيني يف ذلك الزمان‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫مع أنّ هذا احلديث من الصحيح‪ ،‬حيث يكون املنهج أكثر دقّة مقارنة بالروايات التارخيية‪،‬‬ ‫‪2‬‬
‫إال أننا جند أكثر من نسخة للوثيقة نفسها يف املصادر التارخيية املتعددة‪ ،‬وباألخص عندما‬
‫يتعلق األمر مبصطلح "األريسيني" والذي يعين "الفالحني" أو "القادة" كما يذكر ابن منظور‬
‫(‪ .)111 )1( :1222‬ويترجم العويسي (‪ )11 :1991‬هذه الكلمة باللغة اإلجنليزية كما يلي‪:‬‬
‫"القوم الذين يتبعون العقيدة اخللقيدونية"‪ ،‬ولعل العويسي يكون قد أخطًا يف هذه الترمجة‪ ،‬إذ‬
‫مل يرد ذكر األريسيني يف هذا السياق يف أي قاموس عربـي‪ .‬ويذكر الطربي (‪:1223‬‬
‫(‪ )112 )1‬كلمة أخرى هي "األكارين" واليت تعين "احلارثني" أي "الفالحني" وفق العديد‬
‫من القواميس العربية كلسان العرب البن منظور (‪.)112 )1( :1222‬‬
‫‪61‬‬
 ‫مؤتة‪ ،‬واليت تعدّ واحدة من أهم األحداث يف تلك الفترة‪.‬‬
‫ال عن بقية الرسائل‪ ،‬إذ‬ ‫هذا يعين أنّ رسالة النبـي ﷺ إىل هرقل تتميّز قلي ً‬
‫ميكن النظر إليها كخطوة دبلوماسية حتذّر من محلةٍ عسكرية داخل املناطق البيزنطية‬
‫يف بالد الشام‪ .‬ولعل ما يدل على ذلك أنّ النبـي ﷺ قال يف رسالته‪" :‬أسلم‬
‫تسلم"‪ ،‬وهلذه العبارة داللة سياسية بالغة األمهية‪ ،‬فهي رسالة تشتمل على عبارات‬
‫التلطّف والدعوة احلسنة والوعد باخلري‪ ،‬كما تقتبس آية من القرآن الكرمي‪ ،‬ولكنها‬
‫يف الوقت ذاته تنضوي على حتذير من ردّة الفعل املترتبة على رفض هذه الدعوة‪.‬‬
‫كما أنّ الرسالة قد وصلت إىل هرقل نفسه وهو يف إيلياء‪ ،‬وهي نفسها مدينة‬
‫القدس اليت تقع يف قلب األرض املقدسة‪ ،‬وهذا أمر له دالالته كذلك‪ ،‬خاصة يف‬
‫سياق سورة الروم‪ ،‬واليت تذكر هزمية البيزنطيني أمام الفرس‪ ،‬وخترب يف الوقت نفسه‬
‫بالنصر الذي سيظفر به البيزنطيون يف بضع سنني‪ .1‬وهكذا تكون استعادة‬
‫البيزنطيني لبيت املقدس معلمًا من معامل انتصارهم على الفرس‪ .‬وهكذا اختار‬
‫النيبّ ﷺ أن يرسل كتابه إىل هرقل وهو يف بيت املقدس ليشري إىل بدء عهد جديد‬
‫يف املنطقة‪ ،‬وهذا ما أدركه هرقل نفسه حني قال" سيملك (حممد) موضع قدميّ‬
‫هاتني"‪ ،‬وهي عبارة تدلّ على فهم هرقل ملقصد النبـي ﷺ من كتابه‪ ،‬ورمبا هذا‬
‫ما دفعه لدعوة شعبه إىل اإلسالم كما يرد يف حديث البخاري (‪.)1-4 )1( :1999‬‬
‫إن كتاب النبـي ﷺ إىل هرقل كان مبثابة حتذير ال بدّ منه قبل التحرك‬
‫العسكري ضد البيزنطيني‪ ،‬وضدّ األريسيني بشكل خاص‪ ،‬وهم أتباع الدولة‬
‫البيزنطية يف املنطقة‪ ،‬وهذه إشارة أخرى تدعم هذا الرأي‪ .‬فذكر األريسيني يف‬
‫الرسالة يستلزم مسؤولية كبرية سوف يتحملها هرقل يف حال تقدم احلمالت‬
‫العسكرية للمسلمني يف املستقبل‪ .‬وهلذا ميكن أن تع ّد هذه الرسالةُ خطوة دبلوماسية‬
‫وسياسية مهمة متهيدًا لفتح بيت املقدس وقبل اإلقدام على املرحلة العسكرية من‬
‫ال بعد عام واحد تقريبًا‪.‬‬
‫اخلطة‪ ،‬واليت بدأت فع ً‬

‫واملقصود هنا ذروة انتصار البيزنطيني على الفرس‪ ،‬وليس النصر األول هلم واملذكور يف‬ ‫‪1‬‬
‫أوائل سورة الروم‪.‬‬
‫‪64‬‬
 ‫ثألثًأ‪ :‬المعأهدا الأيأأية‬
‫لقد أبرم النبـي ﷺ العديد من املعاهدات السياسية واتفاقيات الصلح‪ ،‬وقد‬
‫عقدت العديد من هذه االتفاقيات واملعاهدات من أجل تأمني حدود الدولة‬
‫اإلسالمية أو طرق القوافل التجارية والعسكرية‪ .‬وكان العهد لبين ضمرة‪ 1‬أول‬
‫معاهدة سياسية للنبـي ﷺ خارج دولته يف املدينة املنورة وكان ذلك ُبعَيد اهلجرة‬
‫مباشرة‪.‬‬
‫إال أن معظم العهود اليت قدمها النبـي ﷺ واملتعلقة مبوضوع هذا الكتاب قد‬
‫أبرمت يف املرحلة األخرية من حياته ﷺ يف وقت غزوة تبوك‪ .‬ومبا أنّ هذه العهود‬
‫قد كتبت خالل فترة زمنية حمدودة فإهنا قد أتت متشاهبة بلبّها وأسلوهبا‪ ،‬وهذا‬
‫يساعد يف فهم العالقة اليت جتمع بينها‪.‬‬
‫العلد خلى هي يية‬
‫أيلة هي إحدى املوانئ املهمة يف بالد الشام‪ ،‬وكانت امليناء اجلنوبـي‬
‫األساسي للمنطقة‪ ،‬كما كانت املدينة الساحلية األخرية على الطريق الساحلي‬
‫باجتاه املشارف اجلنوبية لبيت املقدس قبل دخول صحراء النقب‪ .‬وقد كان موقع‬
‫أيلة وفق العديد من علماء احلفريات التارخيية‪ ،‬ضمن املدينة املعروفة اآلن بالعقبة يف‬
‫األردن‪ ،‬إذ كشفت العديد من احلفريات عن اهلوية األصلية للمدينة‪ .‬وبفضل‬
‫موقعها املهم متتعت أيلة مبكانة استراتيجية بني املدن واحلواضر األخرى على الطريق‬
‫الساحلي بني شبه اجلزيرة العربية وبالد الشام‪ ،‬وال عجبَ إذن من توجّه أنظار‬
‫النبـي ﷺ حنوها‪.‬‬
‫وقد ورد العهد الذي أعطاه النبـي ﷺ ألهل أيلة يف كتب احلديث‪ ،‬وعلى‬
‫رأسها البخاري (‪ ،)112 )1( :1999‬وفيما يلي نص احلديث‪:‬‬
‫أبرمت هذه املعاهدة مع بين ضمرة أثناء أول حترك عسكري للنبـي ﷺ يف العام الثاين‬ ‫‪1‬‬
‫للهجرة‪ ،‬أي يف غزوة األبواء‪ ،‬واليت تعرف كذلك بغزوة ودان (انظر املباركفوري ‪:1221‬‬
‫‪ ،)191‬وذلك قبل بدر‪ .‬وقد كتب النبـي ﷺ يف هذه املعاهدة كما يذكر القسطالين‬
‫(ت‪ 211 .‬للهجرة‪ 1121/‬ميالدية) (‪:)124 )1( :1221‬‬
‫هذا كتاب رسول اهلل لبين ضمرة بأهنم آمنون على أنفسهم وأن النصر على من رامهم‪..‬‬
‫على أال حياربوا يف دين اهلل ما بل حبر صوفة‪ ..‬وأن النبـي إذا دعاهم لنصر أجابوه‪...‬‬
‫‪65‬‬
‫عن أبـي محيد الساعدي قال‪ :‬غزونا مع النبـي ﷺ غزوة تبوك‪،‬‬
‫وأهدى ملك أيلة للنبـي ﷺ بغلة بيضاء‪ ،‬وكساه بردًا وكتب له‬
‫‪1‬‬
‫ببحرهم‬
‫هذا عهد مكتوب من النبـي ﷺ إىل ملك أيلة يف ذلك الزمان‪ ،‬لكنّ نصّه مل‬
‫يرد يف كتب احلديث‪ ،‬وإمنا ورد يف كتب السرية والتاريخ‪ .‬وعلى خالف الوثائق‬
‫النبوية األخرى اليت ورد هلا أكثر من نصّ يف أكثر من مرجع‪ ،‬فإن هلذا العهد الذي‬
‫قدمه ﷺ مللك أيلة نصًّا واحدًا أتى بصيغة واحدة تقريبًا يف العديد من املصادر‬
‫التارخيية‪ .‬كما أورد ابن سعد كتابًا آخر مرتبطًا هبذه القصة‪ ،‬وهي رسالة من‬
‫النبـي ﷺ إىل أيلة‪ ،‬ولكنّها ليست موضوع كتابنا هذا‪.2‬‬

‫ذكر العسقالين (‪ 111 )1( :1222‬أن املقصود بقوله "حبرهم" يف هذا احلديث هو‬ ‫‪1‬‬
‫مدينتهم‪ ،‬أي أيلة‪ .‬كما يذكر العسقالين أن من يقدّم الربدَ يف هذه الرواية هو النبـي ﷺ‬
‫نفسه‪ ،‬وهذا بيّن حني نربط هذه الرواية برواية أخرى تذكر عبارة‪" :‬فكتبَ له" وليس‬
‫"وكتب له" (العسقالين ‪ ،)111 )1( :1222‬وهذا يؤكد أنّ النبـي ﷺ هو من أعطى‬
‫ط‬
‫هذا العهد ألهل أيلة‪ .‬كما ننبه هنا إىل أن قوهلم "كتب له" ال تعين أن النبـي ﷺ خ ّ‬
‫الكتاب بيده‪ ،‬فقد كان ﷺ أمّيًا‪ ،‬وإمنا املقصود هبا أنه منحهم تلك العهدة املكتوبة هلم‪.‬‬
‫وهي رسالة ذكرها ابن سعد (‪ ،)111-111 )1( :1222‬ويقول إن النبـي ﷺ قد‬ ‫‪2‬‬
‫أرسلها إىل أهل أيلة قبل العهدة إليهم كما يظهر فيها‪ .‬ومل يذكر أحدٌ من املؤرخني هذه‬
‫الرسالة إىل أيلة باستثناء ابن سعد‪ .‬أما الواقدي والبالذري فال يشريان إليها‪ .‬وفيما يلي‬
‫نص هذه الرسالة كما أوردها ابن سعد‪:‬‬
‫قالوا‪ :‬وكتب رسول اهلل ﷺ إىل حينة بن رؤبة وسروات أهل أيلة‪" :‬سلم أنتم‪ ،‬فإين أمحد إليكم‬
‫اهلل الذي ال إله إال هو‪ ،‬فإين مل أكن ألقاتلكم حىت أكتب إليكم فأسلم أو أعط اجلزية وأطع‬
‫اهلل ورسوله ورسل رسوله‪ ،‬وأكرمهم واكسهم كسوةً حسنة غري كسوة الغزاء‪ .‬واكس زيداً‬
‫كسوة حسنة فمهما رضيت رسلي فإين قد رضيت‪ ،‬وقد علم اجلزية‪ ،‬فإن أردمت أن يأمن الرب‬
‫والبحر فأطع اهلل ورسوله ومينع عنكم كل حق كان للعرب والعجم إال حق اهلل وحق رسوله‪،‬‬
‫وإنك إن رددهتم ومل ترضهم ال آخذ منكم شيئاً حىت أقاتلكم فأسبـي الصغري وأقتل الكبري‪،‬‬
‫فإين رسول اهلل باحلق‪ ،‬أومن باهلل وكتبه ورسله وباملسيح ابن مرمي أنه كلمة اهلل وإين أومن به‬
‫أنه رسول اهلل‪ ،‬وأت قبل أن ميسكم الشر فإين قد أوصيت رسلي بكم‪ ،‬وأعط حرملة ثالثة‬
‫أوسقٍ شعرياً‪ ،‬وإن حرملة شفع لكم وإين لوال اهلل وذلك مل أراسلكم شيئاً حىت ترى اجليش‪،‬‬
‫وإنكم إن أطعتم رسلي فإن اهلل لكم جار وحممد ومن يكون منه‪ ،‬وإن رسلي شرحبيل وأبـي‬
‫وحرملة وحريث بن زيد الطائي فإهنم مهما قاضوك عليه فقد رضيته وإن لكم ذمة اهلل وذمة‬
‫=‬ ‫حممد رسول اهلل‪ ،‬والسالم عليكم إن أطعتم‪ ،‬وجهزوا أهل مقنا إىل أرضهم‪.‬‬
‫‪66‬‬
‫إن نص العهد ألهل أيلة معروف ومتداول بني املؤرخني والعلماء يف تلك‬
‫الفترة‪ ،‬ورمبا كان نص الوثيقة موثقًا ومعروفًا بني املؤرخني‪ ،‬وهو ما يثري تساؤ ًال‬
‫‪1‬‬
‫حول ما إذا قد متّ بالفعل حفظ النسخة األصلية من هذه العهدة‪.‬‬
‫وقد ورد نص العهد يف سرية ابن اسحاق (‪ ،)194 :1994‬وعند الواقدي‬
‫كذلك (ت‪ 192 .‬للهجرة‪ 311/‬ميالدية) (‪ ،)419-492 )1( :1994‬وابن سعد‬
‫(‪ ،)111 )1( :1222‬والكثري غريهم من املؤرخني‪ .‬ويبدو أن املؤرخني يتفقون على‬
‫هذا النص‪ ،‬وهلذا سنعمد إىل حتليله مباشرة‪ ،‬وفيما يلي نص هذا العهد‪:‬‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬هذه َأمَنة من اهلل وحممد النبـي رسول اهلل‬
‫ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة‪ ،‬لسفنهم وسيارهتم يف الرب والبحر‪ :‬هلم ذمة‬
‫= وهناك العديد من اإلشكاالت الواضحة يف هذه الرسالة من حيث لغتها والتعابري‬
‫املستخدمة فيها‪ .‬فهي ختتلف عن النصوص الصحيحة األخرى اليت تعود لتلك الفترة من‬
‫حياة النبـي ﷺ‪ .‬فتبدأ الرسالة مثالً بعبارة "أمحد إليكم اهلل الذي ال له إال هو"‪ ،‬وهي‬
‫عبارة مل ترد قطّ يف أي من رسائل النبـي ﷺ لغري املسلمني‪ ،‬وإمنا وردت يف كتاب تعزية‬
‫أرسله ﷺ إىل رسوله إىل اليمن وهو معاذ بن جبل رضي اهلل عنه‪ ،‬وذلك حني تويف ابن‬
‫معاذ (انظر احلاكم ‪ .)192-191 )1( :1229‬ويبعد أن يكون النبـي ﷺ قد استخدم‬
‫هذه العبارة يف هذه الرسالة خمالفًا أسلوبه يف مجيع رسائله األخرى اليت يدعو فيها الناس‬
‫لإلسالم‪ .‬كما أن الرسالة تبدأ مبنح الناس األمان مث هتددهم باحلرب‪ .‬كما فيها عبارة‬
‫أخرى غريبة هي "لوال اهلل وذلك"‪ ،‬وهذا تعبري مل يرد يف أي من رسائل النبـي ﷺ أو‬
‫أحاديثه‪ .‬وبالنظر إىل اللغة والتعبريات غري املألوفة فإننا ال منيل إىل اعتماد هذه الرسالة‬
‫ونشك يف صحتها‪ ،‬باإلضافة إىل أن ابن سعد انفرد بذكرها من بني املؤرخني‪ ،‬كما أنه مل‬
‫يشر إىل مصدرها‪ .‬أما الواقدي (‪ )492 )1( :1994‬فريى أن أهل أيلة هم من بادروا‬
‫ووفدوا إىل النبـي ﷺ بعد أن وصلتهم أنباء هجوم املسلمني على دومة اجلندل‪ .‬وال‬
‫ارتباط هلذه الرسالة بسياق هذا الكتاب فهي ليست مبعاهدة كما أهنا ليست بعهد أمان‪.‬‬
‫وال ميكن كذلك تناوهلا يف هذا الفصل على أهنا من املراسالت الدبلوماسية اليت تعنينا هنا‪،‬‬
‫إذ ال عالقة تربطها ببيت املقدس‪ .‬والواضح لدينا كما أسلفنا أن صحة الرسالة ونصها حم ّل‬
‫شك كبري فال ميكن التعامل معها كرواية مقبولة‪ .‬واألهم لدينا يف هذا الصدد أهنا ال تؤثر‬
‫بأي شكل واضح على الفتح املقبل لبيت املقدس‪ ،‬إذ ال يرد فيها ذكر ألي ترتيبات خاصة‬
‫بالطريق الواصل إىل بيت املقدس‪ ،‬خبالف ما ورد مثالً يف عهدة األمان إىل أهل أيلة‪ .‬وهلذا‬
‫طرحنا هذه الرسالة جانبًا يف هذا الكتاب ومل ندرسها‪.‬‬
‫‪ 1‬لقد أخفقت بعد حبثٍ مضنٍ يف التحقق من احتمال وجود أصل هذه الوثيقة أو نسخة‬
‫مبكرة منها‪.‬‬
‫‪67‬‬
‫اهلل وذمة حممد رسول اهلل‪ ،‬وملن كان معهم من أهل الشام وأهل‬
‫اليمن وأهل البحر‪ ،‬فمن أحدث حدثاً فإنه ال حيول مالُه دون نفسِه‪،‬‬
‫وإنه طيب ملن أخذه من الناس‪ ،‬وإنه ال حيل أن يُمنَعوا ماءً يَرِدونه وال‬
‫‪1‬‬
‫طريقاً يريدونه من بر أو حبر‪.‬‬
‫ويذكر البالذري (‪ )12 :1221‬هذه الوثيقة دون اإلشارة إىل نصها‪ ،‬ويكتفي‬
‫باإلشارة إىل عهدة قدمها النبـي ﷺ لثالمثائة من أهل أيلة‪ ،‬ويضيف أن‬
‫النبـي ﷺ اتفق معهم على أن يدفعوا جزيةً مقدارها ثالمثائة دينار سنويًا‪ ،‬أي‬
‫بواقع دينار عن كل شخص‪ ،‬كما يذكر البالذري أنّ النبـي ﷺ اتفق مع أهل أيلة‬
‫على أن يقدموا الطعام ألي مسلم ميرّ من أرضهم‪.‬‬
‫ولقد أشار نصّ العهدة يف هنايته إىل االلتزامات املترتبة على أهل أيلة؛ "وإنه طيب‬
‫ملن أخذه من الناس‪ ،‬وإنه ال حيل أن يُمنَعوا ماءً يَرِدونه وال طريقاً يريدونه من بر أو‬
‫حبر"‪ .‬وقد وقع اختالف بني العلماء يف تفسري وفهم هذه اجلملة‪ ،‬ولكنّها تتحدث غالبًا‬
‫‪2‬‬
‫عن االلتزام املترتّب على أهل أيلة لفتح موانئهم للمسلمني وفتح الطريق هلم‪.‬‬

‫هنالك اختالفات قليلة جدًا بني املصادر اليت تروي هذا النص بشكل ال يؤثر على معناه‪،‬‬ ‫‪1‬‬
‫كاستخدام "هذا" بدل "هذه"‪ ،‬وكالمها امسا إشارة‪ ،‬وإن كان األول للمذكر واآلخر‬
‫للمؤنث‪ ،‬إال أنّ هذا ال يؤثر يف معىن النص‪.‬‬
‫هذا اجلزء من النص يثري إشكاالً حقيقيًا ومن شأنه أن خيلق تناقضات إن مل يقرأ بشكل‬ ‫‪2‬‬
‫صحيح‪ .‬فالضمري يف اجلملة اليت تقول‪" :‬وإنه طيب ملن أخذه من الناس" مبهمٌ وال يعرف‬
‫عائده‪ .‬ويرى الباحث اللغوي اخلطاب املاي أن يصعب أن نفهم املقصود بالضمري يف هذه‬
‫اجلملة‪ ،‬إذ قد يعود إىل املال املذكور يف اجلملة قبلها‪ ،‬فيصبح معىن اجلملة أن املال الذي‬
‫يعود ألي شخص خيرق العهدة طيب ومباح ألي شخص ليأخذه‪ .‬وقد ذكر املاي هذا‬
‫الرأي يف معرض نقاش حول القضية يف معهد آل مكتوم يف دندي يف ‪ 19‬آذار ‪ .1992‬أما‬
‫أسامة األشقر فريى أنّ الضمري هنا هو ضمري الشأن‪ ،‬وهو ال يعود على شيء قبله‪ ،‬وإمنا‬
‫يؤكد على طريقة مجع اجلزية‪ ،‬فيصري معىن اجلملة‪" :‬جيب تقدمي اجلزية بطريقة حسنة وفق‬
‫هذا العهد ملن يأيت من جانب املسلمني لتحصيلها"‪ ،‬وقد بعث د‪ .‬أسامة األشقر هذا الرأي‬
‫إيلّ بالربيد يف تاريخ ‪ 4‬كانون األول ‪.1992‬‬
‫وأرى أن رأي املاي غري مقبول هنا‪ ،‬ألن اجلملة تصبح هبذا املعىن متناقضة مع التعليمات‬
‫األخرى اليت ذكرها النبـي ﷺ يف الغزوة نفسها‪ ،‬أي غزوة تبوك‪ ،‬إذ يذكر الواقدي‬
‫(‪ )411 )1( :1994‬قصة صحابـي يدعى رافع بن مكيث اجلهين ذبح بعرياً وأخذ منه‬
‫حاجته مث تركه للناس ينتفعون به‪ ،‬فأمر النبـي ﷺ رافعًا بأن يعيد ما أخذه وما أخذه‬
‫‪68‬‬
‫كما أن هذا العهد من أهم الوثائق يف تاريخ هذه املنطقة‪ .‬فعند النظر إىل‬
‫بنوده نرى أن النبـي ﷺ قد قام بتأمني موقع مهم على الطريق اجلنوبـي حنو بيت‬
‫املقدس‪ .‬إذ يتضح عند دراسة موقع هذه املدينة أهنا امليناء األساسي يف بالد الشام‬
‫على البحر األمحر‪ ،‬أي أهنا الرابط البحري األساسي بينها وبني بقية أجزاء شبه‬
‫اجلزيرة‪ .‬كما كانت أيلة احملطة األخرية على الطريق قبل صحراء سيناء والنقب‪،‬‬
‫ولعل هذا هو سبب ذكر املاء يف نص العهدة‪.‬‬
‫وميضي مايرسون (‪ )123 :1214‬يف حتليل نص هذه العهدة‪ ،‬ويقول إن‬
‫املسلمني متكنوا بفضلها "من تأمني طرق هلم يف تلك املدينة اليت كان بإمكان أي‬

‫الناس قائالً "هذه هنبة ال حتل"‪ ،‬فقالوا للنبـي ﷺ إن صاحبه أذن يف ذلك‪ ،‬فأخربهم أن‬
‫ذلك ال حيل حىت وإن أذن‪ .‬وتظهر هذه القصة أنّ النبـي قد حرّم هذا الفعل يف الوقت‬
‫الذي منح فيه العهدة هلؤالء الناس‪ .‬فال يعقل إذن أن يضع النبـي ﷺ شرطًا حرّمه هو‬
‫بنفسه‪ .‬وننبه هنا إىل أن املاي قد أشار إىل أنه ما من سبيل إىل معرفة ما يشري إليه الضمري‬
‫يف اجلملة‪ ،‬ولكنّ النظر اللغوي يكون متوجهًا يف العادة إىل االسم األقرب للضمري‪ ،‬وهو‬
‫يف هذه احلالة املال‪ .‬ولكنّ املال يف رأينا ليس مقصودًا بنفسه هنا‪ ،‬وإمنا هو إشارة إىل أ ّن‬
‫كل من خيالف بنود هذه العهدة سيلقى عقابه بغض النظر عن حالته من فقر أو غىن‪.‬‬
‫وعليه فإن الضمري هنا ال يعود غالبًا على املال‪ ،‬ولذا فإنه قد يكون كما ذكر األشقر جمردَ‬
‫ضمري شأن‪ ،‬أو قد يكون عائدًا إىل البحر لو سلمنا بأن مجلة "وإنه طيب ملن أخذه من‬
‫الناس" هي مجلة معترضة‪ .‬فقد تكرر ذكر كلمة البحر يف الكتاب قبل ذكر اجلملة املتعلقة‬
‫بعقوبة من خيالف بنود العهد‪ ،‬بدءًا من ذكر السفن والرب والبحر ومن مث ذكر من يركب‬
‫البحر من الناس‪ .‬ويف هذه احلالة تكون اجلملة هذه إشارةً إىل أن على أهل أيلة أن يتيحوا‬
‫البحر ملن أراد استخدامه‪ .‬غري أن املاي يرى أنّ هذا العهد ال يشتمل على أي التزام على‬
‫أهل أيلة‪ ،‬ألن ضمري اجلمع يف اجلملة األخرية يشري كذلك إىل أهل أيلة‪ ،‬أي أن ألهل أيلة‬
‫احلق يف استخدام طريق الرب وطريق البحر وأنه ال حيل منعهم من ذلك‪ ،‬وبناء على هذا‬
‫الرأي فإن العهدة ال تفرض على أهل أيلة أية التزامات البتة‪ ،‬وهذا األمر مستبعد يف وثائق‬
‫النبـي ﷺ خاصة عند النظر يف املعاهدات والوثائق األخرى املشاهبة هلذا النص‪.‬‬
‫وهذا يساعدنا كذلك يف فهم إشكال آخر يف العبارة األخرية من النص‪ ،‬وهو أن ضمري‬
‫اجلمع فيها يعود إىل "الناس"‪ ،‬أي بعبارة أخرى "من بني الناس"‪ .‬ولذا يكون تفسري اجلملة‬
‫األخرية يف هذا العهد أن ال ميكن للناس (من سكان أيلة) أن مينعوا الناس (عموم الناس)‬
‫من ماء الشرب أو استخدام طريق الرب أو البحر‪ .‬أي أنه جيب على أهل أيلة أن ال مينعوا‬
‫أحدًا من صيد السمك أو ماء الشرب أو العبور برًا أو حبرهم من قبل أيلة‪ .‬ويؤكد هذا ما‬
‫قاله البالذري (‪ )12 :1221‬حني أشار إىل أنّ النبـي قد اتفق مع أهل أيلة على تزويد‬
‫املسلمني املارين بأيلة مبا حيتاجون من طعام‪.‬‬
‫‪69‬‬
‫جيش ولو صغر حجمه أن مينع من عبور املسلمني منها إىل فلسطني"‪ .‬ويضيف أنّ‬
‫أيلة "أمدت املسلمني باملاء والطعام ووفرت هلم مكانًا لالستراحة قبل االنطالق يف‬
‫عملياهتم العسكرية عرب الصحراء"‪ .‬وقد جنح النبـي ﷺ من خالل إبرام هذه‬
‫العهدة يف توفري حمطة للتزود باملاء والطعام‪ ،‬وهذ ا أمرً أساسي يف جناح أو فشل‬
‫أي محلة عسكرية تسلك هذه الطريق يف املستقبل‪ .‬وبتأمني هذا اجلانب من أيلة‬
‫صار الطريق اجلنوبـي إىل بيت املقدس ممهدًا‪ .‬ويشري أسامة مجعة األشقر‬
‫(‪ ) 13 :1991‬إىل أن هذه العهدة كانت مبثابة خضوع سياسي للقوة الصاعدة‬
‫لدولة املسلمني‪.‬‬
‫وقد أصاب مايرسون واألشقر حني أشارا إىل أن هذه العهدة مل تنجح يف فتح‬
‫طريق واحد من تلك اجلهة وحسب‪ ،‬وإمنا يف تأمني املناطق اجلنوبية لبيت املقدس‬
‫بأكملها‪ ،‬وهي صحراء النقب‪ ،‬أمام احلمالت العسكرية للمسلمني‪ .‬إذ متكن‬
‫املسلمون ابتداءً من تلك الفترة من إطالق محالت واسعة النطاق مزوّدة مبا يكفي‬
‫من الطعام واملاء على طرق مفتوحة ومؤمّنة‪ .‬فهذه العهدة أمّنت طريق جيوش‬
‫املسلمني على طول الطريق الساحلي املؤدي إىل بيت املقدس‪ .‬إن هذا األمر يدعم‬
‫يف الوقت نفسه فرضية أنّ بيت املقدس هو اهلدف األساسي وراء هذه اخلطوة‬
‫بشكل خاص‪ .‬فطريق التجارة على طول الساحل عرب أيلة يصل مباشرة إىل غزة‬
‫مبحاذاة بيت املقدس‪ .‬لقد كان النبـي ﷺ مدركًا على األغلب الحتياجات‬
‫جيوش املسلمني يف املستقبل واليت ستمر عرب هذه املنطقة‪ ،1‬ولذا ارتأى أن يقدم‬
‫على هذه اخلطوة كي يؤمّن هلم املاء والدعم يف نقطة ميكن استخدامها كنقطة جتمّع‬
‫جليوش املسلمني‪ .‬ويتفق عثامنة (‪ )21 :1999‬مع هذا الرأي‪ ،‬ويذكر أنّ اجلزية اليت‬
‫ذُكرت يف هذه العهدة‪ ،‬مع ما جيبيه املسلمون من املدن األخرى اجملاورة‪ ،‬كان‬
‫كافيًا لتزويد جيوش املسلمني باملوارد املالية الالزمة لشراء ما يلزمهم‪ .‬ويقتبس‬
‫عثامنة روايةً وردت يف تاريخ ابن عساكر (‪ ،)31 )1( :1221‬يذكر فيها أنه عندما‬
‫سيّر أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه محلةً لفتح الشام‪ ،‬فإن املسلمني "ساروا معهم‬

‫لقد سلك جيش عمرو بن العاص هذا الطريق خالل محلة املسلمني لفتح بيت املقدس‪،‬‬ ‫‪1‬‬
‫وقد خاض هذا اجليش معركة عظيمة مع البيزنطيني يف منطقة داثن على احلدود اجلنوبية‬
‫الغربية لبيت املقدس‪( .‬انظر الواقدي (د‪ .‬ت) ‪ ،13‬والبالذري ‪)112 :1221‬‬
‫‪71‬‬
‫النساء والذرية باخليل والسالح ليس معهم محار وال شاة‪ ،‬فأخذوا على طريق‬
‫فلسطني حىت نـزلوا بقرية يقال هلا داثن من قرى غزة"‪ ،‬ويرى عثامنة أنّ العهدة‬
‫هي السبب وراء حترك املسلمني على هذه احلال‪ ،‬فهم ليسوا حباجة ألخذ طعام‬
‫معهم ألهنم سيجدونه يف طريقهم‪ .‬وهذا رأيٌ وجيه‪ ،‬ألنّ فيه تأكيدًا على أن أيلة‬
‫على اخلصوص قد كانت أكرب وأهم نقطة على ذلك الطريق‪ ،‬وإبرام العهد مع‬
‫أهلها سيضمن الدعم اللوجسيت جليوش املسلمني ويؤمّن طريقهم باجتاه بيت‬
‫املقدس‪.‬‬
‫العلد خلى هي مقنأ‬
‫ورد ذكر مقنا يف العديد من املصادر التارخيية‪ ،‬ويظهر أنّ هذه القرية كانت‬
‫مشهورة يف القرن السابع‪ ،‬رمبا بسبب موقعها على الطريق بني الساحلي بني الشام‬
‫وشبه اجلزيرة العربية‪ .‬وميكن معرفة ذلك من خالل النظر يف النصوص اليت ذكرت‬
‫القرية‪ ،‬فياقوت احلموي (‪ )191 )1( :1229‬يقول إن مقنا قرية على مقربة من أيلة‪،‬‬
‫ويروي وصفَ الواقدي للعهد اليت منحه النبـي ﷺ ألهل مقنا‪ .‬هذه القرية اليت‬
‫تكرر ذكرها يف املصادر التارخيية هي نفسها املقنا‪ ،‬إحدى مدن اململكة العربية‬
‫السعودية اآلن‪ ،‬واليت تبعد حوايل ‪ 112‬كم جنوب مدينة العقبة على البحر األمحر‪.‬‬
‫إن املوقع الذي حتتله مقنا‪ ،‬كما يظهر يف اخلريطة رقم ‪ ،2‬يفسّر أمهيتها الكبرية يف‬
‫السيطرة على الطريق الساحلي بني شبه اجلزيرة وبالد الشام‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫البريطة (‪ :)2‬موأع مقنأ يى أأحي البحر األحمر‬
‫وارتبأطلأ بألطريق التجأرز الأأحي ‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫ويروي احلموي (‪ )191 )1( :1229‬أنّ أهل مقنا‪ ،‬كما يذكر الواقدي‪ ،‬كانوا‬
‫يهودًا‪ ،‬ولكنّ الواقدي يف واقع األمر (‪ )411-419 )1( :1994‬مل يذكر أن مجيع‬
‫أهل مقنا كانوا يهودًا‪ ،‬وإمنا أشار فقط إىل أنّ امرأة يهودية كانت تعيش فيها‪ .‬بيد‬
‫أنّ البالذري أيضًا (ت‪ 122 .‬للهجرة‪ 312/‬ميالدية) يذكر كذلك أنّ أهل مقنا من‬
‫اليهود (انظر البالذري ‪ ،)12 :1221‬ولذا ميكن القول إن أهل مقنا كانوا يدينون‬
‫باليهودية على األغلب‪ ،‬إذ مل ترد روايات أخرى تذكر غري ذلك‪.‬‬
‫ورد ذكر عهد النبـي ﷺ إىل أهل مقنا يف العديد من املصادر التارخيية‪،‬‬
‫باستثناء ابن إسحاق وابن هشام‪ .‬إال أنّ ذكر الواقدي والبالذري هلا يعطيها شيئًا‬
‫من املوثوقية‪ ،‬فالبالذري (‪ )29 :1221‬ال يكتفي بذكر قصة العهدة وإمنا يشري إىل‬
‫نصها كما ينقله عن رجل من مصر يدّعي أنّه رأى نص العهدة‪ .‬كما ورد ذكر‬
‫هذه العهدة ألهل مقنا عند ابن سعد (‪ ،)111 )1( :1222‬وهذا يزيد من ثقتنا‬
‫بوجود هذه الوثيقة‪.‬‬
‫إحدى النسخ التارخيية األوىل هلذه العهدة هي النص املختصر الذي أورده‬
‫الواقدي (‪ .)419 )1( :1994‬أما النسخة الثانية فأوردها البالذري (‪،)29 :1221‬‬
‫وجاءت الثالثة عند ابن سعد يف طبقاته (‪ .)111 )1( :1222‬أما النسخة الرابعة فقد‬
‫عثر عليها ضمن حمتويات وثائق جينيزا القاهرة‪ ،‬وقد ترمجت ونشرت عام ‪1291‬‬
‫على يد هارتفيج هريشفيلد (‪.)131-112 :1291‬‬
‫العلد خلى هي مقنأ‪ :‬النأبة (‪)1‬‬
‫ذكر الواقدي هذا النصّ ألول مرةٍ‪ ،‬ورواه خمتصرًا‪ ،‬مث تناقله العديد من‬
‫املؤرخني من بعده‪ ،‬ومنهم ابن سعد (‪ )111 )1( :1222‬واملقريزي (ت‪341 .‬‬
‫للهجرة‪ 1441/‬ميالدية) (د‪ .‬ت‪:)412 )1( :‬‬
‫قالوا‪ :‬وكتب ألهل مقنا إهنم آمنون بأمان اهلل وأمان حممد وإن عليهم‬
‫ربع غزوهلم وربع مثارهم‬
‫قد يقول قائل إن الواقدي يضعّف هذا النصّ تلقائيًا عند نقله بكلمة "قالوا"‪،‬‬
‫بيد أنّه أسلوب ليس بغريب على الواقدي يف كتاب املغازي‪ ،‬فهو يقتبس عن كثريٍ‬
‫من الناس يف آنٍ معًا‪ ،‬وجيمع ما قالوه يف اقتباس واحد‪ ،‬متامًا كما فعل حني تكلم‬
‫‪71‬‬
 ‫عن سريّة خالد بن الوليد رضي اهلل عنه إىل دومة اجلندل (انظر الواقدي ‪:1994‬‬
‫(‪ ،)491 )1‬وليس هذا بسببٍ لتضعيف الرواية‪ .‬ولكنّ الواقدي يف الوقت نفسه ال‬
‫ينقل نصّ العهدة حبذافريه‪ ،‬وإمنا يكتفي باإلشارة إىل حمتواها العام‪ ،‬فال يذكر‬
‫مقدمتها وال خامتتها من ذكرٍ هلل ومتجيده أو التحية والسالم كما درجت العادة‪.‬‬
‫ويدلّ هذا على أنّ الواقدي مل حيصل على النصَّ األصلي للعهدة ومل يرَه‪ ،‬ولذا جلأ‬
‫إىل اقتباس ما مسعه من الرواة الثقات لديه‪ .‬كما أنّ نقلَ الواقديّ احلريفّ‪ ،‬ولو جلزء‬
‫بسيط من نص العهدة ألهل مقنا‪ ،‬يدعم صحة هذه الرواية‪ ،‬ذلك أهنا تدلّ على أنّ‬
‫الواقدي‪ ،‬حىت لو مل يتمكن من احلصول على النص الصريح للعهدة‪ ،‬فإنه كان‬
‫‪1‬‬
‫قادرًا على نقل ما اشتملت عليه وبيان تفاصيل اجلزية املفروضة على أهل مقنا‪.‬‬
‫العلد خلى هي مقنأ‪ :‬النأبة (‪)2‬‬
‫وردت النسخة الثانية من هذه العهدة يف طبقات ابن سعد (‪)1( :1222‬‬
‫ال مصريًا يدّعي أنه‬‫‪ ،)111‬وعند البالذري (‪ .)29 :1221‬ويذكر البالذري رج ً‬
‫رأى الكتاب األصلي من عهدة النيبّ ألهل مقنا‪ ،‬والذي كانت مكتوبًا على "جلدٍ‬
‫أمحر دارس اخلطّ"‪ ،‬وأن هذا الرجل قام بنسخه‪ ،‬ومن مث أملى نسخته على‬
‫البالذري‪ .‬ويوضح هذه النصّ تفاصيل هذه العهدة ويكشف بعض اجلزئيات اليت مل‬
‫ترد يف نسخة الواقدي‪:‬‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬من حممد رسول اهلل إىل بين حبيبة‪ ،‬وأهل‬
‫مقنا‪ .‬سِلمٌ أنتم‪ ،‬فإنه أنـزل علي أنكم راجعون إىل قريتكم‪ ،‬فإذا‬

‫جدير بالذكر هنا أن الواقدي غري معتمد عند عدد من املؤرخني وأهل احلديث ويتهم‬ ‫‪1‬‬
‫بالضعف يف رواياته مجيعها‪ ،‬ولكنّي حني درست ترمجة الواقدي وجدت أنه من أكثر‬
‫املؤرخني موثوقية فيما يتعلق مبغازي النبـي ﷺ‪ .‬وقد مجع ابن سيد الناس (‪)1( :1224‬‬
‫‪ )11-12‬العديد من اآلراء واألقوال للعلماء واملؤرخني خبصوص الواقدي يف معرض‬
‫الدفاع عنه والثناء عليه‪ .‬كما قام د‪ .‬رزوي فايزر بدراسة مغازي الواقدي يف سعي منه‬
‫للتحقق من صحة الكتاب ومدى موثوقيته ووجد أن الواقدي مصدر معتمد فيما يتعلق‬
‫مبغازي النبـي ﷺ (انظر فايزر ‪ .)191 :1222‬وهلذا منيل حنن كذلك إىل االعتماد على‬
‫الواقدي يف سرية النبـي ﷺ واملغازي ونشري إىل أنّه ال ميكن نقد مرويات الواقدي‬
‫باستخدام منهجية احلديث الصارمة وذلك ألهنا قصص تارخيية يف سرية النبـي ﷺ‬
‫وليست أحاديث تتعلق بصلب تعاليم النبـي ﷺ كما هو احلال يف األحاديث‪.‬‬
‫‪74‬‬
‫جاءكم كتابـي هذا فإنكم آمنون ولكم ذمة اهلل وذمة رسوله‪ ،‬وإن‬
‫رسول اهلل قد غفر لكم ذنوبكم‪ ،‬وكل دم أتبعتم به‪ ،‬ال شريك لكم‬
‫يف قريتكم إال رسول اهلل‪ ،‬أو رسول رسول اهلل‪ ،‬وإنه ال ظلم عليكم‬
‫وال عدوان‪ ،‬وإن رسول اهلل ﷺ جيريكم مما جيري منه نفسه‪ ،‬فإن‬
‫لرسول اهلل بَزُّكم ورقيقكم والكراع واحللقة‪ ،‬إال ما عفا عنه رسول‬
‫اهلل‪ ،‬أو رسول رسول اهلل‪ ،‬وإن عليكم بعد ذلك ربع ما أخرجت‬
‫خنيلكم وربع ما صادت عروككم‪ ،‬وربع ما اغتزلت نساؤكم‪ ،‬وإنكم‬
‫قد ثريتم بعد ذلك ورفعكم رسول اهلل ﷺ عن كل جزية وسخرة‪،‬‬
‫فإن مسعتم وأطعتم فعلى رسول اهلل أن يكرم كرميكم ويعفو عن‬
‫مسيئكم‪ ،‬ومن ائتمر يف بين حبيبة‪ ،‬وأهل مقنا من املسلمني خرياً فهو‬
‫خري له‪ ،‬ومن أطلعهم بشر فهو شر له‪ ،‬وليس عليكم أمري إال من‬
‫أنفسكم أو من أهل بيت رسول اهلل ﷺ وكتب علي بن أبـي‬
‫طالب يف سنة تسع‪.‬‬
‫هنالك إشكال يف هذا النص الذي يورده البالذري يقع حتديدًا يف العبارة‬
‫األخرية اليت تشري إىل أنّ عليًا رضي اهلل عنه هو من كتب العهدة‪ ،‬إذ يقول حممّد‬
‫بن أمحد بن عساكر يف حاشيته على كتاب البالذري (‪:)21-29 :1221‬‬
‫ويف هذا نظر لذي فهم بتأمله يبني له أن هذا الكتاب مفتعل والدليل‬
‫على ذلك من وجهني أحدمها‪ :‬أن علياً كرم اهلل وجهه هو الذي‬
‫اخترع الكالم يف علم النحو خشية من اختالط كالم العرب بكالم‬
‫النبط‪ ،‬فما كان عليه السالم ليخشى من شيء ويعتمد ما يؤدي إىل‬
‫االلتباس‪ ،‬والثاين أن صلح رسول اهلل ﷺ ألهل مقنا إمنا كان يف‬
‫غزوة تبوك على ما هو مذكور يف هذا الكتاب وال خالف يف أن‬
‫علياً مل يكن مع النبـي ﷺ يف غزوة تبوك فكيف ينسب هذا‬
‫‪1‬‬
‫الكتاب إليه؟‬

‫وقد ذكر هذا التعليق يف حاشية كتاب البالذري‪ ،‬والذي كتبه هو حممد بن أمحد‬ ‫‪1‬‬
‫بن عساكر‪ ،‬وليس عليًا بن احلسن بن عساكر صاحب تاريخ دمشق‪.‬‬
‫‪75‬‬
‫وقد أصاب ابن عساكر يف هذه النقطة اليت لفت االنتباه إليها‪ ،‬ونـزيد عليها‬
‫أنّ استخدام التقومي اهلجري قد بدأ على األرجح يف العام السابع عشر للهجرة‬
‫(انظر العويسي ‪ ،)13 :1991‬فال ميكن أن يتمّ ذكر العام التاسع للهجرة قبل سبع‬
‫سنوات من العمل هبذا التقومي‪ .‬وقد أضيفت تلك النسخة اليت يذكرها ذلك التاريخ‬
‫يف هناية النسخة اليت يوردها البالذري على األغلب على نسخة الرجل املصري‪ ،‬أو‬
‫قد تكون أضيفت على النسخة اليت نقل منها الرجل املصري نسخته‪.‬‬
‫كما أنّ ذكر إبطال اجلزية يف هذا النص يثري إشكا ًال آخر‪ ،‬ألنّ ذلك يسبب‬
‫تناقضًا داخليًا بني ما يرد يف الكتاب من استحقاق النيبّ ﷺ جلميع نسيج أهل مقنا‬
‫وعبيدهم وأسلحتهم وماشيتهم وكل ما يف بيوهتم‪ ،‬ومن مث إلزامهم بتقدمي الربع من‬
‫كلّ منتوجاهتم‪ ،‬وبعد كل هذا يذكر النص إلغاء اجلزية من أساسها‪.‬‬
‫العلد خلى هي مقنأ‪ :‬النأبة (‪)1‬‬
‫وردت النسخة الثالثة من نص هذه العهدة عند ابن سعد (‪،)111 )1( :1222‬‬
‫وهي ال ختتلف كثريًا عن نسخة البالذري‪:‬‬
‫أما بعد‪ ،‬فقد نـزل علي أيتكم راجعني إىل قريتكم فإذا جاءكم‬
‫كتابـي هذا فإنكم آمنون لكم ذمة اهلل وذمة رسوله ال ظلم عليكم‬
‫وال عدى‪ ،‬وإن رسول اهلل جاركم مما منع منه نفسه‪ ،‬فإن لرسول اهلل‬
‫بزكم وكل رقيق فيكم والكراع واحللقة إال ما عفا عنه رسول اهلل أو‬
‫رسول رسول اهلل‪ ،‬وإن عليكم بعد ذلك ربع ما أخرجت خنلكم‬
‫وربع ما صادت عروككم وربع ما اغتزل نساؤكم وإنكم برئتم بعد‬
‫من كل جزية أو سخرة‪ ،‬فإن مسعتم وأطعم فإن على رسول اهلل أن‬
‫يكرم كرميكم ويعفو عن مسيئكم‪ .‬أما بعد فإىل املؤمنني واملسلمني‪،‬‬
‫من أطلع أهل مقنا خبري فهو خري له‪ ،‬ومن أطلعهم بشر فهو شر له‪،‬‬
‫وأن ليس عليكم أمري إال من أنفسكم أو من أهل رسول اهلل والسالم‪.‬‬
‫من االختالفات الطفيفة بني هذه النسخة ونسخة البالذري أنّ هذا النسخة‬
‫تنتهي بلفظة "والسالم"‪ ،‬بينما ختلو نسخة البالذري منها‪ .‬ومن نقاط االختالف‬
‫املهمة بني النسختني أن هذه النسخة ال تذكر اسم الكاتب وال تاريخ تدوين‬
‫‪76‬‬
‫الكتاب‪ ،‬خبالف البالذري حني ذكرَ أن الكاتب هو عليّ كرم اهلل وجهه‪ ،‬وأن‬
‫الكتاب قد دوّن يف السنة التاسعة للهجرة‪.‬‬
‫كما أنّ ابن سعد ال يذكر مصدرًا حمدّدا للنص الذي أورده يف كتابه‪ ،‬وإمنا‬
‫يذكر عددًا من الرواة الذين يقتبس منهم الكثري من نصوصه‪ ،‬خبالف ما فعل‬
‫البالذري حني قال إنه نسخ النص من كتاب نقلَ مباشرة عن كتاب العهدة‬
‫األصلي‪ .‬بقي أن نشري هنا إىل أنّ ابن سعد تويف عام ‪ 119‬للهجرة‪ 341/‬ميالدية‪،‬‬
‫بينما تويف البالذري عام ‪ 122‬للهجرة‪ 321/‬ميالدية‪ ،‬أي أن ابن سعدٍ كان سابقًا‬
‫للبالذري‪ .‬مثّ إن ابن سعد التقى الواقدي وصحبه فترةً طويلة كما ورد يف ترمجته‪،‬‬
‫لذا ليس مستبعدًا أن يكون قد نقل هذه الرواية عن الواقدي نفسه‪ ،‬خاصّة إذا‬
‫علمنا أنّه ينقل عن الواقدي كثريًا يف غري موضع من كتبه‪ ،‬عدا عن أنه حياكى‬
‫األسلوب الذي يتبعه الواقدي يف رواياته يف النقل عن عدد من الرواة ومجع كالمهم‬
‫يف رواية واحدة‪ .‬جند يف الوقت نفسه أن نقطة االختالف الكربى يف نص ابن سعد‬
‫تتمثل يف قضية اجلزية‪ ،‬ففي حني يذكر البالذري أن اجلزية قد أسقطت عن أهل‬
‫مقنا‪ ،‬فإن ابن سعد يذكر أنّ اجلزية مثبتة وأنّ مقدارها ربع نتاج أهل مقنا‪ ،‬وهي‬
‫كلّ ما يطلبه النبـي ﷺ منهم‪.‬‬

‫العلد خلى هي مقنأ‪ :‬النأبة (‪)4‬‬

‫مت العثور على نسخة أخرى من هذه العهدة يف وثائق جينيزا القاهرة‪ ،‬حيث‬
‫ترمجت ونشرت أول مرة عام ‪ ،1291‬وقام هبذا اجلهد الباحث األملاين هارتفيج‬
‫ال من النسخ‬ ‫هريشفيلد (‪ .)131-112 :1291‬ما مييز هذه النسخة أهنا أكثر تفصي ً‬
‫األخرى‪ ،‬ويرى هريشفيلد (‪ )121 :1291‬أنّ هذه املخطوطة نسخة عن الكتاب‬
‫األصلي للعهدة‪.‬‬
‫وقد كتب نص هذه املخطوطة باللغة العربية ولكن حبروف عربية‪ ،‬وقد كتب‬
‫على الورق (هريشفيلد ‪ .)112 :1291‬وتنقسم هذه املخطوطة إىل قسمني‪ :‬تقدميٍ‬
‫كتبه شخص غري معروف يدّعي أنّه أسلم بعد أن كان يهوديًا‪ ،‬ويبدو أنه هو من‬
‫كتب ا لقسم الثاين من املخطوطة والذي يشتمل على نص الكتاب الذي أماله النيبّ‬

‫‪77‬‬
‫على عليّ كرم اهلل وجهه‪ ،‬حسبما يقول هذا الرجل‪ ،‬ومن مث يورد النص الطويل‬
‫للعهدة‪ ،‬والذي ترمجه هريشفيلد إىل اإلجنليزية (‪ ،)121-129 :1291‬ونقل محيد اهلل‬
‫األصل العربـي كما يلي‪:‬‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬هذا كتاب من حممد رسول اهلل حلنينا‪،1‬‬
‫وألهل خيرب‪ 2‬واملقنا ولذراريهم‪ ،‬ما دامت السماوات على األرض‪.‬‬
‫سالم أنتم‪ ،‬إين أمحد إليكم اهلل الذي ال إله إال هو‪ .‬أما بعد‪ :‬فإنه‬
‫أنـز ل علي الوحي أنكم راجعون إىل قراكم وسكىن دياركم‪،‬‬
‫فارجعوا أمين بأمان اهلل وأمان رسوله‪ ،‬ولكم ذمة اهلل وذمة رسوله‬
‫على أنفسكم ودينكم وأموالكم ورقيقكم وكل ما ملكت أميانكم‪.‬‬
‫وليس عليكم أداء جزية‪ ،‬وال جتز لكم ناصية‪ ،‬وال يطأ أرضكم‬
‫جيش‪ ،‬وال حتشدون وال حتشرون وال تعشرون وال تظلمون‪ ،‬وال‬
‫جيعل أحد عليكم رمساً‪ ،‬وال متنعون من لباس املشققات وامللونات‪،‬‬
‫وال من ركوب اخليل ولباس أصناف السالح‪ .‬ومن قاتلكم فقاتلوه‪،‬‬
‫ومن قتل يف حربكم فال يقاد به أحد منكم وال له دية‪ .‬ومن قتل‬
‫منكم أحدَ املسلمني تعمداً فحكمه حكم املسلمني‪ .‬وال يفترى‬
‫عليكم بالفحشاء‪ ،‬وال تنـزلون منـزلة أهل الذمة‪ ،‬وإن استعنتم‬
‫تعانون‪ ،‬وإن استرفدتكم ترفدون‪ .‬وال تطالبون بيضاء وال صفراء وال‬
‫مسراء وال كراع وال حلقة وال (شد الكشتيز وال لباس املشهرات)‪،3‬‬
‫وال يقطع لكم شسع نعل‪ ،‬وال متنعون دخول املساجد‪ ،‬وال حتجبون‬
‫عن والة املسلمني‪ ،‬وال يوىل عليكم وال إال منكم أو من أهل بيت‬
‫رسول اهلل‪ .‬ويوسع جلنائزكم إال أن تصري إىل موضوع احلق اليقني‪.‬‬
‫وهكذا ورد عند هريشفيلد يف النص األصلي‪ ،‬وكتابتها العربية هي "חנינא" ويلفظها‬ ‫‪1‬‬
‫محيد اهلل (‪ )111 :1232‬حُنانا بضم احلاء‪.‬‬
‫خيرب هي أهم مدينة كان يقطنها اليهود يف شبه اجلزيرة العربية‪ ،‬وبقيت ذات أمهية‬ ‫‪2‬‬
‫عظيمة لليهود حىت العام السابع للهجرة حيث قاد النبـي ﷺ بنفسه جيشًا للهجوم‬
‫عليها‪ ،‬فسقطت أمامه وفتحها‪ ،‬ولكنّه أبقى على سكاهنا فيها (انظر ابن إسحاق ‪:1994‬‬
‫‪)421-429‬‬
‫الكلمات بني القوسني ليست عند هريشفيلد يف النص اإلجنليزي األصلي لدراسته‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪78‬‬
 ‫وتكرموا لكرامتكم وكرامة صفية‪ 1‬ابنة عمكم‪ .‬وعلى أهل بيت‬
‫رسول اهلل وعلى املسلمني أن تكرم كرميكم ويعفوا عن مسيئكم‪.‬‬
‫ومن سافر منكم فهو يف أمان اهلل وأمان رسوله‪ .‬وال إكراه يف الدين‪.‬‬
‫ومن منكم اتبع ملة رسول اهلل ووصيته‪ ،‬كان له ربع ما أمر به‬
‫رسول اهلل ألهل بيته‪ ،‬تعطون عند عطاء قريش وهو مخسون ديناراً‪،‬‬
‫ذلك بفضل اهلل عليكم‪ .‬وعلى أهل بيت رسول اهلل وعلى املسلمني‬
‫الوفاء جبمع ما يف هذا الكتاب‪ .‬فمن أطلع حلنينا وأهل خيرب واملقنا‬
‫خبري فهو أخري له ومن أطلع هلم بـ (شر) فهو شر له‪ .‬ومن قرأ‬
‫كتابـي هذا‪ ،‬أو قرئ عليه وغري أو خالف شيئاً مما فيه‪ ،‬فعليه لعنة‬
‫اهلل ولعنة الالعنني من (املالئكة) والناس أمجعني‪ ،‬وهو بريء من ذميت‬
‫وشفاعيت يوم القيامة وأنا خصمه‪ ،‬ومن خصمين فقد خصم اهلل‪،‬‬
‫ومن خصم اهلل فهو يف النار‪ ،‬والـ (‪ ) ......‬ـة وبئس املصري‪.‬‬
‫شهد (الـ) ـله الذي ال إله إال هو كفـ (ـى) به شهيداً‬
‫ومالئكته (محلة عـ) ـرشه ومن حضر من املسلمني‪ ،‬وكتب علي‬
‫بن أبو (!) طالب خبطه‪ ،‬ورسول اهلل ميلي عليه حرفاً حرفاً‪ ،‬يوم‬
‫اجلمعة لثالث (!) ليال خلت من رمضان سنة مخس مضت من‬
‫اهلجرة‪ .‬شهد (عمار) بن ياسر وسلمان الفرارسي (!) موىل رسول‬
‫‪2‬‬
‫اهلل وأبو ذر الغفاري‪.‬‬
‫يف هذا النص إشكاالت عديدة؛ فهو يشتمل على مفردات يستبعد أن‬
‫النبـي ﷺ كان يستخدمها‪ ،‬مثل كلمة "كاشتيز"‪ ،‬وهي كلمة ليست عربية‪ ،‬كما‬
‫أنّ نظرة متأنية إىل هذا النص ستكشف لنا العديد من القضايا ومنها‪:‬‬
‫‪ .1‬لقد جاء هذا النص ضمن وثائق جينيزا القاهرة‪ ،‬وهذا يعين أن تدوينه‬
‫جاء متأخرًا‪ ،‬إذ تعود معظم وثائق جنيزة القاهرة إىل القرن احلادي عشر‬
‫للميالد (بِن ساسون ‪.)411 )2( :1992‬‬

‫صفية بنت حيي بن أخطب‪ ،‬زوج ِة النبـي ﷺ‪ ،‬تزوجها يف العام السابع للهجرة بعد‬ ‫‪1‬‬
‫خيرب (انظر ابن إسحاق ‪)439 :1994‬‬
‫أخذنا النص العربـي األصلي كما هو من كتاب األستاذ محيد اهلل‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪79‬‬
 ‫‪ .1‬هذا النص يتحدث عن أهل خيرب كما يتحدث عن أهل مقنا‪.‬‬
‫‪ .1‬يستثين هذا النص أهل مقنا واخليرب من اجلزية وخيرب بأهنم ليسوا من‬
‫أهل الذمّة وال يعاملون معاملتهم‪ ،‬وهذا أمر مل يكن له أن حيدث يف‬
‫عهد النبـي ﷺ‪ ،‬فمعروف يف السرية وكتب التاريخ أنّه ألزم أهل‬
‫خيرب بأداء نصف حماصيلهم مقابل بقائهم يف خيرب (انظر ابن إسحاق‬
‫‪.)421 :1994‬‬
‫‪ .4‬هذه النسخة تعكس القضية املتعلقة بأداء الربع مما ينتج أهل مقنا‪ ،‬كما‬
‫ورد يف النسختني األوىل والثانية‪ ،‬إذ يشري النص هنا إىل أنّ النيبّ ﷺ هو‬
‫الذي سيدفع ألي شخص يدخل يف اإلسالم من خيرب أو مقنا‪ ،‬وال‬
‫يذكر ما جيب عليهم أداؤه للنبـي ﷺ‪.‬‬
‫‪ .1‬إن التاريخ الوارد يف النص هو العام اخلامس للهجرة‪ ،‬أي قبل غزوة‬
‫خيرب‪.‬‬
‫‪ .1‬يرد يف النص ذكر صفية رضي اهلل عنها‪ ،‬واليت تزوجها النبـي ﷺ بعد‬
‫غزوة خيرب‪.‬‬
‫هذه النقاط جتعل النص يبدو خمتلقًا‪ ،‬وحنن خنتلف مع هريشفيلد الذي يدافع‬
‫بدوره عنه ويدّعي صحته‪ ،‬وال يستوقفه (‪ ) 121 :1291‬سوى إشكالٍ واحدٍ‬
‫يتعلق بالتاريخ املذكور يف هذه النسخة وأنه جيب أن يكون يف العام التاسع‬
‫للهجرة على األغلب‪ .‬ولكنَّ عليًا كرم اهلل وجهه مل يكن يف تبوك مع‬
‫النبـي ﷺ‪ ،‬كما أسلفنا عند احلديث عن النسخة الثانية من العهدة‪ .‬ويزعم‬
‫هريشفيلد أنه يصعب أن يقدم هذا الرجل الذي يصف نفسه بأنه انتقل عن‬
‫اليهودية معتنقًا اإلسالم على تلفيق النص‪ ،‬كما يقول هريشفيلد إنه كتاب شهد‬
‫عليه ثالثة من الصحابة الثقات‪ ،‬وهذا يزيد من مصداقيته يف رأيه‪ .‬بيد أنّه ميكن‬
‫الردّ على هذه احلجج اليت يوردها هريشفيلد‪ ،‬فكون الكاتب مسلمًا ال يكفي‬
‫بذاته للقول بصحة النص‪ ،‬وذلك لسببني اثنني‪ ،‬األول أنّه رغم ادعاء هذا الرجل‬
‫أنّه قد أسلم‪ ،‬إال أنه يذكر يف مقدمته بعض األمور غري املعروفة لدى املسلمني‪،‬‬
‫كقوله "ستّة أيام يف اجلمعة الزهراء"‪ ،‬وغريها من غريب األلفاظ‪ ،‬والسبب الثاين‬
‫أن الكاتب نفسه غري معروف‪ ،‬ومل يفصح عن امسه ومل يعرّف عن ذاته‪ .‬مث إنّ‬
‫‪81‬‬
‫ذكر ثالثة من أصحاب النبـي ﷺ ليس دليالً كافيًا يف ذاته على صحة النص‪،‬‬
‫فهم وإن ورد ذكرهم إال أهنم مل يوقعوا عليه فعالً‪ ،‬كما أن هريشفيلد نفسه‬
‫يذكر أنّ هذا النص نسخةٌ عن أصل‪ ،‬وهكذا يكون أي توقيع عليه غري أصلي‬
‫كذلك‪ 1.‬وكل هذا يقودنا إىل احلكم بأنّ هذه النسخة غري صحيحة على‬
‫األغلب‪.‬‬
‫وبعد هذا التحليل ألربع نسخ من نص العهدة‪ ،‬نرى أنّ النسخة اليت ذكرها‬
‫ابن سعد (‪ )111 )1( :1222‬هي األكثر صحةً ويعزّز ذلك اللغة الواردة فيها‬
‫وسياقها بشكل عام‪:‬‬
‫أما بعد‪ ،‬فقد نـز ل علي أيتكم راجعني إىل قريتكم فإذا جاءكم‬
‫كتابـي هذا فإنكم آمنون لكم ذمة اهلل وذمة رسوله ال ظلم عليكم‬
‫وال عدى‪ ،‬وإن رسول اهلل جاركم مما منع منه نفسه‪ ،‬فإن لرسول‬
‫اهلل بزكم وكل رقيق فيكم والكراع واحللقة إال ما عفا عنه رسول‬
‫اهلل أو رسول رسول اهلل‪ ،‬وإن عليكم بعد ذلك ربع ما أخرجت‬
‫خنلكم وربع ما صادت عروككم وربع ما اغتزل نساؤكم وإنكم‬
‫برئتم بعد من كل جزية أو سخرة‪ ،‬فإن مسعتم وأطعم فإن على‬
‫رسول اهلل أن يكرم كرميكم ويعفو عن مسيئكم‪ .‬أما بعد فإىل‬
‫املؤمنني واملسلمني‪ ،‬من أطلع أهل مقنا خبري فهو خري له‪ ،‬ومن أطلهم‬
‫بشر فهو شر له‪ ،‬وأن ليس عليكم أمري إال من أنفسكم أو من أهل‬
‫رسول اهلل والسالم‪.‬‬

‫يذكر محيد اهلل (‪ )111-114 :1232‬قصة يدّعي فيها جمموعة من اليهود أن يف حوزهتم‬ ‫‪1‬‬
‫وثيقة من النبـي ﷺ كتبها علي بن أبـي طالب ورد فيها إسقاط اجلزية عن أهل خيرب‪،‬‬
‫وحني عرض هذا الكتاب على اخلطيب البغدادي (ت‪ 411 .‬للهجرة‪ 1912/‬ميالدية)‬
‫حكم بعدم صحة الكتاب‪ ،‬إذ ورد فيه ذكر سعد بن معاذ‪ ،‬والذي تويف قبل سنتني من‬
‫فتح خيرب‪ ،‬كما ذكر فيه معاوية‪ ،‬وهو قد أسلم بعد عام من فتح خيرب‪ .‬مث ينقل محيد اهلل‬
‫عن ابن القيم قوله بأنه ما من جزية فرضت على اليهود يف خيرب‪ ،‬ألن آية اجلزية قد‬
‫تنـزلت بعد سنتني من خيرب‪ ،‬أي يف العام التاسع للهجرة‪ .‬وخيلص محيد اهلل إىل أنّ هذا‬
‫النص إمنا كان "نسخة حمسنة" عن ذلك الكتاب املزيف يف قصة أولئك اليهود‪ ،‬فحلت‬
‫أمساء عمّار وسلمان وأبـي ذر مكان سعد ومعاوية‪.‬‬
‫‪80‬‬
‫تشكّل هذه العهدة رابطًا مهمًا بني هذه القصة وما تبعها من حوادث‪ .‬فاملقنا‬
‫حتتل موقعًا استراتيجيا مهمًا ومركزيًا يف نقطة ينقسم فيها البحر األمحر إىل‬
‫خليجني‪ .‬ولقد كانت سيطرة املسلمني على هذه املدينة تعين سيطرهتم على الطريق‬
‫الساحلي املؤدي إىل الشام وإىل مصر وجنوب سيناء‪ ،‬وهي املدخل اجلنوبـي لبيت‬
‫املقدس‪.‬‬
‫إال أنّ املوقع الذي تتمتع به مقنا ليس هو السبب الوحيد الذي دعا النيبّ ﷺ‬
‫ملنح أهل مقنا هذه العهدة‪ .‬فهنالك شرطٌ ورد يف نص العهدة يتعلق مبلكية‬
‫"احللقة"‪ ،‬وهي كل ما اشتمل عليه البيت من سالح ومال (انظر ابن سعد‪:1222 :‬‬
‫(‪ .)111 )1‬ولكن العهدة يف الوقت نفسه ال متنع أهل مقنا من امتالك السالح أو‬
‫املال‪ .‬وهنالك شرط آخر يلزمهم بدفع ربع خراجهم‪ ،‬واجتماع هذين األمرين يف‬
‫عهدة واحدة أمرٌ مستبعد‪ .‬وهلذا فإن هذا الشرط يشري على األغلب ألي‬
‫احتياجات قد تطلب يف املستقبل من أهل مقنا‪ ،‬وهذا جيعل من مقنا حمطةً مالية‬
‫وعسكرية جليوش املسلمني يف املستقبل‪ ،‬خاصة أن مقنا تقع على الطريق الساحلي‬
‫بني شبه اجلزيرة العربية وبالد الشام‪ ،‬وهي طريق أطول من الطريق الربي‪ .‬وهذا‬
‫شرط يف غاية األمهية‪ ،‬ألنّ النبـي ﷺ متكّن من خالله من تأمني حمطة تسلّح جليش‬
‫املسلمني على الطريق الساحلي باجتاه بيت املقدس‪.‬‬
‫كما ميكن أن تعدّ مقنا وفق هذه الشروط الواردة يف العهدة حمطة أساسية‬
‫لتزويد جيش املسلمني بالطعام‪ ،‬فقد كان على أهل مقنا تقدمي الربع من خمتلف ما‬
‫ينتجون‪ ،‬وليس الربع من كل ما ينتجون‪ .‬وكان هذا يعين توفري الطعام واللباس‬
‫ألي جيش من جيوش املسلمني مير هبذه املدينة يف املستقبل‪ 1.‬وكل هذا يعزّز من‬
‫فكرة أنّ النيبّ ﷺ كان يطبق استراتيجية من شأهنا أن تساعد املسلمني يف املستقبل‬
‫على فتح األجزاء الشمالية الغربية الواقعة على هذه الطريق‪ ،‬وباألخص منطقة بيت‬
‫املقدس‪.‬‬

‫إن القضية املتعلقة بقيادة مقنا وما إذا كانت ألهل مقنا أنفسهم أو لشخص من آل بيت‬ ‫‪1‬‬
‫النبـي ﷺ هي قضية خارج نطاق حبثتنا هذا‪.‬‬
‫‪81‬‬
 ‫معأهد النب ﷺ ألهي يرح‬
‫ألذرح دور مهم يف تاريخ املسلمني‪ ،‬فقد شهدت أرضها حادثة التحكيم بني‬
‫علي بن أبـي طالب كرم اهلل وجهه ومعاوية بن أبـي سفيان رضي اهلل عنه (ابن‬
‫سعد ‪ .)11 )1( :1222‬كما يظهر أنّ هذه املدينة قد كانت حتتل مكانة مهمة يف‬
‫وقت مبكر من تاريخ املسلمني‪ ،‬ولعل هذا ما دعا النيبّ ﷺ لالهتمام هبا بشكل‬
‫‪1‬‬
‫خاص‪.‬‬
‫ويذكر ياقوت احلموي (‪ )113-112 )1( :1229‬مدينة أذرح‪ ،‬ويذكر أهنا‬
‫تقع قرب جبال الشراه‪ ،‬وهي اليوم ضمن حدود اململكة األردنية اهلامشية‪ ،2‬وما‬
‫تزال تدعى أذرح حىت اآلن‪ ،‬وهي على بعد ‪ 11‬كم مشال غرب مدينة معان‪ ،‬كما‬
‫يظهر يف اخلريطة رقم ‪:3‬‬

‫هنالك مدينة أخرى ذكرت يف السياق نفسه‪ ،‬وهي مدينة جربا‪ ،‬واليت قلّما يرد هلا ذكر‬ ‫‪1‬‬
‫يف تاريخ املسلمني إال من حيث ارتباطها بأذرح‪ .‬وقد جاء ذكر كال املدينتني يف حديث‬
‫النبـي ﷺ‪ ،‬وهو حديث ورد عند مسلم (‪ ،)221 )1( :1999‬ويقول النبـي ﷺ فيه‪:‬‬
‫إن أمامكم حوضاً ما بني ناحيتيه كما بني جربا وأذرح‪ .‬فقال أحد رواة احلديث‪ ،‬وهو‬
‫عبيد اهلل "فسألته (أي سأل الراوي‪ ،‬وهو نافع‪ ،‬عن املدينتني)‪ ،‬فقال‪ :‬قريتني بالشام بينهما‬
‫مسرية ثالثة أيام‪.‬‬
‫يذكر احلموي مدينة جربا (‪ )112 )1( :1229‬ويصفها بأهنا قربة صغرية تابعة ألذرح‪،‬‬ ‫‪2‬‬
‫فيبدو أن بني هاتني املدينتني ارتباطًا تارخييًا مع أنّ املدينة األساسية هي أذرح‪ .‬ويبدو‬
‫كذلك أن اسم جربا قد تغري‪ ،‬فما من قرية وال مدينة قريبة من أذرح اليوم تعرف باسم‬
‫جربا‪.‬‬
‫‪81‬‬
‫البريطة (‪ :)3‬موأع يرح وارتبأطلأ بألطرق التجأرية‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫يظهر لنا أمهية موقع أذرح‪ ،‬وذلك بسبب حماذاهتا للطريق الصحراوي والذي‬
‫يربط بني الشام وشبه جزيرة العرب‪ ،‬وكأهنا خط فاصل بينهما‪ ،‬فتسيطر على‬
‫الطريق الذي يقع على احلدود بني الشام واجلزيرة‪ ،‬ولعل هذا ما يفسر أمهية هذه‬
‫املعاهدة مع هذه املدينة‪.‬‬
‫هنالك خلط كبري يف املصادر التارخيية خبصوص معاهدة أذرح‪ .‬فبعضها يذكر‬
‫معاهدة واحدة‪ ،‬وغريها من املصادر يذكر معاهدة ثنائية ألذرح وملدينة جماورة هلا‬
‫تدعى جرباء‪ ،‬بينما تذكر مصادر أخرى وجود معاهدتني منفصلتني‪ ،‬واحدة ألذرح‬
‫وأخرى جلرباء‪ .‬وبعد االطالع على املصادر املتعددة توصلنا إىل النتائج التالية‪:‬‬
‫الرأي‬ ‫املصدر‬
‫الواقدي (ت‪ 192 .‬للهجرة‪ 311/‬ميالدية) يذكر معاهدتني‪ ،‬واحدة ألهل أذرح فقط‬
‫وأخرى ألهل أذرح وجرباء‪ ،‬ولكنّه يذكر‬
‫نص املعاهدة ألهل أذرح فقط‬
‫ابن سعد (ت‪ 119 .‬للهجرة‪ 344/‬ميالدية) يذكر معاهدة مشتركة ألهل أذرح وجرباء‬
‫البالذري (ت‪ 122 .‬للهجرة‪ 321/‬ميالدية) يذكر معاهدتني منفصلتني‪ ،‬واحدة ألهل‬
‫أذرح واألخرى ألهل جرباء‪ ،‬ولكنّه ال يورد‬
‫ذكر نصّ أي منهما‪.‬‬
‫ابن هشام (ت‪ 113 .‬للهجرة‪ 311/‬ميالدية) يذكر معاهدة مشتركة ألهل أذرح وجرباء‪،‬‬
‫من دون ذكر النص‪.‬‬
‫ابن كثري (ت‪ 224 .‬للهجرة‪ 1121/‬ميالدية) يذكر معاهدة مشتركة ألهل أذرح وجرباء‪.‬‬
‫املقريزي (ت‪ 341 .‬للهجرة‪ 1441/‬للميالد) يذكر معاهدتني منفصلتني‪ :‬واحدة ألهل‬
‫أذرح وأخرى جرباء‪ ،‬ويذكر نصّ كل من‬
‫املعاهدتني‬
‫الجدوي (‪ :)1‬اآلراذ المبتيفة ليعيمأذ ا أضية معأهد يرح‬

‫االختالف هنا يتعلق مبا يذكره الواقدي (‪ )419 )1( :1994‬من أنه عاين وثيقة‬
‫العهدة ألهل أذرح وأنه قام على نسخها بيده‪ ،‬ومل يدّع أحدٌ سواه رؤية النسخة‬
‫األصلية من الكتاب‪ ،‬ولذا فإن رواية الواقدي لنص معاهدة أذرح قد تكون األكثر‬
‫صحّة مبا أنّه املؤرخ الوحيد الذي وقع على األصل‪ .‬يبقى اإلشكال هنا أنّ الواقديّ‬
‫‪85‬‬
 ‫رغمَ أنّه رأى الكتاب األصليّ إال أنّه يروي نصًّا مقتضبًا عن معاهدة أذرح‪ ،‬ويقول‬
‫إنّ هذا ما كتبه النبـي ﷺ لكلٍّ من أهل جرباء وأذرح‪ .1‬وفيما يلي هذه النسخة‬
‫األوىل املختصرة مما يرويه الواقديّ لكتاب املعاهدة (‪:)419 )1( :1994‬‬
‫وكتب رسول اهلل ﷺ ألهل جرباء وأذرح‪( :‬هذا الكتاب من حممد النبـي‬
‫رسول اهلل ألهل أذرح‪ ،‬أهنم آمنون بأمان اهلل وأمان حممد‪ ،‬وأن عليهم مائة دينار يف‬
‫كل رجب وافيةً طيبة واهلل كفيل عليهم)‬
‫مث يذكر الواقدي (‪ )419 )1( :1994‬النسخة الكاملة من العهدة ذاكرًا أنّه قد‬
‫عاين الكتاب األصلي‪:‬‬
‫قال الواقدي‪ :‬نسخت كتاب أذرح وإذا فيه‪( :‬بسم اهلل الرمحن‬
‫الرحيم‪ ،‬من حممد النبـي ألهل أذرح‪ ،‬أهنم آمنون بأمان اهلل وأمان‬
‫حممد‪ ،‬وأن عليهم مائة دينار يف كل رجب وافيةً طيبة‪ ،‬واهلل كفيل‬
‫عليهم بالنصح واإلحسان للمسلمني وملن جلأ إليهم من املسلمني من‬
‫املخافة والتعزير إذا خشوا على املسلمني‪ ،‬وهم آمنون حىت حيدث‬
‫إليهم حممد قبل خروجه)‪.‬‬
‫كلتا النسختني تتشابه يف األجزاء املشتركة بينهما‪ ،‬إال أنّ الواقديّ يف األوىل‬
‫يذكر أنّ العهدة كانت ألهل أذرح وجرباء‪ ،‬بينما يذكر الكتاب بوضوح أهنا‬
‫كانت حصرًا ألهل أذرح‪ ،‬وهذا إشكال يطرح احتماالت ثالثة‪:‬‬
‫‪ .1‬أن الواقدي مسعَ الرواية األوىل للنسخة املختصرة من العهدة واليت تذكر أهنا‬
‫كانت لكل من أذرج وجرباء‪ ،‬وينقل هذه النسخة يف كتابه أو ًال‪ ،‬ومن مثّ‬
‫رأى الواقدي الكتاب األصلي ووجد أنّه يذكر أهل أذرح وحسب‪ ،‬فقام‬
‫بإضافة نص الكتاب كما رأه‪ .‬وميكن استنتاج ذلك من تقدمي نص الكتاب‬
‫األصل بقوله "قال الواقدي‪ :‬نسخت‪ ،"...‬وهذا يظهر احتمال أنّ هذه‬
‫اإلضافة ليست من الواقدي نفسه‪ ،‬وإمنا من طالبه الذي دوّن كتابه‪.‬‬
‫يقول الواقدي (‪" )419 )1( :1994‬وكتب رسول اهلل ﷺ ألهل جرباء وأذرح‪( :‬هذا‬ ‫‪1‬‬
‫الكتاب من حممد النبـي رسول اهلل ألهل أذرح‪ ") ....‬مث يذكر الكتاب املختصر‪ ،‬ويقول‬
‫بعد ذلك‪" :‬نسخت كتاب أذرح وإذا فيه‪" :‬بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬من حممد‬
‫النبـي ﷺ ألهل أذرح‪") .....‬‬
‫‪86‬‬
‫‪ .1‬أنّ الواقدي مل يكن على علمٍ بوجود عهدة أخرى ألهل جرباء‪ ،‬فظنّ‬
‫أنّ العهدة ألهل أذرح هي ألهل جرباء كذلك‪ ،‬أيّ أنّه مل يفرّق بني‬
‫املدينتني‪ ،‬خاصّة أهنما كانتا تذكران معًا يف العادة‪.‬‬
‫‪ .1‬أنّ القول بأنّ الواقدي قد نسخ النص مباشرة من الكتاب األصلي أمر‬
‫مكذوب عليه‪.‬‬
‫وحنن هنا نستثين االحتمال الثالث‪ ،‬إذ إن كتاب املغازي للواقدي الذي بني‬
‫أيدينا اليوم هو الكتاب األصلي الذي تركه لنا الواقدي‪ ،1‬وليس واردًا أن تكون‬
‫هذه اإلشارة مكذوبة أو أهنا أضيفت يف وقت الحق‪ ،‬وقد درس كثري من املؤرخني‬
‫هذا األمر وأكدوه ونقلته شفاهةً عن شيخ املؤرخني العرب عبدالعزيز الدوري‪.‬‬
‫كما ينطبق هذا على االحتمال الثاين‪ ،‬إذ ال يعقل أن يكون الواقدي غري مدرك‬
‫لوجود عهدة منفصلة ألهل جرباء أو غري قادر على التفريق بني املدينتني‪ ،‬فالواقدي‬
‫معروف باهتمامه الدقيق يف حتديد األماكن اليت ورد ذكرها يف السرية النبوية‬
‫الشريفة‪ .‬ويذكر ابن سيد الناس (‪ )13 )1( 1224‬أنّ الواقدي قال‪" :‬ما أدركت‬
‫رجال من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء وال موىل هلم إال سألته هَلْ مسعت أحدا من‬
‫أهلك خيربك عن مشهده؟ وأين قتل؟ فإذا أعلمين مضيت إىل املوضع حىت أعاينه‪،‬‬
‫ولقد مضيت إىل املريسيع‪ ،‬فنظرت إليها وما علمت غزاة إال مضيت إىل املوضع‬
‫أعاينه"‪ ،‬وهذا يؤكّد أنّ الواقدي كان حريصًا على تأكيد رواياته من خالل التحقق‬
‫من املواقع وزيارهتا بنفسه‪.‬‬
‫وهذا يتركنا مع االحتمال األول‪ ،‬وهو احتمال ليس ببعيد‪ ،‬إذ يظهر أنّ‬
‫الواقدي حني دوّن هذه احلادثة ابتداءً‪ ،‬مل يكن لديه علمٌ بوجود كتاب أصليّ‪،‬‬
‫فاكتفى بنقله للرواية كما عثر عليها يف مصادره‪ ،‬ولعل هذا يفسّر سبب االقتضاب‬
‫فيها‪ .‬ويبدو أنه حتصّل له بعد ذلك رؤية الكتاب األصلي للعهدة‪ ،‬فنسخها إىل‬
‫كتابه عن طريق طالبه أو من ميلي عليهم كتابه‪ .‬وهذا يعين يف احملصّلة أنّ نصّ‬
‫العهدة الذي يورده الواقدي هو األكثر صحّة‪ .‬ولكن‪ ،‬لِمَ لَم يقم الواقدي حبذف‬
‫النص املختصر من كتابه ما دام قد وقف بنفسه على النص األصلي للكتاب؟ قد‬

‫أقتبس هذه العبارة عن األستاذ الدكتور عبدالعزيز الدوري أثناء لقاء معه يف مكتبه يف‬ ‫‪1‬‬
‫اجلامعة األردنية يف شهر أيار ‪.1991‬‬
‫‪87‬‬
‫يكون هذا بسبب ذكر جرباء يف النص املختصر‪ ،‬والذي نقل عن رواة خمتلفني كما‬
‫يفعل الواقدي يف كتابه‪ ،‬وهكذا قرر الواقدي ترك هذا النص املختصر يف كتابه‬
‫كما هو‪ ،‬ألنه رأى الكتاب األصلي الذي يذكر أذرح وحدها‪ ،‬وألنه مل يقع يف‬
‫الوقت نفسه على كتابٍ أصلي فيه ذكرٌ ملدينة جرباء‪ .‬ورمبا ارتأى الواقدي بداية‬
‫ال من أذرح وجرباء‪ ،‬خاصّة أنّها رواية‬
‫أنّه جيدر به اإلبقاء على الرواية اليت تذكر ك ً‬
‫وصلته عرب سلسلة من الرواة‪ ،‬بيد أنّه مل يتمكن من التحقق منها‪ .‬وكما ذكر‬
‫الواقدي نفسه‪ ،‬فإنه عثر على النص األصلي لكتاب العهدة‪ ،‬والذي يذكر أذرح‬
‫فقط‪ ،‬ونسخه يف كتابه‪.‬‬
‫ورمبا كان قد غلب الظنُّ على الواقدي بوجود عهدة أخرى من النبـي ﷺ‬
‫ألهل جرباء‪ .‬وللبحث يف هذه القضية ال بد من املقارنة بني النصوص اليت ذكرت‬
‫العهدة ألهل جرباء مع النص العهدة األصلي الذي أورده الواقدي‪ ،‬أي ال بد من‬
‫املقارنة بني نص عهدة أهل جرباء اليت ذكرها املقريزي مع نص الواقدي لعهدة‬
‫أذرح‪ ،‬ذلك ألنّ املقريزي هو املؤرخ الوحيد الذي أشار لوجود نصٍّ منفصل يذكر‬
‫عهدة جرباء‪ ،‬وقد ورد يف كتابه كما يلي (د‪ .‬ت‪:)413 )1( :‬‬
‫هذا الكتاب من حممد النبـي رسول اهلل ألهل جرباء‪ ،‬إهنم آمنون‬
‫بأمان اهلل وأمان حممد‪ ،‬وإن عليهم مائة دينار يف كل رجب وافيةً‬
‫طيبة‪ ،‬واهلل كفيل‪.‬‬
‫هذا النص مماثل متامًا للنسخة املختصرة من العهدة عند الواقدي باستثناء ما‬
‫يتعلق باسم املدينة؛ فهذا النص يذكر جرباء وذلك أذرح‪ .‬وعند األخذ بعني‬
‫االعتبار أنّ املقريزي عاش يف القرن اخلامس عشر امليالدي‪ ،‬وهو هبذا ليس من‬
‫املصادر املبكرة‪ ،‬فإنه قد قام على األغلب بنقل النصّ من مصادر سبقته‪ ،‬وخاصة‬
‫الواقديّ‪ ،‬ألنّ املقريزي ينقل رواية الواقديّ مباشرة بعد ذكر هذا النصّ‪ ،‬كما فعل‬
‫الواقدي يف كتابه‪ .‬ويظهر هنا أن املقريزي قد كتب جرباء بدل أذرح ساهيًا‪ ،‬أو‬
‫لعله يكون قد فعل ذلك متعمّدًا ظنًّا منه أن املصدر الذي نقل منه النص‪ ،‬وهو‬
‫الواقدي على األغلب‪ ،‬قد أخطأ يف ذكره أذرح‪.‬‬
‫ويف ظل هذا التشابه الذي يكاد أن يكون متطابقًا بني هذه النصوص املختلفة‬
‫يظهر لنا أن النبـي ﷺ قد كتب كتابًا واحدًا فقط وقد كان على األغلب ألهل‬
‫‪88‬‬
‫أذرح وليس ألهل جرباء‪ .‬واملصادر التارخيية تدعم هذا الرأي‪ ،‬حيث كان ينظر إىل‬
‫هاتني املدينتني على أهنما مدينة واحدة‪ ،‬رمبا ألنّ قاطين املنطقتني كانوا من أصل‬
‫مشترك أو قبيلة واحدة‪ .‬ومبا أنّ النص املفصل الذي أورده الواقدي يعدّ نسخة عن‬
‫الكتاب األصل‪ ،‬واللغة اليت وردت فيه قريبة من أسلوب ولغة النبـي ﷺ وكالم‬
‫العرب يف تلك الفترة‪ ،‬فيظهر أهنا النسخة األكثر صحة وموثوقية هلذه العهدة‪،‬‬
‫وفيما يلي نصها كما رواه الواقدي (‪:)419 )1( :1994‬‬
‫قال الواقدي‪ :‬نسخت كتاب أذرح وإذا فيه‪ :‬بسم اهلل الرمحن‬
‫الرحيم‪ ،‬من حممد النبـي ألهل أذرح‪ ،‬أهنم آمنون بأمان اهلل وأمان‬
‫حممد‪ ،‬وأن عليهم مائة دينار يف كل رجب وافيةً طيبة‪ ،‬واهلل كفيل‬
‫عليهم بالنصح واإلحسان للمسلمني وملن جلأ إليهم من املسلمني من‬
‫املخافة والتعزير إذ خشوا على املسلمني‪ ،‬وهم آمنون حىت حيدث‬
‫إليهم حممد قبل خروجه‪.‬‬
‫تنبع أمهية موقع هذا النص يف التاريخ اإلسالمي من أمهية املوقع اجلغرايف ملدينة‬
‫أذرح‪ ،‬فهي على مرمى حجر من الطريق التجاري الرئيسي القادم من شبه اجلزيرة‬
‫العربية إىل بالد الشام كما أوضحنا سابقًا يف اخلريطة رقم (‪ .)4‬ويذكر ابن سعد‬
‫أن أهل أذرح وجرباء كانوا كذلك من اليهود (‪ )119 )1( :1222‬مثل أهل مقنا‪،‬‬
‫وهذه نقطة تضيف بعدًا مهماً لكال العهدتني؛ فقد طلب الرسول ﷺ يف العهدة‬
‫ألهل مقنا أن يقدموا ما يلزم املسلمني من سالح‪ ،‬أما يف هذه العهدة فقد طلب‬
‫الرسول ﷺ تزويد جيش املسلمني مبدد من الرجال احملاربني إذا لزم األمر‪.‬‬
‫هذا الكتاب يلزم أهل أذرح مبساعدة املسلمني يف أي حرب يف املستقبل‪،‬‬
‫وهذا ما نستخلصه من قوله ﷺ "وهم آمنون حىت حيدث إليهم حممد قبل‬
‫خروجه"‪ .‬وهذه نقطة مثرية لالهتمام‪ ،‬ألهنا تضمن للمسلمني حمطة آمنة يلجأون‬
‫إليها عندما حتتدم األمور‪ ،‬ويعود هذا للموقع االستراتيجي ألذرح قرب الطريق‬
‫التجاري ال عليه‪ .‬كما أن أذرح أقرب املدن إىل حدود بيت املقدس واليت أمّنها‬
‫النبـي ﷺ بذلك‪ ،‬وميكن أن تعدّ البوابة اجلنوبية الشرقية لبيت املقدس‪.‬‬
‫كما يذكر هذا الكتاب بشكل خاص حق املسلم يف اللجوء إليها إن لزم‬
‫األمر‪ ،‬وهذا الشرط مل يرد يف أي عهدة ملدينة أخرى يف هذه املنطقة‪ ،‬وهذا يدعونا‬
‫‪89‬‬
‫للسؤال عن السبب الذي يدعو النبـي ﷺ لوضع هكذا شرط يف هذه العهدة‬
‫بالذات‪ .‬وقد كانت أذرح مبثابة مأوى للمسلمني يف حاالت احلروب يف املنطقة‪،‬‬
‫وهلذا أمهيةٌ كبرية هلم ألنّ بالد الشام بعيدةٌ عن املدينة املنورة‪ .‬فقد كان من الصعب‬
‫يف أي حرب إرسال جيش كبري يف هذه الصحراء القاحلة إال يف حال توفر منطقة‬
‫آمنة وقريبة ميكن هلذا اجليش الرجوع إليها واالستفادة منها‪ ،‬وهذه شروط‬
‫وترتيبات احتياطية من قِبَل النبـي ﷺ‪ ،‬إذ مل يكن يف وقت كتابة العهدة أي‬
‫حتركات عسكرية لتلك املنطقة‪.‬‬
‫كما جتدر اإلشارة هنا إىل عبارة بالغة األمهية يف النص وهي قوله ﷺ‪" :‬حىت‬
‫حيدث إليهم حممد قبل خروجه"‪ ،‬إذ إهنا تدلّ على وجود عزمٍ من قبل النبـي ﷺ‬
‫على الرجوع إىل هذه املنطقة حني يتقدم حنو الشمال‪ ،‬فهي تؤكد على أن يبقى‬
‫أهل أذرح مساملني إىل أن خيربهم الرسول ﷺ قبل مغادرته‪ .‬وما من سبب يدعو‬
‫النبـي ﷺ إىل ذكر هذه النقطة إال أهداف ومنافع قد تتحقق يف املستقبل‪ .‬فهي‬
‫عبارة كاشفةٌ عن خطة النبـي ﷺ ملستقبل هذه املنطقة وتعكس أمهية هذه املدينة‬
‫من الناحية االستراتيجية والعسكرية‪ ،‬وهي تعين كذلك أن النبـي ﷺ كان يهيئ‬
‫الظروف لقيادة محلة أخرى يف املنطقة‪.‬‬

‫البالوة‬
‫تظهر النصوص اليت درسناها يف هذا الفصل التحركات اليت قام هبا‬
‫النبـي ﷺ وما مييزها من أمهية وما رافقها من عزم وقصد واضحني من أجل‬
‫حتقيق السيطرة على املناطق الواقعة مشال شبه اجلزيرة العربية‪ .‬وقد جاءت هذه‬
‫املعاهدات والوثائق يف مرحلة متأخرة من حياة النبـي ﷺ‪ ،‬خالل غزوة تبوك أو‬
‫بعدها‪ ،‬مما يظهر هدفًا استراتيجيا مهمًا حتققت من أجله العديد من املعاهدات‬
‫واملنح‪ .‬ففي حالة املنح‪ ،‬عمدَ النبـي ﷺ إىل إقطاع ثالث أراضٍ يف تلك املنطقة‪،‬‬
‫وهذه األراضي الثالثة هي الوحيدة اليت كانت خارج السيطرة السياسية الفعلية‬
‫للمسلمني يف الوقت الذي منحت فيه‪ .‬ويف هذا بيان ألمهية بيت املقدس ألنه كان‬
‫ال ضمن‬ ‫السبب الضمين ملنح هذه املناطق ألشخاص بعينهم قبل أن تكون أص ً‬
‫السيادة الفعلية للمسلمني‪.‬‬
‫‪91‬‬
‫وقد تناولنا يف هذا الفصل ثالثة إقطاعات أسهم فيها النيبّ ﷺ لبين جفال ولتميم‬
‫الداري رضي اهلل عنه‪ .‬وذلك اإلقطاع األول ال ميثل سلطة النبـي ﷺ على املناطق‬
‫اجلنوبية لبيت املقدس وحسب‪ ،‬بل إهنا كذلك تفتح أمامه طريق صحراء النقب‬
‫واملؤدية إىل بيت املقدس‪ ،‬مما ميهد الطريق ألي حتركات جليش املسلمني يف املستقبل‬
‫حنو بيت املقدس‪ ،‬بل ميكن القول كذلك إن هذا اإلقطاع تعدّ فتحًا فعليًا من قبل‬
‫املسلمني لصحراء النقب‪ ،‬وقد مت ذلك بيسر عن طريق كسب والء أهل تلك املنطقة‪.‬‬
‫أما اإلقطاع الثاين لتميم الداري رضي اهلل عنه فقد كان بال شك أحد أهم املؤشرات‬
‫على سلطة النبـي ﷺ على جزء من بيت املقدس‪ .‬ومبا أنّه ليس من حقّ أيّ قائد منح‬
‫أرضٍ أليٍّ كان إن مل تكن هذه األرض خاضعة لسلطته‪ ،‬فإن منحه ﷺ تلك األرض‬
‫لتميم الداري تعدّ إرهاصًا وإخبارًا للمسلمني عن عزمه على فتح هذه املنطقة‪ .‬كما‬
‫كانت هذا اإلقطاع عنصرًا أساسيًا يف كسب والء أهل تلك املنطقة إىل جانب‬
‫املسلمني‪ ،‬ويف هذا كذلك إشارة إىل أنّ بعض سكان بيت املقدس يقبلون سلطة‬
‫النبـي ﷺ عليهم وعلى أرضهم اليت يسكنوهنا‪ .‬كما أنّ أرض متيم هذه هي أرض‬
‫إبراهيم عليه الصالة والسالم‪ ،‬أي موقع التقاء الديانات السماوية الثالثة‪ ،‬وهذا يساعد‬
‫يف فهم إقدام النبـي ﷺ بال تردد على قبول طلب متيم الداري رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫ميكن يف السياق ذاته النظر إىل كتاب النبـي ﷺ إىل هرقل على أنه اخلطوة‬
‫الدبلوماسية األوىل لفتح بيت املقدس‪ ،‬فهي رسالة بالغة األمهية باعتبار مكاهنا‬
‫وزماهنا معًا‪ .‬فقد تسلم هرقل كتاب النبـي ﷺ وهو يف قلب بيت املقدس‪ ،‬قبل‬
‫املضي قدمًا إىل املناطق البيزنطية‪ .‬وال بدّ أن النبـي ﷺ كان يوجه رسالة حتذير‬
‫واضحة إىل هرقل قبل أن تبدأ العمليات العسكرية للمسلمني على مشارف بيت‬
‫املقدس‪ .‬إن انتهاز فرصة وجود هرقل يف بيت املقدس وإرسال كتاب النبـي ﷺ‬
‫أمرٌ ذو داللة واضحةٍ على أن بيت املقدس هو املقصد األساسي لتوجيه الرسالة يف‬
‫األساس‪ .‬وقد وصلت هذه الرسالة إىل هرقل يف ذروة جمده وانتصاره‪ ،‬فقد كانت‬
‫املنطقة بأسرها حتت حكمه‪ ،‬وقد أدرك هرقل كنه رسالة النبـي ﷺ‪ ،‬وظهر هذا‬
‫جليًا يف العبارة اليت قاهلا بعد قراءهتا‪.‬‬
‫كما جيب التأكيد على أمهية هذه الرسالة للمسلمني أنفسهم كذلك‪ ،‬فقد‬
‫كانت مبثابة حتذير قبل بدء احلملة العسكرية الفعلية باجتاه بيت املقدس‪ ،‬ولعل هذا‬
‫‪90‬‬
‫ما دفع النبـي ﷺ إىل إرساهلا يف ذلك الوقت بالتحديد‪ ،‬أي قبل توجه جيوش‬
‫املسلمني إىل مشارف بيت املقدس‪ ،‬وهكذا تساعد الرسالة على فهم املسلمني‬
‫للعديد من القضايا املتعلقة بدوافع احلملة حنو بيت املقدس ومسوغاهتا‪.‬‬
‫لقد كاتب النبـي ﷺ العديد من القبائل على الصلح‪ ،‬خاصة أثناء غزوة‬
‫تبوك‪ .‬ولتلك املناطق واملدن اليت عاهدها النبـي ﷺ أمهية كبرية من حيث‬
‫موقعها‪ ،‬وهلذه القضية تفسريات عديدة‪ .‬لقد كان اهلدف األساسي من هذه‬
‫املعاهدات تأمني الطريق بني شبه اجلزيرة العربية وبيت املقدس بشكل خاص‪ .‬ولو‬
‫ربطنا بني هذه املعاهدات من جهة وبني اإلقطاعات اليت سبق ذكرها سيتضح لنا‬
‫أن بيت املقدس هو الغاية واملقصود من وراء هذه التحركات‪ .‬فعند دراسة‬
‫املعاهدات اليت أبرمها النبـي ﷺ يف تبوك سنجد أن معظم املدن املعنية هبذه‬
‫املعاهدات واقعة إما على الطريقني الرئيسيني اللذين يربطان اجلزيرة ببيت املقدس‬
‫وإما قريبة منهما‪ ،‬وهذان الطريقان مها الطريق الصحراوي من اجلنوب الشرقي‪،‬‬
‫قريبًا من أذرح‪ ،‬والطريق الساحلي من اجلنوب الغربـي‪ ،‬قرب مقنا وعرب أيلة‪ .‬وقد‬
‫منحت عهدتان لكلٍّ من أهل مقنا وأذرح وهم من اليهود‪ ،‬أما العهد ألهل أيلة فقد‬
‫كان ألهلها من النصارى‪ .‬وهذا يعين أن نظرة النبـي ﷺ إىل بيت املقدس مل‬
‫تستثنِ اليهود والنصارى‪ ،‬بل كانت تعتمد على دعمهم‪ ،‬ولعل هذا ما جعلهم‬
‫يتقبلون ما أقدم عليه النبـي ﷺ يف تلك املنطقة‪.‬‬
‫إن عقد هذه املعاهدات يؤكد على أن النبـي ﷺ قد ضمن تزويد جيش‬
‫املسلمني بالعتاد واملأوى إن لزم األمر‪ ،‬باإلضافة إىل الطعام واملاء وغريها من‬
‫املستلزمات اليت قد حيتاج إليها جيش املسلمني يف املستقبل‪ .‬فقد ورد ذكر األسلحة‬
‫يف عهده ألهل أذرح ومقنا‪ ،‬بينما ذكر الطعام يف العهدة ألهل مقنا‪ ،‬وذكر املاء يف‬
‫العهدة ألهل أيلة‪ ،‬وال شكّ أنّ ذكر التزود بالطعام واملاء‪ ،‬خاصة يف العهدة ألهل‬
‫مقنا وأيلة كان أمرًا مركزيًا‪ ،‬ويعود هذا إىل موقع هاتني املدينتني على الطريق‬
‫الساحلي قبل صحراء النقب‪ ،‬وهو طريق أطول من الطريق اآلخر‪.‬‬
‫وميكن أنّ خنلص مما سبق أيضًا أنّ النبـي ﷺ ومن خالل تأمني هذه املناطق‬
‫كان جيهّز إلرسال جيشني على األقل لإلحاطة ببيت املقدس من اجلهة الشرقية ومن‬
‫اجلهة اجلنوبية‪ ،‬أما اجلهة الغربية فقد كانت مفتوحة على البحر األبيض املتوسط‪.‬‬
‫‪91‬‬
‫وهذا ما حققه فعليًا خليفة املسلمني األول‪ ،‬أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه‪ ،‬فقد‬
‫سلك هذين الطريقني‪ ،‬وأفاد من شروط املعاهدات مع أهل املدن سالفة الذكر‪،‬‬
‫خاصة يف جيش عمروٍ بن العاص رضي اهلل عنه‪ .‬وهبذا يكون هلذه الوثائق أمهية‬
‫مركزية يف دراسة وحتديد شكل العالقة بني النبـي حممد ﷺ وبيت املقدس‪.‬‬
‫لقد كان النبـي ﷺ مدركًا متامًا خلريطة التحالفات االستراتيجية والوالءات‬
‫املوجودة يف املنطقة‪ ،‬وقد كانت هذه املعرفة النبوية هلذه اجلوانب دافعًا له ﷺ إلبرام‬
‫هذه املعاهدات واحلرص عليها وما تبع ذلك بالضرورة من محالت عسكرية لعبت‬
‫دورًا مفصليًا يف معرفة الوضع يف املنطقة وحتديد االحتياجات احملتملة جليوش‬
‫املسلمني يف املستقبل‪ .‬وسندرس يف الفصل التايل هذه احلمالت العسكرية ودورها‬
‫يف الفتح املزمع لبيت املقدس‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫‪95‬‬
 ‫مقدمة‬
‫متثل التحركات العسكرية مرحلة التقدم الفعلي للنبـي حممد ﷺ حنو فتح‬
‫بيت املقدس‪ ،‬وهي املرحلة اليت ميكن أن تثبت أو تدحض النظرية اليت تفترض‬
‫وجود خطة وضعها النبـي ﷺ لفتح املنطقة‪ ،‬وهكذا تكون هلذه احلمالت‬
‫العسكرية أمهية كبرية يف هذا السياق‪ .‬ويرى ويليام مونتغمري واط (‪)191 :1211‬‬
‫أنّه عند "النظر إىل األعداد اليت اشتركت يف احلمالت العسكرية املختلفة باجتاه‬
‫الشام يظهر أن الطريق إىل الشمال كان يستحوذ على حيّز كبري يف الفكر‬
‫اإلستراتيجي للنبـي حممد"‪ .‬ويضيف مونتغمري أنّ تلك املصادر املتعددة اليت‬
‫تتحدث عن هذه احلمالت والتحركات العسكرية حنو الشام "حترمنا الكثريَ من‬
‫التفاصيل وتتركنا نستنبط من معرفتنا اإلمجالية األسبابَ اليت دعت إىل التركيز يف‬
‫إستراتيجية املسلمني على التوجه حنو الشام" (واط ‪ .)191 :1211‬ويرى الباحث‬
‫أن ما ذهب إليه مونتغمري صحيح إىل حد ما‪ ،‬إذ إن فهم التحركات العسكرية‬
‫اليت قام هبا النبـي ﷺ سيساعد حتمًا يف فهم إستراتيجيته خبصوص بالد الشام‬
‫عمومًا وبيت املقدس خصوصًا‪ ،‬ولذا يتوجّب دراستها والتمعّن فيها بشكل يتجاوز‬
‫جمرد النظر إىل الروايات التارخيية والتفاصيل الواردة يف املصادر التارخيية املتعددة‪.‬‬
‫يهدف هذا الفصل إىل مناقشة التحركات العسكرية اليت حدثت يف حياة رسول‬
‫اهلل ﷺ‪ ،‬وهي تلك اليت كانت متجهةً إىل الشمال‪ ،‬وذلك لتحديد ما كان يربط بني‬
‫هذه التحركات ومعرفة ما إذا كان من املمكن النظر إليها على أهنا حتركاتٌ فعليّة‬
‫للنبـي ﷺ كانت هتدف لفتح بيت املقدس‪ .‬وعند حتديد هذه القضية وفهمها سيكون‬
‫من األيسر أن نقف على بُعدٍ جديد يف فهم التحركات العسكرية الفعلية للنبـي ﷺ‬
‫خالل حياته‪ ،‬باإلضافة إىل معرفة كُنهِ تلك العالقة اليت تربطه ببيت املقدس‪.‬‬
‫ال بدّ من اإلشارة يف اآلن نفسه إىل أنّ الغزوات واملعارك يف زمن النبـي ﷺ مل‬
‫تكن منصبّة يف اجتاهٍ واحد وحسب‪ ،‬بل توجهت إىل أجزاء خمتلفة من جزيرة العرب‬
‫كما هو معروف وانطلقت حنو الشمال أيضًا‪ ،‬وكان ذلك يعتمد على تطور عالقات‬
‫النبـي ﷺ وأهدافه‪ .‬وميكن أن نقسم التحركات العسكرية للنبـي ﷺ إىل مرحلتني‬
‫أساسيتني‪ :‬املرحلة األوىل هي املرحلة الدفاعية‪ ،‬وامتدت هذه املرحلة من وقت‬
‫‪97‬‬
‫هجرته ﷺ واملسلمني إىل املدينة املنورة وانتهت بصلح احلديبية‪ ،‬أما املرحلة الثانية فهي‬
‫مرحلة التوسّع‪ ،‬وقد بدأت من صلح احلديبية وانتهت بوفاته ﷺ‪ .‬وسنجلّي هذه‬
‫القضية بوضوح أكرب حني نقف على الدوافع الداعية هلذا التقسيم يف ثنايا هذا الفصل‪.‬‬

‫الأرايأ والغزوا ا حيأ النب ﷺ‬

‫يلزمنا كي نكوّن صورةً أكثر وضوحًا خبصوص اإلستراتيجية العسكرية‬
‫للنبـي ﷺ أن جنمع‪ ،‬بترتيب زمينّ‪ ،‬السرايا‪ 1‬والغزوات‪ 2‬اليت وقعت يف حياة‬
‫النبـي ﷺ‪ .‬وقد مجع العديد من املؤرخني هذه السرايا والغزوات‪ ،‬واليت ابتدأت‬
‫بعد هجرته ﷺ إىل املدينة‪ ،‬ومن بينهم الواقديّ‪ ،‬وهو عَلَمٌ يف هذا امليدان‪،‬‬
‫وباألخصّ يف كتابه الذي حيمل اسم املغازي‪ ،‬وهو الذي سنعتمد عليه كثريًا يف هذا‬
‫الفصل‪ ،‬كما سنرجع إىل سرية ابن إسحاق وغريها من كتب السّري‪ ،‬إذ قلّما نقف‬
‫على اختالف بينها يف أمر غزوات النبـي ﷺ وسراياه‪ .‬وجيدر بنا يف هذا املقام‬
‫التنويه واإلشادة باجلهود اليت بذهلا العالمة املباركفوري رمحه اهلل‪ ،‬وهو من العلماء‬
‫املعاصرين الذين سعوا إىل حتديد التاريخ الدقيق هلذه الوقائع‪ ،‬كما سنرجع إىل ما‬
‫كتبه د‪ .‬شوقي أبو خليل رمحه اهلل‪ ،‬والذي حاول يف كتابه أطلس السرية النبوية أن‬
‫حيدد مواقع تلك الغزوات والسرايا‪.‬‬
‫وقد قمنا يف اجلدول التايل بتلخيص مجيع هذه الغزوات والسرايا اليت حدثت‬
‫يف حياة النبـي ﷺ ومواقعها‪ ،‬باستثناء تلك اليت كانت موجّهة لقتل شخصٍ‬
‫بعينه‪ .3‬وقد أشرنا يف هذا اجلدول إىل الغزوات والسرايا اليت انطلقت من املدينة‬
‫املنورة باجتاه الشمال الغربـي حيث بيت املقدس‪ .‬ويتبع هذا اجلدول خريطةٌ تظهر‬
‫مواقع هذه السرايا والغزوات ووجهاهتا‪:4‬‬

‫السرايا مجع سرية‪ ،‬وهي احلمالت العسكرية اليت أرسلها النبـي ﷺ دون املشاركة فيها‪،‬‬ ‫‪1‬‬
‫كما يطلق عليها كذلك اسم البعث‬
‫الغزوات مجع غزوة‪ ،‬وهي احلمالت العسكرية اليت جهزها النبـي ﷺ وقادها بنفسه‬ ‫‪2‬‬
‫كقتل كعب بن األشرف وسالم ابن أبـي احلقيق‪ ،‬وسنتعرض إىل ذلك بشكل سريع يف‬ ‫‪3‬‬
‫ثنايا الفصل‬
‫لقد اعتمدنا يف أعداد الرجال املشاركني يف السرايا والغزوات على ما فصله املباركفوري وأبو‬ ‫‪4‬‬
‫الرب‪ ،‬أما مواقع السرايا والغزوات فقد اعتمدنا بشأهنا على أطلس السرية لشوقي أبو خليل‪.‬‬
‫‪98‬‬
‫االجتاه من املدينة‬ ‫عدد الرجال السنة (هجرية)‬ ‫االسم‪/‬املوقع‬ ‫الرقم‬
‫اجلنوب الغربـي‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪19‬‬ ‫سريّة محزة‪ /‬سيف البحر والعيص‬ ‫‪1‬‬
‫اجلنوب الغربـي‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪19‬‬ ‫سرية عبيدة بن احلارث‪/‬ثنية املرة‬ ‫‪1‬‬
‫اجلنوب‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪19‬‬ ‫سرية سعد بن أبـي وقاص‪/‬اخلرار‬ ‫‪1‬‬
‫اجلنوب الغربـي‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪29‬‬ ‫غزوة ودّان أو األبواء‬ ‫‪4‬‬
‫الغرب‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪199‬‬ ‫غزوة بواط‬ ‫‪1‬‬
‫اجلنوب الغربـي‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪29‬‬ ‫غزوة بدر األوىل‪/‬سفوان وبدر‬ ‫‪1‬‬
‫الغرب‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪119‬‬ ‫غزوة العشرية‬ ‫‪2‬‬
‫اجلنوب‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪11‬‬ ‫سرية عبد اهلل بن جحش‪/‬بطن خنلة‬ ‫‪3‬‬
‫اجلنوب الغريب‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪112‬‬ ‫غزوة بدر الكربى‬ ‫‪2‬‬
‫داخل املدينة‬ ‫غري معروف ‪ 1‬للهجرة‬ ‫غزوة بين قينقاع‬ ‫‪19‬‬
‫اجلنوب الغربـي‬ ‫غري معروف ‪ 1‬للهجرة‬ ‫غزوة السويق‬ ‫‪11‬‬
‫اجلنوب الشرقي‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪199‬‬ ‫غزوة سُليم‪/‬الكدر‬ ‫‪11‬‬
‫اجلنوب الشرقي‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪419‬‬ ‫غزوة ذي عمار‬ ‫‪11‬‬
‫اجلنوب‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪199‬‬ ‫غزوة حبران‬ ‫‪14‬‬
‫اجلنوب الشرقي‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪199‬‬ ‫سرية زيد بن حارثة‪/‬القردة‬ ‫‪11‬‬
‫إىل الشمال ضمن‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪299‬‬ ‫غزوة أحد‬ ‫‪11‬‬
‫حدود املدينة‬
‫اجلنوب الغربـي‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪299‬‬ ‫غزوة محراء األسد‬ ‫‪12‬‬
‫الشمال الشرقي‬ ‫‪ 4‬للهجرة‬ ‫‪119‬‬ ‫سرية أبـي سلمة‪/‬قطن‬ ‫‪13‬‬
‫اجلنوب‬ ‫‪ 4‬للهجرة‬ ‫‪1‬‬ ‫سرية عبد اهلل بن أنيس‪/‬عرنة‬ ‫‪12‬‬
‫اجلنوب الغربـي‬ ‫‪ 4‬للهجرة‬ ‫‪19‬‬ ‫سرية الرجيع‬ ‫‪19‬‬
‫الشرق‬ ‫‪ 4‬للهجرة‬ ‫‪29‬‬ ‫سرية املنذر بن عمر‪/‬بئر معونة‬ ‫‪11‬‬
‫داخل املدينة‬ ‫غري معروف ‪ 4‬للهجرة‬ ‫غزوة بين النضري‬ ‫‪11‬‬
‫اجلنوب الغربـي‬ ‫‪ 4‬للهجرة‬ ‫‪1199‬‬ ‫غزوة بدر اآلخرة‬ ‫‪11‬‬
‫الشمال الشرقي‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪1999‬‬ ‫غزوة دومة اجلندل‬ ‫‪14‬‬
‫اجلنوب الشرقي‬ ‫غري معروف ‪ 1‬للهجرة‬ ‫غزوة بين املصطلق‪/‬املريسيع‬ ‫‪11‬‬
‫داخل املدينة‬ ‫غري معروف ‪ 1‬للهجرة‬ ‫غزوة اخلندق‬ ‫‪11‬‬

‫‪99‬‬
‫االجتاه من املدينة‬ ‫عدد الرجال السنة (هجرية)‬ ‫االسم‪/‬املوقع‬ ‫الرقم‬
‫داخل املدينة‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪1999‬‬ ‫غزوة بين قريظة‬ ‫‪12‬‬
‫الشرق‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪19‬‬ ‫سرية حممد بن مسلمة‪/‬القرطاء‬ ‫‪13‬‬
‫الشرق‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪199‬‬ ‫غزوة بين حليان‬ ‫‪12‬‬
‫الشمال الشرقي‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫غري معروف‬ ‫غزوة الغابة‪/‬ذي قرد‬ ‫‪19‬‬
‫الشمال الشرقي‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪49‬‬ ‫سرية عكاشة‪/‬الغمر‬ ‫‪11‬‬
‫الشرق‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪19‬‬ ‫سرية حممّد بن مسلمة‪/‬ذي القصّة‬ ‫‪11‬‬
‫الشرق‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪49‬‬ ‫سريّة أبو عبيدة بن اجلرّاح‪/‬ذي القصة‬ ‫‪11‬‬
‫اجلنوب الشرقي‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫غري معروف‬ ‫سرية زيد بن احلارثة‪/‬اجلموم‬ ‫‪14‬‬
‫اجلنوب الغربـي‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪129‬‬ ‫سرية زيد بن حارثة‪/‬العيص‬ ‫‪11‬‬
‫الشمال الشرقي‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪11‬‬ ‫سرية زيد بن حارثة‪/‬الطرف‬ ‫‪11‬‬
‫الشمال الغربـي‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪199‬‬ ‫سرية زيد بن حارثة‪/‬حسمى‬ ‫‪12‬‬
‫الشمال الغربـي‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪11‬‬ ‫سرية زيد بن حارثة‪/‬وادي القرى‬ ‫‪13‬‬
‫الشمال الشرقي‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫غري معروف‬ ‫سرية عبد الرمحن بن عوف‪/‬دومة اجلندل‬ ‫‪12‬‬
‫الشمال الغربـي‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪199‬‬ ‫سرية علي بن أبـي طالب‪/‬فدك‬ ‫‪49‬‬
‫الشمال الغريب‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫غري معروف‬ ‫سرية زيد بن حارثة‪/‬وادي القرى‬ ‫‪41‬‬
‫اجلنوب‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪19‬‬ ‫سرية كرز بن جابر‪/‬عرينة‬ ‫‪41‬‬
‫اجلنوب‬ ‫‪ 1‬للهجرة‬ ‫‪1499‬‬ ‫غزوة احلديبية‬ ‫‪41‬‬
‫الشمال الغربـي‬ ‫‪ 2‬للهجرة‬ ‫‪1499‬‬ ‫غزوة خيرب‬ ‫‪44‬‬
‫الشمال الشرقي‬ ‫‪ 2‬للهجرة‬ ‫‪299‬‬ ‫غزوة ذات الرقاع‪/‬جند‬ ‫‪41‬‬
‫اجلنوب الشرقي‬ ‫‪ 2‬للهجرة‬ ‫‪19‬‬ ‫سرية عمر بن اخلطاب‪/‬تربة‬ ‫‪41‬‬
‫الشرق‬ ‫‪ 2‬للهجرة‬ ‫غري معروف‬ ‫سرية أبـي بكر‪/‬جند‬ ‫‪42‬‬
‫الشمال الغربـي‬ ‫‪ 2‬للهجرة‬ ‫‪19‬‬ ‫سرية بشري بن سعد‪/‬فدك‬ ‫‪43‬‬
‫اجلنوب الغربـي‬ ‫‪ 2‬للهجرة‬ ‫‪119‬‬ ‫سرية غالب الليثي‪/‬امليفعة‬ ‫‪42‬‬
‫الشمال الغربـي‬ ‫‪ 2‬للهجرة‬ ‫‪199‬‬ ‫سرية بشري بن سعد‪/‬اجلناب‬ ‫‪19‬‬
‫اجلنوب الشرقي‬ ‫‪ 2‬للهجرة‬ ‫‪19‬‬ ‫سرية ابن أبـي العوجاء‪/‬بين سليم‬ ‫‪11‬‬
‫اجلنوب الغريب‬ ‫‪ 3‬للهجرة‬ ‫غري معروف‬ ‫سرية غالب الليثي‪/‬الكديد‬ ‫‪11‬‬
‫الشمال الغربـي‬ ‫‪ 3‬للهجرة‬ ‫‪199‬‬ ‫سرية غالب الليثي‪/‬فدك‬ ‫‪11‬‬

‫‪011‬‬
‫االجتاه من املدينة‬ ‫عدد الرجال السنة (هجرية)‬ ‫االسم‪/‬املوقع‬ ‫الرقم‬
‫اجلنوب الشرقي‬ ‫غري معروف ‪ 3‬للهجرة‬ ‫سرية شجاع بن وهب‪/‬السي‬ ‫‪14‬‬
‫الشمال الغربـي‬ ‫‪ 3‬للهجرة‬ ‫‪11‬‬ ‫سرية كعب بن عمري‪/‬ذات أطالح‬ ‫‪11‬‬
‫الشمال الغربـي‬ ‫‪ 3‬للهجرة‬ ‫‪1999‬‬ ‫سرية مؤتة‬ ‫‪11‬‬
‫الشمال الغربـي‬ ‫‪ 3‬للهجرة‬ ‫سرية عمرو بن العاص‪/‬ذات السالسل ‪199‬‬ ‫‪12‬‬
‫الشمال الغربـي‬ ‫‪ 3‬للهجرة‬ ‫‪199‬‬ ‫سرية أبـي عبيدة بن اجلراح‬ ‫‪13‬‬
‫(سرية اخلبط)‪/‬القبلية‬
‫الشرق‬ ‫‪ 3‬للهجرة‬ ‫‪11‬‬ ‫سرية أبـي قتادة‪/‬خضرة‬ ‫‪12‬‬
‫اجلنوب الغربـي‬ ‫‪ 3‬للهجرة‬ ‫فتح مكة (والسرايا اليت رافقت الفتح) ‪19999‬‬ ‫‪19‬‬
‫اجلنوب الغربـي‬ ‫‪ 3‬للهجرة‬ ‫‪11999‬‬ ‫غزوة حنني (انطلقت من مكة)‬ ‫‪11‬‬
‫اجلنوب الغربـي‬ ‫‪ 3‬للهجرة‬ ‫‪11999‬‬ ‫غزوة الطائف (انطلقت من مكة)‬ ‫‪11‬‬
‫الشمال الشرقي‬ ‫‪ 2‬للهجرة‬ ‫‪19‬‬ ‫سرية عيينة بن حصن‪/‬بنو متيم‬ ‫‪11‬‬
‫اجلنوب الشرقي‬ ‫‪ 2‬للهجرة‬ ‫‪19‬‬ ‫سرية قتبة بن عامر‪/‬تبالة‬ ‫‪14‬‬
‫الشمال الشرقي‬ ‫سرية الضحاك الكالبـي‪/‬زج الوة غري معروف ‪ 2‬للهجرة‬ ‫‪11‬‬
‫اجلنوب الشرقي‬ ‫‪ 2‬للهجرة‬ ‫‪199‬‬ ‫سرية علقمة املدجلي‪/‬جدة‬ ‫‪11‬‬
‫الشمال الشرقي‬ ‫‪ 2‬للهجرة‬ ‫‪119‬‬ ‫سرية علي بن أبـي طالب‪/‬طيء‬ ‫‪12‬‬
‫الشمال الغربـي‬ ‫غري معروف ‪ 2‬للهجرة‬ ‫سرية عكاشة‪/‬أذرح وبلي‬ ‫‪13‬‬
‫الشمال الغربـي‬ ‫‪ 2‬للهجرة‬ ‫‪19999‬‬ ‫غزوة تبوك‬ ‫‪12‬‬
‫اجلنوب‬ ‫غري معروف ‪ 19‬للهجرة‬ ‫سرية خالد بن الوليد‪/‬جنران‬ ‫‪29‬‬
‫اجلنوب‬ ‫غري معروف ‪ 19‬للهجرة‬ ‫سرية علي بن أبـي طالب‪/‬اليمن‬ ‫‪21‬‬
‫حجة الوداع يف السنة العاشرة للهجرة‬
‫الشمال الغربـي‬ ‫‪ 11‬للهجرة‬ ‫‪1999‬‬ ‫بعث أسامة بن زيد‪/‬أبىن‬ ‫‪21‬‬

‫الجدوي ‪ :2‬أرايأ وسزوا النب ﷺ‬

‫‪010‬‬
‫ﷺ‬ ‫البريطة (‪ :)4‬مواأع أرايأ وسزوا النب‬

‫‪011‬‬
 ‫الرقم‬
‫االجتاه من املدينة املنورة‬ ‫املرحلة املدنية‬
‫الغزوات اجملموع‬ ‫السرايا‬
‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫الشمال الشرقي‬ ‫‪1‬‬ ‫مشاالً‬ ‫حىت هناية السنة‬
‫اخلامسة للهجرة‬
‫‪9‬‬ ‫‪9‬‬ ‫‪9‬‬ ‫الشمال الغريب‬
‫‪2‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪4‬‬ ‫اجلنوب الشرقي‪+‬‬ ‫‪11‬‬ ‫جنوبًا‬
‫اجلنوب‬
‫‪2‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫اجلنوب الغربـي‬
‫‪3‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪1‬‬ ‫شرقًا أو غربًا أو داخل املدينة املنورة‬
‫‪12‬‬ ‫اجملموع حىت هناية السنة اخلامسة للهجرة‬
‫‪3‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫الشمال الشرقي‬ ‫‪11‬‬ ‫مشاالً‬ ‫من السنة السادسة‬
‫للهجرة‬
‫‪11‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪11‬‬ ‫الشمال الغريب‬
‫‪19‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬ ‫اجلنوب الشرقي‪+‬‬ ‫‪11‬‬ ‫جنوبًا‬
‫اجلنوب‬
‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫اجلنوب الغربـي‬
‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫الشرق أو الغرب أو داخل منطقة‬
‫املدينة املنورة‬
‫‪54‬‬ ‫اجملموعة من السنة السادسة للهجرة حىت وفاة النبـي ﷺ‬
‫‪27‬‬ ‫اجملموع الكلي للسرايا والغزوات‬

‫الجدوي (‪ :)1‬مقأرنة بيت وجلأ أرايأ النب ﷺ وسزواتج‬

‫‪011‬‬
‫يظهر اجلدول الثاين تباينًا كبريًا بني عدد السرايا والغزوات باجتاه الشمال قبل‬
‫السنة السادسة للهجرة‪ 112/‬ميالدية وبعده‪ .‬فهذا العام ميثل نقطة املنتصف يف الفترة‬
‫املدنية (أي بني هجرة النبـي ﷺ إىل املدينة حىت وفاته)‪ ،1‬وهي نقطة حتول كربى‪.‬‬
‫ففي نصف هذه املرحلة املدنية‪ ،‬أي يف بداية السنة السادسة للهجرة‪ ،‬كان هنالك‬
‫ثالثة حتركات عسكرية باجتاه الشمال‪ ،‬بينما كان هنالك ست عشرة غزوة وسرية‬
‫باجتاه اجلنوب ومثانيةٌ باجتاهات أخرى‪ .‬ومن املثري لالهتمام هنا أنّ أيًا من تلك‬
‫التحركات العسكرية باجتاه الشمال مل يكن باجتاه الشمال الغربـي‪ ،‬أي جهة‬
‫الشام وبيت املقدس‪ ،‬أي أنّه مل يكن هنالك أي غزوة أو سرية على الطريق الرابط‬
‫بني املدينة والشام‪.‬‬
‫أما عدد الغزوات والسرايا باجتاه الشمال ابتداءً من العام السادس للهجرة فقد‬
‫ارتفع إىل ثالثة وعشرين‪ ،‬بينما كان هنالك ست عشرة غزوة وسرية باجتاه اجلنوب‬
‫وستة فقط يف اجتاهات أخرى‪ .‬وهذا دليل على حتوّل اهتمام النبـي ﷺ حنوَ جهة‬
‫الشمال‪ ،‬بل س نجد أن معظم هذه السرايا والغزوات الشمالية كانت باجتاه الشمال‬
‫الغربـي‪ ،‬اثنتان منهما كان على رأسهما النبـي ﷺ بنفسه‪ ،‬وواحدة كانت أكرب‬
‫غزوة يف حياته ﷺ وأبعدَ ما وصل إليه كقائد ونيبّ‪ .‬ومل يكن يف ذلك الوقت سوى‬
‫مثاين حتركات عسكرية باجتاه الشمال الشرقي حنو العراق‪ .‬وقد كانت معظم‬
‫التحركات العسكرية من العام السادس للهجرة باجتاه الشمال الغربـي‪ ،‬وليس هلذا‬
‫إال داللة واحدة‪ ،‬وهي أنّ النبـي مل يوجّه اهتمامًا إىل الشمال منذ العام السادس‬
‫للهجرة وحسب‪ ،‬بل توجّه هذا االهتمام كذلك إىل الشمال الغربـي بشكل‬
‫خاص وواضح‪ ،‬وهذه هي الوجهة إىل بيت املقدس‪.‬‬
‫ويرى عثمان الطل (التاريخ غري مذكور)‪ 2‬أنّ اهتمام النبـي ﷺ قد توجّه‬
‫حنو بالد الشام منذ سراياه الثالثة األوىل‪ ،‬وهي سرية محزة إىل سيف البحر‪ ،‬وسرية‬
‫عبيدة إىل ثنية املرة‪ ،‬وسرية سعد إىل اخلرار‪ .‬أي أن التحرك العسكري حنو الشام‬
‫وقد أ شار إىل هذه النقطة خالد العويسي يف لقاء أكادميي معه يف السادس من متوز ‪،1992‬‬ ‫‪1‬‬
‫فله الفضل يف لفت انتباهي إليها‪.‬‬
‫لقد ذكر هذا الرأي يف فصل غري منشور من املالحظات على أطروحة الدكتوراه للدكتور‬ ‫‪2‬‬
‫عثمان الطل‪ ،‬وقد اطلعت عليه من ضمن جمموعة من األوراق يف مركز دراسات بيت‬
‫املقدس يف معهد آل مكتوم يف دندي‪.‬‬
‫‪014‬‬
‫بدأَ بُعيد هجرته ﷺ إىل املدينة‪ .‬كما يذهب عثمان الطل إىل أن اهلدف األساسي‬
‫من تلك السرايا هو فتح الطريق حنو بالد الشام‪ ،‬وليس من أجل اعتراض طريق‬
‫جتارة قريش إىل الشام قرب املدينة‪ ،‬ودليله على ذلك أنّ تلك السرايا الثالثة‬
‫توجهت إىل مكان واحد ومل تعترض قوافل قريش يف أي قتال‪ .‬غري أنّ هذا ليس‬
‫بدليل كافٍ يتيح لنا أن جنزم بأن اهلدف األساسي يف تلك السرايا هو فتح الطريق‬
‫حنو الشام‪ ،‬بل إن الروايات التارخيية اليت حتدثت عن هذه السرايا تشري إىل عكس‬
‫ذلك‪ ،‬وينطبق هذا على سواها كذلك من السرايا والغزوات اليت تلتها حىت غزوة‬
‫بدر‪ .‬فتسلسل األحداث يظهر أن اهلدف األساسي للنبـي ﷺ يف ذلك الوقت‬
‫بالذات مل يكن فتحَ الطريق حنو الشام‪ ،‬بل كان الضغطَ االقتصادي على قريش من‬
‫خالل قطع طريق ميثل شريانًا جتاريًا ملكةَ حنو الشام‪ ،‬كما كان اهلدف كذلك فتح‬
‫الطريق حنو مكة‪ ،‬خاصّةً أن غالبية السرايا والغزوات قبل السنة السادسة للهجرة‬
‫كانت حنو اجلنوب الغربـي‪ ،‬أي على الطريق الواصل بني املدينة ومكة‪.‬‬
‫مث إنّ حتويل القبلة حنو مكة كان قد حدث يف فترة مبكرة من املرحلة املدنية‪،‬‬
‫يف السنة الثانية للهجرة (الطربي ‪ ،)12 )1( :12223‬وهذا ما جعل املباركفوري‬
‫(‪ )192 :1221‬يرى يف هذا األمر مصلحة عظيمة للمسلمني‪ ،‬إذ إنه يشري بشكل‬
‫غري مباشر إىل الدور اجلديد الذي سيضطلع به املسلمون‪ ،‬والذي سيبدأ بعد عودهتم‬
‫إىل مدينتهم املقدسة‪ ،‬مكة املكرمة‪ ،‬إذ ال يعقل للمسلمني أن يتركوا قبلتهم حتت‬
‫تصرف غري املسلمني‪ .‬وهكذا مثّل حتوّل القبلة يف تلك الفترة املهمة أولويةً مهمة‬
‫ووجهةً جديدة للمسلمني حنو مكة‪ ،‬غري أنّ هذا ال يعين حبال إمهال بيت املقدس‪،‬‬
‫وهو القبلة األوىل‪ ،‬وإمنا كان األمر جمرد إعادة ترتيب لألولويات‪ ،‬فال بدّ من حتقيق‬
‫االستقرار أو ًال يف منطقتهم ومن مث التحرك حنو القبلة األوىل‪.‬‬
‫واألهم من هذا كلّه أنّه ال ميكن قبول االدّعاء القائل بأن السرايا األوىل‬
‫للنبـي ﷺ كانت هتدف إىل فتح الطريق حنو بالد الشام‪ ،‬وذلك ألن الطريق من‬
‫املدينة املنورة إىل بالد الشام هو بعكس طريق تلك السرايا‪ ،‬واليت وإن كانت قد‬
‫توجهت إىل أماكن تقع على الطريق املؤدي إىل الشام‪ ،‬إال أهنا كانت على الطريق‬
‫إىل الشام من مكة وليس من املدينة‪ .‬ولو كان النبـي ﷺ يهدف إىل فتح الطريق‬
‫حنو الشام يف تلك املرحلة ملا أمرَ جيش املسلمني بالتوجه حنو اجلنوب الغربـي‪،‬‬
‫‪015‬‬
‫ألنّ الشام تقع يف عكس هذا االجتاه‪ ،‬أي إىل الشمال الغربـي من املدينة‪ .‬ويبدو‬
‫أن الطل مل يفرق بني الطريق املؤدي إىل الشام من شبه اجلزيرة العربية بشكل عام‬
‫وموقع مكة واملدينة على هذا الطريق‪ .‬وواقع احلال أن توجّه تلك السرايا والغزوات‬
‫حنو اجلنوب الغربـي يعزز الفكرة اليت قررناها‪ ،‬ذلك أن مكةَ نفسها تقع جنوب‬
‫غريبّ املدينة املنورة‪.‬‬
‫ويف العام السادس للهجرة‪ ،‬اعتمدَ النبـي ﷺ إستراتيجية جديدة يف سراياه‬
‫وغزواته‪ ،‬فقد أرسل النبـي ﷺ للمرة األوىل سريةً من أصحابه رضوان اهلل عليهم‪،‬‬
‫ليس جهةَ الشمال الغربـي من املدينة وحسب‪ ،‬بل باجتاه بالد الشام من املدينة‬
‫املنورة‪ .‬وهذا يدفعنا إىل السؤال عن دوافعه ﷺ واجلوانب اليت استدعت أن يتوجه‬
‫باهتمامه حنو تلك املناطق خاصةً يف تلك الفترة‪ .‬وكما يظهر من اجلداول السابقة‪،‬‬
‫فإن التحركات العسكرية حنو الشمال الغربـي قد بدأت بالتزايد التدرجيي بعد غزوة‬
‫اخلندق يف العام اخلامس للهجرة وقبل صلح احلديبية يف العام السادس للهجرة‪.‬‬
‫وقد مثلت تلك الفترة نقطة حتول يف حتركات النبـي ﷺ العسكرية باإلضافة‬
‫إىل شكل العالقة اليت تربطه مع قريش‪ .‬وقد أعلن النبـي ﷺ ألصحابه عقب غزوة‬
‫اخلندق أنّ هذه الغزوة متثّل نقطة حتول مهمة‪ ،‬فقال ﷺ‪" :‬اآلن نغزوهم وال‬
‫يغزوننا" (البخاري ‪ ،)313 )1( :1999‬مما يعين أن املسلمني من تلك اللحظة‬
‫فصاعدًا هم الذين سيبادرون يف حرهبم مع قريش‪ ،‬كما يعين أنّ قريشًا قد صارت‬
‫اآلن مهمّشةً مكسورة الشوكة‪ ،‬وأن فتح مكة باتَ قضية وقت ال أكثر‪،‬‬
‫فالنبـي ﷺ إمنا ينتظر أن حتني الفرصة املناسبة‪ .‬ولعل هذا ما يفسر ذهاب‬
‫النبـي ﷺ إىل مكةَ معتمرًا أثناء صلح احلديبية دون سالح‪ ،‬وهذا الفعل النبويّ‬
‫يعين ضمنًا أن سيطرة قريش على مكة قد آلت إىل زوال‪ ،‬وتلك هي اللحظة‬
‫األفضل لتحويل االنتباه جمددًا حنو بيت املقدس وبدء التحركات العسكرية يف ذلك‬
‫االجتاه‪.‬‬
‫أرية ِحأمى‬
‫كانت أول سرية تنطلق من املدينة املنورة إىل الطريق الواصل إىل بيت املقدس‬
‫هي سرية زيد بن حارثة رضي اهلل عنه إىل حسمى (يف مجادى اآلخرة للعام‬
‫‪016‬‬
 ‫السادس للهجرة‪ 112/‬ميالدية)‪ .‬وهذه املنطقة على ما يذكر الواقدي (‪)1( :1994‬‬
‫‪ )14‬تقع مشال غربـي املدينة املنورة‪ ،‬بني وادي القرى وأيلة‪ ،‬وهي قريبة جدًا من‬
‫حدود الشام‪ ،‬بينما يذكر احلموي (‪ )123 )1( :1229‬أن حسمى أرض واسعة‬
‫ببادية الشام بني أيلة وسيناء‪ .‬ويبدو أن حسمى اسم كان يطلق على املنطقة املمتدة‬
‫بني وادي القرى وصو ًال إىل حدود سيناء قرب أيلة‪ ،‬ولذا قد يصعب أن حندد متامًا‬
‫أين توجهت تلك السرية يف هذه املساحة الشاسعة من حسمى‪.‬‬
‫ويشري الواقدي (‪ )11 )1( :1994‬أن النبـي ﷺ قد أرسل هذه السرية عقب‬
‫إرسال كتابه إىل هرقل عظيم الروم‪ ،‬ويُذكر أن هرقل قد أحسن استقبال رسولَ‬
‫رسولِ اهلل ﷺ‪ ،‬وهو دحية الكلبـي رضي اهلل عنه وقدّم إليه هديّة‪ .‬إال أن دحية‬
‫تعرض هلجوم وهو يف حسمى يف طريق عودته إىل املدينة املنورة من قبل قوم من‬
‫قبيلة جذام‪ .‬فما كان من النبـي ﷺ إال أن أرسل زيدًا بن حارثة رضي اهلل عنه‬
‫على رأس سريّة من ‪ 199‬صحابـي للردّ على ما حصل لدحية كما يقول ابن كثري‬
‫(‪ .)112 )1( :1211‬إال أنّ هذا السبب الذي يذكره ابن كثري ليس مقنعًا متامًا‪ ،‬إذ‬
‫ليس هنالك من دليل على أي رسائل بني النبـي ﷺ وهرقل قبل صلح احلديبية‬
‫كما يذكر أبو مايلة (‪ ،)39 :1994‬فهذه السرية كما يرى أبو مايلة ستكون قد‬
‫وقعت بعد صلح احلديبية إن أخذنا قصة كتاب النبـي ﷺ إىل هرقل بعني‬
‫االعتبار‪ .‬بقي أن نشري إىل أن إحدى الروايات املتعلقة باهلجوم على دحية الكلبـي‬
‫رضي اهلل عنه تذكر أنه قد كان يف جتارة له (أبو مايلة ‪ .)31 :1994‬ولعل هذا هو‬
‫سبب االعتداء عليه يف حسمى‪ ،‬إذ ليس من الضرورة أن يكون عائدًا من عند‬
‫هرقل‪.‬‬
‫وحىت لو نظرنا إىل قصة كتاب هرقل‪ ،‬فال بدّ من التنبيه إىل أنّ الواقدي يذكر‬
‫أنّ شخصني فقط هامجا دحية الكلبـي رضي اهلل عنه‪ ،‬ومها اهلنيد بن عارض وابنه‬
‫عارض‪ ،‬أما قبيلة جذام فقد كانت كما يذكر الواقدي قد دخلت يف عهد مع‬
‫النبـي ﷺ وقد قاموا بالفعل مبساعدة دحيّة (الواقدي ‪ .)11 )1( :1994‬وبغض‬
‫النظر عن سبب مهامجة دحية‪ ،‬فإنه ال يعقل إرسال جيش ملعاقبة أفراد أقدموا على‬
‫هذه الفعلة‪ ،‬كما أن إرسال ‪ 199‬شخص يف سرية كهذه جيعلنا نستبعد أن يكون‬
‫اهلدف من ورائها جمرد تأديب جمموعة من األشخاص‪ ،‬كما نستبعد أساسًا أن يقوم‬
‫‪017‬‬
‫النيبّ ﷺ بإرسال ‪ 199‬من رجاله للهجوم على شخصني وحسب‪ ،‬خاصّة أنّ البقية‬
‫من قومهما احترموا النبـي ﷺ وساعدوا دحيّة ومن معه‪.‬‬
‫وال يتبقى أمامنا سوى تفسري وحيد إلرسال ‪ 199‬رجل يف سرية إىل تلك‬
‫املنطقة‪ ،‬فهذه السرية هي أول محلة عسكرية جهة الشمال الغربـي يف حياة‬
‫النبـي ﷺ‪ ،‬وحسمى هذه تقع على الطريق املباشر إىل الشام وعلى مشارفها‪ ،‬وقد‬
‫تبع هذه السرية إهناء لدور قريش بعد غزوة اخلندق‪ ،‬وهذا عنصر أساسي يف إدراك‬
‫دور هذه السرية‪ ،‬واليت ال ميكن النظر إليها بعدد رجاهلا وموقعها والظروف اليت‬
‫أحاطت هبا إال كنقطة البدء للتحرك العسكري الفعلي اهلادف إىل معرفة الطريق‬
‫املؤدي إىل بيت املقدس واكتشافه‪ ،‬ولعل هذا هو التفسري الوحيد ملشاركة ذلك‬
‫العدد الكبري يف هذه السرية واليت كانت األبعد عن املدينة املنورة حىت ذلك الوقت‪.‬‬
‫ويؤكد ما ذهبنا إليه آنفًا أن سرية زيدٍ بن حارثة إىل الطائف‪ ،‬وهي السرية اليت‬
‫ال مبن فيهم قائدهم‪ ،1‬وهو زيد رضي‬ ‫سبقت سرية حسمى‪ ،‬قد شارك فيها ‪ 11‬رج ً‬
‫اهلل عنه‪ ،‬والذي شارك يف ست سرايا يف العام نفسه‪ ،‬أي يف العام السادس للهجرة‪.‬‬
‫لقد كانت سرية حسمى األكرب واألبعد يف وقتها‪ ،‬وقد تبعتها سرايا أخرى‬
‫أصغر حجما يف نفس االجتاه كما سيأيت‪ ،‬بيد أهنا مل تصل إال لنصف املسافة اليت‬
‫وصلت إليها سرية حسمى‪.‬‬

‫أرية ّم القرف والوأأئع الت تيتلأ‬

‫ّ‬
‫هذه الوجهة اجلديدة للحمالت العسكرية قد استمرت كذلك يف السرية‬
‫الثانية اليت توجهت مشال غريبّ املدينة املنورة إىل منطقة تعرف بأم القرى (رجب ‪1‬‬
‫للهجرة‪ 112/‬ميالدية)‪ .‬وقد كانت هذه السرية كذلك حتت إمرة زيد بن حارثة‬
‫رضي اهلل عنه‪ .‬كما انطلقت بعدها سرية أخرى بقيادة عبد الرمحن بن عوف رضي‬
‫اهلل عنه جهة الشمال الشرقي إىل دومة اجلندل‪ .‬ومع أنّ دومة اجلندل تقع على‬
‫طريق العراق وليس الشام‪ ،‬ولكن القصد منها هو التخلص من أيِّ أمر قد يعيق‬

‫زيد بن حارثة رضي اهلل عنه (ت‪ 3 .‬للهجرة‪ 112/‬ميالدية) صحابـي جليل‪ ،‬تبناه‬ ‫‪1‬‬
‫النبـي ﷺ يف مكة قبل حترمي التبين يف اإلسالم‪ ،‬ولقّب باحلبّ حلب النبـي ﷺ له‪.‬‬
‫استشهد رضي اهلل عنه يف معركة مؤتة (ابن سعد ‪.)14-12 )1( :1222‬‬
‫‪018‬‬
‫الوصول إىل بيت املقدس والتأكد من أنّ الطريق إىل هنالك سالكة متامًا‪ .‬ولعل هذا‬
‫ما دفع النبـي ﷺ ليوجّه أوامره إىل عبد الرمحن بن عوف بأن ال يكتفي بدعوة‬
‫أهل دومة اجلندل إىل اإلسالم وحسب‪ ،‬بل أن يتقدم بالزواج من ابنة ملكهم أيضًا‬
‫(انظر الواقدي‪ .)13 )1( :1994 :‬وهذا يؤكد على أنّ عهدًا جديدًا قد بدأ من‬
‫العالقة بني املسلمني ودومة اجلندل‪ .‬ومن خالل تأمني اجلانب الشرقي من الطريق‬
‫‪1‬‬
‫إىل بيت املقدس فإن هذه الطريق ستصبح آمنة من مجيع اجلهات‪.‬‬
‫أرية ادك‬
‫ّ‬
‫قام النبـي ﷺ بعد ذلك بإرسال سرية إىل مدينة فدك وأمّر عليها عليًا بن أبـي‬
‫طالب كرم اهلل وجهه‪ ،‬وكان ذلك يف شهر شعبان للعام السادس للهجرة‪112/‬‬
‫ميالدية‪ ،‬وهي مدينة قرب خيرب ويسكنها اليهود‪ .‬ويذكر الواقدي (‪)19 )1( :1994‬‬
‫أن هذه الغزوة أتت بعد أن وصلت معلومات للنبـي ﷺ تفيد بأن اليهود يعتزمون‬
‫مهامجة املدينة مع أهل خيرب‪ ،‬فأرسل النبـي ﷺ سرية للهجوم على فدك‪ .‬ونستنتج مما‬
‫ذكره الواقدي أن العالقة بني املسلمني واليهود يف خيرب ويف فدك كان يشوهبا التوتر‪،‬‬
‫وهذا أمر صحيح‪ ،‬فقد كان يهود خيرب طرفًا أساسيًا ومهمًا يف التجهز لغزو املدينة يف‬
‫غزوة اخلندق (ابن إسحاق ‪ .)121-121 :1994‬ولذا فإنه ليس مستبعدًا أن‬
‫النبـي ﷺ كان ينتظر الفرصة املناسبة للتخلص من هتديدهم‪ .‬وقد كان النبـي ﷺ‬
‫حباجة لفتح الطريق حنو الشام وبيت املقدس‪ ،‬وهذا يتطلب جتاوز عائق أساسي‪،‬‬
‫واملتمثل بيهود خيرب ووادي القرى وفدك وغريها من املدن‪ ،‬ومبا أنّ خيرب هي العائق‬
‫األكرب‪ ،‬فقد كان ال بدّ من البداية من إضعاف املناطق األصغر احمليطة هبا‪.‬‬
‫لقد قام النبـي ﷺ بقيادة جيش إىل دومة اجلندل يف العام اخلامس للهجرة‪ 111/‬ميالدية‪،‬‬ ‫‪1‬‬
‫ولكن موقع دومة اجلندل بعيد عن الطريق الواصل إىل بيت املقدس كما ذكرنا‪ ،‬فدومة‬
‫اجلندل تقع يف الواقع على الطريق الواصل إىل العراق واجلزيرة الفراتية‪ .‬كما أن احلرب بني‬
‫املسلمني وقريش كانت على أشدها يف ذلك الوقت‪ ،‬وهذا ما يقلل من أمهية غزوة دومة‬
‫اجلندل حينها باملقارنة مع سرية عبد الرمحن بن عوف‪ .‬ويعود هذا إىل التوقيت والظروف‬
‫لكل من احلملتني‪ .‬ومل يذهب النبـي إىل نقطة بعد دومة اجلندل على طريق العراق‪،‬‬
‫بعكس ما كان عليه األمر بالنسبة للطريق املؤدي إىل بيت املقدس‪ ،‬حيث ذهب النبـي يف‬
‫محالته العسكرية خارج شبه اجلزيرة العربية ودخلت جيوشه بالد الشام‪ ،‬وهذا يدل على‬
‫أن النبـي ﷺ مل يكن مهتمًا بالعراق يف ذلك الوقت قدر اهتمامه ببالد الشام‪.‬‬
‫‪019‬‬
 ‫أرية م أراة‬
‫ّ‬
‫لقد كانت السريّة اليت أعقبت سرية فدك‪ ،‬واليت قادها زيد بن حارثة كذلك‬
‫حنو أم قرفة قرب وادي القرى يف رمضان للعام السادس للهجرة‪ 113/‬للميالد)‬
‫(انظر الواقدي ‪ )14 )1( :1994‬عملية مكملة لسرية عليّ كرم اهلل وجهه إىل‬
‫فدك‪ 1.‬إنّ إرسال النبـي ﷺ هلاتني السريتني اللتني توجهتا حنو وادي القرى‬
‫وفدك‪ ،‬ومها مدينتان معظم سكاهنما من اليهود‪ ،‬يظهر أن النبـي ﷺ كان مهتمًا‬
‫بأمر املدن اليهودية الواقعة مشال غربـي املدينة املنورة‪ ،‬أي املدن الواقعة على‬
‫الطريق إىل بيت املقدس‪ ،‬وميكن أن نعزو هذا إىل أمهية إزالة مجيع العقبات اليت قد‬
‫تعترض طريق املسلمني حنو بيت املقدس‪.‬‬
‫ميكن القول يف الوقت نفسه إن مشاركة يهود املنطقة يف احلرب ضد املسلمني‬
‫ودولتهم يف املدينة املنورة‪ ،‬خاصة يف غزوة اخلندق‪ ،‬دفع النبـي ﷺ إىل استباق‬
‫األحداث والتصرف بسرعة‪ ،‬ولعل هذا هو السبب يف إقدامه ﷺ بعيد صلح‬
‫احلديبية يف هناية العام السادس للهجرة‪ 113/‬ميالدية (الواقدي ‪،)14 )1( :1994‬‬
‫بقيادة جيش إىل خيرب كان هو بنفسه على رأسه‪ .‬وال ريب أن صلح احلديبية من‬

‫لقد ورد ذكر سريتني أخريني بعد أم قرفة‪ .‬أما األوىل فكان على رأسها عبد اهلل‬ ‫‪1‬‬
‫بن عتيك‪ ،‬وقد توجهت حنو خيرب لقتل أحد قادهتا‪ ،‬وهو سالم بن أبـي احلقيق‪ ،‬والذي‬
‫كان أحد أكرب أعداء املسلمني يف خيرب‪ .‬بينما كانت الثانية بقيادة عبد اهلل بن رواحة‬
‫وكان اهلدف منها قتل أسري بن رازم‪ ،‬والذي جاء بعد سالم بن احلقيق‪ ،‬وكان ذلك يف‬
‫رمضان من السنة السادسة للهجرة‪ 113/‬ميالدية (انظر ابن إسحاق ‪.)411-419 :1994‬‬
‫وهنالك خالف يف وقت هذه السرية‪ ،‬فابن إسحاق يذكر (‪ )419 :1994‬أهنا قد وقعت‬
‫مباشرة بعد اخلندق‪ ،‬أي يف هناية العام اخلامس للهجرة أو بداية العام السادس للهجرة‬
‫(‪ 112‬ميالدية)‪ .‬أما ابن سعد (‪ ،)29 )1( :1222‬وأبو خليل (‪ )143 :1991‬فيذكران أهنا‬
‫قد وقعت يف رمضان من العام السادس للهجرة (‪ 113‬ميالدية)‪ ،‬بينما يرى الواقدي‬
‫(‪ )119 )1( :1994‬أن هذه السرية قد وقعت يف شهر ذي احلجة من العام الرابع للهجرة‬
‫(‪ 111‬ميالدية)‪ ،‬والطربي (‪ )12 )1( :1223‬يرى أهنا كانت يف منتصف العام الثالث‬
‫للهجرة (‪ 114‬ميالدية)‪ ،‬واملباركفوري (‪ )111 :1221‬يذهب إىل أهنا كانت يف هناية العام‬
‫اخلامس للهجرة (‪ 112‬ميالدية)‪ .‬وأرى أن هاتني السريتني إضافةً إىل سرية حممد‬
‫بن مسلمة لقتل كعب بن األشرف تقع خارج مضمون دراسة السرايا والبعوث العسكرية‬
‫يف هذا الكتاب كوهنا تتعلق مبهمة خاصة جداً يف األهداف واألسلوب والتطبيق ال كباقي‬
‫السرايا والبعوث‪.‬‬
‫‪001‬‬
‫املعامل األساسية يف سرية النبـي ﷺ‪ ،‬فهي املعاهدة اليت دحرت خطر قريش‬
‫وضمنت أن ال يتعرض املسلمون للهجوم من اجلنوب من قبلهم‪ .‬كما سهّلت هذه‬
‫املعاهدة مهمة إرسال الرسائل للزعماء يف تلك الفترة من أمثال هرقل عظيم الروم‪،‬‬
‫باإلضافة إىل فتح اجملال أمام دعوة العرب يف شبه اجلزيرة لإلسالم‪ .‬ونضيف إىل‬
‫ذلك أن صلح احلديبية كان خطوةً مهمة لتمهيد الطريق حنو الشام وبيت املقدس‬
‫وتأمينه‪ ،‬وهو الطريق الواقع مشال غربـي املدينة املنورة‪ .‬وميكن فهم كل هذه‬
‫العناصر جمتمعةً حني ندرس التحرك العسكري الذي أقدم عليه النبـي ﷺ مباشرة‬
‫عقب صلح احلديبية واملتمثل بغزوة خيرب‪.‬‬

‫سزو بيبر‬
‫وقعت غزوة خيرب يف بداية العام السابع للهجرة‪ 113/‬ميالدية (ابن إسحاق‬
‫‪ ،)429 :1994‬وهلذه الغزوة شؤون متشعبة ال بد من تناوهلا وحتليلها نظرًا ألمهيتها‬
‫ودقتها‪.‬‬
‫لعلّ أهمّ ما مييّز هذه الغزوة هو أنّ النبـي ﷺ قادها بنفسه وتوجه جبيش‬
‫املسلمني مشال غربـي املدينة املنورة‪ ،‬إىل الطريق الواصل إىل بيت املقدس‪ ،‬وهكذا‬
‫تكون غزوة خيرب إحدى اخلطوات األساسية اليت كان اهلدف منها فتح الطريق حنو‬
‫الشام‪.‬‬
‫ويذكر معظم مؤرخي اإلسالم كابن إسحاق (‪ )429 :1994‬والطربي‬
‫(‪ )144 )1( :1223‬والواقدي (‪ )111 )1( :1994‬وابن سعد (‪)31 )1( :1222‬‬
‫وقوع تلك الغزوة من دون ذكر أسباب حمددة هلا‪ ،‬غري أنّه جيدر بنا أن ال نستثين‬
‫هذه الغزوة من سياق الغزوات والسرايا األخرى يف تلك الفترة‪ ،‬خاصة تلك اليت‬
‫سبقتها‪ .‬فاملباركفوري يرى على سبيل املثال (‪ )111 :1221‬أنّ القصد وراء هذه‬
‫الغزوة هو معاقبة يهود خيرب لدورهم يف االعتداء على املسلمني‪ ،‬خاصةً يف غزوة‬
‫اخلندق‪ ،‬إذ كانوا حمرّكًا أساسيًا لتشكيل حتالف من اجليوش ملهامجة املدينة املنورة‪.‬‬
‫كما يذكر املباركفوري أن اليهود يف ذلك الوقت كانوا طرفًا يف احللف الثالثي‬
‫املعادي للمسلمني‪ ،‬وأنّ النبـي ﷺ حني دخل يف صلح احلديبية مع قريش حترك‬
‫ليتعامل مع الطرفني املتبقيني‪ ،‬وهم اليهود من جهة وقبائل جند من جهة أخرى‪.‬‬
‫‪000‬‬
‫وهلذا مل ميكث النبـي ﷺ حىت مضى إىل غزوة ذات الرقاع مباشرة بعد غزوة‬
‫خيرب‪ 1.‬وهذا يؤكّد رأي املباركفوري خبصوص أسباب غزوة خيرب‪.‬‬
‫جتدر اإلشارة يف الوقت نفسه إىل أن النبـي ﷺ لو كان يهدف إىل االنتقام‬
‫من يهود خيرب لدورهم يف غزوة اخلندق‪ ،‬ملا قام بإرسال جيوشه لغزو مدن اليهود‬
‫يف أم القرى وتيماء وفدك قبل هذه الغزوة (انظر الواقدي ‪.)113-111 )1( :1994‬‬
‫وقد سبق أن ذكرنا أن يهود فدك هم الذين انفردوا مبساعدة يهود خيرب‪ .‬ولو كان‬
‫النبـي ﷺ يسعى لالنتقام مما حصل يف اخلندق وحسب ملا كان قد أرسل جيوشه‬

‫يرى املباركفوري أن غزوة ذات الرقاع واليت كانت متجهة حنو جند قد حدثت عقب‬ ‫‪1‬‬
‫غزوة خيرب (املباركفوري ‪ ،)121 :1221‬بيد أن هنالك اختالفا كبريًا بني املؤرخني حول‬
‫تاريخ غزوة ذات الرقاع‪ .‬فيذهب معظم املؤرخني‪ ،‬كالواقدي (‪)111 )1( :1994‬‬
‫والطربي (‪ )21 )1( :1223‬وابن إسحاق (‪ )132 :1994‬إىل أن هذه الغزوة قد وقعت‬
‫يف العام الرابع للهجرة‪ 111/‬ميالدية‪ .‬ولكنّ املباركفوري من ناحية أخرى يرى أنه من غري‬
‫املمكن أن تكون هذه الغزوة قد حدثت يف مثل هذا الوقت املبكر‪ ،‬وذلك ألنّ أبا موسى‬
‫األشعري قد شهدها (املباركفوري ‪ ،)121 :1221‬وهذا رأي البخاري كذلك (‪:1999‬‬
‫(‪ .)311 )1‬ورغم أن البخاري قد قدم رأيه خبصوص تاريخ هذه الغزوة‪ ،‬إال أنّه أدرجها‬
‫يف صحيحه قبل غزوة خيرب‪ ،‬وهذا يعين أنّه ليس متأكدا متامًا من تاريخ هذه الغزوة‪ ،‬ويبدو‬
‫أنّه مل يتمكن من العثور على دليل يؤكّد رأيه يف القضية‪ ،‬فعمد إىل وضع غزوة ذات‬
‫الرقاع قبل غزوة اخليرب يف كتابه الذي رتب فيه الغزوات حسب تاريخ وقوعها‪ .‬ويرجع‬
‫تردد البخاري إىل حديث ألبـي موسى األشعري (‪ )311 )1( :1999‬يذكر فيه أنه‬
‫ذهب مع النبـي ﷺ يف غزوة‪ ،‬وأهنم مشوا طويالً حىت تأذت أقدامهم‪ ،‬فغطوها برقاع‬
‫من القماش‪ ،‬فسميت الغزوة لذلك بذات الرقاع‪ .‬وحنن نرى أن رأي الواقدي املتعلق‬
‫بتسمية هذه الغزوة هو أكثر صحة‪ ،‬إذ يقول إهنا مسيت بذات الرقاع نظرًا لطبيعة األرض‬
‫يف تلك املنطقة من جند حيث تتعدد ألوان صخورها وترتبها فتبدو كأهنا قطع من القماش‪.‬‬
‫أما ابن هشام فريى أن الغزوة مسيت باسم شجرة كانت تعبدها العرب‪ ،‬وكان امسها ذات‬
‫الرقاع‪ ،‬وكانت العرب تربط خرقا من القماش هبا (ابن هشام ‪ .)192 )1( :1991‬كما‬
‫ورد يف التاريخ أسباب أقل أمهية من هذه اليت أوردناها‪ .‬ولعل رأي املباركفوري هو‬
‫األكثر دقة من بني تلك اآلراء‪ ،‬ويؤكد ذلك احلديث الذي رواه البخاري عن أبـي‬
‫موسى األشعري‪ ،‬باإلضافة إىل حديث آخر رواه البخاري ‪ )311 )1( :1992‬عن أبـي‬
‫هريرة‪ ،‬والذي أتى إىل النبـي ﷺ بعد خيرب وشهد "غزوة جند" مع النبـي ﷺ‪ ،‬ومن‬
‫املعروف أن النبـي ﷺ مل خيرج يف غزوة إىل جند بعد اعتناق أبـي هريرة لإلسالم إال‬
‫تلك الغزوة‪ .‬وقد ذكر أبو هريرة أهنا مسيت بذات القراع‪ ،‬وهذا يعين أهنا قد وقعت على‬
‫األغلب بعد غزوة خيرب‪.‬‬
‫‪001‬‬
‫لتصل إىل أم القرى وتيماء‪ ،‬إذ ال عالقة مباشرة هلاتني املدينتني باخلندق‪ .‬وبناء على‬
‫هذا فإن الدافع األكثر إقناعًا خلروج النبـي ﷺ إىل غزوة خيرب هو أهنا جزء من‬
‫سلسلة اخلطوات اليت قام هبا النبـي ﷺ باجتاه الشام‪ ،‬خاصة إذا نظرنا إىل الوقائع‬
‫واألحداث اليت سبقت هذه الغزوة وما تبعها كذلك من حتركات عسكرية‪.‬‬
‫ومن خالل التخلص من اليهود القاطنني جهة الشمال الغربـي صارت فرصة‬
‫النبـي ﷺ للتقدم بشكل أسرع يف ذلك االجتاه‪ ،‬وقد حتقق هذا بالفعل حني أقدم‬
‫النبـي ﷺ يف العام نفسه بعد غزوة خيرب على إرسال سرايا أخرى باالجتاه نفسه‬
‫حنو الشام‪ .‬كما أرسل النبـي ﷺ غريها من السرايا يف اجتاهات أخرى‪ ،‬إال أنّ‬
‫معظم السرايا اليت انطلقت يف تلك الفترة توجهت حنو الشمال الغربـي‪ ،‬خاصة‬
‫باجتاه املناطق اليت يقطنها اليهود واليت خضعت لسيطرة املسلمني بعد خيرب‪ ،‬مثل‬
‫فدك‪ .‬ولعل اهلدف كذلك من تلك السرايا التحقق من والء اليهود القاطنني يف‬
‫تلك املناطق‪ ،‬خاصة بعدما وافق النبـي ﷺ على اإلبقاء عليهم يف مناطقهم بعد‬
‫خيرب‪.‬‬

‫أرية ادك الثأنية‪ ،‬وأرية الجنأو‬

‫لقد خضع والء يهود فدك لالختبار وصار على احملكّ‪ ،‬وذلك يف إحدى‬
‫السرايا اليت وقعت يف العامني السابع والثامن للهجرة‪ ،‬وهي سرية بشري بن سعد‪،‬‬
‫وذلك حني أصيب قائدها‪ ،‬وبقي يف فدك إىل أن استردّ عافيته (الواقدي ‪:1994‬‬
‫(‪ .)123 )1‬كما انطلقت سرية بشري مرة أخرى إىل منطقة اجلناب والواقعة على‬
‫الطريق نفسه من أجل مهامجة قبائل غطفان‪ ،‬والذين كانوا عازمني على مهامجة‬
‫املدينة املنورة (الواقدي ‪ .)131 )1( :1994‬وقد التقوا معهم قرب خيرب‪ ،‬ولكنّ‬
‫اليهود مل يقدموا العون لقبائل غطفان‪ ،‬وقد مثّل هذا حتوالً كبريًا يف موقف‬
‫اليهود‪ ،‬وذلك ألهنم كانوا يف حلف مع غطفان يف وقت سابق يف غزوة اخلندق‪،‬‬
‫كما أنّه إشارة على أنّ النبـي ﷺ قد ضمن حياد اليهود القاطنني جهة الشرق‬
‫الغربـي فصار الطريق حنو الشام آمنًا من هذه اجلهة‪ .‬ولعل هذا ما دفع‬
‫النبـي ﷺ للتقدم خبطوات متسارعة جهة الشمال الغربـي‪ ،‬وأن يرسل سرية‬
‫أخرى إىل ذات أطالح‪.‬‬
‫‪001‬‬
 ‫طالح‬ ‫أرية يا‬
‫يرى موشيه جيل (‪ )11 :1222‬أن سرية ذات أطالح‪ 1‬هي أول سرية‬
‫للنبـي ﷺ يف فلسطني‪ ،‬وأن هذه السرية يف رأيه جاءت بسبب ما اعترى‬
‫البيزنطيني من ضعف كبري يف تلك الفترة‪ ،‬مما دفع النبـي إلمضاء سرية يف العام‬
‫الثامن للهجرة هبدف "خطب ودّ القبائل العربية القاطنة على مشارف فلسطني‬
‫وكسبهم إىل جانبهم" (جيل ‪ .)11-11 :1222‬لقد كانت فلسطني يف تلك الفترة‬
‫حتت سيطرة البيزنطيني‪ ،‬وهذا ما يؤكده خالد العويسي أيضًا (‪.)11 :1992‬‬
‫ولو اكتفينا باالعتماد على ما ذهب إليه جيل على عواهنه فإن هذه السرية‬
‫ستكون أول حترك عسكري ضمن منطقة الشام‪ ،‬ولكنّه يصعب يف الوقت ذاته أن‬
‫ال‬
‫نصف هذه السرية بأهنا محلة عسكرية‪ ،‬إذ مل يشارك هبا سوى مخسة عشر رج ً‬
‫كما يذكر الواقدي (‪ )191 )1( :1994‬والطربي (‪ .)111 )1( :1223‬وال يعقل‬
‫ال يف محلة عسكرية إىل منطقة‬‫حبال أن يقوم النبـي ﷺ بإرسال مخسة عشر رج ً‬
‫يطؤها املسلمون للمرة األوىل‪ .‬أما القول بأنّ القصد هو كسب والء القبائل العربية‬
‫يف تلك املنطقة فهو رأي أقرب للمنطق‪ ،‬ويؤيده ما يذكره الواقدي (‪)1( :1994‬‬
‫‪ )191‬والطربي (‪ ،)111 )1( :1223‬من أنّ النبـي ﷺ قد أرسل هذه السرية‬
‫لدعوة الناس يف تلك املنطقة لإلسالم‪ .‬ويبدو أن النبـي ﷺ قد بدأ يف هذه السرية‬
‫االهتمام بشكل فعلي يف إستراتيجيته هبذه املنطقة‪ ،‬وال شكّ أن إرساله وفدًا من‬
‫الصحابة لعرض دعوة اإلسالم واهلداية على الناس يف تلك املنطقة أمرٌ حيمل يف‬
‫طيّاته دالالت عديدة‪ 2.‬لقد أراد النبـي ﷺ أن يبدأ وجود املسلمني الفعلي يف بالد‬
‫الشام‪ ،‬ولكنّ العادة درجت لديه ﷺ على دعوة الناس إىل اإلسالم قبل حرهبم‪.‬‬
‫كما أراد النبـي ﷺ أن يدرس املنطقة جيدًا قبل إرسال اجليوش إليها‪ .‬وميكن فهم‬
‫هذه اجلوانب من خالل النظر يف التوقيت والظروف األخرى اليت أحاطت هبذه‬
‫السرية‪.‬‬

‫ال يذكر احلموي (‪ )112 )1( 1229‬موقعًا حمددًا لذات أطالح‪ ،‬ويكتفي باإلشارة إىل أهنا‬ ‫‪1‬‬
‫تقع بعد وادي القرى‪ ،‬على الطريق بني املدينة والشام‪.‬‬
‫مل يرد أي ذكر يف كتب التاريخ عمّن كان يسكن يف ذات أطالح ولكنهم كانوا من‬ ‫‪2‬‬
‫قبائل العرب على األرجح‪.‬‬
‫‪004‬‬
‫لقد جاءت هذه السرية بعد أن قام النبـي ﷺ بضمان جانب اليهود القاطنني‬
‫على تلك الطريق بعد عدد من الغزوات والسرايا‪ ،‬وباألخص بعد غزوة خيرب‪ ،‬واليت‬
‫كسرت شوكتهم وكفت شرّهم‪ .‬ولذا ميكن النظر إليها على أهنا االختبار األخري‬
‫ملدى التزامهم هبذا املستوى من العالقة مع املدينة املنورة‪ .‬كما أراد النبـي ﷺ أن‬
‫يعرف طبيعة القبائل الشمالية اليت تسكن تلك املنطقة قبل أن يصلها جيش‬
‫املسلمني‪ .‬ويؤكد هذا إىل حد ما رأي جيل خبصوص هذه القبائل (جيل ‪:1222‬‬
‫‪ .)11‬كما أن طبيعةَ سرية ذات أطالح كانت أقرب إىل كوهنا دعوةً للناس إىل‬
‫اإلسالم‪ .‬وهذا دليل على توجّه اهتمام النبـي بشكل خاص حنو تلك املنطقة يف‬
‫ذلك الوقت بالتحديد‪ ،‬إذ ال يوجد ما يدل على إرسال سرايا أخرى للدعوة إىل‬
‫‪1‬‬
‫ال يف تلك الفترة بالتحديد‪.‬‬
‫اإلسالم يف العراق مث ً‬
‫لقد انتهت سرية ذات أطالح بفاجعة على املسلمني كما يذكر العديد من‬
‫املؤرخني‪ ،‬إذ هاجم السريةَ سكانُ تلك املنطقة‪ ،‬واستشهد أربعة عشر من الصحابة‬
‫رضوان اهلل عليهم‪ ،‬ولعل هذا هو السبب املباشر ملعركة مؤتة واليت حدثت بعد هذه‬
‫احلادثة بوقت قصري‪.‬‬

‫معرية مؤتة‬
‫وقعت هذه املعركة يف السنة الثامنة للهجرة‪ .‬ويقول الواقدي (‪)1( :1994‬‬
‫‪ )191‬يف ظروف هذه السرية إن النبـي ﷺ قرر عدم التوجه لالنتقام ملا حدث يف‬
‫ذات أطالح ألنّه علمَ أنّ القبائل الساكنة هناك‪ ،‬واليت هامجت سرية املسلمني يف‬
‫ذات أطالح‪ ،‬قد هاجرت إىل مكان آخر‪ .‬وإن كنا ال نتفق مع الواقدي متاماً يف ما‬
‫طرحه يف هذه النقطة إال أننا نسلم بأن النبـي ﷺ مل يرسل جيشه إىل مؤتة لالنتقام‬
‫مما حصل يف ذات أطالح فقط‪ ،‬حيث أنه ليس من املعقول إرسال جيش يتألف من‬
‫‪ 1999‬رجل إىل مؤتة جملرد االنتقام من قتل الصحابة الذين استشهدوا يف ذات‬
‫أطالح‪ .‬خاصةً وأن جيش مؤتة مل يكن متوجها حنو ذات أطالح‪ ،‬ولكنه توجه إىل‬
‫نقطة أعمق يف الشام (الطربي ‪ .)119 )1( :1223‬لكن الواقدي اعتمد يف رفضه‬

‫باستثناء رسائل النبـي ﷺ إىل امللوك والزعماء‪ ،‬وحنن نقصد هنا السرايا اليت أرسلت‬ ‫‪1‬‬
‫لدعوة الناس إىل اإلسالم‪.‬‬
‫‪005‬‬
‫لكون االنتقام ملا حدث يف ذات أطالح هو السبب الرئيس لسرية مؤتة على فكرة‬
‫هجرة القبائل اليت كانت تقيم يف ذات أطالح إىل مكان آخر‪ ،‬وهذه النقطة بالذات‬
‫ال نتفق فيها مع الواقدي‪ ،‬فلم يرد يف التاريخ ما يدل على أن قبائل ذات أطالح قد‬
‫هاجرت إىل تلك النقطة من الشام‪ ،‬وال تظهر رواية الواقدي إىل أينَ انتقل هؤالء‬
‫األقوام‪ .‬وال يعقل أن يكون النبـي ﷺ قد أرسل جيشًا كبريًا كهذا لالنتقام من‬
‫مقتل أولئك الصحابة الذين قضوا يف ذات أطالح‪ ،‬وهو مل يفعل الشيء نفسه يف‬
‫واقعة أكرب من هذه حني استشهد سبعون من الصحابة يف سريّة غري حماربةٍ عند بئر‬
‫معونة (املباركفوري ‪ ،)191-122 :1221‬مع أهنا كانت كذلك أقرب وأسهل‪.‬‬
‫غري أنّ الواقدي يشري إىل سبب آخر إلرسال النبـي ﷺ جيشًا إىل مؤتة‪،‬‬
‫فيذكر أنّ النبـي ﷺ قد أرسل احلارث بن عمري األزدي رسو ًال إىل ملك‬
‫ال على البلقاء‪،‬‬‫بصرى‪ ،1‬وقد عرض له شرحبيل بن عمرو الغساين‪ ،‬وكان عام ً‬
‫وقتله هناك‪ .‬وهلذا السبب أرسل النبـي ﷺ جيشًا إىل مؤتة لالنتقام من مقتل‬
‫رسوله (الواقدي ‪ .)191-191 )1( :1994‬وقد انفرَد الواقدي بذكر هذا السبب‬
‫ملعركة مؤتة‪ ،‬ويعتمد معظم املؤرخني على هذه الرواية ويعدوهنا السبب الفعلي‬
‫واملباشر للسرية‪ ،‬وهذا ما يرجحه الدكتور بريك أبو مايلة (‪.)143 :1994‬‬
‫من جهة أخرى يقول أكرم ضياء العمري (‪ )412 )1( :1224‬إن النظر إىل‬
‫األسباب املباشرة اليت دعت إىل غزو قبائل العرب على حدود الشام ال يؤثر على تفسري‬
‫هذه الوقائع كثريًا‪ ،‬وذلك ألن تشريع اجلهاد يتطلب إخضاعًا مستمرًا لقبائل العرب‬
‫والتوسع بالدولة اإلسالمية‪ ،‬بغض النظر عن األسباب املباشرة"‪ .‬وال يسعنا هنا إال أن‬
‫خنتلف مع العمري فيما ذهب إليه‪ ،‬إذ يظهر أنّه درس معركة مؤتة خارج تسلسل‬
‫األحداث اليت وقعت يف تلك الفترة‪ ،‬مع أنه ال ميكن حبال أن نعزل هذه السرية عن بقية‬
‫األحداث اليت أعقبتها وتلك اليت تلتها‪ ،‬ألهنا مبجموعها تظهر أن النبـي ﷺ مل يكن‬
‫معنيًا بإخضاع قبائل العرب يف تلك املنطقة لسيطرته‪ ،‬بل إنّه ﷺ قد أمر جيش مؤتة بأال‬
‫يتعرضوا لغري احملاربني وال حىت للمحاربني قبل دعوهتم لإلسالم (الواقدي ‪)1( :1994‬‬
‫‪ ،193-192‬املنصورفوري ‪ ،)134 )1( 1232‬وهذا جيعلنا نستبعد أن يكون االنتقام من‬
‫اآلخرين وإخضاعهم ضمن دوافع النبـي ﷺ إلرسال جيش إىل مؤتة‪.‬‬

‫تقع بصرى قرب دمشق من أعمال الشام‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪006‬‬
‫ال بدّ من التأكيد يف الوقت نفسه على أنّ رواية الواقدي حول اغتيالِ رسو ِل‬
‫رسولِ اهلل ﷺ ال ميكن قبوهلا‪ ،‬فمن املعروف أنّ النبـي ﷺ أرسل وفدًا بالفعل إىل‬
‫عامل بصرى‪ ،‬وقام عامل بصرى بتسليم الكتاب بنفسه إىل هرقل (انظر البخاري‬
‫‪ .)1 )1( 1999‬ويظهر أن الواقدي‪ ،‬أو واحد من مصادره على األغلب‪ ،‬قد‬
‫اختلطت عليه قضية هذا الكتاب‪ .‬فالواقدي حني يورد هذه القصة يشري بشكل‬
‫واضح إىل املصدر الذي نقل عنه‪ ،‬وهو الربيع بن عثمان‪ ،‬والذي يقتبس هو اآلخر‬
‫عن عمر بن احلكم (انظر الواقدي ‪ ،)191 )1( :1994‬مع أن الواقدي ال يذكر‬
‫عادة مصدرًا واحدًا لرواياته‪ ،‬مما يشعرنا يف هذه احلالة أنّه نفسه مل يكن واثقًا متامًا‬
‫هبذه الرواية‪ .‬وال بد أن نالحظ كذلك أن الصحابـي الذي ذكر يف رواية‬
‫الواقدي‪ ،‬وهو احلارث بن عمري األزدي‪ ،‬ليس معروفًا بني الصحابة‪ ،‬ومل يذكر يف‬
‫كتب التراجم إال يف هذه الرواية اليت يعتمد عليها العلماء وكتّاب التراجم‬
‫كالعسقالين (د‪ .‬ت‪ )131 )1( :‬وابن األثري (تويف عام ‪ 119‬للهجرة‪ 1111/‬ميالدية)‬
‫(‪ ،)113 )1( :1224‬لإلشارة إىل هذا الرجل باعتباره واحداً من صحابة رسول‬
‫ال‪.‬‬
‫اهلل ﷺ‪ .‬ولعل يف هذا داللة على أن هذه احلادثة اليت ذكرها الواقدي مل تقع أص ً‬
‫ولو عمدنا إىل النظر إىل هذه املعركة يف إطار أوسع يشتمل على األحداث‬
‫اليت أحاطت هبا‪ ،‬وخاصة سرية ذات أطالح‪ ،‬فإن هذا سيقودنا إىل أن اهلدف من‬
‫سرية مؤتة هو فتح الطريق املباشر حنو الشام وتأمينه‪ ،‬ألن هذا الطريق يصل مباشرة‬
‫إىل داخل الشام من جهة تبوك بدل الوصول إليها عرب الطريق الساحلي‪ ،‬وهذا يعود‬
‫إىل كون الطريق الداخلي أقصر ويؤدي مباشرة إىل قلب الشام‪ ،‬أمّا الطريق‬
‫الساحلي فيمر عرب أيلة ومن مث يدخل مرة أخرى إىل الصحراء‪ .‬وقد يعدّ الذهاب‬
‫إىل مؤتة أول حترك فعلي للمسلمني داخل الشام‪ ،‬بل حىت ضمن منطقة األرض‬
‫املقدسة على وجه اخلصوص‪ ،‬إذ تقع مؤتة على مشارف األرض املقدسة كما يذكر‬
‫خالد العويسي‪ .)124 :1992( 1‬انظر اخلريطة ‪.5‬‬
‫يطلق خالد العويسي على هذه احلدود حدود ‪ Islamicjerusalem‬اليت يترمجها أحياناً إىل‬ ‫‪1‬‬
‫ما يسميه (إقليم بيت املقدس)‪ ،‬ولكن هناك خالفاً شديداً يف اعتبار بيت املقدس إقليماً‬
‫باعتبار أن احلدود الدينية الوحيدة املعروفة يف هذه البقعة مرتبطة مبفهوم (األرض املقدسة)‬
‫ال بتحديد إقليمٍ معني باسم (بيت املقدس)‪.‬‬
‫‪007‬‬
 ‫البريطة (‪ :)5‬موأع مؤتة يى حدود منطقة بي المقدس‪ .‬المودر‪ :‬بألد العويأ (‪)224 :2002‬‬

‫وليس لدينا ما يدل على أن جيش مؤتة كان متوجهًا إىل مؤتة على وجه‬
‫التحديد‪ ،‬فاليعقوبـي (ت‪ 143 .‬للهجرة‪ 311 /‬ميالدية) على سبيل املثال يرى أن‬
‫ال إىل منطقة الشام بشكل عام‪ ،‬وليس إىل مؤتة‬‫جيش املسلمني كان متوجهًا أص ً‬
‫حتديدًا (انظر اليعقوبـي (د‪ .‬ت‪ .)21 )1( :‬وقد تابع اجليش تقدمه إىل منطقة يف‬
‫الشمال داخل منطقة األرض املقدسة تدعى "مشارف"‪ ،‬وهي اليت تعرف اآلن‬
‫باسم املشريفة‪ .‬انظر اخلريطة ‪.6‬‬

‫‪008‬‬
 ‫البريطة (‪ :)6‬موأع المميراة‪ .‬البريطة مت رأم المؤلف‪.‬‬

‫وهذا سبب آخر لردّ السبب الذي أورده الواقدي ملعركة مؤتة‪ .‬إذ لو كانت‬
‫هذه الغزوة بقصد االنتقام‪ ،‬ألمر النبـي ﷺ هذا اجليش بالتوجّه إىل املوقع‬
‫املطلوب‪ ،1‬ولكنّ للنيبّ ﷺ غايات أخرى من إرسال هذا اجليش‪ .‬ويرى عثامنة‬
‫(‪ )21 :1999‬أن جيش مؤتة قد كان يف واقع األمر متوجهًا هناك لفتح املنطقة‪،‬‬
‫وقد توصّل عثامنة لذلك بالنظر إىل أنّ النبـي ﷺ قد أمر اجليش بدعوة الناس يف‬
‫تلك املنطقة إىل اإلسالم قبل الدخول يف قتال معهم (انظر الواقدي ‪)1( :1994‬‬
‫‪ .)193-192‬بيد أنّ عثامنة ليس مصيبًا متامًا هنا‪ ،‬إذ إن دعوة الناس إىل اإلسالم‬
‫قبل قتاهلم أمرٌ مبدأيٌ من سياسات النبـي ﷺ‪ ،‬وهي سياسة طبقت يف معظم‬
‫السرايا والغزوات‪ ،‬ومل تترك سوى يف حاالت خاصة‪ ،‬كما حدث يف بعث أسامة‬
‫كما سنذكر الحقًا‪ .‬كما ال يعقل أن يقدم النبـي ﷺ على فتح املنطقة من دون‬
‫أن ميتلك فكرة واضحة ودقيقة خبصوص جيوش العدوّ عددِهم وعتادِهم‪ .‬وهذا ما‬

‫لن خنوض هنا يف تفاصيل هذه األحداث ألهنا خارجة عن سياق حبثتنا هذا‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪009‬‬
‫يتوصل إليه عثامنة نفسه حني قال إنّ معركة مؤتة كشفت للنبـي ﷺ أن مواجهة‬
‫البيزنطيني تتطلب عددًا كبريًا من الرجال وأنّ قبائل العرب جنوب الشام عنصر‬
‫مهم لضمان جناح أي محلة عسكرية إىل تلك املنطقة (عثامنة ‪ .)21 :1999‬وقد‬
‫أجاد عثامنة يف حتليل أمهية معركة مؤتة‪ ،‬ولكنّ رأيه يف أن هذه السرية مثلت حتركًا‬
‫فعليا حلملةٍ لفتح منطقة بيت املقدس ليس دقيقًا‪ ،‬ألنه يسقط من اعتباره العديد من‬
‫العناصر اليت سبق ذكرها‪ .‬ويبقى هلذه الغزوة بطبيعة احلال أمهية خاصة‪ ،‬فقد مسّى‬
‫النبـي ﷺ ثالثة قادةٍ من الصحابة هلذا اجليش‪ ،‬وهم زيد بن حارثة‪ ،‬وجعفر‬
‫بن أبـي طالب‪ ،‬وعبد اهلل بن رواحة‪ ،‬رضي اهلل عنهم‪ ،‬وهم ميثلون ثالثة قطاعات‬
‫أساسية من جمتمع املدينة املنورة؛ فزيد وجعفر ميثالن املهاجرين من مكة‪ ،‬وعبد اهلل‬
‫ميثل األنصار‪ ،‬كما كان جعفر ميثل آل بيت النبـي ﷺ‪ ،‬وكان زيد ميثل العرب‬
‫الذين ينحدرون يف أصوهلم من مكة‪ .‬وهلذا التنوع الفريد يف طيف قادة هذا اجليش‬
‫داللة مهمة نابعة من أمهية الوجهة اليت سيقصدها هذا اجليش‪ .‬كما أنّ القائد األول‬
‫للجيش‪ ،‬وهو زيد بن حارثة رضي اهلل عنه‪ ،‬كان القائد الذي أرسله النبـي ﷺ‬
‫من قبل جهةَ الشمال الغربـي من املدينة‪ ،‬فقد أمّره النبـي ﷺ على سرية حسمى‬
‫وعلى السريتني اللتني أرسلهما من قبل إىل وادي القرى‪ ،‬وقد يعين هذا أنّ‬
‫النبـي ﷺ كان حيضّر زيدًا رضي اهلل عنه لقيادة جيش مؤتة حني أرسله على رأس‬
‫أول سرية حنو الشمال الغربـي‪ .‬كما قُدّر البنه بعد ذلك أن يقود املعارك يف هذه‬
‫املنطقة‪.‬‬
‫ميكن كذلك أن نفهم تأمري النبـي ﷺ لثالثة من الصحابة على رأس هذا‬
‫اجليش أنّه كان يتوقع جيشًا ضخمًا أمامهم‪ ،‬فهذا اجليش ليس متوجهًا لالنتقام من‬
‫إحدى قبائل العرب وإمنا إىل مواجهة جيش عظيم‪ .‬وتذكر العديد من املصادر‬
‫اإلسالمية‪ ،‬كالواقدي (‪ )192 )1( :1994‬وابن إسحاق (‪ ،)194 :1994‬أن اجليش‬
‫البيزنطي كان يتألف من ‪ 999 ،199‬رجل‪ ،‬وقد تكون هذه مبالغة يف واقع األمر‪،‬‬
‫إذ كان جيب أن يرد ذكر هذا العدد لو كان صحيحًا يف مصادر أخرى‪ ،‬كالتاريخ‬
‫الذي كتبه تيوفانيس‪ .‬ومع أنّ حجم جيش البيزنطيني مل يكن على األغلب هبذا‬
‫احلجم كما ذكرت بعض املصادر اإلسالمية‪ ،‬إال أنّ جيش املسلمني قد واجه‬
‫بالفعل جيشًا ضخمًا من البيزنطيني‪.‬‬
‫‪011‬‬
‫وقد اضطر جيش املسلمني حني وقعت املواجهة بينه وبني جيش الدولة‬
‫البيزنطية وحلفائه من القبائل العربية (الواقدي ‪ ،192 )1( :1994‬الطربي ‪:1223‬‬
‫(‪ ،)119 )1‬إىل االنسحاب حتت راية خالد بن الوليد رضي اهلل عنه‪ ،‬والذي تسلم‬
‫راية املسلمني بعد استشهاد القادة الثالثة (انظر الواقدي ‪ .)111 )1( :1994‬وقد‬
‫كان هذا االنسحاب يف نظر مسلمي املدينة هزميةً‪ ،‬وهذا ما يراه بعض مؤرخي‬
‫اإلسالم‪ ،‬كالواقدي (‪ ،)111 )1( :1994‬الذي يعتقد أن معركة مؤتة انتهت هبزمية‬
‫جيش املسلمني‪ ،‬مع أنّ هناك العديد من الروايات اليت تشري إىل أنّ النيبّ ﷺ يرى‬
‫يف معركة مؤتة ظفرًا للمسلمني ال هزمي ًة هلم‪.‬‬
‫لقد كان النبـي ﷺ على منربه يف املدينة يتحدث عن املعركة أثناء حدوثها‪،‬‬
‫وأخرب املسلمني أن القادة الثالثة قضوا حنبهم‪ ،‬مث قال إن خالدًا بن الوليد استلم‬
‫الراية‪ ،‬كما جاء يف رواية البخاري (‪:)343 )1( :1999‬‬
‫"‪ ...‬حىت أخذ الراية سيف من سيوف اهلل حىت فتح اهلل عليهم"‬
‫كما أنّ النبـي ﷺ كما يذكر ابن إسحاق (‪ )119 :1994‬دافع عن جيش‬
‫مؤتة حني وصل املدينة‪ ،‬وكان املسلمون فيها حيسبون أهنم فارّون من أرض‬
‫املعركة‪ ،‬فقال النبـي ﷺ حينها رادًّا إليهم اعتبارهم ومع ّززًا لشأهنم‪" :‬ليسوا‬
‫بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء اهلل"‪ .‬إن تعليق النبـي ﷺ على ما حدث يف معركة‬
‫مؤتة يكشف عن الظروف احلقيقية اليت أحاطت هبا‪ ،‬من حيث طبيعتها ودورها يف‬
‫تاريخ فتح بيت املقدس‪ ،‬ويبدو واضحًا من كالم النبـي ﷺ أنّ جيش املسلمني‬
‫سيعود قريبًا إىل تلك املنطقة‪.‬‬
‫ويرى أسامة مجعة األشقر (‪ )11 :1991‬أنّ هذه املعركة قد كشفت‬
‫للنبـي ﷺ القوة الفعلية للبيزنطيني‪ ،‬كما أهنا أماطت اللثام عن شكل العالقة بني‬
‫البيزنطيني وحلفائهم من العرب يف تلك املنطقة‪ ،‬وهذا رأي سديد‪ ،‬ألنّ هذا هو ما‬
‫ندركه حتديدًا عند النظر إىل السرية اليت تلت معركة مؤتة‪ ،‬وهي سرية ذات‬
‫السالسل يف مجادى اآلخرة للعام الثامن للهجرة‪ 112/‬ميالدية‪ ،‬حيث توجهت هذه‬
‫السرية إىل منطقة من أقوى معاقل حلفاء البيزنطيني‪ ،‬وهم قبائل أذرح وبلي وخلم‬
‫وجذام‪ ،‬كما يذكر البخاري (‪.)313 )1( :1999‬‬
‫‪010‬‬
 ‫أرية يا الأالأي‬
‫ّ‬
‫يذكر الواقدي (‪ )112-111 )1( :1994‬أن سبب هذه السرية اليت حدثت‬
‫يف العام الثامن للهجرة‪ ،‬أن النبـي ﷺ علم أن جيشًا من قبيليت بلّي وقضاعة‬
‫(اللتني عاشتا يف تلك املنطقة)‪ ،‬كان يتجهّز للهجوم على املدينة املنورة‪ ،‬فأرسل‬
‫النبـي ﷺ سرية من ‪ 199‬رجل على رأسهم عمرو بن العاص رضي اهلل عنه‬
‫للهجوم عليهم قبل ذلك‪ .‬وقد طلب عمرو بن العاص مددًا من الرجال ألن اجليش‬
‫الذي قابله كان كبريًا‪ ،‬فأمدّه النبـي ﷺ مبئيت رجل آخرين‪ ،‬وأمّر عليهم أبا عبيدة‬
‫عامر بن اجلراح رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫يشري الواقدي يف أكثر من موقع إىل أنّ األسباب اليت دعت إىل إرسال السرايا‬
‫والغزوات بشكل عام هي أخبارٌ تصل إىل النبـي ﷺ بشأن هجمات حمتملة على‬
‫املدينة من قبل قبائل عربية يف املناطق اجملاورة‪ .‬ولكن قبائل بلي وأذرح وخلم وجذام‬
‫كانت قوىً أساسيةً حتالفت مع البيزنطيني يف مؤتة‪ ،‬ولذا ميكن أن نقول إن‬
‫النبـي ﷺ أرسل هذا اجليش للتخلص من التهديد الذي تشكله هذه القبائل‪.‬‬
‫وجيدر أن نشري هنا إىل أنّ تأمري عمرو بن العاص رضي اهلل عنه على هذا اجليش له‬
‫داللة خاصة‪ ،‬فالواقدي (‪ )113 )1( :1994‬يذكر أن أمّه من بلّي‪ ،‬وأنّ النيبّ ﷺ‬
‫كان يطمح إىل أن يكون ذلك مفتاحًا لقبول هذه القبيلة دعوة اإلسالم‪.‬‬
‫فنرى إذن أن عمروًا من هذه الناحية كان أفضل مرشّح لقيادة هذه السرية‪،‬‬
‫ألنّه كان على علمٍ باملنطقة‪ ،‬فأمه وعائلتها من هناك‪ .‬وميكن القول من ناحية أخرى‬
‫إن التجربة اليت مرّ هبا املسلمون يف مؤتة قد أمدّت النبـي ﷺ بدروس عديدة‪ ،‬فبدأ‬
‫يعمل على تشكيل أحالف جديدة له وإزالة أي عوائق قد تقف أمام جيوش‬
‫املسلمني يف املستقبل‪ .‬ومبا أنّ هذه القبائل هي األقرب للبيزنطيني يف األراضي التابعة‬
‫للمسلمني يف شبه اجلزيرة‪ ،‬فكان من األوىل البدء هبم‪ ،‬وهذا يشري يف الوقت نفسه إىل‬
‫أن معركة مؤتة وما تبعها مثّل التحرك الفعلي للمسلمني داخل منطقة الشام‪.‬‬
‫ولكنّ النبـي ﷺ بعد هذه السرية توقّف عن التحرك جهة الشمال الغربـي‬
‫وبدأ التركيز بد ًال من ذلك على مكة واملنطقة حوهلا‪ ،‬إذ قد آن األوان لالنصراف‬
‫إىل مكة بعد أن فاجأت قريش املسلمنيَ بنقض صلح احلديبية‪ ،‬وهذا أمر منطقي‪،‬‬
‫‪011‬‬
‫فقد كان فتح مكة يف رمضان من العام الثامن للهجرة‪ 119/‬ميالدية‪ ،‬وقد انتهى هبذا‬
‫الفتح الصراعُ بني النبـي ﷺ وقريش‪ .‬وبعدها توجه النبـي ﷺ بنفسه للتخلص‬
‫من كل هتديد حييط مبكة املكرمة‪ ،‬كقبائل غطفان والطائف‪.‬‬
‫وبعد أن أحكم النبـي ﷺ سيطرته على معظم أرجاء شبه جزيرة العرب‪،‬‬
‫وذلك بعد فتح مكة وغزوة حنني والطائف من بعدها‪ ،‬عمدَ إىل التركيز بشكل‬
‫أساسي على الطريق الشمايل الغربـي الواصل إىل الشام‪ .‬ويبدو ذلك جليّا عند‬
‫النظر إىل أوىل هذه السرايا‪ ،‬واليت أرسلت على ذلك الطريق بعد السيطرة على شبه‬
‫اجلزيرة‪ .‬فقد كانت قبيلتا أذرح وبلي تقطنان يف منطقة اجلناب اليت توجهت إليها‬
‫سرية عكاشة بن حمصن‪.‬‬

‫أرية الجنأو الثأنية‬

‫ّ‬
‫رغم أن الواقدي مل يذكر خربَ هذه السرية‪ ،‬إال أنّ قصتها قد وردت عند ابن‬
‫سعد (‪ ،)114 )1( :1222‬وقد وقعت هذه السرية كما يذكر ابن سعد يف ربيع‬
‫الثاين للعام التاسع للهجرة‪ 119/‬ميالدية‪ ،‬من دون إشارة إىل األسباب اليت دعت‬
‫النبـي ﷺ إلرسال هذه السرية ومن دون ذكرٍ كذلك ملا حدث فيها‪ .‬ولعل هذا‬
‫يعود إىل كون هذه السرية جزءًا طبيعياً من إستراتيجية النبـي ﷺ جهة الشمال‬
‫الغربـي‪ ،‬فهي مل تكن ردّا على اعتداء أو هجوم على املسلمني‪ .‬بيد أنه جتدر‬
‫اإلشارة هنا إىل أن هاتني القبيلتني كانتا من احللفاء األساسيني للبيزنطيني يف مشال‬
‫شبه اجلزيرة العربية‪.‬‬
‫ولو قمنا بالربط بني هذه السرية والتحرك العسكري الكبري الذي أعقبها‪،‬‬
‫واملتمثل يف غزوة تبوك‪ ،‬فإننا سنجد أهنا كانت مبثابة حتضري هلذه الغزوة املهمة‬
‫بالتحديد‪ .‬فهذه السرية مل ختض أي قتالٍ كما يذكر ابن سعد‪ .‬وميكن وصفها‬
‫بالتايل بأهنا محلة جلمع املعلومات العسكرية واإلستراتيجية ومراقبة الطريق‪ ،‬وليس‬
‫هذا سوى حتضريٍ حلملة كبرية‪ ،‬كانت هي غزوة تبوك‪ ،‬واليت وقعت بعد شهرين‬
‫فقط من سرية عكاشة‪ ،‬أي يف رجب للعام التاسع للهجرة‪ 119/‬ميالدية‪.‬‬

‫‪011‬‬
 ‫سزو تبوك‬
‫تعدّ غزوة تبوك أكرب وأهم غزوة يف حياة النبـي ﷺ‪ ،‬فقد كانت األكرب من‬
‫حيث عدد الرجال الذين شاركوا فيها‪ ،‬وكانت األبعد من حيث املنطقة اليت‬
‫وصلت إليها‪ ،‬كما كانت األطول من حيث الفترة اليت استغرقتها‪ .‬وبالرغم من أن‬
‫النبـي ﷺ كان قد توجه قبل هذه الغزوة على رأس جيش صغري إىل دومة‬
‫اجلندل‪ ،‬اليت تعد بعيدةً نسبياً عن املدينة‪ ،‬مشال شرقي املدينة املنورة‪ ،‬إال أهنا كانت‬
‫محلة عسكرية صغرية مقارنة بغزوة تبوك‪ .‬لقد أتت غزوة تبوك بعد أن أمّن‬
‫النبـي ﷺ شبه اجلزيرة‪ ،‬كما كان النبـي ﷺ قد أصدر أمرًا حازمًا جلميع‬
‫املسلمني باملشاركة فيها‪ ،‬إال ذوي األعذار منهم‪ .‬وشارك مجيع املسلمني بالفعل يف‬
‫هذه الغزوة‪ ،‬إال من كان له عذر‪ ،‬وباستثناء منافقي املدينة كذلك‪ .‬كما ختلّف عن‬
‫تبوك ثالثة من الصحابة دون عذر‪ ،‬فقاطعهم النبـي ﷺ وبقية الصحابة مخسني‬
‫يومًا إىل أنّ عفا اهلل تعاىل عنهم يف آيات من القرآن الكرمي (سورة التوبة‪-112 :‬‬
‫‪( )113‬انظر ابن إسحاق‪.)111-192 :1994 :‬‬
‫لقد ورد ذكر غزوة تبوك يف معظم املصادر التارخيية دون ذكر سبب هلا‬
‫(انظر ابن إسحاق ‪ ،121 :1994‬والطربي ‪ .)121 )1( :1223‬ويشري اليعقوبـي‬
‫إىل أن النبـي ﷺ قد أمر املسلمني بالتحرك حنو تبوك انتقامًا ملقتل ابن عمّه جعفر‬
‫بن أبـي طالب يف مؤتة (اليعقوبـي (د‪ .‬ت)‪ .)12 )1( :‬وال ميكن قبول هذا‬
‫الرأي‪ ،‬إذ يفصل بني احلدثني‪ ،‬مؤتة وتبوك‪ ،‬زمان طويل‪ .‬كما أنّ ذكر جعفر رضي‬
‫اهلل عنه وحده يف هذا الرأي‪ ،‬لكونه من آل بيت النبـي ﷺ راجعٌ على األغلب‬
‫إىل كون اليعقوبـي شيعيًا‪ ،‬وأثر تشيعه ظاهرٌ يف معظم كتبه‪.‬‬
‫ولكنّ البن كثري رأيًا آخر (‪ )1 )4( :1211‬خبصوص أسباب هذه الغزوة‪،‬‬
‫فيقول‪:‬‬
‫روي عن ابن عباس وجماهد وعكرمة وسعيد بن جبري وقتادة‬
‫والضحاك وغريهم‪ :‬أنه ملا أمر اهلل تعاىل بأن يُمنَع املشركون من قربان‬
‫املسجد احلرام يف احلج وغريه‪ ،‬قالت قريش‪ :‬لتنقطعن عنا املتاجر‬
‫واألسواق أيام احلج وليذهنب ما كنا نصيب منها‪ .‬فعوضهم اهلل عن‬
‫ذلك باألمر بقتال أهل الكتاب حىت يسلموا أو يعطوا اجلزية عن يد‬
‫‪014‬‬
‫وهم صاغرون‪ .‬قلت‪ :‬فعزم رسول اهلل ﷺ على قتال الروم ألهنم‬
‫أقرب الناس إليه وأوىل الناس بالدعوة إىل احلق لقرهبم من اإلسالم‬
‫وأهله‪.‬‬
‫ومع أنّ هذا التحليل مثريٌ لالهتمام‪ ،‬إال أنّه يصعب قبوله ألسباب عديدة‪،‬‬
‫أوهلا ما يبدو من انقطاع للعالقة بني غزوة تبوك والرواية اليت يوردها ابن كثري‪.‬‬
‫والثاين أن هذه القصة تذكر أنّ منع املشركني من دخول املسجد احلرام يف مكة‬
‫املكرمة‪ ،‬سواء يف احلجّ أو غريه من األيام‪ ،‬هو الداعي األساسي لغزوة تبوك‪،‬‬
‫ولكنّ هذا املنعَ قد حدث بعد غزوة تبوك‪ ،‬إذ وقعت هذه الغزوة يف رجب للعام‬
‫التاسع للهجرة‪/‬تشرين أول ‪ 119‬ميالدية‪ ،‬بينما كان حترمي دخول املشركني للبيت‬
‫احلرام حني كان أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه على رأس بعثة احلج يف هناية ذلك‬
‫العام (ذو احلجة ‪ 2‬هجرية‪/‬آذار ‪ 111‬ميالدية)‪ .‬وهذا يعين أنّ املشركني خالل‬
‫غزوة تبوك مل يكونوا قد منعوا من دخول مكّة‪ ،‬وهذا ما جيعلنا نردّ رواية ابن‬
‫كثري وحتليله‪.‬‬
‫وهنالك تسويغ آخر يقدمه عثامنة (‪ ) 32 :1999‬يقول فيه إن تبوك وكل‬
‫التحركات العسكرية األخرى اليت قام هبا النبـي ﷺ كانت نابعةً من رغبته ﷺ‬
‫يف توجيه "القدرات القتالية" للقبائل العربية حنو البيزنطيني بدل أن يكون االقتتال‬
‫دائرًا فيما بينهم‪ ،‬كما يذهب إىل أنّ هلذه الغزوات والسرايا دواعي اقتصادية‪.‬‬
‫ولكنّا نردّ هذه املقوالت‪ ،‬إذ كيف ميكن للنبـي ﷺ أن يرسل جيوشه يف السرايا‬
‫والغزوات هبدف تشتيت قبائل العرب وهي اليت كانت تدخل يف دين اإلسالم‬
‫أفواجًا وانتهت احلروب الدائرة بينها‪ .‬فهذا أمرٌ مستبعد‪ ،‬خاصة أنّ النبـي قد قاد‬
‫بنفسه غزوات ضد القبائل العربية يف اجلزيرة وخارجها يف حياته‪ .‬ويبدو أنّ‬
‫عثامنة قد سيق هلذا االستنتاج بناءً على قول ابن كثري الذين سبق ذكره‪ ،‬وهو يف‬
‫ذلك غري مدرك لشخصية النبـي ﷺ األساسية‪ ،‬وهي النبوة‪ ،‬وهذا ما دفعه‬
‫كذلك للقول بأن أهدافًا ماديّة كانت وراء هذه الغزوة وسواها من الغزوات‬
‫والسرايا‪.‬‬
‫ويذكر الواقدي (‪ )122 )1( :1994‬سببًا آخر هلذه الغزوة‪ ،‬إذ يروي أنّ‬
‫النبـي ﷺ قد وصله نبأ بأن البيزنطيني قد مجعوا جيشًا عظيمًا يف الشام‪ ،‬وأن‬
‫‪015‬‬
 ‫هرقل قد زوّد هذا اجليش مبا يكفيه من املؤونة لعام كامل‪ ،‬كما كانت قبائل خلم‬
‫وجذام وعاملة وغسان يف حلف مع هرقل‪ ،‬وكانت جيوشهم قد وصلت البلقاء يف‬
‫جنوب الشام‪ .‬وهذا ما دفع النبـي ﷺ يف ظنّ الواقدي إىل مجع جيش كبري من‬
‫خمتلف قبائل شبه اجلزيرة العربية ملهامجة البيزنطيني‪ .‬ولكن الواقدي انفرد من بني‬
‫املؤرخني يف ذكر هذه القصة كسبب لغزوة تبوك‪ .‬مث يضيف الواقدي أن ذلك اخلرب‬
‫الذي وصل للنبـي ﷺ مل يكن صحيحًا‪ ،‬أي أن البيزنطيني مل يكونوا قد مجعوا‬
‫جيشًا حلرب املسلمني (الواقدي ‪ .)122 )1( :1994‬ويعتمد على رواية الواقدي‬
‫هذه معظم املؤرخني الذين يذكروهنا على أهنا السبب املباشر لغزوة تبوك‪ ،‬كابن‬
‫سعد (‪.)111 )1( :1222‬‬
‫ويبين املباركفوري كذلك (‪ )414-411 :1221‬على هذه القصة‪ ،‬ويذهب‬
‫إىل أنّ السبب األساسي وراء غزة تبوك هو وجود هتديد حقيقي على املدينة من‬
‫قبل ملك العرب الغساسنة‪ .1‬وقد كان هذا بسبب معركة مؤتة قبل سنتني‪ .‬ويعتمد‬
‫املباركفوري يف رأيه هذا على حديث رواه البخاري (‪)1192-1191 )1( :1999‬‬
‫عن عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه‪ .‬ويتحدث هذا احلديث بشكل أساسي عن‬
‫ال‪ ،‬فظنّ املسلمون أنه طلقهنّ‬
‫احلادثة اليت هجر فيها النبـي ﷺ أزواجه شهرًا كام ً‬
‫كلّهنّ‪ .‬ونترك الفاروق رضي اهلل عنه يروي لنا احلديث‪:‬‬
‫وكان من حول رسول اهلل ﷺ قد استقام له فلم يبق إال ملك غسان‬
‫بالشأم كنا خناف أن يأتينا فما شعرت إال باألنصاري وهو يقول إنه‬
‫قد حدث أمر قلت له وما هو أجاء الغساين قال أعظم من ذاك طلق‬
‫رسول اهلل ﷺ نساءه‪...‬‬
‫ويظهر هذا احلديث يف رأي املباركفوري أن املسلمني يف املدينة كانوا حتت‬
‫هتديد الغساسنة حني هجر النبـي ﷺ أزواجه‪ .‬وتروى هذه القصة عند الكثري من‬
‫العلماء على أهنا سبب نـزول سورة التحرمي‪ ،‬كالواحدي (د‪ .‬ت‪.)141-141 :‬‬
‫ولكن علماء احلديث والتفسري خيتلفون كثريًا خبصوص تاريخ هذه القصة‪ ،‬وما إذا‬

‫العرب الغساسنة كانوا حكامًا على جزء من الشام وكانوا حلفاء للبيزنطيني‪ ،‬وكان منهم‬ ‫‪1‬‬
‫ملوك حيكمون‪ ،‬ولكنّهم كانوا تبعًا لإلمرباطورية البيزنطية بشكل غري مباشر‪( .‬انظر‬
‫املباركفوري ‪.)12 :1221‬‬
‫‪016‬‬
‫ال يف هذا‬‫كانت قد وقعت قبل غزوة تبوك أو بعدها‪ ،‬ولن خنوض حنن طوي ً‬
‫اخلالف‪ ،‬فهو ليس يف صلب موضوعنا‪ .‬ما يهمّنا هو أنّ الرواية تذكر أنّه قد خضع‬
‫مجيع من يف جزيرة العرب لسيطرة النبـي ﷺ‪ .‬ولقد تنـزّلت سورة التحرمي يف‬
‫القرآن الكرمي بعد سورة احلجرات‪ ،‬وهذا ما يرد يف معظم كتب علوم القرآن‪،‬‬
‫ككتاب اإلتقان للسيوطي (د‪ .‬ت‪ ،)11 )1( :‬وال خالف بني العلماء على هذه‬
‫القضية‪ .‬وقد تنـزلت سورة احلجرات على النبـي ﷺ يف عام الوفود‪ ،‬حني قام‬
‫بعض احلاضرين برفع أصواهتم فوق صوت النبـي ﷺ وهم ينادونه كما تذكر‬
‫املصادر والسيما الواحدي (د‪ .‬ت‪ .)112-111 :‬وهذا يعين أن سورة التحرمي قد‬
‫تنـزلت كذلك يف عام الوفود‪ ،‬وكذا احلديث الذي سبق ذكره‪ ،‬أي بعد غزوة‬
‫تبوك‪.‬‬
‫ويذكر ابن إسحاق (‪ ) 112 :1994‬بشكل واضح أن زيارات معظم تلك‬
‫الوفود اليت وصلت املدينة إلعالن والئها للنبـي ﷺ قد متّت بعد غزوة تبوك‪.‬‬
‫ويظهر احلديث الذي رواه عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه أ ن هذا التهديد قد‬
‫بدأ بعد استسالم القبائل اجملاورة للنبـي ﷺ‪ ،‬كما تذكر بوضوح أنه مل يبق‬
‫سوى ملك الغساسنة ليخضع لسلطة النبـي ﷺ‪ .‬وهذا يقودنا إىل احلكم بأنّ‬
‫هذه احلادثة قد حصلت بعد غزوة تبوك‪ 1.‬وبالتايل فيمكن القول إنه مل يكن‬
‫هنالك هتديدات حقيقية تستدعي جتهيز جيش كبري للدفاع عن املدينة املنورة‬
‫إبّان غزوة تبوك‪ .‬وهلذا نرى أن السبب الذي حتدث عنه الواقدي وبىن عليه‬
‫املباركفوري ليس دقيقًا متامًا‪ ،‬إذ إن خطر الغساسنة قد ظهر بعد غزوة تبوك‬
‫وليس قبلها‪.‬‬
‫ولكنّ السيوطي يف كتابه لباب النقول (د‪ .‬ت‪ )121 :‬يذكر رواية أخرى‬
‫مثرية كذلك لالهتمام تتعلق بسبب غزوة تبوك‪ ،‬وقد ذكر هذه الرواية ابن أبـي‬
‫حامت (ت‪ 112 .‬للهجرة‪ 249/‬ميالدية) (‪:)111 )1( :1991‬‬
‫عن عبد الرمحن بن غنم أن اليهود أتوا النبـي ﷺ فقالوا‪ :‬إن كنت‬
‫نبيًا فاحلق بالشام فإن الشام أرض احملشر وأرض األنبياء عليهم الصالة‬
‫لقد بدأ هتديد الغساسنة للمدينة بعد غزوة تبوك‪ ،‬كما كان على األغلب قبيل بعث أسامة‬ ‫‪1‬‬
‫بن زيد رضي اهلل عنه كما سيأيت‪.‬‬
‫‪017‬‬
‫والسالم‪ .‬فصدق رسول اهلل ﷺ ما قالوا‪ ،‬فغزا غزوة تبوك ال يريد إال‬
‫الشام‪ ،‬فلما بلغ تبوك أنـزل اهلل عليه آيات من سورة بين إسرائيل‬
‫بعدما ختمت السورة‪" :‬وإن كادوا ليستفزونك من األرض" إىل قوله‬
‫"حتويال" فأمره بالرجوع إىل املدينة وقال‪ :‬فيها حمياك ومماتك ومنها‬
‫تبعث‪.‬‬
‫هذه الرواية ضعيفة‪ ،‬وهذا ما يذكره السيوطي نفسه (د‪ .‬ت‪ ،)122 :‬ويذكر‬
‫كذلك أنّ هناك روايات ضعيفة أخرى قد تقوّيها‪ .‬ويف الواقع‪ ،‬هنالك فقط رواية‬
‫واحدة مشاهبة وقد رواها الطربي (‪ ،)111 )3( :1222‬وال يرد فيها ذكر لتبوك‪ ،‬كما‬
‫ال تذكر أن النبـي ﷺ قد صدق قول اليهود‪ .‬وقد أورد الطربي ذكر هذه الرواية يف‬
‫معرض حديثه عن تفسري آية من القرآن الكرمي‪ ،‬وهي اآلية رقم ‪ 21‬من سورة اإلسراء‪،‬‬
‫فمن العلماء من يقول إهنا مكّية ومنهم من يقول إنّها مدنية‪ .‬وجاء يف الرواية األوىل‪:‬‬
‫حدثنا حممد بن عبد األعلى ثنا معتمر بن سليمان عن أبيه قال‪ :‬زعم‬
‫حضرمي‪ 1‬أنه بلغه أن بعض اليهود قال للنبـي ﷺ‪ :‬إن أرض األنبياء‬
‫أرض الشام‪ ،‬وإن هذه ليست بأرض أنبياء‪ .‬فأنـزل اهلل‪َ  :‬وإِنْ كَادُوا‬
‫لَيَسَْتفِزُّونَكَ مِنَ األَرْضِ لُِيخْ ِرجُوكَ مِنْهَا‪...‬‬
‫ومن مث يذكر الطربي أربع روايات تعارض هذه الرواية‪ ،‬حيث تذكر هذه‬
‫الروايات أن اآلية تقصد أهل مكّة‪ ،‬ومنهم قريش بالتحديد‪ ،‬وليس يهودَ املدينة‪.‬‬
‫وبعد أن يشري الطربي إىل هذه الروايات األربعة‪ ،‬يرجع إىل األوىل ويردّها‪ ،‬اعتمادًا‬
‫على جو السورةِ والروايات األربعة اليت ذكرها‪ .‬أمّا ابن كثري (‪)24 )1( :1224‬‬
‫ير ّد رواية السيوطي من أساسها نظرًا لضعفها متنًا وسندًا‪.‬‬
‫يبدو أن سليمان بن طرخان (ت‪ 141 .‬للهجرة‪ 211/‬ميالدية) مل يذكر اسم الشخص‬ ‫‪1‬‬
‫الذي نقل قصةَ كالم اليهود للنبـي ﷺ‪ ،‬واكتفي باإلشارة إىل أنه حضرمي‪ .‬فشمس‬
‫الدين الذهبـي (ت‪ 243 .‬للهجرة‪ 1124/‬ميالدية) (‪ )121-121 )1( :1991‬يذكر أمساء‬
‫مجيع من روى عنهم سليمان‪ ،‬ليس من بينهم شخص من يسمّى أو يلقّب باحلضرمي‪.‬‬
‫ويذكر الذهبـي (‪ )149 )11( :1991‬أربعة أشخاص فقط باسم أو لقب احلضرمي‪،‬‬
‫ومجيعهم توفّوا لقرونٍ ع ّدةٍ بعد سليمان‪ ،‬وخنلص هبذا إىل أنّ سليمان نقل هذه القصة عن‬
‫شخص غري معروف‪ ،‬خاصّة أن سليمان نفسه يضعف الرواية حني يقول‪ :‬زعم حضرمي‬
‫أنه مسع‪ ،...‬فهي إذن رواية ضعيفة وال ميكن االعتماد عليها‪.‬‬
‫‪018‬‬
‫هنالك مفسّر واحد انفرد بقبول أنّ هذه اآلية مدنية‪ ،‬وهو القرطبـي‬
‫(‪ ،)131 )1( :1223‬إذ يقول إن سورة اإلسراء سورةٌ مكّية ما عدا ثالث‬
‫آيات‪ ،‬منها اآلية رقم ‪ ،12‬فهذه اآلية يف نظر القرطبـي قد تنـزلت على‬
‫النبـي ﷺ حني أتى وفد من الطائف إىل املدينة ليسلموا بني يديه‪ .‬وهذا يف‬
‫الواقع يثري إشكاالً أكرب‪ ،‬ألنّ وفد الطائف أتوا النبـي ﷺ وهو يف املدينة‬
‫املنورة بعد غزوة تبوك (انظر ابن إسحاق ‪ ،111 :1994‬والطربي ‪)1( :1223‬‬
‫‪ ،121-121‬وابن كثري ‪ .)11 )4( :1211‬ولو قبلنا برأي القرطبـي هذا‪ ،‬فال‬
‫ميكن ذكر غزوة تبوك يف معرضها‪ ،‬ألهنا الغزوة ستكون قد وقعت بعد هذه‬
‫احلادثة‪.‬‬
‫مجيع اآلراء السابقة تظهر أن هناك خلطًا واضحًا خبصوص السبب الرئيس‬
‫هلذه الغزوة حتديدًا‪ ،‬مع أنّ األسباب الفعلية هلا قد تكون أغفلت يف خضمّ األحداث‬
‫اليت وقعت يف الغزوة نفسها‪ .‬فعند دراستنا هلذه األحداث‪ ،‬لفت انتباهَنا نقطتان‬
‫أساسيتان؛ أما األوىل فهي استغالل النبـي ﷺ غزوةَ تبوك لكتابة العديد من‬
‫الكتب واملعاهدات اليت تضمن للمسلمني احلصول على أي موارد تلزمهم يف‬
‫ال التزود بالسالح من مقنا وأذرح‪ ،‬كما ضمن من ناحية‬ ‫املستقبل‪ .‬فقد ضمن مث ً‬
‫أخرى التزود بالطعام والشراب من أيلة‪ .‬أي أنّ النبـي ﷺ قد مكث يف تبوك إىل‬
‫أن ضمن موارد كافية للمسلمني يف هذه الغزوة وغريها من احلمالت يف املستقبل‪.‬‬
‫كما أنّ هذه املعاهدات والوثائق كانت تعين انتهاء احللف بني هذه القبائل‬
‫واإلمرباطورية البيزنطية‪ ،‬مما يعين أنه قد متخّض عن غزوة تبوك مرحلة جديدة يف‬
‫العالقة بني املسلمني وسكان تلك املنطقة‪.‬‬
‫أما النقطة الثانية‪ ،‬فيمكن تلخيصها حبديث أورده البخاري (‪)1( :1999‬‬
‫‪ )111‬كان النبـي ﷺ قد قاله يف تبوك‪:‬‬
‫عن عوف بن مالك قال‪ :‬أتيت النبـي يف غزوة تبوك وهو يف قبة من‬
‫أدم فقال‪ :‬اعدد ستًا بني يدي الساعة‪ :‬مويت مث فتح بيت املقدس…‬
‫وهذا احلديث هو أوضح ما ميكن أن يعرب عن أهداف النبـي ﷺ من هذه‬
‫الغزوة‪ ،‬وهي املرة األوىل اليت يذكر فيها النبـي ﷺ أنّ الزمان الذي سيتحقق فيه‬
‫‪019‬‬
‫فتح بيت املقدس هو بعد وفاته ﷺ‪ 1.‬وأكثر ما يهمّنا هنا هو اختيار النبـي ﷺ‬
‫ملنطقة تبوك‪ ،‬وهي القريبة كلّ القرب من حدود الشام‪ .‬كما جيب أن نتنبه إىل أن‬
‫عوف بن مالك رضي اهلل عنه مل يسأل النبـي ﷺ عن هذه القضية من قبل حديث‬
‫النبـي ﷺ معه‪ ،‬وهذا يعين أنّه ﷺ قد قصد إخبار عوف بن مالك هبذا احلديث بعد‬
‫أنْ أوحيَ إليه أنّه لن يشهد فتح بيت املقدس‪ .‬وهكذا يكون هذا احلديث الشريف‬

‫هناك حديث آخر ذكر فيه النبـي ﷺ فتح بيت املقدس‪ ،‬وقد رواه شداد بن أوس‬ ‫‪1‬‬
‫(ت‪ 13 .‬للهجرة‪ 123/‬ميالدية)‪ ،‬يقول فيه إن النبـي ﷺ قد عاده يف مرضه‪ ،‬وأنّه قال‬
‫له‪" :‬إن الشام يفتح‪ ،‬ويفتح بيت املقدس‪ ،‬وتكون أنت وولدك أئمة فيهم إن شاء اهلل‪.‬‬
‫"وقد ذكر هذا احلديث املتقي اهلندي (ت‪ 221 .‬للهجرة‪ 1112/‬ميالدية) (‪:1223‬‬
‫(‪ .)12 )14/2‬ومع أنّ هذه الرواية ضعيفة بسبب عدم معرفة بعض الرواة فيه‪ ،‬إال أنّها‬
‫رويت بطريق آخر قد يقوّيها (انظر الطربي ‪ ،)132 )2( :1231‬ولكن ال يعرف كذلك‬
‫مىت روي هذا احلديث‪ .‬ولذا ال ميكن اجلزم إن كان قد قاله النبـي ﷺ قبل غزوة تبوك‬
‫أو بعدها‪ ،‬مع أنّ العويسي (‪ )19 :1991‬يرى أن هذا احلديث قد قيل على األغلب قبل‬
‫تبوك‪ ،‬ويذهب األشقر (‪ )11 :1991‬أبعد من ذلك قائالً إن النيبّ ﷺ قد قال هذا احلديث‬
‫قبل اهلجرة‪ .‬ولكنّ رأي األشقر بعيد عن الصحة‪ ،‬وذلك ألنّ شدادًا بن أوس كان من‬
‫األنصار‪ ،‬وال يعقل أن يكون النبـي ﷺ قد زاره يف مرضه قبل اهلجرة‪ .‬كما أنّ العويسي‬
‫ال ميلك دليالً على ما ذهب إليه‪ .‬ولكنّ احلديث على أية حال ال حيدد وقتًا للفتح وال‬
‫يقدّم حىت أي إشارة إىل ذلك‪ ،‬وهذا ما مييّز حديث عوفٍ رضي اهلل عنه يف تبوك‪ ،‬فهو‬
‫حيدد جدوالً زمنيًا لفتح بيت املقدس‪ ،‬حيث سيكون هذا الفتح بعيد وفاة النبـي ﷺ‪.‬‬
‫ويرى خالد العويسي يف حديث بيت املقدس أثناء تبوك أنه قد يلتقي مع حديث السيوطي‬
‫خبصوص اليهود الذين أتوا النبـي ﷺ طالبني منه أن خيرج إىل الشام‪ ،‬وهذا قد يعين‬
‫حسب خالد العويسي أن النيبّ ﷺ قد أخذ برأي اليهود‪ ،‬حسب ما تشري رواية السيوطي‪،‬‬
‫وانطلق إىل تبوك‪ .‬ولكنّه حني وصل هناك‪ ،‬أدرك بوحيٍ من اهلل تعاىل أن فتحّ بيت املقدس‬
‫لن يتمّ يف حياته‪ ،‬وحينها قال ذلك احلديث لعوف بن مالك‪ ،‬وهذا رمبا ما دفع ابن كثري‬
‫(‪ )122 )1/1( :1222‬إىل القول بأن ذهاب النبـي حممد ﷺ إىل تبوك وجتهيزه لبعث‬
‫أسامة بعد ذلك‪ ،‬يشبه حكاية ذهاب النبـي موسى عليه السالم إىل األرض املقدسة‪.‬‬
‫ب‬
‫فكالمها أرادا الذهاب إليها‪ ،‬ولكنه مل يكن قد كتب أليّ منهما حتقيق ذلك‪ .‬وقد أعر ّ‬
‫خالد العويسي عن رأيه هذا يف لقاء أكادميي يف السادس من متوز ‪ .1992‬وأجد صعوبة‬
‫يف قبول هذا الرأي‪ ،‬وذلك ألنّ رواية السيوطي ال ميكن أن يعتدّ هبا كدليل كما أسلفنا‪ .‬مث‬
‫إن ابن كثري نفسه يردّ تلك الرواية‪ ،‬فال يعقل أن يكونَ قد ردّها واعتمد عليها يف آنٍ معًا‪،‬‬
‫وال ميكن للعويسي كذلك أن يعتمد على مقولة ابن كثري‪ ،‬وذلك ألهنا قد أتت يف معرض‬
‫بسطه لألسباب اليت دعت النبـي ﷺ للذهاب إىل تبوك وإىل جتهيز بعث أسامة بن زيد‬
‫رضي اهلل عنه‪ ،‬فال عالقة إذن بني قول ابن كثري ورواية السيوطي‪.‬‬
‫‪011‬‬
 ‫أوضح دليل وأقوى حجة تدعم النظرية القائلة بأن اهلدف احملدد من غزوة تبوك هو‬
‫فتح الطريق حنو بيت املقدس‪ .‬ومع أنّ بيضون (‪ )21 :1222‬يرى أن هدف الغزوة‬
‫هو فتح الطريق حنو الشام عمومًا‪ ،‬إال أننا خنتلف معه ونرى أن اهلدف حمدّد بفتح‬
‫بيت املقدس‪ ،‬وذلك اعتمادًا على النص الصريح للحديث الذي أوردناه‪.‬‬
‫وقد يرى البعض أن النبـي ﷺ قد قاد جيشًا إىل تبوك متهيدًا لتجهيز محلة‬
‫لفتح بيت املقدس‪ ،‬وليس لدينا يف الواقع ما جيعلنا نردّ هذه الفكرة‪ ،‬خاصّة أنّ‬
‫الواقدي (‪ )499 )1( :1994‬يورد أنّ النبـي ﷺ كان قد طلب من أصحابه يف‬
‫تبوك أن يشريوا عليه يف التقدم حنو الشمال أو العودة إىل املدينة املنورة‪:‬‬
‫وشاور رسول اهلل ﷺ يف التقدم فقال عمر بن اخلطاب رضي اهلل‬
‫عنه‪ :‬إن كنت أمرت باملسري فسر‪ .‬قال رسول اهلل ﷺ‪ :‬لو أمرت به‬
‫ما استشرتكم فيه‪ .‬قال‪ :‬يا رسول اهلل فإن للروم مجوعا كثرية وليس‬
‫هبا أحد من أهل اإلسالم وقد دنوت منهم حيث ترى‪ ،‬وقد أفزعهم‬
‫دنوك‪ ،‬فلو رجعت هذه السنة حىت ترى‪ ،‬أو حيدث اهلل عز وجل لك‬
‫يف ذلك أمراً‪.‬‬
‫تظهر هذه الرواية كما يرى األشقر (‪ )11 :1991‬احلرصَ الكبري لدى‬
‫النبـي ﷺ على الوصول إىل الشام‪ .‬وقد تبدو هذه القصة متعارضة مع حديث‬
‫عوف بن مالك رضي اهلل عنه خبصوص فتح بيت املقدس‪ .‬فاحلديث يشري إىل أنّ‬
‫النبـي ﷺ قد أخربَ بأن فتح بيت املقدس سيتحقق بعد وفاته‪ ،‬أما رواية الواقدي‬
‫هذه فتظهر أنّه مل يكن مدركًا هلذا األمر‪ .‬واحلقيقة أنْ ال تعارضَ يف الواقع بني‬
‫األمرين‪ ،‬ألنّنا ال نعرف الزمنَ الذي تكلم فيه النبـي ﷺ مع عوف بن مالك يف‬
‫تبوك‪ .‬ولعل ما حدث هو أنّ النبـي ﷺ تقدم إىل تبوك لبدء محلة لفتح يبت‬
‫املقدس وكان قد جتهّز متامًا إلجناز الفتح‪ ،‬وجتلّى هذا يف العدد الكبري جليش‬
‫املسلمني وبالطريقة اليت كان خياطب فيها النبـي ﷺ جيشه أثناء التحضري للغزوة‪.‬‬
‫وملا وصل النبـي ﷺ إىل تبوك‪ ،‬استشار أصحابه‪ ،‬وحني انتهت هذه املشاورات‪،‬‬
‫أبرم النبـي ﷺ معاهدات مع القبائل واملدن على طول الطريق الساحلي الواصل‬
‫لبيت املقدس‪ .‬فأمّن بذلك الطريق‪ ،‬ورمبا عزم على العودة يف العام املقبل‪ ،‬كما ذكر‬
‫‪010‬‬
‫يف عهدته ألهل أذرح‪ .‬وبعد ذلك كلّه أوحي إليه أن الفتح لن يكون يف حياته‪،‬‬
‫وعلى إثر ذلك تكلّم مع عوف بن مالك يف حديث فتح بيت املقدس‪ .‬وهبذا يكون‬
‫النبـي ﷺ قد مهّد الطريق إىل بيت املقدس للمسلمني الذين سيأتون للفتح بعد‬
‫وفاته ﷺ‪ ،‬وقفل راجعًا إىل املدينة املنورة بعد إمتامه هلذه املهمة‪.‬‬

‫بعث أأمة‬
‫تبع غزوةَ تبوك سرية أخرى إىل املنطقة نفسها‪ .‬وقد كانت هذه السرية‪ ،‬وهي‬
‫بعث أسامة بن زيد رضي اهلل عنه‪ ،‬آخر محلة عسكرية يف حياة النبـي ﷺ‪ ،‬حيث‬
‫شرع يف اإلعداد هلا بعد عودته من حجة الوداع يف العام احلادي عشر للهجرة‪111/‬‬
‫ميالدية (انظر الواقدي ‪ .)421 )1( :1994‬ولك ّن البعث مل خيرج إال بعد وفاته ﷺ‪.‬‬
‫وقد وردَ سببٌ مباشرٌ لتجهيز النبـي ﷺ لبعث أسامة عند ثالثة من‬
‫املؤرخني وحسب‪ ،‬وهم اليعقوبـي (د‪ .‬ت‪ ،)111 )1( :‬والواقدي (‪)1( :1994‬‬
‫‪ )421‬وابن سعد (‪ .)141 )1( :1222‬حيث ذكروا أنّ اهلدف من إرسال بعث‬
‫أسامة هو االنتقام ملقتل قادة جيش املسلمني يف مؤتة‪ .‬بينما يرى املباركفوري أن‬
‫هذه السرية قد شكّلت من أجل إثارة الرعب لدى البيزنطيني‪ ،‬ألهنم قتلوا كل من‬
‫ال هلم على‬ ‫دخل اإلسالم يف بيزنطة‪ ،‬كفروة اجلذامي رضي اهلل عنه‪ ،‬وكان عام ً‬
‫معان‪ .‬ويضيف املباركفوري أن هذه السرية قد بثّت الثقة من جديد بني القبائل‬
‫العربية اليت واجهت البيزنطيني على مشارف الشام (املباركفوري ‪.)429 :1221‬‬
‫أما ابن كثري (‪ )122 )11/1( :1222‬فله رأي آخر‪ ،‬إذ يرى أن النبـي ﷺ كان‬
‫يريد املضي حنو الشام‪ ،‬فأرسل أسامة لبدء محلة يقودها النبـي ﷺ بنفسه‪ ،‬للذهاب‬
‫هناك بعد البعث‪ .‬ولكن هذه الفكرة تتعارض مع احلديث الذي مسعه عوف‬
‫بن مالك رضي اهلل عنه من النبـي ﷺ يف تبوك‪ ،‬ولذلك فإننا منيل إىل ردّها‪.‬‬
‫ويظهر أنّ هنالك عددًا من الظروف اليت أحاطت ببعث أسامة ودعت‬
‫النبـي ﷺ إىل جتهيزه‪ ،‬ومن ذلك هتديد الغساسنة للمدينة املنورة بعد تبوك كما أشرنا‬
‫من قبل‪ .‬ولكنّ هذا ليس سببًا أساسيًا للبعث‪ ،‬فاحلديث الذي حيدد فيه النبـي ﷺ‬
‫وجهة هذا البعث كما سنرى بعد قليل جتعلنا نتردد يف اجلزم بأنّ هتديد الغساسنة‬
‫للمدينة كان دافعًا مباشرًا لتجهيز بعث أسامة‪ ،‬ولكنّه يبقى واحدًا من الدوافع املهمة له‪،‬‬
‫‪011‬‬
‫إذ لو كان هذا التهديد هو السبب الوحيد لكان النبـي ﷺ قد تعامل بشكل خمتلف‬
‫مع هذه السرية كما سنرى‪ ،‬أو لكان قد أمرَ اجليش باالنطالق إىل وجهة أخرى‪.‬‬
‫ولعل آراء الواقدي واليعقوبـي وابن سعد قد جاءت بناءً على ما قاله‬
‫النبـي ﷺ ألسامة بن زيد‪ 1‬رضي اهلل عنه يف هذا الشأن‪ ،‬كما يورده الواقدي‬
‫(‪:)421 )1( :1994‬‬
‫يا أسامة‪ ،‬سر على اسم اهلل وبركته حىت تنتهي إىل مقتل أبيك‪.‬‬
‫وكما ذكرت وجهة بعث أسامة عند املؤرخني فإهنا قد وردت كذلك يف‬
‫ي شريف رواه أبو دواد (‪:)441 )1( :1999‬‬
‫نص حديث نبو ّ‬
‫قال عروة‪ :‬فحدثتين أسامة أن رسول اهلل ﷺ كان عهد إليه فقال‪:‬‬
‫أغد على أبىن صباحًا وحَرِّق‪.‬‬
‫ال يذكر هذا احلديث اسم زيدٍ وال غريه من القادة الذين استشهدوا يف مؤتة‪،‬‬
‫مع أنّه ميكن إحلاق اإلضافة اليت أوردها الواقدي واليت يذكر فيها مكان استشهاد‬
‫زيد رضي اهلل عنه‪ .‬بيد أنه حىت لو مجعنا بني النصني‪ ،‬فإن عبارة الواقدي اليت يقول‬
‫فيها النبـي ﷺ "يا أسامة‪ ،‬سر على اسم اهلل وبركته حىت تنتهي إىل مقتل أبيك"‬
‫إمنا تشري إىل مكانٍ ال إىل سبب‪ .‬وال ميكن إذن أن نعتمد رأي الواقديّ يف هذا‬
‫السياق‪ ،‬فهنالك فجوة زمنية بني معركة مؤتة وبعث أسامة تبلغ ثالث سنوات‬
‫حتديدًا‪ ،‬وقد ختلل هذه الفجوة الزمنية العديد من األحداث والوقائع‪.‬‬
‫وقد كانت إشارة النبـي ﷺ ألسامةَ إىل مكان استشهاد أبيه أسلوبًا يدلّ‬
‫على حكمته ﷺ‪ ،‬إذ حدّد له وجهة البعث وحفّزه يف عبارة واحدة‪ .‬وهنالك‬
‫خالف بني املؤرخني يف الوجهة‪ ،‬فمنهم من يرفض رواية الواقدي خبصوص حتديد‬
‫وجهة بعث أسامة‪ ،‬ومنهم من يذكر أنّ البعث توجه إىل أُبىن‪ ،‬وبعضهم يقول‬
‫إىل يُبىن‪ ،‬وغريها من اآلراء املتضاربة‪ .‬وقد مجعت هذه اآلراء (انظر عمر ‪:1991‬‬
‫‪ ،)29-33‬وخلصتها يف اجلدول التايل‪:‬‬

‫أسامة بن زيد رضي اهلل عنه (ت‪ 14 .‬للهجرة‪ 124/‬ميالدية) وهو ابن زيد بن حارثة‬ ‫‪1‬‬
‫ب‬
‫رضي اهلل عنه‪ ،‬أمري املسلمني األول يف معركة مؤتة‪ .‬وقد كان يعرف بني الصحابة باحلِ ّ‬
‫حلبّ وذلك حلبّ النبـي ﷺ له وألبيه (انظر بن سعد ‪)41 )4( :1222‬‬ ‫ابن ا ِ‬
‫‪011‬‬
 ‫مالحظات‬ ‫الرأي‬ ‫الرقم العامل‪/‬املؤرخ‬
‫يورد يف حديث أسامة لفظ‬ ‫يُبىن‬ ‫‪ 1‬اليعقوبـي (د‪ .‬ت‪)111 )1( :‬‬
‫(يُبىن) وليس (أُبنا)‬
‫كان عنوان الفصل الذي حتدث‬ ‫أُبىن‬ ‫الواقدي (‪)424-421 )1( :1994‬‬ ‫‪1‬‬
‫فيه عن بعث أسامة (غزوة أسامة‬ ‫مؤتة‬
‫بن زيد إىل مؤتة)‪ ،‬مع أنّه يذكر‬
‫أن البعث توجه إىل أبىن‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫أبىن‬ ‫ابن سعد (‪)141 )1( :1222‬‬ ‫‪1‬‬
‫البلقاء والداروم يذكر كال الرأيني‬ ‫الطربي (‪)112-144 )1( :1223‬‬ ‫‪4‬‬
‫آبل الزيت‬
‫البلقاء والداروم‬ ‫ابن إسحاق (‪)121 :1994‬‬ ‫‪1‬‬
‫البلقاء والداروم‬ ‫ابن هشام (‪)129 )4( :1991‬‬ ‫‪1‬‬
‫أبىن‬ ‫السهيلي (د‪ .‬ت‪)131 )4( :‬‬ ‫‪2‬‬
‫يذكر كال الرأيني‬ ‫أبىن‬ ‫ياقوت احلموي (‪)191 )1( :1229‬‬ ‫‪3‬‬
‫آبل الزيت‬
‫البكري (ت‪ 432 .‬للهجرة‪ 1924/‬ميالدية) أبىن‬ ‫‪2‬‬
‫(‪)21 )1( :1223‬‬
‫أبىن‬ ‫أبو داود (‪)441 )1( :1999‬‬ ‫‪19‬‬
‫رواية يف سنن أبـي داود‬ ‫يبىن‬ ‫أبو مسهر‬ ‫‪11‬‬
‫(‪)441 )1( :1999‬‬
‫السهارنفوري (د‪ .‬ت‪ )111-114 )11( :‬يبىن‬ ‫‪11‬‬
‫يذكر هذا الرأي يف حتقيقه لكتاب‬ ‫أبىن‬ ‫الكاندهلوي‬ ‫‪11‬‬
‫السهارنفوري (د‪ .‬ت‪)11( :‬‬
‫‪)111-114‬‬
‫أبىن‬ ‫ابن حنبل (‪21 )11( :1221‬‬ ‫‪14‬‬
‫أبىن‬ ‫ابن ماجه (‪)411 :1999‬‬ ‫‪11‬‬
‫كما يذكر أن ابن قدامة املقدسي‬ ‫أبىن‬ ‫البنا (د‪ .‬ت‪)12-11 )11( :‬‬ ‫‪11‬‬
‫قال إهنا قرب الكرك على‬
‫مشارف الشام‬
‫يذكر كال الرأيني‬ ‫أبىن‬ ‫ابن عساكر (‪)14-41 )3( :1221‬‬ ‫‪12‬‬
‫مؤتة‬
‫البلقاء والداروم‬ ‫ابن كثري (‪)449 )4( :1211‬‬ ‫‪13‬‬
‫الجدوي (‪ )4‬آراذ العيمأذ والمؤربيت حوي ميأت بعث أأمة بت زيد‬

‫يذكر ابن سعد أن أبىن تقع على ساحل البحر‪ ،‬ويبدو أنه خلط بني أبىن ويبىن‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪014‬‬
 ‫عدد اآلراء‬ ‫املوقع‬
‫‪11‬‬ ‫أبىن‬
‫‪4‬‬ ‫البلقاء والداروم‬
‫‪1‬‬ ‫يبىن‬
‫‪1‬‬ ‫مؤتة‬
‫‪1‬‬ ‫آبل الزيت‬
‫موأع بعث أأمة بت زيد‪.‬‬ ‫اآلراذ ببوو‬ ‫الجدوي (‪ )1‬ميب‬

‫يظهر اجلدوالن السابقان أن معظم العلماء واملؤرخني ذكروا أنّ أن أُبىن هي‬
‫الوجهة اليت حددها النبـي ﷺ لبعث أسامة‪ ،‬وقد يعود اخللط إىل الشهرة اليت‬
‫كانت تتمتع هبا منطقة أخرى تدعى يُبىن‪ ،‬بينما كانت أبىن أقل شهرة منها يف ذلك‬
‫الوقت‪ 1.‬وما تزال يبىن معروفة حىت اآلن يف فلسطني‪ ،‬ولكن ما مكان يعرف حاليًا‬
‫باسم أبىن‪ .‬ويبدو أن رواية الواقدي واليعقوبـي تشريان إىل أن أبىن تقع على‬
‫األغلب يف املكان الذي استشهد فيه زيد بن حارثة رضي اهلل عنه‪ .‬ومن املعروف‬
‫أن قادة مؤتة رضي اهلل عنه مل يدفنوا يف مكان املعركة نفسه‪ ،‬أي مؤتة‪ ،‬وإمنا دفنوا‬
‫على مقربة منها يف قرية تدعى اليوم "املزار"‪ ،‬واليت تظهر يف اخلريطة‪:‬‬

‫يوضح اإلمام احلموي فيما يتعلق برأيه حول البلقاء والداروم أن األوىل تقع بني الشام ووادي‬ ‫‪1‬‬
‫القرى يف شبه اجلزيرة العربية‪ ،‬وعاصمتها عمّان (‪ .)139-122 )1( :1229‬وهذا يعين أهنا تقع‬
‫شرقي وادي األردن‪ .‬أما الداروم فتقع قرب غزة (انظر احلموي ‪ .)431 )1( :1229‬وهنالك‬
‫مسافة طويلة تفصل بني البلقاء والداروم إذن‪ .‬ولكنّ احلموي (‪ )431 )1( :1229‬يرى أن‬
‫هنالك منطقة أخرى قرب البحر امليت تدعى داروما‪ ،‬وميكن أن يكون هو املكان الذي ذكر‬
‫فيها هذه اآلراء كذلك‪ .‬كما تقع منطقة آبل الزيت يف منطقة قرب وادي األردن أيضًا كما‬
‫يذكر احلموي نفسه (‪ .)13 )1( :1229‬ويبدو بناء على هذا أن ال أثر كبري يترتب على هذا‬
‫اخلالف‪ .‬فمنطقة آبل الزيت ال تذكر إال عند اثنني من العلماء من دون ذكر دليل على وجود‬
‫هذا االسم‪ ،‬وهلذا تبقى األدلة واآلراء مؤكدة على اسم أبىن‪ .‬ويعين هذا أن مجيع املناطق‬
‫األخرى املذكورة‪ ،‬باستثناء يبىن‪ ،‬قريبة من أبىن‪ ،‬واليت ذكر احلموي (‪ )191 )1( :1229‬أهنا يف‬
‫منطقة البلقاء حول مؤتة‪ .‬يتبني لنا إذن أن اخللط الرئيس قد وقع بني أبىن ويبىن‪ ،‬وسبب هذا‬
‫اخللط تلك الرواية اليت حتاول توضيح احلديث واليت رواها أبو مسهر (انظر أبو داود ‪:1999‬‬
‫(‪ .)441 )1‬لكنّ أبا مسهر ال يقدم أي سبب لذكر يبىن مكان أبىن مع أهنا قد وردت صراحة‬
‫يف احلديث‪ ،‬وهذا يضعف رأيه‪ ،‬خاصة مع وجود رواية الواقدي (‪ ،)421 )1( :1994‬واليت‬
‫حتدد أنه املكان الذي استشهد فيه زيد بن حارثة رضي اهلل عنه‪ .‬وكل هذا يؤكد على الرأي‬
‫القائل بأن أبىن تقع شرق وادي األردن وقرب منطقة البلقاء أو ضمنها‪.‬‬
‫‪015‬‬
 ‫البريطة (‪ )7‬موأع أرية المزار (مت رأم المؤلف)‬

‫ويقودنا هذا البحث إىل أنّ املكان الذي توجّه إليه بعث أسامة رضي اهلل عنه‬
‫كان قرب مؤتة واملزار‪ 1‬كما نعرفهما اليوم‪ ،‬ولعلّ قرية املزار هذه هي نفسها أُبىن‪،2‬‬
‫ويبدو أهنا صارت معروفة بشكل جيد لدى املسلمني الرتباطها مبعركة مؤتة‪ .‬وهلذا‬
‫وصفها النبـي ﷺ بأهنا على مقربة من مكان استشهاد زيد حني حتدث ﷺ عن‬
‫بعث أسامة‪ ،‬خبالف ما يراه الواقدي واليعقوبـي وابن سعد أما اجلوانب اليت أشار‬
‫إليها املباركفوري وابن كثري فيما يتعلق بدوافع جتهيز بعث أسامة فقد تكون‬
‫األقرب ملا كان عليه الوضع يف املنطقة يف تلك الفترة‪ ،‬ويف هذا السياق نفسه ميكننا‬
‫أن نفهم حديث عمر بن اخلطاب ﷺ يف البخاري (‪)1192-1191 )1( :1999‬‬
‫بشأن خوف املسلمني من ملك الغساسنة‪ ،‬فهو يزيد من قوة الرأي الذي قدمه‬
‫املباركفوري وابن كثري رمحهما اهلل‪.‬‬

‫تبعد املزار ثالثة كيلومترات فقط عن مؤتة‬ ‫‪1‬‬

‫املزار هو مكان الزيارة‪ ،‬ولعل هذه املنطقة صارت تعرف هبذا االسم الحقا بني املسلمني‪،‬‬ ‫‪2‬‬
‫إذ مل جند يف املصادر ما يشري إىل وجود هذا االسم من قبل‪.‬‬
‫‪016‬‬
‫لقد استعاد البيزنطيون هيبتهم ومكانتهم بعد أن هزموا الفرس قبل سنوات‬
‫قليلة‪ ،‬بالرغم من حالة الضعف العام اليت أصابتهم بسبب حرهبم مع الدولة الفارسية‬
‫كما أشرنا سابقًا‪ .‬وهلذا جتدّد التهديد الذين ميثله البيزنطيون وحلفاؤهم من العرب‬
‫على املدينة املنورة‪ ،‬خاصة بعد غزوة تبوك‪ ،‬واليت تَقَدَّم اآلالفُ من الرجال وقتها‬
‫لقتال الروم من املدينة املنورة ومن خمتلف مناطق شبه اجلزيرة العربية‪ ،‬وليس يف هذا‬
‫إغفال لرأي املباركفوري وابن كثري‪ .‬فهناك العديد من العناصر اليت دفعت‬
‫النبـي ﷺ لتشكيل هذه السرية وجتهيز هذا البعث‪ ،‬وإن أمرَه أسامةَ حبرق بعض‬
‫املواقع يف أُبىن يكشف بعضًا منها كما سنرى‪.‬‬
‫ويود املؤلف هنا أن يشري إىل هنا إىل فكرةٍ مهمّة تستدعي الوقوف عندها‬
‫خلليل عثامنة (‪ ،)21 :1999‬الذي يرى أن بعث أسامة يدلّ على رغبة النبـي ﷺ‬
‫يف معرفة درجة صدق قادة قبائل العرب يف اجلانب اجلنوبـي من الشام ومدى‬
‫التزامهم باملعاهدات اليت أبرمها النبـي ﷺ معهم‪ .‬ولعل هذا يكون سببًا وجيهًا‬
‫لتجهيز بعث أسامةَ يف ذلك الوقت بالتحديد‪ .‬هنالك يف املقابل رواية تارخيية مهمة‬
‫يوردها ابن عساكر (‪ )11 )3( :1221‬تتعلق بأمهّية هذا البعث وأثره على البيزنطيني‬
‫الذين كانوا يسيطرون على الشام يف تلك الفترة‪:‬‬
‫‪ ..‬فقدم بنعي رسول اهلل ﷺ على هرقل وإغارة أسامة يف ناحية من‬
‫أرضه خرباً واحداً‪ ،‬فقالت الروم‪ :‬ما باىل هؤالء مبوت صاحبهم أن‬
‫أغاروا على أرضنا‪..‬‬
‫هذه الرواية املهمة تكشف عن أحد أهم النتائج اليت ترتبت على بعث أسامة‪.‬‬
‫فأمرُ النبـي ﷺ ألسامة حبرق بعض األجزاء من أُبىن كان رسالةً ألهل تلك‬
‫املنطقة‪ ،‬كي ينقلوها إىل البيزنطيني‪ ،‬وذلك للحفاظ على مسعة املسلمني يف تلك‬
‫املنطقة وصورهتم القويّة‪ ،‬وهلذا مل ينقل لنا التاريخ حدوث عصيانٍ أو نبذٍ‬
‫للمعاهدات مع املسلمني من قبل هذه القبائل اليت تقطن اجلهة اجلنوبية من الشام‬
‫بعد وفاة النبـي ﷺ‪.‬‬
‫ولعلّ هذا ما دفع النبـي ﷺ حسب رواية الواقدي ليحثّ أسامة رضي اهلل‬
‫عنه على التوجه بسرعة وخفية إىل أبىن قبل أن يصل اخلرب إىل العدوّ‪ ،‬كما أمره‬
‫‪017‬‬
‫النبـي ﷺ أيضًا بعدم املكوث هناك كثريًا بعد اهلجوم (انظر الواقدي ‪)1( :1994‬‬
‫‪ .)421‬وتكشف لنا هذه األوامر الصارمة أن النبـي ﷺ كان حريصًا على محاية‬
‫منجزاته يف تلك املنطقة واليت حتققت له إبان غزوة تبوك‪ ،‬فكانت هناك حاجة‬
‫ماسّة للتحرك العسكري فيها لتعزيز مسعة املسلمني ومحاية ما حتقق يف غزوة تبوك‬
‫وما سبقها من غزوات وسرايا‪.‬‬
‫وهكذا تتجلّى لنا األمهّية العظيمة لبعث أسامة‪ ،‬مما يتيح لنا أن نفهم إصرار‬
‫النبـي ﷺ على إنفاذ بعث أسامة يف ذلك الوقت بالتحديد كما يقول ابن إسحاق‬
‫(‪ .)293-292 :1994‬وقد أمر النبـي ﷺ املسلمني وهو يف اللحظات األخرية من‬
‫حياته على فراش املوت أن ينفذوا بعث أسامة بن زيد رضي اهلل عنه ملا وجدَ فيه‬
‫النبـي ﷺ من أمهية وضرورة‪ .‬كما أن األوامر اليت وجهها النبـي ﷺ ألسامة‬
‫رضي اهلل عنه‪ ،‬واليت ساعدت حينها يف تأمني الطريق الشمايل الغربـي حنو بيت‬
‫املقدس‪ ،‬تظهر لنا حنكة النبـي ﷺ ونظرته اإلستراتيجية البعيدة‪ ،‬كما تظهر لنا يف‬
‫املقام األول التوجيه اإلهليّ للنبـي ﷺ وأنه ال ينطق عن اهلوى‪ .‬وتظهر العديد من‬
‫القصص والروايات أن النبـي ﷺ كان يستشعر قرب منيته‪ ،1‬ولذا حرص ﷺ‬
‫على توجيه أمره ألسامة رضي اهلل عنه للتوجه على هيئة حمدّدة إىل نقطة بعينها على‬
‫الطريق الشمايل الغربـي‪ ،‬للقيام بعمليات حمددة كذلك‪ .‬وهذا التحركات‬
‫واألوامر تظهر أنّ النيبّ كان مؤيّدًا بوحي السماء‪ ،‬فقد كان ﷺ يتصرف وهو‬
‫يستشرف بوضوح ما سيعقب وفاته‪ ،‬وهذا سبب اهتمامه البالغ ﷺ بإنفاذ بعث‬
‫ال‬
‫أسامة‪ .‬فقد أصدر أوامرَ جازمةً يف أنفاسه األخرية بإرسال هذا البعث‪ ،‬قائ ً‬
‫للمسلمني يف مرض موته‪" :‬أنفذوا بعث أسامة" (انظر ابن إسحاق ‪.)292 :1994‬‬
‫فقد أراد النبـي ﷺ أن يتأكد من أنّ املسلمني من بعده سينفذون وصيته ويطبقون‬

‫‪111‬‬ ‫ومن هذا ما قاله النبـي ﷺ للمسلمني يف حجة الوداع‪ ،‬كما يروي الدارمي (ت‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫للهجرة‪ 312/‬ميالدية)‪" :‬أيها الناس امسعوا مين ما أبني لكم‪ ،‬فإىن ال أدري لعلي ال ألقاكم‬
‫بعد عامي هذا" (انظر الدارمي ‪ .)22 )1( :1221‬وما قاله ﷺ ملعاذ بن جبل رضي اهلل‬
‫عنه (ت‪ 13 .‬للهجرة‪ 112/‬ميالدية) حني أرسله إىل اليمن‪" :‬يا معاذ إنك عسى أال تلقاين‬
‫بعد عامي هذا‪ ،‬ولعلك أن متر مبسجدى هذا وقربي" (انظر ابن حنبل ‪)11( :1221‬‬
‫‪ )139-122‬باإلضافة إىل ما قاله النبـي ﷺ يف حديثه من أن فتح بيت املقدس سيكون‬
‫بعد وفاته‪.‬‬
‫‪018‬‬
‫إستراتيجيته‪ ،‬وهذا ما أدركه الصديق أبو بكر رضي اهلل عنه عندما كان أولَ ما‬
‫فعله بعيد وفاة النبـي ﷺ وتوليه خالفة املسلمني من بعده أن أنفذَ جيش أسامة‬
‫وفاءً لوصية النبـي ﷺ (انظر الواقدي ‪ ،)11 :1229‬ومتّ هذا يف نفس الشهر الذي‬
‫توفّي فيه النبـي ﷺ‪.‬‬

‫البالوة‬
‫ميكن أن خنرج من هذا الفصل خبالصات عديدة‪ .‬فنحن رأينا كيف أن معظم‬
‫املؤلفني قد تناولوا كل حدثٍ من األحداث‪ ،‬خاصّةً التحركات العسكرية‪ ،‬اليت‬
‫وقعت يف حياة النبـي ﷺ‪ ،‬مبعزل عن بقية الظروف اليت سبقت كل واحدة منها‬
‫أو أعقبته‪ .‬ولكنّا نظرنا يف هذا الفصل إىل تلك التحركات العسكرية واألحداث‬
‫باعت بار أهنا تدور ضمن إستراتيجية موحّدة يظهر لنا من خالهلا صورة واضحة‬
‫ملقاصد النبـي ﷺ وإستراتيجيته اليت جتلت يف حتركاته العسكرية‪ .‬وقد ظهر جبالء‬
‫أيضًا أن النبـي ﷺ قد أقدم على بعض اخلطوات العسكرية املهمة اليت كان من‬
‫شأهنا فتح الطريق من شبه اجلزيرة حنو بالد الشام‪ ،‬وقد نبهنا يف هذا الفصل إىل أن‬
‫معظم هذه احلمالت العسكرية قد توجهت جهة الشمال الغربـي‪ ،‬وهي اجلهة‬
‫الواصلة إىل بيت املقدس‪ ،‬وقد حدث ذلك بالتحديد يف النصف الثاين من حياة‬
‫النبـي ﷺ يف املدينة املنورة‪ .‬وهذا يكشف عن املكانة العظيمة لبيت املقدس عند‬
‫النبـي ﷺ كما يوضّح عزمه ﷺ على تأمني الطريق إليه لتحقيق الفتح املنشود‪.‬‬
‫ال ميكن يف الوقت نفسه اجلزمُ بأن هذه اخلطوات العسكرية اليت أقدم عليها‬
‫النبـي ﷺ هبذا اهلدف بالتحديد‪ ،‬أي فتح بيت املقدس‪ ،‬قد بدأت لدى وصوله‬
‫املدينة املنورة‪ ،‬خبالف ما ذهب إليه الطل‪ .‬وهذا يعود إىل حقيقة بسيطة مفادها أنّ‬
‫النبـي ﷺ كان أمام عائق كبري متثّل يف كون معظم القبائل العربية يف شبه اجلزيرة‬
‫العربية تقف ضدّه‪ ،‬خاصّة يف مكة املكرمة‪ .‬فال يعقل حبال أن يهمل النبـي ﷺ‬
‫اخلطر احملدّق به يف مكةَ ويتوجّه مشا ًال إىل بيت املقدس‪ .‬وبناء على ذلك قمنا‬
‫بتحديد نقطة بدء العمليات العسكرية واليت كانت أول خطوةٍ للنبـي ﷺ حنو‬
‫بيت املقدس‪ ،‬حيث كانت هذه البداية يف غزوة اخلندق‪ .‬فقد كانت هذه الغزوة‬
‫يف واقع األمر نقطة حتول هامة يف شكل العالقة بني النبـي ﷺ وقريش‪ ،‬إذ كانت‬
‫‪019‬‬
‫مبثابة بداية هناية سيطرة قريش على مكةَ املكرمة‪ .‬وانطالقًا من هذه النقطة‪ ،‬مل‬
‫يضيّع النبـي ﷺ أي فرصة إلرسال السرايا واخلروج يف الغزوات على الطريق‬
‫الواصل إىل بيت املقدس‪ ،‬فأرسل أول سرية إىل حسمى‪ ،‬وكان على رأسها زيد‬
‫بن حارثة رضي اهلل عنه‪ ،‬ومن مث توالت احلمالت العسكرية الواسعة اليت توجهت‬
‫إىل مناطق وقبائل عديدة يف تلك املنطقة‪.‬‬
‫وبدأ النبـي ﷺ بعد ذلك بتأمني بعض املناطق يف اجتاهات متعددة قاصدًا‬
‫كسر شوكة قريش وذلك بالتزامن مع االستمرار يف إرسال السرايا حنو الطريق‬
‫الواصل إىل بيت املقدس‪ .‬وقد كان صلح احلديبية الذي جاء يف خضمّ سعي‬
‫النبـي ﷺ لفتح الطريق الشمايل الغربـي حنو بيت املقدس نقطة حتولٍ يف املواجهة‬
‫بني النبـي ﷺ وأهل مكة‪ ،‬وهذا ما دفعه ﷺ لقيادة املسلمني بنفسه يف غزوة خيرب‬
‫والتركيز بشكل خاص عليها‪ ،‬إذ كان يدرك ﷺ أهنا أكرب عقبة حتول دون بيت‬
‫املقدس‪ ،‬فعمد إىل االهتمام بتلك املنطقة بشكل خاص يف تلك املرحلة بالتحديد‪،‬‬
‫وأرسل أكرب سرية يف تاريخ املسلمني خارج شبه اجلزيرة باجتاه مؤتة‪ .‬وقد كانت‬
‫مؤتة بوابة املسلمني ملعرفة مناطق البيزنطيني وإدراك حجم قوهتم‪ ،‬وهلذا نظر‬
‫النبـي ﷺ إىل هذه املعركة على أهنا جمرد بداية حلملة كبرية للمسلمني‪ ،‬وأهنم‬
‫سيكرّون بعدها يف سرايا ومحالت كثرية أخرى‪.‬‬
‫وقد ختلل هذه األحداث فتح مكة وما حوهلا‪ ،‬إذ قطف املسلمون مثار صربهم‬
‫وجهادهم يف هذه املرحلة األخرية من الصراع على مكة‪ ،‬وتكللت هذه اجلهود‬
‫بالفتح العظيم ملكة املكرمة‪ .‬وهكذا حتوّلت معظم السرايا بعد الفتح حنو الطريق‬
‫الواصل إىل بيت املقدس وللتعامل مع النتائج اليت متخضت عنها معركة مؤتة‪ .‬وقد‬
‫أرسل النبـي ﷺ جيوشًا عديدةً حنو هذا الطريق للوقوف أمام تلك القبائل اليت‬
‫حتالفت مع البيزنطيني يف مؤتة‪.‬‬
‫وقد كانت غزوة تبوك احلملة الكربى حجمًا وأمهية حنو بيت املقدس‪ ،‬ولعل‬
‫هذه الغزوة تكون أهم خطوة عسكرية للنبـي ﷺ يف هذا االجتاه‪ ،‬ليس ألهنا‬
‫األكرب واألبعد وحسب‪ ،‬بل ألهنا كانت فرضًا حظر على املسلمني التخلف عنه‪.‬‬
‫وتكشف هذه الغزوة عن غاية النبـي ﷺ يف هذا السياق‪ ،‬واملتمثل بفتح بيت‬
‫املقدس على وجه التحديد‪ ،‬وليس جمرد فتح منطقة الشام بشكل عام كما يرى‬
‫‪041‬‬
‫بيضون (‪ .)34-31 :1222‬ولقد جتلّت يف احلديث الذي روي عن النبـي ﷺ يف‬
‫تبوك عن الزمان الذي سيتحقق فيه فتح بيت املقدس تلك العالقةُ القائمة بني‬
‫إستراتيجية النبـي ﷺ كقائد وبني عنصر الوحي الذي يوجّه خططه وأفعاله‪.‬‬
‫وكانت املعاهدات اليت أبرمها النبـي ﷺ خالل غزوة تبوك متعلقة بأهداف‬
‫الغزوة‪ ،‬واليت كانت مبثابة متهيد حلمالت أخرى ستعقبها لتحقيق مراده ﷺ بفتح‬
‫بيت املقدس‪.‬‬
‫وقد انتهى بنا املطاف بني غزوات النبـي ﷺ وسراياه إىل التحرك العسكري‬
‫األخري له ﷺ واملتمثل ببعث أسامة بن زيد رضي اهلل عنه‪ .‬وقد كان اهلدف من‬
‫هذا البعث التحقق للمرة األخرية من حالة الطريق الواصل إىل بيت املقدس والتأكد‬
‫من تأمينه أمام جيوش املسلمني قبل تطبيق اخلطة الفعلية للفتح‪ .‬فقد كان لزامًا بعد‬
‫وفاة النبـي ﷺ محاية املعاهدات واالتفاقيات اليت أبرمها يف تبوك وضمان هيبة‬
‫دولة املسلمني أمام دولة البيزنطيني العظمى‪ .‬وقد رأينا كيف أنّ بعث أسامة مل‬
‫يكن يهدف إىل التوجه حنو بيت املقدس‪ ،‬وإمنا كان املراد منه تأمني خطة الفتح‬
‫وتعزيزها‪ ،‬وهلذا مل يتوجه البعث حنو يبىن‪ ،‬وإمنا إىل أبىن‪ ،‬وهي نقطة قرب مؤتة‬
‫واملزار يف حدود دولة األردن املعروفة اآلن‪.‬‬
‫وميكن القول إن التحرك العسكري للنبـي ﷺ باجتاه بيت املقدس قد اختذ‬
‫شكلني اثنني‪ :‬عمليات عسكرية صغرى وعمليات عسكرية كربى‪ ،‬وقد كان‬
‫اهلدف من األوىل استطالع الطرق وتدريب قادة اجليوش اإلسالمية‪ ،‬ويدخل يف‬
‫هذا الشكل مجيع السرايا اليت شارك هبا عدد حمدود من الصحابة‪ .‬أما العمليات‬
‫العسكرية الكربى فقد عنيت بالتخلص من العقبات الكربى أمام جيوش املسلمني‬
‫باجتاه بيت املقدس والتحضري فعليًا للحمالت العسكرية التالية للفتح‪ ،‬وميكن أن‬
‫ننظر إىل غزوة خيرب ومعركة مؤتة وغزوة تبوك وبعث أسامة على أهنا عمليات‬
‫عسكرية كربى‪ ،‬كما تعدّ هذه الوقائع األربعة الكربى أهم خطوات عسكرية‬
‫ارتبطت مباشرة ببيت املقدس‪ ،‬وال ريب أن نتائجها قد انعكست بشكل مباشر‬
‫على التحضري للفتح الفعلي لبيت املقدس‪.‬‬
‫ال لرؤية واضحة خبصوص األحداث اليت ستعقب‬ ‫لقد كان النبـي ﷺ حام ً‬
‫وفاته‪ ،‬ولذا كان حريصًا على جتهيز املسلمني للخروج يف محالت عسكرية قريبة‪.‬‬
‫‪040‬‬
‫وال بدّ عند النظر إىل هذا اجلانب أن ندرك أنّ خطةَ النبـي ﷺ كانت مؤيد ًة‬
‫بالوحي‪ .‬فلقد كان من الضروري أن يضع النبـي ﷺ تلك اخلطة‪ ،‬ألن املسلمني‬
‫سيقفون يف وجه أعظم قوة يف ذلك الزمان‪ ،‬وهي اإلمرباطورية البيزنطية‪ ،‬وال شكّ‬
‫أن هذا األمر يتطلب استعدادات كبرية ويستلزم خطوات دقيقة‪ .‬وهذا يدل على‬
‫العالقة املهمة واملميزة بني التحركات العسكرية للنبـي ﷺ وبني بيت املقدس‪.‬‬

‫‪041‬‬
 ‫البأتمة‬

‫يتمثل اهلدف األساسي من هذا الكتاب يف عرض وبيان النظرية القائلة بأن‬
‫النبـي ﷺ قد وضعَ خطة واضحة املعامل لفتح بيت املقدس الذي حتقق بعد‬
‫وفاته ﷺ خبمس سنوات‪ .‬إنّ جممل القضية املتعلقة باخلطوات اليت أقدم عليها‬
‫النبـي ﷺ حنو منطقة الشام‪ ،‬وطبيعة عالقته هبا‪ ،‬كانت حمط نقاش وخالف طويلني‬
‫بني العلماء والباحثني‪ .‬فبينما يرى بعض الباحثني كعثامنة (‪ )21 :1999‬وشرّاب‬
‫(‪ ،)24 :1224‬وبيضون (‪ )3 :1222‬وجيل (‪ )11 :1222‬وأبو الرب (‪،)21 :1991‬‬
‫وكوهني (‪ ،)3 :1229‬والعويسي (‪ ،)19 :1991‬واألشقر (‪ ،)11 :1991‬أن النيبّ قد‬
‫خطا مثل هذه اخلطوات بالفعل وأنّ عالقةً فريدةً قد كانت قائمة بني النبـي ﷺ‬
‫وبيت املقدس‪ ،‬فإنّ آخرين من أمثال الزاروس يافيه (‪ )41 :1229‬وجويتني (‪:1231‬‬
‫(‪ )111 )1‬وليفين كَفري (‪ )111 :1991‬يرون خالف ذلك ويذهبون إىل أن هذه‬
‫املنطقة مل تكن ذات أمهية يف اإلسالم خالل حياة النبـي ﷺ‪.‬‬
‫ويف الواقع ميكن بسهولةٍ التوصل خالل الدراسة إىل قناعة بأنّ بيت املقدس قد‬
‫احتل مكانةً عظيمة من دون شكٍّ يف حياة النبـي ﷺ‪ ،‬وذلك ما فصّلناه وبيّناه يف‬
‫فصول هذا الكتاب‪ .‬فاملؤلف هنا يتفق مع الباحثني والعلماء من اجملموعة األوىل‪،‬‬
‫بيدّ أنّه يف الوقت نفسه يضيف بعدًا آخر إىل هذه النظرية يتمثل يف العديد من‬
‫األحداث والوقائع اليت حدثت قبل فترة طويلة من تبلور اخلطة اإلستراتيجية‬
‫للنبـي ﷺ خبصوص بيت املقدس‪ ،‬وذلك من أجل حتضريه ولفت انتباهه‬
‫واملسلمني إىل مركزية هذه املنطقة وأمهيتها‪.‬‬
‫وسيتم فيما يلي تلخيص املخرجات األساسية اليت متخّضت عنها هذا‬
‫الدراسة‪ ،‬حيث سيتم الربط بني اآلراء املختلفة يف هذا السياق بالنظر إىل اإلطار‬
‫‪041‬‬
 ‫األوسع هلذه اخلطة النبوية‪ .‬فمن خالل إعادة النظر يف السرية النبوية سيتبدّى لنا‬
‫عالقةٌ مميزة بني النبـي ﷺ وبيت املقدس‪ .‬وقد قام املؤلف بتحليل هذه العالقة من‬
‫عدد من اجلوانب ويف سياق كثريٍ من األحداث اليت مهّدت الطريق لفتح بيت‬
‫املقدس‪.‬‬
‫ويف هذا املعرض ميكن القول إنه بالرغم من أنّ هذه اخلطة كانت بتوجيهٌ إهليّ‬
‫إال أنّها تنسب للنبـي ﷺ بالنّظر إىل أنه قدّمها للمسلمني ودعاهم إليها‪ .‬فقد‬
‫كانت عموم أفعال النبـي ﷺ موجّهة ومرتبطة بالوحي‪ ،‬إال يف ظروف حمددة‬
‫أشار النبـي ﷺ إىل أهنا ليست أمرًا من اهلل تعاىل‪ ،‬ومن ذلك ما حدث يف غزوة‬
‫بدر (انظر ابن هشام (‪ .1)141 )1( 1991‬والقرآن ينصّ صراحة على أنّ النبـي ﷺ‬
‫مؤيّد بوحيٍ من السماء‪ ،‬فقد قال اهلل تعاىل يف كتابه العزيز‪ :‬وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *‬
‫إِنْ هُوَ إِالَّ َوحْيٌ يُوحَى‪( ‬النجم‪ .)1 :‬وينطبق هذا على أحاديث النبـي ﷺ‪ ،‬فهي‬
‫وإن كانت صادرة عنه ﷺ إال أهنا تعدّ مصدرًا أساسيًا للوحي بنصّ القرآن الكرمي‬
‫كذلك‪.‬‬
‫ويبسط كتابنا هذا القولَ يف العديد من األحداث‪ ،‬ويتناول بشيء من التفصيل‬
‫تلك التحركات اليت قام هبا النبـي ﷺ يف مكة املكرمة واملدينة املنوّرة‪ ،‬واليت‬
‫كانت هلا عالقة مباشرة أو غري مباشرة ببيت املقدس‪ .‬وميكن لنا أن نوزع سلسلة‬
‫هذه األحداث والتحركات اليت تشكل مبجموعها خطة النبـي ﷺ يف مرحلتني‬
‫أساسيتني‪:‬‬
‫‪ .1‬مرحلة التحضري‪ :‬حيث رسخت املكانة العظيمة واألمهية الكبرية لبيت‬
‫املقدس من خالل اإلشارة إليه وإىل أمهّيته يف القرآن الكرمي تصرحيًا أو‬
‫تلميحًا‪ ،‬كما تأكّد ذلك يف أمر اهلل تعاىل لنبيه واملسلمني بالتوجه‬
‫بالصالة إليه‪ .‬كما كانت رحلة اإلسراء واملعراج قد وقعت يف نقطة‬
‫مفصلية يف هذا السياق‪ ،‬إذ مثلت التواصل الفعلي األول بني النبـي‬
‫حممد ﷺ وبيت املقدس حيث مثلت هذه البقعة املكانَ الذي جتلّت فيه‬
‫الرؤية الكونية للنبـي حممد ﷺ وزعامته جلميع األنبياء من قبله‪ .‬وال‬
‫شكّ أن هذه املرحلة قد لفتت انتباه النبـي ﷺ ألمهية فتح بيت املقدس‬
‫وال نودّ أن نعرض تفاصيل هذه القصة هنا ألهنا ليست يف جمال حبثنا‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪044‬‬
‫وإدخاله ضمن بيضة املسلمني كجزء من إستراتيجيته لنشر الدعوة يف‬
‫أصقاع األرض مجيعًا‪.‬‬
‫‪ .1‬اخلطوات العملية‪ :‬حيث أقدم النبـي ﷺ على اختاذ هذه اخلطوات‬
‫العملية بتأييد من الوحي‪ ،‬وقد أخذت هذه اخلطوات شكل إبرام العديد‬
‫من املعاهدات والكتب وإرسال السرايا واخلروج يف الغزوات باجتاه‬
‫طريق بيت املقدس ومتهيد الطريق الواصل إىل بيت املقدس استعدادًا‬
‫لفتحه‪.‬‬

‫مرحية التحضير‬
‫بدأت مرحلة التحضري لفتح بيت املقدس مع بداية نبوة رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وكان‬
‫ذلك باستقبال املسلمني لبيت املقدس يف صالهتم‪ .‬وقد كان هلذا األمر أثر عظيم يف‬
‫ترسيخ أمهية بيت املقدس يف اإلسالم ويف وجدان النبـي ﷺ واملسلمني بشكل‬
‫خاص‪ .‬فقد صلى النبـي ﷺ يف حياته حنو بيت املقدس مدةً أطول من صالته حنو‬
‫الكعبة املشرفة مع أنّ معظم املفسرين واملؤرخني مل يولوا هلذا األمر أمهّية عند‬
‫ذكره‪ .‬فقد كانت الصالة حنو بيت املقدس حبقّ أحد األمور اليت أقامت الرابط‬
‫الروحي للمسلمني مع تلك املنطقة‪ ،‬وكان هذا الرابط عزيزًا ومهمًا للمسلمني يف‬
‫مكة نظرًا لبعد املسافة اليت تفصلهم عن بيت املقدس‪ .‬وقد استمرت الصالة جتاه‬
‫القبلة األوىل أكثر من أربع عشرة سنة‪ ،‬وشكّل هذا جانبًا جوهريًا من ارتباط‬
‫النبـي ﷺ واملسلمني بتلك البقعة املقدسة‪.‬‬
‫ومل يكتف املسلمون هبذا الرابط الروحي مع بيت املقدس بوصفه مكانًا‬
‫مقدسًا وإمنا أرادوا أن يشكلوا عالقة فعلية مع تلك املنطقة‪ .‬ولذلك كان املسلمون‬
‫مهتمني مبا حيدث يف ذلك املكان البعيد عنهم‪ ،‬فهذه هي اخلطوة األوىل قبل التحرك‬
‫فعليًا إليها‪ .‬ويؤدي القرآن الكرمي يف هذا الصدد دورًا مهمًا‪ ،‬فنراه يعزز هذا الرابط‬
‫بني املسلمني وبيت املقدس يف وقت مبكر جدًا من البعثة النبوية‪ ،‬فريد ذكر هذه‬
‫األرض يف غري موضع من القرآن الفتًا األنظار إىل مكانتها وأمهيتها كمكان للربكة‪.‬‬
‫وال يكتفي القرآن الكرمي بذلك‪ ،‬بل خيرب املسلمني مبا جيري يف بيت املقدس كما‬
‫ال ببيت‬‫ورد يف سورة الروم‪ ،‬واليت وردت فيها أول إشارة تربط املسلمني فع ً‬
‫‪045‬‬
‫املقدس‪ ،‬باإلضافة إىل اشتمال هذه السورة على إشارات عديدة غري مباشرة تدل‬
‫على أمهية بيت املقدس وخترب عن مستقبله‪.‬‬
‫ويظهر أن عالقة خاصّة قد تشكلت منذ تلك الفترة بني النبـي ﷺ وبيت‬
‫املقدس‪ ،‬مع أنّ هذه العالقة مل تبلغ ذروهتا حىت رحلة اإلسراء واملعراج‪ .‬فقد كانت‬
‫هذه املعجزة نقطة حتول أساسية ودافعًا عمليا للنبـي ﷺ للتفكري بفتح بيت‬
‫املقدس ووضع ذلك يف خطةٍ واضحة‪ .‬وأمدّت رحلة اإلسراء واملعراج رسولَ‬
‫اهلل ﷺ باألمل وسلّت عنه‪ ،‬إذ أتت والنبـي ﷺ مير يف ظروف عصيبة وفترة‬
‫حرجة‪ ،‬فكانت لفتةً ربانية خاصّة أمدّته مبا حيتاج من عزمٍ ويقني لتحقيق مراد اهلل‬
‫تعاىل يف األرض‪ ،‬وهو نشر اهلداية للعاملني‪ .‬وتعدّ رحلة اإلسراء واملعراج معلمًا‬
‫مهمًا ليست يف حياة النبـي ﷺ وحسب‪ ،‬وإمنا يف تاريخ بيت املقدس كذلك‪ ،‬إذ‬
‫كشفت هذه الرحلة للنبـي ﷺ رمزية هذه املنطقة ومكانتها‪ ،‬ومما دلّ على ذلك‬
‫بشكل مباشر هو إمامة النبـي ﷺ جلميع األنبياء يف الصالة يف املسجد األقصى‪،‬‬
‫والذي حيتل مكان القلب من بيت املقدس‪ .‬ولعلّ هذا احلدث من أهم ما شهده‬
‫النبـي ﷺ يف تلك الرحلة‪ ،‬إذ كانت صالته بالنبيني إشارة إىل أنّه سيتقلّد زعامة‬
‫الكون من بعدهم‪.‬‬
‫وهكذا رسخت مكانة بيت املقدس ومنحت هذه األرض ألقها الذي لن‬
‫خيفت بفضل رحلة اإلسراء واملعراج‪ ،‬وهذا ما يؤكده النتشة (‪ )11 :1991‬فيقول‪:‬‬
‫"حىت إذا حاول أحدهم أن يلوي عنق احلقيقة‪ ،‬فيدعي أن حتويل القبلة عن بيت‬
‫املقدس هتوين من مقامها‪ ،‬قامت رحلة اإلسراء وآية اإلسراء باملنافحة عن هذه‬
‫املكانة"‪ ،‬ولذا كانت رحلة اإلسراء واملعراج عنصرًا أساسيًا يف رفع مكانة بيت‬
‫املقدس وترسيخها يف وجدان املسلمني‪ .‬وقد جتلّى ذلك يف القرآن الكرمي يف أنّ‬
‫السورة اليت يرد فيها ذكر رحلة اإلسراء‪ ،‬واليت حتمل االسم نفسه‪ ،‬قد جاءت يف‬
‫منتصف القرآن تقريبًا‪ ،‬فهي تشترك مع رحلة اإلسراء يف ترتيبها يف سرية‬
‫النبـي ﷺ‪ ،‬إذ جاءت قبيل نقطة املنتصف من بعثته ﷺ‪.‬‬
‫لقد أسري بالنبـي ﷺ من مكة املكرمة ووصل إىل بيت املقدس حيث صلى‬
‫باألنبياء مجيعًا صالةً كانت داللةً على أنّ النيبّ وارثٌ إلرث النبيني‪ ،‬فكانت رحلة‬
‫اإلسراء على األغلب العنصر األساسي لتحفيز النبـي ﷺ على وضع خطة من‬
‫‪046‬‬
‫مرحلتني بعد هجرته إىل املدينة‪ :‬األوىل هي تأمني مكّة وضمّها إىل سيطرة‬
‫املسلمني‪ ،‬فهي املكان الذي ميثل منارة هداية للكون ومركزَ الدعوة األول‪ ،‬مث توجّه‬
‫بعد مكة لتأمني بيت املقدس‪ ،‬وهو املكان الذي ميثل نقطة التوسع واالنتشار لرسالة‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫وقد تأكّد هذا الترتيب لألولويات يف القرآن الكرمي بعد هجرة النبـي ﷺ‬
‫إىل املدينة املنورة‪ .‬فقد أوحى اهلل تعاىل إىل نبيّه ﷺ واملسلمني أن يولوا وجوههم‬
‫قبل املسجد احلرام يف مكة‪ ،‬وكانت هذه نقطة بدايةٍ لفتح مكة‪ ،‬وكشف هذا األمر‬
‫بأمهيته وأثرِه عن الطبيعة الكونية لرسالة النبـي ﷺ‪ ،‬إذ لو كان ﷺ قد حصر‬
‫اهتمامه ببناء جمتمع له يف املدينة لفعل ذلك وملا اكترث لإلعداد لفتح مكة‪ .‬ولكنّ‬
‫مكةَ املكرمة متثّل رمزًا كونيًا للهداية وال بدّ من أن تكون تابعة للمسلمني‪ .‬وهكذا‬
‫كان حتويل القبلة إليها أمرًا أساسيًا للنبـي ﷺ من قبل أن يتوجه باهتمامه إىل بيت‬
‫املقدس‪.‬‬
‫وال ميكن أن يكون أمر تغيري القبلة جمردَ تغيريِ وجداينّ كما يقول واتسون‬
‫(‪ ،)111 :1211‬بل كان هذا التغيري خطوة ال غىن عنها لتحقيق فتح مكة ومن‬
‫بعده فتح بيت املقدس‪ .‬لقد ساعد فتح مكةَ يف حتقيق الرسالة العظمى لإلسالم‬
‫واملتمثلة يف اهلداية‪ ،‬وكان ال بدّ هلذه اهلداية أن تعمّ الكون بأسره من خالل بيت‬
‫املقدس‪ .‬ولكنّ حتول القبلة ليس القضية الكربى يف هذا السياق‪ ،‬بل إن األصل أن‬
‫ننظر يف السبب وراء جعل بيت املقدس قبلةً أوىل للمسلمني يف الصالة قبل‬
‫املسجد احلرام‪ ،‬كما جيب أن ندرك أن ال مغزى وال فائدةَ من فتح بيت املقدس‬
‫قبل مكة املكرمة‪.‬‬

‫البطوا العميية‬
‫لقد مت التحضري لفتح بيت املقدس بعدد من اخلطوات يف املسار السلمي‬
‫واملسار العسكري على السواء‪ ،‬والسيما فتح مكة‪ .‬فمنذ هجرة النبـي ﷺ إىل‬
‫املدينة املنورة‪ ،‬وذلك بعد فترة ليست طويلةً من رحلة اإلسراء واملعراج‪ ،‬كان‬
‫للنبـي ﷺ هدفٌ أساسي متثل يف فتح مكة أو التخلص على األقل من هتديد‬
‫قريش وعدائها للمسلمني ودولتهم‪ .‬وقد بدأ النبـي ﷺ باالهتمام بتحقيق هذه‬
‫‪047‬‬
‫الغاية منذ العام األول هلجرته‪ .‬ومبجرد أن جتاوز النبـي ﷺ هذه املرحلة ودخ َل‬
‫مكة املكرمة فاحتًا هلا‪ ،‬توجه اهتمامه إىل فتح بيت املقدس‪ ،‬وبدأ التخطيط والتحرك‬
‫حنو هذه الغاية‪.‬‬
‫وكما أشرنا يف ثنايا هذا الكتاب‪ ،‬مل يشهدِ الطريق الواصل إىل بيت املقدس‬
‫أي حتركات عسكرية قبل العام اخلامس للهجرة‪ ،‬أي قبل غزوة اخلندق‪ .‬مث‬
‫توجّهت معظم احلمالت العسكرية للمسلمني بعد هذا العام مشال غريبّ املدينة‪ ،‬أي‬
‫باجتاه بيت املقدس‪ .‬وهذا ما دعانا إىل أن نعدّ غزوة اخلندق نقطةَ حتول يف‬
‫إستراتيجية النبـي ﷺ العسكرية‪ ،‬وهذا ما قرره النبـي ﷺ نفسه حني أعلن أنّ‬
‫حربه مع قادة مكة من قريش ستأخذ منحى خمتلفًا بعد اخلندق‪.‬‬
‫لقد كان العام السادس للهجرة نقطة املنتصف يف نبوة النبـي ﷺ يف املدينة‬
‫ما بني هجرته ووفاته‪ ،‬وهو العام الذي شهد نقطة التحول يف هذا السياق‪ ،‬وهذا‬
‫أمر مثري لالهتمام‪ ،‬إذ يتزامن هذا مع رحلة اإلسراء واملعراج‪ ،‬واليت تعدّ نقطة حتول‬
‫حقيقية يف حياة النبـي ﷺ حني وصلَ إىل منتصف فترة نبوّته‪ .‬وقد حتول اهتمام‬
‫النبـي ﷺ بعد هذه الرحلة بشكل كبري حنو فتح بيت املقدس بكوهنا بوابةً لنشر‬
‫دعوة اإلسالم يف العامل بأسره‪ .‬وكذا العام السادس من اهلجرة‪ ،‬وهو نقطة املنتصف‬
‫يف حياة النبـي ﷺ يف املدينة‪ ،‬إذ بدأت فيه التحركات العسكرية الفعلية باجتاه‬
‫بيت املقدس‪ ،‬حيث كانت الغاية متمثلة يف حتقيق ما مثلته رحلة اإلسراء واملعراج‬
‫من تطلعاتٍ للنبـي ﷺ خبصوص هذه املنطقة‪.‬‬
‫لقد كانت غالبية احلمالت العسكرية اليت أطلقها النبـي ﷺ يف حياته‬
‫موجّهة يف االجتاه الذي تقع عليه أرض بيت املقدس‪ ،‬فال عجبَ يف كون هذه‬
‫املنطقة ذات أولوية لديه ﷺ‪ ،‬ولعل هذا راجع إىل نظرته ﷺ خبصوص تلك املنقطة‬
‫بأسرها‪ .‬إذ تعززت هذه النظرة يف املرحلة املكية‪ ،‬من خالل اختاذ بيت املقدس قبلة‬
‫للمسلمني‪ ،‬باإلضافة إىل ذكره يف القرآن الكرمي‪ ،‬وجتلّت يف أكمل صورها يف رحلة‬
‫اإلسراء واملعراج‪ .‬وهذا يدلنا على أنّ النبـي ﷺ كان ينظر إىل تأمني مكةَ‬
‫كخطوة أوىل وحسب لضمان االنتشار لرسالة اإلسالم العاملية‪ ،‬ولكي تتحقق هذه‬
‫الصبغة العاملية لدعوة اإلسالم‪ ،‬فال بدّ من بسط السيطرة على البقاع الثالثة املقدسة‬
‫يف اإلسالم‪ ،‬وهي مكة املكرمة واملدينة املنورة وبيت املقدس‪.‬‬
‫‪048‬‬
‫بدأت باكورة احلمالت العسكرية باجتاه الطريق الواصل إىل بيت املقدس مع‬
‫سرية حِسمى‪ ،‬بيدَ أنّه ال بدّ من اإلشارة إىل أنه ال ميكن النظر إىل مجيع السرايا‬
‫على أهنا محالت عسكرية واسعة‪ .‬فقد كان بعضها جمرد سرايا استطالعية باجتاه‬
‫ذلك الطريق أو متوجّهة إىل بعض القبائل احمليطة‪ .‬ولكنّ السرية األوىل اليت انطلقت‬
‫حنو ذلك الطريق كانت حتركا مهمًا بسبب املسافة البعيدة اليت تفصل بني عاصمة‬
‫النبوة يف املدينة وبيت املقدس‪ .‬ويبدو التوجيه اإلهلي هلذه اخلطة واضحًا‪ ،‬حيث‬
‫جتلّى يف صلح احلديبية الذي متّ يف هناية السنة السادسة للهجرة بوحيٍ من السماء يف‬
‫املقام األول‪ .‬وجنمَ عن هذا الصلح إهناء خطر قريش املتمركز يف مكة‪ ،‬وهذا ما‬
‫أتاح اجملال للنبـي ﷺ للتحضري على نطاق واسع للحملة القادمة الرامية لفتح بيت‬
‫املقدس‪.‬‬
‫وقد بدأ النبـي ﷺ‪ ،‬مبجرد أن كسرت شوكة قريشٍ يف مكةَ وكفّوا أذاهم‬
‫عنه ودولتِه بعد صلح احلديبية‪ ،‬باإلعداد حلمالت عسكرية واسعة النطاق‪ .‬فقد‬
‫كان النبـي ﷺ حريصًا على إضعاف أحد أهم العوائق على ذلك الطريق‪،‬‬
‫وحتديداً اليهود والقبائل العربية القاطنة هناك‪ .‬وهذا ما دفعه للتحرك على رأس‬
‫جيش كبري حنو خيرب‪ ،‬حيث قام بالتخلص من اخلطر املتمثل باملدن واملناطق‬
‫اليهودية اليت تشمل خيرب وغريها مثل فدك ووادي القرى‪ .‬ولكنّ النيبّ ﷺ مل‬
‫يتخلص من هذا اخلطر بالقوة‪ ،‬بل قدّم مثا ًال تارخييًا لتطبيقِ مفهوم التدافع املذكور‬
‫يف القرآن الكرمي‪ ،‬فبدل أن يتخلص منهم متامًا حول موقفهم جتاهه إىل احلياد‪ .‬ولعل‬
‫هذا يرتبط برغبة النبـي ﷺ يف االستفادة من عالقتهم التارخيية السلبية مع‬
‫البيزنطيني يف بيت املقدس ليكسبهم إىل صفّه يف حال رفض البيزنطيون فتحَ بيت‬
‫املقدس أمام املسلمني طواعيةً‪ .‬وقد متكّن النبـي ﷺ بفضل هذه اإلستراتيجية من‬
‫تأمني الطريق حنو بيت املقدس باإلضافة إىل تقليل عدد أعدائه‪.‬‬
‫ويف أثناء هذه العملية اهلادفة لتحييد خطر القوتني األساسيتني املوجودتني على‬
‫الطريق إىل بيت املقدس قام النبـي ﷺ بأول خطوة من خطواته الدبلوماسية‬
‫املرتبطة بالفتح داخل منطقة بيت املقدس‪ .‬وقد جاءت هذه اخلطوة على شكل‬
‫رسالةٍ أرسلها ﷺ إىل اإلمرباطور البيزنطي هرقل‪ ،‬يف خطوة دبلوماسية هي األهم‬
‫يف سياق فتح بيت املقدس‪ .‬وتكشف هذه الرسالة عن دافعني أساسيني لدى‬
‫‪049‬‬
‫النبـي ﷺ ومها‪ :‬التخطيط لفتح بيت املقدس بشكل فعلي‪ ،‬وحماولة احلدّ من‬
‫اخلسائر البشرية واملادية‪ .‬وكانت هذه الرسالة حبق خطوة دبلوماسية مهمة قبل بدء‬
‫التحرك العسكري الفعلي على ختوم بيت املقدس‪.‬‬
‫وقد بدأت هذه التحركات بإرسال عدد من السرايا إىل الطريق الواصل إىل‬
‫بيت املقدس‪ ،‬وكان اهلدف األساسي منها معرفة الوضع األمين يف املناطق البعيدة‬
‫عن املدينة املنورة‪ ،‬حيث دخل اليهود يف عهد مع املسلمني‪ .‬فأرسل النبـي ﷺ‬
‫سرية إىل مشارف الدولة البيزنطية‪ ،‬وكانت هذه السرية اليت مسّيت "سرية ذات‬
‫ال على حرص النبـي ﷺ على إظهار سلميّة دعوته ومقاصده‪ .‬لكنّ‬ ‫أطالح" دلي ً‬
‫هذه السرية انتهت بفاجعةٍ على املسلمني‪ ،‬إذ استشهد من كان فيها على يد القبائل‬
‫العربية احملالفة للبيزنطيني‪ ،‬فلم جيد النبـي ﷺ أمامه سوى أن يتحرك عسكريًا‬
‫وعلى نطاق واسع ضد البيزنطيني وحلفائهم من العرب‪.‬‬
‫وعليه مت تشكيل جيش ضخم للتوجّه إىل مؤتة‪ ،‬غري أنّه ورغم ضخامته مل‬
‫يكن محلة عسكرية كاملة وإمنا كان سريّة استطالعية على حدود بيت املقدس‪،‬‬
‫وهلذا مل يكلّف النبـي ﷺ هذا اجليش مبهمة حمددة‪ ،‬بل أراد جليش مؤتة أن‬
‫يستكشف تلك املنطقة وأن يكون مبثابة طليعةٍ ورسالةِ حتذير للبيزنطيني وقبائل‬
‫العرب حوهلم‪ .‬وهذا ما أعلنه النبـي ﷺ بوضوح حني أشار إىل ما سيعقب‬
‫معركة مؤتة من الرجوع جمددًا واستئناف القتال من جانب املسلمني‪.‬‬
‫إال أن البيزنطيني وحلفائهم من قبائل العرب مل يدركوا الرسالة اليت ميثلها‬
‫جيش مؤتة‪ ،‬وهذا ما جعل النبـي ﷺ يدرك متامًا حجم اخلطر املتمثل بتلك‬
‫القبائل العربية املوالية للدولة البيزنطية‪ ،‬وضرورة كسر شوكتهم والتخلص من‬
‫خطرهم‪ .‬فعمدَ النبـي ﷺ إىل إرسال عدد من السرايا إىل املناطق اليت تقطنها تلك‬
‫القبائل ليتأكدَ من إضعاف قوهتم وصدّ شرّهم‪ .‬غري أنّه مل يكن من احلكمة يف تلك‬
‫الفترة أن يشنّ محلة عسكرية واسعة عليهم‪ ،‬وذلك ألنّ مكةَ ما تزال خارج سيطرة‬
‫املسلمني وال ضمانة بعدُ متنع من هجومهم على املسلمني‪ .‬لكنّ احلال تغريت حني‬
‫جنح النبـي ﷺ يف فتح مكة دون قتال فدخلت واملناطقُ اليت حوهلا يف سيطرته‪،‬‬
‫والسيما حنني والطائف‪ ،‬وهكذا متّت للنبـي ﷺ السيطرة على شبه اجلزيرة‬
‫العربية‪ ،‬ومُهّدت الطريق خلطوة عسكرية كبرية ومهمة‪ ،‬وهي غزوة تبوك‪.‬‬
‫‪051‬‬
‫لقد كانت غزوة تبوك اخلطوة العسكرية الكربى حجمًا وأمهية باجتاه فتح بيت‬
‫املقدس‪ ،‬فقد أعلن النبـي ﷺ عن وجوب مشاركة املسلمني مجيعًا من غري ذوي‬
‫األعذار يف هذه الغزوة منبّها إيّاهم على أمهية بيت املقدس ومكانته يف املستقبل‪ .‬كما‬
‫ظهر بوضوح تأييد الوحي للنبـي ﷺ يف هذه الغزوة حني لفت انتباه املسلمني‬
‫للهدف األساسي للغزوة حني بشّر للمرة األوىل صراحة بفتح بيت املقدس وأخرب عن‬
‫الزمن الذي سيتحقق فيه هذا الفتح‪ .‬ويعدّ ذلك احلديث الشريف الذي جاء فيه ذكر‬
‫فتح بني املقدس من أهمّ ما حدث أثناء غزوة تبوك‪ ،‬إذ كشف عن طبيعة هذه احلملة‬
‫وأهدافها‪ ،‬وأهنى اخلالف بني العديد من املؤرخني خبصوص أسباب غزوة تبوك‬
‫وأهدافها‪ ،‬وسواها من الغزوات والسرايا على الطريق الواصل إىل بيت املقدس‪.‬‬
‫ويظهر هذا احلديث الذي أخرب به النبـي ﷺ وهو يف غزوة تبوك أن‬
‫النبـي ﷺ قد كان على علم باملوعد املنتظر لفتح بيت املقدس عن طريق الوحي‪.‬‬
‫إال أنّ هذا ال يعين حبال أن هذه الغزوة مل تكن يف ذاهتا جانبًا أساسيًا من‬
‫التحضريات هلذا الفتح املنتظر‪ .‬بل لقد كشفت هذه الغزوة يف واقع األمر عن‬
‫العديد من التحضريات اليت أجراها النبـي ﷺ للتمهيد حلملة عسكرية كبرية يف‬
‫املستقبل‪ .‬وهلذا تواصل ﷺ مع العديد من األطراف املهمة واحملطات األساسية على‬
‫طريق بيت املقدس حني كان يف تبوك‪.‬‬
‫لقد أبرم النبـي ﷺ معاهدات مع أهل أيلة ومقنا وأذرح‪ ،‬وهذا من أبرز ما‬
‫متخّض عن غزوة تبوك‪ .‬وقد خضنا يف تفاصيل هذه الوثائق وحللناها بعمق يف‬
‫الفصل الثاين من هذا الكتاب‪ ،‬ورأينا كيف كانت معامل أساسية يف خطة‬
‫النبـي ﷺ لفتح بيت املقدس‪ .‬فقد جنح النبـي ﷺ من خالهلا يف أن يضمن تزوّد‬
‫احلمالت العسكرية القادمة حنو بيت املقدس بالعتاد والطعام واملاء‪ .‬كما نتج عن‬
‫تلك املعاهدات تأمني الطرق األساسية حنو الشام من شبه اجلزيرة العربية‪ .‬وجيدر‬
‫التنبيه هنا إىل أنّه ال ميكن أن نفترض أن النبـي ﷺ كان يهدف لفتح منطقة الشام‬
‫بأكملها‪ ،‬إذ يظهر خالف هذا جلياً يف كتاب النبـي ﷺ إىل أهل أيلة والذي يبيّن‬
‫أنّ غاية النيبّ كانت موجّهة خصوصًا إىل املناطق اجلنوبية من بيت املقدس‪ ،‬ومل يولِ‬
‫اهتمامًا لبادية الشام‪ ،‬كما يَظْهرُ هذا كذلك يف األحاديث النبوية اليت ذكرت بيت‬
‫املقدس وفتح بيت املقدس يف تلك الفترة‪.‬‬
‫‪050‬‬
‫متكن النبـي ﷺ بفضل هذه املعاهدات الثالثة من إقامة ثالث حمطات‬
‫أساسية تستفيد منها احلمالت العسكرية املقبلة للمنطقة‪ ،‬فكانت هنالك حمطة‬
‫للتزود بالسالح‪ ،‬وحمطة أخرى للطعام والشراب‪ ،‬وحمطة ثالثة إستراتيجية يف حالة‬
‫حدوث تراجع طارئ جليش املسلمني‪ .‬فكانت مقنا هي حمطة التزود بالعتاد‪ ،‬وتقع‬
‫قرب الطريق الساحلي الواصل إىل بيت املقدس‪ ،‬وليس على الطريق نفسه‪ .‬ولعل‬
‫اختيار هذا املوقع يعود إىل أنه يصلح ليكون حمطة احتياطية لالنسحاب‬
‫اإلستراتيجي للمسلمني‪ .‬أما أيلة فقد كانت حمطةً للتزود بالطعام والشراب‪ ،‬ومنها‬
‫مت تأمني الطريق الساحلي األساسي الواصل إىل صحراء النقب يف منطقة بيت‬
‫املقدس‪ .‬أما تأمني حمطة إستراتيجية أخرى حلاالت االنسحاب الطارئ جليش‬
‫املسلمني (ومتثلت يف أذرح) فقد كان أمرًا ضروريًا جليوش املسلمني اليت ستمر من‬
‫هناك متوجهة إىل املناطق اجلنوبية الشرقية‪.‬‬
‫ومن الالفت للنظر إن مقنا وأذرح كانتا مأهولتني باليهود بشكل أساسي‪ ،‬أما‬
‫أيلة فكانت مدينة مسيحية‪ ،‬ويف هذا دليل على أنّ النيبّ ﷺ قد تعامل بشكل منفتح‬
‫خبصوص بيت املقدس مع أصحاب األديان األخرى‪ ،‬حيث حاول البناء على‬
‫العناصر الدينية والتارخيية املشتركة بني هذه األديان‪ ،‬خاصة عند التعامل مع اليهود‪،‬‬
‫حيث كان هلم تاريخ من الصراع مع الدولة البيزنطية املسيحية‪.‬‬
‫وجيدر التذكري هنا بأنّنا تناولنا هذه املعاهدات على أهنا معاهدات أمان ال‬
‫معاهدات صلح بني قوى متعادلة‪ ،‬وهذا جانب مهمٌّ يظهر املقاصد السلمية‬
‫للنبـي ﷺ جتاه سكان تلك املنطقة ورغبته يف نشر سيطرته سلمياً فيها‪ .‬بيد أنّ‬
‫النبـي ﷺ كان يف الوقت ذاته متحمّسًا أيّما محاسة لترمجة زعامته الروحية على‬
‫بيت املقدس واليت بلغت أوجها يف رحلة اإلسراء‪ ،‬إىل وجود فعلي للمسلمني داخل‬
‫بيت املقدس وما حوله من مناطق‪ .‬وقد متثل هذا يف عدد من اإلقطاعات اليت وهبها‬
‫النبـي ﷺ لعدد من الناس ألراض حول بيت املقدس ويف مناطق أخرى مؤدية‬
‫إليه‪ ،‬كاإلقطاع الذي منحه النبـي ﷺ لبين جفال‪ ،‬وآخرَ يف بالد الشام قدّمه‬
‫ألبـي ثعلبة رضي اهلل عنه‪ .‬أما اإلقطاع األهم والذي تظهر فيه رغبة النبـي ﷺ‬
‫يف ت أكيد وجوده يف بيت املقدس فكان وقفَ متيم الداريّ رضي اهلل عنه‪ ،‬حيث‬
‫منحه النبـي ﷺ هذا اإلقطاع بُعيد غزوة تبوك بقليل‪ .‬وكان هذا اإلقطاع يف‬
‫‪051‬‬
‫مكان مركزي داخل بيت املقدس له أمهية روحية كبرية ترتبط بالنبـي إبراهيم‬
‫عليه السالم‪ ،‬مما مكّن النبـي ﷺ من تعزيز ارتباطه الروحي ببيت املقدس‪ .‬وقد‬
‫أتت هذه اهلبة يف توقيت مهم وكانت واحدة من اخلطوات السياسية املهمة الرامية‬
‫إىل تأكيد سيطرة النبـي ﷺ وسلطته على بيت املقدس‪.‬‬
‫وال ميكن أن نفصل هذه اهلبة حبال عن التأييد اإلهلي للنبـي ﷺ يف هذه‬
‫اخلطوات العملية من خطة فتح بيت املقدس‪ ،‬إذ كانت مبثابة وعدٍ وبشارةٍ من‬
‫النبـي ﷺ ساعد املسلمني يف املستقبل للتقدم حنو بيت املقدس بعزم كبري لتحقيق‬
‫هذا الوعد‪ ،‬والذي أكّده ﷺ يف حديثه الذي أخرب به املسلمني يف غزوة تبوك‬
‫خبصوص بيت املقدس‪ .‬إن هبة متيم الداريّ رضي اهلل عنه ليست جمرّد وعدٍ من‬
‫النيبّ ﷺ بتحقق فتح بيت املقدس يف املستقبل‪ ،‬بل هي تطبيق عملي هلذا الوعد كي‬
‫حيثّ املسلمون اخلطى لتحقيق هذا الفتح املوعود‪.‬‬

‫البطو األبير‬
‫كان بعث أسامة بن زيد رضي اهلل عنه األمر العسكري األخري يف حياة‬
‫النبـي ﷺ‪ .‬وقد أشرنا فيما سبق أن بعث أسامة كان من أهم ما حدث يف اللحظات‬
‫األخرية من حياته ﷺ‪ ،‬حيث أمرَ بانطالق هذا البعث حنو مشارف بيت املقدس إىل‬
‫منطقة تدعى أبىن تقع بني بلدتني تعرفان اآلن باسم مؤتة واملزار‪ .‬ويدل هذا على حرص‬
‫النبـي ﷺ على أن يويل املسلمون اهتمامهم ببيت املقدس يف املرحلة التالية لوفاته‪.‬‬
‫كما أن األوامر املخصوصة اليت وجهها النبـي ﷺ ألسامة خبصوص طبيعة‬
‫البعث تظهر لنا األهداف املرجوة منه‪ ،‬وهي ثالثة أهداف‪ :‬األول هو التحقق من‬
‫الترتيبات األخرية لفتح بيت املقدس من خالل التأكد من احترام قبائل العرب القاطنة‬
‫على الطريق الواصل إىل بيت املقدس للمعاهدات اليت أبرمها النبـي ﷺ معهم‪.‬‬
‫واهلدف الثاين هو محاية الترتيبات السابقة من خالل ضمان االستقرار واهلدوء الالزمني‬
‫على طول ذلك الطريق‪ ،‬ويتضح ذلك فيما قاله الروم يف رواية ابن عساكر (‪:1221‬‬
‫(‪ .)11 )3‬أما اهلدف الثالث فهو متهيد الطريق بصورة هنائية لفتح بيت املقدس‪.‬‬
‫وال ريبّ أن إصرار النبـي ﷺ وحرصه على إنفاذ بعث أسامة يف تلك الفترة‬
‫بالتحديد كان خطوة أساسية أخرى أبانت أمهّية هذا البعث وما يعنيه من مركزيّة‬
‫‪051‬‬
‫يف ذلك السياق‪ .‬ويبدو أن أبا بكر الصديق رضي اهلل عنه كان أكثر الصحابة‬
‫إدراكًا ملقاصد النيبّ من هذا البعث‪ ،‬فقد أشارَ بشكل قاطع ال رجعة عنه حني أمرَ‬
‫بإنفاذ بعث أسامة مباشرة بعيد وفاة النبـي ﷺ رغمَ املعارضة الكبرية اليت واجهها‬
‫بسبب هذا القرار‪ ،‬فقال رضي اهلل عنه (الواقدي ‪:)11 :1229‬‬
‫لو علمت أن السباع تأكلين يف هذه املدينة ألنفذت جيش أسامة‬
‫بن زيد كما قال النبـي ﷺ‪ :‬أنفذوا بعث أسامة‪.‬‬
‫كما أظهر أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه أ ّن النبـي ﷺ قد أراد فتح بيت‬
‫املقدس وخطّط له‪ ،‬فحرصَ رضي اهلل عنه أيّما حرص على تطبيق إستراتيجية‬
‫النبـي ﷺ اليت بدا أنه يطبقها حبذافريها كما رأى النبـي ﷺ قبل وفاته‪ .‬وقد أعلن‬
‫ال‪( :‬الواقدي‪( :‬د‪ .‬ت)‪:)1 :‬‬
‫الصديق رضي اهلل عنه إنفاذ جيوش فتح بيت املقدس قائ ً‬
‫واعلموا أن رسول اهلل ﷺ كان عوَّل أن يصرف مهته إىل الشام‬
‫فقبضه اهلل إليه‪ ،‬أال وإين عازم على أن أوجه أبطال املسلمني إىل الشام‬
‫بأهليهم وماهلم فإن رسول اهلل أنبأين بذلك قبل موته‪.‬‬
‫وهذا اإلعالن يدل بوضوح على أنّ النبـي ﷺ كان معنيًا على الدوام بأمر‬
‫بيت املقدس حىت حلظة وفاته‪ ،‬وكانت كل خطوةٍ خطاها ﷺ جزءًا من خطة‬
‫إستراتيجية حمكمة لفتح بيت املقدس‪ .‬وقد تعامل النبـي ﷺ مع املسألة اخلاصة‬
‫هبذه املنطقة يف العديد من املواقف يف سريته الشريفة يف شىت املراحل‪ ،‬ابتداءً من‬
‫اختاذ بيت املقدس قبلة أوىل للمسلمني ومرورًا برحلة اإلسراء إىل بيت املقدس‬
‫وذكرِه غريَ مرة يف القرآن الكرمي واإلشارة إىل مكانته يف اإلسالم واإلخبار عن‬
‫توقيت الفتح‪ ،‬وانتهاءً بتجهيزه ﷺ لبعث أسامة رضي اهلل عنه‪ .‬كل هذه اخلطوات‬
‫وغريها من العناصر تظهر بوضوح أنّ النيبَّ ﷺ كان مؤيّدًا بالوحي يف حتركاته‬
‫مجيعها‪ ،‬وهذا أمر ال ميكن جتاهله بأي حال‪.‬‬

‫وآخر دعوانا أن احلمد هلل رب العاملني‬

‫د‪ .‬عبداهلل معروف عمر‬

‫‪054‬‬
 ‫الموأدر والمراجع‬

‫يتو منمور بأليغة العربية‪:‬‬

‫ابن أبـي حامت‪ ،‬عبدالرمحن بن حممد بن إدريس الرازي‪ .)1991( .‬تفسري ابن‬
‫أبـي حامت الرازي املسمى التفسري باملأثور‪ .‬حتقيق‪ :‬أمحد فتحي حجازي‪.‬‬
‫بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫ابن األثري‪ ،‬علي بن حممد اجلزري‪ .)1224( .‬أسد الغابة يف معرفة الصحابة‪.‬‬
‫بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫ابن إسحق‪ ،‬حممد املطلبـي املدين‪ .)1994( .‬السرية النبوية البن إسحق‪ .‬حتقيق‪:‬‬
‫أمحد فريد املزيدي‪ .‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫ابن تيمية‪ ،‬تقي الدين أمحد‪ .)1222( .‬جمموعة الفتاوى‪ .‬حتقيق‪ :‬عامر اجلزار وأنور‬
‫الباز‪ .‬بريوت‪ :‬دار اجليل‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫ابن اجلوزي‪ ،‬عبدالرمحن بن علي بن حممد‪ .)1232( .‬زاد املسري يف علم التفسري‪.‬‬
‫بريوت‪ :‬املكتب اإلسالمي‪ .‬الطبعة الرابعة‪.‬‬
‫ابن اجلوزي‪ ،‬عبدالرمحن بن علي بن حممد‪ .)1221( .‬صيد اخلاطر‪ .‬حتقيق‪ :‬علي‬
‫والناجي الطنطاوي‪ .‬جدة‪ :‬دار املنارة‪ .‬الطبعة اخلامسة‪.‬‬
‫ابن اجلزري‪ ،‬أبو اخلري حممد بن حممد الدمشقي‪( .‬د‪ .‬ت)‪ .‬النشر يف القراءات‬
‫العشر‪ .‬حتقيق‪ :‬علي حممد الضباع‪ .‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪.‬‬
‫ابن حبان‪ ،‬اإلمام حممد التميمي البسيت‪ .)1999( .‬السرية النبوية‪ .‬حتقيق‪:‬‬
‫عبدالسالم بن حممد علوش‪ .‬بريوت‪ :‬املكتب اإلسالمي‪.‬‬
‫ابن حنبل‪ ،‬اإلمام أمحد‪ .)1221( .‬املسند‪ .‬حتقيق‪ :‬محزة أمحد الزين‪ .‬القاهرة‪ :‬دار‬
‫احلديث‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫‪055‬‬
‫ابن سعد‪ .‬حممد اهلامشي البصري‪ .)1222( .‬الطبقات الكربى‪ .‬حتقيق‪ :‬حممد‬
‫عبدالقادر عطا‪ .‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ .‬الطبعة الثانية‪.‬‬
‫ابن سيد الناس‪ ،‬حممد بن عبداهلل‪ .)1231( .‬عيوب األثر يف فنون املغازي‬
‫والشمائل والسري‪ .‬القاهرة‪ :‬مكتبة القدسي‪.‬‬
‫ابن طولون‪ ،‬حممد الدمشقي‪ .)1232( .‬إعالم السائلني عن كتب سيد املرسلني‪.‬‬
‫حتقيق‪ :‬عبدالقادر وحممد األرناؤوط‪ .‬بريوت‪ :‬مؤسسة الرسالة‪ .‬الطبعة الثانية‪.‬‬
‫ابن عاشور‪ ،‬حممد الطاهر‪ .)1222( .‬تفسري التحرير والتنوير‪ .‬تونس‪ :‬دار سحنون‪.‬‬
‫ابن عساكر‪ ،‬علي بن احلسن ابن هبة اهلل‪ .)1221( .‬تاريخ دمشق‪ .‬حتقيق‪ :‬حمب‬
‫الدين عمر بن غرامة العمري‪ .‬بريوت‪ :‬دار الفكر‪.‬‬
‫ابن عطية‪ ،‬عبداحلق بن غالب‪ .)1991( .‬احملرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز‪.‬‬
‫حتقيق‪ :‬عبدالسالم عبدالشايف حممد‪ .‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫ابن كثري‪ ،‬أبو الفداء إمساعيل‪ .)1211( .‬السرية النبوية‪ .‬حتقيق‪ :‬مصطفى‬
‫عبدالواحد‪ .‬بريوت‪ :‬دار إحياء التراث العربـي‪.‬‬
‫ابن كثري‪ ،‬أبو الفداء إمساعيل‪ .)1224( .‬تفسري القرآن العظيم‪ .‬حتقيق‪ :‬عبدالقادر‬
‫األرناؤوط‪ .‬دمشق‪ :‬مكتب دار الفيحاء‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫ابن ماجه‪ ،‬حممد بن يزيد أبو عبداهلل‪ .)1999( .‬سنن ابن ماجه‪Vaduz: .‬‬
‫‪.Thesaurus Islamicus Foundation‬‬
‫ابن منظور‪ ،‬حممد بن مكرم‪ .)1222( .‬لسان العرب‪ .‬حتقيق‪ :‬أمني عبدالوهاب‬
‫وحممد العبيدي‪ .‬بريوت‪ :‬دار إحياء التراث العربـي‪ .‬الطبعة الثالثة‪.‬‬
‫ابن هشام‪ ،‬عبدامللك‪ .)1991( .‬السرية النبوية‪ .‬حتقيق‪ :‬حممد حميي الدين‬
‫عبداحلميد‪ .‬القاهرة‪ :‬دار الطالئع‪.‬‬
‫أبو خليل‪ ،‬شوقي‪ .)1991( .‬أطلس التاريخ العربـي اإلسالمي‪ .‬دمشق‪ :‬دار‬
‫الفكر‪ .‬الطبعة اخلامسة‪.‬‬
‫أبو خليل‪ ،‬شوقي‪ .)1991( .‬أطلس السرية النبوية‪ .‬دمشق‪ :‬دار الفكر‪ .‬الطبعة‬
‫الثانية‪.‬‬
‫أبو داود‪ ،‬سليمان بن األعشى بن شداد‪ .)1999( .‬سنن أبـي داود‪،‬‬
‫‪Vaduz: Thesaurus Islamicus Foundation‬‬

‫‪056‬‬
‫أبو الرب‪ ،‬هاين‪ .)1991( .‬تاريخ فلسطني يف صدر اإلسالم‪ .‬عمان‪ :‬بيت املقدس‬
‫للنشر والتوزيع‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫أبو عبيد‪ ،‬القاسم بن سالم‪ .)1231( .‬كتاب األموال‪ .‬حتقيق‪ :‬حممد خليل هراس‪.‬‬
‫بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫أبو مايلة‪ ،‬بريك بن حممد بن بريك‪ .)1994( .‬غزوة مؤتة والسرايا والبعوث‬
‫النبوية الشمالية‪ .‬املدينة املنورة‪ :‬اجلامعة اإلسالمية‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫أبو يوسف‪ ،‬القاضي يعقوب بن إبراهيم‪( .‬د‪ .‬ت)‪ .‬كتاب اخلراج‪ .‬بريوت‪ :‬دار‬
‫املعرفة‪.‬‬
‫األزدي‪ ،‬حممد بن عبداهلل‪ .)1229( .‬تاريخ فتوح الشام‪ .‬حتقيق‪ :‬عبداملنعم عبداهلل‬
‫عامر‪ .‬القاهرة‪ :‬مؤسسة سجل العرب‪.‬‬
‫األشقر‪ ،‬أسامة مجعة‪ .)1991( .‬فتوح فلسطني‪ .‬دمشق‪ :‬دار مؤسسة فلسطني‬
‫للثقافة‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫األلباين‪ ،‬حممد ناصر الدين‪ .)1222( .‬ضعيفة سنن ابن ماجه‪ .‬الرياض‪ :‬مكتبة‬
‫املعرفة‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫األلباين‪ ،‬حممد ناصر الدين‪ .)1999( .‬سلسلة األحاديث الضعيفة واملوضوعة‬
‫وأثرها السيء يف األمة‪ .‬الرياض‪ :‬مكتبة املعارف‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫األلباين‪ ،‬حممد ناصر الدين (‪ .)1999‬صحيح السرية النبوية‪ .‬عمان‪ :‬املكتبة‬
‫اإلسالمية‪.‬‬
‫األلباين‪ ،‬حممد ناصر الدين‪ .)1991( .‬صحيح سنن الترمذي‪ .‬الرياض‪ :‬مكتبة‬
‫املعارف‪ ،‬الطبعة الثانية‪.‬‬
‫األلوسي‪ ،‬أبو الفضل شهاب الدين حممود‪ .)1224( .‬روح املعاين يف تفسري القرآن‬
‫العظيم والسبع املثاين‪ .‬حتقيق علي عبدالباري البدوي‪ .‬بريوت‪ :‬دار الكتب‬
‫العلمية‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫البخاري‪ ،‬اإلمام حممد بن إمساعيل‪ .)1999( .‬صحيح البخاري‪.‬‬
‫‪Vaduz: Thesaurus Islamicus Foundation‬‬
‫البغوي‪ ،‬أبو حممد بن معاد الفراء‪ .)1991( .‬معامل التنـزيل يف التفسري والتأويل‪.‬‬
‫بريوت‪ :‬دار الفكر‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫‪057‬‬
‫البكري‪ ،‬أبو عبيد عبداهلل بن عبدالعزيز‪ .)1223( .‬معجم ما استعجم من أمساء‬
‫البلدان واملواضع‪ .‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫البالذري‪ .‬أمحد بن حيىي بن جابر‪ .)1221( .‬البلدان وفتوحها وأخبارها‪ .‬حتقيق‪:‬‬
‫سهيل زكار‪ .‬بريوت‪ :‬دار الفكر‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫البنا‪ ،‬أمحد عبدالرمحن‪( .‬د‪ .‬ت)‪ .‬الفتح الرباي لترتيب مسند اإلمام أمحد‬
‫بن حنبل الشيباين‪ .‬بريوت‪ :‬دار إحياء التراث العربـي‪.‬‬
‫البيضاوي‪ ،‬ناصر الدين عبداهلل بن عمر الشريازي‪ .)1233( .‬تفسري البيضاوي‪.‬‬
‫بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫بيضون‪ ،‬إبراهيم‪ .)1222( .‬تاريخ بالد الشام‪ .‬بريوت‪ :‬دار املنتخب‬
‫العربـي‪.‬‬
‫الترمذي‪ ،‬حممد بن عيسى بن سورة‪ .)1999( .‬سنن الترمذي‪.‬‬
‫‪Vaduz: Thesaurus Islamicus Foundation‬‬
‫اجلرجاين‪ ،‬علي بن حممد بن علي‪ .)1991( .‬كتاب التعريفات‪ .‬حتقيق‪ :‬إبراهيم‬
‫األبياري‪ .‬بريوت‪ :‬دار الكتاب العربـي‪.‬‬
‫احلموي‪ .‬ياقوت بن عبداهلل‪ .)1229( .‬معجم البلدان‪ .‬حتقيق‪ :‬فريد اجلندي‪.‬‬
‫بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪.‬‬
‫محيد اهلل‪ ،‬حممد‪ .)1232( .‬جمموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي واخلالفة‬
‫الراشدة‪ .‬بريوت‪ :‬دار النفائس‪ .‬الطبعة السادسة‪.‬‬
‫الرازي‪ ،‬أبو حامت حممد بن إدريس‪ .)1211( .‬كتاب اجلرح والتعديل‪ .‬حيدرأباد‪:‬‬
‫مطبعة جملس دائرة املعارف العثمانية‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫الرازي‪ ،‬فخر الدين‪ .)1229( .‬التفسري الكبري أو مفاتيح الغيب‪ .‬بريوت‪ :‬دار‬
‫الكتب العلمية‪.‬‬
‫الزركشي‪ ،‬بدر الدين حممد بن عبداهلل‪ .)1223( .‬الربهان يف علوم القرآن‪ .‬حتقيق‪:‬‬
‫حممود أبو الفضل إبراهيم‪ .‬بريوت‪ :‬املكتبة العصرية‪.‬‬
‫الزخمشري‪ ،‬جار اهلل حممد بن عمر‪ .)1221( .‬تفسري الكشاف عن حقائق غوامض‬
‫التنـزيل وعيون األقوال يف وجوه التأويل‪ .‬حتقيق‪ :‬حممود شاهني‪ .‬بريوت‪:‬‬
‫دار الكتب العلمية‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫‪058‬‬
‫السمرقندي‪ ،‬نصر بن حممد بن أمحد‪ .)1222( .‬تفسري السمرقندي املسمى حبر‬
‫العلوم‪ .‬حتقيق‪ :‬حممود مطري‪ .‬بريوت‪ :‬دار الفكر‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫السهارنفوري‪ ،‬خليل أمحد‪( .‬د‪ .‬ت)‪ .‬بذل اجملهود يف حل أبـي داود‪ .‬حتقيق‪:‬‬
‫حممد زكريا الكاندهلوي‪ .‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪.‬‬
‫السهيلي‪ ،‬أبو القاسم عبدالرمحن بن عبداهلل‪ .)1224( .‬الروض األنف يف تفسري‬
‫السرية النبوية البن هشام‪ .‬حتقيق‪ :‬جمدي بن منصور بن سيد الشورى‪.‬‬
‫بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫السيوطي‪ ،‬جالل الدين‪( .‬د‪ .‬ت)‪ .‬اإلتقان يف علوم القرآن‪ .‬بريوت‪ :‬دار‬
‫الفكر‪.‬‬
‫السيوطي‪ ،‬جالل الدين‪( .‬د‪ .‬ت)‪ .‬لباب النقول يف أسباب النـزول‪ .‬حتقيق‪:‬‬
‫محزة النشريت وآخرون‪ .‬القاهرة‪ :‬املكتب القيمة‪.‬‬
‫السيوطي‪ ،‬جالل الدين‪ .)1999( .‬الدر املنثور يف التفسري باملأثور‪ .‬بريوت‪ :‬دار‬
‫الكتب العلمية‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫شراب‪ ،‬حممد حممد حسن‪ .)1229( .‬متيم بن أوس الداري راهب أهل عصره‬
‫وعابد أهل فلسطني‪ .‬دمشق‪ :‬دار القلم‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫شراب‪ ،‬حممد حممد حسن‪ .)1224( .‬بيت املقدس واملسجد األقصى‪ :‬دراسة‬
‫تارخيية موثقة‪ .‬دمشق‪ :‬دار القلم‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫الشوكاين‪ ،‬حممد بن علي بن حممد‪ .)1999( .‬فتح القدير‪ .‬بريوت‪ :‬دار ابن حزم‪.‬‬
‫الطبعة األوىل‪.‬‬
‫صالح‪ ،‬حممد حممود‪ .)1229( .‬الفيوض الربانية يف الرحلة النورانية معجزة‬
‫اإلسراء واملعراج‪ .‬القاهرة‪ :‬مكتبة مدبويل‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫الطرباين‪ ،‬أبو القاسم سليمان بن أمحد‪ .)1231( .‬املعجم الكبري‪ .‬حتقيق‪ :‬محدي‬
‫عبداجمليد‪ .‬القاهرة‪ :‬دار البيان العربـي‪ .‬الطبعة الثانية‪.‬‬
‫الطربي‪ ،‬حممد بن جرير‪ .)1223( .‬تاريخ الطربي‪ .‬حتقيق‪ :‬صادق مجيل العطار‪.‬‬
‫بريوت‪ :‬دار الفكر‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫الطربي‪ ،‬حممد بن جرير‪ .)1222( .‬تفسري الطربي‪ .‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪.‬‬
‫الطبعة الثالثة‪.‬‬
‫‪059‬‬
‫عثامنة‪ ،‬خليل‪ .)1999( .‬فلسطني يف مخسة قرون‪ :‬من الفتح اإلسالمي حىت الغزو‬
‫الفرجني (‪ .)9911-435‬بريوت‪ :‬مؤسسة الدراسات الفلسطينية‪ .‬الطبعة‬
‫األوىل‪.‬‬
‫العسقالين‪ ،‬أمحد بن علي بن حممد بن حجر‪( .‬د‪ .‬ت)‪ .‬اإلصابة يف متييز الصحابة‪.‬‬
‫بريوت‪ :‬دار الفكر‪.‬‬
‫العسقالين‪ ،‬أمحد بن حجر‪ .)1222( .‬فتح الباري شرح صحيح البخاري‪ .‬حتقيق‪:‬‬
‫حممود فؤاد عبدالباقي‪ .‬الرياض‪ :‬مكتبة دار السالم‪.‬‬
‫العلي‪ ،‬إبراهيم‪ .)1991( .‬صحيح السرية النبوية‪ .‬عمان‪ :‬دار النفائس‪.‬‬
‫العليمي‪ ،‬جمري الدين احلنبلي‪ .)1222( .‬األنس اجلليل بتاريخ القدس واخلليل‪.‬‬
‫حتقيق‪ :‬حممود علي عطااهلل‪ .‬عمان‪ :‬مكتبة دنديس‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫العمري‪ ،:‬أكرم ضياء‪ .)1224( .‬السرية النبوية الصحيحة‪ .‬املدينة املنورة‪ :‬مكتبة‬
‫العلوم واحلكم‪ .‬الطبعة السادس‪.‬‬
‫العمري‪ ،‬شهاب الدين أمحد بن فضل اهلل‪ .)1991( .‬مسالك األبصار يف ممالك‬
‫األمصار‪ .‬حتقيق‪ :‬عبداهلل بن حيىي السرحيي‪ .‬أبو ظبـي‪ :‬اجملمع الثقايف‪.‬‬
‫عويس‪ ،‬عبداحلليم‪ ،‬وعمارة‪ ،‬حممد‪ .)1991( .‬مكانة بيت املقدس‪ .‬القاهرة‪ :‬مركز‬
‫اإلعالم العربـي‪.‬‬
‫العيين‪ ،‬بدر الدين حممود بن أمحد‪ .)1991( .‬عمدة القاري شرح صحيح‬
‫البخاري ‪ .‬حتقيق‪ :‬عبداهلل حممود عمر‪ .‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ .‬الطبعة‬
‫األوىل‪.‬‬
‫الغيطي‪ ،‬جنم الدين حممد بن أمحد‪ .)1231( .‬اجلواب القومي عن السؤال املتعلق‬
‫بإقطاع السيد متيم‪ .‬حتقيق‪ :‬حسن عبدالرمحن سلوادي‪ .‬القدس‪ :‬مركز‬
‫األحباث اإلسالمية‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫الفريوزآبادي‪ ،‬حممد بن يعقوب‪ .)1221( .‬القاموس احمليط‪ .‬بريوت‪ :‬دار إحياء‬
‫التراث العربـي‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫قحف‪ ،‬منذر‪ .)1999( .‬الوقف اإلسالمي‪ .‬دمشق‪ :‬دار الفكر‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫القرطبـي‪ ،‬حممد بن أمحد األنصاري‪ .)1223( .‬اجلامع ألحكام القرآن‪ .‬حتقيق‪:‬‬
‫صدقي حممد مجيل‪ .‬بريوت‪ :‬دار الفكر‪.‬‬
‫‪061‬‬
‫القزقي‪ ،‬سعيد بن عبدالرمحن بن موسى‪ .)1991( .‬بيت املقدس يف احلديث النبوي‬
‫الشريف‪ .‬دبـي‪ :‬مركز مجعة املاجد للثقافة والتراث‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫القسطالين‪ ،‬أمحد بن حممد‪ .)1221( .‬املواهب اللدنية باملنح احملمدية‪ .‬حتقيق‪:‬‬
‫مأمون بن حميي الدين اجلنان‪ .‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫قطب‪ ،‬سيد‪ .)1221( .‬يف ظالل القرآن‪ .‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ .‬الطبعة اخلامسة‬
‫والعشرون‪.‬‬
‫كانو‪ ،‬عبداللطيف جاسم‪ .)1222( .‬الرسائل النبوية األوىل دعوة إىل اإلسالم‪.‬‬
‫املنامة‪ :‬بيت القرآن‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫كوهني‪ ،‬أمنون‪ .)1229( .‬القدس‪ :‬دراسات يف تاريخ املدينة‪ .‬القدس‪ :‬ياد‬
‫يتسحاق بن تسفي‪.‬‬
‫التسروس يافيه‪ ،‬هافا‪" .)1229( .‬قدسية القدس يف اإلسالم"‪ ،‬يف القدس‪ :‬دراسات‬
‫يف تاريخ املدينة‪ .‬حترير‪ :‬أمنون كوهني‪ .‬القدس‪ :‬ياد يتسحاق بن تسفي‪.‬‬
‫مالك‪ ،‬اإلمام أبو عبداهلل بن أنس بن مالك‪ .)1999( ،‬املوطأ‪Vaduz: Thesaurus .‬‬
‫‪.Islamicus Foundation‬‬
‫املباركفوري‪ ،‬أبو العلى حممد عبدالرمحن بن عبدالرحيم‪ .)1991( .‬حتفة األحوذي‬
‫شرح جامع الترمذي‪ .‬حتقيق‪ :‬صدقي حممد مجيل العطار‪ .‬بريوت‪ :‬دار الفكر‪.‬‬
‫املباركفوري‪ ،‬صفي الرمحن‪ .)1221( .‬الرحيق املختوم‪ .‬الرياض‪ :‬منشورات دار‬
‫السالم‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫املراغي‪ ،‬أمحد مصطفى‪ .)1224( .‬تفسري املراغي‪ .‬بريوت‪ :‬دار الفكر‪ .‬الطبعة الثالثة‪..‬‬
‫مسلم‪ ،‬اإلمام ابن احلجاج‪ .)1999( .‬صحيح مسلم‪Vaduz: Thesaurus .‬‬
‫‪.Islamicus Foundation‬‬
‫املقريزي‪ ،‬تقي الدين أمحد بن علي‪( .‬د‪ .‬ت)‪ .‬إمتاع األمساع مبا للرسول من‬
‫األنباء واألموال واحلفدة واملتاع‪( .‬مكان الطبع غري معروف)‪ :‬جلنة التأليف‬
‫والترمجة والنشر‪.‬‬
‫املنصورفوري‪ ،‬القاضي حممد سليمان سلمان‪ .)1232( .‬رمحة للعاملني‪ .‬حتقيق‪:‬‬
‫مقتدى حسن ياسني األزهري‪ .‬بومباي‪ :‬الدار السلفية‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫النتشة‪ ،‬جواد حبر‪ .)1991( .‬مكانة بيت املقدس بني نصوص الوحي وحركة‬
‫اإلنسان‪ .‬اخلليل‪ :‬مركز دراسات املستقبل اإلسالمي‪ .‬الطبعة األوىل‪.‬‬
‫‪060‬‬
Vaduz: .‫ سنن النسائي‬.)1999( .‫ أبو عبدالرمحن أمحد بن شعيب‬،‫النسائي‬
.Thesaurus Islamicus Foundation
.‫ صحيح مسلم بشرح النووي‬.)1221( .‫ أبو زكريا حيىي بن شرف‬،‫النووي‬
.‫ الطبعة األوىل‬.‫ دار الفكر‬:‫بريوت‬
:‫ القاهرة‬.‫ حديث هرقل وكتاب رسول اهلل إليه‬.)1232( .‫ إبراهيم إبراهيم‬،‫هالل‬
.‫ الطبعة األوىل‬.‫دار الصحوة‬
‫ مكتبة‬:‫ القاهرة‬.‫ أسباب النـزول‬.)‫ ت‬.‫ (د‬.‫ علي بن أمحد النيسابوري‬،‫الواحدي‬
.‫املتنبـي‬
.‫ دار اجليل‬:‫ بريوت‬.‫ فتوح الشام‬.)‫ ت‬.‫ (د‬.‫ حممد بن عمر‬،‫الواقدي‬
.‫ حيىي وهيب اجلبوري‬:‫ حتقيق‬.‫ كتاب الردة‬.)1229( .‫ حممد بن عمر‬،‫الواقدي‬
.‫ دار الغرب اإلسالمي‬:‫بريوت‬
.‫ دار الكتب العلمية‬:‫ بريوت‬.‫ كتاب املغازي‬.)1994( .‫ حممد بن عمر‬،‫الواقدي‬
‫ دار‬:‫ بريوت‬.‫ تاريخ اليعقوبـي‬.)‫ ت‬.‫ (د‬.‫ أمحد بن يعقوب بن جعفر‬،‫اليعقوبـي‬
.‫صادر‬
:‫اليتو المنمور بأليغة اإلنجييزية‬
Abu-Munshar, Maher Y. 2007. Islamic Jerusalem and its Christians: A
History of Tolerance and Tension. London: Tauris Academic
Studies
El-Awaisi, Abd al-Fattah. 2005. Umars’ Assurance of Safety Aman to
the People of Aelia (Islamic Jerusalem) A Critical Analytical
Study of the Historical Sources. Dundee: Al-Maktoum Institute
Academic Press
El-Awaisi, Abd al-Fattah. 2006. Introducing Islamicjerusalem.
Dundee: Al-Maktoum Institute Academic Press. 2nd edition
El-Awaisi, Khalid. 2007. Mapping Islamicjerusalem, a Rediscovery of
Geographical Boundaries. Dundee: Al-Maktoum Institute
Academic Press
Ben-Sasson, Menahem. 2007. ‘Genizah, Cairo’ in Encyclopaedia
Judaica. ed. Fred Skolnik and Michael Berenbaum. Detroit:
Thomson Gale

061
Elisséeff, F. Buhl-N. 1986. ‘Adhri‘āt’, in Encyclopaedia of Islam ed.
H. A. R. Gibb and others. Leiden: E. J. Brill
Gil, Moshe. 1996. ‘The Political History of Jerusalem’ in The History
of Jerusalem: the Early Muslim Period 638-1099. ed. Jushua
Prawer and Haggai Ben-Shammai. Jerusalem: Yad Izhak Ben-Zvi
Gil, Moshe. 1997. A History of Palestine, 634-1099. ed. Ethel Broido.
Cambridge: Cambridge University Press
Goitein, S. D. 1986. ‘al-Ḳuds: History’, in Encyclopaedia of Islam ed.
H. A. R. Gibb and others. Leiden: E. J. Brill
Goldhill, Simon. 2005. The Temple of Jerusalem. London: Profile
Books Ltd
Hitti, Philip K. 1951. History of Syria Including Lebanon and
Palestine. London: Macmillan Co. Ltd
Jones, Lindsay (ed. ). 2005. Encyclopaedia of Religion. Detroit:
Thomson Gale
McHenry, Robert (ed). 1993. The New Encyclopaedia Britannica.
Chicago: Encyclopaedia Britannica Inc. 15th edition
Al-Tel, Othman Ismael. 2003. The First Islamic Conquest of Aelia
(Islamic Jerusalem), a Critical Analytical Study of the Early
Islamic Historical Narratives and Sources. Dundee: Al-Maktoum
Institute Academic Press
Theophanes the Confessor. 1997. The Chronicle of Theophanes
Confessor: Byzantine and Near Eastern History AD 284-813. ed.
Cyril Mango and Roger Scott. New York: Oxford University
Press Inc.
Watson, C. M. 1912. The Story of Jerusalem. London: J. M. Dent &
Sons Ltd.
Watt, W. Montgomery. 1962. Muhammad at Medina. Oxford: Oxford
University Press
Whitby, Michael and Mary (ed). 1989. Chronicon Paschale 284-628
AD. Liverpool: Liverpool University Press
Wilkinson, John. 1990. ‘Jerusalem under Rome and Byzantium 63
BC - 637 AD’, in Jerusalem in History ed. K J Asali. New York:
Olive Branch Press

061
 :‫بحوث يمية محيمة‬
Abd Rahman, Fatimatuzzahra’. 2005. ‘Political, Social and Religious
Changes in Islamicjerusalem from the First Muslim Conquest to
the End of the Umayyad Period (637-750 CE)’ in Journal of
Islamicjerusalem Studies. 6 (1): 109-166
Al-Khatib, Abdallah. 2001. ‘Jerusalem in the Qur’ān’ in British
Journal of the Middle Eastern Studies. 28 (1): 25-53
Alrabi, Fadi. 2009. ‘Islamicjerusalem: the first Qiblah’ in Journal of
Islamicjerusalem Studies, 10: 1-26
Conybear, Frederick C. 1910. ‘Antiochus Strategos’ Account of the
Sack of Jerusalem in A. D. 614’ in The English Historical
Review. 25 (99): 502-516
El-Cheikh, Nadia Maria. 1999. ‘Muḥammad and Heraclius: A Study
of Legitimacy’ in Studia Islamica. 89: 5-21
Faizer, Rizwi S. 1999. ‘The Issue of Authenticity regarding the
Traditions of al-Wāqidī as Established in His Kitāb al-Maghāzī’
in Journal of Near Eastern Studies. 58 (2): 97-106
Fitzgerald, William. 1950. ‘The Holy Places of Palestine in History
and in Politics’ in International Affairs (Royal Institute of
International Affairs 1944). 26 (1): 1-10
Hirschfeld, Hartwig. 1903. ‘The Arabic Portion of the Cairo Genizah
at Cambridge’ in The Jewish Quarterly Review. 15 (2): 167-181
Livne-Kafri, Ofer. 2005. ‘On Muslim Jerusalem in the Period of Its
Formation’ in Liber Annuus. 55: 203-216
Mayerson, Philip. 1964. ‘The First Muslim Attacks on Southern
Palestine (A. D. 633-634)’ in Transactions and Proceedings of
the American Philological Association. 95: 155-199
Nor, M Roslan M. 2006. ‘The Land of the Night Journey and
Ascension’ in Journal of Islamicjerusalem Studies, 7: 3-54
Omar, Abdallah Ma’rouf. 2006. ‘Towards the Conquest of
Islamicjerusalem: The Three Main Practical Steps taken by
Prophet Muhammad’ in Journal of Islamicjerusalem Studies. 7:
55-99

064
Omar, Abdallah Ma’rouf. 2009. ‘Islamicjerusalem and the first
Qur’ānic Prophecy: a study of the first verses in Chapter 30 al-
Rūm’ in Journal of Islamicjerusalem Studies, 10: 27-59

: ‫المواد سير المنمور‬

Jabareen, Ra’id. 2006. Muslim Juristic Rulings of Islamicjerusalem
with special reference to Ibadat in Al-Aqṣā Mosque: A Critical
Comparative Study. (Unpublished PhD Thesis). Dundee: Al-
Maktoum Institute for Arabic and Islamic Studies - Aberdeen
University
Nor, Mohamad Roslan Mohamad. 2006. The Significance of
Islamicjerusalem in Islam: .
(Unpublished PhD Thesis). Dundee: Al-Maktoum Institute for
Arabic and Islamic Studies - Aberdeen University
Omar, Abdallah Ma’rouf. 2005. (Islamicjerusalem - Bayt al-Maqdis)
Reflections of translation. Paper presented for the 7th
International Academic Conference on Islamicjerusalem Studies.
Dundee. 6th June 2005
Al-Tel, Othman. (n. d). The way to Jerusalem. Unpublished chapter in
al-Tel’s PhD notes, consulted in the collection of papers in the
Centre for Islamicjerusalem Studies - Al-Maktoum Institute for
Arabic and Islamicjerusalem Studies - Aberdeen University
Yatiban, Aminurraasyid. 2006. Muslim understanding of the Concept
of al-Siyāda (Sovereignty): an Analytical Study of
Islamicjerusalem from the First Muslim Conquest Until the End
of the First Abbasid Period (16-264 AH/ 637-877 CE).
(Unpublished PhD Thesis). Dundee: Al-Maktoum Institute for
Arabic and Islamic Studies - Aberdeen University

: ‫المبطوطأ‬
.‫ روضة األبرار يف سري النبـي املختار‬.‫ عبداهلل بن خضر بن املفاخر‬،‫التميمي‬
‫م‬1211/‫هـ‬1113
The British Library, London. Ref. IO ISLAMIC 2060

065
 :‫الموأدر اإلليترونية‬
Compareti, Matteo, 2002, The Sasanians in Africa. Transoxiana (4), 13-3-
2008, <http: //www. salvador. edu. ar/transox/0104/sasanians.html>
Delgado, José Martínez. (n. d). Las versiones árabes de La
Destrucción de Jerusalén por los Persas 614 d. C (The Arabic
versions of The Destruction of Jerusalem by the Persians 614
CE). Biblioteca Tercer Milenio, 07-01-2008, <http: //www.
biblioteca-tercer-milenio. com/sala-de-lectura/Bizancio-Vasiliev/
docs/DestrucciondeJerusalen. htm>
‘Republic of Turkey Ministry of Culture and Tourism’, 17-5-2006,
<http: //www. kultur. gov. tr/EN>
‘Al-Shabakah al-Islāmiyyah’, 1-10-2006, <http: //www. islamweb. net>
.‫ إسالم أونالين‬.‫ وشائج أصيلة‬:‫ رسولنا والقدس‬.)1991( .‫ أمحد ربيع‬،‫يوسف‬
<http: //www. islamonline. net/arabic/daawa/ ،‫م‬1991/19/11 ‫بتاريخ‬
2003/09/article14. shtml>

066