You are on page 1of 136

‫الفهرس‬

‫‪11‬‬ ‫‪...............................................‬‬ ‫تقديم ‪ :‬الكتابة من الداخل (ياسني النصري)‬

‫‪21‬‬ ‫‪.............................................................................................‬‬ ‫ـ سكنى املكان‬


‫‪23‬‬ ‫‪.............................................................................................‬‬ ‫ـ سكنى املكان‬
‫‪27‬‬ ‫‪..........................................................................................................‬‬ ‫ـ علوق‬
‫‪33‬‬ ‫‪...........................................................................................................‬‬ ‫ـ بيوت‬
‫‪39‬‬ ‫‪............................................................................................‬‬ ‫ـ بيوت جديدة‬
‫‪43‬‬ ‫‪....................................................................................‬‬ ‫ـ عامرة املدينة األتية‬

‫‪47‬‬ ‫‪.........................................................................................‬‬ ‫ـ جدران وشظايا‬


‫‪49‬‬ ‫‪..........................................................................................................‬‬ ‫ـ اجلدار‬
‫‪53‬‬ ‫‪..............................................................................................‬‬ ‫ـ جدران مائلة‬
‫‪57‬‬ ‫‪.........................................................................................‬‬ ‫ـ جدران الشظايا‬
‫‪63‬‬ ‫‪........................................................................................................‬‬ ‫ـ صدوع‬

‫‪67‬‬ ‫‪..........................................................................................‬‬ ‫ـ حوارية العامرة‬


‫‪69‬‬ ‫‪...........................................................................................‬‬ ‫ـ حوارية العامرة‬
‫‪75‬‬ ‫‪............................................................................‬‬ ‫ـ صمت األبنية وكالمها‬

‫‪5‬‬
‫‪79‬‬ ‫‪.......................................................................................................‬‬ ‫ـ فضاءات‬
‫‪81‬‬ ‫‪................................................................................................‬‬ ‫ـ فضاء اخللوة‬
‫‪85‬‬ ‫‪.......................................................................................‬‬ ‫ـ فضاءات مفتوحة‬
‫‪91‬‬ ‫‪...........................................................................................................‬‬ ‫ـ التفرد‬

‫‪97‬‬ ‫‪..........................................................................................‬‬ ‫ـ يف ماهية العامرة‬


‫‪99‬‬ ‫‪.............................................................................‬‬ ‫ـ وظيفة العامرة وماهيتها‬
‫‪105‬‬ ‫‪...................................................‬‬ ‫ـ الشكل املعامري والتعبري عن الوظيفة‬
‫‪111‬‬ ‫‪........................................................................................‬‬ ‫ـ الزمان يف العامرة‬
‫‪117‬‬ ‫‪................................................................................‬‬ ‫ـ مجال العامرة وماهيتها‬
‫‪125‬‬ ‫‪...........................................................................‬‬ ‫ـ اجلامل واأللفة يف العامرة‬
‫‪131‬‬ ‫‪.......................................................................‬‬ ‫ـ واقعية العامرة والواقعيتها‬

‫‪6‬‬
‫إىل ‪:‬‬
‫سكين ‪ . . .‬سكن كلماتي‬

‫‪7‬‬
‫يتوجه املؤلف بالشكر والتقدير لكـل من آزر جهوده‪ ،‬النـاقد‬
‫يـاسني النصري والقـاص والروائـي لــؤي محـزة عباس‪ ،‬ركين‬
‫العناية املكانية‪ ،‬والشكر موصول جلريدة (تكست) الثقافية‬
‫البصرية وكادرها ملا أولوه من حمبة وإهتمام ‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫تقديم‬
‫الكتابة من الداخل‬
‫ياسني النصري‬

‫‪1‬‬

‫فـي كتابه «سكنى املكان» يواصل الدكتور أسعد األسدي حبثه فـي ثقافة‬
‫العمارة مكانياً‪ ،‬فـيوسع من ثوب الثقافة املكانية باملمارسة املعمارية بصفته‬
‫مهندساً معمارياً جيد فـي تصميم العمارة وتنفـيذها طريقة لقراءة ظالل‬
‫الفضاء الداخلي‪/‬النفسي‪ ،‬والفضاء اخلارجي‪/‬االجتماعي ودورمها فـي‬
‫صياغة وجود إنساني مل يكن مقتصراً على الساكنني‪ ،‬وإمنا على فعل السكن‪،‬‬
‫وهو فعل العين كما يقال فـي الظاهراتية وفعل قصدي موجه إليه البحث‪.‬‬
‫ومن هنا فهو يعلّق أي تاريخ للمكان وال يلتفت إليه إال بوصفه نسيجاً من‬
‫جتارب حية متداخلة تغين املكان وتعدّد أزمنته‪ ،‬فالزمان هبذا املعنى أثر فاعل‬
‫من آثار املكان ال حمض وعاء لتحقق أحداث عابرة‪ .‬إن فعل السكنى عنده هو‬
‫الفعل الذي يشكل وعي احلضور به وعياً بفاعلية األشياء على اإلنسان‪ .‬ومن‬
‫هنا جند أن األشياء اليت تعامل معها ضمن فعل السكنى حتولت إىل أدوات‬
‫إنسانية اكتسبت املعرفة والتأثري عرب عالقتها املكانية باإلنسان‪ ،‬فاملقتنيات‬
‫واألشياء البيتية مثال تشرتك فـي فعل السكنى‪ ،‬وتشارك فـي بنية األلفة‬
‫البيتية‪ ،‬بل وتسهم فـي حتديد اللغة وتصفـيتها عندما ترتكز فـي ممارسة‬
‫حمددة‪ ،‬هذه األشياء ليست معزولة عن تطور اللغة فـي إمكان أن حتافظ‬

‫‪11‬‬
‫عليها باألمساء أو أن تتغري تبعا لالستعمال‪ .‬الدكتور اسعد األسدي يعيد‬
‫تصورنا عن هذه احلال االنتقالية لألشياء واملقتنيات من كوهنا أشياء فـي‬
‫السوق إىل أشياء مؤنسنة فـي السكن‪ ،‬مقيمة مع اإلنسان ومؤثرة فـي جمرى‬
‫حياته‪ ،‬تؤلف سياقاً سكنياً هلا ولإلنسان وتصبح مبوجب هذا السياق جزءاً‬
‫من بنية الشحنة املكانية اليت تؤلف لغتها باملمارسة وتدخل بتواصل الفتها‪،‬‬
‫عندما يعاد تشكلها من جديد‪ ،‬سياقات احلداثة‪ ،‬ألهنا أصبحت بعضاً من‬
‫تركيبة املكان وليس ضمن تركيبة املقتنيات‪ ،‬فبقدر ما تكون األشياء أكثر‬
‫ثباتا فـي املكان‪ ،‬تبدو غري ملحقة به‪ ،‬إهنا اجلزء احلي الذي يؤكد حيويته‬
‫ويعمّق أثره فـي مسار حياتنا‪ ،‬مبا يؤمّن له من وجود قادر على التشكل‬
‫والتواصل واحلوار‪ ،‬األشياء فـي مثل هذا الوجود حتقق كائنيتها وتبين‬
‫معمارها املعنوي داخل معمارية املكان وهي ترفد شحنته وتعمّق أثره‪ .‬إن‬
‫تداخل الكثري من أشياء البيت فـي أحالمنا دليل على جتاوزها رغبة االقتناء‬
‫إىل الفعل النفسي‪ ،‬إن ذكرياتنا وأخيلتنا هي من صنع العالقة بني اإلنسان‬
‫وبيته‪ ،‬عرب معنى السكنى‪ .‬ما حيدث دائما هو أن الكيفـية اليت نعيد هبا إنتاج‬
‫وعينا باملكان تتم عرب التحوالت كما يقول لوفـيفر والتبدالت اليت حتدث‬
‫فـي أشياء السكن‪/‬البيت‪ ،‬وعرب هذه التبدالت والتحوالت حتدث اإلشارات‬
‫ــ والتعبري للوفـيفر أيضا ــ والرموز واالبتكارات كلها‪ ،‬فهناك دائما مثة من‬
‫جيرّب ويدرك ويتخيّل‪ ،‬والبنية الثالثية هذه تتطلب إنسانا جيرّب األشياء‬
‫حياتياً‪ ،‬يبتكر منطاً جديداً من العالقة معها‪ ،‬وإنسانا يدرك أن العالقة تو ّلد‬
‫أخيلة ورموزاً‪.‬‬
‫يويل الدكتور اسعد األسدي أمهية للجسد داخل السكن‪ ،‬وإن مل يذكره‬
‫بالتخصيص‪ ،‬بل يذكر اإلنسان‪ ،‬اإلنسان اجلسد هو غريه اإلنسان املعين‬
‫باجلسد‪ ،‬اجلسد هنا حتقق الوجود املادي‪ ،‬إشغال احليز‪ ،‬بناء معناه الذي‬

‫‪12‬‬
‫حتققه العالقة مع السكنة اآلخرين‪ ،‬فاجلسد هو حامل العالقة وحمموهلا‬
‫خاصة فـي البيت‪ ،‬واألكثر خصوصية فـي حيز اجلسد‪ ،‬حيث األسرة هي‬
‫اجملتمع الصغري الذي يرتبط مبا يشغله من حيز‪ ،‬وهو البيت وفعل السكنى‬
‫فـيه‪ ،‬واجلسد فـي العالقات البيتية يؤلف سياقاً معرفـياً غاية فـي التعقيد‬
‫والوضوح معا‪ ،‬فهو جسدي اخلاص‪ ،‬وفـي الوقت نفسه هو جزء من أجساد‬
‫تؤلف أسرة‪ ،‬ولذلك يويل علم االجتماع اجلسد فـي بنية السكن أمهية‬
‫استثنائية فمشكلة السكنى مشكلة اجتماعية وجسدية حيررها املكان البييت‬
‫أو يقيدها‪ ،‬أما إذا خرج اجلسد للمجتمع‪ ،‬وإىل فضاء املدينة‪ ،‬جنده يكتسي‬
‫محاية من اآلخرين بالقول املوجز وباحلركة املقتصدة الدقيقة‪ ،‬واملسار‬
‫الواضح‪ .‬حتدث الفوضى فـي الشارع عندما ال توجد مسافة تنظم عملية‬
‫املشاركة وتوجه حريّة الفرد بناء على طبيعة العالقة مع حريّة اآلخر‪ ،‬املسافة‬
‫هي مت ّثل واع ملعنى الصلة الذي يؤمّن جما ًال أعمق للعالقات املنتظمة‪ ،‬إن‬
‫الذات حتقق ذاتيتها بناء على تنوّع العالقة بني جمالني‪ :‬خاص‪ ،‬تنمو فـيه‬
‫العالقات احلميمة وتزدهر‪ ،‬وعام‪ ،‬تنتظم فـيه طبيعة مغايرة من العالقات‬
‫عرب احلد والتنظيم‪ ،‬ينتقل اجلسد من حمدودية العالقات داخل األسرة‪ ،‬إىل‬
‫فوضويتها فـي فضاء املدينة احلر‪ ،‬يبقى فـي هذا الفضاء احلر مقيدا أكثر‬
‫حبرمانه من معرفة ما يفصله عن اآلخرين أو ما يقربه منهم ‪.‬‬
‫فـي سياق معرفـي آخر‪ ،‬يطرح الكتاب مجلة إشكاليات عن عالقة اإلنسان‬
‫باألشياء‪ ،‬األمر الذي تتطلبه احلداثة فـي معاجلتها احلضور اإلنساني ضمن‬
‫جتربة إشغال احليز‪ ،‬لذلك ال يبنى السكن بعيداً عما حتمله هذه التجربة‬
‫من ظالل إنسانية‪ ،‬واملراقبة الالحقة ال تولد معرفة بل املراقبة اآلنية عندما‬
‫حيتل اجلسد والشيء حيزمها اخلاص املالئم هلما‪ ،‬يوفر البيت مبفهومه‬
‫العام هذه األلفة‪ ،‬مثلما يهيئ مساحة أوسع من التشكل العاطفـي ألنه تكوين‬

‫‪13‬‬
‫أمومي‪ ،‬كل األشياء فـيه جتاوزت خصوصيتها‪ ،‬بل ألغتها واندجمت فـي حلم‬
‫يقظة البيت‪/‬العامل ‪.‬‬
‫سعى الكاتب بوضوح إىل جتريد األشياء من مقوالهتا السابقة وطرحها‬
‫للممارسة االجتماعية املنفتحة معتمداً على متاهيها باأللفة‪ ،‬من قبيل ان‬
‫األشياء فـي تاريخ تداوهلا ميكن سلب التاريخ الشخصي منها‪ ،‬فتاريخ‬
‫األشياء هو استعماهلا‪ ،‬واألشياء ال حتيا من دون تاريخ خاص هبا‪ ،‬صنعته عرب‬
‫وجودها العملي‪ ،‬وهذا التاريخ هو هويتها اليت تتداول هبا فـي استعماالهتا‬
‫اليومية‪ ،‬السلعة اجليدة تاريخ‪ ،‬لكن االستعمال اليومي لألشياء يسلبها هذه‬
‫التارخيية‪ ،‬وجيعلها حاضرة منفتحة على املستقبل‪ ،‬إهنا لعبة للفنية ولعبة‬
‫لالعب‪ ،‬وهذان احلقالن ‪ :‬الفنية والالعب ال غرض هلما بتاريخ اللعبة‪/‬‬
‫السلعة‪/‬الشيء‪ ،‬إنك ال تتحدث عن تاريخ اإلناء وكيفـية صنعه ومن الذي‬
‫فكر فـيه عندما تستعمله كجزء من بنية العالقات السكنية فـي البيت‪ ،‬وإمنا‬
‫يتحدث اإلناء حلظة االستعمال عن تاريخ عالقته مع اإلنسان عرب الكيفـية‬
‫اليت تطورت هبا هذه العالقة‪ .‬يرفع الدكتور اسعد األسدي األشياء من‬
‫تارخييتها ويضعها فـي الالتارخيية ألن منهجيته الظاهراتية تعلّق أي تاريخ‬
‫للشيء‪ ،‬تاريخ الشيء هو استعماله اآلني‪ ،‬ومبرور اآلنية عرب االستعماالت‬
‫يتكون تاريخ الشيء اجلديد الذي هو تاريخ االستعمال املتحرك‪ ،‬وليس تاريخ‬
‫صناعته‪ ،‬ليس مكان إنتاجه‪ ،‬وال هوية من أنتجه‪ ،‬هبذه الرؤية سنجد أن‬
‫األشياء كلها قابلة ألن تكون معاصرة عندما نضعها حتت الرؤية االستعمالية‪.‬‬
‫فـي سياق معرفـي جديد‪ ،‬وهو سياق بصري تركييب‪ ،‬جند أن أية‬
‫كتلة ستذوب عند الرؤية‪ ،‬تتفكك وتتحول إىل جزئيات صغرية أو خطوط‬
‫ومستويات‪ ،‬تتالشى كالدخان‪ ،‬فالرؤية استعمال وممارسة وتغيري‪ ،‬ستتحول‬
‫الكتلة الصلبة إىل دخان‪ ،‬إن ما نراه من كتلة ليست إال حلظة ال تتكرر إال‬

‫‪14‬‬
‫عرب آلية غري ثقافـية‪ ،‬جتمعت هبا اخلطوط والنقاط واملواد‪ ،‬وهذا التجمع‬
‫الكتلي ليس قاراً وال ثابتاً بقدر ما هو حالة لتفعيل أجزائه آنيا‪ .‬تفتيت‬
‫الكتلة فـي العمارة هو بناؤها وليس تدمريها عرب صيانتها بأن تبقى جامدة‪،‬‬
‫لذلك يذوّب الكاتب مفهوم الكتلة فـي مفهوم العيش لتحقق الكتابة رؤيتها‬
‫فـي تأمل العناصر ومالحظة املفردات وهي تتشكل فـي مكوّن يعيش حواراً‬
‫متصالً مع غريه من مكونات األلفة فـي املكان‪ ،‬ليجعل من األعمدة فـي البيت‬
‫تكويناً أليفاً يرفع عنه صالبته وحضوره الثقيل‪ ،‬ويذهب جلماليته ليمنحها‬
‫فرصة قول كلمتها فـي إشغال الفراغ‪ ،‬وحتقيق توظيفها اجلمايل الذي لن‬
‫يكتمل إال بإدراك طبيعتها‪ ،‬هذا تذويب ملفهوم الكتلة حلظة تدخل فـي عالقة‬
‫انسجام مع السكن والساكن عرب جتميع موادها ألداء غرض مجايل‪ ،‬على‬
‫الرغم من أهنا كتلة وقتية ميكن تفكيكها وبعثرة أجزائها‪ ،‬وبالتايل فاللوحة‬
‫التشكيلية مثال‪ ،‬ليست جدارا صلباً أو حاجزاً ملا وراء تكويناهتا‪ ،‬إن ما فـيها‬
‫أو ما خلفها مكشوف‪ ،‬عرب الرؤية العميقة اليت تضع عناصرها‪ ،‬املرئية منها‬
‫وغري املرئية‪ ،‬فـي عالقة تواصل‪ ،‬وهي تتشكل مبقدار ما حتقق من تضافر‬
‫ونسج بني عناصرها‪ ،‬إن املعرفة ال تتم إ ّال عرب أجزاء قابلة للتواصل والتكوين‬
‫من جديد‪ ،‬وليس عرب كتلة ال تتفكك‪ ،‬إن ما جيعل املعرفة قائمة ودائمة هو‬
‫قدرهتا على بناء أشكال جديدة من أجزاء متفرقة وقدمية‪ ،‬وهو ما أُشري‬
‫إليه باملقتنيات‪ ،‬كمبدأ من مبادئ ما بعد احلداثة أي امليل إىل اعتماد البنية‬
‫اجلزئية‪ ،‬الساخرة‪ ،‬واهلزلية‪ ،‬واالعتباطية‪ ،‬والكائنة على السطح املكاني‪،‬‬
‫وليس فـي عمق املاضي‪ ،‬فـي حلمة األفكار القارة ‪.‬‬
‫كيف نكتب عن األشياء‪ ،‬رمبا لن يصل بنا التساؤل إىل أجوبة معينة‪ ،‬ولكن‬
‫أن نكتب معناه أن نعرف‪ ،‬واملعرفة املكانية حتتاج إىل أدوات غري تلك اليت نقرأ‬
‫فـيها نصاً سردياً‪ ،‬يسميها الدكتور اسعد األسدي الكتابة من الداخل‪ ،‬فـي‬

‫‪15‬‬
‫العمارة كما فـي أي نص لفظي‪ ،‬جيب أن تكون الكتابة من الداخل‪ ،‬مبعنى‬
‫معرفة مكونات الشيء الذي تكتب عنه وتبيّن عناصره‪ ،‬مثة عالقة بني توازن‬
‫الصب الكونكرييت للبناء ووجود خارطة هندسية ومهندس‪ ،‬فـي إطار العالقة‬
‫املكانية جند أن شحنات املكان هي اليت تؤسس لثقافة السكن ومن ثم على‬
‫الساكن أن يفهمها كي ميكنه التعايش معها‪ ،‬الكثري من عمال املقابر تآلفوا مع‬
‫شحنة القرب‪ ،‬انسجموا معها عندما هيمنوا عليها‪ ،‬والكثري من مرضى الفوبيا‬
‫يعيدون صياغة القبور فـي األمكنة املظلمة ألهنم يعيشون حتت هيمنة املكان‬
‫املغلق وظالمه‪ ،‬الكتابة من الداخل تعين التحرر من كل ماهو خارجي مسبق‪،‬‬
‫إيديولوجي معطى‪ ،‬ثقافـي قار‪ ،‬نص مهيمن‪ ،‬احلرية فـي الرؤية هي الفعل‬
‫فـي بناء النص املكاني احلديث ‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫ال أحتدث عن حيوية مثل هذه الكتابات داخل املنجز الثقافـي‪ ،‬ولكين‬
‫أشري إىل أن التفكري سيكون عاجزا عن أن يعطي صورة عن شيء ما من دون‬
‫أن يعرف مكوناته املكانية األوىل‪ ،‬تقول مدرسة ما بعد احلداثة ال ميكنك‬
‫أن تسيطر معرفـياً بدون أن تسيطر على اجلغرافـيا‪ ،‬ولك أن تفهم هذه‬
‫املقولة بإبعادها االبستمولوجية والتطبيقية على مستويات السرد واللوحة‬
‫التشكيلية والعمارة والشعر وحتى إيديولوجيا اإلنسان املعاصر‪ ،‬هذه الكتابة‬
‫تعيد التفكري إىل نقطة الصفر‪ ،‬عندما نبدأ وكأن كل املعارف ال تبدأ إال بعد‬
‫أن نفهم مكوهنا الفضائي‪ ،‬وقد عبّر سوسري بذلك عن اللغة ببنية التعامد‬
‫واألفقي املكانيني‪ ،‬وحديثاً ال جتد فعال ليس له بعد مكاني‪ ،‬مثل هذا التصور‬
‫الذي يدخل مليدان اللغة كان غائبا ال بل عد جزءا من الظرفـية املؤكد حلركة‬
‫األفعال‪ ،‬فـي حني أن أي فعل ال يكشف عن جذره الفضائي أو اجلغرافـي‬

‫‪16‬‬
‫يكون قاصراً على االستمرار لغوياً‪ ،‬ومن هنا حتاول الكتابة اجلديدة أن تأخذ‬
‫بيد القارئ للكيفـية اليت يقرأ هبا جمتمعه وفكره وثقافته وللكيفـية اليت يكتب‬
‫هبا نصه‪ ،‬هذه الكتابات هي فرشة ممهدة ألرضية بكر فـي النقدية العربية‪،‬‬
‫ونأمل أن يتكامل مشروعها فـي التعبري عن إمياهنا بأن الكتابة عن األشياء‬
‫اليومية واملألوفة هي األرضية اليت تؤسس رؤية واعية للنصوص اإلبداعية‪.‬‬
‫إن ما نفكر به معمارياً هو ما نفكر به حياتياً‪ ،‬فالعمارة ليست بناء كتلياً‬
‫صلباً‪ ،‬بقدر ما هي خلوة للروح كي تستقر وتبدع وتنتج فـي دواخلها املضيئة‪،‬‬
‫العمارة منظومة مكانية يتكلم عربها الفضاء كما يقول يوري لومتان‪ ،‬شفافة‬
‫تُخرتق بالرؤية القصدية وبفاعل آني حيدد العالقة معها‪.‬‬

‫‪3‬‬

‫ابتداء من مفارقة العنوان‪ ،‬حيث السكن مكاناً واملكان سكناً‪ ،‬يدخلنا الدكتور‬
‫أسعد األسدي فـي حلمة الشيء وحلائه‪ ،‬وعلى الرغم من قرب العالقة بني‬
‫السكنى وهو يعين الوعي باختاذ مكان للعيش‪ ،‬وسكن املكان الذي ال نعرف‬
‫إال أن يصبح غامضاً وعمومياً‪ ،‬يرتاوح معنى السكن بني سكنى املكان‪ ،‬وسكن‬
‫املكان‪ ،‬وعندما يكون املعنى «سكنى» أي املأوى والبيت والعيش‪ ،‬يتداخل فـيه‬
‫الفعل اإلنساني ويتماهى فـي حضور واحد‪ ،‬وهو ما دارت عليه كتابات هذا‬
‫اجلهد املتميز ‪.‬‬
‫مل تكن احلداثة حمض مقوالت يتداوهلا بعضنا‪ ،‬بل هي إجراءات عملية‪،‬‬
‫تشمل اآلداب والفنون والعمارة واملدينة واجملتمع واالقتصاد والناس‪ ،‬وأية‬
‫قطيعة بني واحدة وأخرى تُحدث خلالً فـي مفاهيم احلداثة‪ ،‬وتعطل التصور‬
‫الكلي عنها ‪.‬‬
‫الدكتور أسعد األسدي مهندس معماري له إسهامات عديدة فـي اهلندسة‬

‫‪17‬‬
‫املعمارية‪ ،‬تنظرياً وإجراءات‪ ،‬ومن هنا فهو يقدم فـي هذا الكتاب تصوراً‬
‫منضبطاً إىل حد ما عن العالقة بني املكان واحلداثة‪ ،‬ولذلك فرؤيته‬
‫للحداثة تتم عرب منظور حمدد‪ ،‬إهنا تتحقق عرب العمارة البيتية‪ ،‬وكما يقول‬
‫«نيتشه» الرؤية ال تكون إال عرب منظور حمدد فقط‪ ،‬وكذلك املعرفة تتم من‬
‫منظور حمدد أيضا‪ ،‬لذلك جتد املؤلف يقدم وجهات نظر خمتلفة هي ما‬
‫مياثل عدد األمكنة فـي الواقع‪ ،‬فعدد األمكنة هو عدد وجهات نظرنا كما‬
‫يقول «ديفـيد هارفـي»‪ ،‬وهذه األمكنة وإن احتواها اسم واحد‪« :‬بيت» إال أهنا‬
‫ليست متجانسة‪ ،‬فعرب كل نص أو معاجلة جند أنفسنا إزاء بيوت خمتلفة‪،‬‬
‫ومن هنا أيضا يكون ثراء هذا الكتاب الذي يؤسس لعالقة منهجية بني‬
‫العمارة والقراءة األدبية‪ ،‬وهو ما حنتاجه لتقريب الفضاءات الكونكريتية‪،‬‬
‫الصلبة والعمودية‪ ،‬من مداركنا السردية والشعرية والنقدية ‪.‬‬
‫مبا أن عمارتنا ال تتجاوز اخلمسة طوابق فـي معظم األحوال ــ وحنن‬
‫هنا نرصد احلالة العراقية ــ فلن تكون لدينا عمارة إال باملفهوم اخللدوني‬
‫وهي عمران اإلنسان واملدن‪ ،‬ولكن الدكتور أسعد األسدي ال يعايش العمارة‬
‫ذات الطوابق القليلة فحسب‪ ،‬بل ويركز على البيت فـيها‪ ،‬أو مبعزل عنها‪،‬‬
‫وفـي تركيزه على السكن فـي العمارة أو خارجها ال جنده يويل أمهية كبرية‬
‫لفضائية هذا البناء العايل‪ ،‬أو لبيت فـي الطابق العشرين أو الثمانني‪ ،‬حيث‬
‫يبتعد السكن عن األرض‪ ،‬ليولد إيهاما بالكواكب والنجوم‪ ،‬وتصبح الرؤية‬
‫حملقة مبا هو غري مؤطر‪ ،‬جل معاجلاته تقع ضمن فضائية العمارة أو البيت‬
‫املضطجع‪ ،‬وليس الواقف أو العمودي‪ ،‬سنجد أن رؤيته هذه قد احتمت هبا‬
‫مفهومية السكن الذي تقع عليه رؤيتنا‪ ،‬وليس العكس ‪،‬ألن السكن األفقي‬
‫يُحاور عرب توافق العني مع األذنني‪ ،‬أي الرؤية األفقية للصوت وللعني‪،‬‬
‫بينما يُحاور السكن العمودي عرب جدلية العمود‪ ،‬عرب الزمن الوجودي‪ ،‬وقد‬

‫‪18‬‬
‫خيتفـي االثنان من املتابعة فال العني ترى البعيد وال األذن تسمع ما يدور‪،‬‬
‫هذا اإلهبام هو فـي صلب مغايرة سكن البيت عندما يكون كل شيء فـيه‬
‫مرئياً ومسموعاً ‪.‬‬

‫‪4‬‬

‫مل تكن العالقة بني العمود واحلضارة اعتباطية‪ ،‬بل استجابة ميثولوجية‬
‫للوجود‪ ،‬فالعمود يعين الوجود الفاعل‪ ،‬الوجود املتحدي‪ ،‬وتعين الزمنية‬
‫األفقية‪ ،‬التاريخ‪ ،‬واملشاعية‪ ،‬والرؤية املسطحة اليت تشدك إىل املاضي‪ ،‬عرب‬
‫األعمدة تتغري اجملتمعات‪ ،‬وتؤسس حلضارة متطلعة‪ ،‬فالتغيري والرؤية إىل‬
‫األعلى حتد للقوى الغيبية اليت تشدنا إىل الوراء‪ ،‬فالسحرة والشياطني‬
‫ال يعيشون فـي السماء‪ ،‬بل يهبطون منها ليمارسوا أفعاهلم على األرض‪،‬‬
‫اإلنسان وحده يتحرر من جاذبية األرض‪ ،‬لينطلق للسماء كي ينقذ نفسه‬
‫وأحالمه من القوى األفقية الغيبية والتارخيية‪ .‬هكذا تقرتح الشعوب‬
‫مدهنا متطلعة للمستقبل‪ ،‬ومشاركة بفاعلية اجلماعة للتغيري‪ ،‬فـي حني ال‬
‫تتطور الشعوب اليت تبين عمارهتا أفقيا‪ ،‬وخبط مستقيم كما لو أن اجلميع‬
‫مشدودون إىل حقائق ثابتة ويقينية ‪.‬‬
‫ما جيعل سكن الدكتور أسعد رومانسيا‪ ،‬حمبباً‪ ،‬أنه يعيد تشكيله ثقافـياً‪،‬‬
‫وليس معمارياً‪ ،‬وهذا ما يقرّب الصورة احللمية للواقع كما لو أهنا أشغال‬
‫جزئية على جدار أو خلوة أو سطح‪ ،‬هذه البنية األفقية صادقة وحمببة‬
‫ألننا نعيش فـيها‪ ،‬نبين فـي ظالهلا ذواتنا وحنيا توارخينا ‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫‪5‬‬

‫مييل الكاتب إىل الرؤية اجلزئية املوضوعية لألشياء‪ ،‬يبتدئ بيومية‬


‫شخصية‪ ،‬وينتهي مبقولة‪ ،‬ما يهمه هو أن تكون اجلزئيات حمركة مفاصل‬
‫الرؤية‪ ،‬وال يعتمد الكليات استهالالً‪ ،‬ألن الكليات ألفاظ ومقوالت‪ ،‬إنه ابن‬
‫حرفة تتداخل فـيها التجربة الشخصية بالرؤية الفنية‪ ،‬فاجلزئيات إجراءات‬
‫ميدانية قابلة للحركة والتغيري والتبدل‪ ،‬بينما الكليات حتصيل حاصل‪.‬‬
‫طرق البحث عند الدكتور أسعد تبدأ بكلمة‪ ،‬أما الفقرة أو العبارة فليست إال‬
‫اكتشاف الطريق‪ ،‬فـي حني تكون العمارة فـي هناية طريق البحث هي املعنية‬
‫جزئياهتا وكلياهتا‪ .‬من هنا تبدو اجلزئيات أكثر األشياء إختباراً للذاكرة‬
‫اآلنية وكشفاً عن حاضرها حبرية التعري الكامل أمام الرؤية القصدية ‪.‬‬
‫ينطلق الدكتور أسعد من الفعل اليومي‪ ،‬من األشياء الصغرية‪ ،‬من اللحظة‬
‫الزمنية واحليز احملدود‪ ،‬هذه ميادين رؤيته‪ ،‬وهو متموضع فـيها كأي راو‬
‫للحكاية‪ .‬ال أحتدث عن االستنتاجات اليت توصل إليها فـي كتاباته‪ ،‬وإمنا‬
‫عن الرؤية الشاملة للمقاالت وقد كتبت على فرتات خمتلفة‪ ،‬وهو ما يشعره‬
‫القارئ من تباين أساليبها ‪.‬‬
‫يبدو أن اجلهد الثقافـي فـي أدبيات العمارة منقسم إىل اجتاهني ‪ :‬اجتاه‬
‫الرتمجة وهو الغالب‪ ،‬ومن ضمنه كتابات اخلربة فـي مضامني العمارة‪،‬‬
‫واجتاه الكتابة عن التجربة الشخصية فـي التعامل مع العمارة بوصفها‬
‫معطىً ثقافـياً‪ .‬إن الدكتور أسعد ونتيجة خلربته امليدانية ال يدخلنا فـي‬
‫خصوصيات جتاربه‪ ،‬وإمنا يدور بنا حول فهمه للعمارة وتأمله خلصائصها‬
‫فـي اللحظة اليت يتأمل فـيها صلتها بالوجود اإلنساني‪ ،‬مبتعداً عن كونه‬
‫مهندساً ليصبح ناقداً ظاهراتياً ‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫سكنى المكان‬
‫سكنى املكان‬
‫علوق‬
‫بيوت‬
‫بيوت جديدة‬
‫عمارة املدينة اآلتية‬

‫‪21‬‬
‫سكنى املكان‬

‫مع إن املدينة التي نسكن فيها واحدة‪ ،‬غري إن مداخلها واملنافذ اىل أعامقها‬
‫ليست واحدة‪ ،‬إذ إن لكل منا مدخله اىل املدينة ومساراته فيها‪ ،‬وصورهتا‬
‫املتفردة التي يبنيها‪ ،‬وسعادته التي جينيها‪ .‬ونحن نتلقى كرم الوجود وهو‬
‫يأيت بفعل املعرفة‪ ،‬بام هو خاصتنا ومدينتنا وعاملنا‪ .‬ومع إن يف املدينة سوانا ‪،‬‬
‫فاخلالص يف أن ننفذ اىل مانرى‪ ،‬وأن نقدم لآلخرين قو ً‬
‫ال خمتلف ًا عام ألفوه‪.‬‬
‫يف العامرة‪ ،‬اجلسد الذي نسكنه ويسكننا هو الذي يتلمس املكان‪ ،‬يلجأ‬
‫اىل األرض‪ ،‬يتحسس اجلدران ويرقب السقوف‪ ،‬تعرتض خطواته األعمدة‬
‫والسطوح ‪ .‬اجلسد الذي يصعب إهيامه‪ ،‬ليكون إنشغال العامرة باملكان حدث ًا‬
‫واقعي ًا‪ ،‬بوصفها فن ًا يستهلك املكان ويعيد إنتاجه‪ .‬ومع إن للعامرة قدرة‬
‫قراءة املكان وتأويله‪ ،‬غري إن ذلك يتجسد مادي ًا يف ما يطال املكان من حتول‪،‬‬
‫ليكون ما تعتقده العامرة عن املكان هو ما تقوله يف صورة مكان‪ ،‬يف حضور‬
‫األشياء وإستحضارها‪ ،‬يف سعيها لبناء األلفة بني األشياء والوصول بذلك‬
‫اىل صورة العامل‪ .‬يقول (بورخس) (‪ ...‬يقبل املرء هبذه األشياء املتنافرة‬
‫التي نسميها العامل ملجرد أهنا توجد مع ًا)‪ ،‬إذ يف وجود األشياء مع ًا مدخل‬
‫لقبوهلا‪ .‬ونحن نضع األشياء معا ألهنا مقبولة‪ ،‬بمثل قبولنا تلك األشياء‬
‫ألهنا موجودة مع ًا‪ .‬فاملسألة يف العامل سكن كل األشياء هو حال وجودها ‪.‬‬
‫‪23‬‬
‫ومع إن لكل موجود يف العامل مكانه الذي اليشغله سواه‪ ،‬ومع إن املكان يف‬
‫العامل متصل يف حتوالته كلها‪ ،‬فإن مهمة العامرة أن جتاور األشياء واألمكنة‬
‫وأن تداخلها‪ ،‬أو أن تتعمد مباعدهتا وعزهلا عن بعضها‪ .‬فالوجود مع ًا حال‬
‫ذو عواقب شعورية وذهنية خمتلفة‪ ،‬وقد ال يكون التوافق يف نمط وجود‬
‫األشياء وحده ممكن ًا أو مقبو ً‬
‫ال‪ ،‬إذ ليس قليل القيمة بذاته أن توجد األشياء‬
‫لصق بعضها‪ ،‬فهو حال يصعب إختزاله‪ ،‬غري إننا يف اإلبداع نعيد ترتيبه كي‬
‫يؤدي اىل تكافل األشياء‪ ،‬وتوصلها لبناء عوامل متاميزة ‪.‬‬
‫حتاول العامرة أن تبني يف املكان تفرده‪ ،‬يف اخلارج حيث يسكن املبنى‬
‫أمكنة غري متامثلة‪ ،‬تكون مهمته تلمس معطياهتا يف حوار يتكفل املبنى‬
‫مبارشته‪ .‬وحيدث يف العامرة أن يتحول املكان اىل ال مكان‪ ،‬عندما تفشل‬
‫األبنية يف تلقي مكاهنا حيث حتل‪ ،‬ويصبح يف حضورها الالمنتمي اىل عامل‬
‫يرعاها إقرتاف ال عامرة‪ ،‬يعجز مكاهنا الذي تلده عن أن يكون مكانا‪ ،‬إذ إن‬
‫ما يتوجب عىل العامرة بلوغه ‪ ،‬هو إيقاظ املكان يف الالمكان بوصفه املمكن‬
‫الذي جيهز للحضور‪ .‬كام يتولد املبنى يف الداخل يف مدى ما يتولد عنه‪ ،‬وهو‬
‫مبنى خيتلف عن سواه يف إختالف ما يأيت به من مكان‪ ،‬حيث تستعاد حكاية‬
‫الفعل اإلنساين يف رواية جديدة‪ ،‬فيكون العيش يف املبنى غري ما تعودناه‪،‬‬
‫هروب ًا من عودة الفعل نحو أفق حكايته ‪ .‬وبذلك يتكفل املكان بتجلية‬
‫القصد واملعنى وهو يستحيل بعد ًا للوجود اإلنساين‪ ،‬وليس حمض فضاء‬
‫حلضور الوجود‪.‬‬
‫وإذ جتدك مشغو ً‬
‫ال بعمق يف مبنى تصوغ فضاءاته الداخلية حماطة‬

‫‪24‬‬
‫بسواها‪ ،‬وهو يبدأ حواره حيث يسكن شارع ًا يف املدينة‪ ،‬يدامهك الفضاء‬
‫اخللفي املهمل‪ ،‬يف هدوء وصمت‪ ،‬ساخر ًا كمن يدري أن ال مفر منه ‪.‬‬
‫تسأل‪ ،‬هل ثمة أماكن سلب ما نعتني به من أماكن ؟ بفعل متايز اإلستعامالت‬
‫وتعالق الفضاءات‪ ،‬فتكون بعض األمكنة خادمة وبعضها خمدومة‪ ،‬أو‬
‫تكون أمكنة داخل األمكنة وأخرى خارجها‪ ،‬وأمكنة ثالثة تصل بني تلك‬
‫األمكنة‪ ،‬دون أن يرتدى املكان اىل الال مكان‪ .‬وإذ تواصل العامرة مهمتها‪،‬‬
‫تأيت ببعض األماكن اىل الضوء وتذهب بأخرى اىل الظل‪ ،‬غري إهنا ال هتمل‬
‫يف كل حال إيقاظ املكان يف الالمكان‪ ،‬إذ تعتني أيضا بالفضاء اخللفي املهمل‬
‫بوصفه فضا ًء خلفي ًا مهم ً‬
‫ال‪ .‬كام تديم األمكنة حتوالهتا‪ ،‬فاملكان الذي تسكن‬
‫فيه يصبح ال مكانا حاملا هتجره‪ ،‬واملكان الذي تذهب اليه من جديد هو‬
‫املكان‪ .‬عندما يكون املكان موضوع معايشة وعناية وجتربة يصبح مكان ًا‪ ،‬وله‬
‫خصوصية التجربة واملعايشة التي ألفها‪ ،‬وإذ هيجر املكان يفتقد اىل الكثري‬
‫ال‪ ،‬يسكنها‬‫من مكانيته‪ .‬فعندما نغادر البيوت تصبح خراب ًا‪ ،‬تستحيل أطال ً‬
‫الرتاب والظالم والصمت‪ ،‬يسكنها الغياب‪ .‬املكان الذي تسكنه هو ليس‬
‫املكان الذي تغيب عنه‪ ،‬املكان املهجور مكان آخر‪ .‬وقد يكون مكاين هو‬
‫املكان ‪ ،‬وما ليس بمكاين كيف يل أن أدرك مكانيته ‪.‬‬
‫البيت الذي أسكنه ال أفتقد السكن يف سواه‪ .‬البيوت التي نسكنها‬
‫صغرية أو كبرية‪ ،‬البيوت الصغرية ليست صغرية حق ًا‪ ،‬والبيوت الكبرية‬
‫ليست كبرية اىل هذا احلد‪ .‬يف البيوت الصغرية يبدو الفضاء كافي ًا‪ ،‬واألشياء‬
‫قريبة ومتاحة وعند املنال‪ ،‬واألشخاص الذين يشاركونك املكان موجودون‬

‫‪25‬‬
‫أمامك وقريبون‪ ،‬والعائلة التي تسكن البيت جتد رسيع ًا أشياءها التي تريد‪،‬‬
‫كام إهنا ال ُت ُ‬
‫سكن معها إال األشياء التي هي يف حاجة اليها‪ ،‬فالبيت ال يتسع‬
‫اىل املزيد الفائض من األشياء‪ .‬أنت وعائلتك وما جتنونه معكم حلاجة اليه‬
‫وبمحبة‪ ،‬تسكنون بيت ًا ال يعود صغري ًا كام قد نتوهم بل ٍ‬
‫كاف ‪ .‬والبيت الكبري‬
‫يتيه فيه األشخاص عن بعضهم‪ ،‬وتتيه عنهم األشياء وهي تزداد وتتعدد كي‬
‫متأل الفضاءات وتشغل اجلدران‪ ،‬تتباعد إثر تباعد اجلدران‪ ،‬فالفضاءات‬
‫الواسعة تعربها خطوات األشخاص العديدة والطويلة وهم يتوزعون يف‬
‫الغرف والصاالت‪ ،‬حيث فضاء اجللوس ومشاهدة التلفاز‪ ،‬وفضاء آخر‬
‫يلهو فيه األطفال‪ ،‬وفضاء ثالث جتالس فيه سيدة املنزل جليساهتا‪ .‬فضاء‬
‫اجللوس هو اآلن فضاءات‪ ،‬وفعالية اجللوس هي اآلن متعددة وخمتلفة‪،‬‬
‫ويومك هنا مفتت وممدود يف عديد الفضاءات وإتساعها‪ ،‬وجملس العائلة‬
‫مفتت هو اآلخر‪ ،‬فللرجال جملسهم ولألطفال وللسيدات‪ ،‬والعائلة موزعة‬
‫بني متاحات اجللوس واإلستعامل ومتعدداهتا من الصاالت العديدة‬
‫والواسعة‪ ،‬فالبيت كبري واألشياء التي تسكنه كثرية وكبرية‪ ،‬النافذة والباب‬
‫واجلدار ومربع البالطة وشاشة التلفاز وطاولة الطعام وخزانة الثياب‬
‫والكريس اهلزاز‪ ،‬كل األشياء هنا كبرية‪ ،‬ويصبح البيت وهو يتسع لك‬
‫ولعائلتك وللمزيد من اآلخرين يقصدونك يوما ما‪ ،‬واألشياء أيض ًا‪ ،‬ماتلح‬
‫احلاجة اليه اآلن وما حيتمل أن تقصده يف القادم من األيام‪ ،‬يصبح البيت‬
‫الكبري أفق ما تأمل ويأملون ولن يكون كبريا وحسب بل فائض ‪.‬‬
‫لك أن تسكن ركنا يف العامل‪ ،‬يسعك وجتد طريقك اليه يف هدوء وصرب‪،‬‬
‫وليس لك أن تسكن بقية العامل‪ ،‬يف بقية العامل يسكن ما يتمكن منه اآلخرون‪.‬‬
‫‪26‬‬
‫علوق‬

‫تعودت أن جتلس قبالة زوجها‪ ،‬شاغلة كرسيها الركني أمام طاولة‬


‫الطعام البيضاء املستطيلة‪ ،‬تتسع أمامها نافذة عريضة مط ّلة عىل حديقة مربعة‬
‫تتوسط مساحة البيت‪ .‬عندما سافر زوجها يوم ًا وشغلت كرسيه عىل الغداء‪،‬‬
‫مرة دعوة زوجها اىل أحد مطاعم‬
‫مل جتد سبيال اىل فهم ما تأكل‪ .‬وحني تلقت ّ‬
‫املدينة‪ ،‬قصدت موضعا قصي ًا يف ركن الصالة‪ ،‬يمتد يف مرمى نظراهتا فضاء‬
‫فسيح اىل اجلدار الزجاجي املعتم يف واجهة املطعم ‪ ،‬وقد إختارت أن تدلف‬
‫اىل ذلك الركن القيص يف كل عوداهتام القليلة اآلتية‪ .‬وعندما تزور بيت‬
‫أقارهبا ومتيض ليلتها عندهم أحيانا‪ ،‬تصحو مبكرة عند الفجر وهي تستغرب‬
‫أن جتد نفسها يف بيت غريب وليس يف بيتها كام تأمل‪ .‬البعض منا عندما يغري‬
‫مكان طعامه يفتقد طعامه‪ ،‬وعندما يغري مكان نومه يفتقد نومه‪ ،‬وعندما يغري‬
‫بعض آخر مكان جلوسه يفتقد هدوءه‪.‬‬
‫نعلق يف املكان فال نغادره‪ ،‬وإذ نغادره نغادر الكثري من العالقة مع الفعل‬
‫الذي يسعه ذلك املكان‪ ،‬فال نعود نقوى عىل الفعل بذات القدرة والرغبة‬
‫والوضوح‪ .‬نختار املكان بمحض إرادتنا أو خيتارنا هو و نعلق فيه‪ ،‬وإذ‬
‫نغادره نغادر إختيارنا ملكان مل يعد حمايد ًا فيصعب علينا أن نغادره ‪ .‬املكان‬

‫‪27‬‬
‫يف سعة هذا العامل هو مكانك الذي تنتمي اليه‪ ،‬وهو مرصدك الذي يأتيك‬
‫بصورة العامل واألشياء‪ ،‬وإذ تغريه تتغري صورة العامل من حولك ويتغري‬
‫العامل‪ ،‬ويقع التشويش يف معلوماتك البرصية‪ ،‬وحيل التيه يف املعرفة‪ ،‬وكيف‬
‫للوعي واحلس أن يقعا عندما ال يكون لك مرصد ترقب منه سواك‪ ،‬فيكون‬
‫هو الثابت الذي يبرص املتغريات من حوله‪ ،‬يف صورة يتيحها املرصد لعامل‬
‫يدون كتاباته وجتلياته يف مديات تلك الصورة‪ .‬وهكذا تبنى حياتنا اليومية‬
‫ّ‬
‫يف عديد األمكنة‪ ،‬أحدها يؤدي اىل اآلخر‪ ،‬مكان بسعة ما وزاوية رصد ما‬
‫يؤدي اىل مكان آخر بسعة أخرى وزاوية رصد خمتلفة ‪ .‬أمكنة بمعطيات‬
‫ولقى ذهنية وحسية‪ ،‬هي التي جتتمع لتؤدي صورة العامل‪ .‬وقد يبدو املكان‬
‫املجرد فكرة مؤسسة ومنظمة لإلدراك‪ ،‬غري إن املهم يف األمر هو األمكنة‬
‫موضوع التلقي واملعارشة والعلوق‪ ،‬تلك التي تقدم للعقل معلوماته احلسية‬
‫يدون تقرير الوعي بالوجود ‪.‬‬
‫والذهنية وهو ّ‬
‫نعلق يف املكان ويعلق فينا‪ ،‬حيمل سكان القرية قريتهم حني حي ّلون يف‬
‫املدينة‪ ،‬وحيمل سكان املدينة مدينتهم حني يسكنون القرية‪ .‬يف احلي الذي‬
‫أسكن‪ ،‬شيخ وعجوز يسكنان رصيف الشارع ‪ ،‬جيمعان بعض األحجار‬
‫وقطع ًا من اخلشب اىل بعضها وفوق بعضها‪ ،‬ليسندا وسادة خشبية تسعهام‪،‬‬
‫يغطياهنا بفراش سميك رث‪ ،‬وجيلسان أو يرقدان فوقها‪ ،‬إن يف الصباح وإن‬
‫يف املساء خارج سور البيت‪ ،‬حيث أصادف أحيانا حضور من يزورمها من‬
‫أوالدمها وصغارهم‪ ،‬جيلسون قرهبام عىل حافة الوسادة اخلشبية وقامشتها‬
‫الثقيلة البالية ‪ .‬شيخ وعجوز‪ ،‬يبدو إهنام يرثان أمكنة القرية التي علقا فيها‬

‫‪28‬‬
‫وعلقت يف أجسادهم‪ ،‬يأتيان هبا اىل املدينة ويسكناها أرصفة الشوارع‪ ،‬مها‬
‫ورثة بيوت القرية التي تسكن فضا ًء مفتوح ًا متصال بالسامء‪ ،‬يرقب املارة من‬
‫الناس واحليوانات‪ ،‬ال يألفان أن يركنا اىل بيوت املدينة‪ ،‬حيث األسوار التي‬
‫تعزهلا عن الرصيف والشارع‪ ،‬وألن الصيف عاد من جديد ‪ ،‬ترامها وقد‬
‫عادا اىل جلستهام تلك‪ ،‬يمضيان النهار ومها يلوذان بظالل صغرية تصنعها‬
‫مظلة متهرئة من مشبكات القصب الكالح‪ ،‬ويأيت املساء فيقضيان نومتهام‬
‫يف العراء ملتصقني‪ ،‬وعندما يغفوان ومتر اىل جوارمها العجالت‪ ،‬هتدّ ىء‬
‫من رسعتها وختفت أضواءها‪ ،‬التريد إيقاظهام‪ ،‬إن لنومهام سطوة تربك‬
‫احلركة يف الشارع وهو يمر لصقهام هادئ ًا مضطرب ًا خج ً‬
‫ال‪ ،‬الشارع سكنهام‬
‫وليس معرب ًا لآلخرين كام تدعو اىل ذلك خمططات املدينة ‪ .‬ونحن أيضا ورثة‬
‫حكايات أمكنة القرية‪ ،‬نسكنها يف بيتنا اجلديد وسط املدينة‪ ،‬إذ نرتقي الس ّلم‬
‫يف ليايل الصيف اىل سطح ترطب برذاذ املاء منذ العرص كي ننام هناك‪ ،‬تصل‬
‫عيوننا أضواء النجوم‪ ،‬وتلك هي سليقة الريف‪ ،‬النوم عىل سطوح املنازل‪،‬‬
‫وكيف ملن أمىض طفولته يف القرية أن يقر اىل غرف بيوت املدينة ويغفو حتت‬
‫سقوفها القريبة الدافئة‪.‬‬
‫بودي لو أعلق يف كل يشء‪ ،‬كل مكان‪ ،‬أدخل الغرفة كي أرقب جدراهنا‬
‫وألواهنا وأشياءها‪ ،‬وأميض وقتا طوي ً‬
‫ال فيها‪ ،‬أدخلها ذاكريت وعزلتي‪،‬‬
‫وأعيد جتليتها يف هدوء يكشف عنها و تكشف عنه وهي تتكشف فيه‪.‬‬
‫أدخل الكتاب‪ ،‬وأقرأه كلمة بعد كلمة‪ ،‬أعيد قرائته وهو يعيد حضوره يف‬
‫كل قراءة جديدة‪ ،‬أقرأ اجلملة وأعيد قراءهتا‪ ،‬أتلوها‪ ،‬أنصت لكلامهتا وهي‬

‫‪29‬‬
‫تدخل أذين‪ ،‬والكلمة أتلفظها من جديد‪ ،‬حرفا بعد حرف‪ ،‬أعلق فيها‪ ،‬يف‬
‫الكلمة‪ ،‬يف اجلملة‪ ،‬يف الكتاب‪ ،‬يف الغرفة‪ ،‬أعلق يف مدينتي‪ ،‬يف العامل‪ .‬أي‬
‫عالقة عميقة وحازمة وهنائية هي العلوق‪ ،‬تلك الكلمة التي يبهرين إكتشافها‬
‫وهي تقود خطاي اىل األشياء واملدينة والعامل‪ .‬العلوق بقاء مديد يف األمكنة‪،‬‬
‫وزمان يساكنك العامل يف صمت يعرب الساعات واأليام‪ ،‬علوق ينبع من‬
‫علوق‪ ،‬وعلوق يؤدي اىل علوق‪ ،‬ينقذنا من زمحة األشياء‪ ،‬من تواليها‪ ،‬ومن‬
‫تسارع العامل ‪ ،‬يعيد لألشياء ثباهتا‪ ،‬وللوجوه مالحمها‪ ،‬فال تغيب يف تعدد‬
‫جتلياهتا‪ ،‬خارج العلوق هيدر العامل حتوالته التائهة دونام ضفاف ‪.‬‬
‫يف رواية (غرفة مثالية لرجل مريض) للروائية اليابانية (يوكو اوغاوا)‬
‫تعلق بطلة الرواية يف غرفة يف مشفى حيث يرقد أخوها منتظرا هنايته بصمت‪،‬‬
‫إهنا تقول (هنا ال أشعر بوطأة الوقت اذا مل أجد ما أفعله‪ ،‬ففي وسعي البقاء‬
‫لساعات من دون أن أفعل شيئا‪ ،‬إذ يكفي أن أراقب أخي مستمتعة بنظافة‬
‫غرفته التي ال تضاهى لكي أشعر بالرىض)‪ .‬كانت تتلمس نظافة السطوح‬
‫واألشياء‪ ،‬تبرص بريقها وصفاء ألواهنا‪ ،‬وهي تركن اىل فضاء صغري مألوف‪،‬‬
‫يكفيها عن عامل مضطرب خارج الغرفة‪ .‬وقد يعلق البعض يف أمكنة ملتبسة‬
‫تقود خطواته اىل احلرية‪ ،‬مثل بطل رواية (املقربة) للروائي العراقي (حممد‬
‫شاكر السبع) ‪ ،‬وهو يقصد مدينة النجف لرشاء قطعة أرض يف مقربهتا ‪،‬‬
‫تكون مالذ ًا مأمو ً‬
‫ال جلسده البارد‪ ،‬غري إنه يعلق هناك فال يقوى عىل مغادرة‬
‫املدينة‪ ،‬كام لو كان ينتظر رقدته األخرية‪ .‬ليست الغرف كلها عىل أية حال‬
‫تدعونا لنعلق فيها‪ ،‬وال حتى املدن كلها‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫صغار ًا كنا ‪ ،‬نصنع بيوتا من وسائد‪ ،‬نرتبها حولنا‪ ،‬تصطف جوار بعضها‬
‫وتتعاىل‪ ،‬تاركة فتحة صغرية نعربها اىل الداخل‪ ،‬حيث نجلس هناك يف فضاء‬
‫صغري حياذينا‪ ،‬تدور حوله الوسائد ‪ ،‬ونسميه بيت ًا‪ ،‬نصنعه ونعلق فيه وسط‬
‫فضاء الغرفة الواسع العريض‪ ،‬الذي نحل فيه ونشعر إنه كبري وأكثر من‬
‫حاجتنا اىل مانسميه بيت ًا‪ ،‬صغار ًا كنا ‪ ،‬ومانفعله نتاج شعور يرقى يف القيمة‬
‫اىل اللزوم ‪ ،‬ينبىء بام نحلم به وما نحن يف حاجة اليه‪ ،‬وهو ينجيل يف الزمان‬
‫القادم عن مؤسسات من الدور واألبنية والسكنى‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫بيوت‬

‫مسا ًء‪ ،‬وبعد أن تناولت قدح الشاي الدايفء‪ ،‬تذكرت صوت اهلاتف‬
‫الذي فاجأين وكنت أجول يف زمحة السوق ظهرية ذاك النهار‪ ،‬يسألني عربه‬
‫أحد األصدقاء أن أجيب دعوته اىل جولة يف شوارع املدينة‪ ،‬نتحاور خالهلا‬
‫عن مالمح البيوت التي ترتبع مساحات الفضاءات‪ ،‬وترسم جهد مالحمها‬
‫صورة للعامرة جديدة ومتحولة‪ .‬وافقت يف احلال‪ ،‬مقرتحا أن نبدأ اجلولة‬
‫ال‪ ،‬وتلمس سطوحها وتلقي خطاهبا واإلنحناء‬ ‫يف ترقب البيوت القديمة أو ً‬
‫جلالل حضورها‪ ،‬وقد عربت عقود ًا من السنني يف رفقة أهنار املدينة‪ ،‬ويف‬
‫تلقي هنارات شمسها الصيفية احلارقة ‪ ،‬وهي بداية أجدها منفذا إلدراك ما‬
‫هو جديد من بيوت املدينة ‪.‬‬
‫ـ ما رس تعلقك بام هو قديم ؟ وما الذي تبقى لدى هذه البيوت لكي‬
‫تقوله ؟‬
‫ـ ال خيلو يشء من قول‪ ،‬أما عن هذه البيوت فلدهيا الكثري‪ ،‬واملهم يف‬
‫األمر أن نستمع لذلك القول ونقرأ كلامته ‪.‬‬
‫إن أول ما هيمني يف هذه البيوت والتي ننسبها اىل طراز العامرة التقليدية‬
‫هو خضوعها للتقاليد‪ .‬إذ إن العامرة التي تتأسس عىل تقاليد معامرية ختصها‬

‫‪33‬‬
‫يتاح هلا أن تبني أسلوب ًا يميزها‪ .‬وعندما يكون مصدر هذه التقاليد نوايا‬
‫املجتمع املحتكمة اىل فكر وعادات وقيم هلا حضورها وتدخلها يف سلوك‬
‫األفراد وتنظيم عالقاهتم االجتامعية‪ ،‬كام هو احلال يف التقاليد التي نفذت اىل‬
‫بنية البيوت ومالحمها‪ ،‬فإن العامرة يف هذه احلال تكون صورة مقبولة ومنتمية‬
‫اىل جمتمعها‪ .‬وليس أقل من عالقة األنتامء مدخ ً‬
‫ال لقبول األشكال املعامرية‬
‫وألفتها وإدراك رسالتها‪ ،‬لكي تكون يف عداد ما هو مجيل مما تتلقاه األبصار‬
‫كل يوم‪.‬‬
‫البيوت التقليدية نتاج العقل الذي يؤسس لتقاليد يقرتحها‪ ،‬ويعتمدها‬
‫يف إنتاج موضوعات اخللق احلضارية واإلبداعية‪ ،‬والعامرة إحداها ‪ ،‬يكون‬
‫من دواعي الثقة واإلنحياز اىل تلك التقاليد‪ ،‬العمل عىل تكرار إستحضارها‬
‫والعودة اىل إستشارهتا‪ ،‬كام يتجىل يف ظاهرة العودة والتكرار واملامثلة التي‬
‫حتتفظ هبا نتاجات العامرة التقليدية‪ .‬وهي ظاهرة ليست قليلة األمهية يف‬
‫إشارهتا اىل قبول هذه التقاليد وتأكيد عوامل نجاحها وتراكم اخلربة يف‬
‫التوصل اىل املثمر فيها‪.‬‬
‫مع التفكري واملامرسة التقليديني كان اإلعرتاف املجتمعي واملعريف بقيمة‬
‫وجود التقاليد وإحرتام سطوهتا‪ ،‬هو بعض مالمح املحافظة التي وسمت‬
‫املجتمع التقليدي‪ ،‬التي خلفت ما يمكن أن يحُ كى وما يمكن أن ُيستعاد يف‬
‫هيأة مميزة‪ .‬والبيوت التقليدية هي بعض املدينة التقليدية‪ ،‬وتلك مدينة مفقودة‬
‫ضاعت حتت معول التجديد‪ ،‬وتوزعت بقايا أشالئها املتشظية خلف وجوه‬
‫الشوارع اجلديدة‪ ،‬التي ما برحت سهامها تنفذ عرب نسيج املدينة العمراين‪،‬‬

‫‪34‬‬
‫حممولة عىل عجالت متسارعة عىل مرأى املارة الذين تغزوهم الدهشة‪ .‬غري‬
‫إن احليوية التي نحلم أن حترض عىل الدوام ‪ ،‬تكمن يف أن ينمو جديد املدينة‬
‫من قديمها‪ ،‬وأن جتتمع األزقة امللتوية بعد أن متر أمام البيوت اىل الساحات‪،‬‬
‫وأن حتبو أقدام املارة حانية عىل أحجار األرصفة وهم يمرقون أمام األبنية‬
‫وعرب األسواق‪ ،‬وأن تبقى العجالت بعيدة عن املمرات املكتظة‪ ،‬يتاح هلا إثر‬
‫ذلك أن تنطلق مرسعة‪ ،‬وهي مالمح تفتقدها مدينتنا احلارضة ‪.‬‬
‫ـ أنت كام أرى تستعيد حلم املدينة القديمة‪ ،‬وهي مل تعد سوى خراب !‬
‫ـ خراب ! كل األشياء تشيخ وكل املدن تشيخ‪ ،‬ويف مدينة كالتي نأوي‬
‫إليها‪ ،‬حيث البيئة القاسية بشمس صيفها الالهبة ورياحها الصحراوية‬
‫املرتبة حينا والدبقة حين ًا آخر‪ ،‬وبأمطارها التي تداهم البيوت وسقوفها‬
‫املطلية بالطني ومزاريبها املسدودة‪ ،‬ال أجد سبي ً‬
‫ال أمام اجلدران كي حتتفظ‬
‫بربيق طابوقها عىل الرغم من حثيث جهدها لكي حتتمي‪ ،‬وهي تتقارب‬
‫ويظلل بعضها البعض االخر‪ .‬ومع إن البيوت تبني جدران غرفها العلوية‬
‫املطلة عىل الزقاق بسطوح خشبية باردة مزخرفة‪ ،‬ومزينة بزجاج ملون ذي‬
‫إرشاقات المعة ودافئة يف فضاء الغرفة‪ ،‬وتلك بعض عطايا الشناشيل التي‬
‫تربز عن اجلدران‪ ،‬مؤدية عناية األبنية بإلقاء ظالهلا الباردة عىل وجوه املارين‬
‫يف األزقة ظهرية النهارات الصيفية املدجنة‪ ،‬ومع إن اجلدران الطابوقية‬
‫تثخن وتتامسك وتسد املنافذ يف املفاصل بني الطابوق باجلص أمام سيول‬
‫املطر‪ ،‬غري إن السنني متر واملدينة تشيخ أمام عيون سكاهنا املتقاعسني عن‬
‫ملسة عناية‪ ،‬إذ يعوزنا جهد الصيانة ونزعة احلفاظ أم ً‬
‫ال يف بقاء املدينة وجتديد‬

‫‪35‬‬
‫شباهبا‪ .‬وما خراب املدينة إال هجاء لسكاهنا وهم يرقبون أفول اجلامل‬
‫ومغادرة رعاياه من ملسات كانت ترقد عىل سطوح األبنية وجدراهنا ‪.‬‬
‫ـ عن أي مجال تتحدث ؟‬
‫ـ ‪ ....‬مجال احلرفة وجهد الصنعة والعناية وثمرة زمان العمل الطويل‬
‫والعنيد‪ ،‬حيث يغزل احلريف والب ّناء السطوح املعامرية‪ ،‬عاملني اليد والفكر يف‬
‫شكل املادة البنائية وتفاصيل مفرداهتا‪ ،‬باحثني عن قدرهتا عىل بلوغ الشكل‪،‬‬
‫حيفرون يف اجلدران الذوق واخلربة واملعرفة‪ ،‬وخيزنون احلس الرهيف‪،‬‬
‫ويصنعون احلضور يف األشياء‪ ،‬ال يغادروهنا إال اىل بقاء‪ .‬عناية ومهارة حرفية‬
‫نفتقدها اليوم وقد غابت ليس عن اجلدران فحسب إنام غابت بدء ًا عن‬
‫العقول واألصابع ‪.‬‬
‫ـ نحن اآلن كام تعلم يف زمان ما بعد احلداثة‪ ،‬زمان مجاليات الرسعة‬
‫والتحول والتعدد‪ ،‬أين منا ما حتلم به !‬
‫املنظرينصالحيةالطرزاألقليميةألنمتارسحضور ًا‬ ‫ـيقرتحالبعضمن ّ‬
‫ناجح ًا ومسامهة خالقة يف زمن عامرة ما بعد احلداثة‪ .‬وهي طرز متثل جتارب‬
‫معامرية ناجحة يف جمتمعاهتا ومقبولة بدليل عمق حضورها و ُبعد زمنيته‪.‬‬
‫ويف بنية مدينة صغرية وتقليدية هلا عامرة متيزها مثل مدينتنا‪ ،‬يعمل سوانا‬
‫عىل صيانة بقاياها وعمل املزيد لتأكيد خصوصية عامرهتا‪ ،‬يف نية عرصنة‬
‫بنيتها وإعادة توظيفها إلستعامالت جديدة‪ ،‬ليس أقل من إعتامدها فرصة‬
‫لفضاءات املتعة والرتفيه‪ ،‬وربام السياحة لسكان املدينة وزوارها‪ .‬ويف مثل‬
‫هذا احلال يكون من املالئم إحتفاظ املدينة بإيقاع هادىء‪ ،‬وهي تستضيف‬

‫‪36‬‬
‫حركة السابلة وتقدم جتلياهتا يف توافق مع حركة توافدهم‪ ،‬ليكون متاح ًا هلم‬
‫التمعن يف السطوح البنائية وتذوق نتوءاهتا ومجال زخارفها‪ .‬إن عقل مابعد‬
‫احلداثة الذي تذكرين به وهو يسود زماننا احلايل‪ ،‬يفتح أبواب ًا واسعة للمزيد‬
‫من التنوع والتعدد يف األفكار‪ ،‬وليس عصي ًا قبول ما هو قديم عندما ننجح‬
‫يف إعادة صياغته وتأويله‪ ،‬كي يديم احلياة تواص ً‬
‫ال مع ما هو جديد‪ .‬وهذا‬
‫أحد وجوه ما بعد احلداثة من دون شك وليس كل حكايتها كام يمكن أن‬
‫نتذكر‪ .‬إن اإلحتفال بام هو قديم ومتوارث والوصول اىل جتديده وإحيائه هو‬
‫مصدر شعور بالسعادة‪ .‬إذ نعاين مجيع ًا احلنني ملايض األمكنة‪ ،‬حيث تسكن‬
‫الذكريات وصور زماننا املفارق وبقايا وجوه الرفقة‪ .‬وليس أقل من ذلك‬
‫دعوة اىل التمكن من املايض‪ ،‬يف إعادة إستحضاره وإيوائه يف املستقبل‪ .‬ومن‬
‫هنا تتولد رغبتنا يف أن حتتفظ املدينة بعامرهتا وتستعيد يف اجلديد من أبنيتها ما‬
‫هو قديم ليتجدد‪.‬‬
‫ـ وهل جتد ذلك من مهامت البيوت اجلديدة يف املدينة ؟‬
‫ـ إن أي مبنى جديد حيرض لكي يشغل جزء ًا من املدينة حيتله لعقود قادمة‪،‬‬
‫يلزمه أن يعي عواقب حضوره‪ .‬وليس أقلها نيته أن يكون مؤثر ًا ومتحاور ًا‬
‫مع جماوراته‪ ،‬ومسامها يف جتديد اخلطاب الذي تدعو اليه ثقافة العامرة‪ .‬ويف‬
‫مدينة ذات إبداع ومبدعني يرقبوهنا كل يوم ويقرأون فضاءاهتا ومبانيها يف‬
‫نصوصهم األدبية والفنية‪ ،‬ال شك أن تواجهك الدعوة اىل التجديد لكي‬
‫يظهر للمدينة وجه آخر تلتذ بقراءته النصوص‪ .‬مدينة متحولة تتولد عنها‬
‫قصائد وقصص وحكايات‪ ،‬ودون ذلك حيل بكلامتنا وبعيوننا الظمأ ‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫إن عىل مهندس العامرة أن يعي حاجة اإلنسان اىل إستدعاء املتعة يف‬
‫حضور األبنية‪ ،‬وهي املوجودات األكثر قرب ًا من إنساهنا واألكثر هيمنة يف‬
‫الوجود والبقاء‪ .‬وجتاه حلم القصيدة واحلكاية‪ ،‬علينا أن نخلق األشكال‬
‫ذات املعلومة احلسية اجلديدة‪ ،‬حيث إن البيوت التي ما برحت تتوالد حتاول‬
‫ذلك ولكن بتخبط‪ ،‬يعجز يف أمثلة كثرية عن إجرتاح طراز خمتلف ومتميز‪.‬‬
‫ثمة والشك نزوع اىل إدخال مواد بنائية جديدة وما يتبع ذلك من لغة‬
‫خمتلفة‪ ،‬غري إهنا تربك لغة العامرة التقليدية‪ ،‬وتنسى سعي ًا قيميا يلزم عقد‬
‫التواصل مع ما هو قديم وموروث‪ .‬وربام أتاح املناخ الذهني املعارص أفقا‬
‫حلرية التغيري التي تأذن بام حيدث ‪ ،‬مما يصعب عىل أحدنا أن يعارض ما هو‬
‫موجود بسهولة‪ .‬ولكن أمام هذا السيل من توالد البيوت‪ ،‬نحن يف حاجة اىل‬
‫يقظة إلتزام وليس اإلنجرار اىل تقديم كل ما خيطر يف بال‪.‬‬
‫ـ ‪.........‬‬
‫عندما رن اهلاتف من جديد‪ ،‬كنت ما أزال مستغرقا يف خيااليت ‪ .‬صديقي‬
‫من جديد وقد وجدتني متحمسا لكي ألتقيه يف الغد ‪ ،‬يساورين قلق مل أحتسبه‬
‫من قبل‪ ،‬ترى ما الذي سيقوله هذا الصديق عن عاشق معمر للطابوق‬
‫البرصي مثيل ؟‬

‫‪38‬‬
‫بيوت جديدة‬

‫البيوت مالذ االنسان يف هذا العامل‪ ،‬نمط معامري بالغ احلضور يف‬
‫املدينة‪ ،‬تشغل حيز ًا كبري ًا من مساحتها التخطيطية‪ ،‬حتفظ لغتها وأساليبها‬
‫املعامرية‪ ،‬أو تشيع فيها طراز ًا جديد ًا‪ ،‬كام هو احلال يف مدينتي خالل العقود‬
‫الثالثة األخرية‪ ،‬حيث غلبت عىل بيوهتا اجلديدة مالمح مل يسبق هلا شيوع‪،‬‬
‫واجهات عالية معمدة‪ ،‬جمهزة برشفات واسعة مميزة‪ ،‬وإستعامل مواد بنائية‬
‫تقرتح مفردات لغة معامرية مل تكن متداولة يف موروث عامرة املدينة‪ .‬حترض‬
‫أجسادا عالية‪ ،‬يشغل مساحتها األمامية طابق علوي يشكل مع الطابق‬
‫األريض كتلة ذات هيمنة شكلية‪ ،‬وحضور نصبي‪ ،‬بشكل خاص يف بيوت‬
‫تسكن شوارع عريضة ذات حركة سري كثيفة‪ ،‬تؤثر يف حضور املبنى املفرد‬
‫وهو ينحو اىل األستعراض متظاهر ًا بمالمح مثرية‪ ،‬ليكون رمز ًا معامري ًا يف‬
‫موضعه‪ .‬وعوض أن يكون بعض مشهد الشارع أو الزقاق‪ ،‬كام هو حال‬
‫البيت التقليدي‪ ،‬حياول البيت اآلن النفاذ اىل ذاكرة املدينة بوصفه مكون ًا‬
‫مهيمن ًا يف السياق احلرضي‪ .‬يالحظ إحتفاء هذه البيوت بالعمود‪ ،‬عنرص ًا‬
‫معامري ًا شاع حضوره يف واجهاهتا‪ ،‬يتعدد ويتكرر ويتطاول متعالي ًا‪ ،‬يبدأ‬
‫بقاعدة وينتهي بقمة‪ ،‬يعالج سطحه اخلارجي بأساليب زخرفية وتشكيلية‬
‫خمتلفة‪ ،‬ومن النادر أن خيلو بيت جديد من عدد من األعمدة‪ ،‬وهي حتمل‬
‫‪39‬‬
‫سقف ًا بارز ًا عن كتلة املبنى‪ ،‬يظلل فضاء املرآب أو الرشفات الناتئة وبعض‬
‫السطوح العمودية‪ ،‬فيقلل من أرضار أشعة الشمس يف الشهور احلارة من‬
‫السنة‪ .‬وكان لغلبة حضور األعمدة يف واجهات هذه البيوت أن أصبحت‬
‫من ميزاهتا‪ ،‬حتى إن ثمة بيوت ًا تقليدية قديمة أعيد ترميمها وجتهيزها‬
‫باألعمدة املتطاولة نزوع ًا اىل حماكاة ماهو شائع يف كل بيت جديد‪ُ .‬يعدُّ‬
‫ذلك تبسيطا يؤثر يف القيمة التعبريية التي يمكن أن جيهزها العمود لواجهة‬
‫املبنى‪ ،‬بوصفه عنرص ًا معامري ًا ذا دالالت متعددة‪ ،‬تؤكد التزام ًا بالثبات‬
‫األنشائي‪ ،‬وإستعادة ملكون أسايس يف العامرة يف خمتلف حتوالهتا ‪ .‬كام حيظى‬
‫الباب يف هذه البيوت بإهتامم خاص‪ ،‬فيكون هو اآلخر مزخرف ًا بنقوش‬
‫معدنية وخشبية وزجاجية ملونة‪ ،‬يتعاىل فيبلغ مقياس ًا مديني ًا وال يعود حمض‬
‫باب بحجم وشكل متوقعني‪ ،‬وربام إحتل اجلزء العلوي منه رشفة أمامية‬
‫حماطة بالعناية ‪ .‬ويالحظ إن اإلهتامم اإلستثنائي بالباب هو درس موروث‬
‫من البيوت التقليدية ذات الفناء الوسطي‪ ،‬غري إن الباب يف البيت التقليدي‬
‫كان حيىض بالعناية بوصفه عنرص ًا متفرد ًا يف واجهة البيت‪ ،‬ال تنافسه يف‬
‫احلضور عنارص أخرى‪ ،‬كام هو احلال يف البيوت اجلديدة ‪ ،‬حيث السطوح‬
‫البارزة والرشفات والسقوف املعمدة ومعاجلات إهناء السطوح اخلارجية‬
‫بأشكال وألوان شتى‪ ،‬تعرض حضور الباب اىل ماينافسه ويقلل من هيمنته‬
‫عىل شكل البيت‪ .‬ومتثل الرشفات مفاصل مكانية تبارش عالقة الفضاءات‬
‫الداخلية مع الفضاء اخلارجي‪ ،‬حيث يمكن ملن يأوي اىل الرشفة أن يتعامل‬
‫مع ما حوله بطريقة أكثر وضوح ًا وحتدد ًا من أن يسرتق النظر من خالل‬

‫‪40‬‬
‫نافذة وحسب‪ .‬ويف حضور الرشفات حماولة أخرى إلستعادة حلم البيت‬
‫التقليدي ذي الشناشيل‪ ،‬غري إن الشناشيل كانت توفر إتصا ً‬
‫ال برصي ًا من‬
‫الداخل نحو اخلارج من دون التمكن من فعل إسرتاق معاكس‪ ،‬وهو أمر‬
‫حيفظ ملن يف الداخل الكثري من اخلصوصية واإللتفاف عىل طقس داخيل غري‬
‫مستباح‪ .‬وتلك إمكانية ال تتوفر عليها رشفات البيوت اجلديدة‪ ،‬مما أدى اىل‬
‫ندرة إستعامل هذه الرشفات‪ ،‬وإستحال وجودها إثراء للواجهة بمكون‬
‫معامري يمتلك قدرات تعبريية إفتقد للكثري منها‪ ،‬بسبب غياب التوظيف‬
‫املتوقع واملمكن لفضاء الرشفة ‪.‬‬
‫إن غياب الطراز التقليدي يف التجارب املعامرية احلديثة‪ ،‬أدى اىل تنوع‬
‫أشكال البيوت اجلديدة يف جتارب فردية ملهندسني وبنائني منقطعة عن ما‬
‫تقدمه خربة العامرة التقليدية‪ ،‬وهو تعدد يف األشكال جعل من الصعب‬
‫عليها أن تقدم قي ًام طرازية واضحة وحمددة‪ ،‬وكان غياب مادة الطابوق‬
‫وتغلب مادة احلجر ومقرتحاهتا يف تفاصيل معامرية غريمألوفة‪ ،‬قد ألبس‬
‫البيوت ثوب ًا طرازي ًا يلهج بكالم خيتلف عن هلجة عامرة املدينة التقليدية‬
‫وكالمها‪ .‬ومع إن التحوالت الطرازية يف العامرة حالة متوقعة ومقبولة‪ ،‬غري‬
‫إن املهم يف األمر أن تكون هذه التحوالت ذات عالقة مع الطرز السابقة‪،‬‬
‫وأن تقع حتت إمكان السيطرة عىل تنويعاهتا‪ ،‬من أجل تغيري ال يؤدي اىل‬
‫تنويعات عاجزة عن إيفاء تنظيم جديد ملكونات الشكل‪ ،‬أكثر توافق ًا مع‬
‫نمط احلياة الذي تعيشه العائلة‪ .‬وبقصد الدفاع عن النزوع اىل التعددية‪،‬‬
‫نحرص أن يكون التعدد يف األساليب نتاج فعل إبداعي معتنى به ‪ ،‬وبجهود‬

‫‪41‬‬
‫مهندسني معامريني متخصصني‪ ،‬أمال يف حتوالت للطراز تنحو اىل تأكيد‬
‫اهلوية املعامرية يف شكل آخر ‪.‬‬
‫إن إنشاء بيت جديد واقعة يمكن أن حتدث يف هدوء‪ ،‬واملهم يف األمر‬
‫هو أن يقدم هذا البيت منجز ًا إبداعي ًا منتمي ًا اىل سياق معامري‪ ،‬يكون يف‬
‫حضوره ما يديم هذا السياق‪ ،‬ويؤكد القدرة عىل اإلبداع والتجديد ‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫عمارة املدينة اآلتية‬

‫يف إنتظار زمان ٍ‬


‫آت وصورة أخرى مأمولة للمدينة‪ ،‬هل نبدأ من تأمل‬
‫عامرة املدينة التي نريد‪ ،‬وأن نقرتح ما يمكن لتلك العامرة أن تدور حوله ‪،‬‬
‫من عالقة مع املكان‪ ،‬أو اإلنفعال بمعطيات الزمان‪ ،‬أو مساءلة اإلنسان عن‬
‫عامرة تلتزم عىل الدوام بأن تبني له مأواه‪ .‬وإذ يتاح لنا أن نبني بيوتا ً أو أن‬
‫ندعو اآلخرين ألداء دور يف بناء املدينة‪ ،‬هل يمكن إدراك الكيفية التي نريد‬
‫لبيوتنا ومدينتنا أن تكون‪ ،‬وأن نعي مهمتنا يف الوصول اىل خطاب يقرتح‬
‫صورة ملستقبل عامرة املدينة ‪ ،‬قبل أن تغمرنا مدينة غريبة تنمو من حولنا‪،‬‬
‫من دون أن يتاح لنا التدخل يف صياغتها‪ .‬ويصبح من الصعب آنذاك‬
‫أن نبادهلا األلفة‪ .‬وال يغري من احلال عندئذ ما يمكن أن نبادر به من رثاء‬
‫و مقاضاة لعامرة تفتقد اىل جمسات تلقي البيئة من حوهلا‪ ،‬وحماورة الرتاث‬
‫املعامري الذي ولدت يف أحضانه ‪.‬‬
‫إن ما نويص به أنفسنا هو احلذر من أن ندفن يف ما هو جديد كل ما هو‬
‫قديم‪ ،‬ونلتزم بأن نستولد من املوروث ما هو قادم يف كل والدة للعامرة‪،‬‬
‫حتسب ًا من تدجني مولود غريب يأيت من عامل آخر‪ .‬وأمام خطاب نقدي‬
‫يتقاسمه من يذهب اىل إستعادة الرتاث أو من يدعو اىل اإلنفتاح عىل‬

‫‪43‬‬
‫نتاج زمان العوملة‪ ،‬وأمام سيل من األشكال املعامرية العديدة بني متوقع‬
‫أو غريب‪ ،‬علينا أن نستحرض من جديد مهمة العامرة يف بناء عالقة مع ما‬
‫حوهلا‪ ،‬ملتزمة باإلنتامء اىل بيئتها واىل واقع القيم األخالقية واحلضارية‬
‫لإلنسان‪ ،‬فتكون عامرة مدينتنا اآلتية متواصلة مع املوروث املعامري وهي‬
‫حتتفي به‪ ،‬كائنات مكتملة أو مستعادة يف حضور جديد‪ .‬واملوروث هو‬
‫ليس ذاكرة املدينة وقد تعرضت للمعارشة واإلستهالك يف عيون التلقي‪،‬‬
‫وغفت عىل صور للجدران متكررة ورتيبة فحسب‪ ،‬بل إن املوروث من‬
‫جانب آخر هو نتاج خربة مستمرة وطويلة من تعامل اإلنسان مع معطيات‬
‫واقعه املعاش‪ ،‬وقدراته التقنية والفكرية‪ .‬وهو خالصة لتجارب جتاوزت‬
‫عرب الزمن والتكرار الكثري من أخطائها وهنات حماوالهتا‪ ،‬وهي خربات‬
‫يمكن توظيفها يف إنتاج عامرة قادمة‪ ،‬تأيت برؤيا جديدة وآفاق إبداع شكيل‬
‫يديم تواصله مع جتارب أسهمت يف بلوغ الكثري من مقومات هوية العامرة‬
‫يف املدينة‪ .‬وتكون عامرة املدينة اآلتية عامرة طموح ًا يف إقرتاح معايري وأنامط‬
‫معيشية أكثر رفاهية وتطور ًا‪ .‬وهي بذلك تستجيب إلحدى مهامهتا التي‬
‫تك ّفل اخلطاب املعامري بالدعوة اليها‪ ،‬يف أن تسهم العامرة يف تطوير الواقع‬
‫احلضاري لألنسان‪ ،‬من خالل تدخلها يف أسلوب توظيف املكان وإقرتاح‬
‫الفعاليات وتنظيم العالقات بينها‪ ،‬واإلرتقاء بحال اخلدمات يف األبنية‬
‫وتطوير مستلزماهتا ‪.‬‬
‫ويف مدى عالقة العامرة باملكان بوصفه رصيد ًا جغرافي ًا وحسي ًا‪ ،‬تكون‬
‫من أوىل مهامت العامرة اآلتية أن ترمم عالقة األنسان باألمكنة‪ ،‬وتعالج‬

‫‪44‬‬
‫حل بالعاطفة‪ ،‬بعد أن وظفت زوايا وأمكنة يف املدينة سجون ًا ومنايف‪،‬‬
‫خراب ًا ّ‬
‫خلفت خوف ًا يف النفوس وفيض ًا من الشعور بالكره جتاه شوارع وأبنية‬
‫وجدران ونوافذ‪ .‬من املهم أن تزال مثل تلك األبنية‪ ،‬وأن يعاد إشغال‬
‫مواقعها بأبنية وإستعامالت جديدة‪ ،‬تكشف عن حنو املدينة عىل سكاهنا‬
‫ودفء العالقة املمكنة بني اإلنسان واألبنية من حوله‪ .‬وبذلك تؤكد العامرة‬
‫حضورها يف املكان‪ ،‬حميلة ما هو معطى اىل فضاءات معامرية مالئمة لفعل‬
‫إنساين نافع‪ ،‬يديم إحساس اإلنسان باملكان وشعوره باإلنتامء‪ ،‬ويعيد الروح‬
‫من جديد لفكرة املواطنة‪ ،‬حيث جيد اإلنسان يف املدينة أخري ًا مالذه اآلمن ‪.‬‬
‫يراد من العامرة اآلتية أن تضع يدها عىل املدينة كلها‪ ،‬تبسط نفوذها‬
‫عىل أمكنتها وأزقتها‪ ،‬تدجن الصحراء واألهنار والنخيل‪ ،‬فيستحيل النهر‬
‫يف املدينة فضا ًء للعبور وليس لألنقطاع عن الضفة الثانية‪ ،‬حيث يمكن‬
‫للمدينة التي تسكن إحدى الضفتني أن تقرأ صورهتا يف الضفة الثانية‪،‬‬
‫تدخلنا البساتني وتقربنا من النخالت العديدات الباقيات‪ ،‬ومن يفء ظالهلا‪،‬‬
‫فتحرض املدينة كيان ًا متواص ً‬
‫ال عىل ضفتي النهر‪ ،‬ومتتلك عندها النهر كله‬
‫وهو يمتد نسغ ًا من احلياة والتواصل واملتعة‪ ،‬تعربه جسور رشيقة آمنة تطل‬
‫عليه بوداعة‪ ،‬تصغي اىل أمواجه وترقب أضواءه‪ ،‬فال يعود النهر مهدور ًا‪،‬‬
‫ويتحرر الكورنيش الذي يرافقه من كثري من اخلوف القديم‪ ،‬الذي كان يتأتى‬
‫عن غموض يسكن أبنية ضخمة‪ ،‬هائلة ‪ ،‬يصعب التقرب منها أو دخوهلا‪.‬‬
‫هو غموض يتسلط عىل األمكنة‪ ،‬يغتال نوافذ األبنية فال تعود نافذة‪ ،‬ويغتال‬
‫أرصفة الشوارع فال يتاح عبورها‪ ،‬فقد كان وطن ًا خميف ًا يغتصب البيوت‬

‫‪45‬‬
‫والشوارع ويتربع هبا اىل الطغاة‪ .‬نتطلع يف اآليت لعامرة تبلغ باملدينة احلدود‪،‬‬
‫كي يتاح لنا أن نرقب اجلوار ‪ ،‬نامرسه‪ ،‬من دون أن هنرب اىل الداخل‬
‫منحرسين مسافات شاسعة خوف ًا من خطر قادم تعلمنا أن نخشاه‪ ،‬وبذلك‬
‫يمكن لنا أن ننسى عدا ًء أزعجنا طوي ً‬
‫ال وقد بات اآلن قدي ًام ‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫جدران وشظايا‬
‫اجلدار‬
‫جدران مائلة‬
‫جدران الشظايا‬
‫صدوع‬

‫‪47‬‬
‫اجلـدار‬

‫بدت متذمرة هذه املرة أيض ًا‪ ،‬بيتها اجلديد وقد دخلته مملوء باجلدران‪،‬‬
‫أينام تدور يقابلها جدار‪ ،‬متاما كام هو احلال يف بيتها القديم‪ ،‬غادرته عىل أمل‬
‫أن تلقى هنا جدرانا أقل عدد ًا وأهون حضور ًا‪ ،‬غري أهنا حمارصة كام لو كانت‬
‫تأذن بدوام حضور اجلدران‪.‬‬
‫هم الفضاء املعامري أن يتوفر عىل اإلحاطة‪ ،‬صف من األعمدة‬
‫ّ‬
‫متتابعة ومتباعدة تدور حول فضاء ما لتنشىء جدار ًا‪ ،‬الواح من الزجاج‬
‫شفافة وملونة تتجاور وتتعاىل مقرتحة جدارا‪ ،‬أعواد من القصب متداخلة‬
‫ومرتاصة يعربها الضوء خافتا‪ ،‬أحجار‪ ،‬كتل من الطابوق تتجاور وترتاكب‬
‫وترتاص فتبلغ بذلك سطوة اجلدار‪ .‬ينسج يف بنيته ذاهتا معطيات الفراغ‬
‫والكتلة يف شبكة من الفوهات والصالدة‪ ،‬فيكون حضوره بعض غياب‬
‫الفراغ ومدى سيادة الكتلة‪ .‬ويف حاالته كلها حيفظ اجلدار حدود الكيان‬
‫ويرعى هوية األمكنة وهو يدور حول الفضاء يف فعل إحاطة‪ .‬إثم اإلحاطة‬
‫أن تقرتف العزلة‪ ،‬وإثم العزلة أن تبتكر اجلدران‪ .‬واجلدار جدل بني أن حييط‬
‫وبني أن يعزل‪ .‬وأن تنيشء جدارا فهو فعل يعادل يف بناء الفضاء املعامري‬
‫حدثا كارثيا‪ ،‬يأذن إذ يقع بتاميزات ومسميات‪ ،‬مهمة العامرة أن تقيم عالقة‬
‫بني هذه التعددات‪ ،‬الداخل واخلارج‪ ،‬املؤنسن والطبيعي‪ ،‬الظل و الضوء‪،‬‬
‫‪49‬‬
‫الرس والعلن ‪ ،‬املالذ والشيوع‪ ،‬الغياب واحلضور‪ .‬كام تنجح العامرة بوساطة‬
‫جدار يأذن بنافذة يف أن تؤسس لعالقة مع ماحياذهيا من األشياء‪ ،‬ويستحيل‬
‫ما حوهلا مشهد ًا يتلقاه شاغلو األبنية‪.‬‬
‫اجلدار بنية الوعي يف العامرة‪ ،‬وثيقة ما يتحسسه وما يتلقاه مما حياذيه‬
‫ويصدم ذاكرته‪ .‬وكام اللغة حترض يف الوعي كلامت إذ تغيب االشياء‪،‬‬
‫وتبني يف عاملها املجرد معرفة وخطابا يتاميز يف وجود خمتلف ومكتف وهو‬
‫ينثال مستغرقا مديات تشكله‪ ،‬ينسج اجلدار معرفة تقرأ ما حوهلا متمظهرا‬
‫بام يرتشح من قراءاته‪ .‬جدار يقدم يف اخلارج الرمز واإلشارة واإليامءة‬
‫والتواصل مع الناس واملدينة‪ ،‬ويف الداخل يتلمس تنظيم احلركة والفعل‬
‫والعالقة مع األشياء‪ ،‬حيث يأذن بوقوع التاميز وإقرتاف العبور‪ .‬كيف‬
‫يتاح يل أن أتغاىض عن بداهة حضور اجلدار إذ يواجهني اآلن اىل تلمس‬
‫حدث وجوده‪ ،‬وعبور فوهة الباب طرف اجلدار األيرس‪ ،‬حيث املربعات‬
‫البالستيكية البيضاء الصغرية والعديدة ألزرار املصابيح‪ ،‬وهي حتتل مساحة‬
‫تتوزعها يف جتاور منتظم‪ ،‬يعلوها مفتاح املروحة السقفية‪ ،‬واىل مزيد من‬
‫العلو حيث قصبة الضوء احلليبية وظالل ضوئها البارد حول مستطيل محلها‬
‫املعدين‪ ،‬لون اجلدار وخشونة دهانه املطفأ ‪ ...‬وقائع شكلية ومزيد من األشياء‬
‫تسكن اجلدار‪ ،‬تشغلنا عن تلقيه فنتوه عنه كام نتوه عن سواه‪ .‬تقف بني‬
‫إحساسنا والعامل كلامت وأفكار وخياالت‪ ،‬ختترص مديات الوعي يف عجالة‬
‫ال تكايفء يف أية حال تسكعات احلس يف عطايا حضور األشياء‪ ،‬احلضور‬
‫الصارم وامللموس الذي نغفله ونفتقده يف صالبة رخام البداهة‪ .‬معطيات‬

‫‪50‬‬
‫عديدة نلهو هبا عن رؤية األشياء عارية‪ .‬اجلدار حتتله الصور واإلعالنات‬
‫واملعلقات‪ ،‬حتيله بقية مساحات تائهة ومفتتة غري مشغولة‪ ،‬يضيع وهو‬
‫حيتمل ما يستضيفه وسط فضاء يفتقد فيه احلضور‪ ،‬يسكنه الباب والنافذة‬
‫وزحام الفوهات والسطوح‪ .‬كيف لباب أن يتطاول جوار جدار‪ ،‬ولنافذة‬
‫أن تحُ َفر يف ال جدار‪ ،‬ولسقف أن يمتد سابحا عرب الفضاء خفيف الوطأة‬
‫تأمنه اجلدران‪ ،‬نية أن تتاميز األشياء وهي تتجاور يف عالقة أشد حساسية من‬
‫رفقة متوقعة وساذجة‪ .‬يدور التلقي من الباب اىل اجلدار والسقف واألرض‬
‫والنافذة‪ ،‬يف موجودات ومسميات ال تتامهى مع بعضها يف تواصل يقرتف‬
‫حتوله اىل مستوى جديد من‬
‫اهلدر اىل جتلية عالقات مقروءة توقف اهلدر‪ّ ،‬‬
‫التعايش واحلياة‪.‬‬
‫ليس عىل اجلدار وهو يتكرر يف كل حضور سوى أن يكون جدارا مل‬
‫تألفه اجلدران‪ .‬لقد كان اجلدار الذي توصلت اليه يف املبنى مهيمنا‪ ،‬يدور يف‬
‫حنو ويصعد سابحا نحو األعىل‪ ،‬حيفره حمراب غائر‪ ،‬يعلوه قوس طابوقي‬
‫مزخرف‪ ،‬تقابل اجلدار هادئة وجوه املصلني‪ ،‬وهي تتلو الكلامت املقدسة‬
‫والدعاء ينفذ عرب اجلدار املتقوس أمامها‪ ،‬تنسج مالحمه زخارف كتابية‬
‫العود‪.‬‬
‫وتكوينات من أشكال هندسية ال متل َ‬
‫اجلدار وهو حيرض منبثق ًا عن األرض يف فعل تعامد مهيمن‪ ،‬ينشغل‬
‫طوي ً‬
‫ال يف بناء متايزه وإنتاج عموديته‪ ،‬وأفقية السطح الذي حيمله يف عناء‬
‫مشهود‪ .‬ترتاصف األحجار عمودية هذه املرة‪ ،‬تزخرفها مفاصل التجاور‬
‫الصاعدة معلنة بدء اجلدار‪ .‬ويف أحيان يلتذ جدار بمفصل أفقي يوازي‬

‫‪51‬‬
‫األرض‪ ،‬يغور اىل الداخل ممتلئا بالظل الداكن إشارة بدء إنطالق نحو‬
‫األعىل‪ .‬تطال اخلفة بعض اجلدران إذ ترأف يف وطأهتا باألرض‪ ،‬تعلو وتدور‬
‫يف هيمنة تريد العامرة أن تتواضع عنها هذه املرة‪ ،‬كام يف نصوص بعد حديثة‪،‬‬
‫أفقا ينساب منحنيا‪ ،‬تتنافذ فيها السطوح‪ ،‬األفقي منها والعمودي‪ ،‬يف دراما‬
‫الهية حتار وأنت ترقبها يف تبني هيأة الفضاءات يف الداخل‪ ،‬يضمر الكثري‬
‫من وقائعه الكارثية يف حلول هدوء غامض‪ .‬تلتبس يف التلقي األشياء‪ ،‬حيث‬
‫الذاكرة مسميات ومتايزات وخربة فضاءات وسطوح هندسية متعامدة‪.‬‬
‫تريد الذائقة اآلن عيونا بكرا وذاكرة مؤرشفة غري مكتظة‪ ،‬اجلديد الذي‬
‫تتلقاه بعضه قديم وبعضه جديد‪ ،‬يف جدران تتحرر من لعبتها املألوفة‪ ،‬فال‬
‫تعود متوازية وال متعامدة وال متساندة‪ ،‬تتكرس وتتداخل ومتيل كام لو كانت‬
‫تتداعى‪ ،‬غري إهنا مصبوغة بطالء المع وبألوان لطيفة زرقاء وخرضاء ومحراء‬
‫وصفراء‪ ،‬يف فعل متويه هادىء عام تقرتفه أوضاعها املرتبكة واملربكة‪ ،‬تقلق‬
‫الذائقة غري إهنا تنمو صوب إثراء احلس ولشدما يتاح ألهدافها مرمى‪.‬‬
‫يف إحدى األمسيات وكنت ما أزال متعب ًا ‪ ،‬شغلني جدار حياذي الرسير‬
‫ال‪ ،‬هكذا كنت أراه يميل نحوي قلي ً‬
‫ال‪ .‬مل أستطع‬ ‫حيث أستلقي‪ ،‬كان مائ ً‬
‫ال وكنت أخشى أن يسقط عىل جسدينا‪ .‬أجابت‬ ‫النوم‪ .‬أيقظت زوجتي خج ً‬
‫وهي نصف يقظة ( لن يسقط‪ ،‬إنه حمشور بني األرض والسقف‪ ،‬بني مائ ً‬
‫ال‬
‫هكذا لكنه لن يسقط أبد ًا‪ ،‬حاول أن تنام )‪ .‬مل يسقط اجلدار يف تلك الليلة‪،‬‬
‫وبعد أكثر من أعوام عرشة‪ ،‬امليل الذي يف اجلدار مازال كام هو غري إنه مل‬
‫يسقط‪ ،‬وما زال حتى الساعة حمشور ًا بني أرض الغرفة والسقف‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫جدران مائلة‬

‫يف هدوء وإرصار واثقني‪ ،‬أبدت السيدة التي بقيت شهور ًا عديدة تدور‬
‫عىل مشاغل املهندسني املعامريني إعتذارها وهي تتلفظ كلامت الرفض‬
‫ملخطط الدار التي أمضيت وقت ًا ثري ًا يف إعداده‪ .‬كانت واضحة وحمددة يف‬
‫بيان أسباب رفضها ‪ .‬إهنا ال ترتيض يف أية حال‪ ،‬وجود هذا اجلدار املائل‪،‬‬
‫الذي يمتد بني غرفة الضيوف وفضاء جلوس العائلة‪ .‬جدار مائل‪ ،‬تسألني‬
‫يف إستغراب‪ ،‬ملاذا يميل هذا اجلدار ؟ كنت قد جعلته مائال وهو يمتد اىل هناية‬
‫غرفة الضيوف‪ ،‬كي يتواضع حجم الفضاء وهو يلتف حول مائدة الطعام‬
‫هناك يف اخللف‪ ،‬وتلك ال حتتاج اىل فضاء بسعة فضاء اجللوس يف مقدمة‬
‫الغرفة‪ ،‬كام إن يل مآرب يف ميل اجلدار‪ ،‬إذ أريد له أن يتدخل يف اإلنتباه كي‬
‫أسكنه شاشة التلفاز‪ ،‬ويكون امليل بذلك دعوة واضحة لإلنشغال بمقتنيات‬
‫ذلك اجلدار‪ ،‬ليس عبث ًا أن يميل‪ .‬كنت أخالف تلك السيدة الرأي‪ ،‬إذ مل‬
‫يكن لوجود امليل يف اجلدار مايثري يف داخيل مشاعر سلبية‪ .‬غري إين قبلت‬
‫إعتذارها الذي جنبني ‪ ،‬حنقا اليكف عن لومي حد الساعة‪ ،‬لسيدة أخرى‬
‫عجوز تلطف زوجها يوما وقبل تشييد منزله الذي أسكنته جدارا مائ ً‬
‫ال هو‬
‫اآلخر‪ ،‬يمتد بني غرفة العائلة وفضاء املطبخ‪ .‬كنت أنوي أن أدين هذا اجلدار‬
‫من الرؤية وأزيده حضورا‪ ،‬وقد محلته دواليب مفتوحة خلزن أشياء عديدة‪،‬‬
‫‪53‬‬
‫يصبح تناوهلا من قبل سيدة املنزل إذ يميل اجلدار أكثر يرس ًا‪ ،‬وهي تعد‬
‫الطعام وتبحث متربمة عن تلك األشياء‪ ،‬غري إن العجوز مازالت تشتم‬
‫ذلك اجلدار املائل‪ ،‬كام لو إنه يدوس أطراف ردائها يف عناد وتواصل يثريان‬
‫فزعها‪ .‬ويف بيتي اآلن جدار مائل‪ ،‬أعرب بمحاذاته من فضاء املطبخ جوار‬
‫مساحة السلم اىل فضاء اجللوس‪ ،‬وهو يميل و يتسع لنافذة تستحيل مرصدا‬
‫يرقب الفضاء احلدائقي املفتوح‪ ،‬الذي حياذي اجلدار ويسكن مربعا وسط‬
‫أمر بجانبه ‪ ،‬يذهب برصي متلذذا بألوان الزهور‪ ،‬ونقاء خرضة‬
‫الدار‪ ،‬وإذ َّ‬
‫أوراق الكينوكاربس املتعالية يف ثبات‪ .‬مل نستغرب يوما حضور هذا اجلدار‬
‫املائل يف بيتنا‪ .‬ما بال تلك العجوز‪.‬‬
‫اجلدران ال متيل يف وضع أفقيتها وحسب‪ ،‬بل هي قد متيل يف وضع‬
‫عموديتها أيضا‪ ،‬كام يف مبنى القسم املعامري‪ ،‬الذي جعلت جداره األمامي‬
‫يميل يف عموديته اىل أمام مرتفعا لطابقني‪ ،‬حتفره فوهات ضيقة وطويلة‬
‫تقف يف تراص‪ ،‬تأيت بضوء النهار متلطفا اىل فضاء املرسم يف الداخل‪،‬‬
‫حيث تستعيد أعمدة اجلدار شاقوليتها وهي حتاذي اجلدار األمامي املائل‪.‬‬
‫جدار كبري متعال ومائل‪ ،‬ينقسم جدارين حييطان بفضاء الدخول الواسع‪،‬‬
‫ويميالن يف الفضاء املفتوح اىل أمام‪ ،‬يف دعوة واضحة لدخول القادمني‪،‬‬
‫ومباهاة جدران األبنية القريبة‪ ،‬الواقفة عموديا دون أن نشعر منذ سنني‪.‬‬
‫يف مبنى إداري جديد‪ ،‬إقرتحت أن يتكون من كتل بنائية ثالث‪ ،‬متيل يف‬
‫وضع أفقيتها وهي تتالقى وتتقاطع بزوايا ميل متفاوتة وغري متوقعة‪ .‬كنت‬
‫أريد للمبنى أن يبدو متحرك ًا‪ ،‬كام لو كانت كتله العديدة قد غادرت وضعا‬

‫‪54‬‬
‫مستقرا أوال‪ ،‬وهي تتجه يف حركيتها نحو وضع مستقر آخر‪ .‬غري إهنا وحال‬
‫عالقات تقاطعها بزوايا ميل غري مألوفة‪ ،‬تعلن نزوعا للدوران‪ ،‬وتكشف‬
‫عن قلق وغياب ثبات يناقض إستقرار ًا يعدُ به ثقل جدراهنا‪ ،‬وضخامة‬
‫حجوم كتلها‪ .‬األبنية اليوم تغادر ثباهتا وإستقرارها اىل تيه الدوران واحلركة‬
‫التي ال تعد بالوقوف من جديد‪ .‬العامل كله يدور ويدور‪ ،‬ملاذا تبقى األبنية‬
‫وحدها واقفة ؟‬
‫الكتل الثالث ذاهتا‪ ،‬أوقفتها يف مبنى آخر‪ ،‬وهي تتالقى وتتقاطع عموديا‪،‬‬
‫متيل عن شاقوليتها بزوايا إنحراف خمتلفة وغري متوقعة ايضا‪ .‬تقودين الفكرة‬
‫ذاهتا‪ ،‬أشياء العامل تتحرك وتدور‪ ،‬تظهر وختتفي‪ ،‬تلتف حول بعضها فيظهر‬
‫منها ما يظهر وخيتفي ما خيتفي‪ ،‬وتتبادل األشياء واألشكال إشغال املشهد‪.‬‬
‫يأيت بعضها اىل احلضور يف حال‪ ،‬وخيتفي حال حضور يشء آخر‪ .‬ملاذا ال‬
‫تفقد األبنية ايضا هدوءها وثبات مشهدها وتأذن أن يمسها الرقص ؟‬
‫يمتد اجلدار حتى يقاطع آخر يف عالقة تعامد واضحة وحمددة‪ ،‬وقد يميل‬
‫اجلدار عن وضعه األفقي أو العمودي املعهود‪ ،‬ويكشف عن وضوح نية‬
‫يف النزوع اىل حال آخر‪ .‬امليل هو إنحياز وحدث مشهود يالقي احلس‬
‫فيزيد من حضور األشياء‪ .‬إنحراف عام هو واضح ومتوقع نحو إحتامالت‬
‫غموض ما هو ممكن‪ .‬وامليل حال حركة ينبىء عن حدوثها ويعد بتواصلها‪،‬‬
‫حيث تغادر اجلدران ثباهتا نحو تيه ما يأيت به الدوران‪ .‬اجلدار وهو يميل‬
‫ال ال نأمن حماذاته‪ ،‬وتغطس فيه أوزان معلقة يف‬ ‫عن شاقوليته يستحيل ثقي ً‬
‫اهلواء تشدّ ه اىل األرض ‪ ،‬وهي التي كانت تنفذ عرب شاقوليته يف هدوء‪ ،‬غري‬

‫‪55‬‬
‫إنه يميل متواني ًا عن السقوط ‪ ،‬إذ إن العامرة التي تبدأ يف وقوف اجلدار‪،‬‬
‫تتأكد حني يميل معاندا قلق السقوط ‪ ،‬كام إهنا تضمحل وهو يغادر عموديته‬
‫ويواصل ميله حتى يلتصق باألفق‪ .‬هل يف وقوف األشياء مائلة سخرية‬
‫ما ؟ وهل تسخر اجلدران الشجاعة من جدية اجلدران الشاقولية املهذبة‬
‫وإنضباطها ؟ قد تواصل اجلدران املائلة سخريتها املستهرتة حد السقوط‬
‫يف األفقية‪ .‬بعض األشياء وهي متيل‪ ،‬متيل أحيانا يف صواب كاشفة عن نية‬
‫امليل ومعاندة توقع األستقامة ‪ .‬وقد متيل األشياء يف خطأ‪ ،‬معلنة غياب‬
‫األستقامة‪ ،‬ومفتقدة اىل قصدية اإلنحراف الذي يقيم يقظة الذهن ويديم‬
‫حيوية احلس‪.‬‬
‫يف القيلولة‪ ،‬يمد جسده املتعب عىل رسير مزدوج يتسع حلضور رشيكته‬
‫يف املساء‪ ،‬غري إنه يف الظهرية حيتل املكان بالكامل‪ ،‬وينام مائال كي يشغل‬
‫الرسير عىل سعته‪ ،‬فال يعود شاعرا بوجود مكان يتسع لغائب‪ ،‬فهو ال‬
‫يريد أن يفتقد رشيكته ساعة تغيب‪ .‬يف اإلستلقاء املائل عىل الرسير زيادة‬
‫يف مكانية احلضور‪ ،‬وهيمنة عىل غياب اآلخر‪ .‬وهو ليس سعة يف احلضور‬
‫ومتدد يف املكان حسب‪ ،‬بل هو إقتناص أفق أرحب من احلرية والسعة‪ ،‬تلك‬
‫التي تتيح إمكانية النوم مائال‪ .‬املكان عريض‪ ،‬وجتده وهو ينام يدور فيه و‬
‫يدور‪ ،‬من وضع ميل اىل آخر‪ ،‬دون أن يالقيه يف التيه جسد آخر‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫جدران الشظايا‬

‫تأيت األشكال يف العامرة من األشكال‪ ،‬ترثها‪ ،‬تتعلم منها‪ ،‬تعيد تشكيلها‬


‫يف تواصل وديمومة تدعو اليهام نية الظاهرة يف البقاء‪ ،‬ورغبتها يف إدامة‬
‫العالقة مع املتلقي‪ ،‬وهو يبحث يف اإلبداع عن اجلديد واملختلف املمكن‬
‫إدراكه‪ ،‬ويكمن معيار قبول ما تقدمه العامرة ويف املدى الذي ترتاده‪ ،‬فيام‬
‫يبلغه منجزها عىل مستوى الشكل‪ .‬وإذ تبني املدينة حلمها‪ ،‬تلجأ اىل البحث‬
‫يف ذاكرة صورهتا املتوارثة عن جدران ومالمح‪ ،‬تستعيد حضورها يف مباهاة‬
‫ما هو جديد من اجلدران الشفافة والصقيلة وامللونة‪ ،‬يف سطوح وكتل‬
‫ًّ‬
‫وتشظ‪ .‬أشكال‬ ‫تنساب أمام بعضها ‪ ،‬وتقرتح عالقات جتاور وتالق وتنافذ‬
‫جدران تأيت من مصادر خمتلفة‪ ،‬هي ليست أشكا ً‬
‫ال هندسية مألوفة‪ ،‬بل ثمة‬
‫أشكال جديدة هي بقايا إيقونية‪ ،‬تفقد إكتامهلا بوصفها صورا ‪ ،‬وتستحيل‬
‫مفردات يف مجلة شكلية جديدة وطويلة‪ .‬يتيه املتلقي عن إستعادة مصادرها‬
‫األوىل وهو ينشغل بريادهتا الشكلية اآلنية‪ ،‬التي هي خارج احللم‪ ،‬ألهنا‬
‫يف حقيقة األمر تصنعه‪ .‬حتى أصبح اخلراب وآثار اخلراب من مفردات‬
‫متشظية‪ ،‬وبقايا صور وأشكال سابقة مادة للشكل‪ ،‬الذي هو اآلن جمموعة‬
‫خرابات وآثار أفعال ختريب‪ .‬فام عاد اخلراب خميفا لعامرة املدينة القادمة‪ ،‬وقد‬
‫أتيح هلا يف جتارب معامرية مغايرة البحث عن لقى وشظايا وبقايا إيقونات‪،‬‬
‫‪57‬‬
‫جتمعها اىل بعضها يف أشكال حافلة باجلدة‪ ،‬جعلت مادة الشكل اآلن ليس‬
‫احلجر كام تعود احلال أن يكون‪ ،‬بل شظاياه‪ ،‬وليس اجلدار واقفا يف ثبات‪ ،‬بل‬
‫بقايا هتدمه‪ ،‬وليس املربع شكال إفالطونيا أنيقا‪ ،‬بل نثاره املتطاير بفعل عداء‬
‫املثلث أو سواه من األشكال‪ .‬وهي مكونات متباينة تتصادم يف عنف غري‬
‫مسبوق يف لغة العامرة‪ ،‬وتلتقي يف كل خمتلف ليس بعضه احلجر وال اجلدار‬
‫وال املربع أو املثلث‪ ،‬بل آثار وبقايا عنف احلوار والصدام بني تلك املفردات‬
‫واملكونات‪ ،‬إذ تلتقط األشكال بقايا األشكال وحطام هتدماهتا‪ ،‬وتبتكر من‬
‫لقاء الشظايا شكال هو خارج كل التشظي الذي جيمعه مع إنه ناتج عنه‪.‬‬
‫تستحيل عندها الشظايا مفردات مقروءة‪ .‬والشظايا ليست مربعات أو‬
‫مكعبات هادئة وحمايدة‪ ،‬تأيت بام يمكن أن يرافق إكتامهلا وإستقالليتها من‬
‫هدوء يقرتف الصمت يف أحيان‪ ،‬بل الشظايا أشكال ممتلئة بحكاية حدث‬
‫آين يرتك فيها آثاره‪ ،‬إذ هو سبب تولدها وهي حتمل آثار فعل إنساين أو كوين‬
‫الذع‪.‬‬
‫نحن اآلن كام يبدو يف زمان تشظي الكامالت‪ ،‬كامل اهلوية والشكل‬
‫واملعنى‪ ،‬وإعادة ترتيبها يف كل آخر يتيح هلا التخلص من آثار العداء الذي‬
‫أنتجها‪ ،‬فتعود اليها الطمأنينة ثانية وهي تنفتح عىل ما هو قادم أو جتاور‬
‫بقايا عنف شكيل آخر‪ .‬فالشظية املهمشة هي اآلن موضع عناية وإنتامء‬
‫اىل كل جديد‪ ،‬هو نتاج إجتامع الكثري مما هو مهمش‪ .‬والعامرة اآلن التقدم‬
‫شكال يقينيا أو هنائيا أو حاسام‪ ،‬بل شكال قابال للنمو وقبول املزيد واآلخر‬
‫واملتعدد‪ ،‬دون أن يبلغ األكتامل‪ .‬لقد م ّلت الذائقة حضور ما هو متكامل‪،‬‬

‫‪58‬‬
‫ونشأ توق أخاذ اىل ما هو جتريب يف القصور عن الكامل‪ ،‬يف نتاج ال يكمله‬
‫حتى ما هو آت‪ .‬فيبقى اإلكتامل أمال معلقا وقادما يف ما هو قادم دون أن‬
‫يكون حا ّ‬
‫ال كام هو احلال يف ما هو قادم‪ ،‬إذ هو املأمول واملؤجل‪ .‬فالكامل‬
‫مؤجل واملعنى مؤجل‪ ،‬وبقيته عىل الدوام يف موضع اإلنتظار‪ ،‬أفق واسع‬
‫يدعو اىل اإلبداع واإلختالف واإلضافة‪ .‬اخلراب والتهديم الذي من حولنا‬
‫مل يعد قبيحا‪ ،‬أمام قصد التحرر مما كان يف حضور كامالته ثقيال عىل احلس‬
‫والوعي‪ ،‬إذ كان شيئا مفروغا منه‪ .‬واآلن حيرك اخلراب يف األشياء من حولنا‬
‫قدرهتا عىل إثارة العقل والذاكرة واحلس‪ ،‬وهي تكشف عن مديات أعامقها‬
‫وخباياها وقد جتلت حا ّلة يف موضع الظهور‪ ،‬ثرية بالغموض الذي يتأتى‬
‫من حدثيتها‪ .‬فال تعود األشياء وال األشكال مفروغا منها‪ ،‬بل هي فيض‬
‫متواصل أمام التلقي متوقد الذهن‪ ،‬يف خطوطها املستقيمة واملنحنية‪ ،‬يف‬
‫أجتاهات وزوايا وحركات تطاير وتشظية‪ ،‬يف ديمومة من اهلذيان يف لغة‬
‫الشكل ال يبلغ كام قد نأمل الصمت‪ .‬غموض وتيه وإلتباس‪ ،‬واملزيد مما‬
‫يربك الصورة وهيز مالحمها املرتاقصة واملتسارعة‪ ،‬يف لعبة رسد متواصلة‪،‬‬
‫ومشاهد حضور وجتل متداخلة ينبت بعضها من بعض‪ ،‬يلدها وتلده يف‬
‫تواصل ال يمل‪ .‬ال يشء منقطع عن سواه‪ ،‬األشكال واألشياء واألكوان‬
‫متداخلة ‪ ،‬حيل بعضها يف بعض‪ ،‬اليقني وحده يديم لعبته الساخرة من‬
‫األشياء‪ ،‬إذ يوقفها يف حمطات الصمت واإلنتظار‪ ،‬غري إن املسافات تالحق‬
‫بعضها غري مبالية بنوايا املعرفة‪.‬‬
‫األشياء يف جتل ال يكتمل‪ ،‬والوعي يف تلق ال ينتهي‪ ،‬الوجوه ال تقول‬

‫‪59‬‬
‫نصها اىل النهاية‪ ،‬والكلامت ال تكشف عن دالالهتا مهام تكرر حضورها‬
‫وعاد‪ .‬الكائنات املعامرية تطاهلا آثار اللعبة فال تعود مستقرة‪ ،‬وال تنوي‬
‫اإلحياء بذلك‪ .‬تعمل‪ ،‬وهلا رغبة اإليفاء بوعودها ماكنة إلداء فعل إنساين‪،‬‬
‫غري إهنا ماكنة تنتج الفعل بمثل ما تؤويه‪ .‬البيت ينتج السكنى بمثل ما‬
‫تنتجه أفعال السكن ‪ ،‬ونحن نسكن اىل إقرتاحات البيوت كام تبنى هي‬
‫سكنا إلقرتاحاتنا‪ .‬األمكنة هي التي تنتج مناخاهتا وتؤسس نمط األفعال يف‬
‫فضاءاهتا‪ .‬هل يكون الفضاء مكعبا بجدران مربعة ومتعامدة وثابتة ؟ وهل‬
‫يطال اليقني النافذة فوهة الضوء‪ ،‬وهي فوهة كون مضطرب اىل كون أكثر‬
‫إضطرابا ؟ واجلدار كيف يقف صلدا يف قامة من الصمت إذ هو كائن بني‬
‫عاملني يضجان بالصوت والضوضاء واحلركة‪ ،‬والليل والنهار‪ ،‬واحلميم‬
‫واملشاع‪ ،‬والدايفء والبارد ؟ أي إفتعال جلدار يقف هادئا كام لو أثقله العقل‬
‫ومن حوله تضطرب األشياء عائمة يف الشك والعاطفة ؟ آن للعامرة أن تسع‬
‫منافذها احلس فتأيت اىل وجود يمور حتوال وإختالفا‪ ،‬يف جدراهنا املائلة‬
‫وأشكاهلا املتداخلة ونوافذها املتشظية‪ ،‬فتهذي األشكال وترصخ السطوح‪،‬‬
‫وذلك العلن عىل ضمور ما يقول هو بعض ما تدعوه املعرفة حكاية‪.‬‬
‫ترى ما الذي أ ّمل بالذائقة إذ تتلقى شظايا األشكال وتقبلها‪ ،‬باحثة عن‬
‫املزيد من لقى األشياء وبقاياها‪ .‬أي خالص تأيت به الشظايا من صمت‬
‫األشكال املهذبة‪ ،‬األنيقة والصامتة‪ ،‬أي وعود بام هو قادم يف أثر التشوهات‬
‫الشكلية صوب اهلدوء واإلكتامل موضع اإلنتظار من جديد‪ .‬يسكن‬
‫التلقي اآلن مسار الرحلة‪ ،‬وطرق التواءاهتا ‪ ،‬وتيه مساراهتا‪ ،‬وقلق أهواهلا‬

‫‪60‬‬
‫غري املتوقعة‪ ،‬وال ينوي بلوغ املحطات احلاسمة‪ .‬رحلة التلقي ريادة جمهول‬
‫ماقبل اليقني‪ ،‬وإنغامس يف قلق املعرفة وهي تصطاد املحتمل‪ ،‬ومتد أصابعها‬
‫املرتعشة يف ظلمة املجهول القادم اىل الضوء‪ ،‬نتاج القصد وضباب املعنى‬
‫إذ تنغمس فيه األشياء‪ ،‬يقرأها الوعي وتنطقها الكلمة‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫صدوع‬

‫تتجول بني البيوت‪ ،‬تسري يف حماذاة جدران األسيجة‪ ،‬تواجهك العديد‬


‫من تلك اجلدران وقد مزقت سطوحها صدوع تشبه أهنارا يف صفحة‬
‫اجلدار‪ .‬وإذ تقرتب من اجلدار يالقيك الصدع عريضا‪ ،‬يمكن لك يف أحيان‬
‫أن متد داخله أصبعك‪ ،‬ويبدو إنه يأذن للحرشات أن تعربه بيرس‪ .‬ومع إن‬
‫الصدع ال يتيح ممرا نافذا لعبور اجلرذان‪ ،‬غري إهنا يمكن أن تتسلق اجلدار‬
‫أو حتفر أسفله كي جتد سبيلها اىل الداخل وسط احلديقة‪ .‬ال تنشغل هذه‬
‫البيوت يف تشييد جدران أسيجة متامسكة وعنيدة‪ ،‬فتجدها سهلة أمام نفاذ‬
‫خيوط أثقاهلا اىل األرض‪ ،‬وقد بدأت تتحرك وتلتم وتتهدم أسفل االسيجة‪،‬‬
‫ليسكن جسد تلك األسيجة التحلل‪.‬‬
‫عندما بدأ الصدع ينفذ اىل صفاء اجلدار حسبتها الشمس حرقته وحركت‬
‫مساماته‪ ،‬وباعدت بني الطابوق اهلش وبني العمود اخلرساين الصلد‪ ،‬وقلت‬
‫يومها إنه الدفء وتفاوت معامالت متدد املواد املختلفة التي تبني اجلدار‬
‫ال يمد جسده‬ ‫هو من آوى الصدع‪ ،‬الذي وجدته يغافلك ويميض مستفح ً‬
‫الراعش يف صمت وعناد وخماتلة‪ ،‬وبدا إن نزوال يف األرض وهي تغطس‬
‫بفعل أثقال البيت‪ ،‬يقود اجلدران اىل التحرك نحو األسفل‪ ،‬ويتسبب يف‬
‫متزقها ونفاذ الصدوع يف جسدها‪ .‬وكام تنمو أوراق األشجار جديدة كل‬
‫‪63‬‬
‫صباح‪ ،‬وكام متتد أعواد الورد يف حديقة البيت‪ ،‬كانت تنمو ومتتد خيوط‬
‫التمزق يف اجلدران‪ .‬لقد نفد صرب زوجتك إذ تدامهها الصدوع يف اجلدران‬
‫كل هنار‪ ،‬وتترسب يف غفلة اىل الشعور‪ ،‬فتدخل اىل حواراتكام خملفة القلق‬
‫واخلوف وكلامت العتاب احلارقة‪ ( ،‬ملاذا وحدها جدراننا تتمزق ؟ ) وتتذكر‬
‫يف صمت كيف كان العمل رسيعا‪ ،‬مل التمهل والصبية يسكنون يف الطابق‬
‫السادس يف عامرة سكنية مكتظة‪ ،‬تفتقد عىل الرغم من علوها اىل املصعد‪.‬‬
‫أنتم يف حاجة اىل مأوى يف األرض وإن كان ممزقا‪.‬‬
‫الصدوع التي حترض يف جدران البيوت العتيقة مرحب هبا‪ ،‬هي بعض‬
‫العتق الذي ييش إن تلك البيوت ليست شيوخا‪ ،‬بل ومعمرة أيضا‪ ،‬تباري‬
‫الزمن وقد عربت العقود من السنني دون أن يطاهلا اإلهنيار أو اإلزالة‪،‬‬
‫وعندما تتاح هلا بعض العناية تعود ملحياها الفتنة‪ ،‬ويسكن لون جدراهنا‬
‫الزمن‪ .‬العمر ال حيصد النضارة‪ ،‬ثمة أمل يف اجلامل عىل الرغم من إنقضاء‬
‫السنني‪ ،‬حيث التلطف بآثار أقدام الزمن العابثة يف أحيان واملجيدة يف أحيان‬
‫أخرى‪ .‬الزمن الذي خيلف آثاره عىل اجلدران هو ليس عمرها وحسب‪،‬‬
‫بل هو جمدها أيضا‪ ،‬يف شقوق وأخاديد تعاد حلمتها فتعد بسطوح قديمة‬
‫وجليلة‪ .‬الصدوع التي حترض يف جدران البيوت القديمة‪ ،‬وعىل الرغم من‬
‫لغتها التي تعلن التحلل‪ ،‬فإهنا تبدو جليلة‪ .‬األشياء القديمة هي أشياء نالت‬
‫من احلياة حظا أكرب‪ ،‬قد ال يتاح جلديد األشياء أن تناله‪ .‬كيف يأمن من يف‬
‫العرشين أن حيظى بالعقود اخلمسة التي نلتها ؟ مل اخلوف من أفول السنني ؟‬
‫لألشياء أن تنال احلظ فتعمر‪ ،‬ولسواها أن تربق المعة هذا النهار من دون‬

‫‪64‬‬
‫أن يغري ألواهنا توايل اخلريفات‪ ،‬وال يعود يف قدرهتا أن تسكن العمر وحتمله‬
‫اىل الزمن القادم‪.‬‬
‫وأذى تتعرض‬
‫الصدوع التي تنمو عىل السطوح هي بعض متزق وهتدم ً‬
‫له أجساد األشياء‪ .‬قد يميش الصدع مستقي ًام وقد يسري منحني ًا‪ ،‬وقد يلف‬
‫ويدور وهو يتقدم متحركا دونام إجتاه حمدد‪ ،‬ماد ًا خطواته يف ُمتاح الضعف يف‬
‫جسد املادة‪ ،‬فاضحا إحتامالت اخللل والتحلل‪ .‬حني يكون الصدع مستقيام‬
‫يمكن لألشياء أن تستعيد إكتامهلا‪ .‬الصدع الذي يكون عابث ًا‪ ،‬وحده يشري‬
‫اىل التهدم ويؤذن بالتشظي‪ ،‬غري إن الشظايا جتد من يعيد اليها السكينة‪ ،‬يف‬
‫تكوين جديد لغته الشظايا وخارطته الصدوع والشقوق التائهة‪.‬‬
‫بنطال قطني جديد أزرق‪ ،‬ممحو لونه يف مكان وممزق يف مكان آخر‪،‬‬
‫متكرس جلده يف مفصل الركبة‪ ،‬كام لو كنت إرتديته وأمضيت الساعات‬
‫جالسا القرفصاء‪ ،‬يبدو رث ًا عىل الرغم من جدته‪ ،‬يف آثار إستهالك مديد ترك‬
‫بقاياه عىل قامشة البنطال األنيقة‪.‬‬
‫أغنية عاطفية هادئة‪ ،‬تأخذك مشاهدها الصادمة اىل منشأ صناعي أو‬
‫خمزن ألدوات وأشياء عتيقة‪ ،‬تلحظ املكان مملوء ًا بمعدات يدوية وأخشاب‬
‫وبقايا مكائن مهملة وعاطلة‪ ،‬درجات س ّلم متهدمة‪ ،‬وسقيفة تكاد تتساقط‬
‫عنها ألواحها وهي تتكشف عن بعض حطام‪ ،‬وبنطال املغنية ممزق ورث‬
‫بلون حائل يوافق ألوان األشياء واملكان من حوله‪ ،‬غري إن اللحن مازال يمد‬
‫يف عذوبته والكلامت ال تني تقرأ اللطف والدفء يف القول‪.‬‬
‫البيت الذي دعيت اليه ظهرية يوم شتائي بارد‪ ،‬جدرانه إذ لقيته من‬

‫‪65‬‬
‫اخلارج تشكو قدمها‪ ،‬تعربها الشقوق خطوط ًا لينة ومتكرسة‪ ،‬وأنت تذهب‬
‫اىل الشعور بجالل تلك اجلدران‪ ،‬تقودك اىل الداخل حيث زهو األناقة‬
‫والعناية‪ ،‬يف سطوح بيضاء صقيلة تغزو حافاهتا نقوش وزخارف هندسية‬
‫دقيقة وملونة‪ ،‬وتلحظ كم أنت يف فضاء داخيل محيم غاية يف التهذيب‪.‬‬
‫الثقوب والشقوق والصدوع‪ ،‬املحتمل جتليها يف األشياء وهي تستحيل‬
‫رثة يف زمان قادم‪ ،‬تأيت اىل اللحظة احلارضة‪ ،‬مالمح جادة يف أشياء أنيقة‬
‫وجديدة‪ ،‬يف نية إستحضار عطايا الزمان القادم‪ ،‬كام لو كانت بعض احلارض‪.‬‬
‫تداخل يف األزمنة يلم آثار القدامة وجالهلا يف تألق احلارض وهبائه‪.‬‬
‫شق يرسمه املنشار وهو ينفذ يف خشبة املرسح ‪ ،‬ويدور حول منصة‬
‫اإللقاء ‪ ،‬منشغل فيها بجدية واضحة من يقرأ خطاب ًا مطو ً‬
‫ال‪ ،‬بعد دقائق‬
‫عديدة تكتمل دورة املنشار وهتبط يف ضوضاء دائرة مرسومة‪ ،‬فيلقى شاغل‬
‫املرسح جسده حطاما حتت خشب األرضية املتهدمة‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫حوارية العمارة‬
‫حوارية العمارة‬
‫صمت األبنية وكالمها‬

‫‪67‬‬
‫حوارية العمارة‬

‫أمامي اآلن آنية حلمل الزهور عىل شكل كرة‪ ،‬إقتطع من أسفلها بقدر‬
‫موضع إستنادها‪ ،‬وإقتطع قدر أكرب من أعالها فوهة لنفاذ أعواد الزهر‪.‬‬
‫لوهنا الفخاري المع بأثر معاجلة جسد اإلناء بدهان شفاف‪ ،‬يكشف عن‬
‫غضون يف نعومة الفخار وييضء طوقا عريضا مذهبا أسفل ثلثها العلوي‪،‬‬
‫حيمل آثار حركة موجات متوازية تدور حول بدن اآلنية‪ .‬كروية اإلناء غري‬
‫تامة التناظر‪ ،‬ثمة سوء يف الصنع وال شك عجز عن أداء كامل الكروية‪.‬‬
‫فوهة اإلناء ممتلئة بأعواد الزهر اخلرضاء اللينة‪ ،‬تف ّتحت عنها زهور صفراء‬
‫مرشقة بلون عباد الشمس‪ .‬وريقات الزهر الضيقة املستدقة تبدأ غامقة‪،‬‬
‫ولكن لوهنا يفتح وهي تتطاول متعالية‪ ،‬وإذ جتلس اآلنية عىل الطاولة‪ ،‬تلقي‬
‫ظلها يف اجلانب اآلخر البعيد عن مصدر الضوء يف الغرفة‪ ،‬حتاور لوحة‬
‫معلقة عىل اجلدار تضم وردة صفراء شاردة‪ .‬أجدين مشغو ً‬
‫ال يف قراءة آنية‬
‫الزهر واستنطاقها حماو ً‬
‫ال ترمجة حكايتها‪ ،‬و الكشف عن عالقة تقيمها مع‬
‫ٍ‬
‫وكلامت‪ .‬تقرأ خطاب الشكل‬ ‫األشياء واإلنسان‪ ،‬وهو يتفتح عيون ًا وآذان ًا‬
‫الذي حيرض يف اآلنية‪ ،‬إذ حتكي األشياء وهي تكون‪ ،‬و تصدق رؤيا نعتقدها‬
‫يف خربة تسكن الذاكرة ‪ ،‬أو تذهب يف اخليال‪ ،‬تبدأ جواب ًا عن سؤال وقراءة‬

‫‪69‬‬
‫ملعلومة واقرتاح ًا لفكرة‪ .‬وبذلك فإن األشياء حترض مرغوبة ومقرتحة‪ ،‬وهي‬
‫تديم جالء احلكاية‪.‬‬
‫يف العامرة يبدأ حوار األبنية يف العالقات بني مكوناهتا وأشكاهلا‪ ،‬فيكون‬
‫التوافق أو التضاد بني تلك املكونات واألشكال حوار ًا‪ .‬وعندما ال يطيق‬
‫لون ما أن جياور لون ًا آخر‪ ،‬فذلك منطق حواري يمكن تبنيه يف إنشاء‬
‫عالقات جتاور األلوان أو تباعدها‪ .‬وال يتطلب األمر من األشكال فع ً‬
‫ال يقل‬
‫عن هذا احلوار احليس الذي يتولد عنها‪ .‬وتعمد األبنية أن تقيم حوارها مع‬
‫ما حوهلا من بيئة قريبة‪ ،‬يمد املبنى جدرانه لكي يتحسسها ويتوافق معها‪،‬‬
‫كام هو حال البيت التقليدي الذي جيهد نفسه وهو حياور ما حوله‪ .‬حلظة‬
‫تلتهب الشمس يف اخلارج‪ ،‬تتجاور البيوت وتتالصق لكي حتمي بعضها‬
‫من سياط اللهب الساخن‪ ،‬تقابل بعضها متقاربة وهي تفتح أبواهبا عىل أزقة‬
‫ضيقة مظللة‪ .‬ويف الداخل تنال البيوت من السامء حصة مقبولة‪ ،‬حتل غاممة‬
‫فوق رشفات وأروقة داخلية تلقي ظالهلا الباردة يف فناء الدار الوسطي‪،‬‬
‫حيث تفتح أبواب الغرف العديدة وهي تقذف ضوضاء كلامت تتلقفها‬
‫اجلدران الصاعدة نحو السامء والشمس واملطر ‪.‬‬
‫يف بيوت حديثة حتاول أن تستعيد بطريقة ما حلم الفناء الوسطي ‪ ،‬يف‬
‫فضاء داخيل مزدوج األرتفاع يصل الطابق العلوي مع الطابق االريض‪ ،‬غري‬
‫ال حمدود ًا ومفتع ً‬
‫ال‪ .‬فهو يأيت ضمن بنية معامرية خمتلفة عام‬ ‫إنه ينجز تواص ً‬
‫كان حيكم البيت التقليدي‪ ،‬الذي إنبنى عىل اإلنفتاح اىل الداخل‪ ،‬لب البيت‬
‫وبؤرة التقاء الفضاءات وإنفتاح اإلنغالقات كلها‪ .‬ولكن البيت احلديث‬

‫‪70‬‬
‫الذي إختار أن يغلق الداخل وينفتح اىل اخلارج‪ ،‬ويقيم معه حوار ًا أفقي ًا‬
‫عرب النوافذ واجلدران‪ ،‬يف مدينة حديثة تقطع أوصاهلا الشوارع العريضة‬
‫املشمسة‪ ،‬يف هذا البيت‪ ،‬تصبح إستعادة حلم الفناء الداخيل إستعادة ناقصة‪،‬‬
‫فض ً‬
‫ال عن إقرتاف املبنى الكثري من اإلغرتاب‪ ،‬وهو جيرتح أسلوب ًا معامري ًا‬
‫آخر‪ ،‬ويتكلم لغة طرازية غري متوافقة مع ما هو مألوف ومتعود عليه يف‬ ‫َ‬
‫عامرة املدينة‪ .‬إن العالقة املقرتحة بني جديد العامرة وقديمها‪ ،‬توجب أن‬
‫نقف عىل ما يريد اجلديد أن يستعيده من القديم‪ ،‬وما يمكن أن يبلغه من‬
‫إفرتاق عنه‪ .‬وألن املهم يف األشياء وهي تتكلم‪ ،‬هو ما لدهيا كي تقوله‪ ،‬فذلك‬
‫وحده الذي يفتح أمامها فضاء اإلصغاء‪ ،‬فإن مهمة أشكال األبنية‪ ،‬أن تقول‬
‫جديدا متوفر ًا عىل فطنة التواصل مع ما هو تقليدي‪ ،‬وأن تعي نواياها اىل‬
‫التجديد‪ .‬أما أن تقول األبنية كالم ًا معاد ًا‪ ،‬وتستهلك أشكا ً‬
‫ال تفتقد اىل ما‬
‫هو مثري وخمتلف‪ ،‬فإهنا تستحيل أحجارا وأشكاال صامتة ال تنطوي عىل‬
‫قول‪ ،‬ويستحيل حوار تلك البيوت مههامت ال تنبس بكلمة مفهومة‪ .‬غري إن‬
‫العامرة بوصفها فع ً‬
‫ال ابداعي ًا‪ ،‬مطالبة بأن تقدم يف كل جتلٍ جديد هلا‪ ،‬كالم ًا‬
‫آخر ورواية أخرى حلكايتها املستعادة واملتواصلة‪ .‬فام الذي يربر حضور‬
‫مبنى ال يقول جديد ًا‪ ،‬وما الذي يتيح له أن حيتل مكان ًا يف املدينة‪ ،‬عندما يعجز‬
‫عن التصويت بتوزيع جديد جلملة حلنية قديمة ‪.‬‬
‫يف مدينتي ثمة أبنية ال جتيد الكالم‪ ،‬عىل الرغم من إهنا تفغر فاها وتصوت‬
‫عالي ًا‪ ،‬غري إن ما نسمعه إثر ذلك أصوات حروف من فم ال جييد الكالم‪،‬‬
‫تأتأة متقطعة ومتباعدة‪ ،‬أصوات ًا متشنجة ال تنجز كلمة وال تبني مجلة وال‬

‫‪71‬‬
‫تبلغ معلومة‪ ،‬ألهنا كتل بنائية فقرية وقبيحة ومملة‪ ،‬مل حتظ بالعناية واإلبداع‪،‬‬
‫و مل متسها أيدي فنان أو حريف‪ .‬فكانت نتاج أنصاف األشياء ‪ ،‬وأثالث‬
‫القدرات ‪ ،‬وأرباع اخلياالت‪ ،‬واملزيد من العجز عن بلوغ مجال األشكال‬
‫وهي تصبو لكامهلا‪ .‬ثمة أبنية أخرى‪ ،‬تقول كالم ًا قلي ً‬
‫ال‪ ،‬تتلفظ بمفردة‬
‫شكلية أو أخرى ال ينوي شكل املبنى أن ينطق بسواها‪ ،‬تدور لتحرض عىل‬
‫اجلدران‪ ،‬فتصبح تلك املفردات لقلتها وضمورها وبساطتها عاجزة عن‬
‫إيفاء ظمأ التلقي خلطاب حيس غني‪ .‬ويف مبنى آخر يقرتح مفردة شكلية‬
‫ال لقوس مث ً‬
‫ال يعيد حضوره ويكرره يف تكوينات خمتلفة‪ ،‬توفر‬ ‫ما‪ ،‬شك ً‬
‫للمبنى من خالل التالعب يف حضور املفردة النجاح يف إثراء حكاية املبنى‪،‬‬
‫وتضمينها الكثري من احلس الذي يلقى صوته اهلادئ إصغاء ًا يف التلقي‪.‬‬
‫وهو غري حال مبنى يعمد اىل الرصاخ هبدير من مفردات تتعاىل أصواهتا‬
‫وتتزاحم أشكاهلا‪ ،‬فتستحيل ضوضاء حسية جتعل من التلقي جهد ًا عاجز ًا‬
‫عن متابعة احلكاية والوقوف عىل مقاصد واضحة‪ .‬ويكمن يف تناوب هذه‬
‫اإلحتامالت من خطاب األبنية جهد اإلبداع يف إختيار ما يقوله إلشغال‬
‫فضاء التلقي وإثراء املدينة ‪.‬‬
‫أسمعها‪ ،‬أصوات رصاخ وأنني وشكوى‪ ،‬تأيت من نوافذ األبنية وتترسب‬
‫من جدراهنا وقد تعرضت اىل األذى والتهديم‪ .‬قضبان من خشب الصاج‬
‫رسقت وتكرست وأحرقت‪ .‬وضاعت شناشيل النوافذ املتعالية التي كانت‬
‫ترقب صفحة النهر وشطآن النخيل يف اجلانب اآلخر من املدينة‪ .‬الباب‬
‫الواسع بقوسه نصف الدائري املتسامح‪ ،‬وهو يدور يف علياء املدخل بدعوة‬

‫‪72‬‬
‫متلهفة اىل لقاء‪ ،‬ما عاد الباب وال القوس وال تلك اللهفة‪ .‬أصبح النداء‬
‫حزين ًا خاوي ًا‪ .‬وما عادت األبواب محُ ب ًة وال النوافذ حاني ًة‪ ،‬وال اجلدران آوي ًة‪.‬‬
‫إهنا تنتظر من يربت عىل اكتافها‪ ،‬ويعيد ترتيب أحجارها وتلوين سطوحها‪،‬‬
‫والعودة بالربيق اىل نوافذها‪ ،‬يف إنتظار زمان قادم مأمول ‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫صمت األبنية وكالمها‬

‫من نافذيت املسائية الواسعة‪ ،‬أرقب وجه املدينة‪ .‬وإذ يأتيني مشهدها‬
‫املألوف ضامرا‪ ،‬تقرتح خميلتي للمدينة مشهد ًا آخر‪ .‬أبنية مؤلفة من سطوح‬
‫مميزة‪ ،‬ملونة بألوان شتى‪ ،‬متجاورة ومتقابلة بزوايا عالقات متفاوتة‪ .‬أبنيتي‬
‫التي أراها يف صورة حاملة للمدينة‪ ،‬هي أبنية ال تقول كل يشء‪ ،‬ألنه ليس من‬
‫مهمتها أن تقول كل يشء‪ ،‬وليس يف قدرهتا ذلك‪ ،‬بل املهم يف األمر أن يقول‬
‫املبنى شيئا ما يكون إسهاما يميزه‪ .‬غري إن ما يمكن أن يقال يتطلب صمتا‬
‫يأذن بالقول‪ ،‬يتطلب هدوءا وبياضا وما هو مألوف‪ ،‬كي يكون يف جتيل ما‬
‫حيرض نفاذا جيرتح ا ِ‬
‫جلدة‪ .‬إذ يف فضاء الصمت والبياض واملألوف‪ ،‬يمكن‬
‫أن حيرض الصوت واللون واجلديد‪ ،‬فيكون الصوت مسموعا وهو يغادر‬
‫الصمت‪ ،‬ويكون اللون مرئيا إذ حيل يف البياض‪ ،‬ويكون الشكل مدركا‬
‫حيث خيتلف عام هو مألوف‪ .‬واإلختالف يف أشكال األبنية هو حتول نحو‬
‫اجلديد فيها‪ ،‬وإرتياد أفق ما هو ممكن‪ ،‬الذي يكون يف نيته التمكن من فهم‬
‫ما هو معروف والنفاذ اىل تيه ما هو قادم‪.‬‬
‫يقول املبنى شيئا عماّ هو وعماّ يقع فيه‪ ،‬يقول شيئا عمن يسكنه‪ ،‬وعن‬
‫صخب احلياة وضوضاء األفعال اليومية التي ترتاكم آثارها فوق جدرانه‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫يقول شيئا يف حوار من جياوره أو يواجهه‪ ،‬هيمس قوال يف ما يسكنه وما‬
‫يسكن اليه‪ ،‬يقف جدار املبنى يف شكل يتوصل اليه ولون يتميز به‪ ،‬كي يؤدي‬
‫قوله يف هدوء ووضوح‪ .‬يعرب القول نافذة مرشعة اىل الرياح والشمس‪ ،‬أو‬
‫فوهة مضيئة يف الليل يف حديقة تغزوها ظلمة املساء‪ ،‬أو تنفذ بني اشجارها‬
‫خيوط ضوء املصباح اللييل الكسول‪ .‬والقول يف العامرة حضور وحتول‪،‬‬
‫يؤدي رؤى ترقب ما حوهلا وتتدخل فيه ‪ ،‬كام يف أشكال أبنية حتكي أكثر‬
‫مما ّ‬
‫تذكر‪ ،‬يف أشكال متشظية وملتوية ومتداخلة‪ ،‬تكاد إذ حترض تقول كالما‬
‫متواصال وطويال ‪ ،‬كثريا ما يتنوع‪ ،‬غري إن فيه متيز ًا من دون لغو‪ .‬عندما‬
‫تصبح أشكال األبنية مألوفة‪ ،‬يقل كالمها ويستحيل مع الزمان صمتا‪،‬‬
‫وحيث يستحيل الشكل طرازا ينفذ اىل لغته اهلدوء‪ ،‬وتضمحل مالحمه‬
‫وهي تسكن طويال يف الذاكرة‪ .‬وإذ نقرتح املزيد من األشكال‪ ،‬قد نحفر‬
‫مكعبا يف املكعب ونزحيه قليال‪ ،‬أو قد نلصق املكعب عىل مكعب آخر‪ ،‬أو أن‬
‫تكون العالقة بينهام أشد رشاسة‪ ،‬إذ خيرتق مكعب مكعبا ثاني ًا ‪ ،‬تعربه كتل‬
‫هرمية تربز يف جهة أخرى‪ ،‬غري إن تلك العالقة وعىل الرغم من حدثيتها‬
‫الصادمة ما تزال ممكنة القراءة‪ .‬هي كتل متعددة يف حركة نفاذ وتنافذ‪ ،‬ومع‬
‫إن يف سكوهنا الكثري من احلركة‪ ،‬ويف حدثها املزيد من التواصل‪ ،‬غري إهنا ما‬
‫تزال مفهومة‪ ،‬وهي تقول ما يمكن إستعادته والتحاور معه‪ ،‬وهو غري أن‬
‫تأيت بكل األشياء والكلامت‪ ،‬وجتاورها اىل بعضها‪ ،‬وتلقي هبا واحدة فوق‬
‫األخرى‪ ،‬أمال يف قول مجلة ليس يف قدرتنا قراءهتا عىل أية حال ‪ ،‬كام يف بيوت‬
‫املدينة اجلديدة وهي حتتل حميا الشوارع‪ ،‬تأيت بألوان وأشكال وتكوينات‬

‫‪76‬‬
‫يفتقد حضورها اىل التوافق‪ .‬تتطاول مكوناهتا اىل احلضور يف خيالء وعناد‪،‬‬
‫يصعب عىل بعضها أن تعي ما حياذهيا من أشكال أو ألوان‪ ،‬ينقطع خطاهبا‬
‫يف أحيان‪ ،‬إذ يصعب أن تأتلف يف إنتاج قول‪ ،‬فينتج عن حضورها هذيان‬
‫معجم من املفردات التي تعجز عن اداء مجلة مفهومة‪ .‬ولشدما تربكني نزوة‬
‫البعض أن يثري واجهات األبنية بشطط من املفردات والعنارص املعامرية‬
‫واألشكال‪ ،‬من دون ّ‬
‫تذكر أن النصوص اإلبداعية هي موضوع للقراءة‪،‬‬
‫ليكون الكالم هادئا خفيض الصوت يف حوارات اجلامعة‪ ،‬حيث يمكن أن‬
‫تروى احلكايات دونام إرتباك‪ ،‬واألشكال يمكن هلا أن تتجاور وحترض اىل‬
‫بعضها يف هدوء وحياد‪ ،‬أمال يف التلقي والقبول‪ ،‬غري إن مباراة األصوات‬
‫واألشكال كام يقرتح البعض‪ ،‬توقعنا يف الضوضاء والفوىض‪ ،‬وال مهرب‬
‫عندها من مغادرة املكان‪.‬‬
‫إن علينا أن نحذر طويال قبل أن نجاور بني لونني ‪ ،‬أو أن نقرتح‬
‫شكال لصق آخر‪ ،‬فاألشياء حترض اىل بعضها‪ ،‬غري أن األمر ليس سهال كام‬
‫قد نتوهم‪ ،‬إذ تأيت األشياء واألشكال واأللوان ومعها حكايتها التي تروهيا‬
‫ونقرأها‪ ،‬ويصعب أن جتتمع حكاية بأخرى اليديم تواصلهام برهان‪ .‬وقد‬
‫نقرتف عىل أية حال فوىض إستحضار األشياء ونتيه عند ذاك عن األنس‬
‫بحضورها‪ ،‬وتغيب ألفة اإلحتفاء بضيوف الوعي والتلقي‪.‬‬
‫ثمة عامل للكلمة وعامل لإلحساس‪ ،‬هو أكثر إضطرابا وتطلبا اىل العمق‬
‫والرؤية يف بناء النظام والقصد فيه‪ ،‬األمر الذي يستدعي بدءا أن نعرتف‬
‫لألشياء بحضورها‪ ،‬وأن ندرك عمق أصواهتا وحواراهتا‪ ،‬وأن نتذكر إن‬

‫‪77‬‬
‫لألشياء لغتها التي سبقت طويال لغة الكلامت‪ ،‬وإن هلا أصواتا متأل العامل‬
‫باهلذيان‪ ،‬األمر الذي يدعونا اىل تنظيم حضور األشياء‪ ،‬وترتيب جتاور‬
‫األشكال واأللوان واملفردات‪ ،‬فالعامرة ليست موسيقى متجمدة كام حيلو‬
‫للبعض أن يقول‪ ،‬بل صاخبة‪ ،‬قبل أن نتدخل يف تنظيم نغامهتا يف نص مكاين‬
‫تدخل يف الشكل الواقعي للموجودات‪ ،‬تكون هلا‬
‫مقروء ومؤثر‪ .‬والعامرة ّ‬
‫عواقب مادية وشعورية مؤثرة يف حياتنا اليومية‪ ،‬ويف نمط عالقتنا مع العامل‪،‬‬
‫يف حضورها الذي يصدم الوعي قبل أن تستدعيه الذائقة‪.‬‬
‫ال خيلو يشء من قول كام يتبني لنا ونحن نتأمل خطاب األشياء‪ ،‬وبني‬
‫ماتقوله األشياء ومايتلقاه املتلقي‪ ،‬كيف للصمت أن يدلف اىل املعادلة‪ ،‬ما‬
‫مل تستحرضه األشياء معها‪ ،‬ظ ً‬
‫ال عميق ًا من ظالهلا‪ ،‬وهي تأيت ليس بالقول‬
‫وحده بل والصمت أيضا‪ .‬يأيت الصوت الذي يتلفظ الصمت‪ ،‬والصمت‬
‫فضاء الكالم ال غيابه‪ ،‬اللون الذي يأيت بالبياض‪ ،‬إذ البياض فوهة اللون‬
‫هوة اليه‪ ،‬والشكل اجلديد الذي ّ‬
‫يذكر باملألوف ويستحرض بقايا ما‬ ‫ال ّ‬
‫هو مدرك‪ ،‬فال يعود املدرك مفقودا يف الغياب‪ ،‬بل حاال يف ما هو خمتلف‬
‫وجديد‪ ،‬يف هيأة من إكتفى ومل اإلحتفاء مباركا حضور ما هو قادم‪ .‬وبني‬
‫الصوت والصمت‪ ،‬اللون والبياض‪ ،‬اجلديد واملألوف‪ ،‬نقرأ األشياء وهي‬
‫تغادر الظلمة كي حترض يف الوجود‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫فضاءات‬
‫فضاء اخللوة‬
‫فضاءات مفتوحة‬
‫التفرد‬

‫‪79‬‬
‫فضاء اخللوة‬

‫يف البيوت‪ ،‬حيرشه البعض أسفل الس ّلم‪ ،‬وحيدا يف إنتظار قادم وحيد‪.‬‬
‫أو قد يدلف اليه بريق اجلدران الصقيلة‪ ،‬وضباب الزجاج املعتم‪ ،‬وتشغله‬
‫سعة مرفهة من الفضاء تأذن لك أن تلهو بأوقاتك اخلاصة يف عزلة كاملة‬
‫‪ .‬وقد تصادفه يف مبنى عام ‪ ،‬جياور شاغليه عزلة لصق عزلة‪ .‬أو قد تقودك‬
‫اليه الرضورة يف تيه فضاء قيص أو يف بعض جدار أو بقية سقف‪ ،‬كي ختتيل‬
‫بعض الوقت رفق جسد ثقيل مضطرب‪ .‬يف كل نية لفعل إنساين يستدعي‬
‫مكانا تنبت العامرة‪ ،‬حتى يف بعض العامرة أو يف ضعف حاهلا أو بقيتها‪.‬‬
‫مل يكن ليطمئن حلضوره يف مكان قبل أن جيد طريقه اىل فضاء اخللوة‪ .‬إذ‬
‫وهو يدخل مبنى جديدا‪ ،‬جتده يدور يف غرفه وممراته باحثا متلهفا قلقا‪ ،‬حتى‬
‫إذا دلف اىل فضاء بجدران المعة‪ ،‬تتوزعه خمادع صغرية قد التبلغ جدراهنا‬
‫السقف‪ ،‬تراه يقف وسط الفضاء هادئا متامسكا‪ ،‬ثم يفتح صنبور املاء إذ‬
‫يلقى وجهه باسام مطمئنا يف صفحة املرآة التي يصادفها معلقة اىل اجلدار‪.‬‬
‫بعد ذلك يمكن أن يعود وسط اآلخرين‪ ،‬يشاركهم أفعاهلم وحواراهتم و‬
‫يؤدي التزاماته‪ ،‬إنه اآلن يف حال مطمئنة‪ ،‬حتى إذا دامهته احلاجة اىل اخللوة‬
‫فإنه ال يتيه أو حيار‪ ،‬ألنه بات يعرف طريقه اىل مايريد‪.‬‬
‫ذات هنار‪ ،‬كان يعرب وصديقه املسافة بني مدينتني‪ ،‬وقد بلغا رضورة‬
‫‪81‬‬
‫التوقف ودخول مبنى طيني خرب‪ ،‬تتوزعه فضاءات خلوة منزوعة السقف‪،‬‬
‫معزولة بجدران قصرية التباري طوله‪ ،‬تغلقها دون إحكام أبواب معدنية‬
‫يعربها الضوء يف ثقوب عديدة تتوزع جسدها املتلوي واملتغضن‪ .‬دخل‬
‫خلوته اىل جوار خلوة صديقه‪ .‬كان حيل يف املكان اهلدوء‪ ،‬غري إن أصواتا‬
‫بدائية بدأت يف احلضور‪ ،‬ترافقها كلامت قليلة منحازة اىل الصوت وهو‬
‫يعرب مديات السكون‪ ،‬أعقبتها ضحكات قصرية إمتدت اىل نوبة من املرح‪،‬‬
‫مرح مديد وضحكات بقهقهات جملجلة ال يمنعها من العبور جدار‪ ،‬وال‬
‫يصدها عن الوصول سقف‪ ،‬تقطعها كلامت نادرة وخاصة‪ ،‬حتى إستحال‬
‫جتاور الصديقني يف فضائي اخللوة املرحني‪ ،‬وعواقب ذلك من الضحك‬
‫وتبادل الكلامت‪ ،‬منفذا اىل تقارب شخصيهام‪ ،‬وتكشف له ألول مرة‪ ،‬إن‬
‫صديقه الذي يعرفه طويال ليس كام ألفه ثرثارا وحسب‪ ،‬بل وطريف أيضا‬
‫‪ .‬كانت دقائق ثرية بتقارب ورصاحة وتنافذ‪ ،‬مل ُتتح له قبل أن يدلفا هذه‬
‫البناية اخلربة‪ ،‬التي تعد باخللوة دون أن تراعي حشمة إيواء فعالية خاصة‪،‬‬
‫قاصدة طرافة الفعل والتنحي عن خصوصيته اىل املزيد من الود والتقارب‪،‬‬
‫بتأثري الرصاحة التي يضطرك اليها فضاء خلوة ييسء فهم اخللوة‪ ،‬ويرفع عن‬
‫املخادع السقوف‪ ،‬يف عامرة تتقاعس عن إكتامل مبناها اىل فضاء قليل العزلة‪،‬‬
‫يدعوك اىل مغادرة الصمت وجتلية القهقهات ‪ .‬وقد تكون خلوة يف فضاء‬
‫مفتوح‪ ،‬دون جدران وأبواب وسقوف‪ ،‬ولكن ثمة غاممة من الظلمة تسرت‬
‫أجساد اآلدميني القريبة من بعضها‪ ،‬وهم يتبادلون بعض الكلامت التي ال‬
‫تعوزها الطرافة‪ ،‬رفق دوران إبريق املاء تلوكه األكف العديدة‪ ،‬تفرغه من‬

‫‪82‬‬
‫املاء يف صوت خرير لعوب‪ ،‬يف الليل الذي حيمي اخللوة‪ ،‬إذ يلم األجساد‬
‫املشغولة بالتحرر من أعباء الدفء الذي يغادر يف هدوء وصمت‪ ،‬غري إن‬
‫أصوات احلوار احلميم تقطع حجاب الصمت‪ ،‬حتوله كركرات وأصوات‬
‫حروف ممدودة الهية ‪ .‬الزمان كام يتبني هو أيضا مادة العامرة وليس املكان‬
‫وحده‪ ،‬حيث جتد الوقت الذي تنفقه رفق األمكنة ‪.‬‬
‫تدخل مرة فضاء خلوة صغري ًا ال تربو مساحته عىل مرت مربع واحد‪ .‬باب‬
‫يفتح اىل اخلارج‪ ،‬ثم فضاء بسعة فعل اخللوة اليزيد عن فرصة للجلوس‪.‬‬
‫اجلدران املحيطة قريبة‪ ،‬مطلية بلون هاديء‪ ،‬تغلف بعض مساحاهتا مربعات‬
‫خزفية صغرية بألوان قزحية‪ .‬الباب الصامت بلون داكن ومقبض ذهبي‬
‫المع‪ ،‬متسكه وتتلذذ بربودته‪ ،‬إنه قريب من وجهك‪ .‬صنبور املاء يصب‬
‫يف حوض مرمري أبيض‪ .‬ويأتيك يف هدوء صوت مروحة اهلواء الصغرية‪،‬‬
‫وهي متكث يف السقف القريب كي تأخذ بأنفاس الفضاء اىل أعىل‪ .‬كل‬
‫األشياء قريبة منك وواضحة يف فضاء يسكنه اهلدوء‪ ،‬متيزه نظافة الفتة جتعله‬
‫مقبوال وكأنه مكان خاص بك مل يدخله سواك‪ ،‬إذ ال أثر ملستخدم سبقك‬
‫اليه‪ .‬حتميك مساحة اخللوة املقتصدة حد الكفاف‪ ،‬من أن حياذيك تطفل‪،‬‬
‫فاملكان اليتسع لغري خلوتك‪ ،‬يف صمت يبدي إحرتاما لكفاف الفضاء‬
‫وإحاطته للجسد بحميمية ودفء‪ .‬أنت يف خلوة ويف عجلة من أمرك‪ ،‬ال‬
‫وقت لديك ملالقاة جدران طويلة عالية‪ ،‬وال الركون اىل فضاء كبري‪ .‬تكفيك‬
‫أشياء قليلة وركن صغري من مكان بسعة برهة زمان اخللوة ‪ ،‬تغادره بعدها‬
‫اىل رفاهية األمكنة وسعة الشوارع‪ ،‬وقد عدت خفيفا متحررا من جديد‪ .‬إن‬

‫‪83‬‬
‫العامرة يف ضيق املكان كام هي يف سعته‪ ،‬فقد يتسع فضاء اخللوة يف وضوح‪،‬‬
‫لتتقاسمه جدران من ألواح زجاجية نصف شفافة‪ ،‬حتيل املكان الواسع‬
‫أمكنة متجاورة ومتقابلة‪ ،‬تستحرض أشياء مرمرية بيضاء فاخرة‪ ،‬ومرايا بسعة‬
‫اجلدار‪ ،‬ونافذة عريضة تتوزع مساحتها زجاجات ملونة‪ ،‬تتلوى عىل جانبيها‬
‫قامشة الستائر البيض األنيقة‪ .‬وعىل مدى سعة هذا الفضاء فإنه يبقى فضا ًء‬
‫شخصيا‪ ،‬حيرض فيه صوت مجيل‪ ،‬وكلامت عتاب جلسد حزين متهدل‪،‬‬
‫يلتصق باجلدار وهو يمد قدمني نديني‪ ،‬يمسحان برودة الرخام الرصايص‬
‫الالمع‪ .‬ليس للجامل كام يبدو أن يغادر املكان حتى وأن دخلته وحيدا‪.‬‬
‫وأنت هناك يف فضاء اخللوة‪ ،‬سعة وصفاء وجدران من مرايا‪ ،‬أينام تدور يتاح‬
‫لك أن تلتقي جسدك‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫فضاءات مفتوحة‬

‫يف البيت الذي أقطن‪ ،‬إقرتحت فضا ًء حدائقي ًا مفتوح ًا‪ ،‬يتوارى خلف‬
‫الواجهة األمامية‪ .‬حيارصين كل صباح‪ ،‬بحث ًا عن ورود وأوراق تتلقف‬
‫الندى‪ ،‬وسيقان أشجار أزرعها‪ ،‬فتطاول اجلدران الصاعدة يف هدوء‬
‫خت ّلفه أشكال النوافذ املربعة‪ ،‬وقضبان مشبكات احلديد املائلة‪ .‬يدعوين يف‬
‫سويعات الظهرية الشتائية الدافئة ملباهاة القطة املتوثبة‪ ،‬متوء بصوت لينّ‬
‫متقطع‪ ،‬بعظيامت السمكة املشوية‪ ،‬نأكلها جمتمعني حول طاولة دائرية‬
‫زلقة‪ ،‬بتلذذ يطال أقراص اخلبز احلارة‪ ،‬تأتينا مشوية رفقها دعاء بالعافية‪.‬‬
‫الفضاء احلدائقي الذي إقرتحته‪ ،‬فضاء لتناول ظهرية الشتاء حافلة بالشمس‪،‬‬
‫وأمسيات الصيف الفاترة حارض فيها القمر‪ ،‬ومعارشة جدران البيت مترشبة‬
‫باملطر حينا وبالدفء حينا آخر‪.‬‬
‫يف العامرة‪ ،‬تبلغ إشكالية عامرة الفضاء احلدائقي املفتوح حد ًا من التعقيد‬
‫ال يقل عن تعقيد عامرة الفضاء الداخيل املغلق‪ .‬ويف حني يتاح لك يف‬
‫الداخل‪ ،‬أن تقوم بتنظيم الفضاءات املعامرية يف ضوء العالقات الوظيفية‪،‬‬
‫وإسلوب احلركة واإلنتقال بني الفضاءات‪ ،‬وحيث يمكن توفري بيئة‬
‫مكيفة للفضاء املغلق‪ ،‬فإن احلال يف معاجلة الفضاء اخلارجي املفتوح يكون‬
‫بالتكون ؟ نجد أن‬
‫ّ‬ ‫أمر ًا خمتلف ًا‪ .‬وإذ نسأل عن الفضاء اخلارجي كيف يبدأ‬
‫‪85‬‬
‫الفضاء متاح قبل أن يبلغ التحديد أو أن يقيده مفهوم معامري‪ ،‬غري إن‬
‫العامرة عندما حتدث يف جدار غرفة‪ ،‬إنام تتولد عامرة يف فضاء داخيل مغلق‪،‬‬
‫وتتولد عامرة يف فضاء خارجي مفتوح‪ .‬فاألبنية واملنشآت بفضاءاهتا املغلقة‪،‬‬
‫تنجز وهي تتقابل وتتجاور نمط ًا من اإلحاطة والتمكن من فضاء خارجي‬
‫يمسها و يتحرك زلق ًا بني كتلها وإىل جوارها‪ ،‬وحيظى من خالل ذلك بقدر‬
‫من التعريف واملفهمة‪ ،‬يكون يف مدى كبري بعض تلك الفضاءات الداخلية‬
‫املغلقة‪ ،‬يشكل إمتداد ًا هلا وتواص ً‬
‫ال مع دواخلها‪ ،‬عرب األبواب والنوافذ‬
‫واجلدران‪ ،‬ألن اجلدار الذي ينغلق حميطا بالداخل‪ ،‬إنام يظلل فضا ًء متمكن ًا‬
‫منه يف اخلارج‪ .‬ويف مدى من التأمل والفهم‪ ،‬فإن الفضاء اخلارجي املفتوح‬
‫هو بعض مكونات الفضاء الداخيل املغلق‪ ،‬إذ ال يتاح ملبنى أن يعلن عن‬
‫نفسه‪ ،‬وال يتاح لفضاء داخيل أن يرقب العامل ويتعامل معه ويتنفس بيئته‬
‫بغري حصة من فضاء خارجي مفتوح‪ .‬لكل من الفضائني حصة يف تقاسم‬
‫هذا العامل‪ ،‬حتى إذا جتاوز الفضاء املغلق عىل مساحة الفضاء املفتوح‪ ،‬كان‬
‫يف ذلك ضمور يف إنفتاحية الفضاء املغلق وإيغال يف إنغالقيته‪ .‬واذا جتاوز‬
‫الفضاء املفتوح عىل مساحة الفضاء املغلق‪ ،‬كان يف ذلك ضمور يف إنغالقية‬
‫الفضاء املفتوح وإيغال يف إنفتاحيته‪ ،‬إذ إن الفضاء املفتوح يف حاجة اىل مدى‬
‫من اإلنغالق يبلغه‪ ،‬حيث تقوم الفضاءات املغلقة واملجاورات‪ ،‬وحمتوياته‬
‫من األشياء واملكونات بتعريفه وحتديده والتمكن منه‪ .‬ألن حمض فضاء‬
‫مفتوح هو فضاء أويل غري خاضع لتدخالت الفعل اإلنساين‪ .‬ولذلك فإن‬
‫جهود الكتل البنائية املتعالية‪ ،‬وتقنيات تنظيم الفضاءات املفتوحة وإشغاهلا‬

‫‪86‬‬
‫بالشوارع وممرات احلركة‪ ،‬واجلدران الواقفة واألشجار ومكونات احلدائق‪،‬‬
‫هي جهود تتعمد اإلمساك بالفضاء اخلارجي وتأثيثه ‪ ،‬لكي حيسبه اإلنسان‬
‫مأوى ألفعاله التي ينجزها خارج األبنية‪ ،‬وأنامط العيش التي يامرسها هناك‪،‬‬
‫حيث يمدنا الفضاء املفتوح بعالقات جديدة وخمتلفة بني اإلنسان وما حوله‪،‬‬
‫يف فراغ من إنشغال الزمان ويف مساحة من املكان يسكنها أو يرقبها‪ ،‬بأن‬
‫نلفت إنتباهه اىل ما حيرض حوله من أشياء‪ ،‬ونحن نجيد تقديمها يف مشهد‬
‫معتنى به‪ ،‬يتوفر عىل إيقاع زماين وشعوري يؤديه نمط العالقة مع األشياء‪،‬‬
‫يف القرب أو البعد‪ ،‬الوضوح أو الغموض‪ ،‬احلضور أو الغياب‪ ،‬ولكل ذلك‬
‫مداخل تكمن يف الشكل واملعطيات البنائية لألشياء ونمط حضورها‪.‬‬
‫إن مرأى الفضاءات املفتوحة موضوع ثراء حيس وشيئي ليس أقل مما‬
‫يتوقع من مرأى األبنية والفضاءات املغلقة‪ ،‬يف مديات التعامل مع املعطيات‬
‫البيئية التي تصبح مادة أساسية للمنجز املعامري وهو يتعامل مع الرياح يف‬
‫خمتلف حاالهتا‪ ،‬والشمس وهي تالعب األشياء والعامل لعبة الضوء والظل‪،‬‬
‫واملطر الذي ينرش الفرح مع حباته الثقيلة ويطلق الضحكات اهلاربة‪ ،‬ويف‬
‫آفاق مد البرص‪ ،‬وحركة الشوارع والعجالت‪ ،‬وأعمدة اإلنارة واهلاتف‪،‬‬
‫ولوحات اإلعالن ومنحوتات املدينة الشاخصة‪ ،‬وأثاث احلدائق وتنوع‬
‫األشجار والورود واملساحات اخلرض‪ ،‬و التواءات األهنار النافذة يف احلدائق‬
‫ويف جسد املدينة‪ ،‬واجلسور التي تعربها حانية‪ ،‬واألصوات التي تتدخل يف‬
‫ترتيب البعد الفضائي وتؤثث الفراغ بالصوت والصمت والصدى‪.‬‬
‫نبني الفضاءات املفتوحة ونتيح ملن يمر اىل جوارها الكثري من املتعة‪،‬‬

‫‪87‬‬
‫يرقب مبتكراهتا وعامل أشيائها‪ ،‬غري إن ذلك ليس كل ما نبتغيه من إشغال‬
‫فضاء خارجي مفتوح بالكثري من املعاجلات التجميلية‪ ،‬بل األهم يف األمر‪،‬‬
‫هو أن نكشف عن العمق األجتامعي املمكن يف التعامل مع الفضاء املفتوح‪،‬‬
‫بأن نقود خطى املشاة داخل فضاءات احلدائق وعبور ممراهتا والوصول‬
‫اىل مساحاهتا الكاملة‪ ،‬بلوغ ظالل األشجار وسطوح املساطب‪ ،‬واإليواء‬
‫هناك لزمان ما‪ .‬وعندما يبلغ املشاة عمق احلدائق‪ ،‬تكون أمامنا مهمة إبتكار‬
‫توظيفات متأل الزمان واملكان بام خيلق الشعور باملتعة‪ .‬املاميش واملمرات‬
‫اىل جوار فضاء حدائقي أو داخله‪ ،‬يمكن أن تكون فرصة لإلنتقال بني‬
‫موضعني‪ ،‬يود أحدنا أن ال تطول‪ .‬وعند ذاك نأمل أن يكون املمشى بني‬
‫املوضعني مستقي ًام‪ ،‬يف حني ثمة ممشى آخر يدور بنا يف فلك احلديقة وجييد‬
‫أداء مهمته‪ ،‬التي تتكفل بإطالعنا عىل معطيات املكان‪ ،‬فيتلوى عابر ًا جوار‬
‫مسطبة‪ ،‬أو دائر ًا حول مساحة مزهرة أو حوض ماء‪ ،‬أو واقفا أمام كشك لبيع‬
‫املرطبات متأم ً‬
‫ال واجهة معروضاته‪ .‬تبدو مهمة املمشى يف احلالتني خمتلفة‪،‬‬
‫تبع ًا لشكل احلركة داخل الفضاء احلدائقي‪ ،‬أو إلقامة عالقة بني جماوراته‬
‫من األبنية‪ ،‬وقد يكون املمشى قرار ًا تصميمي ًا لتنميط إستعامل األمكنة وبناء‬
‫العالقة بني مكوناهتا وإثراء توظيفاهتا‪.‬‬
‫عندما ينتصب أحدنا واقف ًا يف فضاء مفتوح‪ ،‬يدامهه شعور بثقل الفضاء‬
‫املمتد بشكل ال متناه من فوقه ومن حوله‪ ،‬فيدرك إنه يف فراغ ليس له من‬
‫سلطة عليه‪ .‬غري إن جدار ًا يرتفع لبضعة أمتار‪ ،‬يمكن أن يعيننا عىل إمتالك‬
‫قدر من الفضاء جياوره ويدور حوله‪ ،‬يمكننا إلتقاطه واإلحساس به واإلنتامء‬

‫‪88‬‬
‫اليه‪ .‬ويف هنار صيفي مشمس‪ ،‬يتوقع أن يتسع هذا الفضاء املدجن اىل مدى‬
‫ما يسقطه اجلدار من ظل‪ .‬غري إن جدار ًا يبنى يف فضاء حدائقي‪ ،‬يؤ ّمن‬
‫مهامت أخرى‪ ،‬إذ هو جدار يقام يف بيئة‪ ،‬يراد له حيث ينتصب أن يقيم عالقة‬
‫مع الشمس والرياح واملطر‪ .‬ولكي يؤدي دور ًا يف عامرة احلديقة‪ ،‬فإن عليه‬
‫أن يصغي اىل ما حوله‪ ،‬ويعلن حوار ًا هادئ ًا مع الشمس وهو يتلقاها ويلقي‬
‫يف الظل ظالهلا‪ ،‬ومع الريح يصدها وهيدىء من هيجاهنا‪ ،‬ومع املطر يغسل‬
‫أحجاره‪ .‬إذ إن جدار ًا يف فضاء حدائقي مفتوح‪ ،‬ليس أقل من عارض يراد‬
‫له أن ال يسلك معرتض ًا اال وهو يقصد ذلك‪ ،‬كاشف ًا للعامل من حوله صور ًا‬
‫جيسد ما حوله‪.‬‬
‫جسد ذاته حيث ينوي أن ّ‬
‫يشرتك يف توليدها‪ ،‬ف ُي ّ‬
‫يف الفضاء احلدائقي املفتوح‪ ،‬حيتمل أن نقرتح للمسطبة مكان ًا ال يقود‬
‫اليه أحد‪ .‬وقد حتتل مسطبة أخرى مكان ًا يتنافس عليه الرواد‪ ،‬أو أن تنفق‬
‫شجرة ما الكثري من جسدها يف تظليل بقعة ال يأوي اليها أحد‪ ،‬أمام شجرة‬
‫أخرى يكتظ يف ظالهلا الكثريون‪ .‬إن قراءة متأنية للمكان تكشف عن‬
‫جغرافيته وبؤر العطاء املتوقعة فيه‪ ،‬وعن فضاءات الضوضاء واهلدوء‬
‫املحتملة لشاغيل احلديقة‪ .‬وثمة طوبوغرافية خفية تكون مهمتنا الكشف‬
‫عنها‪ ،‬وإحرتام تدخالهتا يف موضعة األشياء واملكونات‪ ،‬إذ للحديقة‬
‫وجود مسبق‪ ،‬قبل أن متسها يدنا وقبل أن تتقصد عقولنا تصميمها عىل وفق‬
‫إسلوب ما‪ .‬وهذا الوجود املسبق يتأتى من عوامل عديدة‪ ،‬بعضها جماورات‬
‫احلديقة‪ ،‬واملمرات النافذة اليها القادمة من دواخل األبنية ومسالك‬
‫احلركة القريبة‪ ،‬وبعضها من تدخالت العوامل البيئية واجلغرافية األخرى‬

‫‪89‬‬
‫وهيمنة حضورها‪ .‬عوامل عديدة تكون مهمة الكشف عنها وإستقرائها‬
‫مادة مؤسسة يف ختطيط الفضاءات املفتوحة‪ .‬وهي طبيعة األشياء وطبيعة‬
‫األفعال‪ ،‬يف تعدد مرجعياهتا‪ ،‬وهي تتدخل يف بناء شمولية الرؤية اإلبداعية‬
‫ملنجز ما‪ .‬وهو ما حيدث يف تصميم الفضاءات احلدائقية املفتوحة‪ ،‬حيث‬
‫التعدد من مقومات رؤيا املهندس املعامري‪ ،‬الذي يكون إنشائي ًا يف مدى‪،‬‬
‫ال باخلصائص اجلغرافية‬ ‫ومتعمق ًا يف النفس البرشية يف مدى آخر‪ ،‬ومنشغ ً‬
‫والبيئية‪ ،‬وواعي ًا ملتطلبات الرشط األقتصادي‪ ،‬وداعي ًا ملعونة مهندس زراعي‬
‫يقرتح مسميات األشجار وأنواعها‪ ،‬بام يالئم اخلصائص املعامرية والفراغية‬
‫التي يقرتحها تصميم الفضاء املفتوح‪ .‬يف شمولية إنتاج بيئة إنسانية‪ ،‬تتكاتف‬
‫ال يف أن يكون النتاج بعض ًا من‬‫أنامط معرفية وخربات وجتارب متعددة‪ ،‬أم ً‬
‫املدينة‪ ،‬متوفر ًا عىل حيوية الفعل‪ ،‬وعوامل شيوع اخليال وإثراء الذاكرة ‪،‬‬
‫ألبتكار نمط جديد من األلفة هو نتاج تضافر مزاج الطبيعة ومعرفة األنسان‪.‬‬
‫يف حلظة من الكتابة‪ ،‬كنت أدور يف حديقة وسطية‪ ،‬بني أبنية متقابلة يف‬
‫املوقع الذي أعمل فيه‪ ،‬أرقب إزهار الورود ونمو سيقان األشجار وشيوع‬
‫اخلرضة يف مساحات كانت جرداء لسنني طويلة‪ ،‬وال أدري كيف وجدتني‬
‫أتبع الفضاء املفتوح يقود خطاي اىل الشوارع‪ ،‬ولقيتني أقرأ يف املدينة ظمأها‬
‫القديم لفضاء حدائقي مفتوح حيفل بمن يتدخل يف بناء شكله بعناية‪،‬‬
‫ال من بقاء الفضاءات‬ ‫ويسهم يف تشييد عامرة مفرداته‪ ،‬وتأمني ألفته‪ ،‬بد ً‬
‫املفتوحة خالية‪ ،‬اال من جدران حائلة وطارئة‪ ،‬عديدة ومتكاثرة‪ ،‬كل يوم‬
‫تنهض جدران جديدة حائلة وطارئة‪ ،‬عديدة ومتكاثرة‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫التفرد‬

‫التفرد حال يف الوجود هو الوجود‪ .‬ليس من شبه بني إثنني يغلب عىل‬
‫اخلالف بينهام‪ ،‬فالشبه بدء وإثره يأيت اخلالف والتفرد‪ .‬العامل األشيائي واحد‬
‫يف عزلة‪ ،‬أنت من يتعاطاه فردا‪ ،‬فيستحيل عاملك الذي متيزه عاملا متفردا‪،‬‬
‫يف صورة يدلك اليها هنج يف الوعي واملعرفة ختتاره‪ ،‬وأنت جتد دربك اىل‬
‫الوجود متفرد ًا حيف بك اآلخرون‪ ،‬ترقبهم وترقب العامل من حولك يف‬
‫رؤيا‪ ،‬يكون فيها التلقي للبصرية العارفة أكثر وضوحا ومقروئية وجدوى‪.‬‬
‫ويف املكان‪ ،‬تزيح عنك العناء وتقر اىل هناءة الكريس‪ ،‬مجاله ونبله‪ ،‬ذكاؤه‬
‫وفطنته‪ ،‬عظمته وكربياؤه‪ ،‬إنه يسعك وحدك‪ .‬تلحظ كم هو مهذب وأنيق‬
‫ومثقف هذا املخلوق‪ ،‬األكثر ماحيتفي بالفرد يف كل امللكوت اىل مدى تعجز‬
‫عنه كثري من األشياء‪ .‬حيتفي بوجودك فردا ال يدانيك فيه أحد‪ .‬الكريس‪ ،‬أي‬
‫جبار وأية سلطة‪ ،‬وأي عطاء ثر ونبيل إذ يأتيك وحدك‪ .‬كم جت ّله ومتجده‬
‫وتقبل يديه‪ ،‬تركع عند قدميه‪ ،‬مذهو ً‬
‫ال من حدة بسالته إذ ال يتسع لسواك‪.‬‬ ‫ّ‬
‫َمن ِمن أشياء العامل إاله جيازف وبعناد أن اليتسع لسواك‪ ،‬وكم عظيام أن‬
‫جتد يف الكريس هذا املصري املذهل‪ ،‬أن الحياذيك أحد وأنت حممي بسلطة‬
‫هذا املالذ املهيب‪ ،‬يبعد عنك ماليس منك‪ ،‬فتشغله جالسا يف ثبات وهدوء‪.‬‬
‫يقول (سيوران) (أن نعيش حقا يعني أن نرفض اآلخرين‪ ،‬فالقبول هبم‬
‫‪91‬‬
‫يتطلب التخيل عن األشياء‪ ،‬كبح مجاح الذات‪ ،‬الترصف ضد الفطرة‪،‬‬
‫إضعاف النفس‪ .‬نحن النتصور احلرية اال ألنفسنا والنبسطها عىل القريبني‬
‫منا اال بشق النفس) (‪ .)1‬وترى إن املشاركة عالقة ملتبسة‪ ،‬مربكة وآثمة‪،‬‬
‫وهي تنفذ اىل الوجود والفعل واحللم‪ .‬إذ كيف يمكن لك أن تنام فردا‬
‫وأنت مكتنف يف سعة الرسير بأقدام الرشيك الدافئة‪ ،‬وكيف لك أن ترشب‬
‫الشاي ساخنا وهو تلطف قد الجييده أو حيرص عليه رفيق الظهرية‪ .‬رشيك‬
‫حتارصك عواطفه وكلامته حد قول ما حيلو له من قول‪ ،‬رشاكة تغمرك بواهم‬
‫احلس حتى اليعود لتفردك منفذ‪ .‬تنتظم أحالمك وهي تستحرض صورته‬
‫املعشوقة‪ ،‬يساكنك املكان فتغمره أو يغمره‪ ،‬تلونه أو يلونه‪ ،‬تناله أو يناله‪،‬‬
‫وتبحث يف الظلمة قانطا عن ضوء يمكن له أن يدل اليك وحدك‪.‬‬
‫تنجيل يف عينيك حرية األشياء وهي حتارص بعضها‪ ،‬إذ حتاذهيا وتزامحها‬
‫يف األزمنة واألمكنة‪ ،‬ويلوذ يف رأسك السؤال‪ ،‬كيف جتد الغرفة مكاهنا يف‬
‫البيت‪ ،‬موطنها الذي اليزحيها عنه فضاء آخر‪ .‬كيف جيد فضاء النوم مأواه‬
‫املتفرد‪ ،‬فال يدانيه يف سعة العيش فضاء آخر‪ .‬وكيف جيد شاغلو الدار‬
‫أرسهتم‪ ،‬قبل أن يصادفهم وهم يتسللون اىل عزلتهم‪ ،‬حراس‬
‫دروهبم اىل ّ‬
‫الوضع األجتامعي األبدي‪ ،‬احلريصون عىل سكب الساعات الطويلة‪ ،‬أمام‬
‫شاشة التلفاز وهي هتذر بحكايات مكرورة‪.‬‬
‫يف البيت‪ ،‬ترقب اجلدران وهي تلتف أمامك لتدور حول الفضاءات‪،‬‬
‫تسمي الفعل اليومي ومتيزه وحتميه‪ .‬غري إهنا هتدر بذلك الكثري من التواصل‪.‬‬

‫‪1‬ـ سيوران ـ تاريخ ويوتوبيا ـ ترمجة ‪ :‬ادم فتحي ـ داراجلمل ـ ‪ 2010‬ـ ص ‪. 24‬‬

‫‪92‬‬
‫و قد يؤذن ستار شفاف أو حاجز جزئي من خشب مشبك وهو حياول‬
‫اإلحاطة‪ ،‬باملأمول من عبور األصوات والكلامت والوجوه ‪ .‬ويف مكان‬
‫العمل‪ ،‬حيث متيض وقتك يف قاعات الدرس‪ ،‬يلتزم الطلبة اهلدوء‪ .‬ويف‬
‫املمر املحاذي لصق جدار القاعة‪ ،‬تسمع حوارا وضوضاء وضحكات‪.‬‬
‫وتتساءل‪ ،‬عندما نرفع اجلدار مابني القاعة واملمر‪ ،‬هل يعرب هدوء القاعة‬
‫اىل املمر‪ ،‬أم تدخل ضوضاء املمر اىل القاعة؟ أي سلوك سوف يعم فضاء‬
‫القاعة واملمر حيث اليعود بينهام جدار؟ كيف يمكن احلفاظ عىل متايز‬
‫الفضائني عىل الرغم من تواصلهام املتعمد؟ وإذ يعرب حاجز شفاف بني‬
‫القاعة واملمر‪ ،‬كيف يتأتى لكل من الفضائني أن يبلغ تفرده؟ وتذهب يف‬
‫خيالك اىل ما رغبت‪ ،‬ترفع جدار املرسم الذي يعزله عن ممر احلركة وفضاء‬
‫اإلنتظار جواره‪ .‬ممارسة الدرس تقع اآلن يف العلن‪ .‬اهلدوء الذي خيتص به‬
‫املرسم ينفذ بسلطته اىل املمر املحاذي‪ .‬املتحركون هناك يمضون اىل اهلدوء‬
‫اآلن‪ .‬يرقبون املرسم والطلبة واألساتذة‪ ،‬وفعل الدرس ال يستحيل ممارسة‬
‫أكاديمية إعتيادية حتفها جدران قاعة‪ ،‬بل يصبح الدرس بعد زوال اجلدران‪،‬‬
‫بعض ثقافة احلضور يف مبنى القسم الدرايس‪ .‬ومايلبث املكوث يف املبنى أن‬
‫يكون‪ ،‬شبه العيش يف مشغل معامري‪ ،‬يشرتك فيه عابرو فضاءات املبنى‪،‬‬
‫الذين يصادف حضورهم عرض ًا ملرشوع معامري‪ ،‬أو مناقشة له أو حوار ًا‬
‫حوله‪ .‬أرفع اجلدران‪ ،‬و أبقي عىل السقوف‪ ،‬فيكون لكل فضاء يف املبنى‬
‫عال وسقف واطيء بلون أو شكل‬ ‫سقف يميزه وحيفظ تفرده‪ .‬سقف ٍ‬
‫خمتلف‪ .‬سقوف متاميزة متايز الفضاءات واإلستعامالت املتعددة وهي تتوزع‬

‫‪93‬‬
‫زوايا املبنى‪ .‬كل من يف املبنى يمكن له أن يصادف اآلخر‪ ،‬من يمكث يف‬
‫قاعة الدرس‪ ،‬ومن يعمل يف مكتبه‪ ،‬ومن يسري يف املمرات‪ .‬وتشيع يف املبنى‬
‫عادات جديدة حتفظ لكل فضاء عزلته عوض ًا عن غياب اجلدران‪ ،‬وقد‬
‫كانت جتعل من عزلة الفضاء الواحد ممكنة بسهولة ساذجة‪ ،‬دون أن تفلح يف‬
‫إنضاج سلوك استعاميل خمتلف حيمي الفضاء إذ تغيب‪ ،‬يف تنوع كثافة احلركة‬
‫ويف تباين حاالت الصمت والكالم وهدوء الفضاءات أو تعايل أصواهتا ‪.‬‬
‫يمكن اآلن إضافة إحاطات زجاجية شفافة حول الفضاءات لتفعيل كفاءة‬
‫العزل الصويت بينها‪ ،‬مع إتاحة دائمة لتواصل برصي يعرب مديات املبنى‪ .‬هي‬
‫جدران زجاجية تصل برصيا بني فضاءات ذات مناخات صوتية متعددة‪،‬‬
‫وتلقاك يف حال كالم‪ ،‬يرقبك اآلخرون‪ ،‬تصمت أو تضحك‪ ،‬تشري أو تلعن‪،‬‬
‫تتحرك جيئة وذهابا‪ ،‬وأنت يف عيون ليس من يشاركك الفضاء فحسب‪،‬‬
‫بل كل من يدلف اىل املبنى‪ ،‬ويستحيل املسموع مرئي ًا‪ ،‬وهييمن تلقي املرئي‬
‫عىل غياب املسموع‪ ،‬فينجيل احلوار إشارات وإيامءات ال كلامت‪ ،‬وتسود‬
‫لغة أخرى تستبدل الصوت بالصمت‪ ،‬والكلمة باحلركة واإلشارة‪ ،‬وختتفي‬
‫نية اإلستامع لآلخرين وهم يظهرون يف املشهد‪ ،‬وتنمو الرغبة يف ترمجة‬
‫حركاهتم وسكناهتم اىل معاين ودالالت تؤسس لتوظيف لغة جديدة ‪ .‬ال‬
‫يعود الزما أن حترض يف قاعة الدرس كي يصلك مايقال‪ ،‬بل تبلغ من صورة‬
‫ماترى الكثري من معنى مايقال‪ .‬كام إن من يدرك حضوره يف املشهد البرصي‬
‫حيمل برسالة‬
‫لآلخر‪ ،‬يسعى اىل إنضاج لغة إشاراته كي يقدم جتليا ذا قيمة‪ّ ،‬‬
‫مضمونية أو تعبريية‪ ،‬هو املسموع من املقربني اليه يف الفضاء املعامري‪ ،‬مرئي‬

‫‪94‬‬
‫لكل سكان املبنى‪ ،‬لينمو يف الفضاء املتواصل خطاب برصي ينقل معلومة‬
‫وجيهز للقراءة فيثقل محولة الوجوه‪ ،‬واليعود التجيل كلمة أخاذة تصل‬
‫املسامع‪ ،‬بل إشارة ملاحة تسكن مشهدا يطول ويمتد رغبة يف تلقي تكشفات‬
‫ال متل ‪.‬‬
‫يمكن لك أن تكون يف املكان وحدك‪ ،‬أو أن يكون املكان لك وحدك‪،‬‬
‫تنفذ اليه وينفذ اليك‪ ،‬تتمكن منه كام يمكن له أن يتمكن منك‪ ،‬عندما تصوغ‬
‫يف املكان تفردا خيصك فيكون مكانك‪ ،‬إذ يبنى املكان يف العامرة يف وضع‬
‫شكيل يصور واقعا ثقافيا ينتمي اليه إنسان املبنى‪ ،‬وكلام وجدنا إختيارات‬
‫الفرد املؤسسة لنمط حياته وأفعاله يف املكان‪ ،‬كان ذلك منفذا لتفرده وتفرد‬
‫الوقائع املكانية حلياته‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫في ماهية العمارة‬

‫وظيفة العمارة وماهيتها‬


‫الشكل املعماري والتعبري عن الوظيفة‬
‫الزمان فـي العمارة‬
‫مجال العمارة وماهيتها‬
‫اجلمال واأللفة فـي العمارة‬
‫واقعية العمارة والواقعيتها‬

‫‪97‬‬
‫وظيفة العمارة وماهيتها‬

‫قد يصاب أحدهم باخليبة وهو يقرأ كلمة (الوظيفة) يف سياق احلديث‬
‫عن العامرة اليوم‪ ،‬حيث تتبارى أشكال األبنية من دون نية إخبار عن عالقة‬
‫تلك األشكال بالوظيفة التي تسكن املبنى‪ .‬غري إن األمر وببساطة صادمة‪،‬‬
‫إن العجلة التي وجدنا السبيل اىل إخرتاعها‪ ،‬ال يمكن اال أن تكون دائرية‪،‬‬
‫كي يتاح لنا إعتامدها عجلة يمكن حتريكها لقصد تسبب أوال يف حدوثها‪،‬‬
‫أما الكالم عن عجلة مربعة فهو كالم يف نفي العجلة وإستحالتها‪ ،‬وهو‬
‫إشعار يمكن له أن يوحي بدالالت أخرى سوى توظيف العجلة ملا تعودت‬
‫عليه‪ .‬ونريد يف قولنا يف العجلة‪ ،‬تشبيها لقولنا يف رضورة الوظيفة يف العامرة‪،‬‬
‫حلد نفي العامرة يف حال نفي وظيفتها‪ .‬والوظيفة لدى (موكاروفسكي) تعني‬
‫إستعامل اليشء لغرض معني إستعامال متكررا يلقى قبوال إجتامعيا‪ ،‬وليس‬
‫إستعامال وحيدا أو إستعامال متكررا من قبل شخص واحد(‪ .)1‬وهو قول‬
‫يمكن أن يدلنا عىل إن لكل يشء يف الوجود اإلنساين وظيفة‪ ،‬تتأتى من عالقة‬
‫اإلنسان بذلك اليشء وإيراده يف سياق توظيف ما‪ .‬ويف العامرة‪ ،‬تتضمن‬
‫الوظيفة كل األغراض التي يكون املبنى معنيا بخدمتها وجتهيز متطلباهتا‪،‬‬
‫وأن يكون بذلك متوافر ًا عىل املالءمة والراحة كام كان (فرتوفيوس) يدعو‬
‫إىل ذلك‪ ،‬عىل الرغم من إن توافر املالءمة والراحة يف املبنى هي مسألة معقدة‬
‫‪99‬‬
‫ومعيار خيتلف من شخص آلخر‪ ،‬ومن وقت آلخر‪ ،‬ومن مكان آلخر‪ .‬كام‬
‫إن وظيفة املبنى ال تشري إىل توفره عىل متطلبات راحة اجلسد فحسب‪ ،‬بل‬
‫راحة العقل والنفس أيض ًا ‪ .‬و ذلك أفق متغري وصعب التحديد‪ ،‬يكشف عماّ‬
‫يقع للوظيفة‪ ،‬بوصفها أحد األبعاد الثابتة يف العامرة من تغري‪ ،‬حينام تقيم‬
‫عالقة مع األبعاد املتحولة فيها‪ ،‬املكانية والزمانية واإلنسانية‪ ،‬التي متارس‬
‫تأثريها حاملا حترض العامرة يف وجود واقعي هلا يف مبنى ما‪ .‬ويمكن القول‬
‫بأن حتول الوظيفة بتأثري ما يقع للعامرة يف وجودها الفردي يف مبنى‪ ،‬يرتك‬
‫الفرصة عريضة أمام إمكانية إستعامل املبنى بكيفيات وكفاءات خمتلفة‪،‬‬
‫يتمثل األمر عىل وجه العموم‪ ،‬يف لزوم توفر املبنى عىل متطلبات إستيعاب‬
‫تدخل الوظيفة يف العامرة‬
‫فعل التوظيف عىل إختالف حاالته‪ .‬ومما يزيد أمر ّ‬
‫وضوح ًا‪ ،‬إن العامرة تشتمل يف العادة وبشكل جوهري عىل مشكلة‪ ،‬مثل كل‬
‫يشء يصنعه اإلنسان يكون قد نشأ عن مشكلة‪ ،‬وإنه يعبرّ عن حل هادف‬
‫هلا‪ .‬وتبع ًا لذلك فإن املهمة األوىل للمهندس املعامري‪ ،‬كام يقول ( نوربرغ ـ‬
‫ال للمشكلة التي يصادفها املبنى‪ ،‬وتلك هي وظيفته‬ ‫شولز ) هي أن يقدم ح ً‬
‫التي متثل نقطة اإلنطالق يف احلل املعامري(‪ ،)2‬حيث تساعد الوظيفة يف أن‬
‫يكون املبنى عىل مستوى املخطط وأشكال الفضاءات ومسالك احلركة‪،‬‬
‫فض ً‬
‫ال عن إلتزامات املتانة اإلنشائية والتعبري اجلاميل‪ ،‬بام حيقق كفاية وكامال‬
‫مرجوين يف العامرة‪.‬‬
‫وقد كان (افالطون) يقول بأن كل يشء يف الوجود يكون ظهوره وكامل‬
‫وجوده وفق ًا لغاية معينة يؤدهيا(‪ ،)3‬كام إن ما يفرض أو ً‬
‫ال حني نروم أن‬

‫‪100‬‬
‫نصنع شيئ ًا ما كام يقول ( ابن سينا ) هو غاية ذلك اليشء‪ ،‬ومنه ُيستنبط سائر‬
‫ما قبل الغاية ومابعدها (‪ .)4‬والغائية هي قانون طبيعي يقوم عليه وجود‬
‫األشياء كلها‪ ،‬عىل فهم إهنا النزوع إىل توظيف اليشء نحو إستعامل معني‪ .‬إذ‬
‫ال يمكن ختيل يشء يف الطبيعة‪ ،‬بدء ًا من امليكروفيزياء كام يذكر (باشالر ) من‬
‫دون عمل حيققه هذا اليشء (‪ .)5‬وال خترج العامرة عن دائرة هذا اإلمجاع‪ ،‬يف‬
‫كون الوظيفة هي فكرة أساسية مولدة ودائمة احلضور يف العامرة‪ ،‬كام تؤكد‬
‫آراء الباحثني يف مسميات ومصطلحات خمتلفة‪ ،‬مثل الرضورة أو احلاجة‬
‫أو الفائدة أو الغاية‪ ،‬غري إهنا مسميات تؤدي املسألة ذاهتا‪ .‬فنجد يف مالحظة‬
‫(الربيت) يف كتبه العرشة عن العامرة‪ ،‬بأن سبب والدة أي مبنى‪ ،‬إنام يعود إىل‬
‫الرضورة أو احلاجة‪ .‬يؤيده يف ذلك (لوجري) الذي يؤكد بأن العامرة تتأصل‬
‫يف الرضورة‪ .‬ويرى (لودويل) بأن ما يظهر يف العامرة ويكشف عن نفسه‬
‫هو ما يمتلك وظيفة حمددة‪ ،‬وجيد مسوغه يف الرضورة واحلاجة‪ ،‬ولذلك‬
‫فهو يمنع كل ما يضاد هذه املبادئ التي يعدّ ها حجر الزاوية يف العامرة‪.‬‬
‫وهلذا فإن الرشط املهم يف العامرة لدى (وطن) هو أن تكون مالئمة لتحقيق‬
‫احلاجات والوظائف األنسانية التي تكلف هبا‪ .‬وكان (لوكوربوزييه) قد ذكر‬
‫بأن القول بالعامرة الوظيفية هو ثرثرة‪ ،‬ألن العامرة وظيفية بالتأكيد‪ ،‬واذا مل‬
‫تكن العامرة وظيفية ‪ ،‬ما الذي يمكن هلا اذن أن تكون ؟ (‪.)6‬‬
‫لقد رأى (بلوندل) بأن العامرة جيب أن تتميز عن باقي الفنون اجلميلة‬
‫كالتصوير والنحت‪ ،‬ألن املعامريني وبسبب تأثري اجلانب الوظيفي يف‬
‫مهامهتم ال يمكن أن يسمحوا ألنفسهم بأن يكونوا شكليني بدرجة مطلقة‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫فالعامرة هي أكثر من جمرد قضية تناسب ومجال‪ ،‬إذ جيب أن تكون ذات فائدة‬
‫حمددة(‪ .)7‬ويف رأي ( لويس كان ) فإن األبنية ليست جمرد أشكال جتريدية ‪،‬‬
‫بل هي دائ ًام موجودات يف خدمة املؤسسات اإلنسانية ‪ ،‬البيت مبنى ألجل‬
‫السكن والراحة‪ ،‬واملدرسة مبنى ألجل التعليم‪ ،‬حيث تسكن املؤسسة‬
‫املبنى فيكون بيتها (‪ .)8‬ونجد يف فلسفة (فتجنشتني) األخرية‪ ،‬إن الفصل بني‬
‫ما خيدم غرض ًا أو غاية‪ ،‬وبني ما هو غاية يف ذاته‪ ،‬هو فصل زائف بالنسبة إىل‬
‫طبيعة العامرة‪ ،‬ألن العامرة هي الفن الوحيد الذي ال ُيعدُّ غاي ًة بحد ذاته(‪.)9‬‬
‫فالعامرة وعىل الرغم من إنجازاهتا الشكلية والتعبريية‪ ،‬ال تكون وال يمكن‬
‫هلا أن تب ّلغ خطاهبا التعبريي‪ ،‬قبل أن تتوافر عىل إمكانية التوظيف‪ .‬وعندما‬
‫جتد العامرة مربرها الوظيفي‪ ،‬يكون يف قدرهتا أن حتقق متطلبات الوظيفة يف‬
‫كيفيات شكلية خمتلفة‪ ،‬تبع ًا لقدرة املهندس املعامري اإلبداعية‪ .‬وهذا األمر‬
‫يعني بأن الوظيفة ليست بعض ما يسبب أن تكون العامرة وحسب‪ ،‬بل‬
‫هي أيض ًا بعض غاية ما يتعلق هبا‪ .‬ونحن يف واقع األمر ال نستعمل ما هو‬
‫موجود عىل الدوام‪ ،‬وبالقدر ذاته ومنذ البدء‪ ،‬إنام نوجد ما نحن يف حاجة إىل‬
‫إستعامله‪ ،‬يف صياغة شكلية هي ليست ممارسة تلقائية‪ ،‬بل ممارسة قصدية‬
‫يكون اإللتزام الوظيفي أحد العوامل املؤثرة بوضوح يف بلوغ نتائجها‪.‬‬
‫وعىل الرغم من إن الوظيفة إلتزام تضع العامرة نفسها أمام مهمة اإليفاء به‪،‬‬
‫غري إن هذا اإللتزام ليس نتاج موقف أخالقي معني‪ ،‬بل هو يف حقيقة األمر‬
‫نتاج إلتزام ماهوي‪ ،‬ذو عالقة بطبيعة العامرة ذاهتا‪ ،‬يتأكد يف أن العامرة هي‬
‫وظيفية يف علتها ويف غايتها‪ .‬وقد شغلتنا الوظيفة يف هذا املقال‪ ،‬ليس يف‬
‫أهنا إستثامر للعامرة ‪ ،‬بل يف كوهنا مقوم ًا أساسيا يف بناء ماهيتها ‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫اهلوامش‬
1- Mukarovsky, jan, (the problem of functions in architecture), in

(structure, sign, and function) , new haven, yale university press ,


1978 , (p 236).
2- Norber-schulz, Christian , ( Intentions in architecture) , universitetsm
forlaget allen&unwin ltd. 1966 (p 185).

،‫ مكتبة النهضة املرصية‬،‫ ابو العال عفيفي‬:‫ ترمجة‬،)‫ (املدخل إىل الفلسفة‬،‫ ارزفلد‬،‫ كولبة‬-3
.) 211 ‫ (ص‬1965 ‫ الطبعة اخلامسة‬،‫القاهرة‬
‫ (ص‬1967 ،‫ بريوت‬،‫ دار املرشق‬،‫ اجلزء الثاين‬،)‫ (تفسري ما بعد الطبيعة‬،‫ ابن رشد‬-4
.) 479
‫ وزارة الثقافة‬،‫عادل العوا‬.‫ د‬: ‫ ترمجة‬،)‫ ( الفكر العلمي اجلديد‬،‫ غاستون‬،‫ باشالر‬-5
.) 63 ‫ (ص‬1969 ،‫ دمشق‬،‫واالرشاد القومي‬
6- Kaufmann, emil (architecture in the age of reason), dover publications

, inc. newyork , 1968 ( p 96 , 103).


7- Lesnikowski, Wojiech G, (Rationalism and romanticism in Architecture),
McGraw-hill Biik Company , New York, 1982 (p 49).
8- Lobell, Jon, ( between silience and Light ), chambhala publications,Inc
, Colorado,1979 (p 65).
9- Wilson, Colinst John, (The Play of use & The Use of Play), in (the
architectural review), London , no.1073 july , 1986 (p 16).

103
‫الشكل املعماري‬
‫والتعبري عن الوظيفة‬

‫بات أمرا مؤكدا أن تكون للعامرة وظيفة تؤدهيا وهي من مقومات‬


‫ماهيتها‪ .‬غري إن مايتبع ذلك‪ ،‬هو أن يقصد املبنى اإلشارة اىل إلتزامه الوظيفي‬
‫عىل مستوى الشكل‪ ،‬حيث فضاء جتيل املاهية‪ .‬ويف ذلك األمر منفذ اىل‬
‫وضوح املبنى والتمكن من تعاطيه وقراءته‪ ،‬إذ ليس يدلنا عىل املبنى أقل‬
‫من تكشف شكله عام يوحي بوظيفته‪ .‬وقد كان (فيوليه يل دوك) يرى بأن‬
‫املعامري جيد أدواته للتعبري يف العالقات املمكنة بني الوظيفة والشكل (‪.)1‬‬
‫كام إن تعبريية العامرة يف قول (جوزيف هونت)‪ ،‬هي يف أن تعرض مظاهر‬
‫األبنية وظائفها يف الغالب‪ .‬وقد يبلغ ذلك األمر من الوضوح حد أن تبدو‬
‫واجهات األبنية كام لو إهنا تصف مهامهتا يف كلامت (‪ .)2‬ويف غياب ذلك‬
‫خيشى (موكاروفسكي) أن يبقى العمل الفني مبهام (‪ .)3‬و التعبري عن الوظيفة‬
‫يف الشكل‪ ،‬نزعة موجودة يف خمتلف األشياء املصنوعة واملعدة لإلستعامل‪.‬‬
‫حيث يرغب اإلنسان يف تقديم أشياء تعلن عن نفسها من دون غموض‪ .‬ألن‬
‫نفعية هذه األشياء تستلزم أن تعرب عن قدرهتا عىل تقديم املنفعة‪ ،‬كي تدخل‬
‫يف الشيوع واإلستعامل‪ .‬وإن جزء ًا كبري ًا من قدرة األشياء عىل اإلفهام ينجزه‬
‫شكلها‪ ،‬وهو يعرب عن كيفية إستعامهلا‪ .‬فتكون كل تفاصيل الشكل نافعة‪،‬‬
‫وموجودة فيه ألهنا نافعة‪ .‬وهو إسلوب يف تشكيل األشياء تعلمه املصممون‬
‫‪105‬‬
‫الصناعيون‪ ،‬وإعتمدوه يف رشح طبيعة اليشء املصنوع من خالل مظهره‪.‬‬
‫و ُتك ّلف العامرة بعض ما تكلف به األشياء املصنوعة األخرى‪ ،‬حيث جيعل‬
‫(أدولف لوس) من مهمة املعامري‪ ،‬أن يوقظ يف داخلنا مشاعر وأمزجة دقيقة‬
‫التفاصيل‪ ،‬فيبدو البيت موحي ًا‪ ،‬قاب ً‬
‫ال لإليواء‪ ،‬وتأذن بناية املرصف بإيداع‬
‫أموالنا يف أمان مع آخرين رشفاء‪ ،‬ويعرض بذلك املبنى وظيفته معبرّ ًا عنها‬
‫بغري كذب ‪ ،‬فيشبه بذلك اليشء ما هو عليه ويكون ما يبدو إنه يشبهه (‪.)4‬‬
‫وعىل الرغم من إن فكرة ما يؤسس الوظيفة يف العامرة هي موضع إعادة‬
‫نظر مستمرة‪ ،‬غري إن الثابت يف تلك املسألة‪ ،‬إن املبنى جيب أن ال يكون غري‬
‫ذاته‪ ،‬فاملدرسة مدرسة واملصنع مصنع‪ ،‬وعىل املبنى أن يعرب عن ذلك‪ ،‬ليس‬
‫يف مظهره اخلارجي وحده‪ ،‬بل يف الداخل أيضا‪ .‬حيث إن الشكل فضاء‬
‫حضور املاهية كام أرشنا‪ ،‬وال يمكن للامهية أن حترض يف الشكل ما مل يكن‬
‫الشكل قادر ًا عىل أن يؤدي بعض وظائفه‪ ،‬يف اإلشارة اىل قدرة األشياء عىل‬
‫إداء وظائفها‪ .‬إن يف العامرة كام يف األشياء املصنوعة األخرى قدرة التعبري‬
‫ال عن مساحة ما هو حتمي مما تسببه متطلبات الوظيفة‬ ‫عن الوظيفة‪ ،‬فض ً‬
‫أو اإلنشاء أو اإلنتامء‪ ،‬ثمة فرصة إضافية لإلختيار يف بناء الشكل‪ ،‬يمكن‬
‫أن توظف من أجل فعل أو قول آخر‪ .‬ويف أحيان‪ ،‬فإن وجود هذه املساحة‬
‫هو الذي يدعونا ألن نستثمرها يف قول يشء آخر‪ ،‬ألننا يف العادة ال نرتك‬
‫مكون وظيفي أو شكيل أو تعبريي‬ ‫مكان ًا فارغ ًا دونام أثر إنساين‪ ،‬من خالل ّ‬
‫معني‪ .‬كام يف علبة الكربيت‪ ،‬إذ يتدخل توظيفها يف إقرتاح حجمها وشكلها‬
‫وإستثامر فراغها‪ ،‬غري إهنا تنجيل عن سطوح خارجية خالية‪ ،‬تأيت بنافذة لقول‬

‫‪106‬‬
‫يشء من خالهلا لقصد تعبريي أو دعائي أو سواه‪ ،‬يمتلك قيمة ومعقولية‬
‫يف وجوده بالنسبة إىل العلبة‪ .‬ويف العامرة وبسبب تعقيد خطاهبا اجلاميل‪،‬‬
‫نتيجة إحتكامه إىل نسبية القيم وحتوالت اآليديولوجيا والطراز والذوق‪،‬‬
‫فإن املبنى الذي يمكن أن يعمل مثل آلة‪ ،‬ال يبدو عىل الدوام كام لو إنه آلة‪،‬‬
‫حيث تكون تعبريية الشكل مفارقة يف أحيان لعمل املبنى‪ ،‬بسبب غموض‬
‫متعمد يف العامرة‪ ،‬خيتلف عن وضوح مقصود يف اآللة‪ ،‬وهي تكشف عن‬
‫أرسارها وعن إنضوائها عىل معرفة تقنية وعلمية‪ ،‬يكون اإلنسان يف حاجة‬
‫إىل إدراكها رصيد ًا معرفي ًا ألجل التعامل مع تلك اآللة ‪ .‬أما عن املعرفة يف‬
‫العامرة‪ ،‬فهي ليست معدة عىل الدوام للكشف والتعليم‪ ،‬بل تعد يف أحيان‬
‫كثرية للتأويل‪ ،‬حيث ينطوي الشكل يف مثل تلك احلاالت عىل الغموض‪،‬‬
‫الذي ال يكون يف العادة غموض إهيام‪ ،‬بل غموض إحياء يسكن املبنى من‬
‫اخلارج‪ ،‬يف حني يكشف املبنى يف الداخل الكثري من أرساره يف بنية املخطط‬
‫وتنظيم الفضاءات‪ .‬ويمكن مالحظة إن العالقة بني الوظيفة والشكل‪،‬‬
‫التي تكشف عن دور الوظيفة يف بناء الشكل‪ ،‬وعن دور الشكل يف التعبري‬
‫عن الوظيفة‪ ،‬هي عالقة تؤدي اىل نفاذ الوظيفة اىل احلقل اجلاميل كام يرى‬
‫(ارهنيم)‪ ،‬من خالل ترمجتها بوساطة أنامط التعبري الشكيل(‪ ،)5‬حيث يكمن‬
‫اجلامل احلقيقي يف العامرة‪ ،‬عىل حد قول (سكروتن) يف تكييف الشكل‬
‫بالنسبة إىل الوظيفة(‪ .)6‬وبني وضوح الشكل يف التعبري عن الوظيفة‪ ،‬أو‬
‫غموضه يف اإلحياء هبا‪ ،‬قد نرى اليشء ونسأل عماّ هو‪ ،‬دون أن تكفينا رؤية‬
‫شكله يف التعريف بامهيته‪ .‬وقد نعرف إستعامله ووظيفته‪ ،‬ونسأل أيض ًا كيف‬

‫‪107‬‬
‫يكون اليشء الذي نراه هو اليشء الذي ندّ عيه ونعتقده‪ ،‬عندما ال نجد عالقة‬
‫واضحة بني الشكل والوظيفة‪ ،‬فالشكل ال يقدم داللة عىل ماهية اليشء‬
‫طاملا هو غامض‪ ،‬ال يكشف عن إستعامله‪ ،‬وحتى لو علمنا بوظيفة اليشء‬
‫فإننا ال نقتنع بامهيته ما مل تكن ثمة عالقة ّ‬
‫جتل واضح أو إحياء مقنع بالوظيفة‬
‫يف الشكل‪ .‬عندما يكشف الشكل عن الوظيفة ويعرب عنها أو يوحي هبا‪،‬‬
‫عندها فقط يمكن للشكل أن يعرب عن ماهية اليشء ويقدم داللة عليه‪ .‬وعىل‬
‫الرغم من ذلك ‪ ،‬فإن التجربة الواقعية تبني أن الوظيفة يف العامرة من التعقيد‬
‫والتحول‪ ،‬ما يصعب أن تتشكل هيأة املبنى يف حدود اإلتصال املبارش‬
‫وإلتزام التعبري عنها وحسب‪ ،‬بل إن مقومات أخرى يف املاهية‪ ،‬جتد فرصتها‬
‫للحضور والتجيل وإثراء الرسالة التعبريية للمبنى‪ ،‬كام البعد األنشائي‬
‫والبعد اجلاميل وأبعاد اإلنتامء‪ ،‬عىل مدى التحول الذي تتصف به‪ ،‬بام يأيت عىل‬
‫الشكل باملتوقع من العطايا وغري املتوقع مما يأذن به األبداع‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫اهلوامش‬
1- Lesnikowski, Wojiech G, (Rationalism and romanticism in Architecture),
McGraw-hill Biik Company , New York, 1982 (p 168) .

،‫ حممود محندي‬.‫ ترمجة‬،) ‫ (ارسجة الفن املعامري احلديث الثالثة‬،‫ جوزيف‬،‫ هونت‬-2
. )47 ‫ (ص‬،1978 ‫ متوز‬،‫ بغداد‬،‫ دار الشؤون الثقافية العامة‬.)‫يف جملة (افاق عربية‬
‫ يف‬،‫ ترمجة سيزا قاسم‬،)‫ (الفن باعتباره حقيقة سيميوطيقية‬،‫ جان‬،‫ موكاروفسكي‬-3
.)127 ‫ (ص‬،‫ منشورات عيون‬،‫ اجلزء الثاين‬،)‫(مدخل إىل السيميوطيقا‬
4- Arnheim, Rudolf, (from function to expression), in (aesthetic inquiry),
peardsley and suhueller (edi), Dickeson Publishing company Inc,
Belmont, Carifomia , USA, 1967 (p 205 , 207).
5- ibid, (p 212).
6- Scruton, roger,(the aesthetics of architecture), methuen and co. Ltd,
London ,1979 (p 6).

109
‫الزمان يف العمارة‬

‫ليس يف املكان وحده توجد األشياء‪ ،‬بل يف الزمان أيض ًا‪ .‬والزمان كام‬
‫يقول (ايغلتن) هو ليس وسط نتحرك فيه كام تتحرك القنينة يف هنر‪ ،‬بل هو‬
‫تركيبة حياة اإلنسان ذاهتا‪ ،‬فهو يشء تم صنع اإلنسان منه قبل أن يكون‬
‫شيئ ًا يمكن قياسه(‪ .)1‬وهذا كالم يالئم الكثري منه وصف العامرة‪ ،‬كام يتاح‬
‫له أن يصف سواها‪ .‬فهي أيض ًا يشء بعض مادته الزمان‪ ،‬إذ إن العامرة ال‬
‫تبدأ وال تدرك وال تفعل وال تدوم اال يف الزمان‪ .‬ولست أنوي هنا الوقوف‬
‫عىل ماهية الزمان‪ ،‬وكل ما أنويه هو حماولة تذكر وقائع مصادفته‪ ،‬وشهود‬
‫تلك األحايني إذ حيرض حاال يف سواه أو ساكنا اليه‪ ،‬مثل كائن يصعب‬
‫وصفه‪ ،‬يدور حول األشياء ويتمرأى فيها ‪ ،‬ويتأسس هذا الكيان التجريدي‬
‫(الزمان) يف العامرة يف حلظات مكانية ثابتة‪ ،‬ختتزنه وتوحي به‪ ،‬فيبقى يف‬
‫الغرف والفضاءات وعىل سطوح اجلدران واألبنية‪ .‬ويظهر الزمان الزم ًا‬
‫يف العامرة يف بدء اإلنتفاع هبا‪ .‬حيث إن إداء الفعل الوظيفي الذي جل‬
‫مهمة العامرة أن تؤويه‪ ،‬والذي هو مكون أسايس يف ماهيتها‪ ،‬ال يكون اال‬
‫يف زمان يؤويه أيض ًا‪ .‬فالعامرة ال تنتهي يف كيان مادي هو املبنى‪ ،‬بل هي تبدأ‬
‫فيه‪ ،‬وال تكون اال عندما حتدث يف مبارشة احلياة اإلنسانية يف املبنى‪ ،‬فيكون‬
‫زمان الفعل هو بعض حياهتا وبعض عامرهتا‪ .‬وإن ما حيدث حقيقة يف إثناء‬
‫‪111‬‬
‫ممارسة األفعال اإلنسانية يف األبنية‪ ،‬هو ّ‬
‫متكن االنسان وبمساعدة املبنى عىل‬
‫أن يمسك بالزمان‪ ،‬ويثريه يف إستغراق حياة الفعل والوظيفة ‪.‬‬
‫وفض ً‬
‫ال عن زمان الفعل اإلنساين يف العامرة‪ ،‬فإن يف تلقي املبنى والكشف‬
‫عن جتلياته الشكلية وقراءة مالحمه التعبريية‪ ،‬وهو كيان معقد ومتعدد‬
‫السطوح ومتنوع األشكال والكتل البنائية‪ ،‬ما يستلزم زمان ًا يطول ويتنوع‬
‫بفعل ما يتضمنه من قراءة للمبنى‪ .‬وكام يقول (زيفي) ليس ثمة عمل من‬
‫أعامل العامرة منذ الكوخ األول إىل البيت احلديث واملدرسة والكنيسة‪،‬‬
‫يمكن أن خيترب ويدرك بدون الزمان الالزم ألجل إكتشافه‪ .‬حيث يتحرك‬
‫اإلنسان خالل املبنى ويرقبه من وجهات وزوايا نظر خمتلفة خيتارها بنفسه‪،‬‬
‫وكل ذلك زمان يمنح الفضاء والعامرة وجود ًا حقيقي ًا متكام ً‬
‫ال (‪ . )2‬وال‬
‫شك فإن يف زمان الفعل الوظيفي يف املبنى‪ ،‬ويف زمان تلقي اإلنسان للمبنى‪،‬‬
‫ما يمثل فرصة ألن يألف اإلنسان األمكنة‪ ،‬فيكون زمان ألفة املبنى هو‬
‫بعض ماهيته‪ ،‬ألن املبنى يتحصل بتأثري ألفته عىل سامت ومالمح إضافية‬
‫جديدة‪ ،‬من خالل عالقته باإلنسان الذي يتعايش معه‪ .‬إذ يزداد البيت يف‬
‫كونه بيت ًا بقدر بقائه يف الزمان‪ ،‬فهو اآلن ٌ‬
‫بيت‪ ،‬وطاملا تقادم الزمان عليه‬
‫فإنه يزداد إمتالك ًا هلويته وتاكيد ًا هلا‪ .‬ومن هنا يتدخل الزمان يف إنه مكون‬
‫يف العامرة وليس فقط مستوعب ًا ألفعاهلا وحلضورها‪ .‬ويزيد تأثري الزمان يف‬
‫العامرة مع بقاء العامرة يف الزمان عامرة‪ ،‬وتزيد عالقة اإلنسان هبا‪ ،‬فيستحيل‬
‫عمر املبنى أن يكون بعض ماهيته‪ .‬وكام يقول (رسكن) فإن أجماد األبنية‬
‫ال تكمن يف صخورها أو يف ما يزينها من ذهب‪ ،‬إنام يكمن جمدها الفعيل‬

‫‪112‬‬
‫يف قدمها ‪ ،‬فهو جمدها الكامن يف ثباهتا العظيم إزاء كل ما هو إنتقايل (‪.)3‬‬
‫كام إن العامرة التي توظف يف إيواء الفعل اإلنساين تتمكن من إيواء الزمان‬
‫يف املكان‪ ،‬من خالل إثراء املبنى باملالمح‪ ،‬التي تثري الوعي وختتزن زمان‬
‫والدته يف التلقي‪ ،‬حيث ال يمكن ملبنى من دون مالمح ثرية أو عميقة عىل‬
‫الرغم من بساطة حضورها‪ ،‬أن يثري الوعي ويستغرق زمان ًا للتلقي يبقيه‬
‫يف الذاكرة‪ .‬ويمكن إدراك متكن العامرة من إيواء الزمان من خالل بنية‬
‫الشكل وإيقاعاته التكوينية‪ ،‬وهي توحي بإيقاع زماين‪ ،‬يتأكد يف التكرار ويف‬
‫لعبة الضوء والظل‪ ،‬والليل والنهار التي تتواصل داخل املبنى وخارجه‪،‬‬
‫وتقيم عالقة املبنى مع الزمان الطبيعي يف جتلياته البيئية املؤثرة يف الفعل‬
‫االنساين‪ ،‬ويف توفري مستلزمات مالءمته‪ .‬حيث تشرتط كثري من االفعال‬
‫احلياتية يف املبنى مثل هذا التواصل مع الزمان والبيئة اخلارجية‪ .‬ويف كتابه‬
‫(جدلية الزمن) يشري (باشالر) إىل دور اإليقاعات الزمانية أو البنية اإليقاعية‬
‫للزمان‪ ،‬يف إثراء اجلو اإلنفعايل واحليايت لإلنسان‪ ،‬ويصل إىل إنه ليس عبثا‬
‫أن يكون للشعر أثر يف ترفيه اإلنسان(‪ .)4‬ويمتلك اإليقاع يف العامرة هو‬
‫اآلخر تلك القدرة عىل إثراء احلياة اإلنفعالية لإلنسان‪ ،‬كام يتجسد ذلك يف‬
‫إيقاعية التكوينات الشكلية يف األبنية‪ ،‬فيكون هلذه البنى الزمانية التي تقدمها‬
‫العامرة تأثري يف كيفية إدراكنا للزمان وعيشنا فيه‪ ،‬ألهنا تقدم إحياءات بأزمنة‬
‫واقعية يمكن أن متثل أزمنة حقيقية‪ ،‬كام يدعو إىل ذلك (بوم) حيث يقول بأن‬
‫الزمان الذي نشعر إنه يمر برسعة ونحن نامرس نشاط ًا ممتع ًا‪ ،‬والزمان الذي‬
‫ال ونحن يف إنتظار زائر ملّا ِ‬
‫يأت بعد‪ ،‬هي‬ ‫يشعرنا بامللل حني يمر بطيئ ًا متثاق ً‬

‫‪113‬‬
‫أزمنة حقيقية مثل تلك التي تنبض هبا ساعاتنا اليدوية(‪ .)5‬وهو أفق جيعل‬
‫من الزمان الذي يسكن األبنية‪ ،‬يف أمكنتها وأشكاهلا ومالحمها‪ ،‬بعض فعل‬
‫العامرة يف حياة اإلنسان‪ ،‬حيث متسك بالزمان وتقدم نظام ًا مقرتح ًا له وهي‬
‫تفعل فعلها يف تنظيم زمان األمكنة‪ .‬وقد كانت الكنيسة يف ما يقوله (لوفيفر)‬
‫تنظم الساعات واألعامل عىل رنة أجراسها‪ ،‬وتنظم تقويم األيام تبع ًا لتعاقب‬
‫األعياد‪ ،‬فيستحيل الزمان حدث ًا إجتامعي ًا متعين ًا مقتطع ًا يف الطبيعة (‪ .)6‬وال‬
‫يمكن لكالم عن الزمان يف العامرة أن يغفل اإلشارة إىل الرتاث‪ ،‬بوصفه‬
‫عمق ًا زمني ًا حيرض يف شكل معامري موروث‪ ،‬إذ تشكل اخلربة واألشكال‬
‫الرتاثية بعض الرصيد الشكيل وبعض املمكن الذي تتعاطاه العامرة‪ ،‬فيحرض‬
‫الزمان يف مضامني تقدمها مفردات وتكوينات شكلية قادمة من عامرة ماضية‬
‫وطراز معامري قديم‪ ،‬وحيرض الشكل املوروث يف مبنى حديث خمتزنا تاريخ‬
‫املفردة الشكلية وإحياءاهتا التعبريية‪ ،‬حيث يمتلك الطراز املعامري فض ً‬
‫ال عن‬
‫قيمته األسلوبية والشكلية‪ ،‬داللة عىل زمان معني يرتبط به‪ ،‬يستحرضه حيثام‬
‫أس ُتعيد يف مبنى جديد آخر‪ ،‬فنكتشف يف الشكل املعامري زمن ًا مضارع ًا يف‬
‫شكل مبتكر‪ ،‬وزمن ًا ماضي ًا يف شكل موروث‪ ،‬وهو تداخل زمني يمكن أن‬
‫ندركه يف أبنية املدينة أو يف مبنى مفرد يستثمر معطيات الرتاث يف بناء شكله‪،‬‬
‫فيحتوي املبنى اجلديد عىل يشء من املبنى القديم‪ ،‬الذي يصبح هو اآلخر‬
‫حمتوي ًا عىل يشء من املبنى اجلديد‪ ،‬يف ديمومة وتواصل زماين يبني وحدة‬
‫أسلوبية وتعبريية‪ .‬فالعامرة كام يقول (رسكن) إنام جتهز وسائل لالحتفاظ‬
‫باملايض وإدخاله يف الذاكرة‪ ،‬ويصفها بأهنا املتغلب عىل النسيان(‪ .)7‬ويتبني‬

‫‪114‬‬
‫من ذلك تأثري الرتاث يف العامرة وهو حيرض مكون ًا يف حارضها وحداثتها‪،‬‬
‫ويكون مايض العامرة بعض ماهيتها املتكونة وبعض جتليها احلارض‪ ،‬يقول‬
‫(بونتا) إن مادة العامرة ليست احلجارة‪ ،‬بل هي إبداع إنساين مشحون باإلرث‬
‫احلضاري للمجتمع (‪ .)8‬وجيد (باالسام ) إن التقاليد والرتاث مها قضية ذات‬
‫داللة عميقة تتعلق باحلس التارخيي‪ ،‬الذي يدعو املعامري إىل أن يبدع ليس‬
‫باإلندماج مع جيله احلارض فحسب‪ ،‬بل مع الشعور بكل اإلبداع احلارض‬
‫واملايض‪ ،‬ليكونا مع ًا يف وجود واحد‪ ،‬وهي دعوة لإلحساس بام هو جمرد من‬
‫الزمان‪ ،‬وبام هو زماين‪ ،‬وبام يمكن أن جيمع بني اإلثنني مع ًا‪ ،‬فيجعل املبدع‬
‫تقليدي ًا ويف الوقت نفسه واعي ًا ملكانه يف الزمان وحداثته(‪ .)9‬وال شك يف أن‬
‫تراث العامرة الذي حيرض يف حداثتها‪ ،‬وهو ينجز ديمومة وتواصال ووحدة‪،‬‬
‫مكون من أبعاد العامرة‪ ،‬يستغرقه بناء ماهيتها‪،‬‬
‫إنام يؤكد بأن الزمان هو بعد ّ‬
‫وحيرض مضمون ًا يف جتلياهتا الشكلية املنتمية إىل أزمنتها املختلفة‪ .‬ويكشف‬
‫بذلك عن تدخل البعد الزماين ومضامينه الرتاثية بوصفه بعد ًا إنتامئي ًا للعامرة‪،‬‬
‫وعن فعله يف حتول العامرة وتغريها‪ ،‬يف ضوء حتوله بعد ًا متغري ًا‪ ،‬يمثل أحد‬
‫افاق نسبية ما هو مطلق وحتول ما هو ثابت يف ظاهرة العامرة‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫اهلوامش‬
‫‪ -1‬ايغلتن‪ ،‬تريي‪ ( ،‬مقدمة يف النظرية األدبية )‪ ،‬ترمجة ‪ :‬ابراهيم جاسم العيل‪ ،‬دار الشؤون‬
‫الثقافية العامة‪ ،‬بغداد ‪( 1992،‬ص ‪.)71‬‬
‫‪2- Zevi, Bruno , (architecture as Space), Horzon press,new York ,1957 (p‬‬

‫‪27).‬‬

‫‪ -3‬الدعمي‪ ،‬حممد عبد احلسني‪( ،‬انتصار الزمن)‪ ،‬دار افاق عربية‪ ،‬بغداد‪( 1985 ،‬ص‬
‫‪.) 98‬‬
‫‪ -4‬باشالر‪ ،‬غاستون‪( ،‬جدلية الزمن)‪ ،‬ترمجة ‪ :‬د‪ .‬خليل امخد خليل املؤسسة اجلامعية‬
‫للدراسات والنرش‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة االوىل‪( 1982 ،‬ص ‪.) 12 ،11 ،10‬‬
‫‪ -5‬برجيز‪ ،‬جون‪ ،‬ب‪ ،‬بيت‪ ،‬ف‪ ،‬ديفيد‪( ،‬الكون املرآة)‪ ،‬ترمجة هناد العبيدي‪ ،‬دار واسط‬
‫للدراسات والنرش والتوزيع‪ ،‬بغداد ‪ ( 1986‬ص ‪.) 89‬‬
‫‪ -6‬لوفيفر‪ ،‬هنري‪( ،‬يف علم اجلامل )‪ ،‬ترمجة حممد عيتاين دار احلداثة بريوت (ص ‪.) 96‬‬
‫‪7- Frank,Ellen Eve, (Literary architecture) ,‬‬ ‫‪university of califomia‬‬

‫‪press‬‬ ‫‪, London , 1979 (p 13).‬‬

‫‪ -8‬بونتا‪ ،‬خوان بابلو‪ ( ،‬العامرة وتفسريها )‪ ،‬ترمجة ‪ :‬سعاد عبد عيل مهدي‪ ،‬دار الشؤون‬
‫الثقافة العامة‪ ،‬بغداد‪ ( 1996 ،‬ص ‪.) 39‬‬
‫‪9- Pallasmaa, juhani, (tradition and modernity), in (the architectural‬‬

‫‪Review ), London , No. 1095, May 1988, ( p 29).‬‬

‫‪116‬‬
‫مجال العمارة وماهيتها‬

‫كان (افالطون) يتحدث عن وجود مجال واحد مطلق تشرتك فيه األشياء‬
‫اجلميلة كلها‪ ،‬وهو مجال ثابت ال يتغري‪ ،‬يتميز عن األشياء اجلميلة ويكون‬
‫منفص ً‬
‫ال عنها‪ .‬غري إن (ارسطو) ينظر إىل اجلميل بوصفه وجود ًا ملوجود ال‬
‫بوصفه موجود ًا مستق ً‬
‫ال وقائ ًام بذاته ( ‪ ،)1‬فهو يقدم مفهوم ًا للجامل يتضمن‬
‫إرتباط اجلامل باألشياء اجلميلة وإعتباره أحد ابعاد وجودها‪ .‬وخالف ًا ملا يقدمه‬
‫(ارسطو) من إشارة إىل حضور واقعي للجامل‪ ،‬فإن ثمة آراء أخرى تذهب‬
‫إىل إن اجلامل ال يمتلك وجود ًا موضوعي ًا يف األشياء‪ ،‬بل إن وجوده يكمن يف‬
‫التلقي وحسب‪ ،‬كام نجد ذلك عند (هيوم) الذي يقول بأن اجلامل هو ليس‬
‫كيفية توجد يف األشياء ذاهتا‪ ،‬وإنام يوجد اجلامل يف الفكر الذي يتأمل تلك‬
‫األشياء‪ .‬ومن شأن كل فكر أن يدرك مجا ً‬
‫ال مغاير ًا (‪ .)2‬غري إننا لو نفرتض‬
‫نقيض ما يقوله (هيوم) ونؤكد بأن اجلامل هو كيفية توجد يف األشياء‪ ،‬فإن‬
‫ذلك ال يؤدي إىل أن يكون ما ندركه من اجلامل ثابتا وواحد ًا‪ ،‬لكي يكون يف‬
‫تغاير ما ندركه من مجال األشياء مربر ًا ألن يرفع (هيوم) اجلامل من األشياء‬
‫ويضعه يف الفكر الذي يتأملها‪ .‬بل عىل العكس متام ًا‪ ،‬إن مجال األشياء‬
‫الذي قد حيرض نتاج تدخلنا يف إنتاجها‪ ،‬هو أيضا بعض عواقب ما نعتقده‬
‫عن األشياء وما نعرفه عنها‪ .‬وعندما يكون موضوع إنشغالنا هو العامرة‬
‫‪117‬‬
‫بوصفها حقال إبداعيا‪ ،‬سنجد يف األبنية التي يمكن هلا أن تكون يف ذاهتا‬
‫مستقلة عنا‪ ،‬عىل الرغم من تدخلنا يف إجيادها ويف منحها القيمة‪ ،‬سيكون‬
‫إعتقادنا يف مجال املبنى‪ ،‬مثل أي وهم معريف آخر‪ ،‬ال يمكن له أن يصف املبنى‬
‫كام هو يف ذاته ‪ ،‬ويف وجوده املوضوعي‪ ،‬مستقال عن كل تعقيدات عملية‬
‫املعرفة‪ ،‬وإن اإلعتقاد بجامل العامرة ‪ ،‬وعىل الرغم من كونه إعتقادا حيرض يف‬
‫جانب التلقي‪ ،‬غري إنه ليس فعال منقطعا عن العامرة بوصفها وجودا شيئيا‪،‬‬
‫وال يمكن هلذا اإلعتقاد يف كل حال أن يتعرف عىل ما ال وجود له‪ .‬ولذلك‬
‫فإن اإلعتقاد بجامل الشئ هو إعتقاد يقرأ خصائص موضوعية قائمة يف‬
‫الشئ‪ ،‬ويشري اىل وجود معني فيه يثري الشعور باجلامل‪ ،‬ولكنه إعتقاد متغاير‬
‫ومتعدد‪ ،‬بسبب من طبيعته كفعل معريف يتصف بالنسبية والذاتية واجلزئية‬
‫والتغري‪ .‬‏وإذا كان مجال العامرة إعتقاد ًا يبنيه املتلقي وهو يرقب األبنية‪ ،‬فإن‬
‫السؤال الذي نرغب يف طرحه اآلن هو مالذي جيب أن يتوافر عليه املبنى‪،‬‬
‫ألجل أن يكون مجيأل‪ ،‬وألجل أن نعتقد يف مجاله ؟‬
‫نجد مع الفلسفة األغريقية أن مجال الشئ عند (افالطون) هو ما يرغمنا‬
‫عىل األعجاب به وهو غاية عملنا عندما يبلغ العمل ذروة إتقانه‪ .‬وعند‬
‫(ارسطو) فإن كلمة (مجال) تدل عىل ما حتتويه األشياء من خصائص تدعونا‬
‫اىل حبها واإلعجاب هبا (‪ . )3‬إذ‏ن فإن مجال اليشء يف أن حيتوي عىل ما يبلغ‬
‫به ذروة قوته فيدعونا اىل اإلعجاب به‪ .‬وإن املبنى أو شكل تقديمه الذي‬
‫حيقق الرىض هو مصدر مجاله‪ ،‬كام يؤيد ذلك (كانت) يف إن اجلامل هو إنتظام‬
‫األجزاء وتناسقها بشكل يعطي لذة ورىض نفسيني(‪ .)4‬ونجد يف اخلطاب‬

‫‪118‬‬
‫النظري حول العامرة من يوافق هذه األفكار‪ ،‬يف ضامن اإلحياء بجامل املبنى‬
‫من خالل شكل حضوره‪ ،‬كام يف رأي (الربيت) وهو يستند اىل (فرتوفيوس)‪،‬‬
‫فيجد أن اجلامل هو يف توافق األجزاء يف الكل بطريقة معينة‪ ،‬تضمن أن ال‬
‫يضاف جزء أو يزال من دون أن يتحول الشئ اىل األسوأ‪ .‬وألجل احلصول‬
‫عىل ذلك فال شئ‪ ،‬كام يقول (الربيت)‪ ،‬أكثرمن التناسبات عونا‪ ،‬وهي تضمن‬
‫لكل جزء من املبنى حجمه وشكله وموقعه املحدد ضمن الكل( ‪. )5‬‬
‫وقد بقي تفسري اجلامل املعامرى ملدى طويل معتمدا آراء (فرتوفيوس)‬
‫ىف إعتبار اجلامل قضية تناسب ترتبط مع نظام يامثل تناسبات جسم األنسان‪.‬‬
‫غري إن (بورك) كتب الحقا‪ ،‬إن اجلامل العالقة له بالتناسب وال باملنفعة‪،‬‬
‫بل هو ينتج عن خصائص مثل الصغر والنعومة واألناقة(‪ ،)6‬حيث يمتلك‬
‫الشكل ما جيعل املبنى مثريا لإلعجاب والشعور باملتعة‪ ،‬فيكون بذلك مبنى‬
‫مجي ً‬
‫ال‪ .‬وهي آراء تبحث عن اجلامل يف ما يقرأه التلقي يف الشكل‪ ،‬ويف زوايا‬
‫جزئية منه‪ .‬غري إننا نرغب يف النفاذ اىل مفهوم شمويل ملعيار اجلامل‪ ،‬يتجاوز‬
‫املداخل اجلزئية لبلوغه‪ .‬وألن اجلامل مفردة يمكن هلا أن تصف أشياء كثرية‪،‬‬
‫فسوف نذهب اىل البحث عن مدخل منهجي‪ ،‬يمكن له أن حيرر اجلامل‬
‫بوصفه قيمة من حالته املطلقة يف وصف األشياء املختلفة‪ ،‬اىل إعتباره مجاال‬
‫يتعلق بالعامرة عىل وجه التحديد‪ ،‬فيكون وصفا هلا وجزءا منها‪ ،‬ويمكن لنا‬
‫أن نجد السبيل اىل ذلك‪ ،‬عندما يتاح لنا أن نتأكد من صواب ما نفرتضه‬
‫هنا‪ ،‬بأن خصائص املبنى التي جتعله مجيال‪ ،‬إنام تصدر من خالل عالقة املبنى‬
‫بامهيته‪ ،‬فيكون املبنى مجيال بقدر ما يتوافر عىل مقومات ماهيته‪ ،‬بأن يكون‬

‫‪119‬‬
‫ما هو‪ .‬وألن املاهية هي حكم معرفة متيز الشئ وتعرفه بام جيعله خمتلفا عن‬
‫سواه‪ ،‬وإن ليس فيها الكثري من حكم القيمة‪ ،‬إذ إن الشئ حيقق ماهيته‬
‫ويكون ما هو بدءا‪ ،‬وبعد ذلك يمكن له أن يكون مجيال أو غري مجيل‪ ،‬فال‬
‫يكون مجال الشئ مجاال معامريا قبل أن يكون الشئ عامرة‪ ،‬متثل هذه الفرضية‬
‫أساس بناء حكم القيمة حيث تتدخل ماهية العامرة يف بلوغ مجاهلا‪.‬‏ونجد إن‬
‫ثمة مدخلني يؤديان إىل دوام تعلق املاهية باجلامل‪ ،‬يتمثل املدخل األول‪ ،‬ىف‬
‫إن اجلامل هو أحد مبادئ العامرة الثالثة األساسية التى قدمها (فرتوفيوس)‪،‬‬
‫حيث قال بأن العامرة تقوم عىل مقومات ثالثة‪ ،‬هي توفرها عىل متطلبات‬
‫الوظيفة واملتانة واجلامل‪ ،‬وقد وافقه العديد من املعامريني واملفكرين‪ ،‬كام‬
‫يمكن أن نالحظ ذلك عندما نقوم بمراجعة لتاريخ نظرية العامرة‪ .‬فالعامرة‬
‫ولكي حتقق ماهيتها‪ ،‬عليها أن تكون مجيلة‪ .‬وإن كون العامرة مجيلة وبمقدار‬
‫ما تزيد يف حتقيق مجاهلا‪ ،‬فإهنا يف املحصلة إنام تزيد ىف إنجاز ماهيتها‪ ،‬ألن كل‬
‫تقدم يف اجلامل هو تقدم يف إنجاز املاهية‪.‬‏اما املدخل الثاين الذي يديم العالقة‬
‫الطردية بني املاهية واجلامل‪ ،‬فهو قول (الغزايل) يف (كيمياء السعادة) (بأن‬
‫مجال كل شئ وحسنه يف أن حيرض كامله الالئق به‪ ،‬فإذا كان مجيع كامالته‬
‫املمكنة حارضة فهو يف غاية اجلامل)‪ .‬فاجلامل هو إكتامل شيئية الشئ‪ ،‬وإن‬
‫حضور الكامالت املمكنة للعامرة‪ ،‬هو الذي يبني ماهيتها ويميزها عن‬
‫سواها من األشياء‪ ،‬بأن جيعل العامرة هي هي‪ .‬وال يكون مجاال توفر الشئ‬
‫عىل سواه‪ ،‬عندما اليكون ذلك بعض ماهيته‪ ،‬إذ ليس من اجلامل أن يتوافر‬
‫املبنى عىل شئ من الكريس مث ً‬
‫ال‪ ،‬أو أن يتوافر البيت عىل شئ من املدرسة‪،‬‬

‫‪120‬‬
‫اال عندما يكون جزءا من ماهية البيت أن يتوافر عىل شئ من املدرسة‪.‬‏إن‬
‫البيت الذي يكون بيتا ألنه مجيل‪ ،‬عىل وفق معيار إن اجلامل هو أحد مبادئ‬
‫العامرة‪ ،‬يكون باملقابل مجيال عندما حيقق ماهيته بوصفه بيتا‪ .‬وإن مجال العامرة‬
‫يتكشف ويتأكد ىف كم أنجزت العامرة من ماهيتها‪ .‬هذا األمر يعني بأننا‬
‫النستطيع أن نفرتض مجال العامرة من خارج ما تتطلبه ماهيتها‪ .‬فإن العامرة‬
‫هي التي تقرتح مجاهلا‪ ،‬ألهنا مجيلة بالنسبة اىل ذاهتا‪ ،‬واملبنى مجيل بالنسبة‬
‫اىل ذاته‪ ،‬إعتامدا عىل ماهيته التي تأسست عرب تاريخ حضوره وجغرافيته‪.‬‬
‫فيكون البيت مجيال نسبة اىل كل البيوت‪ ،‬التي أسهمت وال تزال يف بناء ماهية‬
‫البيت‪ .‬وإن كل ما يتدخل يف إنجاز ماهيته ‪ ،‬يتدخل يف إنجاز مجاله ‪.‬‬
‫إن هذه العالقة يني املاهية واجلامل‪ ،‬تكشف عن كون اجلامل معيارا‬
‫لكينونة األشياء بالنسبة اىل ذاهتا‪ ،‬وليس قيمة مستقلة عن األشياء‪ .‬‏وكام‬
‫تبني‪ ،‬فقد أصبح من الصعب أن نتحدث عن مجال الشئ قبل أن نعرف ما‬
‫هو‪ .‬وعندما نحيل البحث عن مجال العامرة اىل ماهيتها‪ ،‬فنحن إنام نحيله‬
‫اىل جمال معريف‪ ،‬ليس أقل غموضا من مفهوم اجلامل ذاته‪ .‬غري إن إرتباط‬
‫أحدمها باآلخر‪ ،‬اجلامل باملاهية‪ ،‬يكشف عن مادة فكرية ملموسة وأقل‬
‫غموضا‪ .‬وإننا إذ ندرك بأن مجال الكريس هو بقدر ما يتاح له أن حيقق كونه‬
‫كرسيا‪ ،‬وإن مجال املبنى يكون بقدرما ينجز كونه مبنى‪ ،‬فنحن بذلك إنام‬
‫نميز بني مجالني ‪ :‬مجال الكريس ومجال املبنى‪ ،‬مكتشفني بأن لكل شئ مجاله‬
‫اخلاص الذي يتعلق بامهيته وينتج عنها‪ .‬وبذلك نمنح مضمونا حمددا ملفهوم‬
‫اجلامل‪ ،‬مل يكن يمتلكه قبل أن يرتبط بشئ ما عىل وجه التحديد‪ .‬ويكون‬

‫‪121‬‬
‫اجلامل إذن شكال ملعيار‪ ،‬ال يمتلك مضمونه وحمتواه القيمي‪ ،‬‏إال من خالل‬
‫تدخل املاهية وتوحدها معه‪.‬‏إن العامرة التي متتلك وظيفة متيزها عن أي‬
‫ظاهرة أخرى‪ ،‬واملبنى الذي يمتلك شكال يميزه عن سواه من األشياء‪،‬‬
‫له ايضا مجال خيصه وخيتلف به عن مجال ما عداه‪ .‬وال يكون للعامرة ذلك‬
‫التصور اال من خالل إرتباط مجاهلا بامهيتها‪ .‬ومن هنا فإن اجلواب عن‬
‫ّ‬
‫الكيفية التي تكون العامرة هبا مجيلة يذهب اىل وجوب أن تكون العامرة‪،‬‬
‫بدء ًا عامرة ‪ ،‬وتكون العامرة أكثر مجاال‪ ،‬عندما تكون أكثر ما يمكن أن تكون‬
‫بوصفها عامرة‪ .‬فاجلامل يف العامرة هو من نتائج حتقق ماهيتها‪ ،‬وإن ثمة بداية‬
‫حمتملة ألن تكون العامرة مجيلة‪ ،‬يف أن تكون عامرة ‪.‬‬
‫‏كان (سقراط) يعتقد أن البيت األكثر مجاال هو البيت الذي جيد فيه مالكه‬
‫الراحة والسعادة يف فصول السنة كلها‪ ،‬وأن حيمي فيه أشياءه(‪ .)7‬ويقول‬
‫(سكروتن) إن إحساسنا بجامل األشكال املعامرية ال يمكن أن يعزل عن‬
‫فكرتنا عن املبنى وعن الوظيفة التي خيدمها‪ ،‬إذ إن إحساسنا بجامل شئ ما‬
‫يعتمد عىل فكرتنا عام هو ذلك الشئ(‪.)8‬‏ولقد توصلنا يف مواضع أخرى‪،‬‬
‫اىل إن العامرة‪ ،‬هي مبنى يتوافرعىل متطلبات إيواء اإلنسان‪ .‬وقد كان من‬
‫نتائج ذلك التوصل أن يتوافر املبنى عىل املتانة والثبات اإلنشائي‪ ،‬وأن‬
‫تتحقق فيه املالءمة والكفاءة الوظيفيتني‪ ،‬عندما تتحقق فيه معايري املأوى‪.‬‬
‫وحقيقة األمر‪ ،‬فإن كون املبنى مأوى يتوافر عىل املالءمة الوظيفية ويمتلك‬
‫الثبات واملتانة اإلنشائية‪ ،‬هو بذاته قضية ذ‏ات رصيد مجايل كثري القيمة‪ ،‬حيث‬
‫يكون املبنى مجيال عندما يكون مبنى‪ ،‬ويكون املبنى مجيال بقدر ما يكون‬

‫‪122‬‬
‫مأوى أيضا‪ ،‬ألن يف ذلك حضور الكثريمن ماهيته بوصفه عمال معامريا‪.‬‬
‫أما البحث عن اجلامل يف العامرة بقصد اجلامل ذاته‪ ،‬أو اإلهتامم بالشكل‬
‫املعامري لغرض مجال الشكل‪ ،‬فهو أفق جيد مداه يف ما يراه البعض من أن‬
‫العامرة هي أكثرمن جمرد مأوى‪ .‬ونحن نرى أن العامرة يمكن أن تكون أكثر‬
‫من جمرد مأوى‪ ،‬ىف إجتاه أن يكون املأوى أكثر إيواءا يف العامرة ‪ ،‬أو يف أن‬
‫تكون عامرة مع إهنا مأوى‪ .‬إذ ليس للعامرة أن تكون عامرة اىل النهاية‪ ،‬و مهام‬
‫كان هلا أن تكون‪ ،‬إال بأن تكون مأوى ‪ ،‬ألن كيفية املأوى ومهام تعرضت اىل‬
‫العناية الشكلية فإهنا ال جتعل من املأوى شيئ ًا آخر‪ ،‬بل إن العناية بالكيف هي‬
‫إيغال يف إمكانية أن يكون املأوى مأوى‪ ،‬وقدما بإجتاه أن يقصد الشئ ذاته‪،‬‬
‫وأن يؤكد ماهيته ىف جتلياته الشكلية واجلاملية‪ ،‬ويف ذ‏لك تشكيل ملا يريد أن‬
‫يكون من طبيعة الشئ وبعض ماهيته يف كيفية أن يكون عىل مستوى الشكل‬
‫وجتليات املاهية‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫اهلوامش‬
،‫ بريوت‬،‫ دار القلم‬،‫ الكويت‬،‫ وكالة املطبوعات‬،)‫ ( ارسطو‬،‫ عبد الرمحن‬.‫ د‬،‫ بدوي‬-1
. ) 268 ‫ ( ص‬1980 ،‫الطبعة الثانية‬
2- Hume, david (on the standard of taste), in (aesthetics), stolnitz, (edi),

the Macmillan co. collier Macmillan, Ltd, London, 1965, (P 86).

‫ الدار املرصية للتأليف‬،‫ امحد محدي حممود‬.‫ د‬:‫ ترمجة‬،)‫ (مبادئ الفن‬،‫ كولنجوود‬-3
)54 ،51 ‫ (ص‬.1966 ،‫والرتمجة‬
‫ منشورات بحسون‬،‫ حممد شفيق شيا‬.‫ د‬: ‫ ترمجة‬،)‫ (النظريات اجلاملية‬،.‫ إ‬،‫ نوكس‬-4
.)47 ،46 ‫ (ص‬1985 ،‫ بريوت‬،‫الثقافية‬
5- Alberti , leone battista , ,(ten books on architecture) , alec tiranti

ltd, London , 1955 (p 113).


6- collins, peter, (changing Ideals in Modern Architecture), faber and
faber, London , 1965 ( p 47) .
7- Broadbent, Geoffrey, (the rational and the Functional), in (the
rationalists), sharp (edi) architectural press, London , 1978 (p 145
, 146) .
8- Scruton , roger, (the aesthetics of architecture), methuen and co.

Ltd, London ,1979(p10).

124
‫اجلمال واآللفة يف العمارة‬

‫يف الكالم عن اجلامل‪ ،‬ينبغي عدم إغفال حقيقة أن اجلامل يتأصل يف‬
‫نزعة ذاتية لدى اإلنسان‪ ،‬بأن جيعل األشياء التي يصنعها جديدة ومثرية‬
‫ومجيلة بقدر ما يستطيع ذلك‪ ،‬إذ ال يكفي اإلنسان أن تكون األشياء التي‬
‫ينتجها موجودة‪ ،‬وال أن تكون دائمة الوجود‪ ،‬أو أن تكون مفيدة ومالئمة‬
‫فحسب‪ ،‬بل أن تكون مجيلة أيض ًا‪ .‬ولذلك فإن ما جيعل تلك األشياء مجيلة‪،‬‬
‫ليس إننا نراها اآلن مجيلة‪ ،‬بل يف إننا نريدها منذ البدء أن تكون مجيلة‪ ،‬يف‬
‫دواعي اإلبداع‪ .‬وجيد (برونوفسكي) إن أهم حافز يف إرتقاء اإلنسان هو‬
‫متعته يف ممارسة مهاراته‪ ،‬ورغبته يف جتويد ما يقوم بعمله يف املرة القادمة (‪.)1‬‬
‫تلمح اىل إن املهمة اجلاملية هي مهمة عىل قدر من الصعوبة‪،‬‬ ‫وهذه املالحظة ّ‬
‫بسبب إن أمامها أفق ًا الهنائي ًا‪ ،‬وال يبلغ حتى النهاية اإلكتامل‪ .‬ويف العامرة‬
‫التي هي موضوع خللق متجدد ومتغري‪ ،‬فإن اجلامل يبقى هو الفائض‬
‫الذي ال يمكنه األرتواء أبد ًا‪ .‬ويمكن القول إن العامرة التي متتاز بحضور‬
‫شامل ومؤثر يف حياة اإلنسان‪ ،‬يف وجود يمأل املدينة‪ ،‬هي يف حاجة اىل أن‬
‫تكون عىل وفق مقاصد مجالية‪ .‬حيث إن غاية اجلامل تأكيد لوجود اليشء‬
‫ذاته‪ .‬يقول (موكاروفسكي) إن الوظيفة اجلاملية حتول كل ما متسك به اىل‬
‫عالمة(‪ .)2‬والعالمة هي ما حييل اىل نفسه‪ ،‬فيصري اليشء الدال هو املدلول‪،‬‬
‫‪125‬‬
‫ويكون يف حتول الشكل أو اليشء اىل عالمة‪ ،‬ما يؤكد وجوده من دون‬
‫احلاجة اىل تكراره أو إقرتاح صياغة شكلية أخرى‪ .‬وحيقق اجلامل للمبنى‬
‫ال يصعب التطاول عليه‪ ،‬ويضفي كام ً‬
‫ال ليس من املالئم أن‬ ‫حضور ًا مكتم ً‬
‫يمسه التشويه‪ ،‬وحيافظ بذلك عىل كيان املبنى‪ .‬كام يالحظ وعىل الرغم من‬
‫تغري أشكال األبنية وطرزها‪ ،‬وتغري وظائفها عرب الزمن‪ ،‬فإن ما يبقى منها‬
‫ال وما جيعلها مقبولة هو رصيدها اجلاميل‪ ،‬إذ نجد إن األبنية ذات‬ ‫مقبو ً‬
‫الطرز املعامرية القديمة التي تتوفر عىل مقومات الثبات اإلنشائي‪ ،‬والقدرة‬
‫عىل اإلستخدام عىل الرغم من تغري الوظيفة املحتمل‪ ،‬وبسبب تضمني‬
‫بنيتها الشكلية ما يثري الشعور باجلامل‪ ،‬فإهنا متتلك حضور ًا قيمي ًا حيوي ًا لدى‬
‫املتلقي يديم إستعامهلا طاملا بقيت قائم ًة‪.‬‬
‫وحييلنا بقاء القيمة اجلاملية يف العامرة اىل الكالم عن نوعني من اجلامل‪،‬‬
‫يرى اخلطاب النظري وجودمها يف العامرة‪ ،‬أحدمها طبيعي واآلخر مألوف‪.‬‬
‫حتى إذا تغريت قيمة ما هو متحول من مجال مألوف لسبب من أسباب‬
‫حتوله‪ ،‬فإن ما هو ثابت من مجال طبيعي يضمن للعامرة دوام قيمتها اجلاملية‪.‬‬
‫وينتج اجلامل الطبيعي عن املواد البنائية‪ ،‬وأساليب تنفيذ املبنى‪ ،‬وعن التناظر‬
‫الدال عىل تناسب بني األجزاء املكونة للمبنى وبينها وبني الكل‪ ،‬وهي‬
‫بعض خصائص الوجود املوضوعي لألبنية ومكوناته‪ ،‬يف حني ينتج اجلامل‬
‫اآلخر عن األلفة والذوق والتعود‪ .‬حيث تتدخل عوامل التحول اإلنسانية‬
‫واحلضارية يف إقرتاح ما هو مجيل‪ .‬وقد كان (السري كريستوفر رن) يقول‬
‫إن من شأن األلفة أن تولد مشاعر ود جتاه أشياء ليست مجيلة بحد ذاهتا(‪.)3‬‬

‫‪126‬‬
‫ويؤيده يف ذلك (باشالر) الذي يرى إن بيتا بائسا إذا طالعناه بألفة فسوف‬
‫يبدو مجي ً‬
‫ال ( ‪ .) 4‬واأللفة التي يريد هلا اخلطاب النظري أن تكتشف يف املبنى‬
‫مجا ً‬
‫ال تسهم يف بنائه‪ ،‬هي األلفة ذاهتا التي متثل أحد مقومات فعل اإليواء‬
‫الذي حيكم عالقة اإلنسان مع املبنى‪ ،‬يف التمكن من املكان من خالل فعل‬
‫إنساين يتعامل مع املكان يف ديمومة من الزمان‪ .‬ويمكن القول إن املأوى‬
‫يزداد عامرة بقدر ما يبقى مأوى‪ .‬وتكشف ألفة اإلنسان للمأوى عن مجال‬
‫ال بقدر ما نألفه‪ ،‬ويزداد مجا ً‬
‫ال‬ ‫فيه وتب ّني لذلك اجلامل‪ .‬فيكون املبنى مجي ً‬
‫ال بسبب عالقة اجلامل بتحقيق ماهيته‬‫بزيادة أمد ألفته‪ .‬ويكون املبنى مجي ً‬
‫يف أن يكون مأوى من جهة‪ ،‬و يزداد مجا ً‬
‫ال بسبب عالقة اجلامل باأللفة من‬
‫جهة ثانية‪ .‬ويف دوام بقاء املبنى‪ ،‬ليس ثمة ما هيدد اجلامل فيه بسبب ألفته‬
‫فحسب‪ ،‬بل ما يثري مجا ً‬
‫ال آخر من خالل اإلستغراق يف ألفته‪ .‬إن (الربيت)‬
‫يف تأكيداته حول ما هو مالئم ومنظم ومناسب يضع اجلامل يف قلب فعالية‬
‫البناء‪ ،‬ويؤكد إنه ليس من املالئم فصل ما هو مجايل عن باقي عنارص اإلنجاز‬
‫املعامري‪ .‬وإن املالئمة واجلامل يتخلالن كل عمل املعامري‪ ،‬إذ ال يمكن‬
‫اإلنشغال بمعاجلة مشكلة اإلنشاء يف عزلة عن معاجلة متطلبات املالئمة أو‬
‫اجلامل‪ .‬ولذلك فإن الشبكة املفهومية والعلمية التي جيهزها ما هو (مناسب)‬
‫يمكن هلا أن تقدم تصور ًا لكل املشاكل التي تواجه املعامري(‪ .)5‬ويعني ذلك‬
‫إن اجلامل ذاته يفرتض به أن يكون مناسب ًا أيضا ً‪ ،‬فال يكون مجا ً‬
‫ال متحرر ًا‬
‫أو مستق ً‬
‫ال عن كونه معد ًا ملقاصد إنشائية أو وظيفية‪ ،‬وإن عنرص ًا أو مكون ًا‬
‫ال‪ ،‬فال يمكن له أن يتحرر من كونه‬ ‫ما يف املبنى‪ ،‬ومهام تقصد أن يكون مجي ً‬

‫‪127‬‬
‫مكون ًا يف هيكل أو يف جدار أو يف فضاء‪ ،‬وعندها ينتمي اىل سياق داللة‬
‫وتوظيف خمتلف‪ ،‬ال يعني تناقضا مع كونه عنرصا مجاليا ولكن جيعل مجاله‬
‫حمسوب ًا بالنسبة اىل توظيفاته األخرى وسياقات إنتامئه اىل نظام إنشائي أو‬
‫إستعاميل معني‪ .‬حتى الزخرفة التي هي يف بعض حاالهتا مضافة اىل املبنى‬
‫بقصد جتميله‪ ،‬ال تكون متحررة من حقيقة إهنا زخرفة معامرية‪ ،‬تتجسد يف‬
‫مكون مادي هو جزء من هيكل أو سطح ‪ ،‬ال يتحرر من إلتزام إنشائي بكل‬
‫األحوال‪ ،‬وال خيرج عن متطلبات الفعل الوظيفي وال يتناقض معه‪ .‬إذ ال‬
‫نجد للزخرفة فرصة متامثلة يف السطوح البنائية كلها حيث يؤثر توظيف‬
‫املبنى يف إسلوب زخرفته‪ ،‬وقد يقرتب من إختصار الكثري منها‪ ،‬من دون أن‬
‫خيترصها بالكامل‪ ،‬ألن الزخرفة مرتبطة بالعالقة بني املادة ومالحمها‪ ،‬بني‬
‫اهليكل والشكل‪ ،‬وبني الشكل ودقة تنفيذه ‪.‬‬
‫إن اهليكل الذي ينشئ املبنى يكون مجي ً‬
‫ال بقدر ما حيقق وظيفته اإلنشائية‪،‬‬
‫بعد أن يبني اهليكل غالف ًا حيوي فضاءا يتطلب جدران ًا وسطوح ًا بنائية‪.‬‬
‫وهكذا يكون اليشء مجي ً‬
‫ال إعتامد ًا عىل ماهيته وبدء ًا منها‪ ،‬فيكون مجال ما‬
‫هو إنشائي متعلق ًا وملتزما بوظيفته اإلنشائية‪ ،‬ويكون مجال ما هو إستعاميل‬
‫مرتبط ًا بإستعامليته‪ ،‬ويتجىل مجال العامرة بمقدار ماتكون عامرة ‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫اهلوامش‬
‫‪ -1‬برونوفسكي‪ ،‬ج‪( ،‬إرتقاء االنسان)‪ ،‬ترمجة ‪ :‬د‪ .‬موفق شخاشريو‪ ،‬سلسلة عامل املعرفة‪،‬‬
‫املجلس الوطني للثقافة والفنون واالداب‪ ،‬الكويت‪ ،‬اذار ‪( 1981‬ص ‪)68‬‬
‫‪ -2‬ستيمبل‪ ،‬وولف دييتري‪( ،‬املظاهر النوعية للتلقي)‪ ،‬جملة (العرب والفكر العاملي)‪،‬‬
‫مركز االنامء القومي‪ ،‬بريوت‪ ،‬العدد ‪ ،3‬صيف ‪( ،1988‬ص ‪)128‬‬
‫‪ -3‬بونتا‪ ،‬خوان با بلو‪( ،‬العامرة وتفسريها)‪ ،‬ترمجة ‪ :‬سعاد عبد عيل مهدي‪ ،‬دار الشؤون‬
‫الثقافية العامة‪ ،‬بغداد‪( 1996 ،‬ص ‪)50‬‬
‫‪ -4‬باشالر‪ ،‬غاستون‪( ،‬مجاليات املكان) ‪،‬ترمجة ‪ :‬غالب هلسا‪ ،‬دار اجلاحظ للنرش‪ ،‬وزارة‬
‫الثقافة واالعالم‪ ،‬بغداد‪( 1980 ،‬ص ‪)42‬‬
‫‪5- Scruton ,‬‬ ‫‪roger,(the aesthetics of architecture), methuen and co.‬‬

‫)‪Ltd, London ,1979 (p 24‬‬

‫‪129‬‬
‫واقعية العمارة وال واقعيتها‬

‫ينظر اىل العامرة يف اخلطاب النظري عىل إهنا عمل فني‪ ،‬من دون جتاهل‬
‫إلتزاماهتا األخرى‪ .‬ويف مدى كون العامرة إبداع ًا فني ًا‪ ،‬ننشغل هنا بمعاجلة‬
‫تعقيد العالقة بني العامرة بوصفها فن ًا‪ ،‬وبني الواقع املوضوعي عىل إنه أحد‬
‫مصادرها يف اإلبداع‪ .‬وال شك إن العالقة بني العمل الفني والواقع‪ ،‬تكمن‬
‫يف أن الواقع يمثل الكثري من مادة العمل الفني‪ ،‬كام يمثل معيار ًا يف قبول‬
‫العمل الفني وتلقي خطابه اجلاميل واملعريف‪ .‬فقد حاول اإلنسان منذ وجد أن‬
‫ينتج إبداعه متأثر ًا بام حوله وما أتيح له أن حياكيه إعجاب ًا وثقة بجامل ما هو‬
‫طبيعي‪ ،‬وإعتقاد ًا منه بقدرته عىل إستحضار اجلامل املثايل وإمكانية الكشف‬
‫عنه‪ .‬وكان من نتاج ذلك عامرة غنية بالصور واألشكال العضوية‪ ،‬يف طرز‬
‫العامرة يف احلضارات القديمة‪ ،‬التي إغتنت باألشكال والزخارف املستوحاة‬
‫من الطبيعة‪ .‬حتى إن أشكال األعمدة التي ما برحت حتمل سقوف األبنية‪،‬‬
‫كانت هي األخرى حماكاة جلذورها ذات األشكال النباتية واإلنسانية ‪ .‬وقد‬
‫تطورت أساليب املحاكاة يف اإلبداع الفني‪ ،‬من التعامل مع السطح الظاهر‬
‫للمخلوقات الطبيعية‪ ،‬اىل النفاذ اىل عمق قوانني بنائها‪ .‬فكانت املحاكاة يف‬
‫اإلبداع الكالسيكي حماكاة للشكل وحماكاة لبنيته‪ ،‬كام يف إعتامد عالقات‬
‫تناسبية تبني الشكل املعامري مستمدة من بنية اجلسد اإلنساين والطبيعي‪،‬‬
‫‪131‬‬
‫متمثلة يف ما أسموه (النسبة الذهبية)‪ ،‬التي تم إعتامدها بشكل تفصييل يف‬
‫أبعاد األعمدة وتشكيل واجهات األبنية وخمططاهتا‪ .‬كام إن قوانني (املنظور)‬
‫يف الفن التشكييل هي قوانني مستمدة من مصادر واقعية‪ ،‬لتحكم وجود‬
‫األشياء وحضورها املرئي يف الفن و الواقع‪ .‬ويف النحت‪ ،‬مل تغادر مالمح‬
‫اجلسد البرشي أماكنها املعتادة‪ ،‬ومل تفقد األطراف من أطواهلا واألشياء من‬
‫حجومها‪ ،‬بل يأيت الفنان ليؤكدها ويذهب هبا اىل مديات مثالية‪ .‬غري إن هذا‬
‫التمثل للواقع املوضوعي وإستعادته شك ً‬
‫ال أو بنية يف العمل الفني‪ ،‬ما عاد‬
‫أمر ًا كافي ًا‪ .‬لذا فقد رشع الفنان يف البحث عن ذاته وعن قدراته عىل اخللق‬
‫يف صورة أخرى للواقع ينوي تقديمها‪ ،‬مفرتق ًا بذلك عن مرجعيات ما كان‬
‫حياكيه‪ ،‬بقصد أن يؤسس مملكة إبداعية متجددة‪ ،‬ويقرتح واقع ًا آخر ضمن‬
‫الواقع الذي يعيش فيه‪ .‬وقد متثل ذلك يف التالعب بقوانني الواقع وهو‬
‫حيرض يف العمل الفني‪ .‬فقد أدرك الفنان إن مكونات الواقع تبلغ مديات‬
‫جديدة ومبتكرة من الداللة واملعنى وال تعود ملك ًا لواقعها‪ ،‬عندما تنتمي‬
‫اىل عالقة بنائية جديدة‪ ،‬أو أن تتعرض اىل اإلنحراف والتشويه واإلختالف‬
‫عن حالتها الواقعية‪ .‬وتبع ًا لذلك تعرض الشكل الطبيعي اىل اإلنحراف‬
‫والتحول واىل اإلقتصاد يف احلضور‪ ،‬وإستحال هذا الشكل وعىل الرغم من‬
‫مالحمه املعقدة خطوطا مقتصدة تكتفي من املوضوع بام هو جوهري‪،‬‬
‫ليكون نتاج ذلك صورة تعبريية تستعيد من املرجع بعضه املؤثر واملهيمن‪،‬‬
‫يف ضوء قراءة الفنان للواقع ورؤيته يف كيفية تقديمه اىل املتلقي‪ .‬وثمة‬
‫جذور لذلك قديمة‪ ،‬تتكشف عنها األنامط الزخرفية يف العامرة االسالمية‪،‬‬

‫‪132‬‬
‫حيث تتعرض األشكال النباتية اىل اإلنبناء يف عالقات من التكرار والتناظر‬
‫واإلقتصاد يف الشكل‪ ،‬تقرب ًا من األشكال اهلندسية التجريدية‪ ،‬متخطية قلق‬
‫تكرار املوضوع الطبيعي‪ ،‬وهو ما كان منهج ًا مكروه ًا يف الفن االسالمي‪.‬‬
‫وهذه حقيقة تكشف عن قدم التأثري الذي مارسه الفكر يف بلورة إسلوب‬
‫فني معني ‪.‬‬
‫ويف العامرة املعارصة‪ ،‬حيرض القلق ذاته يف النظر اىل العامرة‪ ،‬مما نحى‬
‫باملهندس املعامري جتاه البحث عن قوانني وعالقات بنائية جديدة‪ ،‬تربئ‬
‫الشكل املعامري من احلضور ثقيل الوطأة لعنارص واقعية‪ ،‬يف لون ومالمح‬
‫وصالدة املادة البنائية وقوانني إنشائها‪ .‬وكذلك يف وظيفة املبنى وعالقاهتا‪،‬‬
‫التي تصبح الزمة أم ً‬
‫ال يف أن حييا املبنى وينجح يف إداء وظيفته‪ .‬غري إن‬
‫املهندس املعامري يسعى اىل جتاوز واقعيته هذه وسواها من الرشوط‪ .‬فعىل‬
‫الرغم من وجود إلتزام بقوانني إنشاء األبنية‪ ،‬اال إن ثمة إنحراف ًا يف حضورها‬
‫التعبريي عىل مستوى الشكل‪ ،‬بأن نحاول اإلحياء بثبات املبنى وتوفره عىل‬
‫مقومات نظام إنشائي موثوق‪ ،‬يف إشارة اىل عالقة إنشائية ما‪ ،‬كام يف حال‬
‫عمود حيرض يف واجهة مبنى وهو حيمل جرس ًا ثقي ً‬
‫ال‪ ،‬تلبية لرغبة املتلقي‬
‫بوضع اليد عىل ما يوحي بإستقرار املبنى‪ .‬وقد نعمد بدافع اإلنحراف‬
‫واإلختالف عن ما هو واقعي‪ ،‬اىل اإلحياء بال إستقرار املبنى يف صورة جدار‬
‫متهدم‪ ،‬أو عمود ينقطع عن محل جرس ينوي اإلستناد اليه‪ ،‬ويف ذلك إستثامر‬
‫للنتائج الشعورية املحتملة بقصد اإلحياء باإلستقرار اإلنشائي جمسد ًا‪ ،‬جتاوز ًا‬
‫لسلطة احلضور وإقرتاح إن غياب اليشء ليس أقل أمهية من حضوره‪ .‬وأمام‬

‫‪133‬‬
‫رغبة املتلقي يف أن يرقب مادة بنائية مألوفة‪ ،‬ال يمتنع املهندس املعامري من‬
‫إنجاز تكوينات شكلية حترر املادة من واقعية حضورها‪ ،‬وحتيلها اىل شكل‬
‫يطغى عىل احلضور املادي‪ .‬فتصبح الطابوقة مفردة يف بنية زخرفية أكثر مما‬
‫هي طابوقة‪ .‬كام نحاول التحرر من واقعية الوظيفة وجتسدها التعبريي يف‬
‫شكل املبنى‪ ،‬فبعد أن ساد زمان الدعوة اىل شكل يتبع الوظيفة ويوحي هبا‪،‬‬
‫إلتفت الفكر املعامري اىل تعقيد عالقة الوظيفة باملبنى‪ ،‬وصعوبة إختزال تلك‬
‫العالقة اىل إلتزام تعبري الشكل عنها‪ ،‬يف كون الوظيفة حالة معقدة ومتغرية‬
‫ومن الصعب مفهمتها‪ ،‬وبات من الصعب إلزام الفضاء املعامري بوظيفة‬
‫حمددة‪ ،‬األمر الذي دعا اىل أن يتحرر الشكل من مهمة التعبري عن تلك‬
‫الوظيفة ‪ ،‬نحو أفق إيفاء الفضاء املعامري ملتطلبات وظائف إنسانية متعددة‪.‬‬
‫وما عادت الوظيفة هي املطلق الذي يقرتح الشكل‪ ،‬بل هنالك احلضور‬
‫املحتمل ملقاصد مجالية ورمزية يمكن أن تنتهي اىل شكل معامري ‪ ،‬يكون‬
‫ما يمكن أن يكون‪ ،‬من دون أن يتجاهل التزاماته الوظيفية واإلنشائية‪،‬‬
‫ويقدم املبنى بذلك عم ً‬
‫ال فني ًا نافذا يف ما هو حمتمل‪ ،‬متكشفا عن شكل جديد‬
‫يقصد متام اإلرتواء الذي يبتغيه اإلنسان من العامرة‪ ،‬يف املالئمة واإلستقرار‬
‫والشعور باجلامل ‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫د‪ .‬أسعد األسدي‬
‫ـ مهندس معامري وكاتب‬
‫ـ مواليد (البرصة) عام ‪.1962‬‬
‫ـ بكالوريوس يف اهلندسة املعامرية ‪/‬جامعة بغداد ـ عام ‪.1985‬‬
‫ـ ماجستري يف العامرة األسالمية‪/‬جامعة بغداد ـ عام ‪.1990‬‬
‫ـ دكتوراه يف نظرية العامرة‪/‬جامعة بغداد ـ عام ‪.1998‬‬
‫ـ رئيس قسم اهلندسة املعامرية‪/‬جامعة البرصة منذ تأسيسه عام ‪ 2002‬حتى عام ‪. 2007‬‬
‫ـ إستشاري اهلندسة املعامرية ـ جامعة البرصة‪.‬‬
‫ـ مهندس أستشاري ـ نقابة املهندسني العراقية‪.‬‬

‫ـ األعامل املنشورة‬
‫‪( -1‬شعرية العامرة )‪/‬املوسوعة الصغرية‪ ،‬العدد (‪/)466‬دار الشؤون الثقافية العامة ‪/‬‬
‫بغداد‪. 2002 ،‬‬
‫‪( -2‬أشكالية معرفة العامرة)‪/‬كتاب العدد يف جملة (مسارات)‪/‬العدد األول‪/‬السنة‬
‫الثانية‪/‬بغداد‪ ،‬ربيع ‪.2006‬‬
‫‪( -3‬بيوت ومدينة وافول)‪/‬مشاركة يف كتاب (املكان العراقي ـ جدل الكتابة والتجربة)‬
‫حترير د‪ .‬لؤي محزة عباس ـ دراسات عراقية‪ ،‬بغداد‪ ،‬بريوت‪. 2009 ،‬‬

‫ـ األعامل غري املنشورة‬


‫‪( -1‬الزخرفة يف العامرة األسالمية ـ دراسة يف رياضيات بناء الشكل الزخريف) رسالة‬
‫ماجستري ـ جامعة بغداد‪. 1990 ،‬‬
‫‪( -2‬ماهية العامرة ـ دراسة حتليلية نقدية) أطروحة دكتوراه ـ جامعة بغداد‪. 1998 ،‬‬

‫ـ األعامل املعامرية‬
‫ـ أنجز التصاميم املعامرية ألكثر من (‪ )80‬مرشوع ًا ألبنية خمتلفة األستعامالت‪ ،‬بني منفذ‬
‫أو قيد التنفيذ‪ ،‬يف مدن البرصة وميسان وذي قار واملثنى وبغداد‪.‬‬

‫‪135‬‬

You might also like