Professional Documents
Culture Documents
لرواقية مدرسة فلسفية تعتمد على تعاليم زينون الرواقي
لرواقية مدرسة فلسفية تعتمد على تعاليم زينون الرواقي
تزعم الرواقية أن التحكم الذاتي ،الثبات وعدم االلتهاء بالعواطف ،التي قد تف ّس ر بالالمباالة بالمتعة واأللم ،تجعل اإلنسان مفكرا سليما،
.متزن التفكير وموضوعي .أحد جوانب الرواقية األساسية هي تحسين رفاهة الفرد الروحية
الفلسفة الرِّ َواقِ َّي ة مذهب فلسفي ازدهر حوالي القرن الرابع قبل الميالد واستمر حتى القرن الرابع الميالدي .بدأت في اليونان ثم امتد إلى
روما .اعتقد الفالسفة الرواقيون أن لكل الناس إدرا ًك ا داخل أنفسهم ،يربط كل واحد بكل الناس اآلخرين وبالحق ـ اإلله الذي يتحكم في
العالم .أدى هذا االعتقاد إلى قاعدة نظرية للكون ،وهي فكرة أن الناس هم مواطنو العالم ،وليسوا مواطني بلد واحد ،أو منطقة معينة.
قادت هذه النظرة أيضً ا إلى اإليمان بقانون طبيعي يعلو على القانون المدني ويعطي معيارً ا تقوَّ م به قوانين اإلنسان .ورأى الرواقيون أن
الناس يحققون أعظم خير ألنفسهم ،ويبلغون السعادة باتباع الحق ،وبتحرير أنفسهم من االنفعاالت ،وبالتركيز فقط على أشياء بوسعهم
.السيطرة عليها
لقد كان للفالسفة الرواقيين أكبر األثر في القانون واألخالق والنظرية السياسية .على أنهم وضعوا أي ً
ضا نظريات مهمةـ في المنطق،
.والمعرفة ،والفلسفة الطبيعية
كان الرواقيون األوائل ،وخاصة كريسيبيس ،مغرمين بالمنطق ،والفلسفة الطبيعية وكذلك باألخالقيات .وشدد الرواقيون المتأخرون ـ
.خاصة سنيكا وماركوس أورليوس وإپيكتتوس ـ على األخالقياتـ
فهرست [إخفاء]
المصادر 3
لما كان عدد متزايد من أتباع أبيقور قد أخذوا يفسرون أقواله بأنه ينصح الناس بالجري وراء اللذة الجسمية فإن النظرية األساسية في علم
األخالق -وهي ما هي الحياة الطيبة؟ -لم يتوصل إلى حلها ،بل كل ما في األمر أنها وضعت في صيغة أخرى وهي :كيف يوفق بين
أبيقورية الفرد الفطرية وبين الرواقية التي ال بد منها للجماعة والجنس البشري؟ -وكيف يستطاع أن يوحي إلى أعضاء المجتمع أو أن
يرهبوا حتى يسيطروا على أنفسهم أو يضحوا بها ألن هذه التضحية وتلك السيطرة ال غنى عنهما لبقاء المجتمع .ولم يعد في مقدور الدين
القديم أن يؤدي هذا الواجب ،كما أن الدولة القديمة دولة -المدينة لم تس ُم بالناس إلى حد يجعلهم ينسون أنفسهم .واتجه اليونان المتعلمون
إلى الفلسفة يسألونها الجواب ،واستدعوا الفالسفة يطلبون إليهم التضحية أو السلوى في أزمات الحياة ،وبحثوا في الفلسفة عن نظرة تكسب
الوجود اإلنساني معنى خالداً أو حكمة دائمة في نظام األشياء ،وتمكنهم من أن ينظروا إلى الموت الذي هم مالقوه حتما ً بال رهبة وال
فزع .لقد كانت الرواقية آخر ما بذله األقدمون األمجاد من جهد للبحث عن مبدأ خلقي فطري ،ولقد حاول زينون مرة أخرى أن يصل إلى
.الهدف الذي عجز أفالطون عن الوصول إلي ِه
وكان زينون من أهل قيتيوم إحدى مدائن قبرص؛ وكانت المدينة فينيقية في بعض أحيائها يونانية في أكثرها؛ وكثيراً ما يقال إن زينون
فينيقي ،ويقال أحيانا ً إنه مصري؛ والذي ال شك فيه أن أبويه يختلط فيهما الدم الهليني والدم السامي( .)44ويصفه أبلونيوس الصوري بأنه
نحيل الجسم ،طويل القامة ،أسمر اللون ،وأن رأسه كان يميل إلى أحد الجانبين ،وأن ساقيهـ كانتا ضعيفتين .ويخيل إلينا أن أفرديتي لو
خيراً منه .وإذ لم يكن له ما يشغل باله ويشتت جهوده فإنه سرعان ما Hephaestusعرض عليها ألسلمته إلى أثينة ،وإن لم يكن هفستس
جمع من التجارة ثروة طائلة ،فلما أن جاء إلى أثينة أول مرة كان لديه ،كما يقولون ،أكثر من ألف وزنة .ويقول ديجين ليرتيوس إن
السفينة تحطمت به عند ساحل أتكا ،وإنه فقد ثروته ،فوصل إلى أثينة حوالي عام 314وهو ال يكاد يملك شيئاً( .)45وجلس الرجل إلى
جوار دكة كتبي وشرع يقرأ في كاتب ممر بيليا ألكسانوفون وسرعان ما افتتن بأخالق سقراط ،وأخذ يسأل " :أين يوجد أمثال هذا الرجل
اليوم؟" .ومر به في تلك الساعة أقراطيس الفيلسوف الكلبي ،فأشارـ عليه الكتبي أن يتبع ذلك الرجل .انظم زينون وهو وقتئذ في سن
الثالثين إلى مدرسة أقراطيس وسره أن كشف الفلسفة وقال" :لقد قمتـ برحلة ناجحة موفقة حين تحطمت سفينتي"( .)46وكان أقراطيس
هذا رجالً من أهل طيبة نزل عن ثروت ِه البالغ قدرها ثالثمائة وزنة إلى مواطني ِه وعاش عيشة الزهد والتقشف التي يعيشها الكلبيون
Hipparchiaالمتسولون .وكان يندد بالدعارة المتفشية في أيامهِ ،وينصح الناس بأن يجوعوا ليعالجوا الحب .وشغفت تلميذته هپارخيا
بحبهِ ،لكثرة ما كان لديها من الطعام ،وهددت أبويها بأنها سوف تقتل نفسها إذا لم يزوجاها بهِ ،فتوسال إلى أقراطيس أن ينصحها بالرجوع
عن عزمها ،وحاول هو أن يجيبهما إلى ما طلبا ووضع مخالة تسوله بين قدميهاـ وقال لها" :هذا كل ما أملك؛ ففكري اآلن فيما تفعلين"؛
يثن ذلك من عزمها فغادرتـ منزلها الفخم ،وارتدت ثياب المتسولين ،وذهبت لتعيش مع أقراطيس عيشة العشق الحر الطليق .ويقال لنا ولم ِ
.إن زواجها قد تم علناً ،ولكن حياتهما كانت مثالً أعلى في الحب والوفاء()47
وأثرت في نفس زينون حياة الكلبيين البسيطة الصارمة؛ ذلك أن أتباع أنستانس قد أصبحوا وقتئذ هم الرهبان الفرنسسكانـ في الزمن
القديم ،نذروا أن يعيشوا فقراء زاهدين ،ينامون في مأوى طبيعي يعثرون عليه ،ويعيشون على صدقات الناس الذين يمنعهم جدهم أن
يكونوا قديسين .وأخذ زينون عن الكلبيين المبادئ األولية لنظام ِه األخالقي ،ولم يحول قط أن يخفي ما هو مدين ب ِه إليهم .وقد تأثر بهم في
أول كتاب له وهو كتاب الجمهورية تأثراً جعله يعتنق شيوعيتهم الفوضوية التي ى تكون فيها نقود ،وال ملكية ،وال زواج ،وال دين ،وال
شرائع( .) 48ولما أدرك أن هذه الطوبى ،وأن نظام التغذية الكلبي ،ال يصلحان ألن يكونا منهاجا ً علميا ً للحياة ،فارق أقراطيس وأخذ
يدرس مع زنوقراطيس في المجمع العلمي ومع استبلو المغاري .وما من شك في أنه قرأ كتب هرقليطس قراءة استيعاب ألنه أدخل في
أفكار ِه كثيراً من آراء هرقليطس -كالنار المقدسة بوصفها روح اإلنسان والكون ،وأبدية القانون وتكرار خلق العالم واحتراقه؛ ولكن كان
.من عادته أن يقول إنه مدين لسقراط بأكثر مما هو مدين به لغير ِه من الفالسفة ،وإن سقراط هو معين الفلسفة الرواقية ومثله األعلى
وبعد أن قضى زينون كثيراً من السنين تحت وصاية غيره من الفالسفة أنشأ أخيراً مدرسته الفلسفية الخاصة به في عام ،301وذلك بأن
أو المدخل المحدد .وكان يرحب بالفقراء واألغنياء Stoa Poecileأخذ يتحدث إلى الطالب وهو رائح غا ٍد تحت أعمدة االستواء بوسيلي
على السواء ،ولكنه لم يكن يشجع انضمام الشبان إلى تالميذهِ ،ألنه كان يشعر بأن الفلسفة ال يفهمهاـ إال الرجال الناضجوا العقل .وحدث أن
أطال أحد الشبان في الكالم فقال له زينون "لقد ُخلق لنا أذنان وفم واحد لكي ننصت كثيراً ونتكلم قليالً"( .)49وحضر أنتجونس الثاني
وهو في أثينة دروس زينون ،وأضحى صديقا ً له معجبا ً بهِ ،يستنصحه في مهام األمور ،وأغراه بالترف برهة وجيزة ،ودعاه ألن يعيش
وظل هو أربعين عاما ً يعلم في Persaeus،ولكن زينون اعتذر له وأرسل إليه بدالً منه تلميذه برسيوس Pella،ضيفا ً علي ِه في بال
االستوا ويعيش عيشة تتفق وتعاليمه اتفاقا ً أصبحت معه عبارة "أكثر اعتداالً من زينون" مثالً سائراً في بالد اليونان .وأسلمته الجمعية
:األثينية رغم صلته الوثيقة بأنتجونس "مفاتيح األسوار" ،ووافقت على المال الذي خصص إلقامةـ تمثال له وإهدائه تاجاً .وهذا نص القرار
لما كان زينون القتيومي قد قضى سنين كثيرة في مدينتنا يدرس الفلسفة ،ولما كان في كل ما عدا هذا رجالً طيبا ً (هكذا) ،يحض جميع"
الشبان الذين يسعون لصحبت ِه على االعتدال في حياتهم ويجعل حياته أنموذجا ً ألعظم ما تسمو إليه الحياة ...فقد صحت عزيمة الشعبـ
.على تكريم زينون ...وعلى أن يهديه تاجا ً من الذهب ...وأن يبني له قبراً في حي الرمكس من األموال العامة"()51
والشائع أن موته كان في سن التسعين ،ويقول ليرتيوس إنه مات بالطريقة اآلتية" :بينما هو خارج من مدرست ِه إذ زلت قدمهـ وكسر إصبع
ُ
جئت؛ فل َم تناديني على هذا النحو؟" ثم خنق نفسه من فورهِ"( من أصابعها ،فضرب األرض بيد ِه وأعاد بيتا ً من الشعر في نيوبي وهو "لقد
)52.
ومن بعد ِه خريسيپوس من صولي Cleanthes of Assusوواصل عمله في االستوا رجالن من يونان آسية هما أقليانتس من أسوس
وكان أقليانتس مالكما ً محترفا ً قدم إلى أثينة ومعه أربع درخمات ،واشتغل فاعالً عادياً ،ورفض أن يتقاضى إعانة Chrysippus of Soli.
من الدولة ،ودرس على زينون تسعة عشر عاماً ،وعاش مجداً فقيراً زاهداً ،أما أقريسبوس فكان أكثر تالميذ المدرسة علما ً وإنتاجاً ،وهو
Dionysius ofالذي أكسب العقيدة الرواقية صورتها التاريخية بأن شرحها في 270كتاباً ،جعلت ديونيسيوس من هليكرناسوس
يعدها أنموذجا ً لغزارة العلم المملة .وانتشرت الرواقية من بعد ِه في جميع أنحاء هالس ،وكان أعظم دعاتها في آسيةHalicarnassus :
وديوجين من Boethus of Sidon،وزينون من طرسوس ،وپوئثوس من صيدا Panaetius of Rhodes،پانيتيوس من رودس
سلوقس .وكل الذي نستطيعه للتعريف بها أن نؤلف مما عثرنا عليه عرضا ً من النتف الباقية من المؤلفات الضخمة الكثيرة التي كتبت
.عنها صورة ألوسع فلسفاتـ العالم القديم انتشاراً وأعظمها أثراً
وأكبر الظن أن أقريسبوس هو الذي قسم الفلسفة الرواقية إلى منطق ،وعلوم طبيعية ،وأخالق .وكان زينون ومن جاء بعده يفخرون بما
كتبوه في النظريات المنطقية ،ولكن أنهار المداد التي فاضت بها أقالمهم في هذا الموضوع لم تترك أثراً ملحوظا ً في إنارة العقول أو في
نفعها .لقد كان الرواقيون يتفقون مع األبيقوريين في أن المعرفة ال تنشأ إال من الحواس ،وكان المقياس النهائي للحقيقة في رأيهم هو
المدركاتـ الحسية التي تضطر العقل إلى قبولها بما فيها من وضوح أو ثبات ،على أنه ليس من الضروري أن تؤدي التجارب إلى
المعرفة ،ألن بين الحواس والعقل توجد العواطف أو االنفعاالت ،وهذه قد تشوه التجارب فتجعلها أخطاء ،كما تشوه الرغبات فتجعلهاـ
.رذائل .والعقل هو أسمى ما أحرزه اإلنسان ،وهو بذرة من بذور العقل الكلي الذي وضع قواعد العالم
والعالم كاإلنسان مادي بأكمل ِه وإلهي بفطرتهِ .فكل ما تنقله لنا الحواس مادي ،واألشياء المادية دون غيرها هي التي تحدث األفعال أو
تستقبلها .والصفات والكميات،ـ والفضائل ،واالنفعاالت ،والنفس والجسم ،وهللا والنجوم ،كلها صور مادية أو عمليات ،تختلف في درجة
رقتها ،ولكنها واحدة في جوهرها( .) 54غير أن المادة كلها حركية ،مملوءة بالتوتر والقوى ،ال تنقطع عن العمل على االنتشار أو
التركيز ،يبعث فيها الحياة من داخلها وخارجها النشاط والحرارة أو النار .والعالم يعيش بواسطة عدد ال يحصى من دورات التمدد
واالنكماش ،والتطور واالنحالل ،يحترق من آن إلى آن في لهب عظيم ،ثم يتشكل على مهل من جديد .ثم يعود فيمر في تاريخه القديم كله
بأدق تفاصيله ألن تسلسل العلل والمعلوالت يسير في دائر مفرغة ويتكرر إلى غير نهاية .وكل الحوادث وكل أعمال اإلدارة مقررة
معينة ،ومن المستحيل على شيء ما أن يحدث على نحو يخالف ما حدث عليه ،كما أنه يستحيل على شيء أن ينشأ من ال شيء؛ ولو
.حدثت أية ثغرة في السلسلة لتمزق العالم
وهللا في هذا النظام هو البداية والوسط والنهاية .وكان الرواقيون يعترفون بضرورة وجود الدين ليكون أساسا ً لألخالق الفاضلة؛ فكانوا
ينظرون نظرة التسامح اللطيفة لعقائد الشعب الدينية وما فيها من شياطين ،ومن تنبؤ بالغيب ،وكانوا يجدون لهذه تفسيرات مصوغة في
تشبيهات ومجازات يسدون بها الثغرة الفاضلة بين الخرافة والفلسفة .وكانوا يقبلون علم التنجيم الكلداني ويعتقدون بصحته في جوهره،
ويرون أن شؤون األرض تنطبق انطباقا ً خفيا ً مستمراً على حركات النجوم( .)55فكان ذلك لديهم صورة من صور التعاطف العالمي
الذي يجعل كل ما يحدث في جزء منه يؤثر في سائر األجزاء .وكأنهم أرادوا أال يكتفوا بوضع نظام أخالقي للمسيحية ،بل شاءوا أن
يضعوا لها أيضا ً نظامها الديني ،ففكروا في العالم ،والشرائع ،والحياة ،والنفس ،واألقدار من حيث صلتها باهلل ،وعرفوا األخالق الفاضلة
بأنها االستسالم عن رضا واختيار إلرادة هللا .وهللا عندهم ،كاإلنسان ،مادة حية؛ فالعلم كله جسمه،ـ ونظام العالم وقانونه عقله وإرادته؛
والكون كائن حي ضخم ،هللا روحه ،ونسمته المنعشة ،وعقله المخصب،ـ وناره المحركة المنشطة( .)56وترى الرواقيين أحيانا ً يفكرون
في هللا تفكيراً مجرداً غير مجسد؛ ولكنهم يصورونه في األكثر األهم على أنه قوة مدبرة تضع للكون خطته وترشده بعقلها األعلى ،وتنظم
أجزاءه كلها لتؤدي أغراضا ً تنطبق على العقل ،وتجعل كل شيء فيه يعود بالنفع على األفاضل من الناس .ويوحد أقليانيتس بين هللا
:وزيوس في ترنيمة توحيدية خليقة بأن ينطبق بها أخناتون أو إشعيا
،حمداً لك يا زيوس ،حمداً يفوق حمد جميع اآللهة :إن أسماءك لكثيرة
بقوتك
َ :ومن أجل هذا أرفع إليك نشيداً أتغنى فيه
:ال شيء يحدث على األرض إال بعلمك ،وال في السماءـ وال في البحار
وما أشبه اإلنسان والعالم بالكون الصغير في الكون الكبير ،فهو أيضا ً كائن حي ذو جسم مادي والنفس مادية ،ذلك بأن كل ما يحرك
منبثة في جميع ) Pneumaنيوما( الجسم أو يؤثر فيهِ ،وكل ما يحركه الجسم أو يؤثر فيه ،ال بد أن يكون ذا جسم .والنفس نسيم ناري
أجزاء الجسم ،كما أن النفس العالمية منبثة في جميع العالم .وهي تبقى بعد الجسم إذا مات ،ولكنها تبقى على هيئة طاقة غير شخصية.
Brahman.في برهمان Atmanوحين يحدث اللهب األخير تمتص الروح مرة أخرى في محيط الطاقة وهو هللا كما يمتص أتمان
وإذ كان اإلنسان جزءاً من هللا أو الطبيعة فإن من اليسير أن تحل المشكلةـ األخالقية على النحو اآلتي :الخير هو التعاون مع هللا أي مع
الطبيعة ونعني بها قانون العالم .وليس الخير هو الجري وراء االستمتاع أو اللذة ألن هذا الجري يخضع العقل للشهوة ،وكثيراً ما يؤذي
الجسم أو العقل ،وقلما يرضينا في آخر األمر .وال يمكن أن تتحقق السعادةـ إال بالمواءمة بين أغراضنا وسلوكنا من جهة ،وبين أغراض
العالم وقوانينه من جهة أخرى؛ وليس ثمة تعارض بين صالح الفرد وصالح الكون ،ألن قانون الخير في حالة الفرد يتفق مع قانون
الطبيعة .وإذا لحق الشر بالرجل الطيب فإن هذا ال يكون إال إلى أجل قصير ،وليس هو في واقع األمر شراً؛ ولو أننا استطعنا أن نفهم
األمر كله لرأينا ما وراءه من خير مهما يظهر في أجزائه من الشر .والرجل العاقل ال يدرس العلوم الطبيعية إال بالقدر الذي يكفي
لمعرفة قانون الطبيعة ثم يكيف حياته وفق هذا القانون ،وغرض العلم والفلسفة والمبرر الوحيد لدراستها هما تمكيننا من أن نعيش وفق
Neunam:ويسلم أقليانيتس إرادته إلرادة هللا في ألفاظ تكاد أن تكون هي بعينها ألفاظ نيومن Zen Kata physin.الطبيعة
ُ
وصلت معكماـ وسأتبع هديكما مسروراً .فإذا ما
ُ
نكثت العهد ،فال بد لي من أن أواصل السير معكماـ .ثم
ومن أجل هذا يتجنب الرواقي الترف والتعقيد ،والمنازعات السياسية واالقتصادية؛ وهو يقنع بالقليل ،ويقبل بال تذمر صعاب الحياة وما
يالقيه فيها من خيبة .وال يأبه بشيء غير الفضيلة والرذيلة -ر يبالي بالمرض واأللم ،بحسن السمعة أو سوئها ،بالحرية أو الرق ،بالحياة
أو الموت .ويقمع كل شعور يقف في وجه سير الطبيعة أو يبعث على االرتياب في حكمتها :فإذا مات ولده لم يحزن ،بل يرضى بحكم
القدر معتقداً أنه أحسن األحكام وإن خفي األمر عليه؛ ويسعى ألن يكون مجرداً من الشعور تجرداً تاماً ،حتى يكون هدوء عقله آمنا ً من
جميع تقلبات الحظ ،أو الرحمة ،أو الحب ،ومن وقعها عليه .وعلى الرواقي أن يكون معلما ً قاسياً،ـ وإداريا صارماً .والجبرية ال تتضمن
االنطالق من القيود ،بل يجب علينا أن نكبح جماح أنفسنا وأنفس غيرنا ،وأن نتحمل من الناحية الخلقية تبعات جميع أعمالنا .ولما أن
ضرب زينون عبده ألنه سرق ،وكان العبد يعرف قليالً من العلم ،قال له" :ولكني قد قدر عليَّ أن أسرق" ،فرد عليه زينون بقولهِ" :وقدر
أيضا ً أن أضربك"( .) 61ويرى الرواقي أن جزاء الفضيلة هو الفضيلة نفسها ،وأنها واجب مطلق وأمر محتوم ،مستمد من اشتراكه في
األلوهية؛ وإذا أصابه مكروه عزى نفسه بأنه حين يتبع القانون اإللهي يصبح هو هللا مجسداً( .)62فإذا سئم الحياة ،واستطاع أن يفارقها
من غير أن يسبب األذى لغيره ،فال حرج عليه من أن ينتحر .ولما بلغ أقليانتيس سن السبعين شرع يصوم صوما ً طويالً ،ثم قال إنه لن
.يعود بعد أن قطع نصف الطريق ،وواصل الصوم حتى مات()63
على أن الرواقي مع هذا ليس بالرجل غير االجتماعي ،وهو ال يفخر بالفقر كالكلبي ،وال يغرم بالوحدة كاألبيقوري .وهو يوافق على
الزواج وعلى وجود األسرة ويراهما الزمين ،وإن كان ال يمتدح الحب الروائي؛ وهو يتطلع إلى وجود مدينة فاضلة تكون فيها النساء
شركة بين الرجال( .) 64ويقبل وجود الدولة ،بل يقبل الملكية المطلقة نفسها؛ وليست لديه ذكريات عزيزة عن دولة -المدينة ،ويرى أن
أوساط الناس مغفلون شديدوا الخطر ،ويفضل الملوك المطلقي السلطة على تحكم الغوغاء .والحق أنه قلما يعنى بأية حكومة ،ويتمنى أن
يكون الناس كلهم فالسفة ،حتى تصبح القوانين ال ضرورة لها .وهو ال يفكر في الكمال كما يفكر فيه أفالطون أو أرسطو من حيث عالقته
بخير المجتمع ،بل يفكر فيه من حيث عالقته بالرجل الصالح .وال يرى حرجا ً في أن يشترك في الشؤون السياسية ،ويناصر كل حركة
ضعيفة ،تهدف إلى الحرية والكرامة اإلنسانية ،ولكنه ال يقيد سعادته بقيود المنصب أو السلطان .وهو يرضى بأن يضحي بحيات ِه في سبيل
بالده ،ولكنه يرفض كل وطنية تقف في سبيل والئه لإلنسانية بأجمعها؛ فهو والحالة هذه مواطن عالمي .وكان زينون ،وهو الذي يجري
في عروقه ،كما سبق القول ،الدم اليوناني والدم السامي ،يتوق كما يتوق اإلسكندر لتحطيم الحواجز العنصرية والقومية؛ وإن نزعته
الد َُّو لية لتكشف عن فكرة اإلسكندر التي كانت آخذة في الزوال ،فكرة توحيد بالد شرق البحر األبيض المتوسط .وكان زينون وكريسبوس
يأمالن في آخر األمر أن يحل مجتمع واحد كبير محل تلك الدول والطبقات المتطاحنة؛ وأال يكون في هذا المجتمع الجديد أغنياء وفقراء،
.أو سادة وعبيد؛ يحكمه الفالسفة فال يظلمون ،ويكون فيه الناس جميعا ً أخوة ألنهم أبناء إله واحد()65
ومالك القوى أن الرواقية كانت فلسفة نبيلة ،وأنها كانت فلسفة عملية إلى حد أبعد مما يتوقعه الساخر منها في الوقت الحاضر .لقد وحدت
هذه الفلسفة جميع عناصر الفكر اليوناني وبذلتها في مجهود نهائي قام به العقل الوثني لوضع نظام أخالقي ترتضيه الطبقات التي خرجت
ينضو تحت لوائها إال أقلية ضئيلة ،فإن هذه األقلية أينما وجدت كانت خير العناصر .وقد أنتجت كما أنتج ِ على الدين القديم؛ ومع أنه لم
المذهبان المسيحيان المقابالن لها -وهما الكلفنية والمتزمتة -أقوى األخالق في زمنها .على أننا إذا نظرنا إلى هذه الفلسفة من الوجهة
قاس يتطلب من أصحاب ِه اعتزال المجتمع ،لكنها في واقع األمر قد خلقت رجاالً النظرية رأينا عقيدة شاذة مروعة تهدف إلى كمال ٍ
ً
وماركس أورليوس .ولقد تأثر بها الروماني فوضع على Epictetus،شجعاناَ ،قديسين أطهارا ،خيرين أمثال كاتو األصغر ،وإبكتتس
هديها تشريعا ً لألمم غير الرومانية ،وأعانت على حفظ كيان المجتمع القديم حتى ظهر له دين جديد .ولسنا ننكر أن الرواقيين قد شدوا من
أزر الخرافات ،وأنهم كان لهم أثر سيئ في العلوم الطبيعية ،ولكنهم رأوا بنافذ بصيرتهم المشكلة األساسية القائمة في عصرهم -وهي
أساس األخالق الديني -وبذلوا مجهوداً شريفا ً لملء الهوة الفاصلة بين الدين والفلسفة .لقد كسب أبيقور اليونان وضمهم إلى لوائهِ ،أما
زينون فقد كسب أرستقراط رومة ،وظل الرواقيون إلى آخر تاريخ الوثنية يحكمون األبيقوريين ،وسيظلون على الدوام هم الحاكمين لهم.
ولما أن نشأ دين جديد من أنقاض الفوضى العقلية واألخالقية الضاربة أطنابها في العالم الهلنستي ،كانت السبيل قد مهدتهاـ لهذا الدين فلسفة
.آمنت بضرورة الدين ،ونادت بعقيدة تقشفية من مبادئها البساطة وضبط النفس ،عقيدة ترى في هللا كل شيء