You are on page 1of 5

‫‪.‬لرواقية مدرسة فلسفية تعتمد على تعاليم زينون الرواقي (‪ 333‬ق‪.‬م‪ 264 - .‬ق‪.‬م‪).

‬‬

‫تزعم الرواقية أن التحكم الذاتي‪ ،‬الثبات وعدم االلتهاء بالعواطف‪ ،‬التي قد تف ّس ر بالالمباالة بالمتعة واأللم‪ ،‬تجعل اإلنسان مفكرا سليما‪،‬‬
‫‪.‬متزن التفكير وموضوعي‪ .‬أحد جوانب الرواقية األساسية هي تحسين رفاهة الفرد الروحية‬

‫‪.‬الفضيلة‪ ،‬المنطق والقوانين الطبيعية هي تعليمات أساسية‬

‫الفلسفة الرِّ َواقِ َّي ة مذهب فلسفي ازدهر حوالي القرن الرابع قبل الميالد واستمر حتى القرن الرابع الميالدي‪ .‬بدأت في اليونان ثم امتد إلى‬
‫روما‪ .‬اعتقد الفالسفة الرواقيون أن لكل الناس إدرا ًك ا داخل أنفسهم‪ ،‬يربط كل واحد بكل الناس اآلخرين وبالحق ـ اإلله الذي يتحكم في‬
‫العالم‪ .‬أدى هذا االعتقاد إلى قاعدة نظرية للكون‪ ،‬وهي فكرة أن الناس هم مواطنو العالم‪ ،‬وليسوا مواطني بلد واحد‪ ،‬أو منطقة معينة‪.‬‬
‫قادت هذه النظرة أيضً ا إلى اإليمان بقانون طبيعي يعلو على القانون المدني ويعطي معيارً ا تقوَّ م به قوانين اإلنسان‪ .‬ورأى الرواقيون أن‬
‫الناس يحققون أعظم خير ألنفسهم‪ ،‬ويبلغون السعادة باتباع الحق‪ ،‬وبتحرير أنفسهم من االنفعاالت‪ ،‬وبالتركيز فقط على أشياء بوسعهم‬
‫‪.‬السيطرة عليها‬

‫لقد كان للفالسفة الرواقيين أكبر األثر في القانون واألخالق والنظرية السياسية‪ .‬على أنهم وضعوا أي ً‬
‫ضا نظريات مهمةـ في المنطق‪،‬‬
‫‪.‬والمعرفة‪ ،‬والفلسفة الطبيعية‬

‫كان الرواقيون األوائل‪ ،‬وخاصة كريسيبيس‪ ،‬مغرمين بالمنطق‪ ،‬والفلسفة الطبيعية وكذلك باألخالقيات‪ .‬وشدد الرواقيون المتأخرون ـ‬
‫‪.‬خاصة سنيكا وماركوس أورليوس وإپيكتتوس ـ على األخالقياتـ‬

‫فهرست [إخفاء]‬

‫التوفيق بين األبيقورية والرواقية ‪1‬‬

‫انظر أيضًا ‪2‬‬

‫المصادر ‪3‬‬

‫وصالت خارجية ‪4‬‬

‫التوفيق بين األبيقورية والرواقية‬

‫لما كان عدد متزايد من أتباع أبيقور قد أخذوا يفسرون أقواله بأنه ينصح الناس بالجري وراء اللذة الجسمية فإن النظرية األساسية في علم‬
‫األخالق‪ -‬وهي ما هي الحياة الطيبة؟‪ -‬لم يتوصل إلى حلها‪ ،‬بل كل ما في األمر أنها وضعت في صيغة أخرى وهي‪ :‬كيف يوفق بين‬
‫أبيقورية الفرد الفطرية وبين الرواقية التي ال بد منها للجماعة والجنس البشري؟‪ -‬وكيف يستطاع أن يوحي إلى أعضاء المجتمع أو أن‬
‫يرهبوا حتى يسيطروا على أنفسهم أو يضحوا بها ألن هذه التضحية وتلك السيطرة ال غنى عنهما لبقاء المجتمع‪ .‬ولم يعد في مقدور الدين‬
‫القديم أن يؤدي هذا الواجب‪ ،‬كما أن الدولة القديمة دولة‪ -‬المدينة لم تس ُم بالناس إلى حد يجعلهم ينسون أنفسهم‪ .‬واتجه اليونان المتعلمون‬
‫إلى الفلسفة يسألونها الجواب‪ ،‬واستدعوا الفالسفة يطلبون إليهم التضحية أو السلوى في أزمات الحياة‪ ،‬وبحثوا في الفلسفة عن نظرة تكسب‬
‫الوجود اإلنساني معنى خالداً أو حكمة دائمة في نظام األشياء‪ ،‬وتمكنهم من أن ينظروا إلى الموت الذي هم مالقوه حتما ً بال رهبة وال‬
‫فزع‪ .‬لقد كانت الرواقية آخر ما بذله األقدمون األمجاد من جهد للبحث عن مبدأ خلقي فطري‪ ،‬ولقد حاول زينون مرة أخرى أن يصل إلى‬
‫‪.‬الهدف الذي عجز أفالطون عن الوصول إلي ِه‬

‫وكان زينون من أهل قيتيوم إحدى مدائن قبرص؛ وكانت المدينة فينيقية في بعض أحيائها يونانية في أكثرها؛ وكثيراً ما يقال إن زينون‬
‫فينيقي‪ ،‬ويقال أحيانا ً إنه مصري؛ والذي ال شك فيه أن أبويه يختلط فيهما الدم الهليني والدم السامي(‪ .)44‬ويصفه أبلونيوس الصوري بأنه‬
‫نحيل الجسم‪ ،‬طويل القامة‪ ،‬أسمر اللون‪ ،‬وأن رأسه كان يميل إلى أحد الجانبين‪ ،‬وأن ساقيهـ كانتا ضعيفتين‪ .‬ويخيل إلينا أن أفرديتي لو‬
‫خيراً منه‪ .‬وإذ لم يكن له ما يشغل باله ويشتت جهوده فإنه سرعان ما ‪ Hephaestus‬عرض عليها ألسلمته إلى أثينة‪ ،‬وإن لم يكن هفستس‬
‫جمع من التجارة ثروة طائلة‪ ،‬فلما أن جاء إلى أثينة أول مرة كان لديه‪ ،‬كما يقولون‪ ،‬أكثر من ألف وزنة‪ .‬ويقول ديجين ليرتيوس إن‬
‫السفينة تحطمت به عند ساحل أتكا‪ ،‬وإنه فقد ثروته‪ ،‬فوصل إلى أثينة حوالي عام ‪ 314‬وهو ال يكاد يملك شيئاً(‪ .)45‬وجلس الرجل إلى‬
‫جوار دكة كتبي وشرع يقرأ في كاتب ممر بيليا ألكسانوفون وسرعان ما افتتن بأخالق سقراط‪ ،‬وأخذ يسأل ‪" :‬أين يوجد أمثال هذا الرجل‬
‫اليوم؟"‪ .‬ومر به في تلك الساعة أقراطيس الفيلسوف الكلبي‪ ،‬فأشارـ عليه الكتبي أن يتبع ذلك الرجل‪ .‬انظم زينون وهو وقتئذ في سن‬
‫الثالثين إلى مدرسة أقراطيس وسره أن كشف الفلسفة وقال‪" :‬لقد قمتـ برحلة ناجحة موفقة حين تحطمت سفينتي"(‪ .)46‬وكان أقراطيس‬
‫هذا رجالً من أهل طيبة نزل عن ثروت ِه البالغ قدرها ثالثمائة وزنة إلى مواطني ِه وعاش عيشة الزهد والتقشف التي يعيشها الكلبيون‬
‫‪ Hipparchia‬المتسولون‪ .‬وكان يندد بالدعارة المتفشية في أيامهِ‪ ،‬وينصح الناس بأن يجوعوا ليعالجوا الحب‪ .‬وشغفت تلميذته هپارخيا‬
‫بحبهِ‪ ،‬لكثرة ما كان لديها من الطعام‪ ،‬وهددت أبويها بأنها سوف تقتل نفسها إذا لم يزوجاها بهِ‪ ،‬فتوسال إلى أقراطيس أن ينصحها بالرجوع‬
‫عن عزمها‪ ،‬وحاول هو أن يجيبهما إلى ما طلبا ووضع مخالة تسوله بين قدميهاـ وقال لها‪" :‬هذا كل ما أملك؛ ففكري اآلن فيما تفعلين"؛‬
‫يثن ذلك من عزمها فغادرتـ منزلها الفخم‪ ،‬وارتدت ثياب المتسولين‪ ،‬وذهبت لتعيش مع أقراطيس عيشة العشق الحر الطليق‪ .‬ويقال لنا‬ ‫ولم ِ‬
‫‪.‬إن زواجها قد تم علناً‪ ،‬ولكن حياتهما كانت مثالً أعلى في الحب والوفاء(‪)47‬‬

‫وأثرت في نفس زينون حياة الكلبيين البسيطة الصارمة؛ ذلك أن أتباع أنستانس قد أصبحوا وقتئذ هم الرهبان الفرنسسكانـ في الزمن‬
‫القديم‪ ،‬نذروا أن يعيشوا فقراء زاهدين‪ ،‬ينامون في مأوى طبيعي يعثرون عليه‪ ،‬ويعيشون على صدقات الناس الذين يمنعهم جدهم أن‬
‫يكونوا قديسين‪ .‬وأخذ زينون عن الكلبيين المبادئ األولية لنظام ِه األخالقي‪ ،‬ولم يحول قط أن يخفي ما هو مدين ب ِه إليهم‪ .‬وقد تأثر بهم في‬
‫أول كتاب له وهو كتاب الجمهورية تأثراً جعله يعتنق شيوعيتهم الفوضوية التي ى تكون فيها نقود‪ ،‬وال ملكية‪ ،‬وال زواج‪ ،‬وال دين‪ ،‬وال‬
‫شرائع(‪ .) 48‬ولما أدرك أن هذه الطوبى‪ ،‬وأن نظام التغذية الكلبي‪ ،‬ال يصلحان ألن يكونا منهاجا ً علميا ً للحياة‪ ،‬فارق أقراطيس وأخذ‬
‫يدرس مع زنوقراطيس في المجمع العلمي ومع استبلو المغاري‪ .‬وما من شك في أنه قرأ كتب هرقليطس قراءة استيعاب ألنه أدخل في‬
‫أفكار ِه كثيراً من آراء هرقليطس‪ -‬كالنار المقدسة بوصفها روح اإلنسان والكون‪ ،‬وأبدية القانون وتكرار خلق العالم واحتراقه؛ ولكن كان‬
‫‪.‬من عادته أن يقول إنه مدين لسقراط بأكثر مما هو مدين به لغير ِه من الفالسفة‪ ،‬وإن سقراط هو معين الفلسفة الرواقية ومثله األعلى‬

‫وبعد أن قضى زينون كثيراً من السنين تحت وصاية غيره من الفالسفة أنشأ أخيراً مدرسته الفلسفية الخاصة به في عام ‪ ،301‬وذلك بأن‬
‫أو المدخل المحدد‪ .‬وكان يرحب بالفقراء واألغنياء ‪ Stoa Poecile‬أخذ يتحدث إلى الطالب وهو رائح غا ٍد تحت أعمدة االستواء بوسيلي‬
‫على السواء‪ ،‬ولكنه لم يكن يشجع انضمام الشبان إلى تالميذهِ‪ ،‬ألنه كان يشعر بأن الفلسفة ال يفهمهاـ إال الرجال الناضجوا العقل‪ .‬وحدث أن‬
‫أطال أحد الشبان في الكالم فقال له زينون "لقد ُخلق لنا أذنان وفم واحد لكي ننصت كثيراً ونتكلم قليالً"(‪ .)49‬وحضر أنتجونس الثاني‬
‫وهو في أثينة دروس زينون‪ ،‬وأضحى صديقا ً له معجبا ً بهِ‪ ،‬يستنصحه في مهام األمور‪ ،‬وأغراه بالترف برهة وجيزة‪ ،‬ودعاه ألن يعيش‬
‫وظل هو أربعين عاما ً يعلم في ‪ Persaeus،‬ولكن زينون اعتذر له وأرسل إليه بدالً منه تلميذه برسيوس ‪ Pella،‬ضيفا ً علي ِه في بال‬
‫االستوا ويعيش عيشة تتفق وتعاليمه اتفاقا ً أصبحت معه عبارة "أكثر اعتداالً من زينون" مثالً سائراً في بالد اليونان‪ .‬وأسلمته الجمعية‬
‫‪:‬األثينية رغم صلته الوثيقة بأنتجونس "مفاتيح األسوار"‪ ،‬ووافقت على المال الذي خصص إلقامةـ تمثال له وإهدائه تاجاً‪ .‬وهذا نص القرار‬

‫لما كان زينون القتيومي قد قضى سنين كثيرة في مدينتنا يدرس الفلسفة‪ ،‬ولما كان في كل ما عدا هذا رجالً طيبا ً (هكذا)‪ ،‬يحض جميع"‬
‫الشبان الذين يسعون لصحبت ِه على االعتدال في حياتهم ويجعل حياته أنموذجا ً ألعظم ما تسمو إليه الحياة‪ ...‬فقد صحت عزيمة الشعبـ‬
‫‪.‬على تكريم زينون‪ ...‬وعلى أن يهديه تاجا ً من الذهب‪ ...‬وأن يبني له قبراً في حي الرمكس من األموال العامة"(‪)51‬‬

‫والشائع أن موته كان في سن التسعين‪ ،‬ويقول ليرتيوس إنه مات بالطريقة اآلتية‪" :‬بينما هو خارج من مدرست ِه إذ زلت قدمهـ وكسر إصبع‬
‫ُ‬
‫جئت؛ فل َم تناديني على هذا النحو؟" ثم خنق نفسه من فورهِ"(‬ ‫من أصابعها‪ ،‬فضرب األرض بيد ِه وأعاد بيتا ً من الشعر في نيوبي وهو "لقد‬
‫‪)52.‬‬

‫ومن بعد ِه خريسيپوس من صولي ‪ Cleanthes of Assus‬وواصل عمله في االستوا رجالن من يونان آسية هما أقليانتس من أسوس‬
‫وكان أقليانتس مالكما ً محترفا ً قدم إلى أثينة ومعه أربع درخمات‪ ،‬واشتغل فاعالً عادياً‪ ،‬ورفض أن يتقاضى إعانة ‪Chrysippus of Soli.‬‬
‫من الدولة‪ ،‬ودرس على زينون تسعة عشر عاماً‪ ،‬وعاش مجداً فقيراً زاهداً‪ ،‬أما أقريسبوس فكان أكثر تالميذ المدرسة علما ً وإنتاجاً‪ ،‬وهو‬
‫‪ Dionysius of‬الذي أكسب العقيدة الرواقية صورتها التاريخية بأن شرحها في ‪ 270‬كتاباً‪ ،‬جعلت ديونيسيوس من هليكرناسوس‬
‫يعدها أنموذجا ً لغزارة العلم المملة‪ .‬وانتشرت الرواقية من بعد ِه في جميع أنحاء هالس‪ ،‬وكان أعظم دعاتها في آسية‪Halicarnassus :‬‬
‫وديوجين من ‪ Boethus of Sidon،‬وزينون من طرسوس‪ ،‬وپوئثوس من صيدا ‪ Panaetius of Rhodes،‬پانيتيوس من رودس‬
‫سلوقس‪ .‬وكل الذي نستطيعه للتعريف بها أن نؤلف مما عثرنا عليه عرضا ً من النتف الباقية من المؤلفات الضخمة الكثيرة التي كتبت‬
‫‪.‬عنها صورة ألوسع فلسفاتـ العالم القديم انتشاراً وأعظمها أثراً‬
‫وأكبر الظن أن أقريسبوس هو الذي قسم الفلسفة الرواقية إلى منطق‪ ،‬وعلوم طبيعية‪ ،‬وأخالق‪ .‬وكان زينون ومن جاء بعده يفخرون بما‬
‫كتبوه في النظريات المنطقية‪ ،‬ولكن أنهار المداد التي فاضت بها أقالمهم في هذا الموضوع لم تترك أثراً ملحوظا ً في إنارة العقول أو في‬
‫نفعها ‪ .‬لقد كان الرواقيون يتفقون مع األبيقوريين في أن المعرفة ال تنشأ إال من الحواس‪ ،‬وكان المقياس النهائي للحقيقة في رأيهم هو‬
‫المدركاتـ الحسية التي تضطر العقل إلى قبولها بما فيها من وضوح أو ثبات‪ ،‬على أنه ليس من الضروري أن تؤدي التجارب إلى‬
‫المعرفة‪ ،‬ألن بين الحواس والعقل توجد العواطف أو االنفعاالت‪ ،‬وهذه قد تشوه التجارب فتجعلها أخطاء‪ ،‬كما تشوه الرغبات فتجعلهاـ‬
‫‪.‬رذائل‪ .‬والعقل هو أسمى ما أحرزه اإلنسان‪ ،‬وهو بذرة من بذور العقل الكلي الذي وضع قواعد العالم‬

‫والعالم كاإلنسان مادي بأكمل ِه وإلهي بفطرتهِ‪ .‬فكل ما تنقله لنا الحواس مادي‪ ،‬واألشياء المادية دون غيرها هي التي تحدث األفعال أو‬
‫تستقبلها‪ .‬والصفات والكميات‪،‬ـ والفضائل‪ ،‬واالنفعاالت‪ ،‬والنفس والجسم‪ ،‬وهللا والنجوم‪ ،‬كلها صور مادية أو عمليات‪ ،‬تختلف في درجة‬
‫رقتها‪ ،‬ولكنها واحدة في جوهرها(‪ .) 54‬غير أن المادة كلها حركية‪ ،‬مملوءة بالتوتر والقوى‪ ،‬ال تنقطع عن العمل على االنتشار أو‬
‫التركيز‪ ،‬يبعث فيها الحياة من داخلها وخارجها النشاط والحرارة أو النار‪ .‬والعالم يعيش بواسطة عدد ال يحصى من دورات التمدد‬
‫واالنكماش‪ ،‬والتطور واالنحالل‪ ،‬يحترق من آن إلى آن في لهب عظيم‪ ،‬ثم يتشكل على مهل من جديد‪ .‬ثم يعود فيمر في تاريخه القديم كله‬
‫بأدق تفاصيله ألن تسلسل العلل والمعلوالت يسير في دائر مفرغة ويتكرر إلى غير نهاية‪ .‬وكل الحوادث وكل أعمال اإلدارة مقررة‬
‫معينة‪ ،‬ومن المستحيل على شيء ما أن يحدث على نحو يخالف ما حدث عليه‪ ،‬كما أنه يستحيل على شيء أن ينشأ من ال شيء؛ ولو‬
‫‪.‬حدثت أية ثغرة في السلسلة لتمزق العالم‬

‫وهللا في هذا النظام هو البداية والوسط والنهاية‪ .‬وكان الرواقيون يعترفون بضرورة وجود الدين ليكون أساسا ً لألخالق الفاضلة؛ فكانوا‬
‫ينظرون نظرة التسامح اللطيفة لعقائد الشعب الدينية وما فيها من شياطين‪ ،‬ومن تنبؤ بالغيب‪ ،‬وكانوا يجدون لهذه تفسيرات مصوغة في‬
‫تشبيهات ومجازات يسدون بها الثغرة الفاضلة بين الخرافة والفلسفة‪ .‬وكانوا يقبلون علم التنجيم الكلداني ويعتقدون بصحته في جوهره‪،‬‬
‫ويرون أن شؤون األرض تنطبق انطباقا ً خفيا ً مستمراً على حركات النجوم(‪ .)55‬فكان ذلك لديهم صورة من صور التعاطف العالمي‬
‫الذي يجعل كل ما يحدث في جزء منه يؤثر في سائر األجزاء‪ .‬وكأنهم أرادوا أال يكتفوا بوضع نظام أخالقي للمسيحية‪ ،‬بل شاءوا أن‬
‫يضعوا لها أيضا ً نظامها الديني‪ ،‬ففكروا في العالم‪ ،‬والشرائع‪ ،‬والحياة‪ ،‬والنفس‪ ،‬واألقدار من حيث صلتها باهلل‪ ،‬وعرفوا األخالق الفاضلة‬
‫بأنها االستسالم عن رضا واختيار إلرادة هللا‪ .‬وهللا عندهم‪ ،‬كاإلنسان‪ ،‬مادة حية؛ فالعلم كله جسمه‪،‬ـ ونظام العالم وقانونه عقله وإرادته؛‬
‫والكون كائن حي ضخم‪ ،‬هللا روحه‪ ،‬ونسمته المنعشة‪ ،‬وعقله المخصب‪،‬ـ وناره المحركة المنشطة(‪ .)56‬وترى الرواقيين أحيانا ً يفكرون‬
‫في هللا تفكيراً مجرداً غير مجسد؛ ولكنهم يصورونه في األكثر األهم على أنه قوة مدبرة تضع للكون خطته وترشده بعقلها األعلى‪ ،‬وتنظم‬
‫أجزاءه كلها لتؤدي أغراضا ً تنطبق على العقل‪ ،‬وتجعل كل شيء فيه يعود بالنفع على األفاضل من الناس‪ .‬ويوحد أقليانيتس بين هللا‬
‫‪:‬وزيوس في ترنيمة توحيدية خليقة بأن ينطبق بها أخناتون أو إشعيا‬

‫‪،‬حمداً لك يا زيوس‪ ،‬حمداً يفوق حمد جميع اآللهة‪ :‬إن أسماءك لكثيرة‬

‫‪.‬وإن قوتك ألعظم القوى إلى أبد الدهر‬

‫‪،‬منك بدأ العالم‪ ،‬وأنت تحكم األشياء كلها بقوة القانون‬

‫‪.‬وإليك تتحدث كل األجسام ألننا نحن جميعا ً أبناؤك‬

‫بقوتك‬
‫َ‬ ‫‪:‬ومن أجل هذا أرفع إليك نشيداً أتغنى فيه‬

‫إن نظام الكون بأجمعه يطيع كلمتك في تحركها حول األرض‬

‫حيث تختلط األضواء الصغيرة والكبيرة‪ :‬أال ما أجل شأنك‬

‫!لك الملك إلى أبد الدهر‬

‫‪:‬ال شيء يحدث على األرض إال بعلمك‪ ،‬وال في السماءـ وال في البحار‬

‫إال ما يفعله األشرار‪ :‬مدفوعين إليه بحمقهم؛‬


‫ولكن لك من الحذق ما يصلح المعوج نفسه‪ ،‬وما ال صورة له يصور‬

‫والبعيد أمامك قريب‬

‫‪:‬وهكذا نظمت األشياء كلها فجعلتها وحدة‪ :‬خيرها وشرها‬

‫‪.‬حتى تكون كلمتك واحدة في األشياء جميعها‪ :‬باقية إلى األبد‬

‫طهر نفوسنا من الحماقة‪،‬ـ حتى نرد إليك‬

‫‪:‬الفضل الذي تفضلت علينا به‬

‫‪:‬فنتغنى بمدح أعمالك إلى أبد اآلبدين‬

‫‪.‬غناء يليق ببني اإلنسان‬

‫وما أشبه اإلنسان والعالم بالكون الصغير في الكون الكبير‪ ،‬فهو أيضا ً كائن حي ذو جسم مادي والنفس مادية‪ ،‬ذلك بأن كل ما يحرك‬
‫منبثة في جميع )‪ Pneuma‬نيوما( الجسم أو يؤثر فيهِ‪ ،‬وكل ما يحركه الجسم أو يؤثر فيه‪ ،‬ال بد أن يكون ذا جسم‪ .‬والنفس نسيم ناري‬
‫أجزاء الجسم‪ ،‬كما أن النفس العالمية منبثة في جميع العالم‪ .‬وهي تبقى بعد الجسم إذا مات‪ ،‬ولكنها تبقى على هيئة طاقة غير شخصية‪.‬‬
‫‪ Brahman.‬في برهمان ‪ Atman‬وحين يحدث اللهب األخير تمتص الروح مرة أخرى في محيط الطاقة وهو هللا كما يمتص أتمان‬

‫وإذ كان اإلنسان جزءاً من هللا أو الطبيعة فإن من اليسير أن تحل المشكلةـ األخالقية على النحو اآلتي‪ :‬الخير هو التعاون مع هللا أي مع‬
‫الطبيعة ونعني بها قانون العالم‪ .‬وليس الخير هو الجري وراء االستمتاع أو اللذة ألن هذا الجري يخضع العقل للشهوة‪ ،‬وكثيراً ما يؤذي‬
‫الجسم أو العقل‪ ،‬وقلما يرضينا في آخر األمر‪ .‬وال يمكن أن تتحقق السعادةـ إال بالمواءمة بين أغراضنا وسلوكنا من جهة‪ ،‬وبين أغراض‬
‫العالم وقوانينه من جهة أخرى؛ وليس ثمة تعارض بين صالح الفرد وصالح الكون‪ ،‬ألن قانون الخير في حالة الفرد يتفق مع قانون‬
‫الطبيعة‪ .‬وإذا لحق الشر بالرجل الطيب فإن هذا ال يكون إال إلى أجل قصير‪ ،‬وليس هو في واقع األمر شراً؛ ولو أننا استطعنا أن نفهم‬
‫األمر كله لرأينا ما وراءه من خير مهما يظهر في أجزائه من الشر ‪ .‬والرجل العاقل ال يدرس العلوم الطبيعية إال بالقدر الذي يكفي‬
‫لمعرفة قانون الطبيعة ثم يكيف حياته وفق هذا القانون‪ ،‬وغرض العلم والفلسفة والمبرر الوحيد لدراستها هما تمكيننا من أن نعيش وفق‬
‫‪ Neunam:‬ويسلم أقليانيتس إرادته إلرادة هللا في ألفاظ تكاد أن تكون هي بعينها ألفاظ نيومن ‪ Zen Kata physin.‬الطبيعة‬

‫‪،‬أهدني يا هللا‪ ،‬وأنتَ يا قدري‬

‫‪.‬إلى ذلك المكان الوحيد الذي تريدني أن أشغله‬

‫ُ‬
‫وصلت معكماـ‬ ‫وسأتبع هديكما مسروراً‪ .‬فإذا ما‬

‫ُ‬
‫نكثت العهد‪ ،‬فال بد لي من أن أواصل السير معكماـ‬ ‫‪.‬ثم‬

‫ومن أجل هذا يتجنب الرواقي الترف والتعقيد‪ ،‬والمنازعات السياسية واالقتصادية؛ وهو يقنع بالقليل‪ ،‬ويقبل بال تذمر صعاب الحياة وما‬
‫يالقيه فيها من خيبة‪ .‬وال يأبه بشيء غير الفضيلة والرذيلة‪ -‬ر يبالي بالمرض واأللم‪ ،‬بحسن السمعة أو سوئها‪ ،‬بالحرية أو الرق‪ ،‬بالحياة‬
‫أو الموت‪ .‬ويقمع كل شعور يقف في وجه سير الطبيعة أو يبعث على االرتياب في حكمتها‪ :‬فإذا مات ولده لم يحزن‪ ،‬بل يرضى بحكم‬
‫القدر معتقداً أنه أحسن األحكام وإن خفي األمر عليه؛ ويسعى ألن يكون مجرداً من الشعور تجرداً تاماً‪ ،‬حتى يكون هدوء عقله آمنا ً من‬
‫جميع تقلبات الحظ‪ ،‬أو الرحمة‪ ،‬أو الحب‪ ،‬ومن وقعها عليه ‪ .‬وعلى الرواقي أن يكون معلما ً قاسياً‪،‬ـ وإداريا صارماً‪ .‬والجبرية ال تتضمن‬
‫االنطالق من القيود‪ ،‬بل يجب علينا أن نكبح جماح أنفسنا وأنفس غيرنا‪ ،‬وأن نتحمل من الناحية الخلقية تبعات جميع أعمالنا‪ .‬ولما أن‬
‫ضرب زينون عبده ألنه سرق‪ ،‬وكان العبد يعرف قليالً من العلم‪ ،‬قال له‪" :‬ولكني قد قدر عليَّ أن أسرق"‪ ،‬فرد عليه زينون بقولهِ‪" :‬وقدر‬
‫أيضا ً أن أضربك"(‪ .) 61‬ويرى الرواقي أن جزاء الفضيلة هو الفضيلة نفسها‪ ،‬وأنها واجب مطلق وأمر محتوم‪ ،‬مستمد من اشتراكه في‬
‫األلوهية؛ وإذا أصابه مكروه عزى نفسه بأنه حين يتبع القانون اإللهي يصبح هو هللا مجسداً(‪ .)62‬فإذا سئم الحياة‪ ،‬واستطاع أن يفارقها‬
‫من غير أن يسبب األذى لغيره‪ ،‬فال حرج عليه من أن ينتحر‪ .‬ولما بلغ أقليانتيس سن السبعين شرع يصوم صوما ً طويالً‪ ،‬ثم قال إنه لن‬
‫‪.‬يعود بعد أن قطع نصف الطريق‪ ،‬وواصل الصوم حتى مات(‪)63‬‬

‫على أن الرواقي مع هذا ليس بالرجل غير االجتماعي‪ ،‬وهو ال يفخر بالفقر كالكلبي‪ ،‬وال يغرم بالوحدة كاألبيقوري‪ .‬وهو يوافق على‬
‫الزواج وعلى وجود األسرة ويراهما الزمين‪ ،‬وإن كان ال يمتدح الحب الروائي؛ وهو يتطلع إلى وجود مدينة فاضلة تكون فيها النساء‬
‫شركة بين الرجال(‪ .) 64‬ويقبل وجود الدولة‪ ،‬بل يقبل الملكية المطلقة نفسها؛ وليست لديه ذكريات عزيزة عن دولة‪ -‬المدينة‪ ،‬ويرى أن‬
‫أوساط الناس مغفلون شديدوا الخطر‪ ،‬ويفضل الملوك المطلقي السلطة على تحكم الغوغاء‪ .‬والحق أنه قلما يعنى بأية حكومة‪ ،‬ويتمنى أن‬
‫يكون الناس كلهم فالسفة‪ ،‬حتى تصبح القوانين ال ضرورة لها‪ .‬وهو ال يفكر في الكمال كما يفكر فيه أفالطون أو أرسطو من حيث عالقته‬
‫بخير المجتمع‪ ،‬بل يفكر فيه من حيث عالقته بالرجل الصالح‪ .‬وال يرى حرجا ً في أن يشترك في الشؤون السياسية‪ ،‬ويناصر كل حركة‬
‫ضعيفة‪ ،‬تهدف إلى الحرية والكرامة اإلنسانية‪ ،‬ولكنه ال يقيد سعادته بقيود المنصب أو السلطان‪ .‬وهو يرضى بأن يضحي بحيات ِه في سبيل‬
‫بالده‪ ،‬ولكنه يرفض كل وطنية تقف في سبيل والئه لإلنسانية بأجمعها؛ فهو والحالة هذه مواطن عالمي‪ .‬وكان زينون‪ ،‬وهو الذي يجري‬
‫في عروقه‪ ،‬كما سبق القول‪ ،‬الدم اليوناني والدم السامي‪ ،‬يتوق كما يتوق اإلسكندر لتحطيم الحواجز العنصرية والقومية؛ وإن نزعته‬
‫الد َُّو لية لتكشف عن فكرة اإلسكندر التي كانت آخذة في الزوال‪ ،‬فكرة توحيد بالد شرق البحر األبيض المتوسط‪ .‬وكان زينون وكريسبوس‬
‫يأمالن في آخر األمر أن يحل مجتمع واحد كبير محل تلك الدول والطبقات المتطاحنة؛ وأال يكون في هذا المجتمع الجديد أغنياء وفقراء‪،‬‬
‫‪.‬أو سادة وعبيد؛ يحكمه الفالسفة فال يظلمون‪ ،‬ويكون فيه الناس جميعا ً أخوة ألنهم أبناء إله واحد(‪)65‬‬

‫ومالك القوى أن الرواقية كانت فلسفة نبيلة‪ ،‬وأنها كانت فلسفة عملية إلى حد أبعد مما يتوقعه الساخر منها في الوقت الحاضر‪ .‬لقد وحدت‬
‫هذه الفلسفة جميع عناصر الفكر اليوناني وبذلتها في مجهود نهائي قام به العقل الوثني لوضع نظام أخالقي ترتضيه الطبقات التي خرجت‬
‫ينضو تحت لوائها إال أقلية ضئيلة‪ ،‬فإن هذه األقلية أينما وجدت كانت خير العناصر‪ .‬وقد أنتجت كما أنتج‬ ‫ِ‬ ‫على الدين القديم؛ ومع أنه لم‬
‫المذهبان المسيحيان المقابالن لها‪ -‬وهما الكلفنية والمتزمتة‪ -‬أقوى األخالق في زمنها‪ .‬على أننا إذا نظرنا إلى هذه الفلسفة من الوجهة‬
‫قاس يتطلب من أصحاب ِه اعتزال المجتمع‪ ،‬لكنها في واقع األمر قد خلقت رجاالً‬ ‫النظرية رأينا عقيدة شاذة مروعة تهدف إلى كمال ٍ‬
‫ً‬
‫وماركس أورليوس‪ .‬ولقد تأثر بها الروماني فوضع على ‪ Epictetus،‬شجعاناَ‪ ،‬قديسين أطهارا‪ ،‬خيرين أمثال كاتو األصغر‪ ،‬وإبكتتس‬
‫هديها تشريعا ً لألمم غير الرومانية‪ ،‬وأعانت على حفظ كيان المجتمع القديم حتى ظهر له دين جديد‪ .‬ولسنا ننكر أن الرواقيين قد شدوا من‬
‫أزر الخرافات‪ ،‬وأنهم كان لهم أثر سيئ في العلوم الطبيعية‪ ،‬ولكنهم رأوا بنافذ بصيرتهم المشكلة األساسية القائمة في عصرهم ‪ -‬وهي‬
‫أساس األخالق الديني‪ -‬وبذلوا مجهوداً شريفا ً لملء الهوة الفاصلة بين الدين والفلسفة‪ .‬لقد كسب أبيقور اليونان وضمهم إلى لوائهِ‪ ،‬أما‬
‫زينون فقد كسب أرستقراط رومة‪ ،‬وظل الرواقيون إلى آخر تاريخ الوثنية يحكمون األبيقوريين‪ ،‬وسيظلون على الدوام هم الحاكمين لهم‪.‬‬
‫ولما أن نشأ دين جديد من أنقاض الفوضى العقلية واألخالقية الضاربة أطنابها في العالم الهلنستي‪ ،‬كانت السبيل قد مهدتهاـ لهذا الدين فلسفة‬
‫‪.‬آمنت بضرورة الدين‪ ،‬ونادت بعقيدة تقشفية من مبادئها البساطة وضبط النفس‪ ،‬عقيدة ترى في هللا كل شيء‬

You might also like