You are on page 1of 24

‫السنة األولى ماستر ‪-‬قانون جنائي وعلوم جنائية‪-‬‬ ‫محاضرات التشريع الجنائي اإلسالمي‬

‫د‪ /‬لـــيــراتـــــنــــــي فاطمة الزهــــــراء‬

‫المطلب األول‪ :‬خصائص التشريع الجنائي اإلسالمي‬

‫يتميز النظام اإلسالمي بمميزات أساسية تتفق مع طبيعة البشر وتضمن لألحكام الصالحية للتطبيق‬
‫في كل زمان ومكان‪.‬‬

‫أوال‪ :‬العموم وعدم جواز العفو أو الشفاعة في الحدود‬

‫فأحكام النظام الجنائي اإلسالمي عامة تعم الحاكم والمحكوم ويترتب على ذلك أن الحاكم يقيد في‬
‫تطبيق النظام الجبائي اإلسالمي بعد جواز العفو أو الشفاعة في حد من حدود هللا‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬اتصال النظام الجنائي باألخالق وصيانة المصالح الخمس‬

‫فالمسلم المتدين يحس دائما بأنه في رقابة هللا وأنه محاسب على أفعاله ونواياه‪ ،‬ولذلك فإن في إيقاظ‬
‫الضمير والحفاظ على األخالق بين أفراد المجتمع من األمور المهمة جدا والتي يترتب عليها الوقاية من‬
‫الجريمة وتيسير إثباتها‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬التحريض على التوبة وشفاء غيظ المجني عليه‬

‫رابعا‪ :‬عدم قيد الجريمة ضد مجهول واألخذ بأسباب الوقاية من الجرائم‬

‫خامسا‪ :‬اشتمال النظام الجنائي اإلسالمي على أحدث المبادئ الجنائية‬

‫المطلب الثاني‪ :‬أسس التشريع الجنائي اإلسالمي‬

‫هناك عدة أسس يقوم عليها التشريع الجنائي اإلسالمي سواء من الناحية الموضوعية أو من الناحية‬
‫اإلجرائية‪ ،‬حيث يتميز عن النظم الوضعية في الشق الجنائي بالثبات واالستقرار والمتانة‪ ،‬وال يبنى على‬
‫فرضيات بل ينطلق من الثوابت المستمدة من القرآن الكريم وسنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وإجماع‬
‫الفقهاء المسلمين وما ورد من اجتهادات وآراء ألعالم األمة اإلسالمية عبر تاريخ اإلسالم‪.‬‬
‫أوال‪ :‬مبدأ شرعية وما انبثق عنه من قواعد‬

‫وهي القاعدة التي يعبر عنها في العصر الحديث بمبدأ الشرعية‪ ،‬ومقتضاها أنه ال تعتبر أفعال األفراد‬
‫وصور سلوكهم جرائم إال إذا كان ثمة نص قانون صادر عن السلطة التشريعية في الدولة يقرر جعل هذ‬
‫السلوك جريمة ويقرر عقوبة له بشرط أن يكون هذا انص التشريعي قد صدر قبل ارتكاب الفعل أو وقوع‬
‫السلوك المراد العقاب عليه‪.‬‬

‫وليس من نصوص القرآن الكريم أو السنة نص واضح الداللة على العمل بهذه القاعدة في مجال‬
‫التشريع الجنائي اإلسالمي ولكن استنتاج هذه القاعدة من بعض نصوص القرآن والسنة والقواعد األصولية‬
‫ليس صعبا فنجد قوله تعالى‪" :‬وما كنا معذبين حتى نبعث رسوال" سورة اإلسراء‪ ،‬اآلية ‪ ،5‬وقوله تعالى‪" :‬وما‬
‫كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسوال يتلو عليهم آياتنا" سورة القصص‪ ،‬اآلية ‪.59‬‬

‫ومن أهم نتائج قاعدة شرعية الجرائم والعقوبات في ‪-‬نظر الفقه الجنائي الحديث‪ -‬أن النصوص‬
‫الجنائية ال ترجع إلى الماضي‪ ،‬وإنما يكون تطبيقها بأثر مباشر على الوقائع التي تحدث بعد صدور هذه‬
‫النصوص دون الوقائع التي حدثت قبلها وذلك ما يعرف بمبدأ عدم رجعية التشريع الجنائي اإلسالمي إلى‬
‫الماضي‪ ،‬هذا الذي يعتبر من لوازم مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات‪ ،‬وال يتصور في نظام قانوني أن يأخذ‬
‫بمبدأ الشرعية ثم يجدر األخذ بمبدأ عدم الرجعية وذلك هو الشأن في األحكام الجنائية اإلسالمية كما هو‬
‫الشأن في غيرها من النظم الجنائية‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬مبدأ المساواة أمام النصوص الشرعية الجنائية‬

‫الجريمة‬

‫• تعريف الجريمة‬

‫تطلق كلمة الجريمة على ارتكاب كل ما هو مخالف للحق والعدل والطريق المستقيم‪ ،‬واشتق من ذلك‬
‫وقال تعالى‪:‬‬ ‫‪1‬‬
‫المعنى إجرام وأجرموا‪ ،‬فقد قال تعالى‪" :‬إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون"‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫"كلوا وتمتعوا قليال إنكم مجرمون"‪ 2 ،‬وقال عز من قال‪" :‬إن المجرمين في ضالل وسعر"‪.‬‬

‫سورة المطففين‪ ،‬اآلية‪.29 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫سورة المرسالت‪ ،‬اآلية‪.46 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫سورة القمر‪ ،‬اآلية‪.47 :‬‬ ‫‪3‬‬


‫إن الجريمة فعل ما نهى هللا عنه‪ ،‬وعصيان ما أمر هللا به‪ ،‬إتيان فعل محرم معاقب على فعله‪ ،‬أو‬
‫ترك فعل مأمور به ومعاقب على تركه‪.‬‬

‫وإن تعريف الجريمة على هذا النحو ينتهي إلى ما يقارب تعريف علماء القانون الوضعي لها‪ ،‬فإن‬
‫الجريمة في قانون العقوبات هي الفعل أو الترك الذي نص القانون على عقوبة مقررة له؛ فإنه بمقتضى ذلك‬
‫القانون ال يعتبر الفعل جريمة إال إذا كان ثمة نص على العقاب‪ ،‬وال عقاب من غير نص‪.‬‬

‫والتعريف الشرعي قد يختلف في ظاهره عن تعريف القانون الوضعي في التعزيز‪ ،‬فإنه عقوبة غير‬
‫منصوص عليها في الكتاب أو السنة بقدر محدود‪ ،‬ولكن عند النظرة الفاحصة نجد تعريفين متالقين في‬
‫الجملة؛ وذلك ألن التعزيزات كلها تنتهي إلى منع لفساد ودفع الضرر‪ .‬وكل ذلك له أصل في الكتاب أو‬
‫‪1‬‬
‫وقول النبي صلى هللا عليه سلم‪" :‬ال ضرر‬ ‫السنة‪ ،‬من ذلك قوله تعالى‪" :‬وال تعثوا في األرض مفسدين"‬
‫وال ضرار" وألن هذه التعزيزات ترك تقديرها لولي األمر‪ ،‬له بمقتضى ما خوله هللا تعالى من سلطان في‬
‫األرض أن يسن من العقوبات ما يراه رادعا للناس‪ ،‬ولذلك نستطيع أن نقرر أن أكثر ما في قانون العقوبات‬
‫من عقوبات رادعة مانعة للفساد من قبيل التعزيزات‪ ،‬وليس معنى ذلك أن هذا القانون شرعي من كل الوجوه‬
‫فإنه سكت عن جرائم قدر لها القرآن الكريم عقابا شديدا‪ ،‬وعاقب على جرائم أخرى عقوبات ليست هي المقدرة‬
‫لها في الكتاب والسنة‪.‬‬

‫وكذلك ما قرره اإلسالم من جرائم يعاقب عليها‪ ،‬قد قرر القانون الجنائي في هذا العصر عقوبات‬
‫على بعضها‪ ،‬يبد أن الشريعة تختلف عن القوانين الوضعية القائمة‪ ،‬وخصوصا في مصر من أربعة وجوه‪:‬‬

‫أولها‪ :‬أن الشريعة أعم شموال في الجرائم المعاقب عليها‪ ،‬فجريمة الزنى لها عقاب‬

‫مقرر في الشريعة من غير أن تحرض الشريعة على التجسس وما يشبهه‪ ،‬وكذلك شرب الخمر‪،‬‬
‫وكذلك رمى المحصنات بالزنى وغير ذلك من الجرائم التي وضعت لها الشريعة عقابا في صورة محدودة‬
‫ضيقة‪.‬‬

‫ثانيها‪ :‬أن عقوبات الشريعة قامت على أساس المساواة بين الجريمة والعقوبة‪ ،‬والحظت أن تكون‬
‫العقوبات من جنس الجريمة ما أمكن ذلك ليكون أشفى الصدور المجنى عليه وذويه ولتكون العقوبة مماثلة‬
‫للجريمة‪ ،‬ألن دفع االعتداء يكون بمثله‪.‬‬

‫سورة البقرة‪ ،‬اآلية‪.60 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫ثالثها‪ :‬أن القوانين الحاضرة أرجحت حق المجتمع في العقاب‪ ،‬ولم تتجه إلى غيظ المجنى عليه‪ ،‬وقد‬
‫نوهنا إلى ذلك من قبل‪.‬‬

‫رابعها‪ :‬أن أكثر العقوبات في القوانين الحاضرة كانت بالحبس الذي يقطع المحبوس عن الحياة‬
‫واألحياء وعن كل عمل وفى ذلك تعطيل لقوى إنسانية‪ ،‬وبث روح العداوة بين المجرمين والمجتمع إن لم‬
‫تكن قد نبتت وتنميتها إن كانت قد وضعت بذورها‪ .‬وسيكون لذلك كله فضل بيان في موضعه من القول إن‬
‫شاء هللا تعالى‪ ،‬ونضرع إليه جلت قدرته أن يمدنا بعونه‪.‬‬

‫• األساس في اعتبار الفعل جريمة‬

‫األساس ‪ -‬بال شك ‪ -‬في اعتبار الفعل جريمة في نظر اإلسالم هو مخالفة أوامر الدين‪ ،‬ذلك هو‬
‫األساس الواضح البين‪ ،‬بيد أنه يالحظ أمران‪:‬‬

‫أولهما‪ :‬أن أوامر اإلسالم كلية ال جزئية‪ ،‬فالقرآن الكريم قد نص على عقوبة عدة جرائم تبلغ ستا‪:‬‬
‫هي البغي وقطع الطريق‪ ،‬والسرقة والزني‪ ،‬وقذف المحصنات‪ ،‬والقصاص بكل شعبه‪ .‬وزادت السنة عقوبة‬
‫شرب الخمر والردة وغيرهما‪ ،‬وبقيت عقوبات الجرائم كثيرة لم يتناولها الكتاب أو السنة بالتفصيل وقد ترك‬
‫ذلك لولى األمر يقدر له عقوبات بما يتناسب مع المجرم‪ ،‬وبما يكون به إصالح العامة‪ ،‬وسيادة األمن بين‬
‫الكافة‪ ،‬وذلك بالتعزير الذي هو األصل الثاني من أصول العقاب في اإلسالم ‪.‬‬

‫ثانيهما‪ :‬أنه ال بد من مالحظة أن هناك أصال جامعا تنتهى إليـه العقوبات اإلسالمية‪ ،‬ومعنى كونه‬
‫جامعا أنه يرجع إليه في كل عقوبة تقرر بحكم التعزير؛ وذلك ألن التعزير تنفيذ ألمر ديني هو العمل على‬
‫إصالح العمل على إصالح الجماعة ومنع العبث والفساد‪ ،‬فال بد أن يكون ثمة أساس ضابط لما يعتبر‬
‫جريمة وما ال يعتبر وذلك األساس ال بد أن يكون مشتقا من مصادر الشريعة ومواردها وغاياتها ومراميها‬
‫واتجاهاتها‪.‬‬

‫فالشريعة جاءت لحماية المصالح اإلنسانية المعتبرة‪ ،‬التي هي جديرة بأن تسمى مصلحة‪.‬‬

‫وإذا كانت المنفعة أقرب المذاهب الخلقية لتكون أساسا للقوانين الوضعية‪.‬‬

‫على أن نتقيد بالمعنى األساسي في العقوبات اإلسالمية‪ ،‬وهو المساواة بين العقوبة والجريمة‪ ،‬وأن‬
‫تكون من جنسها ما أمكن تنفيذ ذلك‪.‬‬
‫كما يدعي بعض من الناس في هذه األيام أن المصلحة في إباحة الفائدة‪ ،‬ومحاولة جعلها غبر داخلة‬
‫في عموم الربا‪ ،‬وما يحسبه بعض الناس من أنه ال مصلحة في تقرير عقوبة الجلد على الزنى وعقوبة الجلد‬
‫على القذف‪.‬‬

‫إن المصلحة المعتبرة هي المصلحة الحقيقية‪ ،‬وإن كانت أحيانا‪ ،‬والمصالح التي الحظها اإلسالم‬
‫ترجع إلى أمور خمسة‪ ،‬وهي ما فيه حفظ الدين وما فيه حفظ النفس وما فيه حفظ العقل‪ ،‬وما فيه حفظ‬
‫النسل وما فيه حفظ المال؛ وذلك ألن الدنيا التي يعيش فيها اإلنسان تقوم على هذه المعاني التي ال تتوافر‬
‫الحياة اإلنسانية إال بها؛ وإن هللا سبحانه وتعالى قد كرم اإلنسان في هذا الوجود‪.‬‬

‫وإن هذا التكريم يقتضى توافر هذه األمور الخمسة‪ ،‬والمحافظة عليها‪ ،‬ومنع أي اعتداء عليها‪ ،‬فالدين‬
‫ال بد منه‪ ،‬ألن التدين خاصة اإلنسان من بين سائر الحيوان فال أن يسلم له اعتقاده‪ ،‬وأن تتوافر له حرية‬
‫الرْش ُد ِم َن تبين الرشد من الغي فمن)‪ 1 ،‬واعتبرت الفتنة‬ ‫ِ‬
‫ين َقد تََّبي َ‬
‫َّن ُّ‬ ‫الد ِ‬
‫االعتقاد‪ ،‬كما قال تعالى‪( :‬ال إكراه في ِّ‬
‫َش َّد ِم َن اْلَقتل)‪. 2‬‬
‫في الدين‪ ،‬ومحاربة االعتقاد السليم أشد من القتل‪ ،‬كما قال تعالى‪( :‬والفتنة أ َ‬

‫والمحافظة على النفس هي المحافظة على حق الحياة العزيزة الكريمة والمحافظة على النفس يدخل‬
‫في عمومها المحافظة على الحياة والمحافظة على األطراف‪ ،‬والمحافظة على الكرامة اإلنسانية واالبتعاد بها‬
‫عن مواطن اإلهانة ومنع من يريد االعتداء على أي أمر يتعلق بها‪ ،‬ومن ذلك حرية العمل وحرية الفكر‪،‬‬
‫وحرية اإلقامة‪ ،‬وغير ذلك مما تعد الحرية فيه من مقومات الحياة اإلنسانية الحرة التي تزاول نشاطها في‬
‫دائرة المجتمع الفاضل‪ ،‬من غير أن تعتدى على أحد‪.‬‬

‫والمحافظة على العقل ‪ -‬هي المحافظة عليه من أن تناله آفة تجعل صاحبه عبئا على المجتمع‪،‬‬
‫ومصدر شر وأذى للناس فالمحافظة على العقل تتجه إلى ثالث نواح‪:‬‬

‫الناحية األولى‪ :‬أن يكون كل عضو من أعضاء المجتمع سليما يمده بعناصر الخير والنفع فإن عقل‬
‫كل إنسان يعيش في المجتمع ليس حقا خالصا له‪ ،‬بل هو باعتباره لبنة في صرح ذلك المجتمع الفاضل ‪-‬‬
‫يتولى سداد خلل فيه فمن حق المجتمع أن يالحظ سالمته‬

‫سورة البقرة‪ ،‬اآلية‪.256 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫سورة البقرة‪ ،‬اآلية‪.191 :‬‬ ‫‪2‬‬


‫الناحية الثانية‪ :‬أن من يعرض عقله لآلفات فوق أنه يفقد الجماعة قوة كانت عاملة يكون عبئا على‬
‫الجماعة ال بد أن تحمله‪ ،‬فإذا كان عليها عبوه عند آفته‪ ،‬فعليه أن يخضع لألحكام الرادعة التي تمنعه من‬
‫أن يعرض عقله لآلفات‪.‬‬

‫والناحية الثالثة‪ :‬أن من يئوف عقله آفة من اآلفات يكون ش ار على الجماعة‪ ،‬ينالها باألذى واالعتداء‪،‬‬
‫فكان من حق الشرع أن يعمل على المحافظة على عقله بسبب من نفسه وبسبب من غيره فإن ذلك يكون‬
‫وقاية من الشرور واآلثام‪ ،‬والشرائع تعمل على الوقاية‪ ،‬كما تعمل على العالج‪ ،‬ومن أجل ذلك عاقبت‬
‫الشريعة من يشرب الخمر ‪.‬‬

‫والمحافظة على النسل ‪ -‬هي المحافظة على النوع اإلنساني‪ ،‬بحيث يكون كل ولد يتربى بين أبويه‪،‬‬
‫ويكون لكل ولد كـالـي يحـمـيه‪ ،‬وإن ذلك اقتضى تنظيم الزواج‪ ،‬واقتضى منع االعتداء على الحياة الزوجية‪،‬‬
‫واقتضى منع االعتداء على األعراض سواء أكان بالقذف أم كان بالفاحشة‪ ،‬ومن أجل ذلك كانت عقوبة‬
‫الزنى وعقوبة القذف وغير ذلك العقوبات التي وضعت الجرائم فيها اعتداء على النسل بأي طريق من طرق‬
‫االعتداء‪.‬‬

‫والمحافظة على المال تكون بمنع االعتداء عليه بالسرقة أو الغصب أو نحوهما‪ ،‬وبالعمل على تنميته‬
‫ووضعه في األيدي التي تصونه‪ ،‬وتحفظه‪ ،‬وتقوم على رعايته والقيام بحقه‪ ،‬فالمال في أيدي اآلحاد قوة‬
‫لألمة كلها ولذا وجبت المحافظة عليه بتوزيعه بالقسطاس المستقيم‪ ،‬وبالمحافظة على إنتاج المنتجين‪ ،‬وتنمية‬
‫الموارد العامة ومنع أن يؤكل بين الناس بالباطل وبغير الحق الذي أحله هللا تعالى لعباده‪.‬‬

‫وإن هذه األمور الخمسة هي التي جاءت من أجلها كل الشرائع‪ ،‬وبنيت على المحافظة عليها كل‬
‫العقوبات في اإلسالم‪ ،‬ولقد قال في ذلك حجة اإلسالم الغزالي‪:‬‬

‫"إن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق‪ ،‬وصالح الخلق في تحـصـيـل مقاصدهم‪ ،‬لكنا نعنى‬
‫بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ومقصود الشرع من خمسة‪ ،‬وهو أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم‬
‫وعقلهم‪ ،‬ونسلهم ومالهم‪ ،‬فكل ما حفظ هذه األصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه األصول‪ ،‬فهو‬
‫مفسدة‪ ،‬ودفعها مصلحة‪ .‬وهذه األصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات‪ ،‬فهي أقوى المراتب في‬
‫المصالح‪ ،‬ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل‪ ،‬وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته فإن هذا يفوت على‬
‫الخلق دينهم وقضاؤه بإيجاب القصاص‪ ،‬إذ به حفظ النفوس‪ ،‬وإيجاب حـد الشرب‪ ،‬إذ به حفظ العقول التي‬
‫هي مالك التكليف وإيجاب حد الزنى‪ ،‬إذ به حفظ النسب واألنساب‪ ،‬وزجر الغصاب والسراق‪ ،‬إذ به يحصل‬
‫حفظ األموال التي هي معايش الخلق وهم مضطرون إليها‪ ،‬وتحريم تفويت هذه األمور الخمسة‪ ،‬والزجر‬
‫عنها يستحيل أال تشتمل عليه ملة من الملل‪ ،‬وشريعة من أريد بها إصالح الخلق ولذا لم تختلف الشرائع‬
‫‪1‬‬
‫في تحريم الكفر والقتل الشرائع والزنى والسرقة وشرب المسكر"‪.‬‬

‫ونرى من هذا أن اعتبار الفعل جريمة في نظر الغزالي أساسه االعتداء على هذه المصالح الخمسة‬
‫التي هي في أصلها ضرورات إنسانية‪ ،‬وهذا متفق عليه بين جماهير المسلمين‪ ،‬بل إن المحافظة على هذه‬
‫األمور تعد من البديهيات العقلية التي ال تختلف فيها العقول‪ ،‬وال تختلف فيها األديان وهى كأصول األخالق‬
‫ال تختلف فيها البيئات كالصدق والعدالة‪ ،‬فإنهما تتفق العقول على كونهما‪ ،‬فضيلة ومخالفتهما رذيلة‪ ،‬وهما‬
‫في ذاتهما يرجعان إلى المحافظة على هذه األصول الخمسة‪.‬‬

‫فالمحافظة عليها أمر قطعي لتضافر النصوص عليها‪ ،‬وأصلها ضروري ألنها ال يمكن بقاء اإلنسان‬
‫بوصف كونه حيا له كرامة اإلنسان إال بالمحافظة على هذه األمور‪.‬‬

‫بيد أنه عند النظر إلى الجزئيات من بيد أنه عند النظر إلى الجزئيات من حيث تحقق هذه المصالح‬
‫بالنسبة لشخص معين‪ ،‬أو لطائفة معينة قد يحصل تعارض فقد يكون ما هو مصلحة مؤكدة لبعض‬
‫األشخاص مضرة مؤكدة آلخرين بل قد يكون مضرة مؤكدة لهذا الشخص نفسه‪ ،‬فبقاء على قدمين اثنتين‬
‫مصلحة مؤكدة ‪ ،‬له ولكن إذا أصابت إحدى رجليه أكلة المصلحة تنقلب مضرة ويكون من مصلحة الجسم‬
‫كله إزالة ذلك العضو‪ ،‬وإن مثل الرجل أو الذراع في الجسم كمثل الواحد في الجماعة‪ ،‬من مصلحة الجماعة‬
‫المؤكدة سالمة كل واحد من أعضائها وبقاؤه فيها ولكن إذا فسد ذلك الفرد‪ ،‬وأصبحت سالمة المجتمع في‬
‫قطعه يكون من الواجب قطعه وتكون المصلحة التي أوجبت بقاءه في حال التي توجب فناءه في حال آفته‪.‬‬

‫وبهذا يتبين أنه قد تتنازع المصالح والمضار‪ ،‬ويكون الفعل الواحد أحيانا نفعا‪ ،‬وأحيانا يكون ضر ار‬
‫وعند تنازع النفع والضرر يقدم العمل الذي يكون أكثر نفعا على‪ ،‬غيره‪ ،‬والعبرة تكون بمصلحة أكبر عدد‬
‫ممكن وإن الضرر الكثير يدفع بالضرر القليل وإن دفع المضار مقدم على جلب المصالح ألن دفع المضار‬
‫في ذاته هو مصلحة السالمة‪.‬‬

‫أن مصالح الجماعة نسبية إضافية ال حقيقية ذاتية‪ ،‬عند النظر لكل فعل بمفرده وإن كانت ذاتية‬
‫قطعية في كليتها في جملة المجموع‪.‬‬

‫المستصفى‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.288-278‬‬ ‫‪1‬‬


‫والمنفعة بالمعنى اإلسالمي تشمل المنافع المادية والمعنوية‪ ،‬وليس من المنافع الهوى أو لميل أو‬
‫النفور‪.‬‬

‫وعليه الشريعة اإلسالمية الحظت في الحكم على فعل بأنه جريمة أن يكون فيه اعتداء على المصالح‬
‫المقررة الثابتة بحكم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة‪ ،‬وأن العقوبة على الجرائم لوحظ فيها أن تكون حامية‬
‫لهذه المصالح المقررة الثابتة وأن العدالة الحقيقية الممكنة في هذه الدنيا تتحقق في العقوبات اإلسالمية‪،‬‬
‫وأنها بهذا تنتهي إلى أقصى ما وصل إليه التفكير في علم العقاب‪ ،‬وهو أن يحقق العدالة مع حماية المصالح‬
‫االجتماعية الثابتة وفى الحقيقة أن الشريعة الغراء قد قررت ذلك من قبل القوانين الحاضرة‪.‬‬

‫وقد يقول قائل‪ :‬إن الشريعة بال شك في عقوبتها تحمى المجتمع من الضارة‪ .‬ولكن يالحظ أم ارن‪:‬‬

‫أولهما‪ :‬أن العقوبات بعضها غليظ شديد ال يتناسب مع الجريمة في ذاتها‪ ،‬كقطع اليد في السرقة‪،‬‬
‫وكالجلد مائة جلدة في الزني‪ ،‬والجلد ثمانين في القذف‪ ،‬ولو كان القذف لم يكن غاية‪ ،‬بل كان في شهادة‬
‫بالزنى التي لم تستكمل النصاب‪ .‬فإذا كانوا ثالثة شهود‪ ،‬ولم يكن‪ ،‬رابع جلد‪ ،‬الثالثة‪ ،‬مع أن قصدهم أداء‬
‫الشهادة‪ .‬وإن هذا قد يسوغ لبعض الناس أن يقول‪ :‬إن أحكام الشريعة الغراء غير متناسبة ألنها ال تساوى‬
‫الجريمة‪ ،‬وإن كانت مع ذلك نافعة رادعة بال شك‪ ،‬فجانب الردع فيها أوضح من جانب التناسب بين الجريمة‬
‫والعقاب‪.‬‬

‫ثانيهما‪ :‬أنها لم تالحظ المجرم‪ ،‬ولم تعن بالمالبسات التي أحاطت به‪ ،‬حتى حملته على الجريمة‬
‫حمال‪ ،‬كما انتهى إليه علم النفس الجنائي‪ ،‬حتى إنه ليعتبر المجرم مريضا‪ ،‬يجب عالجه‪ ،‬وبالتالي يجب أن‬
‫يالحظ ذلك عند تقرير العقوبة عليه‪ ،‬ولم نجد الفقهاء المسلمين قد تعرضوا لذلك‪ ،‬وال نجد الكتاب والسنة قد‬
‫أشا ار إليه‪ ،‬ودراسة المجرم‪ ،‬والعمل على عالجه هو بال شك أمر أساسي لعلم العقاب‪ ،‬ويجب أن يكون‬
‫القاضي عادل بالنسبة للمريض حامال الدواء الشافي‪ ،‬ال أن يكون ممسكا بسوط الجالد‪ ،‬ويرسله فيكوى‬
‫الظهور كيا‪ ،‬فإن ذلك يزيد سقيم النفس سقاما‪.‬‬

‫هذان اعتراضان يذكرهما بعض الذين يريدون أن يتخذوا تكأة للتحلل من أحكام الفقه اإلسالمي‪ ،‬أو‬
‫بعبارة أدق لتبرير التحلل من أحكامه‪ ،‬وإنا ندفع االعتراضين بعدم اإليراد‪ ،‬فالشريعة الحظت نفسية المجرم‪،‬‬
‫ولكنها مع ذلك الحظت نفسية المجنى عليه‪ ،‬وسبين ذلك عندما نتكلم على المجرم‪ ،‬ومقدار تبعاته في‬
‫األعمال المنسوبة إليه‪ ،‬و مقدار قواه النفسية والعقلية في تحمل هذه التبعات‪.‬‬
‫ولنتكلم اآلن إجماال في االعتراض األول‪ ،‬وقد قررنا أنا ندفعه بعدم اإليراد‪ ،‬وذلك ألننا نمنع أن تكون‬
‫العقوبة اإلسالمية غير عادلة أو غير متكافئة مع الجريمة‪ ،‬والنظر السطحي غير العميق هو الذي يفرض‬
‫أنها أكثر أو أشد ونعترف بأنها غليظة ولكنها‪ .‬عادلة ومصلحة‪ ،‬وتتفق مع منافع الناس وإن النظر العميق‬
‫ال يعتبر عقوبة السرقة غير متكافئة مع الجريمة‪ ،‬فليست الجريمة في السرقة هي الجريمة‪ ،‬فليست الجريمة‬
‫في السرقة هي ضياع عشرة دراهم‪ ،‬أو ما يساوى مجنا أو وزن نواة من ذهب أو ربع مثقال دينار‪ ،‬كـمـا من‬
‫ظواهر العبارات الفقهية‪ ،‬ليست الجريمة هي انتهاب هذه المقادير‪ ،‬أو أكثر منها في حدود مقاييسها‪ ،‬إنما‬
‫الجريمة اآلثمة هي إزعاج اآلمنين وتهديد المطمئنين‪ ،‬إن روع بيت بسرقة فكم من السكـ أفزع‪ ،‬وكم من‬
‫الجيران أزعج‪ ،‬وكم من الناس يعيشون في بلبال مستمر‪ ،‬ويتكلفون من المال في تحصين مساكنهم‪ ،‬وإعداد‬
‫المفاتيح والمزاليج لحماية أموالهم‪ ،‬وقد يكون النساء والذرية‪ ،‬الذرية‪ ،‬فهذه العقوبة الغليظة السارق مسلحا‬
‫فيأخذون األهبة‪ ،‬وتضطرب منهم حقا‪ ،‬هي جزاء وفاق لتلك الجريمة المفزعة التي ترتكب في جنح الليل‬
‫البهيم‪ ،‬أو في النهار على خفية من األعين وكل جريمة من هذا الصنف يستمر الناس منها في فزع أمدا‬
‫غير قصير‪ ،‬ولو كانت العقوبة لوجب قطع يد الغاصب أيضا ولكن الشارع قطع يد السارق وعزر الغاصب‪،‬‬
‫ولو كان ما اغتصبه قناطير مقنطرة من الذهب والفضة» وألن الغاصب إن روع فإنه يروع ‪ ،‬فردا أما السارق‬
‫فيروع حيا أو بلدا فال يطمئنون حيث يكون االطمئنان واجبا وال يستريحون حيث تجب الراحة‪.‬‬

‫وكذلك الزاني – عقوبته عادلة مع جريمته‪ ،‬فهو يفسد النسل‪ ،‬ويحمل خبائث األمراض إلى البراء إن‬
‫انتشر هذا الوباء‪ ،‬وتغشى الجماعة اإلسالمية‪ ،‬الفاضلة‪ ،‬فإن األجسام تسكنها األمراض الخبيثة والنسل‬
‫يجيء مئوفا‪ ،‬شائها واألبناء ال يعرفون آباءهم‪ ،‬واآلباء يشكون في ذرياتهم‪ ،‬وينحل المجتمع وتنحل معه‬
‫األسرة‪ ،‬واألم وهي التي تحمل‪.‬‬

‫وهذا القذف الذي يرمى فيه الرجل عفيفا تقيا أو عفيفة حصانا رزانا بالزنى‪ ،‬هو جريمة تتشعب منها‬
‫عدة جرائم‪ ،‬فإن المرأة تفقد اعتبارها في المجتمع العفيف‪ ،‬وإذا فقدت اعتبارها هانت في نفسها وفى أعين‬
‫ذويها وأعين الناس‪ ،‬وسمعة المرأة هي الزاد الروحي الذى ال يغنى عنه بالنسبة لها شيء في هذه الدنيا‪،‬‬
‫وكذلك الرجل‪ ،‬وإن كانت الجناية عليه أقل من الجناية على المرأة‪ ،‬ووراء القذف تشيع الفاحشة في الذين‬
‫آمنوا‪ ،‬ألنه إذا اتهم بالزنى األبرياء الفضالء سهل على من ليس لهم مثل اعتبارهم أن يرتكبوا ما يرمى به‬
‫هؤالء‪ ،‬ولقد قال تعالى في شأن الذين تحدثوا أم المؤمنين السيدة عائشة رضى هللا عنها‪ِ :‬إ َّن َّالذين يحبون‬
‫يم (في الدنيا واآلخرة وهللا يعلم وأنتم ال تعلمون )‪ .1‬والقذف‬ ‫اح َشةُ ِفي َّال ِذين آم ُنوا َلهم ع َذ ِ‬
‫أن تشيع اْلَف ِ‬
‫اب أَل ٌ‬
‫َ َ ُ َ ٌ‬ ‫َ‬
‫ذاته من رفث القول وال ينطق به كامل‪ ،‬وال يروج في مجتمع فاضل ‪.‬‬

‫• أقسام الجرائم من حيث المصلحة المعتبرة‬

‫إن الجرائم في أصل معناها اعتداء على المصالح التي اعتبرها الشارع مصالح معتبرة‪ ،‬وعرف ذلك‬
‫بنص قرآني‪ ،‬أو حديث نبوي شريف‪ ،‬أو قياس‪ ،‬أو استحسان أو كانت في أصل معناها تنتهى إلى أمر فيه‬
‫ضرر بمصلحة‪ ،‬وتقرر أن المصالح المعتبرة في اإلسالم هي ما يتعلق بحفظ النفس وما يتعلق بحفظ المال‬
‫وما يتعلق بحفظ النسل وما يتعلق بحفظ العقل وما يتعلق بحفظ الدين‪.‬‬

‫وعلى ذلك تنقسم الجرائم من هذه الناحية إلى خمسة أقسام‪ :‬جرائم فيها اعتداء على النفس‪ .‬وجرائم‬
‫فيها اعتداء على األموال وجرائم فيها اعتداء على النسل‪ ،‬وجرائم فيها اعتداء على العقل وجرائم فيها اعتداء‬
‫على الدين ‪.‬‬

‫وإن كل نوع من هذه الجرائم يختلف قوة وضعفا باختالف قوة االعتداء فيه على موضوعه من‬
‫المصالح ويصح أن نقول‪ :‬إن كل نوع من هذه المصالح التي أوجب الشارع المحافظة عليها ينقسم إلى‬
‫مصالح ضرورية ال يمكن قيام موضوع األمر من غير هذه المصلحة‪ ،‬فما يكون به حفظ الحياة يكون‬
‫ضروريا وما يكون به حفظ الحياة من غير ضيق وحرج يكون حاجيا‪ ،‬وما يكون به حفظ الحياة غير مهينة‬
‫وال مشينة يسمى تحسينيا‪.‬‬

‫وبذلك نستطيع أن نقسم الجرائم ذلك التقسيم من حيث مراتب قوة المصلحة‪ ،‬فاالعتداء على أمر‬
‫ضروري للحياة كاالعتداء على النفس بالقتل‪ ،‬أو قطع األطراف أقوى الجرائم في هذا الباب وما يكون اعتداء‬
‫على أمر تتحقق به الحياة‪ ،‬ولكن تكون في ضيق كاالعتداء على حرية الفكر وال أري فإنه يكون دون األول‪،‬‬
‫وما يكون فيه اعتداء على الكرامة‪ ،‬ويشين الشخص يكون من قبيل الثالث وبهذا تتفاوت جرائم االعتداء‬
‫على النفس في قوة اإلجرام ومقداره‪ ،‬فالقتل أقوى من قطع األطراف‪ ،‬وقطع األطراف أقوى من الضرب وأقوى‬
‫من منع حرية القول والعمل بالحبس ونحو ذلك‪ ،‬فإن األول يمس ضروريا من ضروريات النفس واآلخر‬
‫يمس حاجيا من حاجياتها‪ ،‬وما يشين كالدعاوى الباطلة والسب ونحو ذلك مما ال يمس الحياة في أصلها‪،‬‬
‫وال حاجيا من حاجياتها‪ ،‬ولكن يمس كمالها ‪ ،‬ويشينها فإنه دون المرتبتين السالفتين‪.‬‬

‫سورة النور‪ ،‬اآلية‪.19 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫كذلك الشأن بالنسبة لألموال‪ ،‬إن سلب ما هو ضروري بالنسبة لألموال بحيث ال يتحقق األمن على‬
‫المال مع وجوده يمس أم ار ضروريا‪ ،‬فالسرقة اعتداء على أصل وجود المال‪ ،‬ألنه يتعرض بها المال كله‪،‬‬
‫للضياع وضياع المال كله بالنسبة للمال يعد مناقضا ألصل ثبوت المحافظة عليه وال يعد ذلك مثل اغتصاب‬
‫المال علنا ألن اغتصاب جزء من المال علنا يمكن إثباته بالبينات ويمكن استرداده بسلطان القضاء‪ ،‬وعلى‬
‫ذلك يكون االعتداء بالسرقة اعتداء على أمر ‪ ،‬ضروري ألنه يتعرض المال معه للضياع ويتعرض لضياع‬
‫ال يمكن معه إثبات‪ ،‬إذ هي تكون خفية ومن غير إعالن‪ ،‬وألنه يتعرض األمن كله للخلل واالضطراب‪ ،‬أما‬
‫االغتصاب وأخواته من النهب وغيره فإن االسترداد بسلطان القضاء ممكن‪ ،‬وقريب وفى األول غير ممكن‬
‫إن تمت الجريمة من غير أن يتمكن المجنى عليه من القبض على الجاني‪ ،‬والتمكن من القبض عليه ليس‬
‫بسهل‪ ،‬وفيه تتعرض حياة المسروق منه للتلف‪ ،‬والسراق الذين يفرون وينجون أضعاف الذين يقبض عليهم‪،‬‬
‫ودون الجريمتين السابقتين النصب والخداع فإنه يمس كماليا‪ ،‬إذ هو يمس إرادة التصرف في المال عن بينة‬
‫وإدراك صحيح لوجود الكسب والخسارة‪ ،‬وهكذا نجد أيضا الجرائم في هذا الباب تتفاوت بمقدار قوة المصلحة‪،‬‬
‫فالجريمة التي تمس المال وتضيعه أقوى اعتبا ار من الجريمة التي تمسه ويمكن معها استرداده‪.‬‬

‫وإن ترتيب الجرائم بحسب ما تعتدى عليه‪ ،‬فما يبلغ تفويت أمر مقصود لذاته يماثل الضرورة هو‬
‫أعلى المراتب في اإلجرام وله أشد العقوبات‪ ،‬ويليه ما يكون اعتداء على أمر غير مقصود لذاته في باب‬
‫المصالح‪ ،‬وهذا يكون اعتداء على حاجة‪ ،‬وما يكون اعتداء على أمر يمس الكرامة فإنه يكون في مرتبة‬
‫التحسين‪ ،‬ولكل درجة من العقاب في نظر الشارع اإلسالمي‪.‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬أقسام الجرائم في الفقه اإلسالمي‬

‫الجرائم في الفقه اإلسالمي متنوعة‪ ،‬اإلسالمي متنوعة‪ ،‬وهي لذلك محل لتقسيمات متعددة تختلف‬
‫باختالف األسس التي تقوم عليها‪ .‬وهذه األسس مستمدة من أركان الجريمة‪ ،‬فثمة تقسيمات مستمدة من‬
‫ركن عدم المشروعية وأخرى مستمدة من ماديات الجريمة أو مستمدة من معنوياتها‪ .‬ونرى أن نلحق بدراسة‬
‫كل ركن التقسيمات التي تتصل به‪.‬‬

‫لكن ثمة تقسيما للجرائم يعد التقسيم األساسي لها‪ ،‬إذ ينبني عليه اختالف جوهري في األنواع التي‬
‫ترد إليها الجرائم وفقا لهذا التقسيم بل إن هذا التقسيم يعتبر أساس دراسة النظام الجنائي اإلسالمي‪.‬‬

‫هذا التقسيم يقوم على التمييز بين جرائم‪ ،‬الحدود وجرائم القصاص وجرائم الدية‪ ،‬وجرائم التعزير وهذا‬
‫التقسيم يقابله تقسيم مماثل للعقوبات فثمة عقوبات الحدود أو القصاص أو الدية أو التعزير‬
‫أوال‪ :‬جرائم الحدود‬

‫• تعريفها‪:‬‬

‫جرائم الحدود هي الجرائم المعاقب عليها بحد‪.‬‬

‫والحد هو العقوبة المقدرة من قبل الشارع‪ ،‬ويتعلق بها حق هللا تعالى‪.‬‬

‫ويعني ذلك أن ضابط اعتبار الجريمة من جرائم الحدود هو نوع العقوبة المقررة لها‪ ،‬وكونها توصف‬
‫بأنها حد‪.‬‬

‫• عناصر فكرة الحد‪:‬‬

‫الحد‪ :‬عقوبة مقدرة شرعا يتعلق بتوقيعها حق هللا تعالى‪.‬‬

‫ويتضح بذلك أن للحد عنصرين‪:‬‬

‫األول‪ :‬أنه عقوبة مقدرة بنص شرعي ثابت‪.‬‬

‫ومعنى أنه عقوبة مقدرة أنها ذات حد واحد ثابت‪ ،‬تنتفي بالنسبة لها "السلطة التقديرية" للقاضي‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬أن الحد يتعلق به حق هللا تعالى‪ ،‬سواء كان حقا خالصا له‪ ،‬أو كان للعبد حق فيه كذلك‪.‬‬

‫• مدى اتصال الحدود بحق هللا تعالى‪:‬‬

‫ومعنى اتصالها بحق هللا تعالى أنها تتصل بمصلحة المجتمع‪.‬‬

‫ولكن الحدود تختلف فيما بينها من حيث مدى اتصالها بحق هللا تعالى‪ :‬فبعضها حق خالص له‬
‫سبحانه‪ ،‬وبعضها حق له وحق للعبد كذلك‪.‬‬

‫✓ الحدود التي هي حق خالص هللا تعالى‪:‬‬

‫ومنها الزنى‪ ،‬والشرب‪ ،‬والردة‪ ،‬وقطع الطريق ‪.‬‬

‫ويعني اعتبار هذه الحدود حقا خالصا هللا تعالى‪ ،‬ولذلك لم يجعل للعبد المطالبة بالحد‪.‬‬

‫الحدود التي هي حق هللا والعبد‪ .‬ومن األدلة على أن بعض هذه الحدود حق خالص هللا تعالى أن‬
‫حد الزنى روعي في تقريره‪ ،‬وجعله بالشدة التي وضعه هللا فيها‪ ،‬أن جريمة الزنى اعتداء على العائلة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وهي نواة المجتمع اإلسالمي‪ .‬وأن هذه الجريمة اعتداء على نقاء األنساب‪ ،‬وهو حق للمجتمع‬
‫اإلسالمي في أن يكون جميع أبنائه ذوي نسب شرعي‪.‬‬

‫وعلة تجريم الزنا كذلك المحافظة على الفضيلة وصيانة األخالق‪ ،‬والحث على الزواج‪ ،‬وتأسيس‬
‫األسرة اإلسالمية الصالحة‪ .‬وقد أكد هذه المعاني رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في قوله "اتقوا هللا في‬
‫النساء فإنهن عوان عندكم‪ ،‬استحللتم فروجهن بكلمة هللا ويعني ذلك أن الرسول صلى هللا عليه وسلم وصف‬
‫الزواج بأنه "كلمة هللا"‪ ،‬فإذا كان الزنى اعتداء على كلمة هللا‪ ،‬فإن مؤدى ذلك بالضرورة أنه اعتداء على حق‬
‫خالص هللا تعالى‪.‬‬

‫✓ الحدود التي يجتمع فيها حق هللا تعالى وحق العبد‪:‬‬

‫ومن الحدان اللذان يجتمع فيهما حق هللا تعالى وحق العبد هما حدا السرقة والقذف‪.‬‬

‫فحد السرقة يتعلق به حق هللا تعالى ذلك أن السرقة اعتداء على حق المجتمع في أن تصان ملكية‬
‫األموال ألصحابها‪ ،‬ويستقر في المجتمع احترام الملكية لمن اكتسبه‪ ،‬ويكون من شأن ذلك الحث على كسب‬
‫المال‪ ،‬وبذل النشاط االقتصادي‪ ،‬األمر الذي يؤدي إلى ازدهار المجتمع وتنميته‪ .‬والسرقة كذلك اعتداء على‬
‫حق العبد‪ ،‬باعتبارها تقع على مال مملوك لشخص معين‪ ،‬ومن ثم كان جانب هذا الشخص موضع اعتبار‬
‫في تحديد األحكام التي تخضع لها‪ .‬وقد قال بعض الفقهاء إن حق العبد ثابت في السرقة في االبتداء‪ ،‬وإن‬
‫كان حق هللا تعالى ثابتا وحده في االنتهاء" ‪.1‬‬

‫والقذف يتعلق به حق هللا وحق العبد‪ ،‬معا فالمجني عليه وهو الذي قذفه الجاني بالزنى هو الذي‬
‫يدعي به‪ ،‬فإذا ادعي ثبت لولي األمر‪ ،‬أي السلطات العامة‪ ،‬السير في الخصومة‪ ،‬ولم يكن للمجني عليه‬
‫العفو عن الجاني‪ ،‬وإسقاط الحد أو إيقاف تنفيذه‪ ،‬وذلك تطبيقا لقول الرسول عليه الصالة والسالم إذا بلغت‬
‫‪2‬‬
‫الحدود السلطان فلعن هللا الشافع والمشفع"‪.‬‬

‫وكان الحق خالصا هلل تعالي فال يشترط االدعاء به لتوقيع الحد‪ ،‬ألنه ال يوجد مجني عليه من األفراد‬
‫له صفة االدعاء‪ .‬وبناء على ذلك‪ ،‬كان الشاهد مدعيا‪ ،‬ودعواه تسمي دعوى" حسبة‪ .‬ومؤدى ذلك أن الشهادة‬

‫اإلمام الشيخ أبو زهرة‪ ،‬رقم ‪ ،63‬ص ‪.59‬‬ ‫‪1‬‬

‫ويروي أن جماعة شكوا لصا ليرفعوا أمره إلى عثمان رضي هللا عنه فتلقاهم الزبير فشفع فيه‪ ،‬فقالوا إذا األمر إلى عثمان‬ ‫‪2‬‬

‫فاشفع فيه فقال‪ :‬إذا بلغت الحدود السلطان فلعن هللا الشافع والمشفع" السياسة الشرعية البن تيمية ص ‪.29‬‬
‫بالجريمة تسمع ولو لم تسبقها دعوى‪ ،‬وذلك ء من القواعد العامة التي تتطلب قيام االدعاء قبل االستماع‬
‫إلى الشهادة التي تعتبر إحدى إجراءات الدعوى‪. 1‬‬

‫‪2‬‬
‫وتسمي الشهادة في الحالتين "شهادة حسبة وهذه الشهادة تعد في ذاتها "دعوى"‪.‬‬

‫أما إذا كان الحد حقا هللا والعبد‪ :‬فيشترط االدعاء في االبتداء‪ ،‬أي يشترط أن يتقدم المجني عليه ويقيم‬
‫الدعوى‪ ،‬ويطالب بتوقيع الحد على مرتكب الجريمة‪ .‬القاعدة العامة من حيث اشتراط سبق االدعاء لقيام‬
‫الدعوى في الخصومة ومباشرة إجراءاتها‪.‬‬

‫• وسائل إثبات جرائم الحدود‬

‫األصل الذي قررته الشريعة اإلسالمية في شأن إثبات جرائم‪ ،‬الحدود‪ ،‬أن اإلثبات فيها مقيد‪ ،‬وإنما‬
‫تقبل األدلة التي أجازتها الشريعة فحسب ‪.‬‬

‫(أ) الزنى‪ :‬ال يثبت الزنى‪ ،‬وال يوقع الحد المقرر له إال بشهادة أربعة شهود‪ ،‬أو باإلقرار‪.‬‬

‫وه ْم‬ ‫هذه القاعدة في اإلثبات سندها قول هللا تعالي «و َّال ِذين يرمو َن ثُ َّم َلم يأْتُوا ِبأَربع ِة ُشه َداء َف ِ‬
‫اجل ُد ُ‬
‫ْ‬ ‫ََْ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ َْ ُ‬
‫اسُقون»‪ ،3‬وقوله عز وجل والالتي يأتين الفاحشة من‬ ‫ثَم ِانين جْلدة وال تَْقبُلوا َلهم َشهادة أَبداً وأُوَلِئك هم اْلَف ِ‬
‫َ ُ ْ َ َ ً َ َ َ ُُ‬ ‫َ َ َ ًَ‬
‫نسائكم‪ ،‬فاستشهدوا عليهن أربعة منكم"‪ 4‬وقوله تعالي «َلوَال َجاءوا َعَل ْي ِه ِبأ َْرَب َع ِة َفِإ ْذ َلم َيأْتُوا ِب ُّ‬
‫الش َه َداء َفأُوَلِئ َك‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫عند هللاِ ُه ُم اْل َك ِاذُبو َن» ‪. 5‬‬
‫َ‬

‫ويثبت الزني كذلك بإقرار الزاني‪ ،‬أي باعترافه الصريح بالفعل الذي به جريمته‪.‬‬

‫وقد اختلف الفقهاء في عدد مرات اإلقرار الذي يعد دليل إثبات في الزنى فالحنفية والحنابلة يشترطون‬
‫تكرار اإلقرار أربع مرات‪ ،‬وإص ارره على إق ارره بعد مراجعته عقب كل إقرار‪.‬‬

‫يقول اإلمام الكاساني في ذلك ال خالف في أن الخصومة ليست بشرط في حد الزنا أو الشرب‪ ،‬ألنه حق هللا تعالي‬ ‫‪1‬‬

‫والخصومة ليست بشرط في الحدود الخالصة هلل تعالي‪ :‬ألنها تقام حسبة هللا تعالي‪ ،‬فال يتوقف ظهورها علي دعوى العبد‪:‬‬
‫بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع جـ ‪ 7‬ص‪.‬‬
‫اإلمام الشيخ أبو زهرة‪ ،‬صحة ‪.60‬‬ ‫‪2‬‬

‫سورة التوبة‪ ،‬اآلية‪.04 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫سورة النور‪ ،‬اآلية‪.13 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫سورة النساء‪ ،‬اآلية‪.15 :‬‬ ‫‪5‬‬


‫ويحتجون كذلك بقياس اإلقرار على الشهادة‪ ،‬فاإلقرار هو شهادة الشخص على نفسه‪ ،‬ومن ثم تعين‬
‫أن تطبق عليه قاعدة اشتراط تعدد الشهود‪.‬‬

‫أما الشافعية والمالكية‪ ،‬فيرون كفاية اإلقرار مرة واحدة‪ ،‬ويحتجون بأن ال وجه لقياس اإلقرار على‬
‫الشهادة‪ ،‬الختالفهما من حيث الطبيعة‪ .‬ويخلصون من ذلك أن التكرار غير مشترط ولكنه يستحسن‪.‬‬

‫(ب) والشرب يثبت بإقرار الشارب أو شهادة شاهدين‪.‬‬

‫واختلف الفقهاء كذلك فيما إذا كان يشترط تكرار اإلقرار أم ال يشترط ذلك‪ ،‬فقال فريق من الحنابلة‬
‫بتك ارره مرتين بمقدار الشهادة‪ ،‬وقال اإلمام أبو حنيفة بعدم اشتراطه‪.‬‬

‫(ج) والقذف يثبت باإلقرار بعد الدعوى أو شهادة شاهدين‪ ،‬وال يحسب المجني عليه ‪-‬بدعواه‪ -‬من‬
‫بين الشهود وال يشترط ‪-‬في إجماع الفقهاء‪ -‬تكرار اإلقرار‪.‬‬

‫• التقادم في جرائم الحدود‬

‫انقسم الفقه اإلسالمي فيما يتعلق بالتقادم إلى مذهبين‪:‬‬

‫✓ المذهب األول‪ :‬هو مذهب األئمة مالك والشافعي وأحمد‪ ،‬وهو يرون أنه ال تسقط بالتقادم إال‬
‫جرائم التعزيز وعقوبات التعزيز‪ .‬أما جرائم الحدود والقصاص والدية فليس لولي األمر حق‬
‫العفو عنها‪ ،‬كما أنها ال يوجد في قواعد الشريعة ما يجيز سقوطها بمضي مدة معينة أي‬
‫بالتقادم‪.‬‬
‫✓ المذهب الثاني‪ :‬هو مذهب اإلمام أبي حنيفة‪ ،‬وهو يتفق مع المذهب األول في جواز التقادم‬
‫في جرائم وعقوبات التعزيز‪ .‬كما يتفق معه في عدم جواز التقادم في جرائم وعقوبات القصاص‬
‫والدية ولكنه يختلف مع المذهب األول من حيث أنه يجيز التقادم في جرائم الحدود ما عدا‬
‫القذف‪.‬‬

‫وقد اختلف الفقهاء في تحديد مدة التقادم فرأى البعض أنها ستة أشهر ورأى البعض اآلخر أنها أنها‬
‫شهر أما أبو حنيفة فلم يحدد للتقادم مدة وإنما يترك تقديرها لولي األمر‪.1‬‬

‫ثانيا‪ :‬جرائم القصاص‬

‫اإلمام محمد أبو زهرة ص ‪78‬وما بعدها؛ واألستاذ عبد القادر عودة التشريع الجنائي اإلسالمي مقارناً بالقانون الوضعي جـ‬ ‫‪1‬‬

‫‪ 1‬سنة ‪ 1958‬ص ‪.780‬‬


‫• تعريفها‬

‫القصاص عقوبة مقدرة شرعاً حقاً هللا تعالى‪ ،‬وللعبد‪.‬‬

‫وجرائم القصاص هي ائم التي قرر الشارع الحكيم القصاص عقوبة لها‪ .‬وهذه الجرائم هي جرائم الدم‬
‫العمدية‪ ،‬أي جرائم االعتداء على الحياة‪ ،‬واالعتداء على سالمة الجسم‪.‬‬

‫وأخص ما يميز القصاص أنه يفترض أن ينزل بالجاني من األذى مثل ما أنزله بالمجني عليه‪ :‬فإذا‬
‫كانت الجريمة قتال قتل الجاني‪ ،‬وإذا كانت إيذاء بدنيا‪ ،‬أنزل بالجاني من األذى مثل ما أنزله بالمجني عليه‪.‬‬

‫• النصوص الشرعية في شأن القصاص‪:‬‬

‫س َواْل َع ْي ِن ِباْل َع ْي ِن‬ ‫النْف َس ِب َّ‬


‫النْف ِ‬ ‫َن َّ‬
‫يها أ َّ‬ ‫ِ ِ‬
‫(وَكتَ ْبَنا َعَل ْيه ْم ف َ‬
‫نص القرآن الكريم على القصاص في قوله تعالى َ‬
‫واألنف باألنف واألُ ُذ ِن ِباألُ ُذ ِن و ِ ِ ِ‬
‫الس َن واْل ُج ُرو َح ِقص ِ‬
‫الس َّن ب ِّ َ‬
‫‪1‬‬
‫اص)‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ ِّ‬

‫اعتَ ُدوْا َعَل ْي ِه ِب ِم ْثل ما اعتََدى َعَل ْي ُك ْم َواتَُّقوا هللا"‪. 2‬‬ ‫"م ِن ْ‬
‫اعتََدى َعَل ْي ُك ْم َف ْ‬ ‫وقال تعالى في تقرير القصاص َ‬
‫القص ِ‬
‫اص‬ ‫ِ ِ‬ ‫‪3‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وقال كذلك "يا أَي َّ ِ‬
‫اص في القتلى" ‪ .‬وقال عز من قائل "وَل ُك ْم في َ‬ ‫ص ُ‬‫آمُنوا َكت َب َعَل ْي ُك ْم الق َ‬
‫ين َ‬‫ُّها الذ َ‬
‫َ َ‬
‫لعلكم تتقون‪". 4‬‬
‫ْ‬ ‫َح َياةٌ َيا أُولِي األلباب‬

‫وقال سبحانه في تقرير حصانة األنفس وحرمتها "وال تقتلوا النفس التي َح َّرَم هللاُ ِإال ِباْل َح ِِّق"‪ ،5‬وقرر‬
‫فقد َج َعلنا‬ ‫ِ‬
‫(و َمن قتل مظلوما ْ‬ ‫القصاص لولي المقتول‪ ،‬وألزمه أال يجاوز حدود ه من قصاص‪ ،‬فقال تعالى َ‬
‫نصورا)‪.6‬‬
‫كان َم ُ‬
‫إنه َ‬ ‫َلو ِّلي ِه ُسْل َ‬
‫طاناً فال ُيسرف في القتل ُ‬
‫وبين سبحانه جزاء القاتل في اآلخرة‪ ،‬فقال «ومن يقتل مؤ ِمناً متَع ِمداً َفج َزآؤه جهنم خالدا ِفيها و َغ ِ‬
‫ض َب‬ ‫َ َ‬ ‫ُ َ ِّ َ ُ ُ َ َ ُ‬ ‫ََ َ ُ‬
‫‪7‬‬
‫أع َّد َل ُه َع َذاباً َع ِظيما »‪.‬‬ ‫ِ‬
‫هللا َعَل ْيه وَل َع َن ُه و َ‬

‫• علة القصاص‪:‬‬

‫سورة المائدة‪ ،‬اآلية‪.45 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫سورة البقرة‪ ،‬اآلية‪.194 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫سورة البقرة‪ ،‬اآلية‪.178 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫سورة البقرة‪ ،‬اآلية‪.179 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫سورة االنعام‪ ،‬اآلية‪.151 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫سورة اإلسراء‪ ،‬اآلية‪.33 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫سورة النساء‪ ،‬اآلية‪.93 :‬‬ ‫‪7‬‬


‫لقد قرر هللا تعالى خطورة االعتداء على الحياة‪ ،‬وعلى سالمة الجسم يقع عمدا‪ ،‬وجسامة الضرر‬
‫االجتماعي الذي يترتب على هذه الجرائم‪ ،‬والذي يتمثل من ناحية في هالك عدد من أفراد المجتمع أو‬
‫صيرورتهم مشوهين‪ ،‬مما يضعف من المجتمع ويقلل من قدرته على التقدم واالزدهار؛ ويتمثل من ناحية‬
‫ثانية في تفشي جرائم األخذ بالثأر‪ ،‬مما يؤدي إلى اضطراب األمن وشيوع الفوضى في المجتمع‪ .‬وقد أوضح‬
‫«من قتل‬
‫هللا تعالى جسامة القتل العمدي‪ ،‬ومدى إض ارره بالمجتمع كله وجدارته بعقوبة شديدة‪ ،‬فقال سبحانه َ‬
‫اس َج ِميعاً » ‪.1‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫نفسا ب َغ ْي ِر نفس أ َْو َف َساد في ْاأل َْرض َف َكأ َ‬
‫َنما َق َت َل َّ‬
‫الن َ‬

‫وثمة علة ثانية لتقرير القصاص في جرائم الدم العمدية‪ ،‬هي أن عقاب هذه رائم ال يجوز ‪ -‬في تقدير‬
‫الشارع الحكيم ‪ -‬أن يختلف من زمان إلى آخر‪ ،‬أو من مكان إلى آخر‪ ،‬وبصفة خاصة فإنه ال يجوز أن‬
‫يختلف باختالف ظروف المجني عليه‪ ،‬وعلى األخص مركزه االجتماعي‪ .‬وبناء على ذلك‪ ،‬فإن هذه الجرائم‬
‫ليست من الجرائم التي يختلف ضررها أو خطرها االجتماعي‪ ،‬وفقا لسياسة تشريعية معينة‪ ،‬ومن ثم تعين‬
‫أن يكون عقابها محددا‪ ،‬وفق قاعدة معينة ال يمسها تعديل‪.‬‬

‫• اجتماع حق هللا تعالى وحق العبد في القصاص‪:‬‬

‫✓ أهمية تعلق حق هللا تعالى بالقصاص‪:‬‬

‫إن أهمية تعلق حق هللا تعالى بالقصاص‪ ،‬أنه سبحانه استأثر بتقريره وتحديد مقداره على نحو أمر‪،‬‬
‫ولم يترك ذلك لولي االمر أو القاضي‪.‬‬

‫ويترتب على تعلق حق هللا تعالى بالقصاص كذلك أنه إذا عفى المجني عليه أو ولي دمه عن حقه‬
‫في القصاص‪ ،‬كان لولي األمر مع ذلك أن ينزل العقوبة بالجاني تعزيزا‪ .‬وسند التعزيز‪ ،‬على الرغم من‬
‫العفو‪ ،‬هو أن العفو لم ينل حق هللا تعالى في العقاب‪ ،‬وبناء على ذلك تحل عقوبة التعزيز محل عقوبة‬
‫القصاص‪.‬‬

‫✓ أهمية تعلق حق العبد بالقصاص‪:‬‬

‫إن أهمية تعلق حق العبد بالقصاص‪ ،‬أن إقامة دعوى القصاص ال يكون إال بناء على مطالبة المجني‬
‫عليه‪.‬‬

‫سورة المائدة‪ ،‬اآلية‪.32 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫ويترتب على ذلك أيضا أن للمجني عليه أيضا حق العفو على الجاني‪.‬‬

‫ويترتب على تعلق حق العبد بالقصاص كذلك أن للمجني عليه تنفيذ القصاص بنفسه‪.‬‬

‫• دور العفو في توقيع القصاص‪:‬‬

‫أوضح هللا تعالى دور العفو في القصاص في قوله‪" :‬يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في‬
‫القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد واالنثى باألنثى فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بمعروف وأداء إليه‬
‫بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ولكم في القصاص حياة يا أولي‬
‫‪1‬‬
‫االلباب لعلكم تتقون"‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬جرائم الدية‬

‫• تعريف الدية‬

‫الدية هي مال يؤديه الجاني أو عائلته أو بيت المال إلى المجني عليه أو أوليائه‪.‬‬

‫وجرائم الدية هي كل جريمة أوجب الشارع الدية عقوبة لها‪ .‬والدية عقوبة مالية‪ ،‬بل إنها تجمع بين‬
‫العقوبة والتعويض‪ ،‬ولذلك ال يحق للمجني عليه الذي صل على الدية أن يطالب بتعويض يضاف إليها‪.‬‬

‫• النصوص الشرعية في شأن الدية‪:‬‬

‫أهم هذه النصوص هي قول هللا تعالى‪" :‬وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إال حطئا ومن قتل مؤمنا‬
‫‪2‬‬
‫خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إال أن يصدقوا"‪.‬‬

‫وقد جعل هللا تعالى للقتل الخطأ جزاءين‪ :‬تحرير رقبة مؤمنة‪ ،‬والدية وتحرير الرقبة المؤمنة كفارة‪.‬‬

‫ويبرز الطابع االجتماعي لجريمة القتل الخطأ‪ ،‬وما يترتب عليها من ضرر اجتماعي‪ ،‬يستوجب‬
‫‪3‬‬
‫التعويض االجتماعي عنه‪.‬‬

‫سورة البقرة‪ ،‬اآليتان‪.179-178 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫سورة النساء‪ ،‬اآلية‪.93 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫األستاذ الشيخ أبو زهرة‪ ،‬ص ‪.99‬‬ ‫‪3‬‬


‫• مجال الدية‪:‬‬

‫المجال األساسي للدية‪ ،‬هو جرائم الدم غير العمدية‪ ،‬فيدخل في ذلك القتل الخطأ والجرح الخطأ (أي‬
‫اإلصابة الخطأ)‪ ،‬القتل شبه العمد (أي الجرح او الضرب المفضي إلى الموت)‪.‬‬

‫جرائم الدم العمدية إذا انتفى أحد شروط إنزال القصاص‪:‬‬

‫وهي في األصل تستوجب القصاص‪ ،‬إذا انتفى أحد شروط القصاص‪ ،‬إذ يمتنع توقيعه وتحل الدية‬
‫محله‪.‬‬

‫وأهم حاالت انتفاء شروط القصاص أن يعفو المجني عليه عن الجاني نظير مال يسلمه إليه‪ ،‬إذ‬
‫يعتبر هذا المال دية تحل محل القصاص‪.‬‬

‫ومن هذه الحاالت كذلك أن تستحيل المماثلة بين أذى والجريمة والقصاص‪.‬‬

‫وفي عديد من الحاالت ال يتاح تحقيق المماثلة بين الجرح والقصاص‪ ،‬فيكون مؤدى ذلك أن يتحول‬
‫القصاص إلى الدية‪.‬‬

‫• ما جرى مجرى الخطأ‪:‬‬

‫إذا صدرت الجناية على النفس أو األطراف من شخص غير أهل للتكليف‪ ،‬كما لو كان صغي ار أو‬
‫مجنونا أو سقط عنه العقاب لسبب شرعي‪ ،‬فإن القصاص ال يجب عليه‪ ،‬وإنما تحل الدية محله‪ ،‬وتجب لدية‬
‫في ماله‪ ،‬فإذا لم يكن له مال وجبت على عصبته‪ ،‬فإذا لم يكن لهم مال وجبت الدية على بيت المال‪،‬‬
‫وتسمى الجريمة في هذه الحالة بأنها "تجرى مجرى الخطأ"‪.‬‬

‫• اجتماع حق هللا تعالى وحق العبد في الدية‪:‬‬

‫يتضح الطابع االجتماعي للجريمة المستوجبة الدية في تقرير الشارع لها الكفارة إلى جانب الدية‪ ،‬ثم‬
‫في كونها مقدرة على وجه تعبر فيه مقدار الضرر االجتماعي ‪.‬‬

‫ويتعلق بالدية حق العبد ألنها قررت جب ار لضرر أصابه وشفاء لنفسه‪،‬‬

‫فهي بمثابة تعويض عن ضرر أدبي نزل به‪.‬‬

‫ويترتب على تعلق الدية بحق العبد أنها ال تجب إال بالمطالبة؛ وأنه يجوز العفو عنها في أية حالة‬
‫كان عليها االدعاء؛ وأن حصيلتها تؤول إلى المجني عليه أو إلى ولي دمه‪.‬‬
‫• إضافة التعزير إلى الدية‪:‬‬

‫ولذلك تبدو الدية غير كافية لمواجهة خطورة الجاني وخطورة جريمته‪ .‬لذلك قد الفقهاء جواز أن‬
‫تضاف إلى الدية عقوبة تعزيرية‪ ،‬بحيث نستطيع في النهاية القول بأن الدية والتعزير معاً يعادالن ‪ -‬من‬
‫حيث الشدة – القصاص‪.‬‬

‫واألصل في تقرير التعزير ‪ -‬إضافة إلى الدية ‪ -‬أن يكون ذلك سلطة القاضي يكون من سلطته‬
‫كذلك تحديد مقدار العقوبة التعزيرية التي تضاف إلى الدية‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬جرائم التعزير‬

‫• تعريفها‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫التعزير ‪ -‬في اصطالح الفقهاء ‪ -‬هو "تأديب على ذنوب لم تشرع فيها حدود‪.‬‬

‫وهو العقوبة" التي يقررها ولي األمر أو القاضي من أجل معصية لم يرد في شأنها حد أو قصاص‬
‫أو دية‪.‬‬

‫وجرائم التعزير" هي المعاصي التي قرر التعزير جزاء لها ‪".‬‬

‫التعزير عقوبة لم تحددها النصوص الشرعية‪ ،‬على نحو ما قررت الحدود والقصاص والدية‪ ،‬وأن‬
‫جرائم التعزير هي جرائم لم يقرر لها الشارع حدا أو قصاصا أو دية‪ .‬وإنما يعاقب عليها بعقوبة يقدرها‬
‫القاضي أو يحددها ولي األمر تحديداً مجرداً‪.‬‬

‫ولتحديد جريمة التعزيز وعقوبتها طريقتين‪:‬‬

‫األستاذ عبد القادر عودة‪ ،‬التشريع الجنائي اإلسالمي مقارنا بالقانون الوضعي الجزء األول سنة ‪ ،1959‬رقم ‪ ،477‬صفحة‬ ‫‪1‬‬

‫‪.685‬‬
‫✓ إما أن يحددها القاضي‪ ،‬إذا تبين له أن الفعل المسند إلى المتهم يعتبر "معصية شرعا‪ ،‬فيحدد‬
‫له العقوبة التي يقدر مالءمتها له ولظروف المتهم‪ - ،‬وفقا لضوابط شرعية ‪ -‬من بين قائمة‬
‫من‪ ،‬وال يكون محال لتطبيق مبدأ "ال جريمة وال عقوبة إال بناء على نص"‪.‬ذ‬

‫✓ وإما أن يحددها ولي األمر في نصوص عامة مجردة‪ ،‬بحيث يبين في كل نص الجريمة التي‬
‫يعاقب عليها‪ ،‬ويحدد أركانها‪ ،‬ويبين عقوبتها‪ .‬ويعني ذلك إعمال مبدأ "ال جريمة وال عقوبة‬
‫إال بناء على نص"‪.‬‬

‫كما توجد مذاهب وسطى بين هذين المذهبين‪ :‬فقد يفرغ القانون نصوص التجريم في عبارات واسعة‬
‫تسمح للقاضي بسلطة تفسير متسعة‪ ،‬تتيح له أن يستخلص أركان كل جريمة‪ ،‬وقد يضع القانون نصوص‬
‫تجريم متضمنة تحديدا دقيقا ألركان الجريمة‪ ،‬ولكنه في ذات الوقت يسمح للقاضي بالقياس عليها‪.‬‬

‫• الضابط في التعزير‪:‬‬

‫قدمنا أن ولي األمر والقاضي ال يتمتعان بسلطة مطلقة في مجال التعزير‪ ،‬إذ لو أطلقت هذه السلطة‬
‫لقام االحتمال بسوء استعمالها‪ ،‬وخشي أن تكون بابا للعسف واالستبداد‪ ،‬األمر الذي ال يتفق مع مقاصد‬
‫الشريعة‪.‬‬

‫والقيود التي ترد على سلطة التعزير ذات شقين قيود تتعلق بالفعل الذي يستوجب التعزير؛ وقيود‬
‫تتصل بتحديد ما يصلح أن يكون عقوبة تعزيرية‪.‬‬

‫• الفعل الذي يستوجب التعزير‪:‬‬

‫يشترط في الفعل الذي يستوجب التعزير‪ ،‬أي تقوم به "الجريمة التعزيرية" أن‬

‫يتوافر فيه شرطان‪ :‬أن يكون "معصية‪ ،‬وأن يكون صالحا لإلثبات قضاء‪.‬‬

‫( أ ) اشتراط أن يكون الفعل معصية‪ :‬يشترط أن يكون الفعل الذي توقع من أجله العقوبة التعزيرية‬
‫"معصية‪ ،‬ألنه إذا لم يكن كذلك لكان مجاال مباحا لألفراد‪ ،‬يحق لهم إتيانه دون أن يحاسبوا على ذلك‪.‬‬

‫ويراد بالمعصية عصيان أوامر هللا تعالى ونواهيه‪ .‬وهذه األوامر والنواهي قد ترد في نص شرعي من‬
‫الكتاب أو السنة‪ ،‬وقد تستخلص من روح الشريعة ومبادئها العامة‪.‬‬
‫والمعصية قد تتمثل في فعل إيجابي‪ ،‬فتكون إخالال بنهي‪ ،‬وقد تتمثل في امتناع فتكون إخالال بأمر‪.‬‬

‫وقد تكون المعصية عدوانا على حق لفرد‪ ،‬وقد تكون عدوانا على حق هللا تعالى‪.‬‬

‫وقد يرتكب المعصية موظف عام‪ ،‬وقد يرتكبها فرد عادي‪.‬‬

‫(ب) اشتراط أن يكون الفعل صالحاً لإلثبات قضاء‪ :‬يشترط أن يكون الفعل الذي تقوم به الجريمة‬
‫التعزيرية صالحا ألن يقوم الدليل على ارتكابه وما أحاط به من ظروف ومالبسات أمام القاضي‪ .‬ويتعين‬
‫أن يكون ذلك ممكنا بأسلوب ال تنتهك به الحرمات أو يعتدى فيه على حقوق اإلنسان أو تمتهن فيه الكرامة‬
‫البشرية للمتهم‪.‬‬

‫ويقتضي ذلك أمران‪:‬‬

‫األول‪ :‬أال يكون سبيل الكشف عن الجريمة هو التجسس على الحياة الخاصة لألفراد‪ ،‬ذلك أن‬
‫ض ُكم َب ْعضاً‪".‬‬
‫بع ُ‬
‫التجسس منهي عنه في قول هللا تعالى َ"وال تَ َج َّس ُسوا َوَال َي ْعتب ْ‬

‫والثاني‪ :‬أن يكون الدليل الذي يعتمد عليه القاضي في اإلدانة دليال قطعيا جازما‪ .‬وبناء على ذلك‪،‬‬
‫ال يجوز االعتماد على محض شبهات أو دالئل‪ ،‬أو مجرد ظنون‪ ،‬فقد نهي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫عن االحتكام إلى الظنون وما يتفرع عنها من شبهات‪ ،‬فقال إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وال‬
‫تجسسوا‪ ،‬وال يغتب بعضكم بعضا‪ ،‬وكونوا عباد هللا إخوانا‪".‬‬

‫• ضابط العقوبة التعزيرية‪:‬‬

‫إذا وضع ولي األمر قائمة بالجرائم التعزيرية‪ ،‬كان له أن يقرر في شأنها السياسة العقابية التي‬
‫يرتضيها في ضوء مصلحة مجتمعه‪ ،‬وتقديره العتبارات العدالة والردع عن األفعال الضارة بالمجتمع‪ ،‬وإذا‬
‫خول القاضي سلطة التجريم والعقاب كانت له سلطة اختيار العقوبة التي يراها مالئمة لظروف الجريمة‬
‫والمتهم‪.‬‬
‫ولكن هذه السلطة ‪-‬في صورتها التشريعية والقضائية‪ -‬لها حدودها‪ .‬وتتمثل هذه الحدود في صورة‬
‫ضوابط يسترشد بها الشارع والقاضي في تقرير هذه العقوبات‪.‬‬

‫وفيما يلي أهم هذه الضوابط‪:‬‬

‫أوال‪ :‬يتعين أن تكون العقوبات التعزيزية أقل جسامة من عقوبات الحدود‪ ،‬وذلك ألن الجرائم التعزيزية‬
‫أقل جسامة من جرائم الحدود‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬إذا كانت الجريمة التعزيزية تقوم بفعل هو من جنس الفعل المقرر من أجله الحد‪ ،‬ولكنه أقل‬
‫منه جسامة‪ ،‬أو لم تتوافر بالنسبة له شروط الحد‪ ،‬فإنه يتعين أن تكون عقوبته أقل من عقوبة الحد‪.‬‬

‫• مجال التعزير‪:‬‬

‫المجال األساسي للتعزير هو ‪ -‬على ما تقدم ‪ -‬حيث ترتكب معصية لم يقرر من أجلها حد أو‬
‫قصاص أو دية‪ .‬ولكن مجال التعزير ال يقتصر على ذلك‪.‬‬

‫فإذا ارتكبت جريمة يقرر لها الشارع حدا‪ ،‬وثبت أن الحد غير كاف المواجهة جسامة الجريمة أو إثم‬
‫الجاني جاز أن يضاف إليه التعزير‪ ،‬كي يحقق الحد الجزاء الرادع للجريمة‪ .‬ومثال ذلك إضافة التغريب إلى‬
‫الحد في الزنا‪.‬‬

‫وإذا ارتكبت جريمة تستوجب القصاص ثم عفا المجني عليه أو وليه دون مقابل أو نظير دية‪ ،‬جاز‬
‫الحكم بعقوبة تعزيرية‪ ،‬كي تحقق بمفردها أو باإلضافة إلى الدية الجزاء الرادع للجريمة‪.‬‬

‫وإذا ارتكبت جريمة تستوجب أداء دية‪ ،‬وعفا المجني عليه عنها أو حصل عليها جاز توقيع عقوبة‬
‫تعزيرية كي تحقق ‪ -‬محل الدية أو باإلضافة إليها ‪ -‬الجزاء الرادع للجريمة‪.‬‬

‫ويتضح بذلك أن للتعزير مجاال رئيسيا‪ ،‬يوقع فيه استقالالً من أجل الجريمة‪ ،‬وقد يكون له دور تكميلي‬
‫يضاف إلى عقوبة أخرى أو يحل محلها كي يوقع من أجل الجريمة الجزاء الرادع عنها‪.‬‬
‫وقد يوقع التعزير دون أن ترتكب معصية‪ ،‬ولكن لمواجهته "حالة خطرة" تنذر بجريمة يحتمل أن ترتكب‬
‫في مستقبل قريب‪ .‬ويقوم التعزير في هذه الحالة بوظيفة التدبير االحترازي‪ ،‬أو "التدبير الوقائي" في‬
‫مصطلحات السياسة الجنائية المعاصرة‪.‬‬

You might also like