Professional Documents
Culture Documents
يتميز النظام اإلسالمي بمميزات أساسية تتفق مع طبيعة البشر وتضمن لألحكام الصالحية للتطبيق
في كل زمان ومكان.
فأحكام النظام الجنائي اإلسالمي عامة تعم الحاكم والمحكوم ويترتب على ذلك أن الحاكم يقيد في
تطبيق النظام الجبائي اإلسالمي بعد جواز العفو أو الشفاعة في حد من حدود هللا.
فالمسلم المتدين يحس دائما بأنه في رقابة هللا وأنه محاسب على أفعاله ونواياه ،ولذلك فإن في إيقاظ
الضمير والحفاظ على األخالق بين أفراد المجتمع من األمور المهمة جدا والتي يترتب عليها الوقاية من
الجريمة وتيسير إثباتها.
هناك عدة أسس يقوم عليها التشريع الجنائي اإلسالمي سواء من الناحية الموضوعية أو من الناحية
اإلجرائية ،حيث يتميز عن النظم الوضعية في الشق الجنائي بالثبات واالستقرار والمتانة ،وال يبنى على
فرضيات بل ينطلق من الثوابت المستمدة من القرآن الكريم وسنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وإجماع
الفقهاء المسلمين وما ورد من اجتهادات وآراء ألعالم األمة اإلسالمية عبر تاريخ اإلسالم.
أوال :مبدأ شرعية وما انبثق عنه من قواعد
وهي القاعدة التي يعبر عنها في العصر الحديث بمبدأ الشرعية ،ومقتضاها أنه ال تعتبر أفعال األفراد
وصور سلوكهم جرائم إال إذا كان ثمة نص قانون صادر عن السلطة التشريعية في الدولة يقرر جعل هذ
السلوك جريمة ويقرر عقوبة له بشرط أن يكون هذا انص التشريعي قد صدر قبل ارتكاب الفعل أو وقوع
السلوك المراد العقاب عليه.
وليس من نصوص القرآن الكريم أو السنة نص واضح الداللة على العمل بهذه القاعدة في مجال
التشريع الجنائي اإلسالمي ولكن استنتاج هذه القاعدة من بعض نصوص القرآن والسنة والقواعد األصولية
ليس صعبا فنجد قوله تعالى" :وما كنا معذبين حتى نبعث رسوال" سورة اإلسراء ،اآلية ،5وقوله تعالى" :وما
كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسوال يتلو عليهم آياتنا" سورة القصص ،اآلية .59
ومن أهم نتائج قاعدة شرعية الجرائم والعقوبات في -نظر الفقه الجنائي الحديث -أن النصوص
الجنائية ال ترجع إلى الماضي ،وإنما يكون تطبيقها بأثر مباشر على الوقائع التي تحدث بعد صدور هذه
النصوص دون الوقائع التي حدثت قبلها وذلك ما يعرف بمبدأ عدم رجعية التشريع الجنائي اإلسالمي إلى
الماضي ،هذا الذي يعتبر من لوازم مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ،وال يتصور في نظام قانوني أن يأخذ
بمبدأ الشرعية ثم يجدر األخذ بمبدأ عدم الرجعية وذلك هو الشأن في األحكام الجنائية اإلسالمية كما هو
الشأن في غيرها من النظم الجنائية.
الجريمة
• تعريف الجريمة
تطلق كلمة الجريمة على ارتكاب كل ما هو مخالف للحق والعدل والطريق المستقيم ،واشتق من ذلك
وقال تعالى: 1
المعنى إجرام وأجرموا ،فقد قال تعالى" :إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون"،
3
"كلوا وتمتعوا قليال إنكم مجرمون" 2 ،وقال عز من قال" :إن المجرمين في ضالل وسعر".
وإن تعريف الجريمة على هذا النحو ينتهي إلى ما يقارب تعريف علماء القانون الوضعي لها ،فإن
الجريمة في قانون العقوبات هي الفعل أو الترك الذي نص القانون على عقوبة مقررة له؛ فإنه بمقتضى ذلك
القانون ال يعتبر الفعل جريمة إال إذا كان ثمة نص على العقاب ،وال عقاب من غير نص.
والتعريف الشرعي قد يختلف في ظاهره عن تعريف القانون الوضعي في التعزيز ،فإنه عقوبة غير
منصوص عليها في الكتاب أو السنة بقدر محدود ،ولكن عند النظرة الفاحصة نجد تعريفين متالقين في
الجملة؛ وذلك ألن التعزيزات كلها تنتهي إلى منع لفساد ودفع الضرر .وكل ذلك له أصل في الكتاب أو
1
وقول النبي صلى هللا عليه سلم" :ال ضرر السنة ،من ذلك قوله تعالى" :وال تعثوا في األرض مفسدين"
وال ضرار" وألن هذه التعزيزات ترك تقديرها لولي األمر ،له بمقتضى ما خوله هللا تعالى من سلطان في
األرض أن يسن من العقوبات ما يراه رادعا للناس ،ولذلك نستطيع أن نقرر أن أكثر ما في قانون العقوبات
من عقوبات رادعة مانعة للفساد من قبيل التعزيزات ،وليس معنى ذلك أن هذا القانون شرعي من كل الوجوه
فإنه سكت عن جرائم قدر لها القرآن الكريم عقابا شديدا ،وعاقب على جرائم أخرى عقوبات ليست هي المقدرة
لها في الكتاب والسنة.
وكذلك ما قرره اإلسالم من جرائم يعاقب عليها ،قد قرر القانون الجنائي في هذا العصر عقوبات
على بعضها ،يبد أن الشريعة تختلف عن القوانين الوضعية القائمة ،وخصوصا في مصر من أربعة وجوه:
أولها :أن الشريعة أعم شموال في الجرائم المعاقب عليها ،فجريمة الزنى لها عقاب
مقرر في الشريعة من غير أن تحرض الشريعة على التجسس وما يشبهه ،وكذلك شرب الخمر،
وكذلك رمى المحصنات بالزنى وغير ذلك من الجرائم التي وضعت لها الشريعة عقابا في صورة محدودة
ضيقة.
ثانيها :أن عقوبات الشريعة قامت على أساس المساواة بين الجريمة والعقوبة ،والحظت أن تكون
العقوبات من جنس الجريمة ما أمكن ذلك ليكون أشفى الصدور المجنى عليه وذويه ولتكون العقوبة مماثلة
للجريمة ،ألن دفع االعتداء يكون بمثله.
رابعها :أن أكثر العقوبات في القوانين الحاضرة كانت بالحبس الذي يقطع المحبوس عن الحياة
واألحياء وعن كل عمل وفى ذلك تعطيل لقوى إنسانية ،وبث روح العداوة بين المجرمين والمجتمع إن لم
تكن قد نبتت وتنميتها إن كانت قد وضعت بذورها .وسيكون لذلك كله فضل بيان في موضعه من القول إن
شاء هللا تعالى ،ونضرع إليه جلت قدرته أن يمدنا بعونه.
األساس -بال شك -في اعتبار الفعل جريمة في نظر اإلسالم هو مخالفة أوامر الدين ،ذلك هو
األساس الواضح البين ،بيد أنه يالحظ أمران:
أولهما :أن أوامر اإلسالم كلية ال جزئية ،فالقرآن الكريم قد نص على عقوبة عدة جرائم تبلغ ستا:
هي البغي وقطع الطريق ،والسرقة والزني ،وقذف المحصنات ،والقصاص بكل شعبه .وزادت السنة عقوبة
شرب الخمر والردة وغيرهما ،وبقيت عقوبات الجرائم كثيرة لم يتناولها الكتاب أو السنة بالتفصيل وقد ترك
ذلك لولى األمر يقدر له عقوبات بما يتناسب مع المجرم ،وبما يكون به إصالح العامة ،وسيادة األمن بين
الكافة ،وذلك بالتعزير الذي هو األصل الثاني من أصول العقاب في اإلسالم .
ثانيهما :أنه ال بد من مالحظة أن هناك أصال جامعا تنتهى إليـه العقوبات اإلسالمية ،ومعنى كونه
جامعا أنه يرجع إليه في كل عقوبة تقرر بحكم التعزير؛ وذلك ألن التعزير تنفيذ ألمر ديني هو العمل على
إصالح العمل على إصالح الجماعة ومنع العبث والفساد ،فال بد أن يكون ثمة أساس ضابط لما يعتبر
جريمة وما ال يعتبر وذلك األساس ال بد أن يكون مشتقا من مصادر الشريعة ومواردها وغاياتها ومراميها
واتجاهاتها.
فالشريعة جاءت لحماية المصالح اإلنسانية المعتبرة ،التي هي جديرة بأن تسمى مصلحة.
وإذا كانت المنفعة أقرب المذاهب الخلقية لتكون أساسا للقوانين الوضعية.
على أن نتقيد بالمعنى األساسي في العقوبات اإلسالمية ،وهو المساواة بين العقوبة والجريمة ،وأن
تكون من جنسها ما أمكن تنفيذ ذلك.
كما يدعي بعض من الناس في هذه األيام أن المصلحة في إباحة الفائدة ،ومحاولة جعلها غبر داخلة
في عموم الربا ،وما يحسبه بعض الناس من أنه ال مصلحة في تقرير عقوبة الجلد على الزنى وعقوبة الجلد
على القذف.
إن المصلحة المعتبرة هي المصلحة الحقيقية ،وإن كانت أحيانا ،والمصالح التي الحظها اإلسالم
ترجع إلى أمور خمسة ،وهي ما فيه حفظ الدين وما فيه حفظ النفس وما فيه حفظ العقل ،وما فيه حفظ
النسل وما فيه حفظ المال؛ وذلك ألن الدنيا التي يعيش فيها اإلنسان تقوم على هذه المعاني التي ال تتوافر
الحياة اإلنسانية إال بها؛ وإن هللا سبحانه وتعالى قد كرم اإلنسان في هذا الوجود.
وإن هذا التكريم يقتضى توافر هذه األمور الخمسة ،والمحافظة عليها ،ومنع أي اعتداء عليها ،فالدين
ال بد منه ،ألن التدين خاصة اإلنسان من بين سائر الحيوان فال أن يسلم له اعتقاده ،وأن تتوافر له حرية
الرْش ُد ِم َن تبين الرشد من الغي فمن) 1 ،واعتبرت الفتنة ِ
ين َقد تََّبي َ
َّن ُّ الد ِ
االعتقاد ،كما قال تعالى( :ال إكراه في ِّ
َش َّد ِم َن اْلَقتل). 2
في الدين ،ومحاربة االعتقاد السليم أشد من القتل ،كما قال تعالى( :والفتنة أ َ
والمحافظة على النفس هي المحافظة على حق الحياة العزيزة الكريمة والمحافظة على النفس يدخل
في عمومها المحافظة على الحياة والمحافظة على األطراف ،والمحافظة على الكرامة اإلنسانية واالبتعاد بها
عن مواطن اإلهانة ومنع من يريد االعتداء على أي أمر يتعلق بها ،ومن ذلك حرية العمل وحرية الفكر،
وحرية اإلقامة ،وغير ذلك مما تعد الحرية فيه من مقومات الحياة اإلنسانية الحرة التي تزاول نشاطها في
دائرة المجتمع الفاضل ،من غير أن تعتدى على أحد.
والمحافظة على العقل -هي المحافظة عليه من أن تناله آفة تجعل صاحبه عبئا على المجتمع،
ومصدر شر وأذى للناس فالمحافظة على العقل تتجه إلى ثالث نواح:
الناحية األولى :أن يكون كل عضو من أعضاء المجتمع سليما يمده بعناصر الخير والنفع فإن عقل
كل إنسان يعيش في المجتمع ليس حقا خالصا له ،بل هو باعتباره لبنة في صرح ذلك المجتمع الفاضل -
يتولى سداد خلل فيه فمن حق المجتمع أن يالحظ سالمته
والناحية الثالثة :أن من يئوف عقله آفة من اآلفات يكون ش ار على الجماعة ،ينالها باألذى واالعتداء،
فكان من حق الشرع أن يعمل على المحافظة على عقله بسبب من نفسه وبسبب من غيره فإن ذلك يكون
وقاية من الشرور واآلثام ،والشرائع تعمل على الوقاية ،كما تعمل على العالج ،ومن أجل ذلك عاقبت
الشريعة من يشرب الخمر .
والمحافظة على النسل -هي المحافظة على النوع اإلنساني ،بحيث يكون كل ولد يتربى بين أبويه،
ويكون لكل ولد كـالـي يحـمـيه ،وإن ذلك اقتضى تنظيم الزواج ،واقتضى منع االعتداء على الحياة الزوجية،
واقتضى منع االعتداء على األعراض سواء أكان بالقذف أم كان بالفاحشة ،ومن أجل ذلك كانت عقوبة
الزنى وعقوبة القذف وغير ذلك العقوبات التي وضعت الجرائم فيها اعتداء على النسل بأي طريق من طرق
االعتداء.
والمحافظة على المال تكون بمنع االعتداء عليه بالسرقة أو الغصب أو نحوهما ،وبالعمل على تنميته
ووضعه في األيدي التي تصونه ،وتحفظه ،وتقوم على رعايته والقيام بحقه ،فالمال في أيدي اآلحاد قوة
لألمة كلها ولذا وجبت المحافظة عليه بتوزيعه بالقسطاس المستقيم ،وبالمحافظة على إنتاج المنتجين ،وتنمية
الموارد العامة ومنع أن يؤكل بين الناس بالباطل وبغير الحق الذي أحله هللا تعالى لعباده.
وإن هذه األمور الخمسة هي التي جاءت من أجلها كل الشرائع ،وبنيت على المحافظة عليها كل
العقوبات في اإلسالم ،ولقد قال في ذلك حجة اإلسالم الغزالي:
"إن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق ،وصالح الخلق في تحـصـيـل مقاصدهم ،لكنا نعنى
بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ومقصود الشرع من خمسة ،وهو أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم
وعقلهم ،ونسلهم ومالهم ،فكل ما حفظ هذه األصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه األصول ،فهو
مفسدة ،ودفعها مصلحة .وهذه األصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات ،فهي أقوى المراتب في
المصالح ،ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل ،وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته فإن هذا يفوت على
الخلق دينهم وقضاؤه بإيجاب القصاص ،إذ به حفظ النفوس ،وإيجاب حـد الشرب ،إذ به حفظ العقول التي
هي مالك التكليف وإيجاب حد الزنى ،إذ به حفظ النسب واألنساب ،وزجر الغصاب والسراق ،إذ به يحصل
حفظ األموال التي هي معايش الخلق وهم مضطرون إليها ،وتحريم تفويت هذه األمور الخمسة ،والزجر
عنها يستحيل أال تشتمل عليه ملة من الملل ،وشريعة من أريد بها إصالح الخلق ولذا لم تختلف الشرائع
1
في تحريم الكفر والقتل الشرائع والزنى والسرقة وشرب المسكر".
ونرى من هذا أن اعتبار الفعل جريمة في نظر الغزالي أساسه االعتداء على هذه المصالح الخمسة
التي هي في أصلها ضرورات إنسانية ،وهذا متفق عليه بين جماهير المسلمين ،بل إن المحافظة على هذه
األمور تعد من البديهيات العقلية التي ال تختلف فيها العقول ،وال تختلف فيها األديان وهى كأصول األخالق
ال تختلف فيها البيئات كالصدق والعدالة ،فإنهما تتفق العقول على كونهما ،فضيلة ومخالفتهما رذيلة ،وهما
في ذاتهما يرجعان إلى المحافظة على هذه األصول الخمسة.
فالمحافظة عليها أمر قطعي لتضافر النصوص عليها ،وأصلها ضروري ألنها ال يمكن بقاء اإلنسان
بوصف كونه حيا له كرامة اإلنسان إال بالمحافظة على هذه األمور.
بيد أنه عند النظر إلى الجزئيات من بيد أنه عند النظر إلى الجزئيات من حيث تحقق هذه المصالح
بالنسبة لشخص معين ،أو لطائفة معينة قد يحصل تعارض فقد يكون ما هو مصلحة مؤكدة لبعض
األشخاص مضرة مؤكدة آلخرين بل قد يكون مضرة مؤكدة لهذا الشخص نفسه ،فبقاء على قدمين اثنتين
مصلحة مؤكدة ،له ولكن إذا أصابت إحدى رجليه أكلة المصلحة تنقلب مضرة ويكون من مصلحة الجسم
كله إزالة ذلك العضو ،وإن مثل الرجل أو الذراع في الجسم كمثل الواحد في الجماعة ،من مصلحة الجماعة
المؤكدة سالمة كل واحد من أعضائها وبقاؤه فيها ولكن إذا فسد ذلك الفرد ،وأصبحت سالمة المجتمع في
قطعه يكون من الواجب قطعه وتكون المصلحة التي أوجبت بقاءه في حال التي توجب فناءه في حال آفته.
وبهذا يتبين أنه قد تتنازع المصالح والمضار ،ويكون الفعل الواحد أحيانا نفعا ،وأحيانا يكون ضر ار
وعند تنازع النفع والضرر يقدم العمل الذي يكون أكثر نفعا على ،غيره ،والعبرة تكون بمصلحة أكبر عدد
ممكن وإن الضرر الكثير يدفع بالضرر القليل وإن دفع المضار مقدم على جلب المصالح ألن دفع المضار
في ذاته هو مصلحة السالمة.
أن مصالح الجماعة نسبية إضافية ال حقيقية ذاتية ،عند النظر لكل فعل بمفرده وإن كانت ذاتية
قطعية في كليتها في جملة المجموع.
وعليه الشريعة اإلسالمية الحظت في الحكم على فعل بأنه جريمة أن يكون فيه اعتداء على المصالح
المقررة الثابتة بحكم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ،وأن العقوبة على الجرائم لوحظ فيها أن تكون حامية
لهذه المصالح المقررة الثابتة وأن العدالة الحقيقية الممكنة في هذه الدنيا تتحقق في العقوبات اإلسالمية،
وأنها بهذا تنتهي إلى أقصى ما وصل إليه التفكير في علم العقاب ،وهو أن يحقق العدالة مع حماية المصالح
االجتماعية الثابتة وفى الحقيقة أن الشريعة الغراء قد قررت ذلك من قبل القوانين الحاضرة.
وقد يقول قائل :إن الشريعة بال شك في عقوبتها تحمى المجتمع من الضارة .ولكن يالحظ أم ارن:
أولهما :أن العقوبات بعضها غليظ شديد ال يتناسب مع الجريمة في ذاتها ،كقطع اليد في السرقة،
وكالجلد مائة جلدة في الزني ،والجلد ثمانين في القذف ،ولو كان القذف لم يكن غاية ،بل كان في شهادة
بالزنى التي لم تستكمل النصاب .فإذا كانوا ثالثة شهود ،ولم يكن ،رابع جلد ،الثالثة ،مع أن قصدهم أداء
الشهادة .وإن هذا قد يسوغ لبعض الناس أن يقول :إن أحكام الشريعة الغراء غير متناسبة ألنها ال تساوى
الجريمة ،وإن كانت مع ذلك نافعة رادعة بال شك ،فجانب الردع فيها أوضح من جانب التناسب بين الجريمة
والعقاب.
ثانيهما :أنها لم تالحظ المجرم ،ولم تعن بالمالبسات التي أحاطت به ،حتى حملته على الجريمة
حمال ،كما انتهى إليه علم النفس الجنائي ،حتى إنه ليعتبر المجرم مريضا ،يجب عالجه ،وبالتالي يجب أن
يالحظ ذلك عند تقرير العقوبة عليه ،ولم نجد الفقهاء المسلمين قد تعرضوا لذلك ،وال نجد الكتاب والسنة قد
أشا ار إليه ،ودراسة المجرم ،والعمل على عالجه هو بال شك أمر أساسي لعلم العقاب ،ويجب أن يكون
القاضي عادل بالنسبة للمريض حامال الدواء الشافي ،ال أن يكون ممسكا بسوط الجالد ،ويرسله فيكوى
الظهور كيا ،فإن ذلك يزيد سقيم النفس سقاما.
هذان اعتراضان يذكرهما بعض الذين يريدون أن يتخذوا تكأة للتحلل من أحكام الفقه اإلسالمي ،أو
بعبارة أدق لتبرير التحلل من أحكامه ،وإنا ندفع االعتراضين بعدم اإليراد ،فالشريعة الحظت نفسية المجرم،
ولكنها مع ذلك الحظت نفسية المجنى عليه ،وسبين ذلك عندما نتكلم على المجرم ،ومقدار تبعاته في
األعمال المنسوبة إليه ،و مقدار قواه النفسية والعقلية في تحمل هذه التبعات.
ولنتكلم اآلن إجماال في االعتراض األول ،وقد قررنا أنا ندفعه بعدم اإليراد ،وذلك ألننا نمنع أن تكون
العقوبة اإلسالمية غير عادلة أو غير متكافئة مع الجريمة ،والنظر السطحي غير العميق هو الذي يفرض
أنها أكثر أو أشد ونعترف بأنها غليظة ولكنها .عادلة ومصلحة ،وتتفق مع منافع الناس وإن النظر العميق
ال يعتبر عقوبة السرقة غير متكافئة مع الجريمة ،فليست الجريمة في السرقة هي الجريمة ،فليست الجريمة
في السرقة هي ضياع عشرة دراهم ،أو ما يساوى مجنا أو وزن نواة من ذهب أو ربع مثقال دينار ،كـمـا من
ظواهر العبارات الفقهية ،ليست الجريمة هي انتهاب هذه المقادير ،أو أكثر منها في حدود مقاييسها ،إنما
الجريمة اآلثمة هي إزعاج اآلمنين وتهديد المطمئنين ،إن روع بيت بسرقة فكم من السكـ أفزع ،وكم من
الجيران أزعج ،وكم من الناس يعيشون في بلبال مستمر ،ويتكلفون من المال في تحصين مساكنهم ،وإعداد
المفاتيح والمزاليج لحماية أموالهم ،وقد يكون النساء والذرية ،الذرية ،فهذه العقوبة الغليظة السارق مسلحا
فيأخذون األهبة ،وتضطرب منهم حقا ،هي جزاء وفاق لتلك الجريمة المفزعة التي ترتكب في جنح الليل
البهيم ،أو في النهار على خفية من األعين وكل جريمة من هذا الصنف يستمر الناس منها في فزع أمدا
غير قصير ،ولو كانت العقوبة لوجب قطع يد الغاصب أيضا ولكن الشارع قطع يد السارق وعزر الغاصب،
ولو كان ما اغتصبه قناطير مقنطرة من الذهب والفضة» وألن الغاصب إن روع فإنه يروع ،فردا أما السارق
فيروع حيا أو بلدا فال يطمئنون حيث يكون االطمئنان واجبا وال يستريحون حيث تجب الراحة.
وكذلك الزاني – عقوبته عادلة مع جريمته ،فهو يفسد النسل ،ويحمل خبائث األمراض إلى البراء إن
انتشر هذا الوباء ،وتغشى الجماعة اإلسالمية ،الفاضلة ،فإن األجسام تسكنها األمراض الخبيثة والنسل
يجيء مئوفا ،شائها واألبناء ال يعرفون آباءهم ،واآلباء يشكون في ذرياتهم ،وينحل المجتمع وتنحل معه
األسرة ،واألم وهي التي تحمل.
وهذا القذف الذي يرمى فيه الرجل عفيفا تقيا أو عفيفة حصانا رزانا بالزنى ،هو جريمة تتشعب منها
عدة جرائم ،فإن المرأة تفقد اعتبارها في المجتمع العفيف ،وإذا فقدت اعتبارها هانت في نفسها وفى أعين
ذويها وأعين الناس ،وسمعة المرأة هي الزاد الروحي الذى ال يغنى عنه بالنسبة لها شيء في هذه الدنيا،
وكذلك الرجل ،وإن كانت الجناية عليه أقل من الجناية على المرأة ،ووراء القذف تشيع الفاحشة في الذين
آمنوا ،ألنه إذا اتهم بالزنى األبرياء الفضالء سهل على من ليس لهم مثل اعتبارهم أن يرتكبوا ما يرمى به
هؤالء ،ولقد قال تعالى في شأن الذين تحدثوا أم المؤمنين السيدة عائشة رضى هللا عنهاِ :إ َّن َّالذين يحبون
يم (في الدنيا واآلخرة وهللا يعلم وأنتم ال تعلمون ) .1والقذف اح َشةُ ِفي َّال ِذين آم ُنوا َلهم ع َذ ِ
أن تشيع اْلَف ِ
اب أَل ٌ
َ َ ُ َ ٌ َ
ذاته من رفث القول وال ينطق به كامل ،وال يروج في مجتمع فاضل .
إن الجرائم في أصل معناها اعتداء على المصالح التي اعتبرها الشارع مصالح معتبرة ،وعرف ذلك
بنص قرآني ،أو حديث نبوي شريف ،أو قياس ،أو استحسان أو كانت في أصل معناها تنتهى إلى أمر فيه
ضرر بمصلحة ،وتقرر أن المصالح المعتبرة في اإلسالم هي ما يتعلق بحفظ النفس وما يتعلق بحفظ المال
وما يتعلق بحفظ النسل وما يتعلق بحفظ العقل وما يتعلق بحفظ الدين.
وعلى ذلك تنقسم الجرائم من هذه الناحية إلى خمسة أقسام :جرائم فيها اعتداء على النفس .وجرائم
فيها اعتداء على األموال وجرائم فيها اعتداء على النسل ،وجرائم فيها اعتداء على العقل وجرائم فيها اعتداء
على الدين .
وإن كل نوع من هذه الجرائم يختلف قوة وضعفا باختالف قوة االعتداء فيه على موضوعه من
المصالح ويصح أن نقول :إن كل نوع من هذه المصالح التي أوجب الشارع المحافظة عليها ينقسم إلى
مصالح ضرورية ال يمكن قيام موضوع األمر من غير هذه المصلحة ،فما يكون به حفظ الحياة يكون
ضروريا وما يكون به حفظ الحياة من غير ضيق وحرج يكون حاجيا ،وما يكون به حفظ الحياة غير مهينة
وال مشينة يسمى تحسينيا.
وبذلك نستطيع أن نقسم الجرائم ذلك التقسيم من حيث مراتب قوة المصلحة ،فاالعتداء على أمر
ضروري للحياة كاالعتداء على النفس بالقتل ،أو قطع األطراف أقوى الجرائم في هذا الباب وما يكون اعتداء
على أمر تتحقق به الحياة ،ولكن تكون في ضيق كاالعتداء على حرية الفكر وال أري فإنه يكون دون األول،
وما يكون فيه اعتداء على الكرامة ،ويشين الشخص يكون من قبيل الثالث وبهذا تتفاوت جرائم االعتداء
على النفس في قوة اإلجرام ومقداره ،فالقتل أقوى من قطع األطراف ،وقطع األطراف أقوى من الضرب وأقوى
من منع حرية القول والعمل بالحبس ونحو ذلك ،فإن األول يمس ضروريا من ضروريات النفس واآلخر
يمس حاجيا من حاجياتها ،وما يشين كالدعاوى الباطلة والسب ونحو ذلك مما ال يمس الحياة في أصلها،
وال حاجيا من حاجياتها ،ولكن يمس كمالها ،ويشينها فإنه دون المرتبتين السالفتين.
وإن ترتيب الجرائم بحسب ما تعتدى عليه ،فما يبلغ تفويت أمر مقصود لذاته يماثل الضرورة هو
أعلى المراتب في اإلجرام وله أشد العقوبات ،ويليه ما يكون اعتداء على أمر غير مقصود لذاته في باب
المصالح ،وهذا يكون اعتداء على حاجة ،وما يكون اعتداء على أمر يمس الكرامة فإنه يكون في مرتبة
التحسين ،ولكل درجة من العقاب في نظر الشارع اإلسالمي.
الجرائم في الفقه اإلسالمي متنوعة ،اإلسالمي متنوعة ،وهي لذلك محل لتقسيمات متعددة تختلف
باختالف األسس التي تقوم عليها .وهذه األسس مستمدة من أركان الجريمة ،فثمة تقسيمات مستمدة من
ركن عدم المشروعية وأخرى مستمدة من ماديات الجريمة أو مستمدة من معنوياتها .ونرى أن نلحق بدراسة
كل ركن التقسيمات التي تتصل به.
لكن ثمة تقسيما للجرائم يعد التقسيم األساسي لها ،إذ ينبني عليه اختالف جوهري في األنواع التي
ترد إليها الجرائم وفقا لهذا التقسيم بل إن هذا التقسيم يعتبر أساس دراسة النظام الجنائي اإلسالمي.
هذا التقسيم يقوم على التمييز بين جرائم ،الحدود وجرائم القصاص وجرائم الدية ،وجرائم التعزير وهذا
التقسيم يقابله تقسيم مماثل للعقوبات فثمة عقوبات الحدود أو القصاص أو الدية أو التعزير
أوال :جرائم الحدود
• تعريفها:
ويعني ذلك أن ضابط اعتبار الجريمة من جرائم الحدود هو نوع العقوبة المقررة لها ،وكونها توصف
بأنها حد.
ومعنى أنه عقوبة مقدرة أنها ذات حد واحد ثابت ،تنتفي بالنسبة لها "السلطة التقديرية" للقاضي.
والثاني :أن الحد يتعلق به حق هللا تعالى ،سواء كان حقا خالصا له ،أو كان للعبد حق فيه كذلك.
ولكن الحدود تختلف فيما بينها من حيث مدى اتصالها بحق هللا تعالى :فبعضها حق خالص له
سبحانه ،وبعضها حق له وحق للعبد كذلك.
ويعني اعتبار هذه الحدود حقا خالصا هللا تعالى ،ولذلك لم يجعل للعبد المطالبة بالحد.
الحدود التي هي حق هللا والعبد .ومن األدلة على أن بعض هذه الحدود حق خالص هللا تعالى أن
حد الزنى روعي في تقريره ،وجعله بالشدة التي وضعه هللا فيها ،أن جريمة الزنى اعتداء على العائلة
اإلسالمية ،وهي نواة المجتمع اإلسالمي .وأن هذه الجريمة اعتداء على نقاء األنساب ،وهو حق للمجتمع
اإلسالمي في أن يكون جميع أبنائه ذوي نسب شرعي.
وعلة تجريم الزنا كذلك المحافظة على الفضيلة وصيانة األخالق ،والحث على الزواج ،وتأسيس
األسرة اإلسالمية الصالحة .وقد أكد هذه المعاني رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في قوله "اتقوا هللا في
النساء فإنهن عوان عندكم ،استحللتم فروجهن بكلمة هللا ويعني ذلك أن الرسول صلى هللا عليه وسلم وصف
الزواج بأنه "كلمة هللا" ،فإذا كان الزنى اعتداء على كلمة هللا ،فإن مؤدى ذلك بالضرورة أنه اعتداء على حق
خالص هللا تعالى.
ومن الحدان اللذان يجتمع فيهما حق هللا تعالى وحق العبد هما حدا السرقة والقذف.
فحد السرقة يتعلق به حق هللا تعالى ذلك أن السرقة اعتداء على حق المجتمع في أن تصان ملكية
األموال ألصحابها ،ويستقر في المجتمع احترام الملكية لمن اكتسبه ،ويكون من شأن ذلك الحث على كسب
المال ،وبذل النشاط االقتصادي ،األمر الذي يؤدي إلى ازدهار المجتمع وتنميته .والسرقة كذلك اعتداء على
حق العبد ،باعتبارها تقع على مال مملوك لشخص معين ،ومن ثم كان جانب هذا الشخص موضع اعتبار
في تحديد األحكام التي تخضع لها .وقد قال بعض الفقهاء إن حق العبد ثابت في السرقة في االبتداء ،وإن
كان حق هللا تعالى ثابتا وحده في االنتهاء" .1
والقذف يتعلق به حق هللا وحق العبد ،معا فالمجني عليه وهو الذي قذفه الجاني بالزنى هو الذي
يدعي به ،فإذا ادعي ثبت لولي األمر ،أي السلطات العامة ،السير في الخصومة ،ولم يكن للمجني عليه
العفو عن الجاني ،وإسقاط الحد أو إيقاف تنفيذه ،وذلك تطبيقا لقول الرسول عليه الصالة والسالم إذا بلغت
2
الحدود السلطان فلعن هللا الشافع والمشفع".
وكان الحق خالصا هلل تعالي فال يشترط االدعاء به لتوقيع الحد ،ألنه ال يوجد مجني عليه من األفراد
له صفة االدعاء .وبناء على ذلك ،كان الشاهد مدعيا ،ودعواه تسمي دعوى" حسبة .ومؤدى ذلك أن الشهادة
ويروي أن جماعة شكوا لصا ليرفعوا أمره إلى عثمان رضي هللا عنه فتلقاهم الزبير فشفع فيه ،فقالوا إذا األمر إلى عثمان 2
فاشفع فيه فقال :إذا بلغت الحدود السلطان فلعن هللا الشافع والمشفع" السياسة الشرعية البن تيمية ص .29
بالجريمة تسمع ولو لم تسبقها دعوى ،وذلك ء من القواعد العامة التي تتطلب قيام االدعاء قبل االستماع
إلى الشهادة التي تعتبر إحدى إجراءات الدعوى. 1
2
وتسمي الشهادة في الحالتين "شهادة حسبة وهذه الشهادة تعد في ذاتها "دعوى".
أما إذا كان الحد حقا هللا والعبد :فيشترط االدعاء في االبتداء ،أي يشترط أن يتقدم المجني عليه ويقيم
الدعوى ،ويطالب بتوقيع الحد على مرتكب الجريمة .القاعدة العامة من حيث اشتراط سبق االدعاء لقيام
الدعوى في الخصومة ومباشرة إجراءاتها.
األصل الذي قررته الشريعة اإلسالمية في شأن إثبات جرائم ،الحدود ،أن اإلثبات فيها مقيد ،وإنما
تقبل األدلة التي أجازتها الشريعة فحسب .
(أ) الزنى :ال يثبت الزنى ،وال يوقع الحد المقرر له إال بشهادة أربعة شهود ،أو باإلقرار.
وه ْم هذه القاعدة في اإلثبات سندها قول هللا تعالي «و َّال ِذين يرمو َن ثُ َّم َلم يأْتُوا ِبأَربع ِة ُشه َداء َف ِ
اجل ُد ُ
ْ ََْ َ ْ َ َ َ َْ ُ
اسُقون» ،3وقوله عز وجل والالتي يأتين الفاحشة من ثَم ِانين جْلدة وال تَْقبُلوا َلهم َشهادة أَبداً وأُوَلِئك هم اْلَف ِ
َ ُ ْ َ َ ً َ َ َ ُُ َ َ َ ًَ
نسائكم ،فاستشهدوا عليهن أربعة منكم" 4وقوله تعالي «َلوَال َجاءوا َعَل ْي ِه ِبأ َْرَب َع ِة َفِإ ْذ َلم َيأْتُوا ِب ُّ
الش َه َداء َفأُوَلِئ َك ْ ْ
عند هللاِ ُه ُم اْل َك ِاذُبو َن» . 5
َ
ويثبت الزني كذلك بإقرار الزاني ،أي باعترافه الصريح بالفعل الذي به جريمته.
وقد اختلف الفقهاء في عدد مرات اإلقرار الذي يعد دليل إثبات في الزنى فالحنفية والحنابلة يشترطون
تكرار اإلقرار أربع مرات ،وإص ارره على إق ارره بعد مراجعته عقب كل إقرار.
يقول اإلمام الكاساني في ذلك ال خالف في أن الخصومة ليست بشرط في حد الزنا أو الشرب ،ألنه حق هللا تعالي 1
والخصومة ليست بشرط في الحدود الخالصة هلل تعالي :ألنها تقام حسبة هللا تعالي ،فال يتوقف ظهورها علي دعوى العبد:
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع جـ 7ص.
اإلمام الشيخ أبو زهرة ،صحة .60 2
أما الشافعية والمالكية ،فيرون كفاية اإلقرار مرة واحدة ،ويحتجون بأن ال وجه لقياس اإلقرار على
الشهادة ،الختالفهما من حيث الطبيعة .ويخلصون من ذلك أن التكرار غير مشترط ولكنه يستحسن.
واختلف الفقهاء كذلك فيما إذا كان يشترط تكرار اإلقرار أم ال يشترط ذلك ،فقال فريق من الحنابلة
بتك ارره مرتين بمقدار الشهادة ،وقال اإلمام أبو حنيفة بعدم اشتراطه.
(ج) والقذف يثبت باإلقرار بعد الدعوى أو شهادة شاهدين ،وال يحسب المجني عليه -بدعواه -من
بين الشهود وال يشترط -في إجماع الفقهاء -تكرار اإلقرار.
✓ المذهب األول :هو مذهب األئمة مالك والشافعي وأحمد ،وهو يرون أنه ال تسقط بالتقادم إال
جرائم التعزيز وعقوبات التعزيز .أما جرائم الحدود والقصاص والدية فليس لولي األمر حق
العفو عنها ،كما أنها ال يوجد في قواعد الشريعة ما يجيز سقوطها بمضي مدة معينة أي
بالتقادم.
✓ المذهب الثاني :هو مذهب اإلمام أبي حنيفة ،وهو يتفق مع المذهب األول في جواز التقادم
في جرائم وعقوبات التعزيز .كما يتفق معه في عدم جواز التقادم في جرائم وعقوبات القصاص
والدية ولكنه يختلف مع المذهب األول من حيث أنه يجيز التقادم في جرائم الحدود ما عدا
القذف.
وقد اختلف الفقهاء في تحديد مدة التقادم فرأى البعض أنها ستة أشهر ورأى البعض اآلخر أنها أنها
شهر أما أبو حنيفة فلم يحدد للتقادم مدة وإنما يترك تقديرها لولي األمر.1
اإلمام محمد أبو زهرة ص 78وما بعدها؛ واألستاذ عبد القادر عودة التشريع الجنائي اإلسالمي مقارناً بالقانون الوضعي جـ 1
وجرائم القصاص هي ائم التي قرر الشارع الحكيم القصاص عقوبة لها .وهذه الجرائم هي جرائم الدم
العمدية ،أي جرائم االعتداء على الحياة ،واالعتداء على سالمة الجسم.
وأخص ما يميز القصاص أنه يفترض أن ينزل بالجاني من األذى مثل ما أنزله بالمجني عليه :فإذا
كانت الجريمة قتال قتل الجاني ،وإذا كانت إيذاء بدنيا ،أنزل بالجاني من األذى مثل ما أنزله بالمجني عليه.
اعتَ ُدوْا َعَل ْي ِه ِب ِم ْثل ما اعتََدى َعَل ْي ُك ْم َواتَُّقوا هللا". 2 "م ِن ْ
اعتََدى َعَل ْي ُك ْم َف ْ وقال تعالى في تقرير القصاص َ
القص ِ
اص ِ ِ 3 ِ ِ ِ وقال كذلك "يا أَي َّ ِ
اص في القتلى" .وقال عز من قائل "وَل ُك ْم في َ ص ُآمُنوا َكت َب َعَل ْي ُك ْم الق َ
ين َُّها الذ َ
َ َ
لعلكم تتقون". 4
ْ َح َياةٌ َيا أُولِي األلباب
وقال سبحانه في تقرير حصانة األنفس وحرمتها "وال تقتلوا النفس التي َح َّرَم هللاُ ِإال ِباْل َح ِِّق" ،5وقرر
فقد َج َعلنا ِ
(و َمن قتل مظلوما ْ القصاص لولي المقتول ،وألزمه أال يجاوز حدود ه من قصاص ،فقال تعالى َ
نصورا).6
كان َم ُ
إنه َ َلو ِّلي ِه ُسْل َ
طاناً فال ُيسرف في القتل ُ
وبين سبحانه جزاء القاتل في اآلخرة ،فقال «ومن يقتل مؤ ِمناً متَع ِمداً َفج َزآؤه جهنم خالدا ِفيها و َغ ِ
ض َب َ َ ُ َ ِّ َ ُ ُ َ َ ُ ََ َ ُ
7
أع َّد َل ُه َع َذاباً َع ِظيما ». ِ
هللا َعَل ْيه وَل َع َن ُه و َ
• علة القصاص:
وثمة علة ثانية لتقرير القصاص في جرائم الدم العمدية ،هي أن عقاب هذه رائم ال يجوز -في تقدير
الشارع الحكيم -أن يختلف من زمان إلى آخر ،أو من مكان إلى آخر ،وبصفة خاصة فإنه ال يجوز أن
يختلف باختالف ظروف المجني عليه ،وعلى األخص مركزه االجتماعي .وبناء على ذلك ،فإن هذه الجرائم
ليست من الجرائم التي يختلف ضررها أو خطرها االجتماعي ،وفقا لسياسة تشريعية معينة ،ومن ثم تعين
أن يكون عقابها محددا ،وفق قاعدة معينة ال يمسها تعديل.
إن أهمية تعلق حق هللا تعالى بالقصاص ،أنه سبحانه استأثر بتقريره وتحديد مقداره على نحو أمر،
ولم يترك ذلك لولي االمر أو القاضي.
ويترتب على تعلق حق هللا تعالى بالقصاص كذلك أنه إذا عفى المجني عليه أو ولي دمه عن حقه
في القصاص ،كان لولي األمر مع ذلك أن ينزل العقوبة بالجاني تعزيزا .وسند التعزيز ،على الرغم من
العفو ،هو أن العفو لم ينل حق هللا تعالى في العقاب ،وبناء على ذلك تحل عقوبة التعزيز محل عقوبة
القصاص.
إن أهمية تعلق حق العبد بالقصاص ،أن إقامة دعوى القصاص ال يكون إال بناء على مطالبة المجني
عليه.
ويترتب على تعلق حق العبد بالقصاص كذلك أن للمجني عليه تنفيذ القصاص بنفسه.
أوضح هللا تعالى دور العفو في القصاص في قوله" :يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في
القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد واالنثى باألنثى فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بمعروف وأداء إليه
بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ولكم في القصاص حياة يا أولي
1
االلباب لعلكم تتقون".
• تعريف الدية
الدية هي مال يؤديه الجاني أو عائلته أو بيت المال إلى المجني عليه أو أوليائه.
وجرائم الدية هي كل جريمة أوجب الشارع الدية عقوبة لها .والدية عقوبة مالية ،بل إنها تجمع بين
العقوبة والتعويض ،ولذلك ال يحق للمجني عليه الذي صل على الدية أن يطالب بتعويض يضاف إليها.
أهم هذه النصوص هي قول هللا تعالى" :وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إال حطئا ومن قتل مؤمنا
2
خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إال أن يصدقوا".
وقد جعل هللا تعالى للقتل الخطأ جزاءين :تحرير رقبة مؤمنة ،والدية وتحرير الرقبة المؤمنة كفارة.
ويبرز الطابع االجتماعي لجريمة القتل الخطأ ،وما يترتب عليها من ضرر اجتماعي ،يستوجب
3
التعويض االجتماعي عنه.
المجال األساسي للدية ،هو جرائم الدم غير العمدية ،فيدخل في ذلك القتل الخطأ والجرح الخطأ (أي
اإلصابة الخطأ) ،القتل شبه العمد (أي الجرح او الضرب المفضي إلى الموت).
وهي في األصل تستوجب القصاص ،إذا انتفى أحد شروط القصاص ،إذ يمتنع توقيعه وتحل الدية
محله.
وأهم حاالت انتفاء شروط القصاص أن يعفو المجني عليه عن الجاني نظير مال يسلمه إليه ،إذ
يعتبر هذا المال دية تحل محل القصاص.
ومن هذه الحاالت كذلك أن تستحيل المماثلة بين أذى والجريمة والقصاص.
وفي عديد من الحاالت ال يتاح تحقيق المماثلة بين الجرح والقصاص ،فيكون مؤدى ذلك أن يتحول
القصاص إلى الدية.
إذا صدرت الجناية على النفس أو األطراف من شخص غير أهل للتكليف ،كما لو كان صغي ار أو
مجنونا أو سقط عنه العقاب لسبب شرعي ،فإن القصاص ال يجب عليه ،وإنما تحل الدية محله ،وتجب لدية
في ماله ،فإذا لم يكن له مال وجبت على عصبته ،فإذا لم يكن لهم مال وجبت الدية على بيت المال،
وتسمى الجريمة في هذه الحالة بأنها "تجرى مجرى الخطأ".
يتضح الطابع االجتماعي للجريمة المستوجبة الدية في تقرير الشارع لها الكفارة إلى جانب الدية ،ثم
في كونها مقدرة على وجه تعبر فيه مقدار الضرر االجتماعي .
ويترتب على تعلق الدية بحق العبد أنها ال تجب إال بالمطالبة؛ وأنه يجوز العفو عنها في أية حالة
كان عليها االدعاء؛ وأن حصيلتها تؤول إلى المجني عليه أو إلى ولي دمه.
• إضافة التعزير إلى الدية:
ولذلك تبدو الدية غير كافية لمواجهة خطورة الجاني وخطورة جريمته .لذلك قد الفقهاء جواز أن
تضاف إلى الدية عقوبة تعزيرية ،بحيث نستطيع في النهاية القول بأن الدية والتعزير معاً يعادالن -من
حيث الشدة – القصاص.
واألصل في تقرير التعزير -إضافة إلى الدية -أن يكون ذلك سلطة القاضي يكون من سلطته
كذلك تحديد مقدار العقوبة التعزيرية التي تضاف إلى الدية.
• تعريفها:
1
التعزير -في اصطالح الفقهاء -هو "تأديب على ذنوب لم تشرع فيها حدود.
وهو العقوبة" التي يقررها ولي األمر أو القاضي من أجل معصية لم يرد في شأنها حد أو قصاص
أو دية.
التعزير عقوبة لم تحددها النصوص الشرعية ،على نحو ما قررت الحدود والقصاص والدية ،وأن
جرائم التعزير هي جرائم لم يقرر لها الشارع حدا أو قصاصا أو دية .وإنما يعاقب عليها بعقوبة يقدرها
القاضي أو يحددها ولي األمر تحديداً مجرداً.
األستاذ عبد القادر عودة ،التشريع الجنائي اإلسالمي مقارنا بالقانون الوضعي الجزء األول سنة ،1959رقم ،477صفحة 1
.685
✓ إما أن يحددها القاضي ،إذا تبين له أن الفعل المسند إلى المتهم يعتبر "معصية شرعا ،فيحدد
له العقوبة التي يقدر مالءمتها له ولظروف المتهم - ،وفقا لضوابط شرعية -من بين قائمة
من ،وال يكون محال لتطبيق مبدأ "ال جريمة وال عقوبة إال بناء على نص".ذ
✓ وإما أن يحددها ولي األمر في نصوص عامة مجردة ،بحيث يبين في كل نص الجريمة التي
يعاقب عليها ،ويحدد أركانها ،ويبين عقوبتها .ويعني ذلك إعمال مبدأ "ال جريمة وال عقوبة
إال بناء على نص".
كما توجد مذاهب وسطى بين هذين المذهبين :فقد يفرغ القانون نصوص التجريم في عبارات واسعة
تسمح للقاضي بسلطة تفسير متسعة ،تتيح له أن يستخلص أركان كل جريمة ،وقد يضع القانون نصوص
تجريم متضمنة تحديدا دقيقا ألركان الجريمة ،ولكنه في ذات الوقت يسمح للقاضي بالقياس عليها.
• الضابط في التعزير:
قدمنا أن ولي األمر والقاضي ال يتمتعان بسلطة مطلقة في مجال التعزير ،إذ لو أطلقت هذه السلطة
لقام االحتمال بسوء استعمالها ،وخشي أن تكون بابا للعسف واالستبداد ،األمر الذي ال يتفق مع مقاصد
الشريعة.
والقيود التي ترد على سلطة التعزير ذات شقين قيود تتعلق بالفعل الذي يستوجب التعزير؛ وقيود
تتصل بتحديد ما يصلح أن يكون عقوبة تعزيرية.
يشترط في الفعل الذي يستوجب التعزير ،أي تقوم به "الجريمة التعزيرية" أن
يتوافر فيه شرطان :أن يكون "معصية ،وأن يكون صالحا لإلثبات قضاء.
( أ ) اشتراط أن يكون الفعل معصية :يشترط أن يكون الفعل الذي توقع من أجله العقوبة التعزيرية
"معصية ،ألنه إذا لم يكن كذلك لكان مجاال مباحا لألفراد ،يحق لهم إتيانه دون أن يحاسبوا على ذلك.
ويراد بالمعصية عصيان أوامر هللا تعالى ونواهيه .وهذه األوامر والنواهي قد ترد في نص شرعي من
الكتاب أو السنة ،وقد تستخلص من روح الشريعة ومبادئها العامة.
والمعصية قد تتمثل في فعل إيجابي ،فتكون إخالال بنهي ،وقد تتمثل في امتناع فتكون إخالال بأمر.
وقد تكون المعصية عدوانا على حق لفرد ،وقد تكون عدوانا على حق هللا تعالى.
(ب) اشتراط أن يكون الفعل صالحاً لإلثبات قضاء :يشترط أن يكون الفعل الذي تقوم به الجريمة
التعزيرية صالحا ألن يقوم الدليل على ارتكابه وما أحاط به من ظروف ومالبسات أمام القاضي .ويتعين
أن يكون ذلك ممكنا بأسلوب ال تنتهك به الحرمات أو يعتدى فيه على حقوق اإلنسان أو تمتهن فيه الكرامة
البشرية للمتهم.
األول :أال يكون سبيل الكشف عن الجريمة هو التجسس على الحياة الخاصة لألفراد ،ذلك أن
ض ُكم َب ْعضاً".
بع ُ
التجسس منهي عنه في قول هللا تعالى َ"وال تَ َج َّس ُسوا َوَال َي ْعتب ْ
والثاني :أن يكون الدليل الذي يعتمد عليه القاضي في اإلدانة دليال قطعيا جازما .وبناء على ذلك،
ال يجوز االعتماد على محض شبهات أو دالئل ،أو مجرد ظنون ،فقد نهي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم
عن االحتكام إلى الظنون وما يتفرع عنها من شبهات ،فقال إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وال
تجسسوا ،وال يغتب بعضكم بعضا ،وكونوا عباد هللا إخوانا".
إذا وضع ولي األمر قائمة بالجرائم التعزيرية ،كان له أن يقرر في شأنها السياسة العقابية التي
يرتضيها في ضوء مصلحة مجتمعه ،وتقديره العتبارات العدالة والردع عن األفعال الضارة بالمجتمع ،وإذا
خول القاضي سلطة التجريم والعقاب كانت له سلطة اختيار العقوبة التي يراها مالئمة لظروف الجريمة
والمتهم.
ولكن هذه السلطة -في صورتها التشريعية والقضائية -لها حدودها .وتتمثل هذه الحدود في صورة
ضوابط يسترشد بها الشارع والقاضي في تقرير هذه العقوبات.
أوال :يتعين أن تكون العقوبات التعزيزية أقل جسامة من عقوبات الحدود ،وذلك ألن الجرائم التعزيزية
أقل جسامة من جرائم الحدود.
ثانيا :إذا كانت الجريمة التعزيزية تقوم بفعل هو من جنس الفعل المقرر من أجله الحد ،ولكنه أقل
منه جسامة ،أو لم تتوافر بالنسبة له شروط الحد ،فإنه يتعين أن تكون عقوبته أقل من عقوبة الحد.
• مجال التعزير:
المجال األساسي للتعزير هو -على ما تقدم -حيث ترتكب معصية لم يقرر من أجلها حد أو
قصاص أو دية .ولكن مجال التعزير ال يقتصر على ذلك.
فإذا ارتكبت جريمة يقرر لها الشارع حدا ،وثبت أن الحد غير كاف المواجهة جسامة الجريمة أو إثم
الجاني جاز أن يضاف إليه التعزير ،كي يحقق الحد الجزاء الرادع للجريمة .ومثال ذلك إضافة التغريب إلى
الحد في الزنا.
وإذا ارتكبت جريمة تستوجب القصاص ثم عفا المجني عليه أو وليه دون مقابل أو نظير دية ،جاز
الحكم بعقوبة تعزيرية ،كي تحقق بمفردها أو باإلضافة إلى الدية الجزاء الرادع للجريمة.
وإذا ارتكبت جريمة تستوجب أداء دية ،وعفا المجني عليه عنها أو حصل عليها جاز توقيع عقوبة
تعزيرية كي تحقق -محل الدية أو باإلضافة إليها -الجزاء الرادع للجريمة.
ويتضح بذلك أن للتعزير مجاال رئيسيا ،يوقع فيه استقالالً من أجل الجريمة ،وقد يكون له دور تكميلي
يضاف إلى عقوبة أخرى أو يحل محلها كي يوقع من أجل الجريمة الجزاء الرادع عنها.
وقد يوقع التعزير دون أن ترتكب معصية ،ولكن لمواجهته "حالة خطرة" تنذر بجريمة يحتمل أن ترتكب
في مستقبل قريب .ويقوم التعزير في هذه الحالة بوظيفة التدبير االحترازي ،أو "التدبير الوقائي" في
مصطلحات السياسة الجنائية المعاصرة.