You are on page 1of 256

‫د‪ .

‬يو�سف محمد العبداهلل‬


‫‪2009‬م‬
‫الإ ن�سان أ�قوى من العوملة‬

‫اعلم ب أ�ن‪:‬‬

‫‪ -‬إالن�سان �صنع العولمة وبمقدوره �أن يلغيها‪ ..‬وكما �أن ال�صناعة‬


‫�أخذت وقتاً‪ ،‬ف�إن إاللغاء �أي�ضاً �سي�أخذ وقتاً‪..‬‬

‫‪ -‬إالن�سان يمكن �أن يت�ضرر من العولمة �أو ي�ستفيد منها‪ ،‬والمحدد‬


‫في ذلك هو كيفية �إدراكه لها والتعامل معها‪..‬‬

‫يقدم نموذجاً �آخر بدي ًال ومناف�ساً وذا عوائد‬


‫‪ -‬إالن�سان يمكن �أن ِّ‬
‫�أف�ضل من نموذج العولمة‪..‬‬

‫الن�سان قيمته في اعتباره‪ ،‬وا�ستقامة فكـره وم�ســاره‪﴿ ،‬‬


‫‪ -‬إ‬

‫﴾‬

‫الرعد‪. 17 :‬‬

‫‬
‫الفهر�س‬
‫تقديم ‪9 .........................................................................................................................................‬‬
‫مقدمة ‪11 .........................................................................................................................................‬‬
‫الق�سم أالول ‪ :‬الحد إاليجابي للعولمة ‪ - -‬فر�ص العولمة ‪15 ..................................................‬‬
‫تمهيد ‪17 ...................................................................................................................................‬‬
‫العولمة جلبت الحرية و�ضابطها �صحة العبودية ‪25 ................................................................‬‬
‫تمهيد ‪27 ...............................................................................................................................‬‬
‫(الحرية) و�ضابطها �سالمة (العبودية) ‪31 ..........................................................................‬‬
‫�سالمة العبودية ك�ضابط للحرية ‪38 .................................................................................‬‬
‫الناتج أالكبر لحرية م�سئولة وعبودية م�ستقيمة ‪ - -‬اختيار بال تجاوز ‪47 ....................‬‬
‫خاتمــة ‪53 ............................................................................................................................‬‬
‫العولمة جلبت اال�ستقاللية و�ضابطها فعالية االتكالية �أو االعتمادية ‪55 .............................‬‬
‫تمهيد ‪57 ...............................................................................................................................‬‬
‫(اال�ستقاللية) و�ضابطها فعالية (االعتمادية) ‪59 ............................................................‬‬
‫�صحة االعتمادية ك�ضابط للحرية ‪67 ..............................................................................‬‬
‫الناتج أالكبر ال�ستقاللية مح�سوبة واعتمادية معتدلة ‪� - -‬إختيار نوع الخير بعد التمييز ‪75‬‬
‫خاتمة ‪81 ................................................................................................................................‬‬
‫العولمة جلبت المو�ضوعية و�ضابطها حالة حقيقية من الالمظلومية ‪83 .....................................‬‬
‫تمهيد ‪85 ...............................................................................................................................‬‬
‫(المو�ضوعية) و�ضابطها حالة حقيقية من (الالمظلومية) ‪87 ............................................‬‬
‫‪93‬‬ ‫تحقيق الالمظلومية ك�ضابط للمو�ضوعية‬
‫‬
‫‪100‬‬ ‫‪................‬‬ ‫الناتج أالكبر لمو�ضوعية محمودة والمظلومية مطلوبة ‪ - -‬قرار بال ّ‬
‫تحيز‬
‫‪105‬‬ ‫‪................................................................................................................................‬‬ ‫خاتمة‬
‫العولمة جلبت االنفتاح الثقافي ‪ ،‬و�ضابطها فهم آالخرين واال�ستفادة منهم مع‬
‫المحافظة على الهوية ‪107 .........................................................................................................‬‬
‫تمهيد ‪109 ...............................................................................................................................‬‬
‫(النفتاح الثقافي) و�ضابطه (فهم آالخر واال�ستفادة منه مع المحافظة على الهوية) ‪111‬‬ ‫إ‬
‫‪120‬‬ ‫فهم آالخر واال�ستفادة منه مع المحافظة على الهوية ك�ضابط لالنفتاح الثقافي‬
‫الناتج أالكبر لفهم آالخر واال�ستفادة منه مع المحافظة على الهوية ‪ - -‬االنتفاع‬
‫بالخر بغر�ض الزيادة في التميز ‪127 ....................................................................................‬‬ ‫آ‬
‫خاتمة ‪134 ................................................................................................................................‬‬
‫‪137‬‬ ‫‪..............‬‬ ‫الق�سم الثاني ‪ :‬إالفادة الفعالة من الحد إاليجابي للعولمة ‪ - -‬فر�ص العولمة‬
‫‪139‬‬ ‫‪...............................................................................................................................‬‬ ‫تمهيد‬
‫‪141‬‬ ‫‪...............................‬‬ ‫التربية نحو اال�ستقاللية ك�آلية إ‬
‫للفادة من الحد إاليجابي للعولمة‬
‫‪143‬‬ ‫‪...............................................................................................................................‬‬ ‫تمهيد‬
‫‪149‬‬ ‫‪....................................................................................‬‬ ‫فكرة التربية نحو إال�ستقاللية‬
‫‪163‬‬ ‫‪..................................................................................‬‬ ‫�شروط التربية نحو إال�ستقاللية‬
‫‪201‬‬ ‫‪..................................................................................‬‬ ‫عوائد التربية نحو إال�ستقاللية‬
‫‪239‬‬ ‫‪................................................................................................................................‬‬ ‫خاتمة‬
‫‪243‬‬ ‫‪............................................................................................................................‬‬ ‫المراجع‬
‫‬
‫مركز �شباب الدوحة‬
‫�شكر وتقدير‬

‫الول» كواحد‬ ‫ال�رسية يف عامل مليء بالفر�ص‪-‬املجلد أ‬ ‫مبنا�سبة �صدور كتاب «الرتبية أ‬
‫من �سل�سلة الكتب التي د�أب املركز على �إ�صدارها‪ ،‬ي�رسه �أن يتوجه بال�شكر والتقدير‬
‫والعرفان لكافة ال�رشكات وامل ؤ��س�سات التي كان لها الف�ضل والدور أ‬
‫الكرب يف ؤ‬
‫ر�ية‬
‫هذا الكتاب للنور‪.‬‬
‫وهذه اجلهات هي‪:‬‬

‫‪ -1‬ات�صاالت قطر (كيوتل)‬


‫‪ -2‬ال�رشكة القطرية لال�ستثمارات العقارية‪.‬‬
‫‪� -3‬رشكة الكهرباء واملاء القطرية‪.‬‬
‫‪� -4‬رشكة قطر للبرتوكيماويات (قابكو)‬
‫‪ -5‬قطر �ستيل‪.‬‬
‫‪� -6‬رشكة قطر أ‬
‫لل�سمدة الكيماوية (قافكو)‪.‬‬
‫‪ -7‬قطر للغاز‪.‬‬
‫‪ -8‬را�س غاز‬
‫‬
‫تقــدمي‬

‫يبدو للوهلة أالولى �أن أال�سرة والعولمة م�صطلحان نقي�ضان‪ ..‬كالهما نقي�ض‪ ،‬بل‬
‫والمر في‬ ‫للخر؛ وك�أنهما في حالة �صراع ومواجهة بين بع�ضهما البع�ض‪ ..‬أ‬ ‫و�ضد آ‬
‫الحقيقة لي�س بال�ضرورة كذلك‪ ..‬فالعولمة �ساحة ِن�شطة‪� ..‬ساحة مليئة بكل �شيئ‪،‬‬
‫مليئة بالخير وال�شر‪ ،‬مليئة بما ينفع وما ي�ضر ‪..‬‬
‫وهذا بطبيعته ي�ستدعي �أن يكون ألل�سرة موقف من العولمة‪ ،‬وبتعبير �أدق‪،‬‬
‫تقدمه‪ ..‬وهنا ي�أتي �أ�ستاذنا الدكتور‬ ‫يكون لها ا�ستجابة لما قدمته العولمة وما زالت ِّ‬
‫يوجه من خاللها طريقة ا�ستجابة‬ ‫يو�سف العبد اهلل ليقترح طريقة تفكير جديدة‪ِّ ،‬‬
‫أال�سرة لمعطيات العولمة وتحدياتها‪ ،‬فيجعلها ْتخ ُرج م�ستفيدة ال مت�أذ َِّية‪ ،‬و ُم ْن َت ِف َعة‬
‫ال ُم َت َ�ض ِّر َرة ‪..‬‬
‫كتاب ثمين‪ ،‬يوفِّر ألل�سرة‬ ‫والكتاب الذي بين يديك �أيها القارئ العزيز هو ٌ‬
‫�أفكاراً و�أدوات‪ ،‬ت�ساعدها على التعامل الفعال والنافع مع العولمة‪ ،‬والتي تم ِّثل �أكبر‬
‫تحديات الع�صر‪ ..‬فالكتاب يعرِ�ض للبعد إاليجابي للعولمة‪ ،‬للفر�ص المرتبطة به؛‬
‫ويبين كيفية قراءة هذا البعد‪ ،‬وكيفية �إقتنا�ص الفر�ص المترتبة عليه ‪..‬‬ ‫ّ‬
‫وي�سر مركز �شباب الدوحة تبني هذا الكتاب لما فيه قيمة عظيمة إلن�ساننا‬
‫والمة‪ ،‬كلٌ منهم‪َ ،‬م ْو ِ�ضع‬ ‫وال�سرة‪ ،‬المجتمع أ‬ ‫فالن�سان أ‬
‫و�أ�سرنا‪ ،‬مجتمعنا و�أمتنا‪ ..‬إ‬
‫والدراك‪ ،‬و�إنما كذلك على م�ستوى‬ ‫ت�أثر بالعولمة‪ ،‬لي�س فقط على م�ستوى الوعي إ‬
‫ال�سعي وال�سلوك‪ ..‬والكتاب يقترح مخرجاً �إ�ستراتيجياً‪ ،‬واقياً و ُم َن ِّمياً ‪..‬‬
‫أ�حمد بن محمد الزويدي‬
‫رئي�س مجل�س الإ دارة ــ مركز �شباب الدوحة‬

‫‬
‫مقــــــدمــة‬

‫‪11‬‬
‫مقدمــة‬

‫العولمة هي الظاهرة أالكبر‪ ،‬وقد تكون أالخطر في هذا الع�صر‪ ..‬هي الظاهرة التي‬
‫اختلط فيها الخير بال�شر‪ ،‬والنافع بال�ضار‪ ..‬هي الظاهرة التي جاءت بالمزيد من الفر�ص‬
‫والمخاطر‪ ..‬هي الظاهرة التي وفّرت مناخاً �أكبر‪ ،‬لخير �أكثر ول�ش ٍر م�ستطر‪ ..‬باخت�صار‬
‫هي ظاهرة الظواهر‪ ،‬ظاهرة وفّرت �شروطاً ت�سمح لكل ظواهر الخير وظواهر ال�شر في‬
‫�أن تنت�شر وت�ؤثِّر‪..‬‬
‫العولمة ظاهرة �شمولية تتعدد �أبعادها بتعدد �أبعاد الحياة في ع�صرها‪ ،‬و�إن كانت‬
‫في حدودها الدنيا هي عولمة �سيا�سية واقت�صادية من ناحية‪ ،‬وعولمة اجتماعية وثقافية‬
‫"لر�ض بال حدود"‪ ،‬و"�سوق بال حدود"‪،‬‬ ‫ت�سوق أ‬ ‫من ناحية �أخرى‪� ،‬أي هي عولمة ِّ‬
‫ت�سوق "لتغير بال حدود"‪..‬‬‫و"ثقافة بال حدود"‪ ..‬باخت�صار هي عولمة ِّ‬
‫العولمة هي عولمة ذات خطين‪ :‬خط مبا�شر‪ ،‬يتمثل في عولمة االقت�صاد‪ ،‬وخط‬
‫�آخر غير مبا�شر‪ ،‬يتمثل في عولمة االعتقاد‪ ..‬مع أالخذ في االعتبار �أن العولمة‬
‫ت�ستعين باالقت�صاد كمدخل على االعتقاد‪ ..‬هذا االعتقاد الذي ال يقت�صر �أثره على‬
‫"ما هو ديني"‪ ،‬و�إنما يمتد �أثره لي�شمل كذلك "ما هو دنيوي"‪..‬‬
‫وطريقة العولمة في جعل االقت�صاد مدخ ًال على الت�أثير في االعتقاد هي طريقة‬
‫"االختراق"‪ ،‬والذي ي�ستعين ب�آليات مركّ بة‪ ،‬اختلط فيها االقت�صاد بالثقافة‪ ،‬مع التنبيه‬
‫على دور عولمة ال�سيا�سة في التمكين بين الحين والحين لحدوث هذا االختراق‬
‫االقت�صادي‪ ،‬وبالتالي االختراق االعتقادي‪..‬‬
‫"ال�سرة"‪ ،‬ف�إن هناك دوراً‬ ‫وانطالقاً من �أن االختراق ي�ستهدف بالدرجة أالولى أ‬
‫كبيراً ُملْقاً على عاتق هذه أال�سرة لي�س فقط بق�صد تربية �أبنائها على مواجهة‬
‫‪13‬‬
‫االختراق ومخاطره‪ ،‬و�إنما كذلك بق�صد توجيه أالبناء �إلى االلتفات �إلى الحد آالخر‬
‫للعولمة وهو "حد الفر�ص"‪ ،‬فر�ص النمو التي تتيحها هذه العولمة‪ ،‬واال�ستفادة منها‪..‬‬
‫ليبين كيف تكون "التربية أال�سرية في زمن‬ ‫والكتاب الذي بين يديك ي�أتي ِّ‬
‫عولمة مليئة بالفر�ص"‪ ،‬حيث يبد�أ هذا الكتاب بالتمهيد لفكرة �أن العولمة ت�ضخ‬
‫للجميع فر�ص نمو‪ ،‬و�إن كانت فر�ص النمو تتفاوت في كمها ونوعها‪ ،‬عددها وكيفيتها‪،‬‬
‫والفراد؛ �أي من دولة لدولة �أخرى‪ ،‬ومن‬ ‫عبر الدول والجماعات والم�ؤ�س�سات أ‬
‫مجموعة لمجموعة �أخرى‪ ،‬ومن م�ؤ�س�سة لم�ؤ�س�سة �أخرى‪ ،‬ومن فرد لفرد �آخر‪.‬‬
‫الكتاب �أي�ضاً يم�ضي ليعر�ض �أبرز ميزات العولمة‪ّ ،‬ثم ينتقل ِّ‬
‫ليقدم مجموعة‬
‫ال�شروط التي يمكن �أن ت�سهم أال�سرة من خاللها في اال�ستفادة من تلك الميزات‪،‬‬
‫المرجوة والمتوقعة من تربية �أ�سرية فعالة في عولمة مليئة بالفر�ص‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وتبيين العوائد‬
‫والتي باغتنامها تحقق أال�سرة مكا�سبها‪ ،‬وتزداد في قوتها وت�أثيرها ومكانتها‪..‬‬
‫و�أخيراً �أتقدم بجزيل ال�شكر لكل الزمالء الذين �ساهموا ب�آرائهم ال�سديدة و�أفكارهم‬
‫النيرة في هذا الكتاب‪ ،‬و�أخ�ص بالذكر أال�ستاذ الدكتور محمد عيا�ش الكبي�سي‬ ‫ِّ‬
‫وال�ستاذ الدكتور محمد �أبو مخلوف‪ ،‬ع�ضو‬ ‫�أ�ستاذ العقيدة إال�سالمية بجامعة قطر أ‬
‫هيئة التدري�س في جامعة قطر �سابقاً‪ ،‬و�أ�ستاذ علم االجتماع بجامعة الجزائر حالياً‪..‬‬
‫و�أ�س�أل اهلل العلي العظيم �أن يجعل في هذا الكتاب النفع الكثير لكل من يقر�أه‪..‬‬
‫واهلل ولي التوفيق‪..‬‬
‫د‪ .‬يو�سف حممد العبداهلل‬
‫الدوحـة‪-‬قطر‬

‫‪14‬‬
‫الق�ســـم أ‬
‫الول‪:‬‬
‫الحـد ا إليجابي للعولمة ‪ --‬فر�ص العولمة‬

‫‪15‬‬
‫تمهيــد‬

‫‪17‬‬
‫متهيــد‬

‫تطرقنا في كتابنا "التربية أال�سرية في زمن مليء بالمخاطر" �إلى ال�صورة ال�سلبية‬
‫والم�سيئة للعولمة‪� ،‬أي عن مخاطر العولمة‪ ،‬وفي هذا الكتاب �سيكون التركيز على‬
‫اليجابية والم�شرقة للعولمة‪� ،‬أي عن الفر�ص التي تتيحها العولمة‪ ..‬فالعولمة‬
‫ال�صورة إ‬
‫هي لي�ست فقط مخاطر‪ ،‬و�إنما هي مخاطر وفر�ص ومكا�سب‪ ..‬العولمة لي�ست كلها‬
‫مخاطر قد يترتب عليها م�صائب‪ ،‬و�إنما فيها كذلك فر�ص تهيء لتحقيق مكا�سب‪..‬‬

‫والوعي بهذه الحقيقة هو �أ ٌمر مهم‪ ،‬انطالقاً من (عطايا) (الوعي) و(باليا)‬


‫(الالوعي)‪ ،‬بركات الوعي وويالت الالوعي‪ ..‬وال�صورة إاليجابية للعولمة‪ ،‬والمتم ِّثلة‬
‫في فر�صها وفي المكا�سب التي يمكن �أن تترتب عليها‪ ،‬تعك�س الحد إاليجابي‬
‫للعولمة‪ ،‬والتي تتم ِّثل في الفر�ص �أو ًال وفي المكا�سب ثانيا‪ ،‬مع أالخذ في االعتبار‬
‫ب�أن المكا�سب هي �أثر لفاعلية اقتنا�ص الفر�ص وتوظيفها‪ ،‬ت�صيدها وح�سن ا�ستثمارها‪..‬‬

‫وال�سرة عليها م�سئولية كبيرة في هذا المجال‪ ،‬مجال اقتنا�ص الفر�ص وا�ستثمارها‪،‬‬ ‫أ‬
‫وتزداد هذه الم�س�ؤولية في �أهميتها وحجمها في زمن العولمة وما قد ي�شهده العالم‬
‫من �أزمنة �أ ّ�شد من العولمة‪ ..‬والم�س�ؤولية أال�سرية في هذا ال�صدد هي م�سئولية تربوية‬
‫بالدرجة أالولى‪ ..‬فمدخل أال�سرة على اقتنا�ص فر�ص العولمة وا�ستثمارها يكمن‬
‫في وعيها بقيمة الخير الكامنة في العولمة وفي �آلياتها‪ ..‬والوعي هو ثمرة للفهم‪،‬‬
‫الذي يمكن �أن يم ِّهد الطريق ألل�سرة لكي ِّ‬
‫تطور �آليات تتنا�سب مع �آليات العولمة‪،‬‬
‫من �أجل تحقيق مكا�سب عظمى بدون خ�سائر قدر إالمكان‪..‬‬
‫‪19‬‬
‫والتربية أال�سرية هي التربية التي تفطن �أو ًال �إلى �أن �آليات العولمة (مثل االنترنت‬
‫والف�ضائيات والهواتف المحمولة ) هي التي يمكن �أن ت�سهم في ا�سترداد وا�سترجاع‬
‫إالن�سان لوعيه‪ ،‬وبالذات عندما ال  ُي ْح ِ�سن �أو يجيد ا�ستخدام تلك آالليات ا�ستخداماً‬
‫نافعاً‪ ..‬وبالتالي‪ ،‬ف�إن التربية أال�سرية الذكية هي التي ت�ستفيد من �آليات العولمة في‬
‫خلق الوعي بفر�ص العولمة وبكيفية اال�ستفادة الفعالة منها‪ ،‬ب�شكل مبا�شر وغير‬
‫مبا�شر‪..‬‬

‫وبناء على ما تقدم‪ ،‬ف�إنه بالرغم من �أن العولمة لها مخاطرها القاتلة‪� ،‬إال �أنها كذلك‬
‫ً‬
‫تقدم �آليات للنجاح والتفوق‪ ..‬وهذا آالليات‪ ،‬و�إن كانت في �أ�صلها ملكاً للعالم‬ ‫ِّ‬
‫المتقدم‪� ،‬إال �أنها فلتت من يد ذلك العالم‪ ،‬و�أ�صبحت متاحة في �سوق العولمة‪،‬‬
‫تنتظر من ي�ضع يده عليها‪ ،‬في�ستثمرها ويح�سن ا�ستخدامها بما فيه منفعة له وللعالم‬
‫وال�سرة ينبغي �أن تلتفت �إلى هذه الم�س�ألة وتدرك قيمتها‪ ،‬وت�سعى �إلى‬ ‫من حوله‪ ..‬أ‬
‫ا�ستثمارها في عملية التربية ألبنائها؛ مع مالحظة �أنه قد تكون هناك �أ�سر لم ِ‬
‫تفطن‬
‫بعد لهذه القيمة العملية التربوية آلليات العولمة‪ ،‬مما ي�ستدعي ن�شر وعي عام في‬
‫المجتمع من طرف �أهل االخت�صا�ص‪� ،‬أفراداً وم�ؤ�س�سات‪ ،‬بهذه القيمة وبكيفية‬
‫االنتفاع بها‪..‬‬

‫وانطالقاً من �أن أ‬
‫ال�سرة تتعر�ض ل�ضغوط داخلية و�أخرى خارجية‪� ،‬ضغوط محلِّية‬
‫و�أخرى عولمية‪ ،‬قد تُ ْف ِق ُدها قدرتها على الت�أثير إاليجابي على �أفرادها‪ ،‬ف�إنها في حاجة‬

‫‪20‬‬
‫تنظم ذاتها والتوا�صل بين عنا�صرها‪ ،‬و�أن ت�ستفيد من معطيات العولمة في‬ ‫�إلى �أن ِّ‬
‫تهمها‪ ،‬وبالذات مجال التربية‪ ..‬هذه التربية‪ ،‬التي �إذا ما �أ ُْح ِ�سن‬ ‫المجاالت التي ُّ‬
‫الترتيب لها وتوظيفها‪ ،‬ف�إنها يمكن �أن ُت ْن ِتج �أفراداً ينتجون �أكثر مما ي�ستهلكون‪ ،‬و�إذا‬
‫ما ا�ستهلكوا‪ ،‬ف�إنهم ال ي�ستهلكون �إال المباح المهم‪ ،‬وباعتدال‪ ..‬ومما ال �شك �أن‬
‫(كالبناء) �أحراراً ال عبيدا‪ ،‬عقالنيين ال غرائزيين‪ ،‬م ؤ�ثرين‬
‫هذا بدوره �سيجعل أالفراد أ‬
‫ال �إمعيين‪" ،‬ال تكونوا �إمعة تقولون �إن �أح�سن النا�س �أح�سنا‪ ،‬و�إن ظلموا ظلمنا‪ ،‬ولكن‬
‫ِّوطنوا �أنف�سكم‪� .‬إن �أح�سن النا�س �أن ُت ْح ِ�سنوا و�إن �أ�سا�ؤوا فال تظلموا" رواه الترمذي‬
‫وقال هذا حديث ح�سن غريب ال نعرفه �إال من هذا الوجه(�أبي العلي محمد بن‬
‫عبدالرحمن بن عبدالرحيم المباركفوري‪ ،‬طبعـة ‪" 1965‬مج ‪� ،"6‬ص ‪..)146‬‬

‫عطاء �آلياً‪ ،‬بل ُتعطي ً‬


‫عطاء‬ ‫وبالتالي‪� ،‬ستجد أال�سر نف�سها ِم ْعطَ اءة‪ ..‬ال تعطي ً‬
‫عطاء �إقتناعياً �إيمانياً‪� ،‬أي معطاءة ب�إيمانها‬
‫عطاء واجبياً‪ ،‬و�إنما تعطي ً‬
‫واعياً‪ ،‬ال تعطي ً‬
‫ولي�س فقط ببدنها‪ ..‬ولذلك‪ ،‬ف�إن عطاءها المتوقع هو عطاء بركة ولي�س فقط عطاء‬
‫منفعة‪ ،‬وعطاء يقوي ولي�س فقط عطاء يروي �أو ُي ْر ِ�ضي‪﴿ ،‬‬
‫﴾العراف‪..96 :‬‬ ‫أ‬

‫كل ذلك مر ُّده ب�شكل �أ�سا�سي �إلى فكرة �أن العولمة جلبت معها ميزات‪ ،‬بل �أدت‬
‫تطور ميزات‪ ،‬حذفت " ِب ُك َرة الم�س ؤ�ولية" في ملعب إالن�سان‪ ،‬وب�شكل �أدق‪:‬‬
‫� إلى ّ‬
‫جعلت من "كُ َرة الم�س�ؤولية" �إلى حد كبير في ملعب إالن�سان بعد �أن كان محروماً‬

‫‪21‬‬
‫منها لفترة طويلة من الزمن‪ ،‬بحكم �سيادة (الت�سلط) واالعتالل) بد ًال من (التو�سط)‬
‫و(االعتدال)‪� ،‬سيادة �سمة (طغى) و(�آذى) و(ابتلى) بد ًال من �سيادة �سمة (وعى)‬
‫و(اتقى) و(تعافى)‪..‬‬

‫مهمة يمكن �أن ت�ؤدي‬‫وبتعبير �أدق‪ ،‬العولمة �أبرزت ميزات �أو جوانب �إيجابية ِّ‬
‫�إلى ا�سترجاع المخلوق لعافيته‪ ،‬والحق لقوته وفعاليته‪� ،‬أو قل‪ :‬ا�سترجاع القلب‬
‫لعافيته‪ ،‬وال�صواب لقوته وفعاليته‪ ..‬وهذا كلُّه يعتمد على مدى رغبة إالن�سان وقدرته‬
‫على اال�ستفادة من ميزات العولمة‪ ..‬فاالنطالق يكون من الرغبة‪ ،‬والتحقق يكون‬
‫بالقدرة‪ ،‬وبهما ينجح إالن�سان في "اال�ستفادة من ميزات العولمة"‪..‬‬

‫هذه الميزات هي التي يمكن �أن تقلب الميزان‪ ،‬فتجعل الزوجية ال�صحية‬
‫َت ْر ُجح العزوبية غير ال�صحية‪ ،‬والتما�سك َي ْر ُجح التفكك‪ ،‬وال�ضوابط ال�شرعية َت ْر ُجح‬
‫رجح اال�ستهالكية الخاطئة والمفرطة‪ ،‬و�أخيراً‬ ‫والنتاجية المفيدة َت ُ‬
‫ال�ضغوط الزائدة‪ ،‬إ‬
‫ولي�س �آخراً‪ ،‬تجعل إالقدام المح�سوب َي ْر َجح إالحجام الهارب‪..‬‬

‫وهذه الميزات‪ ،‬ميزات العولمة‪� ،‬أو قل الميزات التي �أ�سهمت العولمة في َم ْن ِحها‬
‫وجود �أكثر وامتداد �أكبر‪ ،‬عديدة‪ ،‬ولعل �أبرزها‪:‬‬
‫‪ -‬الحرية و�ضابطها �صحة العبودية‪.‬‬
‫‪ -‬اال�ستقاللية و�ضابطها فعالية االتكالية �أو االعتمادية‪.‬‬
‫‪ -‬المو�ضوعية و�ضابطها حالة حقيقية من الالمظلومية‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫‪ -‬االنفتاح الثقافي و�ضابطه فهم آالخرين واال�ستفادة منهم مع المحافظة على‬
‫الهوية(٭)‪..‬‬
‫(٭) مما ال �شك فيه �أن "المحافظة على الهوية" يمثل �ضابطاً‪ ،‬انطالقاً من �أن ال�ضابط هو تكليف‪ ،‬والمحافظة على الهوية هي تكليف‪،‬‬
‫ال من الفهم واال�ستفادة على �أنهما هما ا آلخران يدخالن �ضمن ال�ضوابط‪،‬‬ ‫وبالتالي هي �ضابط‪ ..‬ولكن نحن هنا �أي�ضاً نق ِّدم ك ً‬
‫ألننا قد ننفتح وال ن�ستفيد �أو قد ننفتح ونت�ضرر �أكثر مما ن�ستفيد‪ ،‬ولذلك كان لزاماً علينا‪� ،‬أي �أننا مكلَّفين ب�أن نُ ْح ِ�سن فهم ا آلخر‬
‫قبل االنفتاح عليه وبعده‪ ،‬و�أن نُ ْح ِ�سن عملية �سعينا نحو ما يفيدنا حتى نح�صد فقط ما يفيدنا‪ ..‬ونق�صد بعبارة‪" :‬فهم ا آلخرين‬
‫و"ح ْ�سن اال�ستفادة منه"‪ ،‬انطالقاً من قوله تعالى ﴿ لنبلوكم �أيكم �أح�سن‬ ‫"ح ْ�سن فهم ا آلخر" ُ‬ ‫واال�ستفادة منهم"‪ ..‬نق�صد بها ُ‬
‫ال �سلوكياً كال�سعي � إلى اال�ستفادة وتح�صيلها‪..‬‬ ‫أ‬
‫ال عقلياً كالفهم �و عم ً‬ ‫عمال ﴾ الملك‪ ،]2 :‬عم ً‬

‫مف�صل لكل ميزة من تلك الميزات التي‬ ‫وفي ال�صفحات القادمة‪� ،‬سيتم تو�ضيح َّ‬
‫تطورت في �أح�ضان العولمة‪ ،‬بحيث �أنها ترتبت عليها �آثار‪ ،‬لها �أول ولي�س لها �آخر‪،‬‬ ‫ّ‬
‫�آثار قد ُت َعد‪ ،‬ولكن ال  ُت ْح َ�صى‪ ..‬وفي الجزء القادم من هذا الكتاب‪� ،‬سنعرِ�ض لنماذج‬
‫معرفية هدفها خلق وعي بكل من هذه الميزات‪ ،‬وبما يمكن �أن تجلبه من خير في‬
‫أال�سرة‪ ،‬ودور التربية أال�سرية في كيفية التعامل الفعال مع معطيات تلك المميزات‬
‫الم�ضرة‪ ..‬وهذا ي�ستدعي من أال�سرة �أن تكون‬
‫ّ‬ ‫بما يجلب لها المنفعة‪ ،‬وي�صرف عنها‬
‫التربية فيها هي "تربية من �أجل المنفعة‪ ،‬والمنفعة فقط"‪ ،‬تربية ت�ستهدف جعل �أفراد‬
‫والبناء في أال�سرة‪ ،‬يتعلمون كيف ي�ستفيدون من ميزات العولمة‪ ،‬وهكذا‬ ‫أال�سرة أ‬
‫ينبغي �أن تكون التربية‪" ،‬تربية نافعة"‪ ،‬تع ِّلم النا�س كيفية النفع واالنتفاع‪ ،‬تربية‬
‫تتبنى مبد�أ "خير النا�س �أنفعهم للنا�س" حديث نبوي ح�سن اال�سناد(محمد‬
‫نا�صر الدين أاللباني‪" 1982 ،‬مج ‪� ،"3‬ص ‪..)124‬‬

‫‪23‬‬
‫العـولمـــة‬
‫جلـــبت الحـــــريــة‪،‬‬
‫و�ضــابطها �سـالمة العبـــودية‬

‫‪25‬‬
‫متهيــد‬

‫العولمة هي عولمة نمط الحياة‪ ،‬وبالتحديد عولمة ‪-‬بالدرجة أالولى‪ -‬لنمط‬


‫الحياة الغربي‪ ..‬ونمط الحياة الغربي مو�صول بالثقافة التي ينتمي �إليه‪ ،‬والقانون‬
‫الذي يحكمها‪ ،‬وم�ؤ�س�سات المجتمع المدني التي تحيط به‪ ،‬تعزيزاً له في حالة‬
‫�إت�ساقه مع معايير التيار ال�سائد �أو الغالب ‪ ،Mainstream‬ومحا�سب ًة له عندما يخالف‬
‫تلك المعايير‪ ..‬وكما �أن التعزيز قد يكون معنوياً �أو ح�سيا‪ ،‬ف�إن المحا�سبة هي أالخرى‬
‫قد تكون معنوية �أو ح�سية‪..‬‬

‫والتعزيز هو مفهوم "نف�سي" ذو وقع وجدوى ومفعول "اجتماعي"‪ ..‬والتعزيز من‬


‫المنظور النف�سي يفيد تلك آالثار الطيبة �أو المريحة التي ي�شعر بها الفرد‪" ،‬والتي‬
‫تترتب على ال�سلوك �أو ت�صاحبه‪ ،‬وقد ي�أخذ التعزيز �شك ًال مادياً ملمو�ساً كالمكاف�أة‬
‫المادية (الهدايا) ‪ ...‬وقد يكون لفظياً ككلمات ال�شكر والثناء‪ ،‬وقد يكون �إ�شارياً‬
‫كاالبت�سامة وايماءات الموافقة والت�صفيق و�إ�شارات النجاح الممكنة‪� ،‬أو �إعطاء دور‬
‫قيادي‪ ...‬وقد يكون �شعور الفرد بالنجاح وتحقيق الكفاءة واالمتياز والتفوق على‬
‫أالقران وال�سبق"(�أنور ريا�ض و�آخرون‪� ،1996 ،‬ص ‪..)40‬‬

‫والتعزيز هو دالة �إنجاز‪ِّ ،‬‬


‫ومدعم له‪ ..‬التعزيز‪ :‬مكاف�أة تتبع الفعالية‪ ،‬دالة تتبع حدوث‬
‫ال�سلوك المرغوب فيه‪ ..‬التعزيز هو الذي يقوي ا�ستجابات الفرد "ويحفظها من الن�سيان‬
‫ويزيد احتمال حدوثها عند ا�ستدعائها"(�أنور ريا�ض و�آخرون‪� ،1996 ،‬ص ‪،)40‬‬
‫‪27‬‬
‫ومن ّثم يجب على قيادات أال�سرة‪ ،‬آالباء أ‬
‫والمهات و�أ�صحاب الت�أثير‪� ،‬أال يترددوا في‬
‫تعزيز �أي �سلوك محمود‪ ،‬يقوم به الفرد (مثل االبن �أو البنت)‪ ،‬و�أن يكون ذلك فورياً‬
‫حتى يقترن بهذا ال�سلوك‪ ،‬في�شعر الفرد االبن‪/‬البنت ب�أهمية وقيمة �سلوكه و�سلوكها‪..‬‬

‫(الم ْ�س َت ِحق‬


‫ونود �أن ن�ؤكد هنا �أن التعزيز هو م�شاعر االرتياح التي ي�شعر بها الفرد ذاته ُ‬
‫للتعزيز)‪" ،‬وعلينا �أن ندرك �أن بع�ض إالجراءات التي تقوم بها على �أنها ت�ؤدي‬
‫�إلى التعزيز ال ت�ؤدي فع ًال �إلى �أي تعزيز‪ .‬والعك�س فبع�ض �أنماط العقاب يمكن‬
‫�أن ت�سبب التعزيز‪ ،‬فطرد التلميذ الم�شاغب من ال�صف يمكن �أن ي�سبب له نوعا من‬
‫االرتياح ألنه بذلك يبتعد عن جو الف�صل الدرا�سي‪ ،‬ويتيح له حرية الحركة‪ ،‬كما �أن‬
‫مكاف�أة التلميذ المجد ب�أن تجعله يقف في مقدمة الف�صل وهم ي�صفقون له يمكن �أن‬
‫ي�سبب له حرجاً �شديداً فتنتابه م�شاعر ال�ضيق‪ ،‬وهكذا فعلينا �أن نكون حري�صين لئال‬
‫نخطئ دون ق�صد"(�أنور ريا�ض و�آخرون‪� ،1996 ،‬ص ‪..)40‬‬

‫�أما المحا�سبة‪ ،‬ف�إنها مفهوم "قانوني" ذو ارتباط و�صلة بما هو "�أخالقي"‪..‬‬


‫والمحا�سبة من المنظور القانوني‪ ،‬ف�إنها اجما ًال تفيد "ايقاف الفرد المخطئ في حق‬
‫حده"‪" ،‬عقاب الفرد نتيجة عدم ات�ساق �سلوكه مع قانون مجتمعه"‪،‬‬ ‫القانون عند ّ‬
‫"تطبيق الحدود ال�شرعية والقانونية بما ي�ؤدي �إلى �إحقاق الحق و�إبطال الباطل"‪..‬‬

‫والمحا�سبة هي دالة م�سئولية‪ ..‬المحا�سبة‪ :‬م�ساءلة تتبع عدم الفعالية �أو نق�ص‬
‫حقيقي في الفعالية‪ ،‬دالة تتبع ال�سلوك غير المرغوب فيه‪ ،‬ومعاقبته‪ ..‬والفعالية هنا‬
‫تفيد "�أن يعرف إالن�سان ما له وما عليه‪ ،‬في�أخذ ما له وي�ؤدي ما عليه"‪ ..‬وهذه الفكرة‬
‫‪28‬‬
‫يعرفها ابن قيم الجوزية رحمه اهلل هي‪:‬‬
‫هي ذاتها فكرة المحا�سبة‪ ..‬وفالمحا�سبة كما ِّ‬
‫"التمييز بين ما لك وما عليك‪ ،‬و�إعطاء كل ذي حقٍ ح َّقه"(طبعة ‪" 1972‬مج ‪،"1‬‬
‫�ص ‪ ..)173‬وهذه محا�سبة ذاتية‪..‬‬

‫وكما �أن المحا�سبة َتطال من ي�سيء التعامل مع ميزات العولمة �أو يتعامل معها‬
‫خارج نطاق �أخالقيات العولمة‪ ،‬ف�إن التعزيز من ن�صيب من ُي ْح ِ�سن اال�ستفادة من‬
‫هذه المميزات‪ ،‬مع التنبيه على �أن التعزيز �أي�ضاً هو من ن�صيب من ينا�صر �ص ّناع‬
‫العولمة و�أن�صارها‪ ،‬والتهديد ي�صيب من يناه�ض العولمة‪..‬‬

‫وفي ت�صورنا �أن أال�سرة ينبغي �أن تربي �أفرادها و�أبناءها على كيفية اال�ستفادة من‬
‫ميزات العولمة‪ ،‬ولكنها وهي تفعل ذلك‪ ،‬في حاجة �إلى �أن تمنح �أفرادها و�أبناءها‬
‫�ضوابط مبدئية و�إجرائية تنتهي بتحويل تلك الميزات �إلى خيرات‪� ،‬أي تربي أالفراد‬
‫والبناء على كيفية اال�ستفادة من الحد إاليجابي (المحمود) لميزات العولمة‪،‬‬ ‫أ‬
‫حدها ال�سلبي (المذموم)‪..‬‬ ‫وتج ّنب ّ‬
‫تقدم ألبنائها ميزات العولمة عملياً ‪-‬ب�شكل‬‫ولذلك كان لزاماً على أال�سرة �أن ِّ‬
‫ُم ْن َ�ض ِبط‪ -‬بعد �أن تقوم بتوعيتهم نظرياً‪ ..‬بمعنى �أن تتم ّثل قيادات أال�سرة و�أفرادها‬
‫المهمين فيها ميزات العولمة بعد التوعية بها وبمخاطرها‪ ،‬وبكيفية اال�ستفادة منها‬
‫بعيداً عن التعر�ض لمخاطرها �أو �سلبياتها‪ ..‬وفيما يلي ميزات العولمة و�ضوابطها‪،‬‬
‫والتي مثلْناها هنا بنقائ�ضها‪ ،‬التي تمنع انحرافها‪� ،‬أي تجعلها تتمتع با�ستقامتها‪..‬‬
‫والميزات ب�ضوابطها هي‪:‬‬
‫‪29‬‬
‫‪ -‬العولمة جلبت (الحرية)‪ ،‬و�ضابطها �سالمة (العبودية)‪..‬‬
‫‪ -‬العولمة جلبت (اال�ستقاللية)‪ ،‬و�ضابطها �صحة وفعالية (االعتمادية)‪..‬‬
‫‪ -‬العولمة جلبت (المو�ضوعية)‪ ،‬و�ضابطها حالة حقيقية من (الالمظلومية)‪..‬‬
‫‪ -‬العولمة جلبت (االنفتاح الثقافي)‪ ،‬و�ضابطه فهم آالخر واال�ستفادة منه مع‬
‫المحافظة على الهوية‪.‬‬

‫ومت�ضم ٌن في كل تلك الميزات ميزة خام�سة وهي جلب (الفر�ص) و�ضابطها‬ ‫َّ‬
‫حكم ال�شرع قبل االقتنا�ص وحكم الواقع بعد االقتنا�ص؛ �أي م�شروعية الفر�صة قبل‬
‫اقتنا�صها ومدى منفعيتها بعد اقتنا�صها‪..‬‬

‫وتجدر إال�شارة �إلى �أن كل ميزة من الميزات أالربع‪ ،‬لها نتائجها التي ِّ‬
‫تعبر عنها‪،‬‬
‫ولعلّ �أبرزها ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬العولمة جلبت (الحرية)‪ ،‬و�ضابطها �سالمة (العبودية)‪ ..‬والناتج أالكبر هو‬
‫(اختيار بال تجاوز)‪.‬‬
‫‪ -‬العولمة جلبت (اال�ستقاللية)‪ ،‬و�ضابطها �صحة وفعالية (االعتمادية)‪ ..‬والناتج‬
‫أالكبر هو (خير بعد تمييز)‪.‬‬
‫‪ -‬العولمة جلبت (المو�ضوعية)‪ ،‬و�ضابطها حالة حقيقية من (الالمظلومية)‪..‬‬
‫والناتج أالكبر هو (قرار بال ِّ‬
‫تحيز)‪.‬‬
‫‪ -‬العولمة ّرجحت (االنفتاح الثقافي) و�ضابطه (فهم آالخرين واال�ستفادة منهم مع‬
‫بالخر بغر�ض التميز)‪..‬‬‫المحافظة على الهوية)‪ ..‬والناتج أالكبر هو (االنتفاع آ‬

‫‪30‬‬
‫(احلرية) و�ضابطها �سالمة (العبودية)‬

‫تمهيد‪ :‬العولمة �أ�س�ست للمزيد من (الحرية) وللمزيد من التطوير لها كمفهوم‬


‫وكو�سائل و�أدوات تخدمها وتحقق للمزيد من وجودها‪ ..‬والنتيجة �أن الحرية ُف ِت َحت‬
‫لها أالبواب على م�صراعيها‪ ،‬وفي كل اتجاه‪ :‬اتجاه الخير واتجاه ال�شر‪ ..‬والناتج أالكبر‬
‫لهذه الحرية هو عمار مادي هائل قد ي�صاحبه دمار معنوي قاتل‪ ..‬تعمير للعالم المادي‬
‫والخالقي‪..‬‬ ‫والمدني في مقابل �إمكانية حدوث تدمير للعالم الروحي أ‬

‫وبناء عليه‪ ،‬ف�إن العولمة من خالل الت�سويق لحرية مفتوحة في كل االتجاهات‪،‬‬ ‫ً‬
‫�أدت �إلى والدة عبودية ممتدة في كل االتجاهات‪ ..‬وبتعبير �آخر‪ ،‬ف�إن الحرية عندما‬
‫ت�صبح مطلقة ن�سبياً‪ ،‬فالناتج الطبيعي الذي يمكن �أن يترتب عليها هي العبودية‬
‫المعوجة نف�سياً واجتماعياً‪ ..‬وبالتالي‪ ،‬ي�صبح العالم م�ضاعف البالء‪ ..‬بالء وافد من‬
‫ّ‬
‫معوجة نف�سياً واجتماعياً‪..‬‬
‫حرية مطلقة ن�سبياً ‪ ،‬وبالء وافد من عبودية ّ‬

‫وهذا البالء يمكن �أن ي�ستمر في ت�ضاعفه‪ ،‬ويمتد في ّ‬


‫م�ضرته‪� ،‬إال �إذا ما ُ�ض ِبط‬
‫بعبودية م�ستقيمة‪ ..‬والعبودية الم�ستقيمة‪ ،‬التي يمكن �أن ت�ضبط م�سار الحرية‪ ،‬هي‬
‫العبودية للخالق‪ ،‬والتي في حد ذاتها ملغية للعبودية للمخلوق‪ ،‬كل مخلوق‪� ،‬أي كان‬
‫وال�سالم جعل من �إثبات العبودية للخالق ونفيها عمن وعما‬ ‫وفي �أي زمان ومكان‪ ..‬إ‬
‫�سواه أال�صل أال�سا�س‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫وا�ضح في كلمة التوحيد‪" ،‬ال �إله �إال اهلل"‪..‬‬

‫‪31‬‬
‫فكلمة التوحيد‪" ،‬ال �إله �إال اهلل"‪ ،‬ت�ضمنت �شقين‪� :‬شق نفي‪ ،‬وهو "ال �إله"‪ ،‬و�شق‬
‫�إثبات‪ ،‬وهو "�إال اهلل"‪ ..‬وبين النفي واالثبات‪� ،‬أي بين "ال" و"�إال"‪ ،‬حرية م�س�ؤولة‪..‬‬
‫فمن منظور "ال �إله �إال اهلل"‪ ،‬من منظار التوحيد‪ ،‬العبودية تحت�ضن الحرية‪� ،‬أي حرية‬
‫في �إطار العبودية‪ ..‬والحرية في �إطار العبودية هي الحرية الم�س�ؤولة‪ ،‬الحرية التي‬
‫تتعاطى الحياة ب�ضوابط‪ ،‬الحرية المتخ ِّلقة ب�أخالقيات التوحيد‪� ،‬أخالقيات ال �إله‬
‫�إال اهلل‪� ..‬إذاً‪� :‬ضبط (الحرية) يكون ب�صحة (العبودية)‪..‬‬

‫"الحرية‪� :‬إقامة حقوق العبودية‪ ،‬فتكون هلل عبداً وعند غيره حراً"‬
‫(�أبو حامد الغزالي‪ ،‬طبعة ‪" 1980‬مج ‪� ،"6‬ص ‪..)3044‬‬

‫يقد ُ�سها إال�سالم‪ ،‬و ُيد ِّن�س ُها كثير‬


‫ابتداء هي القيمة التي ِّ‬
‫مفهوم الحرية‪ :‬الحرية ً‬
‫من �سكان هذا العالم‪ ..‬يد ِّن ُ�سها ب�سوء ا�ستخدامها‪ ..‬وقد وعت أالجيال أالولى‪،‬‬
‫جيل ال�صحابة وما بعده من �أجيال‪ ،‬وعت هذه أالجيال قيمة الحرية‪ ..‬فهذا خليفة‬
‫"متى ا�ستعبدتم النا�س وقد‬ ‫الم�سلمين‪ ،‬عمر بن الخطاب ر�ضي اهلل عنه‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫ولدتهم �أمهاتهم �أحرارا"‪ ..‬وهذا إالمام ال�شافعي‪� ،‬إمام �أهل ال�س ّنة والجماعة‪ ،‬يقول‬
‫�أي�ضاً ألحد تالميذته‪ ،‬عندما طلب منه الموعظة‪ ،‬فقال ال�شافعي رحمه اهلل‪" :‬يا بني‬
‫خلقك اهلل حراً‪ ،‬فكن كما خلقك"(محمد بن �إدري�س ال�شافعي‪ ،‬طبعة ‪" 1973‬مج‬
‫‪� ،"1‬ص "ط")‪..‬‬
‫‪32‬‬
‫والحرية كمفهوم �سو�سيولوجي "اجتماعي" تفيد "القدرة على االختيار‬
‫بين عدة �أ�شياء‪� ،‬أي حرية الت�صرف والعي�ش وال�سلوك ح�سب توجيه إالرادة العاقلة‬
‫دون اال�ضرار بالغير �أو دون الخ�ضوع ألي �ضغط �إال ما فر�ضته القوانين العادلة‬
‫ال�ضرورية وواجبات الحياة االجتماعية"(�أحمد زكي بدوي‪� ،1982 ،‬ص ‪..)168‬‬
‫وهناك �أ�شكال مختلفة من الحرية المدنية‪ ،‬ومنها‪" :‬حرية العقيدة‪ ...‬وحرية ابداء‬
‫آالراء والتعبير دون �أي تدخل‪ ...‬وحرية التجمع ال�سلمي‪ ...‬وحرية العمل"(�أحمد‬
‫زكي بدوي‪� ،1982 ،‬ص ‪..)168‬‬

‫والحرية كمفهوم �سيكولوجي "نف�سي" هي مفردة ذات معنيين متمايزين في‬


‫علم النف�س‪ ،‬وهما‪� )1( :‬أن للفرد �سيطرة �شخ�صية على اختياره وقراراته و�أفعاله‪...‬‬
‫الخ‪ ،‬وال�شعور ب�أن العوامل الخارجية تلعب دوراً �ضئي ًال �أو ال تلعب �أي دور في �سلوك‬
‫يعبر عنه بعبارات تبد�أ عادة بـ (الحرية في ‪) ...‬؛‬‫الفرد ال�شخ�صي‪ ..‬وهذا المعنى َّ‬
‫(‪ )2‬حالة ال يكون الفرد فيها مثق ًال بمواقف م�ؤلمة‪ ،‬ومثيرات مقلقة وجوع و�ألم‬
‫يعبر عنه بعبارات (مثل التحرر من كذا)"(جابر‬ ‫ومر�ض ‪ ...‬الخ‪ ،‬و�أن هذا االح�سا�س ّ‬
‫عبدالحميد جابر وعالء الدين كفافي‪" 1990 ،‬مج ‪� ،"3‬ص ‪..)133‬‬

‫"وهاتان الحريتان مترابطتان ترابطاً قوياً‪ ،‬ولكن االخفاق في التمييز بينهما ي�ؤدي‬
‫�إلى ت�شوي�ش فل�سفي و�سيا�سي‪ ..‬والمعنى أالول قريب في الت�صور لنظرية حرية‬
‫إالرادة‪ ،‬والمعنى الثاني يت�صل بم�سائل ال�ضبط وبال�سلطة االجتماعية‪ ،‬وال�سلطة‬
‫والموقف ال�سلوكي عن دور التعزيز"(جابر عبدالحميد جابر وعالء الدين كفافي‪،‬‬
‫‪33‬‬
‫‪" 1990‬مج ‪� ،"3‬ص ‪ ..)133‬و"حرية إالرادة ‪ :Freedom of Will‬يق�صد بها عند‬
‫ف‪ .‬فرانكل‪� ،‬إرادة ي�شعر بها �صاحبها �أو قدرة على االختيار الحر التجاه اجتماعي‪-‬‬
‫نف�سي �أو لم�سار الفعل‪ ،‬عند فرانكل ال تت�أثر حرية إالرادة بالعوامل الال�شعورية �أو‬
‫بالظروف البيئية"(جابر عبدالحميد جابر وعالء الدين كفافي‪" 1990 ،‬مج ‪،"3‬‬
‫�ص ‪..)133‬‬

‫الحرية كمفهوم عولمي‪ :‬الحرية كمفهوم مو�صول بالعولمة تفيد "المزيد من‬
‫القدرة على االختيار في كل االتجاهات"‪ ..‬فمث ًال في زمن العولمة‪ ،‬تزداد حرية ابداء‬
‫آالراء والتعبير بدون تدخل‪ ،‬والتي ت�شتمل على "حرية البحث عن المعلومات �أو‬
‫أالفكار من �أي نوع وتلقيها ونقلها بغ�ض النظر عن الحدود‪ ،‬وذلك �إما �شفاهة �أو‬
‫كتابة �أو طباعة‪ ،‬و�سواء كان ذلك في قالب فني �أو ب�أية و�سيلة �أخرى يختارها"(�أحمد‬
‫زكي بدوي‪� ،1982 ،‬ص ‪..)168‬‬

‫من أ�ين ت أ�تي الحرية‪ :‬الحرية في �أ�سا�سها ت�أتي من إالرادة والقدرة على التمييز‬
‫مثل القدرة على التمييز بين أال�شياء‪ ،‬التمييز بين الحق والباطل‪ ،‬النافع وال�ضار‪،‬‬
‫والخير وال�شر‪ ،‬الحالل والحرام‪ ،‬الكامل والناق�ص‪ ،‬وهكذا‪� ..‬إذاً إالرادة تلد الحرية‪..‬‬
‫وحديثاً قال �أبو القا�سم ال�شابي‪:‬‬
‫فالبد �أن ي�ستجيب القدر)‬ ‫(� إذا ال�شعب يوماً �أراد الحياة‬
‫وهذا البيت يفيد فكرة �أن اهلل قد كتب على من ي�أخذ أ‬
‫بال�سباب‪ ،‬ف�إنه يجني‬
‫عواقب من جن�س تلك أال�سباب‪ ..‬ولكن نود �أن ننبه هنا �إلى �أنه لي�س بال�ضرورة �أن‬
‫‪34‬‬
‫ي�ستجيب القدر دائماً للب�شر‪ ..‬ولذلك هذا البيت‪ ،‬بالرغم من جودته الفنية‪� ،‬إال �أنه‬
‫قد يحتاج �إلى تعديل لكي ُي ْن َفى عنه ما فيه من خلل فكري غير مق�صود‪ ..‬وقد تكون‬
‫الفكرة ال�صحيحة لهذا البيت هي‪:‬‬
‫(�إذا ال�شعب يوماً �أراد الحياة فالبد "�إن �شاء الخالق" �أن ي�ستجيب القدر)‪..‬‬
‫والتعبير أالدبي "ال�شعري" من حيث المعنى والنحو والوزن هو‪:‬‬
‫ِفبَ ْ�سم إالله يجيب القدر)‬ ‫(� إذا ال�شعب يوماً �أراد الحياة‬

‫ميزات الحرية‪ :‬الحرية لها ميزات‪ ..‬والميزات تفيد "كل ما فيه نفع لل�شيء‬
‫�أو ال�شخ�ص �أو الفكر �أو للمجتمع"‪ ..‬الميزات هي �صورة عملية من �صور الرزق‪..‬‬
‫هي تعبير عملي عن الرزق‪� ،‬إنطالقاً من �أن الرزق يعني كل ما فيه نفع للنا�س‪ ..‬وك�أن‬
‫الحرية هنا هي مادة غذائية ي�ستنفع بها الفكر والبدن‪ ،‬الب�شر والتمدن‪ ،‬ألن بدونها‬
‫ي�صبح كل �شيء معطّ ل‪ ،‬ت�صبح كل الطاقات المادية والمعنوية والفكرية والروحية‬
‫معطّ لة‪..‬‬

‫للبداع وما يترتب عليه من نفع؛ وف�سح المجال‬ ‫ومن ميزات الحرية‪ :‬ف�سح المجال إ‬
‫للرادة وما يترتب عليها من مبادرة؛ وف�سح المجال للنمو الذاتي واالجتماعي؛‬ ‫إ‬
‫ناهيك �أنها ذاتها �أ�سا�س لبناء الح�ضارة؛ بل �إن الحرية قد تكون هي ذاتها الح�ضارة‪،‬‬
‫فال ح�ضارة بال حرية‪ ..‬باخت�صار الحرية ال ت�ساوي فقط الح�ضارة‪ ،‬بل �إنها تخطو خطوة‬
‫�أخرى �إلى أالمام‪ ،‬فت�صنع الح�ضارة‪ ..‬والحرية التي نق�صدها هنا هي الحرية التي لها‬
‫�ضوابط‪� ،‬أي الحرية المن�ضبطة �أو الحرية الم�س�ؤولة‪..‬‬
‫‪35‬‬
‫م�ؤ�شرات تعك�س ا�ستمتاع الفرد بميزات الحرية‪ :‬الفرد الحر هو ذلك الكائن‬
‫بناء على قناعاته‪ ..‬فهو يح�صد‬ ‫الذي تتقدم قناعته منافعه‪� ،‬أي ت�أتي مجمل منافعه ً‬
‫ما يق�صد‪ ،‬يجني ما يعي‪ ..‬ومن هذه الم�ؤ�شرات التي تعك�س ا�ستمتاع الفرد بميزات‬
‫الحرية ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬تفكير الفرد بال خوف �أو �ضغط �أو �إح�سا�س بالتهديد‪.‬‬
‫‪� -‬إعالن الفرد عن أالفكار في الق�ضايا التي هي مو�ضع �أهمية له ولمجتمعه‪.‬‬
‫‪ -‬مبادرة الفرد بالفعل لو�ضع أالفكار حيز التنفيذ‪.‬‬
‫‪ -‬م�ساعدة الفرد كل من يبادر �إلى تبني �أفكاره في حدود و�سعه‪.‬‬
‫‪ -‬م�شاركة الفرد آالخرين في ما هو مقتنع به‪ ،‬وكذلك في احتفاالتهم ب�إنجازاتهم‬
‫�إذا كان مقتنعاً بها‪ ،‬وبالذات تلك االنجازات المو�صولة ب�أفكاره‪.‬‬
‫ال�سرة بميزات الحرية‪ :‬أ‬
‫ال�سرة الحرة هي ذلك‬ ‫م�ؤ�شرات تعك�س ا�ستمتاع أ‬

‫الكائن االجتماعي الذي تتقدم قناعاته منافعه‪� ،‬أي يمار�س قناعاته ويج�سدها في �صيغة‬
‫�أفعال ملمو�سة في �أر�ض الواقع‪ ..‬ومن هذه الم�ؤ�شرات التي تعك�س ا�ستمتاع أال�سرة‬
‫بميزات الحرية ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬التفكير الحر داخل أال�سرة بال خوف‪.‬‬
‫‪� -‬إعالن �أفراد أال�سرة عن �أفكارهم في الق�ضايا التي هي مو�ضع �أهمية لهم‬
‫ول�سرتهم ولمجتمعهم‪.‬‬ ‫أ‬
‫‪ -‬مبادرة �أفراد أال�سرة ب�أفعال ت�ضع �أفكارهم حيز التنفيذ‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫‪ -‬م�ساعدة �أفراد أال�سرة بع�ضهم لبع�ض في تبني أالفكار‪ ،‬ولكن عن قناعات وفي‬
‫حدود الو�سع‪.‬‬
‫‪ -‬م�شاركة �أفراد أال�سرة آالخرين في ما هو مقتنع به‪ ،‬وكذلك في احتفاالتهم‬
‫ب�إنجازاتهم �إذا كان مقتنعاً بها‪.‬‬

‫التربية أال�سرية ينبغي أ�ن ت�ستفيد من هذه الميزات‪ ،‬ميزات الحرية‪،‬‬


‫بحيث ينعك�س ذلك على محتواها التعريفي وبرامجها التربوية العملية‪ ..‬ومن ال�صور‬
‫المعبرة عن هذه اال�ستفادة ما يلي‪:‬‬ ‫ِّ‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية تمنح الحرية مكانة داخلية بين �أفراد أال�سرة‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية تمار�س قناعاتها مع �أفراد أال�سرة بال خوف‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية تقيم �أ�سا�سها البنائي والوظيفي "�أي الت�أثيري" على �أ�سا�س‬
‫والقناع‪.‬‬
‫الحوار إ‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية ت�صنع �أفراداً �أحراراً‪.‬‬
‫ولخوانه الب�شر‪.‬‬‫‪� -‬أن التربية أال�سرية تجعل من الفرد الحر فرداً مفيداً لنف�سه إ‬

‫‪37‬‬
‫�سالمة العبودية ك�ضابط للحرية‬

‫تمهيد‪ :‬العبودية هنا هي "العبودية هلل"‪ ..‬وبالتالي‪ ،‬ف�إن كل ما يتعار�ض مع‬


‫العبودية‪ ،‬ال ي�صبح إالن�سان حراً فيه‪ ..‬وال�سبب في ذلك‪� ،‬أن العبودية هي التي تمنع‬
‫التحرر من �أن ي�صبح م�صدر �ضرر‪� ،‬أي تمنع الحرية من �أن تتحول �إلى ّ‬
‫م�ضرة‪ ..‬وهذا‬
‫هو ال�ضابط أال�سا�س‪ ،‬وبدونه ال قيمة حقيقية للحرية‪ ..‬وقديماً قال ابن تيمية رحمه‬
‫اهلل‪" :‬ال يكون العبد عبداً حتى يكون مما �سوى اهلل تعالى حراً"(محمد �أحمد الرا�شد‪،‬‬
‫‪� ،1981‬ص ‪.)156‬‬

‫وتورثه‬
‫بدون �ضابط العبودية هلل‪ ،‬ت�ضل الحرية طريقها‪ ،‬وتنحرف ب�صاحبها‪ِّ ،‬‬
‫�أمرا�ضاً و�آالماً‪ ،‬قد يكون لها �أ ّو ًال‪ ،‬وال يكون لها �آخراً �إال الموت‪ ..‬وانطالقاً من �أن‬
‫الحرية‪ ،‬والتي من ثمراتها المحتملة "الثروة"‪ ،‬يمكن �أن تن�شط وتتو�سع ب�شكل �أكبر‬
‫بفعل تلك الثروة التي َ�ص َن َع ْتها‪ ..‬فالحرية ت�ساعد على تنمية الثروة‪ ،‬والثروة بدورها‬
‫يمكن �أن ت�ساعد من تو�سيع م�ساحات الحرية‪..‬‬
‫تبنــى‬ ‫الحريــة‬

‫الثروة‬
‫الحريــة‬ ‫تغــذى‬
‫ال�شكل رقم (‪ )1‬يبين �أن الحرية يمكن �أن تكون عام ًال ي�سهم في بناء الثروة‪ ،‬والثروة بدورها يمكن‬
‫�أن تغذي تلك الحرية وتنميها‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫فالحرية ت�ساعدك في �أن ت�أكل وت�شرب كل ما تريد‪ ،‬وبالكمية التي تريد‪،‬‬
‫والعبودية تقت�ضي �أن يكون كل ذلك هلل‪ ،‬وبغر�ض التقوي على عبادة اهلل‪ ،‬وهذا يعني‬
‫﴾‬ ‫�أن العبودي��ة ت�ستل��زم االعت��دال ف��ي التعاط��ي‪﴿ ،‬‬
‫ أالعراف‪ ، 31 :‬و�أن يكون هذا التعاطي هو "تعاطي ُم َّقوي" لل�شخ�صية على القيام‬
‫بالعبادة‪ ،‬القيام بكل ما يحقق الغاية‪ ،‬الغاية من هذا الوجود وهي غاية العبادة‪ ،‬ويقول‬
‫الر�سول محمد  ‪" :‬بح�سب ابن �آدم لقيمات يقمن �صلبه" جزء من حديث رواه‬
‫�أحمد والترمذي والن�سائي وابن ماجه‪ ،‬وقال الترمذي‪ :‬حديث ح�سن(ابن رجب‬
‫البغدادي‪ ،‬طبعة ‪� ،1993‬ص ‪..)424‬‬

‫مفهوم العبودية‪ :‬المفهوم العام للعبودية هو الخ�ضوع المطلق هلل بدون قيد‬
‫�أو�شرط‪ ،‬وكحد �أدنى ألوامر ونواهي ال�شرع‪ ..‬ولذلك �صنف العباد �إلى ثالثة �أنواع‪،‬‬
‫�أحدهم هو العابد الحر‪ ،‬الذي يعبد بال �شرط‪ ،‬وعبوديته هذه هي ما ت�سمى بعبودية‬
‫أالحرار‪ ،‬وتفيد في جوهرها كما يقول ال�شيخ عبداهلل أالن�صاري رحمه اهلل‪� :‬أن الفرد‬
‫"حياء من اهلل تعالى‪ ،‬وت�أدية لحق العبودية وت�أدية لل�شكر‪ ...‬وهذه‬
‫ً‬ ‫يفعل ما يفعل‬
‫هي عبادة أالحرار‪ ،‬و�إليها �أ�شار ر�سول اهلل  لما قالت له عائ�شة ‪-‬ر�ضي اهلل عنه‪-‬‬
‫تورمت قدماه‪ :‬يا ر�سول اهلل! �أتتكلف هذا وقد غفر اهلل‬ ‫حين قام من الليل حتى ّ‬
‫لك ما تقدم من ذنبك وما ت�أخر؟ قال‪�( :‬أفال �أكون عبداً �شكورا؟) (النووي‪ ،‬طبعة‬
‫‪1399‬هـ‪� ،‬ص �ص ‪..)13-12‬‬

‫‪39‬‬
‫﴾‪..‬‬ ‫﴾‪ ،‬و�أثرها في ﴿‬ ‫العبودية �أ�صلها في ﴿‬
‫ف�إياك نعبـد تقــوم على "�أربع قواعد‪:‬‬
‫التحقق بما يجبه اهلل ور�سوله وير�ضاه‪،‬‬
‫من قول الل�سان والقلب‪ ،‬وعمل القلب والجوارح‪..‬‬
‫فالعبودية‪ :‬ا�سم جامع لهذه المراتب أالربع"‬
‫(ابن قيم الجوزية‪ ،‬طبعة ‪" 1972‬مج ‪� ،"1‬ص ‪..)100‬‬

‫العبودية كمفهوم �سو�سيولوجي‪ :‬من المنظور االجتماعي‪ ،‬العبودية لها عدة‬


‫معنى �أول وهو اال�سترقاق ‪ ،Bondage‬ويفيد "فقد الحرية الفردية‪ ،‬والخ�ضوع‬
‫معاني‪ً ..‬‬
‫للخرين‪ ،‬ويق�صد بهذه الكلمة بنوع خا�ص حالة أالفراد المرتبطين أ‬
‫بالر�ض ويباعون‬ ‫آ‬
‫معها �إذا انتقلت ملكيتها ل�سيد �آخر"(�أحمد زكي بدوي‪� ،1982 ،‬ص ‪ ..)44‬والرِق‬
‫ال�شغال ال�شاقة ‪Panal Servitude‬‬ ‫"خ�ضوع أالفراد ل�سيطرة آالخرين‪ ،‬ويقال أ‬
‫للعمل الذي ي�ؤدى كعقوبة عن جريمة"(�أحمد زكي بدوي‪� ،1982 ،‬ص ‪..)375‬‬

‫معنى �آخر اجتماعي‪-‬ديني للعبودية يفيد �أن العبودية هي نظام مفهومي يت�ضمن‬
‫المتعبد كدور اجتماعي ذي �صفة دينية �شاملة تنطلق‬
‫ِّ‬ ‫العبادة كغاية‪ ،‬والعابد �أو‬
‫من المعنى الغائي ال�شمولي للعبادة‪ ،‬والذي حدده ابن تيمية رحمه اهلل في قوله‪:‬‬
‫القوال أ‬
‫والعمال الباطنة والظاهرة‪...‬‬ ‫"العبادة‪ :‬هي ا�سم لكل ما يحبه اهلل وير�ضاه من أ‬

‫‪40‬‬
‫والعبادة‪ :‬هي الغاية المحبوبة له‪ ،‬والمر�ضية له‪ ،‬التي َخلق الخالق لها"(طبعة‬
‫‪1399‬هـ‪� ،‬ص �ص ‪" ..)39-38‬فالعبد �إنما ُخ ِلق لعبادة ربه"(ابن تيمية‪ ،‬طبعة ‪1398‬‬
‫هـ "مج ‪� ،"14‬ص ‪..)32‬‬

‫العبودية كمفهوم �سيكولوجي‪ :‬العبودية هو مفهوم نف�سي وجودي �ضخم‬


‫ينطلق من فكرة �أن "العبادة هي غاية الوجود إالن�ساني كله"(محمد قطب‪،1987 ،‬‬
‫�ص ‪ ،)114‬و�أن هذا المفهوم هو الذي يمنح إالن�سان ً‬
‫معنى لوجوده‪ ،‬هو الذي‬
‫ُي ْ�ش ِبع حاجة هذا إالن�سان �إلى الدين والتدين‪ ،‬هو الذي يحميه من الوقوع في كل‬
‫ما فيه �ضرر به وبغيره‪ ،‬وي�ؤدي به �إلى ح�صد كل ما فيه نفع له ولغيره‪..‬‬

‫معنى نف�سي �آخر للعبودية يكمن في �أن إالن�سان بحكم طبيعته الب�شرية‬
‫﴾الن�ساء‪ ،]28 :‬يحتاج‬ ‫بما ت�شتمل عليـه من �ضعـف‪﴿ ،‬‬
‫�إلـى االرتباط بقوة �أكبر‪ ،‬وال توجد قوة �أكبر ت�ستحق االرتباط كالخالق‪ ..‬فالقــوة كل القـوة‬
‫﴾هود‪ ،]66 :‬وبـه يقـوى إالن�سان على كل‬ ‫فـي الخــالـق‪﴿ ،‬‬
‫﴾ الروم‪..]54 :‬‬ ‫�شيء حوله‪ ،‬فهو �سبحـانه وتعالى الذي يجعـل ﴿‬

‫العبودية كمفهوم عولمي‪ :‬العبودية كمفهوم مو�صول بالعولمة يفيد "اال�ستعباد"‪،‬‬


‫�أي "المزيد من العبوديات وبكافة أال�شكال وفي كل االتجاهات"‪ ..‬فالعولمة‬
‫طورت العديد من‬ ‫جاءت ب�أ�شكال جديدة من العبوديات‪ ،‬إ‬
‫بال�ضافة �إلى �أنها ّ‬
‫�أ�شكال العبودية التي عرفها إالن�سان عبر التاريخ �إلى يومنا هذا‪ ..‬ولذلك‪ ،‬ف�إن‬

‫‪41‬‬
‫ت�سوق لعبوديات زائفة متعددة‪ ،‬ال تر ّدها �إال العبودية الح ّقة‪،‬‬
‫العولمة في يومنا هذا ِّ‬
‫﴾‬ ‫﴿‬
‫أ‬
‫النعام‪ ..]153 :‬و�سبيل العبادة ال�صحيح هو �أن "العبادة التي كُ ِّلف بها إالن�سان‬
‫ت�شمل ال�صالة والن�سك ‪�-‬أي ال�شعائر التعبدية‪ -‬وت�شتمل معها كل الحياة"(محمد‬
‫قطب‪� ،1987 ،‬ص ‪ ..)179‬ونحن هنا نق�صد العبادة من منظور إال�سالم‪.‬‬

‫العبودية ت�أتي من رغبة الفرد وحاجته �إلى اللجوء واالعتياد على عوامل و�أ�شياء‬
‫ي�سترجع بها توازنه‪ ،‬وبالتالي عافيته‪ ،‬وبالتالي قوته‪ ،‬فيرتد �إلى عالم الواقع ن�شيطاً‬
‫منتجا‪ ..‬وهذا في حد ذاته قد يكون مفيداً عندما يكون م�شروعاً ومعتد ًال‪ ..‬لكن‬
‫اال�شكال هو لي�س في اللحوء �أو إالعتياد‪ ،‬و�إنما في تحول ذلك االعتياد �إلى اعتقاد‪،‬‬
‫متعود �إلى كائن م�ستعبد‪ ،‬من كائن ممار�س لل�شيء �إلى كائن‬ ‫يحول الفرد من كائن ِّ‬
‫ِّ‬
‫مقد�س له‪ ،‬ومنا ِف�س لما لديه من معتقدات ثابتة وقطعيات يقينية‪ ..‬وهنا تكمن‬ ‫ِّ‬
‫فالن�سان الذي يدمن على �شيء ي�صبح عبداً له‪ ..‬وقديماً قال إالمام‬ ‫الخطورة‪ ..‬إ‬
‫ال�شافعي رحمه اهلل‪" :‬من غلبته �شدة �شهوة الدنيا‪ ،‬لزمته العبودية ألهلها"(�صالح‬
‫�أحمد ال�شامي‪�1998 ،‬أ‪� ،‬ص ‪.)65‬‬

‫ميزات العبودية هلل‪ :‬العبودية هلل لها ميزات‪ ،‬وميزاتها قد يكون لها �أول ولكن‬
‫لي�س لها �آخر‪ ،‬فالميزات ِنعم‪ ،‬والنعم بطبيعتها تعد وال تح�صى‪﴿ ،‬‬
‫﴾النحل‪ ..]18 :‬ومن هذه الميزات‪:‬‬
‫‪42‬‬
‫‪ -‬التحرر الحقيقي‪ ،‬والذي هو �إخراج العباد من عبادة العباد �إلى عبادة رب‬
‫العباد‪.‬‬
‫‪ -‬التحرر من جور أالديان والمذاهب أ‬
‫واليديولوجيات والفل�سفات المعا�صرة‬
‫�إلى عدل إال�سالم‪.‬‬
‫‪ -‬التحرر من �ضيق الدنيا �إلى �سعتها‪.‬‬
‫‪ -‬التحرر من عبادة المادة وم�ستخرجاتها (من تقنية وغيرها) �إلى عبادة خالق‬
‫�صانع ال�صنعة‪.‬‬
‫‪ -‬التحرر من ال�ضعف والخوف‪ ،‬وال�شعور بالقوة‪ ،‬ألنه ي�ستمدها من خالقه‪.‬‬

‫وهذه‬ ‫م�ؤ�شرات تعك�س ا�ستمتاع الفرد بميزات العبودية ال�صحيحة‪:‬‬

‫الم�ؤ�شرات عديدة‪ ،‬ومنها‪:‬‬


‫‪ -‬امتالك الفرد لم�صادر معرفة ومعتقدات يقينية �صحيحة‪.‬‬
‫‪ -‬عي�ش الفرد بحالة من ال�صفاء والثبات‪.‬‬
‫‪ -‬تمتع الفرد ب�سلوكيات تعتمد على قطعيات يقينية �أو معايير ثابتة ووا�ضحة‪.‬‬
‫‪� -‬ضبط الفرد ل�سلوكياته المتغيرة ب�ضوابط ال�شرع‪.‬‬
‫‪ -‬اعتماد الفرد في حياته مبد�أ عام تتفرع منه مبادئ خا�صة‪ ،‬وهذا المبد�أ العام‬
‫يدور حول فكرة "در�أ المفا�سد وجلب المنافع"‪..‬‬

‫‪43‬‬
‫وهذه‬ ‫م�ؤ�شرات تعك�س ا�ستمتاع أ‬
‫ال�سرة بميزات العبودية ال�صحيحة‪:‬‬

‫الم�ؤ�شرات عديدة‪ ،‬ومنها‪:‬‬


‫‪ -‬امتالك أال�سرة لمرجعية يقينية �صحيحة ت�ستمد منها ال�سلوك الم�ستقيم وقواعد‬
‫�ضبط ال�سلوك العام‪.‬‬
‫‪ -‬عي�ش أال�سرة و�أفرادها بحالة من التما�سك الروحي "المعنوي" الذي ُيلزم‬
‫أالفراد بما هو يقيني ويدفعهم �إلى االجتهاد فيما هو ظني‪.‬‬
‫‪ -‬تمتع أال�سرة و�أفرادها ب�أنماط من ال�سلوك ال�سوي القائم على مبادئ وا�ضحة‬
‫وثابتة‪.‬‬
‫‪� -‬ضبط أال�سرة ل�سلوكيات �أفرادها في دنيا المعاملة ب�ضوابط ال�شرع‪.‬‬
‫‪ -‬اعتماد أال�سرة في حياتها على مبد�أ ذاتي �إيجابي‪ ،‬فيه نفع للجميع ودفع لل�ضرر‬
‫كذلك عن الجميع‪..‬‬
‫التربية أ‬
‫ال�سريةينبغي أ�نت�ستفيدمنهذهالميزات‪،‬ميزاتالعبوديةال�صحيحة‪،‬‬

‫بحيث ينعك�س ذلك على محتواها التعريفي وبرامجها التربوية العملية‪ ..‬ومن ال�صور‬
‫المعبرة عن هذه اال�ستفادة ما يلي‪:‬‬
‫ِّ‬
‫‪ -‬التربية أال�سرية الفعالة هي التي تع ِّلم �أبنائها �أن العبودية الح ّقة ال تكون �إال هلل‬
‫وحده‪.‬‬
‫‪ -‬التربية أال�سرية الفعالة هي التي تجعل منطلق حرية أالبناء هي العبودية هلل‪،‬‬
‫وتترجم ذلك في مظاهرها العملية من �إتاحة فر�صة للحوار ولحرية التعبير‬
‫وغيرها من مظاهر‪� ،‬أي ال ت�سلب الفرد حقه في التفكير والتعبير‪.‬‬
‫‪44‬‬
‫‪ -‬التربية أال�سرية الفعالة هي التي تخ ِّل�ص أالبناء من االرتباط بعالم المادة‬
‫وال�سمو بهم �إلى ما هو �أ�سمى و�أعلى‪.‬‬
‫‪ -‬التربية أال�سرية الفعالة هي التي تخ ِّل�ص أالبناء من ا�ستعباد إالدمان ال�سلبي‬
‫بكافة �أ�شكاله‪.‬‬
‫‪ -‬التربية أال�سرية الفعالة هي التي تقي أالبناء من ا�ضطرابات نف�سية واجتماعية‬
‫في أال�سرة و�أفرادها‪.‬‬

‫ال�سالمي العام تفيد "القدرة على االختيار بدون �ضرر‬


‫خاتمــة‪ :‬الحرية من المنظور إ‬
‫�أو �إ�ضرار"‪..‬وهذايعني�أن إالن�سانالحرهوالذييفكرقبل�أنيقرر‪،‬ي�شترِطقبل�أنيرتبط‪،‬‬
‫يفكر وي�شترط قبل �أن يقرر االرتباط ب�أي �شيء في العالم الحقيقي �أو العالم االفترا�ضي‬
‫‪ ،Virtual World‬وبالتالي يقي نف�سه من الوقوع في فخاخ تجلب له الم�ضار‬
‫والمفا�سد‪.‬‬

‫�أي�ضاً الحرية من منظور �إ�سالمي هي الحرية التي تدور في �إطار من العبودية‬


‫الح ّقة‪ ..‬حرية ت�ستبعد اال�ستعباد‪ ،‬وتدين لربها خالق ورازق العباد‪ ..‬تدين لمن بيده‬
‫والجل‪ ،‬رب العزة جل جالله‪ ..‬وبهذا المعنى تكون أال�سرة ذات العبودية‬ ‫الرزق أ‬
‫الخال�صة لربها �أ�سرة حرة‪ ،‬بل �أ�سرة تتمتع بالحرية في �أ�سمى معانيها و�أح�سن‬
‫�صورها‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫"�أن تكون العبودية هلل يعني �أن تكون ِرقاً له �سبحانه ال لغيره"‪..‬‬
‫والن�سان الذي ال يكون عبداً هلل‪� ،‬سيكون "بال�ضرورة" عبداً لغيره مثل‪:‬‬
‫إ‬
‫‪ -‬عبادة الطواغيت ( وفرعون خير مثال)‪.‬‬
‫‪ -‬عبادة المال (تع�س عبد الدرهم)‪.‬‬
‫﴾الجاثية‪.23 :‬‬ ‫‪ -‬عبادة الهوى ﴿‬

‫�إذاً نَ ْخ ُل�ص مما تقدم �إلى "�أن �إفراد اهلل بالعبادة والطاعة هو أال�سا�س الحقيقي‬
‫للرادة نحو كمالها في اختيار الحق والعدل‪،‬‬ ‫للحرية ال�صحيحة‪ ،‬والمحرك الوحيد إ‬
‫فت�صبح �إرادة م�ستعلية بكمالها ال�سماوي فوق كل أالهواء والم�صالح ال�شخ�صية‪،‬‬
‫ال ينال من حريتها ولد وال �أهل وال ع�شيرة وال جاه وال تجارة وال ملء أالر�ض ذهباً‪،‬‬
‫خيره قومه بين المال والجاه وال�سلطان‪ ،‬وبين الحق‪،‬‬ ‫حرية الر�سول (�ص)‪ ،‬الذي ّ‬
‫فكان جوابه‪( :‬يا عم‪ :‬واهلل لو و�ضعوا ال�شم�س في يميني‪ ،‬والقمر في ي�ساري‪ ،‬على‬
‫�أن �أترك هذا أالمر حتى يظهره اهلل �أو �أهلك فيه‪ ،‬ما تركته) �صحيح البخاري‪ ،‬ج‪،4‬‬
‫�ص ‪ ،129‬باب التوا�ضع(حمدي عبدالعال‪� ،1985 ،‬ص ‪.)151‬‬
‫وهكذا ينبغي �أن يكون موقف أال�سرة في زمن العولمة وغير العولمة‪ :‬فلو و�ضعت‬
‫العولمة ال�شم�س في يمينها والقمر في ي�سارها‪ ،‬على �أن تترك دين اهلل‪ ،‬ما تركته‪..‬‬
‫وال�سرة تنطلق في ذلك من ك َْون الحرية الح ّقة لي�ست فيما نملك من دوالر و�إنما‬ ‫أ‬
‫وحية وفعالة؛ وبتعبير �أعم‪ ،‬لي�ست فيما نملك‬
‫فيما نملك من �أفكار‪� ..‬أفكار م�ستقيمة ّ‬
‫مادياً �أو فيما نتمتع به مادياً‪ ،‬و�إنما هي فيما نملك معنوياً‪ ..‬هي لي�ست في الو�سيلة‬
‫التي نم ِلكها‪ ،‬و�إنما في الغاية التي نتجه �إليها‪..‬‬
‫‪46‬‬
‫الناجت أ‬
‫الكرب حلرية م�سئولة وعبودية م�ستقيمة ‪- -‬‬
‫اختيار بال جتاوز‬

‫الناتج أالكبر لحرية م�سئولة وعبودية م�ستقيمة هو "االختيار بال تجاوز"‪..‬‬


‫و"بال تجاوز" تعني بال تجاوز للحدود �أو ك�س ٍر للثابت من القيود‪ ..‬فتجاوز الحدود‪،‬‬
‫�أي تعديها‪ ،‬يمكن �أن تمنح إالن�سان �صفات نف�سية مذمومة مثل الظلم‪﴿ ،‬‬
‫﴾البقرة‪..]229 :‬‬

‫فمث ًال يتعلم أالبناء و�أفراد في نطاق أال�سرة كيف يختارون في حدود ال�ضوابط‬
‫ال�شرعية‪ ،‬ومعطيات العلم المتجددة‪ ،‬كما في الموبايل �أو الجوال �أو المتحرك‪ ،‬حيث‬
‫�أن هناك �إ�شارات �إلى احتمالية وجود �أ�ضرار مترتبة على ا�ستخدام هذا الهاتف‬
‫الجوال ب�شكل مبا�شر وم�ستمر‪ ،‬مما ي�ستدعي تر�شيد أال�سرة ألبنائها ب�شراء هواتف‬
‫متحركة ذات ميزات تلغي �إمكانية واحتمالية ال�ضرر بهم‪� ،‬أي تر�شيد أالبناء في‬
‫ا�ستخدامات الهاتف النقال‪ ،‬تر�شيداً يزيد في المنفعة ويلغي الم�ضرة‪� ،‬أو يقلل منها‬
‫ويجعل �أثرها هام�شياً‪� ،‬أثر لي�س له ذكر‪..‬‬

‫�أي�ضاً االختيار بال تجاوز يعني �إلغاء القيود (التي تعيق الحركة والمنا�شط)‪ ،‬وعدم‬
‫تجاوز وتعدي الحدود (عن طريق الفرملة وال�ضوابط)‪ ،‬بما ي�ؤدي �إلى تعزيز فكرة‬
‫الحرية الم�س�ؤولة‪ ..‬فالحرية الم�س�ؤولة من الناحية العملية هي "اختيار بال تجاوز"‪،‬‬
‫"انتفاع بال م�ضرة"‪ ..‬وبالتالي ف�إن �صفة الم�س�ؤولية هي التي تمنح الحرية قيمة‬
‫المنفعية الحقيقية‪..‬‬
‫‪47‬‬
‫وبتعبير �آخر‪ :‬الحرية الم�س�ؤولة‪ ،‬والتي تنعك�س في هيئة عبودية م�ستقيمة‪ ،‬ت�ؤدي‬
‫ب�صاحبها �إلى ح�سن االختيـار‪ ،‬بعـد تبيـن الحـق‪﴿ ،‬‬

‫﴾البق��رة‪ ..]256 :‬ه��ذا االختي��ار ي�صب��ح اختي��اراً را�ش��داً‪..‬‬


‫واالختيار الرا�شد هو م ؤ��شر على التحرر من اال�ستعباد‪ ..‬وفي زمن العولمة هناك‬
‫محاوالت للخروج من رق اال�ستعباد الح�ضاري‪ ..‬ولعل �إحدى �صور هذا التحرر هو‬
‫"تر�شيد اال�ستهالك"‪..‬‬

‫وبالتوقف عند آالية ال�سابقة‪﴿ ،‬ال �إكراه في الدين قد تبين الر�شد من الغي‪.‬‬
‫فمن يكفر بالطاغوت وي�ؤمن باهلل فقد ا�ستم�سك بالعروة الوثقى ال انف�صام لها‪ .‬واهلل‬
‫ابتداء ب�أن هذه‬
‫�سميع عليم﴾‪ ،‬والنظر في عمقها ال�ست�شفاف المعاني منها‪ ،‬نقول ً‬
‫آالية ت�ؤ�س�س للحرية في �إطار من العبودية‪ ،‬وتجعل من العلم مرجعية لوالدة حرية‬
‫الخذ في االعتبار �أن ا�ستقامة الم�س ؤ�ولية ذاتها هي �صورة‬
‫في �إطار من الم�س�ؤولية‪ ،‬مع أ‬
‫من �صور �صحة العبودية‪..‬‬

‫الية هي �أنه "بعد‬


‫وللمزيد من التو�ضيح نقول ب�أن القاعدة الم�ستفادة من هذه آ‬
‫التبيين‪ ،‬ال �إكراه في الدين"‪ ..‬إ‬
‫و"الكراه‪ :‬هو �أن تحمل الغير على فعل ال يرى هو‬
‫المكره فيه خيراً حتى يفعله"(محمد‬
‫َ‬ ‫خيراً في �أن يفعله‪� ،‬أي ال يرى ال�شخ�ص‬
‫متولي ال�شعراوي‪ ،‬بدون تاريخ "مج ‪� ،"2‬ص ‪..)1112‬‬

‫‪48‬‬
‫و"لكن هناك �أ�شياء قد نفعلها مع من حولنا ل�صالحهم‪ ،‬ك�أن يرغم أالبناء على‬
‫المذاكرة‪ ،‬وهذا �أمر ل�صالح أالبناء‪ ،‬وك�أن نجبر أالطفال المر�ضى على تناول‬
‫الدواء‪ ..‬مثل هذه أالمور لي�ست �إكراهاً‪ ،‬و�إنما هي �أمور نقوم بها ل�صالح من حولنا‪،‬‬
‫ألن �أحداً ال ي�سره �أن يظل مري�ضاً"(محمد متولي ال�شعراوي‪ ،‬بدون تاريخ "مج ‪،"2‬‬
‫�ص ‪ ..)1112‬مثل هذه أالمور ال تعد �إكراهاً و�إنما تعد �إ�صالحاً ونفعا‪..‬‬

‫�إذاً " إ‬
‫الك��راه‪ :‬هو �أن تحمل الغير على فعل من أ‬
‫الفع��ال ال يرى فيه هو الخير بمنطق‬
‫﴾‪ ..‬ومعنى هذه‬ ‫العقل ال�سليم‪ ..‬ولذلك يقول الحق �سبحانه‪﴿ :‬‬
‫آالية �أن اهلل لم ُيكره خلقه ‪-‬وهو خالقهم‪ -‬على دين‪ ،‬وك�أن من الممكن �أن اهلل يقهر‬
‫إالن�سان المختار‪ ،‬كما قهر ال�سماوات أ‬
‫والر�ض والحيوان والنبات والجماد‪ ،‬وال �أحد‬
‫ي�ستطيع �أن يع�صي �أمره‪ ..‬فيقول‪﴿ :‬لو ي�شاء اهلل لهدى النا�س جميعا﴾"(محمد‬
‫متولي ال�شعراوي‪ ،‬بدون تاريخ "مج ‪� ،"2‬ص ‪..)1112‬‬

‫"لكن اهلل يريد �أن يعلم من ي�أتيه محباً مختاراً ولي�س مقهوراً‪� ،‬أن المجيء‬
‫قهراً يثبت له القدرة‪ ،‬وال يثبت له المحبوبية‪ ،‬لكن من يذهب له طواعية وهو قادر‬
‫﴾ �أي �أنا‬ ‫�أال يذهب فهذا دليل على الحب‪ ،‬فيقول تعالى‪﴿ :‬‬
‫لم �أ�ضع مبد�أ إالكراه‪ ،‬و�أنا لو �شئت آلمن من في أالر�ض جميعاً‪ .‬فهل الر�سل الذين‬
‫�أر�سلهم �سبحانه يتطوعون ب�إكراه النا�س؟ ال‪� ،‬إن الر�سول جاء لينقل عن اهلل ال ليُكره‬
‫‪49‬‬
‫النا�س‪ ،‬وهو �سبحانه قد جعل خلقه مختارين(٭)‪ ،‬و�إال لو �أكرههم لما �أر�سل الر�سل‪،‬‬
‫ولذلك يقول المولى عز وجل‪﴿ :‬ولو ي�شاء اهلل آلمن من في أالر�ض جميعا‪� ,‬أف�أنت‬
‫ُتكْ رِه النا�س حتى يكونوا م�ؤمنين﴾"(محمد متولي ال�شعراوي‪ ،‬بدون تاريخ "مج‬
‫‪� ،"2‬ص ‪..)1112‬‬
‫(٭) مع تحملهم لم�س ؤ�ولية هذا االختيار‪ .‬فالمح�سن يُثاب والمذنب يُعاقب‪.‬‬

‫"لن اهلل لم‬ ‫وهذا يعني �أن الر�سول ُب ِعث مبلغا ولم يبعث ُمكْ رِها‪ ..‬مبلغاً عن اهلل؛ أ‬
‫يرد خلقه مكرهين على التدين‪� ،‬إذاً فالمبلغ عنه ال  ُيكره خلقه على التدين‪� ،‬إال �أن هنا‬
‫لب�ساً‪ .‬فهناك فرق بين القهر على الدين والقهر على مطلوب الدين‪ .‬هذا هو ما يحدث‬
‫فيه الخالف"(محمد متولي ال�شعراوي‪ ،‬بدون تاريخ "مج ‪� ،"2‬ص ‪..)1113‬‬

‫وح�سم الخالف هو �أن إالن�سان حر �أن ي�ؤمن �أو ال ي�ؤمن(٭)‪ ،‬ولكن حين التزم‬
‫ح�سب ت�صرفك �أنه لي�س من‬ ‫إاليمان‪ ،‬فعليه م�س�ؤولية تنفيذ مطلوب إاليمان‪ ،‬و�إال ُ‬
‫ت�صرفات إال�سالم‪" ،‬ف�إذا كنت ت�شرب خمراً ف�إنك حر‪ ،‬ألنك كافر مثالً‪ ،‬لكن �أت�ؤمن ثم‬
‫ت�شرب خمراً!؟ ال‪� ..‬أنت بذلك تك�سر حداً من حدود اهلل‪ ،‬وعليك العقاب"(محمد‬
‫متولي ال�شعراوي‪ ،‬بدون تاريخ "مج ‪� ،"2‬ص ‪..)1113‬‬
‫تحمل �صاحبها الم�س ؤ�ولية‪ ،‬فمن يختار �أن ال ي ؤ�من‬
‫(٭) الحرية ال تلغي الم�س ؤ�ولية‪ ،‬وحرية اختيار الدين هي حرية �شخ�صية‪ ،‬لكن مع ّ‬
‫اليمان بعد �أن تبيّن‬
‫يتحمل الم�س ؤ�ولية كاملة يوم القيامة‪ ،‬وهذا يعني �أن غير الم ؤ�من يعاقب على رف�ض إ‬
‫بال�سالم‪ ،‬فهو حر‪ ،‬ولكن ّ‬
‫إ‬
‫له الحق‪ �﴿ ،‬إن اهلل ال يغفر �أن يُ ْ�شرك به﴾[الن�ساء‪ 48 :‬و‪.]116‬‬

‫‪50‬‬
‫�إذاً العاقل الر�شيد الذي ي�ؤمن ويعرف مطلوب إاليمان‪ ،‬فعليه �أن يلتزم به‪..‬‬
‫"لذلك لم يكلف اهلل إالن�سان قبل �أن ين�ضج عقله بالبلوغ‪ ،‬حتى ال يقال‪� :‬إن اهلل قد‬
‫باليمان و�ألزمه به قبل �أن يكتمل عقله‪ ،‬بل ترك التكليف حتى ين�ضج‬ ‫�أخذ �أحداً إ‬
‫إالن�سان ويكتمل‪ ،‬حتى �إذا ما دخل �إلى دائرة التكليف عرف مطلوباته‪ ،‬وهو حر‬
‫حا�سب"(محمد متولي‬ ‫�أن يدخل �إلى إاليمان �أو ال يدخل‪ ،‬لكن �إذا دخل ُ‬
‫�سي َ‬
‫ال�شعراوي‪ ،‬بدون تاريخ "مج ‪� ،"2‬ص ‪..)1113‬‬

‫�إذاً آالية ت�ؤ�س�س لحرية في �إطار من العبودية‪ ،‬واختيار بال تجاوز‪ ،‬وا�ستقامة بعد‬
‫إاليمان‪ ،‬وفي الحديث ال�صحيح‪" :‬قل �آمنت باهلل ثم ا�ستقم" رواه م�سلم(ابن رجب‬
‫اليمان‬
‫البغدادي "الحنبلي"‪ ،‬طبعة ‪� ،1993‬ص ‪ ..)202‬وهذه اال�ستقامة بعد إ‬
‫تجلب للنف�س التوازن واالطمئنان‪� ،‬إطمئنان �إلى �أن الجهد الم�ستقيم ي�أتي بالوعد‬
‫والنعيم‪﴿،‬‬
‫﴾ف�صلت‪..30 :‬‬
‫وال�ستقامة في � إطار الحرية والعبودية تعني �أن تهتدي الحرية بتوجيهات العبودية‪..‬‬
‫إ‬
‫فالهدى ال�شرعي يت�سق مع اال�ستقامة‪ ،‬والهوى غير ال�شرعي ينافيها‪ ،‬و�إلى هذا �أ�شار‬
‫الح�سن وغيره في تف�سير قوله تعالى ﴿�أفر�أيت من اتخذ �إلهه هواه﴾‪" :‬هو الذي‬
‫ال يهوى �شيئاً �إال ركبـه‪ ،‬وهذا ينافي اال�ستقامة على التوحيد"(ابن رجب البغدادي‬
‫"الحنبلي"‪ ،‬طبعة ‪� ،1993‬ص ‪..)203‬‬
‫‪51‬‬
‫وفيما يلي مجموعة من الم�ؤ�شرات المد ِّللة على اختيار بال تجاوز‪� ،‬أي اختيار‬
‫نا�ضج ورا�شد‪ ..‬ومن هذه الم�ؤ�شرات‪:‬‬
‫‪ -‬التزام حدود ال�شرع في اال�ستهالك‪.‬‬
‫‪ -‬االطالع الم�ستمر على معطيات العلم الحديث واال�ستفادة منها في جلب‬
‫المنافع ودفع الم�ضار‪.‬‬
‫‪ -‬االبتعاد عن اال�سراف‪.‬‬
‫‪ -‬و�ضع �ضوابط للدوافع‪ ،‬بما فيها الدوافع ال�شرائية‪.‬‬
‫‪ -‬تغليب المو�ضوعية على الذاتية‪ ،‬والقرارات المبنية على �أ�س�س علمية على‬
‫القرارات االرتجالية �أو المزاجية‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫خامتــة‬

‫نخل�ص مما �سبق �إلى �أننا �أمام عولمة جاءت إ‬


‫للن�سان بحرية غير م�سبوقة‪ ،‬وبالمزيد‬
‫والن�سان يمكن �أن يحقق كل ما يريده �إذا �أح�سن ا�ستخدام هذه الحرية‪،‬‬
‫منها؛ إ‬
‫وبدون �أي �ضرر‪ ..‬ولكن إالن�سان الذي ي�سيء ا�ستخدام تلك الحرية‪ ،‬ف�إنه ال ي�ضر‬
‫نف�سه فقط‪ ،‬و�إنما ي�ضر معه غيره‪..‬‬

‫وبناء عليه‪ ،‬فنحن �أمام نوعين من الحرية‪ ..‬حرية ي�صبح بها المرء عبداً لغير ربه‪،‬‬
‫ً‬
‫وحرية ي�صبح المرء بها عبداً لربه‪ ..‬حرية ت�ستعبده‪ ،‬وحرية ي�سترد بها �إن�سانيته وكرامته‪..‬‬
‫حرية تجعل م�أ�ساته ومعاناته يتحققان من خالل �إدمانه‪ ،‬وحرية تجعل �إ�سالمه و�إيمانه‬
‫يتحققان من خالل ا�ستقامته‪ ..‬باخت�صار‪ :‬حرية مهتدية‪ ،‬تجعل إالن�سان في �أح�سن‬
‫تقويم‪ ،‬وحرية هاوية َت ْه َوى وت�سقط ب�صاحبها �إلى �أ�سفل �سافلين‪..‬‬

‫وبناء عليه‪ ،‬فالمطلوب من أال�سر في زمن العولمة‪ ،‬وفي �أزمنة �أخرى تتمثل نف�س هذه‬
‫ً‬
‫النتائج �أن تن�شط في الت�أ�سي�س لفكرة "التربية نحو اال�ستقامة"‪� ،‬أي "التربية نحو إ‬
‫اليمان‬

‫والبرهنـة العملية على إاليمان"‪� ،‬أي نحو إاليمان وما يترتب عليه من عمل �صالح‪،‬‬
‫﴿‬
‫﴾التين‪� ،]6-4 :‬أي غير مقطوع‪.‬‬
‫‪53‬‬
‫وفكرة "التربية نحو اال�ستقامة" هي فكرة تفيد "مجموعة الجهود المنظمة التي‬
‫تزيد في �إيمان أالفراد‪ ،‬وتجعل من العمل ال�صالح �أ�سا�ساً لتلك الزيادة"‪ ..‬مثل هذا‬
‫المفهوم هو الذي يمكن �أن يحمي الفرد لي�س فقط من �سوء ا�ستخدامه لحريته‪،‬‬
‫و�إنما تحميه كذلك من �إمكانية �سوء ا�ستخدام غيره لحريته‪� ،‬أي من �إمكانية �سوء‬
‫توجيه غيره له‪ ،‬فيدفعونه �إلى مقارفة ما فيه �ضرر به‪ ،‬وقد يكون �أي�ضاً بغيره (مثل‬
‫ت�شجيعه على تعاطي المحرمات من مف ِّترات �أو م�سكرات �أو مخدرات وغيرها من‬
‫م�ضرات)‪.‬‬

‫�صحة العبودية‬ ‫‪-‬‬ ‫الحرية‬

‫ثمــار‬ ‫و‬ ‫م�ضــار‬

‫م�ضــار‬ ‫بال‬ ‫ثمــار‬

‫�صحة العبودية‬ ‫‪+‬‬ ‫الحرية‬

‫يبين �أن الحرية تثمر عندما تكون من�ضبطة ب�سالمة العبودية‪ ،‬و�إال ف�إن ناتجها م�ضار‬
‫ال�شكل رقم (‪ّ )2‬‬
‫بال ثمار �أو ثمار مخلوطة بم�ضار ‪.‬‬
‫‪54‬‬
‫العـــولـمـة‬
‫جلبت اال�ستقـاللية‪،‬‬
‫و�ضابطها �صحة االعتمادية‬

‫‪55‬‬
‫متهيــد‬

‫الخط العري�ض والمتم ِّثل في "العولمـــة جلبت اال�ستقاللية‪ ،‬و�ضابطها �صحة‬


‫االعتمادية" ًي َم ِّثل فكرة مركّ َبة تت�ضمن �أو ًال اندفاعاً مت�أ ٍت بفعل اال�ستقاللية وقوتها‬
‫المتزايدة؛ وتت�ضمن ثانياً ان�ضباطاً ي�ضمن و�ضع حدود لال�ستقاللية‪ ،‬لكي ت�صبح‬
‫ومدمرة‪..‬‬
‫ِّ‬ ‫مر�ضية‪ ،‬ا�ستقاللية مثمرة ال ا�ستقاللية م�ضرة‬ ‫ا�ستقاللية �صحية ال ِ‬
‫ِّ‬
‫وللمزيد من التو�ضيح نقول ب�أن العولمة قامت من ناحية "ب�إعادة بناء مفهوم‬
‫اال�ستقاللية نظرياً"‪ ،‬ومن ناحية �أخرى قامت "ب�إعادة هيكلة �آلياتها عملياً"‪ ..‬و�إعادة‬
‫بناء مفهوم اال�ستقاللية نظرياً من منظور عولمي يفيد "منح أالفراد وم�ؤ�س�سات‬
‫المجتمع المدني عنا�صراً وعوام ًال تقوي ذاتيتها‪ ،‬بحيث تجعل منها قوة تغيير في‬
‫محيطها �أو ًال وفي عالمها بعد ذلك"‪� ..‬أي �أن العولمة تقت�ضي تفعيل دور المجتمع‬
‫المدني و�أفراده‪..‬‬

‫�أما �إعادة هيكلة �آلياتها عملياً من منظور عولمي‪ ،‬فهي "منح المجتمع المدني حرية‬
‫�أو�سع وم�ساحة ن�شاط �أكبر للتفاعل ب�شكل �إيجابي مع معطيات العولمة وع�صرها"‪..‬‬
‫جارف و�إن لم يتم تفعيل دور المجتمع المدني و�أفراده‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫تيار‬
‫وهذا يعني �أن العولمة هي ٌ‬
‫ف�ستتحول �إيجابيات العولمة �إلى �سلبيات ُم ْت ِعبَة‪ ،‬ومميزاتها �إلى م�ساوئ ُم ْه ِل َكة‪ ..‬وهذا‬
‫يعني كذلك �ضرورة وجود دور �إيجابي للمجتمع المدني لكي يحمي م�صالحه من‬
‫مطامع ال�شركات الكبرى‪ ،‬والتعامل معها على �أ�سا�س �أولوياته التنموية‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫وتجدر إال�شارة �إلى �أن مفهوم اال�ستقاللية في زمن العولمة‪ ،‬ببعديه‪ ،‬النظري‬
‫حده‪ ..‬ومعلو ٌم بمنطق العقل والخبرة �أن‬ ‫واللياتي‪ ،‬قد تجاوز ّ‬‫والعملي‪ ،‬الفكري آ‬
‫�ضده‪� ،‬إن عاج ًال �أو �آجال‪ ..‬وهذا بالتالي ي�ستدعي‬
‫حده‪ ،‬ينقلب ّ‬ ‫كل �شيء يتجاوز ّ‬
‫�إحياء مفهوم �آخر يلغي "طغيان اال�ستقاللية"‪ ،‬وبالتالي ي�ضع حد ًّا لذلك التجاوز‪..‬‬
‫المر�شح هنا هو مفهوم "�صحة االعتمادية"‪� ،‬أي االعتمادية على آالخر‬ ‫والمفهوم َّ‬
‫حدة �سمة‬‫بقد ِرها ال�صحيح‪ ،‬بقدرها الذي يمكن �أن ي�سهم في التخفيف من ّ‬ ‫َ‬
‫اال�ستقاللية ويمنحها تكاملها‪..‬‬

‫‪58‬‬
‫(اال�ستقاللية) و�ضابطها �صحة (االعتمادية)‬

‫تمهيد‪ :‬ازداد في زمن العولمة إالن�سان ا�ستقال ًال وبالذات فيما يتعلق بنمط‬
‫الحياة‪ ..‬ا�ستقال ًال يجلب معه المزيد من الحركة والن�شاط‪ ،‬االنتاج والعطاء‪ ،‬اال�شباع‬
‫والر�ضا‪ ..‬اال�ستقالل يمكن �أن يكون �أ�سا�س للعمل‪ ..‬اال�ستقالل يمكن �أن ي�ؤدي‬
‫�إلى أالف�ضل‪� ..‬إلى تح�صيل أالف�ضل‪ ..‬اال�ستقالل �أف�ضل �إذا �أدى �إلى ما هو �أف�ضل‪..‬‬

‫اال�ستقالل مفهوم ي�ستمد وجوده من الحرية‪ ..‬الحرية عامل ي�ساعد في منح‬


‫مفهوم اال�ستقالل وجوده‪ ..‬واال�ستقاللية‪ ،‬بمعنى النـزوع �إلى اال�ستقالل‪ ،‬هي‬
‫الخرى فكرة مو�صولة بالحرية‪ ،‬بل ومترتبة عليها‪ ..‬وبتعبير �آخر‪ :‬الحرية هي لي�ست‬ ‫أ‬
‫فقط اال�ستقاللية‪ ،‬و�إنما الحرية هي التي ت�صنع اال�ستقاللية‪..‬‬

‫�إذاً اال�ستقاللية هي فكرة تجد جذورها في الحرية؛ وهي من اال�ستقالل‪..‬‬


‫و"اال�ستقالل ‪ :Independence‬حرية ال�شخ�ص الطبيعي �أو االعتباري من تدخل‬
‫الغير في �شئونه الخا�صة �أو �إ�شرافه �أو نفوذه المبا�شر وغير المبا�شر"(�أحمد زكي بدوي‪،‬‬
‫‪� ،1983‬ص ‪� ..)212‬إذاً اال�ستقالل هو مفهوم يفيد "ممار�سة ال�سلطة المطلقة على‬
‫النف�س وكافة �شئونها؛ االعتماد على الذات دون الغير في مقومات الحياة"(حارث‬
‫�سليمان الفاروقي‪� ،1982 ،‬ص ‪..)360‬‬

‫اال�ستقالل لي�س فقط مفهوماً اجتماعياً عاماً �أو مفهوماً خا�صاً بالفرد‪ ،‬و�إنما هو‬
‫كذلك مفهوم �سيا�سي خا�ص بالدول‪ ..‬ومن هذه الناحية‪� ،‬أي الناحية ال�سيا�سية‪،‬‬
‫‪59‬‬
‫"ينطوي ا�ستقالل الدولة على تمتعها بال�سيادة �أي ما لها من �سلطان تواجه به‬
‫أالفراد داخل اقليمها وتواجه به الدول أالخرى في الخارج"(�أحمد زكي بدوي‪،‬‬
‫‪� ،1983‬ص ‪..)212‬‬

‫و�سعت فكرة اال�ستقاللية‪ ..‬العولمة ّنمت فكرة اال�ستقاللية‪..‬‬ ‫العولمة ّ‬

‫والعولمة لم ُت َن ِّم فقط مفهوم الحرية لدى إالن�سان‪ ،‬و�إنما ّنمت عنده كذلك فكرة‬
‫اال�ستقاللية و�صورها المتعددة كا�ستقاللية إالن�سان في �أفكاره‪ ،‬وفي مواقفه‪ ،‬وفي‬
‫ت�صرفاته‪ ..‬والناتج هو اعتماد على الذات واكتفاء ذاتي‪ ..‬الخ؛ مع التنبيه على �أن هذه‬
‫اال�ستقاللية لن تُ ؤ�تي �أُ ُك َلها �إال �إذا �صاحبها مفهوم �آخر هو مفهوم "المبادرة الذاتية"‪.‬‬

‫والمبادرة تعني المباد�أة‪ ،‬وتعريفها هو "قيام الفرد مدفوعاً بنـزعة ا�ستقاللية ببدء‬
‫عمل �أو �سل�سلة من أالعمال وخا�صة في المجال االجتماعي مع االبتكار �أو دونه‪..‬‬
‫وقد تكون المباد�أة من االلحاح �إلى الحد الذي يركِّ ز فيه إالن�سان كل طاقاته لتحقيق‬
‫غاية بعينها يراها حيوية بالن�سبة له ال منا�ص من التم�سك بها والعمل على بلوغها‬
‫حتى ولو بذل في ذلك ذاته"(�أحمد زكي بدوي‪� ،1982 ،‬ص ‪..)219‬‬

‫واال�ستقاللية‪ ،‬والتي تترجم ذاتها في �صيغة مباد�أة مركّ زة على هدف محدد‪،‬‬
‫هي التي يمكن �أن تخلق إ‬
‫للن�سان العظمة عندما يكون الهدف الذي تتجه �إليه‬
‫تلك المبادرة عظيماً‪ ..‬أ‬
‫والعمال العظيمة هي التي تجعل من �أ�صحابها �أبطا ًال‪� ..‬أبطا ًال‬
‫‪60‬‬
‫ألنهم ا�ستقلوا وبادروا‪ ،‬ركزوا و�أنجزوا‪ ..‬وهذا يذكرنا بمقولة هربرت للمالكم العالمي‬
‫وكر�س‬
‫همك ِّ‬ ‫محمد علي كالي‪" :‬عملك �أن تكون بط ًال في حلبة المالكمة‪� ...‬ضع ّ‬
‫وقتك في التدريب لتطوير مهاراتك"(محمد علي كالي‪� ،1977 ،‬ص ‪..)10‬‬

‫مفهوم اال�ستقاللية‪ :‬واال�ستقاللية هي �سمة تفيد نزوع الفرد نحو اال�ستقالل‬


‫واالعتماد على النف�س‪ ..‬اال�ستقاللية هي مفهوم يفيد في �أحد معانيه اال�ستقاللية‬
‫الفكرية‪ ..‬واال�ستقاللية الفكرية يمكن �أن تقوى ب�أنواع �أخرى من اال�ستقاللية‪،‬‬
‫وبالذات اال�ستقالية االقت�صادية‪ ..‬بمعنى �أن الم�ستقل في ماله يمكن �أن يكون‬
‫م�ستقل في فكره‪ ..‬فاال�ستقالل في التفكير والفكر م�شروط با�ستقالل في المال‪..‬‬
‫فاال�ستقالل الفكري م�شروط باال�ستقالل المادي ‪..‬‬

‫اال�ستقاللية كمفهوم �سو�سيولوجي‪ :‬اال�ستقاللية كمفهوم اجتماعي هي النـزوع‬


‫نحو المزيد من الحرية‪ ..‬واال�ستقالل يفيد الحرية التي يتمتع بها المرء في �أداء‬
‫والدوات‬‫مهامه‪ ،‬وفي تنظيم �شئونه الخا�صة والعامة‪ ،‬وكذلك في ت�صوراته لم�ستقبله أ‬
‫التي ي�ستعين بها في تحقيق �أهدافه وطموحاته‪ ..‬اال�ستقاللية من منظور االجتماعي‬
‫هي �أي�ضاً اال�ستقاللية في الر�أي‪ ،‬وما يترتب عليه من �سعي‪ ،‬بعيداً عن �أي �ضغوط‬
‫خارجية �أو هيمنة �أو و�صاية �أو �إمالءات من آالخرين‪..‬‬

‫اال�ستقاللية �أي�ضاً من منظور التفاعلية الرمزية(٭) تفيد "�أن يكون الفرد حر في‬
‫‪61‬‬
‫تفاعله مع غيره‪ ،‬وفي ا�ستخدامه للرموز التي يبلورها باال�شتراك مع آالخرين"‪ ..‬فمث ًال‬
‫في �إطار أال�سرة‪ ،‬وانطالقاً من �أن التفاعلية الرمزية تعتمد على االثارة واال�ستحابة‪ ،‬ف�إن‬
‫حر في طريقة �أو �أ�سلوب تفاعله وا�ستجابته للمثيرات �أو الرموز‬ ‫الفرد داخل أال�سرة ٌّ‬
‫التي ت�صدر من آالحرين"‪ ..‬و�صورة من �صور الحرية هنا هي �صورة اتخاذ القرار‬
‫كا�ستجابة لتفاعله مع مثيرات �أو رموز بيئته‪..‬‬
‫(٭) التفاعلية الرمزية = التفاعل مع المعاني‪� ،‬أي �أن الفعل االجتماعي يحمل في ذاته معنى اجتماعي‪ ،‬والتفاعل يتم وفقاً لذلك المعنى‬

‫الذي يمنحه الفاعل لفعله‪.‬‬

‫اال�ستقاللية كمفهوم �سيكولوجي‪ :‬اال�ستقاللية كمفهوم نف�سي تفيد "نزوع‬


‫إالن�سان الفطري لكي يكون م�ستق ًال ومتمتعاً بخ�صو�صياته"‪ ..‬فالفرد في أال�سرة قد ِّ‬
‫يعبر‬
‫عن ذاته بطريقة يختلف فيها عن غيره مثل طريقة حركاته �أثناء تفاعله �أو �أثناء التعبير‬
‫بحدة بارزة �أو ب�صراحة متناهية‪ ،‬وبكل ا�ستقاللية‪ ،‬متجاهل ًة عن‬ ‫عن ذاته مثل الكالم ِّ‬
‫غير ق�صد من حولها‪ ..‬و�إذا لم يتفهم �أفراد أال�سرة هذه الطبيعة النف�سية‪-‬ال�سلوكية‬
‫لهذا الفرد‪ ،‬ف�إنهم قد يدخلون في �شجار �أو �صراع معه‪..‬‬

‫اال�ستقاللية �أي�ضاً هي حاجة نف�سية لدى إالن�سان‪ ..‬إ‬


‫فالن�سان بطبيعته ينـزع من‬
‫خالل �آراءه وت�صرفاته �إلى اال�ستقالل‪ ..‬وهذا �أمر طبيعي‪ ،‬فاال�ستقاللية هي �صورة‬
‫وتميزه في �آراءه ومواقفه و�سلوكياته‪..‬‬
‫تعبر عن الفردية‪ ..‬فهي تعك�س تفرد إالن�سان ِّ‬ ‫ِّ‬
‫وا�ضح في �أفراد أال�سرة‪ ،‬حيث �أنهم بالرغم من �أنهم ينتمون بيولوجياً واجتماعياً‬
‫وهذا ٌ‬
‫ألب و�أم واحدة‪� ،‬إال �أنهم من الناحية النف�سية يتميزون عن بع�ضهم البع�ض‪ ،‬وهذا‬
‫‪62‬‬
‫وا�ضح في بروز خ�صائ�ص (مثل بروز خ�صائ�صه التعبيرية) لدى فرد في العائلة تختلف‬
‫عن خ�صائ�ص الفرد آالخر (مثل بروز خ�صائ�صه في حل الم�شكالت في المواقف‬
‫العملية)‪..‬‬

‫اال�ستقاللية كمفهوم عولمي‪ :‬اال�ستقاللية كمفهوم مو�صول بالعولمة له حد‬


‫�سالب و�آخر موجب‪ ،‬والفارق بين الحدين هو مدى قدرة الفرد على موافقة الهدى‬
‫إاللهي ومواجهة الهوى الب�شري؛ �أي جعل الهدى إاللهي غالباً والهوى الب�شري‬
‫مغلوبا؛ �أو جعل الهوى الب�شري ي�أتي تبعاً لما جاء به الهدى إاللهي‪ ..‬ونود �أن ننبه‬
‫هنا �إلى �أن هذه اال�ستقاللية المهتدية ال يمكن �أن تثمر بدون �أن ت�ضر �إال في حالة‬
‫وجود �ضمير‪� ..‬ضمير �أخالقي‪ ،‬ن�شط وقوي‪ ..‬في مثل هذه الحالة يكون إالن�سان‬
‫قادراً على مواجهة النف�س و�أهوائها‪ ،‬وبالتالي كحد �أدنى تغليب إالرادة والواجب‬
‫على �أهواء النف�س وعواطفها‪� ..‬إذاً إالن�سان الم�ستقل يحتاج �إلى عن�صر �أخالقي‬
‫الخالقي "من القوة‬ ‫م�ستقر في ال�ضمير‪ ،‬ومتغلعل فيه‪ ،‬حتى يكون لهذا العن�صر أ‬
‫ما ي�ستطيع �أن ي�صارع �أهواء النف�س وعواطفهـا"(محمد مندور‪� ،1980 ،‬ص ‪،)80‬‬
‫فيردها عن غيها‪..‬‬

‫بالن�سان‪ ،‬فتغريه وتغويه‪ ،‬وتكلفه �أكثر مما‬


‫فالعولمة مليئة بالمواقف التي قد تميل إ‬
‫يتحمل‪ ،‬مادياً ومعنوياً‪ ،‬بل �إن العولمة قد تكون م�صدر هالك لهذا إالن�سان �إن لم‬
‫يح�سن التعامل مع معطياتها وتهديداتها و�إغراءاتها‪ ..‬وبالتالي ف�إن أال�سر تحتاج �أن‬ ‫ِ‬
‫تبني لدى �أبنائها ا�ستقاللية عاق ِلة ور�شيدة‪� ،‬أو ا�ستقاللية تتميز بالعقالنية والر�شد في‬
‫‪63‬‬
‫التعامل مع معطيات العولمة‪ ،‬و�إال ف�إن هالكه وهالك �أ�سرته هو الم�صير المتوقع‪..‬‬

‫من أ�ين ت أ�تي اال�ستقاللية‪ :‬اال�ستقاللية ت�أتي من الحرية‪ ،‬ومنح أالفراد الثقة‬
‫بمنحهم ال�صالحية‪ ..‬اال�ستقاللية �أي�ضاً ت�أتي من حاجة إالن�سان �إلى التفرد‪ ،‬حاجته‬
‫والتميز‪ ،‬والمو�صولة بالنـزعة الذاتية للفرد‪ ..‬فالفرد له نـزعتان فطريتان‪،‬‬
‫�إلى البروز ّ‬
‫والخرى النـزعة الجماعية‪ ..‬ومو�صولٌ �أي�ضاً باال�ستقاللية‬‫�أحدهما النـزعة الذاتية أ‬
‫مفهوم نف�سي �آخر وهو "وجهة ال�ضبط الداخلية ‪،"Internal Locus of Control‬‬
‫والتي تمثل المحرك الداخلي لل�سلوك إالن�ساني‪ ..‬فمحركات �سلوك إالن�سان‬
‫ثالثة �أنواع‪ :‬محركات داخلية ‪ ،Internal Locus of Control‬ومحركات خارجية‪،‬‬
‫ومحركات مرتبطة بالقدر �أو الحظ ‪.. Luck Factor‬‬

‫ميزات اال�ستقاللية‪ :‬اال�ستقاللية لها ميزات‪ ..‬ولعل �أحد �أبرز هذه الميزات‬
‫هي �أن اال�ستقاللية تغذي الحرية‪ ،‬وتزيد في قوتها‪ ..‬فكما �أن الحرية مهمة لجلب‬
‫اال�ستقاللية‪ ،‬ف�إن اال�ستقاللية هي أالخرى مهمة لتكوين الحرية وجلب المزيد منها‪..‬‬
‫و�إذا ما اجتمعت مع الحرية‪ :‬ر�ؤية و�إرداة وقدرة وترجمة‪� ،‬أي ترجمة الر�ؤية �إلى واقع‪،‬‬
‫تحركه إالرادة وتحققه القدرة‪ ،‬ف�إن الناتج "عظمة"‪ ،‬نتائج عظيمة‪ ..‬ميزات‬ ‫واق ٌع ِّ‬
‫�أخرى لال�ستقاللية هي‪:‬‬
‫‪ -‬منح إالن�سان الثقة بنف�سه وتعزيزها‪.‬‬
‫‪ -‬ت�ؤ�س�س لفكرة المبادرة �أو المباد�أة‪.‬‬
‫للبداع واالبتكار‪.‬‬‫‪ -‬ت�ؤ�س�س إ‬
‫‪64‬‬
‫‪ -‬تحفظ االعتمادية من التطرف‪ ،‬بحكم �أنها تخلق توازن‪.‬‬
‫‪ -‬تحقق لل�شخ�ص حاجاته للتفرد والتمايز‪ ،‬وبالتالي تحقق لديه نـزعته الذاتية‪.‬‬
‫‪ -‬توفر �سبل لتنمية ال�شخ�صية‪.‬‬

‫م�ؤ�شرات تعك�س ا�ستمتاع الفرد بميزات اال�ستقاللية‪ :‬وهذه الم�ؤ�شرات‬


‫عديدة‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫‪ -‬االعتماد على الذات‪.‬‬
‫التقيد ب�أي نوع من التبعية ألي جهة من الجهات‪ ،‬و�إنما ي�صبح تعاون مع‬
‫‪ -‬عدم ّ‬
‫الجهات التي ت�شاركه ر�ؤاه وم�شاريعه‪.‬‬
‫‪ -‬حرية التفكير واتخاذ القرار‪..‬‬
‫‪ -‬تنامي القدرة على النقد واالبداع‪.‬‬
‫‪ -‬ال�شعور بالكمال الن�سبي‪� ،‬أو االتجاه نحو الكمال إالن�ساني الن�سبي‪.‬‬
‫فالح�سا�س "بالم�س�ؤولية ينمو داخلياً من‬
‫‪ -‬تنمية روح الم�س�ؤولية لدى الفرد‪ ،‬إ‬
‫بذور اال�ستقاللية"(�آالن ديفيد�سون وروبرت ديفيد�سون‪� ،2004 ،‬ص ‪.)255‬‬

‫م�ؤ�شرات تعك�س ا�ستمتاع أال�سرة بميزات اال�ستقاللية‪ :‬وهذه الم�ؤ�شرات‬


‫عديدة‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫‪ -‬اعتماد أال�سرة على ذاتها‪.‬‬
‫تقيد أال�سرة ب�أي نوع من التبعية التي ت�ض ِعفها �أو تهدد كيانها ووجودها‪.‬‬
‫‪ -‬عدم ّ‬
‫‪ -‬تنامي حرية التفكير واتخاذ القرار داخل أال�سرة‪.‬‬
‫‪65‬‬
‫ومرحب به‪ ،‬من التقييم والتقويم الذاتي‪.‬‬
‫‪ -‬تنامي جو مقبول‪ ،‬بل ّ‬
‫‪ -‬اقتناع أال�سرة بنموذجها الخا�ص بها والذي ت�سير من خالله في عالقاته الداخلية‬
‫والخارجية‪.‬‬
‫‪ -‬اال�ستقاللية أال�سرية هي نتاج تفاعل ا�ستقالليات �أفرادها‪ ،‬ودعامة لهم‪.‬‬
‫التربية أ‬
‫ال�سرية ينبغي أ�ن ت�ستفيد من هذه الميزات‪ ،‬ميزات اال�ستقاللية‪،‬‬
‫بحيث ينعك�س ذلك على محتواها التعريفي وبرامجها التربوية العملية‪ ..‬ومن ال�صور‬
‫المعبرة عن هذه اال�ستفادة ما يلي‪:‬‬
‫ِّ‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية تمنح اال�ستقاللية مكانة داخلية بين �أفراد أال�سرة بمنحهم‬
‫الحرية‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية تربي في �أفرادها روح المبادرة وال�شعور بالم�س�ؤولية‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية تنمي في �أفرادها احترام آالخر وم�شاعره‪ ،‬وروح التعاي�ش‬
‫معه‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية تجمع بين اال�ستقاللية والت�ضامن داخل أال�سرة‪ ،‬بحيث‬
‫"للنا"‪� ،‬أي اال�ستقاللية‪،‬‬‫يكون الناتج تما�سك ونمو اجتماعي‪ ،‬فهي ت�سمح أ‬
‫دون �أن تلغي "النحن"‪� ،‬أي الت�ضامنية‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية تجعل من جانب اال�ستقاللية في الفرد مت�ضامناً ومتكام ًال‬
‫مع جوانبه ال�شخ�صية أالخرى‪ ،‬وانعكا�س ذلك على ت�ضامنه مع بقية �أفراد‬
‫�أ�سرتهم‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫�صحة االعتمادية ك�ضابط لال�ستقاللية‬

‫تمهيد‪ :‬ازداد في زمن العولمة إالن�سان اعتماداً على العوامل الخارجية وبالذات‬
‫فيما يتعلق ب�سلوكيات نمط الحياة‪ ..‬وهذا االعتماد ي�سير في اتجاهاين بارزين‪:‬‬
‫�أحدهما �إيجابي‪ ،‬ويتمثل في عدة جوانب من �أبرزها‪ :‬جانب "االعتماد كنـزعة فطرية‬
‫تقرب النا�س من بع�ضهم البع�ض‪ ،‬وتجعلهم ي�ستفيدون من بع�ضهم البع�ض"؛‬ ‫ِّ‬
‫وجانب "االعتماد ك�آلية �ضرورية ي�ستعين بها المرء عند الحاجة"‪..‬‬
‫االتجاه آالخر لالعتماد هو اتجاه �سلبي يرى في االعتماد نـزعة تتحول �إلى �سلوك‪،‬‬
‫الدمان ووراثة ا�ضطراب ي�سمى با�ضطراب‬ ‫يكرره إالن�سان‪ ،‬فيعتاد عليه �إلى حد إ‬
‫االعتمادية‪ ،‬ب�صوره المتعددة مثل اال�ضطرابات المتعلقة بتعاطي مواد متعددة‬
‫من العقاقير والمخدرات‪ ،‬وما يترتب عليها من اعتمادية و�سوء ا�ستخدام‪ ..‬وهناك‬
‫تفا�صيل علمية حول هذه أالنواع من التعاطي في "�سل�سلة ت�شخي�ص اال�ضطرابات‬
‫النف�سية"(مكتب إالنماء االجتماعي‪" 2000 ،‬مج ‪..)"5‬‬
‫وبغ�ض النظر عن الت�صنيف‪ ،‬ف�إن االعتمادية تظل نـزعة مهمة‪ ،‬مطلوب تن�شيطها‪،‬‬
‫لتخفف من حدة النـزعة لال�ستقاللية‪ ،‬ولتخلق هي مع مقابلها حالة من التعادل في النف�س‬
‫إالن�سانية �أو ًال وفي واقع الب�شر ثانيا‪ ..‬معادلة المتقابلين‪ ،‬اال�ستقاللية واالعتمادية‪..‬‬
‫وفي زمن العولمة‪ ،‬حيث التحالف �سنة م�ؤكّ دة فيه‪ ،‬ف�إن التعادل حاجة �ضرورية فيه‪،‬‬
‫فالن�سان بالتعادل الذي يعي�شه في ذاته ونمط حياته يتمكن من مواجهة التحالف‬ ‫إ‬
‫الفاعل في خارجه‪..‬‬
‫‪67‬‬
‫وفعالية المواجهة م�شروطة بفعالية توظيف التعادل بين النـزعتين‪ ،‬ا�ستقاللية‬
‫الذات واالعتماد على آالخر‪ ،‬في واقع الحياة‪ ..‬هذه الفعالية التي تجد �ضمانها في‬
‫والخرة‪ ،‬ب�أن الدنيا مطية آللخرة‪ ،‬وبالتالي‬
‫للن�سان لمفهوم الدنيا آ‬ ‫إالدراك ال�صحيح إ‬
‫فالن�سان ي�ستقل بذاته فيها بقدر ويعتمد فيها على غيره بقدر‪" ،‬والعمر �أنفا�س ت�سير بل‬‫إ‬
‫تطير"(عبدالرحمن بن الجوزي‪ ،‬طبعة ‪� ،1981‬ص ‪ ،)241‬فاالنتباه مطلوب والتزود‬
‫با�ستخدام النـزعتين‪ ،‬اال�ستقاللية واالعتمادية‪� ،‬أمر مرغوب‪ ..‬والناتج المتوقع من‬
‫والخرة‪ ،‬هو خير‬ ‫ذلك التعادل �أو التوازن‪ ،‬الم�شروط ب�إدراك �صحيح لمفهوم الدنيا آ‬
‫ي�صيب ذاته �أو ًال‪ ،‬و�أ�سرته ثانياً‪ ،‬ومجتمعه وعالمه بعد ذلك‪..‬‬

‫فال�صل‬‫�إذاً الحرية واال�ستقاللية يحتاجان �إلى االعتمادية لكي يتعادال ويثمرا أ‬


‫في إالثمار النافع اجتماعياً �أن يكون في اجتماع قوة الذات مع قوة آالخر �أو الغير‪،‬‬
‫ومما قيل‪" :‬اجتماع ال�سواعد يبني الوطن‪ ،‬واجتماع القلوب يخفف المحن"‪ً ،‬‬
‫وبناء‬
‫عليه‪ ،‬ف�إننا نقرر ونختار كيف ن�سلك بحرية وا�ستقاللية‪ ،‬وذلك في �إطار فردي‪-‬‬
‫جماعي‪ ،‬ولي�س في �إطار فردي بحت ال �صلة له آ‬
‫بالخرين وت�أثيراتهم القريبة والبعيدة‪،‬‬
‫المبا�شرة وغير المبا�شرة‪..‬‬

‫مفهوم االعتمادية هي "االعتماد على آالخر"‪ ،‬وبتعبير �أدق" "االعتماد‬


‫على كل ما يمكن �أن ينفع الذات ويجلب لها اللذة‪ ،‬بل الملذات"‪ ..‬واالعتماد‬
‫ينبغي �أن يكون لحاجة �أو �ضرورة‪ ،‬و�أن تكون بالقدر المنا�سـب حتى ال يعـتاد‬
‫المرء ويدمن عليها‪ ..‬وبتعبير �آخــر‪ :‬ينبغي �أن ي�سـتر�شـد المــرء بقــوله تعالى ‪:‬‬
‫‪68‬‬
‫﴾القمر‪ ،49 :‬و"كل �شي ٍء بقدر‪ ،‬حتى العج ُز‬ ‫﴿‬
‫والك ْي ُ�س" حديث نبوي �صحيح (محمد نا�صر الدين أاللباني‪" 1982 ،‬مج ‪،"4‬‬ ‫َ‬
‫م�ضرة؛ �أي "�إثمار بال �ضرر‬
‫�ص ‪ ،)175‬حتى يثمر اعتماده بدون �أن يترتب عليه ّ‬
‫وال م�ضار"‪ ..‬وكما �أن الخالق �أبدع ُ�ص ْنع كل �شيء في هذا الكون "و�أحكم تقديره‬
‫على مقت�ضى الحكمة البالغة‪ ،‬والنظام ال�شامل‪ ،‬وبح�سب ال�سنن التي و�ضعها في‬
‫الخليقة"(عبداهلل �شحاته‪ ،‬بدون تاريخ "مج ‪� ،"14‬ص ‪ ،)5534‬ف�إن المخلوق في‬
‫حاجة �إلى �أن ي�ستعين ب�سنن اهلل في أالنف�س والمجتمعات والكون لكي يجعل من‬
‫اعتماده على غيره اعتماداً موزوناً‪ ..‬اعتماداً مح�سوباً‪ ..‬اعتماداً مق�صوداً‪ ..‬اعتماداً‬
‫بالبداعات النافعة للمجتمع الب�شري‪.‬‬ ‫ال �إفراط فيه وال تفريط‪ ..‬اعتماداً ي�أتي إ‬

‫االعتمادية كمفهوم �سو�سيولوجي "اجتماعي"‪ :‬االعتمادية كمفهوم‬


‫اجتماعي تعني "الفاقة"‪ ،‬والتي تفيد تلك "الحالة التي ال يمتلك فيها ال�شخ�ص‬
‫و�سائل المعي�شة �أو الح�صول على الطلبات ال�ضرورية للحد أالدنى للمعي�شة‪،‬‬
‫في�ضطر �إلى البحث عن الم�ساعدات العامة والخا�صة للح�صول عليها"(�أحمد زكي‬
‫بدوي‪� ،1982 ،‬ص ‪ ..)103‬االعتمادية ‪-‬من المنظور االجتماعي‪ -‬ت�أتي �أي�ضاً بمعنى‬
‫"االعتماد" �أو "التبعية"‪ ،‬والتي تفيد "تبعية �شخ�ص آلخر من الناحية القانونية �أو‬
‫االقت�صادية كاعتماد الطفل على والديه واعتماد الزوجة على زوجها إلعالتها"(�أحمد‬
‫زكي بدوي‪� ،1982 ،‬ص ‪.)103‬‬
‫‪69‬‬
‫االعتمادية �أي�ضاً تفيد من منحى تفاعلي رمزي "عدم قدرة الفرد على �إ�شباع كافة‬
‫احتياجاته من خالل امكانياته وموارده الخا�صة‪ ،‬فيلج�أ �إلى غيره ليعتمد عليه"‪..‬‬
‫لتحد يواجه الفرد �أثناء عملية �سعيه ال�شباع حاجاته‪..‬‬
‫االعتمادية هي ا�ستجابة اجتماعية ٍ‬
‫وهذه اال�ستجابة االجتماعية قد تكون ا�ستجابة تقليدية �أو ا�ستجابة ذكية‪ ..‬أ‬
‫وال�سرة‬
‫مطالبة ب�أن ت�ضبط محتوى ووجهة هذه اال�ستجابة حتى ال يدمن الفرد عليها‪..‬‬

‫االعتمادية كمفهوم �سيكولوجي "نف�سي"‪ :‬االعتمادية �أو االتكالية كمفهوم‬


‫نف�سي يفيد "الحال التي يتوقع فيها الفرد الم�ساعدة من آالخرين �أو يبحث‬
‫فيها بن�شاط من الدعم العاطفي والمالي‪ ،‬وكذلك عن الحماية أ‬
‫والمن والرعاية‬
‫اليومية‪ ...‬وال�شخ�ص االتكالي يعتمد على آالخرين في التوجيه‪ ،‬وفي اتخاذ القرار‬
‫وفي إالعالة‪ ...‬وفي التحليل النف�سي تعود االتكالية �إلى المرحلة الفمية التي يكون‬
‫فيها الر�ضيع معتمداً اعتماداً كلياً على أالم للقوت وال�سند"(جابر عبدالحميد جابر‬
‫وعالء الدين كفافي‪" 1990 ،‬مج ‪� ،"3‬ص ‪..)913‬‬

‫االعتمادية"حاجة"‪،‬بلمجموعةمنالحاجات‪،‬وحاجاتاالعتماديةتفيد"حاجات‬
‫�شخ�صية ينبغي �أن ت�شبع من جانب آالخرين‪ ،‬وتت�ضمن الحاجة �إلى العاطفة والحب‬
‫والمن‪ ..‬وتعتبر هذه الحاجات‬ ‫والم�أوى والرعاية الج�سمية والطعام والدفء والحماية أ‬
‫عامة وعالمية وطبيعية لكال الجن�سين ومن كل أالعمار‪ ،‬ولكن يالحظ �أن االعتمادية‬
‫يمكن �أن تكون مفرطة مع البحث عن الت�شجيع المبالغ فيه كما يحدث غالباً مع أالفراد‬
‫غير النا�ضجين والعاجزين �أو الذين يك�شفون عن حاجة قهرية �إلى �أن يطم�سوا ذواتهم‬
‫‪70‬‬
‫ويغمطوها حقها ويتنازلوا عنه��ا ل�شخ�ص قوي‪( ،‬وهي الحال الذي ا�سمتها (هورني)‬
‫المر�ضي��ة ‪("))Morbid Dependency‬جابر عبدالحميد جابر وعالء‬ ‫(االعتمادية ِ‬
‫الدين كفافي‪" 1990 ،‬مج ‪� ،"3‬ص �ص ‪..)914-913‬‬
‫االعتمادية كمفهوم عولمي‪ :‬االعتمادية كمفهوم مو�صول بالعولمة له معنيان‪:‬‬
‫معنى اجتماعي‪-‬نف�سي ومعنى �إكلينيكي وغير �صحي‪ ..‬ونبد�أ بالمعنى إالكلينيكي‬
‫وغير ال�صحي‪ ،‬فنحن �أمام عولمة �أ�س�ست للمزيد من االعتمادية المفرطة على المواد‬
‫والفيونية والهيروينية والكحولية وغيرها‪،‬‬ ‫الخارجية مثل المواد الدوائية والكيميائية أ‬
‫بل �إن العولمة �أ�س�ست لتنامي ما ي�سمى علمياً "با�ضطراب ال�شخ�صية‪-‬المعتمدة‬
‫‪ ،"Dependent-Personality Disorder‬والذي يفيد‪" :‬ا�ضطراب �شخ�صية‬
‫للخرين‬ ‫يف�صح عن نف�سه من خالل نمط طويل المدى من ال�سلبية التي ت�سمح آ‬
‫�أن يتحملوا الم�س�ؤولية عنه في المجاالت أال�سا�سية في الحياة‪ ،‬وتجعل حاجات‬
‫الفرد في مرتبة ثانوية بالن�سبة لحاجات آالخرين‪ ،‬و ُي ْع َزى هذا �إلى نق�ص الثقة بالنف�س‬
‫ونق�ص االعتماد على النف�س"(جابر عبدالحميد جابر وعالء الدين كفافي‪1990 ،‬‬
‫"مج ‪� ،"3‬ص ‪..)914‬‬
‫واالعتمادية كمفهوم عولمي اجتماعي‪-‬نف�سي يفيد نـزعة الفرد أ‬
‫وال�سرة‬
‫والم�ؤ�س�سة والمجتمع �إلى االعتماد على غيره عندما ت�ستدعي الحاجة وال�ضرورة‬
‫�إلى ذلك‪ ..‬واالعتمادية بهذا المعنى يمكن �أن تكون �إيجابية �شريطة �أن تن�ضبط‬
‫ب�ضوابط ال�ضرورة‪ ،‬فلل�ضرورة �أحكامها‪ ،‬و�أن ال تتحول �إلى تبعية‪..‬‬

‫‪71‬‬
‫االعتمادي��ة ت أ�تي منحاج��ة �أ�سماها إالمام �أبو حام��د الغزالي "بالحاجة �إلى‬
‫فالن�سان خلق بحيث ال يعي�ش لوحده‪،‬‬ ‫الن�سان �إلى االجتماع‪ " ،‬إ‬ ‫االجتم��اع"‪ ،‬بحاجة إ‬
‫ب��ل ي�ضط��ر �إل��ى االجتم��اع م��ع غيره"(�أبو حام��د الغزالي‪ ،‬طبع��ة ‪" 1975‬مج ‪،"3‬‬
‫���ص ‪ ..)197‬وكذلك ت�أتي من اال�ستف��ادة من قدرات آالخري��ن‪ ..‬ومو�صول بهذه‬
‫الحاجة فكرة النـزعة الجماعية للفرد‪ ..‬فالفرد كما �سبق �أن ّبينا له نـزعتان فطريتان‪:‬‬
‫النـزعة الذاتية والنـزعة الجماعية‪ ..‬ومو�صولٌ �أي�ضاً باالعتمادية مفهوم نف�سي �آخر وهو‬
‫"وجهة ال�ضبط الخارجية ‪ ،"External Locus of Control‬والتي تمثل المحرك‬
‫الخارجي لل�سلوك إالن�ساني‪ ،‬والذي هو �أحد �أبرز محركات ال�سلوك إالن�ساني الثالثة‪:‬‬
‫مح��ركات داخلي��ة ‪ ،Internal Locus of Control‬ومحركات خارجية‪ ،‬ومحركات‬
‫مرتبط��ة بالقدر �أو الحظ ‪� .. Luck Factor‬أي�ض��اً االعتمادية يمكن �أن تُ ْع َزى �إلى نق�ص‬
‫الثق��ة بالنف�س ونق�ص االعتماد على النف�س؛ �أو تعزى �إلى حاجة حقيقية ال ي�ستطيع �أن‬
‫ي�شبعها الفرد بذاته‪ ،‬في�ضطر �إلى اللجوء �إلى غيره‪..‬‬

‫ميزات االعتمادية‪ :‬االعتمادية لها ميزات‪ ،‬وميزاتها عديدة‪ ..‬وهذه الميزات‬


‫وال�سرة والمجتمع‪ ..‬وفيما يلي عينات من تلك‬ ‫لها �آثار‪ ،‬و�آثارها تمتد لتطال الفرد أ‬
‫الميزات‪:‬‬
‫‪ -‬تقوية �أوا�صر العالقة بين الب�شر‪.‬‬
‫‪ -‬التن�سيق بين الب�شر بما يلغي ال�صراع بينهم ويزيد التعاون واالنتفاع من بع�ضهم‬
‫البع�ض‪.‬‬
‫‪72‬‬
‫‪ -‬م�ضاعفة أالثر باالعتماد على آالخر‪.‬‬
‫‪ -‬حفظ اال�ستقاللية من التطرف‪.‬‬
‫‪ -‬تحقيق الفرد لحاجاته االجتماعية‪ ،‬وبالتالي للنـزعة الجماعية لديه‪.‬‬

‫م�ؤ�شرات تعك�س ا�ستمتاع الفرد بميزات االعتمادية‪ :‬وهذه الم�ؤ�شرات‬


‫عديدة‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫‪ -‬قدرة الفرد على اكت�شاف ما هو متاح‪.‬‬
‫‪ -‬ا�ستفادة الفرد مما هو متاح‪.‬‬
‫‪ -‬توظيف الفرد للموارد التي وفرتها العولمة في خدمة و�إ�شباع حاجاته‪.‬‬
‫‪ -‬تطوير الفرد لذاته من خالل آالخرين‪.‬‬
‫‪ -‬تحقيق الفرد للنجاح باال�ستعانة �أو اال�ستفادة من آالخرين‪.‬‬

‫م�ؤ�شرات تعك�س ا�ستمتاع أال�سرة بميزات االعتمادية‪ :‬وهذه الم�ؤ�شرات‬


‫عديدة‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫‪ -‬قدرة أال�سرة على اكت�شاف ميزات البيئة �أو المحيط‪.‬‬
‫‪ -‬ا�ستفادة أال�سرة من تلك الميزات‪.‬‬
‫‪ -‬توظيف أال�سرة للموارد التي وفرتها العولمة في خدمة و�إ�شباع حاجات‬
‫�أفرادها‪.‬‬
‫وال�سر أالخرى في محيطها القريب‬‫‪ -‬تطوير أال�سرة لذاتها من خالل آالخرين أ‬
‫والبعيد‪.‬‬
‫‪ -‬تحقيق أال�سرة لنجاحات كبيرة باال�ستعانة �أو اال�ستفادة من آالخرين‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫التريية أال�سرية ينبغي أ�ن ت�ستفيد من هذه الميزات‪ ،‬ميزات االعتمادية‪،‬‬
‫بحيث ينعك�س ذلك على محتواها التعريفي وبرامجها التربوية العملية‪ ..‬ومن ال�صور‬
‫المعبرة عن هذه اال�ستفادة ما يلي‪:‬‬
‫ِّ‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية تمنح االعتمادية المعتدلة مكانة داخلية هامة بين �أفراد‬
‫أال�سرة‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية تبني في �أفرادها روح العمل كفريق متكامل‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية تنمي في �أفرادها احترام ميزات آالخرين وخ�صو�صياتهم‪،‬‬
‫واال�ستفادة منها‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية تجمع بين االعتمادية على آالخر بدون تبعية‪ ،‬بحيث‬
‫ال تكون أال�سرة �أو يكون �أفرادها َت َبع ورهائن لدى غيرهم‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية تجعل من جانب االعتمادية في الفرد‪ ،‬مت�ضامناً ومتكام ًال‬
‫مع جوانبه ال�شخ�صية أالخرى‪ ،‬وانعكا�س ذلك على ت�ضامنه مع بقية �أفراد‬
‫�أ�سرتهم‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫الناجت أ‬
‫الكرب‬
‫�إ�ستقاللية مح�سوبة واعتمادية معتدلة ‪ - -‬اختيار نوع الخير بعد التمييز‬

‫أال�سرة مطالبة ب�أن تربي �أبنائها على ا�ستقاللية يح�سبون عواقبها‪ ،‬واعتمادية‬
‫يعتدلون في تعاطيها‪ ..‬و�إذا ما تم ذلك‪ ،‬فالناتج هو بناء �شخ�صيات متزنة‪ ،‬م�س�ؤولة من‬
‫ناحية وغير اتكالية من ناحية �أخرى‪ ..‬وقد ّنبه القدماء كابن خلدون على ذلك عندما‬
‫�أ�شار �إلى عدم المبالغة في الرعاية‪ ،‬وجعل االعتدال فيها بديالً‪..‬‬

‫هذه اال�ستقاللية المح�سوبة واالعتمادية المعتدلة هما جانبين �أ�سا�سين للتمييز‬


‫قبل االختيار‪ ..‬فما ال�شك فيه �أن كل ما هو مح�سوب ومعتدل‪� ،‬أ�سا�س لكل ما هو‬
‫كت�سب وفعال‪ ..‬أالكثر من هذا �أن الخير النافع كله في أالفعال المح�سوبة‬ ‫ُم َ‬
‫والعمال المعتدلة‪ ،‬مع أالخذ في االعتبار �أن �أنفع الخير �أ�سا�سه عوامل داخلية‬ ‫أ‬
‫كاليمان والتقوى‪ ،‬وا�ستثنا�ؤه عوامل خارجية كالعدوان والم�صادر التي تجعل‬ ‫إ‬
‫المام ال�شافعي رحمه اهلل‪�" :‬أنفع الذخائر التقوى‪ ،‬و�آخرها‬
‫الن�سان �أقوى‪ ..‬ولذلك قال إ‬ ‫إ‬
‫العدوان"(�صالح �أحمد ال�شامي‪�1998 ،‬أ‪� ،‬ص ‪� ،)63‬أي اللجوء �إلى العدوان ال يكون‬
‫�إال عند ال�ضرورة‪ ،‬ولل�ضرورة �أحكامها وتقدر بقدرها‪..‬‬

‫�إذاً ك ًال من اال�ستقاللية واالعتمادية �أو التوظيف الفعال لهما كفيل بجلب فر�ص‬
‫للن�سان و�أ�سرته‪ ..‬ولكن إالن�سان في حاجة �إلى �أن يميز‬ ‫و�أبواب جديدة للخير إ‬
‫بين �ألوان الخير ومجاالته‪� ،‬أي �أبوابه‪ ،‬فال يدخل من كل �أبواب الخير‪ ،‬و�إنما يتخير‬

‫‪75‬‬
‫منها ما يتفق مع �أهدافه و�أولوياته و�إمكاناته‪ ،‬بحكم �أن إالن�سان طاقة و�أن هذه الطاقة‬
‫ال ت�ستطيع �أن تلج كل منا�شط الخير‪ ،‬ولذلك فاالختيار من بينها مطلوب‪ ..‬وح�سن‬
‫االختيار �أ�سا�س فعالية التمييز بين �أبواب الخير ‪..‬‬

‫ولذلك قال ر�سول اهلل ‪�"ِ :‬إن �أبواب الخير كثيرة‪("....‬محمد قطب‪،1980 ،‬‬
‫�ص ‪ ..)108‬وعبارة "�أبواب الخير كثيرة" تحمل في ذاتها �أفكار منها‪ :‬فكرة‬
‫"التنوع"‪ ،‬وفكرة "االنتفاع بما �شئت من هذا التنوع"‪ ،‬وفكرة "�أن النفع كل النفع‬
‫في التنوع"‪ ،‬وفكرة "�أن في التنوع نفع للجميع"‪ ،‬وي�شير القر�آن �إلى فكرة التنوع‬
‫النعام‪..]99 :‬‬‫﴾ أ‬ ‫في ن�صو�ص عديدة منها قوله تعالى ﴿‬

‫فهناك من يريد �أن يدخل �أبوب الخير من باب العبادات "النوافل" �أكثر‪ ،‬و�آخر‬
‫يريد �أن يدخل من باب المعامالت "�أقوال و�أفعال" �أكثر؛ وهناك من يريد �أن يدخل‬
‫من �أبوب الخير المادية �أكثر‪ ،‬و�آخر يريد �أن يدخل من �أبواب الخير المعنوية �أكثر؛‬
‫وهناك من يريد �أن يدخل من �أبواب الخير الفردية �أكثر‪ ،‬و�آخر يريد �أن يدخل من‬
‫وقدم لنماذج من‬‫�أبواب االجتماعية �أكثر‪ ..‬والحديث النبوي �أعاله �أكّ د على ذلك‪ّ ،‬‬
‫هذه أالبواب‪ ،‬وترك غيرها لالجتهاد إالن�ساني إ‬
‫والبداع الب�شري‪..‬‬

‫والحديث ب�أكمله‪" :‬عن �أبي ذر ر�ضي اهلل عنه �أن ر�سول اهلل ‪( ،‬قال‪ :‬لي�س من‬
‫نف�س ابن �آدم �إال عليها �صدقة في كل يوم طلعت فيه ال�شم�س‪ .‬قيل‪ :‬يا ر�سول اهلل‬
‫من �أين لنا �صدقة نت�صدق بها؟ فقال‪� :‬إن �أبواب الخيرة لكثيرة‪ :‬الت�سبيح والتحميد‬

‫‪76‬‬
‫والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وتميط أالذى عن الطريق‬ ‫والتكبير والتهليل أ‬
‫وت�سمع أال�صم وتهدي أالعمى وتدل الم�ستدل عن حاجته‪ ..‬وت�سعى ب�شدة �ساقيك‬
‫مع اللهفان الم�ستغيت‪ ،‬وتحمل ب�شدة ذراعيك مع ال�ضعيف‪ ..‬فهذا كله �صدقة‬
‫منك على نف�سك) رواه ابن حبان في �صحيحه والبيهقي مخت�صراً‪ .‬وزاد في رواية‪:‬‬
‫(وتب�سمك في وجه �أخيك �صدقة‪ ،‬و�إماطتك عن الحجر وال�شوكة والعظم من طريق‬
‫النا�س �صدقة‪ ،‬وهديك الرجل في �أر�ض ال�ضالة لك �صدقة"(محمد قطب‪،1980 ،‬‬
‫�ص ‪..)108‬‬
‫جانب ثاني نود إال�شارة �إليه من خالل هذا الحديث وهو �أن "ال�صدقة في مفهومها‬
‫التقليدي نقود و�أ�شياء مح�سو�سة ي�ساعد بها الغني الفقير‪ ،‬ويمنحها القوي لل�ضعيف‪..‬‬
‫وهي بهذا المعنى �ضيقة المفهوم جداً‪ ،‬و�أثرها في حياة المجتمع محدود‪ ...‬ولكن‬
‫الحديث النبوي يخرج ال�صدقة من معناها التقليدي ال�ضيق‪ ،‬من معناها الح�سي‪� ،‬إلى‬
‫معناها النف�سي‪ ..‬وهنا تتفتح على عالم رحب لي�ست له حدود‪ ...‬كل خير �صدقة‪..‬‬
‫وعلى كل امرئ �صدقة‪ ..‬هكذا في �شمول وا�سع ال يترك �شيئـاً وال ي�ضيق عن‬
‫�شيء"(محمد قطب‪� ،1980 ،‬ص ‪..)109‬‬
‫جانب ثالث ّنود التركيز عليه‪ ،‬وهو مو�صول بجانب ال�صدقة‪ ..‬وال�صدقة �أمر‬
‫للن�سان حرية في فعله‪ ،‬و�إذا ما فعله إالن�سان‬‫"طوعي"‪� ،‬أي �أمر فيه "اختيار"‪� ،‬أي إ‬
‫ف�إنه يفعله بدافع ذاتي وقرار م�ستقل‪ ..‬فال�صدقة منبعها النف�س‪ ،‬هي حركة تحدث‬
‫داخل النف�س‪ ،‬حركة دافعها أال�سا�سي نف�سي‪ ،‬و�إن اعتمد إالن�سان في �إنفاذه على‬
‫غيره‪ ..‬فقد يطلب فرد من فرد �آخر �أن ُي ِ‬
‫و�صل �سالمه �أو كلمة طيبة �إلى فرد �آخر‪..‬‬
‫‪77‬‬
‫وانطالقاً من �أن التطوع مو�صول بدافع واقتناع‪ ،‬ف�إن اهلل حث خلقه على هذا‬
‫﴾البقرة‪،]158 :‬‬ ‫التطوع‪ ،‬مخاطباً قلوبهم‪﴿ ،‬‬
‫﴾البقرة‪]184 :‬؛ وعندما يخاطب القر�آن قلوبهم‪،‬‬ ‫﴿‬
‫فهو حقيق ًة يخاطب عقولهم‪ ،‬انطالقاً من العقل وظيفة من وظائف القلب‪﴿ ،‬‬
‫﴾الحج‪ ،]46 :‬والقر�آن ي�ؤ�س�س هنا لفكرة �أن "الفعل الم�ستقل‬
‫ينبغي �أن يكون �أ�سا�سه اقتناع العقل"‪..‬‬
‫والعقل بطبيعته ال يفعل �إال ما ي�أتي له بالنتائج التي يحبها‪ ،‬التي فيها خير‬
‫﴾‪ ..‬فالحب �أ�سا�س للتطوع‪ ،‬وللفعل‬ ‫ل�صاحبها‪﴿ ،‬‬
‫الم�ستقل‪ ..‬الحب �أ�سا�س لال�ستقالل والعمل الم�ستقل‪ ..‬ومثل هذا الحب يجعلنا‬
‫ن�أتي بما هو �أكثر من الواجب‪ ،‬والناتج هو �شكر من اهلل لعبده‪ ،‬بمنحه المزيد‬
‫﴾‪..‬‬ ‫من نعمه‪﴿ ،‬‬
‫ولل�شيخ ال�شعراوي رحمه اهلل كالم في هذا‪ ،‬يقول رحمه اهلل‪�" :‬إن الم�ؤمن عندما‬
‫ي�ؤدي ما افتر�ضه اهلل عليه‪ ،‬فهو ي�ؤدي الفر�ض‪ ،‬ولكن عندما يزيد بالتطوع حباً في‬
‫الن�سك ذاته‪ ،‬فهذه زيادة ي�شكره اهلل عليها‪� ،‬إذن فال�شكر من اهلل عز وجل يفيد �أن‬
‫نعمه �ستجيء"(محمد متولى ال�شعراوي‪ ،‬بال تاريخ "مج ‪� ،"2‬ص ‪..)672‬‬
‫لذلك كان لزاماً على أال�سرة �أن تعنى بهذا الجانب‪ ،‬جانب الحب‪ ،‬وجانب‬
‫اال�ستقالل الم�ستمد من رجاحة العقل‪ ،‬لكي تجعل من �أفرادها و�أبنائها ي�أتون‬
‫�أفعالهم ال�سليمة من ِق َبل �أنف�سهم الحرة ال�سوية‪ ..‬فالتطوع هو "ما ي�أتيه الم�ؤمن من‬
‫‪78‬‬
‫ِق َبل نف�سه"(�أبي عبداهلل محمد بن �أحمد أالن�صاري القرطبي‪ ،‬طبعة ‪" 2003‬مج ‪،"2‬‬
‫�ص ‪ ،)180‬ما ي�أتيه الم�ؤمن بعد �أداء واجبه‪ ..‬فالتطوع هو الزيادة "على قدر الواجب‬
‫عليه"(عالء الدين علي بن محمد البغدادي‪ ،‬طبعة ‪" 1994‬مج ‪� ،"1‬ص ‪..)101‬‬
‫ي�شجع على‬ ‫لفته �أخيرة �أ ّود �أن �أ�شير �إليها هنا وهي �أنه بالرغم من �أن إال�سالم ِّ‬
‫التطوع‪� ،‬إال �أن الم�سلم لم ي�ستجب بعد لهذا الت�شجيع‪ ،‬لم ي�ستجب بفعالية‪ ،‬لم‬
‫وال�صل‬ ‫كاف‪ ..‬وال�سبب في ذلك هو �أن التطوع من إالح�سان‪ ،‬أ‬ ‫ي�ستجب ب�شكل ٍ‬
‫الح�سان �أن ال يفعله �إال ال�شبعان‪ ،‬بمعنى �أنه "في غياب الحرمان‪ ،‬يَ ْق َوى‬ ‫في إ‬
‫إالح�سان"‪..‬‬
‫المتقدم‪ ،‬نجد �أن التطوع في‬
‫ِّ‬ ‫وبالمقارنة بين ثقافة العالم النامي وثقافة العالم‬
‫متقدم جداً‪ ،‬وفي معظم أالو�ساط‬ ‫العالم المتقدم هو عمل فردي ون�شاط م�ؤ�س�سي ِّ‬
‫�إن لم يكن كلها‪ ،‬وال�سبب في ذلك مناخ الحرية التي يتمتع بها إالن�سان في العالم‬
‫المتقدم‪ ،‬وما يترتب عليه من و�ضع اجتماعي يجعل من إالن�سان اجما ًال كائن‬
‫�شبعان‪� ..‬أما في العالم النامي‪ ،‬ف�إن إالن�سان يعي�ش في بيئة ومناخ يو ِّلد الحرمان‪..‬‬
‫والن�سان المظلوم المحروم هو �إن�سان‬ ‫�إذن إالن�سان المظلوم هو �إن�سان محروم‪ ،‬إ‬
‫لديه ح�س باالنتقام‪ ،‬وبقدر قوة الظلم‪ ،‬بقدر قوة ح�س االنتقام‪� ..‬إذا ال نتوقع إالح�سان‬
‫ممن يعي�ش الحرمان؛ وفي المقابل نتوقع من ال�شبعان �أن يتنامى لدية االح�سان‪..‬‬
‫فاجما ًال‪ ،‬نخل�ص �إلى �أن "الحرمان واالح�سان ال يلتقيان"‪ ،‬و"ال�شبعان واالح�سان‬
‫يتوافقان"‪..‬‬
‫‪79‬‬
‫المتقدم‬
‫العالم ِّ‬ ‫العالم الثالث‬

‫إالح�ســان‬
‫إالن�سان فيه‬ ‫ي�سوده‬
‫(�شبعان)‬ ‫(الحرمان)‬

‫ال�شكل رقم (‪ )3‬يبين �أن العالم الثالث ي�سوده (الحرمان)‪ ،‬وبالتالي فيه (ق ِّلة �إح�سان)؛ في حين �أن‬
‫المتقدم �إن�سانه اجما ًال �أو �إلى حد كبير (�شبعان)‪ ،‬وبالتالي فهو منظّ م و(كثير إالح�سان)‪..‬‬
‫العالم ِّ‬

‫عندما ينعدم الحرمان‪ ،‬ي�سود أ‬


‫الح�سان‬

‫وفي �سيادة إالح�سان‪ ،‬انعدام للحرمان‪..‬‬

‫‪80‬‬
‫خامتــة‬

‫للن�سان با�ستقاللية جعلته ي�أتي‬‫نخل�ص مما �سبق �إلى �أننا �أمام عولمة جاءت إ‬
‫بمنتوجات غير م�سبوقة‪ ،‬وبالمزيد منها‪ ..‬ا�ستقاللية جعلت إالن�سان يفكر ما يريد هو‬
‫يفكر فيه‪ ،‬ويقرر ما هو يريد �أو يقرر ب�ش�أنه‪ ،‬ويختار ما هو يريد �أن يختاره‪ ..‬ا�ستقاللية‬
‫�أن ِّ‬
‫جعلت أال�صل في كل ذلك للذات ال للغير‪..‬‬

‫وطبعاً بحكم ب�شرية إالن�سان‪ ،‬ف�إن اال�ستقاللية ي�ستحيل �أن تكون مائة في المائة‬
‫ذاتية المن�ش�أ‪ ..‬بمعنى �أن آللخر �أثر على اختيارات الذات‪ ..‬وهذا أالثر قد يكون مبا�شراً‬
‫عندما يكون الفرد ذو طبيعة اجتماعية عالية الجرعة‪� ،‬أي عندما يكون للجماعة ت�أثير‬
‫على الفرد؛ وقد يكون غير مبا�شر عندما يكون الفرد ذو طبيعة انفرادية عالية الجرعة‪،‬‬
‫�أي عندما يكون للنـزعة الفردية ت�أثير �أكبر بكثير من النـزعة الجماعية على قرارات‬
‫الفرد‪..‬‬

‫كائن م�ؤثر بنـزعته الفرديته ومت�أث ٍر بنـزعته‬


‫وانطالقاً من �أن إالن�سان بطبيعته ٌ‬
‫الجماعية‪ ،‬ف�إنه في حاجة �إلى �أن يكون واعياً‪ ،‬ليكون م�ستفيداً بد ًال من �أن ينتهي‬
‫مت�ضرراً‪ ،‬و�أن يكون معتد ًال ال �أن يكون ُم ْفرِطاً �أو ُم َف ِّرطا‪ ..‬وحتى يتحقق هذا‪ ،‬ف�إن‬
‫أال�سرة مطالبة ب�أن ت�ؤ�س�س لفكرة جديدة‪ ،‬وهي "التربية نحو المعادلة بين النـزعة‬
‫الذاتية والنـزعة الجماعية"‪..‬‬

‫‪81‬‬
‫وفكرة "التربية نحو المعادلة بين النـزعة الذاتية والنـزعة الجماعية" هي فكرة‬
‫تفيد "مجموعة الجهود المنظمة التي ت�سير أ‬
‫بالفراد في اتجاه ت�شغيل كال النـزعتين‪،‬‬
‫ول�سرتهم ولمحيطهم وعالمهم"‪ ..‬معادلة تجعل الفرد‬ ‫وجعلهما مفيدتين‪ ،‬لهم أ‬
‫ويقويه‪ ،‬ويخرج منهما بمنتج يرتد‬
‫يميز مجتمعه ّ‬ ‫ي�ستفيد مما يمي ِّزه ويتفرد به‪ ،‬ومما ّ‬
‫بالخير على ذاته �أو ًال‪ ،‬وعلى مجتمعه وعالمه ثانيا‪..‬‬

‫‪82‬‬
‫العولمـــة‬
‫جلبت المو�ضوعيــة‪،‬‬
‫و�ضابطها تحقيق الالمظلومية‬

‫‪83‬‬
‫متهيــد‬

‫"العولمـــة جلبت المو�ضوعية‪ ،‬و�ضابطها تحقيق الالمظلومية" هي فكرة‬


‫مركّ َبة تت�ضمن �أو ًال تمركزاً �أكثر حول المو�ضوعية؛ وتت�ضمن ثانياً �ضبط النوايا‬
‫الكامنة خلف المو�ضوعية بما ي�ضمن عدم حدوث ظلم يتم ّثل في ت�أزم ي�صيب الفرد‬
‫�أو نقم ت�صيب المجتمع‪ ،‬ومعلو ٌم �أن الظلم ظلمات‪..‬‬

‫وللمزيد من التو�ضيح نقول ب�أن العولمة قامت من ناحية "بالت�أ�سي�س لمو�ضوعية‬


‫متقدمة"‪ ،‬ومن ناحية �أخرى قامت "بالت�أ�سي�س لم�ؤ�س�سات تتحقق من‬ ‫�إجرائية ِّ‬
‫خاللها تلك المو�ضوعية"‪ ..‬ولكن بحكم �أن المو�ضوعية هنا هي مو�ضوعية ب�شرية‪،‬‬
‫التحيز فيها وارد؛ بمعنى �أنه ال توجد مو�ضوعية خالية من التحيِّز مائة‬
‫ف�إن جانب ّ‬
‫بالمائة‪..‬‬

‫وبحكم �أن العامل الب�شري ‪ The Human Factor‬وما يت�ضمنه من ح�سابات‬


‫تكون‬ ‫�شخ�صية �أو م�صالح فئوية‪ ،‬اجتماعية �أو حزبية‪ ،‬يم ِّثل جانب �أ�سا�سي ِ‬
‫ي�سهم في َّ‬
‫التحيز‪ ،‬وبالتالي ت�ضرر المو�ضوعية‪� ،‬أي حرمان المو�ضوعية من كمالها‪ ،‬ف�إن هذا‬ ‫َّ‬
‫تعر�ض إالن�سان للظلم‪.‬‬‫تدخل مجتمع مدني يج ِّنب ّ‬ ‫ي�ستدعي ّ‬

‫المر�شح للقيام بهذه المهمة هو المجتمع المدني الذي تتوفر‬


‫والمجتمع المدني َّ‬
‫فيه مجموعة من ال�شروط‪ ،‬منها ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬تمتعه بمبادئ تعك�س القيم إالن�سانية العليا‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫‪ -‬تمتعه ب�آليات م�ستنيرة ومم ِّثلة لكل �شرائح المجتمع أالكبر‪.‬‬
‫‪ -‬تطوير مبادئه والتوعية الم�ستمرة ألفراده بتلك المبادئ‪.‬‬
‫‪ -‬تطوير م�ستمر آللياته وفقاً لما ي�ستجد في عالم الم�ستحدثات التكنولوجية‪.‬‬
‫‪ -‬ا�ستقامة القائمين عليه‪.‬‬
‫‪ -‬توفر �إطار قانوني لن�شاط المجتمع المدني‪ ،‬جعل أالخالق �أ�سا�س للتعامل‬
‫فيه‪.‬‬
‫‪ -‬ا�ستنارة المجتمع ذاته‪� ،‬أي �أن يقوم المجتمع بتوعية ذاته بذاته‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫(املو�ضوعية) و�ضابطها حتقيق (الالمظلومية)‬

‫تمهيد‪ :‬العولمة جاءت بقدر �أكبر من المو�ضوعية‪ ..‬قدر �أكبر وحالة تطور م�ستمر‪..‬‬
‫ولعل �أحد �شواهد هذه المو�ضوعية فكرة "تكاف ؤ� الفر�ص"‪ ،‬والتي ترتبط بها فكرة‬
‫�أخرى وهي فكرة "البقاء ألل�صلح ‪ ،"Survival of the Fittest‬فيعرف الفرد �أن‬
‫هناك تكاف�ؤ فر�ص‪ ،‬و�أن الذي �سيبقى هو الذي �سي�ستفيد من الفر�ص‪..‬‬

‫وننبه هنا �إلى تح ُّفظ بخ�صو�ص فكرة "تكاف�ؤ الفر�ص"‪ ..‬وهذا التحفظ هو‬
‫التفاوت في أالر�ضية‪ ،‬وفي الخلفيات‪ ،‬وفي المنطلقات؛ وهذا التفاوت يلغي عملياً‬
‫مبد�أ تكاف� ؤ الفر�ص �أو على أالقل يخرِق هذا المبد�أ‪ ..‬بمعنى �أننا قد نكون �أمام‬
‫تتقدم �شركة محلية مع �شركة دولية لم�شروع ما‪ ،‬فتقول لهما ب�أن لديكم‬ ‫�شركتين‪ّ :‬‬
‫فر�ص متكافئة في المناف�سة‪ ،‬والحقيقة �أن في هذا نوع من الت�ضليل‪ ،‬فال�شركة الدولية‬
‫في الغالب لها من الم�ؤهالت والخبرات ما ِّ‬
‫يرجح تفوقها على ال�شركة المحلية‪.‬‬

‫وبناء عليه‪ ،‬ظاهرياً قد يكون هناك تكاف�ؤ‪ ،‬ولكن واقعياً ال يوجد تكاف�ؤاً حقيقياً‪،‬‬
‫ً‬
‫�أي ي�صعب تحقيق التكاف�ؤ‪ ..‬وك�أننا �أمام مو�ضوعية ظالمة �أو عدالة ظاهرية تنتج‬
‫ظلم‪ ..‬مو�ضوعية ظاهرها عدالة‪ ،‬ولكن باطنها �أو حقيقتها ظلم‪ ..‬المو�ضوعية المرغوب‬
‫فيها هي تلك المو�ضوعية التي يترتب عليها عدالة ت�ضمن تكاف�ؤ فر�ص حقيقية‬
‫ال ظاهرية‪..‬‬

‫‪87‬‬
‫وتكاف�ؤ الفر�ص الحقيقي له �شواهد �أو م�ؤ�شرات تد ِّلل عليه‪ ،‬ولعل �أبرز هذه‬
‫الم�ؤ�شرات ما يلي‪ ،‬ففر�ص التكاف�ؤ الحقيقي‬
‫‪ُ -‬ت َوفر للنا�س نف�س الحظوظ ونف�س إالمكانيات للتفوق‪.‬‬
‫‪ -‬ت�ضمن توزيع الموارد على الجميع ب�صورة عادلة‪.‬‬
‫‪ -‬ت�ضمن تقديم الخدمات للجميع ب�صورة متكافئة‪.‬‬
‫‪ -‬تلغي الظلم االجتماعي العام‪.‬‬
‫‪ -‬تلغي التهمي�ش واالق�صاء االجتماعي‪.‬‬

‫متحيز‬
‫وت�سوق لنمط حياة ِّ‬
‫�سوقت ِّ‬ ‫مفهوم المو�ضوعية‪ :‬بالرغم من �أن العولمة ّ‬
‫لما هو غربي‪� ،‬إال �أنها هي كذلك عولمة �أ�س�ست إلمكانية والدة نمط حياة مو�ضوعي‪،‬‬
‫وبتعبير �أدق نمط حياة ت�سوده المو�ضوعية‪ ..‬والمو�ضوعية هنا هي مفهوم تجريدي‬
‫يج�سد ذاته من خالل فكرة العدالة و�آلياتها‪ ..‬فعلى م�ستوى التجريد‪ ،‬نحن �أمام‬‫ِّ‬
‫مو�ضوعية؛ وعلى م�ستوى التج�سيد‪ ،‬نحن �أمام عدالة‪..‬‬

‫المو�ضوعية كمفهوم �سو�سيولوجي "اجتماعي" تفيد "قدرة الفرد على �أن‬


‫يعزل نف�سه عن المواقف المندمج فيها‪ ،‬و�أن ينظر �إلى الحقائق على �أ�سا�س أالدلة‬
‫والعقل ال على �أ�سا�س التحيز والعاطفة‪ ،‬وبدون محاباة �أو اال�ستناد على ر�أي �سابق‬
‫فيما يتعلق بو�ضعها الحقيقي"(�أحمد زكي بدوي‪� ،1982 ،‬ص ‪..)290‬‬

‫المو�ضوعية من منظور البحث العلمي �أي�ضاً تعني "ال�صفة التي ّ‬


‫يعبر عنها الجهد‬

‫‪88‬‬
‫الذي ينطوي على ابعاد االنحرافات في إالدراك �أو التف�سير الناتجين عن التحيز‬
‫االجتماعي �أو ال�سيكولوجي للجماعة �أو للفرد وتحقيق �أكثر التعميمات العامة حياداً‬
‫في �صورة المعرفة المتوفرة"(�أحمد زكي بدوي‪� ،1982 ،‬ص ‪ ..)290‬والمو�ضوعية‬
‫لها عنا�صرها التي تنطلق منها مثل الحياد‪ ،‬والذي يمثِّل عدم التحيِّز �أحد �صوره‪..‬‬

‫المو�ضوعية كمفهوم �سيكولوجي "نف�سي" تفيد ذلك "االتجاه �إلى �أن‬


‫تقوم النتائج والتف�سيرات على بيانات مو�ضوعية‪ ،‬وتجنب أالحكام التي ت�ستند‬
‫�إلى العوامل الذاتية �أو التحيز ال�شخ�صي‪ ..‬والمو�ضوعية م�سلك الذهن الذي يرى‬
‫أال�شياء على ما هي عليه"(جابر عبدالحميد جابر وعالء الدين كفافي‪1992 ،‬‬
‫"مج ‪� ،"5‬ص ‪..)2458‬‬

‫المو�ضوعية تفيد �أي�ضاً "النقد على �أ�سا�س من المنهجية العلمية"‪" ..‬فحركة‬


‫العقل النقدية يجب �أن تت�سم بالمو�ضوعية"(خال�ص جلبي‪� ،1984 ،‬ص �ص ‪-154‬‬
‫‪ ..)155‬والنقد في �أحد �أهم معانيه يفيد النظر �إلى الخيارات المتاحة‪ ،‬والتعرف‬
‫على ميزاتها وعيوبها‪ ،‬نقاط قوتها ونقاط �ضعفها‪ ،‬ثم ترجيح اختيار على آالخر وفقاً‬
‫مقدم على جلب م�صلحة �صغرى"‪ ،‬وقاعدة‬ ‫لقواعد منها قاعدة "دفع مف�سدة كبرى َّ‬
‫"�أخف ال�ضررين"‪ ،‬وقاعدة "ماال يدرك كله ال يترك جله"‪ ..‬وغيرها من قواعد �ضابطة‬
‫ل�صناعة القرار ولعملية االختيار‪..‬‬

‫‪89‬‬
‫المو�ضوعية كمفهوم عولمي‪ :‬المو�ضوعية كمفهوم مو�صول بالعولمة يفيد‬
‫فكرة �أن العولمة وفّرت �سوقاً مليئاً بالخيارات‪ ،‬ال�صحية و�شبه ال�صحية وغير ال�صحية‪،‬‬
‫�أو قل خيارات عالية ال�صحة و�أخرى متدنية ال�صحة‪ ،‬وبين هذا وهذا درجات متفاوتة‬
‫في علو ال�صحة وتدنيها‪ ..‬ومهمة أال�سرة و�أفرادها �أن يتعاملوا مع هذه الخيارات‬
‫ت�ضرها‪ ..‬وال�صحة‬
‫بطريقة م�ستقيمة تحقق ذاتها في �صيغة مو�ضوعية تخدم ال�صحة ال ّ‬
‫هنا ال تقت�صر فقط على �صحة أالبدان‪ ،‬و�إنما كذلك �صحة الوجدان أ‬
‫والذهان؛‬
‫ال تقت�صر فقط على ال�صحة الف�سيولوجية والنف�سية‪ ،‬بل تمتد لت�شمل كذلك على‬
‫كافة المجاالت الحياتية‪ ،‬وبالذات الحيوية منها‪..‬‬

‫من أ�ين ت أ�تي المو�ضوعية‪ :‬المو�ضوعية ت�أتي من المنهجية‪ ،‬من تنهيج العقل‪،‬‬
‫من اكت�ساب العقل للمنهج‪ ..‬المو�ضوعية ت�ستمد قوتها من العقلية المنهجية‪ ..‬وهذا‬
‫يعني �أنه عندما تتراجع المو�ضوعية‪ ،‬ففي ذلك �إ�شارة �إلى تراجع في العقلية المنهجية‪،‬‬
‫والذي هو تعبير عن �ضعف في تركيب العقلية‪ ..‬وقوة تركيب العقلية تت�أتى عن طريق‬
‫وجود نظام ومنهج ي�سير عليه العقل �أكثر من مجرد ح�شوه بالمعلومات‪ ،‬وهذا يعني‬
‫"تنهيج العقل قبل م ِّده بالمعلومات"(خال�ص جلبي‪� ،1984 ،‬ص ‪..)156‬‬

‫ميزات المو�ضوعية‪ :‬المو�ضوعية لها ميزات‪ ،‬وميزاتها �أكثر من �أن تح�صى‪..‬‬


‫ولعل من �أبرز هذه الميزات ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬الت�أ�سي�س ألحكام مبنية على معايير علمية محددة ووا�ضحة‪.‬‬
‫‪ -‬ا�ستبعاد المزاجية واالحتكام �إلى المنهجية‪.‬‬
‫‪90‬‬
‫‪ -‬االختيار على �أ�سا�س علمي منهجي ال على �أ�سا�س ذاتي مزاجي‪.‬‬
‫‪� -‬إعطاء كل ذي حق حقه‪.‬‬
‫‪ -‬عدم و�ضع ال�شيء في غير محله‪.‬‬
‫‪ -‬تو�سيد أالمر �إلى �أهله‪.‬‬
‫‪ -‬المكاف�أة على ح�سب نوع المهمة التي تم انجازها‪ ،‬والجزاء من جن�س العمل‪.‬‬

‫م�ؤ�شرات تعك�س ا�ستمتاع الفرد بميزات المو�ضوعية‪ :‬وهذه الم�ؤ�شرات‬


‫عديدة‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫‪ -‬ف�صل الذات عن ال�سلوك �أثناء التقييم‪.‬‬
‫‪ -‬نظرة آالخرين للفرد على �أنه ذو عقل راجح‪.‬‬
‫‪ -‬نظرة آالخرين للفرد على �أنه عادل في �أحكامه وتعامالته‪.‬‬
‫‪� -‬إكت�ساب احترام آالخرين‪.‬‬
‫‪ -‬تحقيق مكا�سب ذاتية بف�ضل المو�ضوعية والن�شاط الذاتي المو�ضوعي‪.‬‬

‫م�ؤ�شرات تعك�س ا�ستمتاع أال�سرة بميزات المو�ضوعية‪ :‬وهذه الم�ؤ�شرات‬


‫م�شهودة في الحياة أال�سرية‪ ،‬ومنها ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬تعامل �أفراد أال�سرة بين بع�ضهم البع�ض على �أ�سا�س عادل‪.‬‬
‫‪ -‬الحكم على أالفعال ال النوايا‪.‬‬
‫‪ -‬ابتعاد �أفراد أال�سرة عن كل ما يمكن �أن ي�ؤدي �إلى جرح بع�ضهم البع�ض‪.‬‬
‫‪ -‬تمتع �أفراد أال�سرة ب�آراء مو�ضوعية‪ ،‬عاقلة ومفيدة‪.‬‬
‫‪91‬‬
‫‪ -‬تمتع أال�سرة بمكا�سب اجتماعية مثل زيادة التوا�صل والتما�سك االجتماعي‬
‫بين �أفرادها‪.‬‬

‫التربية أال�سرية ينبغي أ�ن ت�ستفيد من هذه الميزات‪ ،‬ميزات المو�ضوعية‪،‬‬


‫بحيث ينعك�س ذلك على محتواها التعريفي وبرامجها التربوية العملية‪ ..‬ومن ال�صور‬
‫المعبرة عن هذه اال�ستفادة ما يلي‪:‬‬
‫ِّ‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية ينبغي �أن تعمل على تنهيج عقل �أفرادها‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية ينبغي �أن تعمل على الت�أ�سي�س لعقلية نقدية داخل‬
‫أال�سرة‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية ينبغي �أن تعمل على ت�شجيع أالبناء على النظر واالعتبار‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية ينبغي �أن تعمل على حل الم�شكالت بطريقة عقالنية‬
‫�سلمية بد ًال من اللجوء �إلى العنف كو�سيلة لحل الم�شكالت‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية ينبغي �أن تعمل على تدعيم مبد�أ ال�سببية‪� ،‬أي ربط ال�سبب‬
‫بالنتيجة‪ ،‬بين �أفراد أال�سرة‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫حتقيق الالمظلومية ك�ضابط للمو�ضوعية‬

‫تمهيد‪ :‬الالمظلومية هي "الغياب الكامل الن�سبي للظلم"‪ ..‬وعندما نقول "الن�سبي"‪،‬‬


‫فنحن هنا ن�شير �إلى م�س�ألة المحدودية الب�شرية‪ ،‬وما تفرزه من �أخطاء مق�صودة‪� ،‬أو‬
‫�شبه مق�صودة‪� ،‬أو غير مق�صودة‪ ..‬ولذلك‪ ،‬لم يجعل إال�سالم هذه المحدودية بدون‬
‫ف�سن فكرة "التوية"‪ ..‬وقد �أ�شار الر�سول محمد (�ص)‪� :‬إلى هذه الحالة‪،‬‬
‫معالجة‪ّ ،‬‬
‫ببعد الم�شكلة فيها وبعد المعالجة منها‪ ،‬حيث قال‪" :‬كل ابن �آدم خطاء وخير‬
‫الخطائين التوابون" حديث ح�سن إال�سناد(محمد نا�صر الدين أاللباني‪1982 ،‬‬
‫"مج ‪� ،"4‬ص ‪..)171‬‬

‫والالمظلومية ينبغي �أن تكون نمط �شائع ي�شق طريقه في كافة �أرجاء المجتمع‪،‬‬
‫وبين كافة �أفراده و�شرائحه وم�ؤ�س�ساته‪ ..‬وهذا يعني �أن الالمظلومية ينبغي �أن تجد‬
‫طريقها �إلى تعامل المخلوق مع الخالق (�أي إال�ساءة للخالق)‪ ،‬والمخلوق مع ذاته‬
‫(�أي اال�ساءة للذات)‪ ،‬والمخلوق مع غيره (�أي اال�ساءة آ‬
‫للخرين)؛ واال�ساءة للغير‬
‫ال تقف فقط عند إالن�سان آالخر‪ ،‬و�إنما ت�شمل كذلك الحيوان والنبات والجماد‬
‫وكل موجودات البيئة‪..‬‬

‫وعك�س الالمظلومية‪ :‬الظلم‪ ..‬وقد ّق�سم ابن رجب البغدادي "الحنبلي" رحمه‬

‫‪93‬‬
‫اهلل الظلم �إلى نوعين �أ�سا�سين‪�" ،‬أحدهما‪ :‬ظلم النف�س و�أعظمه ال�شرك كما قال‬
‫﴾ ‪ ،‬ف���إن الم�شرك جعل المخل��وق في منـزلة‬ ‫تعال��ى ﴿‬
‫الخالق‪ ،‬فعبده وت�ألهه‪ ،‬فهو و�ضع أال�شياء في غير موا�ضعها‪ ...‬ثم يليه المعا�صي‬
‫على اختالف �أجنا�سها من كبائر و�صغائر‪ ..‬والثاني‪ :‬ظلم العبد لغيره"(طبعة ‪،1993‬‬
‫�ص ‪..)223‬‬
‫أ‬
‫وال�سرة في حاجة �إلى �أن تنتبه �إلى الظلم و�إلى �إمكانية ت�سربه بين �أفرادها‬
‫وفي داخل �شبكة عالقاتها‪ ،‬فيتجاوز �أحد �أفراد أال�سرة حدوده ويت�صرف في ملك‬
‫الخر بدون وجه حق‪ ،‬وهذا �أ�صل من �أ�صول الظلم‪ ،‬حيث �أن "الظلم‪:‬‬ ‫وممتلكات آ‬
‫هو مجاوزة الحد والت�صرف في ملك الغير" كما يقول ال�شيخ عبداهلل أالن�صاري‬
‫رحمه اهلل في �شرحه أللربعين النووية(النووي‪ ،‬طبعة ‪1399‬هـ‪� ، ،‬ص ‪..)110‬‬

‫مفهوم الالمظلومية‪ :‬بالرغم من �أن العولمة في حد ذاتها كفكرة ِّ‬


‫تعبر عن‬
‫حالة من "الظلم"‪ ،‬بحكم �أنها ت�سعى �إلى فر�ض نمط حياة غربي على كافة الثقافات‪،‬‬
‫وكذلك على الرغم من �أن العولمة ت�سعى بق�صد �أو عن غير ق�صد �إلى "عولمة‬
‫الظلم"‪� ،‬إال �أنها كذلك �سمحت بوالدة وتطور م�ؤ�س�سات و�آليات "مكافحة للظلم"‪..‬‬
‫والليات تدفع بكل ما �أوتيت من قوة �إلى "خلق عالم خالي من‬ ‫وهذه الم�ؤ�س�سات آ‬
‫الظلم‪ ،‬ومن كل �أ�شكال الظلم"‪ ..‬وهذا هو معنى الالمظلومية على �إطالقه‪" ،‬عالم‬
‫خالي من الظلم"‪ ،‬و"عالم فيه مائة بالمائة ِ�س ْلم"‪" ..‬عالَم عادل‪ ،‬ال�سالم فيه غالب‪،‬‬
‫والظلم فيه غائب"‪..‬‬
‫‪94‬‬
‫الالمظلومية كمفهوم �سو�سيولوجي "اجتماعي" تفيد تلك الظاهرة الملحوظة‬
‫الم ْن ِتج لحالة عامة من أالمن االجتماعي‪ ،‬وبالتالي حالة عامة من ال�سالم‬
‫من العدل ُ‬
‫االجتماعي‪ ..‬الالمظلومية هي الغياب الن�سبي للظلم االجتماعي‪ ..‬والظلم بمعناه‬
‫االجتماعي هو "ممار�سة ال�سلطة ممار�سة ظالمة وقا�سية وانتهاك المبادئ الد�ستورية‬
‫وخا�صة ما كان منها متعلقاً بحماية حقوق إالن�سان"(�أحمد زكي بدوي‪،1982 ،‬‬
‫�ص ‪..)296‬‬
‫�أي�ضاً الالمظلومية تفيد "�إعطاء كل ذي حق حقه"‪ ،‬وهذا يعني من الناحية‬
‫العملية عدة �أمور منها على �سبيل المثال‪" :‬و�ضع ال�شيء في محله"‪" ،‬تو�سيد‬
‫أالمر �إلى �أهله"‪ ،‬و"ال تفريط وال �إفراط"‪ ..‬وهذه كلها م�ؤ�شرات اعتدال‪ ،‬ومعلو ٌم‬
‫عد إالمام ال�شافعي رحمه اهلل العدل من‬ ‫�أن "االعتدال �أ�سا�س العدل"‪ ،‬وقديماً ّ‬
‫الف�ضائل‪ ،‬وقال ب�أن الف�ضائل �أربعة منها‪ :‬ف�ضيلة "العدل‪ ،‬وقوامها في اعتدال قوى‬
‫النف�س"(�صالح �أحمد ال�شامي‪�1998 ،‬أ‪� ،‬ص ‪ ،)59‬و�إن كان للعدل ذاته ت�أثير في‬
‫تغذية االعتدال وتقويته‪..‬‬
‫الالمظلومية كمفهوم �سيكولوجي "نف�سي" يفيد "الغياب الكامل ن�سبياً‬
‫لال�ساءة بكافة �أ�شكالها‪ ،‬نف�سية وج�سدية‪ ،‬عاطفية وجن�سية‪ ،‬وغيرها"‪" ..‬ويمكن‬
‫تعريف مفهوم إال�ساءة ب�شكل عام على �أنه (�سلوك �أو فعل يت�سم بالعدوانية ي�صدر‬
‫من طرف وقد يكون فرداً �أو جماعة �أو دولة بهدف ا�ستغالل و�إخ�ضاع الطرف آالخر‬
‫في �إطار عالقة قوة غير متكافئة مما ي�سبب �أ�ضراراً مادية �أو معنوية �أو نف�سية)"(وداد‬
‫العي�سى‪� ،2004 ،‬ص �ص ‪..)22-21‬‬
‫‪95‬‬
‫وال�ساءة هي �إ�ساءة في المعاملة‪ ،‬وعاد ًة ما يبتلي بها المرء في طفولته‪ ،‬ويُ َع َّرف‬
‫إ‬
‫ال�ساءة المتعمدة والمتكررة على الطفل من قبل‬ ‫مفهوم "�إ�ساءة معاملة الطفل ب�أنها إ‬
‫البالغين‪ ،‬ويق�سم ا�ساءة معاملة �إلى ج�سدية وانفعالية وجن�سية‪ ..‬وتعتبر �إ�ساءة معاملة‬
‫الطفل من �أ�سو�أ الحوادث على أالطفال لما فيه من ردود �أفعال نف�سية عنيفة‪ ،‬وغالباً‬
‫تعر�ض �إلى إال�ساءة �صامت وال يتكلم عنها"(جا�سم محمد‬ ‫ما يكون الطفل الذي ّ‬
‫حاجيه‪� ،2004 ،‬ص ‪..)43‬‬

‫الالمظلومية كمفهوم عولمي‪ :‬الالمظلومية كمفهوم مو�صول بالعولمة يفيد‬


‫طورت فكرة "المجتمع المدني"‪ ،‬وما ترتب عليه من والدة وتطور‬ ‫فكرة �أن العولمة ّ‬
‫م�ؤ�س�سات تكافح الظلم‪ ،‬وتدافع عن الحقوق‪" ،‬م�ؤ�س�سات حقوقية"‪ ..‬والالمظلومية‬
‫�أي�ضاً تعني الغياب الن�سبي للعوامل المت�سببة في �إ�ساءة معاملة أالطفال والزوجات‬
‫والظلم أال�سري‪ ،‬والتي منها‪:‬‬
‫"‪ )1‬حلقة العنف‪ :‬حيث ت�شير الدرا�سات �أن أال�شخا�ص الذين عانوا من العنف‬
‫في طفولتهم هم �أكثر مي ًال لممار�سة التع�سف �ضد �أطفالهم وزوجاتهم‪.‬‬
‫‪ )2‬الحالة االجتماعية‪-‬االقت�صادية‪ :‬ت�شير الدرا�سات �إلى �أن �إ�ساءة المعاملة‬
‫أللطفال �أكثر انت�شاراً بين من يعي�شون في حالة �أدنى اجتماعياً واقت�صادياً‪.‬‬
‫‪ )3‬الكرب‪ :‬فقد ربط العلماء والباحثين بين معدالت العنف العائلي والكرب‬
‫االجتماعي عند أال�سر مثل البطالة والم�شاكل المالية‪ ...‬الخ"(كروز تراحيب‬
‫�سالم العجمي‪� ،2004 ،‬ص ‪.)67‬‬
‫‪96‬‬
‫‪ )4‬متالزمة من�شوزن‪" :‬نوع خا�ص من إال�ساءة تدعى (متالزمة من�شوزن)‪ ،‬ويكون‬
‫الطفل فيها كب�ش فداء ل�ضحية هي غالباً ما تكون أالم"(جواد الم�ؤمن‪،‬‬
‫‪� ،2004‬ص ‪..)41‬‬
‫الالمظلومية أت�تي من العدل‪ ..‬الالمظلومية هي من العدل‪ ..‬العدل في‬
‫المعاملة‪ ..‬وهذا يت�أ�س�س في الطفولة حيث التن�شئة الوالدية ال�سليمة وما ي�صاحبها‬
‫من خبرات �سارة تعزز لدى الطفل �إدراكه بتقبل آالخرين له‪ ،‬وبتكريم جماعة‬
‫بالمن واال�شباع والر�ضا وغيرها من المدارك أ‬
‫والحا�سي�س‬ ‫أال�سرة له‪ ،‬و�إح�سا�سه أ‬
‫إاليجابية‪� ..‬أي�ضاً الالمظلومية تت�أتى من خالل �إر�ساء حالة كافية وفعالة من العدل‬
‫في الحكم‪ ،‬ففي غياب هذا العدل في الحكم ي�أتي الظلم‪﴿ ،‬‬
‫﴾المائدة‪..45 :‬‬
‫ميزات الالمظلومية‪ :‬الالمظلومية لها ميزات‪ ،‬وميزاتها �أكثر من �أن تح�صى‪..‬‬
‫ولعل من �أبرز هذه الميزات ما يلي‪:‬‬
‫‪� -‬سيادة قيمة العدالة وحكمها‪.‬‬
‫‪� -‬سيادة مناخ عام من أالمن‪.‬‬
‫‪� -‬سيادة حالة عامة من ال�سالم االجتماعي‪.‬‬
‫‪ -‬تنامي خط التنمية‪.‬‬
‫‪ -‬تنامي الربحية‪.‬‬
‫‪ -‬الحد ‪-‬ب�شكل كبير‪ -‬من الفقر‪.‬‬
‫‪ -‬انخفا�ض دال في مجال الجهل والمر�ض‪.‬‬
‫‪97‬‬
‫م�ؤ�شرات تعك�س ا�ستمتاع الفرد بميزات الالمظلومية‪ :‬وهذه الم�ؤ�شرات‬
‫عديدة‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫‪ -‬تقبل الفرد لذاته‪.‬‬
‫‪ -‬تمتع الفرد ب�إ�شباع مادي ور�ضا معنوي‪.‬‬
‫‪� -‬إح�سا�س الفرد أ‬
‫بالمن‪.‬‬
‫‪ -‬اكت�ساب الفرد احترام آالخرين ومكانة عالية بينهم‪.‬‬
‫‪ -‬التوافق النف�سي واالجتماعي للفرد عبر مراحل حياته المختلفة‪.‬‬

‫م�ؤ�شرات تعك�س ا�ستمتاع أال�سرة بميزات الالمظلومية‪ :‬وهذه الم�ؤ�شرات‬


‫م�شهودة في الحياة أال�سرية‪ ،‬ومنها ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬تطور حالة عالية من التوافق أال�سري والزواجي‪.‬‬
‫‪ -‬تمتع �أفراد أال�سرة ب�أمن و�سالم �أ�سري "اجتماعي"‪.‬‬
‫‪ -‬التزام �أفراد أال�سرة بالقواعد والقوانين عن حب‪.‬‬
‫‪ -‬ا�شباع الحاجة �إلى الحرية لدى �أفراد أال�سرة‪.‬‬
‫والبداع والتفوق في أال�سرة‪.‬‬ ‫‪ -‬تنامي م�ؤ�شرات االنجاز إ‬

‫التريية أال�سرية ينبغي أ�ن ت�ستفيد من هذه الميزات‪ ،‬ميزات الالمظلومية‪،‬‬


‫بحيث ينعك�س ذلك على محتواها التعريفي وبرامجها التربوية العملية‪ ..‬ومن ال�صور‬
‫المعبرة عن هذه اال�ستفادة ما يلي‪:‬‬
‫ِّ‬
‫‪98‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية ينبغي �أن تعمل على ت�أ�سي�س حالة من ال�سالم النف�سي داخل‬
‫أال�سرة‪ ،‬وما يترتب عليه من تعاي�ش �سلمي و�سيادة حالة �صادقة من الت�سامح‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية ينبغي �أن تعمل على تعزيز مبد�أ العدالة االجتماعية في داخلها‬
‫وبين �أفرادها‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية ينبغي �أن تعمل على دعم المعتقدات ال�سليمة التي تجلب‬
‫ال�سالم االجتماعي داخل أال�سرة‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية ينبغي �أن تعمل على تدريب �أبنائها على تبني الحل ال�سلمي‬
‫للم�شكالت بد ًال من الحل العنفي‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية ينبغي �أن تعمل على �أن تع ِّلم أالبناء مبد�أ "�أن�صر �أخاك ظالماً‬
‫�أو مظلوما"‪ ،‬وذلك ب�أن ترد ظلمه عندما يبدر منه‪ ،‬وتدفع الظلم عنه عندما يقع‬
‫عليه‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫الناجت أ‬
‫الكرب ملو�ضوعية حممودة والمظلومية مطلوبة‬
‫‪ - -‬قرار بال حت ِّيز‬

‫المو�ضوعية غير الظالمة‪ ..‬المو�ضوعية الخالية من الظلم‪ ..‬المو�ضوعية التي لي�س‬


‫تحيز‪ ..‬و"القرار ‪:Decision‬‬ ‫لها �آثار جانبية ظالمة‪ ..‬هي التي يمكن �أن ت ِلد قرار بال ِّ‬
‫هو اختيار ت�صرف معين بعد درا�سة وتفكير‪ ،‬واتخاذ القرارات ‪Decision Making‬‬

‫هو وجود بدائل لالختيار بينها"(�أحمد زكي بدوي‪� ،1982 ،‬ص ‪ ..)98‬و"التحيز‬
‫‪ :Bias‬هو اتجاه عقلي للحكم على أالمور قبل الوقوف تماماً على حقيقتها‪ ،‬وذلك‬
‫تحت ت�أثير التجارب ال�سابقة �أو بع�ض العوامل االنفعاليـة الذاتيـة التي ت�سبب الخط�أ في‬
‫الحكم"(�أحمد زكي بدوي‪� ،1982 ،‬ص ‪..)39‬‬
‫المتحيز هو تعبير عملي‬
‫ِّ‬ ‫المتحيز هو القرار العادل‪ ..‬القرار غير‬
‫ِّ‬ ‫والقرار غير‬
‫لمو�ضوعية مح�سوبة‪ ،‬مو�ضوعية ال ظلم فيها‪ ..‬والمو�ضوعية التي ال ظلم فيها هي‬
‫التي تجد جذورها في عدالة م�س َت َم َّدة من تقوى‪ ..‬وهذا �أمر منطقي‪ ،‬فالعدالة هي‬
‫دالة التقوى‪ ..‬العدالة هي ال�صورة العملية للتقوى‪� ،‬أو قل ب�أن التقوى تحقق ذاتها من‬
‫خ�لال العدال��ة‪ ،‬و�إل��ى ه��ذا �أ�ش��ار المولى ع�� ّز وجل في قول��ه ﴿‬
‫﴾المائدة‪..]8 :‬‬
‫الية �أن التقوى جاءت بعد العدل‪ ،‬وهذا يدل على �أن "التقوى نهاية‬
‫ويالحظ من آ‬
‫ال�سيد محمود أاللو�سي البغدادي‪ ،‬طبعة ‪2001‬‬
‫الطاعة"(�أبي الف�ضل �شهاب الدين ّ‬
‫الكثر من هذا‪� ،‬أن "العدل من �صميم‬
‫"مج ‪� ،"3‬ص ‪ ،)255‬والعدل �أن�سب الطاعات‪ ..‬أ‬
‫‪100‬‬
‫التقوى"(محمد �أبو زهرة‪ ،‬بدون تاريخ "مج ‪� ،"4‬ص ‪ ،)2060‬ومفردة ﴿�أقرب﴾‬
‫في آالية ال تدلل فقط على �أن التقوى �سقف يتجه الب�شر نحوه بال انقطاع‪ ،‬فيقتربون‬
‫منه �أكثر و�أكثر مع ا�ستقامة النف�س وتطور العلم ون�ضج المو�ضوعية الب�شرية‪ ،‬و�إنما‬
‫يدلل كذلك على محدودية الطبيعة الب�شرية‪ ،‬و�صعوبة هذه الطبيعة للو�صول �إلى‬
‫التقوى التامة‪ ..‬وهذا يعني �أن العدل الب�شري يقترب من �صميمه‪ ،‬وهي التقوى‪..‬‬
‫يقترب بتطوره كمفهوم وك�آليات‪� ،‬أنظمة وم�ؤ�س�سات‪..‬‬
‫نخل�ص مما �سبق �إلى �أن "التقوى تحقق ذاتها من خالل العدالة‪ ...‬والعدالة‬
‫�أ�سا�س للعزة‪ ،‬فعندما يكون المجتمع عاد ًال ي�صبح إالن�سان فيه عزيزاً"‪ ..‬و�صدق‬
‫إالمام ال�شافعي رحمه اهلل عندما قال‪" :‬من لم تعزه التقوى‪ ،‬فال ع ّز له"(�صالح �أحمد‬
‫للن�سان هي "التقوى التي‬ ‫ال�شامي‪�1998 ،‬أ‪� ،‬ص ‪ ..)60‬والتقوى التي فيها ع ّز إ‬
‫هي التزام الم�أمورات واجتناب المنهيات"(وهبة الزحيلي‪" 2003 ،‬مج ‪،"13‬‬
‫�ص ‪ ..)597‬والتقوى بهذا المعنى تنتج العدل‪ ،‬والتي �أ�سا�سها في االعتدال‪..‬‬
‫وهذا يقودنا �إلى جانب �آخر وهو �أن التقوى لي�ست م�س�ألة ذاتية �أو تحيزية‪،‬‬
‫بدليل �أن القر�آن يجعل من المو�ضوعية �أو العدالة �شاهداً يد ِّلل عليها‪﴿ ،‬‬
‫﴾المائدة‪ ..]8 :‬فالعدالة �أو المو�ضوعية هي نقي�ض الذاتية‪..‬‬
‫وب�صياغة �أخرى تو�ضيحية �أكثر‪" ،‬تعتبر المو�ضوعية والذاتية على طرفي نقي�ض من‬
‫�ألوان الطيف‪ ...‬عندما يكون المتحدث ذاتياً‪ ،‬ف�إنه يتحدث بل�سان م�صالحه الخا�صة؛‬
‫وعندما يكون مو�ضوعياً‪ ،‬ف�إنه يتحدث بل�سان م�صالح م�ستمعه‪ ،‬وهو في تلك الحالة‬
‫يملك االعتناق �أو التعمق العاطفي"(ويليام‪ .‬ج‪ .‬ماكوالف‪� ،1994 ،‬ص ‪..)79‬‬
‫‪101‬‬
‫وتجدر إال�شارة هنا �إلى �أن الذاتية نوعان‪ :‬ذاتية محمودة وذاتية مذمومة‪ ..‬والذاتية‬
‫المناق�ضة للمو�ضوعية هي الذاتية بمحتوياتها المذمومة مثل أ‬
‫الهواء‪ ..‬هذه الذاتية‬
‫المذمومة هي التي تجر النا�س �إلى المعا�صي‪ ،‬وبالتالي توقعهم في م�آ�سي‪ ،‬بل تجرهم‬
‫وتوقعهم فيما هو �أكبر‪ ..‬ومثال على الهوى ك�شاهد على تلك الذاتية المذمومة‪،‬‬
‫﴾الق�ص�ص‪﴿ ، 50:‬‬ ‫﴿‬
‫﴾الجاثيـة‪﴿ ،23 :‬‬
‫﴾النعام‪..150 :‬‬ ‫أ‬
‫وننبه هنا �إلى �أن الهوى لي�س كله مذموماً‪ ،‬فالهوى نوعان‪ :‬هوى محمود مو�صول‬ ‫ِّ‬
‫بالمو�ضوعية ال�شرعية‪ ،‬قال ر�سول اهلل ‪" :‬ال ُي�ؤ ِمن �أحدكم حتى يكون َه َواه تبعاً لما‬
‫جئت به" �أخرجه الطبراني و�أبو النعيم في �أربعينه‪ ،‬وهو ح�سن �صحيح(عبدالرحمن‬
‫بن الجوزي‪ ،‬طبعة ‪� ،1962‬ص ‪)18‬؛ وهوى مذموم مو�صول بالذاتية غير ال�شرعية‬
‫﴾‪..‬وفيالمقابل‪ ،‬الذاتية المحمودة‬ ‫﴿‬
‫هي الذاتية التي تت�ضمن محتويات مرغوب فيها‪ ..‬محتويات يمكن �أن ت�ؤدي �إلى‬
‫تطور الب�شرية واتجاهها �إلى ما هو �أف�ضل‪ ..‬ومثال على المحتويات الذاتية إاليجابية‬
‫�أو المحمودة‪ :‬الخيال والحلم والطموح‪� ،‬إذا �أ ْح ِ�سن ا�ستخدامهم‪..‬‬
‫المو�ضوعية تلغي المظلومية‪ ،‬ولكنها ال تلغي‬ ‫وبناء عليه‪ ،‬فيمكننا القول ب�أن‬
‫ً‬
‫الذاتية‪ ..‬فالمو�ضوعية معايير‪ ،‬ولكن الذاتية هي التي تميز بين النا�س في تبنيهم‬
‫للمو�ضوعية‪ ..‬الذاتية هي التي تخرق �سقف المو�ضوعية وتتجاوزه �إلى �آفاق �أو�سع‪..‬‬
‫الذاتية تعك�س الفروق الفردية بين النا�س‪ ..‬كلهم لديهم معايير مو�ضوعية واحدة‪،‬‬
‫‪102‬‬
‫ولكن الفارق بين �أحدهم آ‬
‫والخر هو في ا�ستخدام م�صادره الذاتية ب�شكل �أكبر‬
‫و�أكثر فعالية مثل الت�أمل والخيال وغيرها‪..‬‬
‫وبناء على معطيات هذا الجزء من الكتاب‪ ،‬ف�إن أال�سرة في حاجة �إلى العزف‬ ‫ً‬
‫على نغمة "المو�ضوعية غير الظالمة‪ ،‬والعادلة"‪� ،‬أي المو�ضوعية الحقيقية ولي�س‬
‫وتحيزية مق ّننة‪� ،‬أي‬
‫المو�ضوعية الظاهرة‪ ،‬والتي ظاهرها مو�ضوعية‪ ،‬ولكن باطنها ذاتية ِّ‬
‫ذاتية وتحيزية يخدمها القانون‪ ..‬بمعنى �أن ال ن ْل ِب�س الباطل بالحق‪..‬‬
‫وعندما تتمكن أال�سرة من توطين المو�ضوعية‪( ،‬غير الظالمة) من جهة‪،‬‬
‫و(العادلة) من جهة �أخرى‪ ..‬توطينها داخل م�ساحات أال�سرة و�أرجائها و�أفنياتها‪ ،‬ف�إن‬
‫ذلك ي�ؤدي �إلى �إفراز حالة �إيجابية‪ ،‬ذات �شواهد مرغوب فيها‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪� -‬إعطاء كل ذي حق حقه‪.‬‬
‫‪� -‬إلغاء �أو التقليل الكبير من الحد ال�سلبي لم�شاعر الغيرة بين أالبناء داخل‬
‫أال�سرة‪.‬‬
‫‪ -‬تقليل كبير لكل من العنف وال�سلوك العدواني بين أالبناء داخل العائلة‪.‬‬
‫‪ -‬تقوى �شخ�صية أالبناء‪ ،‬وتتجه جهودهم نحو ما ينميهم ويزيدهم نموا‪.‬‬
‫‪ -‬تحول أالبناء في الم�ستقبل �إلى �آباء عادلين‪.‬‬
‫�أي�ضاً‪ ،‬أال�سرة في حاجة �إلى العزف على نغمة "الذاتية النافعة‪ ،‬وغير ال�ضارة"‪،‬‬
‫وذلك ب�شجيع أالبناء على الت�أمل الذاتي بعد خروجهم من مواقف الحياة اليومية‪،‬‬
‫بالبناء �إلى الت�صرف ب�شكل‬‫ت�أم ًال يترتب عليه تقييم‪ ،‬يثمر �أفكار ذاتية �إيجابية‪ ،‬ت�ؤدي أ‬
‫ذاتي م�ستقل‪ ،‬ذو جودة عالية ومنفعة متنامية‪..‬‬
‫‪103‬‬
‫كذلك عندما تتمكن أال�سرة من توطين الذاتية‪( ،‬النافعة) من جهة‪ ،‬و(غير‬
‫ال�ضارة) من جهة �أخرى‪ ..‬توظينها داخل م�ساحات أال�سرة و�أرجائها و�أفنيتها‪ ،‬ف�إن‬
‫ذلك يمكن �أن ي�ؤدي �إلى �إفراز حالة �إيجابية‪ ،‬ذات �شواهد محمودة‪ ،‬منها ما يلي‪:‬‬
‫‪� -‬إلغاء الحواجز التي تعيق أالبناء عن �إبداء �آرائهم الخا�صة‪.‬‬
‫‪ -‬ت�شجيع االبتكار وت�شكيل الر�ؤى الذاتية داخل العائلة‪.‬‬
‫‪ -‬توفير أال�سرة لتغذية راجعة تعزز من الر�ؤى الذاتية إاليجابية لدى أالبناء‪.‬‬
‫‪ -‬تعليم أالبناء كيفية تحويل �أفكارهم ال�سلبية �أو غير المفيدة �إلى �أفكار �إيجابية‬
‫نافعة‪.‬‬
‫‪ -‬تب ِّني أال�سرة ألفكار أالبناء و�إتاحة الفر�ص لتحققها في �أر�ض الواقع‪.‬‬

‫الخالية من الظلم‬ ‫المو�ضوعية‬

‫خيرية تامة‬

‫تحيز‬
‫بال ِّ‬ ‫قــرار‬

‫متحيزة‪ ،‬والتي يمكن �أن‬


‫ال�شكل رقم (‪ )4‬يبين �أن المو�ضوعية الخالية من الظلم تنتج قرارات غير ِّ‬
‫ِّ‬
‫تمكن لخيرية تامة "ن�سبياً"‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫خامتــة‬

‫نخل�ص مما �سبق �إلى �أننا �أمام عولمة جاءت للعالم بقدر عالي من المو�ضوعية‪..‬‬
‫وبتعبير �أدق‪ ،‬جاءت للعالم بخليط من الظروف‪ ،‬والتي منها تلك الظروف التي‬
‫ت�ؤ�س�س لدرجة عالية من المو�ضوعية‪ ..‬وهذه الظروف ال تقت�صر فقط على قدر �أكبر‬
‫من الحرية واال�ستقاللية‪ ،‬وتقدم في مجال العلم والقانون‪ ،‬وقدر كبير لم�ؤ�س�سات‬
‫المجتمع المدني‪ ،‬بل تمتد لت�شمل وعي إالن�سان وامتثاله �أمام معطيات ي�ستطيع من‬
‫خاللها �أن يتخذ موقفاً واختياراً مو�ضوعياً في الحياة‪..‬‬

‫وانطالقاً من �أن العولمة جاءت بخليط من الظروف‪� ،‬أي خلطت عم ًال �صحيحاً‬
‫و�آخر �سيئا‪ ،‬وكذلك انطالقاً من احتمالية حقيقية للوقوع في فخ الظروف ال�سيئة‪،‬‬
‫ف�إنه من الواجب على أال�سر في زمن العولمة‪ ،‬وفي �أي زمان تتكرر فيه مثل هذه‬
‫الحالة �أو الو�ضع‪� ،‬أن ت�ؤ�س�س لفكرة "التربيـة نحو ال�ضميرية والمثل العليـا"‪ ،‬والتي‬
‫يمكن �أن ت�ضع في أالفراد ‪-‬كحد �أدنى‪� -‬ضميراً يميزون به بين المو�ضوعية والذاتية‪،‬‬
‫وبين النافع وال�ضار‪ ،‬وبين الكامل والناق�ص‪..‬‬

‫وفكرة "التربيـة نحـو ال�ضميرية والمثل العليا" تفيد "مجمـوعة الجهــود المنظمـة‬
‫التـ��ي تمنـح أ‬
‫الفراد ُمثــ ً‬
‫ال عليا يتجهـو بهــا نحــو مـا ينفعهــم‪ ،‬و�ضميــراً فعــا ًال يميـزون‬
‫ي�ضــرهم"‪..‬‬
‫ُّ‬ ‫به ما ينفعهــم مما‬
‫‪105‬‬
‫فالمثل العليا هي محركات ال�سلوك القويم‪ ،‬في حين �أن ال�ضمير هو ال�سلطة الداخلية‬
‫التي بها ت�ستقيم أالخالق عملياً‪� ..‬إن ال�ضمير هو المنبع الذي يحت�ضن الم ُثل العليا‬
‫أ‬
‫والخالق ال�سامية‪..‬‬

‫مثل هذه التربية يمكن �أن تمنح الفرد الم�س�ؤولية‪ ،‬وبتعبير �أدق‪ ،‬تمنحه �إح�سا�ساً‬
‫حقيقياً بالم�س�ؤولية‪� ،‬أي تجعله ي�صدر عنه �سلوكاً م�س�ؤو ًال‪ ،‬منفعته بائنة ّ‬
‫وم�ضرته غير‬
‫واردة‪ ،‬مع التنبيه على �أن مثل هذا ال�ضمير وما يتبعه من �سلوك م�س�ؤول يحتاج �إلى‬
‫مرجعية ي�ستند عليها‪ ،‬في�ستمد منها معاييره‪ ..‬ونحن هنا نق�صد المرجعية إال�سالمية‪..‬‬
‫هذه المرجعية هي التي تمنح ال�ضمير �إح�سا�سه بالر�ضى عند فعل الخير و�إح�سا�سه‬
‫بالذنب عند فعل ال�شر‪..‬‬

‫‪106‬‬
‫العــولـمــــة‬
‫جلبت االنفـتاح الثقافــي‪،‬‬
‫الخـر واال�سـتفادة منه‬‫و�ضابطها فهـم آ‬
‫مع المحافظــة على الهــــوية‬

‫‪107‬‬
108
‫متهيــد‬

‫"العولمـــة جلبت االنفتاح الثقافي‪ ،‬و�ضابطها فهم آالخر واال�ستفادة منه‬


‫مع المحافظة على الهوية" هو آالخر مفهوم مركَّ ب‪ ،‬يوحي من ناحية إ‬
‫بالقدام في‬
‫مقابل إالحجام‪ ،‬وبالوعي قبل ال�سعي‪ ،‬وباال�ستماع بغر�ض االنتفاع‪ ،‬وبالتقدم‪ ،‬ولكن‬
‫يحددها إال�سالم‪..‬‬
‫وفق �ضوابط ِّ‬

‫وللمزيد من التو�ضيح نقول ب�أن العولمة من ناحية "فتحت كل �شيء على كل‬
‫�شيء"‪ ،‬وال�سبب في ذلك �أن العولمة‪ ،‬ب�شكل تلقائي "تطوري تاريخي" وب�شكل‬
‫ِ‬
‫ق�صدي "م�ؤ�س�ساتي عبر قاراتي"‪� ،‬أخذت على عاتقها قرار فتح كل أالبواب‪،‬‬
‫و�شرها‪..‬‬
‫�صالحها وطالحها‪ ،‬خيرها ِّ‬
‫و�س ّنة اهلل في كونه ومجتمعات خل ِقه تقت�ضي �أن "التغيَّر الذي ن�شهده في الخارج‬
‫هو انعكا�س للتغير الذي ي�شهده �صاحبه في الداخل"‪﴿ ،‬‬
‫﴾الرعد‪﴿ ،]12:‬‬
‫أ‬
‫﴾النعام‪..]44 :‬‬

‫المتقدم هو قرار تحتي‪� ،‬أي قرار فردي وم�ؤ�س�ساتي‪،‬‬


‫واالنفتاح‪ ،‬و�إن كان في الغرب ِّ‬
‫ف�إنه في ال�شرق النامي هو قرار فوقي‪ ،‬قرار جماعة و�سلطة‪ ،‬قرار ر�سمي‪ .‬أ‬
‫ولن االنفتاح‬

‫‪109‬‬
‫في ال�شرق النامي هو تعبير عن قرار فوقي‪ ،‬ف�إنه كذلك بقرار فوقي يمكن �أن تتم‬
‫عملية �ضبط هذا االنفتاح‪ ،‬لكي يكون انفتاحاً على الخير ال انفتاحاً على ال�شر‪..‬‬
‫وهذا ال يكون �إال بالمحافظة على الهوية‪ ..‬ودور القيادة ال�سيا�سية في المحافظة على‬
‫الهوية ال يق ِّلل من �ش�أن دور القاعدة ال�شعبية في ذلك‪� ،‬أي دور المجتمع المدني‬
‫المتقدم قطع �أ�شواطاً هائلة في ميدان‬
‫في ذلك‪ ..‬مع التنبيه على �أن المجتمع الغربي ِّ‬
‫العالقات االجتماعية وفق فل�سفة انطلق منها مع بداية ع�صر النه�ضة‪ ،‬ويريد �أن يعمم‬
‫تلك الفل�سفة في ظل زمن العولمة‪ ،‬وب�إمكانيات و�آليات العولمة على المجتمع‬
‫ال�شرقي‪� ،‬أي يريد �أن يعمم هويته على هوية المجتمع ال�شرقي‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫ال�ضغط الم�ستمر‪ ،‬المبا�شر وغير المبا�شر‪� ،‬ضغط الترغيب و�ضغط الترهيب‪� ،‬ضغط‬
‫الغراء و�ضغط التهديد‪..‬‬
‫إ‬

‫‪110‬‬
‫(الإ نفتاح الثقافي)‬
‫و�ضابطه (فهم آ‬
‫الخر واال�ستفادة منه مع املحافظة على الهوية)‬

‫تمهيد‪ :‬الفهم الم�شترك �أو االنفتاح الثقافي و�ضابطه فهم آالخرين واال�ستفادة‬
‫ال م�ضرة فيه‪ ..‬فاالنفتاح بطبيعته‬
‫َّ‬ ‫منهم مع المحافظة على الهوية‪� ،‬أ�سا�س لنجاح نافع‬
‫مفتاح للنجاح‪� ،‬إذا تم فهمه وا�ستيعابه‪ّ ،‬ثم ُح ْ�سن اال�ستفادة منه‪ ..‬والنجاح‪ ،‬النافع‬
‫وغير ال�ضار‪ ،‬الذي ي�أتي من االنفتاح م�شروط ب�أحد �أمرين �أو كالهما‪ :‬انفتاح عاقل‬
‫�أوتعامل مع االنفتاح ب�شكل عاقل‪..‬‬

‫وفي زمن العولمة‪ ،‬والذي ال يتوفر فيه �أو ي�صعب �أن يتوافر فيه انفتاح عاقل‬
‫ال م�ضرة فيه‪ ،‬ف�إن المراهنة ينبغي �أن تكون على التعامل العاقل مع االنفتاح‬
‫ّ‬
‫ن�سان ُيح ِ�سن ا�ستخدامه لعقله‪،‬‬
‫"المتاح"‪ ..‬فالمراهنة في زمن العولمة على �إ ٌ‬
‫ف�صل بين الح�سنات وال�سيئات"(�أبي الح�سن‬ ‫فـ"بالعقل تُعرف حقائق أ‬
‫المور‪ ،‬ويُ َ‬
‫المام ال�شافعي رحمه اهلل "العاقل‬
‫الماوردي‪ ،‬طبعة ‪� ،1978‬ص ‪ ..)20‬وكما يقول إ‬
‫من َع َق َله عق ُله عن كل مذموم"(�صالح �أحمد ال�شامي‪�1998 ،‬أ‪� ،‬ص ‪..)64‬‬

‫و�إذا كان العقل �أ�سا�ساً لال�ستفادة من االنفتاح‪ ،‬ف�إن االنفتاح في �أ�صله م�صدره‬
‫التفاعل‪ ،‬وبتعبير �إجرائي‪ ،‬م�صدره �أن يفهم النا�س بع�ضهم البع�ض‪ ،‬و�إذا ما فهم النا�س‬
‫بع�ضهم البع�ض‪ ،‬ف�إن الناتج هو �إمكانية والدة وتطور نوع من االنفتاح الثقافي‪ ،‬والذي‬
‫به يمكن �أن ي�ستفيد الكل من الكل‪..‬‬

‫‪111‬‬
‫وف��ي مقاب��ل فكرة "االنفت��اح الثقاف��ي"‪ ،‬هناك فك��رة �أخرى وه��ي "االنغالق‬
‫الثقاف��ي"‪ ،‬وال��ذي بدوره يزي��د الكراهية بين النا���س‪ ،‬بحكم �أنه��م ال يفهمون بع�ضهم‬
‫البع���ض‪ ..‬واالنغ�لاق الثقاف��ي ه��و انغ�لاق اجتماعي قب��ل �أن يك��ون انغالق��اً عقلياً‪،‬‬
‫بل �إن االنغالق االجتماعي الثقافي �أ�سا�س لالنغالق العقلي‪﴿ ،‬‬
‫﴾الزخــرف‪﴿ ،]22 :‬‬
‫﴾‬
‫الزخرف‪ ،]23 :‬ومقتدون‪� :‬أي متبعون‪..‬‬

‫مفهوم االنفتاح الثقافي‪ :‬ونق�صد باالنفتاح الثقافي "انفتاح ثقافة على غيرها‬
‫من الثقافات بق�صد زيادة فعالية �أفرادها والم�صحوبة بزيادة في نموها �أو في انقا�ص‬
‫تخلفها"‪ ..‬فالزيادة في فعالية الفرد‪ ،‬يعني الزيادة من نمو المجتمع‪ ،‬و" إ‬
‫النقا�ص‬
‫من عدم فعالية الفرد‪ ،‬يعني إالنقا�ص من تخ ُّلف المجتمع"(مالك بن نبي‪،1991 ،‬‬
‫وبناء عليه‪ ،‬ف�إن تقدم الثقافة �أو تخلفها م�شروطة بمعطيات تقدمها‬ ‫�ص ‪ً ..)71‬‬
‫"محددة‬
‫محددة بوا�سطة كل معطيات التقدم‪ ،‬وهي كذلك َّ‬ ‫�أو تخلفها‪ ..‬فالثقافة َّ‬
‫بوا�سطة معطيات التخلف"(مالك بن نبي‪� ،1991 ،‬ص ‪..)72‬‬

‫االنفتاح الثقافي كمفهوم �سو�سيولوحي "اجتماعي" تفيد تلك الظاهرة‬


‫االجتماعية الثقافية التي تت�سم بحركة ثقافة ما واتجاهها نحو غيرها بغر�ض تغذية‬
‫الفعالية وتقويتها‪ ،‬والتخل�ص من وجوه عدم الفعالية الحالية لها؛ فيكون الناتج هو‬
‫تنامي في ر�صيد الثقافة الف ّعال‪ ،‬وت�صفية روا�سبها ال�سلبية‪ ..‬واالنفتاح بهذا المعنى‬

‫‪112‬‬
‫يعني إال�صالح‪ ،‬والذي �أ�سا�سه �أن ال ين�سى الم�صلح "مثل أالب �أو أالم �أو المعلم"‬
‫الذي يقوم ب�إ�صالح غيره‪� ،‬أن ي�صلح نف�سه‪ ..‬ففاقد ال�شيء ال يعطيه‪..‬‬
‫االنفتاح الثقاقي من منظور اجتماعي يفيد حالة من "التثاقف"‪ ،‬والتي تعني‬
‫�أخذ عن�صر من ثقافات �أخرى لتغذية وتنمية الثقافة المحلية‪ ..‬وهي بذلك تكون‬
‫�شبيهة بالتزاوج الثقافي‪� ،‬أي تزاوج ثقافتين‪ ،‬يترتب عليهما ثقافة جديدة ثالثة‪ ،‬تكون‬
‫�أكثر قو ًة وفعالية‪� ،‬إبداعاً وتجديدا‪..‬‬
‫االنفتاح الثقافي كمفهوم �سيكولوجي "نف�سي" يفيد تلك اال�ستجابة المرنة‬
‫لتحدي ت�ست�شعره النف�س‪ ،‬التي تريد �أن يكون لها مكاناً بين النا�س‪ ..‬فاالنفتاح‬
‫في �أ�صله ثمرة مرونة‪ ..‬والمرونة تفيد "قدرة الفرد على التكيف مع المواقف‬
‫المتغيرة والجديدة"(جابر عبدالحميد جابر وعالء الدين كفافي‪" 1990 ،‬مج ‪،"3‬‬
‫�ص ‪..)1301‬‬
‫االنفتاح الثقاقي من منظور نف�سي يفيد �أننا �أمام �إن�سان مكبوت‪ ،‬ينفتح على‬
‫آالخرين ظاهرياً بغر�ض ا�شباع حاجاته ال�ضاغطة عليه‪ ،‬بقوة ولفترات طويلة من‬
‫الزمن‪ ..‬و"الكبت‪ :‬هو عملية ال�شعورية‪ ،‬مقت�ضاها منع الميول والدوافع الكائنة‬
‫في الال�شعور من �أن تظهر في حيز ال�شعور‪ ،‬فبد ًال من �أن يقوم �صراع بين الرغبة‬
‫والذات‪ ،‬تفر الذات‪ ،‬فتظل الرغبة قائمة بكامل عنفوانها‪ ،‬ولكن بعيداً عن متناول‬
‫عج َز أ‬
‫(النا) عن مواجهته فتجاهله‪ ،‬فالذ ب�أعماق‬ ‫ال�شعور‪ ...‬والكبت هو �صراع نف�سي ِ‬
‫الال�شعور"(�سمير عبده‪� ،1983 ،‬ص ‪..)337‬‬
‫‪113‬‬
‫االنفتاح الثقافي كمفهوم عولمي‪ :‬االنفتاح الثقافي كمفهوم مو�صول بالعولمة‬
‫ينطلق من فكرة �أن العولمة �أدت �إلى انفتاح الثقافات على بع�ضها البع�ض‪ ،‬وتنوع �صور‬
‫التفاعل فيما بينها مثل �صورة التكتل و�صورة التناف�س وغيرها‪ ..‬االنفتاح الثقافي‬
‫من منظور عولمي يفيد �أي�ضاً �أننا �أمام باب ُي ْف َتح‪ُ ،‬‬
‫فتدخل منه الثقافة‪ ،‬بل ثقافات‬
‫متعددة متنوعة‪ ،‬تدخل مندفعة ومتدافعة‪ ..‬وحتى ال ينتهي هذا االندفاع والتدافع‬
‫�إلى �ضرر‪ ،‬ف�إن الترتيب �أمر مهم‪ ..‬بمعنى يجب �أن تنظم عملية دخول الثقافات حتى‬
‫يكون دخولها مرتباً‪ ،‬فال تكون هناك حوادث �أو �إ�صابات‪ ،‬ت�صادمات �أو �صراعات‪..‬‬

‫من أ�ين ي أ�تي االنفتاح الثقافي‪ :‬االنفتاح الثقافي ي�أتي من "التعارف‬


‫الثقافي"‪ ..‬والتعارف الثقافي يعني "التفاعل بين �أبناء الثقافات المختلفة‬
‫بق�صد الفهم‪ ،‬وما يجلبه من تف ّهم وتفاهم"‪ ..‬التعارف الثقافي‪" :‬معرفة كل‬
‫ثقافة بغيرها‪ ،‬بال�شكل الذي يترتب عليه انتفاع بع�ضهم من البع�ض آالخر"‪..‬‬
‫باخت�صار‪ :‬االنفتاح الثقافي ي�أتي من توا�صل النا�س بع�ضهم ببع�ض‪ ،‬وتفهم النا�س‬
‫بع�ضهم لبع�ض‪ ،‬وما يترتب على ذلك من تفاعالت �إيجابية‪ ،‬ي�ستفيد منها الجميع‪..‬‬

‫ميزات االنفتاح الثقافي‪ :‬االنفتاح الثقافي له ميزات‪ ،‬وميزاته �أكثر من �أن‬


‫تح�صى‪ ..‬ولعل من �أبرز هذه الميزات ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬والدة وتطور التكتالت بين ال�شركات‪.‬‬
‫‪ -‬تنامي التناف�س في المجتمع الواحد بفعل العولمة وما جاءت به من انفتاح‬
‫ثقافي‪.‬‬
‫‪114‬‬
‫‪ -‬الزيادة في فعالية الفرد واالنقا�ص في تخلف المجتمع‬
‫‪ -‬التمكين لحدوث اال�صالح‪ ،‬والذي هو دالة لفعالية االنفتاح‪.‬‬
‫‪ -‬تنامي في حجم الربحية‪.‬‬
‫‪ -‬تحقيق مكا�سب نف�سية مثل الحرية واال�ستقاللية ونمو الذات‪.‬‬
‫‪ -‬تحقيق مكا�سب اجتماعية مثل تح�سين الن�سل وتح�سين الجودة وغيرها‪،‬‬
‫بفعل التزواج الح�ضاري‪.‬‬

‫م�ؤ�ش��رات تعك���س ا�س��تمتاع الف��رد بمي��زات االنفت��اح الثقاف��ي‪ :‬وه��ذه‬


‫الم�ؤ�شرات عديدة‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫‪ -‬تعلّم الفرد في أال�سرة لغات ثقافات �أخرى �ساعدته في فهمها وا�ستهالك‬
‫�أف�ضل ما فيها من �أفكار ومعارف �أنماط حياة ورموز اجتماعية‪.‬‬
‫‪ -‬اختيار الفرد في أال�سرة وم�شاهدته أالف�ضل من التلفزيون‬
‫‪ -‬اختيار الفرد في أال�سرة وتعاطيه أللف�ضل مما هو في �سوق أالطعمة‬
‫والم�أكوالت‪.‬‬
‫‪ -‬اختيار الفرد في أال�سرة و�شرائه وارتدائه أللف�ضل مما هو في �سوق أالزياء‬
‫والمالب�س‪.‬‬
‫‪ -‬اختيار الفرد في أال�سرة ألف�ضل ما جاء به عالم أال�شياء في ع�صره من تقنيات‬
‫وفنيات وتكنولوجيات ‪ ..‬وغيرها‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫وهذه‬ ‫م�ؤ�شرات تعك�س ا�ستمتاع أ‬
‫ال�سرة بميزات االنفتاح الثقافي‪:‬‬

‫الم�ؤ�شرات م�شهودة في الحياة أال�سرية‪ ،‬ومنها ما يلي‪:‬‬


‫‪ -‬احتكاك أال�سرة بلغات ثقافات �أخرى وما تحمله من �أفكار ومعارف و�أنماط‬
‫معي�شة ورموز اجتماعية‪.‬‬
‫‪ -‬اعطاء أال�سرة فر�ص اختيار ألف�ضل ما هو معرو�ض عالمياً من خالل التلفزيون‬
‫وغيرها من تقنيات الع�صر‪.‬‬
‫‪ -‬وفّر االنفتاح الثقافي مجال �أكبر وتنوع �أكبر ألل�سرة في مجال التغذية والتغذية‬
‫ال�صحية‪.‬‬
‫‪ -‬وفّر االنفتاح الثقافي ألل�سرة تنوع في عالم أالزياء والمالب�س‪ ،‬بحيث تختار‬
‫�أف�ضله وما ينا�سبها‪.‬‬
‫بال�شياء (من تقنيات وفنيات‬ ‫‪� -‬أتاح االنفتاح الثقافي ألل�سرة عالم مليئ أ‬
‫وتكنولوجيات ‪ ..‬وغيرها)‪ ،‬وكيفيات ا�ستخدامها وتوظيفها في تح�سين نوعية‬
‫وجودة الحياة‪.‬‬
‫التريية أ‬
‫ال�سرية ينبغي أ�ن ت�ستفيد من هذه الميزات‪ ،‬ميزات االنفتاح الثقافي‪،‬‬

‫بحيث ينعك�س ذلك على محتواها التعريفي وبرامجها التربوية العملية‪ ..‬ومن ال�صور‬
‫المعبرة عن هذه اال�ستفادة ما يلي‪:‬‬
‫ِّ‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية ينبغي �أن تعمل على ت�أ�سي�س حالة من االنفتاح على آالخر‬
‫في محاولة لفهمه والتفاهم معه‪ ،‬واال�ستفادة منه‪.‬‬
‫‪116‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية ينبغي �أن تعمل على مكافحة �صور االنغالق والتقوقع‬
‫والحياة ال�سلبية‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية ينبغي �أن تعمل على تنمية روح الحياة االيجابية المبنية على‬
‫والخذ عن آالخرين‪ ،‬وتكيف كل ذلك مع احتياجات أال�سرة‪.‬‬ ‫المبادرة أ‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية ينبغي �أن تعمل على اال�ستفادة من ميزات االنفتاح لتعزيز‬
‫المحافظة على الهوية وتقويتها‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية ينبغي �أن تعمل على اال�ستفادة من االنفتاح بغر�ض تنمية‬
‫كل ما هو �إيجابي في أال�سرة و�ضمان امتدادها ال�صحي والفعال عبر الزمن‪.‬‬
‫‪� -‬أن التربية أال�سرية ينبغي �أن تعمل على اال�ستفادة من االنفتاح لن�شر ما هو‬
‫جيد في أال�سرة والمجتمع‪� ،‬أي ت�سويق ثقافة أال�سرة الم�سلمة فتتحول من‬
‫�أ�سرة م�ستهلكة لعنا�صر ثقافات �أخرى �إلى �أ�سرة ِّ‬
‫م�صدرة لعنا�صر ثقافتها مثل‬
‫المحاوالت االبداعية في �شكل الدمية "�سارة" وغيرها‪.‬‬

‫نخل�ص مما تقدم �إلى تقرير فكرة �أن االنفتاح الثقافي هي فكرة َت ْقبل ال�سلب‬
‫مثلما �أنها َت ْقبل إاليجاب‪ ..‬وكما �أن ال�سلب له ما ينتجه‪ ،‬ف�إن إاليجاب هو آالخر‬
‫لليجاب وال�سلب هو عامل (ذكر‪-‬‬ ‫له ما يو ّلده‪ ..‬وقد يكون �أحد العوامل ِّ‬
‫المحددة إ‬
‫ن�سيان)‪ ..‬فاالنفتاح الثقافي إاليجابي مو�صولٌ بذكر اهلل‪ ،‬في حين �أن االنفتاح‬

‫‪117‬‬
‫الثقافي ال�سلبي مو�صولٌ بن�سيان اهلل‪ ..‬إ‬
‫فالن�سان الذي يذكر ربه لي�س كالذي ين�سى‬
‫والخير ٌ‬
‫هالك خا�سر‪..‬‬ ‫ناج رابح‪ ،‬أ‬
‫ربه‪ ،‬أالول ٍ‬
‫مت�ضمن في المعنى إاليجابي لالنفتاح الثقافي فكرة "الذكر" في‬‫ٌ‬ ‫وبتعبير �آخر‪:‬‬
‫مقابل فكرة "الن�سيان"‪ ..‬ففي حين �أن الذكر �أ�سا�س للنجاة‪ ،‬ف�إن الن�سيان يمكن �أن‬
‫يكون �أ�سا�ساً للهلكة‪ ..‬ونحن نق�صد بالن�سيان هنا هو "ن�سيان إالن�سان لنف�سه ولما‬
‫في نف�سه"‪ ..‬و"هذا الن�سيان ‪-‬ن�سيان إالن�سان لنف�سه ولما في نف�سه‪ -‬ح�صل بن�سيانه‬
‫لربه ولما �أنزله‪ ،‬فال تعالى ﴿وال تكونوا كالذين ن�سوا اهلل ف�أن�ساهم �أنف�سهم‪� ،‬أولئك‬
‫هم الفا�سقون﴾‪ ،‬وقال في حق المنافقين ﴿ن�سوا اهلل فن�سيهم﴾‪ ،‬وقال ﴿كذلك‬
‫�أتتك �آياتنا فن�سيتها‪ ،‬وكذلك اليوم تن�سى﴾"(ابن تيمية‪ ،‬طبعة ‪1398‬هـ "مج‬
‫‪� ،"16‬ص ‪.)348‬‬
‫"وقوله تعالى ﴿وال تكونوا كالذين ن�سوا اهلل ف�أن�ساهم �أنف�سهم﴾ يقت�ضي ن�سيان‬
‫اهلل كان �سبباً لن�سيانهم �أنف�سهم‪ ،‬و�أنهم لما ن�سوا اهلل عاقبهم ب�أن �أن�ساهم �أنف�سهم‪...‬‬
‫ون�سيانهم �أنف�سهم يت�ضمن �إعرا�ضهم وغفلتهم وعدم معرفتهم بما كانوا عارفين به‬
‫قبل ذلك من حال �أنف�سهم‪ ،‬كما �أنه يقت�ضي تركههم لم�صالح �أنف�سهم‪ .‬فهذا يقت�ضي‬
‫�أنهم يذكرون �أنف�سهم ذكراً ينفعها وي�صلحها‪ ،‬و�أنهم لو ذكروا اهلل لذكروا �أنف�سهم"‬
‫(ابن تيمية‪ ،‬طبعة ‪1398‬هـ "مج ‪� ،"16‬ص �ص ‪..)349-348‬‬
‫�إذاً ن�سيان الرب ُم ْو ِجب لن�سيان القلب‪﴿ ،‬ن�سوا اهلل ف�أن�ساهم �أنف�سهم﴾‪� ..‬أي‬
‫‪118‬‬
‫�أن آالية دلت على �أن "ن�سيان إالن�سان نف�سه م�سبب عن ن�سيانه لربه‪ ،‬دل ذلك‬
‫على �أن الذاكر ال يح�صل له هذا الن�سيان لنف�سه‪ ..‬والذكر يت�ضمن ذكر ما قد علمه‪،‬‬
‫فمن ذكر ما يعلمه من ربه ذكر ما يعلمه من نف�سه"(ابن تيمية‪ ،‬طبعة ‪1398‬هـ "مج‬
‫‪� ،"16‬ص ‪ ..)350‬هذا الذكر هو �أ�سا�س للهوية إ‬
‫وللفادة من العولمة‪ ..‬إالفادة من‬
‫للفادة من فر�ص‬ ‫فر�صها ومعطياتها‪ ..‬أ‬
‫وال�سرة التي ذكرت ربها‪َ ،‬قو ِيت هويتها‪ ،‬وتهي�أت إ‬
‫ومعطيات عولمة ع�صرها‪..‬‬

‫االنفتاح الثقافي‬
‫ي�أتي من‬

‫وتفهم النا�س بع�ضهم لبع�ض‬ ‫توا�صل النا�س بع�ضهم ببع�ض‬


‫يبين �أن االنفتاح الثقافي ي�أتي من توا�صل النا�س بع�ضهم ببع�ض‪،‬‬
‫ال�شكل رقم (‪ّ )5‬‬
‫وتفهم النا�س بع�ضهم لبع�ض‪ ،‬وما يترتب على ذلك من تفاعالت �إيجابية‪ ،‬ي�ستفيد منها الجميع‪..‬‬

‫منافع تعم الجميع‬ ‫تفاعالت �إيجابية‬

‫يترتب عليه‬

‫االنفتاح الثقافي‬

‫‪119‬‬
‫فهم آ‬
‫الخر واال�ستفادة منه‬
‫مع املحافظة على الهوية ك�ضابط لالنفتاح الثقايف‬

‫يعرفُها محمد عمارة في ندوة "الت�أ�صيل‬


‫ابتداء نقول ب�أن الهوية –كما ِّ‬
‫تمهيد‪ً :‬‬
‫الفقهي لق�ضايا إالعالم والفن"‪ ،‬والتي تم اعادة بثها على محطة "اقر�أ" يوم ال�سبت‬
‫‪2006/1/7‬م تفيد "مجموعة العوامل الثابتة التي ت�ؤدي إ‬
‫بالن�سان �إلى االنتماء‬
‫ألمته‪ ،‬وهذه العوامل الثابتة هي‪ :‬العقيدة واللغة والتاريخ"‪ ..‬هي "مجموعة العوامل‬
‫بالن�سان �إلى االنتماء ألمته‪ً ،‬‬
‫انتماء معطاءاً"‪ ..‬فالهوية هي بناء‬ ‫الثابتة التي ت�ؤدي إ‬
‫ي�صنع انتماء‪ ..‬بناء اجتماعي‪-‬عقدي ي�صنع انتماء اجتماعي‪-‬عملي‪ ..‬بناء عقيدة‬
‫يترتب عليه �إنتماء أللمة‪..‬‬

‫تعر�ضت له ّزة كبيرة في ع�صر العولمة‪ ،‬والذي ي�سمى �أحياناً (ع�صر‬ ‫والهوية ّ‬
‫ال�شك) و�أحياناً �أخرى ي�سمى (ع�صر ال�ضياع)‪ ..‬وهذا االهتزاز للهوية‪ ،‬ي�ستدعي‬
‫تدخ ًال �سيا�سياً و�أ�سرياً إلنقاذها �أو ًال‪ ،‬ثم للمحافظة عليها ثانياً‪ ،‬ولجعلها منطلقاً إ‬
‫للفادة‬
‫من غيرها‪� ،‬أي منحها حالة عالية من الفعالية‪ ،‬ترتد على المجتمع بحالة عالية من‬
‫التح�ضر المفيد اجتماعياً‪ ،‬محلياً وعالميا‪..‬‬ ‫ّ‬
‫جانب �آخر نود إال�شارة �إليه بخ�صو�ص انقاذ الهوية ثم المحافظة عليها وتنميتها‪،‬‬
‫ت�ضيع‬ ‫وهو �أن العولمة �سحبت من الثقافة �إيجابياتها‪ّ ،‬‬
‫وورثتها �سلبياتها‪ ..‬جعلتها ِّ‬
‫أالن�شطة التي تزيد في قوتها‪ ،‬وتتبع ال�شهوات "�أي المعا�صي"‪ ،‬التي تزيد في‬
‫‪120‬‬
‫�ضعفها‪ ..‬ولذلك لي�س م�ستغرباً �أن ي�سمى هذا الع�صر (ع�صر ال�ضياع و�سوء االتباع)‪،‬‬
‫(ع�صــر فقـدان الوعـي وتنامي الغـي)‪﴿ ،‬‬
‫﴾مريم‪" ،]59 :‬غياً‪� :‬أي َ�ش ّراً"(عالء الدين علي بن محمد البغدادي‪،‬‬
‫طبعة ‪" 1994‬مج ‪� ،"2‬ص ‪..)995‬‬
‫والمخرج من ذلك ال�ضياع و�سوء االتباع‪ ،‬فقدان الوعي وتنامي الغي‪ ،‬هو ا�ستعادة‬
‫الثقافة لعنا�صر اكت�شاف أالمة لذاتها‪ ،‬وتد�شين هويتها من جديد‪ ..‬وهذه العنا�صر‬
‫�أوجزها القر�آن الكريم في ثالثة �أفكار وهي‪ :‬فكرة "التوبة"‪ ،‬وفكرة إ‬
‫"اليمان"‪،‬‬
‫وفـكـرة "العـمــل ال�صـالـح"‪﴿ ،‬‬

‫﴾مريم‪..]60-59 :‬‬
‫مفهوم فكرة "فهم آ‬
‫الخر واال�ستفادة منه مع المحافظة على الهوية"‬

‫بال�سباب التي ت�ؤدي �إلى فعالية الفرد و�أ�سرته ومجتمعه مع المحافظة‬ ‫"الخذ أ‬
‫يفيد أ‬
‫على هويته"‪ ..‬هذا المفهوم يفيد �أي�ضاً أالخذ من آالخر كل ما يمكن �أن يقوي‬
‫الذات‪ ،‬ويبعث الروح في الهوية‪ ..‬فالهوية مفتاح نجاح في زمن االنفتاح‪� ..‬أي �أن‬
‫الهوية لي�ست فقط �أداة نجاة‪ ،‬و�إنما الهوية هي �أي�ضاً �أداة تنمية‪..‬‬
‫"فهم آ‬
‫الخر واال�ستفادة منه مع المحافظة على الهوية" كمفهوم �سو�سيولوجي‬

‫يفيد تلك الظاهرة االجتماعية الثقافية التي تعك�س حالة من التوافق بين المحافظة‬
‫‪121‬‬
‫والفادة من خير آالخر‪ ..‬والهوية كمفهوم اجتماعي عام يفيد "عملية‬
‫على الهوية إ‬
‫تمييز الفرد لنف�سه عن غيره"(�أحمد زكي بدوي‪� ،1982 ،‬ص ‪..)208‬‬

‫"فهم آالخر واال�ستفادة منه مع المحافظة على الهوية" من منظور اجتماعي‪،‬‬


‫تفاعلي يفيد تلك العالقة التبادلية بين الذات آ‬
‫والخر‪� ،‬أي �أن العالقة بين الذات‬
‫آ‬
‫والخر هي عالقة "ت�أثر‪-‬ت�أثير"؛ فمن آالخر ت�أتي عوائد الذات‪ ،‬والتي هي أالخرى‬
‫ت�صنع "�آخر جديد"‪ ..‬وبالتالي‪ ،‬فنحن نحتاج �إلى آالخر ألنه م�صدر من م�صادر‬
‫اكت�شاف الذات‪ ..‬بمعنى �أن "في معرفة ا آلخر‪ ،‬اكت�شاف للذات"‪ ،‬و"في اكت�شاف‬
‫الذات‪ ،‬تطوير آللخر"‪..‬‬
‫"فهم آ‬
‫الخر واال�ستفادة منه مع المحافظة على الهوية" كمفهوم �سيكولوجي‬

‫يفيد حاجة نف�سية لدى الفرد لفهم آالخرين واال�ستفادة منهم بما ي�ؤدي �إلى‬
‫تقويته وتقوية هويته‪ ..‬ومن الناحية النف�سية‪ ،‬تعتبر "الهوية‪ :‬الم�شاعر ب�أننا نف�س‬
‫أال�شخا�ص الذين كنا أ‬
‫بالم�س وفي العام الما�ضي‪ ..‬وهي إالح�سا�س باال�ستمرارية‬
‫الم�ستمد من �أحا�س�سينا الج�سمية‪� ،‬صورتنا عن �أج�سامنا‪ ،‬وال�شعور ب�أن ذكرياتنا‬
‫والح�سا�س بالفردية واال�ستقاللية (�أنني‬
‫و�أهدافنا وقيمنا وخبراتنا تخ�صنا نحن‪ ،‬إ‬
‫ذاتي الخا�صة)"(جابر عبدالحميد حابر وعالء الدين كفافي‪" 1991 ،‬مج ‪،"4‬‬
‫�ص ‪..)1659‬‬
‫‪122‬‬
‫"فهم آالخر واال�ستفادة منه مع المحافظة على الهوية" من منظور نف�سي‬
‫يفيد وقاية الذات وتنميتها‪ ،‬بدون اال�ضرار بذاتية آالخرين‪� ،‬أي احترام م�شاعر‬
‫آالخرين‪ ..‬تلك الفكرة �أي�ضاً تفيد االتجاه نحو آالخر بغر�ض تقوية الذات‪ ،‬ومعها‬
‫"والحاجة �إلى الهوية‪:‬‬ ‫يقوى آالخر‪ ..‬و(الهوية) من ناحية نف�سية هي (حاجة)‪..‬‬
‫هي الحاجة �إلى إالح�سا�س بالفردية والتفرد والذاتيـة‪ ،‬واال�ستقالل النف�سي"(جابر‬
‫عبدالحميد جابر وعالء الدين كفافي‪" 1991 ،‬مج ‪� ،"4‬ص ‪ ،)1660‬والذي هو‬
‫عامل �أ�سا�سي في نمو الفردية ال�صحية‪ ،‬والتي هي عك�س "الفردية غير ال�صحية‬
‫والزائفة‪ ،‬والتي ِّ‬
‫تعبر عن نف�سها في الم�سايرة"(جابر عبدالحميد جابر وعالء‬
‫الدين كفافي‪" 1991 ،‬مج ‪� ،"4‬ص ‪ ..)1660‬الم�سايرة الخاطئة‪..‬‬
‫"فهم آ‬
‫الخر واال�ستفادة منه مع المحافظة على الهوية" كمفهوم عولمي‪:‬‬

‫"فهم آالخر واال�ستفادة منه مع المحافظة على الهوية" كمفهوم مو�صول بالعولمة‬
‫ينطلق من فكرة �أن العولمة دفعت في اتجاهين‪ :‬اتجاه التوا�صل مع آالخر "الغربي‬
‫المتقدم" وفهمه‪ ،‬وذلك بغر�ض تبني نمط حياته‪ ،‬مع ال�سماح للمحافظة على هوية‬ ‫ِّ‬
‫المتقدم‪..‬‬
‫ّ‬ ‫في غالبها ظاهرية (�أي هوية مظاهر)‪ ،‬حتى ال تناف�س هوية العالم الغربي‬
‫وبالتالي‪ ،‬فالمفرو�ض �أن ن�ؤ�س�س لهوية حقيقية ال هوية ظاهرية‪� ،‬أي تعزيز العنا�صر‬
‫الثقافية ل�شخ�صية أال�سرة والمجتمع‪ ،‬بد ًال من تعزيز عنا�صر ثقافية ل�شخ�صيات‬
‫مجتمعات �أخرى‪..‬‬
‫‪123‬‬
‫من أ�ين ي أ�تي "فهم آ‬
‫الخر واال�ستفادة منه مع المحافظة على الهوية"؟‬

‫والجابة هي �أنه ي�أتي من التوا�صل مع آالخر توا�ص ًال �إيجابياً ي�سمح بوجود حالة‬ ‫إ‬
‫من (الت�أثير والت�أثر)‪ ،‬ت�ؤدي �إلى جعل الفرد من ثقافة ما مع ِّلماً ومتعلما‪ ،‬م�ستفيداً‬
‫ومفيدا‪ ..‬وننبه هنا �إلى �أن المحافظة على الهوية هي م�صدر ت�أثير مبا�شر وغير مبا�شر في‬
‫الغير‪ ..‬كذلك المحافظة على الهوية ت�أتي من االنطالق من قواعد قوية في �شخ�صية‬
‫الفرد و�أ�سرته ومجتمعه‪..‬‬

‫ميزات "فهم آالخر واال�ستفادة منه مع المحافظة على الهوية" عديدة‪،‬‬


‫منها �أن وجود هوية فعالة داخل الثقافة ال يترتب عليه فقط زيادة في ر�صيدها الفعال‬
‫وتخل�ص من روا�سبها ال�سلبية‪ ،‬و�إنما يعني كذلك إاللغاء التام �أو على أالقل إالنقا�ص‬
‫الدال والحقيقي للفراغ االجتماعي‪ ..‬هذا الفراغ الذي قد يكون �أحد م�صادره‬
‫�شجب جميع الروابط التي ت�صل الم�صلح بو�سط �آبائه‪ ،‬و�أحياناً مع �أ�سرته نف�سها‪..‬‬
‫ميزات �أخرى لفهم آالخر واال�ستفادة منه مع المحافظة على الهوية هي‪:‬‬
‫"ال�سرية" و"المجتمعية"‪ ،‬وبالتالي‬ ‫‪ -‬أالخذ من آالخر بغر�ض تغذية الذات أ‬
‫تعزيز االنتماء لها‪ ،‬فالعطاء يغذي االنتماء‪.‬‬
‫‪ -‬تطوير الذات وتقويتها‪.‬‬
‫‪ -‬االنتفاع بانتاج آالخر‪ً ،‬‬
‫�سواء كان مادياً �أو معنوياً‪.‬‬
‫‪ -‬التعرف على آالخر واتقاء مخاطره‪ ،‬و"من تعلم لغة قوم �أ ِمن مكرهم"‪.‬‬
‫‪ -‬تنمية روح التبادل االيجابي بين الثقافات‪ ،‬بدون خ�ضوع �أو هيمنة‪.‬‬
‫‪124‬‬
‫م�ؤ�شرات تعك�س ا�ستمتاع الفرد بميزات "فهم آ‬
‫الخر واال�ستفادة منه مع‬
‫المحافظة على الهوية"‪:‬‬

‫‪ -‬تج ّنب االغتراب النف�سي واالجتماعي‪ ،‬والذي يفيد "انهيار �أي عالقات‬
‫اجتماعية �أو بينية �شخ�صية �أو تجريبية"(جابر عبدالحميد جابر وعالء الدين‬
‫كفافي‪" 1988 ،‬مج ‪� ،"1‬ص ‪.)125‬‬
‫‪ -‬تج ّنب التغريب‪.‬‬
‫‪ -‬تج ّنب الذوبان وال�ضياع في هويات �أخرى‪.‬‬
‫‪ -‬تقوية روح االنتماء‪.‬‬
‫‪ -‬تنمية الذات فكرياً وعملياً‪.‬‬
‫‪ -‬االعتزاز بالذات وعدم االنهزام �أمام آالخر‪.‬‬
‫ال�سرة بميزات "فهم آ‬
‫الخر واال�ستفادة منه مع‬ ‫م�ؤ�شرات تعك�س ا�ستمتاع أ‬
‫المحافظة على الهوية"‪:‬‬

‫‪ -‬تجنب أال�سرة لالغتراب في عالم وا�سع ومنفتح بع�ضه على البع�ض‪ ،‬وهذا‬
‫يعني عدم فقدانها لروابطها االجتماعية أال�صلية‪.‬‬
‫‪ -‬تجنب أال�سرة �أثناء احتكاكها بالعنا�صر الثقافية أالخر‪ ،‬بحيث �أنها ِ‬
‫تك�سب وال‬
‫تف ِقد‪.‬‬
‫‪ -‬تنمية روح االنتماء المحلي والح�ضاري داخل أال�سرة‪.‬‬
‫‪ -‬تنمية أال�سرة لذاتها‪ ،‬من خالل تعاملها وانفتاحها على آالخر‪.‬‬
‫‪ -‬اعتزاز أال�سرة ب�شخ�صيتها ومقوماتها وخ�صائ�صها الذاتية‪.‬‬
‫‪125‬‬
‫التريي��ة أ‬
‫ال�س��رية ينبغ��ي أ�ن ت�س��تفيد م��ن ه��ذه المي��زات‪ ،‬مي��زات‬

‫فه��م آالخ��ر واال�س��تفادة منه م��ع المحافظة عل��ى الهوية‪ ،‬وه��ذا يعني �أنه‪:‬‬
‫تج�سد الميزات ال�سابقة عملياً‪� ،‬أي �أن تجد لها‬ ‫‪ -‬ينبغي على التربية أال�سرية �أن ِّ‬
‫مناهج ومنافذ لغر�سها في الن�شء‪.‬‬
‫‪ -‬ينبغي على التربية أال�سرية على �أن تعمل على تعزيز االعتزاز بالذات‪.‬‬
‫‪ -‬ينبغي على التربية أال�سرية على �أن تعمل على تنمية روح االنتماء الح�ضاري‬
‫لدى أالبناء‪ ،‬ال �شرقية وال غربية‪ ،‬و�إنما عربية ا�سالمية‪.‬‬
‫‪ -‬ينبغي على التربية أال�سرية على �أن تعمل على تجهيز أالبناء معرفياً و�إيمانياً‬
‫ومهارياً لكي يكونوا قادرين على الحياة في �أي بيئة مجتمعية في العالم‪.‬‬
‫‪ -‬ينبغي على التربية أال�سرية على �أن تعمل على جعل أالبناء �شخ�صيات قوية‬
‫وم�ؤثِّرة محلياً وعالمياً‪� ،‬أي منتجة ولي�ست فقط م�ستهلكة‪.‬‬

‫مواجهة ال�شر ال تكون �إال بالخير؛ ومواجهة �أعمال ال�شر ال تكون �إال ب�أعمال الخير‬

‫ومما كان يقوله �أبو الدرداء ر�ضي اهلل عنه‬


‫ال �صالحاً قبل الغزو‪ ،‬ف�إنما تقاتلون النا�س ب�أعمالكم"‬
‫"اعمل عم ً‬
‫(�أحمد بن حنبل‪ ،‬طبعة ‪� ،1978‬ص ‪..)136‬‬

‫‪126‬‬
‫الكرب لفهم آ‬
‫الخر واال�ستفادة منه‬ ‫الناجت أ‬
‫مع المحافظة على الهوية ‪ - -‬االنتفاع آ‬
‫بالخر بغر�ض الزيادة في التميز‬

‫"فهم آالخر" هو مفتاح النمو في عالم مليئ بالثقافات والخيرات التي‬


‫تفر�ض ذاتها على غيرها‪� ،‬شاءت �أم �أبت‪ ،‬قلّ هذا أالمر �أو زاد‪ ..‬فتالقي الثقافات‬
‫ال مفر منه‪ ..‬وبالتالي‪ ،‬ف�إننا �أمام خياران‪ :‬خيار �أول يكون فيه التالقي ي�أتي‬
‫هي �أمر ّ‬
‫فر�ضاً �أو جبراً‪ ،‬و ُي ْح ِدث ت�أثيره بطريقة ال نعيها‪ ،‬فت�أتي نتيجة ذلك خلطة من المنافع‬
‫والم�ضار‪ ،‬واالخوف هنا �أن تكون م�ضار التالقي �أكبر بكثير من منافعه‪..‬‬

‫الخيار ا آلخر هو �أن نخطط للتالقي‪ ،‬فنجعل �آثاره ت�أتي من�سجمة مع قيمنا‪،‬‬
‫ومتجهة نحو خدمة �أهدافنا‪ ..‬وقد �أ�شار القر�آن �إلى حتمية التالقي‪ ،‬على أالقل في‬
‫العالم الحقيقي‪ ،‬وما �أنتجه من عالم افترا�ضي‪ ،‬في قـوله ﴿‬
‫﴾الحجرات‪]13 :‬؛ و�إلى احتمالية إالفادة �أو على أالقل تغليب المنفعة‬
‫الم�ضرة‪ ،‬لمن خطط لذلك‪� ،‬أي تعامل مع آالخر ومع منتجاته على �أ�سا�س من‬ ‫ّ‬ ‫على‬
‫تميز‪ ،‬يجعل �صاحبه هو أالكرم‪ ،‬بد ًال من �أن ي�صبح مهزوماً‬ ‫التقوى‪ ..‬والناتج هو ّ‬
‫الكرم‪ ..‬بالتقوى ينال إالن�سان التكريم‪،‬‬ ‫ومنتقما‪ ..‬فبالتقوى ي�صبح إالن�سان هو أ‬
‫وبدونها ي�صبح هو المنهزم‪ ،‬ويتو ّلد لديه �شعوراً و�إح�سا�ساً باالنتقام‪﴿ ،‬‬
‫﴾ الحجرات‪ ..]13 :‬فكن مُكَ رَّ ماً وال تكن ُم ْن َهزِماً‪ ..‬كن ُم َك َّرماً‬
‫و�إال �أ�صبحت منهزماً‪..‬‬
‫‪127‬‬
‫وبناء عليه‪ ،‬ف�إن أال�سرة في حاجة �إلى �أن ّ‬
‫توجه عقول �أبنائها و�أن ت�ضع فيها فكرة �أن‬ ‫ً‬
‫إالفادة ال تكون في االنفتاح على آالخر بقدر ما تكون في االنفتاح على خير آالخر‪،‬‬
‫�أي �أن يكون االنفتاح انفتاحاً م�شروطاً‪ ..‬وفرقٌ بين االثنين‪ ..‬االنفتاح المقيِّد هو انفتاح‬
‫على الحالل‪ ،‬والخير كل الخير في الحالل؛ في حين �أن االنفتاح غير المقيد‪ ،‬فهو‬
‫انفتاح على التحلل واالنحالل‪ ،‬وال�شر كل ال�شر في التحلل واالنحالل‪..‬‬

‫�إذاً نحن �أمام نوعين من أال�سر‪� :‬أ�سر لها هوية تحفظها‪ ،‬وبالتالي هي �أ�سر ناجية؛‬
‫و�أ�سر لي�س لها هوية تحفظها‪ ،‬وبالتالي هي �أ�سر هاوية "هالكة"‪� ..‬أ�سر تدفع ب�أبنائها‬
‫�إلى االنفتاح على آالخر‪ ،‬و�أ�سر تدفع ب�أبنائها نحو االنفتاح على الخير �أو على‬
‫﴾‬ ‫خــير آالخـــر‪﴿ ..‬‬
‫الحجرات‪ ،13 :‬وهكذا ينبغي �أن تكون �أ�سرنا‪� ..‬أن تكون �أ�سر تقية حتى تكون‬
‫�أ�سراً قوية "كريمة"‪..‬‬

‫وحتى ينفتح أالبناء على الخير الموجود لدى آالخر بد ًال من االنفتاح كل‬
‫ما لدى آالخر من خير و�شر‪ ،‬ف�إنهم في حاجة �إلى "تربية تفكيرهم"‪ ،‬بحيث يكون‬
‫انعكا�س �إيجابي على اختياراتهم‪ ..‬ومعلو ٌم �أن "�صحة الفكر م�س�ؤولة عن �صحة‬
‫فالن�سان في حاجة �أن‬
‫االختيار"‪ ،‬و"�صحة اال�ستدالل م�س�ؤولة عن �صحة الفعل"‪ ،‬إ‬
‫ُي ْح ِ�سن التفكير واال�ستدالل‪ ،‬بمعنى "�أن يُ ْح ِ�سن اال�ستدالل من �أ�صغر اال�شارات على‬
‫�أكبر أالخطار والخطوب"(عبا�س محمود العقاد‪� ،1974 ،‬ص �ص ‪..)425-424‬‬

‫‪128‬‬
‫وهذا يعني �أن نربي عقل أالبناء‪ ،‬تربي ًة تجعلهم يرون في العقل‪ ،‬طاقة من �أكبر‬
‫طاقات إالن�سان‪ ،‬ونعمة من �أكبر نعم اهلل عليه‪ ..‬فبالعقل‪ ،‬ي�ستطيع إالن�سان "�أن‬
‫يميز بين أال�شياء‪ ،‬ويدرك خ�صائ�صها‪ ،‬وي�ستنبط فوائدها‪ ،‬وي�شكل �صوراً جديدة من‬
‫(المادة) التي وجد نف�سـه محاطاً بهـا على ظهر أالر�ض �أو في ال�سماوات"(محمد‬
‫قطب‪" 1983 ،‬مج ‪� ،"1‬ص ‪..)76‬‬

‫وبالتالي تطالب أال�سر �أبناءها ب�أن يوظفوا عقولهم لي�س فقط في تح�صيل‬
‫ي�ضرهم‪ ..‬وفي حين �أن جلب المنفعة مو�صول‬ ‫ما ينفعهم‪ ،‬و�إنما كذلك في دفع ما ّ‬
‫باالنتفاع بالهدى‪ ،‬ف�إن دفع المف�سدة مو�صول بدفع الهوى‪ ..‬هذا الهوى الذي عندما‬
‫والن�سان �أ�سيراً له‪ ،‬وال�ضرر كثيراً في‬
‫ي�سيطر على إالن�سان ي�صبح �أميراً عليه‪ ،‬إ‬
‫حياته‪..‬‬

‫ولذلك فقد "قيل في م�أثور الحكم‪ :‬من �أطاع هواه‪� ،‬أَ ْع َطى عدوه مناه‪ ..‬وقال بع�ض‬
‫الحكماء‪ :‬العقل �صديق مقطوع‪ ،‬والهوى عدو متبوع‪ ..‬وقال بع�ض البلغاء‪� :‬أف�ضل‬
‫النا�س من ع�صى هواه‪ ،‬و�أف�ضل منه من رف�ض دنيـاه"(�أبي الح�سن الماوردي‪ ،‬طبعة‬
‫‪� ،1978‬ص ‪ ..)34‬وقديماً قال �أحد "بع�ض ال�شعراء‪:‬‬
‫مالك قد ُ�س َّد ْت عليك أالمور‬ ‫ ‬‫(يا عاق ًال �أر َدى الهـوى َعق َل ُه‬
‫مـير)"‬
‫و�إنـمـــا العقـــلُ عليـ ِه �أ ُ‬ ‫ ‬
‫�سير الهوى‬ ‫�أتج َعلُ العقلَ �أ َ‬
‫(�أبي الح�سن الماوردي‪ ،‬طبعة ‪� ،1978‬ص ‪ ..)35‬فالعقل ينبغي �أن يكون �أميراً‪،‬‬
‫والهوى ينبغي �أن يكون �أ�سيراً‪ ،‬ولي�س العك�س‪..‬‬
‫‪129‬‬
‫ولك��ي يكون العقل �أميراً ال �أ�سيراً‪ ،‬مثمراً ال مدمرا‪ ،‬ف�إن أال�سرة تحتاج �إلى تربية‬
‫أالبن��اء روحياً‪ْ ،‬تح ِ�سن تربية قلوبه��م‪ ،‬ففي تربية قلوبهم تربي�� ًة لعقولهم‪� ،‬إنطالقاً من‬
‫�أن القل��ب وظيفة من وظائف ال��روح‪ ،‬وظيفة من وظائف القل��ب‪ ،‬بدليل قوله تعالى‬
‫﴾الح��ج‪ ..]46 :‬فالقل��ب‪ ،‬ب��ل "ال��روح ه��ي التي‬ ‫﴿‬
‫وت�سخر العقل لي�سير في طريقه‪...‬‬ ‫تقرر!‪ ..‬الروح الوا�صلة المهتدية تقرر طريق الخير‪ّ ،‬‬
‫والروح المنقطعة ال�ضالة تقرر طريق ال�شر‪ ،‬وتدفع بالعقل في ذلك الطريق"(محمد‬
‫قطب‪" 1983 ،‬مج ‪� ،"1‬ص ‪..)76‬‬

‫وتربية الروح‪ ،‬وما يرتبط بها من تربية للعقل‪ ،‬بل وللج�سد‪ ،‬هي م�س�ألة بيئة‪ ،‬م�س�ألة‬
‫الر ِحم بالن�سبة‬
‫ثقافة‪ ،‬بل �إن الثقافة ذاتها بيئة‪ ..‬الثقافة بيئة‪ ،‬وهذه "البيئة بمثابة َّ‬
‫�إلى القيم الثقافية"(مالك بن نبي‪� ،1991 ،‬ص ‪ ..)80‬و"الثقافة كبيئة مكونة من‬
‫وال�شكال‪ ،‬والحركات‪ ،‬أ‬
‫وال�شياء الم�أنو�سة‪ ،‬والمناظر‪ ،‬وال�صور‪،‬‬ ‫أاللوان‪ ،‬أال�صوات‪ ،‬أ‬
‫والفكار المتف�شية في كل اتجاه‪ ...‬هي بيئة تمار�س مفعولها على الراعي وعلى العالم‬ ‫أ‬
‫�سواء‪ ..‬هي الو�سط الذي يت�شكل داخله الكيان النف�سي للفرد‪ ،‬بال�صورة نف�سها التي‬
‫يتم ت�شكل كيانه الع�ضوي داخل المجال الجوي الحيوي الذي ينتظمه‪ ..‬فنحن‬
‫ال نتلقى الثقافة‪ ،‬و�إنما نتنف�سها ونتمثلها بالطريقة نف�سها التي يتم بمقت�ضاها تنف�سنا‬
‫وتمثلّنا ألك�سجين الهواء"(مالك بن نبي‪� ،1991 ،‬ص ‪..)80‬‬
‫وال�سرة عامل مهم من عوامل تلك الثقافة‪ ،‬وهذه أال�سرة يمكن �أن يكون لها دور‬ ‫أ‬
‫في حل م�شكلة الثقافة‪ ..‬وفعالية دور أال�سرة في بناء الثقافة م�شروطة بمدى قدرة‬

‫‪130‬‬
‫هذه أال�سرة على دمج وظيفتها �ضمن الخطوط الكبرى لم�شروع الثقافة في مجتمع‬
‫ما‪ ،‬والقر�آن الكريم يق ِّدم لنا ن�صو�صاً تبين كيف يمكن أ‬
‫لل�سرة �أن تدمج وظائفها �ضمن‬
‫الخط��وط الكب��رى للم�ش��روع الثقاف��ي إال�سالم��ي‪﴿ :‬‬

‫أ‬
‫﴾لحزاب‪..]37-32 :‬‬

‫‪131‬‬
‫وعندما يكون الم�شروع الثقافي �سليماً في غايته وو�سائله‪ ،‬معتقداته ومحتوياته‪،‬‬
‫وتندمج وظائف أال�سرة فيه‪ ،‬ف�ستجد ذاتها رابحة على م�ستوى المحافظة على الهوية‬
‫والفادة من الحداثة‪ ..‬لماذا؟ ألن الم�شروع الثقافي ال�سليم يمنحنا "ثقافة" في‬ ‫إ‬
‫مقابل "ال ثقافة"‪ ،‬وهذه الثقافة تت�ضمن ثروة‪ ،‬ت�ؤ�س�س لوالدة فعالية‪ ،‬عالية الجودة‪..‬‬
‫والثقافة بذلك المعنى إاليجابي تفيد مجموعة أال�سباب التي تزيد المجتمع في‬
‫حركته ونموه و�إزدهاره‪ ..‬وعك�س ذلك هو "الفراغ الثقافي �أو الالثقافة‪ ،‬والتي تفيد‬
‫مجموعة أال�سباب التي ت�ستبقي المجتمع على ما هو عليه من ركود"(مالك بن نبي‪،‬‬
‫‪� ،1991‬ص ‪..)84‬‬

‫نخل�ص مما �سبق‪� ،‬إلى �أن الناتج أالكبر لفهم آالخر واال�ستفادة منه مع المحافظة‬
‫بالخر بغر�ض الزيادة في التميز"‪ ،‬تميزاً‬‫والتميز"‪ ،‬االنتفاع آ‬
‫على الهوية هو "االنتفاع ّ‬
‫يخدم مبد�ًأ �أو هدفاً �سامياً‪ ..‬وحتى يتم لنا هذا‪ ،‬فنحن في حاجة �إلى التخل�ص من‬
‫المبالغة في فكرة "م�صارعة آالخر‪ ،‬وبالتالي هزيمته لنا"‪ ،‬واالخال�ص �أكثر لفكرة‬
‫"تنمية الذات‪ ،‬وبالتالي �صناعتها لح�ضارتنا"؛ �أي التحول من معتقد متمركز حول‬
‫المواجهة وال�صراع �إلى معتقد متمركز حول التنمية واالنتفاع‪ ،‬وبالتالي نتجنب فكرة‬
‫�أننا دخلنا في �صراع مع غيرنا‪ ،‬فانهزمنا‪ ،‬فورثتنا الهزيمة �شعوراً بالمهزومية و�شعوراً‬
‫باالنتقامية‪� ..‬شعور المهزوم �أو �شعور المنتقم‪..‬‬

‫والتحول في التمركز من المواجهة وال�صراع �إلى التنمية واالنتفاع هي م�س�ألة‬


‫ممكنة‪ ..‬وال�سبب في ذلك يعود �إلى �أن �ضعف النا�س الحقيقي هو لي�س في‬
‫‪132‬‬
‫�أج�سادهم �أو مادياتهم‪ ،‬و�إنما في �أرواحهم ومعنوياتهم‪ ..‬الهزيمة �سهل عليها �أن‬
‫تطالك مادياً وج�سدياً‪ ،‬ولكن �صعب عليها �أن تطالك روحياً ومعنوياً‪� ،‬إال �إذا �أردت‬
‫�أنت ذلك‪ ..‬ولذلك‪ ،‬بداية التغيير تبد�أ من الروح‪ ،‬التغيير ي�أتي من الداخل‪ ،‬ي�أتي من‬
‫داخل النف�س‪..‬‬

‫والتغيير الذي يمكن �أن يخدم الهوية وي�أتي بالمنفعة والفائدة هو التغيير الذي‬
‫نف�س �أمارة بال�سوء �إلى نف�س را�ضية‪ ،‬مع التنبيه على �أن‬ ‫يحول النف�س في داخلها من ٍ‬ ‫ِّ‬
‫النفو�س من حيث مقا�صدها ونياتها �إما �أن تكون �أمارة �أو لواّمة �أو را�ضية‪ ،‬و�إن كانت‬
‫النفو�س الرا�ضية في زماننا هذا نادرة‪ ،‬بل هي بطبيعتها قد تكون نادرة عندما ُنقارنها‬
‫بالنفو�س أال ّمارة بال�سوء والنفو�س ّ‬
‫اللوامة‪..‬‬

‫وكما يقول ابن القيم رحمه اهلل ب�أن النف�س "هي نف�س واحدة‪ ،‬تكون �أ ّمارة تارة‬
‫ول ّوامة �أخرى ومطمئنة �أخرى‪ ،‬و�أكثر النا�س الغالب عليهم أال ّمارة‪ .‬و�أما المطمئنة‪،‬‬
‫فهي �أقل النفو�س الب�شرية عدداً و�أعظمها عند اهلل قدراً‪ ،‬وهي التي يقال لها ﴿‬
‫﴾الفجر‪"]30-28 :‬‬
‫(طبعة ‪� ،1994‬ص �ص ‪ .)566-565‬ولذلك‪ ،‬ف�إن على أال�سرة �أن تعمل على جعل‬
‫نفو�س �أبنائها نفو�ساً مطمئنة �إلى ربها‪ ،‬عاكفة بهمتها عليه‪ ،‬راهبة منه راغبة فيما‬
‫لديه‪ ..‬هذه النف�س التي �أحوج ما يحتاج �إليها إالن�سان في هذا الزمان �أكثر من �أي‬
‫زمان كان‪..‬‬
‫‪133‬‬
‫خاتمــة‬

‫نخل�ص مما �سبق �إلى �أننا �أمام عولمة جاءت بانفتاح ثقافي هائل للمجتمع‬
‫إالن�ساني‪ ،‬مما �أدى �إلى تفاعل الكل مع الكل ب�شكل �أو ب�آخر‪� ..‬أدى �إلى وجود‬
‫حالة من التعارف العالمية‪ ،‬بين كل الثقافات وفي كافة االتجاهات‪ ،‬و�إن كانت هناك‬
‫ثقافات �أقوى ت�أثيراً من ثقافات �أخرى‪ ،‬بل ثقافات غالبة و�أخرى مغلوبة‪..‬‬
‫وبحكم �أن العالم من الناحية العملية يلعب لعبة �أثر الغالب في المغلوب‪ ،‬و�إن‬
‫�أنكرها بين الحين والحين لفظياً‪ ،‬ف�إنه ي�ستوجب على الثقافات المغلوبة �أن تغير من‬
‫طريقة تعاملها مع معطيات الثقافات الغالبة‪ ،‬بحيث تزيد من تعاطي ما يمنحها قوة‪،‬‬
‫وتقلل من تعاطي ما يزيدها �ضعفا‪..‬‬
‫وهذا يعني �أننا في حاجة �إلى �أ�سرة تتبنى فكرة "التربية نحو الهوية"‪ ،‬و�أن تجعل‬
‫الخر واالفادة منه‪ ..‬والتربية نحو الهوية بهذا‬
‫للنفتاح على آ‬ ‫من هذه التربية �أ�سا�س إ‬
‫المعنى تفيد "مجموعة الجهود المنظمة التي ت ؤ��س�س لهوية دافعة في اتجاه إالفادة من‬
‫العولمة والع�صرنة والحداثة‪ ..‬هوية نافعة فردياً وجماعياً‪ ،‬قائمة على �أ�سا�س من العقيدة‬
‫واللغة والتاريخ"‪..‬‬

‫والفادة من الحداثة" هي تربية تنطلق من‬ ‫وبتعبير �آخر‪ ،‬ف�إن "التربية نحو الهوية إ‬
‫فكرة �أن حال أال�سرة و�أفرادها‪ ،‬بل أالمة و�أبنائها‪ ،‬ال ي�صلح فقط بما َ�ص ُلح به �أ ّوله‪،‬‬
‫بل وبما َ�ص ُلح به �آخره‪ ..‬إالفادة من قطعيات الهوية ومعطياتها‪ ،‬ومن نفعيات الحداثة‬
‫وم�ستجداتها‪� ،‬أ�سا�سين ال يبرهنان فقط على المواءمة بين أال�صالة والمعا�صرة‪ ،‬و�إنما‬
‫‪134‬‬
‫يبرهنان كذلك على �أمة تريد �أن تناف�س على �أ�سا�س ما هو �أف�ضل‪� ..‬أف�ضل ما لديها‬
‫وما لدى ع�صرها وعالمها‪..‬‬
‫وال�سرة عليها دور في جعل هذا أالمر ممكن الحدوث في محيطها ومجتمعها‬ ‫أ‬
‫بتبني �أف�ضل ما في زمانها وزمان غيرها‪ ،‬مع جعل الكتاب وال�سنة الثابتة أال�سا�س في‬
‫الحكم‪ ،‬فكل ما يوافقهما فهو مقبول‪ ،‬وكل ما يتعار�ض معهما فهو مرفو�ض‪ ..‬فالحالل‬
‫ما �أحله ال�شرع والحرام ما حرمه ال�شرع‪..‬‬
‫المقدرة على المواءمة‬

‫بين أال�صالة والمعا�صرة‬

‫إالفادة من‬
‫نفعيات الحداثة وم�ستجداتها‬ ‫قطعيات الهوية ومعطياتها‬
‫�أ�سا�س للمقدرة على المناف�سة‬

‫المواءمة �أ�سا�س للمناف�سة؛ أ‬


‫والقدر على المواءمة �أقدر على المناف�سة؛‬
‫بل �إن فعالية المناف�سة م�شروطة بفعالية المواءمة‪.‬‬
‫ال�شكل رقم (‪ )6‬يبين �أن إالفادة من قطعيات الهوية ومعطياتها‪ ،‬ومن نفعيات الحداثة وم�ستجداتها‪،‬‬
‫�أ�سا�سين ال يبرهنان فقط على المقدرة على المواءمة بين أال�صالة والمعا�صرة‪ ،‬و�إنما يبرهنان كذلك على‬
‫المقدرة على المناف�سة‪..‬‬

‫‪135‬‬
‫والفادة من الحداثة" هي تربية تنطلق من‬ ‫وبتعبير �آخر‪ ،‬ف�إن "التربية نحو الهوية إ‬
‫فكرة �أن حال أال�سرة و�أفرادها‪ ،‬بل أالمة و�أبنائها‪ ،‬ال ي�صلح فقط بما َ�ص ُلح به �أ ّوله‪،‬‬
‫بل وبما َ�ص ُلح به �آخره‪ ..‬إالفادة من قطعيات الهوية ومعطياتها‪ ،‬ومن نفعيات الحداثة‬
‫وم�ستجداتها‪� ،‬أ�سا�سين ال يبرهنان فقط على المواءمة بين أال�صالة والمعا�صرة‪ ،‬و�إنما‬
‫يبرهنان كذلك على �أمة تريد �أن تناف�س على �أ�سا�س ما هو �أف�ضل‪� ..‬أف�ضل ما لديها‬
‫وما لدى ع�صرها وعالمها‪..‬‬

‫‪136‬‬
‫الق�ســم الثانــي‪:‬‬
‫الفــــادة الفعــالة من‬
‫إ‬
‫اليجابي للعوملة ‪ - -‬فر�ص العوملة‬ ‫احلد إ‬

‫‪137‬‬
138
‫تمهيــد‬

‫الحد إاليجابي لل�شيء ال يمكن معرفته على وجه الحقيقة �إال �إذا كان هناك‬
‫م�صداقاً عملياً ي�ؤكِّ ده‪ ..‬بمعنى �أن أال�شياء �أو الظواهر من حيث �إيجابيتها ومقدار‬
‫تلك إاليجابية يحتاجان �إلى م�صداق لهما‪� ،‬أي م�ؤ�شرات تد ِّلل على م�صداقية‬
‫تلك إاليجابية وحجمها‪﴿ ،‬‬
‫﴾�آل عمران‪ ،]31 :‬واالتباع هو البرهنة العملية على الحب‪ ،‬االتباع هو‬
‫الم ْ�ص َداق العملي لذلك الحب‪..‬‬ ‫ِ‬

‫و�إذا ما تمت البرهنة العملية على ال�شيء‪ ،‬ف�إن الناتج له منفعتان‪ :‬منفعة �أولى‬
‫ت�أتي في هيئة "جلب الخير"‪ ،‬ومنفعة �أخرى ت�أتي في هيئة "تجنب ال�شر"‪..‬‬
‫وا�ضح في الن�ص �أعاله حيث �أن البرهنة العملية على الحب باالتباع يترتب‬
‫وهذا ٌ‬
‫عليها منفعتان‪" :‬حب" من جهة‪ ،‬و"غفران ذنب" من جهة �أخرى‪﴿ ،‬‬
‫﴾�آل عمران‪..]31 :‬‬

‫وبتطبيق فكرة "ال�شيء وم�صداقه" على ظاهرة العولمة‪ ،‬ف�إننا نقول‪ :‬إ‬
‫"اليمان ب�أن‬
‫العولمة لي�س لها حد �سلبي فقط‪ ،‬و�إنما لها كذلك حد �إيجابي" ي�ستلزم منا البرهنة‬
‫عملياً على ذلك إاليمان‪ ..‬والبرهنة ال تكفي �أن تكون بالل�سان‪ ،‬و�إنما هي تظهر على‬
‫حقيقتها وبكامل قوتها وت�أثيرها عندما نلحظها في الميدان‪ ،‬عندما نلحظها على أالر�ض‬
‫مرغوب فيها‪..‬‬
‫ٌ‬ ‫في �صيغة نتائج‬
‫‪139‬‬
‫والثر على أالر�ض‪ ،‬ف�إن‬ ‫وحتى تتم الترجمة في الميدان‪� ،‬أي ح�صول الفعل أ‬
‫وال�سرة مطلوب منها �أن تجري ذلك التدخل التربوي‪،‬‬ ‫هذا يتطلب تدخ ًال تربوياً‪ ..‬أ‬
‫بحيث ي�ؤدي �إلى �صياغة عقول أالبناء لي�س فقط في اتجاه النظر معرفياً �إلى �أن‬
‫العولمة تت�ضمن �إيجابيات م�شروطة باغتنام فر�ص النمو التي تتيحها‪ ،‬و�إنما كذلك في‬
‫اتجاه تربية ه�ؤالء أالبناء على كيفية إالفادة �أو اال�ستفادة عملياً من ميزات العولمة‬
‫وفر�ص الخير المت�ضمنة فيها �أو التي تتيحها‪..‬‬

‫�إذاً االفادة ال تكون �إال بالتربية والمعلومات النافعة‪ ..‬وفي هذا الق�سم من الكتاب‬
‫نعر�ض لثالث �أنواع من التربية‪ ،‬والمرفقة بمعلومات نافعة‪ِّ ،‬‬
‫تبين عملياً الكيفية التي‬
‫بناء مهيئين إلدراك الحد إاليجابي من العولمة‪ ،‬واال�ستفادة منه‬ ‫يمكن �أن ت�صنع �أ ً‬
‫�إلى �أق�صى حد ممكن‪ ..‬وهذه أالنواع الثالثة من التربية هي‪:‬‬
‫‪ -‬التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية‪.‬‬
‫‪ -‬التربية أال�سرية نحو الفعالية‪.‬‬
‫‪ -‬التربية أال�سرية نحو الم�س�ؤولية والرقابة الذاتية‪.‬‬

‫مف�صل لكل نوع من �أنواع التربية الثالثة‪ً ،‬‬


‫ابتداء‬ ‫وفي الجزء القادم‪� ،‬سيتم تو�ضيح َّ‬
‫بمفهوم كل منها‪ ،‬ثم بال�شروط التي يمكن �أن تمنحهم فعاليتهم ومقدار ت�أثيرهم‪،‬‬
‫والمرجوة من تفعيل تلك أالنواع الثالثة من التربية‬
‫ّ‬ ‫و�أخيراً العوائد المتوقعة‬
‫المطلوبة في الحياة أال�سرية‪..‬‬

‫‪140‬‬
‫الرتبية نحو اال�ستقاللية‬
‫ك�آلية أ�وىل‬
‫اليجابي للعوملة‬
‫للفادة من احلد إ‬
‫إ‬

‫‪141‬‬
142
‫تمهيــد‬

‫التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية هي م�س�ألة مهمة انطالقاً من ن�صو�ص قر�آنية ت�ؤكِّ د‬
‫ب�شكل �أو ب�آخر على دور أال�سرة في تعزيز اال�ستقاللية‪ ،‬وب�شكل �أدق اال�ستقاللية‬
‫العقالنية‪ ،‬لدى �أبنائها‪ ،‬ألنهم مقبلين في الدنيا على الدخول في مرحلة التكليف‬
‫ال�شرعي‪ ،‬ومنتهين في آالخرة �إلى مرحلة الح�ساب الفردي‪ ..‬وهذا �أمر منطقي‪ ،‬فاهلل‬
‫منح إالن�سان عق ًال ُلي ْح ِ�سن الت�صرف به‪ ،‬في مواقف الحياة المختلفة‪ ،‬التي يكون هو‬
‫فيها حا�ضراً بنف�سه �أو معه �أهله وغيره‪..‬‬
‫ومن هذه الن�صو�ص قول اهلل تعالى ﴿‬

‫﴾ إ‬
‫ال�سراء‪..15-13 :‬‬

‫فهذه آاليات ك ّلها ت�ؤكد على اال�سـتقالل‪ ،‬ابتدا ًء من ﴿‬

‫﴾‪" ،‬قال ابن عبا�س‪ :‬عمله‪ ،‬فهو مالزمه‬ ‫﴾‪ ،‬و﴿‬


‫�أينما كان‪ .‬وقيل‪ :‬خيره و�شره معه ال يفارقه حتى يحا�سب عليه"(عالء الدين علي‬
‫بن محمد البغدادي‪ ،‬طبعة ‪" 1994‬مج ‪� ،"2‬ص ‪ ،)939‬وهو في عنقه‪..‬‬

‫‪143‬‬
‫هـذه آاليات ت�سـتمر في ت�أكــيدها على اال�ســتقالل‪﴿ ،‬‬
‫﴾‪" ،‬يعن��ي �أن ثواب العم��ل ال�صالح ّ‬
‫مخت�ص‬
‫بفاعله‪ ،‬وعقاب الذنب مخت�ص بفاعله �أي�ضاً وال يتعدى منه �إلى غيره"(عالء الدين‬
‫علي بن محمد البغدادي‪ ،‬طبعة ‪" 1994‬مج ‪� ،"2‬ص ‪ ،)940‬وقوله تعالى ﴿‬
‫﴾‪� ،‬أي "ال تحمل حاملة ثقل �أخرى من آ‬
‫الثام‪ ،‬وال ي ؤ�اخذ �أحد بذنب‬
‫�أحد‪ ،‬بل كل مخت�ص بذنبه"(عالء الدين علي بن محمد البغدادي‪ ،‬طبعة ‪1994‬‬
‫"مج ‪� ،"2‬ص �ص ‪..)940‬‬
‫(٭)‬
‫ابتداء ب�أن مفهوم "التربية"‬
‫وتمهيداً للتربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية‪ ،‬نقول ً‬
‫كمفهوم "الحكمة"‪ ،‬كالهما �إيجابي‪� ،‬أي ال يقبالن ال�سلب‪ ..‬وهذا على العك�س من‬
‫مفهوم "التعلم" ومفهوم "الموعظة"‪ ،‬فكليهما يقبالن إاليجاب وال�سلب‪ ..‬بمعنى في‬
‫حين �أن التعلم يقبل �أن يكون تعلماً ايجابياً و�آخر �سلبياً‪ ،‬وكذلك الموعظة تقبل �أن‬
‫تكون موعظة ح�سنة و�أخرى غير ح�سنة‪ ،‬ف�إن التربية والحكمة كالهما �إيجابيتين‪..‬‬
‫٭ وجهة نظر أ�خرى ترى أ�ن التربية يمكن أ�ن تكون �سليمة‪ ،‬ويمكن أ�ن تكون خاطئة‪� ،‬إال �إذا كانت التربية‬
‫بمعنى التزكية‪ ،‬ف�إنها ال تكون �إال �إيجابية‪ ،‬قال تعالى ﴿ قد �أفلح من زكاها ﴾ ال�شم�س‪� ،]9 :‬أما في غياب‬
‫مفهوم التزكية‪ ،‬ف�إن هناك وجهة نظر �أخرى ترى �أن التربية كالتعلم تقبل �أن تكون �إيجابية �أو �سلبية‪ ،‬وذلك‬
‫انطالقاً من �أن و�سائل التربية هي ذاتها تقبل �أن تكون ح�سنة �أو �سيئة‪ ،‬وفي قوله تعالى ﴿ وبالموعظة الح�سنة ﴾‬
‫النحل‪� ]125 :‬إ�شارة �إلى �أن هناك �إمكانية وجود تربية بالموعظة ال�سيئة مثلما �أن هناك تربية بالموعظة الح�سنة‪.‬‬

‫"الولى تت�ضمن التغير �إلى أالح�سن‪،‬‬


‫�إذاً الفرق بين التربية والتعلم‪ ،‬يكمن في �أن أ‬
‫بينما يت�ضمن الثاني التغير �إلى أالح�سن و�إلى أال�سو�أ"(�أنور ريا�ض عبدالرحيم‬

‫‪144‬‬
‫و�آخـرون‪� ،1996 ،‬ص ‪﴿ ،)37‬‬
‫﴾‬ ‫﴾الكهف‪﴿ ،]66 :‬‬
‫﴾‬ ‫البقــرة‪﴿، ]102:‬‬
‫البقرة‪..]102 :‬‬
‫كذل��ك الحكم��ة طريق��ة دائم��اً ح�سنة‪ ،‬ف��ي حي��ن �أن الموعظة لي�س��ت دائماً‬
‫وا�ض��ح في قوله تعالى ‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫ح�سن��ة‪� ،‬أي تقب��ل �أن تكون ح�سن��ة �أو �سيئة‪ ،‬وهذا التمييز‬
‫﴾‬ ‫﴿‬
‫﴾ البقرة‪:‬‬ ‫النحل‪﴿ ،]125 :‬‬
‫‪ ..]269‬فالحكمة دائماً ح�سنة‪� ،‬أما الموعظة فقد تكون ح�سنة مثلما �أنها يمكن �أن تكون‬
‫�سيئة‪..‬‬
‫و�إجراء مقارنة ومقاربة بين التربية والحكمة هو لي�س �إجراء المقارنة للمقارنة‬
‫وتبيين المقاربة للمقاربة‪ ،‬و�إنما هو �إجراء ن�سعى من خالله �إلى ربط الحكمة بالتربية‪،‬‬
‫وبالذات التربية أال�سرية في زمن العولمة‪ ..‬فالتربية أال�سرية تحتاج �إلى �أن تكون‬
‫تربية حكيمة‪ ،‬تربية ر�شيدة‪ ،‬وهذه الحكمة مهم اال�ستعانة بها في زمن العولمة �أكثر‬
‫من �أي وقت م�ضى‪ ،‬وذلك بحكم حجمها‪ ،‬وحجم �إغراءاتها‪ ،‬وحجم مخاطرها‪..‬‬
‫وبالرغم من �أن الحكمة مهمة في كافة �أ�شكال التربية‪ ،‬ف�إنها �أكثر �أهمية في حالة التربية‬
‫نحو اال�ستقاللية‪ ..‬فاال�ستقاللية قد ت�أخذ �صاحبها في اتجاه �سلبي على ذاته (مثل التكبر)‬
‫وعل��ى غيره (مثل اال�ض��رار)‪ ،‬والحكمة هي الجان��ب الذي يمكن �أن يق��ي اال�ستقاللية‬
‫م��ن انحرافها‪ ،‬ب��ل ويمكن كذل��ك �أن ينمي اال�ستقاللي��ة ِّ‬
‫وين�ضجها‪ ،‬ويجعله��ا مثمرة‪..‬‬
‫‪145‬‬
‫ومرتب��ط بمفه��وم "الحكمة" مفه��وم "الم�صلح��ة"‪ ،‬والتي عندما ن�أخ��ذ بها نكون‬
‫بذل��ك قد �سرنا في الطريق نحو المنفع��ة‪ ،‬بل �إن الم�صلحة هي ذاتها المنفعة‪ ..‬فالحكمة‬
‫﴾‬ ‫هـي طـريقنا �إلى المنفعـة‪﴿ ،‬‬
‫البقرة‪ ،]269 :‬ولكن الحكمة ال تحقق المنفعة دائماً بطريقة مبا�شرة‪ ،‬و�إنما تحققها‬
‫كذلك بطريق��ة غير مبا�شرة‪ ،‬وذلك عن طريق �إجراء ح�سب��ة عقلية عملية‪ ،‬من�ضبطة‬
‫فقهياً‪ ..‬وهذه الح�سبة ت�أخذ في االعتبار "الم�صلحة"‪..‬‬

‫فالحكيم يح�سب الم�صلحة قبل �أن ينطق بر�أيه �أو ي�أتي بموقفه‪ ،‬وبالذات عندما يكون‬
‫هذا إالن�سان في مو�ضع قيادي كالوالد والوالدة‪ ،‬والمطالب ب�أن يت�صرف بحكمة في‬
‫�إدارة �أو رعاية �ش�ؤون �أ�سرته �أو م�ؤ�س�سته‪{ ،‬كلكم راع وكلكم م�س�ؤول عن رعيته‪ ،‬إالمام‬
‫راع وم�س�ؤول عن رعيته‪ ،‬والرجل راع في �أهله‪ ،‬وهو م�س�ؤول عن رعيته‪ ،‬والمر�أة راعية‬
‫في بيت زوجها‪ ،‬وم�س�ؤولة عن رعيتها" رواه البخاري(علي �أحمد الندوي‪،1998 ،‬‬
‫�ص ‪ ..)319‬ولذلك جاءت القاعدة الفقهية التالية م�ؤكِّ دة على ذلك‪" :‬الت�صرف‬
‫وط بالم�صلحة"(علي �أحمد الندوي‪� ،1998 ،‬ص ‪..)317‬‬ ‫على الرَّ عِ يَّة َمنُ ٌ‬
‫وهذه القاعدة مهمة‪ ،‬وذات م�سا�س بال�سيا�سة ال�شرعية لي�س فقط للدولة‪ ،‬و�إنما‬
‫كذلك ألل�سرة مع الفارق في العالقة بين القيادة والقاعدة‪ ،‬بين الدولة أ‬
‫وال�سرة‪..‬‬
‫وتكمن �أهمية هذه القاعدة في �أنها ت�ضع حداً ووازعاً للراعي �أو القائد في كافة‬
‫عبر عنها العالمة تاج الدين ال�سبكي بال�صيغة التالية‪" :‬كل مت�صرف‬ ‫ت�صرفاته‪ ،‬وقد ّ‬
‫عن الغير‪ ،‬فعليه �أن يت�صرف بالم�صلحة"(علي �أحمد الندوي‪� ،1998 ،‬ص ‪،)317‬‬

‫‪146‬‬
‫وهذه القاعدة لها �سندها في القر�آن الكريم‪ ،‬مثل ﴿‬
‫﴾الن�ساء‪ ،]58 :‬فالم�س�ؤولية‬
‫تقت�ضي �أداء الواجب مع النظر في الم�صلحة‪ ،‬والت�صرف في أالمر ب�أمانة"(علي‬
‫�أحمد الندوي‪� ،1998 ،‬ص ‪..)320‬‬

‫فالحكمة �آلية �أخالقية مهمة ل�ضبط اال�ستقاللية‪ ،‬وجعلها �سمة فاعلة وفعالة‪ ،‬مثمرة‬
‫بالمر الغريب‪ ،‬فهي "ف�ضيلة‪ ،‬بل ف�ضيلة الف�ضائل"‪ ..‬ولذلك‬ ‫ومعمرة‪ ..‬ولي�س هذا أ‬
‫ِّ‬
‫و�ضعها ابن م�سكويه رحمه اهلل في �صدارة الف�ضائل التي �أجمع عليها الحكماء‪..‬‬
‫يقول رحمه اهلل‪" :‬الف�ضائل �أربعة‪:‬‬
‫‪ - 1‬الحكمة‪.‬‬
‫‪ - 2‬العفة‪.‬‬
‫‪ - 3‬ال�شجاعة‪.‬‬
‫‪ - 4‬العدالة‪...‬‬

‫و�أ�ضداد هذه الف�ضائل أالربع �أربع �أي�ضاً وهي‪:‬‬


‫‪ - 1‬الجهل‪.‬‬
‫‪ - 2‬ال�شره‪.‬‬
‫‪ - 3‬الجبن‪.‬‬
‫‪ - 4‬الجور"(�أبي علي �أحمد بن محمد بن يعقوب الرازي "م�سكويه"‪ ،‬طبعة‬
‫‪1398‬هـ‪� ،‬ص �ص ‪..)39-38‬‬
‫‪147‬‬
‫فالحكمة هي �ضابط لال�ستقاللية‪ ،‬والم�صلحة عامل ي ؤ�ثر في تحديد تلك الحكمة‪..‬‬
‫وطبيعياً �أن يكون العامل الم�ؤثر هو في حد ذاته كذلك �أداة �ضبط‪ ..‬ولذلك‪،‬‬
‫ف�إن الحكمة تمثل �آلية �ضبط داخلية‪ ،‬بينما الم�صلحة تم ِّثل �آلية �ضبط خارجية‪..‬‬
‫وا�ضح في الم�صالح االجتماعية‪ ،‬والتي هي كالم�صالح �أو مثل "الم�صالح‬ ‫وهذا ٌ‬
‫االقت�صادية تعتبر عام ًال من عوامل ال�ضبط ألنها ت�ضع قيوداً على �سلوك أالفراد‬
‫الذين تقوم هذه الم�صالح بينهم‪ .‬ومثل ذلك يقال عن الدين أ‬
‫والخالق والقرابة‬
‫والعرف والحكومة"(ال�سيد الح�سيني‪� ،1985 ،‬ص ‪..)204‬‬

‫‪148‬‬
‫فكرة "الرتبية نحو اال�ستقاللية"‬

‫تعتبر التربية من �أهم ركائز التنمية‪ ،‬ببعديها الذاتي واالجتماعي‪ ..‬التنمية الذاتية‬
‫والتنمية المجتمعية‪ ..‬والتربية لها �أهداف وغايات ت�سعى �إليها‪ ،‬ولها كذلك و�سائل‬
‫و�آليات تحقق �أهدافها وغاياتها‪ ..‬و�أحد �أبرز هذه آالليات هي �آلية "التربية نحو‬
‫اال�ستقاللية"‪ ،‬نحو "القرار الذاتي واالختيار الذاتي والت�أثير الذاتي"‪..‬‬

‫ومن المفيد هنا �أن نتعر�ض لها �سريعاً‪ ،‬وذات ارتباط بالتربية نحو اال�ستقاللية‪..‬‬
‫و�أول هذه المفاهيم هو مفهوم التعلم الم�ستقل‪ ..‬و"التعلم الم�ستقل ‪ :‬هو تعلم الطالب‬
‫بمعدل �سرعة يتفق و�إمكانياته وقدراته ودون ارتباط بمعدل �سرعة تعلم زمالئه"(جابر‬
‫عبدالحميد جابر وعالء الدين كفافي‪" 1991 ،‬مج ‪� ،"4‬ص ‪..)1701‬‬

‫مفهوم �آخر هو مفهوم التربية الم�ستقلة‪ ..‬و"التربية الم�ستقلة‪ :‬هي التربية الحرة‪،‬‬
‫التربية المتحررة من �ضغوط آالخر‪ ،‬من �ضغوط العولمة"‪ ..‬هي التربية التي‬
‫ال ت�سمح بتدخل آالخرين في تحديد ر�ؤيتها ور�سالتها و�أهدافها‪ ..‬هي التربية التي‬
‫ت�ستبعد التبعية‪ ،‬وتعتمد على الذاتية‪ ..‬هي التربية‪ ،‬التي محدداتها ذاتية ال خارجية‪،‬‬
‫محددات تم اختيارها بحرية ال ب�ضغوط �أو ت�أثيرات خارجية‪..‬‬
‫والتربية اال�ستقاللية من منظور �إ�سالمي هي تلك التربية التي ت�ستمد جذورها‬
‫و�أ�س�س �سيرها من كتاب ربها‪ ،‬و�سنة نبيها‪ ،‬وال�صفحات الم�ضيئة في تاريخ �أمتها‬
‫و�أمم غيرها‪ ،‬وباختيارها‪ ..‬فهي كال�شجرة المباركة الموقدة‪ ،‬التي ال ت�ستمد ق ُُو َتها‬
‫‪149‬‬
‫وال وقودها‪ ،‬ال من ال�شرق وال من الغرب‪ ،‬و�إنما ت�ستمده من نور اهلل‪﴿ ،‬‬

‫﴾‬
‫النور‪..35 :‬‬
‫والتربية الم�ستقلة‪ ،‬بتلك المعاني‪ ،‬هي من ناحية تربية مثالية‪ ،‬ومن ناحية �أخرى‬
‫هي تربية واقعية‪ ..‬هي تربية مثالية لي�س فقط ألنها تنطلق من ُم َثل عليا‪ ،‬و�إنما كذلك‬
‫ألنها تعي�ش في عولمة ت�سعى �إلى فر�ض ُم ُثلها الدنيا على غيرها‪ ..‬ولذلك‪ ،‬ف�إن هذه‬
‫التربية تحتاج "تربية" تم ِّهد لها‪ ،‬لوالدتها‪ ،‬ولتطورها‪ ..‬وهذه التربية التي يمكن‬
‫�أن ت�سهم في التهيئة للتربية الم�ستقلة هي التربية نحو اال�ستقاللية‪ ..‬وهذا يعني‬
‫�أن التربية الم�ستقلة هي واجب غائي ن�سبي‪ ،‬بينما التربية نحو اال�ستقاللية هي واجب‬
‫و�سيلي نوعي‪ ،‬والقاعدة تقول‪" :‬ما ال يتم الواجب به فهو واجب"‪..‬‬
‫فعندما يتعلم أالبناء اال�ستقاللية‪ ،‬يتعلمون اال�ستقاللية في التفكير‪ ،‬اال�ستقاللية‬
‫في التعبير‪ ،‬اال�ستقاللية في القرار‪ ،‬اال�ستقاللية في االختيار‪ ،‬اال�ستقاللية في‬
‫الت�أثير‪ ،‬اال�ستقاللية في التغيير‪ ..‬عندما يتعلم أالبناء كل ذلك‪ ،‬ي�صبحون م�ؤهلين‬
‫ل�صناعة تربية م�ستقلة‪ ،‬يم ِّهد الطريق ل�صناعة �سيا�سة م�ستقلة واقت�صاد م�ستقل و�إعالم‬
‫م�ستقل‪ ..‬الخ‪ ..‬ومعلو ٌم �أن فاقد ال�شيء ال يعطيه‪ ..‬وننبه هنا �إلى �أن اال�ستقاللية والقوة‬
‫المت�ضمنة فيها ال تلغي االعتمادية واالفادة منها‪ ،‬بل �إن اال�ستقاللية َتَ ْق َوى باالعتمادية‬
‫إاليجابية وتتنامى في �سقفها‪ ..‬و�سن�أتي على هذا الجانب بالتو�ضيح فيما بعد‪..‬‬

‫‪150‬‬
‫فكرة التربية نحو‬ ‫وال�س�ؤال هنا‪ :‬ما هي فكرة "التربية نحو اال�ستقاللية"؟‬
‫اال�ستقاللية تنطلق من �أن اال�ستقاللية يمكن �أن تكون �أ�سا�ساً في نفي كل ما هو‬
‫�سلبي عن النف�س وبالذات �سلبية "ال�شك"‪ ،‬فال�شك نقي�ض اال�سقاللية‪ ..‬ولذلك‪،‬‬
‫"علينا �أن نعلم أالطفال على اال�ستقاللية في تناول وجبات طعامهم ولبا�سهم‬
‫واالعتناء ب�صحتهم‪� .‬إذ �أن الف�شل في تعليمهم ذلك ي�ؤدي �إلى تزايد ال�شك لديهم‬
‫في قدراتهم‪ ،‬ويجعلهم ي�شعرون بالخجل تجاه �أنف�سهم‪ ..‬ويعد آالباء هم الم�س�ؤولون‬
‫عن هذا الجانب"(منذر عبدالحميد ال�ضامن‪� ،2005 ،‬ص ‪..)85‬‬

‫فكرة "التربية نحو اال�ستقاللية" �أي�ضاً تنطلق من فكرة الحرية‪ ..‬تنطلق من فكرة‬
‫�أن الحرية هي �أ�سا�س لال�ستقاللية‪ ،‬و�أن كلتيهما عمل من �أعمال التربية‪ ،‬فهي �أ�سا�س‬
‫تنميتهما‪ ..‬وبتعبير �آخر‪ :‬كما �أن تنمية فكرة اال�ستقاللية عمل من �أعمال التربية‪،‬‬
‫ف�إن تنمية فكرة "الحرية والعمل على ممار�ستها ممار�سة فعلية عمل من �أعمال‬
‫التربية"(محمد لبيب النجيحي‪� ،1981 ،‬ص ‪..)345‬‬

‫وال�سبب ب�شكل �أ�سا�سي يعود �إلى �أن "التربية تقوم على احترام ال�شخ�صية‬
‫إالن�سانية ومعاملة الطفل على �أنه غاية في ذاته‪ ،‬وهذا يعني �أن توجه تربيته لكي‬
‫ي�ستطيع �أن يكون عاق ًال مفكراً ذكياً ي�ستطيع �أن ي�ستغله في ممار�سة حريته ممار�سة‬
‫فعلية‪ ...‬و�إذا كانت تنمية العقل تُ َك ِّون حجراً �أ�سا�سياً في تربية الرجل الحر‪ ،‬ف�إن التربية‬
‫تعمل على تنمية هذا العقل"(محمد لبيب النجيحي‪� ،1981 ،‬ص ‪..)345‬‬
‫‪151‬‬
‫�أما عن تعريف التربية نحو اال�ستقاللية‪ ،‬ف�إنها تعني "تنمية الذات والقدرة ال�شخ�صية‬
‫ابتداء‬
‫على المواجهة"‪ ..‬ومن منطلق هذا التعريف‪ ،‬ف�إن التربية نحو اال�ستقاللية هي ً‬
‫تربية للذات‪ ،‬وثانياً تربية على المهارات‪ ..‬هي تربية داخلية وخارجية‪ ،‬بنيوية ووظيفية‪،‬‬
‫معرفية‪-‬وجدانية و�سلوكية‪-‬مهارية‪..‬‬
‫والذات هي مفهوم يفيد "كل ما في إالن�سان من خير و�شر‪� ،‬صحة ومر�ض‪� ،‬شعور‬
‫وال�شعور‪ ،‬خ�صائ�صه البدنية وال�سيكولوجية‪ ،‬نظرته �إلى الحياة‪ ،‬ما يقبله وما يرف�ضه‪...‬‬
‫الذات هي ما يعيه إالن�سان من طبيعته الفريدة‪ ،‬وما يعيه من البيئة من حوله‪ ،‬وعالقته‬
‫بالبيئة‪ ،‬وت�أثير البيئة فيه‪ ...‬ذات إالن�سان هي إالن�سان‪ ،‬كما هو عليه كائناً بيولوجياً‬
‫واجتماعياً و�إن�سانياً"(بت�صرف عن ب�شير الر�شيدي‪..)1999 ،‬‬
‫"فالذات هي كل ما يخ�ص �شخ�صية الفرد في �أبعادها الج�سمية والنف�سية‬
‫واالجتماعية‪� ...‬إن الذات تت�ضمن كل ما يدخل في مجال حياة الفرد المادية‬
‫والمعنوية‪ ،‬وكل ما يمت �إلى حياة الفرد ب�صلة‪� ،‬إنها ت�شمل الج�سم والنف�س وما يرتبط‬
‫بالخرين وعالقته بالو�سط المحيط به عموماً"(ب�شير‬ ‫بهما‪ ،‬كما ت�شمل عالقات الفرد آ‬
‫الر�شيدي‪� ،1999 ،‬ص ‪ ..)17‬هذه الذات تحتاج �إلى تربية تدعم من مكانتها عند‬
‫�صاحبها‪ ،‬بل تربية ت�سهم في تنمية مكانة الذات عند �صاحبها‪ ،‬وفي مجتمعها‪..‬‬
‫وال�سرة ينبغي �أن تحر�ص على العناية بالذات‪ ،‬بذوات �أفرادها‪ ،‬العناية بكل‬‫أ‬
‫ما يخ�ص هذه الذات‪ ..‬هذه العناية أال�سرية بالذات التي يمكن �أن نلحظ م�ؤ�شراتها‬
‫فيما يلي‪:‬‬
‫‪152‬‬
‫‪ -‬توفر أال�سرة كل ما ي�ؤدي �إلى تنمية �أج�ساد �أفرادها �صحياً ووقايتها مما قد ي�ضر‬
‫بها‪.‬‬
‫‪ -‬رعاي��ة أال�س��رة لعق��ول �أفرادها بما ي���ؤدي �إلى تنمي��ة �إمكانات ه��ذه العقول‬
‫وقدراتها‪.‬‬
‫‪� -‬شحذ أال�سرة لعزائم وهمم �أفرادها بما ي�ؤدي �إلى �صالحهم دنيا و�آخرة‪.‬‬
‫‪ -‬تنمية أال�سرة للجانب العقائدي لدى �أفرادها بحيث تتحول العقيدة �إلى �سلوك‬
‫نافع‪.‬‬
‫‪ -‬ت�أكي��د أال�سرة عل��ى ال�صحة النف�سية لدى �أفراده��ا ووقايتهم من اال�ضطرابات‬
‫النف�سية‪.‬‬
‫‪ -‬ربط أال�سرة �أفرادها ب�شبكة عالقات اجتماعية �صحية وفعالة‪.‬‬
‫‪ -‬تقوي��ة روح تعاي�ش �أفراد أال�سرة مع آالخري��ن‪ ،‬وقبولهم وح�سن تعاملهم معهم‬
‫وفق مبادئ وثوابت و�ضوابط محددة مثل مبد�أ "ال �ضرر وال �ضرار"‪..‬‬

‫وبناء عليه‪ ،‬ف�إن التربية نحو اال�ستقاللية هي أ�و ًال تنمية للذات‪ ،‬لكي‬‫ً‬

‫حرة وم�ستقلة‪� ،‬أي تنمية الذات الحرة الم�ستقلة‪ ،‬والتي تعني ً‬


‫ابتداء تنمية‬ ‫تكون ّ‬
‫جوانبها المختلفة‪ :‬الروحية والعقلية والج�سدية‪ ..‬الذات الروحية والذات العقلية‬
‫الذات الج�سمية‪ ،‬هي ذوات (فردية) �أ�سا�سية فاعلة ل�صناعة ذوات (اجتماعية) فعالة‬
‫كالذات االقت�صادية والذات ال�سيا�سية والذات إالعالمية‪ ..‬الخ‪..‬‬

‫‪153‬‬
‫وانطالقاً من �أن الذات العقلية هي ذات مح�سوبة على الذات الروحية ومو�صولة‬
‫بالذات الج�سمية‪ ،‬ف�إنها ‪-‬من ناحية بناء الذات الم�ستقلة‪ -‬ينبغي �أن تكون محط‬
‫تركيز‪� ،‬أي �أن تكون و�سيط ي�صل الذات الروحية بالذات الج�سمية‪ ..‬لذلك‪ ،‬من‬
‫منظور التربية نحو اال�ستقاللية‪ ،‬ف�إن "غاية التربية النهائية هي تكوين عقل منطقي‬
‫منظّ م ي�ستغل الذكاء في تحديد أالهداف واختيار الو�سائل‪ ،‬ولكن في �سبيل هذا‬
‫الهدف النهائي البد من خبرات متعددة مختلفة يمر بها هذا العقل ويقطع خاللها‪،‬‬
‫وي�ستطيع �أن ي�صل في النهاية �إلى �شكله الفعال"(محمد لبيب النجيحي‪،1981 ،‬‬
‫�ص ‪..)346‬‬

‫�إن معنى الحرية‪ ،‬والتي منها ت�أتي اال�ستقاللية‪ ،‬يكمن في تمييزنا بين نوعين‬
‫من الخبرات‪ ..‬خبرات فيزيقية عمياء وخبرات هادفة مق�صودة‪ ،‬وهذه أالخيرة هي‬
‫الطريقة الذكية للتفاعل مع أالحداث‪ ،‬ونحن "ن�صبح �أحراراً بامتالكنا لهذه الخبرة‬
‫أالخيرة الهادفة‪� ،‬أي �أننا ن�صبح �أحراراً بتعلمنا كيف نفكر‪ ..‬وجوهر التفكير هو القدرة‬
‫على الو�صول �إلى نتائج تزيد من قدرتنا على التحكم في أالحداث ل�صالحنا‪،‬‬
‫وال يمكن �أن يكون هناك نمو في الحرية دون �أن يكون هناك ن�شاط ذلك ألن نمو‬
‫العقل ال يحدث دون ن�شاط"(محمد لبيب النجيحي‪� ،1981 ،‬ص ‪..)346‬‬

‫وبناء عليه‪ ،‬ف�إن التربية نحو اال�ستقاللية تنطلق من ذات قادرة على التفكير‪..‬‬
‫ً‬
‫تنطلق من جعل تنمية القدرة على التفكير هدف �أ�سا�سي من �أهداف التربية نحو‬
‫اال�ستقاللية‪ ،‬بل وو�سيلة من و�سائلها‪ ..‬فالقدرة على التفكير هي القدرة على البحث‪،‬‬
‫‪154‬‬
‫وهي القدرة على ممار�سة الحرية ال�سليمة‪ ،‬وهي القدرة على ممار�سة اال�ستقاللية‬
‫بطريقة حكيمة‪..‬‬

‫وانطالقاً من �أن الخبرة بطبيعتها "خبرة مرنة متطورة‪ ،‬كان هدف التفكير دائماً‬
‫هو �أن يعيد بناء هذه الخبرة‪ ،‬و�أن يحدد منها حتى ت�ستطيع �أن تواجه المواقف‬
‫المختلفة‪ ..‬ومن هنا كانت �إعادة بناء الخبرة ح�سب هدف معين معناها نمو العقل‪،‬‬
‫فالعقل ينمو �إذا ما ازدادت خبراته عدداً ونوعاً وعمقاً‪ ،‬والعقل هو مجموعة الخبرات‬
‫التي يكت�سبها إالن�سان نتيجة تعامله مع البيئة التي يعي�ش فيها‪ ،‬ونموالعقل هو نمو‬
‫هذه الخبرات"(محمد لبيب النجيحي‪� ،1981 ،‬ص ‪..)347‬‬

‫وطبعاً لما كان �أحد أالهداف أال�سا�سية للتربية هو تنمية التفكير وا�ستثمار الذكاء‪،‬‬
‫فمعنى هذا �أن التربية تعمل من �أجل اال�ستقاللية ألنها في �أ�صلها تعمل من �أجل الحرية‪..‬‬
‫"فالت�أكيد على نمو الطفل �إنما هو ت�أكيد على تحرير قدراته العقلية من قيودها‪ ،‬و�إتاحة‬
‫الفر�صة لها لالنطالق حتى ت�ستطيع �أن ت�ستخدم بطريقة فعالة �إمكانيات البيئة التي‬
‫يعي�ش فيها"(محمد لبيب النجيحي‪� ،1981 ،‬ص ‪..)347‬‬

‫وهنا �أود �أن �أنبه �إلى �أن العقلية الحرة الم�ستقلة هنا هي لي�ست فقط عقلية منطقية‬
‫منظّ مة‪ ،‬قادرة على ا�ستثمار ذكائها بما فيه نفع لها ولغيره‪ ،‬و�إنما هي كذلك عقلية‬
‫�إبداعية مرنة‪ ،‬قادرة على ا�ستثمار �إبداعها بما فيه نفع لها ولغيره‪ ..‬بمعنى �أن العقلية‬
‫الحرة الم�ستقلة هي عقلية منطقية من ناحية وابداعية من ناحية �أخرى‪..‬‬
‫‪155‬‬
‫وال�سرة ينبغي �أن تحر�ص على تنمية العقلية الحرة الم�ستقلة لدى �أفرادها‪،‬‬ ‫أ‬
‫وذلك من خالل ت�أكيدها على جوانب منها‪:‬‬
‫‪ -‬تنمية أال�سرة إلمكانات ذكاء �أفرادها‪ ،‬بما ينمي فيهم ال�شعور باال�ستقاللية‬
‫والحرية والم�س�ؤولية‪.‬‬
‫‪ -‬تنمية أال�سرة للمنطق العقلي والعملي لدى �أفرادها‪ ،‬بما ي�ؤدي �إلى فعالية‬
‫إالجراءات التي يتخذونها عملياً في مواقف الحياة اليومية‪.‬‬
‫‪ -‬تنمية أال�سرة للقدرات إالبداعية لدى �أفرادها‪ ،‬من خالل اكت�شاف ميولوهم‬
‫وابداعاتهم‪ ،‬ثم رعايتها وت�شجيعها‪.‬‬
‫‪ -‬تنمية أال�سرة لروح النقد الذاتي لدى �أفرادها بحيث يكون لمراجعة �سلوكياتهم‬
‫وتح�سينها ب�شكل دوري‪.‬‬
‫‪ -‬تنمية أال�سرة الروح النقدية حتى ال يكون �ضحية آالراء الخاطئة أ‬
‫والهواء‬
‫ال�ضالة‪.‬‬
‫الجانب آ‬
‫الخر في التربية نحو اال�ستقاللية هو جانب "تنمية القدرة‬

‫على المواجهة"‪ ..‬والقدرة على المواجهة تبد�أ ببناء القدرة على التفكير بكافة‬
‫�أ�شكاله‪ ،‬المنطقية واالبداعية وغيرها‪ ..‬وقد تطرقنا في الفقرات ال�سابقة �إلى هذه‬
‫القدرة‪ ،‬م�ؤكدين على �أنها �شرط لال�ستقالل‪ ،‬والتفكير اال�ستقاللي �أو التفكير‬
‫الم�ستقل‪ ..‬هذا التفكير الذي يمكن �أن ي�صبح تفكيراً �سليماً م�ستقيماً من ناحية‪،‬‬
‫وتفكيراً ممتعاً ومفيداً من ناحية �أخرى‪� ،‬إذا ا�ستبعدت معوقاته‪ ،‬والتي منها‪:‬‬
‫‪156‬‬
‫"‪ - 1‬أالخطاء المنطقية‪....‬‬
‫‪ - 2‬العوامل االنفعالية والوجدانية‪....‬‬
‫‪ - 3‬المعلومات الخاطئة‪....‬‬
‫‪ - 4‬التقبل ال�سلبي آلراء ال�سلطة دون تمحي�ص �أو نقد‪ ،‬ويق�صد ب�أ�صحاب ال�سلطة‬
‫أالفراد الذين يعتبرون حججاً في مجاالتهم‪....‬‬
‫‪ - 5‬انتقاء المعلومات واال�ستنتاجات‪ ...‬يميل ال�شخ�ص �إلى انتقاء المعلومات‬
‫التي ت�ؤيد وجهة نظره‪ ،‬و�إلى تجاهل المعلومات التي تناق�ضها‪ ،‬كما يميل‬
‫للو�صول �إلى اال�ستنتاجات التي تت�سق مع كمية المعلومات التي انتفاها‪،‬‬
‫وت�ؤكد على نجاح تنب�ؤاته التي بناها على هذه اال�ستنتاجات و�إلى تجاهل‬
‫التنب�ؤات الخاطئة التي قامت على هذه اال�ستنتاجات"(وليم عبيد وعزو عفانة‪،‬‬
‫‪� ،2003‬ص �ص ‪..)34-33‬‬

‫و�سعي التربية نحو اال�ستقاللية �إلى تنمية الذات وقدرتها على التفكير الفعال‬
‫�أ�سا�س لتنمية قدرة الذات على المواجهة‪ ،‬والتي تفيد "اال�ستجابة المنا�سبة‬
‫والمالئمة للتحديات التي تواجه الذات في عالم تكاثرت فيه المتغيرات"‪" ،‬في عالم‬
‫يبدو فيه التغيير ال�شيء الوحيد الذي يظل ثابتاً"(بيتر هان�سون‪� ،1998 ،‬ص ‪..)1‬‬

‫ومفهوم الذات يلعب دوراً في طريقة ا�ستجابة الفرد للتحديات التي تواجهه‪..‬‬
‫وال�سبب في ذلك يعود �إلى �أن "مفهوم الذات لدى الفرد يحدد نوع الخبرات التي‬
‫يتعر�ض لها �أو يدركها وكيفيتها"(واال�س د‪ .‬البيين وبيرت جرين‪� ،1981 ،‬ص ‪،)29‬‬
‫‪157‬‬
‫وبالتالي‪ ،‬ف�إنه‪� ،‬أي ف�إن "مفهوم الذات عامل �أ�سا�سي وهام يتحكم في كل ال�سلوك‬
‫الب�شري"(واال�س د‪ .‬البيين وبيرت جرين‪� ،1981 ،‬ص ‪..)28‬‬

‫وال�سلوك إالن�ساني بطبعيته يم ِّثل "ظاهرة معقدة تتحدد بعدد العوامل الداخلية‬
‫والخارجية‪ ،‬العوامل الداخلية التي ترتبط بالفرد ذاته وتكوينه ودوافعه وميوله واتجاهاته‬
‫وخبراته ال�سابقة‪ ،‬والعوامل الخارجية التي تتعلق بالظروف والم�ؤثرات المحيطة به‪،‬‬
‫والمواقف التي يتعر�ض لها"(�أنور ريا�ض عبدالرحيم و�آخرون‪� ،1996 ،‬ص ‪..)8‬‬

‫وال�سلوك إالن�ساني الم�ستقل‪ ،‬والذي ينطلق من تلك الطبيعة‪ ،‬هو اختيار ذاتي‬
‫�أو �سلوك اختياري ذاتي ي�ستفيد �أو ًال من الذات ومحتوياتها‪�( ،‬أي تكوين الفرد‬
‫ودوافعه وميوله واتجاهاته وخبراته ال�سابقة)‪ ،‬وي�ستفيد ثانياً من عوامل البيئة والمحيط‬
‫(بما تت�ضمنه من م�ؤثرات وظروف ومتغيرات �أ�سرية)‪ ..‬وعن�صر اال�ستفادة هو الذي‬
‫يجعل من ال�سلوك إالن�ساني الم�ستقل �سلوكاً فعا ًال‪..‬‬

‫هذا ال�سلوك الم�ستقل الفعال ي�صبح هو أال�سا�س العملي للقدرة على المواجهة‪..‬‬
‫بمعنى �أن القدرة على المواجهة تحقق ذاتها من خالل "ال�سلوك الم�ستقل"‪� ،‬سلوك‬
‫المواجهة‪ ..‬ونجاح القدرة على المواجهة‪ ،‬بما فيه ال�سلوكيات المترجمة لها‪ ،‬هو‬
‫نجاح م�شروط‪ ،‬ت�أتي ال�شروط النف�سية في �صدارتها‪..‬‬

‫وقد �سبق �أن ذكرنا �أحد �أهم ال�شروط النف�سية للقدرة الفعالة على المواجهة‪،‬‬
‫وهو �شرط بناء القدرة على التفكير‪ ..‬وهنا ّنود �أن ن�ضيف �شرطاً مهماً �آخر‪ ،‬وهو �شرط‬
‫‪158‬‬
‫فعالية ال�ضمير‪ ،‬والذي هو في حد ذاته قدرة‪ ..‬فال�ضمير كتعريف يفيد "القدرة على‬
‫التمييز بين الخير وال�شر‪ ،‬النافع وال�ضار‪ ،‬الكامل والناق�ص‪ ،‬العلم والجهل‪ ،‬الطاعة‬
‫والمع�صية‪ ،‬ال�سلوك ال�صحي وال�سلوك غير ال�صحي"‪..‬‬

‫فال�ضمير بهذا المعنى مرتبط بالقدرة على التفكير‪ ،‬من حيث �أن القدرة على‬
‫التفكير �أ�سا�س لفعالية ال�ضمير‪ ..‬فانطالقاً من �أن ال�ضمير قدرة على التمييز‪ ،‬و�أن هذه‬
‫القدرة على التمييز عملية معرفية‪ ،‬فن�ستنتج ب�أن البعد المعرفي �أ�سا�س لل�ضمير‪ ،‬لي�س‬
‫فقط ألن البعد المعرفي ِّيزود ال�ضمير بالمعرفة التي على �أ�سا�سها يميز‪ ،‬و�إنما كذلك‬
‫ِّ‬
‫ألن البعد المعرفي يزود ال�ضمير بالقدرات العقلية التي بها يتحقق التمييز‪ ..‬هذا‬
‫التمييز الذي ي�صبح تمييزاً ذي جدوى عندما يكون تمييزاً ُم َت َخ ِّلقاً‪ ،‬تمييزاً ي�ستمد‬
‫نفعيته من �أخالقيات �صاحبه‪..‬‬

‫وللمزيد من التو�ضيح‪ ،‬نقول ب�أن أال�سرة و�أبناءها في هذه الحياة يمكن �أن يتعر�ضوا‬
‫لتحديات‪ ..‬وهذه التحديات تحتاج �إلى مواجهة‪ ،‬والمواجهة قدرة‪ ..‬وهذه القدرة‬
‫على المواجهة تتجلّى في �صورة ا�ستجابة‪ ..‬وهذه اال�ستجابة بنبغي �أن ال تكون فقط‬
‫�صادرة عن تفكير‪ ،‬و�إنما �أن تكون �صادرة كذلك من �ضمير‪..‬‬

‫وال�سبب في ذلك �أن "التحدي يتوجه �إلى �ضمير الفرد �أو الجماعة‪ ،‬وتكون‬
‫مواجهته له بالقدر الذي تكون عليه �أهمية اال�ستفزاز وخطورته‪ ،‬فهناك تنا�سب بين‬
‫طبيعة اال�ستفزاز وبين الموقف الذي يتخذه ال�ضمير في مواجهته‪ ...‬ف�إذا افتر�ضنا �أن‬

‫‪159‬‬
‫(الجابة) عليه �ستكون‬
‫التحدي كان �ضعيفاً يحيث لم ي�صل �إلى م�ستوى معين‪ ،‬ف�إن إ‬
‫هي �أي�ضاً �ضعيفة‪ ،‬وبعبارة �أخرى‪ ،‬ال لزوم لهذه إ‬
‫(الجابة)‪ ،‬وبذلك يفقد التحدي‬
‫معناه كعامل في �إحداث التغيير"(مالك بن نبي‪� ،1974 ،‬ص ‪..)19‬‬

‫حد ينبغي �أن يبد�أ منه التحدي لكي يكون تحدياً مفيداً في بناء‬ ‫�إذاً هناك ٌّ‬
‫ال�شخ�صية الم�ستقلة الفعالة‪ ،‬بناء ال�شخ�صية القادرة على االعتماد على نف�سها‪ ،‬بناء‬
‫ال�شخ�صية الحرة ذات المبادرة الذاتية الناجحة واال�ستجابة الذاتية الناجحة‪ ..‬وهذا‬
‫الحد يطلق عليه توينبي "(التحدي المنا�سب)‪ ،‬الذي ي�ستلزم ن�شوء (�إجابة) كافية‬
‫لتحريك �أ�سباب التغيير"(مالك بن نبي‪� ،1974 ،‬ص ‪..)19‬‬

‫"ثم �إن فاعلية إالجابة تنمو متنا�سبة مع قيمة التحدي‪ ،‬حتى ي�صل �إلى حد معين‪،‬‬
‫ف�إن ا�ستمر في نموه‪ ،‬ف�إنه ي�صبح منعدم الت�أثير‪ ،‬ألنه ين�صب �أمام ال�ضمير ا�ستحالة لي�س‬
‫فالجابة في هذه الحال ت�صبح عديمة الجدوى‪ ...‬وهكذا ي�ضع‬ ‫في طوقه �أن يحلها‪ .‬إ‬
‫توينبي التغيير االجتماعي بين حدين‪ ،‬ال يتم خارج نطاقهما‪ ،‬وذلك في حالة �شبيهة‬
‫بالفراط تن�ش�أ عن زيادته على قدر‬
‫بالتفريط تن�ش�أ من نق�ص في التحدي‪� ،‬أو �شبيهة إ‬
‫معين"(مالك بن نبي‪� ،1974 ،‬ص ‪..)20‬‬

‫�إذاً أال�سرة ت�سطيع �أن تبني �أبناء م�ستقلين فعالين عن طريق منظومة (تحدي‪-‬‬
‫ا�ستجابة)‪ ،‬و�أن ك ًال من التفكير وال�ضمير لهما ن�صيب أال�سد في نجاح هذه المنظومة‬
‫في مهمتها‪ ،‬مهمة بناء االبن الم�ستقل �أو ًال والفعال ثانيا‪� ،‬شريطة �أن يكون التحدي‬
‫‪160‬‬
‫لل�ستجابة له‪� ،‬أي لمواجهته‪ ..‬ومعلو ٌم �أن أالبناء‪ ،‬الذين‬ ‫ٍ‬
‫كاف لدفع طاقة إالن�سان إ‬
‫يواجهون التحدي عن طريق تغيير �شرائط حياتهم تغييراً تاماً‪ ،‬هم المر�شحون إلقامة‬
‫�أ�سرة متح�ضرة ومجتمع متح�ضر‪ ،‬ي�شهد على غيره‪ ،‬ور�سوله يكون �شاهداً عليه‪،‬‬
‫﴾الحج‪..]78 :‬‬ ‫﴿‬

‫وفيما يلي مجموعة من ال�شواهد التي تد ِّلل على دور أال�سرة في انجاح ا�ستجابات‬
‫�أفرادها اتجاه ما يواجههم من تحديات‪:‬‬
‫‪ -‬تهيئة أال�سرة �أبنائها للحياة وتحدياتها‪.‬‬
‫‪ -‬توفير أال�سرة المعلومات الالزمة والكافية حول المحيط والتاريخ‪.‬‬
‫‪ -‬توفير أال�سرة الدعم النف�سي‪-‬االجتماعي ألبنائها بحيث ي�شعرون بالقوة حتى‬
‫في �أ�صعب أالوقات‪.‬‬
‫بالمكانيات المتاحة في بيئتهم وتعليمهم كيفية اال�ستفادة‬‫‪ -‬توعية أال�سرة �أبنائها إ‬
‫منها‪.‬‬
‫‪ -‬م�ساعدة أال�سرة �أبنائها على �إنجاح مبادراتهم الذاتية وتوفير كافة ال�سبل‬
‫الممكنة من �أجل ذلك‪.‬‬

‫نخل�ص مما تقدم �إلى �أن إالفادة من فر�ص العولمة تحتاج �إلى �إن�سان تعلّم كيف‬
‫يكون م�ستق ًال من ناحية‪ ،‬ومفيداً من ناحية �أخرى‪ ..‬مثل هذا إالن�سان هو َّ‬
‫المر�شح‬
‫القتنا�ص فر�ص العولمة وتحويلها �إلى منافع‪ ،‬ذاتية من ناحية واجتماعية �أو مجتمعية‬
‫من ناحية �أخرى‪ ..‬والطريق �إلى �صناعة هذا إالن�سان يكون عن طريق ما �أ�سميناه‬
‫‪161‬‬
‫بالتربية نحو اال�ستقاللية‪ ،‬والتي نرى ب�أن هدفها الرئي�سي هو "�أن ي�صبح إالن�سان‬
‫حراً من ناحية‪ ،‬وم�س�ؤو ًال من ناحية �أخرى‪ ،‬بحيث تكون الم�س ؤ�ولية �ضابطاً لتلك‬
‫الحرية"؛ مع أالخذ في االعتبار �أن التربية نحو الحرية ذاتها تعني تنمية ا�ستقاللية‬
‫الذات‪..‬‬

‫وتجدر إال�شارة �إلى �أن التربية نحو اال�ستقاللية لها �أ�سبابها الم�س�ؤولة عنها وعن‬
‫�إنتاجها ونجاحها‪ ،‬ونتائجها المترتبة على فعالية حركة �أ�سبابها وعوامل وجودها‪..‬‬
‫ويمكن قراءة أال�سباب والمترتبات من خالل زوايا عديدة‪ ،‬ولعل �أحد هذه الزوايا‬
‫هي الزاوية النف�سية‪ ،‬و�سن�أخذ مث ًال �إريك �أريك�سون ك�أحد ِّ‬
‫المعبرين عن هذه الزاوية‪..‬‬
‫وزاوية ثانية �سنركِّ ز عليها هي الزاوية االجتماعية‪ ،‬نر�صدها من منظورها العام ومنظور‬
‫إال�سالم‪� ،‬إ�ضافة �إلى الزاوية التربوية‪..‬‬

‫‪162‬‬
‫�شروط الرتبية نحو اال�ستقاللية‬

‫أال�سرة هي آاللية االجتماعية التي يمكن �أن تمنح أالبناء ا�ستقال ًال ينفعهم‬
‫�أو تمنحهم ا�ستقال ًال ي�ضرهم‪ ،‬وهذا يعتمد على مدى تمتعها بنمط حياة‪ ،‬بثقافة‪،‬‬
‫تحكمه معايير �إ�سالمية‪ ،‬ت�ؤ�س�س لجو من المودة والرحمة‪ ،‬يحمي أال�سرة من دفع‬
‫فاتورة م�شكالتها الداخلية وتهديدات العولمة الخارجية‪..‬‬

‫الم�ضرة على كفة المنفعة‪ ،‬وهذا‬


‫ّ‬ ‫والملحوظ اليوم �أننا �أمام �أ�سر ترجح فيها كفة‬
‫"لعادة بنائها وفق‬‫ي�ستلزم ‪-‬كما يقول عمر عبيد ح�سنه‪� -‬أن نتوجه نحو أال�سرة إ‬
‫المعايير إال�سالمية‪ ،‬وا�ستراداد جو المودة والرحمة‪ ،‬وحمايتها من التفكك واالنهيار‪،‬‬
‫ودرا�سة الم�شكالت التي تعاني منها على م�ستوى الذات‪ ،‬واال�ستهداف القادم‬
‫(الخر)‪ ،‬والذي مكن له تفريطنا الكبير"(�أمينة الجابر و�صالح �إبراهيم ال�صنيع‬ ‫من آ‬
‫وال�شيخة العنود بنت ثامر �آل ثاني‪� ،2001 ،‬ص ‪..)25‬‬

‫و�إعادة بناء أال�سرة لكي تكون من�ضبطة �إ�سالمياً‪ ،‬وبالتالي قادرة تربوياً‪ ،‬هو ال�ضمان‬
‫لتمكينها من بناء �أبناء يتمتعون باال�ستقاللية النافعة‪ ،‬يتمتعون ب�شخ�صيات م�ستقلة‪،‬‬
‫قادرة على النفع‪ ،‬بل و�ساعية في طريقه‪� ،‬إما ب�شكل مبا�شر‪� ،‬أي بالفعل‪� ،‬أو ب�شكل غير‬
‫مبا�شر‪� ،‬أي با ّلدل‪ ،‬وفي الحديث ال�صحيح‪�" :‬إن الدال على الخير كفاعله"(محمد‬
‫نا�صر الدين أاللباني‪" 1982 ،‬مج ‪� ،"2‬ص ‪ ..)59‬وهذا يقودنا �إلى أال�سرة والتربية‬
‫الم�شروطة نحو اال�ستقاللية‪..‬‬
‫‪163‬‬
‫حرة‪ ،‬وللعقلية لكي‬ ‫فالتربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية هي تربية للذات لكي تكون ّ‬
‫تكون م�ستقلة‪ ،‬وللقدرة لكي تكون فعالة في المواجهة‪ ..‬التربية نحو اال�ستقاللية‬
‫هي تربية في االعتماد على الذات وعلى التجريب والقيام بمبادرات‪ ..‬التربية نحو‬
‫ت�شجع أالبناء على اتخاذ القرارات‪ ..‬وهذه التربية تحتاج‬
‫اال�ستقاللية هي التربية التي ِّ‬
‫�إلى �شروط ت�سهم في مجيئها �إلى الوجود‪ ،‬وعوامل ت�سهم في منحها نجاحاً �إلى �أبعد‬
‫الحدود‪ ..‬وفيما يلي �أهم هذه ال�شروط‪..‬‬

‫‪164‬‬
‫ال�شرط رقم (‪ :)1‬التربية نحو الحرية‪..‬‬

‫التربية نحو الحرية هي �شرط �أ�سا�س من ال�شروط التي تلد التربية نحو اال�ستقاللية‬
‫بالمر الم�ستغرب‪ ،‬فالحرية هي أال�سا�س في بناء‬ ‫وتمنحها فعاليتها‪ ..‬ولي�س هذا أ‬
‫إالن�سان وتطوره‪ ،‬بقاء المجتمع وتنميته‪ ..‬هي أال�سا�س ال�ستقاللية ال�شخ�صية‪ ،‬ولدفع‬
‫عجلة الح�ضارة دائماً �إلى أالمام‪ ..‬ولذلك ف�إن الـ"حرية هذه هدف تربوي يجب �أن‬
‫تعمل التربية على تحقيقه‪ ،‬ألنه يكون عن�صراً �أ�سا�سياً في �شخ�صية الفرد إالن�ساني‬
‫المعا�صر‪ ،‬الذي يتعامل مع بيئة مع ّقدة متميزة‪ ،‬والذي يعمل على �أن ي�صنع حياته‬
‫بنف�سه‪ ،‬و�أن ي�ستغل هذه البيئة �إلى �أق�صى حد ممكن حتى ي�ستطيع �أن ي�صنع حياته‬
‫وي�شكل تاريخه ويحدد م�صيره"(محمد نجيب لبيب النجيحي‪� ،1981 ،‬ص ‪..)319‬‬
‫وفي الفقرات التالية تو�ضيح لفكرة التربية نحو الحرية ولدورها في التربية نحو‬
‫اال�ستقاللية‪..‬‬
‫ابت��داء نق��ول ب���أن الحري��ة َم ْعلَم م��ن معال��م التفكير ف��ي إال�سالم‪ ،‬وه��و �أحد‬
‫ً‬
‫وال�سالم منح‬ ‫المعال��م "للتفكي��ر الم�سلم"(زهير المن�صور‪��� ،1985 ،‬ص ‪ .. )197‬إ‬
‫الحري��ة مقاماً عالياً‪ ،‬بحيث –كم��ا يقول عمر عبيد ح�سنه‪" -‬جع��ل حرية التدين‪،‬‬
‫والت��ي تعتبر من �أرقى الحق��وق إالن�سانية‪ ،‬وت�أ�صيل كرامة إالن�س��ان‪ ،‬خياراً ال �إكراه‬
‫فيه"(�أحم��د الري�سون��ي ومحمد الزحيل��ي ومحمد عثمان �شبي��ر‪� ،2002 ،‬ص ‪،)5‬‬
‫﴾‬ ‫﴾البقرة‪﴿ ،]256 :‬‬ ‫فقال تعالى‪﴿ :‬‬
‫﴾يون�س‪﴿ ،]99 :‬‬ ‫الغا�شية‪﴿ ،]22 :‬‬
‫﴾النور‪..]54 :‬‬ ‫﴾�آل عمران‪﴿ ،]20 :‬‬
‫‪165‬‬
‫�إذاً حرية إالن�سان وا�ستقالليته تكت�سب م�شروعيتها من كرامة هذا إالن�سان‪ ،‬من‬
‫فالن�سان ‪-‬كما‬‫�إن�سانية هذا إالن�سان‪ ،‬والتي هي ت�سبق في �أهميته حقوق إالن�سان‪ ..‬إ‬
‫مكرم بتكريم اهلل له‪ ،‬قال تعالى ﴿‬
‫يو�ضح عمر عبيد ح�سنه‪ -‬هو "مخلوق ّ‬ ‫ِّ‬
‫﴾ال�سراء‪ ،]70 :‬يمتلك العقل الذي يجعله �أه ًال لالختيار‪ ،‬فهو مختار‬
‫إ‬
‫كذلك‪� ،‬أراد اهلل له �أن يريد ويختار‪ ،‬واالختيار من �أعلى درجات التكريم‪ ،‬وبذلك‬
‫فهو المخلوق المكلّف الم�س�ؤول‪ ،‬وال م�س�ؤولية بدون حرية‪ ،‬ف�إذا �سقطت أالهلية‬
‫(العقل) رفعت الم�س�ؤولية‪ ،‬و�إذا �أخذ ما وهب �سقط ما وجب"(�أحمد الري�سوني‬
‫ومحمد الزحيلي ومحمد عثمان �شبير‪� ،2002 ،‬ص �ص ‪..)6-5‬‬
‫ولذلك ‪-‬كما يقول عمرعبيد ح�سنه‪ -‬ب�أن تعريف إالن�سان وتمييزه عن �سائر‬
‫المخلوقات يكمن في كونه "المخلوق المكلف‪� ،‬أي الم�س�ؤول‪ ،‬و�أن �أي انتهاك‬
‫لحرية االختيار اعتداء على �إن�سانية إالن�سان و�إهدار آلدميته"(�أحمد الري�سوني‬
‫ومحمد الزحيلي ومحمد عثمان �شبير‪� ،2002 ،‬ص ‪..)6‬‬
‫والحرية التي نق�صدها هنا‪ ،‬والتي هي محط تركيز التربية‪- ،‬هي في حدودها‬
‫الدنيا‪" -‬حرية الذكاء وحرية العمل وحرية اختيار أالهداف والو�سائل‪ ..‬ولهذه‬
‫الحرية عنا�صر ثالثة‪ :‬العن�صر أالول كفاية في العمل وقدرة على التنفيذ و�إزالة‬
‫فالن�سان حر �إذن في القيام بعمل معين �إذا كانت لديه‬ ‫للعقبات وال�صعاب‪ ....‬إ‬
‫القدرة الالزمة للقيام بهذا العمل‪ ...‬والقدرة للقيام بعمل معين تعتمد �أ�سا�ساً على‬
‫الذكاء‪ ،‬ذلك ألن الذكاء هو مفتاح الحرية في العمل‪ ،‬فنحن نكون قادرين على التقدم‬
‫بنجاح في عمل معين �إذا كنا قد ا�ست�شرنا الظروف و�شكلنا المخطط الذي ي�ستغل‬
‫هذه الظروف ويتعاون معها"(محمد نجيب لبيب النجيحي‪� ،1981 ،‬ص ‪..)320‬‬
‫‪166‬‬
‫وننتقل �إلى العن�صر الثاني من عنا�صر الحرية‪ ،‬وهو "القدرة على تنويع المخططات‬
‫حتى يتغير مجرى العمل‪ ،‬وحتى ن�ستطيع ممار�سة الجديد‪ ..‬فالجديد والمخاطرة‬
‫والتغير من مكونات الحرية أال�سا�سية التي يرغبها إالن�سان‪� ..‬إن التنويع في‬
‫المخططات هو الذي يظهر الفرق بين الحر والم�ستعبد‪ ..‬فالفرد الذي يتبع مخططات‬
‫جامدة ال ي�ستطيع �أن يغير فيها ح�سب الظروف والمالب�سات ال يتمتع بالحرية‪ ..‬وما‬
‫لم تظهر ال�شخ�صية إالن�سانية تغلبها على �صعوبة جديدة �أو قهرها إلغراء غير متوقع‪،‬‬
‫ف�إننا ن�شك في تمتعها بحريتها‪ ،‬ذلك �أن القدرة على تنويع المخططات ت�ؤدي �إلى‬
‫فالن�سان الذي‬‫القدرة على االختيار‪ ،‬وال يكون هناك اختيار دون �إمكانيات متغيرة‪ ..‬إ‬
‫ي�ستطيع �أن يت�صرف ح�سب الظروف و�أن يغير من القواعد في �إطار معين‪� ،‬إنما يتمتع‬
‫هذا ال�شخ�ص بالحرية"(محمد نجيب لبيب النجيحي‪� ،1981 ،‬ص ‪..)321‬‬
‫�أما العن�صر الثالث من عنا�صر الحرية‪ ،‬ف�إنه القدرة على �أن ت�صبح الرغبة واالختيار‬
‫عاملين في ما يقوم به الفرد من �أعمال‪ ..‬وهذا يعني "�أن ت�صبح الرغبة قوة‪ ،‬واالختيار‬
‫عام ًال فعا ًال‪ ،‬وت�صبح بذلك إالرادة �أو الن�شاط الق�صدي الذي يقوم به إالن�سان‬
‫عاك�ساً لهذا العالم‪ ،‬مقيا�س حريتنا على هذا أال�سا�س هو التنب�ؤ ب�أنواع االختيار‬
‫المو�ضوعية الم�ستقبلة‪ ،‬والقدرة على اختيار واحد منها عن طريق المداولة الفكرية‬
‫حتى ن�ستطيع بذلك �أن نعرف فر�صته في النجاح �أو في الف�شل في الم�ستقبل‪..‬‬
‫وعندما ت�صبح الرغبة قوة‪ ،‬واالختيار و�سيلة �أ�سا�سية‪ ،‬ف�إننا ن�ستطيع ال�سيطرة على‬
‫إالمكانيات الم�ستقبلة التي تتكون �أمامنا‪ ،‬وهذه ال�سيطرة هي جوهر حريتنا"(محمد‬
‫نجيب لبيب النجيحي‪� ،1981 ،‬ص ‪..)322‬‬

‫‪167‬‬
‫ووفقاً لما تقدم‪ ،‬نقول ب�أن التربية أال�سرية نحو الحرية ينبغي �أن تنطلق من تربية‬
‫أالبناء على اال�ستقالل‪ ،‬وعلى العمل‪ ،‬وعلى التعامل الفعال‪ ..‬تربية على اال�ستقالل‬
‫في التفكير والقرار واالختيار‪ ،‬وعلى العمل المترجم لمعطيات ذلك اال�ستقالل‪،‬‬
‫وعلى التعامل الفعال مع ما يمكن �أن تواجه ذلك العمل من م�شاكل‪ ..‬ومجموع‬
‫هذه العمليات فيها �إ�شارة �إلى قدرته في ال�سيطرة‪ ..‬ال�سيطرة على ذاته والمحيط‬
‫الذي يعي�ش فيه‪ ،‬بل وت�أثيرات المحيط القريب والبعيد‪ ..‬وهذه ال�سيطرة ت�صبح هي‬
‫�أ�سا�س حريته‪ ،‬وبالتالي �أ�سا�س ا�ستقالليته‪..‬‬
‫نخل�ص مما تقدم �إلى �أن التربية أال�سرية نحو الحرية هي تربية ت�ؤ�س�س للتربية نحو‬
‫اال�ستقاللية‪ ،‬وال�شواهد على ذلك عديدة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -‬تعويد أالبناء على االعتماد على الذات‪.‬‬
‫‪ -‬تعويد أالبناء على �أخذ المبادرات (مثل من خالل ا�شراكهم في القرارات‬
‫أال�سرية)‪.‬‬
‫‪ -‬تعويد أالبناء على بناء ت�صورات ذاتية لم�ستقبلهم‪ ،‬مع توجيه أال�سرة لذلك‪.‬‬
‫‪ -‬تعويد أالبناء على االعتماد على آالخرين ب�شكل نافع ومعتدل‪.‬‬
‫‪ -‬تطوير أال�سرة لعادات أالبناء ال�صحية‪ ،‬ال�سابقة وغيرها مثل النظامية واالن�ضباط‬
‫بما ي�ؤدي �إلى تمتع أالبناء بحياة منظّ مة‪ ،‬وكذلك تطوير مهاراتهم العقلية‬
‫والوجدانية والعملية‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫ال�شرط رقم (‪ :)2‬الرغبة الذاتية في اال�ستقالل‪..‬‬

‫الرغبة �أ�سا�س لال�ستقالل‪ ..‬الرغبة �شرط ل�ضمان تربية �أ�سرية قادرة على منح‬
‫أالبناء ا�ستقالليتهم‪ ،‬منحهم ال�شعور باال�ستقالل‪ ..‬والرغبة هنا لي�ست فقط قا�صرة‬
‫على رغبة أال�سرة في تن�شئة �أبنائهم على اال�ستقالل‪ ،‬و�إنما رغبة ه�ؤالء أالبناء �أو‬
‫ا�ستعدادهم لال�ستقالل‪� ..‬إذاً نحن في حاجة �إلى نوعين من الرغبات‪ :‬رغبة جماعية‪،‬‬
‫نابعة من أال�سرة‪ ،‬ورغبة فردية‪ ،‬نابعة من الفرد‪ ..‬فالرغبة هي �أحد محركات ال�سلوك‪،‬‬
‫�سواء �أكان �سلوكاً فردياً �أم �سلوكاً جمعياً‪..‬‬
‫ً‬
‫وننبه هنا �إلى �أنه في حين �أن التربية أال�سرية نحو الحرية تمثل �شرطاً خارجياً مهماً‪،‬‬
‫ف�إن الرغبة الذاتية في اال�ستقالل تمثل �شرطاً داخلياً مهماً‪ ..‬واال�ستقالل يمكن �أن‬
‫يجلب معه المال‪� ،‬إذا �أ ُْح ِ�سن التعامل معه‪ ..‬ومعلو ٌم ب�أن "ت�سعة �أع�شار الرزق في‬
‫التجارة‪ ،‬وال ُع ْ�شر في الموا�شي" حديث نبوي ح�سن إال�سناد(عبدالر�ؤوف المناوي‪،‬‬
‫طبعة بدون تاريخ "مج ‪� ،"3‬ص ‪ ،)244‬عندما تكون هذه التجارة مح�سوبة في ابتدءها‬
‫وخطواتها وعواقبها‪ ،‬عندما ت�سير هذه التجارة ب�شكل مرتب في ح�صد المكا�سب‪،‬‬
‫في تخطي الم�صاعب وفي تحويل المواهب �إلى مكا�سب"‪ ..‬واال�ستقاللية هي �آلية‬
‫هامة من آالليات التي تم ِّهد الطريق لوالدة التجارة وتطورها‪..‬‬

‫فالرغبة في اال�ستقالل مفتاح للمبادرة والعمل‪ ،‬وبالتالي الثروة وتح�سين الحال‪..‬‬


‫وهذا �أمر طبيعي‪ ،‬فالرغبة �أ�سا�س االختيار‪ ،‬وما يترتب عليه من عمل؛ وهذا االختيار‬
‫‪169‬‬
‫وما يترتب عليه من ممار�سة هو �أثر للرغبة‪ ..‬وكما قال الرافعي رحمه اهلل‪ :‬االختيار على‬
‫ح�سب ما تنبعث له الرغبة‪ ،‬والرغبة على مقدار ما يهيئه الطبع وتطيق القوة"(م�صطفى‬
‫�صادق الرافعي‪�1974 ،‬أ‪� ،‬ص ‪..)78‬‬

‫االختيار هو الذي ي�صنع الفارق‪ ..‬االختيار هو الذي يحدد الناتج‪ ..‬االختيار‬


‫هو الم�س�ؤول عن العاقبة التي ينتهي �إليها أالفراد‪ ..‬وهذا المعنى ٌ‬
‫وا�ضح في القر�آن‬
‫﴾‬ ‫الكريم‪ ،‬كما في قوله تعالى ﴿‬
‫﴾ال�شم�س‪،]10-9 :‬‬ ‫�آل عمران‪﴿ ،]152 :‬‬
‫﴾‬ ‫﴿‬
‫﴾طـ��ه‪]124:‬‬ ‫الزلزل��ة‪﴿ ،]8-7 :‬‬
‫كل آاليات ت�ؤكِّ د على االختيار ودوره في تحديد الم�صير‪..‬‬
‫هذا االختيار ‪-‬كما �سبق �أن قلنا‪� -‬أ�سا�سه رغبة‪ ،‬والتي هي ذاتها �أ�سا�ساً إ‬
‫للرادة‪،‬‬
‫"الرادة امتداد للرغبة"‪ " ..‬إالرادة �أن تريد ال�شيء وترغب فيه"(جودت‬‫وبتعبير �آخر‪ :‬إ‬
‫فالرادة هي وظيفة ِم ْث ُلها مثل حوا�س إالن�سان الظاهرة‬ ‫�سعيد‪� ،1987 ،‬ص ‪ ..)79‬إ‬
‫من �سمع ور�ؤية و�شم وغيرها‪ ..‬ووظيفة إالرادة في مح�صلتها أالخيرة هي االتجاه نحو‬
‫"الرادة‪ :‬رجوع �إلى‬ ‫﴾النعام‪ ،]52 :‬وبتعبير �آخر‪ :‬إ‬ ‫أ‬ ‫اهلل‪﴿ ،‬‬
‫النف�س‪ ...‬لربها ولمر�ضاته"(ابن القيم‪ ،‬طبعة بدون تاريخ‪� ،‬ص ‪)403‬‬
‫" إالرادة‪ :‬هي اختيار العقل‪ ،‬وحين �أقول العقل‪� :‬أعني جهاز التمييز عند إالن�سان‬

‫‪170‬‬
‫(ال�سمع والب�صر والف ؤ�اد)"(جودت �سعيد‪� ،1987 ،‬ص ‪ ..)83‬وهنا نود �أن ِّنبين ب�أن‬
‫ك ًال من ال�شعور والال�شعور‪� ،‬إ�ضاف ًة �إلى م�ؤثرات الطفولة والبيئة‪ ،‬قد يتدخالن في‬
‫�سالمة هذه إالرادة‪" ،‬ومع ذلك‪ ،‬ف�إن العقل قادر ‪-‬حين ُي ْ�س َت ْخدم ا�ستخداماً �سليماً‪-‬‬
‫�أن يميز الخط�أ من ال�صواب‪ ،‬ويعرف �أدلة ال�صواب والخط�أ؛ وبذلك ت�ستمر �سالمة‬
‫إالرادة مع �سالمة جهاز المعرفة في إالن�سان"(جودت �سعيد‪� ،1987 ،‬ص ‪..)83‬‬
‫فالرادة تتمثل في �صورة عقل‪ ..‬فمث ًال �إذا ُعرِ�ض "ال�شيء الح�سن �أو القبيح على‬ ‫إ‬
‫العقل‪ ،‬فيقبله �أو يرف�ضه"(جودت �سعيد‪� ،1987 ،‬ص ‪ ..)80‬وقبول العر�ض لل�شيء‬
‫من عدمه يرجع �إلى م ُث ُله العليا‪� ..‬إذاً " إالرادة وظيفة العقل الذي يميز إالن�سان عن‬
‫�سائر الحيوانات"(جودت �سعيد‪� ،1987 ،‬ص ‪ ،)80‬والعقل يت�صرف وفقاً ُ‬
‫للم ُثل‬
‫�سواء �أكانت ُم ُثل عليا �أو ُم ُثل دنيا‪..‬‬
‫التي ت�ؤثر فيه ً‬
‫االختيار‬
‫إالرادة‬
‫العقـل‬

‫الم�ستتر‬ ‫الظــاهر‬

‫الفــ�ؤاد‬ ‫الب�صــر‬ ‫ال�ســمع‬

‫وال﴾ال�سراء‪]36 :‬‬
‫إ‬ ‫﴿�إن ال�سمع والب�صر والف�ؤاد كل �أولئك كان عنه م�س� ؤ‬

‫‪171‬‬
‫ال�شكل رقم (‪ )7‬يبين �أن إالرادة تحقق ذاتها من خالل االختيار‪ ،‬والذي هو في �أ�سا�سه اختيار‬
‫ِّ‬
‫العقل‪ ،‬وهذا العقل يم ِّثل جهاز التمييز في إالن�سان‪ ،‬ببعيديه‪ ،‬الظاهر (�سمع‪-‬ب�صر) وغير الظاهر (�أي‬
‫الف�ؤاد)‪ ،‬والذي به نف�سر ما ن�صل �إليه عن طريق ال�سمع والب�صر (مثل المعلومات وال�صور‪ ،‬الم�ؤثرات‬
‫أ‬
‫وال�صوات)‪.‬‬

‫وننبه هنا �إلى نقطة �أخيرة وهي �أن إالرادة تتحول �إلى فعل �إذا �صاحبتها‬
‫"الرادة الجازمة هي التي يجب وقوع‬
‫و�ساندتها القدرة‪ ..‬يقول ابن تيمية رحمه اهلل‪ :‬إ‬
‫الفعل معها �إذا كانت القدرة حا�صلة‪ ،‬ف�إنه متى وجدت إالرادة الجازمة مع القدرة‬
‫التامـة وجب وجود الفعل لكمال وجود المقت�ضي عن المعار�ض المقاوم"(طبعـة‬
‫‪1382‬هـ "مج ‪� ،"10‬ص ‪ ..)722‬والمق�صود بعبارة "لكمال وجود المقت�ضي عن‬
‫المعار�ض المقاوم"‪� ،‬أي‪" :‬ا�ستيفاء ال�شروط وانتفاء الموانع"(جودت �سعيد‪،1987 ،‬‬
‫�ص ‪..)12‬‬

‫للرادة الن�شطة"‪ ،‬والتي هي �أ�سا�س‬‫وا�ضح مما تقدم �أن "الرغبة‪ :‬هي �أ�سا�س إ‬
‫ٌ‬
‫لالختيار‪ ،‬والذي ي�ؤ�س�س للتنفيذ‪ ..‬فالرغبة ت�سبق إالرادة‪ ،‬واالختيار يلحق إالرادة‪،‬‬
‫يو�ضح ذلك‪:‬‬‫والتنفيذ هو نهاية العملية‪ ،‬والمخطط التالي ِّ‬
‫تنفيذ] ‪..‬‬ ‫اختيار‬ ‫�إرادة‬ ‫رغبة‬
‫ون�ضيف هنا ب�أن "الرغبة‪ :‬هي كذلك ثمرة للرجاء الن�شط"‪ ..‬وبتعبير َّ‬
‫مو�سع‬
‫�أكثر‪" ،‬الرغبة‪ :‬هي من الرجاء بالحقيقة‪ ،‬ألن الرجاء طمع يحتاج �إلى تحقيق‪،‬‬
‫والرغبة �سلوك على التحقيق"(ابن قيم الجوزية‪ ،‬طبعة ‪" 1973‬مج ‪� ،"2‬ص ‪..)56‬‬
‫�إذاً "(الرجاء) طمع‪ ،‬والرغبة طلب‪ ،‬فهي ثمرة الرجاء‪ ،‬ف�إنه �إذا رجا ال�شيء طلبه‪..‬‬
‫‪172‬‬
‫والرغبة من الرجاء كالهرب من الخوف‪ ،‬فمن رجا �شيئاً طلبه ورغب فيه‪ ،‬ومن خاف‬
‫�شيئاً هرب منه"(ابن قيم الجوزيـة‪ ،‬طبعة ‪" 1973‬مج ‪� ،"2‬ص ‪..)55‬‬

‫ووفقاً لما تقدم‪ ،‬نقول ب�أن التربية أال�سرية نحو الحرية ينبغي �أن تنطلق بتربية‬
‫والرادة‪ ،‬والتف�ضيل واالختيار‪ ،‬وعلى ما يترتب عليهما من عمل‪،‬‬‫أالبناء على الرغبة إ‬
‫أ‬
‫﴾النبياء‪،]90 :‬‬ ‫يكون �أ�سـا�ساً لكل خـير ينالـه المـرء‪﴿ ،‬‬
‫يقرب �إليهما من عمل‪ ،‬ورهب ًة من العقاب والنار‬
‫رغب ًة في الثواب والجنة وكل ما ِّ‬
‫يقرب �إليهما من عمل‪..‬‬‫وكل ما ِّ‬
‫والتربية أال�سرية ينبغي �أن تربي أالبناء على �أن الذي يقف بينهم وبين نفعهم‬
‫ونفع غيرهم هو وجود رغبة لديهم من عدمها‪ ..‬ومثال على ذلك فكرة "الحرج‬
‫االجتماعي"‪ ،‬فهناك من يريد �أو يرغب في الخروج من الحرج نافعاً لذاته ولغيره‪،‬‬
‫وهناك من يريد �أو يرغب في الخروج من الحرج نافعاً لذاته فقط‪� ،‬أو قل غير راغباً في‬
‫�إحراج نف�سه‪ ،‬فال ي�سعى �إلى البحث عن مخرج لغيره بما يعود عليهم بالنفع‪..‬‬

‫�إذاً التربية أال�سرية ينبغي �أن تبني لدى �أبنائها رغبة في الخروج من الحرج من‬
‫يفكرون من خالل منظار "الحرج"‪ ،‬في�ؤدي ذلك‬‫خالل ابتكار مخرج‪ ..‬فهناك �أبناء ِّ‬
‫يفكرون من‬‫بهم �إلى ت�ضييع الفر�ص على �أنف�سهم وعلى غيرهم‪ ،‬وهناك �أبناء ِّ‬
‫خالل منظار البحث عن "مخرج من الحرج"‪ ،‬حتى ال تفوت الفر�ص بدون اقتنا�ص‬
‫مفيد لهم ولغيرهم ولمن حولهم‪..‬‬

‫‪173‬‬
‫نخل�ص مما تقدم �إلى �أن التربية أال�سرية نحو تكوين الرغبة الذاتية في اال�ستقالل‬
‫لدى أالبناء هي تربية ت�ؤ�س�س �أ�ص ًال للتربية نحو اال�ستقاللية‪ ،‬وال�شواهد على ذلك‬
‫عديدة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -‬تعويد أالبناء على التعبير عن رغباتهم ب�شكل مقبول اجتماعياً‪.‬‬
‫وتعدل من �أفكارهم‪.‬‬‫‪ -‬عدم كبت أال�سرة لرغبات �أبنائها‪ ،‬بل تحاورهم ِّ‬
‫‪ -‬توفير فر�ص الحوار للتعبير عن الرغبات والح�صول على تغذية راجعة لتن�ضيج‬
‫تلك الرغبات‪.‬‬
‫‪ -‬توفير مناج خالي من القهر وال�شدة والغلظة داخل أال�سرة‪.‬‬
‫‪ -‬توفير جو من الرحمة واللين والرفق والمودة داخل أال�سرة‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫ال�شرط رقم (‪ :)3‬الثقة بالنف�س‪..‬‬

‫التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية هي تربية م�شروطة بتوفر عامل نف�سي �آخر‪،‬‬
‫بال�ضافة �إلى العامل النف�سي ال�سابق‪� ،‬أي عامل "الرغبة في اال�ستقالل"‪ ..‬وهذا‬ ‫إ‬
‫العامل النف�سي الجديد هو "الثقة بالنف�س"‪� ،‬إح�سا�س أالبناء بثقتهم ب�أنف�سهم‪..‬‬
‫وهذا يعني �أن �إرادة اال�ستقالل قد تكون موجودة لدى أالبناء‪ ،‬ولكن في غياب‬
‫الثقة بالنف�س‪ ،‬ف�إن هذه إالرادة �ستف ِقد فاعليتها ولن ت�أتي بالثمرة ُ‬
‫المرج َّوة منها‪..‬‬

‫�آية وفكرة‬
‫﴾النعام‪]12 :‬‬
‫أ‬ ‫في قوله تعالى ﴿‬
‫حرة وم�ستقلة‪،‬‬
‫دليل على �أن إاليمان قرار �شجاع ينبع من نف�س ّ‬
‫ودليل على �أن الذي خ�سر نف�سه‪ ،‬فال يثق بها �أو جعلها �أ�سيرة للعادات و�أهواء‬
‫آالخرين‪ ،‬ف�إنه ال يقدر على اتخاذ مثل هذا القرار ال�شجاع‪.‬‬

‫ابتداء نقول ب�أن اكت�ساب إالح�سا�س بالثقة ي�ؤ ِّ�س�س الكت�ساب االح�سا�س‬ ‫ً‬
‫باال�ستقالل الذاتي‪ ،‬ومعه �ضبط الذات‪ ..‬وهذه الثقة م�شروطة بنوعية التربية التي‬
‫يتعر�ض لها االبن في �أ�سرته‪ ،‬ف�إذ كانت التربية التي يتلقاها الطفل تتميز بالقبول‬
‫واالت�ساق‪ ،‬ف�إن الطفل �سينظر �إلى العالم على �أنه مكان �آمن‪ ،‬تتوفر فيه الثقة‪..‬‬

‫وفي المقابل‪�" ،‬إذ كانت التربية التي يتلقاها الطفل تتميز بالرف�ض وعدم االت�ساق‪،‬‬
‫ف�إن الطفل �سينظر �إلى العالم على �أنه مكان خطير ال تتوافر فيه الثقة‪ ..‬فالقائمين‬
‫‪175‬‬
‫على تربية الطفل (‪ )Caregivers‬هم الم�س�ؤولون اجتماعياً عن ت�شكيل الطفل بهذا‬
‫االتجاه‪� ..‬إن تقليل المخاوف لدى الطفل وتوفير أالمن له يجعله ينظر �إلى العالم ب�أنه‬
‫مكان جيد للعي�ش فيه"(منذر عبدالحميد ال�ضامن‪� ،2005 ،‬ص ‪..)85‬‬

‫والثقة بالنف�س كمفهوم يرتبط بالخوف‪ ..‬ومعلو ٌم �أن الخوف في بع�ض أالحيان‬
‫م�س ؤ�ول عن ال�ضعف ك�ضعف الثقة بالنف�س‪ ،‬والتي تم ِّثل �أ�سا�ساً ل�ضعف روح‬
‫اال�ستقاللية في أالبناء؛ وقد �أ�شارت الدرا�سات النف�سية �إلى ذلك‪ ،‬حيث ّبينت‬
‫ب�أن هناك �صفة كثيرة ال�شيوع ترتبط "بمو�ضوع الخوف‪ ...‬وهي �ضعف الروح‬
‫اال�ستقاللية في أالفراد‪ ..‬ويكون هذا دا ًال في الغالب على فقد أالمن �أو وجود‬
‫الخوف"(عبدالعزيز القو�صي‪� ،1975 ،‬ص ‪..)327‬‬

‫وهناك مظاهر ل�ضعف اال�ستقاللية المترتب على �ضعف الثقة بالنف�س‪" ،‬ومن‬
‫مظاهر هذا ال�ضعف‪ :‬التردد‪ ،‬وانعقاد الل�سان في المجتمعات والتهتهة واللجلجلة‪،‬‬
‫واالنكما�ش‪ ،‬والخجل وعدم القدرة على التفكير الم�ستقل‪ ،‬وعدم الجر�أة‪ ،‬وتوقع ال�شر‬
‫و�شدة الحر�ص‪ ،‬وت�ضييع الوقت بعمل �ألف ح�ساب لكل �أمر ‪�-‬صغيراً‬ ‫وزيادة الخوف ّ‬
‫كان �أو كبيراً‪ -‬قبل البدء فيه حتى ال يخرج منحرفاً قيد �شعرة عن الكمال‪ ...‬ومن‬
‫والجرام‪ ...‬وهذه‬ ‫الغريب �أن من مظاهره كذلك التهاون واال�ستهتار و�سوء ال�سلوك إ‬
‫ال�صفات كلها يجمعها �أو يجمع ما وراءها ما ي�سميه النا�س �شعوراً بالنق�ص �أو �ضعف‬
‫ثقة بالنف�س �أو جبنا‪� ..‬أو ما �إلى ذلك"(عبدالعزيز القو�صي‪� ،1975 ،‬ص ‪..)327‬‬

‫‪176‬‬
‫ويرى علم النف�س ب�أن إالح�سا�س العام بالثقة في آالخرين‪ ،‬ينبغي �أن تتجه التربية‬
‫ابتداء من ال�سنة أالولى من عمره‪ ..‬وال�سبب في ذلك‬ ‫أال�سرية �إلى بنائه في الطفل ً‬
‫ال�سا�سي لل�شخ�صية ال�صحيحة‪ ...‬والطفل‬ ‫هو �أن "االح�سا�س العام بالثقة هو المحور أ‬
‫الذي لديه ثقة �أ�سا�سية داخلية‪ ،‬يرى العالم االجتماعي عالَماً �آمناً‪ ،‬ومكاناً م�ستقراً‪ ،‬ويرى‬
‫النا�س عطوفين‪ ،‬موثوقاً بهم‪ ،‬و�أن هذا إالح�سا�س بالثقة واليقين يكون خالل هذه‬
‫الفترة �شعورياً �إلى حد ما"(�سهير كامل �أحمد‪� ،2004 ،‬ص ‪..)236‬‬

‫ويرى عالم النف�س اريك �أريك�سون ب�أن "مدى قدرة أالطفال على اكت�ساب الثقة‬
‫في آالخرين وفي العالم يتوقف على نوعية رعاية أالم لهم"(�سهير كامل �أحمد‪،‬‬
‫‪� ،2004‬ص ‪ ..)236‬أ‬
‫فالم هي م�صدر �إ�شباع الطفل و�أمنه‪ ،‬و�أن ثقة هذا الطفل ال تعتمد‬
‫على مقدار الطعام الذي يتلقاه الطفل‪ ،‬و�إنما على قدرة والديه‪ ،‬وبالذات �أمه‪" ،‬على‬
‫باللفة للطفل وباالت�ساقية وباال�ستمرارية وبتماثل الخبرة"(�سهير‬ ‫توفير إالح�سا�س أ‬
‫كامل �أحمد‪� ،2004 ،‬ص ‪..)236‬‬

‫هذا وي�ؤكد �أريك�سون �أن أالطفال ينبغي �أن ال يتعلموا ‪-‬عبر تربية �أ�سرهم لهم‪� -‬أن‬
‫يثقوا فقط في العالم الخارجي‪ ،‬و�إنما ينبغي "�أن يتعلموا الثقة في �أنف�سهم"(�سهير‬
‫كامل �أحمد‪� ،2004 ،‬ص ‪ ،)236‬وفي قدرتهم على التعامل ب�شكل �صحي وفعال‬
‫مع رغباتهم الج�سدية‪ ،‬و"يظهر هذا ال�سلوك حين ي�ستطيع الطفل �أن يتحمل غياب‬
‫أالم دون �أن يعاني من قلق االنف�صال بمعناه الكبير"(�سهير كامل �أحمد‪،2004 ،‬‬
‫�ص ‪..)236‬‬
‫‪177‬‬
‫�إن ما يثير أالزمة النف�سية االجتماعية أالولى في حياة الطفل‪� ،‬أي �أزمة الثقة‬
‫في مقابل عدم الثقة‪ ،‬هي نوعية رعاية أالم‪" ،‬ف�إذا كانت رعاية أالم تت�سم بعد‬
‫الثبات وعدم الموائمة‪ ،‬وكذلك النبذ ‪-‬ف�إن الطفل يعاني �أزمة نف�سية اجتماعية‪،‬‬
‫�أ�سا�سها اتجاه م�ضمونه الخوف وال�شك والرهبة من المجتمع والنا�س‪ ،‬وتظهر آالثار‬
‫ال�سلبية لهذا االتجاه في مراحل النمو الالحقة‪ ،‬ويوجد هذا االتجاه ويتدعم عندما‬
‫تن�شغل أالم عن الطفل"(ب�شير �صالح الر�شيدي و�إبراهيم محمد الخليفي‪،1997 ،‬‬
‫�ص ‪..)471‬‬

‫طبعاً من ناحية �أخرى‪ ،‬ف�إن م�شاعر عدم الثقة لدى الوليد تكون في حالة تباين‬
‫�أ�ساليب رعاية الوالدين له‪ ،‬ونق�ص ثقتهم في دورهم الوالدي‪ ،‬وتباين القيم بينهما‬
‫وتعار�ض ن�سق القيم ال�سائدة في المجتمع –كل هذه أالمور قد تف�ضي �إلى ق�صور نمو‬
‫إالح�سا�س بالثقة‪ ،‬في�صبح الطفل عر�ضة للت�شو�ش الذهني‪ ،‬والغمو�ض‪ ،‬واالكتئاب‬
‫الحاد‪ ،‬وال يتحمل ما يخبره من �إحباطات خالل مراحل نموه المختلفة"(ب�شير‬
‫�صالح الر�شيدي و�إبراهيم محمد الخليفي‪� ،1997 ،‬ص ‪..)471‬‬
‫كذلك يرى عالم النف�س اريك�سون ب�أن أ‬
‫"المهات في الثقافات المختلفة‪ ،‬ومن‬
‫الطبقات االجتماعية المتباينة‪� ،‬سوف يع ِّلمون الثقة وعدم الثقة ألطفالهم‪ ،‬بطرق‬
‫مختلفة‪ ،‬وبالتالي يعك�سون �أثر التباين الثقافي‪ ،‬ومع ذلك ف�إن اكت�ساب إالح�سا�س‬
‫بالثقة عامي في جوهره‪ ،‬بمعنى �أن الفرد ي�ستطيع �أن يثق في العالم االجتماعي من‬
‫خالل �أ ِّمه‪ ،‬و�أنها �سوف ُت َع ِّوده وتطعمه الطعـام المنا�سب في الوقت المنا�سب"(�سهير‬
‫كامل �أحمد‪� ،2004 ،‬ص ‪..)237‬‬

‫‪178‬‬
‫وكخال�صة‪ ،‬نقول ب�أن التربية أال�سرية التي تنجح في زرع الثقة بالنف�س والنا�س‬
‫لدى �أبنائها‪� ،‬ستمنحهم �أمالً‪" ..‬فالثقة تعني قدرة الطفل على ا�ست�شراق أالمل‪ ،‬وهذا‬
‫بدوره هو �أ�سا�س �إيمان الرا�شدين"(�سهير كامل �أحمد‪� ،2004 ،‬ص ‪� ،)236‬إيمانهم‬
‫بالدين؛ أ‬
‫والمل هو عن�صر مفيد لالبن‪ ،‬يفيده في المحافظة على �إيمانه‪ ،‬وعلى "اعتقاده‬
‫بعالم ثقافي م�شترك له معناه وقيمه"(�سهير كامل �أحمد‪� ،2004 ،‬ص ‪..)236‬‬

‫فالتربية أال�سرية نحو تكوين الثقة لدى أالبناء هي تربية ت�ؤ�س�س للتربية نحو‬
‫اال�ستقاللية‪ ،‬وال�شواهد على ذلك عديدة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -‬تربية أالبناء على الثقة بالنف�س‪.‬‬
‫‪ -‬تربية أالبناء على االتجاه نحو النا�س واالبتعاد عن االنعزالية ال�سلبية‪.‬‬
‫‪ -‬تربية أالبناء على تمثل الحياء ونبذ الخجل‪ ،‬حيث �أن ال�شخ�ص الخجول‬
‫"اليرى جيداً‪ ،‬و�أفكاره م�ضطربة م�شو�شة‪ ،‬وال يعود قادر على المالحظة‪ ،‬وك�أن‬
‫�ضباباً ي�شتمل نف�سه‪ ...‬وال يفكر �إال في �شيء واحد‪ :‬وهو كيفية التخل�ص من‬
‫الم�أزق الحرج واالختباء"(�سمير عبده‪� ،1983 ،‬ص ‪..)97‬‬
‫‪ -‬تربية أالبناء على التخل�ص‪� ،‬أي التغلب من الخوف من النا�س‪.‬‬
‫‪ -‬تربية أالبناء على ُح ْ�سن التكيف‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫ال�شرط رقم (‪)4‬‬
‫التفكير "فوق المعرفي ‪"Metacognitive Thinking‬‬

‫التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية هي تربية م�شروطة بتوفر عامل نف�سي ثالث‪،‬‬
‫ولكنه ذو طبيعة معرفية‪ ،‬وهو عامل "التفكير فوق‪-‬المعرفي"‪ ..‬وهذا العامل النف�سي‬
‫المعرفي الجديد‪ ،‬يم ِّثل �أ�سا�ساً في للتربية نحو اال�ستقاللية‪ ،‬لماذا؟ ألنه في �أب�سط‬
‫وظائفه يغذي اال�ستقالل‪ ،‬بل يغذي اال�ستقالل الفعال‪..‬‬

‫ابتداء نقول ب�أن مفهوم "الماوراء‪ -‬معرفي �أو ما فوق المعرفة ‪"Metacognition‬‬ ‫ً‬
‫يعن��ي "التفكي��ر ف��ي التفكي��ر (‪� )Thinking about thinking‬أو وع��ي الف��رد‬
‫بعملي��ات التفكير الت��ي تح�صل �أثناء التفكير‪� ،‬أو مراقبة التفكي��ر‪� ،‬أو وعي أالفراد ب�آلية‬
‫معرفتهم وتفكيرهم‪ ،‬وكيف تعمل هذه آاللية‪ ،‬وكيف يتطور ذلك �إلى الوعي بتفكير‬
‫آالخرين"(وليم عبيد وعزو عفانة‪� ،2003 ،‬ص ‪..)90‬‬

‫والتفكير (فوق المعرفي)‪ ،‬والذي هو �أحد �أعلى م�ستويات التفكير‪" ،‬يو�صف ب�أنه‬
‫م�ستوى من التفكير المعقد‪ ،‬يتعلق بمراقبة الفرد بكيفية ا�ستخدام عقله‪ ،‬فالفرد القادر‬
‫على حل م�شكالته بفاعلية ي�ستطيع �أن يتحدث مع نف�سه ب�صورة م�ستمرة‪ ،‬ويت�أكد‬
‫ويقيم فيما �إذا كان تحركه �أو توجهه �صحيحاً �أم ال"(وليم‬
‫من التقدم الذي �أحرزه‪ِّ ،‬‬
‫عبيد وعزو عفانة‪� ،2003 ،‬ص ‪..)90‬‬

‫‪180‬‬
‫�إن مفهوم (فوق المعرفي)‪ ،‬ي�شير في نهاية المطاف �إلى معرفة الفرد المتعلقة‬
‫بعملياته المعرفية ونواتجها‪ ،‬فعلى الفرد "�أن يراقب ا�ستخدامه لعمليات التفكير‬
‫مراقبة ن�شطة و�أن ينظمها وفقاً ألهدافها المعرفية‪ ،‬وهذا التنظيم يمثل �أ�سا�س التعلم‬
‫الذاتي الم�ستقل"(وليم عبيد وعزو عفانة‪� ،2003 ،‬ص ‪..)90‬‬

‫هذا ومفهوم فوق المعرفية له خ�صائ�ص‪ ،‬والتي منها "�أنها تت�ضمن وعياً متنامياً‪،‬‬
‫حيث ي�صبح الفرد �أكثر وعياً بعمليات التفكير‪ ،‬و�إجراءاتها النوعية‪ ،‬و�أكثر وعياً بنف�سه‬
‫كمفكر‪ ،‬وبازدياد وعي المتعلمين لماهية عمليات التفكير المختلفة تزداد قدرتهم‬
‫على فهمها وتوظيفها"(وليم عبيد وعزو عفانة‪� ،2003 ،‬ص ‪..)90‬‬

‫"الول موجه نحو أالداء ويت�صل بمتابعة‬


‫والتفكير فوق المعرفي له بعدان رئي�سيان‪ :‬أ‬
‫أالداء الفعلي لمهارة‪� ،‬أما الثاني فهو ا�ستراتيجي‪ ،‬ويت�ضمن ا�ستخدام مهارة معينة في‬
‫ظروف معينة‪ ،‬والوعي بالح�صول على عائد وا�ضح ٍ‬
‫وكاف من خالل تنفيذ ا�ستراتيجية‬
‫ما منا�سبة"(وليم عبيد وعزو عفانة‪� ،2003 ،‬ص ‪..)91‬‬

‫وننبه هنا �إلى م�س�ألة مهمة وهي �أن مفهوم "فوق المعرفية"‪ ،‬والذي هو في حقيقته‬
‫ت�أمالت عن المعرفة �أو التفكير فيما نفكر وكيف نفكر‪ ،‬يرتبط "بثالثة �صنوف من‬
‫ال�سلوك العقلي‪:‬‬
‫‪ - 1‬معرفة ال�شخ�ص عن عمليات تفكيره ومدى دقته في و�صف هذا التفكير‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫‪ - 2‬التحكم وال�ضبط الذاتي ومدى متابعة ال�شخ�ص لما يقوم به عند ان�شغاله‬
‫بعمل عقلي‪ ،‬مثل حل م�شكلة معينة ومراقبة جودة ا�ستخدامه لهذه المتابعة‬
‫في توجيه و�إر�شاد ن�شاطه الذهني في حل هذه الم�شكلة‪.‬‬
‫‪ - 3‬معتقدات ال�شخ�ص وحد�سياته الوجدانية فيما يتعلق بفكرة عن المجال‬
‫الذي يفكر فيه ومدى ت�أثير هذه المعتقدات في طريقة تفكيره"(وليم عبيد‬
‫وعزو عفانة‪� ،2003 ،‬ص �ص ‪..)92-91‬‬

‫و�أخيراً �أود �أن �أ�شير �إلى �أن "التفكير فوق المعرفي ي�شتمل على �أن�شطة عقلية‬
‫متنوعة مثل التخطيط‪ ،‬ومراقبة التقدم‪ ،‬وبذل جهود ذهنية لتقويم طريقة و�سرعة‬
‫أالداء‪ ،‬واتخاذ القرارات‪ ،‬واختيار �سالمة العمل و�سالمة وجودة اال�ستراتيجيات‬
‫المتبعة في �أدائه‪ ،‬والخال�صة �أنه �إدارة جيدة لعملية التفكير‪ ،‬وال �شك �أن ذلك‬
‫ما يتطلبه ع�صر إالن�سان المتميز‪ ،‬وهو التحدي الذي يواجه م�ستقبل التربية التي‬
‫�أ�صبحت في مو�ضع ت�سا�ؤل في القيام بدورها في �إعداد المواطن الذي يمتلك لي�س‬
‫فقط المعرفة بل وما فوق المعرفة‪ ،‬والقادر لي�س فقط على التفكير بل التفكير في‬
‫التفكير"(وليم عبيد وعزو عفانة‪� ،2003 ،‬ص ‪..)92‬‬

‫فالتربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية ينبغي �أن تبد�أ في فترة ّ‬


‫مبكرة من حياة إالن�سان‬
‫بو�ضع جذور التفكير فوق المعرفي‪ ..‬هذه الجذور التي تبد�أ بالت�أ�سي�س لفكرة‬
‫"الم�ستقبل"في �أذهان أالبناء‪ ،‬وما يترتب على هذه الفكرة من �أفكار �أخرى مهمة مثل‬
‫‪182‬‬
‫فكرة "الهدف"‪ ،‬وفكرة "التخطيط"‪ ،‬وفكرة "الوعي بالعائد �أو بالوعد"‪ ..‬وغيرها‪..‬‬

‫نخل�ص مما تقدم �إلى �أن تربية أال�سرة للبعد "فوق‪-‬المعرفي" لدى أالبناء يم ِّثل‬
‫�أ�سا�ساً مهماً للتربية نحو اال�ستقاللية‪ ،‬وال�شواهد على ذلك عديدة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -‬و�ضع أال�سرة لفكرة "الم�ستقبل" في �أذهان أالبناء‪.‬‬
‫‪ -‬تعويد أال�سرة �أبناءها على النظر في العواقب‪.‬‬
‫‪ -‬تعليم أال�سرة �أبناءها على التخطيط وو�ضع أالهداف‪.‬‬
‫‪ -‬توجيه أال�سرة �أبناءها نحو التفكير في التفكير‪ ،‬والوعي بالوعي‪ ،‬بما ي�ؤدي �إلى‬
‫تح�سين �أفكارهم وطرائق تفكيرهم‪.‬‬
‫‪ -‬تعليم أال�سرة �أبناءها على إالدارة الجيدة لتفكيرهم‪.‬‬
‫‪ -‬تعليم أال�سرة �أبناءها على الت�أمل‪ ،‬وكذلك تنمية مخيلتهم‪.‬‬
‫‪ -‬تعليم أالبناء على اكت�شاف ذواتهم‪.‬‬
‫‪ -‬تعليم أالبناء على القراءة ال�صحيحة أللحدث والعالقات وال�سلوكيات‬
‫بما ي�ؤهله للتنب�ؤ الدقيق‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫ال�شرط رقم (‪ :)5‬احترام الذات وتقديرها‪..‬‬

‫التربي��ة أال�سرية نحو اال�ستقاللية هي تربية م�شروطة بتوفر عامل نف�سي رابع‪ ،‬رفيع‬
‫الم�ست��وى‪ ،‬وهو عامل "احت��رام الذات وتقديرها"‪ ..‬وهذا العام��ل النف�سي‪ ،‬الرفيع‬
‫الم�ست��وى‪ ،‬يم ِّثل �أ�سا�س��اً للتربية نح��و اال�ستقاللية‪ ،‬لماذا؟ ألنه ف��ي �أب�سط وظائفه‬
‫يغذي اال�ستقالل‪ ،‬ويجعل منه �آلية للو�صول �إلى حلول‪..‬‬

‫الدبيات النف�سية لت�ؤكِّ د عل��ى ذلك‪ ،‬معتبر ًة "اال�ستقالل عالمة‬


‫ولذل��ك جاءت أ‬
‫�صحي��ة لل�شعور باحترام الذات وتقديرها‪ ،‬ولكي تحقق هذا اال�ستقالل يجب �أو ًال �أن‬
‫يكت�سب أالطفال �شعوراً داخلياً باال�ستقاللية"(�آالن ديفيد�سون وروبرت ديفيد�سون‪،‬‬
‫‪� ،2004‬ص ‪..)216‬‬

‫والمهات الناجحون هم الذي يغر�سون في نفو�س �أبنائهم وعقولهم‪ ،‬وهم‬ ‫آ‬


‫والب��اء أ‬
‫يكب��رون �أحا�سي�س مو�صول��ة باال�ستقاللية مثل إالح�سا���س باالعتماد على النف�س‪،‬‬
‫"وذلك ب�أن يرفعوا عنهم ببطء ولكن بثبات تلك المظلة العائلية الواقية‪ ...‬وتعد‬
‫وال�شخا�ص الجدد‬ ‫والن�شطة الجديدة أ‬‫تجربة أال�شياء الجديدة مثل الطعام الجديد أ‬
‫من أالولويات المهم��ة في بناء ال�شخ�صية"(�آالن ديفيد�س��ون وروبرت ديفيد�سون‪،‬‬
‫‪� ،2004‬ص ‪.....)216‬‬

‫الطفال من �سن المراهقة "تزدد حاجتهم إ‬


‫للح�سا�س باال�ستقاللية‬ ‫وعندما يقترب أ‬
‫ب�شكل كبير جداً‪ ،‬وتبد�أ ت�صرفاتهم في االتجاه نحو هذه الغاية‪ .‬فقد ي�شعر ابنك بحاجة‬
‫‪184‬‬
‫�شدي��دة للخروج م��ن �شرنقة الحماي��ة أ‬
‫والمن التي عا���ش بها دائم��اً‪ ،‬لكنه يحتاج‬
‫�إل��ى ت�أيي��دك وموافقتك‪ ..‬ق��د يختبر ابنك حبك ل��ه بال�شكوى م��ن بع�ض آالالم‬
‫الع�ضوي��ة حتى يرى رد فعلك‪ ،‬وي�صبح هذا �أن�سب وق��ت تلقنه فيه در�ساً من درو�س‬
‫اال�ستقالل"(�آالن ديفيد�سون وروبرت ديفيد�سون‪� ،2004 ،‬ص ‪..)217‬‬

‫ونق��ول للوالد "كي ت�ساعد �أبناءك على إالح�سا�س باال�ستقالل‪ ،‬وعلى النظر �إلى‬
‫الحي��اة نظرة واقعية‪ ،‬والتفاع��ل معها من خالل هذه النظرة‪ ،‬علي��ك باتباع الن�صائح‬
‫والمهات الخبراء‪:‬‬‫التالية من آالباء أ‬
‫‪� --‬إن احترام الذات وتقديرها لي�س هبة �أو منحة نعطيها �أو نمنحها ألي فرد‪� ،‬إنها‬
‫�شيء البد من اكت�سابه‪ ..‬ع ِّلم طفلك �أن يتحمل م�سئولية �سعادته‪ ،‬و�أن يخرج للعالم‬
‫وي�ض��ع قدرته مو�ض��ع التنفيذ بتجربته ألل�شي��اء‪ ..‬قال �أحد آالب��اء �إن القول الم�أثور‬
‫المف�ضل لديه هو (ال ت�أ�سف �أبداً ل�شيء فعلته‪ ،‬بل من أالف�ضل �أن ت�أ�سف ل�شيء لم‬ ‫َّ‬
‫تفعله)‪....‬‬
‫�ساع��د �أطفالك ال�صغار على تحقيق نجاحات تكون في م�ستوى قدراتهم‪ ..‬تقول‬
‫واح��دة من أالمه��ات‪( :‬ابحث عن أال�شياء التي ي�ستطيع��ون �إنجازها بنجاح‪� ،‬أوجد‬
‫تحدي��ات تكون في مقدورهم)‪� ..‬إن فر�صاً كهذه تمكنهم من اكت�ساب المقدرة التي‬
‫تقنعهم ب�أنهم �أقوياء‪....‬‬
‫‪ --‬كُ ن حذراً في اختيار أالن�شطة التي يمار�سها طفلك‪ ،‬ألنك بال �شك ال تريد‬
‫�أن تهدر فر�صه في النجاح باختيارك �أن�شطة تكون فوق م�ستوى قدراته‪ ،‬وعليك‬
‫‪185‬‬
‫�أي�ضاً �أن تراقب اختياراته ألن�شطته الخا�صة‪ ،‬ف�إذا اختار �أن�شطة �صعبة وخارج حدود‬
‫قدراته �سيكت�شف �أنه لن ي�ستطيع اال�ستمرار ويفقد حما�سه ويتوقف في منت�صف‬
‫الطريق‪....‬‬
‫‪ --‬راقب �أي �إ�شارة تدل على اهتمام طفلك بن�شاط بعينه‪...‬فهناك بع�ض أالن�شطة‬
‫التي لن تثير لديه �أي اهتمام‪ ،‬بينما �أن�شطة �أخرى قد تثير اهتماماً متزايداً لديه‪ ،‬وقد‬
‫يكون عالمة لموهبة متوارية في هذا المجال‪� ،‬إذا مار�س الطفل ن�شاطاً ما و�أ�صبح‬
‫متميزاً في هذا الن�شاط‪ ،‬ف�إن �شعوره باال�ستقالل �سوف ينمو ب�شكل هائل‪..‬‬
‫‪ --‬امتدح في طفلك تميزه في مجال ما‪ ،‬و�أ�ضف �إلى هذا �أن ت�س�أله الن�صيحة �أو‬
‫الر�أي في �أمور تتعلق بهذا المجال‪....‬‬
‫‪� --‬شجع �أبناءك على اتخاذ القرارات‪ِّ ..‬عود نف�سك على �أن تقول لهم عندما‬
‫يطرحون �أ�سئلة‪( :‬ماذا تعتقد �أنت؟) �أو (قرر �أنت)‪�("...‬آالن ديفيد�سون وروبرت‬
‫ديفيد�سون‪� ،2004 ،‬ص �ص ‪..)221-218‬‬
‫�إن التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية تكت�سب فعاليتها من �شرط هام وهو "احترام‬
‫الذات وتقديرها"‪ ..‬وهذا ال�شرط هو في حد ذاته حاجة نف�سية‪ ،‬بل هو منظومة‬
‫تت�ضمن مجموعة من الحاجات النف�سية‪ ،‬فحاجات التقدير عديدة منها "الحاجة �إلى‬
‫النجاح‪ ،‬واالحاجة �إلى احترام الذات‪ ،‬والحاجة �إلى المكانة االجتماعية‪ ،‬والحاجة‬
‫�إلى تجنب الرف�ض"(عالء الدين كفافي‪� ،1990 ،‬ص ‪..)296‬‬

‫‪186‬‬
‫كل هذه الحاجات ت�ؤكد في نهاية المطاف على حقيقة‪ ،‬ي�صوغها لنا كل من ماثيو‬
‫ماكاي وباتريك فالنينج كالتالي‪" :‬يعد تقدير الذات �أمراً �ضرورياً من �أجل �سالمة‬
‫إالن�سان من الناحية النف�سية‪� ،‬إ�ضافة �إلى كونه �ضرورة عاطفية‪ ،‬فبدون وجود قدر‬
‫معين من تقدير الذات‪ ،‬من الممكن �أن تكون الحياة �شاقة وم�ؤلمة �إلى حد كبير‪،‬‬
‫مع عدم ا�شباع كثير من الحاجات أال�سا�سية"(‪� ،2005‬ص ‪..)1‬‬

‫وترتبط الحاجة �إلى تقدير الذات ب�إدراك الذات‪ ،‬والذي يعتبر �أحد العوامل‬
‫الرئي�سية التي تميز إالن�سان عن الحيوان‪" ،‬والمق�صود ب�إدراك الذات هو قدرة‬
‫إالن�سان على ت�شكيل هوية خا�صة به‪ ،‬ثم بعد ذلك �إلحاق قيمة بهذه الهوية‪ ..‬بمعنى‬
‫فالن�سان لديه القدرة على تحديد هويته الخا�صة‪ ،‬ثم ي�ستطيع بعد ذلك �أن‬ ‫�آخر‪ ،‬إ‬
‫يقرر ما �إذا كان يحب هويته تلك �أم يكرهها‪ ..‬وم�شكلة تقدير الذات تكمن في تلك‬
‫المقدرة إالن�سانية على �إ�صدار أالحكام‪ ،‬ولكن �شتان بين �أن تكره �ألواناً �أو �أ�صواتاً �أو‬
‫�أ�شكا ًال �أو �أحا�سي�س معينة‪ ،‬و�أن ترف�ض جوانب معينة في �شخ�صيتك‪ ،‬ف�أنت عندما‬
‫تفعل ذلك‪� ،‬إنما تلحق �أ�ضراراً فادحة بالبنية النف�سية التي تحافظ على بقائك"(ماثيو‬
‫ماكاي وباتريك فالنينج‪� ،1995 ،‬ص ‪..)1‬‬
‫على الوالدين �أن يَ ِعيَا ب�أن �إ�صدار أالحكام ورف�ض الذات يمكن �أن ت ؤ�دي أ‬
‫بالبناء‬
‫�إلى اللجوء �إلى و�سائل دفاعية‪ ،‬فيها �ضرر بهم مثل المداومة على �إلقاء اللوم على‬
‫آالخرين‪ ،‬واللجوء �إلى الغ�ضب‪ ،‬والتواري "خلف الرغبة في المثالية في انجاز‬
‫أالعمال‪� ،‬أو تعمد التباهي والتفاخر �أو اللجوء �إلى أالعذار والمبررات‪ ،‬و�أحياناً �إلى‬
‫‪187‬‬
‫المفترات‬
‫الكحول والمخدرات"(ماثيو ماكاي وباتريك فالنينج‪� ،1995 ،‬ص ‪ِّ ،)2‬‬
‫وغيرها من الم�ضرات‪..‬‬
‫ِّ‬
‫لذلك يجب �أن يعمل الوالدان على �إيقاف �إ�صدار أالحكام على الذات‪ ،‬و�أن‬
‫ي�سعوا �إلى بذل جهود جادة و�صادقة لمعالجة الجروح القديمة الناجمة عن تجريح‬
‫ورف�ض الذات‪ ..‬وليذكِّ ر آالباء أالبناء ب�أن كل ما يدركونه وي�شعرون به‪ ،‬يمكن تغييره‪،‬‬
‫و�أنه عندما تتغير �صورتهم عن ذواتهم وم�شاعرهم تجاهها‪ ،‬ف�إن ذلك �سيكون له �أثر‬
‫على كافة جوانب حياتهم‪ ،‬مع �شعور متزايد بالحرية واال�ستقاللية‪..‬‬

‫نخل�ص مما تقدم �إلى �أن تربية أال�سرة ألبنائها هي تربية تقوم على �أ�سا�س �إ�شباع‬
‫الحاجات‪ ..‬ومما ال �شك فيه �أن �أحد �أهم هذه الحاجات هي "حاجات التقدير"‪،‬‬
‫وال�شواهد التي تدلل على ذلك عديدة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -‬م�ساعدة أال�سرة �أبناءها على �إ�شباع حاجتهم للنجاح‪.‬‬
‫‪� -‬إحترام أال�سرة ألبناءها وانعكا�س ذلك على �إيجابياً على م�شاعر االحترام تجاه‬
‫ذواتهم‪.‬‬
‫‪ -‬م�ساعدة أال�سرة �أبناءها على الح�صول على مكانة اجتماعية بين �أقرانهم‪.‬‬
‫‪ -‬م�ساعدة أال�سرة أالبناء على �إدراك ذواتهم �إيجابياً ينعك�س على تحديدهم‬
‫لهوية خا�صة بهم يحبونها‪.‬‬
‫‪ -‬م�ساعدة أال�سرة أالبناء على تنمية م�شاعر تقدير الذات‪ ،‬وال�صعود بهم �إلى‬
‫�إ�شباع حاجات عليا مثل الحاجة �إلى تحقيق الذات‪.‬‬
‫‪188‬‬
‫ال�شرط رقم (‪)6‬‬
‫توفري مناخ أ��سري وجمتمعي ي�شجع على اال�ستقاللية يف التفكري‪..‬‬

‫التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية هي تربية م�شروطة بتوفر عامل بيئي‪ ،‬ي�ستمد قوته‬
‫من ثقافة أال�سرة التي تحت�ضن تلك البيئة و ُت ْ�س ِهم في ت�شكيلها و�إعادة ت�شكيلها‪..‬‬
‫وهذا العامل هو "المناخ‪ ،‬أال�سري والمجتمعي"‪ ،‬والذي به تنمو م�شاعر اال�ستقاللية‬
‫لدى أالبناء‪ ،‬ومعها تنمو �سلوكياتهم الم�ستقلة‪..‬‬

‫ابتداء نقول‪� ،‬أن أال�سرة التي ت�ستطيع �أن ت�صنع مناخاً ي�شجع على اال�ستقاللية في‬
‫ً‬
‫التفكير البد و�أن تكون "�أ�سرة م�صلحة"‪ ،‬ير�أ�سها "�إن�سان م�صلح"‪� ..‬أ�سرة ت�ستحق‬
‫ال�صالح‪ ..‬وهذا الم�صلح ينبغي �أن "يت�صل �إ�صالحه بالتفكير كما‬ ‫�أن ُت ْم َنح و�سام إ‬
‫يت�صل بالعمل"(عبا�س محمود العقاد‪� ،1971 ،‬ص ‪.)189‬‬

‫والن�سان يُ ْ�ص ِلح غيره بقيمه‪ ،‬والتي ينبغي �أن تتجلى في قدوته‪ ..‬والقدوة هنا تعني‬
‫إ‬
‫النموذج أالف�ضل‪ ،‬ال�شخ�ص مو�ضع االقتداء والمحاكاة‪ ،‬أال�سوة الح�سنة‪ ،‬المثل‬
‫الح�سن‪ ،‬هي كل من يتطلع �إليها‪ ،‬ويقتدي بها‪ ،‬ويحذو حذوها‪ ..‬وهذا �أمر منطقي‪،‬‬
‫فالفراد بطبيعتهم "ينظرون دائماً ويتطلعون �إلى قادتهم ك�أمثلة يقتدون بها‪ ،‬ويحذون‬ ‫أ‬
‫حذوها"(فتحي يكن‪� ،1980 ،‬ص ‪ ..)79‬القدوة هو في �أ�صله م�ص ِلح‪� ،‬إ�صالحاً‬
‫واع �أو غير واعي‪ ..‬المهم في نهاية المطاف �أننا �أمام �إ�صالح‬
‫مبا�شراً �أو غير مبا�شر‪ٍ ،‬‬
‫حقيقي‪� ..‬أثر فعلي للقدوة على الجماعة‪..‬‬
‫‪189‬‬
‫�إذاً هذا الم�صلح يمكن �أن يكون م�صلحاً حقيقياً‪ ،‬م�صلحاً مفيداً‪ ،‬يفعل الخير‬
‫ويلد أالبطال‪ ،‬مثلما �أنه يمكن �أن يكون م�صلحاً زائفاً‪ ،‬م�صلحاً ِّ‬
‫م�ضراً‪ ،‬يفعل ال�شر ويلد‬
‫القتلة‪﴿،‬‬
‫﴾البقرة‪ ،]12-11 :‬و"الف�ساد‪ :‬خروج ال�شيء‬
‫ع��ن ح��ال ا�ستقامت��ه وكونه منتفع��اً به‪ ،‬و�ض��ده ال�صالح وه��و‪ :‬الح�صول عل��ى الحال‬
‫الم�ستقيم��ة النافعة‪ ،‬والم��راد بالف�ساد في آالية الكريم��ة ‪-‬واهلل �أعلم‪ -‬الكفر والعمل‬
‫بالمع�صية‪ ،‬فه�ؤالء المنافقون يعملون بالكفر والمع�صية ويدعون �إليهما‪ ،‬ويزعمون �أن‬
‫ما يفعلون وما يدعون �إليه �إ�صالح وهو عين الف�ساد‪ ،‬ولكن من جهلهم ال ي�شعرون �أنـه‬
‫ف�ساد"(�سعيد حوى‪" 1991 ،‬مج ‪� ،"1‬ص ‪..)71‬‬

‫م�ضرة"‪..‬‬
‫والقدوة من الناحية إال�سالمية هي "�صالح بال ف�ساد"‪" ،‬ومنفعة بال ّ‬
‫"الخالق في �صورتها العملية"‪" ،‬لب القدوة هو أالخالق"‪ ..‬ولذلك كانت‬‫هي أ‬
‫عائ�شة ر�ضي اهلل تقول ب�أن "خلق ر�سول اهلل  كان القر�آن"(ابن كثير‪ ،‬طبعة‬
‫‪" 1982‬مج ‪� ، ،"4‬ص ‪ ،)402‬وفي رواية "كان خلقه القر�آن"جزء من حديث رواه‬
‫م�سلم في �صحيحه(ابن كثير‪ ،‬طبعة ‪" 1982‬مج ‪� ، ،"4‬ص ‪﴿ ،)402‬‬
‫﴾القلم‪ ،4 :‬وهذا يعني "�أنه عليه ال�صالة وال�سالم �صار امتثال القر�آن‬
‫تطبعه‪ ،‬وترك طبعه الجبلي‪ ،‬فمهما �أمره القر�آن فعله‪،‬‬
‫�آمراً ونهياً �سجية له‪ ،‬وخلقاً ّ‬
‫‪190‬‬
‫ومهما نهاه عنه تركه‪ ،‬هذا مع ما جبله اهلل عليه من الخلق العظيم من الحياء والكرم‬
‫وال�شجاعة وال�صفح والحلم وكل خلق جميل"(ابن كثير‪ ،‬طبعة ‪" 1982‬مج ‪،"4‬‬
‫�ص ‪..)402‬‬

‫القدوة من منظور �إ�سالمي �أي�ضاً تم ِّثل عام ًال من العوامل االجتماعية التي ت�صنع‬
‫مناخاً واعداً نافعاً‪ ،‬وتدعم من قوة ذلك المناح‪ ..‬فالمناخ االجتماعي نوعان‪ :‬مناخ‬
‫يمكن �أن ي�صنع الفرد (البطل) ومناخ يمكن �أن ي�صنع الفرد (القاتل)‪ ..‬وب�صياغة‬
‫البطال‪ ،‬وكما يقال‪" ،‬حليب‬ ‫�أخرى‪ :‬يمكن �أن يلد القتلة مثلما �أنه يمكن �أن يلد أ‬
‫أالم ير�ضع القتلة‪ ،‬تماماً كما ير�ضع أالبطال"(كولن ويل�سون‪� ،1982 ،‬ص ‪..)334‬‬
‫فالحليب كالمناخ يمكن �أن يغذي االتجاهين‪..‬‬

‫وهذه القدوة هي في حد ذاتها تربية‪" ..‬والقدوة في التربية هي �أفعل الو�سائل جميعاً‬


‫و�أقربها �إلى النجاح"(محمد قطب‪" 1983 ،‬مج ‪� ،"1‬ص ‪ ..)180‬القدوة �أكثر و�سائل‬
‫التربية ت�أثيراً في الب�شر‪ ..‬وال�سبب في ذلك هو �أن النا�س يرون في القدوة مبادئ‬
‫تتحرك على �أر�ض الواقع‪" ،‬في�صدقون هذه المبادئ الحية ألنهم يرونها ر�أي العين وال‬
‫يقر�أونها في كتاب! يرونها في ب�شر‪ ،‬فتتحرك لها نفو�سهم وتهفو لها م�شاعرهم"(محمد‬
‫قطب‪" 1983 ،‬مج ‪� ،"1‬ص ‪ ،)180‬ويحاولون �أن يقب�سوا قب�سات من القدوة‪" ،‬كل‬
‫بقدر ما يطيق �أن يقب�س‪ ،‬وكل بقدر ما يحتمل كيانه ال�صعود"(محمد قطب‪1983 ،‬‬
‫"مج ‪� ،"1‬ص ‪)180‬‬
‫‪191‬‬
‫فالقدوة بهذا المعنى كما �سبق �أن بيّنا يتحول �إلى م�ص ِلح‪ ..‬ور�سالة ُ‬
‫الم ْ�ص ِلح ألبنائه‬
‫قبل �أبناء غيره هي �أنه بالرغم من توفيره مناخاً �أ�سرياً داعماً ال�ستقاللية أالبناء‪� ،‬إال �أنه‬
‫كذلك يطالب �أبنائه ب�أن يجعلوا من كتاب اهلل و�سنة نبيه مرجعية لل�سلوك الم�ستقل‪،‬‬
‫مرجعية ال�ستقالليتهم‪ ،‬مرجعية العتمادهم على �أنف�سهم‪ ،‬مرجعية لوعيهم و�سعيهم‬
‫ومحا�سبة �أنف�سهم‪..‬‬

‫ور�سالة الم�ص ِلح ألبنائه تت�ضمن توعيتهم ب�أن "الكتاب وال�سنة م�شتمل على ن�صو�ص‬
‫الوعد والوعيد‪ ،‬كما ذلك م�شتمل على ن�صو�ص أالمر والنهي‪ ،‬وكل من الن�صو�ص‬
‫ويبينه‪ ،‬فكما �أن ن�صو�ص الوعد على أالعمال ال�صالحة م�شروطة بعد‬ ‫يف�سر آالخر ّ‬ ‫ِّ‬
‫أ‬
‫الكفر المحبط‪ ،‬لن القر�آن قد دل على �أن من ارتد فقد حبط عمله‪ ،‬فكذلك ن�صو�ص‬
‫الوعيد للكفار والف�ساق م�شروطة بعدم التوبة؛ ألن القر�آن قد دلّ على �أن اهلل يغفر‬
‫الذنوب جميعاً لمن تاب‪ ،‬وهذا متفق عليه بين الم�سلمين‪ ،‬فكذلك في موارد‬
‫النـزاع‪ ،‬ف�إن اهلل قد ّبين بن�صو�ص معروفة �أن الح�سنات يذهبن ال�سيئات‪ ،‬و�أن من‬
‫يعمل مثقال ذرة خيراً يره‪ ،‬ومن يعمل مثقال ذرة �شراً يره‪ ،‬و�أنه يجيب دعوة الداعي‬
‫�إذا دعاه‪ ،‬و�أن م�صائب الدنيا تكفر الذنوب‪ ،‬و�أنه يقبل �شفاعة النبي (�ص) في �أهل‬
‫الكبائر‪ ،‬و�أنه ال يغفر �أن ي�شرك به‪ ،‬ويغفر ما دون ذلك لمن ي�شاء‪ ،‬كما ّبين �أن ال�صدقة‬
‫والذى‪ ،‬و�أن الربا يبطل العمل‪ ،‬و�أنه �إنما يتقبل اهلل من المتقين؛ �أي‬‫يبطلها المن أ‬
‫في ذلك العمل ونحو ذلك‪ ...‬فجعل لل�سيئات ما يوجب رفع عقابها‪ ،‬كما جعل‬
‫للح�سنات ما يبطل ثوابها‪ ،‬لكن لي�س �شيء يبطل جميع ال�سيئات �إال التوبة‪ ،‬كما �أنه‬

‫‪192‬‬
‫لي�س �شيء يبطل جميع الح�سنات �إال الر ّدة"(ابن تيمية‪ ،‬طبعة ‪" 1398‬مج ‪،"12‬‬
‫�ص �ص ‪..)483-482‬‬

‫الح�سنة‬ ‫ال�سيئة‬

‫الر ّدة‬ ‫التوبة‬


‫يبين �أن رفع ال�سيئة يكون �أو ًال بالتوبة‪ ،‬وثانياً بالح�سنة‪ ،‬مع �أن التوبة في ذاتها تدر‬
‫ال�شكل رقم (‪ِّ )8‬‬
‫الح�سنة؛ و�أن الح�سنة يمكن �أن تبطلها الر ّدة ‪..‬‬

‫هذه التوعية ينبغي تكون جزء ُم َد ِّعم للمناخ أال�سري والمجتمعي ال�صحي الذي‬
‫ي�شجع على اال�ستقاللية في التفكير والقرار‪ ،‬الحكم واالختيار‪ ..‬فاال�ستقالل ينمو‬
‫في "�إطار اجتماعي‪ ،‬ي�شع عليه با�ستمرار بجوانب من ال�سلوك والقيم واالتجاهات‪،‬‬
‫وتعتبر بع�ض جوانب هذه اال�شعاعات بمثابة قوى الجذب واالحت�ضان لالمكانيات‬
‫والفكار"(عبدال�ستار �إبراهيم‪� ،1978 ،‬ص ‪..)197‬‬ ‫االبداعية‪ ،‬و�إثارتها في العقول أ‬
‫ومهما يقال عن دور العوامل الوراثية في إالبداع‪ ،‬بل وفي اال�ستقالل الم�ساعد‬
‫القل‪ -‬ب�أن‬
‫على االبداع‪" ،‬ف�إن المناخ االجتماعي العام يبقى كحقيقة ت�ؤكد ‪-‬على أ‬
‫ا�ستعدادات إالن�سان الوراثية يمكن �أن تخبو وتن�شط بمقدار الفر�ص التي يتيحها المجتمع‬
‫�أمام الفرد‪ ،‬وما يقدمه من ا�شباعات لالحتياجات العقلية والتعبيرية المختلفة"(عبدال�ستار‬
‫�إبراهيم‪� ،1978 ،‬ص ‪..)197‬‬
‫‪193‬‬
‫فالتربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية ينبغي �أن تت�أكد من توفير مناخ اجتماعي‪� ،‬إطار‬
‫اجتماعي تنمو فيه م�شاعر اال�ستقاللية‪ ،‬م�شاعر �إيجابية نحو اال�ستقاللية‪ ،‬ترتد ذاتها‬
‫بتعزيز جوانب نف�سية كانت في �أ�سا�سها �أ�سباب لها مثل "الثقة بالنف�س"‪ ،‬بمعنى كما‬
‫�أن الثقة بالنف�س �شرط لال�ستقالل‪ ،‬ف�إن الدافع لال�ستقالل هو آالخر �شرط مع ِّزز للثقة‬
‫بالنف�س‪ ،‬فمعلو ٌم �أن "الدافع لال�ستقالل يمنح ال�شخ�صية الثقة بالنف�س"(عبدال�ستار‬
‫�إبراهيم‪� ،1978 ،‬ص ‪ ،)90‬وبالذات في مواجهة المواقف الغام�ضة‪..‬‬
‫نخل�ص مما تقدم �إلى �أن اتخاذ أال�سرة من مناخها االجتماعي محيطاً لتربية أالبناء‬
‫على اال�ستقاللية يم ِّثل �أ�سا�ساً مهماً للتربية نحو اال�ستقاللية‪ ،‬وال�شواهد على ذلك‬
‫عديدة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -‬قيام أال�سرة بت�صميم محيطها االجتماعي ب�شكل واعي وا�ستراتيجي‪.‬‬
‫‪ -‬عدم ترك أال�سرة محيطها االجتماعي فري�سة لم�ضار التلقائية‪ ،‬بمعنى �أن‬
‫تتحكم أال�سرة بقدر كبير في مجريات الحياة أال�سرية (مثل و�ضع نظام أللكل‬
‫و�آخر للدرا�سة و�آخر للتوا�صل مع آالخرين)‪.‬‬
‫‪� -‬إ�شراك أالبناء في ت�صميم محيط �أ�سري واعي وا�ستراتيجي‪ ،‬بما يجعلهم‬
‫يتقبلون ويتبنون ويتفاعلون مع �إجراءات هذا الت�صميم بعك�س لو كان مفرو�ضاً‬
‫عليهم‪.‬‬
‫‪ -‬تجديد أال�سرة الم�ستمر للنموذج الذي يحكم نوعية المحيط الذي تعي�ش فيه‬
‫أال�سرة‪.‬‬
‫‪� -‬أن تتخذ أال�سرة من أال�صالة مرجعية لكل تطوير ي�صيب ت�صميماتها‬
‫االجتماعية‪ ،‬فالت�صميم من الحداثة أ‬
‫وال�صالة ت�ضبط تلك الحداثة‪.‬‬
‫‪194‬‬
‫ال�شرط رقم (‪ :)7‬ال�ضوابط ال�شرعية لال�ستقالل‪..‬‬

‫التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية هي تربية م�شروطة في فعاليتها بتوفر �ضوابط‬


‫�شرعـية‪ ،‬ت�سـتمد جذورها أال�سـا�سـية من كتاب اهلل و�ســ ّنة ر�ســوله‪﴿ ،‬‬
‫﴾‬ ‫﴾الواقعة]‪﴿،‬‬
‫﴾ المطففي��ن‪،]26 :‬‬ ‫الم�ؤمن��ون‪﴿ ،]61 :‬‬
‫﴾ المدثر‪﴿ ،]38 :‬‬ ‫﴿‬
‫﴾القيامة‪ ..15-14 :‬وهـذه ال�ضـوابط ال�شـرعية يمكـن �أن‬
‫تلعب دور في توجيه التربية أال�سرية لكي تنتهي أ‬
‫بالبناء �إلى �سلوكيات ا�ستقاللية‬
‫م�ستقيمة‪ ،‬ال �إعوجاج فيها؛ �سلوكيات ا�ستقاللية حكيمة ال افراط �أو تفريط فيها‪..‬‬

‫وهذه ال�ضوابط تجد �أ�صولها في الحدود أال�سا�سية في كل من القواعد أال�صولية‬


‫والقواعد الفقهية‪ ،‬مع التنبيه على �أن هناك فرقاً بين النوعين من القواعد‪ِّ ..‬‬
‫ويحدد‬
‫ابن تيمية رحمه اهلل هذا الفارق‪ ،‬حيث يرى "الفرق بين القاعدة أال�صولية والقاعدة‬
‫الفقهية باعتبار �أن �أ�صول الفقه هي أالدلة العامة خالفاً لقواعد الفقه ف�إنها عبارة عن‬
‫أالحكام العامة"(علي �أحمد الندوي‪� ،1998 ،‬ص ‪..)68‬‬

‫ال�صولية‪ " :‬أالمر‬


‫وفيما يلي نماذج من النوعين من القواعد‪ ..‬فمن �أمثلة القواعد أ‬
‫يقت�ضي الوجوب‪ ،‬والنهي للتحريم‪ ،‬والواجب المخير يخرج المكلَّف عن العهدة فيه‬

‫‪195‬‬
‫بفعل واحد مما خير فيه"(علي �أحمد الندوي‪� ،1998 ،‬ص ‪� ،)68‬أي�ضاً من القواعد‬
‫أال�صولية‪�" :‬إذا اجتمع حظر و�إباحة غلب جانب الحظر‪ ...‬و�إذا اجتمع الحالل‬
‫والحرام‪ ،‬غُ ِّلب الحرام؛ ومن ا�ستعجل ال�شيء قبل �أوانه عوقب بحرمانـه"(علي �أحمد‬
‫الندوي‪� ،1998 ،‬ص �ص ‪..)245 ،242‬‬

‫"المور بمقا�صدها‪ ...‬ال�ضرر يزال‪ ...‬العادة‬ ‫ومن �أمثلة القواعد الفقهية‪ :‬أ‬
‫ُم َح َّك َمة‪ ...‬الم�شقة تجلب التي�سير‪� ...‬إذا تعار�ض َم ْف َ�س َد َتان روعي �أعظمهما �ضرراً‬
‫بارتكاب �أخ ّفهما؛ ال�ضرر أال�شد ُيزال بال�ضرر أالخف؛ ُي ْختار �أهون َّ‬
‫ال�شرين‪...‬‬
‫بال�شك‪� ...‬إذا �سقط أال�صل‬
‫الت�صرف على الرعية َم ُنوطٌ بالم�صلحة‪ ...‬اليقين ال يزال ّ‬
‫�سقط الفرع"(علي �أحمد الندوي‪� ،1998 ،‬ص �ص ‪،302 ،293 ،287 ،282‬‬
‫‪� ،)391 ،351 ،317 ،313‬أي�ضاً من القواعد الفقهية‪�" :‬إعمال الكالم �أولى من‬
‫�إهماله‪ ...‬أالمر �إذا �ضاق ات َّ�سع‪ُ ...‬يتحمل ال�ضرر الخا�ص لمنع ال�ضرر العام"(علي‬
‫�أحمد الندوي‪� ،1998 ،‬ص �ص ‪..)422 ،394 ،393‬‬

‫ابتداء نقول ب�أن ال�ضبط ال�شرعي لال�ستقالل في مجال التفكير ومجال ال�سلوك‬
‫ً‬
‫�أمر �أ�سا�سي يعني من الناحية العملية ال�ضبط ال�شرعي كل ما يترتب على اال�ستقالل‬
‫في التفكير وال�سلوك‪ ،‬وبالتالي �ضبط كل العوائد المعرفية والميدانية‪ ،‬العقلية‬
‫والعملية‪ ،‬التي يمكن �أن تت�أتى من ذلك اال�ستقالل‪..‬‬
‫ولتو�ضيح كيفية تربية أال�سرة �أبناءها على االلتزام بالقواعد ال�شرعية كو�سائل‬
‫نقدم نماذج من تلك القواعد‬ ‫تربية ت�سهم في تنمية جانب اال�ستقالل فيهم‪ِّ ،‬‬
‫‪196‬‬
‫ال�شرعية‪ ،‬ون�أخذ القواعد الفقهية كنماذج تو�ضيحية عملية‪ ..‬ولن�أخذ مث ًال قاعدة‬
‫" أالمور بمقا�صدها"‪ ،‬والتي ت�ستمد �أ�صولها من الحديث ال�صحيح الم�شهور‪�" :‬إنما‬
‫أالعمال بالنيات"(النووي‪ ،‬طبعة ‪1399‬هـ‪� ،‬ص ‪..)8‬‬
‫فعندما نع ِّلم أالبناء ب�أن أالمور بمقا�صدها‪ ،‬ف�إن هذا �سيعزز لديهم ا�ستقالليتهم‬
‫من ناحية‪ ،‬و�ضبط تلك اال�ستقاللية من ناحية �أخر‪ ،‬حتى ال ينحرف ال�سلوك عن‬
‫بناء على دليل‬
‫مق�صده ال�شرعي‪ ،‬وبالتالي ال ي�ستقل االبن لال�ستقالل‪ ،‬و�إنما ي�ستقل ً‬
‫ُمع َت َبر‪ ،‬ينتهي ب�صاحبه �إلى خير بال �ضرر‪..‬‬
‫"المور بمقا�صدها"‪ ،‬والن�ص الذي ت�ستند �إليه‪�- ،‬أي "�إنما أالعمال‬ ‫فقاعدة أ‬
‫بالنيات‪ ،‬و�إنما لكل امرئ ما نوى‪ ،‬فمن كانت هجرته �إلى اهلل ور�سوله‪ ،‬فهجرته �إلى‬
‫اهلل ور�سوله‪ .‬ومن كانت هجرته لدنيا ي�صيبها �أو امر�أة ينكحها‪ ،‬فهجرته �إلى ما هاجر‬
‫�إليه"‪ -‬فيه "بيان �أن ت�صرفات إالن�سان و�أعماله تختلف �أحكامها ونتائجها‬
‫والعمال"(علي �أحمد الندوي‪،‬‬ ‫باختالف مق�صود إالن�سان من تلك الت�صرفات أ‬
‫‪� ،1998‬ص ‪..)282‬‬
‫ولذلك‪ ،‬ف�إن أالبناء مطالبون ب�أن تكون لهم �أعمال وت�صرفات تعبر عن ا�ستقالليتهم‪،‬‬
‫ِّ‬
‫ع��ن جوانب تعك�س تفر ّدهم وتمي ّزهم‪ ،‬وب�أن تكون لهم نية ح�سنة في جميع أالعمال‬
‫والت�صرفات‪ ،‬تمنحها م�شروعية داخلية وم�صداقية خارجية‪� ،‬إنطالقاً من �أن الم�شروعية‬
‫الداخلي��ة تحقق ذاتها من خالل الم�صداقية الخارجية‪� ،‬أي �أن النوايا تحقق ذاتها من‬
‫خالل أالعمال‪ ..‬فالبرهنة على النوايا تكون أ‬
‫بالعمال‪.‬‬
‫‪197‬‬
‫مث��ال �آخر لقاع��دة فقهية يمكن �أن ت�ستعين بها لتربي��ة �أبنائهم على اال�ستقاللية‬
‫الحافظ��ة م��ن جهة‪ ،‬والمنمي��ة من جهة �أخرى‪ ..‬وه��ذه القاعدة مو�صول��ة بالقاعدة‬
‫ِّ‬
‫أال�سا���س‪ ،‬وهي قاعدة "�إنما المور بمقا�صدها"‪ ..‬ه��ذه القاعدة الخرى هي قاعدة‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫"ال�ض��رر يُ��زال"‪ ،‬حيث �أنه��ا تت�ضمن من الفقه ما ال ح�صر ل��ه‪ ،‬و"لعلها تت�ضمن‬
‫والح��كام �إما لجلب المنافع �أو دف��ع الم�ضار‪ ،‬فيدخل‬ ‫ن�صف��ه‪� ،‬أي ن�صف الفقه]‪ ،‬أ‬
‫فيه��ا دف��ع ال�ضروريات الخم���س التي هي حف��ظ الدين والنف���س والن�سب والمال‬
‫والعر�ض"(علي �أحمد الندوي‪� ،1998 ،‬ص ‪..)287‬‬
‫"(وهذه القاعدة ترجع �إلى تح�صيل المقا�صد وتقريرها بدفع المفا�سد‬
‫�أو تخفيفها)‪ ...‬و�أ�صلها قوله  ‪( :‬ال �ضرر وال �ضرار)‪ ،‬وقد �سار م�سير القواعد‬
‫وال�ضرار �إلحاق َم ْف َ�سدة‬
‫الفقهية الكلية‪ ...‬وال�ضرر‪� :‬إلحاق َم ْف َ�سدة بالغير ُمطلقاً؛ ِّ‬
‫الم ْ�شروع‪ ...‬ال�ضرر‪ :‬الذي لك فيه منفعة‪ ،‬وعلى جارك‬ ‫وجه الجزاء َ‬ ‫بالغير ال على ْ‬
‫الم�ضرة"(علي �أحمد‬ ‫ّ‬ ‫م�ضرة‪ ،‬وال�ضرار‪ :‬الذي لي�س فيه منفعة‪ ،‬وعلى جارك فيه‬ ‫فيه ّ‬
‫الندوي‪� ،1998 ،‬ص �ص ‪..)288-287‬‬
‫�إذاً التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية ت�ستوجب تعليم أالبناء مهارات التفكير‬
‫الم�ستقل‪� ،‬شريطة �أن تن�ضبط حركة وعمل هذه المهارات بقواعد ال�شرع‪ ،‬وعلى‬
‫ر�أ�سها قاعدة "ال �ضرر وال �ضرار"‪� ،‬أي "ال فعل �ضرر وال �ضرار ب�أحد في ديننا‪� ،‬أي‬
‫ال يجوز �شرعاً ألحد �أن يلحق ب�آخر �ضرراً وال �ضراراً"(�أحمد بن ال�شيخ محمد الزرقا‪،‬‬
‫‪� ،1998‬ص ‪ ..)165‬هذا ناهيك عن �أن "(ال�ضرر يزال) �أي تجب �إزالتـه"(�أحمد‬
‫بن ال�شيخ محمد الزرقا‪� ،1998 ،‬ص ‪..)179‬‬
‫‪198‬‬
‫نخل�ص مما تقدم �إلى �أن اتخاذ أال�سرة من ال�ضوابط ال�شرعية �آليات إلنجاح فكرة‬
‫التربية نحو اال�ستقاللية‪ ،‬وال�شواهد على ذلك عديدة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -‬أالمور بمقا�صدها‪ :‬تتفاوت �أقوال �أو ت�صرفات أالبناء بتفاوت مقا�صدهم‪ ،‬ومهمة‬
‫أال�سرة �أن تع ِّلم أالبناء على تمييز المقا�صد الح�سنة من المقا�صد ال�سيئة حتى‬
‫يتم تجنب �أو ًال مخالفة قواعد ال�شرع‪ ،‬وثانياً تجنب حدوث �صراع بين أالبناء‬
‫على �أر�ض الواقع‪.‬‬
‫‪ -‬ال�ضرر أال�شد يُزال بال�ضرر أالخف‪ :‬تعويد أال�سرة �أبنائها على منطق أالولويات‬
‫وما يترتب على ذلك من تحمل �ضرر خفيف في مقابل تجنب �أو دفع �ضرر‬
‫�أكبر �أو �شديد مثل تعليم االبن في حالة ال�شجار على تقبل الظلم النف�سي‬
‫الخفيف عو�ضاً عن الظلم البدني ال�شديد الذي قد يهلكه في بع�ض الحاالت‬
‫وبالذات �إذا كان الطرف آالخر في مو�ضع قوة‪ ،‬مع أالخذ في االعتبار �أن يكون‬
‫ان�صراف االبن لي�س ب�سبب الخوف بقدر ما هو ب�سبب تجنب ال�ضرر‪� ،‬أي لي�س‬
‫الخوف من الفعل بقدر ما هو النظر في العواقب‪.‬‬
‫‪� -‬إعمال الكالم �أولى من �إهماله‪ :‬تعليم أالبناء على �أن معاني آالراء التي هي‬
‫مو�ضع خالف ينبغي �أن يعلّموا كيفية اال�ستفادة منها جميعا (مث ًال عن طريق‬
‫الجمع �أو التوفيق بينها)‪ ،‬بد ًال من ترجيح �أحدها واهمال الباقي‪ ،‬مع أالخذ في‬
‫االعتبار �أن معاني آالراء ب�شرية‪ ،‬و�أن �أي منها يخالف الن�ص ال�شرعي القطعي‬
‫الداللة‪ ،‬القطعي الثبوت‪ ،‬يهمل‪ ،‬و ُي َّبين مو�ضع حرمته و�ضرره‪.‬‬
‫‪199‬‬
‫‪ -‬أالمر يقت�ضي الوجوب‪ :‬تعليم أال�سرة �أبنائها على عدم الخ�ضوع للرغبات‬
‫ال�شخ�صية "الظرفية" عندما يتعلق الموقف ب�ضرورة االلتزام ب�أمر �شرعي‬
‫�أو �أ�سري مثل عدم تفويت أالبناء لل�صالة في الم�سجد من �أجل اال�ستمرار‬
‫في م�شاهدة مباراة‪ ،‬مهما كانت مهمة‪.‬‬
‫‪ -‬النهي يقت�ضي التحريم‪ :‬تعليم أال�سرة �أبنائها على �أن هناك معامالت وتعامالت‬
‫تقت�ضي النهي ألنها في �أ�صلها محظورة‪ ،‬وفي نتائجها ِّبينة ّ‬
‫الم�ضرة مثل الدخول‬
‫بالخالق على إالنترنت‪.‬‬‫على مواقع مخ ِّلة أ‬
‫‪ -‬من ا�ستعجل ال�شيء قبل �أوانه عوقب بحرمانه‪ :‬تعويد أال�سرة �أبنائها على عدم‬
‫اال�ستعجال وبد ًال من ذلك تعزز لديهم ال�سير بخطى ثابتة نحو �أهدافهم‪،‬‬
‫ألن قطف الثمرة قبل �أوانها يحرمك من نفعها �أو من �أوج نفعها (مثل �أن‬
‫ال ي�ستعجل أالبناء التفوق �إال �أذا �أخذوا ب�شروطه‪ ،‬و�أن يكون اهتمامهم على‬
‫التكوين ال�صحيح والمتين درا�سياً كتمهيد للتفوق)‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫عوائد الرتبية نحو اال�ستقاللية‬

‫التربية نحو اال�ستقاللية �ضمان لتمتع �أفراد أال�سرة‪ ،‬وبالتالي �أفراد المجتمع‪،‬‬
‫باال�ستقاللية وبتعزيز الحرية؛ وما يترتب على ذلك من بناء مجتمع �أ�سري مفتوح‪،‬‬
‫يتبعه بناء المجتمع أالكبر المفتوح‪ ،‬والذي "ي�سعى عن ق�صد وت�صميم في‬
‫�سبيل تطوره‪ ،‬وال يعمل فقط على المحافظة على الو�ضع الراهن"(محمد لبيب‬
‫النجيحي‪� ،1981 ،‬ص ‪..)347‬‬

‫وهذا المجتمع المفتوح هو "مجتمع قد ُن ِّظم تنظيماً يدخل في اعتباره حقيقة‬


‫التغير في أالمور إالن�سانية‪ ،‬وهو مجتمع يقبل التغير على �أنه و�سيلة للق�ضاء على‬
‫الف�ساد واالنحالل‪ ،‬و�أن الذكاء إالن�ساني والمجهود التعاوني من جميع �أفراد المجتمع‬
‫ت�ؤدي جميعاً �إلى نمو إالن�سانية وتقدمها‪ ...‬والمجتمع المفتوح ي�ستخدم المعرفة‬
‫واالختراع كعنا�صر �ضرورية لبناء حياة ديناميكية مرنة"(محمد لبيب النجيحي‪،‬‬
‫‪� ،1981‬ص ‪..)347‬‬

‫هذا المجتمع أال�سري الحر الم�ستقل المفتوح‪ ،‬والذي هو نواة للمجتمع أالكبر‬
‫الحر الم�ستقل المفتوح‪ ،‬ي�ؤ�س�س لمكا�سب كبيرة وعديدة يمكن �أن يجنيها �أفراد‬
‫أال�سرة في مجتمعهم‪ ..‬والتربية نحو الحرية واال�ستقاللية �أ�سا�س لكل ذلك‪..‬‬
‫وفيما يلي �أهم المكا�سب �أو العوائد التي يمكن �أن تترتب على "التربية نحو‬
‫اال�ستقاللية"‪..‬‬
‫‪201‬‬
‫وقبل �أن نخطو في اتجاه العوائد‪ ،‬نود �أن ن�ضيف فكرة هنا‪ ،‬وهي �أن قيمة كل‬
‫من الحرية واال�ستقاللية واالنفتاحية في طاعتها وعطائها‪ ..‬حرية طائعة معطاءة‪،‬‬
‫وا�ستقاللية طائعة معطاءة‪ ،‬وانفتاحية طائعة معطاءة‪ ..‬وهذا يعني �أن ي�أتي العطاء‬
‫تبعاً للطاعة‪ ،‬و�إال �أ�صبح ا�ستدراج للعقوبة‪ ..‬وفي الحديث النبوي‪" ،‬قال ر�سول‬
‫اهلل  ‪�( :‬إذا ر�أيت اهلل عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معا�صيه ما يحب‪ ،‬ف�إنما هو‬
‫ا�ستدراج)‪ ،‬ثم تال قوله عز وجل‪﴿ :‬‬
‫﴾النعام‪]44:‬‬
‫أ‬
‫"رواه �أحمد(ابن قيم الجوزية‪ ،‬طبعة بدون تاريخ "ب"‪� ،‬ص ‪"،)37‬مبل�سون‪� :‬أي‬
‫هالكون"‪..‬‬

‫‪202‬‬
‫العائد رقم (‪ :)1‬مكا�سب نف�سية‪-‬اجتماعية ‪Psycho-Social Gains‬‬

‫�أح��د عوائد التربي��ة أال�سرية نحو اال�ستقاللية هو عائ��د نف�سي‪-‬اجتماعي متعدد‬


‫أالبعاد‪ ..‬هذه أالبعاد التي ت�شتمل على كل من المبادرة‪ ،‬والفاعلية‪ ،‬والهوية‪ ،‬أ‬
‫واللفة‪،‬‬
‫واالنتاجي��ة‪ ،‬وتكا مل ال��ذات‪ .‬ومرتبط بهذا العائد‪� ،‬أي به��ذه المكا�سب النف�سية‪-‬‬
‫والكاديمي والمهني‪،‬‬ ‫االجتماعي��ة‪ ،‬عوائد عديدة‪ ،‬تتمث��ل في االنجاز ال�شخ�ص��ي أ‬
‫المكانة االجتماعية‪ ،‬الثروة المالية والمادية‪ ،‬ال�سعادة الحياتية‪ ،‬الت�أثير المحلي‪ ،‬أالثر‬
‫والجر أالخروي‪..‬‬ ‫العالمي‪ ،‬أ‬

‫وفيم��ا يلي تو�ضيح موجز لكل بعد نف�سي‪-‬اجتماعي مترتب على التربية أال�سرية‬
‫نح��و اال�ستقاللي��ة‪ ..‬ونبد�أ بالمب��ادرة‪ ،‬ونقي�ضها "ال�شعور بالذن��ب"‪ ،‬والمبادرة تعني‬
‫"المب��ادءة"‪� ،‬أن نبادر ونب��ادئ بالقيام ب�أعمال �صالحة‪ ،‬في ذاته��ا ومن حيث توقيتها‬
‫بالعمال‪ "...‬جزء من حديث نبوي �صحيح(محمد‬ ‫�أو تاريخها‪ ،‬وفي الحديث‪" :‬بادروا أ‬
‫بالعمال هنا "ال�صالحة‬‫نا�صر الدين أاللباني‪" 1982 ،‬مج ‪� ،"3‬ص ‪ ..)3‬والمق�صود أ‬
‫منها"‪..‬‬

‫وج��ذور فكرة المب��ادرة تت�أ�س�س ف��ي ال�صغر‪ ،‬وب�ش��كل محدد في فت��رة ما قبل‬
‫المدر�سة‪ ،‬حيث يواجه أالطفال في هذه الفترة الكثير من التحديات في ظل العالم‬
‫االجتماعي الوا�سع‪ ،‬الحقيقي واالفترا�ضي‪ ،‬مما يح ِّتم عليهم �أن "يطوروا �سلوكاً هادفاً‬
‫وفعا ًال للتعاطي مع هذه التحديات‪ ،‬وتزايد م�س�ؤولياتهم تنمي لديهم المباد�أة‪ ،‬والطفل‬
‫‪203‬‬
‫غير الم�س�ؤول الذي ي�شعر بالخوف ِّ‬
‫يطور �شعوراً بالعار وعدم االرتياح‪ ....‬وتم ِّثل هذه‬
‫المرحلة ما بين (‪� )6-3‬سنوات‪ ،‬ويقوم أالطفال في هذه المرحلة �أحياناً بعمل �أ�شياء‬
‫يختلف��ون معها مع أالهل مما يجعلهم ي�شعون بالذنب‪ ،‬و�إن الحل لهذه الم�شكلة هو‬
‫بالعم��ال التي ال ت�ؤذي آالخرين"(منذر‬ ‫�إيج��اد التوازن ب�أن ي�سمح أللطفال القيام أ‬
‫عبدالحميد ال�ضامن‪� ،2005 ،‬ص ‪..)86‬‬

‫بعد �آخر نف�سي‪-‬اجتماعي مترتب على التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية‪،‬‬


‫�أي مترتب على اال�ستقالل وما يتبعه من مبادرة هو الفاعلية‪ ،‬ونقي�ضها "ال�شعور‬
‫بالنق�ص"‪ ،‬والفاعلية تعني "االجتهاد"‪ ،‬حيث يتعلم الطفل في هذه المرحلة‪ ،‬والتي‬
‫تمتد من (‪� )12-6‬سنة‪�" ،‬أن يطيع القواعد التي تحكم ال�سلوك‪ ،‬ويكون �شغوفاً‬
‫بطريقة �أداء أالعمال‪ ،‬ويميل �إلى االنجاز معتمداً على نف�سه‪ ،‬و�إذا لم ي�شجع الطفل‬
‫على �أن ينجز‪ ،‬و�أن يكد في �سبيل ذلك ف�إنه �سوف ي�شعر بالنق�ص والدونيـة"(جابر‬
‫عبدالحميد جابر وعالء الدين كفافي‪" 1991 ،‬مج ‪� ،"4‬ص ‪..)1716‬‬

‫بعد نف�سي‪-‬اجتماعي ثالث مترتب على التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية‪،‬‬


‫�أي مترتب على اال�ستقالل وما يتبعه من مبادرة وفاعلية �أو اجتهاد‪ ،‬وهو الهوية‪،‬‬
‫"الجابة على ال�س ؤ�ال‪ :‬من �أنا؟"‪ ،‬حيث‬
‫ونقي�ضها "ا�ضطراب الهوية"‪ ،‬والهوية تعني إ‬
‫ي�س�أل المراهق في هذه المرحلة‪ ،‬والتي تمتد من (‪� )20-10‬سنة‪ ،‬نف�سه من �أنا؟‪،‬‬
‫و"على المراهق �أن ي�ؤ�س�س في هذه المرحلة هوية اجتماعية ومهنية و�إال �سيبقى‬
‫م�ضطرباً حول الدور الذي �سيلعبه �إذا كبر‪ ..‬ف�إذا �سمح آالباء للمراهقين باكت�شاف‬
‫‪204‬‬
‫�أدواراً مختلفة ب�أ�سلوب �صحي وتو�صلوا �إلى ما يريدون التو�صل �إليه‪ ،‬ف�إن الهوية التي‬
‫تت�شكل لديهم تكون �إيجابية"(منذر عبدالحميد ال�ضامن‪� ،2005 ،‬ص ‪..)87‬‬

‫بعد نف�سي‪-‬اجتماعي رابع مترتب على التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية‪� ،‬أي‬
‫مترتب على اال�ستقالل وما يتبعه من مبادرة وفاعلية واجتهاد وهوية‪ ،‬وهو أاللفة‪،‬‬
‫ونقي�ضها "العزلة"‪ ،‬أ‬
‫واللفة تعني "�أن ت�ألَف وت ؤ�لَف‪ ،‬وال خير فيمن ال ي�ألف وال ي ؤ�لف"‪،‬‬
‫حيث يتعلم الفرد في هذه المرحلة‪ ،‬والتي تمتد من (‪� )30-20‬سنة‪�" ،‬أن ي�شارك‬
‫آالخرين ويرعاهم دون فقدان نف�سه‪ ،‬و�إذا �أخفق �شعر بالوحدة والعزلة"(جابر‬
‫عبدالحميد جابر وعالء الدين كفافي‪" 1991 ،‬مج ‪� ،"4‬ص ‪ ..)1799‬فالعمل‬
‫في هذه المرحلة يتمحور على "�إقامة عالقات �صداقة مع آالخرين �أو ما ي�سميه‬
‫�أريك�سون (بم�شاركة الهوية) �أو تكامل ال�شخ�ص مع �شخ�ص �آخر‪ ،‬ف�إذا ما ح�صلت‬
‫هذه الم�شاركة تتكون أاللفة"(منذر عبدالحميد ال�ضامن‪� ،2005 ،‬ص ‪..)87‬‬

‫بعد نف�سي‪-‬اجتماعي خام�س مترتب على التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية‪،‬‬


‫�أي مترتب على اال�ستقالل وما يتبعه من مبادرة وفاعلية واجتهاد وهوية و�ألفة‪ ،‬وهو‬
‫االنتاجية‪ ،‬ونقي�ضها "الجمود"‪ ،‬االنتاجية تعني "الفعالية في �صورتها العملية"‪ ،‬حيث‬
‫يكون أالفراد الكبار في هذه المرحلة‪ ،‬والتي تمتد من (‪� )50-40‬سنة‪" ،‬منتجين في‬
‫عملهم وتكوين �أ�سرهم وتحقيق حاجات ال�شباب‪ ،‬ويكون التركيز هنا على الجوانب‬
‫الثقافية"(منذر عبدالحميد ال�ضامن‪� ،2005 ،‬ص ‪..)87‬‬
‫‪205‬‬
‫بعد نف�سي‪-‬اجتماعي �ساد�س مترتب على التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية‪� ،‬أي‬
‫مترتب على اال�ستقالل وما يتبعه من مبادرة وفاعلية واجتهاد وهوية و�ألفة وانتاجية‪،‬‬
‫وهو تكامل الذات‪ ،‬ونقي�ضها "الي�أ�س"‪ ،‬وتكامل الذات يعني "االكتمال"‪ ،‬حيث‬
‫"يعود الفرد بنظرته �إلى حياته الما�ضية‪ ،‬هل كانت ذات معنى‪ ،‬هل كان منتجاً‪ ،‬هل‬
‫كان �سعيداً �أم غير ذلك‪ ..‬وكذلك خبراته االجتماعية‪ ،‬ف�إذا كانت خبراته �إيجابية‪،‬‬
‫يطور �شعوراً بالر�ضى‪ ،‬وعلى عك�س ذلك‪ ،‬ف�إذا لم يحل م�شكالته بطرق �إيجابية‪،‬‬ ‫ف�إنه ِّ‬
‫يطور ح�ساً بالي�أ�س"(منذر عبدالحميد ال�ضامن‪� ،2005 ،‬ص ‪..)87‬‬‫ف�إنه ِّ‬
‫نخل�ص �إلى �أن التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية هي تربية تبني جوانب �إيجابية في‬
‫أالبناء من خالل تعزيز �أبعاد حيوية في ذواتهم مثل المبادرة والفاعلية واالجتهاد‬
‫واللفة واالنتاجية والتكامل‪ ..‬وفيما يلي م�ؤ�شرات �سلوكية تعك�س تحقق‬ ‫والهوية أ‬
‫تلك التربية‪:‬‬
‫‪ -‬المبادرة‪ :‬تنمي أال�سرة روح المبادرة الذاتية لدى �أبنائها‪.‬‬
‫‪ -‬الفاعلية واالجتهاد‪ :‬تربي أال�سرة �أبناءها على �إطاعة القواعد التي تحكم‬
‫ال�سلوك‪ ،‬وعلى التوجه نحو أالداء وطريقته ب�شغف‪ ،‬وكذلك تنمية ميول أالبناء‬
‫�إلى االنجاز معتمدين في ذلك على �أنف�سهم‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫"الجابة على أال�سئلة‪ :‬من �أنا؟‪ ،‬من �أين‬‫‪ -‬الهوية‪ :‬ت�ساعد أال�سرة �أبناءها على إ‬
‫�أتيت؟ ما هو دوري في الحياة؟ ما م�صيري؟‪ ...‬الخ"‪.‬‬
‫‪ -‬أاللفة‪ :‬تعليم أال�سرة �أبنائها على �أن ي�شارك آالخرين ويرعاهم دون فقدان‬
‫�أنف�سهم‪ ،‬وتدريبهم على كيفية �إقامة عالقات �صداقة مع آالخرين‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫‪206‬‬
‫‪ -‬االنتاجية‪ :‬تعويد أال�سرة �أبنائها على االنتاج في عملهم وتكوين �أ�سرهم وتحقيق‬
‫حاجاتهم‪..‬‬
‫‪ -‬التكامل �أو االكتمال‪ :‬تعويد أال�سرة �أبنائها على النظر في حياتهم الما�ضية‪،‬‬
‫وعلى تقييم �أنف�سهم �إن كانت ذات معنى‪ ،‬و�إن كانوا منتجين و�سعيدين ورا�ضين‬
‫عن �أنف�سهم‪ ،‬وغير ذلك‪..‬‬

‫‪207‬‬
‫العائد رقم (‪ :)2‬االنجاز ال�شخ�صي أ‬
‫والكاديمي والمهني‪..‬‬

‫تقدم لنا من خالل أالبعاد النف�سية‪-‬االجتماعية‬ ‫التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية ِّ‬
‫للعائد رقم (‪�- ،)1‬أي �أبعاد المبادرة‪ ،‬الفاعلية واالجتهاد‪ ،‬الهوية‪ ،‬أاللفة‪ ،‬االنتاجية‪،‬‬
‫التكامل �أو االكتمال‪ -‬عائداً مت�ضمناً فيها وهو "االنجاز"‪ ،‬ال�شخ�صي أ‬
‫والكاديمي‬
‫والمهني واالجتماعي‪ ،‬حيث �أن "االنجاز‪ :‬هو التقدم نحو الهدف المرغوب"(�أحمد‬
‫زكي بدوي‪� ،1982 ،‬ص ‪..)7‬‬

‫وتطلق مفردة "�إنجاز" في علم النف�س على "ما �أحرزه المرء ّ‬


‫وح�صله �أثناء التعلم‬
‫والتدريب واالمتحان واالختبار في تفوق �أو مهارات �أو معلومات؛ وتدل على أالداء‬
‫مقي�سة من االختبارات التربوية‪ ،‬فيقال العمر التح�صيلي �أو التعليمي‬
‫في �سل�سلة ّ‬
‫حيث يتقابل العمر الزمني للمرء مع درجة معينة في مقيا�س االختيار التح�صيلي‪،‬‬
‫وتكون ن�سبة التح�صيل �أو االنجاز هي الن�سبة المئوية بين العمر التح�صيلي والعمر‬
‫الزمني للفرد الخا�ضع لالختبار"(�أ�سعد رزوق‪� ،1979 ،‬ص ‪..)48‬‬
‫االنجاز �سلوك‪ ،‬وال�سلوك االنجازي وراءه دافع‪ ،‬يُ�س ّمى بالدافع لالنجاز‬
‫‪ ،Achievement Motivation‬وذلك �إنطالقاً من �أن "كل �سلوك وراءه دافع‪� ،‬أي‬
‫تكمن وراءه قوى دافعية معينة"(�صفاء أالع�سر و�إبراهيم ق�شقو�ش ومحمد �سالمة‪،‬‬
‫‪� ،1983‬ص ‪ ..)7‬هذا ال�سلوك هو الذي يحرز به الفرد �أداء متميز‪ ،‬يحرز به تفوق‪،‬‬
‫يحرز به نقاط خير تح�سب ل�صالحه‪..‬‬
‫‪208‬‬
‫أال�سرة عليها واجب تن�شئي كبير اتجاه �أبنائها‪ ،‬وهو واجب بناء �سلوك انجازي‬
‫لدى أالبناء‪ ،‬وهذا يتطلب وجود نوع مهم من التن�شئة وهو "التن�شئة نحو االنجاز"‪،‬‬
‫والتي تفيد "كل �سلوك ي�صدر عن من هو في مو�ضع �سلطة وتفاعل مبا�شر مع‬
‫والمهات‪ ،‬المعلمين والمعلمات)‪ ،‬وي�ؤثر على نمو �شخ�صياتهم‬ ‫أالبناء (مثل أالباء أ‬
‫لكي تتحلى بكل �صفات االنجاز وتتخلى عن كل �صفات العجز‪� ،‬إذاً هي تن�شئة‬
‫ت�سعى "تحويل أالبناء من �أبناء عاجزين �إلى �أبناء ُم ْنجِ زين"‪" ،‬تحويل االبن من كائن‬
‫خام عاجز �إلى كائن من ّظم ُم ْنجِ ز"‪..‬‬

‫والتن�شئة نحو االنجاز ينبغي �أن تعتمد �أ�ساليب �صحية‪ ،‬بمعنى ينبغي �أن تبتعد‬
‫عن أ‬
‫"ال�ساليب التالي‪:‬‬
‫‪ -‬الرف�ض‬
‫‪ -‬الق�سوة‬
‫‪-‬الحماية الزائدة‬
‫‪ -‬التذبذب‬
‫‪ -‬التحكم‬
‫‪ -‬إالهمال‬
‫‪ -‬التفرقة‬
‫‪� -‬إثارة القلق وال�شعور بالذنب"(عالء الدين كفافي‪� ،1989 ،‬ص �ص ‪،)57-56‬‬
‫و�أن تتبنى أال�ساليب ال�صحيحة‪ ،‬والتي هي �صحية في ذاتها �أو تم ِّثل و�سط محمود‬
‫بين طرفين مذمومين‪� ..‬أ�ساليب فيها تقبل ودفء وديموقراطية في التعامل‪..‬‬
‫‪209‬‬
‫�إن غياب أال�ساليب ال�صحية في التن�شئة و�سيادة نقي�ضها غير ال�صحي كفيل ب�أن‬
‫يد ِّمر أالبناء‪ ،‬وقد يقودهم �إلى االنتحار‪ ،‬وبالتالي ف�إن تن�شئة آالباء أللبناء نحو إالنجاز‬
‫ينبغي �أن تكون تن�شئة معتدلة‪ ،‬تن�شئة ال تطرف فيها‪ ،‬و�إال ف�إنها قد ت�سير باالبن‪،‬‬
‫الذي لم ي�صل �إنجازه �إلى توقعات �آبائه‪ ،‬ت�سير به نحو االنتحار‪ ..‬فاالبن الذي ُيطا َلبه‬
‫والديه ب�أن يكون �أدائه ُم ْن ِتج لتقدير امتياز ‪ّ ،%100‬ثم لم يتمكن من ذلك‪ ،‬ف�إنه قد‬
‫ابتداء باالكتئاب‪ ،‬والذي قد ي�ؤدي به �إلى التفكير في االنتحار‪ ،‬بل ومحاولة‬ ‫ُي�صاب ً‬
‫االنتحار‪..‬‬

‫�إذاً نحن في حاجة �أن ن�ؤ�س�س لتن�شئة �صحية ومعتدلة وفعالة نحو االنجاز‪..‬‬
‫والعامل الذي يمكن �أن ي�ساعد في نجاح ذلك الت�أ�سي�س هو �أن تقوم أال�سرة وتبني‬
‫في داخلها ثقافة تت�سق مع التن�شئة نحو االنجاز‪ ،‬وهذه الثقافة هي "ثقافة االنجاز"‪،‬‬
‫والتي ينبغي �أن تكون حقيقة في ذات أالبناء قبل �أن تتحول �إلى حقيقة في‬
‫خارجهم‪..‬‬

‫وتحول الثقافة �إلى حقيقة في النف�س يعني �أن تكون القيم هي التي ِّ‬
‫ت�شكل‬
‫منطق ال�سلوك‪ ،‬و"بالتالي ت�شكل م�ضمون الفعل الثقافي"(مها زحلوق وعلي‬
‫وطفة‪� ،2000 ،‬ص ‪ ،)8‬فالحقيقة الثقافية تتج�سد في قيم واتجاهات وعقائد ومواقف‪،‬‬
‫والحقيقة الثقافية بهذا المعنى ت�صبح �أ�سا�ساً "في عملية التنظيم االجتماعي‪ ،‬وفي‬
‫عملية ال�سيطرة على الذات‪ ،‬و�إدراك الهوية وال�سيطرة على الم�صير"(مها زحلوق‬
‫وعلي وطفة‪� ،2000 ،‬ص ‪..)10‬‬
‫‪210‬‬
‫ونود �أن ننبه هنا �إلى �أن كل هذه العنا�صر الثقافية الكامنة في دواخلنا هي �أ�سا�س‬
‫لدوافعنا‪ ..‬فالثقافة ت�صنع دافعية‪ ،‬و�إن كانت الفطرة �أ�سا�س لتلك الدافعية‪ ..‬فالدافعية‬
‫�أثر للتفاعل كل من الثقافة مع الفطرة‪ ،‬متبوعين ب�أثر عامل مهم من عوامل الذات‪،‬‬
‫وهو عامل االختيار‪..‬‬

‫الهمية هنا هي "دافعية االنجاز"‪ ..‬والدافعية لالنجاز هي‬


‫ولعل الدافعية مو�ضع أ‬
‫�أثر لنوعين من الدوافع‪� ،‬أو ًال الدافع للتميز‪ ،‬وهو دافع مو�صول ذاتي‪ ،‬و�إن كانت له‬
‫جذور ثقافية‪ ،‬وثانياً الدافع للتعزيز‪ ،‬وهو دافع مو�صول اجتماعي‪ ،‬و�إن كانت له جذور‬
‫فطرية؛ وللدافع لال�ستقالل ارتباط بكل ما �سبق‪..‬‬

‫وهذا يعني �أن التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية هي تربية للدافعية‪ ،‬من ناحية‬
‫تن�شيطها وتوجيهها‪ ،‬لكي ت�أتي بثمارها‪ ..‬وهذه التربية تبد�أ من خالل تن�شيط الدافع‬
‫لال�ستقالل‪ ،‬وجعله متغيراً و�سيطاً ي�صل الدافع للتميز بالدافع لالنجاز‪� ،‬أو قل عام ًال‬
‫وا�ص ًال للدافع للتفرد بالدافع الذي يلد العائد‪ ..‬طبعاً هناك دوافع اجتماعية م�ساندة‬
‫ومع ِّززة للدوافع الذاتية في �سيرها نحو هدفها‪..‬‬

‫وهنا �أود �أن �أ�ضيف فكرة مهمة ت�صوغها لنا �سوزان كويليام‪ ..‬والفكرة هي �أنه‬
‫"عندما يكون المرء مدفوعاً بحبه لالنجاز‪ ،‬يكون �أهم ما ي�سعى �إليه هو تحقيق النتائج‪،‬‬
‫وقد تعني (النتائج) هنا النجاح في العمل"(�سوزان كويليام‪� ،2004 ،‬ص ‪ ..)6‬ولعل‬
‫ال�سبب في ذلك يكمن في �أن محبي االنجاز يرغبون في �إتمام أالعمال‪ ،‬وعندما‬
‫‪211‬‬
‫ينجحون في ذلك ‪�-‬سواء �أكان العمل الذي ي�سعون �إلى اتمامه هو الح�صول‬
‫على ترقية �أو كي مالب�سهم‪ -‬ف�إنهم ي�شعرون ب�سعادة ال تعادلها �أية �سعادة في هذا‬
‫العالم"(�سوزان كويليام‪� ،2004 ،‬ص ‪..)6‬‬

‫هذا الدافع لالنجاز ي�صبح �أ�سا�ساً للنجاح في كل المجاالت ال�شخ�صية‬


‫والكاديمية والمهنية واالجتماعية‪ ،‬و�إن تفاوت النجاح في حجمه بتفاوت متغيرات‬ ‫أ‬
‫كثيرة مرتيطة بالمجال مو�ضع التركيز‪� ..‬إذاً التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية ينبغي‬
‫�أن تكون تربية‪ ،‬تبد�أ باال�ستقالل وتنتهي بتح�صيل أالف�ضل‪ ..‬تربية تجعل من الحاجة‬
‫لالنجاز هدف يحتاج �إلى ا�شباع‪ ..‬و"الحاجة لالنجاز ‪: Need for Achievement‬‬
‫هي تبيان �أو تعبير عن وجود رغبة في بلوغ هدف �إنجازي من نوع ما"(�صفاء أالع�سر‬
‫و�إبراهيم ق�شقو�ش ومحمد �سالمة‪� ،1983 ،‬ص ‪..)21‬‬

‫نخل�ص �إلى �أن‪ ،‬التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية هي تربية تبني جوانب �إيجابية‬
‫في أالبناء من خالل تعزيز �أبعاد حيوية في ذواتهم مثل المبادرة والفاعلية واالجتهاد‬
‫واللفة واالنتاجية والتكامل‪ ،‬وتجعلهم �أكثر قدرة على االنجاز والمزيد من‬ ‫والهوية أ‬
‫االنجاز‪ ..‬وفيما يلي م�ؤ�شرات �سلوكية تعك�س تحقق تلك التربية‪:‬‬
‫‪ -‬ت�ساعد أال�سرة �أبناءها على تحقيق ر�ؤاهم الخا�صة بهم‪.‬‬
‫‪ -‬تنمي أال�سرة روح المبادرة لدى أالبناء‪.‬‬
‫ت�شجع على التعلم أالف�ضل‪.‬‬
‫‪ -‬ت�ساعد أال�سرة �أبناءها على توفير بيئة تربوية ِّ‬
‫‪ -‬ت�ساعد أال�سرة �أبناءها على التفوق الدرا�سي واالمتياز أالكاديمي �أو التح�صيل‬
‫المرتفع‪.‬‬
‫‪212‬‬
‫‪ -‬ت�ساعد أال�سرة �أبناءها على النجاح في تكوين عالقات اجتماعية �صحية في‬
‫و�سطهم المهني‪.‬‬
‫‪ -‬تدفع أال�سرة �أبناءها �إلى �أن يكونوا قادرين على �إنجاز مهامهم المهنية بكفاءة‬
‫وفعالية‪.‬‬
‫‪ -‬ت�سعى أال�سرة �إلى جعل �أبناءها ن�شطين ومفيدين اجتماعياً‪.‬‬
‫‪ -‬ت�سعى أال�سرة �إلى التمكين أللبناء من القيام بكل ال�شروط التي تمنحهم‬
‫مكانة اجتماعية عالية في المجتمع‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫العائد رقم (‪ :)3‬المكانة أ‬
‫الدبية واالجتماعية‪..‬‬

‫تقدم لنا من خالل أالبعاد النف�سية‪-‬االجتماعية‬ ‫التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية ِّ‬
‫للعائد رقم (‪�- ،)1‬أي �أبعاد المبادرة‪ ،‬الفاعلية واالجتهاد‪ ،‬الهوية‪ ،‬أاللفة‪ ،‬االنتاجية‪،‬‬
‫التكامل �أو االكتمال‪ -‬عائداً مت�ضمناً فيها وهو "المكانة"‪ ،‬علمية واجتماعية‪ ،‬حيث‬
‫�أن "المكانة االجتماعية‪ :‬هي المركز االجتماعي‪ ،‬الذي ي�شغله الفرد في جماعة"(�أحمد‬
‫زكي بدوي‪� ،1982 ،‬ص ‪..)410‬‬

‫ويرتبط بالمكانة‪� ،‬أي بكل مركز �أدوار محد ّدة يقوم بها الفرد طبقاً للقواعد‬
‫المقررة‪ ...‬وقد يكون المركز َمن�سوباً �أو َمف ُْرو�ضاً ‪Ascribed Status‬‬ ‫ال�سلوكية ّ‬
‫ال ي�ستطيع الفرد �أن يغير منه‪ ،‬وهو يرتبط عادة بمولد ال�شخ�ص �أو �أ�صله ون�سبه‬
‫ال ‪Achieved Status‬‬ ‫�أو جن�سه �أو ديانته‪ ...‬كما قد يكون المركز مكت�سباً �أو ُم َح َّ�ص ً‬
‫وهو المركز الذي ي�صل �إليه الفرد بجهوده وقدرته وكفاءته ال�شخ�صية‪ ...‬وتنت�شر في‬
‫المجتمعات المتخلفة المراكز المفرو�ضة بينما تنت�شر في المجتمعات المتقدمة‬
‫المراكز المكت�سبة"(�أحمد زكي بدوي‪� ،1982 ،‬ص ‪..)410‬‬

‫وتجدر إال�شارة �إلى �أنه "كلما زادت مكانة الفرد داخل الجماعة‪� ،‬أو كلما زادت‬
‫المكانة التي يحتمل �أن يح�صل عليها �إذا ان�ضم للجماعة‪ ،‬كلما زادت القوى التي‬
‫تدفعه �إلى االن�ضمام للجماعة‪ ..‬وقد تو�صل كيللي (‪ )Kelley‬في �إحدى تجاربه �إلى‬
‫نتيجة م�ؤداها �أن �أكثر �أفراد الجماعة آالخرين هم أالفراد آالمنون على مراكزهم في‬
‫‪214‬‬
‫المكانات العالية و�أولئك الذين يقدرون احتمال ترقيتهم من مكاناتهم المنخف�ضة‪..‬‬
‫كذلك وجد �أن �أقل المكانات في الجماعة جاذبية أللفراد هي المكانات العالية‬
‫المهددة بالتنـزيل‪ ،‬والمكانات المنخف�ضة غير القابلة للترقية"(مختار حمزة‪،1982 ،‬‬
‫�ص �ص ‪..)137-136‬‬

‫�إذاً المكانة االجتماعية تترجم ذاتها في �صيغة �أدوار اجتماعية‪ ..‬وهذه الترجمة‬
‫إالجرائية تح ِّتم على أال�سرة �أن ت�ساعد أالبناء على �أن تكون لديهم مكانة من خالل‬
‫تعزيز �أدوارهم االجتماعية‪ ،‬والتي تم ِّثل الدالالت الوظيفية للفرد في الجماعة‬
‫�أو "ال�شخ�صية كما تك�شف عن نف�سها في نمط معين من ال�سلوك نحو الجماعة"(زين‬
‫العابدين دروي�ش‪� ،1999 ،‬ص ‪..)59‬‬

‫ال��دور االجتماعي هو "الجان��ب الدينامي لمركز الفرد �أو و�ضع��ه �أو مكانته في‬
‫الجماع��ة‪ ...‬ه��و وظيفة الف��رد في الجماعة �أو ال��دور الذي يلعبه الف��رد في جماعة‬
‫�أو موق��ف اجتماع��ي‪ ....‬والدور �شيء م�ستق��ل عن الفرد الذي يق��وم بهذا الدور‪.‬‬
‫فالف��رد ب�ش��ر �أم��ا الدور فه��و (�سيناريو) يح��دد ال�سل��وك �أو يعبر عن االنفع��ال ويحدد‬
‫ِّ‬
‫أالقوال"(مخت��ار حم��زة‪��� ،1982 ،‬ص ‪ ،)185‬الف��رد ب�شر ل��ه دور يعبر عن فكر‬
‫ِّ‬
‫﴾الكهف‪� ،]110 :‬إذاً نحـن في هــذه‬ ‫�أو ت�صـور ﴿‬
‫آالية �أمام ب�شر يقوم بدور الر�سول‪ ،‬ودور الر�سول ي�شمل نمطاً منتظماً‪ ،‬م�ستقيماً‬
‫و ُمب ِلغاً‪ ،‬من جانب الر�سول‪ ..‬وما يقال في هذا الدور يقال في بقية أالدوار مثل دور‬
‫القائد‪..‬‬
‫‪215‬‬
‫ولكن "يالحظ �أن لي�س للفرد دور اجتماعي واحد‪ ،‬بل تتعدد أالدوار االجتماعية‬
‫ح�سب الجماعات المختلفة التي ي�شترك فيها الفرد"(مختار حمزة‪،1982 ،‬‬
‫�ص ‪" .)193‬فالقائد مث ًال وهو يقوم بدوره هذا هو �أي�ضاً زوج و�أب في �أ�سرته‪ ،‬وع�ضو‬
‫في ناد ريا�ضي وع�ضو في جماعة �سيا�سية‪ ..‬ونف�س الفرد قد يكون مدر�ساً في ال�صباح‬
‫وطالباً للدرا�سات العليا في الم�ساء‪ ،‬والموظف دائماً نجده رئي�ساً ومر�ؤو�ساً في نف�س‬
‫الوقت"(مختار حمزة‪� ،1982 ،‬ص ‪..)193‬‬
‫ولذلك على أال�سرة �أن تع ِّلم االبن ب�أن "يجد طريقاً ينظم فيه �أدواره العديدة في‬
‫ن�سق منتظم مترابط متكامل‪ ،‬ويختلف أالفراد اختالفاً كبيراً في �إيجاد تكامل بين‬
‫أالدوار المختلفة‪ ...‬وتختلف أالدوار االجتماعية‪ ،‬فنجد بع�ضها مفرو�ضاً على الفرد‬
‫وبع�ضها اختيارياً"(مختار حمزة‪� ،1982 ،‬ص ‪ ،)193‬بل �إن الدور يت�ضمن عدة �أدوار‬
‫متفرعة عنه‪ ،‬كما هو مو ّثق في دور النبي الر�سول والذي يتفرع منه دور ال�شاهد ودور‬
‫المنذر ودور الداعية ودور ال�سراج المنير‪﴿ ،‬‬ ‫المب�شر ودور ِ‬
‫ِّ‬
‫﴾‬
‫الحزاب‪..46-45 :‬‬ ‫أ‬
‫بال�ضافة �إلى �أدوار النبي الر�سول أالخرى حيث �أنه �أب‪ ،‬وزوج‪ ،‬وقائد‬ ‫هذا إ‬
‫لجماعة الم�سلمين‪ ،‬وع�ضو ن�شط فيها‪ ،‬ي�ست�شير وي�صنع قرار‪﴿ ،‬‬
‫﴾�آل عمران‪ ،159 :‬ومع كل هذه أالدوار‪ ،‬ف�إن النبي‬
‫الر�سول يو�صي �أتباعه ب�أن يوفقوا بين �أدورهم ويعطوا كل دور حقه‪ ،‬ويوافقهم على‬
‫مقوالتهم التي تقر مبد�أ "التوفيق في الحقوق"‪� ،‬أي مبد�أ "�أعط كل ذي حق حقه"‪،‬‬
‫‪216‬‬
‫والذي نطق به �سلمان عندما قال ألبي الدرداء‪�" :‬إن لربك عليك حقا‪ ،‬ولنف�سك عليك‬
‫ولهلك عليك حقا‪ .‬ف�أعط كل ذي حق حقه"‪ ،‬وذ ُِكر هذا للنبي محمد  ‪،‬‬ ‫حقا‪ ،‬أ‬
‫فقال‪�" :‬صدق �سلمان"(البخاري في �صحيحه‪ ،‬طبعة ‪" 1981‬مج ‪� ،"1‬ص ‪..)243‬‬

‫وينبغي على أال�سرة وهي تربي �أبناءها على اال�ستقاللية ب�أن تع ِّلمهم ب�أن‬
‫اال�ستقاللية الفعالة ال تلغي االعتمادية عندما تكون معتدلة‪� ،‬أي ال توجد ا�ستقاللية‬
‫مطلقة‪ ،‬فاالبن "ال�شاب قد يكون قائداً في جماعة وتابعاً في جماعة �أخرى‪ ..‬وقد‬
‫يكون الرجل م�سيطراً في عمله ألنه مركز قيادي‪ ،‬ولكن �سلوكه يختلف عن هذا‬
‫عندما يكون في النادي �أو في بيته"(مختار حمزة‪� ،1982 ،‬ص ‪..)193‬‬

‫و�أود �أن �أنبه �أخيراً هنا �إلى �أن التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية ينبغي �أن َت ْع َنى‬
‫بالدوافع االجتماعية‪ ،‬فهي �أ�سا�س لبناء المكانة أالدبية واالجتماعية‪ ..‬ومن هذه‬
‫الدوافع الدافع للقوة‪ ،‬والذي يمثل "مقدار الرغبة في ال�سيطرة وفر�ض الت�أثير في‬
‫المواقف االجتماعية"(مي�شيل ارجايل‪� ،1982 ،‬ص ‪)39‬؛ �إ�ضافة �إلى الدافع للنفوذ‬
‫والدافع لالنتماء‪ ،‬والذي "يخت�ص بحافز البحث عن مواقف اجتماعية عميقة‪ ،‬ودافئة‬
‫ووثيقة‪ ،‬والبحث عن التقبل وحب آالخرين"(مي�شيل ارجايل‪� ،1982 ،‬ص ‪..)39‬‬

‫ودعوتنا ألل�سرة باالعتناء بالدوافع االجتماعية تنطلق من فكرة �أن �أ�صول الحوافز‬
‫والدوافع االجتماعية تكمن في التعلم‪ ..‬فالدرا�سات العلمية ك�شفت عن "اكت�ساب‬
‫بالثابة"(مي�شيل ارجايل‪� ،1982 ،‬ص ‪ )42‬وغيرها من‬ ‫الحوافز بطريق التعلم إ‬

‫‪217‬‬
‫مرده �إلى �أن ال�شخ�صية لي�ست فقط ً‬
‫بناء �سلوكياً‪ ،‬و�إنما‬ ‫�أ�شكال التعلم‪ ..‬وهذا كله ُّ‬
‫"بناء دافعياً"(علي عبدالرزاق جلبي‪� ،1984 ،‬ص ‪ ،)181‬يح ِّفز ذلك‬
‫هي كذلك ً‬
‫ويوجهه‪..‬‬
‫ال�سلوك ِّ‬
‫نخل�ص �إلى �أن التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية هي تربية تبني جوانب �إيجابية في‬
‫أالبناء من خالل تعزيز �أبعاد حيوية في ذواتهم مثل المبادرة والفاعلية واالجتهاد‬
‫واللفة واالنتاجية والتكامل‪ ،‬وتجعلهم ذوي �أدوار �إنجازية تبني لهم مكانة‬ ‫والهوية أ‬
‫اجتماعية‪ ..‬وفيما يلي م�ؤ�شرات �سلوكية تعك�س تحقق تلك التربية‪:‬‬
‫‪ -‬ت�ساعد أال�سرة �أبناءها على معرفة زمانهم والتعامل معه ب�شكل �إيجابي‪.‬‬
‫‪ -‬ت�ساعد أال�سرة �أبناءها على اال�ستقامة في الحياة‪.‬‬
‫‪ -‬ت�ساعد أال�سرة �أبناءهم على فهم محيطهم القريب والبعيد‪ ،‬وتقديره‪.‬‬
‫‪ -‬توعي أال�سرة �أبناءها ب�أن ي�ستعينون بو�سائل م�شروعة ألهداف م�شروعة‪.‬‬
‫‪ -‬تعويد أال�سرة �أبناءها على التخيل االجتماعي النافع‪ ،‬بما ي�ؤدي �إلى �صناعة‬
‫�أهداف جديدة نافعة وو�سائل تحقق تلك أالهداف‪� ،‬أي يت�صور االبن الهدف‬
‫ويت�صور و�سيلته‪.‬‬
‫‪ -‬تع ِّلم أال�سرة �أبناءها على �أن المكانة االجتماعية ُتكْ َت َ�سب وال ُت ْو َهب‪.‬‬
‫‪ -‬تع ِّلم أال�سرة �أبناءها على �أن مفاتيح المكانة االجتماعية هي الثقة االجتماعية‬
‫والعالقة الح�سنة آ‬
‫بالخرين واالنجاز‪.‬‬
‫‪ -‬تع ِّلم أال�سرة �أبناءها �أن الجزاء من جن�س العمل‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫العائد رقم (‪ :)4‬الثروة المالية والمادية‪..‬‬

‫تقدم لنا من خالل أالبعاد النف�سية‪-‬االجتماعية‬ ‫التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية ِّ‬
‫للعائد رقم (‪�- ،)1‬أي �أبعاد المبادرة‪ ،‬الفاعلية واالجتهاد‪ ،‬الهوية‪ ،‬أاللفة‪ ،‬االنتاجية‪،‬‬
‫التكامل �أو االكتمال‪ -‬عائداً مت�ضمناً فيها وهو "بناء الثروة"‪ ،‬المادية والمالية‪ ،‬حيث‬
‫�أن "الثروة‪ :‬كل الممتلكات التي لها قيمة تبادلية‪ ،‬فالثروة الفردية ت�شمل الموارد‬
‫ال�صالحة إل�شباع الحاجات �سواء كانت �سلعاً مادية �أو حقوقاً‪� ...‬أما من وجهة نظر‬
‫المجتمع فت�شمل الثروة الموارد الطبيعية وال�سلع المملوكة ملكية جماعية كالمرافق‬
‫العامة والطرق والمناجم وال�سكك الحديدية‪ ..‬الخ"(�أحمد زكي بدوي‪،1982 ،‬‬
‫�ص ‪..)445‬‬

‫"والثروة في اال�ستعمال ال�ضيق م�ساوية لر�أ�س المال‪ ،‬و�إن كانت تعطي معنى‬
‫القابلية لال�شباع‪ ،‬في حين �أن ر�أ�س المال يركِّ ز على الطاقة االنتاجية للر�صيد‬
‫من أال�شياء ذات القيمة االقت�صادية"(�أحمد زكي بدوي‪� ،1982 ،‬ص ‪..)445‬‬
‫�أما المال‪� ،‬أو قل "النقود‪ :‬هو كل و�سيط للمبادلة بقبول عام مع الوفاء بااللتزامات‪،‬‬
‫وتدخل فيها العملة التي هي النقود التي يعترف لها بقوة �إبراء محدودة �أو غير‬
‫محدودة‪ ...‬والنقود‪ :‬هي أال�سا�س الذي يقوم عليه جهاز الثمن‪ ،‬حيث يتم تقويم‬
‫�أثمان ال�سلع والخدمات بالنقود‪ ،‬كما تقوم بها معظم نفقات االنتاج"(�أحمد زكي‬
‫بدوي‪� ،1982 ،‬ص ‪..)272‬‬
‫‪219‬‬
‫والتربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية تنطلق من مبد�أ �أن "اال�ستقالل يمكن �أن‬
‫يكون مدخل على جلب المال؛ و�أن المال يمكن �أن ي�ساعد في تح�سين الحال"‪،‬‬
‫بمعنى مثلما �أن المال يمكن �أن يكون �آلية تدمير للحال‪ ،‬هو كذلك يمكن �أن يكون‬
‫�آلية لتعمير الحال‪ ..‬وطبعاً هذا م�شروط باال�ستعمال العاقل والفعال للمال‪ ،‬والذي‬
‫ال ُي ْح ِ�سنه بحق وحقيقة �إال من كان �صالح العمل‪ ..‬لذلك جاء في الحديث النبوي‪:‬‬
‫"نعم المال ال�صالح للعبد ال�صالح" رواه �أحمد(�أبو حامد الغزالي‪ ،‬طبعة ‪" 1980‬مج‬
‫‪� ،"4‬ص �ص ‪..)1766-1765‬‬

‫"محركة"‪ ،‬نف�سياً واجتماعياً‪،‬‬


‫وال�سالم منح المال منـزلة كبيرة لما فيه من قدرة‪ِّ ،‬‬ ‫إ‬
‫من ناحية؛ و"م�ؤثِّرة"‪ ،‬وقائياً وتنموياً‪ ،‬من ناحية �أخرى‪ ..‬ولذلك ّقدمه القر�آن وظيفياً‬
‫ابت��داء على النف���س ﴿‬
‫ً‬ ‫ق��دم الم��ال‬
‫عل��ى غي��ره‪ّ ،‬‬
‫انتهاء على النا�س بما فيهم البنين‪﴿ ،‬‬
‫وقدمه ً‬ ‫﴾ال�صف‪ّ ،]11 :‬‬
‫﴾الكهف‪..]46 :‬‬
‫"الك�سب ي�أتي من �ضربات الحظ �أو االدخار الذي يتحول �إلى ا�ستثمار"‪..‬‬

‫وطبعاً ال�سبب في ذلك يرجع �إلى �أن "المال‪� :‬ضروري في المعي�شة"(�أبو حامد‬
‫الغزالي‪ ،‬طبعة ‪" 1980‬مج ‪� ،"5‬ص ‪� ،)2482‬أي �أن انفاق المال �ضروري لتح�سين‬
‫الحال‪ ،‬ولكن مع التنبيه �إلى �أن "للمنفق حالتان‪ ،‬تبذير واقت�صاد‪ ..‬والمحمود هو‬
‫االقت�صاد"(�أبو حامد الغزالي‪ ،‬طبعة ‪" 1980‬مج ‪� ،"4‬ص ‪ ،)21761‬هو االعتدال‪..‬‬
‫‪220‬‬
‫التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية ينبغي �أن ِّ‬
‫تنبه �إلى �أن اال�ستقالل ال ي�أتي فقط‬
‫بالمال‪ ،‬و�إنما المال هو آالخر يمكن �أن ي�أتي باال�ستقالل‪ ،‬ويزيد في قوته‪ ..‬وكما‬
‫يقال "المال قوة"‪ ،‬وفي تناميه تنامي للقوة‪ ..‬أ‬
‫والقوى بال تقوى‪ :‬يَ ْه َوى‪� ،‬أي يقع‪..‬‬
‫ولذلك جاءت الن�صيحة تقول‪�" :‬إياك �أن تجمع من الدنيا ما ال ت ؤ�دي �شكره" (�أبو‬
‫﴾‬ ‫حامد الغزالي‪ ،‬طبعة ‪" 1980‬مج ‪� ،"4‬ص ‪﴿ ،)1763‬‬
‫�إبراهيم‪..]7 :‬‬

‫التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية �أي�ضاً ينبغي �أن ت�ضبط م�سار النـزعة لال�ستقالل‬
‫ب�ضبط طريقة التعامل مع المال‪ ،‬بحيث يكون هذا المال و�سيلة ال غاية‪ ،‬وكما‬
‫يقول �أحمد �أمين رحمه اهلل‪" :‬لي�س المال يُطلب لذاته‪ ،‬ألنه و�سيلة للح�صول على‬
‫ما يُرغَب"(‪� ،1969‬ص ‪ ،)229‬ولذلك ينبغي �أن ال تلهينا الو�سيلة عن الغاية‪� ،‬أي المادة‬
‫عن العبادة‪﴿ ،‬‬
‫﴾ المنافقـ��ون‪﴿،9 :‬‬
‫﴾التغابن‪..15 :‬‬

‫و�ضابط �آخر مترتب على ال�ضابط �أعاله هو �أن المال ت�ضبطه نوعية الحال التي‬
‫يرجـوها إالن�سان في عالم آالخرة‪﴿ ،‬‬

‫‪221‬‬
‫﴾�آل عمران‪﴿ ،]15-14 :‬‬
‫﴾‬
‫الكهف‪..]46 :‬‬
‫و�إن دلت هذه آاليات كلها على �شيء ف�إنما تدل على �أن المال و�سيلة لغيره؛‬
‫وغيره يفيد �أغرا�ضه و�أهدافه وغاياته‪ ..‬ومعلو ٌم �أن الو�سائل جزء من الدنيا والغايات‬
‫الخرة‪ ..‬ولذلك‪ ،‬عندما يموت إالن�سان تبقى الو�سائل في الدنيا‪ ،‬وتذهب‬ ‫جزء من آ‬
‫الغايات والمقا�صد �إلى ا آلخرة‪..‬‬
‫وبتعبير �آخر‪" :‬المال والبنون لن يدخال معك القبر‪ ،‬ولن ينفعاك من العذاب‪،‬‬
‫ولن ينفعك �إال الباقيات ال�صالحات"(محمد متولي ال�شعراوي‪ ،‬بدون تاريخ "مج‬
‫‪� ،"14‬ص ‪ ..)8926‬والباقيات نوعان‪ :‬باقيات �صالحات وباقيات �سيئات‪ ،‬والن�ص هنا‬
‫ليميزها عن الباقيات ال�سيئات‪ ..‬و�أن هذه الباقيات‬ ‫حدد الباقيات بال�صالحات ِّ‬
‫ال�صالحات خير عند اهلل‪ ..‬أ‬
‫"والمل‪ :‬ما يتطلع �إليه إالن�سان مما لم تكن به حالته‪،‬‬
‫فالمل أالعلى عند اهلل تبارك وتعالى‪ ،‬كل‬‫ف�إن كان عنده خير تطلَّع �إلى �أعلى منه‪ .‬أ‬
‫باق"(محمد متولي ال�شعراوي‪،‬‬ ‫يبين �أن هذه الدنيا زائلة‪ ،‬و�أننا ذاهبون �إلى يوم ٍ‬
‫هذا ِّ‬
‫بدون تاريخ "مج ‪� ،"14‬ص ‪..)8928‬‬
‫�إذاً التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية هي مجموعة الجهود المبذولة لت�أ�سي�س‬
‫فكرة مركَّ بة لدى أالبناء‪ ،‬وهي �أن "اال�ستقالل و�سيلة للمال‪ ،‬و�أن هذا المال يغذي‬
‫ويقويه؛ و�أن المال في حد ذاته و�سيلة لغيره‪ ،‬و�أن ُّ‬
‫محكه يكمن في منافعه‪،‬‬ ‫اال�ستقالل ِّ‬
‫‪222‬‬
‫للخرة‪ ،‬وو�سيلة لحياة باقية دائمة ناعمة ُم ْ�س ِعدة‪ ،‬ال تنتهي‬
‫وفي جعل "الدنيا مزرعة آ‬
‫�أنت من النعيم فتتركه‪ ،‬وال ينتهي منك النعيم فيتركك‪� ،‬إنه نعيم الجنة"(محمد‬
‫متولي ال�شعراوي‪ ،‬بدون تاريخ "مج ‪� ،"14‬ص ‪..)8927‬‬
‫نخل�ص �إلى �أن التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية هي تربية تبني جوانب �إيجابية في‬
‫أالبناء من خالل تعزيز �أبعاد حيوية في ذواتهم مثل المبادرة والفاعلية واالجتهاد والهوية‬
‫واللفة واالنتاجية والتكامل‪ ،‬وتجعلهم ذوي �أدوار �إنجازية تبني لهم مكانة اجتماعية‪،‬‬ ‫أ‬
‫ومعها ثروة مادية ومالية‪ ..‬وفيما يلي م�ؤ�شرات �سلوكية تعك�س تحقق تلك التربية‪:‬‬
‫‪� -‬أن ت�ضع أال�سرة فكرة الم�ستقبل في عقول �أبناءها‪.‬‬
‫‪� -‬أن ت�ساعد أال�سرة �أبناءها على التخطيط ِّ‬
‫المبكر للم�ستقبل‪.‬‬
‫‪� -‬أن ت�ساعد أال�سرة أالبناء على تنفيذ خططهم بخ�صو�ص م�ستقبلهم‪.‬‬
‫تقدم أال�سرة توجيهات وتغذية راجعة أللبناء �أثناء تنفيذهم لخططهم‪.‬‬ ‫‪� -‬أن ِّ‬
‫‪� -‬أن ت�ساعد أال�سرة �أبناءها على تعديل خططهم الم�ستقبلية ً‬
‫بناء على معطيات‬
‫خبراتهم مع خططهم في �أر�ض الواقع‪.‬‬
‫‪� -‬أن توجه أال�سرة �أبناءها نحو قيا�س فاعلية خططهم‪ ،‬والتح�سين الم�ستمر لهذه‬
‫الفاعلية‪.‬‬
‫‪ -‬ت�ساعد أال�سرة �أبناءها على بناء ثروة مادية من خالل تنفيذهم ال�سليم‬
‫لمخططاتهم‪.‬‬
‫‪ -‬تذكِّ ر أال�سرة �أبناءها ب�ضرورة �شكر النعمة‪ ،‬والمراجعة الذاتية لكي ال تنحرف‬
‫بهم مكت�سباتهم �إلى ما ي�ضرهم وي�ضر ب�سمعتهم‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫العائد رقم (‪ :)5‬ال�سعادة الحياتية‪ ،‬ال�شخ�صية والزوجية والمهنية‪..‬‬

‫تقدم لنا من خالل أالبعاد النف�سية‪-‬االجتماعية‬ ‫التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية ِّ‬
‫للعائد رقم (‪�- ،)1‬أي �أبعاد المبادرة‪ ،‬الفاعلية واالجتهاد‪ ،‬الهوية‪ ،‬أاللفة‪ ،‬االنتاجية‪،‬‬
‫التكامل �أو االكتمال‪ -‬عائداً مت�ضمناً فيها وهو "تح�صيل ال�سعادة"‪ ،‬حيث �أن‬
‫"ال�سعادة‪ :‬حالة تن�ش�أ من �إ�شباع الرغبات إالن�سانية كماًّ وكيفاً‪ ،‬وقد ت�سمو �إلى م�ستوى‬
‫الر�ضا الروحي ونعيم الت�أمل والنظر"(�أحمد زكي بدوي‪� ،1982 ،‬ص ‪ )191‬والعمل‬
‫تحرك هذا العمل ال�صالح‪..‬‬
‫ال�صالح‪ ،‬وكل قيمة نف�سية ِّ‬
‫ولذلك اعتبر الب�شر �أن "ال�سعادة هي ج ّنة أالحالم التي ين�شدها كل ب�شر"(يو�سف‬
‫القر�ضاوي‪� ،1990 ،‬ص ‪ ..)76‬وهناك من زعم واعتبر ال�سعادة هي المقيا�س‪� ،‬أي "�أن‬
‫ال�سعادة هي الغاية أالخيرة للحياة‪ ،‬و�إن �شئت فقل هي غاية الغايات إللن�سان"(�أحمد‬
‫�أمين‪� ،1969 ،‬ص ‪..)89‬‬

‫وال�سعادة في داخلك قبل �أن تظهر في خارجك‪ ،‬ولذلك فقد قال " أال�ستاذ (كولن‬
‫ول�سون) الذي و�صف عمران نيويورك وازدهارها ب�أنه (غطاء جميل لحالة من التعا�سة‬
‫وال�شقاء)"(يو�سف القر�ضاوي‪� ،1990 ،‬ص ‪ ..)76‬وبالتالي‪ ،‬ف�إن المال‪ ،‬بالرغم من‬
‫�أنه يمكن �أن يكون م�صدر م�ساعد على ال�سعادة عندما ُي ْح ِ�سن ا�ستخدامه إالن�سان‪،‬‬
‫�إال �أن كثرته "لي�ست هي ال�سعادة‪ ،‬وال العن�صر أالول في تحقيقها‪ ،‬بل ربما كانت‬
‫كثرة المال �أحياناً وبا ًال على �صاحبها في الدنيا قبل آالخرة‪ ،‬لذلك قال اهلل في �ش�أن‬
‫‪224‬‬
‫قوم من المنافقين‪﴿ :‬‬
‫والهم‬
‫واللم ّ‬‫﴾التوبة‪ ...]55 :‬والعذاب هنا هو الم�شقة والن�صب أ‬
‫وال�سقم‪ ،‬فهو عذاب دنيوي حا�ضر"(يو�سف القر�ضاوي‪� ،1990 ،‬ص ‪..)79‬‬

‫وقد �أ�شار برتراند َرا�سل �إلى �أن "�سعادة المرء تتوقف على ظروفه الخارجية‪ ،‬من‬
‫ناحية‪ ،‬وعلى نف�سه هو‪ ،‬من ناحية ثانية"(‪� ،1981‬ص ‪ ..)169‬وال�سعادة من منظور‬
‫�إ�سالمي تفيد �أن ال�سعادة في �أ�صلها نف�سية �إيمانية روحية‪ ،‬وفي دالئلها اجتماعية‬
‫ال�صل الداخلي لل�سعادة‪ ،‬قال �أحد ال�صالحين‪�" :‬إننا نعي�ش‬‫ومادية وعملية‪ ..‬وعن أ‬
‫في �سعادة لو ع ِلم بها الملوك لجالدونا عليها بال�سيوف"(يو�سف القر�ضاوي‪،1978 ،‬‬
‫�ص ‪..)91‬‬

‫فال�سعادة �أ�صلها في �أعمال القلب‪� ،‬أ�صلها في التقوى‪ ،‬وفي �صورتها العملية‬


‫المترتبة عليها‪ ،‬وكما قال ال�شاعر‪:‬‬
‫ولكن التقـي هو ال�سعــيد)‬ ‫(ول�ست �أرى ال�سعادة جمع مال‬
‫يعبر عنه الح�سن‬‫ومرتبط بهذا معاني عملية عديدة منها معتى التناف�س‪ ،‬والذي ِّ‬
‫ر�ضي اهلل عنه‪�" :‬إذا ر�أيت النا�س يتناف�سون في الدنيا‪ ،‬فناف�سهم في آالخرة‪ ،‬ف�إنها‬
‫تذهب دنياهم وتبقى �آخرتهم"(�أحمد بن حنبل‪ ،‬طبعة ‪� ،1978‬ص ‪..)283‬‬

‫وعن الدليل الخارجي لل�سعادة‪�" ،‬أربع من ال�سعادة‪ :‬المر�أة ال�صالحة‪ ،‬والم�سكن‬


‫الوا�سع‪ ،‬والجار ال�صالح‪ ،‬والمركب الهني ُء؛ و�أربع من ال�شقاء‪ :‬المر�أة ال�سوء‪ ،‬والجار‬
‫‪225‬‬
‫ال�سوء‪ ،‬والمركب ال�سوء‪ ،‬والم�سكن ال�ضيق" حديث نبوي �صحيح(محمد نا�صر‬
‫الدين أاللباني‪" 1969 ،‬مج ‪� ،"1‬ص ‪ ..)305‬وفي رواية �أخرى‪�" :‬سعاد ٌة البن �آدم‬
‫ثالث‪ .‬فمن �سعادة ابن �آدم‪ :‬الزوجة ال�صالحة‪ ،‬والمركب‬
‫ثالث‪ ،‬و�شقاو ٌة البن �آدم ٌ‬
‫ٌ‬
‫ثالث‪ :‬الم�سكن ال�سوء‪ ،‬والمر�أة‬‫ال�صالح‪ ،‬والم�سكن الوا�سع‪ .‬و�شقو ٌة البن �آدم ٌ‬
‫ال�سوء‪ ،‬والمركب ال�سوء" حديث ح�سن إال�سناد(محمد نا�صر الدين أاللبـاني‪،‬‬
‫‪" 1982‬مج ‪� ،"3‬ص ‪..)208‬‬

‫�أي�ضاً يدخل �ضمن الو�سائل الم�ؤدية �إلى ال�سعادة �أو الم�ساعدة عليها هي الو�سائل‬
‫المعرفية مثل ُب ْعد النظر‪ ..‬يقول �أحمد �أمين رحمه اهلل‪" :‬من �أهم و�سائل ال�سعادة‬
‫في الحياة‪ُ :‬بعد النظر‪ ،‬وتوجيه أالعمال ح�سب ما يقت�ضيه النظر البعيد‪ ...‬فالزارع‬
‫�إنما ينجح بنظره �إلى م�ستقبل زراعته وما �سيحتاج �إليه‪ ،‬وت�شكيل �أعماله وفق ذلك‪..‬‬
‫والطالب �إنما ينجح في درا�سته �إذا هو نظر �إلى م�ستقبله وا�ستعد ألداء ما �سيمتحن‬
‫وعدل حياته وفق الغر�ض الذي يرمي �إليه‪ ،‬وهكذا‪ ...‬كذلك ال�ش�أن في حياة‬ ‫فيه‪ّ ،‬‬
‫إالن�سان المالية‪ ،‬البد �أن ينظمها الفكر والنظر البعيد‪ ،‬و�إال ا�ضطربت معي�شته و�ساء‬
‫حاله"(‪� ،1969‬ص ‪..)229‬‬

‫فالمال في حد ذاته لي�س م�صدر �سعادة‪ ،‬و�إنما الذي يجعله كذلك هو اال�ستخدام‬
‫الح�س��ن والفع��ال للمال‪ ..‬ولذلك ق��ال �أحمد �أمين رحمه اهلل‪" :‬لي���س المال لذاته‬
‫�شيئ��اً ح�سن��اً‪ ،‬و�إنم��ا ه��و ح�س��ن �أو قبي��ح ح�س��ب ا�ستعمال��ه؛ فهو ح�سن ف��ي يد من‬
‫ُي ْح ِ�س��ن ا�ستعمال��ه‪ ،‬وقبيح في يد م��ن ي�سيئه‪ ،‬ويجب �أن نتعلم ف��ن ا�ستعمال المال‬

‫‪226‬‬
‫وطرق ك�سبه وتوفيره‪ ،‬ولذلك عالقة أ‬
‫بالخالق‪ ،‬فكثير من الف�ضائل والرذائل عمادها‬
‫المال"(‪� ،1969‬ص ‪..)230‬‬

‫ال��رذائ��ل (ب��ئ���س‬ ‫الف�ضائل‬ ‫(ن���ع���م‬


‫ال���م���ال‬ ‫ال���م���ال‬
‫ال��ط��ال��ح‬ ‫ا ل�صا لح‬
‫ل��ل��ع��ب��د‬ ‫ل��ل��ع��ب��د‬
‫ال���م���ال ا لطا لح )‬ ‫ال���م���ال‬ ‫ال�صالح)‬
‫يبين عالقة المال أ‬
‫بالخالق‪ ،‬والتي يمكن تلخي�صها في كون الكثير من‬ ‫ال�شكل رقم (‪ّ )9‬‬
‫الف�ضائل والرذائل عمادها المال‪.‬‬

‫وبناء على ما تقدم‪ ،‬ف�إن التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية هي تربية تجعل من‬‫ً‬
‫اال�ستقالل و�سيلة جلب لل�سعادة‪ ،‬ولكل �أمر محمود ي�ؤدي �إليها‪ ..‬هذه ال�سعادة التي‬
‫ت�ستمد منابعها في �أعمال القلب ومعنوياته‪ ،‬ومعيناتها في �أعمال الجوارح ومادياتها‪..‬‬
‫فال �سعادة بال �سكينة و�سكن‪� ،‬سكينة في قلبه و�سكن عند زوجه وعند كل خير جنته‬
‫يداه‪..‬‬

‫وال�سكينة ت�ؤ�س�س لفعالية ال�سكن‪ ،‬وهي ثمرة إ‬


‫لليمان‪" ..‬فال �سعادة بال �سكينة‪....‬‬
‫وال �سكينة بال �إيمان"(يو�سف القر�ضاوي‪� ،1990 ،‬ص ‪ ،)86‬وال زيادة في‬

‫‪227‬‬
‫﴾‬ ‫إاليمان بال �سكينة‪﴿ ،‬‬
‫واليمان وال�سكينة يلدان ال�سعادة؛ والتي بها‬
‫فاليمان يلد ال�سكينة‪ ،‬إ‬ ‫الفتح‪ ..]4 :‬إ‬
‫ي�أتي أالمن‪ ،‬وكل ما يتبعه من ِن َعم‪..‬‬

‫نخل�ص �إلى �أن التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية هي تربية تبني جوانب �إيجابية في‬
‫أالبناء من خالل تعزيز �أبعاد حيوية في ذواتهم مثل المبادرة والفاعلية واالجتهاد‬
‫واللفة واالنتاجية والتكامل‪ ،‬وتجعلهم ذوي �أدوار �إنجازية تبني لهم مكانة‬ ‫والهوية أ‬
‫اجتماعية‪ ،‬ومعها ثروة مادية ومالية‪ ،‬و�سعادة �أبدية‪� ،‬أولها في ِن َعم الدنيا وم�ستقرها في‬
‫نعيم آالخرة‪ ..‬وفيما يلي م�ؤ�شرات �سلوكية تعك�س تحقق تلك التربية‪:‬‬
‫‪ -‬ت�ساعد أال�سرة �أبناءها على فهم المعنى الحقيقي لل�سعادة‪.‬‬
‫‪ -‬ت�ساعد أال�سرة �أبناءها على فهم فكرة �أن الجانب المادي يغذي ال�سعادة‪ ،‬ولكن‬
‫قد ال ي�ضمنها بذاته‪.‬‬
‫‪ -‬ت�ساعد أال�سرة �أبناءها على �ضرورة البحث عن �شروط �أخرى لل�سعادة‪� ،‬أي‬
‫مكملة لها‪.‬‬
‫�شروط ِّ‬
‫‪ -‬ت�ساعد أال�سرة �أبناءها على فهم �أن ال�سعادة الدنيوية ينبغي �أن تكون مدخل‬
‫على ال�سعادة أالخروية‪ ،‬و�أال تفقد معناها وقيمتها‪.‬‬
‫‪ -‬ت�ساعد أال�سرة �أبناءها على الوعي ب�أن �سعادتهم في �سعادة محيطهم وو�سطهم‬
‫االجتماعي‪ ،‬وخا�صة القريب منهم‪..‬‬
‫‪ -‬ت�ساعد أال�سرة �أبناءها على فهم �أن االنجاز والمكانة هي مقدمات لل�سعادة‪.‬‬
‫‪228‬‬
‫‪ -‬ت�ساعد أال�سرة �أبناءها على الوعي بفكرة �أن ال�شعور بال�سعادة �أمر ن�سبي‪ ،‬قابل‬
‫للتغير‪ ،‬وبالتالي اال�ستعداد نف�سياً لهذا التغير‪.‬‬
‫‪ -‬ت�ساعد أال�سرة �أبناءها على �أن جزء كبير من ال�سعادة ي�أتي من قدرتهم على‬
‫إالدارة الفعالة للتغيرات التي تحدث حولهم �أو في حياتهم‪.‬‬
‫وفيما يلي مجموعة من النقاط المهمة ذات ال�صلة بالم�ؤ�شرات المو ّثقة �أعاله‪،‬‬
‫والمتمركزة حول فكرة "ال�سعادة"‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫‪ -‬ال تتوفر ال�سعادة �إال باكتمال جميع �أ�سبابها‪ .‬فالمال بال �صحة ال ي�ؤدي �إلى‬
‫ال�سعادة‪ ،‬وكالهما بال �أمن ال ي�ؤديان �إلى ال�سعادة وهكذا‪.‬‬
‫‪ -‬امتالك كل �أ�سباب ال�سعادة‪ ،‬بالرغم من �أنه نادر‪� ،‬إال �أنه قد ال يحقق ال�سعادة‪،‬‬
‫يكدر عليه ال�شعور بال�سعادة‪ .‬فالغني يخاف‬ ‫�إذ خوفه من فوات هذه أال�سباب ِّ‬
‫الخ�سارة وال�صحيح يخاف المر�ض وغيرها‪..‬‬
‫‪� -‬إن امتالك كل �أ�سباب ال�سعادة قد ي�صيب إالن�سان بالملل حيث اللذة بالندرة‬
‫ولي�س بالوفرة‪.‬‬
‫‪ -‬من النقاط الثالثة �أعاله‪ ،‬ن�صل �إلى �أن أال�سباب المادية ال يمكن �أن يحقق‬
‫ال�سعادة‪ ،‬ولكن التقي هو ال�سعيد‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫العائد رقم (‪ :)6‬الت أ�ثير المحلي أ‬
‫والثر العالمي‪..‬‬

‫التربية نحو اال�ستقاللية تنجح في �صناعة �أبناء ُي ْح ِ�سنون إالفادة بالت�أثير عندما‬
‫تنجح في �صناعة �أبناء ُي ْح ِ�سنون اال�ستفادة من الت�أثر‪ ..‬وما يم ِّهد لذلك هو "تزايد‬
‫ا�ستقالل الطفل عن الرا�شدين مع عودة ثقته فيهم‪ ،‬وتبدو تلك الثقة في قبوله‬
‫لتوجيهاتهم"(�أ�سامة �سعد �أبو �سريع‪� ،1993 ،‬ص ‪ )91‬ال�سليمة واال�ستفادة منها‪..‬‬

‫وبالتالي ي�صبح أالبناء يتقنون فن إال�ستماع قبل فن االقناع‪ ،‬انطالقاً من �أن‬


‫فعالية االقناع �أ�سا�سها ُح ْ�سن ا�ستماع‪ ..‬وفي حين �أن "اال�ستماع‪ :‬هو عملية يعطي‬
‫فيها الم�ستمع اهتماماً خا�صاً‪ ،‬وانتباهاً مق�صوداً لما تتلقاه أالذن من أال�صوات على‬
‫نحو ي�ؤدي �إلى ا�ستيعاب معاني الكلمات والجمل‪ ،‬بحيث ت�ؤدي �إلى فهم الحقائق‬
‫والفكار على الرغم من الم�شتتات"(�أنور ريا�ض عبدالرحيم وهدى ال�سبيعي‪،‬‬ ‫أ‬
‫‪� ،2000‬ص ‪ ،)188‬ف�إن "االقناع‪ :‬هو عملية تغيير �أو تعزيز المواقف‪� ،‬أو المعتقدات �أو‬
‫ال�سلوك"(هاري ميلز‪� ،2001 ،‬ص ‪..)2‬‬

‫وك ًال من اال�ستماع واالقناع ي�ؤ�س�سان لفل�سفة "�إفادة وا�ستفادة"‪ ،‬فل�سفة "ا�ستفاد‬
‫‪�-‬سواء �أكانت �سيا�سية �أو فكرية‪ -‬تتيح‬
‫ً‬ ‫ألن مجتمعه يتمتع بالتعدد"‪ ..‬فالتعددية‬
‫فر�صة آ‬
‫للراء المختلفة لكي تظهر في المجتمع‪ ،‬في�سمعها الجميع‪ ،‬ويتبعون �أح�سنها‪،‬‬
‫وبهذه الطريقة يتمكن المجتمع من الت�أ�سي�س لثقافة "االتباع بعد اال�ستماع"‪،‬‬
‫‪230‬‬
‫"اال�ستماع �إلى الكل واتباع أالف�ضل"‪" ،‬اال�ستماع �إلى منطق الل�سان‪ ،‬واتباع المنطق‬
‫﴾الزمر‪..18 :‬‬ ‫أالح�سن"‪﴿ ،‬‬

‫وهذه التعددية ت�أتي من االجتهاد ودالئله‪ ،‬و"دالئل االجتهاد هي أالمارات التي‬


‫ي�ستدل بها"(�أبي الح�سن الماوردي‪ ،‬طبعة ‪"1993‬مج ‪� ،"3‬ص ‪ )1353‬على �أمر �أو‬
‫�شيء ما �أو حال �شيء ما (مثل النجا�سة)‪ ..‬وهذا االجتهاد م�صدره النظر من زوايا‬
‫متعددة �أكثر‪ ...‬وقديماً قال �أبو الدرداء ر�ضي اهلل عنه‪�" :‬إنك ال تفقه كل الفقه حتى‬
‫تري للقر�آن وجوها"(�أحمد بن حنبل‪ ،‬طبعة ‪� ،1978‬ص ‪..)134‬‬

‫واالجتهاد الذي نريده هو اجتهاد تعدد ال اجتهاد ت�ضاد‪ ..‬وهذا يعني �أن ال يتحول‬
‫التعدد �إلى ت�ضاد‪ ،‬واالختالف �إلى عنف‪ ..‬مثل �أن ال تتحول االختالفات في الحياة‬
‫الزوجية �إلى �أ�شكال و�صور من العنف مثل العنف أال�سري‪ ،‬والذي بدوره قد ي�ؤدي‬
‫�إلى ا�ستمرار دوامة العنف بين الن�ساء والرجال عبر أالجيال‪..‬‬

‫واجتهاد "التعدد" هو الذي يمكن �أن يجعل أللبناء ت�أثيراً محلياً و�أثراً عالمياً‬
‫�إيجابيين ومحمودين‪ ،‬مع التنبيه على �أن "االجتهاد الم�شروع والنافع يكون فيما‬
‫ال ن�ص فيه"‪ ..‬وبتعبير �أو�سع‪ :‬االجتهاد هو "ما لي�س بن�ص وال �إجمـاع وال قيا�س‬
‫ال�سيد‪" 1983 ،‬مج ‪� ،"2‬ص ‪ ..)6‬هذا من ناحية‪ ،‬ومن ناحية‬ ‫علة"(الطيب خ�ضري ِّ‬
‫ّ‬
‫�أخرى‪" :‬االجتهاد فيما ورد فيه ن�ص هو �أمر مقبول بل وواجب‪ ،‬ولكن لفهم الن�ص ذاته‬
‫وتطبيقه‪ ،‬و�أغلب اجتهادات الفقهاء من هذا النوع"‪.‬‬
‫‪231‬‬
‫والتربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية ينبغي �أن توعي أالبناء ب�أن ت�أثيرهم ي�صل �إلى‬
‫غيرهم من خالل �إيمانهم‪ ،‬وفكرهم‪ ،‬وعملهم؛ و�أن االجتهاد ال ي�ستطيعه �إال �صاحب‬
‫والن�سان في نهاية المطاف ي�ؤثر في غيره‬ ‫العقل الم�ستقل‪ ،‬وبه يتم تح�سين العمل‪ ،‬إ‬
‫بعمله‪ ..‬بعمله يربح الخير‪ ،‬وبعمله يكافح ال�شر‪ ..‬بعمله ي�ؤثِّر محلياً وبعمله يترك �أثراً‬
‫عالمياً‪..‬‬

‫والعمل الذي ي�أتي بالت�أثير المحلي ويترك �أثر عالمي هو العمل ال�صالح‪ ،‬وكما‬
‫قيل‪" :‬الرجل ال�صالح يترك �أثراً �صالحاً حيثما حل"‪ ..‬والعمل ال�صالح هو �أثر مترتب‬
‫على إاليمان‪ ..‬أالعمال ال�صالحة ُت ْن ِب ُتها تربة �صالحة‪ ..‬تخرج من �شجرة �صالحة‪،‬‬
‫﴿مثل �شجرة طيبة ككلمة طيبة �أ�صلها ثابت وفرعها في ال�سماء ت�ؤتي �أكلها كل حين‬
‫ب�إذن ربها﴾�إبراهيم‪..]24 - 23 :‬‬

‫الية‪�" :‬شبه �سبحانه الكلمة الطيبة‬


‫يقول ابن القيم رحمه اهلل في تف�سير هذه آ‬
‫بال�شجرة الطيبة‪ ،‬ألن الكلمة الطيبة تثمر العمل ال�صالح‪ ،‬وال�شجرة الطيبة تثمر الثمر‬
‫النافع‪ ..‬وهذا ظاهر على قول جمهور المف�سرين الذين يقولون‪ :‬الكلمة الطيبة‪:‬‬
‫�شهادة �أن ال �إله �إال اهلل‪ ،‬ف�إنها تثمر جميع أالعمال ال�صالحة‪ ،‬الظاهرة والباطنة‪،‬‬
‫فكل عمل �صالح مر�ضي هلل فهو ثمرة هذه الكلمة"(ابن قيم الجوزية‪ ،‬طبعة ‪،1978‬‬
‫�ص ‪..)327‬‬

‫والعمل ال�صالح هو نتاج تفاعل رغبة �أو �إرادة ‪ +‬قدرة‪ ..‬وما يقال عن العمل ال�صالح‬
‫‪232‬‬
‫يقال عن العمل الناجح‪ ..‬والمعادلة ال�شرعية هي‪" :‬ا إلرادة الجازمة ‪ +‬القدرة التامة =‬
‫العمل الناجح"(جودت �سعيد‪� ،)1987 ،‬شريطة �أن يكون هذا العمل الناجح باهلل‬
‫﴾‬ ‫وهلل‪﴿ ،‬‬
‫الكهف‪ ،]110 :‬وبهذا يكون العمل الناجح عم ًال �صالحاً‪..‬‬

‫والتربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية الم�ستقيمة ينبغي �أن تدفع �أبنائها نحو تبني‬
‫�آليات جالبة للعمل الناجح ال�صالح‪ ..‬فالعمل الناجح ال�صالح يتحقق من خالل‬
‫�آليات‪� ،‬أولها �آلية الت�سخير‪ ،‬والذي "ي�أتي نتيجة العلم ب�سنن اهلل في خلقه"(جودت‬
‫�سعيد‪� ،1987 ،‬ص ‪ ،)59‬و"يزداد بازدياد العلم"(جودت �سعيد‪� ،1987 ،‬ص ‪،)57‬‬
‫﴾‬ ‫﴿‬
‫الجاثية‪..]13 :‬‬

‫والت�سخير كمفهوم يفيد‪" :‬نتاج المعرفة ب�سنن اهلل في خلقه"‪" ..‬فال�سنة قانون اهلل‪،‬‬
‫والعلم هو معرفة هذه ال�سنن‪ ،‬والت�سخير نتيجة هذه المعرفة"(جودت �سعيد‪،1987 ،‬‬
‫والن�سان يمكن �أن ي�ؤثِّر في غيره بت�سخيره لعلمه إ‬
‫ولمكانياته وعنا�صر‬ ‫�ص ‪ ..)59‬إ‬
‫بيئته‪ ..‬فالت�أثير ي�أتي في الت�سخير‪ ..‬وقوة الت�أثير تكون في قوة الت�سخير‪..‬‬

‫نخل�ص مما �سبق �إلى �أن التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية هي تربية تنطلق من‬
‫اال�ستقالل ك�أ�سا�س للعمل‪ ،‬وهذا العمل ي�ستند �إلى الت�سخير‪ ،‬والذي به ي�أتي‬
‫الت�أثير‪ ..‬ت�أثير محلي‪ ،‬يمتد فيثمر �أثر عالمي‪ ،‬ويعين هذا الت�أثير عنا�صر حيوية كامنة‬
‫‪233‬‬
‫واللفة واالنتاجية والتكامل‪،‬‬ ‫في ذواتهم مثل المبادرة والفاعلية واالجتهاد والهوية أ‬
‫وتجعلهم ذوي �أدوار �إنجازية تبني لهم مكانة اجتماعية‪ ،‬ومعها ثروة مادية ومالية‪،‬‬
‫و�سعادة �أبدية‪� ،‬أولها في ِن َعم الدنيا وم�ستقرها في نعيم آالخرة‪ ..‬وفيما يلي م�ؤ�شرات‬
‫�سلوكية تعك�س تحقق تلك التربية‪:‬‬
‫‪ -‬توعي أال�سرة �أبناءها ب�أن قيمة إالن�سان في ت�أثيره و�أثره الذي يتركه في بيئته‪.‬‬
‫‪ -‬توعي أال�سرة �أبناءها ب�أن للت�أثير خ�صائ�ص تمنحه وجوده (مثل خا�صية‬
‫الم�صداقية)‪.‬‬
‫‪ -‬توعي أال�سرة �أبناءها ب�أن الت�أثير يبد�أ من الداخل‪ ،‬ويتجه نحو الخارج‪.‬‬
‫﴾‬ ‫‪ -‬توعــي أال�ســرة �أبناءها ب�أن ﴿‬
‫الرعد‪.]11 :‬‬
‫‪ -‬ت�سعى أال�سرة �إلى تهيئة �أبناءها لكي يكونوا ذوي ت�أثير محلي قوي‪.‬‬
‫‪ -‬ت�سعى أال�سرة ألن يتخذ أالبناء من ت�أثيرهم المحلي �أ�سا�س للت�أثير العالمي‪.‬‬
‫‪ -‬ت�سعى أال�سرة �إلى �أن يكون لت�أثير أالبناء ً‬
‫معنى ح�ضارياً‪� ،‬أي ر�سالياً‪ ،‬تجعلهم‬
‫ي�شعرون ب�أنهم حاملي ر�سالة‪ ،‬ولي�سوا مهم�شين وال بهائم‪.‬‬
‫‪ -‬ت�سعى أال�سرة �إلى و�ضع فكرة في �أذهان أالبناء ب�أن الذي يخ ِّلدهم هي �أعمالهم‪،‬‬
‫العظيمة منها‪.‬‬
‫‪ -‬ت�سعى أال�سرة �إلى دفع أالبناء ل�ضرورة مراجعة الذات ومقا�صد الت�أثير لديها‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫الجر أ‬
‫الحروي‪..‬‬ ‫العائد رقم (‪ :)7‬أ‬

‫التربية نحو اال�ستقاللية تعتبر فعالة عندما ال تتمكن فقط من جعل اال�ستقالل‬
‫�آلية ل�صناعة أالثر‪ ،‬و�إنما عندما تجعله كذلك �آلية يترتب عليها �أجر‪ ..‬ف�صناعة أالثر‬
‫الجر‪ ،‬في�أتي بفعل العبادة‪ ..‬العادة الناجحة تثمر �أثر‬
‫ي�أتي بفعل العادة‪� ،‬أما ح�صد أ‬
‫دنيوي‪ ،‬لكن العبادة ال�صالحة تثمر �أجر �أخروي‪ ،‬مع التنبيه �إلى �أن العادة الناجحة عندما‬
‫تكون هلل ت�صبح عبادة �صالحة‪� ،‬أي عندما تنطلق من نية تترجم ذاتها في �صيغة �أعمال‬
‫�صالحة‪ ،‬وفي الحديث‪�" :‬إنما أالعمال بالنيات" جزء من حديث �صحيح رواه‬
‫البخاري وم�سلم(النووي‪ ،‬طبعة ‪1399‬هـ‪� ،‬ص ‪..)8‬‬
‫فالنية هي تمييز العادة من العبادة‪ ،‬وهذا التمييز هو �شرط لتحول أالثر �إلى �أجر‪..‬‬
‫ومعلو ٌم ب�أن "نية العبادة لها مرتبتان‪:‬‬
‫�إحداهما‪ :‬تمييز العبادة عن العادة‪.‬‬
‫والثانيـة‪ :‬تمييز مراتب العبادات بع�ضها عن بع�ض"(ابن قيم الجوزية‪ ،‬طبعة ‪1972‬‬
‫"مج ‪� ،"1‬ص ‪..)110‬‬
‫والتربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية ت�ؤكِّ د على دور اجتماعي رباني أللبناء‪ ،‬عندما‬
‫يدخلوا طور التكليف‪ ،‬وهو دور الخالفة‪﴿ ،‬‬
‫﴾البقرة‪ ،]30 :‬والذي يترجمه دور غائي وهو دور العابد القائم بالعبادة‪،‬‬
‫المعمر القائم بالعمارة‪ ..‬وهذان الدوران مت�ضمنين في قوله‬
‫ودور و�سائلي وهو دور ِّ‬
‫﴾الفاتحلة‪..]5 :‬‬ ‫تعالى ﴿‬
‫‪235‬‬
‫ومفردة "﴿ ﴾ معناه‪ :‬من يخلف‪ ...‬قال الح�سن‪� :‬إنما �سمى اهلل بني �آدم‬
‫خليفة ألن كل قرن منهم يخلف الذي قبله‪ ،‬والجيل بعد الجيل‪ ...‬قال القا�ضي �أبو محمد‬
‫رحمه اهلل‪ :‬ففي هذا القول يحتمل �أن تكون بمعنى خالفة وبمعنى مخلوفة"(�أبي محمد‬
‫عطية أالندل�سي‪ ،‬طبعة ‪" 1977‬مج ‪� ،"1‬ص �ص ‪،)228-227‬وي�ؤ ِّيد‬ ‫عبدالحق بن ّ‬
‫﴾‬ ‫هـذا قـوله تعـالى ﴿‬
‫﴾النعام‪133:‬‬
‫أ‬ ‫النور‪﴿ ،]55 :‬‬

‫والخالفة تعني �أن هناك دورين‪ ،‬دور �إلهي هو دور "الم�ستخ ِلف" ودور ب�شري هو‬
‫"الم�ستخلَف"‪ ..‬وهذا دور الم�ستخلَف الب�شري يت�ضمن معياراً و�سلوكاً‪ ،‬ف�إذا‬ ‫ْ‬ ‫دور‬
‫ما خالف �سلوكه معياره‪�ُ ،‬س ِح َب منه دوره‪ ،‬وا�ستبدل ُبم ْ�س َت ْخلَف �آخر‪ُ ،‬م ْ�س َت ْخلَف‬
‫﴾مري��م‪]59 :‬؛‬ ‫جديد‪﴿ ،‬‬
‫و�أما �إذا ات�سق دوره مع المعيار الذي حدده له ربه‪ ،‬فن�صيبه �أن ُي َو َّرث هذا‬
‫الدور وي�ستمر فيه �إلى ما �شاء اهلل ﴿‬
‫﴾النور‪..]55 :‬‬

‫�شرطا اال�ستخالف‪ ..‬وبتعبير �آخر‪ :‬ا�ستيفاء �شروط‬ ‫وااليمان والعمل ال�صالح هما ْ‬
‫﴾ �أ�سا�س لال�ستخالف‪ُ ،‬‬
‫فالم ْ�س َت ْخ َلف‬ ‫العبادة واال�ستعانة‪﴿ ،‬‬
‫هو عابد من جهة وم�ستعين من جهة �أخرى‪ ،‬وبعبادته يع ِّمر �آخرته‪ ،‬وبا�ستعانته يع ِّمر‬

‫‪236‬‬
‫دنياه؛ مع أالخذ في االعتبار �أن العمارة ّ‬
‫مت�ضمنة في العبادة‪ ،‬فهي جزء منها وتعبير‬
‫مدني وح�ضاري عنها‪..‬‬

‫وهناك معاني نف�سية واجتماعية عديدة مو�صولة بفكرتي "العبادة" و"اال�ستعانة"‪،‬‬


‫و�أحد �أهم هذه المعاني معنى (ح�سن الظن‪-‬ح�سن العمل)‪ ،‬مع أالخذ في االعتبار‬
‫�أن نوعية الظن تنعك�س على نوعية العمل‪ ..‬قال الح�سن ر�ضي اهلل عنه‪�" :‬إن الم ؤ�من‬
‫�أح�سن الظن‪ ،‬ف�أح�سن العمل؛ و�إن المنافق �أ�ساء الظن‪ ،‬ف�أ�ساء العمل"(�أحمد بن حنبل‪،‬‬
‫"يحب اهلل العامل �إذا‬
‫طبعة ‪� ،1978‬ص ‪ ..)285‬وفي حديث نبوي ح�سن اال�سناد‪ُّ :‬‬
‫عمل �أن ُي ْح ِ�سن عمله"(محمد نا�صر الدين أاللباني‪" 1974 ،‬مج ‪� ،"6‬ص ‪..)326‬‬

‫ومثل هذا المعنى كثير‪ ،‬فهناك معنى (�إخال�ص‪�-‬صواب)‪�( ،‬إرادة‪-‬قدرة)‪( ،‬غاية‪-‬‬


‫و�سيلة)‪( ،‬المبرر‪-‬الكيفية)‪( ،‬الباعث‪-‬التنفيذ)‪ ،‬وغيرها من المعاني التي يمكن‬
‫﴾‪ ،‬مع مالحظة االبن كثير رحمه اهلل‪،‬‬ ‫�أن تندرج تحت ﴿‬
‫﴾ على ﴿‬ ‫ن�سجلها هنا‪ ،‬وهي‪� :‬أن تقديم نعبد على ن�ستعين‪﴿ ،‬‬
‫﴾ يعود �إلى �أن "العبادة له هي المق�صودة‪ ،‬واال�ستعانة هي الو�سيلة له"‬
‫(ابن كثير‪" 1982 ،‬مج ‪� ،"1‬ص ‪ ،)26‬و"الدين كله يرجع �إلى هذين المعنيين"‬
‫(ابن كثير‪" 1982 ،‬مج ‪� ،"1‬ص ‪ ،)25‬معنى العبادة ومعنى اال�ستعانة‪..‬‬

‫وبناء على ما تقدم‪ ،‬ف�إن التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية هي تربية أالبناء على‬
‫ً‬
‫تبني هذين المعنيين‪ ،‬معنى العبادة ومعنى اال�ستعانة‪ ،‬والحياة وفقاً لهما‪ ،‬في حالة‬
‫‪237‬‬
‫ا�ستقالل الذات وفي حالة االعتماد على آالخر؛ فا�ستقالل الذات مو�صول بالعبادة‬
‫واالعتماد على آالخر مو�صول باال�ستعانة‪ ،‬وفي كال الحالتين نحن �أمام مفهومين‬
‫يكمل بع�ضهما البع�ض آالخر‪ ،‬و�إن كانت المحطة أالخيرة هي محطة العبادة بالن�سبة‬‫ِّ‬
‫لال�ستعانة‪ ،‬ومحطة ا�ستقالل الذات بالن�سبة لالعتماد على آالخر‪..‬‬

‫نخل�ص مما �سبق �إلى �أن التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية هي تربية تنطلق من‬
‫اال�ستقالل ك�أ�سا�س للعمل؛ وكالهما �أ�سا�سان لي�س فقط لخلق أالثر‪ ،‬و�إنما كذلك‬
‫لجعل الرزق هو أالجر‪ ..‬هذا اال�ستقالل الذاتي الذي ي�ستمد قوته من الغاية‪،‬‬
‫من العبادة؛ والعمل إالجرائي ي�ستمد قوته من الو�سيلة‪ ،‬من اال�ستعانة‪ .‬وفي كال‬
‫الحالتين‪ ،‬ف�إن اال�ستقالل والعمل مرتبطين بكل من المبادرة والفاعلية واالجتهاد‬
‫واللفة واالنتاجية والتكامل‪ ..‬وفيما يلي م�ؤ�شرات �سلوكية تعك�س تحقق‬ ‫والهوية أ‬
‫تلك التربية ودور اال�ستقالل الذاتي في جني أالجر أالخروي‪:‬‬
‫‪ -‬ت�أ�سي�س أال�سرة لفكرة آالخرة في �أذهان أالبناء‪.‬‬
‫‪ -‬ت�أ�سي�س أال�سرة لفكرة الوعد والوعيد‪ ،‬جعلها حا�ضرة في كل �أعمال أالبناء‪.‬‬
‫‪ -‬ت�ساعد أال�سرة �أبناءها على �ضبط �سلوكياتهم من خالل قواعد أالخالق‪.‬‬
‫‪ -‬تر�سيخ أال�سرة في نفو�س �أبنائها قوة إاليمان‪.‬‬
‫للخرة‪.‬‬‫‪ -‬تعليم أال�سرة �أبناءها على كيفية جعل الدنيا مطية آ‬
‫‪ -‬توعية أال�سرة �أبناءها ب�أن ال يبيعوا �آخرتهم بعر�ض من الدنيا‪.‬‬
‫‪ -‬توعية أال�سرة �أبناءها ب�أن مكانهم في آالخرة م�شروط ب�إح�سانهم في الدنيا‪،‬‬
‫فالمراهنة على الخلق الح�سن‪.‬‬
‫‪238‬‬
‫خامتة الرتبية نحو اال�ستقاللية‪..‬‬

‫�أود �أن �أنهي حديثي عن العوائد‪ ،‬بفكرة "التجديد"‪ ،‬فكرة "تنامي الرغبة في‬
‫التجديد"‪ ..‬فالتجديد هو �أحد عوائد التربية نحو اال�ستقالل‪ ،‬مع التنبيه �إلى �أن‬
‫التجديد يمكن �أن يكون تجديداً في ال�شر مثلما يمكن �أن يكون تجديداً في الخير‪،‬‬
‫مقيد �أم ا�ستقالل بال حد؟‪..‬‬
‫ومرد ذلك �إلى نوع اال�ستقالل‪ ،‬هل هو ا�ستقالل ّ‬
‫فاال�ستقالل بال قيد ي�أتي بتجديد متجاوز للحد‪..‬‬

‫الفكرة أال�سا�سية هنا �أن التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية هي في حقيقتها تربية‬
‫للدافعية‪ ،‬تربية للدافع لال�ستقالل‪ ،‬والذي به ُي ْ�ص َنع الم�ستقبل‪ ..‬وللتو�ضيح‪ ،‬نقول‬
‫ب�أنه "من خالل الدافع لال�ستقالل يتمكن المفكر من التفتح على ذاته وتنمية‬
‫�إمكانياتها االبداعية‪ .‬فبدون الثقة بالنف�س التي تدور في فلك هذا الدافع ال يجر� ؤ‬
‫الفرد على مواجهة المواقف الغام�ضة �إال بالتف�سيرات ال�شائعة وال ي�ستطيع �أن يمتحن‬
‫بنف�سه أالفكار ال�صحيحة"(عبدال�ستار �إبراهيم‪� ،1978 ،‬ص ‪.)84‬‬

‫ولكن نود �أن نلفت االنتباه �إلى �أن القائمين على أال�سر ينبغي �أن يعوا ب�أن كل‬
‫من "الدافعية العامة والدافع لال�ستقالل ال يكفيان لخلق مفكر ابداعي ألنها عوامل‬
‫ت�ساعد في �أح�سن الظروف على �إثارة الطاقة وتوجيهها وجهة م�ستقلة �شجاعة‪،‬‬
‫وا�ستقالل الحكم والتفكير ال يخلق فكراً جديداً‪ ،‬ولو �أنه يحقق للمفكر يقيناً‬
‫بالخطار وال�صواب"(عبدال�ستار �إبراهيم‪� ،1978 ،‬ص ‪.)85‬‬ ‫أ‬
‫‪239‬‬
‫ولهذا ف�إن المفكر يحتاج "�إلى �أن ي�صوغ من خالل عمله وفكره حلو ًال مالئمة‬
‫وجديدة‪ ،‬ويتحقق هذا بف�صل الدافع لتقديم م�ساهمات مبتكرة و�أ�صيلة"(عبدال�ستار‬
‫�إبراهيم‪� ،1978 ،‬ص ‪ ،)85‬فيتفاعل هذا الدافع بالدوافع أالخرى‪ ،‬وبالتالي يتمكن‬
‫المفكر من تقديم �صياغة خالقة ابداعية لما يم�س به من م�شكالت"(عبدال�ستار‬
‫�إبراهيم‪� ،1978 ،‬ص ‪.)85‬‬
‫لال�ستقالل‬ ‫الدافع‬

‫الحــل‬ ‫المنافع‬

‫ال�شكل رقم (‪ )10‬يبين �أو ًال �أن الدافع م�س�ؤول عن جلب المنافع‪ ،‬وثانياً �أن الدافع لال�ستقالل‬
‫عامل م�ساعد ي�سير بالفرد في اتجاه المبادرة لالتيان بحل نافع‪..‬‬

‫نخل�ص مما �سبق �إلى �أن التربية أال�سرية نحو اال�ستقاللية هي تربية أللبناء على‬
‫اال�ستقالل كمفتاح لل�سعادة‪ ،‬والعلم الحديث ي�ؤكِّ د على ذلك‪ ..‬فال�شخ�ص "الذي‬
‫يهوى اال�ستقالل ي�شعر ب�سعادة �أكبر عندما يعمل بمفرده"(�سوزان كويليام‪،2004 ،‬‬
‫�ص ‪ ..)167‬وهذه ال�سعادة يمكن �أن تتنامى في نوعها وقوتها عندما ال تكتفي الذات‬
‫فقط باال�ستفادة با�ستقالليتها‪ ،‬و�إنما ت�ضيف منافع جديدة �إليها �أو ت�ضاعف من منافعها‬
‫من خالل اال�ستفادة من غيرها‪ ..‬فباالعتماد يت�ضاعف العائد‪ ..‬باالعتماد على الذات‬
‫وا آلخر يت�ضاعف الخير‪ ..‬وفيما يلي م�ؤ�شرات تدلل على قيمة هذه التربية في اقتنا�ص‬
‫‪240‬‬
‫الفر�ص في زمن العولمة واال�ستفادة منها وتحقيق �أكبر عائد ذاتي واجتماعي منها‪:‬‬
‫‪� -‬أن تزرع أال�سرة عادات الم�س�ؤولية والتخيل والمبادرة لكي يدرك الفر�ص‬
‫ويغتنمها‪.‬‬
‫‪� -‬أن تعين أال�سرة �أفرادها على �إدراك �أن المحيط مليء بالفر�ص‪ ،‬و�إن بدى للبع�ض‬
‫�أنها نادرة الوجود‪.‬‬
‫‪� -‬أن تنمي أال�سرة في �أبنائها ا�ستبعاد أالفكار ِّ‬
‫المبررة للف�شل‪.‬‬
‫‪� -‬أن تنمي أال�سرة لدى أالبناء �سرعة اتخاذ القرار الغتنام الفر�ص؛ ف�إذا حانت‬
‫الفر�صة‪ ،‬فاغتنمها‪.‬‬
‫‪� -‬أن تنمي أال�سرة لدى �أبنائها قناعة عقلية ب�أن يغتنموا فر�ص القوة قبل �أن‬
‫يدركهم ال�ضعف‪.‬‬

‫‪241‬‬
242
‫املراجــــع‬

‫‪243‬‬
244
‫املراجع‬

‫(‪ )1‬ابن تيمية‪( .‬طبعة ‪ 1382‬هـ "مج ‪ .)"10‬الفتاوى‪ .‬المجلد العا�شر‪ .‬طبعة‬
‫الريا�ض‪.‬‬
‫(‪ )2‬ابن تيمية‪( .‬طبعة ‪ 1398‬هـ "مج ‪ .)"12‬الفتاوى‪ .‬المجلد الثاني ع�شر‪.‬‬
‫بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار العربية‪.‬‬
‫(‪ )3‬ابن تيمية‪( .‬طبعة ‪ 1398‬هـ "مج ‪ .)"14‬الفتاوى‪ .‬المجلد الرابع ع�شر‪.‬‬
‫بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار العربية‪.‬‬
‫(‪ )4‬ابن تيمية‪( .‬طبعة ‪ 1398‬هـ "مج ‪ .)"16‬الفتاوى‪ .‬المجلد ال�ساد�س ع�شر‪.‬‬
‫بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار العربية‪.‬‬
‫(‪ )5‬ابن تيمية‪( .‬طبعة ‪1399‬هـ)‪ .‬العبودية‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬المكتب إال�سالمي‪.‬‬
‫(‪ )6‬ابن قيم الجوزيـة‪( .‬طبعة بدون تاريخ)‪ .‬طريق الهجرتين وباب ال�سعادتين‪.‬‬
‫تحقيق‪ :‬عبداهلل بن �إبراهيم أالن�صاري‪ .‬الدوحة‪-‬قطر‪ :‬مطابع الدوحة‬
‫الحديثة‪.‬‬
‫(‪ )7‬ابن قيم الجوزيـة‪( .‬طبعة بدون تاريخ "ب")‪ .‬الجواب الكافي لمن �س�أل عن‬
‫الدواء ال�شافي‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار الندوة الجديدة‪.‬‬
‫(‪ )8‬ابن قيم الجوزيـة‪( .‬طبعة ‪" 1972‬مج ‪ .)"1‬مدارج ال�سالكين‪ .‬المجلد أالول‪.‬‬
‫تحقيق‪ :‬محمد حامد الفقى‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار الكتاب العربي‪.‬‬
‫(‪ )9‬ابن قيم الجوزيـة‪( .‬طبعة ‪" 1973‬مج ‪ .)"2‬مدارج ال�سالكين‪ .‬المجلد الثاني‪.‬‬
‫تحقيق‪ :‬محمد حامد الفقى‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار الكتاب العربي‪.‬‬
‫‪245‬‬
‫القيم‪ .‬تحقيق‪ :‬محمد حامد‬ ‫(‪ )10‬ابن قيم الجوزيـة‪( .‬طبعة ‪ .)1978‬التف�سير ِّ‬
‫الفقى‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار الكتاب العربي‪.‬‬
‫(‪ )11‬ابن قيم الجوزيـة‪( .‬طبعة ‪ .)1994‬الروح‪ّ .‬قدم له وحق ّقه وعلّق عليه‪ :‬محمد‬
‫�شريف �سكر‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار �إحياء العلوم‪.‬‬
‫والحكم في �شرح‬ ‫(‪ )12‬ابن رجب البغدادي‪( .‬طبعة ‪ .)1993‬جامع العلوم ِ‬
‫خم�سين حديثاً من جوامع الك ِلم‪ .‬الريا�ض‪-‬المملكة العربية ال�سعودية‪:‬‬
‫مكتبة العبيكان‪.‬‬
‫(‪ )13‬ابن كثير‪( .‬طبعة ‪" 1982‬مج ‪ .)"1‬تف�سير القر�آن العظيم‪ .‬المجلد أالول‪.‬‬
‫بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار المعرفة‪.‬‬
‫(‪ )14‬ابن كثير‪( .‬طبعة ‪" 1982‬مج ‪ .)"4‬تف�سير القر�آن العظيم‪ .‬المجلد الرابع‪.‬‬
‫بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار المعرفة‪.‬‬
‫(‪� )15‬أبي الح�سن الماوردي‪( .‬طبعة ‪� .)1978‬أدب الدنيا والدين‪ .‬حققه وعلّق‬
‫ال�سقا‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار الكتب العلمية‪.‬‬‫عليه المرحوم‪ :‬م�صطفى َّ‬
‫(‪� )16‬أبي الح�سن الماوردي‪( .‬طبعة ‪" 1993‬مج ‪ .)"3‬كتاب الحاوي‪ .‬المجلد‬
‫الثالث‪ .‬تحقيق‪ :‬راوية بنت �أحمد بن عبدالكريم الط ّهار‪ .‬جدة‪-‬المملكة‬
‫العربية ال�سعودية‪ :‬دار المجتمع للن�شر والتوزيع‪.‬‬
‫ال�سيد محمود أاللو�سي البغدادي‪( .‬طبعة ‪2001‬‬ ‫(‪� )17‬أبي الف�ضل �شهاب الدين ّ‬
‫"مج ‪ .)"3‬روح المعاني‪ .‬المجلد الثالث‪� .‬ضبطه ّ‬
‫و�صححه‪ :‬علي عبدالباري‬
‫عطية‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار الكتب العلمية‪.‬‬
‫‪246‬‬
‫(‪� )18‬أبي العلي محمد بن عبدالرحمن بن عبدالرحيم المبـاركفوري‪( .‬طبعـة‬
‫‪" 1965‬مج ‪ .)"6‬تحفة أالحوذي ب�شرح جامع الترمذي‪ .‬المجلد ال�ساد�س‪.‬‬
‫الطبعة الثانية‪ .‬المدينة المنورة‪-‬المملكة العربية ال�سعودية‪ :‬المكتبة ال�سلفية‪.‬‬
‫(‪� )19‬أبي حامد الغزالي‪( .‬طبعة ‪" 1975‬مج ‪� .)"3‬إحياء علوم الدين‪ .‬المجلد‬
‫الثالث‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار الفكر‪.‬‬
‫(‪� )20‬أبو حامد الغزالي‪( .‬طبعة ‪" 1980‬مج ‪� .)"4‬إحياء علوم الدين‪ .‬المجلد‬
‫الرابع‪ .‬دار الفكر‪.‬‬
‫(‪� )21‬أبو حامد الغزالي‪( .‬طبعة ‪" 1980‬مج ‪� .)"5‬إحياء علوم الدين‪ .‬المجلد‬
‫الخام�س‪ .‬دار الفكر‪.‬‬
‫(‪� )22‬أبو حامد الغزالي‪( .‬طبعة ‪" 1980‬مج ‪� .)"6‬إحياء علوم الدين‪ .‬المجلد‬
‫ال�ساد�س‪ .‬دار الفكر‪.‬‬
‫(‪� )23‬أبي عبداهلل محمد بن �أحمد أالن�صاري القرطبي‪( .‬طبعة ‪" 2003‬مج‬
‫‪ .)"2‬الجامع ألحكام القر�آن (تف�سير القرطبي)‪ .‬المجلد الثاني‪ .‬تحقيق‪:‬‬
‫عبدالرزاق المهدي‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار الكتاب العربي‪.‬‬
‫(‪� )24‬أبي علي �أحمد بن محمد بن يعقوب الرازي "م�سكويه"‪( .‬طبعة ‪1398‬هـ)‪.‬‬
‫تهذيب أالخالق وتطهير أالعراق‪ .‬تقديم‪ :‬ح�سن تميم‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪:‬‬
‫من�شورات دار مكتبة الحياة‪.‬‬
‫عطية أالندل�سي‪( .‬طبعة ‪" 1977‬مج ‪ .)"1‬تف�سير ابن‬ ‫(‪� )25‬أبي محمد عبدالحق بن ّ‬
‫المحرر الوجيز في تف�سير الكتاب العزيز‪ .‬المجلد أالول‪ .‬تحقيق وتعليق‪:‬‬
‫عطية‪ّ :‬‬
‫‪247‬‬
‫ّالرحالي الفاروق وعبداهلل بن �إبراهيم أالن�صاري وال�سيد عبدالعال ال�سيد �إبراهيم‬
‫ومحمد ال�شافعي �صادق العناني‪ .‬الدوحة‪-‬قطر‪ :‬م�ؤ�س�سة دار العلوم‪.‬‬
‫(‪� )26‬أحمد الري�سوني ومحمد الزحيلي ومحمد عثمان �شبير‪ .)2002( .‬حقوق‬
‫إالن�سان ‪ ..‬محور مقا�صد ال�شريعة‪� .‬سل�سلة كتاب أالمة‪ .‬الدوحة‪-‬قطر‪ :‬وزارة‬
‫أالوقاف وال�ش�ؤون إال�سالمية‪.‬‬
‫(‪� )27‬أحمد �أمين‪ .)1969( .‬أالخالق‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار الكتاب العربي‪.‬‬
‫(‪� )28‬أحمد بن ال�شيخ محمد الزرقا‪� .)1998( .‬شرح القواعد الفقهية‪ .‬دم�شق‪-‬‬
‫�سورية‪ :‬دار القلم‪.‬‬
‫(‪� )29‬أحمد بن حنبل‪( .‬طبعة ‪ .)1978‬كتاب الزهد‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار الكتب‬
‫العلمية‪.‬‬
‫(‪� )30‬أحمد زكي بدوي‪ .)1982( .‬معجم م�صطلحات العلوم االجتماعية‪ .‬بيروت‪-‬‬
‫لبنان‪ :‬مكتبة لبنان‪.‬‬
‫(‪ )31‬البخاري‪( .‬طبعة ‪" 1981‬مج ‪� .)"1‬صحيح البخاري‪.‬‬
‫(‪� )32‬آالن ديفيد�سون وروبرت ديفيد�سون‪ .)2004( .‬كيف ين�شئ آالباء أالكفاء‬
‫بناء عظاماً‪ .‬الريا�ض‪-‬المملكة العربية ال�سعودية‪ :‬مكتبة جرير‪.‬‬ ‫�أ ً‬
‫(‪ )33‬ال�سيد الح�سيني‪ .)1985( .‬مفاهيم علم االجتماع‪ .‬الدوحة‪-‬قطر‪ :‬دار قطري‬
‫بن الفجاءة‪.‬‬
‫ال�سيد‪" 1983( .‬مج ‪ .)"2‬االجتهاد فيما ال ن�ص فيه‪ .‬الجزء‬ ‫الطيب خ�ضري ِّ‬ ‫(‪ّ )34‬‬
‫الثاني‪ .‬الريا�ض‪-‬المملكة العربية ال�سعودية‪ :‬مكتبة الحرمين‪.‬‬
‫‪248‬‬
‫(‪ )35‬النووي‪( .‬طبعة ‪1399‬هـ)‪ .‬كتاب �شرح أالربعين النووية‪ .‬حققه و�أكمل‬
‫�شرحه وتعليقاته‪ :‬عبداهلل بن �إبراهيم أالن�صاري‪ .‬الدوحة‪-‬قطر‪� :‬إدارة �إحياء‬
‫التراث إال�سالمي‪.‬‬
‫(‪� )36‬أ�سامة �سعد �أبو �سريع ‪ .)1993(.‬ال�صداقة من منظور علم النف�س‪ .‬الكويت‪:‬‬
‫والداب‪.‬‬‫�سل�سة عالم المعرفة‪ :‬المجل�س الوطني للثقافة والفنون آ‬
‫(‪� )37‬أ�سعد رزوق‪ .)1979( .‬مو�سوعة علم النف�س‪ .‬مراجعة‪ :‬عبداهلل الدايم‪.‬‬
‫بيروت‪-‬لبنان‪ :‬الم�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر‪.‬‬
‫(‪� )38‬أنور ريا�ض عبدالرحيم وح�صة عبدالرحمن فخرو و�سبيكة الخليفي و�آمنة عبداهلل‬
‫تركي‪ .)1996( .‬علم النف�س التربوي‪ .‬الدوحة‪-‬قطر‪ :‬مطابع دار ال�شرق‪.‬‬
‫(‪� )39‬أنور ريا�ض عبدالرحيم وهدى تركي‪ .)2000( .‬مهارات التعلم واال�ستذكار‪.‬‬
‫الدوحة‪-‬قطر‪ :‬دار الثقافة‪.‬‬
‫(‪� )40‬أمينة الجابر و�صالح �إبراهيم ال�صنيع وال�شيخة العنود بنت ثامر �آل ثاني‪.‬‬
‫(‪ .)2001‬التفكك االجتماعي‪ :‬أال�سباب والحلول المقترحة‪� .‬سل�سلة‬
‫كتاب أالمة‪ .‬الدوحة‪-‬قطر‪ :‬وزارة أالوقاف وال�ش�ؤون إال�سالمية‪.‬‬
‫(‪ )41‬برتراند را�سل‪ .)1981( .‬كيف تك�سب ال�سعادة‪ .‬تعريب‪ :‬منير البعلبكي‪.‬‬
‫بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار العلم للماليين‪.‬‬
‫(‪ )42‬ب�شير الر�شيدي‪ .)1999( .‬التعامل مع الذات‪ .‬الكويت‪.‬‬
‫(‪ )43‬ب�شير الر�شيدي و�إبراهيم الخليفي‪� .)1997( .‬سيكولوجية أال�سرة والوالدية‪.‬‬
‫الكويت‪ :‬ذات ال�سال�سل‪.‬‬
‫‪249‬‬
‫(‪ )44‬بيتر هان�سون‪� .)1998( .‬ضغط العمل طريقك �إلى النجاح‪ .‬الريا�ض ‪-‬‬
‫المملكة العربية ال�سعودية‪ :‬مكتبة جرير‪.‬‬
‫(‪ )45‬جابر عبدالحميد جابر وعالء الدين كفافي‪" 1988( .‬مج ‪ .)"1‬معجم علم‬
‫النف�س والطب النف�سي‪ .‬الجزء أالول‪ .‬القاهرة‪-‬م�صر‪ :‬دار النه�ضة العربية‪.‬‬
‫(‪ )46‬جابر عبدالحميد جابر وعالء الدين كفافي‪" 1990( .‬مج ‪ .)"3‬معجم علم‬
‫النف�س والطب النف�سي‪ .‬الجزء الثالث‪ .‬القاهرة‪-‬م�صر‪ :‬دار النه�ضة العربية‪.‬‬
‫(‪ )47‬جابر عبدالحميد جابر وعالء الدين كفافي‪" 1991( .‬مج ‪ .)"4‬معجم علم‬
‫النف�س والطب النف�سي‪ .‬الجزء الرابع‪ .‬القاهرة‪-‬م�صر‪ :‬دار النه�ضة العربية‪.‬‬
‫(‪ )48‬جابر عبدالحميد جابر وعالء الدين كفافي‪" 1992( .‬مج ‪ .)"5‬معجم علم‬
‫النف�س والطب النف�سي‪ .‬الجزء الخام�س‪ .‬القاهرة‪-‬م�صر‪ :‬دار النه�ضة العربية‪.‬‬
‫(‪ )49‬جا�سم حاجيه‪ .)2004( .‬العالج بالر�سم لت�شخي�ص حاالت �إ�ساءة معاملة‬
‫الطفل‪ .‬الحلقة النقا�شية ‪ 13‬حول �إ�ساءة معاملة الطفل‪�( ،‬ص �ص ‪.)43-42‬‬
‫دليل الحلقة‪ .‬من ‪ 14-12‬دي�سمبر ‪ 2004‬بغرفة تجارة و�صناعة الكويت‪.‬‬
‫الكويت‪ :‬مكتب إالنماء االجتماعي‪.‬‬
‫(‪ )50‬جواد الم�ؤمن‪ .)2004( .‬دور الطبيب في التعامل مع حاالت �إ�ساءة معاملة‬
‫الطفل‪ .‬الحلقة النقا�شية ‪ 13‬حول �إ�ساءة معاملة الطفل‪�( ،‬ص �ص ‪.)41-40‬‬
‫دليل الحلقة‪ .‬من ‪ 14-12‬دي�سمبر ‪ 2004‬بغرفة تجارة و�صناعة الكويت‪.‬‬
‫الكويت‪ :‬مكتب إالنماء االجتماعي‪.‬‬
‫(‪ )51‬جودت �سعيد‪ .)1987( .‬العمل قدرة �إرادة‪ .‬دم�شق‪�-‬سورية‪ :‬دار الثقافة للجميع‪.‬‬
‫‪250‬‬
‫(‪ )52‬خال�ص جلبي‪ .)1984( .‬في النقد الذاتي‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬م�ؤ�س�سة الر�سالة‪.‬‬
‫(‪ )53‬حارث �سليمان الفاروقي‪ .)1982( .‬المعجم القانوني‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬مكتبة لبنان‪.‬‬
‫(‪ )54‬حمدي عبدالعال‪ .)1985( .‬أالخالق ومعيارها بين الو�ضعية ِّ‬
‫والدين‪.‬‬
‫الكويت‪ :‬دار القلم‪.‬‬
‫(‪ )55‬كروز تراحيب �سالم العجمي‪ .)2004( .‬دور أالمم المتحدة �ضد المعاملة‬
‫ال�سيئة أللطفال‪ .‬الحلقة النقا�شية ‪ 13‬حول �إ�ساءة معاملة الطفل‪�( ،‬ص‬
‫�ص ‪ .)68-65‬دليل الحلقة‪ .‬من ‪ 14-12‬دي�سمبر ‪ 2004‬بغرفة تجارة‬
‫و�صناعة الكويت‪ .‬الكويت‪ :‬مكتب إالنماء االجتماعي‪.‬‬
‫(‪ )56‬كولن ويل�سون‪� .)1982( .‬سقوط الح�ضارة‪ .‬نقله �إلى العربية‪� :‬أني�س زكي‬
‫ح�سن‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار آالداب‪.‬‬
‫(‪ )57‬زهير المن�صور‪ .)1985( .‬مقدمة في منهج إالبداع‪ .‬الكويت‪ :‬دار ذات‬
‫ال�سال�سل‪.‬‬
‫(‪ )58‬زين العابدين دروي�ش‪ .)1999( .‬علم النف�س االجتماعي‪� :‬أ�س�سه وتطبيقاته‪.‬‬
‫القاهرة‪-‬م�صر‪ :‬دار الفكر العربي‪.‬‬
‫(‪� )59‬سعيد حوى‪" 1991( .‬مج ‪ .)"1‬أال�سا�س في التف�سير‪ .‬المجلد أالول‪.‬‬
‫القاهرة‪-‬م�صر‪ :‬دار ال�سالم‪.‬‬
‫(‪� )60‬سوزان كويليام‪ .)2004( .‬الدوافع المحركة للب�شر‪ .‬الريا�ض‪-‬المملكة‬
‫العربية ال�سعودية‪ :‬مكتبة جرير‪.‬‬
‫(‪� )61‬سهير كامل �أحمد‪� .)2004( .‬سيكولوجية ال�شخ�صية‪ .‬اال�سكندرية‪-‬م�صر‪:‬‬
‫مركز اال�سكندرية للكتاب‪.‬‬
‫‪251‬‬
‫(‪� )62‬سمير عبده‪ .)1983( .‬تحليل مائة حالة نف�سية‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار آالفاق‬
‫الجديدة‪.‬‬
‫(‪� )63‬صالح �أحمد ال�شامي‪�1998( .‬أ)‪ .‬مواعظ إالمام ال�شافعي‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪:‬‬
‫المكتب إال�سالمي‪.‬‬
‫(‪� )64‬صفاء أالع�سر و�إبراهيم ق�شقو�ش ومحمد �سالمة‪ .)1983( .‬برنامج لتنمية‬
‫دافعية االنجاز لدى التالميذ والطالب القطريين في مختلف مراحل‬
‫التعليم‪ .‬درا�سات في تنمية دافعية إالنجاز(�ص �ص ‪ .)68-65‬الدوجة‪-‬‬
‫قطر‪ :‬ال�شركة الحديثة للطباعة‪.‬‬
‫(‪ )65‬عبا�س محمود العقاد‪ .)1971( .‬عبقري إال�صالح والتعليم إالمام محمد‬
‫عبده‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار الكتاب العربي‪.‬‬
‫(‪ )66‬عبا�س محمود العقاد‪ .)1974( .‬قيم ومعايير‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار الجيل‪.‬‬
‫(‪ )67‬عبدالعزيز القو�صي‪� .)1975( .‬أ�س�س ال�صحة النف�سية‪ .‬القاهرة‪-‬م�صر‪ :‬مكتبة‬
‫النه�ضة الم�صرية‪.‬‬
‫(‪ )68‬عبدالرحمن بن الجوزي‪( .‬طبعة ‪ .)1962‬ذم الهوى‪ .‬تحقيق‪ :‬م�صطفى‬
‫عبدالواحد‪ .‬مرجعة‪ :‬محمد الغزالي‪ .‬م�صر‪ :‬دار الكتب إال�سالمية‪.‬‬
‫(‪ )69‬عبدالر�ؤوف المناوي‪( .‬طبعة بدون تاريخ "مج ‪ .)"3‬في�ض القدير �شرح‬
‫الجامع ال�صغير‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار المعرفة‪.‬‬
‫(‪ )70‬عبدال�ستار �إبراهيم‪� .)1978( .‬آفاق جديدة في درا�سة إالبداع‪ .‬الكويت ‪-‬‬
‫وكالة المطبوعات‪ .‬توزيع دار القلم‪ :‬بيروت ‪ -‬لبنان‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫والمرا�ض النف�سية‪ .‬م�صر‪:‬‬‫(‪ )71‬عالء الدين كفافي‪ .)1989( .‬التن�شئة الوالدية أ‬
‫هجر للطبعة والن�شر والتوزيع واالعالن‪.‬‬
‫(‪ )72‬عالء الدين كفافي‪ .)1990( .‬ال�صحة النف�سية‪ .‬م�صر‪ :‬هجر للطبعة والن�شر‬
‫والتوزيع واالعالن‪.‬‬
‫(‪ )73‬عالء الدين علي بن محمد البغدادي‪( .‬طبعة ‪" 1994‬مج ‪ .)"1‬مخت�صر‬
‫تف�سير الخازن‪ .‬المجلد أالول‪ .‬اخت�صره وهذّ به‪ :‬ال�شيخ عبدالغني ّ‬
‫الدقر‪.‬‬
‫دم�شق‪�-‬سورية‪ :‬اليمامة للطباعة والن�شر والتوزيع‪.‬‬
‫(‪ )74‬عالء الدين علي بن محمد البغدادي‪( .‬طبعة ‪" 1994‬مج ‪ .)"2‬مخت�صر‬
‫تف�سير الخازن‪ .‬المجلد الثاني‪ .‬اخت�صره وهذّ به‪ :‬ال�شيخ عبدالغني ّ‬
‫الدقر‪.‬‬
‫دم�شق‪�-‬سورية‪ :‬اليمامة للطباعة والن�شر والتوزيع‪.‬‬
‫(‪ )75‬عبداهلل �شحاته‪( .‬بدون تاريخ "مج ‪ .)"14‬تف�سير القر�آن الكريم‪ .‬المجلد‬
‫الرابع ع�شر‪ .‬القاهرة‪-‬م�صر‪ :‬دار غريب للطباعة والن�شر والتوزيع‪.‬‬
‫(‪ )76‬عبدالرحمن بن الجوزي‪( .‬طبعة ‪ .)1981‬المده�ش‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار‬
‫الكتب العلمية‪.‬‬
‫(‪ )77‬علي �أحمد الندوي‪ .)1998( .‬القواعد الفقهية‪ .‬تقديم‪ :‬م�صطفى الزرقا‪.‬‬
‫دم�شق‪�-‬سورية‪ :‬دار القلم‪.‬‬
‫(‪ )78‬علي عبدالرزاق جلبي‪ .)1984( .‬درا�سات في المجتمع والثقافة وال�شخ�صية‪.‬‬
‫بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار النه�ضة العربية‪.‬‬
‫(‪ )79‬فتحي يكن‪ .)1980( .‬م�شكالت الدعوة والداعية‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬م�ؤ�س�سة‬
‫الر�سالة‪.‬‬
‫‪253‬‬
‫(‪ )80‬ماثيو ماكاي وباتريك فالنينج‪ .)2005( .‬تقدير الذات‪ .‬الريا�ض‪-‬المملكة‬
‫العربية ال�سعودية‪ :‬مكتبة جرير‪.‬‬
‫(‪ )81‬مالك بن نبي‪ .)1974( .‬ميالد مجتمع‪� :‬شبكة العالقات االجتماعية‪.‬‬
‫ترجمة‪ :‬عبدال�صبور �شاهين‪ .‬دم�شق‪�-‬سورية‪ :‬دار الفكر‪.‬‬
‫(‪ )82‬مالك بن نبي‪ .)1991( .‬الق�ضايا الكبرى‪ .‬دم�شق‪�-‬سورية‪ :‬دار الفكر‪.‬‬
‫(‪ )83‬محمد �أبو زهرة‪( .‬بدون تاريخ "‪ .)"4‬زهرة التفا�سير‪ .‬المجلد الرابع ‪ ،‬القاهرة‪-‬‬
‫م�صر‪ :‬دار الفكر العربي‪.‬‬
‫(‪ )84‬محمد �أحمد الرا�شد‪ .)1981( .‬الرقائق‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬م�ؤ�س�سة الر�سالة‪.‬‬
‫(‪ )85‬محمد بن �إدري�س ال�شافعي‪( .‬طبعة ‪" 1973‬مج ‪ُ .)"1‬أال ُّم‪ .‬الجزء أالول‪.‬‬
‫بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار المعرفة‪.‬‬
‫(‪ )86‬محمد علي كالي‪ .)1977( .‬محمد علي كالي يتذكر‪ .‬نقله �إلى العربية‪:‬‬
‫و�سمية علي محمود‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار الم�سيرة‪.‬‬‫منير بهجت ّ‬
‫(‪ )87‬محمد لبيب النجيحي‪ .)1981( .‬مقدمة في فل�سفة التربية‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪:‬‬
‫دار النه�ضة العربية‪.‬‬
‫(‪ )88‬محمد قطب‪ .)1980( .‬قب�سات من الر�سول‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار ال�شروق‪.‬‬
‫(‪ )89‬محمد قطب‪ .)1987( .‬مفاهيم ينبغي �أن ت�صحح‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار ال�شروق‪.‬‬
‫(‪ )90‬محمد قطب‪" 1983( .‬مج ‪ .)"1‬منهج التربية إال�سالمية‪ .‬الجزء أالول‪.‬‬
‫بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار ال�شروق‪.‬‬
‫(‪ )91‬محمد نا�صر الدين أاللباني‪" 1969( .‬مج ‪� .)"1‬صحيح الجامع ال�صغير‬
‫وزيادته‪ .‬المجلد أالول‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬المكتب إال�سالمي‪.‬‬
‫‪254‬‬
‫(‪ )92‬محمد نا�صر الدين أاللباني‪" 1982( .‬مج ‪� .)"2‬صحيح الجامع ال�صغير‬
‫وزيادته‪ .‬المجلد الثاني‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬المكتب إال�سالمي‪.‬‬
‫(‪ )93‬محمد نا�صر الدين أاللباني‪" 1982( .‬مج ‪� .)"3‬صحيح الجامع ال�صغير‬
‫وزيادته‪ .‬المجلد الثالث‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬المكتب إال�سالمي‪.‬‬
‫(‪ )94‬محمد نا�صر الدين أاللباني‪" 1982( .‬مج ‪� .)"4‬صحيح الجامع ال�صغير‬
‫وزيادته‪ .‬المجلد الرابع‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬المكتب إال�سالمي‪.‬‬
‫(‪ )95‬محمد نا�صر الدين أاللباني‪" 1974( .‬مج ‪� .)"6‬صحيح الجامع ال�صغير‬
‫وزيادته‪ .‬المجلد الثامن‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬المكتب إال�سالمي‪.‬‬
‫(‪ )96‬محمد متولي ال�شعراوي‪( .‬بدون تاريخ "مج ‪ .)"2‬تف�سير ال�شعراوي‪ .‬المجلد‬
‫الثاني‪ .‬القاهرة‪-‬م�صر‪� :‬أخبار اليوم‪.‬‬
‫(‪ )97‬محمد متولي ال�شعراوي‪( .‬بدون تاريخ "مج ‪ .)"14‬تف�سير ال�شعراوي‪.‬‬
‫المجلد الرابع ع�شر‪ .‬القاهرة‪-‬م�صر‪� :‬أخبار اليوم‪.‬‬
‫(‪ )98‬محمد مندور‪ .)1980( .‬الم�سرح‪ .‬القاهرة‪-‬م�صر‪ :‬دار المعارف‪.‬‬
‫(‪ )99‬مختار حمزة‪� .)1982( .‬أ�س�س علم النف�س االجتماعية‪ .‬جدة‪-‬المملكة‬
‫العربية ال�سعودية‪ :‬دار البيان العربي‪.‬‬
‫(‪ )100‬م�صطفى �صادق الرافعي‪�1974( .‬أ)‪ .‬تحت راية القر�آن‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬دار‬
‫الكتاب العربي‪.‬‬
‫(‪ )101‬مكتب إالنماء االجتماعي‪" 2000( ،‬مج ‪� .)"5‬سل�سلة ت�شخي�ص اال�ضطرابات‬
‫النف�سية‪ .‬المجلد الخام�س‪ .‬هيئة التحرير ال�سل�سلة‪ :‬ب�شير الر�شيدي و�آخرون‪.‬‬
‫(‪ )102‬مها زحلوق وعلي وطفة‪ .)2000( .‬ال�شباب قيم واتجاهات ومواقف‪ .‬دم�شق‪-‬‬
‫�سورية‪ :‬مطبعة االتحاد‪.‬‬
‫‪255‬‬
‫(‪ )103‬منذر عبدالحميد ال�ضامن‪ .)2005( .‬علم نف�س النمو‪ .‬الكويت‪ :‬مكتبة الفالح‪.‬‬
‫(‪ )104‬مي�شيل ارجايل‪ .)1982( .‬علم النف�س وم�شكالت الحياة االجتماعية‪.‬‬
‫ترجمة‪ :‬عبدال�ستار �إبراهيم‪ .‬القاهرة‪-‬مكتبة مدبولي‪.‬‬
‫(‪ )105‬هاري ميلز‪ .)2001( .‬فن االقناع‪ .‬الريا�ض‪-‬المملكة العربية ال�سعودية‪:‬‬
‫مكتبة جرير‪.‬‬
‫(‪ )106‬واال�س د‪ .‬البيين وبيرت جرين‪ .)1981( .‬مفهوم الذات‪� :‬أ�س�سه النظرية‬
‫والتطبيقية‪ .‬ترجمة‪ :‬فوزي بهلول‪ .‬مراجعة و�إ�شراف‪� :‬سيد خير اهلل‪ .‬بيروت‪-‬‬
‫لبنان‪ :‬دار النه�ضة العربية‪.‬‬
‫(‪ )107‬وليم عبيد وعزو عفانة‪ .)2003( .‬التفكير والمنهاج المدر�سي‪ .‬الطويت‪:‬‬
‫مكتبة الفالح‪.‬‬
‫(‪ )108‬وهبة الزحيلي‪" 2003( .‬مج ‪ .)"13‬التف�سير المنير‪ .‬المجلد الثالث ع�شر‪.‬‬
‫دم�شق‪�-‬سورية‪ :‬دار الفكر‪.‬‬
‫(‪ )109‬وداد العي�سى‪ .)2004( .‬تف�سير الخالفات الزواجية في �ضوء خبرة إال�ساءة‬
‫�أثناء مرحلة الطفولة‪ .‬الحلقة النقا�شية ‪ 13‬حول �إ�ساءة معاملة الطفل‪�( ،‬ص‬
‫�ص ‪ .)24-19‬دليل الحلقة‪ .‬من ‪ 14-12‬دي�سمبر ‪ 2004‬بغرفة تجارة‬
‫و�صناعة الكويت‪ .‬الكويت‪ :‬مكتب إالنماء االجتماعي‪.‬‬
‫(‪ )110‬ويليام‪ .‬ج‪ .‬ماكوالف‪ .)1994( .‬فن التحدث واالقناع‪ .‬ترجمة‪ :‬وفيق مازن‪.‬‬
‫القاهرة‪-‬م�صر‪ :‬دار المعارف‪.‬‬
‫(‪ )111‬يو�سف القر�ضاوي‪ .)1978( .‬إاليمان والحياة‪ .‬بيروت‪-‬لبنان‪ :‬م�ؤ�س�سة الر�سالة‪.‬‬
‫(‪ )112‬يو�سف القر�ضاوي‪ .)1990( .‬إاليمان والحياة‪ .‬القاهرة‪-‬م�صر‪ :‬مكتبة وهبة‪.‬‬
‫‪256‬‬

You might also like