Professional Documents
Culture Documents
القسم األول:
الأول: الفصل
التعريف بالساللجي
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
اسم مؤلف «البرهانية» هو" :عثمان" ،واسم والده هو" :عبد هللا"( ، )1أما
جده فيدعى باسم" :عسلوج"( ،)2ويكنى" :أبا عمرو" بإثبات الواو( .)3ويُنسب إلى
"سليلجو" .قال المديوني« :وسليلجو اسم بلد من بالد مديونة في قبلة مدينة فاس
وعملها وعلى مسيرة يوم ونصف منها»( .)4أما صاحب «بيوتات فاس الكبرى»
فيذكر أن أبا عمرو اشتهر بالساللجي «لسكناه بجبل سليلجو وكان يتردد إليه من
فاس»( . )5وعلى هذا يكون أصل أبي عمرو من "جبل" أو "بلدة" «سليلجو»،
وهو منطقة تابعة لمديونة( .)6وينتمي الساللجي بالضبط إلى قبيلة مسـراتة التي
هي «فخذ من قبيلة مديونة»( )7المذكورة ،ولذلك يقال له أحيانا« :المسراتي»(.)8
(?) انظر التادلي -التشوف ،198 :وابن الزبير :صلة الصلة /القسم األخير ،ص 101 :واليفرني 1
-المباحث العقلية فـي شرح معانـي العقيدة البرهانية ،1/329 :وابن غـازي -بغية الطالب:
كراسة ،16/7 :وابن القاضي -الجذوة ،2/758 :وابن عيشون -الروض العطر األنفاس،193:
والقادري -اإلكليل ،178 :والكتاني -السلوة.2/183 :
(?) المجهول -شرح البرهانية.1 : 2
(?) انظر :ابن الزبير -صلة الصلة :القسم األخير.101 : 8
الزبير في «صلة الصلة»( ،)1وابن رشيد في «ملء العيبة»( .)2وهو تغيير من باب
قولهم« :كل ما يجمجم يقمقم ويكمكم»( .)3ودليل ذلك أن بعض من تعرض للحديث
عن الساللجي من المشارقة قلبوا جيم "السالجي" كافا فسموه" :الساللكي" أو
"السالنكي" ،كما فعل السخاوي( )4والقرافي( )5في حديثهما عن «شرح العقيدة
البرهانية» لسعيد العقباني.
أما بيت الساللجي فيقول عنه صاحب «البيوتات» بأنه « :بيت ...ثروة وفقه
وهم من العرب القيسيين»( .)6وأجمع المترجمون للساللجي على تلقيبه بـ« :إمام
أهل المغرب في علم االعتقاد»( ،)7كما لقبوه بــ« :مرجع الفاسيين في العقيدة»(،)8
وبـ « :منقذ أهل فاس من التجسيم» .وهذه األلقاب تدل على مركزه السامي ،حتى
إن تلميذه أبا الحسن ابن مؤمن حكم بأنه« :فاق األقران ،وتجمَّل به الزمان،
ن كان من كبار
وعظََمة محلِّه ،وطِيب قلبه لِأَ ْ
واتفق الموافِق والمخالف على َقْدرِه َ
ويهتدى بنورهم»(.)9
العلماء الذين ُيقتدى بهم ُ
(?) انظر التادلي -التشوف ،198 :واليفرني -المباحث ،1/329 :وابن أبي زرع -األنيس 7
المطرب ،266 :وابن غازي -بغية الطالب كراسة ،16/7 :وابن القاضي -الجذوة2/458 :
وغيرهم.
(?) انظر ابن الزبير -صلة الصلة القسم األخير.101 : 8
ولد الساللجي ـ كما عرفنا ـ بمنطقة جبلية خارج فاس ،وال شك أنـه حفـظ
القـرآن
بهذه المنطقة قبل انتقاله إلى المدينة العلمية .فلما وصل إلى فاس توجه إلى
المساجد الصغيرة لدراسة العلوم االبتدائية ،وانتقل بعدها إلى جامع القرويين
للتعمق في العلوم ...يذكر راوية سيرة أبي عمرو أبو الحسن ابن مؤمن أنه درس
النحو في مدينة فاس( ،)1ثم اتجهت همته لدراسة الفقه فقرأ «مختصـر ابن أبي
زيد الفقهي» (=الرسالة) على أبي عبد هللا محمد بن عيسى التادلي ،كما قرأ
«موطأ» مالك وحفظه وأتقنه( )2على يد أبي الحسن بن خليفة (ت560.هـ116/
4م) .ثم تاقت نفسه للتعمق في الفقه العالي فاهتم بالبحث في الاصطالح في
مسائل االختالف من خالل مؤلفات أبي المظفر السمعاني(.)3
بعد ذلك اتجه لدراسة الحديث ،ذكر أبو الحسن ابن مؤمن أن الساللجي
«درس سنن الترمذي»( ،)4وأنه «التقى المحدث الشيخ الفاضل أبا مروان بن
مسـرة فسأله الرواية عنه فأذن له وناوله "كتاب البخاري" ،و"كتاب السنة ألبي
داود" ،وأجازه بجميع مروياته»( ،)5كما ذكر أنه «سمع "كتاب الترمذي" من
الشيخ اإلمام أبي عبد هللا محمد ابن جعفر»(.)6
وبعدما أتقن العلوم الحديثية أقبل على دراسة التصوف وممارسته سلوكيا.
وهكذا قام بدراسة «مسائل القلوب على طريقة المحاسبي»( ،)1وغيره من
إنتاجات الصوفية ،حتى بلغ أعلى المقامات والدرجات ،مما جعل التادلي ،وابن
يعدونه من كبار صوفية
عيشون ،والكتاني وغيرهم من أصحاب كتب التراجم ُّ
المغرب في القرن السادس الهجري(.)2
كما أقبل على دراسة علم أصول الفقه ،فدرس «كتاب التقريب»( ،)3وخصص
شُّد إليه الرحـال
جزءا مهما من وقته لتعلم هذا العلم حتى أتقنه وصار ضليعا فيه تُ َ
في طلبه( ،)4فتخرج عليه أصوليون كبارًا كانوا مرجع علماء زمانهم فيه ،و نزل
الناس من األندلس لتعاطيه في فاس على أيديهم.
-3دراسته لعلم الكالم:
كان الساللجي ـ وهو يتلقى دروسه بالطريقة القديمة ـ يستشعر حرج الفترة
التي كانت تمر بها الثقافة المغربية ،كما كان يحس بعقم الدروس والمقررات
التي تلقى أمامه في القرويين .فكان يعلن معارضته الصريحة لها ،وأحيانا كان
يدخل في مشاداة علنية مع أساتذته الذين أحسوا منه الرفض لطرقهم ومقرراتهم،
مما دفع أحد أساتذتـه فـي الفقه ـ وهو أبو عبد هللا محمد التادلي ـ إلى معاملته
معاملة قاسية ،والشك أن هذا الحادث كان من أهم أسباب تحوُّل أبي عمرو نهائيا
إلى دراسة علوم االعتقادات .يقول الساللجي« :كنت أقرأ "مختصر ابن أبي
زيد" علي أبي عبد هللا محمد بن عيسى التادلي ،فسلمت عليه ذات يوم فلم َيرَُّد
(?) جل التالميذ الذين درسوا عليه العقائد أخذوا عنه أصول الفقه. 4
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
علي السالم ،فسألته عن ذلك فقال لي :إنك ال تقصد وجه هللا ـ تعالى ـ بالعلم،
فلذلك ال ينبغي أن يُرََّد عليك السالم[ .قال الساللجي ]:فانصـرفت عنه
مهموما.)1(»..
إن السبب الذي دفع الشيخ التادلي إلى معاقبة أبي عمرو ،يكمن في طبيعة هذا
التلميذ وفي قناعاته العقلية وقدراته النقدية .فالساللجي ـ كما يظهر من خالل
مواقفه وآرائه ـ ،تبدو عليه صورة االعتزاز والثقة بالنفس ،كما يتجلى أيضا ـ
من هذه الحادثة بصفة خاصة ـ أنه كان يرفض أن تلقى إليه العلوم واألفكار
مجردة عن أدلتها وبراهينها .كان أبو عمرو يبحث دائما عن األسباب وينقب عن
"البراهين" ،وال يفتأ يجد ويكد من أجل إقناع نفسه وإراحة عقله الصعب
المراس .لهذا اضطر إلى إيقاف شيوخه ـ ومنهم التادلي ـ معترضا عليهم ،طالبا
منهم األدلة على أقوالهم وأحكامهم .فاعتقد شيخه التادلي بأنه من الطلبة
المشاغبين الذي ال يعبؤون بقدسية العلم ،ويأبون إال مناقشة آراء علماء ـ هم في
نظر أبي عبد هللا محمد التادلي ـ فوق النقد ،وأعلى من مرتبة الطعن والمناقشة؟!
لذلك قام بطرده من حلقته.
في هذا الجو يخبرنا الساللجي أنه انقطع عن حلقة الفقه التي كان يدرس فيها
على شيخه التادلي .فلقي بعض أصدقائه ممن كان أهله يشتغلون بالعلم ،فبات
عنده ...قال الساللجي« :فجعلت أنظر في كتبه فوقع بيدي من علوم االعتقاد:
«التقريب» و«اإلرشاد» فأعجباني ،وقال لي صاحبها :هذا «اإلرشاد» هو
المدخل إلى هذا العلم ،ثم حملته إلى ابن حرزهم وابن الرمامة واستشـرتهما في
قراءته فاستحسناه ،وأشارا عليَّ بالنظر فيه .فقلت البن حرزهم :أتأذن لي في
(?) التادلي -التشوف ،198 :والمديوني -الشرح ،52 :ثم كنون -الساللجي.8 : 1
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
قراءته عليك؟ فقال لي :ال أجيده ،فإن قنعت مني بتعليم ما أعلمه فانظره .فأخذته
عليه فكان يفتر في مواضع منه .فما أكملته بالنظر عليه حتى استظهرته
حفظا»(.)1
هكذا إذن كانت بداية أبي عمرو مع علم الكالم األشعري ...أعجب به ألول
وتلهف إلى من يثق فيهم من شيوخ التجديد ...وتوجه
ُّ وهلة ،فحمل كتبه بسـرعة
عالمين يختلفان عن التادلي في نظرتهما إلى العلوم وإلى
ْ بكتابه الجديد إلى
وظيفتها وقيمتها الثقافية والعلمية؛ األول هو :أبو الحسن بن حرزهم (ت559.هـ/
1163م) الصوفي الكبير ،أما الثاني فهو أبو عبد هللا بن الرمامة (ت567.هـ/
1171م) ،أحد كبار المحدثين في فاس لتلك الفترة .وبالفعل فقد وجد أبو عمرو
في هذين الشيخين ما كان يتوقعه من تشجيع وحفز على سلوك هذا الخط الجديد
المغاير لما جرى عليه العمل عند علماء الوقت ،فلم يبديا أي اعتراض على
اختياره الجديد.
بالجامع فقصصت عليه الرؤيا ،فقال لي :ما هو العلم الذي تنظر فيه اآلن؟ فقلت
له :أنظر علم العقائد في كتاب «اإلرشاد» .فقال لي :الزمه فإنه سيفتح لك
فيه»(.)1
إن هذه الرؤيا تصور حال أبي عمرو عندما انهمك في دراسة «اإلرشاد»،
حيث أخذ الخصوم يحاربونه ويصفونه بالنعوت القبيحة ،ويشككون في عقيدته
وإخالصه الديني ،فكان من الطبيعي أن يبحث عن وسيلة ُيخفِّف بها عن نفسه،
سعفه في ذلك ،فقد التجأ إلى األحالم المنامية التي أمدَّته بالقوة
وبما أن اليقظة لم ُت ِ
وأثلجت صدرَه ،وأكدت له أن اختياره للعلم الجديد سليم وقويم ـ بل واألكثر من
ْ
ذلك ـ فقد بشـرته الرؤيا بأن هذا العلم "الجديد" سيكون له وسيلة للخلود ،وأنه
«سيفتح له فيه» ،ولذلك ينبغي أن يلزمه ..وبالفعل فقد تحققت نبوءة مهدي
الخطيب (ت540.هـ1145/م)( ،)2وصدق تأويله.
-4رحلته البجائية:
قرر الساللجي ـ بعدما أخذ حظه من العلوم الشـرعية وبعد دراسته األولية لعلم
الكالم ـ أن يقوم برحلة إلى المشرق أوال من أجل استكمال تخصصه في العلم
الذي تعلق به (علم الكالم) ،ومن جهة ثانية لالطالع على العلوم والفنون التي
كانت ضعيفة أو ممنوعة بالمغرب .يقول الساللجي ـ« :عزمت على الرحلة إلى
بالد المشرق ...فسافرت إلى مدينة بجاية وعزمت على دخول البحر في جمع
كثير»( .)3وهذا ما حصل بالفعل فقد خرج الساللجي من فاس وقصد مدينة بجاية
(?) المصدر السابق :ص ،ن ،وانظر أيضا المديوني -الشرح.54 : 3
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
ألنها الطريق التي كان المغاربة يمرون منها بحرا إما إلى األندلس أو إلى
المشـرق .ولكن كيف انتهت رحلته أو "مغامرته" في بجاية؟
يقول الساللجي« :سافرت إلى مدينة بجاية وعزمت على دخول البحر في
جمع كثير ،فسجن الوالي كل من عزم على التوجه إلى المشرق .فهربت أنا
وصاحب لي في الليل من السجن ورجعت إلى فاس ،فبلغني أنه قتل جميع
المسجونين الذين كنت معهم ببجاية»(.)1
لوال العناية الربانية ،ولوال فرار أبي عمرو من السجن َلنَّفذ فيه الوالي
جن معه
س ِ
الموحدي عبدهللا بن عبد المؤمن الكومي اإلعدام الذي ُنفِّذ في كل من ُ
بسبب حال "حظر التنقل" التي كان الوالي يعلنها داخل واليته؛ ذلك أن الوالي
كان قد منع مواطنيه من السفر إلى الشرق ،واعتبر مخالفة أمره في ذلك خيانة أو
فرارا من الخضوع للحكم الموحدي ،هذا الحكم الذي تقلد خلفاؤه لقب "إمارة
المؤمنين" وصاروا يعتقدون أن دولتهم الفتية تحولت إلى القبلة المركزية للعالم
اإلسالمي ،فإلى مغربهم ينبغي التوجه ،وعلى أرضهم تقام المجالس العلمية،
وإلى بالدهم يلزم التوجه لطلب العلم؛ ألن المهدي جاءهم بأهم وأحسن العلوم،
وإلى المغرب ينبغي أن تصرف الهمم ،ومن أجله يجب أن تجتمع السواعد لكي
يتم بناؤه وخدمته ،بدال من الفرار والهروب إلى بالد المشرق "العدوة".
هكذا إذن تنتهي رحلة صاحبنا ويرجع من سفره إلى بجاية خاوي الوفاض
محروما من نتيجة الرحلة التي تكبد مشاقها من غير طائل ،بل كادت تذهب
بنفسه لوال حفظ هللا ،وفسحة من العمر بقيت له ليقوم بالمهمة التي خُلق من
أجلها ،على ما سنرى فيما بعد.
مكث الساللجي بعد رجوعه من الرحلة البجائية الفاشلة معتكفا على قراءة
«إرشاده» منكبا إلى جانب ذلك على دراسة الحديث والتصوف وعلوم اللغة .وقد
وتمكن
َّ اهتم خالل ذلك بتعميق تخصصه في علوم اللغة والنحو حتى فاق أترابه،
بدوره من إعطاء دروس فيه لبعض الصغار .فكان ذلك سببا لبداية اشتهاره
وذيوع اسمه بين طائفة "المعلمين" الشباب رغم أنه كان ال يزال في طور التعلم.
ولما عَِلَم بعض أعوان الدولة الموحدية بقدرته على تدريس اللغة استدعوه
لكي يعمل على التدريس ألبنائهم بمدينة مراكش ،فقَِبل الدعوة بصدر رحب ،من
ثمة اتجه إلى مراكش ،يقول الساللجي« :ثم طلب بعض الرؤساء من أرباب
الدولة أستاذا لبنيه يقرئهم النحو ،ويحمله معه إلى حضرة مراكش ،فدلَّه
المستشار في ذلك عليَّ ،فلما وصلت إلى مراكش أنزلني في دار.)1(»...
وتشاء األقدار أن تتحول مهمة الساللجي بمراكش ويتغير دوره ،فبدال من أن
ويعكف على
ُ يستمر في دور المدرِّس ،نجده يعود مرة أخرى إلى طور الطلب،
الدراسة والتحصيل من جديد ،فكيف ولماذا وقع ذلك؟
عرفنا بأن الساللجي كان يتوق إلى الرحلة ويَُمِّني نفسه بلقاء العلماء من أجل
استكمال دراسته وخصوصا لفهم األمور الغامضة في كتاب «اإلرشاد» ،ولكن
جهوده باءت بالفشل ،وبذلك بقي علمه بالفكر الكالمي األشعري ناقصا غير
مكتمل .فلما وصل إلى مراكش عاد إليه األمل لتحقيق ما فاته من الرحلة الفاشلة،
وفاجأته الظروف بلقاء شيخ كبير ،وعالم ضليع في االعتقادات واألصول هو أبو
بعد أن وقفنا مع الساللجي في مرحلة التعلم ،نجدنا اآلن مدفوعين للتوقف مع
األساتذة الذين يرجع إليهم الفضل في تكوينه وتعليمه ،حيث سنعمل فيما يلي على
التعريف بهم مركزين على إبراز عالقة كل واحد منهم بأبي عمرو:
-6-1أبو الحسن بن حرزهم (ت559.هـ1163/م)(:)1
هو علي بن إسماعيل بن محمد بن عبد هللا بن حرزهم من ذرية عثمان بن
عفان ،من أهل مدينة فاس بها ولد ونشأ وتوفي .أخذ عن أبي بكر بن العربي،
وعن أبيه إسمـاعيل( ،)2وعن ابن النحـوي ،ولكنـه اختـص بعمه أبـي محمد
صالح ابن حرزهم ـ تلميذ أبي حامد الغزالي( )3ـ وعليه كان أكبر اعتماده.
وقد أثر أبو الحسن على الفكر الشـرعي والصوفي في المغرب "بطريقته
المالمتية"( )4أيما تأثير ،واستطاع أن يؤسس مدرسة صوفية مغربية تخرج منها
علماء وزهاد بارزون من أمثال أبي الحسن بـن خيـار ،وأبي عبد هللا محمـد
التادلي ،وأبي إسحـاق المعروف بابن المرأة ،وأبي الصـرح أيوب الفهري ،وأبي
يعزى يلنور ،وأبي مدين الغوث( )5وغيرهم .يقول ابن عيشون« :لم أر أزهد منه،
اجتمعت فيه خصال ما اجتمعت في غيره :الفقه في المسائل ،والفقه في الحديث،
(?) انظر ترجمته عند :التادلي -التشوف 168 :وما بعدها ،وابن أبي زرع -األنيس ،265 :ابن 1
األحمر -بيوتات فاس ،2/66 :وابن القاضي -الجذوة ،2/464 :والتنبكي -نيل االبتهاج،309 :
والجزنائي -جنى زهرة اآلس ،ص.97 :
(?) انظر :الكتاني -السلوة 3/73 :والجزنائي -جنى زهرة اآلس.1/358 : 2
ومعرفة التفسير للقرآن والتصوف ،وأما الكالم على الرعاية وكالم المحاسبي فلم
يخلفه مثله في ذلك ،مع الورع والزهد»(.)1
وقد كان الساللجي أحد األعالم الذين أخذوا عن هذا الفقيه الصوفي الكبير
وتأثروا به تأثرا واضحا في سيرتهم وفي كل مناحي حياتهم ،فباإلضافة إلى
التأثير الصوفي الذي تركه فيه ،كان ألبي الحسن الفضل األول في تعليم أبي
عمرو مبادئ العقيـدة األشعريـة ـ كما قد عرفنا ـ من خالل قراءة كتاب
«اإلرشاد» عليه في البداية.
علي بن محمد بن خليل ـ أو خليد ـ أبو الحسن عرف بابن اإلشبيلي( ،)2نشأ
بمدينة "ألمرية" باألندلس حيث أخذ العلم عن ابن ورد ،وعن الزنقي وغيرهما.
ثم رحل إلى العدوة حيث قضى فترة زمنية بمدينة فاس ،قبل أن يستقر نهائيا
بمدينة مراكش ضمن حاشية السالطين الموحدين ،حيث كان شيخ "طلبة
الحضر".
لقد كان أبو عمرو الساللجي من الطلبة الكبار الذين تخرجوا على يد هذا
العـالم .وقد أكدت ذلك جل المصادر التي ترجمت للرجليـن ،يقول ابن الزبير:
«أخـذ عنـه [أي عن ابن اإلشبيلي] ...األصولي الكبير أبو عمرو عثمان بن عبد
هللا الساللقي المسرتي ،وإلى أبي عمرو هـذا مرجـع الفاسييـن في هذا
(?) انظر ترجمته عند :ابن األبار -التكملة ،2/668 :وابن الزبير -صلة الصلة،101 : 2
والمراكشي -الذيل والتكملة السفر 5 :القسم1 :ص ،304 :وابن القاضي -الجذوة،2/479 :
وابن صاحب الصالة -المن باإلمامة 160 :وما بعدها.
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
العلـم»(.)1أمـا ابن مؤمـن فيثبت أن شيخه الساللجي «صحب اإلمـام األفضل أبـا
الحسن علي ابن اإلشبيلي وأخذ عنه جل ما عنده»( .)2وهو نفس ما يؤكده ابن
القاضي( ،)3والمراكشـي( )4وغيرهما.
الفقيه الفاسي محمد بن عيسى التادلي ،من الشخصيات الكبيرة في عهد الدولة
المرابطية ،كان «من حفاظ المذهب المالكي مشاورا بفاس أيام لمتونة»(.)6
درس عليـه أبـو عـمـرو «مختصـر ابن أبـي زيد»( ،)7فكان شيخه األول في
الفقه وفـي بعض أمـور العقيدة ،علمـا بـأن مختصـر ابن أبي زيد (=الرسالة)
الذي كان التادلي يعكف على تدريسه ،يتضمن باإلضافة إلى األمور الفقهية،
مقدمة تتعلق بالعقيدة.
(?) انظر ترجمته عند :ابن القاضي -الجذوة ،2/421 :وابن األبار -التكملة ،1/530 :والتازي 5
-الجامع.1/176 :
(?) ابن القاضي -الجذوة.2/421 : 6
(?) انظر ترجمته عند :ابن األبار -التكملة ،1/370 :والكتاني -السلوة2/120 :وما بعدها، 8
وعادل نويهض -معجم أعالم الجزائر ،ص ،164 :والزركلي -األعالم ،7/166 :والتازي -
جامع القرويين.1/169 :
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
ابن الرمامة محمد بن جعفر بن أحمد بن محمد القيسي من كبار علماء فاس،
أصله من قلعة حماد( .)1استفاد من دراسته على كبار شيوخ عصـره كابن
النحوي ،وابن عتاب ،وابن رشد ،واألسدي وغيرهم .فصار من كبار العلماء
والمحدثين والنظار ،وكانت له مشاركة في العلوم الفلسفية.
عنه تلقى أبو عمرو علوم الحديث ،وعلى يده تخرج في كتب السنن ،السيما
«سنن الترمذي» .يقول ابن مؤمن« :سمع [الساللجي] "[سنن] الترمذي" عن
الشيخ اإلمام أبي عبدهللا محمد بن جعفر( )2ـ أي ابن الرمامة ـ» ،فلذلك لما قصده
لينصحه في قراءة «اإلرشاد» علم أنه أهل لتلك الثقة وكفء لمثل تلك
االستشارة.
كان عيسى هذا أحد علماء فاس وعظمائها ،وقد ولي «القضاء بفاس ومكناسة
الزيتون ،وكان عارفا بالفقه والنوازل ،ذاكرا للمسائل ،متقدمـا فـي األحكـام،
عالـمـا
من شيوخ شيخ أبي عمرو أبي عبد هللا بن خليفة الذين روى عنهم المؤلفات
الفقهية والحديثية .يذكر ابن مؤمن أن أبا عمرو حدثه بكتاب «الموطأ» لإلمام
(?) انظر :ابن اآلبار -التكملة ،1/370 :والكتاني -السلوة.2/120 : 1
مالك قال« :حدثني به [ابن خليفة] عن أبي موسى عيسى ابن الملجوم عن أبي
عبد هللا بن الطالع عن القاضي يونس بن عبد هللا بسنده المعروف»(.)1
وقد كان له الفضل في طمأنة أبي عمرو الختيـاره المنحـى الكالمي ـ كمـا
عرفنا سابقا ـ ،وبسلوكه هذا الطريق الغريب ـ في الوقت الذي كان الناس
ينتقدون فيه الكالم وأهله ـ يكون توجيه هذا الشيخ ودوره حاسما في حياة أبي
عمرو العلمية.
من العلماء الذين تشرف الساللجي بالدراسـة عليهم المحـِّدث الكبيـر عبـد
الملـك
(?) ابن أبي زرع -األنيس المطرب 62 :و ،71والجزنائي -جنى زهرة اآلس ،56 :وابن 2
ابن مسرة بن فرج بن خلف بن عزيز اليحصبي أبو مروان( .)1أصله من
قرطبة وهو أحد مفاخرها وأعالمها .أخذ عن أبي عبد هللا بن فرج واختص بأبي
الوليد بن رشد وسمع من أبي علي الغساني ،ومن ابن المناصف ،وابن عتاب
وغيرهم.
وقد استفاد الساللجي كثيرا من هذا الشيخ الذي تخرج على يده جيل كامل من
المحدثين واللغويين والفقهاء(.)2
-6-8أبو الحسن بن خليفة (ت560.هـ1164/م):
)?( 1انظر :ابن بشكوال -الصلة 1/358 :وما بعدها ،وابن األبار -المعجم ،253 :والضبي -
البغية ،369 :والتجيبي -البرنامج ،ص ،106 :وعبد الحي الكتاني :فهرس الفهارس واألثبات
ج= ،2 :
= ص.580 :
)?( 2ذكر المديوني نقال عن ابن مؤمن في البغية ص 63-62 :أنه أجاز أبا عمرو عن أبي إسحاق
األسدي عن أبي عمر بن عبد البر النمري ما أنشده أبو القاسم محمد بن نصير الكاتب لنفسه:
«تخير سبيل الهدى جاهدا
ودع عنك مشتبهات السبـل
وأصبح من الناس مستوفزا
فأكثرهم راصــد للزلــل
وأحسن من قد ترى منهم
لعمرك يردى الشجاع البطـل
وتصمـي المقاتل أقوالهم
بألسنة وقعهـا كاألســل
وال تحسبن إن تكن غافال
مريدك بالسـر يومـا غفـل
ومن حكم الناس في عرضه
فما جار أكثر مما عــدل»
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
أحد علماء األندلس وقضاتهـا ،وهو عبد هللا بن خليفة ،من جهة "بطليوس"،
يعرف بابن الموصلي نسبة إلى موصل ،ويكنى أبا الحسن( ،)1قال ابـن بشكـوال:
«كـان من أهل العلم والنباهـة ،وولي قضـاء إشبيليـة فـي الدولـة اللمتونيـة بعد
أبـي بكـر ابن العربي»(.)2
وقد أخبرنا الساللجي بأنه قرأ عليه «الموطأ» حسبما أثبت ابن مؤمن قال:
«وأخبرني [الساللجي] أنه قرأ "الموطأ" على أبي الحسن بن خليفة»(.)3
-6-9أبو عبد هللا بن جبل:
روى ابن مؤمن أن الساللجي أخبره «أن الشيخ اإلمام أبا عبد هللا بـن جبـل
أجـازه
هؤالء ـ إذن ـ هم أهم شيوخ أبي عمرو الذين كوَّن من خاللهم رصيده
الثقافي ،واستطاع بواسطة العلوم التي زودوه بها أن يستكمل تكوينه ،ويترقى
إلى أعلى المراتب والدرجات.
-7االرتقاء واالشتهار:
(?) ابن األبار -التكملة ،1/374 :ومع ذلك ،فإن ما ذكره ابن األبار عنه ،يدعو إلى طرح عدة 5
أسئلة واستفهامات...
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
ذكر أبو الحسن ابن مؤمن أن شيخه الساللجي «قرأ بكد واجتهاد ونية صادقة
وحسن اعتقاد ،فبورك له فيما قرأ ،وفُتح عليه في الفهم ،فنال خيرا كثيرا في مدة
يسيرة»(.)1
وقد ساعده على ذلك وعلى تصدر المجالس العلمية ورئاسة زمالئه وأترابه،
ما كان يتمتع به من قدرة على التحكم في إرادته والسيطرة على تصـرفاته،
وإلزام نفسه باالستغراق في الدراسة والتحصيل بصورة يبدو أنها كانت غريبة
«وعلمه علم ما
َّ على طلبة عصـره ،ولذلك يخبرنا ابن مؤمن أن هللا شرح صدره
لم يعلم ،ووهبه من الفهم بخطاب الشـرع ـ × ـ ،والتفقه فيه ،والعلم بمقاصده،
والكشف لمعانيه ،ومن التحقيق والتوفيق والتشقيق والتحرير والتدقيق ما يقصـر
عن وصفه اللسان ،وتكل دون البلوغ إلى كنهه األذهان»( .)2وبذلك «لحق درجة
المجتهدين النظار المفتين ،وانحاز عن رتبة المستفتين»(.)3
لقد كان أبو الحسن اإلشبيلي ـ كما عرفنا ـ «شيخ طلبة الحضر»( )4بمراكش،
صقََع بين يدي الخليفة الرضى أمير المؤمنين عند حضور
كما كان «الخطيب المِ ْ
الوفود ...فصار عند الخليفة في العلوم والمذاكرة أول داخل وآخر خارج ،عالم
فاضل يتكلم في المجلس العالي مسترسال بالمذاكرة متمهال على حسن أدب في
المناظرة»(.)5
(?) ابن مؤمن -بغية الراغب انظر :المديوني -الشرح.52 : 1
وقد كان هذا العالم ـ نظرا لمركزه من السلطان ،وبسبب رئاسته لطلبة
فيصغي
شفَُع ،ويتكلم ُ
في ْ
شفَُّع فيهم عند األمر العالي َ
«ي َ
الحضـر وقربه منهم ـ ُ
ويسمع»(.)1
لكالمه ُ
وبما أن الساللجي كان من طلبته األوائل ـ الذين ارتقـوا إلـى مقام األستاذية ـ
فقد أحاطه بعناية خاصة ،وأنزله منه المكانة القريبة ..وال شك أنه كان يفتخر به
يقدمه إلى
ألنه أول ثماره ،ودليل نجاح مدرسته الموحدية الباهر .لذلك رأى أن ِّ
السلطان (أمير المؤمنين) ليثبت له كفاءته المهنية ،وإخالصه لمبادئ وأوامر
دولته الغضة.
وهذا ما حصل بالفعل فقد تمكن الساللجي من الدخول على السلطان وتقرَّب
وينورون
ِّ يزينون حضـرته
منه ،وأصبح بذلك واحدا من علماء البالط الموحدي ِّ
مجالسه .يقول ابن مؤمن« :كان [الساللجي] يحضـر مجلس سيدنا أمير المؤمنين
ـ أيده هللا تعالى ـ مع جملة من الطلبة ،فظهر حذقه وذكاؤه في المجلس ،وعرَفه
سنية
للترقي في منازل كبيرة َّ
أمير المؤمنين عينا واسما ،وكان ـ ÷ ـ معرَّضا َّ
ودرجات شريفة عليَّة.)2(»..
ورغم أن ابن مؤمن لم يصرح باسم هذا الخليفة الذي كان الساللجي يحضـر
مجالسه ،فالغالب في الظن أنه عبد المؤمن بن علي الكومي (ت558.هـ/
1162م) ،ألن الساللجي انتقل إلى مراكش بين سن الثامنة والعشرين والثالثين ـ
بعد عودته من رحلته البجائية ،ومكثه مدة غير قصيرة بعدها في فاس ـ .وهذا
يعني أن الساللجي قضـى سنوات549 :هـ إلى 554هـ (1154م إلى 1157م)
بمدينة مراكش .وفي هذه الفترة كان عبد المؤمن هو الخليفة الموحدي المتربع
على عرش المغرب.
كان من المنتظر أن يحافظ الساللجي على مكانته عند السلطان ويعمل على
تثبيتها من أجل استمرارية الترقي ،ومن أجل نيل الحظوة بين علماء الحاشية،
وكذب كل التكهنات ،وفاجأ كل قارئ لسيرته عندما
ولكن مبحوثنا خرق العادةَّ ،
أعلن رفضه القاطع للعمل ضمن علماء السلطان ،وصرح بأنه يريد الرجوع إلى
مدينته "فاس" ،وأنه ليست له أية تطلعات من نوع التطلعات التي تحدثنا عنها
قبل قليل.
لقد ُأشرب الساللجي حبَّ الزهد والورع ،وتعلق بهما وهام بمنهجهما ،مخلِّصا
نفسه األبية وروحه العالية من حمأة الفساد الذي كان يعرفه مجتمعه ،فراح
يتسلق درجاته ،ويسابق في مضمار آخر قاصدا نيل أعلى المراتب والمقامات
َّ
الروحية ،فأخلص في هذا المسار أيما إخالص .ولذلك لما أقبلت عليه الدنيا زهد
تسلق درجات الدنيا والصعود إلى
فيها ،ولما عرض عليه أبو الحسن اإلشبيلي ُّ
كراسي الزعامة والسلطة والجاه ،عاد به الحنين إلى أستاذه أبي الحسن بن
وتصدق بكل أمواله على أخيه( )1مؤثرا الباقية
َّ حرزهم ـ الذي باع دنياه بآخرته
على الفانية ،ومقدِّما نعيم اآلخرة على متاع الدنيا الزائل .فخشـي الساللجي ـ إن
هو ظـل في صحبــة السلطان ـ أن يفتن في دينه ،وأن ينقلب على ظهره فيخسر
الدنيا واآلخرة ،كما خشي أن يفرِّط في مبادئه اإلصالحية ،وفي وقفته الثورية
(?) ذكر التادلي أنه لما توفي والد أبي الحسن عزم على قسمة تركته مع أخيه ،فلما قام إلى ورده 1
اشتغل باله بذلك ،فلما أصبح بعث إلى أخيه وأعطاه كل تركته متصدقا عليه بها .انظر :التشوف:
.170
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
ضد الفساد واالنحراف ،كيفما كان وحيثما وجد ـ مع المرابطين أو الموحدين ـ.
فقرَّر أن ينجو بنفسه ويعود إلى فاس قبل فوات األوان.
ذكر ابن مؤمن أن الساللجي لما رجع من مراكش إلى مدينة فاس «التزم
اإلقراء بها لبثِّ العلم هلل ـ تعالى ـ ونشره وتدريسه ،وألزم نفسه االنقباض
والتصاون فانتفع بنفسه وانتفع به المسلمون ،وخرج على يده جملة من حذاق
العلماء»(.)1
اتجه أبو عمرو إذن بعد رجوعه من مراكش محمَّال برصيد معرفي جديد،
وبعدما هيأت له الظروف التاريخية والسياسيـة الجو المالئم لنشـر أفكاره
الجديدة ،وبعدما أصبح الفكر التومرتي ـ الذي يستقي في جانب مهم من مبادئه
من المدرسة األشعرية ـ هو المتحكم في اختيارات البالد ،فاتجه للتدريس بجـامـع
القروييـن ،قاصدا نشـر أفكاره والترويج لمبادئه ،آمال تطبيق رسالة اإلصالح
الثقافي التي نـذر حياتـه إلنجازها.
وقد وجد الساللجي الجو ميسرا لضمان قيادته للمدرسة الكالمية بحلتها
األشعرية في فاس ـ بل في المغرب كله ـ ،ولذلك اشتهر عند المؤرخين بأنه:
«منقذ أهل فاس من التجسيم»( ،)2وأنه «مرجع أهل فاس في علم االعتقاد»(،)3
وعرف بأنه «إمام أهل المغرب في علم االعتقاد»( .)4فلم ينل الساللجي هذه
ُ
األلقاب وتلك األوصاف إال بسبب ما أحدثه من ثورة كالمية في فاس ،وبما أوقع
في عقائد أهل هذه المدينة ـ ومن خاللها في أهل المغرب كله ـ من تطوير في
المناهج والقضايا التي تعالج ويستدل بها على العقيدة اإلسالمية.
وخصص الساللجي مجالس علمية لتدريس أصول الفقه ،كما قام بتدريس علم
الحديث ،يقول ابن مؤمن ـ تلميذه ـ« :قرأت عليه بعض كتب الترمذي قراءة تفكر
واعتبار وتفقه .وسمعت قراءتها عليه مدة صحبتي له»( ،)5كما قام بتدريس
«الموطأ» كتاب مالك األول ،وبتدريس الفقه العالي ،وألقى دروسا في كتب
االختالف الفقهية ،يقول ابن مؤمن« :ابتدأت عليه قراءة كتاب االصطالح في
(?) انظر مثال :ابن األحمر -البيوتات ،45 :والكتاني -السلوة -2/183 :والزركلي -األعالم: 2
.5/209
(?) انظر ابن الزبير :صلة الصلة ،101 :والمنوني -العلوم واآلداب والفنون.58 : 3
(?) انظر مثال :التادلي -التشوف ،148 :واليفرني -المباحث العقلية ،1/329 :وابن أبي زرع- 4
األنيس ،266 :وابن غازي -بغية الطالب :كراسة ،16/7 :وابن القاضي -الجذوة ،2/458
وابن عيشون -الروض العطر األنفاس ،193 :والتستاوتي -نظم كتاب التشوف وشرحه،159 :
والكتاني -السلوة.2/183 :
(?) ابن مؤمن – البغية ،انظر المديوني -الشرح.60 : 5
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
مسائل االختالف ألبي مظفر السمعاني ـ ‘ ـ قراءة تفقه ونظر وتفقه وترجيح،
وقد أكملت كتب الوضوء والصالة.)1(»..
وقد لقيت دروس الساللجي إقباال كبيرا من طرف الطلبة الذي أخذتهم موجة
التغيير واإلصالح ،فهبوا مسـرعين إلى مجالسته كبارا وصغارا ذكورا وإناثا
مغاربة وأندلسيين ،حتى امتألت حلقاته وغصت بالطلبة .ونظرا لمكانته هذه
قصده الطلبة والعامة في مسائل الدين ،فتصدر للفتوى وقام يبحث للسائلين عن
أحكام توافق تصرفاتهم في إطار ما أمر به الشـرع أو نهى عنه ،فأحدثت آراؤه
االجتهادية وفتاويه ارتياح مجموع المستفتين .يقول ابن مؤمن« :وسألته عن
مسائل في القرآن والحديث فأجابني بأجوبة مفيدة ،حسنة ،وسمعت منه كثيرا من
فتاويه ونظره.)2(»..
-10تجربته الصوفية:
بمقتضى ما علم ،فشـرح صدره ،وعلمه ما لم يعلم ،واتقى هللا فوقاه ،وتوكل عليه
فكفاه ،واهتدى بهديه فوفقه وهداه ،وجعل له من أمره يسرا ومخرجا ،ورزقه من
حيث ال يحتسب ،ووضع البركة في علمه وعمله ،ورزقه من الصبر واالحتمال،
وحسن الخلق والعشـرة واألدب ما ال مزيد عليه ،وحاسب نفسه في لحظاته
تقيدت أفعاله كلها بأحكام الشـرع،
وخطراته وكلماته وحركاته وسكناته حتى َّ
وجرت على مقتضى أوامر البارئ ـ تعالى ـ وإذنه ،واقتدى بهدي السلـف
الصـالح ـ ~ ـ ،ففُتح له وعلى يده فتحا خرق العادة ،وحرك النفوس وقامت به
الحجة.)1(»...
كما صورت لنا مصادر أخرى أوجها من مظاهر صوفية أبي عمرو وإغراقه
في الجانب الروحي وبعده عن الرياء ،وأعطت أمثلة عن بعض كراماته
وعجائبه التي تثبت "واليته" منها ما رواه التادلي وغيره حيث قال« :سمعت ابن
الحجـاج يـوسف ابن موسى يقول :رأيت أبا عمرو يحمل خبزه إلى الفرن فيريد
تالمذته أن يكفوه حمله فيأبى من ذلك إلى أن قال لهم :ما انتصبت للتعليم إال
لوجه هللا ،فإذا لقيني منكم أحد فال يتعرض لخدمتي بشيء فإني أخاف أن يفسد
علي نيتي..وكان يمر باألبواب فيجد النساء أخرجن الخبز لمن يحمله إلى الفرن
فيحمله لهن»(.)2
وروى التادلي أيضا عن أحمد بن عيسى األنصاري قال« :حدثني البرزالي
خديم أبي عمرو قال :استدعيت أبا عمرو إلى منزلي وصنعت له طعاما ،فقدمت
إليه طبق عنب فأخذ منه حبة فوضعها في فمه ساعة ثم أخرجها وردها إلى
(?) التادلي -التشوف ،181 :وانظر أيضا :اليفرني -المباحث ،1/329 :وابن القاضي -الجذوة: 2
.2/458
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
الطبق .وقلت له :كل .فأبى .فأقسمت عليه .فقال :ال تقسم علي .فلما رآني متغيرا
قال لي :من أين جاءك هذا العنب؟ فقلت له :أهداه إلىَّ بعض جيراني .فقال لي:
ما حرفته؟ فقلت له :خمار ،يشتري العنب ويعصره ويبيعه مسكرا .ثم قلت له :لم
تسألني عن هذا؟ فقال لي :لما أخذت حبة من هذا العنب ووضعتها بين أسناني
وجدتها أشد من الحجر ،فأخرجتها من فمي ورددتها إلى الطبق»(.)1
-11تالميذ المدرسة الساللجية:
تخرج من مدرسة أبي عمرو عدد مهم من الطلبة الذين كان لهم دور بالغ في
التأثير على الحياة الفكرية والعقدية من بعده في فاس وفي المغرب كله بل وحتى
في األندلس ،ومن أشهر هؤالء التالميذ:
هو علي بن عتيـق بن عيسى بن أحمـد بن عبـد هللا بن عيسى بن عبـد هللا بن
محمد ابن مؤمن األنصاري الخزرجي( )2من أهل قرطبة ،نزل بآخره مدينة فاس
كان شاهدا بدار األشراف.
روى باألندلس عن أبيه ،وعن ابن العريف ،وابن العربي ،وابن ورد ،وابن
مسـرة والسلفي وغيرهم.
(?) التـادلـي -التشـوف ،181 :واليفـرنـي -الـمبـاحـث ،1/330:وابـن عـيـشـون -الـروض 1
العطر.210 :
(?) انظر :ابن األبـار -التكملة ،2/674 :والمراكشـي -الذيـل والتكملـة :السفـر 5 :القسم: 2
1/256وما بعدها ،وابن الزبير -صلة الصلة ،115 :وابن القاضي -الجذوة ،2/48 :ومخلوف
-شجرة النور.161 :
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
اعتنى ابن مؤمن بالرواية وقيد وكتب ،وله في شيوخه فهارس بثالثة :كبير،
وصغير ،ومتوسط ،ضمنهم في برنامجه الذي سماه« :بغية الراغب ومنية
الطالب » .ومن الشيوخ الذين اعترف بفضلهم عليه وأستاذيتهم له في هذا الكتاب
الشيخ أبو عمرو الساللجي ،حيث ذكر أنه قرأ عليه علم التوحيد ،وعلم الحديث،
والفقه ،وشيئا من علم التفسير ،إال أنه اختص به في علم الكالم وخصوصا من
كتـاب «اإلرشـاد» .قـال أبـو الحسن ابن مؤمن « :قرأت على أبي عمرو كتاب
"اإلرشاد" ألبي المعالي الجويني قراءة تفقه ونظر ،وقرأت بعض كتب
"الرعاية" للمحاسبي قراءة تفكر واعتبار وتفقه ،وسمعت قراءتها عليه مدة
صحبتي له .وكذلك كتب "التلقين" لعبد الوهاب»( ،)1قال« :وسألته عن مسائل
في القرآن والحديث فأجابني بأجوبة مفيدة حسنة .وسمعت منـه كثيرا من فتاويه
ونظره ،وابتدأت قراءة كتب "االصطالح في مسائل الخالف" ألبـي المظفر
السمعاني ـ ‘ ـ عليه قراءة تفقه ونظر وتلقيح وترجيح.)2(»..
-11-2أبو عبد هللا بن الكتاني (597هـ1293/م):
أبو عبد هللا محمد بن علي بن عبد الكريم الفندالوي عرف "بابن الكتاني"(.)3
كان من أكبر أئمة فاس والمغرب علما وورعا وزهدا وعبادة .تنقل بين فاس
والقيروان واألندلس...
(?) ابن مؤمن -البغية عن المديوني -الشرح 60 :وانظر أيضا اليفرني -المباحث-1/185 : 1
.186
(?) ابن مؤمن :ن ص. 2
(?) انظر :التادلي -التشوف ،335 :وابن القاضي -الجذوة ،1/220 :ومخلوف -شجرة النور: 3
،164والكتاني -السلوة ،3/172 :والتازي -جامع القرويين ،1/176 :وابن الزبير -التكملة:
.2/681
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
درس على أبي عبد هللا محمد بن يبقى وعلى أبي عمرو الساللجي ،أخذ عنه
علم الكالم وأصول الفقه« ،وكان أهل فاس يقولون :إنه لم يتخرج على أبي
عمرو مثله ومثل
عبد الحق السكوني»(.)1
وقد تأثر ابن الكتاني بشيخه الساللجي في تخصصه األشعري وحتى في
سلوكه الصوفي مما جعله يخلفه ـ بعد وفاته ـ على كرسي العقيدة واألصول في
القرويين .يقول ابن العربي الحاتمي (ت638.هـ1240/م) ـ الذي التقى بابن
الكتاني في رحلته إلى فاس ـ« :رأيت أبا عبد هللا الكتاني بمدينة فاس إماما من
أئمة المسلمين في أصول الدين والفقه»(.)2
وقد كانت وفاته سنة596 :هـ1295/م ،ونظرا لمكانته العلمية والحترام الناس
له فقد حضر جنازته أبو دبوس الموحدي أمير الوقت(.)3
(?) ابن العربي الحاتمي -الفتوحات المكية ،السفر الخامس ،ص.74 : 2
(?) ابن الزبير :صلة الصلة ،4 :والتجيبي -البرنامج ،248 :وابن القاضي -الجذوة،2/388 : 4
األشعري في حلقة أبي عمرو الساللجي ـ الذي كان في آخر أيامه ـ «فقرأ عليه
علم الكالم وأصول الفقه وأحكم عنه العلمين»( ،)1فصارت له المكانة العالية
فيهما ،حتى قال أهل فاس ـ كما ذكرنا آنفا ـ إنه لم يتخرج من مدرسة الساللجي
مثله ومثل أبي عبد هللا الكتاني بسبب تمكنهما من المذهب األشعري العقدي(.)2
يوسف بن عبد الصمد بن يوسف بن علي بن عبد الرحمن بن نموي يكنى أبا
الحجاج ،من أهل مدينة فاس .ولد عام554 :هـ1159/م وتوفي في التاريخ
أعاله(.)3
أخذ عن جماعة من شيوخ بلده منهم القاضي ابن مضاء ،كما أجازه ابن
بشكوال ،وعبد الحق األزدي وغيرهما .وتلقى علم الكالم عن أبي عمرو
الساللجي في بداية حياته ثم قرأ على ابن الكتاني ـ خليفة الساللجي في كرسي
العقيدة بالقرويين ـ وصحبه إلى أن مات.
وبعد اكتمال دراسته واشتداد عوده ونضج أفكاره عمل ابن نموي على
تدريس العقيدة واألصول وغيرهما من العلوم بفاس ومراكش وإشبيلية،
واستدعي للتدريس بكل المراكز العلمية الكبيرة ،وظل على هذه الحال إلى حين
وفاته.
(?) انظـر ترجمتـه بتوسـع عنـد :ابـن األبـار -التكملـة ،2/740 :وابن زرع -الذخيـرة السنيـة: 3
،51وابن القاضي -الجذوة ،2/550 :والتنبكتي -نيل االبتهاج ،ص ،626 :والمنوني -العلوم
واآلداب والفنون 118 :والتازي -الجامع.1/182 :
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
أخذ السطي العلم عن مجموعة من العلماء منهم ابن الرمامـة ـ شيخ الساللجي
المتقدم ـ وسليمان بن عبد الرحمن الصنهاجي ،كما «أخذ علم الكالم عن أبي
عمرو عثمان بن محمد الساللجي»(.)4
-11-6خيرونة (ت594.هـ1197/م):
من النساء المتميزات لعصر الساللجي والالئي كان لهن دور بارز في
الترويـج لعلم
(?) انظر ترجمته في :ابن أبي زرع -الذخيرة ،46 :وابن القاضي -الجذوة.2/515 : 1
(?) موطنها بقيادة "تروال" من دائرة "وزان" من بطون أوربة ،انظر :الونشريسي -الوفيات، 2
ص.117 :
(?) ابن أبي زرع -الذخيرة السنية.46 : 3
كانت خيرونة تتقن الفقه وتبحث في أحكامه العملية ،كما اهتمت بتزكية حياتها
الروحية فاعتنت بدراسة الكتب الصوفية وتقليد أئمة التصوف حتى صارت «من
الزاهدات العابدات» ،واهتمت بأمور العقيدة إذ «كانت تحضر مجلس عثمان
الساللجي إمام أهل فاس في األصول»(.)1
ومما يذكر عن مفاخر خيرونة ـ التلميذة النجيبة للساللجي ـ أنها كانت السبب
الرئيس في تأليفه للكتيب الذي اشتهر به« :العقيدة البرهانية» .فمن أجلها قام أبو
عمرو بوضع عقيدته ،ونزوال عند رغبتها بادر إلى ذلك(.)2
من تالميذ الساللجي المقربين ،إليه يرجع الفضل في نقل أهم أطوار حياة أبي
عمرو ،وقد اعتمد التادلي في «التشوف» على أخباره في نقله سيرة مبحوثنا.
إن كل ما نعرفه عن هذا الرجل أن اسمه أحمد واسم أبيه عيسى وكنيته هي:
أبو القاسم( ،)3وأنه عاش بعد أبي عمرو ،ألنه يروى سيرة أبي عبد هللا التاودي
الذي عاش بعد الساللجي.
(?) المديوني عن ابن مؤمن عن البغية ،الشرح ،60 :واليفرني -المباحث.1/186 : 1
(?) المصدر المتقدم صفحات ،201-198-173-170 :وانظر أيضا كنون -الساللجي.18 : 3
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
من التالميذ الفاسيين الذين أخذوا عن الساللجي ،وقد ذكره ابن األبار في
«التكملة» وقال عنه إنـه« :من أهل فـاس مـمن شـارك [أبـا عمرو] في األخـذ
عن ابن الرمامة ،وأخذ عنه علم الكالم»(.)4
علي بن خيار الفاسي البلنسي األصل أبو الحسن .ذكر صاحب «الذيل
والتكملة» أنه كان حيا سنة ،601 :وسمع بفاس على أبي عبد هللا بن الرمامة،
وأبي عمرو الساللجي .وكان حافظا فقيها رافضا للتقليد ،مياال إلى النظر
واالجتهاد ،متفننا ،حسن المشاركة في العربية وعلم الكالم وأصول الفقه
والتصوف(.)2
-12الوفــاة:
عاش الساللجي حياته المتبقية ـ بعد رجوعه من مراكش ـ عامـال على تكويـن
هـذا الرعيل من العلماء الجدد ،وأشرف بنفسه على توجيههم وبناء فكرهم
العقدي والصوفي .وكان الساللجي خالل ذلك يزداد تقوى وورعا وتقدما في
مراتب العلم والصالح حتى اعتبر عند غير واحد من المؤرخين بأنه بلغ في
أيامه األخيرة «درجة اإلمام أبي المعالي الجويني إمام الحرمين»( .)3كل ذلك
بسبب تأسيسه للمدرسة األشعرية بالمغرب األقصى.
(?) انظر :ابن عبد الملك -الذيل والتكملة ،س 8 :ق 1 :ص.164 : 2
(?) ابن األحمر وغيره -البيوتات ،45 :والكتاني -السلوة ،2/183 :والتعارجي -األعالم: 3
.9/6
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
قال أبو الحسن ابن مؤمن« :توفي أبو عمرو ـ ‘ وعفا عنه ـ في ليلة األحـد
لثلث
الليل األخير من ليلة إحدى وعشرين من جمادى اآلخرة سنة أربع وسبعين
وخمسمائة (574هـ) ،ودفن خارج باب الجيزيين من مدينة فاس :عند قبر دراس
بن إسماعيل ،وصلى عليه الفقيه أبو محمد عبد الخالق بن عبد الرحمن بن
خنوسة ،وحضره من الخلق جمع عظيم وحفل شنيع ،وأسف الناس عليه لفقده
ودعوا له وتبركوا به»(.)1
وبعد فإن أهم أثر خلده التاريخ للساللجي ،وجعل اسمه يبقى على لسان كل
عارف بعلم الكالم المغربي هو مختصره في العقيدة المسمى«:العقيدة
البرهانية» ،وهو األثر العلمي الوحيد الذي وصلنا له .وهو على وجازته قد
مارس فعال واضحا في العقل المغربي ،وكتب له من الرواج واالنتشار ما لم
يكتب للمؤلفات الضخمة والمجلدات .ألجل هذا سنخصص الفصل الثاني من هذا
التقديم للحديث عنه ،من حيث أسباب تأليفه (الخاصة والعامة) ،ومن حيث
مصادره ،وشروحه ،وتأثيره في الفكر العقدي المغربي.
الفصل الثاني:
التعريف بـ«العقيدة البرهانية»
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
تمهيد:
لم تحتفظ لنا الخزانات العامة والخاصة بكتب الساللجي ،ولم تذكر المصادر
التاريخية وكتب التراجم أن أبا عمرو الساللجي ألف تأليفا أو ترك إنتاجا فكريا
أو علميا ،اللهم إال ما أجمع الباحثون على نسبته إليه وهو« :العقيدة البرهانية»
وبعض أشعار منها شعره في أهل فاس:
ولو شربتم مداد الكتب بالصحـف »خــذوا ضماني أال تفلحوا أبـدا
()1
بالصدف« أنتم صغار كبار عند أنفسكم
وعلى هذا يكون المؤلف المهم واألساس للساللجي الذي لم يختلف في نسبته
إليه اثنان هو «العقيدة البرهانية» مختصره في العقيدة( .)2وهو »من حيث الحجم
أشبـه بـ"مقدمة ابن أجروم" في النحو .ومن الغريب أن تقوم شهرة الرجلين على
مؤلـف بهـذه المثابـة من الصغر ،ولكن العبرة بالكيف ال بالكم وبالنوع ال
بالعدد« ،كما يقول عبد هللا كنون(.)3
-1-1أسباب التأليف:
إن األسباب الخاصة المباشرة التي دفعت أبا عمرو لتأليف «برهانيته» كانت
متعلقة بخيرونة تلميذته؛ هذه المرأة األندلسية الزاهدة التي تعاطت للعلم
والدراسة ،وأرادت أن تتعلم من أمور الكالم ما يجعل عقيدتها في مأمن من
االنحراف والزيغ ،فرغبت إلى الساللجي ـ شيخ الفاسيين في علم االعتقادات ـ أن
يكتب لها عقيدة مختصـرة وافية بمطلوبها .فكتب لها الساللجي «عقيدة» مرة
بعد مرة ،ولكن هذه العقيدة ما لبثت أن اكتملت ،وظهر تميزها وإحكام تأليفها
فانتشـرت بين الناس وذاع صيتها فسميت «بالبرهانية» .يقول ابن مؤمن« :كان
بمدينة فاس امرأة تسمى خيرونة ،وكانت من الصالحات القانتات الزاهدات
الغافالت المؤمنات ،وكـانت تعظمـه [ـ أي أبا عمروـ] وتوقره وتلزم مجلسه،
فرغبت إليه أن يكتب لها في لوحها شيئا تقرأه على ما يلزمها من العقيدة .فكان
يكتب لها في لوحها فصال متى كلفته ذلك ،فكانت تحفظه ،فإذا حفظته ومحته
كتب لها لوحا ثانيا ،فكان ذلك دأبها حتى كملت عقيدة وكتبتها وكتبت عنها ولقبت
بـ «البرهانية» وصارت بأيدي الناس كثيرا»(.)1
فلما وصلت هذه العقيدة إلى يد أبي الحسن ابن مؤمن ـ تلميذ الساللجي وراوية
أخباره ـ جاء إلى أبي عمرو يستشيره في وضع مقدمة لها وترتيبها في فصول
لتأخذ شكل تأليف .فلما سأل الساللجي في ذلك رفض الشيخ هذا االقتراح
(?) ابن مؤمن -بغية الراغب ،عن المديوني -الشرح ،61 -60 :وانظر في هذا المعنى :ابن 1
األحمر وغيره -بيوتات فاس 45 :وابن القاضي -الجذوة 2/458 :والكتاني -السلوة،2/183 :
والتعارجي -األعالم 9/6 :والزركلي -األعالم.5/209 :
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
واعترض عليه بشدة مخافة السمعة والرياء .يحكي ابن مؤمن عن هذا الخبر
فيقول» :فأخذتها [أي "البرهانية"] وقام بفكري أن أرتبها فصوال وأعمل لها
شبه الخطبة ،ثم شاورته في ذلك فمنع منه وقال لي :لم أتعرض فيها أن تكون
تأليفا تكتب وتنتشر ،وإنما كتبتها لخيرونة على وجهٍ ،فشاء هللا أن تشيع فاتركها
كما هي وال تزد فيها شيئا فتخرج عما قصد بها[ .قال أبو الحسن ]:فتركتها كما
هي«(.)1
إن هذه الرواية توضح بجالء أن األسباب العامة التي دفعت أبا عمرو إلى
تأليف «العقيدة البرهانية» ترتبط ارتباطا وثيقا بالدور اإلصالحي التعليمي الذي
تفرغ له بعد رجوعه إلى فاس ،فهو لم يقصد بهذا العمل أن يصبح تأليفا يفتخر به
ويستعلى به على الناس ،وإنما أراد أن يساهم به فقط في مساعدة طلبته على
تحصيل العلم األشعري وعلى ترسيخ العقيدة في أذهانهم.
-1-2مصادر البرهانية:
وهذا الكالم في اعتقادي له من الصحة الشيء الكثير ،فال أملك إال تأييد رأي
عدد غير قليل من الباحثين الذين أعلنوا أن «البرهانية» مختصـر «اإلرشاد».
(?) ابن مؤمن -بغية الراغب ،انظر المديوني -الشرح.61 : 1
وبذلك يكون هذا المؤلف هو المصدر األساسي ـ إن لم يكن األوحد ـ الذي اعتمده
أبو عمرو في وضعه لـ«البرهانية».
كان أبو عمرو الساللجي رجال ناقدا وصاحب فكر ال يقنع إال باألدلة
والبرهان ،فكان كتاب «اإلرشاد» ـ بالنسبة ألسلوبه العقلي ـ شفاء لفضوله
وإقناعا لعقله الباحث عن أدلة إثبات العقائد .فقد اطمأن الساللجي إلى صحة
وفاعلية هذا الكتاب في إثبات القضايا الكالمية ألنه يعتمد المنهج العقلي ويسلك
السبيل المنطقي ،فلذلك رفض أن يتراجع عن األخذ به وسلوك منهجه .كيف ال
والجويني يقول في مطلع هذا الكتاب« :لما رأيت أدلة التوحيد عصما للتسديد
ورباطا ألسباب التأييد ،وألفينا الكتب المبسوطة على القواطع الساطعة والبراهين
الصادعة ال تنهض لدركها همة أهل الزمان ،وصادفنا المعتقدات عرية عن
قواطع البرهان ،رأينا أن نسلك مسلكا يشتمل على األدلة القطعية ،والقضايا
العقلية متعليا عن رتب المعتقدات منحطا عن جلة المصنفات»( ،)1فلعل هذا
النص كان كافيا لكي يقبل الساللجي عن «اإلرشاد» ويعتنق آراءه ومواقفه.
-2التسمية:
وأما نسبتها إلى «البرهان» قال أبو الحسن الطنجي ـ أحد شراحها ـ« :لم
ينسبها أبو عمرو [واألصح أنها لم تنسب] إلى الدليل ألن البرهان موضوع
للقطع واليقين بخالف الدليل فإن االصطالح يختلف فيه ،فتارة يطلق على ما أفاد
الظن وتارة يطلق على ما أفاد القطع .واعلم أن "البرهان" في اللغة هو "الحجة
الواضحة الوثيقة" .يقال :برهن على كذا إذا أقام عليه حجة واضحة ،ثم نقل في
االصطالح إلى "ما يفيد اليقين بذاته" .ولهذا قال أهل االصطالح :البرهان هو ما
أفاد إفادة ال تتصور بغيره ،وإنما كانت كذلك ألن مقدمته ال تكون إال ضرورية
كقولنا :الكل أعظم من الجزء ،واألشياء المتساوية لشـيء واحد متساوية .وإذا
كانت المقدمات يقينية ضرورية فالنتيجة كذلك ألن الزم الحق حق»( .)1فهل طبق
الساللجي في برهانيته قواعد البرهان هاته؟
وإذا كانت «مرشدة» المهدي قد ضمن لها االنتشار بفضل رعاية السلطان
حيث كان ابن تومرت نفسه يعلمها الناس ويأمر بحفظها ،كمـا أن عبد المؤمـن
أخـذ عامـة الناس بحفظها وفهمها ونشـرها وسعى إلى تحقيـق ذلك بالترغيب
والترهيب .يقول ابن خلدون عن المهدي« :فنزل على قومه وذلك سنة خمس
عشـرة وخمسمائة وبنى رابطة للعبادة ،فاجتمعت إليه الطلبة والقبائل يعلمهم
"المرشدة"»( ،)1ويقول البيدق عن عبد المؤمن بأنه أصدر مرسوما «يلزم العامة
ومن في الديار بقراءة العقيدة التي أولها" :اعلم أرشدنا هللا وإياك"
وحفظها.)2(»...
إن عدد شروح «البرهانية» يربو على أربعة عشـر شرحا ،كما أن فترات
االهتمام بهذا المصنف العقدي امتدت من عصر المؤلف (القرن السادس
الهجري) إلى حدود القرن الحادي عشر والثاني عشر الهجريين ،مما يؤكد أن
تأثير «البرهانية الساللجية» على فكر المغاربة كان كبيرا ،فلوال أنها كانت تلقى
قبوال واستحسانا لدى الخاصة والعامة لما حصل لها هذا الرواج ،ولما امتد
االهتمام بها إلى المغرب األوسط واألدنى وإلى األندلس بل وإلى أعماق السودان
ـ كما سنعرف بعد قليل ـ.
فلم يخل قرن من القرون التي تلت وفاة الساللجي من تأليف يرتبط بالعقيدة
«البرهانية » شرحا لها أو اختصارا لشرح أو نظما لمسائلها .مما يجعلنا نعلن
(?) ابن خلدون -العبر.228-6/227 : 1
(?) انظر هذه النصوص وغيرها عند النجار -المهدي 450 :وغيرها. 2
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
بكل اطمئنان أن تأثير هذه العقيدة على الفكر الكالمي بالمغرب كان يفوق تأثير
"مرشدة" المهدي وآرائه.
إننا من خالل بحثنا في أمهات كتب التراجم والسير والتاريخ ،ومن خالل ما
حصلنا عليه من نسخ لشـروح «البرهانية» المخطوطة ،توضح لدينا أن
«البرهانية» كانت تشكل محورا للدراسة ومنطلقا ألبحاث العقيدة في كل القرون
والمراكز الدراسية بالمغرب والشمال اإلفريقي منذ عصـر الساللجي .فقد كانت
دراسة هذه العقيدة رائجة في المغرب بعد وفاة الساللجي بواسطة تالميذه
وتالميذهم الذين نقلوا رواياتها وتناولها بعضهم بالشـرح مثل ابن الكتاني (ت.
596هـ1199/م) والرعيني (ت598.هـ1201 /م) وابن الزق (ت .بعد612 :هـ/
1215م) ،وقد كان القرن السادس الهجري قرن الدعاية لهذا المختصر وفترة
إلشاعة رواياته ونسخه في األوساط الطالبية والعلمية بالمغرب وخارجه .لذلك
بادر رجال القرن السابع باحتضان آراء الساللجي بجدية وتعرضوا لشـرحها
وتفصيلها على رأسهم الخفاف والمجهول (المنسوب شرحه للمقترح) (ق 7هـ/
13م) وابن بزيزة (ت673.هـ1274/م)...
وفي القرن الثامن أصبحت الريادة العقدية في بالد المغرب كله للعقيدة
الساللجية فها هو اليفرني (ت734.هـ1333/م) يعلن أن الحوافز التي دفعته إلى
وضع شرحه على «البرهانية» تمثلت في حاجة الناس إلى هذه العقيدة التي عم
االهتمام بها لدى كل الدارسين وطلبة العلم .يقول« :إني لما رأيت أهل زماننا
مشتغلين بـ«العقيدة البرهانية» تأليف الشيخ أبي عمـرو الساللجي ـ ‘ ـ عزمت ـ
مستعينا باهلل تعالى ـ أن أضع عليها شرحا ليكون ذلك تهذيبا للمبتدئ وتقريبا
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
وقد ازداد اهتمام المغاربة بهذه العقيدة في القرن التاسع إذ نجد اإلمام المالكي
الكبير أبا الحسن القلصادي (ت891.هـ1486/م)( )4يذكر «الساللجية» مفتخرا
بأنها من المؤلفات التي تخرج بها على شيخه أبي عبد هللا محمد بن أحمد النجار
التلمساني (ت846.هـ1442/م)( .)5وفي هذا القرن نفسه قام العالمة الجزائري
أبو عثمان العقباني (ت811.هـ1408/م)( )6بوضع شرح على هـذه العقيـدة.
ومكانـة العقباني في علم الكالم والمنطق مما ال تخفي فهـو صاحب «شـرح
(?) أحد علماء القرويين وخطيبها .كان من فقهـاء المالكية .لـه "تقييـد علـى رسالة ابن أبي زيد"، 2
انظر ترجمته عند ابن القاضي -الجذوة ،2/551 :والتنبكتي -نيل االبتهاج 627 :والزركلي -
األعالم.8/244 :
(?) من فقهاء فاس كان قاضيا في عهد المرينيين .انظر عنه :ابن القاضي :الجذوة.1/227 : 3
مؤلفاته العقدية والمنطقية" :هداية األنام في مختصر قواعد اإلسالم" و"شرح ايساغوجي" .انظر
عنه :ابن مريم -البستان ،141والزركلي -األعالم.5/10 :
(?) كان عالما من علماء الكالم الكبار .انظر ترجمته مثال عند :ابن مريم -البستان221 : 5
كما يؤكد هذه األهمية أن أبا عبد هللا محمد بن يـوسف السنـوسي الحسني
التلمسـاني
(?) من العلماء الصالحين بالمغرب ،كانت له رحالت ومناقشات علمية .انظر ابن القاضي -لقط 2
الفرائد 241 :و أحمد حمدان مقدمة تحقيق المراجعات :رسالة جوابية من السنوسي إلى المغيلي
في «علم هللا بالجزئيات» .تح :أحمد العلمي حمدان -مجلة كلية اآلداب بفاس ،ص.203 :
(?) انظرها ضمن المراجعات :في الرسالة الجوابية السابقة ،الصفحة نفسها. 3
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
وأعرف أهل زمانه بالبيان والمنطق واألصـول»( ،)1أنـه درس على شيخـه عبـد
العزيـز اللمطي( )2نص هذه العقيدة وسمع شرحها منه قـال« :الزمت هذا الشيخ
نحـو إحـدى عشـرة سنة فـي أكثر دروسه التي يلقيها للطلبـة كفـرعي ابن
الحاجب...وقـرأت عليـه بلفظي أيضا قراءة تفهم جمع الجوامع للسبكي :وبقـراءة
غيـري" :بـرهانيـة الساللجي".)3(»...
ثم نجد المنجور يثبت أهمية دراسة «البرهانية» في تلك الفترة فيذكر في
ترجمته لشيخه علي بن موسى المطغري (ت951.هـ 1544/م) ( )4أن اإلمام
الذائع الصيت أبا عبدهللا محمد بن غازي (ت919.هـ1503/م)( )5تولى بنفسه
تدريس هذه العقيدة بمدينة فاس بعد انتقاله إليها من مكناسة .وكان علي بن
موسى المطغري أحد الطلبة الذين حضروا مجالس تدرسيه لها .كما ينقل
المنجور من ثبت ابن هارون المطغري أن «البرهانية» كانت من المؤلفات التي
أجاز ابن غازي لتلميذه ابن هارون .قال متحدثا عن المؤلفات التي أجازه شيخه:
(?) الكتاني -السلوة 1/180 :و ابن القاضي -درة الحجال.1/84 : 1
(?) عبد العزيز اللمطي أبو فارس فقيه متفنن كان جامعا بالعلوم والفنون وسكن بالمدينة ،حيث 2
حج إليها ثالثين حجة ،وبها كانت وفاته ،انظر :المنجور :الفهرس.35 :
(?) المنجور -الفهرس .تح :محمد حجي ،ص.35 : 3
(?) التلمساني أبو الحسن ،الفرضي ،الخطيب المفتي ،والمدرس بفاس .انظر عنه :التنبكتي -نيل 4
وعمل بها .من مؤلفاته" :غنية الطالب في منية الحساب" .انظر :ابن القاضي -لقط الفرائد:
.284
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
«ومن أصول الدين «البرهانية» ألبي عمرو الساللجي .ختمتان بمسجد شوارة
من البليدة مقدمه من مكناسة.)1(»...
وخالل هذا القرن أيضا يتم شرح «البرهانية» من طرف أعالم كبار
كـالجزولي والجدميوي وغيرهما .كما أن «البرهانية» وصلت في هذه الفترة
إلى أقاصي البالد اإلسالمية حتى صارت تدرس ـ ال في تلمسان وتونس وبجاية
فحسب ـ بل وحتى في أماكن نائية بعيدة مثل السودان وغيره.
صارت «العقيدة البرهانية» إذن المصدر األساس واألول الذي ينهل منه
طلبة العلم والباحثون في علم الكالم األشعري وقتئذ ،فيخبرنا ابن غازي أن
«عقائد [الساللجي] هي التي كانت تدرس قبل ظهور الشيخ السنوسي»( ،)3ولم
يعد تدريس ودراسة هذه العقيدة عمال علميا فقط ،بـل أصبـح تدريسـها ودراستهـا
ـ عند بعضهم ـ أمرا عباديا ارتقى األمر فيه مؤخرا إلى درجة تحبيس المحسنين
(?) ابن غازي -بغية الطالب :كراسة .16/7 :وال يعني هذا أن دراستها توقفت مع السنوسي 3
نهائيا ،كال إذ الثابت أنها بقيت معتمدة في زمان السنوسي وبعده كما يؤكد على ذلك المنظومة
الهبطية التي سنتحدث عنها الحقا ونلحقها بالبرهانية في هذا الكتاب.
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
فها نحن نرى كيف استطاع هذا المؤلف العقدي المختصـر الذي وضعه
الساللجي "لخيرونة" أن يخترق اآلفاق ويصل إلى أقاصي البالد اإلسالمية ـ
حتى وجدت له نسخ بتركيا وآسيا ـ( )3ووقفت عليه األوقاف واألحباس واعتنى
الناس به عناية بالغة ...والواقع أن «البرهانية» لم تنل هذه الحظوة والمرتبة ولم
لدَّقة العمل الذي سلكه فيها
تحرز هذا السبق بين مؤلفات العقيدة بالمغرب إال ِ
مؤلفها من جهة ،ثم من جهة أخرى بفضل موافقتها للخط العام الذي صارت
عليه عقيدة المغاربة منذ عصـر الساللجي واتفاقها مع توجُّههم األشعري .فقد
كان المغاربة متشبثين بالفكر األشعري مهتمين بآرائه ألنهم ـ اعتقدوا ـ أنه يعكس
مذهب أهل السنة والجماعة ،ولم يكن هذا األمر مقتصرا على مغرب البالد
اإلسالمية فقط بل إن العقيدة األشعريـة كانت صاحبة القول الفصل في جل بقاع
العالم اإلسالمي .فال عجب أن يلقى مؤلف الساللجي المذكور هذا االهتمام
المتزايد وتلك الحفاوة البالغة التي تُرجمت إلى دراسات وشروح واختصارات
أثبتت أهمية وقيمة «العقيدة البرهانية» وركزت مبادئها في نفوس المغاربة
األشاعرة.
لهذا ومن أجل إتمام عملنا التوثيقي ،وتأكيدا لما سبق أن أبرزناه من تميز
«العقيدة البرهانية» ،وإجالء لقيمتها ولمدى تأثيرها في الفكر الكالمي المغربي
يلزم أن نقف وقفة خاصة عند شروحها المتعددة ،حيث سنعمل على التعريف
بمؤلفيها ومخطوطاتها.
-4شروح البرهانية:
تقدم التعريف بابن الكتاني والمهم هنا أن نعلم أن مرتبته العلمية سمحت له
بأن يقوم بتأليف مجموعة من األعمال الهادفة إلى تنوير العقلية المغربية في
مجال الكالم وغيره ،فألف «رجزا في أصول الفقه» ،وكتابا في «تراجم
الصوفية»( ،)1لكن أهم أعماله وأكثرها تأثيرا في المغاربة هو «شرحه للعقيدة
البرهانية»( ،)2هذا الشـرح الذي استفاد منه جل الدارسين لفكر وعقيدة أبي عمرو
الساللجي فيما بعد.
(?) سبقت اإلشارة إلى كتاب "المستفاد في ذكر الصالحين والعباد بمدينة فاس وما يليها من 1
البالد" انظر التحقيق الذي قام به أحمد التوفيق في مقدمة التشوف في شأن مؤلفه ،ص 15 :وما
بعدها.
(?) ستكون لنا عودة للحديث بتوسع عن هذا الشرح في الفصل الالحق عند حديثنا عن 2
إن أهم ما يمكن تسجيله عن هذا الشرح أنه رغم ثبوت نسبته إلى ابن الكتاني
إال أنه مفقود لم نستطع الحصول على نسخته .ولكنني مع ذلك استطعت أن أجمع
عددا مهما من نصوصه استخرجتها من الشروح المتأخرة التي نقلت عنه كثيرا.
فتيسـر لي بذلك أخذ نظرة عن مجهود ومستوى ابن الكتاني في ذلك الشرح.
-4-2شرح الرعيني (ت598.هـ1201/م):
لقد ورد في «رسالة مخطوطة لعبد هللا الهبطي (ت936.هـ1556/م) في
األحوال» إشارة إلى شرح للساللجي منسوب إلى رجل يدعى الرعيني ،يقول
الهبطي في هذه الرسالة« :قال اإلمام الرعيني أيضا ـ ÷ ـ في "شرح البرهانية":
وقد اختلف الناس في األحوال فذهب أكثر األشعرية وبعض المعتزلة إلى نفيها،
وذهب أكثر المعتزلة وجماعة من أهل السنة إلى ثبوتها كأبي المعالي
وغيره.)1(»...
كما ورد عند أبي مهدي عيسى السكتاني (ت1062.هـ1652/م) في
«حاشيته على "أم البراهين"» ما أثبت وجود هذا الشرح المفقود حاليا( .)2فتأكد
لدي جزما أن هناك «شرحا للبرهانية» من وضع الرعيني بدليل اعتماد ونقل
مقتطفات ونصوصا منه من طرف الهبطي والسكتاني اللذين اطلعا عليه .ولكن
من يكون هذا الرعيني؟
والراجح عندي أن هذا الشارح هو محمد بن عبد الرحمن الرعيني السرقسطي
(ت598.هـ1201/م) الذي «كان فقيها متحققا بعلم الكالم متقدما فيه يناظر عليه
(?) عبد الله الهبطي -رسالة في األحوال .نسخة مخطوطة بالمكتبة الخاصة لمحمد ناجي بالرباط. 1
صحيفة.15 :
(?) السكتاني -حاشية على شرح العقيدة الصغرى للسنوسي -مخطوطة محمد احنانا الخاصة 2
في "اإلرشاد" ألبي المعالي وغيره»( ،)1والذي ولي قضاء معدن عوام بمقربة من
فاس»(.)2
-4-3الشرح المنسوب للمقترح (ت612.هـ1213/م)
أبو العز المقترح هو مظفر بن عبد الله بن علي بن الحسين ،ويعرف
بـ«المقتََرح» وهو اللقب الذي اشتهر به وصار يعرف به ،نسبة إلى كتاب:
«المقترح في المصطلح» للبروي؛ ألنه كان يحفظه وقد شرحه شرحا نفيسا،
ُع رف واشتهر به حتى صار يلقب بـ«التقي المقترح».
(?) تاج الدين السبكي ،طبقات الشافعية الكبري ،تح :كمال يوسف الحوت ،نشـر :دار الكتب 3
بجامع مصر يقرئ الناس ،واجتمع عليه جماعة كثيرة ،ودرس بمدرسة الشريف
ابن ثعلب وتوفي في شعبان سنة اثنتى عشرة وستمائة(.)1
ومن ضمن مؤلفاته التي نسبت إليه «شرحه للبرهانية» ُنشر مؤخرا ُم حققا(،)2
ورجح نزار حمادي أن تكون من آخر مؤلفاته في أصول الدين ،استنادا إلى قول
المقترح في هذا الكتاب« :وها نحن في المائة السابعة من وقت نزوله ،وأعداء
القرآن المكذبون من الجن واإلنس أكثر من أوليائه بأضعاف مضاعفة ،والحرب
منصوبة ،والقتل والقتال ،وارتكاب األخطار واألهوال ،وإبليس وجنوده وسائر
أتباعه يفرون ويتفرقون عند سماعه ،قد يئسوا من معارضته ،واستعدوا
لمحاربته»(.)3
والذي مال إليه بعض الباحثين المعتبرين ـ وظهرت لي وجاهة مالحظاتهم ـ أن
هذا الشـرح يصعب واقعيا وتاريخيا وموضوعيا وفيلولوجيا أن يكون للمقترح
بحكم قرب زمان حياته (ت612.هـ) من حياة الساللجي (ت574.هـ) ،كما أن
مضامينه ولغته مختلفان عن «شرح اإلرشاد» الثابت نسبته إلى المقترح (وال
ننفي نسبة «شرح آخر لإلرشاد» غير شرح المقترح مذكور في هذا العمل هو من
(?) عن سيرته يمكن الرجوع أيضا إلى :أحمد بن يوسف الفهري ،فهرسة اللبلي ،تح :ياسين 1
عياش وعواد زينة ،ط :دار الغرب اإلسالمي ،بيروت ،1408/1988 :ص28-27 :
(?) حققه الباحث المتخصص األستاذ نزار حمادي ،حيث أعلن اعتماده في ذلك على نسخته 2
المخطوطة الموجودة ضمن مجموع محفوظ بالمكتبة الوطنية بتونس برقم 14460 :وأصلها من
المكتبة األحمدية تحت رقم ،2121 :وهي قطعة وقعت في 26ورقة .انظر المرجع السابق ،ص:
.23
(?) ص 19 :من تقديم نزار حمادي للشرح. 3
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
صنيع المؤلف المجهول حاليا للكتاب ،إال أننا ندعي أنه شرح آخر لمغربي وليس
لمصري أو مشرقي مصري ـ كما تدلنا على ذلك جملة من القرائن لسنا هنا بصدد
تمحيصها ـ) ،فالثابت في نظرنا إذن أن الشرح البرهاني المنسوب إلى مظفر
المقترح هو لشارح مغربي (نسبة إلى المغرب األقصى) عاش في القرن السابع
الهجري ،وله إلى جانب «شرح البرهانية» «شرح على اإلرشاد للجويني» ـ
وهذه كانت عادة معظم شراح البرهانية األوائل حيث إنهم كانوا يتولون الرجوع
بالشـرح إلى األصل (=اإلرشاد) عند انتهائهم من تقريب مؤلف أبي عمرو
الساللجي ...أما هذه النسبة الواقعة في المخطوطة األصل فتحتف بها عدة
إشكاالت حال الرغبة في متابعة ناسخها الذي ربطها بقلم المقترح.
ابن الزق هو محمد بن عبد هللا بن حسن الزرهـوني الفـاسي األصـل أبـو
القاسـم( )1أو أبو عبد هللا بن الزق( .كان حيا سنة 612هـ1215/م) أخذ بفاس عن
جماعة ،ثم رحل إلى األندلس طالبا للعلم ،فأخذ عن أبي عبد هللا بن حميد وابن
حبيش وابن رشد الحفيد وغيرهم .وكان مبرزا في النحو ذكيا متيقظا دارسا لعلوم
األوائل متقدما في علم الكالم واألصول ،وله «تعليقات مفيدة»(.)2
وال مجال للشك في قيام ابن الزق هذا بشـرح «البرهانية» ـ رغم أن شرحه
مفقود لم أعثر عليه ـ ،فقد نقل المديوني عنه( )3أقواال كثيرة ونصوصا بلغت
تسعة نصوص( ،)4كما نقل الشارح المجهول ـ الذي سيأتي الحديث عنه فيما بعد ـ
(?) انظر المجهول :شرح البرهانية 25 :والمديوني.272-226 : 1
(?) انظر :ابن عبد الملك -الذيل والتكملة :س.1/307 ،8 : 2
(?) يؤكد ذلك كنون نفسه انظر :عثمان الساللجي.27 : 3
أربعة نصوص من شـرح ابن الزق هذا أيضا .وهذا يكفي للداللة وإلثبات نسبة
هذا الشرح لذلك الرجل.
أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد هللا بن أحمد األنصاري األندلسـي المعروف
بـ"الخفاف" ،درس ببالده وانتقل إلى العدوة فاستقر بمدينة "تازة" حيث قضـى
حياته في تعليم أهلها إلى أن وافاه أجله.
إن مـمـا يثبت جاللـة علم هـذا الرجـل ،وتمكنـه مـن علم الكـالم ما أكده
المترجم له ـ وهو المراكشـي ـ من أنه ألف شرحين مهمين :الشـرح األول درس
في «كتاب اإلرشاد» وشرح مسائله ،وقد سمى عمله بـ« :اقتطـاف األزهار
واستخراج نتائج األفكار لتحصيل البغية والمراد من شرح كتاب اإلرشاد» .أمـا
الشـرح الثـاني ـ وهو الذي يهمنا هنا ـ فهو شرحه المهم والمتميز على «برهانية
الساللجي» ـ الذي لم يضع له عنوانا ـ.
إن للشرح عدة نسخ مخطوطة فـي المكـاتب الخاصة والعامة بالمغـرب
وإسبانيا اآلن .وكل المخطوطات التي اطلعنا عليها تتفق على نسبة هذا الشـرح
ألبي بكر الخفاف .فلهذا الشرح مخطوطة بالمكتبة العامة بالرباط(،)1
ومخطوطات أخرى بخزانة موالي يوسف بمراكش( ،)2ونسخ بالمكتبة الخاصة
(?) سمي الشرح في هذه المخطوطة ب"إيضاح العقيدة البرهانية" ورقمه .31/1 1
(?) في ثالث نسخ أرقامها 421 :و( 132ضمن مجموع) و( 281ضمن مجموع أيضا) .انظـر 2
الصديق العربي -فهرس المخطوطات خزانة ابن يوسف بمراكش (المختصر) نسخـة مراكش
المرقونة 1983ص.82 :
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد القرشي التيمي التونسي ،عرف بابن بزيزة
أبو محمد وأبو فارس( .)4قال السـراج« :من السادات الذين تزينت بهم الحضـرة
التونسية ..اإلمام العالمة المؤلف المحصل المحقق ،نزيل تونس كان عالما
صوفيا فقيها جليال»(.)5
درس على جملة من علماء بلده الكبار ،فتخرج على أيديهم حافظا للفقه
والحديث والكالم والشعر واألدب مشاركا مصنفا( ،)6كما صار بفضل نبوغه
وحسن اطالعـه من
(?) ذكر لي ذلك بعض األصدقاء الباحثين ،قال اطلع عليها هناك. 1
(?) عدد أوراقها ،68 :من الحجم المتوسط ،مكتوبة بخط مغربي جميل .جاء في خاتمتها« :نجز 2
وهلل الحمد ...على يد كاتبه لنفسه ولمن شاء هللا بعده في العشرين من رجب الفرد من عام واحد
وألف بثغر تطاون حماه هللا ،»...صحيفة.68 :
(?) يستعد الباحثان الدكتوران إكرام بولعيش ووسام رزوق إلصدار هذا الشرح برعاية مركز 3
أبي الحسن األشعري التابع للرابطة المحمدية للعلماء قريبا بعد انتهائهما منه.
(?) انظر ترجمته عند التنبكتي -نيل االبتهاج 268 :والبغدادي -هدية العارفين1/581 : 4
(?) التنبكتي -نيل االبتهاج .268 :ومخلوف -شجرة النور.1/190 : 7
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
إن النص الكامل لهذا الشرح ـ لألسف ـ مفقود لحد اآلن وال نجد له أثرا في
أي مكتبة عامة بالمغرب .ومع ذلك فقد قمت بجمع شتات بعض نصوصه
ومسائله من الشروح األخرى ـ أيضا ـ فحصلت على عدد ال يستهان به من آرائه
ونصوصه تمكنت من خاللها أن آخذ نظرة وافية عن ثقافة ابن بزيزة الكالمية
وعن منهجه في تناول قضايا «العقيدة البرهانية»(.)2
(?) المصادر المتقدمة متفقة على نسبة هذه المؤلفات إليه. 1
(?) انظر تفاصيل ذلك في كتابنا المعنون" :عثمان الساللجي ومذهبيته األشعرية". 2
(?) ترجمته عند :ابن القاضي -درة الحجال 2/441 :والتنبكتي -نيل االبتهاج 325 :ومخلوف: 3
.697
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
توجد لهذا الشرح نسختان مخطوطتان في حالة جيدة بالمغرب؛ األولى توجد
بالخزانة الحسنية بالرباط( )5يرجع تاريخ نسخها إلى أواسط القرن الحادي عشـر
الهجري /السابع عشر الميالدي(.)6
(?) علي بن عبد الحق الزرويلي الشهير بالصغير ،صاحـب "شـرح المدونـة" تـولى القضاء في 1
تـازة وفاس على عهد المرينيين .انظر ترجمته عند :ابن قنفذ :أشـرف المطالب77 :
والونشريسـي -الوفيات 102 :وابن القاضي -الجذوة.2/472 :
(?) انظر عنه :الونشريسي -الوفيات.188 : 2
(?) قمت بتحقيق هذا الكتاب ونشره في ثالثة مجلدات بمركز أبي الحسن األشعري برعاية 4
(?) رقمها 52411عدد صفحاتها 415 :مكتوبة بخط مغربي نسخي من الحجم الكبير. 7
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
وبالجملة فإن كتاب «المباحث العقلية» لليفرني يعتبر بجميع المقاييس أهم
وأدق شرح من شروح «البرهانية» .ولذلك قام أحد المغاربة باختصاره
واختزال أهم قضاياه الكالمية ذلك هو المتكلم الصوفي أبو عمران الجزولي.
لم تمدنا كتب التراجم والسير والتواريخ بمعلومات كافية عن هذا الجزولي
الذي عثرنا على مختصره لـ «المباحث العقلية» .وكل ما استطعنا معرفته عنه
هو أنه عاش في القرن العاشر الهجري ،وأن كنيته هي :أبو عمران ،واسمه:
موسى ،واسم أبيـه :محمد،
أخذ هذا الرجل عن شيخ جزولة أبي عبد هللا بن يعزأكي لزان الذي كان من
التالميذ غير المباشرين البن غازي .ثم تصدر أبو عمران بعد اكتمال تعلميه
للتدريس فتخرج عليه علماء وأعالم كبار على رأسهم عبد هللا بن محمد بن
عثمان بن أبي بكر الغساني (ت960.هـ1552/م)(.)3
لقد كفانا أبو عمران بنفسه تعب البحث في أسباب قيامه باختصار «مباحث»
اليفرني فقال عن عمله« :القصد بهذا الكتاب اختصار كتاب«المباحث العقلية في
شرح معـاني العقيـدة البرهانيـة» ،فـإن مؤلفـه العـالم العـالمـة أبـا الحسـن علي
عبد الرحمن ـ ‘ عليه ـ قد أجاد فيه وذكر كثيرا من أصول الكالم فيه مع إتقان
تفسير لفظ العقيدة ،إال أنه قد أكثر فيه إلى حد يعسر ضبطه على كثيـر مـن أهـل
الوقت ألنه قد جلب أكثر كتب اإلمام فخر الدين الرازي ...واآلمدي ...والشـريف
زكرياء ...واألسفراييني وغير ذلك مـن الكتب المنقولـة فيـه حتى كان مجلـدا
كبيـرا فاختصـرت عيونـه وأزلت ما ال تعلق للكتاب به ومـا ال تـمس الحاجـة إليـه
بالنسبة إلى الكتاب مستعينا بالله)1(»..ـ(.)2
إن لهذا المختصر عدة نسخ مخطوطة ،ولعله العمل المرتبط بـ«البرهانية»
األكثر شيوعا بعد شرح الخفاف .وقد استطعت الحصول على نسختين
مخطوطتين منه .المخطوطة األولى عثرت عليها في المكتبة الخاصة ألحمد
بنيعيش بتطوان يـرجع تـاريـخ
(?) هو نفس الناسخ الذي نسخ شرح الخفاف المتقدم .انتهى من نسخه سنة 1001هـ بمدينة 3
تطوان .ويبلغ صحائفه حسب نسخة الدرعي التي بين أيدينا 136 :صحيفة.
(?) عدد أوراقها يصل إلى .117وقد نسخها المدعو :محمد بن يحيى بن محمد بن مراوج. 4
(?) يتأهب الباحث منتصر الخطيب المنتمي لمركز أبي الحسن األشعري إلكمال إعداده للنشر 5
أبو عثمان سعيد بن محمد بن محمد العقباني التلمساني نسبة لعقبان قرية من
قرى األندلس .ولد سنة720 :هـ1320/م بمدينة تلمسان وبها توفي في التاريخ
أعاله .سمع العلم من ابني اإلمام زيد وأبي موسى وتفقه بهما ،وأخذ األصول من
أبي عبد هللا األبلي والفرائض عن الحافظ السطي ،وروى «البخاري»
و«المدونة» عن السلطان أبي عنان المريني عن عز الدين بن جماعة.
ولذلك صار العقباني أحد علماء عصره المبجلين وكبير الفقهاء المتنورين،
مما أهله إلخراج المؤلفات الكثيرة والعلوم المفيدة فألف عدة كتب منها« :شرح
الحوفي في الفرائض» و«شرح الجمل للخونجي في المنطق» و«شرح
التلخيص البن البناء» و«شرح سورة الفتح» و«شرح البردة» و«شرح ابن
الحاجب األصلي» كما ألف كتابا في «أصول الدين»( )1و«شرح البرهانية».
(?) ابن فرحون -الديباج 124 :الونشريسي -الوفيات 137 :والسخاوي -الضوء الالمع: 1
(?) سماه« :شرح البرهانية للساللكي في أصول الدين» ،انظر الضوء الالمع.6/181 : 4
(?) وذكر أن هذا التأليف أنجزه العقباني بمدينة بجاية .انظر الوفيات.137 : 5
(?) نقل ذلك القرافي عن السخاوي .انظر توشيح الديباج.19 : 6
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
(?) سمي ابن القاضي هذا الشرح« :القاعدة البرهانية» ،انظر درة الحجال.1/474 : 2
(?) وإن كان الدكتور خالد زهري قد عده من تالميذ العقباني ،كما وقعت اإلشارة إلى ذلك في 8
عالل الفاسي بالرباط ،رقم ،165 :وهي تعمل اآلن على تحقيقه بقصد النشر.
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
العالمـة الولي أبي عمـرو عثمـان بـن عبد هللا الساللجي ـ ÷ ـ فأجبتك لذلك؛ لما
أرجو كبيرا ـ إن شاء هللا ـ من األجر الجزيل واألمر الجميل»(. )1
أما عن عمله في الشرح فيخبرنا عنه فـي المقدمـة بقولـه« :وُك ـْن جديرا على
تحقيق ما نقلته في هذا الشرح؛ إذ سلكت فـي ذلك سبيـل المحققيـن ،معتمـدا على
أقوال العلمـاء المرجوع إليهم في هذا الشأن ،على أنني موقن بالقصور بين أهل
العصور؛ فالبضاعة مزجاة ،والحسن من اإلخوان مرتجى ،وقد قال الشيخ أبو
مدين ـ ÷ ـ« :العلو على الناس يسبب االنتكاس» .فاهلل ينفع المسلمين بهذا
الكتاب ،وتكون "البرهانية" ـ إن شاء هللا ـ بسببه واضعة الجلبان؛ إذ فوضت
أمري إليه ،وتوكلت في جميع أحوالي عليه»(.)2
« -4-11تقييد البيان لمعاني مسائل عقيدة البرهان» للسماللي (ت .ق 9هـ/
15م):
()5
الشارح هو عبد الرحمن بن سليمان آكرام( )3أوالكرامي( )4أو الكـزامي
السمـاللي.
وتعتبر أسرة الكراميين أسرة عريقة في العلم ،يرتفع نسبها إلى ابن العربي
المعافري .قال المختار السوسي عن آل أكرام :إن «مسكنهم في تازموت
(?) انظر ابن القاضي -درة الحجال 2/472 :والمختار السوسي -المعسول :ط :مطابع النجاح 3
سماللة ،وال تزال هناك قبور األولين ظاهرة إلى اآلن كما يوجد أحفادهم في
رسموكة»(.)1
باإلضافة إلى هذه النسخة توجد لهذا الشـرح نسخة أخرى بالخزانة الحسنية
بالرباط(.)3
إنه بالرجوع إلى مقدمة هذا الشرح نجد المؤلف يقص علينا سبب إقدامه على
تأ ليفه ،ويحكى أن الدافع إلى ذلك كان هو إلحاح مجموعة من طلبته في القيام
بشـرح وتوضيح قضايا هذه العقيدة فأجابهم إلى ذلك بعد تردد يقول السماللي:
«رغب منـا بعـض اإلخوان تقييـد مسائـل«العقيدة البرهانية» ألبي عمرو
الساللجي ـ ‘ ـ ،وألح في الطلب فوعدته مرارا حتى خلصت النية في ذلك هلل
الواحد القهار .فأجبته مستعينا باهلل في جميع ما أروم»( )4وقد أخبر في هذا التقديم
أنه سمي شرحه ب« :تقييد البيان لمعاني مسائل البرهان»()5ـ(.)6
(?) مخطوطة المكتبة العامة بتطوان رقم( 449 :ضمن مجموع) عدد صحائفها ( 167من ص: 2
(?) قام بتحقيقه أوال الطالب الماليزي أحمد عارف بن ذي الكفل ،وناقشه لنيل ماستر علم العقائد 6
واألديان فـي تـراث الغرب اإلسـالمي وأثـره فـي الحـوار بكلية اآلداب بعيـن الشـق بـالدار
البيضاء سنـة= :
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
يسود االعتقاد عند القالئل الذين اطلعوا على شرح القرويين (المخطوط)
لـ«البرهانية» ـ مثل ابن سودة( )1ومحمد العابد الفـاسي( )2ـ بـأنـه مـن تأليـف عبد
هللا ا بن عبد الرحمن المديوني .وهذا أمر غريب ألن الكتاب أو الشرح في األصل
ليس من وضع هذا المديوني وإنما هو من إمالء شيخه أبي عبد هللا الغربي
النالي .والدليل على ذلك قول المديوني في مستهل الشرح« :إنه قد انتهى جماعة
من الطلبة إلى الفقيه أبي عبد هللا محمد بن سليمان النالي العمراني الشريف
النسب المعروف بالغربي ...فرغبناه في شرح عقيدة «البرهانية» لنكون بها
على يقين في اعتقادنا وعلى بينة من ديننا ،فتعذر عليه ذلك بضيق وقته
واستغراق زمانه في جمع العلوم وبثها وأنواع العبادات وأسبابها ،فاستأذنته في
كتابة ما كان يمليه علينا في مجلس إقرائه وتقييد ذلك وجمعه ،فأذن لي في ذلك،
فاستخرت هللا ـ ,ـ في جمعه واستعنته على العمل بمقتضاه .)3(»...فهذا النص ال
يدع مجاال للشك في أن الشارح األصلي لهذا العمل هو أبو عبد هللا العمراني
المعروف بالغربي ،وأن دور المديوني في هذا الشـرح اقتصـر أساسا على جمعه
وتنظيمه وتأليفه في كتاب واحد.
أما بخصوص ترجمة الشارح فالحق أننا ال نملك أية معلومات عنه اللهم إال
ما ذكره المديوني من أن اسمه :محمد ،وكنيته :أبو عبد هللا ،وأن أباه يدعى:
= ،1435-1436/2014-2015ثم قام بمناقشته محققا أيضا الطالب الجياللي قدوري بكلية أصول
الدين بتطوان من أجل نيل شهادة الدكتوراه سنة.2019 :
(?) انظر :دليل مؤرخ المغرب األقصى.326 : 1
سليمان ،وأن كنيته هي :النالي العمراني ،ولقبه هو :الغربي .وقد ذكر المديوني
أن هذا الشيخ كان من فضالء زمانه فوصفه بــ« :الفقيه ،الفاضل ،األصولي،
المقرئ ،الزاهد الورع»( .)1هذه هي كل المعلومات التي نملكها عن أبي عبد هللا
الغربي.
أما التلميذ المؤلف فإنه ليس أفضل حاال من شيخه في هذا الباب ،فكل ما
وجدت في موضوعه هو ما أشار إليه ابن مريم الذي ذكر أن شخصا بنفس اسم
هذا الرجل ونسبه ،كان يعيش بتلمسان الجزائرية في أواخر القرن العاشر
الهجري/السادس عشر الميالدي .قال ابن مريم عن هذا المديوني ـ الذي ترجح
لدي أنه هو صاحب الشرح المذكور ـ« :يسمى محمد بن عبد هللا [وفي نسخة:
عبد الرحمن] المديوني .من جهة مديونة .الفقيه العالم المحدث الخطيب ،أخذ عن
سيدي العطفاني وسيدي أحمد أبركان وسيدي علي بن رحو الزكوطي الورنيدي
ـ مات بعد الستين وتسعمائة ـ له باع في العلوم العقلية والنقلية.)2(»..
ورغم أهمية هذا الشرح العلمية والتاريخية ألنه يقدم معلومات مفيدة عن
الساللجي وشراح «البرهانية» ،ورغم أنه من الشروح المتأخرة زمانيا ،إال أن
نسخه المخطوطة مع ذلك نادرة وقليلة .بحيث لم أعثر إال على نسخة واحدة من
المخطوطة له بخزانة جامع القرويين( .)3ويرجع سبب هذه الندرة ـ وال شك ـ إلى
(?) رقمها كما قلت من قبل 1337 :في مجلد ضخم مكتوبة بخط مغربي نسخي وأوراقها من 3
الحجم المتوسط ،وقد عثرت الباحثة إكرام بولعيش على نسخة أخرى للشـرح بخزانة المسجد
األعظم بمكناس.
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
طول هذا الشـرح وضخامة حجمه ،فيكفي أن أذكر أن عدد صفحاته811 :
صفحة لنعرف الصعوبة التي يمكن أن يالقيها أي ناسخ يريد كتابته(.)1
-4-13شرح المجهول:
يرجع الفضل إلى محمد العابد الفاسي في تنبيهنا إلى أنه هناك شرحا لـ
«البرهانية» بخزانة القرويين ينسب لمؤلف «البرهانية» أبي عمرو
الساللجي( .)2وبالفعل استطعت أن أطلع على هذا المخطوط فوجدته كما أخبر
عنه الفاسي في فهرسته ،ولكنني استغربت من قول هذا المحقق« :يظهر من
صنيع الناسخ أنه للمصنف وربما كان األمر على خالف ذلك»( .)3استغربت من
هذا القول ألنه كان على الفاسي أن يحكم يقينا بأن هذا المؤلف ليس من تأليف
أبي عمرو ما دام أنه يعتمد مصادر وقع تأليفها في فترات جد متأخرة عن فترة
الساللجي ،وما دام أنه ينقل عن ابن دهاق (ت611.هـ1214/م) وغيره ممن
جاؤوا بعد مؤلف «البرهانية» .ولذلك فيكون الصواب أن هذا المؤلف هو
لشخص مجهول وليس للساللجي.
(?) قامت الباحثة السابقة (=إكرام بولعيش) بتحقيقه وإخراجه في إطار إعداد أطروحتها لنيل 1
الخزانة ،71 :وهو سفر متوسط بخط مغربي (ضمن مجموع من 4 :إلى 71ب) وينقصه من
آخره ورقة أو ورقتان .غطيت بعض سطوره بسبب إصالح قديم.
(?) الفهرس المذكور.3 : 3
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
-4-14شرح الجدميوي:
(?) انظر عنه المقري -روضة اآلس العاطرة األنفاس .ط :المطبعة الملكية الرباط .1962 2
ص303 :وما بعدها وانظر أيضا عبد الحميد هرامة وغيره -مقدمة نيل االبتهاج .ط :كلية الدعوة
اإلسالمية -طرابلس 1989ص 11 :وما بعدها .وانظر :شوقي الجمل -أحمد بابا التنبكتي
السوداني في ضوء بعض مخطوطاته بدار الوثائق بالرباط .دراسة بمجلة " المناهل" ع 6 :س:
3رجب 1396هـ/يوليو 1976م :ص 144 :وما بعدها.
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
وقد عمل السلطان السعدي على أسره ونفاه من بالده إلى المغرب حيث عاش
بمراكش مدة إلى أن توفي هذا السلطان فعاد إلى بالده .وقد مكنته إقامته في
البالد المغربية من التدريس ألبناء هذا البلد ومن االطالع على مؤلفات بعض
علماء المغرب وشرح بعضها ومن بينها كتاب «العقيدة البرهانية».
إن ما يثبت قيام التنبكتي بشرح «البرهانية» أن تلميذه المعروف أبا العباس
المقري (ت1041.هـ1631/م) ذكر أن شيخه كتب له ورقة يجيزه فيها جميع ما
جمعه من الفنون قال« :وذكر حفظه هللا في هذه اإلجازة جميع التآليف...وزاد
الحواشي على خليل ...و"شرح العقيدة البرهانية" للساللجي لم يكمل .)1(»...
فالمقري يثبت ـ إذن ـ أن شيخه أجازه شرحا على «برهانية» الساللجي من تأليفه
إال أنه شرح غير كامل .ولكن أين هو هذا الشرح؟ هل ضاع ضمن ما ضاع من
مؤلفات أبي العباس الكثيرة؟ أم أن الباحثين لم يهتموا به لعدم إكماله؟ الحق أننا
ال نملك أي جواب عن هذا اآلن.
-5النسخ المخطوطة المعتمدة في التحقيق:
-5-5متن البرهانية ضمن شرح الخفاف (ت .ق 7هـ13/م) ،عدد أوراق
هذا الشرح ،68 :من الحجم المتوسط ،مكتوبة بخط مغربي جميل .جاء في خاتمة
الشـرح(( :نجز وهلل الحمد ...على يد كاتبه لنفسه ولمن شاء نسخها حسين بن أبي
القاسم الدرعي الجوزي في العشرين من رجب الفرد من عام واحد وألف بثغر
تطاون حماه هللا ))...صحيفة ..68 :رمزت لها بحرف (خ).
أما بخصوص «نظم البرهانية للهبطي» الذي سننشـره ألول مرة ضمن هذا
الكتاب فليست هناك ـ على حد علمي ـ إال نسخة فريدة توجد بمكتبة المرحوم عبد
هللا المرابط الترغي الخاصة بمدينة طنجة .عدد صفحات المخطوطة،10 :
مكتوبة بخط مغربي مشكول وواضح ،إال أنها تعاني من بعض المحو في األبيات
األولى من صفحاتها بعامل الرطوبة.
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
الفصل الثالث:
-التعريف بناظم «البرهانية»
و«منظومته»
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
(?) النسخة المعتمدة ،ومن خالل الصورة التي بين أيدينا يمكن الجزم بكونها تقع ضمن مجموع، 1
وذلك لكون فم المخطوط الذي يكون بإزاء اللسان التقط مع الصورة وهو ضخم ومن خالل النظر
في جانبي الصورة التي تقسم فم الكتاب إلى اليمين والشمال يمكن أن نقول إنه يقع في حوالي:
250إلى 300ورقة.
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
ومن المثير في موضوع اكتشاف ناظم هذا العمل ،وعمال على استكناه كالم
الناظم في مطلع القصيدة الرجزية عندما أخبر بأنه سيسلك في عمله منهج الشيخ
« أبي عمرو الساللجي حيث قال:
سبيَل شيِخ نا الَبِهِّي الساللجي» َس َلْك ُت في ذاك من المناِهِج
رَّجح عبد هللا الترغي أن يكون النظم من إبداع بعض تالمذة الساللجي
المباشرين وخص منهم :أبا الحسن ابن مؤمن ...بيد أنني لم أجد في المخطوطة
(?) يذكر شوقي ضيف أن الشعر التعليمي هو« :لون ال يراد به التعبير عن الوجدان والعواطف 1
الشخصية ،وإنما يراد به إلی المعرفة والثقافة وأن تضّم مسائل علمية خاصة ال بين دّفتي کتاب،
ولکن في قصيدة طويلة من القصائد» .دراسات في الشعر العربي المعاصر ،الطبعة الخامسة،
القاهرة ،دار المعارف (د-ت) ،ص .72 :ويقول بطرس البستاني :إنك «لن تجد في هذا الشعر ما
يروقک ،ألنه غث بارد اصطنعه أصحابه لنظم أنواع شتی من العلوم ،تسهيًال لحفظها بعد أن
أصبح اإلقبال علی العلم عظيمًا .والناظم في هذا الفن اليسمو بنفسه إلی الخلق واإلبداع ،فاألفکار
ماثلة أمامه ،فما عليه إال أن يجمعها في کالم موزون مقّفی ،خال من الّروعة والرونق ،وليس في
هذا کبير أمر علی من يحسن النظم .....ونصـرف النظر عن الفن التعليمي ،ألنه خارج عن صفه
الشعر الحقيقية ،فما نعد نظم کليلة ودمنة وغيرها من النوع القصصي لضعف الميزة األدبية فيها،
وخلّو ها من الروعة والطالوة» .أدباء العرب في األعصـر العباسية ،بيروت ،دار الجيل (د-ت):
.2/31ومهما قيل عن القيمة الفنية للشعر التعليمي فليس من الحق تجريده من کل الفضائل؛ بل ال
بد من استحضار ما أداه الشعر التعليمي من حفظ للکثير من التراث الديني واللغوي والعلمي في
األمم المتعددة.
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
قرينة قاطعة ـ وال حتى ظنية ـ إلثبات هذه النسبة ،ولم أجد أدلة أخرى في
الموضوع اللهم إال ما ذكره المراكشـي في «الذيل والتكملة»؛ حيث أثبت البن
مؤمن الخزرجي ـ تلميذ الساللجي ـ «نظما في العقيدة» قال عنه بالتمام« :ونظم
[ابن مؤمن] في العقائد قصيدة جامعة كبيرة وقفت عليها ،وفيها بخطه إلحاق
بيوت كثيرة وتصحيح ،ورأيتها أيضا منسوبة إلى غيره ،فاهلل أعلم»(.)1
ومع قوة هذا النص في إمكانية ترجيح تخمين الترغي إال أن هناك ُم َنِّغ صات
تحول دون القطع في نسبة المتن إلى أبي الحسن منها :وصف المراكشـي
لـ«نظم ابن مؤمن» في «الذيل» بأنه «جامع» و«كبير» ،والحال أن القصيدة
المعنية لم تجمع مباحث العقيدة كلها أو جلها ،واقتصـرت على جانب اإللهيات
منها خصوصا ،وهو ما صرح به الناظم نفسه في بداية قصيدته ،ولذلك يكون
وصف المراكشي السابق ال يطابق مضمون نظمنا...كما أن وصف القصيدة
بكونها "كبيرة" ُيدخل الكثير من الشك في النسبة؛ ألن قصيدتنا ال تصل في كِّم ها
إلى هذا الوصف المضِّخ م الممِّيز.
ومن المنِّغ صات على هذا االحتمال أيضا ما ذكره ابن مؤمن نفسه في
«بغيته» حيث قال« :أخذتها [أي "البرهانية"] وقام بفكري أن أرتبها فصوال
وأعمل لها شبه الخطبة ،ثم شاورته [=الساللجي] في ذلك فمنع منه وقال لي :لم
جهٍ(.)2
أتعرض فيها أن تكون تأليفا ُتكتب وتنتشر ،وإنما كتبتها لخيرونة على َو ْ
فشاء هللا أن تشيع فاتركها كما هي وال تزد فيها شيئا فتخرج عما قُصد بها[ .قال
(? ) الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة ،السفر الخامس.1/261 : 1
(?) أي على وجه من الوجوه ال يعلمها غيري كأن يكون ذلك تقربا بها إلى هللا تعالى...واقترح 2
علي د .زهري أن أغير كلمة "وجه" بكلمة" :وجل" ألنها في نظره أدل على مراد الساللجي.
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
أبو الحسن ]:فتركتها كما هي«( .)1فإذا كان تركه للمتن الساللجي قد حصل لتنبيه
الشيخ ومنعه إياه من إبراز «العقيدة» وإشهارها ،فيبعد أن يكون هو الناظم لها
لتعُّلق النهي بكل ما يمكن أن يرِّو ج لـ «البرهانية» ويذيع ذكرها تنظيما أو نظما.
بقي احتمال آخر يتعلق بتلميذ آخر للساللجي تحدثنـا عنـه سابقـا وهـو عبد
الحق ابن خليل السكوني الَّلبلي ،فقد ذكر عنه ابن القاضي بأنه «رحل إلى فاس
فأخذ..بها..علم الكالم وأصول الفقه عن أبي عمرو عثمان بن عبد هللا الساللجي،
وكان أهل فاس يقولون :إنه لم يتخرج على أبي عمرو مثله ومثل أبي عبد هللا ابن
الكتاني لتمكنه...وكان مع ذلك من مجيدي الكالم نظما ونثرا»( .)2فهل نبادر إلى
القول بأنه هو الذي نَظم «برهانية» شيخه البهي؟ الواقع أن ترجيح هذه الفرضية
وارد بقوة ،ولكنه ال يصل لدينا إلى درجة القطع ،بل يبقى األمر مستبعدا في ظل
فقدان المرجحات .ونفضل أن نبتعد عن تالميذ الساللجي في نسبة القصيدة
ألحدهم للعجز عن حسم النسبة إلى أي منهم ،وما دام أن بقية تالميذ الساللجي
(باستثناء ابن مؤمن والسكوني) لم يصلنا ما يؤكد َش اِع رَّيتهم( ،)3وما دام أن
وصف الناظم للساللجي بـ"شيخنا" ال يسمح جزما بأن يكون الناظم تلميذا
مباشرا ألبي عمرو؛ إذ كثيرا ما يصف المتأخرون من قرأوا عليهم بالوسائط
بأنهم من شيوخهم ،فيبقى االحتمال متعلقا بغيرهم من المتأخرين...
وإذا كانت المعطيات تدفع إمكانية نسبة النظم إلى خريجي مدرسة أبي عمرو،
فالحاصل أن هناك معطيات أخرى قوية ترجح أن يكون مؤلف هذا النظم هو أبو
محمد عبد هللا الهبطي ،فضال عما أثبته بعض المعِّلقين على مخطوطة «دوحة
(?) ابن مؤمن -بغية الراغب ،انظر المديوني -الشرح.61 : 1
-2ومن المرجحات لهاته النسبة أيضا أن نَفس الكتابة في هذا النظم يتوافق
مع الَّنَفس الذي ُك تبت به معظم أنظام أبي محمد الهبطي ال سيما «َز َج ِلّيته في
(? ) عثر على ذلك يوسف احنانة في مكتبة خاله محمد احنانة ضمن نسخة مخطوطة من "دوحة 1
الناشر " ،وال ندري مصير هذه المخطوطة بعد وفاة صاحب الخزانة وتبدد رصيدها المخطوط.
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
(? ) حققها خالد زهري وتم نشرها بدار الكتب العلمية ببيروت سنة.2002 : 1
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
وقوله« :ما لتلك العين؟» (في البيت ،)163 :وقوله« :يا قاصد» (في البيت:
،)174وقوله« :يا غالم» (في البيت...)185 :إلخ.
وعند المقارنة نجد الهبطي يستعمل األلفاظ والصيغ واإلكماالت نفسها أو
قريبة منها في «زجليته» المخطوطة فنعثر على قوله« :اعلم وافهم» (في
البيتين ،)20-7 :وقوله« :يا لبيب(×( »)2في البيتين ،) 64-7 :وقوله« :يا
صحيب» (في البيت ،)7 :وقوله« :يا عقالء» (في البيت ،)18 :وقوله« :اسأل
من هللا هداك» (في البيت ،)26 :وقوله« :حققها» (في البيت ،)28 :وقوله:
«اتقن» (في البيت ،)28 :وقوله« :يا سادات» (في البيت ،)29 :وقوله« :كن به
عالما» (في البيت ،)33 :وقوله« :طوبى للممتثل» (في البيت ،)50 :وقوله« :يا
سائل» (في البيت ،)54 :وقوله« :يا إنسان» (في البيت ،)57 :وقوله« :يا
فقراء» (في البيت ،)67وقوله« :يا يقظان» (في البيت ،)73وقولهَ « :نِّز ه»
(في البيت ،)84:وقوله« :اسمع لي» (في البيت.)88 :
وعند االنتقال إلى «رسالة جواب عن معنى ال إله إال هللا وعن مقصود ما
احتوت عليه من نفي وإثبات»( ،)1نجد مما يماثل أو يشابه ما سبق في قوله« :يا
فتى» (البيت ،)3 :وفي قوله« :وانتبه» (البيت ،)16 :وفي قوله« :فاذعن»
(البيت« ،)15 :واقبل العلم» (البيت ،)15 :وفي قوله« :فخذ شهادة» (البيت:
،)30وفي قوله« :فحز إليك يا مريد الفائدة» (البيت ،)37 :وفي قوله« :ودع
مقالة الغبي» (البيت.)38 :
(?) ضمن رسائل التوحيد والهيللة للهبطي ،بدءا من ص.35 : 1
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
وفي «رسالة تقييد في معنى ال إله إال هللا نظما ونثرا»( ،)1يرد بعض من ذلك
في قوله« :اعرف» (البيت ،)5 :وفي قوله« :هديت» (البيت ،)5 :وفي قوله:
«استدركن» (البيت ،)5 :وفي قوله« :ميز ما ورد» (البيـت ،)9 :وفـي قولـه:
«تدبـر قصدهـا-دبـر-فدبر» (األبيات ،)37-13-10:وفي قوله« :ال تمل عنها»
(البيت ،)10 :وفي قوله« :يا أخي» (البيت ،)11 :وفي قوله« :فحِّقق» (البيت:
،)13وفي قوله« :اعَج ب وزد من هؤالء عجبا» (البيت ،)14 :وفي قوله« :خذ
تنصصي» (البيت ،)22 :وفي قوله« :أين تهرب؟» (البيت ،)34 :وفي قوله« :يا
بني» (البيت ،)36 :وفي قولهِ« :د ن بالصدق» (البيت ،)37 :وفي قوله« :حِّو ل
فهما» (البيت ،)44 :وفي قوله« :فخذ إليك واغسلن القلب» (البيت ،)55 :وفي
قوله« :ال تدع لديه ريبا» (البيت ،)55 :وفي قوله« :يا فتى» (البيت ،)59 :وفي
قوله« :يا صاحبي» (البيت ،)68 :وفي قوله« :أال استمع!» (البيت ،)72 :وفي
قوله« :أيها اللهفان» (البيت ،)74 :وفي قوله« :يا صديق» (البيت ،)83 :وفي
قوله« :لقد نصحتك» (البيت ،)87 :وفي قوله« :اقبل نصيحتي» (البيت،)88 :
وفي قوله« :يا لبيب» (البيت ،)100 :وفي قوله« :ال تنازع» (البيت،)110 :
وفي قوله« :فزت باإلفادة» (البيت ،)111 :وفي قوله« :خذها إليك» (البيت:
،)135وفي قوله« :فادع» (البيت.)136 :
(?) ضمن رسائل التوحيد والهيللة للهبطي ،بدءا من ص.75 : 1
«يا نديم» (البيت ،)76 :وفي قوله« :بادر (×( »)3األبيات،)232 -131-96:
وفي قوله« :نافس في حبها» (البيت ،)116 :وفي قوله« :يا فتى» (البيت:
،)131وفي قوله« :يا أيها المريد» (البيت ،)135 :وفي قوله« :سددن وحاول»
(البيت ،)136 :وفي قوله« :واحذر» (البيت ،)142 :وفي قوله« :فحقق»
(البيت ،)143 :وفي قوله« :زاحم/كابد/بادر» (األبيات ،)232-203:وفي قوله:
«يا فالن» (البيت ،)203 :وفي قوله« :اعرف» (البيت ،)216 :وفي قوله:
«أيها الخديم» (البيت ،)216 :وفي قوله« :يا أيها المريد» (البيت ،)231 :وفي
قوله« :يا أيها المحب» (البيت.)247 :
وهذا جدول تتبعي مقارن الستعماالت الهبطي المذكورة ُتيسر على القارئ
إمكانية المقارنة بين مؤلفات الهبطي في الجانب الذي أشرنا إليه ،وليستخلص
(=القارئ) أن االستعماالت تستمد من نفس المشكاة:
جواب عن
تقييد في معنى أرجوزة شمس
الزجلية معنى ال إله نظم البرهانية
الضحى ال إله إال هللا
إال هللا
حققها حقق فحققن(×)2
-فحقق
نافس فلتصرف الهمة
فاعرف(×)2 اعرف انتبه-اقبل العلم فاعلم(×)2
ع الخبر
-ع العلل
-ع التحرير
اعلم وافهم حول فهما حز إليك الفائدة فافهم(×)3
-اسمع لي -تدبر(×)3
اسأل من هللا ُهديت ُهديت ُهديت(×)2
هداك
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
محمد ـ كما يؤكد على ذلك محققها ـ ،وأعتقد أن القارئ سيزداد يقينا بعد اطالعه
على هاته المقارنة بما نحاول تأكيده في هاته المرحلة من البحث بخصوص
صحة نسبة المنظومة إلى أبي محمد عبد هللا الهبطي ...ولنترك للقارئ الحصيف
إجراء الموازنة للتأُّك د ولتأكيد أو نفي طرحنا المذكور ،فقد جاء في «المنظومة»
قوله في إثبات وحدانية هللا تعالى:
ُخ ِذ الَّد ليل القاِط َع الُم َؤ ِّيْد -126فصل :على أَّن اِإل َلـَه واِح ْد
هما إلهاِن َو ُح َّد ِت الُحدوْد َ-127لو ُقِّد َر الفَّعال في هذا الُو جوْد
لواِح ِد الَّذ اِت وواِح ِد الَّز ماْن -128ثم اْنَتهى َتْقديُرنا على الِع ياْن
واآلخـُر الَّتحريــك ـ ُخ ـْذ تقـديـَر ْه:ـ -129ثم أراد واحٌد ُسكوَنْه
أو َع ْك ُسُه َفَح ِّقَقَّن الحاَلَتْيْن -130إما ُحصوُل الَع ْج ِز لِإل راَد َتْيْن
واآلخر الَع ْج ُز عليه جاِئُز -131أو واحٌد َيُحُّل فيه الَع ْج ُز
ِم ْن غير َتْج ويٍز في َح ِّقِه الَعَج ْز -132أْو واِح ٌد ُم راُد ُه له َنَج ْز
أربعٍة ُتْعزى إلى الُم حاِل : ِ-133ح يَنِئٍذ ال بد من أْح واٍل
أو فيه يحُصل اجتماع الِّض َّد ْيْن َ-134س ْلُب الذي قَّد ْر نا من نِقيضْيْن
بالَع ْج ِز والَع جُز من الَبرَّيْه َ-135أْو َو ْص ُفنا َح قيَقة األلوهيْه
لمْثِلِه وذاَك ُك ُّلُه ُم حاْل -136أو َم ْنُعنا ِم ْثًال من الذي
َح َص ْل
نْفُي اإللهين الَّلذْيِن ُقِّدرا -137كاَّل ولِكن اْقَتضـى ما ُقِّر َر ا
وشْر ُطُه َنفيُهما الـَم ْبسوُط َ-138ك ذاَك االِّتفاُق ُقْل َ :م شْـروُط
فإَّنه يكون في الـُم واَفَقْه -139إْذ كُل ما يكون في الُم خاَلَفْه
[]................................... / -140مع زيادة من
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
"النظم" قوله :أو واحد مراده له نجزمن غير تجويز في حقه العجز] ،وذلك
محال أيضا ،ألن المثلين هما اللذان يستويان في جميع ما يجب ويستحيل ويجوز
[فّص ل هذا في "المنظومة" أكثر حيث خاض في أوجه المحاالت] .وقد أدت هذه
الوجوه كلها إلى عدم وجود إلهين مقدرين [يطابقها قوله في "النظم" :كال ولكن
اقتضـى ما قررانفي اإللهين اللذين قدرا] .وهذا كله مع االختالف والتضاد،
وذلك إذا قررنا اتفاقهما جائزا عاد الكالم إلى ما تقدم من بطالنهما [وجاء في
"النظم" :كذلك االتفاق قل مشروطوشرطه نفيهما المبسوط/إذ ما يكون في
المخالفةفإنه يكون في الموافقة] .وإن كان اتفاقهما واجبا وجب اضطرار كل
منهما إلى صاحبه ،بحيث ال ينفرد عنه بإيقاع أثر ما ،وذلك مؤد إلى
بطالنهما.)1(»....
والنتيجة كما نالحظ أن النظم يكاد يكون معتمدا على ما جاء في هذا النص
النثري ،وهذا طبيعي ألن مؤلفهما كاتب واحد هو الشيخ الغماري.
َفُهَو ِإَلٌه َقاِئٌم بنفِس ِه -194وَأَّن َم ا َبدا ِلَعْين ِسِّر ِه
(?) ضمن رسائل التوحيد والهيللة للهبطي ،بدءا من ص.30-29 : 1
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
ُم ْنَس ِبحًا في َأْبُح ِر الُّض الِل -195فإَّنُه ِم ْن ُج ْم َلِة الُج َّهاِل
وفيها يشير إلى "الجهل" العقدي الذي يسقط فيه بعض المتصوفة؛ حيث
يصفون هللا بأوصاف مخالفة لما تسمح به التأويالت العقدية كما يرى الناظم...
وفي نفس هذا الخط الذي اعتنى به الهبطي في رسالته اإلصالحية يعلن في
«رسالة الهيللة» بعدما شدد على ضرورة معرفة معنى "ال إله إال هللا" أن «من
جهل معناها ُيخاف عليه من الخلود في النار كما نص عليه العلماء األخيار»(.)1
وقال في نفس النظم مخاطبا ومحذرا الطلبة من فقراء الصوفية موجها إياهم لتصحيح اعتقاداتهم
َج ْه ًال ُم َر َّك بًا وللَفْقِر [اْنَتَسْب ] -184ال ِسَّيما ِإن ُك ْنَت مَّمِن اْر َتَك ْب
وجاء في «رسالة جواب عن معنى ال إله إال هللا وعن مقصود ما احتوت
عليه من معرفة بنفي وإثبات»( )2قوله في نفس االتجاه:
()3
عبادة من جاهل بالمعبود» «كيف تصح يا بني في الوجود
أي أن العبادة ال تعد صحيحة مقبولة إال إذا ارتفع العابد في عبادته إلى مرتبة
معرفة المعبود ،فإن قصر عن تحقيق المعرفة المطلوبة فال تقبل عبادته،
والنتيجة أن الجاهل بأحكام العقيدة عبادته باطلة.
(?) ضمن رسائل التوحيد والهيللة للهبطي ،بدءا من ص.60-59 : 1
وقال:
()1
يكفيك يا هذا من الجهالة» «وحقق الرسول والرسالة
هنا إشارة وتنبيه على التقصير الحاصل لدى الطلبة ولدى عموم المخاطبين
بالشريعة في معرفة مقتضيات الرسول والرسالة ،فإذا غابت المعرفة بهذا الركن
العقدي سقطت صحة العقيدة وصار المخاطب خارج المجال الديني السليم .وكل
ذلك حاصل في نظر الهبطي بسبب الجهل الحاصل في الموضوع.
مرة أخرى يتحدث عن الجهل ،ولكن في هذه المناسبة يحذر من اتباع أقوال
من ال علم كامل أو دقيق لهم ...فقد كثر المتبجحون بالعلم ،ولكن حقيقتهم مخالفة
لدعاويهم .والهبطي بهذا يحذر من أدعياء العلم الموردين أتباعهم مهاوي
الضالل.
يعني أن الجهل بمعنى "ال إله إال هللا" ال يبقى معه للمتدين نصيب في نوال
الخير ،وهذا يرفع معنى التهليل إلى المراتب األولى في بناء عقيدة المؤمن،
بدونها تفتقد المعرفة السليمة بحقيقة العقيدة.
ونثرا»( )1قوله في نفس الموضوع: وورد في «تقييد في معنى ال إله إال هللا نظما
()2
قد عددوا اإلله دون عقل» «وعندما قالوا لمحض الجهل
وفي األبيات إشارة إلى مظاهر الجهل المنتشرة في بيئته ،حيث يقع استنكار
التسبيح والذكر والعبادة على طريقة القوم ،ومن هنا كان ضروريا نصب راية
اإلصالح تقويما ومعالجة لهاته األدواء الجهلية ـ كما سنعرف ـ.
وفي موضع آخر من األرجوزة نقف على عتابه لصوفية الضالل بسبب
يقول: انحرافهم ،منكرا عليهم جهلهم باهلل وإضاللهم للفقراء واألتباع حيث
وَغ يِر ها ِم ـما َبياُنُه يطوْل -186مثُل الَّتجالي والُّطهوِر والُو صوْل
ُم ْع َتِقدًا َلُه فَأْنَت كافْر » ُ -187ثَّم حَم ْلَتُه على الَّظواِهْر
وحكم بالتكفير أيضا على من لم يفرق بين هللا والرسول في «رسالة جواب
()1
قائال: عن معنى ال إله إال هللا وعن مقصود ما احتوت عليه من نفي وإثبات»
من النبي المصطفــى محمد «من لم يميز ربه الموحــد
فكفره عن الشيوخ منقول» وال درى معنى اإلله والرسول
-7ومن مرجحات نسبة هذه المنظومة إلى الهبطي أيضا أنها مكتوبة بَنَفِس
أحد علماء فترة أبي عبد هللا محمد السنوسي (ت895.هـ1490/م) ...ولكننا
مطالبون أيضا باالعتراف ألبي بكر الخفاف (ت.ق 7/13م) الشارح المتقدم
لـ«البرهانية» و«اإلرشاد» بكون نَفسه واختياراته اإلبداعية في الدرس
األشعري كانت رائدة في هذا الباب وحاضرة مع الهبطي فيما نحن بصدده ،ومن
أهم إضافاته( )2التي سيتلقفها بعد ذلك السنوسي وسيجعلها من سمات مدرسته
(?) جاء في «شرح الخفاف للبرهانية » بهذا الخصوص« :وأما المقدمة الثالثة [من المقدمات 2
الست] وهي ما مبدؤها؟ فنقول أما مبدؤها فمعرفة األحكام العقلية الكلية الضرورية التي هي
الوجوب والجواز واالستحالة ،واستحقت هذه أن تكون مبدأ لهذه الطريقة ،ألن غاية المتكلم أن
يثبت الوجوب لواجب ما ،والجواز لجائز ال ما ،واالستحالة لمستحيل ما ،فمن ضرورة من ينسب
إحدى هذه األحكام لمحكوم عليه أن يعقل حقيقة الحكم مطلقا ،وأن يكون ضروريا عنده ،وإال
تسلسل .فإذا تقرر االحتياج إلى معرفة األحكام العقلية كما قلناه ،فالبد من تعريف كل واحد منهما
تعريفا كليا ،فنقول:
الواجب من األحكام العقلية حُّد ه أنه كل معقول ثبت وتحقق ،واستحال مقابله نفيا كان أو إثباتا؛
فأما الوجود الواجب فوجود هللا تعالى ،وأما العدم الواجب فعدم الضدين والشريك والصاحبة
والولد في حق هللا تعالى.
وأما المستحيل من األحكام فحده أنه كل معقول امتنع تصوره نفيا كان أو إثباتا؛ فالمستحيل من
معقول النفي انتفاء القديم ،وانتفاء الشرط مع تحقق المشروط ،كفقد الحياة من المتصف بالعلم
حال اتصافه به ،والمستحيل من معقول اإلثبات كوجود الضدين وغير ذلك مما تقدم في [حد
الواجب أنه واجب القدم.
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
وأما] الجائز من األحكام فحده أنه كل معقول ال يلزم من تقدير مقابليه على البدل محال ،كنزول
المطر ،ووجود العالم عوضا من استمرار عدمه.
والدليل على حصر األحكام العقلية في الثالثة المذكورة أن الزائد عليها ال يخلو أن يكون مما
يتصور ثبوته ،أو ال يتصور ثبوته ،فإن كان مما ال يتصور ثبوته فهو المستحيل ،وإن كان [مما]
يتصور ثبوته ،فال يخلو أن يجوز مقابله أو ال يجوز مقابله ،فإن تصور ثبوته ولم يجز مقابله فهو
الواجب ،وإن تصور ثبوته ،وجاز مقابله فهو الجائز ،فصح أن األحكام العقلية ثالثة كما قدمنا.
وينبغي [أن يعلم] أوال حد الحكم العقلي ما هو؟ قبل الكالم في أقسامه ،وهذا [يجُّر إلى] معرفة
الحكم على اإلطالق[ ،فالحكم على اإلطالق] وهو قضية الشـيء والزمه ،أو تقول هو المعقول
الذي ال تفهم له حقيقة إال باإلضافة إلى محكوم به عليه ،وهذا يشتمل على كل محكوم به عليه
وجودا كان أو عدما ،وهو ينقسم ثالثة أقسام ،عقلي وشرعي وعادي:
فالعقلُّي حُّد ه :كل معقول يلزم من تقدير تبدله في الذهن ،قلُب حقيقة المحكوم عليه بـه ،وهـو
ينقسـم =
= إلى الواجب والجائز والمستحيل كما تقدم»" ،شرح العقيدة البرهانية" ألبي بكر الخفاف
اإلشبيلي( ،مخطوط) نسخة مكتبة اإلسكولاير ،1273الورقة .3
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
عندنا لتأثر هذا األخير في معظم منظوماته ورسائله بالخط العقدي للساللجي مع
تجديده وتطعيمه بالبحوث المستحدثة في ا لكالم األشعري الجديد المتأثر بالروح
الفلسفية للمدرسة المتأخرة التي ُيدرج السنوسي ضمنها.
-9نظم الهبطي «البرهانية» ،ثم قام بترقيعها وذلك بإتمام ما نقص منها
اعتمادا على «شرح الخفاف للبرهانية أو لإلرشاد» ،أو ارتكازا على «صغرى
السنوسي» كما تجلى ذلك فيما أشرنا إليه قبل بخصوص تقسيم الحكم العقلي ،ثم
أثبت االختيار الكالمي المعتَم د عند الخفاف ثم السنوسي من أجل تحيين المباحث
العقدية للبرهانية وترجيح اختيارات أخرى لهما عند مخالفته الختيارات
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
الساللجي الكالمية ...وهذا لعمري دليل قوي على انتماء الناظم لالتجاه الجديد
المرتبط بالمدرسة السنوسية التي يعد الهبطي من أبرز رجاالتها...
-أولهما :أنها بمجموعها تمثل دليال كافيا ومقنعا ـ في نظرنا ـ على نسبته إلى
عبد هللا الهبطي .على أننا لن نكابر ولن نتعنت في التشبث باستنتاجاتنا هاته في
حال ظهور أدلة أقوى أو مستندات وثقية تطعن في اجتهادنا هذا أو تقدم الدليل
القاطع على نسبته لعالم آخر من علماء العقيدة ،بل لن نملك عندئذ إال االنصياع
لما سيثبته الدليل العلمي الحاسم.
-ثانيهما :أن تصحيح نسبة هذا النظم إلى عبد هللا الهبطي ،وهو من رواد
المدرسة السنوسية في القرن العاشر للهجرة ينسف دعوى أن عقائد السنوسي
َنَس َخ ت اعتماد «العقيدة البرهانية» ونسفت سلطتها المعرفية؛ حيث نجد الهبطي
المنتمي إلى مدارس" :الساللجي" و"الخفاف" و"السنوسي" يعيد لها الحياة في
القرن العاشر الهجري من خالل تقديمها بصيغة جديدة تالئم المرحلة التي يعيش
فيها...
الشيخ أبو محمد عبد هللا الهبطي من رجال اإلصالح الديني واالجتماعي في
القرن العاشر الهجري 16/م بشمال المغرب .ارتبط اسمه بالدعوة الصوفية،
وبالحركة الجهادية ضد االستعمار مما فتح عليه باب المتابعات المتنوعة من
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
ولد عبد هللا الهبطي بضواحي مدينة العرائش المغربية بقرية اهباطة من قبيلة
سماته أيام حكم الوطاسيين ،وصادف مولده زحف البرتغاليين وتوسعهم في
منطقة طنجة ،مما دفع أسرته للهجرة بتوجيه من أخيه مسعود ـ المحرر أخيرا
(? ) معلومات ترجمته مأخوذة من المصادر والمراجع التالية :ابن عسكر الحسني الشفشاوني 1
(ت986.هـ) ،دوحة الناشـر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر ،تحقيق :محمد
حجي ،مطبعة دار المغرب للتأليف والترجمة والنشـر 1976-1396ص 7 :وما بعدها ،وابن
القاضي المكناسي (ت1025.هـ) :جذوة االقتباس فيمن حل من األعالم مدينة فاس ،ط :دار
المنصور ،الرباط ،1973 :ص ،89-88 :ودرة الحجال في أسماء الرجال ،تح :محمد األحمادي
أبو النور ،الناشر :دار التراث القاهرة -المكتبة العتيقة تونس ،القاهرة مطبعة دار النصر
للطباعة ،الطبعة 3/60 ،1970 -1390 :1تر ،975 .ومحمد العربي الفاسي(ت1052.هـ)،
مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن ونبذة عن نشأة التصوف والطريقة الشاذلية
بالمغرب ،دراسة وتحقيق :الشريف محمد حمزة بن علي الكتاني ،منشورات رابطة أبي المحاسن
بن المجد ،3مطبعة النجاح الجديدة -الدار البيضاء -الطبعة ،2003-1424 :1ص 80 :وما
بعدها ،واليوسي (ت1102.هـ) في المحاضرات تح :محمد حجي ،ط :4دار الغرب ،بيروت:
،2006ومحمد بن الطيب القادري (ت1187.هـ) في اإلكليل والتاج ،تح :مارية دادي ،ط:
مطبعة شمس ،وجدة ،2009 :رقم الترجمة ،468 :ص ،396-395 :وفي نشـر المثاني ،تح:
محمد حجي وأحمد التوفيق ،منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشـر ،مكتبة
الطالب ،الرباط (د-ت) ،ص ،1001 :والحضيكي (ت1189.هـ) في طبقاته ،تح :أحمد بومزكو،
ترجمة رقم ،731 :ط ،1 :مطبعة النجاح الجديدة ،البيضاء ،2006 :ص ،561-556 :وأحمد بن
عجيبة (ت1224.هـ) في أزهار البستان في طبقات األعيان ،وغيرهم .وانظر أيضا من المراجع:
عبد القادر العافية ،الحياة السياسية والفكرية بشفشاون وأحوازها ،ط :األوقاف المغربية:
،1402/1982ص ،367 :وجمال بامي ،عبد هللا الهبطي ،نشر في ميثاق الرابطة بتاريخ- 29 :
.2012 - 06
(?) ابن عسكر ،دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر -ص.8 : 2
من سجن البرتغاليين بعد أن قضى فيه 20سنة ـ إلى جبال الغمارية...كانت
غمارة في هذا اإلبان تؤسس لعمل جهادي ولحركة مقاومة ضد االستعمار...
فاستقرت أسرة الهبطي في البداية بقرية تيجساس من قبيلة بني زيان .وهناك
أكمل عبد هللا الهبطي حفظ القرآن الكريم وشرع يدرس مبادئ العلوم ،إال أنه
وبعد وقت قصير ستنتقل الأسرة من تيجساس إلى قرية تلمبوط بقبيلة بني زجل،
وهناك ستنطلق مرحلة تتلمذه على الشيوخ.
كان على رأس شيوخه عبد هللا القسطالي الشدادي الزجلي األندلسـي (أستاذه
في القراءات والتفسير وعلوم القرآن الكريم) ،والحاج زروق الزياني (ت.
931هـ) شارح «الرقعي»(درس عليه الفقه بــ«الرسالة») ...ثم رحل الهبطي في
رحلة علمية إلى مدينة فاس فاستقبله الشيخ أبو العباس أحمد الزقاق (ت920.هـ)
(فأخذ عنه علم الفقه والتوحيد وتوطدت بينهما وشائج العلم) .كما درس على أبي
العباس أحمد بن محمد العبادي التلمساني (ت931.هـ) ـ الوارد على فاس أيام
السلطان محمد الشيخ الملقب بالبرتغالي ـ الطرق العقليات وجملة من العلوم
بالقرويين ،وقرأ على الشيخ الصوفي عبدالرحيم بن يجبش التازي(ت920.هـ)
علوم الحقيقة واتخذه شيخا في طريقة القوم بتازة خالل المدة القصيرة التي
قضاها معه قبيل وفاته .ثم اتصل بعد ذلك بشيخه الروحي الكبير أبي محمد عبد
هللا الغزواني الذي كان من أعالم الطريقة الكبار ،فتتلمذ له ،وصحبه وأخذ عنه،
بل رافقه مدة طويلة في الحضـر والسفر ،وتشبع بأفكاره الصوفية ،فسمت نفسه،
وصفت روحه ،وجال في عالم األذواق واألشواق والوجد ...واستفاد من المربين
والمريدين.
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
وبعد رحلته العلمية سيعود عبد هللا الهبطي إلى غمارة وسينضم إليه صديقه
أبو القاسم بن خجو (ت956هـ) في طريقة القوم ليخرجا معا طائفْين على
القبائل والمداشر ،آمرْين بالمعروف ناهيْين عن المنكر ،وقبل خروجهما للوعظ
واإلرشاد عين الشيخ الهبطي زوجته ـ أخت ابن خجو ـ بالمواهب لتعليم النساء
ودعوتهن إلى هللا وإرشادهن إلى الطريق المستقيم.
قال ابن عسكر« :لما استولى السلطان أمير المؤمنين [يقصد السلطان محمد
المهدي الشيخ الذي دخل فاسا ألول مرة في 955هـ] على ملك المغرب وتغلب
على كرسي الملك بفاس ،بعث إلى الشيخ ليفاوضه في أمر الدين وشأن األمة،
فقدم فاسا لهذا القصد .وكان السلطان يجل قدره ،ويمتثل أمره»(.)1
تمتع الشيخ الهبطي برؤية ومنهج دعوي مضبوط ولم يشرع في عمله
الدعوي إال بعد تسطير الأساليب المتنوعة المعينة على القيام بالمهمة .ومن هذه
األساليب:
-اتصاله بأعيان القبائل في المساجد القائمة (أو التي كان يبنيها بمساعدة أهل
المنطقة إن كانت مفقودة) عند وصوله إليها،
-وعقده الجلسات الطويلة معهم بحضور جمهور من الناس،
-ثم قيامه بسؤال الناس بصفة خاصة عن اإلسالم ومبادئه ،وقواعده ،وعن
اإليمان ،والتوحيد ،وعن الطهارة الكبرى والصغرى ،وعن أحكام الحيض
والنفاس والعدة ،وغير ذلك من األحكام الفقهية الضرورية.
وهكذا استمر هذا الداعية الصوفي في "تطهير" الشمال المغربي مما اعتبره
«عوائد ضالة كانت منتشرة فيه ،كظاهرة الوشم التي كانت متفشية في المجتمع
الغماري في ذلك العصر .»...وكان يستعين ديداكتيكيا في عمله بالمحتويات
العقدية األشعرية ،ووسائليا بــ"أنظامه" التي قصد فيها فضح الأخالق المنحرفة
والسلوكات الضالة ...وباإلضافة إلى "منظومات" الهبطي التي كانت تشخص
األمراض االجتماعية وتحذر منها وتصف الدواء الناجع لها ،كان يبعث
بـ"رسائله" إلى مختلف الجهات يحث فيها على جهاد الصليبيين وينادي بوجوب
جمع الشمل ووحدة الكلمة والرجوع إلى كتاب هللا وسنة رسوله صلى هللا عليه
وسلم ،كما كان يبعث بهذه الرسائل إلى الفقهاء واألعيان وإلى الطلبة طالبا منهم
قراءتها في المساجد على مسامع الناس وبحضورهم ليكون تأثيرها في قلوبهم
أبلغ(. )1
(?) راجع ،جمال بامي ،عبد هللا الهبطي ،ميثاق الرابطة بتاريخ.2012-06-29 : 1
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
وقد لقي الهبطي في طريق دعوته وإصالحه الكثير من العقبات ،كما ووجه
بالعداوات من طرف العلماء ومن أمراء بني راشد حكام شفشاون السيما القائد
محمد ابن علي بن راشد الذي كان وراء إشعال المناظرة الشهيرة بينه وبين
الفقيه الشهير اليسيثني ...والراجح أن الهبطي ُأهين وُضرب وُحبس كما يذكر
ذلك ولده محمد بن عبد هللا الهبطي في «منظومته» في ترجمة والده حيث
يقول:
(? ) يقصد القاضي الشفشاوني محمد بن أحمد بن الحاج الذي تولى القضاء بمدينة شفشاون مدة 1
طويلة.
(?) محمد الهبطي ،منظومة "المعرب الفصيح في ترجمة الشيخ النصيح" ،وهي منظومة في 2
ترجمة والده في أزيد من ألف وثالثمائة بيت ،مخطوط خاص في مكتبة األستاذ عبد القادر العافية
الخاصة.
(?) اليوسي -المحاضرات في اللغة واألدب ،تح :محمد حجي ،ط :4دار الغرب ،بيروت: 3
،2006ص.92 :
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
آخر عمره وعجز عن المشي ،لكنه لم ينقطع عن عقد حلقات الدرس وال عن
مجالسه العلمية بفضل من هللا..
كان الهبطي يعتقد ـ كما ذكرنا آنفا ـ أن "جهل" الناس بالعقيدة وتوحيد اإلله
عائد في أساسه
ٌ ُيضعف إيمانهم ،فكان يرى أن ما يتخبط فيه مجتمعه من انحراف
إلى نقص وضعف اإليمان باهلل وما يتفرع عنه ،مما يترتب عليه سقوط الناس في
حضيض الممنوعات ويفقدهم مكارم األخالق وجميل الفضائل ...لذلك ألف
"رسائله" و"منظوماته" العديدة لتوجيه الفئات المتعددة والمستويات المتنوعة:
أمراء ،وحكاما ،وطبقات الفقهاء ،والقضاة ،والعدول ،وطبقة المتصوفة،
وطبقات العوام من نساء ورجال.
وقد أرجع عبد هللا الهبطي سبب ضعف اإليمان لدى أهل زمانه وبلده إلى
الغزو االستعماري البرتغالي الذي فتك بالبالد والعباد ،ونتج عنه سقوط أهم
الثغور المغربية في يد العدو ،من هنا كان الرجوع إلى تنقية العقيدة وتقويتها في
القلوب أمرا أساسيا ضمن مشروعه اإلصالحي بغية إيقاظ الوازع اإليماني
المحرض على مواجهة الظلمة والصليبيين والتحريض على الجهاد ...وبمعرفة
هذه الحقيقة يتمكن المتابع من فهم مغزى دعوة هذا المصلح وأمثاله إلى وجوب
غرس العقيدة الصحيحة في نفوس الناس وعقولهم ...وإلى جانب مواجهة التسلط
الصليبي اضطلع الغماري في عمله التصحيحي العقدي بمواجهة وتجاوز الجهل
المتوارث الذي كان منتشـرا في بعض مناطق غمارة ،حيث ضعف واضمحل
االطالع على مبادئ الدين وتعاليمه وعلى الثقافة بمختلف جوانبها ،فكان
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
(=الجهل) عامال حاسما يَّسر تفشي االنحراف وطغيان العوائد الضالة مما
أضعف البيضة وهون أمر المسلمين أمام أعدائهم...
وبخصوص الجانب العقدي دائما يستوقف الباحث في شخصية وفكر عبد هللا
الهبطي صدامه العنيف مع أبي عبد هللا محمد بن عبد الرحمن اليسيثني (ت.
959هـ) في شأن قضية "النفي في كلمة اإلخالص" ،والتي تعود أحداثها إلى
رسالة «ذي اإلفالس إلى خواص أهل مدينة فاس» التي بعث بها الشيخ أبو عبد
هللا محمد الخروبي (ت963.هـ) العالم الطرابلسي المقيم بالجزائر إلى علماء
فاس ،وهي رسالة ذكر فيها الخروبي آدابا على القواعد الخمس ،وجاء في
القاعدة األولى وهي" :ال إله إال هللا"« ،ومن الأدب أن ال يتناول نفيك عند النطق
بحرف النفي إال ما ادعاه المشـركون من الآلهة سوى هللا تعالى ،وليكن الحق جل
جالله ثابتا عندك في حال النفي واإلثبات .وإلى هذا أشار بعض العلماء حيث
قال :النفي لما يستحيل كونه ،واإلثبات لما يستحيل عدمه» .فنقم عليه الناس عليه
عباراته لما يترتب عليها من الكذب في الخبر اإللهي( .)1فلما اطلع عليها الهبطي
أمر كاتبه بالكتابة إلى الخروبي مالطفا إياه لتصحيح عبارته ،وأمر الكاتب أن
يطلع الفقيه المفتي أبا عبد هللا محمد اليسيثني على الرسالة ...فلما اطلع عليها هذا
األخير كتب في طرتها مخاطبا الخروبي ومشنعا عليه ومخطئا كالمه إلى أن
قال « :إنما يتسلط النفي على اآللهة المعبودة بالباطل بوجه واعتبار ،وهي ثابتة
بوجه واعتبار»( .)2فلم يرق ذلك الهبطي وأعلن أن اليسيثني وقع في خطأ أعظم؛
إذ كيف يتصور في ذهن عاقل أن يكون الشيء الواحد في حال وجوده منفيا من
وجه وثابتا من آخر ،وفيه اجتماع الضدين؟ وإنما يصح نفي صفة األلوهية عنها
وعن كل ما سوى هللا وإثباتها هلل تبارك وتعالى ...وأمر الكاتب بمراجعة اليسيثني
الذي امتنع عن التراجع وبقي متشبثا برأيه ...فأعرض عنه الهبطي ورجع إلى
بالده من فاس.
وبعد عدة مكاتبات بين العالمين سيبلغ الخالف إلى السلطان الذي جمعهما
للمناظرة ،فغلبت على اليسيثني نفاسة الرياسة وحب العلو والجاه ـ كما يذكر ابن
عسكر ـ فكاد للشيخ الغماري متواطئا مع القائد الشفشاوني ابن راشد الذي لم يكن
على ما يرام مع الهبطي بسبب مطالبته إياه بالتزام العدل في أحكامه ،فاتفق
الرجالن (=اليسيثني وابن راشد) بالتواطؤ مع الكاتب ابن عيسى على السعي
بالهبطي إلى السلطان زاعمين له بأنهم يخشون منه على الملك ...وطافوا على
علماء فاس يستحثونهم عدم مناصرة الهبطي بين يدي السلطان ...ولكن الفقهاء
تخلفوا عن حضور المناظرة التي افتتحها اليسيثني بالمطالبة بقتل الهبطي
بدعوى أنه مبتدع ...فوقف الهبطي ودعا إلى قراءة الفاتحة عسى أن ُيظهر هللا
الحق ،ثم انصرف إلى مسجد القصر ...فتكلم اليسيثني وأصحابه مع السلطان في
شأن معاقبة الهبطي ،ولكن السلطان لم يجبهم إلى مقصودهم ،بل انتهى إلى
االعتذار للهبطي وإكرامه(.)1
وعموما فقد نذر الهبطي حياته للعمل اإلصالحي وكافح من أجل ذلك ،وواجه
من أجل أداء هذا الواجب الكثير من اإلذايات فاحتسب وتحمل إلى آخر أيامه
وهو معوق الرجلين ،وتعذب كثيرا من أجل رسالته وتنزيل مشروعه حتى قال
بعضهم :إنه مات متأثرا بالتعذيب الذي ناله من طرف بعض الحكام المتسلطين.
وباإلضافة إلى هذه االستماتة في سبيل رسالته اإلصالحية كان عبد هللا
الهبطي كثير العلم غزير المعرفة ،مشاركا في جملة من العلوم والفنون؛ فكان
مبَِّر زا في علم البيان ،واألصول ،والعقائد ،والقرآن وعلومه ،والمنطق ،وعلم
التصوف والعرفان ،كما جعل من بيته مدرسة علمية تخرج بها كثير من النجباء
والعلماء على رأسهم ولداه المحمدان (ألف أحد ابنيه المسمى محمدا في موضوع
الشهادة كتابه« :كنز السعادة في معرفة بيان ما يحتاج إليه من نطق بالشهادة»،
وكتاب «تقييد في معنى كلمة التوحيد وتحقيق نفيها وإثباتها بطريقة الحد
والبرهان») ،ومن تالميذه الذيـن ُيعتـُّز بهم أيضـا :محمد بن علي ابن عسكر
صاحب «الدوحة» (الذي أفادنا أهم المعلومات التي كتبناها عن سيرته) ،ومنهم
أيضا :أبو عمران موسى الوزاني وغيرهم.
من الدواعي المعلنة عن مكانة هذا المصلح الغماري االنتباه إلى عدد
المؤلفات العلمية التي كتبها إما في إطار الترويج للعلم وطرح جديد اإلبداعات
في المجاالت العقدية واالجتماعية أوالفقهيات التي حذقها ،أو في اتجاه النهوض
بمشـروعه اإلصالحي الدعوي الذي أشرنا إلى أهدافه ،وعّرفنا ببعض أساليبه
فيه ومنهجه ،ويهمنا أن نقوم بسرد ألهم ما كتبه الهبطي مما بلغنا عن مترجميه
أو اطلعنا عليه مطبوعا أو ُأعِلمنا به مخطوطا ،فمن هذه األعمال:
«-تقييد في الهيللة».
«-جواب عن معنى ال إله إال هللا وعن مقصود ما احتوت عليه من نفي
وإثبات».
«-عقيدة وجيزة».
«-المناجاة».
1
(?) وقد جمع معظم األعمال العقدية الدكتور خالد زهري في كتابه المعنون بـ« :رسائل التوحيد
والهيللة للهبطي».
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
وقد بلغ عدد أبيات المنظومة 198 :بيتا من بحر الرجز( )1استفاد ناظمها من
كل اإلمكانات التي يسمح بها هذا البحر (مستفعلن = صحيحة ،مستعلن =
مطوية ،متفعلن = مخبونة ،متعلن = مخبولة).
-1الخطبة.
(?) بخصوص الشعر التعليمي ُيذكر أن أکثر ما قد أنشأه الشعراء بهذا الصدد جاء في قالب 1
األراجيز ،والرجز بحر معروف من بحور الشعر ،و تسمي قصائده األراجيز ،وواحدتها أرجوزة
ويسمي قائله راجزاً .و الرجز ديوان العرب في الجاهلية واإلسالم ،وکتاب لسانهم ،وخزانة
أنسابهم وأحسابهم.
وکان الرجز والمزدوج منه في الغالب هو الشکل الذي اعتمدت عليه المنظومات التعليمية
اعتمادًا کليًا في القرن الثاني الذي راج فيه نظم العلوم والمعارف .يقول محمد صادق الرافعي في
هذا الشأن« :وهم مجمعون علي استعمال هذا النمط من الرجز الذي يستقل فيه کل مصراعين
بقافية ،حتي لقبوه بحمار الشعر لسهولة الحمل عليه» ،تاريخ آداب العرب ،ط ،5:بيروت ،دار
الکتاب العربي1999،م.3/152 :
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
-2حكم العقل.
-3تعريف العالم.
-4حدود اصطالحية.
-5الدليل على ثبوت الجوهر.
-14تعّلق الصفات.
,
-17جواز ُرؤية اإلله ـ ـ.
ُأَذِّك ر إذن بأن هذه هي العنوانات التي وضعتها للفصول الواردة في النظم ،وال
شك أن القارئ سيالحظ ـ كما ذكرت آنفا ـ أن هذه المنظومة لم تغط في محاورها
جميع ما تناولته «العقيدة البرهانية» من المباحث العقدية ،فاكتفت مما ورد في
مختصـر الساللجي بمحوري الطبيعيات واإللهيات( ،وهو ما أكده الناظم نفسه
في مطلعها) ،بينما غضت الطرف عن بقية المحاور المتعلقة بــ :النبوات،
واإلنسانية ،والسمعيات ،واإلمامة.
أما عن مضامين هذه المنظومة فيمكن الوقوف بعد قراءتها على القضايا
والمسائل التالية:
-1أن القصد من نظمها ـ كما صرح بذلك الناظم في بدايتها ـ هو« :معرفة
اإلله بالبرهان» ،وقد سلك الناظم في تحقيق ذلك نفس منهج أبي عمرو
الساللجي ،ولكنه اعترف بالزيادات التي أضافها في بعض المواضع أخذا من
مستجدات مضامين الخفاف األندلسي ومن مدرسته السنوسية لمزيد توضيح
وإشباع وإقناع.
-2من األمور المضافة في "النظم" ـ كما ذكرنا آنفا ـ زيادة على ما تضمنته
«البرهانية» :الحديث في المدخل عن "أحكام العقل"( :الواجب ،والمستحيل،
والجائز) ،وهو أمر لم يتعرض له الساللجي لقصده االختصار ،كما أن هذا
الوقوف لم يكن أوليا في الكتابات الكالمية على عهد أبي عمرو ،بل سيصير ـ
كما قلت آنفا ـ ضربة الزب في األعمال العقدية بعد ذلك ـ السيما في مدرسة
السنوسي كما قلنا ـ حتى عندما يتعلق األمر بالمختصرات.
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
-3الواجب عند الناظم هو« :كل ما وجوده مقرر وال يتصور في العقل
ذهابه» ،أما المستحيل فهو« :الممتنع تصوره في العقل» ،والجائز هو« :الذي
يصح في العقل وجوده بما له من أصل ،كما يصح منه عدمه ضرورة أو نظرا».
-4عرف الناظم "العالم" بنفس تعريف الساللجي فهو عنده« :عبارة عما
سوى هللا ،وسوى صفات الذات».
-9أما حد "الحال" عنده فهو« :صفة موجود تؤول لحالة بين الوجود
والعدم ليس لها إال الثبوت».
-10استدل الناظم على "ثبوت الجوهر" ـ كما فعل الساللجي ـ بتناهي األجسام
في انقسامها إلى حدود ينتفي افتراقها (انقسامها في «البرهانية») .ولما كان الجوهر
غير قابل للقسمة ألن الشيء الواحد ال يفارق نفسه ،فكل ما تألف معه فهو على
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
حكمه ،وبهذا االئتالف تفُضل األجسام بعُضها على بعض في الوحدات العددية
المؤلفة ،ولما تفاضلت وجب لها الحد والغايات .ولو كانت هذه الوحدات والذرات
غير متناهية ،لما أمكن الحديث عن أفضلية؛ ألن ما ال يتناهى ال يفضل ما ال
يتنـاهى ،ومـا ال يتنــاهى ـ كما يرى الساللجي ـ يستحيل دخوله في الوجود ،وأيضا
ـ كما يذكر الناظم ـ فروعه ممتنع وجودها.
-11يذهب الناظم إلى أن األحكام المتعاقبة على الجواهر (=الـَم َح اّل) ُقِض ـَي
لها بالجواز ال باالستحالة وال بالوجوب ،فلو كانت واجبة لها لما تبَّد لت ،وللِزم
أن تتساوى الجواهر فيها .فعندما يختص كل جوهر بما هو جائز على مثله ،يلزم
العلم أن التخصص المتعين لم يكن إال لمعنى جعله يقوم بالجوهر المخصوص
دون غيره ،ولو لم تقم بذاته لما كان بإيجاب الحكم له أولى من إيجابه لغيره من
سائر الجواهر.
ثم أضاف إلى استدالل الساللجي اإلشارة إلى أن المقتضِـي مع المقتَض ـى
مَّطرد ومنعِك س نفيا وإثباتا لما بينهما من التالزم.
وسواء كان المتكلم مثِبتا لألحوال أو نافيا لها ،فباالضطرار يحصل له العلم
باألعراض عند شهود الشيء بحكمة من الجليل ،فهذا دليل ثبوت األعراض.
ثم بيـن الناظم أن المعـاني ملزَم ـات للَم حـاّل ،فبالنسبـة لمثبتي األحـوال يكـون
ذلك تسميـة مع التصـاق ،أمـا بالنسبة لمنكريهـا (=األحوال) فـإنهم يكتفـون
بالتسمية.
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
-12أما "دليل حدوث األعراض" فقد سلك فيه الناظم مسلك الساللجي بأن بَّين
أن العرض يزول بعد طروئه على المحل ووجوده فيه ،وهذا دليل حدوثه؛ ألنه
لو كان له صفة القدم لما تحول إلى العدم بعد الوجود.
-14ولما ثبت الحدوث عند الهبطي للجواهر واألعراض ـ التي يتكون منهما
العالم بال إنكار ـ ،فقد صح أن العالم بجميعه وبما حواه حادث.
-15تحول أبو محمد بعد انتهائه من اإلثباتات المتعلقة بالمجال الطبيعي إلى
المجال اإللهي وبدأ فيه بإثبات الصانع ،فخصَّص لذلك فصال أعلن فيه أنه لما
بانت عالمة الجواز في العالَـم ـ إذ هو جائز وجوده وجائز عدمه ـ ،ولما ثبت أن
وجوده غير مرَّج ح بنفسه على عدمه ،ألن الراجح المساوي بال سبب ال يتصور
في العقل ،ولذلك افتقر إلى مرجح فاعل مختار؛ ألن اختالف الفعل مقرر.
-16أما "دليل ِقَدم الصانع" فسلك فيه الناظم مسلك الساللجي ،ولكنه أضاف
إلى دليل أبي عمرو إضافات استداللية .وُم ضمن الدليل عنده أنه لو لم يكن قديما
لكان حادثا فقيرا يحتاج مثلنا إلى ُم ـخِّص ص ،ثم إن ذلك المحِد ث نفسه سيحتاج
بدوره إلى مخِّص ص ُيـخِّص صه...ويتسلسل األمر .والتسلسل والدور باطالن؛
ألنهما لم يحصال؛ إذ العاَلـم المصنوع قد َح َص َل وَتَقَّرر وجوُد ه بالحس بال
امتراء.
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
ثم أضاف موضحا أن ذلك يؤدي أيضا إلى مقاٍل فاسٍد ؛ ألنه يقتضي النفي
واإلثبات للشيء الواحد ،ويقتضي أيضا الحكم بالمحال وبالجواز للمحكوم
الواحد ...وهذه كلها أمور ُتَع ُّد من المحال الواضح المعنى بال إشكال ،وما أفضى
إلى المحال فهو محال.
وما يلزم على حدوثه ـ تعالى ـ من المحال ـ يرى الهبطي ـ دورا وتسلسال فهو
ن له وصٌف صريٌح بالِقَدم ،فوجوُد ه ُم َنَّز ٌه
الزم على تقدير فنائه ـ سبحانه ـ ،بل مَ ْ
عن العدم.
"-17صفة قيامه ـ تعالى ـ بنفسه" (عدم احتياجه إلى المحِّل والمخِّص ص)
استدل عليها الناظم الطنجي بدليل الساللجي نفسه ،وهو أنه ـ سبحانه ـ متصف
بأحكام قد وجبت على المعاني؛ كاتصافه بأنه :عالم ،حي ،قادر ،مريد؛ ألنها
مالِز مة لها (أي للمعاني) ،والصفـة ال تتصف باألحكـام التي توجبها المعـاني،
مما يـؤكـد بالبرهان أنه ـ تعالى ـ ذاٌت غنية جليلة موصوفة.
-18ومن أجل "نفي المثلية بين الخالق والمخلوق" استـدل الهبطي بدليـل
مخالفتـه ـ تعالى ـ للجواهر واألعراض ولكل الحوادث؛ ألن حقيقة الجوهر:
التحيز .والمتحيز يجوز عليه االختصاص ببعض الممكنات مثل الجهات
والمحاذاة ،ويجوز عليه التأليف واالفتراق ...وهذه كلها حوادث تدل على حدوث
ما به تحُّل ،واللـه ـ سبحانه ـ القديُم منزٌه عن حالة الحوادث.
ثم إن العرض ـ الذي هو معنى بالجوهر ـ يقوم على التغُّير ،وهللا القديم له
البقاء الكلي على اإلطالق ال يتغير وال يتبدل.
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
وما جرى على العلم من داللة عنه يجري على القدرة واإلرادة والسمع
والكالم والبصر ،واإلدراك (صفة ذكرها الساللجي موافقا لبعض األشاعرة
الذين أثبتوها مستقلة) ،والحياة (التي يرى الهبطي أنها مشروطة في كل
الصفات).
-فصفة العلم القديم تتعلق بالواجب والجائز والمستحيل ،وكذلك الشأن بالنسبة
لصفة الكالم.
-21ومن أجل إثبات "وحدانيته ـ تعالى ـ" اعتمد الهبطي الدليل الذي اعتمد
فعاال
الساللجي (بله معظم األشاعرة) وهو "دليل الممانعة"؛ وهو أنه لو قدرنا َّ
في الوجود إلهين ،وانتهى تقديرنا إلى تماثلهما في الذات واشتراكهما في الزمان،
فلو أراد أحدهما سكون أمر ما واآلخر تحريكه ،فإما أن يحصل عجز إرادتهما
أو عكسه ،أو واحد يحُّل فيه العجز واآلخر العجز عليه جائز ،أو واحد مراده
تحَّقق دون تجويز العجز في حقه ،فال بد من أحوال أربعة ُتعزى كلها إلى
الـُم حال:
(?) تعلق العلم تعلق انكشاف ،بينما تعلق الكالم تعلق داللة وإخبار. 1
(?) والقدرة واإلرادة وإن تماثال في التعلق بجميع الممكنات ،إال أنهما يختلفان من حيث جهة 2
التعلق فالقدرة تتعلق بالممكنات تعلق إيجاد وعدم ،بينما اإلرادة تتعلق بالممكنات تعلق تخصيص.
أي أنها تخصص كل ممكن ببعض ما يجوز عليه من الممكنات.
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
أما إذا قدرنا اتفاقهما ،فننتهي إلى الحكم نفسه؛ ألن اتفاقهما مشروط بنفيهما.
وما يقال عن المقدورات يقال كذلك عن المعلومات والمرادات وما تعلق به
الكالم.
-23وبعدما أنهى الناظم كالمه عما وجب له ـ تعالى ـ ،ونفى ما استحال عليه
انتقل ـ كما فعل الساللجي ـ للحديث عن "جواز رؤيته ـ سبحانه ـ" ،فبين أن
اإلدراك في الشاهد متعلق بالمختلفات (=األلوان والذوات) ،واختالفها ال يؤول
إلى وجودها ،ولكن يؤول إلى أحوالها ،وليس لإلدراك تعلق باألحوال؛ إذ كل ما
يرى ُم ـَم َّيزًا عن غيره في حكم اإلدراك الذي نرى به ،فهو ذات على الحقيقة،
والحال ليست ذات وجود بتة ،قال الساللجي« :فإذا ُرئي موجود لزم تجويز
رؤية كل موجود».
-24وبعد أن أثبت الهبطي جواز رؤية هللا ـ تعالى ـ عاد إلى موضوع
الصفات ،واعتني بإثبات المعنوية منها ،فذكر أن هللا عالم ،ومريد ،وقادر،
وحي على الدوام ،وبَّين أن كل حي يجوز أن يكون سميعا أو مؤوفا؛ ألن كل
قابل ِلـُح كمين مناقضين ال يخلو عن أحدهما عقال ،والخالق ـ تعالى ـ ال يليق به
إال الكماالت على اإلطالق ،فأوجب البرهان أن يكون غير مؤوف.
131 القسم األول :بين يدي التحقيق
وما ينطبـق على السمع ينطبـق أيضا علـى كـونـه متكلمـا بصيـرا ومـدركـا؛
ألنـه ـ تعالى ـ متنزه عن كل نقص وليس شيء مثله.
-25وإلقامة الحجة على "قيام الصفات القديمة بذاته ـ تعالى ـ" ارتكز الناظم
على دليل "العلة" و"الحقيقة" ،فـ "العلة" العقلية مع المعلول مربوطة نفيا وإثباتا
بغير مراعاة لواجب أو جائز؛ ألن ذلك االلتزام واجب ومطرد شاهدا وغائبا .وقد
تقرر في الشاهد كوَن العالِـم عالما معلَّل بالعلم ال محالة ،فوجب اطراد تلك
الحالة ،وكون الرب ـ تعالى ـ عالما معلوم دليله وهو إتقانه المرسوم ،فوجب له ـ
تعالى ـ العلم ألجل ما عنه له تعلل.
وبخصوص علمه ـ تعالى ـ مقارنة بعلم المخلوق وقف الناظم ليبين أن العلم
الحقيقي الشامل هو علم الحق ـ جل وعال ـ ،أما العلم المستند إلى عقل المخلوق
فهو مجرد اجتهاد يصيب ويخطئ ،والعلم الحقيقي هو الذي جاء به النقل.
وفي خصوص العلم البشري توقف المؤلف في آخر نظمه ـ زيادة على ما
ورد في «برهانية» الساللجي ـ لينبه المسترشدين والطلبة من الوقوع في
اعتقادات منحرفة ،السيما أولئك الذين لبسوا حلل التصوف وركبوا طريق أهل
الفقر ،فحذرهم مما يمكن أن تشوش به عليهم مصطلحات يتداولونها مثل
مصطلحات" :التجلي" ،و"الوصول" ،و"الظهور"...وغيرها ،والتي قد يفهم
منها البعض ـ إن حملت على ظاهرها ـ معتقدات تسقط أصحابها في الكفر
واالنحرافات العقدية وفي القول بالحلول ووحدة الوجود.
ومن هذا التشويش خرج الناظم ليعلن أن السالمة في الموضوع تكمن في
اعتقاد أن ما يلزم فهمه من هذه االصطالحات هو مجرد العلم بال زيادة عليه،
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132
والدليل على ذلك ما تضمنه الكتاب الكريم من أمر النبي ـ × ـ باالستزادة في
العلم ليزداد قربا من ربه ...أما الذي يزعم أنه وصل إلى رؤية ذات ربه ـ
سبحانه ـ مدعيا ارتفاع الغيب ،وأن هللا ـ تعالى ـ ظهر له ،ـ قال الناظم ـ فهو من
جملة الجهال ،منسحبا في أبحر الضالل؛ ألن كل ما للسر مشهود ليس له في
غيره وجود ،ال يبتغي منه جميع الواصلين إال زيادة العلوم واليقين.
-7عملي في التحقيق:
وقد أشرت في الهــامش إلى اختالف روايــات «البرهانيــة» وإلى كــل األلفــاظ
والتعابير المغايرة الـتي انفـردت بهـا كـل نسـخة أو مخطوطـة ،مسـتعينا في هـذا
بالدرجة األولى بشـرح المديوني وشرح المجهول اللذين كانت لهما عناية خاصة
بروايات «البرهانية» .كما اســتعنت بشــرح اليفــرني في مناســبات قليلــة لتحقيــق
بعض األلفاظ.
أما بالنسبة لـ ـ«نظم الهبطي لـــلبرهانية» فقــد قمت بتخريجــه وإتمــام ضــبطه،
وكان طبيعيا أن أتابع النص بالتعليق على الجوانب التوثيقية فيه ،فضال عن تقديم
توضيحات لغوية وعقدية مميزة للنص...
العقيدة البرهانية لعثمان الساللجي الفاسي ونظمها لعبد هللا الهبطي الغماري الطنجي 132