You are on page 1of 4

‫‪203‬‬ ‫تيه ورشاد من القابلية لالستعمار إلى القابلية للرشد‪ ،‬نحو نموذج بديل‬

‫‪204‬‬ ‫تيه ورشاد من القابلية لالستعمار إلى القابلية للرشد‪ ،‬نحو نموذج بديل‬

‫البوهيميون الجدد‪ :‬مقال في دور التعليم والمعلّم‬

‫كل مناحي الحياة‪،‬‬


‫والفن‪ ،‬وفي ِّ‬
‫ِّ‬ ‫البوهيمية تفلُّت عن المعتاد‪ ،‬وشذوذٌ في األخالق واللباس‬
‫كل ما ينتجه المجتمع من قيم جمالية وخلقية‬ ‫وهي ثورة على النسق وعلى النظام وعلى ِّ‬
‫ي ناقم في روحه‪ ،‬ميَّال إلى الفسق والفساد واإلفساد‪ ،‬وهو يعبِّر بذلك عن‬
‫وحضارية؛ والبوهيم ُّ‬
‫تفوقه وعن بطولته‪ ،‬وهو يهت ُّم بما "يقال عنه"‪ ،‬أكثر مما "يكون عليه"‪ ،‬فيصنع الشهرة ألجل‬ ‫ُّ‬
‫الشهرة‪ ،‬والظهور ألجل الظهور‪ ...‬وال يبالي‪.‬‬
‫ي في لحن القول‪ ...‬وال تخطئه العين إذا لم تصب بالرمد‪...‬‬‫وإنك لتعرف البوهيم َّ‬

‫*******‬
‫خصيصا‬‫وال أعرف ما العالقة بين نشأة "البوهيمية" مذهبًا في العيش وفي الحياة بباريس ِّ‬
‫عام ‪1830‬م‪ ،‬واستعمار فرنسا للجزائر في نفس السنة‪ ،‬أي عام ‪1830‬م؟‬
‫تخطت حدودَ فرنسا‪ ،‬وقطعت البحر‬ ‫َّ‬ ‫أن "روح البوهيمية" هي التي‬ ‫وهل هذا يعني َّ‬
‫المتوسط‪ ،‬لتستولي على مقدَّرات الجزائر يو َمها‪ ،‬وإلى اليوم؟‬
‫ِّ‬
‫مجردا ِّمن سلوكه‪ ،‬أم أنَّه نشر‬
‫َّ‬ ‫المستعمر الفرنسي إلينا‬
‫ِّ‬ ‫األمر كذلك‪ ،‬فهل انتقل‬
‫ُ‬ ‫وإذا كان‬
‫وفرخ‪ ،‬ثم ترك آثارا ال تمحى في األنفس وفي‬ ‫"وباء البوهيمية" في أوساطنا‪ ،‬فباض بعد أمد‪َّ ،‬‬
‫العقول‪ ،‬وفي دنيا الناس؟‬

‫*******‬
‫حين أالحظ بعض مظاهر المجتمعات العربية واإلسالمية‪ ،‬بمختلف شرائحها وتوجهاتها‬
‫الفن‪ ،‬المحترف منه‬‫أسجل نقاطا حول الفن وتمثالته في شتى مجاالت ِّ‬ ‫ورموزها‪ ،‬وحين ِّ‬
‫والعفويِّ‪ ،‬السافر منه والكامن‪...‬‬
‫ثم حين أستمع إلى بعض الخطباء الذين يطلُّون من شاشات التلفزيون‪ ،‬أو أقرأ ما يكتبه‬
‫الكثير من مستخدمي وسائل التواصل االجتماعي‪ِّ ،‬من تغريدات‪ ،‬وتعليقات‪ ،‬وأفكار فجة‬
‫مبتورة‪...‬‬
‫بل حين أراقب بعض الساسة‪ ،‬وبعض َمن اعتلوا عرش األدب والرواية واشتهروا فيها‪،‬‬
‫ونالوا الجوائز واألوسمة زورا وبهتانا‪...‬‬
‫وأن‬ ‫وأسجل‪ ،‬وأستمع‪ ،‬وأراقب‪ ...‬أتأ َّكد َّ‬
‫أن البوهيمية تولد من رحم التمرد‪َّ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫حين أالحظ‪،‬‬
‫تتلون بلون "البوهيمية" األكثر تطرفا‪َّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫وأن صورة العصر َّ‬ ‫التمرد وليد السفه والسذاجة‪َّ ،‬‬
‫السياق العام بات أميل ما يكون إلى تقبُّل الشذوذ منه إلى الصبر على االلتزام وروح المسؤولية‪.‬‬

‫*******‬
‫‪205‬‬ ‫تيه ورشاد من القابلية لالستعمار إلى القابلية للرشد‪ ،‬نحو نموذج بديل‬

‫تصرفا مخالفا‬
‫ُّ‬ ‫ويتصرف‬
‫َّ‬ ‫ي إلى وبال على أهله وبلده‪،‬‬ ‫حول البوهيم ُّ‬‫وحتى أوان الفتن‪ ،‬يت َّ‬
‫صة – إلى اتباعه‪،‬‬‫الغر منهم بخا َّ‬
‫َّ‬ ‫والشباب‬
‫َ‬ ‫للمعايير واألخالق والمواثيق‪ ،‬فيحمل الناس –‬
‫واالستماع إليه‪ ،‬واعتقاد بطولته‪ ،‬بل وحتى إلى رفض القيم والتفلت منها تحت عنوان البطولة‬
‫أن البوهيمية الجديدة‪ ،‬أحيانا تتلبَّس بلبوس الدين‬ ‫الزائف‪ ...‬فيترك العقال َء حيارى‪ ،‬ذلك َّ‬
‫(حركات‪ ،‬وجماعات‪ ،‬وأفكار شاذَّة‪ ،‬وادعاءات)‪ ،‬وأحيانا أخرى َّ‬
‫تتلون البوهيمية بلون العلم‬
‫متمردون‪ ،‬أدب منحرف‪ ،‬إعالم بارد)‪ ،‬وفي كثير من األحيان‬ ‫ِّ‬ ‫(مذاهب علموية‪ ،‬شبه علماء‬
‫تكون السياسة هي اللون األيسر للبوهيمي‪ ،‬فيركب قطارها (مظاهرات‪ ،‬غرور‪ ،‬أحزاب وأفكار‬
‫منحرفة‪ ،‬محاورات تلفزيونية)‪...‬‬
‫أن أسوء أنواعها تلك التي تحمل شعار‬ ‫وثمة أشكال أخرى من البوهيمية الجديدة‪ ،‬غير َّ‬
‫"البطولة واالدعاء"‪ ،‬وتخدع الناس "بحسن النية الظاهر"‪ ،‬فتختفي وراء أكمام الفوضى لتبني‬
‫شها‪ ،‬ثم تبيض وتفرخ وتنشر وباءها في اآلفاق‪...‬‬ ‫ع َّ‬
‫*******‬
‫وتبقى المدرسة‪ ،‬والتربية‪ ،‬وزرع األخالق والقيم‪ ،‬هي ص َّمام األمان‪ ،‬وهي السبيل الوحيد‬
‫لمعالجة جميع أنواع السفه‪ ،‬والفسوق‪ ،‬والعصيان‪ ،‬والبوهيمية‪ ،‬والجهل‪ ،‬والجهالة‪ ...‬ولذا‪،‬‬
‫صة أوان الفتن واألزمات‪ ،‬هو جهاد التربية‪،‬‬ ‫فأعظم جهاد في جميع الظروف واألوقات‪ ،‬وبخا َّ‬
‫الحق‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫وهو جهاد تأطير اإلنسان ليكون سويًّا‪ ،‬ولئالَّ تنحرف به السبل عن سبيل‬
‫أن اغتيال الحرية‪ ،‬وزرع النمطية‪ ،‬وإلغاء الخصوصية‪ ،‬وقولبة‬ ‫مع ضرورة التذكير َّ‬
‫العقول‪ ،‬ووزَ ع العواطف‪ ،‬وشحذ المشاعر‪ ...‬أي ما يمكن تلخيصه بعبارة "التعليم المستبد"‬
‫(الدكتاتوري)؛ جميع هذا ال يحرك قيد أنملة‪ ،‬وال يسهم في مواجهة أنواع التفلت والفوضى؛‬
‫وإنما الذي يليق دواء ناجعا‪ ،‬وشفاء أكيدا‪ ،‬هو احترام كرامة اإلنسان‪ ،‬واعتبار حرية التلميذ‬
‫والمعلم‪ ،‬واحتكام الجميع إلى القيم وإلى المقاصد‪ ،‬والليونة في اعتماد الوسائل والعناوين؛‬
‫واالجتهاد في جعل التربية جزءا من السياق‪ ،‬ال نشازا عن السياق؛ والجهاد والصبر والمصابرة‬
‫أن النصر في حلبة المدرسة نصر مؤكد في‬ ‫في إيجاد األجوبة ألسئلة العصر المحيرة؛ ذلك َّ‬
‫وأن االنهزام فيها انهزام ال مفر منه في غيرها‪.‬‬ ‫غيرها‪َّ ،‬‬
‫وننتهي إلى المعادلة التالية‪:‬‬
‫مدرسة جيدة = مجتمع سليم‪.‬‬
‫مدرسة سيئة = مجتمع سقيم‪.‬‬
‫مرة أخرى‪.‬‬‫فلننظر في دور التعليم والمعلم‪ ،‬ونحن على أبواب الدخول المدرسي‪َّ ،‬‬

You might also like