Professional Documents
Culture Documents
عناصر التحليل الفينومينولوجي عند هوسرل
عناصر التحليل الفينومينولوجي عند هوسرل
مقدم ــة.
أوالً -ما هي الفينومينولوجيا؟
ثانياً -بداية ظهور الفينومينولوجيا في مؤلفات هوسرل.
ثالثاً -عناصر التحليل الفينومينولوجي عند هوسرل:
- 1التمييز بين السيكولوجي والفينومينولوجي.
- 2اإلبوخية :تعليق الحكم والرد الترانسندنتالي -الفينومينولوجي.
- 3التمييز بين فعل الوعي Noesisومضمون الوعي .Noema
- 4القصدية.
- 5وصف أفعال الوعي.
- 6الحدس المقولي.
أ -الحدس الحسي والحدس المقولي.
ب -فائض المعنى.
جـ -تضمن الحدس الحسي للمقوالت.
1
عناصر التحليل الفينومينولوجي عند هوسرل
2
القبلية ال تي تجعلها ممكن ة .وهو لم يس تخدم كلمة ال وعي ( )1بك ثرة بل ك ان يس تخدم أس ماء
أخرى مثل الحس والفهم والمخيلة لكن ليصف بها ملكات معرفية للوعي ،أو للنفس البشرية
بتعبيره .وعلى الرغم من كل هذا فإن تحليالت هوسرل المعرفية تكشف عن قرب كبير من
كانط ،بل عن وحدة في بعض الغايات ،وهذا ما نحاول توضيحه في هذه الدراسة.
لم ينشغل الفصل السابق بأي تأويل لفلسفة كانط ،إذ كان يهدف تقديم نظرية كانط
في المعرفة كما عرض ها في كتابه "نقد العقل الخ الص" .وألن ه دفنا في ه ذه الدراسة القي ام
بمقارنة بين كانط وهوسرل ف إن اإلج راء الض روري ال واجب اتخ اذه هو التق ريب بين االث نين
أوالً .ويتم ذلك بالكشف عن الطابع الفينومينولوجي لتحليالت كانط .لكن قبل أن ندخل في
ه ذه المهمة يجب علينا أوالً التع رف على فينومينولوجيا هوس رل وعلى العناصر ال تي
اس تخدمها في تحليالته الفينومينولوجية كي تك ون واض حة أمامنا عند البحث عنها في
تحليالت كانط ،وهذا هو هدف الفصل الحالي.
ظهر مصطلح الوعي بكثرة في الفصلين األولين على الرغم من أن كانط لم يستخدمه )( 1
بمثل هذه الصورة الدائمة المتكررة ،لكننا آثرنا استخدامه على سبيل الشرح والتفسير لنظرية
كانط ،وعلى سبيل التقريب بين كانط وهوسرل من البداية.
3
وس وف نؤجل مناقشة االختالف ات المذهبية بين كانط وهوس رل إلى الفص ول األخ يرة من
الدراسة بعد أن نكون قد استفضنا في الكشف عن أوجه االتفاق.
ومن الواضح أن التعريف السابق للفينومينولوجيا يقربها من دراسة كانط للمعرفة ،فهو
أيض اً ي درس المعرفة من منطلق كونها ظ اهرة في ال وعي ،ودرس إمك ان المعرفة من منطلق
2
)( Herbert Spiegelberg, The Phenomenological Movement. 2 Volumes (The Hague:
Martinus Nijhoff, 1969), PP. 40 - 46.
4
االس تعدادات القبلية لل وعي كما رأينا في الفصل الس ابق .ه ذا التعريف ال ذي ق دمناه
فة الفينومينولوجيا على ف ،ويتفق عليه كل فالس للفينومينولوجيا هو أعم وأبسط تعري
اختالف اتهم وتن وع ط رق تطبيق اتهم للمنهج الفينومينول وجي .ومع نى ذلك أن كان ط ،وعلى
ال رغم من ع دم اس تخدامه لكلمة "فينومينولوجي ا" في كتابه "نقد العقل الخ الص" ،يتفق في
أس لوب دراس ته للمعرفة مع التعريف الع ام للفينومينولوجي ا .وكي نك ون أك ثر دقة نق ول إن
هذا التعريف العام للفينومينولوجيا هو المتفق مع اتجاه كانط األساسي في تناول المعرفة .وال
يتوقف األمر على مج رد اتف اق االتج اه الفينومينول وجي – عند هوس رل بوجه خ اص – مع
كان ط ،بل يصل إلى تق ارب كب ير في أس لوب التحليل عن دهما؛ وه ذا ما س وف يتضح في
الفصول التالية.
كما يطلق مص طلح "الفينومينولوجي ا" على ا تج اه في الفلس فة المعاص رة ظهر على يد
هوسرل وكانت له جذوره وإرهاصاته لدى فرانز برنتانو وتلميذه كارل شتومبف .ويضم هذا
االتج اه تالميذ هوس رل المباش رين مثل روم ان إنج اردن ول ودفيج الندجريبه وي وجين فنك
وم ارتن هاي دجر ،باإلض افة إلى فالس فة من خ ارج مدرسة هوس رل مثل ج ان ب ول س ارتر
وم وريس ميرلوبون تي وب ول ريك ور وإمانويل ليفين اس .وقد ظهر مص طلح "الفينومينولوجي ا"
ألول مرة لدى الفيلسوف والرياضي األلماني يوهان هاينريش المبرت في كتابه "األورجانون
الجدي د" س نة ،)3(1764ول دىكانط نفسه في كتابه "األسس الميتافيزيقية األولىللعلم
الطبيعي" سنة ،1786وقد وضعه كاسم للعلم الميتافيزيقي الذييبحثفي الحركة من وجهة
اني ،)4ولم يكن يع ني به ما نفهمه اآلن من المص طلح ،علىال رغم من أنه ذا
(
نظر الم راقباإلنس
الكتابالهام لكانط – والذييتعرض للتجاهل دائم اً من قبل الذين يتناولون نظريته في المعرفة
– يحت وي علىنظ رة مختلفة لميتافيزيقا العلم الط بيعي نس تطيع الق ول بأنها فينومينولوجي ة،
وه ذا ما سنكشف عنه في الفصل الخ امس .ه ذاباإلض افة إلى اس تخدام فش تة للمص طلح
بمعنى الدراسة النظرية للعقل ،واستخدام هيجلله في كتابه "فينومينولوجيا الروح"( 1807
) والذيكان يقصد به العلم الذييدرس ظهور الروح وتجليها التدريجي عبر األشكال العينية
3
)( Ibid., PP. 47-51
4
)( Kant, The Metaphysical Foundations of Natural Science, Op. cit., P. 125.
5
ال تي تتخ ذها مثل أش كال ال وعيال تي تب دأ ب اليقين الحسي ثم اإلدراك الحسي ثم الفهم
والعقل ،أو تطور الوعي الذاتي الفردي والجمعي معاً عبر التاريخ.
6
وتبدو فينومينولوجيا هوسرل حسب هذا التوصيف بعيدة عن نظرية كانط في المعرفة،
إال أنها في حقيقتها ذات ص لة وثيقة به ا .ذلك ألن الخط وة األولى وهي اإلبوخية ته دف
الوص ول إلى المج ال القبلي للمعرفة للكشف عن الماهي ات وذلك بع زل مج ال الوق ائع
المادي ة ،وهو نفس المج ال القبلي ال ذي ك ان كانط يش تغل عليه ويس ميه ب القبلي في أحي ان
وبالترانس ندنتالي في أحي ان أخ رى .أما الخط وة الثانية وهي البن اء فتكشف عن كيفية بن اء
ال وعي للماهي ات وهي ما ين اظر بحث كانط في األفع ال القبلية ال تي يتوصل بها ال وعي إلى
المق والت ،والمق والت في حد ذاتها ليست س وى ن وع من الماهي ات .وأما الخط وة الثالثة
وهي اإليض اح فتكشف عن كيفية تأس يس ال وعي للخ برة الموض وعية باألش ياء وانقس ام ه ذه
الخ برة إلى أش كال العل وم المختلف ة ،وه ذا ما ين اظر بحث كانط في دور المب ادئ التركيبية
القبلية لملكة الفهم في تأس يس الخ برة .هن اك إذن تق ارب ش ديد بين هوس رل وكانط في
مض مون البن اء الع ام لنظرتيهم ا ،على ال رغم من االختالف في الش كل واألس ماء .وال يقف
األمر عند مجرد البناء العام بل يصل إلى أسلوب التحليل .وكي نوضح ذلك يجب علينا أوالً
أن نضع يدنا على عناصر التحليل الفينومينولوجي عند هوسرل.
8
)( Husserl, Gesamete Schriften, Band I (Hambrug, Feix Meiner Verlag, 1992). English
Translation: Philosophy of Arithmetic. Psychological and logical Investigations with Supplementary
Texts from 1887-1901. Translated by Dallas Willard (Dordrecht, Kluwer Academic Publishers, 2003).
7
وبعد أبحاثه في الحساب والمنطق تخلى عن اتجاهه السيكولوجي السابق تحت تأثير
النقد الالذع الذي وجهه له فريجة ورأى أن قوانين الحساب والمنطق ال ترجع إلى الحاالت
الذهنية السيكولوجية بل إلى أفعال قبلية لوعي معرفي ،وميز هذا الوعي المعرفي عن الوعي
السيكولوجي ،وهذا ما اتضح في كتابه التالي "أبحاث منطقية" والصادر في جزئين في عامي
،1900و 1901على الت والي( .)9ونش هد في ه ذا الكت اب تح ول هوس رل من البحث في
س يكولوجية المعرفة إلى البحث في فينومينولوجيا المعرفة ال تي تختلف عن االتج اه النفسي
في رد المعرفة إلى أفعال معرفية من قبل وعي خالص.
يتك ون الكت اب من مقدمة Prolegomenaفي المنطق الخ الص ،وس تة أبح اث-1 :
التعب ير والمع نى -2 ،الوح دة المثالية لألن واع والنظري ات الحديثة ح ول التجري د -3 ،نظرية
الكل واألجزاء -4 ،التمييز بين المعاني المستقلة وغير المستقلة وفكرة النحو الخ الص-5 ،
الخبرات القصدية ومضامينها -6 ،عناصر للبحث الفينومينولوجي في المعرفة.
ته دف "المقدمة في المنطق الخ الص" التخلص من النزعة الس يكولوجية في المنطق
عن طريق رده إلى ق وانين قبلية في الفكر ال إلى ق وانين س يكولوجية وس لوكية .ويثبت فيها
هوس رل أن أس اس جميع العل وم واح د ،ويس ميه نظرية العلم ،Wissenschaftslehre
ونظرية العلم هي نفس ها المنطق الخ الص ،باعتب اره منطق اً يبحث عن المب ادئ العامة للفكر
في االس تعدادات المعرفية لل وعي .وينظر هوس رل إلى ه ذا المنطق الخ الص على أنه نسق
لكل الق وانين والنظري ات ال تي تعتمد عليها العل وم األخ رى وال تي تتأسس في المق والت
العاملة في ه ذه العل وم .فبينما تعمل العل وم المختلفة بمجموعة من المب ادئ تص ادر عليها
وتتخ ذها باعتبارها واض حة ب ذاتها ،ف إن المنطق الخ الص يبحث في ه ذا الوض وح ال ذاتي
وي رده إلى ق وانين كلية لل وعي .كما أن المق والت العاملة في العل وم الخاصة هي ما يض في
المعنى على أي موضوع تتناوله ،ومعنى هذا أن إشكالية المعنى بحاجة إلى توضيح بما أن
المق والت ال تي تعتمد عليها ال تجد ت بريراً كافي اً لها في تلك العل وم .وال يمكن رد
المقوالت إلى القوانين السيكولوجية للتفكير ،ألنها بهذه الطريقة لن تكون متمتعة بالصحة
9
)( Husserl, Gesamelte Schriften, Band II, III. English Translation: Logical Investigations, 2
Volumes, Translated by J. N. Findlay (London: Routledge and Kegan Pual, 1970).
8
الكلية والموضوعية ،ألن القوانين السيكولوجية ليست إال حاالت ذهنية عامة وال يمكن أن
تك ون مص دراً للموض وعية وال للكلية نظ راً العتمادها على النسق الس لوكي لل وعي
التجريبي .الحاجة إذن تستدعي بحثاً من نوع جديد وهو البحث الفينومينولوجي (.)10
ويوضح المبحث األول "التعب ير والمع نى" أن التفك ير النظ ري يس ير حسب عملية وضع
لألحكام – في اتفاق تام مع كانط كما رأينا في الفصلين السابقين على الرغم من عدم اعتراف
هوسرل بذلك – واألحكام تلحق المعنى بموضوعاتها ،وهذا المعنى هو التصور أو المقولة (،)11
وهو ذو ط ابع مث الي ،أيأنه فك ري خ الص يع بر عنفهم ال ذاتوقص ديتها نحو موض وعها.
والمع نى أيض اً هو الطريقة ال تي ترتبط بها ال ذاتبموض وعاتها .التص ورات أو المق والتإذن هي
الوسائل التي تقع بين ال ذاتوموضوعاتها ،وهيذاتطبيعة مثالية ،أيفكرية وقبلية وال يرجع
مصدرها إلى التجربة ( .)12ومن الواضح كيف يتشابه مدخل هوسرلللمعرفة في هذا المبحثاألول
مع المعرفة من منطلق األحك ام ،والنظر إلى المق والتال تي ت ترتب مع بداية كانط في تعامله
علىأساسها األحكام علىأنها هيكل صور المعرفة الممكنة ،وإلى المقوالتعلىأنها قبلياتفي
ملكة الفهم ال ترجع إلى التجربة.
ويثبت هوسرل في المبحث الثاني "الوحدة المثالية لألنواع" أن التفكير النظري غير
ممكن إال إذا كان متضمناً حكم اً يدرج األفراد في أنواع ،وهذه األنواع كليات ،والكليات
ال يرجع مصدرها إلى الخبرة التجريبية بل إن لها واقعية ووجود مستقل عن الجزئيات ،وهذا
الوج ود المس تقل هو وج ود قبلي .ودليل هوس رل على ذلك أن الحكم "يكتش ف" الكلى
المتضمن في الجزئي وال يبحث عنه باستقراء .ثم يتوصل هوسرل إلى أن الكليات المتعددة
10
)( Husserl, Logical Investigations, Vol. I, PP. 53-55.
11
)( إن ربط هوسرل بين المعنى من جهة والتصور أو المقولة من جهة أخرى جاء
من تأثير فريجة وخاصة من مقاله الشهير "المعنى والداللة" .هذا الربط هو الذي جذب
انتباه المفكر األمريكي مارفن فاربر نحو هوسرل ودفعه نحو تقديم أول دراسة عنه باللغة
اإلنجليزية ،لكنها تفسر فينومينولوجيا هوسرل تفسيراً تحليليا ً وتشدها شداً نحو اإلشكاليات
.التي شغلت فالسفة التحليل في ذلك الوقت
Marvin Farber, The Foundation of Phenomenology: Edmund Husserl and The Quest for a
)Rigorous Science of Philosophy (Cambridge: Harvard University Press, 1943
12
)( Husserl, Logical Investigations, Vol. I, PP. 309-310.
9
تنتمي إلى شئ أعلى وأشمل منها وهو فكرة الكلي في ذاته(.)13
ويوضح المبحث الث الث "نظرية الكل واألج زاء" أن العالقة بين الكل واألج زاء هي
عالقة تض من واحت واء ،ثم ينظر إليها على أنها عالقة المض مون بالش كل ال ذي يحتويه()14؛
ويع الج الش كل علىأنه قبلي غ ير خاضع للخ برة التجريبي ة ،وعلىأنه القصد ال ذي يتوجه
إليه ال وعيفي إدراكه للمض مون .وه ذا ما يمكن هوس رلمن معالجة األج زاء باعتبارها
معاني اً معتم دة في وجودها علىالكل ال ذييحتويه ا ،متجنب اً ب ذلك إلح اق وج ود مس تقل
لألج زاء وإض فاء واقعية وحقيقة عليها تفوق ان واقعية وحقيقة الك ل ،ومتجنب اً أيض اً النزع ات
اإلسمية والتجريبية وخاصة نظرياتلوك وهيوم وهامبولت.
ويم يز هوس رل في المبحث الرابع بين "المع اني المس تقلة وغ ير المس تقلة" ،ويؤسس
هذا التمييز على التمييز بين المقولة التي هي معنى مستقل ،وشبه المقولة Proto-Category
ال تي هي مع نى غ ير مس تقل نظ راً العتمادها الج زئي على األف راد .والمث ال على المقولة هو
الموض وع ،Objectأما ش به المقولة فهي "الجس م" ،فكل جسم موض وع لكن ليس كل
موض وع جس ماً( .)15ويه دفهوس رلمن ه ذا المبحثمزي داً من التأكيد علىمثالية المق والت،أو
قبليتها ب المعنى الك انطي ،وهو يوضح أنتع دد أش باه المق والتال ي دل علىتع دد
المق والت،ألن أش باه المق والتال ت زال مرتبطة بالص فات الحس ية لألش ياء ،وتع دد الص فات
الحسية وتعقدها ال يدل علىتعدد وتعقد المقوالت،ذلك ألنها تبقى كلياتبسيطة إليها
والت .)16ويعد ه ذا المبحثهو أك ثر مب احثكتابه اقتراب اً من األفالطونية ال تي
(
ترد أش باه المق
اتهمه بها الكثيرون .
()17
والمبحث الخامس "الخبرات القصدية ومضامينها" يثبت فيه هوسرل أن المعنى عبارة
13
)( Ibid., PP. 339-340.
14
)( وهوسرل بذلك يعطي األولوية للشكل في إدراك المضمون ،حتى على مستوى
. Ibid.,اإلدراك الحسي ،وهذا هو التأثير الذي مارسه على نظرية الجشطلت في علم النفس
Vol. II, PP. 463-474
15
)( كان يجب على هوسرل استخدام كلمة "الشئ" بدالً من "الموضوع" ،لكن يبدو
أن اختياره للمصطلحات كان محكوما ً باإلطار المنطقي ألبحاثه ،ألن "للموضوع" داللة
.منطقية مباشرة بعكس "الشئ" الذي يحيل إلى اإلدراك الحسي دائما ً
16
)( Ibid., PP. 476-477.
17
)( .أنظر أعمال أدورنو ودريدا في نقد فلسفة هوسرل في قائمة المراجع
10
عن قصد لل ذات نحو موض وعها ون وع من التوجه الفاعل النش ط ،وأن المقولة نمط من الفعل
المع رفي لل ذات .ويم يز هوس رل في ه ذا المبحث بين ال وعي باعتب اره نش اطاً س يكولوجياً
وال وعي باعتب اره حس اً داخلي اً ،أي ش عوراً بال ذات ووعي اً باألفع ال المعرفية ال تي تق وم به ا،
وأخيراً الوعي باعتباره وحدة فينومينولوجية للخبرات القصدية والذي سوف يسميه بعد ذلك
"األنا الترانس ندنتالي" في "األفك ار" و"ت أمالت ديكارتي ة" ،أي ال وعي باعتب اره ق وام العملي ات
المعرفية والحامل األساسي لها باعتبارها أحواالً وأفعاالً له( .)18ومن الواضح ارتباط هذا المبحث
أيض اً بنظرية كانط في المعرفة وخاصة باس تنباطه الترانس ندنتالي للمق والتوإرجاعها إلى
وحدة اإلدراك الداخلي للوعي أو الوعيالذاتي.
والمبحث الس ادس "عناصر للبحث الفينومينول وجي في المعرف ة" يم يز فيه هوس رل بين
الحدس الحسي ،أي اإلدراك الحسي المباشر لألشياء ،وحدس الموضوعات المتخيلة ومنها أفعال
المخيلة مثل الت ذكر واالس تبقاء Retentionأي االحتف اظ باإلدراك ات الس ابقة في ال ذاكرة أثن اء
تلقي إدراكات جديدة ،والتجميع Recollectionأي تجميع خبرات حسية سابقة ،وأخيراً الحدس
Categoricalأي الح دس باعتب اره إدراك اً مباش راً للمق ولي المتض من في Intuition المق ولي
المحسوس ات ،أو للكلي المتض من في الجزئي ات بص ورة مباش رة غ ير معتم دة على التعميم من
االستقراء .كذلك يميز هوسرل بين قصدية الوعي نحو الجزئي وقصديته نحو الكلي ،والقصدية
نحو الجزئي تجعل الوعي في نمط اإلدراك الحسي ،والقصدية نحو الكلي تجعل الوعي في نمط
الفهم التصوري .ويختم هوسرل المبحث بالتمييز بين الحس والفهم ،مكرراً ب ذلك نفس التمي يز
الك انطي لكن ن اظراً إليهما على أنهما فعالن ل وعي واحد ال ملكت ان كما الح ال عند كانط(.)19
ونكتشففي هذا المبحثكيف أنهوسرلأعاد اكتشافالمخيلة وأفعالها باعتبارها عنصراً أساسياً
في عملية المعرفة وال تي س بق لكانط أنوضع ي ده عليها لكن تم نس يانها من ج راء ت أثير
تيار الكانطية الجديدة (.)20
18
)( Ibid., PP. 535, 552, 557.
19
)( Ibid., PP. 675, 680, 707, 479, 773.
20
)( وسوف تكون أفعال المخيلة هي الموضوع األساسي الذي سيشغل هوسرل في
محاضرات "فينومينولوجيا الوعي بالزمان الداخلي" والتي بدأ في إلقائها بعد "أبحاث
.منطقية" ،من 1905وإلى 1917
11
والحقيقة أن هذه المباحث الستة كانت أول تطبيق للمنهج الفينومينولوجي عند هوسرل،
إذ ش هدت الفينومينولجيا باعتبارها طريقة وأس لوباً في تحليل قض ايا المعرف ة .لكن لم يضع
هوسرل للمنهج الفينومينولوجي قواعد وخطوات إال مع كتاب "األفكار" Ideenسنة .1913
وكت اب "األفك ار" ليس إال مقدمة للفينومينولوجي ا ،وأغلبه ع رض للخط وة األولى في المنهج و
هي "اإلبوخي ة" أو تعليق الحكم ،وال يحت وي على تحليالت فينومينولوجية مفص لة مثل ال تي
تحتويها "أبح اث منطقي ة" ،إذ ك ان ه ذا األخ ير هو األس اس ال ذي ب نى عليه هوس رل تحليالته
للوعي المعرفي فيما يخص الزمان الداخلي وإدراك الشئ والمكان والتي ظهرت في محاضراته
في الف ترة من 1901إلى .1909وبالت الي س وف نعتمد على مجمل مؤلف ات ومحاض رات
هوس رل ال تي م ارس فيها التحليل الفينومينول وجي من 1901وح تى محاض راته األخ يرة في
جنيالوجيا المنطق التي جمعت بعد وفاته في كتاب "الخبرة والحكم" سنة .1938
12
للكتاب" :أبحاث سيكولوجية ومنطقية"؛ وفيه يرد مفاهيم علم الحساب إلى األفعال الذهنية
التي تولد هذه المفاهيم ،إذ يرد مفهوم الكثرة Multiplicityالذي هو أساس مفهوم العدد
إلى فعل ال دمج الجمعي ،Collective Combinationوي رد مفه وم الفئة Setإلى ال وعي
بالكل واألجزاء( .)21لكن سرعان ما غير هوسرلموقفه ذاك مع "أبحاثمنطقية" وفهم البحث
في أفع ال ال وعيعلىأنه فينومينولوجيا للمعرف ة ،ذلك البحثال ذييس تند علىمفه وم
القص دية؛ ذلك ألن ال وعيب المعنى الفينومينول وجي هو ال ذييتض من القص دية ،بمع نى
احتوائه علىإدراك قبلي للماهية من جهة توجه أص لينحوه ا ،وكونه ممتلك اً الموض وعية
باعتبارها محايثة ل ه ،وه ذا ما ال يت وافر لل وعي الس يكولوجي .كما تطلب منه أيض اً
التمي يز بين األفع ال الس يكولوجية لل وعي من حيثأنها مص احبة للمعرفة لكونها س لوكاً
وظيفي اً يس تجيبلتلقي اإلدراك اتالحسية ،وبيناألفع ال الفينومينولوجية أو القص دية لل وعي
والتي ليستمجرد مصاحبة للمعرفة سلوكياً بل هيالتي تؤسس المعرفة قبلي اً من حيثهي
استعدادات .وقدجاء هوسرلبكل هذه التمييزاتفي سياق نقده للنزعة السيكولوجية في
المنطق والتي ظهرتفي المذاهبالتجريبية اإلنجليزية :لوك وهيوم وجونستيوارت ميل ،وفي
االتجاه النفسي للكانطية الجديدة وخاصة لدى هرمانلوتزة.
والنزعة الس يكولوجية في المنطق هي النزعة ال تي ت رد مبادئه وقوانينه إلى الوظ ائف
الس يكولوجية لل ذهن ،وتنظر إلى عملي ات االس تدالل والحكم على أنها عملي ات نفس ية
وتدرس ها من وجهة نظر وظيفية وس لوكية .والنزعة الس يكولوجية ب ذلك تنكر أن يك ون
للعملي ات المنطقية مجال مس تقل عن مجال الحي اة النفس ية للنوع البش ري وجه ازه العص بي
الس لوكي( .)22وب ذلك تقف عقبة في طريق البحثفي المج ال الفينومينول وجي للخ برة ،وهو
21
)( Huserl, Philosophy of Arithmetic, Psychological and Logical Investigations, with
supplementary texts from 1887-1901. Translated by Dallas Willard (Dordrecht: Kluwer Academic
Publishers, 2003), PP. 15, 67, 133.
22
)( ومن هذا التوصيف يتضح أن اإلبستيمولوجيا التطورية لجان بياجيه ليست مصابة
بمثل هذه النزعة التي كانت تميز االتجاهات الفكرية في رد المنطق إلى علم النفس في
أواخر القرن التاسع عشر ،ذلك ألن إبستيمولوجيا بياجيه ال تقع في النزعة السلوكية
واالختزال البيولوجي للمعرفة إلى الجهاز العصبي بل تكشف عن الدور التأسيسي للذات
العارفة واستقاللها إزاء المحددات البيولوجية .لكن لم يكن هوسرل على معرفة ببياجيه ،ولو
كان قد تعرف على نظرياته الكتشف إمكانية وجود علم نفس معرفي دون أن يقع في النزعة
.السلوكية
13
المجال القبلي الذيتتأسس فيه الموضوعية باعتبارها قصدية للوعي .وفيشرحه للنظرية
ال تي ت رد المنطق إلى علم النفس ي ذهب هوس رل إلى أن ه ذه النظري ات تس تند على ك ون
االستدالل والحكم أفعال ذهنية Mental Actsتحدث في سياق االستجابة السلوكية للجهاز
العص بي ،وبالت الي فهي تنتمي إلى مج ال دراسة علم النفس ،إذ أن مجاله يضم كل ما ينتمي
للذهن من حاالت وأفعال.
وي رد هوس رل على النظري ات الس يكولوجية بقوله إنه من الص حيح أن س يكولوجيا
المعرفة تتن اول أفع ال الحكم واالس تدالل لكونها أفع االً ذهني ة ،إال أن تناولها لها يختلف عن
تناول المنطق؛ فالقوانين التي يبحث فيها علم النفس تختلف عن القوانين المنطقية ،ذلك ألن
علم النفس يبحث في الصالت التي تربط بين األفعال الذهنية وبعضها بطريقة سببية بناء على
النظام السلوكي للجهاز العصبي؛ أما القانون بالمعنى المنطقي فيختلف عن التفسير السلوكي
ال ذي يس عى إليه علم النفس .فالق انون ب المعنى المنطقي هو تعب ير عن محت وى الص دق
المتض من في التص ورات واألحك ام واالس تدالالت ،وهو يبحث عما يجب أن يك ون عليه
التفك ير كي يك ون منطقي اً؛ ومن هنا ي أتي طابعه المعي اري ،ذلك الط ابع المختفي تمام اً من
الدراسة السيكولوجية للتفكير(.)23
كما يذهب هوسرل إلى أن قوانين المنطق تتمتع بصحة مطلقة ونهائية في حين أن قوانين
علم النفس تجريبية واحتمالية وتعتمد على التعميم من انتظامات تجريبية ،وعلى الربط بين أحداث
نفسية باعتبارها أجزاء في منظومة سلوكية( .)24وال يمكن أن تؤسس قوانين المنطق علىمثل هذه
األسس .كما أنالقوانين السيكولوجية المستخرجة من تعميمات ال تتمتع إال بصحة احتمالية
وشرطية ،في حينأنقوانين المنطق قبلية .صحيح أناستدالالتالمنطق تعتمد علىعملياتذهنية،
لكن ال يع ني ذلك رد ق وانين المنطق واس تدالالته إلى علم النفس( ،)25ذلك ألن هوس رليم يز بين
السياق السلوكي الذهني الذييحدثفيه فعل منطقي معين ،و بين محتوىالصدق الذييتضمنه
23
)( Husserl, Logical Investigations, Vol. I, PP. 91-94.
24
)( ال ينطبق هذا النقد إال على النزعة السيكولوجية في المنطق وعلى علم النفس
السلوكي في عصر هوسرل ،وهو ال ينطبق على علم النفس المعرفي لدى بياجيه ،ألن
األخير ال يستند على تعميمات تجريبية بل على اكتشاف أنساق المعرفة وبناءاتها المرتبطة
بالتطور الحركي والذهني للكائن البشري ،أي ال يستند على تعميم استقرائي بل على
.استنباط
25
)( Ibid., PP. 98-106.
14
هذا الفعل المنطقي والذييرجع إلى فعل خالص للوعي.
كما يم يز هوس رل بين الس ياق الس يكولوجي ال ذي يمكن أن تظهر فيه ق وانين المنطق
وتحدث فيه االستدالالت المنطقية ،وبين التبرير القبلي لهذه القوانين .وفي ذلك يقول:
ال شك أن معرفتنا ب القوانين المنطقية باعتبارها أفع االً ذهنية تف ترض خ برة األف راد ،وال شك أن لها
أساس اً في الح دس العي ني .لكن يجب أال نخلط بين الف روض الس يكولوجية لمعرفة ق انون ما وبين
الف روض المنطقية واألسس والمق دمات الض رورية لق انون م ا؛ كما يجب أال نخلط بين االعتم اد
السيكولوجي والتبرير المنطقي ..كل المعرفة تبدأ مع الخبرة لكنها ال تنشأ عنها(.)26
ونالحظ أن العب ارة األخ يرة "كل المعرفة تب دأ من الخ برة لكنها ال تنشأ عنها" هي ترديد ح رفي
لنفس العبارة الواردة في مقدمة "نقد العقل الخالص" لكانط ( .)B1-2ويقصد هوسرل بذلك،
ومن قبله كانط أيض اً ،أن الخ برة مرتبطة بالفعل بالتجربة بتعب ير كان ط ،أو بالس ياق
الس يكولوجي لظهورها بتعب ير هوس رل ،لكن ال يع ني ذلك أنها تنشأ بالكامل عن التجربة أو
عن الس ياق الس يكولوجي ،ذلك ألن لها أص الً قبلي اً .إن الترديد الح رفي من قبل هوس رل
لعب ارة كانط يجعلنا نكتشف التش ابهات العميقة بينهما ونضع أي دينا على اتف اق ع ام بين
فينومينولوجيا هوسرلواإلبستيمولوجيا الكانطية.
ومن بين الم ذاهب ال تي نق دها هوس رل لوقوعها في النزعة الس يكولوجية التجريبية
اإلنجليزية وخاصة فلس فتا ل وك وهي وم .وتمثلت النزعة الس يكولوجية ل ديهما في رد المعرفة
إلى التجرب ة ،وخاصة إلى انطباع ات الح واس ،وفي معاملة كل ما يدركه العقل على أنه نتيجة
انطباع ات حس ية ،وب ذلك فس را المعرفة تفس يراً س يكولوجياً .كما نظرا إلى الفك رة على أنها
ذات أصل انطباعي وتجريد من قبل الذهن لهذه االنطباعات .كما ذهب هوسرل إلى أن لوك
الم َمث ل ،بحيث أن عملية التمثيل ل دى ل وك تك ون
قد خلط بين عملية التمثيل والموض وع ُ
حس ية وانطباعية مثل الموض وع الحسي المنطبع بالض بط .ويؤكد هوس رل ،على العكس ،أن
عملية اإلدراك الحسي ال يل زم عنها ض رورة أن يك ون الموض وع م دركاً حس ياً( .)27فمن
الممكن أنيك ون هن اك شئ موض وع لإلدراك الحسي إال أنحقيقته ال تك ون في اإلدراك
26
)( Ibid., PP. 108-109.
27
)( Ibid., P. 350
15
الحسي بل فيما يش ترك فيه من كلي اتمع موض وعاتأخ رىغ يره ،وب ذلك تك ون حقيقة
اإلدراك الحسي في الكلي الذي يتضمنه ال في الفردي أو الجزئي الحاضر أمامه .ذهب لوك
إلى أنه طالما ظهر الموضوع في إدراك حسي فمعنى ذلك أنه موضوع مدرك حسياً وال شئ
أك ثر من ذل ك؛ وهنا ينق ده هوس رل ويق ول إن حض ور الموض وع في إدراك حسي ال يجعل
حقيقته حس ية أو تجريبي ة ،ألن الكلي والمق ولي والن وعي حاضر في اإلدراك الحسي الج زئي
لكنه ال ينتمي إلى التجربة بل هو ذو طبيعة قبلي ة .وي دلل هوس رل على ص حة نق ده بقول ه:
"نتكلم أحياناً عن اللون والخشونة والشكل قاصدين صفات موضوعية (كلية) ،وأحياناً أخرى
قاص دين اإلحساس ات"( .)28لم يم يز ل وك بين ه ذينالمعن يين لل ون :الل ون كإحس اس والل ون
كص فة موض وعية كلي ة ،وذلك ألنه ينظر إلى الص فاتالكلية علىأنها تجريد في ال ذهن
تقل ،)29أي
(
فق ط ،أيعلىأنها كيان اتس يكولوجية أو تعب يرات لغوية وليسلها وج ود مس
وج ود قبلي ب المعنى ال ذييقص ده هوس رل،وهو في حقيقته القبلي بنفس المع نى ال ذى
يقصده كانط.
ويطلق هوس رل على نظرية ل وك وهي وم في المج ردات "إحالة س يكولوجية للكلي ات"،
ويقصد ب ذلك أن ل وك نظر إلى الكلي ات على أنها كيان ات ذهنية داخل العقل وليس لها حقيقة
مس تقلة عن التجربة( .)30إذ ي ذهب ل وك إلى أنالمج رداتموج ودة بفضل ق درة العقل على
التجريد ،أيالتعميم من الجزئياتوإدراك المشترك بينها وتسميته .الكلياتوفق اً للوك وهيوم
هيمج رد أس ماء أو تعب يرات لغوية ( ،)31وب ذلك ع رفم ذهبيهما باإلس مي .Nominalismأما
هوسرلفي ذهب إلى أنللكلياتوجوداً مستقالً من نوع خ اص ،وحجته في ذلك أنها موضوعات
لإلشارة والداللة ،أيموضوعاتيقصد إليها الوعيكما يقصد إلى الجزئياتتماماً.
كما يه اجم هوس رل النزعة الس يكولوجية ال تي ظه رت في الم ذاهب المعاص رة له من
28
)( Ibid., P. 356.
29
)( هذه هي النزعة اإلسمية ،والتي تم إحياؤها على يد بعض اتجاهات الفلسفة
.التحليلية
30
)( Ibid., P. 355.
31
)( هذا هو أساس نقد الفلسفة التحليلية للميتافيزيقا ،فالكليات بالنسبة إليها أسماء أو
تعبيرات لغوية ،وبذلك اتجه فالسفة التحليل نحو تناول قضايا الفلسفة عن طريق التحليل
.اللغوي ،وأصبحت مشكالت الميتافيزيقا في نظرهم عبارة عن سوء استخدام للغة
16
منطلق أنها جميعاً متأثرة بهيوم ،سواء نظرية جون ستيورات ميل أو إرنست ماخ؛ هذا باإلضافة
إلى أن النزعة الوض عية في تفس ير منهج العل وم الطبيعية وخاصة ل دى م اخ هي ذاتها نزعة
س يكولوجية ،ألنها ت رد الموض وعات الفيزيائية إلى إحساس ات أو بيان ات الح واس .وي ذهب
هوس رل إلى أن ه ذه االتجاه ات لم تس تطع أنتتج اوز اإلط ار الس يكولوجي نحو المج ال
الفينومينولوجي الترانسندنتالي ،ولم تستطع أن تدرك أن الموضوع ليس مجرد إحساسات بل
هو يتض من ك ذلك الكلي ات والقبلي ات ال تي ال ترجع إلى الخ برة التجريبية( .)32ويرجع الس بب
الرئيسي في ذلك إلى أنتلك االتجاه اتلم تم يز بدقة بين الس ياق الس يكولوجي لظه ور
الخ برة وأساس ها القبلي المتمثل في اس تعداداتمعرفية ل دى ال ذات .ونالحظهنا كيف أنذلك
األس اس القبلي ال ذيينظر إليه هوس رلعلىأنه هو المج ال الفينومينول وجي هو نفسه األس اس
القبلي الترانسندنتالي عند كانط.
ويح ذر هوس رل من مثالية زائفة يمكن أن ت ؤدي إليها النزعة الس يكولوجية ،وهي مثالية
تظهر ل دى بيركلي والماديين الفرنس يين في القرن الث امن عشر؛ إذ ترد هذه المثالية الكلي ات
إلى الذات ،لكن ال الذات المعرفية بل الذات السيكولوجية .ويدعو هوسرل إلى مثالية أخرى
فينومينولوجية ال ت رد الكلي ات إلى وعي س يكولوجي بل إلى وعي فينومينول وجي قبلي( ،)33وعي
ي درك الكلي في ح دس مباش ر .ومع نى ه ذا أنالمثالية ال تي ي دعو إليها هوس رلهيالمثالية
الترانسندنتالية الكانطية بعينها ،إذ يستخدم نفس المصطلح الكانطي لتحديدها.
وتتمثل النظرة العامة لهوسرل إلى النزعة السيكولوجية وفلسفتي لوك وهيوم في أنها
تعبير عن نزعة نسبية شكية ،Skeptical Relativismوتتمثل في الشك في إمكانية تأسيس
أي نظرية متعلقة بالمعرفة على أسس من اليقين ال ذاتي ،أي الشك في إمكانية ح دوث ارتب اط
أص يل ،منطقي وترانس ندنتالي ،بين ال ذات العارفة وموض وع معرفتها غ ير االرتب اط الس لوكي
الس يكولوجي( ،)34والشك في إمكانية العث ور علىأسس للموض وعية في ال ذاتالعارف ة ،ألن
الوعيالسيكولوجي ال يمكنه أنيؤسس الموضوعية أبداً ،بل هو مجرد سياق تظهر فيه
32
)( Husserl, Formal and Transcendental Logic. Translated by Dorion Cairnes. (The
Hague: Martinus Nijhoff, 1969), P. 166.
33
)( Ibid., PP. 169-170.
34
)( Ibid., P. 256.
17
الموضوعية وال تتأسس قبلي اً وعلىنحو ضروري .فالموضوعية وفق النظرياتالسيكولوجية
في المعرفة ما هي إال ص فة تخص األش ياء ،بحيث تتمثل المعرفة الموض وعية في التلقي
الس لبي من قبل ال ذات؛ أما الموض وعية من وجهة النظر الفينومينولوجي ة ،ومن وجهة النظر
القبلية الترانس ندنتالية أيض اً ،فهي عالقة بين ال ذات وموض وعات معرفته ا ،أي ال ذات
وتمثالتها ،و هي ليست موضوعية خارجية تتلقاها الذات في سلبية بل هي موضوعية يؤسسها
الوعي الخالص نتيجة أنشطته وأفعاله.
لم يب دأ هوس رل في اس تخدام "اإلبوخي ة" في كت اب "األفك ار" ( )1913كما يعتقد كث ير
من الب احثين – على ال رغم من أن المص طلح نفسه لم يظهر إال في ه ذا الكت اب ال ذي ق دم فيه
أفضل تنظ ير وشرح له – بل إن أول استخدام فعلي له كان في "أبحاث منطقية" ()1900؛ إذ
استخدم فيه هوسرل صورة أولية لإلبوخية ،لكن لم يسمه بنفس االسم ،باعتباره خطوة أولى في
35
)( Reduction.الحظ القرابة اللغوية بين الكلمة العربية "رد" والكلمة األوروبية
18
التخلي عن كل وجهة نظر س ابقة وتنحية لكل الفلس فات والم ذاهب في البحث في المعرف ة،
باإلض افة إلى أن هوس رل يم ارس إبوخية على المع نى الس يكولوجي لل وعي س عياً وراء المع نى
الفينومينولوجي الخالص(.)36
وبعد "أبح اث منطقي ة" تظهر اإلبوخية في محاض رات "فينومينولوجيا ال وعي بالزم ان
ال داخلي" س نة ،1905وفيها يم ارس هوس رل اإلبوخية على الزم ان الفيزي ائي للوص ول إلى
الزمان الداخلي ،بمعنى الترتيب الزماني لحاالت اإلدراك المختلفة وتعاقبها ،ودور الزمان في
تحديد الوعي بالسببية والجوهر( .)37وهنا نالحظ كيف يقتربهوسرلمن المعنى الكانطي للزمان
باعتب اره الق وام ال داخلي لكل العملي اتالمعرفي ة .وفي محاض رة "فك رة الفينومينولوجي ا"
سنة 1907يوسع هوسرلمن مجاالتاإلبوخية حتىيشمل العالم الطبيعي وإشكالية وجوده
كي يتم التركيز علىوجود الذاتالعارفة .وفي هذه المحاضرة يقارن هوسرلبين استخدامه
لإلبوخية والشك ال ديكارتي ويع ترفبأوجه ش به عدي دة ح تىأنه نظر لإلبوخية علىأنه
اس تئنافللشك المنهجي عند ديك ارتلكن بطريقة راديكالي ة ،ذلك ألن ديك ارتلم يتوصل
بعد الشك إال إلى مج رد وج ود األنا أفك ر ،أما هوس رلفيتوصل بعد اإلبوخية إلى ال دور
المعرفي للذاتالترانسندنتالية باعتبارها الشرط األولللموضوعية والمعنى(.)38
وفي "األفك ار" ( )1913يجعل هوس رل اإلبوخية بداية المنهج والخط وة األولى في
التحليل الفينومينول وجي ،وهو يعد من الموض وعات األساس ية في الكت اب .ويصف فيه
اإلبوخية على أنه "وضع بين قوس ين" ،أي ع زل وتنحية كل ما له عالقة ب الخبرة التجريبية
والع الم الط بيعي .واإلبوخية في "األفك ار" يتسع ويتض خم إلى أقصى حد ممكن؛ يق ول
هوسرل:
..نضع بين قوس ين (كل ما يتعلق بماهية الموقف الط بيعي) ب النظر إلى طبيعة الوج ود :أي ه ذا الع الم
36
)( Husserl, Logical Investigations, Vol. II, PP. 552ff.
37
)( Husserl, On the Phenomenology of the Consciousness of Internal Time (1893-1917).
Translated by John Barnett Brough (Dordrecht: Kluwer Academic Publishers, 1991), PP. 58, 137ff
38
)( Husserl, The Idea of Phenomenology. Translated by William Alston and George
Nakhnikian (The Hague: Martinus Jijhoff, 1970), PP. 38-42.
19
الطبيعي كله والذي هو حاضر أمامنا وفي متناول أيادينا ..والذي سيبقى لألبد عالماً من الوقائع ..وهكذا
أعزل كل العلوم التي تتعلق بهذا العالم الطبيعي ..وال أستخدم أيا من معاييرها وال أية قضية من قضاياها
في نسقي ..أو باعتبارها أساساً لي(.)39
ونالحظ هنا أن هوس رل ال يضع ال وعي الط بيعي بين القوس ين وحس ب ،بل ك ذلك
العلوم الطبيعية التي تستند على هذا الموقف .وعزل العلوم الطبيعية ضروري لدى هوسرل،
ألنه يريد البحث في أساس هذه العلوم باعتبار أنمبادئها ظاهرات في الوعي ،ذلك ألن العل وم
الطبيعية تستند على بديهيات وقبليات ،ومهمة الفينومينولوجيا البحث في كيفية امتالك الذات
العارفة لهذه القبليات ،وبذلك يكون البحث الفينومينولوجي هو المؤسس لموضوعية العلوم
برد هذه الموضوعية إلى أفعال الوعي .ومرة أخرى نجد هوسرل يتفق في الهدف العام من
منهجه الفينومينولوجي مع اإلبستيمولوجيا الكانطية التي تبحث في اإلمكان القبلي للمعرفة.
وي ذهب هوس رل إلى أنه ال خ وف على موض وعية الع الم وحقيقته وغن اه العي ني من
اإلبوخية ،ألنه ليس تضحية بهذه األشياء بل مجرد تعليق مؤقت لها .كما يذهب إلى أن العالم
األص لي والحقيقي هو ما يظهر لل ذات الترانس ندنتالية ،وهو ال يظهر باعتب اره وق ائع وأح داث
بل باعتب اره ش يئاً مص نوعاً ومكون اً من قبل ال ذات( .)40هوسرلإذن منش غل بإش كالية اإلعط اء
،Gegebenheit/Givennessأيكيف يك ون الع الم معطى للذاتية الترانس ندنتالية .وه ذا ما
دفعه نحو ق ول الش عار الش هير“ :بق در ال رد بق در اإلعط اء” ،أيبق در ما نم ارس
اإلبوخية علىالط ابع الوق ائعي والتجري بي للع الم بق در ما يظهر لنا طابعه القبلي
الفينومينولوجي.
لكن كيف يتوصل هوس رل إلى وج ود األنا باإلبوخي ة؟ بعد أن يضع هوس رل الع الم
والموقف الطبيعي بين قوسين ي ذهب إلى أن الوعي الخ الص يظل هو المتبقي من هذه العملية،
،Phenomenologicalوب ذلك يتوصل إلى مج ال Residuum هو الراسب الفينومينول وجي
39
)( Husserl, Ideas. General Introduction to Pure Phenomenology. Translated by Boyce
Gibson (London: George Allen and Unwin, 1967), PP. 110-111.
40
)( Ibid., P. 126.
20
جديد للبحث الفينومينولوجي( .)41هوسرل إذن يؤسس مجال البحث الفينومينولوجي بشئ ٍ
متبق،
اعتقاداً منه أن هذا األنا المتبقي بعد اإلبوخية هو الالمشروط الذي يمكن أن يبدأ به التفلسف؛
وهو هنا يلعب على ثنائية المش روط والالمش روط لكن دون تص ريح ،إذ يح اول الق ول ب أن
إدراكنا للعالم مشروط باألنا الخالص ،بحيث نستطيع التفكير في هذا األنا في غياب العالم.
أما ال رد الفينومينول وجي -الترانس ندنتالي فهو رد الوق ائع إلى الماهي ات باعتب ار أن
الوقائع عارضة وال تتمتع بثبات ووضوح الماهيات وواقعيتها ،إذ يحكم هوسرل على الوقائع
Factsبأنها غ ير واقعية .Irrealومعي اره للواقعية أن يك ون الموض وع متمتع اً بالكلية
والشمول والالمشروطية ،وهذا ما يتوفر للماهيات ،ألن الوقائع جزئية ومشروطة دائم اً ومن
طبيعتها أن تكون ممثلة للكلي ،أي الماهوي ،وال يكون وجودها من ذاتها.
وال رد الفينومينول وجي يك ون إلى الع الم قبل العلمي ،الع الم الس ابق على التص نيفات
العلمية ال تي تقس مه إلى مج االت فيزيائية وبيولوجية وكيميائي ة .والع الم قبل العلمي هو ع الم
الحي اة المعاش ة ،أي الع الم ال ذي تعيشه ال ذات وتفترضه في وعيها الخ الص وهو يعد القبلي
قبل الحملي Pre- الحقيقي عند هوس رل()42؛ وهو ك ذلك المج ال ال ذييظهر فيه الفكر
predicative Thoughtأيالمرحلة الفكرية األولىال تي يُلحق فيها ال وعيش يئاً بمقول ة.
وبفضلذلك الرد يصل المرء إلى امتالك الوضع الترانسندنتالي للوجود ،أيالوضع الذييتعرف
فيه الوعيعلىالموضوعاتألول مرة باعتبارها تنتمي ألنماط أنطولوجية معينة (.)43
وهنا يتضح الفرق بين اإلبوخية والرد الفينومينولوجي – الترانسندنتالي .اإلبوخية يهدف
تج اوز الع الم الط بيعي ،ع الم الخ برة الحس ية والموقف الط بيعي لل وعي ،للوص ول إلى ال وعي
الخالص أو األنا المطلق .وعند الوصول إليه يبدأ هوسرل في دراسة كيفية ظهور العالم في هذا
ال وعي عن طريق رد الخ برة التجريبية إلى الخ برة القبلية الخالص ة .إال أن ما يجمعهما مع اً هو
41
)( Ibid., P. 66.
42
)( Husserl, The Crisis of European Sciences and Transcendental Phenomenology. Trans. By
David Carr (Northwestern University Press, 1970), PP. 121-124.
43
)( Fink Eugen: Sixth Cartesian Meditation, The Idea of a Transcendental Theory of
Method, Translated by Ronald Bruzina (Bloomington: Indiana University Press, 1995), P. 5.
21
استبعادهما للموقف الطبيعي للوعي .والحقيقة أن هوسرل كان أحيان اً ما يستخدم تعبير "الرد
الفينومينول وجي" ،وأحيان اً أخرى "الرد الترانس ندنتالي" ،وهذا ما أدى إلى صعوبات كثيرة في
فهم فك رة ال رد لدي ه ،إذ اعتقد الكث يرون أن هن اك ن وعين من ال رد ،إال أنه ن وع واحد فق ط؛
ف الرد فينومينول وجي في طبيعته ومنهج ه ،وهو ترانس ندنتالي أيض اً ألنه يس عى للوص ول إلى
المستوى الترانسندنتالي ،أي المستوى القبلي الذي يتم فيه تكوين الموضوعية عن طريق أفعال
الموضعة ،Objektivierung/Objectificationأي أفعال الوعي في تأسيس الموضوعية.
44
)( Husserl, Logical Investigations, Vol. II, PP. 552, 579, 607.
22
ب الحس ،أما العقل فهو ي درك الكلي والمج رد من الموض وع .أما هوس رل فقد ذهب إلى أن
الموضوع الحسي نفسه حاضر في الوعي ال في الحواس وحسب كما ذهبت التجريبية ،كما
أن العنصر العقلي أو الكلي والمجرد ليس مجرد أفكار جاهزة في العقل ،بل هي نتاج تكوين
وتأس يس قبلي من ج انب ال وعي .ومع نى ذلك أن ال وعي يؤسس موض وع اإلدراك الحسي
ويؤسس العنصر الكلي فيه في نفس ال وقت( .)45ويطلق هوس رلعلىحض ور الحسي في ال وعي
مصطلح "مضمونالوعي" ،Noemaوهو يستخدمه ليشير إلى أنالحسي حاضر في الوعيال
في الح واس وحس ب،ذلك ألن أعض اء الحس ال تفعل ش يئاً إال اس تقبال انطباع اتحس ية ،أما
الموض وع الحسي باعتب اره كالً مترابط اً فهو حاضر لل وعي فقط وحض وره ه ذا نتيجة
ألفعال قصدية من قبل الوعي،ويطلق هوسرلعلىهذه األفعال مصطلح "فعل الوعي".Noesis
كما ي ذهب هوس رل إلى أن كل تعين جديد يظهر في موض وع اإلدراك يقابله فعل
مختلف للوعي ،فإذا أدركنا تغيراً في لون شئ يكون هذا التغير مصاحباً لتغير في فعل الوعي،
بل األح رى الق ول ب أن الق درة على إدراك التغ ير تعتمد على ق درة ال وعي في توجيه ذاته لكل
تغير يحدث للظاهرة( .)46كما أنأفعال الوعي تستجيب لنوعية الموضوع المدرك؛ فإذا كان
ه ذا الموض وع ش يئاً مادي اً ك ان فعل ال وعيمتخ ذاً نمط اإلدراك الحس ي ،وإذا ك ان الموض وع
فك رة مج ردة أو نوع اً أو فئة اتخذ ال وعيش كل الفهم أو العق ل .ومع نىه ذا أنه ال توجد
في العقل ملك اتمتم ايزة بحيث تختص كل ملكة بفعل مع رفي معين كما وج دنا عند كان ط،
بل إناإلدراك الحسي والفهم والعقل والمخيلة ما هيإال أنم اط مختلفة ل وعي واح د ،أو أفع ال
وأحوال متمايزة للوعي نفسه .وتعتمد كل حالة منها علىالمضمون الذييدركه الوعي،بحث
يص بح ال وعيإدراك اً حس ياً عن دما يك ون موض وعه أش ياء محسوس ة ،ويص بح فهمه اً عن دما
يكون موضوعه كلياتومجرداتوقوانينوعالقات،ويصبح عقالً عندما يكون واعياً بذاته وبوح دة
أفعاله المعرفية .وهنا نضع أي دينا علىأولاختالفبين هوس رلوكانط بعد كل التم اثالت
والتشابهاتالتي رصدناها من قبل ،وهو ما سوفنتعمق في تحليله في الفصول التالية.
23
إن ظه ور الموض وعات في ال وعي ليس تلقي اً س لبياً لها في من الخ ارج ،ذلك ألن
وعاء يتم فيه جمع ما تتحصل عليه الحواس .فحضور الموضوع في الوعي يكون
الوعي ليس ً
نتيجة قصد الوعي إليه .وليست القصدية Intentionalityهي أن يقصد الوعي إلى األشياء
الخارجية بهدف إدراكها ،بل القصدية تكون نحو الموضوع الحال فى الوعي بهدف معرفته
وإصدار الحكم عليه .ومعنى ذلك أن الحكم ليس وضعاً لشئ خارجي تحت تصور أو مقولة،
بل هو توجه قصدي من قبل الوعي نحو الموضوع الحال فيه منذ البداية( .)47ونمط القصدية
ال ذي يتوجه به الوعينحو مضمونه هو ال ذي يح دد أشكال الحكم المختلفة؛ وب ذلك يكون
الحكم كلي اً إذا قصد ال وعي نحو الكلي في مض مونه ،ويك ون جزئي اً إذا قصد ال وعي نحو
الج زئي؛ ويك ون الحكم ح ول الكم إذا ك ان كم الظ اهرة هو قصد ال وعي ،ويك ون ح ول
الكيف إذا ك ان قصد ال وعي نحو كيف الظ اهرة ،ويك ون ش رطياً إذا ك ان قصد ال وعينحو
عالقة ما بين الظواهر.
ونالحظ في فك رة القص دية ه ذه أنها تنط وي على نظرية جدي دة في الحكم تب دو أنها
مختلفة تمام اً عن نظرية كانط ال تي أرجعت األحك ام إلى الوظ ائف القبلية للفهم وإلى مبادئه
التركيبي ة .لكن فك رة القص دية في حقيقتها تتفق تمام اً مع نظرية كان ط؛ ذلك ألن نمط
القص دية ال ذي ينتج ش كل الحكم عند هوس رل ما هو إال اسم آخر لإلس كيمات ال تي على
أساسها يتم الدمج بين الحدس الحسي والتصور عند كانط .وهذا ما سوف نتوسع في شرحه
في الفصل الخامس.
ظهرت فكرة القصدية أوالً لدى برنتانو أستاذ هوسرل ،إذ استخدمها في سياق تمييزه
بين علم النفس التجري بي وعلم النفس الوص في .ذهب برنت انو إلى أن علم النفس الوص في ال
ي درس ال وعي من وجهة نظر عض وية أو س لوكية كما يفعل علم النفس التجري بي ،بل يدرسه
على أنه وعي قص دي .والقص دية عند برنت انو تع ني اإلش ارة إلى موض وع داخل ال وعي ،أي
مضمون معين داخله ،أو موضوعية محايثة .)48(Immanent Objectivityويعنيذلك أنالوعي
47
)( Ibid., PP. 241-243.
48
)( Franz Brentano, Descriptive Psychology, Translated by Benito Muller (London:
Routledge, 1995), PP. 137-141.
24
ال يحتوي فقط علىأ حداثأو حاالتذاتية سيكولوجية بل يتضمن كذلك موضوعية حقيقية
وليست واهمة أو من ص نعه ه و ،لكنها في نفس ال وقت تنتمي إليه ألنها تظهر فيه(.)49
الموضوعية عند برنتانو إذن هيموضوعية ناتجة عنقصدية الوعي.
أخذ هوسرل عن برنتانو فكرته عن القصدية وتحولت لديه إلى نظرية في الوعي كانت
من دع ائم الفينومينولوجي ا .لكن ع دل هوس رل من فك رة برنت انو عن القص دية بحيث تح ولت
لديه إلى فعل للوعي ينتج به الموضوعية( .)50فالموضوع الذييشير إليه الوعيليس مجرد
شئ يقصد إليه ال وعي،بل هو من إنت اج ال وعيذات ه .وبمع نى أدق ذهبهوس رلإلى أناألفع ال
القص دية لل وعي هيالمنتجة للموض وعية .وهوس رل ب ذلك اختلفعنبرنت انو ال ذيذهبإلى أن
الوعي ال يقوم بشئ إال أنيقصد إلى موضوع محايثله؛ أما هوسرلفيذهب إلى أنالقصدية
ال تعني مجرد قصد الوعيإلى موضوع بل تعني أنها تنتج الموضوع ذاته.
ويبني هوسرل مفهومه عن القصدية على أساس الوعي الذاتي ،ويذهب إلى أن الحكم
هو وعي بالشئ ،واإلدراك الحسي هو توجه قصدي نحو الشئ ،والوعي بصفة عامة هو وعي
بشئ ما وليس هناك وعي فارغ أو بدون مضمون( ،)51وليس هذا الشئ خارجي اً بل هو الظاهر
المح ايثلل وعي .ومع نىذلك أنالحكم إذا لم يكن مص احباً ب وعي بفعل الحكم لن يك ون
حكم اً من األص ل،وك ذلك اإلدراك الحس ي ،فلو لم يكن مص احباً ب وعي ذاتيبفعل اإلدراك
فلن يك ون إدراك اً .كما تتش ابك القص دية عند هوس رلمع قض ية المع نى ،إذ ي ذهب إلى أن
كل خ برة قص دية ل ديها مع نى تتصل من خالله بالموض وع" ( .)52الخ برة القص دية إذن هي
خ برة ال وعيبالموض وع عنطريق المع نى المقص ود من قبل ال ذاتوال ذييرتبط مباش رة
بالموضوع .وكما يقربمفهوم القصدية الذاتمن الموضوع فهو يقربالموضوع أيض اً من
ال ذات،ويتضح ه ذا من ق ول هوس رلإنكل الع الم ال واقعي الموض وعيعب ارة عنتمثل لل وعي
.Representationتع بر القص دية إذن عنأنال وعييحمل في ذاته باعتب اره "أنا أفك ر"
49
)( James Morrison: “Husserl and Brentano on Intentionality”, in Philosophy and
Phenomenological Research, Vol. XXXI, 1970, P. 29.
50
)( Husserl, Logical Investigations, Vol. I, PP. 142-156.
51
)( Husserl, Ideas, PP. 242-246.
52
)( Ibid., P. 141.
25
(كوجيت و) موض وعه المفكر في ه .وي ذهب هوس رلإلى أنالقص دية الص ريحة هي"كوجيت و"
مكتمل( .)53ويع نيب ذلك أنال ذاتعن دما تكون واعية ب دورها القص ديفي المعرفة تكون
هذه القصدية كوجيتو صريح ،أيوعياً ذاتياً بكون الذاتمفكرة ،أيوعي اً بالذات أثناء العملية
المعرفية .ومعنى هذا أنه يوجد مستوىآخر من القصدية غير المكتملة تكون فيه الذاتغير
المعرفية وتعتقد في أنالموضوعية هيفي تلقيها السلبي لألشياء من العالم واعية بأفعالها
الخارجي ،في حينتكون الموضوعية نتيجة ألفعال الوعيالتي ال تدركها الذاتبالكامل.
هذا المستوىغير الواعيأو التلقائي للقصدية لم يؤكد عليه هوسرلبما فيه الكفاية ،كما
لم يم يز بدقة بين قص دية واعية وقص دية غ ير واعي ة .لكن تظهر معرفته بقص دية غ ير
واعية من بعض اإلشاراتالمتفرقة في مؤلفاته ،مثل قوله:
إن القصدية الحية تقودني إلى األمام؛ إنها تحددني عملي اً في كل توجهاتي ،بما فيها توجه تفكيري
الطبيعي ...إن القصدية الحية تقوم بكل هذا على الرغم من أنها يمكن أن تكون غير صريحة وغير
مكشوفة وبالتالي بعيدة عن انتباهي(.)54
53
)( Ibid., P. 323.
54
)( Husserl, Formal and Transcendental Logic, P. 235.
26
للوعي(.)55
وال وعي عند هوس رل فعل وال يظهر إال في ص ورة فعل أو نش اط أو وظيفة أو حرك ة؛
فهو عن ده متح رك دائم اً وليس ملكة ذات وظيفة ثابتة مح ددة ،وه ذا ما أدى بهوس رل إلى
القول باختالف بينه وبين كانط ،ألن الوعي عنده ليس ملكة على شاكلة الملكات المعرفية
الكانطي ة؛ وال يقسم هوس رل ال وعي إلى ملك ات متم ايزة كما فعل كان ط ،وه ذا ما دفع
هوس رل إلى الحكم على نظرية كانط في المعرفة بأنها ذات نزعة س يكولوجية ألنها ت رد
المعرفة إلى ملك ات في ال ذهن البش ري( .)56لكن الحقيقة أنكانط قسم العقل اإلنس انيإلى
ملك اتعلىس بيل الش رح والتق ريبوكطريقة في ع رض نظريته في المعرفة ال تي اختلفتعن
س ابقاتها وكأس لوبمبسط في تق ديم األفك ار وفيالتحلي ل ،ذلك ألن كانط لم يع الج أب داً
ملكاتالمعرفة علىأنها أعضاء فسيولوجية في الذهن .وعندمانتجاوز االختالفبين ملكات
55
)( Ibid., P. 245.
56
)( Husserl, Logical Investigations, Vol. II, PP. 675, 687, 694.
27
المعرفة عند كانط وأفع ال ال وعيعند هوس رلونركز علىالتحليالتالعينية للمعرفة عند كل
منهما سوف يتضح مدى التقارب ،وهذا ما سوف يظهر في الفصول القادمة.
ويتضح تحليل هوس رل ألفع ال ال وعي من محاض راته ال تي لم تنشر في حياته بل بعد
وفاته بفترة ،وهي محاضرات بدأها هوسرل فور انتهائه من إصدار الجزء الثاني من "أبحاث
منطقي ة" س نة .1901وتنقسم ه ذه المحاض رات إلى تحليل فينومينول وجي لل وعي بالزم ان
ال داخلي ب دأها س نة ،)57(1905وتحليللكيفية إدراك الشئ والمك ان ب دأها ،)58(1907
ودراسة لألسس الفينومينولوجية للمنطق ب دأها س نة )59(1920واس تمر فيها ح تى
،1928وه ذه الدراسة األخ يرة هيال تي جمعتبعد وفاته في كت اببعن وان "الخ برة
والحكم" سنة .)60(1938
ي ذهب هوس رل في "الخ برة والحكم" إلى أن إدراكي للشئ ليس تلقي اً س لبياً بل هو
نتيجة ألنني أحدد هوية هذا الشئ باعتباره شيئاً واحداً ،إذ أستطيع أن أراه من عدة جوانب
ومن منظ ورات مختلف ة .إدراك الشئ إذن يتض من أفع االً مختلف ة :تجميع ج وانب الشئ مع اً،
واسترجاع إدراك اتي المختلفة له في أزمنة سابقة ،وتجميعي لحاالته المختلفة التي يتغير فيها
ع بر أزمنة عدي دة .ويش ير هوس رل ب ذلك إلى أن التع رف على ش يئية الش ئ ،أي التع رف على
كونه جس ماً مادي اً ذا أبع اد هندس ية ،يعتمد على ق درتنا على مش اهدته من ع دة زوايا وع بر
أزمنة مختلفة .أفعال الوعي إذن هي التي تؤسس الوعي بشيئية الشئ .لكن هذه األفعال يقوم
بها الوعي بتلقائية وهو غير واع بها:
إن الوعي الساذج ،من خالل جميع الم دركات الحسية ودرجاتها التي يظهر بها موضوع اإلدراك،
57
)( Husserl, Vorlesungen zur Phanomenologie des inneren Zeitbewusstsein (1905), edt. By
Martin Heidegger, in: Jahrbuch fur Philosophie and Phanomenologische Forschung, 9, 1928; on
the Phenomenology of the Consciousness of Internal Time (1893-1917). Translated by John
Barnett Brough Dordrecht: Kluwer Academic Publishers, 1991).
58
)( Husserl, Thing and Space (Lectures of 1907), translated by Richard Rojcewicz
(Dordrecth: Kluwer Academic Publishers, 1997).
59
)( Husserl, Analysis Concerning Passive and Active Synthesis. Lectures on Transcendental
Logic. Translated by Anthony Steibock (Dordrecth: Kluwer Academic Publishers, 200).
60
)( Husserl, Erfahrung und Urteil, Untersuchungen zur Genealogie der Logik, ed, by L.
Landgrebe, 1939; Experience and Judgment. Investigations in a Genealogy of Logic. Translated by
James S. Churchill and Karl Ameriks (Evanston: North Western University Press, 1973).
28
يتوجه ناحية الموضوع نفسه :الموضوع الذي يُظهر نفسه في اإلدراك الحسي على أنه كذا وكذا.
ه ذا ال وعي ليس ش اعراً على اإلطالق ب أن موض وعه المعطى في ه ذه الص فات الحس ية هو في حد
ذاته إنج از ،إنج از عقلي من الدرجة ال دنيا .ول ذلك ف إن ه ذا ال وعي س وف يجد نفسه مج براً على
النظر إلى اإلدراك الحسي على أنه توجه سلبي"(.)61
ألنه ال يعلم أن اإلدراك الحسي نفسه إنتاج ،إذ ينتج موضوعه ذاته.
ونالحظ في التحليل األخير للنص السابق أنه يتشابه مع تحليل كانط للتركيب القبلي
لموض وعات اإلدراك الحسي والموج ود في اس تنباط الطبعة األولى وفي "المب ادئ التركيبية
للفهم الخالص" ،وخاصة تحليله لمسلمات الحدس واستباقات اإلدراك ،وهذا ما سوف نركز
عليه في الفصل الخامس.
ويُحسب لهوسرل أنه برع في وصف أفعال الوعي بدقة متناهية وتفصيل كبير بصورة
ال نج دها ل دى كان ط ،إذ اكتفى كانط بتق ديم ص ورة عامة ش املة ألفع ال ال وعي ولم يتوسع
فيها بق در توسع هوس رل ،إذ ك ان هدفه األساسي إثب ات اإلمكانية القبلية للخ برة كي يحكم
على الميتافيزيقا التقليدية بأنها ال تتفق مع الش روط القبلية للخ برة اإلنس انية .وتتضح دقة
تحليالت هوس رل في توض يحه كيفية دخ ول الموض وع الفيزي ائي لل وعي .ذهب هوس رل إلى
أن الموضوع الفيزيائي يحصل على هويته كموضوع ،أي باعتباره جسماً ممتداً يشغل حيزاً
مكاني اً وح ائزاً على ج وهر وأعراض بفضل وجود أفعال قبلية في الوعي ق ادرة على التع رف
ذه ير ه ه ،أي على خواصه المختلفة ووحدته وراء تغ عليه وعلى جوهريته وأعراض
الخ واص( ،)62ذلك ألن اإلدراك الحسي ينط وي علىقي ام ال وعيبأفع ال الت ذكر واالس تعادة
لمدركاتحسية سابقة ،وكذلك علىقدرة علىجمعها والدمج بينها.
أفعال الوعي عند هوسرل تنتج مضمونها ،وهي ال تستقبل الموضوع المحسوس ألنه
هو نفسه منتج من قبل الوعي .الوعي ال يستقبل إال االنطباعات ،أما الشئ نفسه بموض وعيته
وأحواله فهو من إنت اج ال وعي .ذلك ألن العالقة بين م ادة اإلدراك المكونة من انطباع ات
61
)( Ibid., P. 60.
62
)( Husserl, Formal and Transcendental Logic, P. 163.
29
والموض وع الم درك هي عالقة ج زء بك ل ،وتجميع األج زاء للحص ول على كل هي وظيفة
أفع ال ال وعي( ،)63كما أن م ادة اإلدراك باعتبارها جزئي اتال تحصل علىهويتها باعتبارها
كذلك إال في عالقتها بالكل الذيينتجه الوعي.
وفي ه ذا الس ياق يم يز هوس رل بين ثالثة عناص ر :الم ادة ،Hyleوالش كل ،Morphe
وفعل ال وعي .Noesisوبعد أن يوضح هوس رل نظرية أرس طو في عالقة الم ادة بالش كل أو
الص ورة ي ذهب إلى أن العنص رين من فعل ال وعي ،وك ذلك التمي يز بينهما( .)64فم ادة اإلدراك
ليستمدركة موض وعياً قبل انعك اس ال وعيعلىذاته من أجل أنيش عر بفعله المع رفي ،أيقبل
الكوجيت و؛ ذلك ألن م ادة اإلدراك الحسي ليستمعط اة بالكامل وبص ورة تامة في اإلدراك
الحسي نفسه .يقول هوسرل:
ليست ل دنيا نية للق ول ب أن المض مون الم ادي ..حاضر في الخ برة الحس ية بالطريقة ال تي يحضر بها
في الخ برة [الواعية الممتلكة لل وعي باألنا أفك ر] ،إنه حاضر في الخ برة الحس ية باعتب اره حقيقي اً،
دركاً [فيها] بطريقة موضوعية [باعتباره منتجاً من قبل الوعي] (.)65
لكنه لم يكن ُم َ
يريد هوسرل القول بأن الشكل والمضمون باعتبارهما عنصرين للوعي مدركين من قبل
ال وعي ال دارس ال ال وعي الم دروس ،ال وعي الممتلك لألنا أفك ر؛ إنهما تجري دان وتمي يزان ال
يس تطيع القي ام بهما إال الب احث الفينومينول وجي ،وذلك بس بب كونهما ع املين على مس توى
اإلدراك الحسي بص ورة تلقائية غ ير واعي ة ،أما الب احث الفينومينول وجي فهو ال ذي يكتش فهما
باعتبارهما نتاجين ألفعال الوعي.
30
الخبرة الحسية "الحدس المقولي" ،Categorial Intuitionو هو بذلك يميزه عن الحدس
الحسي Sensual Intuitionالذي يقتصر دوره على تلقي االنطباعات الحسية .تمتد معالجة
هوس رل للح دس المق ولي ع بر جميع مؤلفاته ومحاض راته ،إذ نج ده منذ "أبح اث منطقي ة" (
)1901-1900وح تى "الخ برة والحكم" ( .)1939س وف نع الج الح دس المق ولي عند
هوس رل في ثالثة عناص ر .العنصر األول نوضح فيه العالقة بين الح دس المق ولي والح دس
الحسي ،والعنصر الثاني نوضح فيه كيف يبرر هوسرل مفهوم الحدس المقولي بالقول ب أن في
اإلدراك الحسي فائض اً في المع نى ال يمكن أن يرجع إلى الح دس الحسي وح ده وبالت الي
يتطلب منا االع تراف بوج ود ح دس آخر هو الح دس المق ولي ،والعنصر الث الث نع ود فيه
لتوضيح أن الحدس المقولي نفسه ليس منفصالً تمام اً عن الحدس الحسي بل هو مستوى في
الوعي متضمن فيه.
31
كما يع ني الح دس المق ولي عند هوس رل أن الكلي ات تش اهد أو تح دس في اإلدراك
الحسي نفس ه .ففي إدراكنا لكرسي أحمر ن درك أن األحمر ه ذا ل ون تتصف به أش ياء كث يرة
غ ير الكرس ي ،وبالت الي ن درك أن الكرسي يتصف بشئ كلي وأنه ج زء من مجم وع ما يضم
األش ياء المتص فة ب اللون األحمر( .)67الكل أو الماهية تح دس مع الج زء أو موض وع اإلدراك
الحس ي ،فهي مص احبة ل ه .والمالحظ أن ال وعي الفينومينول وجي فقط هو ال ذي يس تطيع أن
يع رف ،بالتحليل الفينومينول وجي ،ه ذه الظ اهرة .أما ال وعي الع ادي أو الط بيعي فال يعرفه ا.
إدراك الج زء هو المناس بة أو الظ رف ال ذي يمكننا من ح دس الك ل .ويض يف هوس رل أننا
نستطيع أن نجرد من الكرسي أشياء كثيرة ،أي أجزاء مكونة له مثل األرجل ونستطيع تصوره
ب دونها ،لكننا ال نس تطيع أن نج رده من لون ه .الل ون شئ كلي بمع نى أنه ج وهري وض روري
وم اهوي ،أي داخل في ماهية الش ئ .ماهية الشئ وجوهريته أن يك ون ح ائزاً على ل ون ،وال
يمكن تص ور أو إدراك شئ ب دون ل ون .الل ون إذن هو الكلي أو الم اهوي الم درك في إدراك
حسي مع األجزاء األخرى.
وي ذهب هوس رل إلى أن هن اك عالقة تبادلية بين اإلدراك الحسي والح دس المق ولي،
فاالثن ان يؤسس ان بعض هما البعض :ح دس المقولة هو ال ذي ِّ
يمكن اإلدراك الحسي من معرفة
مالمح وصفات وأجزاء الشئ بما أن هذه األجزاء ليست مستقلة بل هي أجزاء لكل ،وكذلك
اإلدراك الحسي هو اآلخر يؤسس الحدس المقولي بما أن هذا اإلدراك الحسي هو الذي يعطي
األجزاء التي يظهر فيها الكل للحدس المقولي( .)68لقد اقتربهوسرلمن هيجلهنا بالضبط في
إدراكه أنهن اك عالقة تبادلية قوامها التأس يس المتب ادل بين اإلدراك الحسي والح دس
المقولي ،وهذا بسبب العالقة التبادلية التي كشف عنها هيجلبين الكل واألجزاء .الكل يدركه
ح دس مق ولي واألج زاء ي دركها إدراك حس ي .إالأنهوس رليفهم مغ زى ه ذه العالقة التبادلية
فهم اً كانطي اً علىأنالح دس المق ولي هو ال ذييؤسس ترانس ندنتالياً وقبلي اً اإلدراك الحس ي،
وهذا هو الهاجس الكانطي لديه.
هناك فرق بين المقولي Categoricalوالمقولة .المقولي هو السابق على المقولة ،إنه
67
)( Ibid., P. 341.
68
)( Ibid., P. 376
32
مقولة أولية أو مبدئي ة ،وتع بر أدوات اإلش ارة عنه مثل فعل الكينونة "ه و" ،isوك ون الشئ
موج وداً beingو"ه ذا" ،thisباإلض افة إلى أدوات الفصل والتمي يز مثل "لكن" butو"أو"
.orه ذه األدوات اللغوية كلية ألنها تس تخدم في كل الح االت ال تي نقابله ا ،وكليتها ه ذه
تش ير إلى أفع ال معرفية قبل مقولي ة ،أي س ابقة على التجسد في مقول ة ،ذلك ألنها تعب يرات
أولية عن مق والت الج وهر والزم ان والمك ان والس ببية والض رورة واإلمك ان( .)69ويكشف
اس تخدام ه ذه األدواتفي لغة اإلدراك الحسي عنأنللمقولة حض ور في الحس في مس توى
أوليس ابق علىظه ور المقولة ذاتها للفك ر .ه ذا المس توىالمق ولي ال ينتمي كلية إلى ال ذات
ومقتصر عليها بل ينتمي إلى الموضوع ذاته ،وليسفعالً للوعي ،ألننا إذا حللنا الوعيسنجد
أنبه أفعاالً مثل الحكم واإلدراك والتخيل والتذكر ،والمقولي ال ينتمي إلى هذه األشياء بل
ينتمي إلى الموض وع ذات ه ،و ه ذا عكسالتجريبية اإلنجليزية وكانط والمثالية األلمانية ال تي
ذهبتإلى أنه ذا المق ولي غ ير موج ود في اإلدراك الحسي وبالت الي فهو ذاتيوهو نتيجة
هاي دجر إلى أنالفينومينولوجيا تق وم بث ورة
للحس ال داخلي أو االنعك اس علىال ذات .وي ذهب
كب يرة عن دما تضع ه ذا المق ولي في الح دس وفيالموض وع ذاته ال في ال ذاتأو في
الذات.)70
(
االنعكاس على
ويذهب هوسرل إلى أن اإلدراك الحسي ليس تلقياً سلبياً لإلحساسات من الخارج بل
يتض من إحض ار الموض وع إلى ال وعي والمش اركة في تأسيسه باعتب اره موض وعاً ،بمع نى أن
اإلدراك الحسي لشئ يتض من إدراكه من جميع جوانبه مع معرفة كونه واح داً ،فعلى ال رغم
من أن ني أش اهد بيت اً من ع دة زوايا إال أن ني أع رف أنه بيت واحد ال ع دة بي وت ،ف اختالف
المنظ ورات ال ي ؤدي إلى اختالف الشئ الم درك بل هن اك وعي بهوية واح دة للشئ الم درك
من ع دة منظ ورات ،وك ذلك بالنس بة لألوق ات المختلفة ال تى أدرك فيها الشئ فأنا ال أدرك
أش ياء متع ددة بل ش يئاً واح داً في أزمنة مختلف ة .ه ذا اإلدراك الحسي إذن يتض من ال وعي
بحض ور الشئ ودوامه وهويته وهي أش ياء ال أحض رها أنا من عن دياتي بل هي متض منة في
إدراكي لألشياء.
69
)( Heidegger: History of the Concept of Time, P. 58-59.
70
)( Ibid., P. 61.
33
والح دس المق ولي عند هوس رل مباشر مثل الح دس الحسي تمام اً ،ذلك ألننا في
إدراكنا لكرسي أص فر ال ن درك الكرسي أوالً في حد ذاته ثم األص فر أو ك ون لونه أص فر أو
العكس ،ثم نربط بين االث نين ونحصل على عالقة الكرسي بلونه كونه كرس ياً أصفر ،بل نحن
ندرك العالقة مباشرة ،ال ندرك عناصر اإلدراك الحسي منفصلة ثم نركبها بل ندرك الموضوع
مركب اً وفي عالقاته دفعة واحدة( .)71اإلدراك الحسي إذن يتضمن فعالً تركيبي اً تلقائي اً يحدس
مباشرة وبال توسط .هذا باإلضافة إلى كون لون الكرسي أصفر هو جزء ،أما إدراك الكرسي
ذاته فهو كل ،ذلك ألننا يمكن أن نتصور الكرسي بدون اللون األصفر ،كما أن اللون األصفر
ليس داخالً في ماهية الكرسي ال ذي ندركه ول ذلك ف اللون األص فر ج زء من ك ل .لكننا في
إدراكنا للكرسي ال نم يز بين كل وج زء وعالقة بينهما بل ن درك الظ اهرة كلها في
عموميتها( .)72لكن اإلدراك الحسي يس تطيع أنيع رف كل ذل ك ،ويع رفأنما ي راه مك ون من
موضوع ومحمولأو كل وجزء.
إن المرء عندما يدرك بيت اً مثالً ال يدرك جزئياته وتفاصيله أوالً بل يدركه دفعة واحدة
في كليته وباعتب اره كالً ،ي درك نوعه Speciesمباش رة ،وه ذا هو الح دس المق ولي باعتب اره
إدراك اً للكلي أو المقولي الذي تتم صياغته بعد ذلك في صورة مقوالت .وعندما نرى كرة
حمراء مثالً نكون مدركين أن هذا اللون هو لون ألشياء كثيرة غير هذه الكرة .ندرك مباشرة
لكن بص ورة ض منية أن الك رة تتصف بشئ كلي ،مق ولي ،وال ن درك مثالً أن ه ذه الك رة فقط
هي وحدها الحمراء بل نكون على علم بأن أشياء أخرى غيرها تتصف بنفس اللون ،ال ألننا
رأيناها بالفعل ،بل ألن لدينا حدس اً مقولي اً ،إدراك اً للكلي المتضمن في الشئ ،إدراك اً ووعي اً
بأن الشئ يتصف بكليات وبأن صفاته كلية أو مقولية.
س وف نالحظ أن هوس رل عندما يتح دث عن الح دس المق ولي ي ذهب إلى أن الحدس
الحسي يدرك فائض اً في المعنى Surplusوهذا الفائض في المعنى يستوعبه الحدس المقولي
ال الحدس الحسي ،وعندما يتحدث عن الوعي الخالص يتناول الوعي التجريبي ويمارس عليه
اإلبوخية وال رد وي ذهب إلى أن نتيجة اإلبوخية ظه ور متبق Residueوه ذا المتبقي من ال وعي
التجريبي الممارس عليه اإلبوخية هو الوعي الخالص .هناك إذن مفهومان يستخدمهما هوسرل
في تأس يس مب ادئ الفينومينولوجيا ومفاهيمها األساس ية :الح دس المق ولي وال وعي الخ الص،
وهما ف ائض المع نى والمتبقي .ف ائض المع نى يظهر في األبح اث المنطقي ة ،والمتبقي يظهر في
“األفك ار” .إذا قارنا بينهما سنكتشف أنهما يع بران عن مع نى واح د :الف ائض Surplusهو
المتبقي .Residue
73
)( Husserl: Logical Investigations, Vol. II, P. 775-776.
35
"إن مج ال الفينومينولوجيا هو تحليل القبلي ال ذي يظهر في الح دس المباش ر ،وتث بيت الماهي ات
الشفافة مباشرة والصالت الماهوية وإدراكها الوصفي في الوحدة النسقية لكل العناصر strataفي
الوعي الترانسندنتالي الخالص"(.)74
يقصد هوس رل من ه ذا التص نيف أن القبلي يظهر بالفعل في الح دس المباشر أو
اإلدراك الحسي وهي نظريته في الحدس المقولي أو الماهوي ،كما يقول أيض اً إن الماهيات
تستشف مباش رة في اإلدراك الحسي وهي نفس نظرية الح دس المق ولي .الحقيقة أن ما يقوله
هوس رل هنا أن مهمة الفينومينولوجيا هى ما ق ام به بالفعل في األبح اث ومحاض رات الزم ان،
إنه ليس توص يفاً لما يجب أن يك ون عليه البحث الفينومينول وجي بل وصف لما تم تنفي ذه
والقي ام به بالفعل ،وبالت الي فه ذا التوص يف ليس توص يفاً لمهمة الفينومينولوجيا كما يق ول لنا
هوس رل بل تنظ ير وامت داد فلس في لما ق ام به بالفعل من أبح اث .والحقيقة أن المب ادئ
الفينومينولوجية ال تي يتوصل إليها هوس رل هنا توصل إليها هيجل من قبل بطريق آخر غ ير
الطريق الهوس رلي .فالقص دية والح دس المق ولي أو الم اهوي مع ان كلها موج ودة في الفصل
األول من فينومينولوجيا هيج ل ،كما أن هيجل في المنطق يعطينا ت بريراً لظه ور الماهية في
ص ورة ظ اهرة .يثبت هيجل بمنهج النقد المح ايث كيف يجب أن تظهر الماهية وتتجلى في
الظاهر ،وهذا عينه هو الحدس المقولي الهوسرلي.
كيف يعرف هوسرل الحدس المقولي؟ كيف يكتشفه؟ يكتشفه بأن يفكر في الحدس
توعب في ح دس حسي واحد أو كل
الحسي ويع رف أن في اإلدراك فائض اً من المع نى ال يُس َ
الح دوس الحس ية مجتمع ة ،وبمعرفته أننا ن درك الن وع والكل والعالقة بينه وبين الج زء
والج وهر ،كل ذلك مع إدراكنا لشئ واح د ،أي مع إدراك حسي لش ئ .يتوصل هوس رل من
ذلك إلى أنه يجب أن يك ون هن اك ح دس من ن وع آخر هو ال ذي يمكننا من إدراك الكل
والن وع والج وهر وهو الح دس المق ولي .لكن ما ال ذي يجعل ه ذا الح دس المق ولي نوع اً
مختلفاً عن الحدس الحسي وقائماً بذاته؟ ال شئ في الحقيقة .الحدس المق ولي هو في حقيقته
وظيفة أو إح دى وظ ائف الح دس الحس ي ،ن وع من الح دس الحس ي ،ويتضح ذلك من أن
هوس رل يق ول عن الح دس المق ولي إنه هو ال ذي يؤسس للح دس الحسي ويجعله ممكن اً،
ف إدراكي للكل وللن وع وللج وهر ش رط إلدراكي له ذا الشئ المح دد الحاضر أم امي ال ذي
74
)( Husserl: Ideas, P. 373.
36
يتصف بأنه ج زء من كل أو ف رد ينتمي إلى ن وع أو ج وهر ...إلخ .أنا ال أدرك الج زئي إال
لكونه ج زءاً من كلي .إدراكي للكلي إذن مح ايث ومص احب إلدراكي للج زئي ،ول ذلك
فالحدس المقولي والحدس الحسي شئ واحد .تترتب علىذلك نتيجة هامة وهي أن ما فصله
هوسرل إلى حدس حسي وحدس مقولي هو شئ واحد عبر عنه كانط بمجرد الحدس .فإذا
حللنا الح دس الك انطي س نجد أنه يحت وي على ش روط إمك ان هي ذاتها عناصر الح دس
المق ولي .وال دليل على أن الح دس الك انطي ينط وي على الح دس المق ولي ما يقوله كانط في
"التص ورات الخالصة للفهم أو المق والت" والمقارنة بينه وبين هوس رل في ه ذه النقطة
مش روعة تمام اً ،ألن كانط يبحث عن أصل المق والت ووظيفته ا ،وه ذا ما يناسب الج زء
المتعلق بالحدس المقولي عند هوسرل تماماً .يقول كانط "الوظيفة نفسها التي تضفي الوحدة
على مختلف التصورات في حكم تضفي أيض اً الوحدة على مجرد تأليف مختلف التصورات
Pure concept of في ح دس وتس مى بتعب ير ع ام التص ور الخ الص للفهم
.)75("Understandingالتص ور الخ الص للفهم هو المق ولي عند هوس رل،هو األس اس ال ذي
ينتظم بعد ذلك في مقول ة .وب النظر إلى أنالمقولة عند هوس رلتُفهم بطريقة منطقية أي
وفق وظيفتها المنطقية باعتبارها المحم ول في قض ية ،ف إن المقولة عند هوس رلتن اظر
المق والتفي لوحة األحك ام عند كانط في حينأنالمق ولي الس ابق علىالمقولة عن ده هو
التص ور الخ الص للفهم عند كان ط .وال ذيجعلهوس رليفهم المقولة من منطلق وظيفتها
المنطقية في الحكم هو تأثره بالكانطية الجديدة.
لكن الجديد ال ذي أتى به هوس رل هو أنه أدرك أن المق ولي مختلط ب الحس ومح ايث
ل ه .بعكس كانط ال ذي نظر إلى المق والت على أنها أطر قبلية في ال ذهن تمأل بم ادة اإلدراك
الحسي ،ولذلك كان دائماً يتكلم عن تأليف بين الحدوس والمقوالت .أما هوسرل فأثبت أن
الح دوس الحس ية نفس ها متض منة للمق والت .ما نظر إليه كانط على أنه ت أليف بين الح دس
والمقولة هو نتيجة ألنه فصل بينهما منذ البداية ووضع للح دس الحسي ملكة وللمقولة ملكة
أخ رى ،أما هوس رلفلم يكن بحاجة للح ديث عن ت أليف ألن المق ولي مح ايث ومتض من في
الحسي ،والحكم وفقاً لذلك يأتي للفصل بين المقولي والحسي ،الحكم هو فصل من األصل
75
)( Kant: Critique of Pure Reason, P. 89.
37
ur-teilعند هوسرل ،وكذلك عند هيجل.
والحقيقة أن كانط كان قد أدرك شيئاً ش بيهاً بما توصل إليه هوسرل وهو أن الحدس
الحسي يك ون حاص الً على المق ولي منذ البداي ة ،بل إنه أش ار إلى أن االرتب اط بين الح دس
الحسي والح دس المق ولي وظيفة للمخيل ة .يق ول كانط "ال تركيب بعامة هو مج رد فعل
للمخيل ة ،أع ني وظيفة للنفس عمي اء ،إنما ال غ نى عنه ا ،ومن دونها ال يمكن البتة أن نحصل
على معرفة من أي مك ان"(" .)76وظيفة النفس العمي اء" ه ذه هيالح دس المق ولي الهوس رلي.
ولتعبير عمياء داللة هامة ،ذلك ألن كلمة عمياء هنا تعني أنهذه الوظيفة ال شعورية وتلقائية
وهينفس وظيفة الح دس المق ولي عند هوس رل.تتمثل فينومينولوجيا هوس رلفي الكشفعن
ه ذه الوظيفة العمي اء أو الالش عورية وإحض ارها لل وعي .الظه ور ال ذيتكشف عنه
الفينومينولوجيا هو ظهور الوظائفالالشعورية العمياء للوعي ،وهو الوعيالدارس بصفة خاصة
ال الوعىالمدروس.
وال دليل على أن الح دس المق ولي ج زء من الح دس الحسي هو أن هوس رل يتوصل إليه
من تحليله للح دس الحس ي ،فمن تحليله لإلدراك الحسي ي درك هوس رل أن هن اك فائض اً في
المعنى وأن الحدس الحسي يعرف الكليات واألنواع والجوهر .الحدس المقولي هو بمعنى أكثر
دقة طريقة هوس رل نفسه في إدراك المق ولي المتض من في الح دس الحس ي .إدراكي للشئ هو
ح دس حسي متض من للمق ولي ،لكن ني ال أدرك المق ولي المتض من في حدسي الحسي بح دس
حسي ،بل بحدس مقولي ،بنوع من الحدس يختلف عن الحدس الحسي يستطيع إدراك المقولي
المحايث والمتضمن في الحدس الحسي .الحدس المقولي هو حدس الباحث الفينومينولوجي
نفسه والذي يدرك به المقولي المتضمن في الحدس الحسي ،ذلك ألن المقولي ال يمكن إدراكه
بحدس حسي .والدليل على أن الحدس المقولي وظيفة للحدس الحسي أن هوسرل يصف هذا
الح دس المق ولي بنفس طريقة وص فه للح دس الحس ي ،فهو أوالً وأخ يراً ح دس ،أي رؤية
ومش اهدة أو نظ رة ،وفي مواضع أخ رى ول دى كث ير من المعلقين يس مى الح دس المق ولي،
Seeing essences / Categorical والحدس الماهوي كذلك رؤية الماهيات أو رؤية المقولي
76
)( Ibid: P. 88.
38
seeingوالحقيقة أن المق ولي يُ رى ويُش اهد ،ذلك ألنه متض من في الشئ نفس ه ،بل هو ال ذي
يجعل إدراك الشئ ممكناً منذ البداية .فعندما أنظر للشئ وأكون على وعي بأنه جزئي ينتمي لكلي
وبأنه ف رد من ن وع أو بأنه ج وهر فك أنني أش اهد معه المق والت ال تي يتك ون منه ا ،أش اهد فيه
المق والت وهي متحقق ة .إن إثباتنا ه ذا لك ون الح دس المق ولي هو الح دس الحسي أو إح دى
وظائفه أو ش روط إمكانه يفيد في المقارنة مع كان ط ،ذلك ألن الح دس الحسي الك انطي يك ون
ب ذلك هو المنط وي على الحسي والمق ولي مع اً عن ج دارة .الح دس المق ولي ،أي إدراك الكلي
المتضمن في الجزئي وأن هذا الجزئي منط ٍو تحت كلي أو هو فرد في نوع هو الحدس الحسي
ذاته ،لكن الحدس المقولي بمعنى إدراك وتمييز وفصل المقولي المتضمن في الحدس الحسي
ليس وظيفة الحدس الحسي ،ألن الحدس الحسي يدرك شيئاً واحداً فقط ،صحيح أنه يعرف أنه
فرد في نوع أو جزء في كل أو جوهر ،إال أنه ليس واعي اً بذلك .الح دس المقولي هو حدس
الب احث الفينومينول وجي ال ذي يبحث عن المق ولي في الح دس الحس ي ،هو منهجه وطريقته في
إثبات أن الكلي والنوع والجوهر متضمن في الحدس الحسي .الحدس المقولي .بمعنى إدراك
الكلي المحايث في موضوع اإلدراك الحسي هو حدس الباحث الفينومينولوجي نفسه ،ال حدس
الش خص الق ائم بالح دس الحس ي .وهنا نس تطيع الق ول أن هوس رل ي درس وعيه هو ال ال وعي
الم دروس .الح دس المق ولي هو طريقة الب احث الفينومينول وجي في إدراك الكلي المتض من في
اإلدراك الحسي ،ولذلك فدراسته هي دراسة لوعي الباحث الفينومينولوجي ال للوعي المدروس.
77
)( Husserl, Experience and Judgment, P. 49.
40
والمضمون هو الموضوع المقصود ذلك ألن الوعي الخالص به مضمونين ال مضمون واحد؛
الن ويس noesisأو فعل ال وعي أو مض مون ال وعي والن ويم ،noemaوالح دس المق ولي من
وظ ائف الن ويس .الحقيقة أن هوس رل قد أسس الفينومينولوجيا الترانس ندنتالية بأكملها كما
ظه رت في "األفك ار" كإجابة عن أس ئلة كث يرة منه ا :من ال ذي يق وم بالح دس المق ولي،
والماهوي كذلك ،وما هي الملكة المعرفية التي تقوم بذلك؟ لكن يرتكب هوسرل هنا مغالطة
كبيرة ،ذلك ألنه يقول لنا إننا نتوصل إلى لحدس المقولي هذا باإلبوخية والردود ،في حين أنه
هو نفسه توصل إليه بطريق آخر مختلف تمام اً وهو طريق الكشف عن ف ائض في المع نى ،ثم
البحث عن ن وع من اإلدراك يس توعب ه ذا الف ائض ،ثم محاولته الكشف عن أصل الحمل أو
المقولة أو التصور في الحكم ،وهي طرق بعيدة تماماً عن اإلبوخية والردود ،وقريبة من كانط،
الذي ال نعثر لديه على اإلبوخيه كخطوة منهجية كما عند هوسرل.
41
وفي "المنطق الص وري والمنطق الترانس ندنتالي" يقيم هوس رل توازي اً بين الموض وعات
المثالية والموضوعات الفردية ،ويقصد بذلك القول بأننا نرى بالفعل ونَخبُر الموضوعات المثالية
بنفس الطريقة ال تي ن رى ونَخبُر بها الموض وعات المادية في الطبيع ة ،وك ان قبل ذلك قد عقد
توازي اً بين الموض وع المث الي والم ادي ،وذهب إلى أن الموض وع المث الي مثله مثل الم ادي
يتجسد في شئ آخر مثل تجسد الفكرة في لفظ أو عبارة ،أو تجسد المقولة في قضية أو شكل
منطقي .وهو هنا ي رد على النزعة الس يكولوجية في المنط ق ،بقوله إن الموض وع المث الي ليس
مجرد صورة ذهنية سيكولوجية ،بل هو موضوع حقيقي نراه ونخبره باعتباره قائماً هناك في ذاته
وفي اس تقالل عنا تمام اً مثلما نخ بر ون رى أي موض وع م ادي( .)79وه ذا في الحقيقة ما دفع
أدورنو إلى القول بأن هوسرل يُصنِّم ويشئ Reifyالمثال أو الفكرة أو المقولة .ويصل هوسرل
إلى حد الق ول بأننا نتع رف على المث الي أو المق ولي في خ برة ش بيهة ب الخبرة التجريبي ة ،لكن
الفرق هنا أن "المثالي ال يتفرد بالنظر إلى زمانية تنتمي له عن أصالة"( .)80أيأنالمثالي ال يتحدد
بالزمان الفيزيائي الطبيعي .والحقيقيأنهوسرلأنهىعبارته السريعة عند هذا الحد ،وهيناقصة،
ذلك ألن بقيتها كاآلتي :الزمانية التي يتفرد ويتحدد المثالي وفق اً لها هيزمانية الوعيالخالص،
الزم ان ال داخلي أو الحس الب اطن ال ذيتح دث عنه كانط وتوصلإليه هوس رلفي محاض رات
فينومينولوجيا الوعيبالزمان الداخلي ،وقد سبق وأنأوضحنا أوجه التشابه بين كانط وهوسرل
حول هذه النقطة والنتائج المترتبة علىذلك في الفصل الثاني.
79
)( Husserl, Formal and Transcendental Logic, P. 155.
80
)( Ibid: P. 156.
81
)( Ibid: Loc. Cit.
42
اإلبوخي ة ،ويمارسه علىنحو أكيد و خاصة علىت اريخ الفلس فة الس ابق علي ه ،فهو هنا ال
يذكر كانط رغم التطابق الواضح ،ألن كانط ممارس عليه اإلبوخية في هذا التصور الموضوع
بين قوس ين .ك ان يجب على هوس رل أن يق ول لنا ما هو ه ذا الموض وع بين قوس ين ،إال أنه
أخفاه عنا ولم يقل ما هو هذا الموضوع بين قوسين ،إذ وضعه ضمناً دون أن يخبرنا أنه فتح
قوسين ووضع شيئاً بينهما من األصل ،لقد وضع كانط وفشته وهيجل وكل تاريخ الفلسفة.
أما نحن هنا فنح اول فتح القوس ين من جديد إلب راز ما أخف اه هوس رل ،كما لو أن هوس رل
يمارس طريقة إخفاء الملفات بالكمبيوتر .hiding
تعقي ــب:
اكتش فنا في س ياق عرض نا لعناصر التحليل الفينومينول وجي ل دى هوس رل م دى ق رب
ه ذا التحليل من فلس فة كان ط ،وخاصة عناص ره المتعلقة بوصف أفع ال ال وعي والقص دية
والح دس المق ولي .وقد توقف تحليلنا في ه ذا الفصل على مج رد رصد التش ابه وأوجه
االتفاق بوجه عام دون تفصيل كبير؛ فهذه هي مهمة الفصول التالية.
43