You are on page 1of 30

‫جامعة محمد بوضياف بالمسيلة‬

‫كلية اآلداب واللغات‬


‫قسم اللغة واألدب العربي‬

‫محاضرات في النقد األدبي العربي القديم‬


‫من أهم القضايا النقدية‬

‫للدكتور مصطفى البشير قط‬


‫‪-1‬الطبع والتكلف‬
‫‪-2‬اللفظ والمعنى‬
‫‪-3‬عملية اإلبداع‬
‫‪-4‬قضية القدم والحداثة‬

‫الطبع و التكلف‬

‫تعد قضية الطبع و التكلف من القضايا النقدية اليت حظيت باهتمام النقاد العرب‬
‫القدامى‪ ،‬و قد أشار إىل هذه القضية بشر بن املعتمر يف صحيفته إذ يقول ‪ " :‬خذ من‬
‫نفسك ساعة نشاطك و فراغ بالك‪ ،‬وإجابتها إياك ‪ ،‬فإن قليل تلك الساعة أكرم‬

‫‪1‬‬
‫جوهرا‪ ،‬و أشرف حسبا‪ ،‬و أحسن يف األمساع‪ ،‬و أحلى يف الصدور و أسلم من‬
‫فاحش اخلطإ‪،‬و أجلب لكل عني و غرة‪ ،‬من لفظ شريف ‪ ،‬و معىن بديع‪ ،‬و اعلم أن‬
‫ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك األطول ‪ ،‬بالكد و املطاولة و اجملاهدة‪ ،‬و‬
‫بالتكلف و املعاودة‪ ،‬و مهما أخطأك مل خيطئك أن يكون مقبوال قصدا ‪ ،‬و خفيفا‬
‫على اللسان سهال ‪ ،‬و كما خرج من ينبوعه و جنم من معدنه‪ ،‬و إياك و التوعر‪ ،‬فإن‬
‫التوعر يسلمك إىل التعقيد و التعقيد هو الذي يستهلك معانيك‪ ،‬و يشني‬
‫ألفاظك ‪ ...‬فإن أنت تكلفتهما ( الشعر و النثر) ومل تكن حاذفا مطبوعا ‪ ،‬و ال‬
‫حمكما شأنك‪ ،‬بصريا مبا عليك و لك‪ ،‬عابك من أنت أقل عيبا منه‪ ،‬و رأى من هو‬
‫دونك أنه فوقك ‪ ،‬فإن ابتليت بأن تتكلف القول‪ ،‬وتتعاطى الصنعة‪ ،‬و مل تسمح لك‬
‫الطباع يف أول وهلة‪ ،‬و تعاصى عليك بعد إجالة الفكرة فال تعجل وال تضجر" (‪، )1‬‬
‫فالطبع عند بشر معناه القول على السجية والبديهة و الفطرة ‪ ،‬و يكــون ذلك خالل‬
‫أوقـات خاصة مناسبة تكون فيها النفس مستعدة نشطة مرتاحة غري منشغلة أو تعبة‪،‬‬
‫أما التكلف فهو الكد و اجملاهدة والتعـقيد و التوعر ‪.‬‬
‫و يرى اجلاحظ أن مذهب املطبوعني هم " الذين تأتيهم املعاين سهوا و رهوا‪،‬‬
‫وتنثال عليهم األلفاظ انثياال " (‪، )2‬و يرى يف هذا الصدد أن " كل شيء للعرب فإمنا‬
‫هو بديهة و ارجتال و كأنه إهلام‪ ،‬و ليست هناك معاناة و ال مكابدة‪ ،‬و ال إجالة فكر‬
‫وال استعانة … و كانوا ( العرب ) أميني ال يكتبون‪،‬و مطبوعني ال يتكلفون‪،‬‬
‫وكان الكالم اجليد عندهم أظهر و أكثر" (‪ ، )3‬فاجلاحظ هنا يربط بني الطبع والنزعة‬
‫الشفهية اليت تعتمد على البديهة واالرجتال ‪ ،‬وال جمال للتفكري والروية ‪ ،‬فالطبع عند‬
‫اجلاحظ معناه البديهة و االرجتال و االقتدار على القول دون معاناة‪ ،‬و التكلف بضد‬

‫‪ - 1‬البيان و التبيني ‪ :‬للجاحظ ‪. 138 – 1/135 ،‬‬


‫‪ - 2‬البيان و التبيني ‪. 2/13 :‬‬
‫‪ - 3‬البيان و التبيني ‪. 3/28 :‬‬

‫‪2‬‬
‫ذلك ‪ ،‬و اجلاحظ جيعل مزية " الطبع " للعرب دون غريهم من األمم يف معرض رده‬
‫على الشعوبية يف كتابه " البيان و التبيني" ‪.‬‬
‫و يرى ابن املدبر أن الكاتب الذي يستأهل أن يسمى كاتبا بليغا‪ ،‬وينسب إىل‬
‫حرفة الكتابة لشرفها هو " من إذا حاول صيغة كتاب سالت على قلمه عيون الكالم‬
‫من ينابيعها‪ ،‬وظهرت من معادهنا‪ ،‬و بدرت من مواطنها من غري استكراه و ال‬
‫اغتصاب " (‪. )1‬‬
‫و يرى املرزوقي أنه " مىت رفض التكلف و التعمل‪ ،‬وخلي الطبع املهذب بالرواية‪،‬‬
‫املدرب يف الدراسة الختياره فاسرتسل غري حممول عليه‪ ،‬و ال ممنوع مما مييل إليه أدى‬
‫من لطافة املعىن‪ ،‬و حالوة اللفظ‪ ،‬ما يكون صفوا بال كدر‪ ،‬و ال عفوا بال جهد ‪،‬‬
‫و ذلك هو الذي يسمي املطبوع ومىت جعل زمام االختيار بيد التعمل والتكلف عاد‬
‫الطبع مستخدما متملكا‪ ،‬و أقبلت األفكار تستحمله أثقاهلا‪ ،‬و ترتدد يف قبول ما‬
‫يؤدى إليها مطالبة له باإلغراب يف الصنعة‪ ،‬و جتاوز املألوف إىل البدعة‪ ،‬فجاء مؤداه و‬
‫أثر التكلف يلوح على صفحاته‪ ،‬و ذلك هو املصنوع" (‪.)2‬‬
‫فالطبع عند املرزوقي يعين االسرتسال على السجية‪ ،‬و اخللو من التكلف و التصنع‬
‫و أن تكون األلفاظ حلوة‪ ،‬و املعـاين لطيفة‪ ،‬أما الصنعة فهي اإلعراب ‪ ،‬وجتاوز‬
‫املألوف املتعارف عليه إىل البــدعة‪ ،‬و إن كان املالحظ أن املرزوقي يقيد " الطبع"‬
‫جبملة " املهذب بالرواية‪ ،‬املدرب يف الدراسة"‪ ،‬فهو ال يربط الطبع باملوهبة وحدها ‪،‬‬
‫بل يضيف إليها عناصر أخرى كالثقافة و املمارسة‪.‬‬
‫و يرى ابن شهيد األندلسي أن " إصابة البيان ال يقوم هبا حفظ كثري الغريب ‪،‬‬
‫واستيفاء مسائل النحو‪ ،‬و إمنا يقوم هبا الطبع مع وزنه من هذين ‪ :‬النحو و الغريب‪،‬‬

‫‪ - 1‬الرسالة العذراء ‪ :‬البن املدبر ( ضمن مجهرة رسائل العرب) ‪. 4/199 ،‬‬
‫‪ - 2‬شرح ديوان احلماسة ‪ :‬للمرزوقي ‪. 1/12 ،‬‬

‫‪3‬‬
‫ومقدار طبع االنسان إمنا يكون على مقدار تركيب نفسه مع جسمه فمن كانت‬
‫نفسه يف أصل تركيبه مستولية على جسمه‪ ،‬كان مطبوعا روحانيا‪ ،‬يطلع صور الكالم‬
‫واملعــاين يف أمجل هيئاهتا‪ ،‬و أروق لبساهتا‪ ،‬و من كان جسمه مستوليا على نفسه‬
‫– من أصل تركيبه‪ -‬و الغالب على حسه كان ما يطلع من تلك الصور ناقصا عن‬
‫الدرجة األوىل يف الكمال و التمام ‪ ،‬و حسن الرونق و النظام" (‪ ، )1‬فابن شهيد‬
‫يرى أن تعليم اللغة بغريبها و حنوها ال ميكن أن يصنع أديبا‪ ،‬و إمنا ينبغي أن يكون "‬
‫الطبع" هو األساس‪ ،‬مث يصقل هذا الطبع بالثقافة اللغوية و النحوية ‪ ،‬و يفسر " الطبع"‬
‫بأنه غلبة النفس على اجلسم‪ ،‬فالذي تتغلب نفسه على جسمه يكون مطبوعا روحانيا‬
‫فرتد الصور عنه يف هيئة مجيلة ‪ ،‬و الذي يتغلب جسمه على روحه تأيت صور الكالم‬
‫عنده ناقصة يف كماهلا و رونقها و نظامها ‪ ،‬وهذا التفسري للطبع – على حد تعبري‬
‫إحسان عباس – تفسري غريب تفرد به ابن شهيد‪ ،‬و مل يرد له نظري عند املشارقة (‪. )2‬‬
‫و هكذا نالحظ أن معظم النقاد متفقون على أن املطبوع من األدباء هو الذي‬
‫يأتيه القول طوعا دون تكلف أو مشقة‪ ،‬و دون إجهاد لفكره و خياله‪ ،‬و أن املتكلف‬
‫من األدباء هو الذي يعمل الفكر‪ ،‬و يستفرغ اجلهد‪ ،‬و يكد الذهن‪ ،‬و يتكلف ضروبا‬
‫من البيان‪ ،‬و ألوانا من البديع‪ ،‬حماولة منه لإلتيان بكل ما هو جديد‪ ،‬و رمبا يكون مرد‬
‫هذا إىل اختالف األدباء من حيث املوهبة و الطبع‪ ،‬و تفاوهتم من حيث اخلربة و‬
‫الثقافة‪.‬‬
‫و اخلطاب األديب العريب القدمي – قبل العصر العباسي‪ -‬يف معظمه خطاب‬
‫مطبوع العتماد أصحابه على املوهبة والطبع و البديهة و االرجتال ‪ ،‬املناسبة للمرحلة‬
‫الشفهية اليت متثل البداوة ‪ ،‬كما أشار إىل ذلك اجلاحظ يف نصه اآلنف الذكر‪ ،‬و على‬
‫العكس من ذلك فإن اخلطاب األديب بداية من العصر العباسي الذي انتقل فيه العرب‬
‫‪ - 1‬الذخرية ‪ :‬البن بسام ‪. 232 – 231 : 1/1 ،‬‬
‫‪ - 2‬تاريخ النقد األديب عند العرب ‪ :‬د‪ /‬إحسان عباس ‪ ،‬ص ‪. 479 :‬‬

‫‪4‬‬
‫من طور البداوة إىل طور احلضارة ‪ ،‬ومن املشافهة إىل الكتابة ‪ ،‬بدأت تغلب عليه‬
‫الصنعة و التكلف‪ ،‬ألن األدباء أدخلوا عليه عناصر جديدة يف الشكل و املضمون‪،‬‬
‫فاعتمدوا املعاين الفلسفية‪،‬و جلأوا إىل احللي اللفظيةو املعنوية ‪ ،‬و تكلفوا ألوانا من‬
‫الصور البيانية ‪ ،‬و أنواعا من احملسنات البديعة ‪.‬‬
‫و ال يعين هذا أن اخلطاب األديب اجلاهلي مثال خيلو من آثار الصنعة ‪ ،‬فقد الحظنا‬
‫عليه غلبة " السجع" مثال كمظهر من مظاهر الصنعة ‪ ،‬ولكنها الصنعة اخلفيفة احملببة‬
‫املتمشية مع الطبع‪ ،‬و اليت هي من آثار الفن‪ ،‬و ليست الصنعة املتكلفة‪ ،‬و بالتايل فإن‬
‫الطبع ال ينفي وجود الصنعة‪ ،‬ألهنا من طبيعة األدب‪ ،‬فكل أدب فيه قدر من الصنعة‬
‫الطبيعية املتولدة عن املوهبة‪ ،‬فإذا أجهد األديب فكره‪ ،‬وكد ذهنه‪ ،‬و أتعب خميلته‪ ،‬و‬
‫أسرف يف استخدام الصور‪ ،‬و تكلف أنواع احملسنات‪ ،‬و بالغ يف البحث عن املعاين‬
‫البعيدة ‪ ،‬و ظهر ذلك على نتاجه األديب‪ ،‬وصمناه بالصنعة و التكلف‪.‬‬
‫و إن كان املالحظ أيضا أن مفهوم الطبع قد تغري يف العصر العباسي‪ ،‬نتيجة‬
‫للتطور احلضاري وامتزاج الثقافات ‪ ،‬فلم يعد يعين االستعداد الفطري فقط‪ ،‬و إمنا‬
‫صار يعين االستعداد الفطري إىل جانب الثقافة و املمارسة و الدربة‪ ،‬و يف ذلك يقول‬
‫اجلرجاين ‪ " :‬و مالك األمر يف هذا الباب خاصة ترك التكلف‪ ،‬و رفض التعمل‬
‫واالسرتسال للطبع‪ ،‬و جتنب احلمل عليه و العنف به ‪ ،‬و لست أعين هبذا كل طبع‪،‬‬
‫بل املهذب الذي صقله األدب‪ ،‬و شحذته الرواية‪ ،‬و جلته الفطنة‪ ،‬و أهلم الفصل بني‬
‫الرديء و اجليد‪ ،‬و تصور أمثلة احلسن و القبح" (‪.)1‬‬
‫ونرى معظم النقاد مييلون مع " الطبع" و ميقتون التكلف و التصنع‪ ،‬و يعلن‬
‫اجلاحظ ذلك صراحة حينما يقول ‪ " :‬و مدار الالئمة‪ ،‬و مستقر املذمة حيث رأيت‬

‫‪ - 1‬الوساطة ‪ :‬للقاضي اجلرجاين ‪ ،‬ص ‪. 25 :‬‬

‫‪5‬‬
‫بالغة خيالطها التكلف‪ ،‬و بيـانا ميازجه التزيد" (‪ ، )2‬ويرى أن اسم " املتكلف" ال‬
‫يوضع إال يف مواضع الذم (‪ ، )2‬غري أنه يفرق بني التكلف و التنقيح؛ فالتنقيح إمنا يعين‬
‫ختري اللفظ اجليد‪ ،‬أما التكلف فيعين قهر األلفاظ‪ ،‬و اغتصاهبا حىت تظهر عليها صفة‬
‫االستكراه و التعقيد (‪. )3‬‬
‫أما القاضي اجلرجاين فريى أن "مع التكلف املقت‪ ،‬و للنفس عن التصنع نفرة‪،‬‬
‫ويف مفارقة الطبع قلة احلالوة‪ ،‬و ذهاب الرونق‪ ،‬و إخالق الديباجة" (‪. )4‬‬
‫بينما يرى صاحب "الربهان" أن التكلف يفسد الكالم‪ ،‬و أنه ممقوت فنا‬
‫و شرعا‪،‬يقول‪":‬فإن التكلف إذا ظهر يف الكالم هجنه‪،‬و قبح موقعه‪،‬و حسبك من ذم‬
‫التكلف أن اهلل سبحانه وتعاىل أمر رسوله‪-‬صلى اهلل عليه و سلم‪ -‬بالتربؤ منه فقال‪ :‬‬
‫قل ما أسألكم عليه من أجر ‪ ،‬و ما أنا من املتكلفني‪.)5( ‬‬
‫و الكالم املطبوع أحلى يف النفس‪ ،‬و ألذ من الكالم املتكلف املصنوع‪ ،‬و أشد‬
‫تأثريا على املتلقني ألنه خيرج من القلب صافيا من غري تصنع أو تكلف‪ ،‬و يف ذلك‬
‫يقول اجلاحظ ‪ " :‬و قد علمنا من يفرض الشعر‪ ،‬و يتكلف األسجاع‪ ،‬و يؤلف‬
‫املزدوج‪ ،‬و يتقدم يف حتـبـري املنثور‪ ،‬و قد تعمق يف املعاين‪،‬و تكلف إقامة الوزن‪ ،‬والذي‬
‫جتود به الطــبيعة‪ ،‬و تعطيه النفس سهوا رهوا ‪ ،‬مع قلة لفظه‪ ،‬و عدد هجائه‪ ،‬أمحد‬
‫أمرا‪ ،‬و أحسن موقــعا من القلوب‪ ،‬من كثري خرج بالكد والعالج‪ ...‬و الكلمة إذا‬
‫خرجت من القلب وقعت يف القلب‪ ،‬و إذا خرجت من اللسان مل جتاوز اآلذان" (‪.)6‬‬

‫‪ - 1‬البيان والتبيني ‪ :‬للجاحظ ‪. 1/13 ،‬‬


‫‪ - 2‬البيان و التبيني ‪. 2/18 :‬‬
‫‪ - 3‬احليوان ‪ :‬للجاحظ ‪. 1/88 ،‬‬
‫‪ - 4‬الوساطة ‪ :‬للجرجاين ‪ ،‬ص ‪. 19 :‬‬
‫‪ - 5‬الربهان يف وجوه البيان ‪ :‬البن وهب ‪ ،‬ص ‪ ، 163 :‬و اآلية من سورة ص ‪ :‬آية ‪. 86‬‬
‫‪ - 6‬البيان و التبيني ‪. 29 – 4/28 :‬‬

‫‪6‬‬
‫و الكالم الذي يصدر عن طبع أصيل يبدو سهال واضحا‪ ،‬ألن " سالمة اللفظ‬
‫تتبع سالمة الطبع‪،‬و دماثة الكالم بقدر دماثة اخللقة‪ ،‬و أنت جتد ذلك ظاهرا يف أهل‬
‫عصرك‪ ،‬و أبناء زمانك‪ ،‬و ترى اجلايف اجللف منه م كز األلفاظ ‪ ،‬معقد الكالم ‪ ،‬وعر‬
‫اخلطاب‪ ،‬حىت إنك رمبا وجدت ألفاظه يف صوته و نغمته‪ ،‬و يف جرسه و هلجته‪،‬‬
‫و من شـأن البداوة أن حتدث ذلك ‪ ،‬و ألجله قال النيب – صلى اهلل عليه وسلم‪: -‬‬
‫"من بــدا جـفا" (‪. )1‬‬
‫وقد ندد أبو هالل العسكري بالتكلف ‪ ،‬وما يؤدي إليه من غموض‪ ،‬وسجل‬
‫ظاهرة غريبة الحظها يف عصره‪ ،‬و هي ولوع بعض الناس بالكالم املتكلف الذي فيه‬
‫إهبام وغموض إذ يقول ‪ " :‬و ال خري يف املعاين إذا استكرهت قهرا‪ ،‬واأللفاظ إذا‬
‫اجرتت قسرا‪ ،‬و ال خري فيما أحيد لفظه إذا سخف معناه‪ ،‬و ال يف غرابة املعىن إال إذا‬
‫شرف لفظه مع وضوح املغزى‪ ،‬وظهور املقصد‪ ،‬و قد غلب اجلهل على قوم فصاروا‬
‫يستجيدون الكالم إذا مل يقفوا على معناه إال بكد ‪ ،‬و يستفصحونه إذا وجدوا ألفاظه‬
‫كزة غليظة‪ ،‬و جاسية غريبة‪ ،‬و يستحقرون الكالم إذا رأوه سلسا عذبا‪ ،‬و سهال‬
‫حلوا ‪ ،‬ومل يعلموا أن السهل أمنع جانبا‪ ،‬و أعز مطلبا‪ ،‬و هو أحسن موقعا‪ ،‬وأعذب‬
‫مستمعا‪ ،‬و هلذا قيل أجود الكالم السهل املمتنع " (‪ ، )2‬لذلك عيب يف اخلطاب‬
‫النثري الشفهي على اخلطباء مثال التشدق والتقعر ألهنما من مظاهر التكــلف (‪.)3‬‬
‫ويف القرن الرابع اهلجري اشتد ولوع بعض األدباء باستعمال السجع و املبالغة‬
‫فيه‪ ،‬إىل درجة التكلف ‪ ،‬و من مث انربى النقاد ملعاجلة هذه الظاهرة ‪ ،‬منبهني على‬
‫خطورة املبالغة يف الزخرف و التأنق ألن ذلك من شأنه أن يفرغ اخلطاب األديب من‬

‫‪ - 1‬الوساطة ‪ ،‬ص ‪. 18 :‬‬


‫‪ - 2‬الصناعتني ‪ :‬للعسكري ‪ ،‬ص‪. 75 :‬‬
‫‪ - 3‬البيان والتبيني ‪ :‬للجاحظ ‪. 271 ، 1/13 ،‬‬

‫‪7‬‬
‫حمتواه و مضمونه‪ ،‬فيغدو جمرد أالعيب لغوية جوفاء (‪ ، )1‬غري أن مقوالهتم النقدية يف‬
‫هذا الصدد مل يكن هلا من التأثري ما ميكن ملسه على واقع احلال بالنسبة إىل اخلطاب‬
‫األديب ‪ ،‬فقد كانت أقواهلم جمرد صرخة يف واد سرعان ما جرفها تيار التكلف العارم‪،‬‬
‫يف عصر بلغ فيه التصنع احلضــاري قمته ‪.‬‬

‫اللفظ والمعنــى‬

‫قضية اللفظ واملعىن أو الشكل و املضمون مما يتعلق ببنية اخلطاب األديب عموما‬
‫من القضايا النقدية اليت مترس هبا النقد العريب القدمي‪،‬و قد نشأت هذه الفكرة‬
‫وترعرعت يف بيئة املتكلمني الذين اجته بعضهم إىل ربط قضية اإلعجاز القرآين بالنظم‬
‫أو الصياغة‪،‬و يعد أبو إسحاق‬
‫النظام(‪ " )2‬أول من فصل يف سياق مناقشته قضية اإلعجاز شكل القرآن عن مضمونه‪،‬‬

‫‪ - 1‬الصناعتني ‪ ،‬ص‪ ، 286 :‬و الربهان ‪ :‬البن وهب ‪ ،‬ص ‪ ، 165 :‬وأخالق الوزيرين ‪ :‬للتوحيدي ‪ ،‬ص ‪134 :‬‬
‫و كمال البالغة ‪ :‬لليزدادي ‪ ،‬ص ‪.17 :‬‬

‫‪ - 2‬هو أبو اسحاق ابراهيم بن سيار بن هاىنء النظام ‪ ،‬كان متكلما شاعرا أديبا‪ ،‬من أئمة املعتزلة يف عصره‪ ،‬و هو أستاذ‬
‫اجلاحظ‪ ،‬تويف سنة ‪ 231‬هـ ‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫فأصبح مصطلح اإلعجاز منذ وقت مبكر يطلق على مجلة اخلصائص البيانية و البالغية‬
‫و اللغوية العامة املاثلة يف هذا النص" (‪. )1‬‬
‫و قد كثر حديث النقاد عن هذه القضية‪ ،‬وانقسموا إزاءها إىل طوائف ثالث؛‬
‫منهم من يفضل اللفظ على املعىن‪ ،‬و منهم من يفضل املعىن على اللفظ‪ ،‬و منهم من‬
‫وقف موقفا وسطا توفيقيا فاهتم بطريف الثنائية‪ ،‬و مل يفضل طرفا على اآلخر‪.‬‬
‫و ينبغي بداية أن حندد مفهوم طريف هذه الثنائية ؛ فاملعىن يقصد به جانب‬
‫املضمون‪ ،‬إذ من دالالته الفكرة النثرية اليت يَـبني عنها البيت أو القصيدة‪ ،‬أما اللفظ‬
‫فاملقصود به جانب الصياغة أو الشكل (‪. )2‬‬
‫و رمبا يعد اجلاحظ على رأس الطائفة األوىل من النقاد الذين آثروا اللفظ على‬
‫املعىن يف نظريته املشهورة اليت يقول فيها ‪ " :‬و املعاين مطروحة يف الطريق يعرفها‬
‫العجمي و العريب‪ ،‬و البدوي و القروي‪ ،‬و املدين ‪ ،‬وإمنا الشأن يف إقامة الوزن‪،‬‬
‫و ختري اللفظ‪ ،‬و سهولة املخرج ‪ ،‬وكثرة املاء‪ ،‬و يف صحة الطبع‪ ،‬وجودة‬
‫السبك"(‪ ،)3‬فاجلاحظ هنا صريح يف تفضيله اجلانب الشكلي من اخلطاب األديب‬
‫املتمثل يف الوزن‪ ،‬و اللفظ و الصياغة على املضمون‪ ،‬و رمبا كانت هناك عوامل‬
‫كثرية دفعت اجلاحظ إىل القول هبذه النظرية منها ما يرجع إىل املناخ األديب‬
‫و النقدي السائد يف عصره‪ ،‬ومنها ما يرجع إىل طبيعة التكوين الثقايف للجاحظ‪،‬‬
‫و يفصل الدكتور إحسان عباس احلديث يف شرح هذه العوامل فيقول ‪ " :‬منها‬
‫أن اجلاحظ مل يتابع أستاذه النظام يف قوله بالصرفة تفسريا لإلعجاز ‪ ،‬و إمنا وجد‬
‫أن اإلعجاز ال يفسر إال عن طريق النظم‪ ،‬و من آمن بأن النظم حقيق برفع البيان‬
‫إىل مستوى اإلعجاز مل يعد قادرا على أن يتبىن نظرية تقدمي املعىن على املعىن‪،‬‬
‫‪ - 1‬التفكري البالغي عند العرب ‪ :‬د‪ /‬محادي صمود‪ ،‬ص‪. 38 :‬‬
‫‪ - 2‬نظرية املعىن يف النقد العريب ‪ :‬د‪ /‬مصطفى ناصف ‪ ،‬ص ‪. 38 :‬‬
‫‪ - 3‬احليوان ‪ :‬للجاحظ ‪. 3/132 ،‬‬

‫‪9‬‬
‫ومنها أن عصر اجلاحظ كان يشهد بوادر محلة عنيفة يقوم هبا النقاد لتبيان السرقة‬
‫يف املعاين بني الشعراء‪ ،‬و ال نستبعد أن يكون اجلاحظ قد حاول الرد على هذا‬
‫التيار مرتني ‪ :‬مرة بأن ال يشغل نفسه مبوضوع السرقات كما فعل معاصروه‪ ،‬و‬
‫مرة بأن يقرر أن األفضلية للشكل ألن املعاين قدر مشرتك بني الناس مجيعا‪ ،‬و‬
‫سبب ثالث قـائم يف طبيعة اجلاحظ نفسه‪ ،‬فقد كان رجال خصب القرحية‪ ،‬ال‬
‫يعيـيه املوضوع‪ ،‬و ال يثــقل عليه املـحتوى أيا كان لونه‪ ،‬و لذا فإنه كان حيسن أن‬
‫املعىن موجـود يف كل مكان‪ ،‬و ما على األديب إال أن يتناوله و يصوغه صياغة‬
‫متفردة " (‪. )1‬‬
‫و أيا تكن األسباب اليت دفعت اجلاحظ إىل اإلعالء من شأن اللفظ على حساب‬
‫املعىن‪ ،‬فإن الذي ال شك فيه هو أن رأي اجلاحظ هذا كان له أثر كبري على من جاء‬
‫بعده من النقاد‪ ،‬وأسهم يف تكريس الفصل بني اللفظ و املعىن‪ ،‬أو الشكل‬
‫و املضمون يف العمل األديب ‪.‬‬
‫و يف اإلطار نفسه يرى اجلاحظ أال قيمة للمعىن بدون لفظ ألنه يظل مستورا خفيا‬
‫حبيس خلجات النفوس‪ ،‬و مكنونات الصدور‪ ،‬فحياة املعىن و نشاطه و حركيته‬
‫متعلقة باللفظ‪ ،‬وبدون هذا اللفظ يظل املعىن مواتا وعدما‪ ،‬و يف ذلك يقول ‪" :‬املعاين‬
‫القائمة يف صدور الناس‪ ،‬املتصورة يف أذهاهنم‪ ،‬و املتخلجة يف نفوسهم‪ ،‬و املتصلة‬
‫خبواطرهم‪ ،‬و احلادثة عن فكرهم مستورة خفية‪ ،‬و بعيدة وحشية‪ ،‬و حمجوبة مكنونة‪،‬‬
‫وموجودة يف معىن معدومة ‪ ،‬ال يعرف اإلنسان ضمري صاحبه‪ ،‬و ال حاجة أخيه‬
‫وخليطه‪ ،‬ومعىن شريكه‪ ،‬و املعاون له على أموره‪ ،‬و على ما ال يبلغه من حاجات‬
‫نفسه إال بغريه‪ ،‬و إمنا حيي تلك املعاين ذكرهم هلا‪ ،‬و إخبارهم عنها‪ ،‬و استعماهلم‬
‫إيـاها … و على قدر وضوح الداللة‪ ،‬وصواب اإلشارة‪ ،‬وحسن االختصار‪ ،‬و دقة‬

‫‪ - 1‬تاريخ النقد األديب عند العرب ‪ :‬د‪/‬إحسان عباس ‪ ،‬ص ‪. 99 – 98 :‬‬

‫‪10‬‬
‫املدخل يكون إظهار املعىن‪ ،‬كلما كانت الداللة أوضح و أفصح‪ ،‬و كانت اإلشارة‬
‫أبني و أنور كان أنفع و أجنع" (‪. )1‬‬
‫فاجلاحظ هنا يطرح عالقة اللغة بالفكر‪ ،‬إذ ال قيمة للفكر ‪ ،‬بل ال وجود له أصال‬
‫بدون لغة‪ ،‬لسبب بسيط هو أننا ال نستطيع أن نفكر بدون لفظ‪ ،‬و ميكن أن نشرح‬
‫ذلك باملعادلة اآلتية ‪:‬‬
‫و الفكر بعد اللسان لغة ‪.‬‬ ‫اللغة قبل اللسان فكر‬
‫ومن هنا يكون اللفظ (= اللغة) أداة تواصل و اتصال بني الناس‪ ،‬و يف السياق‬
‫ذاته حياول الدكتور عبد العزيز محودة أن يقدم قراءة عصرية لنص اجلاحظ النقدي‬
‫املذكور‪ ،‬فريى بأنه يقدم" نظرية اتصال لغوية يقوم اجلاحظ فيها بتعريف الرسالة‬
‫واملرسل و املستقبل و الشفرة‪ ،‬فالرسالة هي " املعاين القائمة يف صدور العباد"‪ ،‬أما‬
‫املرسل "العباد" الذي يشري إليه اجلاحظ‪ ،‬فهو الفرد أو اإلنسان يف عزلته و هو ينشد‬
‫االتصال‪ ،‬أما املستقبل أو املتلقي فهو اإلنسان اآلخر يف عزلته " الذي ال يعرف ضمري‬
‫صاحبة وال حاجة أخيه و خليطه"‪ ،‬أما الشفرة فهي اللغة اليت هبا حتيا املعاين اخلافية يف‬
‫صدر املرسل " (‪ ، )2‬و لعلي يف حاجة إىل القول هنا بأننا جند دائما يف اآلراء النقدية‬
‫املعاصرة ما مياثلها يف نقدنا العريب القدمي مما ميكن التأسيس عليه لشرعية استمرار هذه‬
‫اآلراء يف حاضرنا بعد إعادة قراءهتا قراءة جديدة‪.‬‬
‫و إذا كان اجلاحظ قد نادى بأفضلية اللفظ على املعىن إال أننا باملقابل جند له‬
‫نصوصا أخرى تدل على أنه مييل إىل التوفيق بني اللفظ و املعىن ‪ ،‬وأنه كما يتفاوت‬
‫اللفظ يتفاوت املعىن؛ فاملعىن فيه ما هو شريف ‪ ،‬و فيه ما هو خسيس فمن " أراد‬
‫معىن كرميا ‪ ،‬فليلتمس له لفظا كرميا‪ ،‬فإن حق املعىن الشريف اللفظ الشريف"(‪،)3‬‬
‫‪ - 1‬البيان و التبيني ‪. 1/75 :‬‬
‫‪ - 2‬املرايا املقعرة ‪ :‬د‪ /‬عبد العزيز محودة ‪ ،‬ص ‪. 223 :‬‬
‫‪ - 3‬البيان و التبيني ‪. 1/136 :‬‬

‫‪11‬‬
‫بينما "سخيف األلفاظ مشاكل لسخيف املعاين" (‪ ، )4‬فهل ميكن القول هنا إن يف‬
‫كالم اجلاحظ عن اللفظ و املعىن تناقضا وخلطا ‪ ،‬شأنـه يف ذلك شأن غريه من كثري‬
‫من النقـاد و البالغيني العرب القدماء ؟ أم أن يف عبارة اجلاحظ األوىل اليت يفصل فيها‬
‫بني اللفظ واملعىن غموضا ‪ ،‬و أن " الذي حيدد مفهومه للفظ و املعىن هو كتاب البيان‬
‫والتبيني كله ‪ ،‬و مراجعة ما ينتشر يف ثناياه متعلقا مبدلول الكلمتني " (‪. )2‬‬
‫ومهما يكن فقد كان ملقولة اجلاحظ السابقة أثر سليب على كثري من النقاد من‬
‫بعـده‪ ،‬وحسبنا أن نذكر أن أبا هالل العسكري يكاد يردد قول اجلاحظ مبعناه ولفظه‬
‫إذ يقول ‪ ":‬ليس الشأن يف إيراد املعاين‪ ،‬ألن املعاين يعرفها العريب والعجمي‪ ،‬والقروي‬
‫و البدوي‪ ،‬وإمنا هو يف جودة اللفظ و صفائه‪ ،‬وحسنه و هبائه و نزاهته ونقائه‪ ،‬و‬
‫كثرة طالوته و مائه‪ ،‬مع صحة السبك و الرتتيب‪ ،‬و اخللو من أود النظم والتأليف‬
‫‪ ...‬و هلذا تأنق الكاتب يف الرسالة‪،‬و اخلطيب يف اخلطبة‪ ،‬و الشاعر يف القصيدة‪،‬‬
‫يبالغون يف جتويدها‪ ،‬و يغلون يف ترتيبها ‪ ،‬ليدلوا على براعتهم‪ ،‬وحذقهم بصناعتهم‪،‬‬
‫و لو كان األمر يف املعاين لطرحوا أكثر ذلك فرحبوا كدا كثريا‪ ،‬وأسقطوا عن أنفسهم‬
‫تعبا طويال" (‪.)3‬‬
‫و من بني الذين أكدوا أولوية املعىن على اللفظ أبوحيان التوحيدي‪ ،‬إذ جنده يعيب‬
‫على بعض الكتاب احتفاهلم باللفظ‪ ،‬وإمهاهلم املعىن ‪ ،‬فقد الحظ على ذي الكفايتني‬
‫بن بن العميد بأنه " نزر املعاين‪ ،‬شديد الكلف باللفظ " (‪ ، )4‬كما أخذ على الصاحب‬
‫بن عباد كلفه باللفظ‪ ،‬إذ يذكر من عيوب طريقته يف الكتابة " الذهاب مع اللفظ‬
‫دون املعىن" (‪ ، )5‬كما جند التوحيدي جيعل املعىن على رأس عناصر اإلبداع األديب‬
‫‪ - 1‬البيان و التبيني ‪. 1/145 :‬‬
‫‪ - 2‬قضايا النقد األديب بني القدمي و احلديث‪ :‬د‪ /‬حممد زكي العشماوي ‪ ،‬ص ‪. 249 – 248 :‬‬
‫‪ - 3‬الصناعتني ‪ :‬للعسكري‪ ،‬ص ‪. 73 – 72 :‬‬
‫‪ - 4‬اإلمتاع و املؤانسة ‪ :‬للتوحيدي ‪. 1/66 ،‬‬
‫‪ - 5‬اإلمتاع و املؤانسة ‪ :‬للتوحيدي‪. 1/64 ،‬‬

‫‪12‬‬
‫فيقــول ‪ " :‬و جيب أن يكون الغرض األول يف صحة املعىن‪ ،‬و الغرض الثاين يف ختــري‬
‫اللفــظ‪ ،‬و الغرض الثالث يف تسهيل النظم‪ ،‬وحالوة التأليف‪ ،‬واجتــالب الرونق " (‪.)1‬‬
‫غري أن التوحيدي مل يتوسع يف شرح رأيه و التربير له‪ ،‬و إن كان يرتب على هذه‬
‫القضية و رأيه فيها تقييمه العمل الفين‪ ،‬و حتديده نوعية األدب الذي يفضله‪ ،‬و هو‬
‫األدب الذي جيمع بني العقل و الفن‪ ،‬و إن شئنا قلنا " الفائدة و اإلمتاع " ؛ الفائدة‬
‫املتحققة يف املعىن‪ ،‬و اإلمتاع املتحقق يف اللفظ‪ ،‬إذ يقول عقب الفقرة السابقة ‪" :‬فخري‬
‫الكالم ما أيده العقل باحلقيقة‪ ،‬وساعده اللفظ بالرقة‪ ،‬و كان له سهولة يف السمع ‪،‬‬
‫ووقع يف النفس ‪ ،‬وعذوبة يف القلب ‪ ...‬جيمع لك بني الصحة و البهجة و التمام ؛‬
‫فأما صحته فمن جهة شهادة العقل بالصواب‪ ،‬و أما هبجته فمن جهة جوهر اللفظ‪،‬‬
‫واعتدال القسمة‪ ،‬و أما متامه فمن جهة النظم الذي يستعري من النفس شغفها‪ ،‬ويستثري‬
‫من الروح كلفها " (‪. )2‬‬
‫و ال بد أن نشري إىل أن التوحيدي بتأكيده على أولوية املعىن ال يهمل اللفظ‪ ،‬وإمنا‬
‫يرى ضرورة التوازن بني اللفظ و املعىن و التحامهما يف اخلطاب األديب‪ ،‬فجودة اللفظ‬
‫عند التوحيدي أحد العناصر الرئيسة الثالثة اليت يتشكل منها اخلطاب األديب إىل‬
‫جانب صحة املعىن‪ ،‬و حسن النظم‪ ،‬و هو يؤكد هذه احلقيقة بقوله ‪ " :‬وال تعشق‬
‫اللفظ دون املعىن‪ ،‬و ال هتو املعىن دون اللفظ " (‪ ، )3‬و ذلك إميانا منه بالتكامل بني‬
‫ركين العملية اإلبداعية ‪ :‬الشكل و املضمون‪،‬و إدراكا منه بأن اللفظ و إن كان جمرد‬
‫وسيلة ال غاية يف حد ذاته‪ ،‬فإنه جيب أن يوىل من العناية ما جيعله يؤدي املعىن يف دقة‬
‫و عمق ومجــال ‪.‬‬

‫‪ - 1‬أخالق الوزيرين ‪ :‬للتوحيدي ‪ ،‬ص ‪. 135 :‬‬


‫‪ - 2‬أخالق الوزيرين ‪ ،‬ص ‪. 136 – 135 :‬‬
‫‪ - 3‬اإلمتاع و املؤانسة ‪. 1/10 ،‬‬

‫‪13‬‬
‫أما مذهب التوفيقيني فإننا ميكن أن نتلمسه يف حماولة مبكرة لكلثوم بن عمرو‬
‫العتايب يذهب فيها إىل أن " األلفاظ أجساد‪ ،‬و املعاين أرواح" (‪ ، )1‬وجند هذا التشبيه‬
‫للفظ باجلسد‪ ،‬و املعىن بالروح يتكرر عند كثري من النقاد من بعده كابن طباطبا‬
‫العلوي الذي يرى أن " الكالم الذي ال معىن له كاجلسد الذي ال روح فيه" (‪، )2‬‬
‫وهي حماولة إلظهار مدى التآلف و االنسجام بني عنصري اخلطاب األديب‪ ،‬فكما أن‬
‫اجلسد ال قيمة له بدون روح‪ ،‬و الروح ال قيمة هلا بدون جسد‪ ،‬ألهنا شيء غري‬
‫حمسوس‪ ،‬فكذلك اللفظ ال قيمة له بدون املعىن‪ ،‬إذ يستحيل إىل جمرد رموز كتابية ‪،‬‬
‫أو أصوات كالمية ال داللة هلا‪ ،‬وكذلك املعىن ال وجود له إال يف إطار اللفظ ‪.‬‬
‫و يربز لنا اهلمذاين هذه العالقة احلميمية املتشابكة بني اللفظ و املعىن اليت حتقق‬
‫للخطاب األديب مجاله مضافا إليها عناصر أخرى بقوله ‪ " :‬فإذا كانت األلفاظ‬
‫مشاكلة للمعاين يف حسنها‪ ،‬و املعاين موافقة لأللفاظ يف مجاهلا ‪ ،‬و انضاف إىل ذلك‬
‫قوة من الصواب ‪ ،‬و صفاء من الطبع ‪ ،‬و مادة من األدب‪ ،‬وعلم بطرق البالغات ‪،‬‬
‫ومعرفة برسوم الرسائل و املكاتبات‪ ،‬كان الكمال " (‪ ، )3‬فاملشاكلة اجلميلة بني اللفظ‬
‫و املعىن يف انسجام و تناسق تام باإلضافة إىل صفاء الطبع‪ ،‬و التمكن من أدوات‬
‫البالغة‪ ،‬واملعرفة بأساليب الكتابة اجليدة كل ذلك من شأنه أن حيقق للخطاب النثري‬
‫صفة الكمال من الناحية اجلمالية‪ ،‬و هي نظرة تتفق مع ما انتهى إليه النقد احلديث من‬
‫اعتباطية القول بالفصل بني الشكل و املضمون أو اللفظ و املعىن أو الدال و‬
‫املدلول إذ ليس مثة حدود يف التـأثري األديب بني املعىن و املبىن‪ ،‬و إمنا هنالك حالة‬
‫واحدة تكاد ال تتجزأ ‪ ،‬تتولد من انصـهار املعىن و املبىن يف وحدة تامة خالل حلظة‬
‫اإلبداع اليت يعانيها األديب ‪.‬‬

‫‪ - 1‬الصناعتني ‪ :‬للعسكري ‪ ،‬ص ‪. 179 :‬‬


‫‪ - 2‬عيار الشعر ‪ :‬البن طباطبا ‪ ،‬ص ‪. 11 :‬‬
‫‪ - 3‬األلفاظ الكتابية ‪ :‬للهمذاين ‪ ،‬ص ‪. 14 :‬‬

‫‪14‬‬
‫و يربز لنا هذا املفهوم بصورة أدق يف قول اخلطايب ( ت ‪388‬هـ ) ‪ " :‬و إمنا‬
‫يقوم الكالم بأشياء ثالثة‪ :‬لفظ حامل‪ ،‬ومعىن به قائم‪ ،‬و رباط هلما ناظم" (‪ ، )1‬وهذه‬
‫املقولة – على إجيازها – تتميز بالدقة العلمية حبيث ميكن القول إهنا تشكل نظرية‬
‫لغوية‪ ،‬فنحن هنا – كما يقول الدكتور عبد العزيز محودة ‪ " : -‬أمام شروط حتقق‬
‫الداللة أو املعىن‪ ،‬و هو ما يقصده اخلطايب بـ " إمنا يكون الكالم " و هذه الشروط هي‬
‫وجود نسق من العالمات ‪ ،‬كل عالمة تتكون من عنصرين الدال و املدلول‪ ،‬وهو‬
‫معىن " لفظ حامل‪ ،‬و معىن به قائم" ‪ ،‬لكن هذه العالمات اللغوية تبقى عاجزة عن‬
‫حتقيق املعىن إىل أن ينظمها نظام عالقات ميكنها جمتمعة من حتقيق الداللة" (‪ ،)2‬وهكذا‬
‫فال قيمة للفظ يف حد ذاته‪ ،‬وال للمعىن يف حد ذاته‪ ،‬منفردين كل منهما عن اآلخر‪،‬‬
‫وإمنا قيمتها تظهر يف تالمحهما و انسجامهما‪ ،‬و عدم الفصل بينهما يف البناء اهلندسي‬
‫املتكامل للخطاب األديب ‪.‬‬

‫‪ - 1‬بيان إعجاز القرآن ‪ :‬للخطايب ( ضمن ثالث رسائل يف إعجاز القرآن ) ‪ ،‬ص ‪. 27 :‬‬
‫‪ - 2‬املرايا املقعرة ‪ :‬د‪ /‬عبد العزيز محودة ‪ ،‬ص ‪. 234 :‬‬

‫‪15‬‬
‫عملـيةـ اإلبـداع‬

‫تعد عملية اإلبداع األديب ظاهرة معقدة يكتنفها كثري من الغموض و اإلهبام ‪،‬‬
‫ورمبا يعود ذلك إىل ارتباطها بالنفس البشرية ‪ ،‬و ما يكتنف هذه النفس من تعقيد‬
‫وتشعب و أغوار يصعب الولوج إليها ‪ ،‬و اإلملام خبفاياها ‪ ،‬و من مث كانت احملاوالت‬
‫األوىل لتفسري ظاهرة اإلبداع األديب شعرا كان أم نثرا مرتبطة بتربيرات أسطورية‬
‫مردها – يف غالب األحيان‪ -‬إىل عامل اجلن و الشياطني والسحر ‪ ،‬و هو الوقف الذي‬
‫وقفته قريش من الظاهرة القرآنية يف إعجازها البياين ‪ ،‬إذ نعتوه بقول شيطان كما‬
‫ينص على ذلك القرآن الكرمي يف معرض رده على دعواهم و تفنيده هلا ‪  :‬و ما هو‬
‫بقول شيطان رجيم ‪ ، )1( ‬كما ربطوا القرآن الكرمي أيضا بالسحر كما تبينه اآلية‬
‫الكرمية ‪ ‬و قالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا هبا‪ ،‬فما حنن لك مبؤمنني ‪. )2( ‬‬
‫و احلقيقة أن إضفاء الطابع األسطوري اخلرايف على عملية اإلبداع ‪ ،‬يعود إىل‬
‫العصر اجلاهلي ‪ ،‬إذ كان للكهان – و ما عرف عنهم من إخبار عن األمور الغيبية‬
‫بنثر مسجوع‪ -‬دور يف التأسيس هلذه املفاهيم ‪ ،‬فقد كان املعتقد أن لكل كاهن "‬
‫رئي " من اجلن يظهر له ‪ ،‬و يلقي عليه ما شاء من قول ‪ ،‬و قد جاء يف السرية‬
‫النبوية أن عتبة بن ربيعة قال للرسول – صلى اهلل عليه وسلم – ‪ " :‬و إن كان هذا‬
‫الذي يأتيك رئيا تراه ال تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب ‪ ،‬و بذلنا فيه‬
‫أموالنا حىت نربئك منه ‪ ،‬فإنه رمبــا غلب التابع على الرجل حىت يداوى منه" (‪.)3‬‬
‫غري أنه مبرور الوقت فإن " هذا التفسري " امليتافيزيقي " للظاهرة اإلبداعية يف النقد‬
‫العريب أخذ ينحسر شيئا فشيئا كلما ابتعد الناس عن العصر اجلاهلي ‪ -‬عصر األساطري‬
‫‪ - 1‬سورة التكوير ‪ :‬آية ‪. 25‬‬
‫‪ - 2‬سورة األعراف ‪ :‬آية ‪. 132‬‬
‫‪ - 3‬السرية النبوية ‪ :‬البن هشام ‪. 314-1/313 ،‬‬

‫‪16‬‬
‫و اإلميان خبطر اجلن و الشياطني يف حياة الناس‪ -‬ليحل حمله تفسري أقرب إىل الروح‬
‫العلمية" (‪.)1‬‬
‫و من هنا أدرك النقاد العرب القدامى صعوبة عملية اإلبداع األديب ‪ ،‬فهي ليست‬
‫شيئا هينا سهال خاضعا إلرادة املبدع و مشيئته يأتيه مىت شاء و حيثما شاء ‪ ،‬بل هو‬
‫معاناة نفسية و عقلية شديدة التعقيد و الصعوبة ‪ ،‬إهنا أشبه حبالة املخاض اليت تسبق‬
‫والدة اخلطاب األديب ‪.‬‬
‫و قد ربط النقاد العرب القدامى بني اإلبداع و املوهبة ‪ ،‬فال إبداع ملن ال موهبة‬
‫له ‪ ،‬فاجلاحظ مثال يشجع الناشئة على ولوج ميدان األدب بشرط أن تكون هلم‬
‫القرحية املساعفة على ذلك ‪ ،‬و هي يف مفهوم اجلاحظ املوهبة األدبية ‪ ،‬و االستعداد‬
‫الطبيعي لكتابة املنظوم و املنثور ‪ ،‬و لألخذ بفن القول أيا ما كان نوعه‪ ،‬ويف ذلك‬
‫يقول اجلاحظ ‪ " :‬و أنا أوصيك أن ال تدع التماس البيان و التبيني إن ظنت أنك لك‬
‫فيها طبيعة ‪ ،‬و أهنما يناسبانك بعض املناسبة ‪ ،‬و يشاكالنك بعض املشاكلة ‪ ،‬وهتمل‬
‫طبيعتك فيستويل اإلمهال على قوة القرحية ‪ ،‬و يستبد هبا سوء العادة" (‪ ، )2‬ويستشف‬
‫من قول اجلاحظ أن الطبع وحده ال يكفي ألن األديب البد له من الطبع مث الدربة‬
‫و املمارسـة ‪ ،‬مث التجربة و اخلطـأ حىت يستبـني الطريق املستقيم الذي يتواءم معه ‪ ،‬و‬
‫جيعل أبو حيان التوحيدي الطبع على رأس العوامل املكونة لشخصية اجلاحظ األدبية‬
‫كصاحب مذهب يف الكتابة الفنية ‪ ،‬فيقول ‪ " :‬و مذهب اجلاحظ مدبر بأشياء ال‬
‫و العلم‬ ‫تلتقي عند كل إنسان ‪ ،‬و ال جتتمع يف صدر كل أحد ‪ :‬بالطبـع و املنشـأ‬
‫و األصول و العـادة و العمر و الفراغ و العشق واملنافسة و البلوغ" (‪.)3‬‬

‫‪ - 1‬نظرية اإلبداع يف النقد العريب القدمي ‪ :‬د‪ /‬عبد القادر هين ‪ ،‬ص ‪. 288 :‬‬
‫‪ - 2‬البيان و التبيني ‪. 1/200 :‬‬
‫‪ - 3‬اإلمتاع و املؤانسة ‪ :‬للتوحيدي ‪. 1/66 ،‬‬

‫‪17‬‬
‫كما ربط النقاد العرب القدامى بني عملية اإلبداع ‪ ،‬و حالة الذات املبدعة ؛‬
‫فأنسب احلاالت لإلبداع هي اليت تكون فيها النفس مرتاحة قد أخذت حبظها من‬
‫الراحة ‪ ،‬وركنت إىل شيء غري قليل من الدعة و االطمئنان ‪ ،‬و باملقابل تكون‬
‫حاالت التعب و اإلرهاق من أبعد احلاالت عن اإلبداع و االبتكار لتشتت الذات‬
‫املبدعة ‪ ،‬وعدم قدرهتا على الرتكيز ‪ ،‬و يف ذلك يقول بشر بن املعتمر ‪ " :‬خذ من‬
‫نفسك ساعة نشاطك و فراغ بالك ‪ ،‬و إجابتها إياك ‪ ،‬فإن قليل تلك الساعة أكرم‬
‫جوهرا ‪ ،‬وأشرف حسبا‪ ،‬و أحسن يف األمساع ‪ ،‬و أحلى يف الصدور‪ ،‬و أسلم من‬
‫فاحش اخلطاء ‪ ،‬و أجلب لكل عني وغرة من لفظ شريف ‪ ،‬و معىن بديع ‪ ،‬و أعلم‬
‫أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك األطول بالكد و املطاولة و اجملاهدة ‪ ،‬و‬
‫بالتكلف واملعاودة ‪ ،‬و مهما أخطأك مل خيطئك أن يكون مقبوال قصدا ‪ ،‬و خفيفا‬
‫على اللسان سهال ‪ ،‬و كما خرج من ينبوعه ‪ ،‬و جنم من معدنه" (‪.)1‬‬
‫و هو املعىن نفسه الذي يوكـده ابن املدبر بقوله‪":‬و ارتصد لكتابك فراغ قلبك ‪،‬‬
‫و ساعة نشاطك ‪ ،‬فتجد ما ميتنع عليك بالكد و التكلف ‪ ،‬ألن مساحه النفس مبكنوهنا‬
‫وجود األذهان مبخزوهنا ‪ ،‬إمنا هو مع الشهوة املفرطة" (‪.)2‬‬
‫‪َ ،‬‬
‫و يكاد يتفق معظم النقاد على أن هناك أوقاتا معينة ‪ ،‬تثري يف النفس الشعور‬
‫بالدعة و الراحة و االطمئنان ‪ ،‬مما يعد من أهم العوامل املساعدة على اإلجادة يف‬
‫عملية اإلبداع األديب ؛ فاجلاحظ جيعل املعرفة بساعات القول من البالغة (‪ ، )3‬و أبو‬
‫متام ( ت ‪ 232‬هـ ) حيدد يف وصيته للبحرتي أحسن األوقات صالحية ملمارسة عملية‬
‫اإلبداع بقوله‪ " :‬ختري األوقات ‪ ،‬و أنت قليل اهلموم ‪ ،‬صفر من الغموم ‪ ،‬واعلم أن‬
‫العادة يف األوقات إذا قصد اإلنسان لتأليف شيء أو حفظه أن خيتار وقت السحر‪ ،‬و‬

‫‪ - 1‬البيان و التبيني ‪136-1/135 :‬‬


‫‪ - 2‬الرسالة العذراء ‪ :‬البن املدبر ( ضمن مجهرة رسائل العرب) ‪. 4/194 ،‬‬
‫‪ - 3‬البيان و التبيني ‪. 1/88 :‬‬

‫‪18‬‬
‫ذلك أن النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة و قسطها من النوم ‪ ،‬و خف‬
‫و‬ ‫عنها ثقل الغـذاء ‪ ،‬وصفا من أكثر األخبرة و األدخنة جسم اهلواء ‪،‬‬
‫سكنت الغمائم ‪ ،‬ورقت النسائم ‪ ،‬و تغنت احلمائم" (‪.)1‬‬
‫و يوكد ابن قتيبة بدوره أن اإلبداع األديب ال يتأتى للشاعر أو الناثر إال يف‬
‫أوقات معيـنة ويف أماكـن خاصة توفر للمبـدع اجلو املالئم لإلبداع ‪ ،‬يقول ‪:‬‬
‫" وللشعر أوقات يسرع فيها أتيه ‪ ،‬و يسمح فيها أبيه ‪ ،‬منها أول الليل قبل تفشي‬
‫الكرى ‪ ،‬ومنها صدر النهار قبل الغداء ‪ ،‬و منها يوم شرب الدواء ‪ ،‬و منها اخللوة يف‬
‫احلبس و املسري‪ ،‬و هلذه العلل ختتلف أشعار الشاعر ‪ ،‬و رسائل الكاتب" (‪ ، )2‬فابن‬
‫قتيبة ال يكتفي بتحديد األوقات املناسبة لإلبداع‪ ،‬و إمنا يتعداه إىل حتديد مكان ختلد‬
‫فيه النفس خللواهتا لتمارس فيها لذة اإلبداع دون تشويش أو إزعاج من أي طارئ‬
‫خارجي ‪ ،‬مما يسمح للمبدع باالنصهار كلية يف عمله اإلبداعي ‪.‬‬
‫و يرى أبو هالل العسكري أنه ال ميكن إبداع خطاب أديب جيد إال ملن منح‬
‫الذات املبدعة فرتات تركن فيها إىل ظل من الدعة و الراحة و االطمئنان " فإذا‬
‫غشيك الفتور ‪ ،‬و ختونك املالل فامسك ‪ ،‬فإن الكثري مع املالل قليل ‪ ،‬و النفيس مع‬
‫الضجر خسيس ‪ ،‬و اخلواطر كالينابيع يسقى منها شيء بعد شيء ‪ ،‬فتجد حاجتك‬
‫من الـري ‪ ،‬و تنـال أربك من املنفعة فإذا أكثرت عليها نضب ماؤها ‪ ،‬وقل عنك‬
‫غناؤها" (‪. )3‬‬
‫و قد يستعصي اإلبداع على األدباء حني يطلبونه يف كثري من األوقات ‪ ،‬فالكالم‬
‫– على حد تعبري التوحيدي – " صلف تياه ‪ ،‬ال يستجيب لكل إنسان ‪ ،‬و ال‬
‫يصحب كل لسان ‪ ،‬و خطره كثري ‪ ،‬و متعاطيه مغرور‪،‬وله أرن كأرن املهر ‪،‬‬
‫‪ - 1‬مقدمـة يف صناعـة النظم و النثر‪:‬للنواجي‪ ،‬ص‪42-41:‬‬
‫‪ - 2‬الشعر و الشعراء ‪ :‬البن قتيبة ‪ ،‬ص ‪. 35 :‬‬
‫‪ - 3‬الصناعتني ‪ :‬للعسكري ‪ ،‬ص ‪. 151 :‬‬

‫‪19‬‬
‫و إباء كإباء احلرون ‪ ،‬و زهو كزهو امللك ‪ ،‬و خفق كخفق الربق ‪ ،‬و هو يستهل‬
‫مرة ‪ ،‬ويتعسر مرارا ‪ ،‬و يذل طورا ‪ ،‬و يعز أطوارا " (‪. )1‬‬
‫و يف كتب الرتاث العريب كثري من الشواهد على استعصاء جمال اإلبداع على‬
‫اخلطباء مثال و ما ذلك إال ألهنم وضعوا يف مواقف و مقامات و أوقات مل يكن هلم‬
‫فيها استعداد لإلبداع ‪ ،‬من ذلك أن خالد بن عبد اهلل القسري ‪ ،‬صعد املنرب يوما‬
‫بالبصرة ليخطب فأرتج عليه ‪ ،‬فقال ‪ " :‬أيها الناس ‪ ،‬إن الكالم ليجيء أحيانا ‪،‬‬
‫فيتسبب سببه ‪ ،‬و يعزب أحيانا فيعز مطلبه ‪ ،‬فرمبا طولب فأىب ‪ ،‬و كوبر فعصى ‪،‬‬
‫فالتأيت جمليه أصوب من التعاطي ألبيه ‪ ،‬مث نزل ‪ ،‬فما رؤي حصر أبلغ منه " (‪، )2‬‬
‫وكان املربد ‪ -‬على الرغم من بالغته و لسنه و فصاحته‪ -‬يتعذر عليه جمال القول‬
‫أحيانا ‪ ،‬و يروم الكتابة يف غرض من األغراض فال يقدر على ذلك ‪ ،‬و قد صرح‬
‫بذلك قائال ‪ " :‬و لرمبا احتجت إىل اعتذار من فلتة ‪ ،‬أو التماس حاجة ‪ ،‬فأجعل املعىن‬
‫الذي أقصده نصب عيين ‪ ،‬مث ال أجد سبيال إىل التعبري عنه بيد و ال لسان ‪ ،‬و لقد‬
‫بلغين أن عبيد اهلل بن سليمان ذكرين جبميل ‪ ،‬فحاولت أن أكتب إليه رقعة أشكره‬
‫فيـها ‪ ،‬و أعـرض ببعض أمـوري ‪ ،‬فأتعبت نفسي يومـا يف ذلك ‪ ،‬فلم أقدر على ما‬
‫أرتضيه منه ‪ ،‬و كنت أحاول اإلفـصاح عما يف ضمريي ‪ ،‬فينصرف لساين إىل غــريه"‬
‫(‪.)3‬‬
‫و حياول ابن قتيبة تعليل استعصاء اإلبداع على األدباء ‪ ،‬فريجع ذلك إىل ما ينتاب‬
‫النفس من مشاغل ومهوم تعكر صفوها ‪ ،‬يقول ‪ " :‬و للشعر تارات يبعد فيها قريبه ‪،‬‬
‫و يستصـعب فيها ريضه ‪ ،‬و كذلك الكالم املنثور يف الرسائل و املقامات واجلوابات‪،‬‬

‫‪ - 1‬اإلمتاع واملؤانسة ‪ :‬للتوحيدي ‪1/9 ،‬‬


‫‪ - 2‬األمايل ‪ :‬للقايل ‪1/111 ،‬‬
‫‪ - 3‬الصناعتني ‪ :‬للعسكري ‪ ،‬ص ‪. 171 :‬‬

‫‪20‬‬
‫فقد يتعذر على الكاتب األديب ‪ ،‬و على البليغ اخلطيب ‪ ،‬و اليعرف لـذلك سبـب إال‬
‫أن يكون من عــارض يعرتض على الغـريزة من سوء غذاء أو خاطر غم " (‪. )1‬‬
‫كما ربط النقاد العرب بني اإلبداع و ميل الذات املبدعة ؛ فهناك أمناط معينة من‬
‫اإلبـداع متيل إليها الـذات املبـدعة ‪ ،‬وأخرى ال متيل إليها ‪ ،‬ألن شروط القبول ‪ -‬قبول‬
‫األمناط اإلبداعية‪ -‬يتصل أساسا بالذات املبدعة و مبيوهلا ‪ ،‬ولذا جند بعض األدباء‬
‫حيسنون ضروبا من اخلطاب األديب ‪ ،‬و ال حيسنون بعضه اآلخر‪ ،‬و قد أشار إىل هذه‬
‫احلقيقة أبو هالل العسكري بقوله ‪ " :‬و الناس يف صناعة الكالم على طبقات ؛ منهم‬
‫من إذا حاور و ناظر أبلغ و أجاد ‪ ،‬و إذا كتب و أملى أخل وختلف ‪ ،‬و منهم من إذا‬
‫أملى برز ‪ ،‬و إذا حاور أو كتب قصر‪ ،‬و منهم من إذا كتب أحسن ‪ ،‬وإذا حاور‬
‫وأملى أساء ‪ ،‬و منهم من حيسن يف مجيع هذه احلاالت ‪ ،‬و منهم من يسيء فيها‬
‫كلها ‪ ،‬فأحسن حاالت املسيء اإلمساك ‪ ،‬و أحسن حاالت احملسن التوسط ‪ ،‬فإن‬
‫(‪.)2‬‬
‫اإلكثار يورث اإلمالل ‪ ،‬و قل ما ينجو صاحبه من الزلل و العيب و اخلطل"‬

‫‪ - 1‬الشعر والشعراء ‪ :‬البن قتيبة ‪ ،‬ص ‪. 35 :‬‬


‫‪ - 2‬الصناعتني ‪ ،‬ص ‪. 30 :‬‬

‫‪21‬‬
‫قضية القدم والحداثةـ‬

‫برزت يف النقد العريب القدمي ثنائيات يف شكل قضايا نقدية شغلت النقاد‬
‫العرب القدامى ‪،‬كقضية اللفظ واملعىن ‪ ،‬والطبع والصنعة ‪ ،‬والقدمي واحملدث ‪ ،‬كانت‬
‫انعكاسا الزدواجية اخلطاب الفكري العام الذي أفرزته طبيعة احلياة يف ذلك‬
‫العصر‪،‬حيث قضية العقل والنقل ‪ ،‬والشريعة والفلسفة‪،‬واجلرب واالختيار‪،‬والتوفيق‬
‫واالصطالح وما إىل ذلك‪.‬‬
‫وأزعم أن قضية القدم واحلداثة يف الشعر ما هي سوى انعكاس للثنائية اليت‬
‫سادت اخلطاب الفكري يف تراثنا العريب بني العقل والنقل‪.‬‬
‫واحلقيقة أن قضية القدمي واحلديث من القضايا النقدية الشائكة القدمية املتجددة‬
‫باستمرار‪ ،‬ذلك أن كل قدمي كان يف عصره جديدا ‪ ،‬وكل جديد سيصبح مبرور‬
‫الزمن قدميا‪ ،‬عرفت هذه القضية يف اآلداب األجنبية‪،‬كما عرفت يف األدب العريب‬
‫قدميه وحديثه‪،‬وهي قضية ال تقتصر على اآلداب أيضا‪،‬بل إهنا متس العادات واألخالق‬
‫والتقاليد واألطعمة واأللبسة‪،‬وخمتلف مظاهر احلياة املادية منها و املعنوية‪،‬ففي طباع‬
‫بعض الناس ميل شديد إىل كل ما هو قدمي متوارث ‪،‬ويف طباع آخرين انفتاح جيعلهم‬
‫يتقبلون كل ما هو جديد‪،‬ويرحبون به‪.‬‬
‫وإذا ألقينا نظرة على األدب العريب القدمي وجدناه ينقسم إىل عهدين ؛ عهد‬
‫القدماء‪ ،‬وعهد احملدثني ويبتدئ عهد القدماء بنضوج الشعر قبل اإلسالم بقرن أو‬
‫حنوه كما ينص على ذلك اجلاحظ ‪،‬وينتهي يف أوائل القرن الثاين اهلجري‪،‬فهو يشمل‬

‫‪22‬‬
‫األدب اجلاهلي واإلسالمي واألموي‪ ،‬أما عصر احملدثني فيبدأ قبيل قيام الدولة العباسية‬
‫بفرتة وجيزة مع بشار بن برد ‪ ،‬ومروان بن أيب حفصة‪،‬ومطيع بن إياس وغريهم ممن‬
‫عاشوا يف أواخر العصر األموي وأوائل العصر العباسي لذلك مسوا مبخضرمي‬
‫الدولتني‪،‬ويشمل كل من جاء بعدهم من الشعراء(‪. )1‬‬
‫فما الذي مييز عهد القدماء عن عهد احملدثني ؟ وما هي الظروف احلضارية اليت‬
‫أدت إىل وجود هذه الثنائية التصادمية يف تاريخ الشعر والنقد العربيني؟‬
‫لقد كان الشاعر العريب القدمي يفتتح قصيدته بالنسيب‪،‬وذكر األحبة ‪،‬والوقوف‬
‫على الديار العافية‪،‬وتذكر العهود اخلالية ‪،‬مث يأخذ يف وصف الرحلة والسفر‪ ،‬وما قطع‬
‫من مفاوز‪،‬وما جتشم من أهوال‪،‬وخيلص من ذلك إىل غرضه من القصيدة من مدح أو‬
‫فخر أو هجاء ‪،‬وقد خيتم قصيدته بشيء من احلكمة املستمدة من نظراته يف احلياة‪.‬‬
‫فلما جاء اإلسالم مل تتغري طريقة الشعر العريب‪،‬وظل الشعر اإلسالمي ينسج‬
‫على طريقة اجلاهليني يف معانيه وألفاظه‪،‬وظلت القصيدة العربية حمافظة على بنائها‬
‫الفين الذي عرفته يف العصر اجلاهلي‪،‬واستمر األمر كذلك ردحا من العصر األموي‬
‫‪،‬إىل أن جاء العصر العباسي فاشتدت الصالت بني العرب واألمم األخرى باجملاورة‬
‫واملصاهرة ‪،‬ونشطت حركة الرتمجة‪،‬وازدهرت العلوم و املعارف‪،‬ومال اجملتمع العريب‬
‫حنو البذخ والرتف واألخذ بأسباب احلضارة والتمدن ‪،‬فتبدلت احلياة االجتماعية تبدال‬
‫جذريا‪،‬وابتعد الناس عن خشونة البداوة ‪ ،‬وأقام كثري من الشعراء يف احلواضر‬
‫اإلسالمية املختلفة‪،‬وتغريت العادات واألخالق‪،‬فانتشر اللهو واجملون‪ ،‬وجمالس األنس‬

‫‪- 1‬ينظر تاريخ النقد األديب عند العرب‪:‬طه إبراهيم‪ ،‬ص‪88-87:‬‬

‫‪23‬‬
‫والطرب‪ ،‬وشاعت الزندقة ‪،‬وكان من نتيجة هذه الثورة االجتماعية العارمة ثورة أدبية‬
‫أيضا سايرت احلياة اجلديدة وعربت عنها‪.‬‬
‫فقد جاءت احلياة اجلديدة باإلكثار من شعر اللهو واجملون واالستهتار‬
‫بالشراب‪،‬وجاءت بالغزل باملذكر‪،‬ووصف القصور والرياض وجمالس األنس‬
‫والطرب‪،‬ومل يعدمن الالئق _ يف عرف الشعراء احملدثني_ أن يفتتح الشاعر قصيدته‬
‫بالوقوف على األطالل‪ ،‬ووصف الدمن واآلثار‪،‬إذ البد من االنصراف عن هذه‬
‫املطالع القدمية‪،‬والتفكري يف شيء جديد مالئم للحياة احلضرية اجلدية‪،‬وهو ما اهتدى‬
‫إليه أبو نواس يف وصف اخلمر والندامى وجمالس الشراب‪،‬هذا من حيث املضمون‪،‬أما‬
‫من حيث الصياغة فقد مال احملدثون إىل التفنن يف ضروب البيان والبديع‪،‬واستعمال‬
‫األلفاظ الرقيقة السهلة اليت تناسب رقة احلضارة‪،‬بعد أن كان اجلاهليون ينحتون‬
‫ألفاظهم اجلزلة القوية من البيئة البدوية خلشونتها‪.‬‬
‫هذه الثورة الشعرية اليت قام هبا احملدثون أثرت تأثريا واسعا يف الشعر ونقده ‪،‬‬
‫فقد انقسم النقاد إزاءها طائفتين؛ طائفة تتعصب للشعر القدمي‪،‬وأخرى تتعصب للشعر‬
‫احملدث‪ ،‬ومن أبرز املتعصبني للقدمي علماء اللغة والنحو‪،‬فقد كان هؤالء يأخذون اللغة‬
‫من فصحاء األعراب يف البادية‪ ،‬ويشتغلون جبمع الشعر اجلاهلي‬
‫و اإلسالمي‪ ،‬فأثر ذلك يف أذواقهم‪،‬فلم يستسيغوا أشعار احملدثني‪،‬ومن هنا كان‬
‫تعصبهم للشعر القدمي‪،‬بل إننا جند منهم من يبالغ يف تعصبه فال يرى الشعر إال ما قاله‬
‫اجلاهليون مثل أيب عمرو بن العالء الذي يقول ‪":‬لو أدرك األخطل يوما واحدا من‬

‫‪24‬‬
‫اجلاهلية ما قدمت عليه أحدا"(‪ ،)1‬فهو هنا حيكم على العصر ال على الشعر‪،‬وقال‬
‫أيضا‪":‬لقد كثر هذا احملدث وحسن حىت لقد مهمت بروايته"(‪،)2‬وقال عنه‬
‫األصمعي‪":‬جلست إليه مثاين حجج فما مسعته حيتج ببيت إسالمي"(‪، )3‬كما جند ابن‬
‫األعرايب يهاجم أشعار احملدثني ويقارهنا بشعر القدماء يف صورة تشبيهية فيقول‪":‬إمنا‬
‫أشعار هؤالء احملدثني‪-‬مثل أيب نواس وغريه‪-‬مثل الرحيان يشم يوما ويذوي فريمى‬
‫به‪،‬وأشعار القدماء مثل املسك والعنرب كلما حركته ازداد طيبا"(‪ ،)4‬وأنشده رجل يوما‬
‫شعرا أليب نواس أحسن فيه‪،‬فسكت‪،‬فقال له الرجل‪:‬أما هذا من أحسن الشعر؟‬
‫قال‪:‬بال ولكن القدمي أحب إيل"(‪، )5‬واجتمع ابن مناذر الشاعر يف مأدبة مع خلف‬
‫األمحر‪،‬فقال خللف‪ :‬يا أبا حمرز‪،‬إن يكن النابغة وامرؤ القيس وزهري قد ماتوا فهذه‬
‫أشعارهم خملدة ‪ ،‬فقس شعري إىل شعرهم ‪ ،‬واحكم فيه باحلق ‪ ،‬فغضب خلف ‪ ،‬مث‬
‫أخذ صحفة مملوءة مرقا فرمى هبا عليه(‪.)6‬‬
‫إن هناك عوامل جعلت هؤالء العلماء يتعصبون للشعر القدمي منها‪:‬‬

‫‪- 1‬األغاين‪ :‬لألصفهاين ‪.8/284،‬‬


‫‪- 2‬الشعر والشعراء‪:‬البن قتيبة ‪،‬ص‪.23:‬‬
‫‪- 3‬العمدة‪.1/90 :‬‬
‫‪- 4‬املوشح ‪:‬للمرزباين‪،‬ص‪.384:‬‬
‫‪- 5‬املوشح‪،‬ص‪.384:‬‬
‫‪- 6‬املوشح‪،‬ص‪.453 :‬‬

‫‪25‬‬
‫‪-1‬أنه اكتسب قيمة تارخيية يف عصر التدوين إذ كان يف اجلاهلية " ديوان‬
‫علمهم ‪ ،‬ومنتهى حكمهم ‪ ،‬منه يأخذون ‪ ،‬وإليه يصريون "(‪ ، )1‬وأنه حفظ للعرب "‬
‫ذكر أيامها وما آثرها…وما ذهب من ذكر وقائعهم"(‪.)2‬‬
‫‪-2‬أنه كان يليب خمتلف أذواق املثقفني يف ذلك العصر‪ ،‬جيد فيه النحاة الشواهد‬
‫اإلعرابية‪،‬وجيد فيه رواة األشعار غريب اللغة‪،‬ورواة األخبار الشاهد واملثل ‪.‬‬
‫وكما هاجم علماء اللغة والنحو الشعراء احملدثني ‪،‬فإن هؤالء دافعوا عن‬
‫أنفسهم وهامجوا طريقة القدماء يف الشعر ‪،‬على حنو ما جنده عند أيب نواس من‬
‫سخرية بالقدماء يف العديد من قصائده كقوله‪:‬‬
‫واشرب على الورد من محراء كالورد‬ ‫ال تبك ليلى و ال تطرب إىل هند‬

‫فاجعل صفاتك البنة الكرم‬ ‫وقوله‪:‬صفة الطلول بالغة القدم‬

‫وعُجت أسأل عن مخارة البلد‬ ‫وقوله‪:‬عاج الشقي على رسم يسائله‬

‫وهكذا نالحظ علماء لغة حمافظني يتعصبون للقدمي‪،‬ويرون فيه املثل‬


‫األعلى‪،‬وشعراء حمدثون يريدون فرض أنفسهم‪،‬والتمكني حلركتهم التجديدية‬
‫‪،‬فيدافعون عنها مبهامجة القدمي‪.‬‬
‫وحيق لنا اآلن أن نتساءل عن موقف النقاد املوضوعيني من هذه القضية؟‬

‫اجلمحي‪،‬ص‪.24:‬‬ ‫‪- 1‬طبقات فحول الشعراء ‪:‬البن سالم‬


‫‪- 2‬طبقات فحول الشعراء ‪،‬ص‪46:‬‬

‫‪26‬‬
‫لقد وقف النقاد موقفا توفيقيا ‪،‬فرأوا أن املقياس الذي ينبغي أن يعتد به يف‬
‫احلكم على هذا الشعر أو ذاك هو مقياس اجلودة الفنية ال املقياس الزمين املتمثل يف‬
‫القدم أو احلداثة ‪ ،‬على حنو ما يتضح يف قول اجلاحظ‪" :‬وقد رأيت أناسا يبهرجون‬
‫أشعار املولدين‪،‬ويستسقطون من رواها‪،‬ومل أر ذلك قط إال يف راوية للشعر غريبصري‬
‫جبوهر ما يروي‪،‬ولو كان له بصر لعرف موضع اجليد ممن كان‪ ،‬ويف أي زمان‬
‫كان"(‪،)1‬وهو األمر الذي جعله يفضل قصيدة أليب نواس على قصيدة للمهلهل يف‬
‫الشاعرية‪.‬‬
‫ويتضح األمر أكثر مع ابن قتيبة الدينوري حيث يقول‪":‬وال نظرت إىل املتقدم‬
‫منهم بعني اجلاللة لتقدمه‪،‬وال إىل املتأخر منهم بعني االحتقار لتأخره‪،‬بل نظرت بعني‬
‫العدل على الفريقني‪،‬وأعطيت كال حظه‪ ،‬ووفرت عليه حقه‪،‬فإين رأيت من علمائنا‬
‫من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله‪،‬ويضعه يف متخريه‪،‬ويرذل الشعر الرصني‪،‬وال‬
‫عيب له عنده إال أنه قيل يف زمانه‪ ،‬أو أنه رأى قائله ‪،‬ومل يقصر اهلل العلم والشعر‬
‫والبالغة على زمن دون زمن ‪ ،‬وال خص به قوما دون قوم‪،‬بل جعل ذلك مشرتكا‬
‫مقسوما بني عباده يف كل دهر‪،‬وجعل كل قدمي حديثا يف عصره"(‪ ،)2‬فابن قتيبة يتفق‬
‫مع اجلاحظ يف املذهب الذي يريد أن جيعل اجلودة مقياسا للشعر دون اعتبار للقدم‬
‫واحلداثة‪.‬‬
‫وأما ابن رشيق فقد تطرق إىل هذه القضية يف كتابه " العمدة " وخصص هلا‬
‫بابا أطلق عليه عنوان" باب يف القدماء واحملدثني" ورأيه أن كل قدمي هو حمدث يف‬
‫‪- 1‬احليوان ‪:‬للجاحظ‪.3/130،‬‬
‫‪- 2‬الشعر والشعراء ‪:‬البن قتيبة‪،‬ص‪.23:‬‬

‫‪27‬‬
‫زمانه‪،‬وكل حديث سيؤول فيما بعد إىل قدمي بالنسبة لزمن الحق‪ ،‬وأورد أمثلة ملن‬
‫كانوا يتعصبون للقدمي كأيب عمرو بن العالء‪ ،‬وابن األعرايب‪ ،‬ومن آمنوا بالتسوية‬
‫واالحتكام للجودة كابن قتيبة‪ ،‬ليذهب هو إىل أن هناك تكامال بني القضيتني وال‬
‫تنافر بينهما فكلتا القضيتني تكمل األخرى فيقول ‪":‬مثل القدماء واحملدثني كمثل‬
‫رجلني ابتدأ هذا بناء فأكمله وأتقنه‪،‬مث أتى اآلخر فنقشه وزينه‪ ،‬فالكلفة ظاهرة على‬
‫هذا وإن حسن‪ ،‬والقدرة ظاهرة على ذلك وإن خشن"(‪ ، )1‬فالشعر اجليد يف نظر ابن‬
‫رشيق هو الذي جيمع بني أصالة القدمي‪،‬ومعطيات اجلديد(‪ ،)2‬ذلك أن الشعر كالبناء‬
‫متاما ال يكتمل مجال صورته إال بإتقان بنائه وتناسق زينته وزخرفته ‪،‬وال خيفي ابن‬
‫رشيق أنه هبذا الرأي يتابع أستاذه عبد الكرمي النهشلي الذي يعتز بإيراد فصل له يف‬
‫هذه القضية يقول فيه‪":‬قد ختتلف املقامات واألزمنة والبالد فيحسن يف وقت ماال‬
‫حيسن يف آخر‪ ،‬ويستحسن عند أهل بلد ماال يستحسن عند أهل غريه"(‪.)3‬‬
‫وبذلك ينظم ابن رشيق إىل قافلة التوفيقيني من النقاد الذين نظروا إىل قضية‬
‫القدم واحلداثة يف الشعر نظرة موضوعية‪ ،‬فهم يضيفون اجليد والرديء للقدماء‬
‫واحملدثني على حد سواء‪،‬مصداقا لقول الشاعر‪:‬‬
‫ويرى لألوائل التقدميا‬ ‫قل ملن ال يرى املعاصر شيئا‬

‫وسيغدو هذا اجلديد قدميا‬ ‫إن ذاك القدمي كان جديدا‬

‫‪- 1‬العمدة‪.1/92:‬‬
‫‪- 2‬احلركة النقدية على أيام ابن رشيق املسيلي‪ :‬بشري خلدون‪ ،‬ص‪191:‬‬
‫‪- 3‬العمدة‪1/93:‬‬

‫‪28‬‬
29

You might also like