Professional Documents
Culture Documents
محاضرات في النقد الادبي العربي القديم
محاضرات في النقد الادبي العربي القديم
الطبع و التكلف
تعد قضية الطبع و التكلف من القضايا النقدية اليت حظيت باهتمام النقاد العرب
القدامى ،و قد أشار إىل هذه القضية بشر بن املعتمر يف صحيفته إذ يقول " :خذ من
نفسك ساعة نشاطك و فراغ بالك ،وإجابتها إياك ،فإن قليل تلك الساعة أكرم
1
جوهرا ،و أشرف حسبا ،و أحسن يف األمساع ،و أحلى يف الصدور و أسلم من
فاحش اخلطإ،و أجلب لكل عني و غرة ،من لفظ شريف ،و معىن بديع ،و اعلم أن
ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك األطول ،بالكد و املطاولة و اجملاهدة ،و
بالتكلف و املعاودة ،و مهما أخطأك مل خيطئك أن يكون مقبوال قصدا ،و خفيفا
على اللسان سهال ،و كما خرج من ينبوعه و جنم من معدنه ،و إياك و التوعر ،فإن
التوعر يسلمك إىل التعقيد و التعقيد هو الذي يستهلك معانيك ،و يشني
ألفاظك ...فإن أنت تكلفتهما ( الشعر و النثر) ومل تكن حاذفا مطبوعا ،و ال
حمكما شأنك ،بصريا مبا عليك و لك ،عابك من أنت أقل عيبا منه ،و رأى من هو
دونك أنه فوقك ،فإن ابتليت بأن تتكلف القول ،وتتعاطى الصنعة ،و مل تسمح لك
الطباع يف أول وهلة ،و تعاصى عليك بعد إجالة الفكرة فال تعجل وال تضجر" (، )1
فالطبع عند بشر معناه القول على السجية والبديهة و الفطرة ،و يكــون ذلك خالل
أوقـات خاصة مناسبة تكون فيها النفس مستعدة نشطة مرتاحة غري منشغلة أو تعبة،
أما التكلف فهو الكد و اجملاهدة والتعـقيد و التوعر .
و يرى اجلاحظ أن مذهب املطبوعني هم " الذين تأتيهم املعاين سهوا و رهوا،
وتنثال عليهم األلفاظ انثياال " (، )2و يرى يف هذا الصدد أن " كل شيء للعرب فإمنا
هو بديهة و ارجتال و كأنه إهلام ،و ليست هناك معاناة و ال مكابدة ،و ال إجالة فكر
وال استعانة … و كانوا ( العرب ) أميني ال يكتبون،و مطبوعني ال يتكلفون،
وكان الكالم اجليد عندهم أظهر و أكثر" ( ، )3فاجلاحظ هنا يربط بني الطبع والنزعة
الشفهية اليت تعتمد على البديهة واالرجتال ،وال جمال للتفكري والروية ،فالطبع عند
اجلاحظ معناه البديهة و االرجتال و االقتدار على القول دون معاناة ،و التكلف بضد
2
ذلك ،و اجلاحظ جيعل مزية " الطبع " للعرب دون غريهم من األمم يف معرض رده
على الشعوبية يف كتابه " البيان و التبيني" .
و يرى ابن املدبر أن الكاتب الذي يستأهل أن يسمى كاتبا بليغا ،وينسب إىل
حرفة الكتابة لشرفها هو " من إذا حاول صيغة كتاب سالت على قلمه عيون الكالم
من ينابيعها ،وظهرت من معادهنا ،و بدرت من مواطنها من غري استكراه و ال
اغتصاب " (. )1
و يرى املرزوقي أنه " مىت رفض التكلف و التعمل ،وخلي الطبع املهذب بالرواية،
املدرب يف الدراسة الختياره فاسرتسل غري حممول عليه ،و ال ممنوع مما مييل إليه أدى
من لطافة املعىن ،و حالوة اللفظ ،ما يكون صفوا بال كدر ،و ال عفوا بال جهد ،
و ذلك هو الذي يسمي املطبوع ومىت جعل زمام االختيار بيد التعمل والتكلف عاد
الطبع مستخدما متملكا ،و أقبلت األفكار تستحمله أثقاهلا ،و ترتدد يف قبول ما
يؤدى إليها مطالبة له باإلغراب يف الصنعة ،و جتاوز املألوف إىل البدعة ،فجاء مؤداه و
أثر التكلف يلوح على صفحاته ،و ذلك هو املصنوع" (.)2
فالطبع عند املرزوقي يعين االسرتسال على السجية ،و اخللو من التكلف و التصنع
و أن تكون األلفاظ حلوة ،و املعـاين لطيفة ،أما الصنعة فهي اإلعراب ،وجتاوز
املألوف املتعارف عليه إىل البــدعة ،و إن كان املالحظ أن املرزوقي يقيد " الطبع"
جبملة " املهذب بالرواية ،املدرب يف الدراسة" ،فهو ال يربط الطبع باملوهبة وحدها ،
بل يضيف إليها عناصر أخرى كالثقافة و املمارسة.
و يرى ابن شهيد األندلسي أن " إصابة البيان ال يقوم هبا حفظ كثري الغريب ،
واستيفاء مسائل النحو ،و إمنا يقوم هبا الطبع مع وزنه من هذين :النحو و الغريب،
- 1الرسالة العذراء :البن املدبر ( ضمن مجهرة رسائل العرب) . 4/199 ،
- 2شرح ديوان احلماسة :للمرزوقي . 1/12 ،
3
ومقدار طبع االنسان إمنا يكون على مقدار تركيب نفسه مع جسمه فمن كانت
نفسه يف أصل تركيبه مستولية على جسمه ،كان مطبوعا روحانيا ،يطلع صور الكالم
واملعــاين يف أمجل هيئاهتا ،و أروق لبساهتا ،و من كان جسمه مستوليا على نفسه
– من أصل تركيبه -و الغالب على حسه كان ما يطلع من تلك الصور ناقصا عن
الدرجة األوىل يف الكمال و التمام ،و حسن الرونق و النظام" ( ، )1فابن شهيد
يرى أن تعليم اللغة بغريبها و حنوها ال ميكن أن يصنع أديبا ،و إمنا ينبغي أن يكون "
الطبع" هو األساس ،مث يصقل هذا الطبع بالثقافة اللغوية و النحوية ،و يفسر " الطبع"
بأنه غلبة النفس على اجلسم ،فالذي تتغلب نفسه على جسمه يكون مطبوعا روحانيا
فرتد الصور عنه يف هيئة مجيلة ،و الذي يتغلب جسمه على روحه تأيت صور الكالم
عنده ناقصة يف كماهلا و رونقها و نظامها ،وهذا التفسري للطبع – على حد تعبري
إحسان عباس – تفسري غريب تفرد به ابن شهيد ،و مل يرد له نظري عند املشارقة (. )2
و هكذا نالحظ أن معظم النقاد متفقون على أن املطبوع من األدباء هو الذي
يأتيه القول طوعا دون تكلف أو مشقة ،و دون إجهاد لفكره و خياله ،و أن املتكلف
من األدباء هو الذي يعمل الفكر ،و يستفرغ اجلهد ،و يكد الذهن ،و يتكلف ضروبا
من البيان ،و ألوانا من البديع ،حماولة منه لإلتيان بكل ما هو جديد ،و رمبا يكون مرد
هذا إىل اختالف األدباء من حيث املوهبة و الطبع ،و تفاوهتم من حيث اخلربة و
الثقافة.
و اخلطاب األديب العريب القدمي – قبل العصر العباسي -يف معظمه خطاب
مطبوع العتماد أصحابه على املوهبة والطبع و البديهة و االرجتال ،املناسبة للمرحلة
الشفهية اليت متثل البداوة ،كما أشار إىل ذلك اجلاحظ يف نصه اآلنف الذكر ،و على
العكس من ذلك فإن اخلطاب األديب بداية من العصر العباسي الذي انتقل فيه العرب
- 1الذخرية :البن بسام . 232 – 231 : 1/1 ،
- 2تاريخ النقد األديب عند العرب :د /إحسان عباس ،ص . 479 :
4
من طور البداوة إىل طور احلضارة ،ومن املشافهة إىل الكتابة ،بدأت تغلب عليه
الصنعة و التكلف ،ألن األدباء أدخلوا عليه عناصر جديدة يف الشكل و املضمون،
فاعتمدوا املعاين الفلسفية،و جلأوا إىل احللي اللفظيةو املعنوية ،و تكلفوا ألوانا من
الصور البيانية ،و أنواعا من احملسنات البديعة .
و ال يعين هذا أن اخلطاب األديب اجلاهلي مثال خيلو من آثار الصنعة ،فقد الحظنا
عليه غلبة " السجع" مثال كمظهر من مظاهر الصنعة ،ولكنها الصنعة اخلفيفة احملببة
املتمشية مع الطبع ،و اليت هي من آثار الفن ،و ليست الصنعة املتكلفة ،و بالتايل فإن
الطبع ال ينفي وجود الصنعة ،ألهنا من طبيعة األدب ،فكل أدب فيه قدر من الصنعة
الطبيعية املتولدة عن املوهبة ،فإذا أجهد األديب فكره ،وكد ذهنه ،و أتعب خميلته ،و
أسرف يف استخدام الصور ،و تكلف أنواع احملسنات ،و بالغ يف البحث عن املعاين
البعيدة ،و ظهر ذلك على نتاجه األديب ،وصمناه بالصنعة و التكلف.
و إن كان املالحظ أيضا أن مفهوم الطبع قد تغري يف العصر العباسي ،نتيجة
للتطور احلضاري وامتزاج الثقافات ،فلم يعد يعين االستعداد الفطري فقط ،و إمنا
صار يعين االستعداد الفطري إىل جانب الثقافة و املمارسة و الدربة ،و يف ذلك يقول
اجلرجاين " :و مالك األمر يف هذا الباب خاصة ترك التكلف ،و رفض التعمل
واالسرتسال للطبع ،و جتنب احلمل عليه و العنف به ،و لست أعين هبذا كل طبع،
بل املهذب الذي صقله األدب ،و شحذته الرواية ،و جلته الفطنة ،و أهلم الفصل بني
الرديء و اجليد ،و تصور أمثلة احلسن و القبح" (.)1
ونرى معظم النقاد مييلون مع " الطبع" و ميقتون التكلف و التصنع ،و يعلن
اجلاحظ ذلك صراحة حينما يقول " :و مدار الالئمة ،و مستقر املذمة حيث رأيت
5
بالغة خيالطها التكلف ،و بيـانا ميازجه التزيد" ( ، )2ويرى أن اسم " املتكلف" ال
يوضع إال يف مواضع الذم ( ، )2غري أنه يفرق بني التكلف و التنقيح؛ فالتنقيح إمنا يعين
ختري اللفظ اجليد ،أما التكلف فيعين قهر األلفاظ ،و اغتصاهبا حىت تظهر عليها صفة
االستكراه و التعقيد (. )3
أما القاضي اجلرجاين فريى أن "مع التكلف املقت ،و للنفس عن التصنع نفرة،
ويف مفارقة الطبع قلة احلالوة ،و ذهاب الرونق ،و إخالق الديباجة" (. )4
بينما يرى صاحب "الربهان" أن التكلف يفسد الكالم ،و أنه ممقوت فنا
و شرعا،يقول":فإن التكلف إذا ظهر يف الكالم هجنه،و قبح موقعه،و حسبك من ذم
التكلف أن اهلل سبحانه وتعاىل أمر رسوله-صلى اهلل عليه و سلم -بالتربؤ منه فقال :
قل ما أسألكم عليه من أجر ،و ما أنا من املتكلفني.)5(
و الكالم املطبوع أحلى يف النفس ،و ألذ من الكالم املتكلف املصنوع ،و أشد
تأثريا على املتلقني ألنه خيرج من القلب صافيا من غري تصنع أو تكلف ،و يف ذلك
يقول اجلاحظ " :و قد علمنا من يفرض الشعر ،و يتكلف األسجاع ،و يؤلف
املزدوج ،و يتقدم يف حتـبـري املنثور ،و قد تعمق يف املعاين،و تكلف إقامة الوزن ،والذي
جتود به الطــبيعة ،و تعطيه النفس سهوا رهوا ،مع قلة لفظه ،و عدد هجائه ،أمحد
أمرا ،و أحسن موقــعا من القلوب ،من كثري خرج بالكد والعالج ...و الكلمة إذا
خرجت من القلب وقعت يف القلب ،و إذا خرجت من اللسان مل جتاوز اآلذان" (.)6
6
و الكالم الذي يصدر عن طبع أصيل يبدو سهال واضحا ،ألن " سالمة اللفظ
تتبع سالمة الطبع،و دماثة الكالم بقدر دماثة اخللقة ،و أنت جتد ذلك ظاهرا يف أهل
عصرك ،و أبناء زمانك ،و ترى اجلايف اجللف منه م كز األلفاظ ،معقد الكالم ،وعر
اخلطاب ،حىت إنك رمبا وجدت ألفاظه يف صوته و نغمته ،و يف جرسه و هلجته،
و من شـأن البداوة أن حتدث ذلك ،و ألجله قال النيب – صلى اهلل عليه وسلم: -
"من بــدا جـفا" (. )1
وقد ندد أبو هالل العسكري بالتكلف ،وما يؤدي إليه من غموض ،وسجل
ظاهرة غريبة الحظها يف عصره ،و هي ولوع بعض الناس بالكالم املتكلف الذي فيه
إهبام وغموض إذ يقول " :و ال خري يف املعاين إذا استكرهت قهرا ،واأللفاظ إذا
اجرتت قسرا ،و ال خري فيما أحيد لفظه إذا سخف معناه ،و ال يف غرابة املعىن إال إذا
شرف لفظه مع وضوح املغزى ،وظهور املقصد ،و قد غلب اجلهل على قوم فصاروا
يستجيدون الكالم إذا مل يقفوا على معناه إال بكد ،و يستفصحونه إذا وجدوا ألفاظه
كزة غليظة ،و جاسية غريبة ،و يستحقرون الكالم إذا رأوه سلسا عذبا ،و سهال
حلوا ،ومل يعلموا أن السهل أمنع جانبا ،و أعز مطلبا ،و هو أحسن موقعا ،وأعذب
مستمعا ،و هلذا قيل أجود الكالم السهل املمتنع " ( ، )2لذلك عيب يف اخلطاب
النثري الشفهي على اخلطباء مثال التشدق والتقعر ألهنما من مظاهر التكــلف (.)3
ويف القرن الرابع اهلجري اشتد ولوع بعض األدباء باستعمال السجع و املبالغة
فيه ،إىل درجة التكلف ،و من مث انربى النقاد ملعاجلة هذه الظاهرة ،منبهني على
خطورة املبالغة يف الزخرف و التأنق ألن ذلك من شأنه أن يفرغ اخلطاب األديب من
7
حمتواه و مضمونه ،فيغدو جمرد أالعيب لغوية جوفاء ( ، )1غري أن مقوالهتم النقدية يف
هذا الصدد مل يكن هلا من التأثري ما ميكن ملسه على واقع احلال بالنسبة إىل اخلطاب
األديب ،فقد كانت أقواهلم جمرد صرخة يف واد سرعان ما جرفها تيار التكلف العارم،
يف عصر بلغ فيه التصنع احلضــاري قمته .
اللفظ والمعنــى
قضية اللفظ واملعىن أو الشكل و املضمون مما يتعلق ببنية اخلطاب األديب عموما
من القضايا النقدية اليت مترس هبا النقد العريب القدمي،و قد نشأت هذه الفكرة
وترعرعت يف بيئة املتكلمني الذين اجته بعضهم إىل ربط قضية اإلعجاز القرآين بالنظم
أو الصياغة،و يعد أبو إسحاق
النظام( " )2أول من فصل يف سياق مناقشته قضية اإلعجاز شكل القرآن عن مضمونه،
- 1الصناعتني ،ص ، 286 :و الربهان :البن وهب ،ص ، 165 :وأخالق الوزيرين :للتوحيدي ،ص 134 :
و كمال البالغة :لليزدادي ،ص .17 :
- 2هو أبو اسحاق ابراهيم بن سيار بن هاىنء النظام ،كان متكلما شاعرا أديبا ،من أئمة املعتزلة يف عصره ،و هو أستاذ
اجلاحظ ،تويف سنة 231هـ .
8
فأصبح مصطلح اإلعجاز منذ وقت مبكر يطلق على مجلة اخلصائص البيانية و البالغية
و اللغوية العامة املاثلة يف هذا النص" (. )1
و قد كثر حديث النقاد عن هذه القضية ،وانقسموا إزاءها إىل طوائف ثالث؛
منهم من يفضل اللفظ على املعىن ،و منهم من يفضل املعىن على اللفظ ،و منهم من
وقف موقفا وسطا توفيقيا فاهتم بطريف الثنائية ،و مل يفضل طرفا على اآلخر.
و ينبغي بداية أن حندد مفهوم طريف هذه الثنائية ؛ فاملعىن يقصد به جانب
املضمون ،إذ من دالالته الفكرة النثرية اليت يَـبني عنها البيت أو القصيدة ،أما اللفظ
فاملقصود به جانب الصياغة أو الشكل (. )2
و رمبا يعد اجلاحظ على رأس الطائفة األوىل من النقاد الذين آثروا اللفظ على
املعىن يف نظريته املشهورة اليت يقول فيها " :و املعاين مطروحة يف الطريق يعرفها
العجمي و العريب ،و البدوي و القروي ،و املدين ،وإمنا الشأن يف إقامة الوزن،
و ختري اللفظ ،و سهولة املخرج ،وكثرة املاء ،و يف صحة الطبع ،وجودة
السبك"( ،)3فاجلاحظ هنا صريح يف تفضيله اجلانب الشكلي من اخلطاب األديب
املتمثل يف الوزن ،و اللفظ و الصياغة على املضمون ،و رمبا كانت هناك عوامل
كثرية دفعت اجلاحظ إىل القول هبذه النظرية منها ما يرجع إىل املناخ األديب
و النقدي السائد يف عصره ،ومنها ما يرجع إىل طبيعة التكوين الثقايف للجاحظ،
و يفصل الدكتور إحسان عباس احلديث يف شرح هذه العوامل فيقول " :منها
أن اجلاحظ مل يتابع أستاذه النظام يف قوله بالصرفة تفسريا لإلعجاز ،و إمنا وجد
أن اإلعجاز ال يفسر إال عن طريق النظم ،و من آمن بأن النظم حقيق برفع البيان
إىل مستوى اإلعجاز مل يعد قادرا على أن يتبىن نظرية تقدمي املعىن على املعىن،
- 1التفكري البالغي عند العرب :د /محادي صمود ،ص. 38 :
- 2نظرية املعىن يف النقد العريب :د /مصطفى ناصف ،ص . 38 :
- 3احليوان :للجاحظ . 3/132 ،
9
ومنها أن عصر اجلاحظ كان يشهد بوادر محلة عنيفة يقوم هبا النقاد لتبيان السرقة
يف املعاين بني الشعراء ،و ال نستبعد أن يكون اجلاحظ قد حاول الرد على هذا
التيار مرتني :مرة بأن ال يشغل نفسه مبوضوع السرقات كما فعل معاصروه ،و
مرة بأن يقرر أن األفضلية للشكل ألن املعاين قدر مشرتك بني الناس مجيعا ،و
سبب ثالث قـائم يف طبيعة اجلاحظ نفسه ،فقد كان رجال خصب القرحية ،ال
يعيـيه املوضوع ،و ال يثــقل عليه املـحتوى أيا كان لونه ،و لذا فإنه كان حيسن أن
املعىن موجـود يف كل مكان ،و ما على األديب إال أن يتناوله و يصوغه صياغة
متفردة " (. )1
و أيا تكن األسباب اليت دفعت اجلاحظ إىل اإلعالء من شأن اللفظ على حساب
املعىن ،فإن الذي ال شك فيه هو أن رأي اجلاحظ هذا كان له أثر كبري على من جاء
بعده من النقاد ،وأسهم يف تكريس الفصل بني اللفظ و املعىن ،أو الشكل
و املضمون يف العمل األديب .
و يف اإلطار نفسه يرى اجلاحظ أال قيمة للمعىن بدون لفظ ألنه يظل مستورا خفيا
حبيس خلجات النفوس ،و مكنونات الصدور ،فحياة املعىن و نشاطه و حركيته
متعلقة باللفظ ،وبدون هذا اللفظ يظل املعىن مواتا وعدما ،و يف ذلك يقول " :املعاين
القائمة يف صدور الناس ،املتصورة يف أذهاهنم ،و املتخلجة يف نفوسهم ،و املتصلة
خبواطرهم ،و احلادثة عن فكرهم مستورة خفية ،و بعيدة وحشية ،و حمجوبة مكنونة،
وموجودة يف معىن معدومة ،ال يعرف اإلنسان ضمري صاحبه ،و ال حاجة أخيه
وخليطه ،ومعىن شريكه ،و املعاون له على أموره ،و على ما ال يبلغه من حاجات
نفسه إال بغريه ،و إمنا حيي تلك املعاين ذكرهم هلا ،و إخبارهم عنها ،و استعماهلم
إيـاها … و على قدر وضوح الداللة ،وصواب اإلشارة ،وحسن االختصار ،و دقة
10
املدخل يكون إظهار املعىن ،كلما كانت الداللة أوضح و أفصح ،و كانت اإلشارة
أبني و أنور كان أنفع و أجنع" (. )1
فاجلاحظ هنا يطرح عالقة اللغة بالفكر ،إذ ال قيمة للفكر ،بل ال وجود له أصال
بدون لغة ،لسبب بسيط هو أننا ال نستطيع أن نفكر بدون لفظ ،و ميكن أن نشرح
ذلك باملعادلة اآلتية :
و الفكر بعد اللسان لغة . اللغة قبل اللسان فكر
ومن هنا يكون اللفظ (= اللغة) أداة تواصل و اتصال بني الناس ،و يف السياق
ذاته حياول الدكتور عبد العزيز محودة أن يقدم قراءة عصرية لنص اجلاحظ النقدي
املذكور ،فريى بأنه يقدم" نظرية اتصال لغوية يقوم اجلاحظ فيها بتعريف الرسالة
واملرسل و املستقبل و الشفرة ،فالرسالة هي " املعاين القائمة يف صدور العباد" ،أما
املرسل "العباد" الذي يشري إليه اجلاحظ ،فهو الفرد أو اإلنسان يف عزلته و هو ينشد
االتصال ،أما املستقبل أو املتلقي فهو اإلنسان اآلخر يف عزلته " الذي ال يعرف ضمري
صاحبة وال حاجة أخيه و خليطه" ،أما الشفرة فهي اللغة اليت هبا حتيا املعاين اخلافية يف
صدر املرسل " ( ، )2و لعلي يف حاجة إىل القول هنا بأننا جند دائما يف اآلراء النقدية
املعاصرة ما مياثلها يف نقدنا العريب القدمي مما ميكن التأسيس عليه لشرعية استمرار هذه
اآلراء يف حاضرنا بعد إعادة قراءهتا قراءة جديدة.
و إذا كان اجلاحظ قد نادى بأفضلية اللفظ على املعىن إال أننا باملقابل جند له
نصوصا أخرى تدل على أنه مييل إىل التوفيق بني اللفظ و املعىن ،وأنه كما يتفاوت
اللفظ يتفاوت املعىن؛ فاملعىن فيه ما هو شريف ،و فيه ما هو خسيس فمن " أراد
معىن كرميا ،فليلتمس له لفظا كرميا ،فإن حق املعىن الشريف اللفظ الشريف"(،)3
- 1البيان و التبيني . 1/75 :
- 2املرايا املقعرة :د /عبد العزيز محودة ،ص . 223 :
- 3البيان و التبيني . 1/136 :
11
بينما "سخيف األلفاظ مشاكل لسخيف املعاين" ( ، )4فهل ميكن القول هنا إن يف
كالم اجلاحظ عن اللفظ و املعىن تناقضا وخلطا ،شأنـه يف ذلك شأن غريه من كثري
من النقـاد و البالغيني العرب القدماء ؟ أم أن يف عبارة اجلاحظ األوىل اليت يفصل فيها
بني اللفظ واملعىن غموضا ،و أن " الذي حيدد مفهومه للفظ و املعىن هو كتاب البيان
والتبيني كله ،و مراجعة ما ينتشر يف ثناياه متعلقا مبدلول الكلمتني " (. )2
ومهما يكن فقد كان ملقولة اجلاحظ السابقة أثر سليب على كثري من النقاد من
بعـده ،وحسبنا أن نذكر أن أبا هالل العسكري يكاد يردد قول اجلاحظ مبعناه ولفظه
إذ يقول ":ليس الشأن يف إيراد املعاين ،ألن املعاين يعرفها العريب والعجمي ،والقروي
و البدوي ،وإمنا هو يف جودة اللفظ و صفائه ،وحسنه و هبائه و نزاهته ونقائه ،و
كثرة طالوته و مائه ،مع صحة السبك و الرتتيب ،و اخللو من أود النظم والتأليف
...و هلذا تأنق الكاتب يف الرسالة،و اخلطيب يف اخلطبة ،و الشاعر يف القصيدة،
يبالغون يف جتويدها ،و يغلون يف ترتيبها ،ليدلوا على براعتهم ،وحذقهم بصناعتهم،
و لو كان األمر يف املعاين لطرحوا أكثر ذلك فرحبوا كدا كثريا ،وأسقطوا عن أنفسهم
تعبا طويال" (.)3
و من بني الذين أكدوا أولوية املعىن على اللفظ أبوحيان التوحيدي ،إذ جنده يعيب
على بعض الكتاب احتفاهلم باللفظ ،وإمهاهلم املعىن ،فقد الحظ على ذي الكفايتني
بن بن العميد بأنه " نزر املعاين ،شديد الكلف باللفظ " ( ، )4كما أخذ على الصاحب
بن عباد كلفه باللفظ ،إذ يذكر من عيوب طريقته يف الكتابة " الذهاب مع اللفظ
دون املعىن" ( ، )5كما جند التوحيدي جيعل املعىن على رأس عناصر اإلبداع األديب
- 1البيان و التبيني . 1/145 :
- 2قضايا النقد األديب بني القدمي و احلديث :د /حممد زكي العشماوي ،ص . 249 – 248 :
- 3الصناعتني :للعسكري ،ص . 73 – 72 :
- 4اإلمتاع و املؤانسة :للتوحيدي . 1/66 ،
- 5اإلمتاع و املؤانسة :للتوحيدي. 1/64 ،
12
فيقــول " :و جيب أن يكون الغرض األول يف صحة املعىن ،و الغرض الثاين يف ختــري
اللفــظ ،و الغرض الثالث يف تسهيل النظم ،وحالوة التأليف ،واجتــالب الرونق " (.)1
غري أن التوحيدي مل يتوسع يف شرح رأيه و التربير له ،و إن كان يرتب على هذه
القضية و رأيه فيها تقييمه العمل الفين ،و حتديده نوعية األدب الذي يفضله ،و هو
األدب الذي جيمع بني العقل و الفن ،و إن شئنا قلنا " الفائدة و اإلمتاع " ؛ الفائدة
املتحققة يف املعىن ،و اإلمتاع املتحقق يف اللفظ ،إذ يقول عقب الفقرة السابقة " :فخري
الكالم ما أيده العقل باحلقيقة ،وساعده اللفظ بالرقة ،و كان له سهولة يف السمع ،
ووقع يف النفس ،وعذوبة يف القلب ...جيمع لك بني الصحة و البهجة و التمام ؛
فأما صحته فمن جهة شهادة العقل بالصواب ،و أما هبجته فمن جهة جوهر اللفظ،
واعتدال القسمة ،و أما متامه فمن جهة النظم الذي يستعري من النفس شغفها ،ويستثري
من الروح كلفها " (. )2
و ال بد أن نشري إىل أن التوحيدي بتأكيده على أولوية املعىن ال يهمل اللفظ ،وإمنا
يرى ضرورة التوازن بني اللفظ و املعىن و التحامهما يف اخلطاب األديب ،فجودة اللفظ
عند التوحيدي أحد العناصر الرئيسة الثالثة اليت يتشكل منها اخلطاب األديب إىل
جانب صحة املعىن ،و حسن النظم ،و هو يؤكد هذه احلقيقة بقوله " :وال تعشق
اللفظ دون املعىن ،و ال هتو املعىن دون اللفظ " ( ، )3و ذلك إميانا منه بالتكامل بني
ركين العملية اإلبداعية :الشكل و املضمون،و إدراكا منه بأن اللفظ و إن كان جمرد
وسيلة ال غاية يف حد ذاته ،فإنه جيب أن يوىل من العناية ما جيعله يؤدي املعىن يف دقة
و عمق ومجــال .
13
أما مذهب التوفيقيني فإننا ميكن أن نتلمسه يف حماولة مبكرة لكلثوم بن عمرو
العتايب يذهب فيها إىل أن " األلفاظ أجساد ،و املعاين أرواح" ( ، )1وجند هذا التشبيه
للفظ باجلسد ،و املعىن بالروح يتكرر عند كثري من النقاد من بعده كابن طباطبا
العلوي الذي يرى أن " الكالم الذي ال معىن له كاجلسد الذي ال روح فيه" (، )2
وهي حماولة إلظهار مدى التآلف و االنسجام بني عنصري اخلطاب األديب ،فكما أن
اجلسد ال قيمة له بدون روح ،و الروح ال قيمة هلا بدون جسد ،ألهنا شيء غري
حمسوس ،فكذلك اللفظ ال قيمة له بدون املعىن ،إذ يستحيل إىل جمرد رموز كتابية ،
أو أصوات كالمية ال داللة هلا ،وكذلك املعىن ال وجود له إال يف إطار اللفظ .
و يربز لنا اهلمذاين هذه العالقة احلميمية املتشابكة بني اللفظ و املعىن اليت حتقق
للخطاب األديب مجاله مضافا إليها عناصر أخرى بقوله " :فإذا كانت األلفاظ
مشاكلة للمعاين يف حسنها ،و املعاين موافقة لأللفاظ يف مجاهلا ،و انضاف إىل ذلك
قوة من الصواب ،و صفاء من الطبع ،و مادة من األدب ،وعلم بطرق البالغات ،
ومعرفة برسوم الرسائل و املكاتبات ،كان الكمال " ( ، )3فاملشاكلة اجلميلة بني اللفظ
و املعىن يف انسجام و تناسق تام باإلضافة إىل صفاء الطبع ،و التمكن من أدوات
البالغة ،واملعرفة بأساليب الكتابة اجليدة كل ذلك من شأنه أن حيقق للخطاب النثري
صفة الكمال من الناحية اجلمالية ،و هي نظرة تتفق مع ما انتهى إليه النقد احلديث من
اعتباطية القول بالفصل بني الشكل و املضمون أو اللفظ و املعىن أو الدال و
املدلول إذ ليس مثة حدود يف التـأثري األديب بني املعىن و املبىن ،و إمنا هنالك حالة
واحدة تكاد ال تتجزأ ،تتولد من انصـهار املعىن و املبىن يف وحدة تامة خالل حلظة
اإلبداع اليت يعانيها األديب .
14
و يربز لنا هذا املفهوم بصورة أدق يف قول اخلطايب ( ت 388هـ ) " :و إمنا
يقوم الكالم بأشياء ثالثة :لفظ حامل ،ومعىن به قائم ،و رباط هلما ناظم" ( ، )1وهذه
املقولة – على إجيازها – تتميز بالدقة العلمية حبيث ميكن القول إهنا تشكل نظرية
لغوية ،فنحن هنا – كما يقول الدكتور عبد العزيز محودة " : -أمام شروط حتقق
الداللة أو املعىن ،و هو ما يقصده اخلطايب بـ " إمنا يكون الكالم " و هذه الشروط هي
وجود نسق من العالمات ،كل عالمة تتكون من عنصرين الدال و املدلول ،وهو
معىن " لفظ حامل ،و معىن به قائم" ،لكن هذه العالمات اللغوية تبقى عاجزة عن
حتقيق املعىن إىل أن ينظمها نظام عالقات ميكنها جمتمعة من حتقيق الداللة" ( ،)2وهكذا
فال قيمة للفظ يف حد ذاته ،وال للمعىن يف حد ذاته ،منفردين كل منهما عن اآلخر،
وإمنا قيمتها تظهر يف تالمحهما و انسجامهما ،و عدم الفصل بينهما يف البناء اهلندسي
املتكامل للخطاب األديب .
- 1بيان إعجاز القرآن :للخطايب ( ضمن ثالث رسائل يف إعجاز القرآن ) ،ص . 27 :
- 2املرايا املقعرة :د /عبد العزيز محودة ،ص . 234 :
15
عملـيةـ اإلبـداع
تعد عملية اإلبداع األديب ظاهرة معقدة يكتنفها كثري من الغموض و اإلهبام ،
ورمبا يعود ذلك إىل ارتباطها بالنفس البشرية ،و ما يكتنف هذه النفس من تعقيد
وتشعب و أغوار يصعب الولوج إليها ،و اإلملام خبفاياها ،و من مث كانت احملاوالت
األوىل لتفسري ظاهرة اإلبداع األديب شعرا كان أم نثرا مرتبطة بتربيرات أسطورية
مردها – يف غالب األحيان -إىل عامل اجلن و الشياطني والسحر ،و هو الوقف الذي
وقفته قريش من الظاهرة القرآنية يف إعجازها البياين ،إذ نعتوه بقول شيطان كما
ينص على ذلك القرآن الكرمي يف معرض رده على دعواهم و تفنيده هلا :و ما هو
بقول شيطان رجيم ، )1( كما ربطوا القرآن الكرمي أيضا بالسحر كما تبينه اآلية
الكرمية و قالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا هبا ،فما حنن لك مبؤمنني . )2(
و احلقيقة أن إضفاء الطابع األسطوري اخلرايف على عملية اإلبداع ،يعود إىل
العصر اجلاهلي ،إذ كان للكهان – و ما عرف عنهم من إخبار عن األمور الغيبية
بنثر مسجوع -دور يف التأسيس هلذه املفاهيم ،فقد كان املعتقد أن لكل كاهن "
رئي " من اجلن يظهر له ،و يلقي عليه ما شاء من قول ،و قد جاء يف السرية
النبوية أن عتبة بن ربيعة قال للرسول – صلى اهلل عليه وسلم – " :و إن كان هذا
الذي يأتيك رئيا تراه ال تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب ،و بذلنا فيه
أموالنا حىت نربئك منه ،فإنه رمبــا غلب التابع على الرجل حىت يداوى منه" (.)3
غري أنه مبرور الوقت فإن " هذا التفسري " امليتافيزيقي " للظاهرة اإلبداعية يف النقد
العريب أخذ ينحسر شيئا فشيئا كلما ابتعد الناس عن العصر اجلاهلي -عصر األساطري
- 1سورة التكوير :آية . 25
- 2سورة األعراف :آية . 132
- 3السرية النبوية :البن هشام . 314-1/313 ،
16
و اإلميان خبطر اجلن و الشياطني يف حياة الناس -ليحل حمله تفسري أقرب إىل الروح
العلمية" (.)1
و من هنا أدرك النقاد العرب القدامى صعوبة عملية اإلبداع األديب ،فهي ليست
شيئا هينا سهال خاضعا إلرادة املبدع و مشيئته يأتيه مىت شاء و حيثما شاء ،بل هو
معاناة نفسية و عقلية شديدة التعقيد و الصعوبة ،إهنا أشبه حبالة املخاض اليت تسبق
والدة اخلطاب األديب .
و قد ربط النقاد العرب القدامى بني اإلبداع و املوهبة ،فال إبداع ملن ال موهبة
له ،فاجلاحظ مثال يشجع الناشئة على ولوج ميدان األدب بشرط أن تكون هلم
القرحية املساعفة على ذلك ،و هي يف مفهوم اجلاحظ املوهبة األدبية ،و االستعداد
الطبيعي لكتابة املنظوم و املنثور ،و لألخذ بفن القول أيا ما كان نوعه ،ويف ذلك
يقول اجلاحظ " :و أنا أوصيك أن ال تدع التماس البيان و التبيني إن ظنت أنك لك
فيها طبيعة ،و أهنما يناسبانك بعض املناسبة ،و يشاكالنك بعض املشاكلة ،وهتمل
طبيعتك فيستويل اإلمهال على قوة القرحية ،و يستبد هبا سوء العادة" ( ، )2ويستشف
من قول اجلاحظ أن الطبع وحده ال يكفي ألن األديب البد له من الطبع مث الدربة
و املمارسـة ،مث التجربة و اخلطـأ حىت يستبـني الطريق املستقيم الذي يتواءم معه ،و
جيعل أبو حيان التوحيدي الطبع على رأس العوامل املكونة لشخصية اجلاحظ األدبية
كصاحب مذهب يف الكتابة الفنية ،فيقول " :و مذهب اجلاحظ مدبر بأشياء ال
و العلم تلتقي عند كل إنسان ،و ال جتتمع يف صدر كل أحد :بالطبـع و املنشـأ
و األصول و العـادة و العمر و الفراغ و العشق واملنافسة و البلوغ" (.)3
- 1نظرية اإلبداع يف النقد العريب القدمي :د /عبد القادر هين ،ص . 288 :
- 2البيان و التبيني . 1/200 :
- 3اإلمتاع و املؤانسة :للتوحيدي . 1/66 ،
17
كما ربط النقاد العرب القدامى بني عملية اإلبداع ،و حالة الذات املبدعة ؛
فأنسب احلاالت لإلبداع هي اليت تكون فيها النفس مرتاحة قد أخذت حبظها من
الراحة ،وركنت إىل شيء غري قليل من الدعة و االطمئنان ،و باملقابل تكون
حاالت التعب و اإلرهاق من أبعد احلاالت عن اإلبداع و االبتكار لتشتت الذات
املبدعة ،وعدم قدرهتا على الرتكيز ،و يف ذلك يقول بشر بن املعتمر " :خذ من
نفسك ساعة نشاطك و فراغ بالك ،و إجابتها إياك ،فإن قليل تلك الساعة أكرم
جوهرا ،وأشرف حسبا ،و أحسن يف األمساع ،و أحلى يف الصدور ،و أسلم من
فاحش اخلطاء ،و أجلب لكل عني وغرة من لفظ شريف ،و معىن بديع ،و أعلم
أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك األطول بالكد و املطاولة و اجملاهدة ،و
بالتكلف واملعاودة ،و مهما أخطأك مل خيطئك أن يكون مقبوال قصدا ،و خفيفا
على اللسان سهال ،و كما خرج من ينبوعه ،و جنم من معدنه" (.)1
و هو املعىن نفسه الذي يوكـده ابن املدبر بقوله":و ارتصد لكتابك فراغ قلبك ،
و ساعة نشاطك ،فتجد ما ميتنع عليك بالكد و التكلف ،ألن مساحه النفس مبكنوهنا
وجود األذهان مبخزوهنا ،إمنا هو مع الشهوة املفرطة" (.)2
َ ،
و يكاد يتفق معظم النقاد على أن هناك أوقاتا معينة ،تثري يف النفس الشعور
بالدعة و الراحة و االطمئنان ،مما يعد من أهم العوامل املساعدة على اإلجادة يف
عملية اإلبداع األديب ؛ فاجلاحظ جيعل املعرفة بساعات القول من البالغة ( ، )3و أبو
متام ( ت 232هـ ) حيدد يف وصيته للبحرتي أحسن األوقات صالحية ملمارسة عملية
اإلبداع بقوله " :ختري األوقات ،و أنت قليل اهلموم ،صفر من الغموم ،واعلم أن
العادة يف األوقات إذا قصد اإلنسان لتأليف شيء أو حفظه أن خيتار وقت السحر ،و
18
ذلك أن النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة و قسطها من النوم ،و خف
و عنها ثقل الغـذاء ،وصفا من أكثر األخبرة و األدخنة جسم اهلواء ،
سكنت الغمائم ،ورقت النسائم ،و تغنت احلمائم" (.)1
و يوكد ابن قتيبة بدوره أن اإلبداع األديب ال يتأتى للشاعر أو الناثر إال يف
أوقات معيـنة ويف أماكـن خاصة توفر للمبـدع اجلو املالئم لإلبداع ،يقول :
" وللشعر أوقات يسرع فيها أتيه ،و يسمح فيها أبيه ،منها أول الليل قبل تفشي
الكرى ،ومنها صدر النهار قبل الغداء ،و منها يوم شرب الدواء ،و منها اخللوة يف
احلبس و املسري ،و هلذه العلل ختتلف أشعار الشاعر ،و رسائل الكاتب" ( ، )2فابن
قتيبة ال يكتفي بتحديد األوقات املناسبة لإلبداع ،و إمنا يتعداه إىل حتديد مكان ختلد
فيه النفس خللواهتا لتمارس فيها لذة اإلبداع دون تشويش أو إزعاج من أي طارئ
خارجي ،مما يسمح للمبدع باالنصهار كلية يف عمله اإلبداعي .
و يرى أبو هالل العسكري أنه ال ميكن إبداع خطاب أديب جيد إال ملن منح
الذات املبدعة فرتات تركن فيها إىل ظل من الدعة و الراحة و االطمئنان " فإذا
غشيك الفتور ،و ختونك املالل فامسك ،فإن الكثري مع املالل قليل ،و النفيس مع
الضجر خسيس ،و اخلواطر كالينابيع يسقى منها شيء بعد شيء ،فتجد حاجتك
من الـري ،و تنـال أربك من املنفعة فإذا أكثرت عليها نضب ماؤها ،وقل عنك
غناؤها" (. )3
و قد يستعصي اإلبداع على األدباء حني يطلبونه يف كثري من األوقات ،فالكالم
– على حد تعبري التوحيدي – " صلف تياه ،ال يستجيب لكل إنسان ،و ال
يصحب كل لسان ،و خطره كثري ،و متعاطيه مغرور،وله أرن كأرن املهر ،
- 1مقدمـة يف صناعـة النظم و النثر:للنواجي ،ص42-41:
- 2الشعر و الشعراء :البن قتيبة ،ص . 35 :
- 3الصناعتني :للعسكري ،ص . 151 :
19
و إباء كإباء احلرون ،و زهو كزهو امللك ،و خفق كخفق الربق ،و هو يستهل
مرة ،ويتعسر مرارا ،و يذل طورا ،و يعز أطوارا " (. )1
و يف كتب الرتاث العريب كثري من الشواهد على استعصاء جمال اإلبداع على
اخلطباء مثال و ما ذلك إال ألهنم وضعوا يف مواقف و مقامات و أوقات مل يكن هلم
فيها استعداد لإلبداع ،من ذلك أن خالد بن عبد اهلل القسري ،صعد املنرب يوما
بالبصرة ليخطب فأرتج عليه ،فقال " :أيها الناس ،إن الكالم ليجيء أحيانا ،
فيتسبب سببه ،و يعزب أحيانا فيعز مطلبه ،فرمبا طولب فأىب ،و كوبر فعصى ،
فالتأيت جمليه أصوب من التعاطي ألبيه ،مث نزل ،فما رؤي حصر أبلغ منه " (، )2
وكان املربد -على الرغم من بالغته و لسنه و فصاحته -يتعذر عليه جمال القول
أحيانا ،و يروم الكتابة يف غرض من األغراض فال يقدر على ذلك ،و قد صرح
بذلك قائال " :و لرمبا احتجت إىل اعتذار من فلتة ،أو التماس حاجة ،فأجعل املعىن
الذي أقصده نصب عيين ،مث ال أجد سبيال إىل التعبري عنه بيد و ال لسان ،و لقد
بلغين أن عبيد اهلل بن سليمان ذكرين جبميل ،فحاولت أن أكتب إليه رقعة أشكره
فيـها ،و أعـرض ببعض أمـوري ،فأتعبت نفسي يومـا يف ذلك ،فلم أقدر على ما
أرتضيه منه ،و كنت أحاول اإلفـصاح عما يف ضمريي ،فينصرف لساين إىل غــريه"
(.)3
و حياول ابن قتيبة تعليل استعصاء اإلبداع على األدباء ،فريجع ذلك إىل ما ينتاب
النفس من مشاغل ومهوم تعكر صفوها ،يقول " :و للشعر تارات يبعد فيها قريبه ،
و يستصـعب فيها ريضه ،و كذلك الكالم املنثور يف الرسائل و املقامات واجلوابات،
20
فقد يتعذر على الكاتب األديب ،و على البليغ اخلطيب ،و اليعرف لـذلك سبـب إال
أن يكون من عــارض يعرتض على الغـريزة من سوء غذاء أو خاطر غم " (. )1
كما ربط النقاد العرب بني اإلبداع و ميل الذات املبدعة ؛ فهناك أمناط معينة من
اإلبـداع متيل إليها الـذات املبـدعة ،وأخرى ال متيل إليها ،ألن شروط القبول -قبول
األمناط اإلبداعية -يتصل أساسا بالذات املبدعة و مبيوهلا ،ولذا جند بعض األدباء
حيسنون ضروبا من اخلطاب األديب ،و ال حيسنون بعضه اآلخر ،و قد أشار إىل هذه
احلقيقة أبو هالل العسكري بقوله " :و الناس يف صناعة الكالم على طبقات ؛ منهم
من إذا حاور و ناظر أبلغ و أجاد ،و إذا كتب و أملى أخل وختلف ،و منهم من إذا
أملى برز ،و إذا حاور أو كتب قصر ،و منهم من إذا كتب أحسن ،وإذا حاور
وأملى أساء ،و منهم من حيسن يف مجيع هذه احلاالت ،و منهم من يسيء فيها
كلها ،فأحسن حاالت املسيء اإلمساك ،و أحسن حاالت احملسن التوسط ،فإن
(.)2
اإلكثار يورث اإلمالل ،و قل ما ينجو صاحبه من الزلل و العيب و اخلطل"
21
قضية القدم والحداثةـ
برزت يف النقد العريب القدمي ثنائيات يف شكل قضايا نقدية شغلت النقاد
العرب القدامى ،كقضية اللفظ واملعىن ،والطبع والصنعة ،والقدمي واحملدث ،كانت
انعكاسا الزدواجية اخلطاب الفكري العام الذي أفرزته طبيعة احلياة يف ذلك
العصر،حيث قضية العقل والنقل ،والشريعة والفلسفة،واجلرب واالختيار،والتوفيق
واالصطالح وما إىل ذلك.
وأزعم أن قضية القدم واحلداثة يف الشعر ما هي سوى انعكاس للثنائية اليت
سادت اخلطاب الفكري يف تراثنا العريب بني العقل والنقل.
واحلقيقة أن قضية القدمي واحلديث من القضايا النقدية الشائكة القدمية املتجددة
باستمرار ،ذلك أن كل قدمي كان يف عصره جديدا ،وكل جديد سيصبح مبرور
الزمن قدميا ،عرفت هذه القضية يف اآلداب األجنبية،كما عرفت يف األدب العريب
قدميه وحديثه،وهي قضية ال تقتصر على اآلداب أيضا،بل إهنا متس العادات واألخالق
والتقاليد واألطعمة واأللبسة،وخمتلف مظاهر احلياة املادية منها و املعنوية،ففي طباع
بعض الناس ميل شديد إىل كل ما هو قدمي متوارث ،ويف طباع آخرين انفتاح جيعلهم
يتقبلون كل ما هو جديد،ويرحبون به.
وإذا ألقينا نظرة على األدب العريب القدمي وجدناه ينقسم إىل عهدين ؛ عهد
القدماء ،وعهد احملدثني ويبتدئ عهد القدماء بنضوج الشعر قبل اإلسالم بقرن أو
حنوه كما ينص على ذلك اجلاحظ ،وينتهي يف أوائل القرن الثاين اهلجري،فهو يشمل
22
األدب اجلاهلي واإلسالمي واألموي ،أما عصر احملدثني فيبدأ قبيل قيام الدولة العباسية
بفرتة وجيزة مع بشار بن برد ،ومروان بن أيب حفصة،ومطيع بن إياس وغريهم ممن
عاشوا يف أواخر العصر األموي وأوائل العصر العباسي لذلك مسوا مبخضرمي
الدولتني،ويشمل كل من جاء بعدهم من الشعراء(. )1
فما الذي مييز عهد القدماء عن عهد احملدثني ؟ وما هي الظروف احلضارية اليت
أدت إىل وجود هذه الثنائية التصادمية يف تاريخ الشعر والنقد العربيني؟
لقد كان الشاعر العريب القدمي يفتتح قصيدته بالنسيب،وذكر األحبة ،والوقوف
على الديار العافية،وتذكر العهود اخلالية ،مث يأخذ يف وصف الرحلة والسفر ،وما قطع
من مفاوز،وما جتشم من أهوال،وخيلص من ذلك إىل غرضه من القصيدة من مدح أو
فخر أو هجاء ،وقد خيتم قصيدته بشيء من احلكمة املستمدة من نظراته يف احلياة.
فلما جاء اإلسالم مل تتغري طريقة الشعر العريب،وظل الشعر اإلسالمي ينسج
على طريقة اجلاهليني يف معانيه وألفاظه،وظلت القصيدة العربية حمافظة على بنائها
الفين الذي عرفته يف العصر اجلاهلي،واستمر األمر كذلك ردحا من العصر األموي
،إىل أن جاء العصر العباسي فاشتدت الصالت بني العرب واألمم األخرى باجملاورة
واملصاهرة ،ونشطت حركة الرتمجة،وازدهرت العلوم و املعارف،ومال اجملتمع العريب
حنو البذخ والرتف واألخذ بأسباب احلضارة والتمدن ،فتبدلت احلياة االجتماعية تبدال
جذريا،وابتعد الناس عن خشونة البداوة ،وأقام كثري من الشعراء يف احلواضر
اإلسالمية املختلفة،وتغريت العادات واألخالق،فانتشر اللهو واجملون ،وجمالس األنس
23
والطرب ،وشاعت الزندقة ،وكان من نتيجة هذه الثورة االجتماعية العارمة ثورة أدبية
أيضا سايرت احلياة اجلديدة وعربت عنها.
فقد جاءت احلياة اجلديدة باإلكثار من شعر اللهو واجملون واالستهتار
بالشراب،وجاءت بالغزل باملذكر،ووصف القصور والرياض وجمالس األنس
والطرب،ومل يعدمن الالئق _ يف عرف الشعراء احملدثني_ أن يفتتح الشاعر قصيدته
بالوقوف على األطالل ،ووصف الدمن واآلثار،إذ البد من االنصراف عن هذه
املطالع القدمية،والتفكري يف شيء جديد مالئم للحياة احلضرية اجلدية،وهو ما اهتدى
إليه أبو نواس يف وصف اخلمر والندامى وجمالس الشراب،هذا من حيث املضمون،أما
من حيث الصياغة فقد مال احملدثون إىل التفنن يف ضروب البيان والبديع،واستعمال
األلفاظ الرقيقة السهلة اليت تناسب رقة احلضارة،بعد أن كان اجلاهليون ينحتون
ألفاظهم اجلزلة القوية من البيئة البدوية خلشونتها.
هذه الثورة الشعرية اليت قام هبا احملدثون أثرت تأثريا واسعا يف الشعر ونقده ،
فقد انقسم النقاد إزاءها طائفتين؛ طائفة تتعصب للشعر القدمي،وأخرى تتعصب للشعر
احملدث ،ومن أبرز املتعصبني للقدمي علماء اللغة والنحو،فقد كان هؤالء يأخذون اللغة
من فصحاء األعراب يف البادية ،ويشتغلون جبمع الشعر اجلاهلي
و اإلسالمي ،فأثر ذلك يف أذواقهم،فلم يستسيغوا أشعار احملدثني،ومن هنا كان
تعصبهم للشعر القدمي،بل إننا جند منهم من يبالغ يف تعصبه فال يرى الشعر إال ما قاله
اجلاهليون مثل أيب عمرو بن العالء الذي يقول ":لو أدرك األخطل يوما واحدا من
24
اجلاهلية ما قدمت عليه أحدا"( ،)1فهو هنا حيكم على العصر ال على الشعر،وقال
أيضا":لقد كثر هذا احملدث وحسن حىت لقد مهمت بروايته"(،)2وقال عنه
األصمعي":جلست إليه مثاين حجج فما مسعته حيتج ببيت إسالمي"(، )3كما جند ابن
األعرايب يهاجم أشعار احملدثني ويقارهنا بشعر القدماء يف صورة تشبيهية فيقول":إمنا
أشعار هؤالء احملدثني-مثل أيب نواس وغريه-مثل الرحيان يشم يوما ويذوي فريمى
به،وأشعار القدماء مثل املسك والعنرب كلما حركته ازداد طيبا"( ،)4وأنشده رجل يوما
شعرا أليب نواس أحسن فيه،فسكت،فقال له الرجل:أما هذا من أحسن الشعر؟
قال:بال ولكن القدمي أحب إيل"(، )5واجتمع ابن مناذر الشاعر يف مأدبة مع خلف
األمحر،فقال خللف :يا أبا حمرز،إن يكن النابغة وامرؤ القيس وزهري قد ماتوا فهذه
أشعارهم خملدة ،فقس شعري إىل شعرهم ،واحكم فيه باحلق ،فغضب خلف ،مث
أخذ صحفة مملوءة مرقا فرمى هبا عليه(.)6
إن هناك عوامل جعلت هؤالء العلماء يتعصبون للشعر القدمي منها:
25
-1أنه اكتسب قيمة تارخيية يف عصر التدوين إذ كان يف اجلاهلية " ديوان
علمهم ،ومنتهى حكمهم ،منه يأخذون ،وإليه يصريون "( ، )1وأنه حفظ للعرب "
ذكر أيامها وما آثرها…وما ذهب من ذكر وقائعهم"(.)2
-2أنه كان يليب خمتلف أذواق املثقفني يف ذلك العصر ،جيد فيه النحاة الشواهد
اإلعرابية،وجيد فيه رواة األشعار غريب اللغة،ورواة األخبار الشاهد واملثل .
وكما هاجم علماء اللغة والنحو الشعراء احملدثني ،فإن هؤالء دافعوا عن
أنفسهم وهامجوا طريقة القدماء يف الشعر ،على حنو ما جنده عند أيب نواس من
سخرية بالقدماء يف العديد من قصائده كقوله:
واشرب على الورد من محراء كالورد ال تبك ليلى و ال تطرب إىل هند
26
لقد وقف النقاد موقفا توفيقيا ،فرأوا أن املقياس الذي ينبغي أن يعتد به يف
احلكم على هذا الشعر أو ذاك هو مقياس اجلودة الفنية ال املقياس الزمين املتمثل يف
القدم أو احلداثة ،على حنو ما يتضح يف قول اجلاحظ" :وقد رأيت أناسا يبهرجون
أشعار املولدين،ويستسقطون من رواها،ومل أر ذلك قط إال يف راوية للشعر غريبصري
جبوهر ما يروي،ولو كان له بصر لعرف موضع اجليد ممن كان ،ويف أي زمان
كان"(،)1وهو األمر الذي جعله يفضل قصيدة أليب نواس على قصيدة للمهلهل يف
الشاعرية.
ويتضح األمر أكثر مع ابن قتيبة الدينوري حيث يقول":وال نظرت إىل املتقدم
منهم بعني اجلاللة لتقدمه،وال إىل املتأخر منهم بعني االحتقار لتأخره،بل نظرت بعني
العدل على الفريقني،وأعطيت كال حظه ،ووفرت عليه حقه،فإين رأيت من علمائنا
من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله،ويضعه يف متخريه،ويرذل الشعر الرصني،وال
عيب له عنده إال أنه قيل يف زمانه ،أو أنه رأى قائله ،ومل يقصر اهلل العلم والشعر
والبالغة على زمن دون زمن ،وال خص به قوما دون قوم،بل جعل ذلك مشرتكا
مقسوما بني عباده يف كل دهر،وجعل كل قدمي حديثا يف عصره"( ،)2فابن قتيبة يتفق
مع اجلاحظ يف املذهب الذي يريد أن جيعل اجلودة مقياسا للشعر دون اعتبار للقدم
واحلداثة.
وأما ابن رشيق فقد تطرق إىل هذه القضية يف كتابه " العمدة " وخصص هلا
بابا أطلق عليه عنوان" باب يف القدماء واحملدثني" ورأيه أن كل قدمي هو حمدث يف
- 1احليوان :للجاحظ.3/130،
- 2الشعر والشعراء :البن قتيبة،ص.23:
27
زمانه،وكل حديث سيؤول فيما بعد إىل قدمي بالنسبة لزمن الحق ،وأورد أمثلة ملن
كانوا يتعصبون للقدمي كأيب عمرو بن العالء ،وابن األعرايب ،ومن آمنوا بالتسوية
واالحتكام للجودة كابن قتيبة ،ليذهب هو إىل أن هناك تكامال بني القضيتني وال
تنافر بينهما فكلتا القضيتني تكمل األخرى فيقول ":مثل القدماء واحملدثني كمثل
رجلني ابتدأ هذا بناء فأكمله وأتقنه،مث أتى اآلخر فنقشه وزينه ،فالكلفة ظاهرة على
هذا وإن حسن ،والقدرة ظاهرة على ذلك وإن خشن"( ، )1فالشعر اجليد يف نظر ابن
رشيق هو الذي جيمع بني أصالة القدمي،ومعطيات اجلديد( ،)2ذلك أن الشعر كالبناء
متاما ال يكتمل مجال صورته إال بإتقان بنائه وتناسق زينته وزخرفته ،وال خيفي ابن
رشيق أنه هبذا الرأي يتابع أستاذه عبد الكرمي النهشلي الذي يعتز بإيراد فصل له يف
هذه القضية يقول فيه":قد ختتلف املقامات واألزمنة والبالد فيحسن يف وقت ماال
حيسن يف آخر ،ويستحسن عند أهل بلد ماال يستحسن عند أهل غريه"(.)3
وبذلك ينظم ابن رشيق إىل قافلة التوفيقيني من النقاد الذين نظروا إىل قضية
القدم واحلداثة يف الشعر نظرة موضوعية ،فهم يضيفون اجليد والرديء للقدماء
واحملدثني على حد سواء،مصداقا لقول الشاعر:
ويرى لألوائل التقدميا قل ملن ال يرى املعاصر شيئا
- 1العمدة.1/92:
- 2احلركة النقدية على أيام ابن رشيق املسيلي :بشري خلدون ،ص191:
- 3العمدة1/93:
28
29