Professional Documents
Culture Documents
حكايات سندباد سبتمبر 2019
حكايات سندباد سبتمبر 2019
100
مجان ًا مع العدد ( )143من مج َّلة «الدوحة» -سبتمرب 2019 -
ُي َوزَّع ّ
هذا الكتاب:
عب عن آراء مؤ ِّلفه ،وال ُي ِّ
عب -بالرضورة -عن رأي وزارة الثّقافة والرياضة أو مج ّلة الدوحة ُي ِّ
حكايات السندباد
تقديم:
خالد بلقاسم
جز ٌء من ال ّنجاة»
«يف امل ُخاطرة ُ
«موقف البحر» للنفّري
.1إضاءة
حري،ّ تسـب حكاي ُة سـندباد البَ ُ مل ُؤلَّـف «ألـف ليلة وليلة» ،الذي إليه ت َ ْن
عب َمسـالكِ شـائج قويّـ ٌة بامل َتاهـة .فبنيـ ُة هـذا امل ُؤلَّـف قامئـة على تشَ ـ ُّ
ٌ ُ َو
شـائج ال من تف ُّرع الحكايات وانشـطارِها ِ ُ حيك وتشـابُكها .تتبدَّى هذه ال َو ال َ
ِ
وتوالُدهـا وتع ُّدد امل َسـارب التي تشـقُّها وحسـب ،بل أيضاً مـن ك ْون كتاب ِ ِ
ر قراءتِه أ ْن ر قابلٍ لالسـتنفا ِد تأويالً ،كام لو أ ّن َمصي َ «ألـف ليلـة وليلة» غي َ
ن ِ ُّ
تنفك تت َولَّـ ُد م ْ ِ ِ
عي إىل تأ ُّولـه شـاهدا ً على امل َتاهـات التـي ال سـ ْظـل ك ُُّل َ
يَ َّ
عـد ِ
فـق بنيـة املتاهـة .إنّهـا ،أبْ َ حكاياتـه .تبـدُو هـذه الحكايـاتُ ُمنتظمـ ًة َو َ
ـج متاهات. ِ
أصلاً ،يك تُنت َ َتْ ، ِمـن ذلـك ،تَبْـدو كما ل ْو أنّهـا صيغ ْ
5
جهـول امل ُؤلِّف، َ كتـاب «ألـف ليلـة وليلة» ،فَضلاً عن ذلكَ ،م ُ إذا كان
سـحيقة. ل َ أصو ٍ ـن ُمتخيَّـل ذي ُ ِ ٍ ٍ
بـا ألنّـ ُه حصيلـ ُة ثقافـات ُمسـت َم ّدة م ْ فل ُر ّ
َـت هـذه ِ
كتـاب واحـدٌ ،وإ ْن احت َفظ ْ ٌ ٍ
صوغـ ٌة يف حكايـات ض َّمهـا ثقافـاتٌ َم ُ
ل ـن حيـث بناؤُهـا وانشـطا ُرها وتشـابُكُها وتوالُدُهـا ،باحتام ِ ِ
الحكايـاتُ ،م ْ
َّـف «ألـف ليلـة وليلـة» كُتُبـاً يف كتاب ،على نَحو ما شـ ّددَت عليه َعـ ِّد ُمؤل ِ
رو َر ِة ت َكوينه. وبسي ُ
غلَت مبَسـار تشـكُّل هذا الكتـاب َ الدراسـاتُ التي انشـ َ
سـحيقٍ يف َعبر تاريـخ ثقـا ٍّ ٍ
سيرور َة حكايـات تك َّونـت ْ إ ّن تأويلَـه ،ب َوصفـ ِه َ
ٍ
ثقافـات عـرب ،نِ َ
تـاج ـب إىل ال َ انتس َ
َ عـد ِِّه ،حتـى وإن سـمح ب َُ عب ،يَ و ُمتشـ ِّ
حصيل َة ِ ِ ٍ
عـدِّه تأليفاً بأياد َعديدة أكرث مـن اعتباره َ ٍ ِ
ت يف ت َشَ ـكُّله ،وب َ أسـ َه َم ْ ْ
َ
جه عا ّم ،إذ نشَ ـأتْ ٍ غامض ب َو ْ
ٌ أص َل هذا الكتـاب ْيص .ذلـك أ ّن ْ تأليـف شَ ـخ ّ ٍ
صـوغ شـارك يف َ َ ٍ
حكايات ُـهُ ،كما يَـرى بورخيـس ،بطريقـة غامضـة؛ فقـد
م ِ
أي من ُهم أنّ ُه كان يُسـاه ُ م ٌّ آالف امل ُؤلِّفين ،دُون أن يَعلـ َ هـذه الحكايـات ُ
ـن أ ْعظَـم ال ُكتُب .
((( ٍ
واحـد ِم ْ ع
يف إبـدا ِ
جعـل َمعنـاه يتل َّو ُن ُ َ
جهـول امل ُؤلِّـف يَ كـ ْو ُن كتـاب «ألـف ليلـة وليلـة» َم
حها لـ ُه القراءةُ ،ويَجعلُـ ُه ُمتح ِّررا ً ك َُّل َمـ ّر ٍة باالحتماالت الدالل ّيـة التـي تَ ْ َن ُ
ن ع ْينـه ،و ُمتح ِّررا ً ِمـن أث َر هذه ال ِّنسـبة و ِم ْ ٍ
ـخص ب َ ِمـن نِسـب ِة الكتـاب إىل شَ
تاهـات التأويـل ِ الكتـاب على َم
َ ْطهـا يف ت َ ْوجيـ ِه التأويـل .تحـ ُّر ٌر يَ ُ
فتـح ضَ غ ِ
ن بن َي ِتـه .كأ ّن القراء َة قـ َد ُر هذا الكتـاب .إنّها ُمؤلِّفُـ ُه امل ُت َ
ج ِّد ُد امل ُتخلِّقـة ِمـ ْ
ِّـف ُمتجـ ِّد ٌد يف ذاتـه ،و ُمجـ ِّد ٌد دَومـاً .القـراءةَُ ،وفـق هـذا التصـ ُّورُ ،مؤل ٌ
ن ُمسـتق َبلِ التأويـل ِّـف قـاد ٌم باسـتمرار ِمـ ْ ِ
نفسـه؛ ُمؤل ٌ مل َق ُروئـ ِه يف اآلن
جهولـ ِه.و َم ْ
كتـاب «ألـف ليلـة وليلـة»ُ ،منـذ تنبّـ َه
ُ لهـذا كُلّـه ،غالبـاً مـا اجتَ َ
ـذب
ِّـن
يك ُ األوروبيّـون إىل قي َم ِتـه ،قُـ ّرا َء كبـارا ً ،ألنّ ُهـم َعثرُوا فيـه على مـا ُ َ
يئ فيها .ذلـك أ ّن قراء َة هذا الكتـاب َمنذو َر ٌة القـراء َة ِمـن ُمال َمسـ ِة الالنها ِّ
(1) Jorge Luis Borges, Œuvres completes, II, Traduit par Jean Pierre Bernès, Roger
Callois, Claude Esteban, Nestor Ibarra et Françoise Rosset, Bibliothèque de la Pléiade,
Ed. Gallimard, 2010, p. 673.
6
يئ،م ال ِفعـل القـرا ّ صميـ َ َـس ،أساسـاًَ ، جزِهـا أسـئل ًة مت ُّ ألَ ْن ت ُ َولِّـ َد لـدى ُمن ِ
عـد ج ُهولـه .أبْ َ ع َم ْ
سـو َ ُمـوض هـذا ال ِفعـل ،وت َعقُّـ َد آليّاتـه ،وشُ ُ َ َـس غ
ومت ُّ
علُـو ُه الكتـاب إىل َمـدا ِر اهتام ِمهـم و َ
ج َ َ ح َّولـوا هـذا ـن َ ِمـن ذلـك ،إ ّن َم ْ
االنشـغال إىل اإلقـرار بـأ ّن َمـدا َر الكتـاب ُ أس انشـغالهم ،قا َد ُهـم هـذا َّ
الالفـت ،إذا ً،
ُ نفصلاً ،هـو ذاتـهُ ،عـن أسـئل ِة القـراء ِة وقضاياهـا. ليـس ُم ِ
تحويـل كتـاب «ألـف ليلـة وليلـة» إىل َمـدار اهتمامٍ ،على ُمسـتوى َ أ ّن
ج ٍة بين عثـور على َوشـي َ حكي وبامل َعنـى ،يُفْضي إىل ال ُ االنشـغال بال َ
يئ
ـن نـذ َر اهتام َمـ ُه القـرا َّ َمـدار هـذا الكتـاب وبين القـراءة .البـ ّد لـك ُِّل َم ْ
ـل مـدا َر هـذا امل ُؤلَّـف بالقـراءة .إنّـ ُه ص ُ لهـذا الكتـاب أ ْن يَعثرَ على مـا يَ ِ
عنى فيـه ،النهائيّـ َة ال ِفعل كي وامل َ ْ ح ْ عب ال َ جسـدُ ،بب ْنيَ ِتـ ِه وبتشَ ـ ُّ َّـف يُ ُِّمؤل ٌ
الكتـاب هـذه الالنهائ ّيـ َة وحسـب ،بـل يَصونُهـا أيضـاً، ُ جسـ ُد
يئ .ال يُ ِّ القـرا ّ
ـوط ت ُؤكِّـ ُد انتسـابَ ُه إىلخ ُي ٍ ـن ُ حمـي دَوا َمهـا مبـا تنطـوي عليـه بنيتُـ ُه ِم ْ ويَ ْ
مبقـدوره قـراءة هـذا الكتـاب إىل ال ّنهاية، َمسـارب امل َتاهـات ،إذ ال أحـ َد َ
يئ .
(((
ـل ،بـل ألنّـ ُه ال نهـا ّ كتـاب ُم ِم ّ
ٌ ال ألنّـه
ُـف عن أنْ تكـونَ واحدةً، ع الحكايـ ِة الواحـدة ،الـذي ب ِه تَك ُّ ليـس تفـ ُّر ُ
ـق للحكايـ ِة ُد ُروباً
صفَـ َة املتاهـة ُهـو فقـط ما يَشُ ُّ وانشـطا ُرها وات ّخاذُهـا ِ
ـح فيها .مث ّة ،إىل جانـب ذلك ،تجا ُو ُر عـ َد ِد الشِّ ـعاب التي ت َنف ِت ُ تأويل ّيـ ًة ب َ
ّب رتت ُ
ـن جهـة ،أي اجتام ُعهـا يف كتاب واحد ،مبـا ي َ الحكايـات العـا ّمِ ،م ْ
ع هذه سـ ِّو ِ
غات اجتام ِ ـن ُم َيل ُمسـت َم ٍّد ِم ْ
ل دال ٍّ ن احتام ٍ على هـذا األ ْمـر ِم ْ
يئ كما يَـ َرى بورخيس((( ،يف ُنتسـب إىل الالنهـا ِّ ع َد ِدهـا امل ِ الحكايـات ،ب َ
ح ٍو يَقتضي ،يف ك ُِّل قـراء ٍة ُمنشـغل ٍة بالكتاب، إضاممـ ٍة واحـدة ،على نَ ْ
ـنالصامـت يف َعـد ِد الليـايل .ومث ّـةِ ،م ْ ِ اسـتحضا َر تجـا ُو ِر الالنهـا ِّ
يئ
الخـاص ،القائـم على الـ ُورو ِد امل ُبـارش لحكايـ ٍة ّ جهـ ٍة أخـرى ،التجـا ُو ُر
7
املتحقِّـق بين التسـاؤل عـن القُـرب ُ َ فـرض
ُ عـ َد أخـرى((( ،على نَحـ ٍو يَ بَ ْ
ـط ُر وتتوالـدُ ،مبـا جعـل الحكايـ َة الواحـد َة ت َ ْنشَ ُِ كتـاب يَ
ٍ ِ
الحكايـات يف
غه صـ َد امتدا ِد هـذا التّوالُـد وتعـ ُّد ِد ِ
صيَ ِ تيـح ،على ُمسـتوى التأويـلَ ،ر ْ يُ ُ
يف التجـا ُور القريـب بين الحكايـات ،أي يف الـ ُورود امل ُبـارش لحكايـ ٍة
سـمح بالحديـث ،يف كتـاب «ألف ُ ـل هـذا األ ْمـر هـو ما يَ عـد أخـرى .لَ َ
ع ّ بَ ْ
ين الحكايـات. ليلـة وليلـة» ،عـن التجـا ُور ال َبعيـد والتّجـا ُور القريـب بَ ْ
ـح القـراء َة على ُد ُروبهـا الشـبي َه ِة باملتاهات ،وعىل كِال التّجا ُو َريْـن يَ ْفتَ ُ
أسـئل ِتها الخَصيبة ،أي أسـئل ِة ال َوشـائج ،والتامثالت ،والخُيوط الناظم ِة
شـائج
ُ سـحيق ِة األصـداء .تتقـ ّوى هـذه ال َو ٍ
عالقـات َ ج قائـمٍ على ل َنسـي ٍ
أصـدا ِء حفْـر يف ْ ب كُلّما را َه َنـت القـراء ُة على ال َ ع ُ والتامثلاتُ وتتشـ َّ
جذورهـا الغامضَ ـ ِة وامل ُو ِغلـ ِة أصولهـا ال َبعيـدة ،ويف ُ الحكايـات ،ويف ُ
يف ال ِقـدَم.
َت شـائج والتامثلاتُ يف بنـا ِء التأويـل وت َ
ح ّول ْ ُ ـت هـذه ال َو كُلّما تح ّك َم ْ
صـو َر َة متاهـة .ت َغـدُو َت القـرا َء ُة ذات ُهـا ُ يئ ،ات ّخـذ ِل قـرا ّ إىل انشـغا ٍ
القـراءةُ ،يف هـذه الحـالَ ،د ْربـاً ال نهايـ َة لـهُ ،وداخلاً بلا خـارج .هكـذا
وكل بنـا ٍء لهـا -ألنّ العثـو َرـن ال َوشـائج ُّ يَغـدو ك ُُّل ُعثـور على َوشـيج ٍة ِم َ
ري ُمنفَصلٍ عـن بنائها -إيذانـاً بتوال ُِد جة ،يف هذا السـياق ،غ ُ على ال َوشـي َ
صيبُ ال َوشـائج ،أي أنّ َعـ ْد َوى بن َيـ ِة الحكايـات ،يف «ألـف ليلـة وليلـة» ،يُ
م يف بنيَ ِتها .ال جهة التـي تأخُذها ،ويَتحكَّـ ُ ويتـ ُّد إىل الو ْ القـراء َة ذات َهـاَ ،
كتـاب «ألف ِ ِ
إنتـاج امل َتاهـات ،يف هـذه الحال ،شـأناً ُمقتصا ً عىل ُ يَبقـى
ـن هـذا األ ْمر ِ
جانـب م ْ
ٌ بـا ِ ِ
سري يف صيَـغ قرا َءتـه .ل ُر ّ ليلـة وليلـة» ،بـل يَ ْ
عـض امل ُنشـغلني بال ِكتـاب يَتحدَّثـون عـن َعـدواه ،وعـن َ عـل بَج َهـو مـا َ
8
خُطـو َر ِة قرا َءتِـه ،وعـن ِ
صلَ ِتـ ِه بامل َوت.
ُـف عـن تَخْصيـب يئ آخَـ ُر ال يَك ُّ
إىل جانـب مـا تقـدَّم ،مث ّـة َموقـ ٌع قـرا ٌّ
ن م ك َُّل حكايـ ٍة ِمـ ْ حكُـ ُ
ّـق األ ْمـ ُر بال َوشـائج التـي ت َ ْ
التأويـل وإغنائـه .يتعل ُ
ن جهة، حكايـات «ألـف ليلـة وليلـة» بالحكايـ ِة اإلطـار يف هـذا الكتـابِ ،مـ ْ ِ
كل ن جهـة أخـرى .ذلـك أ ّن ّ ومبَسـار العالقـ ِة بين شـهرزاد وشـهريارِ ،مـ ْ
ل هـذ ِه تفتـح كـوى عديـد ًة لتت ُّبـعِ ِظلا ِ ُ حكايـ ٍة ،يف «ألـف ليلـة وليلـة»،
حكي وعالماتِـه. العالقـ ِة يف تفاصيـلِ ال َ
حـري ُمرشعـ ٌة هـي كذلـك ،شـأنُها شـأ ُن باقـي ّ حكايـ ُة سـندباد ال َب
سـج التامثالت، حكايـات «ألـف ليلـة وليلة» ،على التآويـل امل ُنشَ ـغلة ب َن ْ
لالع يف هـذه الحكايـة أصـدا ُء قدميـةٌ ،وت ُـ َرى بين ط ّياتِهـا ِظ ٌ إذ ت ُسـ َم ُ
ن ـن أصـدا َء بَعيـد ٍة ،ومـا يُـ َرى يف تراكيبهـا ِم ْ ع فيهـا ِم ْ سـحيقةٌ .مـا يُسـ َم ُ َ
َطـوي يف الحكايـة ،وإِ ْنِّ أطيـاف ُمتشـابكة ،يُغْـري القـراء َة باسـتجال ِء امل ٍ
عثـور على الطّ ّيـات حـدودَهُ يف ال ُعي لهـذا االسـتجال ِء يَعـي ُ سـ ْ
كان ك ُُّل َ
ويف تَ ديدهـا.
حـري ،ويف حكايـات «ألـف ليلـة ّ َطـوي يف حكايـ ِة سـندباد البَ َّ إ ّن امل
جـ ٍه عـا ّمُ ،ممتـ ٌّد يف أ ْز ِمنـ ٍة ُمو ِغلـ ٍة يف ال ِقـدم ،و ُمضْ ِمـ ٌر لتمث ٍ
ُّالت وليلـة» ب َو ْ
مات الدّالّ ِة عىلِ الس
ن ِّ ري سـحيقة .االمتدا ُد واإلضما ُر ِم َ ن أسـاط َ قادمـ ٍة ِمـ ْ
جـوه العديـدة ،و ُهما معـاً؛ االمتـدا ُد واإلضامر، ذات ال ُو ُ ال نهائيّـ ِة الكتـاب ِ
حكايـات الليـايل وتوال ُِدهـا .إذا كان تشـابُ ُك ِ ك يَنضافـان إىل ت َشـابُ ِ
يئ ،الـذي بـه سمان َم ْنحـى أفقيّـاً لل َمل َمـح الالنهـا ِّ الحكايـات وتوالُدُهـا يَ ْر ُ
َطـوي يف هذهَّ ـف قرا َءتُـ ُه يف اآلن ذاتـه ،فـإ ّن امل ص ُ الكتـاب ،وبـه تَتَّ ِ
ُ ـف ص ُ يَتَّ ِ
جـه امل ُرتبـط ج َه ْيـه؛ ال َو ْ م َم ْنحـى َعموديّـاً لهـذا امل َل َمـح ب َو ْ سـ ُ الحكايـات يَ ْر ُ
سـلك قرا َءتِـه .إ ّن تضافُـ َر جـه امل ُقترن مبَ ْ حكي يف ال ِكتـاب ،وال َو ْ بب ْنيَـ ِة ال َ
صـو َر َة امل َتاهـةَ ،مازجـاً ـف ُ يئ ،ويُضا ِع ُ يئ القـرا َّ ـف الالنهـا َّ ين يُضا ِع ُ ح َي ْامل َ ْن َ
مـودي.
ِّ ع
فقـي بالغَـ ْور ال َ فيهـا االمتـدا َد األُ َّ
9
.2التسمية مبا هي تحديد لل ُهويّة
حـري
ّ التمثيـل لألصـداء امل ُض َمـ َرة يف حكايـ ِة سـندباد ال َب ُ ن
يكـ ُ ُْ
السـفرات التي قا َمـت عليها هـذه الحكاية .وهو عـ َد ِد ّ بالحمولـة الدالل ّيـة ل َ
عـض دارسـيها .ليس عبثـاً أ ْن يكو َن عد ُد سـفرات ُ سـبق أ ْن تن َّبـ َه إليـه بَ َ أ ْمـ ٌر
هـات مفتوح ًة على التآويل. ج ٍ حـري سـ ْبعاً ،بـل إ ّن للعـدد ُم َو ِّ ّ السـندباد ال َب
ـق أدق التفاصيـل ،بـل تنطلِ ُ بالصدفـة حتـى يف ِّ ُّ فرشيعـ ُة القـراءة ال ت ُقـ ُّر
ظائـف ويَنطـوي َ كل تفصيـل يف الكتـابَ ،م ْهما ضَ ـ ُؤ َل ،يَضطلـ ُع ب َو ن أ ّن َّ ِمـ ْ
ج َهـ ٍة الختيـار العـدد «سـبعة» ،
(((
افتراض مقصديّـة ُم َو ِّ َ على أبعـاد .إ ّن
جعـلُ سـحيقٍ ُمتحكّـمٍ يف هـذا االختيـار ،يَ معـي َ ٍّ ـي َج افتراض ال َو ْع ٍ َ أو
العـد َد ُمنطَلَقـاً تأويل ّيـاً وعالمـ ًة ُمض ِمر ًة لِمعـانٍ َرهين ٍة مبـا ت ُ َولِّـدُهُ القراءةُ،
يتداخـل فيهـا ُ ٍ
بـدالالت ثقـل
خـاصُ ،م ٌ ّ جـ ٍه
عـدد ،ب َو ْ خُصوصـاً أ ّن هـذا ال َ
عبر ال ّزمـن، َّـت ت َن ُمـو ْ َ ُّلات أسـطوريّ ٍة ظل ْ ـل بتمث ٍ ُـديس ،و ُمح َّم ٌ ِّ ّينـي بالق الد ُّ
كتـاب ٍ تحـت
َ ط بحكايـ ٍة ُم ْنضَ ويـ ٍة عـد َد يَرتبـ ُ ُصوصـاً أيْضـاً أ ّن هـذا ال َ وخ ُ
يئ؛ إنّـ ُه عـد ُد «األ لْـف»، صلـ ٍة بالالنهـا ّ ن ُعنوانُـ ُه العـا ُّم على َعـد ٍد ذي ِ را َهـ َ
عنوا ُن فتح على بدايـ ٍة ال نهايَ َة لهـا .فهـذا ال ُ انضـاف إليـه َعـ َد ٌد آخَـ ُر يَ ُ َ وقـد
ِ ِ (((
م يف بنيـ ِة الكتـاب ،ويُ َولِّدُ ،حسـب بورخيـس ،ال ّرغبـ َة يف قرا َءته ، يَتحكَّـ ُ
ن َعتبته، عدد وح َيويّتَـ ُه يف تأويل الكتاب بَ ِّي َنتـان ِم ْ ـف أ ّن أه ّميـة ال َ يكش ُ مبـا ِ
ن ُعنوانـه. أي ِمـ ْ
ـي االفتراض السـابق ويُعضِّ ُد ُهما هـو التنبُّـ ُه إىل ج َه ْ
إنّ مـا يُقـ ّوي َو ْ
ِ
َحديـد ِ
قتصر ُورودُهُ على ت عـدَد «سـبعة» يف الحكايـة ،إذ ملْ يَ تكـرار ال َ
تن الحكاية .فقـ ْد َور َد حضـو ُرهُ إىل َم َْعـ َد ِد سـفرات السـندباد ،بـل امت ّد ُ
حري
ّ ّص السـندبا ُد البَالسـفرة الرابعة عندما تخل َ هذا العد ُد يف حكاي ِة ّ
ُؤرخني بكتابتها.يأمر امل ّ حكاي َتها للخليفة هارون الرشيد الذي ُ َ السندباد
ُ السفرة السادسةَ ،يروي ((( يف نهاية ّ
كون حكاية السندباد ْ إىل فرة، الس
ّ هذه د
َ ي ع ب
ُ َ ْ الكتابة، إىل اللجوء
َ هذا ون ز
ُ عَ ْي الباحثني بعض
َ وهو ما جعلَ
العدد «سبعة» َبدا خليق ًا ْ
بأن َي َن َحها نهايةً ُم ْرضية، َ الس ْح َر الذي ينطوي عليه
أن ِّ تتضم ُن ست أسفار فقط ،غري ّ
ّ
حملولدالالت حمول ِته .اُنظر :عبد الفتاح كيليطو ،األعامل ،الجزء الرابعّ ، ِ ض االستجابةَ فر َ
العدد َ
َ أن
كام لو ّ
الحكاية ،م .س ،.ص.62 .
(2) Jorge Luis Borges, Œuvres completes, II, op. cit., p. 674.
10
تقـول الحكاية، ُ ـن السـودان الذيـن يَأكُلـون البَشر ،حيث َمكـثَ ،كام ِم َ
حشـد الـذي هتـدي إىل ال َ َ «سـبعة أيّـام بلياليهـا» يف الجزيـرة ،قبْـل أنْ يَ
«سـبعة» ،يف حكاي ِة ع الفلفـل .إىل جانـب ذلكُ ،ذكِـ َر العد ُد َ كان يَجمـ ُ
جـل ـت يف زا ِد ال ّر ُ ع ْ ض َالسـفرة الرابعـة ذاتِهـاُ ،مقرتنـاً باأل ْر ِغفـة التـي ُو ِ ّ
ـب رفقـة زَوجتـه مل َّـا فا َرقَـت الحيـاة .وتكـ ّر َر ُ ِّج ال يف ً ا ـ ي ح
َ ّ ـن ِ
ف د
ُ الـذي
ـب حيّـاً ج ِّحـري هـو أيضـاً إىل ال ُ ّ العـد ُد كذلـك أثنـاء إنـزال السـندباد البَ
ين يف حالةِ ج ْ فـق عاد ِة قَـومٍ ال يُف ِّرقون بين ال ّز ْو َ ّيـت زَوجتُـهَُ ،و َ مل َّـا ت ُوف ْ
ـن ذلـك ،الب ّد عـد ِم ْ الحـي إىل جـوار امليـت .أبْ َ ُّ ح ِدهما ،إذ يُ ْدف ُ
َـن وفـا ِة أ َ
ـن االنتبـاه ،يف هـذا السـياق ،إىل أنّ األبيـاتَ الشـعريّ َة التـي تص ّد َرت ِم َ
ـتج َه ْ ـن إطارهـا العـا ّم و َو ّ جـزءا ً ِم ْ حـري وشـكّلت ُ ّ حكايـ َة سـندباد ال َب
السـبع ُة كانـت حاسـ َم ًة َّ سـ ْبعة .فاألبيـاتُ َمسـا َر َمعناهـا ،كان عددُهـا َ
سـيَأيت سـبْع سـفرات ،كام َ سـبْع ِة أيّـام ،عن َ حكي ،مل ُـ ّد ِة َ يف انطلاقِ ال َ
بيـانُ ذلك.
ـعاب َعديد ٌة ٌ ش خـارج حكايـ ِة السـندبادِ ، َ عـدَد «سـبعة»، لِحمولـ ِة ال َ
كـن أنْ نَسـتثم َر ِم ْنهـا ي ُ ُـديسْ ُ .
ّ بالدينـي وبالق ِّ األسـطوري
ُّ تداخـل فيهـا
ُ يَ
حـري ،عالق َة ّ ح به حكاي ُة سـندباد البَ ُـصَ ،وفق ما تسـ َم ُ عباً واحـدا ً يَخ ُّ شـ ِْ
وبتحديـد ال ُهويّـة ،خُصوصـاً أنّ ِ الشـخيص،
ّ باالسـمْ العـدد «سـبعة»
َسري ُمضْ َمـ َر ًة يفَ صيحـ ٍة ق ْبـل أنْ ت ـل ،بصـور ٍة َ َموضوعـة «االسـم» ت ُِط ُّ
م بني حكيُ ،منـذ بدايـ ِة الحكاية ،أي ُمنـذ لحظ ِة التعا ُرف الـذي ت َّ ثنايـا ال َ
الحمل .مـا العالقـة ،إذا ً ،امل ُحت َملة بني ّ حـري والسـندباد ّ السـندباد ال َب
حـري؟ لقد اقرتنَ هذا العـددُُ ،منذ أ ْز ِمن ٍة ّ واسـمِ السـندباد البَ هذا العدَد ْ
َسـ ِميَ َة امل َولود، َسـبق ت ْ
ُ جسـ َد عد َد األيّام التي ت سـحيقة ،بالتّسـ ِميَة ،إذ َّ َ
اإلسلامي .سـبع ُة أيّام ّ كما هـي الحـال يف العقيقـة َوفق منظـور الدين
َسـ ِم َيتُ ُه يف ال َيـوم السـابع كما لـو اسـم ،فتكـونُ ت ْ يكـونُ فيهـا الفـر ُد بلا ْ
حريّ يل ل ُهويّتـه .أيَنطوي ،إذا ًَ ،ع َد ُد سـفرات السـندباد ال َب أنّهـا تحديـ ٌد أ ّو ٌّ
االسـم ،وتحديـدا ً ْ السـمه ،وكشْ ـفاً لداللـ ِة على مـا يَجعلُهـا ت َسـويغاً ْ
لِل ُهو يّة؟
11
تعين االنتبـاه ،أثنـاء التفكير يف هـذا السـؤال ،إىل َموضوعـ ِة َّ ُ بـا يَ ل ُر َّ
«البـاب» حيّـزا ً دالليّـاً ها ّمـاً يف ُ شـغل
َ «البـاب» يف بدايـة الحكايـة .لقـد ِ
بر ،الذي َين؛ عامل ال ّ َصـل بني عامل ْ اإلطـار العـا ّم لحكايـة السـندباد ،إذ ف َ
والعجائبـي ،الذي ّ الحمال ،وعـامل البَحـر والغرابـة ّ عـاش السـندبا ُد َ فيـه
لباب الدار ،التي ِ الحمال
ّ حري .اجتياز السـندباد ّ عيش السـندبا ُد البَ ُ فيـه يَ
صاحـب الدار، ِ حـري ،اقتر َن بدَعـو ٍة تلقّاهـا ِمـ ْ
ن ّ ن السـندباد البَ فيهـا يَقطـ ُ
ُؤانسـة والرتحيـب واإلطعام ،قبْـل أن ت ُثا َر واقترنَ ،أساسـاً ،بالتقريب وامل َ
ُوس االسـم ،وبطق ِ ٍ
ّـق باحتفاء بدالل ِة ْ االسـم ،كما لـ ْو أ ّن األم َر يَتعل ُ َمسـأل ُة ْ
َرحيبٌ سـ ِميَ َة دَعو ٌة و ُمؤانسـ ٌة وت ف هـذه الدّاللـة .أ ْن تتق َّد َم التّ ْ التهيُّـؤ لتعـ ُّر ِ
ن َمعنـى ،أ ّن الضياف َة تَهيي ٌء السـتيعاب ما يَحت ِملُـ ُه ِم ْ ع َنـا ُهِ ،م ّ وإطعـا ٌمَ ،م ْ
ن َز َمنٍ تحـ َّددَ ،يف الحكاية، االسـتيعاب ِمـ ْ
ُ االسـم ،ولِما يَتطلّبُ ُه هذا داللـ ِة ْ
ـت حضـور إىل بَيْ ِ دأب على ال ُ الحمال َ ّ سـبْع ِة أيّـام .ذلـك أ ّن السـندباد يف َ
حـري ،مل ُـ ّد ِة سـبعة أيّـامٍ ُمتتاليـة ،يك يَتعـ َّر َف َمـن ُهـو هـذا ّ السـندباد البَ
السـبعة ن األيّـام َّ كل يَـومِ ،مـ َ اسـ َمه و ُهويَّتَـه .كا َن ُّ األخير ،أي أ ْن يتعـ َّر َف ْ
ن لجانـب ِمـ ْ ٍ الحمال بالبَيـت ،يُشـك ُّل إضـاء ًة ّ ـل فيهـا السـندبا ُد ح َّ التـي َ
كل م يف ّ حيكُ ،الذي كان يت ُّ أتاح ال َ حري ،إذ َ ّ جوانب شـخصيّ ِة السـندباد البَ َ
حريّ ن سـفرات السـندباد ال َب السـبعة ،اسـتجال َء سـفر ٍة ِم ْ ن األيّـامِ َّ يَـ ْومٍ ِمـ َ
ج َوانب هذه ل ال َيوم السـابع ،اسـتجال ُء ُمختلـف َ حلو ِ م ،ب ُ السـبع ،إىل أ ْن تـ َّ
ـف، حري يتكشَّ ُ ّ اسـمِ السـندباد ال َب جـز ٌء ِمن ْ كل يَـوم ،كان ُ الشـخص ّية .يف ِّ
ت حكاي ُة السـبعة .وبانتهائها ،انت َه ْ سـ ِم َي ُة بانتهاء األيّام َّ إىل أن اكت َملَت التّ ْ
السـبع ،مبَعنـى السـفراتُ َّ جـ ٍه عـا ّم .أال تُـوازي ،إذا ًّ ، حـري ب َو ْ ّ السـندباد ال َب
االسـم عىل الفَـرد؟ أملْ تكُن ضياف ُة إطالق ْ َ السـبعة التي تتق َّد ُم مـا ،األيّـا َم َّ
وعب دالل َة َ حـري إيذانـاً للأ ّول بـأ ْن يتعـ َّر َف الثاين ،وبـأ ْن يَسـتَ ّ السـندباد ال َب
سـبع ِة ّـت روايـ ُة أحداثهـا يف َ السـ ْبع ،التـي مت ْ السـفراتُ َّ اسـ ِمه؟ أملْ تكُـن ّ ْ
ل االحتفـا ِء بالتّسـمية ،انطالقاً ِمن اسـتجال ِء ُهويّة أيّـام ،تنطـوي على ِظال ِ
حري؟ ّ السـندباد ال َب
ج حكايـ ِة
ن خـار ِ ْس ِمـ ْ حـد ٍ تحصلـ ًة عـن َ
ّ سـت األسـئل ُة السـابق ُة ُم ليْ َ
ن داخـل ِ
حـري .إنّهـا ،على العكـس ،أسـئل ٌة ُمت َولِّـد ٌة مـ ْ ّ السـندباد البَ
12
جزءا ً سـ ِميَة ُ الحكايـة ،وتحديـدا ً ِمـن بدايَ ِتهـا ،التي تُشـك ُّل فيها مسـأل ُة التّ ْ
الحمل ّ حيـب السـندباد البَحـري بالسـندباد ِ عـد تَ ْر ن التأطير العـا ّم .فبَ ْ ِمـ َ
اسـ ُمك؟ بـاشة قائلاً« :فما يكو ُن ْ بصـو َر ٍة ُم ِ َ سـأل األ ّو ُل الثـاين ُ َ وإطْعا ِمـه،
الحمل، ّ الصنائـع؟ فقال لهُ :يا سـيّدي ،اسـمي السـندباد ن ّ ومـا ت ُعـاين ِمـ َ
صاحـب املـكان ُ م
فتبسـ َ
َّ أسـباب النـاس باألجـرة. َ مـل على رأيس ح ُ وأنـا أ ْ
حري».ّ حمل أ ّن اسـ َم َك ِمثل اسـمي ،فأنا السـندبا ُد البَ ِ
وقـال لـهُ :اعلم يـا ّ
جوابَـهُ ،يف هذا الشـاهدَ ،مصوغـان بتَ ْوجي ٍه حـري و َ
ّ ـؤال السـندباد البَ س َ إ ّن ُ
ي رب ّ
السـبْعة التـي أنشـدَها السـندبا ُد ال ّ ن امل َعنـى امل ُض َمـر يف األبيـات َّ ِمـ َ
عندمـا تجـا َو َز املصطبـة إىل البـاب ،ومنـ ُه إىل داخـل منـزل السـندباد
حري قري َنـ ُه عن نَ ْوع ُمعاناته، ّ سـؤال السـندباد البَ ن ُ ي ِم ْحـري .ت َ ْوجي ٌه بَ ِّ ٌ
ّ البَ
ين ضَ يفـه .إنّهـا امل ُامثلـ ُة التـي ن إقـراره بامل ُامثلـ ِة بَيْ َنـ ُه وبَ ْ َ ين أيضـاً ِمـ ْ وبَ ّ ٌ
كل أطوارهـا ،على إبـراز االختلاف حـري ،يف ِّ ّ َـت حكايـ ُة السـندباد البَ ع ِمل ْ
السـبْع ،كان السـفرات َّ الـذي يَبنيهـا ،كما لـو أ ّن نُ ُـ َّو املعنـى ،يف حكايـ ِة ّ
َمحكومـاً -أساسـاً -بالكشْ ـف عـن االختلاف البـاين لل ُمامثلـة.
سـت االسـم ،إذا ً ،على االختلاف .فامل ُامثلـ ُة ل ْي َ ْ تنطَـوي امل ُامثلـ ُة يف
بصفَـ ٍة تُبرزُ، تي ِ ن الشـخص ّي ْ كل شـخص ّي ٍة ِمـ َ م ،احتفظَـت ُّ تطابُقـاً .مـن ث َـ َّ
الصفـة ،انطالقـاً ِم ّ
ما حـ َّددََ ،وفـق هـذه ِّ االختلاف الـذي ت َ َ َ اسـ ِمها ،هـذا يف ْ
تر ٌكتي ُمش َ اسـمِ الشـخص ّي ْ ـق األ ّو ُل ِمن ْ ـل املـا َء عـن اليابسـة .الشِّ ٌّ يَ ِ
فص ُ
َ
االختلاف نـف .لكـ ّ الصفَـةُ ،ف ُمختلِ ٌ ِّ سـدُهُ ج ِّ بين ُهما ،أ ّمـا الثـاين ،الـذي ت ُ َ
ك ذاتِـ ِه ،إ ْذ كان تر ِالصفـ ِة ،حتّـى يف امل ُش َ ن ِّ ح ِمـ َ واضـ ٍِ سري ،بتأثير يَ ْ
ترك ُمختلِفـاً عـل هـذا امل ُش َ ج ْئيـس يف َ لالسـم دَو ٌر َر ٌ ْ للصفـ ِة امل ُشـكِّل ِة ِّ
السـبع تأكيـدَهُ .لقد ّ ـفرات الس
ّ ةُ حكايـ م ُ ُو ر َـ ت مـا هـذا ـل
ّ ع
َ َ ل ْسـه. ف َ ن اآلن يف
املشـاق واألهـوال، ّ م على تح ُّمـل جيل امل ُشترَك القائـ َ َسـت ْ كانـت ،وهـي ت ْ
بر، َختلـف فيـه أهـوال املـاء عـن أهـوال ال ّ ُ ُ ت ُبرزُ ،يف ال َوقـت ذاتـه ،مـا ت
ً ً
اسـم السـندباد ،عالمـة فارقـة بني حـري» ،يف ْ ّ صفَـ َة «البَ عـل ِ ج َ حـ ٍو َ على نَ ْ
الصفـةُُ ،مت َوقِّفـاً على َـت بـه هـذه ّ م ،الـذي اقرتَن ْ الشـخصيّتني .كان االسـ ُ
ـف تدريجيّاً ي ،وهي تتكشّ ُ رب َّ
ـت السـندبا َد ال ّ ْس ْ دالل ِتهـا .إنّهـا الداللة التي أن َ
حيك، ت لل َ نص ُ ي ،وهو يُ ِ حيك ،مشـاقّ ُه و ُمعاناته .كان السـندباد ال ّ
رب ّ عب ال َ َْ
13
م السـندباد انطالقـاً الصفـة ،أي يتعـ َّر ُف اسـ َ ن هـذه ّ جوانـب ِمـ ْ
َ يتعـ َّر ُف
منهـا ،ويتعـ َّر ُف اختالف ُهما ،يف اآلن ذاتـه ،بنـا ًء عليهـا .كانـت الحكايـة،
ـف عـن األهـوال والشـدائد وامل َصائـب ،التـي كابَدَها السـندبا ُد وهـي تَك ِ
ْش ُ
ي و ُمعاناتـه ،وتَنتـز ُع بر ّ مشـاق السـندباد ال ّ ّ خ
َنسـ ُ
حـري ،كما لـو أنّهـا ت َ ّ البَ
عبت ح ْملـه الذي ّ َ ـف هشاشـ َة ِ ِ
وتكش ُ ي من دَهشـ ِت ِه وتقديره، اعرتافَـ ُه ال َب ِّ َ
َـولكح ْملي» .ق ٌ ـل الدّهـ ُر يَ ْومـاً ِ عنـ ُه األبيـاتُ الشـعريّة بالقـول« :ومـا ح َم َ
لص َف ِة السـفرة األوىل .كأ ّن املـا َء الباين ِ أخـ َذ يَفقـ ُد مصداقيّتَ ُه ُمنذ حكاي ِة ّ
ي، رب ّ ـل السـندباد ال ّ ح ْم َ عها ِ جـ َر َف َم َ «الحمال» ،و َ
ّ صفَـ َةجـ َر َف ِ حـري» َ
ّ «ال َب
تهويـل أضْ َم َرتْ ُه
ٌ ـل الذي كان صاح ُبـ ُه يُه ِّو ُل منهُ. خ ّف ِة هذا ِ
الح ْم َ وأبـا َن عـن ِ
ن حـري ،حتـى لَيُ ْم ِك ُ
ّ السـبعة التـي أنشـدَها عىل باب السـندباد البَ األبيـاتُ َّ
خ للظنـون التـي تضَ ّم َنتْهـا األبيـاتُ َسـ ٌ
السـ ْب ُع بأنّهـا ن ْ
َّ أ ْن ت ُقـرأ الحكايـاتُ
حـ ُه يف حينـه. سـيأيت تَوضي ُ السـبعة ،وهـو مـا َ ّ
السـبع، السـفرات َّ السـبعة ،التي اسـتغ َرقَتْها رواي ُة حكايات ّ إ ّن األيّـام َّ
م السـبعة ،يَكـو ُن اسـ ُعـد انتهـا ِء األيّـام ّ سـمية .فبَ ْ شـبيه ٌة بالتهيّـؤ للتَّ ْ
ـف ،ويكـو ُن قري ُنـه وامل ُنصتـون للحكايـات قـد حـري قـد تكشَّ َ ّ السـندباد البَ
االسـم ُمرادفـ ٌة لل ُمغا َمـرة ،ولإلقامـ ِة على حـري» يف ْ ّ صفَـ َة «ال َب أ ْد َركـوا أ ّن ِ
حـري ،أل ّن ُهويّتَـ ُه قامئـ ٌة على
ّ حـدُود الخَطـر .لقـد تسـ َّمى السـندبا ُد بالبَ ُ
عـرف االسـتقرار ،قامئـ ٌة على امل ُغا َمـرة يف أقايص البحـار ،وعىل ُ مـا ٍء ال يَ
ـفرات السـبع تُسـ ِّمي السـندبا َدِ امل ُخاطرة يف حدِّها األقىص .فحكاي ُة ّ
الس
تعين االنتباه إليـه هو أ ّن الحكاي َة تُشـ ِّددُ ،يفَّ ُ ـل ما يَ ع ّ جيل ُهويّتَـهُ .لَ َ َسـتَ ْوت ْ
تحديد هذه ال ُهويّة ،إذ كان الفتاً أ ّن ظُهو َرِ سـياق التسـميَة ،عىل الف ِ
َقد يف
والسـفرة الثالثـة ،اقتر َن ّ السـفرة الثانيـة تـي ّ االسـم ،يف حكايَ ْ َموضوعـ ِة ْ
ـل السـندبا ُد على اسـتعاد ِة ملكيّتهـا بروايـ ِة حكايـ ٍة ببضاعـ ٍة َمفقـو َد ٍة َع ِم َ
ظـلالسـفرات ،يَ ُّ ُثبـت نِسـب َة امل َفقـود إليـه .إ ّن مـا يُسـتعادُ ،يف أغلـب ّ ت ُ
ِّداتن ُمحـد ِ َموشـوماً بتَجربـ ٍة َمشـدود ٍة إىل الفَقـد والتيـه ،باعتبارهما ِمـ ْ
حـري.
ّ ُهويّـ ِة السـندباد البَ
14
.3هُويّ ُة االمتالك بالتيه وال َفقْد
ـل هـذا ص ُ السـفر مبـا يَ ِ حـري أ ّو َل مـ ّرة يف ّ ّ ر السـندباد ال َب ظ تفكي ُ يَحتفـ ُ
بصـ َو ٍرَسري تجلّيـاتُ هـذا ال َفقْـدُ ، َ مبوضوعـ ِة ال َفقْـد ،ق ْبـل أ ْن ت ر َ التفكي َ
السـ ْبع .أ ّما التّيـه ،فيكا ُد السـفرات َّ أخـرى ،يف ال َوقائـع التـي شـه َدتْها ك ُُّل ّ
قصدَتْ السـ ْبعَ ، السـفرات َّ ن ّ ن سـفر ٍةِ ،مـ َ يكـو ُن ثابتـاً يف ك ُِّل سـفرة .مـا ِمـ ْ
كل ئيسـ ًة يف حكايـ ِة ِّ ج َهتَهـا دُون تيـه .ذلـك أ ّن التّيـ َه شـك َّل َموضوعـ ًة َر َ و ْ
السـبْع التي يَرويها ن الحكايات َّ كل حكايـ ٍة ِم َ جـز ٌء ِمن ب ْنيَ ِة ِّ سـفرة ،بـل هو ُ
َ
هتـدي امل ْر ُء
َ خ األمـ ُر التايل :يك يَ رتسـ ُ ٍ
كل سـفرة ،يَ َّ حـري .يف ِّّ السـندبا ُد البَ
م ،شَ ـهدَت كل اهتـداء .ومـن ث َـ َّ ـبيل ِّ س ُ ج َه ِتـه ،البـ ّد أ ْن يَتيـهَ .فالتيـ ُه َ إىل و ْ
ين الفَقـد والتيـه .إ ّن إضا َعـ َة امللكيّـة السـبْ ُع تشـابُكاً دالليّـاً بَ ْ َّ الحكايـاتُ
َ
وسـلوك عـد فَقْدهـا، ص على اسـتعاد ِة ملكيّـة ذاتيّـة بَ ْ ِ
امل َوروثـة ،والحـ ْر َ
سـم ُهويّـ ِة السـندباد طريـقٍ يقـو ُم دَومـاً على التيـه ،أمـو ٌر ُمتداخلـ ٌة يف َر ْ
ـل عـن امل ُخاطـرة ،بـل بهـا تتحـ َّد ُد وتتجـ َّددُ. ِ
تنفص ُ حـري؛ ُهويّـة ال ّ البَ
انطلـق أساسـاً ،يف َ السـفر
حـري بـأ ّن الشرو َع يف ّ ّ ح السـندبا ُد ال َب رص ََّ
ع ـ
َ ْ َ َْ ِ ي ب د ـ ع ب بتعبيره، أو منـه، ّـى
ق تب مـا ـع ي
َْ ب و األب ث ر إ
َ ْ ِ
ة ـ ع إضا ـد ع
َ ْ ب ـدء، ال َب
م ،إذا ً ،بدافـعِ السـفر ،بهـذا املعنـى ،تـ َّ انطلاق ّ ُ لـك يَـدُه. جميـع مـا تَ ُ
حـث عـن الـذات ـق بدايـ ٍة جديـدة ،أي بدافـعِ البَ ْ ل عـن األب وشَ ِّ االنفصـا ِ
حري، ّ االنفصال ،يف تجرب ِة السـندباد البَ ُ ْص ُم ْم ِكنها .لقد كا َن واختبار أق َ
ج َهـ ُة هـذا االنفصـال َمنحـى حيويّـاً يف بنـاء ُهويّتـه ،حتّـى وإن اتّخَـذَت و ْ ِ َ
ن ـفِ ،م ْ ن بني ما من ُه يتكشَّ ُ ـفِ ،م ْ انفصال يتكشَّ ُ ٌ سـيأيت بَيانُـه. دائريّـاً ،كما َ
اس ن تَ ّ حـري ،و ِمـ ّْ متـاس الحيـاة بامل َـوت يف تجربـ ِة السـندباد البَ ِّ قـراء ِة
ومتـاس التيـه باالسـتهداء يف الدّرب الذي تشُ ـ ُّق ُه ِّ ال َفقْـد باالمتلاك فيهـا،
م ح ِّديَّـةً؛ ت ُقي ُ جعـل تجرب َة السـندباد َ َ ح ٍو
حياتهـا ،على نَ ْ هـذه الشـخصيّ ُة ل َ
حـدّ، تقابلين ،وتَ ْبنـي ِمـن داخـل هـذا ال َ ْ فين ُم حـ ِّد الفاصـل بَين ط َر ْ يف ال َ
حيـاة.عنـى خَصيبـاً للـذات ولل َ الفاصـلَ ،م ْ ِ اصـلِ ال ال َو ِ
ح ِّديَّ ِة ،تتخل ُّق الحيا ُة ِم ْ
ن ُمال َمسـ ِة امل َوت ،وتتحق ُّق يف هـذه التجربـة ال َ
ِ
ـب بإضا َعة امل ُمتلَـك .يف هذه الكس ُْ ـل
ص ُ النجـا ُة على حافـ ِة الهالك ،ويت َ
ح ّ
15
التجربـة ،مث َّـ َة َمشـه ٌد يَـكا ُد يكـو ُن ثابتـاً ،يتعل ُّق األمـ ُر بالسـندباد َوحيدا ً بال
ِ
املشـهد الذي كل يشء ،وبـدُون متـاعِ .مـن داخل هذا رفيـقُ ،مجـ َّردا ً مـن ِّ
ْصى ُم ْم ِكـن ُ
يُقـ ِّوي داللـ َة االنفصـال ،تَبْـ َدأ ،يف الغالـبُ ،مغا َمـر ُة اختبـار أق َ
غ األقـايص ،الذي تُ ْرسـي ِه تجرب ُة السـندباد، الـذات ،على شـفا امل َـوت .بُلو ُ
الطريق
َ َيص تيـ ٌه وفقدٌ ،ويُفي ُد أ ّن هذه
الطريق إىل ال َبعيد الق ِّ َ يُفيـ ُد دَومـاً أ ّن
ص َيغـه وأقْصاها. ألقس ِ
َ حـدُو ِد امل َوت وحسـب ،بل اختبـا ٌر إقامـ ٌة ال على ُ
السـ ْبع تض َّم َنـت تد ُّرجـاً يف فَظاعـ ِة امل َـوت ،كام
السـفرات ّ ذلـك أ ّن حكايـ َة ّ
لـ ْو أنّهـا كانَـت تَـ ُرو ُم اإلقنا َع باختبار الشـخصيّ ِة لك ُِّل أشـكاله.
ن تَجربَ ِة السـندباد إقامـ ًة يف األقايص(((، َـت ِم ْ
عل ْ ح ِّديَّـ َة َ
ج َ السـ َم َة ال َ
إ ّن ِّ
ح َيـاة ،يف هـذه التجربـةُ ،م ْنفَصلاً عـن امل ُخاطـ َرة، إذ ملْ يَكُـن َمفهـو ُم ال َ
ّي يف التجربـة سـ ِة عتبـات امل َـوت .لذلـك ،كان مـا هـو َ
حـد ٌّ وعـن ُمال َم َ
حـ ِّد ال فاصلاً بَي َن ُهما ،أل ّن
ف ال َين طَـ َر َ
سـبقَت اإلشـارةُ ،بَ ْ َ واصلاً ،كما َ
القصي.
ّ السـفرات كشـفَت أ ّن املُخَاطـ َرة ُرؤيـ ٌة لحيـا ٍة تتخل ُ
َّـق مـن ّ
ن ال يشء ،أي اتّخا ُذ االنطالق ِمـ ْ
ُ القيص يف التجربـة، ّ ن مالمـح هـذا ِمـ ْ
ْـد سـبيالً إىل االمتلاك ،واعتما ُد التيـ ِه سـبيالً إىل االهتـداء .مث َّـة ال َفق ِ
السـفر، السـفر ،كأ ّن فكر َة َّ حـري يف بدايـ ِة َّ ّ ش ٌء يتحـ َّر ُر منـ ُه السـندبا ُد ال َب َ
ط ال التخلي عـن إ ْرث األب ،أي عـن َروابـ َ ِّ مبـا هـي تجـ ُّددٌَ ،مشـدود ٌة إىل
َ
اكتشـاف ُتيح
جذور ،وال ت ُ ـمح بامل ُغا َمـرة وامل ُخاط َرة واالنفصـال عن ال ُ َس ُ ت ْ
عـو ُد دومـاً إىل حيـح أ ّن السـندباد يَ ُ ٌ صالـذات باكتشـاف الغَريـب عنهـاَ .
عـ َد أن يَبتعـ َد عـن لي ،ولك ّنـ ُه يَعـو ُد ب ْ مدينـ ِة االنطلاق؛ إىل َم ْوطنـه األص ّ
عـودةَ، م ال َ عـود ِة بأقصى مـا يَكـو ُن البُعـد .هـذا البُعـ ُد هـو ما يَ ِ
سـ ُ مـكان ال َ
ـف عـن لحظـ ِة االنطلاق .اإلرثُ ،يف هـذا إىل امل َوطـن األ ّول ،مبـا بـ ِه تختلِ ُ
م على َروابط ،إنّ ُه ُمكـوثٌ يف مكانٍ واحد ،أ ّما َّ
السـف ُر ٌ
ّصـال قائـ ٌ السـياق ،ات
عـودة إىل املـكان األ ّول ،ولكـن ب ُرؤيـ ٍة أخـرى يَك ُُّف فيها ح بال َفتجـ ُّد ٌد يَسـ َم ُ
16
ٌ
انفصال نفسـهُ ،أل ّن العائ َد ملْ يبْ َق ُه َو ُهوّ .
السـف ُر املكا ُن عن أ ْن يَبقى هو َ
ـب ذايتٍّ جديـد ،انطالقـاً مـن امل ُغا َمـرة وامل ُخاطـرة،ِ ٍ كس ٍ عـن إ ْرث ،بغايـ ِة ْ
صو َرتِ ِه األوىل. ن ُ ج َعـ ْ القريب يَخ ُر ُ
َ تجعـل
ُ القيصُ .مال َمسـ ٌة
ّ و ِمـن ُمال َمسـ ِة
تحصلة ّ حيا ٍة ُم جا ُوباً مـع َ ُـرب امل ُنطـوي عىل البُعد وامل ُت َولِّـ ُد منهُ ،تَ َ إنّـ ُه الق ُ
م، ٍ
امتالك بالفَقد ،و َم َع اسـتهداء بالتيـه .ومن ث َ َّ ٍ حـدُو ِد امل َـوت ،ومع على ُ
ِ
الفقـد ـف أه ّميـ َة كش ُ حـري ،يَ ِ
ّ السـفر ،يف تجربـة السـندباد البَ َـق َّ إ ّن ُمنطل َ
ـل اسـتعاد ِة ع َ ِ
يف التّحصيـل ،وأه ّميتَـ ُه يف بنـاء ال ُهويّـة الذاتيّـة ،بـل إ ّن ِف ْ
يِ ُّد هذا عم بـه ُ وواهب .وفَضلاً َّ ٌ املفقـود ،يف هـذه التجربـةِ ،ف ٌ
عـل ُم ِمـ ٌّد
ن االضطلاع بالهبَـة ،إذ بـ ِه ي ّك ُنـ ُه هـو أيضـاً ِمـ َ حـريَ ُ ،
ّ عـل السـندبا َد البَ ال ِف ُ
أصالً وتحصيـل ما ملْ يَكُـن ْ ُ عطـاء .اسـ ِتعاد ُة امل َفقـود ر قـادرا ً على ال َ يَصي ُ
حكي ،و ُهما مـا يَجعلُـ ُه يف حـوزة السـندبادُ ،هما مـا يَ َهبُـ ُه قُـدر ًة على ال َ
يف اآلن ذاتـ ِه واهبـاً .إ ّن َموضوعـ َة ال ِهبَـة ،سـواء أتعلّقـت هـذه ال ِهبَة مبَ ْنح
حـري.
ّ الهدايـا أم بتقديـمِ حكايـات ،دالّـ ٌة يف تجربـ ِة السـندباد البَ
السـفر التـي بَ ْعـ َد هـذا امل َعنـى العـا ّم ،الـذي اتّخَـ َذهُ الفَقـ ُد يف فكـر ِة َّ
صور ًة السـ ْبع جمي ِعها ُ السـفرات َّ حـري ،اتّخ َذ الفَق ُد يف ّ ّ ـت للسـندباد ال َب ع َّن ْ
كل سـفرة بالتّه ُّيـؤ واالسـتعداد ،وذلـك بتَوفري أسـبابها ،أي َنطلـق ُّ
ُ أخـرى .ت
كل سـفرة ،على حـ ْزم حمـول نَفيسـة .وتقـو ُم ُّ اقتنـاء ال َبضائـع واأل ْمتعـة و َ
للسـفرة ،حتّى ل َي ْبـدُو أ ّن ال َبضائ َع ريهُ ُع ّد ًة ّ
م تَ ْوف ُ نحـ ٍو ُمتواتـر ،على فَق ِْد ما ت َّ
صف َشـهد فَقْدهـا ،ب َو ْ ِ السـفرة ،إلّ تَحضيرا ً مل مـول ال تُ َه َّيـأ ،يف بدايـ ِة ّ ح َ وال ُ
م السـبع .يَت ُّ السـفرات َّ ن حكايـات ّ كل حكايـ ٍة ِمـ ْ ِ
ثوابـت ِّ حـد هـذا امل َشـهد أ َ
ـف ،ب َفقْدهـا، للسـفر وتأمينـاً لـه ،بـل لِتُضا ِع َ سـندا ً ّ ر ال ُعـ ّد ِة ال لتكـو َن َ تَوفي ُ
ل دائم حتى وإ ْن وتجعـل التج ُّد َد قامئاً عىل انفصـا ٍ َ امل ُغا َمـر َة وامل ُخاطـ َرة،
كان َمنحـا ُه دائريّـاً .هكـذا تكـو ُن اسـتعاد ُة ال ُعـدّة الضّ ائعة ،كما يف بَعض
سـفرات أخـرى، ٍ حسـن ِمنهـا ،كما يف السـفرات ،أو تعويضُ هـا مبـا هـو أ ْ ّ
نفسـهُ ،أل ّن صاحبَـ ُه ُـف فيـه امل ُسـتعا ُد عـن أ ْن يَكُـو َن هـو َ تجـدُّدا ً ذاتيّـاً ،يَك ُّ
ملْ يَبْـق ،لحظـ َة اسـتعادتِ ِه امل َفقـودَُ ،هـ َو ُهـ َو ،حتـى إ ْن ظلَّـت البضاعـةُ
ح ِّديَّ ٍة تحصلاً عن تجربـ ٍة َ ّ الحالتين ُم
ْ م يف هـي .يَكـو ُن ال ُغ ْنـ ُ هـي َ املفقـود ُة َ
م، ن ث َـ َّ ِ ِ
َصي يف بنـاء ال ُهويّـة .مـ ْ ِ
حيَويّـ َة الق ِّ خ َ ُرسـ ُ ـس الفَقـد التّـا ّم ،وت ِّ تُال ِم ُ
17
ال السـفرة األخرية ،ب َد َو ّ َص» ،يف حكاي ِة ّ صدفـ ًة أ ْن تظه َر داللـ ُة «الق ِ ّ ليـس ُ
الصني» ،امل ُرتبطة «الصين» ،إذ بلغَت الرحل ُة «مدينـة ّ ّ عديـد ٍة ،أ ّولهـا ّ
دال
جـ َه قائـ ُد امل َركـب «آخـر» البحـار وتخومهـا ،إذ ت َو َّ ودال ِّ َصي،
بالبُ ْعـد الق ّ
ِ
غلـب علينـا و َر َمانـا يف آخـر بحار َ يـح قـد ِ
إىل الـ ّركّاب قائلاً« :اعلمـوا أ ّن ال ّر َ
شء، كل َ طـال َّ َ القيص ،الـذي ّ جـا َوب دالليّـاً مـع الفَقـد الدّنيـا» .وهـو مـا تَ َ
السـابعة ،عـن امل َركـب: السـفرة َّ حـري ،يف حكايـ ِة ّ ّ يقـول السـندبا ُد البَ ُ إذ
َـت َجميـ ُع األلـواح وغَرقَـت َجميـ ُع الحمـول والتّجـار «فانكسر وتف َّرق ْ
ََ
َصي يف التجربة، الشـامل تَجسـي ٌد للق ِّ ُ والـ ّركّاب يف البَحـر» .هذا امل َشـه ُد
َفسـهُ، حري ن َ ّ سـ ِة تُخومِ امل ُخاطَ َرة .هكذا يَج ُد السـندبا ُد البَ وتجسـي ٌد مل ُال َم َ
شء .أيكـو ُن كل َ ن ِّ آخـر بحـار الدّنيـاُ ،مجـ َّردا ً ِمـ ْ وفـق هـذا امل َشـهد ،يف ِ
القصي؟ أيكـو ُن هـو مـا ّ غ األقصى يف تجربـ ِة الشـامل البلـو َ ُ هـذا الفقـ ُد
ن الشـامل ،مبـا يَنطـوي عليـه ِم ْ ُ أليـس هـذا ال َفقْـ ُد
َ أتـاح اإلشـبا َع الشـامل؟ َ
السـفر ،رغـم ن ّ حـري أخيرا ً ِمـ َ ّ ب «تَ ْوبـ ِة» السـندباد البَ ع شـاملٍ ،سـبَ َ إشـبا ٍ
ـت السـابعة ،التـي دا َم ْ السـفر ُة َّ السـف َر كا َن ُمحـدِّدا ً ل ُهويّتـه؟ أملْ تكُـن ّ أ ّن ّ
سـب َع َة وعرشيـن عامـاً (ل َن ْنتَبـه َمـ ّر ًة أخـرى النبثاق ال َعـدَد «سـبعة») ق ّم َة (((
السـفر شَ ـكالً ِمـن ن ّ امل ُخاطـ َرة التـي ال يشء بَ ْعدهـا؟ أليسـت «التوبـة» ِمـ َ
ن اتّخاذ يك ُ مم يُلز ُم باأل ْوبَـة؟ ُ ْ أشـكال بلـوغ األقىص الـذي ال يشء وراء ُهّ ،
هـذه األسـئلة كوى تأويل ّيـةً ،يف قـراءات ُمسـتقبل ّي ٍة ،لِتأ ُّملِ تَوبَ ِة السـندباد
السـف َر بالتوبـة(((. ط َّ ن أ ْن يَربـ َ يكـ ُ
السـفر ،وللتسـاؤُل عماَّ ُ ْ ن ّ ِمـ َ
اإلملاح إليها سـابقاً،
ُ َصيصـ ِة ال َوشـائج التي تـ َّ
م َ ن ،اسـتنادا ً إىل خ
يكـ ُ
ُْ
ِ ِ ٍ
التنبّـهُ ،يف سـياق ُهويّـة تقـو ُم على الفَقد ،إىل عالقـة اسـتعا َدة امل َفقود،
18
الدائـري يف االنفصـال الـذي عليه ّ حـري ،بامل َنحـى
ّ يف حكايـ ِة سـندباد البَ
السـفرات ن ّ كل سـفرةِ ،م َ ع ُه ُّ َنهـض الحكايـة .ذلـك أ ّن امل َسـا َر الذي تقط ُ ُ ت
السـفرة، َـق ّ ر م ُنطل ُ السـبع ،يَنطـوي على هـذا امل َنحـى ،إذ غالبـاً مـا يَصي ُ
م ،إ ّن ك َُّل ن ثـ ّ ِ
جهتَهـا .ومـ ْ عـد التّيـه و ُمال َمسـ ِة أقصى ال َهلاك ،هـو و ْ بَ ْ
م إىل بحـا ٍر وجزائـ َر و ُمـ ُدنٍ ن بغـداد إىل البَصرة ،ثـ َّ ِ
السـفرات انطلقَـت مـ ْ ّ
عـد ن بغـداد بَ ْ ِ
نائيـة ،قبْـل أ ْن ت َعـو َد إىل البَصرة ،وم ْنهـا إىل بغـداد .لكـ ّ
حـري ،هـي ذاتَها ،أل ّن السـندباد ّ السـفر ال ت َبقـى ،يف منظـور السـندباد البَ ّ
بالقصي الـذي يَنطـوي عىل العجيـب والغَريـب ،وأل ّن ِّ يَعـو ُد إليهـا ُمح َّملاً
ن ُهم يف حكي ،أي بإخبار َمـ ْ العائـ َد يَغـدو قـادرا ً عىل االضطلاع مبه َّمة ال َ
بَغـداد مبـا يَجهلونَـهُ ،ومبـا يَبـدُو ل ُهـم غَريبـاً و ُمدهشـاً .أملْ يُ ِث السـندبا ُد
السـلطة سـ ُد هر َم ُّ ج ِّإعجاب الخليفة هارون الرشـيد ،الذي يُ َ َ حـري حتـى
ّ البَ
السـفرة السادسـة؟ زَمنئـذ ،مل َّـا َروى لـ ُه أحـداثَ ّ
ل م على انفصـا ٍ الدائـري يف رحلـة السـندباد ليـس ُمغلقـاً .إنّـ ُه قائـ ٌ َّ إ ّن
ج َهـة .ال يَغـدو ُنطلـق إىل و ْ َ َـق حتـى وهـو يُحـ ِّو ُل هـذا امل يُجـ ِّد ُد امل ُنطل َ
ن حـ ٍو ُ َ
يكّـ ُ عـ َد الفَقـد والتيـه واختبـار امل َـوت ،على نَ ْ ج َهـ ًة ّ
إل بَ ْ َلـق و ْ
امل ُنط ُ
جعل تجربة ُ ع َّل هذا امل َسـار هو مـا يَ ن أن يَحظـى بالغَريـب .لَ َ َـق ِمـ ْ
امل ُنطَل َ
عـ ْودة إىل امل َوطـن ـت دَومـاً بال َ حـري ،وإِ ْن انت َه ْ
ّ سـفرات السـندباد ال َب ِ
كل َعـود ٍةُ ،مك ِّونـاً ر ،يف ِّ الغريـب يَصي ُ
َ األ ّول ،قامئـ ًة على االنفتـاح ،أل ّن
ن التيه ،ومن ـل ِمـ َ تحص ٌ
ّ م يف هـذه التجربـة ُم ن ُمك ِّونـات التجربـة .الغُنـ ُ ِمـ ْ
حري َّ ن السـندبا َد ال َب يكِّـ ُ م َُ اسـتعادة امل َفقـود على شـفا الهلاك .إنّـ ُه غُنـ ٌ
تجديـد ذاتـ ِهِ ني ّك ُنـ ُه ِمـ ْ
عـد مـن ذلـكَ ُ ، النفيسـة ،بـل أبْ َ
َ ن الجواهـر ال ِمـ َ
ويُ َؤ ِّهلُـ ُه لروايـ ِة حكايـات.
والسفر
ّ .4الحيك
حـري ،شـدي ُد ّ بالسـفر ،يف حكايـ ِة السـندباد البَّ كي
ـل الح َ إِ ّن مـا يَ ِ
ص ُ
حدَهـا ،بل صر على هـذه الحكايـ ِة َو ْ عب والتشـابُك .وهـو أ ْمـ ٌر ال يقت ُ التشّ ـ ُّ
ن ِ
عـ ُّد مـ َ
كي يف كتـاب «ألـف ليلـة وليلـة» ،الـذي يُ َ ح َ ٍ
جـه عـا ّم ،ال َم ،ب َو ْسـ ُيَ ِ
19
عـي ب َك ْونِه
َت ال َو َ حكي و َع َواملِـ ِه ،و َر َّ
سـخ ِ أسار ال َ
ال ُكتُـب التـي كشَ ـفَت عـن ْ
ِ
إحـداث التغيري يف السـلَط ،وقُـ ّو ًة قادر ًة عىل سـلط ًة نافـذ ًة ت َ ْ
علُـو عىل ك ُّل ُّ ُ
حيَـاة. الـذوات وامل َواقـف ،ويف ُمختلـف َمناحـي ال َ
والسـفر ،يف حكايـ ِة َّ حكي ين ال َ ك القائـمِ بَ ْ سـ َم ٍة للتّشـابُ ِ ـل أ ّو َل ِ ع ّلَ َ
م العالقـ َة بَين ُهما؛ الدائـري الـذي يَحكُـ ُ ُّ َلمـح
ُ ـري ،هـو امل ح ّ السـندباد ال َب ْ
حضُ ـور يف الحكايـة ،إذ تتعـ َّد ُد تجلّيات ُـه فيهـا ،كام َلمـح ضَ الـ ُع ال ُ ُ فهـذا امل
عض هذه اإلملـاح سـابقاً إىل بَ ْ ُ ملـ ْو أ ّن أثـ َر بنيـ ِة املتاهـ ِة ُممتـ ٌّد فيـه .لقد ت َّ
ـل ص ُ َيهـا اعتمادا ً على مـا يَ ِ ن ُمواصلـ ُة اإلشـا َرة إىل غ ْ وي ِكـ ُ
التجلّيـاتْ ُ ،
ِ
تعين التشـدي ُد عليـه ،يف إضـا َءة هـذا األ ْمـر ،هو أ ّن ُّ بالسـفر .مـا يَ ّ كي
ح َْ ال َ
ع إىل حصلـة ،يف البَـدء ،عـن نُـزو ٍ السـفر مل تكُـن ُمتَ ّ ْ َرغبـ َة السـندباد يف ّ
ن حكايـ ٍة تذكّ َرهـا َ ،وفق ما
(((
جـدُّد وحسـب ،بـل ت َولَّـدتْ أيضـاً بإيعـا ٍز ِمـ ْ التّ َ
حـري الرثو َة التي ّ عد أ ْن ب ّد َد السـندبا ُد البَ لقصته .فبَ ْ ّ تض َّم َنـ ُه اإلطـا ُر العـا ّم
نفسـهُ ،إىل أ ّن مالَ ُه قد مـال وحالَ ُه عب هـو ُ ت َ َركهـا لـ ُه والـدُهُ ،وانتبـهَ ،كما َّ َ
ب اتّخـاذه قرا َر َت سـ َب َ سـليامن بـن داود ،التـي كان ْ قـد حـال ،تذكّـ َر حكايـ َة ُ
ِّـب ،إذا ً ،على حكايـ ٍة ،ق ْبـل أ ْن رتت ٌ السـف َر ،يف هـذه الحـالُ ،م َ السـفر .إ ّن ّ َّ
السـفر ،الـذي قا َد َت ال َّرغب ُة يف ّ حكي ت َولَّـد ِ ن ال َ نتـج هـو أيضـاً حكايَتَـهُِ .م َ يُ َ
كيح ُ ج حكايـات .ال َ حكي ،وعلى إنتـا ِ امتلاك القُـدرة على ال َ ِ بـدَوره إىل
ن حـري ِمـ َ
ّ ن السـندبا َد ال َب يكِّـ ُوالسـف ُر هـو مـا ُ َ ّ السـفر، هـو امل ُ َولِّـ ُد ل َرغبـ ِة ّ
والسـفر دائريّـة. َّ حكي حكي .فالعالقـ ُة بين ال َ ال َ
بنـا ًء على هـذه العالقـ ِة الدائريّـة ،تبـدو حكاي ُة السـندباد ناجمـةً ،هي
َّـب على تذكّـره لحكايـ ٍة أيْقظَـت ل َديْـ ِه ال ّرغبـة يف ّ
السـفر. عما ترت َذات ُهـاّ ،
جـ ٍه عـا ّم ،يف َ
حياة كي كان حاسماً ،ب َو ْ وهـو مـا يُفضي إىل اإلقـرار أ ّن الح َ
عكـس .لهذا حيك ال ال َ حـري ،كما لـ ْو أ ّن هذه الحيـا َة نِ ٌ
تـاج لل َ ّ السـندباد ال َب
ف ،يف هذه الحالة ،عن التآخي بني شعرية ،عىل ن َْح ٍو َي ِ
كش ُ ّ ِ
ثالثة أبيات أن هذا التذكّ ر تع َّز َز بتذكُّ ر
((( الالفت ّ
أن ُن ّي ُز بني كن
ُ ُ ْ ي جه. و
ْ َن ِ
م رث
َ أك ، حري
َ ّ الب السندباد حكاية يف ، ذُ تأخ
بينهام ُ أن العالقة ُ والشعر .ذلك ّ ِّ الحيك
َ
قائم عىل التآخي، ٌ والثاين عر، الش
ِّ حمولة خ َس
ْ ن إىل الحيكُ ى ع
َ سْ ي
َ فيه ض، التعار
ُ عىل قائم
ٌ ل األو
ّ ؛ جهي
َو ْ
حري يف ا ّتخاذ القرار.
الب ّالسندباد َ
ُ وظيفة الدليل ،أي عندما َيستهدي بهام ِ شتِكَ ان يف ِ
أداء صوص ًا عندما َي َ ُخ ُ
20
حـري ،إذ كثيرا ً مـا كان ّ داخـل حكايـ ِة السـندباد البَ َ األ ْمـر امتدادات ُـ ُه حتـى
سـفراته اعتمادا ً على السـندبا ُد يَعثرُ على تفسيرٍ ل َوقائـ َع تُصادفُـ ُه يف َ
عكـس. املواقـف ُمرتتّبـ ًة على الحكايـات ال ال َ ُ ت َ َذكُّـر ِه لحكايـات ،فتكـو ُن
سـفراته ،عىل داخل َ
َ ن الحكايـات وكثيرا ً مـا كان يَلجـأ إىل روايـ ِة حكايـ ٍة ِم َ
ظل حكي امل ُخلِّص ،الذي يَ ُّ السـفراتَ ،عن ال َ تيـح الحديثَ ،يف هذه ّ نحـ ٍو يُ ُ
ن صلُ ُه بعالق ِة شـهرزاد بشـهريار .أبْع َد ِم ْ ُيـوط َرفيعـ ٍة إىل ما يَ ِ َمشـدودا ً بخ ٍ
ناسـب ٍة،ن ُم َ حري أثناء سـفراته ،يف أكرث ِم ْ ّ ذلـك ،فقـ ْد تحـ َّو َل السـندبا ُد البَ
لقـي حت َف ُه يف َ ـخص
ٌ سـتَ ِمعٍ لحكايتـ ِه وهـي تُـ ْر َوى لـهُ ،وتُخبر ُه أنّ ُه شَ إىل ُم ْ
سما ُعه لحكايتـه ،التـي يَكـو ُن فيهـا يف ِعـداد األمـوات، ر َ ال َبحـر ،ف َيصي ُ
استرجاعِ ،ال ِْ ْسـه ،وحافـزا ً على دا ِفعـاً ُمو ِقظـاً ل َر ْغ َب ِتـ ِه يف التعريـف ب َنف ِ
ح َياتـه ،وهـو مـا بضا َع ِتـ ِه التـي ت َ َركهـا يف امل َركـب وحسـب ،بـل استرجاع َ
ن حكايتـه يكْ يتسـ َّنى لـ ُه أ ْن يُقنـ َع تفاصيـل دقيقـ ٍة ِمـ ْ َ كا َن يُلز ُمـ ُه بروايـ ِة
السرد وقُ ّو ِةَّ يتـأت لـهُ ،بفَضْ ـلِ َّ ملـك لـهُ ،ويك ٌ قائـ َد املركـب بـأ ّن األمتعـ َة
عـود َة مـن جديـد .إ ّن ال َ ن َ ن امل َـ ْوت ويَغـ ُد َو حيّـاً ِمـ ْ حكي ،أ ْن يَعـو َد ِمـ َ ال َ
ج ِة ن َمال ِمـح ال َوشـي َ ح ِمـ ْ سـ َوى َمل َمـ ٍ ـت ِ س ْ ن الحكي ،ل ْي َ بتأثير ِمـ َ
ٍ امل َـوت ،
(((
حـري وعالقـ ِة شـهرزاد بشـهريار .إنّهـا ّ الصا ِمتَـ ِة بين حكايـ ِة السـندباد ال َب
ْب ن قل ِ حياة واسـتعا َدتِها ِمـ ْ ن ال َ
حكي على تأمي ِ ن قُـ ْد َر ِة ال َ ج ٌة بَ ّي َنـ ٌة ِمـ َْوشـي َ
ا مل َوت (((.
تأول
القرائية الواعدة يف ُّ ّ أحد املواقع
حري .وهي ُ الب ّتجليات عديد ٌة يف حكاية سندباد َ ٌ للع ْو َدة ِم َن املَوت
((( َ
حري تجربةً ملّا الب ّخربه السندباد َ ُ العودة ،مسألة َدفن األحياء مثالً .ذلك ما أهم تجلّيات هذه َ الحكايةِ .م ْن ّ
تقود
ُ كو ٍة
هتدي إىل ّ
َ أن َي
قبل ْ جاور َة املَوت ْ
«أتاح» له ُم َ
َ فارقت الحياة ،عىل ن َْح ٍو حي ًا إىل جوار َزوجته التي َ فن ّ ُد َ
حريِ ،لامالب ّ الخصوبة ،يف تجربة السندباد َ منه شديد ُة ُ
ودة ُ الع َ ِ
ودالالت َ جاو َرة املَوت ِ
دالالت ُم َ إن
إىل الحياةّ .
روب للتأويل. تفتح ُه من ُد ٍ ُ
الرب ّي،
ّ بالسندباد حري
َ ّ الب السندباد عالقة يف وليس الحكاية داخل تظهر
ُ التي ة، الوشيج
َ هذه رث عىل ((( ال نَع ُ
حري بالسندباد الب ّتي يف الحكاية؛ عالقة شهرزاد بشهريار وعالقة السندباد َ َركزي ْ
العالقتي امل ّ ْ حكم،ُ َبني ما َي
بالحيك،َ عيف َم ْن يتكفّلُ الض ُ بدو ،كام قال كيليطوَ ،معكوساً .يف العالقة األوىلَّ ، حكمهام َي ُأن ما َي ُ الرب ّي .ذلك ّ ّ
ينهض به .اُنظر :عبد الفتاح كيليطو ،األعامل ،الجزء الثاين ،املايض ُ فالقوي َم ْن
ُّ حكاية السندباد، ِ أما يف ّ
حارضاً ،م .س ،.ص.96 .
21
كيح ُ ن الدّاخـل ،أي ال َ كي البـاين لهـا ِمـ َ حكي .أ ّولهما؛ الح ُ ن ال َ َطين ِمـ َ ْ نَ
داخـل
َ م
ن امل ُغا َمـرة ،باعتبـاره يَتـ ُّ جـز ٌء ِمـ َ كل سـفرة و ُ ن ِّ جـز ٌء ِمـ َ مبـا هـو ُ
ـف م يف ال َوقائـع وامل َواقـف ونُ ُـ ِّو األحـداث ،عىل نَح ٍو ِ
يكش ُ سـه ُ السـفر ويُ ْ َّ
الخارجـي،
ّ حكي والسـفر .وثانيهما؛ ال َ ّ ين الحكي يـوي بَ ْ َ ح َّ التشـابُ َك ال َ
كل سـفر ٍة، باش ًة َّ يك فيها يَيل ُم َ لحظتين ،اللحظة التي كا َن الح ُ ْ نويَتض ّمـ ُ
م اللحظة السـفرة ،ثـ ّ حبـ ِه مـا َوقَ َع ل ُه يف ّ وص ْوفيـه يَـ ْروي السـندبا ُد أل ْهلـ ِه َ
سـبع ِة أيّـام ،بسـ َبب لقـا ِء حكي ،وهـي التـي متَّـت يف َ امل ُرتبطـة بإعـاد ِة ال َ
ْصـت للحكايـات َ ي ،الـذي كانَ ،وإِ ْن أن البر ّ
حـري بالسـندباد َ ّ ّ السـندباد ال َب
ْصو َد لي املَق ُ حـري ،امل ُتلقِّي الفع َّ ّ أصحـاب السـندباد البَ َ م
لـس ضَ ـ َّ ج ٍ يف َم ْ
ن إعـادة روايـ ِة الحكايـات ،التـي غَـدَتْ ،يف هـذه الحـال ،حكايـ َة حيـاةٍ ِمـ ْ
كي الـذي ح َ ن ،ال فقـط ال َ حكي كا َن يَتض ّمـ ُ ط الثـاين ِمـ َ
ن ال َ كا ِملـة((( .فال ّنمـ ُ
سـياقات ُمختلفـة أثنـاء سـفراته ،بـل أيْضـاً ٍ حـري يف
ّ قـا َم بـه السـندبا ُد البَ
خـاص.
ّ جـ ٍه
ي ب َو ْ بر ّ
الحكايـات ب ُر َّمتهـا ،مـا دا َم يُعيدُهـا للسـندباد ال ّ
حـري إىل أ ْن يُعيـ َد روايَ َة ّ مـا الداعـيُ ،عمومـاً ،الـذي دَف َع السـندبا َد البَ
َب أو حري يف إعـاد ِة حكايته بنـا ًء عىل طل ٍ
ِ ِ ّ شر ُع السـندبا ُد البَ حكاي ِتـه؟ ال يَ َ
الس َد يَت َولَّدُ،
َـب يف اإلنصات للحكاية .ذلـك أ ّن َّ سـؤال تلقّـا ُه ِمن جه ٍة ترغ ُ ُ
ـف َعـن الرغبة كش ُنـي يَ ِ ض ْم ٍّ صيـح أو ِ َـب َ يف الغالـب العـا ّم ،بنـا ًء على طل ٍ
م ،مبَعنـى مـا ،يف عالق ِة شـهرزاد بشـهريار. يف السماع .وهـو أ ْمـ ٌر ُمتحكِّـ ٌ
حـرص َد ْومـاً ،يف بنائـ ِه لهـا ،على ُ أي حكايـة ،يَ كما أ ّن سـار َد الحكايـةِّ ،
ين ُع َجديـد َرغبـ ِة امل ُتلقِّـي يف السماع ،وعلى تقويّـ ِة هـذه الرغبـة ،مبـا َ ِ ت
ي أسـاس التعاق ِ
ُـد بَ ْ َ ُ ِمـن انطفائهـا وخُمودهـا ،ذلـك أ ّن ت َوقُّـ َد هـذه ال َّرغبة
ح حكايـ ُة السـندباد صر ُ كي .ال ت ُ ِّ ح ْ وأسـاس اسـ ِت ْم َرار ال َ ُ السـارد وامل ُتلقِّـي،
ن عـد َم الترصيـح ِ
حثَّـ ُه على روايَتهـا ،لكـ ّ َـب تلقّـا ُه صاحبُهـا و َ حـري بطَل ٍ
ّ البَ
عنـي عـد َم حـ ْرص السـندباد ِ بالطلـب ال يَعنـي غيابَـهُ ،أو بدقّـة أكبر ،ال يَ ْ
ن االنتباه حيك .البـدّ ،إذا ًِ ،م َ ليـده وات ّخا ِذه تَ ِعلّ ًة النطالق ال َ حـري على ت َ ْو ِ
ّ البَ
22
ي إىل أرسـل غُال َمـ ُه لدَعو ِة السـندباد ال ّ
رب ّ َ حـري عندمـا َّ إىل أ ّن السـندبا َد البَ
األبيات الشـعريّ َة التي ِ ن هذا األخري أ ْن يُعي َد إنشـا َد َلـب ِم ْ ْـب امل َنـزل ،ط َ قل ِ
طلـب إعـاد ِة اإلنشـاد َ ي أ ْن أنشـدَها وهـو بالبَـاب .إ ّن بر ّ
ـبق للسـندباد ال ّ س َ َ
ِ ِ (((
حـري روايـة حكايتـه ،التـي ّ غ إعـاد ِة السـندباد ال َب سـ ِّو ُ عمـقُ ،م َ هـو ،يف ال ُ
السـ ْبع .إنّ ُه حدَى سـفراته َّ نإ ْ كل َع ْو َد ٍة ِم ْ عقـب ِّ َ سدَهـا ُمتقطِّعـ ًة سـبق أ ْن َ َ
خـاص، ّ ٍ
ه ـ ج و ب
ّ ّ َ ْ ي بر ال للسـندباد ـام، ّ يأ ِ
ة ـبع س
َ يف ً، ة تتاليـ مُ هـا َ ت رواي د
ُ عيـ يُ
حـري على ّ ثر السـندبا ُد ال َب بَعـد ُمطال َب ِتـ ِه بإعـا َد ِة األبيـات التـي فيهـا ع َ
ن جهُ ،مبا ت َض ّم َنتْـ ُه األبياتُ ِم ْ ي كان يَت َو َّ البر ّ نـي .كأ ّن السـندبا َد َ ّ ل ض ْم ّ سـؤا ٍ ُ
عم ع ُد بهـذه ال ِّن َ َسـ َ بالسـؤال التـايل :كيف ت ْ ُّ حـري
ّ عنـى ،إىل السـندباد البَ َم ْ
ح ْملي ال َمثيـل وكيـف أشـقى يف التعاسـة رغـم أن ِ َ جهـد أو َمشـقّة، ٍ دُون
حمال اعلـم أ ّن يل ّ حـري بالقـول« :يـا ّ لـه؟ وهـو مـا ر َّد عليـه السـندباد ال َب
جميع مـا صا َر يل وما جـ َرى يل من ق ْبل أ ْن ربك ب َ وسـوف أخ ُ قصـ ًة عجيبـةًَ ، ّ
فإنوأجلـس يف هـذا املـكان الـذي تراين فيـهّ . َ ر إىل هـذه السـعادة أصي َ
ب شـديد ،ومشـ ّق ٍة ع ٍ
ع َد ت َ َ إل بَ ْ السـعادة وهـذا املكان ّ لـت إىل هـذه ّ ص ُ مـا َو َ
صب».ـب وال ّن ِ ع ِ ن التّ َ ت ِمـ َ ل كثيرة .وكـم قاسـيْ ُ عظيمـ ٍة ،وأهـوا ٍ
ناسـخ ًة َمضْ ُمو َن األبيات الشـعريّة ،كام َـت روايـ ُة الحكاي ِة ِ هكـذا انطلق ْ
ن َت َعـ ْ
السـبع كشـف ْ السـفرات ّ ِ
حكايـات ّ كل حكايـ ٍة مـنسـ َبقَت اإلشـارةُّ .
م اعتامدا ً على االنتقال ينٍ ،إذ انتظـ َ ج بَ ِّ
فـق ت َد ُّر ٍ شـاق وشـدائ َد وأ ْهـوا ٍ
ل َو َ ّ َم
ن ذلـك ،تَ َد ُّرجـاً ال ـب .إ ّن مث َّـة ،أبْعـ َد ِمـ ْ
ع َ ن ُمصي َبـ ٍة إىل أخـرى أشـ َّد وأص ْ ِمـ ْ
حـ َّد ِة امل َصائـب وحسـب ،بـل يف صيَـغ امل َـوت أيضـاً .يف ك ُِّل سـف َر ٍة يف ِ
أصعب
ُ الحقـ ٍة ،تتبـدَّى فداحـ ُة املـوت ،حتى َغدَتْ عبـار ُة «إ ّن هذا املـوتَ
كل سـفرة الحق ٍة َـوت األ ّول» مألوفـ ًة لـدى قـارئ الحكايـة .ت َنطوي ُّ مـن امل ِ
كانـتِ ن ِميتَـ ٍة إىل ِميتَـ ٍة،على مـا يَتجـا َو ُز سـابقتَها يف حـ َّد ِة املـوتِ .مـ ْ
السفر.
حري ،إىل ّ الب ّ األمر ب ُنزوع أصيل ،يف كيان السندباد َ ُ ُس ِّوغ ،إذ يتعل ُّق أعمق ِم ْن هذا امل َُ ((( مثّة ما هو
األول ،تحويل
ّ ب ب الس
َّ َ ُ . األقلّ عىل ي ب
َ ََ ْ بلس يك الح
َ يف ق
َ ِ
ل ينط يكْ ٍ
ّةل ِ
َع ت ْقِ ل خ عىل األصلّ ،إل
مل َيعمل ،يف ْ وبذلكْ ،
عن
كف ْ
أن َّ
بع َد ْْ يك، الح
َ عب
َْ ولو فر الس
ُ َّ تحضار اس
ْ الثاين، بب الس
َّ ُ تتالية. م
ُ ٍ
حكاية إىل ً
ا ع تقطِّ م
ُ واه
ُ ر
بق ْ َ
أن ما َس َ
وعب الحيك.
بالحيك ْ َ السفر ،ولكن َ حري إىل َّ
الب ّ متديد ل ُن ُزوع السندباد َ ٌ األم َر
كأن ْ لموسةّ . يكون تجربةً َم ُ
َ أن
ْ
23
م ي ،القائـ ُ بر ّالسـندباد ال ّ الفظاعـ ُة تشـت ُّد وتتضخَّـم ،إىل أ ْن فقـ َد ادّعـا ُء ِّ
بـا كا َن التكرا ُر ح ْملـه بلا مثيـل ،مصداقيّتَـهُ ،وبَـدا بلا َمعنـى .ل ُر َّ على أ ّن ِ
خ َسـ َ
ضمنيّـاً ،ن ْ كل سـفر ٍة ،يَـ ُرو ُمِ ، الالفـت للفـظ «الحمـول» ،يف بدايـ ِة ِّ
«الحمال» كلّما ّ ن ِ
صفـ ِة ي ِمـ ْ
بر ّ
البيّـة ،وتجريـ َد السـندباد ال ّ الحمـول َ ّ
ـل بامل َـاء ،أي بالبَحـر .
((( اقتر َن ِ
الح ْم ُ
شـ ْبه قـا َّرة. السـبع إىل بنيـ ٍة ِ ن الحكايـات َّ كل حكايـ ٍة ِمـ َ ـت ُّ لقـد احتك َم ْ
خ مـا ت َض ّم َنتْـ ُه األبيـاتُ َسـ ِن نُ ُـ ِّو امل َعنـى َوفـق قانـونِ ن ْ ـل َعـ ْ بنيـ ٌة ال ت ِ
َنفص ُ
م، الشـعريّة .ومـع ذلـك ،فهـذا القانونُ ،على أه ّم ّيتـه ،ليس هو مـا يتح ّك ُ
السـفر، م فيها أساسـاً هو َّ يف األصـل ،يف عنـارص هـذه البنيـة .إ ّن ما يتح ّك ُ
ين الحيكُ .منذ ك القائمِ بَ ْي َن ُه وبَ ْ َ ن َمال ِمح التشـابُ ِ ح ِم ْ
سـ َوى َملمـ ٍ سـت ِ إذ ل ْي َ
تواليـات حكايـ ِة ِ جـ ٍه عـا ّمُ ،م السـفرة الثانيـة ،التـي اسـتعادَتْ ،ب َو ْ حكايـ ِة ّ
رص الثابتـ َة يف هـذه البنيـة ،التـي ْرك القـارئُ العنـا َ السـفرة األوىل ،يُـد ُ ّ
فق ـت هـذه البنيـة َو َ ُـف عـن التَّوات ُـر يف باقـي الحكايـات .لقـد انتظ َم ْ لـن تك ّ
انطلاق ال ِّرحلـة ُ حـز ُم األمتعـة، السـفرَ ،
الشـوق إىل ّ ُ املتواليـات اآلتيـة:
م امل َركـب أو ما حـدوثُ مـا يُحطِّ ُ َموسـوم ًة يف ال َبـدْء بالهـدوء والسـكينةُ ،
انطلاق َمرحلـة التيـه ُ َّـف عـن اللحـاق بـه، حـري يتخل ُ ّ يجعـل السـندباد ال َب
أشـقِّ كل يشءُ ،مكابـد ُة التـي يكـو ُن فيهـا السـندبا ُد َوحيـدا ً و ُمجـ َّردا ً ِمـن ِّ
واكتشـافُ غ أقصى العـوامل األهـوال والعيـش على حافـة املـوت ،بلـو ُ
الغريـب والعجيـب فيهـا ،الظفر بأشـياء نفيسـة ،بدايـ ُة االنفـراج باهتدا ِء
عـودة إىل موطنـه األ ّول .إ ّن ن يُسـاعدَهُ على ال َ حـري إىل َمـ ْ ّ السـندباد ال َب
ن أطـوار ن ُمتوالياتهـاِ ،مـ ْ ين ِمـ ْ بنيـة الحكايـة ُمسـتم ّدةٌ ،وفـق مـا هـو بَ ّ ٌ
م جهاً لهـذه امل ُتواليات ،ناج ٌ م بالغريب ،ب َوصفـه ُم َو ِّ السـفر .كما أ ّن الغُنـ َ َّ
الغرائبي َمشـدود ٌة إىل ّ إىل السـندباد حكاية انتسـاب
َ نّ ِ إ ىّ ت ح ـفر، الس
َّ عن
24
ّ
األول ،أي إىل الرتحـال. ُمفا َرقـ ِة املـكان
حري،ّ والسـفر ،يف حكاي ِة سـندباد ال َب َّ حيك ين ال َك القائـمِ بَ ْ إ ّن للتشـابُ ِ
ر قابل ٍة للتحديد حري غَي ُ ّ ُوجوهـاً عديـدةً ،أل ّن ُهويّ َة شـخص ّي ِة السـندباد ال َب
نجـذب ،يف ٌ سـفَا ٌر ،إنُّـ ُه ُم حـري ِم ْ
ّ السـفر .فالسـندبا ُد ال َب َمفصولـ ًة عـن َّ
سـ ِف ُر عنـ ُه التسـاؤل ،تبعـاً لذلـكَّ ،
عما يُ ْ َ التحـال .إ َّن عميـق ،إىل ّ كيانـه ال َ
جـواب عـن فتـح ُمحا َولـ َة ال َ السـ َف ُر لـدى هـذه الشـخص ّية امل َسـكونَ ِة بـه يَ ُ ّ
كل قـراء ٍة على وب تأويل ّيـ ٍة عديـد ٍةَ ،وفـق قُـدر ِة ِّ هـذا التسـاؤُل على ُد ُر ٍ
السـ َف ُر
سـف ُر َّ بـا يُ ْ حكي .ل ُر َّ السـفر ،واسـتكناه عالقتـ ِه بال َ أسار َّ اسـتكناه ْ
ح ِّديَّـ ٍة ال سـف ُر عنـه ،عـن ت َجربـ ٍة َ حـريِ ،مـن بَين مـا يُ ْ ّ لـدى السـندباد ال َب
ن عُمـقِ الحياة ن ُمال َمسـ ِة امل َـوت و ُمجا َو َرتِـه ،بغَاي ِة االقتراب ِم ْ تتـوان َعـ ْ
َ
سـ ِف ُر ،أيْضـاً ،عـن بـا يُ ْ صفهـا ُمخاطـ َرة .ول ُر ّ والتحقٌّـق مـن اسـتيعابها ب َو ْ
ن السـفر ،وبـه يُؤ ّم ُ ن السـندبا ُد إقا َمتَـ ُه يف ذكـ َرى َّ حكي ،الـذي بـ ِه يَض َمـ ُ ال َ
ُ
الرتحـال، ّـف
عـ َد أ ْن توق َ حـ ُه اللُّغـة ،بَ ْ السـفر الـذي ت ُتي ُ االنتقـال إىل خَيـال َّ َ
وكـف عـن أ ْن يكـو َن تجربـ ًة حيات ّيـة َمل ُموسـة. َّ
حـري ،امل َفتوحـ َة دَومـاً على التّحيني
ّ جملـة ،إ ّن حكايـ َة سـندباد ال َب بال ُ
يئ ،تَ ْبنـي َمفهومـاً ُمتط ِّورا ً للتجربـةَ ..مفهوماً يتقاط ُع مـع التص ُّورات القـرا ِّ
ن معـاين التجربـة ،يف هـذه الحكايـة ،كونُهـا اختبـارا ً للـذات الحديثـةِ .مـ ْ
جـز ٌء ِمـ َ
ن ال ّنجـاة، حـدُود املـوت .التجربـة ُمخاطـ َرةٌ .الخطـ ُر فيهـا ُ على ُ
م عنه.
ن التّيـه وناجـ ٌ ـل ِمـ َ
تحص ٌ
ّ واالهتـدا ُء إىل ُغ ْنمهـا ُم
خالد بلقاسم
25
حكايات السندباد
قالـت :بلغنـي أنـه كان يف زمن الخليفـة أمري املؤمنني هارون الرشـيد،
الحمال ،وكان رجالً فقير الحال
َّ مبدينـة بغـداد ،رجـل يقـال لـه السـندباد
يحمـل تاجرتـه على رأسـه ،فاتَّفـق له أنـه حمل ،يف يـوم من األيّـام ،حملة
ثقيلـة ،وكان ذلـك اليـوم شـديد الحـ ّر ،تعـب مـن تلـك الحملـة ،وعـرق،
ورش ،وهناك
ّ واشـت ّد عليـه الحـ ّر ،فمـ ّر على بـاب رجل تاجـر قدّامـه كنـس
الحمال حملته
َّ هـواء معتـدل ،وكان بجانـب الباب مصطبـة عريضة ،فح ّ
ط
م الهواء.
على تلـك املصطبـة ليستريح ويشـ ّ
وأدرك شهر زاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
الحمل مل ّا
َّ ويف الليلـة ( ،)525قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن
م الهواء ،خـرج عليه من ط حملتـه على تلـك املصطبة ليستريح ،ويشـ ّ حـ ّ
الحمل لذلـك ،وجلس عىل َّ ذلـك البـاب نسـيم رائق ورائحـة ذكية فاسـتل ّذ
جانـب املصطبة ،فسـمع يف ذلك املكان نغم أوتـار وعود وأصوات مطربة
وأنـواع إنشـاد معربـة ،وسـمع -أيضـاً -أصـوات طيـور تناغـي وتسـبِّح اللـه
(تعـاىل) باختلاف األصـوات وسـائر اللّغـات ،مـن قماري وهـزار وشـحارير
جـب يف نفسـه ،وطـرب طربـاً وبلبـل وفاخـت وكـروان ،فعنـد ذلـك تع َّ
شـديدا ً ،فتقـدَّم إىل ذلـك فوجـد داخـل البيـت بسـتاناً عظيماً ،ونظـر فيـه
29
غلامناً وعبيدا ً وخدماً وحشماً وشـيئاً ال يوجد إلّ عند امللوك والسلاطني،
وبعـد ذلـك هبطـت عليـه رائحـة أطعمـة طيِّبـة زكيـة مـن جميـع األلـوان
املختلفـة والشراب الطيِّـب ،فرفـع طَ ْرفـه إىل السماء ،وقال :سـبحانك يا
م إين أسـتغفرك رب ،ياخالـق يـا رازق ،تـرزق مـن تشـاء بغير حسـاب .الله َّ
ّ
رب ،ال أعترض عليك يف مـن جميـع الذنـوب ،وأتوب إليـك من العيوب .يـا ّ
كل يشء قديـر. عما تفعـل ،وأنـت على ّ حكمـك وقدرتـك ،فإنـك ال تُسـأل ّ
ّ
وتـذل من سـبحانك ،تغنـي مـن تشـاء ،وتفقـر من تشـاء ،وتع ّز من تشـاء،
تشـاء ،ال إلـه إلّ أنـت .مـا أعظـم شـأنك! ومـا أقـوى سـلطانك! ومـا أحسـن
تدبيرك! قـد أنعمـت على من تشـاء من عبـادك ،فهـذا املـكان صاحبه يف
غايـة النعمـة ،وهـو متلـذِّذ بالروائـح اللطيفـة واملـآكل اللذيذة واملشـارب
الفاخـرة يف سـائر الصفـات ،وقـد حكمـت يف خلقـك مبـا تريـد ومـا قدَّرتـه
عليهـم؛ فمنهـم تعبـان ،ومنهـم مستريح ،ومنهـم سـعيد ،ومنهـم من هو
مثلي يف غايـة التعـب والـذّل ،ثـم أنشـد يقول:
وظل
ِّ ينعم يف خري َ
فء شقي بال راح ٍة
ٍّ فكم من
وأمري عجيب ،وقد زاد حميل وأصبحت يف تعب ٍ
زائد
ح َمل الدهر يوماً كحميل
وما َ وغريي سعيد بال شقو ٍة
ورشب وأكلِ
ٍ ببسط وع ٍّز ينعم يف عيشة دامئاً
أنا مثل هذا ،وهذا كمثيل وكل الخالئق من نطف ٍة
ّ
وخل!
ِّ وشتّان بني خمر ولكن شتّان ما بيننا!
فأنت حكيم حكمت بعد ِ
ل ولست أقول عليك افرتا ًء
الحمال من شـعره ونظمـه ،أراد أن يحمـل حملته
َّ فلما فـرغ السـندباد
ن حسـن الوجه ويسير ،إذ قـد طلـع عليـه مـن ذلك البـاب غالم صغري السـ ّ
الحمل ،وقال لـه :ادخل ،كلِّم
َّ مليـح القـ ّد فاخـر املالبس ،فقبض عىل يـد
الحمال االمتنـاع مـن الدخـول مع الغلام فلم
َّ سـيِّدي فإنـه يدعـوك .فـأراد
ط حملتـه عنـد البـاب يف دهليـز املـكان ،ودخـل مع يقـدر على ذلـك ،فحـ َّ
30
الغلام الـدار ،فوجـد دارا ً مليحـة ،وعليهـا أنـس ووقـار ،ونظـر إىل مجلـس
عظيـم فنظـر فيـه من السـادات الكـرام واملـوايل العظام ،وفيـه من جميع
أصنـاف الزهـر وجميـع أصناف املشـموم ومن أنواع النقـل والفواكه ويشء
خـواص دوايل
ّ كثير مـن أصنـاف األطعمـة النفيسـة ،وفيـه مشروب مـن
كل
الكـرام ،وفيـه آالت السماع والطـرب ومـن أصنـاف الجـواري الحسـانّ ،
منهـم يف مقامـه ،على حسـب الرتتيـب .ويف صـدر ذلـك املجلـس رجـل
عظيـم محترم قـد لكـزه الشـيب يف عوارضـه ،وهـو مليـح الصـورة حسـن
املنظـر وعليـه هيبـة ووقـار وعـ ّز وافتخـار .فعنـد ذلـك ،بهـت السـندباد
الحمال وقـال يف نفسـه :واللـه ،إن هـذا املـكان مـن بقـع الجنـان ،أو أنـه
َّ
يكـون قصر ملـك أو سـلطان ،ثـم تـأدَّب وسـلَّم عليـه ،ودعـا لهـم ،وقبَّـل
األرض بين يديهـم ،ووقـف وهـو منكِّـس راسـه.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)526قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن السـندباد
الحمال مل ّـا ق َّبـل األرض بين أيديهم ،وقـف منكَّس الرأس متخشّ ـع ،فأذن َّ
لـه صاحـب املـكان بالجلـوس فجلـس ،وقـد ق َّربـه إليـه ،وصـار يؤانسـه
حـب بـه ،ثـم إنـه قـدَّم لـه شـيئاً مـن أنـواع الطعـام املفتخـر بالـكالم وير ِّ
الحمال وسـ َّمى وأكل حتـى اكتفـى َّ الط ِّيـب النفيـس ،فتقـدَّم السـندباد
كل حـال ،ثـم إنـه غسـل يديـه وشـكرهم وشـبع ،وقـال :الحمـد للـه على ّ
على ذلـك .فقـال صاحـب املـكان :مرحبـاً بـك ،ونهـارك مبـارك .فما يكون
اسـمك؟ ومـا تعـاين مـن الصنائـع؟ فقـال لـه :يـا سـيِّدي ،اسـمي السـندباد
فتبسـم صاحـبَّ الحمال ،وأنـا أحمـل على رأيس أسـباب النـاس باألجـرة، َّ
حمال -أن اسـمك مثـل اسـمي ،فأنا السـندباد َّ م -يـا
املـكان وقـال لـه :اعلـ ْ
حمل -قصـدي أن تسـمعني األبيات التي كنت تنشـدها البحـري ،ولكـن -يـا َّ
الحمال وقال له :بالله عليـك ،ال تؤاخذين فإن َّ وأنـت عىل الباب ،فاسـتحى
التعـب واملشـقّة وقلّـة ما يف اليد تعلِّم اإلنسـان قلّة األدب والسـفه .فقال
لـه :ال تسـتحي ،فأنـت رصت أخـي ،فأنشـ ْد هذه األبيـات فإنهـا أعجبتني مل ّا
الحمال تلك
َّ سـمعتها منـك ،وأنـت تنشـدها عىل البـاب؛ عند ذلك ،أنشـده
31
قصـة عجيبـة،
األبيـات فأعجبتـه وطـرب لسماعها ،وقـال لـه :اعلـم أن يل ّ
وسـوف أخبرك بجميـع مـا صـار يل ومـا جرى يل مـن قبل أن أصير يف هذه
السـعادة ،وأجلـس يف هـذا املـكان الـذي تـراين فيـه ،فـإين مـا وصلت إىل
هـذه السـعادة وهـذا املـكان ،إلّ بعد تعب شـديد ومشـقّة عظيمـة وأهوال
كثيرة ،وكـم قاسـيت يف الزمـن األ َّول مـن التعـب والنصـب! وقـد سـافرت
وكل ذلـك بالقضـاء
تحير الفكـرّ .ِّ وكل سـفرة لهـا حكايـةسـبع سـفراتّ ،
والقـدر ،وليـس مـن املكتـوب مفـ ّر وال مهـرب.
32
الحكاية األوىل
(أ َّول السفرات)
اعلمـوا -يـا سـادة يـا كرام -أنـه كان يل أب تاجـر ،وكان مـن أكابر الناس
جـار ،وكان عنـده مـال كثير ونـوال جزيـل ،وقـد مـات وأنـا ولـد صغري، والت ّ
فلما كبرت وضعـت يـدي على الجميـع، ّ وخلَّـف يل مـاالً وعقـارا ً وضياعـاً.
وقـد أكلـت أكالً مليحـاً ،ورشبت رشباً مليحـاً ،وعارشت الشـباب ،وتج ّملت
الخلان واألصحـاب ،واعتقـدت أن ذلـك يدوم ّ بلبـس الثيـاب ،ومشـيت مـع
يل وينفعنـي ،ومل أزل على هـذه الحالـة مـ ّد ًة مـن الزمـان .ثـم إين رجعـت
إىل عقلي ،وأفقـت مـن غفلتي فوجـدت مايل قد مال ،وحـايل قد حال وقد
ذهـب جميـع مـا كان عندي ،ومل أسـتفق لنفيس إلّ وأنا مرعـوب مدهوش،
وقـد تفكَّـرت حكايـة كنـت أسـمعها سـابقاً ،وهي حكاية سـ ِّيدنا سـليامن بن
داود (عليـه السلام) يف قولـه :ثالثـة خير مـن ثالثـة ،يوم املمات خري من
حـي خير مـن سـبع ميِّـت ،والقبر خير مـن القصر. يـوم الـوالدة ،وكلـب ّ
33
ثـم إين قمـت وجمعـت مـا كان عنـدي مـن أثـاث وملبـوس وبعته ،ثـم بعت
عقـاري وجميـع مـا متلـك يـدي ،فجمعـت ثالثـة آالف درهـم ،وقـد خطـر
ببـايل السـفر إىل بلاد النـاس ،وتذكَّـرت كالم بعـض الشـعراء حيـث قال:
34
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)527قالـت :بلغني -أيُّها امللك السـعيد -أن ريِّس املركب
مل ّـا صـاح على الـركّاب وقـال لهـم :اطلبـوا النجـاة ألنفسـكم ،واتركـوا
األسـباب ،ومل ّـا سـمع الـركّاب كالم ذلـك الريِّـس ،أرسعوا وبـادروا بالطلوع
إىل املركب ،وتركوا األسـباب وحوائجهم ودسـوتهم وكوانينهم ،فمنهم من
لحـق املركـب ،ومنهـم من مل يلحقه وقـد تح َّركت تلك الجزيـرة ونزلت إىل
قـرار البحـر بجميـع مـا كان عليهـا ،وانطبق عليهـا البحر العجـاج املتالطم
باألمـواج ،وكنـت مـن جملة مـن تخلَّف يف الجزيـرة ،فغرقـت يف البحر مع
جاين مـن الغـرق ،ورزقني جملـة مـن غـرق ،ولكـن اللـه (تعـاىل) أنقـذين ون ّ
بقطعة خشـب كبرية من القطع التي كانوا يغسـلون فيها فمسـكتها بيدي،
وركبتهـا مـن حلاوة الـروح ،ورفسـت يف املـاء برجلي مثـل املجاذيـف
واألمـواج تلعـب يب ميينـاً وشماالً .وقـد نشر الريِّس قلاع املركب وسـافر
بالذيـن طلـع بهـم يف املركـب ،ومل يلتفـت ملن غـرق منهـم .ومازلت أنظر
ليإىل ذلـك املركـب حتـى خفـي عـن عينـي ،وأيقنـت بالهلاك .ودخـل ع َّ
الليـل وأنـا على هـذه الحالـة ،فمكثـت على مـا أنـا فيـه يومـاً وليلـة ،وقـد
سـاعدين الريـح واألمـواج إىل أن رسـت يب تحت جزيرة عالية وفيها أشـجار
مطلّـة على البحـر ،فمسـكت فرعـاً مـن شـجرة عاليـة ،وتعلَّقـت بـه بعدمـا
ومتسـكت به إىل أن طلعـت إىل الجزيرة ،فوجدت يف َّ أرشفـت على الهالك
رجلي خـدالً وأثـر أكل السـمك يف بطونهما ،ومل أشـعر بذلك من شـدّة ما
كنـت فيـه مـن الكـرب والتعـب ،وقـد ارمتيـت يف الجزيـرة وأنـا مثـل امل ِّيت
وغبـت عـن وجـودي ،وغرقـت يف دهشـتي ،ومل أزل على هـذه الحالـة إىل
يل
لي ،وانتبهت يف الجزيـرة فوجدت رج َّ ثـاين يـوم .وقد طلعت الشـمس ع َّ
قـد ورمتـا ،فسرت حزينـاً على مـا أنـا فيـه ،فتـار ًة أزحـف ،وتـار ًة أحبـو عىل
ركبـي .وكان يف الجزيـرة فواكـه كثيرة ،وعيـون مـاء عـذب ،فصرت آكل
مـن تلـك الفواكـه ،ومل أزل على هـذه الحالـة مـدّة أيّـام وليالٍ ،فتنعنشـت
نفسي ،و ُردَّت يل روحـي ،وقَويَـت حركتـي ،ورصت أتفكَّـر وأميش يف جانب
مما خلق الله (تعاىل) .وقـد عملت يل عكّازا ً الجزيـرة وأتفـ َّرج بني األشـجار ّ
مـن تلـك األشـجار أتـوكَّأ عليـه .ومل أزل على هـذه الحالـة إىل أن متشَّ ـيت
35
شـبح مـن بعيـد فظننـت أنـه ٌ فلاح يل
َ يومـاً مـن األيّـام يف جانـب الجزيـرة،
دواب البحـر ،فتمشَّ ـيت إىل نحـوه ،ومل أزل أتفـ َّرج
ّ وحـش أو أنـه دابّـة مـن
عليـه وإذا هـو فـرس عظيم املنظـر ،مربوط يف جانب الجزيرة عىل شـاطئ
لي رصخة عظيمـة ،فارتعبت منـه وأردت أن البحـر ،فدنـوت منـه ،فرصخ ع َّ
يل ،وتبعنـي وقال يل: أرجـع ،وإذا برجـل خـرج من تحـت األرض ،وصـاح ع َّ
مـن أنـت؟ ومـن أيـن جئـت؟ وما سـبب وصولك إىل هـذا املـكان؟ فقلت له:
يـا سـ ِّيدي ،اعلـم أين رجـل غريـب ،وكنت يف مركـب وغرقت أنـا وبعض من
كان فيهـا ،فرزقنـي اللـه بقطعـة خشـب فركبتهـا وعامـت يب إىل أن رمتنـي
فلما سـمع كالمـي أمسـكني مـن يـدي ،وقـال ّ األمـواج يف هـذه الجزيـرة.
امـش معـي .فنـزل يب يف رسداب تحـت األرض ،ودخـل يب إىل قاعـة ِ يل:
كبيرة تحـت األرض وأجلسـني يف صـدر تلـك القاعـة ،وجـاء يل بشيء من
الطعـام ،وأنـا كنـت جائعاً فأكلت حتى شـبعت واكتفيـت ،وارتاحت نفيس،
ثـم إنـه سـألني عـن حـايل وما جـرى يل ،فأخربتـه بجميـع ما كان مـن أمري
فلما فرغت مـن حكايتي، ّ قصتـي.
جـب مـن َّ مـن املبتـدأ إىل املنتهـى ،فتع َّ
قلـت :باللـه عليـك ،ياسـيِّدي ،ال تؤاخـذين ،فأنـا قـد أخربتـك بحقيقة حايل
ومـا جـرى يل ،وأنـا أشـتهي منـك أن تخبرين مـن أنـت ،وما سـبب جلوسـك
يف هـذه القاعـة التـي تحـت األرض ،ومـا سـبب ربطـك هـذه الفـرس على
جانـب البحـر ،فقـال يل :اعلـم أننـا جامعـة متف ِّرقون يف هـذه الجزيرة عىل
جوانبهـا ،ونحـن سـيّاس امللـك املهرجـان ،وتحـت أيدينـا جميـع خيولـه.
كل شـهر ،عنـد القمـر ،نـأيت بالخيل الجيـاد ونربطها يف هـذه الجزيرة ويف ّ
كل بكـر ،ونختفـي يف هـذه القاعـة تحـت األرض حتـى ال يرانـا أحـد، مـن ّ
فيجـيء حصـان مـن خيـول البحـر على رائحـة تلـك الخيـل ،ويطلـع على
بر فـإن مل يـ َر أحـدا ً ،ي ِثب عليهـا ويقيض منهـا حاجته ،وينـزل عنها ويريد ال ّ
أخذهـا معـه ،فلا تقـدر أن تسير معـه من الربـاط ،فتصيـح عليـه ويرضبها
برأسـه ورجليـه ويصيـح ،فنسـمع صوتـه ،فنعلـم أنـه نـزل عنهـا ،فنطلـع
صارخين عليـه ،فيخـاف وينـزل البحـر .والفـرس تحمـل وتلد مهـرا ً أو مهرة
تسـاوي خزنـة مـال ،وال يوجد لها نظير عىل وجه األرض .وهـذا وقت طلوع
الحصـان ،وإن شـاء اللـه (تعـاىل) آخـذك معـي إىل امللـك املهرجان.
36
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)528قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن السـايس
قـال للسـندباد البحـري :آخـذك معـي إىل امللـك املهرجـان وأف ِّرجك عىل
بالدنـا .واعلـم أنـه لـوال اجتامعـك علينـا ما كنـت ترى أحـدا ً يف هـذا املكان
غرينـا ،وكنـت متـوت كمـدا ً ،وال يـدري بـك أحـد ،ولكـن أنـا أكـون سـبب
حياتـك ورجوعـك إىل بلادك ،فدعـوت لـه وشـكرته على فضلـه وإحسـانه.
فبينما نحـن يف هـذا الـكالم ،وإذا بالحصـان قـد طلـع مـن البحـر ورصخ
فلما فـرغ منهـا نـزل عنهـا ،وأرادّ رصخـة عظيمـة ،ثـم وثـب على الفـرس
أخذهـا معـه فلـم يقـدر ،ورفسـت وصاحـت عليـه فأخـذ الرجـل السـايس
سـيفاً بيـده ودرقـة ،وطلـع مـن بـاب تلـك القاعـة ،وهـو يصيـح على رفقتـه
ويقـول :اطلعـوا إىل الحصـان ،ويضرب بالسـيف على الدرقـة ،فجـاء
جامعـة بالرمـاح صارخين ،فجفـل منهـم الحصـان وراح إىل حـال سـبيله،
ونـزل يف البحـر مثـل الجامـوس ،وغـاب تحـت املـاء .فعنـد ذلـك ،جلـس
كل واحد فـرس يقودها، الرجـل قليلاً ،وإذا هـو بأصحابـه قد جاؤوه ،ومـع ّ
فنظـروين عنـده فسـألوين عـن أمـري ،فأخربتهـم مبـا حكيتـه لـه ،وقربـوا
منـي ومـدّوا السماط وأكلـوا ،وعزمـوين ،فأكلـت معهـم ،ثـم إنهـم قامـوا
وركبـوا الخيـول ،وأخـذوين إىل مدينـة امللـك املهرجـان ،وقد دخلـوا عليه
بقصتـي ،فطلبنـي ،فأدخلوين عليـه وأوقفوين بني يديه ،فسـلَّمت وأعلمـوه َّ
حـب يب وح ّيـاين بإكـرام ،وسـألني عـن حـايل، لي السلام ور َّ
عليـه فـر َّد ع َّ
وبـكل مـا رأيتـه مـن املبتـدأ إىل املنتهـى.ّ فأخربتـه بجميـع مـا حصـل يل
ومما جـرى يل ،فعنـد ذلـك قـال يل :يـا ّ مما وقـع يلعنـد ذلـك ،تعجـب ّ
ولـدي ،واللـه لقـد حصـل لـك مزيـد السلامة ،ولوال طـول عمرك مـا نجوت
يل
مـن هـذه الشـدائد ،ولكـن الحمـد للـه على السلامة .ثـم إنـه أحسـن إ َّ
وأكرمنـي وق َّربنـي إليـه وصـار يؤانسـني بالـكالم واملالطفة ،وجعلنـي عنده
بر ،ورصت واقفاً كل مركب عربت إىل ال ّ عاملاً يف مينـاء البحـر وكاتباً على ّ
كل جانـب، يل وينفعنـي مـن ّ عنـده ألقضي لـه مصالحـه ،وهـو يحسـن إ ّ
وقـد كسـاين كسـوة مليحـة فاخـرة ،ورصت مقدَّمـاً عنـده يف الشـفاعات
أشـق على
ّ وقضـاء مصالـح النـاس ،ومل أزل عنـده مـدّة طويلـة .وأنـا كلَّما
37
جـار واملسـافرين والبحريين عـن ناحيـة مدينـة جانـب البحـر ،اسـأل الت ّ
بغـداد؛ لعـل أحـدا ً يخبرين عنهـا ،فـأروح معـه إليهـا ،وأعـود إىل بلادي،
تحيرت يف ذلـك َّ فلـم يعرفهـا أحـد ،ومل يعـرف مـن يـروح إليهـا ،وقـد
وسـئمت مـن طـول الغربـة .ومل أزل على هـذه الحالـة مـدّة مـن الزمـان
إىل أن جئـت يومـاً مـن األيّـام ،ودخلـت على امللـك املهرجـان ،فوجـدت
حبـوا
عنـده جامعـة مـن الهنـود ،فسـلَّمت عليهـم فـردّوا علي السلام ور َّ
يب ،وقـد سـألوين عـن بلادي فذكرتهـا لهـم ،وسـألتهم عـن بالدهـم فذكروا
يل أنهـم أجنـاس مختلفـة؛ فمنهـم الشـاركية ،وهـم أرشف أجناسـهم :ال
يظلمـون أحـدا ً وال يقهرونـه ،ومنهم جامعة تسـ ّمى (الرباهمـة) وهم قوم ال
ظ وصفاء ولهو وطـرب وجامل يرشبـون الخمـر أبـدا ً ،وإمنا هـم أصحاب حـ ّ
ومـواش ،وأعلمـوين أن صنـف الهنـود يفترق على اثنين وسـبعني ٍ وخيـول
جبـت مـن ذلـك غايـة العجـب! .ورأيـت يف مملكـة املهرجـان فرقـة ،فتع َّ
جزيـرة مـن جملـة الجزائـر ،يقـال لهـا (كابـل) يُسـ َمع فيهـا رضب الدفـوف
والطبـول ،طـول الليـل .وقـد أخربنـا أصحـاب الجزائـر واملسـافرون أنهـم
أصحـاب الجـ ّد والـرأي .ورأيـت يف البحـر سـمكة طولهـا مئتـا ذراع ،ورأيت-
أيضـاً -سـمكاً وجهـه مثـل وجـه البـوم ،ورأيـت يف تلـك السـفرة كثيرا ً مـن
مما لـو حكيته لكم لطـال رشحـه .ومل أزل أتف َّرج عىلالعجائـب والغرائـب ّ
تلـك الجزائـر ومـا فيهـا ،إىل أن وقفـت يومـاً مـن األيَّـام على جانـب البحر،
جـار كثريون. ويف يـدي عـكّاز حسـب عـادايت ،وإذا مبركـب قـد أقبـل وفيه ت ّ
فلما وصـل إىل مينـاء املدينـة وفرضتـه ،وطـوى الريِّـس قلوعـه ،وأرسـله ّ
بر ،و َمـ ّد السـقالة وأطلـع البحريـة جميـع مـا كان يف ذلـك املركب على ال ّ
بر ،وأبطـأوا يف تطليعـه ،وأنـا واقـف أكتـب عليهـم ،فقلـت لصاحـب إىل ال ّ
املركـب :هـل بقـي يف مركبـك يشء؟ فقـال :نعم ،يا سـ ّيدي ،معـي بضائع
يف بطـن املركـب ،ولكـن صاحبهـا غرق معنـا يف البحر يف بعـض الجزائر،
ونحـن قادمـون يف البحـر.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)529قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن الريِّس قال
38
للسـندباد البحـري أن صاحـب هـذه البضائع غـرق ،وصارت بضائعـه معنا،
فغرضنـا أننـا نبيعهـا ونأخـذ مثنهـا ألجـل أن نوصلـه إىل أهلـه يف مدينـة
بغـداد ،دار السلام ،فقلـت للريِّـس :مـا يكـون اسـم ذلـك الرجـل صاحـب
البضائـع؟ فقـال :اسـمه السـندباد البحـري ،وقـد غـرق معنـا يف البحـر.
فلما سـمعت كالمـه حقَّقـت النظـر فيـه فعرفتـه ،ورصخـت عليـه رصخـة ّ
عظيمـة ،وقلـت :يـا ريِّـس ،اعلـم أين أنـا صاحـب البضائـع التـي ذكرتهـا،
وأنـا السـندباد البحـري الـذي نزلـت مـن املركـب يف الجزيـرة مـع جملـة
جـار ،ومل ّـا تحركـت السـمكة التـي ك ّنـا عليهـا وصحـت أنت ن نـزل مـن الت َّمـ ْ
علينـا ،طلـع مـن طلـع وغـرق الباقـي ،وكنت أنـا من جملـة من غـرق ،ولكن
جـاين مـن الغـرق بقطعـة كبيرة مـن القطـع التـي اللـه (تعـاىل) سـلمني ون َّ
كان الـركّاب يغسـلون فيهـا ،فركبتهـا ورصت أرفـس برجلي ،وسـاعدين
الريـح واملـوج إىل أن وصلـت إىل هـذه الجزيـرة ،فطلعـت فيهـا وأعاننـي
لي
بقصتـي ،فأنعـم ع َّ َّ بسـيّاس امللـك املهرجـان ،فأخربتـه اللـه (تعـاىل) ُ
وجعلنـي كاتبـاً على مينـاء هـذه املدينـة ،فصرت أنتفـع بخدمتـه ،وصـار
يل عنـده قبـول ،وهـذه البضائـع التـي معـك بضائعـي ورزقي .قـال الريِّس:
لي العظيـم .مـا بقـي ألحـد أمانـة وال ذ ّمـة،
ال حـول وال قـ ّوة إال باللـه الع ّ
بقصتـي؟ فقالفقلـت لـه :يـا ريِّـس ،ما سـبب ذلك وأنـك سـمعتني أخربتك َّ
الريِّـس :ألنـك سـمعتني أقـول أن معـي بضائـع صاحبهـا غـرق ،فرتيـد أن
حـق ،وهـذا حـرام عليـك ،فإننـا رأينـاه مل ّـا غـرق ،وكان معـه تأخذهـا بلا ّ
جامعـة مـن الـركّاب كثيرون ومـا نجـا منهـم أحـد ،فكيـف تدَّعـي أنـك أنـت
قصتـي ،وافهـم كالمي يظهر صاحـب البضائـع؟ فقلـت لـه :يا ريِّس ،اسـمع َّ
لـك صدقـي ،فـإن الكـذب سـمة املنافقين ،ثـم إين حكيـت للريِّـس جميـع
مـا كان منـي ،مـن حين خرجـت معـه مـن مدينـة بغـداد إىل أن وصلنا تلك
الجزيـرة التـي غرقنـا فيها ،وأخربتـه ببعض أحـوال جرت بينـي وبينه ،فعند
جـار مـن صدقـي فعرفـوين وه ّنـأوين بالسلامة، ذلـك تحقَّـق الريِّـس والت ّ
وقالـوا جميعـاً :واللـه ،مـا ك ّنـا نصـدِّق بأنك نجوت مـن الغرق ،ولكـن َرزَقك
اللـه عمـرا ً جديـدا ً .ثـم إنهـم أعطـوين البضائـع ،فوجـدت اسـمي مكتوبـاً
عليهـا ومل ينقـص منهـا يشء ،ففتحتهـا وأخرجـت منهـا شـيئاً نفيسـاً غايل
39
الثمـن ،وحملتـه معـي بحريـة املركب ،وطلعـت به إىل امللك ،عىل سـبيل
الهديـة ،وأعلمـت امللـك بـأن هـذا املركـب هـو الـذي كنـت فيـه ،وأخربتـه
جب يل بالتمام والكمال ،وأن هـذه الهدية منهـا .فتع َّ أن بضائعـي وصلـت إ َّ
امللـك مـن ذلـك األمر غايـة العجـب ،وظهر له صدقـي يف جميع مـا قلته،
وقـد أحبَّنـي محبّة شـديدة ،وأكرمنـي إكراماً زائدا ً ،ووهب يل شـيئاً كثريا ً يف
نظير هديِّتـي ،ثـم بعـت حمولتي ومـا كان معي مـن البضائع وكسـبت فيها
شـيئاً كثيرا ً ،واشتريت بضاعـة وأسـباباً ومتاعاً من تلـك املدينـة .ومل ّا أراد
جـار املركـب السـفر ،شـحنت جميـع مـا كان معـي يف املركـب ،ودخلـت ت ّ
عنـد امللـك ،وشـكرته على فضلـه وإحسـانه ،ثـم اسـتأذنته يف السـفر إىل
بلادي وأهلي فودَّعنـي وأعطـاين شـيئاً كثيرا ً ،عنـد سـفري ،مـن متـاع تلـك
املدينـة ،فودعتـه ونزلـت املركـب وسـافرنا بـإذن اللـه (تعـاىل) ،وخدمنـا
السـعد وسـاعدتنا املقاديـر .ومل نزل مسـافرين ليلاً ونهـارا ً إىل أن وصلنا،
بالسلامة ،إىل مدينـة البصرة ،وطلعنـا إليهـا وأقمنـا فيهـا زمنـاً قليلاً،
جهـت إىل مدينة وقـد فرحـت بسلامتي وعـوديت إىل بلادي .بعـد ذلـك ،تو َّ
بغـداد ،دار السلام ،ومعـي مـن الحمـول واملتـاع واألسـباب يشء كثري له
قيمـة عظيمـة .ثـم جئـت إىل حـاريت ،ودخلت بيتـي ،وقد جـاء جميع أهيل
وأصحـايب ،ثـم إين اشتريت يل خدمـاً وحشماً ومامليـك ورساري وعبيـدا ً
حتـى صـار عنـدي يشء كثير ،واشتريت يل دورا ً وأماكـن وعقـارا ً أكثر مـن
مم كنت الخلان ،ورصت أكثر ّّ األ َّول .ثـم إين عـارشت األصحـاب ،ورافقـت
عليـه يف الزمـن األ َّول ،ونسـيت جميع ما كنت قاسـيت مـن التعب والغربة
رات واملـآكل الط ِّيبة واملشـقّة وأهـوال السـفر ،واشـتغلت باللذّات واملس ّ
واملشـارب النفيسـة ،ومل أزل على هـذه الحالـة .وهـذا مـا كان يف أ ّول
غـد -إن شـاء اللـه (تعـاىل) -أحكي لكـم الثانيـة مـن السـبع سـفرايت ،ويف ٍ
بري عنـده ،وأمـر لـه عشى السـندباد ال ّ
ّ سـفرات .ثـم إن السـندباد البحـري
الحمل ،وأخذ َّ مبئـة مثقـال ذهباً ،وقال له :آنسـتنا يف هـذا النهار ،فشـكره
معـه مـا وهبـه لـه وانصرف إىل حـال سـبيله ،وهـو متفكِّـر فيما يقـع ومـا
جـب غايـة العجـب ،ونـام تلـك الليلـة يف منزلـه .ومل ّا يجـري للنـاس ،ويتع َّ
حـب أصبـح الصبـاح ،جـاء إىل بيـت السـندباد البحـري ،ودخـل عنـده فر َّ
40
بـه وأكرمـه وأجلسـه عنـده ،وملـا حضر بقيّـة أصحابـه قـدَّم لهـم الطعـام
والشراب ،وقـد صفـا لهـم الوقـت ،وحصـل لهـم الطـرب ،فبـدأ السـندباد
البحـري بالـكالم ،وقـال :اعلمـوا ،يـا إخـواين ،أننـي كنـت يف ألـ ّذ عيـش
وأصفـى رسور على مـا تقـدَّم ذكـره لكـم باألمـس.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
41
الحكاية الثانية
(السفرة الثانية)
43
على جزيـرة كثيرة األشـجار يانعـة األمثـار فائحـة األزهـار مرتنِّ ـة األطيـار
صافيـة األنهـار ،ولكـن ليـس بهـا َديّـار وال نافخ نار ،فـأرىس بنـا الريِّس عىل
جـار والـركّاب إىل تلك الجزيـرة ،يتف َّرجون عىل تلـك الجزيـرة ،وقـد طلع الت ّ
جبـون مـا بهـا مـن األشـجار واألطيـار ،ويسـبِّحون اللـه الواحـد الق ّهـار ويتع َّ
مـن قـدرة امللـك الجبّـار .فعنـد ذلـك ،طلعـت إىل الجزيـرة مـع جملـة من
صـاف بين األشـجار ،وكان معـي يشء من ٍ طلـع ،وجلسـت على عين مـاء
املـأكل ،فجلسـت يف هـذا املـكان آكل مـا قسـم اللـه (تعـاىل) يل ،وقـد
سـنة مـن النـوم طـاب النسـيم بذلـك املـكان ،وصفـا يل الوقـت فأخذتنـي ِ
فارتحـت يف ذلـك املكان ،وقد اسـتغرقت يف النوم وتلذَّذت بذلك النسـيم
جار وال من الط ِّيـب والروائـح الزكيـة ،ثـم إين قمت فلم أجد أحدا ً ،ال مـن الت ّ
التفـت فيهـا مييناً وشماالً ،فلم أجد ُّ البحريـة ،فرتكـوين يف الجزيـرة ،وقـد
بهـا أحـدا ً غيري ،فحصـل عنـدي قهـر شـديد ،مـا عليـه مـن مزيـد ،وكادت
م والحـزن والتعـب ،ومل يكن مـراريت تنفقـع مـن شـدّة مـا أنـا فيـه مـن الغـ ّ
معـي يشء مـن حطـام الدنيـا ،وال مـن املـأكل وال مـن املشرب ،ورصت
وحيـدا ً ،وقـد تعبـت يف نفسي ،ويئسـت من الحيـاة .بعد ذلـك ،قمت عىل
حييل ومتشَّ ـيت يف الجزيرة مييناً وشماالً ،ورصت ال أسـتطيع الجلوس يف
محـل واحـد .ثـم إين صعـدت على شـجرة عاليـة ،ورصت أنظـر مـن فوقهـا ّ
ميينـاً وشماالً ،فلـم أ َر غير سماء ومـاء وأشـجار وأطيـار وجزر ورمـال ،ثم
فلاح يل يف الجزيـرة يشء أبيض عظيم الخلقـة ،فنزلت من َ حقَّقـت النظـر
فـوق الشـجرة وقصدتـه ورصت أمشي إىل ناحيتـه ،ومل أزل سـائرا ً إىل أن
وصلـت إليـه ،وإذا بـه ق ّبـة كبيرة بيضـاء شـاهقة يف العلـو ،كبيرة الدائرة،
فدنـوت منهـا ودرت حولهـا ،فلـم أجـد لهـا باباً ،ومل أجـد يل قـ ّوة وال حركة
يف الصعـود عليهـا مـن شـدّة النعومة ،فعلمـت مكان وقـويف ،ودرت حول
الق ّبـة أقيـس دائرتهـا فـإذا هـي خمسـون خطـوة وافية ،فصرت متفكِّـرا ً يف
الحيلـة املوصلـة إىل دخولها وقـد قرب زوال النهار وغروب الشـمس .وإذا
بالشـمس قـد خفيـت ،والجـ ّو قـد أظلم ،واحتجبت الشـمس عنـي ،فظننت
جبـت أنـه جـاء على الشـمس غاممـة ،وكان ذلـك يف زمـن الصيـف ،فتع َّ
ورفعـت رأيس وتأ َّملـت يف ذلـك ،فرأيـت طيرا ً عظيـم الخلقـة كبير الجثـة
44
عريـض األجنحـة طائـرا ً يف الجـ ّو ،وهـو الذي غطّـى عني الشـمس وحجبها
عـن الجزيـرة ،فـازددت مـن ذلك عجبـاً ،ثـم إين تذكَّـرت حكاية.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)531بلغنـي -أيُّهـا امللك السـعيد -أن السـندباد البحري
جبـه مـن الطائـر الـذي رآه يف الجزيـرة تذكَّـر حكايـة ،أخبره مل ّـا زاد تع ُّ
بها-قدميـاً -أهل السـياحة واملسـافرون ،وهـي أن يف بعـض الجزائر طريا ً
يـزق أوالده باألفيـال ،فتحقَّقـت أن الق ّبـة التـيّ عظيماً يقـال لـه الـرخّ،
جبـت مـن خلـق اللـه رأيتهـا إمنـا هـي بيضـة مـن بيـض الـرخّ؛ ثـم إين تع َّ
(تعـاىل) .فبينما أنـا على هـذه الحالـة ،وإذا بذلـك الطير نـزل على تلـك
القبّـة وحضنهـا بجناحيـه وقـد َمـ َّد رجليـه مـن خلفـه على األرض ،ونـام
عليهـا ،فسـبحان مـن ال ينـام! .عنـد ذلك فككـت عاممتي من فـوق رأيس،
وثنيتهـا وفتلتهـا حتـى صـارت مثـل الحبل وتح َّزمت بها ،وشـددت وسـطي
رجلي ذلـك الطير ،وشـددتها شـ ّدا ً وثيقـاً ،وقلـت يف َْ وربطـت نفسي يف
لعـل هـذا يوصلنـي إىل بالد املـدن والعمار ،ويكون ذلك أحسـن َّ نفسي:
وبت تلك الليلة سـاهرا ً؛ خوفـاً من أن أنام مـن جلـويس يف هـذه الجزيـرةّ .
فلما طلـع الفجر ،وبـان الصباح قـام الطائر ّ فيطير يب ،على حين غفلة.
مـن فـوق بيضتـه ،وصـاح صيحـة عظيمة وارتفـع يب إىل الجـ ّو حتى ظننت
أنـه وصـل إىل عنـان السماء ،وبعـد ذلك تنـازل يب حتى نـزل إىل األرض،
فلما وصلـت إىل األرض أرسعـت وفككت ّ ط على مـكان مرتفـع عـال، حـ َّ
و َ
يحـس يب .وبعـد مـا فككـت ّ الربـاط مـن رجليـه ،وأنـا خائـف منـه ،ومل
عاممتـي وخلّصتهـا مـن رجليـه ،وأنـا أنتفـض ،مشـيت يف ذلـك املـكان
ثـم إنـه أخـذ شـيئاً مـن وجـه األرض يف مخالبـه ،وطـار إىل عنـان السماء
فتأ َّملتـه ،فـإذا هـو ح ّيـة عظيمـة الخلقـة كبرية الجسـم قد أخذهـا وذهب
جبـت مـن ذلـك .ثـم إين متشَّ ـيت يف ذلـك املـكان، بهـا إىل البحـر ،فتع َّ
فوجـدت نفسي يف مـكان عـال ،وتحتـه وا ٍد كبير واسـع عميـق ،وبجانبـه
جبـل عظيـم شـاهق يف العلـ ّو ،ال يقـدر أحد أن يـرى أعاله من فـرط عل ِّوه،
وليـس ألحـد قـدرة على الطلـوع فوقـه ،فلمـت نفسي على مـا فعلتـه
45
وقلـت :يـا ليتنـي مكثـت يف الجزيرة ،فإنها أحسـن من هذا املـكان القفر،
ألن الجزيـرة كان يوجـد فيهـا يشء آكلـه مـن أصنـاف الفواكـه ،وأرشب
مـن أنهارهـا ،وهـذا املـكان ليـس فيه أشـجار وال أمثار وال أنهـار ،فال حول
لي العظيـم ..أنـا كلّما انتهيـت مـن مصيبـة وقعـت إل باللـه الع ّوال قـ ّوة ّ
فيما هـو أعظـم منهـا وأشـدّ .ثـم إين قمـت وق َّويـت نفسي ،ومشـيت يف
ذلـك الـوادي ،فرأيـت أرضه مـن حجر األملاس الـذي يثقبون بـه املعادن
والجواهـر ويثقبـون بـه الصينـي والجـزع وهو حجـر صلب يابـس ال يعمل
فيـه الحديـد وال الصخـر ،وال أحد يقـدر أن يقطع منه شـيئاً ،وال أن يكرسه
وكل واحـدة مثـل وكل ذلـك الـوادي ح ّيـات وأفـاعٍّ ، إلّ بحجـر الرصـاصّ .
النخلـة ،ومـن عظـم خلقتهـا لـو جاءهـا فيـل البتلعتـه ،وتلـك الح ّيـات
خ أو النسر أن يظهـرن يف الليـل ،ويختفين يف النهـار خوفـاً مـن طير الـر ّ
يختطفهـا ويقطِّعهـا ،وال أدري ما سـبب ذلك! ،فأقمت بذلـك الوادي ،وأنا
جلـت بالهالك متنـدِّم على مـا فعلتـه ،وقلـت يف نفسي :والله ،إين قـد ع َّ
لي ،فصرت أمشي يف ذلـك الـوادي، ول النهـار ع َّ على نفسي ،وقـد ّ
محـل أبيـت فيـه وأنا خائـف من تلـك الحيّات ،ونسـيت أكيل ّ وألتفـت على
حـت يل مغـارة بالقـرب منـي، ورشيب ومعـايش ،واشـتغلت بنفسي ،فال َ
فمشـيت فوجـدت بابهـا ضيِّقاً فدخلتهـا ونظرت إىل حجر كبير عند بابها،
فدفعتـه وسـددت بـه بـاب تلك املغـارة ،وأنـا داخلهـا ،وقلـت يف نفيس:
قـد أمنـت مل ّـا دخلـت يف هـذا املـكان ،وإن طلـع النهـار أطلـع ،وأنظـر ما
التفـت يف داخـل املغـارة ،فرأيـت ح ّيـة عظيمـة نامئة ّ تفعـل القـدرة .ثـم
يف صـدر املغـارة على بيضهـا ،فاقشـع َّر بـدين ،وأقمـت رأيس وسـلمت
وبـت سـاهرا ً طـوال الليـل إىل أن طلـع الفجـر، ّ أمـري للقضـاء والقـدر،
والح ،فزحـت الحجـر الـذي سـددت بـه بـاب املغـارة ،وخرجـت منـه وأنا
مثـل السـكران ،دائـخ مـن شـدّة السـهر والجـوع والخـوف ،ومتشَّ ـيت
يف الـوادي .وبينما أنـا على هـذه الحالـة ،وإذا بذبيحـة قـد سـقطت مـن
جبـت مـن ذلـك أشـ ّد العجـب ،وتفكَّـرت قدّامـي ،ومل أجـد أحـدا ً فتع َّ
جـار واملسـافرين وأهل حكايـة أسـمعها مـن قديـم الزمان ،مـن بعض الت ّ
السـياحة ،أن يف جبـال حجـر األملـاس األهـوال العظيمـة ،وال يقدر أحد
46
جـار الذيـن يجلبـون األملـاس يعملـون حيلـة أن يسـلك إليهـا ،ولكـن الت ّ
يف الوصـول إليـه ،ويأخـذون الشـاة مـن الغنـم ويذبحونهـا ويسـلخونها،
ويرشـون لحمهـا ويرمونـه من أعلى ذلك الجبـل إىل أرض الـوادي ،فتنزل
جـار إىل
وهـي طريّـة فيلتصـق بهـا يشء مـن هـذه الحجـارة ثـم ترتكهـا الت ّ
نصـف النهـار ،فتنـزل الطيور من النسـور والـرخ إىل ذلك اللحـم ،وتأخذه
جـار وتصيـح عليهـا، يف مخالبهـا ،وتصعـد إىل أعلى الجبـل ،فيأتيهـا الت ّ
فتصير عنـد ذلـك اللحـم ،وتخلِّـص منـه الحجـارة الالصقـة بـه ،ويرتكون
اللحـم للطيـور والوحـوش ويحملـون الحجـارة إىل بالدهـم ،وال أحد يقدر
إل بهـذه الحيلـة. يتوصـل إىل مجـيء حجـر األملـاس َّّ أن
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( )532قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن السـندباد
البحـري صـار يحكي ألصحابـه جميـع مـا حصـل لـه يف جبـل املـاس،
إل بحيلـة مثـل جـار ال يقـدرون على مجـيء يشء منـه ّ ويخربهـم أن الت ّ
فلما نظـرت إىل تلـك الذبيحـة تذكَّـرت هـذه ّ الـذي ذكـره ،ثـم قـال:
الحكايـة فقمـت وجئـت عنـد الذبيحـة ،فنقَّيـت مـن هـذه الحجارة شـيئاً
كثيرا ً ،وأدخلتـه يف جيبـي وبين ثيـايب ،ورصت أنقِّـي وأدخـل يف جيويب
وحزامـي وعاممتـي وبين حوائجـي .فبينما أنـا على هـذه الحالـة ،وإذا
بذبيحـة كبيرة ،فربطـت نفسي عليهـا ومنـت على ظهـري ،وجعلتهـا
على صـدري وأنـا قابـض عليهـا ،فصـارت عاليـة على األرض ،وإذا بنرس
نـزل على تلـك الذبيحـة وقبـض عليهـا مبخالبـه ،وأقلـع بهـا إىل الجـ ّو،
وأنـا معلَّـق بهـا .ومل يـزل طائـرا ً بهـا إىل أن صعـد بهـا إىل أعلى الجبـل،
وحطَّهـا ،وأراد أن ينهـش منهـا ،وإذا بصيحـة عظيمـة عاليـة مـن خلـف
ذلـك النسر ،ويشء يخبـط بالخشـب على ذلـك الجبـل ،فجفـل النسر
وطـار إىل الجـو ،ففككـت نفسي مـن الذبيحـة وقـد تل َّوثـت ثيـايب مـن
دمهـا ،ووقفـت بجانبهـا ،وإذا بذلـك التاجـر الـذي صـاح على النسر
يتقـدَّم إىل الذبيحـة ،فـرآين واقفـاً فلـم يكلِّمنـي وقـد فزع منـي وارتعب،
وأىت الذبيحـة وقلَّبهـا ،فلـم يجـد فيهـا شـيئاً ،فصـاح صيحـة عظيمـة،
47
إل باللـه .نعـوذ باللـه مـن الشـيطان وقـال :واخيبتـاه! ال حـول وال قـ ّوة ّ
أي يشء كـف ويقول :واحرستـاه! ّ الرجيـم ،وهـو يتنـدَّم ويخبط ك ّفاً عىل ّ
هـذا الحـال؟ ،فتقدَّمـت إليـه ،فقـال يل :مـن أنـت؟ ومـا سـبب مجيئـك
إنسي مـن خيـار
ّ إىل هـذا املـكان؟ فقلـت لـه :ال تخـف ،وال تخـش فـإين
وقصة غريبة .وسـبب وصويل ّ اإلنـس ،وكنـت تاجرا ً ،ويل حكايـة عظيمة
رسكإىل هـذا الجبـل وهـذا الـوادي حكايـة عجيبـة ،فلا تخـف فلك مـا ي ّ
منـي ،وأنـا معـي يشء كثير مـن حجـر األملـاس فأعطيـك منـه شـيئاً
كل يشء يأتيـك ،فلا تجـزع وال وكل قطعـة معـي أحسـن مـن ّ يكفيـكّ ،
جار
تخـف .عنـد ذلك ،شـكرين الرجل ،ودعـا يل وتحدَّث معـي ،وإذا بالت ّ
كل تاجر رمـى ذبيحته، يل ،وكان ّسـمعوا كالمـي مـع رفيقهـم ،فجـاؤوا إ َّ
فلما قدمـوا علينـا سـلَّموا علينـا وه َّنـؤوين بالسلامة ،وأخـذوين معهم، ّ
قصتـي ومـا قاسـيته يف سـفريت ،وأخربتهـم بسـبب َّ بجميـع وأعلمتهـم
وصـويل إىل هـذا الـوادي ،ثـم إين أعطيت لصاحب الذبيحـة التي تعلَّقت
مما كان معـي ففرح يب ودعايل ،وشـكرين على ذلك. فيهـا شـيئاً كثيرا ً ّ
ِ
وقـال يل :و،اللـه ،إنـه قـد كُتـب لـك عمـر جديـد؛ فما أحـد وصـل إىل
هـذا املـكان قبلـك ونجـا منـه ،ولكـن الحمـد للـه على بسلامتك ،وباتوا
وبـت عندهـم وأنـا فرحـان غايـة الفـرح بسلامتي ّ يف مـكان مليـح أمـان،
ونجـايت مـن وادي الحيّات ،ووصـويل إىل بالد العامر .ومل ّـا طلع النهار،
قمنـا ورسنـا على ذلـك الجبـل العظيـم ،ورصنـا ننظـر يف ذلـك الجبـل
ح ّيـات كثيرة ،ومل نـزل سـائرين إىل أن أتينـا بسـتاناً يف جزيـرة عظيمـة
يسـتظل تحتها إنسـان،
ّ وكل شـجرة منـه مليحـة ،وفيهـا شـجر الكافـورّ ،
وإذا أراد أن يأخـذ منـه أحـد يثقـب من أعىل الشـجرة ثقباً بشيء طويل،
ويتلقّـى مـا ينـزل منـه فيسـيل منـه مـاء الكافـور ،ويعقـد مثـل الشـمع
وهـو عسـل ذلـك الشـجر ،وبعدهـا تيبـس الشـجرة وتصير حطبـاً .ويف
تلـك الجزيـرة ،صنـف مـن الوحوش يقـال له (الكركـدن) يرعى فيهـا رعياً
مثـل مـا يرعـى البقـر والجامـوس يف بالدنـا ،ولكن جسـم ذلـك الوحش
أكبر مـن جسـم الجمل ،ويأكل العلـق ،وهو دابّة عظيمة لهـا قرن واحد
غليـظ يف وسـط رأسـها ،طولـه قدر عشرة أذرع وفيه صورة إنسـان ،ويف
48
تلـك الجزيـرة يشء مـن صنف البقـر .وقد قال لنا البحريّون املسـافرون
وأهـل السـياحة يف الجبـال واألرايض إن هـذا الوحـش املسـ ّمى
بـ(الكركـدن) يحمـل الفيـل الكبير ،على قرنـه ،ويرعـى بـه يف الجزيـرة
والسـواحل ،وال يشـعر بـه ،وميـوت الفيـل على قرنـه ويسـيح دهنه من
حـ ّر الشـمس على رأسـه ،ويدخـل يف عينيـه فيعمـى ،فريقـد يف جانـب
خ فيحملـه يف مخالبـه ،ويـروح بـه عند السـواحل ،فيجـيء لـه طير الـر ّ
أوالده ويزقّهـم بـه ،ومبـا على قرنـه .وقـد رأيـت يف تلـك الجزيـرة شـيئاً
كثيرا ً مـن صنـف الجامـوس ،ليـس لـه عندنـا نظير .ويف ذلـك الـوادي
يشء كثير مـن حجـر األملـاس الـذي حملتـه معـي وخبّأتـه يف جيبـي،
وقايضـوين عليـه ببضائـع ومتـاع مـن عندهـم ،وحملوهـا يل معهـم،
وأعطـوين دراهـم ودنانير .ومل أزل سـائرا ً معهـم ،وأنـا أتفـ ُّرج على بلاد
النـاس ،وعلى مـا خلـق اللـه ،مـن وا ٍد إىل واد ومـن مدينـة إىل مدينـة،
ونحـن نبيـع ونشتري إىل أن وصلنـا إىل مدينـة البصرة ،وأقمنا بهـا أيّاماً
قالئـل ،ثـم جئـت إىل مدينـة بغـداد.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)533قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن السـندباد
البحـري مل ّـا رجـع مـن غيبتـه ،ودخـل مدينـة بغـداد ،دار السلام ،وجـاء
إىل حارتـه ودخـل داره ،ومعـه مـن صنـف حجـر األملـاس يشء كثير،
ومعـه مـال ومتـاع وبضائـع لهـا صـورة ،وقـد اجتمـع بأهلـه وأقاربـه ثـم
تصـدُّق ،ووهـب وأعطـى وهادى جميـع أهله وأصحابـه ،وصار يـأكل طيِّباً،
ويشرب طيِّبـاً ،ويلبـس ملبسـاً طيِّبـاً ،ويعـارش ويرافـق ،ونسي جميـع ما
هنـي وصفـاء خاطـر وانشراح صـدر ولعـب ّ قاسـاه .ومل يـزل يف عيـش
كل مـن سـمع بقدومـه يجـيء إليـه ويسـأله عـن حـال وطـرب ،وصـار ّ
جب السـفر وأحـوال البلاد ،فيخبره ويحيك لـه ما لقيـه وما قاسـاه ،فيتع َّ
مـن شـدَّة مـا قاسـاه ،ويه ِّنئـه بالسلامة .وهـذا آخر ما جـرى يل ومـا اتَّفق
يل يف السـفرة الثانيـة .ثـم قـال لهـم :ويف الغـد ،إن شـاء اللـه (تعـاىل)،
فلم فرغ السـندباد البحـري من حكايته أحكي لكـم حال السـفرة الثالثةّ .
49
جبـوا مـن ذلـك ونعشـوا عنـده ،وأمـر للسـندباد مبئة بري تع َّ
للسـندباد ال ّ
مم قاسـاه
جب ّ جـه إىل حـال سـبيله ،وهـو يتع َّ
مثقـال ذهبـاً ،فأخذهـا وتو َّ
السـندباد البحـري ،وشـكره ،ودعا لـه يف بيته .ومل ّا أصبـح الصباح وأضاء
بري ،كما أمـره ،ودخـل إليـه وصبَّـح عليـه،بنـوره والح ،قـام السـندباد ال ّ
حـب بـه ،وجلـس معـه حتـى أتـاه باقـي أصحابـه وجامعتـه ،فأكلـوا فر َّ
ورشبـوا وتلـذَّذوا وطربـوا وانرشحـوا ،ثـم ابتـدأ السـندباد البحـري بالكالم
وقال:
50
الحكاية الثالثة
(السفرة الثالثة)
51
وصلاح ،فنزلـت معهـم يف ذلـك املركـب ،وسـافرنا على بركـة اللـه
(تعـاىل) ،بعونـه وتوفيقـه ،وقـد اسـتبرشنا بالخير والسلامة .ومل نـزل
سـائرين مـن بحـر إىل بحر ومن جزيرة إىل جزيـرة ومن مدينة ،إىل مدينة
كل مـكان مررنـا عليـه نتفـ َّرج ونبيع ونشتري ،ونحـن يف غاية الفرح ويف ّ
والسرور إىل أن ك ّنـا ،يومـاً مـن األيّام ،سـائرين يف وسـط البحـر العجاج
املتالطـم باألمـواج فـإذا بالريِّـس ،وهو جانـب املركب ،ينظـر إىل نواحي
البحـر ،ثـم إنـه لطم وجهه ،وطـوى قلوع املركـب ،ورمى مراسـيه ،ونتف
لحيتـه ومـ َّزق ثيابـه ،وصاح صيحـة عظيمة ،فقلنا له :يـا ريِّس ،ما الخرب؟
فقـال :اعلمـوا ،يـا ركّاب السلامة ،أن الريـح غلـب علينـا ،وعسـف بنا يف
وسـط البحـر ،ورمتنـا املقاديـر -لسـوء بختنـا -إىل جبـل القـرود ،ومـا
أحـس قلبـي بهالكنا
ّ ط ،وقـدوسـلِم منـه قـ ّ
وصـل إىل هـذا املـكان أحـدَ ،
م قول الريِّس حتـى جاءنا القـرود ،وأحاطوا املركب أجمعين .فام اسـتت ّ
كل جانـب ،وهـم يشء كثري مثـل الجراد املنتشر يف املركب وعىل مـن ّ
بر ،فخفنـا إن قتلنـا منهـم أحـدا ً أو طردنـاه أن يقتلونـا؛ لفـرط كرثتهـم،
ال ّ
والكثرة تغلـب الشـجاعة .وبقينا خائفني منهـم أن ينهبوا رزقنـا ومتاعنا،
وهـم أقبـح الوحـوش ،وعليهـم شـعور مثل لبد األسـود ،ورؤيتهـم تفزع،
وال يف َهـم لهـم أحـد كالمـاً ،وال خبرا ً ،وهـم مستوحشـون مـن النـاس،
كل واحـد منهم أربعة صفـر العيـون وسـود الوجوه صغـار الخلقة ،طول ّ
أشـبار ،وقـد طلعـوا على حبـال املرسـاة وقطَّعوهـا بأسـنانهم ،وقطَّعـوا
ورسـت
كل جانب ،فمال املركـب من الريحَ ، جميـع حبـال املركـب مـن ّ
جـار
على جبلهـم ،وصـارت املركـب يف ب ِّرهـم ،وقبضـوا على جميـع الت ّ
والـركّاب ،وطلعـوا إىل الجزيـرة ،وأخـذوا املركـب بجميـع مـا كان فيهـا
وراحـوا بهـا .فبينما نحـن يف تلـك الجزيـرة ،نـأكل مـن أمثارهـا وبقولهـا
وفواكههـا ونشرب مـن األنهـار التـي فيهـا ،إذ الح لنا بيت عامر يف وسـط
تلـك الجزيـرة فقصدنـاه ،ومشـينا إليه فـإذا هو قرص مشـ َّيد األركان عايل
األسـوار ،لـه بـاب بدرفتين ،مفتـوح ،وهـو من خشـب األبانـوس ،فدخلنا
بـاب ذلـك القصر ،فوجدنـا لـه حظيرا ً واسـعأً مثـل الحـوش الواسـع
الكبير ،ويف دائـره أبـواب كثيرة ،ويف صدره مصطبة عاليـة كبرية ،وفيها
52
أواين طبيـخ معلَّقـة على الكوانين ،وحواليهـا عظـام كثرية ،ومل نـ َر فيها
جبنـا مـن ذلـك غايـة العجب ،وجلسـنا يف حضير ذلك القرص أحـد ،فتع َّ
قليلاً ،ثـم بعـد ذلـك مننا ،ومل نـزل نامئني من ضحـوة النهـار إىل غروب
جـت مـن تحتنـا وسـمعنا دويـاً مـن الجـ ّو،
الشـمس ،وإذ بـاألرض قـد ارت َّ
وقـد نـزل علينـا من أعىل القرص شـخص عظيـم الخلقة يف صفة إنسـان،
وهـو أسـود اللـون طويـل القامـة كأنـه نخلـة عظيمـة ،ولـه عينـان كأنهام
شـعلتان مـن نـار ،وله أنيـاب مثل أنيـاب الخنازير ،وله فـم عظيم الخلقة
مثـل البئر ،ولـه مشـافر مثـل مشـافر الجمـل مرخ ّيـة على صـدره ،ولـه
أذنـان مثـل الحرامين مرخيَّتـان على أكتافـه ،وأظافـر يديه مثـل مخالب
َـوي خوفنا،فلما نظرنـاه على هـذه الحالة غبنـا عن وجودنـا ،وق َ
ّ السـبع،
واشـت َّد فزعنـا ،ورصنـا مثـل املـوىت من شـدّة الخـوف والجـزع والفزع.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)534قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللك السـعيد -أن السـندباد
البحـري ورفقتـه مل ّـا رأوا هذا الشـخص الهائـل الصورة ،حصـل لهم غاية
فلما نـزل على األرض جلـس قليلاً على املصطبة ،ثم ّ الخـوف والفـزع،
جـار، إنـه قـام وجـاء عندنـا ،ثـم قبـض على يـدي مـن بين أصحـايب الت ّ
ورفعنـي بيـده عـن األرض ،وحبسـني وقلَّبنـي فصرت يف يـده مثـل
اللقمـة الصغيرة ،وصـار يحبسـني مثل ما يحبـس الج ّزار ذبيحـة الغنم،
فوجـدين ضعيفـاً مـن كثرة القهر هزيالً من كثرة التعب والسـفر ،وليس
يف يشء مـن اللحـم فأطلقنـي مـن يـده ،وأخـذ واحـدا ً غيري مـن رفاقـي َّ
وقلَّبـه كما قلَّبنـي ،وحبسـه كما حبسـني ،ثـم أطلقـه .ومل يـزل يحبسـنا
ويقل ِّبنـا ،واحـدا ً بعـد واحـد ،إىل أن وصـل إىل ريِّـس املركـب الـذي ك ّنـا
فيـه ،وكان رجلاً سـميناً غليظـاً عريـض األكتـاف صاحـب قـ ّوة وشـدّة،
فأعجبـه وقبـض عليـه مثـل مـا يقبـض الجـ ّزار على ذبيحتـه ،ورمـاه عىل
األرض ،ووضـع رجلـه على رقبتـه وجاء بسـيخ طويل ،فأدخلـه يف حلقه
حتـى أخرجـه مـن دبـره ،وأوقـد نـارا ً شـديدة وركَّـب عليهـا ذلـك السـيخ
املشـكوك فيـه الريِّـس ،ومل يـزل يقلبه على الجمر حتى اسـتوى لحمه،
53
وأطلعـه مـن النـار وحطّـه قدّامـه ،وفسـخه كما يفسـخ الرجـل الفرخة.
وصـار يقطِّـع لحمه بأظافره ،ويـأكل منه .ومل يزل عىل هـذه الحالة حتى
أكل لحمـه ،ونهـش عظمـه ،فلـم يبـقِ منه شـيئاً ،ورمى باقـي العظام يف
جنـب القصر .ثـم إنـه جلـس قليلاً ،وانطـرح ونـام على تلـك املصطبـة
وصـار يشـخر مثل شـخري الخـروف أو البهيمـة املذبوحة ،ومل يـزل نامئاً
فلما تحقَّقنا بعـده تحدَّثنا
ّ إىل الصبـاح ،ثـم قـام وخرج إىل حال سـبيله.
معـاً ،وبكينـا على أرواحنـا وقلنـا :ليتنـا غرقنـا يف البحـر ،وأكلتنـا القرود
خير من شـوي اإلنسـان على الجمر .واللـه ،إن هذا املـوت رديء ،ولكن
لي العظيـم .لقـد كدنا إل باللـه الع ّمـا شـاء اللـه كان ،وال حـول وال قـ ّوة ّ
منـوت كمـدا ً ،ومل يـد ِر بنـا أحـد ،ومـا بقـي لنـا نجـاة من هـذا املـكان .ثم
إننـا قمنـا وخرجنـا إىل الجزيـرة لننظـر لنـا مكانـاً نختفـي فيـه أو نهـرب،
وقـد هـان علينـا أن منـوت وال يُشـوى لحمنـا بالنـار ،فلـم نجـد مكانـاً
نختفـي فيـه ،وقـد أدركنـا املسـاء فعدنـا إىل القصر مـن شـدّة خوفنـا.
جلسـنا قليلاً ،وإذا بـاألرض قد ارتجفـت من تحتنا ،وأقبل ذلك الشـخص
األسـ َود ،وجـاء عندنـا ،وصـار يقلِّبنا واحـدا ً بعد اآلخر مثل املـ ّرة األوىل،
ويحبسـنا حتـى أعجبـه واحـد ،فقبـض عليـه وفعـل بـه مثـل مـا فعـل
بالريِّـس يف أ َّول يـوم ،فشـواه وأكلـه على تلـك املصطبة ،ومل يـزل نامئاً
فلما طلـع النهـار قـام وراحّ يف تلـك الليلـة وهـو يشـخر مثـل الذبيحـة،
إىل حـال سـبيله ،وتركنـا على جـري عادتـه ،فاجتمعنـا ،وتحدَّثنـا وقلنـا:
واللـه ،ألن نلقـي أنفسـنا يف البحر ومنـوت غرقاً خري مـن أن منوت حرقاً؛
ألن هـذه قتلـة شـنيعة .فقال واحد م ّنا :اسـمعوا كالمي ،علينـا أن نحتال
عليـه ونقتلـه ،فرنتـاح مـن ه ّمـه ،ونريح املسـلمني مـن عدوانـه وظلمه.
فقلـت لهـم :اسـمعوا ،يـا إخـواين :إن كان البـ ّد من قتلـه فإننا نحـ ِّول هذا
الخشـب ،وننقـل شـيئاً مـن هـذا الحطـب ،ونعمـل لنا فلـكاً مثـل املركب
أي
وبعـد ذلـك ،نحتـال يف قتلـه ،وننزل يف الفلـك ،ونروح يف البحـر إىل ّ
محـل يريـده اللـه .وإننـا نقعـد يف هـذا املـكان حتـى ميـ ّر علينـا مركـب، ّ
فننـزل فيـه ،وإن مل نقـدر على قتله ننزل ونـروح يف البحر ولـو ك ّنا نغرق
نرتـاح مـن شـيِّنا على النـار ،ومـن الذبـح ،فـإن سـلمنا سـلمنا ،وإن غرقنا
54
متنا شـهداء .فقالوا جميعاً :والله ،هذا رأي سـديد وفعل رشـيد .وات َّفقنا
على هـذا األمـر ،ورشعنـا يف فعلـه ،فنقلنا األخشـاب إىل خـارج القرص،
وصنعنـا فلـكاً وربطنـاه على جانـب البحـر ،ون َّزلنـا فيـه شـيئاً مـن الـزاد،
فلما كان وقـت املسـاء ،إذا بـاألرض قـد ارتجفـت ّ ثـم عدنـا إىل القصر.
بنـا ودخـل علينـا األسـ َود ،وكأنه الكلـب العقور ،ثـم قلَّبنا وحبسـنا واحدا ً
بعـد واحـد ،ثـم أخـذ واحـدا ً وفعـل به مثـل ما فعـل بسـاب َق ْيه.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)535قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللك السـعيد -أن السـندباد
البحـري قـال إن األسـود أخذ واحدا ً م ّنا ،وفعل به مثل ما فعل بسـاب َق ْيه،
وأكلـه ثـم نام على املصطبة ،وصار شـخريه مثـل الرعد ،فنهضنـا وقمنا
وأخذنـا سـيخني مـن حديـد مـن األسـياخ املنصوبـة ،ووضعناهما يف
النـار القويّـة حتـى احمـ ّرا وصـارا مثـل الجمـر ،وقبضنـا عليهما قبضـاً
شـديدا ً وجئنـا بهما إىل ذلـك األسـود وهـو نائـم يشـخر ،ووضعناهام يف
عينيـه واتكأنـا عليهما جميعـاً بق َّوتنا ،وعزمنـا فأدخلناهما يف عينيه وهو
نائـم ،فانطمسـتا وصـاح صيحـة عظيمـة ،فارتعبـت قلوبنـا منـه ،ثـم قام
مـن فـوق تلـك املصطبـة بعزمـه ،وصـار يفتِّـش علينـا ،ونحن نهـرب منه
ميينـاً وشماالً ،فلـم ينظرنـا وقد َع ِمي بصره ،فخفنا منه مخافة شـديدة،
وأيق ّنـا يف تلـك السـاعة بالهلاك ،ويئسـنا من النجـاة .فعنـد ذلك ،قصد
يحسـس ،وخـرج منـه وهـو يصيـح ،ونحـن يف غايـة الرعـب ِّ البـاب وهـو
فلما خـرج مـن ّ ترتـج مـن تحتنـا مـن شـدّة صوتـه، ّ منـه ،وإذا بـاألرض
القصر راح إىل حـال سـبيله ،وهـو يـدور علينـا ،ثـم إنـه رجـع ومعـه أنثى
فلما رأينـاه والـذي معـه أفظـع حالـة
ّ أكبر منـه ،وأوحـش منـه خلقـةً،
فلما رأونـا أرسعنا ونهضنـا ففككنـا الفلك الذي ّ منـه خفنـا غايـة الخوف،
كل واحـد منهـم صنعنـاه ،ونزلنـا فيـه ودفعنـاه يف البحـر ،وكان مـع ّ
صخـرة عظيمـة ،وصـارا يرجامننـا بهـا إىل أن مـات أكرثنـا مـن الرجـم،
وبقـي م ّنـا ثالثـة أشـخاص :أنـا واثنان.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
55
ويف الليلـة ( ،)536قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللك السـعيد -أن السـندباد
البحـري مل ّـا نـزل يف الفلـك هـو وأصحابـه ،صـار يرجامنهـم ،األسـود
إل ثالثـة أشـخاص ،فطلع بهم ورفيقتـه ،فماتَ أكرثهـم ،ومل يبـق منهـم ّ
الفلـك إىل جزيـرة .قـال :فمشـينا إىل آخـر النهـار ،فدخـل علينـا الليـل
ونحـن على هـذه الحالـة فنمنا قليلاً ،واسـتيقظنا مـن نومنـا وإذا بثعبان
عظيـم الخلقـة كبير الجثّـة واسـع الجـوف قـد أحـاط بنـا ،وقصـد واحـدا ً
تتكسر يف بطنـه،
َّ فبلعـه إىل أكتافـه ،ثـم بلـع باقيـه ،فسـمعنا أضالعـه
جبنـا مـن ذلـك غايـة العجـب ،وحزنّـا على وراح يف حـال سـبيله ،فتع َّ
رفيقنـا ،ورصنـا يف غايـة الخـوف على أنفسـنا ،وقلنـا :واللـه ،هـذا أمـر
كل موتـة أشـنع من السـابقة .وك ّنا فرحنا بسلامتنا من األسـود، عجيـب! ّ
فما متَّـت الفرحـة ،وال حـول وال قـ ّوة إلّ باللـه .واللـه ،قـد نجونـا مـن
األسـ َود ومـن الغـرق ،فكيـف تكـون نجاتنا من هـذه اآلفة املشـؤومة؟ ثم
إننـا قمنا فمشـينا يف الجزيـرة ،وأكلنا من مثرها ورشبنـا من أنهارها ،ومل
نـزل فيهـا إىل وقـت املسـاء ،فوجدنـا صخـرة عظيمـة عاليـة ،فطلعناهـا
فلما دخـل الليـل ،وأظلـم ّ ومننـا فوقهـا ،وقـد طلعـت أنـا على فروعهـا.
الوقـت ،جـاء الثعبـان وتلفَّـت ميينـاً وشماالً ،ثـم إنـه قصد تلك الشـجرة
التـي نحـن عليهـا ومشى حتـى وصـل إىل رفيقـي وبلعـه حتـى أكتافـه،
يتكسر يف بطنـه ،ثـم بلعـه
َّ والتفـت بـه على الشـجرة ،فسـمعت عظمـه
بعينـي ،ثـم إن الثعبـان نـزل مـن فـوق تلـك الشـجرةَّ بتاممـه ،وأنـا أنظـر
فلما
ّ وراح إىل حـال سـبيله .ومل أزل على تلـك الشـجرة يف تلـك الليلـة،
طلـع النهـار وبـان النـور ونزلـت مـن فـوق الشـجرة وأنـا مثـل امل ِّيـت مـن
كثرة الخـوف والفـزع ،أردت أن ألقـي بنفسي يف البحـر وأستريح مـن
لي روحـي ألن الـروح عزيـزة ،فربطت خشـبة عريضة الدنيـا ،فلـم تهـن ع َّ
على أقدامـي بالعـرض ،وربطـت واحـدة مثلهـا على جنبـي الشمال،
ومثلهـا على جنبـي اليمين ،ومثلهـا على بطنـي ،وربطـت واحـدة طويلة
عريضـة مـن فـوق رأيس بالعـرض مثل التـي تحت أقدامـي ،ورصت أنا يف
كل جانـب وقـد شـددت ذلـك وسـط هـذا الخشـب ،وهـو محتـاط يب مـن ّ
شـ ّدا ً وثيقـاً ،وألقيـت نفسي بالجميع على األرض ،فرصت نامئـاً بني تلك
56
فلما أمسى الليـل أقبـل ذلـك ّ األخشـاب وهـي محيطـة يب كاملقصـورة.
يل وقصـدين فلـم يقـدر أن يبلغنـي، الثعبـان ،على جـري عادتـه ،ونظـر إ َّ
كل جانـب ،فـدار الثعبـان وأنـا على تلـك الحالـة واألخشـاب حـويل مـن ّ
بعينـي وقـد رصت كامل ِّيـت
َّ يل ،وأنـا أنظـر
حـويل فلـم يسـتطع الوصـول إ َّ
يل ،وملمـن شـدّة الخـوف والفـزع ،وصـار الثعبـان يبعـد عنـي ويعـود إ َّ
يل ليبتلعنـي متنعـه تلـك يـزل على هـذه الحالـة ،وكلَّما أراد الوصـول إ َّ
كل جانـب .ومل يـزل كذلـك مـن غـروب لي مـن ّ األخشـاب املشـدودة ع ّ
الشـمس إىل أن طلـع الفجـر ،وبـان النـور وأرشقـت الشـمس ،فمضى
الثعبـان إىل حـال سـبيله ،وهـو يف غايـة مـن القهـر والغيـظ .عنـد ذلك،
مـددت يـدي ،وفككـت نفسي من تلـك األخشـاب وأنـا يف حكـم األموات
مـن شـدّة ماقاسـيت مـن ذلـك الثعبـان ،ثـم إين قمـت ومشـيت يف
الجزيـرة حتـى انتهيـت إىل آخرهـا ،فالحـت يل منـي التفاتـة إىل ناحيـة
جـة ،فأخذت فرعـاً كبريا ً من البحـر ،فرأيـت مركبـاً على بعد يف وسـط الل ّ
فلما رأوين قالـوا:
ّ شـجرة ول َّوحـت بـه إىل ناحيتهـم ،وأنـا أصيـح عليهـم.
البـ َّد أننـا ننظـر مـا يكون هـذا ،لعلّه إنسـان! ثم إنهـم قربوا مني وسـمعوا
يل وأخذوين معهم يف املركب ،وسـألوين عن صياحـي ،عليهـم فجـاؤوا إ َّ
حـايل فأخربتهـم بجميـع مـا جـرى يل ،مـن أ َّولـه إىل آخـره ،وماقاسـيته
جبـوا مـن ذلـك غايـة العجـب ،ثـم إنهم ألبسـوين من مـن الشـدائد ،فتع َّ
عندهـم ثيابـاً ،وستروا عـوريت .وبعـد ذلـك ،قدَّمـوا يل شـيئاً مـن الـزاد
حتـى اكتفيت ،وسـقوين ماء بـاردا ً عذبـاً فانتعش قلبـي ،وارتاحت نفيس
وحصـل يل راحـة عظيمـة ،وأحيـاين اللـه (تعـاىل) بعـد مـويت ،فحمدتـه
على نعمـه الوافرة ،وشـكرته ،وقَ ّويت ه َّمتـي بعدما كنـت أيقنت بالهالك
حتـى تخ َّيـل يل أن جميـع مـا أنـا فيـه منـام .ومل نـزل سـائرين ،وقد طاب
لنـا الريـح بـإذن اللـه (تعـاىل) إىل أن أرشفنا على جزيرة يقال لهـا جزيرة
(السلاهطة) فأوقـف الريِّـس املركـب عليهـا.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)537قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن املركـب
57
الـذي نـزل فيـه السـندباد البحـري رسـت على جزيـرة ،فنـزل منـه جميع
يل صاحـب املركب وقال يل :اسـمع كالمـي .أنت رجل جـار ،فالتفـت إ َّ الت ّ
غريـب فقير ،وقـد أخربتنـا أنك قاسـيت أهواالً كثيرة ،ومـرادي أن أنفعك
بشيء يعينـك عىل الوصـول إىل بالدك وتبقى تدعـو يل ،فقلت له :نعم،
ولـك منـي الدعـاء .فقال :اعلم أنـه كان معنا رجل مسـافر ففقدناه ،ومل
حـي أم مـات ،ومل نسـمع عنـه خبرا ً ،ومـرادي أن أدفـع ّ نعلـم هـل هـو
لـك حمولـة لتبيعهـا يف هذه الجزيـرة وتحفظها ،وأعطيك شـيئاً يف نظري
تعبـك وخدمتـك ومـا بقـي منهـا نأخـذه إىل أن تعـود إىل مدينـة بغـداد،
فنسـأل عـن أهلـه وندفـع إليهـم بق َّيتهـا ومثـن مـا بيـع منهـا ،فهـل لك أن
جار؟ فقلت :سـمعاً تتسـلَّمها وتنـزل بهـا هـذه الجزيـرة ،فتبيعها مثـل الت ّ
وطاعـة لـك ،يـا سـ ِّيدي ،ولـك الفضـل والجميل .دعـوت له وشـكرته عىل
الحملين والبحريـة بإخـراج تلـك البضائـع إىل الجزيـرة، ّ ذلـك ،ثـم أمـر
يل ،فقـال كاتـب املركـب :يـا ريِّـس ،مـا هـذه الحمـول وأن يسـلموها إ َّ
جـار أكتبها؟ فقال:
ن من الت ّباسـمِ َمـ ْ
والحملون؟ ْ
ّ التـي أخرجهـا البحريـة
اكتـب عليها اسـم السـندباد البحري الذي كان مع َنا ،وغـرق يف الجزيرة،
ومل يأتنـا عنـه خبر ،فرنيد أن يبيعهـا هذا الغريب ونحمـل مثنها ونعطيه
شـيئاً منـه نظير تعبه وبيعـه ،والباقي نحمله معنا حتـى نرجع إىل مدينة
بغـداد ،فـإن وجدنـاه أعطينـاه إيّـاه ،وإن مل نجـده ندفعـه إىل أهلـه يف
فلم سـمعت مدينـة بغـداد ،فقـال الكاتـب :كالمك مليـح ،ورأيك رجيحّ .
كالم الريِّـس ،وهـو يذكـر أن الحمـول باسـمي ،قلت يف نفسي :والله ،أنا
السـندباد البحـري ،وأنـا غرقـت يف الجزيـرة مـع جملـة من غـرق ،ثم إين
جـار مـن املركـب ،واجتمعـوا يتحدَّثـون تجلَّـدت وصبرت إىل أن طلـع الت ّ
ويتذاكـرون يف أمـور البيـع والشراء .فتقدَّمـت إىل صاحـب املركـب،
وقلـت لـه :يـا سـ ِّيدي ،هـل تعـرف كيـف كان صاحـب الحمـول التـي
يل ألبيعهـا؟ فقـال يل :ال أعلـم لـه حـاالً ،ولكنـه كان رجلاً مـن سـلَّمتها إ َّ
مدينـة بغـداد ،يقـال لـه السـندباد البحـري ،وقد أرسـينا على جزيرة من
الجزائـر فغـرق م ّنـا فيهـا خلـق كثير ،وفُ ِقـد هو مـن جملتهـم ،ومل نعلم
لـه خبرا ً إىل هـذا الوقـت .عند ذلـك ،رصخت رصخـة عظيمـة ،وقلت له:
58
يـا ريِّـس السلامة ،اعلـم أين أنـا السـندباد البحـري .أنـا مل أغـرق ،ولكـن
جـار والـركّاب طلعـت أنـا مـع جملـة مل ّـا أرسـيت على الجزيـرة وطلـع الت ّ
النـاس ،ومعـي يشء آكلـه بجانـب الجزيـرة ،ثـم إين تلـذَّذت بالجلـوس
سـ َنة من النوم ،فنمت وغرقـت يف النوم ،ثم يف ذلـك املـكان ،فأخذتنـي ِ
إين قمـت فلـم أجـد املركـب ،ومل أجـد أحـدا ً عنـدي .وهـذا املـال مايل،
جـار الذيـن يجلبون حجـر األملاس وهـذه البضائـع بضائعـي ،وجميـع الت ّ
رأوين وأنـا يف جبـل األملـاس ،ويشـهدون يل بـأين أنا السـندباد البحري،
بقصتـي ومـا جـرى يل معكـم يف املركـب ،وأخربتهـم َّ كما أين أخربتهـم
بأنكـم نسـيتموين يف الجزيـرة نامئـاً ،وقمـت فلـم أجـد أحـدا ً ،وجـرى يل
لي ،فمنهـم جـار والـركّاب كالمـي ،اجتمعـوا ع َّ فلما سـمع الت ّ
ّ مـا جـرى.
مـن صدَّقنـي ،ومنهـم مـن كذَّبنـي .فبينما نحـن كذلـك ،وإذا بتاجـر مـن
جـار حين سـمعني أذكـر وادي األملـاس نهـض وتقـدَّم عنـدي ،وقـال الت ّ
لهـم :اسـمعوا ،يـا جامعـة ،كالمـي :إين مل ّـا كنـت ذكـرت لكـم أعجـب ما
رأيـت يف أسـفاري مل ّا ألقينـا الذبائح يف وادي األملـاس ،وألقيت ذبيحتي
معهـم ،على جـري عـاديت ،طلـع على ذبيحتـي رجـل متعلِّـق بهـا ،ومل
تصدِّقـوين بـل كذَّبتمـوين .فقالـوا لـه :نعـم ،حكيـت لنـا هـذا األمـر ،ومل
نصدِّقـك .فقـال لهـم :هذا هـو التاجر الـذي تعلَّق بذبيحتـي ،وقد أعطاين
شـيئاً مـن حجـر األملـاس الغايل الثمـن الـذي ال يوجد نظيره ،وع َّوضني
أكثر مـا كان يطلـع يل يف ذبيحتـي ،وقد اسـتصحبته معـي إىل أن وصلنا
جـه إىل بلاده وودَّعنـا ،ورجعنـا إىل إىل مدينـة البصرة ،وبعـد ذلـك تو َّ
بالدنـا ،وهـو هـذا ،وقـد أعلمنـا أن اسـمه السـندباد البحـري ،وأخربنـا
بذهـاب املركـب وجلوسـه يف هـذه الجزيـرة .واعلمـوا أن هـذا الرجـل ما
مما قلته لكم ،وهـذه البضائـع كلّها رزقه إل لتصدِّقـوا كالمـي ّ
جاءنـا هنـا ّ
فلم
فإنـه أخبر بهـا يف وقت اجتامعـه علينا ،وقـد ظهر صدقـه يف قولهّ .
سـمع الريِّـس كالم ذلـك التاجـر ،قـام على حيلـه ،وجـاء عنـدي وحقَّـق
يف النظـر سـاعةً ،وقـال :مـا عالمـة بضائعـك؟ فقلت لـه :اعلـم أن عالمة َّ
بضائعـي مـا هـو كذا وكـذا ،وقد أخربتـه بأمـر كان بيني وبينـه ،ومل ّا نزلت
معـه املركـب مـن البصرة ،فتحقَّـق أين أنـا السـندباد البحـري ،فعانقني
59
قصتـك عجيبـة،لي ،وهنـأين بالسلامة ،وقـال يل :ياسـيِّدي ،إن َّ
وسـلَّم ع َّ
َ
وأمـرك غريـب ،ولكـن الحمـد لله الذي جمـع بيننـا وبينـك ،ور َّد بضائعك
ومالـك عليك.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)538قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللك السـعيد -أن السـندباد
جـار أنـه هـو عينـه ،وقـال لـه الريِّـس: تبين للريِّـس والت ّ
َّ البحـري ملـا
رصفت «الحمـد للـه الـذي ر َّد بضائعك ومالك عليـك» ،قال :فعنـد ذلك ت َّ
يف بضائعـي مبعرفتـي ،وربحـت بضائعـي يف تلـك السـفرة شـيئاً كثيرا ً،
يل .ومل نزل وفرحـت بذلـك فرحـاً عظيماًَ ،هن ِئت بالسلامة ،وعاد مـايل إ ّ
نبيـع ونشتري يف الجزائـر إىل أن وصلنـا إىل بلاد السـندباد ،وبعنـا فيهـا
واشترينا ،ورأيـت يف ذلـك البحـر شـيئاً كثيرا ً مـن العجائـب والغرائب ال
عـ ّد وال ت ُحصى ،ومـن جملة مـا رأيت ،يف ذلك البحر ،سـمكة عىل صفة تُ َ
البقـرة ،وشـيئاً على صفـة الحمير ،ورأيـت طريا ً يخـرج من صـدف البحر
ويبيـض ويفـ ِّرخ على وجـه املـاء وال يطلـع من البحـر عىل وجـه األرض،
أبـدا ً .وبعـد ذلـك ،مل نـزل مسـافرين ،بـإذن اللـه (تعـاىل) ،وقد طـاب لنا
الريـح والسـفر إىل أن وصلنـا إىل البصرة ،وقـد أقمـت فيهـا أيّامـاً قالئل،
جهت إىل حـاريت ودخلت بيتي، وبعـد ذلـك جئـت إىل مدينة بغـداد ،فتو َّ
وسـلَّمت على أهيل وأصحـايب وأصدقايئ ،وقد فرحت بسلامتي وعوديت
َسـ ْوت األرامل إىل بلادي وأهلي ومدينتي وديـاري ،وتصدَّقت ووهبت ،وك َ
واأليتـام .وجمعـت أصحـايب وأحبـايب ،ومل أزل على هـذه الحالـة يف
أكل ورشب ولهـو وطـرب ،وأنـا آكل وأرشب طيِّبـاً ،وأعـارش وأخالـط ،وقد
نسـيت جميـع مـا جرى يل ،وما قاسـيت من الشـدائد واألهوال ،وكسـبت
عـ ّد وال يُحصى ،وهـذا أعجب مـا رأيته يف هذه شـيئاً يف هـذه السـفرة ال يُ َ
يل ،فأحكي لك حكاية السـفرة .ويف غـد ،إن شـاء اللـه (تعـاىل) ،تجيء إ ّ
السـفرة الرابعـة ،فإنهـا أعجـب مـن هـذه السـفرات .ثـم إن السـندباد
البحـري أمـر بـأن يدفعـوا إليه مئـة مثقال مـن الذهب ،عىل جـري عادته،
جبـون من تلك وتعشى الجامعـة ،وهـم يتع ّ
ّ وأمـر مبـ ّد السماط ،فمـدّوه
60
الحكايـة ،ومـا جـرى فيهـا .ثـم إنهـم ،بعـد العشـاء ،انرصفـوا إىل حـال
الحمال مـا أُ ِمـر لـه بـه ،مـن الذهـب،
َّ سـبيلهم ،وقـد أخـذ السـندباد
مما سـمعه مـن السـندباد جـب ّ وانصرف إىل حـال سـبيله ،وهـو متع ِّ
البحـري ،وبـات يف بيتـه .ومل ّـا أصبـح الصبـاح ،وأضـاء بنـوره والح ،قـام
ومتشى إىل السـندباد البحـري ،وقـد
َّ وصلى الصبـح
َّ الحمال
ّ السـندباد
دخـل عليـه وتلقَّـاه بالفـرح واالنرشاح ،وأجلسـه عنـده إىل أن حرض بقيّة
أصحابـه ،وقدَّمـوا الطعـام ،فأكلـوا ورشبوا وانبسـطوا ،فبدأهـم بالكالم،
وحكى لهـم الحكايـة الرابعة.
61
الحكاية الرابعة
(السفرة الرابعة)
(قـال) السـندباد البحـري :اعلمـوا ،يـا أخـواين ،أين مل ّا عـدت إىل مدينة
بغـداد واجتمعـت على أصحـايب وأحبـايب ،ورصت يف أعظـم مـا يكـون من
الهنـاء والسرور والراحـة ،وقـد نسـيت ما كنت فيـه لكرثة الفوائـد ،وغرقت
يف اللهـو والطـرب ومجالسـة األحباب واألصحاب ،وأنا يف ألـ ّذ ما يكون من
العيـش ،حدَّثتنـي نفيس الخبيثة بالسـفر إىل بالد الناس ،وقد اشـتقت إىل
مصاحبـة األجنـاس والبيع واملكاسـب ،فهممـت يف ذلك األمر ،واشتريت
بضاعـة نفيسـة تناسـب البحر ،وحزمت حمـوالً كثرية زيادة عـن العادة ،ثم
سـافرت مـن مدينـة بغـداد إىل مدينة البصرة ،ون َّزلت حمولتـي يف املركب
جهنا إىل السـفر ،فسـافر بنا واصطحبـت بجامعـة من أكابر البرصة ،وقد تو َّ
املركـب ،على بركـة اللـه (تعـاىل) ،يف البحر العجـاج املتالطـم باألمواج،
ل وأيّام ،مـن جزيرةوطـاب لنـا السـفر .ومل نـزل على هـذه الحالة مـدّة ليـا ٍ
63
إىل جزيـرة ومـن بحـر إىل بحـر ،إىل أن خرجـت علينـا ريـح مختلفـة ،يومـاً
مـن األيّـام ،فرمى الريِّس مـرايس املركب ،وأوقفها يف وسـط البحر؛ خوفاً
عليهـا مـن الغـرق يف وسـط البحـر .فبينما نحـن على هـذه الحالـة ندعـو
ضرع إىل اللـه (تعـاىل) ،إذ خـرج علينـا عاصـف ريـح شـديد مـ َّزق القلع ونت َّ
وقطَّعـه قطعـاً ،وغـرق النـاس وجميـع حمولهـم ومـا معهـم مـن املتـاع
ـت يف البحر نصـف نهار ،وقد ن غرق ،وع ْم ُ واألمـوال ،وغرقـت أنـا بجملـة َمـ ْ
فيسر اللـه (تعـاىل) يل قطعـة لـوح خشـب مـن ألـواح َّ تخلَّيـت عـن نفسي
جار.
املركـب ،فركبتهـا أنـا وجامعة مـن الت ّ
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)539قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن السـندباد
البحـري ،بعـد أن غرقـت املركـب ،وطلع عىل لوح خشـب هـو وجامعة من
جـار ،قـال :اجتمعنـا معـاً ،ومل نـزل راكبين على ذلـك اللـوح ،نرفـس الت ّ
بأرجلنـا يف البحـر واألمـواج والريـح تسـاعدنا ،وقـد مكثنا عىل هـذه الحالة
فلما كان ثـاين يـوم ضحـوة نهـار ،ثـار علينـا ريح ،وهـاج البحر ّ يومـاً وليلـة.
وقـوي املـوج والريـح ،فرمانـا املـاء على جزيـرة ونحـن مثـل املـوىت مـن
شـدّة السـهر والتعـب والبرد والجـوع والخـوف والعطـش ،وقد مشـينا يف
جوانـب تلـك الجزيـرة فوجدنا فيهـا نباتاً كثريا ً ،فأكلنا منه شـيئاً يسـ ّد رمقنا
فلم أصبح الصبـاح وأضاء ويقيتنـا .وبتنـا تلـك الليلة على جانب الجزيـرةّ ،
فالح لنـا عامرة عىل
َ بنـوره والح ،قمنـا ومشـينا يف الجزيـرة ميينـاً وشماالً،
بعـد ،فرسنـا يف تلـك الجزيـرة قاصدين تلك العمارة التي رأيناهـا من بُعد،
ومل نـزل سـائرين إىل أن وقفنـا على بابهـا .فبينما نحـن واقفـون هنـاك،
خـرج علينـا ،مـن ذلك الباب ،جامعـة عـراة ومل يكلِّمونا ،وقد قبضـوا علينا
وأخذونـا عنـد ملكهـم ،فأمرنـا بالجلوس فجلسـنا ،وقـد أحرضوا لنـا طعاماً
مل نعرفـه ،ومل نـ َر مثلـه يف حياتنـا ،فلـم تقبله نفسي ،ومل آكل منه شـيئاً
دون رفقتـي ،وكانـت قلّـة أكيل منه لطفـاً من الله (تعاىل) ،حتى عشـت إىل
اآلن .فلما أكل أصحـايب من ذلـك الطعام ذُهلت عقولهم ،وصـاروا يأكلون
وتغيرت أحوالهم ،وبعد ذلـك أحرضوا لهم دهـن النارجيل َّ مثـل املجانين
64
فلم رشب أصحـايب من ذلـك الدهن زاغت فسـقوهم منـه ودهنوهـم منـهّ ،
أعينهـم مـن وجوههـم ،وصـاروا يأكلـون مـن ذلـك الطعـام بخلاف أكلهـم
أتأسـف عليهـم ،وقد صار املعتـاد ،وعنـد ذلـك احترت يف أمرهم ،ورصت َّ
م عظيـم مـن شـدّة الخـوف على نفسي مـن هـؤالء العرايـا ،وقـد عنـدي َهـ ّ
ن وصل إىل وكل َمـ ْ
تأ َّملتهـم فـإذا هـم قوم مجـوس ،وملك مدينتهم غـولّ ،
بالدهـم أو رأوه يف الـوادي أو الطرقـات يجيئـون به إىل ملكهـم ،ويطعمونه
مـن ذلـك الطعـام ،ويدهنونـه بذلـك الدهـن فيتَّسـع جوفـه ألجـل أن يـأكل
كثيرا ً ويذهـل عقلـه وتنطمـس فكرتـه ويصير مثـل اإلبـل ،فيزيـدون لـه
األكل والشرب مـن ذلـك الطعـام والدهن حتى يسـمن ويغلـظ ،فيذبحونه
ويشـوونه ويطعمونـه مللكهـم .وأ ّمـا أصحـاب امللـك فيأكلـون مـن لحـم
اإلنسـان بلا شـوي وال طبـخ .فلما نظـرت منهـم ذلـك األمـر رصت يف غاية
الكـرب على نفسي وعلى أصحايب ،وقد صـار أصحايب من فرط ما دهشـت
عقولهـم ال يعلمـون مـا يفعـل بهـم وقـد سـلَّموهم إىل شـخص ،فصـار
كل يـوم ويخـرج يرعاهـم يف تلـك الجزيـرة مثـل البهائـم ،وأمـا يأخذهـم ّ
أنـا فقـد رصت ،مـن شـدّة الخـوف والجـوع ،ضعيفاً سـقيم الجسـم ،وصار
فلما رأوين عىل هـذه الحالة تركوين ،ونسـوين، ّ لحمـي يابسـاً على عظمي.
ومل يتذكُّـرين منهـم أحـد ،وال خطـرت لهـم يف بـال ،إىل أن تحيَّلـت يومـاً
مـن األيَّـام وخرجـت مـن ذلـك املـكان ،فمشـيت يف تلـك الجزيـرة ،ومل
أزل سـائرا ً حتـى طلـع النهـار وأصبـح الصبـاح وأضـاء بنـوره والح ،وطلعـت
الشـمس على رؤوس الـروايب والبطـاح ،وقـد تعبـت وجعـت وعطشـت
فصرت آكل مـن الحشـيش والنبـات الـذي يف الجزيـرة ،ومل أزل آكل مـن
ذلـك النبـات حتـى شـبعت ،وانسـ َّد رمقـي .بعـد ذلـك ،قمـت ومشـيت يف
الجزيـرة ،ومل أزل على هـذه الحالـة طول النهـار والليل ،وكلَّما أجوع آكل
فلم كانت
مـن النبـات ،ومل أزل على هذه الحالة مدّة سـبعة أيّام بلياليهـاّ .
صبيحـة اليـوم الثامـن ،الحـت منـي نظـرة فرأيـت شـبحاً مـن بعيـد ،فرست
حصلتـه بعـد غـروب الشـمس فحقَّقـت النظـر إليـه ،ومل أزل سـائرا ً إىل أن َّ
فيـه وأنـا بعيـد عنـه ،وقلبـي خائـف مـن الـذي قاسـيته أ َّوالً وثانيـاً ،فـإذا هم
يل
فلما قربـت منهم ونظـروين تسـارعوا إ َّ ّ ـب الفلفـل،
ح ّ جامعـة يجمعـون َ
65
كل جانـب وقالـوا يل :مـن أنـت؟ ومن
وجـاؤوا عنـدي ،وقـد أحاطـوا يب مـن ّ
أيـن أقبلـت؟ فقلـت لهـم :اعلمـوا -يـا جامعـة -أين رجل غريب مسـكني ،ثم
أخربتهـم بجميـع مـا كان مـن أمـري ،ومـا جـرى يل مـن األهـوال والشـدائد
وما قاسـيته.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)540قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن السـندباد
ـب الفلفـل يف الجزيـرة،ح ّ
البحـري ملـا رأى الجامعـة الذيـن يجمعـون َ
وسـألوه عـن حالـه ،حكى لهم جميع ما جرى له ،وما قاسـاه من الشـدائد،
فقالـوا :واللـه ،هـذا أمر عجيب! ولكـن ،كيف خالصك من السـودان؟ وكيف
مـرورك عليهـم يف هـذه الجزيـرة وهـم خلـق كثيرون ويأكلـون النـاس ،وال
يسـلم منهـم أحـد ،وال يقـدر أن يجـوز عليهـم أحـد؟ فأخربتهـم مبـا جـرى
يل معهـم ،وكيـف أخـذوا أصحـايب وأطعموهـم الطعـام ،ومل آكل منـه
مما جرى يل ،ثم أجلسـوين عندهم جبون ّ فه َّنـأوين بالسلامة ،وصـاروا يتع َّ
حتـى فرغـوا مـن شـغلهم وأتـوين بشيء مـن الطعـام ،فأكلت منـه ،وكنت
جائعـاً ،وارتحـت عندهم سـاعة من الزمـان .وبعد ذلك ،أخـذوين ونزلوا يب
يف مركـب ،وجـاؤوا إىل جزيرتهـم ومسـاكنهم وقـد عرضـوين على ملكهم،
حـب يب وأكرمنـي وسـألني عـن حـايل ،فأخربتـه مبـا كان فسـلَّمت عليـه ور َّ
مـن أمـري ،ومـا جـرى يل ومـا اتَّفـق يل مـن يـوم خروجي مـن مدينـة بغداد
قصتـي غاية العجـب ،هو ومن جـب ملكهم من َّ إىل حين وصلـت إليـه ،فتع َّ
كان حـارضا ً يف مجلسـه ،ثـم إنـه أمـرين بالجلـوس عنـده فجلسـت ،وأمـر
بإحضـار الطعـام فأحضروه فأكلـت منـه عىل قـدر كفايتي ،وغسـلت يدي،
وشـكرت فضـل اللـه (تعـاىل) وحمدتـه وأثنيـت عليـه .ثم إين قمـت من عند
ملكهـم ،وتف َّرجـت يف مدينتـه ،فإذا هـي مدينة عامرة كثيرة األهل واملال،
كثيرة الطعـام واألسـواق والبضائـع والبائعين واملشترين ،ففرحـت
بوصـويل إىل تلـك املدينـة ،وارتـاح خاطـري ،واستأنسـت بأهلهـا ،ورصت
عندهـم وعنـد ملكهـم معـ َّززا ً مك َّرمـاً زيـادة عـن أهـل مملكتـه مـن عظماء
مدينتـه ،ورأيـت جميـع أكابرهـا وأصاغرهـا يركبـون الخيـل الجيـاد امللاح
66
ألي يشء -يـا جبـت مـن ذلـك ،ثـم إين قلـت للملـكّ : مـن غير رسوج ،فتع َّ
مـوالي -مل تركـب على رسج؟؛ إن فيـه راحة للراكب وزيادة قـ ّوة ،فقال يل:
كيـف يكـون السرج؟ هـذا يشء عمرنـا مـا رأينـاه ،وال ركبنـا عليهـا ،فقلـت
لـه :هـل لـك أن تـأذن يل أن أصنـع لـك رسجـاً تركـب عليـه وتنظـر حظّـه؟
فقـال يل :افعـل .فقلت له :أحرض يل شـيئاً من الخشـب ،فأمـر يل بإحضار
جارا ً شـاطرا ً ،وجلسـت عنـده وعلَّمتهجميـع مـا طلبتـه .عنـد ذلـك ،طلبت ن ّ
صنعـة السرج ،وكيـف يعمله ،ثـم إين أخذت صوفـاً ونقشـته وصنعت منه
لبـدا ً ،وأحضرت جلـدا ً وألبسـته السرج وصقلته ثم ركَّبت سـيوره وشـددت
رشيحتـه ،وبعـد ذلـك أحضرت الحـدّاد ووصفـت لـه كيفيـة الـركاب ،فـدقَّ
ركابـاً عظيماً وب َر ْدتُـه وب َّيضتـه بالقصديـر ،ثـم إين شـددت لـه أهدابـاً مـن
الحريـر ،وبعـد ذلـك قمـت وجئت بحصان مـن خيار خيول امللك وشـددت
عليـه السرج ،وعلَّقـت فيه الـركاب ،وألجمتـه بلجام ،ثم قدّمتـه إىل امللك
فأعجبـه والق بخاطـره ،وشـكرين ،ثـم ركب عليـه ،قد حصل له فرح شـديد
فلما نظرين وزيره، ّ بذلـك السرج ،وأعطاين شـيئاً كثريا ً يف نظير عميل له.
وقـد عملـت ذلـك السرج ،طلـب مني واحـدا ً مثله فعملـت له رسجـاً مثله،
وقـد صـار أكابـر الدولـة وأصحـاب املناصـب يطلبـون مني السروج فأفعل
جـار صنعـة السرج ،والحـدَّاد صنعـة الـركاب ،ورصنـا لهـم ،وعلَّمـت الن ّ
نعمـل السروج والركابـات ونبيعهـا لألكابـر واملخاديـم ،وقـد جمعـت من
ذلـك مـاالً كثيرا ً ،وصـار يل عندهـم مقـام كبير وأحبّـوين محبّـة زائـدة،
وبقيـت صاحـب منزلـة عالية عند امللـك وجامعته وعند أكابـر البلد وأرباب
الدولـة ،إىل أن جلسـت يومـاً مـن األيَّـام عنـد امللـك ،وأنا يف غايـة الرسور
والعـ ّز .فبينما أنـا جالس قـال يل امللك :اعلـم -يا هذا -أنـك رصت معزوزا ً
مك َّرمـاً عندنـا ،وواحـدا ً م ّنـا ،وال نقدر على مفارقتك ،وال نسـتطيع خروجك
مـن مدينتنـا .ومقصـودي منـك يشء تطيعنـي فيه ،وال تر ّد قـويل ،فقلت له
ومـا الـذي تريـد منـي ،أيُّهـا امللـك؛ فـإين ال أر ّد قولـك ،ألنـه صار لـك فضل
لي ،والحمـد للـه أنـا رصت من بعـض خدامـك؟ فقال: وجميـل وإحسـان ع َّ
أريـد أن أز ِّوجـك عندنـا بزوجـة حسـنة مليحـة ظريفة صاحبة مـال وجامل،
وتصير مسـتوطناً عندنـا ،وأُسـكنك عنـدي يف قرصي ،فلا تخالفنـي وال تر ّد
67
وسـكت ،ومل أر ّد عليـه
ّ فلما سـمعت كالم امللـك اسـتحييت منـه، ّ كالمـي.
لي ،يـا ولـدي! فقلـت :يـا جوابـاً مـن كثرة الحيـاء ،فقـال يل :لِـ َ
م ال تـر ّد ع َّ
سـيِّدي ،األمـر أمـرك يـا ملـك الزمـان .فأرسـل مـن وقتـه وسـاعته فأحضر
القـايض والشـهود وز َّوجنـي ،يف ذلـك الوقـت ،بامـرأة رشيفـة القـدر عالية
النسـب كثيرة املـال والنـوال عظيمـة األصـل بديعـة الجمال والحسـن
صاحبـة أماكـن وأمالك وعقـارات.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)541قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن السـندباد
البحـري بعـد أن ز َّوجـه امللـك ،وعقـد لـه على امـرأة عظيمـة ،قال :ثـم إنه
خدّامـاً وحشماً ،ورتَّـب لـه أعطـاين بيتـاً عظيماً مليحـاً مبفـرده ،وأعطـاين ُ
جرايـات وجوامـك ،ورصت يف غايـة الراحـة والبسـط واالنشراح ،ونسـيت
جميـع مـا حصـل يل مـن التعـب واملشـقّة والشـدّة ،وقلـت يف نفسي :إذا
وكل يشء مقـدَّر عىل اإلنسـان الب َّد منه،
سـافرت إىل بلادي آخذهـا معـيّ ،
ومل يعلـم مبـا يجـري لـه ،وقـد أحببتهـا وأح َّبتنـي مح ّبـة عظيمـة ،ووقـع
الوفـاق بينـي وبينهـا ،وقـد أقمنـا يف ألـ ّذ عيـش ،وأرغد مـورد ،ومل نزل عىل
هـذه الحالـة مـدّة مـن الزمـن إىل أفقـد اللـه (تعـاىل) زوجـة جـاري ،وكان
صاحبـاً يل ،فدخلـت إليـه ألع ّزيـه يف زوجتـه ،فرأيتـه يف أسـوأ حـال وهـو
ر والخاطـر ،فعنـد ذلـك ع َّزيتـه وسـلّيته ،وقلـت لـه :المهمـوم تعبـان الس ّ
تحـزن على زوجتـك .اللـه يعوضـك خيرا ً منهـا ،ويكـون عمـرك طويلاً ،إن
شـاء اللـه (تعـاىل) ،فبكى بـكا ًء شـديدا ً وقـال :يـا صاحبـي ،كيـف أتـز َّوج
بغريهـا ،أو كيـف يع ِّوضنـي اللـه خريا ً منهـا ،وأنا بقي من عمـري يوم واحد؟
تبشر عىل روحك باملـوت ،فإنك ِّ فقلـت لـه :يا أخـي ،ارجـع إىل عقلك ،وال
ط ِّيـب بخير وعافيـة .فقـال يل :يـا صاحبـي ،وحياتـك ،إنـك يف غـد سـوف
تَ ْعدمنـي ،ومـا بقيـت عمـرك تنظرين ،فقلت لـه :وكيف ذلـك؟ فقال يل :يف
هـذا النهـار يدفنـون زوجتـي ،ويدفنـوين معهـا يف القبر ،فإنهـا عادتنـا يف
بالدنـا :إذا ماتـت املـرأة يدفنـون معهـا زوجهـا بالحيـاة ،وإن مـات الرجـل
يدفنـون معـه زوجتـه بالحيـاة ،حتـى ال يتلـذَّذ أحـد منهـم بالحيـاة ،بعـد
68
رفيقـه ،فقلـت لـه :باللـه ،إن هذه العـادة رديئة جـ ّدا ً ،وما يقـدر عليها أحد!
فبينما نحـن يف ذلك الحديث ،إذا بغالـب أهل املدينة قد حرضوا ،وصاروا
يعـ ّزون صاحبـي يف زوجتـه ويف نفسـه ،وقـد رشعـوا يف تجهيزهـا على
جـري عادتهـم ،فأحضروا تابوتـاً وحملـوا فيـه املـرأة وذلك الرجـل معهم،
وخرجـوا بهما إىل خـارج املدينـة ،وأتـوا إىل مـكان يف جانـب الجبـل على
البحـر ،وتقدَّمـوا إىل مـكان ورفعـوا عنـه حجـرا ً كبيرا ً ،فبا َن مـن تحت ذلك
الحجـر خـرزة مـن الحجـر مثـل خـرزة البئر ،فرمـوا تلك املـرأة فيهـا ،وإذا
جـب كبير تحـت الجبـل ثـم إنهـم جـاؤوا بذلـك الرجـل ،وربطـوه تحت ّ هـو
الجـب ،وأنزلـوا عنـده كـوز مـاء عـذب ّ صـدره يف سـلبة ،وأنزلـوه يف ذلـك
فك نفسـه من السـلبة فسـحبوا كبير وسـبعة أرغفـة مـن الزاد ،ومل ّا أنزلوه َّ
السـلبة ،وغطَّـوا فـم البئر بذلك الحجـر الكبري مثـل مـا كان ،وانرصفوا إىل
الجـب! فقلـت يف نفسي: ّ حـال سـبيلهم ،وتركـوا صاحبـي عنـد زوجتـه يف
واللـه ،إن هـذا املـوت أصعـب من املـوت األ ّول .ثـم إين جئت عنـد ملكهم
الحـي مـع امليِّـت يف بالدكـم؟ فقـال
ّ وقلـت لـه :يـا سـيِّدي ،كيـف تدفنـون
يل :اعلـم أن هـذه عادتنـا يف بالدنـا ،إذا مـات الرجـل ندفـن معـه زوجتـه،
وإذا ماتـت املـرأة ندفـن معهـا زوجهـا بالحيـاة ،حتـى ال نفـ ِّرق بينهما يف
الحيـاة وال يف املمات ،وهـذه العادة عـن أجدادنا .فقلت :يـا ملك الزمان،
وكـذا الرجـل الغريـب مثلي؛ إذا ماتـت زوجتـه عندكـم تفعلـون بـه مثـل ما
فلما
ّ فعلتـم بهـذا؟ فقـال يل :نعـم ،ندفنـه معهـا ونفعـل بـه كما رأيـت.
م والحـزن على سـمعت ذلـك الـكالم منـه انشـقَّت مـراريت مـن شـدّة الغـ ّ
نفسي ،وذهـل عقلي ،ورصت خائفاً مـن أن متوت زوجتي قبلي ،فيدفنوين
لعلي أموت أنـا قبلهـا ،وال يعلم
ّ معهـا وأنـا بالحيـاة ،ثـم إين سـلَّيت نفسي
أحـد السـابق مـن الالحـق .ورصت أتالهـى يف بعض األمور .فما مضت مدّة
يسيرة بعـد ذلـك ،حتـى مرضت زوجتي وقـد مكثـت أيّاماً قالئل ،ثـم ماتت.
فاجتمـع غالـب النـاس يع ّزوننـي ،ويعـ ّزون أهلها فيهـا ،وقد جـاءين امللك
فغسـلوها
َّ يع ِّزينـي فيهـا على جـري عادتهـم ،ثـم إنهـم جـاؤوا لها بغاسـلة
وألبسـوها أفخـر مـا عندهـا مـن الثيـاب واملصـاغ والقالئـد والجواهـر مـن
فلما ألبسـوا زوجتـي وحطّوهـا يف التابـوت وحملوهـا وراحوا بها ّ املعـادن.
69
الجـب ،وألقوها فيـه ،أقبل جميع
ّ إىل ذلـك الجبـل ،ورفعـوا الحجر عن فم
أصحـايب وأهـل زوجتـي يودِّعوننـي يف روحـي ،وأنـا أصيـح بينهـم :أنـا رجـل
غريـب ،وليـس يل صبر عىل عادتكم ،وهم ال يسـمعون قـويل ،وال يلتفتون
إىل كالمـي .ثـم إنهـم أمسـكوين وربطـوين بالغصـب وربطـوا معـي سـبعة
أقـراص مـن الخبـز وكوز ماء عـذب ،عىل جـري عادتهم ،وأنزلـوين يف ذلك
فـك نفسـكالبئر فـإذا هـو مغـارة كبيرة تحـت ذلـك الجبـل ،وقالـوا يلّ :
لي الحبـال ،ثـم غطّوا فم أرض أن ّ
أفـك نفسي ،فرمـوا ع َّ مـن الحبـال ،فلـم َ
املغـارة بذلـك الحجـر الكبير الـذي كان عليهـا ،وراحوا إىل حال سـبيلهم.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)542قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن السـندباد
البحـري مل ّـا حطّوه يف املغارة مـع زوجته التي ماتـت ،وردّوا باب املغارة،
وراحـوا إىل حـال سـبيلهم ،قـال :وأ ّما أنا فـإين رأيت يف تلك املغـارة أمواتاً
كثرييـن ،وكانـت رائحتهـا منتنة كريهـة ،فلمت نفيس عىل مـا فعلته وقلت:
أسـتحق جميـع مـا يجري يل ،وما يقع يل .ثـم إين رصت ال أعرف ّ واللـه ،إين
الليـل مـن النهـار ،ورصت أتقـ َّوت باليسير ،وال آكل حتـى يـكاد أن يقطعني
الجـوع ،وال أرشب حتـى يشـت ّد يب العطـش ،وأنـا خائـف أن يفـرغ مـا عندي
أي يشء مـن الـزاد واملاء ،وقلت :ال حول وال ق ّوة إلّ بالله العيل العظيمّ ..
بلاين بالـزواج يف هـذه املدينة؟ وكلّما قلت إين خرجت مـن مصيبة أقعت
يف مصيبـة أقـوى منهـا! والله ،إن هذا املوت موت مشـؤوم .يا ليتني غرقت
مـت يف الجبـال ،فذلـك أحسـن يل مـن هـذا املـوت الـرديء. يف البحـر أو ّ
ومل أزل على هـذه الحالـة ،ألـوم نفسي ،ثـم منـت على عظـام األمـوات،
واسـتعنت باللـه حتـى أحـرقَ قلبـي الجـوع ،وألهبنـي العطـش فقعـدت
وحسسـت على الخبـز وأكلـت منـه شـيئاً قليلاً ،وتج َّرعـت عليه شـيئاً قليالً
مـن املـاء ،ثـم إين قمـت ووقفـت على حيلي ،ورصت أمشي يف جانـب
تلـك املغـارة فرأيتهـا متَّسـعة الجوانب خاليـة البطون ،ويف أرضهـا أموات
كثيرون وعظـام رميمـة مـن قديـم الزمـان .عنـد ذلـك ،عملـت يل مكاناً يف
جانـب املغـارة بعيـدا ً عن املـوىت الطريِّين ،ورصت أنام فيه وقـد ق ََّل زادي
70
كل يوم أو أكثر أكلة ،وأرشب ومـا بقـي معي إلّ يشء يسير ،كنـت آكل يف ّ
رشبـة؛ خوفـاً مـن فـراغ املـاء والـزاد من عنـدي ،قبـل مـويت .ومل أزل عىل
هـذه الحالـة ،إىل أن جلسـت ،يوماً مـن األيَّام ،أفكِّر يف نفسي :كيف أفعل
صرة قـد تزحزحـت مـن مكانهـا، إذا فـرغ الـزاد واملـاء مـن عنـدي؟ وإذا بال ّ
ونـزل منـه النـور عندي ،فقلت :يا تـرى ،ما الخرب؟ وإذا بالقـوم واقفون عىل
رأس البئر وقـد أنزلـوا رجلاً م ِّيتـاً وامـرأة معـه بالحيـاة ،وهي تبكي وتصيح
على نفسـها ،وقـد أنزلـوا عندها شـيئاً كثيرا ً من الـزاد واملاء ،فصرت أنظر
املـرأة وهـي مل تنظـرين ،وقـد غطّوا فـم البرئ بالحجـر ،وانرصفـوا إىل حال
سـبيلهم ،فقمـت أنـا وأخـذت يف يـدي قصبة رجـل م ِّيت ،وجئـت إىل املرأة
ورضبتهـا يف وسـط رأسـها ،فوقعـت على األرض مغشـ ّياً عليهـا ،فرضبتهـا
ثانيـاً وثالثـاً ،فامتـت ،فأخـذت خبزهـا ومـا معهـا ،ورأيـت عليهـا شـيئاً كثريا ً
مـن الحلي والحلـل والقالئـد والجواهـر واملعـادن ،ثـم إين أخـذت املـاء
والـزاد الـذي مـع املـرأة ،وقعدت يف املوضـع الذي كنـت عملته يف جانب
املغـارة ألنـام فيـه ،ورصت آكل مـن ذلـك الـزاد شـيئاً قليلاً ،على قـدر مـا
يق ِّوتنـي حتـى ال يفـرغ برسعـة ،فأمـوت مـن الجـوع والعطـش .وأقمـت يف
ن ُد ِفـن معهتلـك املغـارة مـدّة مـن الزمـان ،وأنـا كلّما دفنوا أحـدا ً أقتـل َم ْ
بالحيـاة ،وآخـذ أكلـه ورشبـه أتق َّوت بـه ،إىل أن كنت نامئاً ،يومـاً من األيّام،
فاسـتيقظت مـن منامي وسـمعت شـيئاً يكركـب يف جانب املغـارة ،فقلت:
فلم مـا يكـون هـذا؟ ثـم إين قمت ومشـيت نحـوه ،ومعـي قصبة رجـل ميِّت ّ
أحـس يب فَـ ّر وهـرب منـي ،فـإذا هو وحش فتبعتـه إىل صدر املغـارة ،فبا َن َّ
يل نـور مـن مـكان صغير مثـل النجمـة ،تـار ًة يبين يل ،وتـار ًة يخفـى عنـي.
فلما نظرتـه قصـدت نحـوه ،وبقيـت كلَّما أتقـ َّرب منـه يظهـر يل نـور منـه ّ
ويتَّسـع ،فعنـد ذلـك تحقَّقـت أنـه خـرق يف تلك املغـارة ينفـذ إىل الخالء،
فقلـت يف نفسي :البـ َّد أن يكـون لهـذا املـكان حركـة :إ ّمـا أن يكـون مدفنـاً
ثانيـاً مثـل الـذي نزلـوين منـه ،وإ ّمـا أن يكـون تخريقـاً مـن هـذا املـكان .ثـم
إين تفكَّـرت يف نفسي سـاعة من الزمان ،ومشـيت إىل ناحيـة النور ،وإذا به
ثقـب يف ظهـر الجبـل مـن الوحوش ،ثقبـوه ،وصـاروا يدخلون منـه إىل هذا
فلما
ّ املـكان ويأكلـون املـوىت حتـى يشـبعوا ،ويطلعـوا مـن ذلـك الثقـب.
71
رأيتـه هـدأت روحـي واطأمنَّـت نفسي ،وارتـاح قلبـي ،وأيقنـت بالحيـاة بعد
املمات ،ورصت كأين يف املنـام .ثـم إين عالجـت حتـى طلعـت مـن ذلـك
الثقـب ،فرأيـت نفسي على جانـب البحـر املالـح ،فـوق جبـل عظيـم وهـو
قاطـع بين البحريـن وبين الجزيـرة واملدينـة ،وال يسـتطيع أحـد الوصـول
ِي قلبي.إليـه فحمـدت اللـه (تعـاىل) ،وشـكرته وفرحـت فرحاً عظيماً ،وقـو َ
ثـم إين ،بعـد ذلـك ،رجعـت مـن الثقـب إىل املغـارة ،ونقلـت جميـع مـا
فليهـا مـن الـزاد واملاء الـذي كنت وفَّرته ،ثـم إين أخذت من ثيـاب األموات
مما عليهـم شـيئاً كثيرا ً
لي ،وأخـذت ّولبسـت شـيئاً منهـا غير الـذي كان ع َّ
مـن أنـواع العقـود والجواهـر وقالئـد اللؤلـؤ واملصـاغ مـن الفضّ ـة والذهب
املرصـع بأنـواع املعـادن والتحـف ،وربطتـه يف ثيـاب املـوىت ،وأخرجتهـا
َّ
كل
مـن الثقـب إىل ظهـر الجبـل ،ووقفـت على جانـب البحـر .وبقيـت يف ّ
كل من دفنـوه زاده ومـاءه وأقتله،يـوم أنـزل املغـارة ،ثـم أطلـع وآخذ مـن ّ
سـواء أكان ذكـرا ً أم كان أنثـى ،وأطلـع مـن ذلك الثقب فأجلـس عىل جانب
لي .ورصت أنقل من البحـر ألنتظـر الفـرج مـن الله (تعاىل) مبركـب تجوز ع َّ
كل يشء رأيتـه مـن املصـاغ ،وأربطـه يف ثيـاب املـوىت ،ومل تلـك املغـارة ّ
أزل على هـذه الحالـة مـدّة مـن الزمان.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)543قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن السـندباد
البحـري صـار ينقـل مـن تلـك املغـارة مـا يلقـاه فيهـا مـن مصـاغ وغيره،
ويجلـس على جانـب البحر مـدّة من الزمـان .قال :فبينما أنا جالـس ،يوماً
مـن األيّـام ،على جانـب البحر ،وأنا متفكِّـر يف أمري ،وإذا مبركب سـائر يف
وسـط البحـر العجـاج املتالطـم باألمـواج ،فأخـذت يف يدي ثوبـاً أبيض من
ثيـاب املـوىت وربطته يف عكَّاز وجريت به عىل شـاطئ البحر ،ورصت أشير
إليهـم بذلـك الثوب حتـى الحت منهم التفاتة ،فـرأوين وأنا يف رأس الجبل،
يل بعـد أن سـمعوا صـويت ،وأرسـلوا إيل زورقـاً مـن عندهـم ،وفيه فجـاؤوا إ َّ
جامعـة مـن املركـب .ومل نـزل مسـافرين مـن جزيـرة إىل جزيـرة ومن بحر
إىل بحـر ،وأنـا أرجـو النجـاة ،ورصت فرحانـاً بسلامتي ،وكنـت كلَّما أتفكَّـر
72
قعـودي يف املغـارة مـع زوجتـي يغيـب عقلي .وقـد وصلنـا ،بقـدرة اللـه
(تعـاىل) ،مـع السلامة ،إىل مدينـة البصرة ،فطلعـت إليهـا ،وأقمـت فيهـا
أيّامـاً قالئـل ،وبعدهـا جئـت إىل مدينـة بغـداد ،فجئـت إىل حـاريت ودخلت
داري وقابلـت أهلي وأصحـايب وسـألت عنهم ،ففرحـوا بسلامتي وه ّنأوين،
وقـد خ َّزنـت جميـع مـا كان معـي مـن األمتعـة يف حواصلي وتصدَّقـت،
ووهبـت ،وكسـوت األيتـام واألرامـل ،ورصت يف غايـة البسـط والسرور،
وقـد عـدت إىل مـا كنـت عليه مـن املعـارشة واملرافقة ومصاحبـة اإلخوان
واللهـو والطـرب ،وهـذا أعجـب مـا صـار يل يف السـفرة الرابعة!
تعـش عنـدي ،وخـذ عادتـك ،ويف غـد تجـيء عنـدي َّ ولكـن ،يـا أخـي،
فأخبرك مبـا كان يل ومـا جـرى يل يف السـفرة الخامسـة ،فإنهـا أعجـب
وتعش
ّ مما سـبق! ثـم أمـر لـه مبئة مثقـال ذهـب ،و َمـ ّد السماط، وأغـرب ّ
وكل
جبون غايـة العجبٌّ ، الجامعـة وانرصفـوا إىل حال سـبيلهم ،وهـم متع ِّ
الحمال إىل منزله ،وبات
ّ حكايـة أعظـم مـن التـي قبلها .وقد راح السـندباد
جـب! ومل ّـا أصبـح الصبـاح وأضـاء يف غايـة البسـط واالنشراح ،وهـو متع ِّ
متشى إىل أن دخـل
ّ وصلى الصبـح ،ثـم َّ بنـوره والح ،قـام السـندباد البري
حـب بـه ،وأمـره بالجلـوس عنـده دار السـندباد البحـري ،وص َّبـح عليـه فر َّ
حتـى جـاء بق ّيـة أصحابـه ،فأكلـوا ورشبـوا وتلـذَّذوا وطربـوا ،ودارت بينهـم
املحادثـة ،فابتـدأ السـندباد البحـري بالـكالم.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
73
الحكاية الخامسة
(السفرة الخامسة)
75
فيهـا ،ودفعـوا يل األجـرة ،ورسنـا ونحـن يف غايـة الفـرح والسرور ،وقـد
اسـتبرشنا بالسلامة والكسـب ،ومل نـزل مسـافرين من جزيـرة إىل جزيرة
ومـن بحـر إىل بحـر ،ونحن نتفـ َّرج يف الجزائر والبلدان ،ونطلـع إليها نبيع
فيهـا ونشتري .ومل نـزل على هـذه الحالة حتـى وصلنـا ،يوماً مـن األيّام،
إىل جزيـرة خاليـة مـن السـكّان ،وليـس فيها أحد ،وهـي خـراب وفيها قبّة
خ
عظيمـة بيضـاء كبيرة الحجـم ،فطلعنا نتفـ َّرج عليهـا ،وإذا هـي بيضة ر ّ
جـار إليهـا ،وتف َّرجـوا عليهـا ،مل يعلمـوا أنهـا بيضـة فلما طلـع الت ّ
ّ كبيرة.
ُسرت ،ونـزل منهـا مـاء كثير وقـد بـان منهـا رخ فرضبوهـا بالحجـارة فك ِ
فـرخ الـرخّ ،فسـحبوه منهـا وأخرجـوه مـن تلـك البيضـة وذبحـوه ،وأخذوا
منـه لحماً كثيرا ً ،وأنـا يف املركـب ،فلـم أعلـم مبـا فعلـوه ومل يطلعـوين
عليـه ،فعنـد ذلـك قـال يل واحـد مـن الـركّاب :يـا سـ ِّيدي ،قـم تفـ َّرج عىل
جارهـذه البيضـة التـي تحسـبها ق ّبـة ،فقمـت ألتفـ َّرج عليهـا ،فوجـدت الت ّ
يرضبـون البيضـة ،فصحـت بهـم :ال تفعلـوا هـذا الفعـل ،فيطلـع طير
خ ويكسر مركبنـا ،ويهلكنـا ،فلـم يسـمعوا كالمـي .فبينما هـم على الـر ّ
هـذه الحالـة وإذا بالشـمس قـد غابـت ع ّنـا ،والنهـار أظلـم ،وصـار فوقنـا
م الجـ ُّو منهـا ،فرفعنا رؤوسـنا ننظر مـا الذي حـال بيننا وبني غاممـة ،أظلـ َ
الشـمس ،فرأينـا أجنحـة الـرخ وقد حجبـت ع ّنا ضوء الشـمس حتى أظلم
خ رأى بيضتـه انكرست فتبعنا وصـاح علينا، الجـ ّو ،وذلـك أنـه مل ّا جاء الـر ّ
َين على املركـب يرصخان بصوت أشـ ّد من فجـاءت رفيقتـه ،وصـارا حامئ ْ
الرعـد ،فصحـت أنـا عىل الريِّـس والبحريـة ،وقلت لهم :ادفعـوا املركب،
جـار ،ورسنا يف واطلبـوا السلامة قبـل أن نهلـك ،فأرسع الريِّـس وطلع الت ّ
خ قـد رسنـا يف البحـر غـاب ع ّنـا سـاعة مـن تلـك الجزيـرة .فلما رآنـا الـر ّ
الزمـان ،وك ّنـا قد رسنـا وأرسعنا يف السير باملركب ،نريـد الخالص منهام
كل
جـل ّ والخـروج مـن أرضهما ،وإذا بهما قـد تبعانـا وأقبلا علينـا ويف ر ْ
خ الذكَر الصخـرة التي واحـد منهما صخـرة عظيمة مـن الجبـل فألقى الـر ّ
كانـت معـه علينـا ،فجـذب الريِّـس املركـب وقـد أخطأهـا نـزول الصخـرة
بشيء قليـل ،فنزلـت يف البحـر تحـت املركـب ،فقـام بنـا املركـب وقعد
مـن ِعظَـم وقوعهـا يف البحـر ،وقـد رأينـا قعـر البحـر مـن شـدّة عزمهـا.
76
خ ألقـت علينـا الصخـرة التـي معهـا ،وهـي أصغـر مـن ثـم إن رفيقـة الـر ّ
وطيرت الدفّة
َّ األوىل ،فنزلـت باألمـر املقـدَّر على مؤخِّر املركب فكرسته
عرشيـن قطعـة ،وقـد غـرق جميـع مـا كان يف املركـب بالبحـر ،فصرت
أحـاول النجـاة مـن حلاوة الـروح ،فقـدَّر اللـه (تعـاىل) يل لوحاً مـن ألواح
املركـب ،فتعلَّقـت فيـه ،وركبتـه ورصت أقـذف عليـه برجلي والريـح
واملـوج يسـاعداين على السير ،وكان املركـب قـد غـرق بالقـرب مـن
جزيـرة يف وسـط البحـر ،فرمتنـي املقاديـر -بـإذن اللـه (تعـاىل) -إىل تلك
الجزيـرة فطلعـت عليهـا وأنـا عىل آخر نفـس ،ويف حالة املوت من شـدّة
مـا قاسـيته من التعب واملشـقّة والجوع والعطش .ثـم إين انطرحت عىل
شـاطئ البحر سـاعة مـن الزمان ،حتـى ارتاحت نفيس ،واطمأ ّن قلبي ،ثم
مشـيت يف تلـك الجزيـرة فرأيتها كأنها روضـة من رياض الج ّنة :أشـجارها
يانعـة ،وأنهارهـا دافقـة ،وطيورهـا مغـ ِّردة تسـ ِّبح مـن لـه العـ ّزة والبقـاء.
ويف تلـك الجزيـرة يشء كثري من األشـجار والفواكه وأنـواع األزهار ،فعند
ذلـك أكلـت مـن الفواكـه حتـى شـبعت ،ورشبـت مـن تلـك األنهـار حتـى
رويـت ،وحمـدت اللـه (تعـاىل) على ذلـك ،وأثنيـت عليه.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)545قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن السـندباد
البحـري حمـد اللـه ،وأثنـى عليـه ،وقـال :ومل أزل على هذه الحالـة قاعدا ً
مما
يف الجزيـرة إىل أن أمسى املسـاء ،وأقبـل الليـل وأنـا مثـل القتيـل ّ
حصـل يل مـن التعـب والخـوف ،ومل أسـمع يف تلـك الجزيرة صوتـاً ،ومل
أ َر فيهـا أحـدا ً ،ومل أزل راقـدا ً فيهـا إىل الصبـاح ،ثـم قمـت على حيلي،
ومشـيت بين تلـك األشـجار فرأيـت سـاقية على عين مـاء جاريـة ،وعنـد
تلـك السـاقية شـيخ جالـس مليـح وذلـك الشـيخ مؤتـزر بـإزار مـن ورق
لعـل هـذا الشـيخ طلـع إىل هـذه الجزيـرة، َّ األشـجار ،فقلـت يف نفسي:
ُسرت بهـم املركـب ،ثـم دنـوت منـه وسـلَّمت وهـو مـن الغرقـى الذيـن ك ِ
لي السلام باإلشـارة ،ومل يتكلَّـم .فقلـت لـه :يـا شـيخ ،مـاعليـه فـر َّد ع َّ
وتأسـف ،وأشـار يل بيده؛
َّ سـبب جلوسـك يف هـذا املـكان؟ فحـ َّر َك رأسـه
77
أن احملنـي على رقبتـك ،وانقلنـي مـن هـذا املـكان إىل جانـب السـاقية
الثانيـة ،فقلـت يف نفسي :اعمـل مـع هـذا معروفـاً ،وأنقلـه إىل املـكان
لعـل ثوابـه يحصل يل ،فتقدَّمـت إليه وحملتـه عىل أكتايف، ّ الـذي يريـده،
وجئـت إىل املـكان الـذي أشـار يل إليـه ،وقلت لـه :انزل على مهلك ،فلم
ينـزل عـن أكتايف ،وقد ل ََّف رجليه عىل رقبتـي ،فنظرت إىل رجليه فرأيتهام
مثـل جلد الجاموس يف السـواد والخشـونة ،ففزعت منـه وأردت أن أرميه
مـن فـوق أكتـايف ،فقرط على رقبتي برجليـه ،وخنقني بهام حتى اسـودَّت
الدنيـا يف وجهـي ،وغبـت عن وجـودي ،ووقعـت عىل األرض مغشـ ّياً ع َّ
يل
مثـل امل ِّيـت ،فرفـع سـاقيه ورضبنـي على ظهـري وعلى أكتـايف فحصـل
يل أمل شـديد ،فنهضـت قامئـاً بـه وهـو راكـب فـوق أكتـايف ،وقـد تعبـت
ادخـل بني األشـجار ،فدخلت إىل أطيـب الفواكه ْ منـه فأشـار يل بيـده؛ أن
وكنـت إذا خالفتـه يرضبنـي برجليـه رضبـاً أشـ ّد مـن رضب األسـواط .ومل
كل مـكان أراده ،وأنـا أمشي به إليـه ،وإن توانيت يل بيـده إىل ّ
يـزل يشير إ َّ
أو مت َّهلـت رضبنـي وأنـا معـه شـبه األسير ،وقـد دخلنـا يف وسـط الجزيرة
بين األشـجار ،وصـار يبـول ويغـوط على أكتـايف ،وال ينـزل ليلاً وال نهارا ً،
يلـف رجليـه على رقبتـي وينام قليلاً ،ثم يقـوم ويرضبني، وإذا أراد النـوم ّ
فأقـوم مرسعـاً بـه وال أسـتطيع مخالفتـه مـن شـدّة مـا أقـايس منـه ،وقـد
ملـت نفسي على مـا كان م ّنـي مـن حملـه والشـفقة عليـه .ومل أزل معـه
على هـذه الحالـة ،وأنـا يف أشـ ّد مـا يكـون التعـب ،وقلـت يف نفسي :أنـا
لي رشا ً .واللـه ،مـا بقيت أفعـل مع أحد فعلـت مـع هـذا خيرا ً ،فانقلـب ع َّ
كلخيرا ً طـول عمـري ،وقـد رصت أمت ّنـى املـوت مـن اللـه (تعـاىل) ،يف ّ
وقـت وكل سـاعة؛ مـن كثرة مـا أنـا فيـه مـن التعـب واملشـقّة .ومل أزل
على هـذه الحالـة مـدّة مـن الزمـان ،إىل أن جئـت بـه ،يومـاً مـن األيّـام،
إىل مـكان يف الجزيـرة ،فوجـدت فيـه يقطينـاً كثيرا ً ومنـه يشء يابـس،
فأخـذت منـه واحـدة كبيرة يابسـة ،وفتحـت رأسـها وصفَّيتهـا إىل شـجرة
العنـب فمألتهـا منهـا ،وسـددت رأسـها ووضعتهـا يف الشـمس ،وتركتهـا
كل يوم أرشب منه ألسـتعني مـدّة أيّـام حتـى صـارت خمرا ً صافيـاً ،ورصت ّ
بـه على تعبـي مع ذلـك الشـيطان املريد ،وكنـت كلَّام سـكرت منها تقوى
78
ه َّمتـي ،فنظـرين ،يومـاً مـن األيَّـام ،وأنـا أرشب ،فأشـار يل بيـده :مـا هذا؟
فقلـت لـه :هـذا يشء مليـح يق ّوي القلـب ،ويرشح الخاطر .ثـم إين جريت
بـه ورقصـت بني األشـجار ،وحصل يل نشـوة من السـكر فصفَّقـت وغ َّنيت
فلما رآين على هـذه الحالـة أشـار يل أن أناولـه اليقطينـة ّ وانرشحـت،
ليشرب منهـا فخفـت منـه ،وأعطيتهـا لـه فشرب مـا كان باقيـاً فيهـا ثـم
رماهـا على األرض ،وقـد حصـل لـه طـرب ،فصـار يهتـ ّز على أكتـايف ،ثـم
سـ ِكر وغـرق يف السـكْر ،وقد ارتخـت جميـع أعضائه وفرائصـه ،وصار إنـه َ
بسـكْره ،وأنـه غـاب عـن الوجـود،
فلما علمـت ُ ّ يتاميـل مـن فـوق أكتـايف،
مـددت يـدي إىل رجليـه وفككتهما مـن رقبتـي ،ثـم ملـت بـه إىل األرض،
وألقيتـه عليها.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)547قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن السـندباد
البحـري مل ّـا ألقـى الشـيطان عـن أكتافـه ،على األرض ،قال :فما صدَّقت
أين خلصـت نفسي ،ونجـوت مـن األمر الذي كنـت فيه ،ثـم أين خفت منه
أن يقـوم مـن سـكْره فيؤذينـي ،فأخـذت صخـرة عظيمـة مـن بني األشـجار
وجئـت إليـه فرضبتـه على رأسـه ،وهـو نائـم ،فاختلـط لحمـه بدمـه وقـد
قُ ِتـل ،فلا رحمـة اللـه عليـه .بعـد ذلـك ،مشـيت يف الجزيـرة ،وقـد ارتـاح
خاطـري وجئـت إىل املـكان الـذي كنـت فيـه عىل سـاحل البحـر ،ومل أزل
يف تلـك الجزيـرة آكل مـن أمثارهـا وأرشب مـن أنهارهـا مـدّة مـن الزمـان،
وأنـا أترقَّـب مركبـاً متـ ّر يب ،إىل أن كنـت جالسـاً يومـاً مـن األيّـام ،متفكِّـرا
فيما جـرى يل ومـا كان مـن أمـري ،وأقـول يف نفسي :يا ترى ،هـل يبقيني
اللـه سـاملاً ،ثـم أعود إىل بلادي واجتمـع بأهيل وأصحـايب؟ ،وإذا مبركب
قـد أقبلـت من وسـط البحـر العجـاج املتالطم باألمـواج ،ومل تزل سـائرة
حتـى رسـت على تلك الجزيرة ،وطلـع منها الركّاب إىل الجزيرة ،فمشـيت
لي كلُّهـم مرسعين ،واجتمعـوا حـويل، فلما نظـروين أقبلـوا ع َّ ّ إليهـم،
وقـد سـألوين عـن حـايل وما سـبب وصـويل إىل تلـك الجزيـرة ،فأخربتهم
جبـوا مـن ذلـك غايـة العجـب ،وقالـوا :إن هـذا بأمـري ومـا جـرى يل فتع َّ
79
الرجـل الـذي ركـب على أكتافـك يسـ ّمى شـيخ البحـر ،ومـا أحـد دخـل
تحـت أعضائـه وخلـص منـه إلّ أنـت ،والحمدللـه على سلامتك .ثـم إنهم
يل بشيء مـن الطعـام ،فأكلـت حتى اكتفيـت وأعطوين شـيئاً من جـاؤوا إ ّ
امللبـوس لبسـته ،وسترت بـه عـوريت ،ثـم أخـذوين معهـم يف املركـب.
وقـد رسنـا أيّامـاً وليـا َ
يل ،فر َمتْنـا املقاديـر عىل مدينـة عالية البنـاء جميع
بيوتهـا مطلّـة على البحـر ،وتلـك املدينة يقـال لهـا (مدينة القـرود) ،وإذا
دخـل الليـل يـأيت الناس الذين يسـكنون يف تلـك املدينـة ،فيخرجون من
هـذه األبـواب التي على البحر ،ثم ينزلـون يف زوارق ومراكـب ويبيتون يف
البحـر خوفـاً من القـرود أن ينزلوا عليهـم يف الليل ،مـن الجبال ،فطلعت
أتفـ َّرج يف تلـك املدينـة ،فسـافرت املركـب ومل أعلـم ،فندمـت على
طلوعـي إىل تلـك املدينـة ،وتذكَّـرت رفقتي وما جـرى يل مع القـرود ،أ َّوالً
يل رجل من أصحـاب هذه البلد وثانيـاً ،فقعـدت أبكي وأنا حزيـن ،فتقدَّم إ ّ
وقـال :يـا سـيِّدي ،كأنـك غريـب يف هذه الديـار! فقلت له :نعـم ،أنا غريب
ومسـكني ،وكنـت يف مركـب قـد رسـت على تلـك املدينـة ،فطلعـت منها
وس معنـا .انزل ألتفـ َّرج يف املدينـة ،وعـدت إليهـا فلـم أ َرهـا ،فقال :قـم ِ ْ
الـزورق فإنـك إن قعـدت يف املدينة ليلاً أهلتك القرود ،فقلت :له سـمعاً
وطاعـة .وقمـت مـن وقتـي وسـاعتي ،ونزلـت معهـم يف الـزورق ،ودفعوه
بر حتـى أبعـدوه عـن سـاحل البحـر مقدار ميـل ،وباتـوا تلـك الليلة مـن ال ّ
فلم أصبح الصبـاح رجعوا بالـزورق إىل املدينة، وأنـا معهـم يف الـزورقّ .
كلكل واحـد منهـم إىل شـغله ،ومل تـزل هـذه عادتهـم ّ وطلعـوا ،وراح ّ
وكل مـن تخلَّـف منهـم يف املدينـة ،بالليـل ،جـاءت إليـه القـرود ليلـةّ ،
فأهلكتـه .ويف النهـار ،تطلـع القـرود إىل خـارج املدينـة فتـأكل مـن أمثار
البسـاتني ،وترقـد يف الجبـال إىل وقـت املسـاء ثـم تعـود إىل املدينـة،
وهـذه املدينـة يف أقصى بالد السـودان .ومـن أعجب ما وقـع يل من أهل
بـت معهم يف الـزورق ،قال هـذه املدينـة أن شـخصاً مـن الجامعة الذين ّ
يل :يـا سـ ِّيدي ،أنـت غريـب يف هـذه الديار فهل لـك صنعة تشـتغل فيها؟
فقلـت :ال واللـه ،يـا أخـي ،ليـس يل صنعـة ،ولسـت أعـرف عمـل يشء،
وأنـا رجـل تاجـر صاحـب مـال ونـوال ،وكان يل مركـب ملكي مشـحونة
80
بأمـوال كثيرة وبضائـع فكسرت يف البحر وغـرق جميع مـا كان فيها ،وما
نجـوتُ مـن الغرق إلّ بـإذن الله ،فرزقنـي الله بقطعة لـوح ركبتها ،فكانت
السـبب يف نجـايت مـن الغـرق .عنـد ذلـك قام الرجـل ،وأحضر يل مخالة
مـن قطـن ،وقـال يل :خـذ هـذه املخلاة ،وامألهـا حجـارة زلـط مـن هـذه
املدينـة ،ثـم أخـرج مـع جامعـة مـن أهـل املدينـة ،وأنـا أرافقـك إليهـم،
وأوصيهـم بـك .افعـل كما يفعلـون؛ فلعلَّـك تعمـل بشيء تسـتعني بـه
على سـفرك وعـودك إىل بالدك .ثـم إن ذلك الرجل أخـذين وأخرجني إىل
خـارج املدينـة ،فنقَّيـت حجـارة صغرية مـن الزلط ،ومألت تلـك املخالة،
وإذا بجامعـة خارجين مـن املدينـة ،فأرفقنـي بهـم وأوصاهـم يب ،وقـال
لهـم :هـذا رجـل غريـب فخـذوه معكـم وعلِّمـوه اللقـط ،فلعلّـه يعمـل
بشيء يتقـ َّوت بـه ،ويبقـى لكـم األجـر والثـواب .فقالـوا :سـمعاً وطاعـةً.
وكل واحـد منهـم معـه مخلاة مثل حبـوا يب وأخـذوين معهـم ،وسـاروا ّ ور َّ
املخلاة التـي معـي مملـوءة زلطـاً ،ومل نـزل سـائرين إىل أن وصلنـا إىل
وا ٍد واسـع فيـه أشـجار كثيرة عاليـة ،ال يقـدر أحـد أن يطلـع عليهـا .ويف
ذلـك الـوادي قـرود كثرية فلما رأتنا هذه القـرود نفرت م ّنا ،وتسـلَّقت تلك
األشـجار ،فصـاروا يرجمـون القـرود بالحجـارة التـي معهـم يف املخـايل،
والقـرود تقطـع مـن مثار تلك األشـجار وترمـي بها هؤالء الرجـال ،فنظرت
فلما رأيـت ذلـك
ّ تلـك الثمار التـي ترميهـا القـرود وإذا هـي جـوز هنـدي،
العمـل مـن القـوم اخرتت شـجرة عظيمة عليهـا قرود كثيرة ،وجئت إليها
ورصت أرجـم هـذه القـرود فتقطع مـن ذلك الجـوز وترميني بـه ،فأجمعه
كما يفعـل القـوم ،فما فرغـت الحجـارة مـن مخاليت حتـى جمعت شـيئاً
كثيرا ً .ومل ّـا فـرغ القـوم من هذا العمل مل ّـوا جميع مـا كان معهم وحمل
كل واحـد منهـم مـا أطاقـه ،ثـم عدنـا إىل املدينـة يف باقـي يومنـا .فجئت ّ
إىل الرجـل صاحبـي الذي أرفقنـي بالجامعة ،وأعطيته جميـع ما جمعت،
وشـكرت فضلـه ،فقـال يل :خذ هذا بعـه وانتفع بثمنه ،ثـم أعطاين مفتاح
مـكان يف داره ،وقـال يل :ضـع يف هـذا املـكان هـذا الـذي بقـي معك من
كل يـوم مـع الجامعـة مثـل مـا طلعـت هـذا اليـوم، الجـوز ،واطلـع يف ّ
عـه وانتفع بثمنـه واحفظه عندك والـذي تجـيء بـه ميِّ ْز منه الـرديء ،ثم ب ْ
81
يف هـذا املـكان فلعلَّـك تجمـع منـه شـيئاً يعينـك على سـفرك .فقلـت:
كل يومأجـرك على اللـه (تعـاىل) .وفعلـت مثـل مـا قـال يل ،ومل أزل يف ّ
أملأ املخلاة مـن الحجـارة ،وأطلـع مع القـوم ،وأعمـل مثل مـا يعملون.
وقـد صـاروا يتواصـون يب ويدلّوننـي عىل الشـجرة التي فيها الثمـر الكثري.
ومل أزل على هـذا الحـال مـدّة من الزمـان ،وقد اجتمع عنـدي يشء كثري
مـن الجـوز الهنـدي الط ِّيب ،وبعت شـيئاً كثيرا ً ،وكرث عنـدي مثنه ،ورصت
والق لخاطـري ،وقـد صفا وقتـي وزاد يف املدينةَ كل يشء رأيتـه،
أشتري ّ
حظّـي .ومل أزل على هـذه الحالـة مدّة ،فبينام أنا واقف على جانب البحر
وإذا مبركـب قـد وردت إىل تلـك املدينـة ،ورسـت على السـاحل ،وفيهـا
جـار معهـم بضائـع ،فصـاروا يبيعـون ويشترون ويقايضـون على يشء ت ّ
مـن الجـوز الهنـدي وغيره ،فجئـت عنـد صاحبـي وأعلمتـه باملركـب التي
جـاءت ،وأخربتـه بـأين أريد السـفر إىل بلادي ،فقـال :الرأي لـك .فودَّعته
يل ،ثـم إين جئـت عند املركـب ،وقابلـت الريِّس،وشـكرته على إحسـانه إ ّ
وأكرتيـت معـه ،وأنزلـت مـا كان معـي من الجـوز وغريه يف تلـك املركب،
ثـم سـاروا باملركب.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)548قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن السـندباد
البحـري مل ّـا نـزل مـن مدينـة القـرود يف املركـب ،وأخـذ مـا كان معه من
الجـوز الهنـدي وغيره ،واكترى مـع الريِّـس ،قـال :وقـد سـاروا باملركـب
يف ذلـك اليـوم ،ومل نـزل سـائرين مـن جزيـرة إىل جزيـرة ،ومـن بحـرإىل
بحـر ،إىل أن وصلنـا البصرة ،فطلعـت إليهـا ،وأقمـت بها مدّة يسيرة ،ثم
جهـت إىل مدينـة بغـداد ،ودخلـت حـاريت ،وجئـت إىل بيتـي ،وسـلَّمت تو َّ
على أهلي وأصحـايب فه ّنـأوين بالسلامة ،ثـم خ َّزنـت جميع مـا كان معي
مـن البضائـع واألمتعـة ،وكسـوت األيتـام واألرامـل ،وتصدَّقـت ووهبـت
مما راح
لي بأكرث ّ
وهاديـت أهلي وأصحـايب وأح ّبـايب ،وقـد عـ َّوض اللـه ع َّ
منـي أربـع مـ ّرات ،وقـد نسـيت ما جـرى يل وما قاسـيته من التعـب ،بكرثة
الربـح والفوائـد ،وعـدت إىل مـا كنـت عليـه يف الزمن األ ّول مـن املعارش
82
والصحبـة وهـذا أعجـب مـا كان مـن أمـري يف السـفرة الخامسـة ...ولكن
تعشّ ـوا اآلن ،ويف غـد تعالـوا أخربكـم مبـا كان يف السـفرة السادسـة؛
فلما فرغـوا
ّ فإنهـا أعجـب مـن هـذه .عنـد ذلـك ،مـدّوا السماط وتعشّ ـوا.
للحمال مبئـة مثقـال مـن الذهـب ،فأخذهـاّ مـن العشـاء أمـر السـندباد
الحمال يف بيته،
ّ جب مـن ذلك األمر ،وبات السـندباد وانصرف وهـو متع ِّ
وصلى الصبـح ثـم مشى إىل أن وصـل إىل دار ّ ومل ّـا أصبـح الصبـاح قـام
السـندباد البحـري ،فدخـل عليـه ،وأمـره بالجلـوس ،فجلـس عنـده .ومل
يـزل يتحـدَّث معـه حتـى جـاء بقيّـة أصحابـه ،فتحدَّثـوا ومـدّوا السماط،
وأكلـوا ،ورشبـوا ،وتلـذذوا ،وطربـوا.
83
الحكاية السادسة
(السفرة السادسة)
85
حمـويل معهـم يف هـذه السـفينة ورسنـا ،بالسلامة ،مـن مدينـة البرصة.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)549قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن السـندباد
البحـري مل ّـا ج َّهـز حمولـه ون ّزلها يف املركب مـن مدينة البرصة ،وسـافر،
قـال :ومل نـزل مسـافرين مـن مـكان إىل مـكان ومـن مدينـة إىل مدينـة،
ونحـن نبيـع ونشتري ونتفـ َّرج على بلاد النـاس ،وقـد طـاب لنـا السـعد
والسـفر ،واغتنمنـا املعـاش إىل أن ك ّنـا سـائرين ،يومـاً مـن األيّـام ،وإذا
بريِّـس املركـب قـد رصخ وصـاح ،ورمـى عاممتـه ،ولطـم على وجهـه،
م والقهـر ،فاجتمع ونتـف لحيتـه ،ووقـع يف بطـن املركـب مـن شـدّة الغـ ّ
جـار والـركّاب وقالـوا لـه :يـا ريِّس ،مـا الخرب؟ فقـال لهم: عليـه جميـع الت ّ
اعلمـوا -يـا جامعـة -أننـا قـد تهنـا مبركبنـا ،وخرجنـا مـن البحـر الـذي ك ّنا
فيـه ،ودخلنـا بحـرا ً مل نعـرف طرقـه ،وإذا مل يقيِّض الله لنا شـيئاً يخلّصنا
جينـا من هذا مـن هـذا البحـر هلكنـا بأجمعنـا ،فادعـوا اللـه (تعـاىل) أن ين ِّ
يحـل القلـوع،
ّ األمـر .ثـم إن الريـس قـام وصعـد على الصـاري ،وأراد أن
ِي الريـح على املركـب ،فردَّهـا على مؤخّرهـا ،فانكسرت دفَّتها قرب فقـو َ
إل باللـه
جبـل عـالٍ ،فنـزل الريِّـس مـن الصـاري ،وقـال :ال حـول وال قـ ّوة ّ
لي العظيـم .ال يقـدر أحـد أن مينـع املقـدور ،واعلمـوا أننـا قـد وقعنـا الع ّ
يف مهلكـة عظيمـة ،ومل يبـق لنـا منهـا خلاص وال نجـاة .فبكى جميـع
الـركاب على أنفسـهم ،وودَّع بعضهـم بعضـاً لفـراغ أعامرهـم ،وانقطـع
رجاؤهـم ،ومـال املركـب على ذلـك الجبـل ،فانكسر ،وتف َّرقـت الواحـة،
جار يف البحـر؛ فمنهم من غـرق ،ومنهم فغـرق جميـع مـا فيها ،ووقـع الت ّ
متسـك بذلـك الجبـل وطلـع عليـه ،وكنـت أنـا مـن جملـة مـن طلـع َّ مـن
على ذلـك الجبـل ،وإذا فيـه جزيـرة كبيرة ،عندهـا كثير مـن املراكـب
املكسرة ،وفيهـا أرزاق كثيرة عىل شـاطئ البحـر من الذي يطرحـه البحر َّ
يحير العقلّ كثري يشء وفيهـا ّابها، كر وغـرق ت، ُسِ ك التـي املراكـب مـن
والفكـر مـن املتـاع واألمـوال التي يلقيهـا البحر على جوانبهـا .عند ذلك،
طلعـت على تلـك الجزيـرة ومشـيت فيهـا ،فرأيـت يف وسـطها عين مـاء
86
عـذب حـا ّر ،خـارج مـن تحـت أ َّول ذلـك الجبـل ،وداخـل يف آخـره مـن
ن نجـا مـن الـركّاب على ذلـك الجبل الجانـب الثـاين .عنـد ذلـك ،طلـع َمـ ْ
إىل الجزيـرة ،وانتشروا فيهـا وقـد ذهلت عقولهـم من ذلك ،وصـاروا مثل
املجانين مـن كثرة مـا أروا يف الجزيرة من األمتعة واألموال عىل سـاحل
البحـر .وقـد رأيت ،يف وسـط تلك العني ،شـيئاً كثريا ً من أصنـاف الجواهر
واملعـادن واليواقيـت والآللـئ الكبـار امللوكيـة ،وهـي مثـل الحصى يف
مجـاري املـاء يف تلـك الغيطـان .وجميـع أرض تلك العني تبرق من كرثة
مـا فيهـا مـن املعـادن وغريهـا .ورأينـا كثيرا ً يف تلـك الجزيـرة مـن أعلى:
العـود الصينـي ،والعـود القماري ،ويف تلـك الجزيـرة عين نابعـة مـن
صنـف العنبر الخـام وهـو يسـيل مثل الشـمع على جانب تلـك العني من
شـدّة حـ ّر الشـمس ،وميتد عىل سـاحل البحر فتطلع الهوايـش من البحر
وتبتلعـه ثـم تنـزل يف البحـر ،فيحمى يف بطونهـا فتقذفه مـن أفواهها يف
يتغي لونـه وأحوالـه فتقذفهِّ البحـر فيجمـد على وجـه املـاء ،وعند ذلـك
جـار الذيـن يعرفونـه األمـواج إىل جانـب البحـر ،فيأخـذه السـ ّواحون والت ّ
فيبيعونـه .أ ّمـا العنبر الخالـص مـن االبتلاع فإنـه يسـيل عىل جانـب تلك
العين ،ويتج َّمـد بأرضـه ،وإذا طلعـت عليـه الشـمس يسـيح وتبقـى منـه
رائحـة ذلـك الـوادي كلّـه مثـل املسـك ،وإذا زالـت عنـه الشـمس يجمـد.
وذلـك املـكان ،الـذي هـو فيـه هـذا العنبر الخـام ،ال يقـدر أحـد على
دخولـه ،وال يسـتطيع سـلوكه فـإن الجبل محـاط بتلك الجزيـرة ،وال يقدر
أحـد على صعـود الجبـل .ومل نـزل دائريـن يف تلـك الجزيـرة نتفـ َّرج عىل
متحيرون يف أمرنا ،وفيام
ِّ مـا خلـق اللـه (تعاىل) فيهـا من األرزاق ،ونحـن
نـراه ،وعندنـا خـوف شـديد .وقـد جمعنـا عىل جانـب الجزيـرة شـيئاً قليالً
كل يـوم أو يومني ،أكلـة واحدة،مـن الـزاد ،فرصنـا نوفِّـره ونـأكل منه ،يف ّ
ونحـن خائفـون مـن أن يفـرغ الـزاد م ّنـا فنمـوت كمـدا ً مـن شـدّة الجـوع
وكل مـن مـات م ّنـا نغسـله ونكفِّنـه يف ثيـاب وقامش مـن الذي والخـوفّ ،
يبق
يطرحـه البحـر على جانـب الجزيـرة ،حتـى مـات م ّنا خلـق كثير ،ومل َ
إل جامعـة قليلـة فضعفنـا بوجـع البطـن مـن البحـر ،وأقمنـا مـدّة قليلة، ّ
وكل من مـات منهم فمات جميـع أصحـايب ورفقـايئ ،واحـدا ً بعد واحـدّ ،
87
ندفنـه .وبقيـت يف تلـك الجزيـرة وحـدي ،وبقـي معـي زاد قليـل ،بعـد أن
مت قبـل رفقـايئ ،وكانوا
كان كثيرا ً ،فبكيـت على نفسي وقلـت :يـا ليتني ّ
لي العظيـم.
إل باللـه الع ّ
غسـلوين ودفنـوين ،فلا حـول وال قـ ّوة ّ
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)550قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن السـندباد
البحـري مل ّـا دفـن رفقـاءه جميعـاً ،وصـار يف الجزيـرة وحـده ،قـال:
ثـم إين أقمـت مـ ّد ًة يسيرة ،ثـم قمـت حفـرت لنفسي حفـرة عميقـة يف
جانـب تلـك الجزيـرة ،وقلـت يف نفسي :إذا ضعفـت ،وعلمـت أن املـوت
قـد أتـاين ،أرقـد يف هـذا القبر فأمـوت فيـه ،ويبقـى الريـح يسـفي الرمـل
لي ،فيغطّينـي وأصير مدفونـاً فيه .ورصت ألـوم نفيس على قلّة عقيل، ع َّ
وخروجـي مـن بلادي ومدينتي ،وسـفري إىل البلاد بعد الذي قاسـيته أ َّوالً
إل وأقايس فيها وثانيـاً وثالثـاً ورابعاً وخامسـاً ،وما من سـفرة من األسـفار ّ
أشـق وأصعب مـن األهوال التي قبلها ،ومـا أصدق بالنجاة ّ أهواالً وشـدائد
والسلامة وأتـوب عـن السـفر يف البحر وعن عـودي إليه ،ولسـت محتاجاً
ملـال وعنـدي يشء كثري ،والـذي عندي ال أقدر أن أفنيـه ،وال أض ِّيع نصفه
يف باقـي عمـري ،وعنـدي مـا يكفينـي وزيـادة .ثـم إين تفكَّـرت يف نفسي
وقلـت :واللـه ،البـ ّد أن هـذا النهـر لـه أ ّول وآخر ،والبـ ّد له من مـكان يخرج
منـه إىل العمار .والـرأي السـديد عنـدي أن أعمـل يل فلـكاً صغيرا ً على
قـدر مـا أجلـس فيـه ،وأنـزل وألقيـه يف هـذا النهـر وأسير بـه فـإن وجدت
ـتأنـج بـإذن اللـه (تعـاىل) ،وإن مل أجـد يل مخلصـاً أ ُم ْ
خالصـاً الـذي هـو ُ
أتحسر على نفيس. َّ داخـل هـذا النهـر ،أحسـن مـن هـذا املـكان ،ورصت
ثـم إين قمـت وسـعيت ،فجمعـت أخشـاباً مـن تلـك الجزيـرة مـن خشـب
العـود الصينـي والقماري ،وشـددتها على جانـب البحـر بحبـال املراكب
التـي كُسرت ،وجئـت بألـواح مسـاوية مـن ألـواح املراكـب ،ووضعتهـا
أقـل
يف ذلـك الخشـب ،وجعلـت ذلـك الفُلـك يف عـرض ذلـك النهـر أو ّ
مـن عرضـه ،وشـددته ط ِّيبـاً مكينـاً ،وقـد أخـذت معـي مـن تلـك املعـادن
والجواهـر واألمـوال واللؤلـؤ الكبير الـذي هـو مثـل الحصى ،وغير ذلـك
88
مـن الـذي يف تلـك الجزيـرة ،وشـيئاً مـن العنبر الخـام الخالـص الطيِّـب،
ووضعتـه يف ذلـك الفُلـك ،ووضعـت فيه جميع مـا جمعته مـن الجزيرة،
وأخـذت معـي جميـع مـا كان باقيـاً مـن الـزاد ،ثـم إين ألقيـت ذلـك الفُلك
يف هـذا النهـر وجعلت له خشـبتني على جنبيه مثل املجاديـف ،وعملت
بقـول بعض الشـعراء:
ن بناها
وخل الدا َر تنعي َم ْ
ِّ ح ْل عن مكانٍ فيه ضي ٌ
م تر َّ
ونفسك مل تج ْد نفساً سواها فإنك واج ٌد أرضاً بأرض
فكل مصيبة يأيت انتهاها وال تجز ْع لحادثِة الليايل
فليس ميوتُ يف ٍ
أرض سواها ٍ
بأرض ومن كانت منيَّته
ٍ
لنفس ناصحة سواها فام م
وال تبعث رسولك يف مه ّ
ورست بذلـك الفلـك يف النهـر ،وأنـا متفكِّر فيام يصري إليـه أمري ،ومل
أزل سـائرا ً إىل املـكان الـذي يدخل فيه النهر تحت ذلـك الجبل ،فأدخلت
سـنة منالفلـك يف هـذا املـكان وقـد رصت يف ظلمـة شـديدة ،فأخذتنـي ِ
النـوم مـن شـدّة القهـر ،فنمـت على وجهـي يف الفلـك ،ومل يـزل سـائرا ً
يب وأنـا نائـم ،ال أدري بكثير وال قليـل حتـى اسـتيقظت فوجـدت نفسي
عينـي فرأيـت مكانـاً واسـعاً ،وذلك الفُلـك مربوط عىل َّ يف النـور ،ففتحـت
فلما رأوين قمـت نهضواّ جزيـرة ،وحـويل جامعـة مـن الهنـود والحبشـة،
ن أنـه حلم ،وأن
يل وكلَّمـوين بلسـانهم فلـم أعـرف ما يقولـون ،وبقيت أظ ّ إ َّ
فلما كلّموين،
ّ هـذا يف املنـام من شـدّة مـا كنت فيه مـن الضيـق والقهر.
ومل أعـرف حديثهـم ،ومل أر ّد عليهـم جوابـاً تقـدَّم إ َّ
يل رجـل منهـم ،وقـال
يل بلسـان عـريب :السلام عليـك ،يـا أخانا .من أنـت؟ ومن أيـن جئت؟ وما
سـبب مجيئـك إىل هـذا املـكان؟ نحـن أصحـاب الـزرع والغيطـان ،وجئنـا
لنسـقي غيطاننـا وزرعنـا فوجدنـاك نامئـاً يف الفُلـك ،فأمسـكناه وربطنـاه
عندنـا ،حتـى تقـوم على مهلـك ،فأخربنـا :مـا سـبب وصولـك إىل هـذا
املـكان؟ فقلـت لـه بالله عليـك ،يا سـيِّدي ،ائتني بيشء مـن الطعام فإين
89
عما تريـد ،فـأرسع وأتـاين بالطعـام ،فأكلـت جائـع ،وبعـد ذلـك اسـألني ّ
ن روعي ،وازداد شـبعي و ُردَّت يل روحي، حتى شـبعت ،واسترحت ،وسـك َ
كل حـال ،وفرحـت بخروجـي من ذلـك النهر فحمـدت اللـه (تعـاىل) على ّ
ووصـويل إليهـم ،وأخربتهـم بجميـع مـا جـرى يل من أ َّولـه إىل آخـره ،وما
لقيتـه يف ذلـك النهـار وضيقه.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)551قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن السـندباد
البحـري مل ّـا طلـع مـن الفلك على جانب الجزيـرة ،ورأى فيهـا جامعة من
بقصته.
َّ الهنود والحبشـة ،واستراح من تعبه ،سـألوه عن خربه فأخربهم
ثـم إنهـم تكلَّمـوا فيما بينهـم ،وقالـوا :البـ َّد أن نأخـذه معنـا ،ونعرضـه
على ملكنـا ليخبره مبـا جـرى لـه .قـال :فأخـذوين معهـم وحملـوا معـي
الفلـك بجميـع ما فيـه من املـال والنـوال والجواهر واملعـادن واملصاغ،
حـب يب، لي ور َّ
وأدخلـوين على ملكهـم ،وأخبروه مبـا جـرى ،فسـلَّم ع َّ
وسـألني عـن حـايل ومـا اتَّفـق يل من األمـور ،فأخربتـه بجميع مـا كان من
جب امللـك من هـذه الحكاية أمـري ،ومـا القيتـه مـن أ َّولـه إىل آخـره ،فتع َّ
غايـة العجـب ،وه َّنـأين بالسلامة .عنـد ذلـك ،قمـت وأخرجـت مـن ذلـك
الفلـك شـيئاً كثيرا ً مـن املعـادن والجواهـر والعـود والعنبر الخـام،
وأهديتـه إىل امللـك .فقبلـه منـي وأكرمني إكرامـاً زائـدا ً ،وأنزلني يف مكان
عنـده ،وقـد صاحبت أخيارهـم وأكابرهم ،وأع ّزوين معـ ّزة عظيمة ،ورصت
ال أفـارق دار امللـك ،وصـار الـواردون إىل تلـك الجزيـرة يسـألونني عـن
أمـور بلادي ،فأخربهم بهـا ،وكذلك أسـألهم عن أمور بالدهـم ،فيخربوين
بهـا ،إىل أن سـألني ملكهـم ،يومـاً مـن األيَّـام ،عـن أحـوال بلادي ،وعـن
أحـوال حكـم الخليفة يف بلاد مدينة بغداد ،فأخربتـه بعدله يف أحكامه،
جـب مـن أمـوره ،وقـال يل :واللـه ،إن هـذا الخليفـة لـه أمـور عقليـة فتع َّ
وأحوال ُم ْرضية ،وأنت قد ح َّببتني فيه ،ومرادي أن أج ِّهز له هدية وأرسـلها
معـك إليـه .فقلت :سـمعاً وطاعـة ،يا موالنا ،سـوف أوصلها إليـه ،وأخربه
محـب صـادق .ومل أزل مقيماً عنـد ذلـك امللـك ،وأنـا يف غايـة الع ّز ّ أنـك
90
واإلكـرام وحسـن املعيشـة ،مـدّة مـن الزمـان ،إىل أن كنت جالسـاً ،يوماً
مـن األيَّـام ،يف دار امللـك ،فسـمعت بخرب جامعة من تلـك املدينة أنهم
ج َّهـزوا لهـم مركبـاً يريـدون السـفر فيـه إىل نواحـي مدينة البصرة ،فقلت
يف نفسي :ليـس يل أوفـق من السـفر مع هـؤالء الجامعـة ،فأرسعت من
وقتـي وسـاعتي ،وقبَّلـت يـد ذلـك امللـك ،وأعلمته بـأن مرادي السـفر مع
الجامعـة يف املركـب الـذي ج َّهزوه ،ألين اشـتقت إىل أهيل وبالدي ،فقال
يل امللـك :الـرأي لـك ،وإن شـئت اإلقامـة عندنـا فعلى الـرأس والعين،
وقـد حصـل لنـا أنسـك ،فقلـت :واللـه ،يـا سـ ّيدي ،لقـد غمرتنـي بجميلـك
فلما سـمع كالمـيّ وإحسـانك ،لكنـي اشـتقت إىل أهلي وبلادي وعيـايل.
جـار الذيـن ج ّهزوا املركب ،وأوصاهم يب ،ووهب يل شـيئاً كثريا ً أحضر الت ّ
مـن عنـده ،ودفـع عنـي أجـرة املركـب ،وأرسـل معـي هديّـة عظيمـة إىل
الخليفـة هـارون الرشـيد يف مدينـة بغـداد .ثـم إين ودَّعت امللـك ،ودّعت
جار،جميـع أصحـايب الذيـن كنت أتـردَّد عليهم ،ثم نزلـت املركب مـع الت ّ
ورسنـا وقـد طـاب لنا الريح والسـفر ،ونحـن متوكِّلون عىل الله (سـبحانه،
وتعـاىل) .ومل نـزل مسـافرين مـن بحـر إىل بحـر ومـن جزيـرة إىل جزيـرة
حتـى أن وصلنـا بالسلامة -بـإذن اللـه -إىل مدينـة البصرة ،فطلعـت مـن
وليال حتـى ج َّهزت نفيس،
َ املركـب .ومل أزل مقيماً بـأرض البصرة أيّامـاً
جهـت إىل مدينـة بغـداد (دار السلام) فدخلـت وحملـت حمـويل ،ثـم تو َّ
على الخليفـة هـارون الرشـيد ،وقدَّمـت إليـه تلـك الهديّـة ،وأخربتـه
بجميـع مـا جـرى يل .ثـم خ َّزنـت جميـع أمـوايل وأمتعتي ،ودخلـت حاريت
فجـاءين أهلي وأصحـايب ،وف َّرقـت الهدايـا عىل جميـع أهلي ،وتصدَّقت،
يل الخليفـة فسـألني عـن سـبب ووهبـت .وبعـد مـدة مـن الزمـان ،أرسـل إ َّ
تلـك الهديّـة ،ومـن أيـن هـي ،فقلـت :يـا أمير املؤمنين ،واللـه ال أعـرف
للمدينـة التـي هـي منهـا اسماً وال طريقـاً ،ولكـن مل ّـا غـرق املركـب الـذي
كنـت فيـه طلعـت عىل جزيـرة ،وصنعت يل فُلـكاً ،ونزلت فيـه يف نهر كان
يف وسـط الجزيـرة ،ثـم أخربتـه مبـا جـرى يل فيهـا ،وكيـف كان خلايص
مـن ذلـك النهـر إىل تلـك املدينـة ،ومبـا جـرى يل فيهـا ،وبسـبب إرسـال
جـب مـن ذلـك غايـة العجـب ،وأمـر املؤ ِّرخـون أن يكتبـوا الهديـة ،فتع َّ
91
كل مـن رآهـا ،ثم إنـه أكرمنيحكايتـي ،ويجعلوهـا يف خزائنـه ليعتبر بهـا ّ
إكرامـاً زائـدا ً .أقمـت يف مدينة بغـداد عىل ما كنت عليـه يف الزمن األ َّول،
ونسـيت جميـع مـا جـرى يل وما قاسـيته مـن أ ّولـه إىل آخـره ،ومل أزل يف
لـذّة عيـش ولهـو وطـرب .وهـذا مـا كان من أمـري يف السـفرة السادسـة،
يـا إخـواين .وإن شـاء اللـه (تعـاىل) ،أحكي لكـم ،يف غـد ،حكايـة السـفر
السـابعة ،فإنهـا أعجـب وأغـرب مـن هـذه السـفرات ،ثـم إنـه أمـر مبـ ّد
الحمل مبئةّ السماط ،وتعشّ ـوا عنده ،وأمر السـندباد البحري للسـندباد
جبـون من ذلك مثقـال مـن الذهـب ،فأخذهـا وانرصف الجامعـة وهم متع ِّ
غايـة العجب.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
92
الحكاية السابعة
(السفرة السابعة)
93
جار محضا ً للسـفر ،وفيه جامعة مـن الت ّ
َّ إىل مدينـة البصرة ،فرأيـت مركبـاً
العظـام فنزلـت معهم واستأنسـت بهـم ،ورسنا بسلامة وعافيـة ،قاصدين
السـفر ،وقـد طـاب لنـا الريـح حتـى وصلنـا إىل مدينـة الصين ،ونحـن يف
غايـة الفـرح والسرور نتحـدَّث معـاً يف أمـر السـفر واملتجـر .فبينما نحـن
هب مـن مقـدم املركب ،ونـزل علينا على هـذه الحالـة ،وإذا بريـح عاصـف ّ
مطـر شـديد حتـى ابتلّينا وابتلَّت حمولنـا فغطَّينا الحمـول بالل ّباد والخيش،
رضعخوفـاً على البضاعـة من التلف باملطـر ،ورصنا ندعو اللـه (تعاىل) ونت َّ
مم نحـن فيـه .فعند ذلـك ،قام ريِّـس املركب، إليـه يف كشـف مـا نـزل بنـا ّ
وشـ َّد حزامـه وتشـ َّمر وطلـع على الصـاري ،وصـار يلتفـت ميينـاً وشماالً،
وبعـد ذلـك نظـر إىل أهـل املركـب ولطـم عىل وجهـه ونتـف لحيتـه ،فقلنا:
مما وقعنا، يـا ريِّـس ،مـا الخرب؟ فقـال لنا :اطلبـوا من الله (تعـاىل) النجاة ّ
وابكـوا على أنفسـكم ،ليودِّعـوا أحدكـم اآلخـر ،واعلمـوا أن الريـح قد غلب
علينـا ورمانـا يف آخـر بحـار الدنيـا .ثـم إن الريِّـس نـزل مـن فـوق الصـاري،
وفتـح صندوقـه وأخرج منه كيسـاً قطنـاً وفكَّه وأخرج منه ترابـاً مثل الرماد،
وبَلَّـه باملـاء ،وصبر عليـه قليلاً وشـ َّمه ،ثـم إنـه أخرج مـن ذلـك الصندوق
كتابـاً صغيرا ً وقـرأ فيـه ،وقـال لنـا :اعلمـوا -يـا ركّاب -أن يف هـذا الكتـاب
ينـج منهـا ،بـلكل مـن وصـل إىل هـذه األرض مل ُ يـدل على أن ّأمـرا ً عجيبـاً ّ
يهلـك ،وهـذه األرض تسـ ّمى (إقليـم امللـوك) ،وفيهـا قبر سـيِّدنا سـليامن
فكل
بـن داود (عليهما السلام) ،وفيـه حيّات عظـام الخلقة هائلـة املنظرّ ،
مركـب وصـل إىل هـذا اإلقليـم يطلـع لـه حـوت مـن البحـر فيبتلعـه بجميع
جبنـا غايـة العجـب مـن فلما سـمعنا هـذا الـكالم مـن الريِّـس تع َّّ مـا فيـه.
م الريِّـس كالمـه لنـا حتـى صـار املركـب يرتفَّـع بنـا عـن حكايتـه ،فلـم يُتـ ّ
املـاء ،ثـم ينـزل ،وسـمعنا رصخـ ًة عظيمـة مثـل الرعـد القاصـف ،فارتعبنا
منهـا ورصنـا كاألمـوات وأيق ّنـا بالهلاك يف ذلـك الوقـت ،وإذا بحـوت قـد
أقبـل على املركـب كالجبـل العـايل ففزعنـا منـه ،وقـد بكينـا على أنفسـنا
جب من بـكا ًء شـديدا ً ،وتجهزنـا للموت ،ورصنـا ننظر إىل ذلك الحـوت ونتع َّ
خلقتـه الهائلـة ،وإذا بحـوت ثـانٍ قـد أقبل علينـا ،فام رأينا أعظـم خلق ًة منه
وال أكبر! .فعنـد ذلـك ،ودّع بعضنـا بعضـاً ونحـن نبكي على أرواحنـا ،وإذا
94
بحـوت ثالـث قـد أقبـل وهـو أكبر مـن االثنين اللذيـن جاءانـا قبلـه ،ورصنا
ال نعـي وال نعقـل وقـد اندهشـت عقولنـا مـن شـدّة الخـوف والفـزع ،ثـم
إن هـذه الحيتـان الثالثـة صـارت تـدور حـول املركـب ،وقـد أهـوى الحـوت
بـكل مـا فيـه ،وإذا بريـح عظيـم ثـار فقـام املركـب
الثالـث ليبتلـع املركـب ّ
شـ ْعب عظيم ،فانكسر وتف َّرقت جميـع األلـواح ،وغرقت جميع ونـزل على ِ
لي مـنجـار والـركاب يف البحـر .فخلعـت أنـا جميـع مـا ع َّ الحمـول والت ّ
لي غير ثـوب واحـد ،ثـم عمـت قليلاً فلحقت لوحـاً من الثيـاب ،ومل يبـق ع َّ
ألـواح املركـب ،وتعلَّقـت بـه ثـم طلعت عليـه وركبتـه ،وقد صـارت األمواج
واألريـاح تلعـب يب على وجـه املـاء وأنـا قابـض عىل ذلـك اللـوح ،واملوج
يرفعنـي ويحطّنـي ،وأنـا يف أشـ ّد مـا يكـون مـن املشـقّة والخـوف والجـوع
والعطـش ،ورصت ألـوم نفسي على مـا فعلتـه ،وقـد تعبـت نفسي بعـد
كل مـ ّرة تقـايس فيهـا
بحـري ،أنـت مل تتـب! ّ
ّ الراحـة فقلـت :يـا سـندباد ،يـا
الشـدائد والتعـب ،ومل تتـب عـن سـفر البحـر ،وإن تبـت تكـذب يف التوبة،
تسـتحق جميـع مـا يحصـل لك.
ّ كل مـا تلقـاه فإنـك ِ
فقـاس ّ
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( )553قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن السـندباد
البحـري مل ّـا غـرق يف البحـر َركـب لوحـاً مـن الخشـب ،وقـال يف نفسـه:
لي مـن الله (تعـاىل) حتى وكل هـذا مقـدَّر ع ّ
أسـتحق جميـع مـا يجـري يلّ ، ّ
عما أنـا فيـه مـن الطمـع ،وهـذا الـذي أقاسـيه هـو مـن طمعـي؛ فإن أرجـع ّ
رجعـت إىل عقيل ،وقلـت :إين يف هذه ُ عنـدي مـاالً كثيرا ً ،ثم إنـه قال :وقد
السـفرة قـد تبـت إىل اللـه (تعـاىل) توبـة نصوحـاً عـن السـفر ،ومـا بقيـت
ضرع إىل اللـه
عمـري أذكـره على لسـاين ،وال يخطـر يف بـايل .ومل أزل أت َّ
(تعـاىل) ،وأبكي .ثم إين تذكَّرت يف نفيس ما كنـت فيه من الراحة والرسور
واللهـو والطـرب واالنشراح ،ومل أزل عىل هـذه الحالة أ َّول يـوم وثاين يوم،
إىل أن طلعـت على جزيـرة عظيمـة فيهـا يشء كثير مـن األشـجار واألنهار
فصرت آكل مـن مثـر تلـك األشـجار ،وأرشب مـن مـاء تلـك األنهـار حتـى
يل روحـي ،وقويـت ه ّمتـي ،وانشرح صـدري .ثـم مشـيت انتعشـت و ُردَّت إ َّ
95
يف الجزيـرة ،فرأيـت يف جانبهـا الثـاين نهرا ً عظيماً من املـاء العذب ،لكن
ذلـك النهـر يجـري جريـاً قويّـاً :فتذكـرت أمـر الفلـك الـذي كنـت فيه سـابقاً
لعلي أنجـو من هـذا األمر، ّ وقلـت يف نفسي :البـ َّد أن أعمـل يل فُلـكاً مثلـه
فـإن نجـوت بـه حصـل املـراد ،وتبـت إىل اللـه (تعـاىل) مـن السـفر ،وإن
هلكـت ارتـاح قلبـي مـن التعـب واملشـقّة .ثـم إين قمـت فجمعـت أخشـاباً
مـن تلـك األشـجار مـن خشـب الصنـدل العـال الـذي ال يوجـد مثلـه ،وأنا ال
أي يشء هـو .ومل ّـا جمعـت تلـك األخشـاب تحلَّيـت بأغصـان ونبـات أدري ّ
مـن هـذه الجزيـرة ،وفتلتهـا مثـل الحبـال وشـددت بهـا الفلـك ،وقلـت :إن
سـلمت فمـن اللـه .ثـم إين أنزلت يف ذلـك ،الفلك ورست بـه يف ذلك النهر
حتـى خرجـت مـن آخـر الجزيـرة ،ثـم بعـدت عنهـا .ومل أزل سـائرا ً أ َّول يوم
وثـاين يـوم وثالـث يـوم ،بعـد مفارقـة الجزيـرة ،وأنـا نائـم ومل آكل يف هذه
املـدّة شـيئاً ،وإذا عطشـت رشبـت مـن ذلـك النهـر ،ورصت مثـل الفـرخ
الدايـخ مـن شـدّة التعـب والجـوع ،حتـى انتهـى يب الفلـك إىل جبـل عـالٍ،
فلما رأيـت ذلـك خفـت على نفسي مـن الضيـق ّ والنهـر داخـل مـن تحتـه.
الـذي كنـت أنـا فيـه ،أ ّول مـ ّرة ،يف النهـر السـابق ،وأردت أن أوقـف الفُلـك
وأطلـع منـه إىل جانـب الجبل ،فغلبني املـاء ،فجذب الفلك وأنـا فيه ونزل
بـه تحـت الجبـل .فلما رأيت ذلـك أيقنـت بالهالك ،وقلـت :ال حـول وال ق ّوة
لي العظيـم .ومل يـزل الفُلـك سـائرا ً مسـافة يسيرة ،ثـم طلـع إلّ باللـه الع ّ
دوي
ّ دوي مثل ٌّ إىل مـكان واسـع وإذا هـو واد كبير ،واملـاء يهـدر فيـه ،ولـه
الرعـد ،وجريـا ٌن مثـل جريـان الريح ،فصرت قابضاً عىل ذلـك الفُلك بيدي،
وأنـا خائـف أن أقـع فوقـه ،واألمـواج تلعب يب مييناً وشماالً يف وسـط ذلك
املـكان .ومل يـزل الفلـك منحـدرا ً مـع املـاء الجـاري يف ذلك الـوادي ،وأنا
بر ،إىل أن رىس يب ال أقـدر على منعـه ،وال أسـتطيع الدخـول به يف جهة ال ّ
فلماّ على جانـب مدينـة عظيمـة املنظـر مليحـة البنـاء ،فيهـا خلـق كثير.
رأوين وأنـا يف ذلـك الفُلـك منحـدرا ً يف وسـط النهـر مـع الت ّيـار رمـوا ع َّ
لي
الشـبكة والحبـال يف ذلـك الفلـك ،ثـم أطلعـوا الفُلـك مـن ذلـك النهـر إىل
بر ،فسـقطت بينهـم وأنـا مثل امليِّـت من شـدّة الجوع والسـهر والخوف، ال ّ
ن ،وهو شـيخ عظيم، رجـل كبري يف السـ ّ
ٌ فتلقّـاين مـن بين هـؤالء الجامعة
96
ـب يب ورمـى يل ثيابـاً كثيرة جميلـة فسترت بهـا عوريت ،ثـم إنه أخذين ح َّ
ور َ
الحمام ،ثم جـاء يل باألرشبة والروائـح الزكية ،ثم بعد ّ وسـار يب وأدخلنـي
الحمام أخـذين إىل بيتـه وأدخلنـي فيـه ،ففـرح يب أهـل بيته، ّ خروجنـا مـن
وأجلسـني يف مـكان ظريـف ،وه َّيـأ يل شـيئاً مـن الطعـام الفاخـر ،فأكلـت
حتـى شـبعت ،وحمـدت .بعـد ذلـك ،قـدَّم يل غلامنه ما ًء سـاخناً فغسـلت
يـدي ،وجـاءين جواريـه مبناشـف مـن الحريـر فنشَّ ـفت يـدي ومسـحت
فمـي ،ثـم إن ذلـك الشـيخ قـام مـن وقتـه ،وأخلى يل مكانـاً منفـردا ً وحـده
يف جانـب داره ،وألـزم غلامنـه وجواريـه بخدمتـي وقضـاء حاجتـي وجميع
مصالحـي ،فصـاروا يتع َّهدوننـي .ومل أزل على هـذه الحالـة عنـده يف دار
الضيافـة ،ثالثـة أيّـام ،وأنـا على أكل طيِّـب ورشب طيِّـب ورائحـة طيِّبة حتى
فلما كان
ّ يل روحـي ،وسـكن روعـي ،وهـدأ قلبـي ،وارتاحـت نفسي. ُردَّت إ َّ
يل الشـيخ وقـال يل :آنسـتنا ،يـا ولـدي .والحمـد للـه اليـوم الرابـع ،تقـدَّم إ َّ
على سلامتك ،فهـل لـك أن تقـوم معـي إىل سـاحل البحـر ،وتنزل السـوق
فسـكت
ّ فتبيـع البضاعـة وتقبـض مثنها؛ لعلَّك تشتري بها شـيئاً تتَّجر فيه؟
قليلاً ،وقلـت يف نفسي :ليـس معـي بضاعـة ،وما سـبب هـذا الـكالم؟ قال
م وال تفكِّـر ،فقـم بنـا إىل السـوق ،فـإن رأينـا مـن
الشـيخ :يـا ولـدي ،ال تهتـ ّ
يعطيـك يف بضاعتـك مثنـاً يرضيـك أقبضـه لـك ،وإن مل يجـئ فيهـا يشء
يرضيـك أحفظهـا لك عنـدي يف حواصيل ،حتـى تجيء أيّام البيـع والرشاء.
أي يشء تكون هذه فتفكَّـرت يف أمـري ،وقلـت لعقلي :طا ِو ْعـه ،حتى تنظـر َّ
البضاعـة ،ثـم قلـت لـه :سـمعاً وطاعـة ،يـا ع ّمـي الشـيخ .والـذي تفعلـه
فيـه الربكـة ،وال ميكننـي مخالفتـك يف يشء ،ثـم جئـت معـه إىل السـوق
فـك الفُلـك الـذي جئت فيـه ،وهو من خشـب الصنـدل وأطلق فوجدتـه قـد ّ
املنادي.
وأدرك شهرزاد الصباح ،فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)554قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن السـندباد
البحـري مل ّـا ذهـب مـع الشـيخ إىل شـاطئ البحـر ،ورأى الفلـك الـذي
جار،
جـاء فيـه من خشـب الصنـدل مفكـوكاً ،ورأى الـدلّ ل يدلِّـل عليـه الت ّ
97
وفتحـوا بـاب سـعره وتزايـدوا فيـه إىل أن بلغ مثنـه ألف دينـار ،وبعد ذلك
جـار عـن الزيـادة ،فالتفـت إىل الشـيخ وقـال :اسـمع ،يـا ولدي، توقَّـف الت ّ
هـذا سـعر بضاعتـك يف مثـل هـذه األيّـام ،فهـل تبيعهـا بهـذا السـعر أم
تصبر وأنـا أحفظهـا لـك عنـدي يف حواصلي حتـى يجـيء أوان زيادتهـا
يف الثمـن ،فنبيعهـا لـك؟ فقلـت لـه :يـا سـيِّدي ،األمـر أمـرك ،فافعـل مـا
تريـد .فقـال :ياولـدي ،أتبيعنـي هـذا الخشـب بزيادة مئـة دينـار ذهباً فوق
جـار؟ فقلـت له :نعـم ،بعتـك .ثم قبضـت الثمـن .فعند مـا أعطـى فيـه الت ّ
ذلـك ،أمـر غلامنـه بنقـل الخشـب إىل حواصلـه ،ثـم إين رجعـت معه إىل
بيتـه ،فجلسـنا و َعـ َّد يل جميـع مثـن ذلـك الخشـب ،وأحضر يل أكياسـاً
ووضـع املـال فيهـا وقفـل عليهـا بقفـل حديـد ،وأعطـاين مفتاحـه .وبعـد
مـدّة أيّـام وليـالٍ ،قال الشـيخ :يـا ولدي ،إين أعرض عليك شـيئاً ،وأشـتهي
أن تطاوعنـي فيـه ،فقلـت لـه :ومـا ذاك األمـر؟ فقـال يل :اعلـم أين بقيـت
ن ظريفة ن ،وليـس يل ولد ذكر ،وعنـدي بنت صغرية السـ ّ رجلاً كبير السـ ّ
الشـكل ،لهـا مـال كثير وجمال ،فأريـد أن أز ِّوجهـا لـك وتقعـد معهـا
يف بالدنـا ،ثـم إين أملِّـكك جميـع مـا هـو عنـدي ،ومـا متلكـه يـدي ،فـإين
فسـكت ،ومل أتكلَّـم .فقـال
ُّ أصبحـت رجلاً كبيرا ً ،وأنـت تقـوم مقامـي.
يل :أطعنـي ،يـا ولـدي ،يف الـذي أقولـه لـك ،فـإن مـرادي لك الخير ،فإن
أطعتنـي ز َّوجتـك ابنتـي ،ورصت مثـل ولـدي ،وجميـع مـا يف يـدي ومـا هو
جارة والسـفر إىل بلادك فلن مينعك أحد، ملكي يصير لك ،وإن أردت الت ّ
وهـذا لـك تحـت يـدك ،فافعـل بـه مـا تريـد وما تختـاره .فقلـت لـه :والله،
يـا ع ّمـي الشـيخ ،أنـت رصت مثـل والـدي ،وأنـا قاسـيت أهواالً كثيرة ،ومل
يبـق يل رأي وال معرفـة ،فاألمـر أمـرك يف جميـع ما تريد .فعنـد ذلك ،أمر
الشـيخ غلامنـه بإحضـار القـايض والشـهود ،فأحرضوهـم وز َّوجنـي ابنته،
وعمـل لنـا وليمـة عظيمة وفرحاً كبيرا ً ،وأدخلنـي عليها ،فرأيتهـا يف غاية
الحسـن والجمال بقـد ٍر واعتـدال ،وعليهـا يشء كثير مـن أنـواع الحلي
والحلـل واملعـادن واملصـاغ والعقـود والجواهـر الثمينـة التـي قيمتهـا
فلما دخلـت عليهاّ ألـوف األلـوف مـن الذهـب ،وال يقـدر أحـد على مثنها.
أعجبتنـي ،ووقعـت املحبّـة بيننـا ،وأقمـت معهـا مـدّة مـن الزمـان وأنـا
98
تـوف والدهـا إىل رحمـة اللـه (تعـاىل) ِّ يف غايـة األنـس واالنشراح ،وقـد
فجهزنـاه ودفَ ّنـاه .ثـم وضعـت يـدي على مـا كان معـه ،وصـار جميـع
جار مرتبته ألنه كان وولين الت ّ
غلامنـه غلماين وتحت يدي ،ويف خدمتـيّ ،
إل مبعرفتـه وإذنـه؛ ألنـه شـيخهم ،ورصت كبريهـم ،وال يأخـذ أحـد شـيئاً ّ
فلما خالطـت أهـل تلـك املدينـة وجدتهـم تنقلـب حالتهم ّ أنـا يف مكانـه.
كل شـهر ،فتظهـر لهـم أجنحـة يطيرون بهـا إىل عنـان السماء ،وال يف ّ
يبقـى متخلِّفـاً يف ذلـك املدينـة غري األطفال والنسـاء! فقلـت يف نفيس:
إذا جـاء رأس الشـهر أسـأل أحدا ً منهم ،فلعلَّهـم يحملوين معهم إىل أين
تغيت ألوانهـم ،وانقلبت صورهم، فلما جاء رأس ذلك الشـهر َّ َّ يروحـون،
فدخلـت على واحـد منهـم وقلـت لـه :باللـه عليـك ،احملنـي معـك حتـى
أتفـ َّرج ،وأعـود معكـم ،فقـال يل :هـذا يشء ال ميكـن .فلـم أزل أتدخَّـل
لي بذلـك ،وقـد رافقتهـم وتعلَّقـت بـه ،فطـار يب يف عليـه ،حتـى أنعـم ع َّ
الهـواء ،ومل أُعلِـم أحـدا ً مـن أهـل بيتـي وال مـن غلماين وال مـن أصحايب.
ومل يـزل طائـرا ً يب ذلـك الرجـل ،وأنـا على أكتافـه حتـى علا يب يف الج ّو،
جبـت مـن ذلـك وقلـت: فسـمعت تسـبيح األملاك يف قبّـة األفلاك ،فتع َّ
م التسـبيح حتـى خرجـت نـار مـن سـبحان اللـه ،والحمدللـه! فلـم أسـتت ّ
السماء كادت تحرقهـم ،فنزلـوا جميعـاً ،وألقـوين على جبـل عـالٍ ،وقـد
صـاروا يف غايـة الغيـظ منـي ،وراحـوا وخلّـوين ،فصرت وحـدي يف ذلـك
إل باللـه
الجبـل ،فلمـت نفسي على مـا فعلـت ،وقلـت :ال حـول وال قـ ّوة ّ
أنجح من مصيبـة حتى أقع يف مصيبـة أقوى منها. ُ لي العظيـم .مـا إن الع ّ
ومل أزل يف ذلـك ،وال أعلـم أيـن أذهـب ،وإذا بغالمين سـائرين كأنهما
كل واحد منهام قضيب مـن ذهب ،يتعكَّز عليه ،فتقدَّمت قمـران ،ويف يـد ّ
لي السلام ،فقلـت لهما :باللـه عليكام، إليهما وسـلَّمت عليهما ،فـردّا ع َّ
مـن أنتما؟ ومـا شـأنكام؟ فقـاال يل :نحن مـن عباد اللـه (تعاىل) ثـم إنهام
أعطيـاين قضيبـاً مـن الذهـب األحمر الـذي كان معهما ،وانرصفا يف حال
سـبيلهام وخلَّيـاين .فصرت أسير على رأس الجبـل ،وأنـا أتعكـز بالعكّاز،
حيّـة قـد خرجـت مـن تحـت ذلـك وأتفكَّـر يف أمـر هذيـن الغالمين ،وإذا ب َ
الجبـل ،ويف فمهـا رجـل بلعتـه إىل تحـت رصتـه وهـو يصيـح ويقـول :من
99
كل شـدة ،فتقدَّمـت إىل تلـك الحيّـة ورضبتها
يخلِّصنـي يخلِّصـه اللـه مـن ّ
جـل مـن فمها.
بالقضيـب الذهبـي على رأسـها ،فرمـت الر ُ
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكالم املباح.
ويف الليلـة ( ،)555قالـت :بلغنـي -أيُّهـا امللـك السـعيد -أن السـندباد
البحـري مل ّـا رضب الح ّيـة بالقضيـب الذهب الـذي كان بيـده ،وألقت الرجل
يل الرجـل ،وقـال :حيـث كان خاليص على يديك مـن فمهـا ،قـال :فتقـدَّم إ َّ
مـن هـذه الح ّيـة ،فما بقيـت أفارقـك ،وأنـت رصت رفيقـي يف هـذا الجبـل،
فقلـت لـه :مرحبـاً .ورسنـا يف ذلـك الجبل ،وإذا بقـوم أقبلوا علينـا ،فنظرت
إليهـم فـإذا فيهـم الرجل الذي كان حملنـي عىل أكتافه وطـار يب ،فتقدَّمت
إليـه واعتـذرت لـه ،وتلطَّفـت بـه ،وقلـت لـه :يـا صاحبـي ،مـا هكـذا تفعـل
األصحـاب بأصحابهـم! فقـال يل الرجـل :أنت الـذي أهلكتنا بتسـبيحك عىل
ظهـري .فقلـت لـه :ال تؤاخـذين ،فـإين مل أكـن أعلـم بهـذا األمـر ،لكننـي ال
لي ألّ أذكر
أتكلَّـم ،بعـد ذلـك ،أبـدا ً ،فسـمح بأخـذي معـه ،لكنـه اشترط ع َّ
اللـه ،وال أسـ ِّبحه على ظهـره .ثـم إنـه حملنـي ،وطـار يب مثـل األ ّول حتـى
لي ،وه َّنأتني بالسلامة،
أوصلنـي إىل منـزيل ،فتلقَّتنـي زوجتـي ،وسـلَّمت ع َّ
وقالـت يل :احترس مـن خروجـك ،بعـد ذلـك ،مـع هـؤالء األقـوام ،وال
تعارشهـم؛ فإنهـم إخوان الشـياطني ،وال يعلمون ذكر اللـه (تعاىل) .فقلت
لهـا :كيـف حـال أبيـك معهـم؟ فقالـت يل إن أيب ليـس منهـم ،وال يعمـل
مثلهـم ،والـرأي عنـدي -حيـث مـات أيب -أنـك تبيع جميـع ما عندنـا ،وتأخذ
بثمنـه بضائـع ،ثـم تسـافر إىل بلادك وأهلـك ،وأنـا أسير معـك ،فليـس يل
حاجـة بالقعـود هنـا يف هـذه املدينـة ،بعـد أ ّمـي وأيب .فعنـد ذلـك رصت
أبيـع مـن متـاع ذلـك الشـيخ شـيئاً بعـد يشء ،وأنـا أترقَّـب أحدا ً يسـافر من
تلـك املدينـة ،فأسير معـه .فبينما أنـا كذلـك ،وإذا بجامعـة يف املدينـة
أرادوا السـفر ،ومل يجـدوا لهـم مركبـاً ،فاشتروا خشـباً وصنعوا لهـم مركباً
كبيرا ً ،فاكرتيـت معهـم ،ودفعـت إليهم األجـرة بتاممها .ثـم أنزلت زوجتي
وجميـع مـا كان معنـا يف املركـب ،وتركنـا األملاك والعقـارات ،فرسنـا
ومل نـزل سـائرين يف البحـر مـن جزيـرة إىل جزيـرة ،ومـن بحـر إىل بحـر،
100
وقـد طـاب لنـا ريـح السـفر ،حتـى وصلنـا -بالسلامة -إىل مدينـة البصرة،
فلـم أقـم بهـا ،بـل اكرتيـت مركبـاً آخـر ،ونقلـت إليـه جميـع مـا كان معـي،
جهـت إىل مدينـة بغـداد ،ثم دخلت حـاريت ،وجئـت داري وقابلت أهيل وتو َّ
وأصحـايب وأحبـايب وخ َّزنت جميع مـا كان معي مـن البضائع يف حواصيل،
وقـد حسـب أهلي مدَّة غيايب عنهم يف السـفرة السـابعة ،فوجدوها سـبعاً
فلم جئـت وأخربتهـم بجميع ما وعرشيـن سـنة حتـى قطعـوا الرجاء منـيّ .
جبون مـن ذلك األمـر عجباً كان مـن أمـري ،ومـا جـرى يل صـاروا كلَّهـم يتع َّ
كبيرا ً ،وقـد ه ّنـأوين بالسلامة ،ثـم إين تبـت إىل اللـه (تعـاىل) عـن السـفر
بر ويف البحـر ،بعـد هـذه السـفرة السـابعة التـي هـي غاية السـفرات يف ال ّ
وقاطعـة الشـهوات ،وشـكرت اللـه (سـبحانه وتعـاىل) ،وحم ْدتُـه ،وأثنيـت
عليـه ،ألنـه أعـادين إىل أهلي وبلادي وأوطـاين .فانظـر ،يـا سـندباد ،يـا
ربيبـ ّري ،مـا جـرى يل ،ومـا وقـع يل ،وما كان من أمـري! فقال السـندباد ال ّ
للسـندباد البحـري :باللـه عليـك ،التؤاخـذين مبـا كان م ّنـي يف حقِّـك .ومل
يزالـوا يف مـودّة مع بسـط زائـد وفرح وانشراح ،إىل أن أتاهم هـادم اللذّات
ومفـ ِّرق الجامعـات ومخـ ِّرب القصـور ومع ِّمـر القبـور؛ وهـو كأس املـوت،
الحـي الـذي ال ميـوت.
ّ فسـبحان
101
الفهرس
2011
عبد الرحمن الكواكبي طبائع االستبداد 1
غسان كنفاين برقوق نيسان 2
سليامن فياض األمئة األربعة 3
عمر فاخوري الفصول األربعة 4
عيل عبدالرازق اإلسالم وأصول الحكم -بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم 5
نبي
مالك بن ّ رشوط النهضة 6
محمد بغدادي صالح جاهني -أمري شعراء العامية 7
2012
أبو القاسم الشايب نداء الحياة -مختارات شعرية -الخيال الشعري عند العرب 8
سالمة موىس حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ
ّ 9
ميخائيل نعيمة الغربال 10
الشيخ محمد عبده واملدنية
ّ اإلسالم بني العلم 11
بدر شاكر السياب أصوات الشاعر املرتجم -مختارات من قصائده وترجامته 12
الطاهر حداد امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع 13
طه حسني الشيخان 14
محمود درويش ورد أكرث -مختارات شعرية ونرثية 15
توفيق الحكيم يوميات نائب يف األرياف 16
عباس محمود العقاد عبقرية عمر 17
عباس محمود العقاد الصديق
ّ عبقرية 18
عيل أحمد الجرجاوي/صربي حافظ رحلتان إىل اليابان 19
2013
ميخائيل الصقال لطائف السمر يف سكان ال ُّزهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية) 20
د .محمد حسني هيكل ثورة األدب 21
ريجيس دوبريه يف مديح الحدود 22
اإلمام محمد عبده السياسية
ّ الكتابات 23
عبد الكبري الخطيبي نحو فكر مغاير 24
روحي الخالدي تاريخ علم األدب 25
عباس محمود العقاد عبقرية خالد 26
خمسون قصيدة من الشعر العاملي أصوات الضمري 27
يحيى حقي مرايا يحيى حقي 28
عباس محمود العقاد عبقرية محمد 29
حوار أجراه محمد الداهي عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب 30
مجموعة مؤلفني العربية
ّ فتاوى كبار الك ّتاب واألدباء يف مستقبل اللّغة 31
2014
ترجمة :رشف الدين شكري عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد) 32
خالد النجار عامليني)
ّ ِساج ُّ
الرعاة (حوارات مع كُ تاب 33
ترجمة :مصطفى صفوان مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه) 34
د.بنسامل ِح ّميش سريت ابن بطوطة وابن خلدون
َ عن 35
ابن طفيل حي بن يقظان -تحقيق :أحمد أمني 36
ميشيل سار اإلصبع الصغرية -ترجمة :د.عبدالرحمن بوعيل 37
محمد إقبال محمد إقبال -مختارات شعرية 38
ترجمة :محمد الجرطي (تأمالت يف الحضارة ،والدميوقراطية ،والغريية)
تزفيتان تودوروف ُّ 39
أحمد رضا حوحو مناذج برشية 40
د.زيك نجيب محمود الرشق الف ّنان 41
ترجمة :يارس شعبان تشيخوف -رسائل إيل العائلة 42
مختارات شعرية إلياس أبو شبكة «العصفور الصغري» 43
2015
األمري شكيب أرسالن ملاذا تأخر املسلمون؟ وملاذا تقدم غريهم؟ 44
عيل املك مختارات من األدب السوداين 45
جرجي زيدان
ُ رحلة إىل أوروبا 46
د.عبدالدين حمروش عباد يف سنواته األخرية باألرس
بن َّ
ُعتمد ُ
ُ امل 47
سالمة موىس تاريخ الفنون وأشهر الصور 48
إيدوي بلينيل -ترجمة :عبداللطيف القريش من أجل املسلمني 49
يوسف ذَ نّون زِينة املعنى (الكتابة ،الخط ،الزخرفة) 50
أحمد فارس الشدياق الواسطة يف معرفة أحوال مالطة 51
دُ .محسن املوسوي النخبة الفكرية واالنشقاق 52
إيزابيل إيربهاردت ياسمينة وقصص أخرى 53
ترجمة وتقديم :بوداود عمري آباي (كتاب األقوال) 54
ترجمة :عبدالسالم الغرياين مأساة واق الواق 55
2016
محمد محمود الزبريي والفن والحضارة)
ّ واملد (صفحات يف اللّغة واآلداب
ّ بني الج ْزر 56
مي زيادة ظلّ الذّ اكرة (حوارات ونصوص من أرشيف «الدوحة») 57
قسم التحرير «مجلّة الدوحة» املرصية ( )1932تحقيق :رشيد العفاقي
ّ الرحلة الف ّنية إىل الديار 58
أليكيس شوتان -تعريب :عبد الكريم أبو علو قيرص وكليوبرتا 59
إسامعيل مظهر الصني وفنون اإلسالم 60
ترجمة :مي عاشور (مختارات ِش ْع ّ
رية للكاتب الصيني وانغ جو جن) براعم األمل ُ
ُ 61
محمد العرويس املطوي ال ّتوت امل ُّر 62
غونار إيكليوف درب الغريب 63
أحمد حافظ بك من والد إىل ولده 64
بول ُبورجيه التلــــميذ 65
تقديم وترجمة :طه باقر ِ
جلجامش ملحمة
َ 66
الشيخ مصطفى الغالييني أريج ال ّزهر
ُ 67
2017
محمد فريد سيالة
ّ اعرتافات إنسان 68
الطيب صالح مريود 69
عبدالله كنون املقاالت الصحفية 70
نجيب محفوظ قصص قصرية 71
إبراهيم الخطيب بول بولز -يوميات طنجة 72
سالمة موىس الحياة فن َ ّ 73
خري الدين التونيس ك ِف َم ْع ِر َف ِة َأ ْح َوالِ ال َْم َم ِل ِ
ك َأق َْو ُم ال َْم َسا ِل ِ 74
أحمد أمني َ
األخلق كتاب 75
فدوى طوقان ر ِْح َلةٌ َج َب ِل َّيةٌ ر ِْح َلةٌ َص ْع َبة 76
مجموعة من الكتاب ريةُ ِف قَطَ ر) صةُ ا ْلق ِ
َص َ ارات ِمن َا ْل ِق َّ
(مخ َت َ ِق ْ
ـطاف ُ 77
الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية (من رشقي إفريقية إىل غربيها) ج 1 :جول غابرييل فرين ،ترجمة :يوسف اليان رسكيس 78
جول غابرييل فرين ،ترجمة :يوسف اليان رسكيس الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية .ج2 : 79
2018
إسحق موىس الحسيني مذكرات دجاجة 80
نورمان ج .فينكلستاين -ترجمة :أحمد زراقي ماذا يقول غاندي عن الالعنف واملقاومة والشجاعة؟ 81
د .نزار شقرون نشأة اللوحة املسندية يف الوطن العريب 82
إس .إس .بيو -ترجمة :يعقوب رصوف -فارس منر والعظَ َم ِء الق َُدماء
ُ ِمن ِس َي ا َ
ألبْطَ ال 83
إغناطيوس كراتشكوفسيك العريب
ّ مقاالت ِف األدب ٌ 84
صوف
صموئيل ساميلز -ترجمةَ :يعقُوب َ ُّ س ال َّن َج ِ
اح ِ ُّ 85
ُم َعاو َِية ُم َح َّمد نُور ِم ْن آ َثا ِر ُم َعاو َِية ُم َح َّمد نُور 86
أحمد الهاشمي الع ْ ِ
ص َّية ات َ اء املُكَ ات ََب ِ
ِنش ُ
إ َ 87
ترجمة :عبدالرحمن الخمييس وآخرين السوفْيي ِّتي
ُّ ِ
ر ع
ْ الش
ِّ ن
َ ِ
م ارات
ٌ ت
َ خْ م
ُ - أكتوبر أجراس 88
اختارها وترجمها :جربا إبراهيم جربا حكايات من الفونتني 89
ألبريطو مانْغيل -ترجمة :إبراهيم الخطيب مع بورخيس 90
لوسيان جولدمان ،ناتايل ساروت ،آالن روب الرواية الجديدة والواقع 91
غرييه ،جينفياف مويلو .ترجمة :رشيد بنحدو
2019