You are on page 1of 160

‫ُ‬

‫ُم َعايشـ ــة الق ـ ــرآن الكريـ ــم‬


‫"منوذج تدبر ومنهج حياة"‬

‫امل�ؤلف‬
‫بالل حممود طلب‬

‫(‪1440‬هـ ‪2018 -‬م)‬


‫حقوق الطبع حمفوظة للم�ؤلف‬

‫الطبعة الأوىل‬
‫‪1437‬هـ ‪2016 -‬م‬

‫رقم الإيداع‪2016/10951 :‬‬

‫منافذ البيع‬
‫جمعية عليني ‪� 47 :‬ش نعمان جمعة ــ احلى الثانى ــ مدينة العبور‬
‫مكتبة املدينة ‪� :‬أمام �سنرت العبور ــ احلى الأول ــ مدينة العبور‬

‫للتوا�صل‬
‫�أرقام التليفونات ‪01011369824 _ 0111709869 :‬‬
‫�صفحة الفي�س بوك ‪ :‬معاي�شة القر�آن الكرمي‬
‫الربيد الإلكرتونى ‪belalte777@yahoo.com :‬‬
4
‫املقدمــة‬
‫ب�س��م اهلل واحلم��د هلل وال�ص�لاة وال�سالم عل��ى ر�س��ول اهلل وعلى �آله‬
‫و�صحبه ومن تبع هداه‪ ،‬وبعد‪...‬‬
‫بحكم درا�ستى �أراجع كت��ب التف�سري و�أكرث من االطالع فيها‪ ،‬حماوال‬
‫فهم القر�آن الكرمي‪ ،‬واملحاور التى يدور حديثه عنها‪ ،‬بل �إنى خ�ص�صت‬
‫�سن��ة كاملة للقر�آن الكرمي ال �أقر�أ �إال ف��ى كتب التف�سري‪ ،‬تتبعت فيها‬
‫الق��ر�آن الآية �آية‪� ،‬أقف مع �أقوال املف�سري��ن فيها‪ ،‬واملعانى التى يدور‬
‫القر�آن حولها‪.‬‬
‫وما زلت بعد هذه التجربة �أتابع النظر فى القر�آن الكرمي‪ ،‬و�أقلب فى‬
‫كتب التف�سري‪ ،‬وبعد فرتة �س�ألت نف�سى �س�ؤالني ‪:‬‬

‫الأول ‪ :‬ماذا بعد كل ما قيل ىف التفسـري؟ وأغلب ما يقال اآلن فيه هو تكرار ملا سـبق‬
‫قـوله‪ ،‬واس�تدعاء للامىض دون إضافة‪ ،‬فال تكاد تفتح كتابامن كتب التفسير املعارصة‬
‫إال وجت�د نفس األقوال ونفس االختلاف‪ ،‬اللهم إال ما قل من حماوالت جدية أضافت‬
‫جديدا وأفادت علام‪.‬‬
‫الثانى ‪ :‬ماذا عن عموم املسلمني؟ ماذا عن الذين مل يؤ َتوا حظا من التخصص الذى‬
‫ّ‬
‫يمكنهم من القراءة ىف كتب التفسير‪ ،‬واملهارة ىف التعامل مع لغة املفرسين‪ ،‬ومناهجهم‬
‫املختلفة ىف العرض والتفسـري؟ ماذا عن موقفهم من كتاب رهبم وهم ال يعرفون معنى‬
‫ما يقرءون؟ فكيف به يعملون؟‬
‫ولإلجابة عىل هذين السؤالني وجدت أن احلل هو تدبر القرآن الكريم‪ ،‬وبذل قصارى‬
‫اجله�د ىف التفكير وإمعان النظر في�ه‪ ،‬وأنه الوس�يلة إىل إضافة اجلديد واس�تخراج ما مل‬
‫يس�تخرجه السابقون‪ ،‬ال س�يام إذا كان املتدبرون من ذوى التخصص ىف اللغة والتفسري‬
‫وعلوم الرشيعة اإلسالمية الغراء‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫كما أن التدبر يصلح أن يكون وس�يلة لعموم املس�لمني الذى حيتاج�ون إىل التعامل‬
‫م�ع كتاب رهبم دون أن يؤ َتوا من العلم ما جيعلهم يتعاملون مع كتب التفسير املختلفة‬
‫بنفس مهارة املتخصصني‪.‬‬
‫على حني فكرت ىف وضع نم�وذج لتدبر الق�رآن الكريم‪ ،‬أقدمه‬ ‫م�ن اهلل تعاىل ّ‬
‫ولق�د ّ‬
‫للن�اس ليتفاعلوا مع كتاب رهبم‪ ،‬فام هو إال آلي�ة للتدبر والتحليل والوقوف أمام اآلية‬
‫بمزيد من التفكر ليتحقق به معايشة القرآن الكريم‪.‬‬
‫وضع�ت نم�وذج (التحلي�ل املنظومى والنم�وذج احلضارى) وب�دأت أدرب بعض‬
‫أصحاب�ى وتالمي�ذى علي�ه‪ ،‬وبعضهم ممن درس�وا ىف األزه�ر وغريه وأوت�وا نصيبا من‬
‫التخص�ص‪ ،‬وأغلبهم من ذوى الثقافة والتعليم ىف ختصص�ات أخرى‪ ،‬ويتمتعون بقدر‬
‫من الذكاء واملعرفة التعليمية التى متكنهم من التفاعل والتجاوب مع هذا النموذج‪.‬‬
‫جرب�ت ه�ذا النم�وذج معهم ألرى م�دى نجاحه واألخط�اء التى يمك�ن أن تكون‬
‫في�ه لتعديل�ه وتطويره‪ ،‬تاركا للتجربة هى التى تتكل�م‪ ،‬وللمتدربني هم الذين حيكمون‬
‫ويقيمون النموذج‪.‬‬
‫ّ‬
‫ولقد كانت التجربة بفضل اهلل تعاىل ناجحة من حيث اجلملة‪ ،‬وقد خرجت منها بام يىل‪:‬‬
‫‪ -1‬جرب�ت ه�ذا األمر م�ع أول جمموع�ة أدرهبا عىل فه�م النموذج واس�تعامله ىف تدبر‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬فتجاوبوا معه وخرجوا يعرفون كيف يستعملونه‪ ،‬ناوين أن يعقدوا‬
‫ورشات عمل مستمرة لتدبر القرآن هبذا النموذج‪.‬‬
‫‪ -2‬ومل�ا رأيت النج�اح مع هذه املجموع�ة والتجاوب مع النم�وذج عزمت عىل تكرار‬
‫التجربة مع جمموعة أخرى‪ ،‬وقد كان‪ ،‬فدربت عليه إىل هذا احلني ثالث جمموعات‬
‫أخ�رى غري املجموعة األوىل‪ ،‬وكلها بفضل اهلل تع�اىل كانت نتائجها ال ختتلف عن‬
‫نتيجة املجموعة األوىل‪.‬‬
‫‪ -3‬بعد التدريب عىل استعامل نموذج (التحليل املنظومى والنموذج احلضارى) مل تنقطع‬
‫عالق�ة املجموع�ات التى تدرب�ت عليه بانتهاء ال�دورة التدريبي�ة إال بعض األفراد‬
‫لظروفه�م اخلاص�ة بوقتهم وانش�غاهلم‪ ،‬بل كان�ت املجموعات تلتحق بورش�ات‬
‫‪6‬‬
‫العم�ل املنعقدة لتدبر القرآن الكريم مع إخواهنم وأخواهتم‪ ،‬فكان األمر أكثر إثراء‬
‫هلم ىف التدريب عىل تدبر القرآن واستخراج كنوزه‪.‬‬
‫‪ -4‬قمنا بوضع خطة أولية ىف ورش�ات العمل إلنجاز جزء عم تدبرا له باس�تعامل هذا‬
‫النموذج‪ ،‬ليكون نقطة بداية لالنطالق إىل اس�تكامل املسرية مع القرآن كله‪ ،‬وقد تم‬
‫لنا هذا األمر وأوشك جزء عم عىل االنتهاء بإذن اهلل تعاىل‪.‬‬
‫‪ -5‬مم�ا يميز ه�ذه التجربة (الدورات التدريبي�ة عىل النموذج‪ ،‬ثم ورش�ات العمل) أن‬
‫أغلب املش�اركني هبا من غري املتخصصني ىف العلوم الرشعية‪ ،‬وهذا يعنى بناء عىل‬
‫واقع التجربة ـ أن النموذج قد أجاب عىل السؤال الثانى الذى سبق‪ ،‬وأنه قد ساهم‬
‫ـ ولو بجزء ـ لس�د ه�ذا االحتياج اخلاص بعموم املس�لمني الذين جيب أن يرتبطوا‬
‫بكتاب اهلل تعاىل‪ ،‬وأن يتفاعلوا مع آياته‪.‬‬
‫‪ -6‬كما أن بع�ض إخواننا من طلب�ة العلم املتخصصين قد وجد ىف ه�ذا النموذج وىف‬
‫منتجاته ما يش�بع بغيته وما يضيف له جديدا من معانى القرآن الكريم‪ ،‬وما يضيف‬
‫جدي�دا بصناع�ة واقع صحيح ينبث�ق ىف تصورات�ه ومفرداته وإجراءات�ه من القرآن‬
‫الكريم‪.‬‬

‫خصائ ــص ه ــذا النم ـ ــوذج ‪:‬‬


‫‪ -1‬من خصائص هذا النموذج أنه هيتم بالناحية العملية ىف حتويل تعاليم القرآن الكريم‬
‫ورس�ائله إىل إجراءات عملية حمددة‪ ،‬ومه�ارات يمكن التدريب عليها‪ ،‬وقيم جيب‬
‫الرتبي�ة عليه�ا‪ ،‬انطالقا من قول أم املؤمنني عائش�ة رىض اهلل عنها حني س�ئلت عن‬
‫خلق النبى ﷺ‪« :‬كان خلقه القرآن»(((‪.‬‬

‫‪ -1‬رواه أمح�د ‪ :‬املس�ند (‪183/42‬ـ رق�م ‪ )25302‬طبع�ة الرس�الة ـ حتقيق ش�عيب األرنؤوط وغريه ـ‬
‫الطبع�ة األوىل ‪1421‬ه�ـ ـ ‪2001‬م‪ ،‬وق�د صح�ح إس�ناده املحقق‪ .‬وهو ج�زء من حديث رواه مس�لم بلفظ‬
‫« َفإِنَّ ُخ ُل َق َنبِ ِّي اهللِ َصلىَّ ُ‬
‫اهلل عَ َل ْيه ِ َو َس َّ�ل َم َكانَ ا ْل ُق ْرآنَ » من كتاب صالة املس�افرين وقرصها ـ باب جامع صالة‬
‫الليل ومن نام عنه أو مرض‪ ،‬صحيح مسلم برشح النووى (‪ 280/3‬ـ ق ‪ )746‬دار احلديث ـ الطبعة األوىل‬
‫‪1415‬هـ ـ ‪1994‬م ـ حتقيق عصام الصبابطى وغريه‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫فتحوي�ل الق�رآن إىل واقع عمىل وإجراءات ومهارات حمددة هو ما ينبغى أن هنتم به‪،‬‬
‫وأن نعطيه عناية خاصة لعالج واقع املسلمني ومعاجلة اآلفات التى أصابت املجتمع‬
‫املسلم‪.‬‬
‫‪ -2‬ه�ذا النم�وذج جمرد آلية للتحليل من خالل وحداته الثامنية‪ ،‬ثم يرتك للعقل اإلمعان‬
‫والتفك�ر‪ ،‬وكأنه يطرح أس�ئلة عىل الورش�ة التى تتدبر لتُجرى نقاش�ا حول اللفظة‬
‫القرآنية أو اآلية لكى جتد إجابات عىل هذه األسئلة‪.‬‬
‫ولذلك فإن هذا النموذج يعتمد عىل أمرين لتفعيله بشكل جيد ‪:‬‬
‫الأول ‪ :‬التفكري وإمعان النظر وبذل قصارى اجلهد ىف التدبر والتأمل‪.‬‬
‫الثانى ‪ :‬العمل اجلامعى من خالل ورشة عمل بني جمموعة من املتعلمني ليتناقشوا ىف‬
‫اآلية الكريمة‪ ،‬وحياولوا إجياد إجابات عىل أسئلة يطرحها النموذج‪.‬‬
‫فقد وضعت النموذج ىف األس�اس ليطبق هبذه الطريق�ة ىف التفكر والعمل اجلامعى‪،‬‬
‫وقد حقق نجاحه من خالل نتائجه ىف الواقع واستمتاع املتدربني به‪.‬‬
‫وه�ذا ال يعن�ى أن�ه ال يصل�ح أداة للتدبر من خلال تفكر فردى‪ ،‬ولكن اس�تخدامه‬
‫للش�خص الواح�د حيت�اج إىل مهارة أكثر ووق�ت للتعامل معه‪ ،‬فإذا ما اعت�اد الفرد عىل‬
‫اس�تعامله ىف جمموعة عمل فرتة من الوقت اكتسب املهارة ىف التعامل معه بشكل فردى‪،‬‬
‫وهذا الوقت قد يطول أو يقرص حسب إمكانات الفرد وقدرته عىل االستيعاب‪ ،‬فالفروق‬
‫الفردية ىف استعامل هذا النموذج مما يميزه حتى ىف العمل اجلامعى داخل الورشة‪.‬‬
‫ولكن نتائج اس�تعامله الفردى لن تكون أفضل من نتائج العمل اجلامعى الذى يثريه‬
‫النق�اش واحل�وار وط�رح األس�ئلة وحماولة اإلجاب�ة عليه�ا‪ ،‬واألخذ وال�رد ىف الكالم‪،‬‬
‫وتب�ادل األفكار بني املجموع�ة‪ ،‬فاألفكار تتالقح لتولد أفكارا وأف�كارا أنضج وأقرب‬
‫إىل الصواب‪.‬‬
‫وليس هذا جمرد كالم نظرى أقوله من تصورى وخميلتى‪ ،‬بل هو ما أثبتته كل التجارب‬
‫السابقة مع جمموعات العمل ممن تدربوا عىل التدبر هبذا النموذج‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫‪ -3‬كما أن ه�ذا النم�وذج ىف وحدات�ه الثامنية ال ينح�و ـ ىف أغلبه ـ منح�ى املصطلحات‬
‫واأللف�اظ املتخصص�ة ىف علوم الرشيع�ة‪ ،‬بل مصطلحات�ه ىف أغلبه�ا عادية يعرف‬
‫أص�ل معناها أى متعل�م‪ ،‬ويبقى فقط رشح كيفية تفعيله�ا من خالل التدريب عىل‬
‫النموذج‪.‬‬
‫خ�ذ مثاال عىل ذلك ‪( :‬العالقات) وهى تش�كل وحدة كاملة من وحدات النموذج‪،‬‬
‫وتعن�ى البحث عن العالق�ات بني اجلمل القرآنية ىف اآلية الواح�دة‪ ،‬ثم بني اآليات‪ ،‬ثم‬
‫العالقات بني السور‪.‬‬
‫فكأهنا تطرح أسئلة ‪ :‬ملاذا جاءت هذه اآلية بعد تلك؟‬
‫مل�اذا اش�تملت ه�ذه اآلية عىل ه�ذه املجموع�ة م�ن التعاليم الت�ى تفي�د ىف ظاهرها‬
‫موضوعات خمتلفة؟‬
‫ملاذا ربطت السورة بني هذين املوضوعني‪ ،‬أو هذه املوضوعات املختلفة؟‬
‫ملاذا جاء ذكر كذا بعد كذا؟‬
‫وهل ذكر هذا األمر بعد ذاك املوضوع يسهم ىف تكوين صورة متكاملة عن املوضوع؟‬
‫وكيف يكون ذلك؟‬
‫كله�ا أس�ئلة تطرحها وح�دة العالق�ات ىف نم�وذج ( التحليل املنظوم�ى والنموذج‬
‫احلض�ارى) وعلى املجموعة التى تتدبر القرآن داخل الورش�ة أن حت�اول إجياد إجابات‬
‫عليه�ا‪ ،‬ب�ل وتطرح أس�ئلة أخرى م�ع إجاباهتا‪ ،‬وليس ه�ذا كام يتص�ور البعض باألمر‬
‫العسير‪ ،‬ب�ل ثبت عمليا أن التدب�ر ىف إجياد العالق�ات أمر ممكن‪ ،‬وأحيان�ا مع قليل من‬
‫التفك�ر تص�ل املجموع�ة إىل إجاب�ات هائل�ة‪ ،‬وتس�تخرج كنوزا م�ن املعرف�ة واملعانى‬
‫واإلحياءات والرسائل القرآنية من خالل ربط اآلية أو السورة بني موضوعات خمتلفة‪.‬‬
‫وكل ذلك سوف يتضح أكثر باألمثلة عند رشح العالقات ىف هذا النموذج‪.‬‬
‫‪ -4‬هيت�م ه�ذا النم�وذج باجلان�ب املقاصدى للق�رآن الكري�م‪ ،‬وإبراز القي�م املقاصدية‬
‫الكلي�ة واجلزئية‪ ،‬وفه�م األحكام القرآنية غير معـزولة عن مقاصـده�ا وأهدافها‬
‫ِ‬
‫وحكمه�ا التى تراد منها‪ ،‬فالقرآن مل يع�رض األحكام أبدا بمعزل عن املقاصد منها‬
‫‪9‬‬
‫كما تعرضها كتب الفقه‪ ،‬بل ال تكاد ختلو اآلية من مقصد أو أكثر‪ ،‬إما بالنص عليه‬
‫أو باالستنباط‪ ،‬وما علينا إال أن نتأمل ونتدبر لنعرف‪.‬‬

‫سب ـ ــب التسمي ـ ـ ــة ‪:‬‬


‫آثرت هذه التس�مية ( التحليل املنظومى والنموذج احلضارى) ألهنا تعرب عن طريقة‬
‫خاصة ىف التفكري وإمعان النظر طبقا للنموذج‪.‬‬
‫فه�ى �أوال ‪ :‬طريقة حتليلية‪ ،‬حيث حتلل اآلي�ة إىل عنارصها التى تكونت منها‪ ،‬فتقف‬
‫مع كل لفظة ومجلة قرآنية‪ ،‬تستدعى ما هبا من إحياءات ومعان‪.‬‬
‫ثاني��ا ‪ :‬هى طريقة منظومي�ة‪ ،‬يعنى ال تفكر ىف اآلية وتتدبرها منفصلة عن س�ياقها‪،‬‬
‫ب�ل تضع اآلية ىف س�ياقها املنظومى بني اآلي�ات قبلها وبعدها‪ ،‬ثم ىف س�ياق القرآن كله‬
‫تستدعى اآليات األخرى وطريقة استعامل القرآن هلذه اللفظة أو العبارة‪.‬‬
‫وعك�س التفكير املنظومى ه�و التفكري اجلزئى ال�ذى يولد الس�طحية وعدم الفهم‬
‫املتكامل للموضوع‪.‬‬
‫فم�ن كان تفكريه ىف اآلي�ة جمرد أن يعرف معانى املفردات واألحكام التى اش�تملت‬
‫عليها اآلية دون ربط فيام بينها‪ ،‬وربط فيام بينها وبني غريها من اآليات السابقة والتالية‪،‬‬
‫ورب�ط فيما بينها وبني القرآن كله ـ فمن كان تفكيره هكذا فقد أخذ جزءا من الصورة‪،‬‬
‫بل ربام أخذ هذا اجلزء بفهم معيب‪ ،‬ومل يفهم القرآن حق فهمه‪.‬‬
‫إن التـفكري ىف الـقرآن هبذه الطريقة املنظـومية التى تربط بني األجزاء بش�ـكل يش�به‬
‫س�لك واحد‪ ،‬أو الس�بحة التى جيم�ع حباتهِ ا ٌ‬
‫حبل‬ ‫ٌ‬ ‫النظ�م (كالعق�د الذى جيمع حلقاتِه‬
‫واحد) ينمى عقل املسلم ويرقيه‪ ،‬وجيعله أكثر فهام لروح اإلسالم وتعاليمه‪ ،‬وأكثر وعيا‬
‫ألولوياته ومقاصده‪.‬‬
‫ففه�م قوله تعاىل ىف أول م�ا نزل ﴿ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﴾ ال ينفك عن قوله تعاىل ىف‬
‫آيات كثرية ‪:‬‬
‫﴿ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﴾ (يونس ‪ :‬اآلية ‪.)94‬‬
‫‪10‬‬
‫﴿ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﴾‪.‬‬
‫﴿ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﴾ (اإلرساء ‪ :‬اآلية ‪.)14‬‬
‫﴿ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﴾‬
‫(اإلرساء‪ :‬اآلية ‪.)45‬‬
‫﴿ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ﴾‬
‫(اإلرساء‪ :‬اآلية ‪.)71‬‬
‫﴿ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﴾ (اإلرساء ‪ :‬اآلية ‪.)93‬‬
‫﴿ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﴾ (اإلرساء ‪ :‬اآلية ‪.)106‬‬
‫﴿ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ﴾ (املزمل ‪ :‬اآلية ‪.)20‬‬
‫يكون ىف عقله منظومة حضارية عن القراءة‬
‫اس�تدعاء كل هذه اآليات جيعل املس�لم ّ‬
‫وأمهيتها‪ ،‬ليس ىف الدنيا فحسب‪ ،‬بل ىف الدارين الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫ففه�م الص�ورة الكاملة والتصور القرآن�ى املتكامل عن املوضوع ل�ن يتأتى إال هبذه‬
‫الطريقة املنظومية ىف التفكري‪.‬‬
‫ويس�تطيع املسلم املتعلم ـ ولو كان غري متخصص ىف العلوم الرشعية ـ أن يتتبع هذه‬
‫اآليات من خالل استخدام ( املعجم املفهرس أللفاظ القرآن الكريم) للشيخ حممد فؤاد‬
‫عب�د الباقى‪ ،‬ويضعه�ا أمامه مجيعا‪ ،‬ثم يطل�ق لفكره العنان ىف التدبر والتأمل واملناقش�ة‬
‫واحلوار‪ ،‬وساعتها ستكون النتائج مبهرة‪.‬‬
‫جرب هذا من إخواننا يعرف معنى ما أقوله وقد ذاق طعم النتائج بالفعل‪.‬‬
‫ومن ّ‬
‫ثالثا ‪ :‬يبقى ىف فهم اس�م النموذج اجلزء األخري منه (النموذج احلضارى) وهو يعرب‬
‫ع�ن الوح�دة الثامنة‪ ،‬وهى متث�ل جوهرة الت�اج ىف النموذج كله‪ ،‬ووضعه�ا ىف منتصف‬
‫النم�وذج ـ كما س�يأتى ىف الرس�م التخطيط�ى للنموذج ـ يعبر عن أمهية ه�ذه الوحدة‬
‫وقيمتها ىف النموذج‪ ،‬وأن كل الوحدات الس�بع الس�ابقة عليه�ا ينبغى أن تصب ىف هذه‬
‫الوحدة‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫ولذلك آثرت أن أدخل اس�م هذه الوحدة ىف عنوان النموذج‪ ،‬وس�وف يأتى بالرشح‬
‫واألمثلة ماذا نقصد بالنموذج احلضارى‪ .‬وإنام املقصود هنا فقط إبراز سبب التسمية‪.‬‬

‫كلمـ ـ ــة ع ـ ــن تدبـ ــر القـ ـ ـ ــرآن الكري ـ ــم ‪:‬‬
‫ال ش�ك أن التفسير للمتخصصني ممن حباهم اهلل تعاىل واختاره�م للتفقه ىف الدين‬
‫وطلب علوم رشيعته حتى صاروا علامء يستطيعون تفسري القرآن الكريم‪.‬‬
‫وهن�اك طائف�ة أقل ىف املنزلة من العلامء ولكنهمأكثر ع�ددا منهـم‪ ،‬وهم طلبة العـلم‬
‫الرشع�ى‪ ،‬حي�ث يس�تطيعون التعام�ل م�ع كت�ب التفسير والق�راءة فيها وفه�م لغتها‬
‫تدرج ىف الطلب والتخصص‬ ‫ومنهجه�ا‪ ،‬وما يمكن أن يؤخذ منها وأن يرتك‪ ،‬وبعضهم َّ‬
‫لدرج�ة أنه يقدر عىل الرتجيح بني األقوال واالختالفات ىف اآلية‪ ،‬فهؤالء وإن مل يصلوا‬
‫إىل مرتب�ة أهن�م يق�درون أن يفرسوا القرآن إال أهنم يس�تطيعون التعامل م�ع ما قيل وما‬
‫كتب ىف التفسري‪.‬‬
‫وكل من الطائفتني الس�ابقتني ـ العلامء والطلبة ـ ال يش�كلون أغلب املس�لمني‪ ،‬بل‬
‫ال جي�اوزون معش�ار املس�لمني‪ ،‬فامذا ع�ن األعم األغل�ب من مجاهري املس�لمني؟ كيف‬
‫يتعاملون مع هذا الكتاب الذى نزل هلدايتهم؟‬
‫م�اذا عن عموم املس�لمني الذين جيب ربطه�م بالقرآن الكريم ينهل�ون منه كام ينهل‬
‫غريهم؟‬
‫لق�د أن�زل اهلل كتابه ليكون نفعا للناس كلهم‪ ،‬وليقرأه كل املس�لمني ويتدبروا آياته‪،‬‬
‫والنبى‬
‫ّ‬ ‫نفسه‬
‫فليست قراءة القرآن للعلامء وطلبة العلم الرشعى فحسب‪ ،‬بل دعا القرآن ُ‬
‫ﷺ عموم املسلمني إىل مداومة قراءة القرآن واالستامع إليه بإنصات‪.‬‬
‫* قـال تعاىل‪﴿ :‬ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﴾ (اإلس�ــراء‪:‬‬
‫اآلية ‪.)106‬‬
‫﴿ ﭢ ﭣ ﭤ ﴾ (املزمل ‪ :‬اآلية ‪.)4‬‬
‫‪12‬‬
‫﴿ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﴾ (املزمل ‪ :‬اآلية ‪.)20‬‬
‫﴿ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ‬
‫ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ﴾ (فاطر ‪ :‬اآلية ‪.)29‬‬

‫��ذي َي ْق َر ُ�أ ا ْل ُق ْر�آنَ َو َي َت َت ْع َت ُع ِف ِ‬


‫يه‪،‬‬ ‫ام ا ْلبرَ َ َر ِة‪َ ،‬وا َّل ِ‬ ‫اه ُر ِبا ْل ُق ْر� ِآن َم َع َّ‬
‫ال�س َف َر ِة ا ْل ِك َر ِ‬ ‫« المْ َ ِ‬ ‫وق�ال ﷺ‬
‫اق‪َ ،‬ل ُه �أَ ْج َر ِان»(((والنصوص ىف ذلك كثرية ومعلومة‪.‬‬
‫َوهُ َو َع َل ْي ِه َ�ش ٌّ‬

‫وإذا كان اإلسالم ـ قرآنا وسنة ـ قد دعا إىل القراءة واعتربها من أفضل ما يتقرب به‬
‫املسلم إىل اهلل تعاىل فهل هى قراءة بدون تدبر وتأمل؟‬
‫ال ش�ك أن االنتفاع بقراءة القرآن الكريم ل�ن يقع عىل الوجه األمثل الذى يريده اهلل‬
‫تعاىل بدون فهم ملعانيه‪ ،‬ووعى بام يأمر اهلل به وينهى عنه‪ ،‬ليحصل بذلك االمتثال ألوامر‬
‫اهلل تع�اىل‪ ،‬وحصول التدين الصحيح الذى يريده اهلل من�ا‪ ،‬وأغلب الذين يقرءونالقرآن‬
‫من غري املتخصصني‪ ،‬فامذا يفعلون؟‬
‫املخرج ـ إذن ـ هو التدبر ومعايشة آيات القرآن الكريم‪ ،‬وأن حياول املسلم التأمل بام‬
‫أوتى من فهم وعقل‪ ،‬يستوى ىف ذلك العقل مع العلامء واملتخصصني‪ ،‬وليس كل مسلم‬
‫مطالبا بأن يكون متخصصا ىف علوم الرشيعة والتفسري لكى يقرأ القرآن‪ ،‬بل هو مطالب‬
‫بأن يفهم ما يقرأ ويعى ما ُيتىل‪ ،‬وحياول أن ُي ِ‬
‫لقى س�معه للتالوة‪ ،‬وأن يكون قلبه حارضا‬
‫وعقله متدبرا أثناء تالوته أو اس�تامعه للقرآن‪ ،‬وس�وف حيصل الكثري من اإليامن والفهم‬
‫بمجرد فعل ذلك‪ ،‬األمر ليس عسريا‪ ،‬عىل املسلم فقط أن يتدبر وسوف جيد ثمرة تدبره‬
‫ىف حالوة اإليامن‪ ،‬وىف لذة القرآن‪ ،‬قال تعاىل ‪:‬‬

‫‪ -2‬رواه البخ�ارى ‪ :‬التفسير ـ ب�اب س�ورة عبس‪ ،‬انظ�ر صحيح البخ�ارى مع فتح الب�ارى البن حجر‬
‫(‪560/8‬ـ ق ‪ )4937‬دارالري�ان ـ برتقيم حممد فؤاد عب�د الباقى وتعليق حمب الدين اخلطيب ـ الطبعة الثانية‬
‫‪1407‬ه�ـ ـ ‪1987‬م‪ .‬ورواه مس�لم باللف�ظ املذكور ‪ :‬صالة املس�افرين وقرصها ـ باب فض�ل املاهر بالقرآن‬
‫والذى يتتعتع فيه (‪343/3‬ـ ق ‪.)798‬‬

‫‪13‬‬
‫﴿ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ‬
‫ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﴾ (األنفال ‪ :‬اآلية ‪.)2‬‬
‫فأي�ن املس�لمون من زي�ادة اإليامن بسماع القرآن؟ لن يك�ون ذلك إال بتدب�ر القرآن‬
‫الكريم!‬
‫لقد دعا القرآن الكريم قارئيه ومستمعيه إىل التدبر والتأمل فقال تعاىل ‪:‬‬
‫﴿ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ﴾ (النساء‪:‬‬
‫اآلية ‪.)82‬‬
‫﴿ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﴾ (حممد ‪ :‬اآلية ‪.)24‬‬
‫فجع�ل اهلل الن�اس مع الق�رآن ـ ىف هذه اآلية ـ على حالني ‪ :‬ح�ال املتدبرين الواعني‬
‫ملعانيه املتأملني لعجائبه‪ ،‬فإن مل يكونوا كذلك فليس هلم إال احلال الثانية‪:‬‬
‫قلوب ُق ْفل وعقول ُغ ْفل وهم أغلب الناس!!! وياحرسة عىل العباد !!!‬
‫وىف اآلية عظيمة وبنظم بديع يبني اهلل تعاىل سبب نزول القرآن ‪:‬‬
‫﴿ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ﴾ (ص‪ :‬اآلية ‪.)29‬‬
‫فام أعظم هذه اآلية ىف بيان أمهية التدبر لعموم الناس كلهم!‬
‫إن الغاية من نزول القرآن طبقا هلذه اآلية الكريمة هى التدبر ﴿ﭶ ﭷ﴾‪.‬‬
‫إن بركة القرآن وخريه الذى جيب أن يفيض عىل الناس مفتاحه التدبر ﴿ﭵ ﭶ‬
‫ﭷ﴾‪.‬‬
‫إن املتدبرين هم ﴿ ﭹ ﭺ﴾‪.‬‬
‫فأصحاب العقول الس�ليمة فقط هم من يتدب�رون القرآن ﴿ ﭸ ﭹ ﭺ﴾‬
‫وما وراء ذلك عقول سقيمة قد ُجعلت عليها أقفاهلا‪.‬‬
‫وخالصة األمر أن القرآن نزل لنتدبره‪ .‬وأننا نقرؤه لنتدبره‪ .‬وأننا نستمع إليه وننصت‬
‫لنتدب�ره‪ .‬وأننا نحفظ آياته لنقرأها عن ظهر قل�ب لنتدبره أكثر‪ .‬وأننا نعلمه أوالدنا من‬
‫أجل أن يأتى اليوم ليقرءوه بتدبر‪ .‬فلن ينتفع بالقرآن إال من تدبره‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫ولن يفهم اإلسلام إال من تدبر القرآن‪ ،‬ومن مل يعش مع القرآن فال ِّ‬
‫يصدع رءوس�نا‬
‫باحلديث عن اإلسلام‪ ،‬فمحال أن يفهم اإلسلام من مل يفهم كتاب اهلل‪ ،‬وحمال أن يفهم‬
‫كتاب اهلل من مل يعش معه بعقله وقلبه‪ ،‬فالقرآن لن يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك‪.‬‬
‫وال يمك�ن أن حيت�ج أح�د ب�أن عم�وم الناس لي�س من حقه�م تفهم معان�ى القرآن‬
‫بمفردهم ألهنم ليس�وا من ذوى العلم‪ ،‬بل عليهم أن يس�ألوا العلامء عن معانى القــرآن‬
‫﴿ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾ (األنبياء ‪ :‬اآلية ‪.)7‬‬
‫ال جي�وز أن يقول أحد ذلك؛ ألن نص�وص القرآن تدعو إىل التدبر لكل الناس‪ ،‬وإال‬
‫فلامذا حث الرشع عىل قراءة القرآن لكل أحد‪ ،‬ومل خيص عاملا من غريه؟!‬
‫يتقول املسلم عىل اهلل بام ال يعلم‪ ،‬وال أن خيوض ىف آيات اهلل‬
‫وتدبر القرآن ال يعنى أن ّ‬
‫بغري علم‪ ،‬فهذا ال جيوز بال شك‪ ،‬ولكن كل ما يعنيه هو استحضار القلب والعـقل عند‬
‫قراءتـه‪ ،‬والتفـاعل معه بكليته‪ ،‬عس�ى أن يزداد إيامنه‪ ،‬ويتفهم من معـانيه ما سهل عليه‬
‫فهمه‪ ،‬ويبقى ما غمض عليه بسبب قلة علمه مرتوكا لسؤال العلامء إن أراد‪.‬‬
‫األم�ر ليس عسيرا‪ ،‬وكثري من ألفاظ الق�رآن وآياته ال حيتاج إىل تفسير‪ ،‬فقط حيتاج‬
‫املرء معه إىل وعى وتدبر لينتفع بالقرآن‪.‬‬
‫ه�ذا ع�ن تدبر القرآن بمجرد تالوته أو االس�تامع إليه‪ ،‬أما التدب�ر الذى نقصده وفق‬
‫النموذج الذى وضعناه لذلك فهو أعىل مستوى من جمرد التالوة أو االستامع بتمعن؛ إذ‬
‫إنه يعتمد عىل ثالثة أمور ‪:‬‬
‫الأول ‪ :‬ختصيص اآلية أو قليل من اآليات ىف جلسة التدبر والوقوف أمامها طويال‪.‬‬
‫الثان��ى ‪ :‬أن يكون ذلك من خالل ورش�ة عمل بني جمموعة م�ن املتدبرين‪ ،‬يتبادلون‬
‫أط�راف احلدي�ث حول اآلية موض�وع التدبر‪ ،‬أو من خالل عص�ف ذهنى فردى ولكن‬
‫بعد التدرب عىل استعامل نموذج التدبر بمهارة‪.‬‬
‫الثال��ث ‪ :‬اتب�اع منهجية هذا النم�وذج ىف وحداته الثامنية واإلجابة عىل األس�ئلة التى‬
‫تطرحها كل وحدة منه‪.‬‬
‫***‬
‫‪15‬‬
16
‫الوحدة األولى مـن النموذج‬ ‫الفصـ ـ ــل األول‬
‫(استدعـاءات األلفـاظ)‬
‫فى المعانى واإليحـاءات‬
‫فى االستعماالت‬

‫لتكون مجال مركبة‪ ،‬وقد ِّ‬


‫تشكل اجلملة الواحدة‬ ‫القرآن الكريم يتكون من ألفاظ مفردة ّ‬
‫اآلي�ة كاملة‪ ،‬وق�د تتألف اآلية من أكثر من مجلة‪ .‬كل ذلك يش�مله كلم�ة (األلفاظ) ىف‬
‫النموذج‪ .‬اللفظة الواحدة‪ ،‬واجلملة أو العبارة‪ ،‬واآلية الكاملة‪.‬‬

‫أوال ‪ :‬استدع ـ ــاءات األلف ـ ــاظ ف ــى املعان ـ ــى واإليحـ ـ ــاءات ‪:‬‬
‫عىل املتدبر أن ينطق اللفظة أو اجلملة أو اآلية ويس�تدعى معانيها وإحياءاهتا التى تقع‬
‫ىف نفسه‪.‬‬
‫وإذا كان معنى الكلمة غامضا فعليه أن يستعني بأى كتاب تفسري أو معجم لغوى أو‬
‫كتاب ىف رشح مفردات القرآن الكريم‪ ،‬مثل كتاب (كلامت القرآن تفسري وبيان) للشيخ‬
‫حسنني خملوف ـ ليعرف املعنى اللغوى للكلمة‪.‬‬
‫والتدبر هنا خيتلف عن التفسير‪ ،‬فالتفسري يعنى تفسري الكلمة القرآنية أو اجلملة من‬
‫حيث أصل معناها‪ ،‬وما قاله املفرسون ىف املقصود منها‪.‬‬
‫أم�ا التدب�ر هنا فهو يعنى الوق�وف أمام الكلمة التى كثريا ما يك�ون معناها واضحا‪،‬‬
‫واس�تدعاء اإلحي�اءات التى ترميها الكلم�ة ىف النفس‪ ،‬وما تلقيه من ظلال عىل العقل‪.‬‬
‫فقط عليك أن تتمعن وترتك لنفسك العنان ىف التفكر‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫تطبيق ــات عملي ــة عل ــى استدعـ ــاءات األلف ـ ــاظ ‪:‬‬

‫* كلم ـ ــة (رجـ ـ ــل أو رج ـ ـ ــال)‪:‬‬

‫مثال ذلك ‪ :‬كلمة (رجل) أو (رجال)‪.‬‬


‫حين تقرؤه�ا ىف الق�رآن فه�ى ال حتت�اج إىل تفسير وال إىل معج�م لتع�رف معناه�ا‬
‫األصىل‪.‬‬
‫فقط قف أمامها فامذا تستدعى الكلمة ىف نفسك من معان وإحياءات؟‬
‫إهنا ال شك تستدعى ‪:‬‬
‫الشهامة‬ ‫ ‬
‫اخلشونة‬ ‫ ‬
‫الفحولة‬ ‫ ‬
‫القوة‬
‫أهل للحرب والقتال‬ ‫قيادة وحسن ترصف ‬ ‫املواقف النبيلة ‬
‫قلت لك ‪ :‬إن األمر سهل‪ ،‬وال حيتاج منك إال إىل تأمل وتدبر ىف الكلمة‪.‬‬

‫* كلمة (ام ـ ــرأة أو نس ـ ـ ــاء)‪:‬‬


‫خذ مثاال آخر عكس ذلك ‪ :‬كلمة (امرأة) أو (نساء) ىف القرآن‪.‬‬
‫ماذا تستدعى ىف نفسك؟‬
‫َغرية‬ ‫ ‬
‫مجال‬ ‫ ‬
‫نعومة‬ ‫ ‬
‫رقة‬ ‫ ‬
‫ضعف‬
‫كثرة كالم‬ ‫ِعرض ورشف ‬
‫إن كل ه�ذه اإلحياءات واملعانى والظالل املضاف�ة واملالزمة التى تلقيهام الكلمتان ىف‬
‫النفس اإلنسانية يساهم كثريا ىف معايشة اآلية‪ ،‬بل ىف فهمها عىل الوجه األمثل‪.‬‬
‫ف�إذا قرأت قول�ه تعاىل ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ﴾ فهم�ت الرجال والرجولة‪،‬‬
‫فالرج�ال بدون ه�ذه املعانى ليس�وا رجاال‪ ،‬وبدون فه�م إحياءات النس�اء ومعانى هذه‬
‫اللفظة ال يمكن أن تفهم قوامتك عليها ومفاتيح املرأة حلسن قوامتها‪.‬‬
‫‪18‬‬
‫* كلم ـ ــة (قوام ـ ـ ــون) ‪:‬‬
‫كذل�ك كلم�ة ﴿ﭒ﴾ ىف نف�س اآلي�ة إذا تأمل�ت ىف اس�تدعاءات املعان�ى‬
‫واإلحياءات فيها فامذا جتد؟‬
‫احلركة‬ ‫اهلمة ‬ ‫والقيام يعنى النشاط ‬ ‫ ‬
‫القوامة من القيام‬
‫االستعداد‬ ‫اليقظة (فالقائم ال ينام) ‬
‫كل ه�ذه اإلحيــ�اءات للكلمــ�ة ينبغى أن تك�ون ىف منظومة تفكرينا لك�ى نفهم معنى‬
‫القوامة حقا‪.‬‬
‫ال ش�ـك أن الـق�رآن الكري�م ينتقى ألفـاظه بدق�ة وعناي�ة ﴿ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﴾‬
‫(فصلت‪ :‬اآلية ‪ )42‬والوقوف أمام إحياءات األلفاظ أمر عظيم ىف فهم القرآن وتدبره‪.‬‬
‫قل�ت ل�ك ‪ :‬فقط ق�ف متأمال أمام اللفظة أو اجلملة‪ ،‬وس�وف جت�د الكثري من اخلري‪،‬‬
‫فاألمر ليس عسريا‪ ،‬بل حيتاج إىل عصف ذهنى وتفكر ومتعن‪.‬‬
‫* كلمـ ـ ــة (بحـ ـ ـ ــر) ‪:‬‬
‫قـ�س عىل هذا أيضـ�ا كلمة (بحر) ىف كل اآليات التى ترد فـيها هذه اللفظة‪ ،‬كقوله‬
‫تع�اىل ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ‬
‫ﭣ ﭤ﴾ (اإلرساء ‪ :‬اآلية ‪.)67‬‬
‫فه�ذه اآلي�ة ال يمكن التعايش معه�ا وفهم املراد منها حقا واس�تحضار احلالة‪ ،‬حالة‬
‫الضر ىف البح�ر‪ ،‬حال�ة أن تأتى ريح أو أى خط�ر وأنت ىف البحر ـ م�ا مل تعش مع كلمة‬
‫البحر نفسها‪ ،‬وتتخيل إحياءات الكلمة‪ ،‬فالبحر يعنى ‪:‬‬
‫سفينة‬ ‫ ‬
‫غرق‬ ‫مياه عميقة ‬ ‫ ‬
‫انقطاع عن البرش‬ ‫مهلكة ‬
‫قل�ة أس�باب النج�اة عن�د استش�عار اخلط�ر بعد اس�تحضار ه�ذه املعان�ى ىف البحر‬
‫واستحضار صورة البحر اقرأ اآلية مرة أخرى‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ‬
‫ﭤ﴾ (اإلرساء ‪ :‬اآلية ‪.)67‬‬

‫* ألفـ ــاظ المواقي ــت ف ــى القـ ــرآن ‪:‬‬


‫ُيكث�ر اهلل تع�اىل ىف كتابه من ذكر مظاهر الكون من ليل وهنار وش�مس وقمر وغري‬
‫ذلك‪ ،‬بل يقسم هبا ىف بدايات السور ‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ‬
‫ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﴾‪.‬‬
‫﴿ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﴾‪.‬‬
‫﴿ﭑ﴾‪.‬‬
‫﴿ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ﴾ ‪.‬‬
‫﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ﴾‪.‬‬
‫وه�ذه الظواهر الكوني�ة تدل عىل أوقات معين�ة‪ ،‬أو يرتبط بطلوعه�ا وغياهبا معرفة‬
‫األوق�ات والش�هور والس�نني‪ ،‬فاللي�ل والنه�ار والفج�ر والضح�ى والعصر أوق�ات‬
‫معلومة‪.‬‬
‫والش�مس والقم�ر يرتبط هبام معرفة حس�ابات الزمن‪ ،‬فام داللة ذل�ك ومعانيه؟ وما‬
‫إحياءاته ىف النفس إذا تدبرناه ؟‬
‫قيمة الوقت والزمن‪.‬‬ ‫ ‬
‫أمهية هذه الظواهر الكونية ىف حياتنا‪.‬‬
‫حسن استغالل الوقت‪.‬‬ ‫ ‬‫أمهية احلساب‪.‬‬
‫هذا من حيث عموم هذه املواقيت‪ ،‬أما من حيث خصوص كل كلمة فإن هلا إحياءات‬
‫خاصة ىف النفس‪ ،‬فمثال كلمة (الفجر) إحياءاهتا عند التدبر ‪:‬‬
‫وقت يكون اجلو فيه نقيا‪.‬‬ ‫ ‬
‫وقت بداية النهار‪.‬‬
‫وقت صالة وذكر‪.‬‬ ‫ ‬
‫وقت نشاط ومهة‪.‬‬
‫تشهده املالئكة‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫كل هذه اإلحياءات تستدعيها نفس املسلم عند قراءة ﴿ﭑ﴾ فيحدث التفاعل مع‬
‫اللفظة القرآنية ومعرفة قيمة الفجر‪ ،‬وملاذا أقسم اهلل تعاىل به؟‬
‫إن تدب�ر األلف�اظ هبذه الطريقة يرس�خ القي�م احلقيقية ىف النف�س‪ ،‬ويبنى التصورات‬
‫الصحيح�ة ىف العق�ول عن ع�امل البرش واألش�ياء‪ ،‬فيس�جل املتدبر هذه القي�م ىف وحدة‬
‫(القيم املقاصدية) التى سوف يأتى رشحها‪.‬‬
‫فقيمة الوقت يرسيها القرآن الكريم حني يكثر من ذكر هذه الظواهر الكونية ويقسم هبا‪.‬‬
‫وه�ذا يس�تدعى قيام أخرى‪ ،‬كقيم�ة التدبر ىف هـــ�ذه الظواهـــ�ر الكونيــة وعدم‬
‫الغفلة عنها‪.‬‬
‫قيمة اكتشاف أرسارها بالبحث العلمى‪.‬‬
‫قيمة حسن استغالهلا بام جيعل حياة املسلم أكثر فاعلية ونشاطا ومهة‪.‬‬
‫فالليل بخصائصه هو أفضل أوقات النوم ىف بعضه‪ ،‬والقيام للصالة ىف بعضه اآلخر‬
‫ال سيام آخره‪.‬‬
‫والفجر أفضل وقت للذكر والتأمل حني ينش�ق النهار من الليل ﴿ﯘ ﯙ ﯚ‬
‫ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﴾ (يس ‪ :‬اآلية ‪.)37‬‬
‫والضحى والنهار هو وقت العمل واملعاش‪.‬‬
‫وهكذا فإن التدبر هلذه األلفاظ والتفاعل معها جيعل حياة املسلم هلا معنى آخر وقيمة‬
‫ومكانة‪.‬‬
‫فقط عليك أن تتدبر وسوف جتد الكثري‪.‬‬
‫فليست هذه األلفاظ غامضة‪ ،‬وال حتتاج إىل كتب تفسري أو معاجم لغة‪ ،‬بل الغموض‬
‫هو غموض النفس وغفلتها عن تدبرها‪.‬‬

‫قصــة عظيم ــة وموق ــف جلي ــل ي ــدل عل ــى أهميــة التدبــر لأللفــاظ ‪:‬‬
‫أقبلت ذات مرة من مس�جد البرصة إذ طل�ع أعرابى جلف جاف‬
‫ُ‬ ‫ق�ال األصمع�ى ‪:‬‬
‫علىق عود ـ ناقة ـ له متقلد ًا سيفه وبيده قوسه‪ ،‬فدنا وسلم‪.‬‬
‫‪21‬‬
‫وقال ‪ :‬ممن الرجل؟‬
‫قلت من بنى أصمع‪ ،‬قال ‪ :‬أنت األصمعى؟‬
‫قلت ‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ومن أين أقبلت؟‬
‫قلت ‪ :‬من موضع يتىل فيه كالم الرمحن؛‬
‫قال ‪ :‬وللرمحن كالم يتلوه اآلدميون؟‬
‫قلت ‪ :‬نعم؛‬
‫قال ‪ :‬فاتل عىل منه شيئا‪.‬‬
‫فقرأت ﴿ ﯤ ﴾ إىل قوله ‪﴿ :‬ﮨ ﮩ ﮪ﴾‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬يا أصمعى حسبك!!‬
‫وقطعها ِ‬
‫بجلدها‪.‬‬ ‫ثم قام إىل ناقته فنحرها ّ‬
‫وقال ‪ :‬أع ّنى عىل توزيعها؛ ففرقناها عىل من أقبل وأدبر‪.‬‬
‫الر ْحل وولىَّ نحـو البادية وهـو‬
‫ثم عمد إىل س�يفه وقوس�ه فكرسمها ووضعهام حتت َّ‬
‫يقول ‪﴿ :‬ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﴾‪.‬‬
‫فمقت نفسى ولمُ تها‪ ،‬وقلت ‪ :‬ملتنتبه ملا انتبه له األعرابى‪.‬‬
‫ُّ‬
‫ث�م حجج�ت مع الرش�يد‪ ،‬فبينام أن�ا أط�وف إذا أنا بصوت رقي�ق‪ ،‬فالتفت ف�إذا أنا‬
‫باألعرابى وهو ناحل مص َف ّر‪ ،‬فسلم ع ّ‬
‫ىل وأخذ بيدى وقال ‪ :‬اتل عىل كالم الرمحن‪،‬‬
‫وأجلسنى من وراء املقام فقرأت ﴿ ﯤ ﴾ حتى وصلت إىل قوله تعاىل ‪﴿ :‬ﮨ‬
‫ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﴾‪.‬‬
‫فقال األعرابى ‪ :‬لقد وجدنا ما وعدنا الرمحن حقا‪،‬‬
‫وقال ‪ :‬وهل غري هذا؟‬
‫‪22‬‬
‫قل�ت ‪ :‬نع�م؛ يق�ول اهلل تب�ارك وتع�اىل ‪﴿ :‬ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ‬
‫ﯗ﴾‪.‬‬
‫َ‬
‫اجلليل حتى حلف! أمل‬ ‫قال فصاح األعرابى وقال ‪ :‬يا سبحان اهلل! من الذى أغضب‬
‫يصدقوه فيقوله حتى أجلأوه إىل اليمني؟‬
‫فقاهلا ثالثا وخرجت هبا نفسه (أيامت)(((‪.‬‬
‫فف�ى هذه القص�ة العظيمة يظهر دور التدبر‪ ،‬تدبر األلف�اظ وموقعه ىف النفس‪ ،‬األمر‬
‫ال حيتاج إىل تفسير وال إىل كبري جهد ىف معرفة معانى الكلامت‪ ،‬بل حيتاج فقط إىل وقفة‬
‫ومعايش�ة م�ع الق�رآن‪ ،‬وتدبر حالنا ويقيننا ىف ه�ذه اآلية التى تبين أن اهلل تعاىل قد كفل‬
‫لن�ا أرزاقنا‪ ،‬وجعلها بيده وح�ده ﴿ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬
‫ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾ (هود‪ :‬اآلية ‪. )6‬‬
‫لقد كان هذا املعنى هو ما وراء زهد احلسن البرصى حني سئل عن سبب زهده فقال‬
‫‪ :‬علمت أن عمىل ال يقوم به غريى فاشتغلت به‪ ،‬وعلمت أن رزقى ال يذهب إىل غريى‬
‫فاطمأن قلبى‪ ...‬إىل آخر ما قال‪.‬‬
‫مل يق�رأ احلس�ن البرصى ه�ذا املعنى ىف كتاب تفسير ليس بيد أحد س�واه‪ ،‬ومل يطلع‬
‫على كن�ز من كن�وز املعرف�ة واحلكمة مل يطل�ع عليه غريه‪ ،‬كل م�ا هنا لك أن�ه تدبر هذا‬
‫املعن�ى بيـقني‪ ،‬تفاع�ل معه بقلبه وقرأ آيات القرآن عن ال�رزق‪ ،‬والتى تقرر وتكرر دائام‬
‫أن ال�رزق بي�د اهلل وحده ولن يأخذ أحد رزق أحد‪ ،‬وأن اهلل وحده هو الذى يبس�طه ملن‬
‫يشاء وي ْق ِدره ملن يشاء‪.‬‬
‫ل�و تدبرن�ا هذه املعان�ى وإحياءاهتا ىف النفس الرت�اح الناس كثيرا ورجعوا إىل رهبم‬
‫خير رجعة‪ ،‬واطمأنت نفوس�هم وابتعدوا كثريا عن املعاىص املتعلق�ة بالرزق كالرسقة‬
‫والرش�وة واالختالس وجحود األمانات والعم�ل ىف األماكن املحرمة كأماكن اخلمور‬
‫وامليرس‪.‬‬

‫‪ -3‬القص�ة ذكره�ا ابن قدامة ىف كتابه «التوابني» (‪ )163‬دار اب�ن حزم ـ الطبعة األوىل ‪ .2003‬وذكرها‬
‫القرطبى ىف تفسريه لسورة الذارايات‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫األمر ال حيتاج أكثر من تدبر عميق وتأمل ووقفة مع النفس‪.‬‬
‫فاألعراب�ى ىف ه�ذه القص�ة مل يفعل أكثر من ه�ذا‪ ،‬لقد وقعت اآلية من نفس�ه موقعا‬
‫عظيام جعلته ينحر ناقته وال خيشى رزقا بعد سامعه اآلية‪.‬‬
‫ثم جاءت اآلية األخرى التى قضت عليه بسبب ما أحدثته ىف نفسه من إكبار وتعظيم‬
‫ملقام اهلل تعاىل‪.‬‬
‫﴿ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ﴾‪.‬‬
‫أقس�م اهلل تع�اىل بنفس�ه وربوبيته للسماء واألرض أن قضي�ة ﴿ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ‬
‫ﮬ﴾ حق ال مرية فيه‪ ،‬كام أنكم تثقون ىف نطقكم حني تنطقون‪.‬‬
‫األعرابى هذا األمر ىف نفسه؛ ملاذا يقسم اهلل تعاىل عىل هذه القضية؟‬
‫ُّ‬ ‫فأعظم‬
‫َ‬
‫وهل املوىل تعاىل بعظمته وكربيائه حيتاج إىل قسم حتى نصدقه؟‬
‫مل يستطع األعرابى حتمل هذه املعانى ففاضت روحه ـ حسب القصة ـ إىل رب السامء‬
‫واألرض‪.‬‬
‫وليس املقصود أن تفيض روح العبد إىل اهلل حني يقرأ القرآن‪ ،‬أو أن يكون أثر القرآن‬
‫ىف نفوس�هم كأث�ره عند األعرابى‪ ،‬وربام وقع ىف القص�ة مبالغات ال يعنينا صحت أم ال‪،‬‬
‫ولك�ن املقص�ود أن هاتني اآليتني من س�ورة الذاريات حتالن كثريا من مش�اكل الناس‪،‬‬
‫ألن أمر الرزق من أمور املعاش التى تسيطر عىل حياهتم وتشغل أغلب أوقاهتم‪.‬‬
‫وعالج األمر كله ىف هاتني اآليتني لو عقل الناس القضية!‬
‫وخالصة األمر أن كل ألفاظ القرآن الكريم نستطيع أن نقف أمامها هبذه املنهجية ىف‬
‫اس�تدعاء معانيها وإحياءاهتا ىف النفس‪ ،‬وكل مسلم بحسب طاقته ىف االستدعاء وحالته‬
‫النفسية وقت االستدعاء‪ ،‬وحسب ما أوتى من علم وفهم وخربة وثقافة‪ ،‬كل ذلك يؤثر‬
‫ىف عملية االستدعاء‪.‬‬
‫فلا ش�ك أن من يقرأ الق�رآن وهو ىف موقف اضطرار وضي�ق يتفاعل مع قوله تعاىل‬
‫﴿ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ﴾ (النم�ل ‪ :‬اآلي�ة ‪ )62‬أكث�ر م�ن غريه‪،‬‬
‫‪24‬‬
‫ويستحرض من املعانى ما ال يستحرضه غريه‪ ،‬وحيب أن يكرر اآلية ويقف أمامها ويدعو‬
‫اهلل تعاىل وهو عىل هذه احلال‪.‬‬
‫ومن سافـر ىف البحر وكاد هيلك لوال أن نجاه اهلل ـ يدرك أكثـــر مـــن غريه قولـه‬
‫تع�اىل ﴿ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ‬
‫ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ‬
‫ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﴾ (يونـــ�س ‪:‬‬
‫اآلية ‪.)22‬‬
‫وكل ألف�اظ القرآن ومجَل�ه تصلح أن تكون جماال هلذا االس�تدعاء‪ ،‬ولكن كل واحد‬
‫بحسبه كام قلنا‪ ،‬وما ذكرناه من أمثلة يدل عىل ذلك‪ ،‬وللتأكيد عىل هذه الفكرة نطبق مبدأ‬
‫استدعاءات األلفاظ عىل سورة كاملة‪ ،‬ننقلها كام هى من منتجات بعض الورشات‪:‬‬

‫س�ورة الن�اس يق�ول اهلل تع�اىل فيه�ا ﴿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ‬


‫ﮇﮈ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮑﮒﮓ‬
‫ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ﴾‪.‬‬

‫وا�ستدعاءات �ألفاظها كما يلى ‪:‬‬

‫أعلم‪.‬‬ ‫قل ‪ :‬حتدَّ ْث – أبلغْ – أنذر – ْ‬


‫أفهم – ْ‬
‫�أعوذ ‪ :‬أجلأ – أعتصم – أحتصن – أتقوى‪.‬‬
‫برب ‪ :‬خالق – صاحب – مالك – يستحق الطاعة‪.‬‬
‫يو�سو�س ‪ :‬يلح – يرص – يستدرج للمعصية – يضل‪.‬‬
‫�صدور ‪ :‬قلوب – أرواح – نفوس – وعاء – مكان‪.‬‬
‫اجلنة ‪ :‬اجلن – خملوقات أخرى – هلم رسالة مثلنا – شمولية – إحاطة – قدرة‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫ثانيـ ــا ‪ :‬استدعـ ــاءات األلفـ ــاظ ف ــى االستعمـ ــاالت ‪:‬‬
‫بع�د أن تق�ف أم�ام اللفظة والعب�ارة القرآنية تس�تدعى معانيها وإحياءاهت�ا تأتى هذه‬
‫املرحلة اخلاصة باستدعاءات استعامالت القرآن لأللفاظ واجلمل واآليات‪.‬‬
‫بمعنى أنك تتتبع اللفظة القرآنية أو التعبري القرآنى ىف القرآن كله‪ ،‬وجتمع هذه اآليات‬
‫أمامك‪ ،‬ثم تتأمل‪.‬‬
‫تتأم�ل كيف اس�تعمل القرآن هذه اللفظة؟ وىف أى س�ياق يس�تعملها؟ هل ىف مورد‬
‫الذم أم املدح؟ وملاذا؟‬
‫تتأمل ملاذا يأتى هذا التعبري أو هذه اآلية بعد هذا السياق دائام؟‬
‫لقد ُوجد من خالل الواقع أن هذه الطريقة نكتشف هبا علام كبريا ىف القرآن الكريم‪،‬‬
‫و ُيستخرج هبا عجائب قرآنية‪ ،‬األمر فقط حيتاج إىل تدريب عمىل‪.‬‬
‫والوس�يلة التى نس�تخدمها ىف مجع استعامالت القرآن للفظة أو التعبري هى (املعجم‬
‫املفهرس أللفاظ القرآن الكريم) للشيخ حممد فؤاد عبد الباقى‪ ،‬واستعامله سهل عىل كل‬
‫متعلم‪.‬‬

‫استعمـ ــال القـ ــرآن لألف ـ ــواه ‪:‬‬


‫وقفنا مرة ىف ورشة معايشة نتدبر قوله تعاىل ﴿ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ‬
‫ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ﴾ (النور ‪ :‬اآلية ‪.)15‬‬
‫اس�توقف ْتنا كلم�ة ﴿ ﮣ ﴾ ومل يق�ل بألس�نتكم‪ ،‬وب�دال من أن تتعب نفس�ك ىف‬
‫الف�رق بينهما ابحث عنه�ا ىف القرآن كله‪ ،‬وس�وف جتد ما يس�اعدك ىف اإلجابة عن هذا‬
‫السؤال وتكتشف الكثري كام اكتشفنا‪.‬‬
‫م�ا حدث ه�و أن فتحنا املعجم املفه�رس بألفاظ القرآن‪ ،‬ورصدن�ا املواضع القرآنية‬
‫التى وردت فيها كلمة األفواه‪ ،‬وهى كام يىل ‪:‬‬
‫﴿ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ‬
‫ﮞ﴾ (آل عمران ‪ :‬اآلية ‪.)118‬‬
‫‪26‬‬
‫﴿ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ‬
‫ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ‬
‫ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ﴾ (آل عمران ‪ :‬اآلية ‪.)167‬‬
‫﴿ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ‬
‫ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﴾ (املائدة ‪ :‬اآلية ‪.)41‬‬
‫﴿ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ‬
‫ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﴾ (التوبة ‪ :‬اآلية ‪.)8‬‬
‫﴿ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ‬
‫ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ‬
‫ﯖ﴾ (التوبة ‪ :‬اآلية ‪.)30‬‬
‫﴿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭚﭛ ﭜﭝﭞ‬
‫ﭟ﴾ (التوبة ‪ :‬اآلية ‪.)32‬‬
‫﴿ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ‬
‫ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﴾ (إبراهيم ‪ :‬اآلية ‪.)9‬‬
‫﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ‬
‫ﭢ﴾ (الكهف ‪ :‬اآلية ‪.)5‬‬
‫﴿ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ‬
‫ﮮ﴾ (النور ‪ :‬اآلية ‪.)15‬‬
‫﴿ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ‬
‫ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ‬
‫ﮕ ﴾ (األحزاب ‪ :‬اآلية ‪.)4‬‬
‫‪27‬‬
‫﴿ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ‬
‫ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﴾ (يس‪ :‬اآليات‬
‫‪.)65-63‬‬
‫﴿ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﴾ (الصف‪ :‬اآلية ‪.)8‬‬
‫وضعن�ا هذه اآلي�ات أمامنا والحظنا أن القرآن حيث يذكر األفواه وما تقوله األفواه‬
‫رأي�ت الـذم والنفاق وحماربة اإلسلام والصد عن س�ـبيل اهلل‪ ،‬فحـي�ث ُذكرت األفواه‬
‫فانتظر طامة تقال‪ ،‬وهذا واضح من تأمل كل اآليات السابقة‪.‬‬
‫وكأن قوله تعاىل ىف اآلية التى كنا نتدبرها ﴿ ﮢ ﮣ ﴾ تعنى ‪ :‬تقولون شيئا‬
‫شديد النكارة‪ ،‬تفهم ذلك قبل أن تكمل اآلية « ما ليس لكم به علم وحتسبونه هينا وهو‬
‫عن�د اهلل عظـي�م « نعم قب�ل أن تعرف نكارة هذا القول من آخ�ر اآلية تعرفها من خالل‬
‫كلم�ة األفواه‪ ،‬ألن اس�تعامل القرآن لألفواه وم�ا تقوله األفواه ال يأت�ى إال ىف مورد الذم‬
‫والنكارة واألقوال املفرتاة‪.‬‬
‫وهبذا يتبني ملاذا اس�تعمل األفواه دون األلسنة التى كثريا ما تأتى بمعنى اللغة ﴿ﮖ‬
‫ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﴾ (إبراهي�م‪ :‬اآلية ‪﴿ ..)4‬ﭙ‬
‫ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾ (النحل‪ :‬اآلية ‪.)103‬‬
‫أو بمعن�ى الذك�ر احلس�ن‪ ،‬أى ُيذك�ر اإلنس�ان بعد موت�ه بام يحُ م�د ﴿ ﰂ ﰃ ﰄ‬
‫ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﴾ (مريـــ�م‪ :‬اآلي�ة ‪﴿ .)50‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ‬
‫ﭕ ﭖ﴾ (الشعراء‪ :‬اآلية ‪.)84‬‬
‫أو بمعن�ى العض�و املع�روف ىف الف�م ﴿ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﴾ (طه‪:‬‬
‫اآليتان ‪﴿ )28 ،27‬ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﴾ (القصص‪ :‬اآلية ‪.)34‬‬
‫وق�د يرد ىف موضع الذم أيضا ﴿ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ‬
‫ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ﴾ (النح�ل‪ :‬اآلي�ة ‪ ، )116‬ولك�ن ليس هذا غالبا ىف‬
‫القرآن‪.‬‬
‫‪28‬‬
‫الش�اهد أن اس�تعامل القرآن لألف�واه بتتبع مجيع اآليات جيعلنا نخ�رج هبذه القاعدة ‪:‬‬
‫حيثما ذك�رت األفواه ( بصيغة اجلمع هك�ذا ) رأيت طامة عظيمة ومنكرا ش�ديدا يقال‬
‫هبذه األفواه‪.‬‬
‫وملا تدبرنا ىف سبب ذلك رأينا أن األفواه ٌّ‬
‫كل بالنسبة للسان‪ ،‬فاللسان حمله الفم‪ ،‬والفم‬
‫حيتوى عىل اللس�ان والش�فتني واحلنك واألس�نان وغري ذلك‪ ،‬وكلها خم�ارج للحروف‬
‫وتس�تعمل ىف الكالم‪ ،‬فكل هذه األقوال املنكرة ناس�بها أن يستعمل معها األفواه ؛ ِ‬
‫فكرب‬
‫حجم الكالم وفظاعته وآثاره السلبية يتناسب مع الفم ال اللسان الذى هو أصغر‪.‬‬
‫كما أن الق�رآن بذلك ي�ذم هؤالء الذي�ن يتكلمون بم�لء أفواهه�م وال علم هلم بام‬
‫يتكلمون به‪ ،‬فالكالم كذب وافرتاء وال أساس له من الصحة‪ ،‬وال ينبنى عىل معلومات‬
‫حقيقي�ة‪ ،‬وبالرغ�م من كل ذلك يتكلمون بأفواهه�م‪ ،‬وكأن الكالم خيرج من كل مكان‬
‫من الفم‪ ،‬وكفى هبــذا ذما هلم!‬
‫تتبع اللفظة القرآنية ثم التفكر ىف اآليات التى وردت فيها‬
‫هبذه الطريقة التى يتم فيها ُّ‬
‫تنكشف كثري من األرسار واحلقائق‪.‬‬

‫استعمـ ــال الق ــرآن للفظت ــى (الـ ــزوج ـ البعـ ــل) ‪:‬‬
‫الغال�ب ىف القرآن ىف عرشات اآليات أن يس�تعمل كلم�ة الزوج‪ ،‬كقوله تعاىل ﴿ﯻ‬
‫ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﴾ (البقرة‪ :‬اآلية ‪.)230‬‬
‫﴿ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ﴾(البقرة‪ :‬اآلية ‪.)232‬‬
‫﴿ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ‬
‫ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﴾ (األحزاب‪ :‬اآلية ‪. )59‬‬
‫﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﴾ (املجادلة‪ :‬اآلية ‪. )1‬‬
‫أم�ا لفظ�ة البعل فلم تأت إال س�بع مرات ىف القرآن ىف مخس�ة مواضع‪ُ ،‬ذكرت ثالث‬
‫مرات ىف موضع منها‪ ،‬وهى ‪:‬‬
‫‪﴿ -1‬ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ﴾ (الصافات‪ :‬اآلية ‪.)125‬‬
‫‪29‬‬
‫‪ ﴿ -2‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ﴾ (ه�ود‪:‬‬
‫اآلية ‪.)72‬‬
‫‪﴿ -3‬ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ﴾ (البقرة‪ :‬اآلية ‪.)228‬‬
‫‪ ﴿ -4‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ‬
‫ﭟﭠ﴾ (النساء‪ :‬اآلية ‪. )128‬‬
‫‪﴿ -5‬ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ‬
‫ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﴾ (النور‪ :‬اآلية ‪.)31‬‬
‫وفور استعراض هذه اآليات باملقارنة باآليات الكثرية التى ورد فيها استعامل الزوج‬
‫تطرح هذه األس�ئلة نفس�ها ‪ :‬ما اخلصوصية للفظ البعل حتى يس�تعمل ىف هذه اآليات‬
‫اخلم�س؟ وملاذا ه�ذه اآليات بالذات؟ وهل هن�اك فرق بني البعل وال�زوج؟ وهل هذا‬
‫الفرق يناسبه أن يستعمل البعل ىف هذه املواضع خاصة؟‬
‫األم�ر حيت�اج إىل تدب�ر مع االس�تعانة بكتب اللغة ملعرف�ة الفرق ـ لغوي�ا ـ بني البعل‬
‫والزوج‪ ،‬ولذا كانت هذه هى بداية البحث‪...‬‬
‫ج�اء ىف كتب اللغة اس�تعامل البعل بمعنى الزوج‪ ،‬ولكن هن�اك معنى زائد عىل جمرد‬
‫وج�ود العالق�ة الزوجية‪ ،‬فالبعل ه�و الزوج ىف حالة وجود املعارشة احلس�نة والتالعب‬
‫واحلب بني الزوجني‪.‬‬
‫فف�ى لس�ان العرب ‪ :‬البع�ل الزوج‪ ،‬وتبعل�ت امل�رأة ‪ :‬أطاعت بعله�ا‪ ،‬وتبعلت له ‪:‬‬
‫التبعل إذا كانت مطاوعة لزوجها حمبة له‪ ،‬والتبعل ‪ :‬حسن العرشة‬ ‫تزينت‪ ،‬وامرأة حسنة ُّ‬
‫من الزوجني‪.‬‬
‫والبعال ‪ :‬حديث العروسني‪ ،‬والتباعل والبعال ‪ :‬مالعبة املرء َ‬
‫أهله‪ ،‬ومنه احلديث ىف‬
‫أيام الترشيق «إهنا أيام أكل ورشب وبعال»(((‪.‬‬

‫‪ -4‬حديث ضعيف رواه الطربانى من حديث ابن عباس‪ ،‬والدارقطنى من حديث أبى هريرة‪ ،‬وله طرق‬
‫أخرى وال يصح له إسناد‪ .‬انظر «نصب الراية» للزيلعى (‪484/2‬ـ‪ )485‬دار احلديث‪ .‬و «التلخيص احلبري»‬
‫الب�ن حج�ر (‪196/2‬ـ‪ )197‬دار املعرفة ـ لبن�ان و «إرواء الغليل» لأللبان�ى (‪176/8‬ـ ق‪ )2541‬املكتب‬
‫اإلسالمى الطبعة الثانية ‪ .1985‬و «متام املنة ىف التعليق عىل فقه السنة» (‪402‬ـ‪ )403‬لأللبانى أيضا ـ املكتبة‬
‫اإلسلامية ـ األردن ـ الطبع�ة الثالث�ة ‪1409‬هـ‪ .‬لكن احلديث ص�ح بدون ذكر لفظة (بعال) رواه مس�لم من‬

‫‪30‬‬
‫واملباعل�ة املب�ارشة ـ أى بين الزوجين ـ ويق�ال للم�رأة ‪ :‬ه�ى تباع�ل زوجه�ا أى‬
‫تالعبه(((‪.‬‬
‫وم�ن معان�ى البعل أيضا الس�يد والرب‪ ،‬وهو ال خيرج عن املعن�ى األول‪ ،‬فالزوج ملا‬
‫كان سيدا ومسئوال عن املرأة سم ْته العرب بعال‪.‬‬
‫وىف اللس�ان أيضا ‪ :‬وبعل الش�ىء ربه ومالكه‪ ،‬والبعل ‪ :‬صنم‪ ،‬سمى بذلك لعبادهتم‬
‫إياه كأنه رهبم‪ ،‬يقال ‪ :‬أنا بعل هذا الشىء أى ربه ومالكه‪.‬‬
‫إذن معن�ى البع�ل يدور حول ‪ :‬الس�يد أو ال�زوج املباعل‪ ،‬أى ىف حال�ة الود والقرب‬
‫واالستمتاع بالزوجة‪ ،‬لذلك ال يسمى الزوج بعال حتى يدخل باملرأة ويكون مباعال هلا‪،‬‬
‫أما بمجرد عقد الزواج دون بناء يسمى زوجا فقط‪.‬‬
‫فالبع�ل بمعن�ى ال�زوج مع زي�ادة ىف املعنى‪ ،‬فه�و زوج ىف حالة معينة‪ ،‬حال�ة املباعلة‬
‫واملالعبة والتصاىف بني الزوجني ورغبته ىف زوجته‪.‬‬
‫بعد ذلك جنيب على هذا ال�س�ؤال ‪ :‬ملاذا جاءت لفظة بعل ىف هذه اآليات حتديدا؟‬
‫اآليةاألوىل ﴿ﯪ ﯫ ﴾ أى إ ًهلا‪ ،‬خارج سياق احلديث عن العالقة الزوجية‪ ،‬وال‬
‫إشكالية فيها؛ فهم َس ّموه بعال لعبادهتم له‪ ،‬فجعلوه سيدا هلم‪.‬‬
‫وم�ن ه�ذا الباب أيض�ا اآلي�ة الثاني�ة ﴿ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﴾ تقصد س�يدها‪ ،‬فهاتان‬
‫اآليتان من حكاية األمم الس�ابقة‪ ،‬حيث كانوا يسمون السيد بعال‪ ،‬سواء كان إهلا كام ىف‬
‫اآلية األوىل أم سيدا كام ىف اآلية الثانية‪.‬‬
‫ق��ال ابن عا�ش��ور فى تف�س�يره ‪« :‬وأصل البع�ل ىف كالمهم الس�يد‪ ،‬وهو كلمة س�امية‬
‫قديم�ة‪ ،‬فق�د س�مى الكنعاني�ون الفينيقي�ون معبودهم بعلا‪ ،‬قال تع�اىل ﴿ﯪ ﯫ‬
‫ﯬ ﯭ ﯮ﴾ وس�مى به الزوج ألنه ملك أمر عصمة زوجه‪ ،‬وألن الزوج‬
‫كان يعتبر مالكا للمرأة وس�يدا هلا‪ ،‬فكان حقيقا هبذا االس�م‪ ،‬ثم مل�ا ارتقى نظام العائلة‬

‫حدي�ث نبيش�ة اهلذىل بلفظ «أي�ام الترشيق أيام أكل ورشب» ‪ :‬كتاب الصوم ـ ب�اب حتريم صوم أيام الترشيق‬
‫(‪ 272/4‬ـ ق ‪.)1141‬‬
‫‪ -5‬انظر ‪« :‬لسان العرب» و «القاموس املحيط» ـ مادة (بعل)‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫من عهد إبراهيم عليه السالم فام بعده من الرشائع أخذ معنى املِلك ىف الزوجية يضعف‪،‬‬
‫فأطل�ق الع�رب لفظ الزوج عىل كل من الرجل واملرأة للذين بينهام عصمة النكاح‪ ،‬وهو‬
‫إطالق عادل؛ ألن الزوج هو الذى يثنى الفرد‪ ،‬فصارا س�واء ىف االس�م‪ ،‬وقد عرب القرآن‬
‫هب�ذا االس�م ىف أغلب املواضع‪ ،‬غري التى حكى فيها أح�وال األمم املاضية‪ ،‬كقوله تعاىل‬
‫﴿ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﴾(((‪.‬‬
‫وجعل ابن عاشور قـوله تعاىل ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ﴾ وقوله‬
‫﴿ﮏ ﮐ ﮑ﴾ من باب معنى السيد‪ ،‬ألن معنى السيادة واضح ىف خوف املرأة من‬
‫نشوز الرجل وإعراضه عنها‪ ،‬وىف حق الرجل ىف رد املرأة أثناء العدة بدون إذهنا(((‪.‬‬
‫* أما قوله تعاىل ىف املوضع األخري ﴿ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﴾ فواضح أن‬
‫معنى املباعلة واملالعبة واجلامع هو املقصود من إطالق البعل هنا‪ ،‬فاملرأة تبدى زينتها‬
‫لرتغبه فيها‪ ،‬فاآلية حني تطلق لفظ البعل هنا ِّ‬
‫تذكر املرأة بأهنا ينبغى أن تبدى‬ ‫لزوجها ِّ‬
‫زينته�ا عىل أحس�ن ما تتزين ب�ه املرأة لزوجها لرتغب�ه فيها وجتذبه إليه�ا‪ ،‬وكأن اآلية‬
‫تشير إىل أن إب�داء الزينة لل�زوج ليس كإبدائها لغريه م�ن املذكورين ىف اآلية كاآلباء‬
‫واألبناء‪ ،‬فالزينة التى تظهر للزوج زينة من تريد أن ترغبه فيها‪ ،‬فهى زينة مقصودة ىف‬
‫ذاهتا ومستحبة‪ ،‬أما غري الزوج من املحارم فهو إبداء للجواز ورفع احلرج؛ ألن املرأة‬
‫ال تس�طيع أن ختفى ما يظهر منها عادة أمام من معها ىف البيت من حمارمها‪ ،‬والنعدام‬
‫الرغبة والشهوة بني املحارم أبيح ظهوراملرأة أمامهم ألمن الفتنة‪.‬‬
‫تعقي ـ ــب علـ ــى رأى ابـ ــن عاشـ ـ ـ ــور ‪:‬‬
‫لق�د جعل اإلمام الطاهر بن عاش�ور قوله تع�اىل ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ‬
‫ﭗ ﭘ﴾ وقول�ه ﴿ﮏ ﮐ ﮑ ﴾ من باب الس�ـيادة‪ ،‬فالبع�ل هنا بمعنى الزوج‬
‫السيد‪ ،‬وهو من معانى البعل كام سبق‪.‬‬
‫وربما يك�ون ه�ذا صحيحا‪ ،‬ولكن�ى أرى أن البع�ل ىف هاتني اآليتين بمعنى الزوج‬
‫املباعل‪ ،‬من املباعلة واملالعبة التى تقع بني الزوجني‪.‬‬
‫‪ -6‬تفسري «التحرير والتنوير» البن عاشور (‪ )393/2‬دار سحنون للنرش والتوزيع ـ تونس‪.‬‬
‫‪ -7‬انظر ‪ :‬السابق‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫لتكون كل اآليات املتعلقة بالعالقة الزوجية ىف هذه األمة بنفس املعنى‪.‬‬
‫فاملواضع اخلمس�ة التى ورد فيها لفظ البعل منها موضعان حكاية عن األمم السابقة‬
‫التى كانت تطلق البعل عىل الس�يد‪ ،‬وهذا قد اتفقنا عليه وس�بق بيانه‪ ،‬ومها قولــه تعاىل‬
‫﴿ﯪ ﯫ ﴾ وقوله ﴿ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﴾‪.‬‬
‫�أما املوا�ضع الثالثة الأخرى فهى ‪:‬‬
‫﴿ﮏ ﮐ ﮑ﴾‬
‫﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ﴾‬
‫﴿ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﴾‬
‫واألخرية معنى املباعلة فيها واضح وقد سبق بيانه أيضا‪.‬‬
‫أمـ�ا الأوىل والثـانيـة فتحتـاج إلـى تدبر حلملها عىل معنـى املباعـلة أيضـا‪ ،‬فقـوله‬
‫تعالـى ﴿ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﴾ فيه دعوة إىل اإلصالح‪ ،‬وأن يراجع‬
‫الرج�ل زوجته وهى ىف عدهتا‪ ،‬فرده�ا ومراجعتها أثناء العدة أوىل من أن يرتكها تنقىض‬
‫عدهتا وتنكح زوجا غريه‪.‬‬
‫وهذه الدعوة �إىل الرد ح َّثت عليها الآية من وجوه ‪:‬‬
‫الأول ‪ :‬ىف قوله ﴿ ﮐ ﴾ فجعله أوىل باملرأة من غريه‪.‬‬
‫الثان��ى ‪ :‬ىف قوله ﴿ﮑ ﴾ ّ‬
‫فذكره هب�ذا باحلالة التى كان عليها كل من الزوجني من‬
‫الود والعالقة الطيبة‪ ،‬وسمى املراجعة ردا‪ ،‬أى الرد إىل ما كانا عليه من الصفاء‪.‬‬
‫الثال��ث ‪ ﴿ :‬ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﴾ ِذ ْك�ر اإلصالح دون غريه م�ن املفارقة ـ فيه تذكري به‬
‫وترغيب فيه‪ ،‬ومل تزد اآلية عىل ذلك‪ ،‬فلم تقل مثال ‪ :‬وإن مل يردوا إصالحا فال يردها‪.‬‬
‫الراب��ع ‪ :‬الضمير ىف قوله ﴿ﮕ﴾ فالواو تفيد اجلمع‪ ،‬ومل يقل «أرادا» وهذا يعنى‬
‫أن إرادة اإلصالح ال تقترص عىل الزوجني فقط‪ ،‬بل فتحت اآلية املجال ألطراف أخرى‬
‫لإلصالح حتى يرد الرجل الزوجة إىل عصمته‪.‬‬
‫‪33‬‬
‫اخلام�س ‪ :‬وهو الوجه املقصود من احلديث‪ ،‬وهو قوله تعاىل ﴿ﮏ ﴾ فقد ذكرت‬
‫اآلية البعـل ىف هذا السياق خاصة ـ كام أرى ـ إلرشـاد املرأة إىل أنه بعلها‪ ،‬وهلا أن تتزين‬
‫له‪ ،‬وأن يكون هلا دور ىف رد زوجها هلا‪ ،‬بأن تظهر أمامه بأحس�ن زينة وتتبعل له‪ ،‬ليكون‬
‫ذلك أدعى إىل ردها ومراجعتها‪.‬‬
‫ولذل�ك هن�ى الرشع الرج�ل أن يخُ رج امل�رأة من البي�ت إذا طلقها‪ ،‬كام هن�ى املرأة أن‬
‫تخَ رج بنفس�ها‪ ،‬وجعل هذا احلكم من حدود اهلل التى ال ينبغى أن تنتهك‪ ،‬كام بشرّ بتغري‬
‫احل�ال وأن يحُ دث اهلل أم�را ينتهى به النزاع والش�قاق ﴿ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ‬
‫ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ‬
‫ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﴾ (الطالق‪ :‬اآلية ‪.)1‬‬
‫وال يمك�ن أن يك�ون األمر بمكث املرأة ىف بيته�ا إال ألجل اإلصالح وليكون أقرب‬
‫إىل مراجعتها‪.‬‬
‫امل�رأة املطلقة ىف بيت الزوجية‪ ،‬فهى تقىض وقتها مع زوجها ختلو به وخيلو هبا‪ ،‬تظهر‬
‫أمام�ه‪ ،‬فه�ى فرتة اختبار ‪ :‬هل مها حقا يس�تطيع كل واحد االس�تغناء عن اآلخر أم ال؟‬
‫اختب�ار بيشء م�ن التباعد‪ ،‬فهى مطلقة وهو ق�د طلقها‪ ،‬لكنه أمامه�ا‪ ،‬وهى أمامه‪ ،‬نعم‬
‫يوج�د ن�زاع ونش�وز‪ ،‬ولكن ما زاال مجيعا مع�ا ىف بيت واحد‪ ،‬مل جيامعها منذ أس�بوع أو‬
‫شهر‪ ،‬وما زالت ىف عدهتا‪ ،‬فهل يا ترى سوف يشتهيها ويرغب فيها حني يراها أمامه من‬
‫وقت آلخر فريغب فيها وىف االستمتاع هبا فيدعوه ذلك إىل ردها؟‬
‫وه�ل يا ترى سترغب هى فيه خلال هذه املدة‪ ،‬وتبدأ ىف التزين ل�ه حتى ّ‬
‫ترغبه فيها‬
‫رغبت فيه؟‬‫كام ِ‬
‫إذن اآلي�ة ـ كما أرى ـ تدع�و إىل تذكير املرأة باملباعل�ة واملالعبة وم�ا كان بينهام من‬
‫عالق�ة محيمة‪ ،‬وكأهنا تقول هل�ا ‪ :‬هو بعلك فتزينى له‪ ،‬وإن كان الرد بيده هو فأنت أيضا‬
‫عليك دور ىف ىف الرد بالتزين له‪.‬‬
‫ومما يرشح هلذا املعنى أن اآلية كلها ىف كل لفظة فيها تدعو إىل احلث عىل الرد وإعادة‬
‫العالقة بني الزوجني كام سبق ىف الوجوه السابقة‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫بق�ى لنا اآلية الثانية‪ ،‬وهى قوله تع�اىل ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ‬
‫ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﴾‪.‬‬
‫ق�د يبدو أن معنى الس�يد ىف البعل هنا واضح‪ ،‬وأن�ه ال يمكن محل اآلية إال عىل هذا؛‬
‫ألن اآلية تتحدث عن حالة نشوز أو إعراض من الرجل‪ ،‬وأن املرأة تريد أن تصاحله لكى‬
‫تعالج هذا النشوز‪ ،‬فقد تتنازل عن حقها ىف املبيت مثال لرضَّ هتا من أجل أن تبقى عصمة‬
‫النكاح بينهام‪ ،‬كام فعلت أم املؤمنني سودة بنت زمعة رىض اهلل عنها حني صاحلت النبى‬
‫ﷺ عىل أن ترتك ليلتها ـ حني كربت سنها ـ ألم املؤمنينعائشة رىض اهلل عنها‪ ،‬وقد ورد‬
‫أن هذا املوقف هو سبب نزول اآلية الكريمة‪.‬‬
‫على أن�ه ال مانع ـ عندى م�ن محل لفظة (بعل) هنا عىل معن�ى املباعلة‪ ،‬بل قد يكون‬
‫ذلك أقوى من محلها عىل معنى الس�يد؛ ألنه ال وجه لس�يادة الرجل هنا‪ ،‬وهل إعراضه‬
‫عنها وعدم رغبته فيها يعنى السيادة عليها ؟!‬
‫حالة النش�وز واإلع�راض قد تصيب الزوجني معا‪ ،‬فال يرغ�ب كل منهام ىف اآلخر‪،‬‬
‫وقد تصيب أحدمها دون اآلخر‪ ،‬فهى حالة نفس�ية طبيعية‪ ،‬كثريا ما يكون س�ببها راجعا‬
‫إىل الرغبة والشهوة‪ ،‬ال إىل سوء األخالق أو سوء العرشة‪ ،‬فقد تكون املرأة حسنة املعرش‬
‫طيبة اخللق مع زوجها ورغم ذلك ال يرغب فيها زوجها لكرب سنها‪ ،‬أو لعدم مجاهلا‪ ،‬أو‬
‫ألى سبب آخر‪.‬‬
‫بح ّسها تعرف إعراض زوجها عنها هبذا األمر‪ ،‬أمر املالعبة والشهوة والرغبة‬‫واملرأة ِ‬
‫ىف االس�تمتاع هب�ا‪ ،‬فإذا ما أحس�ت املرأة بعدم رغبة زوجها فيه�ا فعليها أن تتحرك نحو‬
‫معاجل�ة األم�ر‪ ،‬ولذا عبر القرآن بلف�ظ اخلوف «وإن ام�رأة خافت من بعلها نش�وزا أو‬
‫إعراضا» لينبهها عىل رسعة التحرك نحو املصاحلة وعالج األمر قبل أن يتفاقم‪.‬‬
‫املصاحلة والعالج قد يأخذ صورا خمتلفة‪ ،‬منها ما ذكر ىف س�بب نزول اآلية‪ ،‬وهى أن‬
‫تتنازل املرأة عن حقها ىف املبيت ىف مقابل أن تبقى زوجة‪ ،‬وقد يكون هذا عالجا ُم ِ‬
‫رضيا‬
‫لبعض النس�اء بس�بب عدم رغبته�ا هى األخ�رى ىف زوجها لكرب س�نها‪ ،‬وقد ال يكون‬
‫مناسبا فيبحث الطرفان عن حل آخر‪.‬‬
‫‪35‬‬
‫الشاهد من اآلية هو التعبري بلفظ ﴿ﭕ﴾ ىف هذا املوضع ومناسبته للموقف‪ ،‬وكأن‬
‫التبعل واالستمتاع‪،‬‬
‫اآلية بذلك تشير إىل أن معرفة النش�وز واإلعراض تعرفه املرأة من ّ‬
‫فه�ى تتزين له وهو ُمعرض عنها ال يش�تهيها‪ ،‬حتاول التبعل ل�ه ولكنه ال يتجاوب معها‬
‫وال يتفاعل مع تزينها له‪ ،‬يمكث الفرتة الطويلة ال يأتيها متعلال بتعبه وكثرة انش�غاالته‪،‬‬
‫وهنا عىل املرأة أن تستشعر اخلطر وتبدأ ىف العالج‪.‬‬
‫فحين تق�ول اآلي�ة ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ﴾ كأهنا تلفت نظر‬
‫املرأة إىل أن البعل إذا مل يكن بعال باملعنى احلقيقى ( ىف املباعلة واملالعبة) فهناك مش�كلة‬
‫ينبغى التحرك حللها‪.‬‬
‫هبذا ظهر لنا أن املواضع التى ُذكر فيها البعل فيام يتعلق هبذه األمة كلها تصلح حلملها‬
‫عىل معنى واحد‪ ،‬وهو معنى البعل الراغب ىف زوجته املباعل هلا واملالعب‪.‬‬
‫نعم قد يكون هذا البحث ىف معنى املباعلة ىف (اس�تدعاءات االس�تعامالت) فيه نوع‬
‫ختص�ص‪ ،‬وحيتاج إىل معرفة بالتفسير واللغ�ة واألحكام‪ ،‬ولكن كام نبهن�ا ىف املقدمة أن‬
‫هذا النموذج ىف التحليل يصلح أن يس�تعمله املتخصص�ون وأن جيدوا فيه ُبغْ يتهم‪ ،‬وقد‬
‫يصع�ب اس�تنتاج بعض املعانى عىل عموم املس�لمني من غري املتخصصين‪ ،‬ولكن هذا‬
‫ال ينف�ى أهن�م جيدون خريا كثريا باس�تعامل النم�وذج ىف أغلب املواضع‪ ،‬وكل بحس�به‪،‬‬
‫فالنم�وذج ما هو إال آلية للتحليل واالس�تنباط‪ ،‬وتكون منتجاته وخمرجاته عىل حس�ب‬
‫علم كل واحد وثقافته وما يفتحاهلل تعاىل عليه‪.‬‬
‫وال ينبغ�ى أن ينزعج بعض إخوانى بمثل ه�ذه األمثلة التى قد يكون فيها نوع صعوبة‬
‫ىف التحليل واالستنباط‪ ،‬فإنام أردت أن تكون األمثلة متنوعة‪ ،‬بعضها يصلح ألن يستنبطها‬
‫املشتغلون بعلوم الرشيعة‪ ،‬وبعضها يصلح لكل املتعلمني‪ ،‬ليكون النموذج أعم وأشمل‪.‬‬

‫استعمـ ــال القـ ـ ــرآن للفـ ــظ « وامرأته « ‪:‬‬


‫ومم�ا يش�به البحث الس�ابق ىف معنى البع�ل تعبري القرآن بلف�ظ ﴿ﯻ ﴾ بدال من‬
‫زوجه(((‪.‬‬
‫يالح�ظ أن الق�رآن ال يقول زوجت�ه بل يقول زوجه للتعبير عن الزوجة‪ ،‬فال�زوج يطلق عىل الرجل‬
‫‪َ -8‬‬
‫واملراة‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫ام�رأة الرجل هى زوجه‪ ،‬والقرآن يكثر من اس�تعامل هذا لف�ظ (الزوج) للتعبري عن‬
‫الرابطة بني الزوجني‪ ،‬قال تعاىل ‪:‬‬
‫﴿ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾ (البقرة ‪ :‬اآلية ‪.)35‬‬
‫﴿ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﴾ (النساء ‪ :‬اآلية ‪.)12‬‬
‫﴿ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﴾ (التوبة ‪ :‬اآلية ‪.)24‬‬
‫﴿ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ﴾‬
‫«(النحل‪ :‬اآلية ‪.)72‬‬
‫﴿ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﴾ (الفرقــ�ان ‪:‬‬
‫اآلية ‪.)74‬‬
‫﴿ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ﴾ (الشعراء ‪ :‬اآلية ‪.)166‬‬
‫﴿ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﴾ (األحزاب ‪ :‬اآلية ‪.)4‬‬
‫﴿ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟﯠ ﴾ (األحزاب ‪ :‬اآلية ‪.)6‬‬
‫﴿ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ﴾ (الزخرف ‪ :‬اآلية ‪.)70‬‬
‫﴿ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗﰘ ﴾ (املمتحنة ‪ :‬اآلية ‪.)11‬‬
‫﴿ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﴾‬
‫(التغابن ‪ :‬اآلية ‪. )14‬‬
‫إىل غري ذلك من آيات وهى كثرية‪ ،‬ويمكنك مراجعتها ىف ( املعجم املفهرس أللفاظ‬
‫القرآن الكريم )‪.‬‬
‫هذا هو األصل ىف القرآن للتعبري عن هذه الرابطة بني الزوجني‪ ،‬فالرجل زوج املرأة‪،‬‬
‫واملرأة زوج الرجل‪ ،‬فكل منهام زوج لآلخر‪ ،‬أى مكمل له‪ ،‬وأصل الزوج ىف اللغة هو ما‬
‫يث َّنى به الفرد‪ ،‬فالواحد فرد‪ ،‬فإذا ما أتاه ما يثنيه سمى زوجا له‪.‬‬
‫‪37‬‬
‫وه�و تعبيـر لطيف للداللة عىل هذه العالقة املزدوجة بني الزوجني‪ ،‬فكل منهام يثنى‬
‫اآلخر‪ ،‬فكأن الواحد منهام ال يس�تطيع االس�تغناء عن اآلخ�ر‪ ،‬وال يعيش بمفرده بدون‬
‫اآلخر‪ ،‬عالقة قائمة عىل التكامل والرتابط والتالحم والتآخى واملودة والرمحة‪.‬‬
‫لكن جاء القرآن ىف مواضع قليلة عرب عن هذه العالقة بيشء آخر‪ ،‬فال ينسب األنثى‬
‫إىل زوجها بلفظ الزوجية‪ ،‬فال يقول ‪ :‬زوجه‪ ،‬بل يقول ‪ :‬امرأته‪ ،‬أو امرأة فالن‪.‬‬
‫جاء لفظ امرأة ىف القرآن مضافا إىل الرجل ( الزوج ) إما بإضافته إىل االسم الرصيح‪،‬‬
‫أو إىل الضمري العائد عىل الرجل ىف مواضع‪ ،‬نذكرها عىل سبيل احلرص‪.‬‬

‫‪ - 1‬امـ ـ ـ ـ ــرأة العزيـ ـ ـ ـ ــز ‪:‬‬


‫﴿ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﴾ (يوسف ‪ :‬اآلية ‪.)21‬‬
‫﴿ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ﴾ (يوسف ‪ :‬اآلية ‪.)30‬‬
‫﴿ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﴾ (يوسف ‪ :‬اآلية ‪.)51‬‬

‫‪ - 2‬ام ـ ـ ــرأة فرعـ ـ ـ ـ ــون ‪:‬‬


‫﴿ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﴾ (القصص ‪ :‬اآلية ‪.)9‬‬
‫﴿ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﴾ (التحريم ‪ :‬اآلية ‪. )11‬‬

‫‪ - 3‬ام ـ ـ ــرأة ن ـ ـ ـ ــوح ‪:‬‬


‫﴿ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﴾ (التحريم ‪ :‬اآلية ‪. )10‬‬

‫‪ - 4‬ام ـ ـ ــرأة لـ ـ ــوط ‪:‬‬


‫﴿ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾ (األعراف ‪ :‬اآلية ‪.)83‬‬
‫﴿ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﴾ (هود ‪ :‬اآلية ‪.)81‬‬
‫﴿ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ﴾ (احلجر ‪ :‬اآلية ‪. )60‬‬
‫‪38‬‬
‫﴿ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ﴾ (النمل ‪ :‬اآلية ‪.)57‬‬
‫﴿ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﴾ (العنكبوت ‪ :‬اآلية ‪.)32‬‬
‫﴿ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ﴾(العنكبوت‪ :‬اآلية ‪.)33‬‬
‫﴿ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﴾(التحريم‪ :‬اآلية ‪.)10‬‬

‫‪ - 5‬ام ـ ـ ــرأة عم ـ ـ ــران ‪:‬‬


‫﴿ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ‬
‫ﯔ ﴾ (آل عمران ‪ :‬اآلية ‪.)35‬‬

‫‪ - 6‬ام ـ ـ ــرأة إبراهيـ ــم ‪:‬‬


‫﴿ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﴾(هود‪ :‬اآلية ‪.)71‬‬
‫﴿ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﴾ (الذارايات ‪ :‬اآلية ‪.)29‬‬

‫‪ - 7‬ام ـ ـ ــرأة زكري ـ ـ ــا ‪:‬‬


‫﴿ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﴾(آل عمران‪ :‬اآلية ‪.)40‬‬
‫﴿ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﴾‬
‫(مريم‪ :‬اآلية ‪.)5‬‬

‫﴿ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ‬
‫ﮠ ﴾ (مريم ‪ :‬اآلية ‪.)8‬‬

‫‪ - 8‬ام ـ ـ ــرأة أب ـ ــى له ـ ـ ــب ‪:‬‬


‫﴿ﮚ ﮛ ﮜ ﴾ (املسد ‪ :‬اآلية ‪.)4‬‬
‫هذه هى املواضع كلها التى وردت فيها لفظ امرأة منسوبة إىل الرجل إما باسم الرجل‬
‫الظاهر أو بالضمري‪.‬‬
‫‪39‬‬
‫والسؤال الذى تطرحه وحدة االستدعاءات ‪ :‬ملاذا عرب القرآن ىف هذه املواضع باملرأة‬
‫ومل يعرب بالزوج‪ ،‬رغم قيام العالقة الزوجية بني املرأة وزوجها ىف كل هذه املواضع؟‬
‫بالتأمل نالحظ أن العالقة الزوجية بني املرأة والرجل ىف هذه املواضع فيها مش�كلة‪،‬‬
‫إم�ا للنف�ور بين الزوجني الختلاف الدي�ن‪ ،‬أو لكرب الس�ن‪ ،‬أو لعدم احل�ب‪ ،‬أو لعدم‬
‫اإلنجاب‪.‬‬
‫فام�رأة نوح وامرأة لوط وامرأة فرعون ال ش�ك أن االختلاف ىف الدين جعل هناك‬
‫حاجزا بينهام‪ ،‬ولذا س�مى القرآن ِفعلىَ امرأة نوح وامراة لوط ـ حني خالف زوجيهام ىف‬
‫الدين ـ خيانة ﴿ ﮟ ﴾‪.‬‬
‫وام�رأة فرع�ون مل تك�ن لتح�ب هذا الطاغي�ة الكافر‪ ،‬ول�ذا كان دعاؤه�ا ﴿ ﯖ ﯗ‬
‫ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯠﯡﯢﯣ ﯤ﴾‬
‫(التحريم‪ :‬اآلية ‪.)11‬‬
‫فق�د دعت ببيت ىف اجلن�ة عوضا عن بيت الزوجية الذى افتقدت�ه ىف الدنيا‪ ،‬وقدمت‬
‫ج�وار اهلل تع�اىل على البيت ىف قوهل�ا ﴿ﯙ﴾ ليعوضه�ا ذلك عام افتقدت�ه من جوار‬
‫زوجها ىف الدنيا‪.‬‬
‫وامرأة اخلليل إبراهيم وامرأة زكريا وزوجامها ـ عليهم مجيعا السالم ـ كانوا مجيعا ىف‬
‫سن كبرية‪ ،‬ال تسمح بالرغبة الزوجية التى يعرب عنها باالستمتاع واملبارشة‪.‬‬
‫وكأن القرآن يشري إىل أمهية االستمتاع والرغبة بني الزوجني ىف تقوية العالقة بينهام‪،‬‬
‫أو يكون الس�بب عدم اإلنجاب‪ ،‬فقد جاء ذكرمها بلفظ املرأة لعدم وجود الولد ىف هذا‬
‫الوقت‪ ،‬وىف هذا إشارة أيضا إىل أن احلياة الزوجية غري مكتملة بسبب فقدان الولد‪.‬‬
‫أم�ا ام�رأة العزيز فواضح عدم حبها له‪ ،‬وانش�غالهُ ا بنبى اهلل يوس�ف دليل عىل ذلك‪،‬‬
‫دلي�ل عىل أن العالقة بينها وبين زوجها مل تكن محيمة‪ ،‬وأن قلبها مل يكن معلقا بزوجها‪،‬‬
‫وربما كان�ت طبيع�ة الرج�ل أو انش�غاله بأمورامللك كانت س�ببا ألن يرتك هلا مس�احة‬
‫لتنشغل بغريه‪ ،‬مع ما وهبه اهلل تعاىل ليوسف من مجال فاتن‪.‬‬
‫‪40‬‬
‫وقد ذكروا ىف كتب التفسير ما يدل عىل أن الرجل كان ال يغار عليها‪ ،‬وس�واء صح‬
‫ذل�ك أم مل يصح من حي�ث الرواية والنقل فإن القرآن قد أش�ار إىل ذلك بقوله ﴿ﯶ‬
‫ﯷ ﴾ دون استعامل لفظ الزوج‪.‬‬
‫بق�ى م�ا يتعلق بامرأة عمران وام�رأة أبى هلب‪ ،‬واألقرب عن�دى أن يكون من النوع‬
‫الذى يرجع سببه إىل كرب السن‪.‬‬
‫كام أن هناك ملمحا آخر وسببا لتسميتهام باملرأة دون الزوج‪ ،‬وهو أن القرآن يتحدث‬
‫عنهما بمعزل عن العالقة الزوجي�ة بينهام وبني زوجيهام‪ ،‬فامرأة عمران ىف املوضع الذى‬
‫وردت في�ه من س�ورة آل عمران إنام تدعو رهب�ا و َتنذر ما ىف بطنها حمررا هلل تعاىل‪ ،‬فاآلية‬
‫ال تتح�دث ع�ن يشء يتعلق بعالقتها بزوجه�ا‪ ،‬وكأهنا ىف ابتهاهلا هلل ام�رأة منفصلة عن‬
‫زوجه�ا ال عالقة هلا به‪ ،‬ووجه إضافتها لعمران هوالتعريف هبا‪ ،‬حتى نعلم عمن تتكلم‬
‫فضل�ه واصطفاه عىل العاملني من األف�راد والبيوت ىف‬ ‫اآلي�ة‪ ،‬فبع�د أن ذكر اهلل تعاىل من ّ‬
‫قول�ه ﴿ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾ (آل عم�ران‪:‬‬
‫اآلي�ة ‪ )33‬بع�د أن ذكر ذلك اختار من بين هؤالء احلديث عن مش�هد من بيوت اآلل‬
‫الذي�ن ّ‬
‫فضله�م‪ ،‬فق�ال ﴿ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ‬
‫ﮮ﴾‪.‬‬
‫وكذلك امرأة أبى هلب مل يذكرها بلفظ الزوج لنفس الغرض‪ ،‬فهى امرأة مستقلة عن‬
‫زوجها‪ ،‬حتاسب عن فعلها بمفردها ﴿ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ‬
‫ﮡ ﮢ ﴾ ف�كان عذاهبا غري عذاب زوجها الذى ﴿ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﴾ فال وجه‬
‫هنا لذكر العالقة الزوجية بينهام‪.‬‬
‫على أى حال فإن الق�رآن الكريم حني نتتبع اس�تعامله لأللف�اظ واآليات ىف مواضع‬
‫خمتلف�ة‪ ،‬ونط�رح أس�ئلة تتعل�ق بمغايرته ىف االس�تعامل (ملاذا اس�تعمل هنا ه�ذه اللفظة‬
‫وهن�اك لفظة أخرى؟) ـ فإننا نجد إجابات قد نختلف فيها‪ ،‬وقد يقرب بعضها أو يبعد‬
‫عن الصواب‪ ،‬ولكنها عىل أى وضع تعطى فكرا وعلام ومالمح عظيمة‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫ألف�اظ الق�رآن ـ ال ش�ك ـ ىف منتهى الدقة‪ ،‬ومغايرته ىف االس�تعامل يعنى فقها كثريا‪،‬‬
‫فاس�تعامل ال�زوج ىف موض�ع والبعل ىف موضع آخ�ر ال ينبغى أن يمر علين�ا دون تأمل‪،‬‬
‫وتسمية املرأة هبذا االسم ىف موضع وتسميتها زوجا ىف موضع آخر ينبغى أن نقف أمامه‬
‫متدبرين‪ ،‬فقط لنتأمل وسوف يفتح اهلل تعاىل‪.‬‬
‫ه�ذا وس�وف يأت�ى مزيد حدي�ث ع�ن مغاي�رات الق�رآن ىف االس�تعامل والتعبري ىف‬
‫وح�دة املغاي�رات من ه�ذا النم�وذج‪ ،‬وإنام ذكرن�ا هنا املغاي�رة املبنية عىل اس�تدعاءات‬
‫االستعامالت‪.‬‬

‫استعم ـ ــال الق ـ ــرآن للربـ ــط علـ ــى القل ــب ‪:‬‬
‫هذا مثال الستدعاءات استعامل القرآن للجملة‪.‬‬
‫كنت أتأمل س�ورة الكهف فوقفت أمام قوله تعاىل ىف ش�أن فتية الكهف ﴿ﯟ‬
‫ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ‬
‫ﯱﯲ﴾ ‪.‬‬
‫واستدعيت استعامل القرآن لقوله ﴿ﯟ ﯠ ﯡ ﴾‪ ،‬فوجدت أن هذا التعبري‬
‫قد ذكر ىف موضعني آخرين ‪:‬‬
‫�أحدهما ‪ :‬ىف س�ورة األنفال ىف س�ياق احلديث عن غزوة بدر ﴿ﭲ ﭳ ﭴ‬
‫ﭵﭶﭷ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮀ ﮁﮂ‬
‫ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﴾‪.‬‬
‫واآلخر ىف سورة القصص ىف سياق احلديث عن أم موسى ﴿ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ‬
‫ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾‪.‬‬
‫وملا تدبرت هذه املواضع قلت اآلتى ‪:‬‬
‫م�ا أعجب قوله تعاىل ىف ش�أن فتية الكه�ف ﴿ﯟ ﯠ ﯡ ﴾! لقد جاءهم‬
‫الع�ون من اهلل تعاىل‪ ،‬واملنحة العظيمة التى جتعله�م يواجهون أهل األرض لو اجتمعوا‬
‫‪42‬‬
‫عليه�م‪ ،‬وه�ى منح�ة ﴿ﯟ ﯠ ﯡ ﴾ فاملؤمن�ون الذى يرب�ط اهلل عىل قلوهبم‬
‫َيثْبت�ون على احل�ق‪ ،‬وإن ُأزهق�ت أرواحه�م‪ ،‬وأريق�ت دماؤه�م‪ ،‬و ُقطع�ت أوصاهلم‪،‬‬
‫وحرقت أجسادهم‪.‬‬
‫وكرست عظامهم‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬
‫والرب�ط عىل قلب العبد معناه أن يمنحه اهلل قوة وعزيمة وثباتا يس�تطيع به أن يواجه‬
‫الباطل وأهله‪ ،‬وأال يتزحزح عن احلق الذى يعيش من أجله ويدافع عنه‪.‬‬
‫وتأم�ل إحي�اءات املعان�ى ىف «الربط» فأنت ترب�ط الدابة حتى ال تنفل�ت‪ ،‬وتربط بني‬
‫األش�ياء لتجمعه�ا حت�ى ال تتفرق‪ ،‬وتربط متاعك حتى ال يس�قط‪ ،‬وه�ذه املعانى كلها‬
‫حيتاجه�ا قل�ب املؤمن‪ ،‬فاهلل يربط عىل قلب�ه حتى ال ينفلت ويبتعد ع�ن احلق‪ ،‬وحتى ال‬
‫يتفرق أمره ويتشتت بني احلق والباطل‪ ،‬وحتى ال يسقط ىف الفتنة‪ ،‬وملا كان القلب متقلبا‬
‫بطبيعت�ه‪ ،‬ويتلون حس�ب األحوال جتىء املنحة من اهلل للمؤمن فريب�ط عىل قلبه‪ ،‬ويثبته‬
‫عىل شىء واحد رغم تقلب األحوال‪ ،‬فيكون القلب مربوطا عىل حال واحدة‪.‬‬
‫وانظ�ر إىل أه�ل الكهف ملّا ربط اهلل عىل قلوهبم قاموا ىف وجه طاغية عرصهم ليعلنوا‬
‫توحيدهم واحلق الذى يتمس�كون ب�ه دون خوف ﴿ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ‬
‫ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﴾‪.‬‬
‫واملواض�ع الت�ى ورد فيه�ا الرب�ط عىل القل�ب جيمعها الصراع بني احل�ق والباطل‪،‬‬
‫ومواجهة القلة املس�تضعفة املؤمنة للطغاة الظاملني‪ ،‬وأهنا ىف مواقف حيتاج فيها املؤمنون‬
‫لتأيي�د اهلل تعاىل هلم؛ فأهل الكهف قلة مس�تضعفة ىف مواجهة طاغـية عرصهم بام أوتى‬
‫م�ن جـن�ود وقوة‪ ،‬وأم موس�ى وحدها ىف مقابل�ة فرعون وجنوده وم�ا يمكن أن حيدث‬
‫البنها من هالك عىل أيدهيم‪ ،‬وىف غزوة بدر كانت الفئة القليلة من النبى ﷺ والصحابة‬
‫مع�ه ىف مقابلة جي�ش يمثل ثالثة أضعافهم‪ ،‬فكلها مواقف حتتاج إىل الربط عىل القلوب‬
‫والتثبيت من اهلل تعاىل‪.‬‬
‫يعج�ب الظامل�ون من ثب�ات أهل احلق رغ�م تعذيبهم‪ ،‬والس�بب هو ﴿ﯟ ﯠ‬
‫ﯡ﴾ ويتهموهنم بأهنم مرىض نفس�يون‪ ،‬وال يعلمون أن السبب هو ﴿ﯟ ﯠ‬
‫ﯡ﴾ وحيت�ارون ىف أمر متس�كهم بام هم علىه وع�د مرضوخهم هلم‪ ،‬وال يـــدرون‬
‫‪43‬‬
‫أن الس�بب ه�و ﴿ﯟ ﯠ ﯡ﴾ وأن�ا ألتم�س هل�ؤالء الظاملين الع�ذر ىف عدم‬
‫فهمه�م؛ ألهن�م مل يذوقوا طع�م ﴿ﯟ ﯠ ﯡ﴾ نعم ألتمس هل�م العذر ألهنم‬
‫محق�ى مغفل�ون‪ُ ،‬ف ّجار مغيبون‪ ،‬ال يعرفون عن اهلل تعاىل معش�ار ما عرفه الذين ربط اهلل‬
‫عىل قلوهبم‪ ،‬ولو أهنم س�ألوا أنفسهم ‪ :‬ملاذا َيثْبت هؤالء رغم تنكيلنا هبم وتعذيبنا هلم ـ‬
‫لعلم�وا حقيقة األمر! ولكن ماذا نفعل م�ع قوم قلوهبم ُغ ْلف‪ ،‬وعقوهلم ُق ْفل؟ نعذرهم‬
‫م�ن ه�ذا الباب ونح�ن نلعنهم ألهنم يفعلون بالذين ربط اهلل على قلوهبم ما ال جيوز أن‬
‫ُيفع�ل هبِ َّرة‪ ،‬وقد دخلت امرأة الن�ارىف هرة عذبتها باحلبس‪ ،‬فامذا عمن حيبس البرش ظلام‬
‫وعدوانا؟!‬
‫اللهم اربط عىل قلوبنا‪ ،‬واجعلنا من أهل قولك ﴿ﯟ ﯠ ﯡ﴾‪.‬‬

‫استعمـ ـ ــال الق ـ ــرآن آليـ ـ ــة ﴿ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﴾ ‪:‬‬


‫هذا املثال تطبيق عىل استدعاءات استعامل القرآن لآلية‪.‬‬
‫وردت هذه اآلية مرتني‪ ،‬األوىل ىف األعراف والثانية ىف فصلت‪ ،‬ولننظر إىل سياق اآليتني‪:‬‬

‫ىف األعراف قال اهلل تعاىل ‪﴿ :‬ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ‬


‫ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﴾‪.‬‬

‫وىف فصلت ‪ ﴿ :‬ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ‬


‫ﮗﮘﮙ ﮚﮛﮜﮝﮞ ﮟ ﮠﮡﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ‬
‫ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﴾‪.‬‬
‫وبالتدبر لآليتني وسياق استعامهلام ىف املوضعني نالحظ أن السياق واحد‪ ،‬ففى الأوىل‬
‫وردت بعد األمر بالعفو واإلعراض عن اجلاهلني حني يتعرضون للمرء بس�وء أو أذى‬
‫قوىل أو فعىل‪.‬‬
‫وىف الثاني��ة نفس األمر؛ حيث وردت بعد األمر بالدفع بالتى هى أحس�ن ملن يعتدى‬
‫عليك‪ ،‬ومقابلة سيئته باحلسنة‪.‬‬
‫‪44‬‬
‫وال�س���ؤال ‪ :‬ملاذا ُتذكر اآلية ﴿ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﴾ ىف س�ياق‬
‫العفو والدفع باحلسنى ىف كال املوضعني؟‬
‫ال ش�ك أن لكل منا كرامته وعزة نفس�ه‪ ،‬وإذا دفع املس�لم بالتى هى أحس�ن وقابل‬
‫الس�يئة باحلس�نة وعفا عمن أس�اء إليه ىف حلظة إيامنية عالية يريد أن يمتث�ل فيها لتعاليم‬
‫الق�رآن الكري�م ـ فهذا ال يعنى أن نفس�ه لن تؤمله لس�كوته عىل اإلهان�ة وحتمله األذى‪،‬‬
‫ليذكره بعزة نفس�ه وكرامته‪ ،‬ويق�ول له ‪ :‬كيف‬ ‫فالش�يطان يأت�ى للعب�د ىف هذا املوق�ف ِّ‬
‫سمحت لنفسك أن هيينك‬‫َ‬ ‫تسمح هلذا السفيه أن يعتدى عليك؟ ملاذا مل تر ّد عليه؟ كيف‬
‫أحد أمام الناس؟ هؤالء من السفهاء وال يستحقون أن تعفو عنهم!‬
‫وهكذا يصاب العبد ىف مثل هذه احلال بنزغ الشيطان ووسوسته‪ ،‬وهلذا جاءت اآلية‬
‫لتعالج املس�ألة بتنبيه املؤمن أن الش�يطان يأتيه ىف مثل هذه احلال بعد أن عفا عمن أس�اء‬
‫إليه‪ ،‬وعليه أن يستعيذ باهلل من الشيطان الرجيم‪.‬‬
‫لق�د ج�اء القرآن ليعال�ج واقعا؛ فيعرض ص�ورة حقيقية‪ ،‬ويقدم العالج واإلرش�اد‬
‫الربانى والواقعى أيضا ىف تطبيقه‪ ،‬واملفيد ىف نتائجه‪.‬‬
‫كل ه�ذا بتدبر اس�تعامالت القرآن لأللفاظ التى قد تك�ون مجلة أو اآلية كاملة‪ ،‬علينا‬
‫أن نفك�ر بش�كل منظومى حني نق�رأ اآلية‪ ،‬فال نحصر ذهننا عىل املوض�ع الذى نقرؤه‬
‫فق�ط‪ ،‬بل عين عىل املوضع‪ ،‬وعيننا األخرى عىل املواضع األخرى الس�تكامل الصورة‪،‬‬
‫واستخراج الكنوز القرآنية ىف االستعامالت‪.‬‬

‫استعمـ ـ ــال الق ـ ــرآن لقول ــه ﴿ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﴾‪:‬‬

‫ورد هذا التعبري فى مو�ضعني من القر�آن ‪:‬‬

‫الأول ‪ :‬ىف س�ورة النس�اء حيث قال اهلل تعاىل ‪﴿ :‬ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ‬
‫ﮞ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮥﮦﮧ‬
‫ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ‬
‫‪45‬‬
‫ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯞﯟﯠ‬
‫ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ﴾‪.‬‬

‫الثان��ى ‪ :‬ىف قول�ه تع�اىل ىف س�ورة احلدي�د ﴿ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ‬


‫ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ‬
‫ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ‬
‫ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﴾‪.‬‬
‫عجيب هذا األمـر! ىف املوضعـني تـرد هذه اجلملة ﴿ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ‬
‫ﯼﯽ ﴾ بعد ذكر املختال الفخور الذى ال حيبه اهلل تعاىل‪.‬‬
‫مل أك�ن أحل�ظ هذا األمر من قب�ل رغم أنى ق�رأت اآلية ىف املوضعني مئ�ات املرات‪،‬‬
‫فلام تعمدت أن أطبق النموذج وأن أستدعى استعامل القرآن هلذه العبارة وجدت بأدنى‬
‫مالحظة االتفاق ىف املوضعني عىل ذكر العبارة بعد املختال الفخور‪.‬‬
‫جلس�ت هذه الليلة التى اس�تدعيت اس�تعامل القرآن هلذا التعبري واحرتت ىف البداية‬
‫لدرج�ة أن�ى تناقش�ت مع زوجتى وس�ألتها هذا الس�ؤال ‪ :‬هل هناك عالق�ة بني البخل‬
‫م�ن جهة واالختيال والفخر من جهة أخرى؟ هل من طبيعة اإلنس�ان البخيل أنه خمتال‬
‫فخور مغرور متعال؟‬
‫وبدأ احلوار بيننا نتدبر ونتأمل ىف واقع الناس‪َ ،‬عينْ عىل اآلية وعني عىل الواقع نحاول‬
‫أن نجد االتفاق بني صفحة القرآن وصفحة الواقع‪.‬‬
‫وبالتدبر والتأمل ىف الواقع مع الرجوع إىل سياق اآليتني بتمعن أكثر وجدنا اآلتى‪:‬‬
‫نع�م البخي�ل يبخل ب�كل ماعنده من مال وغيره‪ ،‬فليس البخل حمص�ورا عىل املال‪،‬‬
‫بدلي�ل اآلي�ة النس�اء ﴿ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ‬
‫ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﴾ وواض�ح م�ن قول�ه ﴿ ﯠ ﴾ أن�ه ينصرف إىل‬
‫كتامن العلم واحلق‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫وكل م�ن يكت�م علام أو يريده لنفس�ه فقط دون غيره يصيبه االختي�ال والفخر هبذا‬
‫العلم‪ ،‬وكذلك أصحاب األموال الذين يبخلون هبا يصيبهم االختيال والفخر بس�ببها‪،‬‬
‫فمعلوم أن ِ‬
‫الغنى قرين التبخرت واالختيال والتفاخر هبذا املال‪.‬‬
‫وكأن اآلية ىف املوضعني تشير إىل عالج هذا الداء ـ االختيال والفخر ـ باإلنفاق من‬
‫املال والعلم والوقت واجلهد‪ ،‬وبتمنِّى اخلري لآلخرين‪ ،‬فمن متنى وس�عى أن يكون غريه‬
‫غني�ا أو عامل�ا مثله عال�ج هذا الداء وختلص من�ه‪ ،‬وانظر إىل قارون ال�ذى مجع بني املال‬
‫حصل به هذا املال‪ ،‬انظر ماذا قال؟‬
‫والعلم الذى َّ‬
‫﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﴾ (القصص ‪ :‬اآلية ‪.)78‬‬
‫هك�ذا قاهل�ا وما يدرى عاقبته�ا الوخيمة! هكذا قاهلا ومل يعل�م أن العلم واملال الذى‬
‫حصله هبذا العلم هو من عند اهلل وجيب عليه بذله!‬
‫َّ‬
‫هك�ذا ق�ال وبخل بام آتاه اهلل فأصابه االختيال والفخ�ر والتباهى بخروجه عىل قومه‬
‫ىف زينته خمتاال فخورا‪.‬‬
‫فكانت النتيجة ما حكاه القرآن من سوء عاقبته باخلسف به وبداره‪.‬‬

‫نـ ــوع آخ ـ ــر مـ ــن استدع ـ ــاء االستعم ـ ــاالت ‪:‬‬


‫هو ما يمكن تس�ميته باس�تدعاء املعانى القرآنية غري ملتزمني بنص األلفاظ واجلمل‬
‫كام سبق‪.‬‬
‫وه�ذا النوع اخلاص حيتاج إىل إمكاني�ات أكثر ىف احلفظ وكثرة التالوة‪ ،‬ألن (املعجم‬
‫املفه�رس أللف�اظ القرآن) لن يفيدك ىف هذا‪ ،‬فأنت هنا تس�تدعى املعنى الذى تفهمه من‬
‫اآلية وتتتبعه ىف القرآن كله‪ ،‬وإن ورد بألفاظ وعبارات وسياقات خمتلفة متاما عن ألفاظ‬
‫املوضع الذى تتدبره‪.‬‬
‫نكون ص�ورة منظومية عام‬
‫إن تتب�ع املعان�ى القرآنية أينما وردت ومجعها كلها جيعلنا ّ‬
‫يريده اهلل تعاىل منا بخصوص هذا املعنى‪.‬‬
‫وقد وقفت عىل جتربة لفضيلة الش�يخ حممد الغ�زاىل رمحه اهلل بخصوص هذا‪ ،‬حيث‬
‫تتبع معنى واحدا ىف القرآن كله‪ ،‬ونرتكه حيكى لنا هذه التجربة‪.‬‬
‫‪47‬‬
‫عن ىل أن أتتبع معن�ى واحدا ىف كت�اب اهلل‪ ،‬وأرصد مواقعه ىف‬
‫ق�ال رمح�ه اهلل ‪ :‬وق�د ّ‬
‫شتى سور القرآن فعدت بحصيلة حسنة‪..‬‬
‫نح�ن نستش�عر ب�أن اخلاطئين يحُ ّس�ون الن�دم ي�وم القيامة عىل م�ا اقرتفوا م�ن آثام‪،‬‬
‫ويضم�ون إىل ه�ذا الن�دم أمنية يس�تحيل حتقيقها‪ ،‬ه�ى أن يعودوا مرة أخ�رى إىل احلياة‬
‫األوىل كى حيسنوا بدل ما أساءوا‪.‬‬
‫أى أهنم يطلبون ملحقا لالمتحان الذى سقطوا فيه‪ ،‬وهيهات!‬
‫ك�م مرة تكرر ه�ذا املعنى ىف الق�رآن الكريم؟ فألنظر ىف املصحف الرشيف حس�ب ترتيب‬
‫السور‪..‬‬
‫‪ -1‬ىف س�ورة البقرة يغتاظ األتباع من ُّ‬
‫تنكر الس�ادة هلم يوم احلساب فيقولون ﴿ ﮯ ﮰ‬
‫ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﴾‪.‬‬
‫‪ -2‬ىف سـورة األنعـام يتمنى املشـركون لو عادوا ليصدّ قـوا بام كانوا به ىف الدنيا مكذبني‬
‫﴿ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ ﰣ ﴾‪.‬‬
‫‪ -3‬ىف سورة األعراف يبني اهلل أن القرآن الكريم حوى من ُ‬
‫النذر ما يبعث عىل االرعواء‪،‬‬
‫ويسوق إىل اهلدى‪ ،‬ولكن الناس صدوا عنه‪ ،‬وعندما يصدمهم الوعيد الذى استخفوا‬
‫ب�ه يطلب�ون النج�اة ﴿ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ‬
‫ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﴾‪.‬‬
‫‪ -4‬ويتضح ما يطلبون ىف سورة إبراهيم عندما يصيح الظلمة ‪ ﴿ :‬ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ‬
‫ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ‬
‫ﭶ﴾‪.‬‬
‫‪ -5‬وجي�ىء ه�ذا املعن�ى ىف خالص�ة وجي�زة ىف صدر س�ورة احلج�ر ﴿ﭙ ﭚ ﭛ‬
‫ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ‬
‫ﭨ ﴾‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫�أما �سورة امل�ؤمنون ففيها تف�صيل يظهر فى مو�ضعني ‪:‬‬
‫‪ -6‬رضاع�ة الكاف�ر أن يرجع إىل احلياة ليصلح ما أفس�د ﴿ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ‬
‫ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ﴾‪.‬‬
‫‪ - 7‬واملوض�ع اآلخ�ر ىف دعــ�اء أهـــل النار عندما حييط هب�م العذاب ويرصخون من‬
‫شدة األمل ﴿ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ‬
‫ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ﴾‪.‬‬
‫‪ - 8‬أما ىف س�ورة الفرقان فإن الذكرى تبدو ىف مس�الك متناثرة ختامر الكافر عن األيام‬
‫الت�ى خلت‪ ،‬فه�و يقول آس�فا ﴿ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ‬
‫ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﴾ لق�د ف�ات‬
‫األوان‪ ،‬والت ساعة مندم‪.‬‬
‫‪ -9‬وىف س�ورة الش�عراء ينظر املرشكون إىل آهلتهم وس�ادهتم ىف جهنم يتعذبون معهم‪،‬‬
‫لقد استوى املجرمون ىف سوء العقبى‪ ،‬عندئذ يقول األذناب املخدوعون ﴿ﮝ ﮞ‬
‫ﮟ ﮠ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪ ﮫ ﮬﮭ‬
‫ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﴾ وهيه�ات‪،‬‬
‫ال عودة الستئناف حياة أرشد‪..‬‬
‫يرصح املجرمون بأمنيتهم‪ ،‬ويس�ألون اهلل أن يمنحهم فرصة‬
‫‪ -10‬وىف س�ورة الس�جدة ّ‬
‫أخــ�رى ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ‬
‫ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﴾ ونلح�ظ أن الس�كوت هو اجلواب‪،‬‬
‫كأهنم أحقر من أن ينتظروا ردا‪ ،‬وهذا إيالم أوجع‪.‬‬
‫‪ -11‬أما ىف فاطر فقد سمعوا إجابة توجب احلرسة وتضاعف العذاب ﴿ﯛ ﯜ‬
‫ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ‬
‫ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﴾‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫‪ -12‬ونلح�ظ ىف س�ورة الزم�ر أن اهلل حي�ذر عباده من التع�رض هلذه املواقف اليائس�ة؛‬
‫يصحوا هناك عىل غد قاتم يس�تحيل معه‬ ‫ولذل�ك يدعوه�م إىل التوبة هنا قب�ل أن ْ‬
‫استدراك ما فــــات ﴿ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ‬
‫ﰇﰈﰉ ﭑ ﭒﭓ ﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭛﭜ‬
‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﴾‪.‬‬
‫ملاذا ش�غلت نفس�ى هبذا اإلحصاء؟ ألن املس�لمني و َقر ىف نفوس�هم نوع من اجلربية‬
‫التى أفقدتهْ م الرشد‪ ،‬فحسبوا أهنم ُمسيرَّ ون ال خمريون‪ ،‬منساقون ال قادرون أحرار‪..‬‬
‫هل يجر�ؤ �أحدهم يوم القيامة على اللجوء �إىل هذا الكذب؟‬
‫إن أمتن�ا اس�تنامت ىف هذه احلياة ألفكار جعل ْتها حتيا ىف غيبوب�ة ُمهلكة‪ ،‬ومل تصح هلا‬
‫دنيا وال دين إال إذا عقلت كتاهبا وصححت موقفها منه‪.‬‬
‫وم�ن املمكن اس�تخراج قضاي�ا كلية وجزئية م�ن القرآن الكريم عىل النحو الس�هل‬
‫الذى سقناه هنا‪ ،‬ولن يعطيك القرآن بعضه إال إذا أعطيته كلك»(((‪.‬‬
‫وه�ذا التتبع نوع من التفسير املوضوعى للقرآن‪ ،‬حيث نتتبع معن�ى معينا ىف القرآن كله‪،‬‬
‫وننظر كيف حتدث عنه القرآن‪ ،‬لنبنى تصورا كامال عن املوضوع كام عرضه القرآن الكريم‪.‬‬
‫وإذا كان التفسري املوضوعى يعرض لقضايا كلية‪ ،‬ويعالج مسائل هلا مفردات كثرية‪،‬‬
‫فإن ما نقصده بتتبع املعانى أعم من هذا الذى هيتم به التفسير املوضوعى‪ ،‬فهو يعرض‬
‫أيضا للمعان�ى اجلزئية ويتتبعها ىف القرآن الكريم ليس�تخرج بذلك الدروس والفوائد‪،‬‬
‫أم�ا التفسير املوضوع�ى فهو ال ي�زال يعرض للقضاي�ا الكربى‪ ،‬كقضي�ة الفقر وكيف‬
‫عاجله�ا القرآن الكري�م‪ ،‬وقضية احلوار‪ ،‬واملرأة ىف القرآن‪ ،‬إىل غري ذلك من املوضوعات‬
‫ذات احلجم الكبري التى يمكن بتتبعها ىف القرآن أن نصنع منها جملدا كبريا‪.‬‬
‫ولك�ن م�ا نعنيه بالتتبع ىف اس�تعامالت املعان�ى ال ينحرص عىل هذا فقط‪ ،‬بل يش�مل‬
‫املعان�ى اجلزئي�ة أيضا‪ ،‬كاملعن�ى الذى تتبعه الش�يخ الغ�زاىل رمحه اهلل تع�اىل‪ ،‬وبنى عليه‬
‫منهجه ىف حماربة أنصار اجلربية‪.‬‬

‫‪ -9‬تراثن�ا الفك�رى ىف مي�زان الرشع والعق�ل (‪129‬ـ‪ )132‬للش�يخ حممد الغزاىل دار الشروق ـ الطبعة‬
‫الرابعة ‪1996‬م‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫كن�ت أصن�ع هذا ىف (دورة معايش�ة الق�رآن) نأخذ بع�ض املعانى ونق�وم بتتبعها ىف‬
‫القرآن الكريم حتى خرجنا هبذه النتيجة‪ ،‬وهى أن موضوعات التفسير املوضوعى هبذا‬
‫املعنى اجلزئى غري متناهية‪ ،‬فمن املمكن أن تس�تنبط موضوعا غري تقليدى وتقوم بتتبعه‬
‫ىف القرآن كله‪.‬‬
‫من ذلك ـ مثال ـ موضوع احلجارة ىف القرآن الكريم وما يتكون منها كاجلبال‪ ،‬وكيف‬
‫كان�ت جن�دا من جن�ود اهلل تعاىل؟ لق�د أهلك اهلل هبا ق�وم لوط‪ ،‬وأهل�ك هبا أصحاب‬
‫الفيل‪.‬‬
‫تأم�ل اآليات التى ورد فيها احلجارة واجلبال لتتعرف عىل عظمة هذه اجلامدات وأهنا‬
‫منس�اقة لرهب�ا خاضعة له‪ ،‬ختش�ع كما نخش�ع وأكثــ�ر ﴿ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ‬
‫ﯚ﴾ (البقـــ�رة‪ :‬اآلي�ة ‪ )74‬وقال تع�اىل ﴿ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ‬
‫ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﴾ (احلشر‪:‬‬
‫اآلية ‪ )21‬وهذا كله حيث املس�لم عىل أن يغار من هذه اجلامدات ويس�تحيى من ربه إذا‬
‫كان ُمصرِ ً ا عىل معصيته‪.‬‬
‫ومن ذلك أيضا تعبري القرآن عن عمل اإلنس�ان باس�تخدام األفع�ال اآلتية ‪ :‬عمل ـ‬
‫كسب ـ اكتسب ـ أحرض ـ قدمت وأخرت ـ جرح ـ اجرتح‪ ،‬كام ورد ىف هذه اآليات ‪:‬‬

‫﴿ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ﴾‬
‫(الربوج‪ :‬اآلية ‪ )11‬والتعبري بالفعل (عمل) ورد ىف عرشات اآليات كام هو معلوم‪.‬‬

‫﴿ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ﴾ (البق�رة‪ :‬اآلية‬


‫‪.)286‬‬

‫﴿ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ﴾ (التكوير‪ :‬اآلية ‪.)14‬‬

‫﴿ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾ (االنفطار‪ :‬اآلية ‪. )5‬‬

‫﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﴾ (األنعام‪ :‬اآلية ‪.)60‬‬


‫‪51‬‬
‫﴿ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ‬
‫ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﴾ (اجلاثية‪ :‬اآلية ‪. )21‬‬
‫وال شك أن هناك فروقا بني هذه املفردات ىف بعض املعانى وإن كانت جتتمع ىف أصل‬
‫معنى العمل‪ ،‬واجلمع بينها جيعلنا أكثر فهام ووعيا بطبيعة عمل اإلنسان‪.‬‬
‫األمر حيتاج إىل تدبر ومتعن‪.‬‬
‫وخالص�ة القول أن تتبع ألفاظ القرآن الكريم وعباراته ىف القرآن كله يعطيك معانى‬
‫جليلة وجديرة بالوقوف أمامها‪ ،‬كام أن تتبع املعنىولو كانجزئيا يعطينا مفهوما صحيحا‬
‫وتصورا كامال عن هذا املعنى‪.‬‬
‫***‬

‫‪52‬‬
‫الوحدة الثانية من النموذج‬ ‫الفصـ ـ ــل الثانــى‬
‫(العالقـــات)‬
‫َ‬
‫بين الجمل ــ بين اآليات‬

‫الق�رآن الكريم ليس ككتب البرش ىف طريقة عرضـه للموضوعات‪ ،‬بل له أس�ـلوبه‬
‫اخل�اص ﴿ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ﴾ (فصل�ت‪ :‬اآلي�ة ‪ )42‬يعـ�رض ل�ك جمُ َلا حتت�وى‬
‫على بع�ض املوضـوعات ىف اآلي�ة الواحدة‪ ،‬وجتد الس�ورة الواحدة هبا كثير من ألوان‬
‫املوضوع�ات والقضاي�ا‪ ،‬ويب�دو لك م�ن الوهلة األوىل أن�ه ليس هناك عالق�ة بني هذه‬
‫املوضوعات أو بني هذه اجلمل‪.‬‬
‫ولك�ن بالتدبر جت�د علام كثريا وفقها عظيما بالبحث ىف العالقات بين اجلمل‪ ،‬وبني‬
‫اآليات‪ ،‬بل وبني السور‪ ،‬األمر فقط حيتاج إىل تدبر وإمعان نظر‪.‬‬
‫َ‬
‫عارض بينها وال تنافر‪ ،‬وجتد الس�ورة تعرض لك ىف‬ ‫بالتدب�ر جتد اآليات متالمحة ال َت‬
‫احلقيقة موضوعا واحدا من جوانب شتى‪ ،‬وصفحة واحدة ذات وجهني‪َ ،‬‬
‫وط َبقا واحدا‬
‫في�ه أصناف ش�تى مما لذ وطاب من غذاء العقــل والــ�روح‪ ،‬إنك حتتاج إىل تدبر لفهم‬
‫كل هذا‪.‬‬
‫�أ�سئلة تطرحها وحدة العالقات فى هذا النموذج (التحليل املنظومى والنموذج‬
‫احل�ضارى) من مثل ‪:‬‬

‫ما عالقة هذه اجلملة بام قبلها؟‬


‫ملاذا جاءت هذه اآلية بعد تلك؟‬
‫ما الرابطة بني هذا املوضوع وذاك املوضوع؟‬
‫ملاذا ربط اهلل تعاىل بني هذين األمرين ىف اآلية واحدة أو سورة واحدة؟‬
‫‪53‬‬
‫ونحن كنا نقرأ القرآن دون أن نطرح أسئلة عىل أنفسنا للبحث ىف العالقات‪ ،‬وأقصانا‬
‫هو أن نقرأ كتب التفسري ملعرفة املعانى واألحكام ىف اآلية‪ ،‬ومتدنا كتب التفسري الكثرية‬
‫ب�كل م�ا يمكن أن حتتمله اآلية من مع�ان وأحكام‪ ،‬ولكنها ـ ىف أغلبه�ا ـ تقف عند هذا‬
‫احل�د دون بح�ث ىف قضي�ة العالقات‪ ،‬وإذا ذك�رت بعض العالقات فإهن�ا تذكرها عىل‬
‫استحياء أو إشارات سطحية بام اليمكن أن يكون منهجا عند أغلب املفرسين‪.‬‬
‫باس�تثناء بع�ض الكت�ب الت�ى ُصنف�ت خصيص�ا ىف إجي�اد املناس�بات بين اآليات‬
‫والسورككتاب (نظم الدرر ىف تناسب اآليات و السور) لإلمام البقاعى‪.‬‬
‫وكان العلامء يسمون هذه العالقات بني اآليات والسور بعلم املناسبات‪ ،‬وهلم ىف ذلك‬
‫أق�وال متتدح االش�تغال به‪ ،‬وتنتقد قلة اإلقبال عليه من املفرسين‪ ،‬وقد تكلم الس�يوطى‬
‫ىف كتاب�ه «اإلتقان ىف علوم القرآن» عن ه�ذا النوع من علوم القرآن حتت عنوان‪( :‬النوع‬
‫الثانى والستون‪ :‬ىف مناسبة اآليات والسور) وفيه يقول ‪:‬‬
‫وعلم املناسـبة علم رشيف َّ‬
‫قل اعتناء املفسـرين به لدقته‪ ،‬وممن أكثر فيه اإلمام فخـر‬
‫الدين‪ ،‬وقال ىف تفسريه ‪ :‬أكثر لطائف القرآن مو َد َعة ىف الرتتيبات والروابط‪.‬‬
‫ثم نقل عن ابن العربى قوله ‪ :‬ارتباط آى القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة‬
‫الواحدة متس�ـقة املعانى منتظمة املبانى علم عظيم مل يتعرض له إال عامل واحد عمل فيه‬
‫سورة البقرة‪ ،‬ثم فتح اهلل لنا فيه‪ ،‬فلام مل نجد له محَلة ورأينا َ‬
‫اخل ْلق بأوصاف البطلة ختمنا‬
‫عليه وجعلناه بيننا وبني اهلل ورددناه إليه‪.‬‬
‫وق�ال غيره ‪ :‬أول من أظهر علم املناس�بة الش�يخ أبو بكر النيس�ابورى‪ ،‬وكان غزير‬
‫العل�م ىف الرشيع�ة واألدب‪ ،‬وكان يق�ول إذا ق�رئ عليه ‪ :‬مل ُجعلت ه�ذه اآلية إىل جنب‬
‫هذه؟ وما احلكمة ىف جعل هذه الس�ورة إىل جنب هذه الس�ورة‪ ،‬وكان يزرى عىل علامء‬
‫بغداد ـ أى َيعيبهم ـ لعدم علمهم باملناسبة‪.‬‬
‫ىل الدين املَ ّلوى ‪ :‬قد وهم من قال ال ُيطلب لآلى الكريمة مناس�بة ألهنا‬
‫وقال ال�شيخ و ّ‬
‫وفصل الكالم أهنا عىل حس�ب الوقائع تنزيال وعىل حسب‬‫ُ‬ ‫عىل حس�ب الوقائع املفرقة‪،‬‬
‫س�وره كلها‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫مرتبة‬ ‫احلكم�ة ترتيب�ا وتأصيال؛ فاملصحف عىل وفق م�ا ىف اللوح املحفوظ‬
‫‪54‬‬
‫بالتوقيف كام ُأنزل مجلة إىل بيت العزة‪ ،‬ومن املعجز البينّ أسلو ُبه ونظمه الباهر‪ ،‬والذى‬
‫مكملة ملا قبلها أو مس�تقلة‪ ،‬ثم‬
‫ينبغ�ى ىف كل اآلي�ة أن ُيبح�ث أول كل يشء ع�ن كوهنا ِّ‬
‫جم‪ ،‬وهكذا ىف الس�ور يطلب وجه‬ ‫املس�تقلة ما وجه مناس�بتها ملا قبلها‪ ،‬ففى ذلك علم ّ‬
‫اتصاهلا بام قبلها وما سيقت له‪.‬‬
‫وقال الإمام الرازى فى �سورة البقرة ‪ :‬ومن تأمل ىف لطائف نظم هذه الس�ورة وىف بدائع‬
‫ترتيبه�ا علم أن القرآن كام أنه معجز بحس�ب فصاحة ألفاظ�ه ورشف معانيه فهو أيضا‬
‫بس�بب ترتيبه ونظم آياته‪ ،‬ولعل الذين قالوا إنه معجز بس�بب أس�لوبه أرادوا ذلك‪ ،‬إال‬
‫أنى رأيت مجهور املفرسين معرضني عن هذه اللطائف غري منتبهني هلذه األرسار(‪.((1‬‬
‫وأتفق مع هذه األقوال‪ ،‬ويمكن تلخيص كل ما سبق ىف أمرين ‪:‬‬
‫الأول ‪ :‬أن علم العالقات (املناسبات) فيه خري كبري وأرسار عظيمة‪.‬‬
‫الثانى ‪ :‬أن املفرسين مل هيتموا به‪ ،‬وهو جمال خصب للتدبر والبحث واإلضافة‪.‬‬
‫واالشتغال بالعالقات أمر ممكن ولو من غري العلامء املختصني‪ ،‬وربام ُفهم من األقوال‬
‫التى نقلناها أن هذاالعلم للعلامء املحنكني فقط‪ ،‬وهذا غري صحيح‪.‬‬
‫فإجي�اد العالق�ات بني اجلمل واآليات حيت�اج إىل تدبر وفهم الس�تخراج العجائب‪،‬‬
‫وورشات العمل أثبتت لنا ذلك‪ ،‬فحني نبحث ىف العالقات ونحن نتدبر نجد كثريا من‬
‫إخوانن�ا يتفنن ىف إجي�اد العالقات بفهم ووعى وهو من غير املتخصصني فضال عن أن‬
‫يكون من العلامء‪.‬‬
‫نعـم العلامء هلم النصـيب األكرب ىف الفهم واالس�تنباط بام آتاهم اهلل من علم واس�ع‬
‫وفه�م ثاق�ب‪ ،‬ولكن هذا ال ينفى أن يك�ون لغريهم نصيب ليس بالقلي�ل ىف هذا الباب‬
‫وغيره م�ن أبواب التدب�ر‪ ،‬بل ربام أدرك غري الع�امل أحيانا ما ال يدرك�ه العامل‪ٌّ ،‬‬
‫وكل من‬
‫فضله تعاىل‪.‬‬

‫‪ -10‬راجع هذه األقوال ىف «اإلتقان ىف علوم القرآن « للس�يوطى (‪369/3‬ـ‪ )370‬النارش اهليئة املرصية‬
‫العامة للكتاب ـ ‪1394‬هـ ‪1974‬م ـ حتقيق حممد أبو الفضل إبراهيم‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫أمثل ـ ــة تطبيقيـ ــة عل ـ ــى العالق ـ ــات ‪:‬‬

‫‪ - 1‬قولـ ــه تعالـ ـ ــى « ﴿ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﴾ اآليـ ــة ‪:‬‬

‫اق�رأ قول�ه تع�اىل ‪﴿ :‬ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ‬


‫ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ‬
‫ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ‬
‫ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﴾ (النور‪ :‬اآلية ‪.)33‬‬
‫اش�تملت هذه اآلي�ة الكريمة ىف ظاهرها عىل قضايا خمتلف�ة‪ ،‬فهى تتحدث عن ثالثة‬
‫موضوعات ‪:‬‬
‫الأول ‪ :‬األم�ر باالس�تعفاف ملن مل جي�د الزواج حتى يغنيه اهلل م�ن فضله وجيد تكلفة‬
‫الزواج ﴿ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ﴾‪.‬‬
‫�عوا ويعملوا ويدفعوا ألس�يادهم ثمن‬
‫يس َ‬
‫الثان��ى ‪ :‬موض�وع مكاتبة العبي�د عىل أن ْ‬
‫حريته�م فيام يع�رف ِف ْقهيا بحكم املكاتب�ة ﴿ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ‬
‫ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﴾‪.‬‬
‫الثال��ث ‪ :‬هنى األس�ياد عن إك�راه إمائهم عىل الزنا ابتغاء املال كما كان يفعل عبد اهلل‬
‫أبى بن س�لول رأس النفاق ﴿ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ‬ ‫بن ّ‬
‫ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﴾‪.‬‬
‫تبدو هذه املوضوعات الثالث أهنا ال عالقة بينها‪ ،‬وأهنا تقرر أحكاما متغايرة‪ ،‬ولكنها‬
‫ىف احلقيقة عند التدبر والتمعن إنام تتحدث عن موضوع واحد فقط‪.‬‬
‫إن�ه موضوع العفة والطهارة م�ن رجس الزنا والفواحش‪ ،‬إن�ه موضوع النفري العام‬
‫الذى دعا اهلل تعاىل إليه ىف اآلية السابقة عىل هذه اآلية ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ‬
‫ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﴾ (الن�ور‪:‬‬
‫اآلية ‪.)32‬‬
‫‪56‬‬
‫دعا اهلل تعاىل ىف هذه اآلية إىل أن ينطلق اجلميع شعو ًبا وحكومات‪ ،‬أفرا ًدا ومجاعات‬
‫إىل الزواج والتزويج هبذا األمر العجيب ىف تزويج كل من ال زوج له ﴿ ﭑ ﭒ﴾‬
‫ثم جعل أفراد املجتمع حلمة واحدة وأمة واحدة حني قال ﴿ﭓ ﴾‪.‬‬
‫ث�م ج�اءت اآلية التالي�ة لتأمر بالعفة والطه�ارة من رجس الزنا حت�ى يأتى اهلل تعاىل‬
‫بالغنى واليسـر فـى القدرة عىل النكاح ﴿ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ‬
‫ﭭ ﭮﭯ﴾‪.‬‬
‫ه�ذا األمر بالعفة وهذا النفري العام نحو ال�زواج والتزويج لألحرار والعبيد واإلماء‬
‫أمامه جمموعة من العقبات ال بد من تقديم حلول هلا‪.‬‬
‫العقبة األوىل هى الفقر‪ ،‬وقد عاجلت اآلية هذه العقبة بأن وعدت بأن كل من يبحث‬
‫تزوج�وا الفقراء‬‫ع�ن العفة بالنكاح س�وف يغني�ه اهلل تعاىل من فضل�ه‪ ،‬عليكم فقط أن ِّ‬
‫رض�وا هبم أزواج�ا إذا ما خطبوا بناتكم‪ ،‬واهلل تعاىل يعدك�م بأن يغنيهم من فضله‬ ‫وأن َت َ‬
‫وأن يوس�ع عليه�م ىف أرزاقه�م لتعي�ش بناتكم حتت كنفه�م مرزوقني ب�إذن اهلل تعاىل‪،‬‬
‫ول�ذا ختمت اآلية هبذين االس�مني اجلليلني من أسماء اهلل تع�اىل ﴿ﭡ ﭢ ﭣ ﴾‬
‫والعالق�ة بين اخلتام وموض�وع اآلية واضحة ىف بيان أنه الواس�ع تع�اىل ىف رزقه وعليم‬
‫بمس�تقبل هؤالء الفقراء وأنه س�وف يوس�ع عليه�م‪ ،‬عليكم فق�ط أن تقبلوهم أزواجا‬
‫لبناتكم ِحسبة هلل تعاىل‪.‬‬
‫العقبة التالية هى عقبة العبودية للبرش التى تحَ ُ ول بني العبد والزواج‪ ،‬وقد دعت اآلية‬
‫األوىل ىف هذا النفري العام إىل زواج اجلميع بام فيهم العبيد‪ ،‬بل أعطت العبيد أمهية خاصة‬
‫حين فصلته�م ذكورا وإناث�ا ﴿ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﴾ ومل تفعل ه�ذا مع األحرار‪ ،‬بل‬
‫اكتفت بالعموم ىف قوله ﴿ﭒ ﴾ الذى يشمل اجلميع‪.‬‬
‫نع�م العبودية عقبة ىف تنفي�ذ هذا النفري ؛ حيث ال يرىض الن�اس لبناهتم أن يتزوجوا‬
‫عبي�دا خدما ألس�يادهم‪ ،‬ال يملكون حرية الترصف‪ ،‬كما أن األرضار النامجة عىل زواج‬
‫العبد وخيمة‪ ،‬فهو مش�غول عن زوجته بخدمة س�يده‪ ،‬وهو ىف النهاية عبد لسيده وليس‬
‫كفئا للحرة‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫إهن�ا ـ بح�ق ـ عقبة كبرية تعطل االنطلاق نحو هذا النفري العام ال�ذى دعا اهلل تعاىل‬
‫إلي�ه‪ ،‬ول�ذا كان من املناس�ب ىف هذا الس�ياق أن يقدم الق�رآن حال ناجع�ا ىف نيل العبيد‬
‫حلريتهم ليتخطوا هذه العقبة الكئود نحو الزواج والعفة ىف املجتمع‪.‬‬
‫فأمر اهلل تعاىل باملكاتبة‪ ،‬وهى أن يسمح السيد لعبده أن يعمل من أجل احلصول عىل املال‬
‫ليدفع لسيده ثمن حريته‪ ،‬فإذا ما ناهلا ُذللت الصعوبات وأصبح الطريق َّ‬
‫ممهدا نحو الزواج‪.‬‬
‫بل يرس اهلل ىف املكاتبة وأمر بمس�اعدة العبيد فيها ىف تأدية الثمن فقال ﴿ﭼ ﭽ‬
‫ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ﴾ ب�ل جي�وز أن يأخذ العبد من مال ال�زكاة ليدفع ثمن حريته أو‬
‫يس�دد ما بقى عليه من ثمنها‪ ،‬كام قال تعاىل ىف مصارف الزكاة ﴿ﮩ ﮪ ﴾ (التوبة‪:‬‬
‫اآلية ‪.)60‬‬
‫وإذا كان الس�ياق كل�ه ىف اآليتين س�ياق عف�ة ودع�وة إىل حتصي�ل س�بيلها بالزواج‬
‫والتزويج ـ فإنه من املناس�ب أن يعالج الس�ياق هذا الس�لوك املشين من بعض األسياد‬
‫الذين جيربون إماءهم عىل الزنا تكس�با للامل احلرام‪ ،‬فمثل هذه الظاهرة املعيبة تقدح ىف‬
‫عفة املجتمع الذى تشكل إماء املسلمني جزءا منه‪.‬‬
‫وكأن اآلي�ة تدع�و إىل العفة «وليس�تعفف» ث�م ختص عفة العبيد بعناي�ة خاصة لمِ ا ىف‬
‫زواجه�م من عقب�ات أكثر‪ ،‬فدعت إىل حتريره�م باملكاتبة‪ ،‬ثم حثتهم على هذه املكاتبة‬
‫حت�ى ُي ِع ّفوا ه�ؤالء اإلماء بال�زواج بدال من إجباره�م عىل الزنا‪ ،‬لك�ى خي ّلصوهن من‬
‫هؤالء األسياد الطغاة الذين ينرشون الفواحش ىف املجتمع‪.‬‬
‫فهى إذن استنهاض من اهلل تعاىل واستنفار لنا وحتفيز للنفوس من الرجال أن يتكاتفوا‬
‫رشك الوق�وع ىف الزن�ا بتحريره�ن‪ ،‬أو بتحرير العبي�د ليتزوجوا‬ ‫لتخلي�ص اإلم�اء م�ن َ‬
‫هؤالء‪.‬‬
‫ظهـر بالتدبر أن اآليتني وليس�ت هذه اآلية فقط إنام تعـرض قضية واحدة‪ ،‬ومشهدا‬
‫مرتابط�ا‪ ،‬وقضي�ة كلية‪ ،‬هى قضية العفة ىف املجتمع بنرش ال�زواج والتزويج‪ ،‬ولكن هلذه‬
‫القضي�ة أجزاء وفصول‪ ،‬وقد بدت أجزاؤها م�ن أول وهلة وكأهنا موضوعات خمتلفة‪،‬‬
‫ولكنها ىف احلقيقة عند التدبر موضوع واحد وقضية متامسكة‪.‬‬
‫‪58‬‬
‫‪ -2‬قولـ ــه تعالـ ـ ــى ‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﴾ وعالقت ـ ــه مب ــا قبلـ ــه‪:‬‬

‫أقس�م اهلل ىف سورة الشمس بأحد عرش قسام عىل حقيقة كربى ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ‬
‫ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ‬
‫ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﴾ (الشمس‪ :‬اآليات ‪.)8-1‬‬
‫ثم يأتى املقسم عليه الذى يمثل احلقيقة الكربى ىف الوجود ﴿ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ‬
‫ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾‪.‬‬
‫ه�ذا ما أقس�م اهلل عليه ليتبني لإلنس�ان قيمة التقوى وتزكية النف�س‪ ،‬وأن وجوده ىف‬
‫ه�ذه الدني�ا من أجل هذهاحلقيق�ة العظيمة‪ ،‬وأن موته ومآله وبعثه ومس�تقره ىف اآلخرة‬
‫سيكون بناء عىل هذه احلقيقة‪ ،‬فإن قام بواجبها فقد فاز ىف الدارين‪ ،‬وإن كانت األخرى‬
‫فقد ﴿ ﭶ ﭷ ﭸ﴾‪.‬‬
‫والس�ؤال الذى تطرحه وحدة العالقات ىف النموذج ‪ :‬ملاذا هذه االنتقالة الواسعة إىل‬
‫قصة ثمود ﴿ ﭺ ﭻ ﭼ ﴾؟ ما العالقة بني ذكر ثمود وتكذيبهم وقتلهم للناقة‬
‫بكل ما سبق؟‬
‫ألول وهلة ال جيد القارئ عالقة بني األمرين ويعتقد أنه جمرد ذكر لقوم ثمود دونام أى‬
‫تع ُّلق بالسياق‪ ،‬أو هلل حكمة ىف هذا ال يعلمها إال هو‪ ،‬وعلينا أن نسلم بام جاء من عند ربنا‬
‫ونقول ﴿ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﴾ (آل عمران‪ :‬اآلية ‪.)7‬‬
‫هكذا حيلو للبعض أن يقول!!‬
‫وهو كالم عجيب! وال تعارض بني اإليامن بام جاءنا من عند اهلل والتسليم به‪ ،‬والتدبر‬
‫والتأمل الذى أمرنا اهلل تعاىل به‪ ،‬فالقرآن ُيقرأ ل ُيتد َّبر‪ ،‬ويتىل لنبحث عن أرساره ﴿ ﭲ‬
‫ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﴾ (ص‪ :‬اآلية ‪.)29‬‬
‫واآلن تعالوا نتدبر ىف العالقة بني اآليات‪.‬‬
‫لق�د حش�د اهلل تعاىل أكبر قدر من األقس�ام (مجع َق َس�م) عىل ه�ذه احلقيقة الكربى‬
‫ألمهيته�ا‪ ،‬حقيق�ة ﴿ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾ فه�ى أص�ل خل�ق‬
‫‪59‬‬
‫اإلنس�ان‪ ،‬وعىل أساسها ينبنى مصريه ىف اآلخرة‪ ،‬وال يوجد موضع ىف القرآن ُحشد هذا‬
‫الكم من القسم واحللف أكثر من هذا املوضع‪.‬‬
‫لقد أقس�م اهلل تعاىل بالكون كله من أرض وسماء‪ ،‬وليل وهنار‪ ،‬وش�مس وقمر‪ ،‬كام‬
‫أقس�م ب�رب كل هذه املخلوق�ات ﴿ ﭡ ﭢ ـ ﭥ ﭦ ـ ﭩ ﭪ ﴾ ليؤكد هذه احلقيقة‬
‫لإلنسان لعله يصدق ويعترب‪.‬‬
‫أقس�م اهلل تع�اىل بكل ه�ذه اآليات الكبرى ليدلل عىل صدق احلقيق�ة وأمهيتها‪ ،‬فال‬
‫نع�رف ىف الك�ون من دالئ�ل بينة وآيات ظاه�رة أمامنا أعظم من ه�ذا‪ ،‬فاملحلوف به ىف‬
‫ه�ذه اآليات هى معجزات بينات عىل وجود اهلل تع�اىل وقدرته وصدقه فيام يقول‪ ،‬ولذا‬
‫على اإلنس�ان أن يص�دق هذه احلقيق�ة إن كان يعترب هب�ذه اآليات ويحُ س�ن التأمل فيها‪،‬‬
‫واالستدالل هبا عىل قدرة اهلل ىف بعثه يوم القيامة وصدقه عىل ما أقسم عليه‪.‬‬
‫فال مزيد بعد األرض والسماء والليل والنهار والش�مس والقمر‪ ،‬ال مزيد من آيات‬
‫قسمه عىل هذه احلقيقة‪.‬‬ ‫نحتاجها حتى ِّ‬
‫نصدق ما جاءنا من عند اهلل ىف َ‬
‫وم�ن ال يص�دق بكل هذه اآليات فال تنفعه أى اآلي�ة أخرى‪ ،‬حيث إن أى اآلية بعد‬
‫هذه اآليات كأهنا لغو وعبث‪.‬‬
‫وهذا ما حدث مع قوم ثمود‪ ،‬مل يعتربوا بكل هذه اآليات ىف الكون‪ ،‬وذهبوا يطلبون‬
‫اآلية أخرى ال تساوى ىف حجمها وإعجازها كل هذه اآليات ىف الكون‪ ،‬فهل نفعهم أن‬
‫جاءهم اهلل بام طلبوه؟!‬
‫﴿ ﭺ ﭻ ﭼ ﴾ وال يمك�ن إال أن يكذب�وا ؛ ألن م�ن ال ينتف�ع ب�كل ه�ذه‬
‫اآليات الكونية فلن تنفعه ألف ناقة!‬
‫كذب�وا وقتلوا الناقة فأتاهم العذاب‪ ،‬وهذه عادة اهلل ىف األمم الس�ابقة أهنم إذا طلبوا‬
‫اآلي�ة وأتاه�م اهلل هبا وكذبوا هب�ا ـ أن حييق هبم عذاب اهلل تعاىل‪ ،‬وه�ذا ما حـــدث مع‬
‫قـــوم ثمود ﴿ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﴾‪.‬‬
‫﴿ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ‬
‫ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ‬
‫‪60‬‬
‫ﮙﮚ ﮛﮜ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮤﮥ‬
‫ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ﴾ (هود‪ :‬اآليات ‪.)68-65‬‬
‫يريد اهلل تعاىل ىف س�ورة الش�مس ـ بام ذكره من تكذيب ثمود بالناقة وعقرهم إياهاـ‬
‫أن ينبهن�ا إىل أال نفع�ل فعله�م‪ ،‬وأال نبحث ع�ن آيات أخرى بعد م�ا خلقه اهلل تعاىل ىف‬
‫الكون وىف أنفسنا من آيات‪ ،‬فال مزيد عىل ما خلقه اهلل ىف االعتبار واالتعاظ‪ ،‬ففيام خلقه‬
‫تعاىل كفاية لنا ملن كان له قلب وعقل يعترب هبام‪.‬‬
‫ولكن اإلنسان بسبب ما ألفه من هذه اآليات صار ال يعترب هبا‪ ،‬فهو دائام يرى األرض‬
‫من حتته والسامء من فوقه وما هبا من شمس وقمر‪ ،‬ويتعاقب عليه الليل والنهار‪ ،‬فصار‬
‫بسبب إلفه لكل هذه اآليات وكثرة مشاهدته هلا غري معتبرِ هبا‪.‬‬
‫وه�ذا عين ما فعلته ثمود‪ ،‬مل يعتربوا ب�كل هذا فطلبـوا اآلية ليجلبوا عىل أنفس�ـهم‬
‫العذاب األليم‪.‬‬
‫إذن َذ َ‬
‫ك�ر اهلل اآلي�ة الناقة ىف قصة ثمود لينبه ه�ذه األمة عىل أن تكتفى بام آتاها اهلل من‬
‫آيات وال تطلب املزيد‪.‬‬
‫والسؤال اآلن ‪ :‬ملاذا اآلية الناقة بالذات؟ ملاذا مل يذكر اهلل تعاىل عصا موسى مثال وهى‬
‫أيضا اآلية من اهلل لفرعون وقومه؟‬
‫واجلواب أن عصا موس�ى عليه السلام مل يطلبها فرعون‪ ،‬بل عرضها موسى عليــه‬
‫﴿ﮦ ﮧﮨﮩ ﮪ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯓﯔﯕﯖ‬
‫ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﴾ (الشعراء‪ :‬اآليات ‪.)32-30‬‬
‫وأرصوا عليها ﴿ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ‬
‫ّ‬ ‫أما ثمود فهم الذين طلبوا الناقة‬
‫ﯝ ﯞ ﯟﯠﯡﯢ ﯣﯤ ﯥﯦﯧﯨ ﯩﯪ ﯫﯬﯭ‬
‫ﯮ ﯯ ﯰ ﴾ (الشعراء‪ :‬اآليات ‪. )155-153‬‬
‫وقد كان هذا مسلك كفار مكة‪ ،‬حيث طلبوا من النبى ﷺ آية‪.‬‬
‫﴿ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ‬
‫ﭱ﴾ (األنعام‪ :‬اآلية ‪.)37‬‬
‫‪61‬‬
‫﴿ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ‬
‫ﰄ ﰅ ﰆ ﴾ (يونس‪ :‬اآلية ‪.)20‬‬

‫﴿ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾‬
‫(الرعد‪ :‬اآلية ‪.)7‬‬
‫﴿ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ‬
‫ﰅ ﰆ ﴾ (الرعد‪ :‬اآلية ‪.)27‬‬
‫﴿ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﴾ (طــــ�ه‪:‬‬
‫اآليـــــــة ‪.)133‬‬
‫﴿ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ‬
‫ﯔ﴾ (العنكبوت‪ :‬اآلية ‪.)50‬‬
‫فلم يأهتم اهلل هبا‪ ،‬رمحة هبم وإبقاء عىل هذه األمة‪ ،‬حتى ال ينزل هبم ما نزل بثمود‪.‬‬
‫﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ‬
‫ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ﴾ (اإلرساء‪ :‬اآلية ‪.)59‬‬
‫أما املس�لك الس�ليم الذى تعبرِّ عنه الفطرة الس�ليمة والقلب اخلاىل من األمراض أن‬
‫م�ا خلق�ه اهلل تع�اىل كاف لالعتبـار مل�ن أراد أن يعتبر‪ ،‬وما علينـ�ا إال أن نتأمل ىف هـذا‬
‫الكون الفسـيح ﴿ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬
‫ﮖ﴾ (يونــس‪ :‬اآلية ‪.)101‬‬
‫﴿ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ﴾‬
‫(آل عمران‪ :‬اآلية ‪.)190‬‬
‫فال تطلبوا يا أمة اإلسالم مزيدا من اآليات بعد ما خلقه اهلل لكم‪ ،‬وال تفعلوا فعل ثمود‬
‫وفعل كفار مكة‪ ،‬بل اعتربوا بام خلق لكم‪ ،‬لكيال جتلبوا غضب اهلل عليكم بتكذيبكم بام‬
‫طلبتموه‪ ،‬فلن يكون حالكم مع اآلية التى طلبتموها أحسن حاال من ثمود‪.‬‬
‫‪62‬‬
‫األب الذى ُينعم عىل ولده بكل النعم‪ ،‬ويؤتيه ما لذ وطاب من صنوف العيش وألوان‬
‫النعيم دون أن يطلبها ـ إذا ما طلب ولده منه شيئا تافها أقل مما آتاه من نعم استثار ذلك‬
‫غضبه‪ ،‬وتوعده بقوله ‪ :‬لو أنى آتيتك بام طلبت ـ وهو سهل عىل ألنه ال يساوى ما آتيتك‬
‫به من قبل ـ أكنت مستجيبا ىل سامعا ملا آمرك به؟‬
‫فكذبت وأبيت إال اخلروج عن طاعتى فلن يكون لك عندى‬
‫َ‬ ‫طلبت‬
‫َ‬ ‫لو أنى أتيتك بام‬
‫إال العقاب والعذاب!‬
‫وهلل املثل األعىل‪ ،‬فهذا ش�أنه مع األمم‪ ،‬أنه يؤتيهم من اآليات الكثرية والنعم الوفرية‬
‫دون أن يطلبوه�ا‪ ،‬ويدعـوهم رس�لهم إىل التأمل فـيها‪ ،‬كام ق�ال نبى اهلل صالـــح عليه‬
‫الس�ـالم لثمـ�ود ﴿ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙﮚ ﮛ‬
‫ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ﴾ (الش�عراء‪:‬‬
‫اآليات ‪.)150-146‬‬
‫ف�إذا طلب�وا املزيد عىل هذا نزل هبم العذاب إذا كذب�وا به‪ ،‬ولذا ملا عقرت ثمود الناقة‬
‫جاءهم العذاب بعد ثالثة أيام‪.‬‬
‫ولذا كان هذا هو الرس ىف اإلشارة إىل ثمود وتكذيبها بالناقة وعقرها هلا بعد أن ذكر‬
‫اهلل تعاىل كل هذه اآليات ىف مطلع السورة‪.‬‬

‫‪ - 3‬قولـ ــه تعالـ ـ ــى « ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﴾‪:‬‬

‫أقس�م اهلل بالعصر عىل ه�ذه القضي�ة ﴿ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﴾ إال ما اس�تثنته اآلية‬


‫األخرية﴿ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﴾‪.‬‬
‫وال�س�ؤال ‪ :‬ملاذا الق�سم بالع�صر بالذات على ق�ضية خ�سران الإن�سان؟ ما العالقة بني الأمرين؟‬
‫وملاذا مل يكن الق�سم على هذه الق�ضية بال�شم�س مثال �أو القمر؟‬
‫وح�دة العالق�ات ىف النم�وذج فتح�ت لنا ـ ىف ورش�ات معايش�ة الق�رآن ـ آفاقا من‬
‫التدب�ر‪ ،‬جعل�ت عقولنا تتفاعل أكثر مع كت�اب اهلل تعاىل‪ ،‬وكانت النتائ�ج مثمرة وفيها‬
‫العلم الكثري‪ ،‬وبناء التصورات الصحيحة وتغيري القناعات عن العامل من حولنا‪.‬‬
‫‪63‬‬
‫وكان منتج هذا التفكري ما يلى ‪:‬‬

‫العصر إما معن�اه الزمن والوق�ت مطلقا‪ ،‬وإما وق�ت العرص املعروف آخ�ر النهار‪،‬‬
‫وامليل عندنا أن محله عىل الوقت مطلقا أوىل ليشمل كل األوقات‪.‬‬
‫ويش�ب‪ ،‬ث�م يصري كهال‬
‫ّ‬ ‫اإلنس�ان من�ا ما ه�و إال وقت وزم�ن‪ ،‬بمرور الوقت يكرب‬
‫وىف س�ن األش�د‪ ،‬ثم يصبح ش�يخا هرما‪ ،‬وىف كل هذه املراحل ال يفعل اإلنس�ان لنفسه‬
‫ش�يئا لكى ينتقل من مرحلة إىل أخرى‪ ،‬فقط مرور الوقت هو الذى يصيرّ ه من حال إىل‬
‫حال‪.‬‬
‫الس�عيد م�ن مر عليه الوقت مس�تث ِم ًرا ل�ه‪ ،‬منتفعا به‪ ،‬فالوقت وع�اء العمل وظرفه‪،‬‬
‫والش�قى م�ن مأل هذا الظرف باملع�اىص والذنوب‪ ،‬واخلارس من مل يقض وقته ىف ش�ىء‬
‫نافع‪ ،‬تركه يمر بال فائدة تعود عليه بالنفع ىف املعاش واملعاد‪.‬‬
‫الفرق بني عامل مبجل وجاهل س�فيه هو الوقت‪ ،‬كل استغل وقته بام صار إليه حاله‪،‬‬
‫والفرق بني إنس�ان جاد يعيش حياته متحمال مس�ئولياته وتبعات معاشه وآخر مستهرت‬
‫ضيع من يعول بعد أن ضيع نفس�ه ـ الفرق بينهام هو ىف اإلجابة عىل هذا الس�ؤال ‪ :‬كيف‬
‫استثمر كل منهام وقته؟‬
‫إذن قضي�ة الوق�ت هى الس�بب ىف خسران كثري من البشر‪ ،‬وكأن اهلل تع�اىل يعطى‬
‫للوقت أمهية كربى حني أقس�م به‪ ،‬ويشير إىل أنه هو س�بب خرس اإلنسان‪ ،‬إال املؤمنني‬
‫الذين استغلوا أوقاهتم ىف العمل الصالح‪ ،‬وتواصوا فيام بينهم بالتمسك باحلق وبالصرب‬
‫الذى هو أيضا قضية وقت‪ ،‬فالتمس�ك باحلق وانتظار أن ينترص عىل الباطل ال بد له من‬
‫صبر يس�تغرق وقتا غالب�ا ما يطول ىف عرف البشر‪ ،‬فانتصار احلق والصبر عليه قضية‬
‫وقت أيضا‪.‬‬
‫وكأن السورة كلها ىف موضوعها مرتبطة بالوقت والزمن‪.‬‬
‫وإذا افرتضن�ا أن معن�ى ﴿ ﭑ ﴾ هو وق�ت العرص الذى يكون آخ�ر النهار ـ كام‬
‫ذهب إليه بعض املفرسين ـ فهذا أيضا يعطى أمهية هلذا الوقت الذى يغفل عنه كثري من‬
‫الن�اس‪ ،‬ويميلون فيه للراحة والدعة بعد الفراغ من أعمال النهار‪ ،‬لكى ينتبهوا إليه وال‬
‫‪64‬‬
‫خيرسوا هذا الوقت الذى اس�تحب فيه الرشع الذكر‪ ،‬لذلك امتدحت النصوص الذكر‬
‫ىف هناية النهار ـ وقت العرص ـ وتارة يس�ميه القرآن العش�ى‪ ،‬وتارة األصيل‪ ،‬وتارة قبل‬
‫غروب الشمس‪.‬‬
‫ق�ال تع�اىل ﴿ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ‬
‫ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ﴾ (األعراف ‪ :‬اآلية ‪.)205‬‬
‫﴿ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﴾ (اإلنسان ‪ :‬اآلية ‪.)25‬‬
‫﴿ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ﴾ (طه ‪ :‬اآلية ‪.)130‬‬
‫﴿ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ﴾ (ق ‪ :‬اآلية ‪.)39‬‬
‫أى صلاة الفج�ر وصالة العصر ىف هاتني اآليتني‪ ،‬ولذا ج�اء ىف النصوص احلرص‬
‫على هاتين الصالتني‪ ،‬كما ىف قوله ﷺ «من صلى الربدين دخل اجلن�ة»(‪ ((1‬وقال «فإن‬
‫اس�تطعتم أال تغلب�وا عىل صالة قبل طلوع الش�مس وقب�ل غروهبا فافعل�وا»(‪ ((1‬وجاء‬
‫أيضا احلفاظ عىل صالة العرص خاصة ىف قوله تعاىل ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ‬
‫وذم من ت�رك صالة العرص خاصة‬ ‫ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﴾ (البق�رة ‪ :‬اآلي�ة ‪ُّ )238‬‬
‫أهله َ‬
‫وماله»(‪ ((1‬وقال أيضا ﷺ «من‬ ‫ىف قول�ه ﷺ «الذى تفـوته صـالة العرص كأنام ُوتر َ‬
‫ترك صالة العرص فقد حبط عمله»(‪.((1‬‬
‫كل هذا يوضح أمهية صالة العرص والذكر ىف هذا التوقيت‪ ،‬وكأن غفلة اإلنسان عن‬
‫هذا الوقت يعد خرسا له‪.‬‬

‫‪ -11‬رواه البخ�ارى ‪ :‬كت�اب مواقي�ت الصلاة ـ ب�اب فضل صلاة الفج�ر (‪63/2‬ـ ق ‪ .)574‬ورواه‬
‫ومسلم ‪ :‬كتاب املساجد ومواضع الصالة ـ باب فضل صالتى الصبح والعرص واملحافظة عليهام (‪145/3‬ـ‬
‫ق ‪.)635‬‬
‫‪ -12‬رواه البخارى ‪ :‬الباب السابق (ق ‪ .)573‬ومسلم ‪ :‬الباب السابق (ق ‪.)633‬‬
‫‪ -13‬رواه البخارى ‪ :‬مواقيت الصالة ـ باب إثم من فاتته العرص (‪ - 37/2‬ق ‪ .)552‬ومسلم ‪ :‬املساجد‬
‫ومواضع الصالة ـ باب التغليظ ىف تفويت صالة العرص (‪ 135/3‬ـ ق ‪.)626‬‬
‫‪ -14‬رواه البخارى ‪ :‬مواقيت الصالة ـ باب من ترك العرص (‪ - 39/2‬ق ‪.)553‬‬

‫‪65‬‬
‫‪ - 4‬سـ ــورة النب ــأ والعالقـ ــة بي ــن موضوعـ ــات الس ـ ــورة كله ــا ‪:‬‬

‫هن�ا ننتقل إىل العالقة بني املقاطع ىف الس�ورة الواح�دة‪ ،‬واملقطع جمموعة من اآليات‬
‫تتح�دث ع�ن موضوع واحد‪ ،‬ثم ننتقل إىل جمموعة أخ�رى تتحدث عن موضوع آخر‪،‬‬
‫ودورنا ىف نموذج التحليل والتدبر أن نبحث ىف العالقة بني املقاطع‪.‬‬
‫س�ورة النبـأ ـ عىل س�بيل املثال ـ بدأت باحلديث عن سؤال املرشكني عن يوم القيامة‬
‫﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾‬
‫وهنا ينتهى املقطع‪.‬‬
‫ثم تنتقل السورة إىل احلديث عن مظاهر الكون املىلء باآليات ﴿ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ‬
‫ﭨ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭲﭳﭴﭵ ﭶ‬
‫ﭷﭸ ﭹﭺﭻ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ‬
‫ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﴾ وهــذا مقطع ثان‪.‬‬
‫ثم تنتقل السورة إىل مقطع ثالث تعود به إىل احلديث عن يوم القيامة الذى سألوا عنه‬
‫ىف املقطـع األول ﴿ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﴾ ‪ ...‬إىل‬
‫آخر اآليات التى عرضت ملشاهد القيامة‪ ،‬واحلديث عن النار واجلنة‪.‬‬
‫والسؤال الذى تطرحه العالقات ‪ :‬ملاذا ختلل احلديث عن مشاهد الكون بني احلديث‬
‫عن مشاهد القيامة؟‬
‫الق�رآن ينتقل من الغيب إىل املحس�وس ليس�تدل باملحس�وس عىل الغي�ب‪ ،‬فالذين‬
‫يكذب�ون بي�وم الدي�ن لو نظروا حتته�م وفوقهم وما حوهل�م لعلموا أن ال�ذى خلق هذا‬
‫الكون بكل آياته ال ُي ْعجزه ُ‬
‫بعث الناس يوم القيامة‪.‬‬
‫وتدبريه هلذا الكون كله بنظام واتساق وحساب ـ كام تتحدث اآليات ـ فيه أكرب دليل‬
‫عىل أنه سيدبر هلذا اليوم كام دبر هلذا الكون كله وسيرَّ ه عىل نظام ومنهج‪.‬‬
‫وما وزّ عه ىف هذا الكون من نظام عادل وميزان وقس�طاس س�وف يكون هو منهجه‬
‫وس�نته س�بحانه يوم القيامة‪ ،‬فاألرض مهاد بحس�اب ونظام‪ ،‬واجلب�ال أوتاد هلا بحيث‬
‫‪66‬‬
‫تثبته�ا وال تثقله�ا فه�ى بحس�اب أيضا‪ ،‬والنوم س�بات بحس�اب بحيث ل�و نقص عن‬
‫املعتاد مل يكن كافيا‪ ،‬ولو زاد عن احلد انقلب إىل مخول وكسل‪ ،‬واملعرصات تنزل مطرها‬
‫بحس�اب ينف�ع األرض وال ُيغرقه�ا‪ ،‬ف�كل يشء ىف الك�ون موضوع عىل قان�ون العدل‬
‫والقسطاس املستقيم‪.‬‬
‫وهذا ش�أنه ـ س�ـبحانه ـ يوم القيامة‪ ،‬إقامة العدل والفصل بني اخلالئق ور ّد احلقوق‬
‫إىل أهله�ا‪ ،‬هل�ذا ركزت الس�ورة عىل الوفاق واحلس�اب واجلزاء الذى حيق�ق العدل كام‬
‫حتقق ىف صفحة الكون ﴿ﯡ ﯢ ﴾ ــ ﴿ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﴾‪.‬‬
‫وخالص�ة األم�ر أن القرآن ال يتكلم عن موضوعات خمتلف�ة ـ وإن بدت ىف ظاهرها‬
‫كذل�ك ـ إنام يعرض صفحة واحدة وموضوعا واح�دا وقضية واحدة‪ ،‬ولكن من زوايا‬
‫خمتلف�ة‪ ،‬فينتقل من املجهول إىل املعلوم ليس�تدل به عىل حقيق�ة املجهول لنا‪ ،‬وينتقل من‬
‫جزئية ألخرى لينبهنا عىل قوة العالقة بينهام إن تدبرنا وتأملنا‪.‬‬
‫ال أنس�ى ىف أثناء التدبر ىف ورش�ة من الورش�ات قالت بعض أخواتن�ا ونحن نتأمل‬
‫أصبحت أش�عر أن القرآن كله كأن�ه يتحــدث عــن‬
‫ُ‬ ‫ىف العالق�ات ىف بع�ض اآلي�ات ‪:‬‬
‫موضوع واحد‪.‬‬
‫شعر ْت هبا بالتدبر ومعايشة قليل من سور القرآن الكريم‪،‬‬
‫نعم هذه هى احلقيقة التى َ‬
‫أدركت ما أدركه العارفون‬
‫ْ‬ ‫قالتها بقلبها وأس�ـلوهبا الدال عىل التفاعل مع القرآن‪ ،‬نعم‬
‫بالتدبر والتأمل‪.‬‬

‫‪ - 5‬س ـ ــورة الكهـ ــف والعالقـ ــة بيـ ــن قصصهـ ــا‪:‬‬

‫وردت أحاديث باستحباب قراءة سورة الكهف كل مجعة‪ ،‬وهذا يعنى أن املسلم إذا‬
‫عمل هبذه النصوص أنه س�يقرأ س�ورة الكهف مئات املرات ىف عمره‪ ،‬بام يعنى أن هلذه‬
‫الس�ورة أمهي�ة كربى ىف حياتنا‪ ،‬وأن هب�ا من العرب واملناهج ما يس�تحق أن ُتقرأ له ألوف‬
‫املرات‪.‬‬
‫ىف الظاه�ر أهنا اش�تملت على موضوع�ات وقصص ش�تى‪ ،‬ولكنها عن�د التدبر ىف‬
‫العالقات جتدها موضوعا واحدا‪.‬‬
‫‪67‬‬
‫ش�كل وحدة متامسكلة‪ ،‬وصفحة واحدة‪ ،‬هى صفحة الرصاع بني‬ ‫فقصصها األربع ُت ِّ‬
‫احلق والباطل‪ ،‬وما حيتاجه هذا الرصاع من فقه وفهم وتع ُّلم وتدريب‪.‬‬
‫عرض قصة أصحاب الكهف‪ ،‬هذه الفئ�ة املؤمنة التى جاهدت‬ ‫فف�ى بداية الس�ورة ُت َ‬
‫وضحت ىف سبيل احلق وإعالء كلمته‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وىف وس�ط الس�ورة قصة الصاحبني اللذين آتى اهلل أحدمها جنتني من أعناب ونخل‬
‫وزرع وكان كاف�را ال يؤم�ن ب�اهلل تع�اىل‪ ،‬واآلخر مؤمن ينص�ح األول ﴿ ﭰ ﭱ‬
‫ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﴾‪.‬‬
‫وس�ع اهلل ىف ملكه ﴿ﭑ‬
‫وىف آخ�ر الس�ورة قصة ذى القرنني‪ ،‬ه�ذا امللك املؤمن الذى ّ‬
‫ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﴾‪.‬‬
‫متث�ل ه�ذه القصص الثالث ش�يئا واحدا ىف ص�وره املختلفة وحاالت�ه املتباينة‪ ،‬وهو‬
‫الرصاع بني احلق والباطل‪ ،‬الرصاع بني أهل احلق وأهل الباطل حسب حال االستضعاف‬
‫واالستقواء‪ ،‬حسب حالة التمكني لكل من الفريقني‪.‬‬
‫أحيان�ا يكون أهل الباطل ممكنني أقوياء‪ ،‬هلم الغلبة والس�يطرة والقوة الظاهرة‪ ،‬وىف‬
‫املقاب�ل يكون أهل احلق مس�تضعفني بدينهم‪ ،‬قد ُيضطرون إىل إخف�اء إيامهنم‪ ،‬وأحيانا‬
‫الفرار بدينهم‪.‬‬
‫متث�ل قص�ة أصح�اب الكهف هذه الص�ورة من هذا الصراع‪ ،‬حيث يك�ون الباطل‬
‫منتفشا‪ ،‬يبدو قويا‪ ،‬ويستخدم هذه القوة للصد عن سبيل اهلل ومقاتلة أهله‪.‬‬
‫ومتث�ل قصة ذى القرنني عكس الصورة الس�ابقة‪ ،‬فأهل احل�ق ىف صورة ذى القرنني‬
‫هم أصحاب القوة‪ ،‬ويس�تعملون هذه القوة ىف نرش اخلري ىف األرض ومنع املفسدين من‬
‫الفساد فيها‪.‬‬
‫وتأتى القصة الوس�طى لتمثل الرصاع بني احلق والباطل ىف صورة الصاحبني وليس‬
‫ألحدمها غلبة عىل اآلخر‪.‬‬
‫والصراع بين احلق والباطل عىل مس�توى األفراد واجلامعات وال�دول ال خيرج عن‬
‫ه�ذه الصور الثالث‪ ،‬إما غلب�ة ألهل الباطل‪ ،‬وإما متكني ألهل احلق‪ ،‬وإما أن تتس�اوى‬
‫الكفتان بينهام وليس ألحدمها سلطان عىل اآلخر‪.‬‬
‫‪68‬‬
‫واألمة اإلسلامية ـ عىل مس�تواها كلها وعىل مستوى أفرادها ـ جيب أن تتعلم كيف‬
‫تتفاعل مع هذا الرصاع بشكل صحيح‪ ،‬وكيف تتخذ املنهج األمثل ىف التعامل معه‪.‬‬
‫والس�ورة الكريم�ة ـ التى نقرؤه�ا كل مجعة‪ ،‬وكثري منا حيفظه�ا أو حيفظ الكثري منها‬
‫وحيك�ى قصصها الثلاث لألطفال ـ قد عرض�ت للمنهج األمثل ىف التعام�ل‪ِّ ،‬‬
‫وتعل ُمنا‬
‫املنهج ىف كل حالة‪ ،‬فحني يكون الباطل قويا له سلطته وقوته وأدوات القمع التي يبطش‬
‫هبا علمنا اهلل أن املنهج واألسلوب الذى نتبعه هو ما قاله أصحاب الكهف ﴿ ﯫ‬
‫ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﴾‪.‬‬
‫وحين كان�ت الق�وة م�ع ذى القرنني القائ�م باحلـق علمن�ا اهلل أن املنهـ�ج املـتبع ىف‬
‫هـ�ذه املرحلة ﴿ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﴾ يعنى بلغتن�ا العرصية ـ األخذعىل يد الظاملني‬
‫الفاسدين والبلطجية والسفاكني للدماء واألكالني للامل العام‪.‬‬
‫أم�ا ىف حالة تس�اوى الطرفني كما ىف قصة الصاحبني فاملنهج ه�و ﴿ﭫ ﭬ ﭭ‬
‫ﭮ ﭯ﴾ منهج النقاش واحلوار وتبادل وجهات النظر بدون رصاع وال ش�جار وال‬
‫تطاول باأللسنة‪.‬‬
‫قص�ص ثالث ومناهج ثالثة متث�ل حياة األفراد واجلامعات واألمة املس�لمة‪ ،‬ال خيلو‬
‫يوم املس�لم املستمس�ك بدينه من حالة من هذه احلاالت الثالث‪ ،‬بل قد يتقلب ىف اليوم‬
‫الواحد بني هذه احلاالت‪ ،‬فيكون ىف عمله صباحا مستضعفا بدينه‪ ،‬ال يستطيع أن يصدع‬
‫ببعض احلق أو ببعض شعائره الدينية بسبب أن املكان الذى يعمل فيه يغلب عليه عدم‬
‫التدين وااللتزام‪ ،‬وهو ىف طريقه إىل عمله أو إىل بيته راجعـا من العمـل قد يجُ رى حديثـا‬
‫مع من بجـواره ىف (وس�يلة املواصالت) ويمثل هذا مش�هد الصاحبني ىف السورة حيث‬
‫ليس ألحدمها سلطان عىل اآلخر‪.‬‬
‫ثم يصل إىل بيته فيدخله َّ‬
‫ممكنًا له القوة والغلبة فيه‪ ،‬حيكم فيه ويأمر وينهى كيفام يشاء‬
‫بام يمثل غلبة سلطان احلق‪.‬‬
‫فه�ى إذن ح�االت متث�ل أدوارا ىف حي�اة املس�لم‪ ،‬وىف كل دور علي�ه أن يتب�ع املنه�ج‬
‫الصحيح والطريقة املثىل ىف التعامل والتفاعل مع املجتمع‪.‬‬
‫‪69‬‬
‫إن سورة الكهف ُتقرأ كل أسبوع لرتسم للمسلم اسرتاتيجيات عمله أثناء األسبوع‬
‫ومنهجياته ىف التعامل مع الناس‪ ،‬فهل عقلنا األمر وفهمنا مقصد الرشع من هذه السورة‬
‫العظيمة وفهم العالقات بني قصصها الثالث؟‬
‫واألمـر ال شـك صعـب وحيتـاج منا إىل فهـم وتعلـم وتدريـب وإدراك بأن بواطـن‬
‫األمـ�ور ـ كثيرا م�ا ـ ال تكون مثل ظواهرها‪ ،‬وأن حقائق األش�ياء حتت�اج إىل كبري فهم‬
‫وصرب‪.‬فانتص�ار الباط�ل ىف الظاهر ليس نرصا حقيقيا وإنام ه�و انتفاخ ىف حالة مرضية‪،‬‬
‫وورم قد نحس�به ش�حام وحلام‪ ،‬وعىل املسلم أن يدرك احلقيقة ويصرب عىل احلالة الراهنة‪،‬‬
‫ويعم�ل من أج�ل النرص احلقيق�ى للحق وأهل�ه‪ ،‬وأن يكون أحد صناع ه�ذا النرص بام‬
‫استخلفه اهلل تعاىل ىف هذه األرض‪.‬‬
‫األم�ر كام قلت ليس س�هال‪ ،‬بل حيت�اج إىل تدريب وتعلم وأن يبذل املس�لم قصارى‬
‫جهده ىف هذا التعلم‪.‬‬
‫وه�ذه ه�ى احلكمة ىف القص�ة الرابعة الت�ى ختللت بني هذه القص�ص الثالث‪ ،‬قصة‬
‫موسى مع اخلرض عليهام السالم‪.‬‬
‫القصـــ�ة التى متثل جهاد موس�ى عليه السلام لكى يتعلم‪ ،‬رح�ل وتعب من أجل‬
‫يدربه عىل‬
‫التعلـــ�م ﴿ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﴾ ح�اول اخلرض عليه السلام أن َّ‬
‫الصرب بالس�كوت عام يفعل‪ ،‬ولكن األفعال كانت أقوى من صرب موس�ى عليه السلام‬
‫فلم يصرب‪.‬‬
‫متثل القصة هذا االختالف بني حقائق األشياء وظواهرها بام فعله اخلرض عليه السالم‪،‬‬
‫فقد بدت أفعاله مستنكرة‪ ،‬ولكنها ىف احلقيقة خري كبري ﴿ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ﴾‪.‬‬
‫والتدرب عىل‬
‫ُّ‬ ‫حق�ا الصراع بني احلق والباط�ل حيتاج إىل كل هذه امله�ارات‪ ،‬الصرب‬
‫السكوت أحيانا‪ ،‬أو الكالم بحساب‪ ،‬حيتاج إىل إدراك احلقائق بكثرة التدبر والتمعن ىف‬
‫عامل البرش واألشياء‪.‬‬
‫إهن�ا قص�ة الرصاع بني احل�ق والباطل وما حتتاج�ه من مهارات وإج�راءات محُ ْكمة‪،‬‬
‫وتدابري متقنة‪ ،‬ومهارات يتدرب عليها املسلم‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫إهن�ا قصة الصراع التى بدأت من لدن آدم عليه السلام ىف قصة إبليس�وامتناعه عن‬
‫الس�جود‪ ،‬ث�م بقص�ة الصراع بني ابني�ه التى انته�ت بأن قت�ل أحدمها اآلخ�ر‪ ،‬ثم تأتى‬
‫حلق�ات قصة الصراع ىف كل ما حدث لألنبياء والصاحلني م�ع أقوامهم‪ ،‬من لدن نوح‬
‫عليه السلام إىل أن ختمت برس�ولنا ونبينا ﷺ‪ ،‬ومتثل أمة اإلسلام آالف القصص من‬
‫الرصاع بني احلق والباطل خالل فرتات األمة املختلفة‪ ،‬وما نعيشه من أحداث ما هو إال‬
‫حلقة من هذه القصة‪ ،‬ولسوف تكتمل احللقات كلها عند قيام الساعة‪.‬‬
‫خالص�ة األمر أن س�ورة الكهف ليس�ت قصصا خمتلفة وأحداث�ا ال عالقة بينها‪ ،‬بل‬
‫هى موضوع واحد تعاجله الس�ورة ىف حاالت خمتلفة‪ ،‬فموضوعها هو الرصاع بني احلق‬
‫والباطل وما حيتاجه أهل احلق من منهجية للتعامل والتدريب عليه‪.‬‬
‫مل يب�ق ىف الس�ورة بع�د ذل�ك إال أن تتأم�ل ىف افتتاحيته�ا وهنايته�ا وبع�ض اآليات‬
‫الت�ى ختلل�ت هذه القصص األربع‪ ،‬وس�وف أترك لك التدبر ‪ -‬من خلال ما تعلمته ىف‬
‫تدبر وسوف جتد اخلري الكثري‪.‬‬
‫العالقات‪ -‬ىف إجياد الروابط بني كل هذا‪ ،‬فقط ْ‬
‫كلمــة ع ــن العل ــم الكثي ــر ف ــى العالقـ ــات ‪:‬‬
‫معلوم أن القرآن ٍ‬
‫متناه ىف كلامته‪ ،‬يعنى أن كلامته حمدودة معلومة كلمة كلمة من بداية‬
‫الق�رآن إىل هنايت�ه‪ ،‬ولكن معانيه غري متناهية‪ ،‬وال حتدُّ ها أى حدود‪ ،‬فقد أودع اهلل فيه من‬
‫املعانى ما ال يمكن حرصه‪ ،‬وبقدر إيامن العبد وفهمه وفقهه وتلقيه عن اهلل تعاىل وتدبره‬
‫للقرآن ـ يفتح اهلل تعاىل عليه من املعانى اخلري الوفري‪ ،‬وعىل قدر االجتهاد يأتى اإلمداد‪.‬‬
‫وال ت�زال املعانى القرآنية تتجدد من زمان إىل زمان‪ ،‬ومن ش�خص آلخر‪ ،‬وال تنتهى‬
‫عجائب القرآن أبدا‪.‬‬
‫وللقرآن طرق ىف عرض هذه املعانى التى ال تنتهى والتى نجتهد ىف اس�تنباطها‪ ،‬منها‬
‫على س�بيل املثال أن تصاغ اآلية بطريقة بحيث حتتم�ل أكثر من معنى‪ ،‬وتفرس بأكثر من‬
‫طريق�ة‪ ،‬وكلها تك�ون معانى صحيح�ة وحيتملها لفظ اآلي�ة الكريمة‪ ،‬وكتب التفسير‬
‫مشحونة باختالف املفرسين ىف اآلية الواحدة‪ ،‬وغالبا ما تكون اآلية حمتملة لكل املعانى‪،‬‬
‫وهذا أمر قديم ومعروف‪.‬‬
‫‪71‬‬
‫أما الطريقة التى معنا والتى يستخدمها القرآن الكريم لكى جيعل معانيه كثرية ـ فهى طريقة‬
‫العالقات‪ ،‬وهو جمال جديد للبحث نرجو أن جيد طريقـه للتفعيـل عىل مستوى الدعوة والتعليم‪،‬‬
‫وعىل مستوى البحث األكاديمى والتصنيف الستخراج كنوز القرآن ومعرفة أرساره‪.‬‬
‫اكتش�اف العالق�ات بني اجلم�ل واآليات فيه علم كثري‪ ،‬ونس�تطيع أن نس�تخرج به‬
‫وحكم وقواعد وفنون من املعرفة ترسم للمسلم حياة صحيحة‪ ،‬وقلبا سليام‪،‬‬ ‫منهجيات ِ‬
‫وعقال راش�دا‪ ،‬فقط علينا أن نطرح سؤاال أو أسئلة‪ :‬ما العالقة بني هذه القضية وتلك؟‬
‫ملاذا مجع اهلل بينهام ىف هذا املوضع؟‬

‫أمثلــة م ــن ورش ـ ــات معايش ــة القـ ــرآن ‪:‬‬


‫ف��ى �سورة الهمزة ت�ساءلن��ا ‪ :‬ملاذا مجع اهلل بني اهلامز اللامز مع مج�ع املال وتعديده ﴿ ﭢ‬
‫ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﴾ وكان�ت اإلجاب�ة بعد التدبر بس�يطة‪،‬‬
‫وه�ى أن أكثر اهلمز واالس�تهزاء بالناس يكون م�ن أرباب األم�وال ومحُ ْصيها‪ ،‬فترَ َ ُفهم‬
‫اخل ْلق ويظنون أنفس�هم أن هلم مكانة وفضال عىل الناس هبذا املال‪،‬‬ ‫يتعالون عىل َ‬
‫جعلهم َ‬
‫فأسهروا ليلهم ىف املعاىص والفتن وأحاديث السمر بالغيبة واالستهزاء باآلخرين‪.‬‬
‫إذا فهم املس�لم ه�ذا من كتاب اهلل تعاىل ِ‬
‫حذ َر من هذا األم�ر وعلم أن ماله قد يكون‬
‫وب�اال علي�ه وأنه لن خيلد به‪ ،‬عىل عكس هذا املس�تهزئ املختال بامله الذى ﴿ ﭬ ﭭ‬
‫ﭮ ﭯ﴾ ولذا جاء الوعيد والتهديد هلؤالء مس�تغ ِرقا بقية الس�ورة لردعهم لعلهم‬
‫يع�ودون إىل رش�دهم ﴿ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ‬
‫ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﴾ ‪.‬إن‬
‫االس�تهزاء بالناس والوقوع ىف أعراضهم ملن أشد الكبائر‪ ،‬وليس ىف القرآن إال سورتان‬
‫تب�دآن هب�ذا الوعي�د ﴿ ﯖ ﴾ إحدامها تتعلق بانتهاك حرمة أع�راض الناس‪ ،‬وهى هذه‬
‫الس�ورة‪ ،‬واألخرى تتعلق بانته�اك حرمة أمــــوال الناس‪ ،‬وهى س�ورة املطففني التى‬
‫بدأها اهلل بقولـــه ﴿ ﯖ ﯗ ﴾ وىف مرة أخرى تس�اءلنا ىف بعض الورش�ات عن‬
‫العالقـــــات ىف قولـــه تعاىل ىف سـورة البـلد ﴿ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ‬
‫ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾‪.‬‬
‫‪72‬‬
‫العالق�ة واضحة بني اآلية األوىل والثالثة ﴿ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ﴾ و ﴿ﮒ‬
‫ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾ وال�س���ؤال ‪ :‬مل�اذا ختلل�ت ه�ذه اآلي�ة بينهما ﴿ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ﴾؟‬
‫تناقشنا متدبرين ىف هذا وكانت النتيجة أن القرآن الكريم هيتم بقضية املال اهتامما عظيام‬
‫ملا ّ‬
‫يشكله ىف حياتنا من أمهية كربى‪ ،‬فهو الذى ُيسأل عنه العبد يوم القيامة �س�ؤالني ‪ :‬من‬
‫أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟‬
‫وهذه العبارة القرآنية ﴿ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ﴾ ـ أى ماال كثريا ـ هى عبارة إنسانية‪،‬‬
‫بمعن�ى أهن�ا تتك�رر دائام ىف كل زم�ان وىف كل مكان‪ ،‬ق�د ختتلف األلف�اظ ولكن املعنى‬
‫واحد‪ ،‬دائام يقول الناس ِ‬
‫تباه ًيا ‪ :‬لقد أنفقنا الكثري عىل تربية أوالدنا ـ أنا أنفق عىل أرستى‬
‫كذا ىف الش�هر ـ لقد حصلت عىل ش�هادة كذا بمبلغ كذا ـ جهزت ابنتى العروس بكذا‬
‫من األموال الطائلة‪.‬‬
‫إذن قضية أن يذكر اإلنسان ما أنفقه بالقول هى قضية إنسانية‪ ،‬ولذا جاء تعبري القرآن‬
‫عنها بذكر ما يقوله اإلنسان فيها ﴿ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ﴾ وليس حكاية عام أنفقه‪ ،‬فلم‬
‫تقالآلي�ة مثال ‪ :‬ينفق اإلنس�ان م�اال لبدا‪ ،‬بل جاءت بما يقوله ويذكره أم�ام الناس عن‬
‫نفقاته‪ ،‬لتكون اآلية أكثر واقعية بحكايتها نص ما يقوله اإلنسان عن نفسه‪.‬‬
‫ه�ذه القضية التى تتعلق بإنفاق املال وإهالكه ىف ش�تى ش�ئون احلي�اة ومتطلباهتا ـ ملا‬
‫هل�ا من خطر عظيم عىل مس�توى األفراد واألم�ة ـ أراد اهلل أن حيوطها هبذه الرقابة اإلهلية‬
‫املغ َّلف�ة بالتهدي�د ﴿ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ﴾ و ﴿ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾‪ .‬ف�إذا كنت‬
‫تنفق أهيا اإلنس�ان ماال كثريا فال تظن ىف نفس�ك القدرة والس�طوة هبذا املال؛ ألنه هناك‬
‫من هو أقدر منك‪ ،‬وهناك من يراك حني تنفق ويعلم بحالك فاحذر أن يراك وأنت تنفق‬
‫ىف غري معروف‪.‬‬
‫املسلم حني يعلم قدرة اهلل عليه قبل اإلنفاق فال يغرت بامله وال يستقوى به عىل الناس‪،‬‬
‫وأثناء اإلنفاق حيتاج إىل استحضار رؤية اهلل تعاىل له فال ينفق إال ىف بر وخري ؛ ولذا كان‬
‫املناسب تقديم القدرة عىل الرؤية‪.‬‬
‫‪73‬‬
‫فحرص اهلل تعاىل إنفاق املال بني قدرته عىل اإلنسان‪ ،‬ورؤيته له‪ ،‬وال نظن عاقال حيرص‬
‫قضي�ة إنفاقه للامل بني اس�تحضار قدرة اهلل ورؤيته له ـ حيي�د عن منهج اهلل تعاىل ىف هذا‬
‫املال الذى أعطاه له ليقيم به أمور الدين ومصالح الدنيا‪.‬‬
‫وهك�ذا يكون التدب�ر ىف العالقات بني اآلي�ات ُمنتِجا للعلم والفوائ�د الثمينة‪ ،‬فقط‬
‫لنط�رح أس�ئلة العالق�ات ون�دع للعق�ل أن يتفك�ر ﴿ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﴾ (آل‬
‫عمـران ‪ :‬اآلية ‪.)7‬‬
‫***‬

‫‪74‬‬
‫الوحدة الثالثة من النموذج‬ ‫الفصـ ـ ــل الثالـ ــث‬
‫(المغا َيــــرات)‬
‫ُ‬
‫فى الموضع ـ بين المواضع‬

‫القرآن ال يسلك طريقة واحدة ىف األسلوب‪ ،‬بل يغاير ىف ألفاظه وىف أسلوبه‪ ،‬ويغاير ىف‬
‫التعبير ؛ فلا يعرب بام تتوقعه أنت‪ ،‬ويأتى بام مل تكن حتتس�ب‪ ،‬فيقدم تارة لفظة عىل أخرى‪،‬‬
‫وىف موضع آخر أو ىف نفس املوضع ربام يقدم ما أخره من قبل‪ ،‬وهكذا يفعل القرآن دائام‪.‬‬
‫وه�ذه الوحدة مس�تحدثة ىف النموذج‪ ،‬فلم تكن موضوع�ة فيه حني بدأت التدريب‬
‫علي�ه م�ع املجموعات األوىل‪ ،‬وقد فت�ح اهلل تعاىل هبا‪ ،‬ولكنى ت�رددت ىف ذكرها ىف هذا‬
‫النموذج‪ ،‬وظ ّلت ىف ذهنى أتدبر هبا القرآن ُ‬
‫وأدخلها ىف منظومة تفكريى وأنا أتلو القرآن‬
‫تشكل ظاهرة‬‫حتى قويت ىف عقىل‪ ،‬وكثرت أمثلتها املتنوعة‪ ،‬ورأيت أن مغا َيرات القرآن ّ‬
‫مؤخرا ضمن وحدات النموذج‪ ،‬واهلل تعاىل املوفق‪.‬‬ ‫جديرة بالذكر والتدبر‪ ،‬فأدخلتها َّ‬
‫كما رأي�ت أن املوضع املناس�ب هل�ذه الوحدة ه�و ذكرها بع�د الوح�دة الثانية‪ ،‬بعد‬
‫اس�تدعاءات االس�تعامالت ىف الوحدة األوىل وتدبر العالقات ىف الثانية‪ ،‬هنا س�يالحظ‬
‫املتدبر مغايرات ىف التعبري القرآنى س�واء ىف الس�ياق نفس�ه بتدبر العالقات‪ ،‬أو بني هذا‬
‫املوضع واملواضع األخرى التى استدعاها ىف االستعامالت‪.‬‬
‫على أن الرتتي�ب ىف وحدات ه�ذا النموذج هو مم�ا ختتلف فيه وجه�ات النظر‪ ،‬فقد‬
‫خالفنى بعض املتدربني ىف ترتيب بعض الوحدات‪ ،‬واألمر واسع وقابل لالجتهاد‪.‬‬

‫أوال ‪ :‬املغا َيـ ــرة فـ ــى نفـ ــس املوض ـ ــع ‪:‬‬
‫* يق�ول تع�اىل ‪ ﴿ :‬ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ‬
‫ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﴾ (اجلمعة ‪ :‬اآلية ‪.)11‬‬
‫‪75‬‬
‫فتأم�ل كي�ف قـــدم التجارة عىل اللهو ىف أول اآلية‪ ،‬ث�م غايــر فقدم اللهو عليهــا‬
‫ىف آخرها‪.‬‬
‫قدم�ت التجارة أوال؛ ألهنا كانت س�بب الن�زول‪ ،‬فهو يصف املش�كلة كام حدثت‪،‬‬
‫حني جاءت جتارة من الشام فانفض إليها الناس وتركوا النبى ﷺ قائام خيطب‪ ،‬ثم ذكر‬
‫الله�و بعدها ألنه ناتج عام حدث‪ ،‬فكل جتارة رشيفة أهلت املس�لم ع�ن عبادة ربه وأداء‬
‫فريضت�ه ص�ارت هلوا مذموما‪ ،‬ولكى يعم�م القضية فال حيرص األمر على التجارة وإنام‬
‫يشمل كل هلو‪ ،‬هذا سبب تقديم التجارة عىل اللهو‪.‬‬
‫أم�ا فـى املوضـ�ع الثانى فقد قدم اللهـو عىل التجـارة ؛ ألنه يقدم احلل للمش�ـكلة‪،‬‬
‫فاحل�ل ه�و ﴿ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﴾ فما عند اهلل تعاىل خري من كل هلو‬
‫يلهى املرء عن طاعة ربه ولو كانت جتارة‪.‬‬
‫* يقول تعاىل ﴿ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ‬
‫ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾ (الطالق‪ :‬اآلية ‪. )7‬‬
‫القرآن كثريا ما يذكر ش�يئني متقابلني‪ ،‬فيغاير بينهام ىف التعبري؛ كأن يوجز ىف أحدمها‬
‫ويطنب ـ يطيل ـ ىف اآلخر‪ ،‬كام ىف هذه اآلية الكريمة‪.‬‬
‫فانظ�ر كي�ف جع�ل نصيب األغنياء ذوى الس�عة مجل�ة واح�دة ﴿ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ‬
‫ﭺﭻ﴾ أما الفقراء الذين ُقدر عليهم رزقهم فكان نصيبهم بقية اآلية ثالث مجل ‪:‬‬
‫﴿ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﴾‪.‬‬
‫﴿ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﴾‪.‬‬
‫﴿ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾‪.‬‬
‫وذل�ك لالهتامم هبم‪ ،‬وختفيفا عنهم ىف التكليف بأهن�م ال يكلفون أكثر مما آتاهم اهلل‪،‬‬
‫وتبشيرا هلم بتفريج الكربة وأن حالة العرس س�وف تنقلب إىل يرس‪.‬فالقرآن إذن غاير ىف‬
‫التعبير ـ من حيث اإلجياز واإلطناب ـ بني الفريقيـ�ن األغنياء والفقراء‪ ،‬أو بني حالتى‬
‫الغنى والفقر‪.‬وخذ هذه القاعدة التى توصلنا إليها بكثرة التدبر ىف املغايرات ‪:‬‬
‫‪76‬‬
‫(إذا وج�دت الق�رآن يق�ارن بين فريقين أو حالتين فتوق�ع املغاي�رة ىف األس�لوب‬
‫والتعبري)‪.‬‬
‫وهذه اآلية عىل وجه التحديد فيها أنواع بديعة من املغايرات األخرى ‪:‬‬
‫* منها ‪ :‬أنه قدم األمر باإلنفاق لذى الس�عة الغنى عىل وصفه بالس�عة ﴿ﭶ ﭷ ﭸ‬
‫ﭹ ﭺﭻ﴾ أما الفقري ففقدم وصف حالته عىل اإلنفاق ﴿ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ‬
‫ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﴾ لينبه األول عىل أمهية اإلنفاق بالنس�بة له وأنه ينبغى أن يقدمه ويسارع‬
‫به لوجود الس�عة ِ‬
‫والغنى‪ ،‬أما الثانى فالنظر إىل حالته مرعية وال يعاتب عىل إبطائه أو‬
‫عىل قلة النفقة‪.‬‬
‫* ومنه��ا ‪ :‬أن�ه جعـ�ل اإلنفاق من س�عة الغن�ى منس�وبة إلي�ه ﴿ ﭹ ﭺﭻ﴾ أما الفقري‬
‫فجعـ�ل نفقت�ه ﴿ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﴾ فنس�ب م�ا آتاه من م�ال قليل إليه تع�اىل‪ ،‬تنبيها عىل‬
‫رشف مكانته عند اهلل و ُلط ًفا به وتسرْ ِ ي ًة عنه‪.‬‬
‫* ومنها ‪ :‬أنه ذكر الرزق مع الفقري ﴿ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﴾‪ ،‬ومل يذكره مع الغنى‪ ،‬وإنام‬
‫س�مى حالته سعة‪ ،‬وىف هذا إش�ارة إىل مكانة الفقري أيضا وأن ماله القليل رزق مبارك‬
‫م�ن اهلل تع�اىل‪ ،‬وأن هذا نصيبه من الرزق ولن يأخذ امل�رء أكثر من رزقه‪ ،‬وأن الرزاق‬
‫سبحانه عنده الرزق الوفري‪ ،‬وإنام هو ابتالء فحسب ىف هذا الوقت العارض‪.‬‬
‫* ومنه��ا ‪:‬أنه مل�ا ذكر الغنى عرب عنه هب�ذا التعبري ﴿ ﭷ ﭸ﴾ بالوصف باالس�م الذى‬
‫يفي�د اللزوم‪ ،‬أما الفقري فذكره هبذا التعبري ﴿ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﴾ بالفعل الدال عىل‬
‫املاىض‪ ،‬تنبيها إىل تغري احلال وأن فقره مسألة عارضة وسوف تزول‪ ،‬وقد جاء به مبنيا‬
‫للمجهول تأدبا مع اهلل ىف عدم نس�بة تضييق الرزق إليه‪ ،‬فليتز ْم العباد ىف وقت الضيق‬
‫أن يقولوا ‪ :‬ابتلينا بكذا من املصائب‪ ،‬وال يقولوا ‪ :‬ابتالنا اهلل باملصائب‪.‬‬
‫وه�ذا أيضا كقوله تعاىل ﴿ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ﴾‬
‫(اجل�ن‪ :‬اآلي�ة ‪ )10‬حيث بنى الفعل ﴿ ﯚ ﴾ للمجه�ول ىف حالة الرش‪ ،‬وبناه للمعلوم‬
‫وسمى فاعله وهو اهلل تعاىل ىف حالة اخلري والرشد‪.‬‬
‫‪77‬‬
‫وش�بيه هبذه املغايرة أن ينس�ب الفعل إىل اهلل تعاىل ىف اخلري‪ ،‬وينسب إىل العبد ىف الرش‬
‫تأدبا مع اهلل تعاىل‪ ،‬كام ىف قصة موس�ى مع اخلرض عليهام السلام ىف سورة الكهف‪ ،‬ففى‬
‫موقف خرق السفينة وإحداث العيب فيها نسب اخلرض فعل اإلرادة إىل نفســـه فقــال‬
‫﴿ﮚ ﮛ ﮜ﴾ وىف موقف اجلدار واخلري الذى صنعه للغالمني اليتيمني نسب فعل اإلرادة‬
‫إىل اهلل تعاىل فقال ﴿ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ‬
‫ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﴾‪.‬‬

‫املقابلـ ــة بي ــن شيئي ــن بأسل ـ ــوب االحتبـ ــاك‪:‬‬


‫من املغايرات القرآنية البديعة ما يسميه القدماء بأسلوب االحتباك‪ ،‬والزركشى سامه‬
‫ىف «الربهان» احلذف ا ُملقابىل(‪.((1‬‬
‫ومثال�ه قوله تع�اىل ﴿ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ﴾ (آل عمــران‪:‬‬
‫اآلي�ة ‪ )13‬فاآلي�ة تعق�د مقارنة بني فئة مؤمنة تقاتل ىف س�بيل اهلل‪ ،‬وفئ�ة كافرة تقاتل ىف‬
‫سبيل الطاغوت والباطل‪.‬‬
‫إذن االحتباك مقارنة بني طرفني‪ ،‬كل واحد من الطرفني يتكون من جزءين أو صفتني‪.‬‬
‫‪ - 1‬فئة م�ؤمنة ‪ - 2‬تقاتـل فى �سبيل اهلل‬ ‫* الطرف الأول (الفئة الأوىل) ‪:‬‬
‫‪ - 2‬تقاتل فى �سبيل الطاغوت‬ ‫‪ - 1‬فئة كافرة‬ ‫* الطرف الثانى (الفئة الثانية) ‪:‬‬
‫فجاءت اآلية الكريمة وحذفت جز ًءا من كل طرف وذكرت ما يقابله ىف الطرف اآلخر‪.‬‬
‫فحذف�ت اجلزء األول م�ن الطـرف األول (فئة مؤمنة) وذكرت ما يقابله ىف الطـرف‬
‫الثانـ�ى (وأخ�رى كاف�رة) وحذف�ت اجلزء الثان�ى من الط�رف الثانى (تقاتل ىف س�بيل‬
‫الطاغوت) وذكرت ما يقابله ىف الطرف األول ﴿ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ﴾‪.‬‬
‫وكأن اآلي�ة تق�ول ‪ :‬فئ�ة مؤمن�ة تقات�ل ىف س�بيل اهلل‪ ،‬وأخ�رة كافرة تقاتل ىف س�بيل‬
‫الطاغوت‪.‬‬
‫‪ -15‬الربهان ىف علوم القرآن للزركشى (‪ )129/‬النارش‪ :‬دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى احللبى‬
‫ورشكائه ـ الطبعة األوىل ‪ 1376‬هـ ‪1957 -‬م ـ حتقيق حممد أبو الفضل إبراهيم‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫بعد هذا ميكنك فهم تعريف االحتباك ‪:‬‬
‫يعرفه ال�سيوطى بقوله ‪« :‬وهو أن حيذف من األول ما أثبت نظريه ىف الثانى‪ ،‬ومن‬
‫الثانى ما أثبت نظريه ىف األول»(‪.((1‬‬
‫وق��ال عن��ه ‪« :‬وهو من ألطف األنواع وأبدعها‪ ،‬وقل من تنبه له أو نبه عليه من أهل‬
‫(‪((1‬‬
‫فن البالغة‪ ...‬وهو نوع عزيز»‬
‫وأسلوب االحتباك نوع من املغايرات ألنه ال يذكر ىف كل طرف ما يقابله ىف الطرف‬
‫اآلخ�ر‪ ،‬وإنما يغاير فيذك�ر ما يقتضيه مقابل�ه أو ضده‪ ،‬ففى اآلية الس�ابقة ﴿ﮇ ﮈ‬
‫ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ﴾ مل�ا ذك�ر الفئ�ة األوىل التى تقاتل ىف س�بيل اهلل كان‬
‫م�ن املتوق�ع أن يذك�ر الفئة األخ�رى بأهنا تقات�ل ىف س�بيل الطاغوت والباط�ل‪ ،‬ولكنه‬
‫ذكرها بمقتىض ذلك‪ ،‬ذكرها بأهنا كافرة والكفر يقتىض أهنا تقاتل ىف س�بيل الطاغوت‪.‬‬
‫ومثال�ه أيض�ا قول�ه تع�اىل ﴿ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ‬
‫فعلى إجرامى وأنتم ب�رءاء منه‪ ،‬وعليكم‬ ‫ﯱ ﯲ﴾ (ه�ود ‪ :‬اآلي�ة ‪ )35‬واملعن��ى ‪ّ :‬‬
‫إجرامكم وأنا برىء مما جترمون‪.‬‬
‫ومن�ه قوله تع�اىل ﴿ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ﴾ (األنبياء ‪ :‬اآلية ‪ )5‬تقديره ‪:‬‬
‫إن أرسل فليأتنا بآية كام أرسل األولون َفأ َتوا بآية‪.‬‬
‫واملتوقع إذا قارن القرآن بني أمرين أن يذكر الشىء وضده‪ ،‬ولكن القرآن كثريا ما يذكر الشىء‬
‫وما يستلزمه الضد‪ ،‬وليس الضد نفسه‪ ،‬وهذه الظاهرة مالحظة ىف سورة اجلن‪ ،‬قال تعاىل ‪ ﴿ :‬ﯖ‬
‫ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ﴾ فل�م يق�ل (أم أراد هبم رهبم خريا )‬
‫ىف مقابل قوله ﴿ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﴾ بل ذكر الرشد الذى هو الزم اخلري‪.‬‬
‫وقال تعاىل ىف السورة نفسها ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ‬
‫ﭚﭛﭜﭝﭞ ﭟﭠ ﭡﭢ ﭣﭤﭥﭦ ﭧ‬
‫ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ﴾‪.‬‬
‫‪ -16‬اإلتقان ىف علوم القرآن (‪.)204/3‬‬
‫‪ -17‬السابق‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫هذه اآليات تتحدث عن فريقني‪ ،‬فريق املسلمني املؤمنني املهتدين‪ ،‬وفريق القاسطني‬
‫الظاملني الضالني‪ ،‬تقابل وتقارن بني هاتني الصورتني من الناس‪ ،‬وطبقا للقاعدة السابقة‬
‫حيثما وجدت الق�رآن يقارن بني صورتين أو فريقني أوحالتني فتوقع ه�ذه املغايرات‪،‬‬
‫سواء باالحتباك أو بغريه‪.‬‬
‫ولنت�أمل املغايرات فى هذه الآيات ‪:‬‬
‫‪ -1‬املغاي�رة بالتعبري بالش�ىء والزم ضده ـ كام س�بق بيانه ـ حيث س�مى الفريق األول‬
‫املسلمني‪ ،‬ومل يسم الثانى بضده وهو الكافرون‪ ،‬وإنام سامه مالزم الكفر ﴿ ﭞ﴾‬
‫أى الظاملون‪.‬‬
‫‪ -2‬اجل�واب خمتل�ف ىف احلالتني‪ ،‬ففى حالة املس�ـلمني ج�واب الرشط ﴿ ﭙ ﭚ‬
‫ﭛ﴾ حي�ث ذك�ر أن من أس�لم فقد حت�رى الص�واب وطريق اهل�دى‪ ،‬فنص عىل‬
‫طريقتهم ىف االهتداء وهو التحرى والبحث عن احلق‪ ،‬ومل يفعل ذلك ىف القاسطني‪،‬‬
‫فل�م يذك�ر مثال أهنم حتروا ضد الرش�د وه�و الضاللة والغواية‪ ،‬وإنما ذكر دخوهلم‬
‫جهن�م ﴿ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﴾‪ ،‬ومعل�وم أن دخ�ول جهن�م هو الزم‬
‫لضد الرش�د‪ ،‬فكأن اآلية تقول‪ :‬فقد حتروا ضاللة ـ ىف مقابل املس�لمني الذين حتروا‬
‫رشدا ـ فكانوا جلهنم حطبا‪.‬‬
‫كما �أن الآيات فيها مغايرتان �أخريان من نوع �آخر ‪:‬‬
‫‪ -3‬حني حتدث عن املس�لمني قال ﴿ﭗ ﭘ﴾ ومل يس�لك نف�س الطريقة مع الفريق‬
‫اآلخر فلم يقل (ومن قسـط) كام قال ﴿ﭗ ﭘ﴾ وإنام عربعنهم باستعامل االسم‬
‫﴿ﭝ ﭞ ﴾‪.‬‬
‫‪ -4‬أوجز ىف احلديث عن املس�لمني‪ ،‬وأطال ىف احلديث عن القاس�طني‪ ،‬فبينام كان حظ‬
‫املؤمنين ه�و قول�ه ﴿ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﴾ كان ح�ظ القاس�طني أكث�ر‬
‫م�ن ه�ذا ىف احلدي�ث عنه�م ﴿ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ‬
‫ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ‬
‫ﭵ﴾‪.‬‬
‫‪80‬‬
‫* يقـول تعاىل ﴿ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ﴾ (فصلت‪ :‬اآلية ‪.)17‬‬
‫فتأم�ل كي�ف قال ﴿ ﯡ ﯢ ﯣ﴾ فذكر العم�ى ومل يذكر ضده وهو اإلبصار أو‬
‫التبُّص�رُّ ‪ ،‬وإنام ذكر اهلدى ال�ذى هو الزم التبرص وناجته‪ ،‬فلم تق�ارن اآلية بني (الضاللة‬
‫واهل�دى) ومها الض�دان املعروفان‪ ،‬ومل تق�ارن بني (العمى واإلبص�ار) وإنام قارنت بني‬
‫العمى وما ينتج عن ضده وهو اهلدى‪.‬‬
‫وىف هذا ـ وكل ما س�بق ـ احتباك وإجياز‪ ،‬فكأن اآلية تقول (فاس�تحبوا العمى الذى‬
‫أدى هبم إىل الضاللة عىل اإلبصار الذى يؤدى إىل اهلدى) فسكت ىف كل طرف عام يفهم‬
‫م�ن ذك�ر ضده ىف الطرف اآلخر‪ ،‬فل�م يذكر الضاللة ىف الطرف األول وإنام أش�ار إليها‬
‫حني ذكر ضدها وهو اهلدى ىف الطرف الثانى‪ ،‬ومل يذكر اإلبصار ىف الطرف الثانى وإنام‬
‫أشار إليه حني ذكر ضده وهو العمى ىف الطرف األول‪.‬‬
‫وهذا ال شك إجياز بديع‪ ،‬كام أن فيه دعوة إىل التدبر الستنباط املسكوت عنه‪ ،‬كعادة‬
‫الق�رآن دائام أنه ال يرصح بكل ش�ىء‪ ،‬بل يرتك مس�احة ألهل الق�رآن املتدبرين العالمِ ني‬
‫حتى ال يستووا مع غري املتدبرين‪.‬‬
‫والسؤال الذى يطرح نفسه ‪ :‬ملاذا ذكر ىف كل طرف هذا اجلزء عىل وجه التحديد وسكت‬
‫عن اجلزء اآلخر؟‬
‫ملاذا ذكر ىف الطرف األول العمى‪ ،‬وىف الثانى اهلدى؟‬
‫مل�اذا مل تك�ن اآلية عىل ه�ذه الصورة (فاس�تحبوا الضالل�ة عىل اإلبص�ار)؟ وحينئذ‬
‫سنستنبط املسكوت عنه (العمى واهلدى) بنفس الطريقة‪.‬‬
‫واجلواب أن القرآن يدعو إىل استعامل اإلنسان ألدواته من السمع والبرص والفؤاد ىف‬
‫التأمل والتفكر‪ ،‬فإذا استعملها متجردا عن اهلوى ُهدى إىل رصاط مستقيم‪ ،‬وكأن اآلية‬
‫تنكر عليهم أهنم اس�تحبوا أال يس�تعملوا عقوهلم وأن يعطلوا أسامعهم عن سامع احلق‪،‬‬
‫فهم بذلك يستحبون العمى الذى نتيجته وال بد الضاللة‪.‬‬
‫واهل�دى هو املحصلة ملن اس�تحب إعمال عقله وفكره‪ ،‬وهو الثمرة التى ُأرس�ل من‬
‫أجله�ا األنبي�اء‪ ،‬وكأن الق�رآن يق�ول ‪ :‬حتصيل هذه الثم�رة العظيمة بأن يرتك اإلنس�ان‬
‫العمى‪ ،‬عليه فقط أن ُيعمل سمعه وبرصه وفؤاده وسوف يصل إىل اهلدى ال حمالة‪.‬‬
‫‪81‬‬
‫فاآلية ـ إذن ـ تستنكر طريقة تعامل الناس مع احلق‪ ،‬ولو أهنم تركوا ألنفسهم مساحة‬
‫ألن َي ُعوا ما يقال‪ ،‬وأن يتدبروا فيام يدعو إليه الرسل لكانت النتيجة خمتلفة‪.‬‬
‫وكأن الق�رآن يق�ول للن�اس ىف كل زمان وم�كان ‪ :‬تعاملوا مع كل م�ا يقال وحيدث‬
‫م�ن حولكم بغض النظر عن كونه حقا أو باطلا ـ بطريقة صحيحة‪ ،‬طريقة تعتمد عىل‬
‫التعقل والتفكر ال العمى والغفلة‪ ،‬ال ترفضوا ما يقال ملجرد أنه جديد‪ ،‬بل اسمعوه أولاً‬
‫وافهموه وتأملوا فيه‪ ،‬فإذا كان حقا س�تقبلونه ما دمتم س�الكني هلذه الطريقة‪ ،‬وإذا كان‬
‫باطال رفضتموه بنفس الطريقة‪.‬‬
‫وخالص�ة األم�ر أن االحتباك الذى ذكره بعض العلامء هو ن�وع من أنواع املغايرات‬
‫القرآنية ىف التعبري‪ ،‬وحيتاج إىل مزيد من التدريب وإعامل العقل والنظر‪.‬‬
‫* يقول تعاىل ‪﴿ :‬ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ‬
‫ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﴾ (األحزاب‪ :‬اآلية ‪.)73‬‬
‫ا�شتملت هذه الآية الكرمية عل��ى �أنواع بديعة من املغايرات فى املقارنة بني‬
‫الفريقني‪:‬‬
‫‪ -1‬ذك�رت الع�ذاب للمنافقني واملرشكين‪ ،‬ومل تذكر ضده مع املؤمنين وهو النعيم أو‬
‫إدخ�ال اجلن�ة مثال‪ ،‬بل ذك�رت الزم الضد فقالت ﴿ ﯹ ﴾ وه�ذا احتباك أيضا‪،‬‬
‫واملعنى ‪ :‬ليعذب اهلل املنافقني‪ ...‬وال يتوب عليهم‪ ،‬وينعم املؤمنني ويتوب عليهم‪.‬‬
‫فصل�ت الط�رف املذم�وم فذك�رت فيه نوعين (املنافقين واملرشكني) أم�ا الطرف‬ ‫‪ّ -2‬‬
‫املمدوح فلم تذكر فيه إال (املؤمنني)‪.‬‬
‫‪ -3‬ذك�رت اآلية التفصيل هن�ا ىف الذكور واإلناث (املنافقين واملنافقات) و(املرشكني‬
‫واملشركات) و (املؤمنين واملؤمن�ات) على غري الغال�ب ىف القرآن‪ ،‬حي�ث يكتفى‬
‫التعبري بصيغة املذكر ليشمل به اجلنسني‪.‬‬
‫وهذه مغايرة باملخالفة بني املواضع كام سيأتى بيانه‪.‬‬
‫وىف ه�ذه املغاي�رات ِحك�م وفوائد جليلة أترك ل�ك إدراكها بالتدب�ر ـ كام تركتها ىف‬
‫بعض األمثلة الس�ابقة ـ إذ الغاية من تعداد بعض األمثلة اس�ـتثارة الذهن ودعوة العقل‬
‫‪82‬‬
‫للتفك�ر‪ ،‬وليس من قصدنا أن نرصح بكل ش�ىء‪ ،‬ولعدم اإلطال�ة ىف هذا الكتاب الذى‬
‫قصدنا منه رشح النموذج باألمثلة الدالة عليه‪.‬‬

‫أمثل ــة تدريبي ــة عل ــى االحتبـ ــاك ‪:‬‬


‫ح�اول أن تس�تخـــرج االحتبـــ�اك وتذكــ�ر الطرفني وما ح�ذف منك لطرف ىف‬
‫اآليات التالية ‪:‬‬
‫﴿ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﴾ (البقـــ�رة‪:‬‬
‫اآلية ‪.)171‬‬
‫﴿ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﴾ (التوبة‪ :‬اآلية ‪.)102‬‬
‫﴿ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﴾ (األحزاب‪ :‬اآلية ‪.)24‬‬
‫﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ‬
‫ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ﴾ (حممــ�د‪:‬‬
‫اآلية ‪.)20‬‬
‫﴿ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﴾ (اإلنسان‪ :‬اآلية ‪.)13‬‬

‫أن ــواع كثيـ ــرة م ــن املغاي ـ ــرات‪:‬‬


‫س�بق بيان أنواع عديدة من املغايرات من خالل األمثلة السابقة‪ ،‬واملغايرات القرآنية‬
‫أكث�ر م�ن ذلك‪ ،‬وقد حاولت ـ على عجالة ـ حرصها وتصنيفه�ا فأعيانى ذلك؛ وذلك‬
‫لكثرهت�ا وتش�عبها واحتياجه�ا إىل ابت�كار مصطلحات جديدة نس�مى هبا ه�ذه األنواع‬
‫الكثرية‪ ،‬وربام أتفرغ هلذا مستقبال فيعيننى اهلل تعاىل عىل ما عجزت عنه اآلن‪.‬‬
‫وقد رأينا باألمثلة أن اآلية الواحدة تش�تمل عىل أنواع من املغايرات ربام كانت أكثر‬
‫من عدد اجلمل ىف اآلية‪.‬‬
‫وال مان�ع م�ن ذكر بعض األن�واع التى يمكن أن تكون أساس�ا لتصني�ف املغايرات‬
‫القرآنية ‪:‬‬
‫‪83‬‬
‫‪ -1‬املغاي��رة بالإيج��از والإطناب ‪ :‬كما مر مثاله ىف قوله تع�اىل ﴿ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ‬
‫ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ‬
‫ﮐ ﮑ﴾ (الطالق‪ :‬اآلية ‪.)7‬‬
‫‪ -2‬املغايرة بالزيادة واحلذف ‪ :‬وهذا له أقسام كثرية‪ ،‬ومنه أسلوب االحتباك كام سبق‪.‬‬
‫ومن�ه أيضا قوله تعاىل ﴿ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ‬
‫ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ﴾ (مري�م‪ :‬اآلي�ات ‪ )20-19‬فانظ�ر‬
‫كي�ف برشها بغالم زكى‪ ،‬ولكنهـا ىف تعجبهـا من البش�ـارة حذفت كلمة ﴿ﮛ﴾‬
‫ومل تنتبـ�ه إال إلـى قوله ﴿ﮡ﴾ فقال�ت ﴿ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﴾ ألهنا‬
‫املروع‪:‬‬
‫من هول ما قيل هلا مل تلتفت إىل كونــه زكيا‪ ،‬وانرصف ذهنها إىل هــذا األمـــر ِّ‬
‫كيف يكون ىل غالم ـ جمرد غالم ـ ؟‬
‫ومنه قوله تعاىل ﴿ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ‬
‫ﯢ ﯣ ﯤ ﴾ (املطففني‪ :‬اآليات ‪.)3-1‬‬
‫ففى حالة رشاء املطففني من الناس واس�تيفائهم حقهم منهم مل يذكر إال الكيل ﴿ﯚ‬
‫ﯛ﴾ أم�ا ىف حال�ة بيعهم للناس وغش�هم هلم زاد مع الكيل ال�وزن ﴿ﯠ ﯡ ﯢ‬
‫ففصل ىف هذه احلالة اهتامما هبا ؛ ألهنا حمل الذم والوعيد الذى افتُـتحت به السورة‪.‬‬
‫ﯣ﴾ ّ‬
‫ومن�ه قول�ه تع�اىل ‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ‬
‫ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﴾ (األعراف‪ :‬اآلية ‪..)44‬‬
‫فح�ذف الضمري (نا) املذكور ىف قول�ه ﴿ ﭚ ﴾ حني حتدث عن أهل النار ﴿ ﭝ‬
‫ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﴾‪.‬‬
‫‪ -3‬املغاي��رة بالتق��دمي والت�أخ�ير‪ :‬كام مر ىف قوله تع�اىل ﴿ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ‬
‫ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ﴾ (اجلمع�ة‪:‬‬
‫اآلية ‪.)11‬‬
‫‪84‬‬
‫‪ -4‬املغايرة بني �صيغ الفعل ‪ :‬فتارة يغايـر بني الفعلني فيأتى أحدمها ىف املضـارع واآلخـر‬
‫ىف املاضـى‪ ،‬كقوله تعالـى ﴿ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ‬
‫ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﴾ (فاطر ‪ :‬اآلية ‪.)29‬‬

‫وتارة يغاير بني البناء للمعلوم والبناء للمجهول‪،‬كام مر ىف قوله تعاىل ﴿ ﯖ ﯗ ﯘ‬


‫ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﴾ (اجلن ‪ :‬اآلية ‪.)10‬‬

‫‪ -5‬املغايرة بني اال�سم والفعل ‪:‬كام قال تعاىل ىف ش�أن داود عليه السالم ﴿ ﭞ ﭟ ﭠ‬
‫ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﴾(ص‪ :‬اآليتان ‪.)19 ،18‬‬
‫فعرب عن تس�بيح اجلبال باس�تخدام الفعل املضارع ﴿ ﭢ ﴾ وعرب عن حرش الطري‬
‫باستخدام االسم ﴿ﭧﭨ ﴾ ومل يعرب بالفعل (يحُشرَ ْ ن) كام عرب مع اجلبال‪.‬‬

‫‪ -6‬املغاي��رة ب�ين اال�س��م واجلمل��ة ‪:‬كقول�ه تع�اىل ﴿ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ‬


‫ﯩ﴾ (الذاريات ‪ :‬اآلية ‪.)25‬‬
‫فكان تس�ليمهم باالس�م ﴿ ﯤﯥ ﴾ مفعوال للفعل (قالوا) أما تسليمه فكـــان مجلة‬
‫﴿ ﯧ﴾ أى قوىل سالم‪ ،‬فهو خرب ملبتدأ حمذوف‪.‬‬

‫‪ - 7‬املغايرة فى الإعراب ‪ :‬فتأتى الكلمة ختالف اإلعراب املتوقع‪ ،‬كقوله تعاىل ﴿ ﯘ ﯙ‬


‫ﯚﯛﯜﯝﯞ ﯟﯠﯡﯢﯣ ﯤﯥ‬
‫ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ (املائ�دة ‪ :‬اآلي�ة ‪ )69‬فج�اءت ﴿ ﯝ﴾‬
‫مرفوعة بني منصوبات‪ ،‬وكان املتوقع (والصابئن) كام جاءت ىف البقرة وىف احلج‪.‬‬
‫ومثله قوله تعاىل ﴿ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ‬
‫ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ‬
‫ﰉ ﰊ ﰋ ﴾ (النس�اء ‪ :‬اآلي�ة ‪ )162‬ج�اءت ﴿ ﯿ ﰀﰁ ﴾ منصوبة‬
‫بني مرفوعات‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫‪ -8‬املغاي��رة ف��ى �إ�سن��اد الفعل ون�سب��ة العمل ‪ :‬فينس�ب العمل أو الفع�ل إىل فاعل خمتلف‬
‫مغاير ًة ملا س�بق ىف اإلس�ناد‪ ،‬كام مر ىف قصة موس�ى مع اخلرض عليهام السلام ىف نسبة‬
‫اخلرض إلرادة خرق السفينة إىل نفسه‪ ،‬ثم غاير ىف قصة اجلدار فنسب إرادة الفعل إىل‬
‫اهلل تعاىل‪ ،‬فقال ﴿ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ﴾‪.‬‬
‫‪ -9‬املغاي��رة ب�ين لفظتني بنف�س املعنى ‪ :‬فيذكر اللفظـة ث�م يعيدهـا بمعناها ال بلفظهـا‪،‬‬
‫كام ىف لفظتـى (س�ـنة وعـ�ام) ىف قوله تعالـ�ى ﴿ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ‬
‫ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﴾ (العنكب�وت ‪:‬‬
‫اآلية ‪.)14‬‬
‫‪ -10‬املغايرة بالتعبري بغري املتوقع ‪ :‬وهذا نوع من املغايرة خيتلف عام سبق‪.‬‬
‫كمل بشكل معني أو ختتم بخامتة معينة‬ ‫فقد تقرأ اآلية أو تس�تمع إليها وتتوقع أن ُت َ‬
‫فيفاجئ�ك الق�رآن بام مل تتوقعه‪ ،‬وجيعل�ك تتوقف أمام هذه املغاي�رة متأمال حائرا‪،‬‬
‫وهنا يأتى دور التدبر وإمعان النظرالكتشاف أرسار القرآن الكريم‪ .‬‬
‫يق�ول تع�اىل ﴿ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ﴾ (املائ�دة ‪ :‬اآلي�ة ‪ )118‬حني‬
‫تق�رأ اآلية تتوق�ع أن يكون اخلتام (فإنك أنت الغفور الرحي�م) وإذا بالقرآن خيتم‬
‫اآلية بقوله ﴿ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﴾‪.‬‬
‫ويق�ول تع�اىل ﴿ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﴾ (الن�ور ‪:‬‬
‫اآلية ‪)15‬وكان املتوقع (إذ تلقونه بأسامعكم ـ أو بآذانكم)‪.‬‬
‫ويق�ول تع�اىل ﴿ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ﴾ (املائ�دة ‪ :‬اآلي�ة ‪)109‬‬
‫واملتوق�ع أن جتي�ب الرس�ل بماذا أجيب�ت‪ ،‬ولكنه�م ﴿ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ‬
‫ﭢ﴾‪.‬‬
‫إذن ه�ذا الن�وع من املغايرة لي�س مغايرة بني تعبريين ـ كام س�بق ىف األنواع األخرى‬
‫ـ ولكن�ه مغاي�رة طرفاها ما كن�ت تتوقعه أنت وما فاجأتك به اآلي�ة‪ ،‬فهى مغايرة بني ما‬
‫عربت به اآلية وتوقعك املبنى عىل املعتاد ىف أسلوب الكالم‪.‬‬
‫‪86‬‬
‫هذا النوع دائام يطرح هذا السؤال ‪ :‬ملاذا عربت اآلية هبذا التعبري ومل تعرب بكذا؟‬
‫أو ‪ :‬ملاذا قال اهلل كذا ومل يقل كذا؟‬

‫ثاني ــا‪ :‬املغايـ ــرة بي ـ ــن املواضـ ـ ــع ‪:‬‬


‫وه�ذا باب واس�ع أيضا‪ ،‬وهو مبنى عىل اس�تدعاءات اس�تعامالت الق�رآن لأللفاظ‬
‫واجلمل واآليات سواء بلفظها أو معناها‪.‬‬
‫فحني تتـتبع اجلملة أو اآلية ىف املواضع األخرى التى وردت فيها جتد أن القرآن أيضا‬
‫ال يسير عىل نس�ق واحد ىف التعبري‪ ،‬فيحذف هناك ما ذكره هنا‪ ،‬ويذكر فعال خمتلفا غري‬
‫الذى اس�تعمله ىف اآلية األخرى‪ ،‬ويقدم هناك ما أخ�ره هنا‪ ،‬وهكذا يفعل القرآن ليرتك‬
‫لك مس�احة من التدبر والتأمل‪.‬وما يس�ميه القراء باملتش�اهبات جمال واس�ع الس�تنباط‬
‫املتغايرات‪.‬‬
‫اقر�أ مثال هاتني الآيتني‪ ،‬تتحدثان عن نف�س الأمر فى مو�ضعني خمتلفني ‪:‬‬
‫﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ‬
‫ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﴾ (البقرة ‪ :‬اآلية ‪.)58‬‬
‫﴿ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ‬
‫ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﴾‬
‫(األعراف‪ :‬اآلية ‪.)161‬‬
‫�إذا تدبرت ف�ستجد ثمانى مغايرات ‪:‬‬
‫‪ -1‬الفعل ىف األوىل مبنى للمعلوم‪ ،‬وىف الثانية للمجهول (قلنا ـ قيل)‪.‬‬
‫‪ -2‬ذكرت الثانية لفظة﴿ ﮅ ﴾ ومل ُتذكر ىف األوىل‪.‬‬
‫‪ -3‬استعمل ىف األوىل الفعل ﴿ﭓ﴾ وىف الثانية ﴿ ﮆ ﴾‪.‬‬
‫‪ -4‬اس�تعمل ىف األوىل الفاء مع الفعل ﴿ ﭖ ﴾ أما الثانيـــة فاس�تعمـــل الـــواو‬
‫﴿ﮉ﴾‪.‬‬
‫‪87‬‬
‫‪ -5‬ذكر لفظة ﴿ ﭚ ﴾ ىف األوىل ومل ُتذكر ىف الثانية‪.‬‬
‫‪ -6‬قدم ىف األوىل مجلة ﴿ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾ عىل ﴿ ﭞ ﭟ ﭠ ﴾ وىف الثانية‬
‫عكس اجلملتني‪.‬‬
‫‪ -7‬ىف األوىل قال ﴿ ﭢﭣ ﴾ وىف الثانية قال ﴿ﮔﮕ ﴾‪.‬‬
‫‪ -8‬ىف األوىل قال ﴿ ﭤ ﭥ ﴾ بالواو‪ ،‬وىف الثانية بدون الواو‪.‬‬
‫وس�واء توصلنا إىل الس�بب ىف كل هذا أم ال‪ ،‬أو توصلنا إىل بعضه دون بعض ـ فإن‬
‫املس َّلم به أن كل حرف وكل لفظة غاير فيها القرآن بني املوضعني له معنى ومغزى‬
‫األمر َ‬
‫وحكم�ة‪ ،‬ولي�س هذا األمر عر ًيا عن املقصد‪ ،‬كام ِّ‬
‫نس�لم بأن التوص�ل إىل هذا أمر ممكن‬
‫بالتدب�ر وإمع�ان النظ�ر‪ ،‬وليس مما اس�تأثر اهلل بعلمه كام ق�د يتوهم البع�ض‪ ،‬فهو ليس‬
‫كاحلروف املقطعة ـ مثال ـ ىف بدايات الس�ور‪ ،‬وليس من املتش�اهبات ـ ضد املحكامت ـ‬
‫الت�ى حكى اهلل تعاىل عنها ىف قولــ�ه ﴿ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ‬
‫ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ‬
‫ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ‬
‫ﯧ ﯨ ﯩ﴾ (آل عمران‪ :‬اآلية ‪.)7‬‬
‫ه�ذا وقد أج�اب الفخر الرازى عن أغلب هذه املغايرات ىف تفسيره آلية األعراف‪،‬‬
‫فلرياجعه من شاء‪.‬‬
‫ومن هذا أيضا قوله تعاىل ﴿ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ‬
‫ﭡ﴾ (إبراهي�م ‪ :‬اآلية ‪ )34‬نف�س اآلية ُكررت مع مغايرة ىف اخلتام ﴿ﭬ ﭭ‬
‫ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﴾ (النحل ‪ :‬اآلية ‪.)18‬‬
‫وك�أن اهلل تع��اىل يق��ول باملغايرة بني اخلتامني ‪ :‬مهام ظلم اإلنس�ان نفس�ه وأنكر نعمة اهلل‬
‫تع�اىل علي�ه ف�إن اهلل غفور رحيم يفت�ح باب التوبة لإلنس�ان ليعود إىل اإلق�رار بنعم اهلل‬
‫وفضله عليه‪.‬‬
‫ويق�ول اهلل تع�اىل ﴿ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ‬
‫ﯲ ﯳ ﴾ (البقرة ‪ :‬اآلية ‪.)125‬‬
‫‪88‬‬
‫أم�ا ىف س�ورة احلج فغايرت اآلي�ة فجعلت القائمني م�كان العاكفني ﴿ﮀ ﮁ‬
‫ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ﴾‪.‬‬
‫ومن فقه التدبر أنك إذا وجدت آيتني متشاهبتني مع اختالف ىف لفظة أو أكثر فاعلم‬
‫اهن�ا حلكم�ة‪ ،‬وم�ا علي�ك إال أن تتدبر وترب�ط بني األلف�اظ املختلفة لتس�تخرج الكنوز‬
‫القرآني�ة‪ ،‬كما ىف ه�ذا املث�ال‪ ،‬وكأن اآلية تريد أن تق�ول ‪ :‬من عكف ىف املس�جد ينبغى‬
‫أن يك�ون اعتكافه قيام�ا وصالة وطاعة‪ ،‬ال نوم أو أكال وكالما بني املعتكفني كام نراه ىف‬
‫مساجدنا من بعض املسلمني ىف العرش األواخر من رمضان‪.‬‬
‫وأكثر أنواع املغايرات التى سبقت ىف (املغايرة ىف نفس املوضع) يمكن أن تكون هنا‬
‫أيضا ىف املغايرة بني املواضع‪.‬‬
‫ومن املغايرات املش�هورة بني املواضع التقدي�م والتأخري‪ ،‬حيث يقدم القرآن ىف اآلية‬
‫م�ا أخ�ره ىف اآلية أخرى‪ ،‬كما ىف تقديم اللعب على اللهو ىف كل مواض�ع القرآن إال ىف‬
‫موضعني‪:‬‬
‫﴿ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ‬
‫ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ﴾ (األعــــــ�راف ‪:‬‬
‫اآلية ‪.)51‬‬
‫﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ‬
‫ﭡ﴾ (العنكبوت ‪ :‬اآلية ‪.)64‬‬
‫وم�ن ذل�ك أيض�ا تقديم اجله�اد باملال على اجلهاد بالنف�س كقوله تع�اىل ﴿ ﭑ‬
‫ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ‬
‫ﭠ ﴾ (التوبة ‪ :‬اآلية ‪.)41‬‬

‫وقول�ه ﴿ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ‬
‫ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﴾(الصف‪ :‬اآليتان ‪.)11 ،10‬‬
‫‪89‬‬
‫إال ىف اآلي�ة واح�دة ق�دم فيه�ا النفس على امل�ال ﴿ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ‬
‫ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ﴾‬
‫(التوبــــة‪ :‬اآلية ‪.)111‬‬
‫وىف نف�س هذه املواضع أحيانا يقدم املجاهَ �د به عىل املجاهَ د فيه‪ ،‬فيقدم اجلهاد باملال‬
‫والنف�س على ﴿ ﯣ ﯤ ﯥ ﴾ كام ىف اآلية األوىل‪ ،‬وأحيانا يغاير فيقدم الس�بيل عليهام‬
‫كام ىف الثانية‪.‬‬
‫وخالصة األمر أن كل هذه املغايرات مل تأت هكذا لتمر عىل املتدبرين دون أن يتوقفوا‬
‫أمامها‪.‬‬
‫فق�ط عليه�م أن يتدب�روا ويمعن�وا النظ�ر‪ ،‬واخلير الكثري والعل�م الوفير ىف التفكر‬
‫والتدبر‪.‬‬

‫***‬

‫‪90‬‬
‫الوحدة الرابعة من النموذج‬ ‫الفصـ ـ ــل الراب ـ ــع‬
‫(السنن والقوانين الحاكمة)‬
‫فى البشر ـ فى األشياء‬

‫ُ‬
‫والبحث ىف سنن البرش وعامل األشياء‬ ‫وهذا من أمتع وحدات التدبر ىف هذا النموذج‪،‬‬
‫من حولنا جيعلنا أكثر فهام لكل شىء‪ ،‬وأكثر وعيا بام يصلح وما ال يصلح‪.‬‬
‫إن تفعيل القرآن ىف الواقع حيتاج إىل أن نفهم سنن كل شىء وقوانينه‪ ،‬نفهم اإلنسان‬
‫بأغواره وطبيعة ش�خصيته‪ ،‬وما حيبه وما يكرهه‪ ،‬ونفهم خصائص األش�ياء من حولنا‪،‬‬
‫وبقدر فهمنا لطبيعة األش�ياء وخصائصها نتمكن من التعامل معها ونستطيع تسخريها‬
‫وتذليلها خلدمة اإلنسانية‪.‬‬
‫العل�وم االجتامعية تقوم عىل االكتش�اف والتع�رف عىل خصائص البشر‪ ،‬والعلوم‬
‫التجريبية تقوم عىل اكتشاف عامل األشياء من حولنا‪.‬‬
‫وكالمها رضورى لعامرة األرض وحتقيق معنى االستخالف فيها‪.‬‬
‫لك�ى أوض�ح املقصود من وحدة الس�نن والقوانين ىف ( دورة معايش�ة القرآن ) مع‬
‫ْ‬
‫وحرك‬ ‫دربتُها عىل اس�تعامل هذا النموذج ـ قلت ألحد املتدربني ‪ :‬قم‬
‫املجموعات التى ّ‬
‫الكرس�ى ال�ذى تقعد عليه م�ن مكانه‪ ،‬فقام ومحل الكرس�ى وغيرَّ مكانه‪ ،‬ث�م قلت له ‪:‬‬
‫ح�رك ه�ذا احلائط من مكانه‪ ،‬فقال عىل الفور ‪ :‬ال أس�تطيع فعل ذل�ك‪ ،‬قلت له ‪ :‬ملاذا؟‬
‫قال‪ :‬ألن احلائط ال يمكن حتريكه‪.‬‬
‫ه�ذا هو املقصود بالس�نن والقوانني‪ ،‬فتحريك الكرس�ى مبنى على معرفتك لطبيعته‬
‫وسننه‪ ،‬إذن يمكن حتريكه‪ ،‬أما احلائط فمعرفتنا بطبيعته يقتىض إذا أردنا إزالته عن مكانه‬
‫ـ أن تستدعى له عامال معه أدوات اهلدم‪ ،‬ويقوم بتكسريه شيئا فشيئا حتى ُيزال عن مكانه‪،‬‬
‫ثم نستدعى ب ّناء بأدوات خمتلفة واستخدام مواد معينة ويقوم ببنائه ىف مكان آخر‪.‬‬
‫‪91‬‬
‫فانظر كيف تعاملنا ىف املوقفني‪ ،‬مع الكرسى واحلائط حسب طبيعة كل منهام‪ ،‬فلكل‬
‫منهام سننه وقوانينه احلاكمة ىف التعامل‪.‬‬
‫ه�ذا هو عني املقصود بوحدة الس�نن والقوانين ىف هذا النم�وذج‪ ،‬أن نفهم األلفاظ‬
‫القرآنية وتعاليم القرآن بس�ننها وقوانينها سواء عىل مس�توى البرش أو األشياء األخرى‬
‫غير اإلنس�ان‪ ،‬لكى نجيد التعامل معها وحتويل الق�رآن إىل واقع عمىل من خالل وضع‬
‫إجراءات والتدرب عىل مهارات كام سيأتى ىف وحدة ( اإلجراءات واملهارات)‪.‬‬
‫فمعرف�ة اإلج�راء ال�ذى ينبغى أن نق�وم به ال بد أن يس�بقه أوال فهم طبيعة األش�ياء‬
‫وقوانينها حتى نحدد وسائل التعامل وكيفياته وآلياته ومناهجه‪.‬‬
‫وعامل األش�ياء يشمل األشياء احلسية مثل البحر والشمس والقمر والسامء واألرض‬
‫والس�حاب وغريها من األش�ياء التى ال تكاد ختلو منها آية‪ ،‬كام يشمل األشياء املعنوية‪،‬‬
‫كاألم�ر باملع�روف والنهى عن املنكر‪ ،‬والدع�وة إىل اهلل باحلكمة واملوعظــة احلس�نــة‪،‬‬
‫وغري ذلك‪.‬‬
‫فإذا قال اهلل تعاىل لنا ىف التعامل مع املرأة ىف وقت النشوز ﴿ﭫ ﭬ‬
‫ﭭ ﭮ ﭯﭰ﴾ (النس�اء ‪ :‬اآلي�ة ‪ )34‬ـ فلا يمكن أن نتعام�ل هبذه اآلليات‬
‫الثالث (العظة واهلجر والرضب) إال بفهم الس�نن‪ ،‬سنن املوعظة وكيفيتها ومتى تكون‬
‫حسنة ومتى تكون سيئة‪ ،‬وسنن اهلجر ومدته الرادعة للمرأة وكيفيته عىل الوجه األمثل‬
‫الذى يؤتِى ثامره‪ ،‬وأخريا سنن الرضب والكيفية التى رشع عليها‪.‬‬
‫معرفة سنن هذه األمور جيعلنا نقف عىل الطريقة املثىل الستعامهلا‪.‬‬
‫ه�ذا من حيث عامل األش�ياء‪ ،‬وأما ع�امل البرش فال بد من معرفة س�نن املرأة عىل وجه‬
‫العموم‪ ،‬وسنن زوجتك عىل وجه اخلصوص وطبيعة شخصيتها‪ ،‬وأى هذه األنواع من‬
‫العالج يكون أنفع هلا؟ وعىل أى كيفية بالتحديد؟‬
‫نحــول الق�رآن إىل واقــع‬
‫ِّ‬ ‫ب�دون هذا الفهم للس�نــن والقوانني لن نس�تطيـــع أن‬
‫عمىل حقيقى‪.‬‬
‫وكثري ممن يدّ عون التدين وااللتزام بالنصوص ييسء إىل القرآن بس�بب س�وء تطبيقه‬
‫له‪ ،‬وما َأتى سوء التطبيق إال من سوء الفهم وقراءة القرآن بعيدا عن السنن‪.‬‬
‫‪92‬‬
‫ال شك أن هذه اآلية وغريها لعموم املسلمني‪ ،‬بل حيفظها أغلب األزواج إن مل يكونوا‬
‫ربحا‪ ،‬ولكن‬ ‫مجيعا‪ ،‬وحياول كل واحد أن يستشهد هبا إذا رضب زوجته ولو كان رضبا م ِّ‬
‫فاتهَ ُم أن القرآن ال بد أن ُيفهم هبذا التدبر والتأمل‪ ،‬أعنى بتدبر السنن والقوانني‪.‬‬
‫فاتهَ�م أهن�م مكلفون أن يعرف�وا كيفية التطبي�ق الصحيحة‪ ،‬فليس األم�ر ىف التطبيق‬
‫مرتوكا لكل هوى‪ ،‬لذلك كان تد ُّبر القرآن الكريم م ِهماً لكل مس�لم حتى يفهم القرآن‪،‬‬
‫فمت�ى تنتهى فتنة اعتقاد أن القرآن للعلامء فحس�ب‪ ،‬وأهنم وحدهم هم من يتأملون فيه‬
‫ويفهمونه؟!‬
‫يعلموا أن القرآن هو حياهت�م‪ ،‬وأن عليهم واجبا عظيام نحوه‪،‬‬ ‫عىل كل املس�لمني أن َ‬
‫وأهن�م لن يقوم�وا بأمانة التكليف ـ جمرد التكليف ـ إال بأن يعيش�وا هبذا الكتاب ويحَ َيوا‬
‫ويش�كل حمور حياهتم‪ ،‬كما عاش به الصحاب�ة رىض اهلل عنه�م دون تفرقة بني عالمِ‬ ‫َّ‬ ‫ب�ه‪،‬‬
‫وغري عامل‪.‬‬

‫اهتمـ ــام القـ ــرآن بالن ــص عل ــى السن ــن‪:‬‬


‫القرآن قد اهتم بالسنن أيام اهتامم‪ ،‬وأعطانا من السنن احلضارية واخلاصة بفقه البناء‬
‫واهل�دم لألم�م ما يكفينا ىف حياتنا‪ ،‬وىف مسيرتنا ىف ه�ذه احلياة وواجبنا نح�و العامل كله‬
‫بعمران الدنيا واالستخالف ىف األرض وتبليغ رسالتنا عىل أتم وجه ممكن‪.‬‬
‫لقد وردت لفظة «سنة» ىف القرآن وهى ال تعنى أكثر من بيان منهج اهلل تعاىل وطريقته‬
‫ىف التعامل مع األمم‪.‬‬
‫اقر�أ هذه الآيات لتعرف ال�سنن الإلهية فى هذا العامل ‪:‬‬

‫* يق�ول تع�اىل ‪﴿ :‬ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ‬


‫ﮢ﴾ (آل عمران‪ :‬اآلية ‪.)137‬‬

‫* ﴿ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ‬
‫ﯲ ﯳ ﴾ (النساء ‪ :‬اآلية ‪.)26‬‬
‫‪93‬‬
‫* ﴿ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ‬
‫ﮱ ﯓ ﴾ (األنفال ‪ :‬اآلية ‪.)38‬‬

‫* ﴿ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ‬
‫ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ‬
‫ﯞ ﴾ (احلجر‪ :‬اآليات ‪. )13-10‬‬

‫* ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬
‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ﴾‬
‫(اإلســراء‪ :‬اآليات ‪. )77-76‬‬
‫* ﴿ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ‬
‫ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ﴾ (الكهف‪ :‬اآلية ‪.)55‬‬

‫* ﴿ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ‬
‫ﯔ ﯕ ﯖ﴾ (األحزاب‪ :‬اآلية ‪.)38‬‬

‫* ﴿ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ‬
‫ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ‬
‫ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ﴾‬
‫(األحـــــزاب‪ :‬اآليات ‪.)62-60‬‬
‫* ﴿ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ‬
‫ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ﴾ (فاط�ر‪ :‬اآلي�ة ‪.)43‬‬
‫﴿ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ‬
‫ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ﴾‬
‫(غاف�ر‪ :‬اآليت�ان ‪﴿ .)85-84‬ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ‬
‫‪94‬‬
‫ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﴾ (الفت�ح‪:‬‬
‫اآلية اآليتان ‪. )23-22‬‬
‫أما عن السنن التى أودعها اهلل تعاىل ىف كتابه دون أن يذكر معها لفظة سنة فهى أكثر عددا‪.‬‬
‫* يق�ول تع�اىل ‪﴿ :‬ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ﴾ (اإلس�ــــراء‪:‬‬
‫اآلية ‪ .)81‬هذا التذييل الذى ختمت به اآلية الكريمة ﴿ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ﴾ يمثل‬
‫سنة اهلل مع الباطل أنه ُيذهبه ويدحضه‪ ،‬فربام فهم أحد من سياق اآلية أن اهلل تعاىل قد‬
‫أزه�ق الباط�ل ىف هذا املوقف الذى وردت فيه اآلية مع نبينا ﷺ حني نرصه اهلل تعاىل‬
‫باحل�ق وأزهق الباط�ل عىل يديه هو ومن معه من أهل احلق‪ ،‬فجاء آخر اآلية ليبني أن‬
‫هذه سنة اهلل مع الباطل‪ ،‬أنه دائام زهوق وال يمكن له أن ينترص أبدا ال ىف هذه املوقف‬
‫انتفاش�ة ِع ْه ٍن‬
‫ُ‬ ‫وال ىف غيره م�ن أل�وف املواقف‪ ،‬وم�ا يبدو أحيانا من نصر له إنام هو‬
‫وانتفاخ ُة َو َر ٍم ال قيمة له‪ ،‬ورسعان ما يكون هذا الورم سببا هلالك صاحبه‪ ،‬فكلام زاد‬
‫الباط�ل ىف طغيان�ه فكأنه ورم يزداد عىل صاحبه مرضا‪ ،‬حت�ى يبلغ الورم النهاية‪ ،‬وال‬
‫يبقى أمامه إال أن َيـنفجر ل ُيـهلك صاحبه‪.‬‬
‫اق��ر�أ ـ مث�لا ـ الآي��ات الت��ى تب��د�أ بقول��ه ﴿ﮐ ﮑ ﮒ‪ ﴾ ...‬لتكت�ش��ف ال�سنن‬
‫والقوانني الإلهية‪:‬‬
‫* ﴿ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﴾ (البقرة‪ :‬اآلية ‪.)143‬‬
‫* ﴿ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ‬
‫ﯜ ﯝ ﯞ﴾ (آل عمران‪ :‬اآلية ‪.)179‬‬
‫* ﴿ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ﴾‬
‫(األنفال‪ :‬اآلية ‪.)33‬‬
‫* ﴿ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ﴾‬
‫(التوبـة‪ :‬اآلية ‪.)115‬‬
‫* ﴿ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ﴾ (اإلرساء‪ :‬اآلية ‪.)15‬‬
‫* ﴿ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﴾(الروم‪ :‬اآلية ‪.)9‬‬
‫‪95‬‬
‫س�ورة قصرية مثل سورة العرص تستطيع أن تس�تنبط منها سننا‪ ،‬فقاعدة أن (األصل‬
‫ىف اإلنس�ان اخلرسان إال القليل ممن اس�تثناهم اهلل تعاىل ىف السورة) ـ هى قاعدة متثل سنة‬
‫ىف هذه احلياة‪ ،‬والرشوط التى ذكرهتا الس�ورة والتى جيب التحىل هبا لكى ينجو اإلنسان‬
‫م�ن هذا اخلرس ـ متثل س�نة أيضا‪ ،‬وهى رشط اإليامن والعم�ل الصالح والتواىص باحلق‬
‫والتواىص بالصرب‪.‬‬
‫إن السورة تتحدث عن سنن وقواعد نراها ىف واقعنا كل يوم‪ ،‬بل كل ساعة‪ ،‬ومن مل‬
‫يفهم القرآن حقا فال يلومن إال نفسه‪.‬‬
‫اس�تمع بقلبك إىل بداية س�ورة الرمحن لتتعرف عىل الس�نن التى أق�ام اهلل عليها هذا‬
‫الك�ون كل�ه ىف ع�امل األش�ياء ىف السماء واألرض وعامل اإلنس�ان الذى حييا بني السماء‬
‫واألرض ‪:‬‬

‫﴿ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﭿﮀﮁﮂ‬
‫ﮃ ﮄﮅﮆ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮎ‬
‫ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﴾‪.‬ك�ون فس�يح‬
‫يسير بحس�اب ونظام وسنن قد أرس�اها اهلل فيه‪ ،‬وقد أنزل القرآن وعلم اإلنسان البيان‬
‫من أجل أن حيافظ عىل هذه السنن من خالل ﴿ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬
‫ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﴾‪.‬‬
‫إهن�ا س�نن العدل‪ ،‬الع�دل ىف نظ�ام الكون‪ ،‬فكل ش�ىء فيه بحس�بان ومي�زان‪ ،‬ولذا‬
‫أن�زل الق�رآن وعل�م اإلنس�ان من أج�ل أن حيافظ عىل مي�زان العدل ىف حي�اة البرش وىف‬
‫اجتامعياهتم‪ ،‬فمن خالف هذه الس�نن الربانية حاق عليه ما حاق عىل األمم الس�ابقة من‬
‫الوبال واهلالك‪.‬‬
‫وتأمل قصة موس�ى مع اخلرض عليهام السلام‪ ،‬إنام ترسى س�ننا كثرية ىف اجتامعيات‬
‫البرش‪ ،‬وىف عالقة املتعلم بمعلمه‪ ،‬والتابع بقائده‪ ،‬والصديق بصاحبه‪.‬‬
‫‪96‬‬
‫فمو�سى عليه ال�سالم وهو فى مقام املتعلم والتابع قال ‪:‬‬
‫﴿ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﴾ (الكهف ‪ :‬اآلية ‪ )66‬إنام يرسى بذلك‬
‫سنة عظيمة‪ ،‬وهى أن االتباع من أجل التعلم‪ ،‬فمن مل تتعلم منه ال يستحق أن تكون تابعا‬
‫له‪ ،‬ومن مل ُيقدْ ك إىل أن ِّ‬
‫يعلمك شيئا فليس أهال ألن تنقاد له‪.‬‬
‫وق�ول اخلضر علي�ه السلام ‪ ﴿ :‬ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ‬
‫ﮤ ﮥ ﮦ﴾ إنام يرس�ى س�نة عدم الصرب عىل ما ُيستنكر‪ ،‬مع عدم علمه باحلقيقة‪ ،‬فام‬
‫سيراه موسى عليه السالم من أفعال يستنكرها لن يس�تطيع الصرب عليها أبدا‪ ،‬فالفطرة‬
‫الس�ليمة ال تس�كت عىل مثل هذا‪ ،‬فاخلرض حمق فيام فعل؛ ألنه ما فعله عن أمره هو‪ ،‬بل‬
‫كان عن أمر من اهلل تعاىل‪ ،‬كام قال ﴿ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﴾ وموسى عليه السالم ما أخطأ‬
‫فيام اس�تنكره وسأل عنه؛ ألنه إنام انطلق من س�نة الفطرة السليمة التى تستنكر مثل هذه‬
‫الفظـائ�ع‪ ،‬ومل يكن عنده من العلم بحقائقها ما جيعله يصرب‪ ،‬فكل منهام انطلق من س�نة‬
‫ومنهج‪.‬‬
‫فلما انطلق�ا نحو االختبار األول ـ اختبار صرب موس�ى الذى ِ‬
‫علم اخلرض مس�ب ًقا أنه‬
‫لن يصرب للس�نة املذكورة ـ نس�ى موس�ى وخالف الشرط املأخوذ عليه وهو أال يس�أل‬
‫ذكره اخلرض بام ق�ال ﴿ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﴾ ذكره بالس�نة‬ ‫عما ي�رى‪ ،‬ولذا ّ‬
‫والطبيعة البرشية التى فطر اهلل الناس عليها‪ ،‬وأنه لن يستطيع أن خيالفها‪.‬‬
‫فق�ال له موس�ى علي�ه السلام ‪﴿ :‬ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ﴾‬
‫وملاذا نس�ى موس�ى رغم الرشط والعه�د واالتفاق‪ ،‬رغم أنه الرشط الوحيد ومن ش�أن‬
‫الرشط الوحيد أنه ال ُيـنس�ى‪ ،‬رغم أنه قال ﴿ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ‬
‫ﮱ ﴾ وانظر كيف قدم مش�يئة اهلل تعاىل فلم يكن نس�يانه ـ إذن ـ عقوبة عىل ترك تقديم‬
‫املشيئة‪ ،‬بل كان إعامال لسنة اهلل تعاىل ىف خلقه التى ال تتبدل وال تتحول أبدا‪.‬‬
‫إن قصة موس�ى مع اخلرض عليهام السالم ُتعدّ نموذجا لكل من يتحدى سنن اهلل تعاىل‬
‫ىف اخللق‪ ،‬فمن راهن ضد الفطرة خرس رهانه ال حمالة‪ ،‬ومن س�ار عكس فطرة اهلل وس�ننه‬
‫ىف الكون والبرش فهو اخلارس ال ش�ك‪ ،‬واالنتصار لن يكون إال للس�نن والقوانني احلاكمة‬
‫عىل دنيا البرش‪.‬‬
‫‪97‬‬
‫مـ ــا نقصـ ــده إذن بالسنـ ــن‪:‬‬
‫بع�د كل ه�ذا نلخ�ص األمر فيما نقصده م�ن الس�نن والقوانني احلاكم�ة ىف نموذج‬
‫(التحليل املنظومى والنموذج احلضارى) ىف ثالثة أمور ‪:‬‬
‫‪ -1‬ما سماه اهلل تعاىل ىف كتابه س�نة‪ ،‬وهذا من املمكن أن نسميه أمهات السنن ىف القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬فبعد أن يذكر اهلل السنة يتبعها بالنص عليها أنه سنة اهلل‪.‬‬
‫كما س�بق ىف قول�ه تع�اىل ﴿ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ‬
‫ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ﴾ (الفتــ�ح ‪:‬‬
‫اآليتان ‪.)23 ،22‬‬
‫مهام كانت قوة الكافرين فإهنم ال بد أن يفروا أمام املؤمنني‪.‬‬
‫مهام كان معهم من سالح نووى فإهنم يفرون وال شك‪.‬‬
‫إهنا سنة اهلل التى ال تتبدل أبدا‪.‬‬
‫أبعد هذا البيان يبقى ش�ك ىف نرص اهلل تعاىل؟ فقط عىل املس�لمني أن يتح َّلوا باإليامن‬
‫ْ‬
‫وينرصوا اهلل تعاىل وسوف هتاهبم الدنيا كلها‪.‬‬
‫‪ -2‬السنن التى ذكرها اهلل ىف كتابه دون أن يعقب عليها بأهنا سنة‪ ،‬لكنها متثل عند التأمل‬
‫والتدبر س�ننا وقواعد حاكم�ة ال يمكن خمالفتها‪ ،‬وقد رضبنا على ذلك أمثلة كثرية‬
‫كالس�نن املفتتح�ة بقول�ه ﴿ﮐ ﮑ ﮒ‪ ﴾ ...‬وما ذكرناه من س�نن ىف افتتاح س�ورة‬
‫الرمحن وىف قصة موسى مع اخلرض عليهام السالم ـ فيه كفاية ىف األمثلة‪.‬وهذا القسم‬
‫من السنن كثري ىف القرآن‪ ،‬وهو ـ ال شك ـ أكرب بكثري من القسم األول‪ ،‬وفيه نصيب‬
‫كبير من القواع�د االجتامعية وتنظي�م العالقات بين البرش‪ ،‬وعلينا فق�ط أن نتدبر‬
‫ونستخرج الكنوز‪.‬‬
‫ود ْربة ىف‬
‫‪ -3‬السنن التى تتعلق باأللفاظ القرآنية‪ ،‬وهذا القسم حيتاج منا إىل وقفة وفهم ُ‬
‫التطبيق ىف نموذج التدبر الذى معنا‪.‬‬
‫فهو ال يتعلق بالسنن والقواعد التى نص اهلل عليها‪ ،‬سواء أتْبعها اهلل بقوله ﴿ﯽ﴾‬
‫كام ىف القسم األول‪ ،‬أو مل ُي ْتبعها كام ىف القسم الثانى‪.‬‬
‫‪98‬‬
‫وإنما يتعل�ق بألفاظ وأش�ياء يذكره�ا اهلل تعاىل ىف كتاب�ه‪ ،‬وعلينا أن نتأمل ىف س�ننها‬
‫وطبيعته�ا كى نفهم القرآن أوال‪ ،‬ولكى نحول�ه إىل واقع عمىل ثانيا‪ ،‬فال يمكن أن نفهم‬
‫ألف�اظ الق�رآن الكري�م وتعاليمه إال بفهم ما حتمله من س�نن وقوانني‪ ،‬ف�إذا ذكر القرآن‬
‫لفظة (إنسان) فعلينا أن نقرأ هذه الكلمة بام حتمله من سنن اإلنسان وطبيعته‪.‬‬
‫وكام ذكرنا ىف بداية هذا الفصل قوله تعاىل ﴿ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ‬
‫ﭯﭰ ﴾ فاآلية مل تش�تمل عىل س�نن املوعظة واهلجر والضرب‪ ،‬وإنام علينا نحن أن‬
‫نتأمل ىف سنن هذه األشياء املعنوية لكى نفهم املقصود باآلية‪ ،‬ونعرف كيفية التطبيق هلا‪.‬‬
‫وحني يقس�م اهلل تعاىل ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ﴾ ففى اآلية الثانية س�نة‬
‫منص�وص عليه�ا ﴿ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ﴾ أما القس�م نفس�ه ﴿ ﭑ﴾ فليس س�نة‬
‫منصوص�ا عليها‪ ،‬ولكن حيتاج األمر منا أن نتأمل س�نن العصر والزمن حتى نفهم ملاذا‬
‫أقسم اهلل بالعرص‪ ،‬وما عالقته بقضية خرس اإلنسان‪.‬‬
‫فالزمن له سنن ال تتبدل أبدا‪ ،‬وهذه السنن جزء من فهم الكلمة ال ينفك عنها أبدا‪.‬‬
‫فمن س�نن الزمن أنه ال يسترد‪ ،‬فام فات منه ال يمكن استرجاعه‪.‬ومن س�ننه أنه ال‬
‫يعار‪ ،‬فال يمكنك أن تستعري ساعة من أى شخص ولوكان أقرب الناس إليك‪.‬‬
‫ومن سننه أيضا أنه ال خيزن‪ ،‬فالساعة التى ال جتد عمال فيها اليوم ال يمكنك ختزينها‬
‫إىل الغد أو إىل الشهر القادم لكى تنفعك هناك‪ ،‬هذا ال يمكن فعله أبدا‪.‬‬
‫وكأن القرآن يقول لنا ‪ :‬إن زمنا ال يسترد‪ ،‬وال يعار‪ ،‬وال خيزن ـ جلدير بأن نقس�م به‪،‬‬
‫وجدير بكم أن تغتنموه وحترصوا عليه أشد من حرصكم عىل أموالكم‪.‬‬
‫فالزمن والوقت هو رأس املال احلقيقى لكل إنسان‪ ،‬وهذا جيعلنا نشعر بقيمة الوقت‪،‬‬
‫كام سيأتى ىف بيان وحدة القيم املقاصدية ىف هذا النموذج‪.‬‬
‫حي�ول حياة األفراد‬
‫إن الق�رآن إذا فه�م هبذه الطريقة ىف معرفة الس�نن والقواعد فإنه ّ‬
‫واألمم إىل هنضة ونقله حضارية‪.‬‬
‫فاهلل َ‬
‫اهلل ىف كتاب اهلل يا مسلمون!‬ ‫َ‬
‫‪99‬‬
‫من لطائــف السنــن املستنبط ــة ف ــى ورش ــات املعايشـ ــة‪:‬‬

‫‪ -10‬مـ ــن س ـ ــورة النص ـ ــر ‪:‬‬

‫* ﴿ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﴾ اس�تنبطت ورشة كانت تتدبر هذه السورة سنتني‬


‫ىف هذه اآلية ‪:‬‬
‫الأوىل ‪ :‬انتصار احلق عىل الباطل جيىء ولوبعد حني‪.‬‬
‫الثاني��ة ‪ :‬الفت�ح دائام يأتى بعد النرص؛ ألن الناس تتبع احلق بعد النرص وتود أن تكون‬
‫ىف صف القوى‪.‬‬

‫* ﴿ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﴾ استنبطوا ‪:‬‬
‫أن اإلنس�ان دائما يغتر ويفتخر بالنرص وينس�ى فضل املنعم عليه هب�ذا النرص‪ ،‬لذلك‬
‫أمرت اآلية بتسبيح اهلل تعاىل وتعظيمه واستغفاره‪.‬‬
‫األعامل باخلواتيم ﴿ ﮄ ﮅ ﮆ ﴾‪.‬‬
‫‪ -2‬م��ن �س��ورة القدر ‪﴿ :‬ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﴾ اس�تنبطوا أن العقل البرشى مهام وصل‬
‫علمه فلن يس�تطيع إدراك األمور الغيبية‪ ،‬فليس من رأى كمن س�مع‪ ،‬لذلك هولت‬
‫اآلية من أمر ليلة القدر لعدم رأيتنا لآليات التى تقع فيها‪.‬‬
‫كام استنبطوا من متييز ليلة القدر عىل غريها من اللياىل وختصيصها بشعائر وعبادات‬
‫واالحتفال فيها بنزول املالئكة ـ هذه السنة ‪:‬‬
‫(كرس الروتني أدعى للنشاط والتحفيز وشحذ اهلمم والطاقات)‪.‬‬
‫‪ - 3‬من �سورة الكوثر ‪ :‬وىف جمهود مشكور من ورشة أخرى استطاع أعضاؤها أن يستنبطوا‬
‫من أقرص سور القرآن هذه السنن ‪:‬‬

‫فمن الآية الأوىل ﴿ ﮆ ﮇ ﮈ﴾ ‪:‬‬


‫* البرش حيبون األخذ والعطاء واهلدية‪.‬‬
‫‪100‬‬
‫* احلياة أخذ وعطاء‪.‬‬
‫* لكل جمتهد نصيب‪.‬‬
‫* هل جزاء اإلحسان إال اإلحسان‪.‬‬

‫ومن الآية الثانية ﴿ﮊ ﮋ ﮌ﴾ ‪:‬‬

‫* الصالة هى أحب األعامل إىل اهلل‪.‬‬


‫* اإلنسان دائام ينسى شكر اهلل ىف الرساء ويتذكره ىف الرضاء‪.‬‬
‫* الذى يربى ويراعى هو الذى يستحق الشكر‪.‬‬
‫* سياق النعمة يناسبها الربوبية‪.‬‬
‫* النعمة تأرس صاحبها‪.‬‬
‫* ج�واز أن يك�ون الش�كر عىل العط�اء بعضه مقدم�ا وبعضه مؤخ�را‪ ،‬ألن الصالة‬
‫معجلة والنحر حيتاج إىل وقت حتى يقوم به العبد‪.‬‬

‫ومن الآية الثالثة ﴿ﮏ ﮐ ﮑ﴾‪:‬‬

‫* أعداء النجاح كثريون‪.‬‬


‫* ميراث امل�ال واألوالد أق�ل من مرياث العم�ل‪( .‬وورث س�ليامن داود)‪( ،‬العلامء‬
‫ورثة األنبياء)‪.‬‬
‫* الذكرعند العرب والناس بالنسب ولكن الذكر احلقيقى بالعمل الصالح‪.‬‬
‫وس�واء اتفق�ت ىف بعض هذه الس�نن أم اختلف�ت ىف داللة اآليات عليه�ا‪ ،‬فإنك لن‬
‫ختتلف مع الورش�ة ىف أهنا س�نن حقيقية وقواعد حيوية س�واء كانت هذه السورة دليال‬
‫عليها وجماال الستنباطها أم كان استخراجها من آيات أخرى‪.‬‬
‫إن ق�راءة س�ورة هبذا احلج�م ىف عدد الكلمات واآليات ـ هب�ذه الطريق�ة يعترب نقلة‬
‫حضاري�ة ىف أس�لوب تعاملنا مع الق�رآن الكريم‪ ،‬فه�ل يعقل الناس كت�اب رهبم؟!إن‬
‫‪101‬‬
‫تدبر القرآن هبذه الطريقة يصحح املفاهيم‪ ،‬ويضع التصورات السليمة عن كل مفردات‬
‫احلياة‪ ،‬ويشكل العقلية املسلمة وفق املنهج الربانى‪ ،‬وجيعل املسلم أكثر وعيا وفهام لكل‬
‫يعرف البرش بقواعد التعامل والس�نن الراسخة ىف‬ ‫ما يدور حوله من ترصفات وأفعال‪ِّ ،‬‬
‫نفوس�هم فلا ُي َ‬
‫صدم إذا َوجد ما يس�نكره ألن�ه قرأ ىف كتاب اهلل تعاىل م�ا يدل عليه‪ ،‬وال‬
‫خي�دع عن�د التعامل ألنه قد أخذ من الس�نن والقواعد ما حيفظه م�ن الغبن والغش‪ ،‬وال‬
‫يظن الدنيا كام يصورها احلاملون‪ ،‬بل يعتقدها كام َّبينها رب العاملني‪.‬‬
‫***‬

‫‪102‬‬
‫الوحدة الخامسة من النموذج‬ ‫الفصـ ـ ــل اخلامـ ــس‬
‫( األحكــام )‬
‫الخبرية ـ اإلنشائية‬

‫وه�ذه مرحل�ة ربام تب�دو ـ للوهلة األوىل ـ أهن�ا تقليدية وليس فيها كبير ابتكار وال‬
‫تدب�ر‪ ،‬ولكنى وضعته�ا من أجل ربطها بقيمها املقاصدية كام س�يأتى ىف الوحدة التالية‪،‬‬
‫وبعد فهمك لوحدة القيم املقاصدية ستعرف قيمة ربط األحكام بالقيم‪.‬‬
‫ولسوف ترى ىف وحدة األحكام ما يرسك‪،‬ال سيام ما يتعلق باحلكم اخلربى‪.‬‬
‫كام أننا س�نتدرب فيها عىل استنباط الرسائل واإلشارات الربانية من خالل ما يأمرنا‬
‫اهلل به وما حيكيه لنا من أخبار‪.‬‬
‫واملقص�ود باحلكم اخلبرى هو أن تعرف بامذا أخربك اهلل تع�اىل ىف اآلية‪ ،‬فإذا قال اهلل‬
‫تعاىل ﴿ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﴾ (األعراف ‪ :‬اآلية ‪ )59‬فهذا حكم خربى‪ ،‬بمعنى أن‬
‫اهلل تعاىل خيربنا بأنه أرسل رسوله نوحا إىل قومه‪ ،‬وهى وإن كانت معلومة تبدو ىف ظاهرها‬
‫أمرا بسيطا إال أن ربطها بالقيم املقاصدية سوف يربز قيمة كل ما خيربنا اهلل تعاىل به‪.‬‬
‫واحلكم اإلنشائى هو األوامر التى يريد اهلل تعاىل منا أن نأمتر هبا‪ ،‬والنواهى التى يريد‬
‫أن ننتهى عنها‪.‬‬
‫فقول�ه تع�اىل ﴿ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﴾ (البقـ�رة ‪ :‬اآلي�ة‬
‫‪ ﴿ )282‬ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﴾ (املائ�دة‪ :‬اآلية ‪﴿ . )1‬ﯭ ﯮ ﯯ‬
‫ﯰﯱ﴾ (املائدة ‪ :‬اآلية ‪ ﴿ .)2‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ﴾‬
‫(الن�ور‪ :‬آي�ة‪ ﴿ .)32‬ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﴾ (احلدي�د ‪ :‬اآلي�ة ‪ .)21‬كلها أحكام‬
‫إنشائية‪ ،‬يريد اهلل هبا أن ننشئ أفعاال نمتثل هبا هذه األوامر‪.‬‬
‫‪103‬‬
‫وقول�ه تع�اىل ﴿ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﴾ (احلج�رات‪ :‬اآلية ‪﴿ .)12‬ﮫ‬
‫ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ‬
‫ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﴾ (النح�ل‪ :‬اآلي�ة ‪﴿ )116‬ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ‬
‫ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ﴾ (املائدة ‪ :‬اآلية ‪ )101‬كلها أحكام إنشائية يريد اهلل منا أن‬
‫ننشئ تركا نمتثل به هذه النواهى‪.‬‬
‫ومعل�وم أن األمر الرشعى قد يفيد الوجوب أو االس�تحباب أو اإلباحة‪ ،‬وأن النهى‬
‫قد يفيد التحريم أو الكراهة‪ ،‬وليس من شأننا ىف هذا النموذج التعرض ملثل هذا‪ ،‬ولكن‬
‫إذا كان املتدبرون من ذوى التخصص فلن يبعد عنهم معرفة احلكم الرشعى حتديدا‪.‬‬
‫ويكف�ى عموم املس�لمني أن يعلموا أن اهلل يأمرهم بك�ذا وينهاهم عن كذا‪ ،‬وعليهم‬
‫وف�ق هذا النم�وذج أن يبحثوا ىف حكمة النهى والقيمة املقاصدية كام س�يأتى ىف الوحدة‬
‫يطلعوا عىل احلكم تفصيال إن كان للوجوب واإللزام أم‬‫التالي�ة‪ ،‬عىل أنه ال يعجزهم أن ّ‬
‫لالستحباب واحلث‪ ،‬فكتب التفسري وأحكام القرآن مليئة ببيان ذلك‪.‬‬
‫وغالبا ما يكون األمر القرآنى للوجوب‪ ،‬ويكون النهى للتحريم؛ ألن هذا هو األصل‬
‫ىف األم�ر والنه�ى عىل حد ما هو مقرر ىف علم أص�ول الفقه‪ ،‬كام أن ذكر األمر والنهى ىف‬
‫الق�رآن الكري�م يعطيهما مكانة خاصة‪ ،‬وجيعل موض�وع األمر والنهى قضي�ة قرآنية هلا‬
‫خصوصية‪ ،‬فأوامر القرآن ال سـيام ما ُكرر منها هلا خصوصية ىف البناء املعرىف هلذه األمة‪،‬‬
‫وىف االمتثال هبا من ِقبل املسلمني‪.‬‬
‫فقطعي�ة الن�ص ىف ثبوته يعطى األمر قوة ال نحتاج معه�ا إىل البحث ىف صحة النص‬
‫م�ن عدمه كامهو احلال ىف نص�وص األحاديث الواردة عن النبى صىل اهلل عليه وس�لم‪،‬‬
‫فإذا انضاف إىل ذلك قطعية داللة النص عىل املراد فإنه يعنى أن احلكم ال شك ىف ثبوت‬
‫داللته‪ ،‬وهذا يزيده قوة عىل قوة‪.‬‬
‫مث�ال ذلك قولـــــ�ه تع�اىل ﴿ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﴾ (احلجـــرات‪:‬‬
‫اآلي�ة ‪ )12‬فالن�ص قطعى الثبوت عن اهلل تعاىل كش�أن القرآن كل�ه‪ ،‬وكذلك قطعى ىف‬
‫الداللة عىل النهى عن التجس�س ِ‬
‫والغيبة‪ ،‬فهذا يعنى أن حتريمهام قضية قرآنية‪ ،‬ومس�ألة‬
‫‪104‬‬
‫َأ ْواله�ا الق�رآن أمهية بمجرد ذكره�ا ىف كتابه ومل يرتكها لنصوص الس�نة‪ ،‬وهذه األمهية‬
‫تربز مدى اخلطورة ىف بناء املجتمعات واحلفاظ عليها إذا مل نلتزم حكم الرشع ىف هذا‪.‬‬
‫فالقرآن ـ ملا له من خصوصية التالوة وكثرة السماع والرتديد ـ يريد أن يوصل لكل‬
‫املسلمني أن التجسس والغيبة حمرمان قد هنى اهلل عنهام ىف كتابه‪ ،‬وجعل هلام اآلية تتىل إىل‬
‫قيام الس�اعة‪ ،‬يس�معها املس�لمون ىف كل زمان ومكان ؛ لئال يكون للناس عىل اهلل حجة‬
‫بعد ذلك‪.‬‬
‫علينا إذن أن هنتم باألحكام القرآنية‪ ،‬فالقرآن قد استوعب أصول األحكام ورءوسها‬
‫بما يش�كل بناء معرفي�ا متكامال‪ ،‬وما جاء ىف س�نة النب�ى ﷺ فهو ـ غالب�ا ـ إما تفصيال‬
‫ملط َل ِقه‪ ،‬أو ختصيصا لعمومه‪ ،‬وال تكاد تنفرد الس�نة بحكم إال‬
‫ملجم�ل الق�رآن‪ ،‬أو تقييدا ْ‬
‫وىف القرآن أصله أو اإلشارة إليه‪.‬‬
‫أم�ر أخري يتعل�ق باحلكم اإلنش�ائى ىف القرآن ال�ذى نقصده ىف ه�ذا النموذج‪ ،‬وهو‬
‫أن�ه أعم من األحكام التى اصطلح الفقهاء عىل تس�ميتها باألح�كام الفقهية التى تتعلق‬
‫باألمور العملية فقط‪ ،‬كأحكام العبادات واملعامالت وغريمها‪.‬‬
‫أما احلكم اإلنش�ائى ىف القرآن بمفهومه العام يش�مل هذا وغريه‪ ،‬فقوله تعاىل ﴿ﭳ‬
‫ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾ (األحزاب‪:‬‬
‫اآلي�ة ‪ )48‬في�ه ثالث�ة أحكام إنش�ائية ‪( :‬وال تطع الكافري�ن واملنافقين ـ ودع أذاهم ـ‬
‫وتوكل عىل اهلل) وال عالقة هلذه األحكام بالفقه اإلسالمى‪.‬‬

‫وقفـ ــة أمـ ــام احلك ــم اخلبـ ــرى ‪:‬‬


‫هذا عن احلكم اإلنشائى‪ ،‬أما عن احلكم اخلربى فهنا مالحظة أود التنبيه عليها ونحن‬
‫نتدبر القرآن‪ ،‬فإننا ال نعنى باحلكم اخلربى ىف هذا النموذج جمرد املعلومة ىف ظاهرها التى‬
‫خيربن�ا اهلل هب�ا‪ ،‬وإنما ال بد من فهم ما يمكن أن نس�ميه بالرس�الة الربانية م�ن وراء هذا‬
‫اخلبر‪ ،‬وأن نفه�م ما بني الس�طور‪ ،‬والقرآن كله رس�ائل من اهلل تعاىل لنا‪ ،‬عىل مس�توى‬
‫اجلمل واآليات‪ ،‬وعىل مستوى السورة كلها‪.‬فاحلكم اخلربى ال يقترص عىل أن نعرف ما‬
‫أخربنا اهلل به من معلومات‪ ،‬وإنام أيضا يشمل ما وراء هذا اخلرب‪.‬‬
‫‪105‬‬
‫�س�ألتنى �إحدى املتدربات فى كور�س املعاي�شة عن الأحكام اخلربية فى الق�ص�ص‬
‫القر�آنى ما هى؟‬

‫فأجب�ت أن الق�رآن ال حيكى قصة ـ جمرد حكاية ـ بل َقص�ص القرآن مىلء باألحكام‬
‫اخلربية التى تكون وراء احلكاية‪ ،‬بل قد تكون أحكاما إنشائية تستفاد من القصة‪.‬‬
‫فس�ورة يوس�ف مثال وما حكاه اهلل عن احلس�د الذى كان من إخوته وكيدهم له ـ ال‬
‫ينبغى أن يمر علينا دون أن نفهم الرسائل الربانية منها‪ ،‬فاحلكم اخلربى هنا حكاية قصة‬
‫حتاسد وأحقاد وغرية بني اإلخوة ال سيام إذا كانوا من أمهات خمتلفة‪.‬‬
‫واحلكم اإلنشائى أنه عىل اآلباء أن يراعوا هذا ىف ترصفاهتم وال يرتكبوا من األخطاء‬
‫ىف التميي�ز ما يمكن أن يثري النفوس بني اإلخ�وة‪ ،‬وأن يكونوا من احلذر بحيث ال يفهم‬
‫من ترصفاهتم أهنم حيبون بعضهم أكثر من بعض‪.‬‬
‫وقوله تعاىل ىف نفس الس�ورة حكاي ًة عن أخيهم األكرب ﴿ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ‬
‫ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﴾ لي�س احلك�م اخلربى هنا جمرد أن اهلل تعاىل يريد‬
‫أن خيربنا بام قاله أخوهم األكرب ملّا فقدوا أخاهم الذى احتجزه يوس�ـف عليه الس�ـالم‬
‫عنده‪.‬‬
‫وإنام يفهم من اآلية أيضا أن اهلل أخربنا عن حياء األخ األكرب من مواجهة أبيه بعد ما‬
‫حدث منهم من تضييع أخيهم يوسف‪ ،‬وها هو الثانى قد ضاع أيضا ورغم عدم ذنبهم‬
‫ىف تضيي�ع الثانى إال أن املواجهة صعبة أيضا كام يفهم من كالم أخيهم األكرب‪ ،‬وهذا قد‬
‫يفيد حكام إنش�ائيا أيضا‪ ،‬وهو أن أتّبع نفس النهج مع من أخطأت ىف حقه باإليذاء‪ ،‬ثم‬
‫حص�ل هذا اإلي�ذاء مرة أخرى من جهتى ولكن بدون ذنب من�ى‪ ،‬فحينئذ ع ّ‬
‫يل أن أفهم‬
‫أن جمرد االعتذار ال يكفى‪ ،‬بل ال بد من أن أسلك فعال آخر مستغربا كهذا الذى سلكه‬
‫أخوهم األكرب حتى يرىض عنى من أخطأت ىف حقه‪ ،‬كأن أرسل له رسالة بأنى ال ذنب‬
‫ىل بام حدث وأنى أستحيى من لقائه‪ ،‬ولن ألقاه حتى يساحمنى أو تثبت براءتى عنده‪ ،‬وله‬
‫أن يتح�رى ع�ن براءتى بما يرضيه من طرق حتى يعلم أنه ال ذنب ىل‪ ،‬فربام يش�فع ذلك‬
‫ىل عنده‪.‬‬
‫‪106‬‬
‫وقوله تعاىل حكاية عن كالم يوسف عليه السالم ﴿ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ‬
‫ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ‬
‫ﯴ ﯵ ﴾ يفهم منه ُّ‬
‫تذكر نعمة اهلل تعاىل عند الفرحة والنرص‪ ،‬وأن الفضل‬
‫منسوب إىل اهلل وحده‪ ،‬وليس جمرد اإلخبار بأنه دعا هبذا الدعاء ىف هذا املوقف‪.‬‬
‫�ال‪َ :‬كانَ ُع َم ُر‬ ‫اس‪َ ،‬ق َ‬ ‫ويمك�ن أن يك�ون من ذلك أيضا ما روا البخ�ارى ‪َ :‬ع ِن ا ْب ِن َع َّب ٍ‬
‫ال‪ :‬لمِ َ ُتدْ ِخ ُل هَ َذا َم َعنَا َو َلنَا َأ ْبن ٌَاء‬‫اخ َبدْ ٍر َف َك َأنَّ َب ْع َض ُه ْم َو َج َد فىِ َن ْف ِس ِه‪َ ،‬ف َق َ‬ ‫ُيدْ ِخ ُلنِي َم َع َأ ْش َي ِ‬
‫يت َأ َّن ُه َد َعانِى‬ ‫ات َي ْو ٍم َف َأ ْد َخ َل ُه َم َع ُه ْم‪ ،‬فَماَ ُرئِ ُ‬ ‫ِم ْث ُل� ُه‪َ ،‬ف َق َ‬
‫�ال ُع َم ُر‪ :‬إِ َّن ُه َم ْن َقدْ َع ِل ْمت ُْم‪َ ،‬ف َد َعا ُه َذ َ‬
‫ال‪َ :‬ما َت ُقو ُلونَ فىِ َق ْو ِل اللهَّ ِ َت َعالىَ ‪ ﴿ :‬ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ﴾‬ ‫َي ْو َمئِ ٍ‬
‫�ذ إِلاَّ لِيرُ ِيهَ ُ ْم‪َ ،‬ق َ‬
‫ال َب ْع ُض ُه ْم‪ُ :‬أ ِم ْر َنا َأنْ َن ْح َم َد اللهَّ َ َو َن ْس َتغْ ِف َر ُه إِ َذا ُنصرِ ْ َنا‪َ ،‬و ُفتِ َح َع َل ْينَا‪،‬‬
‫(النرص ‪ :‬اآلية ‪)1‬؟ َف َق َ‬
‫اس؟ َف ُق ْل ُت‪َ :‬ال‪َ ،‬ق َ‬
‫ال‪:‬‬ ‫ول َيا ا ْب َن َع َّب ٍ‬ ‫اك َت ُق ُ‬ ‫ال لىِ ‪َ :‬أ َك َذ َ‬ ‫�ك َت َب ْع ُض ُه ْم َف َل ْم َي ُق ْل َش ْ�يئًا‪َ ،‬ف َق َ‬ ‫َو َس َ‬
‫ال‪ ﴿ :‬ﭱ ﭲ‬ ‫اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّ�ل َم َأ ْع َل َم ُه َل ُه‪َ ،‬ق َ‬
‫�ول اللهَّ ِ َصلىَّ ُ‬ ‫ول؟ ُق ْل ُت‪ُ :‬ه َو َأ َج ُل َر ُس ِ‬ ‫فَماَ َت ُق ُ‬
‫�ك‪﴿ »،‬ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ‬ ‫ال َم� ُة َأ َج ِل َ‬ ‫�ك َع َ‬ ‫ﭳ ﭴ ﭵ ﴾ َو َذلِ َ‬
‫ول(‪.((1‬‬ ‫ال ُع َم ُر‪َ :‬ما َأ ْع َل ُم ِم ْن َها إِلاَّ َما َت ُق ُ‬ ‫ﮅ ﮆ ﴾‪َ ،‬ف َق َ‬
‫فتأم�ل كيف فهم عموم الصحابة رىض اهلل عنهم الس�ورة على ظاهرها‪ ،‬وأهنا جمرد‬
‫حك�م خربى خيربن�ا اهلل تعاىل بمجىء نصره وفتحه‪ ،‬ثم يأمرنا بحكم إنش�ائى وهو أن‬
‫نسبح بحمد اهلل تعاىل ونستغفره‪.‬‬
‫أم�ا الفقيهان املتدبران عمر وابن عباس رىض اهلل عنهم فقد فهام اإلش�ارة والرس�الة‬
‫الربانية إىل نبيـه صىل اهلل عليه وس�لم‪ ،‬وه�ى نعيه وإعالمه بدنو أجله؛ ألنه ما بعد التامم‬
‫إال النقصـ�ان‪ ،‬فإذا جاء النصر والفتح ودخل الناس ىف دين اهلل تعاىل مجاعات وأفواجا‬
‫فقد أديت رس�التك‪ ،‬ومت�ت دعوتك‪ ،‬فال حاجة لك ىف بقائ�ك ىف الدنيا فمقامك عندنا‬
‫خري لك‪ ،‬فابدأ ىف االستعداد هلذا اللقاء باحلمد واالستغفار‪ ،‬فمقام النبى ﷺ ال يليق به‬

‫‪ -18‬البخ�ارى ‪ :‬التفسير ـ باب قول�ه ﴿ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﴾ (‪606/8‬ـ‬


‫ق ‪.)4970‬‬

‫‪107‬‬
‫ملسوغ الدعوة إىل اهلل‪ ،‬والدعوة قد أمتها اهلل تعاىل وأكمل الدين‬
‫أن يبقى ىف هذه الدنيا إال ِّ‬
‫على يدي�ه‪ ،‬فلامذا املكث ىف هذه احلياة وهى غري الئقة به ؟!إذن احلكم اخلربى ليس جمرد‬
‫أن تفهم املعلومة عىل ظاهرها‪ ،‬بل أن تفهم الرس�الة من ورائها‪ ،‬وعلامء التفسير وعلوم‬
‫القرآن يسمون هذا النوع من التدبر ‪ :‬التفسري اإلشارى(‪.((1‬‬
‫وهذا املجال ـ كام أرى ـ ما زال غضا حيتاج إىل مزيد من البحث وإعامل العقل‪ ،‬وهو‬
‫أقرب إىل التدبر منه إىل التفسري بمعناه التقليدى‪.‬‬
‫تنمى سلوك املسلم وهتذب أخالقه‬ ‫وحكم ورس�ائل ّ‬ ‫إن كل ما حكاه القرآن فيه ِعرب ِ‬
‫وتبنى عقله وفكره‪ ،‬وعلينا فقط أن نتدبر ىف كل ما أخربنا اهلل تعاىل به وحكاه لنا‪.‬‬
‫�إذن خال�صة الأمر تتعلق مب�س�ألتني ‪:‬‬
‫الأوىل ‪ :‬أن احلكم اخلربى ليس جمرد معلومة خيربنا اهلل هبا‪ ،‬وإنام جيب أن نفهم ما بني‬
‫السطور وما وراء اخلرب عىل النحو الذى بيناه‪.‬‬
‫الثاني��ة ‪ :‬أن احلك�م اخلربى خيتلط باإلنش�ائى‪ ،‬ف�اهلل خيربنا بخرب له هدف ورس�الة‪،‬‬
‫ويريدن�ا ان نتحلى هب�ذا وأن نأخذ منه العبرة‪ ،‬وهذا ىف حد ذاته يمك�ن أن نجعله حكام‬
‫إنشائيا‪.‬‬
‫***‬

‫‪ -19‬وه�و مم�دوح هب�ذا املعنى الذى س�قناه مم�ا ال يتناىف م�ع ظاهر عبارة القرآن‪ ،‬أما التفسير اإلش�ارى‬
‫الس�خيف الذى خيرج عن ظاهر القرآن وال حيتمله لفظه فهو مرفوض‪ ،‬كتفسير البقرة ىف قوله تعاىل ﴿ﮤ ﮥ‬
‫ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ﴾ « (البقرة‪ :‬اآلية ‪ )67‬بأهنا النفس البهيمية أو احليوانية‪ .‬راجع ىف ذلك عىل سبيل املثال‬
‫«مناهل العرفان ىف علوم القرآن» للزرقانى (‪78/2‬ـ وما بعدها) دار إحياء الكتب العربية‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫الوحدة السادسة من النموذج‬ ‫الفصـ ـ ــل الس ــادس‬
‫( القيم المقاصدية )‬
‫الجزئية ‪ -‬الكلية‬

‫لقد كان فهم األحكام بعيدا عن قيمها املقاصدية له أكرب األثر ىف تش�ويش اإلسلام‬
‫القيم‪.‬‬
‫ىف األذهان‪ ،‬و ُبعد الناس عن الفهم الصحيح هلذا الدين ّ‬
‫رصن�ا نفهم الفقه واألحكام عىل أنه جمرد أفعال وأقوال ظاهرة خالية من أى قيمة أو‬
‫أى مقصد‪.‬‬
‫واحلكم واألهداف التى‬‫إن كتب الفقه تعرض األحكام جمردة من املقاصد والغايات ِ‬
‫تريده�ا الرشيع�ة م�ن وراء ترشيع احلك�م‪ ،‬هذا ىف األع�م األغلب‪ ،‬وهو م�ا تربينا عليه‬
‫وألِفناه ىف كتب الفقه اإلسالمى‪.‬‬
‫نريد العودة إىل طريقة القرآن ىف عرض األحكام‪ ،‬الطريقة التى تعرض احلكم واألمر‬
‫اإلهلى أو النهى حماطا بالقيم واألخالق وبيان املقصد واهلدف‪.‬‬

‫س ــورة الط ـ ــالق والتدب ــر املقاص ــدى فيهـ ــا ‪:‬‬

‫انظ�رإىل قوله تعاىل ىف مطلع الس�ورة ﴿ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ‬


‫ﭙﭚ﴾ ُس�بق بن�داء النب�ى ﷺ ليعطي�ه قيمة عالي�ة ومكانة خاصة عن�د األمة ﴿ ﭑ‬
‫ﭒ﴾ وجاء بعده ﴿ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﴾ حلث الناس عىل تقواه ومراقبته ىف االمتثال‬
‫هب�ذا احلكم العظيم‪ ،‬والس�ورة كلها مليئة باألمر بتق�وى اهلل تعاىل لنفس املقصد ﴿ﮚ‬
‫ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﴾ ﴿ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ‬
‫ﯸ ﴾ ﴿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﴾‪.‬‬
‫‪109‬‬
‫ث�م يأت�ى حك�م آخ�ر ﴿ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ‬
‫ﭨ ﭩﭪ ﴾ ث�م يعقب�ه حديث عن القي�م واملقاص�د ﴿ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ‬
‫ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﴾‪.‬‬

‫ثم يأتى حكم آخر ﴿ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ‬


‫ﮉ ﮊ ﮋ ﴾ ويعقبه بيان مقاصدى وقيمى عظيم ﴿ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ‬
‫ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ‬
‫ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ‬
‫ﯙ ﴾‪.‬‬

‫ث�م تعود الس�ورة إىل بيان بعض أح�كام ِعدة املطلق�ة ﴿ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ‬


‫ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ‬
‫ﯯﯰ ﴾ وتعق�ب ذلك ب�كالم مقاصدى قيمى عظيم ﴿ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ‬
‫ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ﴾‪.‬‬

‫ع�ود إىل األحكام مرة أخ�رى﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ‬


‫ث�م ْ‬
‫ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ‬
‫ﭪﭫ ﴾ ثم يأتى سياج املقاصد والتذكري بالقيم واألخالق الذى حييط الســـورة كلها‬
‫﴿ ﭬ ﭭ ﭮﭯ﴾ ث�م بيان حكم آخ�ر ﴿ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﴾ ثم تأتى‬
‫هذه اآلية التى ختتلط فيها األحكام باملقاصد بش�كل عجيب ﴿ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ‬
‫ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ‬
‫ﮑ ﴾ ث�م تأت�ى آي�ات اخلتام لتبين املقصود من ه�ذه األحكام وهو حف�ظ املجتمعات‬
‫بحف�ظ احلق�وق‪ ،‬وأن م�ن خالفها فق�د عتا عن أمر رب�ه وظلم‪ ،‬وأن الوق�وف أمام هذه‬
‫األحكام بالعصيان واملخالفة جيلب غضب اهلل تعاىل وس�خطه ﴿ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ‬
‫‪110‬‬
‫ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ‬
‫ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ‬
‫ﯜ ﯝﯞﯟ ﯠﯡﯢﯣ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ‬
‫ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ‬
‫ﯾﯿﰀ ﰁﰂﰃﰄ ﰅ ﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏ‬
‫ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﴾ وكله�ا آيات ال يمكن فصلها عن‬
‫أحكام الطالق‪.‬‬
‫إن عرض األحكام الطالق هبذه الصورة التى وضعتها سورة الطالق جلدير بالعناية‪،‬‬
‫وأق�رب إىل فه�م طبيعة هذه األحكام ومكانته�ا عند اهلل تعاىل‪ ،‬وأدع�ى إىل أن يلتزم هبا‬
‫املسلمون ليحققوا هبا التقوى‪.‬‬
‫وانظر ـ ىف نفس املوضوع ـ إىل بيان أحكام الطالق ىف سورة البقرة والتأكيد عىل لفظ‬
‫﴿ ﭬ ﭭ﴾ ىف ثنايا احلديث عن أحكام الطالق وما له من وقع وهيبة ىف نفس املسلم‪،‬‬
‫مع التأكيد عىل القيم األخرى‪ ،‬وسوف نعرض لآليات فقط واضعني لك خطوطا حتت‬
‫العب�ارات الت�ى تتحدث عن القيم وتش�كل س�ياجا هل�ذه األحكام‪ ،‬تاركين لك التدبر‬
‫والتأمل ‪:‬‬
‫﴿ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ‬
‫ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ‬
‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ‬
‫ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ‬
‫ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ‬
‫ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ‬
‫ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓﰔ ﰕ ﰖ ﰗ‬
‫ﰘﰙﰚﰛ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭙ‬
‫‪111‬‬
‫ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ‬
‫ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ‬
‫ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ‬
‫ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ‬
‫ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ﴾ (البقرة‪ :‬اآليات ‪.)232-228‬‬
‫فانظ�ر إىل حجم األلف�اظ والعبارت املقاصدية التى جت�اوزت ىف كمها األلفاظ التى‬
‫اشتملت عىل أحكام‪.‬‬

‫لبــاس املسلم ــة ورؤيـ ــة الق ـ ــرآن املقاصدي ــة ‪:‬‬
‫لباس املرأة املس�لمة له أحكامه ىف القرآن والس�نة‪ ،‬وفهمه من مدخل مقاصدى يقينَا‬
‫كثيرا من األخطاء والتصورات املغلوطة التى رس�خت ىف األذهان عىل أهنا من الدين‪،‬‬
‫فلم يعد احلديث عن حكم النقاب هو ما يفيد األمة ويمنع الفتنة فيها‪ ،‬فاملس�ألة خالفية‬
‫وقد أخذت أكرب من حجمها رغم أهنا ليست قضية قرآنية‪.‬‬

‫لقد عرض القرآن لقضية لباس املس�لمة ىف آيتني‪ ،‬فقال تعاىل ﴿ ﮗ ﮘ ﮙ‬


‫ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ‬
‫ﮪﮫ ﮬﮭﮮﮯﮰ ﮱﯓ ﯔﯕﯖ ﯗ‬
‫ﯘ ﯙ ﯚﯛﯜ ﯝ ﯞﯟﯠﯡﯢ ﯣ ﯤﯥ‬
‫ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ‬
‫ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾‬
‫(النور ‪ :‬اآلية ‪.)31‬‬

‫وقال ج�ل ش�أنه ﴿ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ‬


‫ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ﴾(األحزاب‪ :‬اآلية ‪.)59‬‬
‫‪112‬‬
‫فف�ى األوىل اس�تثنى من النهى عن إبداء الزين�ة ﴿ ﮛ ﮜ ﮝ﴾ وىف الثانية بينّ أن‬
‫مقص�د إدناء اجلالبيب هو ﴿ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ﴾ أى يعرفن بالعفة والنقاء فال يتعرض‬
‫هلن أحد‪.‬‬
‫اس�تثنى اهلل م�ا ظهر منها وت�رك اآلية هكذا دون حتديد للمقص�ود بام ظهر منها‪ ،‬ألن‬
‫أم�ر لباس املس�لمة من أمور العادات‪ ،‬واملس�لمة ختتل�ط ىف احلياة بملبس�ها‪ ،‬وقد جعل‬
‫الشرع عورهتا أكثر مس�احة من ع�ورة الرجل‪ ،‬وجعل أمرها مبنيا عىل الستر أكثر منه‬
‫مل�ا للمرأة م�ن مجال واس�تثارة لغري�زة الرجل أكثر‪ ،‬ولك�ن ىف الوقت نفس�ه هى حتتاج‬
‫للخروج واالختلاط باملجتمع‪ ،‬وهذا خيتلف من امرأة ألخرى‪ ،‬فاملرأة العاملة بخالف‬
‫غريه�ا‪ ،‬والكبرية بخالف الصغرية‪ ،‬واجلميلة بخالف العادية‪ ،‬وصاحبة اجلس�م واهليئة‬
‫بخالف غريها‪ ،‬فرتك حتديد االس�تثناء أوىل م�ن النص عليه‪ ،‬فيرتك للمرأة أن تبدى من‬
‫زينته�ا ما يتفق مع طبيعته�ا وظروف خروجها عىل أال تتجاوز احل�د الذى اتفق العلامء‬
‫عىل أنه عورة‪ ،‬فيجوز أن تبدى وجهها فقط‪ ،‬أو كفيها فقط‪ ،‬أو الوجه والكفني‪ ،‬أو تزيد‬
‫القدمين عىل م�ا ذهب إليه أبو حنيفة رمح�ه اهلل ىف اعتبار القدمني ليس�ا من العورة‪ ،‬كل‬
‫ذلك ىف سياق حتقيق مقصد ﴿ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ﴾ فإذا ما حتول ملبس املسلمة‬
‫ـ ول�و كان�ت منتقبة ـ إىل مث�ار للفتنة فاعل�م أن احلكم الرشعى ال�ذى أراده اهلل تعاىل مل‬
‫ينف�ذ‪ ،‬وأن هناك خلال ىف الفهم‪ ،‬فتجد املرأ َة رغم انتقاهبا حمط أنظار الناس وإيذائهم هلا‬
‫وهى تسري ىف الطريق بسبب طريقة لبسها للنقاب‪ ،‬فأين إذن قوله تعاىل ﴿ ﮭ ﮮ﴾‪.‬‬
‫وال يعن�ى ه�ذا أهنا لن تؤذى أبدا ولو كان لباس�ها حمرتما ؛ ألن كثريا من الفس�اق ال‬
‫يتورعون عن إيذاء العفيفات‪ ،‬ولكن املقصود أال يكون اإليذاء بسببها هى‪.‬‬
‫وبع�ض املنتقب�ات لو خلعت النقاب لكان خريا هلا وأق�رب إىل رهبا‪ ،‬ألهنا لن تكون‬
‫مثار فتنة إذا رأى الناس وجهها‪ ،‬أما أن تسرت وجهها غري اجلميل وتلبس عباءهتا الضيقة‬
‫بطريق�ة تثير فتنة الناس ونظر الناس فقد أتت إثام عظيام‪ ،‬وما عرفت معنى الستر الذى‬
‫أراده اهلل تعاىل‪.‬‬
‫أعتقد أن فهم ملبس املس�لمة على الطريقة القرآنية التى ت�وازن بني احلكم واملقصد‬
‫وتراع�ى الظ�روف واملالبس�ات ل�كل ام�رأة ـ خيفف من ح�دة اخلالف ىف هذه املس�ألة‬
‫وجيعلها أقرب إىل مراد اهلل تعاىل‪.‬‬
‫‪113‬‬
‫ومث�ل هذا أيض�ا اإلهبام الذى ذك�ره اهلل تعاىل ىف القواعد من النس�اء ﴿ﭧ ﭨ‬
‫ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭴﭵ‬
‫ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾ (النور‪ :‬اآلية ‪.)60‬‬
‫ف�أى ثياب يوضع؟ وعن أى جزء من اجلس�د يوضع؟ إن�ه إهبام قرآنى بديع‪ ،‬مرتوك‬
‫لكل امرأة من القـواعد أن تضـع من ثياهبا ما خيفـف عنها مش�ـقة احلجـاب والتس�ـرت‬
‫لبلوغه�ا س�ـن ﴿ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾ وملا كان املقصد من احلج�اب منع الفتنة أو احلد‬
‫منها ختفف الرشع مع هذا النوع من النساء لعدم رغبتهن ىف الرجال وعدم رغبة الرجال‬
‫فيه�ن‪ ،‬ولكنه قيد األمر بحيث ال تبالغ املرأة من القواعد ىف أمر وضع الثياب عنها فقال‬
‫﴿ ﭴ ﭵ ﭶ﴾‪.‬‬
‫واخلالصة أن إهبام االس�تثناء ىف قوله ﴿ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ﴾ وإهبام الثياب املوضوع‬
‫عن القواعد ـ جاء ليحقق املقصد من السرت مع مراعاة الظروف واالحتياجات ىف سياج‬
‫من العفة والنقاء للمرأة املسلمة و ُبعدها عن اإليذاء‪.‬‬

‫شيـ ــوع الفك ــر املقاص ــدى فــى الق ــرآن كل ــه ‪:‬‬
‫ال تكاد ختلو اآلية من ربطها باملقاصد الرشعية ِ‬
‫واحلكم الربانية‪ ،‬والغايات واألخالق‬
‫السامية‪.‬‬
‫وبعد جتربتى مع مقاصد القرآن طبقا الس�تخدام ه�ذا النموذج أقول ‪ :‬القرآن إما أن‬
‫يتحدث عن مقاصد‪ ،‬وإما عن أحكام بمقاصدها‪.‬‬
‫ففى الطهارة جتد قوله تعاىل ‪:‬‬

‫﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ‬
‫ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ‬
‫ﭩ ﭪﭫ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹ‬
‫ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ‬
‫‪114‬‬
‫ﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮌﮍﮎﮏ‬
‫ﮐﮑ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮙ ﮚﮛ‬
‫ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ﴾ (املائدة‪ :‬اآليتان ‪.)7 ،6‬‬

‫فاآلي�ة تتحدث ع�ن الوض�وء ﴿ ﭘ ﭙ ﭚ﴾ والغس�ل ﴿ ﭣ‬


‫ﭤ ﭥ ﭦ﴾ ث�م ّبينـ�ت حكـم التيمـم عنـد فقد املاء هلمـ�ا‪ ،‬ثم بينـت غـاية‬
‫الطهـ�ارة ومقصـده�ا ﴿ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﴾‬
‫وأن الشرع خفف عليكم بالتيمم ومل يكلفكم اس�تعامل امل�اء ىف كل وقت لفقده أحيانا‬
‫للع َوز إليه أو صعوبة اس�تعامله ملرض وغريه ﴿ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ‬
‫أو َ‬
‫ﮈ ﴾ ث�م رب�ط ذلك كله ىف اآلية التالية بميثاق اهلل الذى واثقنا به حني قلنا ﴿ﮜ‬
‫ﮝ﴾ وأخذنا عىل أنفس�نا العهد بالتزام أوام�ر اهلل‪ ،‬ذلك كله ل ُي ْعىل من قيمة الطهارة‬
‫ىف هذا الدين احلنيف‪ ،‬وأن الطهارة جزء من هذا امليثاق ومظهر من االلتزام به‪.‬‬
‫وىف الصلاة يق�ول تع�اىل ﴿ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﴾‬
‫(العنكبوت‪ :‬اآلية ‪ )45‬فإذا مل تنهنا صالتنا عن الفحش�اء واملنكر ومل نحقق هذا املقصد‬
‫منه�ا فإنن�ا حينئذ مل نصل كام أراد اهلل لنا‪ ،‬ومل نحق�ق املقصد الرشعى من الصالة‪ ،‬أما إذا‬
‫صلينا كام ينبغى بإقامة خش�وع الصالة فإن الفحشــاء واملنكر سيكونان أبعد شىء عنا‬
‫﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ (املؤمنون‪ :‬اآليتان ‪.)2 ،1‬‬
‫وىف الزكاة يقول تعاىل موضحا القيمة املقاصدية منها ﴿ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ‬
‫ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾ (التوبة ‪ :‬اآلية ‪.)103‬‬

‫وىف الصيام يبني تعاىل أن املقصد منه هو حتقيق التقوى ﴿ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ‬


‫ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ﴾ (البقرة ‪ :‬اآلية ‪.)183‬‬

‫وىف احلج يقول املوىل جل شأنه ‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ‬


‫ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ‬
‫‪115‬‬
‫ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ‬
‫ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ‬
‫ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ‬
‫ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ‬
‫ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ‬
‫ﮪ ﮫ ﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯗﯘﯙ‬
‫ﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ‬
‫ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ‬
‫ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ‬
‫ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﴾ َ (البقرة‪ :‬اآليات ‪.)203-197‬‬
‫وىف البي�وع واملعاملات املالية يق�ول تع�اىل ‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ‬
‫ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ‬
‫ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ‬
‫ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ‬
‫ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ‬
‫ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ‬
‫ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ‬
‫ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ‬
‫ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ‬
‫ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ‬
‫ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ‬
‫ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ‬
‫ﭳ ﭴ ﭵ ﴾ (البقرة‪ :‬اآليتان ‪.)283-282‬‬
‫‪116‬‬
‫ويق�ول تع�اىل ‪﴿ :‬ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ‬
‫ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ‬
‫ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ﴾‬
‫(النساء‪ :‬اآليتان ‪.)30 ،29‬‬
‫إن القي�م املقاصدي�ة تتخلل آيات الق�رآن كله لدرجة أنك ال تس�طيع أن تفصل بني‬
‫احلكم والقيمة ىف ألفاظ اآلية الكريمة‪ ،‬فاحلكم يساق بقيمته أو تعقبه القيمة مبارشة‪.‬‬
‫احلكم نفس�ه‪ ،‬كام قال تع�اىل مبينا قيمة‬
‫َ‬ ‫ب�ل أحيانا تس�بق القيمة وبيان العلة واهلدف‬
‫حتري�م اجلماع ىف املحيض قب�ل أن يذكر األمر باعتزال النس�اء في�ه ‪﴿ :‬ﮠ ﮡ‬
‫ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ‬
‫ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ﴾ (البقــــــ�رة‪:‬‬
‫اآلية ‪. )222‬‬
‫ثم تأمل ما جاء بعد األمر باالعتزال من الرتكيز عىل ألفاظ الطهارة ﴿ﮯ ـ ﯓ‬
‫ـ ﯟ﴾ ليعىل من هذه القيمة ىف هذا السياق‪ ،‬كام ذكر ﴿ﯝ﴾ ىف أثناء ذلك‬
‫للحث عىل الرجوع إىل اهلل تعاىل إذا حدث خطأ ىف عدم االلتزام باحلكم‪.‬‬
‫ه�ذا هو الق�رآن بمنهجيته املقاصدية التى يرس�يها للمس�لمني‪ ،‬وم�ن مل يقرأ أحكام‬
‫الق�رآن ب�دون هذه املنهجي�ة القيمية ىف بيان املقاص�د كانت األحكام عن�ده جمرد تعاليم‬
‫جمردة‪ ،‬ومظاهر فارغة عن قيمها‪ ،‬وأشكال ال حيس معها املسلم بطعم اإليامن وال بقيمة‬
‫األحكام وأهدافها‪.‬‬
‫إن اهلل تعاىل حيرتم عقولنا‪ ،‬ولذلك خاطبها هبذه املنهجية املقاصدية‪ ،‬فإذا قىض أمرا أو‬
‫هنيا فإنه يبني قيمة احلكم‪ ،‬واملقصد من ترشيعه‪ ،‬والفالح املنبنى عليه ىف الدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫ويركز عىل القيم التى جيب أن حتوطه وتدفع إىل تنفيذه‪ ،‬كل ذلك ىف سياق قرآنى عجيب‬
‫ال مثيل له‪ ،‬حتى يتعلم الناس هذه املنهجية ىف إصدار أوامرهم إىل من يقودوهنم‪ ،‬فالرتبية‬
‫واإلدارة والقيادة والسياسة ليست جمرد أن يصدر الرجل األوامر التى ال ُيـفهم معناها‪،‬‬
‫وال يدرى الناس‪ :‬ما املقصد من ورائها؟ وأين املصلحة التى حتققها؟‬
‫‪117‬‬
‫فإذا كان رب العاملني ـ الذى ال يسأل عام يفعل ونحن عبيده ـ قد أخذ عىل نفسه هذه‬
‫املنهجي�ة ىف بيان القيم واملقاصد والثواب والعقاب ـ فكيف بغريه ممن يبغون أن يطاعوا‬
‫دون أدنى مناقشة وال سؤال عن اهلدف واملقصد من وراء األوامر واألحكام‪.‬‬
‫ما أحوجنا إىل أن نعرض أحكام الرشيعة للناس هبذه املنهجية‪ ،‬س�واء عىل مس�توى‬
‫التعليم الش�فوى ىف قاعات الدرس‪ ،‬أو عىل مس�توى الكتابة‪ ،‬وقد فقد الفقه اإلسالمى‬
‫ىف أغلبه هذه امليزة العظيمة‪ ،‬وجزى اهلل فقهاءنا خريا عام بذلوه وأنتجوه من تراث فقهى‬
‫عظي�م س�دوا به ثلمة كبرية‪ ،‬ولك�ن لكل جواد كبوة‪ ،‬والنقص م�ن صفات البرش دائام‪،‬‬
‫وتبقى ثلمة املقاصد ىف عرض الفقه حتتاج إىل مزيد جهد‪.‬‬
‫ش�ىء أخري وهو أن القيم املقاصدية ال ترتبط باألحكام اإلنشائية فقط كام عرضنا له‬
‫ىف األمثلة الس�ابقة‪ ،‬ب�ل تكون ىف األحكام اخلربية أيضا‪ ،‬فالق�رآن حني خيربنا بخرب فإنام‬
‫لعلة وحكمة وقيمة يريدها‪ ،‬وحني حيكى لنا قصة فلمقصد يبغيه منا‪.‬‬
‫تأم�ل قوله تع�اىل ﴿ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ‬
‫ﮣ ﮤﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﴾ (هود‪ :‬اآلية ‪.)49‬‬
‫﴿ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﴾ (يونـــ�س ‪:‬‬
‫اآلية ‪.)103‬‬

‫ط ــرق أخ ــرى ملعرفـ ــة القيمـ ــة املقاصدي ــة ‪:‬‬


‫م�ا س�بق يتعل�ق بالنص على القيم أثن�اء احلديث عن األح�كام‪ ،‬وقد تس�تفاد القيم‬
‫املقاصدية بطرق أخرى‪ ،‬منها القسم‪ ،‬وقد أكثر اهلل تعاىل ىف كتابه من القسم باألشياء ال‬
‫سيام ىف بدايات السور‪.‬‬
‫وال شك أن قسم اهلل تعاىل باليشء يعطيه قيمة عظيمة‪ ،‬فإذا أقسم اهلل تعاىل باملواقيت‬
‫واألزمن�ة املختلف�ة ـ كالعصر والفجر واللي�ل والنهار والضحى ـ فه�ذا يعطى للوقت‬
‫قيمة ومكانة عند اهلل تعاىل‪ ،‬وعىل املسلمني أن يعطوه نفس القيمة وأن يستثمروا أوقاهتم‬
‫ىف اخلري‪.‬‬
‫‪118‬‬
‫وقد تس�تفاد القيمة من تكرار اليشء ىف الق�رآن‪ ،‬فالقضايا املكررة ىف كتاب اهلل تعاىل‬
‫هلا من القيم املقاصدية ما يستدعى املسلم للتأمل والتدبر‪.‬‬
‫فال ينبغى أن نحرص أنفس�نا عىل املقاصد التى نص عليها القرآن‪ ،‬بل نطلق ألنفس�نا‬
‫العنان ىف استخراج املقاصد بكل السبل‪ ،‬وسوف نجد العلم الكثري ىف هذا الباب‪.‬‬

‫املقاص ــد اجلزئيـ ــة والكلي ــة ‪:‬‬


‫املقصود باملقاصد اجلزئية تلك التى تتعلق بحكم معني‪ ،‬أو بباب معني يمثل جمموعة‬
‫من األحكام املتشاهبة‪ ،‬كباب الوضوء أو الصالة أو الصيام أو البيوع‪ ...‬الخ‪.‬‬

‫وذل�ك كمقصـد اخلش�ـوع ىف الصلاة ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ‬


‫ﭙ﴾ (املؤمنون‪ :‬اآليتان ‪ )2 ،1‬وفيام ذكرناه من أمثلة سابقة كثرية ما يكفى‪ ،‬فكلها‬
‫مقاصد مرتبطة ببعض األحكام أو ببعض األبواب‪.‬‬
‫وال يقلل من قيمة املقصد أنه جزئى‪ ،‬فاجلزئية هنا ال تعنى أكثر من ارتباطه بباب معني‬
‫أو بحكم معني كالوضوء والصالة وغريمها‪ ،‬فال شك أناخلشوع ىف الصالة مقصد عظيم‬
‫وقيم�ة كبرية‪ ،‬واحلكم بأن�ه مقصد جزئى ذلك ألنه مرتبط بالصلاة ملا هلا من خصيصة‬
‫اإلقبال عىل اهلل تعاىل الذى يزيد إيامن العبد فينتهى هبذا اخلشوع عن الفحشاء واملنكر‪.‬‬
‫أما املقاصد الكلية فهى القيم العامة التى أرساها اإلسالم‪ ،‬وال تتعلق بحكم معني‪ ،‬بل‬
‫ترسى ىف مجيع األحكام وتصلح أن تكون جلميع البرش‪ ،‬فقيم العدل واملس�اواة وحقوق‬
‫اإلنس�ان هى مقاصد كلية‪ .‬ومعل�وم أن الفقهاء واألصوليني قد نصوا عىل مقاصد كلية‬
‫مخس�ة‪ ،‬وهى حفظ الدين والنفس والعقل والنس�ل واملال‪ ،‬والصواب الذى استقر عليه‬
‫األمر واالجتهاد أن املقاصد الكلية ال تقترص عىل هذه اخلمسة‪.‬‬
‫وقد ترد املقاصد الكلية ىف القرآن ىف سياق حكم جزئى لتعليل هذا احلكم‪ ،‬فموردها‬
‫ىف مع�رض احلديث عن حكم جزئى ال جيعلها جزئية‪ ،‬وإنام وردت فقط ىف هذا املوضع‬
‫من باب االستدالل بالقاعدة الكلية او العامة عىل احلكم اجلزئى‪.‬‬
‫‪119‬‬
‫مثال ذلك ما س�بق ىف اآلية الوضوء والتيمم ﴿ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ‬
‫ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﴾ (املائدة‪:‬‬
‫اآلي�ة ‪ )6‬فرف�ع احلرج وإزالة الضرر من املقاصد الكلية التى تسرى ىف مجيع األحكام‬
‫الرشعية‪ ،‬وال يقترص األمر عىل الطهارة‪.‬‬
‫ومثل�ه م�ا ورد ىف آي�ات الصي�ام ﴿ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﴾‬
‫(البقرة‪ :‬اآلية ‪.)185‬‬
‫فالتيسـري وإن ورد ىف الصيـام إال أنه مقصد عام كىل من مقاصد الرشيعة اإلسالمية الغراء‪.‬‬
‫ودورن�ا ىف التدب�ر واس�تعامل نم�وذج التحليل املنظوم�ى أن نتأمل أح�كام اهلل تعاىل‬
‫ىف اآلي�ة الكريم�ة التى نتدبرها بقيمه�ا املقاصدية‪ ،‬وأن نفهم م�راد اهلل من أحكامه‪ ،‬وما‬
‫الغايات واألهداف التى حتققها األحكام اخلربية واإلنشائية‪.‬‬
‫وإذا اختلط علينا نوع القيمة املقاصدية (جزئية أم كلية) فال يهَ ُ ّم‪ ،‬فليس هذا النموذج‬
‫للتصنيف األصوىل والفقهى‪ ،‬وإنام هو لفهم مراد اهلل تعاىل والتعايش مع القرآن الكريم‪،‬‬
‫والوص�ول إىل أعلى مس�توى م�ن التفاعل مع اآلي�ة الكريمة م�ن الفهم واالستش�عار‬
‫واإليامن‪.‬‬
‫وق�د أكثرن�ا م�ن النامذجواألمثلة هنا لالس�تدالل على أن كل القرآن قي�م ومقاصد‬
‫وأهداف وغايات‪ ،‬وربط األحكام بالنتائج والثمرات والعلل والغايات‪.‬حتى األحكام‬
‫التى ال نعرف وجه التعليل فيها عىل وجه التحديد والتى ُ‬
‫اصطلح عىل تسميتها بالتعبدية‬
‫ـ فإن اهلل تعاىل يربطها أيضا ببعض املقاصد والغايات لتكون أقرب إىل القبول وأدعى إىل‬
‫العم�ل وااللتزام هبا‪ ،‬فالصالة وهى حكم تعب�دى ىف هيئتها وأركاهنا ورشوطها يربطها‬
‫اهلل ببيان الفائدة منها والغاية ﴿ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ﴾‪.‬‬
‫وعىل هذا فقس‪ ،‬وقد مر من األمثلة ما فيه الكفاية‪.‬‬
‫املهم اآلن هو أن تبدأ قراءة القرآن هبذه النظرة القيمية املقاصدية‪.‬‬
‫***‬

‫‪120‬‬
‫الوحدة السابعة من النموذج‬ ‫الفصـ ـ ــل الساب ــع‬
‫( اإلجراءات والمهارات )‬
‫الحافظة ‪ -‬الدافعة‬

‫تأت�ى هذه الوحدة لتمثل اإلجراءات العملية التى ينبغى أو جيب أن يتخذها املس�لم‬
‫نحو اآلية الكريمة‪.‬‬
‫فبعد كل ما سبق خيرج املتدبر بفهم عميق لآلية الكريمة‪ ،‬يفهم من خالهلا اإلحياءات‬
‫والعالقات والسنن واألحكام بقيمها املقاصدية‪ ،‬ثم ماذا بعد هذا كله؟‬
‫عىل املسلم بعد كل مراحل الفهم السابقة أن حيول القرآن إىل واقع عمىل بام يتفق مع‬
‫الفهم التدبرى لآلية الكريمة‪ ،‬وبحسب طاقات املتدبر وإمكاناته‪ ،‬فيبدأ بوضع جمموعة‬
‫من اإلجراءات املحددة ليقوم يتنفيذها‪.‬‬
‫نحوله إىل واقع عمىل‬
‫إن الغاية من القرآن الكريم بعد فهمه عىل الوجه األمثل هو أن ّ‬
‫نسري به ىف حياتنا‪ ،‬ونؤسس به ملجتمع مسلم يقود هذه الدنيا باخلري وإىل اخلري‪.‬‬
‫مـ�ا أعظـم ما قالتـه أم املـؤمنني عائش�ـة رىض اهلل عنه�ا عن النبـى ﷺ‪« :‬كان خلقه‬
‫القر�آن»(‪.((2‬‬
‫إن الق�رآن الكريـ�م ما نزل إال لكى ُيعمـل ب�ه‪ ،‬وما جعلت تالوته إال لفهم ما ينبغى‬
‫أن نقوم به‪ ،‬فالعلم هيتف بالعمل‪ ،‬فأجابه وإال ارحتل‪.‬‬
‫ق��ال القرطب��ى ‪« :‬ذك�ر أبو عمر والدان�ى ىف كتاب البيان له بإس�ناده ع�ن عثامن وابن‬
‫وأبى ‪ :‬أن رسول اهلل ﷺ كان يقرئهم العرش فال جياوزوهنا إىل عرش أخرى حتى‬ ‫مسعود ّ‬
‫يتعلم�وا ما فيها م�ن العمل‪ ،‬فيعلمنا الق�رآن والعمل مجيعا(‪ .((2‬وذك�ر عبد الرزاق عن‬

‫‪ -20‬سبق خترجيه (ص‪.)8/‬‬


‫فلرياجع تفصيل‬
‫َ‬ ‫‪ -21‬انظر مس�ندأمحد (‪ 466/38‬ـق ‪ )23482‬وحس�ن حمقق واملسند أحد أس�انيده‪،‬‬
‫خترجيه‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫معمر عن عطاء بن السائب عن أبى عبد الرمحن السلمى قال ‪ :‬كنا إذا تعلمنا عرش آيات‬
‫م�ن القرآن مل نتعلم العرش التى بعده�ا حتى نعرف حالهلا وحرامها وأمرها وهنيها‪ .‬وىف‬
‫موطأ مالك أنه بلغه أن عبد اهلل ابن عمرمكث عىل س�ورة البقرة ثامنى س�نني يتعلمها‪.‬‬
‫وذكر أبو بكر أمحد بن عىل بن ثابت احلافظ ىف كتابه املس�مى (أسماء من رويعن مالك)‬
‫ع�ن م�رداس بن حممد أبى بالل األش�عرى قال حدثنا مالك عن ناف�ع عن ابن عمر قال‬
‫‪ :‬تعلم عمر البقرة ىف اثنتى عرشة س�نة فلام ختمها نحر جزورا‪ .‬وذكر أبو بكر األنبارى‬
‫حدثنى حممد بن شهريار حدثنا حسني بن األسود حدثنا عبيد اهلل بن موسى عن زياد بن‬
‫أبى مس�لم أبى عمرو عن زياد ابن خمراق قال قال عبد اهلل بن مس�عود ‪ :‬إن اصعب علينا‬
‫بعدنا يس�هل عليهم حفظ القرآن‬ ‫حف�ظ ألفاظ القرآن وس�هل علينا العم�ل به‪ ،‬وإن من َ‬
‫ويصعب عليهم العملبه»(‪.((2‬‬
‫وال شك أن حظ كل إنسان من العمل خيتلف عن غريه‪ ،‬فكل بحسبه ىف طاقته ووقته‬
‫وإقباله عىل نوع منالعمل الصالح أكثر من غريه‪.‬‬
‫ولذا عىل املتدبرين للقرآن حني يتدبرون وفق هذا النموذج أن يضعوا من اإلجراءات‬
‫العملي�ة ما جيعلهم ممن يعملون بالق�رآن الكريم‪ ،‬مراعني معيار القليل الدائم‪ ،‬فهو خري‬
‫من الكثري املنقطع‪.‬‬
‫فحني نتدبر اآليات التى حتث عىل قيام الليل واالس�تغفار باألس�حار كقولــه تعاىل‬
‫َ‬
‫ﮕ﴾ (الذاري�ات‪ :‬اآليتان ‪)18 ،17‬‬ ‫﴿ﮌﮍﮎﮏ ﮐﮑﮒﮓﮔ‬
‫ـ فعلينا أن نضع جمموعة من اإلجراءات التى نتخذها بشكل فعىل وجاد لكى نكون من‬
‫هؤالء‪ ،‬مثال نضع إجراء كالتاىل ‪:‬‬
‫ثلث س�اعة يوميا‪ ،‬نصىل فيهام ركعتني نقوم ىف كل ركعة بعرش آيات‪ ،‬ونس�تغفر اهلل‬
‫تعاىل ىف سجودنا ونتوب إليه عرش مرات‪ ،‬ثم نوتر بركعة‪.‬‬
‫فهذا اإلجراء هوتطبيق عمىل لآلية الكريمة‪ ،‬وقد خيتلف ىف مدته وكمه حسب طاقة‬
‫كل إنسان كام قلنا‪ ،‬املهم أال يكلف املرء نفسه أكثر مما يطيق‪ ،‬وأن تكون املداومة قصده‪،‬‬
‫وأن يكون الكيف مقدما عىل الكم‪.‬‬
‫‪ -22‬مقدمة تفسري القرطبى (‪.)57-56/1‬‬

‫‪122‬‬
‫بمث�ل ه�ذه اإلجراءات يصبح القرآن الكريم واقعا عملي�ا ىف حياتنا‪ ،‬فلو تدبرنا كل‬
‫ي�وم أو ثالث�ة أيام اآلية واحدة هب�ذه الطريقة وعملنا هبا صار الق�رآن حقا منهجا حلياتنا‬
‫كمــا أراد اهلل تعاىل لنا‪.‬‬
‫وهذا عىل س�بيل املثال‪ ،‬ويمكن قياس�ا عليه وضع إجراءات أخرى خاصة بالنوم ىف‬
‫موعد معني وضبط ( املنبه ) أو التنس�يق مع أخ لك يوقظك باهلاتف‪ ،‬أو ما ش�ابه ذلك‬
‫من إجراءات تعني عىل قيام الليل‪.‬‬

‫التحدي ــد الدقيـ ــق لإلج ـ ــراء ‪:‬‬


‫ىف العلوم اإلدارية يتحدثون عن معايري وضع اهلدف‪ ،‬وهى مخسة‪:‬‬
‫‪ -1‬أن تكون حمددة ومضبوطة بكم معني أو رقم أو نسبة‪.‬‬
‫‪ -2‬أن تك�ون قابل�ة للقي�اس‪ ،‬يمك�ن تقييمه�ا ومعرف�ة نس�بة املحق�ق منه�ا باملقارن�ة‬
‫باملخطط‪.‬‬
‫‪ -3‬أن تكون حمددة بربنامج زمنى معني‪ ،‬يعنى هلا وقت بداية وهناية‪.‬‬
‫‪ -4‬أن يكون اهلدف واقعيا قابال للقيام به‪ ،‬فال يكون مستحيال‪.‬‬
‫‪ -5‬أن يصب ىف رؤية اإلنسان‪ ،‬وخيدم رسالته الكربى‪.‬‬
‫أحس�نا‬
‫ّ‬ ‫نحول القـــرآن إىل إجراءات وفق هذه املعايري نكون قد‬
‫إذا اس�تطعنـــا أن ّ‬
‫إىل أنفسنا وأمتنا‪.‬‬
‫لقد كثـرت اخلطـب واملواعـظ‪ ،‬والكالم املطـاط البعيـد كل البعد عن اإلجـراءات‪،‬‬
‫فتجـ�د األم�ر بالتقوى واحلث على اخلري واحلض على طاعة اهلل تعاىل كثيرا‪ ،‬كل هذا‬
‫يل فعله حتى أكون مطيعا‬ ‫ِ‬
‫نحسن أن نقوله‪ ،‬ولكن يبقى السؤال ‪ :‬ماذا أعمل؟ ما الذى ع ّ‬
‫ومتقيا؟‬
‫فإذا ما حتول هذا الكالم إىل إجراءات حمددة كان أقرب إىل العمل‪.‬‬
‫‪123‬‬
‫فيمكن وضع إجراء يتعلق بقيام الليل كام سبق‪ ،‬ويمكن وضع إجراء يتعلق بالصدقة‬
‫كالتاىل ‪ :‬أقوم بالتصدق يوميا بثالثة جنيهات حني أخرج من بيتى وأنا ىف طريقى للعمل‬
‫عىل أى عامل نظافة ىف الشارع أو أى إنسان أراه مستحقا للصدقة‪.‬‬
‫وىف جمال الصوم يمكن أن يكون اهلدف كالتاىل ‪ :‬أصوم كل ش�هر ثالثة أيام (ولتكن‬
‫األيام القمرية)‪.‬‬
‫وىف جم�ال الق�راءة والتعلم تطبيق�ا لقوله تعاىل ﴿ ﭻ ﴾ أقوم بق�راءة ثالث صفحات‬
‫يوميا بعد صالة الفجر وقبل بداية العمل‪.‬‬
‫وهك�ذا يمكن وض�ع األهداف املحددة بك�م وبرنامج زمنى‪ ،‬ويك�ون تقييمها دائام‬
‫وفق نموذج تقييم وحماسبة‪.‬‬
‫لقد كان النبـى ﷺ يضع لنفسه وألمته األعامل هبذه الطريقة الكمية املحددة‪.‬‬
‫(‪((2‬‬
‫وب ِف��ى ا ْل َي ْو ِم ِ�إ َل ْي ِه ِما َئ َة َم َّرةٍ»‬
‫اهلل‪َ ،‬ف ِ�إ ِّنى �أَ ُت ُ‬
‫ِ‬ ‫ف�كان يقول مثال « َيا �أَ ُّي َها ال َّن ُ‬
‫ا�س ُتوبُوا ِ�إلىَ‬

‫وال ش�ك أن هذا منه امتثال لقوله تعاىل ﴿ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ‬


‫ﰂ﴾ (الن�ور ‪ :‬اآلي�ة ‪ )31‬وغريه�ا م�ن اآليات الت�ى تأمر بالتوبة واالس�تغفار‪،‬‬
‫حيول هذه األوامر‬
‫فالق�رآن يع�ظ ويأمر بالتقوى والتوبة واالس�تغفار‪ ،‬والنب�ى ﷺ كان ّ‬
‫والتعاليم القرآنية إىل واقع عمىل حمدد يقوم به الصحابة رىض اهلل عنهم‪.‬وقال ﷺ‪َ « :‬م ْن‬
‫��د‪َ ،‬وهُ َو َع َلى ُك ِّل َ�ش ْى ٍء َق ِد ٌ‬
‫ير) ِفى‬ ‫يك َل ُه‪َ ،‬ل ُه املُ ْل ُ‬
‫ك َو َل ُه َ‬
‫احل ْم ُ‬ ‫��ه ِ�إ اَّل اللهَّ ُ َو ْحـدَ ُه َ‬
‫ال َ�ش ِر َ‬ ‫َق َ‬
‫��ال‪َ ( :‬‬
‫ال ِ�إ َل َ‬
‫��ه ِما َئ ُة َ�س ِّي َئ ٍة‪،‬‬
‫��ه ِما َئ ُة َح َ�س َن ٍة‪َ ،‬ومحُ ِ َي ْت َع ْن ُ‬ ‫اب‪َ ،‬و ُك ِت َب َل ُ‬‫��ه َعدْ َل َع ْ�شر ِ ِر َق ٍ‬ ‫��و ٍم ِما َئ َة َم َّرة ٍ َكا َن ْت َل ُ‬
‫َي ْ‬
‫اء ِ�إ اَّل َر ُج ٌل‬‫ما َج َ‬ ‫ك َح َّتى يمُ ْ ِ�س َي‪َ ،‬ولمَ ْ َي�أْ ِت �أَ َحدٌ ِب َ�أ ْف َ‬
‫�ض َل مِ َّ‬ ‫��ت َل ُه ِح ْر ًزا ِم َن َّ‬
‫ال�ش ْي َط ِ‬
‫ان َي ْو َم ُه َذ ِل َ‬ ‫َو َكا َن ْ‬
‫َ ِم ْن ُه»(‪.((2‬‬ ‫َع ِم َل �أَ ْكثرَ‬

‫(�س ْب َحانَ اللهَّ ِ َو ِب َح ْم ِد ِه) ِفى َي ْو ٍم ِما َئ َة َم َّر ٍة‪ُ ،‬ح َّط ْت َخ َطا َيا ُه َو�إِنْ َكا َن ْت ِم ْث َل‬ ‫وقال ‪َ « :‬م ْن َق َ‬
‫ال‪ُ :‬‬
‫َز َب ِد ال َب ْح ِر»(‪.((2‬‬
‫‪ -23‬رواه مسلم ‪ :‬الذكر والدعاء ـ باب استحباب االستغفار واالستكثار منه (‪ - 29/9‬ق‪.)2702‬‬
‫‪ -24‬رواه البخارى‪ :‬الدعوات ـ باب فضل التهليل(‪ - 204/11‬ق‪ )6403‬ومس�لم‪ :‬الذكر والدعاء ـ‬
‫باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء(‪- 21/9‬ق‪.)2691‬‬
‫‪ -25‬رواه البخارى‪ :‬الدعوات ـ باب فضل التسبيح (‪ - 210/11‬ق‪ )6405‬ومسلم ‪ :‬الباب السابق‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫ني‪،‬‬ ‫َ‬
‫اهلل َثلاَ ًثا َو َثلاَ ِث َ‬ ‫ني‪َ ،‬و َح ِم��دَ‬‫�صلاَ ٍة َثلاَ ًثا َو َثلاَ ِث َ‬ ‫وق�ال ﷺ « َم ْن َ�س َّب َح َ‬
‫اهلل ِفى دُ بُ��ر ِ ُك ِّل َ‬
‫(ل �إ َل َه �إ اَّل ُ‬
‫اهلل َو ْحدَ ُه اَل‬ ‫ام المْ ِا َئ ِ‬ ‫��ك ِت ْ�س َع ٌة َو ِت ْ�س ُعونَ ‪َ ،‬و َق َ‬ ‫اهلل َثلاَ ًثا َو َثلاَ ِث َ‬
‫ني‪َ ،‬ف ْت ِل َ‬ ‫َ‬ ‫َو َك�َّب�رَّ َ‬
‫��ة‪ :‬اَ ِ ِ‬ ‫ت َ‬‫ال مَ َ‬
‫ير) ُغ ِف َر ْت َخ َطا َيا ُه َو ِ�إنْ َكا َن ْت ِم ْث َل َز َب ِد‬ ‫ك َو َل ُه الحْ َ ْم ُد َوهُ َو َع َلى ُك ِّل َ�ش ْ‬
‫��ي ٍء َق ِد ٌ‬ ‫ي��ك َل ُه‪َ ،‬ل ُه المْ ُ ْل ُ‬
‫َ�ش ِر َ‬
‫ا ْل َب ْح ِر»(‪.((2‬‬
‫اك ِر َ‬
‫ين‬ ‫الذ ِ‬ ‫يع ُ‬
‫ا‪،‬ك ِت َبا ِم َن َّ‬ ‫ام َر�أَ َت ُه‪َ ،‬ف َ‬
‫�ص َّل َيا َر ْك َع َت�ْي نْ ِ َج ِم ً‬ ‫ظ ْ‬‫��ن ال َّل ْي ِل َو�أَ ْي َق َ‬ ‫وق�ال ‪َ « :‬م ِن ْ‬
‫ا�س َت ْي َق َ‬
‫ظ ِم َ‬
‫الذ ِاك َر ِات»(‪.((2‬‬ ‫اللهَّ َ َك ِث ً‬
‫ريا َو َّ‬

‫وبعض الناس حيرص نفس�ه عىل هذه اإلجراءات املنص�وص عليها‪ ،‬وال يعترب إال بام‬
‫ورد نص�ا‪ ،‬والصحي�ح أن�ه يقاس عىل ذلك إج�راءات كثرية إذا كان اإلج�راء الوارد ال‬
‫يتفق مع ظروف اإلنس�ان‪ ،‬فام املانع أن حيدد املرء الذى ال يس�تيقظ من آخر الليل لنفسه‬
‫إجراء آخر؟ وهو أنه بمجرد رجوعـه من صالة العش�اء يدخل عىل أهله وجيمع أوالده‬
‫ويصلى هبم ركعتني‪ ،‬وهذا من قبيل الس�نة احلس�نة ما دامت أهن�ا ال ختالف نصا رشعيا‬
‫وال تأتى بام تأباه النصوص والقواعد الرشعية املقررة‪ ،‬فهذا الصنيع يؤيده عموم الرشع‬
‫ومقرراته‪.‬‬
‫نعم جيوز هذا ما دام أن املس�لم ال يدّ عى أن حتديده هذا هو الس�نة‪ ،‬فهو حتديد مبنى‬
‫عىل مراعاة ظروفه وأوقاته وطاقته عىل العمل‪ ،‬وليس مل ِزما لغريه ىف هذا‪ ،‬كام حيدد كل‬
‫واح�د من النفس ه� ِو ردا معينا من القرآن‪ ،‬فيحدد الكم والوق�ت الذى يقرؤه فيه طبقا‬
‫لظروف�ه‪ ،‬وكلن�ا يفع�ل ه�ذا دون أن يدّ عى أن ه�ذا التحديد هبذا اخلصوص س�نة‪ ،‬نعم‬
‫الفعل ىف جممله سنة أما التحديد فهو خاص بالشخص‪ ،‬فقراءة القرآن سنة ومن أفضل‬
‫القرب�ات إىل اهلل تع�اىل‪ ،‬ولك�ن قراءة جزء ( ثامني�ة أرباع ) كل يوم وبع�د صالة العرص‬
‫حتديدا بعد العودة من العمل ـ هذا التحديد خاص بالشخص وال ُيدّ َعى أنه سنة‪.‬‬
‫ولك�ن اعت�اد بعض إخواننا أن يدّ ع�ى بِدعية كثري من األمور بدع�وى أنه مل يرد عن‬
‫النبى ﷺ هذا التخصيص هبذه الكيفية‪ ،‬وهو اجتاه منتقد ومغلوط وال تسعفه النصوص‬
‫الرشعية‪.‬‬

‫‪ -26‬رواه مسلم‪ :‬املساجد ـ باب استحباب الذكر بعد الصالة وبيان صفته (‪ - 102/3‬ق‪.)597‬‬
‫‪ -27‬رواه أب�و داود ‪ :‬الصلاة ـ ب�اب احل�ث على قي�ام اللي�ل (‪ - 71/2‬ق‪ )1451‬طبع�ة دار احلديث‪.‬‬
‫وصحح�ه الذهبى والنووى والعراقى‪ ،‬انظر «صحيح س�نن أبى داود» لأللبانى (‪ )1182 - 52/5‬مؤسس�ة‬
‫غراس للنرش والتوزيع ـ الكويت ـ الطبعة األوىل ‪2002‬م‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫وال أريد أن أطيل ىف هذه القضية أكثر من هذا‪ ،‬فقد بحثناها ىف كتاب آخر(‪.((2‬‬
‫وخالص�ة األم�ر أننا نري�د وفق هذا النم�وذج أن نحول القرآن إىل إج�راءات حمددة‬
‫يمكن تقييمها وقياسها‪ ،‬وال مانع من ذكر اإلجراء عىل عمومه مثل (قيام الليل)‪ ،‬هكذا‬
‫مطلق�ا م�ن حتديد وقت أو ع�دد ركعات‪ ،‬ولكن كلما كان حم�ددا كان أوقع وأقرب ىف‬
‫التنفيذ وأكثر فاعلية ىف برجمة العقل عىل عمل معني‪.‬‬

‫كي ــف نضـ ــع إج ـ ــراءات ملـ ــا نه ــى الل ــه عن ــه ؟‪:‬‬
‫ربما يكون األمر أصعب ىف وضع إجراءات ملا هنى اهلل عنه‪ ،‬وتكون إجراءات حمددة‬
‫أيضا‪.‬‬
‫فاالمتث�ال للنهى هو االنتهاء عام هنى اهلل عنه‪ ،‬وهذا يكون بالرتك‪ ،‬ولقائل أن يقول ‪:‬‬
‫لي�س هناك إجراء فعىل‪ ،‬ألن الرتك ليس إجراء‪ ،‬فإذا قال اهلل تعاىل ‪﴿ :‬ﭝ ﭞ﴾ فإن‬
‫املطلوب منا أن نرتك التجسس‪ ،‬فام اإلجراء ىف هذا؟‬
‫والص�واب أن هناك إج�راءات ىف هذا أيضا‪ ،‬حافظة ودافعة‪ ،‬أى حتفظ اإلنس�ان من‬
‫الوق�وع ىف التجس�س‪ ،‬أو تعالج التجس�س وتدفعه عن اإلنس�ان إن كان م�ن الواقعني‬
‫ىف ه�ذا الذن�ب‪.‬ال ب�د أن نجتهد لكى نحول الق�رآن إىل واقع عمىل مع أنفس�نا ومع من‬
‫نع�ول من أهلنا وأوالدن�ا‪ ،‬ونضع لكل أمر وهنى قرآنى جمموعة من اإلجراءات العملية‬
‫الت�ى تربى النفوس‪ ،‬وهتذب األوالد وتغرس فيهم قيم ه�ذا الدين احلنيف‪ ،‬فأوالدنا ال‬
‫يتعلمون باخلطب واملواعظ والتوجيه املبارش بقدر ما يتعلمون بواقع عمىل وإجراء فعىل‬
‫يغرس فيهم القيم‪.‬‬
‫خذ هذا اإلجراء املحدد مثاال عىل ذلك ‪ :‬حني أس�مع صوتا عاليا يصدر من اجلريان‬
‫أقول لولدى قم وأغلق النافذة‪ ،‬وننتقل إىل الغرفة البعيدة عن مصدر الصوت‪.‬‬
‫هذا اإلجراء عمىل وحمدد وحيفظ اإلنس�ان من التجس�س‪ ،‬وف�وق كل هذا هو عمل‬
‫ترب�وى يغ�رس قيمة البعد عن التجس�س والفض�ول ىف نفوس األطفال‪ ،‬وربام تس�اءل‬

‫‪ -28‬بحثنا بش�كل تفصيىل ما يمكن أن يكون س�نة حسنة أو سيئة ىف دراستنا للامجستري (البدعة ىف الفقه‬
‫اإلسالمى) يرس اهلل لنا طبعها‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫الولد ‪ :‬ملاذا نفعل ذلك يا أمى أو يا أبى؟ وستكون اإلجابة سهلة عىل الوالدين وخمترصة‬
‫ومؤثرة ىف قيم الولد وسلوكه بسبب ما سبقه من إجراء‪.‬‬
‫فحني نضع إجراءات نعالج هبا مظاهر التجس�س ومواقف احلياة التى قد تدعو إىل‬
‫التسمع ملا يقوله اآلخرون ـ فإننا بذلك نقوم بواجبات هذا الدين عىل الوجه األمثل‪.‬‬
‫ُّ‬
‫من هذه الإجراءات �أي�ضا التى نغر�سها امتثاال للنهى عن التج�س�س ‪:‬‬
‫رأيت اثنني يتهامسان أقوم باالبتعاد عنهام ألترك هلام حرية احلديث‪.‬‬
‫إذا ُ‬
‫إذا مررت ببيت وسمعت صوتا عاليا أرسع ىف املشى حتى ال أسمع ما يقال‪.‬‬

‫وم�ن اإلج�راءات الت�ى يمك�ن وضعه�ا ىف النه�ى ع�ن الغيب�ة ﴿ﭟ ﭠ ﭡ‬


‫ﭢﭣ﴾‪:‬‬
‫ال أجلس ىف جملس فيه غيبة‪.‬‬
‫إذا سمعت غيبة ىف جملس أهنى عنها أو أقوم‪.‬‬
‫أقـ�وم بالتعـاهد مع املجموعة التى أصاحبها وأجل�س معها دائام أال نغتـاب أحـدا‬
‫ىف جملس�ـنا‪ ،‬وإذا ح�دث خط�أ م�ن بعضنا أوقف ْت�ه بقي� ُة املجموعة عن الغيب�ة تذكريا له‬
‫بالعهد‪.‬‬
‫أظن أن جمالس األصدقاء إذا قامت عىل هذه اإلجراءات كان هلا شأن آخر‪.‬‬
‫وهك�ذا نحاول أن نجتهد ىف رصد عي�وب املجتمع وما يقع فيه الناس من حمرمات‪،‬‬
‫ثم نضع إجراءات حمددة لعالج هذه العيوب وتالشيها ممتثلني أوامر القرآن ونواهيه‪.‬‬
‫ل�ن يك�ون ألمتنا ش�أن‪ ،‬ولن تؤدى الرس�الة الرباني�ة املنوطة هبا حتى يك�ون خلقها‬
‫القرآن كام كان نبيها ﷺ كذلك‪.‬‬
‫فليس اإلسلام مواعظ وحم�ارضات بقدر ما هو عمل وإج�راءات‪ ،‬يصنع من أفراد‬
‫هذه األمة رجاال صادقني‪.‬‬
‫‪127‬‬
‫املهـ ـ ـ ـ ـ ــارات ‪:‬‬
‫ه�ذا عن اإلج�راءات‪ ،‬واإلجراء إذا تكرر ص�ار مهارة للعبد‪ ،‬ول�ذا فإننا نحتاج إىل‬
‫الت�درب عىل اإلج�راء حتى يصبح مهارة ويس�تطيع املس�لم أن ينفذه بع�د ذلك بإتقان‬‫ّ‬
‫وحرفية‪ ،‬دونام الشعور بأى ملل أو مشقة ألنه قد صار مهارة‪ ،‬هذا مما نعنيه باملهارات‪.‬‬
‫كما نعنى باملهارة ش�يئا آخ�ر ىف هذا النموذج‪ ،‬وه�و أننا ونحن نتدبر القرآن س�نجد‬
‫وجعل القرآن واقعا عمليا فيها إال باكتساب بعض املهارات‪.‬‬
‫أمورا ال يمكن تطبيقها ْ‬
‫تدبرنا ىف بعض الورش�ات قول�ه تعاىل ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ‬
‫فحني ْ‬
‫ﭖ ﭗ﴾ (قريش‪ :‬اآليتان ‪ )2 ،1‬ـ وجدنا أن ىف هذه السورة إشارة إىل أن هنتم‬
‫بمه�ارة القي�ام بالرحالت التجـاريـة مل�ا فيهـا من انتعاش اقتص�ادى وأمنى ﴿ﭞ‬
‫ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﴾ (قري�ش‪ :‬اآلية ‪ .)4‬وإتقان هذه املهارة حيتاج إىل‬
‫جمموعة من اإلجراءات الكثرية واملنظمة لكى يصبح املرء هبا ِ‬
‫متقنا هلا‪ ،‬وليس من شأننا‬
‫أن نضع تفاصيل إتقان املهارة‪ ،‬بل يكفينا ونحن نتدبر أن نشري إليها وإىل أمهيتها انطالقا‬
‫من إش�ارات القرآن ورس�ائله‪ ،‬فه�ذا ىف حد ذات�ه ىف غاية األمهية حيث يش�كل العقلية‬
‫عرف املسلمني بام ينبغى تع ُّلمه واالهتامم به‪ ،‬ويضع أفراد املجتمع عىل أولويات القرآن‬
‫و ُي ّ‬
‫ىف إكس�اب املهارات ليش�جعوا الناس عليها ويوجهوا أوالدهم هلا‪ ،‬وربام يس�امهون ىف‬
‫التش�جيع أو املش�اركة ىف مراكز التدري�ب املهنية والتنموية اخلاصة بإكس�اب املهارات‬
‫املختلفة‪.‬‬
‫ل�ن نك�ون أمة راقي�ة إال باكتس�اب املهارات الت�ى تضعنا ىف صف األم�م املتحرضة‬
‫الواعية بقيمة اإلنس�ان وإمكانياته اهلائلة لو اس�تغلت أحس�ن استغالل‪ ،‬فلإلنسان عقل‬
‫وقل�ب ويد‪ ،‬فل�و ُن ّمى العقل و َتدرب على التفكري واالبتكار‪ ،‬ولو ُغ�ذى القلبوالنفس‬
‫ب�روح اإليامن ووقود األخالق‪ ،‬ولو َعملت اليد واكتس�بت امله�ارات ـ ُلقدْ نا العامل كله‬
‫باإلسالم‪.‬‬
‫القرآن يقول بشأن تنمية مهارات العقل بالتفكري والتأمل ﴿ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ‬
‫ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﴾ (سبأ ‪ :‬اآلية ‪.)46‬‬
‫‪128‬‬
‫ويقول بشأن مهارات القلب والنفس ﴿ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾‬
‫(الشمس ‪ :‬اآليتان ‪ )10 ،9‬ـ والتزكية حتتاج إلجراءات ومهارات وبرامج هتذيب مرتبة‬
‫وخمططة ومستهدفات عمل دءوب‪.‬‬
‫وفى احلث على اكت�ساب مهارات اليد يقول تعاىل ‪:‬‬
‫﴿ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ‬
‫ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ‬
‫ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ‬
‫ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ‬
‫ﯵ ﯶ﴾ (س�بأ ‪ :‬اآلي�ات ‪ .)13-11‬وكل هذه األعمال والصناعات والفنون‬
‫حتتاج إىل اكتس�اب مهارات كثرية وعظيمة‪.‬إن أم ًة تتخلف وهذا شأن كتاهبا ىف احلديث‬
‫ع�ن العم�ل واإلتق�ان ـ جلديرة بأن تس�قط من حس�ابات الزمن وال يكون هل�ا قيمة بني‬
‫األمم‪ ،‬هذا إن مل تسقط من عني اهلل تعاىل‪.‬‬
‫وم�ن ظ�ن بعد هذا أن الق�رآن كتاب صالة وزكاة وصوم وحج فحس�ب فقد كذب‬
‫عىل اهلل تعاىل وأعظم عليه ِ‬
‫الفرية‪ ،‬وكانت جنايته عىل اإلسالم ال حد ملفاسدها‪.‬‬
‫�راءه وأتباع�ه إىل تدريب‬ ‫نع�م الق�رآن حي�ث على امله�ارات واكتس�اهبا‪ ،‬ويدع�و ُق ّ‬
‫العق�ل والقلب واليد عليها‪ ،‬وكلام أتقن املس�لم املهارة كان أكث�ر امتثاال لتعاليم القرآن‬
‫وتوجيهات�ه‪ ،‬فال ش�ك أن اإلج�راء إذا حتول إىل مهارة كان أوق�ع ىف إتقان العمل وأوفر‬
‫للوقت واملال‪.‬‬
‫والقرآن يؤصل هلذه املنهجية حني ذكر اهلل تعاىل تدريبه لرس�وله موسى عليه السالم‬
‫عىل اس�تعامل العصا قبل أن يذهب إىل فرع�ون ﴿ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ‬
‫ﭿﮀﮁﮂ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ‬
‫ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙﮚ ﮛ ﮜ‬
‫ﮝ﴾ (طـــه ‪ :‬اآليات ‪.)21-17‬‬
‫‪129‬‬
‫وىف موض�ع آخ�ر ﴿ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ‬
‫ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ﴾ (القصص ‪ :‬اآلية ‪.)31‬‬
‫لقد علمه اهلل تعاىل اس�تعامهلا قبل املواجهة مع فرعون وس�حرته‪ ،‬فهب أنه مل يتدرب‬
‫عليها قبل هذا اللقاء‪ ،‬وكان أول اس�تعامله هلا ىف يوم الزينة الذى مجع فرعون فيه جنوده‬
‫من السحرة لكى هيزم موسى (!) وهب أن موسى عليه السالم فر أمام فرعون والسحرة‬
‫والناس الذين ُحش�دوا من كل مكان ليش�اهدوا هذا اللقاء ـ فهل س�تكون النتيجة كام‬
‫وقعت؟!‬
‫درب�ه اهلل تع�اىل عىل اس�تعامهلا لكى يف�ر أول م�رة ـ بطبيعة حال البشر ـ ولكى‬
‫لق�د ّ‬
‫يتعرف عليها بشكل عمىل‪ ،‬ويعرف أهنا تتحول إىل ثعبان صديق‪ ،‬ثعبان سخره اهلل تعاىل‬
‫لنرصته ال لعداوته‪ ،‬فلام فر قيل له ﴿ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ﴾ فلام جاء اليوم‬
‫املوعود الذى يدخل فيه أهل احلق مع أهل الباطل ميدان املباراة والتحدى ألقى موس�ى‬
‫عصاه بكل قوة‪ ،‬وحتولت إىل نفس الثعبان‪ ،‬ولكن مل يكن موقف موسى عليه السالم منه‬
‫نفس املوقف األول؛ ألنه قد تدرب من قبل‪.‬‬
‫ِ‬
‫ينقض هبذا املش�هد‪ ،‬بل يظل إىل يوم‬ ‫إن ميدان املبارزة بني أهل احلق وأهل الباطل مل‬
‫القيامة‪ ،‬وأرى ىف كثري من مشاهد احلياة اليومية ميادين وميادين تعد مبارزة حقيقية بني‬
‫احلق والباطل‪ ،‬ىف اإلعالم والسياسة والدعوة وشتى شئون احلياة‪ ،‬فهل َيعقل أهل احلق‬
‫األم�ر و ُي ْعلوا من قيمة اكتس�اب امله�ارات التى تؤهلهم هلذا امليدان ال�ذى لو تولوا عنه‬
‫وخذلوا احلق الذى معهم استبدل اهلل قوما غريهم‪ ،‬ثم مل يكونوا أمثاهلم‪.‬‬
‫إن إعالء التدريب واكتس�اب املهارات ىف ش�تى ميادين الدعوة واحلياة كلها هو من‬
‫أولويات هذه املرحلة التى حتياها األمة‪ ،‬وعلينا أن نتخذ القرآن ينبوعا ىف هذا‪ ،‬ونتعرف‬
‫على املهارات التى أش�ار إليه�ا القرآن‪ ،‬أو امله�ارات التى ال بد من اكتس�اهبا لكى نقوم‬
‫بتنفيذ واجبات القرآن‪.‬‬
‫فقوله تعاىل ﴿ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﴾ (آل عمران ‪ :‬اآلية ‪ )159‬ال يمكن تطبيقه بواقعية‬
‫ِ‬
‫وحرفية ـ وخاصة عىل املس�توى الرس�مى إال باكتساب مهارات جتهيز األجندة وطرح‬
‫‪130‬‬
‫جدى حوهلا‪ ،‬واإلنصات لكل ما يقال‪ ،‬والتصويت عىل‬‫اآلراء ومناقشتها وإجراء حوار ِّ‬
‫اآلراء بعد املناقشة‪ ،‬كل هذا حيتاجه األخذ بمبدأ الشورى‪.‬‬
‫وم�ن ذل�ك أيض�ا قول�ه تع�اىل ﴿ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ‬
‫ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ﴾‬
‫(النحــل ‪ :‬اآلية ‪.)125‬‬
‫فيـ�وم أن دع�ا إىل اهلل أن�اس مل يعرفوا احلكمـ�ة بمهاراهتا‪ ،‬ومل يتدرب�وا عىل املوعظة‬
‫احلس�نة‪ ،‬ومل يمه�روا ىف اجل�دال بالت�ى ه�ى أحس�ن ـ كان رضرهم عىل الدع�وة كبريا‪،‬‬
‫وشوهوا صورة احلق الذى ظنوا أهنم ينترصون له‪.‬‬ ‫ّ‬

‫خالص ـ ــة م ــا سب ـ ــق ‪:‬‬


‫وخال�صة ما �سبق ب�ش�أن هذه الوحدة من النموذج ثالثة �أمور ‪:‬‬
‫‪ -1‬القرآن قد أرس�ى مبدأ التدريب واكتس�اب املهارات وعلمن�ا أن هنتم هبا‪ ،‬كام مر ىف‬
‫موقف موسى عليه السالم مع العصا‪.‬‬
‫‪ -2‬األوام�ر والنواه�ى القرآنية حتتاج إىل وض�ع إجراءات حمددة أو اكتس�اب مهارات‬
‫حتى يكون ُخلقنا القرآن‪ ،‬كام مر بنا من إجراءات المتثال األمر بقيام الليل‪ ،‬وامتثال‬
‫النهى عن التجسس والغيبة‪.‬‬
‫‪-3‬كثير من املهارات قد أش�ار إليها القرآن وعلينا أن نس�جلها ونح�ن نتدبرلنهتم هبا‪،‬‬
‫ونرشد الناس إليها‪ ،‬من ذلك مهارة الرحالت التجارية كام ىف سورة قريش‪.‬‬

‫***‬

‫‪131‬‬
132
‫الوحدة الثامنة من النموذج‬ ‫الفصـ ـ ــل الثام ــن‬
‫( النموذج الحضارى وتطبيقاته )‬

‫وأخيرا وصلن�ا إىل الوحدة الثامنة واألخيرة من هذا النم�وذج‪ ،‬والتى متثل جوهرة‬
‫التاج بالنس�بة له‪ ،‬وهى الثمرة الكربى للنموذج كله‪ ،‬فكل الوحدات الس�ابقة ينبغى أن‬
‫تص�ب فيه�ا‪ ،‬وأن تك�ون هذه الوح�دة هى الغاية األخيرة لكل ما س�بقها من وحدات‬
‫تتعلق بالفهم واإلجراءات العملية‪.‬‬
‫وم�ا نقص�ده بالنموذج احلض�ارى هو أن نحول اآلي�ة أو املقطع القرآنى أو الس�ورة‬
‫القصرية إىل نموذج يصلح للتطبيق ىف جماالت أخرى‪ ،‬فنخرج باآلية عن س�ياقها الذى‬
‫وردت فيه لتكون نموذجا يحُ تذى لسياقات أخرى وجماالت متعددة ىف احلياة‪ ،‬وال شك‬
‫أننا لكى نصل إىل هذا نحتاج إىل كل معطيات الوحدات السابقة‪.‬‬
‫إذن ال نس�تنبط م�ن اآلي�ة هبذه الوح�دة أحكاما وإنام نس�تنبط منهجيات وأس�اليب‬
‫تصلح للتطبيق ىف جماالت شتى‪.‬‬
‫كنا نتدبر سـورة الكوثر ىف آياهتا الثالث‪ ،‬واستنبطت الورشة منها نموذجا حضاريا‬
‫سميناه ‪ :‬نموذج املواساة‪.‬‬
‫فه�ذه الس�ورة الكريم�ة عىل قرصها تصل�ح أن تكون منهجية لنا وأس�لوبا ملواس�اة‬
‫اآلخرين‪ ،‬فحني نواسى شخصا ىف مصاب نسلك نفس املنهجية التى سلكتها السورة مع‬
‫النبى ﷺ حني آذاه قومه وقالوا عنه ‪ :‬إنه أبرت (أى مقطوع النسب)‪ ،‬ملا توىف أوالده‪.‬‬
‫ففى اآلية األوىل ﴿ ﮆ ﮇ ﮈ﴾ حيث ذكرت العطاء الكثري الذى يمثله‬
‫ح�وض الكوثر‪ ،‬أو يكون الكوثر نفس�ه بمعنى العط�اء الكثري كام هو معروف ىف اللغة‪،‬‬
‫وقد قال هبذا بعض املفرسين‪ ،‬فاآلية األوىل متثل احللقة األوىل من نموذج املواساة‪ ،‬وهى‬
‫حلقة ذكر العطايا ملن نواسيه ىف مقابل ما أصيب به أو أخذ منه‪.‬‬
‫‪133‬‬
‫﴿ ﮊ ﮋ ﮌ ﴾ ومتثل هذه اآلية التذكري بشكر النعم وتقديم العمل الصالح‬
‫للمنع�م على م�ا وهبنا من نعم كثير‪ ،‬فوقت اإلصابة والغم قد ينس�ى امل�رء معه ما هو‬ ‫ِ‬
‫أخذ منه‪ ،‬فينس�ى فض�ل اهلل تعاىل عليه ويرتك العمل‪،‬‬ ‫في�ه من نعم كثرية وال هيتم إال بام ِ‬
‫فجاءت هذه اآلية نموذجا حيتذى به ىف املواساة‪.‬‬
‫﴿ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ﴾ يعنى أن الرشملن عادوك ونالوا منك‪ ،‬ولسوف ينقلب‬
‫الس�حر عىل الساحر‪ ،‬ولس�وف يقطع اهلل ذكرهم من اخلري‪ ،‬وال ُيذكرون إال بِ ّ‬
‫رش‪ ،‬وهذا‬
‫يمثل احللقة أو املفردة الثالثة من مفردات نموذج املواس�اة‪ ،‬حيث التذكري بأن الرش عىل‬
‫باهلم وعاداك وآذاك‪.‬‬
‫من أصابك ّ‬
‫فإذا ما عزينا أى إنس�ان ىف مصاب له يتعلق بإيذاء الناس له فعلينا أن ِّ‬
‫نذكره ـ أوال ـ‬
‫يعزيه ويشغله عام‬ ‫باخلري الكثري الذى أعطاه اهلل له‪ْ ،‬‬
‫ونذكر له من نعم اهلل عليه الكثرية ما ّ‬
‫أوذى به‪ ،‬ثم ـ ثانيا ـ ندعوه إىل أن يعمل من الصاحلات ش�كرا هلل تعاىل‪ ،‬وال ينس�ى فعل‬
‫الطيبات أثناء حزنه ومهه‪ ،‬ثم َّ‬
‫نذكره ـ أخريا ـ بأن العاقبة للمتقني‪ ،‬وأن من نالوا منه لن‬
‫يغيبوا عن قبضة اهلل تعاىل‪ ،‬ولس�وف يلقون من اهلل تعاىل جزاء ما فعلوا حتى يرتاح باله‬
‫ويعلم أن اهلل تعاىل يدبر للظاملني ويمكر هبم كام يمكرون بالصاحلني‪.‬‬
‫ه�ذه املنهجي�ة من ش�أهنا أن ختفف احلمل ع�ن كل مصاب بأذى الن�اس‪ ،‬وأن جتعل‬
‫العبد أكثر حتمال لألذى‪.‬‬
‫هذا ما نعنيه بالنموذج احلضارى‪ ،‬وقد س�ميناه باحلضارى ؛ ألنه من ش�أنه أن يصنع‬
‫حض�ارة هلذه األم�ة‪ ،‬وأن يرتقى هبا أخالقيا واجتامعيا وعلميا وعىل مس�توى املجاالت‬
‫كلها‪.‬‬
‫القرآن الكريم ميلء باملنهجيات الكثرية‪ ،‬واألساليب احلضارية ىف شتى املناحى‪ ،‬وكل‬
‫يش ّكل‬
‫مقطع قرآنى أو س�ورة ولو قصرية نس�تطيع أن نس�تنبط منها نموذجا يصلح ألن َ‬
‫الفك�ر ويبنى أس�لوبا ىف احلياة‪ ،‬علينا فقط أن نجتهد ىف التدب�ر‪ ،‬بخاصة ىف هذه الوحدة‬
‫الت�ى حتت�اج إىل تفكير وإمعان نظر أكرب‪ ،‬وما تدبرناه ىف الوحدات الس�ابقة سيس�اعدنا‬
‫كثريا ىف التعامل مع هذه الوحدة‪.‬‬
‫‪134‬‬
‫سـ ــورة العصـ ــر ومنـ ــوذج النجـ ـ ــاح ‪:‬‬
‫ملخص س�ورة العرص أن اهلل تعاىل أقس�م عىل خرسان اإلنسان باستثناء الذين آمنوا‬
‫وعملوا الصاحلات‪ ،‬وتعاونوا فيام بينهم عىل احلق والصرب‪.‬‬
‫نظرنا متدبرين ىف هذه الس�ورة ىف (دورة معايش�ة القرآن) فاس�تخرجنا منها نموذج‬
‫النجاح‪ ،‬النجاح بصفة عامة وليس النجاح املتعلق بالدين وعالقة العبد بربه‪.‬‬
‫فإذا كانت الس�ورة قد س�يقت لتبِّي�نِّ الفاحلني والناجحني والناجين من اخلرس عند‬
‫اهلل تع�اىل ي�وم القيام�ة ـ فام املانع أن تك�ون نفس املنهجي�ة لنجاح املؤمنين عند اهلل هى‬
‫نفس املنهجية للنجاح ىف كافة أعاملنا املهنية والصناعية والتجارية؟ ملاذا ال نعترب السورة‬
‫منهجية ىف وضع أسس النجاح ألى عمل‪.‬‬
‫ملاذا ال يقتدى املسلمون والشباب بسورة العرص ىف كل أعامهلم ومرشوعاهتم التجارية‬
‫لتحقي�ق النج�اح والقوة التى ال ننهض إال هبا‪ ،‬وال نس�تطيع أن نعي�ش بديننا وننرشه ىف‬
‫العامل إال إذا متسكنا بأسباب القوة التى جترب اجلميع عىل احرتامنا‪.‬‬
‫س�ورة العصر مث�ال عظيم لنم�وذج النج�اح‪ ،‬نس�تطيع أن نقيس علي�ه كل نجاح‪،‬‬
‫فرشوط النجاح ومعايريه طبقا ملنهجية سورة العرص هى ‪:‬‬
‫‪ -1‬الإمي��ان بالفك��رة ‪ :‬ف�أى نجاح بدايته فك�رة يتحمس له صاحبه�ا‪ ،‬ويؤمن هبا وجتعله‬
‫وجذهب�م إليه�ا‪ ،‬وكل أصحاب‬ ‫جياه�د م�ن أجله�ا‪ ،‬ويتفان�ى ىف إقناع اآلخري�ن هبا ْ‬
‫املرشوع�ات واملؤسس�ات الناجحة كانت بداي�ة نجاحهم أهنم تبنوا فك�رة‪ ،‬آمنوا هبا‬
‫وعاشوا جماهدين من أجلها‪ ،‬وهذا املعنى مأخوذ من سورة العرص ﴿ﭚ ﴾‪.‬‬
‫‪ -2‬العم��ل من �أجل الفكرة ‪:‬فاإليامن بالفك�رة وحده ال يكفى إلنجاحها‪ ،‬فال بد من عمل‬
‫دءوب وس�عى حثي�ث منظ�م ومس�تمر منأجل حتويل الفك�رة إىل واق�ع عمىل‪ ،‬وإال‬
‫ستظل الفكرة جمرد حديث نفس وخواطر جتول ىف عقل صاحبها‪.‬‬
‫وهذا معنى قوله تعاىل ىف سورة العرص ﴿ﭛ﴾‪.‬‬
‫‪ -3‬االلتزام مبعايري العمل والنظم املو�ضوعة لنجاح �أى عمل ‪ :‬فال يكفى لتحقيق النجاح‬
‫ىف أى مرشوع أو بناء مؤسسة أن يكون العمل ارجتاليا وعشوائيا وفق ما يمليه اهلوى‬
‫‪135‬‬
‫واملزاج‪ ،‬بل ال بد من أن يكون العمل وفق نظام متبع وطبقا ملا تقوله القواعد اإلدارية‬
‫والفني�ة‪ ،‬وأن يب�دأ من حي�ث انتهى اآلخرون وم�ا توصلوا إليه من جت�ارب ومناهج‬
‫ناجحة‪.‬‬
‫فالعمل وحده ال يكفى للنجاح‪ ،‬بل ال بد أن يكون عمال صحيحا‪.‬‬
‫وه�ذا املعنى أفادته س�ورة العرص ىف قوهل�ا ﴿ ﭜ ـ ﭞ ﴾ فاحلق والعمل‬
‫الصالح ىف الرشع يعنى ما كان موافقا ملنهج الكتاب والس�نة ألهنام مصدر الصاحلات ىف‬
‫اإلسلام‪ ،‬أما ىف شئون حياتنا فمصدر الصواب واخلطأ ىف العمل هو العلوم واألبحاث‬
‫والتجارب واخلربات‪ ،‬وال مانع عندى من تسميته بالصاحلات أيصا‪ ،‬فالصالح من العمل‬
‫هو ما يصلح أن نقوم به سواء كان مصدر صاحليته الوحى أو التجارب والعلم‪.‬‬
‫‪ -4‬التع��اون عل��ى ال�صواب والتزام فري��ق العمل كله بذلك ‪:‬كل ما س�بق ال بد أن يتعاون‬
‫في�ه اجلميع‪ ،‬فليس التزا َم فرد أو أفراد‪ ،‬بل هو التزام كل ِف َرق العمل‪ ،‬ومن حاد منهم‬
‫ي�رده باقى الفريق إىل رش�ده وصواب�ه‪ ،‬وعىل القائد أن يكون منتبه�ا هلذا‪ ،‬فال يصلح‬
‫عم�ل بدون تعاون اجلميع واتفاقهم عىل اتباع منهجية صحيحة‪ ،‬يكافأ من يلتزم هبا‪،‬‬
‫ويعاقـب من خيرج عنها‪.‬‬
‫وه�ذا املعن�ى العظي�م ىف التواىص والتع�اون بني فريق العمل ترس�يه هذه الس�ورة‬
‫العظيمة ىف قوله تعاىل ﴿ﭝ﴾ مرتني‪ ،‬مرة مع احلق ومرة مع الصرب‪.‬‬
‫وحتمل‪ ،‬ومن اس�تعجل‬‫‪ -5‬ال�ص�بر واملثاب��رة ‪:‬فال نجاح بال مثاب�رة‪ ،‬وال إنجاز بال صرب ُّ‬
‫النتائج قبل أواهنا باء باخلرسان‪ ،‬فأى مرشوع حيتاج إىل ن َفس طويل‪ ،‬وأى نجاحعظيم‬
‫يفتقر إىل صرب أصحابه وعدم يأس�هم وقنوطه�م‪ ،‬وكم من فكرة عظيمة وعمل كبري‬
‫مل يكتمل بس�بب أن أصحابه قنطوا ىف الطريق ومل يتحملوا أعباءه ومش�اقه‪ ،‬فبالصرب‬
‫واألم�ل وطول النفس والثب�ات عىل املبادئ والطموح العاىل تنج�ح األفكار اجليدة‪،‬‬
‫فجودهتا والعمل هلا ال يكفيان لنجاحها بدون صرب‪.‬‬
‫وهذا الرشط ىف حتقيق النجاح هو ما ُختمت به السورة ﴿ﭟ ﭠ﴾‪.‬‬
‫‪136‬‬
‫إن س�ورة العرص هبذا ال ترس�م للمؤمنني فحس�ب منهجية نجاحهم ىف اآلخرة‪ ،‬بل‬
‫تض�ع منهجي�ة نجاح ـ أى نج�اح ـ لكل م�ن أراد أن ينجح‪ ،‬وعىل املؤمنين الواعني أن‬
‫يتخذوا من القرآن املنهجيات والنامذج احلضارية لكى يملكوا الدنيا بأيدهيم‪ ،‬وحيققــوا‬
‫االستخالف املنوط هبم‪.‬‬
‫إن نم�وذج النجاح الذى وضعته س�ورة العرص يصلح ألن يك�ون منهجا ُتبنى عليه‬
‫العقول‪ ،‬وتر َّبى عليه األجيـال‪ ،‬لكى يعرفـوا أن للنجاح شـروطا وأسبابا‪ ،‬وأن سننه ال‬
‫تتخلف عن أحد‪ ،‬فمن أخذ بأسبابه ُوفق ولو كان كافرا‪ ،‬ومن ختىل عن أسبابه ختىل عنه‬
‫النجـــاح ولو كان مؤمنا‪.‬‬
‫فمتى ترتبى األجيال عىل ما أرس�اه القرآن من نامذج تصنع حارضهم ومس�تقبلهم؟‬
‫ومت�ى يفهمـون أن كتـاب اهلل تعاىل ليس للقراءة التى يأخذون هبا عرش حس�ـنات عىل‬
‫احلرف فحسـب؟!‬

‫تكـ ــرار منـ ــوذج النج ـ ــاح فـ ــى القـ ــرآن ‪:‬‬
‫ىف اآلية أخرى يمكن استخراج نموذج للنجاح أيضا ال خيرج ىف إطاره عن النموذج‬
‫املستنبط من سورة العرص‪.‬‬
‫* يق�ول تع�اىل ‪﴿ :‬ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ‬
‫ﭮ ﭯ ﴾ (اإلرساء‪ :‬اآلية ‪.)19‬‬
‫فقد اشتملت اآلية ـ عىل قلة ألفاظها وقرصها ـ عىل منهجية النجاح وأركانه ‪:‬‬
‫‪ -1‬املح��رك والوقـودلأى عم��ل ‪ ﴿ :‬ﭤ ﭥ﴾ فاإلرادة هى القـوة الدافعـة نحو النجاح‬
‫والتوفيق‪.‬‬
‫‪ -2‬حتدي��د الر�سال��ة والهدف‪ ،‬وهذا يب�دو ىف النص على ﴿ ﭦ ﴾‪.‬واإلرادة وحتديد‬
‫اهلدف هنا يقابل اإليامن بالفكرة ىف سورة العرص‪.‬‬
‫‪ -2‬العم��ل وال�سع��ى ‪﴿ :‬ﭧ ﭨ﴾ فاإلرادة والني�ة والعزيمة عىل حتقيق اهلدف ال يصنع‬
‫شيئا بدون عمل دءوب وسعى حثيث‪.‬‬
‫فالعمل ىف سورة العرص ﴿ﭛ﴾ يقابل السعى هنا‪.‬‬
‫‪137‬‬
‫‪ -3‬النظ��ام واتباع القواعد ‪ :‬فالبد أن يكون الس�عى وفق قواع�د النجاح املتعارف عليها‬
‫بمنهجية إدارية وفنية ختصصية‪ ،‬فليس كل س�عى جيعل صاحبه ناجحا‪ ،‬والعجب أن‬
‫ه�ذا املعنى ىف اآلية مس�تفاد من الضمير ىف قوله تعاىل ﴿ ﭩ ﴾ ومل يقل ‪ :‬س�عيه‪،‬‬
‫ليعلم كل س�اع لآلخرة أن هلا س�ـعيها هى وفق منهج مرس�وم‪ ،‬وليس سـعيك أنت‬
‫حسب هواك وما يرتاءى لك‪.‬‬
‫وهذا يقابل ىف سورة العرص ( الصاحلات ـ احلق )‬
‫‪ -4‬ال�ش��رط ‪﴿ :‬ﭪ ﭫ﴾ فكما أن رشط قب�ول العم�ل اإليمان‪ ،‬كذل�ك رشط نجاح‬
‫الفكرة اإليامن هبا والدعوة من أجلها والصرب عليها والدفاع عنها‪.‬‬
‫وهذا عني ما ذكر ىف سورة العرص ﴿ﭘ ﭙ ﭚ ﴾‪.‬‬
‫‪ - 5‬اجل��زاء ‪ ﴿ :‬ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﴾ وهو ثم�رة النجاح‪ ،‬وجوهرة التاج‪،‬‬
‫نسأل اهلل تعاىل أن يوفقنا لسعى اآلخرة‪ ،‬ولسعى الدنيا لآلخرة‪.‬‬
‫واجل�زاء املنصوص عليه ىف هذه اآلية يقابل اجلزاءاملس�تفاد من االس�تثناء ىف س�ورة‬
‫العصر‪ ،‬فقوله تعاىل هن�اك ﴿ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ‪ ﴾ ...‬يفيد أن هؤالء‬
‫من املستثنني من اخلرس بام يعنى فالحهم وفوزهم‪.‬‬

‫منـ ــوذج فـ ــض الشراك ـ ــة ‪:‬‬


‫حت�دث القرآن الكريم عن الطريقة املثىل لف�ض أقدس عالقة وأوثق رباط بني اثنني‪،‬‬
‫وه�و رب�اط عقدة الن�كاح‪ ،‬وقد سماه اهلل تعاىل ىف كتاب�ه ميثاقا غليظا كما ىف قوله تعاىل‬
‫﴿ﭤﭥﭦﭧ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭ‬
‫ﭮ﴾ (النساء ‪ :‬اآلية ‪.)21‬‬
‫* يقول تعاىل واضعا املنهج لفض هذه العالقة ‪﴿ :‬ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ‬
‫ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ‬
‫ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ‬
‫ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ‬
‫‪138‬‬
‫ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ‬
‫ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ‬
‫ﯹ﴾ (البقـــــرة ‪ :‬اآليتان ‪.)229-228‬‬
‫وال�س���ؤال ه��و ‪ :‬ملاذا ال تكون هذه املنهجية هى األس�لوب املتب�ع لفض أى عالقة بني‬
‫اثنين غير عالقة الزواج املنص�وص عليها ىف اآليتني؟ حيث نس�تنبط نموذجا حضاريا‬
‫راقي�ا م�ن تعالي�م القرآن ىف حل عقدة الن�كاح نخرج به عن إطار ال�زواج لنتعامل به ىف‬
‫كل املج�االت لفض العالقات‪ ،‬س�واء كانت عالقة رشكة وجتارة بين اثنني‪ ،‬أو عالقة‬
‫صداقة‪ ،‬أو عالقة موظف برشكته ويريد أن يس�تقيل منها أو تريد الرشكة أن تفصله من‬
‫العمل‪.‬‬
‫إن الق�رآن ـ كما أفهم ـ حني يقرر أحكام النكاح والطالق فإنه ال يريد منا أن نتوقف‬
‫عند هذه األحكام ىف حمل ورودها فحسب‪ ،‬بل يريدنا أن نتخذ منها منهجية حتكم مناحى‬
‫حياتنا ىف املواقف املش�اهبة‪ ،‬وعلينا فقط أن نستنبط ونتدبر هذه املنهجيات والنامذج التى‬
‫تصل�ح للتعمي�م ىف جماالت خمتلفة‪ ،‬وهب�ذه الطريقة يصبح القرآن منه�ج حياة‪ ،‬ويرتقى‬
‫املسلم من تدبر األحكام واجلزئيات فقط إىل تدبر املنهجيات والكليات‪.‬‬
‫لقد تدبرنا هاتني اآليتني ىف (ورشة معايشة القرآن بجمعية عليني(‪ )((2‬وإليك النموذج‬
‫احلضارى الذى خرجنا به‪ ،‬وقد سميناه نموذج (فض الرشاكة) ومفرداته كالتاىل ‪:‬‬
‫‪ -1‬ف�ترة االختبار قبل الق��رار النهائى بالف�ض ‪:‬عىل كل اثنني رشيكني ‪ -‬ىف جتارة أو أى‬
‫عالق�ة‪ -‬يريدان فض هذه العالقة أن يضعا ألنفس�هام فرتة اختبار قبألن يقررا الفض‬
‫النهائى‪ ،‬فاملوظف الذى يريد أن يس�تقيل لتضايقه من العمل أو رئيس�ه اإلدارى فال‬
‫يترسع ىف اختاذ القرار‪ ،‬عليه أن يضع لنفس�ه فرتة معقولة خيترب فيها نفس�ه‪ ،‬يبتعد قليال‬
‫ع�ن العم�ل دون أن يس�تقيل‪ ،‬وتكون هذه الفترة بمثابة اختبار لنفس�ه ىف بيان مدى‬
‫حتمله لرتك العمل‪.‬‬

‫وانطلقت منها أوىل ورشات معايشة القرآن‬


‫ْ‬ ‫‪ -29‬وهى اجلمعية التى بدأت فيها تدريب الناس عىل هذا النموذج‬
‫الكريم‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫كل من الرشيكني عن اآلخر عند ظهـور النزاع دون اختاذ قرار بفض‬ ‫فلماذا ال يبع�د ٌّ‬
‫العالق�ة؟ ملاذا نقرر دائما عند االختالف أن هيجر أحدنا اآلخر؟ ثم نندم بعد هذا القرار‬
‫ونكتش�ف أن اس�تمرار العالقة كان أوىل من فضها‪ ،‬ولو أننا أعطينا ألنفس�نا هذه الفرتة‬
‫االختباري�ة ل�كان أوىل‪ ،‬حي�ث نخترب فيها احلياة ب�دون العالقة‪ ،‬فإذا وجدن�ا أن العالقة‬
‫أفض�ل كان بإمكانن�ا الع�ودة‪ ،‬ألن الفرص�ة حينئ�ذ س�تكون متاح�ة ؛ حيث إنن�ا مل نقم‬
‫بالف�ض‪ ،‬ب�ل اكتفينا بمجرد البعد قليال أو احلصول عىل إج�ازة بدون مرتب من العمل‬
‫ملدة شهر مثال‪.‬‬
‫إن النظـ�ام الذى وضعه القرآن لفض عالقة النكاح يعترب نموذجا ال مثيـل له لفض‬
‫أى عالقة‪ ،‬فقد جعل اهلل تعاىل الطالق مرتني رجعيتني‪ ،‬بني كل مرة وأخرى فرتة اختبار‬
‫تس�مى بالعدة‪ ،‬فهى فرتة تباعد بني الزوجني ولكن مع إمكانية العودة‪ ،‬فهى فرتة يمكن‬
‫تسميتها فرتة (نصف ُب ْعد أو نصف فض) فهى تأهيل للفض وليست فضا كامال‪ ،‬خيترب‬
‫الزوجان أنفسهام ىف هذه الفرتة ليقررا هل يمكن هلام أن يقررا البعد النهائى أم ال؟‬
‫عمم وأن جيعل املسلم‬‫إن هذه املنهجية التى يقررها القرآن بش�أن الطالق تصلح أن ُت َّ‬
‫منه�ا نموذج�ا لفض أى عالقة بينه وبني اآلخرين‪ ،‬نع�م ال يلتزم بنفس تفاصيل أحكام‬
‫الطالق‪ ،‬ولكن التزام املنهجية عموما س�وف يقيه بال شك من كثري من األخطاء النامجة‬
‫عن الترسع ىف اختاذ قرار الفض بدون أن خيترب األمر بفرتة اختبار كام قلنا‪.‬‬
‫‪ -2‬الع��ودة بع��د ف�ترة االختبار باملعروف ‪ :‬بعد فرتة االختبار قد يش�عر املرء بأنه ال غنى‬
‫ل�ه عن هذه العالقة فيق�رر العودة‪ ،‬ويكون رجوعه حينئذ س�هال؛ ألنه مل يقم بالفض‬
‫البات الذى ُحيول بينه وبني العودة‪.‬‬
‫ّ‬
‫وجيب أن تكون العودة باملعروف‪ ،‬دونام جتريح وال إهانة‪ ،‬يكون أساس�ها االحرتام‬
‫املتبادل من الطرفني‪.‬‬
‫وهذا عني ما قررته اآلية بشأن العودة ىف أثناء العدة ﴿ﮩ ﮪ ﴾‪.‬‬
‫‪ - 3‬الف���ض ب�إح�س��ان ‪ :‬إذا م�ا تبني له أثناء فرتة االختب�ار أن األفضل هو البت ىف أمر فض‬
‫العالقة‪ ،‬بأن يشعر بالراحة النفسية ىف هذا التباعد النصفى‪ ،‬فيقرر ىف هدوءاالستمرار‬
‫‪140‬‬
‫ىف البع�د بق�رار هنائى بعملية الف�ض ـ فعليه حينئذ أن ينجز هذا األمر بإحس�ان ﴿ ﮫ‬
‫ﮬ ﮭﮮ ﴾‪.‬‬
‫ومعل�وم أن درج�ة اإلحس�ان أعىل من درجة املع�روف‪ ،‬وهذا من عظم�ة القرآن أنه‬
‫يأمرنا بأن نكون ىف الفض أحسن خلقا من الرجوع ىف العالقة واالستمرار فيها‪.‬‬
‫والكت�اب ال�ذى يأمر أتباعه بأن يكون�وا عند الفض أفضل خلقا م�ن حالة الرجوع‬
‫ىف العالق�ة ـ جلدي�ر بأن يس�ود العامل ويبنى حض�ارة تقوم عىل األخالق الس�امية والقيم‬
‫الرفيعة‪.‬‬
‫لقد اس�تعمل القرآن كلمة املعروف ىف العالقة بني الزوجني كام ىف هذه اآلية‪ ،‬وأيضا‬
‫ىف قوله تعاىل ﴿ﯢ ﯣﯤ ﴾ (النس�اء ‪ :‬اآلية ‪ )19‬أما كلمة اإلحس�ان فقد‬
‫اس�تعملها القرآن مع الوالدين ﴿ ﮞ ﮟ ﴾ (النس�اء ‪ :‬اآلية ‪ )36‬ىف أكثر من‬
‫موضع‪ ،‬ألن حق الوالدين ومكانتهام أعىل من الزوجة‪.‬‬
‫وكأن اهلل تع�اىل يريدن�ا أن نعام�ل م�ن نقطع معه العالق�ة هبذه املنزلة من اإلحس�ان‬
‫والكرم‪ ،‬وأن نتعامل بالفضل ال بالعدل‪ ،‬ويؤكد هذا قوله تعاىل ىف نفس السياق ـ سياق‬
‫الطالق بعده بآيات ـ ﴿ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﴾ (البقرة ‪ :‬اآلية ‪.)237‬‬
‫فام أعظم أخالق القرآن! وما أبعد كثريا من املسلمني عنه!‬
‫‪ -4‬الإف�صاح وال�شفافية ‪:‬مما تقتضيه املروءة ومن لوازم الفض بإحسان أن ُيفصح كل من‬
‫الطرفين عما لديه من معلومات تفيد اآلخر‪ ،‬وال ينتقم أحد منهام من اآلخر بالكتامن‬
‫ا ُملضرِ ‪ ،‬فال ش�ك أن هن�اك معلومات وبيانات مهمة عند ه�ذا املوظف الذى يريد أن‬
‫يس�تقيل‪ ،‬أو عن�د ه�ذا الرشيك ال�ذى يريد فض الرشاك�ة ىف التج�ارة‪ ،‬كمعلومات‬
‫تتعلق بالعمالء أو البضاعة أو العاملني أو غري ذلك مما يتعلق بمصلحة العمل‪ ،‬ومن‬
‫األخالق الس�امية واإلحسان الذى أرش�د إليه القرآن أن يفصح اإلنسان عام لديه من‬
‫معلوم�ات‪ ،‬وال يترك العم�ل أو يفض الرشاك�ة إال إذا تأكد أن ط�رف الرشكة التى‬
‫يعم�ل فيه�ا أو الطرف اآلخر ىف العالقة قد اس�تغنى عنه وأنه مل يع�د بحاجة إليه وأنه‬
‫قدأوجد البديل الذى يسد حمله‪ ،‬وقد أدىل بكل املعلومات التى ختص العمل‪ ،‬بل ربام‬
‫‪141‬‬
‫حيتاج�ه العمل بعد الفض لإلجابة عىل أى استفس�ار خيص بعض املعلومات‪ ،‬وعليه‬
‫حينئ�ذ أال يكت�م م�ا لديه ولو بعد ت�رك العمل‪.‬يق�رر القرآن هذه املس�ألة بوضوح ىف‬
‫احلدي�ث ع�ن الطلاق ﴿ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ‬
‫ﮌ ﮍﮎ ﴾ فالكتمان ال جي�وز ىف ح�االت وجوب اإلفص�اح‪ ،‬واإلفصاح جيب إذا‬
‫تعلق به أحكام ومصالح‪.‬‬
‫ه�ذا هو الفقه واملنه�ج الذى جيب أن ُي َّتبع ملن أراد أن يفه�م القرآن ويتخذه رساجا‬
‫منريا!‬
‫‪ -5‬رعاية احلقوق والواجبات ‪ :‬سواء قرر الطرفان العودة أو فض العالقة ال بد أن تكون‬
‫هناك حقوق وواجبات‪ ،‬حقوق لكل طرف‪ ،‬وواجبات عىل كل واحد‪.‬‬
‫وأه�ل املروءة والدين هم من يس�عون لرد احلق إىل أهل�ه وعدم التقصري فيه‪ ،‬بل ربام‬
‫يتساحمون ىف حقهم ولكنهم ال يساحمون أنفسهم ىف حق اآلخرين‪ ،‬وقد قرر القرآن هذه‬
‫القاع�دة ـ قاعدة احلقوق والواجبات ـ ىف قول�ه ﴿ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ﴾ يعنى‬
‫أن امل�رأة هلا حقوق كما أن عليها واجبات‪ ،‬والواجبات الت�ى عليها هى حقوق للزوج‪،‬‬
‫وقدم ما للمرأة من حق عىل ما للرجل رعاية لضعفها‪ ،‬فإن النظر ىف حق الضعيف مقدم‬
‫عىل حق القوى‪.‬‬
‫فاإلمساك باملعروف أو الترسيح باإلحسان يقتضيان رد احلقوق إىل أهلها‪.‬‬
‫فم�ن ق�رر العودة بعد فرتة االختبار فعليه أن يق�وم بواجب هذه العالقة‪ ،‬وأن يكمل‬
‫مسيرته عىل الوجه الذى يعالج به املش�كالت التى كانت س�ببا لتأزم املوقف‪ ،‬وىف حالة‬
‫اخت�اذ الق�رار بالفض فيج�ب أن يكون قائام عىل قاع�دة احلقوق والواجب�ات‪ ،‬فكل من‬
‫الطرفين يق�وم بواجباته نحو اآلخ�ر‪ ،‬وال يطلب أكثر من حقه‪ ،‬فبمث�ل هذا ُتبنى األمم‬
‫ويرتقى الناس‪ ،‬و ُيرضون رهبم جل وعال‪.‬‬
‫‪ -6‬مراعاة حق �صاحب ال�سلطة ‪ :‬ىف حالة القرار باس�تمرار العالقة بعد فرتة االختبار فإن‬
‫على الطرف امل�رءوس أن يراعى س�لطة الطرف الرئيس‪ ،‬فاملوظ�ف مثال الذى يقرر‬
‫االس�تمرار ىف الرشك�ة بعد اإلجازة التى حصل عليه�ا ـ فرتة اختبار ـ عليه أن يراعى‬
‫‪142‬‬
‫ح�ق رشكته ورؤس�ائه ىف العمل‪ ،‬فلهم الس�لطة علي�ه‪ ،‬نعم له حق�وق عليهم ولكن‬
‫تراعى أكثر‪.‬‬
‫السلطة والرئاسة ىف العمل ال بد أن َ‬
‫وق�د قرر القرآن هذا احلق للرجل باعتباره صاحب الس�لطة عىل املرأة‪ ،‬فبعد أن قرر‬
‫قاع�دة احلقوق لكل من الطرفني ﴿ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ﴾ قال ﴿ﮞ ﮟ‬
‫ﮠ﴾‪.‬‬
‫كثيرا ما يكون س�بب اإلش�كالية هو أن املوظ�ف ال يطيع أوامر رؤس�ائه ىف العمل‪،‬‬
‫ويعتقد أهنم ال يفهمون وأهنم يقررون ما يفس�د العمل‪ ،‬وهذا يحُ دث خلال كبريا ويو ِّتر‬
‫العالق�ة بني املوظف ورئيس�ه‪ ،‬فإذا ما فهم املوظف حق الس�لطة ىف الطاعة اس�تطاع أن‬
‫يعالج املشكلة‪ ،‬ولو تبني له سوء القرارات فبإمكانه أن حيل املوقف بشكل خمتلف يقوم‬
‫عىل احلوار وبيان وجهة نظره ال عىل التمرد وإعالن العصيان‪.‬‬
‫أغل�ب العالق�ات بين أى طرفين ىف مصلحة مشتركة يكون ألحدمها س�لطة عىل‬
‫اآلخر‪ ،‬س�واء بني زوجين أو رشيكني ىف التجارة أو بني املوظفين وصاحب العمل أو‬
‫غري ذلك من العالقات‪ ،‬ورعاية السلطة ىف كل العالقات وحقها ىف إصدار األوامر وأن‬
‫يكون األصل هو طاعة هذه األوامر ـ حيل كثريا من املشكالت وتوتُّر العالقات‪.‬‬
‫وقوله تعاىل ﴿ﮞ ﮟ ﮠ﴾ ليس ـ كام أفهم ـ جمرد تقرير حكم جزئى يتعلق‬
‫بدرجة للرجل خصه اهلل هبا‪ ،‬وإنام هو منهجية يضعها القرآن أساسا ىف بناء العالقات‪.‬‬
‫وحتويل القرآن إىل نامذج حضارية بفهمـه هبذا األس�ـلوب جيعـل للقرآن ش�أنا آخر‬
‫ىف حياتن�ا‪.‬وإذا انض�اف إىل ذلك كل اآليات التى تتحدث عن نفس املوضوع فال ش�ك‬
‫أن النموذج سيكون أكثر تكامال ىف مفرداته‪.‬‬
‫إذن قد نس�تخرج النموذج احلضارى من موضع واحد من خالل آيات متتالية‪ ،‬وقد‬
‫نس�تخرجه من مواضع خمتلفة من القرآن تتحدث عن موضوع واحد‪ ،‬ونس�تطيع بتتبع‬
‫أحكام الطالق ىف القرآن كله ـ عىل سبيل املثال ـ أن نصنع منها نموذجا حضاريا متكامال‬
‫ىف فض العالقات والرشاكات بني الناس‪.‬‬
‫‪143‬‬
‫فمثال قوله تعاىل ىف سورة النساء ﴿ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ‬
‫ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ‬
‫ﭼﭽﭾﭿﮀ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ‬
‫ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ﴾ نس�تطيع أن نكمل هبذه اآليات‬
‫ُّ‬
‫وتدخل‬ ‫صورة من نموذج فض الرشاكة‪ ،‬والتى متثل مرحلة اإلصالح بأساليبه املختلفة‬
‫أطراف أخرى لرأب الصدع قبل عملية الفض‪.‬‬
‫فآلية املوعظة احلس�نة وإس�داء النصح منهج حياة وليست جمرد أسلوب مع الزوجة‬
‫عند نشوزها‪ ،‬كام أن توقيع عقوبة مثل اهلجر بالكالم قد يكون جمديا ىف هذا الشأن‪ ،‬فإذا‬
‫يجُ�د األم�ر قد نلجأ لتدخل أطراف مس�موعة الكلمة ىف عملية الن�زاع قبل قرار فض‬ ‫مل ِ‬
‫الرشاك�ة‪ ،‬وهكذا يمكن تعميم مثل هذه األحكام التى وردت ىف س�ياق الطالق عىل ما‬
‫يش�اهبها من حاالت ومواقف اجتامعية‪ ،‬وأن نجع�ل منها نموذجا ومنهجية متبعة جريا‬
‫على ه�دى الق�رآن الكريم‪ ،‬فال ش�ك أن هذا نوع من أن�واع اتباع القرآن‪ ،‬ب�ل هو اتباع‬
‫العقلاء احلكامء الذين مل يكتفوا باتباع األح�كام اجلزئية‪ ،‬بل فهموا عن اهلل تعاىل املنهج‬
‫تذى‪ ،‬وعرفوا سنن اهلل تعاىل ىف فهم الواقع وحل مشكالته‪.‬‬ ‫واألساليب الراقية التى تحُ َ‬
‫وأعيد القول وأؤكد عىل أننا ال نعنيب النموذج احلضارى الذين س�تخرجه من هذه‬
‫اآليات أو غريها أن نبتدع أحكاما كأحكام الطالق ىف فض الرشاكة‪ ،‬فال نوجب ـ مثال‬
‫ـ ىف ف�ض الرشاكة ِع�دة كعدة الطالق‪ ،‬وإنام املقصود فقط اتب�اع املنهج العام ىف الرتيث‬
‫والش�فافية ىف اإلفص�اح عن املعلومات‪ ،‬ومراعاة احلق�وق والواجبات‪ ،‬إىل غري ذلك مما‬
‫ال يخُ تلف عليه‪.‬‬

‫من ـ ــوذج العمـ ــل اجلماعـ ــى‪:‬‬


‫م�ن النامذج القرآنية التى متثل وح�دة متكاملة عن العمل اجلامعى ـ ما ذكره اهلل تعاىل‬
‫ىف سورة النمل عن سيدنا سليامن عليه السالم وجيشه‪.‬‬
‫فق�د ذك�ر اهلل تع�اىل ىف ه�ذه القص�ة العجيبة مب�ادئ العم�ل اجلامعى‪ ،‬وأس�س بناء‬
‫احلضارات واحلفاظ عىل األمم‪ ،‬فتحدث عن ‪:‬‬
‫‪144‬‬
‫‪ -1‬أساس النجاح وبناء احلضارة ىف العلم ﴿ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﴾‪.‬‬
‫‪ -2‬توريث األجيال للعلم واحلضارة ﴿ﭯ ﭰ ﭱﭲ﴾‪.‬‬
‫‪ -3‬إتقان اللغات ﴿ﭶ ﭷ ﭸ ﴾‪.‬‬
‫‪ -4‬توفر كافة اإلمكانيات ﴿ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ﴾‪.‬‬
‫‪ -5‬حس�ن اإلدارة وتقس�يم العمل ﴿ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ‬
‫ﮌ﴾‪.‬‬
‫‪ -6‬املس�ئولية اجلامعي�ة الت�ى حتت�م عىل الفرد إس�داء النص�ح ىف احرتام مج�ل آلخرين‪،‬‬
‫كما نصح�ت النملة أخواهت�ا خماطبة هلم بأس�لوب التعظي�م ﴿ ﮖ ﮗ ﮘ‬
‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ﴾‪.‬‬
‫‪-7‬التماس األع�ذار لآلخرين‪،‬ويبدوذلكواضحافيقواللنمل�ة ﴿ﮞ ﮟ ﮠ﴾ وكأهنا‬
‫تق�ول هلم‪ :‬ادخلوا مس�اكنكم حتى ال يدهس�كم جيش س�ليامن‪ ،‬وىف حالة حدوث‬
‫ذل�ك فلهم العذر ألهنم ال يش�عرون بن�ا لصغر حجمنا‪ ،‬فهم غير متعمدين لذلك‪،‬‬
‫ويب�دو التماس االعذار أيضا ىف قول نبى اهلل س�ليامن عليه السلام عن اهلدهد ﴿ ﯮ‬
‫توعده به‬
‫ﯯ ﯰ ﯱ ﴾ فقد ترك مساحة للعذر ـ استثناء من الوعيد الذى ّ‬
‫ـ إذا كان معه حجة ىف تغيبه‪.‬‬
‫‪ -8‬املتابعة والرقابة وتفقد أفراد فريق العمل ﴿ ﯜ ﯝ ﴾ والحـظ إحياءات لفظة‬
‫﴿ ﯜ﴾ فكأنك تبحث عن شىء مفقود‪ ،‬مما يدل عىل شدة التحرى ودقة البحث‪.‬‬
‫‪ -9‬االنضباط واحلزم ومعاقبة املقرصين ﴿ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﴾‪.‬‬
‫‪ -10‬اعتبار الربهان والدليل أساس�ا ىف احلكم عىل املواقف واألش�خاص ﴿ ﯮ ﯯ‬
‫ﯰ ﯱ ﴾‪.‬‬
‫‪ -11‬إنصات الرئيس إىل مرءوس�يه ولو كانوا خمطئني عس�ى أن يكون هلم عذر‪ ،‬ويبدو‬
‫ذلك واضحا حني اس�تمع نبى اهلل س�ليامن عليه السالم إىل اهلدهد وهو يربر غيابه‬
‫﴿ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﴾ إىل آخر ما قال‪.‬‬
‫‪145‬‬
‫‪ -12‬كام أن ىف قول اهلدهد هذا إشارة إىل أن املرءوس واألقل شأنا ومكانة قد حييط علام‬
‫ببعض األمور التى ال حييط هبا الرئيس األعىل ش�أنا‪ ،‬وال ُيستفز الرئيس إذا قال له‬
‫مرءوســــه ﴿ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﴾‪.‬‬

‫‪ -13‬إيامن األفراد بالرسالة والتحمس هلا والغضب من أجلها‪ ،‬كام كان واضحا ىف كالم‬
‫اهلدهد حني غضب بس�بب رؤيتـه ملن يس�جدون للشمس من دون اهلل تعاىل ﴿ﭑ‬
‫ﭒﭓ ﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭚﭛﭜﭝ‬
‫ﭞﭟﭠ ﭡ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ‬
‫ﭫﭬﭭﭮﭯ ﭰ ﭱﭲﭳﭴ ﭵﭶﭷﭸ‬
‫ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﴾‪.‬‬

‫‪ -14‬التحقـ�ق مـ�ن األخبـ�ار والتـأكد م�ن صحته�ا ﴿ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ‬


‫ﮏ﴾‪.‬‬

‫‪ -15‬عقد االجتامعات والتشاور ىف األمور ﴿ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ‬


‫ﮦﮧﮨﮩﮪ ﮫﮬ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ‬
‫ﯖﯗﯘﯙﯚ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯡﯢﯣﯤﯥ‬
‫ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ﴾‪.‬‬
‫‪ -16‬ع�دم التسرع ىف إص�دار الق�رارات‪ ،‬واختب�ار األمر قب�ل اختاذ القرار بش�أنه‪ ،‬كام‬
‫اختربت ملكة س�بأ صدق س�ليامن عليه السلام وقوته ىف رس�الته إليها ﴿ﯰ ﯱ‬
‫ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ‬
‫ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ﴾‪.‬‬

‫‪ -17‬اإليامن باملبادئ وعدم قبول الرشوة فيها ﴿ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ‬


‫ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﴾‪.‬‬
‫‪146‬‬
‫‪ -18‬القوة أساس امللك والدعوة إىل اهلل تعاىل‪ ،‬فالقوة العسكرية والتكنولوجية ىف غاية األمهية‬
‫للدولة ومؤسساهتا إذا ما أرادت أن تتقدم وتنهض وحتقق أهدافها‪ ،‬وتقف نِدًّ ا قويا أمام‬
‫أعدائها‪.‬‬

‫يبدو ذلك واضحا فيقول نبى اهلل س�ليامن عليه السالم ‪ ﴿ :‬ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ‬
‫ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﴾‪.‬‬

‫ث�م أراد أن ُي�رى ملكتَهم م�ن العجائب ما يبهرها وجيعلها ختضع لس�لطان دعوتــه‬
‫﴿ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ‬
‫ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬
‫ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ‬
‫ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ‬
‫ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ‬
‫ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ‬
‫ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖﰗ ﰘ ﰙ‬
‫ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ﴾‪.‬‬

‫‪ -19‬عدم االغرتار بالقوة مهام عظمت ونسبة الفضل كله إىل اهلل تعاىل ﴿ﮜ ﮝ ﮞ‬
‫ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ‬
‫ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﴾‪.‬‬

‫منـ ــوذج العملي ـ ــة التعليمي ـ ــة ‪:‬‬


‫ىف سورة الكهف ىف قصة نبى اهلل موسى مع اخلرض عليهام السالم ـ نموذج يحُ تذى ىف‬
‫العملية التعليمية التى تتكون من عنارص ثالثة ‪ :‬املعلم واملتعلم واملنهج التعليمى‪.‬‬
‫‪147‬‬
‫أوال ‪ :‬املعل ـ ـ ــم ‪:‬‬
‫فقد عرضت القصة للصفات التى جيب أن يكون عليها املعلم‪ ،‬وهى ‪:‬‬
‫‪ -1‬الرمحـ�ة عمومـ�ا وباملتعلمين خصوصـ�ا ﴿ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ‬
‫ﮆ﴾‪.‬‬
‫‪ -2‬التخصص فيام ِّ‬
‫يعلم ﴿ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ﴾‪.‬‬
‫‪ -3‬فهم بواطن األمور وإدراك ما ال يدركه غريه‪ ،‬ويبدو هذا ىف كل املواقف التى سلكها‬
‫ىف القصة من خرق السفينة‪ ،‬وقتل الغالم‪ ،‬وبناء اجلدار‪.‬‬
‫‪ -4‬تدري�ب الطلاب عىل الصرب والتحم�ل ﴿ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ‬
‫ﮠ ﮡ ﮢﮣﮤﮥ ﮦﮧﮨ ﮩﮪ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ‬
‫ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﴾‪.‬‬
‫‪ -5‬طرح عالمات اس�تفهام ومواقف حتتاج إىل ج�واب‪ ،‬وترك فرصة للطالب للتفكري‬
‫فيها وإمعان النظر‪ ،‬واإلجابة عليها ىف الوقت املناس�ب الذى خيتاره املعلم ﴿ ﯔ ﯕ‬
‫ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﴾‪.‬‬
‫وقال بعد ذلك ﴿ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾‪.‬‬
‫‪ -6‬معرف�ة إمكاني�ات الطالب ومدى حتمله واس�تيعابه ﴿ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ‬
‫ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﴾‪.‬‬
‫﴿ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﴾‪.‬‬
‫‪ -7‬ترك العملية التعليمية ىف الوقت الذى يثبت فيه للمعلم أن رس�الته قد وصلت وما‬
‫بعد ذلك هو تزَ ُّيد بدون فائدة ﴿ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ﴾‪.‬‬
‫‪ -8‬التمـاس العذر للطالب عند اخلطـــأ ىف املرات األوىل وعدم أخذه بالسـهو من أول‬
‫مرة ﴿ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﴾‪.‬‬
‫‪ -9‬وضع حد لألخطاء‪ ،‬ولتكن ثالث مرات‪ ،‬كام هو مفهوم من القصة كلها‪.‬‬
‫‪148‬‬
‫ثانيـ ـ ــا ‪ :‬املتعلـ ـ ـ ــم‪:‬‬
‫كام يبدو ىف القصة الصفات التى ينبغى أن يكون عليها الطالب‪ ،‬وهى ‪:‬‬
‫‪ -1‬الذه�اب إىل املعل�م وب�ذل قص�ارى اجله�د للوص�ول إلي�ه ﴿ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ‬
‫ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﴾‪.‬‬
‫وقال ﴿ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﴾‪.‬‬
‫‪ -2‬األدب ىف الع�رض وطل�ب التع ُّلم من املعلم ﴿ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ‬
‫ﮔ ﮕ ﮖ ﴾‪.‬‬
‫‪ - 3‬اإلرصار عىل التعلم رغم القيود واالس�تعانة باهلل ىف التقيد هبا ﴿ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ‬
‫ﮜﮝﮞﮟﮠ ﮡ ﮢﮣﮤﮥ ﮦﮧﮨ ﮩﮪ ﮫﮬ‬
‫ﮭ﴾‪.‬‬
‫‪ -4‬طاعة املتعلم للمعلم فيام يأمر به ﴿ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ﴾‪.‬‬
‫‪ -5‬االعتذار بأدب عند اخلطأ والنسيان ﴿ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ‬
‫ﰄ﴾‪.‬‬
‫‪ -6‬إدراك الطالب مدى إرهاقه ملعلمه عند تكرر أخطائه ﴿ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ‬
‫ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﴾‪.‬‬

‫ثالث ــا ‪ :‬املنه ـ ــج التعليم ـ ــى‪:‬‬


‫‪ -1‬الصحبة بني املتعلم ومعلمه‪ ،‬فالعلم احلقيقى ما كان عن اتباع وصحبة ومعايشة بني‬
‫الطرفني ﴿ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾‪.‬‬
‫‪ -2‬تواص�ل األجي�ال ىف تلقى العلم‪ ،‬واتصال اإلس�ناد‪ ،‬فكل معل�م يع ّلم ما قد تعلمه‪،‬‬
‫ومتعل�م الي�وم هو معل�م الغد‪ ،‬ومعلم اليوم ه�و متعلم األمس‪ ،‬وه�ذا يبدو ىف قول‬
‫موسى عليه السالم السابق ﴿ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﴾‪.‬‬
‫‪149‬‬
‫‪ -3‬رسالة العلم التى تؤدى إىل اخلري والرشاد واتباع احلق‪ ،‬فال خري ىف علم مل ُيفد صاحبه‬
‫رشدا ﴿ ﮔ ﮕ ﮖ﴾‪.‬‬
‫‪ -4‬وضـ�ع الش�ـروط واملعايير ىف العملي�ة التعـليمي�ة‪ ،‬فلا بد م�ن االلتـ�زام من كال‬
‫اجلانبيـ�ن ـ املعلم واملتعلم ـ بام اشُت�رُ ط واتُّف�ق عليه ﴿ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ‬
‫ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ﴾‪.‬‬
‫‪ -5‬التعليم باملوقف‪ ،‬وهذا أفضل طرق التعلم وأجدى من كثرة املحارضات واملواعظ‪،‬‬
‫وهو واضح ىف كل القصة حني تعلم موسى عليه السالم من املواقف الثالثة التى مر‬
‫هبا مع اخلرض عليه السالم‪.‬‬

‫النم ــاذج احلضاريـ ــة البسيط ــة واملركب ــة ‪:‬‬


‫النموذج احلضارى الذى نطلبه من القرآن قد يكون مركبا من مفردات عدة تستخرج‬
‫من املوضوع الواحد الذى يشكله املقطع القرآنى‪ ،‬أو من خالل السورة الكاملة القصرية‪،‬‬
‫تتبع املوض�وع الواحد ىف القرآن كله‪ ،‬وقد س�بق احلديث ع�ن هذا النوع‬
‫أو م�ن خلال ُّ‬
‫املركب ىف األمثلة السابقة‪.‬‬
‫أما النموذج البسيط فهوالذى يتكون من مفردة واحدة تستنبط من اللفظة القرآنية أو‬
‫اجلملة الواحدة‪ ،‬حيث نخرجها من سياقها الذى وردت فيه لنصنع منها نموذجا يطبق‬
‫ىف شئون خمتلفة من احلياة‪.‬‬
‫وما أكثر هذا النوع من النامذج البسيطة ىف القرآن الكريم !‬

‫اق�رأ قوله تع�اىل ﴿ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ﴾ (البقرة ‪ :‬اآلي�ة ‪ )237‬ليتم تفعيل هذا‬


‫النموذج عىل كل عالقة بني ش�خصني حيدث بينهام توت�ر ىف هذه العالقــة‪ ،‬فنمـــوذج‬
‫﴿ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ﴾ يصنع ش�كال حضاري�ا ىف إدارة اخلالف وفض الرشاكات‬
‫بني الناس‪.‬‬
‫‪150‬‬
‫واقر�أ �أي�ضا هذه النماذج احل�ضارية الب�سيطة ‪:‬‬
‫﴿ ﮬ ﮭﮮ ﴾ (آل عم�ران ‪ :‬اآلي�ة ‪ )113‬فه�و نم�وذج لعــ�دم التعميــ�م ىف كل‬
‫شئون احلياة‪.‬‬
‫﴿ﯩ ﯪﯫ ﴾ (البقرة ‪ :‬اآلية ‪ )223‬نموذج للتمهيد والتقديم ىف كل شىء‪.‬‬
‫﴿ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ﴾ (التحري�م ‪ :‬اآلي�ة ‪ )3‬نم�وذج للتغاف�ل ع�ن بع�ض‬
‫كريم قط‪ ،‬يعن�ى أن الكريم حني يعاتب يذكر‬
‫اس�تقص ٌ‬
‫ىَ‬ ‫مف�ردات اللوم‪ ،‬فكام قالوا ‪ :‬ما‬
‫بعض األخطاء التى يعاتب عليها ويتغافل عن بعضها اآلخر‪ ،‬وال يذكر كل شىء‪.‬‬
‫﴿ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﴾ (الش�عراء ‪ :‬اآلي�ة ‪)183‬‬
‫نموذج لعدم بخس الناس حقوقهم ىف كل يشء وإن مل يكن ىف أمر املوازين والبيع‪.‬‬
‫﴿ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ﴾ (احلجـــــ�رات ‪:‬‬
‫اآلية ‪ )6‬نموذج للتحقق والتثبت ىف كل شىء‪ ،‬وإن مل يكن ىف نقل أخبار الفساق الوارد‬
‫ىف اآلية‪.‬‬
‫فه�ذه العب�ارات القرآنية ه�ى بذاهتا نامذج‪ ،‬س�يقت لكى تكون كذلك‪ ،‬فاس�تخراج‬
‫املنهجي�ات منه�ا واعتبارها نماذج وقواعد ليس باألمر العسير ىف الفهم واالس�تنباط‪.‬‬
‫وخالصة النموذج احلضارى ىف هذه الوحدة من نموذج معايشة القرآن ـ أننا نصنع من‬
‫كتاب اهلل تعاىل منهج حياة وطريقة تفكري‪ ،‬نجعل القرآن حمور حياتنا تلتف حوله ش�تى‬
‫شئوننا‪.‬‬
‫إن األمة اإلسـالمية يوم أن كانت قرآنية التفكري واملنهـج سـادت األمم كلها‪ ،‬وهاهبا‬
‫اجلميع‪ ،‬ويوم أن استبدلت به مناهج أخرى وطرائق مستهجنة ختبطت ىف طريقها‪ ،‬وصار‬
‫التيه والضالل مآهلا‪.‬‬
‫اللهم أعد ألمتنا رشدها باتباعها كتاب رهبا‪ ،‬وأهلمها الصواب والرشاد‪.‬‬
‫﴿ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﴾ (البق�رة‬
‫‪ :‬اآلية ‪.)201‬‬
‫‪151‬‬
152
‫خـامتـــــة‬
‫أخريا وبعد هذه التطوافة مع معايشة القرآن الكريم نود أن نشري إىل بعض األمور ‪:‬‬
‫‪ -1‬يغ�ذى ه�ذا النموذج اجلوانب الثالثة من اإلنس�ان‪ ،‬جانب الش�عور واإلحس�اس‪،‬‬
‫وجانب العقل والفكر‪ ،‬واجلانب العمىل‪.‬‬
‫فيتعايش املس�لم م�ع القرآن الكري�م ىف إحي�اءات ألفاظه وعباراته‪ ،‬ويس�تحرض من‬
‫املعانى ما جيعله يتفاعل مع اآلية الكريمة‪.‬‬
‫كام أنه يطلق لعقله العنان ىف التفكري ىف القرآن واستنباط العالقات وتربير املغايرات‪،‬‬
‫واستنباط السنن‪ ،‬ومعرفة األحكام بمقاصدها‪.‬‬
‫وأخريا يضع املس�لم اإلجراءات واملهارات التى حيول هبا القرآن إىل واقع عمىل بناء‬
‫عىل الفهم العميق لآلية من خالل الوحدات األوىل من النموذج‪.‬‬
‫ث�م يرتقى فيجعل م�ن القرآن نامذج منهجية وعملية لش�تى جماالت احلياة من خالل‬
‫اس�تنباط النم�وذج احلضارى‪ ،‬وال ش�ك أنن�ا لن نصل إىل ه�ذه املرحل�ة إال بعد الفهم‬
‫العميق من خالل الوحدات السابقة كلها‪.‬‬
‫‪ -2‬وح�دات ه�ذا النموذج تعد مفاتي�ح للتدبر‪ ،‬فهى حقيبة به أدواتك ومس�تلزماتك‪،‬‬
‫كاحلقيب�ة الت�ى جتدها مع أى صاحب حرفة‪ ،‬حني يمارس مهنته يفتح حقيبته أمامه‪،‬‬
‫ويستخرج منها من املفاتيح أو اآلالت ما حيتاج إليه‪ ،‬وقد ال يستخدم بعضها أحيانا‪،‬‬
‫وأحيانا قد يكون مستخدما لبعض اآلالت أكثر من بعض‪.‬‬
‫وهك�ذا األمر مع متدب�ر القرآن‪ ،‬عدته وآالته وحدات هذا النموذج‪ ،‬فقد يتعامل مع‬
‫اآلي�ة كريمة فيحت�اج بعض وحدات هذا النموذج دون بعض‪ ،‬أو تنفعه وحدة أكثر من‬
‫غريها بشأن هذه اللفظة أو العبارة القرآنية‪ ،‬فقد يكون ىف اآلية مغايرة وقد ال يكون‪ ،‬أو‬
‫‪153‬‬
‫عند اس�تدعاء اس�تعامل لفظة منها ىف القرآن كله جيد مغايرة بني مواضع االستعامل وقد‬
‫ال جيد‪ ،‬فإذا وجد دعاه ذلك إىل التدبر ىف املغايرات‪.‬‬
‫وال شك أنه سيستعمل أغلب الوحدات عىل مستوى اآلية الواحدة‪ ،‬أما عىل مستوى‬
‫املقط�ع القرآن�ى فإن الواقع العمىل أثبت أننا نس�تعمل مجيع الوحدات بام ىف ذلك وحدة‬
‫النموذج احلضارى‪.‬‬
‫س�ئلت ىف بع�ض لق�اءات رشح هذا النم�وذج ‪ :‬أحيانا ال نس�تطيع ىف بعض اآليات‬
‫تفعيل بعض الوحدات‪ ،‬فامذا نفعل؟‬
‫وكانت اإلجابة ال خترج عام سبق‪ ،‬فهذه أدوات استنباط ووسائل للتحليل‪ ،‬قد حتتاج‬
‫بعضها أحيانا وقد ال حتتاج‪ ،‬ولكنك لن تعدم احتياجها كلها عىل مستوى السورة كلها‬
‫أو املقطع كله‪.‬‬
‫والن�اس يتفاوت�ون ىف التدب�ر والتفك�ر‪ ،‬فق�د جت�د واحدا اس�تطاع أن يس�تخدم من‬
‫الوحدات ما مل يستطعه غريه ىف اآلية الواحدة‪ ،‬وكل ميرس للخري‪ ،‬وذلك فضل اهلل يؤتيه‬
‫من يشاء‪.‬‬
‫فامله�م أهن�ا أدوات حتليل تلفت االنتباه إىل أن القرآن به م�ن املعانى والكنوز ما يمكن‬
‫اس�تخراجه عن طريق اس�تدعاء االس�تعامل أو التفكر ىف العالقات أو غير ذلك من بقية‬
‫وحدات النموذج‪.‬‬
‫‪ -3‬ال جي�ب أن تك�ون مرتب�ا ىف التدب�ر وفق ترتيب ه�ذا النموذج‪ ،‬فاق�رأ اآلية الكريمة‬
‫وأطلق لنفس�ـك العنان ىف التدبر‪ ،‬وسـجل كل ما تستحرضه من تأمالت مستخدما‬
‫وح�دات هذا النموذج‪ ،‬فقد تس�تعمل وح�دة األحكام قبل وح�دة العالقات‪ ،‬وقد‬
‫تس�تنبط معنى بناء عىل اس�تخدامك لوحدة القيم املقاصدية قبل أن تستخدم وحدة‬
‫السنن والقوانني‪ ،‬املهم أن تتدبر‪ ،‬وما يفتح اهلل تعاىل به فابدأبتسجيله فورا‪.‬‬
‫إال أنك غالبا ستبدأ بالوحدة األوىل ال سيام ما يتعلق باستدعاء املعانى واإلحياءات ؛‬
‫فهى أول ما يفاجئك ىف اآلية الكريمة‪ ،‬أن تعيش مع ألفاظها ومعانيها‪ ،‬وغالبا ما ستنهى‬
‫‪154‬‬
‫تدب�رك بوحدة النموذج احلضارى كام أثبت ذلك الواقع العمىل ىف التعامل مع النموذج‬
‫ممن سبقوك‪.‬‬
‫وس�وف نعرض ىف الصفحة التالية نموذج التسجيل الذى نقوم بكتابة منتجات التدبر‬
‫في�ه‪ ،‬فحني التدبر ىف ورش�ة املعايش�ة يكون هناك كات�ب عنده القدرة على الكتابة برسعة‬
‫وصياغ�ة ما يقال ب�دون أن يفقد الرتكيز والتفاعل مع الورش�ة‪ ،‬فيش�ارك باحلوار ويكتب‬
‫خالصة ما يقال أيضا‪.‬‬
‫وىف النهـاية هذا ما تم تس�طريه بش�أن ش�ـرح نموذج (التحليل املنظومى والنموذج‬
‫احلض�ارى) راعي�ت في�ه االختص�ار ىف الشرح‪ ،‬واقتصرت م�ن األمثلة على ما حيقق‬
‫املقصود‪ ،‬ونرجو من اهلل تعاىل أن يوفقنا ىف كتب قادمة ىف معايش�ة القرآن تكون تطبيقية‬
‫عىل سور كاملة أو موضوعات من القرآن الكريم‪.‬‬
‫واهلل تعاىل أسأل أن يتقبل هذا العمل وأن ينفع به مؤلفه وقارئه‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫منــوذج الت�سجيــل‬

‫التحليل املنظومى والنموذج احل�ضارى‬


‫ال�سنن‬
‫الإجراءات‬ ‫القيم‬
‫الأحكام‬ ‫والقوانني‬ ‫املغايرات‬ ‫العالقات‬
‫املقا�صدية واملهارات‬
‫احلاكمة‬
‫النموذج‬
‫�ألفاظ الآية‬

‫فى املعانى والإيحاءات‬


‫احل�ضارى‬

‫فى اال�ستعماالت‬
‫الكرمية‬

‫بـيـن الآيـــــات‬

‫بـيـن الـجــمـل‬
‫فــى الـمـو�ضع‬
‫فــى الأ�شــياء‬

‫بـيـن املوا�ضع‬
‫فـى الــبـ�شــر‬
‫الــجــزئـــيـة‬

‫الإنـ�شـائـيـة‬
‫الـحــافـظــة‬
‫الــدافــعـــة‬

‫الـخــبـريـة‬

‫وتطبيقاته‬
‫الــكــلــيـة‬

‫احلمد‬

‫هلل‬

‫رب‬

‫العاملني‬

‫الرحمن‬

‫الرحيم‬

‫مالك‬

‫يوم‬

‫الدين‬

‫‪156‬‬
‫الفـهــــر�س‬

‫ال�صفحة‬ ‫ ‬
‫املو�ضـــوع‬ ‫ ‬

‫مقدمة‪5 ..............................................................................................................................................‬‬
‫خصائص هذا النموذج‪7 ................................................................................................................‬‬
‫سبب التسمية‪10 ..............................................................................................................................‬‬
‫كلمة عن تدبر القرآن‪12..................................................................................................................‬‬
‫الرس�م التخطيطى لنموذج (التحليل املنظومى والنموذج احلضارى)‪16 .................................‬‬

‫الف�ص��ل الأول‪ :‬الوحدة الأوىل من النموذج ‪( :‬ا�ستدعاءات الألفاظ)‪17.....................‬‬


‫�أوال ‪ :‬استدعاءات األلفاظ ىف املعانى واإلحياءات‪17......................................................................‬‬
‫‪ -‬تطبيقات عملية على اس�تدعاءات األلف�اظ‪18..............................................................‬‬
‫‪ -‬كلمة (رجل أو رجال)‪18...................................................................................................‬‬
‫‪ -‬كلمة (امرأة أو نساء)‪18........................................................................................................‬‬
‫(قوامون)‪19..............................................................................................................‬‬
‫‪ -‬كلمة ّ‬
‫‪ -‬كلمة (بحر)‪19....................................................................................................................‬‬
‫‪ -‬ألفاظ املواقيت ىف القرآن‪20..................................................................................................‬‬
‫‪ -‬قصة عظيمة وموقف جليل‪21............................................................................................‬‬
‫ثانيا ‪ :‬استدعاءات األلفاظ ىف االستعامالت‪26 ...............................................................................‬‬
‫‪ -‬استعامل القرآن لألفواه‪26....................................................................................................‬‬
‫‪ -‬استعامل القرآن للفظتى (الزوج ــ البعل)‪29........................................................................‬‬
‫‪ -‬استعامل القرآن للفظ «وامرأته»‪36.......................................................................................‬‬
‫‪157‬‬
‫‪ -‬استعامل القرآن للربط عىل القلب‪42...................................................................................‬‬
‫‪ -‬استعامل القرآن آلية ﴿ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﴾‪44 .................................................‬‬
‫‪ -‬استعامل القرآن لقوله ﴿ﯛﯜﯝ ﯞﯟ﴾‪45 ........................‬‬
‫‪ -‬نوع آخر من استدعاء االستعامالت‪47 ..............................................................................‬‬

‫الف�صل الثانى‪ :‬الوحدة الثانية من النموذج ‪( :‬العالقات)‪53.......................................‬‬


‫‪ -‬أمثلة تطبيقية عىل العالق�ات‪56.................................................................................................‬‬
‫‪ -‬قول�ه تع�اىل ﴿ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﴾ اآلي�ة‪56......................................................‬‬
‫‪ -‬قول�ه تع�اىل ﴿ﭺ ﭻ ﭼ ﴾ وعالقت�ه بما قبل�ه‪59............................................‬‬
‫‪ -‬قوله تعاىل ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﴾‪63............................................‬‬
‫‪ -‬سورة النبأ والعالقة بني قصصها‪66 ............................................................................................‬‬
‫‪ -‬كلمة عن العلم الكثري ىف العالقات‪71 ..........................................................‬‬
‫‪ -‬أمثل�ة م�ن ورش�ات معايش�ة الق�رآن‪72 ...............................................................................‬‬

‫الف�صل الثالث‪ :‬الوحدة الثالثة من النموذج ‪( :‬املُغا َيرات)‪75.........................................‬‬


‫�أوال ‪ :‬املغا َيرة ىف نفس املوضع‪75 ...................................................................‬‬
‫‪ -‬املقابلة بني شيئني بأسلوب االحتباك‪78.............................................................................‬‬
‫‪ -‬أمثلة تدريبية عىل االحتباك‪83............................................................................................‬‬
‫‪ -‬أنواع كثرية من املغا َيرات‪83 ..............................................................................................‬‬
‫ثانيا ‪ :‬املغا َيرة بني املواضع‪87 ........................................................................................................‬‬

‫الف�ص��ل الرابع‪ :‬الوحدة الرابعة من النموذج ‪( :‬ال�سنن والقوانني احلاكمة)‪91.........‬‬


‫‪ -‬اهتامم القرآن بالنص عىل الس�نن‪93...........................................................................................‬‬
‫‪ -‬ما نقص�ده إذن بالس�نن‪98..........................................................................................................‬‬
‫‪ -‬من لطائف السنن املستنبطة ىف ورشات املعايشة‪100 ..................................................................‬‬
‫‪158‬‬
‫الف�ص��ل اخلام�س ‪ :‬الوحدة اخلام�سة من النموذج ‪( :‬الأحكام)‪103..............................‬‬
‫‪ -‬وقفة أمام احلكم اخلربى‪105 ......................................................................................................‬‬

‫الف�صل ال�ساد�س‪ :‬الوحدة ال�ساد�سة من النموذج ‪( :‬القيم املقا�صدية)‪109.................‬‬


‫‪ -‬سورة الطالق والتدبر املقاصدى فيها‪109 ...................................................................................‬‬
‫‪ -‬لباس املسلمة ورؤية القرآن فيها‪112..........................................................................................‬‬
‫‪ -‬شيوع الفكر املقاصدى ىف القرآن كله‪114 ..................................................................................‬‬
‫‪ -‬طرق أخرى ملعرفة القيمة املقاصدية‪118 ..................................................................................‬‬
‫‪ -‬املقاصد اجلزئي�ة والكلية‪119 .....................................................................................................‬‬

‫الف�ص��ل ال�سابع‪ :‬الوحدة ال�سابعة من النموذج ‪( :‬الإجراءات واملهارات)‪121 ............‬‬


‫‪ -‬التحديد الدقيق لإلجراء‪123.......................................................................................................‬‬
‫‪ -‬كيف نصنع إجراءات ملا هنى اهلل عنه ؟‪126 ...............................................................................‬‬
‫‪128‬‬ ‫‪..........................................................................................................................‬‬ ‫‪ -‬امله�ارات‬
‫‪ -‬خالصة م�ا س�بق‪131.................................................................................................................‬‬

‫الف�صل الثامن ‪ :‬الوح��دة الثامنة من النموذج ‪( :‬النموذج احل�ضارى وتطبيقاته) ‪133‬‬


‫‪ -‬سورة العرص ونموذج النجاح‪135 ..............................................................................................‬‬
‫‪ -‬تكرار نموذج النجاح ىف القرآن‪137 ...........................................................................................‬‬
‫‪ -‬نموذج فض الرشاكة‪138...........................................................................................................‬‬
‫‪ -‬نموذج العمل اجلامعى‪144........................................................................................................‬‬
‫‪ -‬نموذج العملية التعليمية‪147.......................................................................................................‬‬
‫�أوال ‪ :‬املعل�م‪148 ...........................................................................................................................‬‬
‫ثانيا ‪ :‬املتعل�م‪149..........................................................................................................................‬‬
‫‪159‬‬
‫ثالث��ا ‪ :‬املنه�ج التعليم�ى‪149......................................................................................................‬‬
‫‪ -‬النامذج احلضارية البسيطة واملركبة‪150 ...........................................................................‬‬
‫خامتة‪153 ........................................................................................................................................‬‬
‫نموذج التسجيل‪156 .....................................................................................................................‬‬
‫الفهرس‪157....................................................................................................................................‬‬

‫‪160‬‬

You might also like