Professional Documents
Culture Documents
امل�ؤلف
بالل حممود طلب
الطبعة الأوىل
1437هـ 2016 -م
منافذ البيع
جمعية عليني � 47 :ش نعمان جمعة ــ احلى الثانى ــ مدينة العبور
مكتبة املدينة � :أمام �سنرت العبور ــ احلى الأول ــ مدينة العبور
للتوا�صل
�أرقام التليفونات 01011369824 _ 0111709869 :
�صفحة الفي�س بوك :معاي�شة القر�آن الكرمي
الربيد الإلكرتونى belalte777@yahoo.com :
4
املقدمــة
ب�س��م اهلل واحلم��د هلل وال�ص�لاة وال�سالم عل��ى ر�س��ول اهلل وعلى �آله
و�صحبه ومن تبع هداه ،وبعد...
بحكم درا�ستى �أراجع كت��ب التف�سري و�أكرث من االطالع فيها ،حماوال
فهم القر�آن الكرمي ،واملحاور التى يدور حديثه عنها ،بل �إنى خ�ص�صت
�سن��ة كاملة للقر�آن الكرمي ال �أقر�أ �إال ف��ى كتب التف�سري ،تتبعت فيها
الق��ر�آن الآية �آية� ،أقف مع �أقوال املف�سري��ن فيها ،واملعانى التى يدور
القر�آن حولها.
وما زلت بعد هذه التجربة �أتابع النظر فى القر�آن الكرمي ،و�أقلب فى
كتب التف�سري ،وبعد فرتة �س�ألت نف�سى �س�ؤالني :
الأول :ماذا بعد كل ما قيل ىف التفسـري؟ وأغلب ما يقال اآلن فيه هو تكرار ملا سـبق
قـوله ،واس�تدعاء للامىض دون إضافة ،فال تكاد تفتح كتابامن كتب التفسير املعارصة
إال وجت�د نفس األقوال ونفس االختلاف ،اللهم إال ما قل من حماوالت جدية أضافت
جديدا وأفادت علام.
الثانى :ماذا عن عموم املسلمني؟ ماذا عن الذين مل يؤ َتوا حظا من التخصص الذى
ّ
يمكنهم من القراءة ىف كتب التفسير ،واملهارة ىف التعامل مع لغة املفرسين ،ومناهجهم
املختلفة ىف العرض والتفسـري؟ ماذا عن موقفهم من كتاب رهبم وهم ال يعرفون معنى
ما يقرءون؟ فكيف به يعملون؟
ولإلجابة عىل هذين السؤالني وجدت أن احلل هو تدبر القرآن الكريم ،وبذل قصارى
اجله�د ىف التفكير وإمعان النظر في�ه ،وأنه الوس�يلة إىل إضافة اجلديد واس�تخراج ما مل
يس�تخرجه السابقون ،ال س�يام إذا كان املتدبرون من ذوى التخصص ىف اللغة والتفسري
وعلوم الرشيعة اإلسالمية الغراء.
5
كما أن التدبر يصلح أن يكون وس�يلة لعموم املس�لمني الذى حيتاج�ون إىل التعامل
م�ع كتاب رهبم دون أن يؤ َتوا من العلم ما جيعلهم يتعاملون مع كتب التفسير املختلفة
بنفس مهارة املتخصصني.
على حني فكرت ىف وضع نم�وذج لتدبر الق�رآن الكريم ،أقدمه م�ن اهلل تعاىل ّ
ولق�د ّ
للن�اس ليتفاعلوا مع كتاب رهبم ،فام هو إال آلي�ة للتدبر والتحليل والوقوف أمام اآلية
بمزيد من التفكر ليتحقق به معايشة القرآن الكريم.
وضع�ت نم�وذج (التحلي�ل املنظومى والنم�وذج احلضارى) وب�دأت أدرب بعض
أصحاب�ى وتالمي�ذى علي�ه ،وبعضهم ممن درس�وا ىف األزه�ر وغريه وأوت�وا نصيبا من
التخص�ص ،وأغلبهم من ذوى الثقافة والتعليم ىف ختصص�ات أخرى ،ويتمتعون بقدر
من الذكاء واملعرفة التعليمية التى متكنهم من التفاعل والتجاوب مع هذا النموذج.
جرب�ت ه�ذا النم�وذج معهم ألرى م�دى نجاحه واألخط�اء التى يمك�ن أن تكون
في�ه لتعديل�ه وتطويره ،تاركا للتجربة هى التى تتكل�م ،وللمتدربني هم الذين حيكمون
ويقيمون النموذج.
ّ
ولقد كانت التجربة بفضل اهلل تعاىل ناجحة من حيث اجلملة ،وقد خرجت منها بام يىل:
-1جرب�ت ه�ذا األمر م�ع أول جمموع�ة أدرهبا عىل فه�م النموذج واس�تعامله ىف تدبر
القرآن الكريم ،فتجاوبوا معه وخرجوا يعرفون كيف يستعملونه ،ناوين أن يعقدوا
ورشات عمل مستمرة لتدبر القرآن هبذا النموذج.
-2ومل�ا رأيت النج�اح مع هذه املجموع�ة والتجاوب مع النم�وذج عزمت عىل تكرار
التجربة مع جمموعة أخرى ،وقد كان ،فدربت عليه إىل هذا احلني ثالث جمموعات
أخ�رى غري املجموعة األوىل ،وكلها بفضل اهلل تع�اىل كانت نتائجها ال ختتلف عن
نتيجة املجموعة األوىل.
-3بعد التدريب عىل استعامل نموذج (التحليل املنظومى والنموذج احلضارى) مل تنقطع
عالق�ة املجموع�ات التى تدرب�ت عليه بانتهاء ال�دورة التدريبي�ة إال بعض األفراد
لظروفه�م اخلاص�ة بوقتهم وانش�غاهلم ،بل كان�ت املجموعات تلتحق بورش�ات
6
العم�ل املنعقدة لتدبر القرآن الكريم مع إخواهنم وأخواهتم ،فكان األمر أكثر إثراء
هلم ىف التدريب عىل تدبر القرآن واستخراج كنوزه.
-4قمنا بوضع خطة أولية ىف ورش�ات العمل إلنجاز جزء عم تدبرا له باس�تعامل هذا
النموذج ،ليكون نقطة بداية لالنطالق إىل اس�تكامل املسرية مع القرآن كله ،وقد تم
لنا هذا األمر وأوشك جزء عم عىل االنتهاء بإذن اهلل تعاىل.
-5مم�ا يميز ه�ذه التجربة (الدورات التدريبي�ة عىل النموذج ،ثم ورش�ات العمل) أن
أغلب املش�اركني هبا من غري املتخصصني ىف العلوم الرشعية ،وهذا يعنى بناء عىل
واقع التجربة ـ أن النموذج قد أجاب عىل السؤال الثانى الذى سبق ،وأنه قد ساهم
ـ ولو بجزء ـ لس�د ه�ذا االحتياج اخلاص بعموم املس�لمني الذين جيب أن يرتبطوا
بكتاب اهلل تعاىل ،وأن يتفاعلوا مع آياته.
-6كما أن بع�ض إخواننا من طلب�ة العلم املتخصصين قد وجد ىف ه�ذا النموذج وىف
منتجاته ما يش�بع بغيته وما يضيف له جديدا من معانى القرآن الكريم ،وما يضيف
جدي�دا بصناع�ة واقع صحيح ينبث�ق ىف تصورات�ه ومفرداته وإجراءات�ه من القرآن
الكريم.
-1رواه أمح�د :املس�ند (183/42ـ رق�م )25302طبع�ة الرس�الة ـ حتقيق ش�عيب األرنؤوط وغريه ـ
الطبع�ة األوىل 1421ه�ـ ـ 2001م ،وق�د صح�ح إس�ناده املحقق .وهو ج�زء من حديث رواه مس�لم بلفظ
« َفإِنَّ ُخ ُل َق َنبِ ِّي اهللِ َصلىَّ ُ
اهلل عَ َل ْيه ِ َو َس َّ�ل َم َكانَ ا ْل ُق ْرآنَ » من كتاب صالة املس�افرين وقرصها ـ باب جامع صالة
الليل ومن نام عنه أو مرض ،صحيح مسلم برشح النووى ( 280/3ـ ق )746دار احلديث ـ الطبعة األوىل
1415هـ ـ 1994م ـ حتقيق عصام الصبابطى وغريه.
7
فتحوي�ل الق�رآن إىل واقع عمىل وإجراءات ومهارات حمددة هو ما ينبغى أن هنتم به،
وأن نعطيه عناية خاصة لعالج واقع املسلمني ومعاجلة اآلفات التى أصابت املجتمع
املسلم.
-2ه�ذا النم�وذج جمرد آلية للتحليل من خالل وحداته الثامنية ،ثم يرتك للعقل اإلمعان
والتفك�ر ،وكأنه يطرح أس�ئلة عىل الورش�ة التى تتدبر لتُجرى نقاش�ا حول اللفظة
القرآنية أو اآلية لكى جتد إجابات عىل هذه األسئلة.
ولذلك فإن هذا النموذج يعتمد عىل أمرين لتفعيله بشكل جيد :
الأول :التفكري وإمعان النظر وبذل قصارى اجلهد ىف التدبر والتأمل.
الثانى :العمل اجلامعى من خالل ورشة عمل بني جمموعة من املتعلمني ليتناقشوا ىف
اآلية الكريمة ،وحياولوا إجياد إجابات عىل أسئلة يطرحها النموذج.
فقد وضعت النموذج ىف األس�اس ليطبق هبذه الطريق�ة ىف التفكر والعمل اجلامعى،
وقد حقق نجاحه من خالل نتائجه ىف الواقع واستمتاع املتدربني به.
وه�ذا ال يعن�ى أن�ه ال يصل�ح أداة للتدبر من خلال تفكر فردى ،ولكن اس�تخدامه
للش�خص الواح�د حيت�اج إىل مهارة أكثر ووق�ت للتعامل معه ،فإذا ما اعت�اد الفرد عىل
اس�تعامله ىف جمموعة عمل فرتة من الوقت اكتسب املهارة ىف التعامل معه بشكل فردى،
وهذا الوقت قد يطول أو يقرص حسب إمكانات الفرد وقدرته عىل االستيعاب ،فالفروق
الفردية ىف استعامل هذا النموذج مما يميزه حتى ىف العمل اجلامعى داخل الورشة.
ولكن نتائج اس�تعامله الفردى لن تكون أفضل من نتائج العمل اجلامعى الذى يثريه
النق�اش واحل�وار وط�رح األس�ئلة وحماولة اإلجاب�ة عليه�ا ،واألخذ وال�رد ىف الكالم،
وتب�ادل األفكار بني املجموع�ة ،فاألفكار تتالقح لتولد أفكارا وأف�كارا أنضج وأقرب
إىل الصواب.
وليس هذا جمرد كالم نظرى أقوله من تصورى وخميلتى ،بل هو ما أثبتته كل التجارب
السابقة مع جمموعات العمل ممن تدربوا عىل التدبر هبذا النموذج.
8
-3كما أن ه�ذا النم�وذج ىف وحدات�ه الثامنية ال ينح�و ـ ىف أغلبه ـ منح�ى املصطلحات
واأللف�اظ املتخصص�ة ىف علوم الرشيع�ة ،بل مصطلحات�ه ىف أغلبه�ا عادية يعرف
أص�ل معناها أى متعل�م ،ويبقى فقط رشح كيفية تفعيله�ا من خالل التدريب عىل
النموذج.
خ�ذ مثاال عىل ذلك ( :العالقات) وهى تش�كل وحدة كاملة من وحدات النموذج،
وتعن�ى البحث عن العالق�ات بني اجلمل القرآنية ىف اآلية الواح�دة ،ثم بني اآليات ،ثم
العالقات بني السور.
فكأهنا تطرح أسئلة :ملاذا جاءت هذه اآلية بعد تلك؟
مل�اذا اش�تملت ه�ذه اآلية عىل ه�ذه املجموع�ة م�ن التعاليم الت�ى تفي�د ىف ظاهرها
موضوعات خمتلفة؟
ملاذا ربطت السورة بني هذين املوضوعني ،أو هذه املوضوعات املختلفة؟
ملاذا جاء ذكر كذا بعد كذا؟
وهل ذكر هذا األمر بعد ذاك املوضوع يسهم ىف تكوين صورة متكاملة عن املوضوع؟
وكيف يكون ذلك؟
كله�ا أس�ئلة تطرحها وح�دة العالق�ات ىف نم�وذج ( التحليل املنظوم�ى والنموذج
احلض�ارى) وعلى املجموعة التى تتدبر القرآن داخل الورش�ة أن حت�اول إجياد إجابات
عليه�ا ،ب�ل وتطرح أس�ئلة أخرى م�ع إجاباهتا ،وليس ه�ذا كام يتص�ور البعض باألمر
العسير ،ب�ل ثبت عمليا أن التدب�ر ىف إجياد العالق�ات أمر ممكن ،وأحيان�ا مع قليل من
التفك�ر تص�ل املجموع�ة إىل إجاب�ات هائل�ة ،وتس�تخرج كنوزا م�ن املعرف�ة واملعانى
واإلحياءات والرسائل القرآنية من خالل ربط اآلية أو السورة بني موضوعات خمتلفة.
وكل ذلك سوف يتضح أكثر باألمثلة عند رشح العالقات ىف هذا النموذج.
-4هيت�م ه�ذا النم�وذج باجلان�ب املقاصدى للق�رآن الكري�م ،وإبراز القي�م املقاصدية
الكلي�ة واجلزئية ،وفه�م األحكام القرآنية غير معـزولة عن مقاصـده�ا وأهدافها
ِ
وحكمه�ا التى تراد منها ،فالقرآن مل يع�رض األحكام أبدا بمعزل عن املقاصد منها
9
كما تعرضها كتب الفقه ،بل ال تكاد ختلو اآلية من مقصد أو أكثر ،إما بالنص عليه
أو باالستنباط ،وما علينا إال أن نتأمل ونتدبر لنعرف.
كلمـ ـ ــة ع ـ ــن تدبـ ــر القـ ـ ـ ــرآن الكري ـ ــم :
ال ش�ك أن التفسير للمتخصصني ممن حباهم اهلل تعاىل واختاره�م للتفقه ىف الدين
وطلب علوم رشيعته حتى صاروا علامء يستطيعون تفسري القرآن الكريم.
وهن�اك طائف�ة أقل ىف املنزلة من العلامء ولكنهمأكثر ع�ددا منهـم ،وهم طلبة العـلم
الرشع�ى ،حي�ث يس�تطيعون التعام�ل م�ع كت�ب التفسير والق�راءة فيها وفه�م لغتها
تدرج ىف الطلب والتخصص ومنهجه�ا ،وما يمكن أن يؤخذ منها وأن يرتك ،وبعضهم َّ
لدرج�ة أنه يقدر عىل الرتجيح بني األقوال واالختالفات ىف اآلية ،فهؤالء وإن مل يصلوا
إىل مرتب�ة أهن�م يق�درون أن يفرسوا القرآن إال أهنم يس�تطيعون التعامل م�ع ما قيل وما
كتب ىف التفسري.
وكل من الطائفتني الس�ابقتني ـ العلامء والطلبة ـ ال يش�كلون أغلب املس�لمني ،بل
ال جي�اوزون معش�ار املس�لمني ،فامذا ع�ن األعم األغل�ب من مجاهري املس�لمني؟ كيف
يتعاملون مع هذا الكتاب الذى نزل هلدايتهم؟
م�اذا عن عموم املس�لمني الذين جيب ربطه�م بالقرآن الكريم ينهل�ون منه كام ينهل
غريهم؟
لق�د أن�زل اهلل كتابه ليكون نفعا للناس كلهم ،وليقرأه كل املس�لمني ويتدبروا آياته،
والنبى
ّ نفسه
فليست قراءة القرآن للعلامء وطلبة العلم الرشعى فحسب ،بل دعا القرآن ُ
ﷺ عموم املسلمني إىل مداومة قراءة القرآن واالستامع إليه بإنصات.
* قـال تعاىل﴿ :ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﴾ (اإلس�ــراء:
اآلية .)106
﴿ ﭢ ﭣ ﭤ ﴾ (املزمل :اآلية .)4
12
﴿ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﴾ (املزمل :اآلية .)20
﴿ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ
ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ﴾ (فاطر :اآلية .)29
وإذا كان اإلسالم ـ قرآنا وسنة ـ قد دعا إىل القراءة واعتربها من أفضل ما يتقرب به
املسلم إىل اهلل تعاىل فهل هى قراءة بدون تدبر وتأمل؟
ال ش�ك أن االنتفاع بقراءة القرآن الكريم ل�ن يقع عىل الوجه األمثل الذى يريده اهلل
تعاىل بدون فهم ملعانيه ،ووعى بام يأمر اهلل به وينهى عنه ،ليحصل بذلك االمتثال ألوامر
اهلل تع�اىل ،وحصول التدين الصحيح الذى يريده اهلل من�ا ،وأغلب الذين يقرءونالقرآن
من غري املتخصصني ،فامذا يفعلون؟
املخرج ـ إذن ـ هو التدبر ومعايشة آيات القرآن الكريم ،وأن حياول املسلم التأمل بام
أوتى من فهم وعقل ،يستوى ىف ذلك العقل مع العلامء واملتخصصني ،وليس كل مسلم
مطالبا بأن يكون متخصصا ىف علوم الرشيعة والتفسري لكى يقرأ القرآن ،بل هو مطالب
بأن يفهم ما يقرأ ويعى ما ُيتىل ،وحياول أن ُي ِ
لقى س�معه للتالوة ،وأن يكون قلبه حارضا
وعقله متدبرا أثناء تالوته أو اس�تامعه للقرآن ،وس�وف حيصل الكثري من اإليامن والفهم
بمجرد فعل ذلك ،األمر ليس عسريا ،عىل املسلم فقط أن يتدبر وسوف جيد ثمرة تدبره
ىف حالوة اإليامن ،وىف لذة القرآن ،قال تعاىل :
-2رواه البخ�ارى :التفسير ـ ب�اب س�ورة عبس ،انظ�ر صحيح البخ�ارى مع فتح الب�ارى البن حجر
(560/8ـ ق )4937دارالري�ان ـ برتقيم حممد فؤاد عب�د الباقى وتعليق حمب الدين اخلطيب ـ الطبعة الثانية
1407ه�ـ ـ 1987م .ورواه مس�لم باللف�ظ املذكور :صالة املس�افرين وقرصها ـ باب فض�ل املاهر بالقرآن
والذى يتتعتع فيه (343/3ـ ق .)798
13
﴿ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ
ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﴾ (األنفال :اآلية .)2
فأي�ن املس�لمون من زي�ادة اإليامن بسماع القرآن؟ لن يك�ون ذلك إال بتدب�ر القرآن
الكريم!
لقد دعا القرآن الكريم قارئيه ومستمعيه إىل التدبر والتأمل فقال تعاىل :
﴿ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ﴾ (النساء:
اآلية .)82
﴿ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﴾ (حممد :اآلية .)24
فجع�ل اهلل الن�اس مع الق�رآن ـ ىف هذه اآلية ـ على حالني :ح�ال املتدبرين الواعني
ملعانيه املتأملني لعجائبه ،فإن مل يكونوا كذلك فليس هلم إال احلال الثانية:
قلوب ُق ْفل وعقول ُغ ْفل وهم أغلب الناس!!! وياحرسة عىل العباد !!!
وىف اآلية عظيمة وبنظم بديع يبني اهلل تعاىل سبب نزول القرآن :
﴿ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ﴾ (ص :اآلية .)29
فام أعظم هذه اآلية ىف بيان أمهية التدبر لعموم الناس كلهم!
إن الغاية من نزول القرآن طبقا هلذه اآلية الكريمة هى التدبر ﴿ﭶ ﭷ﴾.
إن بركة القرآن وخريه الذى جيب أن يفيض عىل الناس مفتاحه التدبر ﴿ﭵ ﭶ
ﭷ﴾.
إن املتدبرين هم ﴿ ﭹ ﭺ﴾.
فأصحاب العقول الس�ليمة فقط هم من يتدب�رون القرآن ﴿ ﭸ ﭹ ﭺ﴾
وما وراء ذلك عقول سقيمة قد ُجعلت عليها أقفاهلا.
وخالصة األمر أن القرآن نزل لنتدبره .وأننا نقرؤه لنتدبره .وأننا نستمع إليه وننصت
لنتدب�ره .وأننا نحفظ آياته لنقرأها عن ظهر قل�ب لنتدبره أكثر .وأننا نعلمه أوالدنا من
أجل أن يأتى اليوم ليقرءوه بتدبر .فلن ينتفع بالقرآن إال من تدبره.
14
ولن يفهم اإلسلام إال من تدبر القرآن ،ومن مل يعش مع القرآن فال ِّ
يصدع رءوس�نا
باحلديث عن اإلسلام ،فمحال أن يفهم اإلسلام من مل يفهم كتاب اهلل ،وحمال أن يفهم
كتاب اهلل من مل يعش معه بعقله وقلبه ،فالقرآن لن يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك.
وال يمك�ن أن حيت�ج أح�د ب�أن عم�وم الناس لي�س من حقه�م تفهم معان�ى القرآن
بمفردهم ألهنم ليس�وا من ذوى العلم ،بل عليهم أن يس�ألوا العلامء عن معانى القــرآن
﴿ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾ (األنبياء :اآلية .)7
ال جي�وز أن يقول أحد ذلك؛ ألن نص�وص القرآن تدعو إىل التدبر لكل الناس ،وإال
فلامذا حث الرشع عىل قراءة القرآن لكل أحد ،ومل خيص عاملا من غريه؟!
يتقول املسلم عىل اهلل بام ال يعلم ،وال أن خيوض ىف آيات اهلل
وتدبر القرآن ال يعنى أن ّ
بغري علم ،فهذا ال جيوز بال شك ،ولكن كل ما يعنيه هو استحضار القلب والعـقل عند
قراءتـه ،والتفـاعل معه بكليته ،عس�ى أن يزداد إيامنه ،ويتفهم من معـانيه ما سهل عليه
فهمه ،ويبقى ما غمض عليه بسبب قلة علمه مرتوكا لسؤال العلامء إن أراد.
األم�ر ليس عسيرا ،وكثري من ألفاظ الق�رآن وآياته ال حيتاج إىل تفسير ،فقط حيتاج
املرء معه إىل وعى وتدبر لينتفع بالقرآن.
ه�ذا ع�ن تدبر القرآن بمجرد تالوته أو االس�تامع إليه ،أما التدب�ر الذى نقصده وفق
النموذج الذى وضعناه لذلك فهو أعىل مستوى من جمرد التالوة أو االستامع بتمعن؛ إذ
إنه يعتمد عىل ثالثة أمور :
الأول :ختصيص اآلية أو قليل من اآليات ىف جلسة التدبر والوقوف أمامها طويال.
الثان��ى :أن يكون ذلك من خالل ورش�ة عمل بني جمموعة م�ن املتدبرين ،يتبادلون
أط�راف احلدي�ث حول اآلية موض�وع التدبر ،أو من خالل عص�ف ذهنى فردى ولكن
بعد التدرب عىل استعامل نموذج التدبر بمهارة.
الثال��ث :اتب�اع منهجية هذا النم�وذج ىف وحداته الثامنية واإلجابة عىل األس�ئلة التى
تطرحها كل وحدة منه.
***
15
16
الوحدة األولى مـن النموذج الفصـ ـ ــل األول
(استدعـاءات األلفـاظ)
فى المعانى واإليحـاءات
فى االستعماالت
أوال :استدع ـ ــاءات األلف ـ ــاظ ف ــى املعان ـ ــى واإليحـ ـ ــاءات :
عىل املتدبر أن ينطق اللفظة أو اجلملة أو اآلية ويس�تدعى معانيها وإحياءاهتا التى تقع
ىف نفسه.
وإذا كان معنى الكلمة غامضا فعليه أن يستعني بأى كتاب تفسري أو معجم لغوى أو
كتاب ىف رشح مفردات القرآن الكريم ،مثل كتاب (كلامت القرآن تفسري وبيان) للشيخ
حسنني خملوف ـ ليعرف املعنى اللغوى للكلمة.
والتدبر هنا خيتلف عن التفسير ،فالتفسري يعنى تفسري الكلمة القرآنية أو اجلملة من
حيث أصل معناها ،وما قاله املفرسون ىف املقصود منها.
أم�ا التدب�ر هنا فهو يعنى الوق�وف أمام الكلمة التى كثريا ما يك�ون معناها واضحا،
واس�تدعاء اإلحي�اءات التى ترميها الكلم�ة ىف النفس ،وما تلقيه من ظلال عىل العقل.
فقط عليك أن تتمعن وترتك لنفسك العنان ىف التفكر.
17
تطبيق ــات عملي ــة عل ــى استدعـ ــاءات األلف ـ ــاظ :
قصــة عظيم ــة وموق ــف جلي ــل ي ــدل عل ــى أهميــة التدبــر لأللفــاظ :
أقبلت ذات مرة من مس�جد البرصة إذ طل�ع أعرابى جلف جاف
ُ ق�ال األصمع�ى :
علىق عود ـ ناقة ـ له متقلد ًا سيفه وبيده قوسه ،فدنا وسلم.
21
وقال :ممن الرجل؟
قلت من بنى أصمع ،قال :أنت األصمعى؟
قلت :نعم.
قال :ومن أين أقبلت؟
قلت :من موضع يتىل فيه كالم الرمحن؛
قال :وللرمحن كالم يتلوه اآلدميون؟
قلت :نعم؛
قال :فاتل عىل منه شيئا.
فقرأت ﴿ ﯤ ﴾ إىل قوله ﴿ :ﮨ ﮩ ﮪ﴾.
فقال :يا أصمعى حسبك!!
وقطعها ِ
بجلدها. ثم قام إىل ناقته فنحرها ّ
وقال :أع ّنى عىل توزيعها؛ ففرقناها عىل من أقبل وأدبر.
الر ْحل وولىَّ نحـو البادية وهـو
ثم عمد إىل س�يفه وقوس�ه فكرسمها ووضعهام حتت َّ
يقول ﴿ :ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﴾.
فمقت نفسى ولمُ تها ،وقلت :ملتنتبه ملا انتبه له األعرابى.
ُّ
ث�م حجج�ت مع الرش�يد ،فبينام أن�ا أط�وف إذا أنا بصوت رقي�ق ،فالتفت ف�إذا أنا
باألعرابى وهو ناحل مص َف ّر ،فسلم ع ّ
ىل وأخذ بيدى وقال :اتل عىل كالم الرمحن،
وأجلسنى من وراء املقام فقرأت ﴿ ﯤ ﴾ حتى وصلت إىل قوله تعاىل ﴿ :ﮨ
ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﴾.
فقال األعرابى :لقد وجدنا ما وعدنا الرمحن حقا،
وقال :وهل غري هذا؟
22
قل�ت :نع�م؛ يق�ول اهلل تب�ارك وتع�اىل ﴿ :ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ
ﯗ﴾.
َ
اجلليل حتى حلف! أمل قال فصاح األعرابى وقال :يا سبحان اهلل! من الذى أغضب
يصدقوه فيقوله حتى أجلأوه إىل اليمني؟
فقاهلا ثالثا وخرجت هبا نفسه (أيامت)(((.
فف�ى هذه القص�ة العظيمة يظهر دور التدبر ،تدبر األلف�اظ وموقعه ىف النفس ،األمر
ال حيتاج إىل تفسير وال إىل كبري جهد ىف معرفة معانى الكلامت ،بل حيتاج فقط إىل وقفة
ومعايش�ة م�ع الق�رآن ،وتدبر حالنا ويقيننا ىف ه�ذه اآلية التى تبين أن اهلل تعاىل قد كفل
لن�ا أرزاقنا ،وجعلها بيده وح�ده ﴿ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ
ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾ (هود :اآلية . )6
لقد كان هذا املعنى هو ما وراء زهد احلسن البرصى حني سئل عن سبب زهده فقال
:علمت أن عمىل ال يقوم به غريى فاشتغلت به ،وعلمت أن رزقى ال يذهب إىل غريى
فاطمأن قلبى ...إىل آخر ما قال.
مل يق�رأ احلس�ن البرصى ه�ذا املعنى ىف كتاب تفسير ليس بيد أحد س�واه ،ومل يطلع
على كن�ز من كن�وز املعرف�ة واحلكمة مل يطل�ع عليه غريه ،كل م�ا هنا لك أن�ه تدبر هذا
املعن�ى بيـقني ،تفاع�ل معه بقلبه وقرأ آيات القرآن عن ال�رزق ،والتى تقرر وتكرر دائام
أن ال�رزق بي�د اهلل وحده ولن يأخذ أحد رزق أحد ،وأن اهلل وحده هو الذى يبس�طه ملن
يشاء وي ْق ِدره ملن يشاء.
ل�و تدبرن�ا هذه املعان�ى وإحياءاهتا ىف النفس الرت�اح الناس كثيرا ورجعوا إىل رهبم
خير رجعة ،واطمأنت نفوس�هم وابتعدوا كثريا عن املعاىص املتعلق�ة بالرزق كالرسقة
والرش�وة واالختالس وجحود األمانات والعم�ل ىف األماكن املحرمة كأماكن اخلمور
وامليرس.
-3القص�ة ذكره�ا ابن قدامة ىف كتابه «التوابني» ( )163دار اب�ن حزم ـ الطبعة األوىل .2003وذكرها
القرطبى ىف تفسريه لسورة الذارايات.
23
األمر ال حيتاج أكثر من تدبر عميق وتأمل ووقفة مع النفس.
فاألعراب�ى ىف ه�ذه القص�ة مل يفعل أكثر من ه�ذا ،لقد وقعت اآلية من نفس�ه موقعا
عظيام جعلته ينحر ناقته وال خيشى رزقا بعد سامعه اآلية.
ثم جاءت اآلية األخرى التى قضت عليه بسبب ما أحدثته ىف نفسه من إكبار وتعظيم
ملقام اهلل تعاىل.
﴿ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ﴾.
أقس�م اهلل تع�اىل بنفس�ه وربوبيته للسماء واألرض أن قضي�ة ﴿ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ
ﮬ﴾ حق ال مرية فيه ،كام أنكم تثقون ىف نطقكم حني تنطقون.
األعرابى هذا األمر ىف نفسه؛ ملاذا يقسم اهلل تعاىل عىل هذه القضية؟
ُّ فأعظم
َ
وهل املوىل تعاىل بعظمته وكربيائه حيتاج إىل قسم حتى نصدقه؟
مل يستطع األعرابى حتمل هذه املعانى ففاضت روحه ـ حسب القصة ـ إىل رب السامء
واألرض.
وليس املقصود أن تفيض روح العبد إىل اهلل حني يقرأ القرآن ،أو أن يكون أثر القرآن
ىف نفوس�هم كأث�ره عند األعرابى ،وربام وقع ىف القص�ة مبالغات ال يعنينا صحت أم ال،
ولك�ن املقص�ود أن هاتني اآليتني من س�ورة الذاريات حتالن كثريا من مش�اكل الناس،
ألن أمر الرزق من أمور املعاش التى تسيطر عىل حياهتم وتشغل أغلب أوقاهتم.
وعالج األمر كله ىف هاتني اآليتني لو عقل الناس القضية!
وخالصة األمر أن كل ألفاظ القرآن الكريم نستطيع أن نقف أمامها هبذه املنهجية ىف
اس�تدعاء معانيها وإحياءاهتا ىف النفس ،وكل مسلم بحسب طاقته ىف االستدعاء وحالته
النفسية وقت االستدعاء ،وحسب ما أوتى من علم وفهم وخربة وثقافة ،كل ذلك يؤثر
ىف عملية االستدعاء.
فلا ش�ك أن من يقرأ الق�رآن وهو ىف موقف اضطرار وضي�ق يتفاعل مع قوله تعاىل
﴿ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ﴾ (النم�ل :اآلي�ة )62أكث�ر م�ن غريه،
24
ويستحرض من املعانى ما ال يستحرضه غريه ،وحيب أن يكرر اآلية ويقف أمامها ويدعو
اهلل تعاىل وهو عىل هذه احلال.
ومن سافـر ىف البحر وكاد هيلك لوال أن نجاه اهلل ـ يدرك أكثـــر مـــن غريه قولـه
تع�اىل ﴿ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ
ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ
ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﴾ (يونـــ�س :
اآلية .)22
وكل ألف�اظ القرآن ومجَل�ه تصلح أن تكون جماال هلذا االس�تدعاء ،ولكن كل واحد
بحسبه كام قلنا ،وما ذكرناه من أمثلة يدل عىل ذلك ،وللتأكيد عىل هذه الفكرة نطبق مبدأ
استدعاءات األلفاظ عىل سورة كاملة ،ننقلها كام هى من منتجات بعض الورشات:
استعمـ ــال الق ــرآن للفظت ــى (الـ ــزوج ـ البعـ ــل) :
الغال�ب ىف القرآن ىف عرشات اآليات أن يس�تعمل كلم�ة الزوج ،كقوله تعاىل ﴿ﯻ
ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﴾ (البقرة :اآلية .)230
﴿ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ﴾(البقرة :اآلية .)232
﴿ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ
ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﴾ (األحزاب :اآلية . )59
﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﴾ (املجادلة :اآلية . )1
أم�ا لفظ�ة البعل فلم تأت إال س�بع مرات ىف القرآن ىف مخس�ة مواضعُ ،ذكرت ثالث
مرات ىف موضع منها ،وهى :
﴿ -1ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ﴾ (الصافات :اآلية .)125
29
﴿ -2ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ﴾ (ه�ود:
اآلية .)72
﴿ -3ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ﴾ (البقرة :اآلية .)228
﴿ -4ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ
ﭟﭠ﴾ (النساء :اآلية . )128
﴿ -5ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ
ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﴾ (النور :اآلية .)31
وفور استعراض هذه اآليات باملقارنة باآليات الكثرية التى ورد فيها استعامل الزوج
تطرح هذه األس�ئلة نفس�ها :ما اخلصوصية للفظ البعل حتى يس�تعمل ىف هذه اآليات
اخلم�س؟ وملاذا ه�ذه اآليات بالذات؟ وهل هن�اك فرق بني البعل وال�زوج؟ وهل هذا
الفرق يناسبه أن يستعمل البعل ىف هذه املواضع خاصة؟
األم�ر حيت�اج إىل تدب�ر مع االس�تعانة بكتب اللغة ملعرف�ة الفرق ـ لغوي�ا ـ بني البعل
والزوج ،ولذا كانت هذه هى بداية البحث...
ج�اء ىف كتب اللغة اس�تعامل البعل بمعنى الزوج ،ولكن هن�اك معنى زائد عىل جمرد
وج�ود العالق�ة الزوجية ،فالبعل ه�و الزوج ىف حالة وجود املعارشة احلس�نة والتالعب
واحلب بني الزوجني.
فف�ى لس�ان العرب :البع�ل الزوج ،وتبعل�ت امل�رأة :أطاعت بعله�ا ،وتبعلت له :
التبعل إذا كانت مطاوعة لزوجها حمبة له ،والتبعل :حسن العرشة تزينت ،وامرأة حسنة ُّ
من الزوجني.
والبعال :حديث العروسني ،والتباعل والبعال :مالعبة املرء َ
أهله ،ومنه احلديث ىف
أيام الترشيق «إهنا أيام أكل ورشب وبعال»(((.
-4حديث ضعيف رواه الطربانى من حديث ابن عباس ،والدارقطنى من حديث أبى هريرة ،وله طرق
أخرى وال يصح له إسناد .انظر «نصب الراية» للزيلعى (484/2ـ )485دار احلديث .و «التلخيص احلبري»
الب�ن حج�ر (196/2ـ )197دار املعرفة ـ لبن�ان و «إرواء الغليل» لأللبان�ى (176/8ـ ق )2541املكتب
اإلسالمى الطبعة الثانية .1985و «متام املنة ىف التعليق عىل فقه السنة» (402ـ )403لأللبانى أيضا ـ املكتبة
اإلسلامية ـ األردن ـ الطبع�ة الثالث�ة 1409هـ .لكن احلديث ص�ح بدون ذكر لفظة (بعال) رواه مس�لم من
30
واملباعل�ة املب�ارشة ـ أى بين الزوجين ـ ويق�ال للم�رأة :ه�ى تباع�ل زوجه�ا أى
تالعبه(((.
وم�ن معان�ى البعل أيضا الس�يد والرب ،وهو ال خيرج عن املعن�ى األول ،فالزوج ملا
كان سيدا ومسئوال عن املرأة سم ْته العرب بعال.
وىف اللس�ان أيضا :وبعل الش�ىء ربه ومالكه ،والبعل :صنم ،سمى بذلك لعبادهتم
إياه كأنه رهبم ،يقال :أنا بعل هذا الشىء أى ربه ومالكه.
إذن معن�ى البع�ل يدور حول :الس�يد أو ال�زوج املباعل ،أى ىف حال�ة الود والقرب
واالستمتاع بالزوجة ،لذلك ال يسمى الزوج بعال حتى يدخل باملرأة ويكون مباعال هلا،
أما بمجرد عقد الزواج دون بناء يسمى زوجا فقط.
فالبع�ل بمعن�ى ال�زوج مع زي�ادة ىف املعنى ،فه�و زوج ىف حالة معينة ،حال�ة املباعلة
واملالعبة والتصاىف بني الزوجني ورغبته ىف زوجته.
بعد ذلك جنيب على هذا ال�س�ؤال :ملاذا جاءت لفظة بعل ىف هذه اآليات حتديدا؟
اآليةاألوىل ﴿ﯪ ﯫ ﴾ أى إ ًهلا ،خارج سياق احلديث عن العالقة الزوجية ،وال
إشكالية فيها؛ فهم َس ّموه بعال لعبادهتم له ،فجعلوه سيدا هلم.
وم�ن ه�ذا الباب أيض�ا اآلي�ة الثاني�ة ﴿ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﴾ تقصد س�يدها ،فهاتان
اآليتان من حكاية األمم الس�ابقة ،حيث كانوا يسمون السيد بعال ،سواء كان إهلا كام ىف
اآلية األوىل أم سيدا كام ىف اآلية الثانية.
ق��ال ابن عا�ش��ور فى تف�س�يره « :وأصل البع�ل ىف كالمهم الس�يد ،وهو كلمة س�امية
قديم�ة ،فق�د س�مى الكنعاني�ون الفينيقي�ون معبودهم بعلا ،قال تع�اىل ﴿ﯪ ﯫ
ﯬ ﯭ ﯮ﴾ وس�مى به الزوج ألنه ملك أمر عصمة زوجه ،وألن الزوج
كان يعتبر مالكا للمرأة وس�يدا هلا ،فكان حقيقا هبذا االس�م ،ثم مل�ا ارتقى نظام العائلة
حدي�ث نبيش�ة اهلذىل بلفظ «أي�ام الترشيق أيام أكل ورشب» :كتاب الصوم ـ ب�اب حتريم صوم أيام الترشيق
( 272/4ـ ق .)1141
-5انظر « :لسان العرب» و «القاموس املحيط» ـ مادة (بعل).
31
من عهد إبراهيم عليه السالم فام بعده من الرشائع أخذ معنى املِلك ىف الزوجية يضعف،
فأطل�ق الع�رب لفظ الزوج عىل كل من الرجل واملرأة للذين بينهام عصمة النكاح ،وهو
إطالق عادل؛ ألن الزوج هو الذى يثنى الفرد ،فصارا س�واء ىف االس�م ،وقد عرب القرآن
هب�ذا االس�م ىف أغلب املواضع ،غري التى حكى فيها أح�وال األمم املاضية ،كقوله تعاىل
﴿ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﴾(((.
وجعل ابن عاشور قـوله تعاىل ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ﴾ وقوله
﴿ﮏ ﮐ ﮑ﴾ من باب معنى السيد ،ألن معنى السيادة واضح ىف خوف املرأة من
نشوز الرجل وإعراضه عنها ،وىف حق الرجل ىف رد املرأة أثناء العدة بدون إذهنا(((.
* أما قوله تعاىل ىف املوضع األخري ﴿ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﴾ فواضح أن
معنى املباعلة واملالعبة واجلامع هو املقصود من إطالق البعل هنا ،فاملرأة تبدى زينتها
لرتغبه فيها ،فاآلية حني تطلق لفظ البعل هنا ِّ
تذكر املرأة بأهنا ينبغى أن تبدى لزوجها ِّ
زينته�ا عىل أحس�ن ما تتزين ب�ه املرأة لزوجها لرتغب�ه فيها وجتذبه إليه�ا ،وكأن اآلية
تشير إىل أن إب�داء الزينة لل�زوج ليس كإبدائها لغريه م�ن املذكورين ىف اآلية كاآلباء
واألبناء ،فالزينة التى تظهر للزوج زينة من تريد أن ترغبه فيها ،فهى زينة مقصودة ىف
ذاهتا ومستحبة ،أما غري الزوج من املحارم فهو إبداء للجواز ورفع احلرج؛ ألن املرأة
ال تس�طيع أن ختفى ما يظهر منها عادة أمام من معها ىف البيت من حمارمها ،والنعدام
الرغبة والشهوة بني املحارم أبيح ظهوراملرأة أمامهم ألمن الفتنة.
تعقي ـ ــب علـ ــى رأى ابـ ــن عاشـ ـ ـ ــور :
لق�د جعل اإلمام الطاهر بن عاش�ور قوله تع�اىل ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ
ﭗ ﭘ﴾ وقول�ه ﴿ﮏ ﮐ ﮑ ﴾ من باب الس�ـيادة ،فالبع�ل هنا بمعنى الزوج
السيد ،وهو من معانى البعل كام سبق.
وربما يك�ون ه�ذا صحيحا ،ولكن�ى أرى أن البع�ل ىف هاتني اآليتين بمعنى الزوج
املباعل ،من املباعلة واملالعبة التى تقع بني الزوجني.
-6تفسري «التحرير والتنوير» البن عاشور ( )393/2دار سحنون للنرش والتوزيع ـ تونس.
-7انظر :السابق.
32
لتكون كل اآليات املتعلقة بالعالقة الزوجية ىف هذه األمة بنفس املعنى.
فاملواضع اخلمس�ة التى ورد فيها لفظ البعل منها موضعان حكاية عن األمم السابقة
التى كانت تطلق البعل عىل الس�يد ،وهذا قد اتفقنا عليه وس�بق بيانه ،ومها قولــه تعاىل
﴿ﯪ ﯫ ﴾ وقوله ﴿ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﴾.
�أما املوا�ضع الثالثة الأخرى فهى :
﴿ﮏ ﮐ ﮑ﴾
﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ﴾
﴿ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﴾
واألخرية معنى املباعلة فيها واضح وقد سبق بيانه أيضا.
أمـ�ا الأوىل والثـانيـة فتحتـاج إلـى تدبر حلملها عىل معنـى املباعـلة أيضـا ،فقـوله
تعالـى ﴿ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﴾ فيه دعوة إىل اإلصالح ،وأن يراجع
الرج�ل زوجته وهى ىف عدهتا ،فرده�ا ومراجعتها أثناء العدة أوىل من أن يرتكها تنقىض
عدهتا وتنكح زوجا غريه.
وهذه الدعوة �إىل الرد ح َّثت عليها الآية من وجوه :
الأول :ىف قوله ﴿ ﮐ ﴾ فجعله أوىل باملرأة من غريه.
الثان��ى :ىف قوله ﴿ﮑ ﴾ ّ
فذكره هب�ذا باحلالة التى كان عليها كل من الزوجني من
الود والعالقة الطيبة ،وسمى املراجعة ردا ،أى الرد إىل ما كانا عليه من الصفاء.
الثال��ث ﴿ :ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﴾ ِذ ْك�ر اإلصالح دون غريه م�ن املفارقة ـ فيه تذكري به
وترغيب فيه ،ومل تزد اآلية عىل ذلك ،فلم تقل مثال :وإن مل يردوا إصالحا فال يردها.
الراب��ع :الضمير ىف قوله ﴿ﮕ﴾ فالواو تفيد اجلمع ،ومل يقل «أرادا» وهذا يعنى
أن إرادة اإلصالح ال تقترص عىل الزوجني فقط ،بل فتحت اآلية املجال ألطراف أخرى
لإلصالح حتى يرد الرجل الزوجة إىل عصمته.
33
اخلام�س :وهو الوجه املقصود من احلديث ،وهو قوله تعاىل ﴿ﮏ ﴾ فقد ذكرت
اآلية البعـل ىف هذا السياق خاصة ـ كام أرى ـ إلرشـاد املرأة إىل أنه بعلها ،وهلا أن تتزين
له ،وأن يكون هلا دور ىف رد زوجها هلا ،بأن تظهر أمامه بأحس�ن زينة وتتبعل له ،ليكون
ذلك أدعى إىل ردها ومراجعتها.
ولذل�ك هن�ى الرشع الرج�ل أن يخُ رج امل�رأة من البي�ت إذا طلقها ،كام هن�ى املرأة أن
تخَ رج بنفس�ها ،وجعل هذا احلكم من حدود اهلل التى ال ينبغى أن تنتهك ،كام بشرّ بتغري
احل�ال وأن يحُ دث اهلل أم�را ينتهى به النزاع والش�قاق ﴿ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ
ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ
ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﴾ (الطالق :اآلية .)1
وال يمك�ن أن يك�ون األمر بمكث املرأة ىف بيته�ا إال ألجل اإلصالح وليكون أقرب
إىل مراجعتها.
امل�رأة املطلقة ىف بيت الزوجية ،فهى تقىض وقتها مع زوجها ختلو به وخيلو هبا ،تظهر
أمام�ه ،فه�ى فرتة اختبار :هل مها حقا يس�تطيع كل واحد االس�تغناء عن اآلخر أم ال؟
اختب�ار بيشء م�ن التباعد ،فهى مطلقة وهو ق�د طلقها ،لكنه أمامه�ا ،وهى أمامه ،نعم
يوج�د ن�زاع ونش�وز ،ولكن ما زاال مجيعا مع�ا ىف بيت واحد ،مل جيامعها منذ أس�بوع أو
شهر ،وما زالت ىف عدهتا ،فهل يا ترى سوف يشتهيها ويرغب فيها حني يراها أمامه من
وقت آلخر فريغب فيها وىف االستمتاع هبا فيدعوه ذلك إىل ردها؟
وه�ل يا ترى سترغب هى فيه خلال هذه املدة ،وتبدأ ىف التزين ل�ه حتى ّ
ترغبه فيها
رغبت فيه؟كام ِ
إذن اآلي�ة ـ كما أرى ـ تدع�و إىل تذكير املرأة باملباعل�ة واملالعبة وم�ا كان بينهام من
عالق�ة محيمة ،وكأهنا تقول هل�ا :هو بعلك فتزينى له ،وإن كان الرد بيده هو فأنت أيضا
عليك دور ىف ىف الرد بالتزين له.
ومما يرشح هلذا املعنى أن اآلية كلها ىف كل لفظة فيها تدعو إىل احلث عىل الرد وإعادة
العالقة بني الزوجني كام سبق ىف الوجوه السابقة.
34
بق�ى لنا اآلية الثانية ،وهى قوله تع�اىل ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ
ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﴾.
ق�د يبدو أن معنى الس�يد ىف البعل هنا واضح ،وأن�ه ال يمكن محل اآلية إال عىل هذا؛
ألن اآلية تتحدث عن حالة نشوز أو إعراض من الرجل ،وأن املرأة تريد أن تصاحله لكى
تعالج هذا النشوز ،فقد تتنازل عن حقها ىف املبيت مثال لرضَّ هتا من أجل أن تبقى عصمة
النكاح بينهام ،كام فعلت أم املؤمنني سودة بنت زمعة رىض اهلل عنها حني صاحلت النبى
ﷺ عىل أن ترتك ليلتها ـ حني كربت سنها ـ ألم املؤمنينعائشة رىض اهلل عنها ،وقد ورد
أن هذا املوقف هو سبب نزول اآلية الكريمة.
على أن�ه ال مانع ـ عندى م�ن محل لفظة (بعل) هنا عىل معن�ى املباعلة ،بل قد يكون
ذلك أقوى من محلها عىل معنى الس�يد؛ ألنه ال وجه لس�يادة الرجل هنا ،وهل إعراضه
عنها وعدم رغبته فيها يعنى السيادة عليها ؟!
حالة النش�وز واإلع�راض قد تصيب الزوجني معا ،فال يرغ�ب كل منهام ىف اآلخر،
وقد تصيب أحدمها دون اآلخر ،فهى حالة نفس�ية طبيعية ،كثريا ما يكون س�ببها راجعا
إىل الرغبة والشهوة ،ال إىل سوء األخالق أو سوء العرشة ،فقد تكون املرأة حسنة املعرش
طيبة اخللق مع زوجها ورغم ذلك ال يرغب فيها زوجها لكرب سنها ،أو لعدم مجاهلا ،أو
ألى سبب آخر.
بح ّسها تعرف إعراض زوجها عنها هبذا األمر ،أمر املالعبة والشهوة والرغبةواملرأة ِ
ىف االس�تمتاع هب�ا ،فإذا ما أحس�ت املرأة بعدم رغبة زوجها فيه�ا فعليها أن تتحرك نحو
معاجل�ة األم�ر ،ولذا عبر القرآن بلف�ظ اخلوف «وإن ام�رأة خافت من بعلها نش�وزا أو
إعراضا» لينبهها عىل رسعة التحرك نحو املصاحلة وعالج األمر قبل أن يتفاقم.
املصاحلة والعالج قد يأخذ صورا خمتلفة ،منها ما ذكر ىف س�بب نزول اآلية ،وهى أن
تتنازل املرأة عن حقها ىف املبيت ىف مقابل أن تبقى زوجة ،وقد يكون هذا عالجا ُم ِ
رضيا
لبعض النس�اء بس�بب عدم رغبته�ا هى األخ�رى ىف زوجها لكرب س�نها ،وقد ال يكون
مناسبا فيبحث الطرفان عن حل آخر.
35
الشاهد من اآلية هو التعبري بلفظ ﴿ﭕ﴾ ىف هذا املوضع ومناسبته للموقف ،وكأن
التبعل واالستمتاع،
اآلية بذلك تشير إىل أن معرفة النش�وز واإلعراض تعرفه املرأة من ّ
فه�ى تتزين له وهو ُمعرض عنها ال يش�تهيها ،حتاول التبعل ل�ه ولكنه ال يتجاوب معها
وال يتفاعل مع تزينها له ،يمكث الفرتة الطويلة ال يأتيها متعلال بتعبه وكثرة انش�غاالته،
وهنا عىل املرأة أن تستشعر اخلطر وتبدأ ىف العالج.
فحين تق�ول اآلي�ة ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ﴾ كأهنا تلفت نظر
املرأة إىل أن البعل إذا مل يكن بعال باملعنى احلقيقى ( ىف املباعلة واملالعبة) فهناك مش�كلة
ينبغى التحرك حللها.
هبذا ظهر لنا أن املواضع التى ُذكر فيها البعل فيام يتعلق هبذه األمة كلها تصلح حلملها
عىل معنى واحد ،وهو معنى البعل الراغب ىف زوجته املباعل هلا واملالعب.
نعم قد يكون هذا البحث ىف معنى املباعلة ىف (اس�تدعاءات االس�تعامالت) فيه نوع
ختص�ص ،وحيتاج إىل معرفة بالتفسير واللغ�ة واألحكام ،ولكن كام نبهن�ا ىف املقدمة أن
هذا النموذج ىف التحليل يصلح أن يس�تعمله املتخصص�ون وأن جيدوا فيه ُبغْ يتهم ،وقد
يصع�ب اس�تنتاج بعض املعانى عىل عموم املس�لمني من غري املتخصصين ،ولكن هذا
ال ينف�ى أهن�م جيدون خريا كثريا باس�تعامل النم�وذج ىف أغلب املواضع ،وكل بحس�به،
فالنم�وذج ما هو إال آلية للتحليل واالس�تنباط ،وتكون منتجاته وخمرجاته عىل حس�ب
علم كل واحد وثقافته وما يفتحاهلل تعاىل عليه.
وال ينبغ�ى أن ينزعج بعض إخوانى بمثل ه�ذه األمثلة التى قد يكون فيها نوع صعوبة
ىف التحليل واالستنباط ،فإنام أردت أن تكون األمثلة متنوعة ،بعضها يصلح ألن يستنبطها
املشتغلون بعلوم الرشيعة ،وبعضها يصلح لكل املتعلمني ،ليكون النموذج أعم وأشمل.
36
ام�رأة الرجل هى زوجه ،والقرآن يكثر من اس�تعامل هذا لف�ظ (الزوج) للتعبري عن
الرابطة بني الزوجني ،قال تعاىل :
﴿ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾ (البقرة :اآلية .)35
﴿ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﴾ (النساء :اآلية .)12
﴿ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﴾ (التوبة :اآلية .)24
﴿ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ﴾
«(النحل :اآلية .)72
﴿ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﴾ (الفرقــ�ان :
اآلية .)74
﴿ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ﴾ (الشعراء :اآلية .)166
﴿ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﴾ (األحزاب :اآلية .)4
﴿ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟﯠ ﴾ (األحزاب :اآلية .)6
﴿ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ﴾ (الزخرف :اآلية .)70
﴿ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗﰘ ﴾ (املمتحنة :اآلية .)11
﴿ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﴾
(التغابن :اآلية . )14
إىل غري ذلك من آيات وهى كثرية ،ويمكنك مراجعتها ىف ( املعجم املفهرس أللفاظ
القرآن الكريم ).
هذا هو األصل ىف القرآن للتعبري عن هذه الرابطة بني الزوجني ،فالرجل زوج املرأة،
واملرأة زوج الرجل ،فكل منهام زوج لآلخر ،أى مكمل له ،وأصل الزوج ىف اللغة هو ما
يث َّنى به الفرد ،فالواحد فرد ،فإذا ما أتاه ما يثنيه سمى زوجا له.
37
وه�و تعبيـر لطيف للداللة عىل هذه العالقة املزدوجة بني الزوجني ،فكل منهام يثنى
اآلخر ،فكأن الواحد منهام ال يس�تطيع االس�تغناء عن اآلخ�ر ،وال يعيش بمفرده بدون
اآلخر ،عالقة قائمة عىل التكامل والرتابط والتالحم والتآخى واملودة والرمحة.
لكن جاء القرآن ىف مواضع قليلة عرب عن هذه العالقة بيشء آخر ،فال ينسب األنثى
إىل زوجها بلفظ الزوجية ،فال يقول :زوجه ،بل يقول :امرأته ،أو امرأة فالن.
جاء لفظ امرأة ىف القرآن مضافا إىل الرجل ( الزوج ) إما بإضافته إىل االسم الرصيح،
أو إىل الضمري العائد عىل الرجل ىف مواضع ،نذكرها عىل سبيل احلرص.
﴿ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ
ﮠ ﴾ (مريم :اآلية .)8
استعم ـ ــال الق ـ ــرآن للربـ ــط علـ ــى القل ــب :
هذا مثال الستدعاءات استعامل القرآن للجملة.
كنت أتأمل س�ورة الكهف فوقفت أمام قوله تعاىل ىف ش�أن فتية الكهف ﴿ﯟ
ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ
ﯱﯲ﴾ .
واستدعيت استعامل القرآن لقوله ﴿ﯟ ﯠ ﯡ ﴾ ،فوجدت أن هذا التعبري
قد ذكر ىف موضعني آخرين :
�أحدهما :ىف س�ورة األنفال ىف س�ياق احلديث عن غزوة بدر ﴿ﭲ ﭳ ﭴ
ﭵﭶﭷ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮀ ﮁﮂ
ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﴾.
واآلخر ىف سورة القصص ىف سياق احلديث عن أم موسى ﴿ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ
ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾.
وملا تدبرت هذه املواضع قلت اآلتى :
م�ا أعجب قوله تعاىل ىف ش�أن فتية الكه�ف ﴿ﯟ ﯠ ﯡ ﴾! لقد جاءهم
الع�ون من اهلل تعاىل ،واملنحة العظيمة التى جتعله�م يواجهون أهل األرض لو اجتمعوا
42
عليه�م ،وه�ى منح�ة ﴿ﯟ ﯠ ﯡ ﴾ فاملؤمن�ون الذى يرب�ط اهلل عىل قلوهبم
َيثْبت�ون على احل�ق ،وإن ُأزهق�ت أرواحه�م ،وأريق�ت دماؤه�م ،و ُقطع�ت أوصاهلم،
وحرقت أجسادهم.
وكرست عظامهمُ ، ُ
والرب�ط عىل قلب العبد معناه أن يمنحه اهلل قوة وعزيمة وثباتا يس�تطيع به أن يواجه
الباطل وأهله ،وأال يتزحزح عن احلق الذى يعيش من أجله ويدافع عنه.
وتأم�ل إحي�اءات املعان�ى ىف «الربط» فأنت ترب�ط الدابة حتى ال تنفل�ت ،وتربط بني
األش�ياء لتجمعه�ا حت�ى ال تتفرق ،وتربط متاعك حتى ال يس�قط ،وه�ذه املعانى كلها
حيتاجه�ا قل�ب املؤمن ،فاهلل يربط عىل قلب�ه حتى ال ينفلت ويبتعد ع�ن احلق ،وحتى ال
يتفرق أمره ويتشتت بني احلق والباطل ،وحتى ال يسقط ىف الفتنة ،وملا كان القلب متقلبا
بطبيعت�ه ،ويتلون حس�ب األحوال جتىء املنحة من اهلل للمؤمن فريب�ط عىل قلبه ،ويثبته
عىل شىء واحد رغم تقلب األحوال ،فيكون القلب مربوطا عىل حال واحدة.
وانظ�ر إىل أه�ل الكهف ملّا ربط اهلل عىل قلوهبم قاموا ىف وجه طاغية عرصهم ليعلنوا
توحيدهم واحلق الذى يتمس�كون ب�ه دون خوف ﴿ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ
ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﴾.
واملواض�ع الت�ى ورد فيه�ا الرب�ط عىل القل�ب جيمعها الصراع بني احل�ق والباطل،
ومواجهة القلة املس�تضعفة املؤمنة للطغاة الظاملني ،وأهنا ىف مواقف حيتاج فيها املؤمنون
لتأيي�د اهلل تعاىل هلم؛ فأهل الكهف قلة مس�تضعفة ىف مواجهة طاغـية عرصهم بام أوتى
م�ن جـن�ود وقوة ،وأم موس�ى وحدها ىف مقابل�ة فرعون وجنوده وم�ا يمكن أن حيدث
البنها من هالك عىل أيدهيم ،وىف غزوة بدر كانت الفئة القليلة من النبى ﷺ والصحابة
مع�ه ىف مقابلة جي�ش يمثل ثالثة أضعافهم ،فكلها مواقف حتتاج إىل الربط عىل القلوب
والتثبيت من اهلل تعاىل.
يعج�ب الظامل�ون من ثب�ات أهل احلق رغ�م تعذيبهم ،والس�بب هو ﴿ﯟ ﯠ
ﯡ﴾ ويتهموهنم بأهنم مرىض نفس�يون ،وال يعلمون أن السبب هو ﴿ﯟ ﯠ
ﯡ﴾ وحيت�ارون ىف أمر متس�كهم بام هم علىه وع�د مرضوخهم هلم ،وال يـــدرون
43
أن الس�بب ه�و ﴿ﯟ ﯠ ﯡ﴾ وأن�ا ألتم�س هل�ؤالء الظاملين الع�ذر ىف عدم
فهمه�م؛ ألهن�م مل يذوقوا طع�م ﴿ﯟ ﯠ ﯡ﴾ نعم ألتمس هل�م العذر ألهنم
محق�ى مغفل�ونُ ،ف ّجار مغيبون ،ال يعرفون عن اهلل تعاىل معش�ار ما عرفه الذين ربط اهلل
عىل قلوهبم ،ولو أهنم س�ألوا أنفسهم :ملاذا َيثْبت هؤالء رغم تنكيلنا هبم وتعذيبنا هلم ـ
لعلم�وا حقيقة األمر! ولكن ماذا نفعل م�ع قوم قلوهبم ُغ ْلف ،وعقوهلم ُق ْفل؟ نعذرهم
م�ن ه�ذا الباب ونح�ن نلعنهم ألهنم يفعلون بالذين ربط اهلل على قلوهبم ما ال جيوز أن
ُيفع�ل هبِ َّرة ،وقد دخلت امرأة الن�ارىف هرة عذبتها باحلبس ،فامذا عمن حيبس البرش ظلام
وعدوانا؟!
اللهم اربط عىل قلوبنا ،واجعلنا من أهل قولك ﴿ﯟ ﯠ ﯡ﴾.
الأول :ىف س�ورة النس�اء حيث قال اهلل تعاىل ﴿ :ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ
ﮞ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮥﮦﮧ
ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ
45
ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯞﯟﯠ
ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ﴾.
-9تراثن�ا الفك�رى ىف مي�زان الرشع والعق�ل (129ـ )132للش�يخ حممد الغزاىل دار الشروق ـ الطبعة
الرابعة 1996م.
50
كن�ت أصن�ع هذا ىف (دورة معايش�ة الق�رآن) نأخذ بع�ض املعانى ونق�وم بتتبعها ىف
القرآن الكريم حتى خرجنا هبذه النتيجة ،وهى أن موضوعات التفسير املوضوعى هبذا
املعنى اجلزئى غري متناهية ،فمن املمكن أن تس�تنبط موضوعا غري تقليدى وتقوم بتتبعه
ىف القرآن كله.
من ذلك ـ مثال ـ موضوع احلجارة ىف القرآن الكريم وما يتكون منها كاجلبال ،وكيف
كان�ت جن�دا من جن�ود اهلل تعاىل؟ لق�د أهلك اهلل هبا ق�وم لوط ،وأهل�ك هبا أصحاب
الفيل.
تأم�ل اآليات التى ورد فيها احلجارة واجلبال لتتعرف عىل عظمة هذه اجلامدات وأهنا
منس�اقة لرهب�ا خاضعة له ،ختش�ع كما نخش�ع وأكثــ�ر ﴿ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ
ﯚ﴾ (البقـــ�رة :اآلي�ة )74وقال تع�اىل ﴿ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ
ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﴾ (احلشر:
اآلية )21وهذا كله حيث املس�لم عىل أن يغار من هذه اجلامدات ويس�تحيى من ربه إذا
كان ُمصرِ ً ا عىل معصيته.
ومن ذلك أيضا تعبري القرآن عن عمل اإلنس�ان باس�تخدام األفع�ال اآلتية :عمل ـ
كسب ـ اكتسب ـ أحرض ـ قدمت وأخرت ـ جرح ـ اجرتح ،كام ورد ىف هذه اآليات :
﴿ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ﴾
(الربوج :اآلية )11والتعبري بالفعل (عمل) ورد ىف عرشات اآليات كام هو معلوم.
52
الوحدة الثانية من النموذج الفصـ ـ ــل الثانــى
(العالقـــات)
َ
بين الجمل ــ بين اآليات
الق�رآن الكريم ليس ككتب البرش ىف طريقة عرضـه للموضوعات ،بل له أس�ـلوبه
اخل�اص ﴿ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ﴾ (فصل�ت :اآلي�ة )42يعـ�رض ل�ك جمُ َلا حتت�وى
على بع�ض املوضـوعات ىف اآلي�ة الواحدة ،وجتد الس�ورة الواحدة هبا كثير من ألوان
املوضوع�ات والقضاي�ا ،ويب�دو لك م�ن الوهلة األوىل أن�ه ليس هناك عالق�ة بني هذه
املوضوعات أو بني هذه اجلمل.
ولك�ن بالتدبر جت�د علام كثريا وفقها عظيما بالبحث ىف العالقات بين اجلمل ،وبني
اآليات ،بل وبني السور ،األمر فقط حيتاج إىل تدبر وإمعان نظر.
َ
عارض بينها وال تنافر ،وجتد الس�ورة تعرض لك ىف بالتدب�ر جتد اآليات متالمحة ال َت
احلقيقة موضوعا واحدا من جوانب شتى ،وصفحة واحدة ذات وجهنيَ ،
وط َبقا واحدا
في�ه أصناف ش�تى مما لذ وطاب من غذاء العقــل والــ�روح ،إنك حتتاج إىل تدبر لفهم
كل هذا.
�أ�سئلة تطرحها وحدة العالقات فى هذا النموذج (التحليل املنظومى والنموذج
احل�ضارى) من مثل :
-10راجع هذه األقوال ىف «اإلتقان ىف علوم القرآن « للس�يوطى (369/3ـ )370النارش اهليئة املرصية
العامة للكتاب ـ 1394هـ 1974م ـ حتقيق حممد أبو الفضل إبراهيم.
55
أمثل ـ ــة تطبيقيـ ــة عل ـ ــى العالق ـ ــات :
أقس�م اهلل ىف سورة الشمس بأحد عرش قسام عىل حقيقة كربى ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ
ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ
ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﴾ (الشمس :اآليات .)8-1
ثم يأتى املقسم عليه الذى يمثل احلقيقة الكربى ىف الوجود ﴿ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ
ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾.
ه�ذا ما أقس�م اهلل عليه ليتبني لإلنس�ان قيمة التقوى وتزكية النف�س ،وأن وجوده ىف
ه�ذه الدني�ا من أجل هذهاحلقيق�ة العظيمة ،وأن موته ومآله وبعثه ومس�تقره ىف اآلخرة
سيكون بناء عىل هذه احلقيقة ،فإن قام بواجبها فقد فاز ىف الدارين ،وإن كانت األخرى
فقد ﴿ ﭶ ﭷ ﭸ﴾.
والس�ؤال الذى تطرحه وحدة العالقات ىف النموذج :ملاذا هذه االنتقالة الواسعة إىل
قصة ثمود ﴿ ﭺ ﭻ ﭼ ﴾؟ ما العالقة بني ذكر ثمود وتكذيبهم وقتلهم للناقة
بكل ما سبق؟
ألول وهلة ال جيد القارئ عالقة بني األمرين ويعتقد أنه جمرد ذكر لقوم ثمود دونام أى
تع ُّلق بالسياق ،أو هلل حكمة ىف هذا ال يعلمها إال هو ،وعلينا أن نسلم بام جاء من عند ربنا
ونقول ﴿ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﴾ (آل عمران :اآلية .)7
هكذا حيلو للبعض أن يقول!!
وهو كالم عجيب! وال تعارض بني اإليامن بام جاءنا من عند اهلل والتسليم به ،والتدبر
والتأمل الذى أمرنا اهلل تعاىل به ،فالقرآن ُيقرأ ل ُيتد َّبر ،ويتىل لنبحث عن أرساره ﴿ ﭲ
ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﴾ (ص :اآلية .)29
واآلن تعالوا نتدبر ىف العالقة بني اآليات.
لق�د حش�د اهلل تعاىل أكبر قدر من األقس�ام (مجع َق َس�م) عىل ه�ذه احلقيقة الكربى
ألمهيته�ا ،حقيق�ة ﴿ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾ فه�ى أص�ل خل�ق
59
اإلنس�ان ،وعىل أساسها ينبنى مصريه ىف اآلخرة ،وال يوجد موضع ىف القرآن ُحشد هذا
الكم من القسم واحللف أكثر من هذا املوضع.
لقد أقس�م اهلل تعاىل بالكون كله من أرض وسماء ،وليل وهنار ،وش�مس وقمر ،كام
أقس�م ب�رب كل هذه املخلوق�ات ﴿ ﭡ ﭢ ـ ﭥ ﭦ ـ ﭩ ﭪ ﴾ ليؤكد هذه احلقيقة
لإلنسان لعله يصدق ويعترب.
أقس�م اهلل تع�اىل بكل ه�ذه اآليات الكبرى ليدلل عىل صدق احلقيق�ة وأمهيتها ،فال
نع�رف ىف الك�ون من دالئ�ل بينة وآيات ظاه�رة أمامنا أعظم من ه�ذا ،فاملحلوف به ىف
ه�ذه اآليات هى معجزات بينات عىل وجود اهلل تع�اىل وقدرته وصدقه فيام يقول ،ولذا
على اإلنس�ان أن يص�دق هذه احلقيق�ة إن كان يعترب هب�ذه اآليات ويحُ س�ن التأمل فيها،
واالستدالل هبا عىل قدرة اهلل ىف بعثه يوم القيامة وصدقه عىل ما أقسم عليه.
فال مزيد بعد األرض والسماء والليل والنهار والش�مس والقمر ،ال مزيد من آيات
قسمه عىل هذه احلقيقة. نحتاجها حتى ِّ
نصدق ما جاءنا من عند اهلل ىف َ
وم�ن ال يص�دق بكل هذه اآليات فال تنفعه أى اآلي�ة أخرى ،حيث إن أى اآلية بعد
هذه اآليات كأهنا لغو وعبث.
وهذا ما حدث مع قوم ثمود ،مل يعتربوا بكل هذه اآليات ىف الكون ،وذهبوا يطلبون
اآلية أخرى ال تساوى ىف حجمها وإعجازها كل هذه اآليات ىف الكون ،فهل نفعهم أن
جاءهم اهلل بام طلبوه؟!
﴿ ﭺ ﭻ ﭼ ﴾ وال يمك�ن إال أن يكذب�وا ؛ ألن م�ن ال ينتف�ع ب�كل ه�ذه
اآليات الكونية فلن تنفعه ألف ناقة!
كذب�وا وقتلوا الناقة فأتاهم العذاب ،وهذه عادة اهلل ىف األمم الس�ابقة أهنم إذا طلبوا
اآلي�ة وأتاه�م اهلل هبا وكذبوا هب�ا ـ أن حييق هبم عذاب اهلل تعاىل ،وه�ذا ما حـــدث مع
قـــوم ثمود ﴿ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﴾.
﴿ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ
ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ
60
ﮙﮚ ﮛﮜ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮤﮥ
ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ﴾ (هود :اآليات .)68-65
يريد اهلل تعاىل ىف س�ورة الش�مس ـ بام ذكره من تكذيب ثمود بالناقة وعقرهم إياهاـ
أن ينبهن�ا إىل أال نفع�ل فعله�م ،وأال نبحث ع�ن آيات أخرى بعد م�ا خلقه اهلل تعاىل ىف
الكون وىف أنفسنا من آيات ،فال مزيد عىل ما خلقه اهلل ىف االعتبار واالتعاظ ،ففيام خلقه
تعاىل كفاية لنا ملن كان له قلب وعقل يعترب هبام.
ولكن اإلنسان بسبب ما ألفه من هذه اآليات صار ال يعترب هبا ،فهو دائام يرى األرض
من حتته والسامء من فوقه وما هبا من شمس وقمر ،ويتعاقب عليه الليل والنهار ،فصار
بسبب إلفه لكل هذه اآليات وكثرة مشاهدته هلا غري معتبرِ هبا.
وه�ذا عين ما فعلته ثمود ،مل يعتربوا ب�كل هذا فطلبـوا اآلية ليجلبوا عىل أنفس�ـهم
العذاب األليم.
إذن َذ َ
ك�ر اهلل اآلي�ة الناقة ىف قصة ثمود لينبه ه�ذه األمة عىل أن تكتفى بام آتاها اهلل من
آيات وال تطلب املزيد.
والسؤال اآلن :ملاذا اآلية الناقة بالذات؟ ملاذا مل يذكر اهلل تعاىل عصا موسى مثال وهى
أيضا اآلية من اهلل لفرعون وقومه؟
واجلواب أن عصا موس�ى عليه السلام مل يطلبها فرعون ،بل عرضها موسى عليــه
﴿ﮦ ﮧﮨﮩ ﮪ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯓﯔﯕﯖ
ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﴾ (الشعراء :اآليات .)32-30
وأرصوا عليها ﴿ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ
ّ أما ثمود فهم الذين طلبوا الناقة
ﯝ ﯞ ﯟﯠﯡﯢ ﯣﯤ ﯥﯦﯧﯨ ﯩﯪ ﯫﯬﯭ
ﯮ ﯯ ﯰ ﴾ (الشعراء :اآليات . )155-153
وقد كان هذا مسلك كفار مكة ،حيث طلبوا من النبى ﷺ آية.
﴿ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ
ﭱ﴾ (األنعام :اآلية .)37
61
﴿ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ
ﰄ ﰅ ﰆ ﴾ (يونس :اآلية .)20
﴿ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾
(الرعد :اآلية .)7
﴿ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ
ﰅ ﰆ ﴾ (الرعد :اآلية .)27
﴿ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﴾ (طــــ�ه:
اآليـــــــة .)133
﴿ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ
ﯔ﴾ (العنكبوت :اآلية .)50
فلم يأهتم اهلل هبا ،رمحة هبم وإبقاء عىل هذه األمة ،حتى ال ينزل هبم ما نزل بثمود.
﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ
ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ﴾ (اإلرساء :اآلية .)59
أما املس�لك الس�ليم الذى تعبرِّ عنه الفطرة الس�ليمة والقلب اخلاىل من األمراض أن
م�ا خلق�ه اهلل تع�اىل كاف لالعتبـار مل�ن أراد أن يعتبر ،وما علينـ�ا إال أن نتأمل ىف هـذا
الكون الفسـيح ﴿ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ
ﮖ﴾ (يونــس :اآلية .)101
﴿ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ﴾
(آل عمران :اآلية .)190
فال تطلبوا يا أمة اإلسالم مزيدا من اآليات بعد ما خلقه اهلل لكم ،وال تفعلوا فعل ثمود
وفعل كفار مكة ،بل اعتربوا بام خلق لكم ،لكيال جتلبوا غضب اهلل عليكم بتكذيبكم بام
طلبتموه ،فلن يكون حالكم مع اآلية التى طلبتموها أحسن حاال من ثمود.
62
األب الذى ُينعم عىل ولده بكل النعم ،ويؤتيه ما لذ وطاب من صنوف العيش وألوان
النعيم دون أن يطلبها ـ إذا ما طلب ولده منه شيئا تافها أقل مما آتاه من نعم استثار ذلك
غضبه ،وتوعده بقوله :لو أنى آتيتك بام طلبت ـ وهو سهل عىل ألنه ال يساوى ما آتيتك
به من قبل ـ أكنت مستجيبا ىل سامعا ملا آمرك به؟
فكذبت وأبيت إال اخلروج عن طاعتى فلن يكون لك عندى
َ طلبت
َ لو أنى أتيتك بام
إال العقاب والعذاب!
وهلل املثل األعىل ،فهذا ش�أنه مع األمم ،أنه يؤتيهم من اآليات الكثرية والنعم الوفرية
دون أن يطلبوه�ا ،ويدعـوهم رس�لهم إىل التأمل فـيها ،كام ق�ال نبى اهلل صالـــح عليه
الس�ـالم لثمـ�ود ﴿ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙﮚ ﮛ
ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ﴾ (الش�عراء:
اآليات .)150-146
ف�إذا طلب�وا املزيد عىل هذا نزل هبم العذاب إذا كذب�وا به ،ولذا ملا عقرت ثمود الناقة
جاءهم العذاب بعد ثالثة أيام.
ولذا كان هذا هو الرس ىف اإلشارة إىل ثمود وتكذيبها بالناقة وعقرها هلا بعد أن ذكر
اهلل تعاىل كل هذه اآليات ىف مطلع السورة.
العصر إما معن�اه الزمن والوق�ت مطلقا ،وإما وق�ت العرص املعروف آخ�ر النهار،
وامليل عندنا أن محله عىل الوقت مطلقا أوىل ليشمل كل األوقات.
ويش�ب ،ث�م يصري كهال
ّ اإلنس�ان من�ا ما ه�و إال وقت وزم�ن ،بمرور الوقت يكرب
وىف س�ن األش�د ،ثم يصبح ش�يخا هرما ،وىف كل هذه املراحل ال يفعل اإلنس�ان لنفسه
ش�يئا لكى ينتقل من مرحلة إىل أخرى ،فقط مرور الوقت هو الذى يصيرّ ه من حال إىل
حال.
الس�عيد م�ن مر عليه الوقت مس�تث ِم ًرا ل�ه ،منتفعا به ،فالوقت وع�اء العمل وظرفه،
والش�قى م�ن مأل هذا الظرف باملع�اىص والذنوب ،واخلارس من مل يقض وقته ىف ش�ىء
نافع ،تركه يمر بال فائدة تعود عليه بالنفع ىف املعاش واملعاد.
الفرق بني عامل مبجل وجاهل س�فيه هو الوقت ،كل استغل وقته بام صار إليه حاله،
والفرق بني إنس�ان جاد يعيش حياته متحمال مس�ئولياته وتبعات معاشه وآخر مستهرت
ضيع من يعول بعد أن ضيع نفس�ه ـ الفرق بينهام هو ىف اإلجابة عىل هذا الس�ؤال :كيف
استثمر كل منهام وقته؟
إذن قضي�ة الوق�ت هى الس�بب ىف خسران كثري من البشر ،وكأن اهلل تع�اىل يعطى
للوقت أمهية كربى حني أقس�م به ،ويشير إىل أنه هو س�بب خرس اإلنسان ،إال املؤمنني
الذين استغلوا أوقاهتم ىف العمل الصالح ،وتواصوا فيام بينهم بالتمسك باحلق وبالصرب
الذى هو أيضا قضية وقت ،فالتمس�ك باحلق وانتظار أن ينترص عىل الباطل ال بد له من
صبر يس�تغرق وقتا غالب�ا ما يطول ىف عرف البشر ،فانتصار احلق والصبر عليه قضية
وقت أيضا.
وكأن السورة كلها ىف موضوعها مرتبطة بالوقت والزمن.
وإذا افرتضن�ا أن معن�ى ﴿ ﭑ ﴾ هو وق�ت العرص الذى يكون آخ�ر النهار ـ كام
ذهب إليه بعض املفرسين ـ فهذا أيضا يعطى أمهية هلذا الوقت الذى يغفل عنه كثري من
الن�اس ،ويميلون فيه للراحة والدعة بعد الفراغ من أعمال النهار ،لكى ينتبهوا إليه وال
64
خيرسوا هذا الوقت الذى اس�تحب فيه الرشع الذكر ،لذلك امتدحت النصوص الذكر
ىف هناية النهار ـ وقت العرص ـ وتارة يس�ميه القرآن العش�ى ،وتارة األصيل ،وتارة قبل
غروب الشمس.
ق�ال تع�اىل ﴿ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ
ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ﴾ (األعراف :اآلية .)205
﴿ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﴾ (اإلنسان :اآلية .)25
﴿ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ﴾ (طه :اآلية .)130
﴿ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ﴾ (ق :اآلية .)39
أى صلاة الفج�ر وصالة العصر ىف هاتني اآليتني ،ولذا ج�اء ىف النصوص احلرص
على هاتين الصالتني ،كما ىف قوله ﷺ «من صلى الربدين دخل اجلن�ة»( ((1وقال «فإن
اس�تطعتم أال تغلب�وا عىل صالة قبل طلوع الش�مس وقب�ل غروهبا فافعل�وا»( ((1وجاء
أيضا احلفاظ عىل صالة العرص خاصة ىف قوله تعاىل ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ
وذم من ت�رك صالة العرص خاصة ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﴾ (البق�رة :اآلي�ة ُّ )238
أهله َ
وماله»( ((1وقال أيضا ﷺ «من ىف قول�ه ﷺ «الذى تفـوته صـالة العرص كأنام ُوتر َ
ترك صالة العرص فقد حبط عمله»(.((1
كل هذا يوضح أمهية صالة العرص والذكر ىف هذا التوقيت ،وكأن غفلة اإلنسان عن
هذا الوقت يعد خرسا له.
-11رواه البخ�ارى :كت�اب مواقي�ت الصلاة ـ ب�اب فضل صلاة الفج�ر (63/2ـ ق .)574ورواه
ومسلم :كتاب املساجد ومواضع الصالة ـ باب فضل صالتى الصبح والعرص واملحافظة عليهام (145/3ـ
ق .)635
-12رواه البخارى :الباب السابق (ق .)573ومسلم :الباب السابق (ق .)633
-13رواه البخارى :مواقيت الصالة ـ باب إثم من فاتته العرص ( - 37/2ق .)552ومسلم :املساجد
ومواضع الصالة ـ باب التغليظ ىف تفويت صالة العرص ( 135/3ـ ق .)626
-14رواه البخارى :مواقيت الصالة ـ باب من ترك العرص ( - 39/2ق .)553
65
- 4سـ ــورة النب ــأ والعالقـ ــة بي ــن موضوعـ ــات الس ـ ــورة كله ــا :
هن�ا ننتقل إىل العالقة بني املقاطع ىف الس�ورة الواح�دة ،واملقطع جمموعة من اآليات
تتح�دث ع�ن موضوع واحد ،ثم ننتقل إىل جمموعة أخ�رى تتحدث عن موضوع آخر،
ودورنا ىف نموذج التحليل والتدبر أن نبحث ىف العالقة بني املقاطع.
س�ورة النبـأ ـ عىل س�بيل املثال ـ بدأت باحلديث عن سؤال املرشكني عن يوم القيامة
﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾
وهنا ينتهى املقطع.
ثم تنتقل السورة إىل احلديث عن مظاهر الكون املىلء باآليات ﴿ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ
ﭨ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭲﭳﭴﭵ ﭶ
ﭷﭸ ﭹﭺﭻ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ
ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﴾ وهــذا مقطع ثان.
ثم تنتقل السورة إىل مقطع ثالث تعود به إىل احلديث عن يوم القيامة الذى سألوا عنه
ىف املقطـع األول ﴿ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﴾ ...إىل
آخر اآليات التى عرضت ملشاهد القيامة ،واحلديث عن النار واجلنة.
والسؤال الذى تطرحه العالقات :ملاذا ختلل احلديث عن مشاهد الكون بني احلديث
عن مشاهد القيامة؟
الق�رآن ينتقل من الغيب إىل املحس�وس ليس�تدل باملحس�وس عىل الغي�ب ،فالذين
يكذب�ون بي�وم الدي�ن لو نظروا حتته�م وفوقهم وما حوهل�م لعلموا أن ال�ذى خلق هذا
الكون بكل آياته ال ُي ْعجزه ُ
بعث الناس يوم القيامة.
وتدبريه هلذا الكون كله بنظام واتساق وحساب ـ كام تتحدث اآليات ـ فيه أكرب دليل
عىل أنه سيدبر هلذا اليوم كام دبر هلذا الكون كله وسيرَّ ه عىل نظام ومنهج.
وما وزّ عه ىف هذا الكون من نظام عادل وميزان وقس�طاس س�وف يكون هو منهجه
وس�نته س�بحانه يوم القيامة ،فاألرض مهاد بحس�اب ونظام ،واجلب�ال أوتاد هلا بحيث
66
تثبته�ا وال تثقله�ا فه�ى بحس�اب أيضا ،والنوم س�بات بحس�اب بحيث ل�و نقص عن
املعتاد مل يكن كافيا ،ولو زاد عن احلد انقلب إىل مخول وكسل ،واملعرصات تنزل مطرها
بحس�اب ينف�ع األرض وال ُيغرقه�ا ،ف�كل يشء ىف الك�ون موضوع عىل قان�ون العدل
والقسطاس املستقيم.
وهذا ش�أنه ـ س�ـبحانه ـ يوم القيامة ،إقامة العدل والفصل بني اخلالئق ور ّد احلقوق
إىل أهله�ا ،هل�ذا ركزت الس�ورة عىل الوفاق واحلس�اب واجلزاء الذى حيق�ق العدل كام
حتقق ىف صفحة الكون ﴿ﯡ ﯢ ﴾ ــ ﴿ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﴾.
وخالص�ة األم�ر أن القرآن ال يتكلم عن موضوعات خمتلف�ة ـ وإن بدت ىف ظاهرها
كذل�ك ـ إنام يعرض صفحة واحدة وموضوعا واح�دا وقضية واحدة ،ولكن من زوايا
خمتلف�ة ،فينتقل من املجهول إىل املعلوم ليس�تدل به عىل حقيق�ة املجهول لنا ،وينتقل من
جزئية ألخرى لينبهنا عىل قوة العالقة بينهام إن تدبرنا وتأملنا.
ال أنس�ى ىف أثناء التدبر ىف ورش�ة من الورش�ات قالت بعض أخواتن�ا ونحن نتأمل
أصبحت أش�عر أن القرآن كله كأن�ه يتحــدث عــن
ُ ىف العالق�ات ىف بع�ض اآلي�ات :
موضوع واحد.
شعر ْت هبا بالتدبر ومعايشة قليل من سور القرآن الكريم،
نعم هذه هى احلقيقة التى َ
أدركت ما أدركه العارفون
ْ قالتها بقلبها وأس�ـلوهبا الدال عىل التفاعل مع القرآن ،نعم
بالتدبر والتأمل.
- 5س ـ ــورة الكهـ ــف والعالقـ ــة بيـ ــن قصصهـ ــا:
وردت أحاديث باستحباب قراءة سورة الكهف كل مجعة ،وهذا يعنى أن املسلم إذا
عمل هبذه النصوص أنه س�يقرأ س�ورة الكهف مئات املرات ىف عمره ،بام يعنى أن هلذه
الس�ورة أمهي�ة كربى ىف حياتنا ،وأن هب�ا من العرب واملناهج ما يس�تحق أن ُتقرأ له ألوف
املرات.
ىف الظاه�ر أهنا اش�تملت على موضوع�ات وقصص ش�تى ،ولكنها عن�د التدبر ىف
العالقات جتدها موضوعا واحدا.
67
ش�كل وحدة متامسكلة ،وصفحة واحدة ،هى صفحة الرصاع بني فقصصها األربع ُت ِّ
احلق والباطل ،وما حيتاجه هذا الرصاع من فقه وفهم وتع ُّلم وتدريب.
عرض قصة أصحاب الكهف ،هذه الفئ�ة املؤمنة التى جاهدت فف�ى بداية الس�ورة ُت َ
وضحت ىف سبيل احلق وإعالء كلمته. ّ
وىف وس�ط الس�ورة قصة الصاحبني اللذين آتى اهلل أحدمها جنتني من أعناب ونخل
وزرع وكان كاف�را ال يؤم�ن ب�اهلل تع�اىل ،واآلخر مؤمن ينص�ح األول ﴿ ﭰ ﭱ
ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﴾.
وس�ع اهلل ىف ملكه ﴿ﭑ
وىف آخ�ر الس�ورة قصة ذى القرنني ،ه�ذا امللك املؤمن الذى ّ
ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﴾.
متث�ل ه�ذه القصص الثالث ش�يئا واحدا ىف ص�وره املختلفة وحاالت�ه املتباينة ،وهو
الرصاع بني احلق والباطل ،الرصاع بني أهل احلق وأهل الباطل حسب حال االستضعاف
واالستقواء ،حسب حالة التمكني لكل من الفريقني.
أحيان�ا يكون أهل الباطل ممكنني أقوياء ،هلم الغلبة والس�يطرة والقوة الظاهرة ،وىف
املقاب�ل يكون أهل احلق مس�تضعفني بدينهم ،قد ُيضطرون إىل إخف�اء إيامهنم ،وأحيانا
الفرار بدينهم.
متث�ل قص�ة أصح�اب الكهف هذه الص�ورة من هذا الصراع ،حيث يك�ون الباطل
منتفشا ،يبدو قويا ،ويستخدم هذه القوة للصد عن سبيل اهلل ومقاتلة أهله.
ومتث�ل قصة ذى القرنني عكس الصورة الس�ابقة ،فأهل احل�ق ىف صورة ذى القرنني
هم أصحاب القوة ،ويس�تعملون هذه القوة ىف نرش اخلري ىف األرض ومنع املفسدين من
الفساد فيها.
وتأتى القصة الوس�طى لتمثل الرصاع بني احلق والباطل ىف صورة الصاحبني وليس
ألحدمها غلبة عىل اآلخر.
والصراع بين احلق والباطل عىل مس�توى األفراد واجلامعات وال�دول ال خيرج عن
ه�ذه الصور الثالث ،إما غلب�ة ألهل الباطل ،وإما متكني ألهل احلق ،وإما أن تتس�اوى
الكفتان بينهام وليس ألحدمها سلطان عىل اآلخر.
68
واألمة اإلسلامية ـ عىل مس�تواها كلها وعىل مستوى أفرادها ـ جيب أن تتعلم كيف
تتفاعل مع هذا الرصاع بشكل صحيح ،وكيف تتخذ املنهج األمثل ىف التعامل معه.
والس�ورة الكريم�ة ـ التى نقرؤه�ا كل مجعة ،وكثري منا حيفظه�ا أو حيفظ الكثري منها
وحيك�ى قصصها الثلاث لألطفال ـ قد عرض�ت للمنهج األمثل ىف التعام�لِّ ،
وتعل ُمنا
املنهج ىف كل حالة ،فحني يكون الباطل قويا له سلطته وقوته وأدوات القمع التي يبطش
هبا علمنا اهلل أن املنهج واألسلوب الذى نتبعه هو ما قاله أصحاب الكهف ﴿ ﯫ
ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﴾.
وحين كان�ت الق�وة م�ع ذى القرنني القائ�م باحلـق علمن�ا اهلل أن املنهـ�ج املـتبع ىف
هـ�ذه املرحلة ﴿ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﴾ يعنى بلغتن�ا العرصية ـ األخذعىل يد الظاملني
الفاسدين والبلطجية والسفاكني للدماء واألكالني للامل العام.
أم�ا ىف حالة تس�اوى الطرفني كما ىف قصة الصاحبني فاملنهج ه�و ﴿ﭫ ﭬ ﭭ
ﭮ ﭯ﴾ منهج النقاش واحلوار وتبادل وجهات النظر بدون رصاع وال ش�جار وال
تطاول باأللسنة.
قص�ص ثالث ومناهج ثالثة متث�ل حياة األفراد واجلامعات واألمة املس�لمة ،ال خيلو
يوم املس�لم املستمس�ك بدينه من حالة من هذه احلاالت الثالث ،بل قد يتقلب ىف اليوم
الواحد بني هذه احلاالت ،فيكون ىف عمله صباحا مستضعفا بدينه ،ال يستطيع أن يصدع
ببعض احلق أو ببعض شعائره الدينية بسبب أن املكان الذى يعمل فيه يغلب عليه عدم
التدين وااللتزام ،وهو ىف طريقه إىل عمله أو إىل بيته راجعـا من العمـل قد يجُ رى حديثـا
مع من بجـواره ىف (وس�يلة املواصالت) ويمثل هذا مش�هد الصاحبني ىف السورة حيث
ليس ألحدمها سلطان عىل اآلخر.
ثم يصل إىل بيته فيدخله َّ
ممكنًا له القوة والغلبة فيه ،حيكم فيه ويأمر وينهى كيفام يشاء
بام يمثل غلبة سلطان احلق.
فه�ى إذن ح�االت متث�ل أدوارا ىف حي�اة املس�لم ،وىف كل دور علي�ه أن يتب�ع املنه�ج
الصحيح والطريقة املثىل ىف التعامل والتفاعل مع املجتمع.
69
إن سورة الكهف ُتقرأ كل أسبوع لرتسم للمسلم اسرتاتيجيات عمله أثناء األسبوع
ومنهجياته ىف التعامل مع الناس ،فهل عقلنا األمر وفهمنا مقصد الرشع من هذه السورة
العظيمة وفهم العالقات بني قصصها الثالث؟
واألمـر ال شـك صعـب وحيتـاج منا إىل فهـم وتعلـم وتدريـب وإدراك بأن بواطـن
األمـ�ور ـ كثيرا م�ا ـ ال تكون مثل ظواهرها ،وأن حقائق األش�ياء حتت�اج إىل كبري فهم
وصرب.فانتص�ار الباط�ل ىف الظاهر ليس نرصا حقيقيا وإنام ه�و انتفاخ ىف حالة مرضية،
وورم قد نحس�به ش�حام وحلام ،وعىل املسلم أن يدرك احلقيقة ويصرب عىل احلالة الراهنة،
ويعم�ل من أج�ل النرص احلقيق�ى للحق وأهل�ه ،وأن يكون أحد صناع ه�ذا النرص بام
استخلفه اهلل تعاىل ىف هذه األرض.
األم�ر كام قلت ليس س�هال ،بل حيت�اج إىل تدريب وتعلم وأن يبذل املس�لم قصارى
جهده ىف هذا التعلم.
وه�ذه ه�ى احلكمة ىف القص�ة الرابعة الت�ى ختللت بني هذه القص�ص الثالث ،قصة
موسى مع اخلرض عليهام السالم.
القصـــ�ة التى متثل جهاد موس�ى عليه السلام لكى يتعلم ،رح�ل وتعب من أجل
يدربه عىل
التعلـــ�م ﴿ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﴾ ح�اول اخلرض عليه السلام أن َّ
الصرب بالس�كوت عام يفعل ،ولكن األفعال كانت أقوى من صرب موس�ى عليه السلام
فلم يصرب.
متثل القصة هذا االختالف بني حقائق األشياء وظواهرها بام فعله اخلرض عليه السالم،
فقد بدت أفعاله مستنكرة ،ولكنها ىف احلقيقة خري كبري ﴿ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ﴾.
والتدرب عىل
ُّ حق�ا الصراع بني احلق والباط�ل حيتاج إىل كل هذه امله�ارات ،الصرب
السكوت أحيانا ،أو الكالم بحساب ،حيتاج إىل إدراك احلقائق بكثرة التدبر والتمعن ىف
عامل البرش واألشياء.
إهن�ا قص�ة الرصاع بني احل�ق والباطل وما حتتاج�ه من مهارات وإج�راءات محُ ْكمة،
وتدابري متقنة ،ومهارات يتدرب عليها املسلم.
70
إهن�ا قصة الصراع التى بدأت من لدن آدم عليه السلام ىف قصة إبليس�وامتناعه عن
الس�جود ،ث�م بقص�ة الصراع بني ابني�ه التى انته�ت بأن قت�ل أحدمها اآلخ�ر ،ثم تأتى
حلق�ات قصة الصراع ىف كل ما حدث لألنبياء والصاحلني م�ع أقوامهم ،من لدن نوح
عليه السلام إىل أن ختمت برس�ولنا ونبينا ﷺ ،ومتثل أمة اإلسلام آالف القصص من
الرصاع بني احلق والباطل خالل فرتات األمة املختلفة ،وما نعيشه من أحداث ما هو إال
حلقة من هذه القصة ،ولسوف تكتمل احللقات كلها عند قيام الساعة.
خالص�ة األمر أن س�ورة الكهف ليس�ت قصصا خمتلفة وأحداث�ا ال عالقة بينها ،بل
هى موضوع واحد تعاجله الس�ورة ىف حاالت خمتلفة ،فموضوعها هو الرصاع بني احلق
والباطل وما حيتاجه أهل احلق من منهجية للتعامل والتدريب عليه.
مل يب�ق ىف الس�ورة بع�د ذل�ك إال أن تتأم�ل ىف افتتاحيته�ا وهنايته�ا وبع�ض اآليات
الت�ى ختلل�ت هذه القصص األربع ،وس�وف أترك لك التدبر -من خلال ما تعلمته ىف
تدبر وسوف جتد اخلري الكثري.
العالقات -ىف إجياد الروابط بني كل هذا ،فقط ْ
كلمــة ع ــن العل ــم الكثي ــر ف ــى العالقـ ــات :
معلوم أن القرآن ٍ
متناه ىف كلامته ،يعنى أن كلامته حمدودة معلومة كلمة كلمة من بداية
الق�رآن إىل هنايت�ه ،ولكن معانيه غري متناهية ،وال حتدُّ ها أى حدود ،فقد أودع اهلل فيه من
املعانى ما ال يمكن حرصه ،وبقدر إيامن العبد وفهمه وفقهه وتلقيه عن اهلل تعاىل وتدبره
للقرآن ـ يفتح اهلل تعاىل عليه من املعانى اخلري الوفري ،وعىل قدر االجتهاد يأتى اإلمداد.
وال ت�زال املعانى القرآنية تتجدد من زمان إىل زمان ،ومن ش�خص آلخر ،وال تنتهى
عجائب القرآن أبدا.
وللقرآن طرق ىف عرض هذه املعانى التى ال تنتهى والتى نجتهد ىف اس�تنباطها ،منها
على س�بيل املثال أن تصاغ اآلية بطريقة بحيث حتتم�ل أكثر من معنى ،وتفرس بأكثر من
طريق�ة ،وكلها تك�ون معانى صحيح�ة وحيتملها لفظ اآلي�ة الكريمة ،وكتب التفسير
مشحونة باختالف املفرسين ىف اآلية الواحدة ،وغالبا ما تكون اآلية حمتملة لكل املعانى،
وهذا أمر قديم ومعروف.
71
أما الطريقة التى معنا والتى يستخدمها القرآن الكريم لكى جيعل معانيه كثرية ـ فهى طريقة
العالقات ،وهو جمال جديد للبحث نرجو أن جيد طريقـه للتفعيـل عىل مستوى الدعوة والتعليم،
وعىل مستوى البحث األكاديمى والتصنيف الستخراج كنوز القرآن ومعرفة أرساره.
اكتش�اف العالق�ات بني اجلم�ل واآليات فيه علم كثري ،ونس�تطيع أن نس�تخرج به
وحكم وقواعد وفنون من املعرفة ترسم للمسلم حياة صحيحة ،وقلبا سليام، منهجيات ِ
وعقال راش�دا ،فقط علينا أن نطرح سؤاال أو أسئلة :ما العالقة بني هذه القضية وتلك؟
ملاذا مجع اهلل بينهام ىف هذا املوضع؟
74
الوحدة الثالثة من النموذج الفصـ ـ ــل الثالـ ــث
(المغا َيــــرات)
ُ
فى الموضع ـ بين المواضع
القرآن ال يسلك طريقة واحدة ىف األسلوب ،بل يغاير ىف ألفاظه وىف أسلوبه ،ويغاير ىف
التعبير ؛ فلا يعرب بام تتوقعه أنت ،ويأتى بام مل تكن حتتس�ب ،فيقدم تارة لفظة عىل أخرى،
وىف موضع آخر أو ىف نفس املوضع ربام يقدم ما أخره من قبل ،وهكذا يفعل القرآن دائام.
وه�ذه الوحدة مس�تحدثة ىف النموذج ،فلم تكن موضوع�ة فيه حني بدأت التدريب
علي�ه م�ع املجموعات األوىل ،وقد فت�ح اهلل تعاىل هبا ،ولكنى ت�رددت ىف ذكرها ىف هذا
النموذج ،وظ ّلت ىف ذهنى أتدبر هبا القرآن ُ
وأدخلها ىف منظومة تفكريى وأنا أتلو القرآن
تشكل ظاهرةحتى قويت ىف عقىل ،وكثرت أمثلتها املتنوعة ،ورأيت أن مغا َيرات القرآن ّ
مؤخرا ضمن وحدات النموذج ،واهلل تعاىل املوفق. جديرة بالذكر والتدبر ،فأدخلتها َّ
كما رأي�ت أن املوضع املناس�ب هل�ذه الوحدة ه�و ذكرها بع�د الوح�دة الثانية ،بعد
اس�تدعاءات االس�تعامالت ىف الوحدة األوىل وتدبر العالقات ىف الثانية ،هنا س�يالحظ
املتدبر مغايرات ىف التعبري القرآنى س�واء ىف الس�ياق نفس�ه بتدبر العالقات ،أو بني هذا
املوضع واملواضع األخرى التى استدعاها ىف االستعامالت.
على أن الرتتي�ب ىف وحدات ه�ذا النموذج هو مم�ا ختتلف فيه وجه�ات النظر ،فقد
خالفنى بعض املتدربني ىف ترتيب بعض الوحدات ،واألمر واسع وقابل لالجتهاد.
أوال :املغا َيـ ــرة فـ ــى نفـ ــس املوض ـ ــع :
* يق�ول تع�اىل ﴿ :ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ
ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﴾ (اجلمعة :اآلية .)11
75
فتأم�ل كي�ف قـــدم التجارة عىل اللهو ىف أول اآلية ،ث�م غايــر فقدم اللهو عليهــا
ىف آخرها.
قدم�ت التجارة أوال؛ ألهنا كانت س�بب الن�زول ،فهو يصف املش�كلة كام حدثت،
حني جاءت جتارة من الشام فانفض إليها الناس وتركوا النبى ﷺ قائام خيطب ،ثم ذكر
الله�و بعدها ألنه ناتج عام حدث ،فكل جتارة رشيفة أهلت املس�لم ع�ن عبادة ربه وأداء
فريضت�ه ص�ارت هلوا مذموما ،ولكى يعم�م القضية فال حيرص األمر على التجارة وإنام
يشمل كل هلو ،هذا سبب تقديم التجارة عىل اللهو.
أم�ا فـى املوضـ�ع الثانى فقد قدم اللهـو عىل التجـارة ؛ ألنه يقدم احلل للمش�ـكلة،
فاحل�ل ه�و ﴿ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﴾ فما عند اهلل تعاىل خري من كل هلو
يلهى املرء عن طاعة ربه ولو كانت جتارة.
* يقول تعاىل ﴿ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ
ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾ (الطالق :اآلية . )7
القرآن كثريا ما يذكر ش�يئني متقابلني ،فيغاير بينهام ىف التعبري؛ كأن يوجز ىف أحدمها
ويطنب ـ يطيل ـ ىف اآلخر ،كام ىف هذه اآلية الكريمة.
فانظ�ر كي�ف جع�ل نصيب األغنياء ذوى الس�عة مجل�ة واح�دة ﴿ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ
ﭺﭻ﴾ أما الفقراء الذين ُقدر عليهم رزقهم فكان نصيبهم بقية اآلية ثالث مجل :
﴿ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﴾.
﴿ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﴾.
﴿ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾.
وذل�ك لالهتامم هبم ،وختفيفا عنهم ىف التكليف بأهن�م ال يكلفون أكثر مما آتاهم اهلل،
وتبشيرا هلم بتفريج الكربة وأن حالة العرس س�وف تنقلب إىل يرس.فالقرآن إذن غاير ىف
التعبير ـ من حيث اإلجياز واإلطناب ـ بني الفريقيـ�ن األغنياء والفقراء ،أو بني حالتى
الغنى والفقر.وخذ هذه القاعدة التى توصلنا إليها بكثرة التدبر ىف املغايرات :
76
(إذا وج�دت الق�رآن يق�ارن بين فريقين أو حالتين فتوق�ع املغاي�رة ىف األس�لوب
والتعبري).
وهذه اآلية عىل وجه التحديد فيها أنواع بديعة من املغايرات األخرى :
* منها :أنه قدم األمر باإلنفاق لذى الس�عة الغنى عىل وصفه بالس�عة ﴿ﭶ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭺﭻ﴾ أما الفقري ففقدم وصف حالته عىل اإلنفاق ﴿ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ
ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﴾ لينبه األول عىل أمهية اإلنفاق بالنس�بة له وأنه ينبغى أن يقدمه ويسارع
به لوجود الس�عة ِ
والغنى ،أما الثانى فالنظر إىل حالته مرعية وال يعاتب عىل إبطائه أو
عىل قلة النفقة.
* ومنه��ا :أن�ه جعـ�ل اإلنفاق من س�عة الغن�ى منس�وبة إلي�ه ﴿ ﭹ ﭺﭻ﴾ أما الفقري
فجعـ�ل نفقت�ه ﴿ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﴾ فنس�ب م�ا آتاه من م�ال قليل إليه تع�اىل ،تنبيها عىل
رشف مكانته عند اهلل و ُلط ًفا به وتسرْ ِ ي ًة عنه.
* ومنها :أنه ذكر الرزق مع الفقري ﴿ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﴾ ،ومل يذكره مع الغنى ،وإنام
س�مى حالته سعة ،وىف هذا إش�ارة إىل مكانة الفقري أيضا وأن ماله القليل رزق مبارك
م�ن اهلل تع�اىل ،وأن هذا نصيبه من الرزق ولن يأخذ امل�رء أكثر من رزقه ،وأن الرزاق
سبحانه عنده الرزق الوفري ،وإنام هو ابتالء فحسب ىف هذا الوقت العارض.
* ومنه��ا :أنه مل�ا ذكر الغنى عرب عنه هب�ذا التعبري ﴿ ﭷ ﭸ﴾ بالوصف باالس�م الذى
يفي�د اللزوم ،أما الفقري فذكره هبذا التعبري ﴿ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﴾ بالفعل الدال عىل
املاىض ،تنبيها إىل تغري احلال وأن فقره مسألة عارضة وسوف تزول ،وقد جاء به مبنيا
للمجهول تأدبا مع اهلل ىف عدم نس�بة تضييق الرزق إليه ،فليتز ْم العباد ىف وقت الضيق
أن يقولوا :ابتلينا بكذا من املصائب ،وال يقولوا :ابتالنا اهلل باملصائب.
وه�ذا أيضا كقوله تعاىل ﴿ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ﴾
(اجل�ن :اآلي�ة )10حيث بنى الفعل ﴿ ﯚ ﴾ للمجه�ول ىف حالة الرش ،وبناه للمعلوم
وسمى فاعله وهو اهلل تعاىل ىف حالة اخلري والرشد.
77
وش�بيه هبذه املغايرة أن ينس�ب الفعل إىل اهلل تعاىل ىف اخلري ،وينسب إىل العبد ىف الرش
تأدبا مع اهلل تعاىل ،كام ىف قصة موس�ى مع اخلرض عليهام السلام ىف سورة الكهف ،ففى
موقف خرق السفينة وإحداث العيب فيها نسب اخلرض فعل اإلرادة إىل نفســـه فقــال
﴿ﮚ ﮛ ﮜ﴾ وىف موقف اجلدار واخلري الذى صنعه للغالمني اليتيمني نسب فعل اإلرادة
إىل اهلل تعاىل فقال ﴿ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ
ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﴾.
78
بعد هذا ميكنك فهم تعريف االحتباك :
يعرفه ال�سيوطى بقوله « :وهو أن حيذف من األول ما أثبت نظريه ىف الثانى ،ومن
الثانى ما أثبت نظريه ىف األول»(.((1
وق��ال عن��ه « :وهو من ألطف األنواع وأبدعها ،وقل من تنبه له أو نبه عليه من أهل
(((1
فن البالغة ...وهو نوع عزيز»
وأسلوب االحتباك نوع من املغايرات ألنه ال يذكر ىف كل طرف ما يقابله ىف الطرف
اآلخ�ر ،وإنما يغاير فيذك�ر ما يقتضيه مقابل�ه أو ضده ،ففى اآلية الس�ابقة ﴿ﮇ ﮈ
ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ﴾ مل�ا ذك�ر الفئ�ة األوىل التى تقاتل ىف س�بيل اهلل كان
م�ن املتوق�ع أن يذك�ر الفئة األخ�رى بأهنا تقات�ل ىف س�بيل الطاغوت والباط�ل ،ولكنه
ذكرها بمقتىض ذلك ،ذكرها بأهنا كافرة والكفر يقتىض أهنا تقاتل ىف س�بيل الطاغوت.
ومثال�ه أيض�ا قول�ه تع�اىل ﴿ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ
فعلى إجرامى وأنتم ب�رءاء منه ،وعليكم ﯱ ﯲ﴾ (ه�ود :اآلي�ة )35واملعن��ى ّ :
إجرامكم وأنا برىء مما جترمون.
ومن�ه قوله تع�اىل ﴿ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ﴾ (األنبياء :اآلية )5تقديره :
إن أرسل فليأتنا بآية كام أرسل األولون َفأ َتوا بآية.
واملتوقع إذا قارن القرآن بني أمرين أن يذكر الشىء وضده ،ولكن القرآن كثريا ما يذكر الشىء
وما يستلزمه الضد ،وليس الضد نفسه ،وهذه الظاهرة مالحظة ىف سورة اجلن ،قال تعاىل ﴿ :ﯖ
ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ﴾ فل�م يق�ل (أم أراد هبم رهبم خريا )
ىف مقابل قوله ﴿ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﴾ بل ذكر الرشد الذى هو الزم اخلري.
وقال تعاىل ىف السورة نفسها ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ
ﭚﭛﭜﭝﭞ ﭟﭠ ﭡﭢ ﭣﭤﭥﭦ ﭧ
ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ﴾.
-16اإلتقان ىف علوم القرآن (.)204/3
-17السابق.
79
هذه اآليات تتحدث عن فريقني ،فريق املسلمني املؤمنني املهتدين ،وفريق القاسطني
الظاملني الضالني ،تقابل وتقارن بني هاتني الصورتني من الناس ،وطبقا للقاعدة السابقة
حيثما وجدت الق�رآن يقارن بني صورتين أو فريقني أوحالتني فتوقع ه�ذه املغايرات،
سواء باالحتباك أو بغريه.
ولنت�أمل املغايرات فى هذه الآيات :
-1املغاي�رة بالتعبري بالش�ىء والزم ضده ـ كام س�بق بيانه ـ حيث س�مى الفريق األول
املسلمني ،ومل يسم الثانى بضده وهو الكافرون ،وإنام سامه مالزم الكفر ﴿ ﭞ﴾
أى الظاملون.
-2اجل�واب خمتل�ف ىف احلالتني ،ففى حالة املس�ـلمني ج�واب الرشط ﴿ ﭙ ﭚ
ﭛ﴾ حي�ث ذك�ر أن من أس�لم فقد حت�رى الص�واب وطريق اهل�دى ،فنص عىل
طريقتهم ىف االهتداء وهو التحرى والبحث عن احلق ،ومل يفعل ذلك ىف القاسطني،
فل�م يذك�ر مثال أهنم حتروا ضد الرش�د وه�و الضاللة والغواية ،وإنما ذكر دخوهلم
جهن�م ﴿ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﴾ ،ومعل�وم أن دخ�ول جهن�م هو الزم
لضد الرش�د ،فكأن اآلية تقول :فقد حتروا ضاللة ـ ىف مقابل املس�لمني الذين حتروا
رشدا ـ فكانوا جلهنم حطبا.
كما �أن الآيات فيها مغايرتان �أخريان من نوع �آخر :
-3حني حتدث عن املس�لمني قال ﴿ﭗ ﭘ﴾ ومل يس�لك نف�س الطريقة مع الفريق
اآلخر فلم يقل (ومن قسـط) كام قال ﴿ﭗ ﭘ﴾ وإنام عربعنهم باستعامل االسم
﴿ﭝ ﭞ ﴾.
-4أوجز ىف احلديث عن املس�لمني ،وأطال ىف احلديث عن القاس�طني ،فبينام كان حظ
املؤمنين ه�و قول�ه ﴿ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﴾ كان ح�ظ القاس�طني أكث�ر
م�ن ه�ذا ىف احلدي�ث عنه�م ﴿ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ
ﭵ﴾.
80
* يقـول تعاىل ﴿ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ﴾ (فصلت :اآلية .)17
فتأم�ل كي�ف قال ﴿ ﯡ ﯢ ﯣ﴾ فذكر العم�ى ومل يذكر ضده وهو اإلبصار أو
التبُّص�رُّ ،وإنام ذكر اهلدى ال�ذى هو الزم التبرص وناجته ،فلم تق�ارن اآلية بني (الضاللة
واهل�دى) ومها الض�دان املعروفان ،ومل تق�ارن بني (العمى واإلبص�ار) وإنام قارنت بني
العمى وما ينتج عن ضده وهو اهلدى.
وىف هذا ـ وكل ما س�بق ـ احتباك وإجياز ،فكأن اآلية تقول (فاس�تحبوا العمى الذى
أدى هبم إىل الضاللة عىل اإلبصار الذى يؤدى إىل اهلدى) فسكت ىف كل طرف عام يفهم
م�ن ذك�ر ضده ىف الطرف اآلخر ،فل�م يذكر الضاللة ىف الطرف األول وإنام أش�ار إليها
حني ذكر ضدها وهو اهلدى ىف الطرف الثانى ،ومل يذكر اإلبصار ىف الطرف الثانى وإنام
أشار إليه حني ذكر ضده وهو العمى ىف الطرف األول.
وهذا ال شك إجياز بديع ،كام أن فيه دعوة إىل التدبر الستنباط املسكوت عنه ،كعادة
الق�رآن دائام أنه ال يرصح بكل ش�ىء ،بل يرتك مس�احة ألهل الق�رآن املتدبرين العالمِ ني
حتى ال يستووا مع غري املتدبرين.
والسؤال الذى يطرح نفسه :ملاذا ذكر ىف كل طرف هذا اجلزء عىل وجه التحديد وسكت
عن اجلزء اآلخر؟
ملاذا ذكر ىف الطرف األول العمى ،وىف الثانى اهلدى؟
مل�اذا مل تك�ن اآلية عىل ه�ذه الصورة (فاس�تحبوا الضالل�ة عىل اإلبص�ار)؟ وحينئذ
سنستنبط املسكوت عنه (العمى واهلدى) بنفس الطريقة.
واجلواب أن القرآن يدعو إىل استعامل اإلنسان ألدواته من السمع والبرص والفؤاد ىف
التأمل والتفكر ،فإذا استعملها متجردا عن اهلوى ُهدى إىل رصاط مستقيم ،وكأن اآلية
تنكر عليهم أهنم اس�تحبوا أال يس�تعملوا عقوهلم وأن يعطلوا أسامعهم عن سامع احلق،
فهم بذلك يستحبون العمى الذى نتيجته وال بد الضاللة.
واهل�دى هو املحصلة ملن اس�تحب إعمال عقله وفكره ،وهو الثمرة التى ُأرس�ل من
أجله�ا األنبي�اء ،وكأن الق�رآن يق�ول :حتصيل هذه الثم�رة العظيمة بأن يرتك اإلنس�ان
العمى ،عليه فقط أن ُيعمل سمعه وبرصه وفؤاده وسوف يصل إىل اهلدى ال حمالة.
81
فاآلية ـ إذن ـ تستنكر طريقة تعامل الناس مع احلق ،ولو أهنم تركوا ألنفسهم مساحة
ألن َي ُعوا ما يقال ،وأن يتدبروا فيام يدعو إليه الرسل لكانت النتيجة خمتلفة.
وكأن الق�رآن يق�ول للن�اس ىف كل زمان وم�كان :تعاملوا مع كل م�ا يقال وحيدث
م�ن حولكم بغض النظر عن كونه حقا أو باطلا ـ بطريقة صحيحة ،طريقة تعتمد عىل
التعقل والتفكر ال العمى والغفلة ،ال ترفضوا ما يقال ملجرد أنه جديد ،بل اسمعوه أولاً
وافهموه وتأملوا فيه ،فإذا كان حقا س�تقبلونه ما دمتم س�الكني هلذه الطريقة ،وإذا كان
باطال رفضتموه بنفس الطريقة.
وخالص�ة األم�ر أن االحتباك الذى ذكره بعض العلامء هو ن�وع من أنواع املغايرات
القرآنية ىف التعبري ،وحيتاج إىل مزيد من التدريب وإعامل العقل والنظر.
* يقول تعاىل ﴿ :ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ
ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﴾ (األحزاب :اآلية .)73
ا�شتملت هذه الآية الكرمية عل��ى �أنواع بديعة من املغايرات فى املقارنة بني
الفريقني:
-1ذك�رت الع�ذاب للمنافقني واملرشكين ،ومل تذكر ضده مع املؤمنين وهو النعيم أو
إدخ�ال اجلن�ة مثال ،بل ذك�رت الزم الضد فقالت ﴿ ﯹ ﴾ وه�ذا احتباك أيضا،
واملعنى :ليعذب اهلل املنافقني ...وال يتوب عليهم ،وينعم املؤمنني ويتوب عليهم.
فصل�ت الط�رف املذم�وم فذك�رت فيه نوعين (املنافقين واملرشكني) أم�ا الطرف ّ -2
املمدوح فلم تذكر فيه إال (املؤمنني).
-3ذك�رت اآلية التفصيل هن�ا ىف الذكور واإلناث (املنافقين واملنافقات) و(املرشكني
واملشركات) و (املؤمنين واملؤمن�ات) على غري الغال�ب ىف القرآن ،حي�ث يكتفى
التعبري بصيغة املذكر ليشمل به اجلنسني.
وهذه مغايرة باملخالفة بني املواضع كام سيأتى بيانه.
وىف ه�ذه املغاي�رات ِحك�م وفوائد جليلة أترك ل�ك إدراكها بالتدب�ر ـ كام تركتها ىف
بعض األمثلة الس�ابقة ـ إذ الغاية من تعداد بعض األمثلة اس�ـتثارة الذهن ودعوة العقل
82
للتفك�ر ،وليس من قصدنا أن نرصح بكل ش�ىء ،ولعدم اإلطال�ة ىف هذا الكتاب الذى
قصدنا منه رشح النموذج باألمثلة الدالة عليه.
-5املغايرة بني اال�سم والفعل :كام قال تعاىل ىف ش�أن داود عليه السالم ﴿ ﭞ ﭟ ﭠ
ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﴾(ص :اآليتان .)19 ،18
فعرب عن تس�بيح اجلبال باس�تخدام الفعل املضارع ﴿ ﭢ ﴾ وعرب عن حرش الطري
باستخدام االسم ﴿ﭧﭨ ﴾ ومل يعرب بالفعل (يحُشرَ ْ ن) كام عرب مع اجلبال.
وقول�ه ﴿ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ
ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﴾(الصف :اآليتان .)11 ،10
89
إال ىف اآلي�ة واح�دة ق�دم فيه�ا النفس على امل�ال ﴿ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ
ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ﴾
(التوبــــة :اآلية .)111
وىف نف�س هذه املواضع أحيانا يقدم املجاهَ �د به عىل املجاهَ د فيه ،فيقدم اجلهاد باملال
والنف�س على ﴿ ﯣ ﯤ ﯥ ﴾ كام ىف اآلية األوىل ،وأحيانا يغاير فيقدم الس�بيل عليهام
كام ىف الثانية.
وخالصة األمر أن كل هذه املغايرات مل تأت هكذا لتمر عىل املتدبرين دون أن يتوقفوا
أمامها.
فق�ط عليه�م أن يتدب�روا ويمعن�وا النظ�ر ،واخلير الكثري والعل�م الوفير ىف التفكر
والتدبر.
***
90
الوحدة الرابعة من النموذج الفصـ ـ ــل الراب ـ ــع
(السنن والقوانين الحاكمة)
فى البشر ـ فى األشياء
ُ
والبحث ىف سنن البرش وعامل األشياء وهذا من أمتع وحدات التدبر ىف هذا النموذج،
من حولنا جيعلنا أكثر فهام لكل شىء ،وأكثر وعيا بام يصلح وما ال يصلح.
إن تفعيل القرآن ىف الواقع حيتاج إىل أن نفهم سنن كل شىء وقوانينه ،نفهم اإلنسان
بأغواره وطبيعة ش�خصيته ،وما حيبه وما يكرهه ،ونفهم خصائص األش�ياء من حولنا،
وبقدر فهمنا لطبيعة األش�ياء وخصائصها نتمكن من التعامل معها ونستطيع تسخريها
وتذليلها خلدمة اإلنسانية.
العل�وم االجتامعية تقوم عىل االكتش�اف والتع�رف عىل خصائص البشر ،والعلوم
التجريبية تقوم عىل اكتشاف عامل األشياء من حولنا.
وكالمها رضورى لعامرة األرض وحتقيق معنى االستخالف فيها.
لك�ى أوض�ح املقصود من وحدة الس�نن والقوانين ىف ( دورة معايش�ة القرآن ) مع
ْ
وحرك دربتُها عىل اس�تعامل هذا النموذج ـ قلت ألحد املتدربني :قم
املجموعات التى ّ
الكرس�ى ال�ذى تقعد عليه م�ن مكانه ،فقام ومحل الكرس�ى وغيرَّ مكانه ،ث�م قلت له :
ح�رك ه�ذا احلائط من مكانه ،فقال عىل الفور :ال أس�تطيع فعل ذل�ك ،قلت له :ملاذا؟
قال :ألن احلائط ال يمكن حتريكه.
ه�ذا هو املقصود بالس�نن والقوانني ،فتحريك الكرس�ى مبنى على معرفتك لطبيعته
وسننه ،إذن يمكن حتريكه ،أما احلائط فمعرفتنا بطبيعته يقتىض إذا أردنا إزالته عن مكانه
ـ أن تستدعى له عامال معه أدوات اهلدم ،ويقوم بتكسريه شيئا فشيئا حتى ُيزال عن مكانه،
ثم نستدعى ب ّناء بأدوات خمتلفة واستخدام مواد معينة ويقوم ببنائه ىف مكان آخر.
91
فانظر كيف تعاملنا ىف املوقفني ،مع الكرسى واحلائط حسب طبيعة كل منهام ،فلكل
منهام سننه وقوانينه احلاكمة ىف التعامل.
ه�ذا هو عني املقصود بوحدة الس�نن والقوانين ىف هذا النم�وذج ،أن نفهم األلفاظ
القرآنية وتعاليم القرآن بس�ننها وقوانينها سواء عىل مس�توى البرش أو األشياء األخرى
غير اإلنس�ان ،لكى نجيد التعامل معها وحتويل الق�رآن إىل واقع عمىل من خالل وضع
إجراءات والتدرب عىل مهارات كام سيأتى ىف وحدة ( اإلجراءات واملهارات).
فمعرف�ة اإلج�راء ال�ذى ينبغى أن نق�وم به ال بد أن يس�بقه أوال فهم طبيعة األش�ياء
وقوانينها حتى نحدد وسائل التعامل وكيفياته وآلياته ومناهجه.
وعامل األش�ياء يشمل األشياء احلسية مثل البحر والشمس والقمر والسامء واألرض
والس�حاب وغريها من األش�ياء التى ال تكاد ختلو منها آية ،كام يشمل األشياء املعنوية،
كاألم�ر باملع�روف والنهى عن املنكر ،والدع�وة إىل اهلل باحلكمة واملوعظــة احلس�نــة،
وغري ذلك.
فإذا قال اهلل تعاىل لنا ىف التعامل مع املرأة ىف وقت النشوز ﴿ﭫ ﭬ
ﭭ ﭮ ﭯﭰ﴾ (النس�اء :اآلي�ة )34ـ فلا يمكن أن نتعام�ل هبذه اآلليات
الثالث (العظة واهلجر والرضب) إال بفهم الس�نن ،سنن املوعظة وكيفيتها ومتى تكون
حسنة ومتى تكون سيئة ،وسنن اهلجر ومدته الرادعة للمرأة وكيفيته عىل الوجه األمثل
الذى يؤتِى ثامره ،وأخريا سنن الرضب والكيفية التى رشع عليها.
معرفة سنن هذه األمور جيعلنا نقف عىل الطريقة املثىل الستعامهلا.
ه�ذا من حيث عامل األش�ياء ،وأما ع�امل البرش فال بد من معرفة س�نن املرأة عىل وجه
العموم ،وسنن زوجتك عىل وجه اخلصوص وطبيعة شخصيتها ،وأى هذه األنواع من
العالج يكون أنفع هلا؟ وعىل أى كيفية بالتحديد؟
نحــول الق�رآن إىل واقــع
ِّ ب�دون هذا الفهم للس�نــن والقوانني لن نس�تطيـــع أن
عمىل حقيقى.
وكثري ممن يدّ عون التدين وااللتزام بالنصوص ييسء إىل القرآن بس�بب س�وء تطبيقه
له ،وما َأتى سوء التطبيق إال من سوء الفهم وقراءة القرآن بعيدا عن السنن.
92
ال شك أن هذه اآلية وغريها لعموم املسلمني ،بل حيفظها أغلب األزواج إن مل يكونوا
ربحا ،ولكن مجيعا ،وحياول كل واحد أن يستشهد هبا إذا رضب زوجته ولو كان رضبا م ِّ
فاتهَ ُم أن القرآن ال بد أن ُيفهم هبذا التدبر والتأمل ،أعنى بتدبر السنن والقوانني.
فاتهَ�م أهن�م مكلفون أن يعرف�وا كيفية التطبي�ق الصحيحة ،فليس األم�ر ىف التطبيق
مرتوكا لكل هوى ،لذلك كان تد ُّبر القرآن الكريم م ِهماً لكل مس�لم حتى يفهم القرآن،
فمت�ى تنتهى فتنة اعتقاد أن القرآن للعلامء فحس�ب ،وأهنم وحدهم هم من يتأملون فيه
ويفهمونه؟!
يعلموا أن القرآن هو حياهت�م ،وأن عليهم واجبا عظيام نحوه، عىل كل املس�لمني أن َ
وأهن�م لن يقوم�وا بأمانة التكليف ـ جمرد التكليف ـ إال بأن يعيش�وا هبذا الكتاب ويحَ َيوا
ويش�كل حمور حياهتم ،كما عاش به الصحاب�ة رىض اهلل عنه�م دون تفرقة بني عالمِ َّ ب�ه،
وغري عامل.
* ﴿ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ
ﯲ ﯳ ﴾ (النساء :اآلية .)26
93
* ﴿ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ
ﮱ ﯓ ﴾ (األنفال :اآلية .)38
* ﴿ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ
ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ
ﯞ ﴾ (احلجر :اآليات . )13-10
* ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ
ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ﴾
(اإلســراء :اآليات . )77-76
* ﴿ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ
ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ﴾ (الكهف :اآلية .)55
* ﴿ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ
ﯔ ﯕ ﯖ﴾ (األحزاب :اآلية .)38
* ﴿ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ
ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ
ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ﴾
(األحـــــزاب :اآليات .)62-60
* ﴿ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ
ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ﴾ (فاط�ر :اآلي�ة .)43
﴿ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ
ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ﴾
(غاف�ر :اآليت�ان ﴿ .)85-84ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ
94
ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﴾ (الفت�ح:
اآلية اآليتان . )23-22
أما عن السنن التى أودعها اهلل تعاىل ىف كتابه دون أن يذكر معها لفظة سنة فهى أكثر عددا.
* يق�ول تع�اىل ﴿ :ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ﴾ (اإلس�ــــراء:
اآلية .)81هذا التذييل الذى ختمت به اآلية الكريمة ﴿ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ﴾ يمثل
سنة اهلل مع الباطل أنه ُيذهبه ويدحضه ،فربام فهم أحد من سياق اآلية أن اهلل تعاىل قد
أزه�ق الباط�ل ىف هذا املوقف الذى وردت فيه اآلية مع نبينا ﷺ حني نرصه اهلل تعاىل
باحل�ق وأزهق الباط�ل عىل يديه هو ومن معه من أهل احلق ،فجاء آخر اآلية ليبني أن
هذه سنة اهلل مع الباطل ،أنه دائام زهوق وال يمكن له أن ينترص أبدا ال ىف هذه املوقف
انتفاش�ة ِع ْه ٍن
ُ وال ىف غيره م�ن أل�وف املواقف ،وم�ا يبدو أحيانا من نصر له إنام هو
وانتفاخ ُة َو َر ٍم ال قيمة له ،ورسعان ما يكون هذا الورم سببا هلالك صاحبه ،فكلام زاد
الباط�ل ىف طغيان�ه فكأنه ورم يزداد عىل صاحبه مرضا ،حت�ى يبلغ الورم النهاية ،وال
يبقى أمامه إال أن َيـنفجر ل ُيـهلك صاحبه.
اق��ر�أ ـ مث�لا ـ الآي��ات الت��ى تب��د�أ بقول��ه ﴿ﮐ ﮑ ﮒ ﴾ ...لتكت�ش��ف ال�سنن
والقوانني الإلهية:
* ﴿ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﴾ (البقرة :اآلية .)143
* ﴿ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ
ﯜ ﯝ ﯞ﴾ (آل عمران :اآلية .)179
* ﴿ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ﴾
(األنفال :اآلية .)33
* ﴿ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ﴾
(التوبـة :اآلية .)115
* ﴿ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ﴾ (اإلرساء :اآلية .)15
* ﴿ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﴾(الروم :اآلية .)9
95
س�ورة قصرية مثل سورة العرص تستطيع أن تس�تنبط منها سننا ،فقاعدة أن (األصل
ىف اإلنس�ان اخلرسان إال القليل ممن اس�تثناهم اهلل تعاىل ىف السورة) ـ هى قاعدة متثل سنة
ىف هذه احلياة ،والرشوط التى ذكرهتا الس�ورة والتى جيب التحىل هبا لكى ينجو اإلنسان
م�ن هذا اخلرس ـ متثل س�نة أيضا ،وهى رشط اإليامن والعم�ل الصالح والتواىص باحلق
والتواىص بالصرب.
إن السورة تتحدث عن سنن وقواعد نراها ىف واقعنا كل يوم ،بل كل ساعة ،ومن مل
يفهم القرآن حقا فال يلومن إال نفسه.
اس�تمع بقلبك إىل بداية س�ورة الرمحن لتتعرف عىل الس�نن التى أق�ام اهلل عليها هذا
الك�ون كل�ه ىف ع�امل األش�ياء ىف السماء واألرض وعامل اإلنس�ان الذى حييا بني السماء
واألرض :
﴿ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﭿﮀﮁﮂ
ﮃ ﮄﮅﮆ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮎ
ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﴾.ك�ون فس�يح
يسير بحس�اب ونظام وسنن قد أرس�اها اهلل فيه ،وقد أنزل القرآن وعلم اإلنسان البيان
من أجل أن حيافظ عىل هذه السنن من خالل ﴿ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ
ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﴾.
إهن�ا س�نن العدل ،الع�دل ىف نظ�ام الكون ،فكل ش�ىء فيه بحس�بان ومي�زان ،ولذا
أن�زل الق�رآن وعل�م اإلنس�ان من أج�ل أن حيافظ عىل مي�زان العدل ىف حي�اة البرش وىف
اجتامعياهتم ،فمن خالف هذه الس�نن الربانية حاق عليه ما حاق عىل األمم الس�ابقة من
الوبال واهلالك.
وتأمل قصة موس�ى مع اخلرض عليهام السلام ،إنام ترسى س�ننا كثرية ىف اجتامعيات
البرش ،وىف عالقة املتعلم بمعلمه ،والتابع بقائده ،والصديق بصاحبه.
96
فمو�سى عليه ال�سالم وهو فى مقام املتعلم والتابع قال :
﴿ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﴾ (الكهف :اآلية )66إنام يرسى بذلك
سنة عظيمة ،وهى أن االتباع من أجل التعلم ،فمن مل تتعلم منه ال يستحق أن تكون تابعا
له ،ومن مل ُيقدْ ك إىل أن ِّ
يعلمك شيئا فليس أهال ألن تنقاد له.
وق�ول اخلضر علي�ه السلام ﴿ :ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ
ﮤ ﮥ ﮦ﴾ إنام يرس�ى س�نة عدم الصرب عىل ما ُيستنكر ،مع عدم علمه باحلقيقة ،فام
سيراه موسى عليه السالم من أفعال يستنكرها لن يس�تطيع الصرب عليها أبدا ،فالفطرة
الس�ليمة ال تس�كت عىل مثل هذا ،فاخلرض حمق فيام فعل؛ ألنه ما فعله عن أمره هو ،بل
كان عن أمر من اهلل تعاىل ،كام قال ﴿ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﴾ وموسى عليه السالم ما أخطأ
فيام اس�تنكره وسأل عنه؛ ألنه إنام انطلق من س�نة الفطرة السليمة التى تستنكر مثل هذه
الفظـائ�ع ،ومل يكن عنده من العلم بحقائقها ما جيعله يصرب ،فكل منهام انطلق من س�نة
ومنهج.
فلما انطلق�ا نحو االختبار األول ـ اختبار صرب موس�ى الذى ِ
علم اخلرض مس�ب ًقا أنه
لن يصرب للس�نة املذكورة ـ نس�ى موس�ى وخالف الشرط املأخوذ عليه وهو أال يس�أل
ذكره اخلرض بام ق�ال ﴿ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﴾ ذكره بالس�نة عما ي�رى ،ولذا ّ
والطبيعة البرشية التى فطر اهلل الناس عليها ،وأنه لن يستطيع أن خيالفها.
فق�ال له موس�ى علي�ه السلام ﴿ :ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ﴾
وملاذا نس�ى موس�ى رغم الرشط والعه�د واالتفاق ،رغم أنه الرشط الوحيد ومن ش�أن
الرشط الوحيد أنه ال ُيـنس�ى ،رغم أنه قال ﴿ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ
ﮱ ﴾ وانظر كيف قدم مش�يئة اهلل تعاىل فلم يكن نس�يانه ـ إذن ـ عقوبة عىل ترك تقديم
املشيئة ،بل كان إعامال لسنة اهلل تعاىل ىف خلقه التى ال تتبدل وال تتحول أبدا.
إن قصة موس�ى مع اخلرض عليهام السالم ُتعدّ نموذجا لكل من يتحدى سنن اهلل تعاىل
ىف اخللق ،فمن راهن ضد الفطرة خرس رهانه ال حمالة ،ومن س�ار عكس فطرة اهلل وس�ننه
ىف الكون والبرش فهو اخلارس ال ش�ك ،واالنتصار لن يكون إال للس�نن والقوانني احلاكمة
عىل دنيا البرش.
97
مـ ــا نقصـ ــده إذن بالسنـ ــن:
بع�د كل ه�ذا نلخ�ص األمر فيما نقصده م�ن الس�نن والقوانني احلاكم�ة ىف نموذج
(التحليل املنظومى والنموذج احلضارى) ىف ثالثة أمور :
-1ما سماه اهلل تعاىل ىف كتابه س�نة ،وهذا من املمكن أن نسميه أمهات السنن ىف القرآن
الكريم ،فبعد أن يذكر اهلل السنة يتبعها بالنص عليها أنه سنة اهلل.
كما س�بق ىف قول�ه تع�اىل ﴿ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ
ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ﴾ (الفتــ�ح :
اآليتان .)23 ،22
مهام كانت قوة الكافرين فإهنم ال بد أن يفروا أمام املؤمنني.
مهام كان معهم من سالح نووى فإهنم يفرون وال شك.
إهنا سنة اهلل التى ال تتبدل أبدا.
أبعد هذا البيان يبقى ش�ك ىف نرص اهلل تعاىل؟ فقط عىل املس�لمني أن يتح َّلوا باإليامن
ْ
وينرصوا اهلل تعاىل وسوف هتاهبم الدنيا كلها.
-2السنن التى ذكرها اهلل ىف كتابه دون أن يعقب عليها بأهنا سنة ،لكنها متثل عند التأمل
والتدبر س�ننا وقواعد حاكم�ة ال يمكن خمالفتها ،وقد رضبنا على ذلك أمثلة كثرية
كالس�نن املفتتح�ة بقول�ه ﴿ﮐ ﮑ ﮒ ﴾ ...وما ذكرناه من س�نن ىف افتتاح س�ورة
الرمحن وىف قصة موسى مع اخلرض عليهام السالم ـ فيه كفاية ىف األمثلة.وهذا القسم
من السنن كثري ىف القرآن ،وهو ـ ال شك ـ أكرب بكثري من القسم األول ،وفيه نصيب
كبير من القواع�د االجتامعية وتنظي�م العالقات بين البرش ،وعلينا فق�ط أن نتدبر
ونستخرج الكنوز.
ود ْربة ىف
-3السنن التى تتعلق باأللفاظ القرآنية ،وهذا القسم حيتاج منا إىل وقفة وفهم ُ
التطبيق ىف نموذج التدبر الذى معنا.
فهو ال يتعلق بالسنن والقواعد التى نص اهلل عليها ،سواء أتْبعها اهلل بقوله ﴿ﯽ﴾
كام ىف القسم األول ،أو مل ُي ْتبعها كام ىف القسم الثانى.
98
وإنما يتعل�ق بألفاظ وأش�ياء يذكره�ا اهلل تعاىل ىف كتاب�ه ،وعلينا أن نتأمل ىف س�ننها
وطبيعته�ا كى نفهم القرآن أوال ،ولكى نحول�ه إىل واقع عمىل ثانيا ،فال يمكن أن نفهم
ألف�اظ الق�رآن الكري�م وتعاليمه إال بفهم ما حتمله من س�نن وقوانني ،ف�إذا ذكر القرآن
لفظة (إنسان) فعلينا أن نقرأ هذه الكلمة بام حتمله من سنن اإلنسان وطبيعته.
وكام ذكرنا ىف بداية هذا الفصل قوله تعاىل ﴿ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ
ﭯﭰ ﴾ فاآلية مل تش�تمل عىل س�نن املوعظة واهلجر والضرب ،وإنام علينا نحن أن
نتأمل ىف سنن هذه األشياء املعنوية لكى نفهم املقصود باآلية ،ونعرف كيفية التطبيق هلا.
وحني يقس�م اهلل تعاىل ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ﴾ ففى اآلية الثانية س�نة
منص�وص عليه�ا ﴿ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ﴾ أما القس�م نفس�ه ﴿ ﭑ﴾ فليس س�نة
منصوص�ا عليها ،ولكن حيتاج األمر منا أن نتأمل س�نن العصر والزمن حتى نفهم ملاذا
أقسم اهلل بالعرص ،وما عالقته بقضية خرس اإلنسان.
فالزمن له سنن ال تتبدل أبدا ،وهذه السنن جزء من فهم الكلمة ال ينفك عنها أبدا.
فمن س�نن الزمن أنه ال يسترد ،فام فات منه ال يمكن استرجاعه.ومن س�ننه أنه ال
يعار ،فال يمكنك أن تستعري ساعة من أى شخص ولوكان أقرب الناس إليك.
ومن سننه أيضا أنه ال خيزن ،فالساعة التى ال جتد عمال فيها اليوم ال يمكنك ختزينها
إىل الغد أو إىل الشهر القادم لكى تنفعك هناك ،هذا ال يمكن فعله أبدا.
وكأن القرآن يقول لنا :إن زمنا ال يسترد ،وال يعار ،وال خيزن ـ جلدير بأن نقس�م به،
وجدير بكم أن تغتنموه وحترصوا عليه أشد من حرصكم عىل أموالكم.
فالزمن والوقت هو رأس املال احلقيقى لكل إنسان ،وهذا جيعلنا نشعر بقيمة الوقت،
كام سيأتى ىف بيان وحدة القيم املقاصدية ىف هذا النموذج.
حي�ول حياة األفراد
إن الق�رآن إذا فه�م هبذه الطريقة ىف معرفة الس�نن والقواعد فإنه ّ
واألمم إىل هنضة ونقله حضارية.
فاهلل َ
اهلل ىف كتاب اهلل يا مسلمون! َ
99
من لطائــف السنــن املستنبط ــة ف ــى ورش ــات املعايشـ ــة:
* ﴿ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﴾ استنبطوا :
أن اإلنس�ان دائما يغتر ويفتخر بالنرص وينس�ى فضل املنعم عليه هب�ذا النرص ،لذلك
أمرت اآلية بتسبيح اهلل تعاىل وتعظيمه واستغفاره.
األعامل باخلواتيم ﴿ ﮄ ﮅ ﮆ ﴾.
-2م��ن �س��ورة القدر ﴿ :ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﴾ اس�تنبطوا أن العقل البرشى مهام وصل
علمه فلن يس�تطيع إدراك األمور الغيبية ،فليس من رأى كمن س�مع ،لذلك هولت
اآلية من أمر ليلة القدر لعدم رأيتنا لآليات التى تقع فيها.
كام استنبطوا من متييز ليلة القدر عىل غريها من اللياىل وختصيصها بشعائر وعبادات
واالحتفال فيها بنزول املالئكة ـ هذه السنة :
(كرس الروتني أدعى للنشاط والتحفيز وشحذ اهلمم والطاقات).
- 3من �سورة الكوثر :وىف جمهود مشكور من ورشة أخرى استطاع أعضاؤها أن يستنبطوا
من أقرص سور القرآن هذه السنن :
102
الوحدة الخامسة من النموذج الفصـ ـ ــل اخلامـ ــس
( األحكــام )
الخبرية ـ اإلنشائية
وه�ذه مرحل�ة ربام تب�دو ـ للوهلة األوىل ـ أهن�ا تقليدية وليس فيها كبير ابتكار وال
تدب�ر ،ولكنى وضعته�ا من أجل ربطها بقيمها املقاصدية كام س�يأتى ىف الوحدة التالية،
وبعد فهمك لوحدة القيم املقاصدية ستعرف قيمة ربط األحكام بالقيم.
ولسوف ترى ىف وحدة األحكام ما يرسك،ال سيام ما يتعلق باحلكم اخلربى.
كام أننا س�نتدرب فيها عىل استنباط الرسائل واإلشارات الربانية من خالل ما يأمرنا
اهلل به وما حيكيه لنا من أخبار.
واملقص�ود باحلكم اخلبرى هو أن تعرف بامذا أخربك اهلل تع�اىل ىف اآلية ،فإذا قال اهلل
تعاىل ﴿ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﴾ (األعراف :اآلية )59فهذا حكم خربى ،بمعنى أن
اهلل تعاىل خيربنا بأنه أرسل رسوله نوحا إىل قومه ،وهى وإن كانت معلومة تبدو ىف ظاهرها
أمرا بسيطا إال أن ربطها بالقيم املقاصدية سوف يربز قيمة كل ما خيربنا اهلل تعاىل به.
واحلكم اإلنشائى هو األوامر التى يريد اهلل تعاىل منا أن نأمتر هبا ،والنواهى التى يريد
أن ننتهى عنها.
فقول�ه تع�اىل ﴿ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﴾ (البقـ�رة :اآلي�ة
﴿ )282ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﴾ (املائ�دة :اآلية ﴿ . )1ﯭ ﯮ ﯯ
ﯰﯱ﴾ (املائدة :اآلية ﴿ .)2ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ﴾
(الن�ور :آي�ة ﴿ .)32ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﴾ (احلدي�د :اآلي�ة .)21كلها أحكام
إنشائية ،يريد اهلل هبا أن ننشئ أفعاال نمتثل هبا هذه األوامر.
103
وقول�ه تع�اىل ﴿ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﴾ (احلج�رات :اآلية ﴿ .)12ﮫ
ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ
ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﴾ (النح�ل :اآلي�ة ﴿ )116ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ
ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ﴾ (املائدة :اآلية )101كلها أحكام إنشائية يريد اهلل منا أن
ننشئ تركا نمتثل به هذه النواهى.
ومعل�وم أن األمر الرشعى قد يفيد الوجوب أو االس�تحباب أو اإلباحة ،وأن النهى
قد يفيد التحريم أو الكراهة ،وليس من شأننا ىف هذا النموذج التعرض ملثل هذا ،ولكن
إذا كان املتدبرون من ذوى التخصص فلن يبعد عنهم معرفة احلكم الرشعى حتديدا.
ويكف�ى عموم املس�لمني أن يعلموا أن اهلل يأمرهم بك�ذا وينهاهم عن كذا ،وعليهم
وف�ق هذا النم�وذج أن يبحثوا ىف حكمة النهى والقيمة املقاصدية كام س�يأتى ىف الوحدة
يطلعوا عىل احلكم تفصيال إن كان للوجوب واإللزام أمالتالي�ة ،عىل أنه ال يعجزهم أن ّ
لالستحباب واحلث ،فكتب التفسري وأحكام القرآن مليئة ببيان ذلك.
وغالبا ما يكون األمر القرآنى للوجوب ،ويكون النهى للتحريم؛ ألن هذا هو األصل
ىف األم�ر والنه�ى عىل حد ما هو مقرر ىف علم أص�ول الفقه ،كام أن ذكر األمر والنهى ىف
الق�رآن الكري�م يعطيهما مكانة خاصة ،وجيعل موض�وع األمر والنهى قضي�ة قرآنية هلا
خصوصية ،فأوامر القرآن ال سـيام ما ُكرر منها هلا خصوصية ىف البناء املعرىف هلذه األمة،
وىف االمتثال هبا من ِقبل املسلمني.
فقطعي�ة الن�ص ىف ثبوته يعطى األمر قوة ال نحتاج معه�ا إىل البحث ىف صحة النص
م�ن عدمه كامهو احلال ىف نص�وص األحاديث الواردة عن النبى صىل اهلل عليه وس�لم،
فإذا انضاف إىل ذلك قطعية داللة النص عىل املراد فإنه يعنى أن احلكم ال شك ىف ثبوت
داللته ،وهذا يزيده قوة عىل قوة.
مث�ال ذلك قولـــــ�ه تع�اىل ﴿ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﴾ (احلجـــرات:
اآلي�ة )12فالن�ص قطعى الثبوت عن اهلل تعاىل كش�أن القرآن كل�ه ،وكذلك قطعى ىف
الداللة عىل النهى عن التجس�س ِ
والغيبة ،فهذا يعنى أن حتريمهام قضية قرآنية ،ومس�ألة
104
َأ ْواله�ا الق�رآن أمهية بمجرد ذكره�ا ىف كتابه ومل يرتكها لنصوص الس�نة ،وهذه األمهية
تربز مدى اخلطورة ىف بناء املجتمعات واحلفاظ عليها إذا مل نلتزم حكم الرشع ىف هذا.
فالقرآن ـ ملا له من خصوصية التالوة وكثرة السماع والرتديد ـ يريد أن يوصل لكل
املسلمني أن التجسس والغيبة حمرمان قد هنى اهلل عنهام ىف كتابه ،وجعل هلام اآلية تتىل إىل
قيام الس�اعة ،يس�معها املس�لمون ىف كل زمان ومكان ؛ لئال يكون للناس عىل اهلل حجة
بعد ذلك.
علينا إذن أن هنتم باألحكام القرآنية ،فالقرآن قد استوعب أصول األحكام ورءوسها
بما يش�كل بناء معرفي�ا متكامال ،وما جاء ىف س�نة النب�ى ﷺ فهو ـ غالب�ا ـ إما تفصيال
ملط َل ِقه ،أو ختصيصا لعمومه ،وال تكاد تنفرد الس�نة بحكم إال
ملجم�ل الق�رآن ،أو تقييدا ْ
وىف القرآن أصله أو اإلشارة إليه.
أم�ر أخري يتعل�ق باحلكم اإلنش�ائى ىف القرآن ال�ذى نقصده ىف ه�ذا النموذج ،وهو
أن�ه أعم من األحكام التى اصطلح الفقهاء عىل تس�ميتها باألح�كام الفقهية التى تتعلق
باألمور العملية فقط ،كأحكام العبادات واملعامالت وغريمها.
أما احلكم اإلنش�ائى ىف القرآن بمفهومه العام يش�مل هذا وغريه ،فقوله تعاىل ﴿ﭳ
ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾ (األحزاب:
اآلي�ة )48في�ه ثالث�ة أحكام إنش�ائية ( :وال تطع الكافري�ن واملنافقين ـ ودع أذاهم ـ
وتوكل عىل اهلل) وال عالقة هلذه األحكام بالفقه اإلسالمى.
فأجب�ت أن الق�رآن ال حيكى قصة ـ جمرد حكاية ـ بل َقص�ص القرآن مىلء باألحكام
اخلربية التى تكون وراء احلكاية ،بل قد تكون أحكاما إنشائية تستفاد من القصة.
فس�ورة يوس�ف مثال وما حكاه اهلل عن احلس�د الذى كان من إخوته وكيدهم له ـ ال
ينبغى أن يمر علينا دون أن نفهم الرسائل الربانية منها ،فاحلكم اخلربى هنا حكاية قصة
حتاسد وأحقاد وغرية بني اإلخوة ال سيام إذا كانوا من أمهات خمتلفة.
واحلكم اإلنشائى أنه عىل اآلباء أن يراعوا هذا ىف ترصفاهتم وال يرتكبوا من األخطاء
ىف التميي�ز ما يمكن أن يثري النفوس بني اإلخ�وة ،وأن يكونوا من احلذر بحيث ال يفهم
من ترصفاهتم أهنم حيبون بعضهم أكثر من بعض.
وقوله تعاىل ىف نفس الس�ورة حكاي ًة عن أخيهم األكرب ﴿ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ
ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﴾ لي�س احلك�م اخلربى هنا جمرد أن اهلل تعاىل يريد
أن خيربنا بام قاله أخوهم األكرب ملّا فقدوا أخاهم الذى احتجزه يوس�ـف عليه الس�ـالم
عنده.
وإنام يفهم من اآلية أيضا أن اهلل أخربنا عن حياء األخ األكرب من مواجهة أبيه بعد ما
حدث منهم من تضييع أخيهم يوسف ،وها هو الثانى قد ضاع أيضا ورغم عدم ذنبهم
ىف تضيي�ع الثانى إال أن املواجهة صعبة أيضا كام يفهم من كالم أخيهم األكرب ،وهذا قد
يفيد حكام إنش�ائيا أيضا ،وهو أن أتّبع نفس النهج مع من أخطأت ىف حقه باإليذاء ،ثم
حص�ل هذا اإلي�ذاء مرة أخرى من جهتى ولكن بدون ذنب من�ى ،فحينئذ ع ّ
يل أن أفهم
أن جمرد االعتذار ال يكفى ،بل ال بد من أن أسلك فعال آخر مستغربا كهذا الذى سلكه
أخوهم األكرب حتى يرىض عنى من أخطأت ىف حقه ،كأن أرسل له رسالة بأنى ال ذنب
ىل بام حدث وأنى أستحيى من لقائه ،ولن ألقاه حتى يساحمنى أو تثبت براءتى عنده ،وله
أن يتح�رى ع�ن براءتى بما يرضيه من طرق حتى يعلم أنه ال ذنب ىل ،فربام يش�فع ذلك
ىل عنده.
106
وقوله تعاىل حكاية عن كالم يوسف عليه السالم ﴿ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ
ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ
ﯴ ﯵ ﴾ يفهم منه ُّ
تذكر نعمة اهلل تعاىل عند الفرحة والنرص ،وأن الفضل
منسوب إىل اهلل وحده ،وليس جمرد اإلخبار بأنه دعا هبذا الدعاء ىف هذا املوقف.
�الَ :كانَ ُع َم ُر اسَ ،ق َ ويمك�ن أن يك�ون من ذلك أيضا ما روا البخ�ارى َ :ع ِن ا ْب ِن َع َّب ٍ
ال :لمِ َ ُتدْ ِخ ُل هَ َذا َم َعنَا َو َلنَا َأ ْبن ٌَاءاخ َبدْ ٍر َف َك َأنَّ َب ْع َض ُه ْم َو َج َد فىِ َن ْف ِس ِهَ ،ف َق َ ُيدْ ِخ ُلنِي َم َع َأ ْش َي ِ
يت َأ َّن ُه َد َعانِى ات َي ْو ٍم َف َأ ْد َخ َل ُه َم َع ُه ْم ،فَماَ ُرئِ ُ ِم ْث ُل� ُهَ ،ف َق َ
�ال ُع َم ُر :إِ َّن ُه َم ْن َقدْ َع ِل ْمت ُْمَ ،ف َد َعا ُه َذ َ
الَ :ما َت ُقو ُلونَ فىِ َق ْو ِل اللهَّ ِ َت َعالىَ ﴿ :ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ﴾ َي ْو َمئِ ٍ
�ذ إِلاَّ لِيرُ ِيهَ ُ ْمَ ،ق َ
ال َب ْع ُض ُه ْمُ :أ ِم ْر َنا َأنْ َن ْح َم َد اللهَّ َ َو َن ْس َتغْ ِف َر ُه إِ َذا ُنصرِ ْ َناَ ،و ُفتِ َح َع َل ْينَا،
(النرص :اآلية )1؟ َف َق َ
اس؟ َف ُق ْل ُتَ :الَ ،ق َ
ال: ول َيا ا ْب َن َع َّب ٍ اك َت ُق ُ ال لىِ َ :أ َك َذ َ �ك َت َب ْع ُض ُه ْم َف َل ْم َي ُق ْل َش ْ�يئًاَ ،ف َق َ َو َس َ
ال ﴿ :ﭱ ﭲ اهلل َع َل ْي ِه َو َس َّ�ل َم َأ ْع َل َم ُه َل ُهَ ،ق َ
�ول اللهَّ ِ َصلىَّ ُ ول؟ ُق ْل ُتُ :ه َو َأ َج ُل َر ُس ِ فَماَ َت ُق ُ
�ك﴿ »،ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ال َم� ُة َأ َج ِل َ �ك َع َ ﭳ ﭴ ﭵ ﴾ َو َذلِ َ
ول(.((1 ال ُع َم ُرَ :ما َأ ْع َل ُم ِم ْن َها إِلاَّ َما َت ُق ُ ﮅ ﮆ ﴾َ ،ف َق َ
فتأم�ل كيف فهم عموم الصحابة رىض اهلل عنهم الس�ورة على ظاهرها ،وأهنا جمرد
حك�م خربى خيربن�ا اهلل تعاىل بمجىء نصره وفتحه ،ثم يأمرنا بحكم إنش�ائى وهو أن
نسبح بحمد اهلل تعاىل ونستغفره.
أم�ا الفقيهان املتدبران عمر وابن عباس رىض اهلل عنهم فقد فهام اإلش�ارة والرس�الة
الربانية إىل نبيـه صىل اهلل عليه وس�لم ،وه�ى نعيه وإعالمه بدنو أجله؛ ألنه ما بعد التامم
إال النقصـ�ان ،فإذا جاء النصر والفتح ودخل الناس ىف دين اهلل تعاىل مجاعات وأفواجا
فقد أديت رس�التك ،ومت�ت دعوتك ،فال حاجة لك ىف بقائ�ك ىف الدنيا فمقامك عندنا
خري لك ،فابدأ ىف االستعداد هلذا اللقاء باحلمد واالستغفار ،فمقام النبى ﷺ ال يليق به
107
ملسوغ الدعوة إىل اهلل ،والدعوة قد أمتها اهلل تعاىل وأكمل الدين
أن يبقى ىف هذه الدنيا إال ِّ
على يدي�ه ،فلامذا املكث ىف هذه احلياة وهى غري الئقة به ؟!إذن احلكم اخلربى ليس جمرد
أن تفهم املعلومة عىل ظاهرها ،بل أن تفهم الرس�الة من ورائها ،وعلامء التفسير وعلوم
القرآن يسمون هذا النوع من التدبر :التفسري اإلشارى(.((1
وهذا املجال ـ كام أرى ـ ما زال غضا حيتاج إىل مزيد من البحث وإعامل العقل ،وهو
أقرب إىل التدبر منه إىل التفسري بمعناه التقليدى.
تنمى سلوك املسلم وهتذب أخالقه وحكم ورس�ائل ّ إن كل ما حكاه القرآن فيه ِعرب ِ
وتبنى عقله وفكره ،وعلينا فقط أن نتدبر ىف كل ما أخربنا اهلل تعاىل به وحكاه لنا.
�إذن خال�صة الأمر تتعلق مب�س�ألتني :
الأوىل :أن احلكم اخلربى ليس جمرد معلومة خيربنا اهلل هبا ،وإنام جيب أن نفهم ما بني
السطور وما وراء اخلرب عىل النحو الذى بيناه.
الثاني��ة :أن احلك�م اخلربى خيتلط باإلنش�ائى ،ف�اهلل خيربنا بخرب له هدف ورس�الة،
ويريدن�ا ان نتحلى هب�ذا وأن نأخذ منه العبرة ،وهذا ىف حد ذاته يمك�ن أن نجعله حكام
إنشائيا.
***
-19وه�و مم�دوح هب�ذا املعنى الذى س�قناه مم�ا ال يتناىف م�ع ظاهر عبارة القرآن ،أما التفسير اإلش�ارى
الس�خيف الذى خيرج عن ظاهر القرآن وال حيتمله لفظه فهو مرفوض ،كتفسير البقرة ىف قوله تعاىل ﴿ﮤ ﮥ
ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ﴾ « (البقرة :اآلية )67بأهنا النفس البهيمية أو احليوانية .راجع ىف ذلك عىل سبيل املثال
«مناهل العرفان ىف علوم القرآن» للزرقانى (78/2ـ وما بعدها) دار إحياء الكتب العربية.
108
الوحدة السادسة من النموذج الفصـ ـ ــل الس ــادس
( القيم المقاصدية )
الجزئية -الكلية
لقد كان فهم األحكام بعيدا عن قيمها املقاصدية له أكرب األثر ىف تش�ويش اإلسلام
القيم.
ىف األذهان ،و ُبعد الناس عن الفهم الصحيح هلذا الدين ّ
رصن�ا نفهم الفقه واألحكام عىل أنه جمرد أفعال وأقوال ظاهرة خالية من أى قيمة أو
أى مقصد.
واحلكم واألهداف التىإن كتب الفقه تعرض األحكام جمردة من املقاصد والغايات ِ
تريده�ا الرشيع�ة م�ن وراء ترشيع احلك�م ،هذا ىف األع�م األغلب ،وهو م�ا تربينا عليه
وألِفناه ىف كتب الفقه اإلسالمى.
نريد العودة إىل طريقة القرآن ىف عرض األحكام ،الطريقة التى تعرض احلكم واألمر
اإلهلى أو النهى حماطا بالقيم واألخالق وبيان املقصد واهلدف.
س ــورة الط ـ ــالق والتدب ــر املقاص ــدى فيهـ ــا :
لبــاس املسلم ــة ورؤيـ ــة الق ـ ــرآن املقاصدي ــة :
لباس املرأة املس�لمة له أحكامه ىف القرآن والس�نة ،وفهمه من مدخل مقاصدى يقينَا
كثيرا من األخطاء والتصورات املغلوطة التى رس�خت ىف األذهان عىل أهنا من الدين،
فلم يعد احلديث عن حكم النقاب هو ما يفيد األمة ويمنع الفتنة فيها ،فاملس�ألة خالفية
وقد أخذت أكرب من حجمها رغم أهنا ليست قضية قرآنية.
شيـ ــوع الفك ــر املقاص ــدى فــى الق ــرآن كل ــه :
ال تكاد ختلو اآلية من ربطها باملقاصد الرشعية ِ
واحلكم الربانية ،والغايات واألخالق
السامية.
وبعد جتربتى مع مقاصد القرآن طبقا الس�تخدام ه�ذا النموذج أقول :القرآن إما أن
يتحدث عن مقاصد ،وإما عن أحكام بمقاصدها.
ففى الطهارة جتد قوله تعاىل :
﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ
ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ
ﭩ ﭪﭫ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹ
ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ
114
ﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮌﮍﮎﮏ
ﮐﮑ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮙ ﮚﮛ
ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ﴾ (املائدة :اآليتان .)7 ،6
120
الوحدة السابعة من النموذج الفصـ ـ ــل الساب ــع
( اإلجراءات والمهارات )
الحافظة -الدافعة
تأت�ى هذه الوحدة لتمثل اإلجراءات العملية التى ينبغى أو جيب أن يتخذها املس�لم
نحو اآلية الكريمة.
فبعد كل ما سبق خيرج املتدبر بفهم عميق لآلية الكريمة ،يفهم من خالهلا اإلحياءات
والعالقات والسنن واألحكام بقيمها املقاصدية ،ثم ماذا بعد هذا كله؟
عىل املسلم بعد كل مراحل الفهم السابقة أن حيول القرآن إىل واقع عمىل بام يتفق مع
الفهم التدبرى لآلية الكريمة ،وبحسب طاقات املتدبر وإمكاناته ،فيبدأ بوضع جمموعة
من اإلجراءات املحددة ليقوم يتنفيذها.
نحوله إىل واقع عمىل
إن الغاية من القرآن الكريم بعد فهمه عىل الوجه األمثل هو أن ّ
نسري به ىف حياتنا ،ونؤسس به ملجتمع مسلم يقود هذه الدنيا باخلري وإىل اخلري.
مـ�ا أعظـم ما قالتـه أم املـؤمنني عائش�ـة رىض اهلل عنه�ا عن النبـى ﷺ« :كان خلقه
القر�آن»(.((2
إن الق�رآن الكريـ�م ما نزل إال لكى ُيعمـل ب�ه ،وما جعلت تالوته إال لفهم ما ينبغى
أن نقوم به ،فالعلم هيتف بالعمل ،فأجابه وإال ارحتل.
ق��ال القرطب��ى « :ذك�ر أبو عمر والدان�ى ىف كتاب البيان له بإس�ناده ع�ن عثامن وابن
وأبى :أن رسول اهلل ﷺ كان يقرئهم العرش فال جياوزوهنا إىل عرش أخرى حتى مسعود ّ
يتعلم�وا ما فيها م�ن العمل ،فيعلمنا الق�رآن والعمل مجيعا( .((2وذك�ر عبد الرزاق عن
121
معمر عن عطاء بن السائب عن أبى عبد الرمحن السلمى قال :كنا إذا تعلمنا عرش آيات
م�ن القرآن مل نتعلم العرش التى بعده�ا حتى نعرف حالهلا وحرامها وأمرها وهنيها .وىف
موطأ مالك أنه بلغه أن عبد اهلل ابن عمرمكث عىل س�ورة البقرة ثامنى س�نني يتعلمها.
وذكر أبو بكر أمحد بن عىل بن ثابت احلافظ ىف كتابه املس�مى (أسماء من رويعن مالك)
ع�ن م�رداس بن حممد أبى بالل األش�عرى قال حدثنا مالك عن ناف�ع عن ابن عمر قال
:تعلم عمر البقرة ىف اثنتى عرشة س�نة فلام ختمها نحر جزورا .وذكر أبو بكر األنبارى
حدثنى حممد بن شهريار حدثنا حسني بن األسود حدثنا عبيد اهلل بن موسى عن زياد بن
أبى مس�لم أبى عمرو عن زياد ابن خمراق قال قال عبد اهلل بن مس�عود :إن اصعب علينا
بعدنا يس�هل عليهم حفظ القرآن حف�ظ ألفاظ القرآن وس�هل علينا العم�ل به ،وإن من َ
ويصعب عليهم العملبه»(.((2
وال شك أن حظ كل إنسان من العمل خيتلف عن غريه ،فكل بحسبه ىف طاقته ووقته
وإقباله عىل نوع منالعمل الصالح أكثر من غريه.
ولذا عىل املتدبرين للقرآن حني يتدبرون وفق هذا النموذج أن يضعوا من اإلجراءات
العملي�ة ما جيعلهم ممن يعملون بالق�رآن الكريم ،مراعني معيار القليل الدائم ،فهو خري
من الكثري املنقطع.
فحني نتدبر اآليات التى حتث عىل قيام الليل واالس�تغفار باألس�حار كقولــه تعاىل
َ
ﮕ﴾ (الذاري�ات :اآليتان )18 ،17 ﴿ﮌﮍﮎﮏ ﮐﮑﮒﮓﮔ
ـ فعلينا أن نضع جمموعة من اإلجراءات التى نتخذها بشكل فعىل وجاد لكى نكون من
هؤالء ،مثال نضع إجراء كالتاىل :
ثلث س�اعة يوميا ،نصىل فيهام ركعتني نقوم ىف كل ركعة بعرش آيات ،ونس�تغفر اهلل
تعاىل ىف سجودنا ونتوب إليه عرش مرات ،ثم نوتر بركعة.
فهذا اإلجراء هوتطبيق عمىل لآلية الكريمة ،وقد خيتلف ىف مدته وكمه حسب طاقة
كل إنسان كام قلنا ،املهم أال يكلف املرء نفسه أكثر مما يطيق ،وأن تكون املداومة قصده،
وأن يكون الكيف مقدما عىل الكم.
-22مقدمة تفسري القرطبى (.)57-56/1
122
بمث�ل ه�ذه اإلجراءات يصبح القرآن الكريم واقعا عملي�ا ىف حياتنا ،فلو تدبرنا كل
ي�وم أو ثالث�ة أيام اآلية واحدة هب�ذه الطريقة وعملنا هبا صار الق�رآن حقا منهجا حلياتنا
كمــا أراد اهلل تعاىل لنا.
وهذا عىل س�بيل املثال ،ويمكن قياس�ا عليه وضع إجراءات أخرى خاصة بالنوم ىف
موعد معني وضبط ( املنبه ) أو التنس�يق مع أخ لك يوقظك باهلاتف ،أو ما ش�ابه ذلك
من إجراءات تعني عىل قيام الليل.
(�س ْب َحانَ اللهَّ ِ َو ِب َح ْم ِد ِه) ِفى َي ْو ٍم ِما َئ َة َم َّر ٍةُ ،ح َّط ْت َخ َطا َيا ُه َو�إِنْ َكا َن ْت ِم ْث َل وقال َ « :م ْن َق َ
الُ :
َز َب ِد ال َب ْح ِر»(.((2
-23رواه مسلم :الذكر والدعاء ـ باب استحباب االستغفار واالستكثار منه ( - 29/9ق.)2702
-24رواه البخارى :الدعوات ـ باب فضل التهليل( - 204/11ق )6403ومس�لم :الذكر والدعاء ـ
باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء(- 21/9ق.)2691
-25رواه البخارى :الدعوات ـ باب فضل التسبيح ( - 210/11ق )6405ومسلم :الباب السابق.
124
ني، َ
اهلل َثلاَ ًثا َو َثلاَ ِث َ نيَ ،و َح ِم��دَ�صلاَ ٍة َثلاَ ًثا َو َثلاَ ِث َ وق�ال ﷺ « َم ْن َ�س َّب َح َ
اهلل ِفى دُ بُ��ر ِ ُك ِّل َ
(ل �إ َل َه �إ اَّل ُ
اهلل َو ْحدَ ُه اَل ام المْ ِا َئ ِ ��ك ِت ْ�س َع ٌة َو ِت ْ�س ُعونَ َ ،و َق َ اهلل َثلاَ ًثا َو َثلاَ ِث َ
نيَ ،ف ْت ِل َ َ َو َك�َّب�رَّ َ
��ة :اَ ِ ِ ت َال مَ َ
ير) ُغ ِف َر ْت َخ َطا َيا ُه َو ِ�إنْ َكا َن ْت ِم ْث َل َز َب ِد ك َو َل ُه الحْ َ ْم ُد َوهُ َو َع َلى ُك ِّل َ�ش ْ
��ي ٍء َق ِد ٌ ي��ك َل ُهَ ،ل ُه المْ ُ ْل ُ
َ�ش ِر َ
ا ْل َب ْح ِر»(.((2
اك ِر َ
ين الذ ِ يع ُ
ا،ك ِت َبا ِم َن َّ ام َر�أَ َت ُهَ ،ف َ
�ص َّل َيا َر ْك َع َت�ْي نْ ِ َج ِم ً ظ ْ��ن ال َّل ْي ِل َو�أَ ْي َق َ وق�ال َ « :م ِن ْ
ا�س َت ْي َق َ
ظ ِم َ
الذ ِاك َر ِات»(.((2 اللهَّ َ َك ِث ً
ريا َو َّ
وبعض الناس حيرص نفس�ه عىل هذه اإلجراءات املنص�وص عليها ،وال يعترب إال بام
ورد نص�ا ،والصحي�ح أن�ه يقاس عىل ذلك إج�راءات كثرية إذا كان اإلج�راء الوارد ال
يتفق مع ظروف اإلنس�ان ،فام املانع أن حيدد املرء الذى ال يس�تيقظ من آخر الليل لنفسه
إجراء آخر؟ وهو أنه بمجرد رجوعـه من صالة العش�اء يدخل عىل أهله وجيمع أوالده
ويصلى هبم ركعتني ،وهذا من قبيل الس�نة احلس�نة ما دامت أهن�ا ال ختالف نصا رشعيا
وال تأتى بام تأباه النصوص والقواعد الرشعية املقررة ،فهذا الصنيع يؤيده عموم الرشع
ومقرراته.
نعم جيوز هذا ما دام أن املس�لم ال يدّ عى أن حتديده هذا هو الس�نة ،فهو حتديد مبنى
عىل مراعاة ظروفه وأوقاته وطاقته عىل العمل ،وليس مل ِزما لغريه ىف هذا ،كام حيدد كل
واح�د من النفس ه� ِو ردا معينا من القرآن ،فيحدد الكم والوق�ت الذى يقرؤه فيه طبقا
لظروف�ه ،وكلن�ا يفع�ل ه�ذا دون أن يدّ عى أن ه�ذا التحديد هبذا اخلصوص س�نة ،نعم
الفعل ىف جممله سنة أما التحديد فهو خاص بالشخص ،فقراءة القرآن سنة ومن أفضل
القرب�ات إىل اهلل تع�اىل ،ولك�ن قراءة جزء ( ثامني�ة أرباع ) كل يوم وبع�د صالة العرص
حتديدا بعد العودة من العمل ـ هذا التحديد خاص بالشخص وال ُيدّ َعى أنه سنة.
ولك�ن اعت�اد بعض إخواننا أن يدّ ع�ى بِدعية كثري من األمور بدع�وى أنه مل يرد عن
النبى ﷺ هذا التخصيص هبذه الكيفية ،وهو اجتاه منتقد ومغلوط وال تسعفه النصوص
الرشعية.
-26رواه مسلم :املساجد ـ باب استحباب الذكر بعد الصالة وبيان صفته ( - 102/3ق.)597
-27رواه أب�و داود :الصلاة ـ ب�اب احل�ث على قي�ام اللي�ل ( - 71/2ق )1451طبع�ة دار احلديث.
وصحح�ه الذهبى والنووى والعراقى ،انظر «صحيح س�نن أبى داود» لأللبانى ( )1182 - 52/5مؤسس�ة
غراس للنرش والتوزيع ـ الكويت ـ الطبعة األوىل 2002م.
125
وال أريد أن أطيل ىف هذه القضية أكثر من هذا ،فقد بحثناها ىف كتاب آخر(.((2
وخالص�ة األم�ر أننا نري�د وفق هذا النم�وذج أن نحول القرآن إىل إج�راءات حمددة
يمكن تقييمها وقياسها ،وال مانع من ذكر اإلجراء عىل عمومه مثل (قيام الليل) ،هكذا
مطلق�ا م�ن حتديد وقت أو ع�دد ركعات ،ولكن كلما كان حم�ددا كان أوقع وأقرب ىف
التنفيذ وأكثر فاعلية ىف برجمة العقل عىل عمل معني.
كي ــف نضـ ــع إج ـ ــراءات ملـ ــا نه ــى الل ــه عن ــه ؟:
ربما يكون األمر أصعب ىف وضع إجراءات ملا هنى اهلل عنه ،وتكون إجراءات حمددة
أيضا.
فاالمتث�ال للنهى هو االنتهاء عام هنى اهلل عنه ،وهذا يكون بالرتك ،ولقائل أن يقول :
لي�س هناك إجراء فعىل ،ألن الرتك ليس إجراء ،فإذا قال اهلل تعاىل ﴿ :ﭝ ﭞ﴾ فإن
املطلوب منا أن نرتك التجسس ،فام اإلجراء ىف هذا؟
والص�واب أن هناك إج�راءات ىف هذا أيضا ،حافظة ودافعة ،أى حتفظ اإلنس�ان من
الوق�وع ىف التجس�س ،أو تعالج التجس�س وتدفعه عن اإلنس�ان إن كان م�ن الواقعني
ىف ه�ذا الذن�ب.ال ب�د أن نجتهد لكى نحول الق�رآن إىل واقع عمىل مع أنفس�نا ومع من
نع�ول من أهلنا وأوالدن�ا ،ونضع لكل أمر وهنى قرآنى جمموعة من اإلجراءات العملية
الت�ى تربى النفوس ،وهتذب األوالد وتغرس فيهم قيم ه�ذا الدين احلنيف ،فأوالدنا ال
يتعلمون باخلطب واملواعظ والتوجيه املبارش بقدر ما يتعلمون بواقع عمىل وإجراء فعىل
يغرس فيهم القيم.
خذ هذا اإلجراء املحدد مثاال عىل ذلك :حني أس�مع صوتا عاليا يصدر من اجلريان
أقول لولدى قم وأغلق النافذة ،وننتقل إىل الغرفة البعيدة عن مصدر الصوت.
هذا اإلجراء عمىل وحمدد وحيفظ اإلنس�ان من التجس�س ،وف�وق كل هذا هو عمل
ترب�وى يغ�رس قيمة البعد عن التجس�س والفض�ول ىف نفوس األطفال ،وربام تس�اءل
-28بحثنا بش�كل تفصيىل ما يمكن أن يكون س�نة حسنة أو سيئة ىف دراستنا للامجستري (البدعة ىف الفقه
اإلسالمى) يرس اهلل لنا طبعها.
126
الولد :ملاذا نفعل ذلك يا أمى أو يا أبى؟ وستكون اإلجابة سهلة عىل الوالدين وخمترصة
ومؤثرة ىف قيم الولد وسلوكه بسبب ما سبقه من إجراء.
فحني نضع إجراءات نعالج هبا مظاهر التجس�س ومواقف احلياة التى قد تدعو إىل
التسمع ملا يقوله اآلخرون ـ فإننا بذلك نقوم بواجبات هذا الدين عىل الوجه األمثل.
ُّ
من هذه الإجراءات �أي�ضا التى نغر�سها امتثاال للنهى عن التج�س�س :
رأيت اثنني يتهامسان أقوم باالبتعاد عنهام ألترك هلام حرية احلديث.
إذا ُ
إذا مررت ببيت وسمعت صوتا عاليا أرسع ىف املشى حتى ال أسمع ما يقال.
***
131
132
الوحدة الثامنة من النموذج الفصـ ـ ــل الثام ــن
( النموذج الحضارى وتطبيقاته )
وأخيرا وصلن�ا إىل الوحدة الثامنة واألخيرة من هذا النم�وذج ،والتى متثل جوهرة
التاج بالنس�بة له ،وهى الثمرة الكربى للنموذج كله ،فكل الوحدات الس�ابقة ينبغى أن
تص�ب فيه�ا ،وأن تك�ون هذه الوح�دة هى الغاية األخيرة لكل ما س�بقها من وحدات
تتعلق بالفهم واإلجراءات العملية.
وم�ا نقص�ده بالنموذج احلض�ارى هو أن نحول اآلي�ة أو املقطع القرآنى أو الس�ورة
القصرية إىل نموذج يصلح للتطبيق ىف جماالت أخرى ،فنخرج باآلية عن س�ياقها الذى
وردت فيه لتكون نموذجا يحُ تذى لسياقات أخرى وجماالت متعددة ىف احلياة ،وال شك
أننا لكى نصل إىل هذا نحتاج إىل كل معطيات الوحدات السابقة.
إذن ال نس�تنبط م�ن اآلي�ة هبذه الوح�دة أحكاما وإنام نس�تنبط منهجيات وأس�اليب
تصلح للتطبيق ىف جماالت شتى.
كنا نتدبر سـورة الكوثر ىف آياهتا الثالث ،واستنبطت الورشة منها نموذجا حضاريا
سميناه :نموذج املواساة.
فه�ذه الس�ورة الكريم�ة عىل قرصها تصل�ح أن تكون منهجية لنا وأس�لوبا ملواس�اة
اآلخرين ،فحني نواسى شخصا ىف مصاب نسلك نفس املنهجية التى سلكتها السورة مع
النبى ﷺ حني آذاه قومه وقالوا عنه :إنه أبرت (أى مقطوع النسب) ،ملا توىف أوالده.
ففى اآلية األوىل ﴿ ﮆ ﮇ ﮈ﴾ حيث ذكرت العطاء الكثري الذى يمثله
ح�وض الكوثر ،أو يكون الكوثر نفس�ه بمعنى العط�اء الكثري كام هو معروف ىف اللغة،
وقد قال هبذا بعض املفرسين ،فاآلية األوىل متثل احللقة األوىل من نموذج املواساة ،وهى
حلقة ذكر العطايا ملن نواسيه ىف مقابل ما أصيب به أو أخذ منه.
133
﴿ ﮊ ﮋ ﮌ ﴾ ومتثل هذه اآلية التذكري بشكر النعم وتقديم العمل الصالح
للمنع�م على م�ا وهبنا من نعم كثير ،فوقت اإلصابة والغم قد ينس�ى امل�رء معه ما هو ِ
أخذ منه ،فينس�ى فض�ل اهلل تعاىل عليه ويرتك العمل، في�ه من نعم كثرية وال هيتم إال بام ِ
فجاءت هذه اآلية نموذجا حيتذى به ىف املواساة.
﴿ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ﴾ يعنى أن الرشملن عادوك ونالوا منك ،ولسوف ينقلب
الس�حر عىل الساحر ،ولس�وف يقطع اهلل ذكرهم من اخلري ،وال ُيذكرون إال بِ ّ
رش ،وهذا
يمثل احللقة أو املفردة الثالثة من مفردات نموذج املواس�اة ،حيث التذكري بأن الرش عىل
باهلم وعاداك وآذاك.
من أصابك ّ
فإذا ما عزينا أى إنس�ان ىف مصاب له يتعلق بإيذاء الناس له فعلينا أن ِّ
نذكره ـ أوال ـ
يعزيه ويشغله عام باخلري الكثري الذى أعطاه اهلل لهْ ،
ونذكر له من نعم اهلل عليه الكثرية ما ّ
أوذى به ،ثم ـ ثانيا ـ ندعوه إىل أن يعمل من الصاحلات ش�كرا هلل تعاىل ،وال ينس�ى فعل
الطيبات أثناء حزنه ومهه ،ثم َّ
نذكره ـ أخريا ـ بأن العاقبة للمتقني ،وأن من نالوا منه لن
يغيبوا عن قبضة اهلل تعاىل ،ولس�وف يلقون من اهلل تعاىل جزاء ما فعلوا حتى يرتاح باله
ويعلم أن اهلل تعاىل يدبر للظاملني ويمكر هبم كام يمكرون بالصاحلني.
ه�ذه املنهجي�ة من ش�أهنا أن ختفف احلمل ع�ن كل مصاب بأذى الن�اس ،وأن جتعل
العبد أكثر حتمال لألذى.
هذا ما نعنيه بالنموذج احلضارى ،وقد س�ميناه باحلضارى ؛ ألنه من ش�أنه أن يصنع
حض�ارة هلذه األم�ة ،وأن يرتقى هبا أخالقيا واجتامعيا وعلميا وعىل مس�توى املجاالت
كلها.
القرآن الكريم ميلء باملنهجيات الكثرية ،واألساليب احلضارية ىف شتى املناحى ،وكل
يش ّكل
مقطع قرآنى أو س�ورة ولو قصرية نس�تطيع أن نس�تنبط منها نموذجا يصلح ألن َ
الفك�ر ويبنى أس�لوبا ىف احلياة ،علينا فقط أن نجتهد ىف التدب�ر ،بخاصة ىف هذه الوحدة
الت�ى حتت�اج إىل تفكير وإمعان نظر أكرب ،وما تدبرناه ىف الوحدات الس�ابقة سيس�اعدنا
كثريا ىف التعامل مع هذه الوحدة.
134
سـ ــورة العصـ ــر ومنـ ــوذج النجـ ـ ــاح :
ملخص س�ورة العرص أن اهلل تعاىل أقس�م عىل خرسان اإلنسان باستثناء الذين آمنوا
وعملوا الصاحلات ،وتعاونوا فيام بينهم عىل احلق والصرب.
نظرنا متدبرين ىف هذه الس�ورة ىف (دورة معايش�ة القرآن) فاس�تخرجنا منها نموذج
النجاح ،النجاح بصفة عامة وليس النجاح املتعلق بالدين وعالقة العبد بربه.
فإذا كانت الس�ورة قد س�يقت لتبِّي�نِّ الفاحلني والناجحني والناجين من اخلرس عند
اهلل تع�اىل ي�وم القيام�ة ـ فام املانع أن تك�ون نفس املنهجي�ة لنجاح املؤمنين عند اهلل هى
نفس املنهجية للنجاح ىف كافة أعاملنا املهنية والصناعية والتجارية؟ ملاذا ال نعترب السورة
منهجية ىف وضع أسس النجاح ألى عمل.
ملاذا ال يقتدى املسلمون والشباب بسورة العرص ىف كل أعامهلم ومرشوعاهتم التجارية
لتحقي�ق النج�اح والقوة التى ال ننهض إال هبا ،وال نس�تطيع أن نعي�ش بديننا وننرشه ىف
العامل إال إذا متسكنا بأسباب القوة التى جترب اجلميع عىل احرتامنا.
س�ورة العصر مث�ال عظيم لنم�وذج النج�اح ،نس�تطيع أن نقيس علي�ه كل نجاح،
فرشوط النجاح ومعايريه طبقا ملنهجية سورة العرص هى :
-1الإمي��ان بالفك��رة :ف�أى نجاح بدايته فك�رة يتحمس له صاحبه�ا ،ويؤمن هبا وجتعله
وجذهب�م إليه�ا ،وكل أصحاب جياه�د م�ن أجله�ا ،ويتفان�ى ىف إقناع اآلخري�ن هبا ْ
املرشوع�ات واملؤسس�ات الناجحة كانت بداي�ة نجاحهم أهنم تبنوا فك�رة ،آمنوا هبا
وعاشوا جماهدين من أجلها ،وهذا املعنى مأخوذ من سورة العرص ﴿ﭚ ﴾.
-2العم��ل من �أجل الفكرة :فاإليامن بالفك�رة وحده ال يكفى إلنجاحها ،فال بد من عمل
دءوب وس�عى حثي�ث منظ�م ومس�تمر منأجل حتويل الفك�رة إىل واق�ع عمىل ،وإال
ستظل الفكرة جمرد حديث نفس وخواطر جتول ىف عقل صاحبها.
وهذا معنى قوله تعاىل ىف سورة العرص ﴿ﭛ﴾.
-3االلتزام مبعايري العمل والنظم املو�ضوعة لنجاح �أى عمل :فال يكفى لتحقيق النجاح
ىف أى مرشوع أو بناء مؤسسة أن يكون العمل ارجتاليا وعشوائيا وفق ما يمليه اهلوى
135
واملزاج ،بل ال بد من أن يكون العمل وفق نظام متبع وطبقا ملا تقوله القواعد اإلدارية
والفني�ة ،وأن يب�دأ من حي�ث انتهى اآلخرون وم�ا توصلوا إليه من جت�ارب ومناهج
ناجحة.
فالعمل وحده ال يكفى للنجاح ،بل ال بد أن يكون عمال صحيحا.
وه�ذا املعنى أفادته س�ورة العرص ىف قوهل�ا ﴿ ﭜ ـ ﭞ ﴾ فاحلق والعمل
الصالح ىف الرشع يعنى ما كان موافقا ملنهج الكتاب والس�نة ألهنام مصدر الصاحلات ىف
اإلسلام ،أما ىف شئون حياتنا فمصدر الصواب واخلطأ ىف العمل هو العلوم واألبحاث
والتجارب واخلربات ،وال مانع عندى من تسميته بالصاحلات أيصا ،فالصالح من العمل
هو ما يصلح أن نقوم به سواء كان مصدر صاحليته الوحى أو التجارب والعلم.
-4التع��اون عل��ى ال�صواب والتزام فري��ق العمل كله بذلك :كل ما س�بق ال بد أن يتعاون
في�ه اجلميع ،فليس التزا َم فرد أو أفراد ،بل هو التزام كل ِف َرق العمل ،ومن حاد منهم
ي�رده باقى الفريق إىل رش�ده وصواب�ه ،وعىل القائد أن يكون منتبه�ا هلذا ،فال يصلح
عم�ل بدون تعاون اجلميع واتفاقهم عىل اتباع منهجية صحيحة ،يكافأ من يلتزم هبا،
ويعاقـب من خيرج عنها.
وه�ذا املعن�ى العظي�م ىف التواىص والتع�اون بني فريق العمل ترس�يه هذه الس�ورة
العظيمة ىف قوله تعاىل ﴿ﭝ﴾ مرتني ،مرة مع احلق ومرة مع الصرب.
وحتمل ،ومن اس�تعجل -5ال�ص�بر واملثاب��رة :فال نجاح بال مثاب�رة ،وال إنجاز بال صرب ُّ
النتائج قبل أواهنا باء باخلرسان ،فأى مرشوع حيتاج إىل ن َفس طويل ،وأى نجاحعظيم
يفتقر إىل صرب أصحابه وعدم يأس�هم وقنوطه�م ،وكم من فكرة عظيمة وعمل كبري
مل يكتمل بس�بب أن أصحابه قنطوا ىف الطريق ومل يتحملوا أعباءه ومش�اقه ،فبالصرب
واألم�ل وطول النفس والثب�ات عىل املبادئ والطموح العاىل تنج�ح األفكار اجليدة،
فجودهتا والعمل هلا ال يكفيان لنجاحها بدون صرب.
وهذا الرشط ىف حتقيق النجاح هو ما ُختمت به السورة ﴿ﭟ ﭠ﴾.
136
إن س�ورة العرص هبذا ال ترس�م للمؤمنني فحس�ب منهجية نجاحهم ىف اآلخرة ،بل
تض�ع منهجي�ة نجاح ـ أى نج�اح ـ لكل م�ن أراد أن ينجح ،وعىل املؤمنين الواعني أن
يتخذوا من القرآن املنهجيات والنامذج احلضارية لكى يملكوا الدنيا بأيدهيم ،وحيققــوا
االستخالف املنوط هبم.
إن نم�وذج النجاح الذى وضعته س�ورة العرص يصلح ألن يك�ون منهجا ُتبنى عليه
العقول ،وتر َّبى عليه األجيـال ،لكى يعرفـوا أن للنجاح شـروطا وأسبابا ،وأن سننه ال
تتخلف عن أحد ،فمن أخذ بأسبابه ُوفق ولو كان كافرا ،ومن ختىل عن أسبابه ختىل عنه
النجـــاح ولو كان مؤمنا.
فمتى ترتبى األجيال عىل ما أرس�اه القرآن من نامذج تصنع حارضهم ومس�تقبلهم؟
ومت�ى يفهمـون أن كتـاب اهلل تعاىل ليس للقراءة التى يأخذون هبا عرش حس�ـنات عىل
احلرف فحسـب؟!
تكـ ــرار منـ ــوذج النج ـ ــاح فـ ــى القـ ــرآن :
ىف اآلية أخرى يمكن استخراج نموذج للنجاح أيضا ال خيرج ىف إطاره عن النموذج
املستنبط من سورة العرص.
* يق�ول تع�اىل ﴿ :ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ
ﭮ ﭯ ﴾ (اإلرساء :اآلية .)19
فقد اشتملت اآلية ـ عىل قلة ألفاظها وقرصها ـ عىل منهجية النجاح وأركانه :
-1املح��رك والوقـودلأى عم��ل ﴿ :ﭤ ﭥ﴾ فاإلرادة هى القـوة الدافعـة نحو النجاح
والتوفيق.
-2حتدي��د الر�سال��ة والهدف ،وهذا يب�دو ىف النص على ﴿ ﭦ ﴾.واإلرادة وحتديد
اهلدف هنا يقابل اإليامن بالفكرة ىف سورة العرص.
-2العم��ل وال�سع��ى ﴿ :ﭧ ﭨ﴾ فاإلرادة والني�ة والعزيمة عىل حتقيق اهلدف ال يصنع
شيئا بدون عمل دءوب وسعى حثيث.
فالعمل ىف سورة العرص ﴿ﭛ﴾ يقابل السعى هنا.
137
-3النظ��ام واتباع القواعد :فالبد أن يكون الس�عى وفق قواع�د النجاح املتعارف عليها
بمنهجية إدارية وفنية ختصصية ،فليس كل س�عى جيعل صاحبه ناجحا ،والعجب أن
ه�ذا املعنى ىف اآلية مس�تفاد من الضمير ىف قوله تعاىل ﴿ ﭩ ﴾ ومل يقل :س�عيه،
ليعلم كل س�اع لآلخرة أن هلا س�ـعيها هى وفق منهج مرس�وم ،وليس سـعيك أنت
حسب هواك وما يرتاءى لك.
وهذا يقابل ىف سورة العرص ( الصاحلات ـ احلق )
-4ال�ش��رط ﴿ :ﭪ ﭫ﴾ فكما أن رشط قب�ول العم�ل اإليمان ،كذل�ك رشط نجاح
الفكرة اإليامن هبا والدعوة من أجلها والصرب عليها والدفاع عنها.
وهذا عني ما ذكر ىف سورة العرص ﴿ﭘ ﭙ ﭚ ﴾.
- 5اجل��زاء ﴿ :ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﴾ وهو ثم�رة النجاح ،وجوهرة التاج،
نسأل اهلل تعاىل أن يوفقنا لسعى اآلخرة ،ولسعى الدنيا لآلخرة.
واجل�زاء املنصوص عليه ىف هذه اآلية يقابل اجلزاءاملس�تفاد من االس�تثناء ىف س�ورة
العصر ،فقوله تعاىل هن�اك ﴿ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﴾ ...يفيد أن هؤالء
من املستثنني من اخلرس بام يعنى فالحهم وفوزهم.
139
كل من الرشيكني عن اآلخر عند ظهـور النزاع دون اختاذ قرار بفض فلماذا ال يبع�د ٌّ
العالق�ة؟ ملاذا نقرر دائما عند االختالف أن هيجر أحدنا اآلخر؟ ثم نندم بعد هذا القرار
ونكتش�ف أن اس�تمرار العالقة كان أوىل من فضها ،ولو أننا أعطينا ألنفس�نا هذه الفرتة
االختباري�ة ل�كان أوىل ،حي�ث نخترب فيها احلياة ب�دون العالقة ،فإذا وجدن�ا أن العالقة
أفض�ل كان بإمكانن�ا الع�ودة ،ألن الفرص�ة حينئ�ذ س�تكون متاح�ة ؛ حيث إنن�ا مل نقم
بالف�ض ،ب�ل اكتفينا بمجرد البعد قليال أو احلصول عىل إج�ازة بدون مرتب من العمل
ملدة شهر مثال.
إن النظـ�ام الذى وضعه القرآن لفض عالقة النكاح يعترب نموذجا ال مثيـل له لفض
أى عالقة ،فقد جعل اهلل تعاىل الطالق مرتني رجعيتني ،بني كل مرة وأخرى فرتة اختبار
تس�مى بالعدة ،فهى فرتة تباعد بني الزوجني ولكن مع إمكانية العودة ،فهى فرتة يمكن
تسميتها فرتة (نصف ُب ْعد أو نصف فض) فهى تأهيل للفض وليست فضا كامال ،خيترب
الزوجان أنفسهام ىف هذه الفرتة ليقررا هل يمكن هلام أن يقررا البعد النهائى أم ال؟
عمم وأن جيعل املسلمإن هذه املنهجية التى يقررها القرآن بش�أن الطالق تصلح أن ُت َّ
منه�ا نموذج�ا لفض أى عالقة بينه وبني اآلخرين ،نع�م ال يلتزم بنفس تفاصيل أحكام
الطالق ،ولكن التزام املنهجية عموما س�وف يقيه بال شك من كثري من األخطاء النامجة
عن الترسع ىف اختاذ قرار الفض بدون أن خيترب األمر بفرتة اختبار كام قلنا.
-2الع��ودة بع��د ف�ترة االختبار باملعروف :بعد فرتة االختبار قد يش�عر املرء بأنه ال غنى
ل�ه عن هذه العالقة فيق�رر العودة ،ويكون رجوعه حينئذ س�هال؛ ألنه مل يقم بالفض
البات الذى ُحيول بينه وبني العودة.
ّ
وجيب أن تكون العودة باملعروف ،دونام جتريح وال إهانة ،يكون أساس�ها االحرتام
املتبادل من الطرفني.
وهذا عني ما قررته اآلية بشأن العودة ىف أثناء العدة ﴿ﮩ ﮪ ﴾.
- 3الف���ض ب�إح�س��ان :إذا م�ا تبني له أثناء فرتة االختب�ار أن األفضل هو البت ىف أمر فض
العالقة ،بأن يشعر بالراحة النفسية ىف هذا التباعد النصفى ،فيقرر ىف هدوءاالستمرار
140
ىف البع�د بق�رار هنائى بعملية الف�ض ـ فعليه حينئذ أن ينجز هذا األمر بإحس�ان ﴿ ﮫ
ﮬ ﮭﮮ ﴾.
ومعل�وم أن درج�ة اإلحس�ان أعىل من درجة املع�روف ،وهذا من عظم�ة القرآن أنه
يأمرنا بأن نكون ىف الفض أحسن خلقا من الرجوع ىف العالقة واالستمرار فيها.
والكت�اب ال�ذى يأمر أتباعه بأن يكون�وا عند الفض أفضل خلقا م�ن حالة الرجوع
ىف العالق�ة ـ جلدي�ر بأن يس�ود العامل ويبنى حض�ارة تقوم عىل األخالق الس�امية والقيم
الرفيعة.
لقد اس�تعمل القرآن كلمة املعروف ىف العالقة بني الزوجني كام ىف هذه اآلية ،وأيضا
ىف قوله تعاىل ﴿ﯢ ﯣﯤ ﴾ (النس�اء :اآلية )19أما كلمة اإلحس�ان فقد
اس�تعملها القرآن مع الوالدين ﴿ ﮞ ﮟ ﴾ (النس�اء :اآلية )36ىف أكثر من
موضع ،ألن حق الوالدين ومكانتهام أعىل من الزوجة.
وكأن اهلل تع�اىل يريدن�ا أن نعام�ل م�ن نقطع معه العالق�ة هبذه املنزلة من اإلحس�ان
والكرم ،وأن نتعامل بالفضل ال بالعدل ،ويؤكد هذا قوله تعاىل ىف نفس السياق ـ سياق
الطالق بعده بآيات ـ ﴿ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﴾ (البقرة :اآلية .)237
فام أعظم أخالق القرآن! وما أبعد كثريا من املسلمني عنه!
-4الإف�صاح وال�شفافية :مما تقتضيه املروءة ومن لوازم الفض بإحسان أن ُيفصح كل من
الطرفين عما لديه من معلومات تفيد اآلخر ،وال ينتقم أحد منهام من اآلخر بالكتامن
ا ُملضرِ ،فال ش�ك أن هن�اك معلومات وبيانات مهمة عند ه�ذا املوظف الذى يريد أن
يس�تقيل ،أو عن�د ه�ذا الرشيك ال�ذى يريد فض الرشاك�ة ىف التج�ارة ،كمعلومات
تتعلق بالعمالء أو البضاعة أو العاملني أو غري ذلك مما يتعلق بمصلحة العمل ،ومن
األخالق الس�امية واإلحسان الذى أرش�د إليه القرآن أن يفصح اإلنسان عام لديه من
معلوم�ات ،وال يترك العم�ل أو يفض الرشاك�ة إال إذا تأكد أن ط�رف الرشكة التى
يعم�ل فيه�ا أو الطرف اآلخر ىف العالقة قد اس�تغنى عنه وأنه مل يع�د بحاجة إليه وأنه
قدأوجد البديل الذى يسد حمله ،وقد أدىل بكل املعلومات التى ختص العمل ،بل ربام
141
حيتاج�ه العمل بعد الفض لإلجابة عىل أى استفس�ار خيص بعض املعلومات ،وعليه
حينئ�ذ أال يكت�م م�ا لديه ولو بعد ت�رك العمل.يق�رر القرآن هذه املس�ألة بوضوح ىف
احلدي�ث ع�ن الطلاق ﴿ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ
ﮌ ﮍﮎ ﴾ فالكتمان ال جي�وز ىف ح�االت وجوب اإلفص�اح ،واإلفصاح جيب إذا
تعلق به أحكام ومصالح.
ه�ذا هو الفقه واملنه�ج الذى جيب أن ُي َّتبع ملن أراد أن يفه�م القرآن ويتخذه رساجا
منريا!
-5رعاية احلقوق والواجبات :سواء قرر الطرفان العودة أو فض العالقة ال بد أن تكون
هناك حقوق وواجبات ،حقوق لكل طرف ،وواجبات عىل كل واحد.
وأه�ل املروءة والدين هم من يس�عون لرد احلق إىل أهل�ه وعدم التقصري فيه ،بل ربام
يتساحمون ىف حقهم ولكنهم ال يساحمون أنفسهم ىف حق اآلخرين ،وقد قرر القرآن هذه
القاع�دة ـ قاعدة احلقوق والواجبات ـ ىف قول�ه ﴿ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ﴾ يعنى
أن امل�رأة هلا حقوق كما أن عليها واجبات ،والواجبات الت�ى عليها هى حقوق للزوج،
وقدم ما للمرأة من حق عىل ما للرجل رعاية لضعفها ،فإن النظر ىف حق الضعيف مقدم
عىل حق القوى.
فاإلمساك باملعروف أو الترسيح باإلحسان يقتضيان رد احلقوق إىل أهلها.
فم�ن ق�رر العودة بعد فرتة االختبار فعليه أن يق�وم بواجب هذه العالقة ،وأن يكمل
مسيرته عىل الوجه الذى يعالج به املش�كالت التى كانت س�ببا لتأزم املوقف ،وىف حالة
اخت�اذ الق�رار بالفض فيج�ب أن يكون قائام عىل قاع�دة احلقوق والواجب�ات ،فكل من
الطرفين يق�وم بواجباته نحو اآلخ�ر ،وال يطلب أكثر من حقه ،فبمث�ل هذا ُتبنى األمم
ويرتقى الناس ،و ُيرضون رهبم جل وعال.
-6مراعاة حق �صاحب ال�سلطة :ىف حالة القرار باس�تمرار العالقة بعد فرتة االختبار فإن
على الطرف امل�رءوس أن يراعى س�لطة الطرف الرئيس ،فاملوظ�ف مثال الذى يقرر
االس�تمرار ىف الرشك�ة بعد اإلجازة التى حصل عليه�ا ـ فرتة اختبار ـ عليه أن يراعى
142
ح�ق رشكته ورؤس�ائه ىف العمل ،فلهم الس�لطة علي�ه ،نعم له حق�وق عليهم ولكن
تراعى أكثر.
السلطة والرئاسة ىف العمل ال بد أن َ
وق�د قرر القرآن هذا احلق للرجل باعتباره صاحب الس�لطة عىل املرأة ،فبعد أن قرر
قاع�دة احلقوق لكل من الطرفني ﴿ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ﴾ قال ﴿ﮞ ﮟ
ﮠ﴾.
كثيرا ما يكون س�بب اإلش�كالية هو أن املوظ�ف ال يطيع أوامر رؤس�ائه ىف العمل،
ويعتقد أهنم ال يفهمون وأهنم يقررون ما يفس�د العمل ،وهذا يحُ دث خلال كبريا ويو ِّتر
العالق�ة بني املوظف ورئيس�ه ،فإذا ما فهم املوظف حق الس�لطة ىف الطاعة اس�تطاع أن
يعالج املشكلة ،ولو تبني له سوء القرارات فبإمكانه أن حيل املوقف بشكل خمتلف يقوم
عىل احلوار وبيان وجهة نظره ال عىل التمرد وإعالن العصيان.
أغل�ب العالق�ات بين أى طرفين ىف مصلحة مشتركة يكون ألحدمها س�لطة عىل
اآلخر ،س�واء بني زوجين أو رشيكني ىف التجارة أو بني املوظفين وصاحب العمل أو
غري ذلك من العالقات ،ورعاية السلطة ىف كل العالقات وحقها ىف إصدار األوامر وأن
يكون األصل هو طاعة هذه األوامر ـ حيل كثريا من املشكالت وتوتُّر العالقات.
وقوله تعاىل ﴿ﮞ ﮟ ﮠ﴾ ليس ـ كام أفهم ـ جمرد تقرير حكم جزئى يتعلق
بدرجة للرجل خصه اهلل هبا ،وإنام هو منهجية يضعها القرآن أساسا ىف بناء العالقات.
وحتويل القرآن إىل نامذج حضارية بفهمـه هبذا األس�ـلوب جيعـل للقرآن ش�أنا آخر
ىف حياتن�ا.وإذا انض�اف إىل ذلك كل اآليات التى تتحدث عن نفس املوضوع فال ش�ك
أن النموذج سيكون أكثر تكامال ىف مفرداته.
إذن قد نس�تخرج النموذج احلضارى من موضع واحد من خالل آيات متتالية ،وقد
نس�تخرجه من مواضع خمتلفة من القرآن تتحدث عن موضوع واحد ،ونس�تطيع بتتبع
أحكام الطالق ىف القرآن كله ـ عىل سبيل املثال ـ أن نصنع منها نموذجا حضاريا متكامال
ىف فض العالقات والرشاكات بني الناس.
143
فمثال قوله تعاىل ىف سورة النساء ﴿ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ
ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼﭽﭾﭿﮀ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ
ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ﴾ نس�تطيع أن نكمل هبذه اآليات
ُّ
وتدخل صورة من نموذج فض الرشاكة ،والتى متثل مرحلة اإلصالح بأساليبه املختلفة
أطراف أخرى لرأب الصدع قبل عملية الفض.
فآلية املوعظة احلس�نة وإس�داء النصح منهج حياة وليست جمرد أسلوب مع الزوجة
عند نشوزها ،كام أن توقيع عقوبة مثل اهلجر بالكالم قد يكون جمديا ىف هذا الشأن ،فإذا
يجُ�د األم�ر قد نلجأ لتدخل أطراف مس�موعة الكلمة ىف عملية الن�زاع قبل قرار فض مل ِ
الرشاك�ة ،وهكذا يمكن تعميم مثل هذه األحكام التى وردت ىف س�ياق الطالق عىل ما
يش�اهبها من حاالت ومواقف اجتامعية ،وأن نجع�ل منها نموذجا ومنهجية متبعة جريا
على ه�دى الق�رآن الكريم ،فال ش�ك أن هذا نوع من أن�واع اتباع القرآن ،ب�ل هو اتباع
العقلاء احلكامء الذين مل يكتفوا باتباع األح�كام اجلزئية ،بل فهموا عن اهلل تعاىل املنهج
تذى ،وعرفوا سنن اهلل تعاىل ىف فهم الواقع وحل مشكالته. واألساليب الراقية التى تحُ َ
وأعيد القول وأؤكد عىل أننا ال نعنيب النموذج احلضارى الذين س�تخرجه من هذه
اآليات أو غريها أن نبتدع أحكاما كأحكام الطالق ىف فض الرشاكة ،فال نوجب ـ مثال
ـ ىف ف�ض الرشاكة ِع�دة كعدة الطالق ،وإنام املقصود فقط اتب�اع املنهج العام ىف الرتيث
والش�فافية ىف اإلفص�اح عن املعلومات ،ومراعاة احلق�وق والواجبات ،إىل غري ذلك مما
ال يخُ تلف عليه.
-13إيامن األفراد بالرسالة والتحمس هلا والغضب من أجلها ،كام كان واضحا ىف كالم
اهلدهد حني غضب بس�بب رؤيتـه ملن يس�جدون للشمس من دون اهلل تعاىل ﴿ﭑ
ﭒﭓ ﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭚﭛﭜﭝ
ﭞﭟﭠ ﭡ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ
ﭫﭬﭭﭮﭯ ﭰ ﭱﭲﭳﭴ ﭵﭶﭷﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﴾.
يبدو ذلك واضحا فيقول نبى اهلل س�ليامن عليه السالم ﴿ :ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ
ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﴾.
ث�م أراد أن ُي�رى ملكتَهم م�ن العجائب ما يبهرها وجيعلها ختضع لس�لطان دعوتــه
﴿ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ
ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ
ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ
ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ
ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ
ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ
ﰇﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖﰗ ﰘ ﰙ
ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ﴾.
-19عدم االغرتار بالقوة مهام عظمت ونسبة الفضل كله إىل اهلل تعاىل ﴿ﮜ ﮝ ﮞ
ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ
ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﴾.
155
منــوذج الت�سجيــل
فى اال�ستعماالت
الكرمية
بـيـن الآيـــــات
بـيـن الـجــمـل
فــى الـمـو�ضع
فــى الأ�شــياء
بـيـن املوا�ضع
فـى الــبـ�شــر
الــجــزئـــيـة
الإنـ�شـائـيـة
الـحــافـظــة
الــدافــعـــة
الـخــبـريـة
وتطبيقاته
الــكــلــيـة
احلمد
هلل
رب
العاملني
الرحمن
الرحيم
مالك
يوم
الدين
156
الفـهــــر�س
ال�صفحة
املو�ضـــوع
مقدمة5 ..............................................................................................................................................
خصائص هذا النموذج7 ................................................................................................................
سبب التسمية10 ..............................................................................................................................
كلمة عن تدبر القرآن12..................................................................................................................
الرس�م التخطيطى لنموذج (التحليل املنظومى والنموذج احلضارى)16 .................................
160