Professional Documents
Culture Documents
الإسلام في مرايا العنف PDF
الإسلام في مرايا العنف PDF
تمتلك بعض األديان قدرة مدهشة على االستمرار ،فهي رغم كونها ابنة سياقات تاريخية محددة إال أنها ،ونظرًا لعوامل كثيرة يضيق
مجال بحثها هنا ،تمتلك قدرة على اختراق األزمنة ،وقد أثبت اإلسالم أنه دين لم تنقطع جسور تواصله واستمراريته على مر العصور ،فقد
ظلت الثقافة اإلسالمية منتشرة ولو في أشكال مختلفة ،ولم يخّف حماس التدين ولو أنه اتخذ أشكاًال تدرجت بين الوسطية والتطرف.
وظلت النصوص اإلسالمية ُتستعاد وُتروى كأنها ابنة اللحظة المعاصرة ،كما أن التشريع اإلسالمي ما يزال األساس في التعامل مع
المرأة التي ما يزال ُِيْنظر إليها بعدسة الثقافة الموروثة .وكمسلمين ُفرَض علينا تصّور موروث للوجود جعلنا نضحي بإمكانية تبني
ثقافة بديلة أو إعادة إنتاج الموروث وفق رؤية عصرية في ضوء ثورات العقل الحديث .هذا التصور يتغلغل في حياتنا على جميع
المستويات ،في عالقتنا مع أجسادنا ومع أرواحنا ،ومع اآلخر ،ومع الطبيعة ،وحتى مع أدق تفاصيل حياتنا ،ذلك أن الدين الذي نشأنا
عليه صار دليلنا في الوجود ،ورغم تبدل األزمنة والثورات الهائلة التي غيرت الثقافة والسلوك المجتمعي فإّن اإلسالم حافظ على
قدرته التغلغلية ،وعلى كونه دينًا مرنًا ،وثقافة أبدية ال نملك غيرها ،أو ال نريد أن نبدلها فجاءت أحزابنا العلمانية على صورة هذا الدين،
وصارت لها مرجعيات مقدسة غير قابلة للنقد ،وصارت أفكارنا المستوردة مقولبة ومعدلة كي تناسب هذه الذهنية الموروثة .وحين
استيقظت أجيال الربيع العربي الجديدة كي تعلن نهاية عصور االستبداد والدكتاتورية جاء دعاة هذا الدين بأفكارهم الجاهزة كي يحولوا
شعاراتها ونضاالتها باتجاهات أخرى ،وقد أثبت اإلسالم أنه الدين األكثر مرونة ،واألكثر انتشارًا ،واألكثر قدرة على التوظيف :الحاكم يوظفه
لخدمته ،والثوري يوظفه لخدمته ،والساخط على الوجود يرى فيه ما يشبع سخطه ،والكاره لآلخر يرى فيه كل ما يبرر كرهه ،وعلى مر
التاريخ العربي الحديث رأينا أن الجانب المنتصر في اإلسالم هو دومًا الجانب التكفيري ،الجانب اإللغائي ،لكن اهلل أوصى بالحب أيضًا،
وبجملة من القيم اإلنسانية العظيمة ،فلماذا ال ينتصر الحب في اإلسالم على الكراهية والتعصب في لحظتنا المعاصرة؟
يحتاج اإلسالم في هذه المرحلة التاريخية الراهنة إلى ثورة تجّدده ضمن رؤية إنسانية وحضارية تؤكد فيه على قيم الخير والحب
والجمال ،وإذا كان الالعبون وخدم السالطين والمتعصبون قد تمكنوا على مر العصور من تأويل النصوص اإلسالمية بالطريقة التي
تخدم مآربهم السلطوية والمصلحية فال شك أن تأويًال جديدًا يبحث في اإلسالم عن ينابيع للحب والتسامح واالنفتاح مسترشدًا بقلب
متصوفنا الكبير محي الدين بن العربي القابل لكل صور االختالف ،والذي أعلن أن الحب دينه وإيمانه ،ال شك أنه سيلقى إجماعًا غير
مسبوق لدى األجيال الجديدة التي تعبت من إيديولوجيات القتل والتهميش والتكفير وإلغاء اآلخر ووضعه في جحيم معد له دون غيره،
بينما تبقى الجنة أو السلطة أو المعرفة حكرًا على فئة معينة كما هو الشأن في الدكتاتوريات.
َّو
نحتاج إلى ثورة روحية في عصر َوَأَد الروح ،وحَّول الطبيعة أو وجودنا األرضي من وجود مقدس ،على حّد تعبير المفكرة والباحثة في
تاريخ األديان كارين أرمسترونغ ،إلى مورد ،وبالتالي حّول معادلة الوجود كلها إلى معادلة نفعية (.)1
إن القيام بثورة روحية وفكرية ضرورة قصوى في ضوء التجربة السورية فقد عكست مرايا الحروب في سوريا والعراق اإلسالم في
أبشع أشكاله ،في صورة ممسوخة ومشوهة عن الدكتاتورية العسكرية كما لو أنه مرتبط بها وال يمكن أن يوجد أحدهما إال عبر عالقة
وثيقة مع اآلخر ،وكما فعلت اإليديولوجيات العلمانية الشمولية والتي أعادت إنتاج الدين في خطابها وممارساتها حاكت التيارات
الدينية السياسية المغلقة تجربة القتل والسجن والتهميش والتصفية كما لو أن اإلسالم الذي تدعيه ليس فيه ذرة أخالق ،وهنا يبرز
أمامنا المطب التأويلي ،ذلك أن اإلسالم حّمال أوجه فقد يكون داعشيًا أو قاعديًا أو وسطيًا أو ما شابه ذلك من تسميات في المذاهب
كلها ،ولكن ألم يحن الوقت لتحرير اإلسالم من قيوده المذهبية كلها وكافة أغالله التأويلية الظاهرية والباطنية وتحويله في إطار ثورة
روحية وفكرية إلى دين يفيض تسامحًا ومحبة؟
إن اإلسالم دين حضارة وشعوب عريقة وغنية لكنه في شكله الحالي ال يعبر إال عن الجانب الساخط والغاضب والمحبط واالنكفائي
واليائس والسوداوي لشعوب وجماعات مهمشة ال دور لها في الحضارة الحديثة ،كما يتحول إلى أداة مقاومة مشوهة في وجه
سلطة محلية استئثارية عنيفة ودموية وغرب ال يرى في اآلخر إال ضحية من أجل مزيد من الربح.
في ضوء كل هذا تزداد الحاجة اآلن لقراءة انقالبية جديدة تحدث تحوًال في اإلسالم كي يخرج من قواقعه القديمة ويصبح ابنًا للعصر:
أي أن يقبل اآلخر المختلف ،وأن يعترف أنه ليس الدين الوحيد ،وأن يحرر المرأة ،ويشرع لالختالف ،وأن ال يتمسك بالحجاب أو أن يبقيه خيارًا
شخصيًا على األقل ،أن يفصل نفسه عن السياسة ويتحول إلى معادلة روحية ،أال يتوج نفسه فكرة طاغية استبدادية ،أن يقبل الجدل
والرأي اآلخر ،وأن ينفي التعصب واالنغالق ،ثم أن يحلل العنف الذي يرتكب باسمه ،والنصوص التي تبرر هذا العنف ،وأن يضعها في
سياقها ويبقيها أسيرة هذا السياق ،وأال يفرضها على اللحظة الراهنة التي ال عالقة لها بها ،وأن يحدث قطيعة معرفية معها.
وفي هذا العصر الذي يتسم باالضطراب والكوارث ،يحتاج اإلسالم كدين إلى مفكرين جدد ،يمتلكون رؤية مستقبلية عميقة ومختلفة،
يبتكرونه من جديد في أفق الحضارة الحديثة ،وإال فإننا سنظل نتخبط في كهوف القرون الوسطى.
يمر اإلسالم في هذه العقود األخيرة في محنة ،ويبدو في عصر االنقالبات المعرفية واإلعالمية قادرًا على التكيف بشكل مذهل
واستخدام األدوات اإلعالمية من فيسبوك ويوتيوب وتويتر كي يروج من خاللها خطابًا ال يكف عن التكرر عبر العصور ،كما لو أن اإلسالم
مجرد صيغ تتكرر وتتخذ هذا القالب أو ذاك.
ويقدم اإلسالم السياسي كما يتجلى اليوم في التيارات الجهادية القائمة على فكرة تأسيس اليوتوبيا على الجثث صورة منفرة عن
اإلسالم ،صارت تحوله في أذهان كثيرين إلى حزام ناسف من األفكار غير المقنعة في هذا القرن.
إن الغائب األكبر في الخطاب اإلسالمي المعاصر هو العقل ،وال شك أن ”العقل“ كما ُيفهم في السياق التقليدي المحافظ مستخدم
بحرفية عالية في الخطاب اإلسالمي السائد ،أي العقل ُمعَّرفًا كمجموعة من التعاليم والصيغ واألفكار واألقوال التي باتت تشكل
سورًا هائًال في وجه العقل ُمعَّرفًا كتحليل ونقد وطرح أسئلة وخروج من اليقينيات وإعمال الشك والتفكيك والبحث للوصول إلى
الحقيقة التي ال يمكن لنص أو لصيغ عقلية أو إيديولوجية ما أن تحتكرها.
هكذا يتجسد اإلسالم المعاصر ،في أشكاله المتطرفة والحرفية ،في سبي اليزيديات وفي أسر النساء والمتاجرة الجنسية بهن علنًا،
وفي قطع الرؤوس وحرق الجثث وصلبها وفي ممارسة أعتى أشكال التعذيب علنًا وفي فرض صيغة للتدين كل من ال يقبل بها ُيقتل،
وهو إذ يعتبر نفسه ثورة ضد الظلم والتسلط نجده يعاود إنتاج الظلم والتسلط عبر هذه الممارسات التي لم يستنكرها أحد بشكل
جريء وعلني في الوسط اإلسالمي العام ،أي من خالل بيانات رسمية مكتوبة وبشكل منهجي وشجب على المنابر.
لم يعد اإلسالم بتفرعاته المذهبية مقبوًال في هذا العصر كنمط قسري للحياة ُيفرض على المجتمع ،وإذا كان يشكل ثروة روحية
كبرى يجب أن تعاش هذه الثروة من خالل التجربة اإليمانية الفردية غير المفروضة على اآلخر والتي ال تستولي على الخطاب وتفرض
نفسها كحقيقة مطلقة ،يجب أن ُتعاش كتجربة صوفية أو روحية أو تعبدية فردية بعيدًا عن ارتباطها بالتجارة والسياسة .فهل يمكن أن
يتحول اإلسالم إلى زاد روحي ومعرفي في عصر القلق هذا؟ هل يمكن أن يجيب على أسئلتنا التي تختلف عن األسئلة التي كانت
مطروحة في عصر المسلمين األوائل؟ وهل يمكن أن يفتح لنا أفقًا معرفيًا روحانيًا جديدًا يكون بديًال للعالم المادي وقسوته؟ هذه
أسئلة يجب أن ُتطرح وُيفكر بها دومًا اآلن بسبب الصراع على السلطة وتحويل الدين إلى مطية من أجل هذا الهدف ،واستخدامه اإلسالم
كسالح في وجه اآلخر ،وتحويله إلى هوية انغالقية غير ممتلكة معرفيًا بل محرضة إيديولوجيًا ومستغلة سلطويًا.
وفي ضوء األحداث التي جرت في سوريا وما تفرع عنها من عنف تجلى في هجمات طالت مدنيين في العالم يمكننا القول إن ارتباط
اإلسالم بالعنف ،أي اإلسالم ممارسًا كخطاب عنفي لقتل اآلخر فقد آخر أوراقه على المستوى الجماهيري ،إذ ال يمتلك إال مشهدية
عنفية تفرض نفسها من خالل اإلرهاب ،ويحضرني هنا ما ذكره المفكر البريطاني تيري إيغلتون عن الفرق بين اإلرهابي والشهيد في
كتابه ”اإلرهاب المقدس“ ،ذلك أن الشهيد هو الذي يموت من أجل خير البشرية دون أن يطلب أو يفكر بأي مقابل ،لكن بالنسبة للمفجر
االنتحاري ”هناك دومًا الفكرة الخادعة عن الجنة لتسهيل مرورك .الشهيد الحقيقي هو الذي يتخلى عن كل شيء ،حتى عن أمل
الخالص.أما المفجر االنتحاري بالمقابل فعينه مصوبة بقوة على مكافأته األبدية ،فهو أشبه بالشهيد المزّيف الذي يحاول أن يدخل
بالغش إلى نادي الجنة من خالل سحر مالكها .فهو منخرط ،في النهاية ،في منطق تبادل القيمة“( .)2إن اإلرهابي أناني ،قاتل لآلخر،
ومرتش ،إذ إنه يقتل مقابل أجر ،قد يكون هذا األجر هو الجنة أو رضا اهلل عنه ،إنه يقتل ويفجر ويدهس ويقطع الرؤوس ويسبي النساء
ويعثر على تبرير لفعله في النصوص ،أال يحق لآلخرين إذًا أن يتساءلوا ما هو اإلسالم؟ هل هو النص منفصًال عن التأويل؟ أم النص مؤوًال؟
أم هو جملة التأويالت الموزعة على المذاهب كلها؟ ما هو اإلسالم إذًا خارج هذا؟ ولماذا ال نعلن موقفًا واضحًا من كل اآليات التي
يمكن أن يستغلها ”متآمرون“ أو ”دخيلون“ على اإلسالم؟
إن اإلسالم بحاجة إلى أن ُيطرح في إطار تأويل معرفي جديد يعلن قطيعة مطلقة مع الماضي ،أو يستعيد الماضي بطريقة تركز على
البعد الروحي والصوفي اإلنساني الشامل ،ذلك أن في اإلسالم طبقات لم تستثمر بعد ،وال أحد يمكن أن يلغي قيمته الروحية.
ال شك أن كثيرين في العالم يتساءلون اآلن :ما هذا اإلسالم الذي ُنْقتل باسمه؟ والذي صرنا نخاف من الخروج إلى نادي ليلي أو السير
في الشوارع خوفًا من الدهس؟ ولماذا ال نسمع عن إسالم يبشر بالحب بين البشر ،متجاوزًا للطائفية؟
تربينا كأطفال في حياتنا الثقافية والتعليمية على التلقين ،ولم تكن المناهج الدراسية التي ُفرضت علينا تقدم أية رؤية مختلفة يمكن
أن تصنع وعيًا مغايرًا ،ورغم أن مادة التربية الدينية في المدارس السورية كانت ثانوية إال أن البنية الفكرية في المناهج كانت دينية
بشكل عام على المستوى العميق ،وفي فترة الحرب السورية كانت الهوية السورية جاهزة مسبقًا للتمزق القائم على المواالة
الدينية الطائفية ،ولم يتجل لدينا وعي اختراقي ،يبحث عن فضاء مشترك خارج هذه الوالءات ،لكنني أقول وبكل ثقة إن هذا الوعي
موجود لكنه لم يعثر بعد على منافذ للخروج والتجسد.
إن السوريين الذين عايشوا الممارسات الوحشية للدكتاتورية العسكرية وللدكتاتورية الدينية الجهادية صاروا أكثر إيمانًا بأن سوريا ال يمكن
أن تكون حاضنة لدولة إسالمية ،أو لدولة الحزب الواحد ،بل إن الحل األمثل لها هو الدولة الديمقراطية المدنية والعلمانية القائمة
على الفصل بين الدين والدولة وعلى تعدد األحزاب ،وحرية المعتقد الديني والسياسي ،وعلى تحرر المرأة واستقاللها التام ،واحترام
حقوق اإلنسان كلها كما تضمنها القوانين الحديثة ،وكذلك احترام الملحد والمختلف أيا كان إيمانه الفكري أو نمط حياته أو هويته.
تقول الباحثة البريطانية في تاريخ األديان كارين أرمسترونغ في خاتمة كتابها المعنون ب“التحول الكبير ٬ :بدايات تقاليدنا الدينية“( )3إن
البوذيين أوصوا بالتأمل لبناء عقلية مختلفة ،والذين ال يمتلكون الوقت أو الموهبة لممارسة اليوغا يستطيعون أن يكرروا قصيدة
بوذا“:لتنعم الكائنات كلها بالسعادة“ ،وهي قصيدة كما تقول أرمسترونغ تتجاوز االنقسام الطائفي والمذهبي ،كما أن أتباع
كونفوشيوس دعوا إلى تبني برنامج لصقل الذات يهدف إلى إنتاج كائن بشري ال يعامل اآلخرين بأنانية وبعدم احترام وبنفعية ،وكل
هذا يؤدي إلى خلق إنسان كوني ضروري للحفاظ على مجتمع عالمي مسالم ،فهل يبتكر المسلمون برنامجًا يصقل الذات وينورها
من الداخل كي تتجاوز االنقسام والطائفية والتعصب وكراهية اآلخر األجنبي؟ وهل سنقرأ القرآن الكريم كي نتنور من الداخل ونشعر
بالسالم والطمأنينة بدًال من أن نستشهد به لتكفير اآلخرين؟
تذهب أرمسترونغ إلى أن عالمنا يعيش مأساة نتيجة لما يجري فيه من حروب ناجمة عن سواد القلب البشري ،وتتطلب المأساة أن
نتعلم كيف نرى األشياء من منظور اآلخرين الذين يشاركوننا الكوكب .لقد آن األوان بالنسبة لإلسالم أن يبحث (وأقتطف هنا من
أرمسترونغ) عن ”القلب الضائع ،وروح التعاطف التي تكمن في جوهر كل تراثاتنا“ ،من أجل ”إحضار الضوء“ إلى عالمه الذي يعاني من
الحروب والكوارث واالنقسامات واليأس .
المصادر
-2اإلرهاب المقدس ،تيري إيغلتون ،ترجمة أسامة إسبر ،دار بدايات ،جبلة .٢٠٠٥
Armstrong, Karen, Great Transformation, The Beginning of our Religious, Anchor Books, New York, -3
.2007