You are on page 1of 6

‫أفالطون ‪ Plato‬أو ‪Platon‬‬

‫فيلسوف يوناني‪ ،‬ولد في أثينة وتوفي فيها عن عمر يناهز الثمانين عامًا‪ ،‬ينتمي إلى أسرة أرستقراطية‪ ،‬إذ يتحدر أبوه‬
‫أرسطون من كودرس‪ ،‬آخر ملوك أثينة‪ ،‬وتنتسب أمه فريقتيونة إلى الحكيم سولون‪ ،‬وتضم أسرتها األرستقراطية بعضًا من‬
‫رجاالت أثينة وأعيانها‪ ،‬منهم أخوها خرميدس ‪ Charmdes‬وابن عمها أقريطياس‪ ،Critias‬وهما من األعضاء الثالثين‬
‫في حكومة األقلية (األوليغارشية) التي حكمت أثينة (‪403 -404‬ق‪.‬م) في شباب أفالطون‪ .‬ويعد أفالطون من أشهر‬
‫فالسفة اليونان القديمة‪ ،‬إلى جانب معلمه سقراط[ر] وتلميذه أرسطو[ر]‪ ،‬وممن تركوا أثرًا عميقًا في تاريخ الفلسفة وفي‬
‫تاريخ الفكر السياسي‪.‬‬

‫وهو مؤسس القول الفلسفي أو الخطاب الفلسفي‪ ،‬الذي تناط به وظيفة سياسية وأخالقية‪ ،‬فقد عمل على أن تتبوأ الفلسفة‬
‫مكانتها في الحاضرة (المدينة) وأن تتكشف للعيان رسالتها األخالقية واالجتماعية‪ ،‬وذلك بإنشاء خطاب يستطيع أن يكون‪،‬‬
‫من الناحية الشرعية الحكم الفصل بين جميع الخطابات المتنافرة التي يتبادلها المواطنون ويتداولها الخطباء؛ خطاب‬
‫مؤسس على العقل أو على الفكر‪ ،‬الذي ميزه أفالطون من الرأي‪ ،‬ويكشف انسياق هذا األخير مع المصلحة الفردية األنانية‬
‫ومع الهوى‪ .‬والوسيلة إلى إنشاء هذا الخطاب هي الحوار الذي يحيل ما انقلب من التناقض بين متحاورين إلى جدل ينشىء‬
‫حقيقة أخرى ليست ألي منهما‪ ،‬بل لهما معًا‪ ،‬ألنها قائمة في كل منهما‪ .‬فخطل الرأي ينبع من االنقياد للمصلحة الخاصة‬
‫والنفع الشخصي‪ ،‬ومن االنغماس في عالم المحسوسات واللذائذ والشهوات‪ ،‬كما ينبع من التعليم الذي ال ينشد العدالة‬
‫والفضيلة وال يتعلق بالخير العام‪.‬‬

‫وأفالطون هو مؤسس «األكاديمية» التي ابتناها في أحد أطراف أثينة عام ‪387‬ق‪.‬م معبدًا لربات الشعر‪ ،‬وقد عرفت بهذا‬
‫االسم إلطاللها على حديقة البطل أكاديموس‪ .‬وأقام فيها أفالطون يعلم الناس على طريقة أستاذه سقراط وال يطلب من أحد‬
‫أجرًا‪ .‬واصطفى من بين تالميذه ثمانية وعشرين تلميذًا كان يذهب بهم في بعض األحيان إلى منزله‪ ،‬وفيهم أرسطو‪ .‬ومع‬
‫أن «الليسية» األرسطية نافست األكاديمية‪ ،‬فقد ظلت األكاديمية‪ ،‬مركزًا للتدريس والتأليف من دون انقطاع حتى أغلقها‬
‫االمبراطور جوستنيان عام ‪ 529‬للميالد‪.‬‬

‫سيطر التيار األفالطوني على الفكر المسيحي‪ ،‬بدءًا من القديس أوغسطين[ر] الذي اعتنق المسيحية في القرن الخامس‬
‫للميالد بعد أن قرأ مؤلفات أفالطون‪ .‬واستمر هذا التيار األفالطوني‪ ،‬عبر حلقة كامبردج حتى القرن التاسع عشر من دون‬
‫أن يتنكر للعقائد المسيحية‪ .‬ذلك أن الطروحات األساسية للفكر األفالطوني تؤكد روحانية النفس وتعالي القيم األخالقية‪.‬‬
‫ِّل‬
‫وقد صمدت هذه األفكار حتى ظهور فلسفات ماركس ونيتشه وفرويد التي رأت أن في المفاهيم األفالطونية أوهامًا مض لة‪.‬‬

‫حياته وعصره‬

‫كانت أثينة و«الدول ـ المدن» التي تجاورها في حال حروب وفوضى دائمة قادت أثينة إلى االنحطاط‪ .‬إذ توالت هزائم‬
‫أثينة في نزاعاتها مع إسبرطة وحلفائها‪ .‬ويرجع بعض المؤرخين هذا االنحطاط إلى التضخم السكاني الذي تزامن مع‬
‫الرخاء والديمقراطية لعصر بركلس ‪ Precles‬فقد تهافت على أثينة غرباء من كل مكان‪ ،‬وفيهم السفسطائيون (المعلمون)‪،‬‬
‫وغيرهم‪ ،‬حتى تجاوز عدد سكان المدينة وضواحيها (الداخلة في قوام دولتها) نحو ‪200‬ألف نسمة‪ .‬في حين أن أفالطون‬
‫وأرسطو كانا يقدران العدد المثالي لسكان هذه الدولة ـ المدينة بنحو ‪15‬ألف نسمة‪ ،‬ذلك أن المدينة وضواحيها تقع في‬
‫منطقة جبلية محدودة الموارد‪ ،‬تعتمد على الحرف اليدوية والتجارة‪ .‬وقد تعاظم دور العبيد في الخدمة المنزلية حتى‬
‫صارت األسر األرستقراطية الحاكمة أقلية بالنسبة إلى الغرباء‪.‬‬

‫عاش أفالطون انحطاط أثينة وانكسار شوكتها إثر هزيمتها البحرية في صقلية عام ‪413‬ق‪.‬م‪ .‬ومع أنها حققت بعض‬
‫االنتصارات البحرية العارضة فقد انتهت هذه الحرب باستسالم أثينة للقائد اإلسبرطي ليساندر ‪ Lysandre‬الذي فرض‬
‫عليها نظام حكم األقلية (األوليغارشي)‪.‬‬

‫كان أفالطون يميل في الفلسفة‪ ،‬قبل أن يصحب سقراط إلى رأي هيرقليطس‪ .‬وأخذ في أول أمره يتعلم الشعر واللغة إلى أن‬
‫حضر يومًا حديثًا لسقراط يقدح فيه صناعة الشعر‪ ،‬فأعجبه ما سمع منه ولزمه خمس سنين‪ .‬ولما سقط حكم األقلية وحل‬
‫محله النظام الديمقراطي في أثينة تم توجيه تهمة إفساد الشبان إلى سقراط‪ ،‬وحوكم في جلسات عامة‪ ،‬وأصدر المحلفون‬
‫حكمهم عليه باإلعدام سنة ‪399‬ق‪.‬م‪ ،‬فانسحب تالميذ سقراط الذين أذهلهم الحكم إلى مدينة ميغاره ‪ ،Megare‬جنوب‬
‫أثينة‪ ،‬وابتعد أفالطون عن وطنه مدة طويلة طلبًا للعلم في أماكن أخرى‪ ،‬ويقال إنه زار مصر في أثناء ذلك‪ .‬واألرجح أنه‬
‫زار جنوبي إيطالية وصقلية‪ .‬ومن المؤكد أن أفالطون كان يبحث عن أصحاب فيثاغورس‪ ،‬وخاصة أرخيتاس التارنتي‬
‫‪ ،Archytas‬وهو عالم رياضيات وقائد عسكري حظي بإعجاب أفالطون الشديد‪ ،‬ومّث ل لديه صورة الفيلسوف الملك‪ .‬وقد‬
‫تعرف بفضله إلى ديون ‪ Dion‬حليف الطاغية ديونيسوس ‪ Dionysos‬األكبر‪ ،‬وبدأ من ثّم بالتردد إلى بالط هذا الحاكم‬
‫الصقلي الشاب‪ .‬إال أن النفوذ الذي بدأ أفالطون يمارسه على هذا الملك المستبد لم يرق له طويًال‪ .‬وطرد أفالطون من‬
‫سرقوسة (سرقسطة)؛ وبعد رحلة محفوفة باألخطار في البحر وقع أفالطون أسيرًا وبيع مع العبيد‪ ،‬ولكن أبيقيرس وهو‬
‫من أصدقائه حرره لقاء مبلغ من المال‪ ،‬واستطاع أفالطون أن يعود إلى أثينة عام ‪387‬ق‪.‬م ليؤسس األكاديمية؛ فكانت أول‬
‫جامعة تضع برنامجًا لتأهيل رجال الدولة وتكوينهم تكوينًا عقليًا منظمًا‪ .‬وقد حاول أفالطون في أكاديميته أن يستدرك‬
‫بالتربية ما فاته بالسياسة‪.‬‬

‫وبعد موت الطاغية ديونيسوس دعاه صديقه «ديون» لزيارة صقلية مرة ثانية‪ ،‬لإلشراف على تربية ديونيسوس األصغر‬
‫آمًال أن يتبنى هذا الحاكم أفكار أفالطون ويحقق حلمه في أن يكون الملك فيلسوفًا‪ .‬غير أن عودته بعد عشرين سنة لم تثمر‬
‫كثيرًا‪ .‬فقد نشأ خالف بين الحاكم الجديد «ديون» اضطر األخير بنتيجته إلى الهرب من صقلية‪ .‬ورجع أفالطون خائبًا إلى‬
‫أثينة‪ ،‬إال أنه عاد إلى صقلية للمرة الثالثة بدعوة من ديونيسوس األصغر نفسه نحو سنة ‪361‬ق‪.‬م‪ .‬وظل سنة يتابع تدريس‬
‫األمير‪ ،‬ثم انقلب إلى أثينة بعد إخفاقه في التوفيق بين األمير وصديقهما المشترك «ديون» وإخفاقه في تحقيق ما كان‬
‫يصبو إليه‪ .‬ومنذ عام ‪360‬ق‪.‬م وحتى وفاته ظل أفالطون يِّد رس في األكاديمية‪ .‬وفي عام ‪ 357‬نجح «ديون» في تولي‬
‫السلطة في صقلية إال أنه قتل عام ‪354‬ق‪.‬م وبموته فقد أفالطون نهائيًا األمل بتحقيق حلمه في أن يكون الحاكم ملكًا‬
‫وفيلسوفًا في آن معًا‪.‬‬

‫مؤلفاته‬

‫غلب على مؤلفات أفالطون طابع «المحاورة» الذي ورثه عن أستاذه سقراط‪ .‬ويسهل تعرف أسلوبه التربوي في‬
‫محاوراته الزاخرة بجميع اآلراء والمناقشات التي كانت تدور في أثناء الدروس‪ .‬وقد زخرت هذه المؤلفات بصورة نابضة‬
‫من جميع فروع المعرفة‪ ،‬واشتملت على الدروس الحية التي كان يحضرها تالميذه من جميع الطبقات واألنحاء إضافة إلى‬
‫عرض شامل للتراث الفكري اليوناني من هوميروس إلى سقراط‪.‬‬

‫يجمع مؤرخو الفلسفة على أن مؤلفات أفالطون وصلت كاملة‪ .‬وأسهمت بعض الكتب والرسائل المنحولة في تضخيم‬
‫عددها‪ .‬إال أن النقاد والباحثين ميزوا األصيل منها وصنفوها بحسب مراحل تأليفها‪ .‬وسميت مصنفات الشباب‬
‫بـ«المحاورات السقراطية»‪ ،‬ألنها تظهر آراء سقراط وتدافع عنها‪ ،‬وتطرح أسئلة حول مفاهيم أساسية وتتركها معلقة‪،‬‬
‫ومن أشهرها «احتجاج سقراط» وهو دفاعه أمام المحكمة قبل موته‪ ،‬و«هيباس األصغر» وهي حوار يدور حول العالقة‬
‫بين العلم والعمل‪ ،‬و«بروتاغوراس» أو السفسطائي وتدور حول الفضيلة‪ .‬ومن أهم خصائص هذه المرحلة نقد آراء‬
‫السفسطائيين خصوم سقراط ومعاصريه‪ .‬أما «محاورات الكهولة» فتنسب إلى ما بعد عودته من جنوبي إيطالية وإنشاء‬
‫األكاديمية‪ .‬وتتصف ببروز األفكار الفيثاغورية‪ .‬ومن أشهرها «المأدبة» وموضوعها الحب الذي كان أفالطون سباقًا إلى‬
‫تناوله تناوًال فلسفيًا‪ .‬ومحاورة «فيدون» التي تعالج موضوع خلود النفس بعد الموت‪ .‬وقد أتم أفالطون تأليف كتابه في‬
‫«السياسة» (الجمهورية) الذي كتب في أوقات متباعدة في هذه المرحلة‪ ،‬وفيه تظهر معالم المدينة الفاضلة‪ .‬أما محاورة‬
‫«بارمنيدس» فيعرض فيها نظرية الُم ُثل‪ .‬وأما «محاورات الشيخوخة» فيغلب عليها الطابع المستقل ألفكار أفالطون‪،‬‬
‫ويبرز تفوقه في الجدل‪ ،‬فهو يحاول تشخيص حالة السفسطائي ويميل إلى تصنيف المعاني في أنواع وأجناس‪ ،‬ويعرج على‬
‫معنى الوجود‪ .‬ومن أشهر محاورات هذه المرحلة «طيماوس» وفيها يتناول موضوع الطبيعة ونشأة الكون والخالق‪ .‬وأما‬
‫آخر ما كتب أفالطون فهو «النواميس» أو «القوانين» ويتألف من اثنتي عشرة مقالة يشّر ع فيها للمجتمع‪.‬‬

‫المعرفة‬

‫يعد أفالطون فيلسوف المعرفة‪ ،‬فقد لخص آراء سقراط في رده على السفسطائيين‪.‬‬

‫وهذا يعني أنه تعلم من أستاذه الفروق الفلسفية األولى بين المعرفة اآلنية المتغيرة القائمة على الحس والمعرفة التي تستقر‬
‫في العقل بعد تجريدها من صور المحسوسات‪ .‬وأضاف أفالطون إلى ما تعلمه من أستاذه أول صيغة مذهبية للمعرفة‪ .‬فقد‬
‫أكد أن اإلحساس ليس كل المعرفة كما توهم أتباع هيراقليطس[ر] والسفسطائيون‪ .‬وفي رأيه لو كان حكم بروتاغوراس‬
‫القائل إن‪« :‬اإلنسان مقياس األشياء جميعًا» صحيحًا‪ ،‬لصدقت جميع اآلراء المتناقضة‪ ،‬وامتنع الحكم على األشياء‬
‫واألخالق والصناعات‪ ،‬فيستحيل العلم والعمل‪ .‬وهذا يقود إلى التفرقة بين المعتقدات الشعبية واآلراء المشهورة من جهة‬
‫واألقوال العلمية من جهة أخرى‪ .‬ويترتب على هذه التفرقة نتائج مهمة في مجال العلم القائم على البرهان واألخالق‬
‫العلمية‪.‬‬
‫صحيح أن هنالك أفكارًا تتغير بتغير اإلدراك الحسي‪ ،‬إال أن األصح هو العلم المستند إلى القوانين الثابتة‪ .‬فالنفس ترقى‬
‫بدراسة الحساب والهندسة والفلك والموسيقى‪ ،‬وهي علوم تقوم على وقائع محسوسة إال أن موضوعاتها تتمايز من‬
‫المحسوسات‪ .‬فليس الحساب عد الجزيئات كما يفعل التاجر‪ ،‬بل هو ما تفحص به األعداد نفسها بصرف النظر عن‬
‫المعدود‪ .‬وليست الهندسة في قياس المساحات بل إنها تقوم على دراسة األشكال‪ .‬وقس على ذلك الفلك والموسيقى‪ .‬إنها‬
‫البحث عن األصول الثابتة في كل علم على حدة‪ .‬ويتدرج الفكر في سلم المعرفة من اإلدراك الحسي إلى الظن أو الرأي‪،‬‬
‫ثم يصعد إلى العلم االستداللي‪ ،‬وينتهي أخيرًا إلى التعقل المحض بحثًا عن العلم الكامل الذي يكفي نفسه بنفسه ويصلح‬
‫أساسًا لغيره‪ .‬ويطلق على هذا التدرج في االرتقاء الجدل الصاعد‪.‬‬

‫نظرية الُم ُثل‬

‫رأى أفالطون أن المعرفة الجدلية هي المعرفة الفلسفية الحقة‪ .‬وهي تساعد على االرتقاء من األفراد المحسوسة إلى‬
‫األنواع‪ ،‬ومن األنواع إلى األجناس‪ .‬ومن تبين الصفات المشتركة بين األجناس يتم الوصول إلى الماهيات أو الُم ُثل‪ .‬ويقوم‬
‫العقل عن طريق الجدل الصاعد باستخالص المعاني الضرورية للحكم على المحسوسات‪ .‬وفوق العقل تقوم المعاني‬
‫المجردة لكل األشياء في عالم مستثقل هو عالم الُم ُث ل‪ .‬وكل جسم أو شيء يشارك في واحد من تلك الموجودات المجردة أو‬
‫المثل فيتشبه به يحصل على شيء من كماله‪ .‬فكما أن مجموع األجسام يؤلف العالم المحسوس كذلك فإن مجموع المثل‬
‫يؤلف العالم المعقول‪ .‬وهو العالم الموجود حقًا‪ ،‬وما وجود األشياء إال ظالل وأشباح لهذا العالم العلوي‪ .‬ولمعايشة النفس‬
‫عالم المثل قبل نزولها إلى هذا العالم‪ ،‬فإن معرفتنا الحقيقية باألشياء تعود إلى «تذكر» المثال من غير رؤية األشياء‬
‫الحسية‪.‬‬

‫يدعو أفالطون من يريد أن يصبح فيلسوفًا أن يرتفع بالفكر إلى عالم المعقوالت حيث تهيمن المثل‪ .‬فالمرء إذا رغب في‬
‫الوصول إلى «الجميل في ذاته ولذاته» أو إلى مثال الجمال‪ ،‬فإن عليه أن يرتفع من حب الجمال الذي تتصف به الوردة أو‬
‫جسم اإلنسان إلى حب كل الورود وكل األجسام‪ .‬وإذا أدرك أن الجمال إنما هو االنسجام فإنه يرتقي إلى اكتشاف جمال‬
‫النفوس وإلى إدراك الجمال في الفن والموسيقى‪ ،‬ويظل يرتقي حتى يبلغ الجمال المطلق‪ .‬وإذا ُعكس هذا الجدل الصاعد‬
‫نزوًال يعود المرء فيكتشف الجمال في األشياء الجزئية ويفهمه فهمًا أعلى من فهمه األول‪ .‬وقد رتب أفالطون الُم ُثل ترتيبًا‬
‫هرميًا جعل في قمته مثال الخير ويليه في المرتبة الحق والجمال‪.‬‬

‫توفر الُم ُثل للفيلسوف الصورة الكاملة للعلم الحقيقي وللوجود الخالد‪ ،‬وهما حقيقتان متكاملتان‪ .‬وقد رد أرسطو على نظرية‬
‫الُم ُثل هذه رافضًا وجودها في عالم منفصل ومستقل عن المادة بربطه بين الصورة والمادة ربطًا يسقط الُم ُثل (أو الصور)‬
‫من عالم مفارق إلى عالمنا األرضي‪.‬‬

‫أسطورة الكهف‪:‬‬

‫وفي أسطورة الكهف يعرض أفالطون في قصة رمزية‪ ،‬العالقة بين العالم المحسوس الزائل والمتغير والعالم المعقول عالم‬
‫الخلود والثبات‪ .‬إن بلوغ «الُم ُثل» يحتاج إلى دربة ومران‪ .‬على المرء أن يتدرج في تلقين العلوم إلى الشبان قبل تعليمهم‬
‫الجدل أو «علم العلوم» على حد قول أفالطون‪ .‬ذلك أن االنتقال من الظلمة إلى النور فجأة والتحديق بأشعة الشمس يبهر‬
‫العيون‪.‬‬

‫يروي أفالطون في الفصل السابع من كتاب «السياسة» أو «الجمهورية» قصة جماعة من الناس عاشت ُم َك َّب َلة باألغالل‬
‫في كهف تحت األرض‪ .‬وتمنعهم أغاللهم من النظر خلفهم ألن وجوههم تقابل جدارًا تنعكس عليه صور التماثيل‬
‫واألشخاص الذين يمرون خارج الكهف‪ ،‬وتنعكس أشباح هذه األشياء بسبب النار الموجودة خارج الكهف على الجدار الذي‬
‫تسمرت عيون الجماعة عليه‪ ،‬فهم ال يعرفون وال يسمعون إال أشباح األشياء المتحركة على الجدار واألصوات التي‬
‫يعتقدون أنها تبعث منهم‪ .‬ثم تصور أن هذه الجماعة ولدت وعاشت على هذه الحالة‪ ،‬وهي تعتقد جازمة بأن كل ما تراه‬
‫أمامها هوالحقيقة التي ال يداخلها شك‪ .‬والفيلسوف وحده هو الذي يقدر على تخليص هذه الجماعة من أسر األوهام التي‬
‫اعتادوها زمنًا طويًال‪ ،‬وهو الذي يجرؤ على كسر أغاللهم وإخراجهم من الكهف المظلم إلى عالم النور والشمس‪ .‬فالكهف‬
‫رمز للعالم المحسوس وإدراك األشباح هو المعرفة الحسية‪ ،‬والخالص من األسر يتم بالجدل‪ ،‬والشمس خارج الكهف هي‬
‫مثال الخير‪ .‬والفيلسوف هو الذي يرتقي بنفسه وبأقرانه من العالم الزائف إلى العالم الحقيقي‪ .‬وعلى الفيلسوف أن يفكر في‬
‫الُم ُثل الجوهرية التي تكمن وراء المظاهر الخارجية‪ ،‬وطبيعي أن ال يعرف الحقيقة بحواسه بل بتعقله ويميز الَع َر ض من‬
‫الجوهر‪ .‬وهو الذي يؤثر الحكمة ويفضلها على الثقة بالمحسوسات واآلراء والظن‪ ،‬وهو الذي ينشد الخير والحق والجمال‪.‬‬
‫وقد حاول أفالطون في أواخر حياته أن يلفت انتباه تالميذه إلى الرياضيات‪ ،‬حتى اعتقد أرسطو بأنه تخلى عن سقراط‬
‫وتوجه إلى الفيثاغورثية واستبدل باألعداد المثل‪ ،‬وهذا ما عبر عنه أرسطو في كتاب «مابعد الطبيعة»‪« :‬لقد أصبحت‬
‫الرياضيات عند فالسفة العصر الحاضر كل الفلسفة‪ ،‬ولو أنهم يقولون‪ :‬إنها إنما تدرس ألجل الباقي»‪.‬‬

‫النفس اإلنسانية‬

‫يرى أفالطون في محاورة «طيماوس» أن الصانع خلق «النفس الكلية» من المتشابه والالمتشابه‪ .‬ومن النفس الكلية صنع‬
‫العناصر األربعة‪ :‬الماء والتراب والهواء والنار‪ ،‬ومنها نشأ اإلنسان وكل ما هو موجود تحت مقعر فلك القمر من‬
‫الكائنات‪ .‬كذلك خلق من النفس الكلية الكواكب والزمان‪ .‬وإذا كان الزمان حادثًَا مخلوقًا فإن «المثل» التعرف الزمان‬
‫والتغير‪ .‬والعالقة بين النفس الكلية والنفس اإلنسانية هي عالقة الكلي بالجزئي‪ .‬إن النفس اإلنسانية الصادرة عن النفس‬
‫الكلية شبيهة بها ولكنها تنطوي على معنى الفردية‪ ،‬ومع ذلك فإنها خالدة‪ ،‬ال تفنى بموت البدن‪ .‬وهذه نقطة أساسية اللتقاء‬
‫أفكار أفالطون مع عقائد الديانات السماوية‪ .‬وقد ساق أفالطون براهين عدة على خلود النفس منها‪:‬‬

‫ـ أن النفس قبل أن تهبط إلى عالم األرض‪ ،‬موجودة منذ القدم في عالم الُم ُثل‪ ،‬وفي هذا العالم كانت تعرف صور جميع‬
‫األشياء‪ .‬وحين استقر بها المقام على األرض أقامت عالقة مع األشياء المحسوسة عن طريق «التذكر»‪ .‬فميزت هذه‬
‫األشياء من صورها الثابتة في عالم الُم ُثل ومن المواد التي تتشكل منها هذه الصور‪ .‬وإذا كان وجودها قديمًا في العالم‬
‫العقلي‪ ،‬فإنها ستظل خالدة‪ ،‬بمعنى أنها ال تنحل وال تفنى مثل المادة‪.‬‬

‫ـ أن التناوب بين الحياة والموت‪ ،‬الذي ُيشاهد في العالم المحسوس يتيح للنفس والدة جديدة ويخلصها من آثار المادة‪.‬‬

‫ـ لما كانت النفس بسيطة فإنها ال تنحل أبدًا‪ ،‬كما هو حال األشياء المادية التي تصير إلى الفناء بعد تحللها إلى العناصر‬
‫التي تركبت منها‪ .‬أما النفس فتظل خالدة ألن أصلها سماوي‪ ،‬وغير خاضع للفساد والتجزئة‪.‬‬

‫ـ النفس هي التي تمد األجسام بالحياة‪ ،‬ولما كانت لها مشاركة مع «مثال» الحياة‪ ،‬فإنها ال تقبل الموت كاألجسام‪ .‬وال يمكن‬
‫أن تتحول إلى نقيضها‪ ،‬فستظل موجودة إلى األبد‪.‬‬

‫إن خلود النفس كما يتبين لدى أفالطون يجمع بين األزلية واألبدية‪ .‬وال يمكن أن تكون هذه البراهين مقنعة إال إذا سبق‬
‫للمرء اإليمان بوجود «عالم الُم ُثل» الذي يجعله أفالطون أصًال كليًا للوجود‪ .‬ويكمن الخالف األساسي بين أفالطون‬
‫وأرسطو حول حقيقة عالم الُم ُثل الذي من دون وجوده الخارجي الموضوعي ال يمكن لفلسفة أفالطون أن تستقيم‪ .‬وقد نفذت‬
‫موضوعية هذا العالم إلى الفكر العربي اإلسالمي «المشرقي» (اإلشراقي)‪ ،‬في حين رفضها ابن رشد حين أعاد إلى‬
‫أرسطو صورته الواقعية والمادية عن طبيعة العالم على مستوى المادة والصورة‪ .‬وحلت محل فكرة الُم ُثل فكرة‬
‫العقواللمثالية المفارقة للمادة التي قال بها الفارابي وابن سينا من تبعهما‪.‬‬

‫وإذا كانت المعرفة «تذكرًا» لدى أفالطون‪ ،‬فإنها عند أرسطو وأتباعه عملية تجريدية لإلحساس المالزم إلدراكنا المباشر‬
‫لموضوعات العالم الخارجي‪ ،‬ومن ثم فإن المعرفة مستمدة من هذا العالم األرضي وليست قائمة في النفس قبل التصاقها‬
‫بالبدن‪ .‬مع أن أفالطون ترك أثرًا قويًا في الفلسفة العربية ـ اإلسالمية في نظرية العقول‪ ،‬فإن هذه الفلسفة انحازت إلى‬
‫أرسطو فيما يتصل بنظرية المعرفة المستندة إلى التجربة الحسية‪.‬‬

‫األخالق والسياسة‬

‫ترتبط األخالق بالسياسة ارتباطًا وثيقًا لدى أفالطون‪ ،‬والخالف بينهما يشبه الخالف بين الجزئي والكلي‪ ،‬أو الفردي‬
‫والجماعي‪ :‬فاألخالق غرضها استكمال فضائل النفس اإلنسانية على مستوى األفراد أما السياسة فإنها تدبير أحوال الناس‬
‫المجتمعين في الدولة ـ المدينة‪ .‬إال أن األخالق والسياسة يجمعهما عند أفالطون مثال الخير‪ .‬وإن تطلع اإلنسان إلى الخير‬
‫يعني لدى أفالطون التطلع إلى السعادة‪ .‬وهذا الربط بين السعادة والخير ورثه أفالطون عن أستاذه سقراط‪ .‬لكن أفالطون‬
‫حاول في نظرية «الُم ُثل» إعطاء فكرة الخير بعدًا ميتافيزيقيًا‪ .‬والمعروف أن الخير األسمى لدى أفالطون هو مثال الخير‬
‫المطلق‪ ،‬وهو رأس الُم ُثل كافة‪ ،‬ويأتي تحته بالتدرج الهرمي مثال الحق ومثال الجمال‪ .‬وإذا سلك المرء الطريق المعاكس‬
‫النازل‪ ،‬يجد أن المادة والجسد كليهما من عالم الشر‪ .‬من ثم فإن الفيلسوف هو الذي يرتفع بالعقل فوق مستوى المادة‬
‫والجسد ويقترب أكثر فأكثر من الخير المطلق‪ .‬فالخالص األخالقي للفرد على قول أفالطون هو إماتة العالئق الحسية‬
‫بالزهد‪ ،‬واالرتقاء إلى مستوى التأمل العقالني الخالص‪ .‬ويتجلى الخير لدى أفالطون في أشكال شتى أعالها صورة الخير‬
‫المثالية في رأس الهرم؛ وثمة نوع آخر من الخير هو اكتشاف االنسجام الموجود في الصور الحسية‪ ،‬وهنالك مرتبة أدنى‬
‫يتحقق فيها الخير هي اكتشاف الُم ُثل عن طريق العلم‪ .‬أما المرتبة األدنى للخير أو السعادة فهي الحصول على اللذة التي ال‬
‫يعقبها ألم وال يتبعها ندم‪.‬‬

‫وقد حاول أفالطون إضافة إلى هذا الجانب النظري في األخالق أن يدرس الفضائل بوصفها الباعث على االنخراط في‬
‫العمل األخالقي‪ .‬وقَّسم الفضائل بحسب تقسيمه للنفس‪ .‬فالنفس اإلنسانية لديه تتألف من ثالث قوى ترتبط فيزيولوجيًا‬
‫بالجسم اإلنساني‪.‬‬

‫تقع القوة العاقلة التي يجب أن تسود في النفس على مستوى الرأس ويناسبها في المجتمع الفالسفة والسياسيون الذين‬
‫يدبرون شؤون المدينة‪ .‬أما القوة الغضبية فإن مركزها الصدر والقلب‪ ،‬وهي توازي طبقة الجند في المجتمع وهم حراس‬
‫المدينة والمدافعون عنها‪ .‬في حين ترتبط القوة الشهوية بالبطن والفرج ويوازيها في المجتمع الطبقة الدنيا منه‪ .‬ولكل قوة‬
‫فضيلة‪ ،‬فالقوة العقلية فضيلتها التأمل وبلوغ الحكمة‪ ،‬والقوة الغضبية فضيلتها الشجاعة‪ ،‬أما القوة الشهوية ففضيلتها العفة‪.‬‬
‫ولما كانت هذه الفضائل قائمة على قوى متنازعة فيما بينها فالبد من فضيلة رابعة تضبط ما ينشأ عنها من اختالف‪ ،‬وهذه‬
‫الفضيلة هي فضيلة العدالة‪.‬‬

‫ويلج المرء عالم السياسة عند أفالطون من باب البحث في فكرة العدالة‪ ،‬وهو أمر ناقشه في كتابه «السياسة» أو‬
‫«الجمهورية»‪ .‬ورأى أن تحقيق العدالة هو شأن عام يشارك فيه الجميع لبناء الدولة التي تقيم توازنًا بين األفراد‪ ،‬ويحصل‬
‫كل فرد بموجبه على ما يستحق‪ .‬وألفالطون باع طويل في السياسة وآراء مستجدة في تاريخ التطور السياسي ألثينة‪ ،‬كما‬
‫أنه عاين عن كثب إخفاقات الدول وتجاوزات أنظمة الحكم المختلفة‪ .‬ويعتقد أفالطون في كتابه «السياسة» أن المجتمع‬
‫اإلنساني يتدهور‪ ،‬وأنه وجد زمان كان الناس فيه يديرون شؤونهم من دون حاجة إلى الدولة‪ .‬ولما كان هذا العصر الذهبي‬
‫قد ولى من غير رجعة فإن على الدولة أن تهتم بتربية األفراد وتعليمهم ليقيموا فيما بينهم أسسًا يتفقون عليها إلدارة‬
‫شؤونهم‪.‬‬

‫وهنا يمكن فهم الدور األساسي للفيلسوف‪ ،‬إنه المعلم الذي يوجه المواطنين نحو فضيلة التعلم والمعرفة‪ ،‬وإقناعهم بأن الفرد‬
‫يجب أن يكون في خدمة الدولة‪ .‬ولتحقيق الدولة المثالية أو «المدينة الفاضلة»‪ ،‬رأى أفالطون تطبيق نوع من االشتراكية‬
‫للقضاء على الزواج والملكية بوصفهما مصدر النزاعات في المجتمع‪ ،‬فجعل النساء مشاعًا واألوالد أبناء للدولة التي‬
‫تعدهم إعدادًا عسكريًا وثقافيًا وأخالقيًا ليصبحوا مواطنين قادرين على الدفاع عن دولتهم‪ .‬ولكن أفالطون‪ ،‬وبعد رحالته‬
‫إلى صقلية‪ ،‬وتقدمه في السن عدل عن آرائه السياسية هذه في كتاب يعد من أواخر مؤلفاته هو كتاب «النواميس» أو‬
‫«القوانين»‪ .‬وفيه تتخذ الدولة طابعًا جديدًا قائمًا على احترام الدين‪ ،‬وعلى تحديد عدد السكان‪ .‬كما تخلى أفالطون عن فكرة‬
‫الشيوعية في الملكية والزواج لكنه ترك للدولة سلطة كبيرة في وضع قيود تؤكد أن الزواج مؤسسة غايتها خدمة المجموع‪،‬‬
‫كما وجه التربية في كتاب «النواميس» إلى فرض تعليم الرياضيات ألنها تعين على فهم االنسجام‪ ،‬واالنسجام يقود إلى‬
‫الخير‪ .‬وفتح الباب واسعًا أمام المشرعين في الدولة‪ ،‬وأعطاهم المكان الذي شغله الفيلسوف في الدولة السابقة‪ .‬وصار‬
‫الشكل الذي يجب أن يتخذه الحكم مزيجًا من االرستقراطية والديمقراطية‪ .‬فمنح المواطن الحق في الحرية‪ ،‬لكنه ترك‬
‫شؤون السياسة للقادة من األشراف‪.‬‬

‫أثر أفالطون في الفلسفة العربية اإلسالمية‬

‫لقد أثرت فكرة «المدينة الفاضلة» في الفكر العربي اإلسالمي‪ .‬وأول من كتب في هذا الموضوع أبو نصر الفارابي[ر] (‬
‫‪339‬هـ‪950/‬م)‪ ،‬إال أنه وظف المفهوم األفالطوني في سياق إسالمي بحت‪ ،‬قدم له في كتابه «آراء أهل المدينة الفاضلة»‪،‬‬
‫بمقدمات كالمية مستفيضة‪ ،‬وميز المدينة الفاضلة من المدينة الفاسقة والمدينة الضالة والمدينة الجاهلة والمدينة المعتزلة‬
‫متأثرًا بالتوجهات اإلسالمية‪ .‬وتبعه في النهج نفسه ابن باجة األندلسي في كتابه «تدبير المتوحد»‪ .‬وظلت المؤلفات‬
‫السياسية الفلسفية بمنأًى عن التأثير المباشر في المجتمعات اإلسالمية التي أفرزت دوًال قائمة على العصبية القبلية والدين‬
‫كما فصلها ابن خلدون فيما بعد‪.‬‬

‫وال يمكن في هذا الصدد الحديث عن أهمية الملخص الذي وضعه ابن رشد لكتاب أفالطون «السياسة»‪ ،‬ويرى بعضهم أن‬
‫ابن رشد قام بعمله هذا بناء على طلب أبي يحيى والي قرطبة وشقيق السلطان الموحدي أبي يوسف يعقوب المنصور‪ .‬لقد‬
‫كان غرض ابن رشد من تلخيص كتاب «الجمهورية» أو «السياسة» ألفالطون هو التنديد بجميع أشكال التسلط‬
‫واالستبداد وتعرية «وحدانية التسلط» أو الحكم الدكتاتوري‪.‬‬

‫ولم يكن تفضيل أفالطون على أرسطو في التراث العربي اإلسالمي ناتجًا عن اختيار بين أحد الفيلسوفين من دون اآلخر‪.‬‬
‫وإنما كان الفالسفة العرب المسلمون‪ ،‬بحسب األحوال‪ ،‬يلجؤون على السواء إلى أحدهما دون اآلخر للدفاع عن فكرة‬
‫إسالمية يؤمنون بها‪ .‬وقد حاول الفارابي التوفيق بين االتجاهين دفاعًا عن وحدة الحقيقة في كتابه «الجمع بين رأيي‬
‫الحكيمين أرسطو وأفالطون اإللهي»‪ .‬ولم يكن الفارابي يدري بأنه كان يوفق بين أفالطون وأفلوطين[ر]‪ .‬فكتاب الربوبية‬
‫(أثولوجيا) المنحول ألرسطو ليس إال أجزاء من كتاب «التاسوعات» ألفلوطين‪.‬‬

‫لم يدرس أثر أفالطون في التصوف اإلسالمي دراسة مستفيضة إلى اليوم‪ .‬ولكن أثره في التصوف الفلسفي أكثر وضوحًا‬
‫في واقع األمر من التصوف الكالسيكي‪ .‬فقد أثر أفالطون في الفارابي وإخوان الصفا والسهروردي المقتول أكثر من‬
‫تأثيره في الجنيد والحالج والقشيري‪.‬‬

‫كذلك لم يقتصر تأثير أفالطون في الفكر اإلنساني على السياسة‪ ،‬بل تجاوزها إلى مجال األدب والفن‪ .‬فالمعروف أن‬
‫أفالطون بدأ حياته شاعرًا ثم تخلى عن كتابة الشعر‪ .‬ورأى أن الفن عامة هو محاكاة وتقليد‪ ،‬يبتعد عن الُم ُثل مرتين‪ ،‬مرة‬
‫حين يقلد األشياء المادية ومرة حين يعرف أن هذه األشياء ليست سوى أشباح زائلة للمثال األصلي‪.‬‬

‫كذلك فتحت نظرية أفالطون التي عرضها في محاورة «فيدون» الباب واسعًا أمام الجدل حول أصل الحب‪ ،‬الذي قرر‬
‫أفالطون أنه ناشيء عن عالقة بين ما هو سماوي وما هو أرضي‪ .‬ومن هنا يحس المرء بالمفارقة والغموض في تحديد‬
‫طبيعة الحب‪ ،‬ألنها في الواقع طبيعة مزدوجة‪.‬‬

‫أما أفكار أفالطون عن هللا والخلق فظلت تخضع لتأثير األساطير البابلية والنظريات الفيثاغورية‪ .‬وهو يعتقد بأن هللا خالق‬
‫األرض والسماء بما فيها من نجوم وكواكب‪ ،‬وأنه خلق األشياء من المادة على شاكلة الصور الهندسية‪ .‬وقد تبنى الفالسفة‬
‫العرب المسلمون نظرية الخلق األفالطونية (علم النشأة) لفهمهم إياها على أنها خلق من عدم‪ ،‬في مقابل نظرية أرسطو‬
‫التي تقول بقدم العالم‪.‬‬

You might also like