Professional Documents
Culture Documents
السلوك الانساني بين الميول والمفاهيم
السلوك الانساني بين الميول والمفاهيم
السلوك اإلنساني
بين الميول والمفاهيم
الح دص بقلم :محم
عالج اإلسالم اإلنسان معالجة كاملة إليجاد شخصية معينة له متمّي زة عن غيرها .فجعل العقيدة اإلسالمية
قاعدة فكرية يبني عليها أفكاره ،ويمّي ز بها الصواب من الخطأ .كما جعل ميوله وأهواءه مبنية كذلك على العقيدة
اإلسالمية ،وحث على تقوية مشاعر التقوى بدوام الصلة باهلل تعالى .فكيف يتوصل اإلنسان ليصبح شخصية إسالمية
ات؟ ا عن المحرم لوكها وتفكيره دة في س بعي
اني لوك اإلنس الس
يقوم اإلنسان بإشباع غرائزه وحاجاته العضوية كلما ثارت ،أي كلما احتاجت إىل إشباع ،وذلك بناء على ما
عنده من مفاهيم عن الشيء الذي ُيسِبع ،وعن طريقة اإلشباع .فكل أعمال اإلنسان ،منذ أن يبدأ باحلركة إىل أن ميوت ،ال
خترج عن عملية إشباع إلحدى غرائزه أو حاجاته العضوية ،أي أن سلوكه كله يف احلياة هو لعملية اإلشباع هذه ،وال
سلوك له خارج هذه العملية .ومن هنا نقول أن السلوك هو فعل يستجيب به الكائن احلي لدافع داخلي ـ غريزة أو حاجة
عض وية ـ اس تجابة معين ة واض حة للعي ان ،وتك ون عض لية أو عقلي ة أو االث نني مع ًا.
وسواء مّيزنا السلوك الظاهر والصريح ـ وهو الذي ميكن مالحظته وتسجيله ـ من السلوك املضمر أو املسترت ـ وهو
الذي يصعب على اآلخرين مالحظته ألنه رمبا اشتمل على مشاعر أو أفكار ولكنه قد يستنتج من السلوك الظاهر لألفراد،
سواء ميزنا أم مل منيز فإن السلوك يبقى هو هو :تصرف أو فعل أو تصرفات قولية يقوم هبا اإلنسان إشباعًا جلوعة أو غريزة،
وذل ك نتيج ة ملش اهدة واق ع حمس وس أمام ه أو نتيج ة لتفك ريه بواق ع غ ري مش اهد.
لوك تنظيم الس
قلنا إن السلوك هو فعل يستجيب به الكائن احلي لغريزة أو حلاجة عضوية ،وهذا ينطبق على كل كائن حي من
إنسان وحيوان ،ألن اإلنسان واحليوان يشرتكان يف غرائزمها وحاجاهتما العضوية وضرورة إشباعها .ولذلك عرف السلوك
الفطري بأنه ذلك الذي يشرتك فيه مجيع أفراد النوع ،وعرف باملقابل السلوك املوّج ه وهو الذي يتبع فيه اإلنسان توجيه ًا
داخلي ًا معّين ًا على ضوء األعراف واألفكار املوجودة ليده .وهذا هو الفرق بني السلوك اإلنساين والسلوك احليواين ،فإن
س لوك احلي وان فط ري فق ط ،بينم ا س لوك اإلنس ان موَّج ه بتوجي ه داخلي ه و جمموع ة املف اهيم أو األفك ار ال يت ص ّد ق هبا،
ر. ائن حي مف ّك هك وان بأن ان عن احلي ذلك متيز اإلنس ول
وملا كانت املفاهيم هي اليت تنظم السلوك اإلنساين وتوجهه ،كان جيب أن ينص ّب العمل لالرتقاء على املفاهيم
جبّد ونشاط ،وذلك لتحويلها من اخلطأ إىل الصواب لكي يتحول السلوك اإلنساين إىل الصواب .وملا كانت هذه املفاهيم
أصًال أفكارًا جرى التصديق هبا بناء على قاعدة فكرية لدى اإلنسان ،وهي كلها ـ فرعية كانت أو أساسية ـ مبنية على هذه
الـوعـي – العـدد الحادي عشر -السـنـة األولى -شعبان 1408هـ -نيسان 1988م
1
القاعدة الفكرية ونابعة منها ،كان ال بد أن ينصب العمل أوًال على هذه القاعدة الفكرية ،وهي العقيدة اليت حتدد الفكر عن
احلي اة .ومن هن ا ،نس تطيع أن نق ول أنن ا وص لنا إىل ت رتيب أولوي ات التغي ري ل دى اإلنس ان.
أول أوًال ف
إذًا أول ما جيب أن ُيبدأ به هو العقيدة ،وذلك أن تعطى العقيدة لإلنسان بطريقة حبث عقلية تستند إىل البديهيات
اليت ال خيتلف عليها عاقالن حىت يقتنع عقله وميتلئ قلبه طمأنينة .وبقدر ما تكون هذه الثوابت راسخة ،تكون العقيدة
كذلك .وحينذاك ،يكون لدى اإلنسان الفكر األساس الذي يستطيع أن يبين أفكاره األساسية عليه ،وبالتايل يستمد منه
ذه األرض. ه على ه لوك من يعيش مع لوكه وس ه وتنظم س اجل حيات يت تع النظم ال
فمن خالل ه ذه العقي دة وعلى أساس ها تتك ون املف اهيم ل دى اإلنس ان .وق د تك ون ه ذه املف اهيم ص حيحة فتنتج
سلوكًا صحيحًا ،وقد تكون كذلك خاطئة فتنتج سلوكًا خاطئًا .واحلقيقة أن املفاهيم اليت يكّو هنا اإلنسان ،وبالتايل سلوكه،
تكون صحيحة بقدر ما تكون العقيدة اليت كّو ن هذا اإلنسان مفاهيمه على أساسها صحيحة ،وتكون خاطئة كذلك أيض ًا،
وإمنا نع رف ص حة الس لوك أو املف اهيم من م دى ص حة الفك ر الكّلي ال ذي نبعت من ه ه ذه املف اهيم ،وه و العقي دة.
فاملفاهيم هي حكم على واقع معنّي تتم نتيجة لربط هذا الواقع باملعلومات واحلقائق املوجودة أص ًال لدى اإلنسان.
وحىت تكون هذه املفاهيم صحيحة ،ال بد من الدقة يف عقل الواقع وربطه باحلقائق املناسبة ـ وهي األفكار الكلية النابعة من
دة. العقي
وك ذلك ف إن نتيج ة تل ك العملي ة الفكري ة ،أي احلكم على الواق ع ب القبول أو ال رفض ،أو بالص حة أو اخلط أ ،ه ذا
احلكم هو الذي يعني لإلنسان امليول حنو هذا الواقع من إقبال أو إعراض ،من حب أو بعض .وبذلك يكون قد حصل هلذا
دة. ية العقي اًء على خصوص اص بن ان ذوق خ اإلنس
ية يز والخصوص التم
نستطيع أن نقول بناء على ما مضى أن اإلنسان يتميز بلون خاص حني جيعل تلك القاعدة أو القواعد اليت يبين
عليه ا مفاهيم ه وأفك اره هي نفس ها القاع دة أو القواع د ال يت يب ين عليه ا ميول ه ويكوهنا على أساس ها.
فاإلنسان تتدافع فيه قوتان اثنتان جتاه عمل ما أو واقع معني :األوىل املفهوم الذي تكّو ن لديه بناء على ما عنده من
فك ر كلّي ،أي بن اء على العقي دة ال يت يعتنقه ا ،والثاني ة املي ول واأله واء ال يت تتك ون لدي ه ح ول ه ذا الواق ع .املي ول ابت داًء
غريزية ،أي أن اإلنسان يكّو ن ميوله جتاه األشياء بناء على غرائزه وحاجاته العضوية ،فما كان فيه قابلية إلشباع جوعة ما
لدى اإلنسان فإنه يع رض عنه وال مييل إليه .فهاتان القوتان :الفكر واهلوى أمران منفص الن وال شك ،ومها اللذان يق رر
اإلنس ان على أساس هما القي ام بعم ل أو ع دم القي ام ب ه ،أي أهنم ا الل ذان حيددان س لوك اإلنس ان.
فاإلنسان الراقي وال شك هو الذي يتبع فكرة دون هواه ،ألنه بذلك يتميز عمن دونه من املخلوقات غري العاقلة.
واإلنسان غري الراقي هو ذاك الذي يتبع هواه .وقد جاء يف القرآن الكرمي آيات كثرية تنهى عن اتباع اهلوى ،وتذم صاحبه،
وتأمر باتباع الصراط املستقيم ،أي أحكام اإلسالم وعقيدته اإلسالمية .قال تعاىلَ :و َمْن َأَض ُّل ِم َّم ْن اَّتَبَع َه َو اُه ِبَغْي ِر ُه ًد ى
ِم الَّلِه ِإَّن الَّلَه َال ْه ِد ي اْلَق الَّظاِلِم ي ،وقالَ :أ َأ َت اَّتَخ َذ ِإَلَهُه َه اُه َأَض َّلُه الَّلُه َعَلى ِع ْلٍم َخَت َعَلى ِعِه
َس ْم َو َم َو َو َفَر ْي َمْن َن ْو َم َي ْن
الـوعـي – العـدد الحادي عشر -السـنـة األولى -شعبان 1408هـ -نيسان 1988م
2
ٍة ِم ِه َو َقْلِب ِه َو َجَع َل َعَلى َبَص ِر ِه ِغ َش اَو ًة َفَمْن َيْه ِد ي ِه ِم ْن َبْع ِد الَّل ِه َأَفَال َت َذ َّك ُر وَن ،وقالَ :أَفَمْن َك اَن
َعَلى َبِّيَن ْن َر ِّب َك َمْن
َو اَءُه ْم . وا َأ ْه ِه و َع ِل
َو اَّتَبُع ُء َم ُه ُس ُز ِّيَن َل
ولكن القفزة الكربى يف السلوك تكون عندما جيعل اإلنسان من العقيدة وما ينبع عنها من مفاهيم أساس ًا مليوله
وأهوائه ،فال مييل مطلق ًا إىل ما قد ق ّر ر أنه خاطئ ،بل يرغب يف الصواب فقط ويعرض عن اخلطأ .وقد جاء يف احلديث
الشريف عن رسول اهلل أنه قال« :ال يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبع ًا لما جئت به» .ففي هذا احلديث إشارة إىل
المي. رع اإلس ب الش واء حبس ول واأله ييف املي ون بتك ذي يك متام اإلميان ال
إن اإلنسان املسلم لديه مفهوم عن شرب اخلمر أنه حرام .مثل هذا املسلم قد متيل نفسه إىل شرب اخلمر مع علنه
بأنه عمل خاطئ ،وقد تشمئز منها نفسه فال يرغب بشرهبا مطلق ًا .وهو يف احلالتني قد ال يقدم على شرب مطلق ًا ،غري أنه
إذا ك ان ميي ل لش رهبا م ع اإلحج ام ف إن نفس يته ال تك ون نفس ية إس المية متام ًا.
وكذلك أي إنسان ،إن كان يربط ميوله ودوافعه بقاعدة أو قواعد غري اليت يربط هبا مفاهيمه ،فإنه يفقد التميز
واخلصوص ية ،وال يش كل شخص ية متم يزة قائم ة على أس اس فك ري واض ح .وحين ذاك يص بح هن اك تب اين واختالف بني
املفاهيم والسلوك ،وتصبح رغبات اإلنسان وميوله تتعارض مع مفاهيمه ،حبيث مييل إىل ما يراه هو نفسه خاطئ ًا .وحينذاك
ه ومتيزه. ه وهويت د لون ة ،ويفق دًا عن الطمأنين ان بعي بح اإلنس يص
لذلك كان ال بد أن جتعل القاعدة أو القواعد اليت يقاس عليها الواقع هي نفسها اليت تقاس عليها امليول ،وحينها،
اهيم. دوافع واملف تزاج بني ال ل االم حيص
رطية الش
ال بد أن يرتبط السلوك اإلنساين باملفهوم عن الشيء املراد إشباع اجلوعات به :هل يشبع أو ال يشبع؟ وهل جيوز
اإلش باع ب ه أو ال جيوز؟ فمثًال حلم اخلنزير يش بع جوع ة املع دة ،وك ذلك اخلم ر ي روي العطش ،فهم ا يش بعان اجلوع ات.
ولكن إذا رب ط اإلنس ان املس لم بني دوافع ه ومفاهيم ه ،فإن ه يس تنج أن ه ذين ال جيوز إش باع اجلوع والعطش هبم ا ،ألن
العقيدة تقول بتحرميهما .فإذا ارتبط هذا املفهوم عند اإلنسان بالدافع ـ وهو قابلية اإلشباع يف الشيء ،فإنه ميتنع عن أكل
ر. رب اخلم حلم اخلنزير أو ش
فنتائج املفاهيم هي اليت حتدد وتعنّي سلوك اإلنسان حنوا الواقع املدرك ،ولكن هذا االرتباط يبقى غري حتمي ،ألن
السلوك وإن كان ناجتًا حتمًا عن مفهوم ما لدى اإلنسان ،فإن هذا املفهوم ليس بالضرورة ذلك الذي ترشد إليه العقيدة،
فقد تتنازعه مفاهيم أخرى .فاإلنسان املسلم الذي لديه مفهوم حرمة شرب اخلمر ولكنه يشرهبا مع علمه أن شربه هلا عمل
خاطئ ،هذا املسلم مل يتبع مفهوم حترمي اخلمر بالتأكيد ،وإال لكان امتنع عن شرهبا ،فال بد أن يكون اتبع مفهوم ًا آخر،
رام. ري ح لغ ر القلي رب اخلم ور رحيم ،أو أن ش أن اهلل غف هب ل إميان مث
ارض التع
هذا التعارض بني مفهوم اإلنسان عن الشيء وبني سلوكه جتاهه إمنا هو الختالف القاعدة اليت قاس عليها عمله
حني القيام بالفعل .فاملسلم الذي يشرب اخلمر قاس األمر على احلالني :على قاعدة أن اخلمر حرام ،وعلى قاعدة أن اهلل
الـوعـي – العـدد الحادي عشر -السـنـة األولى -شعبان 1408هـ -نيسان 1988م
3
غفور رحيم .ولكنه يف قياسه األول أصاب وربط الدافع املوجود باملفهوم الصحيح ،أما يف قياسه الثاين فكان قياس ًا خاطئ ًا،
ألن اهلل تع اىل غف ور رحيم قطع ًا ولكن ه أيض ًا ش ديد العق اب على اق رتاف املعاص ي فيجب البع د عنه ا يف مجي ع األح وال.
وحني يتعرض اإلنسان لوضع املعصية ،فإن الدافع دائم ًا موجود طاملا أن هذا الشيء أو الفعل يتبع جوعة ما لدى
اإلنس ان ،ولكن ربط ه ذا ال دافع ب املفهوم الص حيح ه و النقط ة احلامسة يف قيام ه بالفع ل .واهلوى يص ّو ر لإلنس ان كث ريًا من
املف اهيم ،وق د متي ل نفس اإلنس ان إىل مفه وم م ا ـ مث ل أن اهلل غف ور رحيم ـ مليله ا إىل ارتك اب املعاص ي ،وحين ذاك يك ون
هوات. ق الش ع طري واه ،واتب هه د غلب علي ان ق اإلنس
ومشاعر اإلنسان تتأثر كذلك باملفاهيم .فهي متيل إلشباع اجلوعات ابتداء ،ولكنها ختتلف حسب الربط باملفاهيم.
فالذي يذكر حرمة اخلمر مثًال يذكر عذاب اهلل تعاىل ،فتثور مشاعر اخلوف ـ تقوى اهلل عز وجل .والذي يذكر غفران اهلل
تعاىل وُيَطْم ِئُن نفسه بأنه لن يصيبه العذاب وأن اهلل تعاىل سيغفر له .وحني يقدم اإلنسان على اقرتاف املعصية ،فإن مشاعر
امليل واإلقب ال تك ون لديه أق وى من مش اعر اخلوف من اهلل ع ز وج ل ،أي أن تق واه هلل تع اىل مل يكن بالدرج ة ال يت تتغلب
على هواه فارتكب املعصية .وعندما ارتكب هذه املعصية مل خيالف كذلك مفهومه األساسي وهو اإلميان حبرمة اخلمر بأن
ش رهبا عم ل خ اطئ ،ول ذلك فإن ه يبقى شخص ية إس المية رغم ه ذه الثغ رات يف الس لوك.
ول ذلك جند اإلس الم يرك ز على تق وى اهلل ،وحيث املس لم على دوام الص لة باهلل ،وتقوي ة إميان ه باهلل واخلوف من
عذاب ه ،وك ذلك الطم ع يف جّنت ه ،وب دوام تقوي ة مفاهيم ه ومراجعته ا وتنقيته ا .فه ذان األم ران :تقوي ة املف اهيم وتنقيته ا،
وكذلك دوام الصلة باهلل وتقواه ،هذان مها السبيل الوحيد للمسلم حىت حيافظ على سلوكه مرتبطًا بعقيدته ،أي حىت حيافظ
على سلوكه مبنيًا على مفاهيم اإلسالم ،ويصبح شخصية إسالمية متمّي زة .وهذا يتطلب دوام ذكر اهلل تعاىل ،واإلقبال على
املن دوبات والنواف ل ،وال رتفع عن املكروه ات ،وذل ك ح ىت تص بح النفس ص افية مما ق د عل ق هبا من آث ار.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية ،واملعافاة الدائمة يف الدنيا واآلخرة ،وصلى اهلل على سيدنا حممد وعلى آله وصحبه
لم . وس
الـوعـي – العـدد الحادي عشر -السـنـة األولى -شعبان 1408هـ -نيسان 1988م
4