Professional Documents
Culture Documents
قدم المنطق مرة أخرى للعلوم إنموذجا ً ،وفيه تحريض للعلوم لإلفادة منه في توحيدها .وفي هذا المضمار
نحسب إن دائرة تفكير جابر كانت واعية لمثابرة المنطق في توحيد العلوم .وهذا اإلنموذج الذي قدمه
المنطق ،ومن خالل إفادات جابر كانت اللغة هي الخيار .ومن المعروف إن آليات المنهج ،هما الوصف
والتفسير ،واللذان من طرفهما يحفزان العالم على البحث عن لغة للعلم تتناسب وتطلعاته .وإن الدقة التي
توفرها مكونات اللغة هدف من األهداف التي ينشد العالم بلوغها .أما اإلجراء المنهجي الجديد ” التحليل
والتركيب ” ،فإنه إجراء ينظر إلى اللغة على أساس إنها الخطوة األكثر أهمية في اإلجراء العلمي .فالتحليل
هو تحليل للغة العلم .والتركيب هو إعادة بناء العمارات العلمية واألبستمولوجية وفق شروط وقواعد البناء
المنطقي *.
:طريقة التحليل مغايرة لطريقة التركيب وتسير بطريق معاكس لها .للتفصيل في ماهيتهما أنظر*
A – Rey Georges. “The Analytic L Synthetic Distinction,The Stanford Encyclopedia of Philosophy, Ed.
By Edward Zalta 2003
B – Leonard Linsky. Analytic / Synthetic and Semantic Theory, Springer 197
لقد إستخدم جابر هاتين الطريقتين في إجراءاته المنهجية .وال نقول جديداً إذا قلنا إن هاتين
الطريقتين تُعدان اليوم من اإلجراءات المنهجية المهمة في الميثدولوجيا واألبستمولوجيا خاصة وفلسفة العلوم
عامة .إن هدفنا هنا معرفة فهم جابر لهذه اإلجراءات المنهجية .وفعالً إن الباحث في نصوص جابر يلحظ إن
تفكيره كان تفكيراً علميا ً منظما ً ،نازعا ً إلى اإلعتماد على عدة أساليب .ولعل واحد من هذه األساليب ،هو
طريقة التركيب ،وهي نهج يسلكه الباحث في سعيه لفهم طبيعة الظاهرة موضوع البحث .والتركيب طريق
لبناء هياكل نظرية للعلوم ،سواء كانت صورية (رمزية منطق ورياضيات وفيزياء نظرية …) أم تجريبية .
وهو في الوقت ذاته سبيل لبناء النظريات األبستمولوجية بوجه عام .إال إن عمله ليس حُراً بل إنه عمل
مشروط ومقيد بمجموعة قواعد بنائية ،منها ما يُفيد في إختبار جهاز المفاهيم (أبجديات تتألف من مفاهيم
أولية) وهذه الشروط هي :الدقة والوضوح ،والخلو من الغموض واللبس . kوإن المفهوم الثانوي يخضع
لقاعدة بنائية أُخرى ،وهي أن تكون صيغة المفهوم خالية من التناقض ومتناغما ً مع المفهوم األولي أو
مجموعة المفاهيم األولية .وأن تكون لغة الصيغة واضحة ودقيقة وموجزة. *
:للتفاصيل في القواعد البنائية من الزاوية المنطقية ،أنظر
A – R. Carnap,The Logical Structure of the World, Trans. By Rolf George, University of California
Press 1967
B – Pierre Wagner (ed), Carnap’s Logical Syntax of Language, Macmillan 20
1
من هنا نفهم :لماذا يتطلع فالسفة العلم والباحثون في المناهج ،ومنذ أمد بعيد ،إلى ضرورة أن تكون الدقة
والوضوح kمن سمات هياكل األبستمولوجيا التي ينشدون بنائها ؟ تحقق هذا لهم بإستخدام اللغة الرمزية ،فكانت
الرياضيات هي اللغة الرمزية للعلوم .ومعلوم عند الجميع ما تتميز به الرياضيات من دقة ووضوح ،ورمزية
تتيح اإلستنتاجية للعالم ،وذلك من أجل أن يكون البناء األبستمولوجي للعلم بعيداً عن أي منزلق يؤدي إلى
التناقض ،ويجعل العملية اإلستنتاجية التي يقوم بها العالم غير سليمة.
إن إشارة جابر لطريقة التركيب وما تحتاج إليه جاء في قوله ” :إن لنا نكتا ً في كتب التعليم (الرياضيات)
وغيرها … أو على ذكر التعليم والتركيب ،والبد لنا من ذكر األوائل (األوائل من المفاهيم أو من القضايا أي
البديهيات) التي يحتاج إليها ” (. )27
وتتقدم على طريقة التركيب طريقة أُخرى ،تمهد لها سبيل البحث ،وهي طريقة التحليل ،والتي عن طريقها
نتمكن من الوصول إلى األبجديات من المفاهيم أو األوليات ،ونتعرف على شروط إختيارها ،وكيفية توافر
الدقة والوضوح kفيها ،وإستبعاد الغموض واللبس عنها ،ووضع نماذج (موديالت) نظرية للعلوم ملتزمة
بقواعد البناء .إن إشارة جابر لطريقة التحليل وما تتطلبه من لوازم جاءت في قوله ” :هو علم يخرج بالحدس
،وستراه في موضعه كله يخرج في الوزن بعد التحقيق الطويل البعيد … وقد فرضنا أوالً أ مرتبة وب مرتبة
وج مرتبة ود مرتبة .وإن أ ليست وال واحد من حدود ب وال ج وال د. )28( ”
لم تكتف نصوص جابر بوصف الروح التحليلية – التركيبية للمنهج العلمي .بل قدمت شواهد وأمثلة على
هذه الروح المستقاة من الصيغ التي تصف الظواهر الطبيعية ،ميدان المنهج العلمي وساحة عمله .يقول جابر
” :ونحتاج أن نضرب لذلك مثالً وإال كان مجهوالً ..مثال المركب األول الطبيعة ، ومثال المركب الثاني
تركيبها األول ؛ فالحرارة والبرودة ،والرطوبة واليبوسة ،والنار والهواء واألرض والماء ” ( . )29في
الحقيقة إن هذا الشاهد يُبين لنا الروح التحليلية – التركيبية التي تمتع بها منهج جابر .فالطبيعة مفهوم مركب ،
وهو في حقيقته يتألف من مكونات كثيرة .إنه مفهوم يتسع لضم كل مكونات العالم الخارجي .ولهذا كانت
تركيبته عالية التعقيد .أما المكونات التي تُشكل أجزاء الطبيعة ،فهي بسائط تؤلف بمجملها هذا المركب الذي
نسميه الطبيعة .وهنا تتحدد القيمة المنهجية – األبستمولوجية لمثال جابر .
كذلك أدت اللغة دوراً فاعالً في التعبير عن الروح التحليلية – التركيبية في البحث في نصوص جابر .وهذه
المرة جاءت الشواهد معروضة في كتابه المعنون ” الحدود . ” فقد عرض في هذا الكتاب مواصفات نظرية
عامة للغة العلمية ، * ومهد إلنجاز ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* لإلطالع على الدراسات الفلسفية المعاصرة في مضمار بناء اللغات العلمية ،أنظر :
2
A – Howard Sankey. The Language of Science: Meaning Variance and Theory Comparison, Language
)Sciences 22 (2): 117 – 136 (2000
B – Gary Gutting. Conceptual Structures and Scientific Change, Studies in History and Philosophy of Science
Part A 4(3): 209 – 230
التركيب ,فهو جمع أجزاء الشيء أو ربط صفاته وخواصه بعضها ببعض ,للوصول الى قوانين عامة ,ويكون التركيب "مادياً",
بجمع أجزاء الشيء ,لتكون مترابطة ترابطا ً تظهره مؤلفا ً كامالً في الواقع الخارجي ,أو "عقلياً" ,بربط صفات الشيء أو
خواصه بعضها ببعض في الذهن ,كما في العلوم الرياضية ,فهو يتماهى مع "االستقراء" بكونه أداة الحصول على حكم كلّي,
بعكس التحليل الذي ينهج الحصول على العالقة بين األجزاء ,بما يتماهى مع االستنباط.
منهج التركيب فيقوم بتوحيد $األجزاء والخصائص والعالقات التي يفصلها التحليل ،في كل واحد ،انتقاالً من المتوحد
يكمل
والجوهري إلى المختلف والمتنوع ،فهو $يضم العام والفردي ،الوحدة والتنوع في كل حي متعين .وعليه فالتركيب ّ
التحليل ،وتضمهما $معاً وحدة ال يمكن فصمها.
3