You are on page 1of 3

‫الثانية – التحليل والتركيب ‪:‬‬

‫قدم المنطق مرة أخرى للعلوم إنموذجا ً ‪ ،‬وفيه تحريض للعلوم لإلفادة منه في توحيدها ‪ .‬وفي هذا المضمار‬
‫نحسب إن دائرة تفكير جابر كانت واعية لمثابرة المنطق في توحيد العلوم ‪ .‬وهذا اإلنموذج الذي قدمه‬
‫المنطق ‪ ،‬ومن خالل إفادات جابر كانت اللغة هي الخيار ‪ .‬ومن المعروف إن آليات المنهج ‪ ،‬هما الوصف‬
‫والتفسير ‪ ،‬واللذان من طرفهما يحفزان العالم على البحث عن لغة للعلم تتناسب وتطلعاته ‪ .‬وإن الدقة التي‬
‫توفرها مكونات اللغة هدف من األهداف التي ينشد العالم بلوغها ‪ .‬أما اإلجراء المنهجي الجديد ” التحليل‬
‫والتركيب ” ‪ ،‬فإنه إجراء ينظر إلى اللغة على أساس إنها الخطوة األكثر أهمية في اإلجراء العلمي ‪ .‬فالتحليل‬
‫هو تحليل للغة العلم ‪ .‬والتركيب هو إعادة بناء العمارات العلمية واألبستمولوجية وفق شروط وقواعد البناء‬
‫المنطقي *‪.‬‬

‫‪ :‬طريقة التحليل مغايرة لطريقة التركيب وتسير بطريق معاكس لها ‪ .‬للتفصيل في ماهيتهما أنظر‪* ‬‬
‫‪A – Rey Georges. “The Analytic L Synthetic Distinction,The Stanford Encyclopedia of Philosophy, Ed.‬‬
‫‪By Edward Zalta 2003‬‬
‫‪B – Leonard Linsky. Analytic / Synthetic and Semantic Theory, Springer 197‬‬

‫‪ ‬لقد إستخدم جابر هاتين الطريقتين في إجراءاته المنهجية ‪ .‬وال نقول جديداً إذا قلنا إن هاتين‬
‫الطريقتين تُعدان اليوم من اإلجراءات المنهجية المهمة في الميثدولوجيا واألبستمولوجيا خاصة وفلسفة العلوم‬
‫عامة ‪ .‬إن هدفنا هنا معرفة فهم جابر لهذه اإلجراءات المنهجية ‪ .‬وفعالً إن الباحث في نصوص جابر يلحظ إن‬
‫تفكيره كان تفكيراً علميا ً منظما ً ‪ ،‬نازعا ً إلى اإلعتماد على عدة أساليب ‪ .‬ولعل واحد من هذه األساليب ‪ ،‬هو‬
‫طريقة التركيب ‪ ،‬وهي نهج يسلكه الباحث في سعيه لفهم طبيعة الظاهرة موضوع البحث ‪ .‬والتركيب طريق‬
‫لبناء هياكل نظرية للعلوم ‪ ،‬سواء كانت صورية (رمزية منطق ورياضيات وفيزياء نظرية …) أم تجريبية ‪.‬‬
‫وهو في الوقت ذاته سبيل لبناء النظريات األبستمولوجية بوجه عام ‪ .‬إال إن عمله ليس حُراً بل إنه عمل‬
‫مشروط ومقيد بمجموعة قواعد بنائية ‪ ،‬منها ما يُفيد في إختبار جهاز المفاهيم (أبجديات تتألف من مفاهيم‬
‫أولية) وهذه الشروط هي ‪ :‬الدقة والوضوح ‪ ،‬والخلو من الغموض واللبس‪ . k‬وإن المفهوم الثانوي يخضع‬
‫لقاعدة بنائية أُخرى ‪ ،‬وهي أن تكون صيغة المفهوم خالية من التناقض ومتناغما ً مع المفهوم األولي أو‬
‫مجموعة المفاهيم األولية ‪ .‬وأن تكون لغة الصيغة واضحة ودقيقة وموجزة‪. * ‬‬
‫‪ :‬للتفاصيل في القواعد البنائية من الزاوية المنطقية ‪ ،‬أنظر‪ ‬‬
‫‪A – R. Carnap,The Logical Structure of the World, Trans. By Rolf George, University of California‬‬
‫‪Press 1967‬‬
‫‪B – Pierre Wagner (ed), Carnap’s Logical Syntax of Language, Macmillan 20‬‬

‫‪1‬‬
‫من هنا نفهم ‪ :‬لماذا يتطلع فالسفة العلم والباحثون في المناهج ‪ ،‬ومنذ أمد بعيد ‪ ،‬إلى ضرورة أن تكون الدقة‬
‫والوضوح‪ k‬من سمات هياكل األبستمولوجيا التي ينشدون بنائها ؟‪ ‬تحقق هذا لهم بإستخدام اللغة الرمزية ‪ ،‬فكانت‬
‫الرياضيات هي اللغة الرمزية للعلوم ‪ .‬ومعلوم عند الجميع ما تتميز به الرياضيات من دقة ووضوح ‪ ،‬ورمزية‬
‫تتيح اإلستنتاجية للعالم ‪ ،‬وذلك من أجل أن يكون البناء األبستمولوجي للعلم بعيداً عن أي منزلق يؤدي إلى‬
‫التناقض ‪ ،‬ويجعل العملية اإلستنتاجية التي يقوم بها العالم غير سليمة‪.‬‬
‫إن إشارة جابر لطريقة التركيب وما تحتاج إليه جاء في قوله ‪ ” :‬إن لنا نكتا ً في كتب التعليم (الرياضيات)‬
‫وغيرها … أو على ذكر التعليم والتركيب ‪ ،‬والبد لنا من ذكر األوائل (األوائل من المفاهيم أو من القضايا أي‬
‫البديهيات) التي يحتاج إليها ” (‪. )27‬‬
‫‪  ‬وتتقدم على طريقة التركيب طريقة أُخرى ‪ ،‬تمهد لها سبيل البحث ‪ ،‬وهي طريقة التحليل ‪ ،‬والتي عن طريقها‬
‫نتمكن من الوصول إلى األبجديات من المفاهيم أو األوليات ‪ ،‬ونتعرف على شروط إختيارها ‪ ،‬وكيفية توافر‬
‫الدقة والوضوح‪ k‬فيها ‪ ،‬وإستبعاد الغموض واللبس عنها ‪ ،‬ووضع نماذج (موديالت) نظرية للعلوم ملتزمة‬
‫بقواعد البناء ‪ .‬إن إشارة جابر لطريقة التحليل وما تتطلبه من لوازم جاءت في قوله ‪ ” :‬هو علم يخرج بالحدس‬
‫‪ ،‬وستراه في موضعه كله يخرج في الوزن بعد التحقيق الطويل البعيد … وقد فرضنا أوالً‪ ‬أ مرتبة وب مرتبة‬
‫وج مرتبة ود مرتبة ‪ .‬وإن‪ ‬أ ليست وال واحد من حدود ب وال ج وال د‪. )28( ” ‬‬
‫‪  ‬لم تكتف نصوص جابر بوصف الروح التحليلية – التركيبية للمنهج العلمي ‪ .‬بل قدمت شواهد وأمثلة على‬
‫هذه الروح المستقاة من الصيغ التي تصف الظواهر الطبيعية ‪ ،‬ميدان المنهج العلمي وساحة عمله ‪ .‬يقول جابر‬
‫‪ ” :‬ونحتاج أن نضرب لذلك مثالً وإال كان مجهوالً ‪ ..‬مثال المركب األول‪ ‬الطبيعة‪ ، ‬ومثال المركب الثاني‬
‫تركيبها األول ؛ فالحرارة والبرودة ‪ ،‬والرطوبة واليبوسة ‪ ،‬والنار والهواء واألرض والماء ” (‪ . )29‬في‬
‫الحقيقة إن هذا الشاهد يُبين لنا الروح التحليلية – التركيبية التي تمتع بها منهج جابر ‪ .‬فالطبيعة مفهوم مركب ‪،‬‬
‫وهو في حقيقته يتألف من مكونات كثيرة ‪ .‬إنه مفهوم يتسع لضم كل مكونات العالم الخارجي ‪ .‬ولهذا كانت‬
‫تركيبته عالية التعقيد ‪ .‬أما المكونات التي تُشكل أجزاء الطبيعة ‪ ،‬فهي بسائط تؤلف بمجملها هذا المركب الذي‬
‫نسميه الطبيعة ‪ .‬وهنا تتحدد القيمة المنهجية – األبستمولوجية لمثال جابر ‪.‬‬
‫‪  ‬كذلك أدت اللغة دوراً فاعالً في التعبير عن الروح التحليلية – التركيبية في البحث في نصوص جابر ‪ .‬وهذه‬
‫المرة جاءت الشواهد معروضة في كتابه المعنون ”‪ ‬الحدود‪ . ” ‬فقد عرض في هذا الكتاب مواصفات نظرية‬
‫عامة للغة العلمية‪ ، * ‬ومهد إلنجاز ذلك‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫*‪ ‬لإلطالع على الدراسات الفلسفية المعاصرة في مضمار بناء اللغات العلمية ‪ ،‬أنظر ‪:‬‬

‫‪2‬‬
‫‪A – Howard Sankey. The Language of Science: Meaning Variance and Theory Comparison, Language‬‬
‫)‪Sciences 22 (2): 117 – 136 (2000‬‬

‫‪B – Gary Gutting. Conceptual Structures and Scientific Change, Studies in History and Philosophy of Science‬‬
‫‪Part A 4(3): 209 – 230‬‬

‫‪ – 27‬جابر بن حيان ؛ كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل ‪ ،‬ص ‪2‬‬


‫‪ – 28‬جابر بن حيان ؛ كتاب ميدان العقل ‪ /‬منشور في كتاب مختار رسائل جابر (مصدر سابق) ‪،‬‬
‫ص ‪215‬‬

‫التركيب‪ ,‬فهو جمع أجزاء الشيء أو ربط صفاته وخواصه بعضها ببعض‪ ,‬للوصول الى قوانين عامة‪ ,‬ويكون التركيب "مادياً"‪,‬‬
‫بجمع أجزاء الشيء‪ ,‬لتكون مترابطة ترابطا ً تظهره مؤلفا ً كامالً في الواقع الخارجي‪ ,‬أو "عقلياً"‪ ,‬بربط صفات الشيء أو‬
‫خواصه بعضها ببعض في الذهن‪ ,‬كما في العلوم الرياضية‪ ,‬فهو يتماهى مع "االستقراء" بكونه أداة الحصول على حكم كلّي‪,‬‬
‫بعكس التحليل الذي ينهج الحصول على العالقة بين األجزاء‪ ,‬بما يتماهى مع االستنباط‪.‬‬

‫منهج التركيب فيقوم بتوحيد‪ $‬األجزاء والخصائص والعالقات التي يفصلها التحليل‪ ،‬في كل واحد‪ ،‬انتقاالً من المتوحد‬
‫يكمل‬
‫والجوهري إلى المختلف والمتنوع‪ ،‬فهو‪ $‬يضم العام والفردي‪ ،‬الوحدة والتنوع في كل حي متعين‪ .‬وعليه فالتركيب ّ‬
‫التحليل‪ ،‬وتضمهما‪ $‬معاً وحدة ال يمكن فصمها‪.‬‬

‫تكون األشياء المتعددة ما يطلق عليه اسم الواحد‪ .‬لكن ديكارت‬


‫التركيب فهو‪ $‬عند‪  ‬الفالسفة‪  ‬القدماء مرادف للتأليف‪ ،‬بحيث ّ‬
‫يجعل من التركيب مرادفاً‪ $‬للترتيب فيقول في «مقالة الطريقة» «أن أرتب أفكاري‪ ،‬فأبدأ بأبسط األمور‪ ،‬وأيسرها معرفة‪،‬‬
‫وأتدرج في الصعود‪ $‬شيئاً فشيئاً‪ ،‬حتى أصل إلى معرفة أكثر األمور تركيباً‪ ،‬بل أن أفرض ترتيباً بين األمور التي ال يسبق‬
‫بعضها بعضاً بالطبع‪ ،‬إشارة إلى هذا التركيب العقلي»‪ .‬والتركيب‪ $‬عند هيغل هو جوهر فرضيته في الصراع‪ $‬بين األضداد‪،‬‬
‫الذي يوصل إلى‪ ‬الحقيقة‪ ‬المطلقة من اتحاد األضداد‪ $‬وانسجامها‪.‬‬

‫‪3‬‬

You might also like