Professional Documents
Culture Documents
المفاضلة بين السمع والبصر في القرآن الكريم
المفاضلة بين السمع والبصر في القرآن الكريم
اإلقبال واإلدابر؟
ُ وقال األنباري :هبذا غلط ،وكيف يكو ُن السمع أفضل ،وابلبصر يكو ُن
إبصار َّ
أبن الذي نَفاه هللا -تعاىل -مع السمع مبنزلة الذي نفاهُ عن البصر؛ إذ كأنَّه أراد َ
القلوب ،ومل يرد إبصار العيون ،والذي يبصره القلب هو الذي يعقله؛ ألهنا نزلت يف ٍ
قوم من ْ
ت تُ ْس ِم ُع ُّ
الص َّم ﴾؛ أي :املعرضني ولو كانوا َل يعقلون ،ومنهم من ينظر فأنزَل هللا فيهم ﴿ :أَفَأَنْ َ
َ
البصر هنا؛ فقد أخرب يف قوله -تعاىل ﴿ :-
حجة يف تقدمي السمع على َ إليك بعني ٍ
نقص ،وَل َّ
ال غاية السعادة ِمن مسع كالم هللا ومسع كالم رسوله، احتج ُم ِي
فضلو السمع َّ
أبن به ين ُ و َّ
سمع؛ فإنَّه يقع فيه الغلط والكذب والوهم ،فمدرك ِ َّ
يقبل الغلط ،خبالف ما يُ َ
أن ما يراه البصر َل ُ
لشرفِه عجائب من ِي
حمل السمع؛ وذلك َ َ أن حملَّه أحسن ،وأكمل ،وأعظم
البصر َأَتُّ وأكمل ،كما َّ
وفضله.
حيس األصوات،
ئي ،والسمع َل ،وإ ْن كان ُّ
قال ابن تيميَّة[ :]4البصر َيرى من ُمباشرة املر ِي
فاملقصود األعظم به معرفة الكالم ،وما خيربُ به من العلم.
ُ
أكمل ،قال األكثرون" :فليس املخرب كاملعاين"* .لكن السمع والتحقيق َّ
أن إدراك البصر ُ
أعم وأمشل ،وهااتن
حيصل به من العلم أكثر ممَّا حيصل ابلبصر ،فالبصر أقوى وأكمل ،والسمع ُّ
وبني الفؤاد.
ِ
أهم أدوات اإلدراك اليت يرتتَّب عليها معرفة هللا -تعاىل -كأعلى
-1أهنما أدااتن من ي
أنواع املعرفة وموضوعاَتا[ ،]5وإدراك دَلئل اَلعتقاد َل يكون إَل هبما[.]6
يعرف بل َل
-2أهنما الطريقان الرئيسان بني املعرفة والعقل ،فهما الواسطة ،ودوهنما َل ُ
يدرك اإلنسان شيئًا ،وقد يستغين عن غريمها من احلواس؛ لذا قال -تعاىل َ ﴿ :-وُه َو الَّ ِذي
ص َار َو ْاألَفْئِ َد َة ﴾ [املؤمنون ،]78 :فهذه الثالث هي طرق العلم الرئيسة، أَنْ َشأَ لَ ُك ُم َّ
الس ْم َع َو ْاألَبْ َ
وأدواَتا األذن والعني والقلب.
ِ
-3فقدان احلاستني يُفقد العلم كلَّه؛ ً
كالما ولغة وقراءة ،فال ُقدرة على الكالم وفهم اللغة
حيتاج إىل السمع؛ ليَعِي الدَلَلت الصوتية ،بل قد يتعطَّل حىت عن تدبري حياته العضويَّة ،فهما
ُ
َمدار احلياة احليوانيَّة ،وكمال البشريَّة ،وحتصيل العلوم األوليَّة هبما[.]7
ٍ
خمصوص، توهم بص ٍر
نصا يف العموم؛ َلحتمال ُّ
مجعا ألنَّه اسم ،فليس ًّ ِ
و َّأما األبصار فجيءَ به ً
أدل على قصد العموم ،وأنفى َلحتمال العهد وحنوه[ ،]8خبالف قوله ﴿ :إِ َّن
فكان اجلمع َّ
الزوااي كلِيها.
يدرك ِخالل الضوء والظُّلمة ،ومع ُوجود احلواجز الفاصلة بني السامع وغريه،
-5السمع ُ
إَل أ ْن تكون كامتةً ،على عكس البصر َل يبصر إَل بوجود ٍ
ضوء ينعكس يف العني.
ظ منه املنبه السمعي ويَلِيه البصري ،فكان َّأول احلواس اشتغاَلً كما َّ
أن النائم َّأول ما يستيق ُ
وآخرها قبل النوم ،وتر ُادفهما ُحي ِيق ُق أعلى مستوايت اَلستيعاب والتحصيل.
بعد النومِ ،
َ
اجتم َع يف
كل املواضع اليت َ
أن هذا التقدمي مشل َّ قاعدة أفضليَّة املتق يِدم على الالحقَّ ،
خاصة َّ
السعِ ِري ﴾ [امللكَ ﴿ ،]10 :ونَطْبَ ُع َعلَى قُلُوهبِِ ْم فَ ُه ْم ََل َصح ِ ِ
اب َّ نَ ْس َم ُع أ َْو نَ ْعق ُل َما ُكنَّا ِيف أ ْ َ
يَ ْس َمعُو َن ﴾ [األعراف.]100 :
اقرتن لفظ السميع ابلعليم ،بينما اقرتن البصري ابخلبري -ليجتمعا يف العليم ﴿ :-إِنَّهُ
ََ -2
َكا َن بِعِب ِادهِ خبِريا ب ِ
ص ًريا ﴾ [اإلسراءَّ ،]30 :أما السمع والعلمَ ﴿ :ربَّنَا تَ َقبَّ ْل ِمنَّا إِن َ
َّك أَنْ َ
ت َ َ ًَ
الس ِميع الْعلِيم ﴾ [البقرة ،]127 :يف حوايل " "32آية ،وهذا أكثر من ِ
اقرتان السمع مع البصر َّ ُ َ ُ
يف القرآن؛ فكان السمع أقرب للعلم معىن و َأَتَّ.
-3حاسة السمع دائمة العمل ُدون توقُّفِ ،خبالف البصر فتتوقَّف إبغماض العني ،وإن
َّأما من ز ٍ
اوية معرفيَّة خالصة فاألفضليَّة كانت ألموٍر؛ منها:
ينقل املعارف املاضية واألخبار اآلتيةَّ ،أما البصر فينقل احلاضر املعاين؛ ﴿ أ ََوَملْ
-3السمع ُ
ك َآلاي ٍِ ِِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ت أَفَ َال يَ ْس َمعُو َن * يَ ْهد َهلُْم َك ْم أ َْهلَكْنَا م ْن قَ ْبل ِه ْم م َن الْ ُق ُرون ميَْ ُشو َن ِيف َم َساكن ِه ْم إ َّن ِيف َذل َ َ
ِج بِِه َزْر ًعا ََتْ ُك ُل ِمْنهُ أَنْ َع ُام ُه ْم َوأَنْ ُف ُس ُه ْم أَفَ َال
اجلُُرِز فَنُ ْخر ُ
ض ْ وق الْ َماءَ إِ َىل ْاأل َْر ِ
أ ََوَملْ يََرْوا أ ََّان نَ ُس ُ
يب ِ
ص ُرو َن ﴾ [السجدة.]12[]27 ،26 : ُْ
جيع ُل البصر انقالً للمعارف السابقة وغريها أكثر من ِ غري َّ
أن انتشار الكتابة والقراءة قد َ
مساعا
مساعا بل قراءة ،ومع ذلك فأكثر األخبار واملعلومات تتناقل ً
ؤخذ ًالسمع ،فالتاريخ مل يع ْد يُ َ
بني الناس.
يف النهار والنور ،ويف هذه امليزة قال -تعاىل ﴿ :-قُ ْل أ ََرأَيْتُ ْم إِ ْن َج َع َل َّ
اَّللُ َعلَْي ُك ُم اللَّْي َل َس ْرَم ًدا
مغمض العينني.
َ تستجيب من النائم حاسة السمع ،وإن كان
ُ َّ -6أول حاسة
يفقد النطق؛ لعدم ال ُقدرة على التلقني ،وإدراك املخارج والصفات ،فيفقد
-7فاقد السمع ُ
خاصيَّة املخاطبة.
ورد البصر ُمتق يِد ًما على السمع يف مواضع ،كان الغالب فيها الذم والتعطيل والعقاب؛ ففي
حاَلت املدح واملنَّة -كما سبق -قدم السمعَّ ،أما يف ما عاكسها فقدم البصر ،وهذا َل ينفي
ِ
ؤدي
أهم للحيواانت من السمع؛ ألنه َل يعدو أن يكون وسيلةً حلفظ احلياة ،وَل يُ ي
والبصر ُّ
الكالم فيها عن ِ
تعطيل احلواس؛ لذا ُ ينتج عنه اهلدى ،مث هذه اآلية
كلٌّ منهما الدور املعريف الذي ُ
كان تقدمي البصر.
[هود ،]24 :ف ُق يِدمت حاسة البصر املعطَّلة على حاسة السمع املعطَّلة.
ص ًّما ﴾
ْما َو ُ ِِ ِ ِ
-3ويف موقف تعذيبهمَ ﴿ :وَْحن ُش ُرُه ْم يَ ْوَم الْقيَ َامة َعلَى ُو ُجوهه ْم عُ ْميًا َوبُك ً
حال أكرَم موض ٍع يف الوجه العينان ،و َّ
أشد اإلهانة إبفقاد حاسة البصر َ أن َ[اإلسراء]97 :؛ ذاك َّ
احملاسبة.
-4ويف قوله -تعاىل -عن ندم الكفار ﴿ :أَبصرَان و َِمسعنا فَارِجعنا نَعمل ص ِ
احلًا إِ َّان ْ َ ْ َ َْ ْ َْ ْ َ ْ َ
ُموقِنُو َن ﴾ [السجدة]12 :؛ فاملعاينة ابلبصر أقوى من اخلرب املنقول ،واملشاهدة آ َك ُد حجيَّةً.
ويبقى موضعان يف (األعراف )195/و(املائدة )71 /يدَلن نفس الدَللة ،وهي التعطيل؛
َّإما بفقدان احلاسة أصالً لآلهلة ،كما يف األعراف ،فهي َل تبصر التعبُّد هلا ،وَل عبادها أصالً.
ائد؛ منها:
نستخلص منه فو َ
ُ من تدبُّر مواضع ذكر احلواس يف ال ُقرآن الكرمي
تستحق الشُّكر،
ُّ عربُ عن احلواس على أهنا من نِ َع ِم هللا -تعاىل -اليت
-1ال ُقرآن الكرمي يُ ِي
ِ
والعمل هبا إلدراك الغاية املرجوة هلا لآلخرة ،وتعطيلها عن فهم الغاية من اخللق واَلستجابة ِي
للحق
جيعل صاحبَها يف مقام البهيمة؛ حواسها حلياَتا البيولوجيَّة وبقائها حيَّةً فقط.
ُ
اقرت َن القلب
حدود فاصلة بني احلواس وغريها من وسائل املعرفة ،فلقد َ
وض ْع ٌ
-2مل تُ َ
ص ًارا
وطرق لتحصيل العلم؛ ﴿ َو َج َع ْلنَا َهلُْم مسَْ ًعا َوأَبْ َ
والفؤاد هبا على أهنا كلها وسائل للمعرفة ٌ
ٍ ِ
َوأَفْئ َد ًة ﴾ [األحقاف ،]26 :فلقد كمل ال ُقرآن اإلدراك احلسي إبدراك َ
آخر هو إدراك القلب
والفؤاد[.]13
ُ -3منِحت احلواس ثقةً يف ال ُقرآن الكرمي ينبغي لإلنسان أ ْن يوليها هلا[]14؛ حبيث تكون
ِ ِ
بعض الفلسفات
لت ُ فال ُقرآن مل يُهم ِل احلواس اإلنسانيَّة ،ومل يُش يكك فيها؛ مثلما َ
فع ْ
فع َل التجريبيُّون احلسيُّون.
فوق الوسائل األخرى؛ مثلما َ
العقليَّة ،وكذلك مل يرفَ ِع ال ُقرآن احلواس َ
ِ
احلس يف ٍ
ملشكلة حقيقيَّة ،ذلك َّ
أن معطيات ي يدع جماَلً
فاَلعتدال يف ال ُقرآن حنو احلواس مل ْ
علما ابلصراع
يدرك روعةَ وقيمةَ هذا احلل ال ُقرآين الواضح اليسري ملشكلة احلس إَل َمن أحا َط ً
أج َجه الفالسفة ،من أنصار ومن ُمعانِدي أمهيَّة احلواس على السواء.
الذي َّ
ِ
ابحلس ،فال وكذا اخلرب َل بُ َّد أ ْن يكون يف أصله ً
إخبارا عن قضااي حسيَّة ،وما َل ميكن معرفته
ي
ٍ
وحمسوسة غري صحيح. وجود له ابخلارج ،وتقسيم األمور اخلارجيَّة إىل معقو ٍلة
وجد إَل
يتصور وجوده يف احلس ،هو ما َل يُ َ قال ابن تيميَّةَّ :
"إن املعقول الصرف الذي َل َّ
قسم املعلوم إىل عالَمني :مشهود وغيب ،واملشهود يف عا َمل الشهادة ،كذلك
فال ُقرآن الكرمي َّ
ِ
فالعلم مبطابقة املقدَّر املوجود يف اخلارج ،والعلم ابحلقائق اخلارجيَّة َل بُ َّد له من ي
احلس ُ
التعامل مع املعلومات
الباطن والظاهر ،ورغم القول ابلتمايُز والفصل بني احلواس من حيث ُ
اآلخر يف املعرفة
يستقل عن َ
ُّ وتوظيفها ،فإنَّه من الناحية املعرفيَّة هنالك تكامل؛ َّ
ألن أحدمها َل
وتلقي املعلومات.
حيتاج إىل املعلومات األوليَّة اليت يتلقَّاها عن احلس ،واحلس يكتسبها من الواقع ،وَل
فالعقل ُ
حيمل َل العقل وَل احلواس معلومات قبليَّة ،فاحلواس هي وسائل العقل لالتيِصال اخلارجي ،يقول
رجع اإلنسان إىل نفسه يف مثل :الواحد واَلثنني ،واملستقيم بغ ِري احلس ،فهذا َل َّ
يتصور ،وإذا َ
فأما العلم
واملنحىن ،والواجب واملمكن واملمتنع ،وحنو ذلك ممَّا يفرضه هو ويقدره ...لوجد ذلكَّ ،
مبطابقة ذلك املقدر للموجود يف اخلارج ،والعلم ابحلقائق اخلارجيَّة ،فال بُ َّد فيه من احلس الباطن
اجتم َع احلس مع العقل كاجتماع البصر والعقل أمكن أ ْن يُدرك احلقائق املوجودة
أو الظاهر ،فإذا َ
املعينة ،ويَعقل حكمها العام الذي يندر ُج فيها أمثاهلا َل أضدادها ،ويعلم اجلمع والفرق ،وهذا هو
املراجع:
[ ]2هو عبدالرمحن بن حممد بن عبيدهللا األنصاري ،أبو الربكات كمال الدين األنباري،
من علماء األدب والتاريخ والرجال ،ولد ببغداد 513ه ،وتُ ِي
ويف هبا 577ه ،له "نزهة األلباء يف
ينقل مشافهةً،
وصف املرئيَّات ،فالعلم غالبه قد ُ
َ مساعا ،إذا استثنَ ْينا
* املعاينة قد حتصل ً
لكن فاقد السمع َل ميكنه معرفة اللغة ،وَل فهم الكالم، وفاقد البصر قد يُ يِ
عوضه مسعه يف التلقنيَّ ،
[" ]5نظرية املعرفة بني القرآن والفلسفة"؛ راجح الكردي ،ص .552
[" ]10القرآن وعلم النفس"؛ حممد عثمان خبايت ،دار الشروق :بريوت .ط(،1993 ،)5
ص (.)127-126
[" ]13جتديد التفكري الديين يف اإلسالم"؛ حممد إقبال ،ترمجة :حممود عباس ،دار الرتمجة:
[َ" ]14تمالت حول وسائل اإلدراك يف القرآن الكرمي"؛ حممد الشرقاوي ،ص .12
[" ]15درء تعارض العقل والنقل"؛ ابن تيمية ،ج ،5ص .134
[" ]16تكامل املنهج املعريف عند ابن تيمية"؛ إبراهيم عقيلي ،املعهد العاملي للفكر