You are on page 1of 64

‫موضوع التصوف‬

‫بقلم‬
‫لطف هللا خوجه‬
‫األستاذ المساعد بقسم العقيدة‪ ،‬بجامعة أم‬
‫القرى‬

‫‪1427‬هـ‬

‫ملخص البحث‬
‫بدأ البحث بتمهيد‪ ،‬فيه بيان اختالف الناس يف شأن التصوف‪ ،‬من جهة سالمته‪ ،‬أو احنرافه‪ .‬مع بيان‬
‫أدلة كل طائفة‪ .‬مث شرع يف دراسة كل دليل‪ ،‬ومناقشته‪.‬‬
‫فأوالً ظهر استحالة مجع التصوف بني الفلسفة والسنة‪.‬‬
‫مث تطرق إىل إنكار مجاعة من املتصوفة‪ :‬اشتقاق التصوف من الصوف‪ .‬وأخرى‪ :‬إنكار اختصاصه‬
‫بالزهد‪.‬‬
‫وانتهى إىل البحث يف مصطلح "التخلق"‪ ،‬والذي جعله املتصوفة‪ :‬موضوع التصوف‪ .‬فظهر فيه معىن‬
‫زائد على جمرد ما هو معروف يف الرتاث اإلسالمي‪ ،‬استوجب فحصه‪ ،‬والتدقيق‪.‬‬
‫ليقف بعدها على مصطلح آخر‪ ،‬جعله املتصوفة‪ :‬موضوع التصوف‪ .‬هو‪ :‬الفناء‪ .‬وقد جرى حبث هذا‬
‫املصطلح‪ ،‬وحترير معناه‪ ،‬بدراسة مجلة من التعريفات فيه؛ لتحديد ماهيته‪ ،‬فتوصل إىل‪ :‬أنه يتضمن‬
‫ثالثة معاين رئيسة‪ :‬فناء اإلرادة‪ ،‬وفناء الشهود‪ ،‬وفناء الوجود‪ .‬وكلها مرادة يف التصوف‪ ،‬غري أن‬
‫البحث كشف عن أمهية بعضها على بعض؛ ففناء الوجود كان األبرز‪ ،‬مث الشهود‪ .‬وقد بدت العالقة‬
‫بني "الفناء" و "التخلق" ظاهرة ملموسة يف هذين الفنائني‪ .‬مث بدراستهما خلص إىل أن التصوف‬
‫يتضمن احللول واالحتاد‪ .‬وقد كان هذا داعيا للنظر يف نصوص األئمة‪ ،‬اليت صرحت هبذا املعىن‪،‬‬
‫بألفاظ ال يتطرق إليها شك‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫ الذين فيهم من قد‬،‫ دون أصحاهبا‬،‫ واحلكم عليها‬،‫ وحتليلها‬،‫وقد كانت غاية الدراسة فحص األقوال‬
.‫ينسب إليه ما مل يقله‬
‫ أهنا تدفع احلكم بالكفر عن‬:‫ اليت كان غاية ما فيها‬،‫مث انتقلت الدراسة بعدها إىل مناقشة اعتذاراهتم‬
.‫ فال تنفيها‬،‫ كما أهنا تثبت عليهم مقالة احللول‬.‫ ال عن مقاالهتم ذاهتا‬،‫أصحاب الشطحات‬
:‫ أكدت هذه النتيجة بفقرتني مها‬:‫وبعد أن تبينت ماهية التصوف‬
.‫ ظاهرة اهتام املتصوفة‬-
.‫ وعالقة التصوف بالفلسفة‬-
.‫ويف هناية البحث جرى ذكر احملصلة‬
* * *

Summary of the searching

started the searching in facilitating, in him statement disagreement of the


people in matter the Sufism, as to his safety, or his deviation. With
statement proofs of all faction. Then stated in study all evidence, and his
discussion.
So firstly back impossibility of evident gathering the Sufism the
philosophy and [al-Sunnah].
Then touching on to denial group from [aalmutSawweft]: Derivation of
the Sufism from the wool.
Last: His denial of speciality in the asceticism. The searching in term
ended to [al-takalluq] and who making his [aalmutSawweft]: Subject of
the Sufism. So back in him additional meaning on mere what he favor in
Islamic heritage, his examination required, and the investigation.
To stands after her on last term, making his [aalmutSawweft]: Subject of
the Sufism. He: [al-fanaa]. Searching of this term occurred, and liberation
[ma'naah], in studious altogether from the definitions in him; For his
aquatic specification, so achievement: That he includes three helped head:
[fanaa] of the will, and [fanaa] of the witnesses, and [fanaa] of the
presence. Eats her wanted in the Sufism, nevertheless the searching
detection about importance some her on some; So [fanaa] of the presence
.was produced, then the witnesses
Already [bdt] the relationship between [fanaa] and [al-takalluq] touched
phenomenon in raved [aalfnaay'yn]. Then in their study freed until the
Sufism includes [al-hulol]. and [al-ettehad].
Already was this inviter for the sight in texts of the leaders, which
declared hereby meant, in pronunciations does not raise to her suspected.

2
‫‪Already purpose was studious examination of the statements, and her‬‬
‫‪analysis, and the arbitrator on her, without her friends, who in them from‬‬
‫‪already attributes to him except decreases him.‬‬
‫‪Then the study moved after her to their discussion of apologies, which‬‬
‫‪purpose was what in her: That she the arbitrator in the hamlet about‬‬
‫‪friends enforce payment [aalshTHaat], about their articles her self. Just as‬‬
‫‪that she fixs on them article of [al-hulol], so does not deny her.‬‬
‫‪After that essence of the Sufism appeared: This result in parts of they‬‬
‫‪confirmed:‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪apparent accusation [aalmutSawweft].‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪and relationship of the Sufism in the philosophy.‬‬
‫‪End of the searching fulfilled running of male collected.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬


‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫‪ -‬تمهيد‪:‬‬
‫قبل كل شيء‪ ..‬هذا تفسري العنوان‪" :‬موضوع التصوف"‪.‬‬
‫تكون فكرة ما‪ .‬تدل عليها‪ ،‬وتتعلق هبا‪.‬‬
‫فاملوضوع هو‪ :‬األفكار األساسية اليت ّ‬
‫فالوضع يف االصطالح‪ ،‬كما جاء يف التعريفات للجرجاين‪ ،‬هو‪:‬‬
‫‪" -‬ختصيص شيء بشيء‪ ،‬مىت أطلق أو أحس الشيء األول‪ ،‬فهم منه الشيء الثاين"‪.1‬‬
‫تكون فكرة التصوف‪ .‬وهي اليت مىت أطلقت‬ ‫ويف دراستنا هذه‪ ،‬املوضوع هو‪ :‬األفكار األساسية اليت ّ‬
‫لفظا‪ ،‬أو أحس هبا معىن‪ ،‬فهم منها التصوف‪.‬‬
‫ومقصود هذه الدراسة التوصل إىل هذا املوضوع‪ ،‬وحتديده بدقة‪ ،‬ليتميز به‪ ،‬فال خيتلط بغريه؛ فإن آفة‬
‫املتكلمني يف التص وف‪ ،‬إمهاهلم حتديد موض وعه؛ ول ذا خيلط ون بينه وبني غ ريه‪ ،‬فاليتم يز‪ ،‬وال يت بني‪،‬‬
‫فتارة هو فلسفة‪ ،‬وتارة هو سنة‪ ..‬وتارة معتدل‪ ،‬وتارة ٍ‬
‫غال‪.!!..‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫مث أما بعد‪:‬‬
‫فالدارسون للتصوف على مذهبني‪:‬‬
‫األول‪ :‬مذهب يرى التصوف أجنبيا عن اإلسالم يف‪ :‬أصله‪ ،‬ونشأته‪ ،‬وأفكاره‪.‬‬
‫وعليه‪ :‬فهو فكر منحرف كله‪.‬‬
‫وه ذا رأي من ي رفض التصوف مجلة وتفص يال‪ .‬يقابله من يقبل التص وف بكل ما في ه‪ ،‬وي راه‬
‫إسالميا خالصا‪.‬‬

‫‪ - 1‬ص‪.111‬‬

‫‪3‬‬
‫الثاني‪ :‬مذهب يرى التصوف إسالميا يف‪ :‬أصله‪ ،‬وأفكاره‪ .‬تلبس بالفلسفة الحقا‪.‬‬
‫وعليه‪ :‬فمنه اإلسالمي (= املعتدل‪ ،‬السين)‪ ،‬ومنه الفلسفي (= الغايل‪ ،‬البدعي)‪.‬‬
‫وهذا رأي طائفتني‪:‬‬
‫‪ -‬األوىل من املتصوفة‪.‬‬
‫‪ -‬والثانية من غري املتصوفة‪.‬‬
‫ويف مقابل الطائفة الرافضة‪ :‬طائفة من املتصوفة‪ ،‬ترى كل ما يف التصوف حسنا‪ ،‬وتقول‪:‬‬
‫‪" -‬الطرق إىل اهلل عدد أنفاس اخلالئق"‪.1‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫من ذلك يتبني‪ :‬أن املتصوفة‪ ،‬وكذا غري املتصوفة‪ ،‬منقسمون حيال التصوف نفسه‪..‬؟!‪.‬‬
‫‪ -‬فمن املتصوفة من يقر بوجود فكر منحرف عن اإلسالم‪ ،‬يف املذهب الصويف‪ ،‬لكنه يتربأ‬
‫منه‪ ،‬ويقول‪ :‬إنه دخيل‪ ،‬طرأ الحقا‪ ،‬فتلبس بالتصوف‪ .‬ويعلن متسكه بالكتاب والسنة‪.‬‬
‫وآخرون منهم ال يقرون بشيء من ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬ومن غري املتصوفة من يعتقد أن يف التصوف جانبا معتدال‪ ،‬سنيا‪ ،‬إسالميا‪ ،‬جيب أن يعتىن‬
‫وينمى‪ .‬وآخرون يرفضون هذا الرأي‪ ،‬ويعتقدون بطالنه‪.‬‬ ‫به‪ّ ،‬‬
‫فطائفتان متفقتان يف القول والرأي‪ ،‬خمتلفتان يف املنهج‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫وطائفتان خمتلفتان يف القول والرأي‪ ،‬وكذا املنهج‪.‬‬
‫وحمل النزاع بني الفريقني ( من يقبل التصوف من املتصوفة وغريهم‪ ،‬ومن يرفضه)‪:‬‬
‫أن أحدمها‪:‬‬
‫‪ -1‬يعتقد إمكانية اجلمع بني الفلسفة والسنة يف حتقيق التصوف‪.‬‬
‫‪ -2‬يرجح نسبة التصوف إىل الصوف‪ ،‬واشتقاقه منه‪.‬‬
‫‪ -3‬يفسر التصوف بالزهد‪ ،‬مفرتضا عالقة الزمة بني الصوف والزهد‪.‬‬
‫‪ -4‬جيعل موضوع التصوف هو‪ :‬اخللق‪.‬‬
‫‪ -5‬يؤكد سالمة طريقة الصوفية‪ ،‬ويدلل على موافقتها للشريعة‪ ،‬مبا ورد عن األئمة املتصوفة من‬
‫كلمات‪ ،‬توجب التقيد بالكتاب والسنة‪.‬‬
‫أما اآلخر فإنه‪:‬‬
‫‪ -1‬يعتقد استحالة اجتماع النقيضني‪ :‬الفلسفة‪ ،‬والسنة‪.‬‬

‫‪ - 1‬الفتوحات املكية‪ ،‬ابن عريب‪.2/317،‬‬


‫‪ - 2‬ينظر يف هذا‪ :‬الكتب اليت عنيت بعرض ونقد التصوف مثل‪ :‬التصوف يف اإلسالم‪ ،‬التصوف املنشأ واملصادر‪ ،‬التصوف‬
‫بني احلق واخللق‪ ،‬مدخل إىل التصوف اإلسالمي‪ ،‬ابن تيمية والتصوف‪ ،‬نشأة الفكر الفلسفي‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫‪ -2‬مينع اشتقاق التصوف من الصوف‪.‬‬
‫‪ -3‬يطلب الدليل الصحيح إلثبات عالقة الزمة بني الصوف والزهد‪.‬‬
‫‪ -4‬يتساءل عن حدود هذا "اخللق" الصويف‪ ،‬وماهيته‪ ،‬وما يعىن به؟‪.‬‬
‫‪ -5‬يستفهم عن وجه التشابه يف األفكار بني متصوفة املسلمني واملتصوفة القدماء ؟!‪.‬‬
‫‪ -6‬يطلب تفسريا لظاهرة االهتامات‪ ،‬اليت طالت كثريا من أئمة التصوف‪.‬‬
‫وهذا موضع الفحص والتحرير‪ ،‬مث النتيجة واحلكم‪.!..‬‬
‫فمن ثبت دليله ثبت قوله‪ ،‬وإال فال‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫أوال‪ :‬هل يجتمع النقيضان ؟‪.‬‬
‫قضية التصوف من املعارك‪ ،‬حىت بني املعارضني؛ ذلك أن‪:‬‬
‫معتدل‪ ،‬وفلسفي ٍ‬
‫غال‪.‬‬ ‫‪ -‬منهم من جيعله على قسمني‪ :‬سين ٍ‬
‫‪ -‬ومنهم من ينكر هذه القسمة‪ ،‬وال يرى التصوف إال وجها واحدا‪ ،‬فلسفيا غاليا‪.‬‬
‫ولو تأملنا يف حقيقة اخلالف لوجدنا‪ :‬منـزع هذا غري هذا‪.‬‬
‫ف الفريق األول قد جعل التص وف على قس مني‪ ،‬نظ را منه إىل (األش خاص)‪ ،‬فمنهم املعت دل‪ ،‬ومنهم‬
‫الفيلس وف الغ ايل‪ ،‬وهو ك ذلك‪ ،‬وأما الفريق الث اين فقد ذهب إىل إنك ار القس مة نظ را منه إىل‬
‫(الفكرة)‪.‬‬
‫ويف هذه احلال كال الفريقني مصيب‪ ،‬الختالف حمل النزاع‪ ،‬أما لو احتد حمل النزاع فال‪:‬‬
‫‪ -‬فلو كان احلكم مبنيا على أساس النظر إىل ( األشخاص )‪ ،‬فال يصح القول بأن التصوف وجه‬
‫واحد‪ ،‬ال قسمة فيه؛ ذلك أن الواقع يقرر وجود األشخاص املعتدلني والغالني‪ ..‬السنيني‪ ،‬والفلسفيني‪،‬‬
‫فاألشخاص متفاوتون يف التحقق بالفكرة‪.‬‬
‫يقول نيكلسون‪ " :‬يقال إمجاال‪ :‬إن كثريين منهم كانوا من خيار املسلمني‪ ،‬وإن كثريين منهم مل‬
‫يكونوا مسلمني إطالقا‪ ،‬ولعلها أن تكون أكرب الثالثة مسلمة تقليدا"‪.2‬‬
‫‪ -‬ولو كان احلكم مبنيا على أساس النظر إىل ( الفكرة )‪ ،‬فال يصح القول بأن التصوف يف (ذاته)‬
‫معتدل‪ٍ ،‬‬
‫وغال؛ فإنه من املستحيل أن تنقسم الفكرة ( يف ذاهتا) إىل‪ :‬معتدلة‪ ،‬وغالية‪..‬‬ ‫على قسمني‪ٍ :‬‬
‫سنية‪ ،‬وفلسفية؛ فال يتصور أن جتمع الفكرة الواحدة بني نقيضني‪ ،‬كما ال ميكن اتساع املكان الواحد‬
‫لنقيضني‪:‬‬

‫‪ - 1‬النقيضان‪ :‬ال جيتمعان‪ ،‬وال يرتفعان‪ ،‬كالعدم والوجود‪ .‬انظر‪ :‬التعريف للجرجاين ص‪.59‬‬
‫تنبيه‪ :‬البحث يف هذه الفقرة ليس يف أدلة الفريقني‪ ،‬فقد مضى ذكرها‪ ،‬إمنا املقصود فحص دعوى من يرى جواز اجلمع بني‬
‫فكرتني متناقضتني‪ :‬هل ميكن ذلك‪ ،‬أم ال؟‪.‬‬
‫‪ - 2‬الصوفية يف اإلسالم‪ ،‬نيكلسون‪ ،‬ص‪.33‬‬

‫‪5‬‬
‫‪ -‬فإذا جاء الليل ذهب النهار‪ ،‬وإذا جاء النهار ذهب الليل‪.‬‬
‫‪ -‬وإذا آمن املرء انتفى الكفر‪ ،‬وإذا كفر انتفى اإلميان‪.‬‬
‫ومن احملال اجتماعهما يف مكان واحد‪.‬‬
‫نعم قد تكون الفكرة على درجات‪ ،‬قوة وضعفا‪ ،‬لكن كل ذلك له حد معلوم‪ ،‬إذا خرج عنه‪ ،‬انتفى‬
‫االنتساب إىل الفكرة‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫إن األمر املشهور املعروف‪ :‬أن التصوف فكرة‪ ،‬هلا قواعد وأصول معروفة‪ ،‬من حتقق هبا فهو متصوف‬
‫حقيق ة‪ ،‬ومن مل يتحقق هبا‪ ،‬وك ان ممتثال لبعض فروعه ا‪ ،‬فنس بته إىل التص وف من ب اب التج وز يف‬
‫اإلطالق‪ ،‬وال يأخذ حكم الصويف احلقيقي اخلالص ( وهذا حال أكثر املنتسبني إىل التصوف )‪ .‬وهذا‬
‫التقرير ال خيتص بالتصوف‪ ،‬بل كل امللل واملذاهب‪.‬‬
‫فاألشخاص متفاوتون يف التحقق بالفكرة‪ ،‬فما مثلهم ومثل التصوف إال كنقطة حوهلا دوائر‪ ،‬فالنقطة‬
‫هي الفكرة‪ ،‬ومن كان على الدائرة القريبة كان أكثر قربا من الفكرة‪ ،‬فما يزال يدور حول النقطة‬
‫حىت يتماهى فيها‪ ،‬فيتحقق هبا‪ ،‬وحينذاك يكون صوفيا خالصا‪ ،‬وكلما ابتعدت الدائرة عن النقطة‪،‬‬
‫كلما كان من عليها أبعد عن التحقق‪ ،‬حىت نصل إىل أفراد ليس هلم من التصوف إال رسوم ظاهرة‪،‬‬
‫ال تسمى يف حقيقة األمر تصوفا‪ ،‬وال يسمون متصوفة‪ ،‬إال من باب التجوز‪.‬‬
‫فإذا تقرر أن التصوف فكرة واحدة‪ ،‬بأصوهلا وقواعدها‪ ،‬واملتصوفة يقرون هبذا‪ ،‬فيبطل حينئذ أن‬
‫جتمع بني السنة والفلسفة‪ ،‬فهي إما أن تكون سنية أو فلسفية؛ أما أن تكون كلتيهما فذلك باطل؛‬
‫ألنه حمال‪ ،‬ملا تقدم‪ ،‬فالسنة تناقض الفلسفة أصال‪ ،‬فهما دينان خمتلفان‪ ،‬السنة دين الرسول صلى اهلل‬
‫‪1‬‬
‫عليه وسلم‪ ،‬والفلسفة دين الوثنني عباد األصنام‪ ،‬من حكماء اهلند‪ ،‬والفرس‪ ،‬واليونان‪.‬‬
‫نعم‪ ..‬من أئمة التصوف أمة متقيدة بالكتاب والسنة‪ ،‬صاحلون‪ ،‬أبرار‪ ..‬هذا ال شك فيه‪ .‬ومنهم من‬
‫دون ذلك‪ ،‬ومنهم من ليس من اإلسالم يف شيء‪ .‬ففيهم كل األصناف‪.‬‬
‫وعليه فال يصح تص حيح التص وف‪ ،‬أو إبطاله ب النظر إىل ه ؤالء األئم ة؛ ف إذا احتج املناصر بالص احل‬
‫منهم على حسن التص وف‪ :‬احتج عليه املع ارض بالزن ديق منهم واملبت دع على س وء التص وف‪ .‬فتبقى‬
‫املسألة عالقة‪ ،‬وأكثر النزاع من هذه احليثية؛ فإن من الذين صححوا التصوف بنوا قوهلم نظرا منهم‬
‫إىل املنتسبني إىل التصوف‪ ،‬وما جاء من الثناء عليهم‪ ،‬لكنهم مل ينظروا من جهة الفكرة نفسها‪ ،‬وهذا‬
‫خطأ‪ ..‬ومثله كمن صحح النصرانية؛ ألن فيهم قسيسني ورهبانا‪ ،‬وأهنم ال يستكربون‪.!!.. 2‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬ما للهند من مقولة مقبولة يف العقل أو مرذولة‪ ،‬للبريوين ص‪.27‬‬


‫‪ - 2‬مثة فئة تنحو إىل تصحيح الدين النصراين‪ ،‬وتستدل عليه مبثل قوله تعاىل‪{ :‬ولتجدن أقرهبم مودة للذين آمنوا الذين قالوا‬
‫إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسني ورهبانا وأهنم ال يستكربون} [املائدة ‪ ،]82‬وهذا باطل‪.!!..‬‬

‫‪6‬‬
‫والص واب‪ :‬أن يف رق بني الفك رة واملنتس بني إليه ا‪ .‬فليست كل أفع ال املتص وفة ص ادرة عن الفك رة‬
‫الص وفية‪ ،‬بل فيها ما هو ص ادر عن اتب اع وتس نن‪ ،‬فه ذا ينسب إىل اإلس الم‪ .‬وفيها ما هو ص ادر عن‬
‫فك رة ص وفية‪ ،‬معروفة من ق دمي‪ ،‬يف الثقاف ات القدمية‪ ،‬فه ذا ينسب إىل الص وفية‪ ..3‬أما نس بة كل ما‬
‫يصدر عن األئمة إىل التصوف‪ ،‬فمثل نسبة كل ما يصدر عن املسلمني إىل اإلسالم ‪.!!..‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫فإن قيل‪ :‬فأين ( األضداد ) ؟‪.‬‬
‫أليست هي كلمات عربية حتمل معاين متضادة‪ ،‬فلم ال يكون (التصوف) منها؟‪.‬‬
‫قيل‪ :‬أوال‪ :‬كلمة "صوفية" ليست من األضداد‪.‬‬
‫مث إن كالمنا يف املصطلحات‪ ،‬ال يف جمرد كلمات عربية‪.‬‬
‫فاملصطلحات كلمات مستعملة أصال‪ ،‬قبل التواضع على اصطالحها‪ ،‬مث إهنا استعملت مصطلحا‬
‫للداللة على مذهب أو فكرة أو حنو ذلك‪ ..‬فصارت دليال وعالمة على هذا املذهب أو تلك الفكرة‪،‬‬
‫لتمييزها عن غريها‪ ،‬ويف عادة املصطلحني أهنم ما وضعوا مصطلحاهتم إال ملنع تداخل غريه هبا‪،‬‬
‫وخباصة نقيضها‪ ،‬فال يعقل إذن‪ ،‬بعد االحتياط الشديد منهم على التميز‪ ،‬أن يضمنوها ما يضادها؛‬
‫ألن معناه حينئذ انتفاء التميز‪ ،‬وإذا انتفى التميز مل يعد للمصطلح أية فائدة يف وضعه‪.!!..‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫فإذا قيل‪ :‬سلمنا أن الفكرة ال تنقسم‪ ،‬لكن أال تفرق بني ما هو أصل‪ ،‬وما هو طارئ ؟!‪.‬‬
‫‪ -‬فهذا "التشيع" يف أصله حممود؛ كونه يف معىن مناصرة آل البيت‪ .‬لكن ملا احنرف هذا املعىن‪ :‬ذم‪.‬‬
‫‪ -‬وهذا "العقل" يف أصله حممود‪ ،‬لكن ملا صار حكما على الشريعة‪ :‬ذم‪.‬‬

‫ألن هؤالء الرهبان والقسيسني‪:‬‬


‫‪ 0-‬إما أن يكون باقني على نصرانيتهم‪ ،‬فاآلية حينئذ ال تتعرض هلم‪.‬‬
‫‪ ㄱ-‬أو مؤمنني متبعني للنيب حممد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فاآلية حينئذ تشري إليهم‪ ،‬وتتمة اآلية تدل على ذلك‪{ :‬وإذا مسعوا‬
‫ما أنزل إىل الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من احلق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين‪ }..‬إىل آخر‬
‫اآلية‪.‬‬
‫ففي كال احلالتني االستدالل باآلية على تصحيح النصرانية باطل‪ ،‬فاآلية حتسن سبيل من ترك النصرانية إىل اإلسالم‪.‬‬
‫فمعىن الكالم‪ :‬أن من صحح التصوف بالنظر إىل أن فيه صاحلني‪ ،‬زاهدين‪ ،‬مثله كمثل من صحح النصرانية‪ ،‬ألن فيه قسيسني‬
‫ورهبانا‪ .‬ناسيا أن صالح هؤالء كان باتباعهم النيب‪ ،‬ليس ألهنم نصارى‪ .‬كذلك صالح األئمة من املتصوفة‪ ،‬ألهنم متبعون‪،‬‬
‫ليس ألهنم متصوفة‪.‬‬
‫‪ - 3‬هذا هو طريق معرفة أصول ومصادر الفكرة الصوفية‪ :‬النظر والبحث يف األفكار الصوفية‪ ،‬يف الثقافات القدمية‪ .‬فبينها‬
‫مشرتكات رئيسة‪ ،‬يثبت أن اخلط واحد‪ ،‬واهلدف واحد‪ .‬وقد دخلت هذه األفكار إىل البيئة اإلسالمية‪ ،‬وتقلدها طائفة من‬
‫املسلمني‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫فلم ال جتعل التصوف من هذا القبيل‪ :‬يف أصله حممودا؛ لداللته على معىن اإلحسان والعبادة‪ ،‬لكن ملا‬
‫احنرف بدخول الفلسفة عليه‪ :‬ذم‪ .‬فاملذموم منه طارئ عليه ؟‪.‬‬
‫فاجلواب أن يقال‪ :‬هذا االعرتاض يتضمن أمرين‪ ،‬مها‪:‬‬
‫‪ -‬األول‪ :‬تقسيم الفكرة إىل‪ :‬أصل‪ ،‬وطارئ‪.‬‬
‫‪ -‬الثاين‪ :‬جعل أصل فكرة التصوف‪ :‬حممودا‪.‬‬
‫‪ -‬فأما األول‪ :‬فممكن غري ممتنع أن يكون مصطلح "التصوف" موضوعا ملعىن معني‪ ،‬مث طرأ عليه ما‬
‫يضاد ويناقض املعىن املوضوع‪ ،‬فاستعمل بعدئذ يف املعنيني‪ :‬يف األول حقيقة‪ ،‬ويف الثاين جتوزا‪.‬‬
‫لكن هذا ال يلغي التقرير اآلنف املتضمن‪ :‬امتناع وجود فكرة حتمل معنيني متناقضني؛ ألن االمتناع‬
‫من جهة األصل‪ ،‬وأما اإلمكان فمن جهة الطروء‪ ،‬وشتان ما بينهما‪.‬‬
‫فكالمنا يف األصل‪ ،‬وقد تقدم التنبيه على هذا بالقول‪ ( :‬يف ذاهتا )؛ واملعىن‪ :‬يف أصل ما وضعت له‪.‬‬
‫واملعترب األصل‪ ،‬فاحلكم يتبعه محدا أو ذما‪ ،‬وأما الطارئ فهو دخيل‪ ،‬وال حكم له‪ ،‬واستعماله يف املعىن‬
‫األصل خطأ مردود‪ .‬مثل استعمال مصطلحات‪ :‬الدميقراطية‪ ،‬أو االشرتاكية‪ ،‬أو الليربالية‪ .‬للداللة على‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫‪ -‬وأما الثاني‪ :‬فافرتاض أن أصل مصطلح "التصوف" حممود‪..‬‬
‫هكذا ابتداء‪ ،‬فتلك دعوى ال تقوم إال بربهان‪.!!..‬‬
‫فإن للمعرتض أن يعكس فيقرر أنه مذموم‪ ،‬فيطالب هو أيضا بالربهان ؟‪.‬‬
‫فرجع حتصيل احلقيقة إىل الربهان يف كل حال‪.‬‬
‫وما دام أنه تقرر‪ :‬امتناع مجع الفكرة بني النقيضني‪ ،‬من جهة أصلها‪ .‬فإن املهمة التالية هي‪ :‬التحقيق‬
‫يف هذه املسألة‪ ،‬بتحديد أصل التصوف‪ ..‬ما هو ؟‪.‬‬
‫أهو سين حممود‪ ،‬أم فلسفي مذموم ؟‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ثانيا‪ :‬البحث في نسبة التصوف‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫يبين كثري من املتصوفة واملتعاطفني معهم‪ :‬تزكيتهم للتصوف‪ .‬على أنه‪ :‬مشتق من الصوف‪ .‬ذلك‬
‫اللباس املستحصل من جلود األغنام‪.‬‬
‫فإذا كان مشتقا من الصوف‪ ،‬فما معىن ذلك ؟‪ .‬وإىل أي شيء يرمي هذا التقرير؟‪.‬‬
‫ال ذي ي رمي إلي ه‪ :‬أن التص وف ميثل اجلانب الزه دي التقش في يف اإلس الم؛ ك ون اللب اس اخلشن ي دل‬
‫على العيش اخلشن‪ ،‬وال يعيش باخلشونة إال الزاهد يف متاع الدنيا‪.‬‬
‫فصورة هذا التقرير كما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬املقدمة األوىل‪ :‬املتصوفة يلبسون الصوف‪( .‬يقال‪ :‬تصوف‪ .‬إذا لبس الصوف)‪.‬‬
‫‪ -‬املقدمة الثانية‪ :‬الذين يلبسون الصوف زاهدون يف الدنيا‪( .‬حبكم الواقع)‪.‬‬
‫‪ -‬النتيجة‪ :‬املتصوفة زاهدون يف الدنيا‪.‬‬
‫فهذه النتيجة بنيت على املقدمتني‪ ،‬مما يعين أن إبطال أي منهما‪ :‬إبطال للنتيجة نفسها‪.‬‬
‫وميكن تصوير التقرير من جهة الفكرة نفسها – والسابقة من جهة األشخاص ‪ -‬فيقال‪:‬‬
‫‪ -‬األوىل‪ :‬التصوف لبس الصوف‪.‬‬
‫‪ -‬الثانية‪ :‬لبس الصوف هو الزهد‪.‬‬
‫‪ -‬النتيجة‪ :‬التصوف هو الزهد‪.‬‬
‫ويف ثبوت املقدمتني‪ :‬ثبوت النتيجة نفسها‪.‬‬
‫وهذا حمل البحث‪:‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫مناقشة المقدمة األولى‪ :‬التصوف لبس الصوف‪.‬‬
‫املطلوب التحقق من املقدمة األوىل‪.‬‬
‫والسؤال موجه إىل املتصوفة‪ ،‬لبيان كيف حتصلوا عليها؟‪.‬‬
‫وجواهبم‪ :‬أنه يف اللغة يقال‪ :‬تصوف‪ .‬إذا لبس الصوف‪.‬‬
‫ويف الواقع‪ :‬املتصوفة اشتهروا بلبس الصوف‪.‬‬
‫فهذا دليلهم‪ :‬االشتقاق اللغوي‪ ،‬وحال املتصوفة‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫‪ -1‬الصوفية واالشتقاق اللغوي‪.‬‬
‫فأما عن اللغة‪ ،‬فإنه يصح إطالق وصف "الصويف" ملن لبس الصوف‪ ،‬لكن هذا ليس حمل خالف‪ ،‬إمنا‬
‫اخلالف يف هذا اللقب الذي أطلق على املتصوفة "صوفية"‪ ،‬فإنه وإن ذهب مجع من املتصوفة وغريهم‪،‬‬

‫‪9‬‬
‫إىل اش تقاق التص وف من الص وف‪ ،1‬ف إن بعض املتص وفة ص رح مبنع أن يك ون له اش تقاق لغ وي‪،‬‬
‫وجعلوه لقبا حمضا‪ ،‬وهبذا قال القشريي واهلجويري‪:‬‬
‫‪ -1‬ق ال القش ريي‪" :‬وليس يش هد هلذا االسم من حيث العربي ة‪ ،‬قي اس وال اش تقاق‪ ،‬واألظهر فيه‬
‫‪2‬‬
‫أنه كاللقب"‪.‬‬
‫‪ -2‬ق ال اهلج ويري‪" :‬واش تقاق ه ذا االسم ال يصح على مقتضى اللغ ة‪ ،‬من أي مع ىن؛ ألن ه ذا‬
‫االسم أعظم من أن يك ون له جنس يش تق من ه‪ ،‬وهم يش تقون الش يء من ش يء جمانس ل ه‪،‬‬
‫وكل ما هو ك ائن ضد الص فاء‪ ،‬وال يش تق الش يء من ض ده‪ ،‬وه ذا املعىن أظهر من الش مس‬
‫عند أهله‪ ،‬وال حيتاج إىل العبارة"‪.3‬‬
‫وقيمة كالمهما تأيت من جهتني‪:‬‬
‫‪ -‬اجلهة األوىل‪ :‬كوهنما أئمة كب ارا يف التص وف‪ ،‬األول يف التص وف الع ريب‪ ،‬والث اين يف التص وف‬
‫الفارسي‪ ،‬وكتابامها من املصادر الرئيسة‪ ،‬املتقدمة‪ ،‬املعروفة يف التصوف‪ ،‬خصوصا "الرسالة"‪.‬‬
‫‪ -‬اجلهة الثانية‪ :‬أنه مل يعرتض أحد من املتصوفة بإنكار على هذا التقرير‪ ،‬ال من املعاصرين هلما‪ ،‬وال‬
‫من الالحقني‪ .‬أفال ي دل ه ذا على إق رارهم وتس ليمهم هبذا التقري ر؟‪ ،‬ويف أقل األح وال على‬
‫انقطاع حجتهم‪ ،‬وخلوهم من أدلة يعارضون هبا ؟‪.‬‬
‫نعم يصح أن يقال ملن لبس الصوف‪ :‬تصوف‪ .‬وأن يوصف بأنه صويف‪.‬‬
‫لكن ما نفعل بإنكار هؤالء األئمة‪ ،4‬هلذا االشتقاق‪ ،‬وهم الذين هلم املكانة يف التصوف؟‪.‬‬
‫مير دون حتليل وفهم ملغزاه‪ ،‬وما يشري إليه‪:‬‬‫مثل هذا املوقف ال ينبغي أن ّ‬
‫فالقشيري جيعله لقبا‪ ،‬ويرجح هذه النتيجة‪ ،‬ومبا أن الكلمة ليس هلا أصل عريب‪ ،‬فليست مشتقة من‬
‫كلمة أخرى‪ :‬فهذا يطرح احتمال أال تكون الكلمة عربية أصال‪..‬؟!!‪.‬‬
‫وهذا وارد‪ ،‬فالكلمات األعجمية‪ ،‬غري العربية‪ ،‬غري مشتقة‪ ،‬وليس هلا أصل يف العربية‪.‬‬
‫نعم توجد كلم ات عربية غري مش تقة‪ ،‬مثل لفظ اجلاللة "اهلل"‪ ،‬كما هو يف بعض األق وال‪ ،‬وإن ك ان‬
‫ض عيفا‪ ،‬وليس ه ذا موضع الش اهد‪ ،‬إمنا موض عه‪ :‬أن احتم ال أعجمية كلمة م ا‪ ،‬كوهنا غري مش تقة‪،‬‬
‫احتمال وارد‪ .‬وهذا هو املطلوب‪.‬‬

‫‪ - 1‬املقصود هنا‪ :‬بيان أن القول باالشتقاق ليس جممعا عليه بينهم‪ .‬فأما األقوال القائلة باالشتقاق فليس هذا حملها‪.‬‬
‫‪ - 2‬الرسالة القشريية‪ ،‬القشريي‪.551-2/550 ،‬‬
‫‪ - 3‬كشف احملجوب‪ ،‬اهلجويري‪.1/230 ،‬‬
‫‪ - 4‬يقول اهلل تعاىل‪{ :‬وجعلناهم أئمة يدعون إىل النار} [القصص‪ ،]41‬يف هذه اآلية دليل على جواز إطالق وصف أئمة‬
‫من غري قيد‪ ،‬حىت يف حال الذم‪ ،‬فإطالقه سائغ يف اجلهتني إذن‪ :‬املدح‪ ،‬والذم‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫مث األلق اب ال يش رتط فيها أن تك ون عربي ة‪ ،‬وال يش رتط يف اللقب أن يك ون بلغة حامل ه‪ ،‬وه ذا‬
‫معروف‪ .‬فوجهان إذن قد يرجحان كون الكلمة غري عربية مها‪:‬‬
‫‪ -‬أوال‪ :‬اللقب ال يشرتط فيه كونه عربيا‪.‬‬
‫‪ -‬ثانيا‪ :‬الكلمة غري مشتقة‪ ،‬والكلمات األعجمية غري مشتقة من أصل عريب‪.‬‬
‫والهجويري يرفض اشتقاق الكلمة‪ ،‬ويظهر صرامة وحسما أكثر مما أبداه القشريي‪ ،‬الذي استعمل‬
‫عبارات‪ ،‬فيها شيء من االعتبار لقول من قال باالشتقاق‪ ،‬يف قوله‪" :‬واألظهر فيه أنه‪ ،"..‬وهذا ما مل‬
‫يفعله اهلج ويري‪ ،‬ال ذي ق ال‪" :‬واش تقاق ه ذا االسم اليصح على مقتضى اللغ ة"‪ ..‬فهل ك ان للجنس‬
‫الذي ينتمي إليه أثر ؟‪.‬‬
‫فاهلجويري فارسي‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إن الثقافة الفارسية مصدر رئيس من مصادر التصوف‪.‬‬
‫فقد تكون رغبة هذا الفارسي الصويف يف احلفاظ على تراث بلده‪ ،‬وتعاليمه القدمية‪ :‬محلته على رفض‬
‫أن يسلبهم العرب لقبا وفكرا‪ ،‬هو ألصق بأمة الفرس منه بأمة العرب‪ ،‬وهو سابق عند الفرس‪ ،‬والحق‬
‫عند الع رب‪ ،‬فيس تأثروا ب ه‪ ،‬وخيتص وا به لقبا وامسا‪ .‬خصوصا إذا عرفنا أن كث ريا من الف رس ك انوا‬
‫يتفاخرون بفارسيتهم على العرب‪ ،‬وبأفكارهم كذلك‪.‬‬
‫وه ذا االحتم ال وارد‪ ،‬وال جيزم ب ه؛ ك ون دليله حمتمال غري قطعي‪ ،‬لكن قد يس تفاد منه حملاولة فهم‬
‫موقفه احلاسم‪ .‬ويبقى تأكيده‪ ،‬أو نفيه‪ ،‬وليس هذا حمله‪ ،‬وال من صلب البحث‪ ،‬إمنا املقصود اإلشارة‬
‫إىل احتمال وارد‪.‬‬
‫وقبل أن يفوت املقام‪ ،‬نذكر أنه كتب كتابه هذا بالفارسية‪ ،‬وذكر فيه كل ما ذكر يف الكتب العربية‬
‫عن التص وف‪ ،‬من البحث يف نس بة الكلم ة‪ ،‬وما قيل فيها من األق وال‪ ،‬وقد س اقها كله ا‪ ،‬والكالم يف‬
‫اشتقاقها من الصوف‪ ،‬والصفة‪ ،‬والصفاء‪ ..‬إخل‪.‬‬
‫من كالم هذين اإلمامني‪ ،‬ميكن اخلروج باحتمال يؤيده‪ ،‬أو يرفضه ما يأيت من مباحث‪ ،‬هو‪:‬‬
‫‪ -‬أن الكلمة أعجمية‪ ،‬واللقب أعجمي‪ ،‬ليس بعريب‪ ،‬ولو كانت صورته عربية‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫‪ -2‬الصوفية ولباس الصوف‪.‬‬
‫من جهة حال املتصوفة‪ ،‬فإن القول بأن التسمية جاءت من اشتهارهم بلبس الصوف‪ ،‬واختصاصهم‬
‫به‪ :‬يرده شهادات أئمة التصوف‪.‬‬
‫فهذا القشريي يقرر بصراحة‪ ،‬من غري تأويل‪ :‬أن الصوف ليس لباس الصوفية‪ .‬فيقول‪:‬‬
‫‪" -‬القوم مل خيتصوا بلبس الصوف"‪.1‬‬
‫وعدم االختصاص يعين انتفاء النسبة ما بني التصوف والصوف‪ ..‬وهذه شهادة مهمة‪:‬‬

‫‪ - 1‬الرسالة القشريية‪ ،‬القشريي‪.551-2/550 ،‬‬

‫‪11‬‬
‫‪ -‬كوهنا صادرة من إمام متفق عليه‪.‬‬
‫‪ -‬كونه مل ي رد أحد كالمه ه ذا‪ ،‬ومل يعارضه أح د‪ ،‬ال من معاص ريه‪ ،‬وال من أتى بع ده‪ ،‬فهل يعقل‬
‫أن يك ذب يف ش هادته‪ ،‬أو خيطئ‪ ،‬مث يس كت عنه مجيعهم‪ ،‬من أوهلم إىل آخ رهم‪ ،‬مع ظه ور‬
‫املسألة‪ ،‬وعدم خفائها ؟‍‪.‬‬
‫‪ -‬ك ون القش ريي ع اش يف الق رن الرابع واخلامس (‪465-376‬هـ)‪ ،‬وه ذه الف رتة متقدمة يف‬
‫التص وف‪ ،‬وبينه وبني بداياته ح وايل الق رن والنص ف‪ ،‬فه ذه املرحلة من املراحل األوىل‪ ،‬اليت تلت‬
‫مرحلة التأس يس‪ ،‬وفيها اكتمل البن اء‪ ..‬يف ه ذه الف رتة خيرج القش ريي لينفي العالقة بني املتص وفة‬
‫ولبس الص وف‪ ..‬فهو ع ارف بعص ره‪ ،‬وم درك للف رتة اليت س بقت‪ ،‬لقربه منه ا‪ ،‬وه ذه ش هادته‬
‫القريبة غري البعيدة‪.‬‬
‫فكل هذه الدالئل تبطل اختصاص املتصوفة بلبس الصوف‪ ،‬كما قال القشريي‪.‬‬
‫حىت ابن تيمية‪ ،‬وهو من أكثر الناس فهما وعلما بتاريخ التصوف‪ ،‬وعلومها‪ ،‬ورجاهلا‪ ،‬وممن ذهب إىل‬
‫ترجيح القول باشتقاق التصوف من الصوف‪ ،‬فإنه يقول‪:‬‬
‫‪" -‬وهؤالء نسبوا إىل اللبسة الظاهرة‪ ،‬وهي لباس الصوف‪ .‬فقيل يف أحدهم‪ :‬صويف‪.‬‬
‫‪ -‬وليس طريقهم مقيدا بلبس الصوف‪.‬‬
‫‪ -‬وال هم أوجبوا ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬وال علقوا األمر به‪.‬‬
‫‪ -‬لكن أضيفوا إليه؛ لكونه ظاهر احلال"‪.1‬‬
‫وقوله‪" :‬لكونه ظاهر احلال"‪ .‬حيتمل أمرين‪:‬‬
‫‪ -‬األول‪ :‬أن ظاهر حاهلم لبس الصوف‪ .‬وهذا مردود بشهادة القشريي‪.‬‬
‫‪ -‬الث اين‪ :‬أن لبس الص وف ظ اهر ح ال الزه اد‪ ،‬وه ؤالء ملا نس بوا إىل الزه د‪ ،‬نس بوا ك ذلك إىل‬
‫الصوف تبعا‪.‬‬
‫واملهم يف كالم ه‪ :‬أنه أثبت أهنم مل خيتص وا ب ه‪ .‬حيث مل ينظّ روا لش يء من أم ور االختص اص؛ فلم‬
‫يشرتطوه‪ ،‬ومل يوجبوه‪ ،‬ومل يعلقوا به األمر‪ .‬وهذا هو املطلوب‪.‬‬
‫وال يعكر على هذا‪ :‬أن بعضهم لبس الصوف‪ .‬فالعربة بالشهرة واالختصاص‪.‬‬
‫إن الق ول باش تقاق التص وف من الص وف‪ ،‬يل زم منه أن يك ون األصل فيهم لبس الص وف‪ ،‬ف إذا ك ان‬
‫العكس هو حاهلم‪ ،‬فحينئذ ال معىن ألن يكون مشتقا من الصوف؛ ألهنم مل ميتازوا به‪ ،‬وهذا ما قرره‬
‫القشريي من املتصوفة‪ ،‬ومن غري املتصوفة ابن تيمية‪ ،‬وبذلك يستوي هم وغريهم فيه‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫‪ - 1‬الفتاوى‪ ،‬ابن تيمية‪.11/16 ،‬‬

‫‪12‬‬
‫هذا وإن مما يبطل الوجهني مجيعا‪ :‬نسبة التصوف إىل الصوف‪ ،‬من جهة االشتقاق‪ ،‬ومن جهة احلال‪:‬‬
‫خلو تعريف ات التص وف من ذكر الص وف؛ ف املتتبع وال دارس تعريف ات املتص وفة األولني‪ ،‬املؤسس ني‪،‬‬
‫منذ بداية التص وف‪ ،‬وحىت منتصف الق رن اخلامس (‪440-200‬هـ)‪ ،‬يلحظ خلوها من ذكر‬
‫الصوف‪ ،‬إال تعريفا يتيما من بني حوايل مثانني تعريفا‪ ،‬ذكره اهلجويري نقال عن اجلنيد قال‪:‬‬
‫‪ " -‬التصوف مبين على مثان خصال‪ :‬السخاء‪ ،‬والرضا‪ ،‬والصرب‪ ،‬واإلشارة‪ ،‬والغربة‪ ،‬ولبس‬
‫الصوف‪ ،‬والسياحة‪ ،‬والفقر"‪.1‬‬
‫ومل يذكره القشريي يف رسالته‪ ،‬ومل ينقله نيكلسون يف حبث له‪ ،‬مجع فيه تعريفات التصوف‪ ،‬من‬
‫‪2‬‬
‫كالم الصوفية‪ ،‬ينقلها من‪ :‬تذكرة األولياء للعطار‪ ،‬ونفحات األنس للجامي‪ ،‬والرسالة للقشريي‪.‬‬
‫يف فلو كانت النسبة صحيحة‪ ،‬فلم أعرضوا عن ذكرها يف هذه التعريفات‪..‬؟!‪.‬‬
‫وال يعرتض على هذا‪ :‬بأن التعريفات تبلغ األلف‪ ،‬واأللفني‪ .‬فإن هذا قد قيل‪ ،‬لكن عند البحث عنها‪،‬‬
‫ال حنصل من العدد سوى ما ذكر‪ ،‬مما يبلغ املائة‪ ،‬على أكثر تقدير‪.‬‬
‫فإن قال قائل‪ :‬فما تقول يف هذه التعريفات املنقولة عن أئمة التصوف يف نسبة التصوف إىل الصوف‪،‬‬
‫وهي موجودة يف كتب التصوف‪ ،‬فمن ذلك‪ :‬ما جاء يف كتاب "اللمع"‪ 3‬للطوسي‪ ،‬حيث قال‪" :‬باب‬
‫الكشف عن اسم الصوفية‪ ،‬ومل مسوا هبذا االسم‪ ،‬ومل نسبوا إىل هذه اللبسة"‪ ،‬أليس يف هذا نقض‬
‫دعوى أن التعريفات خالية من كلمة "الصوف" ؟‪.‬‬
‫فاجلواب أن يقال‪ :‬فرق بني التعريف والتفسري والتعليل‪.!..‬‬
‫عند تعريف التصوف‪ ،‬يف جواب‪ :‬ما التصوف؟‪.‬مل يذكروا كلمة "الصوف" إال مرة‪.‬‬
‫أما عند التعليل يف جواب‪ :‬مل مسوا صوفية ؟‪ .‬فقد ذكرت طائفة منهم النسبة إىل الصوف‪.‬‬
‫فالتحقيق املذكور يف هذا البحث دقيق؛ فإن التعريفات اليت وردت على لسان األئمة املتقدمني يف‬
‫التصوف‪ ،‬واليت مجعت يف كتب الصوفية املتقدمة‪ ،‬حتت عناوين مثل‪ :‬باب التصوف (= الرسالة‬
‫للقشريي)‪ ،‬قوهلم يف التصوف (= التعرف للكالباذي)‪ ،‬ماهية التصوف (= عوارف املعارف‬
‫للسهروردي)‪ ،‬باب التصوف (=كشف احملجوب للهجويري)‪ :‬خلت من ذكر كلمة "الصوف"‪.‬‬
‫إذن‪ ..‬بطلت املقدمة األوىل‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫مناقشة المقدمة الثانية‪ :‬لبس الصوف هو الزهد‪.‬‬
‫املقدمة الثانية تقول‪ :‬لبس الصوف هو الزهد‪.‬‬

‫‪ - 1‬كشف احملجوب‪ ،‬القشريي‪.1/235 ،‬‬


‫‪ - 2‬يف التصوف اإلسالمي وتارخيه‪ ،‬نيكلسون‪ ،‬ص‪.41-28‬‬
‫‪ - 3‬ص ‪.40‬‬

‫‪13‬‬
‫فيقال فيها‪ :‬ليست هذه قاعدة يستند إليها‪ .‬فقد يلبس الغين الصوف‪ ،‬وقد يلبسه الفقري‪..‬‬
‫تقصد رهبانية‪ ،‬أو زهد‪ ،‬أو فقر‪..‬‬‫وقد يلبسه أحدهم من غري ّ‬
‫قد يلبسه الفقري غري الزاهد؛ ألنه ال جيد غريه‪ ،‬وقد يلبسه الزاهد أيضا‪.‬‬
‫فهذه األحوال كلها واقعة باالتفاق‪ ،‬ال ميكن إنكارها‪ ،‬وعليه‪ :‬فال يصح اإلطالق بأن لبس الصوف‬
‫عالمة الزهد؛ إذ إن استخراج احلكم أو القاعدة ال يأيت إال من طريق االختصاص‪ .‬وال اختصاص‬
‫هنا‪ ،‬فلبس الصوف مل يكن خاصا بالزهاد‪.‬‬
‫وإذا قيل‪ :‬فهذا حال أغلبهم‪ ،‬يلبسون الصوف‪.‬‬
‫قيل‪ :‬كال‪ ،‬ال نسلم هبذا‪ :‬وهؤالء األنبياء أعظم الزهاد‪ ،‬مل يكونوا خيصون الصوف باللبس‪ ،‬وال متيزوا‬
‫‪1‬‬
‫به‪ ،‬بل لبسوه ولبسوا غريه‪ ..‬ومثلهم الصحابة رضوان اهلل عليهم‪.‬‬
‫ولو فرض جدال التسليم هبذا؛ فإن التسليم هبذه املقدمة غري مفيدة يف حتصيل النتيجة‪ :‬أن التصوف هو‬
‫الزهد‪ .‬بعد أن بطلت املقدمة األوىل؛ ألن املطلوب لصحة النتيجة‪ :‬صحة املقدمتني معا‪ .‬حيث إهنا‬
‫بنيت عليهما‪ ،‬ال على واحد منهما‪.‬‬
‫ويضاف إىل ذلك‪ :‬أن النتيجة نفسها‪ :‬التصوف هو الزهد‪ .‬معرتض عليها‪ ،‬واملعرتض عليها هم‬
‫املتصوفة‪ ،‬هم الذين رفضوا تعريف التصوف به‪ ،‬وإن قال به بعضهم‪.!!..‬‬
‫فاملق دمتان باطلت ان يف نظر طائفة من املتص وفة‪ ،‬ونتيجتهما باطلة عند احملققني من املتص وفة وغ ريهم؛‬
‫فكثري من املتصوفة يرجعون بالتصوف إىل معىن الزهد؛ ويعللون ذلك‪:‬‬
‫أن الصوفية ملا رأوا إقبال الناس على الدنيا‪ :‬آثروا الزهد فيها‪.‬‬
‫وهذا فيه نظر‪ ،!!..‬فإنه بالنظر إىل تاريخ التصوف‪ :‬جند أن ظهوره ابتدأ يف هناية القرن الثاين‪ .‬وإقبال‬
‫الناس على الدنيا بدأ يف عهد عثمان رضي اهلل عنه‪ ،‬يف منتصف القرن األول‪ ،‬وعليه‪ :‬فإن ردة الفعل‬
‫جاءت بعد مائة ومخسني عاما‪ ..‬وهذا بعيد‪ ،‬وحتليل متكلف‪.‬‬
‫وحني تتبع معىن الزهد يف كلمات املؤسسني للمذهب‪ ،‬نلحظ أمرا يلفت النظر‪:‬‬
‫ال جند فيها ذكرا لكلمة "الزهد"‪..‬؟!!‪.‬‬
‫املعرف ملصطلح ما؛ جديد غري معروف‪ :‬حيرص كل احلرص‪ ،‬على أن يستل من اللغة‬ ‫ومعلوم أن ِّ‬
‫الكلمة األوفق‪ ،‬واألوضح‪.‬‬
‫فإذا كان كذلك‪ ،‬فلم أعرضوا عن كلمة "الزهد"‪ ،‬واستعاضوا عنه بعبارات من قبيل‪ :‬إيثار اهلل‪ ..‬قلة‬
‫الطعام‪ ..‬الفقر‪..‬؟!‪..‬‬
‫هل غابت الكلمة عن قاموسهم ؟!‪..‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬زاد املعاد البن القيم‪.147-1/135 ،‬‬

‫‪14‬‬
‫كال‪ ،‬بل حاضرة‪ ،‬لكن ملا مل يكن حقيقة التصوف هو الزهد‪ :‬أعرضوا عنه‪ .‬فإعراضهم مل يكن عفوا‪،‬‬
‫بل قصدا وعمدا‪ ،‬وقد فهم من بعدهم هذه اإلشارة‪ ،‬فورد التصريح منهم مبنع اختصاص التصوف‬
‫بالزهد‪:‬‬
‫‪ -‬قال شهاب الدين السهروردي‪" :‬التصوف غري الفقر‪ ،‬والزهد غري الفقر‪ ،‬والتصوف غري الزهد‪،‬‬
‫فالتصوف‪ :‬اسم جامع ملعاين الفقر‪ ،‬ومعاين الزهد‪ ،‬مع مزيد أوصاف وإضافات‪ ،‬ال يكون بدوهنا‬
‫الرجل صوفيا‪ ،‬وإن كان زاهدا فقريا" ‪.1‬‬
‫فالتصوف ال خيتص بالزهد‪ ،‬وال الزهد هو التصوف‪ ،‬وهكذا قال أيضا‪:‬‬
‫ابن اجلوزي‪ :‬اخلبري بالتصوف‪ ،‬النقاد‪ .‬ونيكلسون‪ :‬املستشرق الباحث املختص بالتصوف‪ .‬وعبد احلليم‬
‫حممود اإلمام الصويف املدقق احملقق‪ .‬وسعاد احلكيم املتصوفة الباحثة العارفة باخلفايا‪ .‬وحممد زكي‬
‫إبراهيم شيخ العشرية احملمدية‪ .‬والتفتازاين شيخ مشايخ الطرق الصوفية‪.‬‬
‫‪ -‬يقول ابن اجلوزي‪ ":‬التصوف مذهب معروف يزيد على الزهد‪ ،‬ويدل على الفرق بينهما‪ :‬أن‬
‫الزهد مل يذمه أحد‪ ،‬وقد ذموا التصوف"‪.2‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ -‬وقال نيكلسون‪" :‬والصوفية األولون كانوا يف احلقيقة زهادا وادعني‪ ،‬أكثر منهم متصوفة"‪.‬‬
‫‪ -‬ويقول الدكتور عبد احلليم حممود‪" :‬الزهد يف الدنيا شيء‪ ،‬والتصوف شيء آخر‪ ،‬وال يلزم عن‬
‫كون الصويف زاهدا‪ ،‬أن يكون التصوف هو الزهد" ‪.4‬‬
‫‪ -‬وتقول الدكتورة سعاد احلكيم‪" :‬البداية مل تكن ‪ -‬كما ظن بعض الباحثني – يف الزهد‪ ،‬الزهد‬
‫يتبع احلياة النفسية‪ ،‬بل جتلت يف حاالت الوجد‪ ،‬اليت كانت خري تعبري عن إحساس العبد‬
‫باحلضور اإلهلي"‪.5‬‬
‫‪ -‬وقال الشيخ حممد زكي إبراهيم‪" :6‬الصويف أكثر من زاهد‪ ،‬إذ الزاهد يف الدنيا زاهد يف ال شيء‪،‬‬
‫أما الصويف فال يزهد إال فيما حيجبه عن اهلل"‪.7‬‬
‫‪ -‬وقال التفتازاين‪" :‬الفناء يف احلقيقة املطلقة‪ ،‬وهو أمر مييز التصوف مبعناه االصطالحي الدقيق"‪.8‬‬

‫‪ - 1‬عوارف املعارف‪ ،‬ملحق باإلحياء‪ ،‬السهروردي‪.5/79 ،‬‬


‫‪ - 2‬تلبيس إبليس‪ ،‬ابن اجلوزي‪ ،‬ص‪.165‬‬
‫‪ - 3‬الصوفية يف اإلسالم‪ ،‬نيكلسون‪ ،‬ص‪.12‬‬
‫‪ - 4‬مقدمة املنقذ من الضالل‪ ،‬عبد احلليم بن حممود‪ ،‬ص‪.40‬‬
‫‪ - 5‬عودة الواصل‪ ،‬سعاد احلكيم‪ ،‬ص‪.89‬‬
‫‪ - 6‬صويف معاصر‪ ،‬رائد العشرية احملمدية يف مصر‪ ،‬وله موقع على اإلنرتنت‪.‬‬
‫‪ - 7‬جملة التصوف اإلسالمي الصادرة عن اجمللس الصويف األعلى يف مصر‪ ،‬عدد رجب ‪1414‬هـ ص‪.42‬‬
‫‪ - 8‬املوسوعة الفلسفية العربية ‪.1/259‬‬

‫‪15‬‬
‫وكل دارس للتصوف بتحرر‪ ،‬وحيادية‪ ،‬ودقة‪ ،‬سيصل إىل النتيجة ذاهتا‪ ،‬بغري تكلف‪.‬‬
‫ذلك ال يعين نفي حال الزهد عن املتصوفة عموما‪ ،‬كال‪ ،‬بل األمر ال يعدو نفي اختصاص التصوف‬
‫بالزهد‪ ،‬وإال فكثري من املتصوفة – ليس كلهم – كانوا من الزهاد بال ريب‪.‬‬
‫يقول ابن اجلوزي‪:‬‬
‫‪" -‬الصوفية من مجلة الزهاد‪ ،‬وقد ذكرنا تلبيس إبليس على الزهاد‪ ،‬إال أن الصوفية انفردوا عن‬
‫الزهاد بصفات وأحوال‪ ،‬وتومسوا بسمات‪ ،‬فاحتجنا إىل إفرادهم بالذكر"‪.1‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ومن خالل ما تقدم‪:‬‬
‫‪ -‬من اعرتاض أئمة التصوف على قضايا كان املظنون التسليم هبا‪.‬‬
‫‪ -‬وموافقة اآلخرين هلم‪ ،‬إما بالتأييد‪ ،‬أو السكوت وعدم الرد‪.‬‬
‫نستطيع التأكيد أن التصوف مل يأخذ معناه من الزهد‪ ،‬وال امسه من الصوف‪ ،‬فال دليل على هذا‪ ،‬بل‬
‫األدلة ضده‪ ،‬وسيأيت مزيد إثبات هلذا يف موضعه‪ ،‬عند الكالم على ماهية التصوف‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ثالثا‪ :‬التصوف والخلق‪.‬‬


‫إذا مل يكن التصوف هو الزهد‪ ،‬فما هو إذن ؟‪.‬‬
‫ذكر املتصوفة‪" :‬اخللق" موضوعا للتصوف‪ .‬وعند البحث يف تراث الصوفية التعريفي‪:‬‬
‫جند هذا املعىن ظاهرا‪ ،‬عكس الزهد‪ .‬يف بضعة تعريفات مهمة‪ ،‬أمهيتها من كوهنا تعريفات أئمة حمققني‬
‫بارزين يف التصوف‪ ،‬مثل‪ :‬اجلنيد‪ ،‬والنوري‪ ،‬والغزايل‪ ،‬وابن عريب‪ .‬ويلحق هبم‪ :‬اجليلي‪ ،‬والكاشاين‪.‬‬
‫ففي تعريفات هؤالء‪ :‬تفسري التصوف باخللق‪ ،‬بلفظ صريح‪ ،‬ال احتمال فيه‪ ،‬إال ما كان من تعريف‬
‫اجلنيد‪ ،‬فإنه جاء بإشارة صرحية كذلك‪ ،‬ال حتتمل التأويل‪ .‬وهذه أقواهلم‪:‬‬

‫‪ - 1‬تلبيس إبليس ص‪.161‬‬

‫‪16‬‬
‫‪ -1‬أورد ال دكتور عبد احلليم حمم ود عن الن وري قول ه‪":‬ليس التص وف رمسا وال علم ا‪ ،‬ولكنه‬
‫خلق‪ ،‬ألنه لو كان رمسا حلصل باجملاهدة‪ ،‬ولو كان علما حلصل بالتعليم‪ ،‬ولكنه ختلق بأخالق‬
‫اهلل‪ ،‬ولن تستطيع أن تقبل على األخالق اإلهلية بعلم أو رسم"‪.2‬‬
‫‪ -2‬يق ول الغ زايل‪" :‬فال ذي ي ذكر هو ق رب العبد من ربه عز وجل يف الص فات اليت أمر فيها‬
‫باالقتداء والتخلق بأخالق الربوبية‪ ،‬حىت قيل‪ :‬ختلقوا بأخالق اهلل"‪.2‬‬
‫‪ -3‬يقول ابن عريب‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫"فاعلم أن التصوف تشبيه خبالقنا ألنه خلق فانظر ترى عجبا"‬
‫‪ -4‬جاء يف اصطالحات الصوفية للكاشاين‪" :‬التصوف‪ :‬هو التخلق باألخالق اإلهلية"‪.4‬‬
‫‪ -5‬ق ال اجليلي‪" :‬وهلذا أمرنا الس يد األواه فق ال‪ :‬ختلق وا ب أخالق اهلل؛ لت ربز أس راره املودعة يف‬
‫اهلياكل اإلنسانية‪ ،‬فيظهر بذلك علو العزة الربانية‪ ،‬ويعلم حق املرتبة الرمحانية"‪.5‬‬
‫‪ -6‬يف الرسالة للقشريي‪ " :‬سئل اجلنيد عن احملبة‪ ،‬فقال‪ :‬دخول صفات احملبوب على البدل من‬
‫صفات احملب" ‪.6‬‬
‫"اخللق" أمر متفق عليه بني الناس‪ :‬مدحا‪ ،‬وطلبا‪..‬‬
‫وذكر الصوفية له‪ ،‬وتفسريهم التصوف به‪ ،‬ليس عليه اعرتاض ابتداء‪ ،‬فال شيء مينع من أن يكون هذا‬
‫هو موضوع التصوف‪ ،‬إذا قدروا على االستدالل له‪ ،‬وسوق البينات‪.‬‬
‫إمنا األمر الذي يسرتعي االنتباه‪ :‬بعض األلفاظ واجلمل‪ ،‬اليت وردت يف هذه التعريفات‪ ،‬مما هي زائدة‬
‫على جمرد "اخللق"؛ الذي معناه‪ :‬الفضائل‪ ،‬والقيم العليا‪ ،‬والسماحة‪ .‬مثل قوهلم‪:‬‬
‫ختلق بأخالق اهلل (النوري)‪ ..‬ختلقوا بأخالق اهلل (الغزايل‪ ،‬اجليلي)‪ ..‬تشبيه خبالقنا (ابن عريب)‪ .‬التخلق‬
‫باألخالق اإلهلية (الكاشاين)‪..‬التخلق بأخالق الربوبية (الغزايل)‪ ..‬دخول صفات احملبوب على البدل‬
‫(اجلنيد)‪.‬‬
‫واملتفق عليه بني املسلمني‪:‬‬
‫‪ -‬أن اهلل تعاىل‪ ،‬وهو‪ :‬اإلله‪ ،‬والرب‪ ،‬وله األلوهية‪ ،‬والربوبية‪ .‬له أوصاف تليق به‪ ،‬ليست كأوصاف‬
‫املخلوقني‪.‬‬

‫‪ - 2‬عبد احلليم حممود وقضية التصوف‪ ،‬املدرسة الشاذلية‪ ،‬عبد احلليم حممود‪ ،‬ص‪.426‬‬
‫‪ - 2‬اإلحياء‪ ،‬الغزايل‪.4/324 ،‬‬
‫‪ - 3‬الفتوحات املكية‪ ،‬ابن عريب‪.2/266 ،‬‬
‫‪ - 4‬ص‪.164‬‬
‫‪ - 5‬اإلنسان الكامل‪ ،‬اجليلي‪.2/19 ،‬‬
‫‪.2/615 - 6‬‬

‫‪17‬‬
‫‪ -‬واإلنسان له أوصاف الئقة به‪ ،‬ليست كأوصاف اهلل تعاىل‪.‬‬
‫لقوله تعاىل‪{ :‬ليس كمثله شيء وهو السميع البصري}‪[ .‬الشورى ‪]11‬‬
‫والذي يلحظ يف هذه األقوال‪:‬‬
‫‪ -‬أهنا تقرر‪ :‬اكتساب اإلنسان صفات (= أخالق‪ .‬بتعبريهم) اهلل تعاىل‪.‬‬
‫‪ -‬وأن هذه العملية االكتسابية التخلقية هي‪ :‬موضوع التصوف‪.‬‬
‫هذه النتيجة واضحة يف كالم هؤالء األئمة‪ ،‬من دون استثناء‪ ،‬حىت يف كالم اجلنيد‪ ،‬وإن استعمل‬
‫كلمات غري اليت استعملها البقية‪.‬‬
‫فتارة قالوا‪ :‬أخالق الربيوبية‪ .‬والربوبية ليست إال هلل تعاىل‪.‬‬
‫وتارة قالوا‪ :‬اإلهلية‪ .‬واإلهلية له وحده‪ ،‬ال شريك له‪.‬‬
‫ويف ثالثة قالوا‪ :‬أخالق اهلل تعاىل‪ .‬مصرحني باالسم اخلاص‪.‬‬
‫بدل‪ ،‬وليست تبادل‪ ،‬فاحملب يستبدل‬ ‫ويف تعريف اجلنيد‪ :‬وصف حملتوى هذه العملية‪ :‬أهنا عملية ٍ‬
‫صفات احملبوب بصفاته؛ مبعىن أنه يرتك صفاته ويتخلص منها‪ ،‬ليتلبس بصفات حمبوبه‪ ،‬ويتخلق هبا‪.‬‬
‫واحملب هنا هو اإلنسان‪ ،‬واحملبوب هو اهلل تعاىل‪.‬‬
‫فهاهنا أمران‪ ،‬احتوهتما هذه التعريفات‪:‬‬
‫‪ -‬األول‪ :‬اكتساب اإلنسان صفات اهلل تعاىل (= أخالقه‪ .‬بتعبريهم)‪ .‬أو تركه صفاته‪ ،‬واكتسابه‬
‫صفات اهلل تعاىل‪.‬‬
‫‪ -‬الثاني‪ :‬أن هذه العملية االكتسابية‪ ،‬التخلقية‪ ،‬االستبدالية‪ :‬عملية كاملة كلية‪ ،‬ليست ناقصة‬
‫جزئية‪.‬‬
‫هذا املعىن هو اجلديد املالحظ يف هذا التفسري؛ ولذا تقدم أنه ليس جمرد ختلق‪ ،‬أو خلق‪.‬‬
‫فمجرد التخلق واخللق أمر مألوف‪ ،‬معروف‪ .‬أما هذه املعاين الزائدة‪ ،‬ففيها من الغرابة‪ ،‬وحىت النزاع‬
‫ما ال خيفى‪ .‬وهذا االعرتاض نلخصه فيما يلي‪:‬‬
‫أوال‪ :‬قوهلم‪" :‬أخالق اهلل"‪ ،‬مصطلح جديد‪ ،‬منسوب إىل الشريعة‪ ،‬مل يعرف قبل املتصوفة‪ ،‬الذين‬
‫انفردوا به‪ ،‬فاملعروف استعمال مصطلحات من قبيل‪ :‬أمساء اهلل‪ ،‬صفات اهلل‪ .‬وهي قرآنية املورد‬
‫واملصدر‪ .‬تتضمن معاين الئقة باهلل تعاىل‪ .‬أما هذا فال ميتاز بذلك‪ ،‬بل هو منتزع من قول الفالسفة‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫بالتشبه باإلله على قدر الطاقة‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬التعريفات ص‪ ،73‬بدائع الفوائد ‪.1/164‬‬

‫‪18‬‬
‫ثانيا‪ :‬أن التعبري عن األوصاف اإلهلية باألخالق فيه حمذور‪ ،‬هو‪ :‬أن األخالق‪ ،‬أحوال مكتسبة؛‬
‫فاملتخلق مكتسب لألخالق‪ ،‬هذا هو املعىن الغالب عليه‪ ،‬وعليه فال يليق أن ينسب إىل اهلل تعاىل؛ ألن‬
‫أوصافه ذاتية‪ ،‬غري مكتسبة‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬أن هذا املصطلح يفيد‪ :‬أن بقدرة اإلنسان حتصيل مجيع األوصاف اإلهلية اتصافا‪ ،‬أو ختلقا‪،‬‬
‫حبسب تعبريهم‪ ،‬ليس فيه قيد‪ ،‬وال ختصيص‪ ،‬وال حتديد‪ ،‬بل إطالق وتعميم‪ .‬واحملذور يف هذا ال‬
‫خيفى؛ فإن أوصاف اهلل تعاىل على ثالثة أنواع من جهة اتصاف العبد‪:‬‬
‫‪ -1‬نوع يف قدرة اإلنسان االتصاف مبعناها‪ ،‬دون مماثلة‪ ،‬وحيمد عليه‪ ،‬مثل الرمحة‪.‬‬
‫‪ -2‬نوع يف قدرة اإلنسان االتصاف مبعناها‪ ،‬دون مماثلة‪ ،‬ويذم عليه‪ ،‬كالتكرب‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ -3‬نوع يستحيل على اإلنسان االتصاف مبعناها‪ ،‬كاخللق‪ ،‬والربء‪ ،‬والتصوير‪.‬‬
‫وهذا املصطلح ال يفيد هذا التفصيل‪ ،‬فليس فيه إشارة إىل ما ميكن االتصاف به‪ ،‬وما ال ميكن‪ ،‬وما‬
‫الكم؛ أي‬
‫حيمد عليه‪ ،‬وما يذم‪ ،‬فهو عام شامل‪ ،‬وهو هبذا املعىن منحرف؛ ألنه يفضي إىل املماثلة يف ّ‬
‫يف عدد صفاته‪ ،‬وهو حمال‪ .‬قال تعاىل‪{ :‬ومل يكن له كفوا أحد}‪[ .‬سورة الصمد]‬
‫رابعا‪ :‬أن هذا املصطلح يفيد كذلك‪ :‬أن يف قدرة اإلنسان حتصيل الصفات اإلهلية نفسها‪ ،‬يف كيفها‪،‬‬
‫فيكون له نفس حدود كل صفة‪ ،‬كما هي هلل تعاىل‪ ،‬فتكون رمحته كرمحته‪ ،‬ووجوده كوجوده‪،‬‬
‫وقدرته كقدرته‪..‬إخل‪ ،‬وهذا املعىن فاسد‪ ،‬لبطالن املماثلة يف الكيف؛ أي يف كيفية وكنه صفاته‪ ،‬واهلل‬
‫تعاىل يقول‪{ :‬هل تعلم له مسيا}‪[ .‬مرمي ‪]65‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫فقد ت بني‪ :‬أن تفس ريهم التص وف هبذه اجلملة فيها من احملذورات‪ ،‬ما يش وش عليه ا‪ ،‬ويفسد معانيه ا‪،‬‬
‫ومينع منها شرعا وعقال‪.‬‬
‫فإذا رفضوا تلك املعاين‪ ،‬وقالوا‪ :‬ما أردنا ذلك‪ ،‬وما قصدنا‪..‬‬
‫فمنهم الصادق يف قوله‪ ،‬غري أن ذلك ال يصحح هذه اجلملة (= أخالق اهلل)؛ ألن احلكم مل يتجه إىل‬
‫النيات واملقاصد‪ ،‬إمنا إىل اجلملة‪ ،‬والكلمة‪ ،‬واملصطلح نفسه‪ ،‬فإنه ال حيتمل التأويل الصحيح‪ ،‬واحملاذير‬
‫ال تنفك عنه؛ كوهنا مرتبطة باملصطلح نفسه‪ ،‬مبفرادته‪ ،‬وتراكيبه‪ ،‬سواء أرادها املتكلمون أم ال‪ ،‬وال‬
‫ميكن قلب املعىن إرضاء أو جربا للخواطر‪ ،‬فهذا إفساد للكالم واللغة‪ ،‬والذوق‪ .‬وحتوير وتبديل ممن ال‬
‫ميلك ذلك‪ ،‬ويؤول إىل عدم الثقة باأللفاظ‪.‬‬
‫وإذا كان وال بد من فعل شيء‪ ،‬فلتع ّدل هذه اجلملة‪ ،‬مبا ينفي عنها هذه احملذورات‪ ،‬فبدل أن يقال‪:‬‬
‫"التخلق بأخالق اهلل"‪ ،‬ليكن البديل‪:‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬فتح الباري ‪ ،11/226‬عدة الصابرين ص‪.283‬‬

‫‪19‬‬
‫‪ -‬الدعاء بأمساء اهلل احلسىن‪ .‬لقوله تعاىل‪{:‬وهلل األمساء احلسىن فادعوه هبا}‪[ .‬األعراف‪]180‬‬
‫‪ -‬أو إحصاء أمساء اهلل‪ .‬كما يف قوله عليه الصالة والسالم‪( :‬إن هلل تسعة وتسعني امسا‪ ،‬مائة إال‬
‫واحدا‪ ،‬من أحصاها دخل اجلنة)‪.1‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬أو التعبد بأمساء اهلل وصفاته‪ .‬فالتعبد صفة العبد‪ ،‬وهلل األمساء والصفات‪ ،‬فال حمذور‪.‬‬
‫فإذا أمكن الرجوع إىل هذه املصطلحات‪ ،‬وتفسري التصوف هبا‪ ،‬واالستغناء عن ذلك املصطلح املبتدع‬
‫يف لفظه‪ ،‬املبتدع يف معناه‪ :‬حينئذ يكون خالصا سائغا‪ .‬يبقى بعد ذلك تصديقه بتطبيقه على وجهه‬
‫الصحيح‪.‬‬
‫أما مع اإلصرار عليه‪ ،‬فإنه حينئذ يقال‪ :‬هذا دليل على أن التصوف ليس من السنة يف شيء‪.‬‬
‫ودليل آخر يضاف إىل ما سبق حتصيله‪ ،‬من نفي الصلة بني التصوف والزهد‪.‬‬
‫واحلال‪ :‬أن املتصوفة ما تركوا هذا املصطلح هبذا اللفظ املخرتع (= التخلق بأخالق اهلل)‪ ،‬وما غريوا‬
‫منه شيئا‪ ،‬ومل ينقدوه‪ ،‬بل ساروا عليه‪ ،‬وتواطؤوا على قبوله ‪..‬؟!!‪.‬‬
‫واخلالصة‪ :‬أنه ال اعرتاض على تفسري التصوف باخللق‪ ،‬كما حصل يف تفسريه بالزهد‪ ،‬نعم هو خلق‬
‫وختلق‪ ،‬لكن مبعىن خاص‪ ،‬غري معروف‪ ،‬وال مألوف بني الناس والعقالء‪ ،‬خيرج حىت عن احل ّد‬
‫الشرعي‪ ،‬ويف هذا احلال هو دليل ملن أنكر على التصوف‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫قال القائل‪ :‬أليس قد تواتر عن األئمة‪ :‬اجلنيد‪ ،‬والتسرتي‪ ،‬والداراين‪..‬وغريهم كثري‪ ،‬قوهلم بوجوب‬
‫التقيد بالش ريعة؟‪ ..‬أفال ميكن ختص يص ذلك اللفظ الع ام (=التخلق ب أخالق اهلل) هبذا القيد اخلاص‪،‬‬
‫فيكون املعىن‪ :‬التخلق مبا يصح شرعا ؟‪.‬‬
‫فنعما‬
‫واجلواب‪ :‬أن هذا يعتمد على التزام الصوفية هبذا القيد‪ ،‬وتطبيقه على املصطلح‪ ،‬فإن هم فعلوا ّ‬
‫ما فعلوه‪ ،‬وإن مل يفعلوا مل يفدهم هذا القيد بشيء‪ .‬وهذا يُعرف فيما يأيت‪.‬‬
‫مث أيض ا‪ :‬ال واجب ض بط املص طلح نفس ه‪ ،‬قبل كل ش يء‪ ،‬حىت ال حيت اج إىل قي ود أخ رى‪ .‬فما ال ذي‬
‫مينعهم من ذلك‪ ،‬وهو أمر يف قدرهتم فعله‪ ،‬وليس من العسر يف شيء ؟!‪.‬‬
‫ال شيء مينعهم منه‪ ،‬فلساهنم ال يشكو عجمة‪ ،‬والغفلة عن هذا الضبط ممتنعة؛ فال يصح أن جيتمعوا‬
‫على نس يان ض بط مص طلح كه ذا‪ ،‬ويتواطئ وا على املعىن نفس ه‪ ،‬دون أن يتنبه إىل ذلك ولو واح د‪،‬‬
‫كيف ميكن أن يكون هذا سهوا‪ ،‬جيتمع عليه أقطاب التصوف ؟!‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪ - 1‬رواه البخاري يف صحيحه‪ ،‬كتاب التوحيد‪ ،‬باب‪ :‬إن اهلل مائة اسم إال واحدا ‪.6/2691‬‬
‫‪ - 2‬بدائع الفوائد ‪.1/164‬‬

‫‪20‬‬
‫رابعا‪ :‬موضوع التصوف‪.1‬‬
‫بالدراسة والتحليل ظهر وبان ضعف العالقة بني التصوف والزهد‪ ،‬على جهة االختصاص‪ ،‬وتكشفت‬
‫بعض اخلفايا يف مصطلح "اخللق"‪ ،‬والذي جعله املتصوفة موضوعا للتصوف‪ ،‬وبقيت جوانب حتتاج‬
‫إىل كشف‪.‬‬
‫وقد ساق املناصرون هذين املعنيني لتحسينه‪ ،‬وتوكيد صحته‪ ،‬وموافقته للشريعة‪ ،‬أما وقد أظهرت‬
‫الدراسة خالف ما ذهبوا إليه‪ ،‬فاملطلوب البحث عن معىن آخر للتصوف غري الزهد‪ ،‬وحتديد املراد من‬
‫مصطلح "التخلق"‪ ..‬وهذه هي املهمة التالية‪:‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫عند النظر يف التعريف ات تس توقفنا عب ارات‪ ،‬وكلم ات غريبة املع ىن‪ ،‬ليست متداولة يف ال رتاث‬
‫اإلسالمي؛ أعين‪ :‬الكتاب‪ ،‬والسنة‪ ،‬وأقوال أهل القرون املفضلة‪ .‬مثل‪:‬‬
‫‪ -‬االصطالم‪ ..‬السكر‪ ..‬الوجد‪ ..‬االضمحالل‪ ..‬الغيبة‪ ..‬الفناء‪.‬‬
‫مث يأتى احملققون من قدماء الصوفية‪ ،‬ومن بعدهم‪ ،‬إىل املعاصرين ليقولوا‪:‬‬
‫‪ -‬إن املعىن الدقيق‪ ،‬والغاية القصوى للتصوف هو‪ :‬الفناء‪.‬‬
‫فما الفناء ؟‪ ،‬وعلى أي شيء تدل الكلمات األخرى ؟‪ ،‬وهل بينهما مثة عالقة ؟‪.‬‬
‫للوقوف على هذه احلقائق‪ :‬علينا دراسة التعريفات يف هذا الباب‪ .‬وهي على قسمني‪:‬‬
‫‪ -‬األول‪ :‬قسم يفسر التصوف بالفناء‪ ،‬بلفظه‪.‬‬
‫‪ - 1‬مها طريقتان‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن يكون عنوان البحث يشري إىل مجيع املباحث‪ ،‬ال خيتص مببحث‪ ،‬مهما عظم شأنه يف البحث‪.‬‬ ‫‪ㄴ-‬‬
‫الثاين‪ :‬أن خيتص ببحث هو األهم‪ ،‬وألجله سيق البحث كله‪ ،‬واملباحث تبع‪ ،‬وتوطئة‪ ،‬وتكميل‪ ،‬وحتسني‪.‬‬ ‫‪ㄷ-‬‬
‫فاحلكم مبخالفة الطريقة الثانية للمنهجية العلمية فيه نظر‪ ،‬وال يسنده دليل‪ .‬إمنا الدليل ينصر الطريقتني معا؛ فإن املقصود من‬
‫العنوان‪ :‬أن يكون داال على مضمون البحث‪ .‬وهذا متحقق يف الثانية‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫‪ -‬الثاين‪ :‬قسم يفسر التصوف بالفناء‪ ،‬لكن بألفاظ أخرى مرادفة‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫‪ -1‬التصوف هو الفناء‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ -1‬يقول الطوسي يف تعريفهم‪" :‬الفانون مبا وجدوا‪ ،‬ألن كل واجد قد فين مبا وجد" ‪.‬‬
‫‪ -2‬يقول اهلجويري‪ " :‬الصويف هو الفاين عن نفسه‪ ،‬والباقي باحلق‪ ،‬قد حترر من قبضة الطبائع‪،‬‬
‫واتصل حبقيقة احلق ائق‪ ،‬واملتص وف هو من يطلب ه ذه الدرجة باجملاه دة‪ ،‬ويق وم نفسه يف‬
‫الطلب على معامالهتم"‪.2‬‬
‫‪ -3‬يقول أبو املواهب الشاذيل‪" :‬الفنا هو أساس الطريق‪ ،‬وبه يتوصل إىل مقام التحقيق‪ ،‬ومن مل‬
‫جيد مبهر الفنا‪ ،‬مل يستجل طلعة احلَ ْسنا‪ ،‬وليس له يف غد واليوم نصيب مع القوم"‪.3‬‬
‫‪ -4‬يق ول التفت ازاين‪" :‬الفن اء يف احلقيقة املطلق ة‪ ،‬وهو أمر مييز التص وف مبعن اه االص طالحي‬
‫الدقيق"‪.4‬‬
‫‪ -5‬ويقول الشيخ حممد زكي إبراهيم ‪" :‬التصوف فناء صفة العبد‪ ،‬ببقاء صفة املعبود"‪.5‬‬
‫إذن حقيقة التصوف‪ ،‬حبسب هذه التعريفات‪ :‬هو الفناء‪ .‬وهذا ما فهمه وقرره املستشرق اإلجنليزي‬
‫نيكلسون يف رسالته‪( :‬هدف التصوف اإلسالمي)‪ ،‬اليت نشرها عفيفي ضمن رسائله حتت عنوان‪( :‬يف‬
‫التصوف اإلسالمي وتارخيه)‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫‪ -2‬ألفاظ مرادفة للفناء‪.‬‬
‫مثة تعريفات تفسر التصوف بألفاظ مرادفة للفناء‪ ،‬نأخذ منها بعض األمثلة‪:‬‬
‫‪6‬‬
‫‪ -1‬قال اجلنيد‪" :‬أن مييتك احلق عنك‪ ،‬وحيييك به"‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫‪ -2‬قال أبو يعقوب املزايلي‪" :‬التصوف حال تضمحل فيها معامل اإلنسانية"‪.‬‬
‫‪ -3‬قال القشريي‪" :‬ويقال‪ :‬الصويف‪ :‬املصطلم عنه مبا الح من احلق"‪.8‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪ - 1‬اللمع ص‪.47‬‬
‫‪ - 2‬كشف احملجوب ‪.1/231‬‬
‫‪ - 3‬قوانني حكم اإلشراق ص‪.60‬‬
‫‪ - 4‬املوسوعة الفلسفية العربية ‪.1/259‬‬
‫‪ - 5‬جملة التصوف اإلسالمي الصادرة عن اجمللس الصويف األعلى يف مصر‪ ،‬عدد رجب ‪1414‬هـ ص‪.42‬‬
‫‪ - 6‬الرسالة ‪.2/551‬‬
‫‪ - 7‬الرسالة ‪.2/556‬‬
‫‪ - 8‬الرسالة ‪.2/557‬‬

‫‪22‬‬
‫‪ -3‬حقيقة الفناء‪.‬‬
‫النتائج السابقة حددت معىن التصوف يف أمرين‪ ،‬مها‪ :‬الفناء‪ ،‬والتخلق بأخالق اهلل تعاىل‪ .‬ومتييز‬
‫التصوف مبجردمها متعذر؛ كون األول مصطلح مشرتك ملفاهيم متعددة‪ ،‬واآلخر غامض‪ ،‬ال يعرف‬
‫ح ّده‪.‬‬
‫فالفناء يف اللغة‪ :‬الزوال‪ ،‬واالضمحالل‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬كل من عليها فان} [الرمحن ‪]26‬؛ أي زائل‬
‫مضمحل‪ ،‬وحيتوي من املفاهيم ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬الفناء اإلرادي؛ مبعىن زوال اإلرادة اخلاصة‪.‬‬
‫‪ -‬الفناء الصفايت؛ مبعىن زوال واضمحالل الصفات اخلاصة‪.‬‬
‫‪ -‬الفناء الذايت؛ مبعىن زوال واضمحالل الذات اخلاصة‪.‬‬
‫وهناك مفهومان آخران‪ ،‬ليسا جبديدين كليا‪ ،‬مها‪:‬‬
‫‪ -‬األول‪ :‬الفناء الشهودي؛ مبعىن أال يشهد الفاين يف الكون سوى اهلل‪ ،‬من جهة الفعل‪.‬‬
‫‪ -‬الثاين‪ :‬الفناء الوجودي؛ مبعىن أال يرى الفاين يف الكون سوى اهلل‪ ،‬من جهة الذات‪.‬‬
‫والفناء الصفايت جزء من الفناء الشهودي‪ .‬ففي هذا الفناء‪ :‬ال يزال يفين عن رؤية كل األشياء‪ ،‬حىت‬
‫يفىن عن رؤية نفسه وصفاهتا‪ ،‬فيعتقد أن اهلل تعاىل متثل يف كل شيء‪ :‬فاعال‪ ،‬خالقا‪ ،‬مالكا‪ .‬ومثة فرق‬
‫بني الصفايت والشهودي‪:‬‬
‫‪ -‬فالصفايت خيتص بذات واحدة‪ ،‬تفىن صفاهتا‪ .‬والشهودي فناء صفات كل األشياء‪.‬‬
‫والفناء الذايت جزء من الفناء الوجودي‪ .‬ويف هذا الفناء‪ :‬ال يزال يفىن عن وجود األشياء‪ ،‬ووجود‬
‫نفسه‪ ،‬حىت يستهلك يف وجود احلق‪ .‬ومثة فرق بني الذات والوجودي‪:‬‬
‫‪ -‬فالذايت خاص بذات واحدة‪ ،‬هي اليت تفىن‪ .‬وهذا ما يعرب عن باحللول اخلاص‪.‬‬
‫‪ -‬والوجودي عام بكل الذوات هي اليت تفىن‪ .‬وهذا ما يعرب عنه باحللول العام‪.‬‬
‫فتحصل هبذا‪ :‬مخسة أنواع للفناء‪ .‬وهي مستحصلة بالتأمل يف معىن الفناء‪ ،‬وأكثرها ذكرها املتصوفة‬
‫‪1‬‬
‫وغريهم‪ ،‬من الذين هلم عناية بالتصوف‪.‬‬
‫فأيها املراد بالذات‪ ،‬والكنه‪ ،‬واحلقيقة يف الفكر الصويف‪ :‬أكلها‪ ،‬أم بعضها ؟!‪.‬‬
‫فهذا حيتاج إىل حتديد دقيق ؟‪.‬‬
‫ويف التخلق بأخالق اهلل تعاىل مفهومان‪ ،‬مها‪:‬‬
‫‪ -‬األول‪ :‬ختلق كامل؛ أي بكل الصفات‪.‬‬
‫‪ -‬الثاين‪ :‬ختلق ناقص؛ أي ببعض الصفات‪.‬‬
‫فأي هذين املفهومني – أيضا – املقصود بالذات‪ ،‬والكنه‪ ،‬واحلقيقة يف الفكر الصويف ؟‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬التعرف ص‪ ،148‬الرسالة ‪ ،1/228‬مدارج السالكني ‪.1/173،177‬‬

‫‪23‬‬
‫هذا أيضا حيتاج إىل حتديد دقيق ؟‪.‬‬
‫فالتحديد مطلوب‪ ،‬وهذا ما نطمح إليه‪ .‬مع استصحاب نتيجة سابقة‪ :‬أن املتصوفة مل حيددوا التخلق‬
‫بشيء‪ ،‬بل أطلقوه‪ ،‬ففيه إشارة إىل أنه ختلق كامل غري ناقص‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫‪1‬‬
‫‪ -1‬قال اجلنيد‪" :‬أن مييتك احلق عنك‪ ،‬وحيييك به"‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -2‬قال أبو يعقوب املزايلي‪" :‬التصوف حال تضمحل فيها معامل اإلنسانية"‪.‬‬
‫‪ -3‬قال القشريي‪" :‬ويقال‪ :‬الصويف‪ :‬املصطلم عنه مبا الح من احلق"‪.3‬‬
‫في تعريف الجنيد‪ :‬ذكر احلياة واملوت‪ .‬ومها مصطلحان ال يعربان عن حقيقة هذه األحوال‪ ،‬إمنا‬
‫يطلقان ويراد هبما‪ :‬الفناء‪ ،‬والبقاء‪ .‬واملعىن الذي حيمل عليه‪ :‬أن ميوت الصويف (= يفىن) عن‪ :‬إرادته‪،‬‬
‫صفاته‪ ،‬ذاته‪ .‬وحييا (= يبقى)‪ :‬بإرادة اهلل‪ ،‬بصفاته‪ ،‬بذاته‪ .‬هذه هي احتماالت الكالم‪:‬‬
‫‪ -‬فاألول‪ :‬مشروع مطلوب؛ أن يكون عمل اإلنسان وفق إرادة اهلل تعاىل‪.‬‬
‫‪ -‬والثاين‪ :‬من املقررات واملبادئ الصوفية؛ أن يتخلى عن صفاته‪ ،‬ويتحلى بصفات اهلل تعاىل (=‬
‫أخالق اهلل‪ .‬بتعبريهم)‪ ،‬وهنا يتصل هذا املصطلح مبصطلح سابق‪ ،‬هو‪" :‬التخلق بأخالق اهلل‬
‫تعاىل"‪ .‬فهذه نقطة التقاء بني هذين املصطلحني‪ :‬التخلق‪ ،‬والفناء‪.‬‬
‫‪ -‬والثالث‪ :‬كذلك من املقررات الصوفية احملضة‪ .‬وهي تشري إىل حالة احللول واالحتاد؛ أي يفىن عن‬
‫ذاته‪ ،‬ليبقى بذات اهلل تعاىل‪ .‬وهذا النوع ميثل احلالة املشار إليها‪.‬‬
‫فهذه األنواع كلها حمتملة يف كالم اجلنيد‪ :‬موافقة الشريعة‪ ،‬التخلق بأخالق اهلل‪ ،‬احللول‪.‬‬
‫وهذا بالنظر إىل مفردات التعريف‪ ،‬دون النظر إىل صاحب التعريف‪ ،‬فرمبا قصد اجلنيد شيئا‪ ،‬وتكلم‬
‫بكالم حيتمل أكثر من شيء؛ ولذا ال ميكن نسبة القول باحللول واالحتاد إليه‪ ،‬مبجرد تعريفه هذا‪ ،‬لكن‬
‫تربئته‪ ،‬وعدم حتميله معاين هذا الكالم كلها‪ ،‬ال يعين عدم سوق االحتماالت الثالثة؛ فإهنا احتماالت‬
‫هذا التعريف‪ ،‬وهي منسجمة مع الفكر الصويف‪ ،‬صادرة من متصوف‪ ،‬ويستشهد هبا املتصوفة يف‬
‫تأييد آراء يذهبون إليها‪ ،‬فرفض اجلنيد ملعاين احللول ال يربئ الفكر الصويف منها‪ ،‬وال مينع املتصوفة‪،‬‬
‫خصوصا احللولية‪ ،‬من استعمال كالمه فيها؛ لذا كان لزاما إيراد االحتماالت الواردة يف كالمه‪،‬‬
‫‪4‬‬
‫وليس االحتماالت املناسبة حلاله ومقامه‪.‬‬

‫‪ - 1‬الرسالة ‪.2/551‬‬
‫‪ - 2‬الرسالة ‪.2/556‬‬
‫‪ - 3‬الرسالة ‪.2/557‬‬
‫‪ - 4‬سيأيت توضيح هذا الصنيع يف آخر هذا البحث‪ ،‬يف احملصلة‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫وفي كالم المزايلي‪ :‬ذكر االضمحالل ملعامل اإلنسانية‪ .‬هذا هو التصوف عندهم‪ .‬فاالضمحالل‬
‫هو‪ :‬الفناء‪ ،‬والتالشي‪ ،‬واحملو‪ .‬فهذا املصطلح حيتمل املعاين اآلنفة؛ اضمحالل‪ :‬اإلرادة‪ ،‬الصفات‪،‬‬
‫الذات‪ .‬فأيها املراد ؟‪.‬‬
‫لدينا شاهد‪ ،‬رمبا ساعد على حتديد املعىن املراد‪ ،‬وهو قوله‪ :‬معامل اإلنسانية‪.‬‬
‫فاالضمحالل يلحق اإلنسانية نفسها‪ ،‬واإلنسانية مصطلح أعم من أن خيتص باإلرادة‪ ،‬أو الصفات‪،‬‬
‫فهو يشملها ويشمل الذات؛ فاإلنسان جمموع‪ :‬الذات‪ ،‬والصفات‪ ،‬واإلرادة‪ .‬وإذا اضمحلت هذه‬
‫الثالثة مل يبق لإلنسان وجود حقيقي‪ ،‬فحقيقة هذا الكالم إذن وظاهره احللول واالحتاد‪.‬‬
‫ويف هذا التعريف مل يذكر احلال املقابل لالضمحالل‪ ،‬كما يف تعرف اجلنيد‪ ،‬لكن هذا اليغري من‬
‫املعىن شيئا؛ إذ هذا عرف متبع عند الصوفية‪ ،‬يذكرون مرتبة الفناء‪ ،‬ويضمرون مرتبة البقاء‪ ،‬فال‬
‫يذكروهنا‪ ،‬اكتفاء باألول‪ ،‬فكل من فين عن نفسه بقي بربه‪ ،‬فالبقاء يتبع الفناء لزوما‪ ،‬فمرة يذكرونه‪،‬‬
‫ومرة ال يذكرونه؛ كونه معروفا‪.‬‬
‫وعن الذي ساقه القشيري‪ ،‬فاالصطالم هو‪ :‬الفناء‪ .‬وهبذا عرفوه فقالوا‪:‬‬
‫‪" -‬االصطالم الذايت‪ :‬هو غيبوبة العبد عن وجوده‪ ،‬جباذب احلضرة اإلهلية الذاتية‪ ،‬فيذهب عن‬
‫حسه‪ ،‬ويفىن عن نفسه‪ ،‬وهذا هو مقام السكر"‪.1‬‬
‫ففي هذا التعريف بيان الحتاد معاين مصطلحات عدة‪ ،‬هي‪ :‬السكر‪ ،‬والغيبة‪ ،‬واجلذب‪ ،‬والذهاب‪،‬‬
‫واالصطالم‪ .‬كلها مبعىن الفناء‪.‬‬
‫ويف هذا التعريف أيضا االحتماالت الثالثة‪ :‬االصطالم عن اإلرادة‪ ،‬والصفات‪ ،‬والذات‪ .‬وبالرجوع‬
‫إىل التعريف‪ :‬ندرك أن املعىن الثالث (= االصطالم عن الذات) مقصود‪ .‬يف قوهلم‪" :‬غيبوبة العبد عن‬
‫وجوده"‪ ،‬والغيبة عن الوجود‪ ،‬غيبة عن الذات‪.‬‬
‫كذلك حيتمل املعىن الثاين (= االصطالم عن الصفات)‪ ،‬يف قوهلم‪" :‬يذهب عن حسه‪ ،‬ويفىن عن‬
‫نفسه"‪ .‬واحلس والنفس يطلقان ويراد هبما فناء الشهود‪ ،‬وهو يتضمن فناء الصفات‪ .‬كما أن نفي‬
‫الوجود – يف هذا السياق‪ ،‬ال يف كل سياق – قد يراد به فناء الشهود؛ إذ حكم بغيابه عن وجوده‪،‬‬
‫ومل يعقبه ببقائه يف وجود احلق‪ ،‬أو باستهالكه فيه‪.‬‬
‫وبذلك يكون هذا التعريف يتضمن‪ :‬فناء الصفات أوال‪ ،‬وفناء الذات ثانيا‪ .‬ومحله على فناء اإلرادة‬
‫بعيد؛ فوصف االصطالم‪ ،‬والسكر وحنومها ال يستعمل يف فناء اإلرادة‪ ،‬ففي هذه األحوال يذهب‬
‫العقل‪ ،‬ويغيب عن حضوره‪ ،‬وفناء اإلرادة ال حيدث فيه هذا الغياب‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪ - 1‬معجم االصطالحات الصوفية ص‪ ،44‬وهو تعريف اجليلي‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫وبعد املقارنة والنظر‪ :‬نرى اتفاق هذه التعريفات على االحتمال الثالث‪ :‬فناء الذات‪ .‬الدال على‬
‫احللول واالحتاد‪ .‬كذلك اتفاقها على االحتمال الثاين‪ :‬فناء الصفات‪.‬‬
‫فهذه املعاين غالبة‪ ،‬مع وجود إشارة حمتملة إىل فناء اإلرادة يف تعريف اجلنيد‪.‬‬
‫ويف التعريفات للجرجاين‪:‬‬
‫‪" -‬التصوف‪ .. :‬وقيل‪ :‬تصفية القلب عن موافقة الربية‪ ،‬ومفارقة األخالق الطبعية‪ ،‬وإمخاد الصفات‬
‫البشرية"‪.1‬‬
‫وإذا مخدت الصفات البشرية‪ ،‬بقي بالصفات اإلهلية‪.‬‬
‫وقد ذكر الكالباذي – وهو من األئمة املتقدمني‪ ،‬وكتابه من أقدم املؤلفات – يف تعريف الفناء أنه‪:‬‬
‫"الغيبة عن صفات البشرية‪ ،‬باحلمل املوله من نعوت اإلهلية‪ .‬وهو أن يفىن عنه أوصافه البشرية‪ ،‬اليت‬
‫‪2‬‬
‫هي‪ :‬اجلهل‪ ،‬والظلم"‪.‬‬
‫ويف هذا الكالم إشارة إىل‪ :‬فناء اإلرادة؛ إذ ترك الظلم واجلهل يأيت من موافقة اإلرادة اإلرادة اإلهلية‪،‬‬
‫والفناء عن اإلرادة البشرية‪ ،‬اليت حتمل هذه الصفات‪ .‬وال ينكر وجود هذا املعىن ( = فناء اإلرادة) يف‬
‫كالمهم‪ ،‬حىت بالتصريح‪ ،‬وليس هذا حمل البحث‪:‬‬
‫‪ -‬إمنا يف املعنيني اآلخرين هل مها موجودان‪ ،‬أم ال ؟‪.‬‬
‫‪ -‬وما منزلتهما‪ ،‬إن كان موجودين ؟‪.‬‬
‫فقد تبني أن هذه التعريفات‪ ،‬وغريها كثري‪ :‬تشري إىل وجود فناء الذات والصفات يف كالمهم‪ ،‬ولو‬
‫على وجه االحتمال‪ .‬أما عن منزلتهما فاملباحث اآلتية معنية بالكشف عنها‪.‬‬
‫‪ -4‬الفناء والتخلق‪.‬‬
‫وال مير هذا التحرير دون التذكري بأمر يفيد يف فهم موضوع التصوف‪:‬‬
‫فبما أن التص وف فسر ب التخلق والفن اء مع ا‪ ،‬فثمة عالقة بينهما إذن‪ .‬وه ذا يع رف من معرفة معىن‬
‫املصطلحني؛ فقد تقدم أن الفناء‪ :‬زوال‪ ،‬واضمحالل‪.‬‬
‫والتخلق بأخالق ما‪ ،‬يفيد‪ :‬ترك أخالق الذات واإلقالع عنها‪ ،‬وهذا مقصود لغريه‪ ،‬والتلبس‬
‫باألخالق األخرى‪ ،‬وهذا مقصود لذاته‪.‬‬
‫هذا الرتك واإلقالع هو املعىن نفسه للفناء؛ فالفناء‪ :‬ترك للحال اخلاص‪ ،‬وتلبس حبال أخرى‪.‬‬

‫‪ - 1‬ص‪.27‬‬
‫‪ - 2‬التعرف ص‪.148‬‬

‫‪26‬‬
‫فالتخلق يتضمن معىن الفناء إذن‪ .‬فهو فناء عن أخالق النفس‪ ،‬هذا أوالً‪ ..‬للتخلق بعده بأخالق اهلل‬
‫تعاىل‪ ،‬وهذا ثانيا‪ .‬وهذا ما يسمى يف املصطلح الصويف بالبقاء‪ .‬وقد تقدمت اإلشارة إىل هذه العالقة‬
‫‪3‬‬
‫سابقا‪.‬‬
‫فكل فناء يتبعه بقاء‪ .‬فالتخلق فعل‪ ،‬أوله‪ :‬فناء‪ .‬وآخره‪ :‬بقاء‪.‬‬
‫فمقصوده بالذات‪ :‬البقاء باألخالق اجلديدة‪ .‬وأما الفناء عن األخالق القدمية فمقصود لغريه‪.‬‬
‫يقول الشاطيب مبينا العالقة بني التخلق والفناء‪:‬‬
‫"حاصل ما يرجع إليه لفظ التصوف عندهم معنيان‪:‬‬
‫‪ -‬أحدمها‪ :‬التخلق بكل خلق سين‪ ،‬والتجرد عن كل خلق دين‪.‬‬
‫‪ -‬واآلخر‪ :‬أنه الفناء عن نفسه‪ ،‬والبقاء لربه‪.‬‬
‫ومها يف التحقيق إىل معىن واحد‪ ،‬إال أن أحدمها‪ :‬يصلح التعبري به عن البداية‪ .‬واآلخر‪ :‬يصلح التعبري به‬
‫عن النهاية‪ .‬وكالمها اتصاف‪ ،‬إال أن األول‪ :‬ال يلزمه احلال‪ .‬والثاين‪ :‬يلزمه احلال‪.‬‬
‫وقد يعرب فيهما بلفظ آخر‪ ،‬فيكون األول‪ :‬عمال تكليفيا‪ .‬والثاين‪ :‬نتيجته‪ .‬ويكون األول‪ :‬اتصاف‬
‫الظاهر‪ .‬والثاين‪ :‬اتصاف الباطن‪ .‬وجمموعهما هو التصوف"‪.2‬‬
‫فمحصل التصوف‪ :‬فناء عن أخالق النفس والذات‪ .‬بقاء بأخالق اهلل تعاىل‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وهكذا نص املتصوفة‪ ،‬ملا تكلموا يف معىن التصوف‪ ،‬ففسروه بالفناء‪ ،‬إما بنص مباشر ( باللفظ)‪ ،‬أو‬
‫بنص غري مباشر (باملعىن)‪ ،‬وفسروه بالتخلق كذلك‪ ،‬باللفظ واملعىن‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ت بني مما مض ى‪ :‬أن الفن اء موض وع التص وف‪ .‬فه ذا املعىن ك ان ظ اهرا بألف اظ كث رية مرادف ة‪،‬‬
‫كاالصطالم‪ ،‬واالضمحالل‪ ،‬والسكر‪ ،‬والغيبة‪ ،‬واجلذب‪ ..‬إخل‪ ،‬وليس هذا كل شيء؛ فإن طائفة من‬
‫التعريفات جعلت موضوع التصوف‪ :‬الفناء‪ .‬باللفظ نفسه‪ ،‬دون اللجوء إىل املرادفات‪ ،‬وذلك يعطي‬
‫فس ر‬
‫هذا املعىن توهجا‪ ،‬يستحق به أن يكون موضوع التصوف؛ إذ تكرر بلفظه‪ ،‬وبألفاظ مرادفة‪ ،‬وبه ّ‬
‫التصوف يف كالم املتصوفة‪ ،‬وهذا ما مل حيظ به‪ :‬الزهد‪ ،‬والصوف‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬ص‪.29‬‬
‫‪ - 2‬االعتصام ‪ .1/207‬يالحظ هنا‪ :‬أن الشاطيب عكس هذه العالقة‪ ،‬فجعل التخلق أوالً‪ ،‬مث التخلق ثانياً‪.!!..‬‬
‫وأما يف كالم الصوفية فالعكس؛ ذلك أن الفناء ختلص من األوصاف املوجودة‪ ،‬لتحصل التخلية‪ ،‬ليمكن بعدها التحلي‬
‫باكتساب األخالق اإلهلية‪ .‬فهذا هو التخلق عندهم‪.‬‬
‫وسبب ما ذهب إليه‪ :‬أنه ينظر إىل معىن التخلق عندهم على أنه‪ :‬ختلص من األخالق الذميمة فحسب‪ ،‬دون البشرية عموما‪،‬‬
‫ليحصل بعدها اكتساب احملمودة منها‪ ،‬يف نطاق بشري‪.‬‬
‫والفكر الصويف يرى التخلق أعم من ذلك‪ ،‬ختلص كلي من البشرية‪ ،‬وختلق كلي باإلهلية‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫عودة إلى حقيقة الفناء‪.‬‬
‫من هذه التعريفات ندرك‪ :‬أي معاين الفناء خيتصه به الفكر الصويف ؟‪.‬‬
‫فمن املقط وع ب ه‪ :‬أن فن اء الش هود (ومنه الص فات)‪ ،‬والوج ود ( ومنه ال ذات)‪ :‬ه دف وغاية يف ه ذا‬
‫الفكر‪ .‬يتبني ذلك من التعريفات اآلنفة‪:‬‬
‫فأما فن اء الش هود (والص فات)‪ ،‬ف إهنم ال ينك رون إرادته وقص ده‪ ،‬وكونه ه دفا للتص وف‪ ،‬فه ذا أمر‬
‫مس لّم به عند مجيعهم‪ ،‬فقد ذك روا أن العبد يتخلص من ص فاته الذاتي ة‪ ،‬ليتخلق ب أخالق اهلل تع اىل‪،‬‬
‫جاء ذلك يف كالم‪ :‬النوري‪ ،‬والغزايل‪ ،‬وابن عريب‪ ،‬واجليلي‪ ،‬والكاشاين‪ ،‬وقد تقدم‪.‬‬
‫وأما فناء الوجود (والذات)‪ ،‬فهو كذلك مراد‪ ،‬بدليل اهتام مجع من املتصوفة به‪ ،‬من البسطامي‪ ،‬إىل‬
‫الش بلي‪ ،‬واحلالج‪ ،‬والن وري‪ ،‬وأيب محزة البغ دادي‪ ،‬إىل ابن ع ريب‪ ،‬وابن الف ارض‪ ،‬والتلمس اين‪ ،‬وابن‬
‫سبعني‪ ،‬والقونوي‪ ،‬وغريهم‪ .‬فال يشك أحد من الباحثني تقرير هؤالء هلذا اهلدف مبدأ للتصوف‪ ،‬أو‬
‫على األقل موجود ثابت يف كالم كثري منهم‪ ،‬منسوب إىل بعضهم‪ ،‬حمتمل يف كالم كثري منهم‪.‬‬
‫فهذان االجتاهان موجودان يف التصوف إذن‪.‬‬
‫وهبذا نقرتب من معرفة الوصف املميز للتصوف‪:‬‬
‫‪ -‬إنه الفناء عن البشرية ( بالذات‪ ،‬أو الصفات)‪ ،‬والبقاء باإلهلية (بالذات‪ ،‬أو الصفات)‪:‬‬
‫فأما الفن اء عن ال ذات البش رية‪ ،‬والبق اء بال ذات اإلهلي ة‪ ،‬فه ذا هو عني احلل ول واالحتاد؛ ف إن حبل ول‬
‫الذات اإلهلية يف اإلنسان تفىن ذاته‪ ،‬وكذا باحتاد بالذات اإلهلية‪ ،‬فاحللول هو االحتاد يف بعض األقوال‪،‬‬
‫قال اجلرجاين‪:‬‬
‫‪ " -‬احللول عبارة عن احتاد جسمني‪ ،‬حبيث تكون اإلشارة إىل أحدمها‪ ،‬إشارة إىل اآلخر"‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪" -‬االحتاد هو تصيري الذاتني واحدة"‪.‬‬
‫لكن بينهما فرق هو‪ :‬أن االحتاد امتزاج كلي‪ ،‬ال سبيل لالنفصال‪ ،‬أما احللول فامتزاج جزئي‪ ،‬ميكن‬
‫الفصل بني احلال واحمللول‪.‬‬
‫وهذا احللول إما أن يكون خاصا‪ ،‬أو عاما‪ ،‬فإذا كان عاما فهو ما يسمى بوحدة الوجود؛ ألنه حلول‬
‫يف مجيع الكائنات‪.‬‬
‫وعليه نفهم قدرا مهما من التصوف هو كونه يتضمن مبادئ‪ :‬احللول‪ ،‬واالحتاد‪ ،‬والوحدة‪.‬‬
‫وليس غريبا إن قيل‪ :‬إن تعريفات األئمة املتصوفة تفيد هذا املعىن بشكل جلي‪ ،‬ظاهر‪.‬‬
‫تلك التعريفات اليت جتعل التصوف‪ :‬حاال تضمحل فيه معامل اإلنسانية‪ ،‬وفناءا عن الوجود‪ ،‬فالوجود‬
‫واملعامل اإلنسانية أمساء وأوصاف تدل على الذات‪.‬‬

‫‪ - 1‬التعريفات ص‪.41،3‬‬

‫‪28‬‬
‫بل إن تلك التعريفات اليت خصت الصفات بالذكر‪ ،‬فجعلت التصوف‪ :‬الفناء عن صفة العبد‪ ،‬وإمخادا‬
‫للصفات البشرية‪ .‬فيها ما يفيد املعىن األول‪ :‬الفناء عن الذات‪.‬؟!!‪.‬‬
‫فحقيقة األمر – ب النظر إىل الكيفية اليت يق رر هبا املتص وفة‪ :‬فك رة التخلق ب أخالق اهلل – فإنه ال ف رق‬
‫بني أن يقال‪ :‬الفناء عن الصفات البشرية‪ .‬وأن يقال‪ :‬الفناء عن الذات البشرية‪.‬؟!‪.‬‬
‫ذلك أن العالقة بني الذات والصفات ال تنفك‪ ،‬فالفصل بينهما ذهين‪ ،‬ال حقيقة له يف خارج الذهن‪،‬‬
‫فال ص فات إال ب ذات‪ ،‬وال ذات إال بص فات‪ .‬وعلي ه‪ :‬فمن نفى الص فات البش رية كله ا‪ ،‬فإنه هبذا قد‬
‫نفى الذات نفسها‪ .‬فالذات تتغري بالتغري الكلي للصفات‪.‬‬
‫فهؤالء املتصوفة يقولون بالتخلق بأخالق اهلل تعاىل‪ ،‬وال يستثنون شيئا من الصفات اإلهلية‪ ،‬فكالمهم‬
‫يفيد أن‪ :‬التخلق يك ون كلي ا‪ ،‬وليس جزئي ا‪ .‬فهو فن اء كلي عن الص فات البش رية‪ ،‬وبق اء كلي‬
‫بالصفات اإلهلية‪ .‬وما هذا إال فناء عن الذات ذاته‪ ،‬وليس عن الصفات فحسب‪.‬‬
‫وليس هلم خمرج من ه ذا‪ ،‬إال ب أن يق رروا‪ :‬أن التخلق ج زئي‪ .‬فالفن اء يك ون عن ش يء من الص فات‬
‫البشرية‪ ،‬ال كلها‪ .‬والبقاء يكون بشيء من الصفات اإلهلية‪ ،‬ال كلها‪ .‬وما رأينا يف كالمهم مثل هذا‬
‫التفصيل‪ ..‬ما رأينا إال اإلمجال والتعميم‪.!!..‬‬
‫فالفن اء عن الص فات البش رية‪ ،‬حبسب إطالق املتص وفة‪ ،‬يع ود إىل معىن الفن اء عن ال ذات البش رية‪.‬‬
‫وبذلك يكون معناه‪ :‬احللول‪ ،‬واالحتاد‪ ،‬ووحدة الوجود‪.‬‬
‫وهذا الزم هلم‪ ،‬وإن أنكروه‪ ،‬إال أن يعيدوا صياغة مذهبهم بالتفصيل‪ ،‬والتفسري‪ ،‬ونفي أن يكون‬
‫‪1‬‬
‫التخلق كليا‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫نصوص المتصوفة في ‪ :‬الحلول‪ ،‬واالتحاد‪ ،‬والوحدة ‪.‬‬
‫يف ه ذا الب اب‪ ،‬للمتص وفة نص وص كث رية ج دا‪ ،‬ص رحية العب ارة والدالل ة‪ ،‬كما أن هلم نصوصا حتتمل‬
‫هذا املعىن بوضوح‪:‬‬
‫‪ -‬ينقل السراج عن أيب علي الروذباري‪ :‬أنه أطلق على أيب محزة البغدادي أنه حلويل‪ .‬وذلك أنه‬
‫مسع صوتا‪ ،‬مثل‪ :‬الرياح‪ ،‬وخرير املاء‪ ،‬وصياح الطيور‪ .‬فكان يصيح ويقول‪ :‬لبيك‪ .‬فرموه‬
‫باحللول‪ ،‬مث ذكر السراج الطوسي‪ :‬أن أبا محزة دخل دار احلارث احملاسيب‪ ،‬وكان للحارث شاة‪،‬‬
‫فصاحت ‪ ،‬فشهق أبو محزة وقال‪" :‬لبيك سيدي‪ .‬فغضب احلارث وعمد إىل سكني‪ ،‬وقال‪ :‬إن مل‬

‫‪ - 1‬مما جيد التنبيه له هنا‪ :‬أنه ال يلزم من هذا أن كل صويف فهو من أهل احللول‪ ،‬فإن الزم املذهب ليس مبذهب‪ ،‬وكما‬
‫يقول الناس كالما‪ ،‬ويرون رأيا‪ ،‬وال يدركون لوازمه‪ .‬والبحث يف مسألة من الصويف ليس حمله هذه الدراسة‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫تتب من هذا الذي أنت فيه‪ ،‬أذحبك‪ .‬قال أبو محزة‪ :‬إذا أنت مل حتسن تسمع هذا الذي أنا فيه‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫فلم تأكل النخالة بالرماد"‪.‬‬
‫وذكر ابن اجلوزي قول أيب يزيد البسطامي‪ ":‬سبحاين‪ ،‬سبحاين‪ ،‬ما أعظم سلطاين‪ ،‬ليس مثلي يف‬ ‫‪-‬‬
‫السماء يوجد‪ ،‬وال مثلي صفة يف األرض تعرف‪ ،‬أنا هو‪ ،‬وهو أنا‪ ،‬وهو هو"‪.‬‬
‫وساق ابن اجلوزي سنده إىل احلسن بن علي بن سالم قال‪ " :‬دخل أبو يزيد مدينة‪ ،‬فتبعه منها‬ ‫‪-‬‬
‫جن أبو يزيد؛‬
‫خلق كثري‪ ،‬فالتفت إليهم فقال‪ :‬إين أنا اهلل ال إله إال أنا فاعبدون‪ .‬فقالوا‪ّ :‬‬
‫فرتكوه"‪.‬‬
‫ونقل قوله‪ " :‬دفع يب مرة حىت قمت بني يديه‪ ،‬فقال يل‪ :‬يا أبا يزيد إن خلقي حيبون أن يروك‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫قلت‪ :‬يا عزيزي‪ ،‬إن كانوا حيبون يروين وأنت تريد ذلك‪ ،‬وأنا ال أقدر على خمالفتك‪ ،‬فزيين‬
‫بوحدانيتك‪ ،‬وألبسين ربانيتك‪ ،‬وارفعين إىل أحديتك‪ ،‬حىت إذا رآين خلقك‪ ،‬قالوا‪ :‬رأيناك‪ ،‬فيكون‬
‫‪2‬‬
‫أنت ذلك‪ ،‬وال أكون أنا هناك‪ ،‬ففعل يب ذلك"‪.‬‬
‫ونقل أبو عبدالرمحن السلمي عن الشبلي قوله‪ " :‬وما افرتقنا‪ ،‬وكيف نفرتق ومل جير علينا حال‬ ‫‪-‬‬
‫اجلمع أبدا "‪.3‬‬
‫واهلجويري عنه قوله‪ " :‬الصويف ال يرى يف الدارين مع اهلل غري اهلل" ‪.4‬‬ ‫‪-‬‬
‫وأما احلالج فقد زعم أن من هتذب بالطاعة‪ ،‬ال يزال يصفو عن البشرية‪ ،‬حىت حيل فيه روح اهلل‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫الذي كان يف عيسى عليه السالم‪ ،‬فال يريد شيئا إال كان‪ .5‬ويقول‪:‬‬
‫سر سنا الهوته الثاقب‬ ‫سبحان من أظهر ناسوته‬
‫يف صورة اآلكل والشارب‬ ‫مث بدا يف خلقه ظاهرا‬
‫‪6‬‬
‫كلحظة احلاجب باحلاجب‬ ‫حىت لقد عاينه خلقه‬
‫وذكر عنه السلمي قوله‪ " :‬ما انفصلت البشرية عنه وال اتصلت به "‪.7‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪ -1‬اللمع‪ ،‬الطوسي‪ ،‬ص‪ .495‬تلبيس إبليس‪ ،‬ابن اجلوزي‪ ،‬ص‪.170‬‬


‫‪ -2‬انظر النصوص السابقة عن أيب يزيد يف‪ :‬تلبيس إبليس‪ ،‬ابن اجلوزي‪ ،‬ص‪.345‬‬
‫‪ -3‬طبقات الصوفية‪ ،‬السلمي‪ ،‬ص‪.342‬‬
‫‪ -4‬كشف احملجوب‪ ،‬اهلجويري‪.1/235 ،‬‬
‫‪ -5‬انظر‪ :‬دائرة معارف القرن العشرين‪ ،‬فريد وجدي‪ ،10/355 ،‬التصوف بني احلق واخللق‪ ،‬شقفة‪ ،‬ص‪.61‬‬
‫‪ -6‬ديوان احلالج ص ‪ .30‬وانظر‪ :‬تلبيس إبليس‪ ،‬ابن اجلوزي‪ ،‬ص ‪ .171‬مصرع التصوف‪ ،‬البقاعي‪ ،‬ص‪.178‬‬
‫‪ -7‬طبقات الصوفية‪ ،‬السلمي‪ ،‬ص‪.311‬‬

‫‪30‬‬
‫‪ -‬وقد زعم أن اهلل حل فيه‪ ،‬وكان يرسل رسائل إىل أصحابه على أنه هو اهلل تعاىل‪ ،‬ويف كتبه شيء‬
‫كثري من هذا‪ ،‬فهو حمل إمجاع عند أهل العلم أنه يقول باحللول‪ ،‬وكان يقول‪ " :‬إين مغرق قوم‬
‫نوح‪ ،‬ومهلك عاد ومثود"‪ ،‬وله اجلملة املشهورة‪" :‬أنا احلق"‪.1‬‬
‫‪ -‬ويروي الطوسي عن سهل بن عبد اهلل التسرتي قوله‪ ،‬وقد سئل عن سر النفس‪ ،‬فقال‪" :‬النفس‬
‫سر ما ظهر ذلك السر على أحد من خلقه إال فرعون‪ ،‬فقال‪ :‬أنا ربكم األعلى"‪ .2‬فهذا صريح يف‬
‫احللول واالحتاد‪ ،‬ومثل هذا الكالم قد يكون منسوبا إىل التسرتي‪ ،‬إال أن‪:‬‬
‫‪ -‬استشهاد الطوسي به‪ ،‬وسوقه‪ ،‬يدل على رضاه به؛ فإنه ذكره تقريرا آلراء املتصوفة‪،‬‬
‫وليس جمرد ذكر‪ ،‬فهو إذن من اآلراء الصوفية‪.‬‬
‫‪ -‬واعتماد املتصوفة كتاب الطوسي "اللمع"‪ ،‬وجعلهم إياه من الكتب املعتمدة‪ ،‬وعدم نقد‬
‫شيء فيه‪ ،‬مبا فيه هذه الكلمة وحنوها‪ ،‬يدل على رضاهم به‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ولو ذهبنا ننتبع أق واهلم ما خلص نا؛ لكثرهتا‪ ،‬فما من إم ام مش هور ل ديهم إال ولديه ش يء من ه ذا‬
‫الكالم‪ ،‬إما بالتصريح‪ ،‬وإما باإلشارة والتلميح‪ ،‬مل يسلم من هذا إال بعضهم كاحملاسيب‪ ،‬فهذه املعاين‬
‫موج ودة ظ اهرة يف كالمهم‪ ،‬ه ذا ال ميكن إنكاره ا‪ ،‬وتبقى حماكمة كل من ق ال هبا‪ :‬إن ك ان قاص دا‬
‫هلا‪ ،‬أم ال ؟‪.‬‬
‫فهذا أمر يعسر احلكم به‪ ،‬إذ ما يف القلوب ال يعلم به إال اهلل تعاىل‪ ،‬وهؤالء كثري منهم التبست عليهم‬
‫العب ارات والكلم ات‪ ،‬فخلط وا بني املع اين واأللف اظ‪ ،‬فتكلم وا بألف اظ الحتتمل إال مع اين‪ :‬احلل ول‪،‬‬
‫واالحتاد‪ ،‬والوحدة‪.‬‬
‫واملهم يف األم ر‪ :‬أن ه ذا اإلص رار على تقرير ه ذه املع اين‪ ،‬بقصد أو ب دون قص د‪ ،‬مل يكن ل وال أهنا‬
‫القضية األصل واألساس للتصوف‪:‬‬
‫‪ -‬فمن املتصوفة من فهم هذه املسألة‪ ،‬واعتنقها‪ ،‬فتكلم بكل ذلك عن علم ودراية‪.‬‬
‫‪ -‬ومنهم من مل يدركها‪ ،‬لكن تكلم مبثل تكلم املدرك؛ كون اللغة واحدة عند اجلميع‪.‬‬
‫وهكذا اتفقت الفئتان‪ :‬على تقرير مبدأ التصوف بالصورة نفسها اليت كانت عليه قدميا‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫‪ -5‬موقع الوحدة من حقيقة التصوف‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬قد فُ ّس ر التص وف ب احللول واالحتاد‪ ،‬ب النظر إىل أن معن اه‪ :‬الفن اء يف ال ذات اإلهلي ة‪ ،‬والتخلق‬
‫بأخالق اهلل تعاىل‪ .‬وهذان إمنا خيتصان بالفرد وحده‪ ،‬لكن‪:..‬‬

‫‪ -1‬ديوان احلالج ص‪ ،202‬الفهرست‪ ،‬ابن الندمي ص‪.329‬‬


‫‪ -2‬اللمع‪ ،‬الطوسي‪ ،‬ص‪.299‬‬

‫‪31‬‬
‫أين موقع الوحدة من هذه الفكرة‪ ،‬وقد علم أهنا غري خمتصة بفرد وحده‪ ،‬وال جبنس اإلنسان‪ ،‬بل بكل‬
‫الكائنات املوجودة يف هذا العامل ؟!‪.‬‬
‫فاجلواب‪ :‬هلا موقع أساس يف هذه الفكرة‪ ،‬من جهتني اثنتني‪:‬‬
‫‪ -‬األوىل‪ :‬أن الوحدة حلول يف ذاهتا‪ ،‬لكنها حلول عام‪ .‬فمن هذه اجلهة تعلقت بالفكرة‪.‬‬
‫‪ -‬الثانية‪ :‬أن التصوف يرى كل شيء‪ :‬هباءا‪ ،‬وسرابا‪ .‬ليس له من ذاته وجود‪ ،‬وال فعل‪ ،‬فوجوده‪،‬‬
‫وفعله من غريه؛ من القوة اإلهلية املهيمنة‪ ،‬اليت حتل به فتعطيه الوجود‪ ،‬والفعل‪.‬‬
‫وهذه الفكرة موجودة يف التصوف القدمي‪ ،‬ما قبل اإلسالم‪ ،‬مث إهنا انتقلت إىل املسلمني‪ ،‬وقد ذكر‬
‫البريوين هذا‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫" ومنهم من كان يرى الوجود احلقيقي للعلة األوىل فقط‪ ،‬الستغنائها بذاهتا فيه‪ ،‬وحاجة غريها إليها‪،‬‬
‫وأن ما هو مفتقر يف الوجود إىل غريه‪ ،‬فوجوده كاخليال غري حق‪ ،‬واحلق هو الواحد األول فقط‪.‬‬
‫وهذا رأي (السوفية) وهم احلكماء‪ ،‬فإن (سوف) باليونانية احلكمة‪ ،‬وهبا مسي الفيلسوف (بيالسوبا)‪،‬‬
‫أي حمب احلكمة‪.‬‬
‫وملا ذهب يف اإلسالم قوم إىل قريب من رأيهم‪ ،‬مسوا بامسهم‪ ،‬ومل يعرف اللقب بعضهم فنسبهم‬
‫ص ّحف بعد ذلك‪ ،‬فصُرّي‬ ‫للتوكل إىل (الصفة)‪ ،‬وأهنم أصحاهبا يف عصر النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬مث ُ‬
‫من صوف التيوس"‪.1‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫‪ -6‬فناء اإلرادة‪ ،‬ومحلها من التصوف‪.‬‬
‫مما ذكر من مع اين الفن اء‪ :‬فناء اإلرادة؛ أي فناء إرادة العبد يف إرادة اهلل تع اىل‪ .‬وه ذا املعىن منه ما هو‬
‫واجب شرعا‪ ،‬ومنه ما هو مندوب شرعا‪ ،‬وقد نص املتصوفة عليه‪ ،‬فهو موجود يف كالم‪ :‬الطوسي‪،‬‬
‫والكالباذي‪ ،‬والسلمي‪ ،‬والقشريي‪ ،‬وغريهم‪.‬‬
‫وإذا كان كذلك‪ :‬فلم يُهمل ويُعرض عنه‪ ،‬ويُغلّب عليه املعىن الغايل‪ :‬فناء الذات والوجود‪ .‬أليس هذا‬
‫من التحامل على التصوف واملتصوفة‪ ،‬وتقدمي سوء الظن على حسن الظن ؟!‪.‬‬
‫واجلواب‪ :‬نعم فن اء اإلرادة يف كالمهم موج ود‪ ،‬ه ذا ال ينك ره أح د‪ ،‬وإمنا ال ذي محل على تفسري‬
‫التصوف بفناء الذات والوجود دونه أمور‪ ،‬هي‪:‬‬
‫أوال‪ :‬أن هذا النوع موجود يف املتصوفة‪ ،‬كذلك ال ينكره أحد‪ ،‬بصورة ظاهر الختفى‪ ،‬وبكثرة‪ ،‬وله‬
‫محلة ق ائلون ب ه‪ ،‬مث ل‪ :‬احلالج‪ ،‬وابن ع ريب‪ ،‬وابن الف ارض‪ ،‬والتلمس اين‪ ،‬والقون وي‪ ،‬وابن س بعني‪.‬‬
‫وهناك من اشتهر به‪ ،‬وله كلمات فيه‪ ،‬مثل‪ :‬البسطامي‪ ،‬والشبلي‪.‬‬

‫‪ - 11‬حتقيق ما للهند من مقولة مقبولة يف العقل أو مرذولة ص‪ ،27‬ويف قول البريوين جواب لقول من قال‪ :‬لو كان‬
‫"صويف" مأخوذ من "سوفيا" لقيل‪" :‬سويف"‪ ،‬انظر التصوف يف اإلسالم‪ ،‬عمر فروخ‪ ،‬ص‪.24،29‬‬

‫‪32‬‬
‫ثانيا‪ :‬أن املباحث السابقة عن‪ :‬نسبة الكلمة‪ ،‬ومعناها‪ ،‬وما سيأيت‪ ،‬تثبت هذه النتيجة‪.‬‬
‫ثالث ا‪ :‬أن ال ذين ق الوا بفن اء اإلرادة‪ ،‬وق رروه معىن للتص وف‪ :‬جتد يف كالم آخر هلم‪ :‬تقري را لفن اء‬
‫الذات‪ ،‬والوجود‪ .‬بصورة ملفتة‪ ،‬بل وتعظيم من قال به‪ ،‬والذب عنه عنه‪ ،‬وتأويل كالمهم‪ ،‬مما يوحي‬
‫بالرضا عما قالوه‪ ،‬ورمبا اعتقاده‪ ،‬وهذه أمثلة‪:‬‬

‫المثال األول‪ :‬الطوسي‪.‬‬


‫فقد وج دناه ي ذب وي دفع عن البس طامي والش بلي‪ ،‬ويت أول كلم ات هلم‪ ،‬ليس هلا احتم ال إال فن اء‬
‫ال ذات والوج ود‪ ،‬والغ ريب أن تأويله مل يكن بعي دا عن ص ريح كالمهم‪ ،‬فما زاد على أن وض حه‪،‬‬
‫وزاده تأكيدا‪ ،‬مث زعم أنه يدفع عنهم املعىن الظاهر ملقاهلم ذاك؟!‪.‬‬
‫يقول يف ذبه عن البسطامي‪" :‬وأما قوله‪ :‬ألبسين أنانيتك‪ ،‬حىت إذا رآين خلقك قالوا‪ :‬رأيناك‪ ،‬فتكون‬
‫أنت ذاك‪ ،‬وال أكون أنا هناك‪.‬‬
‫فهذا وأشباه ذلك يصف فناءه‪ ،‬وفناءه عن فنائه‪ ،‬وقيام احلق عن نفسه بالوحدانية‪ ،‬وال خلق قبل‪ ،‬وال‬
‫ك ون ك ان‪ .‬وكل ذلك مس تخرج من قوله ص لى اهلل عليه وس لم‪( :‬يق ول اهلل تع اىل‪ :‬ما زال عب دي‬
‫يتقرب إيل بالنوافل حىت أحبه‪ ،‬فإذا أحببته كنت عينه‪ ،‬اليت يبصر هبا‪ ،‬ومسعه الذي يسمع به‪ ،‬ولسانه‬
‫الذي ينطق به‪ ،‬ويده اليت يبطش هبا) ‪ ،1‬كما جاء يف احلديث‪.‬‬
‫وقد قال القائل يف وجده مبخلوق مثله‪ ،‬وقد وصف وجده مبحبوبه حىت قال‪:‬‬
‫فإذا أبصرتين أبصرتنا‬ ‫أنا من أهوى ومن أهوى أنا‬
‫ألبس اهلل علينا البدنا‬ ‫حنن روحان معا يف جسد‬
‫ف إذا ك ان خمل وق جيد مبخل وق‪ ،‬حىت يق ول مثل ذل ك‪ ،‬فما ظنك مبا وراء ذلك ؟‪ ،‬وبلغين عن بعض‬
‫احلكماء أنه قال‪ :‬ال يبلغ املتحابان حقيقة احملبة‪ ،‬حىت يقول الواحد لآلخر‪ :‬يا أنا"‪.2‬‬
‫إذن‪ ،‬يس وغ يف ح االت الوجد والس كر باحملبة أن يق ول اإلنس ان عن نفس ه‪ :‬أنا اهلل‪ .!!..‬هك ذا يق رر‬
‫الطوس ي‪ ،‬وهبذه الطريقة يفسر كالم البس طامي‪ ،‬فهو مل ينف عنه املقال ة‪ ،‬فأثبته ا‪ ،‬مث مل يفس رها مبا‬
‫ينفي عنه هتمة احللول واالحتاد‪ ،‬بل فسرها به‪.‬‬
‫وليس وحده الذي وافق البسطامي يف كالمه‪ ،‬فهذا أبو طالب يقول فيه‪":‬وقد كان أبو يزيد يقول‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫وحد بأولية بدت"‪.‬‬‫سبحاين‪ ،‬ما أعظم شأين‪ .‬وهو موحد؛ ألنه ّ‬
‫كذلك مثله ما ّأول به الطوسي كالم الشبلي‪ ،‬قال‪:‬‬

‫‪ - 1‬رواه البخاري بنحوه دون بعض الزيادات‪ ،‬يف صحيحه‪ ،‬عن أيب هريرة‪ ،‬الرقاق‪ ،‬باب‪ :‬التواضع‪.5/2385 .‬‬
‫‪ - 2‬اللمع‪ ،‬الطوسي‪ ،‬ص‪.463‬‬
‫‪ - 3‬قوت القلوب‪ ،‬أبو طالب املكي‪.2/86 ،‬‬

‫‪33‬‬
‫" مسعت أبا عبد اهلل بن جابان يقول‪ :‬دخلت على الشبلي رمحه اهلل يف سنة قحط‪ ،‬فسلمت عليه‪،‬‬
‫(مروا أنا‬
‫فلما قمت على أن أخرج من عنده‪ ،‬فكان يقول يل وملن معي‪ ،‬إىل أن خرجنا من الدار‪ّ :‬‬
‫معكم حيث ما كنتم‪ ،‬أنتم يف رعاييت ويف كالءيت)‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أراد بقوله ذلك‪ :‬إن اهلل تعاىل معكم حيث ما كنتم‪ ،‬وهو يرعاكم ويكلؤكم‪ ،‬وأنتم يف رعايته‬ ‫ُ‬
‫وكالءته؛ واملعىن يف ذلك‪ :‬أنه يرى نفسه حمقا فيما غلب على قلبه‪ :‬من جتريد التوحيد‪ ،‬وحقيقة‬
‫التفريد‪ ،‬والواجد إذا كان وقته كذلك‪ ،‬فإذا قال‪ :‬أنا؛ يعرب عن وجده‪ ،‬ويرتجم عن احلال الذي قد‬
‫استوىل على سره‪ ،‬فإذا قال‪ :‬أنا؛ يشري بذلك إىل ما غلب من حقيقة صفة مشاهدته قرب سيده"‪.1‬‬
‫فهو إذن يقرر ما قاله الشبلي‪ ،‬وال ينكره عليه‪ ،‬وال يفسره بغري ظاهر‪ ،‬بل يوضحه‪ ،‬ويبني مراده متاما‪،‬‬
‫زاعما أنه بذلك يذب عنه‪ ،‬وغاية ما فعله هو‪ :‬تثبيت ما اهتموا به‪.‬‬
‫مث بعد ه ذا‪ :‬ما قيمة أن ينقل نق والت عن األئمة الص وفية‪ :‬اجلني د‪ ،‬وأيب عثم ان احلريي‪ ،‬البس طامي‪،‬‬
‫وغريهم‪ ،‬يف وجوب اتباع النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،2‬وأن يقول يف بعض كالمه‪:‬‬
‫‪ " -‬فإذا قيل لك‪ :‬الصوفية من هم يف احلقيقة ؟‪ ،‬صفهم لنا‪.‬‬
‫‪ -‬فق ال‪ :‬هم العلم اء باهلل‪ ،‬وبأحك ام اهلل‪ ،‬الع املون مبا علمهم اهلل تع اىل‪ ،‬املتحقق ون مبا‬
‫استعملهم اهلل عز وجل‪ ،‬الواجدون‪ ،‬مبا حتققوا‪ ،‬الفانون مبا وجدوا"‪.3‬‬
‫أليس يف هذا حماولة للجمع بني نقيضني‪ :‬فناء اإلرادة‪ ،‬وفناء الذات ؟!‪.‬‬
‫فكيف ملن فنيت إرادته يف إرادة اهلل تعاىل‪ ،‬حىت صار ال يفعل إال ما أمر اهلل تعاىل‪ :‬أن يدعي أنه‪ :‬اهلل‬
‫تعاىل‪ .‬ولو بدعوى احملبة‪ ،‬والوجد‪ ،‬والسكر ؟!‪.‬‬
‫وبدعوى احلال الذي استوىل على السر‪ ،‬وغلبة حقيقة مشاهدته‪..‬‬
‫وب دعوى الفن اء عن الفن اء‪ ،‬وقي ام احلق عن نفسه بالوحداني ة‪ ،‬وال خلق قب ل‪ ،‬وال ك ون ك ان وأولية‬
‫بدت‪.!!..‬‬
‫إال إن ك ان يفسر قول ه‪" :‬الع املون مبا علمهم اهلل‪ ،‬املتحقق ون مبا اس تعملهم اهلل عز وج ل"‪ ،‬مبا يتوافق‬
‫فلكل أن يلبس‬ ‫وقول البسطامي والشبلي‪ ..‬فحينئذ‪ :‬حرمة اللغة منتهكة‪ ،‬واأللفاظ ال معاين هلا حمددة‪ٍ ،‬‬
‫املع اين ألفاظا نقيضة ومض ادة‪ ،‬ويضع لأللف اظ مع اين نقيضة ومض ادة‪ ،‬فكيف للن اس أن يفهم وا كالم‬
‫بعضهم‪ ،‬إذ كان احلال هذا ؟؟!!‪.‬‬

‫‪ - 1‬اللمع‪ ،‬الطوسي‪ ،‬ص‪.478‬‬


‫‪ - 2‬اللمع ص‪.144‬‬
‫‪ - 3‬اللمع ص‪.47‬‬

‫‪34‬‬
‫ه ذا وقد علم أن احلالج زن ديق باتف اق‪ ،‬قتل وهو مص ّر على قوله ب احللول واالحتاد‪ ،‬واليوجد أي‬
‫مسوغ لتربير كالمه‪ ،‬وتفسريه بشيء يدفع عنه‪ ،‬مث جند الطوسي‪ :‬يرتحم عليه‪ ،‬ويستشهد ببعض أقواله‬
‫تقريرا‪ ،‬ال اعرتاضا‪ .!!..‬وهذا من أعجب األمور ؟!!‪.‬‬
‫هذا الطوسي‪ ،‬وهو الذي عقد فصال يف كتابه‪" :‬اللمع"‪ .‬يرد فيه على احللولية‪ :‬يأيت إىل رأس احللولية‬
‫لينصره‪ ،‬ويعظمه‪ ،‬وجيلّه‪ ،!!..‬وهذا قوله فيه‪:‬‬
‫‪" -‬وسئل احلسني بن منصور – رمحه اهلل – الفقري الصادق‪ ..‬فقال‪.1 "..‬‬
‫‪" -‬وق ال احلسني بن منص ور – رمحه اهلل – يف بعض ما تكلم به عند قتل ه‪ :‬حسب الواجد إف راد‬
‫‪2‬‬
‫الواحد"‪ ،‬ويورد أن كل مشايخ الطريقة يف بغداد‪ ،‬استحسنوا منه هذه الكلمة‪.‬‬
‫المثال الثاني‪ :‬القشيري‪.‬‬
‫ألف القشريي كتابه‪" :‬الرسالة" بغرض تعظيم الشريعة‪ ،‬والعمل هبا‪ ،‬قال‪:‬‬
‫‪" -‬وك ان الغ رض من ذك رهم يف ه ذا املوض ع‪ :‬التنبيه على أهنم جممع ون على تعظيم الش ريعة‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫متصفون بسلوك طريق الرياضة‪ ،‬مقيمون على متابعة السنة‪."..‬‬
‫‪4‬‬
‫‪" -‬وارحتل عن القلوب حرمة الشريعة‪ ،‬فعدوا قلة املباالة بالدين أوثق ذريعة‪."..‬‬
‫انظ ره بعد ه ذا التقرير الص حيح‪ ،‬املل تزم بالش ريعة‪ :‬جتده ينقل عن احلالج نفسه ق وال يستش هد به يف‬
‫تقرير اعتقاد املتصوفة؛ إذ ساق سنده فقال‪:‬‬
‫‪" -‬أخربنا الش يخ أبو عبد ال رمحن الس لمي‪ ،‬رمحه اهلل تع اىل‪ ،‬ق ال‪ :‬مسعت حممد بن حممد بن غ الب‪،‬‬
‫ق ال‪ :‬مسعت أبا نصر أمحد بن س عيد األس فنجاين يق ول‪ :‬ق ال‪ :‬احلسني بن منص ور‪ :‬أل ِزم الكل‬
‫‪5‬‬
‫احلدث؛ ألن القدم له"‪.‬‬
‫احلالج أكرب منتهك للشريعة‪ ،‬ليس فيه أدىن تعظيم هلا‪ ،‬فكيف يتلقى عنه أمور االعتقاد؟!‪.‬‬
‫هل وقع هذا سهوا‪ ،‬يف حالة الالشعور‪ ،‬أم مذهب يف التأويل ؟!‪.‬‬
‫ويقول القشريي يف درجات الفناء‪:‬‬
‫‪" -‬فاألول‪ :‬أفناه عن نفسه وصفاته‪ ،‬ببقائه بصفات احلق‪.‬‬
‫‪ -‬مث فناؤه عن صفات احلق‪ ،‬بشهود احلق‪.‬‬

‫‪ - 1‬اللمع ص‪.151‬‬
‫‪ - 2‬اللمع ص‪.378 ،425‬‬
‫‪ - 3‬الرسالة‪ ،‬القشريي‪.1/198 ،‬‬
‫‪ - 4‬الرسالة ‪.1/22،23‬‬
‫‪ - 5‬الرسالة ‪.1/32‬‬

‫‪35‬‬
‫‪6‬‬
‫‪ -‬مث فناؤه عن شهود فنائه‪ ،‬باستهالكه يف وجود احلق"‪.‬‬
‫االس تهالك يف وج ود احلق‪ ،‬ليس س وى فن اء الوج ود وال ذات‪ ،‬فاالس تهالك ذه اب عني الف اين‪،‬‬
‫واض محالل ذاته يف ذات احلق‪ ،‬وإذا حصل ه ذا‪ ،‬فه ذا هو فن اء ال ذات والوج ود‪ ،‬وليس الش هود‪،‬‬
‫ويدل على هذا أنه ذكر الشهود يف املرتبة الثانية‪ ،‬ما قبل الثالثة‪ ،‬وليس بعد الشهود إال الوجود‪..!!..‬‬
‫فها هو القشريي‪ ،‬املوصوف باالعتدال يقرره‪ ،‬وينظّر له‪.!!..‬‬
‫وليس هذا النص الوحيد عنه يف هذا املعىن‪ ،‬فإنه يقول كذلك‪:‬‬
‫‪ " -‬ومن اس توىل عليه س لطان احلقيق ة‪ ،‬حىت مل يش هد من األغي ار‪ :‬ال عين ا‪ ،‬وال أث را‪ ،‬والرمسا‪ ،‬وال‬
‫‪2‬‬
‫طلال‪ .‬يقال عنه‪ :‬إنه فين عن اخللق‪ ،‬وبقي باحلق"‪.‬‬
‫فقد نفى كل ما يتعلق باألغي ار‪ ،‬وهم ما سوى اهلل تع اىل‪ ،‬حىت أعي اهنم نفاها‪ ،‬وما العني إال الوجود‪،‬‬
‫وال ذات‪ ،‬وأما األثر فهو الفع ل‪ ،‬ولو أنه وقف عن ده‪ ،‬لك ان كالمه يف الش هود‪ ،‬لكنه ما وق ف‪ ،‬بل‬
‫تعداه إىل العني‪ ،‬فكالمه يف وحدة الوجود‪ ،‬وإن كان ال يقصد هذا‪ ،‬فكالمه ال حيتمل إال هذا‪ ،‬وأما‬
‫قصده ونيته فإىل اهلل تعاىل‪.‬‬
‫وألن كالمه واضح يف هذا املعىن‪ ،‬مل يرتدد الباحثون املدققون يف تفسريه بوحدة الوجود‪:‬‬
‫يقول الدكتور حممد عابد اجلابري معلقا على قوله‪( :‬فناؤه عن شهود فنائه‪ ،‬باستهالكه يف وجود‬ ‫‪-‬‬
‫احلق)‪" :‬فاالستهالك يف وجود‪ ،‬مع فناء شهود ذلك الوجود‪ ،‬معناه التماهي مع ذلك الوجود‪ ،‬وهذا‬
‫‪3‬‬
‫هو وحدة الوجود"‪.‬‬
‫‪ -‬ويق ول املستش رق نيكلس ون‪" :‬ومن الغ ريب أن تص در الكلم ات األخ رية عن ص ويف س يّن‬
‫كالقشريي؛ ألهنا كلمات صرحية يف وحدة الوجود‪ .‬ولكن هلا مغزاها أيضا من ناحية أخرى؛ إذ‬
‫إهنا ترش دنا إىل اخلطر ال ذي نس تهدف ل ه‪ ،‬عن دما نأخذ أق وال الص وفية حبرفيته ا‪ ،‬ونفهم منها‬
‫معانيها الظاهرة‪ .‬والواقع‪ :‬أن القشريي ال يقصد مبا يسمى االستهالك يف وجود احلق‪ ،‬سوى فناء‬
‫الصويف عن فكره وإرادته‪ ،‬بالتأمل يف وجود احلق‪ ،‬واستهالكه يف ذلك‪ ،‬استهالكا ال وعي فيه‪،‬‬
‫ولكن كث ريا ما يك ون الفن اء مص حوبا حبالة يفقد فيها الص وفية إحساس هم‪ ،‬وإن ك ان ذلك ليس‬
‫‪4‬‬
‫باألمر العام فيهم"‪.‬‬

‫‪ - 6‬الرسالة ‪.1/231‬‬
‫‪ - 2‬الرسالة ‪.1/229‬‬
‫‪ - 3‬العقل األخالقي العريب‪ ،‬اجلابري‪ ،‬ص‪.479‬‬
‫‪ - 4‬يف التصوف اإلسالمي وتارخيه‪ ،‬نيكلسون‪ ،‬ص‪.101‬‬

‫‪36‬‬
‫فكالم القش ريي ص ريح الداللة – يف ظ اهره – على وح دة الوج ود‪ ،‬إال أنه جيب أال حناكم الص وفية‬
‫إىل ه ذا الظ اهر؛ فكث ريا ما يفقد الص وفية إحساس هم ح ال الفن اء‪ ،‬فيتكلم ون بظ اهر خيالف ما يف‬
‫باطنهم‪ ..‬هكذا يقول نيكلسون‪.‬‬
‫وقد أص اب‪ ،‬فظ اهر كالم القش ريي ال حيتمل إال وح دة الوج ود؛ أي أن األلف اظ اليت اس تعملها‪ ،‬ال‬
‫تس تعمل إال يف ه ذا املع ىن‪ .‬فأما أن ه ذا هو ما يقص ده باطن ا‪ ،‬ف ذلك أمر اليعلمه إال اهلل تع اىل‪ ،‬فرمبا‬
‫خانته العب ارة‪ ،‬أو ق ال عب ارات أهل الس كر‪ ،‬ال ذين ي رددون ما ال يري دون حقيقت ه‪ ،‬فوقف عند املعىن‬
‫الذي يقصده‪ ،‬ومل يتأمل يف مالءمته أللفاظه‪.‬‬
‫وحمصل األمر‪ :‬أن لنا الظاهر‪ ،‬أما الباطن فلله تعاىل‪ ،‬فاحلكم على األلفاظ نفسها‪ ،‬ال على القائلني هبا‪،‬‬
‫فما كان يردده القشريي منسجم متاما مع مبادئ‪ :‬احللول‪ ،‬واالحتاد‪ ،‬والوحدة‪.‬‬
‫المثال الثالث‪ :‬أبو علي الجوزجاني‪.‬‬
‫وهذا أبو علي اجلوزجاين‪ ،‬وله كلمات فيها اعتدال‪ ،‬ومع هذا يقول حينما يسأل عن األلفاظ اليت ترد‬
‫عن أيب يزيد‪" :‬رحم اهلل أبا يزيد له حاله وما نطق به‪ ،‬ولعله تكلم على حد الغلبة أو حال سكر‪،‬‬
‫كالمه له وملن تكلم عليه‪ ،‬وليس ملن حيكي عنه‪ ،‬فالزم أنت يا أخي‪ ،‬أوال‪ :‬جماهدة أيب يزيد وتقطعه‬
‫ومعامالته‪ .‬وال ترتق إىل املقام الذي بلغ به‪ ،‬بعد تلك اجملاهدات‪ ،‬فإن بُلغ بك إىل شيء من ذلك‪،‬‬
‫فاحك إذ ذاك كالمه‪ ،‬فليس بعاقل من ضيع األدىن من املقامات‪ ،‬وادعى األعلى منها " ‪.1‬‬
‫من هذا النص نفهم ما يلي‪:‬‬
‫أوال‪ :‬يرتحم على أيب يزيد‪ ،‬فهو إذن يواليه على الرغم من شطحاته وخروجه عن السبيل‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬ال جيزم أنه قال ما قال يف حالة سكر‪ ،‬فرمبا قاهلا يف حال صحو‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬يوصي سائله أن يسري يف نفس طريقة أيب يزيد وجماهداته‪ ،‬إذن هو يصحح طريقته‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬يرى أن املقام الذي بلغه وقال فيه ما قال‪ ،‬مقام بُلغ به إليه؛ أي موهبة من اهلل‪ ،‬فهو إذن حيبذه‬
‫ويرضى به‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬جييز للسائل أن حيكي كالمه‪ ،‬إن بلغ املقام الذي بلغه‪ ،‬فهو إذن ال يرى بأسا فيه‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬جيعل مقامه من أعلى املقامات‪.‬‬
‫واهلروي‪ ،‬والغزايل‪ ،‬واجليالين‪،‬كل هؤالء املعتدلون وغريهم‪ 2 ،‬يوجد يف كالمهم‪ :‬فناء اإلرادة‪ ،‬وفناء‬
‫الشهود‪ ،‬وفناء الوجود‪ .‬يساق جنبا إىل جنب‪ ،‬فال تدري كيف اجتمع لديهم مثل هذا التناقض ؟‪.‬‬

‫‪ - 1‬طبقات الصويف‪ ،‬السلمي‪ ،‬ص‪.248‬‬


‫‪ - 2‬إحياء علوم الدين ‪ ،245 ،346 ،4/338‬أبو حامد الغزايل ص‪ .267‬فتوح الغيب‪ ،‬اجليالين‪ ،‬ص‪ .89 ،170‬مدارج‬
‫السالكني‪ ،‬ابن القيم‪ .166-1/165 ،‬واعتدال هؤالء نسيب‪ ،‬وليس مطلقا‪ ،‬فهم معتدلون إذا ما قورنوا بغريهم من الغالني‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫فإن أحسنّا الظن هبم‪ ،‬فهم يقررون معاين الشهود بألفاظ الوجود‪ .‬وال نكاد جند صوفيا إال وقد ركب‬
‫هذا السبيل‪ .‬فلم كان هذا منهم‪ ،‬ومل اجتمعوا عليه‪ ،‬حىت صار ظاهرة فيهم ؟‪.‬‬
‫ليس ل ذلك ج واب إال الق ول‪ :‬ب أن التص وف ما وضع إال لتقرير مب ادئ‪ :‬احلل ول‪ ،‬واالحتاد‪ ،‬ووح دة‬
‫‪1‬‬
‫الوجود‪ .‬وهكذا هو يف الثقافات الصوفية القدمية‪ :‬اهلندية‪ ،‬والفارسية‪ ،‬واليونانية‪.‬‬
‫فلما دخل بيئة املس لمني‪ ،‬اعتنقه ن اس من املس لمني‪ ،‬وأعجبهم بعض ما في ه؛ ف إن مما فيه أش ياء تتوافق‬
‫مع اإلس الم – يف بعض املظ اهر‪ ،‬ال يف كل ش يء ‪ -‬كالعناية ب الروح‪ ،‬ومل يفطن وا إىل أصل الفك رة‪،‬‬
‫فتبن وا ما فيه ا‪ ،‬مبا يف ذلك ألفاظه ا‪ ،‬ومعانيه ا‪ ،‬فلم يس تطيعوا التخلص منه ا‪ ،‬وعسر عليهم‪ ،‬فص اروا‬
‫يتكلم ون هبا‪ ،‬ويفس رون نص وص الش ريعة هبا‪ ،‬حىت لو ك انت تأباه ا‪ ،‬لقن اعتهم التام ة‪ :‬أهنا ال ختالف‬
‫معاين اإلسالم‪ .‬وما دام األمر كذلك‪ ،‬فالمشكلة يف اختالف األلفاظ‪ ،‬فالعربة باملعاين‪.‬‬
‫ومن املؤكد أن فريقا منهم‪ ،‬كانوا يدركون أن اإلسالم يرفض هذا الفكر وال يقبله‪ ،‬بوجه‪ ،‬وقد كان‬
‫من مصلحتهم أن يكون له أنصار من النوع السابق‪.!!..‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫‪ -7‬ثناء على األئمة الحلولية‪.‬‬
‫ومما يلحظ‪ ،‬مما تقدم التنبيه عليه‪ ،‬وحيتاج إىل زيادة بيان‪:‬‬
‫أن ظاهرة التعديل والثناء على األئمة احللولية من املتصوفة‪ ،‬مثل‪ :‬احلالج‪ ،‬وابن عريب‪ .‬مل تقتصر على‪:‬‬
‫الطوسي‪ ،‬والقشريي‪ .‬بل عامة يف سواد املتصوفة‪ ،‬وهذه بعض أقواهلم‪:‬‬
‫‪ -‬يق ول الطوس ي‪" :‬مسعت عيسى القص ار يق ول‪ :‬رأيت احلسني بن منص ور حني أخ رج من احلبس‬
‫ليقت ل‪ ،‬فك ان آخر كالمه أن ق ال‪ :‬حسب الواجد إف راد الواح د‪ .‬ق ال‪ :‬وما مسع أحد من املش ايخ‬
‫الذين كانوا ببغداد هذا‪ ،‬إال استحسنوا منه هذه الكلمة"‪.2‬‬
‫‪ -‬وينقل ابن اجلوزي عن إبراهيم حممد النصر أباذي قوله‪" :‬إن كان بعد النبيني والصديقني موحد‪،‬‬
‫فهو احلالج"‪ ،‬يقول ابن اجلوزي‪:‬‬
‫‪" -‬وعلى هذا أكثر قصاص زماننا وصوفية وقتنا"‪.3‬‬
‫‪ -‬ويق ول اهلج ويري‪" :‬ومنهم‪ :‬مس تغرق املع ىن‪ ،‬ومس تهلك ال دعوى‪ ،‬أبو مغيث احلسني بن منص ور‬
‫احلالج‪ ،‬رضي اهلل عنه‪ ،‬كان من سكارى هذه الطريقة‪ ،‬ومشتاقيها‪ ،‬وذا حال وقوى ومهة عالية‪.‬‬
‫ومشايخ هذه الطريقة خمتلفون يف شأنه‪ ،‬فهو مردود عند طائفة‪ ،‬ومقبول عن أخرى‪:‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬حتقيق ما للهند للبريوين‪ ،‬ص‪.27‬‬


‫‪ -2‬اللمع‪ ،‬الطوسي‪ ،‬ص‪.378‬‬
‫‪ - 3‬تلبيس إبليس‪ ،‬ابن اجلوزي‪ ،‬ص‪.172‬‬

‫‪38‬‬
‫فقد رده فريق من أمث ال عم رو بن عثم ان‪ ،‬وأيب يعق وب النهرج وري‪ ،‬وأيب يعق وب‬ ‫‪-‬‬
‫األقطع‪ ،‬وعلى بن سهل األصفاين‪ ،‬وغريهم‪.‬‬
‫وقبله ابن عط اء‪ ،‬وحممد بن خفي ف‪ ،‬وأبو القاسم النصر أب ادي‪ ،‬ومجلة من املت أخرين من‬ ‫‪-‬‬
‫الصوفية‪.‬‬
‫وتوقف يف أمره فريق مثل‪ :‬اجلنيد‪ ،‬والشبلي‪ ،‬واجلريري‪ ،‬واحلصري‪ ،‬وغريهم‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ونسبه فريق آخر إىل السحر وأسبابه‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫أما يف أيامنا هذه‪ ،‬فقد كان للشيخ أيب سعيد بن أيب اخلري‪ ،‬والشيخ أيب القاسم اجلرجاين‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫والشيخ أيب العباس الشقاين – رضي اهلل عنهم – يف حديثه سر‪ ،‬وكان لديهم معظما‪.‬‬
‫وأما األس تاذ أبو القاسم القش ريي رضي اهلل عنه فيق ول‪ :‬إذا ك ان من أرب اب املع اين‬ ‫‪-‬‬
‫واحلقيق ة‪ ،‬فلن يصري مهج ورا هبجر من رده‪ ،‬وإن يكن م ردودا من احلق‪ ،‬ومقب وال من‬
‫اخلل ق‪ ،‬فلن يصري مقب وال بقب ول اخلل ق‪ ،‬وحنن نرتكه هلل حبكم التس ليم‪ ،‬وجنله بق در ما‬
‫وج دنا فيه من دالئل احلق‪ ،‬وال ينكر كم ال فض له‪ ،‬وص فاء حال ه‪ ،‬وك ثرة جماهدات ه‪،‬‬
‫ورياضاته إال قلة من مجلة املشايخ‪.‬‬
‫وقد كان من غري األمانة إغفال ذكره يف هذا الكتاب؛ ألن بعض أهل الظاهر يكفرونه‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫وينك رون عليه‪ ،‬وينس بون أحواله إىل‪ :‬الع ذر‪ ،‬واالحتي ال‪ ،‬والس حر‪ .‬ويظنون أن احلسني‬
‫بن منص ور احلالج هو احلسن منص ور احلالج ذلك امللحد البغ دادي‪ ،‬ال ذي ك ان أس تاذ‬
‫حممد بن زكري ا‪ ،‬ورفيق س عد الق رمطي‪ ،‬ولكن احلسني ه ذا ال ذي اختلف يف أم ره ك ان‬
‫فارسيا‪ ،‬من بيضاورد‪.‬‬
‫ومل يكن هجر املش ايخ له يعين الطعن يف دينه ومذهب ه‪ ،‬بل يف ح ال دني اه‪ ،‬فقد ك ان يف‬ ‫‪-‬‬
‫بداية أم ره مريد س هل بن عبد اهلل‪ ،‬وانص رف عنه دون اس تئذان‪ ،‬واتصل بعم رو بن‬
‫عثمان‪ ،‬وذهب من عنده بال إذن‪ ،1‬تعلق باجلنيد فلم يقبله‪ ،‬وهلذا السبب هجروه مجيعا‪،‬‬
‫فهو مهجور املعاملة‪ ،‬ال مهجور األصل‪.‬‬
‫أما رأيت أن الشبلي قال‪ :‬أنا واحلالج شيء واحد‪ ،‬فخلصين جنوين‪ ،‬وأهلكه عقله‪ .‬فلو‬ ‫‪-‬‬
‫كان مطعونا يف دينه‪ ،‬ملا قال الشبلي‪ :‬أنا واحلالج شيء واحد‪.‬‬
‫وقال حممد بن خفيف‪ :‬هو عامل رباين‪ .‬ومثل هذا‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪ -1‬يف اللمع ما يؤيد هذه احلكاية‪ ،‬جاء فيه ص‪" : 499‬وأما عمرو بن عثمان املكي‪ :‬كان عنده حروف فيه شيء من العلوم‬
‫اخلاصة‪ ،‬فوقع يف يد بعض تالمذته‪ ،‬فأخذ الكتاب وهرب‪ ،‬فلما علم بذلك عمرو بن عثمان قال‪ :‬سوف يقطع يديه ورجليه‪،‬‬
‫ويضرب عنقه‪ .‬يقال‪ :‬إن الغالم الذي سرق منه ذلك الكتاب‪ ،‬كان احلسني بن منصور احلالج‪ ،‬وقد هلك يف ذلك‪ ،‬وفعل به‬
‫ما قال عمرو بن عثمان"‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫‪ -‬فغضب ش يوخ الطريقة واملش ايخ – رضي اهلل عنهم – وعق وقهم‪ ،‬أمثر اهلج ران‬
‫والوحشة"‪.‬‬
‫‪ -‬وقال بعد ذلك‪" :‬وقد رده بعض أهل األصول‪ ،‬وهم يعرتضون عليه يف كلماته اليت تعرب‬
‫عن االم تزاج واالحتاد‪ ،‬وذلك مبالغة منه وهتويل يف العب ارة‪ ،‬ال يف املعىن؛ إذ ال س لطان‬
‫للمغلوب على العبارة‪ ،‬حىت تصح عبارته يف غلبة احلال‪.‬‬
‫‪ -‬وجيوز أن يك ون معىن العب ارة مش كال‪ ،‬فال يس تطيعون فهم املعىن املقص ود‪ ،‬ويص ور هلم‬
‫ومههم صورة عنه‪ ،‬فينكرونه‪ ،‬وإنكارهم هذا يرجع إليهم‪ ،‬ال إىل ذلك املعىن"‪.‬‬
‫‪ -‬ويف السياق نفسه قال‪" :‬ويف اجلملة‪ :‬اعلم أنه ال جيوز االقتداء بكالمه؛ ألنه كان مغلوبا‬
‫يف حاله‪ ،‬ال متمكنا"‪.‬‬
‫‪ -‬إىل أن ق ال‪" :‬ولكن طريقه غري مس تقيمة على أي أص ل‪ ،‬وحاله غري مس تقر على أي‬
‫وج ه‪ ،‬ويف أحواله فنت كث رية‪ .‬وقد ك ان يل يف ابت داء ح ايل منه ق وى يف معىن ال رباهني‪.‬‬
‫وقد صنفت قبل هذا كتابا يف شرح كالمه‪ ،‬أثبت بالدالئل واحلجج علو كالمه‪ ،‬وصحة‬
‫‪1‬‬
‫حاله‪ ،‬يف ذلك الكتاب"‪.‬‬
‫ه ذا م وقفهم من احلالج‪ ،!!..‬وقد كشف اهلج ويري حقيقة موقف املنك رين علي ه؛ أن إنك ارهم مل‬
‫يكن ألجل مقالته يف احلل ول‪ ،‬بل ألمر يف طريقة تلمذته على املش ايخ‪ ،‬يف تنقله من ش يخ إىل آخ ر‪،‬‬
‫وعدم مراعاته أصول التلمذة‪ ،‬من االستئذان واألدب‪ ..‬ال غري‪.!!..‬‬
‫ويف ال وقت ال ذي ك ان ينكر فيه اهلج ويري مقالته يف احلل ول واالحتاد‪ُ ،‬مرجعا س بب ه ذا الش طح إىل‬
‫غلبة احلال‪ ،‬وإن طريقه غري مستقيم على أي أصل‪ ،‬وحاله غريه مستقر على أي وجه‪ :‬يعود ليقول إنه‬
‫ألف مؤلفا يشرح فيه كالم احلالج‪ ،‬ليثبت بالدالئل واحلجج علو كالمه‪ ،‬وصحة حاله‪..‬؟!!‪.‬‬
‫هذه سنة املتصوفة‪ ،‬وهي سنة عامة‪ ،‬يسريون عليها‪ ،‬بوعي أو بدونه‪:‬‬
‫ينك رون ب العموم واإلمجال مق االت‪ :‬احلل ول‪ ،‬واالحتاد‪ ،‬والوح دة‪ .‬ف إذا ما ج اءت ه ذه املق االت عن‬
‫أئمة التص وف بلفظ ص ريح‪ ،‬ال مرية في ه‪ :‬فس روها مبا يفيد تلك املع اين نفس ها‪ ،‬ويثبته ا‪ ،‬ويؤك دها‪،‬‬
‫بقصد الدفاع عن قائلها‪ ،‬مع التأكيد على رفض مقاالت‪ :‬احللول‪ ،‬واالحتاد‪ ،‬والوحدة‪.‬‬
‫وألجله مل جند منهم إنكارا واضحا‪ ،‬وصرحيا على أعيان احللولية‪ ،‬بل كل ما جنده تأوال‪ ،‬واعتذارا‪ ،‬أو‬
‫ذبا‪ ،‬ودفاعا‪ ،‬وأن من مل يصل‪ ،‬ومل يذق‪ ،‬فمحال عليه الفهم واإلدراك‪.!!..‬‬
‫ومن كان يف شك‪ ،‬فليسأل هؤالء عن رأيهم يف‪ :‬احلالج‪ ،‬وابن عريب ؟!‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫‪ -8‬اتحاد وحلول شعوري ال حقيقي‪.‬‬
‫‪ - 1‬كشف احملجوب‪ ،‬اهلجويري‪.364-1/361 ،‬‬

‫‪40‬‬
‫اعتذر الصوفية عن أهل الشطح فقالوا‪:‬‬
‫ه ذه الكلم ات‪ ،‬اليت تف وح ب احللول واالحتاد ووح دة الوج ود‪ ،‬قيلت يف ح ال س كر وغيب ة‪ ،‬ووج د‪،‬‬
‫وفناء‪ ،‬ومن كان هذا حاله‪ ،‬فإن احلقائق تكون له شربا‪ ،‬فيذوق ما ال يذوقه غريه‪ ،‬ممن مل يصل إىل ما‬
‫وصل إلي ه‪ ،‬فيعجز عن إيص ال ما جيده يف نفس ه‪ ،‬من احلق ائق اإلهلية والكوني ة‪ ،‬إال بعب ارات ت وهم‪:‬‬
‫احللول‪ ،‬واالحتاد‪ ،‬والوحدة‪ .‬وهو منها بريء‪.‬‬
‫وأقصى ما ميكن أن يعرب به عن حاهلم‪ :‬أهنم حمبون عاشقون‪ ،‬والعاشق يفىن يف معشوقه‪ ،‬وحمبوبه‪ ،‬حىت‬
‫ينسى معه نفس ه‪ ،‬فتنع دم ذاته يف ذات ه‪ ،‬فال يش عر بذات ه‪ ،‬واليك ون ش عور إال مبحبوب ه‪ ،‬ف إذا وصل إىل‬
‫ه ذه احلال تب ادلت الض مائر‪ ،‬فخاطبه خط اب ال ذات‪ ،‬وتكلم بلس انه‪ ،‬فتنتفي يف حقهما اإلثنيني ة‪،‬‬
‫وحيصل التوحد‪ ،‬وكل ذلك حالة شعورية ال حقيقية‪ ،‬وعلى هذا دليل من السنة‪ ،‬قوله تعاىل‪( :‬كنت‬
‫مسعه‪ ،‬وبصره‪ ،‬ويده‪ ،‬ورجله) ‪.1‬‬
‫هذا تفسري‪ ..‬وآخر يقولون فيه‪:‬‬
‫أنه الصويف الفاين يصل إىل مرتبة انتفاء الكثرة‪ ،‬ووحدة الذات‪ ،‬يعود إىل حالة ما قبل الكون واخللق‪،‬‬
‫حيث البق اء ملن مل ي زل‪ ،‬والفن اء ملن مل يكن؛ أي بق اء ال ذات اإلهلي ة‪ ،‬اليت مل ت زل‪ ،‬وال ت زال‪ ،‬وفن اء‬
‫املخلوق ات اليت مل تكن‪ ،‬فك انت‪ .‬ه ذه احلالة إذا ش عر هبا الف اين‪ :‬ش طح مبثل تلك الكلم ات‪ ،‬يف‬
‫احللول‪ ،‬واالحتاد‪ ،‬والوحدة‪.‬‬
‫هكذا يقرر املتصوفة جواب هذه التهمة‪ ،‬ويف رأيهم أنه جواب يدفع عنهم‪:‬‬
‫‪ -‬يقول الطوسي عن كلمات البسطامي‪:‬‬
‫"وأما قول ه‪ :‬ألبسين أنانيت ك‪ ،‬حىت إذا رآين خلقك ق الوا‪ :‬رأين اك‪ ،‬فتك ون أنت ذاك‪ ،‬وال أك ون أنا‬
‫هناك‪.‬‬
‫فهذا وأشباه ذلك يصف فناءه‪ ،‬وفناءه عن فنائه‪ ،‬وقيام احلق عن نفسه بالوحدانية‪ ،‬وال خلق قبل‪ ،‬وال‬
‫ك ون ك ان‪ .‬وكل ذلك مس تخرج من قوله ص لى اهلل عليه وس لم‪( :‬يق ول اهلل تع اىل‪ :‬ما زال عب دي‬
‫يتقرب إيل بالنوافل حىت أحبه‪ ،‬فإذا أحببته كنت عينه‪ ،‬اليت يبصر هبا‪ ،‬ومسعه الذي يسمعه به‪ ،‬ولسانه‬
‫الذي ينطق به‪ ،‬ويده اليت يبطش هبا) ‪ ،2‬كما جاء يف احلديث‪.‬‬
‫وقد قال القائل يف وجده مبخلوق مثله‪ ،‬وقد وصف وجده مبحبوبه حىت قال‪:‬‬
‫فإذا أبصرتين أبصرتنا‬ ‫أنا من أهوى ومن أهوى أنا‬
‫حنن روحان معا يف جسد ألبس اهلل علينا البدنا‬

‫‪ - 1‬يأيت خترجيه‪.‬‬
‫‪ - 2‬رواه البخاري بنحوه دون بعض الزيادات‪ ،‬يف صحيحه‪ ،‬عن أيب هريرة‪ ،‬الرقاق‪ ،‬باب‪ :‬التواضع‪.5/2385 .‬‬

‫‪41‬‬
‫فإذا كان خملوق جيد مبخلوق‪ ،‬حىت يقول مثل ذلك‪ ،‬فما ظنك مبا وراء ذلك ؟‪ ،‬وبلغين عن بعض‬
‫احلكماء أنه قال‪ :‬ال يبلغ املتحابان حقيقة احملبة‪ ،‬حىت يقول الواحد لآلخر‪ :‬يا أنا"‪.1‬‬

‫‪ -‬ويقول أبو طالب‪:‬‬


‫‪2‬‬
‫وحد بأولية بدت"‪.‬‬
‫"وقد كان أبو يزيد يقول‪ :‬سبحاين‪ ،‬ما أعظم شأين‪ .‬وهو موحد؛ ألنه ّ‬
‫‪ -‬ويقول الغزالي‪:‬‬
‫" العارفون بعد العروج إىل مساء احلقيقة‪ ،‬اتفقوا على أهنم مل يروا يف الوجود إال الواحد احلق‪ ،‬لكن‬
‫منهم من كان له هذه احلالة عرفانا علميا‪ ،‬ومنهم من صار له ذوقا وحاال‪ ،‬وانتفت عنهم الكثرة‬
‫بالكلية‪ ،‬واستغرقوا بالفردانية احملضة‪ ،‬واستهوت فيها عقوهلم‪ ،‬فصاروا كاملبهوتني فيه‪ ،‬ومل يبق فيهم‬
‫متسع لذكر غري اهلل‪ ،‬وال لذكر أنفسهم أيضا‪ ،‬فلم يبق عندهم إال اهلل‪ ،‬فسكروا سكرا وقع دونه‬
‫سلطان عقوهلم‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬أنا احلق‪ .‬وقال اآلخر‪ :‬سبحاين‪ ،‬ما أعظم شأين‪ .‬وقال اآلخر‪ :‬ما يف‬
‫اجلبة‪ 3‬إال اهلل‪.‬‬
‫وكالم العشاق يف حال السكر يطوى‪ ،‬والحيكى‪ ،‬فلما خف عنهم سكرهم‪ ،‬وردوا إىل سلطان‬
‫العقل‪ ،‬الذي هو ميزان اهلل يف أرضه‪ :‬عرفوا أن ذلك مل يكن حقيقة االحتاد‪ ،‬بل يشبه االحتاد‪ ،‬مثل‬
‫قول العاشق‪ ،‬يف حال فرض العشق‪:‬‬
‫حنن روحان حللنا بدنا‬ ‫أنا من أهوى ومن أهوى أنا‬
‫فال يبعد أن يفجأ اإلنس ان م رآة‪ ،‬فينظر فيه ا‪ ،‬ومل ير املرآة ق ط‪ ،‬فيظن أن الص ورة اليت رآها يف املرآة‪،‬‬
‫هي ص ورة املرآة متح دة هبا‪ ،‬وي رى اخلمر يف الزج اج‪ ،‬فيظن اخلم رة ل ون الزج اج‪ ،‬ف إذا ص ار ذلك‬
‫مألوفا عنده‪ ،‬ورسخ فيه قدمه‪ :‬استغرقه‪ .‬فقال‪:‬‬
‫وتشاهبا فتشاكل األمر‬ ‫رق الزجاج وراقت اخلمر‬
‫وكأمنا قدح وال مخر‬ ‫فكأمنا مخر وال قدح‬
‫وفرق بني أن يقال اخلمر‪ :‬قدح‪ .‬بني أن يقال‪ :‬كأنه قدح‪ .‬وهذا احلالة إذا غلبت مسيت باإلضافة إىل‬
‫صاحب احلال فناء‪ ،‬بل فناء الفناء؛ ألنه فين عن نفسه‪ ،‬وفين عن فنائه‪ ،‬فإنه ليس يشعر بنفسه يف تلك‬
‫احلال‪ ،‬وال بعد ش عوره بنفس ه‪ ،‬ولو ش عر بع دم ش عوره بنفس ه‪ ،‬لك ان قد ش عر بنفس ه‪ ،‬وتس مى ه ذه‬

‫‪ - 1‬اللمع‪ ،‬الطوسي‪ ،‬ص‪.463‬‬


‫‪ - 2‬قوت القلوب‪ ،‬املكي‪.2/86 ،‬‬
‫‪ - 3‬يف املصدر‪" :‬اجلنة"‪ ،‬وهو تصحيف‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫احلال‪ ،‬باإلضافة إىل املستغرق فيها بلسان اجملاز‪ :‬احتادا‪ .‬وبلسان احلقيقة‪ :‬توحيدا‪ .‬ووراء هذه احلقائق‬
‫أيضا‪ :‬أسرار ال جيوز اخلوض فيها"‪.1‬‬
‫‪ -‬ويقول أبو علي الجوزجاني عن األلفاظ اليت ترد عن أيب يزيد‪:‬‬
‫"رحم اهلل أبا يزيد له حاله وما نطق به‪ ،‬ولعله تكلم على حد الغلبة أو حال سكر‪ ،‬كالمه له وملن‬
‫تكلم عليه‪ ،‬وليس ملن حيكي عنه‪ ،‬فالزم أنت يا أخي‪ ،‬أوال‪ :‬جماهدة أيب يزيد وتقطعه ومعامالته‪ .‬وال‬
‫ترتق إىل املقام الذي بلغ به بعد تلك اجملاهدات‪ ،‬فإن بُلغ بك إىل شيء من ذلك‪ ،‬فاحك إذ ذاك‬
‫كالمه‪ ،‬فليس بعاقل من ضيع األدىن من املقامات‪ ،‬وادعى األعلى منها "‪. 2‬‬
‫‪ -‬ويقول التفتازاني‪:‬‬
‫"والشطح عند البسطامي‪ :‬مثرة جتربة من نوع خاص‪ .‬كما الحظ األستاذ ستيس‪ .‬وقد وصف ستيس‬
‫جتربة البسطامي‪ :‬بأهنا شعور باالحتاد‪ ،‬وهو الشعور الذي يتجاوز كل كثرة‪ .‬وهذه التجربة الصوفية‬
‫معروفة جيدا‪ ،‬عند دارسي موضوع التصوف‪ ،‬وشائعة يف كل أنواع التصوف يف احلضارات املختلفة‪،‬‬
‫وهي جتربة تالشي ما هو ظ اهر‪ ،‬وحتطم األس وار‪ ،‬اليت حتد املتن اهي‪ ،‬حىت تفىن ذاتيت ه‪ ،‬وتن دمج يف‬
‫‪3‬‬
‫الالمتناهي‪ ،‬ويف حميط الوجود"‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫وبالنظر فيما ورد عنهم يف هذا املعىن‪ ،‬ميكن حتليل كالمهم كما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬أصل ردهم واعرتاضهم قد بين على رفض عقيدة احللول واالحتاد‪.‬‬
‫‪ -2‬يربئون أصحاب هذه الكلمات الشاطحة من هذه العقيدة‪.‬‬
‫‪ -3‬مع تربئتهم‪ ،‬حيللون‪ ،‬ويربرون‪ ،‬ويفسرون هذه الشطحات الواردة عنهم‪.‬‬
‫‪ -4‬تفسريهم ال يتضمن نفي عقيدة‪ :‬احللول‪ ،‬واالحتاد‪ ،‬والوحدة‪ .‬بالكلية‪ ،‬بل توجيهه حنو االحتاد‬
‫واحللول الشعوري‪ ،‬ال احلقيقي‪.‬‬
‫‪ -5‬يقولون حبلول واحتاد شعوري‪ ،‬فرفضهم األول مقصوده‪ :‬احللول واالحتاد احلقيقي‪.‬‬
‫‪ -6‬معىن الشعوري‪ :‬هو الذي حيصل بالتوهم والظن‪ ،‬ليس يف الواقع واحلقيقية‪.‬‬
‫‪ -7‬يثبت ون نوعا من احلل ول واالحتاد‪ ،‬هو الش عوري‪ ،‬وال ي رون يف ذلك بأس ا‪ ،‬بل مقاما من‬
‫املقامات العالية‪ ،‬اليت يسعى إليها املتصوف ليكون ولياًّ‪ ،‬وال يبلغها إال بالفناء‪.‬‬

‫‪ - 1‬مشكاة األنوار‪ ،‬الغزايل‪ ،‬ص‪.13-12‬‬


‫‪ -2‬طبقات الصوفية‪ ،‬السلمي ص‪.248‬‬
‫‪3‬‬

‫‪ -‬مدخل إىل التصوف اإلسالمي‪ ،‬التفتازاين‪ ،‬ص‪.121‬‬

‫‪43‬‬
‫‪ -8‬يس تندون يف إثب ات وق وع ه ذا احلل ول واالحتاد الش عوري إىل قصص وأح وال وأش عار‬
‫العاشقني‪.‬‬
‫‪ -9‬يستندون أيضا إىل فكرة أن كل شيء يفىن‪ ،‬فال يبقى إال األزيل‪ ،‬وهو اإلله‪ ،‬فإذا بلغ الصويف‬
‫هذه املرتبة‪ :‬شعر بفناء نفسه‪ ،‬وبقائه بربه‪.‬‬
‫‪ -10‬ليس كل أحد يفهم وي درك ه ذا املق ام الش عوري‪ ،‬إمنا يدركه ال ذي ذاق ه‪ ،‬وك ان ش ربا ل ه‪،‬‬
‫وال ذوق يك ون يف مق ام الس كر والفن اء؛ ل ذا فال يصح اإلنك ار عليهم الختالف املقام ات‬
‫واألح وال‪ .‬فمن مل ي ذق‪ ،‬ليس كما ذاق‪ ،‬فإنك اره حينئذ إنك ار جاه ل‪ ،‬ال يع رف حقيقة‬
‫احلال‪.‬‬
‫وهبذا التحليل أمكن تفصيل هذا االعتذار وتشرحيه‪ ،‬وهذا مفيد يف املناقشة‪.!!..‬‬
‫فإهنم يتربءون ويربئون أهل الشطح من عقيدة احللول واالحتاد احلقيقي‪ ،‬والذي يقولون به هو احللول‬
‫واالحتاد الش عوري‪ ،‬ويف ه ذا احلال يطلق الف اين عب ارات تفيد أنه واهلل تع اىل ص ارا ش يئا واح دا‪ ،‬ه و‪:‬‬
‫اهلل تع اىل‪ .‬حيث فين عن ذات ه‪ ،‬وبقي بذاته تع اىل‪ ،‬كما هو ش عور احملب العاشق مع حمبوبه ومعش وقه‪.‬‬
‫فه ذا املعىن املراد واض ح‪ ،‬ال لبس في ه‪ ،‬وال غم وض‪ ،‬والخف اء‪ ،‬والس ؤال‪ :‬فما الش يء ال ذي ال يفهم‪،‬‬
‫وال يدرك‪ ،‬وهو غامض خفي ال ينكشف إال لصاحب الذوق والسكر ؟!‪.‬‬
‫أشيء غري هذا احللول واالحتاد الشعوري ؟‪.‬‬
‫حقا مثة شيء غري مفهوم يف كالم املتصوفة‪..‬؟!!‪.‬‬
‫فحيث ن رى كل األفك ار ظ اهرة‪ ،‬بلس اهنم‪ ،‬مبين ة‪ ،‬واض حة غري غامض ة‪ :‬يري دون إقن اع الب احثني‬
‫‪1‬‬
‫والسائلني وسائر الناس‪ ،‬بأن مثة شيء يف التصوف‪ ،‬ال ميكن فهمه وإدراكه ؟!‪.‬‬
‫فهل الفاين يذوق شيئا غري شعوره وإحساسه أنه احتد بربه‪ ،‬فصار املوجود واحدا هو‪ :‬اهلل؟‪.‬‬
‫ليس وراء هذا إال احللول واالحتاد احلقيقي‪ ،‬وهو الذي يفرون منه‪ ،‬ويربءون‪.!!..‬‬
‫فما احلكاية إذن ؟!!‪.‬‬
‫الذي يظهر أهنم قالوا كذلك‪ ،‬فردوا عدم فهم وإدراك هذا احلال إىل انعدام الذوق‪ ،‬وانتفاء التجربة؛‬
‫أي جتربة الفناء‪ ،‬ليكون جوابا ملن أنكر عليهم هذا االحتاد الشعوري‪ ،‬ال احلقيقي‪.‬‬
‫وهذا هو الواقع؛ فإنه ملا أنكر عليهم‪ :‬أجابوا بأنه غري حقيقي‪.!!..‬‬

‫‪ - 1‬هذه احلقيقة لفتت نظر الفيلسوف اإلجنليزي األصل‪ ،‬األمريكي اجلنسية ولرت ترنس ستيس (‪ )1967-1886‬يف كتابه‬
‫"التصوف والفلسفة"‪ ،‬حيث قال ص‪" :78‬هناك صعوبة تتمثل يف أن املتصوفة‪ ،‬عادة‪ ،‬يقولون أن جتارهبم الميكن النطق هبا‪،‬‬
‫وال نقلها إىل اآلخرين؛ ألهنا فوق الوصف‪ .‬مث يبدءون بعد ذلك‪ ،‬وتلك خاصية مشرتكة بينهم‪ ،‬يف وصفها‪ ،‬فماذا نفعل إزاء‬
‫ذلك؟"‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫فلما مل ي زل اإلنك ار الزما هلم‪ :‬أج ابوا ب أن ه ذا ال يفهمه إال من ذاق‪ .‬وهم يعلم ون أن غ ريهم لن‬
‫يذوق‪ ،‬وصاروا يستدلون بقصص وأشعار العاشقني‪ ،‬لعله يساعد يف احلجة‪.!..‬‬
‫ومن النتائج اليت خنرج هبا مما سبق‪:‬‬
‫‪ -‬أن ه ؤالء يعتق دون ب احللول واالحتاد‪ ،‬لكن بالش عوري من ه‪ ،‬ال احلقيقي‪ ،‬وه ذا ما يقررون ه‪،‬‬
‫وينظرون له‪ .‬وفيهم من يقول باحلقيقي‪.‬‬
‫‪ -‬واعتقادهم يف هذا املبدأ‪ :‬أنه من الغايات‪ ،‬بل هو الغاية األوىل‪ ،‬والكربى‪.‬‬
‫فه ؤالء فيهم من االض طراب ما ليس خيفى؛ فحيث يظه رون إنك ار مثل ه ذه الش طحات‪ ،‬يعت ذرون‬
‫ألص حاهبا‪ ،‬ب القول‪ :‬إهنا نت اج حالة الس كر‪ ،‬وكالم الس كران يط وى‪ ،‬وال ي روى‪ .‬مث يع ودون للتأكيد‬
‫على علو هذا املقام‪ ،‬الذي يصل إليه الصويف الفاين‪ ،‬ليقول ما يقوله من الشطحات‪ .‬وهذا ظاهر يف‬
‫كالم‪ :‬الطوسي‪ ،‬والغزايل‪ ،‬واجلوزجاين‪ .‬فموضع االضطراب‪:‬‬
‫‪ -‬أهنم يعتذرون من شيء ينظّرون له‪ ،‬ويعتقدونه غاية‪ ،‬يسعى إليها املتصوف‪.‬‬
‫فهذا اضطراب ظاهر‪ ،‬محل عليه التعارض ما بني املبادئ الصوفية‪ ،‬واملبادئ اإلسالمية‪:‬‬
‫‪ -‬فإذا راعوا جانب التصوف‪ :‬أكدوا على علو وصحة مقام السكر‪ ،‬وما يقال فيه‪.‬‬
‫‪ -‬وإذا راعوا جانب الشريعة‪ :‬أنكروا ما يكون يف مقام السكر‪.‬‬
‫وقد يك ون اض طرابا متعم دا‪ ،‬مقص وده االس تخفاف بعق ول الناق دين‪ ،‬ب إيراد الش يء ونقيضه يف مق ام‬
‫واحد‪ :‬القبول‪ ،‬واإلنكار‪ ..‬الرضا‪ ،‬واالعرتاض‪.!!..‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫وقد اتفق املس لمون على كفر مق االت‪ :‬احلل ول‪ ،‬واالحتاد‪ ،‬والوح دة‪ .‬فأما تقس يهما إىل‪ :‬حقيقي‪،‬‬
‫وشعوري‪ .‬فيبدو أنه من ابتداع الصوفية؛ فاملقالة كفر يف كل حال‪ ،‬سواء كان على سبيل الشعور‪،‬‬
‫أو احلقيقة‪ ،‬وقد يدفع عن صاحب الشطح الكفر‪ :‬جهله‪ ،‬أو سكره‪.‬‬
‫‪ -‬فجهله قد حيمله على الظن بصحة‪ ،‬وجواز أن يبلغ أن يقول عن نفسه‪ :‬أنا اهلل‪ .‬مستعمال يف ذلك‬
‫األع ذار اليت س اقها الص وفية‪ ،‬ونظ روا هلا‪ ،‬كق وهلم‪ :‬إن احملب العاشق يبلغ به احلب والعش ق‪ ،‬أن‬
‫يتحد مبحبوبه‪ .‬فيظن هذا اجلاهل‪ :‬أن هذا ممكن يف حق اهلل تعاىل‪ .‬وال يدري أن هذا كفر‪ ،‬ليس‬
‫له مسوغ‪ .‬ورمحة اهلل تعاىل قد وسعت اجلاهل‪.‬‬
‫‪ -‬وس كره قد حيمله على الش طح‪ ،‬وهو وإن ك ان ناجتا عن نظرية مس تقرة يف النفس ح ال الص حو‪،‬‬
‫إال أن نطقه هبا حال السكر‪ ،‬ال يؤاخذ به؛ كون السكران مرفوع عنه القلم‪.‬‬
‫فهذه األح وال واألع ذار قد ت دفع عن ص احبها الكفر‪ ،‬لكن الذي ال ين دفع بوجه ألبت ة‪ :‬وصف ه ذه‬
‫الكلمات بأهنا كفر‪.!!..‬‬

‫‪45‬‬
‫فإنه إذا مل يكن ق ول القائ ل‪ :‬أنا اهلل‪ .‬كف را‪ ،‬فليس مثة كفر يف األرض؛ إذ الكفر يف أص له‪ :‬جحد‬
‫حقوق اهلل تعاىل‪ ،‬ومن حقوقه‪ :‬اختصاصه بالصفات والذات اليت تليق به‪.‬‬
‫فإذا قال اإلنسان عن نفسه‪ :‬أنا اهلل‪ .‬فهذا قد اعتدى على مقام اهلل تعاىل واختصاصاته‪ ،‬حيث جعل‬
‫من نفسه مساويا هلل تعاىل‪ ،‬ندا له‪ ،‬وهذا هو الكفر‪.‬‬
‫وإدخ ال دع وى احملبة املس تغرقة هنا غري مفي دة هلم؛ إذ غايتها – إذا ص حت – أن تك ون بني‬
‫متجانس ني‪ ،‬كاإلنس ان مع اإلنس ان‪ .‬أما بني اإلنس ان واهلل تع اىل‪ ،‬ف ذلك حمال؛ للتب اين الكام ل‪،‬‬
‫واخلالف القائم‪ ،‬فاهلل تعاىل ال يشبهه شيء‪.‬‬
‫ومهما قيل من العذر‪ :‬فال ميكن أن تنقلب دعوى الفاين عن نفسه‪ :‬أنه اهلل تعاىل‪ .‬من كوهنا كفرا‪ ،‬إىل‬
‫كوهنا توحيدا‪ ،‬وإميانا‪ ،‬وكماال‪ .‬فمقالة الكفر كفر‪ ،‬ال تنقلب وال تتغري‪ ،‬غاية ما يف األمر‪ :‬أن احلكم‬
‫قد يسقط عن املعذور شرعا‪ .‬أما انقالب احلكم‪ ،‬لتكون الكلمة ذاهتا كفرا وإميانا‪ .‬فذلك حمال‪!!..‬؛‬
‫ألنه مجع بني النقيضني‪.‬‬
‫لكن هذا ما يريد املتصوفة تقريره‪ ،‬وإثباته‪ ،‬وأىن هلم ذلك ؟!!‪.‬‬
‫ويف صنيعهم هذا ما يثبت‪ :‬أن التصوف جيايف ويعارض اإلسالم يف أصله؛ إذ ما ساق هؤالء ملثل هذا‬
‫القول‪ ،‬والتربير عنه‪ ،‬والتمسك به‪ ،‬إال اتباعهم واعتقادهم هبذا الفكر‪ ،‬ولو سلموا منه‪ ،‬وختلص وا‪ ،‬ملا‬
‫عسر عليهم رفض هذه املقاالت‪ ،‬مجلة وتفصيال‪.‬‬
‫فليت ش عري‪ ،‬هل ك ان الص وفية ي دركون كل ه ذه املس ائل اخلط رية‪ ،‬وهم يق رون ب احللول واالحتاد‬
‫الشعوري‪ ،‬وجيعلونه املقام األعلى ؟!!‪.‬‬
‫‪ -‬إهنم يقررون وينظرون للوقوع يف الكفر األكرب ‪.!!..‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫‪ -9‬شهادات الباحثين‪.‬‬
‫من كل ما سبق‪ :‬خنلص إىل أن جوهر الفكرة الصوفية هو‪ :‬احللول‪ ،‬واالحتاد‪ ،‬ووحدة الوجود‪ .‬وهو‬
‫أن املتص وف يس عى إىل الوص ول إىل مرتبة الفن اء؛ ليفىن يف الص فات وال ذات اإلهلي ة‪ ،‬ف إذا وصل فهو‬
‫الصويف‪ ،‬وهذا شهادات بعض الباحثني‪:‬‬
‫‪ -‬يق ول ابن خل دون‪" :‬ذهب كثري منهم إىل احلل ول والوح دة‪ ،‬كما أش رنا إلي ه‪ ،‬ومل ؤوا الص حف‬
‫منه‪ ،‬مثل‪ :‬اهلروي‪ ،‬يف كتاب املقامات له‪ ،‬وغريه‪ ،‬وتبعهم‪ :‬ابن العريب‪ ،‬وابن سبعني‪ ،‬وتلميذمها‬
‫ابن العفيف‪ ،‬وابن الفارض‪ ،‬والنجم اإلسرائيلي‪ ،‬يف قصائدهم"‪.1‬‬

‫‪ - 1‬املقدمة‪ ،‬ابن خلدون‪ ،‬ص‪.473‬‬

‫‪46‬‬
‫‪ -‬يق ول املستش رق اإلجنل يزي نيكلس ون‪ ":‬وقد أمجع النق اد على‪ :‬أن الق ول بوح دة الوج ود‪ ،‬وهو‬
‫‪2‬‬
‫أخص مظاهر التصوف اإلسالمي"‪.‬‬
‫‪" -‬ولعله أن يق ال‪ :‬كيف ميكن ل دين أقامه حممد على التوحيد اخلالص املتش دد أن يصرب على ه ذه‬
‫النحلة اجلدي دة‪ ،‬بله أن يك ون معها على وف اق؟‪ .‬وإنه ليب دو أن ليس يف الوسع التوفيق بني‬
‫الشخص ية اإلهلية املنـزهة‪ ،‬وبني احلقيقة الباطنة املوج ودة يف كل ش يء‪ ،‬اليت هي حي اة الع امل‬
‫وروحه‪ ،‬وبرغم هذا فالصوفية بدل أن يطردوا من دائرة اإلسالم‪ ،‬قد تقبلوا فيها !!‪ .‬ويف تذكرة‬
‫األولياء شواهد على الشطحات الغالية للحلولية الشرقية"‪.2‬‬
‫‪ -‬ويق ول‪" :‬هك ذا ب دا احلائل بني احلق واخللق ي زول ش يئا فش يئا‪ ،‬وحتول معىن التوحيد إىل وح دة‬
‫الوجود‪ ،‬فحلت حمل صورة اهلل الواحد املنزه عن صفات احملدثات‪ ،‬صورة الوجود الواحد املطلق‬
‫(احلق) الظاهر يف كل مظهر من مظاهر اخللق‪ ،‬املتجلي يف صورة الصويف عند فنائه عن نفسه‪ ،‬يف‬
‫‪3‬‬
‫حال وجده‪ .‬وهذه العقيدة مهما حاول الصوفية سرتها‪ :‬أساس التصوف اإلسالمي‪ ،‬وجوهره"‪.‬‬
‫‪ -‬ويقول أمحد أمني‪" :‬أركان التصوف ثالثة‪ :‬وحدة الوجود‪ ،‬والفناء يف اهلل‪ ،‬وحب اهلل"‪.4‬‬
‫‪ -‬ويق ول التفت ازاين‪" :‬ويقصد بالفن اء‪ :‬احلالة النفس ية اليت يش عر معها الص ويف بذات ه‪ ،‬كما يش عر أنه‬
‫بقي مع حقيقة أمسى‪ ،‬مطلق ة‪ ،‬هي‪ :‬اهلل‪ .‬عند ص وفية املس لمني‪ ،‬أو‪ :‬الكلم ة‪ .‬عند ص وفية‬
‫املسيحيني‪ .‬أو‪ :‬برامها‪ .‬يف تصوف الربمهية‪ ،‬وهكذا‪ .‬وقد ينطلق بعض الصوفية إىل القول‪:‬‬
‫‪ -‬باالحتاد هبذه احلقيقة‪.‬‬
‫‪ -‬أو أهنا حلت فيهم‪.‬‬
‫‪ -‬أو أن الوجود واحدة ال كثرة فيه‪.‬‬
‫ويعود بعضهم إىل البقاء بعد الفناء‪ ،‬فيثبتون اإلثنينية بني اهلل والعامل"‪.5‬‬
‫والتفتازاين – رمحه اهلل تعاىل – وهو شيخ مشايخ الطرق الصوفية يف مصر‪ :‬ينزه التصوف من فكرة‪:‬‬
‫احللول‪ ،‬واالحتاد‪ ،‬والوحدة‪ .‬غري أنه مل يستطع أن يدفع وجودها بني املتصوفة‪.‬‬
‫فاجلميع متفق‪ :‬على وجود هذه الفكرة يف التصوف واملتصوفة بصورة ظاهرة‪ ،‬غري خفية‪ .‬إمنا اخلالف‬
‫فيما إذا كانت أصيلة‪ ،‬متثل أصل التصوف‪ ،‬أم دخيلة‪ ،‬طرأت على أصل نقي متالئم مع اإلسالم‪.‬‬

‫‪ - 2‬يف التصوف اإلسالمي وتارخيه‪ ،‬نيكلسون‪ ،‬ص‪.104‬‬


‫‪ - 2‬الصوفية يف اإلسالم‪ ،‬نيكلسون‪ ،‬ص‪.31‬‬
‫‪ - 3‬يف التصوف اإلسالمي وتارخيه‪ ،‬نيكلسون‪ ،‬ص‪.73‬‬
‫‪ - 4‬ظهر اإلسالم‪ ،‬أمحد أمني‪.2/78 ،‬‬
‫‪ - 5‬املوسوعة الفلسفية العربية‪ ،‬معن زيادة‪.1/259 ،‬‬

‫‪47‬‬
‫وبدراسة التعريف ات اليت جعلت الفن اء موض وع التص وف‪ ،‬باإلض افة إىل املب احث الس ابقة‪ ،‬عن عالقة‬
‫التصوف بالصوف‪ ،‬وبالزهد‪ ،‬وباخللق‪ .‬يبني‪:‬‬
‫‪ -‬أن قول الذي يذهب إىل أن مبادئ‪ :‬احللول‪ ،‬واالحتاد‪ ،‬والوحدة‪ .‬أصيلة يف التصوف‪ ،‬عليها قام‪،‬‬
‫وعليها يدور‪ :‬أقرب إىل احلقيقة‪ ،‬وعليها األدلة الظاهرة‪.‬‬
‫‪ -‬وأن قيد الشريعة الذي وضعه األئمة‪ ،‬يف قوهلم بوجوب العمل بالكتاب والسنة‪ ،‬وعدم جتاوزمها‪،‬‬
‫ليس له أثر ص حيح‪ ،‬وال ج دي؛ ف إن تقري راهتم ح ول مفه وم الفن اء والتخل ق‪ ،‬س واء ك ان مبعىن‬
‫الشهود‪ ،‬أو الوجود‪ ،‬تقرير ال خيضع لقيد شرعي‪:‬‬
‫‪ -‬فليس من الش ريعة أن ي ذهل اإلنس ان عن كل ش يء‪ ،‬وال حيمد على ذل ك؛ فإنه يفضي‬
‫إىل تعطيل الشريعة نفسها‪ ،‬إذا صار الفاين غري مدرك ملا يكون حوله‪.‬‬
‫‪ -‬وليس من الشريعة يف شيء أن يفىن اإلنسان عن وجوده‪ ،‬حىت يستهلك يف وجود احلق‪،‬‬
‫فيظن نفسه هو‪ :‬اهلل تعاىل‪ .‬وهذا أظهر‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫‪ -10‬أصل الموضوع‪.‬‬
‫ويف هذا السياق‪ ،‬يرد تساؤل‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫‪ -‬مل التصوف محل هذه املبادئ‪ :‬احللول‪ ،‬واالحتاد‪ ،‬والوحدة‪ .‬؟‪ .‬وهل مثة تفسري هلذا ؟‪.‬‬
‫واجلواب‪ :‬أن الفكر الصويف ينظر إىل مراحل احلياة‪ ،‬فيقسمها إىل ثالثة‪ ،‬هي‪:‬‬
‫األوىل ‪ -‬ما قبل وجود العامل‪ ،‬حيث ال يوجد إال اهلل تعاىل‪.‬‬
‫الثانية ‪ -‬ما بعد إجياد العامل واإلنسان‪ ،‬وامتزاج الروح باملادة‪.‬‬
‫الثالثة ‪ -‬العودة إىل احلال األول‪ ،‬واخلضوع لكامل أحكامه‪.‬‬
‫وفيه أن املخلوقات كلها‪ ،‬واإلنسان منها‪ ،‬كانت يف املرحلة األوىل موجودة يف الذات اإلهلية‪ ،‬متحدة‬
‫به‪ ،‬ويف هذا املعىن يستشهدون باألثر املكذوب‪ ،‬أن اهلل تعاىل قال‪:‬‬
‫‪ " -‬كنت كنزا مل أعرف‪ ،‬فأحببت أن أعرف‪ ،‬فخلقت اخللق وتعرفت إليهم"‪.1‬‬

‫‪ – 1‬الفتوحات املكية‪ ،‬ابن عريب‪ ،327 ،2/322 ،‬وهاك أقوال العلماء يف األثر‪:‬‬
‫‪ ㄱ-‬قال ابن تيمية‪ :‬ليس من كالم النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وال يعرف له سند صحيح وال ضعيف" الفتاوى‬
‫‪ ،18/376‬وانظر‪ :‬حاشية (‪ )7‬يف‪ :‬درء تعارض العقل والنقل ‪.8/507‬‬
‫تبعه على هذا احلكم الزركشي وابن حجر‪ .‬انظر‪ :‬متييز الطيب من اخلبيث ص‪142‬‬ ‫‪ㄴ-‬‬
‫وقال األلباين‪" :‬ال أصل له"‪ .‬السلسلة الضعيفة ‪)66( 1/96‬‬ ‫‪ㄷ-‬‬
‫وقال الدكتور أنور أبو خزام‪" :‬مل نعثر على إسناد هلذا احلديث القدسي"‪ .‬معجم مصطلحات الصوفية ص‪،175‬‬ ‫‪ㄹ-‬‬
‫حاشية (‪ ،)2‬وانظر كالم مال علي القارئ يف تصحيحه ملعناه يف كشف اخلفاء ‪.2/132‬‬

‫‪48‬‬
‫‪2‬‬
‫ويف كالم اجلنيد (رمبا املنسوب إليه)‪ ،‬واحلالج‪ ،‬ابن عريب تفصيل هلذا املعىن‪.‬‬
‫فلما وج دت ه ذه املخلوق ات‪ ،‬انفص لت وانفصل اإلنس ان عن ال ذات اإلهلي ة‪ ،‬فحصل ما حصل من‬
‫الش قاء واألمل‪ ،‬وليس مثة طريق للتخلص من ه ذا احلال‪ ،‬إال بالعمل على الرج وع إىل احلال األول‪،‬‬
‫حالة االحتاد‪ .‬فغاية التص وف ختليص ال روح من اجلس د‪ ،‬وفك ه ذا االم تزاج‪ ،‬وبه يك ون رجوعه إىل‬
‫معدنه األول وفن اؤه في ه‪ ،‬واحتاده وبق اؤه ب ه‪ ،‬وهو أن يرجع العبد إىل أول ه‪ ،‬فيك ون كما مل يكن‪،‬‬
‫ويبقى من مل يزل‪ ،‬وهو تعبري صويف ومعناه‪ :‬االتصال باهلل تعاىل‪.‬‬
‫فإذا وصل هذه املرتبة رجع إىل الزمن السرمدي األزيل؛ إذ مل يكن إال اهلل تعاىل‪ ،‬ومل يكن مثة شرع‪:‬‬
‫ال أمر وال هني‪ ،‬فيخضع ألحكام ذلك الزمن‪ ،‬يف‪ :‬االحتاد باهلل‪ ،‬والفناء باهلل‪ ،‬والبقاء باهلل‪.‬‬
‫هذا أصل مسألة التصوف؛ ولذا قالوا‪ :‬باحللول‪ ،‬واالحتاد‪ ،‬والوحدة‪ .‬ويف هذا املعىن ما يدل على أن‬
‫التصوف يف حقيقته‪ :‬حلول واحتاد حقيقي‪ ،‬وليس شعوريا‪ .‬ومن املؤكد‪:‬‬
‫‪ -‬أن من املتصوفة من يعتقد هذا احلقيقي‪ ،‬ويصرح به‪.‬‬
‫‪ -‬ومنهم من يضمره‪ ،‬ويسترت بالشعوري منه‪.‬‬
‫‪ -‬ومنهم من ال يؤمن إال بالشعوري وحده‪.‬‬
‫‪ -‬ومنهم من ال يؤمن بشيء من ذلك‪ ،‬بل تصوفه فناء يف الشهود ال غري‪.‬‬
‫‪ -‬ومنهم من تصوفه فناء يف اإلرادة وحده‪.‬‬
‫وكل هؤالء موجودون يف التصوف‪ ،‬واحلقيقة تنطق بأن التصوف هو األول من هذه األنواع‪.‬‬
‫وه ذه – أصل الفك رة ‪ -‬مس ألة كب رية‪ ،‬تس تحق حبثا مس تقال‪ ،‬وما ك ان منها ض روريا هلذه الدراس ة‪،‬‬
‫اليت حنن فيها‪" :‬موضوع التصوف"‪ ،‬الستكمال جوانبها‪ ،‬وبيان ما خفي منها‪ ،‬فقد سقناه آنفا‪.‬‬
‫وإىل هذا احل ّد تكون الدراسة قد توصلت إىل نتائج مهمة‪:‬‬
‫‪ -‬بالتدليل عليها‪ ،‬واالستناد إىل حقائق من كالم املتصوفة‪ ،‬وتقريراهتم‪.‬‬
‫‪ -‬كذلك بتحليل نصوصهم‪ ،‬وحماولة فهمها بصورة تتالءم وال تتخالف مع تنظرياهتم‪.‬‬
‫تلك النت ائج أي دهتا كل تلك ال دالئل املنوع ة‪ ،‬غري أهنا ليست ال دالئل الوحي دة‪ ،‬فل دينا هنا دليالن‬
‫آخران‪ ،‬رمبا ساعدا يف كشف حقيقة التصوف‪ ،‬وهبما نكون وصلنا إىل هناية الدراسة‪:‬‬
‫‪ -‬التشابه بني التصوف والفلسفة‪.‬‬

‫‪ ㅁ-‬ويذكر ابن تيمية عن الصوفية أثرا مكذوبا أن عيسى ابن مرمي عليه السالم قال‪ " :‬إن اهلل تبارك وتعاىل اشتاق بأن‬
‫يرى ذاته املقدسة‪ ،‬فخلق من نوره آدم عليه السالم وجعله كاملرآة‪ ،‬ينظر إىل ذاته املقدسة فيها‪ ،‬وإين ذلك النور وآدم‬
‫املرآة" الفتاوى ‪.316 ،2/288‬‬
‫‪ - 2‬انظر‪ :‬رسائل اجلنيد ص‪ ،42‬بنية العقل العريب ص‪ ،358‬يف التصوف اإلسالمي وتارخيه ص‪ ،133‬ديوان احلالج ص‬
‫‪ ،30‬سري أعالم النبالء ‪ ،14/32‬الفتوحات املكية‪.2/642،643 ،118-1/117‬‬

‫‪49‬‬
‫‪ -‬ظاهرة اهتام أئمة التصوف‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫خامسا‪ :‬مقارنة بين التصوف والفلسفة‪.‬‬
‫ذهب عامة الباحثني يف التصوف‪ ،‬من املتصوفة وغريهم إىل‪:‬‬
‫‪ -‬أن التصوف مذهب قدمي قبل اإلسالم‪ ،‬يف الثقافات‪ :‬الفارسية‪ ،‬واهلندية‪ ،‬واليونانية‪.‬‬
‫‪ -‬وأن املتصوفة املسلمني أخذوا أفكار وتعاليم املتصوفة القدماء وتأثروا هبم‪.‬‬
‫ومن الباحثني من رد أصل التصوف وبدايته إىل املصادر األجنبية عن اإلسالم‪ ،‬وأما الذين ردوه إىل‬
‫أصل إسالمي‪ ،‬فإهنم مل ينكروا تأثره بالعناصر األجنبية‪ ،‬يف فرتات الحقة‪.‬‬
‫فقد اتفقوا على تأثر املتصوفة بالتصوف القدمي‪ ،‬واختلفوا مىت كان ذلك التأثر ؟‪.‬‬
‫هذا االتفاق محل اجلميع على البحث يف هذه املصادر‪ ،‬واملقارنة بني التصوف يف الثقافات السابقة‬
‫لإلسالم‪ ،‬والتصوف يف اإلسالم‪ ،‬وقد عين بالبحث يف هذه املقارنة كثري من الباحثني‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫‪ -1‬البريوين يف كتابه عن اهلند‪" :‬حتقيق ما للهند من مقولة مقبولة يف العقل أو مرذولة"‪.‬‬
‫‪ -2‬الدكتور عمر فروخ يف كتابه‪" :‬التصوف يف اإلسالم"‪.‬‬
‫‪ -3‬الدكتور علي سامي النشار يف كتابه‪" :‬نشأة الفكر الفلسفي"‪.‬‬
‫‪ -4‬إحسان إهلي ظهر يف كتابه‪" :‬التصوف‪ :‬املنشأ واملصادر"‪.‬‬
‫‪ -5‬الدكتور الشرقاوي يف كتابه‪" :‬االجتاهات احلديثة يف دراسة التصوف اإلسالمي"‪.‬‬
‫واألفكار املقارنة عديدة‪ ،‬مثل‪ :‬الفناء‪ ،‬واحملبة‪ ،‬واملعرفة‪ ،‬واجملاهدة‪ ..‬إخل‪.‬‬
‫ويكفي يف هذا املقام أن نعرض ملقارنة واحدة‪ ،‬تفصح عن املسألة‪ ،‬وتكشف عن حقيقة التوافق بني‬
‫التصوفني‪:‬‬
‫فقد رجع بعض الباحثني واملؤرخني‪ ،‬املختصني بعلوم الديانات القدمية‪ :‬اهلندية والفلسفية‪ .‬من غري‬
‫املتصوفة‪ ،‬بكلمة "صوفية" إىل أصل يوناين‪ ،‬هو كلمة‪" :‬سوفيا"‪.‬‬
‫وكلمة "سوفيا" تعين بالعربية‪ :‬احلكمة‪..‬‬
‫وأول من عرف هبذا الرأي‪ :‬البريوين‪ .‬يف كتابه اآلنف الذكر‪ ،‬وتبعه عليه مجع‪ ،‬حيث قال وهو حيكي‬
‫اعتقادات اهلنود‪:‬‬
‫"ومنهم من كان يرى الوجود احلقيقي للعلة األوىل فقط‪ ،‬الستغنائها بذاهتا فيه‪ ،‬وحاجة غريها إليها‪،‬‬
‫وأن ما هو مفتقر يف الوجود إىل غريه‪ ،‬فوجوده كاخليال غري حق‪ ،‬واحلق هو الواحد األول فقط‪.‬‬
‫وهذا رأي (السوفية) وهم احلكماء‪ ،‬فإن (سوف) باليونانية احلكمة‪ ،‬وهبا مسي الفيلسوف (بيالسوبا)‪،‬‬
‫أي حمب احلكمة‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫وملا ذهب يف اإلس الم ق وم إىل ق ريب من رأيهم‪ ،‬مسوا بامسهم‪ ،‬ومل يع رف اللقب بعض هم فنس بهم‬
‫ص ّحف بعد ذلك‪ ،‬فصُرّي‬
‫للتوكل إىل (الصفة)‪ ،‬وأهنم أصحاهبا يف عصر النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬مث ُ‬
‫من صوف التيوس"‪.1‬‬
‫وهبذا قال كل من‪ :‬املستشرق األملاين فون هامر‪ ،‬وحممد لطفي مجعة‪ ،‬وعبد العزيز إسالمبويل‪ ،‬ذهبوا‬
‫‪2‬‬
‫إىل ما ذكره البريوين آنفا‪.‬‬
‫وقال به الدكتور حممد مجيل غازي‪" :‬الصوفية كما نعلم اسم يوناين قدمي مأخوذ من احلكمة (صوفيا)‬
‫‪3‬‬
‫وليس كما يقولون إنه مأخوذ من الصوف"‪.‬‬
‫وهلذا الرأي أدلة ترجحه‪ ،‬فمن ذلك‪:‬‬
‫أوال‪ :‬اتحاد المدلول‪.‬‬
‫احتاد مدلول الكلمتني‪" :‬سوفية"‪" ،‬صوفية"؛ فمدلوهلما‪ :‬احلكمة‪.‬‬
‫فأما األول فتقدم دليله من كالم البريوين‪.‬‬
‫فالكلمة‪" :‬سوف" يونانية‪ ،‬وترمجتها العربية هي‪" :‬احلكمة"‪.‬‬
‫و"الفيال سوف" هو‪" :‬حمب احلكمة"‪.‬‬
‫وأما الثاين فدليله‪ :‬أن "الصويف" عند الصوفية هو‪" :‬احلكيم"‪ ،‬وهو صاحب احلكمة‪.‬‬
‫وهم يكثرون من ذكره‪ ،‬وجيعلونه وصفا الزما للصويف‪ ،‬فمن مل يكن حكيما فليس له حظ من‬
‫اللقب‪ ،‬هكذا يقرر ابن عريب – وغريه – فيقول‪" :‬ومن شروط املنعوت بالتصوف‪ :‬أن يكون حكيما‬
‫ذا حكمة‪ .‬وإن مل يكن‪ ،‬فال حظ له من هذا اللقب"‪.4‬‬
‫فإذا كانت‪:‬‬
‫‪" -‬احلكمة" هي‪" :‬سوف"‪ ،‬و"احلكماء" هم‪" :‬السوفية"‪.‬‬
‫‪ -‬و"احلكمة" هي‪" :‬التصوف"‪ ،‬و "احلكماء" هم‪" :‬الصوفية"‪.‬‬
‫فهل جاء هذا التوافق صدفة ؟!‪.‬‬
‫يق ول نيكلس ون‪":‬بعض الب احثني من األورب يني يردها إىل الكلمة اإلغريقي ة‪ :‬س وفوس‪ ،‬مبعىن ثيو‬
‫‪5‬‬
‫صويف"‪..‬‬

‫‪ - 11‬حتقيق ما للهند من مقولة مقبولة يف العقل أو مرذولة ص‪ ،27‬ويف قول البريوين جواب لقول من قال‪ :‬لو كان‬
‫"صويف" مأخوذ من "سوفيا" لقيل‪" :‬سويف"‪ ،‬انظر التصوف يف اإلسالم‪ ،‬عمر فروخ ص‪.24،29‬‬
‫‪ - 2‬انظر‪ :‬التصوف املنشأ واملصادر‪ ،‬إحسان إهلي ظهري‪ ،‬ص‪ .33‬قضية التصوف‪ ،‬املنقذ من الضالل‪ ،‬عبد احلليم حممود ص‬
‫‪.32‬‬
‫‪ - 3‬الصوفية الوجه اآلخر‪ ،‬حممد مجيل غازي‪ ،‬ص‪.47‬‬
‫‪ -4‬الفتوحات املكية‪ ،‬ابن عريب‪.2/266 ،‬‬
‫‪ - 5‬الصوفية يف اإلسالم‪ ،‬نيكلسون ص‪.11‬‬

‫‪51‬‬
‫‪1‬‬
‫وكلمة‪" :‬ثيوصويف" اإلغريقية تعين‪ :‬احلكمة اإلهلية‪( .‬ثيو = إله)‪( ،‬صويف = احلكمة)‪.‬‬
‫وقد ذكر ال دكتور النش ار عن طائفة من اهلن ود الق دامى‪ ،‬يعرف ون باس م‪" :‬جيمنو ص وفيا" ومعن اه‪:‬‬
‫احلكيم العاري‪ .‬كانوا يقضون حياهتم يف السياحة‪ ،‬متأملني اهلل تعاىل‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫وهذا أيضا مذهب يعتنقه الصوفية يف اإلسالم‪ :‬السياحة‪ ،‬والتأمل‪.‬‬
‫فهذا اتفاق يف االسم‪" :‬احلكيم"‪ ،‬واتفاق كذلك يف نوع األعمال املتعاطاة‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬هذا التوافق مبفرده ليس دليال على االنتساب‪ ،‬لكن مجع األدلة بعضها إىل بعض‪ ،‬وقد سبق منها‬
‫ش يء ليس بالقلي ل‪ ،‬وحتليل مض مون تلك األعم ال مبا يظهر التواف ق‪ ،‬حىت يف أدق التفاص يل‪ :‬إثبات ات‬
‫برهانية‪ ،‬يصعب إمهاهلا‪.!!.‬‬
‫ثانيا‪ :‬اتحاد الهدف‪.‬‬
‫ه دف التص وف يوافق ه دف الفلس فة‪ ،‬فكالمها يرمي ان إىل التش به باإلل ه‪ ،‬وه ذا يت بني من تعريف‬
‫"التصوف" و "الفلسفة"‪:‬‬
‫ففي تعريف الفلسفة قال الجرجاني‪" :‬الفلس فة‪ :‬التش به باإلله حبسب الطاقة البش رية‪ ،‬لتحص يل‬
‫السعادة األبدية‪ ،‬كما أمر الصادق صلى اهلل عليه وسلم يف قوله‪( :‬ختلقوا بأخالق اهلل)‪3‬؛ أي تشبهوا‬
‫به يف اإلحاطة باملعلومات‪ ،‬والتجرد من اجلسميات"‪.4‬‬
‫وفي تعريف التصوف‪d:‬‬
‫‪ -‬أورد ال دكتور عبد احلليم حمم ود عن الن وري قول ه‪":‬ليس التص وف رمسا وال علم ا‪ ،‬ولكنه خل ق‪،‬‬
‫ألنه لو كان رمسا حلصل باجملاهدة‪ ،‬ولو كان علما حلصل بالتعليم‪ ،‬ولكنه ختلق بأخالق اهلل‪ ،‬ولن‬
‫تستطيع أن تقبل على األخالق اإلهلية بعلم أو رسم"‪.5‬‬
‫‪ -‬الغزايل يقول‪" :‬فالذي يذكر هو قرب العبد من ربه عز وجل يف الصفات اليت أمر فيها باالقتداء‬
‫والتخلق بأخالق الربوبية‪ ،‬حىت قيل‪ :‬ختلقوا بأخالق اهلل"‪.6‬‬
‫‪ -‬وابن عريب يقول‪:‬‬

‫(‪ :)Theism‬اإلله؛ سويف (‪:)Sophy‬احلكمة‪..‬‬ ‫‪ - 1‬كلمة "ثيو سويف" يونانية‪ ،‬معناها احلكمة اإلهلية‪ ،‬ثيو‬
‫انظر‪ :‬املعجم الفلسفي‪ ،‬صليبا‪( 1/360 ،‬مادة‪ :‬التوحيد)‪ ،‬املورد ص ‪( 879‬مادة ‪. )Sophy‬‬
‫‪ - 2‬نشأة الفكر الفلسفي‪ ،‬النشار‪.3/42 ،‬‬
‫‪ - 3‬ليس حبديث‪ ،‬قال األلباين عنه ‪" :‬ال نعرف له أصال يف شيء من كتب السنة‪ ،‬وال يف اجلامع الكبري للسيوطي‪ ،‬نعم أورده‬
‫يف كتاب‪ :‬تأييد احلقيقة العلية‪( ،‬ق‪ )89/1‬لكنه مل يعزه ألحد" شرح الطحاوية ص ‪.120‬‬
‫‪ -4‬التعريفات‪ ،‬اجلرجاين‪ ،‬ص‪.73‬‬
‫‪ - 5‬عبد احلليم حممود وقضية التصوف‪ ،‬املدرسة الشاذلية ص‪.426‬‬
‫‪ - 6‬اإلحياء ‪.4/324‬‬

‫‪52‬‬
‫ألنه خلق فانظر ترى عجبا"‪.1‬‬ ‫‪" -‬فاعلم أن التصوف تشبيه خبالقنا‬
‫‪ -‬واجليلي يق ول‪" :‬وهلذا أمرنا الس يد األواه فق ال‪ :‬ختلق وا ب أخالق اهلل؛ لت ربز أس راره املودعة يف‬
‫اهلياكل اإلنسانية‪ ،‬فيظهر بذلك علو العزة الربانية‪ ،‬ويعلم حق املرتبة الرمحانية"‪.2‬‬
‫‪ -‬وجاء يف اصطالحات الصوفية للكاشاين‪" :‬التصوف‪ :‬هو التخلق باألخالق اإلهلية"‪.3‬‬
‫فهذا املعىن عند الصوفية يتفق عليه حذاقهم‪ ،‬كالنوري‪ ،‬والغزايل‪ ،‬وابن عريب‪.‬‬
‫فالتشبه والتخلق أمرمها واحد هو‪ :‬التمثّل‪.‬‬
‫‪ -‬املتشبه بشيء ما‪ :‬يتمثل صفاته‪.‬‬
‫‪ -‬واملتخلق خبلق شيء ما‪ :‬يتمثل صفاته‪.‬‬
‫ميس جوهره‪ ،‬كما جرى تعديل االسم سابقا‪:‬‬ ‫مس شكل املصطلح‪ ،‬ومل ّ‬ ‫وقد جرى تعديل ّ‬
‫‪ -‬فقوله‪" :‬التشبه"‪ .‬ع ّدل ليكون‪" :‬التخلق"‪.‬‬
‫‪ -‬وقوله‪" :‬باإلله"‪ .‬ع ّدل ليكون‪" :‬بأخالق اهلل"‪.‬‬
‫‪ -‬وبعد أن كان مقيدا‪" :‬على قدر الطاقة"‪ .‬انتفى عنه القيد‪.‬‬
‫وه ذه تع ديالت ش كلية‪ ،‬ال أثر هلا؛ فالتش به يف معىن التخل ق‪ ،‬فمؤدامها واحد يف الفلس فة والتص وف‪،‬‬
‫فكالمها يقرر إمكانية الوصول إىل حتصيل الصفات اإلهلية‪ ،‬بدليل‪:‬‬
‫أهنما يقوالن باحللول واالحتاد الذايت‪ ،‬بني اإلنسان واهلل تعاىل سبحانه‪.‬‬
‫فالنهايات فيهما واحدة‪ ،‬واالختالف يف تسمية الطريق‪.‬‬
‫وأما التقييد فال أثر ل ه؛ ألنه إذا ك انت الفلس فة تق رر ق درة اإلنس ان على االحتاد باهلل تع اىل بواس طة‬
‫حتصيل مجيع الصفات‪ ،‬مل يعد هلذا التقييد معىن‪ ،‬إال من جهة اختالف قدرات البشر‪ ،‬فمنهم من يقدر‬
‫على هذه املرتبة‪ ،‬ومنهم من ال يقدر‪.‬‬
‫وهذا التفاوت يقرره الصوفية كذلك‪ ،‬متفقني يف ذلك مع الفالسفة‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫سادسا‪ :‬ظاهرة اتهام أئمة التصوف‪.‬‬

‫‪ - 1‬الفتوحات ‪.2/266‬‬
‫‪ - 2‬اإلنسان الكامل ‪.2/19‬‬
‫‪ - 3‬ص‪.164‬‬

‫‪53‬‬
‫بدراسة نشأة التصوف‪ :‬يتضح أن هذه الفكرة مل تظهر يف صورة مذهب‪ ،‬له محلته‪ ،‬وله أصوله‬
‫وأفكاره‪ ،‬إال يف هناية القرن الثاين‪ ،‬وبداية الثالث؛‪ 1‬أي بعد انتهاء القرون الثالثة املفضلة‪ ،‬فليس من‬
‫أئمته إذن من هو من التابعني‪ ،‬دع من فوقهم‪ ،‬ويف هذا داللة على‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬أنه مذهب بدعي حادث‪ ،‬وهذا ما قرره األئمة الذين أنكروا على ما جاء به املتصوفة‪.‬‬
‫‪ -‬وأن الذي كان عليه‪ ،‬أولئك املتصوفة الذين سلموا من الفلسفة والغلو‪ ،‬ليس احلالة الكاملة بال‬
‫‪3‬‬
‫شك‪ ،‬ومثل هذا التقرير جنده يف كالم ابن تيمية‪.‬‬
‫وبدراسة تراجم أئمة التصوف‪ ،‬منذ بدايته حىت القرون الالحقة‪ :‬جند فيها حقائق خطرية‪ .‬فإن كثريا‬
‫وح ّذر منه‪ ،‬ومنهم سجن‪ ،‬ومنهم من‬ ‫منهم تعرض لإلنكار من العلماء واألئمة‪ ،‬فمنهم من هجر‪ُ ،‬‬
‫هرب‪ ،‬واختفى‪ ،‬ومنهم من ختفى مبذهب آخر‪:‬‬
‫‪ -‬ساق ابن اجلوزي سنده إىل أيب عبد الرمحن السلمي قال‪:‬‬
‫‪" -‬أول من تكلم يف بلدته يف ترتيب األحوال ومقامات أهل الوالية‪ :‬ذو النون املصري‪ .‬فأنكر عليه‬
‫ذلك عبد اهلل بن عبد احلكم‪ ،‬وكان رئيس مصر‪ ،‬وكان يذهب مذهب مالك‪ ،‬وهجره لذلك‬
‫علماء مصر‪ ،‬ملا شاع خربه‪ :‬أنه أحدث علما مل يتكلم فيه السلف‪ ،‬حىت رموه بالزندقة‪.‬‬
‫‪ -‬قال السلمي‪ :‬وأخرج أبو سليمان الداراين من دمشق‪ .‬وقالوا‪ :‬أنه يزعم أنه يرى املالئكة‪ ،‬وأهنم‬
‫يكلمونه‪.‬‬
‫‪ -‬وشهد قوم على أمحد بن أيب احلواري‪ :‬أنه يفضل األولياء على األنبياء‪ ،‬فهرب من دمشق إىل‬
‫مكة‪.‬‬
‫‪ -‬وأنكر أهل بسطام على أيب يزيد البسطامي ما كان يقول‪ ،‬حىت أنه ذكر للحسني بن عيسى أنه‬
‫يقول‪ :‬يل معراج كما كان للنيب صلى اهلل عليه وسلم معراج‪ .‬فأخرجوه من بسطام‪ ،‬فأقام مبكة‬
‫سنتني‪ ،‬مث رجع إىل جرجان‪ ،‬فأقام هبا إىل أن مات احلسني بن عيسى‪ ،‬مث رجع إىل بسطام‪.‬‬
‫‪ -‬قال السلمي‪ :‬وحكى رجل عن سهل بن عبد اهلل التسرتي أنه يقول‪ :‬إن املالئكة واجلن‬
‫والشياطني حيضرونه‪ ،‬وإن يتكلم عليهم‪ .‬فأنكر عذلك عليه العوام حىت نسبوه إىل القبائح‪ ،‬فخرج‬
‫‪4‬‬
‫إىل البصرة فمات هبا"‪.‬‬
‫هذه القصص يذكرها الصوفية‪ ،‬ويقرون حبدوثها‪ ،‬ويذمون املنكرين‪ :‬أهنم مل يتوصلوا إىل فهم دقائق‬
‫كالم األئمة‪ ،‬فأنكروا عن جهل‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬مقدمة التعرف ملذهب أهل التصوف ص‪.4‬‬


‫‪ - 2‬انظر‪ :‬على سبيل املثال قول أيب زرعة يف احلارث احملاسيب يف‪" :‬تلبيس إبليس"‪ .‬ص‪.166‬‬
‫‪ - 3‬انظر‪ :‬الفتاوى ‪ ،10/358‬االستقامة ‪. 1/89‬‬
‫‪ - 4‬تلبيس إبليس ص‪.166‬‬

‫‪54‬‬
‫وممن اعتىن بذكر هذه احلكايات‪ ،‬وتفسري ما وقع هلؤالء األئمة‪ :‬السراج الطوسي‪:‬‬
‫‪ -‬فذكر ما تعرض له أبو يزيد البسطامي من النكري‪ ،‬ألجل كلمات قاهلا‪ ،‬مثل قوله‪" :‬سبحاين‪،‬‬
‫سبحاين"‪ ،‬مث شرع يدفع عنه‪ ،‬مبا يراه الئقا صوابا‪ ،‬كإنكار أن يكون قاله‪ ،‬أو تأويله – إن كان‬
‫‪1‬‬
‫قاله ‪ -‬بأنه يسبح اهلل تعاىل ال غري‪.‬‬
‫‪ -‬وقول النوري ملا مسع أذان املؤذن‪" :‬طعنة‪ ،‬وشم املوت"‪ ،‬وملا مسع نباح الكالب‪" :‬لبيك‪،‬‬
‫وسعديك"‪ ،‬وأن اهلل تعاىل كان معه يف البيت‪ ،‬ورفعه إىل اخلليفة املوفق يف ذلك‪ ،‬وجوابه عن‬
‫كلماته تلك‪ ،‬وبكاء اخلليفة‪ ،‬وثناؤه عليه‪ ،‬وإخالء سبيله‪.2‬‬
‫‪ -‬وما كان يقوله أبو محزة الصويف إذا مسع صوتا‪ ،‬مثل هبوب الرياح‪ ،‬وخرير املاء‪ ،‬وصياح الطيور؛‬
‫إذ كان يصيح فيقول‪" :‬لبيك"‪ ،‬فرموه باحللول‪ ،‬قال الطوسي‪":‬لبعد فهمهم يف معىن إشارته؛ ذلك‬
‫أن أرباب القلوب‪ ،‬ومن كان قلبه حاضرا بني يدي اهلل‪ ،‬ويكون دائم الذكر هلل‪ ،‬فريى األشياء‬
‫كلها باهلل‪ ،‬وهلل‪ ،‬ومن اهلل‪ ،‬وإىل اهلل‪ ،‬فإذا مسع كالمه‪ ،‬فكأن ذلك مسعه من اهلل‪ ،‬وال يكون ذلك‬
‫‪3‬‬
‫احلال إال لعبد جمموع على اهلل"‪.‬‬
‫‪ -‬قال‪" :‬باب ذكر مجاعة من املشايخ الذين رموهم بالكفر‪ ،‬ونصبوا العداوة معهم‪ ،‬ورفعوهم إىل‬
‫السلطان"‪ ،‬فأعاد ذكر علة ذلك؛ أهنم مل يفهموا إشارهتم‪.!!..‬‬
‫‪ -‬مث ما تعرض له ذو النون‪ ،‬ملا محل إىل املتوكل‪ ،‬مث جوابه‪ ،‬وأنه أعاده معززا مكرما‪.‬‬
‫‪ -‬وما تعرض له مسنون‪ ،‬الذي كاد أن يضرب عنقه‪ ،‬بسبب وشاية غالم اخلليل‪.‬‬
‫‪ -‬وأبو سعيد اخلراز‪ ،‬أنكر عليه مجاعة من العلماء‪ ،‬ونسبوه إىل الكفر؛ أللفاظ وجدت يف كتاب‬
‫صنفه‪ ،‬هو‪" :‬كتاب السر"‪ ،‬ليس فيه جواب غري قول‪" :‬اهلل"‪.‬‬
‫‪ -‬وذكر ما تعرض له احلالج من القتل‪ ،‬بعد أن أخذ كتابا لعمرو بن عثمان املكي فيه شيء من‬
‫‪4‬‬
‫علوم اخلاصة‪ ،‬وهرب‪ .‬فتنبأ عمرو بقتله‪ ،‬وقطع يديه ورجليه‪ ،‬فكان ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬وما حدث لسهل بن عبد اهلل‪ ،‬الذي نسبه إىل الكفر رجل ينسب إىل العلم والعبادة‪ ،‬فهيج عليه‬
‫العامة‪ ،‬حىت وثبوا عليه‪ ،‬فخرج من تسرت إىل البصرة‪.‬‬

‫‪ - 1‬اللمع ص‪473-472‬‬
‫‪ - 2‬اللمع ص‪.493-492‬‬
‫‪ - 3‬اللمع ص‪.495‬‬
‫‪ - 4‬صنيع الطوسي هذا‪ ،‬يدل على توليه احلالج‪ ،‬حيث عده يف املشايخ الذين نسبوا إىل الكفر‪ ،‬وما ذكر منهم إال من‬
‫ارتضى سريته‪ ..‬وقد احتال لذكره‪ ،‬فلم يذكره ابتداء‪ ،‬بل أحلقه بعمرو بن عثمان املكي‪ ،‬الذي مل يذكر عنه تعرضه لشيء‬
‫من التهمة‪ ،‬بل ذكر كتابه الذي كان سببا يف قتل احلالج‪ .‬إذن احلالج هو املقصود بالذكر؛ ألن قصته مناسبة لعنوان الباب‪،‬‬
‫دون عمرو بن عثمان املكي‪.!!..‬‬

‫‪55‬‬
‫‪ -‬وأبو عبد اهلل احلسني بن مكي الصبيحي‪ ،‬الذي تكلم يف شيء من األمساء والصفات وعلم‬
‫احلروف‪ ،‬فكفره أبو عبد اهلل الزبريي‪ ،‬وهيج العامة عليه‪.‬‬
‫‪ -‬وأبو العباس أمحد بن عطاء‪ ،‬الذي رفع إىل السلطان‪ ،‬ونسب إىل الكفر والزندقة‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬واجلنيد‪ ،‬الذي طلب مرارا‪ ،‬وأخذ‪ ،‬وشهدوا عليه بالكفر والزندقة‪.‬‬
‫والقشريي ذكر شيئا من هذا فقال‪:‬‬
‫‪" -‬مسعت األستاذ أبا علي الدقاق‪ ،‬يقول‪ :‬ملا سعى غالم اخلليل بالصوفية إىل اخلليفة‪ ،‬أمر بضرب‬
‫أعناقهم؛ فأما اجلنيد فإنه تسرت بالفقه‪ ،‬وكان يفىت على مذهب أيب ثور"‪.2‬‬
‫يقول املستشرق نيكلسون‪:‬‬
‫‪ " -‬ويذهب اجلامي إىل أن اجلنيد كان أول من صاغ املعاين الصوفية‪ ،‬وشرحها كتابة‪ ،‬وأنه كان‬
‫يعلم التصوف سرا يف بيوت خاصة‪ ،‬ويف السراديب‪ ،‬يف حني كان الشبلي يتكلم يف مسائل‬
‫التصوف عالنية‪ .‬ومن هذا نستنتج أن أهل السنة الذين أعاد إليهم اخلليفة املتوكل سابق نفوذهم‪،‬‬
‫كانوا أكثر تساحما‪ ،‬وأقل اضطهادا للصوفية‪ ،‬منهم لرجال املعتزلة‪ .‬ومما يؤيد ذلك‪ :‬ما روي من‬
‫أن ذا النون املصري عندما اهتم بالزندقة‪ ،‬وأرسل إىل بغداد حملاكمته‪ ،‬مثل أمام املتوكل‪ ،‬ووعظه‪،‬‬
‫فعفا عنه‪ ،‬ورده إىل وطنه‪ .‬بل اجلنيد نفسه قد اهتم بالزندقة مرارا‪ ،‬واهتم عدد كبري من الصوفية‬
‫هبذه التهمة‪ ،‬فيما يعرف مبحنة الصوفية ببغداد‪ ،‬وهو احملنة اليت فر على إثرها أبو سعيد اخلراز‬
‫الصويف إىل مصر"‪.3‬‬
‫والذين حلقهم هذا احلال أكثر ممن ذكر‪ ،‬بل ال تكاد جتد إماما من هذه الطائفة‪ ،‬مشهورا يف ناحية‪،‬‬
‫إال وله قصة مع العلماء والعامة‪ ،‬من هذا القبيل‪.!!..‬‬
‫ض أئمتهم ملثل هذه املواقف الصعبة‪ ،‬والعسرية‪ .‬يثري التساؤل‪ :‬مل هذه‬ ‫فهذه الظاهرة الصوفية؛ َت َعرُّ ُ‬
‫الظاهرة مما متيز هبا الصوفية ؟‪.‬‬
‫هل ميكن أن يكون ذلك كله جتنيا عليهم ؟!‪.‬‬
‫مع مالحظة أن التهمة لعامتهم يف عمومها هي من جنس واحد‪ ،‬تدل حول أفكار متقاربة‪ ،‬هي‬
‫األفكار نفسها املوجودة يف كتب الصوفية‪ ،‬وهي النتائج نفسها اليت توصلت إليها هذه الدراسة‪.‬‬
‫فهذه األحوال اليت تعرضوا هلا َحِّرية بدراسة أسباهبا‪ ،‬فإن اخلط العام الذي كان عليه الناس اتباع‬
‫السنة‪ ،‬فمن خالفها تعرض لإلنكار‪ ،‬فهؤالء إذن خالفوا األمة؛ أي أهنم أتوا ببدعة استوجبت هذا‬
‫النكري‪ ،‬ليس من إمام واحد‪ ،‬بل من كثري من األئمة السنة‪ ،‬وال يف بلد واحد‪ ،‬بل يف كثري من البالد‪،‬‬

‫‪ - 1‬اللمع ص‪.501-497‬‬
‫‪ - 2‬الرسالة ‪.2/503‬‬
‫‪ - 3‬يف التصوف اإلسالمي وتارخيه ص‪.21-20‬‬

‫‪56‬‬
‫وال يف قرن واحد‪ ،‬بل يف كل القرون‪ ..‬وكان هذا منذ ابتداء أمرهم يف هناية الثاين وبداية الثالث‬
‫اهلجري‪ ،‬أي ملا كانت السنة مهيمنة‪.‬‬
‫وكلما كانت السنة مهيمنة‪ :‬كان بالؤهم وحمنتهم أشد‪ .‬والعكس بالعكس‪..‬‬
‫فمثل احلالج مل يسلم من القتل‪ ،‬ومن كان معه على مذهبه‪ :‬اضطر لنفي ما نسب إليه‪ ،‬أو التخفي‪،‬‬
‫أو اهلروب‪ ..‬لكن مثل‪ :‬ابن عريب‪ ،‬وابن الفارض‪ ،‬والتلمساين‪ ،‬والقونوي‪ ،‬وابن سبعني‪ .‬كانوا يقولون‬
‫مثلما قال احلالج وزيادة‪ ،‬ومل يلحقهم ما حلق احلالج‪.!!..‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ال يبعد أن يكون طرف من هذه األخبار‪ ،‬قد نسج على بعض األئمة‪ ،‬كاجلنيد‪ ،‬والداراين‪ ،‬والتسرتي‪،‬‬
‫كما نسجت أقوال على آخرين‪ ،‬فنسبت إليهم‪ ،‬وهم منها براء‪.‬‬
‫وإثب ات أو نفي نس بة ه ذه األخب ار واألق وال‪ ،‬إىل ه ؤالء املش ايخ‪ ،‬حيت اج إىل حبث مس تقل‪ ،‬ليس حمله‬
‫هذه الدراسة‪ ..‬فهذه الدراسة معنية باألقوال ذاهتا‪ ،‬ال بأصحاهبا‪.‬‬
‫فإذا ما قيل‪ :‬وهل األقوال إال بأصحاهبا ؟‪.‬‬
‫قي ل‪ :‬ه ذه األق وال‪ ،‬اليت هي ش طحات‪ ،‬مس طرة يف كتب الص وفية‪ ،‬يتناقلوهنا فيما بينهم‪ ،‬قد ص ارت‬
‫اجلزء األساس من الرتاث الصويف‪ ،‬حيتجون هبا‪ ،‬ويستندون إليها‪ ،‬بل ويتفاخرون هبا‪ ،‬ويدعون إليها‪،‬‬
‫وجيعلوهنا من الغايات‪ ،‬ومن احلقائق‪.‬‬
‫وأما عدم ثبوهتا عن هذا أو ذاك من املشايخ‪ ،‬فذلك أمر ال يهم هؤالء املتصوفة؛ فقد كتبوها‪،‬‬
‫ونقلوها‪ ،‬وهم بالتأكيد يعتقدون هبا‪ ،‬ولوال ذلك ما نشروها‪ ،‬وما ذبوا عنها‪.‬‬
‫وهؤالء ميثلون اجتاها عاما يف التصوف‪ ،‬هو األظهر‪ ،‬وهو املسيطر على ساحة التصوف‪ ،‬بل التصوف‬
‫ال يعرف إال هبم‪ ،‬ومن خالل ما يتكلمون‪ ،‬وينقلون‪.‬‬
‫وإن كان مثة تصوف غري هذا‪ ،‬الذي عليه هؤالء‪ ،‬فهو مغمور خفي‪ ،‬ال أثر له‪ ،‬أو رمبا وجوده‬
‫متوهم‪ ،‬مظنون‪.‬‬
‫فهذه األقوال صارت إذن مستند التصوف املعروف‪ ،‬بغض النظر‪ :‬أهي ثابتة أم ال ؟‪.‬‬
‫والتعامل مع هذا الواقع حيتم دراستها‪ ،‬ونقدها حباهلا‪ ،‬كما هي‪ ،‬وال يكفي إبطاهلا من جهة الثبوت‪،‬‬
‫دون إبطال مضموهنا‪ ،‬فإبطال املضمون مطلوب يف كل حال‪.‬‬
‫وما خيشى من نسبة قول إىل غري قائله‪ ،‬فذلك ميكن جتاوز بالتنبيه‪ :‬أنه منسوب‪.‬‬
‫لكل هذا‪ :‬كانت هذه الدراسة منصبة يف األفكار‪ ،‬واحلكم متجه إليها‪ ،‬ليس على القائلني هبا‪ ،‬لكنها‬
‫ملا نقلت منسوبة إليهم‪ ،‬ذكرناها منسوبة إليهم‪ ،‬والغرض‪:‬‬
‫‪ -‬نقدها‪ ،‬ال نقدهم‪..‬‬
‫‪ -‬واحلكم عليها‪ ،‬ال احلكم عليهم‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫صلة‪:‬‬‫المح ّ‬
‫كل ما س بق من األدلة ت بني أن نس بة الص وفية إىل الفلسفة أق رب منها إىل الس نة‪ ،‬بل ال وجه لنس بتها‬
‫إىل السنة‪:‬‬
‫‪ -‬ال يف لفظها؛ فال عالقة هلا بالصوف‪.‬‬
‫‪ -‬وال يف معناها؛ فال عالقة هلا بالزهد‪.‬‬
‫‪ -‬وال يف تفسريها باخللق؛ فله معىن خاص‪ ،‬يفضي إىل تشبيه اإلنسان باخلالق تعاىل‪.‬‬
‫‪ -‬وال من جهة املقارنة بني التصوفني‪ :‬اإلسالمي‪ ،‬والقدمي‪ .‬حيث ظهر التشابه‪.‬‬
‫‪ -‬وال من جهة أئمته ا‪ ،‬ال ذين تعرض وا لإلنك ار‪ ،‬بس بب ما أت وا ب ه‪ ،‬مما هو خمالف ملا هو س ائد يف‬
‫جمتمع هتيمن عليه الس نة والش ريعة؛ فاإلنك ار إذن ملا تض منته دع وهتم وم ذهبهم من خمالف ات‬
‫واضحة للسنة‪.‬‬
‫فكلها متنع وتعيق نس بة التص وف إىل الس نة والتوحي د‪ ،‬فه ذه هي نتيجة البحث العلمي‪ ،‬والت ارخيي‪،‬‬
‫فمن أراد نقضها فعليه أن يسلك ذات األدوات‪ ،‬وإال فليس لكالمه قيمة‪.!!.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫إن من يرى أصل التصوف سنيا حممودا‪ ،‬فالربهان الذي يقدمه‪:‬‬
‫فأس التصوف حممود‬ ‫‪ -‬أن أئمة التصوف األوائل ذكروا أن طريقتهم مقيدة بالكتاب والسنة‪ ،‬وعليه‪ّ :‬‬
‫يف أصله؛ إذ هو املتقيد بالشريعة‪ ،‬واملذموم هو ما أحدثه من بعدهم ؟‪.‬‬
‫وه ذا التقرير مبين على‪ :‬أن هن اك طريقة ص وفية‪ ،‬أسس ها األوائ ل‪ ،‬متقي دة بالش ريعة‪ ،‬واض حة املع امل‪،‬‬
‫مفصلة املسائل‪ ،‬تضاهي الطرق الصوفية الفلسفية والبدعية املنتشرة‪ ،‬يف تفصيلها‪ ،‬وترتبيها ( يالحظ‪:‬‬
‫أن هذا التقسيم حبسب احلال‪ ،‬وأما إنكار التقسيم فبحسب األصل )‪.‬‬
‫والشأن يف وجود هذه الطريقة املتقيدة بالشريعة‪ ،‬فلو وجدت‪ ،‬وكانت على شرطها‪ ،‬فبها ونعمت‪.‬‬
‫لكن كيف لو أهنا معدومة‪ ،‬ال وجود هلا ؟!‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫حينئذ تنتفي دع وى تقس يم التص وف إىل‪ :‬حمم ود‪ ،‬وم ذموم‪ .‬كما ينتفي ق ول من زعم أن أصل‬
‫التص وف حمم ود‪ .‬فإنه ق ول يف ش يء ال وج ود له إال يف األذه ان‪ ،‬واملعركة القائمة إمنا يف اخلارج‪،‬‬
‫فكيف لنا أن نقارن بني ما يف الذهن وما يف اخلارج ؟!‪.‬‬
‫ومن كان يف شك من هذا‪ ،‬فليخرج لنا طريقة واحدة متقيدة بالكتاب والسنة‪.‬‬
‫وإذا كان اجلنيد‪ ،‬أو التسرتي‪ ،‬أو الداراين‪ ،‬وغريهم قد أعلنوا هذا التقيد‪:‬‬
‫‪ -‬فأين هي طريقتهم‪ ،‬ومذهبهم ؟‪.‬‬
‫‪ -‬أين هي الطرق الصوفية القائمة على التقيد بالكتاب والسنة ؟!‪.‬‬
‫مع العلم أن عامة املتص وفة‪ ،‬ق دميا وح ديثا‪ ،‬يقول ون أن ط ريقتهم متقي دة بالكت اب والس نة‪ ،‬غري أننا ال‬
‫ن رى إال طرقا فلس فية‪ ،‬تق رر الزندقة ب احللول واالحتاد ووح دة الوج ود‪ ،‬وأمثلها طريقة اليت تس تعمل‬
‫البدع‪ ،‬وتسري عليها يف‪ :‬الذكر‪ ،‬والعبادة ‪.!!.‬‬
‫بل إننا جند من الكالم ( املنسوب ) إىل هؤالء األئمة ما خيدم الطريقة الفلسفية‪ ،‬يساق جنبا إىل جنب‬
‫مع أقواهلم يف التقيد بالشريعة‪ 1،‬واالتباع يسمعون هذا مع هذا‪ ،‬وال يدركون التناقض‪ ،‬بل تفسر هلم‬
‫‪2‬‬
‫مؤتلفة متفقة‪ ،‬فيعتنقون هذا التصوف باحنرافاته‪ ،‬وهم يزعمون ويظنون أهنم مل خيالفوا الشريعة !!‪.‬‬
‫فاحلاصل والواقع أن طريقة هؤالء األئمة الذين أعلنوا التقيد بالشريعة‪ :‬جمهولة‪ ،‬غري معروفة ‪.!!.‬‬
‫فإذا كان هذا هو احلال‪:‬‬
‫فكيف ميكن أن يقال‪ :‬إن تصوف هؤالء األوائل هو التصوف الصحيح احملمود؟‪.‬‬
‫فه ذه إحالة إىل جمه ول غري معل وم‪ ،‬إىل خط وط عام ة‪ ،‬ليس حتتها تفص يالت جلي ة‪ ،‬كتلك اليت يف‬
‫االجتاه الفلسفي‪ ،‬فمريد التصوف لن جيد هذه الطريقة السنية املزعومة‪..‬‬
‫لن جيد مفصال إال الفلسفي أو البدعي ‪.!!3‬‬

‫‪ - 1‬انظر‪ :‬أقوال الواردة عن األئمة‪ :‬اجلنيد‪ ،‬والداراين‪ ،‬والتسرتي‪ ..‬يف الرسالة للقشريي‪.‬‬
‫‪ - 2‬انظر مثال على ذلك‪ :‬تفسريات الطوسي لشطحات‪ :‬البسطامي‪ ،‬والشبلي‪ .‬يف اللمع‪.‬‬
‫‪ - 3‬ال بد هنا من اإلشارة إىل أن هذا التقسيم إىل‪ :‬فلسفي‪ ،‬وبدعي‪ .‬إمنا هو حبسب ما طرأ على التصوف‪ ،‬وإال فاألصل أن‬
‫التصوف فلسفي حمض‪ ،‬لكن بعض من تلبس بالتصوف كان عنده من العلم واإلميان ما خيفف به غلواء التصوف‪ ،‬وينقله إىل‬
‫البدعة‪ ،‬فقد تصرف يف الفكرة نفسها‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ولو قيل‪ :‬بل الطريقة معروفة‪ ،‬هي طريقة السلف‪ ،‬أهل القرون املفضلة‪.‬‬
‫فيق ال‪ :‬إذا ك ان ك ذلك‪ ،‬فال يصح تس ميتها بالتص وف‪ ،‬وقد علم أن ه ؤالء ال خرب هلم بالتص وف‪.‬‬
‫وهل من فائدة جتتىن من ذلك إال تصحيح الطريقة الصوفية الفلسفية؛ إذ ال وجود يف الواقع لغريها‪،‬‬
‫فكل حتسني وتصحيح فال يتجه إال إليها ؟‪.‬‬

‫فهرس المراجع‬
‫أوال ‪ -‬كتب السنة واآلثار‪.‬‬
‫‪ -1‬متييز الطيب من اخلبيث فيما يدور على ألسنة الناس من احلديث‪ ،‬لعبد الرمحن بن علي بن عمر الشيباين‪ ،‬دار‬
‫الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪.1409/1988‬‬
‫‪ -2‬سلسلة األحاديث الضعيفة‪ ،‬حملمد ناصر الدين األلباين‪ ،‬املكتب اإلسالمي‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪.1398‬‬
‫‪ -3‬صحيح البخاري‪ ،‬أليب عبد اهلل حممد بن إمساعيل البخاري‪ ،‬ضبط‪ :‬د‪ .‬مصطفى ديب البغا‪ ،‬دار ابن‬
‫كثري(دمشق‪ ،‬بريوت)‪ ،‬اليمامة للطباعة والنشر (دمشق)‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪.1410/1990‬‬
‫‪ -4‬فتح الباري شرح صحيح البخاري‪ ،‬ألمحد بن حجر العسقالين‪ ،‬ضبط‪ :‬حممد فؤاد عبدالباقي‪ ،‬إخراج‪ :‬حممد‬
‫الدين اخلطيب‪ ،‬إشراف‪ :‬عبد العزيز بن باز‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -5‬كشف اخلفاء ومزيل اإللباس عما اشتهر من األحاديث على ألسنة الناس‪ ،‬إلمساعيل بن حممد العجلوين‪ ،‬دار‬
‫الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪.1988/1408‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ثانيا ‪ -‬كتب العقيدة‪.‬‬
‫‪ -1‬بدائع الفوائد‪ ،‬أليب عبد اهلل حممد بن أيب بكر بن قيم اجلوزية‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -2‬درء تع ارض العقل والنق ل‪ ،‬أليب العب اس ابن تيمي ة‪ ،‬حتقي ق‪ :‬حممد رش اد س امل‪ ،‬جامعة اإلم ام حممد بن س عود‬
‫اإلسالمية‪ ،‬الطبعة األوىل ‪.1399/1979‬‬
‫‪ -3‬شرح العقيدة الطحاوية‪ ،‬ألبن أيب العز احلنفي‪ ،‬خرج أحاديثها‪ :‬حممد ناصر الدين األلباين‪ ،‬املكتب اإلسالمي‪،‬‬
‫الطبعة التاسعة ‪.1988 /1408‬‬
‫‪ -4‬فتاوى وتنبيهات ونصائح‪ ،‬لعبد العزيز بن باز‪ ،‬مكتبة السنة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األوىل ‪.1409‬‬
‫‪ -5‬جمموع الفتاوى‪ ،‬ألمحد بن عبد احلليم بن تيمية‪ ،‬مجع‪ :‬عبد الرمحن بن قاسم‪ ،‬طبع بأمر خادم احلرمني الشريفني‬
‫امللك فهد بن عبد العزيز‪ ،‬إشراف الرئاسة العامة لشئون حلرمني الشريفني‪.‬‬
‫‪ -6‬منت العقيدة الطحاوية‪ ،‬أليب جعفر الطحاوي‪ ،‬دار الصميعي‪ ،‬الطبعة األوىل ‪.1419/1998‬‬
‫‪ -7‬االستقامة‪ ،‬ألمحد بن عبد احلليم بن تيمية‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد رشاد سامل‪ .‬مكتبة ابن تيمية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -8‬االعتصام‪ ،‬أليب إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطيب‪ ،‬تعريف‪ :‬حممد رشيد رضا‪ ،‬دار املعرفة بريوت‪.‬‬
‫‪.1985-1405‬‬

‫‪60‬‬
‫ولو فرض نا ج دال‪ :‬أن التص وف مص طلح دال على الزهد الش رعي يف أص له‪ .‬مث إنه تلبس به ما فيه‬
‫معارضة للشريعة‪ ،‬حىت صار هو األشهر‪ :‬لكان من احلكمة تركه واإلعراض عنه‪ ،‬حىت ال خيتلط احلق‬
‫بالباط ل؛ إذ ال م وجب ش رعيا وال عقليا للتمسك ب ه‪ ،‬ومثة مص طلح يغين عن ه‪ ،‬ليس فيه لبس وال‬
‫تضليل هو‪ :‬الزهد‪.‬‬
‫وهنا مثل‪:‬‬

‫‪ -9‬عدة الصابرين وذخرية الشاكرين‪ ،‬حملمد ابن أيب بكر ابن قيم اجلوزية‪ ،‬تصحيح‪ :‬نعم زرزور‪ .‬دار الكتب‬
‫العلمية‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ثالثا‪ -‬كتب المعاجم واللغة‪.‬‬
‫‪ -1‬التعريفات‪ ،‬للشريف علي بن حممد اجلرجاين‪ ،‬دار السرور‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -2‬دائرة معارف القرن العشرين‪ ،‬حملمد فريد وجدي‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪.1971‬‬
‫‪ -3‬املوسوعة الفلسفية العربية‪ ،‬رئيس التحرير‪:‬معن زيادة‪ ،‬معهد اإلمناء العريب‪ ،‬الطبعة األوىل ‪.1986‬‬
‫‪ -4‬املعجم الفلسفي باأللفاظ العربية والفرنسية واإلنكليزية والالتينية‪ ،‬للدكتور مجيل صليبا‪ ،‬الشركة العاملية‬
‫للكتاب‪ ،‬بريوت‪.1994/1414 ،‬‬
‫‪ -5‬املعجم الفلسفي جملمع اللغة العربية‪ ،‬اهليئة العامة لشئون املطابع األمريية‪ ،‬القاهرة ‪.1403/1983‬‬
‫‪ -6‬سري أعالم النبالء‪ ،‬لشمس الدين محد بن أمحد بن عثمان الذهيب‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬حتقيق‪ :‬شعيب األرناؤوط‪،‬‬
‫الطبعة السابعة ‪.1410/1990‬‬
‫‪ -7‬الفهرست البن الندمي‪ ،‬أليب الفرج حممد بن أيب يعقوب املعروف بالندمي‪ ،‬ضبط‪ :‬د‪.‬يوسف طويل‪ ،‬وضع‬
‫فهارسه‪ :‬أمحد مشس الدين‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪.1416/1996‬‬
‫‪ -8‬املقدمة‪ ،‬لعبد الرمحن ابن خلدون‪ .‬دار الفكر‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫خامسا – الكتب الناقدة للتصوف‬
‫‪ -1‬حتقيق ما للهند من مقولة مقبولة يف العقل أو مرذولة‪ ،‬أليب الرحيان حممد البريوين‪ ،‬عامل الكتب‪ ،‬الطبعة الثانية‬
‫‪.1403/1983‬‬
‫‪ -2‬ظهر اإلسالم‪ ،‬ألمحد أمني‪ ، ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة اخلامسة‪.‬‬
‫‪ -3‬بنية العقل العريب‪ ،‬دراسة حتليلية نقدية لنظم املعرفة يف الثقافة العربية‪ ،‬للدكتور حممد اجلابري‪ ،‬مركز دراسات‬
‫الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة اخلامسة ‪.1996‬‬
‫إبليس‪ ،‬جلمال الدين أيب الفرج عبد الرمحن بن اجلوزي‪ ،‬عنيت بنشره إدارة الطباعة املنريية‪ ،‬دار الكتب‬ ‫‪ -4‬تلبيس ٍ‬
‫العلمية‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -5‬التصوف بني احلق واخللق‪ ،‬حملمد فهر شقفة‪ ،‬الدار السلفية‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪.1403/1983‬‬
‫‪ -6‬التصوف يف اإلسالم‪ ،‬للدكتور عمر فروخ‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت‪.1401/1981 ،‬‬

‫‪61‬‬
‫األصل يف ( التش يع ) أنه حمم ود؛ ألنه دال على نص رة آل ال بيت‪ ،‬لكن ملا احنرف معن اه‪ ،‬فص ار‬
‫مصطلحا داال على سب الصحابة وتكفريهم‪ :‬ترك أهل السنة االنتساب إليه‪ ،‬منعا للتلبيس‪.‬‬
‫فكيف مبص طلح ال يثبت له أصل حمم ود‪ ،‬وهو متض من ملا يض اد اإلس الم‪ ،‬وال وج ود للمحم ود منه‬
‫؟!‪.‬‬
‫فمهما قي ل‪ ،‬ف إن كافة احلجج اليت يس تند إليها من ي رد تقس يم التص وف إىل‪ :‬س ين‪،‬‬
‫وفلسفي‪ .‬تنهار أمام الرباهني العقلية‪ ،‬والشواهد التارخيية‪ ،‬وكذا األدلة الشرعية‪.‬‬

‫‪ -7‬التصوف املنشأ واملصادر‪ ،‬إلحسان إهلي ظهري‪ ،‬إدارة ترمجان السنة‪ ،‬الهور‪ ،‬الطبعة األوىل ‪.1406‬‬
‫‪ -8‬الرد على القائلني بوحدة الوجود لعلي بن سلطان القارئ‪ ،‬حتقيق‪ :‬على رضا بن علي رضا‪ ،‬دار املأمون للرتاث‪،‬‬
‫الطبعة األوىل ‪.1415/1995‬‬
‫‪ -9‬شطحات الصوفية‪ ،‬لعبدالرمحن بدوي‪ ،‬وكالة املطبوعات‪ ،‬الكويت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪.1976‬‬
‫‪ -10‬الصوفية الوجه اآلخر‪ ،‬للدكتور حممد غازي‪ ،‬إعداد‪ :‬عبد املنعم اجلداوي‪ ،‬لقاء صحفي‪.‬‬
‫‪ -11‬الصوفية يف اإلسالم‪ ،‬نيكلسون‪ ،‬ترمجة وتعليق‪ :‬نور الدين شريبة‪ ،‬الناشر‪ :‬مكتبة اخلاجني بالقاهرة‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية ‪1422‬هـ‪.‬‬
‫‪ -12‬يف التصوف اإلسالمي وتارخيه‪ ،‬طائفة من الدراسات قام هبا رينولد نيكلسون‪ ،‬نقلها إىل العربية وعلق عليها‪:‬‬
‫أبو العال عفيفي‪ ،‬مطبعة جلنة التأليف والرتمجة والنشر‪ ،‬القاهرة‪.1388/1969 ،‬‬
‫‪ -13‬العقل األخالقي الع ريب‪ ،‬دراسة حتليلية لنظم القيم يف الثقافة العربي ة‪ ،‬لل دكتور حممد اجلابري‪ ،‬املركز الثق ايف‬
‫العريب‪ ،‬الطبعة األوىل ‪.2001‬‬
‫‪ -14‬مدارج السالكني بني منازل إياك نعبد وإياك نستعني‪ ،‬أليب عبد اهلل حممد بن أيب بكر بن أيوب بن قيم‬
‫اجلوزية‪ ،‬راجعه‪ :‬جلنة من العلماء بإشراف الناشر‪ ،‬دار احلديث‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -15‬نشأة الفكر الفلسفي‪ ،‬للدكتور علي سامي النشار‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬الطبعة السابعة ‪.1977‬‬
‫‪ -16‬نظري ات اإلس الميني يف الكلم ة‪ ،‬أليب العال عفيفي‪ ،‬اجلامعة املص رية‪ ،‬جملة كلية اآلداب‪ ،‬اجمللد الث اين‪ /‬اجلزء‬
‫األول‪ ،‬مايو ‪ ،1934‬ص‪.33‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫سادسا‪ -‬كتب التصوف‪.‬‬
‫‪ -1‬طبقات الصوفية‪ ،‬أليب عبد الرمحن السلمي‪ ،‬حتقيق‪ :‬نور الدين شريبة‪ ،‬مكتبة اخلاجني‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثالثة‬
‫‪.1406/1986‬‬
‫‪ -2‬املعجم الصويف‪ ،‬للدكتورة سعاد احلكيم‪ ،‬مؤسسة دندرة للطباعة والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل‬
‫‪.1401/1981‬‬
‫‪ -3‬معجم اصطالحات الصوفية‪ ،‬للدكتور أنور فؤاد أيب خزام‪ ،‬مراجعة‪ :‬د‪ .‬جورج مرتي عبداملسيح‪ ،‬مكتبة لبنان‪،‬‬
‫ناشرون‪ ،‬الطبعة األوىل ‪.1993‬‬
‫‪ -4‬مصطلحات الصوفية‪ ،‬لعبد الرزاق الكاشاين‪ ،‬حتقيق‪ :‬د‪.‬عبد اخلالق حممود‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية‬
‫‪.1404/1984‬‬

‫‪62‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪ -5‬إحياء علوم الدين‪ ،‬أليب حامد حممد الغزايل‪ ،‬دار الريان للرتاث‪ ،‬الطبعة األوىل ‪.1407/1987‬‬
‫‪ -8‬اإلنسان الكامل يف معرفة األوائل واألواخر‪ ،‬لعبد الكرمي بن إبراهيم اجليلي‪ ،‬مطبعة مصطفى البايب احلليب‪ ،‬مصر‪،‬‬
‫الطبعة الرابعة ‪.1402/1981‬‬
‫‪ -9‬اإلنسان الكامل يف معرفة األوائل واألواخر‪ ،‬لعبد الكرمي بن إبراهيم اجليلي‪ ،‬حتقيق‪ :‬صالح بن عويضة‪،‬‬
‫منشورات حممد علي بيضون‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل ‪.1418/1997‬‬
‫‪ -10‬ديوان احلالج وأخباره وطواسينه‪ ،‬مجعه وقدم له‪ :‬د‪ .‬سعدي ضناوي‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل‬
‫‪.1998‬‬
‫‪ -15‬الرسالة القشريية‪ ،‬أليب القاسم عبد الكرمي القشريي‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد احلليم حممود‪ ،‬حممود بن الشريف‪ ،‬دار‬
‫الكتب احلديثة‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -11‬رسائل اجلنيد‪ ،‬أليب القاسم اجلنيد‪ ،‬حتقيق‪ :‬د‪.‬علي حسن عبدالقادر‪.‬‬
‫‪-18‬شرح عبد الرزاق الكاشاين على فصوص احلكم‪ ،‬حملي الدين بن عريب‪ ،‬مطبعة مصطفى البايب‬
‫‪ -19‬عبد احلليم حممود وقضية التصوف‪ ،‬املدرسة الشاذلية‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثالثة‪.‬‬
‫‪ -20‬عوارف املعارف‪ ،‬ملحق باإلحياء‪ ،‬لعبد القاهر بن عبد اهلل السهروردي‪ ،‬دار الريان للرتاث‪ ،‬الطبعة األوىل‬
‫‪.1407/1987‬‬
‫‪ -21‬ع ودة الواصل دراس ات ح ول اإلنس ان الص ويف‪ ،‬لل دكتورة س عاد احلكيم‪ ،‬مؤسسة دن درة للدراس ات‪ ،‬الطبعة‬
‫األوىل ‪.1414/1994‬‬
‫‪ -22‬كشف احملج وب‪ ،‬للهج ويري‪ ،‬دراسة وترمجة وتعلي ق‪ :‬د‪.‬إس عاد عبد اهلادي قن ديل‪ ،‬اجمللس األعلى للش ئون‬
‫اإلسالمية‪ ،‬جلنة التعريف باإلسالم‪ ،‬القاهرة ‪.1415/1994‬‬
‫‪ -23‬كتاب قوانني حكم اإلشراق إىل كافة الصوفية جبميع اآلفاق‪ ،‬جلمال الدين حممد أيب املواهب الشاذيل‪،‬‬
‫الناشر‪ :‬مكتبة الكليات األزهرية‪ ،‬القاهرة‪.1380/1961 ،‬‬
‫‪ -24‬فتوح الغيب‪ ،‬لعبد القادر اجليالين‪ ،‬مكتبة مصطفى البايب احلليب‪ ،‬مصر‪ ،‬الطبعة الثانية ‪.1392‬‬
‫‪ -25‬الفتوحات املكية‪ ،‬حملي الدين بن عريب‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -26‬قوت القلوب‪ ،‬أليب طالب املكي‪ ،‬طبع مبطبعة األنوار احملمدية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -27‬اللمع‪ ،‬أليب نصر السراج الطوسي‪ ،‬حتقيق‪ :‬د‪ .‬عبد احلليم حممود‪ ،‬طه عبد الباقي سرور‪ ،‬الناشر‪ :‬مكتبة الثقافة‬
‫الدينية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫‪ -28‬مقدمة التعرف ملذهب أهل التصوف‪ ،‬أليب بكر حممد الكالباذي‪ ،‬قدم له وحققه‪ :‬حممود أمني النواوي‪،‬‬
‫الناشر‪ :‬املكتبة األزهرية للرتاث‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية ‪.1412/1992‬‬
‫‪ -29‬مصرع التصوف‪ ،‬أو تنبيه الغيب إىل تكفري ابن عريب‪ ،‬لربهان الدين البقاعي‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد الرمحن الوكيل‪،‬‬
‫مطبعة السنة احملمدية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األوىل ‪.1372/1953‬‬
‫‪ -30‬مدخل إىل التصوف اإلسالمي‪ ،‬للدكتور أبو الوفا الغنيمي التفتازاين‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثالثة‬
‫‪.1991‬‬
‫‪ -31‬جمم وع رس ائل اإلم ام الغ زايل (‪ ،)7-1‬روضة الط البني وعم دة الس الكني (‪ ،)2‬مش كاة األن وار (‪ ،)4‬دار‬
‫الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪.1406/1986 ،‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪64‬‬

You might also like