.1جيل الصحابة كون مجتمعاً مسلماً متكامالً .2أبو ذر الغفاري رضي اهلل عنه ترجمته وحياته .3قصة إسالم أبي ذر في الرواية المتفق عليها .4قصة إسالم أبي ذر في رواية مسلم .5فوائد قصة إسالم أبي ذر
دروس وعبر من قصة أبي ذر:
إننا لو نظرنا -نحن المسلمين -إلى حياة الصحابة ،وكيف كانوا ُيبلُون ألجل نصرة الدين وانتشار اإلسالم؛ لما وجد هذا الذل واالضطهاد من قبل أعداء اهلل المشركين .وإ ن قصة أبي ذر رضي اهلل عنه لتشهد لنا حقيقة وتبين لنا كيف كانت هممهم في طلب الحق واعتناقه ،ثم إذا اعتنقوه دافعوا وبذلوا النفس رخيصة من أجله ،وقاموا باألمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون خوف من أحد.
جيل الصحابة كون مجتمعاً مسلماً متكامالً:
الحمد هلل رب العالمين ،وصلى اهلل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .أما بعد :أيها اإلخوة :السالم عليكم ورحمة اهلل وبركاته ،أحييكم في هذه الليلة التي نسأل اهلل سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإ ياكم بما سنسمع فيها ،ونسأل اهلل سبحانه وتعالى أن يثيبكم خيراً على حضوركم واستماعكم ،ونسأل اهلل أن يجعل مجلسنا هذا من المجالس التي تثقل فيها أعمالنا يوم القيامة ،إن دراسة قصص الصحابة رضوان اهلل عليهم لها أهمية كبيرة؛ ألن الصحابة رضوان اهلل عليهم هم أولئك الجيل الذي رباهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على عينه ،ولقنهم مبادئ الوحي ومضامين الرسالة التي أنزلت عليه ،ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أعظم هذه األمة قاطبة جنها وإ نسها ،ولذلك فإن هذا المربي العظيم عندما يربي ذلك الجيل على تلك التعليمات اإللهية ،كتاباً وسنة ،فإن ذلك الجيل ال بد أن يكون جيالً عظيماً ،جيالً تستفيد منه البشرية إلى قيام الساعة ،وهذا الجيل -أيها اإلخوة -عبارة عن أفراد تجمعوا وآمنوا بالرسول صلى اهلل عليه وسلم ،وانصهرواS في تلك البوتقة اإليمانية التربوية ،حتى خرجت تلك النماذج ،وصحابة الرسول صلى اهلل عليه وسلم يتفاوتون في ميزاتهم ،وصفاتهم الشخصية ،ولذلك نجد أن أرأف األمة :أبا بكر وأشدها في حياء :عثمان ،وأحسنهم قضاء بين الخصوم :علي بن أبي طالب ،أمر اهلل :عمر ،وأكثرها ً وأعلمهم بالحالل والحرام :معاذ بن جبل ،وأعلمهم بالفرائض :زيد بن ثابت ،وأكثرهم أمانة :أبو عبيدة عامر بن الجراح ،وأعلمهم بالقراءة -قراءة القرآن -أبي بن كعب ،فإذاً الصحابة رضوان اهلل عليهم كانت صفاتهم الشخصية واستعداداتهم وقدراتهم تتفاوت ،ومن مجموع هذه القدرات وتنوع هذه الشخصيات ،تكون ذلك المجتمع المسلم.
أبو ذر الغفاري رضي اهلل عنه ترجمته %وحياته:
ونحن اليوم سنلقي الضوء في هذا الليلة إن شاء اهلل عن شخصية من تلكم الشخصيات العظيمة التي نشأت في ظل النبوة نشأة إيمانية ،فالصحابة رضوان اهلل عليهم كثير منهم دخلوا في اإلسالم وهم كبار السن ،ومع أن تشكل الكبير على أمر جديد صعب ،ولكن عندما يسلم اإلنسان تسليماً كامالً وينقاد فإن ذلك التشكل يكون سهالً ،والرجل الذي سنتكلم عنه في هذه الليلة ،هو :أبو ذر الغفاري رضي اهلل عنه ،هذه الشخصية التي ال يعلم عنها الكثيرون ،وبعض من يعلم عنها شيئاً يعلمون عنها أشياء مشوهة ،قد أخذوا عنها فكرة غير كاملة وصحيحة ،فمن الناس من يعتقد أن أبا ذر شخصية ضعيفة مهزوزة ،ولذلك يقول الرسول صلى اهلل عليه وسلم( :إنك لضعيف) ولكن الحقيقة غير ذلك كما سنبين إن شاء اهلل.
اسمه ونسبه %وفضله:
ندب لغتان صحيحتان -ابن سفيان بن عبيد بن ندب أو ُج َ -ج ُ فأما أبو ذر فإن اسمه :جندب بن جنادة ُ حرام بن غفار وغفار يرجع أصلهم إلى بني كنانة ،قال الذهبي رحمه اهلل في السير :هو أحد السابقين األولين من نجباء أصحاب محمد صلى اهلل عليه وسلم ،كان يفتي في خالفة أبي بكر و عمر و عثمان ،وكان رأساً في الزهد والصدق والعلم بالعمل ،قواالً بالحق ،ال تأخذه في اهلل لومة الئم ،على حدة فيه .وقال عليه الصالة السالم مبيناً فضائل ذلك الرجل في الحديث الصحيح( :ما أقلت الغبراء -األرض -وال أظلت الخضراء -السماء -من رجل أصدق لهجة من أبي ذر) .أما بالنسبة لحديث الرسول صلى اهلل عليه وسلم الصحيح الذي يقول( :يا أبا ذر ! إني أراك ضعيفاً، وإ ني أحب لك ما أحب لنفسي ،ال تتأمرن على اثنين ،وال تولين مال يتيم) فهذا التعليم منه عليه الصالة والسالم واإلرشاد لـأبي ذر ذلك ألن أبا ذر كانت تعتريه حدة في كثير من األحيان ،مما قد ال يكون مع تلك الحدة جيداً في اإلمارة ،وكان يرى أن إبقاء المال هو كنز للمال ،وال بد من إنفاقه كله ،ولذلك لو تولى مال يتيم قد ينفق مال اليتيم في سبيل اهلل. قصة إسالم أبي ذر في الرواية المتفق عليها: وأما من ناحية شخصية الرجل ،فإنها عظيمة ،وموضوعنا الذي سنتحدث عنه في هذه الليلة هو عن جزء من حياة أبي ذر وهذا الجزء هو قصة إسالمه ،إن قصة إسالم أبي ذر -أيها اإلخوة -من القصص الشيقة الممتعة التي تحتوي على دروس عظيمة ،وهذه القصة رواها اإلمام البخاري رحمه اهلل واإلمام مسلم في صحيحيهما ،وغيرهما ،وهناك رواية اتفق على إخراجها البخاري و مسلم ورواية أخرى أخرجها مسلم وغيره ،وبين الروايتين تغاير واضح في السياق ،حتى إن بعض أهل العلم قالوا :إنه يتعذر الجمع بين بعض التفاصيل الواردة في السياقين ،وبعضهم قال :يمكن الجمع ،والمسألة فيها دقة وفيها صعوبة شديدة ،ولذلك نحن سنقتصر إن شاء اهلل على إيراد الروايتين ،وشرحهما ،مع ذكر الفوائد فيهما ،ونبدأ بذكر رواية الصحيحين التي رجحها بعض أهل العلم ،على رواية مسلم ،وإ ن كانتا من ناحية صحة السند ثابتتين ،فأما رواية البخاري و مسلم فهي عن عبد اهلل بن عباس أنه كان في مجلس فقال لمن حوله :أال أخبركم بإسالم أبي ذر ؟ قلنا :بلى. قال ابن عباس :قال أبو ذر ( :كنت رجالً من غفار -قبيلة غفار -فبلغنا أن رجالً خرج بـمكة يزعم أنه نبي ،فقلت ألخي :انطلق إلى هذا الرجل فكلمه وائتني بخبره) .وفي رواية :أن ابن عباس قال( :لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى اهلل عليه وسلم بـمكة ،قال ألخيه :اركب إلى هذا الوادي - ،مكة ،ألنها في وادي -فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء ،واسمع من قوله ثم ائتني ،فانطلق -أي األخ -حتى قدم مكة وسمع من قوله ،ثم رجع إلى أبي ذر ،فقال :واهلل لقد رأيت رجالً يأمر بالخير وينهى عن الشر) وفي رواية :فقال( :رأيته يأمر بمكارم األخالق ،وكالماً ما هو بالشعر -ليس شعراً -فقال أبو ذر :ما شفيتني -أي ما أتيت لي بالكالم الذي يلبي حاجتي في نفسي ،ما شفيتني فيما أردت -فتزود أبو ذر وحمل شنة له فيها ماء وجراباً وعصا حتى قدم مكة -اآلن أبو ذر يذهب ليبحث عن هذا الرجل وعن حقيقة األمر ،هل هو حق أم ال؟ -حتى قدم مكة ،فأتى المسجد ،فالتمس النبي صلى اهلل عليه وسلم وال يعرفه -لكن ال يعرف من هو الرسول صلى اهلل عليه وسلم -وكره أن يسأل عنه) لماذا كره أبو ذر أن يسأل عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم؟ هناك أسباب ذكرها ابن حجر رحمه اهلل قال :ألنه عرف أن السؤال عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يؤذي السائل ،أو أن السؤال عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم يؤذي المسئول عنه وهو الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،أو أن كفار قريش لن يدلوا السائل على الرسول صلى اهلل عليه وسلم لعداوتهم له ،أو يمنعونه من االجتماع به ،أو يخدعونه حتى يرجع عنه وال يقابله ،ولذلك كان أبو ذر رحمه اهلل حكيماً عندما لم يسأل عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،حتى أدركه الليل .وفي رواية :أنه قال( :وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد -يعني: أجلس في المسجد الحرام ،وأشرب من ماء زمزم -فاضطجع رضي اهلل عنه ،فرآه علي بن أبي طالب ،فعرف أنه غريب من هيئته ومظهره ،فقال علي رضي اهلل عنه :كأن الرجل غريب؟ - يقول :لـأبي ذر كأن الرجل غريب؟ -قال :قلت :نعم ،قال :فانطلق إلى المنزل -أي حتى أضيفك- فلما رآه تبعه فلم يسأل الواحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح ،ذهب أبو ذر مع علي وما سأل علياً عن شيء ولم يسأله علي عن شيء ،حتى صار الصباح ،ثم احتمل قربته -وفي رواية: قريبته ،تصغير -وزاده إلى المسجد ،خرج من بيت علي ورجع في الصباح إلى المسجد ،فظل ذلك اليوم ،وال يرى النبي صلى اهلل عليه وسلم حتى أمسى ،فعاد إلى مضجعه ،فمر به علي للمرة الثانية ،فقال :أما آن للرجل أن يعلم منزله؟) .أي :كأنه يريد أن يضيفه مرة أخرى ،يعرض عليه الضيافة ،وفيها تلميح إلى أنه ما هو قصدك؟ ماذا تريد؟ (أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه فذهب به معه ،قال :فانطلقت معه ال يسألني عن شيء وال أخبره بشيء حتى إذا كان اليوم الثالث ،فعل مثل ذلك -أخذه معه إلى منزله في المساء ،ويرجع أبو ذر رضي اهلل عنه في الصباح إلى المسجد- فقال علي في المرة الثالثة :أال تحدثني ما الذي أقدمك هذا البلد؟) وفي رواية :فقال( :ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ فقال أبو ذر رضي اهلل عنه :إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت) لو أعطيتني العهد والميثاق أن تخبرني عما أنا جئت بسببه ،أخبرتك ،وفي رواية :أنه قال لـعلي ( :إن كتمت علي أخبرتك ،قال علي :فإني أفعل) أعطاه وعداً أن يفعل -اآلن علي مسلم وليس بكافر- وقال ابن حجر :والراجح أنه أسلم وهو ابن عشر سنين ولذلك يقول :فالراجح أن هذه القصة وقعت بعد البعثة بسنتين على األقل ،بسنتين فأكثر ،أي :يحتمل أنه كان سن علي في ذلك الوقت بين اثنتي عشرة سنة وبين عشرين سنة تقريباً؛ ألن الرسول صلى اهلل عليه وسلم هاجر بعد البعثة، أو أكثر ،المهم أنه فوق أثنتي عشرة سنة ،لماذا؟ ألن اثني عشر سنة هو السن المعقول في أن رجالً مثل علي يخاطب رجالً ويضيفه ،ولذلك فإن هذه القصة على الراجح كما سيمر معنا بعد قليل أنها حصلت قبيل الهجرة إلى المدينة ( -فقال أبو ذر لـعلي رضي اهلل عنه :سمعنا أنه ظهر نبي في مكة ،وأتيت أتحقق من األمر وأسأل ،فأخبره أبو ذر ،فقال علي رضي اهلل عنه :إنه حق وهو رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .وفي رواية :أنه قال له :أما إنك قد رشدت) أي :قد أصبحت على الرشد، أنت فعالً جئت لشيء صحيح وحق (وهذا وجهي إليه) علي يقول لـأبي ذر ،إنني متوجه إلى الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،فيقول علي رضي اهلل عنه( :فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخافه عليك قمت كأني أريق الماء) يقول علي :هناك مشكلة وهي أن كفار قريش يقومون بضغط شديد على الدعوة ومحاربة عظيمة جداً ،وتتبع مستمر لكل رجل يحاول االلتحاق بركب الدعوة ،ولذلك فـعلي بن أبي طالب كان ال بد أن يلجأ إلى طريقة ال تشعر الناس أن أبا ذر سيتبعه إلى الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،فقال علي لـأبي ذر ( :فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخافه عليك، قمت كأني أريق الماء) .وفي رواية( :قمت كأني أصلح نعلي -في هيئة الذي يصلح نعله -فإذا أنا فعلت ذلك فأمض أنت دون أن تلتفت) معناها :أن تتابع سيرك فيما بعد ،قال ابن حجر رحمه اهلل: ويحتمل أنه قالهما جميعاً ،قال :كأني أريق الماء ،أو كأني أصلح نعلي (فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل ،فمضى ومضيت معه ،حتى دخل ودخلت معه ،فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى اهلل علي اإلسالم ،فعرضه الرسول صلى اهلل عليه وسلم على عليه وسلم ودخل معه ،فقلت له :اعرض ّ أبي ذر ،فسمع من قوله ،فأسلم أبو ذر مكانه ،فقال له النبي صلى اهلل عليه وسلم :يا أبا ذر اكتم هذا األمر ،وارجع إلى بلدك) .وفي رواية( :ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري ،فإذا بلغك ظهورنا فأقبل -إذا بلغك أننا ظهرنا على أعدائنا فتعال إلي من بلدك -فقال :والذي بعثك بالحق، وفي رواية :والذي نفسي بيده ،ألصرخن بها بين ظهرانيهم) يقول :ال أكتم األمر ،وال أكتم إسالمي ،وسأذهب وأصرخ بالشهادتين بين ظهرانيهم ،أي :بين ظهراني المشركين في مكة ، (فخرج فجاء إلى المسجد وقريش فيه ،فنادى بأعلى صوته ،يا معشر قريش! أشهد أن ال إله إال اهلل وأشهد أن محمداً رسول اهلل ،فقالوا :قوموا إلى هذا الصابئ الذي غير دينه ،وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه ،وأتى العباس عم النبي صلى اهلل عليه وسلم فرآهم وهم يضربونه فأكب على أبي ذر وقال :ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار؟) .وفي رواية قال( :ويلكم تقتلون رجالً تعلمون أنه من غفار وهي طريق تجاركم إلى الشام ) انظر إلى ذكاء العباس يقول :أنتم اآلن تريدون أن تقتلوا رجالً من غفار وطريق تجارتكم تمر من بالدهم ،فيمكن أن يثأروا له عن طريق تجارتكم؛ فأنقذه منهم (فأقلعوا عني -أي كفوا عني -ثم أصبحت الغد ،فرجعت فقلت مثلما قلت باألمس! فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ فصنع بي مثلما صنع باألمس -ثاروا إليه ،فضربوه -فأكب عليه العباس فأنقذه) ،هذه الرواية في البخاري و مسلم ،أما رواية اإلمام مسلم رحمه اهلل ففيها زيادة تفاصيل في بداية القصة وفي نهايتها ،وفيها طريقة أخرى لمقابلة أبي ذر للرسول صلى اهلل عليه وسلم ألول مرة.
قصة إسالم أبي ذر في رواية مسلم:
روى اإلمام مسلم رحمه اهلل عن عبد اهلل بن الصامت قال :قال أبو ذر ( :خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام -غفار كانوا في جاهليتهم يحلون الشهر الحرام الذي حرم اهلل القتال فيه -قال :فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا) هؤالء الثالثة هؤالء أبو ذر و أنيس وأمهما كانوا ال يرضون عن فعل غفار ،وألجل المنكر الذي كانت عليه غفار خرجوا من غفار (فنزلنا على خال لنا ،فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا ،فحسدنا قومه ،فقالوا :إنك إذا خرجت عن أهلك -الكالم موجه إلى الخال -فقالوا :إنك إذا خرجت عن أهلك ،أي :زوجتك ،خالف إليهم أنيس) يعني :أنت إذا خرجت من هنا هو جاء إليهم من هنا ،وكان أنيس جميل الخلقة (فجاء خالنا ،فنثى علينا الذي قيل له -أي أفشى علينا وأشاع ما قيل له -فبلغ أخي هذا الكالم؛ فقال :واهلل ال أساكنك ،فقلت :أما ما مضى من معروفك فقد كدرته) -قد فعلت الشيء الطيب لنا وضيفتنا ،واآلن ماذا فعلت بكالمك هذا؟ هذه اإلشاعات التي قال لك الناس ،ونشرتها اآلن ،ماذا فعلت؟ لقد أفسدت المعروف( -وال جماع لنا فيما بعد ،ال نلتقي بك ،فقربنا صرمتنا -وهي :القطعة من اإلبل أو الغنم يقال عليها صرمة- فاحتملنا عليها ،ركبنا عليها وتغطى خالنا بثوبه فجعل يبكي -تأثراً من الخطأ الذي فعله -فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة ،فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها ،فأتيا الكاهن فخير أنيساً فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها) .وفي رواية( :فتنافر إلى رجل من الكهان ،قال :فلم يزل أخي أنيس يمدحه حتى غلبه ،فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا) ما معنى هذا الكالم؟ معنى هذا الكالم أنهم كانوا في الجاهلية ،يتفاخرون بالشعر ،أيهم أشعر من اآلخر ،ويتحاكمون إلى رجل ثالث يقضي بينهم أيهما أشعر من اآلخر ،فهنا تفاخر أنيس مع رجل رآه في الطريق ،فاحتكما إلى كاهن ،وهذا عمل حرام ،لكن هذا وقع منهم في الجاهلية قبل أن يسلموا ،فاحتكما إلى كاهن أيهما أشعر وجعل أنيس القطيع الغنم الذي معه -الصرمة S-رهناً ،وذلك الرجل كان معه قطيع آخر جعله رهناً أيضاً، فالذي يفوز ويكون أشعر من الثاني يأخذ القطيعين كلهم ويمشي ،فكسب أنيس ( ،فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا ،فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها ،فيقول أبو ذر للشخص الذي سمع منه الحديث :وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بثالث سنين) يقوألبو ذر :إني كنت أصلي قبل أن ألقى الرسول صلى اهلل عليه وسلم بثالث سنين ،فيقول الذي سمع منه القصة( :فقلت :لمن؟ -أي :لمن تصلي؟ -قال :هلل تعالى ،قلت :فأين توجهت؟ قال :أتوجه حيث يوجهني ربي) أصلي حيث يوجهني ربي ،فالمؤمن يصلي هلل ،وقد ذكروا أن أبا ذر كان رجالً في الجاهلية مثل قومه ،فاجر من الفجار ،ثم هداه اهلل إلى التوحيد قبل بعثة الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،فكان من جنس الموحدين مثل ورقة بن نوفل وغيره من الناس الموحدين ،وبعضهم كان عنده علم من الديانات السابقة ،األديان السابقة ،كان أبو ذر على التوحيد ،وكان يعلم أن الذي يستحق العبادة هو اهلل عز وجل ،لكن ال يعرف كيف يصلي وال أين يستقبل!! ولذلك يقول( :صليت قبل أن آتي الرسول صلى اهلل عليه وسلم بثالث سنين) صلى قبل اإلسالم بثالث سنوات ،وكان يتوجه حيث يوجهه اهلل (أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خثاء)أصلي حتى أتعب ويأتي آخر الليل وأنا تعبان من الصالة ،فألقى كأني كساء أي :من تعب العبادة ،حتى تعلوني الشمس ،فتوقظه ،فقال أنيس ( :إن لي حاجة بـمكة فاكفني ،فانطلق أنيس حتى أتى مكة) .وهنا يمكن أن نجمع بين الروايتين Sونقول :إن أبا ذر طلب من أخيه في هذا الوقت أن يذهب إلى مكة ، ليعلم له خبر النبي صلى اهلل عليه وسلم يقول أبو ذر ( :فراث علي -أي :أبطأ عليه أخوه ،لم يأت بسرعة -ثم جاء فقلت ما صنعت؟ قال لي :لقيت رجالً بـمكة على دينك) فـأنيس اآلن يرى أن أخاه على التوحيد ،فقال :حينما ذهبت إلى مكة وجدت رجالً على دينك ،يزعم أن اهلل أرسله .وفي رواية قال لي( :أتيت مكة فرأيت رجالً يسميه الناس الصابئ ،هو أشبه الناس بك ،قلت :فما يقول الناس عن هذا الذي ظهر في مكة ؟ قال :يقولون شاعر ،كاهن ،ساحر -وكان أنيس أحد الشعراء- قال أنيس ألخيه :لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم -لست بكاهن -ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر -أي طرقه وأنواعه -فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر) ال يمكن أن يكون شاعراً ألني أعرف أوزان الشعر وطرقه فال يمكن أن يكون كالمه شعراً (واهلل إنه لصادق ،وإ نهم لكاذبون ،قال :قلت :فاكفني حتى أذهب فأنظر) .هنا كأن أبا ذر قال ألخيه :إني بعثتك لتأتيني بتفاصيل ،والتي أتيتني بها غير كافية ،أنت أتيتني بأشياء مجملة ،فأنا أريد أن أستقصي بنفسي، قال( :فأتيت مكة ،وقبل أن يأتي مكة قال له أخوه :كن على حذر من أهل مكة فإنهم قد شنفوا له وتجهموا) أي أنه لما عرف حال الناس ضد الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،فقال :انتبه من أهل مكة ،فإنهم قد أبغضوه وعادوه ،وكادوا له ،وهذا يدل على أن هذه القصة وقعت والدعوة في مكة أصبحت جهرية؛ ألنهم عادوه ،فإذا عادوه وشنفوا له وتجهموا له معنى ذلك :أنه أعلن الدعوة، ولذلك وقفوا منه هذا الموقف .قال أبو ذر ( :فأتيت مكة فرأيت رجالً فقلت :أين الصابئ؟) .وفي رواية( :فتضاعفت رجالً منهم) أي :بحثت عن واحد ضعيف مسكين ،يقول أبو ذر ( :وسألت هذا الضعيف قلت له :أين الصابئ؟) ما قال أين محمد؟ وال أين نبي اهلل؟ قال :أين الصابئ؟ فلماذا سأل رجالً ضعيفاً؟ ألن العادة أن الضعيف ال يخشى منه ،فيجيب بسذاجة وال يخشى منه أن يكون رجالً شريراً ،فهو ضعيف ،لكن يبدو أن ذلك الوقت كان وقت شدة ،بحيث إن هذا الرجل الضعيف لما علي أهل علي ،فقال :صابئ ،صابئ ،فمال ّ سمع أبا ذر يسأل عن الصابئ قال( :فرفع صوته ّ الوادي بكل مدرة وعظم) أي :نبه كفرة قريش قال :الصابئ ،الصابئ هذا الذي يسأل عن الصابئ، فمال عليه كفار قريش بكل مدرة وعظم :كل حجرة وعظم رموا به أبا ذر ،فيقول( :فرماني الناس علي كأني نصب أحمر) والنصب :هو التمثال الذي كان كفار قريش يقيمونه، حتى خررت مغشياً ّ وكانوا يذبحون عنده حتى يصير لون التمثال الصنم أحمر من كثرة الدم ،فرموا أبا ذر وضربوه حتى سال الدم منه ،كأنه الصنم الذي عنده الدماء ،تصور كيف رموه حتى سال عليه الدم حتى كأنه نصب أحمر! قال( :فخررت مغشياً علي ،فارتفعت حين ارتفعت ،كأني نصب أحمر -من كثرة الدماء التي سالت -فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء ،وشربت من مائها ،فاختبأت بين الكعبة وبين أستارها) وكانت بطريقة بحيث أن الواحد يمكن أن يختبئ بين الكعبة وبين أستارها ( ..ولقد لبثت يا بن أخي ثالثين بين ليلة ويوم ،وما كان لي طعام إال ماء زمزم ،فقط ،فسمنت حتى تكسرت عكن بطني) فالبطن إذا سمنت تتثنى ،واللحم إذا سمن جداً ينثني ،فلو رأيت شخصاً سميناً جداً قبض يده تجد أنه صار ينثنى ،فهذه الثنيات تسمى :عكن ،ولذلك في حديث :المخنث الذي كان يدخل على بيت الرسول صلى اهلل عليه وسلم ثم منعه الرسول صلى اهلل عليه وسلم من الدخول؛ ألنه قال :إذا فتح اهلل عليك الطائف فعليك ببنت فالن؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان ،فإنهم كانوا من قبل يحبون تزوج المرأة السمينة ،ولذلك يقول هذا الرجل :إذا فتحت الطائف عليك ببنت فالن؛ ألنها تقبل بأربع أي :أنها من شدة سمنها من األمام أربع ثنيات ،وإ ذا أدبرت من الخلف تصير األربعة ثمانية، أربعة من الجهة اليمنى وأربعة من الجهة اليسرى ،ألن العظم الفقري ينصف العكن هذه ،فهذا الرجل ليس بذكر وال أنثى ،وهذه طبعاً خلقة من اهلل عز وجل في ناس من هذا القبيل ،وكان يدخل على النساء ،وحكمه أنه ليس برجل مكتمل الرجولة ،فلما رأى الرسول صلى اهلل عليه وسلم أن ذلك الرجل بدأ يصف النساء يقول :هذه كذا ..فمنعه من الدخول على نسائه صلى اهلل عليه وسلم، والشاهد :يقول أبو ذر ( :فتكسرت عكن بطني ،وما وجدت على كبدي ُسخفة جوع) وفي رواية: (سخفة جوع) سمن من ماء زمزم حتى تكسرت عكن بطنه! سمن جداً وما أحس بالجوع مطلقاً. َ فقال( :وما وجدت على كبدي سخفة جوع) أي :ضعف الجوع وهزاله ما أحسست به ،قال( :فبينما أهل مكة في ليلة قمراء) أي مقمرة (أضحيان) أي :مضيئة ( إذ ضرب على أصمختهم ) وأصمختهم أي :آذانهم ،ومعنى ضرب اهلل على آذانهم أي :أنهم ناموا في إحدى الليالي قبل الوقت، ض َر ْبَنا َعلَى آ َذانِ ِه ْم [الكهف ]11:أي :ناموا ،وأبو ذر اآلن مختبئ بين مثل قول اهلل عز وجل :فَ َ الكعبة وبين أستارها ،قال( :إذ ضرب على أصمختهم فما يطوف بالبيت -في هذا الوقت ،ألنهم ناموا -من كفار قريش إال امرأتان منهم تدعوا فوائد قصة إسالم أبي ذر: أيها اإلخوة! نأتي لنستعرض بعض الفوائد والعبر المأخوذة من هذه القصة العظيمة.
حرمة الجلوس في أماكن المنكرات:
أما من ناحية القصة الثانية التي انتهينا منها ،فإننا نالحظ يا إخواني :أن أبا ذر وأمه وأخاه قد تركا المكان؛ ألن قومهم غفار كانوا يستحلون الشهر الحرام ،ومع أن هذا وقع في الجاهلية ،لكن هذه كانت بادرة طيبة منهم حين أن تركوا ذلك المكان ،ولذلك إذا كان اإلنسان في مكان فيه منكر ال يستطيع أن يغيره ،وال يستطيع البقاء ،ربما ال يستطيع البقاء فيه سليماً فعليه أن يهاجر مباشرة ،فلو أن شخصاً -مثالً -سافر إلى بالد أخرى ليدرس ،فرأى منكرات حين عاش هناك ،وأحس من الوضع هناك بأنه محتمل جداً أن يقع في الفاحشة ،أو محتمل جداً أن ينحرف عن دينه ،وأحس بضغوط فعالً وأنه إذا بقي فترة أخرى فقد ينحرف ،فهل يجوز له أن يبقى إلتمام دراسته؟ ال .بل يجب عليه أن يرجع إلى البلد األخف شراً ،أو إلى المجتمع المسلم ،ليجلس فيه؛ ألن سالمة الدين أهم من جميع األشياء األخرى .ولو أن شخصاً شاباً -مثالً -في بيت فيه خادمات فاتنات ،ويعلم هذا الشاب أنه لو استمر بالبقاء في بيت أبيه وهؤالء الخادمات حوله ورفض أبوه النصيحة ورفض إخراج الخادمات ،وهذا الشاب بدأ فعالً يخشى على نفسه ،والحظ بوادر ذلك ،فهل يجوز له أن يبقى في بيت أبيه؟ ال .بل يجب عليه أن يخرج من بيت أبيه ،ويسكن في بيت أقاربه أو يدبر له مكاناً ،وال يجلس في مكان الفتنة.
االستعانة على قضاء الحوائج بالكتمان خوف الحسد وغيره:
والقضية األخرى -أيها اإلخوة -أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم يقول( :استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان ،فإن كل ذي نعمة محسود) فما هو السبب الذي من أجله يأمر صلى اهلل عليه وسلم بإخفاء نجاح اإلنسان المسلم ،أن يخفي نجاحه عن الناس الحساد؟ خوفاً من حسدهم ،والناس حساد جهال قد يحسدون على أدنى شيء ،هؤالء ناس جاءوا إلى خالهم فأكرمهم ،فهم يستحقون اإلكرام ،ألنه خالهم ،وهذه األم أخته ،ومع ذلك حسدوه .ولذلك فينبغي لصاحب النعمة إن كان خشي من حسد الناس ،ومن العين مثالً ،أال يخبر بالنعمة التي هو فيها ،ويخبئها ،ألنهم قد يفشلون مشاريعه وخططه ،وقد يصيبونه بعين ،أو يصيبون النعمة التي هو فيها بعين متلفة فتزول .واألمر اآلخر ،مشكلة تصديق الشائعات والتهم ،وخصوصاً كثير من الشائعات والتهم مصدرها الحساد، فهم ال يريدون أحداً أن يعلو عليهم في أي شيء من األشياء ،ولذلك لو أن شخصاً عال عليهم بالمال ،أو عال عليهم بمنصب أو عال عليهم بالعلم ،حتى بالعلم الشرعي مع األسف ،أي :تجد هذا بين بعض الذين ال يتقون اهلل من المنتسبين إلى العلم ،يحسدون من فضله اهلل عليهم ،فيكيدون له، وينشرون الشائعات عنه ،ويتهمونه بالتهم الباطلة ،ويتلبسون بلبوس الناصحين على قلوب الذئاب! وقد يقولون له كالماً ،إننا نخشى عليك ..أننا نخاف عليك ..وإ ننا كذا ..حتى ينحجب عن أداء دوره التعليمي بين الناس ،وقد يسعون بالوشايات عند الناس حتى يزيلوه عن مكانه ،وقد يتهمونه بالتهم الباطلة وينشرونها بين الناس ،حتى ينفروا الناس عنه ،انتبهوا! قد يكون داعية ناجحاً، فيأتون إلى من يدعوهم مثالً فيقولون :فالن فيه كذا ،وفالن فيه كذا حتى يصدوهم عنه ،حسداً من عند أنفسهم .وهذا الحسد مشكلة كبيرة ،ولذلك ينبغي على اإلنسان دائماً أن يقرأ المعوذات ،وأن يستعين باهلل على أولئك الناس ،وهذه القضية ال يسلم منها إال النادر ،أي حتى الناس الذين فيهم استقامة وفيهم دين قد يقع منهم الحسد ،وحصل هذا فيمن قبلنا لبعض الكبار ،ولذلك عائشة أثنت على زينب في حادثة اإلفك ،أثنت على زينب بأن اهلل عصم زينب ،فهناك منافسة بين عائشة وبين ضرائرها ،زينب ما تكلمت بشيء مطلقاً ،بل إنها أثنت على عائشة مع أنها فرصة حيث اتهم الناس عائشة باإلفك ،إذاً تخوض معهم ،فهي فرصة بأن تنال من ضرتها .ولذلك الحسد بين الضرائر Sمن المشاكل التي ينبغي على الزوج أن يراعيها ،ولعلنا نفرد إن شاء اهلل درساً خاصاً ربما للنساء عن قضية الغيرة ،التي تحدث بين النساء وبين الضرائر بالذات ،ومعالجة هذه المشكلة وكيف يمكن للمرأة أن تتغلب عليها ،وكيف يكون موقف الرجل من هذه األشياء.
عدم التسرع في تكدير المعروف:
الشيء اآلخر أيها اإلخوة :أن اإلنسان أحياناً يفعل معروفاً ،ولكن نتيجة تسرع منه يأتي بما يكدر هذا المعروف! فكثير من الناس أحياناً يكون محسناً وكريماً وباراً ويفعل الخير بالناس ،لكنه في لحظة من اللحظات يفعل شيئاً يفسد ذلك المعروف كله ،فقد يحسن شخص إلى الناس ،ويعطيهم ويتصدق عليهم وينفق عليهم ،وفي لحظة من اللحظات ،يأتيه الشيطان فماذا يفعل؟ يقول كلمة فيها من :ألم أعطك كذا ،وكذا ...؟ قد يكون أعطاه مائة حاجة ،فيقول له مرة من المرات :أما أعطيتك ّ كذا ..؟ ويذكر له حاجة واحدة ،فهذا يؤدي إلى إفساد المعروف كله ،ولذلك ينبغي للمحسنين سواء كان إحسانهم إحسان علم ،أو إحسان مال ،أو إحسان مساعدة ومعاونة وبذل جهد ،أال يمنوا ،وال يأتوا بشيء فيه تكدير لذلك المعروف. من يبحث عن الحق يوفقه اهلل إليه: وكذلك قوله( :وقد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بثالث سنين) هذه النقطة يؤخذ منها :أن اإلنسان الذي يبحث عن الحق ،فإن اهلل يوفقه ولو إلى شيء منه ،فقد كان أبو ذر رضي اهلل عنه مقتنعاً بالتوحيد ،كان مقتنعاً أن اهلل واحد ،وأن الناس الذين يعبدون األصنام هؤالء مشركون ،وأنه ال يمكن أن يكون هذا هو الحق ،ولذلك هو يؤدي أي شيء يعبر فيه عن الوحدانية ،يصلي هلل ،ولذلك فإن الباحث عن الحق بتجرد إذا سلك الطريق وأخلص فال بد أن يصل إليه ،وقد يصل إليه على مراحل ،أي :أول شيء يهتدي إلى هذه الجزئية من الحق ثم إلى الجزئية األخرى ،ثم إلى الجزئية األخرى حتى يهتدي إلى الحق في أغلب أموره.
أهل الحق يتشابهون:
وكذلك قول أنيس لـأبي ذر (أتيت مكة فرأيت رجالً يسميه الناس الصابئ هو أشبه الناس بك ،أو لقيت رجالً بـمكة على دينك) هذا فيه إشعار بأن أهل الحق يتشابهون ،وأهل التوحيد يتشابهون ،ولو لم يلتق أحد منهم باآلخر ،أو كان بعيداً عنه كل البعد ،فلو رأيت رجالً من أهل السنة والجماعة في أبواب العقيدة والعمل ،في اعتقاده ،وعمله ،وعبادته ،وجميع األشياء .ثم سافرت إلى مكان بعيد جداً ،فوجدت رجالً بنفس الصفات فإنك تحس أن هذين النفرين من أهل الحق متشابهان ولو لم يكن قد تالقوا من قبل وال عرف أحد منهم اآلخر ،ربما تسأله :أتعرف فالناً؟ يقول :ال ،وتستغرب كيف تشبه صالة ذلك صالة اآلخر ،وكيف كالم هذا عن السنة والبدعة مثل كالم ذلك الرجل ،وكيف تصور هذا عن الواقع يشبه تصور ذاك ،فتستغرب من التشابه والتطابق في الوجهات أو في المعتقدات واألعمال واآلراء .ولكن الذي يبرر هذا األمر أن الحق -أيها اإلخوة -إذا وقر في النفوس ،فإن أتباعه يتشابهون أينما كانوا ،و عمر رضي اهلل عنه كان من الناس المعروفين بأنه يصيب الحق ،فقد تنبأ بأشياء ،أو كانت عنده فراسة وإ لهام ،ألهمه اهلل بأشياء حصلت فعالً ،مثل أنه كان يتحرى نزول تحريم الخمر ويعلن بذلك ،فنزل تحريم الخمر ،وكان يتحرى نزول آية الحجاب ،ويرى أنه وضع غير طبيعي أن نساء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال يحتجبن ونساء المسلمين ،فنزلت آية الحجاب ،وكان رأيه في أسارى بدر صائباً موافقاً للقرآن ،وأشياء أخرى، كان فيها رأي عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه موافقاً للحق ،وهذه قضية إلهام يلهمه اهلل عز وجل، فأحياناً أهل الحق الواحد منهم من قد يهتدي إلى شيء من غير تعليم؛ بسبب سالمة فطرته ،وصحة تفكيره ،يهتدي إلى الحق ،ولو ما دله عليه وال علمه إياه أحد ،وهذا أبو ذر ما علمه التوحيد أحد، لكن الرجل فكر في الواقع ،فليس من المعقول أن هذه السماء يكون خلقها هبل ،وهذه األرض واألشجار خلقتها إساف ونائلة ،ال بد أن يكون هناك واحد أوجد هذه األشياء وخلقها ،ولذلك عرفه وصار يعبده ،فمن الذي علمه؟ فأصحاب الفطر السليمة ال بد أن يهتدوا إلى الحق ،وربما يتشابهون في أعمالهم ومعتقداتهم.
وجود الخلفية عن الواقع لدى المسلم أمر مهم:
وكذلك نأخذ من كالم أنيس ( :لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ،ووضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه الشعر) نأخذ منه أهمية المعرفة ،أن معرفة األمور تأتي بمعرفة خلفيات األشياء ،فيستطيع أن يحكم عليها ،فألن أنيساً رضي اهلل عنه يعرف أوزان الشعر، ضلِّل وما َّ صدق أن الرسول وطرق الشعر ،ويعرف أقوال الكهان وعنده خلفية عن هذه األشياء ما ُ صلى اهلل عليه وسلم كاهن وال شاعر ،ولذلك ال بد أن يكون لإلنسان المسلم خلفية عن الواقع وأن يعلم األمور حتى ال تتشابه عليه األشياء ،فتكون نظرته غير صائبة ،وغير صحيحة ،فال بد أن يعلم عن المذاهب الهدامة مثلما علم أنيس عن كالم الكهان ،ومن قبل كانت المذاهب الهدامة :الكهانة والسحر إلى آخره ،أما اآلن فقد اختلفت األمور وزادت ،فالكهانة والسحر موجودة لكنها زادت مذاهب أخرى كثيرة ضالة ،فال بد أن يتعلم المسلم عن المذاهب الهدامة ،وعن النفاق والمنافقين ومساجد الضرار Sحتى ال يخدع بكثير من الشعارات التي ترفع ،واألعمال التي تعمل ،وليست لوجه اهلل ،وإ نما يراد من ورائها الصد عن سبيل اهلل.
أهمية %التناصح بين المسلمين:
وكذلك فإن هذا األخ أنيساً قد أعطى أخاه الخبرة ،قبل أن يذهب إلى مكة ،فقال( :كن على حذر من أهل مكة ،فإنهم قد شنفوا له وتجهموا) فقد زوده بالنصيحة ،والمسلم أخو المسلم ،ينصحه ،فإذا أراد شخص أن يذهب إلى مكان ،وأنت تعلم أشياء هناك ولديك معلومات تفيده ،فعليك أن تقدمها له ،وتقول :يا أخي انتبه سوف ترى هناك كذا وكذا ،واحذر ،أو استغل كذا ،فإن هناك -مثالً- خيراً ،لو أنك ذاهب إلى البلد تلك فهناك يوجد رجل عالم بالحديث ،وهناك رجل عالم باألصول ،أو قابلت مرة من المرات رجالً يعلم اللغة العربية ،فانتهز الفرصة ،قابل فالناً :فعليك النصيحة له.
األمور المهمة والخطيرة ال يكتفي المسلم فيها بخبر الناس:
كذلك بعض األمور ،أو بعض المهام ،ال يكفي اإلنسان فيها كالم األشخاص ،فهذه قضية رسول ونبي ظهر ،وهي قضية خطيرة ،وليست سهلة ،وليست مثل شخص يقول :اذهب إلى ذلك المكان فإذا وجدت فيه ماء أعلمني ،إن هذه قضية تحدد مسار اإلنسان وتحدد مصيره ،وتحدد اتجاهه وتفكيره فهذه فيها تغيير شامل لحياة اإلنسان ولذلك ما اكتفى أبو ذر بكالم أخيه ،بل قال :ما شفيتني ،وذهب بنفسه .فإذاً :بعض المهمات العظيمة ،واألشياء المصيرية البد أن يطلع اإلنسان عليها بنفسه ،إذا ما اشتفى من كالم الموثوقين ،ألن هذه قضايا مصيرية ،فال بد أن يتحرى عنها، ويسأل عنها ويطلع هو عنها بعينيه ويسمع بأذنيه؛ حتى يكون السند عالياً جداً بينه وبين الحق ،أو بينه وبين الواقع الذي يريد أن يطلع عليه.
ذكاء أبي ذر في سؤاله عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم:
وكذلك ذكاء أبي ذر رضي اهلل عنه في انتقاء الناس الذين يريد أن يسألهم ،انظر قال( :فتضاعفت رجالً فسألته) .فهذا رجل ذاهب إلى مكان فيه تضليل إعالمي على الرسول صلى اهلل عليه وسلم، والناس في عداء شديد ،فعرف من يسأل ،قال ( :فتضاعفت رجالً ) ما سأل أي واحد من الناس وقال :أين الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأين محمد صلى اهلل عليه وسلم؟ وإ نما( :تضاعفت رجالً وقلت :أين الصابئ) وهذا فيه ذكاء في البحث ،ويجب أن نعلم -أيها اإلخوة -أن اإلنسان قد ينتقل إلى مكان ال يعرف فيه أعداءه من إخوانه ،وال يعرف فيه أهل الحق المحقين من غيرهم ،وال يعرف فيه األحسن من الحسن ،ولذلك عليه أن يتحرى بدقة وبشدة ،عندما يذهب إلى ذلك المكان، وأن يكون ذكياً في معرفة أهل الحق ،كما كان هذا الرجل الصحابي ذكياً في معرفة أهل الحق ،ما يقول :دلوني على فالن ،وال دلوني على الناس الذين صفاتهم كذا وكذا ،ألنه قد ُيضلِّل عنهم ،وقد يواجه تضليالً إعالمياً وقد يواجه تكثيفاً في اآلراء واألقوال التي تصرفه ،ولذلك كان كالم ابن حجر رحمه اهلل دقيقاً جداً قال :قد يؤذى السائل وقد يؤذى المسئول ،وقد يصدونه عن صاحب الحق ،وقد يمنعونه من االلتقاء به ،وقد يخدعونه حتى ال يلتقي بصاحب الحق .هذه نقطة مهمة جداً ،وقد يخدعونه حتى ال يلتقي بصاحب الحق ،ويضللونه ،ويصرفونه بشتى الصوارف عن أصحاب الحق ،فهذه قضايا خطيرة ،قضية حق وباطل ،وال يصح لإلنسان أن يحجب دينه الرجال في مثل هذه األمور ،أو يتبع كالم الناس ،ويمشي مع اإلشاعات وعلى السائد أو على رأي األغلبية ،بل ال بد أن يكون دقيقاً فطناً حذراً ذكياً وهو يتوصل إلى الحق وأهله.
من أراد أن يصل إلى الحق فإن اهلل يعينه:%
وكذلك -أيها اإلخوة -فإن اهلل يعين الذي يريد أن يصل إلى الحق حتى باألشياء المادية ،فال يوفقه حتى يصل إلى نهاية المطاف فقط ،وإ نما مثل ما أن اهلل عز وجل أعان أبا ذر فرزقه شرب ماء زمزم ثالثين يوماً بدون طعام ،يعينه ألنه يريد أن يصل إلى الحق.
غيظ الكفار من شعائر المسلمين:
وكذلك أيها اإلخوة :فإن في فعل أبي ذر تجاه األصنام فيه إغاظة الكفار ،وسب آلهتهم وغيظهم وهذا أمر مهم أن نفعله اليوم ،أن نستهزئ بآلهة الكفار ومعتقداتهم -إذا لم يؤد ذلك إلى سبهم هلل عز وجل ودين اإلسالم ونبيه عليه الصالة والسالم -مثل النصارى الذين يقولون :إن اهلل ثالث ثالثة ،فأنت يجب عليك أن تفند شبهاتهم ،تقول :هل هذه عقيدة عقالء؟! أن الواحد في ثالثة والثالثة في واحد! وأن األب اإلله ينظر إلى ولده اإلله وهو يصلب وال يستطيع أن ينقذه! وكيف يموت اهلل؟!! فهناك يمكن أشياء أن تستهزئ بها على تلك المعتقدات الكافرة التي يعتنقها أولئك الكفرة ،فهؤالء الناس عندهم تخطيط في إضالل المسلمين وتشكيكهم ،ولقد اطلعت على كتاب كتبه أحد القساوسة على الغالة في صورة ميزان فرسم كفةً فيها صليب وهي الراجحة ،وكفة فيها المسجد وهي مرتفعة إلى األعلى ومكتوب على الكتاب :في الموازين هم إلى فوق ،فالصليب راجح والمسجد تحت ،وكتب هذا الخبيث على الكتاب :في الموازين هم إلى فوق ،فيظن الشخص أنه يمدح المسلمين إلى فوق ،لكن ماذا يعني في الموازين هم إلى فوق؟ أي :أن أصحاب الصليب هم األثقل ،فإغاظة الكفار هذه من شعائر دين المسلمين ،أن يظهرها اإلنسان .وليس بالزم أن أول شيء يفعله هو أن يستهزئ بهم ومعتقداتهم ،بل أوالً يدعوهم بالحسنى ويجادلهم بالتي هي أحسن، فإذا رفضوا فيستخدم مثل هذه الوسائل ،ونالحظ أن لكل مقام مقال ،فكان أبو ذر رضي اهلل عنه، أديباً جداً هنا ،يقول( :فقلت :هن مثل الخشبة غير أني ال أكني) أي :أنه لما صار مع الراوي وهو داع أن يقول له الكلمة القبيحة التي قالها لسب آلهة المشركين ،ولذلك أتى بكلمة مسلم فليس هناك ٍ (هن) هذه كناية ،قال ( :غير أني ال أكني ) لكني ما كنيت ،لما قلت للمرأتين الكافرتين ما كنيت، وهذا من األدب في استخدام العبارات ،وفي أن لكل مقام مقال يناسبه ،عندما تقول للمسلم شيئاً، ترويه خالفاً لما تجابه به الكفار وأصنامهم.
الكفار يعتقدون أنهم على حق:
كذلك أن الشبه التي عند الكفار قد تكون عظيمة وأنهم يقتنعون بآلهتهم قناعة شديدة ،وأن المرأتين ولولتا ،فالمسألة عندهم وصلت إلى أنه كيف يقول هكذا عن اآللهة؟! فاعتقادهم في اآللهة اعتقاد كبير ،ولذلك قال( :فانطلقتا تولوالن ثم قالتا للرسول صلى اهلل عليه وسلم :إنه قال لنا كلمة تمأل الفم) وجلستا تقوالن( :لو كان ها هنا أحد من أنفارنا) .فإذاً ال تظنوا أن السخافة التي نرى بها أصنام الجاهلية ومنطقهم ومعتقداتهم هم ينظرون إليها بنفس المنظار ،فنحن قد أنعم اهلل علينا باإليمان فقد نرى أن شبههم تافهة ،لكن في منظارهم هم القضية أن هذا حق ،وأنه كذا ،وكيف ص ُروا ِآلهَتَ ُك ْم [األنبياءِ ..]68: َأن ُي ْنتقص وال بد من الدفاع عنه ،فال اهلل عنهم :قَالُوا َح ِّرقُوهُ َو ْان ُ اد [ص ]6:ال بد أن نصبر على اآللهة ،وال بد أن اصبِ ُرواَ Sعلَى ِآلهَتِ ُك ْم ِإ َّن َه َذا لَ َش ْي ٌء ُي َر ُ ام ُشوا َو ْ ْ ندافع عنها ،هكذا ينظرون ،ولذلك من الخطأ أن تأتي إلى شخص عنده شبهة وتقول :ما هذا الشيء التافه الذي أنت مقتنع به ،فهذا ال يصلح؛ ألنه هو ما يرى أنه تافه ،وهذا ال يعتبر رداً .وكذلك فإن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان يغشى أماكن التجمعات التي قد يوجد فيها أناس يأتون للتوحيد، مثل ما فعل علي بن أبي طالب مع أبي ذر رضي اهلل عنه .وهنا نقطة نحب أن نذكرها :لماذا وضع الرسول صلى اهلل عليه وسلم يده على جبهته لما قال أبو ذر :من غفار؟ ألنهم كانوا قطاع طرق ،يقطعون الطريق على الحجيج ويسرقونهم بالمحجن ،وهو شيء مثل العكاز ،أي :أن قبيلة غفار كانوا مشهورين بقطع الطريق على الحجيج وسرقة الحجاج ،مع أن الحجاج كانوا مشركين لكن وصل بهم السوء إلى هذا ،فالرسول صلى اهلل عليه وسلم فعل حركة عفوية كيف يأتي رجل من الناس الذين يسرقون الحجاج؟! وكأنه أراد أن يستوثق منه أكثر ،فقال( :متى كنت هاهنا؟ ومن كان يطعمك؟) حتى توثق منه صلى اهلل عليه وسلم ،ثم كلمه عن اإلسالم.
العلم يؤدي إلى تعظيم حرمات اهلل:
وفي هذا أيضاً :تبجيل لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وكيف أن أبا بكر أمسك أبا ذر ،فمنعه من أن يمسك يد الرسول صلى اهلل عليه وسلم ويرجعها ،وهذا التبجيل يأتي من من؟ ماذا يقول في الرواية ( :وكان أعلم به مني ) وأنه يأتي من األعلم وأن العلم يؤدي إلى تبجيل وتعظيم حرمات اهلل.
تفقد القادمين للحاق بالدعوة:
وكذلك تفقد أحوال القادمين للحاق بالدعوة ،ولو في أمور معاشهم ،فبعض الدعاة قد يصادف مدعواً ،فال يقول له مثالً :هل يكفيك معاشك أو أين تسكن؟ أو كذا ،وإ نما يقول له بداية :هل تريد أن تعتقد بكذا..؟ وما نظرتك بكذا؟ وهذه أدلة على كذا ..فقط .بينما نجد أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم اهتم بـأبي ذر فسأله عن طعامه وعن معيشته ،صحيح أنه جاء للحق ،لكن النفس البشرية لها حاجة للمسكن ولها حاجة للطعام ...فالبد من االهتمام بهذه األشياء ،وال نقول :هذه أشياء جانبية وأشياء سطحية وغير مهمة ،المهم الدعوة ،والمهم الحق واألدلة ،والمهم المبادئ ،ال ،وإ نما حتى هذه األشياء مهمة ،فراحة الناس واألشخاص ،والذين يريدون أن ينضموا إلى ركب الدعوة مهمة جداً ،وضيافتهم لالستئناس ،يقوألبو بكر( :ائذن لي في طعامه الليلة) حتى يتداخل معه، ويحصل استئناس بينهم ،ويكرم ذلك الرجل الذي أتى ،وخصوصاً أنه قد اضطهد اضطهاداً بالغاً فال بد من تعويضه بشيء من اإلكرام.
حكمة النبي صلى اهلل عليه وسلم وحسن تخطيطه للدعوة:
وكذلك فإن الرسول صلى اهلل عليه وسلم كان مرحلياً مخططاً لدعوته ،وكان إذا ما وجد فائدة كبيرة أو كان هناك مضرة في بقاء الشخص في مكة وهو من غير أهلها ،ماذا كان يقول له؟( :ارجع إلى قومك فإذا سمعت أني قد ظهرت فائتني) قالها لـعمرو بن عبسة وقالها لـأبي ذر الغفاري و الطفيل بن عمرو الدوسي ارجع إلى أهلك؛ ألن هذه مرحلة استضعاف ،ومن الحكمة والخير أن تنتشر الدعوة في أجواء أخرى وبلدان أخرى غير مكان االضطهاد مثل مكة ،ولذلك لما انتقل الرسول صلى اهلل عليه وسلم إلى المدينة ،جاء الطفيل بثمانين بيتاً من دوس كلهم قد أسلموا ،وجاء أبو ذر بالقبيلة كلها ،جاء النصف األول وجاء النصف الثاني وأسلموا ،وجاء أناس من الصحابة بأقوامهم، فاجتمعوا في المدينة لتأسيس المجتمع اإلسالمي ،وهذا األمر ال يمكن أن يوجد في مكة وهذا العداء قائم ،والحرب قائمة ،فهذا من حكمة الرسول صلى اهلل عليه وسلم وبعد نظره ،في تخطيطه ألمور دعوته.
من يصدق في اللهجة يفتح اهلل على يديه:
وكذلك فإن الذي يصدق في اللهجة ،يفتح اهلل على يديه مغاليق قلوب الناس ،فـأبو ذر صادق اللهجة ،عرض الكالم على أخيه فأسلم ،ثم على أمه فأسلمت ،ثم على القبيلة فأسلم نصفهم ،وهذا ليس شرطاً ،فقد يكون هناك أناس صادقون ال يستجاب لهم ،لكن ليس هناك أناس كاذبون يستجاب لهم بالحق ،وتفتح لهم قلوب الناس فيتابعونهم بإخالص ،ولو تابعهم بعض الناس وصدقوا بعض الكاذبين فهذا قليل ونادر ،وال يدل على المتابعة الصحيحة ،وال بد أن أولئك من األئمة المضلينS، وسيكون لهم أثر سلبي على من استجابوا له .والترغيب في الدعوة إلى اهلل ،وعظم أجر الدعوة إلى اهلل ،وقول الرسول صلى اهلل عليه وسلم( :عسى اهلل أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم) وتصور أن الشخص إذا دعا فله من األجر مثل أجور من تبعه ،عندما تسلم قبيلة أو قبيلتان فكم من األجر يكون لهذا الشخص؟! أال يكفي مثل هذا الكالم ،حتى يكون هذا محمساً لنا وباعثاً لنا على االنطالق والتحرك والدعوة إلى اهلل عز وجل ونشر الخير بين الناس.
بعض الناس قد يتريثون في قبول الحق:
وكذلك بعض الناس قد يتريثون في قبول الحق ،فال نعدم منهم األمل ،فقد يقول لك شخص :أريد أن أفكر في األمر ،أنت تعرض عليه الحق لكنه يقول :أفكر ،قد أحتاج إلى وقت ،ال تقول :إما أنك تسلم اآلن وإ ال اذهب فإني مخاصمك ومقاطعك إلى يوم الدين ،ال ،لماذا؟ بعض هؤالء القوم قالوا: فأسلم نصفهم ،والنصف الباقي قالوا :إذا قدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أسلمنا ،ما قال :ال، تسلموا اآلن وإ ال ،..فقد يتريث بعض الناس ،وقد يكون التريث صحيحاً والتأني طيباً إال في عمل اآلخرة ،وفي قبول الحق ،لكن بعض الناس طريقة تفكيرهم هكذا ما يريد أن يعتنق وال يلتزم وال يستقيم بسرعة ،لكن اصبر عليه.
وكذلك أيها اإلخوة :فإن هداية اهلل عظيمة ،فقد كانت هذه القبيلة قطاع طريق ،وكانوا يسرقون الحجاج ،وهذه من الجرائم العظيمة ،ثم هداهم اهلل فأصبحوا من أعوان وأنصار اإلسالم ،وكانوا من سراق الحجيج ،فال تستبعد على أي إنسان مهما كان مغرقاً في المعاصي أن يهديه اهلل عز وجل. وكذلك األسماء الحسنة ،تدع المجال لمن أراد أن يتفاءل بالخير ،ولذلك قال الرسول صلى اهلل عليه وسلم( :غفار غفر اهلل لها) لو كان اسمهم( :كعب) أو كان اسمهم( :حرب) أو (كلب) مثل بعض القبائل ،فهذه األسماء ال تتيح مجاالً للتفاؤل ،ولذلك حيث الرسول صلى اهلل عليه وسلم على األسماء الحسنة ،حتى يتفاءل بها.
البد من الدقة والتعمق في البحث عن الحق:
وأما بالنسبة لرواية البخاري و مسلم لحديث ابن عباس فإن فيها قول ابن عباس ( :أال أخبركم بإسالم أبي ذر ؟) وهذه من األشياء المهمة جداً ،هذه القصص التي حدثت ،هذه قصة الدعوة ،هذا تاريخ ،فهذه ليست مسألة سهلة ،هذا تاريخ ال بد أن ينقل إلى الناس ،وال بد أن يتعلموه ،وال بد أن يقدم إلى األمة رصيد التجربة لألجيال القادمة ،ولذلك اآلن نحن نستفيد من قصة أبي ذر كم مضى عليها؟ مضى عليها سنوات طويلة جداً ،من الذي قدمها لنا؟ مثل ابن عباس رضي اهلل عنه ،قال: (أال أخبركم بإسالم أبي ذر ؟) فهذا الرصيد ال بد أن يقدم لألجيال حتى تستفيد منه ،وهذه القصة، قصة عظيمة ،وحياة الدعوات وتاريخ الدعوات مهم ينبغي االهتمام به؛ ألن فيه دروساً وفوائد، والتاريخ يعيد نفسه ،واألحداث تتشابه ،وللمعتبر أن يعتبر .وبعد ذلك -أيها اإلخوة-هذا األسلوب اللطيف من ابن عباس رضي اهلل عنه في التعليم( :أال أخبركم) ماذا في هذا األسلوب؟ إنه تشويق للسامعين ،أال أخبركم بإسالم ،ما قال :يا جماعة! أنا عندي محاضرة ألقيها عليكم؟ فينبغي لمعلم الناس والداعية إلى اهلل أن يعرف طرق التشويق وشد االنتباه حتى يستقطب األفكار ،واألذهان، حتى يستطيع أن يدخل وهي مفتوحة ،فالناس يتفاوتون في استقصائهم للحقيقة ،فمنهم من يكون استقصاؤه سطحياً ،ومنهم من يكون استقصاؤه أعمق ،وطريقة بحثه أعمق ،والطرق التي يتوصل بها أعمق ،وهذا الفرق واضح بين أنيس وبين أبي ذر ،ولذلك أبو ذر اتبع طريقة وأسلوباً ما أتى استقصاء ً بها أنيس ،فإذاًَ هذا يعود إلى نتيجة تفاوت األفهام ،وأن البحث عن الحق ال بد أن يكون عميقاً ،وأن االعتناء بالبحث عن الحق نابع من االهتمام بالحق ،فبعض الناس يقول :أين الحق؟ هات الدليل؟ أعطني شيئاً؟ فقد أعطيه أي شيء وأي دليل حتى لو لم يكن دليالً حقيقياً وال صحيحاً، فيقتنع به ويمشي ،لكن األذكياء الذين هداهم اهلل عز وجل ال يقبلون بأي شيء ،وال يقبلون أي طريقة وأي فكرة ،فال بد من التمحيص ،والبحث ،والتدقيق ،فـأبو ذر جلس فترة طويلة ،وجلس يدقق ،وال يسأل أحداً ،و علي بن أبي طالب مع أنه مسلم فكل واحد كان يخفي عن اآلخر ،وعلي ال يسأله خالل ثالثة أيام ،حتى صار فيه نوع من االطمئنان ثم بدأ يتوغل معه ويسأله ،فإذاً أوصي كل أخ يبحث عن الحق :أن يكون دقيقاً في بحثه ،عميقاً ،وأال يكتفي باألشياء السطحية ،أو األشياء التي يراها عرضاً أمامه ،أو األكثرية ،أو الرأي العام ،وإ نما يدقق حتى يصل إلى الحقيقة ،وهذا سيكون من دقة فهمه وهو مأجور على هذا عند اهلل ،ألنه ما اتبع أي شيء ،بل فحص ومحص األمور ولم يقلد الرجال ،وإ نما قارن حتى وصل بعلمه الذي اطلع عليه ،كالم أهل العلم ،قراءة الكتاب والسنة، حتى أيقن أن هذا هو الحق وأن هذا هو الطريق المستقيم ،ومن الناس شخصيات جريئة تركب المخاطر للوصول إلى الحق ،أبو ذر أول ما ضرب ما قال :تركت األمر ،بل استمر ،وضرب حتى صار أحمر اللون ،ومع ذلك استمر ،فالناس شخصيات ،ويختلفون في الجراءة ،وبعضهم يركب األهوال ،وهذه فيها الثواب من اهلل عز وجل ،حتى يصلوا إلى الحق ،واهتمام الصحابة بالقادمين إلى مكة يتلقطونهم ،فـعلي بن أبي طالب شاهد الرجل قال :كأنه غريب ،فكان نبيهاً، علي منه اتركه ،قد يكون مسافراً ،بل ضيفه أول يوم ،وثاني يوم ،وثالث وليس عندما رآه قال :ما ّ يوم ،ثم فاتحه في الموضوع. االطمئنان وسيلة لتحقيق المعاشرة: وكذلك أيها اإلخوة :فإن االطمئنان يكون فعالً نتيجة للمعاشرة التي تدل على السلوك الصحيح، والمعاشرة تؤدي إلى االطمئنان ،ولما اطمأن أبو ذر لـعلي فاتحه باألمر ،و علي رضي اهلل عنه كان حريصاً على شخصية الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،وكان حريصاً على أبي ذر ،ولذلك أشار له بهذه اإلشارات الخفية ،أو هذه اإلشارات لجأ إليها علي لما كان الجو فيه شدة ،وما كانت هذه األشياء منهجاً ينتهج دائماً ،وإ نما كان شيء يفرضه الواقع ،وتفترضه الطبيعة التي كانت موجودة، وهي شدة كفار قريش التي أدت إلى هذه السرية البالغة التي تعامل بها علي بن أبي طالب رضي اهلل عنه مع أبي ذر .بقي نقطتان أو ثالثة في قضية الجرأة في الصدع بالحق ،وأن ذلك تابع للمصلحة ،وطلب كتمان الحق؛ ألجل المصلحة ،والفعل الحسن من العباس رضي اهلل عنه في انتقاء الشيء الذي أقنع به كفار قريش فعالً بأن يكفوا عن أبي ذر .وبعد ذلك أيها اإلخوة فإن تلك الشخصية العظيمة ،شخصية أبي ذر الغفاري رضي اهلل عنه ،الذي تحمل ما تحمل ،ألجل الوصول إلى الحق ،والتعرف على الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،ثم تابعه ،ثم ذهب داعية إلى قومه واجتهد فيهم ثم هاجر إلى المدينة ،وشهد الغزوات ،وبعدما توفي الرسول صلى اهلل عليه وسلم ظل ثابتاً، وكان ال يخشى في اهلل لومة الئم حتى تأذى منه بعض المسلمين في صدعه بالحق في عهد عثمان ، وطلبوا منه أن يأتي به إلى المدينة ،ثم بعد ذلك ذهب إلى الربذة ،وتوفي بها رحمه اهلل تعالى رحمة واسعة ،وجزاه اهلل عن المسلمين كل خير ،أقول قولي هذا وأستغفر اهلل لي ولكم ،وصلى اهلل وسلم على نبينا محمد ،سبحانك اهلل وبحمدك ،أشهد أن ال إله إال أنت أستغفرك وأتوب إليك.
الكامل في المقارنة بين حديث الآحاد اتخذوا من مصر جندا كثيفا وتفصيل إسناده وبيان أن فيه أربعة رواة مختلف فيهم اختلافا شديدا والحديث المشهور من خمس طرق دخل إبليس مصر فاستقر فيها والجمع بينهما
الكامل في إثبات أن قصة عمر بن الخطاب مع القبطي وعمرو بن العاص ومتي استعبدتم الناس مكذوبة كليا مع بيان ثبوت عكسها عن عمر والصحابة وتعاملهم بالعبيد والإماء
الكامل في أحاديث استشهد رجل في سبيل الله فقال النبي كلا إني رأيته في النار في عباءة سرقها وما في ذلك المعني من أحاديث في عدم تكفير الشهادة لبعض الكبائر / 40 حديث
الكامل في أحاديث سبب نزول آية (عبس وتولي) وبيان اتفاق الصحابة والأئمة أن العابس فيها هو النبي مع ذِكر (70) صحابي وإمام منهم وبيان أقوالهم أنها للعتاب / 75 حديث وأثر
الكامل في أحاديث من سبَّ أصحاب النبي فهو منافق عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل الله من عمله شيئا وبيان أسلوب الحدثاء في شتم الصحابة باتهامهم بالجهل بالإسلام ونقض الدين / 250 حديث
الكامل في بيان أن حديث النساء شقائق الرجال حديث آحاد مُختَلف فيه بين حسن وضعيف وبيان سبب وروده وبيان عادة الحدثاء في نقض المتواتر والتناقض في استعمال أحاديث الآحاد