You are on page 1of 19

‫( دروس وعبر من قصة أبي ذر )‬

‫عناصر الموضوع ‪:‬‬


‫‪ .1‬جيل الصحابة كون مجتمعاً مسلماً متكامالً‬
‫‪ .2‬أبو ذر الغفاري رضي اهلل عنه ترجمته وحياته‬
‫‪ .3‬قصة إسالم أبي ذر في الرواية المتفق عليها‬
‫‪ .4‬قصة إسالم أبي ذر في رواية مسلم‬
‫‪ .5‬فوائد قصة إسالم أبي ذر‬

‫دروس وعبر من قصة أبي ذر‪:‬‬


‫إننا لو نظرنا ‪-‬نحن المسلمين‪ -‬إلى حياة الصحابة‪ ،‬وكيف كانوا ُيبلُون ألجل نصرة الدين وانتشار‬
‫اإلسالم؛ لما وجد هذا الذل واالضطهاد من قبل أعداء اهلل المشركين‪ .‬وإ ن قصة أبي ذر رضي اهلل‬
‫عنه لتشهد لنا حقيقة وتبين لنا كيف كانت هممهم في طلب الحق واعتناقه‪ ،‬ثم إذا اعتنقوه دافعوا‬
‫وبذلوا النفس رخيصة من أجله‪ ،‬وقاموا باألمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون خوف من أحد‪.‬‬

‫جيل الصحابة كون مجتمعاً مسلماً متكامالً‪:‬‬


‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وصلى اهلل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‪ .‬أما‬
‫بعد‪ :‬أيها اإلخوة‪ :‬السالم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪ ،‬أحييكم في هذه الليلة التي نسأل اهلل سبحانه‬
‫وتعالى أن ينفعنا وإ ياكم بما سنسمع فيها‪ ،‬ونسأل اهلل سبحانه وتعالى أن يثيبكم خيراً على حضوركم‬
‫واستماعكم‪ ،‬ونسأل اهلل أن يجعل مجلسنا هذا من المجالس التي تثقل فيها أعمالنا يوم القيامة‪ ،‬إن‬
‫دراسة قصص الصحابة رضوان اهلل عليهم لها أهمية كبيرة؛ ألن الصحابة رضوان اهلل عليهم هم‬
‫أولئك الجيل الذي رباهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على عينه‪ ،‬ولقنهم مبادئ الوحي‬
‫ومضامين الرسالة التي أنزلت عليه‪ ،‬ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أعظم هذه األمة قاطبة جنها‬
‫وإ نسها‪ ،‬ولذلك فإن هذا المربي العظيم عندما يربي ذلك الجيل على تلك التعليمات اإللهية‪ ،‬كتاباً‬
‫وسنة‪ ،‬فإن ذلك الجيل ال بد أن يكون جيالً عظيماً‪ ،‬جيالً تستفيد منه البشرية إلى قيام الساعة‪ ،‬وهذا‬
‫الجيل ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬عبارة عن أفراد تجمعوا وآمنوا بالرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وانصهروا‪S‬‬
‫في تلك البوتقة اإليمانية التربوية‪ ،‬حتى خرجت تلك النماذج‪ ،‬وصحابة الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يتفاوتون في ميزاتهم‪ ،‬وصفاتهم الشخصية‪ ،‬ولذلك نجد أن أرأف األمة‪ :‬أبا بكر وأشدها في‬
‫حياء‪ :‬عثمان ‪ ،‬وأحسنهم قضاء بين الخصوم‪ :‬علي بن أبي طالب ‪،‬‬‫أمر اهلل‪ :‬عمر ‪ ،‬وأكثرها ً‬
‫وأعلمهم بالحالل والحرام‪ :‬معاذ بن جبل ‪ ،‬وأعلمهم بالفرائض‪ :‬زيد بن ثابت ‪ ،‬وأكثرهم أمانة‪ :‬أبو‬
‫عبيدة عامر بن الجراح‪ ،‬وأعلمهم بالقراءة ‪-‬قراءة القرآن‪ -‬أبي بن كعب ‪ ،‬فإذاً الصحابة رضوان‬
‫اهلل عليهم كانت صفاتهم الشخصية واستعداداتهم وقدراتهم تتفاوت‪ ،‬ومن مجموع هذه القدرات‬
‫وتنوع هذه الشخصيات‪ ،‬تكون ذلك المجتمع المسلم‪.‬‬

‫أبو ذر الغفاري رضي اهلل عنه ترجمته‪ %‬وحياته‪:‬‬


‫ونحن اليوم سنلقي الضوء في هذا الليلة إن شاء اهلل عن شخصية من تلكم الشخصيات العظيمة‬
‫التي نشأت في ظل النبوة نشأة إيمانية‪ ،‬فالصحابة رضوان اهلل عليهم كثير منهم دخلوا في اإلسالم‬
‫وهم كبار السن‪ ،‬ومع أن تشكل الكبير على أمر جديد صعب‪ ،‬ولكن عندما يسلم اإلنسان تسليماً‬
‫كامالً وينقاد فإن ذلك التشكل يكون سهالً‪ ،‬والرجل الذي سنتكلم عنه في هذه الليلة‪ ،‬هو‪ :‬أبو ذر‬
‫الغفاري رضي اهلل عنه‪ ،‬هذه الشخصية التي ال يعلم عنها الكثيرون‪ ،‬وبعض من يعلم عنها شيئاً‬
‫يعلمون عنها أشياء مشوهة‪ ،‬قد أخذوا عنها فكرة غير كاملة وصحيحة‪ ،‬فمن الناس من يعتقد أن أبا‬
‫ذر شخصية ضعيفة مهزوزة‪ ،‬ولذلك يقول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬إنك لضعيف) ولكن‬
‫الحقيقة غير ذلك كما سنبين إن شاء اهلل‪.‬‬

‫اسمه ونسبه‪ %‬وفضله‪:‬‬


‫ندب لغتان صحيحتان‪ -‬ابن سفيان بن عبيد بن‬
‫ندب أو ُج َ‬
‫‪-‬ج ُ‬
‫فأما أبو ذر فإن اسمه‪ :‬جندب بن جنادة ُ‬
‫حرام بن غفار وغفار يرجع أصلهم إلى بني كنانة‪ ،‬قال الذهبي رحمه اهلل في السير ‪ :‬هو أحد‬
‫السابقين األولين من نجباء أصحاب محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬كان يفتي في خالفة أبي بكر و‬
‫عمر و عثمان ‪ ،‬وكان رأساً في الزهد والصدق والعلم بالعمل‪ ،‬قواالً بالحق‪ ،‬ال تأخذه في اهلل لومة‬
‫الئم‪ ،‬على حدة فيه‪ .‬وقال عليه الصالة السالم مبيناً فضائل ذلك الرجل في الحديث الصحيح‪( :‬ما‬
‫أقلت الغبراء ‪ -‬األرض‪ -‬وال أظلت الخضراء ‪ -‬السماء‪ -‬من رجل أصدق لهجة من أبي ذر)‪ .‬أما‬
‫بالنسبة لحديث الرسول صلى اهلل عليه وسلم الصحيح الذي يقول‪( :‬يا أبا ذر ! إني أراك ضعيفاً‪،‬‬
‫وإ ني أحب لك ما أحب لنفسي‪ ،‬ال تتأمرن على اثنين‪ ،‬وال تولين مال يتيم) فهذا التعليم منه عليه‬
‫الصالة والسالم واإلرشاد لـأبي ذر ذلك ألن أبا ذر كانت تعتريه حدة في كثير من األحيان‪ ،‬مما قد‬
‫ال يكون مع تلك الحدة جيداً في اإلمارة‪ ،‬وكان يرى أن إبقاء المال هو كنز للمال‪ ،‬وال بد من إنفاقه‬
‫كله‪ ،‬ولذلك لو تولى مال يتيم قد ينفق مال اليتيم في سبيل اهلل‪.‬‬
‫قصة إسالم أبي ذر في الرواية المتفق عليها‪:‬‬
‫وأما من ناحية شخصية الرجل‪ ،‬فإنها عظيمة‪ ،‬وموضوعنا الذي سنتحدث عنه في هذه الليلة هو‬
‫عن جزء من حياة أبي ذر وهذا الجزء هو قصة إسالمه‪ ،‬إن قصة إسالم أبي ذر ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬من‬
‫القصص الشيقة الممتعة التي تحتوي على دروس عظيمة‪ ،‬وهذه القصة رواها اإلمام البخاري‬
‫رحمه اهلل واإلمام مسلم في صحيحيهما ‪ ،‬وغيرهما‪ ،‬وهناك رواية اتفق على إخراجها البخاري و‬
‫مسلم ورواية أخرى أخرجها مسلم وغيره‪ ،‬وبين الروايتين تغاير واضح في السياق‪ ،‬حتى إن بعض‬
‫أهل العلم قالوا‪ :‬إنه يتعذر الجمع بين بعض التفاصيل الواردة في السياقين‪ ،‬وبعضهم قال‪ :‬يمكن‬
‫الجمع‪ ،‬والمسألة فيها دقة وفيها صعوبة شديدة‪ ،‬ولذلك نحن سنقتصر إن شاء اهلل على إيراد‬
‫الروايتين‪ ،‬وشرحهما‪ ،‬مع ذكر الفوائد فيهما‪ ،‬ونبدأ بذكر رواية الصحيحين التي رجحها بعض أهل‬
‫العلم‪ ،‬على رواية مسلم ‪ ،‬وإ ن كانتا من ناحية صحة السند ثابتتين‪ ،‬فأما رواية البخاري و مسلم فهي‬
‫عن عبد اهلل بن عباس أنه كان في مجلس فقال لمن حوله‪ :‬أال أخبركم بإسالم أبي ذر ؟ قلنا‪ :‬بلى‪.‬‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬قال أبو ذر ‪( :‬كنت رجالً من غفار ‪-‬قبيلة غفار‪ -‬فبلغنا أن رجالً خرج بـمكة‬
‫يزعم أنه نبي‪ ،‬فقلت ألخي‪ :‬انطلق إلى هذا الرجل فكلمه وائتني بخبره)‪ .‬وفي رواية‪ :‬أن ابن‬
‫عباس قال‪( :‬لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى اهلل عليه وسلم بـمكة ‪ ،‬قال ألخيه‪ :‬اركب إلى هذا‬
‫الوادي‪ - ،‬مكة ‪ ،‬ألنها في وادي‪ -‬فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من‬
‫السماء‪ ،‬واسمع من قوله ثم ائتني‪ ،‬فانطلق ‪-‬أي األخ‪ -‬حتى قدم مكة وسمع من قوله‪ ،‬ثم رجع إلى‬
‫أبي ذر ‪ ،‬فقال‪ :‬واهلل لقد رأيت رجالً يأمر بالخير وينهى عن الشر) وفي رواية‪ :‬فقال‪( :‬رأيته يأمر‬
‫بمكارم األخالق‪ ،‬وكالماً ما هو بالشعر ‪-‬ليس شعراً‪ -‬فقال أبو ذر ‪ :‬ما شفيتني ‪-‬أي ما أتيت لي‬
‫بالكالم الذي يلبي حاجتي في نفسي‪ ،‬ما شفيتني فيما أردت‪ -‬فتزود أبو ذر وحمل شنة له فيها ماء‬
‫وجراباً وعصا حتى قدم مكة ‪-‬اآلن أبو ذر يذهب ليبحث عن هذا الرجل وعن حقيقة األمر‪ ،‬هل هو‬
‫حق أم ال؟‪ -‬حتى قدم مكة ‪ ،‬فأتى المسجد‪ ،‬فالتمس النبي صلى اهلل عليه وسلم وال يعرفه ‪-‬لكن ال‬
‫يعرف من هو الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وكره أن يسأل عنه) لماذا كره أبو ذر أن يسأل عن‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم؟ هناك أسباب ذكرها ابن حجر رحمه اهلل قال‪ :‬ألنه عرف أن السؤال‬
‫عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يؤذي السائل‪ ،‬أو أن السؤال عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫يؤذي المسئول عنه وهو الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬أو أن كفار قريش لن يدلوا السائل على‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم لعداوتهم له‪ ،‬أو يمنعونه من االجتماع به‪ ،‬أو يخدعونه حتى يرجع‬
‫عنه وال يقابله‪ ،‬ولذلك كان أبو ذر رحمه اهلل حكيماً عندما لم يسأل عن الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬حتى أدركه الليل‪ .‬وفي رواية‪ :‬أنه قال‪( :‬وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد ‪-‬يعني‪:‬‬
‫أجلس في المسجد الحرام‪ ،‬وأشرب من ماء زمزم‪ -‬فاضطجع رضي اهلل عنه‪ ،‬فرآه علي بن أبي‬
‫طالب ‪ ،‬فعرف أنه غريب من هيئته ومظهره‪ ،‬فقال علي رضي اهلل عنه‪ :‬كأن الرجل غريب؟ ‪-‬‬
‫يقول‪ :‬لـأبي ذر كأن الرجل غريب؟‪ -‬قال‪ :‬قلت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فانطلق إلى المنزل ‪-‬أي حتى أضيفك‪-‬‬
‫فلما رآه تبعه فلم يسأل الواحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح‪ ،‬ذهب أبو ذر مع علي وما سأل‬
‫علياً عن شيء ولم يسأله علي عن شيء‪ ،‬حتى صار الصباح‪ ،‬ثم احتمل قربته ‪-‬وفي رواية‪:‬‬
‫قريبته‪ ،‬تصغير‪ -‬وزاده إلى المسجد‪ ،‬خرج من بيت علي ورجع في الصباح إلى المسجد‪ ،‬فظل‬
‫ذلك اليوم‪ ،‬وال يرى النبي صلى اهلل عليه وسلم حتى أمسى‪ ،‬فعاد إلى مضجعه‪ ،‬فمر به علي للمرة‬
‫الثانية‪ ،‬فقال‪ :‬أما آن للرجل أن يعلم منزله؟)‪ .‬أي‪ :‬كأنه يريد أن يضيفه مرة أخرى‪ ،‬يعرض عليه‬
‫الضيافة‪ ،‬وفيها تلميح إلى أنه ما هو قصدك؟ ماذا تريد؟ (أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه فذهب‬
‫به معه‪ ،‬قال‪ :‬فانطلقت معه ال يسألني عن شيء وال أخبره بشيء حتى إذا كان اليوم الثالث‪ ،‬فعل‬
‫مثل ذلك ‪-‬أخذه معه إلى منزله في المساء‪ ،‬ويرجع أبو ذر رضي اهلل عنه في الصباح إلى المسجد‪-‬‬
‫فقال علي في المرة الثالثة‪ :‬أال تحدثني ما الذي أقدمك هذا البلد؟) وفي رواية‪ :‬فقال‪( :‬ما أمرك؟‬
‫وما أقدمك هذه البلدة؟ فقال أبو ذر رضي اهلل عنه‪ :‬إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت) لو‬
‫أعطيتني العهد والميثاق أن تخبرني عما أنا جئت بسببه‪ ،‬أخبرتك‪ ،‬وفي رواية‪ :‬أنه قال لـعلي ‪( :‬إن‬
‫كتمت علي أخبرتك‪ ،‬قال علي‪ :‬فإني أفعل) أعطاه وعداً أن يفعل ‪-‬اآلن علي مسلم وليس بكافر‪-‬‬
‫وقال ابن حجر ‪ :‬والراجح أنه أسلم وهو ابن عشر سنين ولذلك يقول‪ :‬فالراجح أن هذه القصة‬
‫وقعت بعد البعثة بسنتين على األقل‪ ،‬بسنتين فأكثر‪ ،‬أي‪ :‬يحتمل أنه كان سن علي في ذلك الوقت‬
‫بين اثنتي عشرة سنة وبين عشرين سنة تقريباً؛ ألن الرسول صلى اهلل عليه وسلم هاجر بعد البعثة‪،‬‬
‫أو أكثر‪ ،‬المهم أنه فوق أثنتي عشرة سنة‪ ،‬لماذا؟ ألن اثني عشر سنة هو السن المعقول في أن رجالً‬
‫مثل علي يخاطب رجالً ويضيفه‪ ،‬ولذلك فإن هذه القصة على الراجح كما سيمر معنا بعد قليل أنها‬
‫حصلت قبيل الهجرة إلى المدينة ‪( -‬فقال أبو ذر لـعلي رضي اهلل عنه‪ :‬سمعنا أنه ظهر نبي في مكة‬
‫‪ ،‬وأتيت أتحقق من األمر وأسأل‪ ،‬فأخبره أبو ذر ‪ ،‬فقال علي رضي اهلل عنه‪ :‬إنه حق وهو رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬وفي رواية‪ :‬أنه قال له‪ :‬أما إنك قد رشدت) أي‪ :‬قد أصبحت على الرشد‪،‬‬
‫أنت فعالً جئت لشيء صحيح وحق (وهذا وجهي إليه) علي يقول لـأبي ذر ‪ ،‬إنني متوجه إلى‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فيقول علي رضي اهلل عنه‪( :‬فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت‬
‫شيئاً أخافه عليك قمت كأني أريق الماء) يقول علي ‪ :‬هناك مشكلة وهي أن كفار قريش يقومون‬
‫بضغط شديد على الدعوة ومحاربة عظيمة جداً‪ ،‬وتتبع مستمر لكل رجل يحاول االلتحاق بركب‬
‫الدعوة‪ ،‬ولذلك فـعلي بن أبي طالب كان ال بد أن يلجأ إلى طريقة ال تشعر الناس أن أبا ذر سيتبعه‬
‫إلى الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال علي لـأبي ذر ‪( :‬فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخافه عليك‪،‬‬
‫قمت كأني أريق الماء)‪ .‬وفي رواية‪( :‬قمت كأني أصلح نعلي ‪-‬في هيئة الذي يصلح نعله‪ -‬فإذا أنا‬
‫فعلت ذلك فأمض أنت دون أن تلتفت) معناها‪ :‬أن تتابع سيرك فيما بعد‪ ،‬قال ابن حجر رحمه اهلل‪:‬‬
‫ويحتمل أنه قالهما جميعاً‪ ،‬قال‪ :‬كأني أريق الماء‪ ،‬أو كأني أصلح نعلي (فاتبعني حتى تدخل مدخلي‪،‬‬
‫ففعل‪ ،‬فمضى ومضيت معه‪ ،‬حتى دخل ودخلت معه‪ ،‬فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى اهلل‬
‫علي اإلسالم‪ ،‬فعرضه الرسول صلى اهلل عليه وسلم على‬
‫عليه وسلم ودخل معه‪ ،‬فقلت له‪ :‬اعرض ّ‬
‫أبي ذر ‪ ،‬فسمع من قوله‪ ،‬فأسلم أبو ذر مكانه‪ ،‬فقال له النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬يا أبا ذر اكتم هذا‬
‫األمر‪ ،‬وارجع إلى بلدك)‪ .‬وفي رواية‪( :‬ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري‪ ،‬فإذا بلغك‬
‫ظهورنا فأقبل ‪-‬إذا بلغك أننا ظهرنا على أعدائنا فتعال إلي من بلدك‪ -‬فقال‪ :‬والذي بعثك بالحق‪،‬‬
‫وفي رواية‪ :‬والذي نفسي بيده‪ ،‬ألصرخن بها بين ظهرانيهم) يقول‪ :‬ال أكتم األمر‪ ،‬وال أكتم‬
‫إسالمي‪ ،‬وسأذهب وأصرخ بالشهادتين بين ظهرانيهم‪ ،‬أي‪ :‬بين ظهراني المشركين في مكة ‪،‬‬
‫(فخرج فجاء إلى المسجد وقريش فيه‪ ،‬فنادى بأعلى صوته‪ ،‬يا معشر قريش! أشهد أن ال إله إال اهلل‬
‫وأشهد أن محمداً رسول اهلل‪ ،‬فقالوا‪ :‬قوموا إلى هذا الصابئ الذي غير دينه‪ ،‬وثار القوم فضربوه‬
‫حتى أضجعوه‪ ،‬وأتى العباس عم النبي صلى اهلل عليه وسلم فرآهم وهم يضربونه فأكب على أبي‬
‫ذر وقال‪ :‬ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار؟)‪ .‬وفي رواية قال‪( :‬ويلكم تقتلون رجالً تعلمون أنه‬
‫من غفار وهي طريق تجاركم إلى الشام ) انظر إلى ذكاء العباس يقول‪ :‬أنتم اآلن تريدون أن تقتلوا‬
‫رجالً من غفار وطريق تجارتكم تمر من بالدهم‪ ،‬فيمكن أن يثأروا له عن طريق تجارتكم؛ فأنقذه‬
‫منهم (فأقلعوا عني ‪-‬أي كفوا عني‪ -‬ثم أصبحت الغد‪ ،‬فرجعت فقلت مثلما قلت باألمس! فقالوا‪:‬‬
‫قوموا إلى هذا الصابئ فصنع بي مثلما صنع باألمس ‪-‬ثاروا إليه‪ ،‬فضربوه‪ -‬فأكب عليه العباس‬
‫فأنقذه)‪ ،‬هذه الرواية في البخاري و مسلم ‪ ،‬أما رواية اإلمام مسلم رحمه اهلل ففيها زيادة تفاصيل في‬
‫بداية القصة وفي نهايتها‪ ،‬وفيها طريقة أخرى لمقابلة أبي ذر للرسول صلى اهلل عليه وسلم ألول‬
‫مرة‪.‬‬

‫قصة إسالم أبي ذر في رواية مسلم‪:‬‬


‫روى اإلمام مسلم رحمه اهلل عن عبد اهلل بن الصامت قال‪ :‬قال أبو ذر ‪( :‬خرجنا من قومنا غفار‪،‬‬
‫وكانوا يحلون الشهر الحرام ‪-‬غفار كانوا في جاهليتهم يحلون الشهر الحرام الذي حرم اهلل القتال‬
‫فيه‪ -‬قال‪ :‬فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا) هؤالء الثالثة هؤالء أبو ذر و أنيس وأمهما كانوا ال‬
‫يرضون عن فعل غفار‪ ،‬وألجل المنكر الذي كانت عليه غفار خرجوا من غفار (فنزلنا على خال‬
‫لنا‪ ،‬فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا‪ ،‬فحسدنا قومه‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنك إذا خرجت عن أهلك ‪-‬الكالم موجه إلى‬
‫الخال‪ -‬فقالوا‪ :‬إنك إذا خرجت عن أهلك‪ ،‬أي‪ :‬زوجتك‪ ،‬خالف إليهم أنيس) يعني‪ :‬أنت إذا خرجت‬
‫من هنا هو جاء إليهم من هنا‪ ،‬وكان أنيس جميل الخلقة (فجاء خالنا‪ ،‬فنثى علينا الذي قيل له ‪-‬أي‬
‫أفشى علينا وأشاع ما قيل له‪ -‬فبلغ أخي هذا الكالم؛ فقال‪ :‬واهلل ال أساكنك‪ ،‬فقلت‪ :‬أما ما مضى من‬
‫معروفك فقد كدرته) ‪-‬قد فعلت الشيء الطيب لنا وضيفتنا‪ ،‬واآلن ماذا فعلت بكالمك هذا؟ هذه‬
‫اإلشاعات التي قال لك الناس‪ ،‬ونشرتها اآلن‪ ،‬ماذا فعلت؟ لقد أفسدت المعروف‪( -‬وال جماع لنا‬
‫فيما بعد‪ ،‬ال نلتقي بك‪ ،‬فقربنا صرمتنا ‪-‬وهي‪ :‬القطعة من اإلبل أو الغنم يقال عليها صرمة‪-‬‬
‫فاحتملنا عليها‪ ،‬ركبنا عليها وتغطى خالنا بثوبه فجعل يبكي ‪-‬تأثراً من الخطأ الذي فعله‪ -‬فانطلقنا‬
‫حتى نزلنا بحضرة مكة ‪ ،‬فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها‪ ،‬فأتيا الكاهن فخير أنيساً فأتانا أنيس‬
‫بصرمتنا ومثلها معها)‪ .‬وفي رواية‪( :‬فتنافر إلى رجل من الكهان‪ ،‬قال‪ :‬فلم يزل أخي أنيس يمدحه‬
‫حتى غلبه‪ ،‬فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا) ما معنى هذا الكالم؟ معنى هذا الكالم أنهم‬
‫كانوا في الجاهلية‪ ،‬يتفاخرون بالشعر‪ ،‬أيهم أشعر من اآلخر‪ ،‬ويتحاكمون إلى رجل ثالث يقضي‬
‫بينهم أيهما أشعر من اآلخر‪ ،‬فهنا تفاخر أنيس مع رجل رآه في الطريق‪ ،‬فاحتكما إلى كاهن‪ ،‬وهذا‬
‫عمل حرام‪ ،‬لكن هذا وقع منهم في الجاهلية قبل أن يسلموا‪ ،‬فاحتكما إلى كاهن أيهما أشعر وجعل‬
‫أنيس القطيع الغنم الذي معه ‪-‬الصرمة‪ S-‬رهناً‪ ،‬وذلك الرجل كان معه قطيع آخر جعله رهناً أيضاً‪،‬‬
‫فالذي يفوز ويكون أشعر من الثاني يأخذ القطيعين كلهم ويمشي‪ ،‬فكسب أنيس ‪( ،‬فأخذنا صرمته‬
‫فضممناها إلى صرمتنا‪ ،‬فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها‪ ،‬فيقول أبو ذر للشخص الذي سمع منه‬
‫الحديث‪ :‬وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بثالث سنين) يقوألبو‬
‫ذر‪ :‬إني كنت أصلي قبل أن ألقى الرسول صلى اهلل عليه وسلم بثالث سنين‪ ،‬فيقول الذي سمع منه‬
‫القصة‪( :‬فقلت‪ :‬لمن؟ ‪-‬أي‪ :‬لمن تصلي؟‪ -‬قال‪ :‬هلل تعالى‪ ،‬قلت‪ :‬فأين توجهت؟ قال‪ :‬أتوجه حيث‬
‫يوجهني ربي) أصلي حيث يوجهني ربي‪ ،‬فالمؤمن يصلي هلل‪ ،‬وقد ذكروا أن أبا ذر كان رجالً في‬
‫الجاهلية مثل قومه‪ ،‬فاجر من الفجار‪ ،‬ثم هداه اهلل إلى التوحيد قبل بعثة الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فكان من جنس الموحدين مثل ورقة بن نوفل وغيره من الناس الموحدين‪ ،‬وبعضهم كان‬
‫عنده علم من الديانات السابقة‪ ،‬األديان السابقة‪ ،‬كان أبو ذر على التوحيد‪ ،‬وكان يعلم أن الذي‬
‫يستحق العبادة هو اهلل عز وجل‪ ،‬لكن ال يعرف كيف يصلي وال أين يستقبل!! ولذلك يقول‪( :‬صليت‬
‫قبل أن آتي الرسول صلى اهلل عليه وسلم بثالث سنين) صلى قبل اإلسالم بثالث سنوات‪ ،‬وكان‬
‫يتوجه حيث يوجهه اهلل (أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خثاء)أصلي حتى‬
‫أتعب ويأتي آخر الليل وأنا تعبان من الصالة‪ ،‬فألقى كأني كساء أي‪ :‬من تعب العبادة‪ ،‬حتى تعلوني‬
‫الشمس‪ ،‬فتوقظه‪ ،‬فقال أنيس ‪( :‬إن لي حاجة بـمكة فاكفني‪ ،‬فانطلق أنيس حتى أتى مكة)‪ .‬وهنا‬
‫يمكن أن نجمع بين الروايتين‪ S‬ونقول‪ :‬إن أبا ذر طلب من أخيه في هذا الوقت أن يذهب إلى مكة ‪،‬‬
‫ليعلم له خبر النبي صلى اهلل عليه وسلم يقول أبو ذر ‪( :‬فراث علي ‪-‬أي‪ :‬أبطأ عليه أخوه‪ ،‬لم يأت‬
‫بسرعة‪ -‬ثم جاء فقلت ما صنعت؟ قال لي‪ :‬لقيت رجالً بـمكة على دينك) فـأنيس اآلن يرى أن أخاه‬
‫على التوحيد‪ ،‬فقال‪ :‬حينما ذهبت إلى مكة وجدت رجالً على دينك‪ ،‬يزعم أن اهلل أرسله‪ .‬وفي‬
‫رواية قال لي‪( :‬أتيت مكة فرأيت رجالً يسميه الناس الصابئ‪ ،‬هو أشبه الناس بك‪ ،‬قلت‪ :‬فما يقول‬
‫الناس عن هذا الذي ظهر في مكة ؟ قال‪ :‬يقولون شاعر‪ ،‬كاهن‪ ،‬ساحر ‪-‬وكان أنيس أحد الشعراء‪-‬‬
‫قال أنيس ألخيه‪ :‬لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ‪-‬لست بكاهن‪ -‬ولقد وضعت قوله على‬
‫أقراء الشعر ‪-‬أي طرقه وأنواعه‪ -‬فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر) ال يمكن أن يكون‬
‫شاعراً ألني أعرف أوزان الشعر وطرقه فال يمكن أن يكون كالمه شعراً (واهلل إنه لصادق‪ ،‬وإ نهم‬
‫لكاذبون‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬فاكفني حتى أذهب فأنظر)‪ .‬هنا كأن أبا ذر قال ألخيه‪ :‬إني بعثتك لتأتيني‬
‫بتفاصيل‪ ،‬والتي أتيتني بها غير كافية‪ ،‬أنت أتيتني بأشياء مجملة‪ ،‬فأنا أريد أن أستقصي بنفسي‪،‬‬
‫قال‪( :‬فأتيت مكة ‪ ،‬وقبل أن يأتي مكة قال له أخوه‪ :‬كن على حذر من أهل مكة فإنهم قد شنفوا له‬
‫وتجهموا) أي أنه لما عرف حال الناس ضد الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬انتبه من أهل مكة‬
‫‪ ،‬فإنهم قد أبغضوه وعادوه‪ ،‬وكادوا له‪ ،‬وهذا يدل على أن هذه القصة وقعت والدعوة في مكة‬
‫أصبحت جهرية؛ ألنهم عادوه‪ ،‬فإذا عادوه وشنفوا له وتجهموا له معنى ذلك‪ :‬أنه أعلن الدعوة‪،‬‬
‫ولذلك وقفوا منه هذا الموقف‪ .‬قال أبو ذر ‪( :‬فأتيت مكة فرأيت رجالً فقلت‪ :‬أين الصابئ؟)‪ .‬وفي‬
‫رواية‪( :‬فتضاعفت رجالً منهم) أي‪ :‬بحثت عن واحد ضعيف مسكين‪ ،‬يقول أبو ذر ‪( :‬وسألت هذا‬
‫الضعيف قلت له‪ :‬أين الصابئ؟) ما قال أين محمد؟ وال أين نبي اهلل؟ قال‪ :‬أين الصابئ؟ فلماذا سأل‬
‫رجالً ضعيفاً؟ ألن العادة أن الضعيف ال يخشى منه‪ ،‬فيجيب بسذاجة وال يخشى منه أن يكون رجالً‬
‫شريراً‪ ،‬فهو ضعيف‪ ،‬لكن يبدو أن ذلك الوقت كان وقت شدة‪ ،‬بحيث إن هذا الرجل الضعيف لما‬
‫علي أهل‬
‫علي‪ ،‬فقال‪ :‬صابئ‪ ،‬صابئ‪ ،‬فمال ّ‬
‫سمع أبا ذر يسأل عن الصابئ قال‪( :‬فرفع صوته ّ‬
‫الوادي بكل مدرة وعظم) أي‪ :‬نبه كفرة قريش قال‪ :‬الصابئ‪ ،‬الصابئ هذا الذي يسأل عن الصابئ‪،‬‬
‫فمال عليه كفار قريش بكل مدرة وعظم‪ :‬كل حجرة وعظم رموا به أبا ذر ‪ ،‬فيقول‪( :‬فرماني الناس‬
‫علي كأني نصب أحمر) والنصب‪ :‬هو التمثال الذي كان كفار قريش يقيمونه‪،‬‬
‫حتى خررت مغشياً ّ‬
‫وكانوا يذبحون عنده حتى يصير لون التمثال الصنم أحمر من كثرة الدم‪ ،‬فرموا أبا ذر وضربوه‬
‫حتى سال الدم منه‪ ،‬كأنه الصنم الذي عنده الدماء‪ ،‬تصور كيف رموه حتى سال عليه الدم حتى كأنه‬
‫نصب أحمر! قال‪( :‬فخررت مغشياً علي‪ ،‬فارتفعت حين ارتفعت‪ ،‬كأني نصب أحمر ‪-‬من كثرة‬
‫الدماء التي سالت‪ -‬فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء‪ ،‬وشربت من مائها‪ ،‬فاختبأت بين الكعبة وبين‬
‫أستارها) وكانت بطريقة بحيث أن الواحد يمكن أن يختبئ بين الكعبة وبين أستارها (‪ ..‬ولقد لبثت‬
‫يا بن أخي ثالثين بين ليلة ويوم‪ ،‬وما كان لي طعام إال ماء زمزم‪ ،‬فقط‪ ،‬فسمنت حتى تكسرت عكن‬
‫بطني) فالبطن إذا سمنت تتثنى‪ ،‬واللحم إذا سمن جداً ينثني‪ ،‬فلو رأيت شخصاً سميناً جداً قبض يده‬
‫تجد أنه صار ينثنى‪ ،‬فهذه الثنيات تسمى‪ :‬عكن‪ ،‬ولذلك في حديث‪ :‬المخنث الذي كان يدخل على‬
‫بيت الرسول صلى اهلل عليه وسلم ثم منعه الرسول صلى اهلل عليه وسلم من الدخول؛ ألنه قال‪ :‬إذا‬
‫فتح اهلل عليك الطائف فعليك ببنت فالن؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان‪ ،‬فإنهم كانوا من قبل يحبون‬
‫تزوج المرأة السمينة‪ ،‬ولذلك يقول هذا الرجل‪ :‬إذا فتحت الطائف عليك ببنت فالن؛ ألنها تقبل‬
‫بأربع أي‪ :‬أنها من شدة سمنها من األمام أربع ثنيات‪ ،‬وإ ذا أدبرت من الخلف تصير األربعة ثمانية‪،‬‬
‫أربعة من الجهة اليمنى وأربعة من الجهة اليسرى‪ ،‬ألن العظم الفقري ينصف العكن هذه‪ ،‬فهذا‬
‫الرجل ليس بذكر وال أنثى‪ ،‬وهذه طبعاً خلقة من اهلل عز وجل في ناس من هذا القبيل‪ ،‬وكان يدخل‬
‫على النساء‪ ،‬وحكمه أنه ليس برجل مكتمل الرجولة‪ ،‬فلما رأى الرسول صلى اهلل عليه وسلم أن‬
‫ذلك الرجل بدأ يصف النساء يقول‪ :‬هذه كذا ‪ ..‬فمنعه من الدخول على نسائه صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫والشاهد‪ :‬يقول أبو ذر ‪( :‬فتكسرت عكن بطني‪ ،‬وما وجدت على كبدي ُسخفة جوع) وفي رواية‪:‬‬
‫(سخفة جوع) سمن من ماء زمزم حتى تكسرت عكن بطنه! سمن جداً وما أحس بالجوع مطلقاً‪.‬‬
‫َ‬
‫فقال‪( :‬وما وجدت على كبدي سخفة جوع) أي‪ :‬ضعف الجوع وهزاله ما أحسست به‪ ،‬قال‪( :‬فبينما‬
‫أهل مكة في ليلة قمراء) أي مقمرة (أضحيان) أي‪ :‬مضيئة ( إذ ضرب على أصمختهم )‬
‫وأصمختهم أي‪ :‬آذانهم‪ ،‬ومعنى ضرب اهلل على آذانهم أي‪ :‬أنهم ناموا في إحدى الليالي قبل الوقت‪،‬‬
‫ض َر ْبَنا َعلَى آ َذانِ ِه ْم [الكهف‪ ]11:‬أي‪ :‬ناموا‪ ،‬وأبو ذر اآلن مختبئ بين‬
‫مثل قول اهلل عز وجل‪ :‬فَ َ‬
‫الكعبة وبين أستارها‪ ،‬قال‪( :‬إذ ضرب على أصمختهم فما يطوف بالبيت ‪-‬في هذا الوقت‪ ،‬ألنهم‬
‫ناموا‪ -‬من كفار قريش إال امرأتان منهم تدعوا‬
‫فوائد قصة إسالم أبي ذر‪:‬‬
‫أيها اإلخوة! نأتي لنستعرض بعض الفوائد والعبر المأخوذة من هذه القصة العظيمة‪.‬‬

‫حرمة الجلوس في أماكن المنكرات‪:‬‬


‫أما من ناحية القصة الثانية التي انتهينا منها‪ ،‬فإننا نالحظ يا إخواني‪ :‬أن أبا ذر وأمه وأخاه قد تركا‬
‫المكان؛ ألن قومهم غفار كانوا يستحلون الشهر الحرام‪ ،‬ومع أن هذا وقع في الجاهلية‪ ،‬لكن هذه‬
‫كانت بادرة طيبة منهم حين أن تركوا ذلك المكان‪ ،‬ولذلك إذا كان اإلنسان في مكان فيه منكر ال‬
‫يستطيع أن يغيره‪ ،‬وال يستطيع البقاء‪ ،‬ربما ال يستطيع البقاء فيه سليماً فعليه أن يهاجر مباشرة‪ ،‬فلو‬
‫أن شخصاً ‪-‬مثالً‪ -‬سافر إلى بالد أخرى ليدرس‪ ،‬فرأى منكرات حين عاش هناك‪ ،‬وأحس من‬
‫الوضع هناك بأنه محتمل جداً أن يقع في الفاحشة‪ ،‬أو محتمل جداً أن ينحرف عن دينه‪ ،‬وأحس‬
‫بضغوط فعالً وأنه إذا بقي فترة أخرى فقد ينحرف‪ ،‬فهل يجوز له أن يبقى إلتمام دراسته؟ ال‪ .‬بل‬
‫يجب عليه أن يرجع إلى البلد األخف شراً‪ ،‬أو إلى المجتمع المسلم‪ ،‬ليجلس فيه؛ ألن سالمة الدين‬
‫أهم من جميع األشياء األخرى‪ .‬ولو أن شخصاً شاباً ‪-‬مثالً‪ -‬في بيت فيه خادمات فاتنات‪ ،‬ويعلم‬
‫هذا الشاب أنه لو استمر بالبقاء في بيت أبيه وهؤالء الخادمات حوله ورفض أبوه النصيحة ورفض‬
‫إخراج الخادمات‪ ،‬وهذا الشاب بدأ فعالً يخشى على نفسه‪ ،‬والحظ بوادر ذلك‪ ،‬فهل يجوز له أن‬
‫يبقى في بيت أبيه؟ ال‪ .‬بل يجب عليه أن يخرج من بيت أبيه‪ ،‬ويسكن في بيت أقاربه أو يدبر له‬
‫مكاناً‪ ،‬وال يجلس في مكان الفتنة‪.‬‬

‫االستعانة على قضاء الحوائج بالكتمان خوف الحسد وغيره‪:‬‬


‫والقضية األخرى ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم يقول‪( :‬استعينوا على قضاء‬
‫حوائجكم بالكتمان‪ ،‬فإن كل ذي نعمة محسود) فما هو السبب الذي من أجله يأمر صلى اهلل عليه‬
‫وسلم بإخفاء نجاح اإلنسان المسلم‪ ،‬أن يخفي نجاحه عن الناس الحساد؟ خوفاً من حسدهم‪ ،‬والناس‬
‫حساد جهال قد يحسدون على أدنى شيء‪ ،‬هؤالء ناس جاءوا إلى خالهم فأكرمهم‪ ،‬فهم يستحقون‬
‫اإلكرام‪ ،‬ألنه خالهم‪ ،‬وهذه األم أخته‪ ،‬ومع ذلك حسدوه‪ .‬ولذلك فينبغي لصاحب النعمة إن كان‬
‫خشي من حسد الناس‪ ،‬ومن العين مثالً‪ ،‬أال يخبر بالنعمة التي هو فيها‪ ،‬ويخبئها‪ ،‬ألنهم قد يفشلون‬
‫مشاريعه وخططه‪ ،‬وقد يصيبونه بعين‪ ،‬أو يصيبون النعمة التي هو فيها بعين متلفة فتزول‪ .‬واألمر‬
‫اآلخر‪ ،‬مشكلة تصديق الشائعات والتهم‪ ،‬وخصوصاً كثير من الشائعات والتهم مصدرها الحساد‪،‬‬
‫فهم ال يريدون أحداً أن يعلو عليهم في أي شيء من األشياء‪ ،‬ولذلك لو أن شخصاً عال عليهم‬
‫بالمال‪ ،‬أو عال عليهم بمنصب أو عال عليهم بالعلم‪ ،‬حتى بالعلم الشرعي مع األسف‪ ،‬أي‪ :‬تجد هذا‬
‫بين بعض الذين ال يتقون اهلل من المنتسبين إلى العلم‪ ،‬يحسدون من فضله اهلل عليهم‪ ،‬فيكيدون له‪،‬‬
‫وينشرون الشائعات عنه‪ ،‬ويتهمونه بالتهم الباطلة‪ ،‬ويتلبسون بلبوس الناصحين على قلوب الذئاب!‬
‫وقد يقولون له كالماً‪ ،‬إننا نخشى عليك ‪ ..‬أننا نخاف عليك ‪ ..‬وإ ننا كذا ‪ ..‬حتى ينحجب عن أداء‬
‫دوره التعليمي بين الناس‪ ،‬وقد يسعون بالوشايات عند الناس حتى يزيلوه عن مكانه‪ ،‬وقد يتهمونه‬
‫بالتهم الباطلة وينشرونها بين الناس‪ ،‬حتى ينفروا الناس عنه‪ ،‬انتبهوا! قد يكون داعية ناجحاً‪،‬‬
‫فيأتون إلى من يدعوهم مثالً فيقولون‪ :‬فالن فيه كذا‪ ،‬وفالن فيه كذا حتى يصدوهم عنه‪ ،‬حسداً من‬
‫عند أنفسهم‪ .‬وهذا الحسد مشكلة كبيرة‪ ،‬ولذلك ينبغي على اإلنسان دائماً أن يقرأ المعوذات‪ ،‬وأن‬
‫يستعين باهلل على أولئك الناس‪ ،‬وهذه القضية ال يسلم منها إال النادر‪ ،‬أي حتى الناس الذين فيهم‬
‫استقامة وفيهم دين قد يقع منهم الحسد‪ ،‬وحصل هذا فيمن قبلنا لبعض الكبار‪ ،‬ولذلك عائشة أثنت‬
‫على زينب في حادثة اإلفك‪ ،‬أثنت على زينب بأن اهلل عصم زينب ‪ ،‬فهناك منافسة بين عائشة وبين‬
‫ضرائرها‪ ،‬زينب ما تكلمت بشيء مطلقاً‪ ،‬بل إنها أثنت على عائشة مع أنها فرصة حيث اتهم الناس‬
‫عائشة باإلفك‪ ،‬إذاً تخوض معهم‪ ،‬فهي فرصة بأن تنال من ضرتها‪ .‬ولذلك الحسد بين الضرائر‪ S‬من‬
‫المشاكل التي ينبغي على الزوج أن يراعيها‪ ،‬ولعلنا نفرد إن شاء اهلل درساً خاصاً ربما للنساء عن‬
‫قضية الغيرة‪ ،‬التي تحدث بين النساء وبين الضرائر بالذات‪ ،‬ومعالجة هذه المشكلة وكيف يمكن‬
‫للمرأة أن تتغلب عليها‪ ،‬وكيف يكون موقف الرجل من هذه األشياء‪.‬‬

‫عدم التسرع في تكدير المعروف‪:‬‬


‫الشيء اآلخر أيها اإلخوة‪ :‬أن اإلنسان أحياناً يفعل معروفاً‪ ،‬ولكن نتيجة تسرع منه يأتي بما يكدر‬
‫هذا المعروف! فكثير من الناس أحياناً يكون محسناً وكريماً وباراً ويفعل الخير بالناس‪ ،‬لكنه في‬
‫لحظة من اللحظات يفعل شيئاً يفسد ذلك المعروف كله‪ ،‬فقد يحسن شخص إلى الناس‪ ،‬ويعطيهم‬
‫ويتصدق عليهم وينفق عليهم‪ ،‬وفي لحظة من اللحظات‪ ،‬يأتيه الشيطان فماذا يفعل؟ يقول كلمة فيها‬
‫من‪ :‬ألم أعطك كذا‪ ،‬وكذا ‪...‬؟ قد يكون أعطاه مائة حاجة‪ ،‬فيقول له مرة من المرات‪ :‬أما أعطيتك‬
‫ّ‬
‫كذا ‪..‬؟ ويذكر له حاجة واحدة‪ ،‬فهذا يؤدي إلى إفساد المعروف كله‪ ،‬ولذلك ينبغي للمحسنين سواء‬
‫كان إحسانهم إحسان علم‪ ،‬أو إحسان مال‪ ،‬أو إحسان مساعدة ومعاونة وبذل جهد‪ ،‬أال يمنوا‪ ،‬وال‬
‫يأتوا بشيء فيه تكدير لذلك المعروف‪.‬‬
‫من يبحث عن الحق يوفقه اهلل إليه‪:‬‬
‫وكذلك قوله‪( :‬وقد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بثالث سنين) هذه‬
‫النقطة يؤخذ منها‪ :‬أن اإلنسان الذي يبحث عن الحق‪ ،‬فإن اهلل يوفقه ولو إلى شيء منه‪ ،‬فقد كان أبو‬
‫ذر رضي اهلل عنه مقتنعاً بالتوحيد‪ ،‬كان مقتنعاً أن اهلل واحد‪ ،‬وأن الناس الذين يعبدون األصنام‬
‫هؤالء مشركون‪ ،‬وأنه ال يمكن أن يكون هذا هو الحق‪ ،‬ولذلك هو يؤدي أي شيء يعبر فيه عن‬
‫الوحدانية‪ ،‬يصلي هلل‪ ،‬ولذلك فإن الباحث عن الحق بتجرد إذا سلك الطريق وأخلص فال بد أن يصل‬
‫إليه‪ ،‬وقد يصل إليه على مراحل‪ ،‬أي‪ :‬أول شيء يهتدي إلى هذه الجزئية من الحق ثم إلى الجزئية‬
‫األخرى‪ ،‬ثم إلى الجزئية األخرى حتى يهتدي إلى الحق في أغلب أموره‪.‬‬

‫أهل الحق يتشابهون‪:‬‬


‫وكذلك قول أنيس لـأبي ذر (أتيت مكة فرأيت رجالً يسميه الناس الصابئ هو أشبه الناس بك‪ ،‬أو‬
‫لقيت رجالً بـمكة على دينك) هذا فيه إشعار بأن أهل الحق يتشابهون‪ ،‬وأهل التوحيد يتشابهون‪ ،‬ولو‬
‫لم يلتق أحد منهم باآلخر‪ ،‬أو كان بعيداً عنه كل البعد‪ ،‬فلو رأيت رجالً من أهل السنة والجماعة في‬
‫أبواب العقيدة والعمل‪ ،‬في اعتقاده‪ ،‬وعمله‪ ،‬وعبادته‪ ،‬وجميع األشياء‪ .‬ثم سافرت إلى مكان بعيد‬
‫جداً‪ ،‬فوجدت رجالً بنفس الصفات فإنك تحس أن هذين النفرين من أهل الحق متشابهان ولو لم يكن‬
‫قد تالقوا من قبل وال عرف أحد منهم اآلخر‪ ،‬ربما تسأله‪ :‬أتعرف فالناً؟ يقول‪ :‬ال‪ ،‬وتستغرب كيف‬
‫تشبه صالة ذلك صالة اآلخر‪ ،‬وكيف كالم هذا عن السنة والبدعة مثل كالم ذلك الرجل‪ ،‬وكيف‬
‫تصور هذا عن الواقع يشبه تصور ذاك‪ ،‬فتستغرب من التشابه والتطابق في الوجهات أو في‬
‫المعتقدات واألعمال واآلراء‪ .‬ولكن الذي يبرر هذا األمر أن الحق ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬إذا وقر في‬
‫النفوس‪ ،‬فإن أتباعه يتشابهون أينما كانوا‪ ،‬و عمر رضي اهلل عنه كان من الناس المعروفين بأنه‬
‫يصيب الحق‪ ،‬فقد تنبأ بأشياء‪ ،‬أو كانت عنده فراسة وإ لهام‪ ،‬ألهمه اهلل بأشياء حصلت فعالً‪ ،‬مثل أنه‬
‫كان يتحرى نزول تحريم الخمر ويعلن بذلك‪ ،‬فنزل تحريم الخمر‪ ،‬وكان يتحرى نزول آية‬
‫الحجاب‪ ،‬ويرى أنه وضع غير طبيعي أن نساء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال يحتجبن ونساء‬
‫المسلمين‪ ،‬فنزلت آية الحجاب‪ ،‬وكان رأيه في أسارى بدر صائباً موافقاً للقرآن‪ ،‬وأشياء أخرى‪،‬‬
‫كان فيها رأي عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه موافقاً للحق‪ ،‬وهذه قضية إلهام يلهمه اهلل عز وجل‪،‬‬
‫فأحياناً أهل الحق الواحد منهم من قد يهتدي إلى شيء من غير تعليم؛ بسبب سالمة فطرته‪ ،‬وصحة‬
‫تفكيره‪ ،‬يهتدي إلى الحق‪ ،‬ولو ما دله عليه وال علمه إياه أحد‪ ،‬وهذا أبو ذر ما علمه التوحيد أحد‪،‬‬
‫لكن الرجل فكر في الواقع‪ ،‬فليس من المعقول أن هذه السماء يكون خلقها هبل‪ ،‬وهذه األرض‬
‫واألشجار خلقتها إساف ونائلة‪ ،‬ال بد أن يكون هناك واحد أوجد هذه األشياء وخلقها‪ ،‬ولذلك عرفه‬
‫وصار يعبده‪ ،‬فمن الذي علمه؟ فأصحاب الفطر السليمة ال بد أن يهتدوا إلى الحق‪ ،‬وربما يتشابهون‬
‫في أعمالهم ومعتقداتهم‪.‬‬

‫وجود الخلفية عن الواقع لدى المسلم أمر مهم‪:‬‬


‫وكذلك نأخذ من كالم أنيس ‪( :‬لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم‪ ،‬ووضعت قوله على أقراء‬
‫الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه الشعر) نأخذ منه أهمية المعرفة‪ ،‬أن معرفة األمور تأتي‬
‫بمعرفة خلفيات األشياء‪ ،‬فيستطيع أن يحكم عليها‪ ،‬فألن أنيساً رضي اهلل عنه يعرف أوزان الشعر‪،‬‬
‫ضلِّل وما َّ‬
‫صدق أن الرسول‬ ‫وطرق الشعر‪ ،‬ويعرف أقوال الكهان وعنده خلفية عن هذه األشياء ما ُ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم كاهن وال شاعر‪ ،‬ولذلك ال بد أن يكون لإلنسان المسلم خلفية عن الواقع وأن‬
‫يعلم األمور حتى ال تتشابه عليه األشياء‪ ،‬فتكون نظرته غير صائبة‪ ،‬وغير صحيحة‪ ،‬فال بد أن يعلم‬
‫عن المذاهب الهدامة مثلما علم أنيس عن كالم الكهان‪ ،‬ومن قبل كانت المذاهب الهدامة‪ :‬الكهانة‬
‫والسحر إلى آخره‪ ،‬أما اآلن فقد اختلفت األمور وزادت‪ ،‬فالكهانة والسحر موجودة لكنها زادت‬
‫مذاهب أخرى كثيرة ضالة‪ ،‬فال بد أن يتعلم المسلم عن المذاهب الهدامة‪ ،‬وعن النفاق والمنافقين‬
‫ومساجد الضرار‪ S‬حتى ال يخدع بكثير من الشعارات التي ترفع‪ ،‬واألعمال التي تعمل‪ ،‬وليست لوجه‬
‫اهلل‪ ،‬وإ نما يراد من ورائها الصد عن سبيل اهلل‪.‬‬

‫أهمية‪ %‬التناصح بين المسلمين‪:‬‬


‫وكذلك فإن هذا األخ أنيساً قد أعطى أخاه الخبرة‪ ،‬قبل أن يذهب إلى مكة ‪ ،‬فقال‪( :‬كن على حذر من‬
‫أهل مكة ‪ ،‬فإنهم قد شنفوا له وتجهموا) فقد زوده بالنصيحة‪ ،‬والمسلم أخو المسلم‪ ،‬ينصحه‪ ،‬فإذا‬
‫أراد شخص أن يذهب إلى مكان‪ ،‬وأنت تعلم أشياء هناك ولديك معلومات تفيده‪ ،‬فعليك أن تقدمها‬
‫له‪ ،‬وتقول‪ :‬يا أخي انتبه سوف ترى هناك كذا وكذا‪ ،‬واحذر‪ ،‬أو استغل كذا‪ ،‬فإن هناك ‪-‬مثالً‪-‬‬
‫خيراً‪ ،‬لو أنك ذاهب إلى البلد تلك فهناك يوجد رجل عالم بالحديث‪ ،‬وهناك رجل عالم باألصول‪ ،‬أو‬
‫قابلت مرة من المرات رجالً يعلم اللغة العربية‪ ،‬فانتهز الفرصة‪ ،‬قابل فالناً‪ :‬فعليك النصيحة له‪.‬‬

‫األمور المهمة والخطيرة ال يكتفي المسلم فيها بخبر الناس‪:‬‬


‫كذلك بعض األمور‪ ،‬أو بعض المهام‪ ،‬ال يكفي اإلنسان فيها كالم األشخاص‪ ،‬فهذه قضية رسول‬
‫ونبي ظهر‪ ،‬وهي قضية خطيرة‪ ،‬وليست سهلة‪ ،‬وليست مثل شخص يقول‪ :‬اذهب إلى ذلك المكان‬
‫فإذا وجدت فيه ماء أعلمني‪ ،‬إن هذه قضية تحدد مسار اإلنسان وتحدد مصيره‪ ،‬وتحدد اتجاهه‬
‫وتفكيره فهذه فيها تغيير شامل لحياة اإلنسان ولذلك ما اكتفى أبو ذر بكالم أخيه‪ ،‬بل قال‪ :‬ما‬
‫شفيتني‪ ،‬وذهب بنفسه‪ .‬فإذاً‪ :‬بعض المهمات العظيمة‪ ،‬واألشياء المصيرية البد أن يطلع اإلنسان‬
‫عليها بنفسه‪ ،‬إذا ما اشتفى من كالم الموثوقين‪ ،‬ألن هذه قضايا مصيرية‪ ،‬فال بد أن يتحرى عنها‪،‬‬
‫ويسأل عنها ويطلع هو عنها بعينيه ويسمع بأذنيه؛ حتى يكون السند عالياً جداً بينه وبين الحق‪ ،‬أو‬
‫بينه وبين الواقع الذي يريد أن يطلع عليه‪.‬‬

‫ذكاء أبي ذر في سؤاله عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬


‫وكذلك ذكاء أبي ذر رضي اهلل عنه في انتقاء الناس الذين يريد أن يسألهم‪ ،‬انظر قال‪( :‬فتضاعفت‬
‫رجالً فسألته)‪ .‬فهذا رجل ذاهب إلى مكان فيه تضليل إعالمي على الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫والناس في عداء شديد‪ ،‬فعرف من يسأل‪ ،‬قال‪ ( :‬فتضاعفت رجالً ) ما سأل أي واحد من الناس‬
‫وقال‪ :‬أين الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأين محمد صلى اهلل عليه وسلم؟ وإ نما‪( :‬تضاعفت رجالً‬
‫وقلت‪ :‬أين الصابئ) وهذا فيه ذكاء في البحث‪ ،‬ويجب أن نعلم ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬أن اإلنسان قد ينتقل‬
‫إلى مكان ال يعرف فيه أعداءه من إخوانه‪ ،‬وال يعرف فيه أهل الحق المحقين من غيرهم‪ ،‬وال‬
‫يعرف فيه األحسن من الحسن‪ ،‬ولذلك عليه أن يتحرى بدقة وبشدة‪ ،‬عندما يذهب إلى ذلك المكان‪،‬‬
‫وأن يكون ذكياً في معرفة أهل الحق‪ ،‬كما كان هذا الرجل الصحابي ذكياً في معرفة أهل الحق‪ ،‬ما‬
‫يقول‪ :‬دلوني على فالن‪ ،‬وال دلوني على الناس الذين صفاتهم كذا وكذا‪ ،‬ألنه قد ُيضلِّل عنهم‪ ،‬وقد‬
‫يواجه تضليالً إعالمياً وقد يواجه تكثيفاً في اآلراء واألقوال التي تصرفه‪ ،‬ولذلك كان كالم ابن‬
‫حجر رحمه اهلل دقيقاً جداً قال‪ :‬قد يؤذى السائل وقد يؤذى المسئول‪ ،‬وقد يصدونه عن صاحب‬
‫الحق‪ ،‬وقد يمنعونه من االلتقاء به‪ ،‬وقد يخدعونه حتى ال يلتقي بصاحب الحق‪ .‬هذه نقطة مهمة‬
‫جداً‪ ،‬وقد يخدعونه حتى ال يلتقي بصاحب الحق‪ ،‬ويضللونه‪ ،‬ويصرفونه بشتى الصوارف عن‬
‫أصحاب الحق‪ ،‬فهذه قضايا خطيرة‪ ،‬قضية حق وباطل‪ ،‬وال يصح لإلنسان أن يحجب دينه الرجال‬
‫في مثل هذه األمور‪ ،‬أو يتبع كالم الناس‪ ،‬ويمشي مع اإلشاعات وعلى السائد أو على رأي‬
‫األغلبية‪ ،‬بل ال بد أن يكون دقيقاً فطناً حذراً ذكياً وهو يتوصل إلى الحق وأهله‪.‬‬

‫من أراد أن يصل إلى الحق فإن اهلل يعينه‪:%‬‬


‫وكذلك ‪-‬أيها اإلخوة‪ -‬فإن اهلل يعين الذي يريد أن يصل إلى الحق حتى باألشياء المادية‪ ،‬فال يوفقه‬
‫حتى يصل إلى نهاية المطاف فقط‪ ،‬وإ نما مثل ما أن اهلل عز وجل أعان أبا ذر فرزقه شرب ماء‬
‫زمزم ثالثين يوماً بدون طعام‪ ،‬يعينه ألنه يريد أن يصل إلى الحق‪.‬‬

‫غيظ الكفار من شعائر المسلمين‪:‬‬


‫وكذلك أيها اإلخوة‪ :‬فإن في فعل أبي ذر تجاه األصنام فيه إغاظة الكفار‪ ،‬وسب آلهتهم وغيظهم‬
‫وهذا أمر مهم أن نفعله اليوم‪ ،‬أن نستهزئ بآلهة الكفار ومعتقداتهم ‪ -‬إذا لم يؤد ذلك إلى سبهم هلل‬
‫عز وجل ودين اإلسالم ونبيه عليه الصالة والسالم‪ -‬مثل النصارى الذين يقولون‪ :‬إن اهلل ثالث‬
‫ثالثة‪ ،‬فأنت يجب عليك أن تفند شبهاتهم‪ ،‬تقول‪ :‬هل هذه عقيدة عقالء؟! أن الواحد في ثالثة‬
‫والثالثة في واحد! وأن األب اإلله ينظر إلى ولده اإلله وهو يصلب وال يستطيع أن ينقذه! وكيف‬
‫يموت اهلل؟!! فهناك يمكن أشياء أن تستهزئ بها على تلك المعتقدات الكافرة التي يعتنقها أولئك‬
‫الكفرة‪ ،‬فهؤالء الناس عندهم تخطيط في إضالل المسلمين وتشكيكهم‪ ،‬ولقد اطلعت على كتاب كتبه‬
‫أحد القساوسة على الغالة في صورة ميزان فرسم كفةً فيها صليب وهي الراجحة‪ ،‬وكفة فيها‬
‫المسجد وهي مرتفعة إلى األعلى ومكتوب على الكتاب‪ :‬في الموازين هم إلى فوق‪ ،‬فالصليب‬
‫راجح والمسجد تحت‪ ،‬وكتب هذا الخبيث على الكتاب‪ :‬في الموازين هم إلى فوق‪ ،‬فيظن الشخص‬
‫أنه يمدح المسلمين إلى فوق‪ ،‬لكن ماذا يعني في الموازين هم إلى فوق؟ أي‪ :‬أن أصحاب الصليب‬
‫هم األثقل‪ ،‬فإغاظة الكفار هذه من شعائر دين المسلمين‪ ،‬أن يظهرها اإلنسان‪ .‬وليس بالزم أن أول‬
‫شيء يفعله هو أن يستهزئ بهم ومعتقداتهم‪ ،‬بل أوالً يدعوهم بالحسنى ويجادلهم بالتي هي أحسن‪،‬‬
‫فإذا رفضوا فيستخدم مثل هذه الوسائل‪ ،‬ونالحظ أن لكل مقام مقال‪ ،‬فكان أبو ذر رضي اهلل عنه‪،‬‬
‫أديباً جداً هنا‪ ،‬يقول‪( :‬فقلت‪ :‬هن مثل الخشبة غير أني ال أكني) أي‪ :‬أنه لما صار مع الراوي وهو‬
‫داع أن يقول له الكلمة القبيحة التي قالها لسب آلهة المشركين‪ ،‬ولذلك أتى بكلمة‬
‫مسلم فليس هناك ٍ‬
‫(هن) هذه كناية‪ ،‬قال‪ ( :‬غير أني ال أكني ) لكني ما كنيت‪ ،‬لما قلت للمرأتين الكافرتين ما كنيت‪،‬‬
‫وهذا من األدب في استخدام العبارات‪ ،‬وفي أن لكل مقام مقال يناسبه‪ ،‬عندما تقول للمسلم شيئاً‪،‬‬
‫ترويه خالفاً لما تجابه به الكفار وأصنامهم‪.‬‬

‫الكفار يعتقدون أنهم على حق‪:‬‬


‫كذلك أن الشبه التي عند الكفار قد تكون عظيمة وأنهم يقتنعون بآلهتهم قناعة شديدة‪ ،‬وأن المرأتين‬
‫ولولتا‪ ،‬فالمسألة عندهم وصلت إلى أنه كيف يقول هكذا عن اآللهة؟! فاعتقادهم في اآللهة اعتقاد‬
‫كبير‪ ،‬ولذلك قال‪( :‬فانطلقتا تولوالن ثم قالتا للرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إنه قال لنا كلمة تمأل‬
‫الفم) وجلستا تقوالن‪( :‬لو كان ها هنا أحد من أنفارنا)‪ .‬فإذاً ال تظنوا أن السخافة التي نرى بها‬
‫أصنام الجاهلية ومنطقهم ومعتقداتهم هم ينظرون إليها بنفس المنظار‪ ،‬فنحن قد أنعم اهلل علينا‬
‫باإليمان فقد نرى أن شبههم تافهة‪ ،‬لكن في منظارهم هم القضية أن هذا حق‪ ،‬وأنه كذا‪ ،‬وكيف‬
‫ص ُروا ِآلهَتَ ُك ْم [األنبياء‪ِ ..]68:‬‬
‫َأن‬ ‫ُي ْنتقص وال بد من الدفاع عنه‪ ،‬فال اهلل عنهم‪ :‬قَالُوا َح ِّرقُوهُ َو ْان ُ‬
‫اد [ص‪ ]6:‬ال بد أن نصبر على اآللهة‪ ،‬وال بد أن‬ ‫اصبِ ُروا‪َ S‬علَى ِآلهَتِ ُك ْم ِإ َّن َه َذا لَ َش ْي ٌء ُي َر ُ‬
‫ام ُشوا َو ْ‬
‫ْ‬
‫ندافع عنها‪ ،‬هكذا ينظرون‪ ،‬ولذلك من الخطأ أن تأتي إلى شخص عنده شبهة وتقول‪ :‬ما هذا الشيء‬
‫التافه الذي أنت مقتنع به‪ ،‬فهذا ال يصلح؛ ألنه هو ما يرى أنه تافه‪ ،‬وهذا ال يعتبر رداً‪ .‬وكذلك فإن‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان يغشى أماكن التجمعات التي قد يوجد فيها أناس يأتون للتوحيد‪،‬‬
‫مثل ما فعل علي بن أبي طالب مع أبي ذر رضي اهلل عنه‪ .‬وهنا نقطة نحب أن نذكرها‪ :‬لماذا‬
‫وضع الرسول صلى اهلل عليه وسلم يده على جبهته لما قال أبو ذر ‪ :‬من غفار؟ ألنهم كانوا قطاع‬
‫طرق‪ ،‬يقطعون الطريق على الحجيج ويسرقونهم بالمحجن‪ ،‬وهو شيء مثل العكاز‪ ،‬أي‪ :‬أن قبيلة‬
‫غفار كانوا مشهورين بقطع الطريق على الحجيج وسرقة الحجاج‪ ،‬مع أن الحجاج كانوا مشركين‬
‫لكن وصل بهم السوء إلى هذا‪ ،‬فالرسول صلى اهلل عليه وسلم فعل حركة عفوية كيف يأتي رجل‬
‫من الناس الذين يسرقون الحجاج؟! وكأنه أراد أن يستوثق منه أكثر‪ ،‬فقال‪( :‬متى كنت هاهنا؟ ومن‬
‫كان يطعمك؟) حتى توثق منه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ثم كلمه عن اإلسالم‪.‬‬

‫العلم يؤدي إلى تعظيم حرمات اهلل‪:‬‬


‫وفي هذا أيضاً‪ :‬تبجيل لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكيف أن أبا بكر أمسك أبا ذر ‪ ،‬فمنعه من‬
‫أن يمسك يد الرسول صلى اهلل عليه وسلم ويرجعها‪ ،‬وهذا التبجيل يأتي من من؟ ماذا يقول في‬
‫الرواية‪ ( :‬وكان أعلم به مني ) وأنه يأتي من األعلم وأن العلم يؤدي إلى تبجيل وتعظيم حرمات‬
‫اهلل‪.‬‬

‫تفقد القادمين للحاق بالدعوة‪:‬‬


‫وكذلك تفقد أحوال القادمين للحاق بالدعوة‪ ،‬ولو في أمور معاشهم‪ ،‬فبعض الدعاة قد يصادف‬
‫مدعواً‪ ،‬فال يقول له مثالً‪ :‬هل يكفيك معاشك أو أين تسكن؟ أو كذا‪ ،‬وإ نما يقول له بداية‪ :‬هل تريد‬
‫أن تعتقد بكذا‪..‬؟ وما نظرتك بكذا؟ وهذه أدلة على كذا ‪ ..‬فقط‪ .‬بينما نجد أن الرسول صلى اهلل‬
‫عليه وسلم اهتم بـأبي ذر فسأله عن طعامه وعن معيشته‪ ،‬صحيح أنه جاء للحق‪ ،‬لكن النفس البشرية‬
‫لها حاجة للمسكن ولها حاجة للطعام ‪ ...‬فالبد من االهتمام بهذه األشياء‪ ،‬وال نقول‪ :‬هذه أشياء‬
‫جانبية وأشياء سطحية وغير مهمة‪ ،‬المهم الدعوة‪ ،‬والمهم الحق واألدلة‪ ،‬والمهم المبادئ‪ ،‬ال‪ ،‬وإ نما‬
‫حتى هذه األشياء مهمة‪ ،‬فراحة الناس واألشخاص‪ ،‬والذين يريدون أن ينضموا إلى ركب الدعوة‬
‫مهمة جداً‪ ،‬وضيافتهم لالستئناس‪ ،‬يقوألبو بكر‪( :‬ائذن لي في طعامه الليلة) حتى يتداخل معه‪،‬‬
‫ويحصل استئناس بينهم‪ ،‬ويكرم ذلك الرجل الذي أتى‪ ،‬وخصوصاً أنه قد اضطهد اضطهاداً بالغاً‬
‫فال بد من تعويضه بشيء من اإلكرام‪.‬‬

‫حكمة النبي صلى اهلل عليه وسلم وحسن تخطيطه للدعوة‪:‬‬


‫وكذلك فإن الرسول صلى اهلل عليه وسلم كان مرحلياً مخططاً لدعوته‪ ،‬وكان إذا ما وجد فائدة كبيرة‬
‫أو كان هناك مضرة في بقاء الشخص في مكة وهو من غير أهلها‪ ،‬ماذا كان يقول له؟‪( :‬ارجع إلى‬
‫قومك فإذا سمعت أني قد ظهرت فائتني) قالها لـعمرو بن عبسة وقالها لـأبي ذر الغفاري و الطفيل‬
‫بن عمرو الدوسي ارجع إلى أهلك؛ ألن هذه مرحلة استضعاف‪ ،‬ومن الحكمة والخير أن تنتشر‬
‫الدعوة في أجواء أخرى وبلدان أخرى غير مكان االضطهاد مثل مكة ‪ ،‬ولذلك لما انتقل الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم إلى المدينة ‪ ،‬جاء الطفيل بثمانين بيتاً من دوس كلهم قد أسلموا‪ ،‬وجاء أبو ذر‬
‫بالقبيلة كلها‪ ،‬جاء النصف األول وجاء النصف الثاني وأسلموا‪ ،‬وجاء أناس من الصحابة بأقوامهم‪،‬‬
‫فاجتمعوا في المدينة لتأسيس المجتمع اإلسالمي‪ ،‬وهذا األمر ال يمكن أن يوجد في مكة وهذا العداء‬
‫قائم‪ ،‬والحرب قائمة‪ ،‬فهذا من حكمة الرسول صلى اهلل عليه وسلم وبعد نظره‪ ،‬في تخطيطه ألمور‬
‫دعوته‪.‬‬

‫من يصدق في اللهجة يفتح اهلل على يديه‪:‬‬


‫وكذلك فإن الذي يصدق في اللهجة‪ ،‬يفتح اهلل على يديه مغاليق قلوب الناس‪ ،‬فـأبو ذر صادق‬
‫اللهجة‪ ،‬عرض الكالم على أخيه فأسلم‪ ،‬ثم على أمه فأسلمت‪ ،‬ثم على القبيلة فأسلم نصفهم‪ ،‬وهذا‬
‫ليس شرطاً‪ ،‬فقد يكون هناك أناس صادقون ال يستجاب لهم‪ ،‬لكن ليس هناك أناس كاذبون يستجاب‬
‫لهم بالحق‪ ،‬وتفتح لهم قلوب الناس فيتابعونهم بإخالص‪ ،‬ولو تابعهم بعض الناس وصدقوا بعض‬
‫الكاذبين فهذا قليل ونادر‪ ،‬وال يدل على المتابعة الصحيحة‪ ،‬وال بد أن أولئك من األئمة المضلين‪S،‬‬
‫وسيكون لهم أثر سلبي على من استجابوا له‪ .‬والترغيب في الدعوة إلى اهلل‪ ،‬وعظم أجر الدعوة إلى‬
‫اهلل‪ ،‬وقول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬عسى اهلل أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم) وتصور أن‬
‫الشخص إذا دعا فله من األجر مثل أجور من تبعه‪ ،‬عندما تسلم قبيلة أو قبيلتان فكم من األجر يكون‬
‫لهذا الشخص؟! أال يكفي مثل هذا الكالم‪ ،‬حتى يكون هذا محمساً لنا وباعثاً لنا على االنطالق‬
‫والتحرك والدعوة إلى اهلل عز وجل ونشر الخير بين الناس‪.‬‬

‫بعض الناس قد يتريثون في قبول الحق‪:‬‬


‫وكذلك بعض الناس قد يتريثون في قبول الحق‪ ،‬فال نعدم منهم األمل‪ ،‬فقد يقول لك شخص‪ :‬أريد أن‬
‫أفكر في األمر‪ ،‬أنت تعرض عليه الحق لكنه يقول‪ :‬أفكر‪ ،‬قد أحتاج إلى وقت‪ ،‬ال تقول‪ :‬إما أنك‬
‫تسلم اآلن وإ ال اذهب فإني مخاصمك ومقاطعك إلى يوم الدين‪ ،‬ال‪ ،‬لماذا؟ بعض هؤالء القوم قالوا‪:‬‬
‫فأسلم نصفهم‪ ،‬والنصف الباقي قالوا‪ :‬إذا قدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أسلمنا‪ ،‬ما قال ‪:‬ال‪،‬‬
‫تسلموا اآلن وإ ال ‪ ،..‬فقد يتريث بعض الناس‪ ،‬وقد يكون التريث صحيحاً والتأني طيباً إال في عمل‬
‫اآلخرة‪ ،‬وفي قبول الحق‪ ،‬لكن بعض الناس طريقة تفكيرهم هكذا ما يريد أن يعتنق وال يلتزم وال‬
‫يستقيم بسرعة‪ ،‬لكن اصبر عليه‪.‬‬

‫هداية اهلل عظيمة ‪ ..‬وجواز التفاؤل باألسماء الحسنة‪:‬‬


‫وكذلك أيها اإلخوة‪ :‬فإن هداية اهلل عظيمة‪ ،‬فقد كانت هذه القبيلة قطاع طريق‪ ،‬وكانوا يسرقون‬
‫الحجاج‪ ،‬وهذه من الجرائم العظيمة‪ ،‬ثم هداهم اهلل فأصبحوا من أعوان وأنصار اإلسالم‪ ،‬وكانوا من‬
‫سراق الحجيج‪ ،‬فال تستبعد على أي إنسان مهما كان مغرقاً في المعاصي أن يهديه اهلل عز وجل‪.‬‬
‫وكذلك األسماء الحسنة‪ ،‬تدع المجال لمن أراد أن يتفاءل بالخير‪ ،‬ولذلك قال الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪( :‬غفار غفر اهلل لها) لو كان اسمهم‪( :‬كعب) أو كان اسمهم‪( :‬حرب) أو (كلب) مثل بعض‬
‫القبائل‪ ،‬فهذه األسماء ال تتيح مجاالً للتفاؤل‪ ،‬ولذلك حيث الرسول صلى اهلل عليه وسلم على األسماء‬
‫الحسنة‪ ،‬حتى يتفاءل بها‪.‬‬

‫البد من الدقة والتعمق في البحث عن الحق‪:‬‬


‫وأما بالنسبة لرواية البخاري و مسلم لحديث ابن عباس فإن فيها قول ابن عباس ‪( :‬أال أخبركم‬
‫بإسالم أبي ذر ؟) وهذه من األشياء المهمة جداً‪ ،‬هذه القصص التي حدثت‪ ،‬هذه قصة الدعوة‪ ،‬هذا‬
‫تاريخ‪ ،‬فهذه ليست مسألة سهلة‪ ،‬هذا تاريخ ال بد أن ينقل إلى الناس‪ ،‬وال بد أن يتعلموه‪ ،‬وال بد أن‬
‫يقدم إلى األمة رصيد التجربة لألجيال القادمة‪ ،‬ولذلك اآلن نحن نستفيد من قصة أبي ذر كم مضى‬
‫عليها؟ مضى عليها سنوات طويلة جداً‪ ،‬من الذي قدمها لنا؟ مثل ابن عباس رضي اهلل عنه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫(أال أخبركم بإسالم أبي ذر ؟) فهذا الرصيد ال بد أن يقدم لألجيال حتى تستفيد منه‪ ،‬وهذه القصة‪،‬‬
‫قصة عظيمة‪ ،‬وحياة الدعوات وتاريخ الدعوات مهم ينبغي االهتمام به؛ ألن فيه دروساً وفوائد‪،‬‬
‫والتاريخ يعيد نفسه‪ ،‬واألحداث تتشابه‪ ،‬وللمعتبر أن يعتبر‪ .‬وبعد ذلك ‪-‬أيها اإلخوة‪-‬هذا األسلوب‬
‫اللطيف من ابن عباس رضي اهلل عنه في التعليم‪( :‬أال أخبركم) ماذا في هذا األسلوب؟ إنه تشويق‬
‫للسامعين‪ ،‬أال أخبركم بإسالم‪ ،‬ما قال‪ :‬يا جماعة! أنا عندي محاضرة ألقيها عليكم؟ فينبغي لمعلم‬
‫الناس والداعية إلى اهلل أن يعرف طرق التشويق وشد االنتباه حتى يستقطب األفكار‪ ،‬واألذهان‪،‬‬
‫حتى يستطيع أن يدخل وهي مفتوحة‪ ،‬فالناس يتفاوتون في استقصائهم للحقيقة‪ ،‬فمنهم من يكون‬
‫استقصاؤه سطحياً‪ ،‬ومنهم من يكون استقصاؤه أعمق‪ ،‬وطريقة بحثه أعمق‪ ،‬والطرق التي يتوصل‬
‫بها أعمق‪ ،‬وهذا الفرق واضح بين أنيس وبين أبي ذر ‪ ،‬ولذلك أبو ذر اتبع طريقة وأسلوباً ما أتى‬
‫استقصاء‬
‫ً‬ ‫بها أنيس ‪ ،‬فإذاًَ هذا يعود إلى نتيجة تفاوت األفهام‪ ،‬وأن البحث عن الحق ال بد أن يكون‬
‫عميقاً‪ ،‬وأن االعتناء بالبحث عن الحق نابع من االهتمام بالحق‪ ،‬فبعض الناس يقول‪ :‬أين الحق؟‬
‫هات الدليل؟ أعطني شيئاً؟ فقد أعطيه أي شيء وأي دليل حتى لو لم يكن دليالً حقيقياً وال صحيحاً‪،‬‬
‫فيقتنع به ويمشي‪ ،‬لكن األذكياء الذين هداهم اهلل عز وجل ال يقبلون بأي شيء‪ ،‬وال يقبلون أي‬
‫طريقة وأي فكرة‪ ،‬فال بد من التمحيص‪ ،‬والبحث‪ ،‬والتدقيق‪ ،‬فـأبو ذر جلس فترة طويلة‪ ،‬وجلس‬
‫يدقق‪ ،‬وال يسأل أحداً‪ ،‬و علي بن أبي طالب مع أنه مسلم فكل واحد كان يخفي عن اآلخر‪ ،‬وعلي ال‬
‫يسأله خالل ثالثة أيام‪ ،‬حتى صار فيه نوع من االطمئنان ثم بدأ يتوغل معه ويسأله‪ ،‬فإذاً أوصي كل‬
‫أخ يبحث عن الحق‪ :‬أن يكون دقيقاً في بحثه‪ ،‬عميقاً‪ ،‬وأال يكتفي باألشياء السطحية‪ ،‬أو األشياء التي‬
‫يراها عرضاً أمامه‪ ،‬أو األكثرية‪ ،‬أو الرأي العام‪ ،‬وإ نما يدقق حتى يصل إلى الحقيقة‪ ،‬وهذا سيكون‬
‫من دقة فهمه وهو مأجور على هذا عند اهلل‪ ،‬ألنه ما اتبع أي شيء‪ ،‬بل فحص ومحص األمور ولم‬
‫يقلد الرجال‪ ،‬وإ نما قارن حتى وصل بعلمه الذي اطلع عليه‪ ،‬كالم أهل العلم‪ ،‬قراءة الكتاب والسنة‪،‬‬
‫حتى أيقن أن هذا هو الحق وأن هذا هو الطريق المستقيم‪ ،‬ومن الناس شخصيات جريئة تركب‬
‫المخاطر للوصول إلى الحق‪ ،‬أبو ذر أول ما ضرب ما قال‪ :‬تركت األمر‪ ،‬بل استمر‪ ،‬وضرب‬
‫حتى صار أحمر اللون‪ ،‬ومع ذلك استمر‪ ،‬فالناس شخصيات‪ ،‬ويختلفون في الجراءة‪ ،‬وبعضهم‬
‫يركب األهوال‪ ،‬وهذه فيها الثواب من اهلل عز وجل‪ ،‬حتى يصلوا إلى الحق‪ ،‬واهتمام الصحابة‬
‫بالقادمين إلى مكة يتلقطونهم‪ ،‬فـعلي بن أبي طالب شاهد الرجل قال‪ :‬كأنه غريب‪ ،‬فكان نبيهاً‪،‬‬
‫علي منه اتركه‪ ،‬قد يكون مسافراً‪ ،‬بل ضيفه أول يوم‪ ،‬وثاني يوم‪ ،‬وثالث‬
‫وليس عندما رآه قال‪ :‬ما ّ‬
‫يوم‪ ،‬ثم فاتحه في الموضوع‪.‬‬
‫االطمئنان وسيلة لتحقيق المعاشرة‪:‬‬
‫وكذلك أيها اإلخوة‪ :‬فإن االطمئنان يكون فعالً نتيجة للمعاشرة التي تدل على السلوك الصحيح‪،‬‬
‫والمعاشرة تؤدي إلى االطمئنان‪ ،‬ولما اطمأن أبو ذر لـعلي فاتحه باألمر‪ ،‬و علي رضي اهلل عنه‬
‫كان حريصاً على شخصية الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكان حريصاً على أبي ذر ‪ ،‬ولذلك أشار‬
‫له بهذه اإلشارات الخفية‪ ،‬أو هذه اإلشارات لجأ إليها علي لما كان الجو فيه شدة‪ ،‬وما كانت هذه‬
‫األشياء منهجاً ينتهج دائماً‪ ،‬وإ نما كان شيء يفرضه الواقع‪ ،‬وتفترضه الطبيعة التي كانت موجودة‪،‬‬
‫وهي شدة كفار قريش التي أدت إلى هذه السرية البالغة التي تعامل بها علي بن أبي طالب رضي‬
‫اهلل عنه مع أبي ذر ‪ .‬بقي نقطتان أو ثالثة في قضية الجرأة في الصدع بالحق‪ ،‬وأن ذلك تابع‬
‫للمصلحة‪ ،‬وطلب كتمان الحق؛ ألجل المصلحة‪ ،‬والفعل الحسن من العباس رضي اهلل عنه في‬
‫انتقاء الشيء الذي أقنع به كفار قريش فعالً بأن يكفوا عن أبي ذر ‪ .‬وبعد ذلك أيها اإلخوة فإن تلك‬
‫الشخصية العظيمة‪ ،‬شخصية أبي ذر الغفاري رضي اهلل عنه‪ ،‬الذي تحمل ما تحمل‪ ،‬ألجل الوصول‬
‫إلى الحق‪ ،‬والتعرف على الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ثم تابعه‪ ،‬ثم ذهب داعية إلى قومه واجتهد‬
‫فيهم ثم هاجر إلى المدينة ‪ ،‬وشهد الغزوات‪ ،‬وبعدما توفي الرسول صلى اهلل عليه وسلم ظل ثابتاً‪،‬‬
‫وكان ال يخشى في اهلل لومة الئم حتى تأذى منه بعض المسلمين في صدعه بالحق في عهد عثمان ‪،‬‬
‫وطلبوا منه أن يأتي به إلى المدينة ‪ ،‬ثم بعد ذلك ذهب إلى الربذة ‪ ،‬وتوفي بها رحمه اهلل تعالى‬
‫رحمة واسعة‪ ،‬وجزاه اهلل عن المسلمين كل خير‪ ،‬أقول قولي هذا وأستغفر اهلل لي ولكم‪ ،‬وصلى اهلل‬
‫وسلم على نبينا محمد‪ ،‬سبحانك اهلل وبحمدك‪ ،‬أشهد أن ال إله إال أنت أستغفرك وأتوب إليك‪.‬‬

You might also like