You are on page 1of 21

‫الدِّراسة األكادميية بداية وليست هناية‬

‫بقلم‬

‫أ‪.‬م سامح عبد اهلل عيد القوي‬

‫أستاذ الحديث المساعد بقسم الحديث بكلية أصول الدين بالقاهرة‬

‫استمر النظام التعليمي يف األمة اإلسالمية على منهج واحد‪ ،‬وذلك يف كافة العلوم‬
‫الشرعية واللغوية‪ ،‬ويف عصرنا انتشر التعليم األكاديمي الجامعي‪ ،‬ويكتسب التعليم‬
‫الجامعي اليوم أهمية متزايدة؛ نظرا لتشعب العلوم والمعارف وكثرة التخصصات‪ ،‬وحين‬
‫تجتاح مجتمعا من المجتمعات رياح التقلب واالضطراب‪ ،‬فإن الجامعة تكون من بين أهم‬
‫المؤسسات التي تحافظ على توازن المجتمع وتضمن له نوعا من االستقرار الثقايف‪.‬‬

‫إن الجامعات قد أضحت يف نظر األمم رمزا من رموز السيادة الوطنية‪ ،‬وعنصرا مهما‬
‫من عناصر تكوين الدول‪ ،‬وحدث ما يشبه القطيعة مع نظام التعليم القديم سواء أكان يف‬
‫األزهر الشريف‪ ،‬أم يف الزيتونة وغيرهما‪ ،‬وكان من المفرتض أن تزيد على القديم وتطوره‪،‬‬
‫وكثيرا ما يقرر العالمة الدكتور محمد حسن هيتو ‪-‬حفظه اهلل تعالى‪ -‬هذه القطيعة ويبين‬
‫عوارها يف محاضراته وكتبه فيقول‪ « :‬كانت الجامعات اإلسالمية وغيرها من مواطن‬
‫التدريس هتتم هبذه العلوم وتوليها العناية البالغة؛ ألن فهم الدين متوقف عليها‪ ،‬إذ تعبدنا اهلل‬
‫بفهم كتابه وسنة نبيه بناء على قوانين وقواعد لغة العرب التي أنزل هبا القرآن الكريم‪،‬‬
‫وبأساليبها نطق نبينا العظيم‪ ،‬عليه أفضل الصالة والسالم ‪.‬فمن لم يعرف لغة العرب ال‬
‫يعرف الدين‪ ،‬ومن لم يفهمها ويتذوقها يف قواعدها لن يفهم ولن يتذوق القرآن والسنة حتى‬
‫يلج الجمل يف سم الخياط‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫وقد حدثنا أشياخنا عن طريقة التدريس يف األزهر‪ ،‬أن الطالب كان ال يدخله إال وهو‬
‫حافظ للقرآن يف الكتاتيب (‪ ،)1‬فإذا دخله قرأ يف السنة األولى من كتب النحو اآلجرومية بأربعة‬
‫شروح لها‪ .‬ويف السنة الثانية يقرأ قطر الندى ‪ ،‬ويف السنة الثالثة يقرأ شذور الذهب‪ ،‬ويف السنة‬
‫الرابعة يقرأ شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ويحفظها كما يحفظ الفاتحة‪.‬‬

‫ويف السنة الخامسة والسادسة يقرأ شرح األشموين على األلفية ‪.‬‬

‫فإذا نجح يف هذا‪ ،‬وانتهى منه شرع يف السنة السابعة والثامنة بدراسة المطول على‬
‫السعد يف البالغة‪ .‬وهكذا كان يدرس ويتدرج يف الكتب يف شتى العلوم ‪.‬‬

‫وهذا يعني أن الطالب الذي قرأ هذه السلسلة المتتابعة‪ ،‬من اآلجرومية إلى األشموين‬
‫ـ ال شك يف أنه قد درس من قواعد لغة العرب ما يجعله يف مصاف األئمة الكبار فيها‪ ،‬وال‬
‫سيما أنه كان يتلقى هذه العلوم يف الصغر يف دراسته االبتدائية والثانوية ‪.‬‬

‫ولذلك فقد وجدت يف جيل األساتذة األزهريين الذين أدركوا تلك المرحلة األزهرية‬
‫من أساتذيت ـ وجدت فيهم أئمة يف اللغة ‪.‬‬

‫(‪ )1‬نرى يف ســـاحتنا هجوما شـــرســـا على الكتاتيب التي أخرجت أعالم األزهر وشـــيوخه‪ ،‬وهذه من‬
‫القضـــايا المثيرة للجدل والمســـتغربة يف ســـاحتنا اليوم أحلت كل مشـــاكلنا ولم تبقى إال مشـــكلة حفظ‬
‫األطفال الصــــغار للقرآن الكريم يف الكتاتيب َّ إن قضــــية الحفظ عن ظهر قلب اليوم توجه إليها ســــهام‬
‫ناقدة ‪ ،‬ويلقى باللوم على األســاتذة ‪ ،‬وهناا اتجاهات عالمية عديدة يف هذه المســألة فهناا اتجاه يزهد‬
‫يف أســــلوب الحفظ والتلقين إلى أبعد الحدود كما هو الشــــأن يف الواليات المتحدة األمريكية ‪ ،‬واتجاه‬
‫يعول على الحفظ والفهم يف ضــــوء اســــرتاتيجات تعليمية كما هو الشــــأن يف التعليم الياباين ‪ ،‬ونرى أن‬
‫الطريقة اليابانية أجدى وأنفع خاصـة بالنسـبة لعلومنا فعلومنا عمادها الحفظ أول فالما البشـري يحتاج‬
‫إلى معلومات ومعطيات يعمل عليها ‪ ،‬ويســــتخله منها شــــيًا جديدا نافعا ‪ ،‬ثم يأيت الفهم والتحليل‬
‫واالســتنتاج واالســتنباط والناظرإلى إنتاجات الحضــارة اإلســالمية يف العلوم الحياتية والدينية يرى هذا‬
‫ماثال أمام عينيه ‪ ،‬فالرتكيز على الحفظ بال فهم وتحليل وحده يجلب أضــــرارا كثيرة ‪ ،‬فاالعتماد على‬
‫المزواجة بين الحفظ بقدر ما مع الكثير من الفهم والتحليل يمكن المتعلم من امتالا الملكات العلمية‬
‫‪ ،‬ويتمكن أيضا من فهم أدق للواقع المعاصر ‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫وهكذا كان يدرس الفقه‪ ،‬فكان الطالب يدرس أوال حاشية الباجوري على ابن قاسم يف‬
‫الفقه الشافعي‪ ،‬ثم يدرس حاشية الشرقاوي على التحرير‪ ،‬ثم يدرس المنهج وشرحه لشيا‬
‫اإلسالم زكريا األنصاري‪ ،‬ثم يدرس المنهاج لإلمام النووي بشرح اإلمام جالل الدين‬
‫المحلي الذي يعترب الذروة يف الدقة واإلتقان واإلحكام يف الفقه ‪.‬‬

‫وهذا كله يف الدراسة االبتدائية والثانوية‪ ،‬فإذا ارتقى إلى الدراسة العالية‪ ،‬بدأ بدراسة‬
‫الفقه الخاليف واألدلة ومناقشتها؛ ولذلك كان يصل الطالب إلى الدراسة العالية بعد الثانوية‬
‫وهو إمام يف المذهب‪ ،‬ال يقل عن كبار أئمته المربزين فيه ‪.‬‬

‫ولقد درست الفقه على عدد من األساتذة الذين كانوا يملون علينا منهاج النووي مع‬
‫شرح المحلي إمالء عن ظهر قلب وهو يقع يف أربعة مجلدات‪ ،‬مع التمكن التام يف كل العلوم‬
‫على ما ذكرت من النحو والفقه ‪ .‬فأين نحن وأساتذة اليوم من هذا ‪....‬؟ » (‪.)2‬‬

‫وهذا رئيس مجمع اللغة العربية العالمة األستاذ الدكتور حسن الشافعي ‪-‬حفظه اهلل‪-‬‬
‫يقول‪ « :‬ما احتجت إلى مزيد يف العربية وعلومها بعد الثانوية األزهرية » ‪.‬‬

‫فالنظام األكاديمي يف الجامعات إال القليل منها عبارة عن مفتاح كما علمنا هذا كرام‬
‫أشياخنا‪ ،‬فالباحث الذي ال يكمل المسيرة بعد مرحلة الليسانس‪ ،‬بل أقول مرحلة الدكتوراه‬
‫لن يفلح إذا لم يأخذ العلم صناعة ومنهجا كالطعام والشراب‪.‬‬

‫ويقول الدكتور الطناحي ‪ «:‬أصل الداء عند سبب واحد‪ :‬ماذا يتلقى طالب العربية اآلن‬
‫يف كليات اللغة العربية وأقسامها بالجامعات؟ أمشاج من قواعد النحو والصرف‪ ،‬مطروحة‬
‫يف مذكرات يمليها األساتذة إمالء‪ ،‬أو يطبعوهنا طبعات مبتسرة‪ ،‬تنقه عاما وتزيد عاما‪،‬‬
‫واختفى الكتاب القديم لتحل محله هذه المذكرات ‪ ،‬ودفع الطالب دفعا إلى الملل من قراءة‬
‫الكتب ‪ -‬والملل من كواذب األخالق‪ ،‬كما قال عمرو بن العاص‪ ،‬رضي اهلل عنه ‪ -‬وال بد‬

‫(‪ )2‬ينظر‪« :‬المتفيهقون» للدكتور محمد حسن هيتو (ص‪ 93 :‬وما بعدها)‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫لصالح الحال من أن تكوى هذه القروح الممدة ‪ ،‬وأن يستأصل هذا الداء الخبيث من‬
‫قاعات الدرس الجامعي‪.‬‬

‫عودوا أيها السادة إلى المتون‪ ،‬عودوا إلى اآلجرومية‪ ،‬وترقوا منها إلى ابن عقيل‪ ،‬وهو‬
‫كتاب سهل رهو‪ ،‬علم أجياال‪ ،‬وأقام ألسنة‪ ،‬وال تحتجوا علينا بالتيسير على الطالب‪ ،‬ففي‬
‫تراثنا النحوي كتب ذوات عدد‪ ،‬وضعت للناشًة والمبتدئين »(‪.)9‬‬

‫وال زلت أذكر أحد الباحثين وهو حاصل على درجة «الماجستير» يف علم العلل‪ ،‬فلما‬
‫عقد له امتحان بأحد الجهات البحثية لم يستطع تحرير مفهوم العلة‪ ،‬واسرتجعت حينها‪،‬‬
‫وظلت فكرة التكوين المنهجي للطالب يف عقلي ال تفارقني قيد أنملة ‪.‬‬

‫فيوجد يف النظام الجامعي المعاصر ما يصح أن يقال عليه ظاهرة (التشظي الثقايف)‪ ،‬فما‬
‫يهضم الطالب ما يتعلمه ويدرسه هضما جيدا‪ ،‬وإنما تظل قواعده ورسومه باهتة كاألشباح‬
‫يف مخيلته‪ ،‬وما ذلك إال لغياب األسس والمنهجيات والمكونات للباحث‪.‬‬

‫إشكاالت المضمون المدرس‪:‬‬

‫وهي إشكاالت كثيرة مختلفة‪ ،‬ويمكن إجمالها فيما يلي‪:‬‬

‫المناهج‪:‬‬

‫والمقصود كثرة انشغال األساتذة والطالب بدارسة المنهج الشكلي للعلم أو ما يسمى‬
‫بالمظهر‪ ،‬والبعد عن جانب المضمون العلمي والتصورات النقدية‪ ،‬فمثال يعتني األستاذ يف‬
‫الدرس الحديثي المعاصر ببيان التعريفات الواردة يف علم المصطلح وتقسيماته‪ ،‬ولكن ما‬
‫طبق أي مصطلح منها على كتب الرواية كالصحيحين مثال أو السنن األربعة‪ ،‬فمثال قضية‬
‫الحديث المنكر وتعريفاته عند المتأخرين من علماء الحديث وعلى رأسهم الحافظ ابن‬

‫(‪ )3‬ـ ينظر ‪ :‬املوجز يف مراجع الرتاجم والبلدان ‪ ،‬د حممود الطناحي (‪.)71‬‬

‫‪4‬‬
‫حجر‪ ،‬وهو فارس الصنعة والمقدم فيها وإمامها وفخر الديار المصرية وفخر األزهر‬
‫الشريف عرف الحديث المنكر ببعض مشتمالته أو ما يسمى يف علم المنطق التعريف‬
‫بالرسم فقال‪ :‬المنكر هو‪ :‬ما خالف فيه الضعيف الثقة(‪.)4‬‬

‫فإذا اقتصر المدرس على هذا أعني التعريف فقط‪ ،‬ولم يربط التعريف الذي سبق‬
‫بتطبيقاته عند المتقدمين‪ ،‬وعلى رأسهم أئمة الصناعة من سفيان الثوري وشعبة وابن القطان‬
‫وابن المديني وابن معين ‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪ ،‬والبخاري ‪ ،‬ومسلم‪ ،‬وأبو حاتم‪ ،‬وأبو زرعة‬
‫وغيرهم من أئمة النقد أحدث عند المتلقي إشكالية يف تطبيق المصطلح‪ ،‬مما يؤثر سلبا على‬
‫مسيرة الطالب العلمية‪.‬‬

‫ضمور الجانب التطبيقي(‪:)5‬‬

‫فالربامج يف الدراسة الجامعية تعاين من ضعف شديد يف الجانب التطبيقي‪ ،‬وال زلت‬
‫أذكر أنني وأنا يف بداية الطلب إذا وقفت أمام حديث به علة كاختالف الوصل واإلرسال أو‬
‫الرفع والوقف أحتار يف أمري وأحسن ما أصنع آنذاا أن أتجاهل العلة واالختالف أو أنقل‬
‫أقواال عن األئمة ال أعرف كيف أوجهها ؛ ألنني ال أعرف كيف أصنع يف التخريج على‬
‫الخالف‪ ،‬وكيف أحدد المدار‪ ،‬وال أستطيع التخريج على المتابعات للوجوه فضال عن‬
‫الرتجيح بين الوجوه‪ ،‬واستحضار القرائن المرجحة فضال عن الحكم على الحديث من‬
‫وجهه الراجح‪ ،‬فيجب على الجامعات الشرعية العناية بالجانب التطبيقي‪ ،‬وإال خرج‬
‫الطالب كما دخل‪ ،‬وقد يخرج بمغالطات عن العلم وعن المصطلح فيؤثر على مسيرته‬

‫(‪ )4‬ينظر‪ :‬نزهة النظر ص‪.17:‬‬


‫(‪ )5‬التطبيق ‪ :‬هو إخضاع املسائل والقضايا لقاعدة علمية أو قانونية أو نحوها‪ ،‬وحاصل معناه أنه ‪ :‬تنزيل الكليات‬
‫الذهنية عىل الوقائع اجلزئية ‪ ،‬فالتطبيق عمل يقوم به الباحث منزال فيه القواعد النظرية عىل التطبيقات‬
‫واملامرسات العملية اجلزئية لذا يقول ابن رجب احلنبيل‪ « :‬وال بد يف هذا العلم من طول املامرسة وكثرة املذاكرة»‬
‫ويعني هبا التطبيق العميل للقواعد النظرية ‪ .‬ينظر ‪« :‬رشح علل الرتمذي» البن رجب (‪ ، )464/7‬و«املعجم‬
‫الوسيط» (‪. )555/7‬‬

‫‪5‬‬
‫العلمية والبحثية‪.‬‬

‫االنقطاع عن الكتب‪:‬‬

‫فاالقتصار على المذكرات الدراسية دون العودة إلى المصادر األصيلة يف التخصه‬
‫الحديثي يسبب انقطاعا عن الرتاث‪ ،‬فيتخرج الطالب وال يستطيع التعامل مع الرتاث‬
‫الحديثي فضال عن غيره‪ ،‬وكم يسعد الطالب بأستاذ يسهل له الولوج إلى عالم الرتاث‪ ،‬فكما‬
‫قال الشاطبي يف الموافقات‪« :‬قد قالوا‪ :‬إن العلم كان يف صدور الرجال‪ ،‬ثم انتقل إلى الكتب‪،‬‬
‫وصارت مفاتحه بأيدي الرجال» وهذا الكالم يقضي بأن ال بد يف تحصيله من الرجال؛ إذ‬
‫ليس وراء هاتين المرتبتين مرمى عندهم‪ ،‬وأصل هذا يف الصحيح‪« :‬إن اهلل ال يقبض العلم‬
‫انتزاعا ينتزعه من الناس‪ ،‬ولكن يقبضه بقبض العلماء»(‪...)6‬الحديث‪ ،‬فإذا كان كذلك؛‬
‫فالرجال هم مفاتحه بال شك‪.‬‬

‫فإذا تقرر هذا؛ فال يؤخذ إال ممن تحقق به‪ ،‬وهذا أيضا واضح يف نفسه‪ ،‬وهو أيضا متفق‬
‫عليه بين العقالء؛ إذ من شروطهم يف العالم بأي علم اتفق؛ أن يكون عارفا بأصوله وما ينبني‬
‫عليه ذلك العلم‪ ،‬قادرا على التعبير عن مقصوده فيه‪ ،‬عارفا بما يلزم عنه‪ ،‬قائما على دفع‬
‫الشبه الواردة عليه فيه‪ ،‬فإذا نظرنا إلى ما اشرتطوه‪ ،‬وعرضنا أئمة السلف الصالح يف العلوم‬
‫الشرعية؛ وجدناهم قد اتصفوا هبا على الكمال»(‪.)7‬‬

‫فقد يدرس الطالب يف أقسام الحديث الليسانس والماجستير والدكتوراه‪ ،‬وما قرأ‬
‫صحيح البخاري بل أقول كتابا كامال من الصحيح‪ ،‬وأيضا يف علم المصطلح قد يمكث‬
‫الطالب العمر وما أتم كتابا كتدريب الراوي لإلمام السيوطي‪ ،‬فأي هنضة حديثية ترتجى‪،‬‬

‫(‪ )6‬أخر جه الب خاري يف «صــــحي حه»‪ ،‬ك تاب الع ْلم‪ -‬باب‪ :‬ك ْيف ي ْقبض الع ْلم (‪ 91/1‬رقم ‪،)111‬‬
‫ومســــلم يف صــــحيحه‪ ،‬كتاب ا ْلع ْلم‪ -‬باب ر ْفع ا ْلع ْلم وق ْبضــــه وظهور ا ْلج ْهل وا ْلفتن في آخر الز مان‬
‫(‪ ،)19()2679‬كالهما من حديث عبد اهلل بن عمر بن العاص رضى اهلل عنهما‪.‬‬
‫(‪ )7‬ينظر‪« :‬الموافقات» للشاطبي (‪.)141/1‬‬

‫‪6‬‬
‫والطالب يخرج وما استوعب الكتب األصيلة يف التخصهََّّ‬

‫إشكاالت أساليب التدريس‪:‬‬

‫‪ -‬غياب التدرج العلمي‪ :‬وهذا شيء مشاهد يف الجامعات فينتقل الطالب انتقاال سريعا‬
‫من مبادئ العلم إلى غاياته‪ ،‬مع التقصير الشديد يف إتقان تلك المبادئ‪ ،‬وهنالك أسباب‬
‫كثيرة وراء هذا الخلل منها‪ :‬كثرة المواد التي تدرس للطالب يف السنة الدراسة تبلغ يف بعض‬
‫الجامعات عشرين مادة‪ ،‬وهذا مما يؤثر على إتقان الجانب الحديثي (‪ )8‬فضال عن غيره‪،‬‬
‫فيخرج الطالب وقد عرف نتفا من المعرفة‪ ،‬دون التمكن من أصولها؛ ويؤدي ذلك إلى‬
‫الشعور الوهمي بإتقان العلم والتخصه فيه‪ ،‬والحال بخالف ذلك يف الغالب‪.‬‬

‫إن طبيعة هذه المناهج الدراسية التي تركز على المقاصد الكلية للعلم قبل التمكن من‬
‫أدواته‪ ،‬تؤدي بالطالب إلى نوع من التكرب واالستعالء‪ ،‬وجراءة شديدة على خوض كبير‬
‫العلم قبل صغاره‪.‬‬

‫بل إن غالب العلماء من السابقين يرسمون لنا منهجا تربويا تدريجيا ‪ ،‬يقول تاج الدين‬
‫السبكي (ت‪771‬هـ)‪« :‬حق عليه –أي المدرس‪ -‬أن يحسن إلقاء الدرس وتفهيمه‬
‫للحاضرين ‪ ،‬ثم إن كانوا مبتدئين فال يلقي عليهم ما ال يناسبهم من المشكالت ‪ ،‬بل يدرهبم‬
‫ويأخذهم باألهون فاألهون إلى أن ينتهوا إلى درجة التحقيق ‪ ،‬وإن كانوا منتهين فال يلقي‬
‫عليهم الواضحات ‪ ،‬بل يدخل هبم يف المشكالت الفقه»(‪.)3‬‬

‫(‪ )8‬تعتمد كليات أصــــول الدين يف جامعة األزهر على مراعاة التدرج العلمي‪ .‬ففي بداية المرحلة‬
‫الجامعية يدرس الطالب بعض المواد المؤســـســـة‪ ،‬ويف التخصـــه يدرس العلم بكثافة مع ضـــمور يف‬
‫الجانب التطبيقي‪ ،‬وما ننشـــده يف أقســـام الحديث وغيرها يف كليات أصـــول الدين على مســـتوى العالم‬
‫اإلسالمي‪ ،‬والكليات التي تعنى بالدراسات الحديثية‪ ،‬ولقد شرعت كليات أصول الدين يف معالجة هذا‬
‫الخلل فأصــبح الطالب ملزما بدراســة التخريج العملي ودراســة األســانيد طوال العام‪ ،‬وهذا جيد جدا‬
‫ولكننا نأمل يف المزيد‪.‬‬
‫(‪ )3‬ينظر‪ :‬معيد النعم ومبيد النقم (ص‪ ، )89 :‬و مقاالت الدكتور الطناحي ص‪.51 :‬‬

‫‪7‬‬
‫الشروع يف الكتب دون ختمها‪:‬‬

‫إن االلتزام بالربامج ومددها الزمنية‪ ،‬يؤدي يف كثير من األحيان إلى عدم ختم الكتب‬
‫والمتون المقررة‪ ،‬وهذا قصور شديد (‪.)11‬‬

‫إن المطلع على واقع تدريس العلوم الشرعية عموما‪ ،‬وعلم الحديث منها خصوصا‪،‬‬
‫وبنظرة يف مخرجات الجامعات والمعاهد الشرعية يلحظ تدنيا كبيرا يف مختلف‬
‫المستويات‪ ،‬وخاصة على مستوى المراقي العقلية‪ ،‬والمنازل العليا للدماغ التي تجعل‬
‫الطالب يتصرف يف العلم نظرا‪ ،‬ونقدا‪ ،‬واستدراكا‪ ،‬وتجديدا وإبداعا واجتهادا؛ إذ إن‬
‫المقصد األساس من تحصيل قواعد هذا العلم‪ ،‬ودراسة مناهج أربابه‪ ،‬ال يقتصر على‬
‫المستويات الدنيا؛ أقصد أن يتخرج الطالب حماال ووعاء يستظهر مًات النصوص‪ ،‬دون‬
‫التمهر يف أي واحد منها؛ إذ إن الغاية العظمى من دراسة علوم الحديث‪ ،‬هو أن يصير هيًة‬
‫راسخة يف نفس الطالب‪ ،‬توجه نظره‪ ،‬وتؤثر يف نمط تفكيره‪ ،‬وبمعنى أدق حصول الملكة‪،‬‬
‫أعني أن يعيد الطالب صوغ عقله صياغة حديثية‪ ،‬وأن تلمس ثمار هذه الملكة ليس على‬
‫مستوى العلم الذي يبحث فيه فقط‪ ،‬بل يتعداه إلى أن يصير وظيفيا يف حياته‪ ،‬فال يصدر‬
‫حكما إال بعد التثبت من صحته‪ ،‬وال يتسرع يف إطالق األحكام إال بعد اإلحاطة بظروفها‬
‫ومالبساهتا وسياقاهتا إلى غير ذلك من الوظائف التي تثمرها هذه الملكة‪.‬‬

‫(‪ )11‬ومن العجائب أنني انتدبت يف إحدى الكليات لتدريس المصــــطلح هبا وكان المزمع تقريره هو‬
‫الحديث الضعيف‪ ،‬ومن عاديت أن أخترب طالبي يف مناهج األعوام السابقة‪ ،‬فسألتهم مختربا عن الحديث‬
‫الحســن وحده‪ ،‬فما أجاب طالب‪ ،‬فعجبت من إطباق جميع الطالب على عدم اإلجابة‪ ،‬ولكن إذا عرف‬
‫الســبب بطل العجب كما يقال‪ ،‬فوجًت وكانت صــدمة أن المدرس ألغى لهم الحديث الحســن وحذفه‬
‫من مقرر الدراســــة؛ ألن المقرر يف الفرقة األولى كانت مباحث الحديث الصــــحيح‪ ،‬ومباحث الحديث‬
‫الحســن‪ ،‬وحذف المدرس مبحث الحســن‪ ،‬ونجح الطالب وذهبوا إلى الفرقة الثانية ليدرســوا مباحث‬
‫الحديث الضــــعيف‪ ،‬فالنتيجة مما أقوله أن يخرج الطالب من الكلية وما يعرف شــــيًا عن الحديث‬
‫الحسن؛ ألنه حذف من المقرر‪ ،‬وإلى اهلل المشتكىََّّ‬

‫‪8‬‬
‫إن الناظر يف أسباب قصور الملكة الحديثية لدى خريجي الجامعات والمعاهد الشرعية‪،‬‬
‫يلحظ أن هذا التدين يرجع يف شق كبير منه إلى قصور‪ ،‬إن لم نقل إلى غياب منهج تربوي‬
‫واضح األسس والمعالم يف تدريس هذا العلم‪ .‬نعم؛ ال ننكر مدى فتور همة الطالب‪،‬‬
‫وتكاسله وتقاعسه عن البحث والتحصيل ومداومة النظر يف مصنفات أئمة هذا الفن‪ ،‬ولكن‬
‫من المسلم به‪ ،‬المعلوم ثبوته بداللة الحس والتجربة‪ ،‬أن الطالب متى ما أسعفته مناهج‬
‫التدريس يف تقريب العلم‪ ،‬وجعله سهل المنال بين يديه‪ ،‬قادرا على تصور مسائله‪ ،‬يستطيع‬
‫أن ينزل قواعده‪ ،‬ال شك أنه يقبل بحب وهنم على هذا العلم‪ .‬فمن خالل التجربة الجامعية‬
‫– وهي جزء منا‪ ،‬ال نستطيع استبعادها وجدنا معظم من يشتكي صعوبة هذا الفن‪ ،‬وضعف‬
‫همته يف اإلقبال عليه‪ ،‬يرجع ذلك إلى الطرق التي تدرس هبا وحدات علوم الحديث‪ ،‬والذي‬
‫أكد هذه النتيجة‪ ،‬هو أن معظم توصياهتم‪ ،‬انصبت على ضرورة اعتماد قواعد فن التدريس‬
‫وتنويع طرقه‪ ،‬يف تدريس وحدات هذا العلم وخاصة يف النصف الثاين من القرن السابق فقد‬
‫عادت مظاهر االهتمام بتدريس هذا العلم‪ ،‬فأنشًت كليات تدرس علوم السنة وعلوم القرآن‬
‫وعلوم العقيدة‪ ،‬وعرفت باسم كليات أصول الدين منذ ثالثينات القرن العشرين‪ ،‬وافتتحت‬
‫يف مرحلة الدراسات العليا تخصصات يف كل علم من العلوم المذكورة‪ ،‬وتخرج منها أناس‬
‫حملوا شهادات عالية يف السنة وع لومها‪ ،‬وقاموا بتدريسها للطلبة يف الكليات الشرعية بعد‬
‫أن كان يقوم بذلك أي متخصه يف علوم الشريعة عمومًا‪ ،‬واعترب هذا العلم علما ضروريا‪،‬‬
‫ومتطلبا رئيسا لكل طالب جامعي يف الدراسات اإلسالمية‪ ،‬ينبغي أن يكون فيه متخصصون‬
‫يتابعون مسير ة السابقين ويبنون عليها‪ ،‬وكان من نتائج هذا االهتمام بروز أعالم ارتبطت‬
‫أسماؤهم بجهودهم يف خدمة علوم السنة تدريسا وتصنيفا ‪.‬‬

‫وبالرغم من هذه الجهود المشكورة يف إعادة إحياء هذا العلم‪ ،‬إال أنه ظهرت مشكالت‬
‫يف تدريسه‪ ،‬فإن كثيرا من الطلبة لم يفهموه‪ ،‬ولم يدركوا أهميته بالنسبة للعلوم األخرى‬
‫فدرسوه للنجاح فقط‪ ،‬وأهمل ونسي بعد ذلك‪ ،‬وشكا الطلبة من صعوبة هذا العلم‪ ،‬وعدم‬

‫‪9‬‬
‫تمكنهم من استيعابه‪ ،‬واختلطت عليهم مفاهيمه وموضوعاته‪ ،‬وتناقل الطلبة هذه‬
‫المشكالت‪ ،‬وورثوا ألخالفهم أن الن جاح يف هذا العلم يعتمد على حفظ المصطلحات ال‬
‫على الفهم واالستنباط‪.‬‬

‫ومن المشكالت التي رافقت إحياء هذا العلم أيضا ظهور فوضى يف تصحيح األحاديث‬
‫وردها‪ ،‬واقتحام باب االجتهاد يف الحكم على األحاديث من قبل من ال أهلية له من‬
‫المصنفين والمؤلفين الذين أعادوا دراسة ما اتفق السابقون على قبوله أو رده‪ ،‬فصححوا‬
‫بعض ما رده األئمة األولون‪ ،‬وردوا بعض ما قبلوه‪ ،‬وولج هذا الميدان من لم يقرأ سوى‬
‫كتاب واحد‪ ،‬أو بضعة كتب؛ ولم يفهم مرادها‪ ،‬ولم يدرا مراميها‪ ،‬وغابت عنه دقائق هذا‬
‫العلم وتحقيقات العلماء وتمحيصاهتم‪ ،‬فأصبح قراء هذه المصنفات يف ضياع وحيرة بسبب‬
‫هذه الفوضى‪.‬‬

‫وينبغي أن نعلم أن الشكوى من جدية هذا العلم وصعوبته‪ ،‬وقلة من يتأهل له‪ ،‬وانشغال‬
‫الطلبة بقشوره وظواهره دون الغوص يف أعماقه ليست جديدة وليدة هذا العصر‪ ،‬بل قديمة‬
‫جدا ‪ ،‬فإننا نقرأ يف مقدمة كتاب علوم الحديث البن الصالح المتوىف ‪649‬هـ كالما يشهد‬
‫لذلك قال‪« :‬إن علم الحديث من أفضل العلوم الفاضلة‪ ،‬وأنفع الفنون النافعة‪ ،‬يحبه ذكور‬
‫الرجال وفحولتهم‪ ،‬ويعنى به محققو العلماء وكملتهم وال يكرهه من الناس إال رذالتهم‬
‫وسفلتهم‪ .‬وهو من أكثر العلوم تولجا يف فنوهنا‪ ،‬ال سيما الفقه الذي هو إنسان عيوهنا‪،‬‬
‫ولذلك كثر غلط العاطلين منه من مصنفي الفقهاء‪ ،‬وظهر الخلل يف كالم المخلين به من‬
‫العلماء‪.‬‬

‫ولقد كان شأن الحديث فيما مضى عظيما‪ ،‬عظيمة جموع طلبته‪ ،‬رفيعة مقادير حفاظه‬
‫وحملته‪ ،‬وكان علومه بحياهتم حية‪ ،‬وأفنان فنونه ببقائهم غضة‪ ،‬ومغانيه بأهله آهلة‪ ،‬فلم‬
‫يزالوا يف انقراض ولم يزل يف اندراس‪ ،‬حتى آضت به الحال إلى أن صار أهله إنما هم شرذمة‬
‫قليلة العدد‪ ،‬ضعيفة العدد‪ ،‬ال تعنى على األغلب يف تحمله بأكثر من سماعه غ ْفال‪ ،‬وال تتعنى‬

‫‪11‬‬
‫يف تقييده بأكثر من كتابته ع ْطال‪ ،‬مطرحين علومه التي هبا جل قدره‪ ،‬مباعدين معارفه التي هبا‬
‫فخم أمره» (‪.)11‬‬

‫ويف القرن الذي يليه شكا اإلمام الذهبي ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬المتوىف سنة ‪748‬هـ من كسل طلبة‬
‫الحديث‪ ،‬وعدم بذلهم الجهد الالزم للتأهل يف هذا العلم‪ ،‬كما شكا من تجرؤ غير المتأهلين‬
‫له على ولوج ميادينه وأبوابه‪ ،‬فقال يف كتابه القيم «تذكرة الحفاظ» ينصح طلبة الحديث‪:‬‬
‫«‪ ....‬وال سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقلة األخبار ويجرحهم جهبذا إال بإدمان‬
‫الطلب‪ ،‬والفحه عن هذا الشأن‪ ،‬وكثرة المذاكرة والسهر‪ ،‬والتيقظ‪ ،‬والفهم مع التقوى‪،‬‬
‫والدين المتين‪ ،‬واإلنصاف‪ ،‬والرتدد إلى مجالس العلماء‪ ،‬والتحري واإلتقان‪ ،‬وإال تفعل‪:‬‬

‫ولو سودت وجهك بالمداد‬ ‫فدع عنك الكتابة لست منها‬


‫ْ‬

‫اسألوا أ ْهل الذ ْكر إ ْن كنْت ْم ال ت ْعلمون) (‪ ،)12‬فإن آنست يا هذا من‬
‫قال اهلل عز وجل‪( :‬ف ْ‬
‫نفسك فهما‪ ،‬وصدقا‪ ،‬ودينا‪ ،‬وورعا‪ ،‬وإال فال تتعن‪ ،‬وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي‬
‫ولمذهب فباهلل ال تتعب‪ ،‬وإن عرفت أنك مخلط مخبط م ْهمل لحدود اهلل فأرحنا منك‪ ،‬فبعد‬
‫قليل ينكشف الب ْهرج‪ ،‬وينْكب الزغل‪ ،‬وال يحيق المكر السيئ إال بأهله‪ ،‬فقد نصحتك‪ .‬فعلم‬
‫الحديث صلف‪ ،‬فأين علم الحديث؟ وأين أهله؟ كدت أن ال أراهم إال يف كتاب أو تحت‬
‫تراب» (‪.)19‬‬

‫وقال يف موضع آخر يتأسف على ما آل إليه أمر هذا العلم ‪:‬‬

‫«فلقد تفانى أصحاب الحديث وتالشوا‪ ،‬وتبدل الناس بطلبة يهزأ هبا أعداء الحديث‬

‫(‪ )11‬ينظر‪ :‬مقدمة ابن الصالح (ص‪. )6-5‬‬


‫(‪[ )12‬سورة النحل ‪. ]49 :‬‬
‫(‪ )19‬ينظر‪« :‬تذكرة الحفاظ» للذهبي (‪. )11/1‬‬

‫‪11‬‬
‫والسنة‪ ،‬ويسخرون منهم» (‪.)14‬‬

‫وشكا أيضا ‪ -‬مما نشكو منه نحن اليوم ‪ -‬من تطاول البعض على أئمة المحدثين‬
‫وجهابذهتم‪ ،‬وتنقصه منهم فقال ‪ ...« :‬فباهلل عليك يا شيا‪ ،‬ارفق بنفسك‪ ،‬والزم اإلنصاف‪،‬‬
‫وال تنظر إلى هؤالء الحفاظ النظر الش ْزر‪ ،‬وال ت ْرمقنهم بعين النقه‪ ،‬وال تعتقد فيهم أهنم‬
‫من جنس محدثي زماننا‪ ،‬حاشا وكالََّّ فما فيمن سميت أحد وهلل الحمد إال وهو بصير‬
‫بالدين‪ ،‬عالم بسبيل النجاة‪ ،‬وليس يف كبار محدثي زماننا أحد يبلغ رتبة أولًك يف المعرفة‪،‬‬
‫فإين أحسبك لفرط هواا تقول بلسان الحال إن أعوزا المقال‪ :‬م ْن أحمد؟ وما ابن‬
‫المديني؟ وأي شيء أبو زرعة وأبو داود؟ هؤالء محدثون وال يدرون ما الفقه وما أصوله؟‬
‫وال يفقهون الرأي‪ ،‬وال علم لهم بالبيان والمعاين والدقائق‪ ،‬وال خربة لهم بالربهان‬
‫والمنطق‪ ،‬وال يعرفون اهلل بالدليل‪ ،‬وال هم من فقهاء الملة‪.‬‬

‫اسكت بحلم‪ ،‬أو انطق بعلم‪ ،‬فالعلم النافع هو ما جاء عن أمثال هؤالء‪ ،‬ولكن نسبتك‬
‫إلى أئمة الفقه كنسبة م حدثي عصرنا إلى أئمة الحديث‪ .‬فال نحن وال أنت‪ ،‬وإنما يعرف‬
‫الفضل ألهل الفضل ذو الفضل‪ ،‬فمن اتقى اهلل راقب اهلل واعرتف بنقصه‪ .‬ومن تكلم بالجاه‬
‫فأعرض عنه‪ ،‬وذره يف غيه‪ ،‬فعقباه إلى وبال‪ .‬نسأل اهلل العفو‬
‫ْ‬ ‫وبالجهل أو بالشر والبأو‬
‫والسالمة» (‪.)15‬‬

‫وقال يف السير ‪« :‬فقد عم البالء‪ ،‬وشملت الغفلة‪ ،‬ودخل الدخل على المحدثين الذين‬
‫يركن إليهم المسلمون‪ ،‬فال عتب على الفقهاء وأهل الكالم» (‪.)16‬‬

‫وإذا قلنا إن علم الحديث صعب بطبيعته‪ ،‬يتطلب مستوى معينا من الفهم؛ فإننا ال ندعو‬
‫بذلك إلى االستكانة لهذه الصعوبة‪ ،‬وعدم البحث والتنقيب عن طرق ووسائل تيسر فهمه‪،‬‬

‫(‪ )14‬ينظر‪« :‬تذكرة الحفاظ» للذهبي ( ‪. )86/2‬‬


‫(‪ )15‬ينظر‪ :‬المصدر السابق ( ‪. )151/2‬‬
‫(‪ )16‬ينظر‪« :‬سير أعالم النبالء» للذهبي ( ‪. )612/2‬‬

‫‪12‬‬
‫وتوضح غوامضه لطلبته‪ ،‬وتذلل لهم الصعوبات التي يواجهوهنا‪ ،‬ويف ظل التقنيات‬
‫الجديدة‪ ،‬نجد من األساتذة من ال يرى جدوى من االستفادة منها‪ ،‬وإن كنا نرى ضرورة‬
‫األخذ من أفواه الشيوخ‪ ،‬إال أن ذلك ال يمنع من المزاوجة بين األمرين لما يحققه من فوائد‬
‫واختزال الوقت يف اإلفهام‪.‬‬

‫واستعمال الحاسوب يف السنة وعلوم الحديث يفيد الطالب بشكل كبير إذا أحسن‬
‫استعماله دون إسفاف بحيث يلزمه التعامل المباشر مع المصادر الحديثية إلى جانب ذلك‪،‬‬
‫وإال كانت معرفته جزئية ال تتعدى ما كان يبحث عنه‪ ،‬بينما يحصل الطالب يف بحثه المباشر‬
‫يف الكتب علما وفيرا مما لم يكن لديه يف الحسبان‪ .‬أضف إلى ذلك ما يف األقراص المدمجة‬
‫من سقط وتصحيف كثير مما يعيب العمل ويحتاج إلى إعادة النظر يف مثل هذه المشاريع‬
‫التي يبتغى هبا خدمة العلم من أجل إخراج عمل متقن‪.‬‬

‫وقد قال أبو بكر الشنرتيني ‪ -‬من علماء القرن السادس الهجري‪:-‬‬

‫«ولقد رأيت جماعة من الفقهاء المتقدمين الذين لم يبلغوا درجة المجتهدين قد تكلموا‬
‫يف مسائل من الفقه فأخطأوا فيها‪ ،‬وليس ذلك لقصور أفهامهم‪ ،‬وال لقلة محفوظاهتم‪ ،‬ولكن‬
‫لضعفهم يف هذا العلم ‪ -‬يعني النحو ‪ -‬وعدم استقاللهم به» (‪.)17‬‬

‫ويقول الشيا محمد أبو زهرة ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪: -‬‬

‫«يجب أال يتقاصر علم المجتهد عن معرفة أسرارها (اللغة) يف الجملة؛ وذلك ألن‬
‫األحكام التي يتصدى المجتهد الستنباطها وعاؤها أدق الكتب وأبلغها‪ ،‬والبد لمن‬
‫يستخرج األحكام من أن يكون عليما بأسرار البالغة‪ ،‬ليتسامى إلى إدراا ما اشتمل عليه من‬
‫أحكام‪ ،‬وإنه على قدر فهم الباحث يف ا لشريعة ألسرار البيان العربي ودقائقه تكون قدرته‬

‫(‪ )17‬ينظر‪ :‬مقاالت العالمة محمود الطناحي (‪ )498/2‬نقال عن كتاب تنبيه األلباب على فضــــائل‬
‫اإلعراب ‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫على استنباط األحكام من النصوص» (‪.)18‬‬

‫وتولى تدريس اللغة العربية من ال يتقن قراءة نصف صفحة قراءة سليمة خالية من‬
‫األخطاء‪ ،‬فالمرض استشرى‪ ،‬والبالء عم‪ ،‬بسبب هذه المناهج‪ ،‬ويف ذلك يقول الدكتور‬
‫محمود الطناحي ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪( : -‬وها هي نذر الفتنة قد أطلت برأسها‪ ،‬فلن يستطيع‬
‫أحد مهما غال يف تقدير كليته أو معهده أن يزعم أن طالبا متخرجا يف هذا المعهد‪ ،‬أو تلك‬
‫الكلية يستطيع اآلن أن يقرأ سطرا من كتاب سيبويه‪ ،‬فضال عن أن يفهمه‪ ،‬أو يحل رموزه‪،‬‬
‫وإذا لم يستطع خريج كلية تعنى باللغة العربية وآداهبا أن يقرأ سيبويه‪ ،‬فمن ذا الذي يقرؤه؟‬
‫وإذا لم يقرأه يف سني دراسته فمتى يقرؤه) (‪.)13‬‬

‫فالعالج الناجع ينبغي أن يكون شامال ليس فقط لعناصر العملية التعليمية‪ ،‬بل ألنظمة‬
‫التعليم أيضا‪ ،‬وأال يقتصر العالج على حل مشكلة علم واحد وإهمال بقية العلوم المرتبطة‬
‫به‪ ،‬فإن العلوم الشرعية والعربية كالجسد الواحد ال يجوز عالج عضو من أعضائه على‬
‫حساب سائر األعضاء‪.‬‬

‫لقد آن األوان إلعادة رسم خطط ومناهج التعليم الجامعية يف التخصصات الشرعية‬
‫والعربية بما يتالءم مع طبيعتها‪ ،‬وعدم إخضاعها ألنظمة التعليم الغربية الغريبة عنها‪،‬‬
‫فيخصه لكل علم الساعات التي تؤهل الطالب لحمله وتدريسه حقيقة‪ ،‬ولو أدى هذا‬
‫التخطيط إلى زيادة عدد السنوات يف المرحلة الجامعية‪ ،‬فهذا ليس بدعا فهناا تخصصات‬
‫علمية تزيد عدد سنواهتا على أربع‪ ،‬فلماذا لم يلزم أهل هذه التخصصات بسنوات أربع؟‬
‫والجواب‪ :‬أن طبيعة هذه العلوم ودقتها ال تكفيها تلك المدة لتأهيل الطالب‪ ،‬وكذلك العلوم‬
‫الشرعية ينبغي للمختصين وحدهم أن يحددوا عدد السنوات التي تؤهل الطالب من غير‬

‫(‪ )18‬ينظر‪« :‬أصول الفقه» للشيا محمد أبو زهرة (ص‪.)981 :‬‬
‫(‪ )13‬ينظر‪ :‬مقاالت العالمة محمود الطناحي (‪. )196/1‬‬

‫‪14‬‬
‫ممارسة أي ضغط عليهم‪.‬‬

‫كما ينبغي للمختصين يف هذه العلوم أن يحددوا فيما إذا كان األنفع واألجدى أن تتم‬
‫الدراسة وفق نظام سنوي‪ ،‬أو فصلي‪ ،‬أو نظام ساعات معتمدة‪ ،‬وإذا كان النظام األخير قد‬
‫أثبت نجاحه يف بعض العلوم فال يلزم منه صالحية تطبيقه على سائر العلوم ونجاحه فيها‪.‬‬

‫ولن يتم إصالح يف ظل النظام التعليمي الحالي‪ ،‬البعيد عن طبيعة علومنا‪ ،‬الذي يدرس‬
‫فيه علم عظيم ساعات معدودة؛ ألنه ال يمكننا تأهيل إنسان عالم مستوعب لعلوم الحديث‬
‫يف ساعات معدودة ‪ ،‬بل سيبقى هذا العلم غامضا‪ ،‬وغير مفهوم له‪ ،‬وعلى من يروم التفوق‬
‫االعتماد على نفسه يف دراسته حتى يصل إلى بغيته‪ ،‬ويحقق ما يصبوا إليه ‪.‬‬

‫إن مطالبتنا بفهم الباحث واستيعابه هذا العلم يف الوضع الحالي كمطالبتنا إلنسان درس‬
‫علم النحو يف بضع ساعات أن يكون نحويا‪ ،‬مدركا لموضوعات هذا العلم ومباحثه ودقائقه‪،‬‬
‫مطبقا له يف نطقه وكتاباتهََّّ‬

‫إن علم الحديث علم ال تضبط جميع جزئياته قواعد مطردة دائما‪ ،‬وال توزن مسائله‬
‫بمقاييس رياضية ؛ وإنما قواعده وأصوله أغلبية‪ ،‬بل يف كثير من مسائل علم الحديث يصرح‬
‫المحققون من أهل العلم أنه ليس لها قاعدة معينة‪ ،‬وإنما يرجع يف كل جزئية منها إلى‬
‫مالبساهتا وقرائنها‪ ،‬ثم يكون الحكم عليها بناء على حالتها الخاصة تلك‪ .‬وذلك يف مثل‬
‫مسألة (زيادة الثقة)‪ ،‬و(التفرد والغرابة)‪ ،‬و(االعتضاد والتقوي بالمتابعات والشواهد)‪ ،‬وما‬
‫إلى ذلك من أعظم مسائل علم الحديث‪.‬‬

‫وليس عدم شمول قواعد علم الحديث لجميع جزئياته‪ ،‬وال عدم وجود قواعد أصال‬
‫لبعض مسائله‪ ،‬بسبب تقصير يف تقنين هذا العلم ويف تأصيله من علماء األمة ؛ بل سببه هو‬
‫بلوغهم به أقصى غايات التقعيد السليم والتأصيل الصحيحََّّ وذلك أن علم الحديث مادته‬
‫الخام هي البشر ونقولهم وأخبارهم‪ ،‬وللبشر باختالف مواهبهم الخلقية‪ ،‬وبتباين دوافعهم‬

‫‪15‬‬
‫وعقائدهم وسلوكياهتم‪ ،‬وباضطراب أحوالهم من وقت آلخر‪ ،‬وبما يطرأ عليهم من عوامل‬
‫تغيير نفسية وخارجية ؛ بذلك كله ال يمكن أن يكون لنقول هؤالء وأخبارهم ضوابط حسابية‬
‫وموازين رياضية‪ ،‬بل البد من التعامل مع تلك المادة المتباينة األجزاء‪ ،‬الكثيرة التغيرات يف‬
‫كل جزء منها‪ ،‬بما يتناسب وذلك ؛ وهذا هو ما فعله أئمة الحديث يف عصور تكوين علمهم‬
‫…‪ .‬رضي اهلل عنهم وأرضاهمََّّ‬

‫المهم أن تعلم أن هذه إحدى أعظم مميزات علم الحديث‪.‬‬

‫وهذه الميزة تعني‪ :‬أن تعلم قواعد علم الحديث ودراسة مصطلحه ليس سوى الخطوة‬
‫األولى يف طلب علم الحديث‪ ،‬مهما تعمق الدارس يف تحصيل تلك القواعد واألصول‪ .‬وما‬
‫جنى على علم الحديث شيء يف العصر الحديث مثل الغفلة عن هذه الحقيقة‪ ،‬وذلك‬
‫بالتعامل مع الروايات الحديثية بتلك القواعد معاملة من معه قوالب يصب فيها مادته الخام‬
‫ومعاملة من معه ختوم جاهزة يطبع هبا كل مسألة جزئية‪ ،‬دون أن يتنبه إلى أن لكل قاعدة‬
‫شذوذات‪ ،‬بل يختلق القواعد لما ليس له قاعدة‪ ،‬لعدم استطاعته إال التعامل مع القوالب‬
‫الجاهزةََّّ‬

‫وهذه الميزة تعني أيضا‪ :‬أن علم الحديث علم حي ال يعيش وينمو يف صدر رجل إال‬
‫بالممارسة له والتطبيق العملي لقواعده؛ ألن شذوذات القواعد (وهي كثيرة وإنما سميت‬
‫شذوذات ألهنا بخالف القاعدة المنصوص عليها)‪ ،‬والمسائل التي ال قواعد لها‪ ،‬ال يحسن‬
‫الوقوف عليها‪ ،‬وال يعرف المآخذ واألسس التي تبنى عليها أحكامها‪ ،‬وال يلحظ المالبسات‬
‫والقرائن الخاصة بكل مسألة جزئية منها ؛ إال من عاش علم الحديث تطبيقا عمليا وممارسة‬
‫عميقة فرتة طويلة من عمره‪.‬‬

‫وعلى هذا فعلم الحديث يحتاج كل االحتياج لممارسة طويلة‪ ،‬وتطبيق عملي عميق‪،‬‬
‫ليمكن طالب الحديث بعد مرور زمن طويل من ذلك أن يتنبه لشذوذات القواعد‬

‫‪16‬‬
‫ومالبساهتا‪ ،‬وأن يقف بنفسه على مآخذ األحكام يف المسائل التي ال قواعد لها‪ ،‬وإنما يرجع‬
‫فيها للقرائن الخاصة بكل مسألة‪.‬‬

‫ويرجع الخلل يف التطبيق العملي يف بعض القضايا الحديثية إلى عدم ضبط القاعدة التي‬
‫بنى عليها الطالب حكمه على وفق ضبط أهل العلم لها ‪ ،‬واكتفاء الطالب بسبب تعجله‬
‫بالجانب النظري فقط ‪ ،‬وكثير ما أقرأ بعض الرسائل العلمية وتكون قائمة على التطبيق‬
‫العملي وإذا بالطالب يستسهل الجانب النظري ويسود أورقا كثيرة بل ضابط وبال جديد مع‬
‫عدم الت فقه يف كيفية تطبيقها ‪ ،‬كما كان أهل العلم من الفقه والفهم والخربة وامتالا الملكة‬
‫بالقدر الذي يؤهلهم لمعرفة متى وأين تنزل القاعدة او ال تنزل ‪.‬‬

‫يقول الخطيب البغدادي‪ ،‬منبه ا على أهمية الممارسة العملية يف علم الحديث‪« :‬قل ما‬
‫يتمهر يف علم الحديث‪ ،‬ويقف على غوامضه‪ ،‬ويستنير الخفي من فوائده‪ ،‬إال من جمع بين‬
‫متفرقه‪ ،‬وألف متشتته‪ ،‬وضم بعضه إلى بعض‪ ،‬وانشغل بتصنيف أبوابه‪ ،‬وترتيب أصنافه‪.‬‬
‫فإن ذلك الفعل مما يقوي النفس‪ ،‬ويثبت الحفظ‪ ،‬ويذكي القلب‪ ،‬ويشحذ الطبع‪ ،‬ويبسط‬
‫اللسان‪ ،‬ويجيد البيان‪ ،‬ويكشف المشتبه‪ ،‬ويوضح الملتبس‪ ،‬ويكسب أيضا جميل الذكر‪،‬‬
‫وتخليده إلى آخر الدهر »‪ .‬ثم أسند الخطيب إلى عبد اهلل بن المبارا‪ ،‬أنه قال‪« :‬صنفت من‬
‫ألف جزء جزءا‪ ،‬ومن نظر يف الدفاتر فلم يفلح‪ ،‬فال أفلح هو أبدا» (‪.)21‬‬

‫وهيًة هذه الممارسة التي نطالب هبا طالب علم الحديث‪ ،‬هي‪ :‬أن يقوم الطالب بما يشبه‬
‫التصنيف والتأليف‪ ،‬إما بتخريج أحاديث كتاب ما أو أحاديث باب فقهي معين‪ ،‬أو بالرتجمة‬
‫لرواة كتاب لم يخدم رواته بالرتجمة‪ ،‬أو بالعناية بالرواة المختلف فيهم‪ ،‬أو بجمع أقوال‬
‫األئمة وتطبيقاهتم حول قاعدة من علم الحديث أو حول أحد مصطلحاته‪ ..‬ونحو ذلك من‬
‫الموضوعات الكثيرة جدا‪ .‬واألفضل أن ينوع يف طبيعة بحوثه‪ ،‬حتى يستفيد فائدة أعم‬

‫(‪ )21‬ينظر ‪ « :‬الجامع ألخالق الراوي وآداب السامع» للخطيب (رقم ‪.)1314 ،1319‬‬

‫‪17‬‬
‫وأشمل‪.‬‬

‫وبالطبع ال يكون غرضه من هذه البحوث هو تأليف كتاب يخرجه للناس‪ ،‬خاصة يف‬
‫مرحلة تكوينه العلمي‪ ،‬وإنما يكون غرضه من ذلك التعلم والتمرن‪ ،‬للفوائد التي ذكرها‬
‫الخطيب يف كالمه السابق عن الممارسة العملية يف علم الحديث‪.‬‬

‫وال يمنع ذلك من أن يبتدئ طالب الحديث مشروعا علميا كبيرا‪ ،‬من صغر سنه وبدايات‬
‫طلبه‪ ،‬يجمع له ويرتب ويناقش ويستنبط ويستدل‪ ،‬ويقضي يف ذلك عمرا من عمره‪ ،‬وبشرط‬
‫أن ال يخرج مشروعه هذا إال بعد بلوغه من العلم ما يكون قد وصل به إلى درجة اإلفادة‪،‬‬
‫كأن يشهد له شيوخه وأقرانه باستحقاقه أن يدلي بجهده يف تأليف كتاب‪.‬‬

‫بل إين ألشدد يف الن صح لطلبة العلم بابتداء مشاريع من هذا القبيل‪ ،‬وال يستخفوا‬
‫بأنفسهم؛ فقد كان اإلمام الزهري يقول للفتيان والشباب‪« :‬ال تحقروا أنفسكم لحداثة‬
‫أسنانكم‪ ،‬فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به األمر المعضل دعا الفتيان‪ ،‬فاستشارهم‪،‬‬
‫يبتغي حدة عقولهم» (‪.)21‬‬

‫(‪ )21‬ينظر ‪« :‬جامع بيان العلم وفضله» البن عبد الرب (رقم ‪.)516 ،515‬‬

‫‪18‬‬
‫وهذا يدلك على أن بعض أساتذة علوم الحديث ‪-‬مع إجاللي لهم جميعا‪ ،-‬أثناء‬
‫تحضيرهم‪ ،‬أو مطالعتهم ونظرهم يف مصنفات أرباب هذا الفن‪ ،‬ال يستحضرون إال شقا‬
‫واحدا‪ ،‬ال يسعف أبدا يف قدح الملكة الحديثية‪ ،‬ونقل صناعة هذا العلم إلى الطالب‪،‬‬
‫يستحضرون نقل المعرفة؛ التي تعنى بنقل القواعد واستشهادات األئمة‪ ،‬وذكر أوجه‬
‫الخال ف بينهم فيما يتعلق بالحدود الحديثية‪ ،‬ويغفلون عن لب وجوهر تدريس هذا العلم‪،‬‬
‫وهو نقل منهج بناء تقعيد القواعد بالتوازي مع نقل المعرفة‪ ،‬فالطالب مهما أويت من حافظة‬
‫قوية‪ ،‬يستطيع أن يستظهر من خاللها جميع مصطلحات هذا العلم‪ ،‬مع استحضار معظم‬
‫الخالفات الواردة يف مسائله‪ ،‬وعزو كل نه إلى صاحبه‪ ،‬ما صيره ذلك عشر معشار‬
‫محدث؛ ألنه بكل بساطة لم يأت البيوت من أبواهبا‪ ،‬وباب الصنعة والملكة‪ ،‬هو تدريب‬
‫الطالب على إدرا مناهج أئمة الحديث يف النقد والتعديل والتجريح والتصحيح‬
‫والتضعيف‪.‬‬

‫وإن الدفاع عن حياض الشريعة وحرس حدودها وخدمة تراثها ال يتأتى إال بحصول‬
‫هذه الملكة؛ «ألن النقد الحديثي صناعة ال تتيسر إال لمن أفنى عمره يف دراسة علوم الرواية‬
‫والدراية‪ .‬وعليه‪ ،‬فإن من واجب النقاد من المحدثين المعاصرين‪ ،‬وطلبة العلم‪ ،‬الذين‬
‫يطمحون إلى الت مكن من ناصية هذا الفن‪ ،‬أن يضعوا على عاتقهم مهمة تنقية الرتاث‬
‫وتصفيته» (‪.)22‬‬

‫فعلم الحديث إذا كان بناؤه عقليا فإن هذا البناء العقلي بامتدادته لم ينفك أبدا عن البناء‬
‫التربوي مما يؤكد شمولية هذا العلم من طرف وتوازنه من طرف آخر ‪.‬‬

‫(‪ )22‬ينظر‪« :‬أبجديات البحث يف العلوم الشرعية» د‪ .‬فريد األنصاري ( ص ‪.)138‬‬

‫‪19‬‬
‫لقد أفرد علماء الحديث نوعا مستقال من أنواع علوم الحديث هو من أوسعها أسموه‬
‫معرفة آداب المحدث وطالب الحديث بل صنفوا يف ذلك مصنفات مستقلة بلغت الذروة‬
‫يف بابتها كان من أجلها مصنف الخطيب البغدادي يف كتابه النفيس «الجامع ألخالق الراوي‬
‫وآداب السامع» ‪ ،‬وقد تضمن هذا الباب من أبواب علوم الحديث المنهج الذي ينبغي أن‬
‫يسير عليه المحدث وطالب الحديث يف حياته الخاصة والعامة فاشتمل من ضمن ما اشتمل‬
‫عليه ما يجب أن يلتزم به طالب الحديث يف كل عملية تعليمية سواء كانت وسيلة أو أداة أو‬
‫طريقة أو غاية ‪ ،‬ةوما يجب عليه أن يأخذ به نفسه من التحلي بأجمل األخالق واآلداب ‪،‬‬
‫وما يجب عليه أن يرتفع عنه من سيء األعمال والتصرفات ‪ ،‬أو ما ينفر من قبيح العادات ‪،‬‬
‫وكانت الغاية من هذ ه اآلداب معرفة المنهج الذي ينبغي التزامه والتحقق به يف التعامل مع‬
‫اآلخرين والمدقق لما عرض له علماء الحديث يف هذا الجانب يرى مالحظتهم لألمور‬
‫اآلتية ‪ :‬إن العلم وحده ال يكفي يف الرتبية ‪ ،‬فالرتبية تحتاج إلى إعداد وممارسة ‪ ،‬وقدوة‬
‫حسنة ‪ ،‬وهذه ال تتحقق بمجرد التلقين والوعظ (‪.)29‬‬

‫لذا يجب استجالء المنهج التربوي الذي سلكه المحدثون يف نقل الصناعة الحديثية‪،‬‬
‫فالعلوم الشرعية منذ نشأهتا صاحبها يف النضوج والكمال والتأسيس منهج تربوي أسعف يف‬
‫تطوير هذه العلوم‪ ،‬والوصول هبا إلى مرحلة النضج واالكتمال‪ ،‬فإنه من غير المعقول أن‬
‫يكون اإلبداع والتجديد الذي أسهم يف تطوير علم الحديث بعيدا عن منهج تربوي منضبط‪،‬‬
‫متكامل األسس واألركان‪ ،‬فإن أسلوب التعليم والرتبية والقيم واآلداب والسلوا مما‬
‫عرض له المحدثون يف آداب المحدث وطالب الحديث كواحد من أنواع علوم الحديث‪،‬‬

‫(‪ )29‬ينظر‪« :‬من آداب المحدثين يف الرتبية والتعليم» للدكتور أحمد نور ســيف (ص‪ ، )15 :‬و«معالم‬
‫ترب ية الم حدثين يف القرن ال ثا لث الهجري» لألســــ تاذ ع بد المعطي أبو طور (ص‪ 117 :‬و ما بعد ها )‬
‫بواســــطة بحث« أثر علم أصــــول الحديث يف تشــــكيل العقل المســــلم »للد كتور خلدون األحدب‬
‫(ص‪.)84:‬‬

‫‪21‬‬
‫وكأهنم هبذا يؤكدون على ضرورة اقرتان العلم بالعمل ‪ ،‬والنظرية بالتطبيق ‪ ،‬والمعرفة‬
‫بالسلوا ‪ ،‬مما يدفع باألمة إلى التفوق الروحي واألخالقي واالجتماعي والعمراين معا ‪.‬‬

‫‪21‬‬

You might also like