Professional Documents
Culture Documents
بقلم
استمر النظام التعليمي يف األمة اإلسالمية على منهج واحد ،وذلك يف كافة العلوم
الشرعية واللغوية ،ويف عصرنا انتشر التعليم األكاديمي الجامعي ،ويكتسب التعليم
الجامعي اليوم أهمية متزايدة؛ نظرا لتشعب العلوم والمعارف وكثرة التخصصات ،وحين
تجتاح مجتمعا من المجتمعات رياح التقلب واالضطراب ،فإن الجامعة تكون من بين أهم
المؤسسات التي تحافظ على توازن المجتمع وتضمن له نوعا من االستقرار الثقايف.
إن الجامعات قد أضحت يف نظر األمم رمزا من رموز السيادة الوطنية ،وعنصرا مهما
من عناصر تكوين الدول ،وحدث ما يشبه القطيعة مع نظام التعليم القديم سواء أكان يف
األزهر الشريف ،أم يف الزيتونة وغيرهما ،وكان من المفرتض أن تزيد على القديم وتطوره،
وكثيرا ما يقرر العالمة الدكتور محمد حسن هيتو -حفظه اهلل تعالى -هذه القطيعة ويبين
عوارها يف محاضراته وكتبه فيقول « :كانت الجامعات اإلسالمية وغيرها من مواطن
التدريس هتتم هبذه العلوم وتوليها العناية البالغة؛ ألن فهم الدين متوقف عليها ،إذ تعبدنا اهلل
بفهم كتابه وسنة نبيه بناء على قوانين وقواعد لغة العرب التي أنزل هبا القرآن الكريم،
وبأساليبها نطق نبينا العظيم ،عليه أفضل الصالة والسالم .فمن لم يعرف لغة العرب ال
يعرف الدين ،ومن لم يفهمها ويتذوقها يف قواعدها لن يفهم ولن يتذوق القرآن والسنة حتى
يلج الجمل يف سم الخياط.
1
وقد حدثنا أشياخنا عن طريقة التدريس يف األزهر ،أن الطالب كان ال يدخله إال وهو
حافظ للقرآن يف الكتاتيب ( ،)1فإذا دخله قرأ يف السنة األولى من كتب النحو اآلجرومية بأربعة
شروح لها .ويف السنة الثانية يقرأ قطر الندى ،ويف السنة الثالثة يقرأ شذور الذهب ،ويف السنة
الرابعة يقرأ شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ويحفظها كما يحفظ الفاتحة.
ويف السنة الخامسة والسادسة يقرأ شرح األشموين على األلفية .
فإذا نجح يف هذا ،وانتهى منه شرع يف السنة السابعة والثامنة بدراسة المطول على
السعد يف البالغة .وهكذا كان يدرس ويتدرج يف الكتب يف شتى العلوم .
وهذا يعني أن الطالب الذي قرأ هذه السلسلة المتتابعة ،من اآلجرومية إلى األشموين
ـ ال شك يف أنه قد درس من قواعد لغة العرب ما يجعله يف مصاف األئمة الكبار فيها ،وال
سيما أنه كان يتلقى هذه العلوم يف الصغر يف دراسته االبتدائية والثانوية .
ولذلك فقد وجدت يف جيل األساتذة األزهريين الذين أدركوا تلك المرحلة األزهرية
من أساتذيت ـ وجدت فيهم أئمة يف اللغة .
( )1نرى يف ســـاحتنا هجوما شـــرســـا على الكتاتيب التي أخرجت أعالم األزهر وشـــيوخه ،وهذه من
القضـــايا المثيرة للجدل والمســـتغربة يف ســـاحتنا اليوم أحلت كل مشـــاكلنا ولم تبقى إال مشـــكلة حفظ
األطفال الصــــغار للقرآن الكريم يف الكتاتيب َّ إن قضــــية الحفظ عن ظهر قلب اليوم توجه إليها ســــهام
ناقدة ،ويلقى باللوم على األســاتذة ،وهناا اتجاهات عالمية عديدة يف هذه المســألة فهناا اتجاه يزهد
يف أســــلوب الحفظ والتلقين إلى أبعد الحدود كما هو الشــــأن يف الواليات المتحدة األمريكية ،واتجاه
يعول على الحفظ والفهم يف ضــــوء اســــرتاتيجات تعليمية كما هو الشــــأن يف التعليم الياباين ،ونرى أن
الطريقة اليابانية أجدى وأنفع خاصـة بالنسـبة لعلومنا فعلومنا عمادها الحفظ أول فالما البشـري يحتاج
إلى معلومات ومعطيات يعمل عليها ،ويســــتخله منها شــــيًا جديدا نافعا ،ثم يأيت الفهم والتحليل
واالســتنتاج واالســتنباط والناظرإلى إنتاجات الحضــارة اإلســالمية يف العلوم الحياتية والدينية يرى هذا
ماثال أمام عينيه ،فالرتكيز على الحفظ بال فهم وتحليل وحده يجلب أضــــرارا كثيرة ،فاالعتماد على
المزواجة بين الحفظ بقدر ما مع الكثير من الفهم والتحليل يمكن المتعلم من امتالا الملكات العلمية
،ويتمكن أيضا من فهم أدق للواقع المعاصر .
2
وهكذا كان يدرس الفقه ،فكان الطالب يدرس أوال حاشية الباجوري على ابن قاسم يف
الفقه الشافعي ،ثم يدرس حاشية الشرقاوي على التحرير ،ثم يدرس المنهج وشرحه لشيا
اإلسالم زكريا األنصاري ،ثم يدرس المنهاج لإلمام النووي بشرح اإلمام جالل الدين
المحلي الذي يعترب الذروة يف الدقة واإلتقان واإلحكام يف الفقه .
وهذا كله يف الدراسة االبتدائية والثانوية ،فإذا ارتقى إلى الدراسة العالية ،بدأ بدراسة
الفقه الخاليف واألدلة ومناقشتها؛ ولذلك كان يصل الطالب إلى الدراسة العالية بعد الثانوية
وهو إمام يف المذهب ،ال يقل عن كبار أئمته المربزين فيه .
ولقد درست الفقه على عدد من األساتذة الذين كانوا يملون علينا منهاج النووي مع
شرح المحلي إمالء عن ظهر قلب وهو يقع يف أربعة مجلدات ،مع التمكن التام يف كل العلوم
على ما ذكرت من النحو والفقه .فأين نحن وأساتذة اليوم من هذا ....؟ » (.)2
وهذا رئيس مجمع اللغة العربية العالمة األستاذ الدكتور حسن الشافعي -حفظه اهلل-
يقول « :ما احتجت إلى مزيد يف العربية وعلومها بعد الثانوية األزهرية » .
فالنظام األكاديمي يف الجامعات إال القليل منها عبارة عن مفتاح كما علمنا هذا كرام
أشياخنا ،فالباحث الذي ال يكمل المسيرة بعد مرحلة الليسانس ،بل أقول مرحلة الدكتوراه
لن يفلح إذا لم يأخذ العلم صناعة ومنهجا كالطعام والشراب.
ويقول الدكتور الطناحي «:أصل الداء عند سبب واحد :ماذا يتلقى طالب العربية اآلن
يف كليات اللغة العربية وأقسامها بالجامعات؟ أمشاج من قواعد النحو والصرف ،مطروحة
يف مذكرات يمليها األساتذة إمالء ،أو يطبعوهنا طبعات مبتسرة ،تنقه عاما وتزيد عاما،
واختفى الكتاب القديم لتحل محله هذه المذكرات ،ودفع الطالب دفعا إلى الملل من قراءة
الكتب -والملل من كواذب األخالق ،كما قال عمرو بن العاص ،رضي اهلل عنه -وال بد
( )2ينظر« :المتفيهقون» للدكتور محمد حسن هيتو (ص 93 :وما بعدها).
3
لصالح الحال من أن تكوى هذه القروح الممدة ،وأن يستأصل هذا الداء الخبيث من
قاعات الدرس الجامعي.
عودوا أيها السادة إلى المتون ،عودوا إلى اآلجرومية ،وترقوا منها إلى ابن عقيل ،وهو
كتاب سهل رهو ،علم أجياال ،وأقام ألسنة ،وال تحتجوا علينا بالتيسير على الطالب ،ففي
تراثنا النحوي كتب ذوات عدد ،وضعت للناشًة والمبتدئين »(.)9
وال زلت أذكر أحد الباحثين وهو حاصل على درجة «الماجستير» يف علم العلل ،فلما
عقد له امتحان بأحد الجهات البحثية لم يستطع تحرير مفهوم العلة ،واسرتجعت حينها،
وظلت فكرة التكوين المنهجي للطالب يف عقلي ال تفارقني قيد أنملة .
فيوجد يف النظام الجامعي المعاصر ما يصح أن يقال عليه ظاهرة (التشظي الثقايف) ،فما
يهضم الطالب ما يتعلمه ويدرسه هضما جيدا ،وإنما تظل قواعده ورسومه باهتة كاألشباح
يف مخيلته ،وما ذلك إال لغياب األسس والمنهجيات والمكونات للباحث.
المناهج:
والمقصود كثرة انشغال األساتذة والطالب بدارسة المنهج الشكلي للعلم أو ما يسمى
بالمظهر ،والبعد عن جانب المضمون العلمي والتصورات النقدية ،فمثال يعتني األستاذ يف
الدرس الحديثي المعاصر ببيان التعريفات الواردة يف علم المصطلح وتقسيماته ،ولكن ما
طبق أي مصطلح منها على كتب الرواية كالصحيحين مثال أو السنن األربعة ،فمثال قضية
الحديث المنكر وتعريفاته عند المتأخرين من علماء الحديث وعلى رأسهم الحافظ ابن
( )3ـ ينظر :املوجز يف مراجع الرتاجم والبلدان ،د حممود الطناحي (.)71
4
حجر ،وهو فارس الصنعة والمقدم فيها وإمامها وفخر الديار المصرية وفخر األزهر
الشريف عرف الحديث المنكر ببعض مشتمالته أو ما يسمى يف علم المنطق التعريف
بالرسم فقال :المنكر هو :ما خالف فيه الضعيف الثقة(.)4
فإذا اقتصر المدرس على هذا أعني التعريف فقط ،ولم يربط التعريف الذي سبق
بتطبيقاته عند المتقدمين ،وعلى رأسهم أئمة الصناعة من سفيان الثوري وشعبة وابن القطان
وابن المديني وابن معين ،وأحمد بن حنبل ،والبخاري ،ومسلم ،وأبو حاتم ،وأبو زرعة
وغيرهم من أئمة النقد أحدث عند المتلقي إشكالية يف تطبيق المصطلح ،مما يؤثر سلبا على
مسيرة الطالب العلمية.
فالربامج يف الدراسة الجامعية تعاين من ضعف شديد يف الجانب التطبيقي ،وال زلت
أذكر أنني وأنا يف بداية الطلب إذا وقفت أمام حديث به علة كاختالف الوصل واإلرسال أو
الرفع والوقف أحتار يف أمري وأحسن ما أصنع آنذاا أن أتجاهل العلة واالختالف أو أنقل
أقواال عن األئمة ال أعرف كيف أوجهها ؛ ألنني ال أعرف كيف أصنع يف التخريج على
الخالف ،وكيف أحدد المدار ،وال أستطيع التخريج على المتابعات للوجوه فضال عن
الرتجيح بين الوجوه ،واستحضار القرائن المرجحة فضال عن الحكم على الحديث من
وجهه الراجح ،فيجب على الجامعات الشرعية العناية بالجانب التطبيقي ،وإال خرج
الطالب كما دخل ،وقد يخرج بمغالطات عن العلم وعن المصطلح فيؤثر على مسيرته
5
العلمية والبحثية.
االنقطاع عن الكتب:
فاالقتصار على المذكرات الدراسية دون العودة إلى المصادر األصيلة يف التخصه
الحديثي يسبب انقطاعا عن الرتاث ،فيتخرج الطالب وال يستطيع التعامل مع الرتاث
الحديثي فضال عن غيره ،وكم يسعد الطالب بأستاذ يسهل له الولوج إلى عالم الرتاث ،فكما
قال الشاطبي يف الموافقات« :قد قالوا :إن العلم كان يف صدور الرجال ،ثم انتقل إلى الكتب،
وصارت مفاتحه بأيدي الرجال» وهذا الكالم يقضي بأن ال بد يف تحصيله من الرجال؛ إذ
ليس وراء هاتين المرتبتين مرمى عندهم ،وأصل هذا يف الصحيح« :إن اهلل ال يقبض العلم
انتزاعا ينتزعه من الناس ،ولكن يقبضه بقبض العلماء»(...)6الحديث ،فإذا كان كذلك؛
فالرجال هم مفاتحه بال شك.
فإذا تقرر هذا؛ فال يؤخذ إال ممن تحقق به ،وهذا أيضا واضح يف نفسه ،وهو أيضا متفق
عليه بين العقالء؛ إذ من شروطهم يف العالم بأي علم اتفق؛ أن يكون عارفا بأصوله وما ينبني
عليه ذلك العلم ،قادرا على التعبير عن مقصوده فيه ،عارفا بما يلزم عنه ،قائما على دفع
الشبه الواردة عليه فيه ،فإذا نظرنا إلى ما اشرتطوه ،وعرضنا أئمة السلف الصالح يف العلوم
الشرعية؛ وجدناهم قد اتصفوا هبا على الكمال»(.)7
فقد يدرس الطالب يف أقسام الحديث الليسانس والماجستير والدكتوراه ،وما قرأ
صحيح البخاري بل أقول كتابا كامال من الصحيح ،وأيضا يف علم المصطلح قد يمكث
الطالب العمر وما أتم كتابا كتدريب الراوي لإلمام السيوطي ،فأي هنضة حديثية ترتجى،
( )6أخر جه الب خاري يف «صــــحي حه» ،ك تاب الع ْلم -باب :ك ْيف ي ْقبض الع ْلم ( 91/1رقم ،)111
ومســــلم يف صــــحيحه ،كتاب ا ْلع ْلم -باب ر ْفع ا ْلع ْلم وق ْبضــــه وظهور ا ْلج ْهل وا ْلفتن في آخر الز مان
( ،)19()2679كالهما من حديث عبد اهلل بن عمر بن العاص رضى اهلل عنهما.
( )7ينظر« :الموافقات» للشاطبي (.)141/1
6
والطالب يخرج وما استوعب الكتب األصيلة يف التخصهََّّ
-غياب التدرج العلمي :وهذا شيء مشاهد يف الجامعات فينتقل الطالب انتقاال سريعا
من مبادئ العلم إلى غاياته ،مع التقصير الشديد يف إتقان تلك المبادئ ،وهنالك أسباب
كثيرة وراء هذا الخلل منها :كثرة المواد التي تدرس للطالب يف السنة الدراسة تبلغ يف بعض
الجامعات عشرين مادة ،وهذا مما يؤثر على إتقان الجانب الحديثي ( )8فضال عن غيره،
فيخرج الطالب وقد عرف نتفا من المعرفة ،دون التمكن من أصولها؛ ويؤدي ذلك إلى
الشعور الوهمي بإتقان العلم والتخصه فيه ،والحال بخالف ذلك يف الغالب.
إن طبيعة هذه المناهج الدراسية التي تركز على المقاصد الكلية للعلم قبل التمكن من
أدواته ،تؤدي بالطالب إلى نوع من التكرب واالستعالء ،وجراءة شديدة على خوض كبير
العلم قبل صغاره.
بل إن غالب العلماء من السابقين يرسمون لنا منهجا تربويا تدريجيا ،يقول تاج الدين
السبكي (ت771هـ)« :حق عليه –أي المدرس -أن يحسن إلقاء الدرس وتفهيمه
للحاضرين ،ثم إن كانوا مبتدئين فال يلقي عليهم ما ال يناسبهم من المشكالت ،بل يدرهبم
ويأخذهم باألهون فاألهون إلى أن ينتهوا إلى درجة التحقيق ،وإن كانوا منتهين فال يلقي
عليهم الواضحات ،بل يدخل هبم يف المشكالت الفقه»(.)3
( )8تعتمد كليات أصــــول الدين يف جامعة األزهر على مراعاة التدرج العلمي .ففي بداية المرحلة
الجامعية يدرس الطالب بعض المواد المؤســـســـة ،ويف التخصـــه يدرس العلم بكثافة مع ضـــمور يف
الجانب التطبيقي ،وما ننشـــده يف أقســـام الحديث وغيرها يف كليات أصـــول الدين على مســـتوى العالم
اإلسالمي ،والكليات التي تعنى بالدراسات الحديثية ،ولقد شرعت كليات أصول الدين يف معالجة هذا
الخلل فأصــبح الطالب ملزما بدراســة التخريج العملي ودراســة األســانيد طوال العام ،وهذا جيد جدا
ولكننا نأمل يف المزيد.
( )3ينظر :معيد النعم ومبيد النقم (ص ، )89 :و مقاالت الدكتور الطناحي ص.51 :
7
الشروع يف الكتب دون ختمها:
إن االلتزام بالربامج ومددها الزمنية ،يؤدي يف كثير من األحيان إلى عدم ختم الكتب
والمتون المقررة ،وهذا قصور شديد (.)11
إن المطلع على واقع تدريس العلوم الشرعية عموما ،وعلم الحديث منها خصوصا،
وبنظرة يف مخرجات الجامعات والمعاهد الشرعية يلحظ تدنيا كبيرا يف مختلف
المستويات ،وخاصة على مستوى المراقي العقلية ،والمنازل العليا للدماغ التي تجعل
الطالب يتصرف يف العلم نظرا ،ونقدا ،واستدراكا ،وتجديدا وإبداعا واجتهادا؛ إذ إن
المقصد األساس من تحصيل قواعد هذا العلم ،ودراسة مناهج أربابه ،ال يقتصر على
المستويات الدنيا؛ أقصد أن يتخرج الطالب حماال ووعاء يستظهر مًات النصوص ،دون
التمهر يف أي واحد منها؛ إذ إن الغاية العظمى من دراسة علوم الحديث ،هو أن يصير هيًة
راسخة يف نفس الطالب ،توجه نظره ،وتؤثر يف نمط تفكيره ،وبمعنى أدق حصول الملكة،
أعني أن يعيد الطالب صوغ عقله صياغة حديثية ،وأن تلمس ثمار هذه الملكة ليس على
مستوى العلم الذي يبحث فيه فقط ،بل يتعداه إلى أن يصير وظيفيا يف حياته ،فال يصدر
حكما إال بعد التثبت من صحته ،وال يتسرع يف إطالق األحكام إال بعد اإلحاطة بظروفها
ومالبساهتا وسياقاهتا إلى غير ذلك من الوظائف التي تثمرها هذه الملكة.
( )11ومن العجائب أنني انتدبت يف إحدى الكليات لتدريس المصــــطلح هبا وكان المزمع تقريره هو
الحديث الضعيف ،ومن عاديت أن أخترب طالبي يف مناهج األعوام السابقة ،فسألتهم مختربا عن الحديث
الحســن وحده ،فما أجاب طالب ،فعجبت من إطباق جميع الطالب على عدم اإلجابة ،ولكن إذا عرف
الســبب بطل العجب كما يقال ،فوجًت وكانت صــدمة أن المدرس ألغى لهم الحديث الحســن وحذفه
من مقرر الدراســــة؛ ألن المقرر يف الفرقة األولى كانت مباحث الحديث الصــــحيح ،ومباحث الحديث
الحســن ،وحذف المدرس مبحث الحســن ،ونجح الطالب وذهبوا إلى الفرقة الثانية ليدرســوا مباحث
الحديث الضــــعيف ،فالنتيجة مما أقوله أن يخرج الطالب من الكلية وما يعرف شــــيًا عن الحديث
الحسن؛ ألنه حذف من المقرر ،وإلى اهلل المشتكىََّّ
8
إن الناظر يف أسباب قصور الملكة الحديثية لدى خريجي الجامعات والمعاهد الشرعية،
يلحظ أن هذا التدين يرجع يف شق كبير منه إلى قصور ،إن لم نقل إلى غياب منهج تربوي
واضح األسس والمعالم يف تدريس هذا العلم .نعم؛ ال ننكر مدى فتور همة الطالب،
وتكاسله وتقاعسه عن البحث والتحصيل ومداومة النظر يف مصنفات أئمة هذا الفن ،ولكن
من المسلم به ،المعلوم ثبوته بداللة الحس والتجربة ،أن الطالب متى ما أسعفته مناهج
التدريس يف تقريب العلم ،وجعله سهل المنال بين يديه ،قادرا على تصور مسائله ،يستطيع
أن ينزل قواعده ،ال شك أنه يقبل بحب وهنم على هذا العلم .فمن خالل التجربة الجامعية
– وهي جزء منا ،ال نستطيع استبعادها وجدنا معظم من يشتكي صعوبة هذا الفن ،وضعف
همته يف اإلقبال عليه ،يرجع ذلك إلى الطرق التي تدرس هبا وحدات علوم الحديث ،والذي
أكد هذه النتيجة ،هو أن معظم توصياهتم ،انصبت على ضرورة اعتماد قواعد فن التدريس
وتنويع طرقه ،يف تدريس وحدات هذا العلم وخاصة يف النصف الثاين من القرن السابق فقد
عادت مظاهر االهتمام بتدريس هذا العلم ،فأنشًت كليات تدرس علوم السنة وعلوم القرآن
وعلوم العقيدة ،وعرفت باسم كليات أصول الدين منذ ثالثينات القرن العشرين ،وافتتحت
يف مرحلة الدراسات العليا تخصصات يف كل علم من العلوم المذكورة ،وتخرج منها أناس
حملوا شهادات عالية يف السنة وع لومها ،وقاموا بتدريسها للطلبة يف الكليات الشرعية بعد
أن كان يقوم بذلك أي متخصه يف علوم الشريعة عمومًا ،واعترب هذا العلم علما ضروريا،
ومتطلبا رئيسا لكل طالب جامعي يف الدراسات اإلسالمية ،ينبغي أن يكون فيه متخصصون
يتابعون مسير ة السابقين ويبنون عليها ،وكان من نتائج هذا االهتمام بروز أعالم ارتبطت
أسماؤهم بجهودهم يف خدمة علوم السنة تدريسا وتصنيفا .
وبالرغم من هذه الجهود المشكورة يف إعادة إحياء هذا العلم ،إال أنه ظهرت مشكالت
يف تدريسه ،فإن كثيرا من الطلبة لم يفهموه ،ولم يدركوا أهميته بالنسبة للعلوم األخرى
فدرسوه للنجاح فقط ،وأهمل ونسي بعد ذلك ،وشكا الطلبة من صعوبة هذا العلم ،وعدم
9
تمكنهم من استيعابه ،واختلطت عليهم مفاهيمه وموضوعاته ،وتناقل الطلبة هذه
المشكالت ،وورثوا ألخالفهم أن الن جاح يف هذا العلم يعتمد على حفظ المصطلحات ال
على الفهم واالستنباط.
ومن المشكالت التي رافقت إحياء هذا العلم أيضا ظهور فوضى يف تصحيح األحاديث
وردها ،واقتحام باب االجتهاد يف الحكم على األحاديث من قبل من ال أهلية له من
المصنفين والمؤلفين الذين أعادوا دراسة ما اتفق السابقون على قبوله أو رده ،فصححوا
بعض ما رده األئمة األولون ،وردوا بعض ما قبلوه ،وولج هذا الميدان من لم يقرأ سوى
كتاب واحد ،أو بضعة كتب؛ ولم يفهم مرادها ،ولم يدرا مراميها ،وغابت عنه دقائق هذا
العلم وتحقيقات العلماء وتمحيصاهتم ،فأصبح قراء هذه المصنفات يف ضياع وحيرة بسبب
هذه الفوضى.
وينبغي أن نعلم أن الشكوى من جدية هذا العلم وصعوبته ،وقلة من يتأهل له ،وانشغال
الطلبة بقشوره وظواهره دون الغوص يف أعماقه ليست جديدة وليدة هذا العصر ،بل قديمة
جدا ،فإننا نقرأ يف مقدمة كتاب علوم الحديث البن الصالح المتوىف 649هـ كالما يشهد
لذلك قال« :إن علم الحديث من أفضل العلوم الفاضلة ،وأنفع الفنون النافعة ،يحبه ذكور
الرجال وفحولتهم ،ويعنى به محققو العلماء وكملتهم وال يكرهه من الناس إال رذالتهم
وسفلتهم .وهو من أكثر العلوم تولجا يف فنوهنا ،ال سيما الفقه الذي هو إنسان عيوهنا،
ولذلك كثر غلط العاطلين منه من مصنفي الفقهاء ،وظهر الخلل يف كالم المخلين به من
العلماء.
ولقد كان شأن الحديث فيما مضى عظيما ،عظيمة جموع طلبته ،رفيعة مقادير حفاظه
وحملته ،وكان علومه بحياهتم حية ،وأفنان فنونه ببقائهم غضة ،ومغانيه بأهله آهلة ،فلم
يزالوا يف انقراض ولم يزل يف اندراس ،حتى آضت به الحال إلى أن صار أهله إنما هم شرذمة
قليلة العدد ،ضعيفة العدد ،ال تعنى على األغلب يف تحمله بأكثر من سماعه غ ْفال ،وال تتعنى
11
يف تقييده بأكثر من كتابته ع ْطال ،مطرحين علومه التي هبا جل قدره ،مباعدين معارفه التي هبا
فخم أمره» (.)11
ويف القرن الذي يليه شكا اإلمام الذهبي -رحمه اهلل -المتوىف سنة 748هـ من كسل طلبة
الحديث ،وعدم بذلهم الجهد الالزم للتأهل يف هذا العلم ،كما شكا من تجرؤ غير المتأهلين
له على ولوج ميادينه وأبوابه ،فقال يف كتابه القيم «تذكرة الحفاظ» ينصح طلبة الحديث:
« ....وال سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقلة األخبار ويجرحهم جهبذا إال بإدمان
الطلب ،والفحه عن هذا الشأن ،وكثرة المذاكرة والسهر ،والتيقظ ،والفهم مع التقوى،
والدين المتين ،واإلنصاف ،والرتدد إلى مجالس العلماء ،والتحري واإلتقان ،وإال تفعل:
اسألوا أ ْهل الذ ْكر إ ْن كنْت ْم ال ت ْعلمون) ( ،)12فإن آنست يا هذا من
قال اهلل عز وجل( :ف ْ
نفسك فهما ،وصدقا ،ودينا ،وورعا ،وإال فال تتعن ،وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي
ولمذهب فباهلل ال تتعب ،وإن عرفت أنك مخلط مخبط م ْهمل لحدود اهلل فأرحنا منك ،فبعد
قليل ينكشف الب ْهرج ،وينْكب الزغل ،وال يحيق المكر السيئ إال بأهله ،فقد نصحتك .فعلم
الحديث صلف ،فأين علم الحديث؟ وأين أهله؟ كدت أن ال أراهم إال يف كتاب أو تحت
تراب» (.)19
وقال يف موضع آخر يتأسف على ما آل إليه أمر هذا العلم :
«فلقد تفانى أصحاب الحديث وتالشوا ،وتبدل الناس بطلبة يهزأ هبا أعداء الحديث
11
والسنة ،ويسخرون منهم» (.)14
وشكا أيضا -مما نشكو منه نحن اليوم -من تطاول البعض على أئمة المحدثين
وجهابذهتم ،وتنقصه منهم فقال ...« :فباهلل عليك يا شيا ،ارفق بنفسك ،والزم اإلنصاف،
وال تنظر إلى هؤالء الحفاظ النظر الش ْزر ،وال ت ْرمقنهم بعين النقه ،وال تعتقد فيهم أهنم
من جنس محدثي زماننا ،حاشا وكالََّّ فما فيمن سميت أحد وهلل الحمد إال وهو بصير
بالدين ،عالم بسبيل النجاة ،وليس يف كبار محدثي زماننا أحد يبلغ رتبة أولًك يف المعرفة،
فإين أحسبك لفرط هواا تقول بلسان الحال إن أعوزا المقال :م ْن أحمد؟ وما ابن
المديني؟ وأي شيء أبو زرعة وأبو داود؟ هؤالء محدثون وال يدرون ما الفقه وما أصوله؟
وال يفقهون الرأي ،وال علم لهم بالبيان والمعاين والدقائق ،وال خربة لهم بالربهان
والمنطق ،وال يعرفون اهلل بالدليل ،وال هم من فقهاء الملة.
اسكت بحلم ،أو انطق بعلم ،فالعلم النافع هو ما جاء عن أمثال هؤالء ،ولكن نسبتك
إلى أئمة الفقه كنسبة م حدثي عصرنا إلى أئمة الحديث .فال نحن وال أنت ،وإنما يعرف
الفضل ألهل الفضل ذو الفضل ،فمن اتقى اهلل راقب اهلل واعرتف بنقصه .ومن تكلم بالجاه
فأعرض عنه ،وذره يف غيه ،فعقباه إلى وبال .نسأل اهلل العفو
ْ وبالجهل أو بالشر والبأو
والسالمة» (.)15
وقال يف السير « :فقد عم البالء ،وشملت الغفلة ،ودخل الدخل على المحدثين الذين
يركن إليهم المسلمون ،فال عتب على الفقهاء وأهل الكالم» (.)16
وإذا قلنا إن علم الحديث صعب بطبيعته ،يتطلب مستوى معينا من الفهم؛ فإننا ال ندعو
بذلك إلى االستكانة لهذه الصعوبة ،وعدم البحث والتنقيب عن طرق ووسائل تيسر فهمه،
12
وتوضح غوامضه لطلبته ،وتذلل لهم الصعوبات التي يواجهوهنا ،ويف ظل التقنيات
الجديدة ،نجد من األساتذة من ال يرى جدوى من االستفادة منها ،وإن كنا نرى ضرورة
األخذ من أفواه الشيوخ ،إال أن ذلك ال يمنع من المزاوجة بين األمرين لما يحققه من فوائد
واختزال الوقت يف اإلفهام.
واستعمال الحاسوب يف السنة وعلوم الحديث يفيد الطالب بشكل كبير إذا أحسن
استعماله دون إسفاف بحيث يلزمه التعامل المباشر مع المصادر الحديثية إلى جانب ذلك،
وإال كانت معرفته جزئية ال تتعدى ما كان يبحث عنه ،بينما يحصل الطالب يف بحثه المباشر
يف الكتب علما وفيرا مما لم يكن لديه يف الحسبان .أضف إلى ذلك ما يف األقراص المدمجة
من سقط وتصحيف كثير مما يعيب العمل ويحتاج إلى إعادة النظر يف مثل هذه المشاريع
التي يبتغى هبا خدمة العلم من أجل إخراج عمل متقن.
وقد قال أبو بكر الشنرتيني -من علماء القرن السادس الهجري:-
«ولقد رأيت جماعة من الفقهاء المتقدمين الذين لم يبلغوا درجة المجتهدين قد تكلموا
يف مسائل من الفقه فأخطأوا فيها ،وليس ذلك لقصور أفهامهم ،وال لقلة محفوظاهتم ،ولكن
لضعفهم يف هذا العلم -يعني النحو -وعدم استقاللهم به» (.)17
«يجب أال يتقاصر علم المجتهد عن معرفة أسرارها (اللغة) يف الجملة؛ وذلك ألن
األحكام التي يتصدى المجتهد الستنباطها وعاؤها أدق الكتب وأبلغها ،والبد لمن
يستخرج األحكام من أن يكون عليما بأسرار البالغة ،ليتسامى إلى إدراا ما اشتمل عليه من
أحكام ،وإنه على قدر فهم الباحث يف ا لشريعة ألسرار البيان العربي ودقائقه تكون قدرته
( )17ينظر :مقاالت العالمة محمود الطناحي ( )498/2نقال عن كتاب تنبيه األلباب على فضــــائل
اإلعراب .
13
على استنباط األحكام من النصوص» (.)18
وتولى تدريس اللغة العربية من ال يتقن قراءة نصف صفحة قراءة سليمة خالية من
األخطاء ،فالمرض استشرى ،والبالء عم ،بسبب هذه المناهج ،ويف ذلك يقول الدكتور
محمود الطناحي -رحمه اهلل تعالى( : -وها هي نذر الفتنة قد أطلت برأسها ،فلن يستطيع
أحد مهما غال يف تقدير كليته أو معهده أن يزعم أن طالبا متخرجا يف هذا المعهد ،أو تلك
الكلية يستطيع اآلن أن يقرأ سطرا من كتاب سيبويه ،فضال عن أن يفهمه ،أو يحل رموزه،
وإذا لم يستطع خريج كلية تعنى باللغة العربية وآداهبا أن يقرأ سيبويه ،فمن ذا الذي يقرؤه؟
وإذا لم يقرأه يف سني دراسته فمتى يقرؤه) (.)13
فالعالج الناجع ينبغي أن يكون شامال ليس فقط لعناصر العملية التعليمية ،بل ألنظمة
التعليم أيضا ،وأال يقتصر العالج على حل مشكلة علم واحد وإهمال بقية العلوم المرتبطة
به ،فإن العلوم الشرعية والعربية كالجسد الواحد ال يجوز عالج عضو من أعضائه على
حساب سائر األعضاء.
لقد آن األوان إلعادة رسم خطط ومناهج التعليم الجامعية يف التخصصات الشرعية
والعربية بما يتالءم مع طبيعتها ،وعدم إخضاعها ألنظمة التعليم الغربية الغريبة عنها،
فيخصه لكل علم الساعات التي تؤهل الطالب لحمله وتدريسه حقيقة ،ولو أدى هذا
التخطيط إلى زيادة عدد السنوات يف المرحلة الجامعية ،فهذا ليس بدعا فهناا تخصصات
علمية تزيد عدد سنواهتا على أربع ،فلماذا لم يلزم أهل هذه التخصصات بسنوات أربع؟
والجواب :أن طبيعة هذه العلوم ودقتها ال تكفيها تلك المدة لتأهيل الطالب ،وكذلك العلوم
الشرعية ينبغي للمختصين وحدهم أن يحددوا عدد السنوات التي تؤهل الطالب من غير
( )18ينظر« :أصول الفقه» للشيا محمد أبو زهرة (ص.)981 :
( )13ينظر :مقاالت العالمة محمود الطناحي (. )196/1
14
ممارسة أي ضغط عليهم.
كما ينبغي للمختصين يف هذه العلوم أن يحددوا فيما إذا كان األنفع واألجدى أن تتم
الدراسة وفق نظام سنوي ،أو فصلي ،أو نظام ساعات معتمدة ،وإذا كان النظام األخير قد
أثبت نجاحه يف بعض العلوم فال يلزم منه صالحية تطبيقه على سائر العلوم ونجاحه فيها.
ولن يتم إصالح يف ظل النظام التعليمي الحالي ،البعيد عن طبيعة علومنا ،الذي يدرس
فيه علم عظيم ساعات معدودة؛ ألنه ال يمكننا تأهيل إنسان عالم مستوعب لعلوم الحديث
يف ساعات معدودة ،بل سيبقى هذا العلم غامضا ،وغير مفهوم له ،وعلى من يروم التفوق
االعتماد على نفسه يف دراسته حتى يصل إلى بغيته ،ويحقق ما يصبوا إليه .
إن مطالبتنا بفهم الباحث واستيعابه هذا العلم يف الوضع الحالي كمطالبتنا إلنسان درس
علم النحو يف بضع ساعات أن يكون نحويا ،مدركا لموضوعات هذا العلم ومباحثه ودقائقه،
مطبقا له يف نطقه وكتاباتهََّّ
إن علم الحديث علم ال تضبط جميع جزئياته قواعد مطردة دائما ،وال توزن مسائله
بمقاييس رياضية ؛ وإنما قواعده وأصوله أغلبية ،بل يف كثير من مسائل علم الحديث يصرح
المحققون من أهل العلم أنه ليس لها قاعدة معينة ،وإنما يرجع يف كل جزئية منها إلى
مالبساهتا وقرائنها ،ثم يكون الحكم عليها بناء على حالتها الخاصة تلك .وذلك يف مثل
مسألة (زيادة الثقة) ،و(التفرد والغرابة) ،و(االعتضاد والتقوي بالمتابعات والشواهد) ،وما
إلى ذلك من أعظم مسائل علم الحديث.
وليس عدم شمول قواعد علم الحديث لجميع جزئياته ،وال عدم وجود قواعد أصال
لبعض مسائله ،بسبب تقصير يف تقنين هذا العلم ويف تأصيله من علماء األمة ؛ بل سببه هو
بلوغهم به أقصى غايات التقعيد السليم والتأصيل الصحيحََّّ وذلك أن علم الحديث مادته
الخام هي البشر ونقولهم وأخبارهم ،وللبشر باختالف مواهبهم الخلقية ،وبتباين دوافعهم
15
وعقائدهم وسلوكياهتم ،وباضطراب أحوالهم من وقت آلخر ،وبما يطرأ عليهم من عوامل
تغيير نفسية وخارجية ؛ بذلك كله ال يمكن أن يكون لنقول هؤالء وأخبارهم ضوابط حسابية
وموازين رياضية ،بل البد من التعامل مع تلك المادة المتباينة األجزاء ،الكثيرة التغيرات يف
كل جزء منها ،بما يتناسب وذلك ؛ وهذا هو ما فعله أئمة الحديث يف عصور تكوين علمهم
… .رضي اهلل عنهم وأرضاهمََّّ
وهذه الميزة تعني :أن تعلم قواعد علم الحديث ودراسة مصطلحه ليس سوى الخطوة
األولى يف طلب علم الحديث ،مهما تعمق الدارس يف تحصيل تلك القواعد واألصول .وما
جنى على علم الحديث شيء يف العصر الحديث مثل الغفلة عن هذه الحقيقة ،وذلك
بالتعامل مع الروايات الحديثية بتلك القواعد معاملة من معه قوالب يصب فيها مادته الخام
ومعاملة من معه ختوم جاهزة يطبع هبا كل مسألة جزئية ،دون أن يتنبه إلى أن لكل قاعدة
شذوذات ،بل يختلق القواعد لما ليس له قاعدة ،لعدم استطاعته إال التعامل مع القوالب
الجاهزةََّّ
وهذه الميزة تعني أيضا :أن علم الحديث علم حي ال يعيش وينمو يف صدر رجل إال
بالممارسة له والتطبيق العملي لقواعده؛ ألن شذوذات القواعد (وهي كثيرة وإنما سميت
شذوذات ألهنا بخالف القاعدة المنصوص عليها) ،والمسائل التي ال قواعد لها ،ال يحسن
الوقوف عليها ،وال يعرف المآخذ واألسس التي تبنى عليها أحكامها ،وال يلحظ المالبسات
والقرائن الخاصة بكل مسألة جزئية منها ؛ إال من عاش علم الحديث تطبيقا عمليا وممارسة
عميقة فرتة طويلة من عمره.
وعلى هذا فعلم الحديث يحتاج كل االحتياج لممارسة طويلة ،وتطبيق عملي عميق،
ليمكن طالب الحديث بعد مرور زمن طويل من ذلك أن يتنبه لشذوذات القواعد
16
ومالبساهتا ،وأن يقف بنفسه على مآخذ األحكام يف المسائل التي ال قواعد لها ،وإنما يرجع
فيها للقرائن الخاصة بكل مسألة.
ويرجع الخلل يف التطبيق العملي يف بعض القضايا الحديثية إلى عدم ضبط القاعدة التي
بنى عليها الطالب حكمه على وفق ضبط أهل العلم لها ،واكتفاء الطالب بسبب تعجله
بالجانب النظري فقط ،وكثير ما أقرأ بعض الرسائل العلمية وتكون قائمة على التطبيق
العملي وإذا بالطالب يستسهل الجانب النظري ويسود أورقا كثيرة بل ضابط وبال جديد مع
عدم الت فقه يف كيفية تطبيقها ،كما كان أهل العلم من الفقه والفهم والخربة وامتالا الملكة
بالقدر الذي يؤهلهم لمعرفة متى وأين تنزل القاعدة او ال تنزل .
يقول الخطيب البغدادي ،منبه ا على أهمية الممارسة العملية يف علم الحديث« :قل ما
يتمهر يف علم الحديث ،ويقف على غوامضه ،ويستنير الخفي من فوائده ،إال من جمع بين
متفرقه ،وألف متشتته ،وضم بعضه إلى بعض ،وانشغل بتصنيف أبوابه ،وترتيب أصنافه.
فإن ذلك الفعل مما يقوي النفس ،ويثبت الحفظ ،ويذكي القلب ،ويشحذ الطبع ،ويبسط
اللسان ،ويجيد البيان ،ويكشف المشتبه ،ويوضح الملتبس ،ويكسب أيضا جميل الذكر،
وتخليده إلى آخر الدهر » .ثم أسند الخطيب إلى عبد اهلل بن المبارا ،أنه قال« :صنفت من
ألف جزء جزءا ،ومن نظر يف الدفاتر فلم يفلح ،فال أفلح هو أبدا» (.)21
وهيًة هذه الممارسة التي نطالب هبا طالب علم الحديث ،هي :أن يقوم الطالب بما يشبه
التصنيف والتأليف ،إما بتخريج أحاديث كتاب ما أو أحاديث باب فقهي معين ،أو بالرتجمة
لرواة كتاب لم يخدم رواته بالرتجمة ،أو بالعناية بالرواة المختلف فيهم ،أو بجمع أقوال
األئمة وتطبيقاهتم حول قاعدة من علم الحديث أو حول أحد مصطلحاته ..ونحو ذلك من
الموضوعات الكثيرة جدا .واألفضل أن ينوع يف طبيعة بحوثه ،حتى يستفيد فائدة أعم
( )21ينظر « :الجامع ألخالق الراوي وآداب السامع» للخطيب (رقم .)1314 ،1319
17
وأشمل.
وبالطبع ال يكون غرضه من هذه البحوث هو تأليف كتاب يخرجه للناس ،خاصة يف
مرحلة تكوينه العلمي ،وإنما يكون غرضه من ذلك التعلم والتمرن ،للفوائد التي ذكرها
الخطيب يف كالمه السابق عن الممارسة العملية يف علم الحديث.
وال يمنع ذلك من أن يبتدئ طالب الحديث مشروعا علميا كبيرا ،من صغر سنه وبدايات
طلبه ،يجمع له ويرتب ويناقش ويستنبط ويستدل ،ويقضي يف ذلك عمرا من عمره ،وبشرط
أن ال يخرج مشروعه هذا إال بعد بلوغه من العلم ما يكون قد وصل به إلى درجة اإلفادة،
كأن يشهد له شيوخه وأقرانه باستحقاقه أن يدلي بجهده يف تأليف كتاب.
بل إين ألشدد يف الن صح لطلبة العلم بابتداء مشاريع من هذا القبيل ،وال يستخفوا
بأنفسهم؛ فقد كان اإلمام الزهري يقول للفتيان والشباب« :ال تحقروا أنفسكم لحداثة
أسنانكم ،فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به األمر المعضل دعا الفتيان ،فاستشارهم،
يبتغي حدة عقولهم» (.)21
( )21ينظر « :جامع بيان العلم وفضله» البن عبد الرب (رقم .)516 ،515
18
وهذا يدلك على أن بعض أساتذة علوم الحديث -مع إجاللي لهم جميعا ،-أثناء
تحضيرهم ،أو مطالعتهم ونظرهم يف مصنفات أرباب هذا الفن ،ال يستحضرون إال شقا
واحدا ،ال يسعف أبدا يف قدح الملكة الحديثية ،ونقل صناعة هذا العلم إلى الطالب،
يستحضرون نقل المعرفة؛ التي تعنى بنقل القواعد واستشهادات األئمة ،وذكر أوجه
الخال ف بينهم فيما يتعلق بالحدود الحديثية ،ويغفلون عن لب وجوهر تدريس هذا العلم،
وهو نقل منهج بناء تقعيد القواعد بالتوازي مع نقل المعرفة ،فالطالب مهما أويت من حافظة
قوية ،يستطيع أن يستظهر من خاللها جميع مصطلحات هذا العلم ،مع استحضار معظم
الخالفات الواردة يف مسائله ،وعزو كل نه إلى صاحبه ،ما صيره ذلك عشر معشار
محدث؛ ألنه بكل بساطة لم يأت البيوت من أبواهبا ،وباب الصنعة والملكة ،هو تدريب
الطالب على إدرا مناهج أئمة الحديث يف النقد والتعديل والتجريح والتصحيح
والتضعيف.
وإن الدفاع عن حياض الشريعة وحرس حدودها وخدمة تراثها ال يتأتى إال بحصول
هذه الملكة؛ «ألن النقد الحديثي صناعة ال تتيسر إال لمن أفنى عمره يف دراسة علوم الرواية
والدراية .وعليه ،فإن من واجب النقاد من المحدثين المعاصرين ،وطلبة العلم ،الذين
يطمحون إلى الت مكن من ناصية هذا الفن ،أن يضعوا على عاتقهم مهمة تنقية الرتاث
وتصفيته» (.)22
فعلم الحديث إذا كان بناؤه عقليا فإن هذا البناء العقلي بامتدادته لم ينفك أبدا عن البناء
التربوي مما يؤكد شمولية هذا العلم من طرف وتوازنه من طرف آخر .
19
لقد أفرد علماء الحديث نوعا مستقال من أنواع علوم الحديث هو من أوسعها أسموه
معرفة آداب المحدث وطالب الحديث بل صنفوا يف ذلك مصنفات مستقلة بلغت الذروة
يف بابتها كان من أجلها مصنف الخطيب البغدادي يف كتابه النفيس «الجامع ألخالق الراوي
وآداب السامع» ،وقد تضمن هذا الباب من أبواب علوم الحديث المنهج الذي ينبغي أن
يسير عليه المحدث وطالب الحديث يف حياته الخاصة والعامة فاشتمل من ضمن ما اشتمل
عليه ما يجب أن يلتزم به طالب الحديث يف كل عملية تعليمية سواء كانت وسيلة أو أداة أو
طريقة أو غاية ،ةوما يجب عليه أن يأخذ به نفسه من التحلي بأجمل األخالق واآلداب ،
وما يجب عليه أن يرتفع عنه من سيء األعمال والتصرفات ،أو ما ينفر من قبيح العادات ،
وكانت الغاية من هذ ه اآلداب معرفة المنهج الذي ينبغي التزامه والتحقق به يف التعامل مع
اآلخرين والمدقق لما عرض له علماء الحديث يف هذا الجانب يرى مالحظتهم لألمور
اآلتية :إن العلم وحده ال يكفي يف الرتبية ،فالرتبية تحتاج إلى إعداد وممارسة ،وقدوة
حسنة ،وهذه ال تتحقق بمجرد التلقين والوعظ (.)29
لذا يجب استجالء المنهج التربوي الذي سلكه المحدثون يف نقل الصناعة الحديثية،
فالعلوم الشرعية منذ نشأهتا صاحبها يف النضوج والكمال والتأسيس منهج تربوي أسعف يف
تطوير هذه العلوم ،والوصول هبا إلى مرحلة النضج واالكتمال ،فإنه من غير المعقول أن
يكون اإلبداع والتجديد الذي أسهم يف تطوير علم الحديث بعيدا عن منهج تربوي منضبط،
متكامل األسس واألركان ،فإن أسلوب التعليم والرتبية والقيم واآلداب والسلوا مما
عرض له المحدثون يف آداب المحدث وطالب الحديث كواحد من أنواع علوم الحديث،
( )29ينظر« :من آداب المحدثين يف الرتبية والتعليم» للدكتور أحمد نور ســيف (ص ، )15 :و«معالم
ترب ية الم حدثين يف القرن ال ثا لث الهجري» لألســــ تاذ ع بد المعطي أبو طور (ص 117 :و ما بعد ها )
بواســــطة بحث« أثر علم أصــــول الحديث يف تشــــكيل العقل المســــلم »للد كتور خلدون األحدب
(ص.)84:
21
وكأهنم هبذا يؤكدون على ضرورة اقرتان العلم بالعمل ،والنظرية بالتطبيق ،والمعرفة
بالسلوا ،مما يدفع باألمة إلى التفوق الروحي واألخالقي واالجتماعي والعمراين معا .
21