You are on page 1of 25

‫‪75‬‬

‫ثراء اخلطاب النقدي وتنوعه يف الن�ص الرحلي‬


‫البن ر�شيد ال�سبتي‪( :‬ت ‪)271‬‬
‫«ملء العيبة مبا جمع بطول الغيبة يف الوجهة الوجيهة‬
‫ﺛﺮﺍﺀ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﻨﻘﺪﻱ ﻭﺗﻨﻮﻋﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺺ ﺍﻟﺮﺣﻠﻲ ﻻﺑﻦ‬ ‫ﺍﻟﻌﻨﻮﺍﻥ‪:‬‬
‫�إىل احلرمني مكة وطيبة»‬
‫ﺭﺷﻴﺪ ﺍﻟﺴﺒﺘﻲ‪) :‬ﺕ ‪ (271‬ﻣﻠء ﺍﻟﻌﻴﺒﺔ ﺑﻤﺎ ﺟﻤﻊ ﺑﻄﻮﻝ‬
‫ﺍﻟﻐﻴﺒﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺟﻬﺔ ﺍﻟﻮﺟﻴﻬﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﺮﻣﻴﻦ ﻣﻜﺔ‬
‫ﻭﻃﻴﺒﺔ‬
‫(*)‬ ‫موالي علي �سليماين‬ ‫ﺟﺬﻭﺭ‬ ‫ﺍﻟﻤﺼﺪﺭ‪:‬‬
‫ﺍﻟﻨﺎﺩﻱ ﺍﻷﺩﺑﻲ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻲ ﺑﺠﺪﺓ‬ ‫ﺍﻟﻨﺎﺷﺮ‪:‬‬
‫ﺍﻟﻤؤﻟﻒ ﺍﻟﺮﺋﻴﺴﻲ‪ :‬ﺳﻠﻴﻤﺎﻧﻲ‪ ،‬ﻣﻮﻻﻱ ﻋﻠﻲ‬
‫توطئـ ـ ــة‪:‬‬
‫ﺝ‪39‬‬ ‫ﺍﻟﻤﺠﻠﺪ‪/‬ﺍﻟﻌﺪﺩ‪:‬‬
‫تعتبر الرحلة واحدة من الم�صادر الجامعة للمعرفة‪ ،‬وخا�صة تلك‬
‫ﻧﻌﻢ طلب العلم ولقاء الم�شايخ‪� ،‬إذ بذلك تكتمل‬‫يكون الدافع �إليها‬‫ﻣﺤﻜﻤﺔ‪:‬‬
‫التي‬
‫ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﻤﻴﻼﺩﻱ‪2015 :‬‬
‫�شخ�صية الرحالة وت�ستوي على �سوقها‪ ،‬لما تف�سحه ل�صاحبها من‬
‫ﺍﻟﺸﻬﺮ‪:‬الرجال بكثرةﻳﻨﺎﻳﺮالتجوال‪ .‬وللرحلة الحجية خ�صو�صيتها‪ ،‬لما لهذه‬
‫مخالطة‬
‫‪75 - 97‬‬ ‫ﺍﻟﺼﻔﺤﺎﺕ‪:‬‬
‫الوجهة ال�شريفة من مكانة وقد�سية عند العامة بله الخا�صة‪ ،‬وخا�صة‬
‫‪631798‬‬
‫العلماء‪ ،‬فذلك موطن التقائهم‪ ،‬وثمة تتالقح‬ ‫‪:MD‬والتي تغ َّنى بها‬ ‫ﺭﻗﻢ‬
‫الخا�صة‬
‫ﺑﺤﻮﺙ ﻭﻣﻘﺎﻻﺕ‬ ‫ﻧﻮﻉ ﺍﻟﻤﺤﺘﻮﻯ‪:‬‬
‫البن ر�شيد ذلك الذي رحل من �أجله‪،‬‬ ‫وتتنوع‪ ،‬وقد ي�سر اهلل‬ ‫�أفكارهم‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫ﺍﻟﻠﻐﺔ‪:‬كتابه «ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة‬


‫‪Arabic‬‬
‫فكان‬
‫‪AraBase‬خال�صة رحلة جمعت من الفوائد والفرائد‬
‫ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺎﺕ‪ :‬وطيبة»‬
‫الحرمين مكة‬ ‫ﻗﻮﺍﻋﺪ‬
‫�إلى‬
‫ﺍﻟﺮﺣﻼﺕ ﺍﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ‪ ،‬ﻧﻘﺪ ﺍﻟﺸﻌﺮ ‪ ،‬ﺍﻟﺸﻌﺮﺍﺀ ﺍﻟﻌﺮﺏ ‪،‬‬ ‫ﻣﻮﺍﺿﻴﻊ‪:‬‬
‫�سن�سعى �إلى الك�شف عنه خ�صو�صا ما تعلق بح�سه النقدي‪.‬‬
‫ﺍﻟﺮﺣﺎﻟﺔ ﺍﻟﻌﺮﺏ ‪ ،‬ﺑﻦ ﺭﺷﻴﺪ‪ ،‬ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ‬
‫ما‬
‫‪ ،‬ﺕ ‪ 721‬ﻫـ‪ ، .‬ﻛﺘﺎﺏ ﻣﻠء ﺍﻟﻌﻴﺒﺔ ﺑﻤﺎ ﺟﻤﻊ ﺑﻄﻮﻝ‬ ‫‪ - 1‬نقد ال�شعر‪:‬‬
‫ﺍﻟﻐﻴﺒﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺟﻬﺔ ﺍﻟﻮﺟﻴﻬﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﺮﻣﻴﻦ ﻣﻜﺔ‬
‫�سنورد في ه��ذه الورقة البحثية مجموعة من ال�شواهد النقدية‬
‫ﺍﻟﻤﻨﻮﺭﺓﺃﻥ ﺟﻤﻴﻊ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ‬ ‫ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ‬
‫ﺍﻟﻨﺸﺮ‪ ،‬ﻋﻠﻤﺎ‬ ‫ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺣﻘﻮﻕ‬
‫© ‪ 2023‬ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ‪ .‬ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺤﻘﻮﻕ ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‪.‬‬
‫ﺍﻟﻤﻜﺮﻣﺔ‪،‬‬ ‫ﺍﻹﺗﻔﺎﻕﻣﻜﺔ‬
‫ﺍﻟﻤﻮﻗﻊ ﻣﻊ‬ ‫ﻭﻃﻴﺒﺔ‪،‬‬
‫ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻣﺘﺎﺣﺔ ﺑﻨﺎﺀ ﻋﻠﻰ‬
‫ﺗﺼﺮﻳﺢلنبين‬
‫العيبة»‬ ‫�ضمنها الرحالة الجوال القوال ابن ر�شيد في كتابه «ملء‬
‫ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‪ .‬ﻳﻤﻜﻨﻚ ﺗﺤﻤﻴﻞ ﺃﻭ ﻃﺒﺎﻋﺔ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻟﻼﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﺍﻟﺸﺨﺼﻲ ﻓﻘﻂ‪ ،‬ﻭﻳﻤﻨﻊ ﺍﻟﻨﺴﺦ ﺃﻭ‬
‫‪http://search.mandumah.com/Record/63179‬‬
‫ﺧﻄﻲ ﻣﻦ‬ ‫ﺭﺍﺑﻂ‪:‬‬
‫ﺍﻟﺘﺤﻮﻳﻞ ﺃﻭ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﻋﺒﺮ ﺃﻱ ﻭﺳﻴﻠﺔ )ﻣﺜﻞ ﻣﻮﺍﻗﻊ ﺍﻻﻧﺘﺮﻧﺖ ﺃﻭ ﺍﻟﺒﺮﻳﺪ ﺍﻻﻟﻜﺘﺮﻭﻧﻲ( ﺩﻭﻥ‬
‫ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ‪.‬‬
‫ج ـ ــذور‬ ‫(*) أستاذ البالغة وتحليل الخطاب بكلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بني مالل ‪ -‬المغرب‪.‬‬
‫‪75‬‬

‫ثراء اخلطاب النقدي وتنوعه يف الن�ص الرحلي‬ ‫‪8‬‬

‫البن ر�شيد ال�سبتي‪( :‬ت ‪)271‬‬


‫الوجيهة‬
‫الوجهةﺣﺴﺐ‬ ‫جمع ﻗﻢبطولﺑﻨﺴﺦالغيبة يف‬
‫ﺍﻟﺒﻴﺎﻧﺎﺕ ﺍﻟﺘﺎﻟﻴﺔ‬ ‫العيبةﺑﻬﺬﺍمبا‬
‫ﺍﻟﺒﺤﺚ‬ ‫«ملء‬
‫ﻟﻺﺳﺘﺸﻬﺎﺩ‬
‫احلرمني مكة وطيبة»‬
‫ﺍﻹﺳﺘﺸﻬﺎﺩإىلﺍﻟﻤﻄﻠﻮﺏ‪:‬‬
‫�‬ ‫ﺇﺳﻠﻮﺏ‬

‫ﺇﺳﻠﻮﺏ ‪APA‬‬
‫(*)‬ ‫موالي علي �سليماين‬
‫ﺳﻠﻴﻤﺎﻧﻲ‪ ،‬ﻣﻮﻻﻱ ﻋﻠﻲ‪ .(2015) .‬ﺛﺮﺍﺀ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﻨﻘﺪﻱ ﻭﺗﻨﻮﻋﻪ‬
‫ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺺ ﺍﻟﺮﺣﻠﻲ ﻻﺑﻦ ﺭﺷﻴﺪ ﺍﻟﺴﺒﺘﻲ‪) :‬ﺕ ‪ :(271‬ﻣﻠء ﺍﻟﻌﻴﺒﺔ ﺑﻤﺎ‬
‫ﺟﻤﻊ ﺑﻄﻮﻝ ﺍﻟﻐﻴﺒﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺟﻬﺔ ﺍﻟﻮﺟﻴﻬﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﺮﻣﻴﻦ ﻣﻜﺔ‬
‫ﻭﻃﻴﺒﺔ‪.‬ﺟﺬﻭﺭ‪ ،‬ﺝ‪ .97 - 75 ،39‬ﻣﺴﺘﺮﺟﻊ ﻣﻦ‬
‫‪http://search.mandumah.com/Record/631798‬‬ ‫توطئـ ـ ــة‪:‬‬
‫ﺇﺳﻠﻮﺏ ‪MLA‬‬
‫تعتبر الرحلة واحدة من الم�صادر الجامعة للمعرفة‪ ،‬وخا�صة تلك‬
‫ﺳﻠﻴﻤﺎﻧﻲ‪ ،‬ﻣﻮﻻﻱ ﻋﻠﻲ‪" .‬ﺛﺮﺍﺀ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﻨﻘﺪﻱ ﻭﺗﻨﻮﻋﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺺ‬
‫التي يكون الدافع �إليها طلب العلم ولقاء الم�شايخ‪� ،‬إذ بذلك تكتمل‬
‫ﺍﻟﺮﺣﻠﻲ ﻻﺑﻦ ﺭﺷﻴﺪ ﺍﻟﺴﺒﺘﻲ‪) :‬ﺕ ‪ :(271‬ﻣﻠء ﺍﻟﻌﻴﺒﺔ ﺑﻤﺎ ﺟﻤﻊ ﺑﻄﻮﻝ‬
‫ﺍﻟﻐﻴﺒﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺟﻬﺔ ﺍﻟﻮﺟﻴﻬﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﺮﻣﻴﻦ ﻣﻜﺔ ﻭﻃﻴﺒﺔ‪".‬ﺟﺬﻭﺭﺝ‪39‬‬
‫�شخ�صية الرحالة وت�ستوي على �سوقها‪ ،‬لما تف�سحه ل�صاحبها من‬
‫)‪ .97 - 75 :(2015‬ﻣﺴﺘﺮﺟﻊ ﻣﻦ‬
‫مخالطة الرجال بكثرة التجوال‪ .‬وللرحلة الحجية خ�صو�صيتها‪ ،‬لما لهذه‬
‫‪http://search.mandumah.com/Record/631798‬‬
‫الوجهة ال�شريفة من مكانة وقد�سية عند العامة بله الخا�صة‪ ،‬وخا�صة‬
‫الخا�صة والتي تغ َّنى بها العلماء‪ ،‬فذلك موطن التقائهم‪ ،‬وثمة تتالقح‬
‫�أفكارهم وتتنوع‪ ،‬وقد ي�سر اهلل البن ر�شيد ذلك الذي رحل من �أجله‪،‬‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫فكان كتابه «ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة‬
‫�إلى الحرمين مكة وطيبة» خال�صة رحلة جمعت من الفوائد والفرائد‬
‫ما �سن�سعى �إلى الك�شف عنه خ�صو�صا ما تعلق بح�سه النقدي‪.‬‬
‫‪ - 1‬نقد ال�شعر‪:‬‬
‫�سنورد في ه��ذه الورقة البحثية مجموعة من ال�شواهد النقدية‬
‫© ‪ 2023‬ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ‪ .‬ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺤﻘﻮﻕ ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‪.‬‬
‫ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻣﺘﺎﺣﺔ ﺑﻨﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﺗﻔﺎﻕ ﺍﻟﻤﻮﻗﻊ ﻣﻊ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ‪ ،‬ﻋﻠﻤﺎ ﺃﻥ ﺟﻤﻴﻊ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ‬
‫�ضمنها الرحالة الجوال القوال ابن ر�شيد في كتابه «ملء العيبة» لنبين‬
‫ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ‪ .‬ﻳﻤﻜﻨﻚ ﺗﺤﻤﻴﻞ ﺃﻭ ﻃﺒﺎﻋﺔ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻟﻼﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﺍﻟﺸﺨﺼﻲ ﻓﻘﻂ‪ ،‬ﻭﻳﻤﻨﻊ ﺍﻟﻨﺴﺦ ﺃﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﺤﻮﻳﻞ ﺃﻭ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﻋﺒﺮ ﺃﻱ ﻭﺳﻴﻠﺔ )ﻣﺜﻞ ﻣﻮﺍﻗﻊ ﺍﻻﻧﺘﺮﻧﺖ ﺃﻭ ﺍﻟﺒﺮﻳﺪ ﺍﻻﻟﻜﺘﺮﻭﻧﻲ( ﺩﻭﻥ ﺗﺼﺮﻳﺢ ﺧﻄﻲ ﻣﻦ‬
‫ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ‪.‬‬
‫ج ـ ــذور‬ ‫(*) أستاذ البالغة وتحليل الخطاب بكلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بني مالل ‪ -‬المغرب‪.‬‬
‫‪75‬‬

‫ثراء اخلطاب النقدي وتنوعه يف الن�ص الرحلي‬


‫البن ر�شيد ال�سبتي‪( :‬ت ‪)271‬‬
‫«ملء العيبة مبا جمع بطول الغيبة يف الوجهة الوجيهة‬
‫�إىل احلرمني مكة وطيبة»‬
‫(*)‬‫موالي علي �سليماين‬

‫توطئـ ـ ــة‪:‬‬
‫تعتبر الرحلة واحدة من الم�صادر الجامعة للمعرفة‪ ،‬وخا�صة تلك‬
‫التي يكون الدافع �إليها طلب العلم ولقاء الم�شايخ‪� ،‬إذ بذلك تكتمل‬
‫�شخ�صية الرحالة وت�ستوي على �سوقها‪ ،‬لما تف�سحه ل�صاحبها من‬
‫مخالطة الرجال بكثرة التجوال‪ .‬وللرحلة الحجية خ�صو�صيتها‪ ،‬لما لهذه‬
‫الوجهة ال�شريفة من مكانة وقد�سية عند العامة بله الخا�صة‪ ،‬وخا�صة‬
‫الخا�صة والتي تغ َّنى بها العلماء‪ ،‬فذلك موطن التقائهم‪ ،‬وثمة تتالقح‬
‫�أفكارهم وتتنوع‪ ،‬وقد ي�سر اهلل البن ر�شيد ذلك الذي رحل من �أجله‪،‬‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫فكان كتابه «ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة‬
‫�إلى الحرمين مكة وطيبة» خال�صة رحلة جمعت من الفوائد والفرائد‬
‫ما �سن�سعى �إلى الك�شف عنه خ�صو�صا ما تعلق بح�سه النقدي‪.‬‬
‫‪ - 1‬نقد ال�شعر‪:‬‬
‫�سنورد في ه��ذه الورقة البحثية مجموعة من ال�شواهد النقدية‬
‫�ضمنها الرحالة الجوال القوال ابن ر�شيد في كتابه «ملء العيبة» لنبين‬
‫ج ـ ــذور‬ ‫(*) أستاذ البالغة وتحليل الخطاب بكلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بني مالل ‪ -‬المغرب‪.‬‬
‫ثراء اخلطاب النقدي وتنوعه في النص املرحلي البن رشيد السبتي‬ ‫‪76‬‬
‫�أن الرجل �سابق القدم في العلم بالأ�شعار وحفظها‪ ،‬متمكن اليد في‬
‫امتالك نا�صية اللغة‪ ،‬له علم بالنقد وما يت�صل به من علوم‪ ،‬مردفين‬
‫تلك ال�شواهد بتعليقاته و�آرائنا في المو�ضوع‪.‬‬
‫في ثنايا الجزء الخام�س من الرحلة وجدنا ابن ر�شيد ‪ -‬وفي معر�ض‬
‫حديثه عن دخوله المدينة وق�ضائه �أدب التحية ‪ -‬ي�ستدل ب�شعر للأديب‬
‫ال�صوفي المعروف بابن ال�سماط حيث يقول‪:‬‬
‫«و�إذا �أ������س������أت ت�����أدب����ي ب��ح��م��اك��م ع��ف��وا ف���إن��ي غ��ب��ت ع��ن معقولي‬
‫حرم الحبيب فيهتدي لتميز المعلوم والمجهول»(‪)1‬‬
‫من ذا يرى َ َ‬
‫ف�أردف ابن ر�شيد قائال‪« :‬ولي من كلمة في نحو هذا‪:‬‬
‫و�إن �أ�ضع �أدب��ا فال�صفح ملتم�س �إن����ي ب��ق��ل��ب م���ن الإع���ظ���ام م�ل��آن‬
‫لثم وتعفير خد فعل ولهان»(‪)2‬‬ ‫منذايرىربعمحبوبفي�صبرعن‬
‫ولمت�أمل متفر�س في هذه الأبيات �أن يت�ساءل‪:‬‬
‫ما الفروق بين قول ابن ال�سماط وابن ر�شيد �أ�سلوبيا‪ ،‬ولمن نحكم‬
‫بالإ�صابة في الغر�ض‪ ،‬وللدقة في اختيار الألفاظ؟‬
‫جوابا على هذا ال�س�ؤال نقول‪:‬‬
‫‪� ‬أول فرق بين ال�شاعرين يتمثل في كون ابن ال�سماط قال في �أول البيت‬
‫(و�إذا �أ�س�أت) في حين قال ابن ر�شيد (و�إن �أ�ضع)‪ ،‬والفرق بين �إذا‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫و�إن كبير جدا‪ ،‬فـ (�إذا) تفيد التحقق و(�إن) تفيد االحتمال فانظر‬
‫�إلى قوله تعالى }�إذا جاء ن�صر اهلل والفتح{ فقد تحقق مجيء الفتح‪،‬‬
‫وانظر في مقابل ذلك �إل��ى قوله �سبحانه }�إن ج��اءك��م فا�سق بنب�أ‬
‫فتبينوا{ فـ(�إن) وال �شك تفيد االحتمال والظن‪ ،‬فقد ي�أتي الفا�سق‬
‫وقد ال‪.‬‬
‫‪ ‬ابن ال�سماط ا�ستعمل(�أ�س�أت) بعد (�إذا) وابن ر�شيد ا�ستعمل (�أ�ضع)‬
‫بعد (�إن) وفرق كبير بين ظالل الفعلين ومعناهما‪ ،‬فالإ�ساءة فيها من‬
‫ج ـ ــذور القدحية والق�صدية ما لي�س في �أ�ضع‪.‬‬
‫‪77‬‬ ‫موالي علي سليماني‬

‫‪ ‬ابن ال�سماط قال (�أدبي) وابن ر�شيد قال (�أدبا) فالأول �أ�ضاف الأدب‬
‫�إلى ياء المتكلم الدالة على ال�شاعر فعرف الأدب بمقت�ضى الإ�ضافة‪،‬‬
‫وابن ر�شيد قال (�أدبا) من غير �إ�ضافته �إلى نف�سه‪ ،‬فجعله نكرة لإفادة‬
‫التقليل‪ ،‬والدليل كون قلبه ملآن من الإعظام‪.‬‬
‫وه��ذه المالحظات تدل على ح�صافة ابن ر�شيد‪ ،‬وذوق��ه العالي‪،‬‬
‫و�إح�سا�سه المرهف باللغة العربية‪ ،‬وخبرته ب�أ�ساليبها و�ألفاظها‪.‬‬
‫ومما دل على �أن ابن ر�شيد كان كثير التنقيب والتنقير والتدقيق‬
‫والتدنيق والترقيق‪ ،‬خو�ضه في مقارنة �شعره ب�شعر غيره‪ ،‬خا�صة حال‬
‫العدول �إلى الت�صغير‪ ،‬ليخل�ص �إلى جودة اختياره‪ ،‬وهو و�إن كان محقا‬
‫في هذا الذي �سنعر�ضه �إال �إنه في �سياقات �أخرى كثير االعتداد بنف�سه‪.‬‬
‫فقد ظهر قرن النقد طالعا عند الرحالة عندمانقد �شعره الذي نظم‬
‫لما وافى خلي�صا فقال‪:‬‬
‫«وخلي�ص �إذا وردنا خل�صه فرعى اهلل �أويقات الورود‬
‫ومطلع الق�صيد‪:‬‬
‫بذمام كان في وادي زرود»(‪)3‬‬ ‫�أهل ودي ال تدينوا بال�صدود‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫ثم يبا�شر ابن ر�شيد نقد �شعره‪ ،‬لإظهار ف�ضله على غيره‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫«وه��ذا البيت اتفقت فيه موافقة ح�سنة في الت�صغير‪ ،‬كرعت في‬
‫مورد من الح�سن ال تحلأ عنه‪ ،‬وذلك �أن ال�شعراء �أكثروا من الت�صغير‬
‫في محل‪� ،‬إما ل�ضرورة وزن‪� ،‬أو لق�صد �ضعيف غير قوي‪ ،‬وربما ندر منهم‬
‫فيما �صدر عنهم ما ي�ستح�سن»(‪.)4‬‬
‫ونظرا ل�شدة ت�أثره ب�شيخه �أب��ي الح�سن ح��ازم القرطاجني الذي‬
‫�أخذ عنه «وتتلمذ عليه‪ ،‬و�شرح له بع�ض كتبه حتى �صار كل ما يتمثله من‬
‫الم�سائل البالغية �أو النقدية م�ستوحى من �أفكاره»‪ ،‬ف�إنه ي�ستدل بر�أيه ج ـ ــذور‬
‫ثراء اخلطاب النقدي وتنوعه في النص املرحلي البن رشيد السبتي‬ ‫‪78‬‬
‫في هذا المو�ضوع حيث يقول‪« :‬كان �أبو الطيب المتنبي مولعا بالت�صغير‪،‬‬
‫ولم يوفق من ذلك �إال في قوله‪:‬‬
‫ظللت بين �أ�صيحابي �أكفكفه وظل ي�سفح بين العذر والعذل‬
‫فح�سن ه��ذا لما ك��ان الموطن مظنة لقلة ال�صحب‪ ،‬فكثيرا ما‬
‫ي�ستعملون ذكر الخليلين في هذا المو�ضع»(‪.)6‬‬
‫ثم يعود ابن ر�شيد وقد ا�سترفد منهج �شيخه في النقد‪ ،‬ليزاوج بين‬
‫الوظيفتين‪ ،‬فهو المبدع والناقد في الآن نف�سه‪ ،‬يقول‪« :‬قلت ووجه ح�سن‬
‫البيت الذي �أن�شدته من طريقين‪:‬‬
‫�أحدهما‪ :‬المنا�سبة اللفظية‪ ،‬ف�إن خلي�صا م�صغر و�أويقات كذلك‪،‬‬
‫والمنا�سبة اللفظية مما تعتبر‪...‬‬
‫الثاني وهو �أقرب للحظ المعنوي‪ ،‬وهو �أن �أوق��ات ال�سرور تو�صف‬
‫بالق�صر»(‪.)7‬‬
‫لقد تمثل ابن ر�شيد النقد في بداياته الأولى في الجاهلية وفي �صدر‬
‫الإ�سالم‪ ،‬لذلك فحديثه عن توظيف ال�شعراء للت�صغير يذكرنا بواقعة‬
‫هجاء النجا�شي بني العجالن‪ ،‬وقد كان من �ضمن ما هجاهم به قوله‪:‬‬
‫قبيـ ـ ــلة ال يغدرون بذم ــة وال يظلمون النا�س حبة خردل‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫فقد كان للت�صغير في (قبيلة) وظيفة داللية كبرى تنم عن هجاء‬


‫مر �شديد‪ ،‬فهم ال�ضعفاء وال طاقة لهم ب�أن يدافعوا عن �أنف�سهم‪ ،‬بله �أن‬
‫يعتدوا على غيرهم‪ ،‬وال ن�شك في كون عمر‪ ،‬ر�ضي اهلل تعالى‪ ،‬عنه قد‬
‫فاته �شيء من هذا المعنى ولكنه كان ي�سعى لإطفاء نار الت�صارع‪ ،‬ومحو‬
‫�آثار الأحقاد وال�ضغائن‪ ،‬والدليل �أن عمر لما �س�أل ح�سانا‪ ،‬ر�ضي اهلل‬
‫عنه‪ ،‬قال‪ :‬لم يهجهم ولكن �سلح عليهم(‪.)2‬‬
‫ومما قدح فيه ابن ر�شيد زناد فكره فا�ستخرج درر البالغة و�أ�صدافها‬
‫ج ـ ــذور ما حكاه قائال «�أجرى �أبو القا�سـم بن زيتـون يوما معي في قوله تعالى‪:‬‬
‫‪79‬‬ ‫موالي علي سليماني‬

‫}وما ربك بظالم للعبيد{ فقال كيف جاء الظالم ولم يقل ظالم‪ ،‬وال‬
‫يلزم من نفي الكثير نفي القليل بخالف العك�س؟! ثم �أجاب ال�شيخ ر�ضي‬
‫اهلل عنه ب�أن قال‪� :‬إن اهلل تعالى ال ين�سب �إليه من الظلم ال قليل وال كثير‪،‬‬
‫ولكن جرت عادة العرب �أن ال ينفى عن عظمائها �إال ما ي�صح ن�سبته‬
‫�إليها‪...‬فيقولون على هذا الأ�سلوب الملك لي�س بظالم‪ ،‬وال يقولون لي�س‬
‫بظالم‪ ،‬لأنه لو جاز �أن ين�سب �إليه ظلم لم ين�سب �إليه �إال ما يليق بالملوك‬
‫الأعاظم‪ ،‬فجرى على ذلك جميع كالم العرب‪ ،‬فقلت له‪ :‬ي�شهد ب�صحة‬
‫ما قلتم ما وقع في كتاب ال�سيرة النبوية» (‪.)9‬‬
‫وفي هذا ال�شاهد �إ�شارة لطيفة لتعليل ما وقع في �أ�سلوب القر�آن من‬
‫العدول من �صيغة �إلى �أخرى‪ ،‬وقد �أكد ابن ر�شيد ما ورد عن �صاحبه �أبي‬
‫القا�سم بن زيتون‪.‬‬
‫وي�ؤكد هذا الحقيقة البالغية من خالل �شاهد �آخر يمدح فيه عامر‬
‫الخ�صفي ها�شم بن حرملة الملك‪( :‬م�شطور الرجز)‬
‫�أحيا �أباه ها�شم بن حرملة‬
‫ترى الملوك عنده مغربلة‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫فلم يعجبه فقال‪:‬‬


‫يقتل ذا الذنب ومن ال ذنب له‬
‫فقال الملك‪ :‬الآن‪ ،‬ف�أعجبه لما �سمع البيت الأخير ‪.‬‬
‫فانظر كيف لم ير�ضه من المدح �إال كونه بالغا في الغدر والظلم �إلى‬
‫�أق�صى نهاياته‪ ،‬فقتل من ال ذنب له‪ .‬وقد �أعجب ها�شما هذا البيت»(‪.)10‬‬
‫وم�ضى ابن ر�شيد يمثل الأمثلة ويعر�ض ما ا�ستح�ضره من جيد‬
‫الت�صغير‪ ،‬مبينا مواطن الجمال فيه �إن كانت‪ ،‬حينا وناقدا ومو�ضحا‬
‫مواطن ال�ضعف والتكلف حينا �آخر‪ .‬وال يخفى على ذي النظر الح�صيف ج ـ ــذور‬
‫ثراء اخلطاب النقدي وتنوعه في النص املرحلي البن رشيد السبتي‬ ‫‪80‬‬
‫ما في هذه اللم�سات النقدية من مكنة واق�ت��دار‪ ،‬وكيف الومحمد بن‬
‫مبارك‪ - ،‬وهو الأدي��ب الأري��ب ‪ -‬يقول فيه «لم �أكن مبدي ال�سهى مع‬
‫القمر‪ ،‬وال مهدي الأ�صداف �إلى الدرر‪ ،‬ولكن لجفن المعارف وهو النافد‬
‫�إغ�ضاء‪ ،‬ول�شخ�ص العوارف وهو الناقد �إر�ضاء»(‪.)11‬‬
‫ومن الأدلة على نقده‪ ،‬اطراحه لبع�ض الأبيات وقبوله للآخر‪ ،‬كما‬
‫�صنع النقاد المتقدمون في اختيارهم لل�سبع الطوال‪� ،‬أو تخيرهم لل�ست‬
‫الجياد(‪ ،)12‬وذلك �صنيعه مع �أبي البركات‪ ،‬حيث قال «�أن�شدني ال�شيخ‬
‫�أبوالبركات لنف�سه‪ ،‬قال �صنعتها في النوم وا�ستيقظت من النوم و�أدمعي‬
‫ت�سيل‪ ،‬فقيدتها في الحين(‪...)13‬‬
‫ثم قال ابن ر�شيد‪�« :‬أ�سقطت منها بيتين كانا فا�سدي القافية‪ ،‬وهما‬
‫الثاني والثالث‪ ،‬وبيتا ثالثا ل�ضعفه وهو �آخرها»(‪ .)14‬ف�سبب �إ�سقاط البيتين‬
‫يعود �إلى معرفة ابن ر�شيد بعلم العرو�ض‪ ،‬فقد ذكر له �صاحب �أزهار الريا�ض‬
‫كتابا مو�سوما بـ «و�صل القوادم بالخوافي في ذكر �أمثلة القوافي»(‪.)15‬‬
‫ومن لم�ساته النقدية التي جاء فيها بما هو �ألذ للعيون من الو�سن‬
‫نقده للفقيه �أبي محمد بن المبارك حين قال‪:‬‬
‫ورو�ض جنينا للنفو�س ارتيا�ضها ب������ه و�أم��������رن��������ا ك������ل ه������م ذه����اب����ه‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫نعمنا بمر�أى منه �أ�سفر عن �سنا و�إن ك����ان ���ش��ح��ا �أط������ال ان��ت��ق��اب��ه‬
‫ودوح ك�ساه الغيث خ�ضراء �سند�س و�أب��دى بيا�ض الزهر فيه عجابه‬
‫ك�����أن ���س��م��اء زه���ره���ا ال���زه���ر �إن��م��ا بها لم يخف �شيطان لهوي �شبابه‬
‫وهذا البيت الأخير فيه ت�أخر وتكلف‪ ،‬ولو قال فحاكت �سما لكان‬
‫�أق��رب و�أع��رب‪ ،‬وكذلك قوله‪ :‬ورو���ض جنينا‪ ،‬لو قال جلبنا كان �أ�شبه‬
‫و�أوجه‪ ،‬ولكن االرتجال يعذر فيه من ق�صر في المجال»(‪.)16‬‬
‫ذكرنا �صنيع ابن ر�شيد بما كان عليه النقد في الع�صر الجاهلي‪،‬‬
‫ج ـ ــذور حيث ك��ان ع�ب��ارة ع��ن �شواهد و�أخ �ب��ار تبرز الخطرات النقدية عند‬
‫‪81‬‬ ‫موالي علي سليماني‬

‫الجاهليين‪ ،‬نذكر من ذل��ك ما رواه �أب��و عبيد اهلل محمد بن عمران‬


‫المرزباني لما �أن�شد ح�سان النابغة ق�صيدته التي منها‪:‬‬
‫لنا الجفنات الغر يلمعن بال�ضحى و�أ�سيافنا يقطرن من نجدة دما‬
‫ولدنا بني العنقاء وابني محرق ف���أك��رم بنا خ��اال و�أك���رم بنا ابنما‬
‫فقال له النابغة �أنت �شاعر ولكنك �أقللت جفانك و�أ�سيافك وفخرت‬
‫بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك(‪...)17‬‬
‫لقد ك��ان النقد مركزا ح��ول ا�ستعمال لفظ ب��دل �آخ��ر‪ ،‬موجها له‬
‫با�ستعمال الجفان عو�ض الجفنات والبي�ض بدل الغر‪.‬‬
‫وكذلك الأمر في �صدر الدعوة الإ�سالمية‪ ،‬ولنا �أن نمثل بال�شاهد‬
‫ال��ذي ا�ستن�شد فيه ر�سول اهلل‪� ،‬صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬كعب بن مالك‬
‫الأن�صاري ف�أن�شد‪:‬‬
‫�أال ه���ل �أت����ى غ�����س��ان ع��ن��ا ودون��ن��ا م��ن الأر����ض خ��رق غوله متتعتع‬
‫مجالدنا ع��ن جذمنا ك��ل فخمة م����درب����ة ف��ي��ه��ا ال���ق���وان�������س ت��ل��م��ع‬
‫فقال عليه ال�سالم ‪ :‬التقل عن جذمنا وقل عن ديننا‪ ،‬فكان كعب‬
‫يقر�أ كذلك ويقول‪ :‬ما �أعان ر�سول اهلل �أحدا في �شعره غيري(‪.)18‬‬
‫ومن ال�شواهد الدالة على �سعة اطالعه على علوم العربية‪ ،‬وح�سه‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫النقدي نذكر �شاهدا ج��اء فيه‪�« :‬أن�شدنا �أب��و عبداهلل بن حيان قال‪:‬‬
‫�أن�شدنا �أبو المطرف بن عميرة المخزومي لنف�سه‪:‬‬
‫ف�ضل الجمال على الكمال بوجهه والحق ال يخفى على من َو َّ�س َط ْه‬
‫َ‬
‫ا�ستنبط ْه‬ ‫ف��ب��ط��رف��ه ���س��ق��م و���س��ح��ر ق���د �أت���ى م�ستظهرا بهما على ما‬
‫َ‬
‫بال�سف�سط ْه‬ ‫ع���ج���ب���ا ل�����ه ب����ره����ان����ه ب�������ش���روط���ه معه فما مق�صوده‬
‫قلت‪� :‬أن�شدت هذه الأبيات يوما بغرناطة‪� ...‬صاحبنا ذا الوزارتين‪...‬‬
‫ف�س�أل مني ذو الوزارتين �أن �أقيد له عليهما �شيئا‪ ،‬فكتبت ما تي�سر‪ ،‬مما‬
‫(‪)19‬‬
‫هو �أم�س بالبيان من الطريقة التي �سلك هذان الرجالن (يق�صد ج ـ ــذور‬
‫ثراء اخلطاب النقدي وتنوعه في النص املرحلي البن رشيد السبتي‬ ‫‪82‬‬
‫ابن �سهيل الخزرجي و�أبو عبد اهلل محمد بن الرماح) من �إمعانهما في‬
‫قواعد منطقية ال تم�س الحاجة �إليها في المو�ضع‪ ،‬معر�ضين عن معانيها‬
‫من المق�صد ال�شعري الذي تخيل فيه الناظم ما تخيله‪ .‬فوقف على ذلك‬
‫�صاحبنا الفقيه الجليل عبد اهلل الأن�صاري ‪ ...‬فا�ستح�سن ذلك»(‪.)20‬‬
‫المهم عندنا من هذا ال�شاهد �أمور‪:‬‬
‫‪ ‬مكانة ابن ر�شيد في نظر ذي الوزارتين‪ ،‬فيما يت�صل بال�شعر ونقده‪،‬‬
‫فلو لم يكن على علم ب�سعة اطالعه ما كان ليطلب منه �أن يقيد له‬
‫عليها �شيئا بعد �أن �أن�شده تلك الأبيات‪.‬‬
‫‪ ‬قول ابن ر�شيد‪ :‬فكتبت له ما تي�سر مما له عالقة بالبيان‪ ،‬دليل على �سعة‬
‫علمه بهذا العلم والذي يعتبر �أ�سا�سا لعلم البالغة‪ ،‬فقد «كان كثيرا‬
‫ما يتدخل لح�سم النزاع بين المتناظرين‪ ،‬وذلك كلما �شبت معركة‬
‫خالفية في م�س�ألة من الم�سائل الأدبية �أو اللغوية �أو البالغية»(‪)21‬‬

‫ولي�س ذل��ك غريبا على عالم بالبالغة وعلومها وك��ارع في عيونها‬


‫وينابيعها(‪.)22‬‬
‫وه��ا هو اب��ن خلدون ي�ؤكد �إل�م��ام اب��ن ر�شيد بعلوم اللغة العربية‬
‫قائال‪« :‬ولما كان ابن ر�شيد ذا ب�صر بالعلوم ال�شرعية‪ ،‬ف�إنه يتقن �أي�ضا‬
‫تلك الأ�صناف التي تتقدمها من علوم اللغة والنحو وال�صرف والبيان‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫والآداب»(‪.)23‬‬
‫‪ ‬انتقاده للطريقة التي �سلكها الرجالن من �إمعانهما في المنطق‪،‬‬
‫معتبرا ذلك نظما ولي�س �شعرا‪� ،‬إذ لي�س يقوم �إال على ال��وزن‪� ،‬أما‬
‫مقومات ال�شعر فغائبة‪.‬‬
‫‪ ‬ا�ستح�سان ابن عبداهلل الأن�صاري لما كتبه ابن ر�شيد‪.‬‬
‫ومما �أبان عن تفاعل ابن ر�شيد بما ي�سمع من ال�شعر‪ ،‬تعقيبه على‬
‫�أبيات �أن�شدها �أبو المطرف لنف�سه‪ ،‬جاء في ال�شاهد‪�« :‬أن�شدنا الكاتب‬
‫ج ـ ــذور الأوحد حبر البلغاء وبحر الأدباء �أبو المطرف لنف�سه‪:‬‬
‫‪83‬‬ ‫موالي علي سليماني‬

‫ع���م���رن���ا ن������ادي ال���م���ول���ى ن���ن���ادي ع������ط������اي������اه ف�����ت������أت�����ي�����ن�����ا ع����ج����اال‬


‫و�أن���ف���دن���ا ال�������س����ؤال وج���وه���ا في ت������دف������ق������ه ف����ع����ل����م����ن����ا ��������س��������ؤاال‬
‫�أم�������ن�������ا �أن ي�����م�����ل ن�����������داه ل���ك���ن ع����ل����ى �أم����ال����ن����ا خ���ف���ن���ا ال���م�ل�اال‬
‫«وهذا من الطراز العالي والبز الغالي‪ ،‬وما �أح�سن هذا التخيل في‬
‫ق�صة الرجل الذي يكون �آخر �أهل الجنة دخوال»(‪.)24‬‬
‫وف�ضال عن تذوقه ال�شعر وحفظه له‪ ،‬وجدناه عارفا لل�شعراء‪ ،‬فلي�س‬
‫يختلط عليه �أمرهم‪ ،‬فين�سب ال�شعر لغير قائله‪ ،‬دليلنا في ذلك ت�صحيحه‬
‫لأبي البركات التميمي ن�سبة �أبيات لغير قائلها‪ ،‬يقول ال�شاهد‪�« :‬أن�شدني‬
‫في �أوائل �أيام لقائي له‪ ،‬وحكى وقال‪:‬‬
‫ح�ضرت في متنزه مر�سية مع الزاهد �أبي العبا�س بن مكنون عام‬
‫‪636‬هـ فر�أى اهتزاز �أغ�صان �أ�شجار وتمايلها فقال مرتجال‪:‬‬
‫ح��ارت عقول النا�س في �إبداعها �أل�����س��ك��ره��ا �أم ���ش��ك��ره��ا ت���ت����أود؟!‬
‫ف��ي��ق��ول �أرب������اب ال��ب��ط��ال��ة تنثني وي��ق��ول �أرب����اب الحقيقة ت�سجد‬
‫قال ال�شيخ �أبو البركات فقلت له‪ :‬ما الذي يدل على �أنها في و�صف‬
‫وطئ �أنت لهما‪ ،‬قال فقلت و�أن�شدها لنا‪:‬‬ ‫الثمار؟ فقال لي‪ِّ :‬‬
‫ي���ا م���ن �أت����ى م��ت��ن��زه��ا ف���ي رو���ض��ة �أزه������اره������ا م����ن ح�����س��ن��ه��ا ت��ت��وق��د‬
‫انظر �إل��ى الأ�شجار في دوحاتها وال���ري���ح ت��ن�����س��ف وال��ط��ي��ور ت��غ��رد‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫فترى الغ�صون تمايلت �أطرافها وترىالطيورعلىالغ�صونتعربد‬


‫هكذا �أن�شدنا مقاله‪ ،‬ون�سب البيتين الأولين لأبي العبا�س بن مكنون‬
‫الزاهد‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬وهو و�إن كان من �أهل الأدب‪ ،‬وربما نظم الي�سير‪،‬‬
‫ف�إنما �أن�شد هذين البيتين متمثال‪ ،‬فظن ال�شيخ �أبو البركات �أنهما له‪،‬‬
‫ولذلك قال‪� :‬إنه قالهما مرتجال‪ ،‬و�إنما هما لأبي زيد الفازازي في ق�صيد‬
‫بديع فريد في نزول المطر‪ ،‬مطلعه‪:‬‬
‫ن����ع����م الإل�����������ه ب���������ش����ك����ره ت��ت��ق��ي��د ف��اهلل ي�شكر ف��ي ال��ن��وال ويحمد‬
‫م������دت �إل�����ي�����ه �أك����ف����ن����ا م��ح��ت��اج��ة ف�أنالها من جوده ما تعهد»(‪ )25‬ج ـ ــذور‬
‫ثراء اخلطاب النقدي وتنوعه في النص املرحلي البن رشيد السبتي‬ ‫‪84‬‬
‫جمع لنا هذا ال�شاهد �أمورا‪:‬‬
‫‪� ‬شدة حفظ ابن ر�شيد وقوة �ضبطه‪ ،‬وهذا لي�س غريبا عن محدث‪،‬‬
‫مادام الحفظ �ضروريا له‪ ،‬والرتباط علم الحديث بعلم الرجال‪ ،‬وما‬
‫كان البن ر�شيد �أن يند عنه �أمر الن�سبة ذلك‪.‬‬
‫‪ ‬علمه بالق�صيدة التي �أخذت منها الأبيات التي ن�سبها �أبو البركات‬
‫لأبي العبا�س بن مكنون‪ ،‬وت�صحيحه له بن�سبتها ل�صاحبها �أبي زيد‬
‫الفازازي‪ ،‬و�إن�شاده نتفة من مطلعها ا�ستدالال على �صحة ما يقول‪.‬‬
‫ومن طريف ما وقع البن ر�شيد في رحلته‪ ،‬ق�صته مع �أبي بكر بن‬
‫حبي�ش والتي تدل على تمكن ابن ر�شيد من الآداب‪ ،‬وقدرته على الخو�ض‬
‫في العباب‪ ،‬ومبارزته لذوي الب�صائر والألباب‪ ،‬يقول «لقيته بمنزله‪...‬‬
‫و�صادفته بحالة مر�ض من وثء في رجله عر�ض‪ ،‬وعنده جملة من‬
‫العواد من ال�صدور الأم�ج��اد‪ ،‬ف�أدنى وق��رب‪ ،‬و�سهل ورح��ب‪ ،‬وتفاو�ض‬
‫�أول�ئ��ك ال�صدور في فنون الأدب ك�أنها ال�شذور‪� ،‬إل��ى �أن خا�ضوا في‬
‫الأحاجي وا�ست�ضاءوا ب�أنوار �أفكارهم في تلك الدياجي‪ ،‬فخ�ضت معهم‬
‫في الحديث‪ ،‬و�أن�شدتهم بيتين كنت �صنعتهما و�أنا حديث ال�سن‪ ،‬لق�صة‬
‫بلغتني عن �أبي الح�سن �سهل بن مالك‪ ،‬رحمه اهلل‪...‬وك��ان ال�شيخ �أبو‬
‫بكر على فرا�شه‪ ،‬فزحف على ما به من �ألم �إلى محبرة وطر�س وقلم‪،‬‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫وكتب البيتين بخطه وقال للحا�ضرين ارووا هذين البيتين عن قائلهما‪،‬‬


‫و�أ�شار �إلي‪ ،‬فقلت ‪ -‬وقد ق�ضيت العجب ‪ -‬ومن �أين علمكم بهذا؟ ولعلي‬
‫ما ذكرتهما �إال �ساعتي هذه‪ ،‬فقال‪ :‬علمت ذلكم بما علم به الح�سن بن‬
‫هانئ لمخاطبه العبا�س بن نا�صح»(‪.)26‬‬
‫لنا في هذا ال�شاهد �إفادات نذكر منها‪:‬‬
‫‪ ‬خو�ضه مع �صدور الأدب دليل على �أنه مثلهم‪.‬‬
‫‪� ‬صناعته لل�شعر منذ حدثان �سنه‪.‬‬
‫ج ـ ــذور ‪ ‬حفظه للروايات الأدبية‪.‬‬
‫‪85‬‬ ‫موالي علي سليماني‬

‫‪� ‬شدة �إعجاب ال�شيخ ب�شعر ابن ر�شيد‪ ،‬جعله ي�سعى زحفا لكتابته و�إن‬
‫كان المر�ض قد �أقعده‪ ،‬ويدعو الحا�ضرين لحفظه وروايته عن قائله‪،‬‬
‫‪ ‬نباهة ال�شيخ ومعرفته ب�أن ما �أن�شدهم ابن ر�شيد هو له‪.‬‬
‫ومن �ش�أن من كان ثاقب النظر‪ ،‬حديد الب�صر‪� ،‬أن يدقق في اللغة‬
‫تدقيقا‪ ،‬والنماذج على تدقيقات ابن ر�شيد كثيرة‪ ،‬فقد دقق في �أ�سماء‬
‫الأماكن مثل ما فعل في الإل(‪ )27‬وفي ب�صرى(‪ )28‬وفي كداء‪ ،‬حيث تظهر‬
‫لنا مكانة ابن ر�شيد‪ ،‬وعلو كعبه في تحقيق الألفاظ ذات العالقة بعلم‬
‫الحديث‪ ،‬يقول محققا‪« :‬وكان دخولنا من كداء من الثنية العليا‪ ...‬وكداء‬
‫هذه هي بفتح الكاف ممدودة‪ ،‬وك��دى ب�ضم الكاف منونة ومق�صورة‬
‫ب�أ�سفل مكة‪ .‬وهاتان اللفظتان ي�ضطرب المحدثون في �ضبطهما في‬
‫الأحاديث ال�صحيحة في الأمهات‪ .‬والذي �صح عندنا في ذلك ما ي�شهد‬
‫له االختبار‪ ،‬ما ذك��ره الإم��ام �أب��و عمرو بن ال�صالح‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬وهو‬
‫تحرير بليغ في المو�ضوع‪ ،‬قال‪ ،‬رحمه اهلل‪:‬‬
‫«الم�ستحب عندنا �أن ي��دخ��ل مكة م��ن ثنية ك��داء بفتح الكاف‬
‫والمد‪...‬و�إذا خرج من مكة فليخرج من ثنية كدى ب�ضم الكاف والق�صر‬
‫والتنوين‪...‬و�أما كدي م�صغر ب�ضم الكاف وفتح ال��دال وت�شديد الياء‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫ف�إنها لمن خرج من مكة �إلى اليمن»(‪.)29‬‬


‫�إن ابن ر�شيد من خالل رحلته �أبان عن اقتدار كبير‪ ،‬وعلى ما كان‬
‫يروي عن �شيوخه‪� ،‬إال �أنه كان مدققا في كل ما ي�أخذه عنهم‪ ،‬وممح�صا‬
‫لرواياتهم «فلم يكن يكتفي ب�إيرادها فح�سب‪ ،‬و�إنما كان يعقب على �أغلبها‬
‫بال�شرح والإي�ضاح والمقارنة بين بع�ض المذاهب وذلك على طريقة ابن‬
‫ر�شد في كتابه بداية المجتهد»(‪.)30‬‬
‫وفي تدقيق معنى تبوك رجع �إلى �أ�صلها اللغوي‪ ،‬موردا «�أن ر�سول‬
‫اهلل‪� ،‬صلى اهلل عليه و�سلم جاء في غزوة تبوك‪ ،‬وهم يبوكون ح�سيها ج ـ ــذور‬
‫ثراء اخلطاب النقدي وتنوعه في النص املرحلي البن رشيد السبتي‬ ‫‪86‬‬
‫بقدح‪ ،‬فقال ما زلتم تبوكونها بعد؟ ف�سميت تبوك «ومعنى تبوكون‬
‫تدخلون فيه ال�سهم وتحركونه ليخرج ما�ؤه»(‪.)31‬‬
‫ومما �أبان فيه الرحالة كذلك عن ح�س لغوي‪ ،‬ت�صويبه لما ورد في‬
‫بيت طفيل لما قال‪:‬‬
‫ي ـ ــزرن �إالال ال ينحبـ ــن غيره بكل ملب �أ�شعث الر�أ�س محرم‬
‫فعلق قائال‪:‬‬
‫«كذا وقع ينحبن مجود ال�ضبط على �إ�صالح في ن�سخة عتيقة تولى‬
‫عنايتها �أبو عبد اهلل بن �أبي الخ�صال وال�ضبط بخطه‪ ،‬و�أراه وهما‪ ،‬و�أن‬
‫ال�صواب يحنبن‪.‬‬
‫والتحنيب االنحناء واالعوجاج‪ ،‬وهو بمعنى يجنبن بالجيم وم�صدره‬
‫التجنيب وه��و االن �ح �ن��اء‪...‬و�أم��ا التنحيب ف�لا �أع��رف ل��ه معنى يتجه‬
‫هنا»(‪.)32‬‬
‫‪ - 2‬نقد الديني‪:‬‬
‫�أ) النقد االجتماعي (نقد البدع وال�ضالالت)‪:‬‬
‫�أ�سمينا هذا النوع نقدا دينيا لأنه وثيق ال�صلة ب�أمور الدين‪ ،‬حيث‬
‫�إن ابن ر�شيد كان كثيرا ما ينتبه �إلى ما يعتري تدين العامة من جهاالت‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫جهالء و�ضالالت عمياء‪ ،‬فكان الي�ستنكف عن ردها وتوجيه قارئ المتن‬


‫�إلى ال�صواب‪ ،‬وال غرابة في ذلك فقد جمع الرحالة ب�ضاعة من الدين‬
‫وفيرة �سواء من الحديث وهو المبرز فيه‪� ،‬أو علوم القر�آن وهو جواب‬
‫ال�س�ؤال وم��دار اال�شتغال‪ ،‬لذلك كان ابن ر�شيد �أه�لا لممار�سة النقد‬
‫في ما له عالقة بالتدين‪ ،‬ووجدناه ي�ستنكر البدع ويرد ال�ضالالت على‬
‫�أ�صحابها‪ ،‬كما فعل في رد البدعة العظيمة التي �أحدثها العامة في دخول‬
‫البيت المعظم‪ ،‬يقول‪« :‬قد عاينا بع�ضها‪ ،‬وعلمنا ما لم نعاين‪ ،‬وقد ف�سر‬
‫ج ـ ــذور ذلك الإم��ام �أب��و عمرو بن ال�صالح فقال‪ :‬وقد ابتدع من قريب بع�ض‬
‫‪87‬‬ ‫موالي علي سليماني‬

‫الفجرة الختالين في الكعبة المكرمة �أمرين باطلين عظم �ضررهما على‬


‫العامة‪:‬‬
‫�أحدهما ما يذكرونه في العروة الوثقى‪ ،‬و�أوقعوا في قلوب العامة �أن‬
‫من ناله بيده‪ ،‬فقد ا�ستم�سك بالعروة الوثقى‪ ،‬ف�أحوجوهم �إلى �أن يقا�سوا‬
‫�إليها �شدة وعبئا‪ ،‬ويركب بع�ضهم فوق بع�ض‪ ،‬وربما و�ضعوا الأنثى فوق‬
‫الذكر‪ ،‬والم�ست الرجال والم�سوها‪ ،‬فلحقتهم بذلك �أن��واع من ال�ضرر‬
‫دينا ودنيا‪.‬‬
‫الثاني م�سمار ف��ي و�سط البيت ف�سموه �سرة الدنيا على ذلك‬
‫المو�ضع‪ ،‬وحملوا العامة على �أن يك�شف �أحدهم على �سرته وينبطح بها‬
‫حتى يكون وا�ضعا �سرته على �سرة الدنيا‪ ،‬قاتل اهلل وا�ضع ذلك ومختلقه‬
‫وهو الم�ستعاد»(‪.)33‬‬
‫من خالل هذا ال�شاهد ن�سجل بع�ض المالحظات‪:‬‬
‫‪ ‬يذكر ابن ر�شيد في معر�ض حديثه عن البدع �أنه عاين بع�ضها‪ ،‬وهذا‬
‫دليل على انت�شار البدع في زمانه‪.‬‬
‫‪ ‬علمه ببدع �أخرى غير التي عاين‪ ،‬وم�صدر علمه مذكور با�سمه في‬
‫الن�ص وهو الإمام �أبو عمرو بن ال�صالح رحمه اهلل‪.‬‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫‪� ‬إن البدع المتحدث عنها في هذا الن�ص مرتبطة بالركن الخام�س وهو‬
‫الحج‪.‬‬
‫‪ ‬ترتب مفا�سد عظيمة على هذه البدع في الدين والدنيا‪ ،‬وهذا دليل‬
‫على غياب الرقابة الدينية و�إر�شاد الحجاج‪� ،‬أو على الأق��ل �ضعف‬
‫فاعليتها على م�ستوى توعية الحجاج بما هو �سنة وما هو بدعة‪.‬‬
‫وارتباطا بمو�سم الحج يورد ابن ر�شيد تنبيها �آخر لعالم جليل هو‬
‫جمال الدين �أبو عمرو بن الحاجب الفقيه المالكي الذي انتقد ما يقع في‬
‫ليلة عرفات بالجبل القائم في و�سطها والمعروف بالإل‪ ،‬مما ابتدعته العامة ج ـ ــذور‬
‫ثراء اخلطاب النقدي وتنوعه في النص املرحلي البن رشيد السبتي‬ ‫‪88‬‬
‫من �إيقاد ال�شموع‪ ،‬والت�آم ال�شتيت في المجموع‪ ،‬فقال رحمه اهلل وا�صفا‬
‫بع�ضا من تلك البدع‪« :‬ومنها �إيقادهم النيران عليه ليلة عرفة‪ ،‬واهتمامهم‬
‫لذلك با�ست�صحاب ال�شمع له من بالدهم‪ ،‬واختالط الن�ساء بالرجال في‬
‫ذلك �صعودا وهبوطا بال�شموع الم�شعلة الكثيرة‪ ،‬وقد تزاحم المر�أة الجميلة‬
‫الموقدة كا�شفة عن وجهها‪ ،‬وهذه �ضاللة �شابهوا فيها �أهل ال�شرك في‬
‫مثل ذلك الموقف الجليل‪ ،‬و�إنما �أحدثوا ذلك من قريب حين انقر�ض �أكابر‬
‫العلماء العاملين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر»(‪.)34‬‬
‫وهذا الذي علم من الفقيه المالكي قد نبه ابن ر�شيد �إليه ولكن‬
‫في �صورة مفعمة بالخيال وح�سن الت�صوير قد تزين للقبيح فعلته‪ ،‬وتلمع‬
‫للجاهل �ضاللته‪ ،‬لما �أ�صبغ عليها �صاحبنا من حلل الت�شبيه والمجاز‪،‬‬
‫يقول‪« :‬وربما التقى فريق مع فريق فيغ�ص الجبل بال�صاعدين والنازلين‪،‬‬
‫وهو يت�أجج نارا ويتموج كالبحر زخارا‪ ،‬والطرق �إليه بال�شموع في و�سط‬
‫عرفات كال�سطور المذهبات تت�صل من كل الجهات‪ ،‬و�أنت �إذا نظرت‬
‫�إليه على بعد من الخيمات تراه ك�شعلة واح��دة‪ ،‬وما يطول من ال�شمع‬
‫ك�أنه �أل�سن متعا�ضدة‪ ،‬فترى عجبا �صلدا عاد ذهبا �أو �صار لهبا»(‪ )35‬ثم‬
‫�سرعان ما ي�ستدرك م�ستغفرا خوفا من وهم القارئ ا�ستح�سان ال�شيخ‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫لما ر�أى‪ ،‬و�إنما هي فقط غواية المجاز‪ ،‬عمدة الإعجاز‪ ،‬ولذة الكتابة‬
‫حبا في الطرافة والدعابة‪ ،‬يقول «�أ�ستغفر اهلل من هذا المقال و�أ�س�أل‬
‫ال�صفح عما جرى مما يوهم ا�ستح�سان هذه الحال‪ ،‬بل هذه الحال من‬
‫قبيح البدع التي يجب �أن يزجر عنها فاعلها ويردع»(‪.)36‬‬
‫ومما وقع من البدع بالوقوف بجبل عرفات ما نقله ابن ر�شيد عن‬
‫الإمام �أبي عمرونذكر «�أنهم جعلوا الجبل هو الأ�صل في الوقوف بعرفات‪،‬‬
‫فهم بذكره م�شغوفون‪ ،‬وعليه دون باقي بقاعها يحر�صون‪ ،‬وذلك خط�أ‬
‫ج ـ ــذور منهم‪ ،‬و�إنما �أف�ضلها موقف ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم»(‪.)37‬‬
‫‪89‬‬ ‫موالي علي سليماني‬

‫ب) النقد الأخالقي وال�سلوكي‪:‬‬


‫عادة ما يكثر االنحراف عند غياب الوازع الديني‪� ،‬أو عند �سوء فهمه‪،‬‬
‫�أو غياب القدوة الح�سنة‪ ،‬كل هذه العوامل من �ش�أنها �أن تخلق انحرافات‬
‫وانزالقات �سلوكية‪ ،‬و�إن تعلق الأمر ب�سلوكات الحجاج �أنف�سهم‪ ،‬ف�إذا �صح‬
‫�أن نعتبر الر�شوة مر�ض الع�صر‪ ،‬فما وجدناه في رحلة ابن ر�شيد ي�ؤكد لنا‬
‫�أن هذه البلوى وما يرافقها من االبتزاز والعنف الرمزي كانت حتى في‬
‫زمانه وهو القرن ال�سابع الهجري‪ ،‬والغريب هو �أن الرحالة تعر�ض لهذا‬
‫االنحراف ال�سلوكي وهو يرغب في دخول البيت ال�شريف‪ ،‬فال حول وال‬
‫قوة �إال باهلل‪.‬‬
‫يقول الرحالة‪« :‬وكنت حين القدوم �أردت دخ��ول البيت ‪� -‬شرفه‬
‫اهلل ‪ -‬فمنعني حجبته �إال بعد �إعطاء ما ير�ضيهم مما يبذل لهم‪ ،‬فكان‬
‫قد ح�ضرني بع�ض ال�شيء مما طبت نف�سا ب�إهدائه لهم‪ ،‬ف�أبوا قبوله‬
‫ا�ستنزارا منهم له‪ ،‬فر�أيت �أن ال �أعينهم على اتخاذ بيت اهلل مغرما‪،‬‬
‫و�أن ال �أ�شاركهم فيما اتخذوه م�أثما‪ ,‬فلما حان الرحيل وزمت المطايا‪،‬‬
‫ولم يبق من ال�سفر �إال القليل‪ ،‬كنت فيمن ت�أخر‪ ،‬ف�ألفيت البيت قد تركوه‬
‫مفتوحا‪ ،‬فاغتنمت دخوله‪ ،‬و�أنلت القلب من ذلك �س�ؤله»(‪.)38‬‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫ولي�ست الر�شوة وحدها يتيمة في تلك البقاع بل ثمة ال�سلب ونهب‬


‫المتاع لمن تغافل عن ال�سير في الجموع‪� ،‬أو تخلف عن الركب في تلك‬
‫الربوع‪.‬‬
‫يك�شف لنا ابن ر�شيد من خالل �شهادته حال مكة وقد تنكرت فيها‬
‫الأم��ور لأعالمها‪ ،‬وات�سع فيها الخرق على الراقع‪ ،‬فقل الوعي بالدين‬
‫وخفت دور العلماء العاملين ف�صفا الجو للطفيليين ممن يمر�ضون‬
‫المجتمع وي�سوء حاله بهم‪ ،‬يقول‪« :‬ومما تطوفنا عليه �أي�ضا م�سجد‬
‫�إبراهيم �إذ كنا قد نزلنا بعرفات من جهة مكة �شرفها اهلل‪ ،‬ثم رحلنا ج ـ ــذور‬
‫ثراء اخلطاب النقدي وتنوعه في النص املرحلي البن رشيد السبتي‬ ‫‪90‬‬
‫�إلى الموقف الذي كانت ال�صالة تجمع فيه قبل �أن تغير الأمور‪ ،‬وي�ضعف‬
‫الأمر بالمعروف ويخاف الناهي عن المنكر‪ ...‬ولم يتمكن لي النزول‬
‫في الم�سجد‪ ،‬و�إنما �صعدت على حائطه الموالي لعرفة �إذ هو الآن دون‬
‫ت�سقيف خيفة من �سلب �أثوابي �أو �أ�شد من ذلك‪ ،‬ف�إن ال�سالب هناك‬
‫محارب»(‪.)39‬‬
‫و�إذا كان ابن ر�شيد في هذا المقام قد اكتفى بالإ�شارة �إلى تخوفه‬
‫من ال�سلب ف�إنه في مقام �آخر يك�شف ما تعر�ض له بع�ض �أ�صحابه من‬
‫القتل وال�ضياع وال�سلب‪ ،‬وذلك �سر �إ�صراره على الذهاب �إلى عرفات بدل‬
‫المبيت بمنى‪ ،‬ا�ستر�شادا بخبرة المجربين‪ ،‬يقول‪« :‬ولقينا هنالك ال�شيخ‬
‫الزاهد الفا�ضل العامل الفقيه �أبا محمد المرجاني نفع اهلل به‪ ،‬الوا�صل‬
‫معنا من تون�س في المركب‪ ،‬ف�صلينا الع�صر جميعا‪ ،‬و�أ�شار بموافقة‬
‫الجمهور في التوجه تلك الليلة �إلى عرفات والمبيت بها‪ ،‬وتركهم �سنة‬
‫المبيت بمنى لتوقع ما يخاف من الأعراب في �أطراف النهار و�أعقاب‬
‫النا�س‪ ،‬ويحذر من انتهابهم بما قل من العدد ولم ي�ست�صحب �شيئا من‬
‫العدد‪ ،‬ومن ت�أخر من النا�س �أو انفرد‪ ،‬وان�ساللهم بين تلك ال�شعاب‪،‬‬
‫وتوغلهم في الجبال بحيث يتعذر الإيجاف عليهم بخيل �أو ركاب‪ ،‬فكان‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫العزم على التوجه‪ ،‬وكان ر�أينا مباركا والحمد هلل‪...‬وعلى �إثرنا انتهب‬
‫قطاع العرب بع�ض من ت�أخر من �أهل الركب‪ ،‬وكان منهم لمن دافعهم‬
‫قتل و�سلب و�إنا هلل و�إنا �إليه راجعون وح�سبنا اهلل ونعم الوكيل»(‪.)40‬‬
‫ومما انتقده ابن ر�شيد جهالة الحجاج‪ ،‬وعدم حر�صهم على قد�سية‬
‫المكان الذي هم فيه‪ ،‬فال فرق بينهم وبين البهائم‪ ،‬ف�إذا كان تلك البقاع‬
‫هي الأ�شرف �إطالقا ف�إن �سالمة الفطرة‪ ،‬ونقاء الطبع‪ ،‬وقدرا من التدين‬
‫تلزم الحجاج �إيالء المكان قد�سيته حر�صا منهم على نظافته وطهارته‪،‬‬
‫ج ـ ــذور ولكن هيهات هيهات‪ ،‬فا�ستمع �إلى ابن ر�شيد والألم يعت�صره وا�صفا ما‬
‫‪91‬‬ ‫موالي علي سليماني‬

‫حل بذلك المكان ال�شريف من ف�ضالت البهائم الآدمية قائال‪« :‬والذي‬


‫ظهر من الحكمة ال�شرعية في مبيت النا�س بمنى و�إقامة ال�صالة بم�سجد‬
‫�إبراهيم ثم المجيء �إلى الموقف �أن ي�صل النا�س وتلك الأمكنة المطهرة‬
‫طاهرة‪ ،‬ولم يبق �إال الت�شاغل بالذكر والدعاء‪ ،‬و�أما الآن فت�صبح تلك‬
‫العر�صات الم�شرفات وقد ملئت ف�ضالت �آدميات وبهيميات‪ ،‬و�إن �شئت‬
‫قل في الجميع بهيميات‪.‬‬
‫ولقد جهدنا �أنف�سنا �أن نجد مو�ضعا لل�صالة طاهرا فما وجدناه‪� ،‬إال‬
‫�أن ي�صلى على حائل يو�ضع على الأر�ض حتى على ال�صخرات المباركات‬
‫وال حول وال قوة �إال باهلل»(‪.)41‬‬
‫وعلى الذي ذكرناه فلي�س كل �آراء ابن ر�شيد و�شهاداته انتقادا ال�سعا‬
‫ل�سلوك الأعراب بمكة وجحافل الحجاج‪ ،‬بل وجدناه ي�شيد ب�سلوك �أبناء‬
‫مكة‪ ،‬ك�صنيعه في هذه ال�شهادة حيث يقول‪« :‬فتلقانا �أهل مكة و�أطفالها‬
‫متعلقين بالنا�س‪ ،‬ليعلموهم المنا�سك‪ ،‬ويهدوهم الم�سالك‪ ،‬قد درب‬
‫�صبيانهم على ذلك وحفظوا من الأدعية والأذكار ما يح�سن هنالك»(‪.)42‬‬
‫وت�ل��ك �سنة اهلل ف��ي الخلق فالنا�س �أخ �ي��ار و�أ���ش��رار‪� ،‬صالحون‬
‫وطالحون‪ ،‬ف�إذا مر بنا في �شهادة خلت �سلب القطاع للحجاج وت�سللهم‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫بين ال�شعاب‪ ،‬ف�إن اهلل �سبحانه في مقابل ذلك �سخر لهم �صبية وجعلهم‬
‫بمثابة الأ�صحاب‪ ،‬ليهدوهم الم�سالك ويخففوا عنهم الأتعاب‪ ،‬وهلل في‬
‫خلقه �ش�ؤون‪.‬‬
‫ف�إذا كان ما �سبق من �أهل مدينة الجالل فمثله �صدر من �أهل مدينة‬
‫الجمال‪� ،‬أبناء المدينة المنورة الذين قال عنهم ابن ر�شيد «تلقانا �أهل‬
‫المدينة على �ساكنها ال�صالة وال�سالم مب�شرين بالو�صول �إلى ح�ضرة‬
‫الم�صطفى الر�سول‪ ،‬وجالبين من تمر المدينة ما يتحفون به القادمين‬
‫ملتم�سين رفدهم‪ ،‬وقد �صنعوا ع�صيا في �أطرافها �أوعية �صغار‪ ،‬فيجعلون ج ـ ــذور‬
‫ثراء اخلطاب النقدي وتنوعه في النص املرحلي البن رشيد السبتي‬ ‫‪92‬‬
‫فيه �شيئا من التمر‪ ،‬ويناولونه �أهل القباب الم�سترة من بين �ستورها‪،‬‬
‫فيعطي كل واحد ما تي�سر له من الرفد‪ ،‬ويدفعون �إلى الركبان والم�شيان‬
‫�أي�ضا من ذلك على حكم التحفة والهدية فيح�سن كل على قدر وجده‪،‬‬
‫ويق�سمه النا�س بينهم متبركين م�ستب�شرين‪ ،‬وقد ر�أيتهم يحنكون به‬
‫الأطفال التما�سا للبركة وحق لهم ذلك»(‪.)43‬‬
‫ومن العادات الح�سنة التي تظهرها هذه ال�شهادة في �سلوك �أهل‬
‫المدينة‪:‬‬
‫‪ ‬الكرم‪.‬‬
‫‪ ‬الح�شمة والوقار‪.‬‬
‫‪ ‬تقديم الم�ساعدة للحجاج‪.‬‬
‫‪ ‬تقديم الهدايا لهم‪.‬‬
‫‪ ‬تبرك الحجاج بعطايا �أهل المدينة‪.‬‬
‫ولم يكن ابن ر�شيد ينتقد الحجاج في تدينهم �إال لعلم بالفقه‪،‬‬
‫ولتعليل التوجه الفقهي عند ابن ر�شيد �أجدني م�ضطرا لعر�ض بع�ض‬
‫ال�شواهد‪:‬‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫منها قوله‪« :‬فطفنا بالبيت طواف القدوم‪...‬فدخل معي المطاف‬


‫رفيقي الوزير �أبو عبد اهلل الذي فاز دوني بمزية البدار‪ ،‬وحظي بحظ‬
‫من ال�ج��وار‪ ،‬فقال لي منبها ومفيدا‪� :‬إن بع�ض �شيوخنا ق��ال لي �إنه‬
‫ت�ستحب ت�لاوة القر�آن في الطواف عند ن��زول المطر لما يرتجى من‬
‫اجتماع البركات التي وردت في ثالث �آيات‪ ،‬وهي قوله‪�} :‬إن �أول بيت‬
‫و�ضع للنا�س للذي ببكة مباركا{ [�آل عمران‪ ]96 :‬وقوله‪} :‬كتاب �أنزلناه‬
‫مباركا{ [الأنعام‪ ]92 :‬وقوله‪} :‬ونزلنا من ال�سماء ماء مباركا{ [ق‪]9 :‬‬
‫ج ـ ــذور فامتثلت ذلك‪ ،‬رجاء نعمة المنعم المالك»(‪.)44‬‬
‫‪93‬‬ ‫موالي علي سليماني‬

‫ولي�س امتثال ابن ر�شيد لجهله بل طلبا والتما�سا الجتماع البركات‪،‬‬


‫لذلك �أردف قائال‪« :‬وق��راءة القر�آن ال تقدم على الأذك��ار الم�أثورة في‬
‫هذا المحل‪ ،‬و�إن كان �أف�ضل منها‪� ،‬إذ من القواعد �أن ال ي�شغل عن معنى‬
‫ذكر من الأذكار بمعنى غيره من الأذكار‪ ،‬و�إن كان �أف�ضل منه �أنه �سوء‬
‫�أدب‪ ،‬ولكل مقام مقال يليق به وال يتعداه»(‪ )45‬ثم ي�شرع في ب�سط �آراء‬
‫العلماء واختالفاتهم حول قراءة القر�آن في الطواف‪ ،‬يقول‪« :‬وقد ورد‬
‫من الأذكار في القر�آن ما يقال بين الركنين اليمانيين }ربنا �آتنا في‬
‫الدنيا ح�سنة وفي الآخرة ح�سنة وقنا عذاب النار{ وبهذه الآية عقب‬
‫على الأذكار فكان �أولى»(‪.)46‬‬
‫ولقد كان يق�صد �إل��ى بيان مذهبه المالكي و�إن كان على اطالع‬
‫بالمذاهب الأخرى خا�صة من خالل جلو�سه �إلى م�شايخ كبار في رحلته‬
‫الحجية‪ ،‬مثال ذلك قوله‪« :‬و�أهللنا بحجة مفردة لم ن�ضف �إليها قرانا‬
‫وال تمتعا على ما اختاره �إمام المدينة مالك‪ ،‬ور�آه �أتم الأعمال و�أح�سن‬
‫الم�سالك»(‪.)47‬‬
‫وها هي التفاتة فقهية �أخرى تظهر علمه بالأحكام ال�شرعية في ت�أدية‬
‫بع�ض منا�سك الحج‪ ،‬يقول‪�« :‬صلينا ال�صبح بذلك المحل الكريم‪ ،‬راجين‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫ف�ضله العميم‪ ،‬وودعناه وما ودعناه‪ ،‬و�أودعناه الأرواح و�سرنا بالأ�شباح‪،‬‬


‫وال�ضلوع تتقد والدموع تطرد‪...‬فوافينا ذا الحليفة وهي مو�ضع �إحرام‬
‫المدنيين وجوبا‪ ،‬ومن اجتاز من غيرهم ندبا»(‪.)48‬‬
‫على �سبيل الختم‪:‬‬
‫تعتبر رحلة ابن ر�شيد ال�سبتي موردا خ�صبا ومنهال وا�سع الحيا�ض‬
‫كثير الوراد‪ ،‬جمع فيه علوما كثيرة وفوائد غزيرة‪ ،‬فللباحث المنقر ف�ضل‬
‫متعة وخير رتعة‪ ،‬وهو واجد فيها وال �شك ما �شغل باله وهيج بلباله‪ ،‬فقد‬
‫جمع فيها العجائب والغرائب ما تقف دونه الخواطر‪ ،‬و�أت��ى من ذلك ج ـ ــذور‬
‫ثراء اخلطاب النقدي وتنوعه في النص املرحلي البن رشيد السبتي‬ ‫‪94‬‬
‫بال�سحب المواطر‪ ،‬وقد يجد القارئ نف�سه من الع�شق عجال يم�شي على‬
‫ا�ستحياء‪ ،‬ومن الإعجاب خجال يلف ر�أ�سه من حياء‪ ،‬لما عر�ض له ابن‬
‫ر�شيد من العلوم الغزار والفوائد الأبكار‪ .‬ولي�س ذلك بعزيز على من‬
‫تتلمذ على الم�شايخ الكبار ‪� -‬أخ�ص منهم ‪ -‬حبر العلماء و�سراج الأدباء‬
‫حازم القرطاجني الذي فتق فيه قريحة النقد من �أكمامها‪ ،‬فجاء بنقود‬
‫غاية في الدقة في علوم هو �أحد �أعالمها‪ ،‬فمن النقد الأدبي �إلى النقد‬
‫الديني �إلى النقد االجتماعي وال�سلوكي‪ ،‬وفي جل ذلك وجدناه مبرزا‬
‫على نقي�صة تعتريه‪ ،‬وهي اعتداده بذاته في بع�ض المواطن‪.‬‬
‫ولي�س ذلك ينق�ص من قيمة الرجل �شيئا �إذ الكمال هلل جل في عاله‪،‬‬
‫فقد �أفدنا من رحلته كثيرا على ما �ضاع من �أجزائها لما فيها من كثرة‬
‫الأخبار والن�صو�ص مما جعل منها «م�صدرا مهما ي�شبه �إلى حد ما يتيمة‬
‫الدهر للثعالبي �أو الذخيرة البن ب�سام»(‪.)49‬‬
‫نرجو �أن نكون قد جمعنا في هذه الورقة البحثية بع�ضا من جوانب‬
‫الح�س النقدي البن ر�شيد‪ ،‬والذي �أبان عن مو�سوعية كبيرة ت�أتى له بع�ض‬
‫منها برحالته التي �سعى من خاللها �إلى طلب مزيد كمال في العلم بلقاء‬
‫الم�شايخ وذلك �ش�أن المتقدمين من ال�سلف‪� ،‬شن�شنة �أعرفها من �أخزم‪.‬‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫ج ـ ــذور‬
‫‪95‬‬ ‫موالي علي سليماني‬

‫الهوامـ ــ�ش‬
‫(‪ )1‬ملء العيبة ج ‪� ,5‬ص ‪.18‬‬
‫(‪ )2‬نف�سه‬
‫(‪ )4‬ملء العيبة ج ‪� ,5‬ص ‪.18‬‬
‫(‪ )4‬ملء العيبة ج ‪� ,5‬ص ‪.18‬‬
‫(‪ )5‬رحلة ابن ر�شيد ال�سبتي درا�سة وتحليل الدكتور �أحمد حدادي من�شورات وزارة الأوقاف‬
‫وال�ش�ؤون الإ�سالمية المغرب ‪ ,2003‬ج ‪� ,1‬ص ‪.157‬‬
‫(‪ )6‬ملء العيبة ج ‪� ,5‬ص ‪.18‬‬
‫(‪ )7‬نف�سه �ص ‪.7‬‬
‫(‪ )8‬ال�شعر وال�شعراء‪ ،‬ابن قتيبة دار الثقافة بيروت ‪ ,1980‬ج ‪� ,1‬ص ‪ 248-247‬وينظر العمدة‬
‫في محا�سن ال�شعر ونقده‪ ،‬ابن ر�شيق القيرواني‪ ،‬تحقيق محيي الدين عبدالحميد م�صر‬
‫(دت) ج ‪� ,1‬ص ‪.52‬‬
‫(‪ )9‬رحلة ابن ر�شيد ال�سبتي ج ‪� ,1‬ص ‪.97‬‬
‫(‪ )10‬نف�سه‪.‬‬
‫(‪ )11‬ملء العيبة ج ‪� ,2‬ص ‪.392‬‬
‫(‪� )12‬إ�شارة �إلى قول ال�شاعر‪:‬‬
‫�أذود القوافي عني ذيادا ذياد غالم جريء جوادا‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫فلما كث ـ ــرن وعنيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــنه تخير منهن �ستا جـ ــيادا‬


‫(‪ )13‬ملء العيبة ج ‪� ,2‬ص ‪.256‬‬
‫(‪ )14‬ملء العيبة ج ‪� ,2‬ص ‪.256‬‬
‫(‪� )15‬أزهار الريا�ض ج ‪� ,2‬ص ‪.350‬‬
‫(‪ )16‬ملء العيبة ج ‪� ,2‬ص ‪.387‬‬
‫(‪ )17‬المو�شح في م�آخذ العلماء على ال�شعراء القاهرة ‪1385‬هـ �ص ‪ 55‬وينظر كذلك نقد‬
‫ال�شعر‪ ،‬قدامة بن جعفر تحقيق كمال م�صطفى م�صر ‪� ،1963‬ص ‪.64-63‬‬
‫(‪ )18‬الأغاني ‪ ،‬الأ�صفهاني دار الثقافة ج ‪� ،16‬ص ‪.170‬‬
‫(‪ )19‬ينظر ملء العيبة ج ‪� ,2‬ص ‪ .204-203‬وقد ت�صرفنا في الن�ص لطوله واقت�صرنا على‬
‫ج ـ ــذور‬ ‫الأفيد‪.‬‬
‫ثراء اخلطاب النقدي وتنوعه في النص املرحلي البن رشيد السبتي‬ ‫‪96‬‬
‫(‪ )20‬ملء العيبة ج ‪� ,2‬ص ‪.204‬‬
‫(‪ )21‬رحلة ابن ر�شيد ال�سبتي درا�سة وتحليل الدكتور �أحمد حدادي ج ‪� ،2‬ص ‪.630‬‬
‫(‪ )22‬البن ر�شيد عدة م�ؤلفات في علوم البالغة نذكر منها‪�« :‬أحكام الت�أ�سي�س في �أحكام‬
‫التجني�س» و«�إيراد المرتع المريع لرائد الت�سجيع والتر�صيع» وهو الإ�ضاءات والإنارات‬
‫في البديع‪ ،‬وله �أي�ضا في علم البيان «حكم اال�ستعارة» ينظر �أزه��ار الريا�ض ج ‪،2‬‬
‫�ص‪ 350‬والإعالم للمراك�شي ج ‪� ،3‬ص ‪ 352‬وينظر كذلك بغية الوعاة �ص ‪ 85‬والوافي‬
‫بالوفيات ج ‪� ,4‬ص ‪.284‬‬
‫(‪ )23‬ينظر مقدمة ابن خلدون �ص ‪.436‬‬
‫(‪ )24‬ملء العيبة ج ‪� ,2‬ص ‪.195‬‬
‫(‪ )25‬نف�سه ج ‪� ,2‬ص ‪.254‬‬
‫(‪ )26‬ملء العيبة ج ‪� ,2‬ص ‪ .84-85‬وتتمة الق�صة قوله في �ص ‪« 86‬ثم حكى �أن العبا�س بن‬
‫نا�صح لما رحل �إلى الم�شرق لقي الح�سن بن هانئ‪ ،‬ف�سلم عليه ولم يعرفه نف�سه‪ .‬لكنه‬
‫عرفـه �أو عرف �أنه من �أهل الأندل�س ف�أقبل الح�سن ي�س�أله عن �شعراء الأندل�س �شاعرا‬
‫�شاعرا‪ ،‬وي�س�أله عن كل واحد �أحي �أم ميت‪ ،‬وين�شده �أ�شعارهم فيجيبه عمن ا�ستف�سره‪،‬‬
‫وين�شده ما ح�ضره‪� ،‬إلى �أن �س�أله عن العبا�س بن نا�صح فقال هو حي‪ ،‬فقال هل تذكر‬
‫�شيئا من �شعره؟ فقال نعم‪ ،‬فا�ستن�شده ف�أن�شده‪ :‬ف�أدت الغري�ض ومن ذا ف�أد(المتقارب)‬
‫قال فلم ي�سمع منه غير هذا الم�صراع ونزل عن مرتبته‪ ،‬وقام �إليه وعانقه‪ ،‬وقال‪� :‬أنت‬
‫واهلل العبا�س بن نا�صح فقال نعم ولكن بم ا�ستدللت علي؟ فقال �إني لما كنت �أ�س�ألك‬
‫عن غيرك كنت تجيبني م�ستريحا من غير خجل‪ ،‬فلما �س�ألتك عن نف�سك ر�أيت عندك‬
‫خجال‪ ،‬فلما ا�ستن�شدتك ف�أن�شدت و�ضح لي ذلك‪.‬‬
‫فقلت لل�شيخ ‪ ،‬هو كما ذكرتم‪ ،‬وعجبت من ح�سن تهديه‪ ،‬وغريب هذا االتفاق وما وقع‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫له مع �أبي نوا�س الح�سن بن هانئ من الوفاق»‪.‬‬


‫(‪ )27‬ملء العيبة ج ‪� ,5‬ص ‪.94-89‬‬
‫(‪ )28‬ملء العيبة ج ‪� ,5‬ص ‪.20‬‬
‫(‪ )29‬ملء العيبة ج ‪� ,5‬ص ‪.82-81‬‬
‫(‪ )30‬رحلة ابن ر�شيد ال�سبتي درا�سة وتحليل الدكتور �أحمد حدادي ج ‪� ,1‬ص ‪.127‬‬
‫(‪ )31‬ملء العيبة ج ‪� ,5‬ص ‪.9‬‬
‫(‪ )32‬ملء العيبة ج ‪� ,5‬ص ‪.91-90‬‬
‫(‪ )33‬ملء العيبة ج ‪� ,5‬ص ‪.265-264‬‬
‫(‪ )34‬ملء العيبة ج ‪� ,5‬ص ‪.88-87‬‬ ‫ج ـ ــذور‬
‫‪97‬‬ ‫موالي علي سليماني‬

‫(‪ )35‬ملء العيبة ج ‪� ,5‬ص ‪.88-87‬‬


‫(‪ )36‬نف�سه‪.‬‬
‫(‪ )37‬ملء العيبة ج ‪� ,5‬ص ‪.95‬‬
‫(‪ )38‬ملء العيبة ج ‪� ,5‬ص ‪.264‬‬
‫(‪ )39‬ملء العيبة ج ‪� ,5‬ص ‪.96‬‬
‫(‪ )40‬نف�سه ج ‪� ,5‬ص ‪.87‬‬
‫(‪ )41‬ملء العيبة ج ‪� ,5‬ص ‪.95‬‬
‫(‪ )42‬ملء العيبة ج ‪� ,5‬ص ‪.80‬‬
‫(‪ )43‬نف�سه ج ‪� ,5‬ص ‪.16‬‬
‫(‪ )44‬ملء العيبة ج ‪� ,5‬ص ‪.85-84‬‬
‫(‪ )45‬نف�سه ‪.85‬‬
‫(‪ )46‬ينظر ملء العيبة ج ‪� ,5‬ص ‪.85-84‬‬
‫(‪ )47‬ملء العيبة ج ‪� ,5‬ص ‪.73‬‬
‫(‪ )48‬نف�سه‪� ،‬ص ‪.71‬‬
‫(‪ )49‬رحلة ابن ر�شيد ال�سبتي درا�سة وتحليل الدكتور �أحمد حدادي ج ‪� ,1‬ص ‪.134‬‬
‫العدد ‪ ، 39‬ربيع األول ‪1436‬هـ ‪ -‬يناير ‪2015‬‬

‫ج ـ ــذور‬

‫)‪Powered by TCPDF (www.tcpdf.org‬‬

You might also like