Professional Documents
Culture Documents
ثراء الخطاب النقدي وتنوعه في النص الرحلي لابن رشيد السبتي
ثراء الخطاب النقدي وتنوعه في النص الرحلي لابن رشيد السبتي
ﺇﺳﻠﻮﺏ APA
(*) موالي علي �سليماين
ﺳﻠﻴﻤﺎﻧﻲ ،ﻣﻮﻻﻱ ﻋﻠﻲ .(2015) .ﺛﺮﺍﺀ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﻨﻘﺪﻱ ﻭﺗﻨﻮﻋﻪ
ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺺ ﺍﻟﺮﺣﻠﻲ ﻻﺑﻦ ﺭﺷﻴﺪ ﺍﻟﺴﺒﺘﻲ) :ﺕ :(271ﻣﻠء ﺍﻟﻌﻴﺒﺔ ﺑﻤﺎ
ﺟﻤﻊ ﺑﻄﻮﻝ ﺍﻟﻐﻴﺒﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺟﻬﺔ ﺍﻟﻮﺟﻴﻬﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﺮﻣﻴﻦ ﻣﻜﺔ
ﻭﻃﻴﺒﺔ.ﺟﺬﻭﺭ ،ﺝ .97 - 75 ،39ﻣﺴﺘﺮﺟﻊ ﻣﻦ
http://search.mandumah.com/Record/631798 توطئـ ـ ــة:
ﺇﺳﻠﻮﺏ MLA
تعتبر الرحلة واحدة من الم�صادر الجامعة للمعرفة ،وخا�صة تلك
ﺳﻠﻴﻤﺎﻧﻲ ،ﻣﻮﻻﻱ ﻋﻠﻲ" .ﺛﺮﺍﺀ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﻨﻘﺪﻱ ﻭﺗﻨﻮﻋﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺺ
التي يكون الدافع �إليها طلب العلم ولقاء الم�شايخ� ،إذ بذلك تكتمل
ﺍﻟﺮﺣﻠﻲ ﻻﺑﻦ ﺭﺷﻴﺪ ﺍﻟﺴﺒﺘﻲ) :ﺕ :(271ﻣﻠء ﺍﻟﻌﻴﺒﺔ ﺑﻤﺎ ﺟﻤﻊ ﺑﻄﻮﻝ
ﺍﻟﻐﻴﺒﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺟﻬﺔ ﺍﻟﻮﺟﻴﻬﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﺮﻣﻴﻦ ﻣﻜﺔ ﻭﻃﻴﺒﺔ".ﺟﺬﻭﺭﺝ39
�شخ�صية الرحالة وت�ستوي على �سوقها ،لما تف�سحه ل�صاحبها من
) .97 - 75 :(2015ﻣﺴﺘﺮﺟﻊ ﻣﻦ
مخالطة الرجال بكثرة التجوال .وللرحلة الحجية خ�صو�صيتها ،لما لهذه
http://search.mandumah.com/Record/631798
الوجهة ال�شريفة من مكانة وقد�سية عند العامة بله الخا�صة ،وخا�صة
الخا�صة والتي تغ َّنى بها العلماء ،فذلك موطن التقائهم ،وثمة تتالقح
�أفكارهم وتتنوع ،وقد ي�سر اهلل البن ر�شيد ذلك الذي رحل من �أجله،
العدد ، 39ربيع األول 1436هـ -يناير 2015
فكان كتابه «ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة
�إلى الحرمين مكة وطيبة» خال�صة رحلة جمعت من الفوائد والفرائد
ما �سن�سعى �إلى الك�شف عنه خ�صو�صا ما تعلق بح�سه النقدي.
- 1نقد ال�شعر:
�سنورد في ه��ذه الورقة البحثية مجموعة من ال�شواهد النقدية
© 2023ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ .ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺤﻘﻮﻕ ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ.
ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻣﺘﺎﺣﺔ ﺑﻨﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﺗﻔﺎﻕ ﺍﻟﻤﻮﻗﻊ ﻣﻊ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ ،ﻋﻠﻤﺎ ﺃﻥ ﺟﻤﻴﻊ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ
�ضمنها الرحالة الجوال القوال ابن ر�شيد في كتابه «ملء العيبة» لنبين
ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ .ﻳﻤﻜﻨﻚ ﺗﺤﻤﻴﻞ ﺃﻭ ﻃﺒﺎﻋﺔ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻟﻼﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﺍﻟﺸﺨﺼﻲ ﻓﻘﻂ ،ﻭﻳﻤﻨﻊ ﺍﻟﻨﺴﺦ ﺃﻭ
ﺍﻟﺘﺤﻮﻳﻞ ﺃﻭ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﻋﺒﺮ ﺃﻱ ﻭﺳﻴﻠﺔ )ﻣﺜﻞ ﻣﻮﺍﻗﻊ ﺍﻻﻧﺘﺮﻧﺖ ﺃﻭ ﺍﻟﺒﺮﻳﺪ ﺍﻻﻟﻜﺘﺮﻭﻧﻲ( ﺩﻭﻥ ﺗﺼﺮﻳﺢ ﺧﻄﻲ ﻣﻦ
ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﻨﺸﺮ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﻨﻈﻮﻣﺔ.
ج ـ ــذور (*) أستاذ البالغة وتحليل الخطاب بكلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بني مالل -المغرب.
75
توطئـ ـ ــة:
تعتبر الرحلة واحدة من الم�صادر الجامعة للمعرفة ،وخا�صة تلك
التي يكون الدافع �إليها طلب العلم ولقاء الم�شايخ� ،إذ بذلك تكتمل
�شخ�صية الرحالة وت�ستوي على �سوقها ،لما تف�سحه ل�صاحبها من
مخالطة الرجال بكثرة التجوال .وللرحلة الحجية خ�صو�صيتها ،لما لهذه
الوجهة ال�شريفة من مكانة وقد�سية عند العامة بله الخا�صة ،وخا�صة
الخا�صة والتي تغ َّنى بها العلماء ،فذلك موطن التقائهم ،وثمة تتالقح
�أفكارهم وتتنوع ،وقد ي�سر اهلل البن ر�شيد ذلك الذي رحل من �أجله،
العدد ، 39ربيع األول 1436هـ -يناير 2015
فكان كتابه «ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة
�إلى الحرمين مكة وطيبة» خال�صة رحلة جمعت من الفوائد والفرائد
ما �سن�سعى �إلى الك�شف عنه خ�صو�صا ما تعلق بح�سه النقدي.
- 1نقد ال�شعر:
�سنورد في ه��ذه الورقة البحثية مجموعة من ال�شواهد النقدية
�ضمنها الرحالة الجوال القوال ابن ر�شيد في كتابه «ملء العيبة» لنبين
ج ـ ــذور (*) أستاذ البالغة وتحليل الخطاب بكلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بني مالل -المغرب.
ثراء اخلطاب النقدي وتنوعه في النص املرحلي البن رشيد السبتي 76
�أن الرجل �سابق القدم في العلم بالأ�شعار وحفظها ،متمكن اليد في
امتالك نا�صية اللغة ،له علم بالنقد وما يت�صل به من علوم ،مردفين
تلك ال�شواهد بتعليقاته و�آرائنا في المو�ضوع.
في ثنايا الجزء الخام�س من الرحلة وجدنا ابن ر�شيد -وفي معر�ض
حديثه عن دخوله المدينة وق�ضائه �أدب التحية -ي�ستدل ب�شعر للأديب
ال�صوفي المعروف بابن ال�سماط حيث يقول:
«و�إذا �أ������س������أت ت�����أدب����ي ب��ح��م��اك��م ع��ف��وا ف���إن��ي غ��ب��ت ع��ن معقولي
حرم الحبيب فيهتدي لتميز المعلوم والمجهول»()1
من ذا يرى َ َ
ف�أردف ابن ر�شيد قائال« :ولي من كلمة في نحو هذا:
و�إن �أ�ضع �أدب��ا فال�صفح ملتم�س �إن����ي ب��ق��ل��ب م���ن الإع���ظ���ام م�ل��آن
لثم وتعفير خد فعل ولهان»()2 منذايرىربعمحبوبفي�صبرعن
ولمت�أمل متفر�س في هذه الأبيات �أن يت�ساءل:
ما الفروق بين قول ابن ال�سماط وابن ر�شيد �أ�سلوبيا ،ولمن نحكم
بالإ�صابة في الغر�ض ،وللدقة في اختيار الألفاظ؟
جوابا على هذا ال�س�ؤال نقول:
� أول فرق بين ال�شاعرين يتمثل في كون ابن ال�سماط قال في �أول البيت
(و�إذا �أ�س�أت) في حين قال ابن ر�شيد (و�إن �أ�ضع) ،والفرق بين �إذا
العدد ، 39ربيع األول 1436هـ -يناير 2015
و�إن كبير جدا ،فـ (�إذا) تفيد التحقق و(�إن) تفيد االحتمال فانظر
�إلى قوله تعالى }�إذا جاء ن�صر اهلل والفتح{ فقد تحقق مجيء الفتح،
وانظر في مقابل ذلك �إل��ى قوله �سبحانه }�إن ج��اءك��م فا�سق بنب�أ
فتبينوا{ فـ(�إن) وال �شك تفيد االحتمال والظن ،فقد ي�أتي الفا�سق
وقد ال.
ابن ال�سماط ا�ستعمل(�أ�س�أت) بعد (�إذا) وابن ر�شيد ا�ستعمل (�أ�ضع)
بعد (�إن) وفرق كبير بين ظالل الفعلين ومعناهما ،فالإ�ساءة فيها من
ج ـ ــذور القدحية والق�صدية ما لي�س في �أ�ضع.
77 موالي علي سليماني
ابن ال�سماط قال (�أدبي) وابن ر�شيد قال (�أدبا) فالأول �أ�ضاف الأدب
�إلى ياء المتكلم الدالة على ال�شاعر فعرف الأدب بمقت�ضى الإ�ضافة،
وابن ر�شيد قال (�أدبا) من غير �إ�ضافته �إلى نف�سه ،فجعله نكرة لإفادة
التقليل ،والدليل كون قلبه ملآن من الإعظام.
وه��ذه المالحظات تدل على ح�صافة ابن ر�شيد ،وذوق��ه العالي،
و�إح�سا�سه المرهف باللغة العربية ،وخبرته ب�أ�ساليبها و�ألفاظها.
ومما دل على �أن ابن ر�شيد كان كثير التنقيب والتنقير والتدقيق
والتدنيق والترقيق ،خو�ضه في مقارنة �شعره ب�شعر غيره ،خا�صة حال
العدول �إلى الت�صغير ،ليخل�ص �إلى جودة اختياره ،وهو و�إن كان محقا
في هذا الذي �سنعر�ضه �إال �إنه في �سياقات �أخرى كثير االعتداد بنف�سه.
فقد ظهر قرن النقد طالعا عند الرحالة عندمانقد �شعره الذي نظم
لما وافى خلي�صا فقال:
«وخلي�ص �إذا وردنا خل�صه فرعى اهلل �أويقات الورود
ومطلع الق�صيد:
بذمام كان في وادي زرود»()3 �أهل ودي ال تدينوا بال�صدود
العدد ، 39ربيع األول 1436هـ -يناير 2015
ثم يبا�شر ابن ر�شيد نقد �شعره ،لإظهار ف�ضله على غيره ،يقول:
«وه��ذا البيت اتفقت فيه موافقة ح�سنة في الت�صغير ،كرعت في
مورد من الح�سن ال تحلأ عنه ،وذلك �أن ال�شعراء �أكثروا من الت�صغير
في محل� ،إما ل�ضرورة وزن� ،أو لق�صد �ضعيف غير قوي ،وربما ندر منهم
فيما �صدر عنهم ما ي�ستح�سن»(.)4
ونظرا ل�شدة ت�أثره ب�شيخه �أب��ي الح�سن ح��ازم القرطاجني الذي
�أخذ عنه «وتتلمذ عليه ،و�شرح له بع�ض كتبه حتى �صار كل ما يتمثله من
الم�سائل البالغية �أو النقدية م�ستوحى من �أفكاره» ،ف�إنه ي�ستدل بر�أيه ج ـ ــذور
ثراء اخلطاب النقدي وتنوعه في النص املرحلي البن رشيد السبتي 78
في هذا المو�ضوع حيث يقول« :كان �أبو الطيب المتنبي مولعا بالت�صغير،
ولم يوفق من ذلك �إال في قوله:
ظللت بين �أ�صيحابي �أكفكفه وظل ي�سفح بين العذر والعذل
فح�سن ه��ذا لما ك��ان الموطن مظنة لقلة ال�صحب ،فكثيرا ما
ي�ستعملون ذكر الخليلين في هذا المو�ضع»(.)6
ثم يعود ابن ر�شيد وقد ا�سترفد منهج �شيخه في النقد ،ليزاوج بين
الوظيفتين ،فهو المبدع والناقد في الآن نف�سه ،يقول« :قلت ووجه ح�سن
البيت الذي �أن�شدته من طريقين:
�أحدهما :المنا�سبة اللفظية ،ف�إن خلي�صا م�صغر و�أويقات كذلك،
والمنا�سبة اللفظية مما تعتبر...
الثاني وهو �أقرب للحظ المعنوي ،وهو �أن �أوق��ات ال�سرور تو�صف
بالق�صر»(.)7
لقد تمثل ابن ر�شيد النقد في بداياته الأولى في الجاهلية وفي �صدر
الإ�سالم ،لذلك فحديثه عن توظيف ال�شعراء للت�صغير يذكرنا بواقعة
هجاء النجا�شي بني العجالن ،وقد كان من �ضمن ما هجاهم به قوله:
قبيـ ـ ــلة ال يغدرون بذم ــة وال يظلمون النا�س حبة خردل
العدد ، 39ربيع األول 1436هـ -يناير 2015
}وما ربك بظالم للعبيد{ فقال كيف جاء الظالم ولم يقل ظالم ،وال
يلزم من نفي الكثير نفي القليل بخالف العك�س؟! ثم �أجاب ال�شيخ ر�ضي
اهلل عنه ب�أن قال� :إن اهلل تعالى ال ين�سب �إليه من الظلم ال قليل وال كثير،
ولكن جرت عادة العرب �أن ال ينفى عن عظمائها �إال ما ي�صح ن�سبته
�إليها...فيقولون على هذا الأ�سلوب الملك لي�س بظالم ،وال يقولون لي�س
بظالم ،لأنه لو جاز �أن ين�سب �إليه ظلم لم ين�سب �إليه �إال ما يليق بالملوك
الأعاظم ،فجرى على ذلك جميع كالم العرب ،فقلت له :ي�شهد ب�صحة
ما قلتم ما وقع في كتاب ال�سيرة النبوية» (.)9
وفي هذا ال�شاهد �إ�شارة لطيفة لتعليل ما وقع في �أ�سلوب القر�آن من
العدول من �صيغة �إلى �أخرى ،وقد �أكد ابن ر�شيد ما ورد عن �صاحبه �أبي
القا�سم بن زيتون.
وي�ؤكد هذا الحقيقة البالغية من خالل �شاهد �آخر يمدح فيه عامر
الخ�صفي ها�شم بن حرملة الملك( :م�شطور الرجز)
�أحيا �أباه ها�شم بن حرملة
ترى الملوك عنده مغربلة
العدد ، 39ربيع األول 1436هـ -يناير 2015
نعمنا بمر�أى منه �أ�سفر عن �سنا و�إن ك����ان ���ش��ح��ا �أط������ال ان��ت��ق��اب��ه
ودوح ك�ساه الغيث خ�ضراء �سند�س و�أب��دى بيا�ض الزهر فيه عجابه
ك�����أن ���س��م��اء زه���ره���ا ال���زه���ر �إن��م��ا بها لم يخف �شيطان لهوي �شبابه
وهذا البيت الأخير فيه ت�أخر وتكلف ،ولو قال فحاكت �سما لكان
�أق��رب و�أع��رب ،وكذلك قوله :ورو���ض جنينا ،لو قال جلبنا كان �أ�شبه
و�أوجه ،ولكن االرتجال يعذر فيه من ق�صر في المجال»(.)16
ذكرنا �صنيع ابن ر�شيد بما كان عليه النقد في الع�صر الجاهلي،
ج ـ ــذور حيث ك��ان ع�ب��ارة ع��ن �شواهد و�أخ �ب��ار تبرز الخطرات النقدية عند
81 موالي علي سليماني
النقدي نذكر �شاهدا ج��اء فيه�« :أن�شدنا �أب��و عبداهلل بن حيان قال:
�أن�شدنا �أبو المطرف بن عميرة المخزومي لنف�سه:
ف�ضل الجمال على الكمال بوجهه والحق ال يخفى على من َو َّ�س َط ْه
َ
ا�ستنبط ْه ف��ب��ط��رف��ه ���س��ق��م و���س��ح��ر ق���د �أت���ى م�ستظهرا بهما على ما
َ
بال�سف�سط ْه ع���ج���ب���ا ل�����ه ب����ره����ان����ه ب�������ش���روط���ه معه فما مق�صوده
قلت� :أن�شدت هذه الأبيات يوما بغرناطة� ...صاحبنا ذا الوزارتين...
ف�س�أل مني ذو الوزارتين �أن �أقيد له عليهما �شيئا ،فكتبت ما تي�سر ،مما
()19
هو �أم�س بالبيان من الطريقة التي �سلك هذان الرجالن (يق�صد ج ـ ــذور
ثراء اخلطاب النقدي وتنوعه في النص املرحلي البن رشيد السبتي 82
ابن �سهيل الخزرجي و�أبو عبد اهلل محمد بن الرماح) من �إمعانهما في
قواعد منطقية ال تم�س الحاجة �إليها في المو�ضع ،معر�ضين عن معانيها
من المق�صد ال�شعري الذي تخيل فيه الناظم ما تخيله .فوقف على ذلك
�صاحبنا الفقيه الجليل عبد اهلل الأن�صاري ...فا�ستح�سن ذلك»(.)20
المهم عندنا من هذا ال�شاهد �أمور:
مكانة ابن ر�شيد في نظر ذي الوزارتين ،فيما يت�صل بال�شعر ونقده،
فلو لم يكن على علم ب�سعة اطالعه ما كان ليطلب منه �أن يقيد له
عليها �شيئا بعد �أن �أن�شده تلك الأبيات.
قول ابن ر�شيد :فكتبت له ما تي�سر مما له عالقة بالبيان ،دليل على �سعة
علمه بهذا العلم والذي يعتبر �أ�سا�سا لعلم البالغة ،فقد «كان كثيرا
ما يتدخل لح�سم النزاع بين المتناظرين ،وذلك كلما �شبت معركة
خالفية في م�س�ألة من الم�سائل الأدبية �أو اللغوية �أو البالغية»()21
والآداب»(.)23
انتقاده للطريقة التي �سلكها الرجالن من �إمعانهما في المنطق،
معتبرا ذلك نظما ولي�س �شعرا� ،إذ لي�س يقوم �إال على ال��وزن� ،أما
مقومات ال�شعر فغائبة.
ا�ستح�سان ابن عبداهلل الأن�صاري لما كتبه ابن ر�شيد.
ومما �أبان عن تفاعل ابن ر�شيد بما ي�سمع من ال�شعر ،تعقيبه على
�أبيات �أن�شدها �أبو المطرف لنف�سه ،جاء في ال�شاهد�« :أن�شدنا الكاتب
ج ـ ــذور الأوحد حبر البلغاء وبحر الأدباء �أبو المطرف لنف�سه:
83 موالي علي سليماني
� شدة �إعجاب ال�شيخ ب�شعر ابن ر�شيد ،جعله ي�سعى زحفا لكتابته و�إن
كان المر�ض قد �أقعده ،ويدعو الحا�ضرين لحفظه وروايته عن قائله،
نباهة ال�شيخ ومعرفته ب�أن ما �أن�شدهم ابن ر�شيد هو له.
ومن �ش�أن من كان ثاقب النظر ،حديد الب�صر� ،أن يدقق في اللغة
تدقيقا ،والنماذج على تدقيقات ابن ر�شيد كثيرة ،فقد دقق في �أ�سماء
الأماكن مثل ما فعل في الإل( )27وفي ب�صرى( )28وفي كداء ،حيث تظهر
لنا مكانة ابن ر�شيد ،وعلو كعبه في تحقيق الألفاظ ذات العالقة بعلم
الحديث ،يقول محققا« :وكان دخولنا من كداء من الثنية العليا ...وكداء
هذه هي بفتح الكاف ممدودة ،وك��دى ب�ضم الكاف منونة ومق�صورة
ب�أ�سفل مكة .وهاتان اللفظتان ي�ضطرب المحدثون في �ضبطهما في
الأحاديث ال�صحيحة في الأمهات .والذي �صح عندنا في ذلك ما ي�شهد
له االختبار ،ما ذك��ره الإم��ام �أب��و عمرو بن ال�صالح ،رحمه اهلل ،وهو
تحرير بليغ في المو�ضوع ،قال ،رحمه اهلل:
«الم�ستحب عندنا �أن ي��دخ��ل مكة م��ن ثنية ك��داء بفتح الكاف
والمد...و�إذا خرج من مكة فليخرج من ثنية كدى ب�ضم الكاف والق�صر
والتنوين...و�أما كدي م�صغر ب�ضم الكاف وفتح ال��دال وت�شديد الياء
العدد ، 39ربيع األول 1436هـ -يناير 2015
� إن البدع المتحدث عنها في هذا الن�ص مرتبطة بالركن الخام�س وهو
الحج.
ترتب مفا�سد عظيمة على هذه البدع في الدين والدنيا ،وهذا دليل
على غياب الرقابة الدينية و�إر�شاد الحجاج� ،أو على الأق��ل �ضعف
فاعليتها على م�ستوى توعية الحجاج بما هو �سنة وما هو بدعة.
وارتباطا بمو�سم الحج يورد ابن ر�شيد تنبيها �آخر لعالم جليل هو
جمال الدين �أبو عمرو بن الحاجب الفقيه المالكي الذي انتقد ما يقع في
ليلة عرفات بالجبل القائم في و�سطها والمعروف بالإل ،مما ابتدعته العامة ج ـ ــذور
ثراء اخلطاب النقدي وتنوعه في النص املرحلي البن رشيد السبتي 88
من �إيقاد ال�شموع ،والت�آم ال�شتيت في المجموع ،فقال رحمه اهلل وا�صفا
بع�ضا من تلك البدع« :ومنها �إيقادهم النيران عليه ليلة عرفة ،واهتمامهم
لذلك با�ست�صحاب ال�شمع له من بالدهم ،واختالط الن�ساء بالرجال في
ذلك �صعودا وهبوطا بال�شموع الم�شعلة الكثيرة ،وقد تزاحم المر�أة الجميلة
الموقدة كا�شفة عن وجهها ،وهذه �ضاللة �شابهوا فيها �أهل ال�شرك في
مثل ذلك الموقف الجليل ،و�إنما �أحدثوا ذلك من قريب حين انقر�ض �أكابر
العلماء العاملين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر»(.)34
وهذا الذي علم من الفقيه المالكي قد نبه ابن ر�شيد �إليه ولكن
في �صورة مفعمة بالخيال وح�سن الت�صوير قد تزين للقبيح فعلته ،وتلمع
للجاهل �ضاللته ،لما �أ�صبغ عليها �صاحبنا من حلل الت�شبيه والمجاز،
يقول« :وربما التقى فريق مع فريق فيغ�ص الجبل بال�صاعدين والنازلين،
وهو يت�أجج نارا ويتموج كالبحر زخارا ،والطرق �إليه بال�شموع في و�سط
عرفات كال�سطور المذهبات تت�صل من كل الجهات ،و�أنت �إذا نظرت
�إليه على بعد من الخيمات تراه ك�شعلة واح��دة ،وما يطول من ال�شمع
ك�أنه �أل�سن متعا�ضدة ،فترى عجبا �صلدا عاد ذهبا �أو �صار لهبا»( )35ثم
�سرعان ما ي�ستدرك م�ستغفرا خوفا من وهم القارئ ا�ستح�سان ال�شيخ
العدد ، 39ربيع األول 1436هـ -يناير 2015
لما ر�أى ،و�إنما هي فقط غواية المجاز ،عمدة الإعجاز ،ولذة الكتابة
حبا في الطرافة والدعابة ،يقول «�أ�ستغفر اهلل من هذا المقال و�أ�س�أل
ال�صفح عما جرى مما يوهم ا�ستح�سان هذه الحال ،بل هذه الحال من
قبيح البدع التي يجب �أن يزجر عنها فاعلها ويردع»(.)36
ومما وقع من البدع بالوقوف بجبل عرفات ما نقله ابن ر�شيد عن
الإمام �أبي عمرونذكر «�أنهم جعلوا الجبل هو الأ�صل في الوقوف بعرفات،
فهم بذكره م�شغوفون ،وعليه دون باقي بقاعها يحر�صون ،وذلك خط�أ
ج ـ ــذور منهم ،و�إنما �أف�ضلها موقف ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم»(.)37
89 موالي علي سليماني
العزم على التوجه ،وكان ر�أينا مباركا والحمد هلل...وعلى �إثرنا انتهب
قطاع العرب بع�ض من ت�أخر من �أهل الركب ،وكان منهم لمن دافعهم
قتل و�سلب و�إنا هلل و�إنا �إليه راجعون وح�سبنا اهلل ونعم الوكيل»(.)40
ومما انتقده ابن ر�شيد جهالة الحجاج ،وعدم حر�صهم على قد�سية
المكان الذي هم فيه ،فال فرق بينهم وبين البهائم ،ف�إذا كان تلك البقاع
هي الأ�شرف �إطالقا ف�إن �سالمة الفطرة ،ونقاء الطبع ،وقدرا من التدين
تلزم الحجاج �إيالء المكان قد�سيته حر�صا منهم على نظافته وطهارته،
ج ـ ــذور ولكن هيهات هيهات ،فا�ستمع �إلى ابن ر�شيد والألم يعت�صره وا�صفا ما
91 موالي علي سليماني
بين ال�شعاب ،ف�إن اهلل �سبحانه في مقابل ذلك �سخر لهم �صبية وجعلهم
بمثابة الأ�صحاب ،ليهدوهم الم�سالك ويخففوا عنهم الأتعاب ،وهلل في
خلقه �ش�ؤون.
ف�إذا كان ما �سبق من �أهل مدينة الجالل فمثله �صدر من �أهل مدينة
الجمال� ،أبناء المدينة المنورة الذين قال عنهم ابن ر�شيد «تلقانا �أهل
المدينة على �ساكنها ال�صالة وال�سالم مب�شرين بالو�صول �إلى ح�ضرة
الم�صطفى الر�سول ،وجالبين من تمر المدينة ما يتحفون به القادمين
ملتم�سين رفدهم ،وقد �صنعوا ع�صيا في �أطرافها �أوعية �صغار ،فيجعلون ج ـ ــذور
ثراء اخلطاب النقدي وتنوعه في النص املرحلي البن رشيد السبتي 92
فيه �شيئا من التمر ،ويناولونه �أهل القباب الم�سترة من بين �ستورها،
فيعطي كل واحد ما تي�سر له من الرفد ،ويدفعون �إلى الركبان والم�شيان
�أي�ضا من ذلك على حكم التحفة والهدية فيح�سن كل على قدر وجده،
ويق�سمه النا�س بينهم متبركين م�ستب�شرين ،وقد ر�أيتهم يحنكون به
الأطفال التما�سا للبركة وحق لهم ذلك»(.)43
ومن العادات الح�سنة التي تظهرها هذه ال�شهادة في �سلوك �أهل
المدينة:
الكرم.
الح�شمة والوقار.
تقديم الم�ساعدة للحجاج.
تقديم الهدايا لهم.
تبرك الحجاج بعطايا �أهل المدينة.
ولم يكن ابن ر�شيد ينتقد الحجاج في تدينهم �إال لعلم بالفقه،
ولتعليل التوجه الفقهي عند ابن ر�شيد �أجدني م�ضطرا لعر�ض بع�ض
ال�شواهد:
العدد ، 39ربيع األول 1436هـ -يناير 2015
ج ـ ــذور
95 موالي علي سليماني
الهوامـ ــ�ش
( )1ملء العيبة ج � ,5ص .18
( )2نف�سه
( )4ملء العيبة ج � ,5ص .18
( )4ملء العيبة ج � ,5ص .18
( )5رحلة ابن ر�شيد ال�سبتي درا�سة وتحليل الدكتور �أحمد حدادي من�شورات وزارة الأوقاف
وال�ش�ؤون الإ�سالمية المغرب ,2003ج � ,1ص .157
( )6ملء العيبة ج � ,5ص .18
( )7نف�سه �ص .7
( )8ال�شعر وال�شعراء ،ابن قتيبة دار الثقافة بيروت ,1980ج � ,1ص 248-247وينظر العمدة
في محا�سن ال�شعر ونقده ،ابن ر�شيق القيرواني ،تحقيق محيي الدين عبدالحميد م�صر
(دت) ج � ,1ص .52
( )9رحلة ابن ر�شيد ال�سبتي ج � ,1ص .97
( )10نف�سه.
( )11ملء العيبة ج � ,2ص .392
(� )12إ�شارة �إلى قول ال�شاعر:
�أذود القوافي عني ذيادا ذياد غالم جريء جوادا
العدد ، 39ربيع األول 1436هـ -يناير 2015
ج ـ ــذور