You are on page 1of 25

‫تاريخ علم الوثائق‪:‬‬

‫المقدمات واللبنات األولى‬

‫د‪ .‬مجدي جرجس‬

‫أستاذ مساعد بكلية اآلداب‪ -‬جامعة كفر الشيخ‬


‫‪Guirguis.magdi@gmail.com‬‬

‫املستخلص‪:‬‬
‫تدور هذه الورقة حول األسس املعرفية التي تشكل عىل قواعدها علم الدبلوماتيك ف أواخر القرن السابع عرش امليالدي‪،‬‬
‫وتتناول الورقة بالتحليل اجلهود السابقة عىل كتاب مابيو املهم حول علم الدبلوماتيك ‪1681‬م‪ ،‬وكيف تشكلت أفكار ومناهج‬
‫وأدوات ف سياق عرص النهضة األوربية‪ ،‬وهذه النزاعات السياسية كانت رمية البداية ف االهتامم بالوثائق‪ ،‬رسعان ما جتاوزهتا إىل‬
‫سياقات قانونية‪ .‬وساهم تطور اإلنسانيات ف طرح أسئلة وطرق تعاطي جديدة مع الوثائق‪،‬من ناحية أخرى كان اإلصالح‬
‫الكاثوليكي ف القرن السابع عرش‪ ،‬هو املجال الذي برزت فيه قواعد نقد النصوص املخطوطة‪ ،‬وانتقل املنهج والنزاع من‬
‫املخطوطات إىل الوثائق‪ ،‬كل هذه السياقات‪ ،‬استفاد منها مابيو وهو يضع أول قواعد عملية قابلة للتجريب‪ ،‬لنقد الوثائق‪ ،‬وترشح‬
‫الورقة كيفية نشأة هذه األسس وهذه السياقات‪ ،‬ألغراض عملية وليست علمية‪ ،‬ومن ثم حددت وحدت من أطر علم الوثائق‪.‬‬
‫وتتوقف الورقة بالتفصيل عند كتاب مابيو لرشح أبوابه‪ ،‬وما ناله من مدح وقدح ف عرصه‪ ،‬وكيف تم جتاوزه الحقا‪،‬‬
‫واهلدف األبعد هلذه الورقة هو فتح احلوار حول إمكانية كتابة‪ /‬إضافة فصول جديدة ف علم الوثائق‪ .‬منهج البحث‪ :‬يستظل البحث‬
‫بإطار ‪ ،Postmodernism‬كمظلة لتحليل ورشح القواعد املعرفية التي انطلق منها علم الدبلوماتيك‪.‬وتتلخص إشكالية البحث ف‬
‫كيفية تطوير منهج علم الدبلوماتيك‪ ،‬وإضافة فصول جديدة له‪.‬‬
‫الكلامت املفتاحية‪ :‬علم الوثائق ؛ تاريخ‪.‬‬

‫املعرفة واملعرفة العلمية‪:‬‬


‫حفل التاريخ اإلنساين بمامرسات ف جماالت شتى استلزمتها رضورات حياتية‪ ،‬وأخذ اإلنسان يراكم خرباته عرب املالحظة‬
‫والتجريب والتكرار‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬بدأت تتشكل لديه بعض املعارف‪ ،‬وهناك فروق جوهرية بني املعارف املكتسبة عن طريق جتارب‬
‫حياتية عفوية‪ ،‬واملعرفة العلمية‪ ،‬نذكر عىل سبيل املثال املامرسات الطبية؛ فام من شك أن كثريا من الشعوب اختربت ممارسات طبية‬
‫حققت شفاء بعض األمراض‪ ،‬كأن توصف رشبات عشبية لعالج بعض األمراض ثبتت جدواها‪ ،‬وهذه خربات معرفية مكتسبة‪،‬‬
‫ترقى إىل مستوى العلم عندما ختترب هذه األعشاب معمليا لدراسة موادها الفعالة التي تعالج نوعا معينا من األمراض‪،‬ال ينفي ذلك‬

‫تاريخ القبول‪ 05 :‬أكتوبر ‪2020‬‬ ‫تاريخ االستالم‪ 19 :‬أغسطس ‪2020‬‬

‫‪217‬‬ ‫املجلة العلمية للمكتبات والوثائق واملعلومات؛ مج ‪ ،4‬ع‪( 9‬يناير ‪)2022‬‬


‫تاريخ علم الوثائق‪ :‬املقدمات واللبنات األول‬ ‫‪218‬‬

‫عن املامرسات األوىل صواهبا‪ ،‬ولكن عندما تم صياغة قانون لكيفية عملها صارت معرفة علمية‪ ،‬وهذا األمر ينطبق عىل كافة‬
‫العلوم‪ ،‬حيث كانت هناك مرحلة حتولت فيها املعرفة من ممارسات حياتية تؤيت ثامرها‪ ،‬إىل علم له قوانني ومناهج‪.‬‬
‫وال خيرج تاريخ علم الوثائق عن هذا النسق؛ حيث كانت بداياته األوىل متعلقة بحاجات عملية استلزمتها رضوريات‬
‫احلياة؛ وهي التحقق من صحة الوثائق وكشف املزيف منها‪ ،‬وما إن عرفت املجتمعات البرشية الكتابة وإنشاء الوثائق واملدونات‪،‬‬
‫حتى ظهرت حماوالت لتزييف هذه الوثائق‪ ،‬طمعا ف مكاسب بعينها‪ ،‬وال ُ‬
‫خيل تاريخ شعب من الشعوب التي عرفت الكتابة‬
‫والوثائق ف املشارق واملغارب من حاالت كثرية لتزييف وتزوير الوثائق‪ ،‬هذه األمور استلزمت بالرضورة االنتباه إىل ظاهرة‬
‫التزييف والتزوير‪ ،‬والعمل عىل كيفية كشفها‪ ،‬وإعامل الفكر ف كيفية متييز الصحيح من املزيف‪ ،‬در َء ملفاسد وصونا ملصالح‪ ،‬وعىل‬
‫ذلك‪ُ ،‬بذلت جهود الستنباط وجتريب طرق خمتلفة لكشف الوثائق املزيفة‪ .‬هنا نشأت رضورة حياتية عملية‪ ،‬وليست علمية‪،‬‬
‫ومعظم اجلهود كانت فردية‪ ،‬ولكنها سمحت برتاكم ما ملعارف ف هذا السياق‪ ،‬بدأت تتحول هذه املعارف املكتسبة إىل معرفة علمية‬
‫عندما بدأ التفكري ف صياغتها وجتريبها‪ ،‬وهذا سارت عليه معظم العلوم‪ ،‬ومنها علم الوثائق‪.‬وشهدت أوربا‪ ،‬ف العصور الوسطى‪،‬‬
‫عدة ملحاوالت كشف زيف الوثائق‪ ،‬كانت مجيعها ممارسات عملية‪ ،‬وحماوالت فردية‪ ،‬استلزمتها ظروف آنية‪ .‬أي‪ :‬بعض الناس‬
‫كانوا يامرسون بعض الدبلوماتيك دون أن يدركوه (‪)Guyotjeannin, 1996, p. 415‬‬
‫وما إن ُيذكر تاريخ علم الوثائق حتى يرد عىل الفور اسم جان مابيو ‪( Jean Mabillon‬ت‪1707 .‬م)‪ ،‬حيث ُينسب إليه‬
‫وضع أول قواعد علمية قابلة للتجريب‪ ،‬للتحقق من صحة الوثائق القانونية املكتوبة‪ ،‬ويعترب البعض أن عام ‪1681‬م شهد التأسيس‬
‫األول لعلم الوثائق‪ ،‬وهو ال عام الذي ظهرت فيه الطبعة األوىل من مؤلف مابيو املهم حول علم الدبلوماتيك ( ‪De re diplomatica‬‬

‫‪.)libri VI‬‬
‫وما من شك بفضل مابيو ف هذا املضامر‪ -‬وال ينكر أحد قيمة وأمهية عمل مابيو‪ -‬حيث وضع اللبنات األوىل لعلم الوثائق‪،‬‬
‫بتجميعه لبعض فصول علم الوثائق‪،‬واإلضافة إليها وتقديمها كمنهج عميل متكامل (ف عرصه)‪ ،‬والقواعد األوىل هلذا العلم ولدت‬
‫من رحم زخم علمي شهدته أوربا ف الفرتة املمتدة من القرن الرابع عرش‪ ،‬وحتى أوائل القرن السابع عرش‪ ،‬والعرص الذي عاشه‬
‫مابيو وفر مناخا مهام لتبلور عمله؛ إذ حددت سياقات أخرى أطر وأدوات هذا العلم ف مهده‪ ،‬فال يمكن إدراك كنه علم الوثائق‬
‫ونشأته‪ ،‬بعيدا عن سياق عرص النهضة‪ ،‬وتاريخ أوربا‪ ،‬وتاريخ الكنيسة الغربية‪ ،‬وهذه السياقات كان هلا أدوار حاسمة ف حتديد‬
‫أدوات هذا العلم‪ ،‬وأطره التي أخذ ينفك عنها تباعا‪ ،‬وهذا اجلانب يشري بوضوح إىل علم الدبلوماتيك الذي ال يمكن فهمه خارج‬
‫وأيضا‪ ،‬وبالرضورة‪ ،‬ال يمكن االشتغال به دون الوعي واالنفتاح عىل هذه العلوم‪.‬‬
‫منظومة العلوم اإلنسانية‪ً ،‬‬
‫وهتدف هذه الورقة إىل تتبع السياق الذي وضعت فيه األسس واللبنات األوىل لعلم الوثائق ف أواخر القرن السابع عرش‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬التي شكلت اللبنات‬
‫وتتبع هذا السياق مهم من جوانب شتى‪ :‬فهو يعيننا عىل فهم اخللفيات العلمية واملعرفية‪ ،‬والسياسية ً‬
‫وأيضا‪ ،‬يمكننا من التفكري بشكل أعمق ف كيفية توظيف‬
‫األوىل هلذا العلم؛ كام يساعدنا عىل فهم التطورات الالحقة هلذا العلم؛ ً‬
‫أدوات هذا العلم ومناهجه ف دراساتنا‪ ،‬وإمكانية إض افة طرق وأدوات أخرى‪.‬أو بعبارة أخرى‪ ،‬إمكانية كتابة فصول جديدة ف‬
‫علم الوثائق‪ ،‬وال هتدف هذه الورقة إىل الوقوف عند املعلومات التارخيية ورسدها‪ ،‬بل الوقوف عىل كيفية حتديد‪ ،‬وتضييق‪ ،‬أطر هذا‬
‫العلم بسبب املنطلقات املعرفية التي بدأ منها‪ ،‬وكيف شكلت خربات وختصصات الرواد األوائل مالمح هذا العلم‪.‬‬
‫‪219‬‬ ‫د‪ .‬جمدي جرجس‬

‫سأتوقف ف هذه املداخلة عند مرحلة كتاب مابيو‪ ،‬والذي شكل البداية احلقيقية املدونة لعلم الوثائق‪ .‬ولكني سأتوقف أيضا‬
‫أمام أسامء أخرى بعينها‪ ،‬منهم سابق لعرص مابيو‪ ،‬ومنهم من عارصه وساعده ف مرشوعه العلمي‪ ،‬ثم اختتم هذه الورقة بملحق‬
‫يشتمل عىل مضمون كتاب مابيو‪ ،‬وخمترصا لفصوله‪.‬‬

‫السياقات وتشكل األطر واألدوات‪:‬‬


‫من الصعوبة بمكان عزل السياقات عن بعضها؛ فالسياقات السياسية والقانونية والعلمية متداخلة‪ ،‬وال يمكن احلديث عن‬
‫أحدها بمعزل عن اآلخر‪ ،‬ولكن سأحاول أن أضع عناوين فضفاضة هلذه السياقات تسمح بمرونة ما لالنتقال فيام بينها‪ ،‬أو دجمها‬
‫معا‪.‬‬

‫السياسي‪ ،‬وتزييف األساس القانوني لسلطات بابا روما‪:‬‬


‫كان املجال السيايس هو السياق األول ملساءلة األدلة القانونية املتضمنة ف الوثائق‪ ،‬وكان من بني أبرز النامذج املبكرة عىل‬
‫ممارسة "النقد الدبلومايت"‪ ،‬هو رد برتارك ‪1Petrarch‬عام ‪1360‬م عىل استشارة اإلمرباطور تشارلز السادس حول االمتيازات‬
‫‪Giry,‬‬ ‫املمنوحة للنمسا من قبل األباطرة الرومان يوليوس قيرص ونريون؛ إذ أخذ حيلل هذه الوثائق القديمة إلقامة شواهد قانونية (‬
‫‪،) 1892, p. 230‬لكن النقاش األوسع واألهم دارت رحاه حول وثيقة قانونية شهرية شكلت لب التاريخ السيايس ألوربا الغربية‬
‫ف العصور الوسطى‪ ،‬وهي الوثيقة املعروفة بـ "هبة قسطنطني"‪ ،‬ومضموهنا يقول بأن اإلمرباطور قسطنطني الكبري (‪337-306‬م)‬
‫قد منح بابا روما املعارص له‪ ،‬البابا سلفسرت األول (‪335-314‬م)‪ ،‬سلطات سياسية عىل كل أوربا الغربية‪ ،‬وكانت هذه الوثيقة هي‬
‫السند الرئيس الذي حياجج به بابوات روما منذ القرن احلادي عرش لرتسيخ سلطاهتم عىل أوربا الغربية لقرون عدة‪ ،‬ومتددت هذه‬
‫السلطات لتشمل كافة مناح احلياة‪ ،‬ومن بينها تعيني وعزل احلكام‪ ،‬ومنذ بدابات القرن اخلامس عرش‪ ،‬شهدت أوربا توترات وبوادر‬
‫تغيريات كربى ‪ ،‬ودارت نقاشات حادة حول األسس القانونية لسلطات احلكام واألمراء والنبالء‪ ،‬وطال هذا النقاش سلطات‬
‫وصالحيات بابا روما‪ ،‬ومن ثم أخذ البعض يشكك ف هذه الوثيقة‪ ،‬وجزم البعض اآلخر بتزييفها‪ ،‬وف خضم هذا النقاش‪ ،‬اصطنع‬
‫مهام ف علم الدبلوماتيك‪.‬‬ ‫البعض قواعد مهمة لنقد هذه الوثيقة وإقامة الدليل عىل زيفها‪ ،‬وهذه القواعد ستشكل فيام بعد ً‬
‫فصال ً‬

‫وثيقة قسطنطني‪،‬وفصل مهم يف علم الدبلوماتيك (بيكوك وفاال)‪:‬‬


‫لفهم الطرق التي سلكها الباحثون ف نقد هذه الوثيقة‪ ،‬نورد ً‬
‫أوال مضموهنا وأهم عنارصها التي كانت معروفة ف القرن‬
‫اخلامس (عرص بيكوك وفاال)‪ ،‬وهذا مضمون الوثيقة‪:‬‬
‫" رشع اإلمرباطور قسطنطني ف موجة اضطهاد جديدة للمسيحيني‪ ،‬أجربت سلفسرت أسقف روما عىل اهلروب والتخفي‪،‬‬
‫ثم أصيب اإلمرباطور بمرض اجلذام‪ ،‬واقرتح عليه كهنة األوثان طريقة للعالج وهو أن يغمس جسمه ف محام مملوء بدم أطفال‪،‬‬
‫وعندما رفض اإلمرباطو ر هذه الفكرة‪ ،‬جاءت مكافأته بظهور شخصني نورانيني له ف حلم خيربانه بأن عالجه عند سلفسرت أسقف‬
‫روما‪ ،‬وجيب أن يسعى إليه وأن يطيعه‪،‬وصل بالفعل قسطنطني إىل سلفسرت‪ ،‬والذي بدوره طلب منه أن يصوم‪ ،‬ثم قام بتعميده حتى‬

‫‪ -1‬برتاراك (‪ 1374-1304‬م) هو أحد اآلباء األوائل لعرص النهضة ف إيطاليا‪ ،‬وكتاباته شكلت نواة لتبلور اللغة اإليطالبة‪.‬‬
‫تاريخ علم الوثائق‪ :‬املقدمات واللبنات األول‬ ‫‪220‬‬

‫يصري مسيحيًا‪ ،‬وأثناء تعميد قسطنطني ظهر نور ساطع غلف املعمودية‪ ،‬وحدثت املعجزة ُ‬
‫وشفي قسطنطني متا ًما من مرضه‪ ،‬وف‬
‫‪Lateran‬‬ ‫مقابل ذلك أمر قسطنطني باعتامد املسيحية كدين لإلمرباطورية كلها‪ ،‬وأعطى بسخاء للكنائس‪ ،‬وقام ببناء قرص التريان‬
‫‪ Palace‬لألسقف‪ ،‬وشيد عددا من الكنائس بتجهيزات فاخرة‪ ،‬وخلع عىل األسقف عباءة إمرباطورية وسلمه صوجلانه‪ ،‬ومنحه‬
‫مدينة روما وكل أقاليم الغرب‪ ،‬ونقل اإلمرباطور مقر كرسيه إىل القسطنطينية"‪.2‬‬
‫كان من أوائل من تشككوا ف وثيقة "هبة قسطنطني" نيقوال أسقف كوزا‪Nicolas of Cusa‬ف عام ‪1432‬م‪ ،‬حيث تفحص‬
‫شكلها اخلارجي وقال بأهنا ال متاثل الوثائق األصلية التي تعود إىل القرن الرابع امليالدي ( ‪.)Levine, 1973, p. 118‬أما البدايات‬
‫العلمية لنقد هذه الوثيقة فجاءت دفعة واحدة من قبل اثنني من رجال الكنيسة‪ ،‬األول‪ :‬هولورنزو فاال ‪-1407( Lorenzo Valla‬‬
‫‪1457‬م)ف إيطاليا‪ ،‬والثاين‪ :‬رجينالد بيكوك ‪ )1460-1395( Reginald Peacock‬ف إنجلرتا‪.‬‬
‫كان الدافع السيايس هو املحفز للورنزو فاال هلدم وثيقة قسطنطني؛ حيث كان عىل عالقة وطيدة بألفونسو األراجوين ملك‬
‫نابويل (‪1495-1448‬م) (‪ ،) Camporeale, 1996, p.9‬واحتدم آنذاك رصاع مرير بني ملك نابويل وبابا روما حول من له سلطة‬
‫تعيني وتنصيب ملك نابويل‪ ،‬ومن ثم أخذ فاال عىل عاتقه ف عام ‪1440‬م دراسة هذه الوثيقة التي تعطي لبابا روما سلطة عىل ملك‬
‫نابويل‪ ،‬وخلص فاال ف هناية األمر إىل كوهنا وثيقة مزورة‪ ،‬تعود إىل القرن التاسع امليالدي (‪ .)Camporeale, 1996, p.10‬وف نفس‬
‫الوقت تقريبًا‪ ،‬خلص باحث آخر ف إنجلرتا‪ ،‬رجينالد بيكوك‪ ،‬إىل نفس النتيجة ورصح بأن هذه الوثيقة مزورة‪ ،‬وتشري الدراسات‬
‫بأن بيكوك مل يلتق فاال‪ ،‬ومل يقرأ عمله حول وثيقة قسطنطني‪،‬كانت دوافع فاال سياسية‪ ،‬ف حني كانت دوافع بيكوك دينية إصالحية‬
‫(‪،)Levine, 1973, p. 127‬واتبع كل من بيكوك وفاال منهجني خمتلفني ف كشف زيف هذه الوثيقة‪ ،‬وتأسيس أدوات نقد الوثائق‪.‬‬

‫رجينالد بيكوك (مراحل تكون النص)‪:‬‬


‫حصل بيكوك عىل الدكتواره ف الالهوت من جامعة أكسفورد عام ‪1444‬م‪ ،‬وانصب اهتاممه عىل اجلدل واملنطق‪ ،‬وتدرب‬
‫عىل الفصل بني اإليامن واملنطق‪ ،‬وبني الفلسفة والالهوت‪ ،‬وظهر هذا األمر بشكل جيل ف تعامله مع النصوص بغض النظر عن‬
‫طبيعتها‪ ،‬وأوضح نموذج عىل منهجه هو تعامله مع السفر األول ف الكتاب املقدس‪ ،‬وهو سفر التكوين‪.‬‬
‫ففي حني تقول رواية الكتاب املقدس أن موسى النبي كتب هذا السفر بوحي ومعجزة؛يتعامل بيكوك مع هذه الرواية‬
‫ً‬
‫سؤاال منطقيًا‪ ،‬واإلجابة عليه ف نفس الوقت‪ :‬ملاذا ال يوجد وحي مكتوب قبل موسى النبي؟ وأجاب بأن عدم وجود وحي‬ ‫بطرحه‬
‫مكتوب قبل موسى‪ ،‬يعني أن التقليد الشفاهي كان كاف ًيا‪ ،‬وإذا كان التقليد الشفاهي كاف ًيا عرب سلسلة من األنبياء السابقني‪ ،‬فام‬
‫احلاجة إىل كتابة الوحي؟ وعىل ذلك يقرتح بيكوك رواية حول الوحي‪ ،‬ال تتفق مع رواية الكتاب املقدس‪ ،‬قال بأهنا أكثر منطق‬
‫ً‬
‫وصوال إىل موسى‪ ،‬وقام موسى بتجميع الوحي قبله ف‬ ‫وقوة‪ ،‬وقال بأن األنبياء قبل موسى تسلموا الوحي مكتو ًبا‪ً ،‬‬
‫جيال بعد جيل‬

‫‪ -2‬حول هذه الوثيقة‪ ،‬وتارخيها ومضموهنا‪ ،‬انظر مادة ‪ Donation of Constantine‬ف املوسوعة الربيطانية‪ ،‬وكذلك النسحة الرقمية عىل الرابط التايل‪:‬‬
‫‪ .https://www.britannica.com/topic/Donation-of-Constantine‬ولتفاصيل أكثر‪ ،‬انظر املوسوعة الكاثوليكية عىل الرابط التايل‪:‬‬
‫‪ . https://www.catholic.org/encyclopedia/view.php?id=3971‬ولكني آثرت نقل مضموهنا من هذه املقالة التي تعالج كيفية‬
‫نقدها‪Joseph M. Levine, "Reginald Pecock and Lorenzo Valla on the Donation of Constantine", Studies :‬‬
‫‪in the Renaissance, Vol. 20 (1973), p. 128.‬‬
‫‪221‬‬ ‫د‪ .‬جمدي جرجس‬

‫أول أسفار العهد القديم وهو سفر التكوين‪ ،‬ثم بدأ موسى ف كتابة الوحي الذي يتسلمه تباعًا (‪،)Levine, 1973, p. 125, 126‬‬
‫يظهر هنا فكر ومنهج بيكوك بأن املنطق يغلب عىل اإليامن الغيبي‪،‬عرج بيكوك عىل قضية أخرى مهمة‪ ،‬وهي قضية األصول‬
‫نفسها! (‪Ferguson, 1966, pp. 151-‬‬ ‫الشفاهية لنص مكتوب‪ ،‬وقال ب استحالة نقل التقاليد الشفاهية صحيحة مع تغري اللغة‬
‫‪) 56‬وأوضح بيكوك أن التقاليد الشفاهية التي آلت إىل نصوص مكتوبة تعرتهيا مشاكل مجة‪ ،‬وأن انتقال هذه التقاليد عرب أجيال‬
‫حتام تغيريات بقصد أو بدون قصد‪ ،‬وبخاصة إذا تغريت اللغات واللهجات التي ُسلمت هبا هذه‬
‫خمتلفة سيدخل عليها ً‬
‫التقاليد‪.‬سيتأثر النص املكتوب ح ًتام بسياق عرص تدوينه وكتابته؛وعىل ذلك نظر بيكوك إىل الكتاب املقدس بأنه وثيقة إنسانية مكتوبة‬
‫بناء عىل وحي (‪ ،)Ferguson, 1966, p. 149, 151‬ثم وسع األمر ليشمل كل النصوص املقدسة‪ ،‬والتفاسري‪ ،‬وتاريخ آباء الكنيسة‬
‫وقديسيها وتقاليدها‪ ،‬وقال بأنه جيب إعادة رشحها ومساءلتها‪،‬ثم رصح بوضوح بأن تعاليم الكنيسة وكتاباهتا ال جيب تصديقها‬
‫والوثوق هبا إذا كانت ختالف القياس املنطقي (‪.)Ferguson, 1966, p. 149, 150‬‬

‫نقده لوثيقة قسطنطني (النقد الباطني)‪:‬‬


‫جاء نقد بيكوك هلذه الوثيقة ف سياق إعامل املنطق ف قبول أي نص تارخيي‪ ،‬وكذلك شغفه بالدليل‪ ،‬وقال بأن كل األحداث‬
‫املرتبطة هبذه اهلبة املزعومة‪ ،‬ال يمكن حدوثها إال بعد وفاة البابا سيلفسرت‪ ،‬كذلك ال يمكن نسبة هذا النص إىل اإلمرباطور قسطنطني‬
‫نفسه‪ ،‬حيث إن األسلوب الالتيني املستخدم ف النص ال يتسق مع نصوص أخرى معروفة وتأكد نسبها إىل قسطنطني نفسه‬
‫(‪ ،) Ferguson, 1966, p. 156‬واألهم من ذلك هو منهج بيكوك الذي ينطلق من كل ما مىض من التاريخ يعد أسطورة‪ ،‬ونجد ف‬
‫األساطري الكثري من اخلرافات (‪ ،)Ferguson, 1966, p. 156.‬وقد تتبع بيكوك هذه القصة تارخي ًيا‪ ،‬ووجد كتابني كانا مصدر هذه‬
‫القصة‪ ،‬وأخذ عنهام املؤرخون بعد ذلك‪ ،‬املصدر األول‪" :‬سرية حياة سلفسرت أسقف روما" جمهولة املؤلف؛ والثاين‪ :‬كتاب سري‬
‫بابوات روما‪ ،‬واكتشف بيكوك أن هذه القصة مل ترد عند يوسابيوس القيرصي (ت‪339 .‬م)‪ ،‬وهو املؤرخ املعارص لإلمرباطور‬
‫قسطنطني‪ ،‬واملقرب جدً ا منه‪ ،‬وكان هو األجدر بذكر قصة معجزة عامد قسطنيطني‪ ،‬إن كانت قد وقعت ف احلقيقة‪.‬ف حني يذكر‬
‫يوسابيوس رواية أخرى تقول بأن قسطنطني تعمد ف أواخر حياته ف مدينة نيقوديميا‪ ،‬وتوىل تعميده أحد األساقفة غري املشهورين‬
‫(‪.)Levine, 1973, p. 129‬واستخلص بيكوك من هذه األدلة أن هذه القصة غري حقيقية‪ ،‬وأهنا اصطنعت و ُأقحمت الح ًقا ف سرية‬
‫سلفسرت‪ ،‬كانت هذه بداية حجج بيكوك‪ ،‬وهو نقد داخيل للوثيقة لكشف زيفها‪ ،‬واستخدم بيكوك حجة أخرى وهي احلجة السلبية؛‬
‫حيث قال‪ :‬إن املصادر التالية لقسطنطني صمتت عن أمر هذه اهلبة‪ ،‬وتقول املصادر بأنه ترك عرش اإلمرباطورية ألبنائه الثالثة‪ ،‬بام‬
‫فيها اجل زء الغريب من اإلمرباطورية‪ ،‬وكانت روما من نصيب ابنه األكرب‪ ،‬أي‪ :‬إنه مل يمنح سلفسرت أية سلطات سياسية‪ ،‬حجة أخرى‬
‫تسري عكس مضمون هذه الوثيقة‪ ،‬هي‪ :‬باباوات روما بعد سلفسرت كان يتم املوافقة عىل تعيينهم من قبل األباطرة‪ ،‬وهو عكس‬
‫ماتذكره الوثيقة بأن البابوات هم من هلم الكلمة ف تعيني األباطرة واحلكام (‪ ،)Levine, 1973, p. 130-31‬أدرك بيكوك رضورة‬
‫تفسري النصوص املقدسة والوثائق املهمة ف تاريخ الكنيسة كدليل ال ينفصل عن سياقه اإلنساين‪ ،‬بصفته منتج للحظة تارخيية معينة‪،‬‬
‫وليس كنص منعزل يمكن العمل عليه بمفرده وتوظيفه لدعم معان أو تراتبية بعينها‪ ،‬ولقد كان نقده لوثيقة فسطنطني مثار إعجاب‬
‫العديد من املؤرخني‪،‬؛ حيث وضوح احلاسة التارخيية لبيكوك التي ميزت منهجه(‪.)Ferguson, 1966, p. 148‬سيبني مابيو عىل‬
‫أفكار بيكوك‪ .‬ولكن كون مابيو‪ ،‬رجال دينيا إصالحيا‪ ،‬مل يقبل بطريقة بيكوك ف تغليب املنطق عىل الوحي واإليامن الغيبي ف دراسة‬
‫تاريخ علم الوثائق‪ :‬املقدمات واللبنات األول‬ ‫‪222‬‬

‫النصوص والوثائق‪ ،‬وبالرغم من تأكيد مابيو عىل رضورة إعامل املنطق‪ ،‬إال أنه كرجل دين‪ ،‬يدين سوء استخدام املنطق ف دراسة‬
‫الالهوت‪ ،‬ويقول بأن دراسة الالهوت جيب أن تعتمد عىل الكتاب املقدس وتقاليد الكنيسة وليس عىل املنطق اإلنساين والفلسفة‬
‫وعلوم أخرى (‪.)Quantin, 2011, p. 405‬‬

‫لورنزو فاال‪ :‬فصل مهم يف علم الوثائق‪:‬‬


‫كان لورنزو فاال (‪1457-1407‬م)يعيش ف كنف الفونسو األراجوين ملك نابويل (‪1495-1448‬م)‪ ،‬وأخذ فاال يبحث‬
‫عن رشعية سلطة بابا روما‪ ،‬ف سعيه لتعضيد موقف صديقه ملك نابويل‪ ،‬أي‪ :‬إن الدافع لنقد الوثيقة كانت رضورة ملحة لواقع‬
‫عميل‪.‬‬
‫متبحرا ف اللغة الالتينية‪ ،‬وكان أحد أهدافه العلمية هو‬
‫ً‬ ‫اخللفية املعرفية للورنزو فاال ترتكز عىل اللغويات‪ ،‬حيث كان‬
‫وحساسا‬
‫ً‬ ‫"تنقيتها مما حلق هبا‪ ،‬وإعادة جمدها"‪ ،‬كان عىل علم بالصياغات والقوالب اإلنشائية القديمة لالتينية‪ ،‬وضلي ًعا ف قواعدها‬
‫ألي أخطاء نحوية (‪ ،) Levine, 1973, p.136. 137‬ومن ثم جاء معظم نقده لتفنيد ودحض هذه الوثيقة من هذه اخللفية "فقه‬
‫أيضا؛ حيث تشكك‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ف قوانني الرسل‪ ،‬وهي تلك القوانني‬
‫اللغة"‪ ،‬ولفاال خربات سابقة ف نقد النصوص املقدسة ً‬
‫التي تعرتف هبا معظم الكنائس املسيحية وتنسب إىل رسل السيد املسيح نفسه‪ ،‬بدأ فاال نقده لوثيقة "هبة قسطنطني" ً‬
‫أوال‪ ،‬بمناقشة‬
‫منطقية هلذه الوثيقة ف سياقها التارخيي‪ ،‬ثم بدأ ف قراءهتا فيلولوجيًا‪ ،‬ليكشف عن مجلة أخطاء وعدم اتساق ف نصها‪ ،‬ثم اختتم نقده‬
‫بحجج قانونية وأخالقية تطعن ف صحتها (‪.)Levine, 1973, p. 139‬وخلص فاال بأن هذا النص ال يمكن أن ُينسب إىل القرن‬
‫الرابع من حيث بنيته ومصطلحاته وصياغاته‪ ،‬حيث ال يتسق مع اللغة األدبية والقانونية لذلك العرص ( ‪Camporeale, 1996, p.‬‬

‫‪ ،)15‬وأنقل هنا النامذج التي أوردها فاال من نص دراسته التي تُرمجت من الالتينية‪:‬‬
‫يسخر فاال من استخدام مصطلح "امتياز ‪ "privilegii‬ف نص الوثيقة‪ ،‬ويقول بأن "الرجل املجنون" الذي اصطنع هذه‬
‫الوثيقة أخذ هذا املصطلح من سرية سلفسرت‪ ،‬و هذا املصطلح مل ُيستخدم لوصف منح األرايض (‪.)Vala, 1922 p.83‬مصطلح‬
‫إداري آخر مل يكن مستخدما ف عرص قسطنطني وهو مصطلح ‪ ،Satraps‬ويقول فاال بأن من زيف هذه الوثيقة ال يعرف حتى‬
‫هرياركية اإلمرباطورية‪ ،‬فلم نسمع عن هذا املصطلح من قبل‪ ،‬واألكثر من ذلك أنه وضع هذه الرتبة قبل جملس النواب‪ ،‬ويستشهد‬
‫أيضا من‬
‫بنامذج من مراسيم سابقة وقطع معدنية وبرونزية بأن هذا املصطلح ال يعود إىل العرص املزعوم هلذه الوثيقة‪ ،‬وإنام مأخوذ ً‬
‫أيضا مصطلح غري مستخدم ف القرن الرابع امليالدي‪،‬تشري‬
‫مصادر متأخرة‪ ،‬وباملثل مصطلح ‪ Optimates‬لوصف النبالء وهو ً‬
‫أيضا إىل مدينة القسطنطينية كمركز من مراكز املسيحية‪ ،‬ف حني إهنا مل تكن بطريركية بعد‪ ،‬وال حتى مدينة مسيحية‪ ،‬ومل يكن‬
‫الوثيقة ً‬
‫اسمها ً‬
‫أصال القسطنطينية (‪،)Vall, 1922,, p. 85, 87, 89‬وخلص فاال ألن هذا النص مصطنع ف القرن التاسع امليالدي‪ ،‬أو عىل‬
‫أقىص تقدير القرن الثامن‪ ،3‬يستخدم فاال ف نقده للوثيقة مفهوم "احلجة السلبية"‪ ،‬الذي استخدمه بيكوك ً‬
‫أيضا‪ ،‬أي‪ :‬الصمت ف‬
‫املصادر ف وقت كان جيب فيه احلديث‪ ،‬سيتسخدم مابيو نفس هذا املفهوم الح ًقا‪.‬‬

‫‪ -3‬يعتقد بعض الباحثني أن نقد فاال هلذه الوثيقة كان هو الدافع ملارتن لوثر (مؤسس املذهب اإلنجييل "الربوتستانت") ‪1517‬م النقالبه عىل الكنيسة‬
‫الكاثوليكية ورفض كل تارخيها ورجاهلا‪ .‬انظر حول هذا الطرح‪:‬‬
‫‪223‬‬ ‫د‪ .‬جمدي جرجس‬

‫لدينا هنا نموذجان مهامن لنقد الوثائق‪ ،‬ركز بيكوك عل مضمون النص وأحداثه‪ ،‬وتقاليد انتقال النصوص؛ ف حني وظف‬
‫فاال مهاراته اللغوية ف تفكيك لغة النص وصياغتها ومصطلحاهتا‪ ،‬واالثنان بطريقني خمتلفني قد توصال لنفس النتيجة‪ ،‬وهي‪ :‬إهنا‬
‫وثيقة مزورة‪ ،‬وهذان النموذجان للنقد الوثائقي‪ ،‬يشريان بوضح إىل ما سمى بعد ذلك بالنقد الباطني للوثائق‪ ،‬وعندما وضع مابيو‬
‫تأسيسا لعلم‪ ،‬ولكنها كانت‬
‫ً‬ ‫قواعده استفاد من هذه املسامهات املهمة‪،‬واجلدير باملالحظة ؛ هذه املحاوالت لبيكوك وفاال مل تكن‬
‫استجابة لظروف بعينها!‬

‫تطور النسانيات وعصر النهضة‪:‬‬


‫ال يمكن فهم عمل مابيو دون احلديث عن الفرتة من القرن الرابع عرش وحتى السادس عرش امليالدي ف أوربا؛ حيث برز‬
‫عدد ال حيىص من املتخصصني ف اإلنسانيات وضعوا قواعد وقوالب للشعر امللحمي والفلسفة األخالقية والكتابات التارخيية‪ ،‬كام‬
‫أخذوا يرسخون طرق نقد النصوص وحتديد قيمتها ووضعوا أسس النقد التارخيي‪ ،4‬وتبلورت ف عرص النهضة صفات املؤرخ‬
‫املتميز‪ ،‬وهو ذلك املؤرخ الذي ال يعتمد عىل اخلرافات؛ بل عىل العمل األرشيفي (‪.)Zouhar, 2010 p. 365‬وبشكل عام‪ ،‬صارت‬
‫املقدرة عىل متييز املختلق من الصحيح‪ ،‬واحلديث من القديم هي إحدى سامت الباحث املتميز ف اإلنسانيات‪ ،‬ووضعوا القواعد‬
‫األولية لنقد وحتليل الشكل اخلارجي والنسق الداخيل ومصطلحات الوثائق‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬فقد وضعوا األسس التي سيستخدمها‬
‫الباحثون بعدهم لتأسيس قواعد الباليوجراف والدبلوماتيك ونقد املصدر‪.‬‬
‫تطورت ف فرنسا دراسة التقاليد القانونية الرومانية‪ ،‬وظهر جيل من الباحثني ختصصوا ف اللغة والقانون وأسهموا ف بلورة‬
‫مدرسة فرنسية للدراسات التارخيية‪ ،‬واستنوا فلسفة جديدة تقوم عىل االعتامد عىل كتاب بعينهم‪ ،‬يمكننا من استعادة وإعادة متثيل‬
‫املايض بشكل دقيق‪،‬وبنا ًء عىل هذه التقاليد بدأ الرهبان البندكتني املوريني (مابيو أحدهم) ف إنتاج نرشات عن آباء الكنيسة معتمدين‬
‫ف ذلك عىل املصادر األصلية‪ ،‬وكان إسهامهم الرئيس الذي ساعدهم عىل حتليل ونقد املصادر التي يعملون عليها هو تتبعهم لتطور‬
‫الباليوجراف (من خالل تتبع أنامط الكتابة واخلطوط تارخي ًيا)‪ ،‬وكذلك الدبلوماتيك (معرفة بنية الوثيقة وطرق إخراجها وقوالبها)‬
‫(‪ .)Zouhar, 2010, p. 366‬وهذا بالضبط ما قام بتلخيصه أحد روادهم وهو جان مابيو‪.‬‬

‫‪Whitford, David M., "The Papal Antichrist: Martin Luther and the Underappreciated Influence of Lorenzo‬‬
‫‪Valla", Renaissance Quarterly, Vol. 61, No. 1 (Spring 2008), pp. 26-52‬‬
‫‪ -4‬أشارت سلوى ميالد إىل بعض هذه التطورات‪ ،‬انظر‪ :‬سلوى عيل ميالد‪ :‬علم الوثائق (الدبلوماتيك) احلديث‪ ،‬ص ‪.21 ،20‬‬
‫تاريخ علم الوثائق‪ :‬املقدمات واللبنات األول‬ ‫‪224‬‬

‫دراسة الرتاث املادي‪:‬‬


‫أيضا شغف العلامء بالرتاث القديم أو البقايا القديمة‪ ،‬وظهور كتاب مابيو جاء لتحقيق أمنية للعامل الكبري‬
‫شهد عرص مابيو ً‬
‫اليبنز‪، 5Leibniz‬ولومه لعدم وجود مهتمني هبذا النوع من الدراسة‪ ،‬حيث أحىص اليبنز الدراسات املتعلقة باالنتيكات‪ ،‬وبني‬
‫أمهيتها القصوى‪ ،‬ومجع مع هيوت ‪ Huet‬مواد قديمة متنوعة‪ :‬خمطوطات‪ ،‬عمالت‪ ،‬نقوش وزخائر أخرى‪ ،‬وأدرك اليبنز صعوبة‬
‫التعامل مع كل هذه األشكال من بقايا املايض‪ ،‬ومتنى أن يتوفر باحثون عىل إحصاء كل املواد القديمة التي تعني عىل كتابة التاريخ‬
‫ودراسة املايض‪ ،‬وبث اليبنز طموحاته هذه ف خطاب إىل األب دانيال هيوت ‪ ،Daniel Huet‬ف أكتوبر ‪1678‬م‪ ،‬ومن حسن احلظ‬
‫أن أماين اليبنز قد حتققت وقام بالفعل عدد من الباحثني هبذا املسح لكل املواد القديمة املتبقية من العصور الغابرة ( ‪Grafton,‬‬

‫‪ ،) 1999, p. 242‬ولكن ظلت بعض األمور ف طي اإلمهال‪ ،‬ومن بينها املخطوطات‪ ،‬إذ يقول اليبنز أنه يأسف لعدم وجود تاريخ‬
‫للمخطوطات‪ ،‬وبعدها بثالث سنوات نرش مابيو عمله حول علم الدبلوماتيك؛ والذي اعتربه الباحثون أول جهد منظم لتقديم‬
‫معايري احلكم عىل صحة الوثائق واملخطوطات‪ ،‬ثم ف عام ‪1709‬م‪ ،‬قام أحد زمالء مابيو‪ ،‬ف دير القديس مور‪ ،‬بنرش كتابه العام‬
‫حول الباليوجراف اليوناين‪ ،‬والذي يعد بشكل ما تاريخ نقدي للمخطوطات (‪.)Grafton, 1999, p. 242‬‬
‫وف هذا اإلطار برز االهتامم بدراسة النقوش‪ ،‬ولقد أوىل الباحثون ف القرن اخلامس عرش اهتام ًما بنسخ النقوش الرومانية‬
‫والالتينية القديمة‪ ،‬ثم دراستها‪ ،‬وكان الرتكيز ف أول األمر منصبًا عىل النقوش الوثنية املسجلة عىل البوابات وأقواس النرص‪ ،‬ثم‬
‫تطور األمر إىل االهتامم بالنقوش املسيحية ف أواخر القرن اخلامس عرش (‪ ،)Yasin, 2000, p.41-43‬وارتبط االهتامم بالنقوش‬
‫املسيحية باالكتشافات األثرية آنذاك‪ ،‬وبالرغم من وجود مقابر بعينها كانت معروفة ومقصدً ا للزوار إال أنه مل ِ‬
‫جتر حماوالت جادة‬
‫لدراسة النقوش املسيحية‪ ،‬وشهدت هنايات القرن السابع عرش هنضة ف اكتشاف املقابر ودراستها‪ ،‬وهو نفس الوقت الذي شهد‬
‫هنضة مماثلة ف تاريخ الكنيسة‪ ،‬ودراسة النقوش األثرية بالذات‪ ،‬كانت أحد املحفزات للجامعات الرهبانية البحثية‪ ،‬ودشنت‬
‫مرشوعات عمالقة لدراسة املخطوطات والوثائق‪ ،‬وحتقيق سري القديسني وكتابات اآلباء األوائل‪ ،‬ومن بني هذه اجلامعات كانت‬
‫مجاعة الرهبان البندكتني بدير القديس مور برئاسة جون مابيو؛ حيث رشعوا ف تنقيح وتنظيم ونرش سري الرهبان القديسني‪ ،‬وظهر‬

‫‪ -5‬حصل اليبنز عىل بكالوريوس الفلسفة عام ‪1663‬م‪ ،‬نرش أول بحث (رسالة) له ف عام ‪1667‬م بعنوان‪" :‬طريقة جديدة لتعلم وتعليم فقه القانون" ‪ .‬ف‬
‫عام ‪ 1672‬م سافر إىل باريس ف مهمة سياسية‪ ،‬واصل خالهلا اهتامماته وأعامله البحثية‪ ،‬وأوىل اهتامم أكرب بالرياضيات (ص‪ .)10‬تقلب اليبنز ف‬
‫اهتامت وحقول معرفية خمتلفة‪ ،‬ونال حظوة عند أمراء وحكام كثريين‪ .‬إىل أن آل به املطاف إىل االنخراط ف حقل التاريخ‪ ،‬حني كلفه األمري أرنست‬
‫أوغسطس ‪ Ernest Augustus‬ف عام ‪ 1679‬بكتابة تاريخ أرسة برونوزفيتش ‪ .the House of Brunswick‬واستعان اليبنز ف مهتمه هذه‬
‫بكل خرباته ومعارفه‪ ،‬وبدأ ف مجع مواد ومصادر تبدو بعيدة عن موضوعه‪ ،‬ولكنه استعان بمصادر ف اجليولوجيا‪ ،‬وفقه اللغة املقارن‪ ،‬وفلسفة التاريخ‪،‬‬
‫وسافر عرب مناطق عدة (‪ 1689-1687‬م) جيمع الوثائق واملخطوطات والكتب النادرة من مكتبات وأرشيفات متنوعة‪ .‬ومن خالل هذه املصادر‬
‫الثمينة املتنوعة ألف كتابه ‪ ، Codex Juris Gentium Diplomaticus‬وهو عبارة عن كنز من الرسائل والبيانات واالتفاقيات والوثائق العامة‬
‫وعقود الزواج امللكية‪ .‬ظهر الكتاب ف جملدين‪ ،‬ظهر أوهلام عام ‪1693‬م‪ ،‬والثاين عام ‪1700‬م‪ .‬قام بتأليف كتاب ثان معتمدً ا عىل نفس املصادر‪ .‬حول‬
‫اليبنز وانتاجه‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫‪Zwei Bandde "Review of, Gottfried Wilhelm Freiherr von Leibnitz- eine Biographie, by G. E. Guharauer. The‬‬
‫‪Ediburgh Review or Critical Journal Vol. LXXXIV. 1846.‬‬
‫‪for July, 1846.... October 1846. Pp. 1-47‬‬
‫‪225‬‬ ‫د‪ .‬جمدي جرجس‬

‫املجلد األول من هذه السري ف عام ‪1668‬م (‪ ،)Yasin, 2000, p.44‬وف نفس الوقت‪ ،‬كان هناك مرشوع مماثل بدأته مجاعة من‬
‫الرهبان اجلزويت‪ ،‬وهم املعروفون بجامعة البوالندست ‪ ،Bollandisttes‬والذين أخذوا عىل عاتقهم مجع سري القديسني الكاثوليك‬
‫ونرشها ف ترتيب زمني خالل السنة وف ًقا ليوم عيد القديس‪ ،‬إضافة إىل ذلك‪ ،‬كانت هناك عدة أكاديميات رشعت ف مرشوعات‬
‫علمية لدراسة العلوم الطبيعية إىل جانب تاريخ الكنيسة‪ ،‬وضمت بني أعضائها علامء بارزين ف الطب والفلسفة والرياضيات‬
‫واآلثار‪ .‬كانت هذه نقلة مهمة ف تاريخ الكنيسة؛ حيث تم دمج تاريخ الكنيسة ضمن منظومة علمية راسخة‪ ،‬مما تطلب تعاطي‬
‫طرق منهجية جديدة‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬بدأ املؤرخون يستخدمون العمالت والرنوك والنقوش واآلثار ف كتابة التاريخ ف أواخر القرن‬
‫السابع عرش‪.‬‬

‫الوثائق يف القلب‪:‬‬
‫االهتامم باستخدام الوثائق كمصدر لكتابة التاريخ يعود إىل فرتة مبكرة ف أوربا‪ ،‬وتوجد بعض النامذج لتوظيف الوثائق ف‬
‫الكتابة التارخيية منذ القرن التاسع امليالدي؛ نذكر من تلك النامذج املبكرة‪ ،‬مؤلف جمهول كتب تاريخ داجوبرت (ت‪639 .‬م) اعتام ًدا‬
‫عىل الوثائق املحفوظة ف دير سان دينيه‪ .‬وف نفس الوقت تقري ًبا طلب لويس األول (ت‪840 .‬م) من هيلدوين أن يكتب كتا ًبا عن‬
‫القديس دينيه‪ ،‬اعتمد فيه عىل الكتب اليونانية والالتينية‪ ،‬وكذلك اعتمد عىل وثائق الكنيسة بباريس‪ ،‬وهناك نامذج أخرى كثرية‬
‫لكتاب وظفوا الوثائق ف كتاباهتم‪ ،‬وبخاصة تاريخ الكنيسة وسري القديسني (‪ .)Giry, 1892, p. 228‬لكن هؤالء املؤرخني الذين‬
‫استخدموا الوثائق كمصادر معاونة‪ ،‬مل يقوموا بأي نوع من النقد عليها‪ ،‬مع استثناءات قليلة‪ ،‬لكن البعض أخذ يويل نقد الوثائق‬
‫بعض االهتامم‪ ،‬ف أوائل القرن الرابع عرش امليالدي‪ ،‬يناقش ‪ Bernard Gui‬برنارد غوي الدومينيكاين الوثائق التي يمكن أن تكمل‬
‫أو تصحح املصادر الروائية‪ ،‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬يتساءل حول صحة تاريخ إحدى وثائق أسقف ليموج‪ ،‬والتي يذكر فيها تاريخ نقل‬
‫رفاة القديس أوغسطني‪ ،‬ويعدد جريي أمثلة كثرية منذ القرن الرابع عرش (‪ .)Giry, 1892, p. 228‬وهذه األمثلة كافية للداللة عىل‬
‫توافر خرباء ف املحاكم واملؤسسات الرسمية عاملني بقواعد كتابة العقود والوثائق‪ ،‬وعىل خربة كافية بتمييز الصحيح من املزيف‬
‫منها‪ ،‬تناوب عىل حراسة كنوز الوثائق امللكية أجيال متعاقبة‪ ،‬تشكلت لدهيم خربات بالوثائق‪ ،‬وجتاوزوا أغراض حفظ هذه الوثائق‬
‫أيضا‪ ،‬نذكر منهم‪ Gérard de Montaigu ،‬جريارد‬
‫من أجل احلفاظ عىل احلقوق امللكية‪ ،‬إىل النظر إليها باعتبارها مصادر تارخيية ً‬
‫دي مونتيجو‪ ،‬الذي توىل منصب أمني األرشيف ف عهد امللك تشارلز اخلامس (‪1558-1520‬م)‪ ،‬حيث دون مالحظات بخط‬
‫يده تدل عىل أنه الحظ ما تفيده هذ الوثائق ف أمور أخرى تتعلق بالتاريخ واألعراف‪ ،‬أو ما نسميه بالنقد الدبلومايت بمصطلح‬
‫اليوم‪ ،‬وهكذا خلفاؤه ف هذا املنصب فطنوا إىل فائدة هذه الوثائق ف التاريخ والسياسة (‪ ،)Giry, 1892, p. 229‬ومنذ بدايات القرن‬
‫السابع عرش بدأ نرش هذه الوثائق بكثافة‪ ،‬بعد أن تبني للجميع أمهيتها ف جماالت قانونية وتارخيية وسياسية شتى‪،‬تداعيات القرن‬
‫السابع عرش الكثرية كانت هي الدوافع للرتكيز عىل الوثائق‪ ،‬ووضع قواعد أكثر دقة لتقييم ودراسة الوثائق‪ ،‬بدأت هذه املرحلة مع‬
‫حرب الثالثني عا ًما ف أملان يا‪ ،‬والتي أدت إىل رصاعات قانونية مريرة‪ ،‬كذلك انخرط النبالء ف فرنسا ف عمل مشرتك اشتهر باسم‬
‫حروب الدبلوماتيك‪ ،‬للتأكيد عىل امتيازاهتم ف مواجهة احلكم امللكي املطلق (سلوى‪ ،‬ص ‪ ،)21‬ويقول اليبنز‪" :‬لقد تعلمت أننا‬
‫نعتمد عىل املنطق ف الرياضيات‪ ،‬وعىل التجارب ف العلوم الطبيعية‪ ،‬وعىل السلطة ف القانون‪ ،‬وعىل الشهادات ف التاريخ"‬
‫(‪،)Spitz, p. 343‬يأيت كونرينج ف مقدمة الذين استخدموا الوثائق ونرشوها بكثافة‪ ،‬والذي ألف جملدً ا ضخام عن مدينة‬
‫تاريخ علم الوثائق‪ :‬املقدمات واللبنات األول‬ ‫‪226‬‬

‫‪ Lindau‬لينداو‪ ،‬تتضح فيه الروح النقدية واألسلوب القوي‪ ،‬ويعترب رائدً ا ف هذا املجال‪،‬وف فرنسا يأيت ف املقدمة ‪ du Cang‬دو‬
‫كانج (‪ 1688-1610‬م)‪ ،‬حيث يرسد العنارص األكثر أمهية ف الوثائق‪ ،‬ويقارن عدد ضخم من وثائق العصور الوسطى‬
‫الستخالص خصائصها وعنارصها الرئيسية (‪،)Giry, 1892, p. 235, 236‬كان دو كانج واحدً ا من أقرب أصدقاء مابيو‪ ،‬وقام‬
‫بتأليف أفضل قاموس التيني ف العصور الوسطى‪ ،‬وكان هذا القاموس من أهم األعامل التي اعتمد عليها مابيو ف كتابه‪ ،‬وكان‬
‫أيضا من الطبيعي أن يعتمد مابيو عىل كتابات أعامل زمالئه الرهبان املوريني اآلخرين (‪ ،)Zouhar, 2010, p. 370‬وواقع‬
‫ً‬
‫األمر أنكل من كورنينج ودو كانج قد سامها بشكل مبارش ف كتاب مابيو‪.‬‬

‫إسهامات كونرينج (القوالب القانونية)‪:‬‬


‫يعد هريمان كونرينج (‪1681-1606‬م) ‪ Herman Conring‬أحد املسامهني الكبار ف علم الدبلوماتيك‪ ،‬كان متعدد‬
‫املعارف واملواهب ودرس الطب والسياسة والقانون‪ ،‬قام كونرينج بتحليل وثيقة ُيدعى بأهنا تعود إىل النصف األول من القرن‬
‫التاسع امليالدي‪ ،‬وعن طريق مقارنتها بوثائق أخرى مقطوع بصحتها‪ ،‬متكن من اكتشاف زيف هذه الوثيقة‪ ،‬وركز ف حتليله هلذه‬
‫الوثيقة عىل اخلط‪ ،‬والصياغة‪ ،‬وشكل الوثيقة (قالبها)‪ ،‬كام قام بدراسة تقاليد الديوان امللكي‪ ،‬وانتهى كونرينج بأن األخطاء اإلمالئية‬
‫والنحوية ال تقوم ً‬
‫دليال عىل زيف وتزوير الوثيقة‪ ،‬ولكن إن اختلفت تعبريات الوثيقة وطريقة الكتابة عن الوثائق الصادرة عن‬
‫ديوان بعينه‪ ،‬وال تتفق مع عرصها‪ ،‬يكون ذلك ً‬
‫دليال عىل زيفها واختالقها (‪ ،)Zouhar, 2010, p. 367, 368‬يظهر ف عمل كونرينج‬
‫نقد الوثائق التارخيية بوضوح‪،‬حيث أخذ كونرينج عىل عاتقه تأسيس نقد للتاريخ‪ ،‬وإعادة قراءة الوثائق األويل التارخيية‪ ،‬بغرض‬
‫تصحيح صور نمطية مألوفة عن املايض‪ ،‬وتقديم قراءة أخرى تؤسس لواقع جديد‪ ،‬كان اهلدف منه إضفاء الرشعية عىل الدولة‬
‫األملانية الفتية‪ ،‬وأهنا مل تق م عىل أنقاض اإلمرباطورية الرومانية‪ ،‬وأن حقوق اإلمرباطورية الرومانية املزعومة قد سقطت بسقوطها‪،‬‬
‫أي‪ :‬إن كونرينج نظر إىل الوثائق بعني اخلبري القانوين الذي يتلمس األسس القانونية للنصوص‪ ،‬وكيفية تتبع قوالبها وطرق ترسهبا‬
‫قصريا حتت عنوان‪ :‬رؤية جديدة حول اإلمرباطور الروماين‪-‬‬
‫ً‬ ‫إىل منظومات أوربية أخرى‪ ،‬ونرش كونرينج ف عام ‪1642‬م‪ ،‬كتا ًبا‬
‫األملاين (‪ ،)Fasolt, 1997, p. 739‬وبعد عامني‪ ،‬نرش ً‬
‫عمال أكرب وأكثر شهرة حول نفس املوضوع (القانون الروماين)‪ ،‬والذي نال‬
‫ارسا ف أملانيا ف‬
‫بسبه شهرة كبرية؛ حيث حلل من خالله القنوات والطرق التي ترسب من خالهلا القانون الروماين‪ ،‬وصار ممَ ً‬
‫العصور الوسطى وبدايات العرص احلديث‪ ،‬وف ‪1662‬م‪ ،‬كتب كونرينج عمله العمدة ‪ De civili prudentia‬السياسة املدنية‪،‬‬
‫يتناول فيه العالقات القانونية والدستورية بني مملكة أملانيا آنذاك واإلمرباطورية الرومانية القديمة‪ ،‬ويوجه كونرينج نقدا الذعا‬
‫للقانون الروماين (‪ ،) Fasolt, p. 741-41‬ويبني هذا العمل كيف حول كونرينج أسئلة حول القانون الدستوري إىل أسئلة حول‬
‫التاريخ‪ ،‬وعمل كونرينج يبني كيف أن التاريخ صارت له أمهية ف أوائل العرص احلديث‪ ،‬وكيفية جتذر أصوله ف دراسة القانون‬
‫(‪.)Fasolt, 1997, p. 744‬‬
‫أعاد كونرينج مناقشة القضايا التارخيية وربطها باحلقوق القانونية‪ ،‬وكان سالحه ف ذلك قراءة نقدية لوثائق تارخيية أولية‬
‫بغرض حتويل إيامنات راسخة حول املايض إىل أساطري ال تُصدق‪ ،‬وأعامل كورنينج تسري ف اجتاه جديد لنقد الوثائق‪ ،‬وتضيف بعدً ا‬
‫جديدً ا ف دراستها‪ ،‬ليست اللغة‪ ،‬أو طرق انتقال النصوص‪ ،‬بل القوالب القانونية‪ ،‬وطرق انتقاهلا عرب النصوص‪ ،‬سيستخدم مابيو‪-‬‬
‫‪227‬‬ ‫د‪ .‬جمدي جرجس‬

‫فيام بعد‪ -‬أدوات وأفكار كورنينج ويشيد هبا ف عمله ويقول عنها‪ :‬إهنا كانت ملهمة له (انظر القسم األخري من هذه املقالة حول‬
‫كتاب مابيو ومضمونه)‪.‬‬

‫الصالح الكاثوليكي وتنقيح الرتاث‪:‬‬


‫شكل انشقاق مارتن لوثر عن الكنيسة الكاثوليكية ف عام ‪1517‬م‪ ،‬ارتباكًا شديدا لكنيسة روما‪ ،‬حيث أخذ عىل عاتقه‬
‫توجيه انتقادات الذعة للكنيسة الكاثوليكية‪ ،‬وأشار بأن كل تارخيها مزيف ومضلل‪ .‬كان هذا األمر داف ًعا للمصلحني الكاثوليك‬
‫إىل النظر بج دية لرتاثهم املكتوب‪ ،‬وحماولة تنقيحه وتنقيته من االنتحال واألساطري الشعبية‪ ،‬والرد عىل الربوتستانت‪ ،6‬ووجهت‬
‫كبريا لدراسة وحتقيق ونرش سري القديسني‪ ،‬وبدأ البحث عن املخطوطات‪ ،‬وجتميعها وتبويبها‪،‬‬ ‫الكنيسة الكاثوليكية اهتام ًما ً‬
‫واصطناع أدوات لنقدها‪ ،‬وهو املجال الذي تدرب فيه الرهبان الكاثوليك‪ ،‬ومن بينهم الرواد األوائل لعلم الوثائق‪.‬‬

‫نقد املصدر‪ :‬من املخطوطات إىل الوثائق‪:‬‬


‫بالرغم من أن مرشوع سري القديسني نشأ باألساس كطريقة للرد عىل مزاعم الربوتستانت حول الكنيسة الكاثوليكية‪ ،‬إال‬
‫أنه تسبب ف نزاعات وانشقاقات داخل الكنيسة ا لكاثوليكية نفسها‪ ،‬حيث إن تنقيح الرتاث سينال بالتأكيد من حقوق وإدعاءات‬
‫تارخيية لبعض اهليئات واملؤسسات الكنسية‪ ،‬وهذا النزاع‪ ،‬الذي نشب عىل أرضية علمية خمتلفة‪ ،‬كانت نتائجه حاسمة عىل علم‬
‫الوثائق‪ ،‬بل وكان من أهم دوافع تأسيس علم الدبلوماتيك‪.‬‬
‫كان الراهب اجلزويتي اهلولندي هربرت روسفايد‪1629-1569( Heribert Rosweyde‬م) هو أول من رشع ف جتميع‬
‫‪Acta‬‬ ‫معلومات عن سري القديسني‪ ،‬ونرش كتابه األول ‪ Vitae Patrum‬عام ‪ 1615‬ليصري هو اللبنة األوىل للسري املقدسة‬
‫‪ ،)Gwynn, 1946, p. 55( Sanctorum‬وكان روسفايد يدرك منذ البداية مصاعب هذه املهمة‪ ،‬ورصح بوضوح بأن سري القديسني‬
‫تعج بعدد كبري من النصوص املنحولة واخلرافات‪ ،‬كانت مهمة هؤالء الباحثني املصلحني أن يدرسوا بعناية املخطوطات الكنسية‬
‫لنقية السري مما أقحم عليها من أساطري‪ ،‬وكشف التزوير الذي طاهلا بحسن نية أو سوء نية‪ ،‬ومن ثم تبنى هؤالء الباحثون دراسة‬
‫نقدية ملصادر هذه السري (‪ ،)Palmieri, 1923,p. 341, 342‬من البداية كانت املهمة هي متييز الصحيح من املزيف ف هذه النصوص‪،‬‬
‫معرتضا عىل خطة روسفايد ألهنا ستقدم خلصومهم الربوتستانت الفرصة للسخرية من تاريخ الكنيسة‬
‫ً‬ ‫وقد وقف البعض‬
‫الكاثوليكية‪ ،‬حيث يعترب الربوتستانت أن هذه السري هي حجتهم القوية لدعايتهم ضد الكنيسة الكاثوليكية ( ‪Palmieri, 1923,p.‬‬

‫‪ .)343‬بعد وفاة روسفايد توىل املهمة من بعده بوالند)‪ ،Jean Bolland (Bollandous‬والذي قام بمراجعة أوراق روسفايد‪ ،‬ومن‬
‫ثم استمر بوالند ف عمله ف هذا املرشوع‪،‬صار اسم هذا الفريق "مجاعة البوالندست"‪ Bollandists‬نسبة إىل جان بوالند مؤسس‬

‫‪ -6‬الربوتستانتية حركة بدأت ف شامل أوربا ف بدايات القرن السادس عرش امليالدي كرد فعل لتعاليم وممارسات الكنيسة الرومانية الكاثوليكية‪ ،‬وما لبثت‬
‫أن صارت إحدى القوى الرئيسية ف العامل املسيحي‪ ،‬وبعد سلسلة من احلروب الدينية ف أوربا ف القرنني السادس عرش والسابع عرش‪ ،‬وبصفة خاصة‬
‫ف القرن التاسع عرش‪ ،‬انترشت الربوتستانتية ف شتى أنحاء العامل وأثرت ف احلياة االجتامعية واالقتصادية والسياسية والثقافية ف أوربا ومناطق خمتلفة‬
‫من العامل‪ .‬حول مزيد من التفاصيل‪ ،‬انظر‪ :‬املوسوعة الربيطانية‪ ،‬حتت مادة ‪ ،Protestantism‬أو النسخة اإللكرتونية هلذه املوسوعة عىل الرابط‬
‫التايل‪http://www.britannica.com/EBchecked/topic/479892/Protestantism :‬‬
‫تاريخ علم الوثائق‪ :‬املقدمات واللبنات األول‬ ‫‪228‬‬

‫هذه اجلامعة الرهبانية البحثية‪،‬وكانت مهمتهم هي البحث عن املواد املتعلقة بسري القديسني وتصنيفها‪ ،‬ونرش املواد واملصادر املوثوق‬
‫منها حول القديسني الذين اعرتفت هبم الكنيسة الكاثوليكية (سلوى‪ ،‬ص ‪ ،)21‬وحتديد املصاعب التي تواجهه ف هذا البحث‪،‬‬
‫نظرا لضخامة العمل‪ ،‬قام بوالند ف عام ‪1635‬م بتعيني مساعد له يسمى جودفري هنشن ‪-1601( Godfrey Henschen‬‬
‫ً‬
‫‪1681‬م)‪ ،‬تفرع هنشن بالكامل هلذا املرشوع‪ ،‬ومتكن من حل مشاكل كثرية ف هذه النصوص مثل‪ :‬التحقيب الزمني واجلغرافيا‪،‬‬
‫‪Daniel van Papenbroeck‬‬ ‫والتفسريات الفيلولوجية‪ ،‬ف ‪1660‬م انضم هلذا الفريق راهب آخر ُيدعى دانيال فان بابنربوك‬
‫(‪1714-1628‬م)‪ ،‬سافر بابن بروك وهنشن عرب أرجاء إيطاليا وفرنسا وأملانيا لتجميع نسخ من خمطوطات سري القديسني‪ ،‬وانضم‬
‫هلم جزويتي بوالندستي آخر ُيدعى جان جامنس‪.)Gwynn, 1946, p 56( Jean Gamans‬‬
‫سأتوقف ف السطور التالية أمام نموذج لتقليد حول من تسبب كشف زيفه ف ثورة بني نظامني من الرهبان الكاثوليك‪ ،‬أدى‬
‫بنهاية املطاف إىل الطعن ف كل الوثائق‪ ،‬وهذا النموذج يكشف كيفية انتقال أدوات نقد املصادر من املخطوطات إىل الوثائق‪ ،‬والذي‬
‫شكل الدافع املبارش ملابيو لكي يضع قواعد متييز الوثائق الصحيحة من املزيفة‪.‬‬

‫منوذج الخرتاع التقاليد‪:‬الرهبنة الكرملية‪:‬‬


‫بدأت هذه الرهبنة ف جبل الكرمل بفلسطني عىل شكل مجاعة متوحدين من الذين صحبوا احلروب الصليبية واستقروا ف‬
‫ممالكها بالرشق‪ ،‬حيث نظم بريتولد ‪ ، Berthold‬الذي كان شقيق عموري بطريرك أنطاكية‪ ،‬مجاعة صغرية بجبل الكرمل عام‬
‫‪1185‬م‪ ،‬ثم وضع نظام هذه الرهبنة ألربت بطريرك القدس ف عام ‪1211‬م‪ ،‬ثم أقر البابا أونوريوس‪ Honorius‬هذا النظام بعد‬
‫ذلك ف عام ‪1226‬م‪ ،‬ويصف الرحالة جاك دي فرتاي ‪ Jacques de Vitry‬ف ‪1227‬م‪ ،‬أن الرهبان هناك يتمثلون بالنبي إيليا‬
‫(إلياس) ف حياهتم بجبل الكرمل (‪ ،)Boase, 1940, p. 107‬هذه هي احلقائق املؤكدة حول تاريخ هذا النظام الرهباين‪ ،‬بعد حني‪،‬‬
‫عاد معظم هؤالء الرهبان إىل ديارهم‪ ،‬باستثناء قلة أقاموا ف املكان األصيل للنظام بجبل الكرمل‪.‬‬
‫لكن تاريخ هذه النظام اتسع وشمل تقاليد أخرى نسبت تأسيس هذا النظام إىل النبي إيليا نفسه (أي‪ :‬قبل ظهور املسيحية‬
‫بقرون طويلة)‪ ،‬ويقول التقليد بأن النبي إيليا قد أقام بجبل الكرمل كأول عابد متوحد‪ ،‬مقد ًما نموذج حلياة النسك والزهد‪ ،‬وانتقل‬
‫هذا التقليد إىل إليشع النبي‪ ،‬ثم إىل الركابيني‪ ،‬ثم األسينيون‪ ،‬ثم يوحنا املعمدان‪ ،‬وأقرت السيدة العذراء نفسها هذا النظام وقامت‬
‫بزيارة األخوة بجبل الكرمل‪ ،‬وعىل جبل الكرمل تأسست أول كنيسة باسم السيدة العذراء‪ ،‬هذه األسطورة قد أقحمت ف "كتاب‬
‫الرهبان األوائل" ‪ ،Liber de Institutione Primorum‬وتُنسب إىل يوحنا األورشليمي ف عام ‪412‬م‪ ، Monachorum‬وأدلة كثرية‬
‫من داخل النص تشري إىل هذه الرواية قد صيغت بعد أن تبلور النظام ف الرشق وظهر ف أوربا‪ ،‬وقام أحد الرهبان الكرمل بنرش‬
‫هذا التقليد ورشحه ف عام ‪1370‬م‪ ،‬وهي الفرتة التي بدأ هذا النظام يتلقى الشكوك‪ ،‬ولكن در ًء هلذه الشبهات أمعن نظام الرهبنة‬
‫الكرملية ف تعضيد تقاليده‪ ،‬وزادت الكتابات حوله‪ ،‬وأضيفت أدلة وشواهد جديدة مزعومة‪ ،‬حتى حاز النظام ً‬
‫قبوال واس ًعا‪،‬‬
‫وانترشت الكتابات حوله (‪ ،)Boase, 1940, p. 108‬ف عام ‪1668‬م‪ ،‬بدأ البوالندست ف دراسة السري اخلاصة بشهر مارس‪ ،‬وكان‬
‫من بينها سرية ‪ Berthold‬بريتولد‪ ،‬املؤسس احلقيقي لنظام الرهبنة الكرملية‪ ،‬وتوىل دراسة هذه السرية بابن بروك‪ ،‬ثم جاءت سرية‬
‫ألربت بطريرك بيت املقدس(ت‪1214 .‬م) ‪ ،‬وكرر بابن بروك اهتاماته لنظام الرهبنة الكرملية وأثبت عدم صحة هذه التقاليد‪،‬‬
‫وصارت ضجة كربى حول هذه االهتامات‪ ،‬مل تتوقف إال بتدخل بابا روما بنفسه عام ‪1698‬م (‪،)Boase, 1940, p. 109‬أراد بابن‬
‫‪229‬‬ ‫د‪ .‬جمدي جرجس‬

‫بروك أن يضع قواعد للبحث ف أعامل القدي سني‪ ،‬وكذلك وضع قواعد للتمييز بني الوثائق األصلية والوثائق املزورة‪ ،‬وحتت تأثري‬
‫الفلسفة الفرنسية ف القرن السابع عرش‪ ،‬قال بابن بروك بأنه ال توجد وثيقة صحيحة ف اإلمرباطورية الفرانكونية قبل ‪Dagobert I‬‬

‫داجوبرت األول‪ ،7‬وسع باين بروك من شكوكه لتشمل كل حمفوظات أديرة البندكتني‪ ،‬وكأنه يكرر شكوك مارتن لوثر‪ ،‬عندما‬
‫أسس رفضه للكاثوليكية عىل ما توصل إليه لورنزو فاال من كشفه لزيف وثيقة هبة قسطنطني (‪ ،)Whitford, 2008, p. 26‬ووضع‬
‫خريا بأن الرهبان هم ف‬
‫بابن بروك القاعدة العامة التي تقول‪" :‬كلام كانت الوثيقة أقدم كلام زاد احتامل عدم صحتها"‪ ،‬ثم رصح أ ً‬
‫الغالب األعم مزورين للوثائق حتى جيملوا وضعهم املأزوم‪ ،‬ولكنه بالغ ف تقدير املوقف ألنه اشتغل فقط عىل عدد قليل من‬
‫حكام بعدم صحة العديد من الوثائق‬
‫املصادر املكتوبة‪ ،‬كام كانت متاحة ف شكل نسخ فقط (‪ ،)Zouhar, 2010, p. 389‬وأصدر ً‬
‫القديمة التي بحوزة البندكتني والتي ُيدعى بأهنا تعود إىل القرن السادس امليالدي‪ ،‬وبخاصة وثائق االمتيازات‪ .‬وكان دير سان دينيه‬
‫امللكي بالقرب من باريس يقتني العديد من الوثائق التارخيية من هذا النوع‪ ،‬وهذا الدير كان من أشهر أديرة فرنسا وبه مدفن خاص‬
‫مللوك فرنسا‪ ،‬ومن ثم كان ت سمعة هذا الدير‪ ،‬وكذلك سمعة فرنسا عىل املحك بسبب اهتامات بابن بروك ( ‪Zouhar, 2010, p.‬‬

‫‪ ،) 370‬ومن ثم كان عىل الرهبان البندكتيني أن يدافعوا عن سمعتهم وسمعة فرنسا‪ ،‬فانربى هؤالء الرهبان للدفاع ودحض هذا‬
‫االهتام‪ ،‬وأخذ مابيو‪ ،‬وهو من الرهبان البندكتيني‪ ،‬عىل عاتقه هذه املهمة‪.‬‬

‫حول نشأة مابيو وتأهيله‪:‬‬


‫ولد مابيو عام ‪ 1632‬ف مدينة‪ Reims‬رايمس بفرنسا‪ ،‬ثم تلقى الدراسات الالزمة لرتبة القسيسية‪ ،‬ونال هذه الدرجة ف‬
‫عام ‪1660‬م‪ ،‬وبعدها بأربع سنوات صار مساعدً ا ألمني مكتبة دير القديس جرمان بباريس ‪ ،Saint-Germain des Pres‬وهذه‬
‫الوظيفة أتاحت له الفرصة لتطوير مهاراته وتطلعاته البحثية‪ .‬قام ً‬
‫أوال بنرش بعض األعامل مع رئيسه ف العمل‪ ،‬وظهرت أول أعامله‬
‫منفر ًدا عام ‪1667‬م عندما نرش كتابه عن القديس برنارد ‪ Bernard‬عام ‪1667‬م‪ ،‬وحاز شهرة ف روما بسبب هذا الكتاب‪،‬وقدراته‬
‫وإمكانياته البحثي ة جتلت ف كتاباته عن القديسني من الرهبان البندكتني (الذين ينتمي إليهم)‪ ،‬ولكن وجهت إليه انتقادات عنيفة‬
‫بسبب عدم حتريه الدقة التارخيية‪ ،‬مما جعله يستبعد بعض القديسني الذين نسبوا باخلطأ إىل هذه السلسلة من القديسني‪ ،‬توفرت ملابيو‬
‫فرصا هائلة للتجوال عرب مكتبات أوربا‪ ،‬وصاحبه ف الكثري منها صديقه وزميله األب جرمان‪ ،‬وخالل رحالته حتصل عىل العديد‬
‫من الوثائق والكتب ذات القيمة التارخيية‪ ،‬ثم جاء بعد ذلك عمله األشهر ف النقد التارخيي عام ‪1681‬م وهو كتاب الدبلوماتيك‬
‫(‪.)Sellin, 1927, pp.581-583‬‬
‫مل يكن مابيو هو املؤلف الوحيد هلذا العمل‪ ،‬وقد أشار مابيو إىل زميله ف العمل‪ ،‬ميشيل جريمان ‪Dom Michel Germain‬‬

‫(‪ 1694-1645‬م)‪ ،‬وهو الذي قام بكتابة معظم الكتاب الرابع‪ ،‬وهو الذي زامله ف رحلته العلمية الطويلة إىل إيطاليا (أبريل‬

‫‪ -7‬هو آحد ملوك املريوفينجيني ‪ Merovingians‬توف عام ‪639‬م‪.‬‬


‫تاريخ علم الوثائق‪ :‬املقدمات واللبنات األول‬ ‫‪230‬‬

‫‪-1685‬يوليو ‪1686‬م)‪ ،‬ونرش الكاتبان ملخصات أبحاثهام ف كتاب (‪ ،)Zouhar, 2010, p. 360‬وهناك زمالء آخرين ملابيو‬
‫سامهوا بدرجات متفاوتة ف هذا العمل‪.8‬‬

‫املوضوع واملنهج وسياق العصر‪:‬‬


‫كان اهلدف من كتابة مابيو هلذا العمل هو الدفاع عن سمعة فرنسا وعن الرهبنة البندكتية وبخاصة دير سان دينيه‪ ،‬وكانت‬
‫القضية العملية هي إقامة الدليل عىل صحة وثائق امتيازات العصور الوسطى‪ ،‬ومن ثم اختص مابيو بالدراسة فقط للوثائق اخلاصة‬
‫بأوائل العصور الوسطى‪ ،‬وبشكل خاص وثائق مملكة الفرنج التي حكمتها أرسة املريوفينجيني (‪751-450‬م)‪ ،‬ثم األرسة‬
‫الكارولنجية‪ ،‬واستخدم مابيو وثائق سليمة ومؤرخة‪ ،‬وقام بإحصاء ووصف كل جوانب وثائق العصور الوسطى‪ ،‬عالوة عىل‬
‫ذلك‪ ،‬قام بتحليل تطور الكتابة الالتينية‪ ،‬وأسس بذلك أحد األدوات الرئيسية لدراسات العصور الوسطى وهو حقل الباليوجراف‪،‬‬
‫والواقع إن كتاب مابيو قد أسس لعدد من العلوم املساعدة للتاريخ‪ :‬الدبلوماتيك‪ ،‬والباليوجراف‪ ،‬واألختام‪ ،‬وتأريخ النصوص‬
‫(‪.)Zouhar, 2010, p. 371, 371‬‬
‫كان مابيو‪ ،‬شأنه شأن الباحثني الكنسيني آنذاك‪ ،‬يقومون بعمليات النقد التارخيي والفيلولوجي الذي مارسه بعض الباحثني‬
‫الكنسيني حتت تأثري بالفلسفة الديكارتية (نسبة إىل الفيلسوف الفرنس‪Rene Descartes‬ديكارت (‪1650-1596‬م) (دينا‬
‫محمود‪ ،‬ص ‪ ،)44‬وهدفوا إىل تنقية الكاثوليكية مما اعتربوه أساطري وخرافات (‪ ،)Quantin, 2011, p. 401‬كانت السمة الغالبة‬
‫بني الباحثني ف القرن السابع عرش هي النقد الالذع‪ ،‬ليس فقط دانيال بابن بروك‪ ،‬املحرك األول ملابيو لكي يؤلف كتابه‪ ،‬بل كثريون‬
‫أخر‪ ،‬نذكر منهم جان هاردوين اليسوعي (‪1729-1646‬م) ‪ ،Jean Hardouin‬والذي شكك ف معظم األدب الالتيني ف‬
‫اإلمرباطورية الرومانية‪ ،‬باستثناء بعض أعامل سيرشون وفرجيل وبلليني وآخرين ‪ ،)Zouhar, 2010, p. 368‬اجلدير بالذكر إن‬
‫كتاب الدبلوماتيك مل يكن هو العمل الوحيد ملابيو‪ ،‬إذ هناك أعامل أخرى كتبها‪ ،‬ومن بينها عمل شهري ملابيو‪ ،‬اعتربه بعض النقاد‬
‫أهم من كتابه عن الدبلوماتيك‪ ،‬وهو املعروف بعنوان‪" :‬رسالة حول الدراسات الرهبانية ‪1691‬م"‪ ،‬ويظهر هذا العمل بعضا من‬
‫سامت فكر مابيو؛ حيث يفضل مابيو مابيو بشكل واضح الالهوت الذي يعتمد فقط عىل الكتاب املقدس وتقاليد املجامع املقدسة‬
‫عن الالهوت املدريس الذي يعتمد عىل املنطق اإلنساين والفلسفة وعلوم أخرى‪ ،‬لكنه يرص عىل إن ذلك ال يعني شجب استخدام‬
‫املنطق؛ بل شجب سوء استخدام املنطق ف دراسة الالهوت (‪.)Quantin, 2011, p. 405‬وكأنه يسري عكس اجتاه بيكوك (انظر‬
‫منهج بيكوك السابق ذكره أعاله)‪ .‬يتضح تأثر مابيو بكل من بيكوك ولورنزو فاال‪ ،‬ف استخدامه ملفهوم احلجة السلبية (املسكوت‬
‫عنها)‪ .‬وقال مابيو ف دراسته حول سري القديسني بأن فقرة بعينها مكتوبة بالالتينية وردت ف سرية القديس موريس التي كتبها‬
‫برودينتوس املتوف عام ‪861‬م‪ ،‬تبدو مدسوسة‪ ،‬حيث إهنا مل ترد عند أي كاتب قبل هناية القرن الثاين عرش امليالدي‪ ،‬وأضاف ً‬
‫قائال‪:‬‬
‫"ينبغي أن نميز بني احلجة السلبية متا ًما‪ ،‬واحلجة السلبية املخلوطة بواحدة أخرى إجيابية‪ ،‬من السهل أن نعتقد بزيف األوىل‪ ،‬أكثر‬
‫من الثانية (‪.)Quantin, 2011, p. 412, 413‬‬

‫‪Claude Estiennot de la Serre (1639-1699), Antoine de Vion de Gaillon, Seigneur ďHérouval (c.‬‬ ‫‪ -8‬منهم‪:‬‬
‫‪1603-1689), Étienne Baluze16 (1630-1718), and Antonio Magliabechi (1633-1714‬‬
231 ‫ جمدي جرجس‬.‫د‬

‫ ولذلك كان عليه‬،‫كان مابيو يرص عىل وصف كتابه حول الدبلوماتيك بأنه "تاريخ" وأنه تاريخ اعتمد عىل مصادر أصلية‬
‫ وال‬،‫ "الصفة األوىل للمؤرخ هي أن حيب احلقيقة ويبحث عنها‬:‫ قال بأن الدور الرئيس للمؤرخ هو‬،‫أن يامرس النقد هلذه املصادر‬
‫ إهنا خمفية ومغلفة باألكاذيب‬،‫ واآلن جيب عىل من يبحث عن احلقيقة أن يناقشها‬،‫ وأن جيعل مهنتها مهنة عامة‬،‫خيار له ف ذلك‬
،‫ ينبغي أن نميز بني ما هو حقيقي وما هو زائف‬،‫ وف دراسة احلقائق‬،‫ وبخاصة ما يتعلق بحقائق التاريخ والتاريخ القديم‬،‫واألخطاء‬
.)Quantin, 2011, p. 417( "‫ما هو مؤكد وما هو مشكوك فيه‬

9
:‫مضمون وفصول كتاب مابيو‬
De re diplomatica ‫م حتت عنوان‬1681 ‫ اإلصدار األول كان عام‬:)‫لكتاب مابيو ثالث طبعات (إصدارات‬
‫الطبعة الثانية‬.11Librorum de re diplomatica supplementum,:‫ ثم نرش مابيو ملحقا جديدا له حتت عنوان‬،libri VI10
،12‫ وهي أكثر الطبعات املعتمدة‬،‫ بتوجيه من مابيو نفسه‬Dom Thierry Ruinart‫م وقام بطباعتها تريي روينار‬1709 ‫صدرت عام‬

:‫ وهو الوحيد الذي قدم مضمون وملخص كتاب مابيو بلغة أخرى غري الالتينية‬، Zouhar ‫ اعتمد ف هذا امللحق بشكل رئيس عىل مقالة‬-9
Zouhar, Jakub, “De Re Diplomatica libri sex by Jean Mabillon in outline”, Listy filologické/ Folia philological,
vol. 132, No. 3 / 4 (2010). Pp. 357-388
:‫ العنوان الكامل باللغة الالتينية‬-10
De re diplomatica libri VI. In quibus quidquid ad veterum instrumentorum antiquitatem, materiam, scripturam,
et stilum; quidquid ad sigilla, monogrammata, subscriptiones, ac notas chronologicas; quidquid inde ad
antiquariam, historicam, forensemque disciplinam pertinet, explicatur et illustratur, [Jean Mabillon].
Accedvnt Commentarius de antiquis Regum Francorum palatiis. Veterum scripturarum varia specimina,
tabulis LX comprehensa. Nova ducentorum, et amplius, monumentorum collectio. Opera et studio Domni
Johannis Mabillon, presbyteri ac monachi Ordinis S. Benedicti e Congregatione S. Mauři, Luteciae-
Parisiorum, sumtibus viduae Lud. Billaine, in palatio Regio MDCLXXXI. Cum privilegio Regis et
superiorum permissu
:‫ العنوان كامل بالالتينية‬-11
Librorum de re diplomatica supplementum, quo archetypa in his libris pro regulis proposita, ipsaeque regulae
denuo confir mantur, novisque speciminibus et argumentis asseruntur et illustrantur. Opera et dio Domni
Johannis Mabillon, presbyteri ac monachi Ordinis S. Benedicti e Congre gatione S. Mauři, Luteciae-
Parisiorum, sumtibus Caroli Robustel, via Jacobea, insigne arboris Palmae, MDCCIV. Cum privilegio
regis et superiorum facultate.
:‫ العنوان كامل بالالتينية‬-12
De re diplomatica libri Editio secunda ab ipso auctore recognita, emendata et aucta, Luteciae-Parisiorum,
sumtibus Caroli Robustel, via Jacobea, adinsigne arboris Palmae, MDCCIX. privilegio regis et superiorum
facultate.
‫تاريخ علم الوثائق‪ :‬املقدمات واللبنات األول‬ ‫‪232‬‬

‫وتضمنت متهيدا للمؤلف وكذلك متهيدا لروينار‪ ،‬ورسوما توضيحية كثرية‪ ،‬وظهرت الطبعة الثالثة هلذا العمل ف نابويل عام‬
‫‪1789‬م‪ ،‬وهي أقل الطبعات جودة‪ ،‬كذلك أثقلت بالتعليقات الكثرية الثنني من اللغويني‪.13‬‬

‫قسم مابيو كتابه إلى ستة كتب ( أقسام)‪::‬‬

‫الكتاب األول‪:‬‬
‫حاول مابيو ف هذا اجلزء أن يضع القواعد التي ربام تساعده عىل حتديد الوثائق املزيفة ومتييزها عن الصحيحة‪ ،‬واختذ موق ًفا‬
‫مناو ًء هلؤالء املنتقدين املبالغني الذين طعنوا ف الوثائق القديمة عامة‪ ،‬وقال مابيو بأن حكمهم كان غري صائب ألنه من غري املعقول‬
‫أال ترى الوثائق الصحيحة بسبب وجود أخرى مزيفة‪ ،‬وكان عليه أن يصنف أنواع وثائق االمتيازات‪ :‬امتيازات كنسية (صدرت‬
‫بواسطة الرؤساء الدينيني‪ ،‬والبابوات‪ ،‬واألساقفة‪ ،‬أومؤسسات كنسية أخرى)؛ واالمتيازات امللكية‪ ،‬والوثائق اخلاصة‪ ،‬كام واجه‬
‫ِ‬
‫يكتف مابيو هبذه‬ ‫كبريا‪ ،‬ومل‬
‫صعوبة ف حتديد بعض هذه الوثائق‪ ،‬فاضطر لوضع مسميات (عناوين) هلا‪ ،‬وبذل ف ذلك جمهو ًدا ً‬
‫أيضا نسخ الوثائق املحفوظة ف كتب خمطوطة‪ ،‬وقال بأن نقد‬ ‫الوثائق املحفوظة ف األرشيفات منذ العصور الوسطى‪ ،‬بل تقىص ً‬
‫أيضا عمل مهم ورشعي إذا اكتشف الباحث أخطاء تارخيية‪ ،‬وتعبريات التناسب عرصها‪ ،‬أو ألقاب أو كلامت‪ .‬واستعرض‬
‫النسخ ً‬
‫أيضا األصول القديمة جدً ا للوثائق امللكية التي كانت مستخدمة ف شبه جزيرة أيربيا جنوب غرب أوربا‪ ،‬وىف الفصل اخلامس‬
‫مابيو ً‬
‫هناك فقرة حول الوثائق اخلاصة‪ ،‬ووسع مابيو من دائرة النقد والتحليل ووضع ف اعتباره الكم الكبري من الوثائق الرسمية التي‬
‫ُفقدت عرب التاريخ‪ ،‬وقام بتحليل بعض احلاالت والظروف التي تسببت ف فقدان الكثري من الوثائق‪ ،‬ودرس ً‬
‫أيضا الطرق التي‬
‫كانت ُجتدد هبا الوثائق‪ ،‬واستطاع حتديد الطريقة الرئيسية لتجديد الوثائق بأن ُيطلب من حاكم‪ ،‬أوجملس مدينة‪ ،‬أو بابا‪ ،‬أو أي‬
‫مسئول كنس أن جيدد الوثيقة أو ينشىء وثيقة نسخة جديدة من وثيقة حتمل عالمات الصحة‪ ،‬ووصف وظائف هذه النسخ التي‬
‫كانت تصدر مع األصول‪.‬‬
‫ثم رشع مابيو ف وصف اخلصائص اخلارجية للوثائق‪ ،‬فبدأ بوصف املواد املكتوب عليها (الرق‪ ،‬وحلاء الشجر‪ ،‬والربدي)‪،‬‬
‫وقال بأن الربدي استخدم ف فرتة متأخرة عن تلك التي حددها بابن بروك‪ ،‬وأوىل مابيو اهتامما أكرب بالورق املصنوع من القامش أو‬
‫أيضا إىل فحص أنواع األحبار املستخدمة ف الكتابة‪( :‬أسود‪ ،‬وأمحر‪ ،‬وذهبي‪ ،‬وفيض)‪ ،‬وكان مهتام جدً ا باستخدام‬
‫القطن‪ ،‬وتطرق ً‬
‫احلرب األمحر ف توقيعات األباطرة الرومانيني والبيزنطيني‪ ،‬واحلكام الكارولنجيني‪ ،‬ثم أخذ يسجل بدقة خصائص الكتابة وطريقتها‪،‬‬
‫وف الفصل احلادي عرش بنى مابيو عىل خربات سابقيه وبخاصة بيري هامون ‪ ،Pierre Hamon‬السكرتري اخلاص والكاتب امللكي‬
‫لتشارلز التاسع ملك فرنسا‪ ،‬ومؤلف كتاب ‪ Alphabet de l' invention des lettres en diverses escritures‬عام‬

‫‪ -13‬العنوان كامل بالالتينية‪:‬‬


‫‪De re diplomatica libri VI... Tertia atque nova editio dissertationibus variorum locupleta notisque nunc primům‬‬
‫‪inlustrata a marchione Bumbae Johanne Adimari, Neapoli, ex typ. Vincentii Ursini, MDCCLXXXIX.‬‬
‫‪233‬‬ ‫د‪ .‬جمدي جرجس‬

‫‪ 1561‬م(األبجديات واخرتاع احلروف ف خمتلف النصوص املقدسة)‪ ،‬ثم وصف مابيو أربعة أنواع من الكتابة ف فرنسا‪ ،‬وأضاف‬
‫أنواعا أخرى من نظم الكتابة‪.‬‬

‫الكتاب الثاين‪:‬‬
‫يتعامل م ابيو ف الكتاب الثاين بالتفصيل مع اخلصائص اخلارجية للوثيقة‪ ،‬ووصف البنية الدبلوماتية للوثائق‪ ،‬واألسلوب‪،‬‬
‫والتوقيعات (سواء توقيعات بخط اليد أو فورمات جاهزة) واألختام‪ ،‬وكتابة التاريخ‪.‬‬
‫ربام وجد بعض الناس ف القرن السابع عرش يعرتضون عىل األسلوب اهلمجي غري املنمق للوثائق القديمة‪ ،‬حيث يرد مابيو‬
‫عىل مثل هذه اإلدعاءات بعد أن فحص بدقة وثائق قديمة وأعلن أهنا ال تتميز بعدم االنتظام‪ ،‬وأن ذلك ليس مدعاة للتشكك من‬
‫تأرخيها أو نسبتها للعرص الذي ُأنتجت فيه‪ ،‬ويقول بأن األخطاء اإلمالئية ربام تعود إىل عدم جودة املواد التي كتبت عليها‪ ،‬أو بسبب‬
‫أيضا املزورين‪ ،‬ومن اخلطأ أن نفهم هذه األمور ونردها إىل املزورين وأهنم قد دسوا وثائق بشكل متعمد‪.‬‬
‫املوثقني‪ ،‬وكذلك ً‬
‫بعد أن قام مابيو بمقارنات عدة‪ ،‬اعتقد برضورة فحص مخسة أمور عامة‪ ،‬وهي‪ :‬الدعاء االفتتاحي‪ ،‬والنص‪ ،‬واملصطلحات‬
‫الدقيقة (استخدام صيغة اجلمع ً‬
‫بدال من املفرد‪ ،‬األلقاب الترشيفية)‪ ،‬وقوائم املمتلكات‪ ،‬واألنواع املختلفة من العقوبات‬
‫واحلرومات‪ ،‬واستخدم مابيو هذه الطريقة ف دراسة وحتليل الوثائق الكنسية وامللكية واخلاصة‪ ،‬ألنه اعتقد بإمكانية التمييز بني‬
‫الوثائق األصلية وتلك املزيفة بناء عىل حتليل هذه اجلوانب‪ ،‬وحدد مابيو استنتاجات بابن بروك وأخذ ف ضحضها؛ عىل سبيل‬
‫املثال‪ :‬اعتقد بابنربوك بأن وثائق امللوك الكارولنجية كانت توقع بصيغة ضمري املتكلم لفرتة طويلة؛ ف حني أعلن مابيو بأن هذا‬
‫دليل عىل عدم صحة الوثيقة‪ ،‬ولكن مابيو اعرتف ف نفس الوقت بوجود عدد قليل من الوثائق تم توقيعها بصيغة ضمري املتكلم‪،‬‬
‫ويبدو أن هذا حدث عىل سبيل املصادفة وليس العادة‪ ،‬واستنتج مابيو هذه النتيجة من خالل أمثلة من الوثائق اخلاصة‪.‬‬
‫وضع مابيو قائمة تفصيلية ودقيقة باأللقاب املخصصة لكل فئة‪ ،‬امللوك وأبناؤهم وبناهتم وزوجاهتم‪ ،‬والرتب الكنسية‪،‬‬
‫و أخذ يرشح وحيلل كل لقب ومدلوله وتارخيه‪ ،‬باإلضافة إىل ذلك أخذ مابيو ف التوقف عند تعبريات وصياغات بعينها ف الللغة‬
‫ى وساعد عمله ف إنتاج قواميس للغة‬
‫الالتينية‪ ،‬وبذلك ساهم مابيو ف مناقشات أكثر حول اللغة الالتينية ف العصور الوسط ‪,‬‬
‫الالتينية ف العصور الوسطى أع دها باحثون آخرون ف أوربا‪ ،‬وضع مابيو قائمة بالكني والعائالت واألماكن التي كانت هلا قيمة‬
‫كبرية‪ .‬وهنا دحض مابيو حجج بابن بروك؛ حيث َبني للقراء أن قائمة تفصيلية بممتلكات من عرص داجوبرت األول (‪-603‬‬
‫‪639‬م) يمكن االعتامد من موثوقيتها بالرغم من تفاصيلها الكثرية جدً ا‪ ،‬حيث وجد مابيو نامذج قليلة ف وثائق وقوالب أخرى‪.‬‬
‫عدد مابيو‪ ،‬ف هناية الفصل الثامن األنواع املختلفة من العقوبات املستخدمة ف الوثائق‪ ،‬ودون مالحظات حول ورود‬
‫عبارات التحريم ف الوثائق واملراسيم الكنسية‪ ،‬وقسم العقوبات إىل أربعة أنواع‪ :‬العقوبة‪ ،‬واحلرمان‪ ،‬وعقاب يوم الدينونة‪ ،‬وعقوبة‬
‫املوت‪،‬كل هذه العقوبات كانت مستخدمة ف فرنسا قبل عرص األرسة الكارولنجية‪ ،‬ثم استمر مابيو ف وصف األنواع املختلفة‬
‫للتوقيعات (العالمات) وطرق وأماكن وضعها عىل الوثائق‪ ،‬وأخذ حييص وحيلل أنواع العالمات وطرق وضعها ف كل فرتة‪،‬‬
‫أيضا عن أعامل املوثقني‪ ،‬ووضع قائمة‪ ،‬قدر إمكانه‪ ،‬باملوثقني الفرنسيني ف عرص القديس لويس‪ ،‬وأضاف للقائمة‬
‫وبحث مابيو ً‬
‫املوثقني العموم‪ ،‬واملوثقني الكنسيني‪ ،‬وموثقي الكريس البابوي‪ ،‬وقال مابيو بعدم وجود موثقني ف إنجلرتا ف أوائل العصور‬
‫الوسطى‪ ،‬وثبتت صحة مقولته‪.‬‬
‫تاريخ علم الوثائق‪ :‬املقدمات واللبنات األول‬ ‫‪234‬‬

‫قدم مابيو وصفا تفصيليًا لكل أشكال األختام املستخدمة من العصور القديمة وحتى أوائل العصور الوسطى‪ ،‬تلك التي‬
‫كانت تعلق ف الوثائق أو تطبع عليها‪ ،‬ووصف نصوص األختام والصور التي تظهر عليها‪ ،‬وبخاصة صور احلكام وشعاراهتم‪،‬‬
‫وألوان األختام‪ ،‬وتفاصيل أخرى صارت متثل توجها دراسيا معروفا ف وقتنا احلايل‪.‬‬
‫ف الفصل التاسع‪ ،‬يرتك مابيو الفرصة لكورنينج ليتحدث عن نفسه‪ ،‬ويستعري مابيو أفكاره ويقول عنها إهنا ملهمة‪ ،‬تطرق‬
‫أيضا إىل الشهود وأمهية ذلك لصحة الوثيقة‪ ،‬ولكن كانت قوائم الشهود نادرة‪ ،‬وتظهر فقط ف الرسائل الصادرة عن جمالس‬
‫مابيو ً‬
‫أيضا عن كيفية ترتيب أسامء األساقفة‪،‬‬
‫األسقفيات‪ ،‬والتي يظهر فيها أسامء العديد من األشخاص بعد اسم األسقف‪ ،‬حتدث مابيو ً‬
‫وهل تتوافق مع ترتيب وضع أختامهم‪ ،‬ويقول مابيو باستحالة التدليل عىل إن الرتتيبني متوافقني؛ ويعزي ذلك إىل املوثق هو الذي‬
‫أيضا عىل نظم التأريخ‪ ،‬ودرس‬
‫كان يكتب األسامء‪ ،‬ويتميز مابيو هنا بفحصه الدقيق للوثائق بتفاصيل أكثر من كل سابقيه‪ ،‬ركز مابيو ً‬
‫الطرق املتبعة ف الوثائق اإلمرباطورية وملوك جرمانيا وإنجلرتا وإيطاليا وأماكن أخرى‪.‬‬

‫الكتاب الثالث‪:‬‬
‫خلص مابيو ف هذا اجلزء خالصة معارفه النظرية للمشكلة‪ ،‬وطبقها للتأكيد عىل صحة فرضه بصحة الوثائق التي ادعى‬
‫بابنربوك زيفها‪ ،‬وهو مل يقدم دراسات جتريبية عىل حاالت بعينها‪ ،‬ولكنه وضع قواعد عامة صاحلة للتطبيق عىل العموم‪ ،‬وبتطبيق‬
‫هذه القواعد عىل عدد كبري من الوثائق الرسمية ف أوائل العصور الوسطى‪ ،‬دافع مابيو عن أرشيف سان دينيه وبرأ ساحته من‬
‫احتفاظه بوثائق مزيفة‪ ،‬وكذلك كل أديرة البندكتني التي طالتها الشبهات‪ ،‬وأخذ مابيو يعدد األخطاء التي اقرتفها بابن بروك وهو‬
‫حيلل وثائق دير القديس مكسيموس بمدينة ترير ‪ ، Trier‬وقال بأن بابن بروك وقع ف عرش إجراءات خاطئة تتعارض مع مبادئ‬
‫الدبلوماتيك وهو حيلل وثائق هذا الدير كنموذج لوثائق احلكام املريوفينجيني‪ .‬أخذ مابيو عىل عاتقه دراسة أجزاء النص بالتفصيل‪،‬‬
‫واختتم حتليله بنتيجة مثرية للجدل بقوله‪" :‬إنه مل تثبت أية هتمة وجهت لألبرياء"‪.‬‬
‫وخصص مابيو اجلزء الثاين من الكتاب الثالث لتدوين مالحظات حول السجالت املدون هبا نسخ الوثائق‪ ،‬وأكد أمهية هذه‬
‫السجالت للمساعدة ف التأريخ والتحقق من صحة بعض الوثائق‪.‬‬

‫الكتب الباقية من عمل مابيو‪( :‬الرابع‪ ،‬واخلامس‪ ،‬والسادس)‪:‬‬


‫قام ميشيل جريمان ‪ Dom Michaele Germain‬أحد أألصدقاء املقربني ملابيو‪ ،‬بكتابة معظم الكتاب الرابع التي تربو‬
‫صفحاته عىل املائة صفحة‪ ،‬ويصف الكتاب‪ ،‬وحيرص قوائم بالعديد من ممتلكات وقصور املورفينجيني التي ُذكرت ف وثائق أوائل‬
‫العصور الوسطى‪ ،‬كان مابيو وجريمني عىل وعي بأن معرفة األماكن تتطلب إعادة ختيل وتوضيح مسارات احلكام ورحالهتم‪ ،‬ومن‬
‫ثم تساعد املعرفة الدقيقة ألماكن احلكام وتنقالهتم ف تأريخ الوثائق القديمة‪.‬‬
‫يتضمن الكتاب اخلامس‪ :‬نقل حرف لنصوص العديد من الوثائق واالمتيازات وبلغت صفحاته زهاء املائة والعرشين‬
‫صفحة‪.‬‬
‫وأخريا‪ ،‬الكتاب السادس‪ ،‬وعدد صفحاته حوايل ‪ 200‬صفحة يتضمن إعادة نرش ‪ 211‬وثيقة من العصور الوسطى‬ ‫ً‬
‫استخدمها مابيو ف تدعيم وجهات نظره‪ ،‬وهي وثائق االمتيازات القديمة التي تتشابه مع وثائق ديره‪.‬‬
‫‪235‬‬ ‫د‪ .‬جمدي جرجس‬

‫عالوة عىل ذلك أحلق مابيو بكتابه عدة مالحق لوثائق مهمة أخرى؛ من بينها مرسوم البابا أنوسنت الثالث الذي يشري فيه‬
‫إىل قضية تزييف الوثائق‪.‬‬
‫تتضمن الطبعة الثانية من كتاب مابيو كشافات أعدها روينار‪ ،‬الذي أرشف عىل هذه الطبعة وأقرب زمالء مابيو ف دراساته‪.‬‬
‫ملحق عام ‪1704‬م‪ :‬قام مابيو بكتابة ملحق إضاف كرد عىل رسالة وقعها جريمون‪ ،Germon‬أحد الرهبان اجلزويت عام‬
‫‪ 1703‬م‪ ،‬ولكن يبدو أن أكثر من شخص اشرتك ف كتابتها‪ ،‬واحلقيقة إن هذه الرسالة كانت ضعيفة ف منطقها وحججها؛ حيث‬
‫يقول مؤلفها (مؤلفيها) بأنه من املشكوك فيه بشدة أن تصل إلينا وثائق من العصور األوىل وحتى أوائل القرن الثامن عرش‪ ،‬وقالوا‬
‫بأن عىل مابيو أن يتبع طريقة أخرى للتمييز يبني الصحيح والزائف عن طريق تتبع كل حرف من حروف الكتابة بمفرده‪ ،‬وووجهوا‬
‫له اللوم بأنه انربى للدفاع عن أرشيف سان دينيه دون أن يقدم أي عمل بحثي جديد‪ ،‬ووجه املؤلفون اهتا ًما آخر ملابيو‪ ،‬حيث قالوا‬
‫بأن جاك دوبيل ‪ Jaques Doublet‬نرش كتا ًبا ف عام ‪1625‬م يتضمن كل املعلومات التي أعاد مابيو صياغتها‪ ،‬أي يتهموا مابيو‬
‫رصاحة بالغش‪ ،‬وبالطبع دافع مابيو عن هذه االهتامات‪ ،‬وقرر أن يكتب هذا امللحق ليس للعامة فقط؛ ولكن من أجله هو شخص ًيا‬
‫للتحقق من كل املعلومات التي قام بجمعها من قبل‪ ،‬ولتجميع األدلة مرة أخرى‪.‬‬
‫وللتدليل عىل إن وثائق أوائل العصور الوسطى يمكن أن تصل إلينا ساملة حتى أوائل القرن الثامن عرش‪ ،‬أعاد مابيو احلديث‬
‫عن الربدي وعن األخطاء اإلمالئية وأنامط الكتابة ف العصور القديمة أوائل العصور الوسطى‪ ،‬ثم خصص ً‬
‫فصال لتحديد تواريخ‬
‫ملوك األرسة املورفينجية والتي كانت أكثر دقة آنذاك‪ ،‬وخصص ثالثة فصول أخرى مللوك األرسة الكارولنجية‪ ،‬واختتم هذا امللحق‬
‫بنسخ من وثائق أوائل العصور الوسطى التي ذكرت ف كل العمل‪.‬‬

‫كتاب مابيو ما بني مدح وقدح‪:‬‬


‫كتب رينوار ف مقدمة الطبعة الثانية لكتاب مابيو (‪1707‬م) يقول‪ :‬إنه منذ ظهور الطبعة األوىل لكتاب مابيو عام ‪1681‬م‪،‬‬
‫أثر هذا الكتاب ف العديد من الباحثني عرب أوربا‪ ،‬ليس ف فرنسا وحدها ولكن ف أسبانيا وأملانيا وإيطاليا وإنجلرتا‪ ،‬قرأ املتعلمون‬
‫كتاب مابيو‪ ،‬وظهر تأثرهم هبذا العمل بطرق عدة‪ ،‬حيث قام الراهب اجلزويتي األسباين ‪ Jose Perez de Rozas‬جويس برييز دي‬
‫روزاس ف عام ‪ 1688‬م بنرش رسالته حول التاريخ الكنس والسيايس‪ ،‬وف أملانيا قدم جوتفريد اليبنز‪Gottfried Leibniz‬املجلد‬
‫فرنسا ألف برنارد دي مونتيفكو ‪Bernard de‬‬ ‫األول من عمله‪ Codex Juris Gentium Diplomaticus‬ف عام ‪1693‬م‪ ،‬وف‬
‫‪ Montfaucon‬عمله الشهري عن الباليوجراف اليوناين‪ ،‬وف إيطاليا نرش ‪Giusto Fontanini‬جيستو فونتانيني كتا ًبا للدفاع عن مابيو‬
‫(‪.)Hiatt, 2009, p. 351‬‬
‫والواقع أن الكتاب القى ً‬
‫قبوال وإعجا ًبا من الكثري من معارصي مابيو‪ ،‬ومنهم بابن بروك نفسه‪ ،‬واعتربوه عمل عمدة ف‬
‫الفكر النقدي‪ ،‬حتى الباحثني اإلنجليز قدروا هذا العمل واعتربوه كتابا ال ُيستغنى عنه‪،‬ف حني إن معارصين آخرين ملابيو اعتربوا‬
‫رسالته حول الدراسات الرهبانية ‪ Traité des études monastiques‬أكثر فائدة من عمله حول الدبلوماتيك ( ‪Zouhar, 2010,‬‬

‫‪.)p. 362‬‬
‫ويصف أحد النقاد املحدثني قيمة عمل مابيو ‪ De re diplomatica‬وكتاب معارصه دي مونتيفكو‪،Paleographia Graeca‬‬
‫بأهنام قدما رؤية بحثية حول طريقة التعامل مع الكتب والوثائق ليس فقط كنصوص‪ ،‬ولكن كأوعية للمعلومات تُدرس بذاهتا‬
‫تاريخ علم الوثائق‪ :‬املقدمات واللبنات األول‬ ‫‪236‬‬

‫كامدة‪ ،‬أو بلغة فوكو ف ستينيات القرن العرشين "حتول املخطوط من وثيقة إىل شئ"‪ ،‬وهذه النظرة إىل املكتبات والكتب باعتبارها‬
‫مواقع مادية وموضع بذاهتا‪ ،‬مع زيادة الوعي بالقيمة املادية للمخطوطات القديمة‪ ،‬غريت بشكل كبري تقنيات تأليف الكتب‬
‫(‪.)Gurd, 2004, p. 91, 92‬‬
‫لكن الكتاب مل يسلم من نقد مرير من قبل آخرين‪ ،‬يأيت عىل رأسهم هايكه ‪1715-1642( Hickes‬م)؛ إذ أعلن عدم اقتناعه‬
‫كبريا من مقدمة كتابه لنقض القواعد الست التي وضعها مابيو لنقد‬
‫شطرا ً‬
‫بمنهج مابيو ف التعامل مع الوثائق املزورة‪ ،‬وخصص ً‬
‫الوثائق‪ ،‬وبني أن تطبيق هذه القواعد عىل الوثائق املجزوم بزيفها لن يظهر هذا التزييف‪ ،‬وقال هايكه بأن الوثائق التي قرر مابيو‪-‬‬
‫بعد تطبيقه قواعد النقد‪ -‬أهنا وثائق صحيحة‪ ،‬هي ف واقع األمر مزيفة‪ ،‬والنقد األشد ملابيو‪ ،‬هو أنه مل يوظف أية قاعدة مناسبة‬
‫للتمييز بني الصحيح واملزيف من الوثائق (‪.)Hiatt, 2009, p. 353‬‬
‫كذلك هاجم بعض الرهبان اجلزويت عمل مابيو‪ ،‬وألف اليسوعي جريمون (‪1718-1663‬م) ‪Barthelemy Germon‬‬

‫رسالة عنيفة يفند فيها عمل مابيو‪ ،‬وقال بأن عىل مابيو أن يتبع طريقة أخرى للتمييز بني الصحيح والزائف عن طريق تتبع كل حرف‬
‫من حروف الكتابة بمفرده‪ ،‬كام وجهوا له اللوم بأنه انربى للدفاع عن أرشيف سان دينيه دون أن يقدم أي عمل بحثي جديد‪ ،‬وجه‬
‫املؤلفون اهتا ًما آخر ملابيو‪ ،‬حيث قالوا بأنه رسق أبحاث جاك دوبيل ‪ ،Jaques Doublet‬الذي نرش كتا ًبا ف عام ‪1625‬م يتضمن كل‬
‫املعلومات التي أعاد مابيو صياغتها‪ ،‬أي يتهموا مابيو رصاحة بالغش (‪ ،)Zouhar, 2010, p. 384‬وهناك اهتام آخر طريف وجهه‬
‫الباحثون اإلنجليز ملابيو‪ ،‬حيث قال‪ :‬إن عمل مابيو عظيم الفائدة للمزورين‪ ،‬حيث سيتمكنوا من جتنب أدوات مابيو لكشف‬
‫التزييف‪ ،‬أي‪ :‬إن مابيو قد كتب ً‬
‫دليال للمزورين حتى يسريوا عىل هنجه‪ ،‬وينتجوا وثائق مزيفة أكثر حنكة‪ ،‬ويصعب كشفها‬
‫(‪.)Zouhar, 2010, p. 364‬‬

‫الكتاب بعد عصر مابيو‪:‬‬


‫ال خيلو عمل حول الدبلوماتيك من ذكر مابيو وكتابه‪ ،‬ولكن ظل هذا الكتاب حتى اآلن حبيس اللغة الالتينية‪ ،‬لذا اكتفت‬
‫دراسات عديدة باإلشارة إىل عنوان كتاب مابيو أو اقتباس فقرات قصرية منه‪ ،‬ف حني تناولت دراسات قليلة جدً ا عمل مابيو‬
‫بالفحص والتحليل‪ ،‬واهتمت أكثر الدراسات باحلديث عن مابيو والرهبان املوريني الذين ينتمي إليهم‪ ،‬وأحدث دراسة تناولت‬

‫عمل مابيو تعود إىل بدايات القرن العرشين أي‪ :‬هذا العمل ُأمهل ً‬
‫كثريا (‪.)Zouhar, 2010, p. 258, 259‬‬
‫ف منتصف القرن الثامن عرش نرش كل من توستان ‪Charles Francois Toustain‬وتاسني ‪ Rene Prosper Tassin‬عملهام‬
‫الضخم‪" :‬رسالة جديدة ف الدبلوماتيك"‪ ،Nouveau traité de diplomatique (6 vols., Paris, 1750-1765‬ورسعان ما تم‬
‫ترمجته إىل األملانية‪ ،‬وبالرغم من توصية املؤلفني لقرائهام باالطالع عىل عمل مابيو إال أن هذه العمل اجلديد أخذ مكانة كتاب مابيو‪،‬‬
‫وغلف النسيان عمل مابيو إال من ذكره عند التعرض لتاريخ الدبلوماتيك‪ ،‬وفقد الكتاب أمهيته ف نطاق أوربا ف عرص ف القرن‬
‫الثامن عرش ‪ ،‬ولعل أكرب دليل عىل تراجع مكانة الكتاب هو عدم اهتامم الباحثني النمساويني باقتناء نسخة من الكتاب ف مكتبة‬
‫معهد التاريخ النمساوي الذي أسسوه عام ‪1850‬م (‪،)Zouhar, 2010, p. 361‬عاد الكتاب إىل الربوز ثانية ف أوربا الغربية‪ ،‬بفضل‬
‫بنيامني جريارد (‪1854-1797‬م)‪ ،‬وبلغت ذروة االهتامم بدراسة هذا الكتاب ف العقود األخرية من القرن التاسع عرش‪ ،‬حيث‬
‫شهدت هذه الفرتة بروز أشهر األسامء ف جمال علم الدبلوماتيك‪ :‬ف أملانيا والنمسا ملعت أسامء مثل‪ :‬زيكل ‪Theodor von Sickel‬‬
‫‪237‬‬ ‫د‪ .‬جمدي جرجس‬

‫(‪1908-1826‬م)؛ وفيكر (‪1902-1826‬م) ‪Julius Ficker‬؛ وبرسالو (‪1926-1848‬م) ‪Harry Breslau‬؛ ومويلباخر‬
‫(‪1903-1843‬م) ‪Engelbert Muhlbacher‬؛ وتانجل (‪1921-1861‬م) ‪Michael Tangl‬؛ وإيربن (‪1933-1864‬م)‬
‫‪ .Wilhelm Erben‬وف فرنسا برزت أسامء كيشورا (‪1882-1814‬م) ‪Jules Etienne Joseph Quicherat‬؛ وماس‪-‬التري‬
‫(‪1897-1815‬م) ‪Louis Mas-Latrie‬؛ وجريي (‪1899-1848‬م) ‪Arthur Giry‬؛ هافه (‪1893-1853‬م) ‪Julien Havet‬؛‬
‫ودوليل (‪1910-1826‬م) ‪Leopold Delisle‬؛ وموريس برو (‪1930-1861‬م) ‪ .Maurice Prou‬وف إيطاليا سيزار باويل‬
‫(‪1902-1840‬م) ‪ ،Cesare Paoli‬مل يتفق بعضهم عىل طول اخلط مع كل شئ كتبه مابيو‪ ،‬ولكنهم ف هناية املطاف قبلوا معظم ما‬
‫طرحه‪.‬‬
‫تاريخ علم الوثائق‪ :‬املقدمات واللبنات األول‬ ‫‪238‬‬

‫اخلامتة‪:‬‬
‫وضع مابيو قواعد للكشف عن صحة الوثائق أو زيفها‪ ،‬تقوم عىل دراسة خصائصها الداخلية واخلارجية‪ ،‬وعىل الرغم من‬
‫فضل مابيو ف تأسيس علم الوثائق‪ ،‬إال أن هذه املحاولة املنهجية األوىل‪ ،‬مل تكن هتدف إىل بناء نظرية أو تأسيس علم جديد‪ ،‬كان‬
‫هدفها بكل بساطة السعي إىل حل املشاكل املتعلقة بتزييف الوثائق ف العصور الوسطى‪ ،‬ولكن هذه اللبنات األوىل تطورت فيام بعد‬
‫لتشكل علام مستقال بذاته‪.‬‬
‫من ناحية أخرى‪ ،‬مل يبدأ مابيو من فراغ‪ ،‬والفصول التي كتبها كفصول أولية‪ ،‬والتي شكلت بدايات علم الوثائق‪ ،‬كان قد‬
‫تبلور معظمها قبل مابيو‪ ،‬وشاركه زمالء آخرون ف عمله هذا‪ ،‬واحلق إن الرجل أشاد هبم‪ ،‬ركز مابيو جل اهتاممه عىل الناحية‬
‫القانونية‪ ،‬وإقامة احلجة كدليل قانوين‪ ،‬بالرغم من أن توظيف الوثائق ف الكتابة التارخيية قد سبق عرص مابيو بسنوات عديدة‪ ،‬إال‬
‫أنه مل يعر هذه القضية اهتام ًما‪ ،‬وهذا يؤكد عىل توجهه نحو قضية واحدة ف تعامله مع الوثائق‪.‬‬
‫اجلانب املهم إن اخللفيات املعرفية التي انطلق منها مابيو‪ ،‬حددت طرق تعامله مع الوثائق‪ ،‬ومن ثم نقل خربات التعامل مع‬
‫املخطوطات إىل الوثائق‪ ،‬ف حني اهتم بعض معارصيه بقضايا أكثر عم ًقا‪ ،‬منهم مثال كورنينج ورؤاه حول القوالب القانونية‪ ،‬والتي‬
‫ستشكل فيام بعد أهم جوانب علم الدبلوماتيك‪ ،‬وهذا األمر يفتح املجال أمام الباحثني اآلن وف املستقبل السترشاف تصورات‬
‫ورؤى جديدة لتطوير علم الدبلوماتيك‪ ،‬كان اهتامم مابيو بنوع معني من الوثائق‪ ،‬سب ًبا ف قرص موضوع علم الدبلوماتيك عىل‬
‫الوثائق الديوانية‪ ،‬ف حني تُركت الوثائق غري الديوانية دون إخضاعها ألدوات علم الدبلوماتيك‪ ،‬مثل الرسائل الشخصية عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬وهو أمر جيب تداركه بتوسيع أفق تفسرينا ملفهوم السياق وتقاليد الكتابة‪ ،‬وبخاصة مع تسارع وترية العلوم اإلنسانية‬
‫بمختلف أفرعها ف البحث عن مصادر غري رسمية‪ ،‬لتوظيفها ف البحث العلمي‪ ،‬ومن ثم كيف نتعامل مع هذه القضية؟ وما هو‬
‫العلم الذي جيب أن يتناول هذا النوع من الوثائق بالبحث والدراسة؟‬
239 ‫ جمدي جرجس‬.‫د‬

‫املصادر واملراجع‬

Boase, T. S. R.(1940),"A Seventeenth Century Carmelite Legend Based on Tacitus", Journal of the
Warburg and Courtauld Institutes, 3, 1/2 (Oct., 1939 -Jan., 1940), pp. 107-118

Camporeale, Salvatore I. (1996), "Lorenzo Valla's "Oratio" on the Pseudo-Donation of Constantine:


Dissent and Innovation in Early Renaissance Humanism", Journal of the History of Ideas, 57, 1,
pp. 9-26

Fasolt, Constantin (1997), "A Question of Right: Hermann Conring's New Discourse on the Roman-
German Emperor", The Sixteenth Century Journal, 28, 3, pp. 739-758

Ferguson, Arthur B. (1966), "Reginald Pecock and the Renaissance Sense of History", Studies in the
Renaissance, 13, pp. 147-165

Giry, A. (1892), "Études De Critique Historique. Hisoire de la Diplomatique", Revue Historique,.


48, 2, pp. 225-256.

Grafton, Anthony (1999), "Jean Hardouin: The Antiquary as Pariah", Journal of the Warburg and
Courtauld Institutes, 62, pp. 241-267

Gurd, Sean (2004), "On Text-Critical Melancholy", Representations, 88, 1, pp. 81-101

Guyotjeannin, Olivier (1996), "The Expansion of Diplomatics as a discipline." American Archivist,


59, pp.414-421.

Gwynn, Aubrey (1946), "The Bollandists: Past and Present", Studies: An Irish Quarterly Review,
35, 137, pp. 53-62

Hiatt, Alfred (2009), "Diplomatic Arts: Hickes against Mabillon in the Republic of Letters", Journal
of the History of Ideas, 70, 3, pp. 351-373

Levine, Joseph M. (1973), "Reginald Pecock and Lorenzo Valla on the Donation of Constantine",
Studies in the Renaissance, 20, pp. 118-143

Palmieri, Aurelio (1923), "The Bollandists", The Catholic Historical Review, 9, 3, pp. 341-357

Quantin, Jean-Louis (2011), "Reason and Reasonableness in French Ecclesiastical Scholarship",


Huntington Library Quarterly, 74, 3, pp. 401-436

Sellin, Thorsten (1927), "Dom Jean Mabillon: A Prison Reformer of the Seventeenth Century",
Journal of the American Institute of Criminal Law and Criminology, 17, 4, pp. 581-602
‫ املقدمات واللبنات األول‬:‫تاريخ علم الوثائق‬ 240

Spitz, Lewis W. (1952), “The Significance of Leibniz for Historiography”, Journal of the History of
Ideas, 13, 3, pp.333-343.

Valla, Lorenzo (1922), The Treatise of Lorenzo Valla on the Donation of Constantine, Texts and
translation into English; Christopher B. Coleman, Yale University Press.

Whitford, David M. (2008), "The Papal Antichrist: Martin Luther and the Underappreciated
Influence of Lorenzo Valla", Renaissance Quarterly, 61, 1, pp. 26-52

Yasin, Ann Marie (2000), "Displaying the Sacred Past: Ancient Christian Inscriptions in Early
Modern Rome", International Journal of the Classical Tradition, 7, 1, pp.39-57

Zouhar, Jakub (2010), “De Re Diplomatica libri sex by Jean Mabillon in outline”, Listy filologické/
Folia philological, 132, 3 / 4 , Pp. 357-388

‫ دراسة‬،‫ الاتجاهات الحديثة في علم الوثائق (الدبلوماتيك) ومجالات دراسته‬:)2017( ‫دينا محمود‬،‫عبد اللطيف‬
.‫ دار الفكر العربي‬:‫ القاهرة‬،‫تطبيقية‬

‫ "علم الوثائق (الدبلوماتيك) الحديثرؤ ية لقواعد النقد الدبلوماتي من مابيو إلى‬:)2015( ‫سلوى علي‬،‫ميلاد‬
.92-9 ‫ صص‬،13 ،‫الروزنامة‬،"‫دورانتي‬

●●●
... ‫املستخلصات اإلنجليزي‬ 258

The History of Diplomatics:


The Prehistory and Early Basis

Dr. Magdy Guirguis


Ass. Prof. Faculty of Arts –
Kafr Elshiekh University (Egypt)
Guirguis.magdi@gmail.com
The paper aims to elaborate the prehistory of Diplomatics, and how certain disciplines were the
foundations of that science. In this regard, the paper nasalizes the previous efforts before Mabillon's book had
come out in 1681. During Renaissance, different approaches and contexts have been constructed and developed,
although the critique of documents erupted at the heart of political conflicts, it rapidly dominated other aspects
in Europe. However, the humanists payed more attention to the importance of studying other cultural
materials, including manuscripts and archival documents. On the other hand, the catholic reform has its rule
in developing approaches to deal with manuscripts and archival documents. All these aspects and efforts were
the basis in which Mabillon laid his work. The paper is an attempt to has close look at these contexts in which
Diplomatics has been established, and seeks to raise more questions about Mabillon work, and how we
could/should go beyond this stage to rethink about adding new chapters in Diplomatics.
Methodology: the paper uses Postmodernism as a context in which we could analyse the background of
the Diploma tics principals. While its main questionnaire is how to develop Diploma tics as discipline within
the humanities sciences.

Key Words: Documents; History; Diplomatics.

You might also like