You are on page 1of 6

‫رب األنام‬

‫تحقيق الكالم في مسألة رؤية ّ‬


‫الدكتور صالح غضباني‬
‫جامعة الزيتونة‪ .‬تونس‬
‫‪Salah.ghodbani@yahoo.fr‬‬

‫المل ّخص‬

‫ا ختلف المتكلمون في مسألة رؤية هللا تعالى في الدنيا على أضرب‪ :‬فمنهم من يرى أن رؤيته تعالى ممكنة وجائزة عليه تعالى‪ ،‬رغم عدم‬
‫وقوعها‪ ،‬ويجزمون بوقوعها في اآلخرة للمؤمنين‪ ،‬اكراما وتشريفا لهم‪ ،‬لما قدموه في الفانية‪ ،‬واعتبار رؤية هللا تعالى من أعظم المنن والنعم‬
‫التي يتفضل بها هللا سبحانه على عباده‪ .‬ومنهم من يجزم بعدم وقوعها في الدنيا‪ ،‬باعتباره سبحانه قد أجاب رسوله موسى عليه السالم بـ " لن‬
‫تراني " التي تفيد التأبيد حسب رأيهم‪ .‬وكل من الفريقين له ادلته من المنقول والمعقول‪.‬‬

‫الكلمات المفتاحية‪ :‬تحقيق‪ ،‬رؤية‪ ،‬رب‬

‫‪Investigating the Issue of Seeing Almighty Allah‬‬


‫‪Abstract‬‬
‫‪Muslim theologians’ views sharply differed regarding the issue of seeing Allah the Almighty in this world: Some‬‬
‫‪of them believe that seeing Allah the Exalted and the Most High is possible and permissible, despite its non-‬‬
‫‪occurrence. They also assert that it will happen in the Hereafter for the believers, in honour to them for what they‬‬
‫‪had done in the worldly life, given that seeing Allah Almighty is one of the greatest favours and blessings that‬‬
‫‪Allah, Glory be to Him, bestows upon His servants. Other theologians however are certain that it will not occur‬‬
‫‪in this world, considering that Allah the Almighty answered His Messenger Moses, peace be upon him, saying‬‬
‫‪“You will not see me,” a sentence which, in their opinion, indicates perpetuity. Each of the two teams of‬‬
‫‪theologians has its own proof from the authentic legal texts and logical reasoning.‬‬

‫‪Keywords : investigating, seeing, God.‬‬

‫مقدمة‪:‬‬

‫تعتبر رؤية هللا تعالى من أعظم المنن والعطايا‪ ،‬التي يم ّن بها سبحانه على عباده المتقين‪ ،‬حيث ال تضاهيها نعمة أبدا‪ ،‬وقد شغلت هذه المسألة‬
‫العلماء كثيرا‪ ،‬وتناولوها بالبحث والتمحيص‪ ،‬وتباينت آراؤهم حولها‪ ،‬بين مثبت وناف لها‪ ،‬وبين من نفاها في الدنيا وحصر حصولها باآلخرة‬
‫فقط‪ ،‬وبين من نفاها مطلقا‪ ،‬فأردت أن أتتبع هذا الخالف وأصل إلى نتيجة مؤصّلة‪ ،‬بعيدة عن الهوى واالنتصار للعلم والمعرفة‪.‬‬

‫فماهي رؤية هللا؟‬

‫وماهي أدلة المثبتين والنافين؟‬


‫وهل لهذا الخالف من جدوى؟‬

‫أ‪ -‬التّعريف اللّغوي‪:‬‬

‫الرّ ؤية تكون بأحد شيئين إ ّما بالبصر أو بالبصيرة‪ ،‬قال ابن سيدة ‪ "1‬الرّ ؤية النّظر بالعين والقلب"‪.2‬‬

‫ويقال نظرت إلى كذا وكذا من نظر القلب ونظر العين‪ ،3‬ويقال رأى رؤية نظر بالعين ورأى رأيا‪ ،‬اعتقد بالعقل‪.‬‬

‫ورؤية العين تتعدّى إلى مفعول واحد نحو " رأى زيد القمر" وهي ما تحصل بالمعاينة والمشاهدة‪ ،‬أ ّما رؤية القلب فتتعدّى إلى مفعولين‪،‬‬
‫فيقال" رأيت زيدا عالما" وهي الرّ ؤية العلميّة الّتي تحصل بالعلم والمعرفة فهي بمعنى العلم‪.‬‬

‫والرؤيا ما يرى في النوم وجمعه رؤى ‪ .‬وقد يطلق لفظ الرؤى على أحالم اليقظة‪ .‬والرؤية هي المشاهدة بالبصر وقد يراد بها العلم مجازا‪...‬وقد‬
‫تطلق الرؤية على مشاهدة الحقائق اإللهية‪ ،‬او على المشاهدة بالوحي‪...‬‬

‫والفرق بين الرؤيا والرؤية أن الرؤيا مختصة بما يكون في النوم‪ ،‬على حين أن الرؤية مختصة بما يكون في اليقظة‪ .‬فالرؤيا بالخيال‪ ،‬والرؤية‬
‫بالعين‪4...‬‬

‫ب‪ -‬التّعريف االصطالحي‪:‬‬

‫الرؤية هي ‪" :‬انطباع شبح المرئي في جزء من الرّ طوبة الجليديّة الّتي تشبه البرد‪ ،...‬وقد ّ‬
‫صوروا هذا المعنى في تشبيه واضح‪ ،‬فقالوا‪ :‬إ ّن‬
‫متلون مضيء انطبع مثل صورته فيها كما ينطبع مثل صورة اإلنسان في المرآة ال بأن ينفصل من‬
‫الرّ طوبة الجليديّة مثل المرآة إذا قابلها ّ‬
‫المتلون شيء ويمت ّد إلى العين بل بأن يحدث مثل صورته في المرآة وفي عين النّاظر ويكون استعداد حصوله بالمقابلة المخصوصة مع توسّط‬
‫ّ‬
‫المشف"‪5.‬‬
‫ّ‬ ‫الهواء‬

‫الخالف في إمكانية الرؤية‪.‬‬

‫وقد اختلف الباحثون في إمكانية حصولها من عدمها وانقسموا في ذلك إلى فريقين‪:‬‬

‫األول‪ :‬المعتزلة ‪:6‬‬


‫الفريق ّ‬

‫يرون عدم إمكانيّة حصول رؤية هللا تعالى أل ّنه سبحانه لو كان مرئيّا لكان مقابال للرّ ائي بالضّرورة فيكون في جهة وحيز وهللا‬
‫ب أَ ِرنِي‬
‫سى ِلمِيقَاتِنَا َو َكلَّ َمهُ َربُّهُ قَا َل َر ّ ِ‬
‫منزه عن ذلك‪ ،‬وقد استدلّوا على ذلك بقوله تعالى مخاطبا لموسى عليه السّالم‪َ ﴿ ،‬ولَ َّما َجا َء ُمو َ‬
‫سبحانه ّ‬
‫ص ِعقًا فَلَ َّما أَفَا َق‬ ‫ف ت ََرانِي فَلَ َّما تَ َجلَّى َربُّهُ ِللْ َجبَ ِل َجعَلَهُ َدكًّا َوخَرَّ ُمو َ‬
‫سى َ‬ ‫أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَا َل لَنْ تَ َرانِي َولَك ِِن انْظُرْ إِلَى الْ َجبَ ِل فَإِ ِن ا ْستَقَرَّ َمكَانَهُ فَ َ‬
‫س ْو َ‬
‫‪7‬‬
‫قَا َل سُبْ َحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ َوأَنَا أَ َّو ُل ا ْل ُمؤْ ِمنِي َن ﴾‬

‫‪ -1‬هو أبو الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيدة األندلسي اللّغوي ولد حوالي سنة ‪398‬هـ في مرسية ‪ ...‬توفّي سنة ‪458‬ه بدانية‪ .‬انظر‬
‫سير أعالم النّبالء لشمس الدين الذهبي‪ ،‬مؤسّسة الرّ سالة‪ ،‬د م ط‪ ،‬ط‪1985 ،3‬م‪.‬‬
‫‪ -2‬ابن منظور (جمال الدّين)‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1414 ،3‬هـ‪ ،‬ج‪ ،14‬ص‪.291‬‬
‫‪ -3‬م س‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪.215‬‬
‫‪ -4‬صليبا جميل‪ ،‬المعجم الفلسفي‪ ،‬دار الكتاب اللبناني‪ ،‬بيروت لبنان‪ ،1982،‬ج‪ ،1‬ص‪.605 -604‬‬
‫‪ -5‬التفتازاني (سعد الدّين)‪ ،‬شرح المقاصد‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.18‬‬
‫‪ -6‬ويلقّبون أيضا بالقدريّة وقالوا بأنّ هللا قديم وكالمه مخلوق ومحدث ونفوا رؤية هللا تعالى في اآلخرة وأوجبوا تأويل اآليات المتشابهة‪ ...‬وس ّموا بالمعتزلة ألنّ‬
‫رئيسهم واصل بن عطاء اعتزل حلقة الحسن البصري‪ .‬انظر مقاالت اإلسالميّين لألشعري‪ ،‬دار فرانز شتايز‪ ،‬ألمانيا‪ ،‬ط‪1980 ،3‬م‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص‪.265‬‬
‫‪ -7‬سورة‪ :‬األعراف‪ ،‬اآلية‪.143 :‬‬
‫قالوا أي " لن" هنا تفيد التّأبيد وقاسوا عدم تمكّن موسى عليه السّالم من رؤية هللا تعالى وهو الرّ سول الموحى إليه‪ ،‬فإ ّن ذلك يد ّل‬
‫من باب أولى عدم حصولها مع غيره من البشر‪.‬‬

‫الفريق الثّاني‪ :‬أهل السنّة والجماعة‪:‬‬

‫سى ِلمِيقَاتِنَا َو َكلَّ َمهُ‬


‫يرون أ ّن رؤية هللا تعالى من الممكنات‪ ،‬واستدلّوا على ذلك بقصّة سيّدنا موسى عليه السّالم ﴿ َولَ َّما َجا َء ُمو َ‬
‫سى‬ ‫ف ت ََرانِي فَلَ َّما تَ َجلَّى َربُّهُ ِل ْل َجبَ ِل َجعَ َلهُ َد ًّكا َوخَرَّ ُمو َ‬ ‫ب أَ ِرنِي أَنْظُرْ ِإلَيْكَ قَا َل لَنْ ت ََرانِي َولَك ِِن انْظُرْ ِإلَى الْ َجبَ ِل فَإِ ِن ا ْستَقَرَّ َمكَانَهُ فَ َ‬
‫س ْو َ‬ ‫َربُّهُ قَا َل َر ّ ِ‬
‫"‪1‬‬ ‫ص ِعقًا فَلَ َّما أَفَا َق قَا َل سُبْ َحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ َوأَنَا أَ َّو ُل الْ ُمؤْ ِمنِي َن ﴾‬
‫َ‬

‫ووجه االستدالل بهذه اآلية على اإلمكان من وجهين‪:‬‬

‫األول‪ :‬أ ّن موسى عليه السّالم سأل ربّه أن يراه‪ ،‬فلو كانت الرّ ؤية مستحيلة لما تجرّ أ سيّدنا موسى عليه السّالم وسألها ّ‬
‫وإال‬ ‫الوجه ّ‬
‫كان جاهال بربّه أو عاصيا له‪ ،‬والجهل والعصيان على األنبياء محاالن فثبت أنّه ليس بمستحيل بل هو ممكن‪.‬‬

‫الوجه الثّاني‪ :‬أ ّن هللا سبحانه قد علّق الرّ ؤية على أمر ممكن وهو استقرار الجبل في مكانه والمعلّق على الممكن ممكن فالرّ ؤية‬
‫ممكنة‪.‬‬

‫األول بقولهم‪ :‬إ ّن قولهم "لكان مقابال بالضّرورة "ممنوع‪ ،‬فلزوم الجهة والحيز ممنوع‪ ،‬إذ الرّ ؤية ّ‬
‫قوة‬ ‫وأجابوا على دليل المعتزلة ّ‬
‫يجعلها هللا في خلقه‪ ،‬وال يشترط فيها مقابلة المرئي‪ ،‬وال كونه في جهة وحيز وال غير ذلك‪ .‬وعن اآلية القرآنيّة بأ ّن " لن" هي لمطلق النّفي‬
‫تأكيدا‪2.‬‬ ‫وال تفيد تأبيدا وال‬

‫وعليه فإن من قال باستحالة الرؤية يرى عدم وقوعها من باب أولى‪ ،‬أ ّما القائلون باإلمكان والجواز‪ .‬فمن قالوا بوقوع الرّ ؤية‬
‫اختلفوا هل تقع في الدّنيا واآلخرة أم هي واقعة في اآلخرة فقط‪.‬‬

‫أ ّما وقوعها في الدّنيا فقد قال به بعض العلماء وعلى رأسهم ابن عبّاس رضي هللا عنه الّذي قال أ ّن الرّ سول صلّى هللا عليه وسلّم‬
‫قد رأى ربّه ليلة عرج به بعيني رأسه‪.‬‬

‫وذهب فريق آ خر من العلماء وعلى رأسهم السيّدة عائشة رضي هللا عنها وعبد هللا ابن مسعود رضي هللا عنه إلى أ ّن الرّ سول‬
‫صلّى هللا عليه وسلّم لم ير ربّه‪.‬‬

‫وقد جاء في صحيح البخاري عن مسروق قال‪ :‬قلت لعائشة رضي هللا عنها‪ :‬يا أ ّمتاه هل رأى مح ّمد صلّى هللا عليه وسلّم ربّه؟‬
‫قف شعري م ّما قلت‪ ،‬أين أنت من ثالث من حدّثكه ّن فقد كذب‪ :‬من حدّثك أ ّن مح ّمد صلّى هللا عليه وس ّلم رأى ربّه فقد كذب‪ ،‬ث ّم‬ ‫فقالت‪ :‬لقد ّ‬
‫ير ﴾ "‪ 3‬وقوله تعالى أيضا‪َ ﴿ :‬و َما كَا َن ِلبَش ٍَر أَنْ يُ َك ِلّ َمهُ َّ ُ‬
‫َّللا إِ َّال‬ ‫ِيف الْ َخبِ ُ‬
‫ار َوه َُو اللَّط ُ‬
‫ص َ‬‫ار َوه َُو يُد ِْركُ ْاألَبْ َ‬
‫ص ُ‬‫قرأت قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ال تُد ِْركُهُ ْاألَبْ َ‬
‫ي َحكِيم ﴾ " ‪ 4‬ومن حدّثك أنّه يعلم ما في غد فقد كذب‪ ،‬ث ّم قرأت قوله‬ ‫ي بِإِ ْذنِ ِه َما يَشَا ُء ِإنَّهُ َ‬
‫ع ِل ٌّ‬ ‫ب أَ ْو يُرْ ِس َل َرس ً‬
‫ُوال فَيُوحِ َ‬ ‫َو ْحيًا أَ ْو ِمنْ َو َرا ِء حِ َجا ٍ‬
‫غدًا ﴾ " ‪ 5‬ومن حدّثك أنّه كتم فقد كذب‪ ،‬ث ّم قرأت ﴿ يَا أَيُّ َها الرَّ سُو ُل بَ ِلّ ْغ َما أُنْ ِز َل إِلَيْكَ ِمنْ َربِّكَ َوإِنْ لَ ْم تَفْعَ ْ‬
‫ل ۚ﴾ "‪6‬‬ ‫﴿ َو َما تَد ِْري نَفْس َماذَا تَ ْكسِبُ َ‬
‫تين‪7.‬‬
‫لكن رأى جبريل عليه السّالم في صورته مرّ‬

‫وقد ذكر ابن حجر في الفتح أنّه يرى أ ّن ما حصل هو رؤية القلب ال رؤية البصر‪ ،‬وقد وردت عنه أحاديث فيها الرّ ؤية مطلقة‬
‫وأخرى فيها الرّ ؤية مقيّدة برؤية الفؤاد‪ ،‬فيحمل المطلق على المقيّد‪ ،‬والشّيء الّذي تنفيه السيّدة عائشة رضي هللا عنها هو رؤية البصر‪ ،‬فقال‪":‬‬
‫القلب‪8".‬‬ ‫وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عبّاس ونفي عائشة‪ ،‬بأن يحمل نفيها على رؤية البصر‪ ،‬وإثباته على رؤية‬

‫‪ -2‬سورة األعراف‪ ،‬اآلية‪.143 :‬‬


‫‪ -3‬الخن (مصطفى)‪ -‬مستو (محيي الدين) ‪ ،‬العقيدة اإلسالميّة أركانها حقائقها مفسداتها‪ ،‬دار الكلم الطيّب‪ ،‬ط‪2003 ،4‬م‪ ،‬ص‪.186‬‬
‫‪ -3‬سورة‪ :‬األنعام‪ ،‬اآلية ‪.103‬‬
‫‪- 4‬سورة‪ :‬الشّورى‪ ،‬اآلية‪.50:‬‬
‫‪ -1‬سورة‪ :‬لقمان‪ ،‬اآلية‪.34:‬‬
‫‪ -2‬سورة‪ :‬المائدة‪ ،‬اآلية‪.67 :‬‬
‫‪ -3‬البخاري‪ ،‬الصّحيح‪ ،‬دار طوق النّجاة‪ ،‬د م ط‪ ،‬ط‪1422 ،1‬هـ‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪ ،140‬عدد ‪.4855‬‬
‫‪ -4‬ابن حجر العسقالني‪ ،‬فتح الباري‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬بيروت‪ ،‬د ط‪1379 ،‬هـ‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.430‬‬
‫وقال ابن تيميّة‪ ":‬وقد اتّفق المسلمون على أ ّن أحدا من المؤمنين ال يرى هللا بعينه في الدّنيا‪ ،‬ولم يتنازعوا ّإال في النّبي صلّى هللا‬
‫عليه وسلّم خاصّة مع أ ّن جماهير األئ ّمة أجمعوا على أنّه لم يره بعينه في الدّنيا‪...‬ولم يثبت عن ابن عبّاس وال عن اإلمام أحمد وأمثالهما أنّهم‬
‫قالوا‪ :‬إ ّن مح ّمدا رأى ربّه بعينه‪ ،‬بل الثّابت عنهم إطالق الرّ ؤية‪ ،‬وإ ّما تقييدها بالفؤاد‪ ،‬وليس من شيء من أحاديث المعراج الثابتة أنّه رآه‬
‫بعينه‪1 ".‬‬

‫وقال ابن تيميّة‪ ":‬وليس قول ابن عبّاس إنّه رآه مناقضا لهذا وال قوله رآه بفؤاده وقد ص ّح عنه أنّه صلّى هللا عليه وسلّم‪ :‬رأيت‬
‫ربّي سبحانه وتعالى" ولكن لم يكن هذا في اإلسراء والمعراج‪ ،‬ولكن كان في المدينة ل ّما احتبس عنهم في صالة الصّبح ث ّم أخبرهم عن رؤية‬
‫ربّه تبارك وتعالى تلك اللّيلة في منامه‪ ،‬وعلى هذا بنى اإلمام أحمد فقال‪ :‬نعم رآه حقّا‪ ،‬فإ ّن رؤيا األنبياء ح ّق وال بدّ‪ ،‬ولكن لم يقل أحمد أنّه‬
‫‪2‬‬
‫رآه بعيني رأسه يقظة‪ ،‬ومن حكى عنه ذلك فقد وهم‪"...‬‬

‫أ ّما وقوع الرّ ؤية في اآلخرة فقد ثبت بالقرآن الكريم والسّنة النّبويّة واإلجماع‪:‬‬

‫القرآن الكريم‪:‬‬ ‫•‬


‫‪3‬‬ ‫َاض َرة إِلَى َربِّ َها نَا ِظ َرة ﴾‬
‫قال تعالى‪ُ ﴿ :‬وجُوه يَ ْو َمئِ ٍذ ن ِ‬

‫( البحر الطويل)‬ ‫وجه الدّاللة‪ :‬فعل النظر إذا عدّي بـ " إلى" كان بمعنى الرّ ؤية‪ ،‬كما قال الشّاعر‬

‫فيا نظرة كادت على وامق تقضي‬ ‫نظرت إلى من حسّن هللا وجهه‬
‫"‪4‬‬
‫وقوله تعالى في شأن الكافرين‪ ﴿ :‬ك ََّال إِنَّ ُه ْم َ‬
‫عنْ َربِّ ِه ْم يَ ْو َمئِ ٍذ لَ َم ْحجُوبُو َن ﴾‬

‫وجه الدّاللة‪ :‬ذكر ذلك تحقيرا لهم فلزم أن يكون المؤمنون مبرئين من ذلك‪ ،‬فثبت في حقّهم الرّ ؤية‪.‬‬

‫ورزقو ا أبصارا باقية رؤي الباقي بالباقي‪.‬‬


‫قال مالك بن أنس رحمه هللا‪ :‬لم يُر في الدنيا ألنه باق‪ ،‬وال يُرى الباقي بالفاني‪ ،‬فإذا كان في اآلخرة ُ‬
‫مليح‪5.‬‬ ‫وهذا كالم حسن‬

‫قال عمرو بن سلمة التنيسي‪ :‬سمعت مالك بن أنس وقيل له يا أبا عبد هللا قول هللا تعالى إلى ربها ناظرة يقول قوم إلى ثوابه‪ ،‬فقال كذبوا فأين‬
‫هم عن قوله تعالى‪﴿ :‬ك اَال إِنا ُه ْم عَنْ َر ِبّ ِه ْم يَوْ َم ِئ ٍذ لمحجوبون﴾ ‪... 6‬وأدلة السمع طافحة بوقوع ذلك في اآلخرة ألهل اإليمان دون غيرهم و ّمنع‬
‫‪7"..‬‬ ‫ذلك في الدنيا ‪...‬وما ذكروه من الفرق بين الدنيا واآلخرة أن أبصار أهل الدنيا فانية وأبصارهم في اآلخرة باقية‬
‫"‪8‬‬ ‫ب قوما بالسّخط د ّل على أ ّن قوما يرونه بالرّ ضا‬
‫وقال اإلمام الشافعي " ل ّما َح َج َ‬

‫ّ‬
‫الحث على طلبها بالعمل الصّالح‬ ‫قال الغزالي‪ " :‬وما د ّل الشّرع على وقوعه فقد د ّل على جوازه‪ ،‬وقد وردت في إثباتها للمؤمنين في الجنّة أو‬
‫سنُوا الْ ُح ْسنَى َو ِزيَادَة ﴾ " ‪ 9‬فقد فسّرت "الحسنى" بالجنّة و ّ‬
‫"الزيادة" بالنّظر إلى وجه‬ ‫والوعد بها أو نفيها عن الكفّار‪ ،‬قال تعالى‪ِ ﴿ :‬للَّذِي َن أَ ْح َ‬
‫هللا الكريم‪ .‬والذين أحسنوا هم المؤمنون‪ ،‬فهم الذين أحسنوا في عبادة هللا‪ ،‬وأحسنوا إلى الخلق‪ ،‬فلهم الحسنى وهي الجنة‪ ،‬ولهم زيادة وهي‬
‫‪10‬‬
‫النظر إلى وجه هللا الكريم‪.‬‬

‫‪ -5‬ابن تيميّة‪ ،‬مجموع الفتاوى‪ ،‬مجمع الملك فهد للطباعة والنشر‪ ،‬السعوديّة‪ ،‬د ط‪1995 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪351‬‬
‫‪ -6‬ابن قيّم الجوزيّة‪ ،‬زاد المعاد‪ ،‬مؤسسة الرّ سالة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1994 ،27‬م‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.37‬‬
‫‪ -7‬سورة‪ :‬القيامة‪ ،‬اآلية‪.23-22:‬‬
‫‪ - 8‬سورة‪ :‬المطفّفين‪ ،‬اآلية‪.15 :‬‬
‫‪ -9‬اليحصبي أبو الفضل عياض ب ن موسى بن عياض‪ ،‬الشفا بتعريف حقوق المصطفى‪ ،‬دار الفيحاء‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪1407/2‬هـ‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪384‬‬
‫‪ -10‬المطففين‪.19 ،‬‬
‫‪ - 7‬العسقالني أحمد بن علي بن حجر‪ ،‬فتح الباري شرح صحيح البخاري‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬بيروت ط ‪ 1379‬هـ‪ ،‬ج‪ ،13‬ص ‪.426‬‬
‫‪ -1‬البيجوري ابراهيم بن محمد‪ ،‬تحفة المريد‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت لبنان‪ ،‬ط‪ ،2004/2‬ص‪.129‬‬
‫‪ -2‬سورة‪ :‬يونس‪ ،‬اآلية‪.26 :‬‬
‫‪ -3‬الراجح ي عبد العزيز بن عبد هللا بن عبد الرحمان‪ ،‬شرح االقتصاد في االعتقاد ‪ ،‬دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة اإلسالمية‬
‫‪ [http://www.islamweb.net‬الكتاب مرقم آليا‪ ،‬ورقم الجزء هو رقم الدرس ‪ 12 -‬درسا]‬
‫قال الرّ ازي في االستدالل على جواز الرّ ؤية‪ ":‬إ ّن القلوب الصّافية مجبولة على حبّ معرفة هللا تعالى على أكمل الوجوه وأكمل طرق المعرفة‬
‫ؤية‪1.‬‬
‫هو الرّ‬

‫يقول الباقالني " ‪ ...‬ويجب أن يُعلم أن الرؤية جائزة عليه سبحانه وتعالى من حيث العقل مقطوع بها للمؤمنين في اآلخرة تشريفا لهم وتفضّال‬
‫‪2‬‬ ‫لوعد هللا تعالى لهم بذلك ‪"...‬‬

‫كذلك ما ورد في تفسير الرّ ازي لقوله تعالى‪َ ﴿ :‬و ِإذَا َرأَيْتَ ثَ َّم َرأَيْتَ نَعِي ًما َو ُملْكًا َكبِ ً‬
‫يرا ﴾ "‪ 3‬قال‪ :‬إ ّن إحدى القراءات في هذه اآلية" َملكا "‬
‫الالم‪ ،‬وأجمع المسلمون على أ ّن ذلك الملك ليس ّإال هللا تعالى‪ ،‬وأضاف قائال " أ ّن التّمسّك بهذه اآلية أقوى من التّمسّك‬ ‫بفتح الميم وكسر ّ‬
‫بغيرها‪4".‬‬

‫من السنّة‪:‬‬ ‫•‬


‫روي في الصّحيح عن جابر ابن عبد هللا رضي هللا عنه قال‪ :‬كنّا مع النّبي صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬فنظر في القمر ليلة – يعني البدر‪ -‬فقال‪ :‬إنّكم‬
‫سترون ربّكم كما ترون هذا القمر ال تضامون في رؤيته‪ ،‬فإن استطعتم ّأال تغلبوا على صالة قبل طلوع الشّمس وقبل غروبها فافعلوا‪ ،‬ث ّم قرأ‬
‫"‪6 .5‬‬
‫وع الشَّ ْم ِس َوقَبْ َل الْغ ُُرو ِ‬
‫ب﴾‬ ‫سبِّ ْح بِ َح ْم ِد َربِّكَ قَبْ َل طُلُ ِ‬
‫﴿ َو َ‬

‫وفي البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي هللا عنه أ ّن النّاس قالوا ‪ :‬يا رسول هللا هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ قال‪ :‬هل تمارون في القمر ليلة‬
‫كذلك‪7.‬‬ ‫البدر ليس دونه سحاب‪ ،‬قالوا‪ :‬ال‪ ،‬فقال‪ :‬إنّكم ترونه‬

‫روى مسلم في صحيحه عن صهيب عن النّبي صلّى هللا عليه وسلّم قال‪ " :‬إذا دخل أهل الجنّة الجنّة قال هللا تبارك وتعالى‪ :‬تريدون شيئا‬
‫أزيدكم‪ ،‬فيقولون‪ :‬ألم تبيّض وجوهنا ألم تدخلنا الجنّة وتنجّنا من النّار‪ ،‬قال‪ :‬فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحبّ إليهم من النّظر إلى ربّهم‬
‫سنُوا الْ ُح ْسنَى َو ِزيَادَة ﴾" ‪.‬‬
‫‪9 8‬‬
‫عز وجلّ‪ ".‬وفي رواية ث ّم تال ﴿ ِللَّذِي َن أَ ْح َ‬
‫ّ‬

‫لقد كان الصّحابة مجمعين على وقوع الرّ ؤية في اآلخرة ولم نعلم واحدا منهم رضي هللا عنهم خالف في ذلك‪ ،‬بل ك ّل اآلثار تد ّل على وقوعها‪،‬‬
‫وجزم علماء اهل السنة بحصولها للمؤمنين في اآلخرة تكريما وتشريفا للمؤمنين‪ ،‬وأثبتوا أنها أكمل النعم وأجلّها مع إثبات أنها رؤية تخالف‬
‫ْس َك ِمثْ ِل ِه َ‬
‫ش ْيء َوه َُو السَّمِي ُع الْب َِصي ُر " ‪. 10‬‬ ‫الرؤية المتعارف عليها إذ " لَي َ‬

‫الخاتمة‬

‫هذا ما يعتقده السواد األعظم من أهل السنة‪ ،‬الذين يؤمنون بعدم وقوع رؤية هللا في الدنيا‪ ،‬رغم جوازها عليه سبحانه وتعالى‪ ،‬ويجزمون‬
‫بحصولها في اآلخرة لما جاء في الوحيين من أدلة تثبت ذلك‪ ،‬فال جدال وال مراء من حصولها في اآلخرة للمؤمنين‪ ،‬تكريما وتشريفا لهم‪.‬‬
‫واتماما لنعمه عليهم‪ ،‬كما وعدهم بذلك‪ .‬وقد حوى القرآن العظيم والسنة الصحيحة الدقيقة أدلة ذلك وكذا اجماع علماء األمة‪.‬‬

‫المصادر والمراجع‬

‫‪ -1‬البيجوري ابراهيم بن محمد ‪ ،‬تحفة المريد‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت لبنان‪ ،‬ط‪.2004/2‬‬
‫‪ -2‬الباقالني ‪ ،‬أبي بكر‪ ،‬االنصاف‪ ،‬مكتب نشر الثقافة االسالمية‪ ،‬ط ‪1369،‬هـ‪ 1950/‬م‬
‫‪ -3‬التفتزاني‪ ،‬سعد الدّين‪ ،‬شرح المقاصد‪.‬‬
‫‪ -4‬ابن تيميّة‪ ،‬مجموع الفتاوى‪ ،‬مجمع الملك فهد للطباعة والنشر‪ ،‬السعوديّة‪ ،‬د ط‪1995 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -5‬ابن حجر العسقالني‪ ،‬فتح الباري‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬بيروت‪ ،‬د ط‪1379 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ -6‬الخن (مصطفى)‪ -‬مستو (محيي الدين)‪ ،‬العقيدة اإلسالميّة أركانها حقائقها مفسداتها‪ ،‬دار الكلم الطيّب‪ ،‬ط‪2003 ،4‬م‪.‬‬
‫الراجحي عبد العزيز بن عبد هللا بن عبد الرحمان‪ ،‬شرح االقتصاد يف االعتقاد‪ ،‬دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة اإلسالمية‬

‫‪ -4‬الرازي‪ ،‬أبو عبد هللا محمد ‪ ،‬مفاتيح الغيب‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1420 ،3‬هـ‪ ،‬ج ‪ ،13‬ص ‪.103‬‬
‫‪ -5‬الباقالني‪ ،‬أبو بكر‪ ،‬االنصاف‪ ،‬مكتب نشر الثقافة االسالمية‪ ،‬ط ‪1369،‬هـ‪ 1950/‬م ‪ ،‬ص ‪.42‬‬
‫‪ -6‬سورة‪ :‬اإلنسان‪.20،‬‬
‫‪ -7‬الرازي‪ ،‬أبو عبد هللا محمد‪ ،‬مفاتيح الغيب‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1420 /3‬هـ‪ ،‬ج‪ ،13‬ص‪.103‬‬
‫‪ -8‬سورة‪ :‬ق‪.40 ،‬‬
‫‪ -9‬البخاري‪ ،‬الصّحيح‪ ،‬دار طوق النّجاة‪ ،‬د م ط‪ ،‬ط‪1422 ،1‬هـ‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،115‬عدد‪.554‬‬
‫‪ -10‬البخاري‪ ،‬الصّحيح‪ ،‬دار طوق النّجاة‪ ،‬د م ط‪ ،‬ط‪1422 ،1‬هـ‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،160‬عدد‪.806‬‬
‫‪ -11‬سورة‪ :‬يونس‪ ،‬اآلية‪.26 :‬‬
‫‪ -12‬مسلم‪ ،‬الصحيح‪ ،‬تح‪ :‬محمد عبد الباقي‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬د ط‪ ،‬د ت ط‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،163‬عدد‪.181‬‬
‫‪ -10‬الشورى‪9 .‬‬
‫‪ -7‬الرازي أبو عبد هللا محمد‪ ،‬مفاتيح الغيب‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1420 ،3‬هـ‪.‬‬
‫‪ - 8‬سير أعالم النّبالء لشمس الدين الذهبي‪ ،‬مؤسّسة الرّ سالة‪ ،‬د م ط‪ ،‬ط‪1985 ،3‬م‪.‬‬
‫‪ - 9‬الصحيحين (البخاري ومسلم)‬
‫العسقالني أحمد بن علي بن حجر‪ ،‬فتح الباري شرح صحيح البخاري‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬بيروت ط ‪ 1379‬هـ‪.‬‬
‫‪ -10‬الغزالي أبو حامد‪ ،‬االقتصاد في االعتقاد‪.‬‬
‫‪ -11‬ابن قيّم الجوزيّة‪ ،‬زاد المعاد‪ ،‬مؤسسة الرّ سالة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1994 ،27‬م‪.‬‬
‫‪ -12‬مقاالت اإلسالميّين لألشعري‪ ،‬دار فرانز شتايز‪ ،‬ألمانيا‪ ،‬ط‪1980 ،3‬م‪.‬‬
‫‪ -13‬ابن منظور جمال الدّين‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1414 ،3‬هـ‪.‬‬
‫‪ - 14‬اليحصبي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض‪ ،‬الشفا بتعريف حقوق المصطفى‪ ،‬دار الفيحاء‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪ 1407/2‬هـ‪.،‬‬

You might also like